إلينا لأن الزمان لنا مصغر ولك مكبر والأمر عليك مقبل وعنا مدبر كما قال كاتب الحجاج الموبر وعلى الجملة فهبنا صرنا إلى تسليم مقالك جدلا وذهبنا فأقررنا بالخطإ في كل ورد وصدر فلله در القائل
( إن كنت أخطأت فما أخطا القدر )
وكأنما بمعتسف إذا وصل إلى هنا وعدم انصافه يعلمه إلهنا وقد ازور متجانفا ثم افتر متهانفا وجعل يتمثل بقولهم إذا عيروا قالوا مقادير قدرت وبقولهم المرء يعجزه المحال فيعارض الحق بالباطل والحالي بالعاطل ومنزع بقول القائل رب مسمع هائل وليس تحته من طائل وقد فرغنا أول أمس من جوابه وتركنا الضغن يلصق حرارة الجوى به وسنلم الان بما يوسعه تسكيتا ويقطعه تبكيتا فنقول له ناشدناك الله تعالى هل اتفق لك قط وعرض خروج أمر ما عن القصد منك فيه والغرض مع اجتهادك أثناءه في اصدارك وإيرادك في وقوعه على وفق اقتراحك ومرادك او جميع ما تزاوله بإدارتك لايقع الا مطابقا لإرادتك او كل ما تقصده وتنويه تحرزه كما تشاء وتحويه فلا بد أن يقر اضطرارا بأن مطلوبه يشذ عنه مرارا بل كثيرا ما يفلت صيده من أشراكه ويطلبه فيعجز عن ادراكه فنقول ومسألتنا من هذا القبيل أيها النبيه النبيل ثم نسرد له من الأحاديث النبوية ما شينا مما يسايرنا في غرضنا منه ويماشينا كقوله كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس وقوله أيضا لو اجتمع أهل السموات والأرض على أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه أو كما قال
____________________
(4/538)
فأخلق به أن يلوذ باكناف الإحجام ويزم على نفثه فيه كأنما ألجم بلجام حينئذ نقول له والحق قد أبان وجهه وجلاه وقهره بحجته وعلاه ليس لك من الأمر شيء قل إن الأمر كله لله وفي محاجة آدم وموسى ما يقطع لسان الخصم ويرخص عن أثواب أعراضنا ما عسى ان يعلق بها من درن الوصم وكيفما كانت الحال وإن ساء الرأي والانتحال ووقعنا في اوجال وأوحال فثل عرشنا وطويت فرشنا ونكس لوانا وملك مثوانا فنحن أمثل من سوانا وفي الشر خيار ويد اللطائف تكسر من صولة الأغيار فحتى الآن لم نفقد من اللطيف تعالى لطفا ولا عدمنا أدوات أدعية تعطف بلا مهلة على جملتنا المقطوعة جمل النعم الموصولة عطفا وإلا فتك بغداد دار السلام ومتبوأ الاسلام المحفوف بفرسان السيوف والأقلام مثابة الخلافة العباسية ومقر العلماء والفضلاء أولي السير الأويسية والعقول الإياسية قد نوزلت بالجيوش ونزلت وزوولت بالزحوف وزلزلت وتحيف جوانبها الحيف ودخلها كفار التتار عنوة بالسيف ولا تسل إذ ذاك عن كيف أيام تجلت عروس المنية كاشفة عن ساقها مبدية وجرت الدماء في الشوارع والطرق كالأنهار والأودية وقيد الأئمة والقضاة تحت ظلال السيوف المنتضاة بالعمائم في رقابهم والأردية وللنجيع سيول تخوضها الخيول فتخضبها الى أرساغها وتهم ظماؤها بوردها فتنكل عن تجرعها ومساغها فطاح عاصمها ومستعصمها وراح ولم يعد ظالمها ومتظلمها وخربت مساجدها وديارها واصطلم بالحسام أشرارها وخيارها فلم يبق من جمهور أهلها عين تطرف حسبما عرفت أو حسبما تعرف فلا تك متشككا متوقفا فحديث تلك الواقعة الشنعاء أشهر عند المؤرخين من قفا فأين تلك الجحافل والآراء المدارة في المحافل حين أراد الله تعالى
____________________
(4/539)
بإدالة الكفر لم تجد ولا قلامة ظفر إذن فمن سلمت له نفسه التى هي رأس ماله وعياله واطفاله اللذان هما من أعظم آماله وكل أو جل أو أقل رياشه وأسباب معاشه الكفيلة بانتهاضه وانتعاشه ثم وجد مع ذلك سبيلا الى الخلاص في حال مياسرة ومساهلة دون تصعب واعتياص بعدما ظن كل الظن أن لا محيد ولا مناص فما أحقه حينئذ وأولاه أن يحمد خالقه ورازقه ومولاه على ما أسداه إليه من رفده وخيره ومعافاته مما ابتلي به كثير من غيره ويرضى بكل ايراد وإصدار تتصرف فيهما الأحكام الإلهية والأقدار فالدهر غدار والدنيا دار مشحونة بالأكدار والقضاء لا يرد ولا يصد ولا يغالب ولا يطالب والدائرات تدور ولا بد من نقص وكمال للبدور والعبد مطيع لا مطاع وليس يطاع إلا المستطاع وللخالق القدير جلت قدرته في خليقته علم غيب للأذهان عن مداه انقطاع
ومالي والتكلف لما لا أحتاج إليه من هذا القول بين يدي ذي الجلال والمجادة والفضل والطول فله من العقل الارجح ومن الخلق الأسجح مال ا تلتاط معه تهمتي بصفرة ولا تنفق عنده وشاية الواشي لا عد من نفره ولا فاز قدحه بظفره والمولى يعلم ان الدنيا تلعب باللاعب وتجر براحتها إلى المتاعب وقديما للأكياس من الناس خدعت وانحرفت عن وصالهم أعقل ماكانوا وقطعت وفعلت بهم ما فعلت بيسار الكواعب تلك التي جبت وجدعت ولئن رهصت وهصرت فقد نبهت وبصرت ولئن قرعت وامعضت لقد أرشدت ووعظت ويا ويلنا من تنكرها لنا بمرة ورميها لنا في غمرة أي غمرة أيام قلبت لنا ظهر المجن وغيم أفقها المصحي وأدجن فسرعان ما عاينا حبالها منبتة ورأينا منها مالم نحتسب كما تقوم الساعة بغتة فمن استعاذ من شيء
____________________
(4/540)
فليستعذ مما صرنا إليه من الحور بعد الكور والانحطاط من النجد إلى الغور
( فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ** إذا نحن فيهم سوقة نتنصف )
( فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ** تقلب تارات بنا وتصرف )
وأبيها لقد أرهقتنا ارهاقا وجرعتنا من صاب الأوصاب كأسا دهاقا ولم نفزع الى غير بابكم المنيع الجناب المنفتح حين سدت الأبواب ولم نلبس غيرلباس نعمائكم حين خلعنا ما ألبسنا الملك من الأثواب وإلى أمه يلجأ الطفل لجأ اللهفان وعند الشدائد تمتاز السيوف في الأجفان من الأجفان ووجه الله تعالى يبقى وكل من عليه فان وإلى هنا ينتهي القائل ثم يقول حسبي هذا وكفان
ولا ريب في اشتمال العلم الكريم على ما تعارفته الملوك بينها في الحديث والقديم من الأخذ باليد عند زلة القدم وقرع الأسنان وعض البنان من الندم دينا تدينت حتى مع اختلاف الأديان وعادة اطردت فيهم على تعاقب الأزمان والأحيان
ولقد عرض علينا صاحب قشتالة مواضع معتبرة خير فيها وأعطى من امانه المؤكد فيه خطه بأيمانه ما يقنع النفوس ويكفيها فلم نر ونحن من سلالة الأحمر مجاورة الصفر ولا سوغ لنا الايمان الإقامة بين ظهراني الكفر وما وجدنا عن ذلك مندوحة ولو شاسعة وأمنا من المطالب المشاغب حمة شر لنا لاسعة وادكرنا أي ادكار قول الله تعالى المنكر لذلك غايى الإنكار { ألم تكن أرض الله واسعة } وقول الرسول عليه المبالغ في ذلك بأبلغ الكلام انا بريء من مؤمن مع كافر لا تتراءى ناراهما وقول الشاعر الحاث على
____________________
(4/541)
حث المطية المتثاقلة عن السير في طريق منجاتها البطية
( وما انا والتلدد نحو نجد ** وقد غصت تهامة بالرجال )
ووصلت أيضا من الشرق إلينا كتب كريمة المقاصد لدينا تستدعي الانحياز الى تلك الجنبات وتتضمن مالا مزيد عليه من الرغبات فلم نختر إلا دارنا التى كانت دار آبائنا من قبلنا ولم نرتض الانضواء إلا لمن بحبله وصل حبلنا وبريش نبله ريش نبلنا إدلالا على محل إخاء متوارث لا عن كلالة وامتثالا لوصاة أجداد لأنظارهم وأقدارهم أصالة وجلالة إذ قد روينا عمن سلف من أسلافنا في الايصاء لمن يخلف بعدهم من أخلافنا ان لا يبتغوا إذا دهمهم داهم بالحضرة المرينية بدلا ولا يجدوا عن طريقها في التوجه إلى فريقها معدلا فاخترقنا الى الرياض الأريضة الفجاج وركبنا إلى البحر الفرات ظهر البحر الأجاج فلا غرو أن نرد منه على ما يقر العين ويشفى النفس الشاكية من ألم البين ومن توصل هذا التوصل وتوسل بمثل ذلك التوسل تطارحا على سدة أمير المؤمنين المحارب للمحاربين والمؤمن للمستأمنين فهو الخليق الحقيق بأن يسوغ أصفى مشاربه ويبلغ أوفى مآربه على توالي الأيام والشهور والسنين ويخلص من الثبور إلى الحبور ويخرج من الظلمات الى النور خروج الجنين ولعل شعاع سعادته يفيض عينا ونفحة قبول إقباله تسري إلينا فتخامرنا أريحية تحملنا على أن نبادر لإنشاد قول الشريف الرضي في الخليفة القادر
( عطفا أمير المؤمنين فإننا ** في دوحة العلياء لا نتفرق )
( ما بيننا يوم الفخار تفاوت ** أبدا كلانا في المعالي معرق )
( إلا الخلافة ميزتك فإنني ** أنا عاطل منها وانت مطوق )
____________________
(4/542)
لا بل الاحرى بنا والأحجى والأنجح لسعينا والأرجى ان نعدل عن هذا المنهاج ويقوم وافدنا بين يدي علاه مقام الخاضع المتواضع الضعيف المحتاج وينشد ماقال في الشيرازي ابن حجاج
( الناس يفدونك اضطرارا ** منهم وأفديك باختياري )
( وبعضهم في جوار بعض ** وأنت حتى أموت جاري )
( فعش لخبزي وعش لمائي ** وعش لداري وأهل داري )
ونستوهب من الوهاب تعالى جلت أسماؤه وتعاظمت نعماؤه رحمة تجعل في يد الهداية أعنتنا وعصمة تكون في مواقف المخاوف جنتنا وقبولا يعطف علينا نوافر القلوب وصنعا يسني لنا كل مرغوب ومطلوب ونسأله وطالما بلغ السائل سؤلا ومأمولا متابا صادقا على موضوع الندم محمولا ثم عزاء حسنا وصبرا جميلا عن أرض أورثها من شاء من عباده معقبا لهم ومديلا وسادلا وسادلا عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولا { سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } الفتح 23 فليطر طائر الوسواس المرفرف مطيرا كان ذلك في الكتاب مسطورا لم نستطع عن مورده صدورا وكان امر الله قدرا مقدورا ألا وإن لله سبحانه في مقامكم العلي الذي أيده واعانه سرا من النصر يترجم عنه لسان من النصل وترجع فروع البشائر الصادقة بالفتوحات المتلاحقة من قاعدته المتأصلة إلى أصل فبمثله يجب اللياذ والعياذ ولشبهه يحق الالتجاء والارتجاء ولأمر ما آثرناه واخترناه بعد أن استرشدنا الله سبحانه واستخرناه ومنه جل جلاله نرغب ان يخير لنا ولجميع المسلمين ويؤوينا من حمايته ووقايته إلى معقل منيع وجناب رفيع أمين آمين آمين ونرجو ان يكون ربنا الذي هو في جميع الأمور حسبنا قد خار لنا حيث أرشدنا وهدانا
____________________
(4/543)
وساقنا توفيقه وحدانا إلى الاستجارة بملك حفي كريم وفي أعز جارا من أبي دواد وأحمى انفا من الحارث بن عباد يشهد بذلك الداني والقاصي والحاضر والباد إن أغاث ملهوفا فما الأسود بن قنان يذكر وإن انعش حشاشة هالك فما كعب بن مامة على فعله وحده يشكر جليسه كجليس القعقاع بن شور ومذاكره كمذاكر سفيان المنتسب من الرباب إلى ثور إلى التحلي بامهات الفضائل التى أضدادها امهات الرذائل وهي الثلاث الحكمة والعدل والعفة التى تشملها الثلاثة الأقوال والأفعال والشمائل وينشأ منها ما شئت من عزم وحزم وعلم وحلم وتيقظ وتحفظ واتقاء وارتقاء وصول وطول وسماح ونائل فبنور حلاه المشرق يفتخر المغرب على المشرق وبمحتده السامي خطره في الأخطار وبيته الذي ذكره في النباهة والنجابة قد طار يباهي جميع ملوك الجهات والأقطار وكيف لا وهو الرفيع المنتمى والنجار الراضع من الطهارة صفو ألبان الناشىء من السراوة وسط أحجار في ضئضىء المجد وبحبوح الكرم وسراوة أسرة المملكة التى أكنافها حرم وذؤابة الشرف التى مجاذبتها لم ترم من معشر بخلوا إن وهبوا ما دون اعمارهم وجبنوا إن لم يحموا سوى ذمارهم بنومرين وما أدراك ما بنو مرين
( سم العداة وآفة الجزر )
( النازلون بكل معترك ** والطيبون معاقد الأزر )
لهم من الهفوات انتفاء وعندهم من السير النبوية اكتفاء انتسبوا إلى بر
____________________
(4/544)
ابن قيس فخرجوا في البر عن القيس مالهم القديم المعروف قد نفذ في سبيل المعروف وحديثهم الذي نقلته رجال الزحوف من طرق القنا والسيوف على الحسن من المقاصد موقوف تحمد من صغيرهم وكبيرهم ذابلهم ولدنهم فلله آباء أنجبوهم وامهات ولدنهم
( شم الأنوف من الطراز الأول )
إليهم في الشدائد الاستناد وعليهم في الأزمات المعول ولهم في الوفاء والصفاء والاحتفاء والعناية والحماية والرعاية الخطو الواسع والباع الأطول كانما عناهم بقوله جرول
( أولئك قوم ان بنوا أحسنوا البنا ** وإن عاهدوا اوفوا وإن عقدوا شدوا )
( وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ** وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا )
( وتعذلني أبناء سعد عليهم ** وما قلت إلا بالتي علمت سعد )
وبقوله الوثيق مبناه البليغ معناه
( قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ** شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا )
يزيحون عن التنزيل كل نازح قاصم وليس له منهم عائب ولا واصم فهم أحق بما قاله في منقر قيس بن عاصم
____________________
(4/545)
( لا يفطنون لعيب جارهم ** وهم لحفظ جوارهم فطن )
حلاهم هذه الغريزة التى ليست باستكراه ولا جعل وامير المؤمنين دام نصره قسيمهم فيها حذو النعل بالنعل ثم هو عليهم وعلى من سواهم بالأوصاف الملوكية مستعل ارفض مزنهم منه عن غيث ملث يمحو آثار اللزبة وانشق غيلهم منه عن ليث ضار متقبض على براثنه للوثبة فقل لسكان الفلا لا تغرنكم أعدادكم وأمدادكم فلا يبالي السرحان المواشي سواء مشى إليها النقرى أو الجفلى بل يصدمهم صدمة تحطم منهم كل عرنين ثم يبتلع بعد أشلاءهم المعفرة ابتلاع التنين فهو هو كما عرفوه وعهدوه وألفوه أخو المنايا وابن جلا وطلاع الثنايا مجتمع أشده قد احتنكت سنه وبان رشده جاد مجد محتزم بحزام الحزم مشمر عن ساعد الجد
( لا يشرب الماء إلا من قليب دم ** ولا يبيت له جار على وجل )
أسدي القلب آدمي الرواء لابس جلد النمر يزوي العناد والنواء
( وليس بشاوي عليه دمامة ** إذا ما سعى يسعى بقوس وأسهم )
( ولكنه يسعى عليه مفاضة ** دلاص كأعيان الجراد المنظم )
فالنجاء النجاء سامعين له طائعين والوحى الوحى لاحقين به خاضعين قبل أن تساقوا إليه مقرنين في الأصفاد ويعيا الفداء بنفائس النفوس والأموال على الفاد حينئذ يعض ذو الجهل والفدامة على يديه حسرة وندامة إذا رأى
____________________
(4/546)
أبطال الجنود تحت خوافق الرايات والبنود قد لفحتهم نار ليست بذات خمود وأخذتهم صاعقة مثل صاعقة الذين من قبلهم عاد وثمود زعقات تؤز الكتائب أزا وهمزا محققا للخيل بعد المد المشبع للأعنة همزا وسلا للهندية سلا وهزا للخطية هزا حتى يقول النسر للذئب { هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا } ثق خليفة الله بذاك في كل من رام أذى رعيتك أو ذاك فتلك عادة الله سبحانه وتعالى في ذوي الشقاق والنفاق الذين يشقون عصا المسلمين ويقطعون طريق الرفاق وينصبون حبائل البغي والفساد في جميع النواحي والآفاق فلن يجعلهم الله عز وجل من الآمنين أنى وكيف وقد أفسدوا وخانوا وهو سبحانه لا يصلح عمل المفسدين ولا يهدي كيد الخائنين وها نحن قد وجهنا إلى كعبة مجدكم وجوه صلوات التقديس والتعظيم بعدما زينا معاطفها باستعطافكم بدر ثناء أبهى من در العقد النظيم منتظمين في سلك أوليائكم متشرفين بخدمة عليائكم ولا فقد عزه ولا عدمها من قصد مثابتكم العزيزة وخدمها وإن المترامي على سنائكم لجدير بحرمتكم واعتنائكم وكل ملهوف تبوأ من كنفكم حصنا حصينا عاش بقية عمره محروسا من الضيم مصونا وقد قيل في بعض الكلام من قعدت به نكاية الأيام أقامته إغاثة الكرام ومولانا أيده الله تعالى ولي ما يزفه إلينا من مكرمة بكر ويصنعه لنا من صنيع حافل يخلد في صحائف حسن الذكر ويروي معنعن حديث حمده وشكره طرس عن قلم عن بنان عن لسان عن فكر وغيره من ينام عن ذلك فيوقظ ويسترسل مع الغفلة حتى يذكر ويوعظ وما عهد منذ وجد إلا سريعا إلى داعي الندي والتكرم بريئا من الضجر بالمطال والتبرم حافظا للجار الذي أوصى النبي بحفظه مستفرغا وسعه في رعيه المستمر ولحظه آخذا من حسن الثناء في جميع الأوقات والآناء بحظه
____________________
(4/547)
( فهو من دوحة السنا فرع عز ** ليس يحتاج مجتنيه لهز )
( كفه في الأمحال أغزر وبل ** وذراه في الخوف امنع حرز )
( حلمه يسفر اسمه لك عنه ** فتفهم يامدعي الفهم لغزي )
( لا تسله شيئا ولا تستنله ** نظرة منه فيك تغني وتجزي )
( فنداه هو الفرات الذي قد ** عام فيه الأنام عوم الإوز )
( وحماه هو المنيع الذي ترجع ** عنه الخطوب مرجع عجز )
( فدعوا ذهنه يزاول قولي ** فهو أدرى بما تضمن رمزي )
( دام يحيا بكل صنع ومن ** ويعافى من كل بؤس ورجز )
وكانا به قد عمل على شاكلة جلاله من مد ظلاله وتمهيد حلاله وتلقى ورودنا بحسن تهلله واستهلاله وتأنيسنا بجميل قبوله وإقباله وإيرادنا على حوض كوثره المترع بزلاله والله سبحانه يسعد مقامه العلي ويسعدنا به في حله وارتحاله ومآله وحاله ويؤيد جنده المظفر ويؤيدنا بتأييده على نزال عدوه واستنزاله وهز الذوابل لإطفاء ذباله وهو سبحانه وتعالى المسؤول ان يريه قرة العين في نفسه وأهله وخدامه وامواله وأنظاره وأعماله وكافة شؤونه واحواله وأحق ما نصل بالسلام وأولى على المقام الجليل مقام الخليفة المولى أزكى على خاتمة انبيائه وأرساله سيدنا ومولانا محمد وعلى جميع أصحابه وآله صلاة وسلاما دائمين أبدا موصولين بدوام الأبد واتصاله ضامنين لمجددهما ومرددهما صلاح فاسد أعماله وبلوغ غاية آماله وذلك بمشيئة الله تعالى وإذنه وفضله وإفضاله انتهى ترجمة محمد العربي كاتب الرسالة عن الوادي آشي
وكاتب هذه الرسالة على لسان السلطان المخلوع قال الوادي آشي في حقه
____________________
(4/548)
إنه إمام الصناعة وفارس حلبة القرطاس واليراعة وواسطة عقد البلاغة واليراعة الذي قطف الكمال لما نور ورتب محاسن البديع في درر فقره وطور وغرف من بحر عجاج واقتطف من خاطر وهاج أبو عبدالله محمد بن عبدالله العربي العقيلي وما احسن قوله فيمن قد ظفر به المسلمون
( ألا رب مغرور تنصر ضلة ** فحاق به شؤم الضلال وشره )
( فإن يرتفع عند النصارى بالابتدا ** فكم عندنا من حرف حبل يجره )
وقال الوادي آشي أيضا في موضع آخر ما نصه ولشاعر العصر ومالك زمامي النظم والنثر والفقيه العالم المتقن التمفنن العارف الأوحد النبيه النبيل سيدي محمد العربي وصل الله تعالى رفعة قدره وحرس من غير الأيام أشعة بدره
( الحب في جمهور انواره ** فأين الاخوان والأحباب )
( وأين أين الاجتماعات قد ** تهيأت لهن الاسباب )
( وأين بنت لجبن مهما بدت ** طارت إليها شوقا الباب )
( وأين الألبان لأكوابها ** في برم الأرز تسكاب )
( واللحم بالبسباس قد ألفت ** لطبخه في القدر الاحطاب )
( والعوذ ذو دندنة يطبي ** آثارها للطار دبداب )
( وملح الاصوات قد طورحت ** وجاء معبد وزرياب )
( وفض للهو ختام ولم ** يسد في وجه الهوى باب )
( وقيل للوقار قم قبل أن ** تسلب عنك الآن الاثواب )
( وكل انسان وما يشتهي ** ليس على مناه حجاب )
____________________
(4/549)
( مسترسلا ليس له عذل ** كلا ولا عليه رقاب )
( في راحة خلعت أرسانها ** لمثلها تعصر الاعناب )
( فكل بستان قد استأسدت ** فيه النواوير والاعشاب )
( وأطلع التراب أدواحه ** كأنها العرب الاتراب )
( لما تحلت بحلى زهرها ** داخلها بالحسن الاعجاب )
( عرائس ليس لها في سوى ** ماية او ينية خطاب )
( أيام تبدى ثمرات بدا ** في جنباتهن الارطاب )
( كأنه في العين ياقوت أو ** كأنه في الفم جلاب )
( هيهات هيهات أمان لها ** خلب برق لك خلاب )
( ماحوت الرؤوس امثالها ** فكيف تحويهن الاذناب )
( قد عاق عن ذلك دهر به ** تعدم الافراح والاطراب )
( يروم الانسان غلابا له ** والدهر للانسان غلاب )
وقال رحمه الله تعالى لما نزل النصارى لمحاصرة غرناطة
( بالطبل في كل يوم ** وبالنفيز نراع )
( وليس من بعد هذا ** وذاك إلا القراع )
( يارب جبرك يرجو ** من هيض منه الذراع )
( لا تسلبني صبرا ** منه لقلبي ادراع )
وله رحمه الله تعالى في الموشحات اليد الطولى فمن ذلك قوله
( بدر أهل الزمان ** الرفيع القدر )
( لا تزل في أمان ** من كسوف البدر )
وله من أخرى
____________________
(4/550)
( هل يصح الأمان ** من شبيه البدر )
( وهو مثل الزمان ** منتم للغدر )
( لم يغر الأغر ** غير غمر جاهل )
( عيشه الحلو مر ** وهو فيه ناهل )
( والصبا الغض مر ** وهو عنه ذاهل )
( مرشف البهرمان ** فوق ثغر الدر )
( طمع للأمان ** باقتراب الدر )
وعارض رحمه الله تعالى بهاتين الموشحتين الموشحة المشهورة
( ضاحك عن جمان ** سافر عن بدر )
( ضاق عنه الزمان ** وحواه صدري )
وممن عارض هذه الموشحة ابن أرقم إذ قال
( مبسم البهرمان ** في المحيا الدري )
( صاد قلبي وبان ** وأنا لم أدر )
والإنصاف ان معارضة العربي أحسن من هذه
وله أيضا معارضتان غير ما تقدم الأولى قوله
( بان لي ثم بان ** ذا خدود حمر )
( ينثني مثل بان ** في ثياب خضر )
والثانية قوله
( هل لمرآك ثان ** في سناه الدري )
( أو لحوباي ثان ** عن هواها العذري )
____________________
(4/551)
( يا مليحا جلا ** عن محيا جميل )
( همت فيه ولا ** هيمان جميل )
( مل قليلا الى ** من إليك يميل )
( عاشق فيك فان ** كاتم للسر )
( لك منه مكان ** في صميم الصدر )
ومن نظم العربي المذكور لما عرض عليه السلطان رياسة كتابه من قصيدة
( أوجه سعدي انحط عنه اللثام ** أم بدر أفق فض عنه الغمام )
( أم انا في حالي لا عقل لي ** أم حلم قد لاح لي في المنام )
( يالك مرأى من رأى حسنه ** هيج للقلب غراما فهام )
( كأنما اقبس نور البها ** من وجه مولانا الامام الهمام )
( ابن أبي الحسن الأسرى الذي ** قد كان للأملاك مسك الختام )
( ضرغام قد أنجب شبها له ** في صدق بأس ومضاء اعتزام )
( حامى وسامى فأفاعيله ** تنقلها أبناء سام وحام )
( دام له النصر الذي جاءه ** والسيف من طلى أعاديه دام )
( فيا أمير المؤمنين الذي ** له بعروة اليقين اعتصام )
( أبشر بجد مقبل لم يؤل ** إلى انصراف لا ولا لانصرام )
( وعزة لم يفض بنيانها ** إلى انهداد لا ولا لانهدام )
( لله منك ملك جنده ** زهر النجوم وهو بدر التمام )
ومنها
( يطرب من مادحه مثلما ** يطرب قلب الصب سجع الحمام )
____________________
(4/552)
( فيفعل الشعر بأعطافه ** ماليس تفعل بهن المدام )
( وإن حكى في حسنه يوسفا ** فمدحه يشبه زهر الكمام )
ومنها
( فداره ليست ببغدادهم ** مع انها تدعى بدار السلام )
ومنها
( أسأله الإعفاء من كل ما ** أعجز عن حمل له والتزام )
ومنها
( مستشفعا له بخير الورى ** محمد عليه أزكى السلام )
ومنها
( وكل انسان وما اختاره ** ورب ذي عذر قد أضحى يلام )
وآخرها
( فالحمد لله على ان غدا ** للشمل بعد الانصداع التئام )
ولنختم هذه الترجمة بقوله
( جز بالبساتين والرياض فما ** أبهج مرئيها واحلاه )
( واعجب بها للنبات ولتك في ** أسفله ناظرا وأعلاه )
( وقدس الله عند ذاك وقل ** سبحانه لا إله إلا هو ) سبحان وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين والحمد لله رب العالمين انتهى المجلد الرابع
____________________
(4/553)
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب = تأليف الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني المجلد الخامس
____________________
(5/1)
بسم الله الرحمن الرحيم & الباب الأول &
في أولية لسان الدين وذكر أسلافه الذين ورث عنهم المجد وارتضع در أخلافه وما يناسب ذلك مما لا يعدل المنصف إلى خلافه
أقول هو الوزير الشهير الكبير لسان الدين الطائر الصيت في المغرب والمشرق المزري عرف الثناء عليه بالعنبر والعبير المثل المضروب في الكتابة والشعر والطب ومعرفة العلوم على اختلاف أنواعها ومصنفاته تخبر عن ذلك ولا ينبئك مثل خبير علم الرؤساء الأعلام الوزير الشهير الذي خدمته السيوف والأقلام وغني بمشهور ذكره عن مسطور التعريف والإعلام واعترف له بالفضل أصحاب العقول الراجحة والأحلام
قال سليل السلاطين الأمير العلامة إسماعيل بن يوسف ابن السلطان القائم بأمر الله محمد الأحمر نزيل فاس رحمه الله في كتابه المسمى بفرائد الجمان فيمن نظمني وإياه الزمان في حق المذكور ما نصه ذو الوزارتين الفقيه الكاتب أبو عبد الله ابن محمد الرئيس الفقيه الكاتب المنتزي ببلدة لوشة عبد الله ابن الفقيه الكاتب القائد سعيد بن عبد الله ابن الفقيه الصالح ولي الله الخطيب سعيد السلماني اللوشي المعروف بابن الخطيب
____________________
(5/7)
وقال القاضي ابن خلدون المغربي المالكي رحمه الله في تاريخه الكبير عندما أجرى ذكر لسان الدين ما نصه أصل هذا الرجل من لوشة على مرحلة من غرناطة في الشمال من البسيط الذي في ساحتها المسمى بالمرج وعلى وادي شنجيل ويقال شنيل المخترق في ذلك البسيط من الجنوب إلى الشمال كان له بها سلك معدود في وزرائها وانتقل أبوه عبد الله إلى غرناطة واستخدم لملوك بني الأحمر واستعمل على مخازن الطعام انتهى
وقال غيره إن بيتهم يعرف قديما ببني الوزير وحديثا ببني الخطيب وسعيد جده الأعلى أول من تلقب بالخطيب وكان من أهل العلم والدين والخير وكذلك سعيد جدهالأقرب كان على خلال حميدة من خط وتلاوة وفقه وحساب وأدب خيرا صدرا توفي عام ثلاثة وثمانين وستمائة وأبوه عبد الله كان من أهل العلم بالأدب والطب وقرأ على أبي الحسن البلوطي وأبي جعفر ابن الزبير وغيرهما وأجازه طائفة من أهل المشرق وتوفي بطريف عام أحد وأربعين وسبعمائة شهيدا يوم الإثنين السابع من جمادى الأولى من العام المذكور مفقودا ثابت الجأش شكر الله فعله
قلت وما ذكره هؤلاء أكثره مأخوذ من كلامه عند تعريفه رحمه الله بنفسه آخر الإحاطة ولنذكر ملخصه إذ صاحب البيت أدرى بالذي فيه مع ما فيه من الزيادة على ما سبق وهي تتم للطالب أمله وتوفيه
قال رحمه الله يقول مؤلف هذا الديوان تغمد الله خطله في ساعات
____________________
(5/8)
أضاعها وشهوة من شهوات اللسان أطاعها وأوقات للإشتغال بما لا يعنيه استبدل بها اللهو لما باعها أما بعد حمد الله الذي يغفر الخطية ويحث من النفس اللجوج المطية فتحرك ركائبها البطية والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد ميسر سبل الخير الوطية والرضى عن آله وصحبه منتهى الفضل ومناخ الطية فإنني لما فرغت من تأليف هذا الكتاب الذي حمل عليه فضل النشاط مع الالتزام لمراعاة السياسة السلطانية والارتباط والتفت إليه فراقني منه صوان درر ومطلع غرر قد تخلدت مآثرهم مع ذهاب أعيانهم وانتشرت مفاخرهم بعد انطواء زمانهم نافستهم في اقتحام تلك الأبواب ولباس تلك الأثواب وقنعت باجتماع الشمل بهم ولو في الكتاب وحرصت على أن أنال منهم قربا وأخذت أعقابهم أدبا وحبا وكما قيل ساقي القوم آخرهم شربا فأجريت نفسي مجراهم في التعريف وحذوت بها حذوهم في بابي النسب والتصريف بقصد التشريف والله سبحانه لا يعدمني وإياهم واقفا يترحم وركاب الاستغفار بمنكبه يزحم عندما ارتفعت وظائف الأعمال وانقطعت من التكسبات حبال الآمال ولم يبق إلا رحمة الله التي تنتاش النفوس وتخلصها وتعينها بميسم السعادة وتخصصها جعلنا اللهممن حسن ذكره ووقف على التماس ما لديه فكره بمنه
محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن علي بن أحمد السلماني قرطبي الأصل ثم طليطلية ثم لوشية ثم غرناطية يكنى أبا عبد الله
____________________
(5/9)
ويلقب من الألقاب المشرقية بلسان الدين
أوليتي يعرف بيتنا في القديم بوزير ثم حديثا بلوشة ببني الخطيب انتقلوا مع أعلام الجالية القرطبية كيحيى بن يحيى الليثي وأمثاله عند وقعة الربض الشهيرة إلى طليطلة ثم تسربوا محومين على وطنهم قبل استيلاء الطاغية عليه فاستقر منهم بالموسطة الأندلسية جملة من النبهاء تضمن منهم ذكر خلق كعبد الرحمن قاضي كورة باغه وسعيد المستوطن بلوشة الخطيب بها المقرون اسمه بالتسويد عند أهلها جاريا مجرى التسمية بالمركب في تاريخ الغافقي وغيره وسكن عقبهم بها وسكن بعضهم منتقرير مملكين إياها مختطين جبل التحصن والمنعة فنسبوا إليها
وكان سعيد هذا من أهل العلم والخير والصلاح والدين والفضل وزكاء الطعمة أوقفني الوزير أبو الحكم ابن محمد المنتقريري وهو بقية هذا البيت وإخباريه على جدار برج ببعض ربى أملاكنا بلوشة تطؤه الطريق المارة من غرناطة إلى إشبيلية وقال كان جدك يذيع بهذا المكان فصولا من العلم ويجهر بتلاوة القرآن فيستوقف الرفاق المدلجة الحنين إلى نغمته والخشوع إلى صدقه فتعرس رحالها لصق جداره وتريح ظهرها موهنا إلى أن يأتي على ورده
وتوفي وقد أصيب بأهله وحرمه عندما تغلب العدو على بلده عنوة في خبر طويل
وقفت على مكتوبات من المتوكل على الله محمد بن يوسف بن هود أمير المسلمين بالأندلس في غرض إعانته والشفاعة إلى الملكة زوج سلطان قشتالة بما يدل على تباهته قديما
____________________
(5/10)
ويفيد إثارة عبرة واستقالة عثرة
وتخلف ولده عبد الله جاريا مجراه في التجلد والتمعش من حر النشب والتزيي بالانقباض والتحلي بالنزاهة إلى أن توفي وتخلف ولده سعيدا جدنا الأقرب وكان صدرا خيرا مستوليا على خلال حميدة من خط وتلاوة وفقه وحساب وأدب نافس جيرته بني الطنجالي الهاشميين وتحول إلى غرناطة عندما شعر بعملهم على الثورة واستطلاعهم إلى النزوة التي خضدت الشوكة واستأصلت منهم الشأفة وصاهر بها الأعيان من بني أضحى بن عبد اللطيف الهمداني أشراف جند حمص الداخلين إلى الجزيرة في طليعة بلج بن بشر القشيري ولحقه من جراء منافسيه لما جاهروا السلطان بالخلعان اعتقال أعتبه السلطان بعده وأحظاه على تفئته وولاه الأعمال النبيهة والخطط الرفيعة
حدثني من أثق به قال عزم السلطان على أن يقعد جدك أستاذا لولده فأنفت من ذلك أم الولد إشفاقا عليه من فظاظة كانت فيه
ثم صاهر القواد من بني الجعدالة على أم أبي ومشت إلى زوج السلطان ببنوة الخؤولة فنبه القدر وانفسخت الحظوة وانثال على البيت الرؤساء والقرابة وكان على قوة شكيمته وصلابة مكسره مؤثرا للخمول محبا في الخير حدثني أبي عن أمه قالت قلما تهنأنا نحن وأبوك طعاما حافلا لإيثاره به من كان يكمن بمسجد جواره من أهل الحاجة وأحلاف الضرورة يهجم علينا منهم بكل وارد ويجعل يده مع يده ويشركه في أكيلته ملتذا بموقعها من فؤاده
وتوفي في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وستمائة صهرته الشمس مستسقيا في بعض المحول
____________________
(5/11)
وقد استغرق في ضراعته فدلت الحتف على نفسه
وتخلف والدي نابتا في الترف نبت العليق يكنفه رعي أم تجر ذيل نعمة وتحنو منه على واحد تحذر عليه النسيم إذا سرى ففاته لترفه حظ كبير من الاجتهاد وعلى ذلك فقرأ على الخطيب أبي الحسن البلوطي والمقرئ أبي عبد الله ابن مسمغور وأبي جعفر ابن الزبير خاتمة الجلة وكان يفضله
وانتقل إلى لوشة بلد سلفه مخصوصا بلقب الوزارة إلى أن قصدها السلطان أبو الوليد متخطيا إلى الحضرة هاويا إلى ملك البيضة فعضد أمره وأدخله بلده لدواع يطول استقصاؤها ولما تم له الأمر صحب ركابه إلى دار ملكه مستأثرا بشقص عريض من دنياه وكان من رجال الكمال طلق الوجه مع الظرف وتضمن كتاب التاج المحلى والإحاطة رائقا من شعره وفقد في الكائنة العظمى بطريف يوم الإثنين سابع جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ثابت الجأش غير جزوع ولا هيابة حدثني الخطيب بالمسجد الجامع من غرناطة الفقيه أبو عبد الله ابن اللوشي قال كبا بأخيك الطرف وقد غشي العدو وجنحت إلى إردافه فانحدر إليه والدك وصرفني وقال أنا أولى به فكان آخر العهد بهما انتهى
ومما رثي به والد لسان الدين وأخوه ما ذكره في الإحاطة في ترجمة أبي محمد عبد الله الأزدي إذ قال ما نصه ومما كتب إلي فيما أصابني بطريف
( خطب ألم فأذهب الأخ والأبا ** رغما لأنف شاء ذلك أو أبى )
( قدر جرى في الخلق لا يجد امرؤ ** عما به جرت المقادر مهربا )
( إما جزعت له فعذر بين ** قضت الدواهي أن تحل له الحبا )
____________________
(5/12)
( لاكان يومهما الكربة فكم وكم ** فيه المجلي والمصلي قد كبا )
( يوم لوى ليانه لم يبق للإسلام ** حد مهند إلا نبا )
( وتجمعت فيه الضلال فقابلت ** فيه الهدى فتفرقت أيدي سبا )
( آها لعز المحتدين صرامة ** لأذل عز المهتدين وأذهبا )
( دهم المصاب فعم إلا أنه ** فيما يخصك ما أمر وأصعبا )
( يا ابن الخطيب خطاب مكترث لما ** قد ألزم البث الألد وأوجبا )
( قاسمتك الشجو المقاسمة التي ** صارت بخالص ما محضتك مذهبا )
( لم لا وأنت لدي سابق حلبة ** تزهى بمن في السابقين تأدبا )
( لا عاد يوم نال منك ولا أتت ** سنة به ما الليل أبدى كوكبا )
( يهني الشهيدين الشهادة إنها ** سبب يزيد من الإله تقربا )
( وردا على دار النعيم وحورها ** كلفا ببرهما يزدن ترحبا )
( فاستغن بالرحمن عمن قد ثوى ** من حزب خير من ارتضى ومن اجتبى )
فأجبته بقولي
( أهلا بمقدمك السني ومرحبا ** فلقد حباني الله منك بما حبا )
( وافيت والدنيا علي كأنها ** سم الخياط وطرف صبري قد كبا )
( والدهر قد كشف القناع ولم يدع ** لي عدة للروع إلا أذهبا )
( صرف العنان إلي غير مدافع ** عني وأثبت دون نصرتي الشبا )
( خطب تأوبني يضيق لهوله ** رحب الفضا وتهي لموقعه الربى )
( لو كان بالورق الصوادح في الدجى ** ما بي لعاق الورق عن أن تندبا )
( فأنرت من ظلماء همي ما دجا ** وقدحت من زند اصطباري ما خبا )
____________________
(5/13)
( فكأني لعب الهجير بمهجتي ** وبعثت لي من نفحها نفس الصبا )
( لا كان يومك يا طريف فطالما ** أطلعت للآمال برقا خلبا )
( ورميت دين الله منك بفادح ** عم البسيط مشرقا ومغربا )
( وخصصتني بالرزء والثكل الذي ** أوهى القوى مني وهد المنكبا )
( لا حسن للدنيا لدي ولا أرى ** للعيش بعد أبي وصنوي مأربا )
( لولا التعلل بالرحيل وأننا ** ننضي من الأعمار فيها مركبا )
( فإذا ركضنا للشبيبة أدهما ** حال المشيب به فأصبح أشهبا )
( والملتقى كثب وفي ورد الردى ** نهل الورى من شاء ذلك أو أبى )
( لجريت طوع الحزن دون نهاية ** وذهبت من خلع التصبر مذهبا )
( والصبر أولى ما استكان له الفتى ** رغما وحق العبد أن يتأدبا )
( وإذا اعتمدت الله يوما مفزعا ** لم تلف منه سوى إليه المهربا ) واقعة طريف
وواقعة طريف هذه استشهد فيها جماعة من الأكابر وغيرهم وكان سببها أن سلطان فاس أمير المسلمين أبا الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني أجاز البحر إلى جزيرة الأندلس برسم الجهاد ونصرة أهلها على عدوهم حسبما جرت بذلك عادة سلفه وغيرهم من ملوك العدوة وشمر عن ساعد الاجتهاد وجر من الجيوش الإسلامية نحو ستين ألفا وجاء إليه أهل الأندلس بقصد الإمداد وسلطانهم ابن الأحمر ومن معه من الأجناد فقضى الله الذي لا مرد لما قدره أن صارت تلك الجموع مكسرة ورجع السلطان أبو الحسن مغلولا وأضحى حسام الهزيمة عليه وعلى من معه مسلولا ونجا برأس طمرة
____________________
(5/14)
ولجام ولا تسل كيف وقتل جمع من أهل الإسلام ولمة وافرة من الأعلام وأمضى فيهم حكمه السيف وأسر ابن السلطان وحريمه وخدمه ونهبت ذخائره واستولت على الجميع أيدي الكفر والحيف واشرأب العدو الكافر لأخذ ما بقي من الجزيرة ذات الظل الوريف وثبتت قدمه إذ ذاك في بلد طريف وبالجملة فهذه الواقعة من الدواهي المعضلة الداء والأرزاء التي تضعضع لها ركن الدين بالمغرب وقرت بذلك عيون الأعداء ولولا خشية الخروج عن المقصود لأوردت قصتها الطويلة وسردت منها ما يحق لسامعه أن يكثر بكاءه وعويله وقد ألم بها الولي قاضي القضاة ابن خلدون المغربي في كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر فليراجعه من أراده في المجلد الثامن من هذا التاريخ الجامع فإنه ذكر حين ساق هذه الكائنة ما يخرس الألسن ويصم المسامع ولله الأمر من قبل ومن بعد واقعة الربض
وقول لسان الدين رحمه الله في أولية سلفه إنهم انتقلوا مع أعلام الجالية القرطبية إلى آخره أشار بذلك إلى واقعة الربض الشهيرة التي ذكرها ابن حيان في تاريخه الكبير المسمى بالمقتبس في تاريخ الأندلس وقص أمرها غير واحد كابن الفرضي وابن خلدون وملخصها أن أهل ربض قرطبة ثاروا على الأمير الحكم الأموي وفيهم علماء أكابر مثل يحيى بن يحيى الليثي صاحب إمامنا مالك رضي الله عنه وغيره فكانت النصرة للحكم فلما ظفر وقتل من
____________________
(5/15)
شاء أجلى من بقي إلى البلاد وبعضم إلى جزيرة إقريطش ببحر الإسكندرية وفي قصتهم طول وليس هذا محلها والد لسان الدين
وقال لسان الدين رحمه الله أيضا في حق والده ما حاصله عبد الله بن سعيد ابن عبد الله بن سعيد بن أحمد بن علي بن السلماني أبو محمد غرناطي الولادة والاستيطان لوشي الأصل طليطلية قرطبية
وقال في الإكليل إن طال الكلام وجمحت الأقلام كنت كما قيل مادح نفسه يقرئك السلام وإن إجحمت فما سديت في الثناء ولا ألحمت وأضعت الحقوق وخفت ومعاذ الله العقوق هذا ولو أني زجرت طير البيان من أوكاره وجئت بعون الإحسان وأبكاره لما قضيت حقه بعد ولا قلت إلا بالتي علمت سعد فقد كان رحمه الله ذمر عزم ورجل رخاء وأزم تروق أنوار خلاله الباهرة وتضيء مجالس الملوك من صورتيه الباطنة والظاهرة ذكاء يتوقد وطلاقة يحسد نورها الفرقد وكانت له في الأدب فريضة وفي النادرة العذبة منادح عريضة تكلمت يوما بين يديه في مسائل من الطب وأنشدته أبياتا من شعري ورقاعا من إنشائي فتهلل وما برح أن ارتجل
( الطب والشعر والكتابة ** سماتنا في بني النجابة )
( هن ثلاث مبلغات ** مراتبا بعضها الحجابة )
____________________
(5/16)
ووقع لي يوما بخطة على ظهر أبيات بعثتها إليه أعرض عليه نمطها
( وردت كما صدر النسيم بسحرة ** عن روضة جاد الغمام رباها )
( وكأنما هاروت أودع سحره ** فيها وآثرها به وحباها )
( مصقولة الألفاظ يبهر حسنها ** فبمثلها افتخر البليغ وباهى )
( فقررت عينا عند رؤية حسنها ** إني أبوك وكنت أنت أباها )
ومن نظمه قوله
( وقالوا قد دنا فاصبر ستشفى ** فترياق الهوى بعد الديار )
( فقلت هبوا بأن الحق هذا ** بقلبي يمموا فبم اصطباري )
وقال
( عليك بالصمت فكم ناطق ** كلامه أدى إلى كلمه )
( إن لسان المرء أهدى إلى ** غرته والله من خصمه )
( يرى صغير الجرم مستضعفا ** وجرمه أكبر من جرمه )
وقال
( أنا بالدهر يا بني خبير ** فإذا شئت علمه فتعالا )
( كم مليك قد ارتعى منه روضا ** لم يدافع عنه الردى ما ارتعى لا )
( كل شيء تراه يفنى ويبقى ** ربنا الله ذو الجلال تعالى )
مولده بغرناطة في جمادى الأولى عام اثنين وسبعين وستمائة وفقد يوم الوقيعة الكبرى بظاهر طريف يوم الإثنين سابع جمادى الأولى عام واحد وأربعين وسبعمائة ورثيته بقصيدة أولها
____________________
(5/17)
( سهام المنايا لا تطيش ولا تخطي ** وللدهر كف تسترد الذي تعطي )
( وإنا وإن كنا على ثبج الدنا ** فلا بد يوما أن نحل على الشط )
( تساوى على ورد الردى كل وارد ** فلم يغن رب السيف عن ربة القرط )
( وسيان ذل الفقر أو عزة الغنى ** ومن أسرع السير الحثيث ومن يبطي )
وهي طويلة
قال ورثاه شيخنا أبو زكريا ابن هذيل بقصيدة يقول فيها
( إذا أنا لم أرث الصديق فما عذري ** إذا قلت أبياتا حسانا من الشعر )
( ولو كان شعري لم يكن غير ندبة ** وأجريت دمعي لليراع عن الحبر )
( لما كنت أقضي حق صحبته التي ** توخيتها عونا على نوب الدهر )
( رماني عبد الله يوم وداعه ** بداهية دهياء قاصمة الظهر )
( قطعت رجائي حين صح حديثه ** فإن يوف لي دمعي فقد خانني صبري )
( وهل مؤنس كابن الخطيب لوحشتي ** أبث له همي وأودعه سري )
ومنها
( تولى وأخبار الجلالة بعده ** مؤرجة الأنباء طيبة النشر )
( رضينا بترك الصبر من بعد بعده ** على قدر ما في الصبر من عظم الأجر )
( أتى بفتيت المسك فوق جبينه ** نجيعا يفوق المسك في موقف الحشر )
( لقد لقي الكفار منها بعزمة ** لها لقيته الحور بالبر والبشر )
( تجلت عروسا جنة الخلد في الوغى ** تقول لأهل الفوز لا يغلكم مهري )
( فكان من القوم الذين تبادروا ** إلى العالم الأعلى مع الرفقة الغر )
( تعالوا بنا نسقي الأباطح والربى ** بقطر دموع غالبات على القطر )
____________________
(5/18)
( ألا لا تلم عيني لسكب دموعها ** فما سكبت إلا على الماجد الحر )
ومنها
( أإخواننا جدوا فكم جد غيركم ** وسيروا على خف من الحوب والوزر )
( على سفر أنتم لدار تأخرت ** وما الفوز في الأخرى سوى خفة الظهر )
( وما العيش إلا يقظة مثل نومة ** وما العمر إلا كالخيال الذي يسري )
( على الحق أنتم قادمون فشمروا ** فليس لمخذول هنالك من عذر )
وهي طويلة تجاوز الله عنا وعنهم أجمعين انتهى ما لخصته من كلام لسان الدين رحمه الله ترجمة أبي بكر ابن عاصم
قلت على منوال كلامه في تحلية أبيه النبيه شيخ الوزير الكاتب الشهير القاضي أبو يحيى ابن عاصم القيسي الأندلسي رحمه الله في وصف أبيه القاضي أبي بكر ابن عاصم صاحب التحفة في علم القضاء وهو محمد بن محمد بن محمد بن عاصم الأندلسي الغرناطي قاضي الجماعة الرئيس أبو بكر ونص المحتاج إليه في هذا المحل من كلام ولده قوله رحمه الله إن بسطت القول أو عددت الطول وأحكمت الأوصاف وتوخيت الإنصاف أنفدت الطروس وكنت كما يقول الناس في المثل من مدح العروس وإن أضربت عن ذلك صفحا فلبئسما صنعت ولشر ما أمسكت المعروف ومنعت ولكم من حقوق الأبوة
____________________
(5/19)
أضعت ومن ثدي للمعقة رضعت ومن شيطان لغمصة الحق أطعت ولم أرد إلا الإصلاح ما استطعت وإن توسطت واقتصرت وأوجزت واختصرت فلا الحق نصرت ولا أفنان البلاغة هصرت ولا سبيل الرشد أبصرت ولا عن هوى الحسدة أقصرت هذا لو أني أجهدت ألسنة البلاغة فجهدت وأيقظت عيون الإجادة فسهدت واستعرت مواقف عكاظ على ما عهدت لما قررت من الفضل إلا ما به الأعداء قد شهدت ولا استقصيت من المجد إلا ما أوصت به الفئة الشانئة لخلفها الأبتر وعهدت فقد كان رحمه الله علم الكمال ورجل الحقيقة وقارا لا يخف راسيه ولا يعرى كاسيه وسكونا لا يطرق جانبه ولا يرهب غالبه وحلما لا تزل حصاته ولا تهمل وصاته وانقباضها لا يتعدى رسمه ولا يتجاوز حكمه ونزاهة لا ترخص قيمتها ولا تلين عزيمتها وديانة لا تحسر أذيالها ولا يشف سربالها وإدراكا لا يفل نصله ولا يدرك خصله وذهنا لا يخبو نوره ولا ينبو مطروره وفهما لا يخفى فلقه ولا يهزم فيلقه ولا يلحق بحره ولا يعطل نحره وتحصيلا لا يفلت قنيصه ولا يسام حريصه بل لا يحل عقاله ولا يصدأ صقاله وطلبا لا تتحد فنونه ولا تتعين عيونه بل لا تحصر معارفه ولا تقصر مصارفه يقوم أتم قيام على النحو على طريقة متأخري النحاة جمعا بين القياس والسماع وتوجيه الأقوال البصرية واستحضار الشواهد الشعرية واستظهار اللغات والأعربة واستبصار في مذاهب المعربة محليا أجياد تلك الأعاريب من علمي البديع والبيان بجواهر أسلاك ومجليا في آفاق تلك الأساليب من فوائد هذين الفنين زواهر أفلاك إلى ما يتعلق بذلك من قافية للعروض وميزان وما للشعر من بحور وأوزان تضلع بالقراءات أكمل اضطلاع مع التحقيق والاطلاع
____________________
(5/20)
فيقنع ابن الباذش من إقناعه ويشرح لابن شريح ما أشكل من أوضاعه ويقصر عن رتبته الداني ويحوز صدر المنصة من حرز الأماني ويشارك في المنطق وأصول الفقه والعدد والفرائض والأحكام مشاركة حسنة ويتقدم في الأدب نظما ونثرا وكتبا وشعرا إلى براعة الخط وإحكام الرسم وإتقان بعض الصنائع العملية كتفسير الكتب وتنزيل الذهب وغيرهما نشأ بالحضرة العلية لا يغيب عن حلقات المشيخة ولا يريم عن مظان الاستفادة ولا يفتر عن المطالعة والتقييد ولا ينسألم من المناظرة والتحصيل مع المحافظة التي لا تنخرم ولا تنكسر والمفاوضة في الأدب ونظم القريض والفكاهة التي لا تقدح في وقار انتهى ملخصا
وقد أطال في تعريفه بأوراق عدة ثم قال مولده في الربع الثالث من يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى من عام ستين وسبعمائة كما نقلته من خط ابنه ثم قال وله مسائل متعددة في فنون شتى ضمنها كل سديد من البحث وصحيح النظر وأما كتبه فالدر النفيس والياقوت الثمين والروض الأنف والزهر النضير نصاعة لفظ وأصالة غرض وسهولة تركيب ومتانة أسلوب انتهى
ثم ذكر مشيخته وأطال ثم سرد تآليفه الأرجوزة المسماة بتحفة الحكام والأرجوزة المسماة بمهيع الوصول في علم الأصول أصول الفقه والأرجوزة الصغرى المسماة بمرتقى الوصول للأصول كذلك والأرجوزة المسماة بنيل المنى في اختصار الموافقات والقصيدة المسماة بإيضاح المعاني في القراءات الثماني والقصيدة المسماة بالأمل المرقوب في قراءة يعقوب والقصيدة المسماة بكنز المفاوض في علم الفرائض والأرجوزة المسماة بالموجز في النحو حاذى بها رجز ابن مالك في غرض البسط له والمحاذاة لقصده والكتاب المسمى بالحدائق في أغراض شتى من الآداب والحكايات
توفي بين العصر والمغرب يوم الخميس حادي عشر شوال عام تسعة وعشرين
____________________
(5/21)
وثمانمائة انتهى كلام الوزير ابن عاصم وإنما ذكرته لأن أهل الأندلس يقولون في حقه إنه ابن الخطيب الثاني ولولا خوف الإطالة لذكرت بعض إنشائه ونظمه فإنه في الذروة العليا وقد ذكرت جملة من ذلك في أزهار الرياض في أخبار عياض ومايناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض
ولنرجع إلى الترجمة المقصودة فنقول والسلماني نسبة إلى سلمان بإسكان اللام على الصحيح قال ابن الأثير والمحدثون يفتحون اللام وسلمان حي من مراد من عرب اليمن القحطانيين دخل الأندلس منهم جماعة من الشأم وسلف لسان الدين رحمه الله تعالى ينتسبون إليهم كما سبق في كلامه وهو مشهور إلى الآن بالمغرب بابن الخطيب السلماني ولذلك خاطبه شيخه شيخ الكتاب الرئيس أبو الحسن ابن الجياب حين حل مالقة بقوله
( أيا كتابي إذا ما جئت مالقة ** دار الكلام من مثنى ووحدان )
( فلا تسلم على ربع لذي سلم ** بها وسلم على ربع لسلمان )
فأجابه لسان الدين رحم الله تعالى الجميع بقوله
( يا ليت شعري هل يقضي تألفنا ** ويثني الشوق عن غاياته الثاني )
( أو هل يحن على نفسي معذبها ** أو هل يرق لقلبي قلبي الثاني ) عبد العزيز الفشتالي ونونيته
وعلى ذكر نسبة ابن الخطيب لسلمان فقد تذكرت هنا بيتا أنشدنيه لنفسه صاحبنا الوزير الشهير الكبير البليغ صاحب القلم الأعلى سيدي أبو فارس عبد العزيز الفشتالي صب الله تعالى عليه شآبيب رحماه من قصيدة نونية مدح
____________________
(5/22)
بها سيد الوجود وتخلص إلى مدح مولانا السلطان المنصور بالله أبي العباس أحمد الحسني أمير المؤمنين صاحب المغرب رحمه الله تعالى وهو
( أولئك فخري إن فخرت على الورى ** ونافس بيتي في الولا بيت سلمان )
وأراد كما أخبرني ببيت سلمان القبيلة التي منها لسان الملة والدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى أشار إلى ولاء الكتابة للخلافة كما كان لسان الدين السلماني رحمه الله تعالى كذلك وفيه مع ذلك تورية بسلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه
وقد رأيت أن أسرد هنا هذه القصيدة الفريدة لبلاغتها التي بذت شعراء اليتيمة والخريدة ولأن شجون الحديث الذي جر إليها شوقني إلى معاهدي المغربية التي أكثر البكاء عليها بحضرة المنصور بالله الإمام سقى الله تعالى عهادها صوب الغمام حيث الشباب غض يانع والمؤمل لم يحجبه مانع والسلطان عارف بالحقوق والزمان وهو أبو الورى لم يشب بره بالعقوق والليالي مسالمة غير رامية من البين بنبال والغربة الجالبة للكربة لم تخطر ببال ورؤساء الدولة الحسنية السنية ساعون فيما يوافق الغرض ويلائم والأيام ثغورها بواسم وأوقاتها أعياد ومواسم وأفراح وولائم فلله فيها عيش ما نسيناه وعز طالما اقتبسنا نور الهدى من طورسيناه
( مضى ما مضى من حلو عيش ومره ** كأن لم يكن إلا كأضغاث أحلام )
وهذا نص القصيدة
( هم سلبوني الصبر والصبر من شاني ** وهم حرموا من لذة الغمض أجفاني )
( وهم أخفروا في مهجتي ذمم الهوى ** فلم يثنهم عن سفكها حبي الجاني )
____________________
(5/23)
( لئن أترعوا من قهوة البين أكؤسي ** فشوقهم أضحى سميري وندماني )
( وإن غادرتني بالعراء حمولهم ** لقى إن قلبي جاهد إثر أظعاني )
( قف العيس واسأل ربعهم أية مضوا ** أللجزع ساروا مدلجين أم البان )
( وهل باكروا بالسفح من جانب اللوى ** ملاعب آرام هناك وغزلان )
( وأين استقلوا هل بهضب تهامة ** أناخوا المطايا أم على كثب نعمان )
( وهل سال في بطن المسيل تشوقا ** نفوس ترامت للحمى قبل جثمان )
( وإذ زجروها بالعشي فهل ثنى ** أزمتها الحادي إلى شعب بوان )
( وهل عرسوا في دير عبدون أم سروا ** يؤم بهم رهبانهم دير نجران )
( سروا والدجى صبغ المطارف فانثنى ** بأحداجهم شتى صفات وألوان )
( وأدلج في الأسحار بيض قبابهم ** فلحن نجوما في معارج كثبان )
( لك الله من ركب يرى الأرض خطوة ** إذا زمها بدنا نواعم أبدان )
( أرحها مطايا قد تمشي بها الهوى ** تمشي الحميا في مفاصل نشوان )
( ويمم بها الوادي المقدس بالحمى ** به الماء صدا والكلا نبت سعدان )
( وأهد حلول الحجر منه تحية ** تفاوح عرفا ذاكي الرند والبان )
( لقد نفحت من شيح يثرب نفحة ** فهاجت مع الأسحار شوقي وأشجاني )
( وفتت منها الشرق في الغرب مسكة ** سحبت بها في أرض دارين أرداني )
( وأذكرني نجدا وطيب عراره ** نسيم الصبا من نحو طيبة حياني )
( أحن إلى تلك المعاهد إنها ** معاهد راحاتي وروحي وريحاني )
( وأهفو مع الأشواق للوطن الذي ** به صح لي أنسي الهني وسلواني )
( وأصبوا إلى أعلام مكة شائقا ** إذ لاح برق من شمام وثهلان )
( أهيل الحمى ديني على الدهر زورة ** أحث بها شوقا لكم عزمي الواني )
( متى يشتفي جفني القريح بلحظة ** تزج بها في نوركم عين إنساني )
____________________
(5/24)
( ومن لي بأن يدنو لقاكم تعطفا ** ودهري عني دائما عطفة ثاني )
( سقى عهدهم بالخيف عهد تمده ** سوافح دمع من شؤوني هتان )
( وأنعم في شط العقيق أراكة ** بأفيائها ظل المنى والهوى داني )
( وحيا ربوعا بين مروة والصفا ** تحية مشتاق بها الدهر حيران )
( ربوعا بها تتلو الملائكة العلا ** أفانين وحي بين ذكر وقرآن )
( وأول أرض باكرت عرصاتها ** وطرزت البطحا سحائب إيمان )
( وعرس فيها للنبوة موكب ** هو البحر طام فوق هضب وغيطان )
( وأدى بها الروح الأمين رسالة ** أفادت بها البشرى مدائح عنوان )
( هنالك فض ختمها أشرف الورى ** وفخر نزار من معد بن عدنان )
( محمد خير العالمين بأسرها ** وسيد أهل الأرض م الإنس والجان )
( ومن بشرت في بعثه قبل كونه ** نوامس كهان وأخبار رهبان )
( وحكمة هذا الكون لولاه ما سمت ** سماء ولا غاضت طوافح طوفان )
( ولا زخرفت من جنة الخلد أربع ** تسبح فيها أدم حور وولدان )
( ولا طلعت شمس الهدى غب دجية ** تجهم من ديجورها ليل كفران )
( ولا أحدقت بالمذنبين شفاعة ** يذود بها عنهم زباني نيران )
( له معجزات أخرست كل جاحد ** وسلت على المرتاب صارم برهان )
( له انشق قرص البدر شقين وارتوى ** بماء همى من كفه كل ظمآن )
( وأنطقت الأصنام نطقا تبرأت ** إلى الله فيه زخارف ميان )
( دعا سرحة عجما فلبت وأقبلت ** تجر ذيول الزهر ما بين أفنان )
____________________
(5/25)
( وضاءت قصور الشام من نوره الذي ** على كل أفق نازح القطر أو داني )
( وقد بهج الأنوا بدعوته التي ** كست أوجه الغبراء بهجة نيسان )
( وإن كتاب الله أعظم آية ** بها افتضح المرتاب وابتأس الشاني )
( وعدي على شأو البليغ بيانه ** فهيهات منه سجع قس وسحبان )
( نبي الهدى من أطلع الحق أنجما ** محا نورها أسداف إفك وبهتان )
( لعزتها ذل الأكاسرة الألى ** هم سلبوا تيجانها آل ساسان )
( وأحرز للدين الحنيفي بالظبى ** تراث الملوك الصيد من عهد يونان )
( ونقع من سمر القنا السم قيصرا ** فجرعه منه مجاجة ثعبان )
( وأضحت ربوع الكفر والشك بلقعا ** يناغي الصدى فيهن هاتف شيطان )
( وأصبحت السمحا ترف نضارة ** ووجه الهدى بادي الصباحة للراني )
( أيا خير أهل الأرض بيتا ومحتدا ** وأكرم كل الخلق عجم وعربان )
( فمن للقوافي أن تحيط بوصفكم ** ولو ساجلت سبقا مدائح حسان )
( إليك بعثناها أماني أجدبت ** لتسقى بمزن من أياديك هتان )
( أجرني إذا أبدى الحساب جرائمي ** وأثقلت الأوزار كفة ميزاني )
( فأنت الذي لولا وسائل عزه ** لما فتحت أبواب عفو وغفران )
( عليك سلام الله ما هبت الصبا ** وماست على كثبانها ملد قضبان )
( وحمل في جيب الجنوب تحية ** يفوح بمسراها شذا كل توقان )
( إلى العمرين صاحبيك كليهما ** وتلوهما في الفضل صهرك عثمان )
( وحيا عليا عرفها وأريجها ** ووالى على سبطيك أوفر رضوان )
____________________
(5/26)
( إليك رسول الله صممت عزمة ** إذا أزمعت فالشحط والقرب سيان )
( وخاطبت مني القلب وهو مقلب ** على جمرة الأشواق فيك فلباني )
( فيا ليت شعري هل أزم قلائصي ** إليك بدارا أو أقلقل كيراني )
( وأطوي أديم الأرض نحوك راحلا ** نواجي المهارى في صحاصح قيعان )
( يرنحها فرط الحنين إلى الحمى ** إذا غرد الحادي بهن وغناني )
( وهل تمحون عني خطايا افترفتها ** خطا لي في تلك البقاع وأوطان )
( وماذا عسى يثني عناني وإن لي ** بآلك جاها صهوة العز أمطاني )
( إذا ند عن زوارك البأس والعنا ** فجود ابنك المنصور أحمد أغناني )
( عمادي الذي أوطا السماكين أخمصا ** وأوفى على السبع الطباق فأدناني )
( متوج أملاك الزمان وإن سطا ** أحل سيوفا في معاقد تيجان )
( وقاري أسود الغاب بالصيد مثلها ** إذا اضطرب الخطي من فوق جدران )
( هزبر إذا زار البلاد زئيره ** تضاءل في أخياسها أسد خفان )
( وإن أطلعت غيم القتام جيوشه ** وأرزم في مركومه رعد نيران )
( صببن على أرض العداة صواعقا ** أسلن عليهم بحر خسف ورجفان )
( كتائب لو يعلون رضوى لصدعت ** صفاه الجياد الجرد تعدو بعقبان )
( عديد الحصى من كل أروع معلم ** وكل كمي بالرديني طعان )
( إذا جن ليل الحرب عنهم طلى العدا ** هدتهم إلى أوداجها شهب خرصان )
( من اللاء جرعن العدا غصص الردى ** وعفرن في وجه الثرى وجه بستان )
( وفتحن أقطار البلاد فأصبحت ** تؤدي الخراج الجزل أملاك سودان )
____________________
(5/27)
( إمام البرايا من علي نجاره ** ومن عترة سادوا الورى آل زيدان )
( دعائم إيمان وأركان سؤدد ** ذوو همم قد عرست فوق كيوان )
( هم العلويون الذين وجوههم ** بدور إذا ما أحلكت شهب أزمان )
( وهم آل بيت شيد الله سمكه ** على هضبة العلياء ثابت أركان )
( وفيهم فشا الذكر الحكيم وصرحت ** بفضلهم آيات ذكر وفرقان )
( فروع ابن عم المصطفى ووصيه ** فناهيك من فخرين قربى وقربان )
( ودوحة مجد معشب الروض بالعلا ** يجود بأمواه الرسالة ريان )
( بمجدهم الأعلى الصريح تشرفت ** معد على العرباء عاد وقحطان )
( أولئك فخري إن فخرت على الورى ** ونافس بيتي في الولا بيت سلمان )
( إذا اقتسم المداح فضل فخارهم ** فقسمي بالمنصور ظاهر رجحان )
( إمام له في جبهة الدهر ميسم ** ومن عزه في مفرق الملك تاجان )
( سما فوق هامات النجوم بهمة ** يحوم بها فوق السموات نسران )
( وأطلع في أفق المعالي خلافة ** عليها وشاح من علاه وسمطان )
( إذا ما احتبى فوق الأسرة وارتدى ** على كبرياء الملك نخوة سلطان )
( توسمت لقمان الحجي وهو ناطق ** وشاهدت كسرى العدل في صدر إيوان )
( وإن هزه حر الثناء تدفقت ** أنامله عرفا تدفق خلجان )
( أيا ناظر الإسلام شم بارق المنى ** وباكر لروض في ذرا المجد فينان )
( قضى الله في علياك أن تملك الدنا ** وتفتحها ما بين سوس وسودان )
( وأنك تطوي الأرض غير مدافع ** فمن أرض سودان إلى أرض بغدان )
( وتملؤها عدلا يرف لواؤه ** على الهرمين أو على رأس غمدان )
( فكم هنأت أرض العراق بك العلا ** ووافت بك البشرى لأطراف عمان )
( فلو شارفت شرق البلاد سيوفكم ** أتاك استلابا تاج كسرى وخاقان )
____________________
(5/28)
( ولو نشر الأملاك دهرك أصبحت ** عيالا على علياك أبناء مروان )
( وشايعك السفاح يقتاد طائعا ** برايته السوداء أهل خراسان )
( فما المجد إلا ما رفعت سماكه ** على عمدي سمر الطوال ومران )
( وهاتيك أبكار القوافي جلبتها ** تغار لهن الحور في دار رضوان )
( أتتك أمير المؤمنين كأنها ** لطائم مسك أو خمائل بستان )
( تعاظمن حسنا أن يقال شبيهها ** فرائد در أو قلائد عقيان )
( فلا زلت للدنيا تحوط جهاتها ** وللدين تحميه بملك سليمان )
( ولا زلت بالنصر العزيز مؤزرا ** تقاد لك الأملاك في زي عبدان ) نونية أبي الفتح التونسي
انتهت القصيدة التي في تغزلها شرح الحال وإعراب عما في ضمير الغربة والارتحال ولنعززها بأختها في البحر والروي قصيدة القاضي الشهير الذكر الأديب الذي سلبت النهى كواعب شعره إذ أبرزها من خدور الفكر الشيخ الإمام سيدي أبو الفتح محمد بن عبد السلام المغربي التونسي نزيل دمشق الشام صب الله على ضريحه سجال الرحمة والإنعام فإنها نفث مصدور غريب وبث معذور أريب فارق مثلي أوطانه وما سلاها وقرأ آيات الشجو وتلاها وتمنى أن يجود له الدهر برؤية مجتلاها وهي قوله رحمه الله وأنشأها بدمشق عام واحد وخمسين وتسعمائة
( سلوا البارق النجدي عن سحب أجفاني ** وعما بقلبي من لواعج نيران )
( ولا تسألوا غير الصبا عن صبابتي ** وشدة أشواقي إليكم وأشجاني )
( فما لي سواها من رسول إليكم ** سريع السرى في سيره ليس بالواني )
____________________
(5/29)
( فيا طال بالأسحار ما قد تكلفت ** بإنعاش محزون وإيقاظ وسنان )
( وتنفيس كرب عن كثيب متيم ** يحن إلى أهل ويصبو لأوطان )
( فلله ما أذكى شذا نسمة الصبا ** صباحا إذا مرت على الرند والبان )
( وسارت مسير الشمس وهنا فأصبحت ** من الشرق نحو الغرب تجري بحسبان )
( وقد وقفت بالشام وقفة حامل ** نوافج مسك من ظباء خراسان )
( لترتاض في تلك الرياض هنيئة ** وتزداد من أزهارها طيب أردان )
( وما غربت حتى تضاعف نشرها ** بواسطتي روح هناك وريحان )
( فكم نحوكم حملتها من رسالة ** مدونة في شرح حالي ووجداني )
( وناشدتها بالله إلا تفضلت ** بتبليغ أحبابي السلام وجيراني )
( تحية مشتاق إلى ذلك الحمى ** وسكانه والنازحين بأظعان )
( سقى الله هاتيك الديار وأهلها ** سحائب تحكي صوب مدمعي القاني )
( وحيا ربوع الحي من خير بلدة ** تخيرها قدما أفاضل يونان )
( هي الحضرة العليا مدينة تونس ** أنيسة إنسان رآها بإنسان )
( لها الفخر والفضل المبين بما حوت ** من الأنس والحسن المنوط بإحسان )
( لقد حل منها آل حفص ملوكها ** مراتب تسمو فوق هامة كيوان )
( وسادوا بها كل الملوك وشيدوا ** بها من مباني العز أفخر بنيان )
( وكان لهم فيها بهاء وبهجة ** وحسن نظام لا يعاب بنقصان )
( وكان لهم فيها عساكر جمة ** تصول بأسياف وتسطو بمران )
( وجيوش وفرسان يضيق بها الفضا ** ويحجم عنها الفرس من آل ساسان )
( وكان لأهليها المفاخر والعلا ** وكان بها حصنا أمان وإيمان )
( وكان على الدنيا جمال بحسنها ** وحسن بنيها من ملوك وأعيان )
( وكانت لطلاب المعارف قبلة ** لما في حماها من أئمة عرفان )
( وكان لأهل العلم فيها وجاهة ** وجاه وعز مجده ليس بالفاني )
( وكان بواديها المقدس فتية ** تقدس باريها بذكر وقرآن )
____________________
(5/30)
( ومن أدباء النظم والنثر معشر ** تفوق بناديها بلاغة سحبان )
( وكانت على الأعداء في حومة الوغى ** تطول بأبطال وتسطو بشجعان )
( وما برحت فيها محاسن جمة ** وفي كل نوع أهل حذق وإتقان )
( إلى أن رمتها الحادثات بأسهم ** وسلت عليها سيف بغي وعدوان )
( فما لبثت تلك المحاسن أن عفت ** وأقفر ربع الأنس من بعد سكان )
( وشتت ذاك الشمل من بعد جمعه ** كما انتثرت يوما قلائد عقيان )
( فأعظم برزء خص خير مدينة ** وخير أناس بين عجم وعربان )
( لعمري لقد كادت عليها قلوبنا ** تضرم من خطب عراها بنيران )
( وقد عمنا غم بعظم مصابها ** وإن خصني منه المضر بجثماني )
( وما بقيت فيما علمناه بلدة ** من الشرق إلا ألبست ثوب أحزان )
( فصبرا أخي صبرا على المحنة التي ** رمتك بها الأقدار ما بين إخوان )
( فما الدهر إلا هكذا فاصطبر له ** رزية مال أو تفرق خلان )
( أأحبابنا إن فرق الدهر بيننا ** وطال مغيبي عنكم منذ أزمان )
( فإني على حفظ الوداد وحقكم ** مقيم وما هجر الأحبة من شاني )
( ووالله والله العظيم ألية ** على صدقها قامت شواهد برهان )
( لقد زاد وجدي واشتياقي إليكم ** وبرح بي طول البعاد وأضناني )
( فلا تحسبوا أني تسليت بعدكم ** بشيء من الدنيا وزخرفها الفاني )
( ولا أنني يوما تناسيت عهدكم ** بحال ولا أن التكاثر ألهاني )
( ولا راقني روض ولا هش مسمعي ** لنغمة أطيار ورنة عيدان )
( ولا حل في فكري سواكم بخلوة ** ولا جلوة ما بين حور وولدان )
( ولا اختلجت يوما ضمائر مهجتي ** لغيركم في سر سري وإعلاني )
( ولو لم أسل النفس بالقرب واللقا ** لأدرج جسمي في مقاطع أكفاني )
____________________
(5/31)
( فما أنا في عودي إليكم بآيس ** فما اليأس إلا من علامة كفران )
( عليكم سلام الله في كل ساعة ** تحية صب لا يدين بسلوان )
( مدى الدهر ما ناحت مطوقة وما ** تعاقب بين الخافقين الجديدان ) نونية ابن الخطيب
ولصاحب الترجمة لسان الدين ابن الخطيب قصيدة طنانة بهذا الوزن والقافية مدح بها السلطان أبا سالم المريني حين فتح تلسمان وقد رأيت إيرادها في هذا الباب لما اشتمل عليه آخرها من شرح أمر الإغتراب الذي حير الألباب وللمناسبة أسباب لا تخفى على من له فكر مصيب وكل غريب للغريب نسيب وهي
( أطاع لساني في مديحك إحساني ** وقد لهجت نفسي بفتح تلمسان )
( فأطلعتها تفتر عن شنب المنى ** وتسفر عن وجه من السعد حياني )
( كما ابتسم النوار عن أدمع الحيا ** وجف بخد الورد عارض نيسان )
( كما صفقت ريح الشمال شمولها ** فبان ارتياح السكر في غصن البان )
( تهنيك بالفتح لذي معجزاته ** خوارق لم تذخر سواك لإنسان )
( خففت إليها والجفون ثقيلة ** كما خف شثن الكف من أسد خفان )
( وقدت إلى الأعداء فيها مبادرا ** ليوث رجال في مناكب عقبان )
( تمد بنود النصر منهم ظلالها ** على كل مطعام العشيات مطعان )
( جحاجحة غر الوجوه كأنما ** عمائمهم فيها معاقد تيجان )
( أمدك فيها الله بالملإ العلا ** فجيشك مهما حقق الأمر جيشان )
____________________
(5/32)
( لقد جليت منك البلاد لخاطب ** لقد جنيت منك الغصون إلى جاني )
( لقد كست الإسلام بيعتك الرضى ** وكانت على أهليه بيعة رضوان )
( ولله من ملك سعيد ونصبة ** قضى المشتري فيها بعزلة كيوان )
( وسجل حكم العدل بين بيوتها ** وقوفا مع المشهور من رأي يونان )
( فلم تخش سهم القوس صفحة بدرها ** ولم تشك فيها الشمس من بخس ميزان )
( ولم يعترض مبتزها قطع قاطع ** ولا نازعت نوبهرها كف عدوان )
( تولى اختيار الله حسن اختيارها ** فلم يحتج الفرغان فيها لفرغان )
( ولا صرفت فيها دقائق نسبة ** ولو خفقت فيها طوالع بلدان )
( وجوه القضايا في كمالك شأنها ** وجوب إذا خصت سواك بإمكان )
( ومن قاس منك الجود بالبحر والحيا ** فقد قاس تمويها قياس سفسطاني )
( وطاعتك العظمى بشارة رحمة ** وعصيانك المحذور نزغة شيطان )
( وحبك عنوان السعادة والرضى ** ويعرف مقدار الكتاب بعنوان )
( ودين الهدى جسم وذاتك روحه ** وكم وصلة ما بين روح وجثمان )
( تضن بك الدنيا ويحرسك العلا ** كأنك منها بين لحظ وأجفان )
( بنيت على أساس أسلافك العلا ** فلا هدم المبني ولا عدم الباني )
( وصاحت بك العليا فلم تك غافلا ** ونادت بك الدنيا فلم تك بالواني )
( ولم تك في خوض البحار بهائب ** ولم تك في نيل الفخار بكسلان )
( لقد هز منك العزم لما انتضيته ** ذوائب رضوى أو مناكب ثهلان )
( ولله عينا من رآها محلة ** هي الحشر لا تحصى بعد وحسبان )
( وتنور عزم فار في إثر دعوة ** يعم الأقاصي والأدانى بطوفان )
( عجائب أقطار ومألف شارد ** وأفلاذ آفاق وموعد ركبان )
( إذا ما سرحت اللحظ في عرصاتها ** تبلد منك الذهن في العالم الثاني )
( جنى حان والنصر العزيز اهتصاره ** إذا انتظمت بالقلب منها جناحان )
____________________
(5/33)
( فمن سحب لاحت بها شهب القنا ** ومن كثب بيض بدت فوق كثبان )
( مضارب في البطحاء بيض قبابها ** كما قلبت للعين أزهار سوسان )
( وما إن رأى الراءون في الدهر قبلها ** قرارة عز في مدينة كتان )
( تفوت التفات الطرف حال اقتبالها ** كأنك قد سخرت جن سليمان )
( فقد أطرقت من خوفها كل بيعة ** وطأطأ من إجلالها كل إيوان )
( وقد ذعرت خولان بين بيوتها ** غداة بدت منها البيوت بخولان )
( فلو رميت مصر بها وصعيدها ** لأضحت خلاء بلقعا بعد عمران )
( ولو يممت سيف بن ذي يزن لما ** تقرر ذاك السيف في غمد غمدان )
( تراع بها الأوثان في أرض رومة ** إذا خيمت شرقا على طرق أوثان )
( وتجفل إجفال النعامي ببرقة ** ليوث الشرى ما بين ترك وعربان )
( وعرضا كيوم العرض أذهل هوله ** عياني وأعياني تعدد أعيان )
( وجيشا كقطع الليل للخيل تحته ** إذا صهلت مفتنة رجع ألحان )
( فيومض من بيض الظبي ببوارق ** ويقذف من سمر الرماح بشهبان )
( ويمطر من ودق السهام بحاصب ** سحائبه من كل عوجاء مرنان )
( وجردا إذا ما ضمرت يوم غاية ** تعجبت من ريح تقاد بأرسان )
( تسابق ظلمان الفلاة بمثلها ** وتذعر غزلان الرمال بغزلان )
( ودون مهب العزم منك قواضب ** أبي النصر يوما أن تلم بأجفان )
( نظرت إليها والنجيع لباسها ** فقلت سيوف أم شقائق نعمان )
( تفتح وردا خدها حين جردت ** ولا ينكر الأقوام خجلة عريان )
( كأن الوغى نادت بها لوليمة ** قد احتفلت أوضاعها منذ أزمان )
( فإن طعمت بالنصر كان وضوءها ** نجيعا ووافاها الغبار بأشنان )
( لقد خلصت لله منك سجية ** جزاك على الإحسان منك بإحسان )
( فسيفك للفتح المبين مصاحب ** وعزمك والنصر المؤزر إلفان )
( فرح واغد للرحمن تحت كلاءة ** وسرحان في غاب العدا كل سرحان )
____________________
(5/34)
( ودم المنى تدني إليك قطافها ** ميسر أوطار ممهد أوطان )
( وكن واثقا بالله مستنصرا به ** فسلطانه يعلو على كل سلطان )
( كفاك العدا كاف لملكك كافل ** فضدك نضو ميت بين أكفان )
( رضى الوالد المولى أبيك عرفته ** وقد أنكر المعروف من بعد عرفان )
( فكم دعوة أولاك عند انتقاله ** إلى العالم الباقي من العالم الفاني )
( فعرفت في السراء نعمة منعم ** وألحفت في الضراء رحمة رحمان )
( عجبت لمن يبغي الفخار بدعوة ** مجردة من غير تحقيق برهان )
( وسنة إبراهيم في الفخر قد أتت ** بكل صحيح عن علي وعثمان )
( ومن مثل إبراهيم في ثبت موقف ** إذا ما التقى في موقف الحرب صفان )
( إذا هم لم يلفت بلحظة هائب ** وإن من لم ينفث بلفظه منان )
( فصاحة قس في سماحة حاتم ** وإقدام عمرو تحت حكمة لقمان )
( شمائل ميمون النقيبة أروع ** له قصبات السبق في كل ميدان )
( محبته فرض على كل مسلم ** وطاعته في الله عقدة إيمان )
( هنيئا أمير المسلمين بنعمة ** حبيت بها من مطلق الجود منان )
( لزينت أجياد المنابر بالتي ** أتاح لها الرحمن في آل زيان )
( قلائد فتح هن لكن قدرها ** ترفع أن يدعى قلائد عقيان )
( أمولاي حبي في علاك وسيلتي ** ولطفك بي دأبا بمدحك أغراني )
( أياديك لا أنسى على بعد المدى ** نعوذ بك اللهم من شر نسيان )
( فلا جحد ما خولتني من سجيتي ** ولا كفر نعماك العميمة من شاني )
( ومهما تعجلت الحقوق لأهلها ** فإنك مولاي الحقيق وسلطاني )
( وركني الذي لما نبا بي منزلي ** أجاب ندائي بالقبول وآواني )
( وعالج أيامي وكانت مريضة ** بحكمة من لم ينتظر يوم بحران )
( فأمنني الدهر الذي قد أخافني ** وجدد لي السعد الذي كان أبلاني )
____________________
(5/35)
( وخولني الفضل الذي هو أهله ** وشيكا وأعطاني فأفعم أعطاني )
( تخونني صرف الحوادث فانثنى ** يقبل أرداني ومن بعد أرداني )
( وأزعجني من منشئي ومبوئي ** ومعهد أحبابي ومألف جيراني )
( بلادي التي فيها عقدت تمائمي ** وجم بها وفري وجل بها شاني )
( تحدثني عنها الشمال فتنثني ** وقد عرفت مني شمائل نشوان )
( وآمل أن لا أستفيق من الكرى ** إذا الحلم أوطاني بها تراب أوطاني )
( تلون إخواني علي وقد جنت ** علي خطوب جمة ذات ألوان )
( وما كنت أدري قبل أن يتنكروا ** بأن خواني كان مجمع خواني )
( وكانت وقد حم القضاء صنائعي ** علي بما لا أرتضي شر أعواني )
( فلولاك بعد الله يا ملك العلا ** وقد فت ما ألفيت من يتلافاني )
( تداركت مني بالشفاعة منعما ** بريئا رماه الدهر في موقف الجاني )
( فإن عرف الأقوام حقك وفقوا ** وإن جهلوا باءوا بصفقة خسران )
( وإن خلطوا عرفا بنكر وقصروا ** وزنت بقسطاس قويم وميزان )
( وحرمة هذا اللحد يأبى كمالها ** هضيمة رد أو حطيطة نقصان )
( وقد نمت عن أمري ونبهت همة ** تحدق من علو إلى صرح هامان )
( إذا دانت الله النفوس وأملت ** إقالة ذنب أو إنالة غفران )
( فمولاك يا مولاي قبلة وجهتي ** وعهدة إسراري وحجة إعلاني )
( وقفت على مثواه نفسي قائما ** بترديد ذكر أو تلاوة قرآن )
( ولو كنت أدري فوقها من وسيلة ** إلى ملكك الأرضى لشمرت أرداني )
( وأبلغت نفسي جهدها غير أنني ** طلابي ما بعد النهاية أعياني )
( قرأت كتاب الحمد فيك لعاصم ** فصح أدائي واقتدائي وإتقاني )
____________________
(5/36)
( فدونكها من بحر فكري لؤلؤا ** يفصل من حسن النظام بمرجان )
( وكان رسول الله بالشعر يعتني ** وكم حجة في شعر كعب وحسان )
( ووالله ما وفيت قدرك حقه ** ولكنه وسعي ومبلغ إمكاني ) رسالة لسان الدين إلى أبي سالم
وكتب لسان الدين رحمه الله قبل هذه القصيدة نثرا من إنشائه يخاطب به السلطان أبا سالم المذكور وذلك أنه ورد على لسان الدين وهو بشالة سلا كتاب السلطان المذكور بفتح تلمسان وكان وروده يوم الخميس سابع عشر شعبان عام واحد وستين وسبعمائة ونص ما كتب به لسان الدين
مولاي فتاح الأقطار والأمصار فائدة الأزمان والأعصار أثير هبات الله الآمنة من الاعتصار قدوة أولي الأيدي والأبصار ناصر الحق عند قعود الأنصار مستصرخ الملك الغريب من وراء البحار مصداق دعاء الأب المولى في الأصائل والأسحار أبقاكم الله سبحانه لا تقف إيالتكم عند حد ولا تحصى فتوحات الله تعالى عليكم بعد ولا تفيق اعداؤكم من كد ميسرا على مقامكم ما عسر على كل أب كريم وجد عبدكم الذي خلص إبريز عبوديته لملك ملككم المنصور المعترف لأدنى رحمة من رحماتكم بالعجز عن شكرها والقصور الداعي إلى الله سبحانه أن يقصر عليكم سعادة العصور ويذلل بعز طاعتكم أنف الأسد الهصور ويبقى الملك في عقبكم وعقب عقبكم إلى يوم ينفخ فيه الصور فلان من الضريح المقدس بشالة وهو الذي تعددت على المسلمين حقوقه وسطع نوره وتلألأ شروقه وبلغ مجده السماء لما بسقت فروعه ووشجت عروقه وعظم ببيوتكم فخره فما فوق البسيطة فخر يفوقه حيث الجلال قد رست هضابه والملك قد كسيت بأستار الكعبة الشريفة قبابه والبيت العتيق قد ألحفت الملاحف الإمامية أثوابه والقرآن العزيز ترتل أحزابه
____________________
(5/37)
والعمل الصالح يرتفع إلى الله ثوابه والمستجير يخفي بالهيبة سؤاله فيجهر بنعرة العز جوابه وقد تفيأ من أوراق الذكر الحكيم حديقة وخميلة أنيقة وحط بجودي الجود نفسا في طوفان العز غريقة والتحف رفرف الهيبة التي لا تهتدي النفس فيها إلا بهداية الله تعالى طريقة واعتز بعزة الله وقد توسط جيش الحرمة المرينية حقيقة إذ جعل المولى المقدس المرحوم أبا الحسن مقدمة وأباه وجده سيقة يرى بركم بهذا اللحد الكريم قد طنب عليه من الرضى فسطاطا وأعلق به يد العناية المرينية اهتماما واغتباطا وحرر له أحكام الحرمة نصا جليا واستنباطا وضمن له حسن العقبى التزاما واشتراطا وقد عقد البصر بطريقة رجمتكم المنتظرة المرتقبة ومد اليد إلى لطائف شفاعتكم التي تتكفل بعتق المال كما تكفلت بعتق الرقبة وشرع في المراح بميدان نعمتكم بعد اقتحام هذه العقبة لما شنفت الأذن البشرى التي لم يبق طائر إلا سجع بها وصدح ولا شهاب دجنة إلا اقتبس من نورها واقتدح ولا صدر إلا انشرح ولا غصن عطف إلا مرح بشرى الفتح القريب وخبر النصر الصحيح الحسن الغريب فتح تلمسان الذي قلد المنابر عقود الابتهاج ووهب الإسلام منيحة النصر غنية عن الانتهاج وألحف الخلق ظلا ممدودا وفتح باب الحج وكان مسدودا وأقر عيون أولياء الله الذين يذكرون الله قياما وقعودا وأضرع بسيف الحق جباها أبية وخدودا وملككم حق أبيكم الذي أهان عليه الأموال وخاض من دونه الأهوال وأخلص فيه الضراعة والسؤال من غير كد يغمز عطف المسرة ولا جهد يكدر صفو النعم الثرة ولا حصر ينفض به المنجنيق ذؤابته ويظهر بتكرار الركوع إنابته
فالحمد لله الذي أقال العثار ونظم بدعوتكم الإنتثار وجعل ملككم يجدد الآثار ويأخذ الثار والعبد يهنئ مولاه بما أنعم الله تعالى به عليه وأولاه فإذا أجال العبيد قداح السرور فللعبد المعلى والرقيب إذا استهموا حظوظ الجذل فلي القسم الوافر والنصيب وإذا اقتسموا فريضة شكر الله فلي الحظ
____________________
(5/38)
والتعصيب لتضاعف أسباب العبودية قبلي وترادف النعم التي عجز عنها قولي وعملي وتقاصر في ابتغاء مكافأتها وجدي وإن تطاول أملي فمقامكم المقام الذي نفس الكربة وآنس الغربة ورعى الوسيلة والقربة وأنعش الأرماق وفك الوثاق وأدر الأرزاق وأخذ على الدهر بالاستقالة العهد والميثاق
وإن لم يباشر العبد اليد العالية بهذا الهناء ويمثل بين يدي الخلافة العظيمة السنا والسناء ويمد بسبب اليد إلى تلك السماء فقد باشر به اليد التي يحن مولاي لتذكر تقبيلها ويكمل فروض المجد بتوفية حقوقها الأبوية وتكميلها ووقفت بين يدي ملك الملوك الذي أجال عليها القداح ووصل في طلب وصالها بالمساء الصباح وكان فتحه إياها أبا عذرة الافتتاح وقلت يهنيك يا مولاي رد ضالتك المنشودة وجبر لقطعتك المعرفة المشهودة ورد أمتك المودودة فقد استحقها وارثك الأرضى وسيفك الأمضى وقاضي دينك وقرة عينك مستنفذ دارك من يد غاصبها وراد رتبتك إلى مناصبها وعامر المثوى الكريم وساتر الأهل والحريم مولاي هذه تلمسان قد طاعت وأخبار الفتح على ولدك الحبيب إليك قد شاعت والأمم إلى هنائه قد تداعت وعدوك وعدوه قد شردته المخافة وانضاف إلى عرب الصحراء فخفضته الإضافة وعن قريب تتحكم فيه يد احتكامه وتسلمه السلامة إلى حمامه فلتطب يا مولاي نفسك وليستبشر رمسك فقد نمت بركتك وزكا غرسك نسأل الله أن يورد على ضريحك من أنباء نصره ما تفتح له أبواب السماء قبولا ويترادف إليك مددا موصولا وعددا آخرته خير لك من الأولى ويعرفه بركة رضاك ظعنا وحلولا ويضفي عليك منه سترا مسدولا
ولم يقنع العبد بخدمة النثر حتى أجهد القريحة التي ركضها الدهر فأنضاها واستشفها الحادث الجلل فتقضاها فلفق من خدمة المنظوم ما يتغمد حلمكم تقصيره ويكون إغضاؤكم إذا لقي معرة العتب وليه ونصيره وإحالة مولاي
____________________
(5/39)
على الله في نفسي جبرها ووسيلة عرفها مجده فما أنكرها وحرمة بضريح مولاي والده شكرها ويطلع العبد منه على كمال أمله ونجح عمله وتسويغ مقترحه وتتميم جذله
( أطاع لساني في مديحك إحساني ** )
إلى آخر القصيدة التي تقدمت نونية الفقيه عمر الزجال
وحيث اقتضت المناسبة جلب هذه النونيات فلنضف إليها قصيدة أديب الأندلس الفقيه عمر صاحب الأزجال إذ هو من فرسان هذا المجال وقد وطأ لها بنثر وجعل الجميع مقامة ساسانية سماها تسريح النصال إلى مقاتل الفصال ونصها يا عماد السالكين ومحط المستفيدين والمتبركين وثمال الضعفاء والمساكين والمتروكين في طريقك يتنافس المتنافس وعلى أعطافك تزهى العباءات وتروق الدلافس وبكتابك تحيا جوامد الأفهام وبمذبتك تشرد ذباب الأوهام وفي زنبيلك يدس التالد والطارف وبعصاك يهش على بدائع المعارف الله الله في سالك ضاقت عليه المسالك وشاد رمي بإبعاد أدركته متاعب الحرفة وأقيم من صف أهل الصفة فلا يجد نشاطا على ما يتعاطى ولا يلقى اغتباطا إن حل زاوية أو نزل رباطا أقصي عن أهل القرب والتخصيص وابتلى بمثل حالة برصيص فأحيل عليك وتوقفت إقالته على
____________________
(5/40)
توبة بين يديك فكاتبك استدعاء واستوهب منك هداية ودعاء ليسير على ما سويت ويتحمل عنك أشتات ما رويت فيلقى الأكفاء الظرفاء عزيزا ويباهي بك كل من خاطبك مستجيزا فاصرف إلي محيا الرضى وعد من إيناسك للعهد الذي مضى ولا تلقى معرضا ولا معرضا وأصخ لي سمعك كما قدر الله تعالى وقضى
( تعال نجددها طريقة ساسان ** نعض عليها ما توالى الجديدان )
( ونصرف إليها من مثار عزائم ** ونحلف عليها من مؤكد أيمان )
( ونعقد على حكم الوفاء هواءنا ** لنأمن من أقوال زور وبهتان )
( ونقسم على أن لا نصدق واشيا ** يروح ويغدو بين إثم وعدوان )
( يطوف حوالينا ليفسد بيننا ** بمنطق إنسان وخدعة شيطان )
( على أننا من عالم كلما بدا ** تعوذ منه عالم الإنس والجان )
( وحاشاك أن تلقي على الصلح معرضا ** إلى الصلح آلت حرب عبس وذبيان )
( وإني أهمتني شؤون كثيرة ** وصلحت أولى ما أقدم من شاني )
( فأنت إمامي إن كلفت بمذهب ** وأنت دليلي إن صدعت ببرهان )
( سأرعاك في أهل العباءات كلما ** رأيتك في أهل الطيالس ترعاني )
( ويا لابسي تلك العباءات إنها ** لباس إمام في الطريقة دهقان )
( تفرقت الألوان منها إشارة ** بأنك تأتي من حلاك بألوان )
( ويا بأبي الفصال شيخ طريقة ** خلوب لألباب لعوب بأذهان )
( إذا جاء في الثوب المحبر خلته ** زنيبيرة قد مد منها جناحان )
( فما تأمن الأبدان آفة لسعها ** وإن أقبلت في سابغات وأبدان )
( سأدعوك في حالات كيدي وكديتي ** بشيخي ساسان وعمي هامان )
____________________
(5/41)
( فإن كان في الأنساب منا تباين ** فما تنكر الآداب أنا نسيبان )
( ألا فادع لي في جنح ليلك دعوة ** لتنجح آمالي ويرجح ميزاني )
( لك الطائر الميمون في كل وجهة ** سريت إليها غير نكس ولا واني )
( فكم من فقير بائس قد عرفته ** فرفت عليه نعمة ذات أفنان )
( وكم من رفيع الحياة واليت أنسه ** فعاش قرير العين مرتفع الشان )
( فلو كنت للفتح بن خاقان صاحبا ** لما خانه المقدور في ليلة الخان )
( ولو كنت للصابي صديقا ملاطفا ** لما قبلت فيه مقالة بهتان )
( ولو كنت من عبد الحميد مقربا ** لما هزم السفاح أشياع مروان )
( ولو كنت قد أرسلتها دعوة على ** أبي مسلم ما حاز أرض خراسان )
( ولو كنت في يوم الغبيط مراسلا ** لبسطام لم تهزم به آل شيبان )
( ولو كنت في حرب الأمين لطاهر ** لما هام في يوم اللقاء ابن ماهان )
( ولو كنت في مغزى أبي يوسف لما ** رماه بغدر عبده في تلمسان )
( ولو أن كسرى يزدجرد عرفته ** لما لاح مقتولا على يد طحان )
( ولو أن لذريقا وطئت بساطه ** لما أثرت فيه مكيدة اليان )
( وفيما مضى في فاس أوضح شاهد ** غني لدينا عن بيان وتبيان )
( ولما اعتنى منك السعيد بكاتب ** رأى ما ابتغى من عز ملك وسلطان )
( فلا تنسني من أهل ودك إنني ** أخاف الليالي أن تطول فتنساني )
____________________
(5/42)
( ولا خير إن تجعل كفاء قصيدتي ** كفاء ابن دراج على مدح خيران )
( فجد بدنانير ولا تكن التي ** ألم بها الكندي في شعب بوان )
( فجودك فينا الغيث في رمل عالج ** وفضلك فينا الخبز في دار عثمان )
( وما زلت من قبل السؤال مقابلا ** مرادي بإحساب وقصدي بإحسان )
( ولا تنس أياما تقضت كريمة ** بزاوية المحروق أو دار همدان )
( وتأليفنا فيها لقبض إتاوة ** وإغرام مسنون وقسمة حلوان )
( وقد جلس الطرقون بالبعد مطرقا ** يقول نصيبي أو أبوح بكتمان )
( عريفي يلحاني إذا ما أتيته ** ولم أنصرف عنكم بواجب ألحان )
( وقد جمعت تلك الطريقة عندنا ** أئمة حساب وأعلام كهان )
( إذا استنزلوا الأرواح باسم تبادرت ** طوائف ميمون وأشياع برقان )
( وإن بخروا عند الحلول تأرجت ** مباخرهم عن زعفران ولوبان )
( وإن فتحوا الدارات في رد آبق ** ثنت عزمه أوهام خوف وخذلان )
( فيحسب أن الأرض حيث ارتمت به ** ركائبه سرعان رجل وركبان )
( وقد عاشرتنا أسرة كيموية ** أقامت لدينا في مكان وإمكان )
( فلله من أعيان قوم تألفوا ** على عقد سحر أو على قلب أعيان )
____________________
(5/43)
( ونحن على ما يغفر الله إنما ** نروح ونغدو من رباط إلى خان )
( مع الصبح نصفيها عباءة صفة ** وبالليل نلويها زنانير رهبان )
( أتذكر في سفح العقاب مبيتكم ** ثمانين شخصا من إناث وذكران )
( لديكم من الألوان ما لم يجئ به ** طهور ابن ذنون ولا عرس بوران )
( وكم شائق منكم إلى عقد تكة ** وكم هائم فيكم على حل هميان )
( فأطفأت قنديل المكان تعمدا ** وأومأت فانقضوا كأمثال عقبان )
( وناديت في القوم الركوب فأسرعوا ** فريق لنسوان وقوم لذكران ) فأقسم بالأيمان لولا تعففي ** عن السوء لانحلت عقيدة إيماني )
( فعد للذي كنا عليه فإن لي ** على الغير إن صاحبته حقد غيران )
( فمن يوم إذا صيرت ودي جانبا ** وأعرضت عني ما تناطح عنزان )
( ولا روت الكتاب بعد نفارنا ** محاورة من ثعلبان لسرحان )
( وما هو قصدي منك إلا إجازة ** تخولني التفضيل ما بين خلاني )
( وإنك إن سخرت لي وأجزتني ** لنعم ولي صان ودي وجازاني )
( ولم لا ترويني وأنت أجل من ** سقاني من قبل الرحيق فرواني )
( ألا فأجزني يا إمام بكل ما ** رويت لمدغليس أو لابن قزمان )
( ولا تنس للدباغ نظما عرفته ** فإنكما في ذلك النظم سيان )
( ومزدوجات ينسبون نظامها ** إلي ابن شجاع في مديح ابن بطان )
( وألم بشيء من خرافات عنتر ** وألمع ببعض من حكايات سوسان )
____________________
(5/44)
( وإن كنت طالعت اليتيمة واسني ** بلامية في الفحش من نظم واساني )
( أجزني بكشف الدك أرضى وسيلة ** وخير جليس في بساط ودكان )
( وناولني المصباح فهو لغربتي ** ميسر أغراضي ورائد سلواني )
( وألحق به شمس المعارف إنني ** أسائل عن إسناده كل إنسان )
( وقد كنت قبل اليوم عرفتني به ** ولكنني أنسيته بعد عرفان )
( ولا بد يا أستاذ من أن تجيزني ** ببدء ابن سبعين وفصل ابن رضوان )
( وكتب ابن أحلى كيف كانت فإنها ** لوزن دقيق القوم أكرم ميزان )
( ولا تنس ديوان الصبابة والصفا ** لإخوان صدق في الصبا خير إخوان )
( وزهر رياض في صفوف أضاحك ** وجبذ كساء في مكايد نسوان )
( كذاك فناولني كتاب حبائب ** وزدني تعريفا بها وببرجان )
( ولي أمل في أن أروى رسالة ** مضمنة أخبار حي بن يقظان )
( وحبس على الكوز والكاس والعصا ** فإنك مثر من عصى وكيزان )
( وصير لي الدلفاس أرفع لبسة ** فقد جل قدري عن حرير وكتان )
( وقد رق طبعي واعترتني خشية ** تكاد بها روحي تفارق جثماني )
( وخل مفاتيح الطريقة في يدي ** وسوغ لهم حكمي مزيدي ونقصاني )
( فإني لم أخدمك إلا بنية ** وإني لم أتبعك إلا بإحسان )
____________________
(5/45)
( فكن لي بالأسرار أفصح معلن ** فإني قد أخلصت سري وإعلاني )
وليس قصدي علم الله بجلب هذه القصيدة ما فيها من المجون بل ما فيها من التلميحات التي يرغب في مثله أهل الأدب والحديث شجون على أن أمثال هؤلاء الأعلام لا يقصدون بمثل هذا الكلام إلا مجرد الإحماض فينبغي أن ينظر كلامهم الواقف عليه بعين الإغضاء عن النقد والإغماض ولا يبادر بالإعتراض من لم يعلم في الأصول برهان القطع والإفتراض والله سبحانه المسؤول في التجاوز عن الزلات والنجاة من الأمور المضلات فعفوه سبحانه وراء جميع ذلك والله تعالى المطلع على أسرار الضمائر والخبير بما هنالك لا رب غيره ولا خير إلا خيره نونية ابن زمرك
وحيث ذكرنا هذه القصائد النونية التي اتفق فيها البحر والروي وجرت من البلاغة على النهج السوي فلا بأس أن نعززها بقصيدة الرئيس الوزير أبي عبد الله ابن زمرك سامحه الله تعالى وهي قصيدة ميلادية أنشدها سلطان الأندلس عام خمسة وستين وسبعمائة ونجعلها مكفرة لما مر في قصيدة الفقيه عمر من المجون ومبلغه للناظرين في هذا التأليف ما يرجون والحديث شجون وهي قوله
( لعل الصبا إن صافحت روض نعمان ** تؤدي أمان القلب عن ظبية البان )
( وماذا على الأرواح وهي طليقة ** لو احتملت أنفاسها حاجة العاني )
( وما حال من يستودع الريح سره ** ويطلبها وهي النموم بكتمان )
( وكالطيف أستقريه في سنة الكرى ** وهل تنقع الأحلام غلة ظمآن )
____________________
(5/46)
( أسائل عن نجد ومرمى صبابتي ** ملاعب غزلان الصريم بنعمان )
( وأبدي إذا ريح الشمال تنفست ** شمائل مرتاح المعاطف نشوان )
( عرفت بهذا الحب لم أدر سلوة ** وإني لمسلوب الفؤاد بسلوان )
( فيا صاحبي نجواي والحب غاية ** فمن سابق جلى مداه ومن واني )
( وراءكما ما اللوم يثني مقادتي ** فإني عن شأن الملامة في شان )
( وإني وإن كنت الأبي قيادة ** ليأمرني حب الحسان وينهاني )
( وما زلت أرعى العهد فيمن يضيعه ** وأذكر إلفي ما حييت وينساني )
( فلا تنكرا ما سامني مضض الهوى ** فمن قبل ما أودى بقيس وغيلان )
( لي الله إما أومض البرق في الدجى ** أقلب تحت الليل مقلة وسنان )
( وإن سل من غمد الغمام حسامه ** برى كبدي الشوق الملم وأضناني )
( تراءى بأعلام الثنية باسما ** فأذكرني العهد القديم وأبكاني )
( أسامر نجم الأفق حتى كأننا ** وقد سدل الليل الرواق حليفان )
( ومما أناجي الأفق أعديه بالجوى ** فأرعى له سرح النجوم ويرعاني )
( ويرسل صوب القطر من فيض أدمعي ** ويقدح زند البرق من نار أشجاني )
( وضاعف وجدي رسم دار عهدتها ** مطالع شهب أو مراتع غزلان )
( على حين شرب الوصل غير مصرد ** وصفو الليالي لم يكدر بهجران )
( لئن أنكرت عيني الطلول فإنها ** تمت إلى قلبي بذكر وعرفان )
( ولم أر مثل الدمع في عرصاتها ** سقى تربها حين استهل وأظماني )
( ومما شجاني أن سرى الركب موهنا ** تقاد به هوج الرياح بأرسان )
( غوارب في بحر السراب تخالها ** وقد سبحت فيه مواخر غربان )
( على كل نضو مثله فكأنما ** رمى منهما صدر المفازة سهمان )
( ومن زاجر كوماء مخطفة الحشا توسد منها فوق عوجاء مرنان )
( نشاوى غرام يستميل رؤوسهم ** من النوم والشوق المبرح سكران )
( أجابوا نداء البين طوع غرامهم ** وقد تبلغ الأوطار فرقة أوطان )
____________________
(5/47)
( يؤمون من قبر الشفيع مثابة ** تطلع منها جنة ذات أفنان )
( إذا نزلوا من طيبة بجواره ** فأكرم مولى ضم أكرم ضيفان )
( بحيث علا الإيمان وامتد ظله ** وزان حلى التوحيد تعطيل أوثان )
( مطالع آيات مثابة رحمة ** معاهد أملاك مظاهر إيمان )
( هنالك تصفو للقبول موارد ** يسقون منها فضل عفو وغفران )
( هناك تؤدي للسلام أمانة ** يحييهم عنها بروح وريحان )
( يناجون عن قرب شفيعهم الذي ** يؤمله القاصي من الخلق والداني )
( لئن بلغوا دوني وخلفت إنه ** قضاء جرى من مالك الأرض ديان )
( وكم عزمة مليت نفسي صدقها ** وقد عرفت مني مواعد ليان )
( إلى الله نشكوها نفوسا أبية ** تحيد عن الباقي وتغتر بالفاني )
( ألا ليت شعري هل تساعدني المنى ** فأترك أهلي في رضاه وجيراني )
( وأقضي لبانات الفؤاد بأن أرى ** أعفر خدي في ثراه وأجفاني )
( إليك رسول الله دعوة نازح ** خفوق الحشا رهن المطامع هيمان )
( غريب بأقصى الغرب قيد خطوة ** شباب تقضى في مراح وخسران )
( يجد اشتياقا للعقيق وبانه ** ويصبو إليها ما استجد الجديدان )
( وإن أومض البرق الحجازي موهنا ** يردد في الظلماء أنه لهفان )
( فيا مولى الرحمى ويا مذهب العمى ** ويا منجي الغرقى ويا منقذ العاني )
( بسطت يد المحتاج يا خير راحم ** وذنبي ألجاني إلى موقف الجاني )
( وسيلتي العظمى شفاعتك التي ** يلوذ بها عيسى وموسى بن عمران )
( فأنت حبيب الله خاتم رسله ** وأكرم مخصوص بزلفى ورضوان )
( وحسبك ان سماك أسماءه العلا ** وذاك كمال لا يشاب بنقصان )
( وأنت لهذا الكون علة كونه ** ولولاك ما امتاز الوجود بأكوان )
( ولولاك للأفلاك لم تجل نيرا ** ولا قلدت لباتهن بشهبان )
( خلاصة صفو المجد من آل هاشم ** ونكتة سر الفخر من آل عدنان )
____________________
(5/48)
( وسيد هذا الخلق من نسل آدم ** وأكرم مبعوث إلى الإنس والجان )
( وكم آية أطلعت في أفق الهدى ** يبين صباح الرشد منها ليقظان )
( وما الشمس يجلوها النهار لمبصر ** بأجلى ظهورا أو بأوضح برهان )
( وأكرم بآيات تحديتنا بها ** ولا مثل آيات لمحكم فرقان )
( وماذا عسى يثني البليغ وقد أتى ** ثناؤك في وحي كريم وقرآن )
( فصلى عليك الله ما انسكب الحيا ** وما سجعت ورقاء في غصن البان )
( وأيد مولانا ابن نصر فإنه ** لأشرف من ينمي لملك وسلطان )
( أقام كما يرضيك مولدك الذي ** به سفر الإسلام عن وجه جذلان )
( سمى رسول الله ناصر دينه ** معظمه في حال سر وإعلان )
( ووارث سر المجد من آل خزرج ** وأكرم من تنمي قبائل قحطان )
( ومرسلها ملء الفضاء كتائبا ** تدين لها غلب الملوك بإذعان )
( حدائق خضر والدروع غدائر ** وما أنبتت إلا ذوابل مران )
( تجاوب فيها الصاهلات وترتمي ** جوانبها بالأسد من فوق عقبان )
( فمن كل خوار العنان قد ارتمى ** به كل مطعام العشيات مطعان )
( وموردها ظمأى الكعوب ذوابلا ** ومصدرها من كل أملد ريان )
( ولله منها والربوع مواحل ** غمام ندى كفت بها المحل كفان )
( إذا أخلف الناس الغمام وأمحلوا ** فإن نداه والغمام لسيان )
( إمام أعاد الملك بعد ذهابه ** إعادة لا نابي الحسام ولا واني )
( فغادر أطلال الضلال دوارسا ** وجدد للإسلام أرفع بنيان )
( وشيدها والمجد يشهد دولة ** محافلها تزهى بيمن وإيمان )
( وراق من الثغر الغريب ابتسامة ** وهز له الإسلام أعطاف مزدان )
( لك الخير ما أسنى شمائلك التي ** يقصر عن إدراكها كل إنسان )
____________________
(5/49)
( ذكاء إياس في سماحة حاتم ** وإقدام عمرو في بلاغة سحبان )
( أمولاي ما أسنى مناقبك التي ** هي الشهب لا تحصى بعد وحسبان )
( فلا زلت يا غوث البلاد وأهلها ** مبلغ أوطار ممهد أوطان )
ولابن زمرك المذكور ترجمة نأتي بها في هذا التأليف إن شاء الله تعالى في محلها وهو من تلامذة لسان الدين ومن عداد خدامه فحين نبا به الزمان وتعوض الخوف بعد الأمان كان أحد الساعين في قتله كما سنذكره وصرح بذمه وهجوه بعد أن كان ممن يشكره وهكذا عادة بني الدنيا يدورون معها حيث دارت ويسيرون حيث سارت ويشربون من الكأس التي أدارت وقد تولى المذكور الوزارة عوضا عن ابن الخطيب وصدح طير عزه بعده على فنن من الإقبال رطيب ثم آل الأمر به إلى القتل كما سعى في قتل لسان الدين وكان الجزاء له من جنس عمله والمرء يدان بما كان به يدين وعفو الله سبحانه مرجو للجميع في الآخرة وهو سبحانه وتعالى المسؤول أن ينيلنا وإياهم المراتب الفاخرة فإنه لا يتعاظمه ذنب وليس للكل غيره من رب
رجع إلى ما كنا بسبيله وأما لوشة التي ينسب إليها لسان الدين فقد تقدم من كلام ابن خلدون أنها على مرحلة من حضرة غرناطة في الشمال من البسيط الذي في ساحتها المسمى بالمرج وقد أجرى ذكرها لسان الدين في الإحاطة وقال إنها بنت الحضرة يعني غرناطة وقال ذلك في ترجمة ابن مرج الكحل ولنذكر الترجمة بكمالها تتميما للغرض فنقول ترجمة ابن مرج الكحل
قال رحمه الله ما نصه محمد بن إدريس بن علي بن إبراهيم بن القاسم من
____________________
(5/50)
أهل جزيرة شقر يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن مرج الكحل
حاله كان شاعرا مفلقا غزلا بارع التوليد رقيق الغزل وقال الأستاذ أبو جعفر شاعر مطبوع حسن الكتابة ذاكر للأدب متصرف فيه قال ابن عبد الملك وكانت بينه وبين طائفة من أدباء عصره مخاطبات ظهرت فيها إجادته وكان مبتذل اللباس على هيئة أهل البادية ويقال إنه كان أميا
من أخذ عنه روى عنه أبو جعفر ابن عثمان الوراد وأبو الربيع ابن سالم وأبو عبد الله ابن الأبار وابن عسكر وابن أبي البقاء وأبو محمد ابن عبد الرحمن ابن برطلة وأبو الحسن الرعيني
شعره ودخوله غرناطة قال في عشية بنهر الغنداق من خارج بلدنا لوشة بنت الحضرة والمحسوب من دخلها أنه دخل إلبيرة وقد قيل إن نهر الغنداق من أحواز برجة وهذا الخلاف داع لذكره
( عرج بمنعرج الكثيب الأعفر ** بين الفرات وبين شط الكوثر )
( ولتغتبقها قهوة ذهبية ** من راحتي أحوى المراشف أحور )
( وعشية كم كنت أرقب وقتها ** سمحت بها الأيام بعد تعذر )
( فلنا بهذا ما لنا في روضة ** تهدي لناشقها شميم العنبر )
( والدهر من ندم يسفه رأيه ** فيما مضى فيه بغير تكدر )
( والورق تشدو والأراكة تنثي ** والشمس ترفل في قميص أصفر )
( والروض بين مفضض ومذهب ** والزهر بين مدرهم ومدنر )
( والنهر مرقوم الأباطح والربى ** بمصندل من زهرة ومعصفر )
( وكأنه وكأن خضرة شطه ** سيف يسل على بساط أخضر )
( وكأنما ذاك الحباب فرندة ** مهما طفا في صفحة كالجوهر )
____________________
(5/51)
( وكأنه وجهاته محفوفة ** بالآس والنعمان خد معذر )
( نهر يهيم بحسنه من لم يهم ** ويجيد فيه الشعر من لم يشعر )
( ما اصفر وجه الشمس عند غروبها ** إلا لفرقة حسن ذاك المنظر )
ولا خفاء ببراعة هذا الشعر وقال منها
( أرأت جفونك مثله من منظر ** ظل وشمس مثل خد معذر )
( وجداول كأراقم حصباؤها ** كبطونها وحبابها كالأظهر )
وهذا تتميم عجيب لم يسبق إليه ثم قال منها
( وقرارة كالعشر بين خميلة ** سالت مذانبها بها كالأسطر )
( فكأنها مشكولة بمصندل ** من يانع الأزهار أو بمعصفر )
( أمل بلغناه بهضب حديقة ** قد طرزته يد الغمام الممطر )
( فكأنه والزهر تاج فوقه ** ملك تجلى في بساط أخضر )
( راق النواظر منه رائق منظر ** يصف النضارة عن جنان الكوثر )
( كم قاد خاطر خاطر مستوفز ** وكم استفز جماله من مبصر )
( لو لاح لي فيما تقادم لم أقل ** عرج بمنعرج الكثيب الأعفر )
قال أبو الحسن الرعيني وأنشدني لنفسه
( وعشية كانت قنيصة فتية ** ألفوا من الأدب الصريح شيوخا )
( فكأنما العنقاء قد نصبوا لها ** من الإنحناء إلى الوقوع فخوخا )
( شملتهم آدابهم فتجاذبوا ** سر السرور محدثا ومصيخا )
( والورق قرأ سورة الطرب التي ** ينسيك منها ناسخ منسوخا )
____________________
(5/52)
( والنهر قد صفحت به نارنجة ** فتيممت من كان فيه منيخا )
( فتخالهم خلل السماء كواكبا ** قد قارنت بسعودها المريخا )
( خرق العوائد في السرور نهارهم ** فجعلت أبياتي له تاريخا )
ومن أبياته في البديهة قوله
( وعندي من مراشفها حديث ** يخبر أن ريقتها مدام )
( وفي أجفانها السكرى دليل ** وما ذقنا ولا زعم الهمام )
( تعالى الله ما أجرى دموعي ** إذا عنت لمقلتي الخيام )
( وأشجاني إذا لاحت بروق ** وأطربني إذا غنت حمام )
ومن قصيدة
( عذيري من الآمال خابت قصودها ** ونالت جزيل الحظ منها الأخابث )
( وقالوا ذكرنا بالغنى فأجبتهم ** خمولا وما ذكر مع البخل ماكث )
( يهون علينا أن يبيد أثاثنا ** وتبقى علينا المكرمات الأثائث )
( وما ضر أصلا طيبا عدم الغنى ** إذا لم يغيره من الدهر حادث )
وله يتشوق إلى عمرو بن أبي غياث
( أيا عمرو متى تقضي الليالي ** بلقياكم وهن قصصن ريشي )
( أبت نفسي هوى إلا شريشا ** ويا بعد الجزيرة من شريش )
وله من قصيدة
( طفل المساء وللنسيم تضوع ** والأنس يجمع شملنا ويجمع )
( والزهر يضحك من بكاء غمامة ** ريعت لشيم سيوف برق تلمع )
____________________
(5/53)
( والنهر من طرب يصفق موجه ** والغصن يرقص والحمامة تسجع )
( فانعم أبا عمران واله بروضة ** حسن المصيف بها وطاب المربع )
( يا شادن البان الذي دون النقا ** حيث التقى وادي الحمى والأجرع )
( الشمس يغرب نورها ولربما ** كسفت ونورك كل حين يسطع )
( إن غاب نور الشمس لسنا نتقي ** بسناك ليل تفرق يتطلع )
( أفلت فناب سناك عن إشراقها ** وجلا من الظلماء ما يتوقع )
( فأمنت يا موسى الغروب ولم أقل ** فوددت يا موسى لو أنك يوشع )
وقال
( ألا بشروا بالصبح من كان باكيا ** أضر به الليل الطويل مع البكا )
( ففي الصبح للصب المتيم راحة ** إذا الليل أجرى دمعه وإذا شكا )
( ولا عجب أن يمسك الصبح عبرتي ** فلم يزل الكافور للدم ممسكا )
ومن بديع مقطوعاته قوله
( مثل الرزق الذي تطلبه ** مثل الظل الذي يمشي معك )
( أنت لا تدركه متبعا ** فإذا وليت عنه تبعك )
وقال
( دخلتم فأفسدتم قلوبا بملكها ** فأنتم على ما جاء في سورة النمل )
( وبالجود والإحسان لم تتخلقوا ** فأنتم على ما جاء في سورة النحل )
____________________
(5/54)
وقال أبو بكر محمد بن محمد بن جهور رأيت لابن مرج الكحل مرجا أحمر قد أجهد نفسه في خدمته فلم ينجب فقلت
( يا مرج كحل ومن هذي المروج له ** ما كان أحوج هذا المرج للكحل )
( ما حمرة الأرض من طيب ومن كرم ** فلا تكن طمعا في رزقها العجل )
( فإن من شأنها إخلاف آملها ** فما تفارقها كيفية الخجل )
فقال مجيبا
( يا قائلا إذ رأى مرجي وحمرته ** ما كان أحوج هذا المرج للكحل )
( هو احمرار دماء الروم سيلها ** بالبيض من مر من آبائي الأول )
( أحببته أن حكى من قد فتنت به ** في حمرة الخد أو إخلافه أملي )
وفاته توفي ببلده يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول عام أربعة وثلاثين وستمائة ودفن في اليوم بعده
انتهى ما في الإحاطة في شأن ابن مرج الكحل
وكتب أبو الحسن علي بن لسان الدين على أول ترجمته ما نصه شاعر جليل القدر من مشايخ شعراء الأندلس من أهل بلنسية وسكن جزيرة شقر
وكتب على قوله والنهر مرقوم الأباطح ما صورته لم يصف أحد النهر بأرق ديباجة ولا أظرف من هذا الإمام رحمة الله عليه انتهى كلام ابن لسان الدين رائية شمس الدين الكوفي
قلت وما رأيت رائية تقرب من التي لابن مرج الكحل السابقة التي أولها
____________________
(5/55)
عرج بمنعرج الكثيب الأعفر إلا رائية شمس الدين الكوفي الواعظ وهي قوله
( روح الزمان هو الربيع فبكر ** وانهض إلى اللذات غير منكر )
( هذا الربيع يبيع من لذاته ** أصناف ما تهوي فأين المشتري )
( فافرح به فلفرحة بقدومه ** رفل الشقائق في القباء الأحمر )
( والكون مبتهج وخفاق الصبا ** يحيي القلوب بنشره المتعطر )
( والغيم يبكي والأقاحي باسم ** لبكائه كتبسم المستبشر )
( والسرو إن عبث النسيم فهز أعطاف ** الغصون يميس ميس موقر )
( وكأنما القداح فستق فضة ** يهدي إليك أريج مسك أذفر )
( وكأنما المنثور في أثوابه ** ألوان ياقوت أنيق المنظر )
( وترى البهار كعاشق متخوف ** متشوق باد بوجه أصفر )
( وكأنما النارنج في أوراقه القنديل ** والأوراق شبه مسحر )
( وكأنما الخشخاش قوم جاءهم ** خبر يسرهم بطيب المخبر )
( فثنوا ملابسهم لفرط سرورهم ** كي يخلعوا فرحا بقول المخبر )
( فتعلقت أذيالها بأكفهم ** وتعلقت أزياقها بالمنحر )
( والطل من فوق الرياض كأنه ** درر نثرن على بساط أخضر )
( وترى الربى بالنور بين متوج ** ومدملج ومخلخل ومسور )
( ورياضها بالزهر بين مقرطق ** ومطوق وممنطق ومزنر )
( والورد بين مضعف ومشنف ** ومكتف وملطف لم يهصر )
( والزهر بين مفضض ومذهب ** ومرصع ومدرهم ومدنر )
( والنثر بين مطيب وممسك ** ومعطر ومصندل ومعنبر )
( والورق بين مرجع وموجع ** ومفجع ومسجع في منبر )
( ومغرد ومردد ومعدد ** ومبدد في الخد ماء المحجر )
____________________
(5/56)
ولكن قصيدة ابن مرج الكحل أعذب مذاقا وكل منهما لم يقصر رحمهما الله تعالى فلقد أجادا فيما قالاه إلى الغاية وليس الخبر كالعيان عود إلى ابن مرج الكحل
ومن نظم ابن مرج الكحل قوله
( الشمس يغرب نورها ولربما ** كسفت ونورك كل حين يسطع )
( أفلت فناب سناك عن إشراقها ** وجلا من الظلماء ما يتوقع )
( فأمنت يا موسى الغروب ولم أقل ** فوددت يا موسى لو أنك يوشع )
ولمح بهذه الأبيات إلى قول الرصافي الأندلسي البلنسي يخاطب من اسمه موسى بقصيدة أولها
( ما مثل موضعك ابن رزق موضع ** زهر يرف وجدول يتدفع )
ومنها
( وعشية لبست ثياب شحوبها ** والجو بالغيم الرقيق مقنع )
( بلغت بنا أمد السرور تألفا ** والليل نحو فراقنا يتطلع )
( فابلل بها ريق الغبوق فقد أتى ** من دون قرص الشمس ما يتوقع )
( سقطت ولم يملك نديمك ردها ** فوددت يا موسى لو أنك يوشع )
قلت ومن نثر ابن مرج الكحل المذكور ما كتبه إلى أديب الأندلس أبي بحر صفوان بن إدريس مراجعا له بعد نظم ونص الجميع
____________________
(5/57)
( يا من تبوأ في العلياء منزلة ** جداه قد أسساها أي تأسيس )
( لم يتركا في العلا حظا لملتمس ** سيان هذا وهذاك ابن إدريس )
( وافى كتابكم فارتد لي جذلي ** واعتضت من فرط أشواقي بتأنيس )
( وللنوى لوعة تطفو فيطفئها ** مسك المداد وكافور القراطيس )
حرس الله سناءك وسناك وأظفر يمناك بمناك ودي الأسلم كما تعلم وعهدي الأقدم لم تزل له قدم وأنا دام عزكم إن اتفق معكم انتسابا فلم أتفق في شأو الأدب باعا ولا قاربتكم طباعا وانطباعا بل بذلك الإتفاق تشرفت وسموت إلى ذروة العلا واستشرفت وأقررت بذلك الفضل واعترفت وكرعت في مناهله واغترفت ولقد وافى كتابكم فقلت لقد نثر الدر من فيه وبلغ نفسي مما كانت تنويه من التنويه
( حديث لو أن الميت نودي ببعضه ** لأصبح حيا بعدما ضمه القبر )
ولولا ما طالعني وجه من رضاكم وسيم وسقاني مزن اهتبالكم ما أروى به وأسيم وحياني منكم روض ونسيم لما ساعدني الفكر بقسيم لا زلتم في ظل من العيش وارف مرتدين رداء المعارف والسلام انتهى رسالة صفوان إلى ابن مرج الكحل
وكانت مخاطبة صفوان له التي أجاب عنها بما نصه
( يا قاطع البيد يطويها وينشرها ** إلى الجزيرة ينضي بدن العيس )
( الثم بها عن أخي حب وذي كلف ** يد العلا والقوافي وابن إدريس )
وأبلغها إليه تحية كالمسك صدرا ووردا وكالماء الزلال عذوبة وبردا يسري بها إلى دار ابن نسيم ويسفر منها بجزيرة شقر وجه وسيم وهي وإن
____________________
(5/58)
كانت تذيب المسك خجلا وتستفز بصوتها وجلا فما هي إلا خائفة تترقب وسافرة تكاد تتنقب تمشي على استحياء وتعثر من التقصير في ذيل إعياء هذا لأنها جلبت إلى هجر تمرا وإلى شبام وبيت رأس خمرا ولكن على المجد أن يبدي في قبول عذرها ويعيد لعلمه أنه يتيمم ممن لم يجد إلا الصعيد فله الفضل أن لا يلفحها بنار النقد ولا يعرضها على ما هنالك من الحل والعقد والله يبقي ذكره في مقلة الأدب حورا وفي قلب الحسود خورا ويديمه والقوافي طوع قريحته والأغراض الجميلة ملء تعريضته وتصريحته وزهر البيان تطلع في سماء جنانه وزهر التبيان يونع في أنداء جنانه وعذرا إليه فإني كتبت والحامل يمسك زمامه ويلتفت في البيداء أمامه والسلام خطبة نكاح من إنشاء صفوان
ومن إنشاء صفوان خطبة نكاح نصها الحمد لله الذي تطول بالإحسان من غير جزاء ولا ثواب والبس المخلوقات من فواضله سوابغ المطارف وكواسي الأثواب وجاءوا على أقدام الرجاء إلى محال نوافله فوجدوها مفتحة لهم الأبواب وسألوه كفاية المؤنة فكان الفعل بدل القول والإسعاف بدل الجواب خلق البرية من غير افتقار ولا اضطرار ونقلهم من الطفولية إلى غيرها نقل البدر من التمام إلى السرار وشرف هذه الطبقة الإنسانية فرزقها الإدراكات العقلية والإبانات اللسانية فضرب سرادق اعتنائه عليها وأنشأها من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ومع صنعه الرفيق بهم اللطيف وتنويهه الحاف بأرجائهم المطيف رزقهم أحسن الصور الحيوانية وأجملها وأتاح لهم أتم أقسام الاعتناء وأكملها وبعث إليهم الرسل صلوات الله عليهم صنعا منه جميلا وربا للصنيعة لديهم وتكميلا فبشروا وأنذروا وأمنوا وحذروا وباينوا بين الحرام والحلال مباينة إدراك البصير بين الكدر والزلال ودلوا على السمت الأهدى
____________________
(5/59)
ونصبوا أعلام التوفيق والهدى ولم يدعوا شيئا سدى بل توازنت بهم مقادير الأقوال والأعمال وكانت إشاراتهم ثمال الهدايا وأي ثمال فآب كل متسحب إلى الارتباط وشد كل موفق على الاعتلاق بحالهم يد الاغتباط فصلوات الله الزاكية عليهم ونوافح رحمته النامية تغدو وتروح إليهم وأتم الصلاة والسلام على علم أولئك الأعلام الداعي على بصيرة إلى دار السلام السراج المنير المبشر النذير محمد وعلى آله وصحبه صلاة تؤول بهم إلى فسيح رضوانه ورحبه بعثه الله رحمة للعالمين عامة وأرسله نعمة للناس موفورة تامة فأخذ بحجز مصدقيه عن التهافت في مداحض الأقدام والتتابع في مزلات الجرأة على العصيان والإقدام فأقام الحجة وأوضح المحجة ودل على المقامات التي تمحض الأولياء وأفصح عن الكرامات التي تنقذ الأتقياء وقال وأهلا به من قائل تناكحوا فإني مكاثر بكم الأنبياء حرصا منه على الزيادة في أهل الإسلام والنماء ودفعا في صدر الباطل بواضح الحق الصادع غيهب الظلماء وحض على ذات الدين الحصان وأغرى بالإعتصام والإحصان ونصب أعلام النكاح مشيدة المباني وجاء بها سنة عذبة المجاني وقال من تزوج فقد كمل نصف دينه فليتق الله في النصف الثاني وأمر بالنكاح الذي توافقت فيه الطبيعة والشريعة ولبته النفوس وهي سريعة وأخصبت به ربوة التناسل فهي مروضة مريعة وسدت به عن اتباع الهوى وارتكاب المحارم الذريعة وحفظت به الأنسال والأنساب وفاض به نهر الالتئام السلسال المنساب إذ لا سبيل لأن يستغني بذاته من كان أسير هواه ومأمور لذاته وإنما الانفراد والاستغنا لمن له الكمال والغنى ولا يجوز أن يتعاقب عليه الإنى لا إله إلا هو له السناء والسنا وإن فلانا لما ارتقت همته إلى اتباع الصالحات وسمت ووسمته النجابة من أعلامها اللائحة بما وسمت رأى أن الاعتصام بالنكاح أولى ما حمى به
____________________
(5/60)
دينه ووقاه وأهم ما رفع إليه اعتناءه ورقاه فخطب إلى فلان ابنته فلانة خطبة تضافر فيها اليمن والقبول ونفحت بها شمال من الجد المصمم وقبول وارتقى بها إلى اللوح المحفوظ والديوان المكنون عمل مقبول فتلقى فلان خطبته بالإجابة لماتوسم فيه من مخايل النجابة حرصا منه على المساعدة والعون واغتباطا بمياسرة أهل الرشد والصون وانعقد النكاح بينهما على بركة الله التي يتضاعف بها العدد القليل ويتزيد ويمنه الذي ينتهض به من اعتمده ويتأيد وحسن توفيقه الذي يرتبط به من أخلص ضميره ويتقيد على أن أصدقها كذا تزوجها بكلمة الله التي علت الكلمات وبهرتها وعلى سنة نبيه التي أحيت الحنيفية وأظهرتها وأنفت الملة من ارجاس الجاهلية وطهرتها وهداية مهدية التي غلبت الأباطل وقهرتها ولتكون عنده بأمانة الله التي هي جنة واعتصام وعهدته للزوجات على أزواجهن التي ليس لعروتها انفصام وعلى إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وتسلسل في ميدان التناصف وأرسان وله عليها من حسن العشرة التي هي بحقيق الإتفاق عائدة مثل ذلك ودرجة زائدة والله تعالى يمهد لهما مهاد نعمته الوثير ويخلف منهما الطيب الكثير ويرزقهما التوفيق الباعث لطول المرافقة المثير بمنه ونعمته من رسالة عتاب لصفوان
وله رحمة الله من رسالة عتاب أدام الله سبحانه مدة الأخ الذي أستديم إخاءه وإن واجهتني زعازعه أرتقب رخاءه وتجاوزت عن يومه لأمسه وأغضيت عن ظلامه لشمسه إناء واعتناء وإنذارا وإعذارا ورحم الله من اعتمد على الأفهام وعصى أوامر الأوهام ورأى الخليفة في المعقول لا في المختلق المنقول وبعد فإنه وصل كلامك بل ملامك وكتابك بل عتابك ورسالتك بل بسالتك أسمعتني بألفاظك العذاب سوء العذاب وأريتني لمعان
____________________
(5/61)
الحسام من فقرك الوسام
وقال صفوان رحمه الله اجتمعت مع ابن مرج الكحل يوما فاشتكى إلي ما يجد لفراقي وأطال عتب الزمان في إشآمه وإعراقي فقلت إذا تفرقنا والنفوس مجتمعة فما يضر أن الجسوم للرحيل مزمعة ثم قلت له
( أنت مع العين والفؤاد ** دنوت أو كنت ذا بعاد )
فقال وهو من بارع الإجازة
( وأنت في القلب في السويدا ** وأنت في العين في السواد )
وإذ جرى ذكر صفوان فلا حرج أن نترجمه فنقول ترجمة صفوان
قال في الإحاطة ما ملخصه صفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبي المرسي أبو بحر كان أديبا حسيبا ممتعا من الظرف ريان من الأدب حافظا سريع البديهة ترف النشأة على تصاون وعفاف جميلا سريا ممن تساوى حظه في النظم والنثر على تباين الناس في ذلك روى عن أبيه وخاله وابن عم أبيه القاضي أبي القاسم ابن إدريس وأبي بكر ابن مغاور وأبي رجال ابن غلبون وأبي العباس ابن مضا سمع عليه صحيح مسلم وأبي القاسم ابن حبيش وابن حوط الله وأبي الوليد ابن رشد وأجاز له ابن بشكوال وروى عنه أبو إسحاق اليابري وأبو الربيع ابن البني وأبو عبد الله ابن أبي البقاء وأبو عمر ابن سالم وابن عيشون وله تواليف أدبية
____________________
(5/62)
منها زاد المسافر وكتاب الرحلة وكتاب العجالة سفران يتضمنان من نظمه ونثره أدبا لا كفاء له وانفرد من تأبين الحسين وبكاء أهل البيت بما ظهرت عليه بركته في حكايات كثيرة
ثم سرد لسان الدين جملة من نظمه إلى أن قال وقال في غرض الرصافي من وصف بلده وذكر إخوانه يساجله في الغرض والروي عقب رسالة سماها طراد الجياد في الميدان وتنازع اللدات والأخدان في تقديم مرسية على غيرها من البلدان
( لعل رسول البرق يغتنم الأجرا ** فينثر عني ماء عبرته نثرا )
( معاملة أربي بها غير مذنب ** فأقضيه دمع العين عن نقطة بحرا )
( ليسقي من تدمير قطرا محببا ** يقر بعين القطر أن تشرب القطرا )
( ويرضعه ذوب اللجين وإنما ** توفيه عيني من مدامعها تبرا )
( وما ذاك تقصيرا بها غير أنه ** سجية ماء البحر أن يذوي الزهرا )
( خليلي قوما فاحسبا طرق الصبا ** مخافة أن يحمى بزفرتي الحرى )
( فإن الصبا ريح علي كريمة ** بآية ما تسري من الجنة الصغرى )
( خليلي أعني أرض مرسية المنى ** ولولا توخي الصدق سميتها الكبرى )
( محلي بل جوى الذي عبقت به ** نواسم آدابي معطرة نشرا )
( ووكري الذي منه درجت فليتني ** فجعت بريش العزم كي ألزم الوكرا )
( وما روضة الخضراء قد مثلت بها ** مجرتها نهرا وأنجمها زهرا )
( بأبهج منها والخليج مجرة ** وقد فضحت أزهار ساحتها الزهرا )
( وقد أسكرت أعطاف أغصانها الصبا ** وما كنت أعتد الصبا قبلها خمرا )
____________________
(5/63)
( هنالك بين الغصن والقطر والصبا ** وزهر الربى ولدت آدابي الغرا )
( إذا نظم الغصن الحيا قال خاطري ** تعلم نظام النثر من ههنا شعرا )
( وإن نثرت ريح الصبا زهر الربى ** تعلمت حل الشعر أسبكه نثرا )
( فوائد أسحار هناك اقتبستها ** ولم أر روضا غيره يقرئ السحرا )
( كأن هزيز الريح يمدح روضها ** فتملأ فاه من أزاهرها درا )
( أيا زنقات الحسن هل فيك نظرة ** من الجرف الأعلى إلى السكة الغرا )
( فأنظر من هذي لتلك كأنما ** أغير إذ غازلتها أختها الأخرى )
( هي الكاعب الحسناء تمم حسنها ** وقدت لها أوراقها حللا خضرا )
( إذا خطبت أعطت دراهم زهرها ** وما عادة الحسناء أن تنقد المهرا )
( وقامت بعرس الأنس قينة أيكها ** أغاريدها تسترقص الغصن النضرا )
( فقل في خليج يلبس الحوت درعه ** ولكنه لا يستطيع بها نصرا )
( إذا ما بدا فيها الهلال رأيته ** كصفحة سيف وسمها قبعة صفرا )
( وإن لاح فيها البدر شبهت متنه ** بشط لجين ضم من ذهب عشرا )
( وفي جرفي روض هناك تجافيا ** بنهر يود الأفق لو زاره فجرا )
( كأنهما خلا صفاء تعاتبا ** وقد بكيا من رقة ذلك النهرا )
( وكم لي بأبيات الحديد عشية ** من الأنس ما فيه سوى أنه مرا )
( عشايا كأن الدهر غض بحسنها ** فأجلت بساط البرق أفراسها الشقرا )
( عليهن أجري خيل دمعي بوجنتي ** إذا ركبت حمرا ميادينها الصفرا )
____________________
(5/64)
( أعهدي بالغرس المنعم دوحة ** سقتك دموعي إنها مزنة شكرا )
( فكم فيك من يوم أغر محجل ** تقضت أمانيه فخلدتها ذكرا )
( على مذنب كالبحر من فرط حسنه ** تود الثريا أن يكون لها نحرا )
( سقت أدمعي والقطر أيهما انبرى ** نقا الرملة البيضاء فالنهر فالجسرا )
( وإخوان صدق لو قضيت حقوقهم ** لما فارقت عيني وجوههم الزهرا )
( ولو كنت أقضي حق نفسي ولم أكن ** لما بت أستحلي فراقهم المرا )
( وما اخترت هذا البعد إلا ضرورة ** وهل تستجيز العين أن تفقد الشفرا )
( قضى الله أن تنأى بي الدار عنهم ** أراد بذاك الله أن أعتب الدهرا )
( ووالله لو نلت المنى ما حمدتها ** وما عادة المشغوف أن يحمد الهجرا )
( أيأنس باللذات قلبي ودونهم ** مرام يجد الكرب في طيها شهرا )
( ويصحب هادي الليل راء حروفه ** وصادا ونونا قد تقوس واصفرا )
( فديتهم بانوا وضنوا بكتبهم ** فلا خبرا منهم لقيت ولا خبرا )
( ولولا علا هماتهم لعتبتهم ** ولكن عراب الخيل ولا تحمل الزجرا )
( ضربت غبار البيد في مهرق السرى ** بحيث جعلت الليل في ضربه حبرا )
( وحققت ذاك الضرب جمعا وعدة ** وطرحا وتجميلا فأخرج لي صفرا )
( كأن زماني حاسب متعسف ** يطارحني كسرا وما يحسن الجبرا )
( فكم عارف بي وهو يحسن رتبتي ** فيمدحني سرا ويشتمني جهرا )
( لذلك ما أعطيت نفسي حقها ** وقلت لسرب الشعر لا ترم الفكرا )
( فما برحت فكري عذارى قصائدي ** ومن خلق العذراء أن تألف الخدرا )
( ولست وإن طاشت سهامي بآيس ** فإن مع العسر الذي يتقى يسرا )
____________________
(5/65)
وقال يراجع أبا الربيع ابن سالم عن أبيات مثلها
( سقى مضرب الخيمات من علمي نجد ** أسح غمامي أدمعي والحيا الرغد )
( وقد كان في دمعي كفاء وإنما ** يجففها ما بالضلوع من الوقد )
( فإن فترت نار الضلوع هنيهة ** فسوف ترى تفجيره للحيا العد )
( وإن ضن صوب المزن يوما فأدمعي ** تنوب كما ناب الجميع عن الفرد )
( وإن هطلا يوما بساحتها معا ** فأرواهما ما صاب من منتهى الود )
( أرى زفرتي تذكي ودمعي ينهمي ** نقيضين قاما بالصلاء وبالورد )
( فهل بالذي أبصرتم أم سمعتم ** غمام بلا أفق وبرق بلا رعد )
( لي الله كم أهذي بنجد وأهلها ** وما لي بها إلا التوهم من عهد )
( وما بي إلى نجد نزوع ولا وهدى ** خلا أنهم شنوا القوافي على نجد )
( وجاءوا بدعوى حسن الشعر زورها ** فصارت لهم في مصحف الحب كالحمد )
( شغلنا بأبناء الزمان عن الهوى ** وللدرع وقت ليس يحسن للبرد )
( إلى الله أشكو ريب دهر يغص بي ** نوائبه قد ألجمت ألسن العد )
( لقد صرفت حكم الفؤاد إلى الهوى ** كما فوضت أمر الجفون إلى السهد )
( أما تتوقى ويحها أن أصيبها ** بدعوة مظلوم على جورها يعدي )
( أما راعها أن زحزحت عن أكارم ** فراقهم دل القلوب على حدي )
( أعاتبها فيهم فتزداد قسوة ** أجدك هل عاينت للحجر الصلد )
( أما علمت أن القساوة نافرت ** طباع بني الآداب إلا من الرد )
( إذا وعدت يوما بتأليف شملنا ** فألمم بعرقوب وما سن من وعد )
( وإن عاهدت أن لا تؤلف بيننا ** تذكرت آثار السموأل في العهد )
( خليلي أعني الظم والنثر أرسلا ** جياد كما في حلبة الشكر والحمد )
( قفا ساعداني إنه حق صاحب ** بريء جمام الكتم من كدر الحقد )
____________________
(5/66)
( بآية ما قيدتما ألسن الورى ** بذكري فيا ويح الكناني والكندي )
( فأين بياني أو فأين فصاحتي ** إذا لم أعد ذكر الأكارم أو أبدي )
( فيا خاطري وف الثناء حقوقه ** وصغه كما قالوا سوار على زند )
( ولا تلزمني بالتكاسل حجة ** تشببها نار الحياء على خدي )
( ثكلت القوافي وهي أبناء خاطري ** وغيبها الإقحام عني في لحد )
( لئن لم أصغ زهر النجوم قلادة ** وآت ببدر التم واسطة العقد )
( إلى أن يقول السامعون لرفقتي ** نعم طار ذاك السقط عن ذلك الزند )
( أحيي برياها جناب ابن سالم ** فيقرع فيه الباب في زمن الورد )
وهي طويلة
ومن مقطوعات قوله
( يا قمرا مطلعه أضلعي ** له سواد القلب فيها غسق )
( وربما استوقد نار الهوى ** فناب فيها لونها عن شفق )
( ملكتني في دولة من صبا ** وصدتني في شرك من حدق )
( عندي من حبك ما لو سرت ** في البحر منه شعلة لاحترق )
وقال
( قد كان لي قلب فلما فارقوا ** سوى جناحك للغرام وطارا )
( وجرت سحاب للدموع فأوقدت ** بين الجوانح لوعة وأوارا )
( ومن العجائب أن فيض مدامعي ** ماء ويثمر في ضلوعي نارا )
وشعره الرمل والقطر كثرة فلنختمه بقوله
( قالوا وقد طال بي مدى خطئي ** ولم أزل في تجرمي ساهي )
____________________
(5/67)
( أعددت شيئا ترجو النجاة به ** فقلت أعددت رحمة الله )
وكتب يهنئ قاضي الجماعة أبا القاسم ابن بقي برسالة منها لأن محله دام عمره وامتثل نهيه الشرعي وأمره أعلى رتبة وأكرم محلا من أن يتحلى بخطة هي به تتحلى كيف يهنأ بالقعود لسماع دعاوي الباطل والمعاناة لإنصاف الممطول من الماطل والتعب في المعادلة بين ذوي المجادلة أما لو علم المتشوفون إلى خطة الأحكام المستشرفون إلى ما لها من التبسط والاحتكام ما يجب لها من اللوازم والشروط الجوازم كبسط الكنف ورفع الجنف والمساواة بين العدو ذي الذنب والصاحب بالجنب وتقديم ابن السبيل على ذي الرحم والقبيل وإيثار الغريب على القريب والتوسع في الأخلاق حتى لمن ليس له من خلاق إلى غير ذلك مما علم قاضي الجماعة أحصاه واستعمل خلقه الفاضل أدناه وأقصاه لجعلوا خمولهم مأمولهم وأضربوا عن ظهورهم فنبذوه وراء ظهورهم اللهم إلا من أوتي بسطة في العلم ورسا طودا في ساحة الحلم وتساوي ميزانه في الحرب والسلم وكان كمولانا في المماثلة بين أجناس الناس فقصاراه أن يتقلد الأحكام للأجر لا للتعنيف والزجر ويتولاها للثواب لا للغلظة في رد الجواب ويأخذها لحسن الجزاء لا لقبيح الاستهزاء ويلتزمها لجزيل الذخر لا للإزراء والسخر فإذا كان كذلك وسلك المتولي هذه المسالك وكان مثل قاضي الجماعة ولا مثل له ونفع الحق به علله ونقع غلله فيومئذ تهنى به خطة القضاء وتعرف ما الله تعالى عليها من اليد البيضاء
ورحل إلى مراكش في جهاز بنت بلغت التزويج وقصد دار الإمارة مادحا
____________________
(5/68)
فما تيسر له شيء من أمله ففكر في خيبة قصده وقال لو كنت أملت الله سبحانه ومدحت نبيه وآل بيته الطاهرين لبلغت أملي بمحمود عملي ثم استغفر الله تعالى من اعتماده في توجهه الأول وعلم أن ليس على غير الثاني معول فلم يك إلا أن صرف نحو هذا المقصد همته وأمضى فيه عزمته وإذا به قد وجه إليه فأدخل على الخليفة فسأله عن مقصده فأخبره مفصحا به فأنفذه وزاده عليه وأخبره أن ذلك لرؤيا رسول الله في النوم يأمر بقضاء حاجته فانفصل موفى الأغراض واستمر في مدح أهل البيت عليهم السلام حتى اشتهر بذلك وتوفي سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وسنه دون الأربعين وصلى عليه أبوه فإنه كان بمكان من الفضل والدين رحم الله تعالى الجميع انتهى كلام ابن الخطيب في حق المذكور ملخصا
ولا بأس أن نزيد عليه ما حضر فنقول قال ابن سعيد وغيره ولد صفوان سنة ستين وخمسمائة أو في التي بعدها قال وديوان شعره مشهور بالمغرب انتهى
ومن نظمه قوله
( أومض ببرق الأضلع ** واسكب غمام الأدمع )
( واحزن طويلا واجزع ** فهو مكان الجزع )
( وانثر دماء المقلتين ** تألما على الحسين )
( وابك بدمع دون عين ** إن قل فيض الأدمع )
وهذا من قصيدة عارض بها الحريري في قوله
( خل ادكار الأربع ** )
وله أيضا مطلع قصيدة فيه
____________________
(5/69)
( يا عين سحي ولا تشحي ** ولو بدمع بحذف عين )
وقال ابن الأبار توفي صفوان بمرسية ليلة الإثنين السادس عشر من شوال سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وثكله أبوه وصلى عليه وهو دون الأربعين إذ مولده سنة إحدى وستين وخمسمائة وكان من جلة الكتاب البلغاء ومهرة الأدباء الشعراء ناقدا فصيحا مدركا جليل القدر متقدما في النظم والنثر ممن جمع ذلك وله رسائل بديعة وقصائد جليلة وخصوصا في مراثي الحسين رضي الله تعالى عنه رثاء ناهض الوادي آشي للحسين
وقد تذكرت هنا قول ناهض بن محمد الأندلسي الوادي آشي في رثاء الحسين رضي الله تعالى عنه
( أمرنة سجعت بعود أراك ** قولي مولهة علام بكاك )
( أجفاك إلفك أم بليت بفرقة ** أم لاح برق بالحمى فشجاك )
( لو كان حقا ما ادعيت من الجوى ** يوما لما طرق الجفون كراك )
( أو كان روعك الفراق إذا لما ** ضنت بماء جفونها عيناك )
( ولما ألفت الروض يأرج عرفه ** وجعلت بين فروعه مغناك )
( ولما اتخذت من الغصون منصة ** ولما بدت مخضوبة كفاك )
( ولما ارتديت الريش بردا معلما ** ونظمت من قزح سلوك طلاك )
( لو كنت مثلي ما أفقت من البكا ** لا تحسبي شكواي من شكواك )
( إيه حمامة خبريني إنني ** أبكي الحسين وأنت ما أبكاك )
( أبكي قتيل الطف فرع نبينا ** أكرم بفرع للنبوة زاكي )
( ويل لقوم غادروه مضرجا ** بدمائه نضوا صريع شكاك )
____________________
(5/70)
( متعفرا قد مزقت أشلاؤه ** فريا بكل مهند فتاك )
( أيزيد لو راعيت حرمة جده ** لم تقتنص ليث العرين الشاكي )
( أو كنت تصغي إذ نفرت بثغره ** قرعت صماخك أنه المسواك )
( أتروم ويك شفاعة من جده ** هيهات لا ومدبر الأفلاك )
( ولسوف تنبذ في جهنم خالدا ** ما الله شاء ولات حين فكاك )
وتوفي ناهض المذكور بوادي آش سنة 615
رجع إلى أخبار صفوان بن إدريس رحمه الله تعالى فنقول ومن شعر صفوان قوله
( قلنا وقد شام الحسام مخوفا ** رشأ بعادية الضراغم عابث )
( هل سيفه من طرفه أم طرفه ** من سيفه أم ذاك طرف ثالث )
وقوله
( غيري يروع بسيفه ** رشأ تشاجع ساخرا )
( إن كف عني طرفه ** فالسيف أعف ناصرا )
وقال صفوان المذكور رحمه الله تعالى حييت بعض أصحابنا بزهرة سوسن فقال
( حيا بسوسنة أبو بحر ** ) فقلت مجيزا
( نضراء تفضح يانع الزهر ** )
( عجبا لها لم تذوها يده ** من طول ما مكث على الصدر )
____________________
(5/71)
وقال أيضا ماشيت الوزير الكاتب أبا محمد ابن حامد يوما فاتفق أن قال لأمر تذكره
( بين الكثيب ومنبت السدر ** ريم غدا مثواه في صدري )
فقلت أجيزه
( لوشاحه قلم بلا ألم ** ولقرطه خفق بلا ذعر )
( لو كنت قد أنصفت مقتله ** برأت هاروتا من السحر )
( أو كنت أقضي حق مرشفه ** أعرضت لا ورعا عن الخمر )
وناولته يوما وردة مغلقة فقال
( ومحمرة تختال في ثوب سندس ** كوجنة محبوب أطل عذاره )
فقلت أجيزه
( كتطريف كف قد أحاطت بنانها ** بقلب محب ليس يخبو أواره )
وقال رآني الوزير أبو إسحاق وأنا أقيد أشعارا من ظهر دفتر فقال
( ما الذي يكتب الوزير ** )
قلت
( بدائع ما لها نظير ** )
فقال
( در ولكنه نظيم ** من خير أسلاكه السطور )
فقلت
( من أظهر الكتب أقتنيها ** وخل ما تحتوي البحور )
( بتلك تزهو النحور لكن ** بهذه تزدهي الصدور )
____________________
(5/72)
ولكن الإنصاف واجب هو قال المعنى الأخير نثرا وأنا سبكته نظما
وقال جلسنا بعض العشايا بالولجة خارج مرسية والنسيم يهب على النهر فقال أبو محمد ابن حامد
( هب النسيم وماء النهر يطرد ** )
فقلت على جهة المداعبة لا الإجازة
( ونار شوقي في الأحشاء تتقد ** )
فقال أبو محمد ما الذي يجمع بين هذا العجز وذاك الصدر فقلت أنا أجمع بينهما ثم قلت
( فصاغ من مائة درعا مفضضة ** وزاد قلبي وقدا للذي يجد )
( وإنما شب أحشائي لحاجته ** إذ ليس دون لهيب يصنع الزرد )
وخطرنا بلقنت على ثمرة تهزها الريح فقال أبو محمد
( وسرحة كاللواء تهفو ** بعطفها هبة الرياح )
فقلت
( كأن أعطافها سقتها ** كف النعامى كؤوس راح )
فقال
( إذا انتحاها النسيم هزت ** أعطافها هزة السماح )
فقلت
( كأن أغصانها كرام ** تقابل الضيف بارتياح )
____________________
(5/73)
ولصفوان رحمه الله
( تحية الله وطيب السلام ** على رسول الله خير الأنام )
( على الذي فتح باب الهدى ** وقال للناس ادخلوا بالسلام )
( بدر الهدى غيم الندى والسدى ** وما عسى أن يتناهى الكلام )
( تحية تهزأ أنفاسها ** بالمسك لا أرضى بمسك الختام )
( تخصه مني ولا تنثني ** عن أهله الصيد السراة الكرام )
( وقدرهم أرفع لكنني ** لم ألف أعلى لفظة من كرام )
وقال
( يقولون لي لما ركبت بطالتي ** ركوب فتى جم الغواية معتدي )
( أعندك شيء ترتجي أن تناله ** فقلت نعم عندي شفاعة أحمد )
وشرف وكرم ومجد وعظم وبارك وأنعم ووالي وكمل وأتم
____________________
(5/74)
& الباب الثاني &
في نشأته وترقيه ووزارته وسعادته ومساعدة الدهر له ثم قلبه له ظهر المجن على عادته في مصافاته ومنافاته وارتباكه في شباكه وما لقي من إحن الحاسد ذي المذهب الفاسد ومحن الكائد المستأسد وآفاته وذكر قصوره وأمواله وغير ذلك من أحواله في تقلباته عندما قابله الزمان بأهواله في بدئه وإعادته إلى وفاته
أقول كان مولد الوزير لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله كما في الإحاطة في الخامس والعشرين من شهر رجب عام ثلاثة عشر وسبعمائة وقال الرئيس الأمير أبو الوليد ابن الأحمر رحمه الله نشأ لسان الدين ابن الخطيب على حالة حسنة سالكا سبيل أسلافه فقرأ القرآن على المكتب الصالح أبي عبد الله ابن عبد المولى العواد تكتبا ثم حفظا ثم تجويدا ثم قرأ القرآن أيضا على أستاذ الجماعة أبي الحسن القيجاطي وقرأ عليه العربية وهو أول من انتفع به وقرأ على الخطيب أبي القاسم ابن جزي ولازم قراءة العربية والفقه والتفسير على الشيخ الإمام أبي عبد الله ابن الفخار البيري شيخ النحويين لعهده وقرأ على قاضي الجماعة أبي عبد الله ابن بكر وتأدب بالرئيس أبي الحسن ابن الجياب وروى عن كثير من الأعيان وسرد ابن الأحمر المذكور هنا جملة أعلام من مشايخ لسان الدين سيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى ثم قال وأخذ الطب والتعاليم وصناعة التعديل عن الإمام أبي زكريا يحيى بن هذيل ولازمه انتهى
____________________
(5/75)
وقال بعضهم في حق لسان الدين هو الوزير العلامة المتحلي بأجمل الشمائل وأفضل المناقب المتميز في الأندلس بأرفع المراقي وأعلى المراتب علم الأعلام ورئيس أرباب السيوف والأقلام جامع أشتات الفضائل والمربي بحسن سياسته وعظيم رياسته على الأواخر والأوائل حائز رتبة رياسة السيف والقلم والقائم بتدبير الملك على أرسخ قدم صاحب القلم الأعلى الوارد من البراعة المنهل الأحلى صاحب الأحاديث التي لا تمل على كثرة ما تتلى والمحاسن التي صورها على منصة التنويه تجلى انتهى
وقال لسان الدين في الإحاطة بعد ذكر سلفه رحمهم الله تعالى ما ملخصه وخلفني يعني أباه عبد الله عالي الدرجة شهير الخطة مشمولا بالقبول مكنوفا بالعناية فقلدني السلطان سره ولما يستكمل الشباب ويجتمع السن معززة بالقيادة ورسوم الوزارة واستعملني في السفارة إلى الملوك واستناني بدار ملكه ورمى إلي يدي بخاتمه وسيفه وائتمنني على صوان حضرته وبيت ماله وسجوف حرمه ومعقل امتناعه ولما هلك السلطان ضاعف ولده حظوتي وأعلى مجلسي وقصر المشورة على نصحي إلى أن كانت عليه الكائنة فاقتدى في أخوه المتغلب على الأمر به فسجل الاختصاص وعقد القلادة ثم حمله أهل الشحناء من أهل أعوان ثورته على القبض علي فكان ذلك وتقبض علي ونكث ما أبرم من أماني واعتقلت بحال ترفيه وبعدأن كسبت المنازل والدور واستكثر من الحرس وختم على الأعلاق وأبرد إلى ما ناء واستؤصلت نعمة لم تكن بالأندلس من ذوات النظائر ولا ربات
____________________
(5/76)
الأمثال في تبحر الغلة وفراهة الحيوان وغبطة العقار ونظافة الآلات ورفعة الثياب واستجادة العدة ووفور الكتب إلى الآنية والفرش والماعون والزجاج والطيب والذخيرة والمضارب والأبنية واكتسحت السائمة وثيران الحرث وظهر الحمولة وقوام الفلاحة والخيل فأخذ ذلك البيع وتناهبتها الأسواق وصاحبها البخس ورزأتها الخونة وشمل الخاصة والأقارب الطلب واستخلصت القرى وأعملت الحيل وطوقت الذنوب وأمد الله تعالى بالعون وأنزل السكينة وانصرف اللسان إلى ذكر الله تعالى وتعلقت الآمال به وطبقت نكبة مصحفية مطلوبها الذات وسببها المال حسبما قلت عند إقالة العثرة والخلاص من الهفوة
( تخلصت منها نكبة مصحفية ** لفقداني المنصور من آل عامر )
ووصلت الشفاعة في مكتتبة بخط ملك المغرب وجعل خلاصي شرطا في العقدة ومسالمة الدولة فانتقلت صحبة سلطاني المكفور الحق إلى المغرب وبالغ ملكه في بري منزلا رحبا وعيشا خفضا وإقطاعا جما وجراية ما وراءها مرمى وجعلني بمجلسه صدرا ثم أسعف قصدي في تهيؤ الخلوة بمدينة سلا منوه الصكوك مهنأ القرار متفقدا باللها والخلع مخول العقار موفور الحاشية مخلي بيني وبين إصلاح معادي إلى أن رد الله تعالى على السلطان أمير المسلمين أبي عبد الله ابن أمير المسلمين أبي الحجاج ملكه وصير إليه حقه فطالبني بوعد ضربته وعمل في القدوم عليه بولده أحكمته ولم يوسعني عذرا ولا فسح في الترك مجالا فقدمت عليه بولده وقد ساءه بإمساكه رهينة ضده ونغص مسرة الفتح بعده على كل حال من التقشف
____________________
(5/77)
والزهد فيما بيده وعزف عن الطمع في ملكه وزهد في رفده حسبما قلت من بعض المقطوعات
( قالوا لخدمته دعاك محمد ** فأنفتها وزهدت في التنويه )
( فأجبتهم أنا والمهيمن كاره ** في خدمة المولى محب فيه )
عاهدت الله تعالى على ذلك وشرحت صدري للوفاء به وجنحت إلى الانفصال لبيت الله الحرام نشيدة أملي ومرمى نيتي وعملي فعلق بي وخرج لي عن الضرورة وأراني أن موازرته أبر القرب وراكنني إلى عهد بخطه فسح لعامين أمد الثواء واقتدى بشعيب صلوات الله عليه في طلب الزيادة على تلك النسبة وأشهد من حضر من العلية ثم رمى إلي بعد ذلك بمقاليد رأيه وحكم عقلي في اختيارات عقله وغطى من جفائي بحلمه وحثا في وجوه شهواته تراب زجري ووقف القبول على وعظي وصرف هواي في التحول ثانيا وقصدي واعترف بقبول نصحي فاستعنت الله تعالى وعاملت وجهه فيه من غير تلبس بجراية ولا تشبث بولاية مقتصرا على الكفاية حذرا من النقد خامل المركب معتمدا على المنسأة مستمشيا بخلق النعل راضيا بغير النبيه من الثوب مشفقا من موافقة الغرور هاجرا للزخرف صادعا بالحق في أسواق الباطل كافا عن السخال براثن السباع ثم صرفت الفكر إلى بناء الزاوية والمدرسة والتربة بكر الحسنات بهذه الخطة بل بالجزيرة فيما سلف من المدة فتأتي بمنه الله تعالى من صلاح السلطان وعفاف الحاشية والأمن ورم الثغور وتثمير الجباية وإنصاف الحماة والمقاتلة ومقارعة الملوك المجاورة في إيثار المصلحة الدينية والصدعفوق المنابر ضمانا من السلطان بترياق سم الثورة وإصلاح بواطن الخاصة والعامة ما الله تعالى المجازي عليه والمعوض
____________________
(5/78)
من سهر خلعته على أعطافه وخطر اقتحمته من أجله لا للثريد الأعفر ولا للجرد تمرح في الأرسان ولا للبدر تثقل للأكتاد فهو الذي لا يضيع عمل من عمل ذكر أو أنثى سبحانه وتعالى ومع ذلك فلم أعدم الاستهداف للشرور والاستغراض للمحذور والنظر الشزر المنبعث من خزر العيون شيمة من ابتلاه الله تعالى بسياسة الدهماء ورعاية سخطة أرزاق السماء وقتلة الأنبياء وعبدة الأهواء ممن لا يجعل لله تعالى إرادة نافذة ولا مشيئة سابقة ولا يقبل معذرة ولا يجمل في الطلب ولا يتلبس مع الله بأدب ربنا لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا والحال إلى هذا العهد وهو منتصف عام خمسة وستين وسبعمائة على ما ذكرته أداله الله بحال السلامة وبفيأة العافية والتمتع بالعبادة وربك يخلق ما يشاء ويختار
( وعلي أن أسعى وليس ** علي إدراك النجاح )
ولله سبحانه فينا علم غيب نحن صائرون إليه ألحفنا الله لباس التقوى وختم لنا بالسعادة وجعلنا في الآخرة من الفائزين نفثت عن بث وتأوهت عن حمى ليظهر بعد المنقلب قصدي ويدل مكتتبي على عقدي انتهى وجله بلفظه
وكان رحمه الله تعالى عارفا بأحوال الملوك سريع الجواب حاضر الذهن حاد النادرة ومن حكاياته في حضور الجواب ما حكاه عن نفسه قال حضرت يوما بين يدي السلطان أبي عنان في بعض وفاداتي عليه لغرض الرسالة وجرى ذكر بعض أعدائه فقلت ما أعتقده في إطراء ذلك العدو وما عرفته
____________________
(5/79)
من فضله فأنكر علي بعض الحاضرين ممن لا يحطب إلا في حبل السلطان فصرفت وجهي وقلت أيدكم الله تحقير عدو السلطان بين يديه ليس من السياسة في شيء بل غير ذلك أحق وأولى فإن كان السلطان غالب عدوه كان قد غلب غير حقير وهو الأولى بفخره وجلالة قدره وإن غلبه العدو لم يغلبه حقير فيكون أشد للحسرة وآكد للفضيحة فوافق رحمه الله تعالى على ذلك واستحسنه وشكر عليه وخجل المعترض انتهى
وكان رحمه الله تعالى مبتلي بداء الأرق لا ينام من الليل إلا النزر اليسير جدا وقد قال في كتابه الوصول لحفظ الصحة في الفصول العجب مني مع تأليفي لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله في الطب وعملي ذلك لا أقدر على مداواة داء الأرق الذي بي أو كما قال ولذا يقال له ذو العمرين لأن الناس ينامون في الليل وهو ساهر فيه ومؤلفاته ما كان يصنف غالبها إلا بالليل وقد سمعت بالمغرب بعض الرؤساء يقول لسان الدين ذو الوزارتين وذو العمرين وذو الميتتين وذو القبرين انتهى وسيأتي ما يعلم منه معنى الأخيرين التعريف بالسلطان أبي الحجاج
وقد عرف رحمه الله تعالى بالسلطان أبي الحجاج في الإحاطة فقال ما حاصله يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر الأنصاري الخزرجي أمير المسلمين بالأندلس أبو الحجاج تولى الملك بعد أخيه بوادي السقائين من ظاهر الخضراء ضحوة يوم الأربعاء ثالث عشر ذي الحجة عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة وسنه خمسة عشر يوما وثمانية أشهر أمه أم ولد وكان له ثلاثة أولاد كبيرهم محمد أمير المسلمين من بعده وتلوه
____________________
(5/80)
أخوه إسماعيل محجوره وثالثهم قيس شقيق إسماعيل وذكر لسان الدين أنه وزر له بعد شيخه ابن الجياب وتولى كتابة سره مضافة إلى الوزارة في أخريات شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة انتهى وقد علم أنه وزر بعده لابنه محمد كما تقدم ويأتي وأما إسماعيل بن أبي الحجاج فهو الذي تغلب على الأمر وانتهز الفرصة في ملك أخيه محمد كما تقدم وفيه وفي أخيه قيس حين قتلا يقول لسان الدين
( بإسماعيل ثم أخيه قيس ** )
البيتين
وقد ذكر أيضا رحمه الله تعالى حكاية وفاة السلطان أبي الحجاج ما محصله أنه هجم عليه رجل من عداد الممرورين وهو في الركعة الأخيرة من صلاة عيد الفطر عام خمسة وخمسين وسبعمائة فطعنه بخنجر وقبض عليه واستفهم فتكلم بكلام مخلط واحتمل إلى منزله على فوت لم يستقر به إلا وقد قضى وأخرج قاتله إلى الناس فقتل لحينه وأحرق بالنار ودفن عشية اليوم المذكور في مقبرة قصره ضجيع والده وولي أمره ولده محمد ورثيته في غرض ناء عن الجزالة مختار ولده
( العمر نوم والمنى أحلام ** ماذا عسى أن يستمر مقام )
( وإذا تحققنا لشيء بدأة ** فله بما تقضي العقول تمام )
( والنفس تجمح في مدى آمالها ** ركضا وتأبى ذلك الأيام )
( من لم يصب في نفسه فمصابه ** بحبيبه نفذت بذا الأحكام )
( بعد الشبيبة كبرة ووراءها ** هرم ومن بعد الحياة حمام )
( ولحكمة ما أشرقت شهب الدجى ** وتعاقب الإصباح والإظلام )
( دنياك يا هذا محلة نقلة ** ومناخ ركب ما لديه مقام )
( هذا أمير المسلمين ومن به ** وجد السماح وأعدم الإعدام )
____________________
(5/81)
( سر الأمانة والخلافة يوسف ** غيث الملوك وليثها الضرغام )
( قصدته عادية الزمان فأقصدت ** والعز سام والخميس لهام )
( فجعت به الدنيا وكدر شربها ** وشكا العراق مصابه والشام )
( أسفا على الخلق الجميل كأنما ** بدر الدجنة قد جلاه تمام )
( أسفا على العمر الجديد كأنه ** زهو الحديقة زهرة بسام )
( أسفا على الخلق الرضى كأنه ** زهر الرياض هما عليه غمام )
( أسفا على الوجه الذي مهما بدا ** طاشت لنور جماله الأفهام )
( يا ناصر الثغر الغريب وأهله ** والأرض ترجف والسما قتام )
( يا صاحب الصدقات في جنح الدجى ** والناس في فرش النعيم نيام )
( يا حافظ الحرم الذي بظلاله ** ستر الأرامل واكتسى الأيتام )
( مولاي هل لك للقصور زيارة ** بعد انتزاح الدار أو إلمام )
( مولاي هل لك للعبيد تذكر ** حاشاك أن ينسى لديك ذمام )
( يا واحد الآحاد والعلم الذي ** خفقت بعزة نصره الأعلام )
( وافاك أمر الله حين تكاملت ** فيك النهى والجود والإقدام )
( ورحلت عنا الركب خير خليفة ** أثنى عليك الله والإسلام )
( نعم الطريق سلكت كان رفيقه ** والزاد فيه تهجد وصيام )
( وكسفت يا شمس المحاسن ضحوة ** فاليوم ليل والضياء ظلام )
( وسقاك عيد الفطر كأس شهادة ** فيها من الأجل الوحي مدام )
( وختمت عمرك بالصلاة فحبذا ** عمل كريم سعيه وختام )
( مولاي كم هذا الرقاد إلى متى ** بين الصفائح والتراب تنام )
( أعد التحية واحتسبها قربة ** إن كان يمكنك الغداة كلام )
( تبكي عليك مصانع شيدتها ** بيض كما تبكي الهديل حمام )
( تبكي عليك مساجد عمرتها ** فالناس فيها سجد وقيام )
____________________
(5/82)
( تبكي عليك خلائق أمنتها ** بالسلم وهي كأنها أنعام )
( عاملت وجه الله فيما رمته ** منها فلم يبعد عليك مرام )
( لو كنت تفدى أو تجار من الردى ** بذلت نفوس من لدنك كرام )
( لو كنت تمنع بالصوارم والقنا ** ما كان ركنك بالغلاب يرام )
( لكنه أمر الإله وما لنا ** إلا رضى بالحكم واستسلام )
( والله قد كتب الفناء على الورى ** وقضاؤه جفت به الأقلام )
( نم في جوار الله مسرورا بما ** قدمت يوم تزلزل الأقدام )
( واعلم بأن سليل ملكك قد غدا ** في مستقر علاك وهو إمام )
( ستر تكنف منه من خلفته ** ظل ظليل فهو ليس يضام )
( كنت الحسام وصرت في غمد الثرى ** ولنصر ملكك سل منه حسام )
( خلفت أمة أحمد لمحمد ** فقضت بسعد الأمة الأحكام )
( فهو الخليفة للورى في عهده ** ترعى العهود وتوصل الأرحام )
( أبقى رسومك كلها محفوظة ** لم ينتثر منها عليك نظام )
( العدل والشيم الكريمة والتقى ** والدار والألقاب والخدام )
( حسبي بأن أغشي ضريحك لاثما ** وأقول والدمع السفوح سجام )
( يا مدفن التقوى ويا مثوى الهدى ** مني عليك تحية وسلام )
( أخفيت من حزني عليك وفي الحشا ** نار لها بين الضلوع ضرام )
( ولو أنني أديت حقك لم يكن ** لي بعد فقدك في الوجود مقام )
( وإذا الفتى أدى الذي في وسعه ** وأتى بجهد ما عليه ملام )
قال لسان الدين وكتبت في بعض معاهده
( غبت فلا عين ولا مخبر ** ولا انتظار منك مرقوب )
( يا يوسف أنت لنا يوسف ** وكلنا في الحزن يعقوب )
____________________
(5/83)
انتهى ورحم الله تعالى الجميع بمنه وقد قدمنا ما كتبه لسان الدين على لسان سلطانه إلى السلطان أبي عنان في شأن قتل السلطان أبي الحجاج في الباب الثامن من القسم الأول الغني ولسان الدين يلجآن للمغرب
وقال لسان الدين في كتابه اللمحة البدرية في الدولة النصرية في ذكر ما يتعلق بخلع سلطانه وقيام أخيه عليه وفي خلال ذلك ما نصه كان السلطان أبو عبد الله عند تصير الأمر إليه قد ألزم أخاه إسماعيل قصرا من قصور أبيه بجوار داره مرفها عليه متممة وظائفه له وأسكن معه أمه وأخواته منها وقد استأثرت يوم وفاة والده بمال جم من خزائنه الكائنة في بيتها فوجدت السبيل إلى السعي لولدها فجعلت تواصل زيارة ابنتها التي عقد لها الوالد مع ابن عمه الرئيس أبي عبد الله ابن الرئيس أبي الوليد ابن الرئيس أبي عبد الله المبايع له بأندرش ابن الرئيس أبي سعيد جدهم الذي تجمعهم جرثومته وشمر الصهر المذكور عن ساعد عزمه وجده وهو ما هو من الإقدام ومداخلة ذؤبان الرجال واستعان بمن آسفته الدولة وهفت به الأطماع فتألف منهم زهاء مائة قصدوا جهة من جهات القلعة متسنمين شفا صعب المرتقى واتخذوا آلة تدرك ذروته لقعود بنية كانت به عن التمام وكبسوا حرسيا بأعلاه بما اقتضى صماته فاستووا به ونزلوا إلى القلعة سحور الليلة الثامنة والعشرين من شهر رمضان عام ستين وسبعمائة فاستظهروا بالمشاعل والصراخ وعالجوا دار الحاجب رضوان ففضوا أغلاقها ودخلوها فقتلوه بين أهله وولده وانتهبوا ما اشتملت عليه داره وأسرعت طائفة مع الرئيس الصهر فاستخرجت الأمير المعتقل إسماعيل وأركبته وقرعت
____________________
(5/84)
الطبول ونودي بدعوته وقد كان أخوه السلطان متحولا بولده إلى سكنى الجنة المنسوبة للعريف لصق داره وهي المثل المضروب في الظل الممدود والماء المسكوب والنسيم البليل يفصل بينهما وبين معقل الملك السور المنيع والخندق المصنوع فما راعه إلا النداء والعجيج وأصوات الطبول وهب إلى الدخول إلى القلعة فألفاها قد أخذت دونه شعابها كلها ونقابها وقذفته الحراب ورشقته السهام فرجع أدراجه وسدده الله تعالى في محل الحيرة ودس له عرق الفحول من قومه فامتطى صهوة فرس كان مرتبطا عنده وصار لوجهه فأعيا المتبع وصبح مدينة وادي آش ولم يشعر حافظ قصبتها إلا به وقد تولج عليها فالتف به أهلها وأعطوه صفقتهم بالذب عنه فكان أملك بها وتجهزت الحشود إلى منازلته وقد جدد أخوه المتغلب على ملكه عقد السلم مع طاغية قشتالة باحتياجه إلى سلم المسلمين لجراء فتنة بينه وبين البرجلونيين من أمته واغتبط به أهل المدينة فذبوا عنه ورضوا بهلاك نعمتهم دونه واستمرت الحال إلى يوم عيد النحر من عام التاريخ ووصله رسول صاحب المغرب مستنزلا عنها ومستدعيا إلى حضرته لما عجز عن إمساكها وراسل ملك الروم فلم يجد عنده من معول فانصرف ثاني يوم عيد النحر المذكور وتبعه الجمع الوافر من أهل المدينة خيلا ورجلا إلى مربلة من ساحل إجازته وكان وصوله إلى مدينة فاس مصحوبا من البر والكرامة بما لا يزيد عليه في السادس من شهر محرم فاتح عام أحد وستين وسبعمائة وركب السلطان للقائه ونزل إليه عندما سلم عليه وبالغ في الحفاية به وكنت قد ألحقت به مفلتا من شرك النكبة التي استأصلت المال وأوهمت سوء الحال بشفاعة السلطان أبي سالم قدس الله روحه فقمت بين يديه في الحفل المشهود يومئذ وأنشدته
____________________
(5/85)
( سلا هل لديها من مخبره ذكر ** وهل أعشب الوادي ونم به الزهر )
( وهل باكر الوسمي دارا على اللوى ** عفت آيها إلا التوهم والذكر )
( بلادي التي عاطيت مشمولة الهوى ** بأكنافها والعيش فينان مخضر )
( وجوى الذي ربى جناحي وكره ** فها أنا ذا ما لي جناح ولا وكر )
( نبت بي لا عن جفوة وملالة ** ولا نسخ الوصل الهنيء بها هجر )
( ولكنها الدنيا قليل متاعها ** ولذاتها دأبا تزور وتزور )
( فمن لي بقرب العهد منها ودوننا ** مدى طال حتى يومه عندنا شهر )
( ولله عينا من رآنا وللأسى ** ضرام له في كل جانحة جمر )
( وقد بددت در الدموع يد النوى ** وللشوق أشجان يضيق لها الصدر )
( بكينا على النهر الشروب عشية ** فعاد أجاجا بعدنا ذلك النهر )
( أقول لأظعاني وقد غالها السرى ** وآنسها الحادي وأوحشها الزجر )
( رويدك بعد العسر يسر أن أبشري ** بإنجاز وعد الله قد ذهب العسر )
( ولله فينا سر غيب وربما ** أتى النفع من حال أريد بها الضر )
( وإن تخن الأيام لم تخن النهى ** وإن يخذل الأقوام لم يخذل الصبر )
( وإن عركت مني الخطوب مجربا ** نقابا تساوى عنده الحلو والمر )
( فقد عجمت عودا صليبا على الردى ** وعزما كما تمضي المهندة البتر )
( إذا أنت بالبيضاء قررت منزلي ** فلا اللحم حل ما حييت ولا الظهر )
( زجرنا بإبراهيم برء همومنا ** فلما رأينا وجهه صدق الزجر )
( بمنتجب من آل يعقوب كلما ** دجا الخطب لم يكذب لعزمته فجر )
( تناقلت الركبان طيب حديثه ** فلما رأته صدق الخبر الخبر )
( ندى لو حواه البحر لذ مذاقه ** ولم يتعقب مده أبدا جزر )
____________________
(5/86)
( وبأس غدا يرتاع من خوفه الردى ** وترفل في أثوابه الفتكة البكر )
( أطاعته حتى العصم في قنن الربى ** وهشمت إلى تأميله الأنجم الزهر )
( قصدناك يا خير الملوك على النوى ** لتنصفنا مما جنى عبدك الدهر )
( كففنا بك الأيام عن غلوائها ** وقد رابنا منها التعسف والكبر )
( وعذنا بذاك المجد فانصرم الردى ** ولذنا بذاك العزم فانهزم الذعر )
( ولما أتينا البحر يرهب موجه ** ذكرنا نداك الغمر فاحتقر البحر )
( خلافتك العظمى ومن لم يدن بها ** فإيمانه لغو وعرفانه نكر )
( ووصفك يهدي المدح قصد صوابه ** إذا ضل في أوصاف من دونك الشعر )
( دعتك قلوب المؤمنين وأخلصت ** وقد طاب منها السر لله والجهر )
( ومدت إلى الله الأكف ضراعة ** فقال لهن الله قد قضي الأمر )
( وألبسها النعمى ببيعتك التي ** لها الطائر الميمون والمحتد الحر )
( فأصبح ثغر الثغر يبسم ضاحكا ** وقد كان مما نابه ليس يفتر )
( وأمنت بالسلم البلاد وأهلها ** فلا ظبة تعرى ولا روعة تعرو )
( وقد كان مولانا أبوك مصرحا ** بأنك في أبنائه الولد البر )
( وكنت حقيقا بالخلافة بعده ** على الفور لكن كل شيء له قدر )
( وأوحشت من دار الخلافة هالة ** أقامت زمانا لا يلوح بها البدر )
( فرد عليك الله حقك إذ قضى ** بأن تشمل النعمى وينسدل الستر )
( وقاد إليك الملك رفقا بخلقه ** وقد عدموا ركن الإمامة واضطروا )
( وزادك بالتمحيص عزا ورفعة ** وأجرا ولولا السبك ما عرف التبر )
( وأنت الذي تدعى إذا دهم الردى ** وأنت الذي ترجى إذا أخلف القطر )
( وأنت إذا جار الزمان محكم ** لك النقض والإبرام والنهي والأمر )
( وهذا ابن نصر قد أتى وجناحه ** مهيض ومن علياك يلتمس الجبر )
____________________
(5/87)
( غريب يرجى منك ما أنت أهله ** فإن كنت تبغي الفخر قد جاءك الفخر )
( ففز يا أمير المسلمين ببيعة ** موثقة قد حل عروتها الغدر )
( ومثلك من يرعى الدخيل ومن دعا ** بيا لمرين جاءه العز والنصر )
( وخذ يا إمام الحق بالحق ثأره ** ففي ضمن ما تأتي به العز والأجر )
( وأنت لها يا ناصر الحق فلتقم ** بحق فما زيد يرجى ولا عمرو )
( فإن قيل مال مالك الدثر وافر ** وإن قيل جيش عندك العسكر المجر )
( يكف بك العادي ويحيا بك الهدى ** ويبني بك الإسلام ما هدم الكفر )
( أعده إلى أوطانه عنك راضيا ** وطوقه نعماك التي ما لها حصر )
( وعاجل قلوب الناس فيه بجبرها ** فقد صدهم عنه التغلب والقهر )
( وهم يرقبون الفعل منك وصفقة ** تحاولها يمناك ما بعدها خسر )
( مرامك سهل لا يؤودك كلفة ** سوى عرض ما إن له في العلا خطر )
( وما العمر إلا زينة مستعارة ** ترد ولكن الثناء هو العمر )
( ومن باع ما يفنى بباق مخلد ** فقد أنجح المسعى وقد ربح التجر )
( ومن دون ما تبغيه يا ملك الهدى ** جياد المذاكي والمحجلة الغر )
( وراد وشقر واضحات شياتها ** فأجسامها تبر وأرجلها در )
( وشهب إذا ما ضمرت يوم غارة ** مطهمة غارت بها الأنجم الزهر )
( وأسد رجال من مرين مخيفة ** عمائمها بيض وآسالها سمر )
( عليها من الماذي كل مفاضة ** تدافع في أعطافها اللجج الخضر )
( هم القوم إن هبوا لكشف ملمة ** فلا الملتقى صعب ولا المرتقى وعر )
( إذا سئلوا أعطوا وإن نوزعوا سطوا ** وإن واعدوا وفوا وإن عاهدوا بروا )
( وإن مدحوا اهتزوا ارتياحا كأنهم ** نشاوى تمشت في معاطفهم خمر )
( وإن سمعوا العوراء فروا بأنفس ** حرام على هاماتها في الوغى الفر )
____________________
(5/88)
( وتبسم ما بين الوشيج ثغورهم ** وما بين قضب الدوح يبتسم الزهر )
( أمولاي غاضت فكرتي وتبلدت ** طباعي فلا طبع يعين ولا فكر )
( ولولا حنان منك داركتني به ** وأحييتني لم تبق عين ولا أثر )
( فأوجدت مني فائتا أي فائت ** وأنشرت ميتا ضم أشلاءه قبر )
( بدأت بفضل لم أكن لعظيمه ** بأهل فجل اللطف وانفرج الصدر )
( وطوقتني النعمى المضاعفة التي ** يقل عليها مني الحمد والشكر )
( وأنت بتتميم الصنائع كافل ** إلى أن يعود الجاه والعز والوفر )
( جزاك الذي أسنى مقامك عصمة ** يفك بها عان وينعش مضطر )
( إذا نحن أثنينا عليك بمدحة ** فهيهات يحصى الرمل أو يحصر القطر )
( ولكننا نأتي بما نستطيعه ** ومن بذل المجهود حق له العذر )
فلا تسأل عن امتعاض وانتفاض وسداد أنحار في التأثر لنا وأغراض والله غالب على أمره
وفي صبيحة يوم السبت السابع عشر من شهر شوال عام اثنين وستين وسبعمائة كان انصرافه إلى الأندلس وقد ألح صاحب قشتالة في طلبه وترجح الرأي على قصده فقعد السلطان بقبة العرض من جنة المصارة وبرز الناس وقد أسمعهم البريح واستحضرت البنود والطبول والآلة وألبس خلعة الملك وقيدت له مراكبه فاستقل وقد التف عليه كل من جلا عن الأندلس من لدن الكائنة في جملة كثيفة ورأى من رقة الناس وإجهاشهم وعلو أصواتهم بالدعاء ما قدم به العهد إذ كان مظنة ذلك سكونا وعفافا وقربا قد ظلله الله برواق الرحمة وعطف عليه وشائج المحبة إلى كونه مظلوم العقد منتزع الحق فتبعته
____________________
(5/89)
الخواطر وحميت عليه الأنفس وانصرف لوجهته وهو الآن برندة مستقل بها وبجهاتها ومتعلل بألقاب ومقتنع برسم وقد قام له برسم الوزارة الشيخ القائد أبو الحسن علي بن يوسف ابن كماشة الحضرمي وبكتابته الفقيه أبو عبد الله ابن زمرك وقد استفاض عنه من الحزم والتدرب والتيقظ للأمور والمعرفة بوجوه المصالح ما لا ينكر كان الله لنا وله بفضله انتهى كلام لسان الدين ابن الخطيب في اللمحة البدرية رسالة للسان الدين عن الغني إلى المنصور بن قلاوون
وقد علمت أنه بعد هذا التاريخ عاد سلطانه إلى حضرة غرناطة واستبد بملك الأندلس وعاد لسان الدين إليه حسبما أحسن سياق ذلك لسان الدين رحمه الله تعالى في كتاب من إنشائه على لسان سلطانه الغني بالله وخاطب به ملك الحرمين مصر والشام السلطان المنصور بن أحمد بن الناصر بن قلاوون وقد ذكرنا منه ما يتعلق بالأندلس في الباب الثاني من القسم الأول وقال بعد ذلك فيما يتعلق بالخلع المذكور ما نصه ولما صير الله إلينا تراثهم الهني وأمرهم السني وبناءهم العادي وملكهم الجهادي أجرانا وله الطول على سننهم ورفع أعلامنا في هضابهم المشرفة وقننهم وحملنا فيهم خير حمل ونظم بنا لهم أي شمل وألبس أيامنا سلما فسح الدارة وأحكم الإدارة وهنأ الإمارة ومكن العمارة وأمن في البحر والبر السيارة والعبارة لولا ما طرقهم فينا من تمحيص أجلي عن تخصيص وتمحض تبره بعد تخليص ومرام عويص نبثكم بثه ونوالي لديكم حثه ونجمع منبثه فإن في الحوادث ذكرا ومعروف الدهر لا يؤمن أن يعود نكرا وشر الوجود
____________________
(5/90)
معاقب بخيره والسعيد من اتعظ بغيره والحزم أفضل ما إليه ينتسب وعقل التجربة بالمرانة يكتسب وهو أن بعضا ممن ينسب إلينا بوشائج الأعراق لا بمكارم الأخلاق ويمت إلينا بالقرابة البعيدة لا بالنصبة السعيدة ممن كفلناه يتيما وصناه ذميما شتيما وبوأناه مبوأ كريما بعد أن نشأ حرشوفا دميما وملعونا لئيما ونوهناه من خموله بالولاية ونسخنا حكم تسحبه بآية العناية داخل أخا لنا كنا ألزمناه الاقتصار على قصره ولم نجعل أداة تدل على حصره وسامحناه في كثير من أمره ولم نرتب بزيده ولا عمره واغتررنا برماد علا على جمره فاستدعى له من الصعاليك شيعته كل درب بفك الأغلاق وتسرب أنفاق النفاق وخارق للإجماع والإصفاق وخبير بمكان الخراب ومذاهب الفساق وتسور بهم القلعة من ثلم شرع في سده بعد هده ولم تكمل الأقدار المميزة في ليلة آثرنا مبيتنا ببعض البساتين خارج قصورنا واستنبنا من يضطلع بأمورنا فاستتم الحيلة التي شرعها واقتحم القلعة وافترعها وجدل حرس النوبة وصرعها وكبس محل النائب عنا وجد له ولم ينشب أن جد له واستخرج الأخ البائس فنصبه وشد به تاج الولاية وعصبه وابتز أمرنا وغصبه
وتوهم الناس أن الحادثة على ذاتنا قد تمت والدائرة بنا قد ألمت ولقد همت فخذل الناصر وانقطعت الأواصر وأقدم المتقاصر واقتحمت الأبهاء والمقاصر وتفرقت الأجزاء وتحللت العناصر وفقد من عين الأعيان النور الباصر فأعطوه طاعة معروفة وأصبحت الوجوه إليه مصروفة وركضنا وسرعان الخيل تقفو أثر منجاتنا والظلام يخفيها وتكفي علينا السماء والله يكفيها إلى أن خلصنا إلى مدينة وادي آش خلوص القمر من السرار لا نملك إلا نفسا مسلمة لحكم الأقدار ملقية لله مقادة الاختيار مسلوبة بموجب الإستقرار وناصحنا أهل تلك المدينة فعملوا على الحصار واستبصروا في الدفاع عنا أتم الاستبصار ورضوا لبيوتهم المصحرة وبساتينهم المستبحرة
____________________
(5/91)
بفساد الحديد وعياث النار ولم يرضوا لجوارهم بالإخفار ولا لنفوسهم بالعار إلى أن كان الخروج عن الوطن بعد خطوب تسبح فيها الأقلام سبحا طويلا وتوسعها الشجون شرحا وتأويلا وتلقي القصص منها على الآذان قولا ثقيلا وجزنا البحر وضلوع موجه إشفاقا علينا تخفق وأكف رياحه حسرة تصفق ونزلنا من جناب سلطان بني مرين على المثوى الذي رحب بنا ذرعه ودل على كرم الأصول فرعه والكريم الذي وهب فأجزل ونزل لنا عن الصهوة وتنزل وخير وحكم ورد على الدهر الذي تهكم واستعبر وتبسم وآلى وأقسم وبسمل وقدم واستركب لنا واستخدم
ولما بدا لمن وراءنا سيئات ما كسبوا وحققوا ما حسبوا وطفا الغثاء ورسبوا ولم ينشب الشقي الخزي أن قتل البائس الذي موه بزيفه وطوقه بسيفه ودل ركب المخافة على خيفه إذ أمن المضعوف من كيده وجعل ضرغامه بازيا لصيده واستقل على أريكته استقلال الظليم على تريكته حاسر الهامة متنفقا بالشجاعة والشهامة مستظهرا بأول الجهالة والجهامة وساءت في محاولة عدو الدين سيرته ولما حصحص الحق انكشفت سريرته وارتابت لجبنه المستور جيرته وفغر عليه طاغية الروم فمه فالتقمه ومد عليه الصليب ذراعه فراعه وشد الكفر عليه يده فما عضده الله ولا أيده وتخرمت ثغور الإسلام بعد انتظامها وشكت إليه باهتضامها وغصت بأشلاء عباد الله وعظامها ظهور أوضامها ووكلت السنة والجماعة وانقطعت من النجح الطماعة واشتدت المجاعة وطلعت شمس دعوتنا من المغرب فقامت عليها الساعة وأجزنا البحر تكاد جهتاه تتقاربان تيسيرا ورياحه لا تعرف في غير وجهتنا مسيرا وكأن ماءه ذوب لقي إكسيرا ونهضنا يتقدمنا الرعب ويتقد منا الدعاء وتجأجئ بنا الإشارة ويحفزنا الاستدعاء
____________________
(5/92)
وأقصر الطاغية عن البلاد بعد أن ترك ثغورها مهتومة والإخافة عليها محتومة وطوابعها مفضوضة وكانت بنا مختومة وأخذت الخائن الصيحة فاختبل وظهر تهوره الذي عليه جبل فجمع أوباشه السفلة وأوشابه وبهرجه الذي غش به المحض وشابه وعمد إلى الذخيرة التي صانتها الأغلاق الحريزة والمعاقل العزيزة فملأ بها المناطق واستوعب الصامت والناطق والوشح والقراطق واحتمل عدد الحرب والزينة وخرج ليلا عن المدينة واقتضت آراؤه الفائلة ونعامته الشائلة ودولة بغيه الزائلة أن يقصد طاغية الروم بقضه وقضيضه وأوجه وحضيضه وطويله وعريضه من غير عهد اقتضى وثيقة ولا أمر عرف حقيقته إلا ما أمل اشتراطه من تبديل الكلمة واستئصال الأمة المسلمة فلم يكن إلا أن تحصل في قبضته ودنا من مضجع ربضته واستشار نصحاءه في أمره وحكم الحيلة في جناية غدره وشهره ببلده وتولى قتله بيده وألحق به جميع من أمده في غيه وظاهره على سوء سعيه وبعث إلينا برؤوسهم فنصبت بمسور غدرها وقلدت لبة تلك البنية بشذرها وأصبحت عبرة للمعتبرين وآية للمستبصرين وأحق الله الحق بكلماته وقطع دابر الكافرين
وعدنا إلى أريكة ملكنا كما رجع القمر إلى بيته بعد كيته وكيته أو العقد إلى جيده بعد انتثار فريده أو الطير إلى وكره مفلتا من غول الشرك ومكره ينظر الناس إلينا بعيون لم ترو مذ غبنا من محيا رحمة ولا طشت عليها بعدنا غمامة رحمة ولا باتت للسياسة في ذمة ولا ركنت لدين ولا همة فطوينا بساط العتاب طي الكتاب وعالجنا سطور المؤاخذة بالاضطراب وآنسنا نفوس أولي الاقتراف بالاقتراب وسهلنا الوصول إلينا واستغفرنا الله لنفسنا ولمن جنى علينا فلا تسألوا عما أثار ذلك من استدراك ندم ورسوخ قدم واستمتاع بوجود بعد عدم فسبحان الذي يمحص ليثيب ويأمر بالدعاء ليجيب وينبه من الغفلة ويهيب ويجتبي إليه من يشاء ويهدي
____________________
(5/93)
إليه من ينيب
ورأينا أن نطالع علومكم الشريفة بهذا الواقع تسبيبا للمفاتحة المعتمدة وتمهيدا للموالاة المجددة فأخبار الأقطار مما تنفقه الملوك على أسمارها وترقم ببدائعه هالات أقمارها وتستفيد منه حسن السير والأمان من الغير وتستعين على الدهر بالتجارب وتستدل بالشاهد على الغائب وبلادكم ينبوع الخير وأهله ورواق الإسلام الذي يأوى قريبه وبعيده إلى ظله ومطلع نور الرسالة وأفق الرحمة المنثالة منه تقدم علينا الكواكب تضرب آباط أفلاكها وتتخلل مداريها المذهبة غدائر أحلاكها وتستعلي البدور ثم يدعوها إلى المغرب الحدور وتطلع الشمس متجردة من كمائم ليلها متهادية في دركات ميلها ثم تسحب إلى الغروب فضل ذيلها ومن تلقائكم ورد العلم والعمل وأرعى الهمل
فنحن نستوهب من مظان الأجابة لديكم دعاء يقوم لنا مقام المدد ويعدل منه الشيء بالمال والعدد ففي دعاء المؤمن بظهر الغيب ما فيه مما ورد وإياه سبحانه نسأل أن يدفع عنا وعنكم دواعي الفتن وغوائل المحن ويحملنا على سنن السنن ويلبسنا من تقواه أوقى الجنن وهو سبحانه يصل لأبوتكم ما تستقل لدى قاضي القضاة رسومه فتكتب حقوقه وتكبت خصومه ولا تكلفه الأيام ولا تسومه بفضل الله وعزته وكرمه ومنته والسلام الكريم الطيب المبارك بدءا بعد عود وجودا إثر جود ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى
وللسان الدين ابن الخطيب رحمه الله عن سلطانه المذكور كتاب آخر في هذه الكائنة إلى كبير الموحدين أبي محمد عبد الله بن تفراجين ولعلنا نذكره إن
____________________
(5/94)
شاء الله تعالى في الباب الخامس من هذا القسم عند تعرضنا لبعض نثر لسان الدين رحمه الله تعالى نقل عن ابن خلدون في خلع الغني
وقد ساق هذه القضية قاضي القضاة الشهير الكبير ولي الدين عبد الرحمن ابن خلدون الحضرمي رحمه الله تعالى في تاريخه الكبير في ترجمة السلطان الشهير أبي سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني صاحب المغرب مما نصه الخبر عن خلع ابن الأحمر صاحب غرناطة ومقتل رضوان ومقدمه على السلطان لما هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة ونصب ابنه محمد للأمر واستبد عليه رضوان مولى أبيه وكان قد رشح ابنه الأصغر إسماعيل بما ألقى عليه وعلى أمه من محبته فلما عدلوا بالأمر عنه حجبوه ببعض قصورهم وكان له صهر من ابن عمه محمد بن إسماعيل ابن الرئيس أبي سعيد فكان يدعوه سرا إلى القيام بأمره حتى أمكنته فرصة في الدولة بخروج السلطان إلى بعض منتزهاته برياضه فصعدسور الحمراء ليلة سبع وعشرين لرمضان من سنة ستين في أوشاب جمعهم من الطغام لثورته وعمد إلى دار الحاجب رضوان فاقتحم عليه الدار وقتله بين حرمه وبناته وقربوا إلى إسماعيل فرسه وركب فأدخلوه القصر وأعلنوا بيعته وقرعوا طبولهم بسور الحمراء وفر السلطان من مكانه بمنتزهه فلحق بوادي آش وغدا الخاصة والعامة على إسماعيل فبايعوه واستبد عليه هذا الرئيس بن عمه فخلعه لأشهر من بيعته واستقل بسلطان الأندلس ولما لحق السلطان أبو عبد الله محمد بوادي آش بعد مقتل حاجبه رضوان واتصل الخبر بالمولى السلطان أبي سالم امتعض لمهلك رضوان وخلع السلطان رعيا لما سلف له في جوارهم وأزعج لحينه أبا القاسم الشريف
____________________
(5/95)
من أهل مجلسه لاستقدامه فوصل إلى الأندلس وعقد مع أهل الدولة على إجازة المخلوع من وادي آش إلى المغرب وأطلق من اعتقالهم الوزير الكاتب أبا عبد الله ابن الخطيب كانوا اعتقلوه لأول أمرهم لما كان رديفا للحاجب رضوان وركنا لدولة المخلوع فأوصى المولى أبو سالم إليهم بإطلاقه فأطلقوه ولحق مع الرسول أبي القاسم الشريف بسلطانه المخلوع بوادي آش للإجازة إلى المغرب وأجاز لذي القعدة من سنته وقدم على السلطان بفاس وأجل قدومه وركب للقائه ودخل به إلى مجلس ملكه وقد احتفل ترتيبه وغص بالمشيخة والعلية ووقف وزيره ابن الخطيب فأنشد السلطان قصيدته الرائية يستصرخه لسلطانه ويستحثه لمظاهرته على أمره واستعطف واسترحم بما أبكى الناس شفقة له ورحمة ثم سرد ابن خلدون القصيدة وقد تقدمت
ثم قال بعد ما صورته ثم انفض المجلس وانصرف ابن الأحمر إلى نزله وقد فرشت له القصور وقربت له الجياد بالمراكب الذهبية وبعث إليه بالكسا الفاخرة ورتبت الجرايات له ولمواليه من المعلوجي وبطانته من الصنائع وحفظ عليه رسم سلطانه في الراكب والراجل ولم يفقد من ألقاب ملكه إلا الآلة أدبا مع السلطان واستقر في جملته إلى أن كان من لحاقه بالأندلس وارتجاع ملكه سنة ثلاث وستين ما نحن نذكره انتهى المقصود جلبة من كلام ابن خلدون في هذه الواقعة وفيه بعض مخالفة لكلام لسان الدين السابق في اللمحة البدرية إذ قال فيها إن الثورة عليهم كانت ليلة ثمان وعشرين من رمضان وابن خلدون جعلها ليلة سبع وعشرين منه والخطب سهل وقال في اللمحة إن انصرف السلطان من وادي آش كان ثاني يوم النحر وقال ابن خلدون في ذي القعدة ولعله غلط من الكاتب حيث جعل مكان الحجة القعدة
ورائيه ابن الخطيب التي ذكرها هي من حر كلامه وغرر شعره على
____________________
(5/96)
أنه كله غرر إذ جمع فيها المطلوب في ذلك الوقت بأبدع لفظ وأحسن عبارة في ذلك المحفل العظيم ولم نزل نسمع في المذاكرات بالمغرب أنه لما انتهى فيها إلى قوله فقد أنجح المسعى وقد ربح التجر قال له بعض من حضر ولعله أراد الغض منه أحسنت يا وزير فيما قلت وفي وصف الحال والسلطان غير أنه بقي عليك شيء وهو ذكر قرابة السلطان موالينا بني مرين وهم من هم ولا ينبغي السكوت عنهم فارتجل ابن الخطيب حينئذ قوله ومن دون ما تبغيه إلى آخره حتى تخلص لمدح بني مرين أقارب السلطان بما لا مرمى وراءه ثم قال بعد ذلك معتذرا أمولاي غاضت فكرتي إلى آخره وهذا إن صح أبلغ مما وقع لأبي تمام في سينيته حيث قال لا تنكروا ضربي له البيتين لأن أبا تمام ارتجل بيتين فقط ولسان الدين ارتجل تسعة عشر بيتا مع ما هو عليه من الخروج عن الوطن وذهاب الجاه والمال فأين الحال من الحال
وقد كرر ابن خلدون رحمه الله تعالى في تاريخه قضية اعتقال لسان الدين وخلع سلطانه في موضع آخر ولنذكره وإن سبق بعضه لاشتماله على منشإ الوزير لسان الدين وجملة من أحواله إلى قريب من مهلكه فنقول قال رحمه الله تعالى بعد ذكره عبد الله والد لسان الدين وأنه انتقل من لوشة إلى غرناطة واستخدم لملوك بني الأحمر واستعمل على مخازن الطعام ما محصله ونشأ ابنه محمد هذا يعني لسان الدين ابن الخطيب بغرناطة وقرأ وتأدب على مشيختها واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل وأخذ عنه العلوم الفلسفية وبرز في الطب وانتحل الأدب وأخذ عن أشياخه وامتلأ من حول اللسان نظمه ونثره مع انتقاء الجيد منه ونبغ في الشعر والترسيل بحيث لا يجاري فيهما
____________________
(5/97)
وامتدح السلطان أبا الحجاج من ملوك بني الأحمر لعصره وملأ الدنيا بمدائحه وانتشرت في الآفاق فرقاه السلطان إلى خدمته وأثبته في ديوان الكتاب ببابه مرؤوسا بأبي الحسن ابن الجياب شيخ العدوتين في النظم والنثر وسائر العلوم الأدبية وكاتب السلطان بغرناطة من لدن أيام محمد المخلوع من سلفه عندما قتل وزيره محمد بن الحكيم المستبد عليه فاستبد ابن الخطيب برياسة الكتاب ببابه مثناه بالوزارة ولقبه بها فاستقل بذلك وصدرت عنه غرائب من الترسيل في مكاتبات جيرانهم من ملوك العدوة ثم داخله السلطان في تولية العمال على يده بالمشارطت فجمع له بها أموالا وبلغ به في المخالصة إلى حيث لم يبلغ بأحد ممن قبله وسفر عنه إلى السلطان أبي عنان ملك بني مرين بالعدوة معزيا بأبيه السلطان أبي الحسن فجلى في أغراض سفارته ثم هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة عدا عليه بعض الزعانف في سجوده للصلاة وطعنه فأشواه وفاظ لوقته وتعاورت سيوف الموالي المعلوجي هذا القاتل فمزقوه أشلاء وبويع ابنه محمد لوقته وقام بأمره مولاهم رضوان الراسخ القدم في قيادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من ملوكهم واستبد بالدولة وأفرد ابن الخطيب بوزارته كما كان لأبيه وجعل ابن الخطيب رديفا لرضوان في أمره ومشاركا في استبداده معه فجرت الدولة على أحسن حال وأقوم طريقة ثم بعثوا الوزير ابن الخطيب سفيرا إلى السلطان أبي عنان مستمدين منه على عدوهم الطاغية على عادتهم مع سلفه فلما قدم على السلطان ومثل بين يديه تقدم الوفد الذين معه من وزراء الأندلس وفقهائها واستأذنه في إنشاد شعر قدمه بين يدي نجواه فأذن له وأنشد وهو قائم
( خليفة الله ساعد القدر ** علاك ما لاح في الدجى قمر )
____________________
(5/98)
( ودافعت عنك كف قدرته ** ما ليس يسطيع دفعه البشر )
( وجهك في النائبات بدر دجى ** لنا وفي المحل كفك المطر )
( والناس طرا بأرض أندلس ** لولاك ما أوطنوا ولا عمروا )
( وجملة الأمر أنه وطن ** في غير علياك ما له وطر )
( ومن به مذ وصلت حبلهم ** ما جحدوا نعمة ولا كفروا )
( وقد أهمتهم بأنفسهم ** فوجهوني إليك وانتظروا )
فاهتز السلطان لهذه الأبيات وأذن له في الجلوس وقال له قبل أن يجلس ما ترجع إليهم إلا بجميع طلباتهم ثم أثقل كاهلهم بالإحسان وردهم بجميع ما طلبوه وقال شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف وكان معه في ذلك الوفد لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا ومكثت دولتهم هذه بالأندلس خمس سنين ثم ثار بهم محمد الرئيس ابن عم السلطان شركه في جده الرئيس أبي سعيد وتحين خروج السلطان إلى منتزهه خارج الحمراء وتسور دار الملك المعروفة بالحمراء وكبس رضوان في بيته فقتله ونصب للملك إسماعيل ابن السلطان أبي الحجاج بما كان صهره على شقيقته وكان معتقلا بالحمراء فأخرجه وبايع له وقام بأمره مستبدا عليه وأحس السلطان محمد بقرع الطبول وهو بالبستان فركب ناجيا إلى وادي آش وضبطها وبعث بالخبر إلى السلطان أبي سالم إثر ما استولى على ملك آبائه بالمغرب وقد كان مثواه أيام أخيه أبي عنان عندهم بالأندلس واعتقل الرئيس القائم بالدولة هذا الوزير ابن الخطيب وضيق عليه في محبسه وكانت بينه وبين الخطيب ابن مرزوق مودة استحكمت أيام مقامه بالأندلس وكان غالبا على هوى السلطان أبي سالم فزين له استدعاء هذا السلطان المخلوع من وادي آش يعده زبونا على أهل الأندلس ويكف به عادية القرابة المرشحين هنالك متى طمحوا إلى ملك المغرب فقبل ذلك منه وخاطب أهل الأندلس في تسهيل طريقه من وادي
____________________
(5/99)
آش إليه وبعث من أهل مجلسه الشريف أبا القاسم التلمساني وحمله مع ذلك الشفاعة في ابن الخطيب وحل معتقله فأطلق وصحب الشريف أبا القاسم إلى وادي آش وسار في ركاب سلطانه وقدموا على السلطان أبي سالم فاهتز لقدوم ابن الأحمر وركب في الموكب لتلقيه وأجلسه إزاء كرسيه وأنشد ابن الخطيب قصيدته يستصرخ السلطان لنصره فوعده وكان يوما مشهودا ثم أكرم مثواه وأرغد نزله ووفر أرزاق القادمين مع ركابه وأرغد عيش ابن الخطيب في الجراية والإقطاع ثم استيأس واستأذن السلطان في التجوال بجهات مراكش والوقوف على أعمال الملك بها فأذن له وكتب إلى العمال بإتحافه فتبادروا في ذلك وحصل منه على حظ وعندما مر بسلا إثر قفوله من سفره دخل مقبرة الملوك بشالة ووقف على قبر السلطان أبي الحسن وأنشد قصيدة روي الراء يرثيه ويستجير به في استرجاع ضياعه بغرناطة مطلعها
( إن بان منزله وشطت داره ** قامت مقام عيانه أخباره )
( قسم زمانك عبرة أو عبرة ** هذي ثراه وهذه آثاره )
فكتب السلطان أبو سالم في ذلك إلى أهل الأندلس بالشفاعة فشفعوه واستقر هو بسلا منتبذا عن سلطانه طول مقامه بالعدوة ثم عاد السلطان محمد المخلوع إلى مكة بالأندلس سنة ثلاث وستين وسبعمائة وبعث عن مخلفه بفاس من الأهل والولد والقائم بالدولة يومئذ الوزير عمر بن عبد الله بن علي فاستقدم ابن الخطيب من سلا وبعثهم لنظره فسر السلطان لقدومه ورده إلى منزلته كما كان مع رضوان كافله وكان عثمان بن يحيى بن عمر شيخ الغزاة وابن أشياخهم قد لحق بالطاغية ملك النصارى في ركاب أبيه عندما أحسن بالشر
____________________
(5/100)
من الرئيس صاحب غرناطة وأجاز يحيى من هنالك إلى العدوة وأقام عثمان بدار الحرب فصحب السلطان في مثوى اغترابه هنالك وتقلب في مذاهب خدمته وانحرفوا عن الطاغية عندما يئسوا من الفتح على يده فتحولوا عنه إلى ثغور بلادهم وخاطبوا الوزير عمر بن عبد الله في أن يمكنهم من بعض الثغور الغريبة التي لطاعتهم بالأندلس يرتقبون منها الفتح وخاطبني السلطان المخلوع في ذلك وكانت بيني وبين عمر بن عبد الله ذمة مرعية وخاصة متأكدة فوفيت للسلطان بذلك من عمر بن عبد الله وحملته على أن يرد عليه مدينة رندة إذ هي من تراث سلفه فقبل إشارتي في ذلك وتسوغها السلطان المخلوع ونزل بها وعثمان بن يحيى في جملته وهو المقدم في بطانته ثم غزوا منها مالقة فكانت ركابا للفتح وملكها السلطان واستولى بعدها على دار ملكه بغرناطة وعثمان بن يحيى متقدم القدم في الدولة عريق في المخالصة وله على السلطان دالة واستبداد على هواه فلما وصل ابن الخطيب بأهل السلطان وولده وأعاده إلى مكانه في الدولة من علو يده وقبول إشارته أدركته الغيرة من عثمان ونكر على السلطان الاستكفاء به وأراه التخوف من هؤلاء الأعياص على ملكه فحذره السلطان وأخذ في التدبير عليه حتى نكبه وأباه وإخوته في رمضان سنة أربع وستين وسبعمائة وأودعهم المطبق ثم غربهم بعد ذلك وخلا لابن الخطيب الجو وغلب على هوى السلطان ودفع إليه تدبير الدولة وخلط بنيه بندمائه وأهل خلوته وانفراد ابن الخطيب بالحل والعقد وانصرفت إليه الوجوه وعلقت به الآمال وغشي بابه الخاصة والكافة وغصت به بطانة السلطان وحاشيته فتفننوا في السعايات فيه وقد هم السلطان
____________________
(5/101)
عن قبولها ونمي الخبر بذلك إلى ابن الخطيب فشمر عن ساعده في التفويض واستخدم للسلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن ملك العدوة يومئذ في القبض على ابن عمه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي ابن السلطان أبي سعيد ابن السلطان يعقوب بن عبدالحق كانوا قد نصبوه شيخا على الغزاة بالأندلس لما أجاز من العدوة بعدما جاس خلالها لطلب الملك وأضرم بها نار الفتنة في كل ناحية وأحسن دفاعه الوزير عمر بن عبد الله القائم حينئذ بدولة بني مرين فاضطر إلى الإجازة إلى الأندلس فأجاز هو ووزيره مسعود ابن ماساي ونزلوا على السلطان المخلوع أعوام سبعة وستين وسبعمائة فأكرم نزلهم وتوفي علي بن بدر الدين شيخ الغزاة فقدم عبد الرحمن مكانه وكان السلطان عبد العزيز قد استبد بملكه بعد مقتل الوزير عمر بن عبد الله فغص بما فعله السلطان المخلوع من ذلك وتوقع انتقاض أمره منهم ووقف على مخاطبات من عبد الرحمن يسر بها في بني مرين فجزع لذلك وداخله ابن الخطيب في اعتقال ابن أبي يفلوسن وابن ماساي وإراحة نفسه من شغبهم على أن يكون له المكان من دولته متى نزع إليه فأجابه إلى ذلك وكتب له العهد بخطة على يد سفيره إلى الأندلس وكاتبه أبي يحيى ابن أبي مدين وأغرى ابن الخطيب سلطانه بالقبض على ابن أبي يفلوسن وابن ماساي فتقبض عليهما واعتقلهما وفي خلال ذلك استحكمت نفرة ابن الخطيب لما بلغه عن البطانة من القدح فيه والسعاية وربما تخيل أن السلطان مال إلى قبولها وأنهم قد أحفظوه عليه فأجمع التحول عن الأندلس إلى المغرب واستأذن السلطان في تفقد الثغور وسار إليها في لمة من فرسانه وكان معه ابنه علي الذي كان خالصة للسلطان وذهب لطيته فلما حاذى جبل الفتح فرضة المجاز إلى العدوة مال إليه وسرح إذنه بين يديه فخرج قائد الجبل لتلقيه وقد كان السلطان عبد العزيز
____________________
(5/102)
اوعز إليه إليه بذلك وجهز له الأسطول من حينه فأجاز إلى سبته وتلقاه ولاتها بأنواع التكرمة وامتثال المراسم ثم سار لقصد السلطان فقدم عليه سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بمقامه من تلمسان فاهتزت له الدولة وأركب السلطان خاصته لتلقيه وأحله من مجلسه بمحل الأمن والغبطة ومن دولته بمكان التنويه والعزة وأخرج لوقته كاتبه أبا يحيى ابن أبي مدين سفيرا إلى صاحب الأندلس في طلب أهله وولده فجاء بهم على أكمل حالات الأمن والتكرمة ثم أكثر المنافسون له في شأنه وأغروا سلطانه بتتبع عثراته وإبداء ما كان كامنا في نفسه من سقطاته وإحصاء معايبه وشاع على ألسنة أعدائه كلمات منسوبة إلى الزندقة أحصوها عليه ونسبوها ورفعت إلى قاضي الحضرة أبي الحسن ابن الحسن فاسترعاها وسجل عليه بالزندقة وراجع صاحب الأندلس رأيه فيه وبعث القاضي ابن الحسن إلى السلطان عبد العزيز في الإنتقام منه بتلك السجلات وإمضاء حكم الله فيه فصم عن ذلك وأنف لذمته أن تخفر ولجواره أن يرد وقال لهم هلا انتقمتم منه وهو عندكم وأنتم عالمون بما كان عليه وأما أنا فلا يخلص إليه بذلك أحد ما كان في جواري ثم وفر الجراية والاقطاع له ولبنيه ولمن جاء من أهل الأندلس في جملته فلما هلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين وسبعمائة ورجع بنو مرين إلى المغرب وتركوا تلمسان سار هو في ركاب الوزير أبي بكر ابن غازي القائم بالدولة فنزل بفاس واستكثر من شراء الضياع وتأنق في بناء المساكن واغتراس الجنان وحفظ عليه القائم بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفى واتصلت حاله على ذلك إلى أن كان ما نذكره انتهى
____________________
(5/103)
رواية ابن خلدون عن نهاية لسان الدين
وقال ابن خلدون في تاريخه ما صورته كان محمد بن الأحمر المخلوع قد رجع من رندة إلى ملكه بغرناطة في جمادى من سنة ثلاث وستين وقتل له الطاغية عدوة الرئيس المنتزي على ملكهم حين هرب من غرناطة إليه وفاء بعهد المخلوع واستوى على كرسيه واستقل بملكه ولحق به كاتبه وكاتب أبيه محمد بن الخطيب فاستخلصه وعقد له على وزارته وفوض إليه في القيام بملكه فاسولى عليه وملك هواه وكانت عينه ممتدة إلى المغرب وسكناه إلى أن نزلت به آفة في رياسته فكان لذلك يقدم السوابق والوسائل عند ملوكه وكان لأبناء السلطان أبي الحسن كلهم غيرة من ولد عمهم السلطان أبي علي ويخشونهم على أمرهم ولما لحق الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن بالأندلس اصطفاه ابن الخطيب واستخلصه لنجواه ورفع في الدولة رتبته وأعلى منزلته وحمل السلطان على أن عقد له على الغزاة المجاهدين من زناتة مكان بني عمه من الأعياص فكانت له آثار في الاضطلاع بها ولما استبد السلطان عبد العزيز بأمره واستقل بملكه وكان ابن الخطيب ساعيا في مرضاته عند سلطانه فدس إليه باعتقال عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره مسعود بن ماساي وأدار ابن الخطيب في ذلك مكره وحمل السلطان عليهما إلى أن سطا بهما ابن الأحمر واعتقلهما سائر أيام السلطان عبد العزيز وتغير الجو بين ابن الأحمر ووزيره ابن الخطيب وأظلم وتنكر له فنزع عنه إلى عبد العزيز سلطان المغرب سنة ثنتين وسبعين وسبعمائة لما قدم من الوسائل ومهد من السوابق فقبله السلطان وأحله من مجلسه محل الإصطفاء والقرب وخاطب ابن الأحمر في أهله وولده فبعثهم إليه واستقر في جملة السلطان ثم تأكدت العداوة بينه
____________________
(5/104)
وبين ابن الأحمر فرغب السلطان عبد العزيز في ملك الأندلس وحمله عليه وتواعدوا لذلك عند رجوعه من تلمسان إلى المغرب ونمى ذلك إلى ابن الأحمر فبعث إلى السلطان عبد العزيز بهدية لم يسمع بمثلها انتقى فيها من متاع الأندلس وماعونها وبغالها الفارهة ومعلوجي السبي وجواريه وأوفد بها رسله يطلب إسلام وزيره ابن الخطيب إليه فأبى السلطان من ذلك ونكره ولما هلك السلطان واستبد الوزير ابن غازي بالأمر تحيز إليه ابن الخطيب وداخله وخاطبه ابن الأحمر بمثل ما خاطب به السلطان عبد العزيز فلج واستنكف عن ذلك وأقبح الرد وانصرف رسوله إليه وقد رهب سطوته فأطلق ابن الأحمر لحينه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وأركبه الأسطول وقذف به إلى ساحل بطوية ومعه الوزير مسعود بن ماساي ونهض يعني ابن الأحمر إلى جبل الفتح فنازله بعساكره ونزل عبد الرحمن ببطوية
ثم ذكر ابن خلدون كلاما كثيرا تركته لطوله وملخصه أن الوزير أبا بكر ابن غازي الذي كان تحيز إليه ابن الخطيب ولى ابن عمه محمد بن عثمان مدينة سبتة خوفا عليها من ابن الأحمر ونهض هو أعني الوزير إلى منازلة عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ببطوية إذ كانوا قد بايعوه فامتنع عليه وقاتله أياما ثم رجع إلى تازا ثم إلى فاس واستولى عبد الرحمن على تازا وبينما الوزير أبو بكر بفاس يدبر الرأي إذ وصله الخبر بأن ابن عمه محمد بن عثمان بايع السلطان أحمد بن أبي سالم وهو المعروف بذي الدولتين وهذه هي دولته الأولى وذلك أن ابن عم الوزير وهو محمد بن عثمان لما تولى سبتة كان ابن الأحمر قد طاول حصار جبل الفتح وأخذ بمخنقة وتكررت المراسلة بينه وبين محمد بن عثمان والعتاب وفاستعتب له وقبح ما جاء به ابن عمه الوزير أبو بكر ابن غازي من الاستغلاظ له في شأن ابن الخطيب وغيره فوجد ابن
____________________
(5/105)
الأحمر في ذلك السبيل إلى غرضه وداخله في البيعة لابن السلطان أبي سالم من الأبناء الذين كانوا بطنجة تحت الحوطة والرقبة وأن يقيمه للمسلمين سلطانا ولا يتركهم فوضى وهملا تحت ولاية الصبي الذي لم يبلغ ولا تصح ولايته شرعا وهو السعيد بن أبي فارس الذي بايعه الوزير أبو بكر ابن غازي بتلمسان حين مات أبوه واستبد عليه واختص ابن الأحمر أحمد بن أبي سالم من بين أولئك الأبناء لما سبق بينه وبين أبيه أبي سالم من الموات وكان ابن الأحمر اشترط على محمد بن عثمان وحزبه شروطا منها أن ينزلوا له عن جبل الفتح الذي هو محاصر له وأن يبعثوا إليه جميع أبناء الملوك من بني مرين ليكونوا تحت حوطته وأن يبعثوا إليه بالوزير ابن الخطيب متى قدروا عليه فانعقد أمرهم على ذلك وتقبل محمد بن عثمان شروطه وركب من سبتة إلى طنجة واستدعى أبا العباس أحمد من مكان اعتقاله فبايعه وحمل الناس على طاعته واستقدم أهل سبتة للبيعة وكتابتها فقدموا وبايعوا وخاطب أهل جبل الفتح فبايعوا وأفرج ابن الأحمر عنهم وبعث إليه محمد بن عثمان عن سلطانه بالنزول له عن جبل الفتح وخاطب أهله بالرجوع إلى طاعته فارتحل ابن الأحمر من مالقة إليه ودخله ومحا دولة بني مرين مما وراء البحر وأهدى للسلطان أبي العباس وأمده بعسكر من غزاة الأندلس وحمل إليه مالا للإعانة على أمره ولما وصل الخبر بهذا كله إلى الوزير أبي بكر ابن غازي قامت عليه القيامة وكان ابن عمه محمد بن عثمان كتب إليه يموه بأن هذا عن أمره فتبرأ من ذلك ولاطف ابن عمه أن ينقض ذلك الأمر فاعتل له بانعقاد البيعة لأبي العباس وبينما الوزير أبو بكر ينتظر إجابة ابن عمه إلى ما رامه منه بلغه الخبر بأنه أشخص الأبناء المعتقلين كلهم للأندلس وحصلوا تحت كفالة ابن الأحمر فوجم وأعرض عن ابن عمه ونهض إلى تازا لمحاصرة عبد الرحمن بن أبي يفلوسن فاهتبل في غيبته ابن عمه محمد بن عثمان ملك المغرب ووصله مدد السلطان ابن الأحمر من رجال الأندلس الناشبة نحو ستمائة وعسكر آخر من
____________________
(5/106)
الغزاة وبعث ابن الأحمر رسله إلى الأمير عبد الرحمن باتصال اليد مع ابن عمه السلطان أحمد ومظاهرته واجتماعهما على ملك فاس وعقد بينهما الاتفاق على أن يختص عبد الرحمن بملك سلفه فتراضيا وزحف محمد بن عثمان وسلطانه إلى فاس وبلغ الخبر إلى الوزير أبي بكر بمكانه من تازا فانفض معسكره ورجع إلى فاس ونزل بكدية العرائس وانتهى السلطان أبو العباس أحمد إلى زرهون فصمد إليه الوزيربعساكره فاختل مصافه ورجع على عقبه مفلولا وانتهب عسكره ودخل البلد الجديد وجأجأ بالعرب أولاد حسين فعسكروا بالزيتون ظاهر فاس فنهض إليهم الأمير عبد الرحمن من تازا بمن كان معه من العرب الأجلاف وشردهم إلى الصحراء وشارف السلطان أبو العباس أحمد بجموعه من العرب وزناتة وبعثوا إلى ولي دولتهم ونزمار بن عريف بمكانه من قصره الذي اختطه بملوية فجاءهم وأطلعوه على كامن أسرارهم فأشار عليهم بالإجتماع والإتفاق فاجتمعوا بوادي النجا وتحالفوا ثم ارتحلوا إلى كدية العرائس في ذي القعدة من سنة خمس وسبعين وبرز إليهم الوزير بعساكره فانهزمت جموعه وأحيط به وخلص إلى البلد الجديد بعد غص الريق واضطرب معسكر السلطان أبي العباس بكدية العرائس ونزل الأمير عبد الرحمن بإزائه وضربوا على البلد الجديد سياجا بالبناء للحصار وأنزلوا بها أنواع القتال والإرهاب ووصلهم مدد السلطان ابن الأحمر فأحكموا الحصار وتحكموا في ضياع الوزير ابن الخطيب بفاس فهدموها وعاثوا فيها ولما كان فاتح سنة ست وسبعين داخل محمد بن عثمان ابن عمه الوزير أبا بكر في النزول عن البلد الجديد والبيعة للسلطان لكون الحصار قد اشتد به ويئس وأعجزه المال فأجاب واشترط عليهم الأمير عبد الرحمن التجافي له عن أعمال مراكش بدل سجلماسة فعقدوا له على كره وطووا على المكر وخرج الوزير أبو بكر إلى السلطان وبايعه واقتضى عهده بالأمان وتخلية سبيله من الوزارة ودخل السلطان أبو العباس إلى البلد
____________________
(5/107)
الجديد سابع المحرم وارتحل الأمير عبد الرحمن يومئذ إلى مراكش واستولى عليها انتهى رواية ابن الأحمر
وقال حفيد السلطان ابن الأحمر في تاريخه ما صورته لما لحق الرئيس أبو عبد الله ابن الخطيب بالمغرب عام اثنين وسبعين وسبعمائة وكان من وفاة مجيره والمحامي عنه السلطان عبد العزيز ما ألمعنا بذكره شد الوزير أبو بكر ابن غازي يده على ابن الخطيب بانيا على أشد الأشياء ألا يسلمه لمولانا جدنا مع توقع البغضاء واقتدى هذا الوزير بالسلطان عبد العزيز في إعراضه عن العقود الموجهة من الأندلس بالمقذع من موبقات ابن الخطيب ولج في الغلواء وسجل موجبات الوفاء والبواعث من مولانا جدنا تتزايد والأساطيل تتجهز والآراء بالقصد الخطير ينتقي منها الصواب ويتخير حتى خيم مولانا جدنا بظاهر جبل الفتح وكان إذ ذاك راجعا إلى إيالة المغرب فأناخ عليه ككل الجيش وأهمهم ثقل الوطأة ولم يبال مولانا جدنا بما أرسلت آناء الليل وأطراف النهار من شآبيب الأنفاط والجوار من باب الشطائين قريب والخالصة من الثقات مستريب والنجاة من تلك الأهوال من الأمر الغريب ولم يبق بغرناطة من له خلوص ولا من ترامى به همة إلا وأعمل السير الحثيث ولحق بمولانا جدنا لحاق المحب بالحبيب حتى اهل العلم والرجاحة والحلم ولا كالسيد الإمام الأستاذ أبي سعيد قطب الجملة وعميد الملة وهو الذي بلغنا نظمه في هذه الوجهة وعندما ألقى عصا التسيار في الجهة القريبة من أولي العداوة ومن ذلك قصيدته المشهورة التي أولها
( يا جبل الفتح استلمت نفوسنا ** فلا قلب إلا نحو مغناك قد سبق )
( فأرسلت إذ جئناك فينا صواعقا ** تخال بها جو السماء قد انطبق )
____________________
(5/108)
وقوله في إجابة السفهاء من الهاتفين بالسور موطئا معجبا رحمة الله تعالى عليه
( وذموا وما يعنون إلا مذمما ** وأنت بحمد الله تدعى محمدا )
وقول حامل اللواء الآتي ذكره في تضاعيف الأسماء
( أما مرامك في عراض البيد ** فمبلغ ما شئت من مقصود )
( والهجر إن ألقته ألسنة العدا ** يأباه فضل مقامك المحمود )
( سحقا لهم سفهاء كل قبيلة ** شذت مقالتهم عن المعهود )
( قد ضلت الأحلام منهم رشدها ** هذا ومنك الحلم غير بعيد )
( مع عزمة لو شئت هدت كل ما ** قد أحكموا من معلم ومشيد )
إلى أن قال الخبر عن اجتماع الأميرين أبي العباس وأبي زيد متصاحبين ومترافقين على استخلاص مدينة فاس من يد الوزير أبي بكر ابن غازي بن الكاس وكتب الرئيس أبو عبد الله ابن زمرك في مخلص هذه الكائنة حث الوزير محمد ابن عثمان السير في وسط عام خمسة وسبعين وسبعمائة وتلاقى بسلطانه أبي العباس مع الأمير أبي زيد عبد الرحمن واستقلا بالطائلة وحصلا من التضييق على السعيد الطفل الصغير وعلى وزيره أبي بكر ابن غازي في متسع الخطة ورحيب ذرع الخلافة وتصالحا عن رضى وتسليم منهما ومن أشياعهما على تسليم السعيد إلى اللحاق بمن كان في طنجة من الأمراء واتصل السلطان عبد الرحمن بمراكش فكان ملكها وجابي أموالها وتملك السلطان أبو العباس مدينة فاس وما إلى البلاد الساحلة وسواها مما يحتوي عليه ملك المدينة البيضاء برا وبحرا
وعبر كاتب الدولة عن المدينة وعن الطفل متملكها بقوله وإلى هذا فقد ارتفع الالتباس واطرد القياس وغير خفي عن ذي عقل سليم وذي تفويض للحق وتسليم أن دار الملك المريني كمامة بلا زهر ورياض بلا نهر إن لم يقتعد كرسيها من يزين جيدها ويجيد حليها وآن أوان البشرى لمن يمتعض
____________________
(5/109)
للدين والآن قلادة التقوى منوطة بقلم اعلام الملوك المهتدين ثم ذكر ما يطول من فصول وربما اشتملت على فضول وملخصه مثل ما ذكر ابن خلدون تتمة الخبر عن نهاية لسان الدين نقلا عن ابن خلدون
ثم ساق قاضي القضاة ابن خلدون بعد ما تقدم جلبه من تاريخه الكلام على محنة لسان الدين ابن الخطيب ووفاته مقتولا رحمه الله تعالى فقال ما صورته ولما استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد دار ملكه فاتح ست وسبعين استقل بسلطانه والوزير محمد بن عثمان مستبد عليه وسليمان بن داود بن أعراب كبير بني عسكر رديفة وقد كان الشرط وقع بينه وبين السلطان ابن الأحمر عندما بويع بطنجة على نكبة الوزير ابن الخطيب وإسلامه إليه لما نمي إليه عنه أنه كان يغري السلطان عبد العزير بملك الأندلس فلما زحف السلطان أبو العباس من طنجة ولقيه أبو بكر ابن غازي بساحة البلد الجديد فهزمه السلطان ولازمه بالحصار أوى معه ابن الخطيب إلى البلد الجديد خوفا على نفسه فلما استولى السلطان على البلد أقام أياما ثم أغراه سليمان بن داود بالقبض على ابن الخطيب فقبضوا عليه وأودعوه السجن وطيروا بالخبر إلى السلطان ابن الأحمر وكان سليمان بن داود شديد العداوة لابن الخطيب لما كان سليمان قد بايعه السلطان ابن الأحمر على مشيخة الغزاة بالأندلس متى أعاده الله تعالى إلى ملكه فلما استقر إليه سلطانه أجاز إليه سليمان سفيرا عن الوزير عمر بن عبد الله ومقتضيا عهده من السلطان فصده الوزير ابن الخطيب عن ذلك محتجا بأن تلك الرياسة إنما هي لأعياص الملك من بني عبد الحق لأنهم يعسوب زناتة فرجع سليمان وأثار حقد ذلك لابن الخطيب ثم جاوز الأندلس لمحل إمارته من جبل الفتح فكانت تقع بينه وبين ابن الخطيب مكاتبات
____________________
(5/110)
ينفث كل واحد منهما لصاحبه بما يحفظه مما كمن في صدورهما وحين بلغ خبر القبض على ابن الخطيب إلى السلطان ابن الأحمر بعث كاتبه ووزيره بعد ابن الخطيب وهو أبو عبد الله ابن زمرك فقدم على السلطان أبي العباس وأحضر ابن الخطيب بالمشور في مجلسه الخاصة وعرض عليه بعض كلمات وقعت له في كتابه في المحبة فعظم النكير فيها فوبخ ونكل وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك الملأ ثم تل إلى محبسه واشتوروا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجلة عليه وأفتى بعض الفقهاء فيه ودس سليمان بن داود لبعض الأوغاد من حاشيته بقتله فطرقوا السجن ليلا ومعهم زعانفة جاؤوا في لفيف الخدم مع سفراء السلطان ابن الأحمر وقتلوه خنقا قي محبسه وأخرج شلوه من الغد فدفن بمقبرة باب المحروق ثم أصبح من الغد على سافة قبره طريحا وقد جمعت له أعواد وأضرمت عليه نار فاحترق شعره واسود بشره فأعيد إلى حفرته وكان في ذلك انتهاء محنته وعجب الناس من هذه الشنعاء التي جاء بها سليمان واعتدوها من هناته وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته والله الفعال لما يريد
وكان عفا الله تعالى عنه أيام امتحانه بالسجن يتوقع مصيبة الموت فتجهش هواتفه بالشعر يبكي نفسه ومما قال في ذلك رحمه الله تعالى
( بعدنا وإن جاورتنا البيوت ** وجئنا بوعظ ونحن صموت )
( وأنفاسنا سكنت دفعة ** كجهر الصلاة تلاه القنوت )
( وكنا عظاما فصرنا عظاما ** وكنا نقوت فها نحن قوت )
( وكنا شموس سماء العلا ** غربن فناحت علينا السموت )
( فكم جدلت ذا الحسام الظبي ** وذو البخت كم جدلته البخوت )
____________________
(5/111)
( وكم سيق للقبر في خرقة ** فتي ملئت من كساه التخوت )
( فقل للعدا ذهب ابن الخطيب ** وفات ومن ذا الذي لا يفوت )
( ومن كان يفرح منهم له ** فقل يفرح اليوم من لا يموت )
انتهى كلام ابن خلدون في ديوان العبر عن ابن حجر
وقال الحافظ ابن حجر في أنباء الغمر بعد أن ذكر ما قدمناه على سبيل الاختصار ما نصه واشتهر أنه يعني لسان الدين نظم حين قدم للقتل الأبيات المشهورة التي يقول فيها
( وقل للعداة مضى ابن الخطيب ** وفات فسبحان من لا يفوت )
( فمن كان يشمت منكم به ** فقل يشمت اليوم من لا يموت )
والصحيح في ذلك ما ذكره صديقه شيخنا ولي الدين ابن خلدون أنه نظم الأبيات المذكورة وهو في السجن لما كان يستشعر من التشديد انتهى
ثم حكى ابن حجر عن بعض الأعيان أن ابن الأحمر وجهه إلى ملك الإفرنج في رسالة فلما أراد الرجوع أخرج له رسالة لابن الخطيب تشتمل على نظم ونثر فلما قرأها قال له مثل هذا كان ينبغي أن لا يقتل ثم بكى حتى بل ثيابه انتهى كلام الحافظ وبعضه بالمعنى فانظر سددك الله تعالى بكاء العدو الكافر على هذا العلامة وقتل إخوانه في الإسلام له على حظ نفساني ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لا رب غيره تخميس لأبيات لسان الدين
قلت ورأيت بحضرة فاس حاطها الله تعالى تخميسا لهذه الأبيات بديعا
____________________
(5/112)
منسوبا إلى بعض بني الصباغ وزاد في الأصل بعض أبيات على ما ذكره ابن خلدون من هذه القطعة والمزيد يشبه نفس لسان الدين ابن الخطيب فلعل ابن خلدون اختصر منها أو لم يقف على الزائد ولنثبت جملته تتميما للمقصود فنقول قال رحمه الله تعالى
( أيا جاهلا غره ما يفوت ** وألهاه حال قليل الثبوت )
( تأمل لمن بعد أنس يقوت ** بعدنا وإن جاورتنا البيوت )
( وجئنا بوعظ ونحن صموت ** )
( لقد نلت من دهرنا رفعة ** تقضت كبرق مضى سرعة )
( فهيهات نرجو لها رجعة ** وأصواتنا سكنت دفعة )
( كجهر الصلاة تلاه القنوت ** )
( بدا لي من العز وجه شباب ** يؤمل سيبي وبأسي يهاب )
( فسرعان مزق ذاك الإهاب ** ومدت وقد أنكرتنا الثياب )
( علينا نسائجها العنكبوت ** )
( فآها لعز تقضى مناما ** منحنا به الجاه قوما كراما )
( وكنا نسوس أمورا عظاما ** وكنا عظاما فصرنا عظاما )
( وكنا نقوت فها نحن قوت ** )
____________________
(5/113)
( وكنا لدى الملك حلي الطلى ** فآها عليه زمانا خلا )
( نعوض من جده بالبلى ** وكنا شموس سماء العلا )
( غربنا فناحت علينا السموت ** )
( تعودت بالرغم من صرف الليالي ** وحملت نفسي فوق احتمالي )
( وأيقنت أن سوف يأتي ارتحالي ** ومن كان منتظرا للزوال )
( فكيف يؤمل منه الثبوت ** )
( هو الموت يا ما له من نبا ** يجوز الحجاب إلى من أبى )
( ويألف أخذ سني الحبا ** فكم أسلمت ذا الحسام الظبي )
( وذا البخت كم جدلته البخوت ** )
( هو الموت أفصح عن عجمة ** وأيقظ بالوعظ من خفقة )
( وسلى عن الحزن ذا حرقة ** وكم سيق للقبر في خرقة )
( في ملئت من كساه التخوت ** )
( تقضى زماني بعيش خصيب ** وعندي لذنبي انكسار المنيب )
( وها الموت قد صبت منه نصيبي ** فقل للعدا ذهب ابن الخطيب )
( وفات ومن ذا الذي لا يفوت ** )
( مضى ابن الخطيب كمن قبله ** ومن بعده يقتفي سبله )
( وهذا الردى ناثر شمله ** فمن كان يفرح منهم له )
( فقل يفرح اليوم من لا يموت )
____________________
(5/114)
( هو الموت عم فما للعدا ** يسرون بي حين ذقت الردى )
( ومن فاته اليوم يأتي غدا ** سيبلى الجديد إذا ما المدى )
( تتابع آحاده والسبوت ** )
( أخي توخ طريق النجاة ** وقدم لنفسك قبل الممات )
( وشمر بجد لما هو آت ** ولا تغترر بسراب الحياة )
( فإنك عما قريب تموت ** )
وقد ذكرني قوله رحمه الله تعالى فمن كان يفرح منهم له إلى آخره قول بعض العلماء الشاميين
( يا ضاحكا بمن استقل غباره ** سيثور عن قدميك ذاك العثير )
( لا فارس بجنودها منعت حمى ** كسرى ولا للروم خلد قيصر )
( جدد مضت عاد عليه وجرهم ** وتلاه كهلان وعقب حمير )
( وسطا بغسان الملوك وكندة ** فلها دماء عنده لا تثأر )
( لعبت بهم فكأنهم لم يخلقوا ** ونسوا بها فكأنهم لم يذكروا ) فصل في الاعتبار لابن دحية
وما أحسن قول أبي الخطاب ابن دحية الحافظ بعد الكلام ما صورته وأخذت من طريق خوزستان إلى طريق حلوان وقاسيت من الغربة أصناف الألوان ومررت على مدائن كسرى أنوشروان وزرت بها قبر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم الزاهد العابد المعمر سلمان وأعملت منها السير والإغذاذ إلى مدينة بغذاذ فنظرت إليها معالم وربوعا وأقمت بها مرة عاما ومرة أسبوعا وأسبوعا وانا أبدي في ندائهم وأعيد والترب قد علا على منازلهم والصعيد وأسأل عن الخلفاء الماضين وأنشد ولسان الحال يجاوبني وينشد
____________________
(5/115)
( يا سائل الدار عن أناس ** ليس لهم نحوها معاد )
( مرت كما مرت الليالي ** أين جديس وأين عاد )
بل أين أبو البشر آدم الذي خلقه بيده الكبير المتعال أين الأنبياء من ولده والأرسال أهل النبوة والرسالة والوحي من الله ذي الجلالة أين سيدهم محمد الذي فضله عليهم ذو العزة والجلال وجعله شفيعهم مع أمته والناس في شدائد الأهوال أين القرون الماضية والأجيال أين التبابعة والأقيال أين ملوك همدان أين أولو الأبلق الفرد أو غمدان أين أولو التيجان والأكاليل أين الصيد والبهاليل بل أين النمارذة وأكبرهم نمروذ إبراهيم الخليل أين الفراعنة ومن هو بالسحر عليم الذي منهم فرعون موسى الكليم أين ملك الهدنانية هدد بن بدد الكردي الذي لم يكن غدره بمفيد له ولا مجدي وقد أخبر الحق جل جلاله عنه أنه كان يأخذ كل سفينة غصبا وزعم المؤرخون أنه كان أيضا يملأ القلوب رعبا ويسوم أصحابه قتلا وصلبا مع الطمع في المال وعدم النظر في عقبى المآل أين الفرس وملوكها وعدلها وعدولها أين دارا بن دارا بن بهمان أين اسكندر بن فلبس اليوناني الذي غلبه وملك بلاده في ذلك الزمان وأطاعه جميع ملوك الأقاليم وقدر الله به امتحان الخلق ذلك تقدير العزيز العليم أين كسرى وقيصر غلبهما من الموت الأسد القسور بعد أن أخرجهما من بلادهما أمير المؤمنين أبو حفص عمر لما ظهرت الملة الحنيفية كما ظهرت الشمس وبدا القمر أين أولاد جفنة وملوك غسان أين مماديح زياد وحسان أين هرم بن سنان أين الملاعب بالسنان أين أولاد مضر بن نزار بن معد بن عدنان أين بنو عبد المدان أين أرباب العواصم أين قيس بن عاصم أين العرب العرباء الأمة الفاضلة والجماعة المناضلة أين أولو الباس والحفاظ وذوو الحمية والإحفاظ حيث الوفاء والعهد
____________________
(5/116)
والحباء والرفد إلى علو الهمم والوفاء بالذمم والعطاء الجزل والضيف والنزل وهبة الافال والبزل وإنها لا تدين عزا ولا تقاد ولا ترام أنفة ولا تفاد أين قريش المغرورون في الجاهلية بالحي اللقاح والشعب الرقاح أين الماضون من ملوك بني أمية ذوو الألسن الذلق والأوجه الطلق والحمية أين خلفاء بني العباس بن عبد المطلب الذين شرفهم بالأصالة وليس إليهم بالمنجلب ذوو الشرف الشامخ والفخر الباذخ والخلافة السنية الرضية والمملكة العامة المرضية بلغتنا والله وفاتهم ولم يبق إلا ذكرهم وصفاتهم قبض ملك الموت أرواحهم قبضا ولم يترك لهم حراكا ولا نبضا ومزق الدود لحومهم قددا ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا إلا ما كان من أجساد الأنبياء عليهم أفضل التسليم فإن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء وقد تكلمت على هذا الحديث وأثبت أنه من الصحيح لا السقيم وخرجت طرقه في كتابي العلم المشهور بعون العزيز الرحيم فما أبعد المرء عن رشده وما أقصاه كم وعظه الدهر وكم وصاه يخلط الحقيقة بالمحال والعاطل بالحال ولا توبة حتى يشيب الغراب ويألف الدم التراب فيا لهفي لبعد الدار وانقضاض الجدار وأنت هامة ليل أو نهار وقاعد من عمرك على شفا جرف هار تقرأ العلم وتدعيه ولا تفهمه ولا تعيه فهو عليك لا لك فأولى لك ثم أولى لك أما آن لليل الغي أن تنجلي أحلاكه ولنظم البغي أن تنتثر أسلاكه وأن يستفظع الجاني جناه ويأسف على ما اقترفه وجناه وأن يلبس عهاده بتا ويطلق الدنيا بتا ويفر منها فرار الأسد ويتيقن أنه لا بد من مفارقة الروح الجسد نبهنا الله تعالى من سنات غفلاتنا وحسن ما ساء من صنائعنا الذميمة وسلاتنا وجعل التقوى أحصن عددنا وأوثق آلاتنا اللهم إليك المآب وبيدك المتاب قد واقعنا الخطايا
____________________
(5/117)
وركبنا الاجرام رواحل ومطايا فتب علينا أجمعين وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين الطائعين وصلى الله على سيد ولد آدم محمد شفيعنا يوم القيامة وصاحب الحوض المورود والمقام المحمود والكرامة وعلى آله الطاهرين وأصحابه أهل الرضوان المنتخبين وسلام الله عليه وعليهم إلى يوم الدين انتهى وهو آخر كتابه النبراس في تاريخ بني العباس وذكرته بطوله لمناسبته
قلت وقد سلكت هذا المنحى نظما في خطبة هذا الكتاب كما مر وللسان الدين رحمه الله تعالى كلام قريب من هذا سيأتي في نثره إن شاء الله تعالى
وأقول إني قد تذكرت هنا قول القائل
( نطوي سبوتا وآحادا وننشرها ** ونحن في الطي بين السبت والأحد )
( فعد ما شئت من سبت ومن أحد ** لا بد أن يدخل المطوي في العدد )
وقول آخر
( ألم تر أن الدهر يوم وليلة ** يكران من سبت عليك إلى سبت )
( فقل لجديد العيش لا بد من بلى ** وقل لاجتماع الشمل لا بد من شت ) نبذة عن أعداء لسان الدين
واعلم أن لسان الدين لما كانت الأيام له مسالمة لم يقدر أحد أن يواجهه بما يدنس معاليه أو يطمس معالمه فلما قلبت الأيام له ظهر مجنها وعاملته بمنعها بعد منحها ومنها أكثر أعداؤه في شأنه الكلام ونسبوه إلى الزندقة والانحلال من ربقة الإسلام بتنقص النبي عليه أفضل الصلاة والسلام والقول بالحلول والإتحاد والإنخراط في سلك أهل الإلحاد وسلوك مذاهب الفلاسفة في الاعتقاد وغير ذلك مما أثاره الحقد والعداوة والانتقاد مقالات نسبوها
____________________
(5/118)
إليه خارجة عن السنن السوي وكلمات كدروا بها منهل علمه الروي ولا يدين بها ويفوه إلا الضال الغوي والظن أن مقامه رحمه الله تعالى من لبسها بري وجنابه سامحه الله تعالى عن لبسها عري وكان الذي تولى كبر محنته وقتله تلميذه أبو عبد الله ابن زمرك الذي لم يزل مضمرا لخلته فلقد وقفت على خط ابن لسان الدين على أنه تسبب في قتل لسان الدين ابيه وسيأتي الإلماع والإلمام بابن زمرك المذكور في تلامذة لسان الدين مع أنه أعني لسان الدين حلاه في الإحاطة أحسن الحلى وصدقه فيما انتحله من أوصاف العلا وقد سبق في كلام ولي الدين ابن خلدون أنه قدم على السلطان أبي العباس أحمد المريني في شأن الوزير ابن الخطيب وأخرج إلى مجلس الخاصة وامتحن والمجالس بالأعيان غاصة ولا حول ولا قوة إلى بالله
ومن أعدائه الذين باينوه بعد أن كانوا يسعون في مرضاته سعي العبيد القاضي أبو الحسن ابن الحسن النباهي فكم قبل يده ثم جاهره بعد انتقال الحال وجد في أمره مع ابن زمرك حتى قتل لسان الدين وانقضت دولته فسبحان من لا يتحول ملكه ولا يبيد
وقد سبق فيما جلبناه من كلام ابن خلدون أن القاضي ابن الحسن قدم على السلطان عبد العزيز في شأن لسان الدين والانتقام منه بسبب تلك السجلات وإمضاء حكم الله فيه بمقتضاها فأبى السلطان من ذلك وقال هلا فعلتم أنتم ذلك حين كان عندكم وامتنع لذمته أن يخفره فلما أراد الله بنفوذ الأمر وعدم نفع زيد وعمرو توفي السلطان عبد العزيز واختلت الأحوال واضطربت بالمغرب نيران الأهوال فقدم في شأنه الوزير الكاتب ابن زمرك خادمه الذي رباه وصنيعته فكان ما كان مما سبق به الإلمام
____________________
(5/119)
وقد ذكرنا في الباب الأول قول لسان الدين رحمه الله تعالى في قصيدته النونية
( تلون إخواني علي وقد جنت ** علي خطوب جمة ذات ألوان )
( وما كنت أدري قبل أن يتنكروا ** بأن خواني كان مجمع خواني )
( وكانت وقد حم القضاء صنائعي ** علي بما لا أرتضي شر أعوان )
ولقد صدق رحمه الله تعالى على أنه قال هذه القصيدة في النكبة الأولى التي انتقل فيها مع سلطانه إلى المغرب كما مر مفصلا وكأنه عبر عن هذه المحنة الأخيرة التي ذهبت فيها نفسه على يد صنائعه الكاتب ابن زمرك والقاضي ابن الحسن سامح الله الجميع
ويرحم الله أبا إسحاق التلمساني صاحب الرجز في الفرائض حيث يقول
( الغدر في الناس شيمة سلفت ** قد طال بين الورى تصرفها )
( ما كل من قد سرت له نعم ** منك يرى قدرها ويعرفها )
( بل ربما أعقب الجزاء بها ** مضرة عز عنك مصرفها )
( أما ترى الشمس كيف تعطف بالنور ** على البدر وهعو يكسفها )
وقال لسان الدين بعد ذكره أن ملك النصارى دون جانجه بن دون الفنش استنصر على أبيه بالسلطان المجاهد أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني ولاذ به ورهن عنده تاجه ذخيرة النصارى ولقيه بصخرة عباد من أحواز رندة فسلم عليه ويقال إن أمير المسلمين لما فرغ من ذلك طلب بلسان زناتة الماء ليغسل يده به من قبلة الفنش أو مصافحته ما نصه والشيء بالشيء يذكر فأثبت حكاية اتفقت لي بسبب ذلك أستدعي بها الدعاء ممن يحسن عنده موقعها وهي أن اليهودي الحكيم ابن زرزار على عهد ملك النصارى حفيد هذا الفنش
____________________
(5/120)
المذكور وصل إلينا بغرناطة في بعض حوائجه ودخل إلي بدار سكناي مجاور القصر السلطاني بحمراء غرناطة وعندي القاضي اليوم بغرناطة وغيره من أهل الدولة وبيده كتاب من سلطان المغرب محمد بن أبي عبد الرحمن ابن السلطان الكبير المولى أبي الحسن وكان محمد هذا قد فر إلى صاحب قشتالة واستدعى من قبله إلى الملك فسهل له ذلك وشرط عليه ما شاء وربما وصله خطابه بما لم يقنعه في إطرائه فقال لي مولاي السلطان دن بطره يسلم عليك ويقول لك انظر مخاطبة هذا الشخص وكان بالأمس كلبا من كلاب بابه حتى ترى خسارة الكرامة فيه فأخذت الكتاب من يده وقرأته وقلت له أبلغه عني أن هذا الكلام ما جرك إليه إلا خلو بابك من الشيوخ الذين يعرفونك بالكلاب وبالأسود وبمن تغسل الأيدي منهم إذا قبلوها فتعلم من الكلب الذي تغسل اليد منه ومن لا وإن جد هذا الولد هو الذي قبل جدك يده واستدعى الماء لغسل يده منه بمحضر النصارى والمسلمين ونسبة الجد إلى الجد كنسبة الحفيد للحفيد وكونه لجأ إلى بلادك ليس بعار عليه وأنت معرض إلى اللجإ إليه فيكافئك بأضعاف ما عاملته به فقال أبو الحسن المستقضي يبكي ويقبل يدي ويصفني بولي الله وكذلك من حضرني وتوجه إلى المغرب رسولا فقص علي بني مرين خبر ما شاهده مني وسمعه وبالحضرة اليوم ممن تلقى منه ذلك كثير جعل الله تعالى ذلك خالصا لوجهه انتهى
وقد أثنى لسان الدين في الإحاطة على القاضي ابن الحسن المذكور كما سيأتي وقال في ترجمة السلطان ابن الأحمر ما نصه ثم قدم للقضاء الفقيه الحسيب أبا الحسن وهو عين الأعيان بمالقة الخصوص برسم التجلة والقيام بالعقد والحل فسدد وقارب وحمل الكل وأحسن مصاحبة الخطبة والخطة وأكرم المشيخة مع النزاهة ولم يقف في حسن التأتي على غاية فاتفق على رجاحته ولم يقف في النصح عند غاية انتهى وحين أظلم الجو بينه وبين لسان الدين ذكره في الكتيبة الكامنة بما يباين ما سبق ولقبه بالجعسوس
____________________
(5/121)
ولم يقنعه ذلك حتى ألف فيه خلع الرسن في وصف القاضي ابن الحسن كتاب من النباهي إلى لسان الدين
وقد وقفت بفاس المحروسة على كتاب مطول كتبه ابن الحسن للسان الدين بعد تحوله عن الأندلس ونص ما تعلق به الغرض هنا
فشرعتم في الشراء وتشييد البناء وتركتم الاستعداد لهاذم اللذات هيهات هيهات تبنون ما لا تسكنون وتدخرون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } النساء 78 فأين المهرب مما هو كائن ونحن إنما نتقلب في قدرة الطالب شرقتم أو غربتم الأيام تتقاضى الدين وتنادي بالنفس الفرارة إلى أين إلى أين ونترك الكلام مع الناقد فيما ارتكبه من تزكية نفسه وعد ما جلبه من مناقبه ما عدا ما هدد به من حديد لسانه خشية اندراجه في نمط من قال فيه رسول الله ( إن من شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه ) ولا غيبة فيمن ألقى جلباب الحياء عن وجهه ونرحمه على ما أبداه أو أهداه من العيوب التي نسبها لأخيه واستراح على قوله بها فيه ونذكره على طريقة نصيحة الدين بالحديث الثابت في الصحيح عن رسول الله وهو قوله ( أتدرون من المفلس ) قالوا المفلس فينا من لا دراهم له ولا متاع فقال إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ) ويعلم الله أن معنى هذا الحديث الثابت
____________________
(5/122)
عن النذير الصادق هو الذي حملني على نصحكم ومراجعتكم في كثير من الأمور منها الإشارة عليكم بإذهاب عين ما كتبتم به في التاريخ وأمثاله فإنكم نفعتم بما وقعتم فيه من الغيبة المحرمة أحياء وأمواتا لغير شيء حصل بيدكم وضررتم نفسكم بما رتبتم لهم من المطالبات بنص الكتاب والسنة قبلكم والرضى بهذه الصفقة الخاسرة أمر بعيد من الدين والعقل وقد قلت لكم غير مرة عن أطراسكم المسودة بما دعوتم إليه من البدعة والتلاعب بالشريعة إن حقها التخريق والتحريق وإن من أطراها لكم فقد خدع نفسه وخدعكم والله الشهيد بأني نصحتكم وما غششتكم وليس هذا القول وإن كان ثقيلا عليكم بمخالف كل المخالفة لما ذنبتم به من تقدم المواجهة بالملاطفة والمعاملة بالمكارمة فليست المداراة بقادحة في الدين بل هي محمودة في بعض الأحوال مستحسنة على ما بينه العلماء إذ هي مقاربة في الكلام أم مجاملة بأسباب الدنيا لصلاحها أو صلاح الدين وإنما المذموم المداهنة وهي بذل الدين لمجرد الدنيا والمصانعة به لتحصيلها ومن خالط للضرورة مثلكم وزايله بأخلاقه ونصحه مخاطبة ومكاتبة واستدل له بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله على صحة مقالته فقد سلم والحمد لله من مداهنته وقام لله تعالى بما يجب عليه في حقكم من التحذير والإنكار مع الإشفاق والوجل
وأكثرتم في كتابكم من المن بما ذكرتم أنكم صنعتم وعلى تقدير الموافقة لكم ليتكم ما فعلتم فسلمنا من المعرة وسلمتم وجل القائل سبحانه { قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم } البقرة 263 وقلما شاركتم أنتم في شيء إلا بأغراض حاصلة في يدكم ولأغراض دنيوية خاصة بكم فالملام إذن في الحقيقة إنما هو متوجه إليكم وأما ما أظهرتم بمقتضى حركاتكم وكلامكم من التندم على فراق محلكم والتعلل بأخبار قطركم وأهلكم فتناقض منكم وإن كنتم فيه بغدركم
____________________
(5/123)
( أتبكي علي ليلى وأنت تركتها ** فكنت كآت غيه وهو طائع )
( وما كل ما منتك نفسك مخليا ** تلاقي ولا كل له أنت تابع )
( فلا تبكين في إثر شيء ندامة ** إذا نزعته من يديك النوازع )
وعلى أن تأسفكم لما وقعتم فيه من الغدر لسلطانكم والخروج لا لضرورة غالبة عن أوطانكم من الواجب بكل اعتبار عليكم سيما وقد مددتم إلى التمتع بغيرها عينيكم ولو لم يكن بهذه الجزيرة الفريدة من الفضيلة إلا ما خصت به من بركة الرباط ورحمة الجهاد لكفاها فخرا على ما يجاورها من سائر البلاد قال رسول الله رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه وقال عليه الصلاة والسلام الروحة يروحها العبد في سبيل الله والغدوة خير من الدنيا وما فيها وعلى كل تقدير فإذا لم يكن يا أخي فراركم من الأندلس إلى الله وحده بالتوبة المكملة والاستغفار مع الانقطاع في أحد المواطن المكرمة المعظمة بالإجماع وهي طيبة أو مكة أو بيت المقدس فقد خسرتم صفقة رحلتكم وتبين أن لغير وجه الله العظيم كانت نية هجرتكم اللهم إلا إن كنتم قد لاحظتم مسألة الرجل الذي قتل مائة نفس وسأل أعلم أهل الأرض فأشار عليه بعد إزماع التوبة بمفارقة المواطن التي ارتكب فيها الذنوب واكتسب بها العيوب فأمر آخر مع أن كلام العلماء في هذا الحديث معروف ويقال لكم من الجواب الخاص بكم فعليكم إذا بترك القيل والقال وكسر حبرة الجدال والقتال وقصر ما بقي من مدة العمر على الاشتغال بصالح الأعمال
ووقعت في مكتوبكم كلمات أوردها النقد في قالب الاستهزاء والازدراء والجهالة بمقادير الأشياء ومنها ريح صرصر وهو لغة القرآن وقاع قرقر وهو لفظ سيد العرب والعجم محمد ثبت في الصحيح في باب التغليظ فيمن لا يؤدي زكاة ماله قيل يا رسول الله والبقر والغنم قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان
____________________
(5/124)
يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها الحديث الشهير قال صاحب المعلم بطح لها بقاع قرقر أي ألقي على وجهه والقاع المستوي من الأرض والقرقر كذلك هذا ما حضر من الجواب وبقي في مكتوبكم حشو كثير من كلام إقذاع وفحش بعيد من الحشمة والحياء رأيت من الصواب الإعراض عن ذكره وصون اليد عن الاستعمال فيه والظاهر أنه إنما صدر منكم وأنتم بحال مرض فلا حرج فيه عليكم أنسأ الله تعالى أجلكم ومكن أمنكم وسكن وجلكم ومنه جل اسمه نسأل لي ولكم حسن الخاتمة والفوز بالسعادة الدائمة والسلام الأتم يعتمدكم والرحمات والبركات من كاتبه علي بن عبد الله بن الحسن وفقه الله وذلك بتاريخ أخريات جمادى الأولى من عام ثلاثة وسبعين وسبعمائة
وقيد رحمه الله تعالى في مدرج طي هذا الكتاب ما نصه يا أخي أصلحني الله وإياكم بقي من الحديث شيء من الصواب الخروج عنه لكم إذ هذا أوانه وتأخير البيان عن وقت الحاجة فيه ما فيه وليكون البناء بعد أن كان على أصل صحيح بحول الله وحاصله أنكم عددتم ما شاركتكم فيه بحسب الأوقات وقطعتم بنسبة المور كلها إلى أنفسكم وإنها إنما صدرت عن أمركم وبإذنكم من غير مشارك في شيء منها لكم ثم مننتم بها المن القبيح المبطل لعمل بركم على تقدير التسليم في فعله لكم ورميتم غيركم بالتقصير في حاله كله طريقة من يبصر القذى في عين أخيه ويدع الجذع في عينه وأقصى ما تسنى للمحب أيام كونكم بالأندلس تقلد كلفة قضاء الجماعة وما كان إلا أن وليتها بقضاء الله وقدره فقد تبين لكل ذي عقل سليم أنه لا موجد إلا الله وأنه إذا كان كذلك كان الخير والشر والطاعة والمعصية حاصلا بإيجاده سبحانه وتخليقه وتكوينه من غير عاضد له على تحصيل مراده ولا معين ولكنه جلت قدرته وعد فاعل الخير بالثواب فضلا منه واوعد فاعل الشر بالعقاب عدلا منه وكأني بكم تضحكون من تقرير هذه المقدمة وما أحوجكم إلى
____________________
(5/125)
تأملها بعين اليقين فكابدت أيام تلك الولاية النكدة من النكاية باستحقاركم للقضايا الشرعية وتهاونكم بالأمور الدينية ما يعظم الله به الأجر وذلك في جملة مسائل منها مسألة ابن الزبير المقتول على الزندقة بعد تقضي موجباته على كره منكم ومنها مسألة ابن أبي العيش المثقف في السجن على آرائه المضلة التي كان منها دخوله على زوجه إثر تطليقه إياها بالثلاث وزعمه أن رسول الله أمره مشافهة بالاستمتاع بها فحملتم أحد ناسكم تناول إخراجه من الثقاف من غير مبالاة بأحد ومنها أن أحد الفتيان المتعلقين بكم توجهت عليه المطالبة بدم قتيل وسيق المدعى عليه للذبح بغير سكين فما وسعني ولي الدم وسرحتم الفتى المطلوب على الفور إلى غير ذلك مما لا يسع الوقت شرحه ولا يجمل بي ولا بكم ذكره والمسألة الأخرى أنتم توليتم كبرها حتى جرى فيها القدر بما جرى به من الانفصال والحمد لله على كل حال وأما الرمي بكذا وكذا مما لا علم لنا بسببه ولا عذر لكم من الحق في التكلم به فشيء قلما يقع مثله من البهتان ممن كان يرجو لقاء ربه وكلامكم في المدح والهجو هو عندي من قبيل اللغو الذي نمر به كراما والحمد لله فكثروا أو قللوا من أي نوع شئتم أنتم وما ترضونه لنفسكم وما فهت لكم بما فهت من الكلام إلا على جهة الإعلام لا على جهة الانفعال لما صدر أو يصدر عنكم من الأقوال والأفعال فمذهبي غير مذهبكم وعندي ما ليس عندكم
وكذلك رأيتكم تكثرون في مخاطباتكم من لفظ الرقية في معرض الإنكار لوجود نفعها والرمي بالمنقصة والحمق لمستعملها ولو كنتم قد نظرتم في شيء من كتب السنة وسير الأمة المسلمة نظر مصدق لما وسعكم إنكار ما أنكرتم وكتبه بخط يدكم فهو قادح كبير في عقيدة دينكم فقد ثبت بالإجماع في سورة الفلق أنها خطاب للنبي وانه المراد بها هو وآحاد
____________________
(5/126)
أمته وفي أمهات الإسلام أن رسول الله كان إذا اشتكى رقاه جبريل فقال بسم الله يبريك من كل داء يشفيك ومن شر حاسد إذا حسد ومن شر كل ذي عين وفي الصحيح أيضا أن ناسا من أصحاب رسول الله كانوا في سفر فمروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم فقالوا هل فيكم راق فإن سيد الحي لديغ أو مصاب فقال رجل من القوم نعم فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب فبرئ الرجل فأعطى قطيعا من غنم الحديث الشهير قال أهل العلم فيه دليل على جواز أخذ الأجرة على الرقية والطب وتعليم القرآن وهو قول مالك وأحمد والشافعي وأبي ثور وجماعة من السلف وفيه جواز المقارضة وإن كان ضد ذلك أحسن وفي هذا القدر كفاية وما رقيت قط أحدا على الوجه الذي ذكرتم ولا استرقيت والحمد لله وما حملني على تبيين ما بينته الآن لكم في المسألة إلا إرادة الخير التام لجهتكم والطمع في إصلاح باطنكم وظاهركم فإني أخاف عليكم من الإفصاح بالطعن في الشريعة ورمي علمائها بالمنقصة على عادتكم وعادة المستخف ابن هذيل شيخكم منكر علم الجزيئات القائل بعدم قدرة الرب جل اسمه على جميع الممكنات وأنتم قد انتقلتم إلى جوار أناس أعلام قلما تجوز عليهم حفظهم الله المغالطات فتأسركم شهادة العدول التي لا مدفع لكم فيها وتقع الفضيحة والدين النصيحة أعاذنا الله من درك الشقاء وشماتة الأعداء وجهد البلاء
وكذلك أحذركم من الوقوع بما لا ينبغي في الجناب الرفيع جناب سيد المرسلين وقائد الغر المحجلين صلوات الله وسلامه عليه فإنه نقل عنكم في هذا الباب أشياء منكرة يكبر في النفوس التكلم بها أنتم تعلمونها وهي التي زرعت في القلوب ما زرعت من بغضكم وإيثار بعدكم مع استشعار الشفقة والوجل من وجه آخر عليكم ولولا أنكم سافرتم قبل تقلص ظل السلطنة عنكم لكانت الأمة المسلمة امتعاضا لدينها ودنياها قد برزت بهده الجهات
____________________
(5/127)
لطلب الحق منكم فليس يعلم أنه صدر عن مثلكم من خدام الدول ما صدر عنكم من العيث في الأبشار والأموال وهتك الأعراض وإفشاء الأسرار وكشف الأستار واستعمال المكر والحيل والغدر في غالب الأحوال للشريف والمشروف والخديم والمخدوم ولو لم يكن في الوجود من الدلائل على صحة ما رضيتم به لنفسكم من الاتسام بسوء العهد والتجاوز المحض وكفران النعم والركون إلى ما تحصل من الحطام الزائل إلا عملكم مع سلطانكم مولاكم وابن مولاكم أيده الله بنصره وما ثبت من مقالاتكم السيئة فيه وفي كثير من أهل قطره لكفاكم وصمة لا يغسل دنسها البحر ولا ينسى عارها الدهر فإنكم تركتموه أولا بالمغرب عند تلون الزمان وذهبتم للكدية والأخذ بمقتضى المقامة الساسانية إلى ان استدعاه الملك وتخلصت له بعد الجهد بالأندلس فسقطتم عليه سقوط الذباب على الحلواء وضربتم وجوه رجاله بعضا ببعض حتى خلا لكم الجو وتمكن الأمر والنهي فهمزتم ولمزتم وجمعتم من المال ما جمعتم ثم وريتم بتفقد ثغر الجزيرة الخضراء مكرا منكم فلما بلغتم أرض الجبل انحرفتم عن الجادة وهربتم بأثقالكم الهروب الذي أنكره عليكم كل من بلغه حديثكم أو يبلغه إلى أخر الدهر في العدوتين من مؤمن وكافر وبر وفاجر فكيف يستقيم لكم بعد المعرفة بتصرفاتكم حازم أو يثق بكم في قول أو فعل صالح أو طالح ولو كان قد بقي لكم من العقل ما تتفكرون به في الكيفية التي ختمتم بها عملكم بالأندلس من الزيادة في المغرم وغير ذلك مما لكم وزره ووزر من عمل به بعدكم إلى يوم القيامة حسبما ثبت في الصحيح لحملكم على مواصلة الحزن وملازمة الأسف والندم عى ما أوقعتم فيه نفسكم الأمارة من التورط والتنشب في أشطان الآمال ودسائس الشيطان ونعوذ بالله من شرور الأنفس وسيئات الأعمال
وأما قولكم عن فلان إنه كان حشرة في قلوب اللوز وإن فلانا كان برغوثا في تراب الخمول فكلام سفساف يقال لكم من الجواب عليه وأنتم يا هذا أين كنتم منذ خمسين سنة مثلا خلق الله الخلق لا استظهارا بهم
____________________
(5/128)
ولا استكثارا وأنشأهم كما قدر أحوالا واطوارا واستخلفهم في الأرض بعد أمة أمما وبعد عصر أعصارا وكلفهم شرائعه وأحكامه ولم يتركهم هملا وامرهم ونهاهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } الحجرات 13 وبكل اعتبار فلا نعلم في نمط الطلبة تدريجا كان أسمج من تدريجكم ونبدأ من كذا فإنه كان كذا وأكثر أهل زمانه تحملا وتقللا في نفسه بالنسبة إلى منصبه كان الشيخ أبو الحسن ابن الجياب ولكنه حين علم رحمه الله تعالى من نشأتكم وحالتكم ما علم نبذ مصاهرتكم وصرف عليكم صداقكم وكذلك فعلت بنت جزي زوج الرهيصي معكم حسبما هو مشهور في بلدكم وذكرتم أنكم ما زلتم من أهل الغنى حيث نقرتم بذكر العرض وهو بفتح العين والراء حطام الدنيا على ما حكى أبو عبيد وقال أبو زيد هو بسكون الراء المال الذي لا ذهب فيه ولا فضة وأي مال خالص يعلم لكم أو لأبيكم بعد الخروج من الثقاف على ما كان قد تبقى عنده من مجبى قرية مترايل ثم من العدد الذي برز قبلكم أيام كانت أشغال الطعام بيدكم على ما شهد به الجمهور من أصحابكم وأما الفلاحة التي أشرتم إليها فلا حق لكم فيها إذ هي في الحقيقة لبيت مال المسلمين مع ما بيدكم على ما تقرر في الفقهيات والمعدوم شرعا كالمعدوم حسا ولو قبل من أهل المعرفة بكم بعض ما لديكم من سقطاتكم في القال والقيل ولم يصرف إلى دفع معرتها عنكم وجه التأويل لكانت مسألتكم ثانية لمسألة أبي الخير بل أبي الشر الحادثة أيام خلافة الحكم المسطورة في نوازل أبي الأصبغ ابن سهل فاعلموا ذلك ولا تهملوا إشارتي عليكم قديما وحديثا بلزوم الصلوات وحضور الجماعات وفعل الخيرات والعمل على التخلص من التبعات { إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور } لقمان 33
____________________
(5/129)
وقلم في كتابكم أين الخطط المتوارثة عن الآباء والأجداد وقد أذهب الله عنا ببركة الملة المحمدية عيبة الجاهلية في التفاخر بالآباء ولكني أقول لكم على جهة المقابلة لكلامكم إن كانت الإشارة إلى المجيب بهذا فمن المعلوم المتحقق عند أفاضل الناس أنه من حيث الأصالة أحد أماثل قطره قال القاضي أبو عبد الله ابن عسكر وقد ذكر في كتابه من سلفى فلان بن فلان ما نصه وبيته بيت قضاء وعلم وجلالة لم يزالوا يرثون ذلك كابرا عن كابر استقضى جده المنصور ابن أبي عامر وقاله غيره وغيره وبيدي من عهود الخلفاء وصكوك الأمراء المكتتبة بخطوط أيديهم من لدن فتح جزيرة الأندلس وإلى هذا العهد القريب ما تقوم به الحجة القاطعة للسان الحاسد والجاحد والمنة لله وحده وإن كانت الإشارة للغير من الأصحاب في الوقت حفظهم الله فكل واحد منهم إذا نظر إليه بعين الحق وجد أقرب منكم نسبا للخطط المعتبرة وأولى بميراثها بالفرض والتعصيب او مساويا على فرض المسامحة لكم قال رسول الله المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره حرام دمه وماله وعرضه
ونرجع إلى طريقة أخرى فنقول من كان يا فلان من قومكم في عمود نسبكم نبيها مشهورا أو كاتبا قبلكم معروفا أو شاعرا مطبوعا أو رجلا نبيها مذكورا ولو كان يالوشي وكان لكان من الواجب الرجوع إلى التناصف والتواصل والتواضع وترك التحاسد والتباغض والتقاطع إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم وكذلك العجب كل العجب من تسميتكم الخربات التي شرعتم في بنائها بدار السلامة وهيهات هيهات المعروف من الدنيا أنها دار بلاء وجلاء وعناء وفناء ولو لم يكن من الموعظة الواقعة بتلك الدار في الوقت إلا موت سعيدكم عند دخولها لأغناكم عن العلم اليقين بمآلها
وأظهرتم سرورا كثيرا بما قلتم إنكم نلتم حيث أنتم من الشهوات التي
____________________
(5/130)
ذكرتم أن منها الإكثار من الأكل والخرق والقعود بإزاء جارية الماء على نطع الجلد والإمساك أولى بالجواب على هذا الفصل فلا خفاء بما فيه من الخسة والخبائث والخبث وبالجملة فسرور العاقل إنما ينبغي أن يكون بما يجمل تقدمه من زاد التقوى للدار الباقية فما العيش كما قال رسول الله إلا عيش الآخرة فقدموا إن قبلتم وصاة الحبيب أو البغيض بعضا عسى أن يكون لكم ولا تخلفوا كلا يكون عليكم هذا الذي قلته لكم وإن كان لدى من يقف عليه من نمطه الكثير فهو باعتبار المكان وما مر من الزمان في حيز اليسير وهو في نفسه قول حق وصدق ومستند أكثره كتاب الله وسنة محمد رسول الله وعلى سائر أنبيائه فاحمدوا الله العلي العظيم على تذكيركم به إذ هو جار مجرى النصيحة الصريحة يسرني الله وإياكم لليسرى وجعلنا ممن ذكر فانتفع بالذكرى والسلام انتهى كلام القاضي ابن الحسن النباهي في كتابه الذي خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى ظهير من إنشاء لسان الدين بتولية النباهي خطة القضاء
وأين هذا الكلام الذي صدر من ابن الحسن في حقه من إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى في تولي ابن الحسن المذكور القضاء وهو
هذا ظهير كريم انتج مطلوب الاختيار قياسه ودل على ما يرضي الله عز وجل التماسه وأطلع نور العناية الذي يجلو الظلام نبراسه واعتمد بمثابة العدل من عرف بافتراع هضبتها ناسه وألقى بيد المعتمد به زمام الاعتقاد الجميل تروق أنواعه وأجناسه وشيد مبنى العز الرفيع في قبة الحسب المنيع وكيف لا والله بانيه والمجد أساسه أمر به وأمضى العمل بمقتضاه وحسبه أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر أيد الله أوامره وخلد مفاخره لقاضي حضرته العليا وخطيب حمرائه السنية المخصوص لديه بترفيع المزية
____________________
(5/131)
المصروف إليه خطاب القضاة بإيالته النصرية قاضي الجماعة ومصرف الأحكام الشرعية المطاعة الشيخ الكذا أبي الحسن ابن الشيخ الكذا أبي محمد ابن الحسن وصل الله سعادته وحرس مجادته وسنى من فضله إرادته عصب منه جبين المجد بتاج الولاية واجال قداح الاختيار حتى بلغ الغاية وتجاوز النهاية ما ألقى منه بيمين عرابة الراية وأحله منه محل اللفظ من المعنى والإعجاز من الآية وحشر إلى مدعاة ترفيعه وجوه البر وأعيان العناية وأنطق بتبجيله ألسن أهل جيله بين الإفصاح والكناية ولما كان له الحسب الأصيل الذي شهدت به ورقات الدواوين والأصالة التي قامت عليها صحاح البراهين والآباء الذين اعتد بمضاء قضائهم الدين وطبق مفاصل الحكم بسيوفهم الحق المبين وازدان بمجالسة وزرائهم السلاطين فمن فارس حكم أو حكيم تدبير وقاض في الأمور الشرعية ووزير أو جامع بينهما جمع سلامة لا جمع تكسير تعدد ذلك واطرد ووجد مشرع المجد عذبا فورد وقصرت النظراء عن مداه فانفرد وفرى الفري في يد الشرع فأشبه السيف البرد وجاء في أعقابهم محييا لما درس بما حقق ودرس جانيا لما بذر السلف المبارك واغترس طاهر النشأة وقورها محمود السجية مشكورها متحليا بالسكينة حالا من النزاهة بالمكانة المكينة ساحبا أذيال الصون بعيدا عن الإتصاف بالفساد من لدن الكون فخطبته الخطط العلية واغتبطت به المجادة الأولية واستعملته دولته التي ترتاد أهل الفضائل للرتب واستظهرت على المناصب بأبناء التقى والحسب والفضل والمجد والأدب ممن يجمع بين الطارف والتالد والإرث والمكتسب فكان معدودا من عدول قضاتها وصدور نبهائها وأعيان وزرائها وأولي آرائها فلما زان الله تعالى خلافته بالتمحيص المتحلي من التخصيص وخلص ملكه الأصيل كالذهب الإبريز بعد التخليص كان ممن
____________________
(5/132)
صحب ركابه الطالب للحق بسيف الحق وسلك في مظاهرته أوضح الطرق وجادل من حاده بأمضى من الحداد الذلق واشتهر خبر وفائه في الغرب والشرق وصلى به صلاة السفر والحضر والأمن والحذر وخطب به في الأماكن التي بعد بذكر الله عهدها وخاطب عنه أيده الله تعالى المخاطبات التي حمد قصدها حتى استقل ملكه فوق سريره وابتهج منه الإسلام بأميره وابن أميره ونزل الستر على العباد والبلاد ببركة إيالته ويمن تدبيره وكان الجليس المقرب المحل والحظي المشاور في العقد والحل والرسول المؤتمن على الأسرار والأمين على الوظائف الكبار مزين المجلس السلطاني بالوقار ومتحف الملك بغريب الأخبار وخطيب منبره العالي في الجمعات وقارىء الحديث لديه في المجتمعات
ثم رأى أيده الله تعالى أن يشرك رعيته في نفعه ويصرف عوامل الحظوة على مزيد رفعه ويجلسه مجلس الشارع صلوات الله عليه لإيضاح شرعه وأصله الوثيق وفرعه وقدمه أعلى الله تعالى قدمه وشكر آلاءه ونعمه قاضيا في الأمور الشرعية وفاصلا في القضايا الدينية بحضرة غرناطة العلية تقديم الإختيار والانتقاء وأبقى له فخر السلف على الخلف والله سبحانه يمتعه بطول البقاء فليتول ذلك عادلا في الحكم مهتديا بنور العلم مسويا بين الخصوم حتى في لحظة والتفاته متصفا من الحلم بأفضل صفاته مهيبا في الدين رؤوفا بالمؤمنين جزلا في الأحكام مجتهدا في الفصل بأمضى حسام مراقبا لله عز وجل في النقض والإبرام
وأوصاه بالمشورة التي تقدح زناد التوفيق والتثبت حتى ينتج قياس التحقيق بارا بمشيخة أهل التوثيق عادلا إلى سعة الأقوال عند المضيق سائرا من مشورة المذهب على أهدى طريق وصية أصدرها له مصدر الذكرى التي تنفع ويعلي الله بها الدرجات ويرفع وإلا فهو عن الوصاة غني وقصده قصد سني والله عز وجل ولي إعانته والحارس من التبعات أكناف ديانته
____________________
(5/133)
والكفيل بحفظه من الشبهات وصيانته
وأمر أيده الله تعالى أن ينظر في الأحباس على اختلافها والأوقاف على شتى أصنافها واليتامى التي انسدلت كفالة القضاة على إضعافها فيذود عنها طوارق الخلل ويجري أمورها بما يتكفل لها بالأمل وليعلم أن الله عز وجل يراه وأن فلتات الحكم تعاوده المراجعة في أخراه فيدرع جنة تقواه وسبحان من يقول { إن الهدى هدى الله }
فعلى من يقف عليه أن يعرف أمر هذا الإجلال صائنا منصبه من الإخلال مبادرا أمره الواجب بالامتثال بحول الله وكتب في الثالث من شهر الله المحرم فاتح عام أربعة وستين وسبعمائة عرف الله سبحانه فيه هذا المقام العي عوارف النصر المبين والفتح القريب بمنه وكرمه فهو المستعان لا رب غيره انتهى ظهير من إنشائه بتولية ابن زمرك كتابه السر
ونظير هذا ما أنشأه لسان الدين على لسان سلطانه للكاتب أبي عبد الله ابن زمرك حين تولى كتابه السر ونصه
هذا ظهير كريم نصب المعتمد به للأمانة الكبرى ببابه فرفعه وأفرد له متلو العز وجمعه وأوتره وشفعه وقربه في بساط الملك تقريبا فتح له باب السعادة وشرعه وأعطاه لواء القلم الأعلى فوجب على من دون رتبته من أولي صنعته أن يتبعه ورعى له وسيلة السابقة عند استخلاص الملك لما ابتزه الله من يد الغاصب وانتزعه وحسبك من زمام لا يحتاج إلى شيء معه أمر به أمير الله تعالى له وجه العناية أبهى من الصبح الوسيم وأقطعه جناب الإنعام الجسيم وأنشقه آراج الحظوة عاطرة النسيم ونقله من كرسي التدريس والتعليم إلى
____________________
(5/134)
مرقى التنويه والتكريم والرتبة التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم وجعل أقلامه جيادا لإجالة أمره العلي وخطابه السني في ميدان الأقاليم ووضع في يده أمانة القلم الأعلى جاريا من الطريقة المثلى على المنهج القويم واختصه بمزية الشفوف على كتاب بابه والتقديم لما كان ناهض الفكر في طلبة حضرته زمن البداية ولم تزل تظهر عليه لأولي التمييز مخايل هذه العناية فإن حضر في حلق العلم جلي في حلبة الحفاظ إلى الغاية وإن نظم أو نثر أتى بالقصائد المصقولة والمخاطبات المنقولة فاشتهر في بلده وغير بلده وصارت أزمة العناية طوع يده بما أوجب له المزية في يومه وغده
وحين رد الله عليه ملكه الذي جبر به جناح الإسلام وزين وجوه الليالي والأيام وأدال الضياء من الإظلام كان ممن وسمه الوفاء وشهره وعجم الملك عود خلوصه وخبره فحمد أثره وشكر ظاهره ومضمره واستصحب على ركابه الذي صحب اليمن سفره وأخلصت الحقيقة نفره وكفل الله ورده وصدره ميمون النقيبة حسن الضريبة صادقا في الأحوال المريبة ناطقا عن مقامه بالمخاطبات العجيبة واصلا إلى المعاني البعيدة بالعبارة القريبة مبرزا في الخدم الغريبة حتى استقام العماد ونطق بصدق الطاعة الحي والجماد ودخلت في دين الله أفواجا العباد والبلاد لله الحمد على نعمه الثرة العهاد وآلائه المتوالية الترداد رعى له أيده الله هذه الوسائل وهو أحق من يرعاها وشكر له الخدم المشكور مسعاها فنص عليه الرتبة الشماء التي خطبها بوفائه وألبسه أثواب اعتنائه وفسح له مجال آلائه وقدمه أعلى الله قدمه كاتب السر وأمين النهي والأمر تقديم الاختيار بعد الاختبار والاغتباط بخدمته الحسنة الآثار وتيمن باستخدامه قبل الحلول بدار الملك والاستقرار وغير ذلك من موجبات الإكبار
____________________
(5/135)
فليتول ذلك عارفا بمقداره مقتفيا لآثاره مستعينا بالكتم لأسراره والاضطلاع بما يحمد من أمانته وعفافه ووقاره معطيا هذا الرسم حقه من الرياسة عارفا بأنه أكبر أركان السياسة حتى يتأكد الاغتباط بتقريبه وإدنائه وتتوفر أسباب الزيادة في إعلائه وهو إن شاء الله غني عن الوصاة فهما ثاقبا يهتدي بضيائه وهو يعمل في ذلك أقصى العمل المتكفل ببلوغ الأمل وعلى من يقف عليه من حملة الأقلام والكتاب الأعلام وغيرهم من الكافة والخدام أن يعرفوا قدر هذه العناية الواضحة الأحكام والتقديم الراسخ الأقدام ويوجبوا ما أوجب من البر والإكرام والإجلال والإعظام بحول الله وكتب في كذا انتهى
فانظر صانني الله وإياك من الأغيار وكفانا شر من كفر الصنيعة التي هي على النقص عنوان ومعيار إلى حال الوزير لسان الدين ابن الخطيب مع هذين الرجلين القاضي ابن الحسن والوزير ابن زمرك اللذين تسببا في هلاكه حتى صار أثرا بعد عين مع تنويهه بهما في هذا الإنشاء وغيره وتفيئهما كما هو معلوم ظلال خيره فقابلاه بالغدر وأظهرا عند الإمكان حقد القلب وغل الصدر وسددا لقتله سهاما وقسيا وصيرا سبيل الوفاء نسيا منسيا ولا حول ولا قوة إلا بالله ظهير ثالث بإضافة الخطابة إلى القضاء للنباهي
ومن إنشاء لسان الدين في حق القاضي ابن الحسن أيضا حيث أضيفت إليه الخطابة إلى القضاء على لسان سلطانه
هذا ظهير كريم أعلى رتبة الاحتفاء اختيارا واختبارا وأظهر معاني الكرامة والتخصيص انتقاء واصطفاء وإيثارا ورفع لواء الجلالة على من اشتمل عليه حقيقة واعتبارا ورقى في درجات العز من طاولها على بهر أنوارا ودينا
____________________
(5/136)
كرم في الصالحات آثارا وزكا في الأصالة نجارا وخلوصا إلى هذا المقام العلي السعيد الذي راق إظهارا وإضمارا أمر به وأمضاه وأنفذ حكمه ومقتضاه أمير المسلمين عبد الله محمد إلى آخره للشيخ الكذا القاضي العدل الأرضي قاضي الجماعة وخطيب الحضرة العلية المخصوص لدى المقام العلي بالحظوة السنية والمكانة الحفية الموقر الفاضل الحافل الكامل المبرور أبي الحسن ابن الشيخ الفقيه الوزير الأجل الأعز الماجد الأسنى المرفع الأحفل الأصلح المبارك الأكمل الموقر المبرور المرحوم أبي محمد ابن الحسن وصل الله عزته ووالى رفعته ومبرته ووهب له من صلة العناية الربانية أمله وبغيته لما أصبح في صدور القضاة العلماء مشارا إلى جلاله مستندا إلى معرفته المخصوصة بكماله مطرزا على الإفادة العلمية والأدبية بمحاسنه البديعة وخصاله محفوفا مقعد الحكم النبوي ببركة عدالته وفضل خلاله وحل في هذه الحضرة العلية المحل الذي لا يرقاه إلا عين الأعيان ولا يثوي مهاده إلا مثله من أبناء المجد الثابت الأركان ومؤملي العلم الواضح البرهان والمبرزين بالمآثر العلية في الحسن والإحسان وتصدر لقضاء الجماعة فصدرت عنه الأحكام الراجحة الميزان والأنظار الحسنة الأثر والعيان والمقاصد التي وفت بالغاية التي لا تستطاع في هذا الميدان فكم من قضية جلا بمعارفه مشكلها ونازلة مبهمة فتح بإدراكه مقفلها ومسألة عرف نكرتها وقرر مهملها حتى قرت بعدالته وجزالته العيون وصدقت فيه الآمال الناجحة والظنون وكان في تصديره لهذه الولاية العظمى من الخير والخيرة ما عسى أن يكون كان أحق بالتشفيع لولايته وأولى وأجدر بمضاعفة النعم التي لا تزال ترادف على قدره الأعلى فلذلك أصدر له أيده الله هذا الظهير الكريم مشيدا بالترفيع والتنويه ومؤكدا للإحتفاء الوجيه وقدمه أعلى الله قدمه وشكر نعمه خطيبا بالجامع الأعظم من حضرته مضافا ذلك إلى ولايته ورفيع منزلته مرافقا لمن بالجامع الأعظم عمره الله بذكره من علية الخطباء وكبار العلماء وخيار النبهاء الصلحاء فليتداول ذلك في جمعاته
____________________
(5/137)
مظهرا في الخطة أثر بركاته وحسناته عاملا على ما يقربه عند الله من مرضاته ويظفره بجزيل مثوباته بحول الله وقوته انتهى
فهذا ثناء لسان الدين المرحوم على القاضي ابن الحسن وإشادته بذكره وبإشارته وتدبيره ولي قضاء القضاة وخطابة الجامع الأعظم بغرناطة وهذان المنصبان لم يكن في الأندلس في ذلك الزمان من المناصب الدينية أجل منهما ولما حصل للسان الدين رحمه الله تعالى ما حصل من النفرة عن الأندلس وإعمال الحيلة في الإنفصال عنها لعلمه أن سعايات ابن زمرك وابن الحسن ومن يعضدهما تمكنت فيه عند سلطانه خلص منها على الوجه الذي قدمناه وشمر القاضي ابن الحسن عن ساعد أذايته والتسجيل عليه بما يوجب الزندقة كما سبق جميعه مفصلا فحينئذ أطلق لسان الدين عنان قلمه في سب المذكور وثلبه وأورد في كتابه الكتيبة الكامنة في أبناء المائة الثامنة من مثالبة ما أنسى ما سطره صاحب القلائد في ابن باجة المعروف بابن الصائغ حسبما نقلنا ذلك أعني كلام الفتح في غير هذا الموضع ولم يقتنع بذلك حتى ألف الكتاب الذي سماه بخلع الرسن كما ألمعنا به فيما سبق والله سبحانه يتجاوز عن الجميع بمنه وكرمه نماذج من براعة لسان الدين في القدح
واعلم أن لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى الغاية في المدح والقدح فتارة على طريق الترسل وطورا على غيرها وقد اقذع وبالغ رحمه الله تعالى في هجو أعدائه بما لا تحتمله الجبال وهو اشد من وقع النبال ومنه ما وصف به الوزير الذي كان استوزره السلطان إسماعيل بن الأحمر الثائر على سلطان ابن الخطيب حسبما سبق الإلمام بذلك والوزير هو إبراهيم بن أبي الفتح الأصلع الغوي إذ قال في المذكور وفي ابن عمه محمد بن إبراهيم بن أبي الفتح العقرب
____________________
(5/138)
الردى بعد كلام ما صورته
وما ظنك برجل مجهول الجد موصوم الأبوة إلى أن قال تنور خبز وبركة مرقة وثعبان حلواء وفاكهة مغي في شح النفس متهالك في مسترذل الطبع عليه العذيوط الغبي ابن عمه بسذاجة زعموا مع كونه قبيح الشكل بشيع الطلعة إلى أن قال وفي العشر الأول من رمضان عام واحد وستين وسبعمائة تقبض على الوزير المشؤوم وابن عمه الغوي الغشوم وولد الغوي مرسل الظفيرة أبعد الناس في مهوى الاغترار يختال في السرق والحيلة سم من سم القوارير وابتلاء من الله لذوي الغيرة يروح نشوان العشيات يرقص بين يديه ومن خلفه عدد من الأخلاف يعاقرون النبيذ في السكك الغاصة وولد العقرب الردي بضده قماءة وتقطبا تنبو عنهما العيون ويبكي منهما الخز كأنهما صمتا عند المحاورة وإظلاما عند اللألاء من أذلاء بني النضير ومهتضمي خيبر فثقفا مليا وبودر بهما إلى ساحل المنكب
قال المخبر فما رأيت منكوبين أقبح شكلا ولا أفقد صبرا من ذينك التيسين الحبقين صلع الرؤوس ضخام الكروش مبهوري الأنفاس متلجلجي الألسنة قد ربت بمحل السيف من عنق كل جبار منهما شحمة أترجية كأنها سنام الحوار لا يثيرون دمعا ولا يستنزلون رحمة ولا يمهدون عذرا ولا يتزودون من كتاب الله آية قد طبع الله على قلوبهم وأخذهم ببغيهم وعجل لهم سوء سعيهم وللحين أركبوهم وجراءهم يعني أولادهم في جفن غزوي تحف بهم المساعير من الرجال واقتفى بهم أثر قرقورة تحمل حاجا إلى الإسكندرية تورية بالقصد فلما لججوا قذف بهم في لجة بعد استخلاص
____________________
(5/139)
ما ضبثوا به وتلكأ الأصلع الغوي فأثبت بجراحة أشعر بها هديه واختلط العقرب الردي فنال من جناب الله سخطا وضيقا تعالى الله عن نكيره فكان فرعون هذا الزمان جبروتا وعتوا وميتة عجل الله لهم العذاب وأغرقهم في اليم
فانظر كيف كان عاقبة الظالمين فسبحان من لا تضيع الحقوق مع عدله ولا تنفسخ الآماد منازعة رداء كبريائه مرغم الأنوف وقاطع دابر الكافرين وفي ذلك أقول مستريحا وإن لم يكن علم الله تعالى شاني ولا تكرر في ديواني
( وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ** ولكن من يبصر جفونك يعشق )
ومن أمثالهم من استغضب فلم يغضب فهو حمار والله سبحانه يقول ومن أصدق من الله قيلا { وجزاء سيئة سيئة مثلها } الشورى 40 والعفو أقرب للتقوى والقرب والبعد بيده سبحانه وصدرت هذه الكلمة لحين تعرف إجلائهم في الجفن إلى الإسكندرية وبعد ذلك صح هلاكهم
( كن من صروف الردى على حذر ** لا يقبل الدهر عذر معتذر )
( ولا تعول فيه على دعة ** فأنت في قلعة وفي سفر )
( فكل ري يفضي إلى ظمإ ** وكل أمن يدعو إلى غرر )
( كم شامخ الأنف ينثني فرحا ** بال عليه زمانه وخري )
( قل للوزير البليد قد ركضت ** في ربعك اليوم غارة الغير )
( يا ابن أبي الفتح نسبة عكست ** فلا بفتح أتت ولا ظفر )
( وزارة لم يجد مقلدها ** عن شؤمها في الوجود من وزر )
( في طالع النحس حزت رتبتها ** وكل شيء في قبضة القدر )
____________________
(5/140)
( أي اختبار لم تأل نصبته ** في جسد للنحوس أو نظر )
( بات له المشتري على غير ** وأحرقت فيه قرصة القمر )
( يا طللا ما عليه من عمل ** يا شجرا ما لديه من ثمر )
( يا مفرط الجهل والغباوة لا ** يحسب إلا من جملة البقر )
( يا دائم الحقد والفظاظة لا ** يفرق ما بين ظالم وبري )
( يا كمد اللون ينطفي كمدا ** من حسد يستطير بالشرر )
( يا عدل سرج يا دن مقتعد ** ملآن من ريبة ومن قذر )
( يا واصلا للجشاء ناشئة الليل ** ورب الضراط في السحر )
( من غير لب ولا مراقبة ** لله في مورد ولا صدر )
( يا خاملا جاهه الفروج يرى ** صهر أولي الجاه فخر مفتخر )
( كانوا نبيطا في الأصل أو حبشا ** ما عنده عبرة بمعتبر )
( يا ناقص الدين والمروءة والعقل ** ومجري اللسان بالهذر )
( يا ولد السحق غير مكتتم ** حديثه يا ابن فاسد الدبر )
( يا بغل طاحونة يدور بها ** مجتهد السير مغمض البصر )
( في أشهر عشرة طحنتهم ** فيا رحى الشؤم والبوار در )
( والله ما كنت يا مشوم ولا ** أنت سوى عرة من العرر )
( ومن أبو الفتح في الكلاب وهل ** لجاهل في الأنام من خطر )
( قد ستر الدهر منك عورته ** وكان لليوم غير مستتر )
( حانوت بز يمشي على فرش ** وثور عرس يختال في حبر )
( لا منة تتقى لمعترك ** ولا لسان يبين عن خبر )
( ولا يد تنتمي إلى كرم ** ولا صفاء يريح من كدر )
( عهدي بذاك الجبين قد ملئت ** غصونه الغبر بالدم الهدر )
____________________
(5/141)
( عهدي بذاك القفا الغليظ وقد ** مد لوقع المهند الذكر )
( أهدتك للبحر كف منتقم ** ألقتك للحوت كف مقتدر )
( يا يتم أولادك الصغار ويا ** حيرتهم بعد ذاك في الكبر )
( يا ثكل تلك الصماء أمهم ** وظاعن الموت غير منتظر )
( والله لا نال من تخلفه ** من أمل بعدها ولا وطر )
( والله يا مسخفان لا انتقلت ** رجلك منها إلا إلى سفر )
( ألحفك الله بالهوان ولا ** رعاك فيمن تركت من عرر )
( ما عوقب الليل بالصباح وما ** تقدم البرق عارض المطر )
انتهى وقال موريا بدم الأخوين في شأن سلطان تلك الدولة الذي أضحى أثرا بعد عين
( بإسماعيل ثم أخيه قيس ** تأذن ليل همي بانبلاج )
( دم الأخوين داوى جرح قلبي ** وعالجني وحسبك من علاج )
وهذه تورية بديعة لأن الأطباء يقولون إن من خاصية دم الأخوين النفع من الجراح
وقال رحمه الله تعالى قلت في رأس الغادر بالدولة حين عرض علي
( في غير حفظ الله من هامة ** هام بها الشيطان في كل واد )
( ما تركت حمدا ولا رحمة ** في فم إنسان ولا في فؤاد )
وقال أيضا في تلك الدولة بعد كلام ما نصه
وانتدب قاضيهم الشيخ المتراخي الدبر والفك المنحل العصب والعقدة
____________________
(5/142)
المعرق في العمومية المشهور بقبول الرشوة أبو فلان ابن فلان الغريب الاسم والولاية ومفتيهم معدن الرياء والهوادة والبعد عن التخصص والحشمة والمثل في العماه والطرف في التهالك في الحطام فلان البناء المسخر في بناء الحفيرة المستخدم في دار ابنه أجيرا مختضبا بالطين مضايقا في رمق العيشة وحسبك به دليلا على الحياء وفضل البنوة فلفقوا من خيوط العناكب شبهات تقلدوا بها حل العقد الموثق ديدنهم في معارضة صلب الملة بالآراء الخبيثة يتحكم الوقاح منهم في الحكم الذي نزل به شديد القوى على الذي لا ينطق عن الهوى بحسب شهوته تحكمه في غزل أمه إيثارا للعاجل واسترابة بالوعيد ففسخوا النكاح وحللوا محرم البضع للدائل وقد تأذن الله بفسخه وأجرى دمه نقدا قبل دفع فقده سبحانه حكم الحكام وقاهر الظلام وباء مشيخة السوء بلعنة الله وسوء الأحدوثة ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا انتهى
ومن كلامه في نفاضة الجراب وقد ذكر وزير المغرب محمد بن علي ابن مسعود ما ملخصه وإنه مجنون أحول العين وحش النظرة يظن به الغضب في حال الرضى يهيج به المرار فيكمن زمانا خلف كلة مرقده يدخل إليه وعاء الحاجتين خوفا من إصحاره إلى فضاء منزله وتوحشه من أهله وولده إلى أن تضعف سورة المرة فيخف أمره قد باين زوجه مع انسحاب رواق الشبيبة وتوفر داعية الغبطة لحلف جره الوسواس السوداوي نستدفع بالله شر بلائه فاستعان مستوزره منه برأي الفضل بن سهل ويحيى بن خالد وأمثالهما تدارك الله رمق الإسلام بلطفه انتهى في عتاب ابن أبي رمانة
ولما دخل لسان الدين رحمه الله تعالى مدينة مكناسة الزيتون تأخر قاضيها الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي رمانة عن لقائه يوم وصوله
____________________
(5/143)
فكتب إليه ما نصه
( جفا ابن أبي رمانة وجه مقدمي ** ونكب عني معرضا وتحاماني )
( وحجب عني حبه غير جاهل ** بأني ضيف والمبرة من شاني )
( ولكن رآني مغربيا محققا ** وأن طعامي لم يكن حب رمان )
زيارة القاضي أصلحه الله لمثلي ممن لا يخافه ولا يرجوه تجب من وجوه أولها كوني ضيفا ممن لا يعد على الاختبار زيفا ولا تجر مؤانسته حيفا فضلا عن أن تشرع رمحا أو تسل سيفا وثانيها أني أمت إليه من الطلب بنسب بين موروث ومكتسب وقاعدة الفضل قد قررها الحق وأصلها والرحم كما علم تدعو لمن وصلها وثالثها المبدأ في هذا الغرض ولكن الواو لا ترتب إلا بالعرض وهو اقتفاء سنن المولى ايده الله في تأنيسي ووصفه إياي بمقربي وجليسي ورابعها وهو عدة كيسي وهزبر خيسي وقافية تجنيسي ومقام تلويني وتلبيسي مودة رئيس هذا الصنف العلمي ورئيسي فليت شعري ما الذي عارض هذه الأصول الأربعة ورجح مذاهبها المتبعة إلا أن يكون عمل أهل المدينة ينافيها فهذا بحسب النفس ويكفيها وإن تعذر لقاء أو استدعاء وعدم طعام أو وعاء ولم يقع نكاح ولا استرعاء فلم يتعذر عذر يقتضيه الكرم والمنصب المحترم فالجلة إلى التماس الحمد ذات استباق والعرف بين الله والناس باق والغيرة على لسان مثله مفروضة والأعمال معروضة والله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة وإن كان لدى القاضي في ذلك عذر فليفده وأولى الأعذار به أنه لم يقصده والسلام انتهى
ويعني بالمولى السلطان أبا سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني وبرئيس
____________________
(5/144)
هذا الصنف العلامة الخطيب أبا عبد الله ابن مرزوق رحم الله الجميع رسالته إلى ابن مرزوق ينصحه برفض الدنيا
ومن كلام لسان الدين رحمه الله تعالى رسالة في أحوال خدمة الدولة ومصائرهم وتنبيههم على النظر في عواقب الرياسة بعيون بصائرهم عبر فيها عن ذوق ووجدان وليس الخبر كالعيان وخاطب بها الإمام الخطيب عين الأعيان سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق وكأنه أعني لسان الدين أشار ببعض فصولها إلى نفسه ونطق بالغيب في نكبته التي قادته إلى رمسه وكان ذلك منه عندما أراد التخلي عن خدمة الملوك والتحلي بزينة أهل التصوف والسلوك فلم يرد الله أن تكون مهجته نائية عن ساحة الظلمة خارجة وأراد سامحه الله وغفر له عمرا وأراد الله خارجة وصورة ما قاله رحمه الله تعالى
وأحسست منه يعني ابن مرزوق في بعض كتبه الواردة إلي صاغية إلي الدنيا وحنينا لما بلاه من غرورها فحملني الطور الذي ارتكبته في هذه الأيام بتوفيق الله على أن أخاطبه بهذه الرسالة وحقها أن يجعلها خدمة الملوك ممن ينسب إلى نبل ويلم بمعرفة مصحفا يدرسه وشعارا يلتزمه وهي
سيدي الذي يده البيضاء لم تذهب بشهرتها المكافاة ولم تختلف في مدحها الأفعال ولا تغايرت الصفات ولا تزال تعترف بها العظام الرفات أطلقك الله من أسر كل الكون كما أطلقك من أسر بعضه وزهدك في سمائه الفانية وفي أرضه وحقر الحظ في عين بصيرتك بما يحملك على رفضه اتصل بي الخبر السار من تركك لشأنك وإجناء الله تعالى إياك ثمرة إحسانك وإنجياب ظلام الشدة الحالك عن أفق حالك فكبرت وفي الفرج من بعد الشدة اعتبرت لا بسوى ذلك من رضى مخلوق يؤمر فيأتمر ويدعوه القضاء فيبتدر إنما هو فيء وظل ليس له من الأمر شيء ونسأله جل وعلا أن يجعلها آخر عهدك بالدنيا
____________________
(5/145)
وبنيها وأول معارج نفسك التي تقربها من الحق وتدنيها وكأني والله أحس بثقل هذه الدعوة على سمعك ومضادتها ولا حول ولا قوة إلا بالله لطبعك وأنا أنافرك إلى العقل الذي هو قسطاس الله تعالى في عالم الإنسان والآلة لبث العدل والإحسان والملك الذي يبين عنه ترجمان اللسان فأقول
ليت شعري ما الذي غبط سيدي بالدنيا وإن بلغ من زبرجها الرتبة العليا ونفرض المثال بحال إقبالها ووصل حبالها وخشوع جبالها وضراعة سبالها ألتوقع المكروه صباحا ومساء وارتقاب الحوالة التي تديل من النعيم البأساء ولزوم المنافسة التي تعادي الأشراف والرؤساء الترتب العتب على التقصير في الكتب وضغينة جار الجنب وولوع الصديق بإحصاء الذنب ألنسبة وقائع الدولة إليك وأنت بري وتطويقك الموبقات وأنت منها عري ألاستهدافك للمضار التي تنتجها غيرة الفروج والأحقاد التي تضبطها ركبة السروج وسرحة المروج ونجوم السماء ذات البروج ألتقليدك التقصير فيما ضاقت عنه طاقتك وصحت إليه فاقتك من حاجة لا يقتضي قضاءها الوجود ولا يكفيها الركوع للملك والسجود ألقطع الزمان بين سلطان يعبد وسهام للغيوب تكبد وعجاجة شر تلبد وأقبوحة تخلد وتؤبد ألوزير يصانع ويداري وذي حجة صحيحة يجادل في مرضاة السلطان ويماري وعورة لا توارى ألمباكرة كل قرن حاسد وعدو مستاسد وسوق للإنصاف والشفقة كاسد وحال فاسد ألوفود تتزاحم بسدتك مكلفة لك غير ما في طوقك فإن لم يقع الإسعاف قلبت عليك السماء من فوقك ألجلساء ببابك لا يقطعون زمان رجوعك وإيابك إلا بقبيح اغتيابك فالتصرفات تمقت والقواطع توقت والألاقي تبث والسعايات تحث والمساجد يشتكي في حلقها البث يعتقدون أن السلطان في يدك بمنزلة الحمار المدبور واليتيم المحجور والأسير المأمور ليس له شهوة ولا غضب ولا أمل في الملك
____________________
(5/146)
ولا أرب ولا موجدة لأحد كامنه وللشر ضامنة وليس في نفسه عن رأي نفرة ولا بإزاء ما لا يقبله نزوة ولا طفرة إنما هو جارحة لصيدك وعان في قيدك وآلة لتصرف كيدك وأنك علة حيفه ومسلط سيفه
الشرار يسملون عيون الناس باسمك ثم يمزقون بالغيبة مزق جسمك قد تنخلهم الوجود أخبث ما فيه واختارهم السفيه فالسفيه إذ الخير يستره الله تعالى عن الدول ويخفيه ويقنعه بالقليل فيكفيه فهم يمتاحون بك ويولونك الملامة ويفتحون عليك القول ويسدون طرق السلامة وليس لك في أثناء هذه إلا ما يعوزك مع ارتفاعه ولا يفوتك مع انقشاعه وذهاب صداعه من غذاء يشبع وثوب يقنع وفراش ينيم وخديم يقعد ويقيم وما الفائدة في فرش تحتها جمر الغضا ومال من ورائه سوء القضا وجاه يحلق عليه سيف منتضى وإذا بلغت النفس إلى الالتذاذ بما لا تملك واللجاج حول المسقط الذي تعلم أنها فيه تهلك فكيف تنسب إلى نبل أو تسير من السعادة في سبل وإن وجدت في القعود بمجلس التحية بعض الأريحية فليت شعري أي شيء زادها او معنى أفادها إلا مباكرة وجه الحاسد وذي القلب الفاسد ومواجهة العدو المستاسد أو شعرت ببعض الإيناس في الركوب بين الناس ما التذت إلا بحلم كاذب أو جذبها غير الغرور جاذب إنما راكبك من يحدق إلى الحلية والبزة ويستطيل مدة العزة ويرتاب إذا حدثت بخبرك ويتتبع بالنقد والتجسس مواقع نظرك ويمنعك من مسايرة أنيسك ويحتال على فراغ كيسك ويضمر الشر لك ولرئيسك وأي راحة لمن لا يباشر قصده ويمشي إذا شاء وحده
ولو صح في هذه الحال لله تعالى حظ وهبه زهيدا وعين الرشد عملا حميدا لساغ الصاب وخفت الأوصاب وسهل المصاب لكن الوقت أشغل والفكر أوغل والزمن قد عمرته الحصص الوهمية واستنفدت منه الكمية أما ليله ففكر أو نوم وعتب بجزاء الضرائر ولوم وأما يومه فتدبير
____________________
(5/147)
وقبيل ودبير وأمور يعيا بها ثبير وبلاء مبير ولغط لا يدخل فيه حكم كبير وأنا بمثل ذلك خبير ووالله يا سيدي ومن فلق الحب وأخرج الأب وذرأ من مشى ومن دب وسمى نفسه الرب لو تعلق المال الذي يجره هذا القدح ويوري سقيطه هذا القدح بأذيال الكواكب وزاحمت البدر بدره بالمناكب لما ورثه عقب ولا خلص به محتقب ولا فاز به سافر ولا منتقب والشاهد الدول والمشائيم الأول
فأين الرباع المقتناة وأين الديار المبتناة وأين الحوائط المغترسات وأين الذخائر المختلسات وأين الودائع المؤملة وأين الأمانات المحملة تأذن الله بتتبيرها وإدناء نار التبار من دنانيرها فقلما تلقى أعقابهم إلا أعراء الظهور مترمقين لجرايات الشهور متعللين بالهباء المنثور يطردون من الأبواب التي حجب عنها آباؤهم وعرف منها إباؤهم وشم من مقاصيرها عنبرهم وكباؤهم ولم تسامحهم الأيام إلا في إرث محرر أو حلال مقرر وربما محقه الحرام وتعذر منه المرام
هذه أعزك الله حال قبولها مع الترفيه ومالها المرغوب فيه وعلى فرض أن يستوفي العمر في العز مستوفيه وأما ضده من عدو يتحكم وينتقم وحوت بغي يبتلع ويلتقم ومطبق يحجب الهواء ويطيل في الترب الثواء وثعبان قيد بعض الساق وشؤبوب عذاب يمزق الأبشار الرقاق وغيلة يهديها الواقب الغاسق ويجرعها العدو الفاسق فصرف السوق وسلعته المعتادة الطروق مع الأفول والشروق فهل في شيء من هذا مغتبط لنفس حرة أو ما يساوي جرعة حال مرة واحسرتا للأحلام ضلت وللأقدام زلت ويا لها مصيبة جلت
ولسيدي أن يقول حكمت باستثقال الموعظة واستجفائها ومراودة الدنيا بين خلانها وأكفائها وتناسي عدم وفائها فأقول الطبيب بالعلل أدرى والشفيق بسوء الظن مغرى وكيف لا وأنا أقف على السحاءات بخط يد سيدي
____________________
(5/148)
من مطارح الاعتقال ومثاقف النوب الثقال وخلوات الاستعداد للقاء الخطوب الشداد ونوشى الأسنة الحداد وحيث يجمل بمثله أن لا يصرف في غير الخضوع لله تعالى بنانا ولا يثني لمخلوق عنانا وأتعرف أنها قد ملأت الجو والدو وقصدت الجماد والبو تقتحم أكف أولي الشمات وحفظة المذمات وأعوان النوب الملمات زيادة في الشقاء وقصدا بريا من الاختيار والانتقاء مشتملة من التجاوز على أغرب من العنقاء ومن النفاق على أشهر من البلقاء فهذا يوصف بالإمامة وهذا يجعل من أهل الكرامة وهذا يكلف الدعاء وليس من أهله وهذا يطلب منه لقاء الصالحين وليسوا من شكله إلى ما أحفظني والله من البحث عن السموم وكتب النجوم والمذموم من العلوم هلا كان من ينظر في ذلك قد قوطع بتاتا وأعتقد أن الله قد جعل لزمان الخير والشر ميقاتا وانا لا نملك موتا ولا نشورا ولا حياتا وأن اللوح قد حصر الأشياء محوا وإثباتا فكيف نرجو لما منع منالا أو نستطيع مما قدر إفلاتا أفيدونا ما يرجح العقيدة المتقررة فنتحول إليه وبينوا لنا الحق ونعول عليه
الله الله يا سيدي في النفس المرشحة والذات المحلاة بالفضائل الموشحة والسلف الشهير الخير والعمر المشرف على الرحلة بعد حث السير ودع الدنيا لبنيها فما أوكس حظوظهم وأخس لحوظهم وأقل متاعهم وأعجل إسراعهم وأكثر عناءهم وأقصر آناءهم
( ما ثم إلا ما رأيت ** وربما تعيي السلامة )
( والناس إما جائر ** أوحائر يشكو ظلامه )
( وإذا أردت العز لا ** ترزأ بني الدنيا قلامه )
( والله ما احتقب الحريص ** سوى الذنوب أو الملامة )
( هل ثم شك في المعاد ** الحق أو يوم القيامة )
( قولوا لنا ما عندكم ** أهل الخطابة والإمامة )
____________________
(5/149)
وإن رميت بأحجاري وأوجرت المر من أشجاري فوالله ما تلبست اليوم منها بشيء قديم ولاحديث ولا استأثرت بطيب فضلا عن خبيث وما أنا إلا عابر سبيل وهاجر مرعى وبيل ومرتقب وعدا قدر فيه الإنجاز وعاكف على حقيقة لا تعرف المجاز قد فررت من الدنيا كما يفر من الأسد وحاولت المقاطعة حتى بين روحي والجسد وغسل الله قلبي ولله الحمد من الطمع والحسد فلم أبق عادة إلا قطعتها ولا جنة للصبر إلا ادرعتها أما اللباس فالصوف وأما الزهد فيما بأيدي الخلق فمعروف وأما المال الغبيط فعلى الصدقة مصروف ووالله لو علمت أن حالي هذه تتصل وعراها لا تنفصل وأن ترتيبي هذا يدوم ولا يحيرني الوعد المحتوم والوقت المعلوم لمت أسفا وحسبي الله وكفى
ومع هذا يا سيدي فالموعظة تتلقى من لسان الوجود والحكمة ضالة المؤمن يطلبها ببذل المجهود ويأخذها من غير اعتبار بمحلها المذموم ولا المحمود ولقد أعملت نظري فيما يكافىء عني بعض يدك أو ينتهي في الفضل إلى أمدك فلم أر لك اللدنيا كفاء هذا لو كنت صاحب دنيا وألفيت بذل النفس قليلا لك من غير شرط ولا ثنيا فلما ألهمني الله لمخاطبتك بهذه النصيحة المفرغة في قالب الجفاء لمن لا يثبت عين الصفاء ولا يشيم بارقة الوفاء ولا يعرف قاذورة الدنيا معرفة مثلي من المتدنسين بها المنهمكين وينظر عوارها القادح بعين اليقين ويعلم أنها المومسة التي حسنها زور وعاشقها مغرور وسرورها شرور تبين لي أنني قد كافيت صنيعتك المتقدمة وخرجت عن عهدتك الملتزمة وامحضت لك النصح الذي يعز بعز الله ذاتك ويطيب حياتك ويحيي مواتك ويريح جوارحك من الوصب وقلبك من النصب ويحقر الدنيا وأهلها في عينك إذا اعتبرت ويلاشي عظائمها لديك إذا اختبرت
كل ما تقع عينك عليه فهو حقير قليل وفقير ذليل ولا يفضلك
____________________
(5/150)
بشيء إلا باقتفاء رشد أو ترك غي أثوابه النبيهة يجردها الغاسل وعروة عزه يفصلها الفاصل وماله الحاضر الحاصل يعيث فيه الحسام القاصل والله ما تعين للخلف إلا ما تعين للسلف ولا مصير المجموع إلا إلى التلف ولا صح من الهياط والمياط والصياح والعياط وجمع القيراط إلى القيراط والاستظهار بالوزعة والأشراط والخبط والخباط والاستكثار والاغتباط والغلو والاشتطاط وبناء الصرح وعمل الساباط ورفع العمد وإدارة الفسطاط إلا أمل يذهب القوة وينسي الآمال المرجوة ثم نفس يصعد وسكرات تتردد وحسرات لفراق الدنيا تتجدد ولسان يثقل وعين تبصر الفراق وتمقل { قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون } ص 67 ثم القبر وما بعده والله منجز وعيده ووعده فالإضراب الإضراب والتراب التراب
وإن اعتذر سيدي بقلة الجلد لكثرة الولد فهو ابن مرزوق لا ابن رزاق وبيده من التسبب ما يتكفل بإمساك أرماق أين النسخ الذي يتبلغ الإنسان بأجرته في كن حجرته لا بل السؤال الذي لا عار عند الحاجة بمعرته السؤال والله أقوم طريقا وأكرم رفيقا من يد تمتد إلى حرام لا يقوم بمرام ولا يؤمن من ضرام أحرقت فيه الحلل وقلبت الأديان والملل وضربت الأبشار ونحرت العشار ولم يصل منه على يدي واسطة السوء المعشار ثم طلب عند الشدة ففضح وبان شؤمه ووضح اللهم طهر منها أيدينا وقلوبنا وبلغنا من الإنصراف إليك مطلوبنا وعرفنا بمن لا يعرف غيرك ولا يسترفد إلا خيرك يا ألله
وحقيق على الفضلاء إن جنح سيدي منها إلى إشارة أو أعمل في اجتلابها إضبارة أو لبس منها شارة أو تشوف لخدمة إمارة أن لا يحسنوا ظنونهم بعدها بابن ناس ولا يغتروا بسمة ولا خلق ولا لباس فما عدا عما بدا تقضى العمر في سجن وقيد وعمرو وزيد وضر وكيد وطراد صيد وسعد وسعيد وعبد وعبيد فمتى تظهر الأفكار ويقر القرار وتلازم
____________________
(5/151)
الأذكار وتشام الأنوار وتستجلي الأسرار ثم يقع الشهود الذي يذهب معه الإخبار ثم يحق الوصول الذي إليه من كل ما سواه الفرار وعليه المدار
وحق الحق الذي ما سواه فباطل والفيض الرحماني الذي ربابه الأبد هاطل ما شابت مخاطبتي لك شائبة تريب ولقد محضت لك ما يمحضه الحبيب للحبيب فتحمل جفائي الذي حملت عليه الغيرة ولا تظن بي غيره وإن لم تعذرني مكاشفة سيادتك بهذا النث في الأسلوب الرث فالحق أقدم وبناؤه لايهدم وشأني معروف في مواجهة الجبابرة على حين يدي إلى رفدهم ممدودة ونفسي في النفوس المتهافتة عليهم معدودة وشبابي فاحم وعلى الشهوات مزاحم فكيف بي اليوم مع الشيب ونصح الجيب واستكشاف العيب إنما أنا اليوم على كل من عرفني كل ثقيل وسيف العدل في كفي صقيل أعذل أهل الهوى وليست النفوس في القبول سوا ولا لكل مرض دوا وقد شفيت صدري وإن جهلت قدري فاحملني حملك الله تعالى على الجادة الواضحة وسحب عليك ستر الأبوة الصالحة والسلام
انتهت الرسالة البديعة في بابها الآتية من الموعظة بلبابها ذات النصيحة الصريحة التي يتعين على كل عاقل خصوصا من يريد خدمة الملوك التمسك بأسبابها تعليقات ابن مرزوق وابن لسان الدين على الرسالة
قلت وقد رأيت بخط الإمام العلامة الخطيب ابن مرزوق على هامش قول لسان الدين أول الكلام وأحسست منه في بعض كتبه إلى آخره ما صورته توهم ما لا يقع بل لما تجلت عني سحب النكبة والامتحان جزمت بالرحلة وعزمت على النقلة ونفرت عن خدمة السلطان وملازمة الأوطان قال ابن
____________________
(5/152)
مرزوق والعجب كل العجب أن جميع ما خاطبني به أبقاه الله تعالى تحلى به أجمع وابتلى بما منه حذر كأنه خاطب نفسه وأنذرها بما وقع له فالله تعالى يحسن له الخاتمة والخلاص انتهى
وكتب تحت كلام ابن مرزوق هذا بخطه ابن لسان الدين علي ما نصه صدق والله سيدي أبو عبد الله ابن مرزوق كان الله تعالى له قاله ولده ابن المؤلف انتهى
قلت وهذا الذي قاله ابن مرزوق كان في حياة ابن الخطيب ولذلك دعا له بالبقاء وبحسن الخاتمة والخلاص وقد أسفر الغيب عن محنته ثم قتله على الوجه الذي وصفه أثناء هذه الرسالة إذ قال وأما ضده من عدو يتحكم وينتقم وحوت بغي يبتلع ويلتقم ومطبق يحجب الهواء ويطيل في التراب الثواء وثعبان قيد يعض الساق وشؤبوب عذاب يمزق الأبشار الرقاق وغيلة يهديها الواقب الغاسق ويجرعها العدو الفاسق فصرف السوق وسلعته المعتادة الطروق مع الأفول والشروق فإنه رحمه الله تعالى حصل له ما ذكر ثم اغتاله ليلا وخنقه في محبسه عدوه الفاسق سليمان بن داود كما تقدمت الإشارة إلى ذلك فالله تعالى يثيبه بهذه الشهادة مرثية المنجنيقي
وقد تذكرت هنا مرثية ابن صابر المنجنيقي وهي
( هل لمن يرتجي البقاء خلود ** وسوى الله كل شيء يبيد )
( والذي كان من تراب وإن عاش ** طويلا إلى التراب يعود )
( فمصير الأنام طرا لما صار ** إليه آباؤهم والجدود )
( أين حوا أن أين آدم إذ فاتهما ** الملك والثوا والخلود )
____________________
(5/153)
( أين هابيل أين قابيل إذ هذا ** لهذا معاند وحسود )
( أين نوح ومن نجا معه بالفلك ** والعالمون طرا فقيد )
( أسلمته الأيام كالطفل للموت ** ولم يغن عمره الممدود )
( أين عاد بل أين جنة عاد ** إرم أين صالح وثمود )
( أين إبراهيم الذي شاد بيت الله ** فهو المعظم المقصود )
( أين إسحاق أين يعقوب أم أين ** بنوه وعدهم والعديد )
( حسدوا يوسفا أخاهم فكادوه ** ومات الحساد والمحسود )
( وسليمان في النبوة والملك ** قضى مثلما قضى داود )
( ذهبا بعدما أطاع لذا الخلق ** وهذا له ألين الحديد )
( وابن عمران بعد آياته التسع ** وشق الخضم فهو صعيد )
( والمسيح ابن مريم وهو روح الله ** كادت تقضي عليه اليهود )
( وقضى سيد النبيين والهادي ** إلى الحق أحمد المحمود )
( وبنوه وآله الطاهرون الزهر ** صلى عليهم المعبود )
( ونجوم السماء منتثرات ** بعد حين وللهواء ركود )
( ولنار الدنيا التي توقد الصخر ** خمود وللمياه جمود )
( وكذا للثرى غداة يقوم الناس ** منها تزلزل وهمود )
( هذه الأمهات نار وترب ** وهواء رطب وماء برود )
( سوف تفنى كما فنينا فلا يبقى ** من الخلق والد ووليد )
( لا الشقي الغوي من نوب الأيام ** ينجو ولا السعيد الرشيد )
( ومتى سلت المنايا سيوفا ** فالموالي حصيدها والعبيد ) العبرة من مراث أخرى
وأما قصيدة ابن عبدون الأندلسي التي رثى بها بني الأفطس وذكر فيها
____________________
(5/154)
كثيرا من الملوك الذين أبادهم الدهر وطحنهم برحاه وصيرهم أثرا بعد عين ففيها ما يوقظ النوام وأولها
( الدهر يفجع بعد العين بالأثر ** فما البكاء على الأشباح والصور )
وبالجملة فالأمر كما قال ابن الهبارية
( الموت لا يبقي أحد ** ولا والدا ولا ولد )
( مات لبيد ولبد ** وخلد الفرد الصمد )
{ كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } اللهم اختم لنا بالحسنى وردنا إليك ردا جميلا
وتذكرت هنا أيضا مرثية على روي مرثية المنجنيقي السابقة منها
( أين أهل الديار من قوم نوح ** ثم عاد من بعدهم وثمود )
( بينما هم على الأسرة والأنماط ** أفضت إلى التراب الخدود )
( ثم لم ينقض الحديث ولكن ** بعد ذا الوعد كله والوعيد )
( وأطباء بعدهم لحقوهم ** ضل عنهم سعوطهم واللدود )
( وصحيح أضحى يعود مريضا ** وهو أدنى للموت ممن يعود )
وما أحكم قول السلطان أبي علي ابن السلطان أبي سعيد المريني يخاطب أخاه السلطان أبا الحسن وقد حصره بسجلماسة حتى أخذه قسرا
( فلا يغرنك الدهر الخئون فكم ** أباد من كان قبلي يا أبا الحسن )
( الدهر مذ كان لا يبقي على صفة ** لا بد من فرح فيه ومن حزن )
( أين الملوك التي كانت تهابهم ** أسد العرين ثووا في اللحد والكفن )
( بعد الأسرة والتيجان قد محيت ** رسومها وعفت عن كل ذي حسن )
( فاعمل لأخرى وكن بالله مؤتمرا ** واستعن بالله في سر وفي علن )
____________________
(5/155)
( واختر لنفسك أمرا أنت آمره ** كأنني لم أكن يوما ولم تكن )
ودخل السلطان أبو الحسن سجلماسة عنوة على أخيه السلطان أبي علي عمر سنة 734 وجاء به في الكبل لفاس ثم قتله بالفصد والخنق في ربيع الأول من السنة وكان القبض عليه في المحرم رحمه الله تعالى
ومما وجد مكتوبا على قصر بعض السلاطين
( قد كان صاحب هذا القصر مغتبطا ** في ظل عيش يخاف الناس من باسه )
( فبينما هو مسرور بلذته ** في مجلس اللهو مغبوط بجلاسة )
( إذ جاءه بغتة ما لا مرد له ** فخر ميتا وزال التاج عن راسه )
رجع إلى أخبار لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى قلت وقد زرت قبره مرارا رحمه الله تعالى بفاس المحروسة فوق باب المدينة الذي يقال له باب الشريعة وهو يسمى الآن باب المحروق وشاهدت موضع دفنه غير مستو مع الأرض بل ينزل إليه بانحدار كثير ويزعم الجل من عوام فاس أن الباب المذكور إنما سمي بباب المحروق لأجل ما وقع من حرق لسان الدين به حين أخرجه بعض أعدائه من حفرته كما مر وليس كذلك وإنما سمي باب المحروق في دولة الموحدين قبل أن يوجد لسان الدين ولا أبوه بسبب ثائر ثار على الدولة فأمسك وأحرق في ذلك المحل والله غالب على أمره وحصل لي من الخشوع والحزن عند زيارة قبره رحمه الله تعالى ما لا مزيد عليه جعل الله له تلك المحن كفارة وطهره فإنه كان آية الله علما وجلالة وحكمة وشهرة رسالة في العزاء بأبي جعفر ابن جبير
وقد تذكرت عند كتبي هذا المحل رسالة كتبها بعض أئمة المغرب في عزاء
____________________
(5/156)
الوزير الشهير أبي جعفر ابن جبير الأندلسي رحمه الله تعالى إلى بنيه وهي مما يصلح أن يوصف بمثلها لسان الدين رحمه الله تعالى وفيها عزاء بمن مضى ونصها
عزاء يا كواكب الهدى في بدركم الذي تحيفه الردى وفجع به الفضل والندى فقل لشهب أن تنكدر على فراقه وللصبح أن يخبو نور إشراقه وللريح أن تمزق صدارا وللأهلة أن لا تعرف إبدارا ولليل أن يشتمل خميصة الحزن وللسماء أن تبكيه بأدمع المزن وللرعد أن ينتحب لوفاته وللبرق أن يحكي برجفاته أفئدة عفاته وللثريا أن ينفصم سوارها وللشمس أن تنكسف أنوارها وللنثرة أن تنثر كواكبها وللجوزاء أن تنفض مناكبها وللنيرات أن ترفض مواكبها وللرامح أن يبيت أعزلا وللبدر أن لا يألف منزلا وللمجرة أن يفيض دمعا نهرها وللغميصاء أن يطرد بكاؤها وسهرها وللروض أن يفارق إمراعه وللأوراق أن يهتف بما راعه وللغصون أن تنهصر لهتفه وتتقصف أسفا على حتفه
ولكن هو الحمام يختل ويختر ولا يحفل بمن يتر يعدم ما أوجده الكون ويذيل من أكنفه الصون وأين بنا عن مكافح لا نقاتله ورام أرواحنا مقاتله لا يد به ناصرة وعزمته قاصرة للقياصرة ويمينه كاسرة للأكاسرة لم يبق من رسم لطسم ولا من إحسان لغسان ولا من أياد لإياد ولا من سلطان لقحطان ولا من نجيب لتجيب ولاشرف ضخم للخم لم يكن له عن اليمنيين إقصار ومنهم الأنصار وهم أسماع للنبي وأبصار وعمد إلى المصابيح من مضر يطفيها هذا والوحي يتنزل فيها ولم يصخ في الصديق إلى التصديق وأصمى الفاروق برداه وحكم فيه أبا لؤلؤة ومداه وأمكن صرف الأقدار من شهيد الدار ولم يرع من علي بالبسالة والذبل العسالة ولا أبقى سبطيه وقد تفقأت عنهما بيضة الرسالة وأذهب الزبير حواري الرسول وحنظلة وهو بأيدي الملائكة مغسول وأفات ابن معاذ ولم
____________________
(5/157)
يحفل بفوته على أنه اهتز العرش لموته وأودى بحمزة ومقعده من النبوة مقعد الأبوة وشفى من عمار صدور الأسل وأردى مالكا بشربة من عسل ولم يعبأ بمضاء عمرو ولا بحلم معاوية ودهاء عمرو
فيا له من خطب مود بكل يابس ورطب يشرب ماء الأعمار ويجعل الأحداث منازل الأقمار ويلوك السوقة والأملاك ولا يبالي أيه لاك لا يقبل شفيعا ولا يغادر منحطا ولا رفيعا ها هو اعتمد نور علا فكسفه وطود حلم فنسفه وأعلق المجد في حباله وأقصد الفضل بنباله وفجع كنانة بسهم لم ينثل مثله من كنانة فيا طارق الأعين لقد بؤت بأنفس الأعلاق ويا ناعيه لقد نعيت باسق الأخلاق رويدا أسائلك عمن لم تضع لديه وسائلك أين سماحه وطلاقته أين كلفه بالحمد وعلاقته ما الذي ثنى عطفه من الارتياح أم أين عافيه من ذلك الإمتياح أم من يؤلف أمنية كما ألفت السحب أيدي الرياح
فيا هبة الحمد اطوي عرفك فما تنشق ويا ربة المجد أقصري طرفك فما تعشق ويا معشر عفاته كيف حييتم وقد علمتم بوفاته ويا زمر أماله صفرت أيديكم من إجماله ويا أخاير صحابه أين مواقع سحابه ويا بني ولائه من يتبوأ مقام علائه ويا منافسي شيمه من يجود بمثل ديمه ويا منازعي كرمه من يطيف المعتفين بمثل حرمه ويا حاسدي هممه من له كحفاظه وذممه
سيدي لقد أضاءت مساعيك وأشرقت وأغصت الحاسدين طرا وأشرقت وحسبهم أن لم ينتبهوا إلا إذا نمت ولا نطقوا إلا حين مت وليهن ملاك وصحبك أن أحيتك صنائعك وقد قضيت نحبك وإن حم فناؤك فقد أبقى الحياة الخالدة ثناؤك
____________________
(5/158)
( ردت صنائعه عليه حياته ** فكأنه من نشرها منشور )
( والناس مأتمهم عليه واحد ** في كل دار أنه وزفير )
سيدي أما تجيب صرخة لهفان أم عداك عن الجواب أنك فان سيدي من لآملك ببسط أناملك من للمرملات الضرائك بإرشادك وآرائك من لقربائك بصلتك وحبائك من لأخيك بمواثق أواخيك من لأبنائك بلطف أحبائك انفض شملهم وكان جميعا ونادوك لو نادوا منك سميعا هذاكبيرهم يدعوك فلا تجيبه وقد فت الأضلاع وجيبه يبكي عند تلك الرجام بأدمع سجام وقد ألهبت الزفرات حشاه وألح الدمع بجفنه حتى أعشاه والأصاغر ما لهم بعدك مفزع ورضيعهم تسلب به الأنفس رحمة وتنزع لا يدري ما جزع عليك فيجزع لشد ما أذابتهم وقدة الأوار حين عدموا منك كرم النجوى والجوار أف لدهر رماهم بالأجوار وتركهم أنجما مسلوبة الأنوار لا جرم أن يحزنوا عليك ويكترثوا فلقد تسلوا عنك ببعض ما ورثوا وما ورثتهم غير الحزن والبث وأمل في الحياة كالهباء المنبث كما تتلى محاسنك فاسمع طفقت عليك شؤون عيني تدمع أيا ضريحة كيف وجدت ريحه لقد أرج بك ذلك المعفر حتى ما ينافحه المسك الأذفر وكما ظفرت بوجوده فجد كل قبر بجوده ففيه سماء ثرة وغمام ونور انضم عليه منك كمام ولو علمت بمن بين جنبيك راقد لعلوت حتى تلوح في ذراك الفراقد ويا دافنيه كيف هلتم عليه الرغام أولم تنكروا على الشمس أن تغام هيهات لقد سمحتم بإقبار عف الشمائل طيب الأخبار وإلحاد من لا نزاع في فضله ولا إلحاد أي نفس تخذتم له التراب مستودعا فأضحى عرنين المكارم مجدعا
( فتى مثل نصب السيف من حيث جئته ** لنائبة نابتك فهو مضارب )
( فتى همه حمد على النأي رابح ** وإن بات عنه ماله وهو عازب )
____________________
(5/159)
أما وإن ازدحمت بمهلكه الأوصاب وفدح الرزء وجل المصاب حتى لا نألف التأساء فلقد سر الموت من حيث ساء خلفنا بدهر ما فيه غير مصائب ولا يبالي من أقصد سهمه الصائب فيا فقيد الندى ما كان أجدرك بالخلود وأخلقك ويا جواد عمره ما كان أقصر طلقك ثوى حين استوى وتوارى إذ ملأ الأفق أنوارا وكسف حين بلغ الكمال فكان كالغصن عندما اعتدل مال أو كالشهاب عندما استقام حار
( وكذاك عمر كواكب الأسحار ** )
هذه اليراعة التحفت بعده الضنى والصحف تطوي على جهالة وتحني وعهدي به إن امتطى راحته اليراع راع أو دبج الأوراق راق أو استدر طبعه السلسال سال وأي روض أراد راد ومتى أراغ الإنشاء أحسن إن شاء فحق للفؤاد أن يستعر بوقده وللمدامع أن تسيل دما على فقده بيد أنه الموت لا بد أن نرد مشرعه ونسيغ على شرق به جرعه فإنا زرع يحصده الذي ازدرعه وصبرا يا ذوي أرحامه وبنيه ومن مر في غلواء الوجد فالسلوان يثنيه وشحا على أجركم لا يذهب به الجزع ويفنيه والله يزلف الفقيد من رحمته ويدنيه ويقطفه زهر رضوانه ويجنيه وييسر لكم العزاء الأجمل برحمته ويسنيه والسلام انتهت قطع زهدية
ويرحم الله القائل
( كل جمع إلى الشتات يصير ** أي صفو ما شابه تكدير )
____________________
(5/160)
( أنت في اللهو والأماني مقيم ** والمنايا في كل وقت تسير )
( والذي غره بلوغ الأماني ** بسراب وخلب مغرور )
( ويك يا نفس أخلصي إن ربي ** بالذي أخفت الصدور بصير )
ولا خفاء على ذوي الأحلام من الأعلام أن الدنيا أضغاث أحلام
( يندم المرء على ما فاته ** من لبانات إذا لم يقضها )
( وتراه فرحا مستبشرا ** بالتي أمضى كأن لم يمضها )
( إنها عندي كأحلام الكرى ** لقريب بعضها من بعضها )
وقال أبو منصور أسعد النحوي
( يجمع المرء ثم يترك ما يجمع ** من كسبه لغير شكور )
( ليس يحظى إلا بذكر جميل ** أو بعلم من بعده مأثور ) شيء من مواعظ ابن الجوزي
وقال الإمام الشهير أبوالفرج ابن الجوزي
( يا ساكن الدنيا تأهب ** وانتظر يوم الفراق )
( وأعد زادا للرحيل ** فسوف يحدى بالرفاق )
( وابك الذنوب بأدمع ** تنهل من سحب المآق )
( يا من أضاع زمانه ** أرضيت ما يفنى بباق )
وكان ابن الجوزي المذكور آية الله في كثرة التأليف والكتابة والوعظ
____________________
(5/161)
والحفظ وأقل من كان يحضر مجلسه عشرة آلاف وربما حضر عنده مائة ألف وقال في آخر عمره على المنبر كتبت بإصبعي هاتين ألفي مجلدة وتاب على يدي مائة ألف وأسلم على يدي عشرون ألف يهودي ونصراني وأسمع رحمه الله تعالى الناس أكثر من أربعين سنة وحدث بمصنفاته مرارا
وقال الحافظ الذهبي في حقه الحافظ الكبير الواعظ المفتن صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة في العلوم المتعددة وعظ من صغره وفاق فيه الأقران ونظم الشعر المليح وكتب بخطه ما لا يوصف ورأى من القبول والإحترام ما لا مزيد عليه وحزر مجلسه غير مرة بمائة ألف وحضر مجلسه المستضيء مرارا من وراء الستر انتهى
ومن كلامه في بعض مجالسه والله ما اجتمع لأحد أمله إلا وسعى في تفريقه أجله وعقارب المنايا تلسع الناس وخدران جسم الأمل يمنع الإحساس
وقال في قوله أعمار أمتي من الستين إلى السبعين إنما طالت أعمار القدماء لطول البادية فلما شارفت الركب بلد الإقامة قيل حثوا المطي
وقال في الذين عبدوا العجل لو أن الله خار لهم ما خار لهم
وقال يوما وقد طرب أهل المجلس فهمتم فهمتم
وقال في خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد أن ذكر أحاديث تدل على خلافته كقوله مروا أبا بكر فليصل بالناس وغيره ما صورته فهذه أحاديث تجري مجرى النص فهمها الخصوص غير أن الرافضة في إخفائها كاللصوص فقال السائل لما قال أقيلوني ما سمعنا مثل جواب علي رضي الله عنه والله لا أقلناك فقال لما غاب علي عن البيعة في الأول أخلف ما فات بالمدح في المستقبل ليعلم السامع والرائي أن بيعة أبي بكر وإن كانت من ورائي فهي رائي ومثل ذلك الصدر لا يرائي
وقال في قول فرعون { أليس لي ملك مصر } الزخرف 51 يفتخر
____________________
(5/162)
بما أجراه ما أجراه
وتواجد رجل في مجلسه فقل عجبا كلنا في إنشاد الضالة سوا فلم وجدت وحدك ألم الجوى وأنشد
( قد كتمت الحب حتى شفني ** وإذا ما كتم الداء قتل )
( بين عينيك علالات الكرى ** فدع النوم لربات الحجل )
ونظر يوما إلى أقوام يبكون في مجلسه ويتواجدون فأنشد
( ولو لم يهجني الظاعنون لهاجني ** حمائم ورق في الديار وقوع )
( تداعين فاستبكين من كان ذا هوى ** نوائح لم تقطر لهن دموع )
( وكيف أطيق العاذلين وذكرهم ** يؤرقني والعاذلون هجوع )
وقام رجل وتواجد فأنشد
( وما زال يشكو الشوق حتى كأنما ** تنفس من أحشائه وتكلما )
( ويبكي فأبكى رحمة لبكائه ** إذا ما بكى دمعا بكيت له دما )
وأعجبه يوما كلامه فأنشد
( تزدحم الألفاظ والمعاني ** على فؤادي وعلى لساني )
( تجري بي الأفكار في ميدان ** أزاحم النجم على مكان )
ووعظ المستضيء يوما فقال يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك وإن سكت خفت عليك فأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك لمحبتي لدوام أيامك وإن قول القائل اتق الله خير من قول القائل أنتم أهل بيت معفور لكم وقال الحسن البصري لأن تصحب أقواما يخوفونك حتى تبلغ المأمن
____________________
(5/163)
خير لك من ان تصحب أقواما يؤمنونك حتى تبلغ المخاوف وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول إذا بلغني عن عامل ظالم أنه قد ظلم الرعية ولم أغيره فأنا الظالم يا أمير المؤمنين كان يوسف عليه السلام لا يشبع في زمان القحط لئلا ينسى الجياع وكان عمر رضي الله عنه يصر بطنه عام الرمادة فيقول قرقري إن شئت أو لا تقرقري فوالله لا شبعت والمسلمون جياع فتصدق الخليفة المستضيء بصدقات كثيرة وأطلق من في السجن
وقال رحمه الله تعالى لبعض الولاة اذكر عدل الله فيك وعند العقوبة قدرة الله عليك وإياك أن تشفي غيظك بسقم دينك
وقال الطاعة تبسط اللسان والمعاصي تذل الإنسان
وقال له قائل ما نمت البارحة من شوقي إلى المجلس فقال نعم لأنك تريد أن تتفرج وإنما ينبغي أن لا تنام الليلة لأجل ما سمعت فيه
وقيل له إن فلان أوصى عند الموت فقال طين سطوحه في كانون
وقال له قائل أسبح أم أستغفر فقال الثياب الوسخة أحوج إلى الصابون من البخور
وسأله سائل ما الذي وقر في قلب أبي بكر رضي الله عنه فقال قوله ليلة المعراج إن كان قال فلقد صدق فله السبق
ولما قال له بعضهم سيف علي نزل من السماء فسعفة أبي بكر أين أجابه بقوله إن سعفة هزت يوم الردة فأثمرت سبيا جاء منه مثل ابن الحنفية لأمضى من سيوف الهند ثم قال يا عجبا للروافض إذا مات لهم ميت تركوا معه سعفة من أين ذا المصطلح
وسئل عن معنى قوله من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى أبي بكر فقال الميت يقسم ماله ويكفن وأبو بكر أخرج ماله كله وتخلل بالعباء
وقال في قوله تعالى { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا } الأعراف 43
____________________
(5/164)
قال علي إني والله لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم ثم قال أبو الفرج إذا اصطلح أهل الحرب فما بال النظارة
وقال قال جبريل لرسول الله سلم على عائشة ولم يواجهها بالخطاب احتراما لزوجها وواجه مريم لأنها لم يكن لها زوج فمن يحترمها جبريل كيف يجوز في حقها الأباطيل
قال أبو شامة وكان ابن الجوزي رحمه الله تعالى مبتلى بالكلام في مثل هذه الأشياء لكثرة الروافض ببغداد وتعنتهم بالسؤالات فيها فكان بصيرا بالخروج منها لحسن إشارته
وانقطع القراء يوما عن مجلسه فأنشد
( وما الحلي إلا زينة لنقيصة ** يثمم من حسن إذا الحسن قصرا )
( وأما إذا كان الجمال موفرا ** كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا )
وقيل له لم تعلل موسى عليه السلام بسوف تراني فأنشد
( إن لم يكن وصل لديك لنا ** يشفي الصبابة فليكن وعد )
ولما ذكر أن بلالا رضي الله عنه لما منع الطواف بالبيت كان يقف من بعيد وينظر إليه ويبكي أنشد
( أمر على منازلهم وإني ** بمن أضحى بها صب مشرق )
( وأومي بالتحية من بعيد ** كما يومي بإصبعه الغريق )
ومن شعر أبي الفرج رحمه الله تعالى
( لعبت ومثلك لا يلعب ** وقد ذهب الأطيب الأطيب )
( وقد كنت في ظلمات الشباب ** فلما أضاء انجلى الغيهب )
( ألا أين أقرانك الراحلون ** لقد لاح إذ ذهبوا المذهب )
____________________
(5/165)
ولنقتصر على هذا المقدار ونرجع إلى أحوال لسان الدين رحمه الله تعالى وارتحاله والاعتبار بحاله فنقول
ومما يناسب أن نذكره في هذا المحل ونثبته فيه ما حكاه العالم العلامة بلدينا سيدي أبو الفضل ابن الإمام التلمساني رحمه الله تعالى عن جدي الإمام قاضي القضاة سيدي أبي عبد الله المقري التلمساني رحمه الله تعالى وهو أحد أشياخ لسان الدين كما يأتي إن شاء الله ذلك في محله قال كنت مع ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب في جامع إلبيرة من الأندلس إذ مر بنا الاعتبار في تلك الآثار فأنشد ابن الخطيب ارتجالا
( أقمنا برهة ثم ارتحلنا ** كذاك الدهر حال بعد حال )
( وكل بداية فإلى انتهاء ** وكل إقامة فإلى ارتحال )
( ومن سام الزمان دوام حال ** فقد وقف الرجاء على المحال ) انتهى
وحكى لسان الدين في الإحاطة عن نفسه أنه خطط هذه الأبيات في مرحلة نزلها رحمه الله تعالى حسبما يأتي ذلك في شعره
وما أحسن قوله رحمه الله تعالى
( لبسنا فلم نبل الزمان وابلانا ** يتابع أخرانا على الغي أولانا )
( ونغتر بالآمال والعمر ينقضي ** فما كان بالرجعي إلى الله أولانا )
( وماذا عسى أن ينظر الدهر من عسا ** فما انقاد للزجر الحثيث ولا لانا )
( جزينا صنيع الله شر جزائه ** فلم نرع ما من سابق الفضل أولانا )
( فيا رب عاملنا بما أنت أهله ** من العفو واجبر صدعنا أنت مولانا )
____________________
(5/166)
وقد حكى غير واحد أنه رحمه الله تعالى ريء بعد موته في المنام فقال له الرائي ما فعل الله بك فقال غفر لي ببيتين قلتهما وهما
( يا مصطفى من قبل نشأة آدم ** والكون لم تفتح له أغلاق )
( أيروم مخلوق ثناءك بعدما ** أثنى على أخلاقك الخلاق )
وقد كرر رحمه الله تعالى هذا المعنى في قصيدة في حقه وشرف وكرم ومجد وعظم وبارك وأنعم وهو قوله
( مدحتك آيات الكتاب فما عسى ** يثني على علياك نظم مديحي )
( وإذا كتاب الله أثنى مفصحا ** كان القصور قصار كل فصيح )
وستأتي هذه القصيدة في نظمه إن شاء الله تعالى
وقد رأيت بالمغرب تخميسا للبيتين الأولين منسوبا للأديب الشهير الذكر بالمغرب أبي عبد الله محمد بن جابر الغساني المكناسي رحمه الله تعالى ولا بأس أن نورده هنا وهو قوله رحمه الله تعالى
( يا سائلا لضريح خير العالم ** ينهي إليه مقام صب هائم )
( بالله ناد وقل مقالة عالم ** يا مصطفى من قبل نشأة آدم )
( والكون لم تفتح له أغلاق ** )
( بثناك قد شهدت ملائكة السما ** والله قد صلى عليك وسلما )
( يا مجتبى ومعظما ومكرما ** أيروم مخلوق ثناءك بعدما )
( أثنى على أخلاقك الخلاق ** )
____________________
(5/167)
وما احسن قول لسان الدين رحمه الله تعالى بعدما عرف بنفسه وسلفه وكأني بالحي ممن ذكر قد التحق بالميت وبالقبر قد استبدل من البيت
وقال رحمه الله تعالى بعد إيراد جملة من نظمه ما صورته وقلت والبقاء لله وحده وبه يختم الهدر
( عد عن كيت وكيت ** ما عليها غير ميت )
( كيف ترجى حالة البقيا ** لمصباح وزيت )
وسيأتي ذلك ولقد صدق رحمه الله تعالى ورقى درجته في الجنة تحقيق في نسبة بيتين
وأما البيتان الشائعان على ألسنة أهل المشرق والمغرب وأنهما قيلا في لسان الدين رحمه الله تعالى وبعضهم ينسبهما له نفسه فالصحيح خلاف ذلك كما سيأتي وهما
( قف كي ترى مغرب شمس والضحى ** بين صلاة العصر والمغرب )
( واسترحم الله قتيلا بها ** كان إمام العصر في المغرب )
وشرح بعضم البيتين فقال إن قوله قتيلا بها من باب الاستخدام أي قتيلا بشمس الضحى التي هي المنغزل فيها
قد رأيت وأنا بالمغرب بخط الشيخ الأغصاوي أنهما لم يعن بهما قائلهما لسان الدين ابن الخطيب وإنما هما مقولان في غيره ونسبهما ونسيت الآن ذلك لطول العهد والله أعلم
ويدل على ذلك أنه رحمه الله تعالى لم يقتل بين صلاة العصر والمغرب
____________________
(5/168)
وإنما قتل في جوف الليل كما علم في محله على أنه يمكن بتكليف تأويل ذلك بأنه قامت لقائلهما قرينة على أنه بصدد الموت في ذلك الوقت وهذا لو ثبت أنهما قيلا فيه وقد علمت أن الأغصاوي نفى ذلك فالله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك
ثم رأيت في كتاب إسماعيل بن الأحمر في ترجمة بعض العلماء ما نصه فمن قوله يرثي الأمراء بالمغرب وقد حل رمسه بين صلاة العصر والمغرب
( قف كي ترى مغرب شمس العلا ** بين صلاة العصر والمغرب )
( واسترحم الله دفينا به ** كان مليك العصر في المغرب )
وهذا مما يبعد أنهما في لسان الدين من وجوه لا تخفى على المتأمل منها قوله كان مليك العصر فإن لسان الدين لم يكن كذلك وقد تقدم آنفا كان إمام العصر في المغرب وهو أحسن لما فيه من التورية البديعة والله أعلم ثلاث قصائد لابن زمرك
رجع إلى أخبار لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى وقد عرض عدوه الرئيس ابن زمرك في بعض قصائده التي مدح بها سلطانه الغني بالله أبا عبد الله ابن نصر بما تسنى له من الظفر بابن الخطيب ومن حماه منه وهو الوزير ابن الكاس على يد من عينه لملك المغرب وأعانه بجند وعضده كما تقدم وهو السلطان أحمد المريني فقال من قصيدة عيدية
( يهني زمانك أعياد مجددة ** من الفتوح مع الأيام تغشاه )
( غضبت للدين والدنيا بحقهما ** يا حبذا غضب في الله أرضاه )
( فوقت للغرب سهما راشه قدر ** وسدد الله للأعداء مرماه )
____________________
(5/169)
( سهم أصاب وراميه بذي سلم ** لقد رمى الغرض الأقصى فأصماه )
( من كان بندك يا مولاي يقدمه ** فليس يخلفه فتح ترجاه )
( من كان جندك جند الله ينصره ** أناله الله ما يرجو وسناه )
( ملكته غربه خلدت من ملك ** للغرب والشرق منه ما تمناه )
( وسام أعداءك الأشقين ما كسبوا ** ومن تردى رداء الغدر أرداه )
( قل للذي رمدت جهلا بصيرته ** فلم تر الشمس شمس الهدى عيناه )
( غطى الهوى عقله حتى إذا ظهرت ** له المراشد أعشاه وأعماه )
( هل عنده وذنوب الغدر توبقه ** أن الذي قد كساه العز أعراه )
( لو كان يشكر ما أوليت من نعم ** ما زلت ملجأه الأحمى ومنجاه )
( سل السعود وخل البيض مغمدة ** فالسيف مهما مضى فالسعد أقصاه )
( واشرع من البرق نصلا راع مصلته ** وارفع من الصبح بندا راق مجلاه )
( فالعدوتان وما قد ضم ملكهما ** أنصار ملكك صان الله علياه )
( لا أوحش الله قطرا أنت مالكه ** وآنس الله بالألطاف مغناه )
( لا أظلم الله أفقا أنت نيره ** لا أهمل الله سرحا أنت ترعاه )
( واهنأ بشهر صيام جاء زائره ** مستنزلا من إله العرش رحماه )
( أهل بالسعد فانهلت به منن ** وأوسع الصنع إجمالا ووفاه )
( أما ترى بركات الأرض شاملة ** وأنعم الله قد عمت براياه )
( وعادك العيد تستحلي موارده ** ويجزل الأجر والرحمى مصلاه )
( جهزت جيش دعاء فيه ترفعه ** لذي المعارج والإخلاص رقاه )
( أفضت فيه من النعماء أجزلها ** وأشرف البر بالإحسان زكاه )
( واليت للخلق ما أوليت من نعم ** والى لك الله ما أولى ووالاه )
____________________
(5/170)
وأول هذه القصيدة
( هذي العوالم لفظ أنت معناه ** كل يقول إذا استنطقته الله )
( بحر الوجود وفلك الكون جارية ** وباسمك الله مجراه ومرساه )
( من نور وجهك ضاء الكون أجمعه ** حتى تشيد بالأفلاك مبناه )
( عرش وفرش وأملاك مسخرة ** وكلها ساجد لله مولاه )
( سبحان من أوجد الأشياء من عدم ** وأوسع الكون قبل الكون نعماه )
( من ينسب النور للأفلاك قلت له ** من أين أطلعت الأنوار لولاه )
( مولاي مولاي بحر الجود أغرقني ** والخلق أجمع في ذا البحر قد تاهوا )
( فالفلك تجري كما الأفلاك جارية ** بحر السماء وبحر الأرض أشباه )
( وكلهم نعم للخلق شاملة ** تبارك الله لا تحصى عطاياه )
( يا فاتق الرتق من هذا الوجود كما ** في سابق العلم قد خطت قضاياه )
( كن لي كماكنت لي إذ كنت لا عمل ** أرجو ولا ذنب قد أذنبت أخشاه )
( وأنت في حضرات القدس تنقلني ** حتى استقر بهذا الكون مثواه )
( ما أقبح العبد أن ينسى وتذكره ** وأنت باللطف والإحسان ترعاه )
( غفرانك الله من جهل بليت به ** فمن أفاد وجودي كيف أنساه )
( مني علي حجاب لست أرفعه ** إلا بتوفيق هدى منك ترضاه )
( فعد علي بما عودت من كرم ** فأنت أكرم من أملت رحماه )
( ثم الصلاة صلاة الله دائمة ** على الذي باسمه في الذكر سماه )
( المجتبي وزناد النور ما قدحت ** ولا ذكا من نسيم الروض مسراه )
( والمصطفى وكمام الكون ما فتقت ** عن زهر زهر يروق العين مرآه )
( ولا تفجر نهر للنهار على ** در الدراري فغطاه وأخفاه )
( يا فاتح الرسل أو يا ختمها شرفا ** والله قدس في الحالين معناه )
____________________
(5/171)
( لم أدخر غير حب فيك أرفعه ** وسيلة لكريم يوم ألقاه )
( صلى عليك إله أنت صفوته ** ما طيبت بلذيذ الذكر أفواه )
( وعم بالروح والريحان صحبته ** وجادهم من نمير العفو أصفاه )
( وخص أنصاره الأعلين صفوته ** وأسكنوا من جوار الله أعلاه )
( أنصار ملته أعلام بيعته ** مناقب شرفت أثنى بها الله )
( وأيد الله من أحيا جهادهم ** وواصل الفخر أخراه بأولاه )
( المنتقى من صميم الفخر جوهره ** ما بين نصر وأنصار تهاداه )
( العلم والحلم والإفضال شيمته ** والبأس والجود بعض من سجاياه ) وهي طويلة ولنقتصر منها على ما ذكر
وقد صرح ابن زمرك المذكور في قصيدة أخرى مدح بها سلطانه الغني بالله وهنأه بفتح المغرب على يد السلطان أحمد وذكر فيها ظفره بالوزير ابن الكاس وهو أعني ابن الكاس كان القائم بنصرة لسان الدين والمانع له والمجير له منهم حين طلبوه منه فلما لم يخفر ذمته تمكنت كما سبق أسباب العداوة وجر ذلك أن أغرى السلطان أحمد على تملك فاس واشترطوا عليه كما مر القبض على لسان الدين وإرساله إليهم وقد نقلت أنا هذه القصيدة من تأليف لحفيد السلطان الغني بالله ونص محل الحاجة منه ومن ذلك أيضا قوله يعني ابن زمرك هناء لمولانا الجد رحمه الله تعالى بالفتح المغربي للسلطان أبي العباس ابن السلطان أبي سالم المريني
( هي نفحة هبت من الأنصار ** أهدتك فتح ممالك الأمصار )
( في بشرها وبشارة الدنيا بها ** مستمتع الأسماع والأبصار )
( هبت على قطر الجهاد فروضت ** أرجاءه بالنفحة المعطار )
____________________
(5/172)
( وسرت وأمر الله طي برودها ** يهدي البرية صنع لطف الباري )
( مرت بأدواح المنابر فانبرت ** خطباؤها مفتنة الأطيار )
( حنت معارجها إلى أعشارها ** لما سمعن بها حنين عشار )
( لو أنصفتك لكللت أدواحها ** تلك البشائر يانع الأزهار )
( فتح الفتوح أتاك في حلل الرضى ** بعجائب الأزمان والأعصار )
( فتح الفتوح جنيت من أفنانه ** ما شئت من نصر ومن أنصار )
( كم آية لك في السعود جلية ** خلدت منها عبرة استبصار )
( كم حكمة لك في النفوس خفية ** خفيت مداركها عن الأفكار )
( كم من أمير أم بابك فانثنى ** يدعى الخليفة دعوة الإكبار )
( أعطيت أحمد راية منصورة ** بركاتها تسري من الأنصار )
( أركبته في المنشآت كأنما ** جهزته في وجهه لمزار )
( من كل خافقة الشراع مصفق ** منها الجناح تطير كل مطار )
( ألقت بأيدي الريح فضل عنانها ** فتكاد تسبق لمحة الأبصار )
( مثل الجياد تدافعت وتسابقت ** من طافح الأمواج في مضمار )
( لله منها في المجاز سوابح ** وقفت عليك الفخر وهي جواري )
( لما قصدت بها مراسي سبتة ** عطفت على الأسوار عطف سوار )
( لما رأت من صبح عزمك غرة ** محقوقة بأشعة الأنوار )
( ورأت جبينا دونه شمس الضحى ** لبتك بالإجلال والإكبار )
( فأفضت فيها من نداك مواهبا ** حسنت مواقعها على التكرار )
( ورأيت أهل الغرب عزم مغرب ** قد ساعدته غرائب الأقدار )
( وخطبت من فاس الجديد عقيلة ** لبتك طوع تسرع وبدار )
( ما صدقوا متن الحديث بفتحها ** حتى رأوه في متون شفار )
( وتسمعوا الأخبار باستفتاحها ** والخبر قد أغنى عن الأخبار )
( قولوا لقرد في الوزارة غره ** حلم مننت به على مقدار )
____________________
(5/173)
( أسكنته من فاس جنة ملكها ** متنعما منها بدار قرار )
( حتى إذا كفر الصنيعة وازدرى ** بحقوقها ألحقته بالنار )
( جرعت نجل الكأس كأسا مرة ** دست إليه الحتف في الإسكار )
( كفر الذي أوليته من نعمة ** لا تأنس النعماء بالكفار )
( فطرحته طرح النواة فلم يفز ** من عز مغربه بغير فرار )
( لم يتفق لخليفة مثل الذي ** أعطى الإله خليفة الأنصار )
( لم أدر والأيام ذات عجائب ** تردادها يحلو على التذكار )
( ألواء صبح في ثنية مشرق ** أم راية في جحفل جرار )
( وشهاب أفق أم سنان لامع ** ينقض نجما في سماء غبار )
( ومناقب المولى الإمام محمد ** قد أشرقت أم هن زهر دراري )
( فاق الملوك بهمة علوية ** من دونها نجم السماء الساري )
( لو صافح الكف الخضيب بكفه ** فخرت بنهر للمجرة جاري )
( والشهب تطمع في مطالع أفقها ** لو أحرزت منه منيع جوار )
( سل بالمشارق صحبها عن وجهه ** يفتر منه عن جبين نهار )
( سل بالغمائم صوبها عن كفه ** تنبيك عن بحر بها زخار )
( سل بالبروق صفاحها عن عزمه ** تخبرك عن أمضى شبا وغرار )
( قد أحرز الشيم الخطيرة عندما ** أمطى العزائم صهوة الأخطار )
( إن يلق ذو الإجرام صفحة صفحة ** فسح القبول له خطا الأعمار )
( يا من إذا هبت نواسم حمده ** أزرت بعرف الروضة المعطار )
( يا من إذا افترت مباسم بشره ** وهب النفوس وعاث في الإقتار )
( يا من إذا طلعت شموس سعوده ** تعشي أشعتها قوى الأبصار )
( قسما بوجهك في الضياء وإنه ** شمس تمد الشمس بالأنوار )
( قسما بعزمك في المضاء فإنه ** سيف تجرده يد الأقدار )
____________________
(5/174)
( لسماح كفك كلما استوهبته ** يزري بغيث الديمة المدرار )
( لله حضرتك العلية لم تزل ** يلقي الغريب بها عصا التسيار )
( كم من طريد نازح قذفت به ** أيدي النوى في القفر رهن سفار )
( بلغته ما شاء من آماله ** فسلا عن الأوطان بالأوطار )
( صيرت بالإحسان دارك داره ** متعت بالحسنى وعقبى الدار )
( والخلق تعلم أنك الغوث الذي ** يضفي عليها وافي الأستار )
( كم دعوة لك في المحول مجابة ** أغرت جفون المزن باستعبار )
( جادت مجاري الدمع من قطر الندى ** فرعى الربيع لها حقوق الجار )
( فأعاد وجه الأرض طلقا مشرقا ** متضاحكا بمباسم النوار )
( يا من مآثره وفضل جهاده ** تحدى القطار بها إلى الأقطار )
( حطت البلاد ومن حوته ثغورها ** وكفى بسعدك حاميا لذمار )
( فلرب بكر للفتوح خطبتها ** بالمشرفية والقنا الخطار )
( وعقيلة للكفر لما رعتها ** أخرست من ناقوسها المهذار )
( أذهبت من صفح الوجود كيانها ** ومحوتها إلا من التذكار )
( عمروا بها جنات عدن زخرفت ** ثم انثنوا عنها ديار بوار )
( صبحت منها روضة مطلولة ** فأعدتها للحين موقد نار )
( واسود وجه الكفر من خزي متى ** ما احمر وجه الأبيض البتار )
( ولرب روض للقنا متأود ** ناب الصهيل به عن الأطيار )
( مهما حكت زهر الأسنة زهره ** حكت السيوف معاطف الأنهار )
( متوقد لهب الحديد بجوه ** تصلى به الأعداء لفح أوار )
( فبكل ملتفت صقال مشهر ** قداح زند للحفيظة واري )
( في كف أروع فوق نهد سابح ** متموج الأعطاف في الإحضار )
( من كل منخفر بلمحة بارق ** حمل السلاح به على طيار )
( من أشهب كالصبح يطلع غرة ** في مستهل العسكر الجرار )
____________________
(5/175)
( أو أدهم كالليل إلا انه ** لم يرض بالجوزاء حلي عذار )
( أو أحمر كالجمر يذكي شعلة ** وقد ارتمى من بأسه بشرار )
( أو أشقر حلي الجمال أديمه ** وكساه من زهو جلال نضار )
( أو أشعل راق العيون كأنه ** غلس يخالط سدفة بنهار )
( شهب وشقر في الطراد كأنها ** روض تفتح عن شقيق بهار )
( عودتها أن ليس تقرب منهلا ** حتى يخالط بالدم الموار )
( يا أيها الملك الذي أيامه ** غرر تلوح بأوجه الأعصار )
( يهني لواءك أن جدك زاحف ** بلواء خير الخلق للكفار )
( لا غرو أن فقت الملوك سيادة ** إذ كان جدك سيد الأنصار )
( السابقون الأولون إلى الهدى ** والمصطفون لنصرة المختار )
( متهللون إذا النزيل عراهم ** سفروا له عن أوجه الأقمار )
( من كل وضاح الجبين إذا احتبى ** تلقاه معصوبا بتاج فخار )
( قد لاث صبحا فوق بدر بعدما ** لبس المكارم وارتدى بوقار )
( فاسأل ببدر عن مواقف بأسهم ** فهم تلافوا أمره ببدار )
( لهم العوالي عن معالي فخرها ** نقل الرواة عوالي الأخبار )
( وإذا كتاب الله يتلو حمدهم ** أودى القصور بمنة الأشعار )
( يا ابن الذين إذا تذوكر فخرهم ** فخروا بطيب أرومة ونجار )
( حقا لقد أوضحت من آثارهم ** لما أخذت لدينهم بالثار )
( أصبحت وارث مجدهم وفخارهم ** ومشرف الأعصار والأمصار )
( يا صادرا في الفتح عن ورد المنى ** رد ناجح الإيراد والإصدار )
( واهنأ بفتح جاء يشتمل الرضى ** جذلان يرفل في حلى استبشار )
( وإليكها ملء العيون وسامة ** حيتك بالأبكار من أفكاري )
( تجري حداة العيس طيب حديثها ** يتعللون به عل الأكوار )
( إن مسهم لفح الهجير أبلهم ** منه نسيم ثنائك المعطار )
____________________
(5/176)
( وتميل من اصغى لها فكأنني ** عاطيته منها كؤوس عقار )
( قذفت بحور الفكر منها جوهرا ** لما وصفت أناملا ببحار )
( لا زلت للإسلام سترا كلما ** أم الحجيج البيت ذا الأستار )
( وبقيت يا بدر الهدى تجري بما ** شاءت علاك سوابق الأقدار )
انتهت
ولابن زمرك السابق قصيدة أخرى قالها بعد موت لسان الدين ابن الخطيب وخلع السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم الذي قتل ابن الخطيب في دولته وكان سلطان الأندلس موئلا للسلطان أحمد المذكور ولذلك امتعض لرده لملكه فقال ابن زمرك وزير صاحب الأندلس بعد ابن الخطيب هذه القصيدة يمدح بها سلطانه أثناء وجهته لتجديد الدولة الأحمدية المذكورة صدر عام تسعة وثمانين وسبعمائة
( هب النسيم على الرياض مع السحر ** فاستيقظت في الدوح أجفان الزهر )
( ورمى القضيب دراهما من نوره ** فاعتاض من طل الغمام بها درر )
( نثر الأزاهر بعدما نظم الندى ** يا حسن ما نظم النسيم وما نثر )
( قم هاتها والجو أزهر باسم ** شمسا تحل من الزجاجة في قمر )
( إن شجها بالماء كف مديرها ** ترميه من شهب الحباب بها شرر )
( نارية نورية من ضوئها ** يقد السراج لنا إذا الليل اعتكر )
( لم يبق منها الدهر إلا صبغة ** قد أرعشت في الكأس من ضعف الكبر )
( من عهد كسرى لم يفض ختامها ** إذ كان يدخر كنزها فيما دخر )
( كانت مذاب التبر فيما قد مضى ** فأحالها ذوب اللجين لمن نظر )
( جدد بها عرس الصبوح فإنها ** بكر تحييها الكرام مع البكر )
____________________
(5/177)
( وابلل بها رمق الأصيل عشية ** والشمس من وعد الغروب على خطر )
( محمرة مصفرة قد أظهرت ** خجل المريب يشوبه وجل الحذر )
( من كف شفاف تجسد نوره ** من جوهر لألاء بهجته بهر )
( تهوي البدور كماله وتود أن ** لو أوتيت منه المحاسن والغرر )
( قد خط نون عذاره في خده ** قلمان من آس هنالك ومن شعر )
( والى عليك بها الكؤوس وربما ** يسقيك من كأس الفتور إذا فتر )
( سكر الندامى من يديه ولحظه ** متعاقب مهما سقى وإذا نظر )
( حيث الهديل مع الهدير تناغيا ** فالطير تنشد في الغصون بلا وتر )
( والقضب مالت للعناق كأنها ** وفد الأحبة قادمين من السفر )
( متلاعبات في الحلي ينوب في ** وجناتهن الوردحسنا عن خفر )
( والنرجس المطلول يرنو نحوها ** بلواحظ دمع الندى مهما انهمر )
( والنهر مصقول الحسام متى يرد ** درع الغدير مصفقا فيه صدر )
( يجري على الحصباء وهي جواهر ** متكسرا من فوقها مهما عثر )
( هل هذه أم روضة البشرى التي ** فيها لأرباب البصائر معتبر )
( لم أدر من شغف بها وبهذه ** من منهما فتن القلوب ومن سحر )
( جاءت بها الأجفان ملء ضلوعها ** ملء الخواطر والمسامع والبصر )
( ومسافر في البحر ملء عنانه ** وافى مع الفتح المبين على قدر )
( قادته نحوك بالحطام كأنه ** جمل يساق إلى القياد وقد نفر )
( وأراه دين الله عزة أهله ** بك يا أعف القادرين إذا قدر )
( يا فخر أندلس وعصمة أهلها ** للناس سر في اختصاصك قد ظهر )
( كم معضل من دائها عالجته ** فشفيت منه بالبدار وبالبدر )
( ماذا عسى يصف البليغ خليفة ** والله ما أيامه إلا غرر )
____________________
(5/178)
( ورثت هذا الفخر يا ملك الهدى ** من كل من آوى النبي ومن نصر )
( من شاء يعرف فخرهم وكمالهم ** فليتل وحي الله فيهم والسير )
( أبناؤهم أبناء نصر بعدهم ** بسيوفهم دين الإله قد انتصر )
( مولاي سعدك والصباح تشابها ** وكلاهما في الخافقين قد اشتهر )
( هذا وزير الغرب عبد آبق ** لم يلف غيرك في الشدائد من وزر )
( كفر الذي أوليته من نعمة ** والله قد حتم العذاب لمن كفر )
( إن لم يمت بالسيف مات بغيظه ** وصلى سعيرا للتأسف والفكر )
( ركب الفرار مطيه ينجو بها ** فجرت به حتى استقر على سقر )
( وكذا أبوه وكان منه حمامه ** قد حم وهو من الحياة على غرر )
( بلغته والله أكبر شاهد ** ما شاء من وطن يعز ومن وطر )
( حتى إذا جحد الذي أوليته ** لم تبق منه الحادثات ولم تذر )
( في حاله والله أعظم عبرة ** لله عبد في القضاء قد اعتبر )
( فاصبر تنل أمثالها في مثله ** إن العواقب في الأمور لمن صبر )
( رد حيث شئت مسوغا ورد المنى ** فالله حسبك في الورود وفي الصدر )
( لا زلت محروسا بعين كلاءة ** ما دام عين الشمس تعشي من نظر )
ومنها وقد أضاف إليه من التغزل طوع بداره وحجة اقتداره فقال
( والعود في كف النديم بسر ما ** تلقي لنا منه الأنامل قد جهر )
( غنى عليه الطير وهو بدوحه ** والآن غنى فوقه ظبي أغر )
( عود ثوى حجر القضيب رعى له ** أيام كانا في الرياض مع الشجر )
( لا سيما لما رأى من ثغره ** زهرا وأين الزهر من تلك الدرر )
( ويظن أن عذاره من آسه ** ويظن تفاح الخدود من الثمر )
( يسبي القلوب بلفظه وبلحظه ** وافتنتي بين التكلم والنظر )
( قد قيدته لأنسنا أوتاره ** كالظبي قيد في الكناس إذا نفر )
____________________
(5/179)
( لم يبل قلبي قبل سمع غنائه ** بمعذر سلب العقول وما اعتذر )
( جس القلوب بجسه أوتاره ** حتى كأن قلوبنا بين الوتر )
( نمت لنا ألحانه بجميع ما ** قد أودعت فيه القلوب من الفكر )
( يا صامتا والعود تحت بنانه ** يغنيك نطق الخبر فيه عن الخبر )
( أغنى غناؤك عن مدامك يا ترى ** هل من لحاظك أم بنانك ذا السكر )
( باحت أناملك اللدان بكل ما ** كان المتيم في هواه قد ستر )
( ومقاتل ما سل غير لحاظه ** والرمح هز من القوام إذا خطر )
( دانت له منا القلوب بطاعة ** والسيف يملك ربه مهما قهر )
وسنلم إن شاء الله تعالى بترجمة ابن زمرك هذا في باب التلامذة ونشير هناك إلى كثير من أحواله وكيفية قتله مع أولاده وخدمه بمرأى ومسمع من أهله فكان الجزاء من جنس العمل وخاب منه الأمل إذ لسان الدين قتل غيلة بليل غاسق على يد مختلس في السجن فاسق وأما ابن زمرك فقتل بالسيف جهارا وتناوشته سيوف مخدومه بين بناته إبداء للتشفي وإظهارا وقتل معه من وجد من خدمه وأبناه وأبعده الدهر وطالما أدناه وهكذا الحال في خدام الدول وذوي الملك أنهم أقرب شيء من الهلك ويرحم الله من قال إياك وخدمة الملوك فإنهم يستقلون في العقاب ضرب الرقاب ويستكثرون في الثواب رد الجواب انتهى
رجع إلى ما كنا فيه من أحوال لسان الدين ابن الخطيب وكان رحمه الله تعالى قبيل موته لما توفي السلطان أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن المريني بتلمسان وتغلب على الأمر الوزير أبو بكر ابن غازي بن الكاس مبايعا لابن صغير السن من أولاد السلطان عبد العزيز ألف كتابه المسمى بأعمال الأعلام بمن بويع من ملوك الإسلام قبل الاحتلام ومراده بذلك تثبيت دولة الوزير الذي أبى أن يخفر عهده وذمته وامتنع أن يمكن منه أهل الأندلس فأكثروا
____________________
(5/180)
القالة في الوزير بسبب مبايعته للصبي وبنوا ظاهر الأمر على أن ذلك لا يجوز بالشرع وأبدأوا وأعادوا في ذلك وأسروا ما كان من أمرهم حسوا في ارتغاء ومن جملة كلام لسان الدين ابن الخطيب في ذلك الكتاب قوله فمتى نبس أهل الأندلس بإنكار بيعة صبي صغير أو نيابة صاحب أو وزير فقد عموا وصموا وخطروا بربع الإنصاف فأعرضوا وما ألموا وبما سنوه لغيرهم ذموا انتهى
وكان رحمه الله تعالى ألف للسلطان عبد العزيز حين انحيازه إليه المباخر الطيبية في المفاخر الخطيبية يذكر فيه نباهة سلفه وما لهم من المجد وقصده الرد على أهل الأندلس المجاهرين له بالعداوة القادحين في فخر سلفه ثم ألف للسلطان المذكور كتاب خلع الرسن في التعريف بأحوال ابن الحسن لكونه تولى كبر الحط منه والسعي في هلاكه كما مر وقال في حق هذا الكتاب إنه لا شيء فوقه في الظرف والاستطراف يسلي التكالي ونستغفر الله تعالى انتهى
ومع هذا كله لما أنشبت المنية أظفارها لم تنفعه مما كتب تميمة ونال ما أمل فيه أهل السعاية والنميمة وسجلوا عليه المقالات الذميمة وقد صار الجميع إلى حكم عدل قادر يحيى من العظم رميمه وينصف المظلوم من الظالم ويجازي الجاهل والعالم ويساوي بين المأمور والآمر والشريف والمشروف والعزيز والحقير والمنكر والمعروف وعفوه سبحانه مؤمل بعد وهو لا يخلف الوعد ومن سبقت له العناية لم تضره الجناية
وقد كان لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى محبا في العفو حتى إنه كان إذا جرى لديه ذكر عقوبة الملوك لأتباعهم تشمئز نفسه من ذلك ويقول ما معناه ما ضرهم لو عفوا ورأيت له رحمه الله تعالى في بعض مؤلفاته وقد أجرى ذكر استعطاف ذي الوزارتين أبي بكر ابن عمار للسلطان المعتمد بن عباد حين قبض عليه بقوله
____________________
(5/181)
( سجاياك إن عافيت أندى واسمح ** وعذرك إن عاقبت أولى وأوضح )
( وإن كان بين الخطتين مزية ** فأنت من الأدنى إلى الله أجنح )
( وماذا عسى الأعداء أن يتزيدوا ** سوى أن ذنبي ثابت ومصحح )
( وإن رجائي أن عندك غير ما ** يخوض عدوي اليوم فيه ويمرح )
( أقلني بما بيني وبينك من رضى ** له نحو روح الله باب مفتح )
( ولا تلتفت قول الوشاة وزورهم ** فكل إناء بالذي فيه يرشح )
( وقالوا سيجزيه فلان بذنبه ** فقلت وقد يعفو فلان ويصفح )
( ألا إن بطشا للمؤيد يرتمي ** ولكن حلما للمؤيد يرجح )
( وبين ضلوعي من هواه تميمة ** ستشفع لو أن الحمام يجلح )
( سلام عليه كيف دار به الهوى ** إلي فيدنو أو علي فينزح )
( ويهنيه إن رمت السلو فإنني ** أموت ولي شوق إليه مبرح )
ما نصه ولابن عمار كلمات شهيرة تعالج بمراهمها جراح القلوب وتعفي عن هضبات الذنوب لولا ما فرغ عنه من القدر المكتوب والأجل المحسوب إلى أن قال وما كان أجمل بالمعتمد أن يبقي على جان من عبيده قد مكنه الله من عنقه لا يؤمل الحصول على أمره ولا يحذر تعصب قبيله ولا يزيده العفو عنه إلا ترفعا وعزة وجلالة وهمة وذكرا جميلا وأجرا جزيلا فلا شيء أمحى للسيئة من الحسنة ولا أقتل للشر من الخير ورحم الله الشاعر إذ يقول
( وطعنتهم بالمكرمات وباللها ** في حيث لو طعن القنا لتكسرا )
وقد تذكرت هنا قول الأديب أبي عبد الله محمد بن أحمد التجاني رحمه الله تعالى ورضي عنه
( أتعجب أن حطت يد الدهر فاضلا ** عن الرتبة العليا فأصبح تحتها )
____________________
(5/182)
( أما هذه الأشجار تحمل أكلها ** وتسقط منه كل ما طاب وانتهى ) نكبة أبي جعفر ابن عطية
وحكى غير واحد من مؤرخي الأندلس أن الكاتب الشهير الوزير أبا جعفر ابن عطية القضاعي لما تغير له عبد المؤمن وتذاكر مع بعض من أهل العلم أبيات ابن عمار السابقة قال ما كان المعتمد إلا قاسي القلب حيث لم تعطفه هذه الأبيات إلى العفو ووقع لابن عطية المذكور مثل قضية ابن عمار واستعطف فما نفع ذلك وقتل رحمه الله تعالى ولنلم بذلك فنقول
كان أبو جعفر هذا من أهل مراكش وأصله القديم من طرطوشة ثم بعد من دانية وهو ممن كتب عن علي بن يوسف بن تاشفين أمير لمتونة وعن ابنيه تاشفين واسحاق ثم استخلصه لنفسه سالب ملكهم عبد المؤمن بن علي وأسند إليه وزارته فنهض بأعبائها وتحبب إلى الناس بإجمال السعي والإحسان فعمت صنائعه وفشا معروفه وكان محمود السيرة مبخت المحاولات ناجح المساعي سعيد المآخذ ميسر المآرب وكانت وزارته زينا للوقت وكمالا للدولة وفي أيام توجهه للأندلس وجد حساده السبيل إلى التدبير عليه والسعي به حتى أوغروا صدر الخليفة عبد المؤمن عليه فاستوزر عبد السلام بن محمد الكومي وانبرى لمطالبة ابن عطية وجد في التماس عورارته وتشنيع سقطاته وطرحت بمجلس السلطان أبيات منها
( قل للإمام أطال الله مدته ** قولا تبين لذي لب حقائقه )
( إن الزراجين قوم قد وترتهم ** وطالب الثأر لم تؤمن بوائقه )
____________________
(5/183)
وللوزير إلى آرائهم ميل ** لذاك ما كثرت فيهم علائقه )
( فبادر الحزم في إطفاء نارهم ** فربما عاق عن أمر عوائقه )
( هم العدو ومن والاهم كهم ** فاحذر عدوك واحذر من يصادفه )
( الله يعلم أني ناصح لكم ** والحق أبلج لا تخفى طرائفه )
قالوا ولما وقف عبد المؤمن على هذه الأبيات البليغة في معناها وغر صدره على وزيره أبي جعفر وأسر له في نفسه تغيرا فكان من أقوى الأسباب نكبته
وقيل أفضى إليه بسر فأفشاه وانتهى ذلك كله إلى أبي جعفر وهو بالأندلس فقلق وعجل الانصراف إلى مراكش فحجب عند قدومه ثم قيد إلى المسجد في اليوم بعده حاسر العمامة واستحضر الناس على طبقاتهم وقرروا على ما يعلمون من أمره وما صار إليه منهم فأجاب كل بما اقتضاه هواه وأمر بسجنه ولف معه أخوه أبو عقيل عطية وتوجه في إثر ذلك عبد المؤمن إلى زيارة تربة المهدي محمد بن تومرت فاستصحبهما منكوبين بحال ثقاف وصدرت عن أبي جعفر في هذه الحركة من لطائف الأدب نظما ونثرا في سبيل التوسل بتربة إمامهم المهدي عجائب لم تجد شيئا مع نفوذ قدر الله تعالى فيه ولما انصرف من وجهته أعادهما معه قافلا إلى مراكش فلما حاذى تاقمرت أنفذ الأمر بقتلهما بالشعراء المتصلة بالحصن على مقربة من الملاحة هنالك فمضيا لسبيلهما رحمهما الله تعالى
ومما خاطب به الخليفة عبد المؤمن مستعطفا له من رسالة تغالى فيه فغالته المنية ولم ينل الأمنية وهذه سنة الله تعالى فيمن لم يحترم جناب الألوهية ولم يحرس لسانه من الوقوع فيما يخدش في وجه فضل الأنبياء على غيرهم وعصمتهم قوله سامحه الله
تالله لو أحاطت بي كل خطيئة ولم تنفك نفسي عن الخيرات بطيئة حتى سخرت بمن في الوجود وأنفت لآدم من السجود وقلت إن الله تعالى
____________________
(5/184)
لم يوح في الفلك لنوح وبريت لقدار ثمود نبلا وأبرمت لحطب نار الخليل حبلا وحططت عن يونس شجرة اليقطين وأوقدت مع هامان على الطين وقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وافتريت على العذراء البتول فقذفتها وكتبت صحيفة القطيعة بدار الندوة وظاهرت الأحزاب بالقصوى من العدوة وذممت كل قريش وأكرمت لأجل وحشي كل حبشي وقلت إن بيعة السقيفة لا توجب إمامة خليفة وشحذت شفرة غلام المغيرة بن شعبة واعتلقت من حصار الدار وقتل أشمطها بشعبة وقلت تقاتلوا رغبة في الأبيض والأصفر وسفكوا الدماء على الثريد الأعفر وغادرت الوجه من الهامة خضيبا وناولت من قرع سن الحسين قضيبا ثم أتيت حضرة المعلوم لائذا وبقبر الإمام المهدي عائذا لقد آن لمقالتي أن تسمع وتغفر لي هذه الخطيئات أجمع مع أني مقترف وبالذنب معترف
( فعفوا أمير المؤمنين فمن لنا ** برد قلوب هدها الخفقان )
وكتب مع ابن له صغير آخره
( عطفا علينا أمير المؤمنين فقد ** بان العزاء لفرط البث والحزن )
( قد أغرقتنا ذنوب كلها لجج ** وعطفة منكم أنجى من السفن )
( وصادفتنا سهام كلها غرض ** ورحمة منكم أوقى من الجنن )
( هيهات للخطب أن تسطو حوادثه ** بمن أجارته رحماكم من المحن )
( من جاء عندكم يسعى على ثقة ** بنصره لم يخف بطشا من الزمن )
( فالثوب يطهر عند الغسل من درن ** والطرف ينهض بعد الركض في سنن )
( أنتم بذلتم حياة الخلق كلهم ** من دون من عليهم لا ولا ثمن )
( ونحن من بعض من أحيت مكارمكم ** كلتا الحياتين من نفس ومن بدن )
( وصبية كفراخ الورق من صغر ** لم يألفوا النوح في فرع ولا فنن )
____________________
(5/185)
( قد أوجدتهم أياد منك سابقة ** والكل لولاك لم يوجد ولم يكن )
فوقع عبد المؤمن على هذه القصيدة { آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } يونس 91
ومما كتب به من السجن
( أنوح على نفسي أم أنتظر الصفحا ** فقد آن أن تنسى الذنوب وأن تمحى )
( فها أنا في ليل من السخط حائر ** ولاأهتدي حتى أرى للرضى صبحا )
وامتحن عبد المؤمن الشعراء بهجو ابن عطية فلما أسمعوه ما قالوا أعرض عنهم وقال ذهب ابن عطية الأدب معه
وكان لأبي جعفر أخ اسمه عطية قتل معه ولعطية هذا ابن أديب كاتب وهو أبو طالب عقيل ابن عطية ومن نظمه في رجل تعشق قينة كانت ورثت من مولاها مالا فكانت تنفق عليه منه فلما فرغ المال ملها
( لا تلحه أن مل من حبها ** فلم يكن ذلك من ود )
( لما رآها قد صفا مالها ** قال صفا الوجد مع الوجد )
وكان أبو جعفر ابن عطية من أبلغ أهل زمانه وقد حكى أنه مر مع الخليفة عبد المؤمن ببعض طرق مراكش فأطلت من شباك جارية بارعة الجمال فقال عبد المؤمن
( قدت فؤادي من الشباك إذ نظرت ** )
فقال الوزير ابن عطية مجيزا له
( حوراء ترنو إلى العشاق بالمقل ** )
فقال عبد المؤمن
( كأنما لحظها في قلب عاشقها ** )
____________________
(5/186)
فقال ابن عطية
( سيف المؤيد عبد المؤمن بن علي ** )
ولا خفاء أن هذه طبقة عالية
ومن فصول رسالته التي كتب بها عن أبي حفص وهي التي أورثته الرتبة العلية السنية والوزارة الموحدية المؤمنية قوله
كتابنا هذا من وادي ماسة بعد ما تجدد من امر الله الكريم ونصر الله تعالى المعهود المعلوم { وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } آل عمران 126 فتح بهر الأنوار إشراقا وأحدق بنفوس المؤمنين إحداقا ونبه للأماني النائمة جفونا وأحداقا واستغرق غاية الشكر استغراقا فلا تطيق الألسن لكنه وصفه إدراكا ولا لحاقا جمع أشتات الطلب والأرب وتقلب في النعم أكرم منقلب وملأ دلاء الأمل إلى عقد الكرب
( فتح تفتح أبواب السماء له ** وتبرز الأرض في أثوابها القشب )
وتقدمت بشارتنا به جملة حين لم تعط الحال بشرحه مهلة كان أولئك الضالون المرتدون قد بطروا عدوانا وظلما واقتطعوا الكفر معنى واسما وأملى لهم الله تعالى ليزدادوا إثما وكان مقدمهم الشقي قد استمال النفوس بخزعبلاته واستهوى القلوب بمهولاته ونصب له الشيطان من حبالاته فأتته المخاطبات من بعد وكثب ونسلت إليه الرسل من كل حدب واعتقدته الخواطر أعجب عجب وكان الذي قادهم إلى ذلك وأوردهم تلك المهالك وصول من كان بتلك السواحل ممن ارتسم برسم الانقطاع عن الناس فيما سلف من الأعوام واشتغل على زعمه بالقيام والصيام آناء الليالي والأيام لبسوا الناموس أثوابا وتدرعوا الرياء جلبابا فلم يفتح الله تعالى لهم للتوفيق بابا
____________________
(5/187)
ومنها في ذكر صاحبهم الماسي المدعي للهداية فصرع بحمد الله تعالى لحينه وبادرت إليه بوادر منونه وأتته وافدات الخطيئات عن يساره ويمينه وقد كان يدعي أنه بشر بأن المنية في هذه الأعوام لا تصيبه والنوائب لا تنوبه ويقول في سواه قولا كثيرا ويختلق على الله تعالى إفكا وزورا فلما رأوا هيئة اضطجاعه وما خطته الأسنة في أعضائه وأضلاعه ونفذ فيه من أمر الله تعالى ما لم يقدروا على استرجاعه هزم من كان لهم من الأحزاب وتساقطوا على وجوههم تساقط الذباب وأعطوا عن بكرة أبيهم صفحات الرقاب ولم تقطر كلومهم إلا على الأعقاب فامتلأت تلك الجهات بأجسادهم وآذنت الآجال بانقراض آمادهم وأخذهم الله تعالى بكفرهم وفسادهم فلم يعاين منهم إلا من خر صريعا وسقى الأرض نجيعا ولقي من أمر الهنديات فظيعا ودعت الضرورة باقيهم إلى الترامي في الوادي فمن كان يؤمل الفرار ويرتجيه ويسح طامعا في الخروج إلى ما ينجيه اختطفته الأسنة اختطافا وأذاقته موتا ذعافا ومن لج في الترامي على لججه ورام البقاء في ثبجه قضى عليه شرقه وألوى بذقنه غرقه ودخل الموحدون إلى البقية الكائنة فيه ينتاولون قتالهم طعنا وضربا ويلقونهم بأمر الله تعالى هولا عظيما وكربا حتى انبسطت مراقات الدماء على صفحات الماء وحكت حمرتها على زرقته حمرة الشفق على زرقة السماء وجرت العبرة للمعتبر في جري ذلك الدم جري الأبحر
وبالجملة فالرجل كان نسيج وحده رحمه الله تعالى وسامحه وقضية لسان الدين تشبه قضيته وكلاهما قد ذاق من الذل بعد العز غصته وبدل الدهر نصيبه من الوزارة وحصته بعد أن اقتعد ذروة الأمر ومنصته رحم الله تعالى الجميع إنه مجيب سميع
____________________
(5/188)
& الباب الثالث &
في ذكر مشايخه الجلة هداة الناس ونجوم الملة وما يتعلق بذلك من الأخبار الشافية من العلة والمواعظ المنجية من الأهواء المضلة والمناسبات الواضحة البراهين والأدلة
أقول لا خفاء أن الشيخ لسان الدين رحمه الله تعالى أخذ عن جماعة من أهل العدوة والأندلس عدة فنون وحدث عنهم ما يصدق الأقوال ويحقق الظنون
1 - فمن أشياخه رحمه الله تعالى الفقيه الجليل الشريف النبيه الشهير رئيس العلوم اللسانية بالأندلس قاضي الجماعة أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسني السبتي رحمه الله تعالى كان هذا الشريف آية الله الباهرة في العربية والبيان والأدب ويكفيه فضلا أنه شرح الخزرجية وافترع هضاب مشكلاتها بفهمه من غير أن يسبقه أحد إلى استخراج كنوزها وإيضاح رموزها وشرح مقصورة أديب المغرب الإمام أبي الحسن حازم بن محمد القرطاجني الأندلسي التي مدح بها أمير المؤمنين المستنصر بالله أبا عبد الله محمدا الحفصي وسمى هذا الشرح برفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة وهذا
____________________
(5/189)
الشرح في مجلدين كبيرين وفيه من الفوائد ما لا مزيد عليه رأيته بالمغرب واستفدت منه كثيرا
ومن فوائد الشريف المذكور أنه قال فيما جاء من الحديث في صفة وضوء رسول الله فأقبل بهما وأدبر إن أحسن الوجوه في تأوليه أن يكون قدم الإقبال تفاؤلا ثم فسر بعد ذلك على معنى أدبر وأقبل قال والعرب تقدم في كلامها ألفاظا على ألفاظ أخرى وتلتزمه في بعض المواضع كقولهم قام وقعد ولا تقول قعد وقام وكذلك أكل وشرب ودخل وخرج وعلى هذا النمط كلام العرب فتكون هذه المسألة من هذا قال ويؤيد ما قلناه وهو موضع النكتة تفسيره لأقبل وأدبر في باقي الحديث على معنى أدبر ثم أقبل ولو كان اللفظ على ظاهره لم يحتج إلى تفسير انتهى
وحدث رحمه الله تعالى عن جده لأمه قال كنت بالمشرق فدخلت على بعض القرائين فألفيت الطلبة يعربون عليه قول امرئ القيس
( كأن أبانا في أفانين ودقه ** كبير أناس في بجاد مزمل )
فأنشد ولا أدري هل هي له أو لغيره
( إذا ما الليالي جاورتك بساقط ** وقدرك مرفوع فعنه ترحل )
( ألم تر ما لاقاه في جنب جاره ** كبير أناس في بجاد مزمل )
وكان بعض الناس ينشد في هذا المقصد قول الآخر
( عليك بأرباب الصدور فمن غدا ** مضافا لأرباب الصدور تصدرا )
____________________
(5/190)
( وإياك أن ترضى بصحبة ساقط ** فتنحط قدرا من علاك وتحقرا )
( فرفع أبو من ثم خفض مزمل ** يبين قولي مغريا ومحذرا )
وهذا معنى قول الشاعر
( إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ** ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى )
وما أحسن قول أبي بحر صفوان بن إدريس المرسي رحمه الله تعالى
( إنا إلى الله من أناس ** قد خلعوا لبسة الوقار )
( جاورتهم فانخفضت هونا ** يا رب خفض على الجوار )
ومن نظم الشريف رحمه الله تعالى
( وأحور زان خديه عذار ** سبى الألباب منظره العجاب )
( أقول لهم وقد عابوا غرامي ** به إذ لاح للدمع انسكاب )
( أبعد كتاب عارضه يرجى ** خلاص لي وقد سبق الكتاب )
ومن الغريب في توارد الخواطر ما وجد بخط الأديب البارع المحدث الكاتب أبي عبد الله محمد ابن الشيخ الكبير أبي القاسم ابن جزي الكلبي رحمهما الله تعالى وسيأتيان ما معناه قلت هذه القطعة
( ومعسول اللمى عادت عذابا ** على قلبي ثناياه العذاب )
( وقد كتب العذار بوجنتيه ** كتابا حظ قارئه اكتئاب )
( وقالوا لو سلوت فقلت خيرا ** وأنى لي وقد سبق الكتاب )
ثم عرضتها على شيخنا القاضي أبي القاسم الشريف بعد نظمها بمدة يسيرة فقال لي قد نظمت هذا المعنى بالعروض والقافية في هذه الأيام اليسيرة وأنشدني
( وأحور زان خديه عذار ** ) الأبيات السابقة
____________________
(5/191)
وهذا يقع كثيرا ومنه ما وقع لابن الرقام حيث قال من شعر عمي قوله
( جل في البلاد تنل عزا وتكرمة ** في أي أرض فكن تبلغ مناك بها )
( جل الفوائد بالأسفار مكتسب ** والله قد قال { فامشوا في مناكبها } )
فقال له الفقيه ابن حذلم مثل هذا وقع لأبي حيان إذ قال
( يا نفس ما لك تهوين الإقامة في ** أرض تعذر كل من مناك بها )
( أما تلوت وعجز المرء منقصة ** في محكم الوحي { فامشوا في مناكبها } )
فحصل العجب من هذا الاتفاق الغريب
ونقلت ممن نقل من خط الفقيه محمد بن علي بن الصباغ العقيلي ما صورته كان الشريف الغرناطي رحمه الله تعالى آية زمانه وأزمة البيان طوع بنانه له شرح المقصود القرطاجنية أغرب ما تتحلى به الآذان وأبدع ما ينشرح له الجنان إلى العقل الذي لا يدرك والفضل الذي حمد منه المسلك حدثني بنادرة جرت بينه وبين مولاي الوالد من أثق به من طلبة الأندلس وأعلامها قال دخل والدك يوما لأداء الشهادة عنده فوجد بين يديه جماعة من الغزاة يؤدون شهادة فسمع القاضي منهم وقال لهم هل ثم من يعرفكم فقالوا نعم يعرفنا علي الصباغ فقال القاضي أتعرفهم يا أبا الحسن فقال له نعم يا سيدي معرفة محمد بن يزيد فما أنكر عليه شيئا بل قال لهم عرف الفقيه أبو الحسن ما عنده فانظروا من يعرف معه رسم حالكم فانصرفوا راضين ولم يرتهن والدي في شيء من حالهم ولا كشف القاضي لهم ستر القضية
قال محمد بن علي بن الصباغ أما قول والدي معرفة محمد بن يزيد فإشارة إلى قول الشاعر
____________________
(5/192)
( أسائل عن ثمالة كل حي ** فكلهم يقول وما ثماله )
( فقلت محمد بن يزيد منهم ** فقالوا الآن زدت بهم جهالة )
فتفطن القاضي رحمه الله تعالى لجودة ذكائه إلى أنه لم يرتهن في شيء من معرفتهم ممتنعا من إظهار ذلك بلفظه الصريح فكنى واكتفى بذكاء القاضي الصحيح رحمهما الله تعالى انتهى
ومن فوائد الشريف ما حكاه عنه تلميذه الإمام النظار أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى ونصه قال لي الشيخ القاضي الكبير الشهير أبو القاسم الحسني يوما وقد جرى ذكر حتى التي للابتداء وأن معناها التي يقع بعدها الكلام سواء كان ذلك متعلقا بما قبلها لم يتم دونه أو لا بل لا يكون الأمر إلا كذلك قال وقد حدثني بعض الأصحاب أنه سمع رجلا يصلي أشفاع رمضان فقرأ من سورة الكهف إلى قوله تعالى { ثم أتبع سببا } الكهف 89 فوقف هنالك وركع وسجد قال فظننت أنه نسي ما بعد ثم ركع وسجد حتى يتذكر بعد ذلك ويعيد أول الكلام فلما قام من السجود ابتدأ القراءة بقوله { حتى إذا بلغ } الكهف 90 فلما أتم الصلاة قلت له في ذلك فقال أليست حتى الإبتدائية قال القاضي الشريف المذكور فيجب أن يفهم أن الاصطلاح في حتى وفي غيرها من حروف الابتداء ما ذكر انتهى
وقال الشاطبي أنشدني أبو محمد ابن حذلم لنفسه
( شأن المحبين في أشجانهم عجب ** وحالتي بينهم في الحب أعجبها )
( قد كنت أبعث من ريح الصبا رسلا ** تأتي فتطفىء أشواقي فتذهبها )
( والآن أرسل دمعي إثرها ديما ** فتلتظى نار وجدي حين أسكبها )
( فاعجب لنار اشتياق في الحشا وقفت ** ألريح تذهبها والماء يلهبها )
____________________
(5/193)
ثم قال الشاطبي ما نصه أخذ هذا المعنى فتممه من قطعة أنشدناها شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف رحمة الله تعالى عليه أذكر الآن آخر بيت منها وهو
( يا من رأى النار إن تطفأ مخالفة ** فبالرياح وإن توقد فبالماء )
وأخذ عن الشريف المذكور رحمه الله تعالى جماعة غير لسان الدين من أشهرهم العلامة النظار أبو إسحاق الشاطبي والوزير الكاتب أبو عبد الله ابن زمرك
قال حفيد السلطان الغني بالله بن الأحمر رحمه الله تعالى في حق ابن زمرك إنه كان يتردد في الأعوام العديدة إلى قاضي الجماعة أبي القاسم الشريف فأحسن الإصغاء وبذ الأئمة البلغاء بما أوجب أن رثاه عند الوقوف على قبره بالقصيدة الفريدة التي أولها
( أغرى سراة الحي بالإطراق ** )
وقال في موضع آخر ومما بذ به يعني ابن زمرك سبقا وتبريزا وعرضه على نقدة البيان فرأت منه كل مذهبة خلصت إبريزا مرثيته للقاضي المعظم الشريف أبي القاسم الحسني من شيوخه وهي
( أغرى سراة الحي بالإطراق ** نبأ أصم مسامع الآفاق )
( أمسى به ليل الحوادث داجيا ** والصبح أصبح كاسف الإشراق )
( فجمع الجميع بواحد جمعت له ** شتى العلا ومكارم الأخلاق )
( هبوا لحكمكم الرصين فإنه ** صرف القضاء فما له من واق )
( نقش الزمان بصرفه في صفحة ** كل اجتماع مؤذن بفراق )
( ماذا ترجى من زمانك بعدما ** علق الفناء بأنفس الأعلاق )
____________________
(5/194)
( من تحسد السبع الطباق علاءه ** عالوا عليه من الثرى بطباق )
( إن المنايا للبرايا غاية ** سبق الكرام لخصلها بسباق )
( لما حسبنا أن تحول أبؤسا ** كشفت عوان حروبها عن ساق )
( ما كان إلا البدر طال سراره ** حتى رمته يد الردى بمحاق )
( أنف المقام مع الفناء نزاهة ** فنوى الرحيل إلى مقام باق )
( عدم الموافق في مرافقة الدنا ** فنضى الركاب إلى الرفيق الباقي )
( أسفا على ذاك الجلال تقلصت ** أفياؤه وعهدن خير رواق )
( يا آمري بالصبر عيل تصبري ** دعني عدتك لواعج الأشواق )
( وذر اليراع تشي بدمع مدادها ** وشي القريض يروق في الأوراق )
( واحسرتا للعلم أقفر ربعه ** والعدل جرد أجمل الأطواق )
( ركدت رياح المعلوات لفقدها ** كسدت به الآداب بعد نفاق )
( كم من غوامض قد صدعت بفهمها ** خفيت مداركها على الحذاق )
( كم قاعد في البيد بعد قعوده ** قعدت به الآمال دون لحاق )
( لمن الركائب بعد بعدك تنتضي ** ما بين شام ترتمي وعراق )
( تفلى الفلا بمناسم مفلولة ** تسم الحصى بنجيعها الرقراق )
( كانت إذا اشتكت الوجى وتوقفت ** يهفو نسيم ثنائك الخفاق )
( فإذا تنسمت الثناء أمامها ** مدت لها الأعناق في الإعناق )
( يا مزجي البدن القلاص خوافقا ** رفقا بها فالسعي في إخفاق )
( مات الذي ورث العلا عن معشر ** ورثوا تراث المجد باستحقاق )
( رفعت لهم رايات كل جلالة ** فتميزوا في حلبة السباق )
____________________
(5/195)
( علم الهداة وقطب أعلام النهى ** حرم العفاة المجتنى الأرزاق )
( رقت سجاياه وراقت مجتلى ** كالشمس في بعد وفي إشراق )
( كالزهر في لألائه والبدر في ** عليائه والزهر في الإبراق )
( مهما مدحت سواه قيد وصفه ** وصفاته حمد على الإطلاق )
( يا وارثا نسب النبوة جامعا ** في العلم والأخلاق والأعراق )
( يا ابن الرسول وإنها لوسيلة ** يرقى بها أوج المصاعد راقي )
( ورد الكتاب بفضلكم وكمالكم ** فكفى ثناء الواحد الخلاق )
( مولاي إني في علاك مقصر ** قد ضاق عن حصر النجوم نطاقي )
( ومن الذي يحصي مناقب مجدكم ** عد الحصى والرمل غير مطاق )
( يهني قبورا زرتها فلقد ثوت ** منا مصون جوانح وحداق )
( خط الردى منها سطورا نصها ** لا بد أنك للفناء ملاق )
( ولحقت ترجمة الكتاب وصدره ** وفوائد المكتوب في الإلحاق )
( كم من سراة في القبور كأنهم ** في بطنها در ثوى بحقاق )
( قل للسحاب اسحب ذيولك نحوه ** والعب بصارم برقك الخفاق )
( أودى الذي غيث العباد بكفه ** يزري بواكف غيثك الغيداق )
( إن كان صوبك بالمياه فدرها ** در يروض ماحل الإملاق )
( بشر كثير قد نعوا لما نعى ** قاضي القضاة وغاب في الأطباق )
( ألبستهم ثوب الكرامة ضافيا ** وأرحت من كد ومن إرهاق )
( يتفيأون ظلال جاهك كلما ** لفحت سموم الخطب بالإحراق )
( عدموا المرافق في فراقك وانطوى ** عنهم بساط الرفق والإرفاق )
( رفعوا سريرك خافضين رؤوسهم ** مامنهم إلا حليف سياق )
____________________
(5/196)
( لكن مصيرك للنعيم مخلدا ** كان الذي أبقى على الأرماق )
( ومن العجائب أن يرى بحر الندى ** طود الهدى يسري في الأعناق )
( إن يحملوك على الكواهل طالما ** قد كنت محمولا على الأحداق )
( أو يرفعوك على العواتق طالما ** رفعت ظهر منابر وعتاق )
( ولئن رحلت إلى الجنان فإننا ** نصلى بنار الوجد والأشواق )
( لو كنت تشهد حزن من خلفته ** لثنى عنانك كثرة الإشفاق )
( إن جن ليل جن من فرط الأسى ** وسوى كلامك ما له من راق )
( فابعث خيالك في الكرى يبعث به ** ميت السرور لثاكل مشتاق )
( أغليت يا رزء التصبر مثلما ** أرخصت در الدمع في الآماق )
( إن يخلف الأرض الغمام فإنني ** أسقي الضريح بدمعي المهراق )
وكانت وفاة الشريف المذكور سنة إحدى وستين وسبعمائة
قال ابن الخطيب القسمطيني في وفياته وفي هذه السنة يعني سنة 761 توفي شيخنا قاضي الجماعة بغرناطة حرسها الله تعالى أبو القاسم محمد بن أحمد الشريف الحسني وكتب لي بالإجازة العامة بعد التمتع بمجلسه وله شعر مدون سماه جهد المقل وله الشرح على الخزرجية في العروض وأقدم عليها بعد أن عجز الناس عن فكها وكان إماما في الحديث والفقه والنحو وهو على
____________________
(5/197)
الجملة ممن يحصل الفخر بلقائه ولم يكن أحد بعده مثله بالندلس انتهى
وقال في الإحاطة إن مولد الشريف كان سنة سبع وتسعين وستمائة وإن وفاته سنة ستين وسبعمائة وفي وفاته مخالفة لما تقدم والله أعلم
وما أحسن قول الشريف أبي القاسم المترجم به
( حدائق أنبتت فيها الغوادي ** ضروب النور رائقة البهاء )
( فما يبدو بها النعمان إلا ** نسبناه إلى ماء السماء ) ابنا الشريف
وكان للشريف أبي القاسم المذكور ابنان نجيبان أحدهما قاضي الجماعة أبو المعالي والآخر أبو العباس أحمد قال الراعي في كتابه الفتح المنير في بعض ما يحتاج إليه الفقير ما نصه حكاية تتعلق بالانقطاع نسأل الله تعالى العافية وقع للسيد الشريف قاضي الجماعة بغرناطة أبي المعالي ابن السيد الشريف أبي القاسم الحسني شارح الخزرجية ومقصورة حازم نفع الله تعالى بسلفهم الكريم وكانت أم السيد أبي المعالي حسينية فكان شريفا من الجهتين أنه كان قد ترك كبار الوظائف والرياسات وتجرد للعبادة ولبس المرقعة وسلك طريق القوم وكان من الدين والعلم والتعظيم في قلوب أهل الدنيا وأهل الآخرة على جانب عظيم يشار إليه بالأصابع وكان أخوه شيخي وأستاذي أبو العباس أحمد قاضيا بشرقي الأندلس فكان أخوه أبو المعالي المذكور لا يأكل في بيت شقيقه شيئا لأجل
____________________
(5/198)
ذلك ولعيشه من خدم السلطان وكان إذا احتاج إلى الطعام وهو في بيت أخيه أعطاني درهما من عنده أشتري له به ما يأكل وأقام على هذا الحالة الحسنة سنين كثيرة ثم إنه دخل يوما على الفقراء بزاوية المحروق من ظاهر غرناطة وكان شيخ الفقراء بها في ذلك الوقت الشيخ أبا جعفر أحمد المحدود فقال لهم يا سادتي إنه كان معي قنديل أستضيء به فقدته في هذه الأيام وما بقيت أبصر شيئا فقال لهم شيخهم المذكور يا شريف أول رجل يدخل علينا في هذا المجلس يجيبك عن مسألتك فدخل عليهم رجل من خيارهم من أهل البادية فسلم وجلس فقال له الشيخ إن الشريف سأل الجماعة فقلت له أول رجل يدخل علينا يجيبك فوفقت أنت فأجبه عن مسألته فقال له ما سؤالك يا شريف فقال إنه كان لي قنديل أستضيء به ففقدته وما بقيت أبصر شيئا فقال له الفقير هذا لا يصدر إلا عن سوء أدب أخبرنا بما وقع منك فقال له الشريف ما أعلم أنه وقع مني شيء غير أن المباشر فلانا طلبه السلطان للمصادرة فاستخفى منه فمررت ببابه يوما فناداني من شقة الباب يا سيدي اجعل خاطرك معي لله تعالى فقلت له اذكر الذكر الفلاني قلت وأنا أظن أنه أمره بذكر اسمه تعالى اللطيف فإنه سريع الإجابة في تفريج الشدائد والكرب نص عليه البوني في منتخبه وهو مجرب في ذلك وقد رواه لي عن بعض مشايخه السيد الشريف أحمد أخوه فقال له الفقير هل كان أذن لك في تلقينه قال لا قال له الفقير لا يعود إليك نورك أبدا لأنك قد أسأت الأدب فكان كما قال فانقطع وولي بعده قضاء الجماعة وعزل عن سخط وخدم الملوك وأكل طعامهم وحالته أولا وآخرا معروفة بغرناطة نسأل الله تعالى أن لا يجعلنا من المطرودين عن باب رحمته بمنه وكرمه انتهى كلام الراعي رحمه الله تعالى
رجع إلى مشايخ لسان الدين رحمه الله تعالى ورضي عنه وسامحه فنقول
____________________
(5/199)
2 - ومن مشايخ لسان الدين الإمام الرحال شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن جابر الوادي آشي ولد بتونس وهو محمد ابن الإمام المحدث معين الدين جابر بن محمد بن قاسم بن أحمد القيسي شيخ ممتع نبيل رحال متقن
قال الخطيب ابن مرزوق وعاشرته كثيرا سفرا وحضرا وسمعت بقراءته وسمع بقراءتي وقرأت عليه الكثير وقيدت من فوائده وأنشدني الكثير فأول ما قرأت عليه بالقاهرة بمسجد ( . . . ) وقرأت عليه بمدينة فاس وبظاهر قسنطينة وبمدينة بجاية وبظاهر المهدية وبمنزلي من تلمسان وقرأت عليه أحاديث عوالي من تخريج الدمياطي وفيها الحديث المسلسل بالأولية وسلسلته عنه من غير رواية الدمياطي بشرطه ثم قرأت عليه أكثر كتاب الموطإ رواية يحيى وأعجله السفر فأتممته عليه في غير القاهرة وحدثني به عن جماعة ومعوله على الشيخين قاضي القضاة أبي العباس ابن الغماز الخزرجي وهو أحمد بن محمد بن حسن والشيخ أبي محمد ابن هارون وهو عبد الله بن محمد القرطبي الطائي الكاتب المعمر الأديب بحق سماعه لأكثره على الأول وقراءته بأجمعه على الثاني قال الأول أخبرنا أبو الربيع ابن سالم بجميع طرقه فيه منها عن ابن مرزوق وأبي عبد الله ابن أبي عبد الله الخولاني عن أبي عمرو عثمان بن أحمد المعافري عن أبي عيسى بسنده وقال الثاني أخبرنا أبو القاسم ابن بقي بقرطبة أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الحق عن محمد بن فرج مولى الطلاع عن يونس بتمام سنده
قال شيخنا وفي هذا السند غريبتان إحداهما أنه ليس فيه إجازة والثانية أن شيوخه كلهم قرطبيون
قال ابن مرزوق قلت ولا غرابة في اتصال سماع الموطإ وقراءته فقد
____________________
(5/200)
وقع لي على قلة التحصيل متصلا من طرق ولله الحمد وقد رويته عن قرطبي وهو أبو العباس ابن العشا ثم قرأت عليه كتاب الشفاء لعياض وحدثني به عن أبي القاسم عن أبي عبد الله ابن أبي القاسم الأنصاري المالقي نزيل سبتة ويعرف بها بابن حكم وبابن أخت أبي صالح عن أبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الخزرجي عن أبي جعفر أحمد بن حكم عن المؤلف وحدثني به أيضا عن قاضي الجماعة ابن أبي الربيع ابن سالم عن أبي جعفر ابن حكم
ثم قال ابن مرزوق بعد كلام ما صورته رويت عنه وأنشدني لأبي محمد ابن هارون
( لا تطمعن في نفع آلك إنه ** ضرر وقل النفع عند الآل )
( أقصر رويدك إن ما أعلقته ** بالآل من اهل كمثل الآل )
ولابن هارون المذكور
( أقل زيارة الأحباب ** تزدد عندهم قربا )
( فإن المصطفى قد قال ** زر غبا تزد حبا )
ولابن هارون أيضا
( رماني بالنوى زمني ** فشمل الأنس مفترق )
( وليلي كله فكر ** فقلبي منه محترق )
( وللآداب أبناء ** ببحر الفقر قد غرقوا )
( وكل منهم وجل ** بما يلقاه أو فرق )
____________________
(5/201)
( يغص بريقه منه ** كما في النطق أو شرق )
( وقد صفرت أكفهم ** فلا ورق ولا ورق )
( ولطف الله مرتقب ** به العادات تنخرق )
قال ابن مرزوق وشعره الفائق لا يحصر وهو عندي في مجلد كبير وولد ابن جابر سنة 67 وسمع بمصر على جماعة وكتب بخطه كثيرا وله معرفة بالحديث والنحو واللغة والشعر وله نظم حسن وتوفي بتونس سنة 779 وأخذ القراءات عن ابن الزيات وغيره وترجمة الحافظ ابن جابر رحمه الله تعالى واسعة مشهورة وقد ذكرناه في غير هذا الكتاب بما جمعناه أشعار لبعض شيوخ لسان الدين
ومما أنشده لسان الدين رحمه الله تعالى لبعض المتصوفة من شيوخه ولم يسمه قوله
( هل تعلمون مصارع العشاق ** عند الوداع بلوعة الأشواق )
( والبين يكتب من نجيع دمائهم ** إن الشهيد بكم توى بفراق )
( لو كنت شاهد حالهم يوم النوى ** لرأيت ما يلقون غير مطاق )
( منهم كثيب لا يمل بكاءه ** قد أحرقته مدامع الآماق )
( ومحرق الأحشاء أشعل نارها ** طول الوجيب بقلبه الخفاق )
( وموله لا يستطيع كلامه ** مما يقاسي في الهوى ويلاقي )
( خرس اللسان فما يطيق عبارة ** ألم ألم وما له من راق )
( ما للمحب من المنون وقاية ** إن لم يجد محبوبه بتلاق )
( مولاي عبدك ذاهب بغرامه ** أدرك بفضلك من ذماه الباقي )
( إني إليك بذلتي متوسل ** فاعطف بلطف منك أو إشفاق )
____________________
(5/202)
وهذه الأبيات أوردها رحمه الله تعالى في الروضة في العشق بعد أن حده وتكلم عليه ثم أورد عدة مقطوعات ثم ذكر منها هذه الأبيات كما ذكر
وأنشد لسان الدين رحمه الله تعالى لبعض أشياخه وسماه وأنسيته أنا الآن
( بما بيننا من خلوة معنوية ** أرق من النجوى وأحلى من السلوى )
( قفي ساعة في ساحة الدار وانظري ** إلى عاشق لا يستفيق من البلوى )
( وكم قد سألت الريح شوقا إليكم ** فما حن مسراها علي ولا ألوى )
وقوله أيضا
( أنست بوحدتي حتى لو أني ** أتاني الأنس لاستوحشت منه )
( ولم تدع التجارب لي صديقا ** أميل إليه إلا ملت عنه )
وقوله رحمه الله تعالى
( عليك بالعزلة إن الفتى ** من طاب بالقلة في العزلة )
( لا يرتجي عزلة وال ولا ** يخشى من الذلة في العزلة )
3 - ومن أكابر شيوخ ابن الخطيب رحمه الله تعالى جدي الإمام العلامة قاضي القضاة بحضرة الخلافة فاس المحروسة أبو عبد الله
قال في الإحاطة محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي القرشي المقري يكنى أبا عبد الله قاضي الجماعة بفاس تلمساني
أوليته نقلت من خطه قال وكان الذي اتخذها من سلفنا قرارا بعد أن كانت لمن قبله مزارا عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي المقري صاحب الشيخ
____________________
(5/203)
أبي مدين الذي دعا له ولذريته بما ظهر فيهم قبوله وتبين وهو أبي الخامس فأنا محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن وكان هذا الشيخ عروي الصلاة حتى إنه ربما امتحن بغير شيء فلم يؤنس منه التفات ولا استشعر منه شعور ويقال إن هذا الحضور مما أدركه من مقامات شيخه أبي مدين هل المقري الجد قرشي
وكتب بعض المغاربة على هامش هذا المحل من الإحاطة ما صورته القرشي وهم انتهى فكتب تحته الشيخ الإمام أبو الفضل ابن الإمام التلمساني رحمه الله تعالى ما نصه بل صحيح نطقت به الألسن والمكاتبات والإجازات وأعربت عنه الخلال الكريمة إلا أن البلدية يا سيدي أبا عبد الله والمنافسة تجعل القرشية في إمام المغرب أبي عبد الله المقري وهما والحمد لله انتهى
قلت وممن صرح بالقرشية في حق الجد المذكور ابن خلدون في تاريخه وابن الأحمر في نثير الجمان وفي شرح البردة عند قوله
( لعل رحمة ربي حين ينشرها ** )
والشيخ ابن غازي والولي الصالح سيدي أحمد رزوق والشيخ العلامة علامة زمانه سيدي أحمد الونشريسي وغير واحد وكفى بلسان الدين شاهدا مزكى
وقد ألف عالم الدنيا ابن مرزوق تأليفا استوفى فيه التعريف بمولاي الجد سماه النور البدري في التعريف بالفقيه المقري وهذا بناء منه على مذهبه أنه
____________________
(5/204)
بفتح الميم وسكون القاف كما صرح بذلك في شرح الألفية عند قوله
( ووضعوا لبعض الأجناس علم ** )
وضبطه غيرهم وهم الأكثرون بفتح الميم وتشديد القاف وعلى ذلك عول أكثر المتأخرين وهما لغتان في البلدة التي نسب إليها وهي مقرة من قرى زاب إفريقية وانتقل منها جده إلى تلمسان صحبة شيخه ولي الله سيدي أبي مدين رضي الله عنه
رجع إلى تكملة كلام مولاي الجد في حق أوليته
قال رحمه الله تعالى بعد الكلام السابق في حق جده عبد الرحمن ما صورته ثم اشتهرت ذريته على ما ذكر من طبقاتهم بالتجارة فمهدوا طريق الصحراء بحفر الآبار وتأمين التجار واتخذوا طبلا للرحيل وراية تقدم عند المسير وكان ولد يحيى الذين أحدهم أبو بكر خمسة رجال فعقدوا الشركة بينهم في جميع ما ملكوه أو يملكونه على السواء بينهم والاعتدال فكان أبو بكر ومحمد وهما أرومتا نسبي من جميع جهات أمي وأبي بتلمسان وعبد الرحمن وهو شقيقهما الأكبر بسجلماسة وعبد الواحد وعلي وهما شقيقاهم الصغيران بإيوالاتن فاتخذوا بهذه الأقطار الحوائط والديار وتزوجوا النساء واستولدوا الإماء وكان التلمساني يبعث إلى الصحراوي بما يرسم له من السلع ويبعث إليه الصحراوي بالجلد والعاج والجوز والتبر والسجلماسي كلسان الميزان يعرفهما بقدر الخسران والرجحان ويكاتبهما باحوال التجار وأخبار البلدان حتى اتسعت أموالهم وارتفعت في الضخامة أحوالهم ولما فتح التكرور كورة إيوالاتن وأعمالها أصيبت أموالهم فيما أصيب من أموالها بعد أن جمع من كان بها منهم إلى نفسه الرجال ونصب دونها ودون مالهم القتال ثم اتصل بملكهم فأكرم مثواه
____________________
(5/205)
ومكنه من التجارة بجميع بلاده وخاطبه بالصديق الأحب والخلاصة الأقرب ثم صار يكاتب من بتلمسان يستقضي منهم مآربه فيخاطبه بمثل تلك المخاطبة وعندي من كتبه وكتب ملوك المغرب ما ينبئ عن ذلك فلما استوثقوا من الملوك تذللت لهم الأرض للسلوك فخرجت أموالهم عن الحد وكادت تفوت الحصر والعد لأن بلاد الصحراء قبل أن يدخلها أهل مصر كان يجلب إليها من المغرب ما لا بال له من السلع فتعاوض عنه بما له بال من الثمن أي مدبر دنيا ضم جنبا أبي حمو وشمل ثوباه كان يقول لولا الشناعة لم أزل في بلادي تاجرا من غير تجار الصحراء الذين يذهبون بخبيث السلع ويأتون بالتبر الذي كل أمر الدنيا له تبع ومن سواهم يحمل منها الذهب ويأتي إليها بما يضمحل عن قريب ويذهب ومنه ما يغير من العوائد ويجر السفهاء إلى المفاسد ولما درج هؤلاء الأشياخ جعل أبناؤهم ينفقون مما تركوا لهم ولم يقوموا بأمر التثمير قيامهم وصادفوا توالي الفتن ولم يسلموا من جور السلاطين فلم يزل حالهم في نقصان إلى هذا الزمن فها أنا ذا لم أدرك من ذلك إلا أثر نعمة اتخذنا فضوله عيشا وأصوله حرمة ومن جملة ذلك خزانة كبيرة من الكتب وأسباب كثيرة تعين على الطلب فتفرغت بحول الله عز وجل للقراءة فاستوعبت أهل البلد لقاء وأخذت عن بعضهم عرضا وإلقاء سواء المقيم القاطن والوارد والظاعن انتهى كلامه في أوليته وقد نقله لسان الدين في الإحاطة
وقال مولاي الجد رحمه الله تعالى كان مولدي بتلمسان أيام أبي حمو موسى عثمان بن يغمراسن بن زيان وقد وقفت على تاريخ ذلك ولكني
____________________
(5/206)
رأيت الصفح عنه لأن أبا الحسن ابن مؤمن سأل أبا طاهر السلفي عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت أبا الفتح ابن زيان عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت علي بن محمد اللبان عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت أبا القاسم حمزة بن يوسف السهمي عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت أبا بكر محمد بن عدي المنقري عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت أبا إسماعيل الترمذي عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت بعض أصحاب الشافعي عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت الشافعي عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت مالك بن أنس عن سنه فقال أقبل على شانك ليس من المروءة للرجل أن يخبر بسنه انتهى
قلت ولما تذاكرت مع مولاي العم الإمام صب الله تعالى على مضجعه من الرحمة الغمام هذا المعنى الذي ساقه مولاي الجد رحمه الله تعالى أنشدني لبعضهم
( احفظ لسانك لا تبح بثلاثة ** سن ومال ما استطعت ومذهب )
( فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة ** بمكفر وبحاسد ومكذب )
قال الونشريسي في حق الجد ما نصه القاضي الشهير الإمام العالم أبو عبد الله محمد بن محمد المقري التلمساني المولد والمنشأ الفاسي المسكن كان رحمه الله تعالى عالما عاملا ظريفا نبيها ذكيا نبيلا فهما متيقظا جزلا محصلا انتهى
وقد وقفت له بالمغرب على مؤلف عرف فيه بمولاي الجد وذكر جملة من أحواله وذلك أنه طلبه بعض أهل عصره في تأليف أخبار الجد فألف فيه ما ذكر
____________________
(5/207)
وقال في الإحاطة في ترجمة مولاي الجد بعد ذكره أوليته ما صورته حاله هذا الرجل مشار إليه بالعدوة الغربية اجتهادا ودؤوبا وحفظا وعناية واطلاعا ونقلا ونزاهة سليم الصدر قريب الغور صادق القول مسلوب التصنع كثير الهشة مفرط الخفة ظاهر السذاجة ذاهب أقصى مذاهب التخلق محافظ على العمل مثابر على الإنقطاع حريص على العبادة مضايق في العقد والتوجه يكابد من تحصيل النية بالوجه واليدين مشقة ثم يغافص الوقت فيها ويوقعها دفعة متبعا إياها زعقة التكبير برجفة ينبو عنها سمع من لم تؤنسه بها العادة بما هو دليل على حسن المعاملة وإرسال السجية قديم النعمة متصل الخيرية مكب على النظر والدرس والقراءة معلوم الصيانة والعدالة منصف في المذاكرة حاسر للذراع عند المباحثة راحب عن الصدر في وطيس المناقشة غير مختار للقرن ولا ضان بالفائدة كثير الالتفات متقلب الحدقة جهير بالحجة بعيد عن المراء والمباهتة قائل بفضل أولي الفضل من الطلبة يقول أتم القيام على العربية والفقه والتفسير ويحفظ الحديث ويتهجر بحفظ التاريخ والأخبار والآداب ويشارك مشاركة فاضلة في الأصلين والجدل والمنطق ويكتب ويشعر مصيبا غرض الإجادة ويتكلم في طريقة الصوفية كلام أرباب المقال ويعتني بالتدوين فيها شرق وحج ولقي جلة واضطبن رحلة مفيدة ثم عاد إلى بلده فأقرأ به وانقطع إلى خدمة العلم فلما ولي ملك المغرب السلطان محالف الصنع ونشيدة الملك وأثير الله من بين القرابة والأخوة أمير المؤمنين أبو عنان اجتذبه وخلطه بنفسه واشتمل عليه وولاه قضاء الجماعة بمدينة فاس فاستقل بذلك أعظم الاستقلال وأنفذ الحق وألان الكلمة وآثر التسديد وحمل الكل وخفض الجناح
____________________
(5/208)
فحسنت عنه القالة وأحبته الخاصة والعامة حضرت بعض مجالسه للحكم فرأيت من صبره على اللدد وتأنيه للحجج ورفقه بالخصوم ما قضيت منه العجب
دخوله غرناطة ثم لما أخر عن القضاء استعمل بعد لأي في الرسالة فوصل الأندلس أوائل جمادى الثانية من عام سبعة وخمسين وسبعمائة فلما قضى غرض رسالته وأبرم عقد وجهته واحتل مالقة في منصرفه بدا له في نبذ الكلفة واطراح وظيفة الخدمة وحل التقيد إلى ملازمة الإمرة فتقاعد وشهر غرضه وبت في الانتقال طمع من كان صحبته وأقبل على شأنه فخلي بينه وبين همه وترك وما انتحله من الانقطاع إلى ربه وطار الخبر إلى مرسله فأنف من تخصيص إيالته بالهجرة والعدول عنها بقصد التخلي والعبادة وأنكر ما حقه الإنكار من إبطال عمل الرسالة والانقباض قبل الخروج عن العهدة فوغر صدره على صاحب الأمر ولم يبعد حمله على الظنة والمواطأة على النفرة وتجهزت جملة من الخدام المجلين في مأزق الشبهة المضطلعين بإقامة الحجة مولين خطة الملام مخيرين بين سحائب عاد من إسلامه مظنة إعلاق النقمة وإيقاع العقوبة أو الإشادة بسبب إجارته بالقطيعة والمنابذة وقد كان المترجم به لحق بغرناطة فتذمم بمسجدها وجأر بالانقطاع إلى الله وتوعد من يجبره بنكير من يجير ولا يجار عليه سبحانه فأهم أمره وشغلت القلوب آبدته وأمسك الرسل بخلال ما صدرت شفاعة اقتضى له فيها رفع التبعة وتركه إلى تلك الوجهة ولما تحصل ما تيسر من ذلك انصرف محفوفا بعالمي القطر قاضي الجماعة أبي القاسم الحسني المذكور قبله والشيخ الخطيب أبي البركات ابن الحاج مسلمين لوروده
____________________
(5/209)
مشافهين بالشفاعة في غرضه فانقشعت الغمة وتنفست الكربة واستصحبا من المخاطبة السلطانية في أمره من إملائي ما يذكر حسبما ثبت في الكتاب المسمى بكناسة الدكان بعد انتقال السكان المجموع بسلا ما صورته
المقام الذي يحب الشفاعة ويرعى الوسيلة وينجز العدة ويتمم الفضيلة ويضفي مجده المنن الجزيلة ويعيي حمده الممادح العريضة الطويلة مقام محل والدنا الذي كرم مجده ووضع سعده وصح في الله تعالى عقده وخلص في الأعمال الصالحة قصده وأعجز الألسنة حمده السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله سبحانه لوسيلة يرعاها وشفاعة يكرم مسعاها وأخلاق جميلة تجيب دعوة الطبع الكريم إذا دعاها معظم سلطانه الكبير وممجد مقامه الشهير المتشيع لأبوته الرفيعة قولا باللسان واعتقادا بالضمير المعتمد منه بعد الله على الملجإ الأحمى والولي النصير فلان سلام كريم طيب بر عميم يخص مقامكم الأعلى وأبوتكم الفضلى ورحمة الله وبركاته
أما بعد حمد الله الذي جعل الخلق الحميد دليلا على عنايته بمن حلاه حلاها وميز بها النفوس النفيسة التي اختصها بكرامته وتولاها حمدا يكون كفؤا للنعم التي أولاها وأعادها ووالاها والصلاة على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله المترقي من درجات الاختصاص أرفعها وأعلاها الممتاز من أنوار الهداية بأوضحها واجلاها مطلع آيات السعادة يروق مجتلاها والرضى عن آله وصحبه الذين خبر صدق ضمائرهم لما ابتلاها وعسل ذكرهم في الأفواه فما أعذب أوصافهم على الألسن وأحلاها والدعاء لمقام أبوتكم حرس الله تعالى علاها بالسعادة التي يقول الفتح أنا طلاع الثنايا وابن جلاها والصنائع
____________________
(5/210)
التي تخترق المفاوز بركائبها المبشرات فتفلي فلاها فإنا كتبنا إليكم كتب الله تعالى لكم عزة مشيدة البناء وحشد على أعلام صنائعكم الكرام جيوش الثناء وقلدكم من قلائد مكارم الأخلاق ما يشهد لذاتكم منه بسابقة الاعتناء من حمراء غرناطة حرسها الله والود باهر السنا ظاهر السناء مجدد على الآناء والتشيع رحب الدسيعة والفناء
وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم وحرس مجدكم فإننا خاطبنا مقامكم الكريم في شأن الشيخ الفقيه الحافظ الصالح أبي عبد الله المقري خار الله تعالى لنا وله وبلغ الجميع من فضله العميم أمله جوابا عما صدر عن مثابتكم فيه من الإشارة الممتثلة والمآرب المعملة والقضايا غير المهملة نصادركم بالشفاعة التي مثلها بأبوابكم لا يرد وظمآها عن منهل قبولكم لا تحلأ ولا تصد حسبما سنه الأب الكريم والجد والقبيل الذي وضح منه في المكارم الرسم والحد ولم نصدر الخطاب حتى ظهر لنا من أحواله صدق المخيلة وتبلج صبح الزهادة والفضيلة وجود النفس الشحيحة بالعرض الأدنى البخيلة وظهر تخليه عن هذه الدار واختلاطه باللفيف والغمار وإقباله على ما يعني مثله من صلة الأوراد ومداومة الاستغفار وكنا لما تعرفنا إقامته بمالقة لهذا الغرض الذي شهره والفضل الذي أبرزه للعيان وأظهره أمرنا أن يعتني بأحواله ويعان على فراغ باله ويجري عليه سيب من ديوان الأعشار الشرعية وصريح ماله وقلنا ما أتاك من غير مسألة مستند صحيح لاستدلاله ففر من مالقة على ما تعرفنا لهذا السبب وقعد بحضرتنا مستور المنتمى والمنتسب وسكن بالمدرسة بعض الأماكن المعدة لسكنى المتسمين بالخير والمحترفين ببضاعة الطلب بحيث لم يتعرف وروده ووصوله إلى ممن لا يؤبه بتعريفه ولم تتحقق زوائده وأصوله لقلة تصريفه
ثم تلاحق إرسالكم الجلة فوجبت حينئذ الشفاعة وعرضت على سوق الحلم والفضل من الاستلطاف والاستعطاف البضاعة وقررنا ما تحققناه من أمره
____________________
(5/211)
وانقباضه عن زيد الخلق وعمره واستقباله الوجهة التي من ولى وجهه شطرها فقد آثر أثيرا ومن ابتاعها بمتاع الدنيا فقد نال فضلا كبيرا وخيرا كثيرا وسألنا منكم أن تبيحوا له ذلك الغرض الذي رماه بعزمه وقصر عليه أقصى همه فما أخلق مقامكم أن يفوز منه طالب الدنيا بسهمه ويحصل منه طالب الآخرة على حظه الباقي وقسمه ويتوسل الزاهد بزهده والعالم بعلمه ويعول البرئ على فضله ويثق المذنب بحلمه فوصل الجواب الكريم بمجرد الأمان وهو أرب من آراب وفائدة من جراب ووجه من وجوه إعراب فرأينا أن المطل بعد جفاء والإعادة ليس يثقلها خفاء ولمجدكم بما ضمنا عنه وفاء وبادرنا الآن إلى العزم عليه في ارتحاله وأن يكون الانتقال عن رضى منه من صفة حاله وأن يقتضي له ثمرة المقصد ويبلغ طية الإسعاف في الطريق الأقصد إذ كان الأمان لمثله ممن تعلق بجناب الله مثلكم حاصلا والدين المتين بين نفسه وبين المخافة فاصلا وطالب كيمياء السعادة بإعانتكم واصلا ولما مدت اليد في تسويغ حالة هديكم عليها أبدا يحرض وعلمكم يصرح بمزيتها فلا يعرض فكملوا أبقاكم الله ما لم تسعنا فيه مشاحة الكتاب وألحقوا بالأصل حديث هذه الإباحة فهو أصح حديث في الباب ووفوا غرضنا من مجدكم وخلوا بينه وبين مراده من ترك الأسباب وقصد غافر الذنب وقابل التوب بإخلاص المتاب والتشمير ليوم العرض وموقف الحساب وأظهروا عليه عناية الجناب الذي تعلق به أعلق الله به يدكم من جناب ومعاذ الله أن تعود شفاعتنا من لدنكم غير مكملة الاراب
وقد بعثنا من ينوب عنا في مشافهتكم بها أحمد المناب ويقتضي خلاصها بالرغبة لا بالغلاب وهما فلان وفلان ولولا الأعذار لكان في هذا الغرض إعمال الركاب يسبق أعلام الكتاب وأنتم تولون هذا القصد من مكارمكم ما يوفر الثناء الجميل ويربي على التأميل ويكتب على الود الصريح العقد وثيقة التسجيل وهو سبحانه يبقيكم لتأييد المجد الأثيل وإنالة الرفد الجزيل والسلام
____________________
(5/212)
الكريم يخص مقامكم الأعلى ومثابتكم الفضلى ورحمة الله تعالى وبركاته في الحادي والعشرين لجمادى الآخرة من عام سبعة وخمسين وسبعمائة انتهى كلام ابن الخطيب في الإحاطة
وذكر في الريحانة أنه كتب في هذا الغرض ما نصه
وإلى هذا فإننا وقفنا على كتابكم الكريم في شأن الشيخ الصالح الفقيه الفاضل أبي عبد الله المقري وفقنا الله وإياه لما يزلف لديه وهدانا لما يقرب إليه وما بلغكم يتقاعده بمالقة وما أشرتم به في أمره فاستوفينا جميع ما قررتم واستوعبنا ما أجملتم في ذلك وفسرتم واعلموا يا محل والدنا أمتعنا الله ببقائكم الذي في ضمنه اتصال السعادة وتعرف النعم المعادة أننا لما انصرف عن بابنا هو ومن رافقه عن انشراح صدور وتكييف جذل بما تفضلتم به وسرور تعرفنا أنه تقاعد بمالقة عن صحبه وأظهر الاشتغال بما يخلصه عنه ربه وصرف الوجه إلى التخلي مشفقا من ذنبه واحتج بأن قصده ليس له سبب ولا تعين له في الدنيا أرب وأنه عرض عليكم أن تسمحوا له فيما ذهب إليه وتقروه عليه فيعجل البدار ويمهد تحت إيالتكم القرار فلما بلغنا هذا الخبر لم يخلق الله عندنا به مبالاة تعتبر ولا أعددناه فيما يذكر فكيف فيما ينكر وقطعنا أن الأمر فيه هين وأن مثل هذا الغرض لا تلتفت إليه عين فإن بابكم غني من طبقات أولي الكمال ملي بتسويغ الآمال موفور الرجال معمور بالفقهاء العارفين بأحكام الحرام والحلال والصلحاء أولي المقامات والأحوال والأدباء فرسان الروية والارتجال ولم ينقص بفقدان الحصى أعداد الرمال ولا يستكثر بالقطرة جيش العارض المنثال مع ما علم من إعانتكم على مثل هذه الأعمال واستمساككم بإسعاف غرض من صرف وجهه إلى ذي الجلال ولو علمنا أن شيئا يهجس في الخاطر من أمر مقامه لقابلناه بعلاج سقامه
ثم لم ينشب أن تلاحق بحضرتنا بارزا في طور التقلل والتخفيف خالطا
____________________
(5/213)
نفسه باللفيف قد صار نكرة بعد العلمية والتعريف وسكن بعض مواضع المدرسة منقبضا عن الناس لا يظهر إلا لصلاة يشهد جماعتها ودعوة للعباد يخاف إضاعتها ثم تلاحق إرسالكم الجلة الذي تحق لمثلهم التجلة فحضروا لدينا وأدوا المخاطبة الكريمة كما ذكر إلينا وتكلمنا معهم في القضية وتنخلنا في الوجوه المرضية فلم نجد وجها أخلص من هذا الغرض ولا علاجا يتكفل ببرء المرض من إن كلفناهم الإقامة التي يتبرك بيمن جوارها ويعمل على إيثارها بخلاف ما نخاطب مقامكم بهذا الكتاب الذي مضمنه شفاعة يضمن حباؤكم احتسابها ويرعى انتماءها إلى الخلوص وانتسابها ويعيدها وقد أعملت الحظوة أثوابها ونقصدكم ومثلكم من يقصد في المهمة فأنتم المثل الذائع في عموم الحلم وعلو الهمة في أن تصدروا له مكتوبا مكمل الفصول مقرر الأصول يذهب الوجل ويرفع الخجل ويسوغ من مآربه لديكم الأمل ويخلص النية ويرتب العمل حتى يظهر ما لنا عند أبوتكم من تكميل المقاصد جريا على ما بذلتم من جميل العوائد وإذا تحصل ذلك كان بفضل الله إيابه وأناخت بعقوة وعدكم الوفي ركابه ويحصل لمقامكم عزه ومجده وثوابه وأنتم ممن يرعى أمور المجد حق الرعاية ويجري في معاملة الله تعالى على ما أسس من فضل البداية وتحقق الظنون فيما لديه من المدافعة عن حوزة الإسلام والحماية هذا ما عندنا أعجلنا به الإعلام وأعملنا فيه الأقلام بعد ان أجهدنا الاختيار وتنخلنا الكلام وجوابكم بالخير كفيل ونظركم لنا وللمسلمين جميل والله تعالى يصل سعدكم ويحرس مجدكم والسلام انتهى
قلت هذه آفة مخالطة الملوك فإن مولاي الجد المذكور كان نزل عن القضاء وغيره فلما أراد التخلي إلى ربه لم يتركه السلطان أبو عنان كما رأيت
____________________
(5/214)
شيوخ المقري الجد
وقد ذكر لسان الدين رحمه الله تعالى في الإحاطة شيوخ مولانا الجد فلنذكرهم من جزء الجد الذي سماه نظم اللآلي في سلوك الأمالي ومنه اختصر لسان الدين ما في الإحاطة في ترجمة مشيخته فنقول قال مولاي الجد رحمه الله تعالى
1 ، 2 - فممن أخذت عنه واستفدت منه علماها يعني تلمسان الشامخان وعالماها الراسخان أبو زيد عبد الرحمن وأبو موسى عيسى ابنا محمد بن عبد الله ابن الإمام وكانا قد رحلا في شبابهما من بلدهما برشك إلى تونس فأخذا بها عن ابن جماعة وابن العطار واليفرني وتلك الحلبة وأدركا المرجاني وطبقته من إعجاز المائة السابعة ثم وردا في أول المائة الثامنة تلمسان على أمير المسلمين أبي يعقوب وهو محاصر لها وفقيه حضرته يومئذ أبو الحسن علي بن يخلف التنسي وكان قد خرج إليه برسالة من صاحب تلمسان المحصورة فلم يعد وارتفع شأنه عند أبي يعقوب حتى إنه شهد جنازته ولم يشهد جنازة أحد قبله وقام على قبره وقال نعم الصاحب فقدنا اليوم حدثني الحاج الشيخ بعباد تلمسان أبو عبد الله محمد بن محمد بن مرزوق العجيسي أن أبا يعقوب طلع إلى جنازة التنسي في الخيل حوالي روضة الشيخ ابي مدين فقال كيف تتركون الخيل تصل إلى ضريح الشيخ هلا عرضتم هنالك وأشار إلى حيث المعراض الآن خشبة ففعلنا فلما قتل أبو يعقوب وخرج المحصوران أنكرا ذلك فأخبرتهما فأما أبو زيان وكان السلطان يومئذ فنزل وطأطأ رأسه ودخل
____________________
(5/215)
وأما أبو حمو وكان أميرا فوثب وخلفها ولما رجع الملك إلى هذين الرجلين اختصا ابني الإمام وكان أبو حمو أشد اعتناء بهما ثم بعده ابنه أبو تاشفين ثم زادت حظوتهما عند أمير المسلمين أبي الحسن إلى أن توفي أبو زيد في العشر الأوسط من رمضان عام أحد وأربعين وسبعمائة بعد وقعة طريف بأشهر فزادت مرتبة أبي موسى عند السلطان إلى أن كان من أمر السلطان بإفريقية ما كان في أول عام تسعة وأربعين وكان أبو موسى قد صدر عنه قبل الوقعة فتوجه صحبة ابنه أمير المسلمين أبي عنان إلى فاس ثم رده إلى تلمسان وقد استولى عليها عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان فكان عنده إلى أن مات الفقيه عقب الطاعون العام
قال لي خطيب الحضرة الفاسية أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن مالك بن عبد الله الرندي لما أزمع الفقيه ومن أطلق معه على القفول إلى تلمسان بت على تشييعهم فرأيتني كأنني نظمت هذا البيت في المنام
( وعند وداع القوم ودعت سلوتي ** وقلت لها بيني فأنت المودع )
فانتهبت وهو في في فحاولت قريحتي بالزيادة عليه فلم يتيسر لي مثله
ولما استحكم ملك أبي تاشفين واستوثق رحل الفقيهان إلى المشرق في حدود العشرين وسبعمائة فلقيا علاء الدين القونوي وكان بحيث إني لما رحلت فلقيت أبا علي حسين بن حسين ببجاية قال لي إن قدرت أن لا يفوتك شيء من كلام القونوي حتى تكتب جميعه فافعل فإنه لا نظير له ولقيا أيضا جلال الدين القزويني صاحب البيان وسمعا صحيح البخاري على الحجار وقد سمعته أنا عليهما وناظرا تقي الدين بن تيمية وظهرا عليه وكان ذلك من أسباب محنته وكانت له مقالات فيما يذكر وكان شديد الإنكار على الإمام فخر الدين حدثني
____________________
(5/216)
شيخي العلامة أبو عبد الله الآبلي أن عبد الله بن إبراهيم الزموري أخبره أنه سمع ابن تيمة ينشد لنفسه
( محصل في أصول الدين حاصله ** من بعد تحصيله علم بلا دين )
( أصل الضلالة والإفك المبين فما ** فيه فأكثره وحي الشياطين )
قال وكان في يده قضيب فقال والله لو رأيته لضربته بهذا القضيب هكذا ثم رفعه ووضعه
وبحسبك مما طار لهذين الرجلين من الصيت بالمشرق أني لما حللت بيت المقدس وعرف به مكاني من الطلب وذلك أني قصدت قاضيه شمس الدين بن سالم ليضع لي يده على رسم أستوجب به هنالك حقا فلما أطللت عليه عرفه بي بعض من معه فقال إلي حتى جلست ثم سألني بعض الطلبة بحضرته فقال لي إنكم معشر المالكية تبيحون للشامي يمر بالمدينة أن يتعدى ميقاتها إلى الجحفة وقد قال رسول الله بعد ان عين المواقيت لأهل الآفاق هن لهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن وهذا قد مر علي ذي الحليفة وليس من أهله فيكون له فقلت له إن النبي قال من غير أهلهن أي من غير أهل المواقيت وهذا سلب كلي وإنه غير صادق على هذا الفرد ضرورة صدق نقيضه وهو الإيجاب الجزئي عليه لأنه من بعض أهل المواقيت قطعا فلما لم يتناوله النص رجعنا إلى القياس ولا شك أنه لا يلزم أحدا أن يحرم قبل ميقاته وهو يمر به لكن من ليس من أهل الجحفة لا يمر بميقاته إذا مر بالمدينة فوجب عليه الإحرام من ميقاتها بخلاف أهل الجحفة فإنها بين أيديهم وهم يمرون عليها فوقعت من نفوس أهل البلد بسبب ذلك فلما عرفت أتاني آت من أهل المغرب فقال لي تعلم أن مكانك في
____________________
(5/217)
نفوس أهل هذا البلد مكين وقدرك عندهم رفيع وأنا أعلم انقباضك عن ابني الإمام فإن سئلت فانتسب لهما فقد سمعت منهما وأخذت عنهما ولا تظهر العدول عنهما إلى غيرهما فتضع من قدرك فإنما أنت عند هؤلاء الناس خليفتهما ووارث علمهما وأن لا أحد فوقهما
( وليس لما تبني يد الله هادم ** )
وشهدت مجلسا بين يدي السلطان أبي تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو ذكر فيه أبو زيد ابن الإمام أن ابن القاسم مقلد مقيد النظر بأصول مالك ونازعه أبو موسى عمران بن موسى المشدالي وادعى أنه مطلق الاجتهاد واحتج له بمخالفته لبعض ما يرويه ويبلغه عنه لما ليس من قوله واتى من ذلك بنظائر كثيرة قال فلو تقيد بمذهبه لم يخالفه لغيره فاستظهر أبو زيد بنص لشرف الدين التلمساني مثل فيه الاجتهاد المخصوص باجتهاد ابن القاسم بالنظر إلى مذهب مالك والمزني إلى الشافعي فقال عمران هذا مثال والمثال لا تلزم صحته فصاح به أبو موسى ابن الإمام وقال لأبي عبد الله ابن أبي عمرو تكلم فقال لا أعرف ما قال هذا الفقيه الذي أذكره من كلام أهل العلم أنه لا يلزم من فساد المثال فساد الممثل فقال أبو موسى للسلطان هذا كلام أصولي محقق فقلت لهما وأنا يومئذ حديث السن ما أنصفتما الرجل فإن المثل كما تؤخذ على جهة التحقيق كذلك تؤخذ على طريق التقريب ومن ثم جاء ما قاله هذا الشيخ أعني ابن أبي عمرو وكيف لا وهذا سيبويه يقول وهذا مثال ولا يتكلم به فإذا صح أن المثال قد يكون تقريبا فلا يلزم صحة المثال ولا فساد الممثل لفساده فهذان القولان من أصل واحد
____________________
(5/218)
وشهدت مجلسا آخر عند هذا السلطان قرئ فيه على أبي زيد ابن الإمام حديث لقنوا موتاكم لا إله إلا الله في صحيح مسلم فقال له الأستاذ أبو إسحاق ابن حكم السلوي هذا الملقن محتضر حقيقة ميت مجازا فما وجه ترك محتضريكم إلى موتاكم والأصل الحقيقة فأجابه أبو زيد بجواب لم يقنعه وكنت قد قرأت على الأستاذ بعض التنقيح فقلت زعم القرافي أن المشتق إنما يكون حقيقة في الحال مجازا في الاستقبال مختلفا فيه في الماضي إذا كان محكوما به أما إذا كان متعلق الحكم كما هنا فهو في حقيقة مطلقا إجماعا وعلى هذا التقرير لا مجاز فلا سؤال لا يقال إنه احتج على ذلك بما فيه نظر لأنا نقول أنه نقل الإجماع وهو أحد الأربعة التي لا يطالب مدعيها بالدليل كما ذكر أيضا بل نقول إنه أساء حيث احتج في موضع الوفاق كما أساء اللخمي وغيره في الاحتجاج على وجوب الطهارة ونحوها بل هذا أشنع لكونه مما علم من الدين بالضرورة ثم إنا لو سلمنا نفي الإجماع فلنا أن نقول إن ذلك إشارة إلى ظهور العلامات التي يعقبها الموت عادة لأن تلقينه قبل ذلك إن لم يدهش فقد يوحش فهو تنبيه على وقت التلقين أي لقنوا من تحكمون بأنه ميت أو نقول إنما عدل عن الاحتضار لما فيه من الإبهام ألا ترى اختلافهم فيه هل أخذ من حضور الملائكة أو حضور الأجل أو حضور الجلاس ولا شك أن هذه حالة خفية يحتاج في نصبها دليلا على الحكم إلى وصف ظاهر يضبطها وهو ما ذكرناه أو من حضور الموت وهو أيضا مما لا يعرف بنفسه بل بالعلامات فما وجب اعتبارها وجب كون تلك التسمية إشارة إليها والله تعالى أعلم
كان أبو زيد يقول فيما جاء من الأحاديث من معنى قول ابن أبي زيد وإذا سلم الإمام فلا يثبت بعد سلامه ولينصرف إن ذلك بعد أن ينتظر بقدر ما يسلم من خلفه لئلا يمر بين يدي أحد وقد ارتفع عنه حكمه فيكون كالداخل مع المسبوق جمعا بين الأدلة قلت وهذا من ملح الفقيه
____________________
(5/219)
اعترض عند أبي زيد قول ابن الحاجب ولبن الآدمي والمباح طاهر بأنه إنما يقال في الآدمي لبان فأجاب بالمنع واحتج بقول النبي اللبن للفحل وأجيب بأن قول ذلك لتشريكه المباح معه في الحكم لأن اللبان خاص به وليس موضع تغليب لأن اللبان ليس بعاقل ولا حجة على تغليب ما يختص بالعاقل
تكلم أبو زيد يوما في مجلس تدريسه في الجلوس على الحرير فاحتج إبراهيم السلوي للمنع بقول أنس فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فمنع أبو زيد أن يكون إنما أراد باللباس الافتراش فحسب لاحتمال أن يكون إنما أراد التغطية معه أو وحدها وذكر حديثا فيه تغطية الحصير فقلت كلا الأمرين يسمى لباسا قال الله عز وجل { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } البقرة 187 وفيه بحث
كان أبو زيد يصحف قول الخونجي في الجمل والمقارنات التي يمكن اجتماعه معها فيقول والمفارقات ولعله في هذا كما قال أبو عمرو ابن العلاء لللأصمعي لما قرأ عليه
( وغررتني وزعمت أنك لابن بالصيف تامر ** )
فقال
( وغررتني وزعمت أنك لا تني بالضيف تامر ** )
فقال أنت في تصحيفك أشعر من الحطيئة أو كما حكي عمن صلى بالخليفية في رمضان ولم يكن يومئذ يحفظ القرآن فكان ينظر في المصحف فصحف آيات صنعة الله أصيب بها من أساء إنما المشركون نحس وعدها
____________________
(5/220)
أباه تقية الله خير لكم هذا أن دعوا للرحمن ولدا لكل امرئ منهم يومئذ شأن يعنيه
سمعت أبا زيد يقول إن أبا العباس الغماري التونسي أول من أدخل معالم الإمام فخر الدين للمغرب وبسبب ما قفل به من الفوائد رحل أبو القاسم ابن زيتون
وسمعته يقول إن ابن الحاجب ألف كتابه الفقهي من ستين ديوانا وحفظت من وجادة أنه ذكر عند أبي عبد الله ابن قطرال المراكشي أن ابن الحاجب اختصر الجواهر فقال ذكر هذا لأبي عمرو حين فرغ منه فقال بل ابن شاس اختصر كتابي قال ابن قطرال وهو أعلم بصناعة التأليف من ابن شاس والإنصاف أنه لا يخرج عنه وعن ابن بشير إلا في الشيء اليسير فهما أصلاه ومعتمداه ولا شك أن له زيادات وتصرفات تنبئ عن رسوخ قدمه وبعد مداه
وكان أبو زيد من العلماء الذين يخشون الله حدثني أمير المؤمنين المتوكل أبو عنان أن والده أمير المسلمين أبا الحسن ندب الناس إلى الإعانة بأموالهم على الجهاد فقال له أبو زيد لا يصح لك هذا حتى تكنس بيت المال وتصلي ركعتين كما فعل علي ابن أبي طالب وسأله أبو الفضل ابن أبي مدين الكاتب ذات يوم عن حاله وهو قاعد ينتظر خروج السلطان فقال له أما الآن فأنا مشرك فقال أعيذك من ذلك فقال لم أرد الشرك في التوحيد لكن في التعظيم والمراقبة وإلا فأي شيء جلوسي ههنا
والشيء بالشيء يذكر قمت ذات يوم على باب السلطان بمراكش فيمن
____________________
(5/221)
ينتظر خروجه فقام إلى جانبي شيخ من الطلبة وأنشدني لأبي بكر ابن الخطاب رحمه الله تعالى
( أبصرت أبواب الملوك تغص بالراجين ** إدراك العلا والجاه )
( مترقبين لها فمهما فتحت ** خروا لأذقان لهم وجباه )
( فأنفت من ذاك الزحام وأشفقت ** نفسي على إنضاء جسمي الواهي )
( ورأيت باب الله ليس عليه من ** متزاحم فقصدت باب الله )
( وجعلته من دونهم لي عدة ** وأنفت من غيي وطول سفاهي )
يقول جامع هذا المؤلف رأيت بخط عالم الدنيا ابن مرزوق على هذا المحل من كلام مولاي الجد مقابل قوله ورأيت باب الله ما صورته قلت ذلك لسعته أو لقلة أهله
( إن الكرام كثير في البلاد وإن ** قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا ) { قل لا يستوي الخبيث والطيب } الآية المائدة 100 انتهى
رجع إلى كلام مولاي الجد قال رحمه الله تعالى ورضي عنه وحدثني شيخ من أهل تلمسان أنه كان عند أبي زيد مرة فذكر القيامة وأهوالها فبكى فقلت لا بأس علينا وأنتم أمامنا فصاح صيحة واسود وجهه وكاد يتفجر دما فلما سري عنه رفع يديه وطرفه إلى السماء وقال اللهم لا تفضحنا مع هذا الرجل وأخباره كثيرة
وأما شقيقه أبو موسى فسمعت عليه كتاب مسلم واستفدت منه كثيرا
____________________
(5/222)
فمما سألته عنه قول ابن الحاجب في الاستلحاق وإذا استلحق مجهول النسب إلى قوله أو الشرع بشهرة نسبه كيف يصح هذا القسم مع فرضه مجهول النسب فقال يمكن أن يكون مجهول النسب في حال الاستلحاق ثم يشتهر بعد ذلك فيبطل الاستلحاق فكأنه يقول ألحقه ابتداء ودواما ما لم يكذبه أحد هذه هي إحدى الحالتين إلا أن هذا إنما يتصور في الدوام فقط ومما سألته عنه أن الموثقين يكتبون الصحة والجواز والطوع على ما يوهم القطع وكثيرا ما ينكشف الأمر بخلافه ولو كتبوا مثلا ظاهر الصحة والجواز والطوع لبرئوا من ذلك فقال لي لما كان مبنى الشهادة وأصلها العلم لم يجمل ذكر الظن ولا ما في معناه احتمال فإذا أمكن العلم بمضمونها لم يجز أن يحمل على غيره فإذا تعذر كما ها هنا بني باطن أمرها على غاية ما يسعه فيه الإمكان عادة وأجري ظاهره على ما ينافي أصلها صيانة لرونقها ورعاية لما كان ينبغي أن تكون عليه لولا الضرورة قلت ولذلك عقد ابن فتوح وغيره عقود الجوائح على ما يوهم العلم بالتقدير مع ان ذلك إنما يدرك بما غايته الظن في الحزر والتخمين وكانا معا يذهبان إلى الإختيار وترك التقليد
3 - وممن أخذت عنه أيضا حافظها ومدرسها ومفتيها أبو موسى عمران ابن موسى بن يوسف المشدالي صهر شيخ المدرسين أبي علي ناصر الدين على ابنته وكان قد فر من حصار بجاية فنزل الجزائر فبعث فيه أبو تاشفين وأنزله من التقريب والإحسان بالمحل المكين فدرس بتلمسان الحديث والفقه والأصلين والنحو والمنطق والجدل والفرائض وكان كثيرا الاتساع في الفقه والجدل مديد الباع فيما سواهم مما ذكر سألته عن قول ابن الحاجب في
____________________
(5/223)
السهو فإن أخال الإعراض فمبطل عمده فقال معناه أخال غيره أنه معرض فحذف المفعول لجوازه وأقام المصدر مقام المفعولين كما يقوم مقامه ما في معناه من أن وأن قال الله العظيم { الم أحسب الناس أن يتركوا } العنكبوت 1 - 2 قلت وأقوى من هذا أن يكون المصدر هو المفعول الثاني وحذف الثالث اختصارا لدلالة المعنى عليه أي فإن أخال الإعراض كائنا قالوا خلت ذلك وقد أعربت الآية بالوجهين وهذا عندي أقرب ومن هذا الباب ما يكتب به القضاة من قولهم أعلم باستقلاله فلان أي أعلم فلان من يقف عليه بأن الرسم مستقل فحذفوا الأول وصاغوا ما بعده المصدر
سئل عمران وأنا عنده عما صبغ من الثياب بالدم فكانت حمرته منه فقال يغسل فإن لم يخرج شيء من ذلك في الماء فهو طاهر لأن المتعلق به على هذا التقدير ليس إلا لون النجاسة وإذا عسر قلعه بالماء فهو عفو وإلا وجب غسله إلى أن لا يخرج منه شيء قلت في البخاري قال معمر رأيت الزهري يصلي فيما صبغ بالبول من ثياب اليمن وتفسيره على ما ذكره عمران وكان قد صاهر لقاضي الجماعة أبي عبد الله بن هربة على ابنته فلم تزل عنده إلى أن توفي عنها
4 ومنهم مشكاة الأنوار الذي يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن حكم السلوي رحمه الله تعالى ورد تلمسان بعد العشرين ثم لم يزل بها إلى أن قتل يوم دخلت على بني عبد الواد وذلك في الثامن والعشرين من شهر رمضان عام سبعة وثلاثين وسبعمائة
قال لي الشيخ ابن مرزوق ابتدأ أمر بني عبد الواد بقتلهم لأبي الحسن السعيد وكان أسمر لأم ولد تسمى العنبر وختم بقتل أبي الحسن ابن عثمان إياهم وهو بصفته المذكورة حذوك النعل بالنعل فسبحان من دقت حكمته في كل شيء
____________________
(5/224)
ولما وقف الرفيقان أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري ومحمد بن عبد الرحمن بن الحكيم الرندي في رحلتهما على قبر السعيد بعباد تلمسان تناول ابن الحكيم فحمة ثم كتب بها على جدار هناك
( انظر ففي إليك اليوم معتبر ** إن كنت ممن بعين الفكر قد لحظا )
( بالأمس أدعى سعيدا والورى خولي ** واليوم يدعى سعيدا من بي اتعظا )
قال ابن حكم كان أول اتصالي بالأستاذ أبي عبد الله ابن آجروم أني دخلت عليه وقد حفظت بعض كتاب المفصل فوجدت الطلبة يعربون بين يديه هذا البيت
( عهدي به الحي الجميع وفيهم ** قبل التفرق ميسر وندام )
وقد عمي عليهم خبر عهدي فقلت له قد سدت الحال وهي الجملة بعده مسده فقال لي بعض الطلبة وهل يكون هذا في الجملة كما كان في قولك ضربي زيدا قائما فقلت له نعم قال رسول الله أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد
ذكر أبو زيد ابن الإمام يوما في مجلسه أنه سئل بالمشرق عن هاتين الشرطيتين { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } الأنفال 23 فإنهما تستلزمان بحكم الإنتاج لو علم الله فيهم خيرا لتولوا وهو محال ثم أراد أن يرى ما عند الحاضرين فقال ابن حكم قال الخونجي والإهمال بإطلاق لفظ لو وإن في المتصلة فهاتان القضيتان على هذا مهملتان والمهملة في قوة الجزئية ولا قياس عن جزئيتين فلما اجتمعت ببجاية بأبي علي حسين بن حسين وأخبرته بهذا وبما أجاب به الزمخشري وغيره مما يرجع إلى انتفاء تكرر الوسط قال لي الجوابان به في المعنى سواء لأن القياس على
____________________
(5/225)
الجزئيتين إنما امتنع لانتفاء أمر تكرر الوسط فأخبرت بذلك شيخنا الآبلي فقال إنما يقوم القياس على الوسط ثم يشترط فيه بعد ذلك أن لا يكون من جزئيتين ولا سالبتين إلى سائر ما يشترط فقلت ما المانع من كون هذه الشروط تفصيلا لمجمل ما ينبني عليه من الوسط وغيره وإلا فلا مانع غير ما قاله ابن حسين قال الآبلي وقد أجبت بجواب السلوى ثم رجعت إلى ما قاله الناس لوجوب كون مهملات القرآن كلية لأن الشرطية لا تنتج جزئية فقلت هذا فيما يساق منها للحجة مثل { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } الأنبياء 22 أما في مثل هذا فلا
ولما ورد تلمسان الشيخ الأديب أبو الحسن ابن فرحون نزيل طيبة على تربتها السلام سأل ابن حكم عن معنى هذين البيتين
( رأيت قمر السماء فأذكرتني ** ليالي وصلها بالرقمتين )
( كلانا ناظر قمرا ولكن ** رأيت بعينها ورأت بعيني )
ففكر ثم قال لعل هذا الرجل كان ينظر إليها وهي تنظر إلى قمر السماء فهي تنظر إلى القمر حقيقة وهو لإفراط الاستحسان يرى أنها الحقيقة فقد رأى بعينها لأنها ناظرة الحقيقة وأيضا فهو ينظر إلى قمر مجازا وهو لإفراط الاستحسان لها يرى أن قمر السماء هو المجاز فقد رأت بعينه لأنها ناظرة المجاز
قلت ومن ههنا تعلم وجه الفاء في قوله فأذكرتني لأنه لما صارت رؤيتها رؤيته وصار القمر حقيقة إياها كان قوله رأت قمر السماء فأذكرتني بمثابة قولك أذكرتني فتأمله فإن بعض من لا يفهم كلام الأستاذ حق الفهم ينشده وأذكرتني فالفاء في البيت الأول مبنية على معنى البيت الثاني لأنها
____________________
(5/226)
مبنية عليه وهذا النحو يسمى الإيذان في علم البيان
ولما اجتمعنا بأبي الوليد ابن هانىء مقدمه علينا من غرناطة سأل ابن حكم عن تكرار من في قوله تعالى { سواء منكم من أسر القول ومن جهر به } الرعد 10 دون ما بعدها فقال لولا تكررها أولا لتوهم التضاد بتوهم اتحاد الزمان فارتفع بتكرار الموضوع أما الآخر فقد تكرر الزمان فارتفع توهم التضاد فلم يحتج إلى زائد على ذلك فقلت فهلا اكتفى بسواء عن تكرار الموضوع لأن التسوية لا تقع إلا بين أمرين وإنما الجواب عندي أنها تكررت أولا على الأصل لأنهما صنفان يستدعيها كل واحد منهما أن تقع عليه ثم اختصرت ثانيا لفهم المراد من التفصيل بالأول مع أمن اللبس وقد أجاب الزمخشري بغير هذين فانظره
سألني ابن حكم المذكور عن نسب المجيب في هذا البيت
( ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب ** فأجاب ما قتل المحب حرام )
ففكرت ثم قلت أراه تميميا لإلغائه ما النافية فاستحسنه مني لصغر سني يومئذ
تذاكرت يوما مع ابن حكم في تكملة البدر بن محمد بن مالك لشرح التسهيل لأبيه ففضلت عليه كلام أبيه ونازعني الأستاذ فقلت
( عهود من الآبا توارثها الأبنا ** )
فمارأيت بأسرع من أن قال
( بنوا مجدها لكن بنوهم لها أبنى ** )
فبهت من العجب
____________________
(5/227)
وتوفي الشيخ ابن مالك سنة اثنتين وسبعين وستمائة وفيها ولد شيخنا عبد المهيمن الحضرمي فقيل مات فيها إمام نحو وولد فيها إمام نحو
سألت ابن حكم عن قول فخر الدين في أول المحصل وعندي أن شيئا منها غير مكتسب بمعنى لا شيء ولا واحد هل له أصل في العربية أو هو كما قيل من بقايا عجمته فقال لي بل له أصل وقد حكى ابن مالك مثله عن العرب فلم يتفق أن استوقفه عليه ثم لم أزل أستكشف عنه كل من أظن أن لديه شيئا منه فلم أجد من عنده أثارة منه حتى مر بي في باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر الداخل عليها كان من شرح التسهيل قوله فإن تقدم على الاستفهام أحد المفعولين نحو علمت زيدا أبو من هو اختير نصبه لأن الفعل مسلط عليه فلا مانع ويجوز رفعه لأنه والذي بعد الاستفهام شيء واحد في المعنى فكأه في حيز الاستفهام والاستفهام مشتمل عليه وهو نظير قوله إن أحد إلا يقول ذلك وأحد هذا لا يقع إلا بعد نفي ولكن لما كان هنا والضمير المرفوع بالقول شيئا واحدا في المعنى تنزل منزلة واقع بعد نفي فعلمت أنه نحا إلى هذا لأن شيئا ههنا والضمير المرفوع بمكتسب المنفي في المعنى شيء واحد فكان شيئا كأنه وقع بعد غير أي بعد النفي
سأل ابن فرحون ابن حكم هل تجد في التنزيل ست فاءات مرتبة ترتيبها في هذا البيت
( رأى فحب فرام الوصل فامتنعت ** فسام صبرا فأعيا نيله فقضى )
ففكر ثم قال نعم { فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون } إلى آخره القلم 19 فمنعت له البناء في فتنادوا فقال لابن فرحون فهل عندك غيره فقال نعم { فقال لهم رسول الله } إلى آخر السورة فمنع له
____________________
(5/228)
بناء الآخرة لقراءة الواو فقلت امنع ولا تسند فيقال لك إن المعاني قد تختلف باختلاف الحروف وإن كان السند لا يسمع الكلام عليه وأكثر ما وجدت الفاء تنتهي في كلامهم إلى هذا العدد سواء بهذا الشرط وبدونه كقوله نوح عليه السلام { فعلى الله توكلت } الآية يونس 71 وكقول امرئ القيس
( غشيت ديار الحي بالبكرات )
البيتين لا يقال فالجب سابع لأنا نقول إنه عطف على عاقل المجرد منها ولعل حكمة الستة أنها أول الأعداد التامة كما قيل في حكمة خلق السموات والأرض فيها وشأن اللسان عجيب
وقوله في هذا البيت فحب لغة قليلة جرى عليها محبوب كثيرا حتى استغنى به عن محب فلا تكاد تجده إلا في قول عنترة
( ولقد نزلت فلا تظني غيره ** مني بمنزلة المحب المكرم )
ونظيره محسوس من حس والأكثر أحس ولا تكاد تجد محسا وهذا التوجيه أحسن من قول القرافي في شرح التنقيح إنهم أجروا محسوسات مجرى معلومات لأن الحس أحد طرق العلم
سمعت ابن حكم يقول بعث بعض أدباء فاس إلى صاحب له
( ابعث إلي بشيء ** مدار فاس عليه )
( وليس عندك شيء ** مما أشير إليه )
فبعث إليه ببطة من مري يشير بذلك إلى الرياء
____________________
(5/229)
وحدثت أن قاضيها أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الملجوم حضر وليمة وكان كثير البلغم فوضع بين يديه صهره أبو العباس ابن الأشقر غضارا من اللون المطبوخ بالمري لمناسبته لمزاجه فخاف أن يكون قد عرض له بالرياء
وكان ابن الأشقر يذكر بالوقوع في الناس فناوله القاضي غضار المقروض فاستحسن الحاضرون فطنته
5 - ومنهم عالم الصلحاء وصالح العلماء وجليس التنزيل وحليف البكاء والعويل أبو محمد عبد الله بن عبد الواحد بن إبراهيم بن الناصر المجاصي خطيب جامع القصر الجديد وجامع خطتي التحديث والتجويد ويسميه أهل مكة البكاء ولما قدم أبو الحسن علي بن موسى البحيري سأل عنه فقيل له لو علم بك أتاك فقال أنا آتي من سمعت سيدي أبا زيد الهزميري يقول له لأول ما رآه ولم يكن يعرفه قبل ذلك مرحبا بالفتى الخاشع أسمعنا من قراءتك الحسنة
دخلت عليه بالفقيه أبي عبد الله السطي في أيام عيد فقدم لنا طعاما فقلت لو أكلت معنا فرجونا بذلك ما يرفع من حديث من أكل مع مغفور له غفر له فتبسم وقال لي دخلت على سيدي أبي عبدالله الفاسي بالإسكندرية فقدم طعاما فسألته عن هذا الحديث فقال وقع في نفسي منه شيء فرأيت النبي في المنام فسألته عنه فقال لي لم أقله وأرجو أن يكون كذلك
وصافحته بمصافحته الشيخ أبا عبد الله زيان بمصافحته أبا سعيد عثمان بن عطية الصعيدي بمصافحته أبا العباس أحمد الملثم بمصافحته المعمر بمصافحته رسول الله
____________________
(5/230)
وسمعته يحدث عن شيخه أبي محمد الدلاصي أنه كان للملك العادل مملوك اسمه محمد فكان يخصه لدينه وعقله بالنداء باسمه وإنما كان ينعق بمماليكه يا ساقي يا طباخ يا مزين فنادى به ذات يوم يا فراش فظن ذلك لموجدة عليه فلما لم ير أثر ذلك وتصورت له به خلوة سأله عن مخالفته لعادته معه فقال لا عليك كنت حينئذ جنبا فكرهت ذكر رسول الله في تلك الحالة
ومما نقلته من خط المجاصي ثم قرأته عليه فحدثني به قال حدثني القاضي أبو زكريا يحيى بن محمد بن يحيى بن أبي بكر ابن عصفور قال حدثني جدي يحيى المذكور أخبرنا محمد بن عبد الرحمن التجيبي المقرىء بتلمسان حدثنا الحافظ أبو محمد يعني والله أعلم عبد الحق الإشبيلي أخبرنا أبو غالب أحمد ابن الحسن المستعمل أخبرنا أبو الفتوح عبد الغافر بن الحسين بن أبي الحسن ابن خلف الألمعي أخبرنا أبو نصر أحمد بن إسحاق النيسابوري أملى علينا أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني أخبرنا محمد بن علي بن الحسين العلوي أخبرنا عبد الله بن إسحاق اللغوي وأنا سألته أخبرنا إبراهيم بن الهيثم البلدي أخبرنا عبد الله بن نافع بن عيسى بن يونس عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله قال لي جبريل ألا أعلمك الكلمات التي قالهن موسى حين انفلق له البحر قلت بلى قال قل اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وبك المستغاث وأنت المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله قال ابن مسعود فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله ثم تسلسل الحديث على ذلك كل أحد من رجاله يقول ما تركتهن منذ سمعتهن من فلان لشيخه وقد سمعت المجاصي
____________________
(5/231)
يكررها كثيرا وما تركتهن منذ سمعتهن منه
وانشدني المجاصي قال أنشدني نجم الدين الواسطي أنشدني شرف الدين الدمياطي أنشدني تاج الدين الأرموي مؤلف الحاصل قال أنشدني الإمام فخر الدين لنفسه
( نهاية إقدام العقول عقال ** وأكثر سعي العالمين ضلال )
( وأرواحنا في وحشة من جسومنا ** وحاصل دنيانا أذى ووبال )
( ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا )
( وكم من رجال قد رأينا ودولة ** فبادوا جميعا مسرعين وزالوا )
( وكم من جبال قد علت شرفاتها ** رجال فماتوا والجبال جبال )
وتوفي المجاصي في العشر الأخر من شهر ربيع الأول عام أحد وأربعين وسبعمائة
6 - ومنهم الشيخ الشريف القاضي الرحلة المعمر أبو علي حسن بن يوسف ابن يحيى الحسيني السبتي
أدرك أبا الحسين ابن أبي الربيع وأبا القاسم العزفي واختص بابن عبيدة وابن الشاط ثم رحل إلى المشرق فلقي ابن دقيق العيد وحلبته ثم قفل فاستوطن تلمسان إلى أن مات بها سنة أربع وخمسين أوثلاث وخمسين وسبعمائة قرأ علينا حديث الرحمة وهو أول حديث سمعته منه حدثنا الحسن بن علي بن عيسى ابن الحسن اللخمي وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا علي بن المظفر بن القاسم الدمشقي وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا أبو الفرج محمد بن عبد الرحمن بن أبي العز الواسطي وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا أبو العز
____________________
(5/232)
عبد المغيث بن زهير وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا زاهر بن طاهر بن محمد الشحامي وهو أول حديث سمعته منه ( ح ) قال الحسن بن علي وحدثنا أيضا عاليا الحسن بن محمد البكري وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا أبو الفتوح محمد بن محمد بن محمد بن الجنيد الصوفي وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا زاهر بن طاهر وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي الفضائل عبد الوهاب بن صالح عرف بابن المغرم إمام جامع همذان بها وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا أبو منصور عبد الكريم بن محمد بن حامد المعروف بابن الخيام وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك وهو أول حديث سمعته منه حفظا أخبرنا أبو الطاهر محمد بن محمد بن مخمش الزيادي وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن هلال البزار وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا سفيان بن عيينة وهو أول حديث سمعته منه عن عمرو ابن دينار عن أبي قابوس مولى لعبد الله بن عمرو بن العاص عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء
( ح ) وحدثني الشريف أيضا كذلك بطريقة عن السلفي بأحاديثه المشهورة فيه وهذا الحديث أخرجه الترمذي وقال (1)
قال لي الشريف قال لي القاضي أبو العباس الرندي لما قدم أبو العباس ابن الغماز من بلنسية نزل بجاية فجلس بها في الشهود مع عبد الحق بن ربيع
____________________
1- حديث حسن صحيح
(5/233)
____________________
(5/234)
فجاء عبد الحق يوما وعليه برنس أبيض وقد حسنت شارته وكملت هيأته فلما نظر إليه ابن الغماز أنشده
( لبس البرنس الفقيه فباهى ** ورأى أنه المليح فتاها )
( لو زليخا رأته حين تبدى ** لتمنته أن يكون فتاها )
وبه أن ابن الغماز جلس لارتقاب الهلال بجامع الزيتونة فنزل الشهود من المئذنة وأخبروا أنهم لم يهلوه وجاء حفيد له صغير فأخبره أنه أهله فردهم معه فأراهم إياه فقال ما أشبه الليلة بالبارحة وقع لنا مثل هذا مع أبي الربيع ابن سالم فأنشدنا فيه
( توارى هلال الأفق عن أعين الورى ** وأرخى حجاب الغيم دون محياه )
( فلما تصدى لارتقاب شقيقه ** تبدى له دون الأنام فحياه )
سمعت الشريف يقول أول زجل عمل في الدنيا
( بالله يا طير مدلل ** مر بي وسط القفار )
( إياك تجدد لعاده ** ترمي حجيرة في داري )
7 - ومنهم قاضي جماعتها وكاتب خلافتها وخطيب جامعها أبو عبد الله محمد بن منصور بن علي بن هدية القرشي من ولد عقبة بن نافع الفهري نزلها سلفه قديما وخلفه بها إلى الآن توفي في أواسط سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وشهد جنازته سلطانها يومئذ أبو تاشفين وولى ابنه أبا علي منصورا مكانه يومئذ ولما ثقل لسانه دعا ابنه هذا فقال له اكتب هذين البيتين فإني نظمتهما على هذه الحالة فكتب
( إلهي مضت للعمر سبعون حجة ** جنيت بها لما جنيت الدواهيا )
____________________
(5/234)
( وعبدك قد أمسى عليل ذنوبه ** فجد لي برحمى منك نعم الدواهيا )
ولما ورد الأديب أبو عبد الله محمد بن محمد المكودي من المغرب رفع إليه قصيدة أولها
( سرت والدجى لم يبق إلا يسيرها ** نسيم صبا يحيي القلوب مسيرها )
وفيها الأبيات العجاب التي سارت سير الأمثال وهي قوله
( وفي الكلة الحمراء حمراء لو بدت ** لثكلى لولى ثكلها وثبورها )
( فما يستوي مثوى لها من سوى القنا ** خيام ومن بيض الصفاح ستورها )
( وما بسوى صدق الغرام أرومها ** ولا بسوى زور الخيال أزورها )
فأحسن إليه وكلم السلطان حتى أرسل جرايته عليه وقد شهدت المكودي وهذه القصيدة تقرأ عليه
8 - ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن احمد بن علي بن أبي عمرو التميمي
أدرك ابن زيتون وأخذ عن أبي الطاهر ابن سرور وحلبته وعنه أخذت شرح المعالم له وولي القضاء بتلمسان مرات فلم تستفزه الدنيا ولا باع الفقر بالغنى
9 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد النور
قاضي الجماعة بعد ابن أبي عمرو وكانت له رحلة إلى المشرق لقي بها
____________________
(5/235)
جلال الدين القزويني وحلبته وتوفي بتونس في الوباء العام في حدود الخمسين وسبعمائة
10 - ومنهم الشيخ أبو عبد الله محمد بن الحسين البروني
قدم عليها من الأندلس فأقام إلى أن مات سمعته يقول البقر العدوية كالإبل المهملة في الصحراء لا يجوز أن تباع بالنظر إليها لكن بعد أن تمسك ويستولى عليها 11 - ومنهم أبو عمران موسى المصمودي الشهير بالبخاري
سمعت البروني يقول كان الشيخ أبو عمران يدرس صحيح البخاري ورفيق له يدرس صحيح مسلم فكانا يعرفان بالبخاري ومسلم فشهدا عنه قاض فطلب المشهود عليه الإعذار فيهما فقال له أبو عمران أتمكنه من الإعذار في الصحيحين فضحك القاضي وأصلح بين الخصمين
سألته عما ضربه ابن هدية عليه من إباحة الاستياك في رمضان بقشر الجوز فقال لي نعم ويبلع ريقه تأول رحمه الله تعالى أن الخصال المذكورة في السواك إنما تجتمع في الجوز فكان يحمل كل ما روى فيه عليه وهذا غلط فاحش لأن العرب لا تكاد تعرفه ونظر إلى ما في البخاري من قوله بعد أن ذكر جواز السواك للصائم ولا بأس أن يبتلع ريقه يعني الصائم في الجملة فحمله على المستاك بالجوز وكان رحمه الله تعالى قليل الإصابة في الفتيا كثير المصيبات عليها
12 - ومنهم نادرة الأعصار أبو عبد الله محمد بن يحيى بن علي بن النجار
____________________
(5/236)
قال لي العلامة الآبلي ما قرأ أحد علي حتى قلت له لم أبق عندي ما أقول لك غير ابن النجار
سمعت ابن النجار يقول مر عمل الموقتين على تساوي فضلتي ما بين المغرب والعشاء والفجر والشمس فيؤذنون بالعشاء لذهاب ثماني عشرة درجة وبالفجر لبقائها والجاري على مذهب مالك أن الشفق الحمرة وأن تكون فضلة ما بين العشاءين أقصر لأن الحمرة ثانية الغوارب والطوالع فتزيد فضلة الفجر بمقدار ما بين ابتداء طلوع الحمرة والشمس فعرضت كلامه هذا على المزوار أبي زيد عبد الرحمن بن سليمان اللجائي فصوبه
وذكرت يوما حكاية ابن رشد الاتفاق في الخمر إذا تخللت بنفسها أنها تطهر واعترضته بما في الإكمال عن ابن وضاح أنها لا تطهر فقال لي لا معتبر بقول ابن وضاح هذا لأنه يلزم عليه تحريم الخل لأن العنب لا يصير خلا حتى يكون خمرا وفيه بحث
وذكرت يوما قول ابن الحاجب فيما يحرم من النساء بالقرابة وهي أصول وفصول وفصول أول أصوله وأول فصل من كل أصل وإن علا فقال إن تركب لفظ التسمية العرفية من الطرفين حلت وإلا حرمت فتأملته فوجدته كما قال لأن أقسام هذا الضابط أربعة التركب من الطرفين كابن العم وابنة العم مقابله كالأب والبنت التركب من قبل الرجل كابنة الأخ والعم مقابله كابن الأخت والخالة
وأنشدت يوما عنده على زيادة اللام
( باعد أم العمر من أسيرها ** )
____________________
(5/237)
فقال لي وما يدريك أنه أراد العمر الذي أراده المعري بقوله
( وعمر هند كأن الله صوره ** عمرو بن هند يعني الناس تعنيتا )
وأضاف اللام إليه كما قالوا أم الحليس قلت ولا يندفع هذا بثبوت كون المعنية أم عمرو لأن ذلك لا يمنع إرادة المعنى الأخر فتكون أم عمرو وأم العمر
قال ابن النجار بعثت بهذه الأبيات من نظمي إلى القاضي أبي عبد الله ابن هدية فأخرج لغزها
( إن حروف اسم من كلفت به ** خفت على كل ناطق بفم )
( سائغة سهلة مخارجها ** من أجل هذا تزداد في الكلم )
( صحفه ثم اقلبن مصحفه ** فعل ذكي مهذب فهم )
( واطلبه في الشعر جد مطلبه ** تجده كالصبح لاح في الظلم )
( فإن تأملت بت منه على ** علم وإلا فأنت عنه عمي )
واللغز سلمان وموضعه تأملت بت وتوفي رحمه الله تعالى بتونس أيام الوباء العام
13 - ومنهم الأستاذ المقرىء الراوية الرحلة أبو الحسن علي بن أبي بكر ابن سبع بن مزاحم المكناسي
ورد علينا من المشرق فأقام معنا أعواما ثم رحل إلى فاس فتوفي بها في الوباء العام جمعت عليه السبع وقرأت عليه البخاري والشاطبيتين وغير
____________________
(5/238)
ذلك فأما البخاري فحدثني به قراءة منه على أحمد بن الشحنة الحجار سنة ثلاثين وسبعمائة وكان الحجار قد سمعه على ابن الزبيدي سنة ثلاثين وستمائة وهذا ما لا يعرف له نظير في الإسلام وقد قال عبد الغني الحافظ لا نعرف في الإسلام من وازاه غير عبد الله بن محمد البغوي في قدم السماع فإنه توفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة قال ابن خلاد سمعناه يقول أخبرنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني سنة خمس وعشرين ومائتين وسمعه ابن الزبيدي على أبي الوقت بسنده قال لي ابن مزاحم هذا طريق كله سماع واما الشاطبيتان فحدثني بهما قراءة عليه لجميعهما عن بدر الدين ابن جماعة بقراءتهما عليه عن أبي الفضل هبة الله بن الأزرق بقراءتهما عليه عن المؤلف كذلك وحدثني بتسهيل الفوائد عن ابن جماعة عن المؤلف ابن مالك وغير ذلك
14 - وممن ورد عليها لا يريد الإقامة بها شيخي وبركتي وقدوتي أبو عبد الله محمد بن حسين القرشي الزبيدي التونسي
حدثني بالصحيحين قراءة لبعضهما ومناولة لجميعهما عن أبي اليمن ابن عساكر لقيه بمكة سنة إحدى وثمانين وستمائة بسنده المشهور وحدثني أيضا أن أبا منصور العجمي حدثه بمحضر الشيخين والده حسين وعمه حسن وأثنى عليه دينا وفضلا أنه أدخل ببعض بلاد المشرق على المعمر أدخله عليه بعض ولد ولده فألفاه ملفوفا في قطن وسمع له دويا كدوي النحل فقيل له ألقيت رسول الله ورأيته قال نعم قلت ليس في هذا ما يستراب منه إلا الشيخ المعمر فإنا لا نعرف حاله فإن صح فحديثنا عنه
____________________
(5/239)
ثلاثي وقد تركت سنة خمس وأربعين بمصر رجلا يسمى بعثمان معه تسعون حديثا يزعم أنه سمعها من المعمر وقد أخذت عنه وكتبت منه فهذا ثنائي وأمر المعمر غريب والنفس أميل إلي نفيه
15 - ومنهم إمام الحديث والعربية وكاتب الخلافة العثمانية والعلوية أبو محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي السبتي
جمع فأوعى واستوهب أكثر المشاهير وما سعى فهو المقيم الظاعن الضارب القاطن سألني عن الفرق بين علم الجنس واسم الجنس فقلت له زعم الخسر وشاهي أنه ليس بالديار المصرية من يعرفه غيره وأنا أقول ليس في الدنيا عالم إلا وهو يعلمه غيره لأنه حكم لفظي أوجب تقديره المحافظة على ضبط القوانين كعدل عمر ونحوه فاستحسن ذلك
وكان ينكر إضافة الحول إلى الله عز وجل فلا يجيز أن يقال بحول الله وقوته قال لأنه لم يرد إطلاقه والمعنى يقتضي امتناعه لأن الحول كالحيلة أو قريب منها
وتوفي بتونس أيام الوباء العام
16 - ومنهم الفقيه المحقق الفرضي المدقق أبو عبد الله محمد بن سليمان بن
____________________
(5/240)
علي السطي قرأت عليه كتاب الحوفي علما وعملا قال لي في قول ابن الحاجب والثمن والثلث والسدس من أربعة وعشرين هذا لا يصح إذ لا يجتمع الثلث والثمن في فريضة وقد سبقه إلى هذا الوهم صاحب المقدمات وسألت عنه ابن النجار فقال لي إنما أراد المقام لأنه يجتمع مع الثلثين والإنصاف أنه لا يحسن التعبير بما لا تصح إرادة نفسه عن غيره فكان الوجه أن يقول والثلثان أو ومقام الثلث ونحو ذلك لأن الثلث إنما يدخل هنا تقديرا لا تحقيقا كما في الجواهر وانظر باب المدبر من كتاب الحوفي فإن فيه موافقة السبعة لعدد لا توافقه فهو من باب الفرض وعليه ينبغي أن يحمل كلام ابن الحاجب
17 - 19 - ومنهم الأستاذ أبو عبد الله الرندي والقاضي أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرزاق الجزولي والقاضي أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي يحيى في كثير من الخلق فلنضرب عن هذا
20 - ومن شيوخي الصلحاء الذين لقيت بها خطيبها الشيخ أبو عثمان سعيد بن إبراهيم بن علي الخياط أدرك أبا إسحاق الطيار وقد صافحته وأنا صغير لأنه توفي سنة تسع وعشرين بمصافحته أباه بمصافحته الشيخ أبا تميم بمصافحته أبا مدين بمصافحته أبا الحسن ابن حرزهم بمصافحته ابن العربي بمصافحته الغزالي بمصافحته أبا المعالي بمصافحته أبا طالب المكي بمصافحته أبا محمد الجريري بمصافحته الجنيد بمصافحته سريا بمصافحته معروفا بمصافحته داود الطائي بمصافحته حبيبا العجمي بمصافحته الحسن البصري بمصافحته علي بن أبي طالب بمصافحته رسول الله
____________________
(5/241)
21 - ومنهم خطيبها المصقع أبو عبد الله محمد بن علي بن الجمال أدرك محمد بن رشيد البغدادي صاحب الزهر والوتريات على حروف المعجم المذهبة وغيرها حدثني عنه أنه تاب بين يديه لأول مجلس جلسه بتلمسان سبعون رجلا
22 ، 23 - ومنهم الشقيقان الحاجان الفاضلان أبو عبد الله محمد وابو العباس أحمد ابنا ولي الله أبي عبد الله محمد بن محمد بن أبي بكر ابن مرزوق العجيسي
كساني محمد خرقة التصوف بيده كما كساه إياها الشيخ بلال بن عبد الله الحبشي خادم الشيخ أبي مدين كما كساه أبو مدين قال محمد بن مرزوق وكان مولد بلال سنة تسع وخمسين وخمسمائة وخدم أبا مدين نحوا من خمسة عشر عاما إلى أن توفي في عام تسعين وخمسمائة ثم عاش بعده أكثر من مائة سنة ولبس أبو مدين من يد ابن حرزهم ولبس ابن حرزهم من يد ابن العربي واتصل اللباس اتصال المصافحة
24 - ومنهم أبو زيد عبد الرحمن بن يعقوب بن الصنهاجي المكتب حديثا عن قاضيها أبي زيد عبد الرحمن بن علي الدكالي أنه اختصم عنده رجلان في شاة ادعى أحدهما أنه أودعها الآخر وادعى الآخر أنها ضاعت منه فأوجب اليمين على المودع عنده انها ضاعت من غير تضييع فقال كيف أضيع وقد شغلتني حراستها عن الصلاة حتى خرج وقتها فحكم عليه بالغرم فقيل له في
____________________
(5/242)
ذلك فقال تأولت قول عمر ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع
25 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد الغزموني مكتبي الأول ووسيلتي إلى الله عز وجل قرأ على الشيخين أبي عبد الله القصري وأبي حريث وحج حجات وكان عقد بقلبه أنه كلما ملك مائة دينار عيونا سافر إلى الحج وكان بصيرا بتعبير الرؤيا فمن عجائب شأنه فيه أنه كان في سجن أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق فيمن كان فيه من أهل تلمسان أيام محاصرته لها فرأى أبو جمعة ابن علي التلالسي الجرائحي منهم كأنه قائم على سانية دائرة وجميع قواديسها يصب في نقير في وسطها فجاء ليشرب فلما اغترف الماء إذا فيه فرث ودم فأرسله ثم اغترف فإذا هو كذلك ثلاثا أو أكثر فعدل عنه فرأى خصمه ماء وشرب منها ثم استيقظ وهو النهار فأخبره فقال إن صدقت رؤياك فنحن عما قليل خارجون من هذا المكان قال كيف قال السانية الزمان والنقير السلطان وأنت جرائحي تدخل يدك في جوفه فينالها الفرث والدم وهذا ما لا تحتاج معه فلم يكن إلا ضحوة الغد وإذا النداء عليه فأخرج فوجد السلطان مطعونا بخنجر فأدخل يده فنالها الفرث والدم فخاط جراحته ثم خرج فرأى خصة ماء فغسل يديه وشرب ثم لم يلبث السلطان أن توفي وسرحوا
وتعداد أهل هذه الصفة يكثر فلنصفح عنهم ولنختم فصل من لقيته
____________________
(5/243)
بتلمسان بذكر رجلين هما بقيد الحياة أحدهما عالم الدنيا والآخر نادرتها
26 - أما العالم فشيخنا ومعلمنا العلامة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن أحمد العبدري الآبلي التلمساني سمع جده لأمه أبا الحسين ابن غلبون المرسي القاضي بتلمسان وأخذ عن فقهائها أبي الحسين التنسي وابني الإمام ورحل في آخر لالمائة السابعة فدخل مصر والشام والحجاز والعراق ثم قفل إلى المغرب فأقام بتلمسان مدة ثم فر أيام أبي حمو موسى بن عثمان إلى المغرب
حدثني أنه لقي أبا العباس أحمد بن إبراهيم الخياط شقيق شيخنا أبي عثمان المتقدم ذكره فشكا له ما يتوقعه من شر أبي حمو فقال له عليك بالجبل فلم يدر ما قال حتى تعرض له رجل من غمارة فعرض عليه الهروب به قال فخفت أن يكون أبو حمو قد دسه علي فتنكرت له فقال لي إنما أسير بك على الجبل فتذكرت قول أبي إسحاق فواطأته وكان خلاصي على يده قال ولقد وجدت العطش في بعض مسيري به حتى غلظ لساني واضطربت ركبتاي فقال لي إن جلست قتلتك لئلا أفتضح بك فكنت أقوي نفسي فمر على بالي في تلك الحالة استسقاء عمر بالعباس وتوسله به فوالله ما قلت شيئا حتى رفع لي غدير ماء فأريته إياه فشربنا ونهضنا
ولما دخل المغرب ادرك أبا العباس ابن البناء فأخذ عنه وشافه كثيرا من علمائه قال لي قلت لأبي الحسن الصغير ما قولك في المهدي فقال عالم سلطان فقلت له قد أبنت عن مرادي ثم سكن جبال الموحدين ثم رجع إلى فاس فلما افتتحت تلمسان لقيته بها فأخذت عنه فقال لي الآبلي
____________________
(5/244)
كنت يوما مع القاسم بن محمد الصنهاجي فوردت عليه طومارة من قبل القاضي أبي الحجاج الطرطوشي فيها
( خيرات ما تحويه مبذولة ** ومطلبي تصحيف مقلوبها )
فقال لي ما مطلبه فقلت نارنج
دخل على الآبلي وأنا عنده بتلمسان الشيخ أبو عبد الله الدباغ المالقي المتطبب فأخبرنا أن أديبا استجدى وزيرا بهذا الشطر
( ثم حبيب قلما ينصف ** )
فأخذته فكتبته ثم قلبته وصحفته فإذا هو قصبتا ملف شحمي
ومر الدباغ علينا يوما بفاس فدعاه الشيخ فلباه فقال حدثنا بحديث اللظافة فقال نعم حدثني أبو زكريا ابن السراج الكاتب بسجلماسة أن أبا إسحاق التلمساني وصهره مالك بن المرحل وكان ابن السراج قد لقيهما اصطحبا في مسير فآواهما الليل إلى مجشر فسألا عن طالبه فدلا فاستضافاه فأضافهما فبسط قطيفة بيضاء ثم عطف عليهما بخبز ولبن وقال لهما استعملا من هذه اللظافة حتى يحضر عشاؤكما وانصرف فتحاور في اسم اللظافة لأي شيء هو منهما حتى ناما فلم يرع أبا إسحاق إلا مالك يوقظه ويقول قد وجدت اللظاظة قال كيف قال أبعدت في طلبها حتى وقعت بما لم يمر قط على مسمع هذا البدوي فضلا عن أن يراه ثم رجعت القهقرى حتى وقعت على قول النابغة
( بمخضب رخص كأن بنانه ** عنم يكاد من اللطافة يعقد )
فسنح لبالي انه وجد اللطافة وعليها مكتوب بالخط الرقيق اللين فجعل
____________________
(5/245)
إحدى النقطتين للطاء فصارت اللطافة اللظافة واللين واللبن وإن كان قد صحف عنم بغنم وظن أن يعقد جبن فقد قوي عنده الوهم فقال أبو إسحاق ما خرجت عن صوبه فلما جاء سألاه فأخبر أنها اللبن واستشهد بالبيت كما قال مالك
ولا تعجب من مالك فقد ورد فاسا شيخنا أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي عرف بابن المسفر رسولا عن صاحب بجاية فزاره الطلبة فكان فيما حدثهم أنهم كانوا على زمان ناصر الدين يستشكلون كلاما وقع في تفسير سورة الفاتحة من كتاب فخر الدين ويستشكله الشيخ معهم وهذا نصه ثبت في بعض العلوم العقلية أن المركب مثل البسيط في الجنس والبسيط مثل المركب في الفصل وأن الجنس أقوى من الفصل فرجعوا به إلى الشيخ الآبلي فتأمله ثم قال هذا كلام مصحف وأصله أن المركب قبل البسيط في الحس والبسيط قبل المركب في العقل وأن الحس أقوى من العقل فأخبروا ابن المسفر فلج فقال لهم الشيخ التمسوا النسخ فوجدوه في بعضها كما قال الشيخ والله يؤتي فضله من يشاء
قال لي الأبلي لما نزلت تازي بت مع أبي الحسن ابن بري وأبي عبد الله الترجالي فاحتجت إلى النوم وكرهت قطعهما عن الكلام فاستكشفتهما عن معنى هذا البيت للمعري
( أقول لعبد الله لما سقاؤنا ** ونحن بوادي عبد شمس وهاشم )
فجعلا يفكران فيه فنمت حتى أصبحا ولم يجداه فسألاني عنه فقلت معناه أقول لعبد الله لما وهى سقاؤنا ونحن بوادي عبد شمس شم لنا برقا
____________________
(5/246)
قلت وفي جواز مثل هذا نظر
سمعت الآبلي يقول دخل قطب الدين الشيرازي والدبيران على أفضل الدين الخونجي ببلده وقد تزيا بزي القونوية فسأله أحدهما عن مسألة فأجابه فتعايا عن الفهم وقرب التقرير فتعايا فقال الخونجي متمثلا
( علي نحت المعاني من معادنها ** وما علي لكم أن تفهم البقر )
فقال له ضم التاء يا مولانا فعرفهما فحملهما إلى بيته
قلت سمعت الشيخ شمس الدين الأصبهاني بخانقاه قوصون بمصر يقول إن شيخه القطب توفي عام أحد عشر وسبعمائة وله سبع وسبعون سنة وهذا يضعف هذه الحكاية عندي
سمعت الآبلي يقول إن الخونجي ولي قضاء مصر بعد عز الدين بن عبد السلام فقدم شاهدا كان عز الدين أخره فعذله في ذلك فقال إن مولان لم يذكر السبب الذي رفع يده من أجله وهو الآن غير متمكن من ذكره
سمعت الشيخ الآبلي يحدث عن قطب الدين القسطلاني أنه ظهر في المائة السابعة من المفاسد العظام ثلاث مذهب ابن سبعين وتملك الططر للعراق واستعمال الحشيشة
سمعت الآبلي يقول قال أبو المطرف ابن عميرة
( فضل الجمال على الكمال بوجهه ** فالحق لا يخفى على من وسطه )
( وبطرفه سقم وسحر قد أتى ** مستظهرا بهما على ما استنبطه )
( عجبا له برهانه بشروطه ** معه فما مقصوده بالسفسطه )
قال فأجابه أبو القاسم ابن الشاط فقال
( علم التباين في النفوس وأنها ** منها مغلطة وغير مغلطة )
( فئة رأت وجه الدليل وفرقة ** وأصغت إلى الشبهات فهي مورطة )
( فأراد جمعهما معا في ملكه ** هذي بمنتجة وذي بمغلطة )
____________________
(5/247)
يعني قولهم في التام هو ما تحمل فيه البرهان الفصل
وأخبار الآبلي وأسمعتي منه تحتمل كتابا فلنقف على هذا القدر منها
27 - وأما النادرة فأبو عبد الله محمد بن أحمد بن شاطر الجمحي المراكشي صحب أبا زيد الهزميري كثيرا وأبا عبد الله ابن تجلات وأبا العباس ابن البناء وأضرابه من المراكشيين ومن جاورهم ورزق بصحبة الصالحين حلاوة القبول فلا تكاد تجد من يستثقله وربما سئل عن نفسه فيقول ولي مفسود
قلت له يوما كيف أنت فقال محبوس في الروح وقال الليل والنهار حرسيان أحدهما أسود والآخر أبيض وقد أخذا بمجامع الخلق يجرانهم إلى يوم القيامة وإن مردنا إلى الله تعالى
وسمعته يقول المؤذنون يدعون أولياء الله إلى بيته لعبادته فلا يصدهم عن دعائهم ظلمة ولا شتاء ولا طين ويصرفونهم عن الاشتغال بما لم يبين لهم فيخرجونهم ويغلقون الأبواب دونهم
ووجدته ذات يوم في المسجد ذاكرا فقلت له كيف أنت فقال { فهم في روضة يحبرون } الروم 15 فهممت بالانصراف فقال أين تذهب من روضة من رياض الجنة يقام بها على رأسك بهذا التاج وأشار إلى المنار مملوءا الله أكبر
مر ابن شاطر يوما على أبي العباس أحمد بن شعيب الكاتب وهو جالس
____________________
(5/248)
في جامع الجزيرة طهره الله تعالى وقد ذهبت به الكفرة فصاح به فلما رفع رأسه إليه قال له انظر إلى مركب عزرائيل هذا وأشار إلى نعش هنالك قد رفع شراعه ونودي عليه الطلوع يا غزي
وأكل يوما مع أبي القاسم عبد الله بن رضوان الكاتب جلجلانا فقال له أبو القاسم إن في هذا الجلجلان لضربا من طعم اللوز فقال ابن شاطر وهل الجلجلان إلا لوزة دقة
وسئل عن العلة في نضارة الحداثة فقال قرب عهدها بالله فقيل له فمم تغير الشيوخ فقال من بعد العهد من الله وطول الصحبة مع الشياطين فقيل له فبخر أفواههم فقال من كثرة ما تفل الشياطين فيها
وكان يسمى الصغير فأر المصطكي قال لي ابن شاطر لقيت عمي ميمونا المعروف بدبير لقرب موته وقد اصفر وجهه وتغيرت حالته فقلت له ما بالك وكان قد خدم الصالحين ورزق بذلك القبول فقال انسدت الزربطانة فطلع يعني العذرة يشير إلى الاحتقان للطبيعة
أنشدني ابن شاطر قال أنشدني أبو العباس ابن البناء لنفسه ( قصدت إلى الوجازة في كلامي ** )
الأبيات
وأخبار ابن شاطر عندي تحتمل كراسة فلنقنع منها بهذا القدر
فصل ولما دخلت تلمسان على بني عدب الواد تهيأ لي السفر منها فرحلت
____________________
(5/249)
إلى بجاية فلقيت بها أعلاما درجوا فأمست بعدهم خلاء بلقعا
28 - فمنهم الفقيه أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي عرف بابن المسفر باحثته واستفدت منه وسألني عن اسم كتاب الجوهري فقلت له من الناس من يقول الصحاح بالكسر ومنهم من يفتح فقال إنما هو بالفتح بمعنى الصحيح كما ذكره في باب صح قلت ويحتمل أن يكون مصدر صح كحنان
وكتب إلى بعض أصحابه بجواب رسالة صدره بهذين البيتين
( وصلت صحيفتكم فهزت معطفي ** فكأنما أهدت كؤوس القرقف )
( وكأنها نيل الأمان لخائف ** أو وصل محبوب لصب مدنف )
29 - ومنهم قاضيها أبو عبد الله محمد ابن الشيخ أبي يوسف يعقوب الزواوي فقيه ابن فقيه كان يقول من عرف ابن الحاجب اقرأ به المدونة قال وأنا أقرأ به المدونة
30 - ومنهم أبو علي حسين بن حسين إمام المعقولات بعد ناصر الدين
31 - ومنهم خطيبها أبو العباس أحمد بن عمران وكان قد ورد تلمسان وأورد بها على قول ابن الحاجب في حد العلم صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض الخاصة إلا أن يزاد في الحد لمن قامت به لأنها إنما توجب فيه تميزا لا تمييزا وهذا حسن
32 - 33 - ومنهم الشيخان أبو عزيز وأبو موسى ابن فرحان وغيرهم من أهل عصرهم
____________________
(5/250)
34 - ثم رحلت إلى تونس فلقيت بها قاضي الجماعة وفقيهها أبا عبد الله ابن عبد السلام فحضرت تدريسه وأكثرت مباحثته ولما نزلت بظاهر فسمطينة تلقاني رجل من الطلبة فسألني عن هذه الآية { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } المائدة 67 فإن ظاهرها أن الجزاء هو الشرط أي وإن لم تبلغ فما بلغت وذلك غير مفيد فقلت بل هو مفيد أي وإن لم تبلغ في المستقبل لم ينفعك تبليغك في الماضي لارتباط أول الرسالة بآخرها كالصلاة ونحوها بدليل قصة يونس فعبر بانتفاء ماهية التبليغ عن انتفاء المقصود منه إذ كان إنما يطلب ولا يعتبر بدونه كقوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة إلا بطهور ثم اجتمعت بابن عبد السلام بجامع بوقير من تونس فسألته عن ذلك فلم يزد على أن قال هذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله وقد علمتم ما قال الشيخ تقي الدين فيه قلت كلام تقي الدين لا يعطي الجواب عن الآية فتأمله
35 - 41 - وقالضي المناكح أبا محمد الأجمي وهو حافظ فقهائها في وقته والفقيه أبا عبد الله ابن هارون شارح ابن الحاجب في الفقه والأصول والخطيب أبا عبد الله ابن عبد الستار وحضرت تدريسه بمدرسة المعرض والعلامة أبا عبد الله ابن الجياب الكاتب والفقيه أبا عبد الله ابن سلمة والشيخ الصالح أبا الحسن المنتصر وارث طريقة الشيخ أبي محمد المرجاني آخر المذكورين بإفريقية ورأيت ابن الشيخ المرجاني فحدثني أبو موسى ابن الإمام أنه أشبه به من الغراب بالغراب وسيدي أبا عبد الله الزبيدي المتقدم ذكره وأوقفني على خطإ في كتاب الصحاح وذلك أنه زعم أن السالم جلدة ما بين العين والأنف قال وفيه يقول ابن عمر في ابنه السالم
____________________
(5/251)
( يديرونني عن سالم وأديرهم ** وجلدة بين الأنف والعين سالم )
قال وهذا أراد عبد الملك حيث كتب إلى الحجاج أنت مني كسالم وهذا خطا فاحش وكان يلزمه أن يسميها بالعمارة أيضا لقوله عليه السلام عمارة جلدة ما بين عيني وأنفي وإنما يراد بمثل هذا القرب والتحمد
ولقيت بتونس غير واحد من العلماء والصلحاء يطول ذكرهم ثم قفلت إلى المغرب يسايرني رجل من أهل قسنطينة يعرف بمنصور الحلبي فما لقيت رجلا أكثر أخبارا ولا أظرف نوادر منه فمما حفظته من حديثه أن رجلا من الأدباء مر برجل من الغرباء وقد قام بين ستة أطفال جعل ثلاثة عن يمينه وثلاثة عن شماله وأخذ ينشد
( ما كنت أحسب أن أبقى كذا أبدا ** أعيش والدهر في أطرافه حتف )
( ساس بستة أطفال توسطهم ** شخصي كأحرف ساس وسطها ألف )
قال فتقدمت إليه وقلت فأين تعريقة السين فقال طالب ورب الكعبة ثم قال الآخر من جهة يمينه قم فقام يجر رجله كأنه مبطول فقال هذا تمام تعريقة السين
41 - 53 ثم رحلت من تلمسان إلى المغرب فلقيت بفاس الشيخ الفقيه الحاج أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحيم اليزناسي والشيخ الفقيه أبا محمد عبد المؤمن الجاناتي والشيخ الفقيه الصالح أبا زرهون عبد العزيز بن محمد القيرواني والفقيه أبا الضياء مصباح بن عبد الله اليالصوني وكان حافظ وقته والفقيه أبا عبد الله ابن عبد الكريم وشيخ الشيوخ أبا زيد عبد الرحمن بن عفان الجزولي والأستاذ أبا العباس المكناسي وكنت لقيت الأستاذ أبا العباس ابن
____________________
(5/252)
حزب الله والأستاذ أبا عبد الله ابن القصار بتلمسان ولقيت غير هؤلاء ممن يكثر عددهم وكنت قد لقيت بتازي الفقيه أبا عبد الله ابن عطية والأستاذ أبا عبد الله المجاصي والشيخ أبا الحسين الجيار وغيرهم
53 - 67 - ثم بلغت بالرحلة إلى أغمات ثم وصلت إلى سبتة فاستوعبت بلاد المغرب ولقيت بكل بلد من لا بد من لقائه من علمائه وصلحائه ثم قفلت إلى تلمسان فأقمت بها ما شاء الله تعالى ثم أعملت الرحلة إلى الحجاز فلقيت بمصر الأستاذ أثير الدين أبا حيان الغرناطي فرويت عنه واستفدت منه وشمس الدين الأصبهاني الآخر وشمس الدين بن عدلان وقرأ علي بعض شروحه لكتب المزني وناولني إياه وشمس الدين بن اللبان آخر المذكورين بها والشيخ الصالح أبا محمد المنوفي فقيه المالكية بها وتاج الدين التبريزي الأصم وغيرهم ممن يطول ذكرهم
ثم حججت فلقيت بمكة إمام الوقت أبا عبد الله ابن عبد الرحمن التوزري المعروف بخليل وسألته يوم النحر حين وقف بالمشعر الحرام عن بطن محسر لأحرك فيه على الجمل فقال لي تمالأ الناس على ترك هذه السنة حتى نسي بتركها محلها والأقرب أنه هذا وأشار إلى ما يلي الجابية التي على يسار المار من المشعر إلى منى من الطريق من أول ما يحاذيها إلى أن يأخذ صاعدا إلى منى وما رأيت أعلم بالمناسك منه والإمام أبا العباس ابن رضي الدين الشافعي وغير واحد من الزائرين والمجاورين وأهل البلد
وبالمدينة أعجوبة الدنيا أبا محمد عبد الوهاب الجبرتي وغيره
____________________
(5/253)
ثم أخذت على الشام فلقيت بدمشق شمس الدين بن قيم الجوزية صاحب الفقيه ابن تيمية وصدر الدين الغماري المالكي وأبا القاسم ابن محمد اليماني الشافعي وغيرهم وببيت المقدس الأستاذ أبا عبد الله ابن مثبت والقاضي شمس الدين بن سالم والفقيه المذكر أبا عبد الله ابن عثمان وغيرهم
ثم رجعت إلى المغرب فدخلت سجلماسة ودرعة ثم قطعت إلى الأندلس فدخلت الجبل وأصطبونة ومربلة ومالقة وبلش والحامة وانتهت بي الرحلة إلى غرناطة وفي علم الله تعالى ما لا علم وهو المسؤول أن يحملنا على الصراط الأقوم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم انتهى كلام جدي رحمه الله تعالى في الجزء الذي ألفه في مشيخته وقد لخصه لسان الدين في الإحاطة ترجمة المقري بقلم ابن خلدون
ولنذكر هنا زيادات لا بأس بها فنقول ولما ألم ولي الدين ابن خلدون بذكر مولاي الجد في تاريخه الكبير عند تعريفه بنفسه وصفه بأنه كبير علماء المغرب ونص محل الحاجة من تاريخه لما رحلت من تونس منتصف شعبان من سنة أربع وثمانين أقمنا في البحر نحوا من أربعين ليلة ثم وافينا مرسى الإسكندرية يوم الفطر ولعشر ليال من جلوس الملك الظاهر على التخت واقتعاد كرسي الملك دون أهله بني قلاوون وكنا على ترقب ذلك لما كان يؤثر بقاصية البلاد
____________________
(5/254)
من سموه لذلك وتمهيده له وأقمت بإسكندرية شهرا لتهيئة أسباب الحج ولم يقدر عامئذ فانتقلت إلى القاهرة أول ذي القعدة فرأيت حضرة الدنيا وبستان العالم ومحشر الأمم ومدرج الذر من البشر وإيوان الإسلام وكرسي الملك تلوح القصور والأواوين في أوجه وتزهو الخوانق والمدارس بآفاقه وتضيء البدور والكواكب من علمائه وقد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء يسقيهم النهل والعلل سيحه ويجبي إليهم الثمرات والخيرات ثبجه ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة وأسواقها تزخر بالنعم وما زلنا نحدث عن هذا البلد وبعد مداه في العمران واتساع الأحوال ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا حاجهم وتاجرهم بالحديث عنه سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقري فقلت له كيف هي القاهرة فقال من لم يرها لم يعرف عز الإسلام وسألت شيخنا أبا العباس ابن إدريس كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال كأنما انطلق أهله من الحساب يشير إلى كثرة أممه وأمنهم العواقب وحضرت صاحبنا قاضي العسكر بفاس الفقيه الكاتب أبا القاسم البرجي بمجلس السلطان أبي عنان منصرفه من السفارة عنه إلى ملوك مصر وتأدية رسالته النبوية إلى الضريح الكريم سنة خمس وخمسين وسأله عن القاهرة فقال أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار إن الذي يتخيله الإنسان فإن ما يراه دون الصورة التي تخيلها لاتساع الخيال على كل محسوس إلا القاهرة فإنها أوسع من كل ما يتخيل
____________________
(5/255)
فيها فأعجب السلطان والحاضرون بذلك انتهى كلام ابن خلدون ولا يخلو عن فائدة زائدة فوائد عن المقري الجد
ولا بأس أن نورد من فوائد مولاي الجد ما حضرني الآن فمن ذلك ما حكاه ابن عبد الرزاق عن ابن قطران قال سمع يهودي بالحديث المأثور نعم الإدام الخل فأنكر ذلك حتى كاد يصرح بالقدح فبلغ ذلك بعض العلماء فأشار على الملك أن يقطع عن اليهود الخل وأسبابه سنة قال فما تمت حتى ظهر فيهم الجذام
ومنها أنه قال أنشدني الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد قال أنشدني الشيخ التقي ابن دقيق العيد لنفسه في معنى لطيف حجازي
( إذا كنت في نجد وطيب نعيمه ** تذكرت أهلي باللوى فمحسر )
( وإن كنت فيهم زدت شوقا ولوعة ** إلى ساكني نجد وعيل تصبري )
( فقد طال ما بين الفريقين موقفي ** فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري )
ومنها ما حكاه عن عبد الله بن عبد الحق عن ابن قطرال قال كنت بالمدينة على ساكنها الصلاة والسلام إذ أقبل رافضي بفحمة في يده فكتب بها على جدار هناك
( من كان يعلم أن الله خالقه ** فلا يحب أبا بكر ولا عمرا )
____________________
(5/256)
وانصرف فألقى علي من الفطنة وحسن البديهة ما لم أعهد مثله من نفسي قبل فجعلت مكان يحب يسب ورجعت إلى مجلسي فجاء فوجده كما أصلحته فجعل يلتفت يمينا وشمالا كأنه يطلب من صنع ذلك ولم يتهمني فلما أعياه الأمر انصرف
ومنها أنه قال حدثت أن الزاهد أبا عمرة ابن غالب المرسي نزيل تلمسان وقد لقيت غير واحد من أصحابه سأله بعض أن يشهد عقد ابنته فتعذر عليه فلم يزل به حتى أجاب بعد جهد فحضر العقد وطعم الوليمة ثم لما حضرت ليلة الزفاف استحضره في ركوبها إلى دار زوجها على عادة أهل تلمسان فأجابه مسرعا فقيل له أين هذا التيسري من ذاك التعسير فقال من أكل طعام الناس مشى في خدمتهم أو كما قال
ومنها أنه قال حدثت أن الفقيه أبا عبد الله ابن العواد العدل بتونس التقى يوما مع القاضي أبي علي ابن قداح وكان ابن العواد شيخا فقال له أبو علي كبرت أبا عبد الله فصرت تمشي كل شبر بدينار يوري بكثرة الفائدة في مشيه إلى الشهادة فقال له كنت إذ كنت في سنك أخرج رزقي من الحجر يعرض لابن قداح بأنه جيار وكذلك كان هو وأبوه رحمهم الله تعالى جميعا وهذا من مزاج الأشراف كما جرى بين معاوية والأحنف انظر صدر أدب الكتاب
ومنها أنه قال قال لي الحاج أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الواحد الرباطي كنا عند الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد ففقد أحدنا نعليه فقال الشيخ كنا عند العلم التبريزي فدخل عليه رجل يدعى بشيرا فكلمه ثم خرج فلم يجد نعليه فرجع إلى العلم وأنشده
( دخلت إليك يا أملي بشيرا ** فلما أن خرجت خرجت بشرا )
( أعد يائي التي سقطت من اسمي ** فيائي في الحساب تعد عشرا )
____________________
(5/257)
وقال رحمه الله تعالى لما سعى أولاد الشيخ أبي شعيب بالقاضي أبي الحجاج الطرطوشي إلى السلطان وأمر بإشخاصه وكثر إرجاف المتشيعين فيهم من بعده وخرج الأمر على خلاف ما أملوا منه قال في ذلك
( حمدت الله في قوم أثاروا ** شرورا فاستحالت لي سرورا )
( وقالوا النار قد شبت فلما ** دنوت لها وجدت النار نورا )
ومنها أنه حكى أن الشيخ أبا القاسم ابن محمد اليمني مدرس دمشق ومفتيها حكى له بدمشق أنه قال له شيخ صالح برباط الخليل عليه السلام نزل بي مغربي فمرض حتى طال علي أمره فدعوت الله أن يفرج عني وعنه بموت أو صحة فرأيت النبي في المنام فقال أطعمه الكسكسون قال يقوله هكذا بالنون فصنعته له فكأنما جعلت له فيه الشفاء وكان أبو القاسم يقول فيه كذلك ويخالف الناس في حذف النون من هذا الاسم ويقول لا أعدل عن لفظ رسول الله ثم قال قلت ووجه هذا من الطب أن هذا الطعام مما يعتاده المغاربة ويشتهونه على كثرة استعمالهم له فربما نبه منه شهوة أو رده إلى عادة
وقال الجد رحمه الله تعالى رأيت بجامع الفسطاط من مصر فقيرا عليه قميص إلى جانبه دفاسة قائمة وبين يديه قلنسوة فذكر لي هنالك أنهما محشوتان بالبرادة وأن زنة الدفاسة أربعمائة رطل مصرية وهي ثلاثمائة وخمسون مغربية وزنة القلنسوة مائتا رطل مصرية وهي مائة وخمسة وسبعون مغربية فعمدت إلى الدفاسة فأخذتها من طوقها أنا ورجل آخر فأملناها بالجهد ثم أقمناها ولم نصل بها إلى الأرض وعدت إلى القلنسوة فأخذتها من إصبع كان
____________________
(5/258)
في رأسها فلم أطق حملها فتركتها وكان يوم جمعة فلما قضيت الصلاة مررنا في جملة من أصحابنا بالفقير فوجدناه لابسا تلك الدفاسة في عنقه واضعا تلك القلنسوة على رأسه فقام إلينا وإلى غيرنا ومشى بهما كما يمشي أحدنا بثيابه فجعلنا نتعجب ويشهد بعضنا بعضا على ما رأى من ذلك ولم يكن بالعظيم الخلقة
وقال رحمه الله تعالى كان الأستاذ ابن حكم قد بعث إلي بمحرر لأبعث به إلى من يعرضه للبيع ثم بلغه أن أحمالا من المتاع التونسي قد وصلت إلى البلد فكتب إلي الحمد لله الذي أمر عند كل مسجد بأخذ الزينة وصلواته الطيبة وبركاته الصيبة على من ختم به شريعته وأكمل دينه وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه والذين يتبعونه وبعد فما تعلق به الإعلام أن تعوضوا المحرر بإحرام لا يخفى على مثلكم جنسه ومجانسه ومن كلام العرب كل ثوب ولابسه وإن أربى على ثمن الأول ثمن الثاني فلست عن الزيادة والحمد لله بالواني
ومن فوائده أنه قال كتب في صدر رسالة إلى صاحبنا الشيخ الناسك أبي علي منصور ابن شيخ عصره وفريد دهره ناصر الدين المشدالي الشيخ الخاشع صاحبنا أبو الحسن علي بن موسى البحيري يذكره شوقه إلى لقائه لما كان يبلغه عنه حتى قدر باجتماعهما بوهران أيام قضاء البحيري بها
( أوحشتني ولو اطلعت على الذي ** لك في فؤادي لم تكن لي موحشا )
( يا محرقا بالنار قلب محبه ** أنسيت أنك مستكن في الحشا )
وقال رحمه الله تعالى أنشدني محمد البلفيقي قال أنشدني ابن رشيد قال أنشدني أبو حفص ابن الخيمي المصري لنفسه
____________________
(5/259)
( لو رأى وجه جبيبي عاذلي ** لتفاصلنا على وجه جميل )
وقال رحمه الله تعالى قال لي محمد بن داود بن المكتب قال لي بلال الحبشي خادم الشيخ أبي مدين كان الشيخ كثيرا ما ينشد هذا البيت
( الله قل وذر الوجود وما حوى ** إن كنت مرتادا بصدق مراد )
وقال رحمه الله تعالى دخلت على عبد الرحمن بن عفان الجزولي وهو يجود بنفسه وكنت قد رأيته قبل ذلك معافى فسألته عن السبب فأخبرني أنه خرج إلى لقاء السلطان فسقط عن دابته فتداعت أركانه فقلت ما حملك أن تتكلف مثل هذا في ارتفاع سنك فقال حب الرياسة آخر ما يخرج من قلوب الصديقين
وقال رحمه الله تعالى قال لي محمد بن مرزوق قال لي بعض أصحاب أبي إسحاق الطيار دفين عباد تلمسان إن أبا إسحاق أقام خمسا وعشرين سنة لا ينام إلا قاعدا فسألت ابن مرزوق لم لقب بالطيار فحدثني عن بعض أصحابه أنه نشر ذات يوم ثوبه في الشمس على بعض السطوح ثم قعد هنالك فمر به رجل فقال له طر فقال أعن أمرك قال نعم فطار حتى وقع على الأرض وما به من باس فقال الجد رحمه الله تعالى بعد هذا ما نصه فقلت إذا ما صار الحق للعبد سمعا وبصرا فسمع به وأبصر أصاخ إلى الأحوال واجتلى المعاني فيرى من غير مبصر ويسمع من غير ناطق كما قال الشيخ أبو عبد الله الشوذي الحلوي دفين تلمسان
____________________
(5/260)
( إذا نطق الوجود أصاخ قوم ** بآذان إلى نطق الوجود )
( وذاك النطق ليس به انعجام ** ولكن دق عن فهم البليد )
( فكن فطنا تنادى من قريب ** ولا تك من ينادى من بعيد )
وقال رحمه الله تعالى حدثت بمصر أن الشيخ سيدي عمر بن الفارض ولع بجمل فكان يستأجره من صاحبه ليتأنس به فقيل له لو اشتريته فقال المحبوب لا يملك فسألت في أي حال كان هذا منه فقيل لي في ابتداء أمره فقلت وجد اعتبار { أفلا ينظرون إلى الإبل } الغاشية 17 فوقفت به رؤية المعنى فيه عليه فأحبه مدلا وطلب مجلا
وقال رضي الله عنه حفظت من خط أبي زيد والد صاحبنا أبي الحسن قيل للغزالي ما تقول في الحلاج فقال وما عسى أن أقول فيمن شرب بكأس الصفاء على بساط الوفاء فسكر وعربد فاستوجب من الله الحد فكان حده شهادته ثم قال بعد هذا قلت عربد الحلاج في الحضرة لما نسي بسكره أوامره فانتصر الظاهر لنفسه لصحة تعلق اسمه وسدل الباطن على عذره حجاب الغيرة من إفشاء سره
( على سمة الأسماء تجري أمورهم ** وحكمة وصف الذات للحكم أجرت )
وقال رحمه الله تعالى سمعت شيخنا ببيت المقدس يقول تجلى الله على المسجد الأقصى بالجمال وعلى المسجد الحرام بالجلال وعلى مسجد الرسول بالكمال قلت فذلك يوقف النواظر وذاك يملأ الخواطر وهذا يفتح البصائر
وقال رحمه الله تعالى أخبرني أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان فارس
____________________
(5/261)
نصره الله أن جده أمير المسلمين أبا سعيد سأل كاتبه عبد المهيمن الحضرمي عن تهادي أهل الحب التفاح دون الخوخ وكلاهما حسن المنظر طيب المخبر شديد شبه بأخيه سديد تشبيه الوجنات به لمتوخيه فقال ما عند مولانا فقال أرى ذلك لاشتمال التفاح على الحب الذي يذكر بالحب والهوى والخوخ على النوى الذي يذكر اسمه صفرة الجوى
وقال رحمه الله تعالى قال لي أبو حيان بالقاهرة قال لي عمر بن الخيمي تجاذبت أنا ونجم الدين بن إسرائيل هذا البيت
( يا بارقا بأعالي الرقمتين بدا ** لقد حكيت ولكن فاتك الشنب )
فتحاكمنا إلى ابن الفارض فأشار بأن ننظم قصيدة نضمنها البيت فنظم ونظمت
( يا مطلبا ليس لي في غيره أرب ** إليك آلى التقضي وانتهى الطلب )
فقضى به لي
وقال رحمه الله تعالى حدثت أن أبا زيد الهزميري بعث إلى أبي عمران التسولي وكان كثير الصلاة أنه لم يبق بينك وبين الله حجاب إلا الركيعات فرجع إليه ما معناه إن الاتصال كان منها فلا كان يوم الانفصال عنها يعني من رزق من باب فليلزمه
وقال رحمه الله تعالى كنت بجامع تلمسان وإلى جانبي رجل ينتمي إلى طريقة العرفان فجعل سائل يشكو الجوع والألم فتصدق ذلك الرجل عليه بدرهم وقال إياك أن تشكو الرحمن إلى من لا يرحم فقلت أمره أن
____________________
(5/262)
يسأل عزيزا بمولاه ونهاه أن يشكو ذليلا إلى سواه
وكان الفارابي كثيرا ما يقول يا رب إليك المشتكى حتى إنه يوجد أثناء كلامه في غير موضعه فيعجب منه من لا علم عنده بمنزعه
وقال رحمه الله تعالى حدثت أن الفخر مر ببعض شيوخ الصوفية فقيل للشيخ هذا يقيم على الصانع ألف دليل فلو قمت إليه فقال وعزته لو عرفه ما استدل عليه فبلغ ذلك الإمام فقال نحن نعلم من وراء الحجاب وهم ينظرون من غير حجاب
وقال رحمه الله تعالى حدثت أن رجلا كان يجلس إلى أبي الحسن الحرالي وكان يشرب الخمر فسكر ذات يوم فسقط على زجاجة فشج وجهه فاختفى إلى أن برئ ثم عاد إلى مجالسة الشيخ فلما رآه أنشد
( أجريح كاسات أرقت نجيعها ** طلب الترات يعز منه خلاص )
( لا تسفكن دم الزجاجة بعدها ** إن الجروح كما علمت قصاص )
ففهمها الشاب فتاب
وقال رحمه الله تعالى كثيرا ما كنت أسمع أبا محمد المجاصي ينشد هذا البيت
( هم الرجال وعيب أن يقال لمن ** لم يتصف بمعاني وصفهم رجل )
ثم يبكي وكان أهل البلد يسمونه البكاء وبعضهم الخاشع
ووجدت بخط مولاي الجد على ظهر كتابه القواعد ما نصه الحمد لله تعالى جده قرأت صدر كتاب زهرة البساتين للقاسم بن الطيلسان ثم سمعت ثلاثة أحاديث من أوله بل حديثا وأثرا وإنشادا من في الشيخ الخطيب الصالح أبي عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عياش الأنصاري ثم تناولت منه جميع الكتاب المذكور وأجازنيه بحق سماعه لبعضه وتناوله لجميعه من جده
____________________
(5/263)
محمد المذكور بحق أخذه له عن مؤلفه صهره القاسم المذكور وذلك بالمسجد الجامع من مالقة المحروسة قال ذلك وكتبه محمد بن محمد بن أحمد المقري في متم عشرين لشهر ربيع الآخر من عام سبعة وخمسين وسبعمائة
وبخطه رحمه الله تعالى حيث ذكر ما نصه الحمد لله مخالفة القواعد الشرعية للعوائد العرفية كإنكار الحشر وفتنة القبر ونحوهما من الأمر بالمعروف للركون إلى المشهور المألوف أو كالتقليد مع الدليل الذي ذمه الشرع في محكم التنزيل
وبخطه أيضا الحمد لله قد تتابع صفات العام حتى يصير كأنه أشير به إلى شخص بعينه فيختص ومن ثم قيل في قول الله عز وجل { ولا تطع كل حلاف مهين } القلم 10 إنه الأخنس بن شريق وفي قوله تعالى { ويل لكل همزة لمزة } الهمزة 1 إنه أميه ابن خلف وفي قوله تعالى { ذرني ومن خلقت وحيدا } المدثر 11 إنه الوليد بن المغيرة انتهى
ووجدت بخطه أيضا رحمه الله تعالى ما نصه الحمد لله قال لي المتوكل على الله أبو عنان أمير المؤمنين فارس بن علي كان جدنا أبو يوسف يعقوب ابن عبد الحق يقول الولايات ست ثلاث وقفتها على اختياري الحجابة والقصبة والشرطة وثلاث موكولة إليكم القضاء والإمامة والحسبة ثم قال رحمه الله تعالى وهذا تدبير حسن
ومن فوائده حدثني العدل أبو عبد الله محمد بن أبي زرع عن القاضي أبي عبدالله ابن أبي الصبر أنه أمر الوالي بفاس أن يبني فندق الشماعين وكان قد خرب فتوقف حتى يأذن السلطان فقال له أسلفني ما أبنيه به فإن أجاز ذلك السلطان وإلا رددته عليك ففعل فلما طولب ذكر ما قال له القاضي
____________________
(5/264)
فغضب السلطان وبعث فيه فجعل المبعوثون يأتونه واحدا بعد واحد وهو متمهل في وضوئه وإصلاح بزته ومركوبه ثم جعل يمشي الهوينا فلقيه ابنه فقال له أسرع فقد أكثر السلطان من التوجيه إليك وهو واجد عليك فقال له مسكين أبو يحيى خاف وثبت على حاله فلما كان في الطريق لقي بعض العلماء فتعرض إليه فقال قل بخفي لطفك بلطيف صنعك بجميل سترك دخلت في كنفك تشفعت بنبيك فحفظه ثم طلبه فلم يجده فجعل يقول ذلك فلما رآه السلطان سكن ما به ثم سأله عن ذلك برفق فقال له القاضي كرهت الخراب بقرب القرويين وبالشماعين الذي هو عين فاس فسألت الوالي ذلك على أني أغرم إن لم تجز وقلت له المرجو من السلطان أن يجعله حبسا فقال قد فعلت ثم بعث إلى الشهود وحبسه على الجامع وشكر للقاضي صنيعه وصرفه مغبوطا
وهذا السلطان هو أبو يعقوب يوسف بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني وتوفي محاصرا لتلمسان في ذي القعدة من عام ستة وسبعمائة وكان ابتداء حصاره إياها سنة ثمان وتسعين وستمائة وكان جملة الحصار فيما حدثت ألف شهر انتهى
ومن فوائد مولاي الجد رحمه الله تعالى ما حكاه تلميذه أبو إسحاق الشاطبي في كتاب الإنشادات والإفادات ونصه إفادة حضرت يوما مجلسا في المسجد الجامع بغرناطة مقدم الأستاذ القاضي أبي عبد الله المقري في أواخر ربيع الأول عام سبعة وخمسين وسبعمائة وقد جمع ذلك المجلس القاضي أبا عبد الله والقاضي أبا القاسم الشريف شيخنا والأستاذ أبا سعيد ابن لب والأستاذ أبا عبد الله البلنسي وذا الوزارتين أبا عبد الله ابن الخطيب وجماعة من الطلبة
____________________
(5/265)
فكان من جملة ما جرى أن قال القاضي أبو عبد الله المقري سئلت في مسألة في الأصول لم أجد لأحد فيها نصا وهي تخصيص العام المؤكد بمنفصل فأجبت بالجواز محتجا بقول الله عز وجل { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } الأعراف 33 فهذا عام مؤكد وقد قال رسول الله لم يحل الله من الفواحش إلا مسألة الناسي انتهى
ومن الكتاب المذكور ما نصه إفادة حدثني الشيخ الفقيه القاضي الجليل الشهير الخطير أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري رحمه الله تعالى وأملاه علينا عن العالم الكبير أبي حيان ابن يوسف بن حيان أنه قال ورد كتاب من الأستاذ أبي عبد الله ابن مثبت الغرناطي إلى صاحب له يسمى حمزة وفيه سئل الشيخ قال أبو حيان يعني وجدت على ظهر نسخة من المفصل بخط عتيق سئل ابن الأخضر بمحضر ابن الأبرش علام انتصب قوله
( مقالة أن قد قلت سوف أناله ** ) فقال
( ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى ** )
فقال سألتك عن إعراب كلمة فأجبتني بشطر بيت فقال ابن الأبرش قد أجابك لو كنت تفهم قال أبو حيان فوقعت عليه للحين إن هذا الشطر من قول النابغة
( أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ** وتلك التي تصطك منها المسامع )
( مقالة أن قد قلت سوف أناله ** وذلك من تلقاء مثلك رائع )
يروى مقالة بالرفع على أنه بدل من أنك لمتني الفاعل وبالفتح على ذلك إلا أنه بناه لما أضافه إلى مبني
____________________
(5/266)
ومنه إفادة حدثني الشيخ الفقيه القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى قال سئل أبو العباس ابن البناء رحمه الله تعالى وكان رجلا صالحا في قوله تعالى { قالوا إن هذان لساحران } طه 63 لم لم تعمل إن في هذان فقال لما لم يؤثر القول في المقول لم يؤثر العامل في المعمول فقال له يا سيدي هذا لا ينهض جوابا فإنه لا يلزم من بطلان قولهم بطلان عمل إن فقال له إن هذا الجواب نوارة لا تحتمل أن تحك بين الأكف انتهى
ومنه إفادة قال لنا الشيخ الأستاذ القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى إن أهل المنطق وغيره يزعمون أن الأسماء المعدولة لا تكاد توجد في كلام العرب وهي موجودة في القرآن وذلك قوله { لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك } البقرة 68 فإن زعم زاعم أن ذلك على حذف المبتدأ ودخلت لا على الجملة وتقديره لا هي فارض ولا هي بكر قيل له إن كان يسوغ لك ذلك في هذا الموضع فلا يسوغ في قوله تعالى { لا شرقية ولا غربية } النور 35 فصح أن الاسم المعدول موجود فصيح في كلام العرب
ومنه إفادة حدثنا الأستاذ أبو عبد الله المقري قال سئل عن قوله تعالى { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون } الأنبياء 33 لم عاد ضمير من يعقل إلى ما لا يعقل فقال بعضهم لما اشرك مع من يعقل في السباحة وهي العوم عومل لذلك معاملته قال وهذا لا ينهض جوابا فإن السباحة لما لا يعقل كالحوت وإنما لمن يعقل العوم لا السباحة وأيضا فإلحاقه بما العوم له لازم كالحوت أولى من إلحاقه بما هو غير لازم له قال وأجاب الأستاذ أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي السبتي بأن الشيء المعظم عند العرب تعامله معاملة العاقل وإن لم يكن عاقلا لعظمه عندهم وأجبت أنا بأنه لما عوملت في غير هذا الموضع معاملة من يعقل في نحو قوله تعالى { والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } يوسف 4 لصدور أفعال العقلاء عنها أجرى عليها هنا ذلك الحكم للأنس به في موضعه
____________________
(5/267)
ومنه إفادة لقمني الشيخ الفقيه القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى لقمة بيده المباركة وقال لقمني الشيخ أبو عبد الله المسفر قال لقمني أبو زكريا المحياوي قال لقمني أبو محمد صالح قال لقمني الشيخ أبو مدين قال لقمني أبو الحسن ابن حرزهم قال لقمني ابن العربي قال لقمني الغزالي قال لقمني أبو المعالي قال لقمني أبو طالب المكي قال لقمني أبو محمد الجريري قال لقمني الجنيد قال لقمني السقطي قال لقمني معروف الكرخي قال لقمني داود الطائي قال لقمني حبيب العجمي قال لقمني الحسن البصري قال لقمني علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال لقمني رسول الله قلت وبهذا السند صافحته أيضا رضي الله تعالى عنه انتهى
وللمحدثين في هذا السند كلام مشهور وانتصر بعضهم للسادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم
ومنه إنشادة أنشدني الشريشي الفقيه أبو عبد الله قال أنشدني القاضي المقري قال أنشدني الرباطي قال أنشدني ابن دقيق العيد لنفسه من صدر رسالة كتب بها لبعض إخوانه بالحجاز
( يهيم قلبي طربا عندما ** أستلمح البرق الحجازيا )
( ويستميل الوجد قلبي وقد ** أصبح لي ثوب الحجي زيا )
( يا هل أقضي من منى حاجتي ** فأنحر البدن المهاريا )
( وأوتوي من زمزم فهي لي ** ألذ من ريق المها ريا )
____________________
(5/268)
ومنه إفادة حدثنا الأستاذ القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى قال رأيت لبعض من ألف على كتاب الكشاف للزمخشري فائدة لم أرها لغيره في قوله تعالى { والراسخون في العلم } إذ الناس يختلفون في هذا الموضع اختلافا كثيرا فقال قوم الراسخون في العلم يعلمون تأوليه والوقوف عند قوله { والراسخون في العلم } وقال قوم إن الراسخين لا يعلمون تأويله وإنما يوقف عند قوله { وما يعلم تأويله إلا الله } فقال هذا القائل إن الآية من باب الجمع والتفريق والتقسيم من أنواع البيان وذلك لأن قوله تعالى { هو الذي أنزل عليك الكتاب } هو جمع وقوله { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } تفريق وقوله تعالى { فأما الذين في قلوبهم زيغ } إلى قوله تعالى { وابتغاء تأويله } أحد طرفي التقسيم وقوله تعالى { والراسخون في العلم } الطرف الثاني وتقديره وأما الراسخون في العلم فيقولون آمنا به وجاء قوله تعالى { وما يعلم تأويله إلا الله } آل عمران 7 اعتراضا بين طرفي التقسيم قال وهذا مثل قوله تعالى { وأنا منا المسلمون } - الآية الجن 14 فقوله { وإنا } جمع وقوله { منا المسلمون ومنا القاسطون } تفريق وقوله { فمن أسلم } { وأما القاسطون } تقسيم وهو من بديع التفسير قلت ومثله أيضا قوله تعالى { يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه } - الآيات هود 105 انتهى
ومنه إنشادة أنشدنا الشيخ الفقيه القاضي أبو عبد الله المقري في القول بالموجب لبعض العلماء في وديعة
( إن قال قد ضاعت فصدق أنها ** ضاعت ولكن منك يعني لو تعي )
( أو قال قد وقعت فصدق أنها ** وقعت ولكن منه أحسن موقع )
ومنه إنشادة أيضا من القول بالموجب لبعض الحنابلة
____________________
(5/269)
( يحجون بالمال الذي يجمعونه ** حراما إلى البيت العتيق المحرم )
( ويزعم كل أن تحط ذنوبهم ** تحط ولكن فوقهم في جهنم )
ومنه إفادة كتب لي بخطه شيخنا الفقيه القاضي الجليل أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى على ظهر التسهيل لابن مالك الذي كتبه بخطي بعدما كتب لي بخطه روايته فيه عن أبي الحسن ابن مزاحم عن بدر الدين ابن جماعة عن المؤلف فكتب بعد ذلك ما نصه قال محمد بن محمد المقري بدر الدين ابن جماعة المذكور يدعى بقاضي القضاة على ما جرت به عوائد أهل المشرق في تسمية مثله وأنا أكره هذا الإسم محتجا بقول النبي صلى الله عليه وسلم إن أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى بملك الملوك لا ملك إلا الله انتهى ما انتقيته من كتاب الإنشادات والإفادات للشاطبي فيما يتعلق بجدي رحمه الله تعالى
ومن فوائد مولاي الجد رحمه الله مما لم يذكر فيما سبق أنه حكي أن ابن أمجوط الموله دخل في حلقة أبي عبد الله ابن رشيد بجامع القرويين وبين رجليه قصبة كأنها فرس وبيده اخرى كأنها رمح فانتهره رجل فضربه برمحه على رأسه وقال له اسكت يا ميت فأبهت الناس لكلامه فقال له الشيخ يا فقير أنت في حال ونحن في مقال وشأن أرباب الأحوال التسليم لأصحاب المقال فنظر إليه الموله وانصرف ثم لم ينشب المنتهر أن توفي بعد ذلك بأيام قلائل أخبار للمقري عن ابن شاطر
ومنها قلت لابن شاطر يوما كيف حالك فقال محبوس في الروح
____________________
(5/270)
وصدق لأن الدنيا سجن المؤمن ولا مخلص له من حبسه إلا بمفارقة نفسه
وقال سألت ابن شاطر عن معنى قول ابن الفارض
( فلم أله باللاهوت عن حكم مظهري ** ولم أنس بالناسوت موضع حكمتي )
فقال يقول ما أنا بالحلاج ولا ببلعام ثم قال مولاي الجد بعد هذا الكلام ما صورته قلت وهذا هو الإنسان على الكمال والتمام ولقد سمعته يقول في الحلاج نصف إنسان يشير إلى البيت
وقال أيضا رحمه الله تعالى سمع ابن شاطر إنسانا يقول الجنة رخيصة فقال كيف تكون رخيصة والله عز وجل يقول { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } التوبة 111 انتهى ثم قال مولاي الجد بأثر هذا الكلام قلت ما الأنفس والأموال في جنب ما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لا سيما وفوق هذه الحسنى زيادة الإكرام بالنظر والرضى
وقال أيضا قيل لابن شاطر صف لنا الدنيا فقال { كسراب بقيعة } النور 39 الآيتين فبلغ ذلك أبا زيد ابن الإمام فأنكر عائبا لاستحسان سامعه تاليا { يحرفون الكلم عن مواضعه } المائدة 13 ولقد أصيب المتعسف بأدهى منها وأمر فإنه أفحم يوما ببعض أهل النظر فتلا عليه { فبهت الذي كفر } البقرة 58 على أن له أن يقول لم أخرج الآية عن مرادها فالبهت من انقطاع المعاند والكفر من جحد الجاحد ولنا أن نقول التحريف المذموم هو التحويل للإبطال وليس هذا في قصد الممثل الأول بالمثال انتهى
وهذا كله على مذهب جمهور المالكية في منع الاقتباس وللكلام على ذلك موضع غير هذا فليراجع في كتب البيان وغيرها
____________________
(5/271)
وقال رحمه الله تعالى حدثت أن المتوكل على الله أبا عنان رحمه الله تعالى أعطى ابن شاطر ألف دينار ليحج بها فمر بها إلى تلمسان فصار يدفع منها شيئا فشيئا للمتفرجين بغدير الوريط شرقي عباد تلمسان العلوي إلى أن نفدت فلما ورد السلطان أبو عنان تلمسان لقيه بسوق العطارين من منشر الجلد فقال له ياسيدي أبا عبد الله حج مبرور فقال له إذا جهلت أصل المال فانظر مصارفه ويأبى الله إلا أن ينفق الخبيث في مثله فضحك السلطان وانصرف انتهى
وكان لابن شاطر هذا عجائب ولم يكن مخلا بشيء من الحقوق الشرعية وكان معتقدا عند اهل وقته وكان السلطان أبو عنان على فقهه يعظمه ويصله ويسلم له وبات عنده ليلة بقصره وكان يدخل القصر ولا تحتجب منه الجواري فاحتاج إلى البول فبال في قبة القصر عظيمة فانتهرته إحدى الجواري وقالت له أتبول في قبة مولانا فقال لها إن قبة مولانا الخضراء أعظم من هذه وأنا أفعل تحتها ما هو أفظع من البول وما انتهرني قط فذكرت ذلك الجارية للسلطان فضحك وعلم أنه يريد السماء وكان يكتب القرآن والعمدة ولا يغلق حرفا مجوفا فإذا غلب على ذلك أصلحه حتى حكي أنه سافر لإصلاح حرف مجوف أغلقه سهوا من نسخة كان باعها ولم يتذكر ذلك حتى سافر مشتريها فما رجع حتى جدده
وحكى الشيخ أبو القاسم ابن داود الفخار السلوي أن الشيخ أبا عبد الله الشريف التلمساني صاحب المفتاح في أصول الفقه وشارح الجمل الخونجية المتوفي عام اثنين وسبعين وسبعمائة دفين المدرسة اليعقوبية من تلمسان المحروسة افتتح شرح العمدة بما نصه اللهم احمد نفسك عمن أمرته أن يتخذك وكيلا حمدا عائدا منك إليك متحديا بك دائما بدوام ملكك لا منقطعا ولا مفصولا
____________________
(5/272)
قال فقال لي أبو عبد الله ابن شاطر ما هو انفصال عالم الملك فقلت له بالضرورية الوقتية فقال لي ما أجهلك وأجهل سيدك أبا عبد الله وأجهل ابن سودكين الذي اخذ من كتابه هذا الحمد إذ قال لا منقطعا ولا مفصولا بعد قوله بدوام ملكك وهو بالضرورية الوقتية وهي منقطعة فهلا قال دائما بدوام قيوميتك وعظيم قدرك ومجدك الأعلى وسبحات وجهك الأكرم لا منقطعا ولا مفصولا فبلغ لذلك أبا عبد الله الشريف فبدله انتهى
واخبار ابن شاطر كثيرة وقد مر ذكره في كلام مولاي الجد رحمه الله تعالى وسيأتي ما ذكره لسان الدين به في الإحاطة تتمة الفوائد عن المقري
ومن فوائد مولاي الجد رحمه الله تعالى ما قاله إثر قول الرازي في التفسير الحس أقوى من العقل ونصه هذا على ما حكاه في المحصل من أن المعقولات فرع المحسوسات قال ولذلك من فقد حسا فقد فقد علما كالأكمه والعنين ومذهب جمهور الفلاسفة أن اليقينيات هي المعقولات لا المحسوسات انظر المحصل انتهى
ومن فوائده رحمه الله تعالى أنه قال أنشدت يوما الآبلي قول ابن الرومي
( أفنى وأعمى ذا الطبيب بطبه ** وبكحله الأحياء والبصراء )
( فإذا مررت رأيت من عميانه ** أمما على أمواته قراء )
فاستعادني حتى عجبت منه مع ما أعرف من عدم ميله إلى الشعر وانفعاله له وظننت أنه أعجب بما تضمنه البيت الأول من غريب اللف والنشر المكرر الذي لا أعرف له ثانيا فيه فقال أظننت أني أستحسنت الشعر فقلت مثلك
____________________
(5/273)
يستحسن مثل هذا الشعر فقال إنما تعرفت منه كون العميان كانوا في ذلك الزمان يقرؤون على المقابر فإنني كنت أرى ذلك حديث العهد فاستفدت التاريخ
وقال مولاي الجد رحمه الله تعالى حدثني الآبلي أن أبا عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن أبي العيش الخزرجي الخطيب بتلمسان كان يقول في خطبته من يطع الله ورسوله فقد رشد بالكسر وكان الطلبة ينكرون عليه ذلك فلما ورد عليهم الراوية الرحلة أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري سمعه يقول ذلك فأنكر عليه في جملتهم وبلغ الخطيب ذلك فلم يرجع فلما قفل ابن رشيد من وجهته تلك دخل على الأستاذ أبي الحسن ابن أبي الربيع بسبتة فهنأه بالقدوم وقال له فيما قال رشدت يا ابن رشيد ورشدت لغتان صحيحتان حكاهما يعقوب في الإصلاح ثم قال مولاي الجد قلت هذه كرامة للرجلين أو للثلاثة
وقال رحمه الله تعالى قال طالب لشيخنا الآبلي يوما مفهوم اللقب صحيح فقال له الشيخ قل زيد موجود فقال زيد موجود فقال له الشيخ أما أنا فلا أقول شيئا فعرف الطالب ما وقع فيه فخجل
وهذا الآبلي تقدم في كلام مولاي الجد رحمه الله تعالى أنه عالم الدنيا وهو تلمساني كما تقدم قال تلميذه أبو القاسم السلوي الفخار دخل علي شيخنا الآبلي يوما وأنا أعجن طين الفخارة فقال لي ما علامة قبول هذه المادة أكمل صورة ترد عليها فقلت أن تدفع عن نفسها ما هو من غير جنسها من حجر أو زبل أو غيره فأدركه وجد عظيم حتى إنه صاح وقام وقعد وبقي هنية مطرقا برأسه مفكرا ثم قال هكذا هي النفوس البشرية
____________________
(5/274)
قال وقال لي يوما وقد وجد الصبيان يصوتون بقصب رقاق على الذباب فإذا خرج قتلوه الغلط الداخل عليه من أي أنواع المغلطات هو فقلت له من إيهام العكس لما كان كل ذباب مصوتا ظن أن كل مصوت ذباب فاستحسن ذلك
قلت وحدثني مولاي العم الإمام شيخ الإسلام سيدي سعيد بن أحمد المقري رحمه الله تعالى عن شيخه ابن جلال مفتي حضرتي فاس وتلمسان أنه كان يحكي أن الغلط جاءه من عدم كلية الكبرى في الشكل الأول لأنه ركبه هكذا هذا مصوت وكل مصوت ذباب وقد علمت أنها هنا إنما تصدق جزئية لا كلية وإذا كانت جزئية بطل الإنتاج لأن ذلك من الضروب العقيمة انتهى
ومن فوائد مولاي الجد رحمه الله تعالى أنه قال سمعت شيخنا الآبلي يقول ما في الأمة المحمدية أشعر من ابن الفارض
وقال أيضا رحمه الله تعالى سمعت شيخنا الآبلي يقول إنما أفسد العلم كثرة التواليف وإنما أذهبه بنيان المدارس وكان ينتصف له من المؤلفين والبانين وإنه لكما قال غير أن في شرح ذلك طولا وذلك أن التأليف نسخ الرحلة التي هي أصل جمع العلم فكان الرجل ينفق فيها المال الكثير وقد لا يحصل له من العلم إلا النزر اليسير لأن عنايته على قدر مشقته في طلبه ثم صار يشتري أكبر ديوان بأبخس ثمن فلا يقع منه أكثر من موقع ما عوض عنه فلم يزل الأمر كذلك حتى نسي الأول بالآخر وأفضى الأمر إلى ما يسخر منه الساخر وأما البناء فلأنه يجذب الطلبة إلى ما يرتب فيه من الجرايات فيقبل بها على من
____________________
(5/275)
يعينه أهل الرياسة للأجراء والإقراء منهم أو ممن يرضى لنفسه الدخول في حكمهم ويصرفونها عن أهل العلم حقيقة الذين لا يدعون إلى ذلك وإن دعوا لم يجيبوا وإن أجابوا لم يوفوا لهم بما يطلبون من غيرهم ثم قال مولاي الجد رحمه الله تعالى ولقد استباح الناس النقل من المختصرات الغريبة أربابها ونسبوا ظواهر ما فيها إلى أمهاتها وقد نبه عبد الحق في تعقيب التهذيب على ما يمنع من ذلك لو كان من يسمع وذيلت كتابه بمثل عدد مسائله أجمع ثم تركوا الرواية فكثر التصحيف وانقطعت سلسلة الإتصال فصارت الفتاوي تنقل من كتب من لا يدري ما زيد فيها مما نقص منها لعدم تصحيحها وقلة الكشف عنها ولقد كان أهل المائة السادسة وصدر السابعة لا يسوغون الفتوى من تبصرة الشيخ أبي الحسن اللخمي لكونه لم يصحح على مؤلفه ولم يؤخذ عنه وأكثر ما يعتمد اليوم ما كان من هذا النمط ثم انضاف إلى ذلك عدم الاعتبار بالناقلين فصار يؤخذ من كتب المسخوطين كما يؤخذ من كتب المرضيين بل لا تكاد تجد من يفرق بين الفريقين ولم يكن هذا فيمن قبلنا فلقد تركوا كتب البراذعي على نبلها ولم يستعمل منها على كره من كثير منهم غير التهذيب الذي هو المدونة اليوم لشهرة مسائله وموافقته في أكثر ما خالف فيه المدونة لأبي محمد ثم كل أهل هذه المائة عن حال من قبلهم من حفظ المختصرات وشق الشروح والأصول والكبار فاقتصروا على حفظ ما قل لفظه ونزر حظه وأفنوا أعمارهم في فهم رموزه وحل لغوزه ولم يصلوا إلى رد ما فيه إلى أصوله بالتصحيح فضلا عن معرفة الضعيف من ذلك والصحيح بل هو حل مقفل وفهم أمر مجمل ومطالعة تقييدات
____________________
(5/276)
زعموا أنها تستنهض النفوس فبينا نحن نستكبر العدول عن كتب الأئمة إلى كتب الشيوخ أتيحت لنا تقييدات للجهلة بل مسودات المسوخ فإنا لله وإنا إليه راجعون فهذه جملة تهديك إلى أصل العلم وتريك ما غفل الناس عنه انتهى
ولنصلها بخاتمة تشير إلى حال العلماء أيضا اعلم أن شر العلماء علماء السلاطين وللعلماء معهم أحوال فكان الصدر الأول يفرون منهم وهم يطلبونهم فإذا حضر واحد منهم أفرغوا عليه الدنيا إفراغا ليقتنصوا بذلك غيره ثم جاء أهل العصر الثاني فطمحت أنفسهم إلى دنيا من حصل لهم ومنعهم قرب العهد بالخير عن إتيانهم فكانوا لا يأتونهم فإن دعوهم أجابوهم إلا القليل فانتقصوا مما كان لغيرهم بقدر ما نقصوا من منابذتهم ثم كان فيمن بعدهم من يأتيهم بلا دعوة وأكثرهم إن دعى اجاب فانتقصوا بقدر ذلك أيضا ثم تطارح جمهور من بعدهم عليهم فاستغنوا بهم عن دعاء غيرهم لا على جهة الفضل أو محبة المدحة منهم فلم يبقوا عليهم من ذلك إلا النزر اليسير وصرفوهم في أنواع السخر والخدم إلا القليل وهم ينتظرون صرفهم والتصريح بالاستغناء عنهم وعدم الحاجة إليهم ولا تستعظم هذا فلعله سبب إعادة الحال جذعة عجب الله من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل وهذا كله ليظهر لك سر قول النبي لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه خلفهم قيل اليهود والنصارى قال فمن وقد قص علينا القرآن والأخبار من أمرهم ما شاهدنا أكثره او أكثر منه فينا سمعت العلامة الآبلي يقول لولا انقطاع الوحي لنزل فينا أكثر مما نزل فيهم لأنا أتينا أكثر مما اتوا يشير
____________________
(5/277)
إلى افتراق هذه الأمة على أكثر مما افترقت عليه بنو إسرائيل واشتهار بأسهم بينهم إلى يوم القيامة حتى ضعفوا بذلك عن عدوهم وتعدد ملوكهم لاتساع أقطارهم واختلاف أنسابهم وعوائدهم حتى غلبوا بذلك على الخلافة فنزعت من أيديهم وساروا في الملك بسير من قبلهم مع غلبة الهوى واندراس معالم التقوى لكنا آخر الأمم أطلعنا الله من غيرنا على أقل مما ستر منا وهو المرجو أن يتم نعمته علينا ولا يرفع ستره الجميل عنا فمن أشد ذلك إتلافا لغرضنا تحريف الكلم عن مواضعه الصحيحة أن ذلك لم يكن بتبديل اللفظ إذ لا يمكن ذلك في المشهورات من كتب العلماء المستعملة فكيف في الكتب الإلهية وإنما كان ذلك بالتأويل كما قال ابن عباس وغيره وأنت تبصر ما اشتملت عليه كتب التفسير من الخلاف وما حملت الآي والأخبار من التأويلات الضعاف قيل لمالك لم اختلف الناس في تفسير القرآن فقال قالوا بآرائهم فاختلفوا أين هذه من قول الصديق أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله عز وجل برأيي كيف وبعض ذلك قد انحرف عن سبيل العدل إلى بعض الميل وأقرب ما يحمل عليه جمهور اختلافهم أن يكون بعضهم قد علم بقصد إلى تحقيق نزول الآية من سبب أو حكم أو غيرهما وآخرون لم يعلموا ذلك على التعيين فلما طال بحثهم وظنوا عجزهم ارادوا تصوير الآية بما يسكن النفوس إلى فهمها في الجملة ليخرجوا عن حد الإبهام المطلق فذكروا ما ذكروه على جهة التمثيل لا على سبيل القطع بالتعيين بل منه ما لا يعلم أنه أريد لا عموما ولا خصوصا لكنه يجوز أن يكون المراد فإن لم يكن إياه فهو قريب من معناه ومنه أنه مراد لكن بحسب الشركة والخصوصية مع جواز أن يكون هو المراد بحسب الخصوصية ثم اختلط الأمران والحق أن تفسير القرأن من أصعب الأمور فالإقدام عليه جراءة وقد قال الحسن
____________________
(5/278)
لابن سيرين تعبر الرؤيا كأنك من آل يعقوب فقال له تفسر القرآن كأنك شهدت التنزيل وقد صح أن رسول الله لم يكن يفسر من القرآن إلا آيات معدودة وكذلك أصحابه والتابعون بعدهم وتكلم أهل النقل في صحة التفسير المنسوب لابن عباس إليه إلى غير ذلك ولا رخصة في تعيين الأسباب والناسخ والمنسوخ إلا بنقل صحيح أو برهان صريح وإنما الرخصة في تفهيم ما تفهمه العرب بطباعها من لغة وإعراب وبلاغة لبيان إعجاز ونحوها انتهى ترجمة المقري من نيل الابتهاج
ولنرجع إلى بقية أنباء مولاي الجد رحمه الله فنقول قال صاحب نيل الابتهاج بتطريز الديباج ما صورته محمد بن محمد بن احمد القرشي التلمساني الشهير بالمقري بفتح الميم وتشديد القاف المفتوحة كذا ضبطه الشيخ عبد الرحمن الثعالبي في كتابه العلوم الفاخرة وضبطه ابن الأحمر في فهرسته وسيدي أحمد زروق بفتح الميم وسكون القاف الإمام العلامة النظار المحقق القدوة الحجة الجليل الرحلة أحد فحول أكابر علماء المذهب المتأخرين الأثبات قاضي الجماعة بفاس ذكره ابن فرحون في الأصل يعني الديباج وأثنى عليه انتهى
وقال الخطيب ابن مرزوق كان صاحبنا المقري معلوم القدر مشهور الذكر بالخير تبعه بعد موته من حسن الثناء وصالح الدعاء ما يرجى له النفع به يوم اللقاء وعوارفه معلومة عند الفقهاء ومشهورة بين الدهماء انتهى
____________________
(5/279)
وقال أبو العباس الونشريسي في بعض فوائده ومقره بفتح الميم بعدها قاف مفتوحة مشددة قرية من قرى بلاد الزاب من أعمال إفريقية سكنها سلفه ثم تحولوا إلى تلمسان وبها ولد الفقيه المذكور وبها نشأ وقرأ وأقرأ إلى أن خرج منها صحبة الركاب المتوكلي العناني أمير المؤمنين فارس عام تسعة وأربعين وسبعمائة إلى مدينة فاس المحروسة فولاه القضاء فنهض بأعبائه علما وعملا وحمدت سيرته ولم تأخذه في الله لومة لائم إلى أن توفي بها إثر قدومه من بلاد الأندلس في غرض الرسالة لأبي عنان عام تسعة وخمسين وسبعمائة ثم نقل إلى مسقط رأسه تلمسان
وقال في موضع آخر إنه توفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى عام تسعة وخمسين وسبعمائة بمدينة فاس المحروسة ثم نقل إلى تلمسان محل ولادته ومقر أسلافه ودفن بها في البستان الملاصق لقبلي داره الكائنة بباب الصرف من البلد المذكور وهو الآن على ملك بعض ورثة الشيخ أبي يحيى الشريف انتهى
ومن أخبار مولاي الجد رحمه الله تعالى أنه قال شهدت الوقفة سنة أربع وأربعين وسبعمائة وكانت جمعة وقام الخطيب في سابع ذي الحجة في الناس بالمسجد الحرام وقال إن جمعة وقفتكم هذه خاتمة مائة جمعة وقف بها من الجمعة التي وقف فيها رسول الله في حجة الوداع آخر عشر من الهجرة وشاع ذلك في الناس وذاع وكان علم ذلك مما تواتر عندهم والله أعلم وهم يزعمون أن الجمعة تدور على خمس سنين وهذا مناف لذلك ولكن كثير منهم ينكر اطراد هذا ويقول إنها قد تكون على خلاف ذلك فلا أدري
____________________
(5/280)
ومنها أنه قال شهدت شمس الدين بن قيم الجوزية قيم الحنابلة بدمشق وقد سأله رجل عن قوله عليه الصلاة والسلام من مات له ثلاثة من الولد كانوا له حجابا من النار كيف إن أتى بعد ذلك بكبيرة فقال موت الولد حجاب والكبيرة خرق لذلك الحجاب وإنما يكون الحجاب حجابا ما لم يخرق فإذا خرق فقد زال عن أن يكون حجابا ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام الصوم جنة ما لم يخرقها ثم قال وهذا الرجل أكبر أصحاب تقي الدين ابن تيمية
ومن أخبار مولاي الجد الدالة على صرامته ما حكاه ابن الأزرق عنه أنه كان يحضر مجلس السلطان أبي عنان لبث العلم وكان نقيب الشرفاء بفاس إذا دخل مجلس السلطان يقوم له السلطان وجميع من في المجلس إجلالا له إلا الشيخ المقري فإنه كان لا يقوم في جملتهم فأحس النقيب من ذلك وشكاه إلى السلطان فقال له السلطان هذا رجل وارد علينا نتركه على حاله إلى أن ينصرف فدخل النقيب في بعض الأيام على عادته فقام له السلطان على العادة وأهل المجلس فنظر إلى المقري وقال له أيها الفقيه ما لك لا تقوم كما يفعل السلطان نصره الله وأهل مجلسه إكراما لجدي ولشرفي ومن أنت حتى لا تقوم لي فنظر إليه المقري وقال له أما شرفي فمحقق بالعلم الذي أنا أبثه ولا يرتاب فيه أحد وأما شرفك فمظنون ومن لنا بصحته منذ أزيد من سبعمائة سنة ولو علمنا شرفك قطعا لأقمنا هذا من هنا وأشار إلى السلطان أبي عنان وأجلسناك مجلسه فسكت انتهى
____________________
(5/281)
قال ابن الأزرق وعلى اعتذاره ذلك بأن الشرف الآن مظنون فمن معنى ذلك أيضا ما يحكى عنه أنه كان يقرأ بين يدي السلطان أبي عنان المذكور صحيح مسلم بحضرة أكابر فقهاء فاس وخاصتهم فلما وصل إلى أحاديث الأئمة من قريش قال الناس إن قال الشيخ الأئمة من قريش وأفصح بذلك استوغر قلب السلطان وإن ورى وقع في محظور فجعلوا يتوقعون له ذلك فلما وصل إلى الأحاديث قال بحضرة السلطان والجمهور أن الأئمة من قريش ثلاثا ويقول بعد كل كلمة وغيرهم متغلب ثم نظر إلى السلطان وقال له لا عليك فإن القرشي اليوم مظنون أنت أهل للخلافة إذ بعض الشروط قد توفرت فيك والحمد لله فلما انصرف إلى منزله بعث له السلطان بألف دينار انتهى
قال أبو عبد الله ابن الأزرق قلت ويلزم أيضا من اعتذاره أن قيام السلطان لذي الشرف المحقق بالعلم أولى بالمحافظة على تعظيم حرمات الله وقد روي عن بعض الأمراء أنه تكبر على ذلك واستخف بمنزلة من عظم به غيره فسلبه الله ملكه وملك بنيه من بعده انتهى
ومن أجوبة مولاي الجد رحمه الله تعالى قوله سألني السلطان عمن لزمته يمين على نفي العلم فحلف جهلا على البت هل يعيد أم لا فأجبته بإعادتها وقد كان من حضر من الفقهاء أفتوا بأن لا تعاد لأنه أتى بأكثر مما أمر به على وجه يتضمنه فقلت له اليمين على وجه الشك غموس قال ابن يونس والغموس الحلف على تعمد الكذب أو على غير يقين ولا شك أن الغموس محرمة منهي عنها والنهي يدل على الفساد ومعناه في العقود عدم ترتب أثره فلا أثر لهذه اليمين ويجب أن تعاد وقد يكون من هذا اختلافهم فيمن إذنها
____________________
(5/282)
السكوت فتكلمت هل يجتزأ بذلك والإجزاء هنا أقرب لأنه الأصل والصمات رخصة لغلبة الحياء فإن قلت البت أصل ونفي العلم إنما يعتبر عند تعذره قلت ليس رخصة كالصمات
ومنها أنه قال سألني بعض الفقراء عن السبب في سوء بخت المسلمين في ملوكهم إذ لم يل امرهم من يسلك بهم الجادة ويحملهم على الواضحة بل من يغتر في مصلحة دنياه غافلا عن عاقبة أخراه فلا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة ولا يراعي عهدا ولا حرمة فأجبته بأن ذاك لأن الملك ليس في شريعتنا وذلك أنه كان فيمن كان قبلنا شرعا قال الله تعالى ممتنا على بني إسرائيل { وجعلكم ملوكا } المائدة 20 ولم يكن ذلك في هذه الأمة بل جعل لهم خلافة قال الله تعالى { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } - الآية النور 55 وقال تعالى { وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا } البقرة 247 وقال سليمان { رب اغفر لي وهب لي ملكا } ص 35 فجعلهم الله تعالى ملوكا ولم يجعل في شرعنا إلا الخلفاء فكان أبو بكر خليفة رسول الله وإن لم يستخلفه نصا لكن فهم الناس ذلك فهما وأجمعوا على تسميته بذلك ثم استخلف أبو بكر عمر فخرج بها عن سبيل الملك الذي يرثه الولد عن الوالد إلى سبيل الخلافة الذي هو النظر والإختيار ونص في ذلك على عهده ثم اتفق أهل الشورى على عثمان فإخراج عمر لها عن بنيه إلى الشورى دليل على أنها ليست ملكا ثم تعين علي بعد ذلك إذ لم يبق مثله فبايعه من آثر الحق على الهوى واصطفى الآخرة على الدنيا ثم الحسن كذلك ثم كان معاوية أول من حول الخلافة ملكا والخشونة
____________________
(5/283)
لينا ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم فجعلها ميراثا فلما خرج بها عن وضعها لم يستقيم ملك فيها ألا ترى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان خليفة لا ملكا لأن سليمان رحمه الله تعالى رغب عن بني أمية إيثارا لحق المسلمين ولئلا يتقلدها حيا وميتا وكان يعلم اجتماع الناس عليه فلم يسلك طريق الاستقامة بالناس قط إلا خليفة وأما الملوك فعلى ما ذكرت إلا من قل وغالب أفعاله غير مرضية انتهى
وفوائد مولاي الجد وتحفه وطرفه ولطائفه ودقائقه يستدعي استقصاؤها مجلدات فلنكتف بما قدمناه
( وفي الإشارة ما يغني عن الكلم ** ) مؤلفات المقري الجد
وأما تآليفه فكثيرة منها كتاب القواعد اشتمل على ألف قاعدة ومائتي قاعدة قال العلامة الونشريسي في حقه إنه كتاب غزي العلم كثير الفوائد لم يسبق إلى مثله بيد أنه يفتقر إلى عالم فتاح انتهى
وقد أشار فيه إلى مأخذ الأربعة وهو قليل بهذه الديار المشرقية ولم أر منه بمصر إلا نسخة عند بعض الأصحاب وذكر أنها من أوقاف رواق المغاربة بالأزهر المعمور وأما قول لسان الدين في الإحاطة عند تعرضه لذكر تآليف مولاي الجد ما صورته ألف كتابا يشتمل على أزيد من مائة مسألة فقهية ضمنها كل أصل من الرأي والمباحثة فهو غير القواعد بلا مرية
____________________
(5/284)
ومنها كتاب الطرف والتحف غاية في الحسن والظرف قاله الونشريسي وقد وقفت على بعضه فرأيت العجب العجاب
ومنها اختصار المحصل ولم يكمله وشرحه لجمل الخونجي كذلك ومنها كتاب عمل من طب لمن حب وهو بديع في بابه مشتمل على أنواع الأول فيه أحاديث حكمية كأحاديث الشهاب وسراج المهتدين لابن العربي والنوع الثاني منه الكليات الفقهية على جملة أبواب الفقيه في غاية الإفادة والثالث في قواعد وأصول والرابع في اصطلاحات وألفاظ قال الونشريسي وقد أطلعني الفقيه أبو محمد عبد الله بن عبد الخالق على نسخة من هذا الكتاب فتلطفت في استنساخها فلم يسمح به انتهى
قلت وقد رأيت هذا الكتاب بحضرة فاس عند بعض أولاد ملوك تلمسان وهو فوق ما يوصف وفيه يقول مولاي الجد رحمه الله تعالى
( هذا كتاب بديع في محاسنه ** ضمنته كل شيء خلته حسنا )
( فكل ما فيه إن مر اللبيب به ** ولم يشم عبيرا شام منه سنا )
( فخذه واشدد به كف الضنين وذذ ** حتى تحصله عن جفنك الوسنا )
وهذه الأبيات كافية في وصف هذا الكتاب إذ صاحب البيت أدرى بالذي فيه تقول من كتاب المحاضرات للمقري الجد
ومنها كتاب المحاضرات وفيه من الفوائد والحكايات والإشارات كثير وقد ملكت منه بالمغرب نسختين فلنذكر منه بعض الفوائد فنقول قال رحمه الله تعالى قيل لصوفي لم تقول الله الله ولا تقول لا إله إلا الله فقال
____________________
(5/285)
نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب وهذا إن لم يكن في هذه الكلمة لأنها أفضل ما قالته الأنبياء فهو في كثير من التنزيه الذي يطلقه المتكلمون وغيرهم حتى قال الشاشي عنهم إنهم يتمندلون بأسماء الله عز وجل ما عرفه من كيفه ولا وحده من مثله ولا عبده من شبهه المشبه أعشى والمعطل أعمى المشبه متلوث بفرث التجسيم والمعطل نجس بدم الجحود ونصيب المحق لبن خالص وهو التنزيه انزل من علو التشبيه ولا تعل قلل أباطيل التعطيل فالوادي المقدس بين الجبلين
أبو المعالي من اطمأن إلى موجود انتهى إليه فكره فهو مشبه ومن سكن إلى النفي المحض فهو معطل ومن قطع بموجود واعترف بالعجز عن إدراكه فهو موحد
( جل رب الأعراض والأجسام ** عن صفات الأعراض والأجسام )
( جل ربي عن كل ما اكتنفته ** لحظات الأفكار والأوهام )
( برىء الله من هشام وممن ** قال في الله مثل قول هشام )
الدقاق المريد صاحب وله لأن المراد بلا شبه وقيل مثله الأعلى { ليس كمثله شيء }
الجنيد أشرف كلمة في التوحيد قول الصديق الحمد لله الذي لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته
القشيري يعني أن العارف عاجز عن معرفته والمعرفة موجودة فيه غيره ما عرف الله سوى الله لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
( كل ما ترتقي إليه بوهم ** من جلال وقدرة وسناء )
( فالذي أبدع البرية أعلى ** منه سبحان مبدع الأشياء )
____________________
(5/286)
سأل المريسي الشافعي عن التوحيد بحضرة الرشيد فقال أن لا تتوهمه ولا تتهمه فأبهت بشر
الشبلي من توهم أنه واصل فليس له حاصل ومن رأى أنه قريب فهو بعيد ومن تواجد فهو فاقد ومن أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو غافل ومن سكت عنه فهو جاهل ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كشف لها إلا نادته هواتف الحقيقة الذي تطلب أمامك وما تبرجت ظواهر المكونات إلا نادتك حقائقها إنما نحن فتنة فلا تكفر
( ما ينتهي نظري منهم إلى رتب ** في الحسن إلا ولاحت فوقها رتب )
الجريري ليس لعلم التوحيد إلا لسان التوحيد
الحسن العجز عن درك الإدراك إدراك
( تبارك الله وارت غيبه حجب ** فليس يعرف إلا الله ما الله )
دعا نبي إلى الله عز وجل بحقيقة التوحيد فلم يستجب له إلا الواحد بعد الواحد فعجب من ذلك فأوحى الله عز وجل إليه تريد أن تستجيب لك العقول قال نعم قال احجبني عنها قال كيف أحجبك وأنا أدعو إليك قال تكلم في الأسباب وفي أسباب الأسباب فدعا الخلق من هذا الطريق فاستجاب له الجم الغفير
ومنه سمع أعرابي اختلاف المتكلمين بمسجد البصرة في الإنسان وانتزاع كل واحد منهم الحجة على رأيه فخرج وهو يقول
____________________
(5/287)
( إن كنت أدرى فعلي بدنه ** من كثرة التخليط في من أنه )
ومن عجز عن أقرب الأشياء نسبة منه فكيف يقدر على أبعد الأمور حقيقة عنه من عرف نفسه عرف ربه
ومنه دع ما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره
لما احتضر الوليد ابن أبان قال لبنيه هل تعلمون أحدا هو أعلم بالكلام مني قالوا لا قال فإني أوصيكم بما عليه أهل الحديث فإني رأيت الحق معهم وعن أبي المعالي نحوه
ومنه هجر أحمد المحاسبي لما صنف في علم الكلام فقال إنما قصدت إلى نصر السنة فقال ألست تذكر البدعة وشبهة البدعة قلت من تحقق كلام فخر الدين الرازي وجده في تقرير الشبه أشد منه في الانفصال عنها وفي هذا ما لا يخفى
ومنه من آمن بالنظر إلى ظاهر الثعبان كفر بالاستماع إلى خوار العجل ومن شاهد مجاوزة القدرة الإلهية وسع القوة البشرية لم يكترث بوعيد الدنيا ولم يؤثر الهوى على الهدى والتقوى
ومنه علي بن الحسين من عرف الله بالأخبار دون شواهد الاستبصار والاعتبار اعتمد على ما تلحقه التهم
ومنه قيل لطبيب بم عرفت ربك قال بالإهليلج يجفف الحلق ويلين البطن وقيل لأديب بم عرفت ربك قال بنحلة في أحد طرفيها عسل وفي الآخر لسع والعسل مقلوب اللسع وسأل الدهرية الشافعي عن دليل الصانع فقال ورقة الفرصاد تأكلها دودة القز فيخرج منها الإبريسم والنحل فيكون منها العسل والظباء فينعقد في نوافجها المسك والشاء فيكون منها البعر فآمنوا كلهم وكانوا سبعة عشر
____________________
(5/288)
قيل لأعرابي بم عرفت ربك فقال البعرة تدل على البعير والروث يدل على الحمير وآثار الأقدام تدل على المسير فسماء ذات أبراج وبحار ذات أمواج أما يدل ذلك على العليم القدير
( قد يستدل بظاهر عن باطن ** حيث الدخان يكون موقد نار )
قيل لأعرابي بم عرفت الله قال بنقض عزائم الصدور وسوق الاختيار إلى حبائل المقدور
ومنه الدقاق لو كان إبليس بالحق عارفا ما كان لنفسه بالإضلال والإغواء واصفا
ومنه التوحيد محو آثار البشرية وتجديد صفات الألوهية الحق واحد في ذاته لا ينقسم واحد في صفاته لا يماثل واحد في أفعاله لا يشارك لو كان موجودا عن عدم ما كان موصوفا بالقدم الحياة شرط القدرة دلت على ذلك الفطرة لو لم يكن الصانع حيا لاستحال أن يوجد شيئا لو لم يكن باقيا لكان للألوهية منافيا لو كان الباري جسما ما استحق الإلهية اسما لو كان الباري جوهرا لكان للحيز مفتقرا العرض لا يبقى والقديم لا يتغير ولا يفنى لو لم يكن بصفة القدرة موصوفا لكان بسمة العجز معروفا لو لم يكن عالما قادرا لاستحال كونه خالقا فاطرا دلت الفطرة والعبرة أن الحوادث لا تحصل إلا من ذى قدرة لو لم يكن بالإرادة قاصدا ما كان العقل بذلك شاهدا من تنوع إيجاده دل ذلك على أن الفعل مراده لو لم يكن بالسمع والبصر موصوفا لكان لضديهما مألوفا لو جاز سامع لا سمع له لجاز صانع لا صنع له لو كان سمعه بأذن لافتقرت ذاته إلى ركن من صدرت عنه الشرائع والأحكام كان موصوفا بالكلام ليس في الصفات
____________________
(5/289)
السبع ما لايتعلق إلا الحياة ولا ما يؤثر إلا القدرة وإلارادة كما جاز أن يأمر بما لا يريد جاز أن يريد ما لايحب لا يسأل عما يفعل الواحد كاف وما زاد عليه متكاف ليس مع الله تعالى موجودات لأن الموجودات كلها كالظل من نور القدرة له رتبة التبعية لا رتبة المعية
( إن من أشرك بالله ** جهول بالمعاني )
( أحول العقل لهذا ** ظن للواحد ثاني )
قال جعفر بن محمد لو كان على شيء لكان محمولا ولو كان في شيء لكان محصورا ولو كان من شيء لكان محدثا
قيل لثمامة بن الأشرس متى كان الله فقال ومتى لم يكن فقيل فلم كفر الكافر فقال الجواب عليه
قال خادم أبي عثمان قال لي مولاي يا محمد لو قيل لك أين معبودك ما كنت تجيب قال أقول بحيث لم يزل قال فإن قيل لك فأين كان في الأزل فقال أقول بحيث هو الآن فنزع قميصه وأعطانيه
قيل لصوفي أين هو فقال محقك الله أيطلب من العين أين
ومنه سمعت شيخنا يقول نقصنا صفة كمال له فينا يعني إذا وجب له كل الكمال وجب لنا كل النقص وهذا على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان وفيه كلام
ومنه بلغ أحمد أن أبا ثور قال في الحديث خلق الله آدم على صورته إن الضمير لآدم فهجره فأتاه أبو ثور فقال احمد أي صورة كانت لآدم يخلقه عليها كيف تصنع بقوله خلق الله آدم على صورة الرحمن فاعتذر إليه وتاب بين يديه
ومنه أتى يهودي المسجد فقال أيكم وصي محمد فأشاروا إلى الصديق فقال إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي
____________________
(5/290)
نبي قال سل قال فأخبرني عما ليس لله وعما ليس عند الله وعما لا يعلمه الله فقال هذه مسائل الزنادقة وهم بقتله فقال ابن عباس ما أنصفتموه إما أن تجيبوه وإما أن تصرفوه إلى من يجيبه فإني سمعت رسول الله يقول لعلي اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فقال أبو بكر قم معه إلى علي فقال له أما ما لا يعلمه الله فقولكم في عزيز إنه ابن الله والله عز وجل لا يعلم له ولدا قال في التنزيل { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } - الآية يونس 18 وأما ما ليس عند الله فالظلم وأما ما ليس له فالشريك فأسلم اليهودي فقبل أبو بكر رأس علي وقال له يا مفرج الكربات ووردت مثل هذه المسائل عن الصحابة فالله تعالى أعلم
وقال العتابي لأبي قرة النصراني عند المأمون ما تقول في المسيح قال من الله قال البعض من الكل على سبيل التجزيء والوالد من الوالد على طريق التناسل والخل من الخمر على وجه الاستحالة والخلق من الخالق على جهة الصنعة فهل من معنى خامس قال لا ولكن لو قلت بواحد منها ما كنت تقول قال الباري لا يتجزأ ولو جاز عليه ولد جاز له ثان وثالث وهلم جرا ولو استحال فسد والرابع مذهبنا وهو الحق
ومنه أول ما تكلم به عيسى في المهد أن قال { إني عبد الله } مريم 30 وهو حجة على الغالين فيه يقال لهم إن صدق فقد كذبتم وإلا فمن عبدتم ولمن ادعيتم
قال القاضي ابن الطيب للقسيس لما وجهه عضد الدولة إلى ملك الروم لم اتحد اللاهوت بالناسوت فقال أراد أن ينجي الناس من الهلاك قال
____________________
(5/291)
فهل درى أنه يقتل ويصلب أولا لم يدر لم يجز أن يكون إلها ولا ابنا وإن درى فالحكمة تمنع من التعرض لمثل ما قلتم إنه جرى
سأل القاضي هذا البطرك عن أهله وولده فأنكر ذلك النصارى فقال تبرئون هذا مما تثبتونه لربكم سوأة لهذا الرأي فانكسروا
ابن العربي سمعت الفقراء ببغداد يقولون إن عيسى عليه السلام كان إذا خلق من الطين كهيئة الطير طار شيئا ثم سقط ميتا لأنه كان يخلق ولا يرزق ولو رزق لم يبق أحد إلا قال هو الله إلا من أوتي هداه
سأل ابن شاهين الجنيد عن معنى مع فقال مع الأنبياء بالنظر والكلاءة { إنني معكما } طه 46 ومع العامة بالعلم والإحاطة { إلا هو معهم } المجادلة 7 فقال مثلك يصلح دليلا على الله
ومنه سأل قدري عليا رضي الله عنه عن القدر فأعرض عنه فألح عليه فقال أخلقك كيف شئت أو كيف شاء فأمسك فقال أترونه يقول كيف شئت إذن والله أقتله فقال كيف شاء قال أيحييك كيف تشاء أو كيف يشاء قال كيف يشاء قال فيدخلك حيث تشاء أو حيث يشاء قال حيث يشاء قال اذهب فليس لك من الأمر شيء
أبو سليمان أدخلهم الجنة قبل أن يطيعوه وأدخلهم النار قبل أن يعصوه جل حكم الأزل ان يضاف إلى العلل سبق قضاؤه فعله { إني جاعل في الأرض خليفة } البقرة 30 وأوقفت مشيئته أمره { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } يونس 99
قال الشاذلي أهبط آدم إلى الأرض قبل أن يخلقه لأنه قال { في الأرض } ولم يقل في السماء ولا في الجنة
الأوزاعي قضى بما نهى وحال دون ما أمر واضطر إلى ما حرم
( ألقاه في اليم مكتوفا وقال له ** إياك إياك أن تبتل بالماء )
____________________
(5/292)
قال الأوزاعي لغيلان مشيئتك مع مشيئة الله عز وجل أو دونها فلم يجب فقال هشام بن عبد الملك فلو اختار واحدة فقال إن قال معها فقد زعم أنه شريك وإن قال وحدها فقد تفرد بالربوبية قال لله درك أبا عمرو
من بيان عظمته { رفيع الدرجات } غافر 15 من آثار قدرته { بديع السماوات } الرعد 2 توقيع أمره { يأمر بالعدل والإحسان } واقع زجره { وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } النحل 90 تنفيذ حكمه { فعال لما يريد } البروج 16 دستور ملكه { لا يسأل عما يفعل } الأنبياء 23
إياس بن معاوية ما خاصمت أحدا بعقلي كله إلا القدرية قلت لقدري ما الظلم فقال أخذ ما ليس لك قلت فإن الله له كل شيء
الواسطي ادعى فرعون الربوبية على الكشف وادعت المعتزلة الربوبية على الستر تقول ما شئت فعلت
ومنه من أقصته السوابق لم تدنه الوسائل إذا كان القدر حقا فالحرص باطل إذا كان الله عز وجل عدلا في قضائه فمصيبات الخلق بما كسبت أيديهم
( ما عذر معتزلي موسر منعت ** كفاه معتزليا معسرا صفدا )
( أيزعم القدر المحتوم ثبطه ** إن قال ذاك فقد حل الذي عقدا )
ومنه دخل محمد بن واسع على بلال بن فروة فقال ما تقول في القدر قال تفكر في جيرانك أهل القبور فإن فيهم شغلا عن القدر
( وكل من أغرق في نعته ** أصبح منسوبا إلى العي )
المقادير تبطل التقدير وتنقض التدبير
قال معتزلي لسني لو أراد ثبوت أحد على الكفر لم يقل { ليخرجكم من الظلمات إلى النور } الأحزاب 43 فقال السني لو لم يكن الإيمان من
____________________
(5/293)
فعله لم يقل { ليخرجكم من الظلمات إلى النور }
قال نقفور طاغية النصاري لأبي الحسن الشلباني أنت تقول إن الخير والشر من الله وذلك لأن النصارى كلهم على مذهب القدرية في الاستطاعة قال نعم قال كيف يعذب عليه هل كان حقا عليه أن يخلق فقال لم يضطره إلى ما خلق مضطر
قيل نزلت { وما أضلنا إلا المجرمون } الشعراء 99 في القدرية لأنهم أضافوا الحول والقوة في الشر إلى البشر فأشركوهم في الخلق أما ترى قوله تعالى { إن المجرمين في ضلال وسعر } القمر 47 إلى قوله تعالى { إنا كل شيء خلقناه بقدر } القمر 49
( كنت دهرا أقول بالاستطاعة ** وأرى الجبر ضلة وشناعة )
( ففقدت استطاعتي في هوى ظبي ** فسمعا لمن أحب وطاعة )
غيره
( ما لا يكون فلا يكون بحيلة ** أبدا وما هو كائن سيكون )
غيره
( تريد النفس أن تعطي مناها ** ويأبى الله إلا ما يشاء )
شفاء الصدور في التسليم للمقدور
( إذا لم يكن إلا الأسنة مركب ** فلا رأي للمضطر إلا ارتكابها )
غيره
____________________
(5/294)
( أي يومي من الموت أفر ** يوم لا يقدر أم يوم قدر )
إذا كان الداء من السماء بطل الدواء
قال الحائط للوتد لم تشقني قال سل من يدقني
( الناس يلحون الطبيب وإنما ** غلط الطبيب إصابة المقدور )
قيل لحكيم أخرج الهم من قلبك فقال ليس بإذني دخل
( نفسي تنازعني فقلت لها قري ** موت يريحك أو صعود المنبر )
( ما قد قضي سيكون فاصطبري له ** ولك الأمان من الذي لم يقدر )
( ولتعلمي أن المقدر كائن ** لا بد منه صبرت أو لم تصبري )
ومنه الهارب من المقدور كالمتقلب في كف الطالب من كان السلطان يطلبه ضاق عليه مذهبه { وما أنتم بمعجزين } الأنعام 134 يونس 53 هود 23 أسلى آية في التنزيل { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم } - إلى قوله تعالى { بما آتاكم } الحديد 22
ومنه أخل رجل بخدمة صاحب الإسكندرية فتغيب ثم ظفر به عرفاؤه فقادوه فانساب منهم ورمى بنفسه في بئر وتحت الإسكندرية أسراب يسير فيها القائم من أول البلد إلى آخره فلم يزل يمشي حتى وجد بئرا صاعدة فتعلق بها فإذا هي في دار السلطان فأخذه فأدبه فانظر كيف فر من قودة السلطان مكرها وأتاه برجله طائعا
( ذهب القضاء بحيلة العقلاء ** )
ومنه قال يزيد بن المهلب لموسى بن نصير أنت أدهى الناس وأعلمهم
____________________
(5/295)
فكيف طرحت نفسك في يد سليمان فقال إن الهدهد يهتدي للماء في الأرض الفيفاء وينصب له الصبي الفخ بالدودة او الحبة فيقع فيه
( ولوجرت الأمور على قياس ** لوقي شرها الفطن اللبيب )
الواسطي اختيار ما جرى لك في الأزل خير من معارضة الوقت
ابن معاذ عجبت من ثلاثة رجل يريد تناول رزقه بتدبيره ورجل شغله غده وعالم مفتون يعيب على زاهد مغبوط
ومنه شكي لبعض الأنبياء امرأة كانت تؤذي أهل زمانها فأوحى الله إليه أن فر من قدامها حتى تنقضي أيامها
ومنه ابن المعتز كرم الله عز وجل لا ينقض حكمته ولذلك لا تقع الإجابة في كل دعوة { ولو اتبع الحق أهواءهم } المؤمنون 71
( أريد فلا أعطى وأعطى ولم أرد ** وقصر علمي أن أنال المغيبا )
ومنه كان ابن مجاهد ينشد لبعضهم
( أيها المغتدي ليطلب علما ** كل علم عبد لعلم الكلام )
( تطلب الفقه كي تصحح حكما ** ثم أغفلت منزل الأحكام )
ومنه قال الأحدب البغدادي للقاضي الباقلاني هل لله عز وجل أن يكلف الخلق ما لا يطيقونه فقال إن أردتم بالتكليف القول المجرد فقد وجد { قل كونوا حجارة } الإسراء 50 { أنبئوني بأسماء هؤلاء } البقرة 31 { ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } القلم 42 وإن أردتم به ما يصح فعله وتركه فالكلام متناقض وهذا هو الذي نعرفه لأن التكليف اقتضاء فعل ما فيه مشقة وما لا يطاق لا يفعل البتة فقال سئلت عن كلام مفهوم فطرحته في الاحتمالات فقال إني بينت الوجوه المحتملة فإن كان معك شيء فهاته
____________________
(5/296)
فقال عضد الدولة قد صدق وما جمعتكم إلا للفائدة لا للمهاترة ثم قال لقاضيه بشر بن الحسن المعتزلي تكلم فقال ما لا يطاق على ضربين أحدهما ما لا يطاق للإشتغال بضده وهذا سبيل الكافر لا يطيق الإيمان للإشتغال بالكفر وأما العاجز فما ورد في الشريعة تكليفه ولو ورد لكان جائزا وقد أثنى الله عز وجل على من سأله أن لا يكلفه ما لا يطيقه فقال { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } البقرة 268 لأن الله له أن يفعل في ملكه ما يريد
ومنه خرج عمر بن عبد العزيز في سفر ليلا فقال له رجل انظر إلى القمر ما أحسنه فنظر فقال قد علمت أنك أردت نزوله بالدبران ونحن لا نتطير بذلك ولا نعتقده
( إذا عقد القضاء عليك أمرا ** فليس يحله إلا القضاء )
( يدبر بالنجوم وليس يدري ** ورب النجم يفعل ما يشاء )
وقال آخر
( ليس للنجم إلى ضر ** ولا نفع سبيل )
( إنما النجم على الأوقات ** والسمت دليل )
غيره
( من كان يخشى زحلا ** أو كان يرجو المشتري )
( فإنني منه وإن ** كان أخي الأدنى بري )
لما وجه عضد الدولة القاضي ابن الطيب إلى ملك الروم قال له الوزير
____________________
(5/297)
أخذت الطالع لخروجك فسأله القاضي عن ذلك ففسره له فقال السعد والنحس بيد الله ليس للكواكب فيه تأثير وإنما وضعت كتب النجوم ليتمعش بها العامة ولا حقيقة لها فاستحضر الوزير ابن الصوفي ودعاه إلى مناظرة القاضي فقال لا أقوم على المناظرة وإنما أقول إذا كان من النجوم كذا كان كذا وأما التعليل فمن علم المنطق والذي يتولى المناظرة عليه أبو سليمان المنطقي فأحضر وأمر فقال هذا القاضي يقول إذا ركب عشرة أنفس في ذلك المركب الذي في دجلة فالله تعالى قادر على أن يزيد فيهم آخر في ذلك الوقت فإن قلت له لا يقدر قطعتم لساني فأي معنى لمناظرتي فقال القاضي للوزير ليس كلامنا في القدرة لكن في تأثير الكواكب فانتقل هذا إلى ما ترى لعجزه وأنا إن قلت إن الله تعالى قادر على ذلك فلا أقول إنه يخرق العادة الآن ولا يجوز عندنا ذلك فهو فرار من الزحف فقال المنطقي المناظرة دربة وأنا لا أعرف مناظرة هؤلاء القوم وهم لا يعرفون مواضعاتنا فقال الوزير قد قبلنا اعتذارك والحق أبلج
رأس الدين صحة اليقين من سابق القدر عثر
( وإذا خشيت من الأمور مقدرا ** وفررت منه فنحوه تتوجه )
قيل لما وقع الوباء بالكوفة فر ابن أبي ليلى على حمار فسمع منشدا ينشده
( لن يسبق الله على حمار ** ولا على ذي منسر طيار )
( أو يأتي الحتف على مقدار ** قد يصبح الله أمام الساري ) فقال إذا كان الله أمام الساري فلا مهرب ورجع
____________________
(5/298)
ومنه شكا بعض الصالحين إلى الخليفة ضرر الأتراك فقال أنتم تعتقدون أن هذا من قضاء الله وقدره فكيف أرده فقال إن صاحب القضاء قال { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } البقرة 251 فردهم عنهم
القدر والطلب كالعدلين على ظهر الدابة كل واحد منهما معين لصاحبه فالقدر بالطلب والطلب بالقدر
قيل لعارف إن كنت متوكلا فألق بنفسك من هذا الحائط فلن يصيبك إلا ما كتب الله لك فقال إنما خلق الله الخلق ليجربهم لا ليجربوه
الجوهري كف الله النار عن يد موسى لئلا تقول النار طبعي واحترق لسانه لئلا يقوم الكليم مكاني وقال غيره لو لم يقل لنار إبراهيم سلاما لهلك من برد النار
قيل للجنيد أنطلب الرزق قال إن علمتم أين هو فاطلبوه قيل فنسأل الله قال إن خشيتم أن ينساكم فذكروه قيل فنلزم البيوت قال التجربة منك شك قيل فما الحيلة قال ترك الحيلة يقول ليكن تصرفك بإذنه لا بشهوتك فقد قيل ترك الطلب يضعف الهمة ويذل النفس ويورث سوء الظن
الطرطوشي القدر والطلب كأعمى ومقعد في قرية يحمل الأعمى المقعد ويدل المقعد الأعمى
قال رجل لبشر إني أريد السفر إلى الشام وليس عندي زاد فقال اخرج لما قصدت إليه فإنه إن لم يعطك ما ليس لك لم يمنعك ما لك
الناس في هذا الباب ثلاثة فرقة عاملت الله عز وجل على مقتضى شمول قدرته للشر والخير وأعرضوا عن الأسباب فأدركوا التوكل وفاتهم الأدب وهم بعض الصوفية وقد قيل اجعل أدبك دقيقا وعلمك ملحا وهذا
____________________
(5/299)
إبليس لم تنفعه كثرة علمه لما دفعته قلة أدبه وفرقة عاملته على ذلك مع الجريان على عوائد مملكته والتصرف بإذنه على مقتضى حكمته وهم الأنبياء وخواص العلماء فأصابوا الأدب وما أخطأوا التوكل والفرقة الثالثة وهم الجمهور أقبلوا على الأسباب ونسوا المسبب ففاتهم الأمران فهلكوا
ومنه جل الواحد المعروف قبل الحدود والحروف
( لقد ظهرت فما تخفى على أحد ** إلا على أكمه لا يعرف القمرا )
( كما بطنت بما أبديت من حجب ** وكيف يبصر من بالعزة استترا )
سئل النصيبي عن الرؤية بمجلس عضد الدولة فأنكرها محتجا بأن كل شيء يرى بالعين فهو في مقابلتها فقال له القاضي ابن الطيب لا يرى بالعين قال له الملك فبماذا يرى قال بالإدراك الذي يحدثه الله في العين وهو البصر ولو أدرك المرئي بالعين لوجب أن يدرك بكل عين قائمة وهذا الأجهر عينه قائمة ولا يرى بها شيئا
ومنه ابن العربي للصوفية في إطلاق لفظ العشق على الحق تجاوز عظيم واعتداء كبير ولولا إطلاقه للمحبة ما أطلقناها فكيف أن نتعداها
الدقاق العشق مجاوزة الحد في الحب ولما كان الحق لا يوصف بالحد لم يوصف بالمحدود إذ لو جمع محاب الخلق كلهم لشخص واحد لم يبلغ ما يستحقه قدر الحق من الحب
خمسة أبهمت فلم تعين لعظم أمرها الاسم الأعظم وساعة الجمعة وليلة القدر والصلاة الوسطى والكبائر لأن اجتنابها يكفر غيرها يعني على أحد الأقوال في المسألة
____________________
(5/300)
ومنه قيل في التسعة والتسعين اسما إنها تابعة لاسم الله وهو تمام المائة فهي عدد درج الجنة لما في الصحيح من أن درجها مائة بين كل درجتين مسيرة مائة عام ولذلك قيل من أحصاها دخل الجنة وهذه الأسماء مفضلة على غيرها مما لا يحصى ألا ترى قوله عليه السلام في الصحيح بأسمائه الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم
ذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعا منه فلم يشر في شيء منها إلى خلقه وذكر الإنسان في ثمانية عشر موضعا ثلث ذلك العدد فصرح في جميعها بخلقه قال ابن عطية وهذا يدل على أنه غير مخلوق
أبو علي ابن أبي اللحم بت ليلة جمعة بمصر في أيام أبي حريش وكان يقول بخلق القرآن وأبي خلف المعافري وكان يقول القرآن كلام الله ليس بمخلوق أفكر عن أيهما آخذ فلما نمت أتاني آت فقال لي قم فقمت قال قل فقلت ما أقول فقال
( لا والذي رفع السماء ** بلا عماد للنظر )
( فتزينت بالساطعات ** اللامعات وبالقمر )
( والمالىء السبع الطباق ** بكل مختلف الصور )
( ما قال خلق في القران ** بخلقه إلا كفر )
( لكن كلام منزل ** من عند خلاق البشر )
ثم قال اكتبها فأخذت كتابا من كتبي وكتبتها فيه فلما أصبحت وجدت ذلك بخطي على كتاب من كتبي فجلست في البيت إلى الزوال ثم خرجت فسألني إنسان عما رأيت البارحة فقلت ما أخبرت أحدا فقال قد شاعت رؤياك في الناس
الخواص انتهيت إلى رجل مصروع فجعلت أؤذن في أذنه فناداني الشيطان من جوفه دعني أقتله فإنه يقول بخلق القرآن
____________________
(5/301)
عمرو بن دينار أدركت سبعة من الصحابة يقولون من قال القرآن مخلوق فهو كافر قلت قال مالك يستتاب
ومنه كان عضد الدولة يحب العلم والعلماء فكان مجلسه يحتوي على عدد منهم أكثرهم الفقهاء والمتكلمون وكان يعقد لهم مجالس للمناظرة فقال لقاضيه بشر بن الحسن إن مجلسنا خال عن عاقل من أهل الإثبات ينصر مذهبه فقال إنما هم عامة يرون الخير وضده ويعتقدونهما جميعا وإنما أراد ذم القوم ثم أقبل يمدح المعتزلة فقال عضد الدولة محال أن يخلو مذهب طبق الأرض من ناصر فانظر قال بلغني أن بالبصرة شيخا يعرف بأبي الحسن الباهلي وفي رواية بأبي بكر ابن مجاهد وشابا بابن الباقلاني فكتب إليهما فلما وصل الكتاب قال الشيخ قوم كفرة لأن الديلم كانوا روافض لا يحل لنا أن نطأ بساطهم فقال الشاب كذا قال ابن كلاب والمحاسبي ومن في عصرهم إن المأمون فاسق لا يحضر مجلسه حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس وجرى عليه ما عرف ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر وتبين له ما هم عليه بالحجة وأنت أيضا أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد ويقولون بخلق القرآن ونفي الرؤية وها أنا خارج إن لم تخرج قال الشيخ إن شرح الله صدرك لهذا فاخرج فرد الله به الكرة
حفظ من كلام النبي المنتقى والمرسل أمثال المنزل ثم انتقي من ذلك صحة وفصاحة ما يبلغ حجم المصحف أو يربى عليه فهل وجدت فيه ما يشبهه او ينزع إليه أشهد أنه من عند الله تنزيل من لدنه
أول إعجاز القرآن الجهل بنوعه من جنس الكلام فإنه لا يدخل في مضمار الشعر ولا ينخرط في سلك الخطب ولا المواعظ والمقامات والكتب ولا في شيء مما يؤلف التخاطب به وتعرف فيه طبقات أهل مذهبه فإن
____________________
(5/302)
لم يتبين ما رسمت لك فاعرض كلامك في كل صنف من هذه الأصناف تجد لنفسك مع فحوله حالة القصور أوالمماثلة أو الزيادة ولا تجد لكلامك نسبة إلى القرآن بل لا تدري ما تقول إن طلب منك البيان إلا أن تسلب العقل كمسيلمة وأمثاله ممن ابتلى بالهذيان وقد تفطن للدلالة كافر غلبت عليه الجهالة انظر السيرة
الزمخشري ما أعجب شأن الضلال لم يرضوا للنبوة ببشر وقد رضوا للإلهية بحجر
سأل القاضي أبا بكر ملك الروم حين وجهه عضد الدولة إليه عن انشقاق القمر كيف لم يره جميع الناس فقال لأنهم لم يكونوا على أهبة ووعد قال فما النسبة التي بينكم وبين القمر حتى لم يره غيركم من الروم وغيرهم قال النسبة التي بينكم وبين المائدة حتى رأيتموها دون اليهود والمجوس فدعا القسيس فأقر للقاضي فقال له القاضي أتقول إن الكسوف يراه جميع أهل الأرض أم أهل الإقليم الذي في محاذاته قال لا يراه إلا من في محاذاته قال فما تنكر من لا يرى انشقاق القمر إلا في تلك الناحية ممن تأهب لذلك قال هذا صحيح إلا أن الشأن في مثله أن لا ينقل آحادا لكن تواترا بحيث يصل العلم الضروري به إلينا وإلى غيرنا وانتفاء ذلك يدل على افتعال الخبر فقال الملك للقاضي الجواب فقال يلزمه في نزول المائدة ما ألزمنا في انشقاق القمر فبهت الذي كفر
قال ملك الروم للقاضي ابن الطيب في هذه الرسالة ما تقول في المسيح قال روح الله وكلمته وعبده قال تقولون المسيح عبد قال بذلك ندين قال ولا تقولون إنه ابن الله قال ما اتخذ الله من ولد قال العبد يخلق ويحيي ويبرىء قال ما فعل المسيح ذلك قط قال هذا مشهور في الخلق
____________________
(5/303)
قال لا قال ما قال أحد من أهل المعرفة إن الأنبياء يفعلون المعجزات لكن الله تعالى يفعلها على أيديهم تصديقا لهم قال إن ذلك في كتابكم قال في كتابنا أن ذلك كله بإذن الله تعالى ولو جاز أن يكون ذلك فعل المسيح لجاز أن يقال إن موسى قلب العصا وأخرج يده بيضاء وفلق البحر قل إن الأنبياء من لدن آدم كانوا يتضرعون للمسيح حتى يفعل ما يطلبون قال أفي لسان اليهود عظم لا يقولون معه إن المسيح كان يتضرع لموسى وكذلك أمة كل نبي لا فرق بين الموضين في الدعوى
الجوزي في قوله عليه السلام يوشك ان ينزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم وإنما كان الإمام منا لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجه لا نبي بعدي
كان بالبصرة يهودي يقرر المتكلمين على نبوة موسى فإذا اقروا جحد نبوة محمد وقال نحن على ما اتفقنا عليه إلى أن نتفق على غيره فسأل أبا الهذيل عن ذلك فقال إن كان موسى هذا الذي أخبر بمحمد وأقر بشرفه وأمر باتباعه فأنا أقر بنبوته وإن كان غيره فأنا لا أعرفه فتحير اليهودي ثم سأله عن التوراة فقال إن كانت التي نزلت على موسى المذكور فهي حق وإلا فهي عندي باطل
ومنه قيل للحسن الملائكة أفضل أم الأنبياء فقال أين أنت من هذه الآية { ولا أقول إني ملك } هود 31
ومنه وعن عمر وعلي رضي الله عنهما أن الخضر لقيهما وعلمهما هذا الدعاء وذكر فيه خيرا كثيرا لمن قاله إثر كل صلاة يا من لا يشغله سمع عن سمع ويا من لا تغلطه المسائل ومن لا يتبرم على إلحاح الملحين أذقني برد عفوك وحلاوة مغفرتك
ومنه سمع إياس يهوديا يقول ما أحمق المسلمين يزعمون أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون فقال أوكل ما تأكله تحدثه قال لا لأن الله تعالى يجعل أكثره غذاء قال فما تنكر أن يجعل
____________________
(5/304)
جميع ما يأكل أهل الجنة غذاء
الرزية كل الرزية تضييع أمر المرأة الرندية وذلك أنه وردت على تلمسان في العشرة الخامسة من المائة الثامنة امرأة من رندة لا تأكل ولا تشرب ولا تبول ولا تتغوط وتحيض فلما اشتهر هذا من أمرها أنكره الفقيه أبو موسى ابن الإمام وتلا { كانا يأكلان الطعام } المائدة 75 فأخذ الناس يبث ون ثقات نسائهم ودهاتهن إليها فكشفن عنها بكل وجه يمكنهن فلم يقفن على غير ما ذكر وسئلت هل تشتهين الطعام فقالت هل تشتهون التبن بين يدي الدواب وسئلت هل يأتيها شيء فأخبرت أنها صامت ذات يوم فأدركها الجوع والعطش فنامت فأتاها آت في النوم بطعام وشراب فأكلت وشربت فلما أفاقت وجدت نفسها قد استغنت فهي على تلك الحال تؤتى في المنام بالطعام والشراب إلى الآن ولقد جعلها السلطان في موضع بقصره وحفظها بالعدول ومن يكشف عما عسى تجيء أمها به إذا أتت إليها أربعين يوما فلم بوقف لها على أمر بيد أني أردت أن يزاد في عدد العدول ويجمع إليهم الأطباء ومن يخوض في المعقولات من علماء الملل المسلمين وغيرهم ويوكل من نساء الفرق من يبالغ في كشف من يدخل إليها ولا يترك أحد يخلو بها وبالجملة يبالغ في ذلك ويستدام رعيها عليه سنة لاحتمال أن يغلب عليها طبع فتستغني في فصل دون فصل ثم يكتب هذا في العقود ويشاع أمره في العالم وذلك لأنه يهدم حكم الطبيعة الذي هو أضر الأحكام على الشريعة ويبين كيفية غذاء أهل الجنة وأن الحيض ليس من فضلات الغذاء ويبطل التأثير والتوليد ويوجب أن الاقترانات بالعادات لا باللزوم وعند الأسباب لا بها إلى غير ذلك إلا أني لما أشرت بهذا انقسم من أشرت عليه بتبليغه إلى من لم يفهم ما قلت ومن لم يرفع به رأسا لإيثار الدنيا على الدين فإنا لله وإنا إليه راجعون
وقد ذكر أن امرأة أخرى كانت معها على تلك الحالة وحدثني غير واحد
____________________
(5/305)
من الثقات ممن أدرك عائشة الجزيرية أنها كانت كذلك وأن عائشة بنت أبي يحيى اختبرتها أربعين يوما أيضا وكم من آية أضيعت وحجة نسيت هذا مما لم يعرف مثله قبل المائة الثامنة وكذلك الوباء العام القريب فروطه يوشك أن يطول أمره فينسي ذكره ويكذب المحدث به إذا انقضى عصره وكم فيه أيضا من أدلة على أصول الملة
ومنه قال شيخ صالحي الفقهاء في عصرنا بفاس أو زرهون عبد العزيز ابن محمد القيرواني رحمه الله تعالى مات فقير عندنا بالمئذنة فوجدوا عنده ربطة من دراهم فوضعوها عند المؤذن فلما نزل ليلحده سقطت من جيبه في القبر ولم يشعر حتى واراه فكشف عنه فإذا الدراهم قد لصقت ببدنه درهما إلى درهم كالنجوم فحاول قلع واحد منها فقامت معه قطعة من لحمه وتبعها من ذلك المحل ريح منتنة قال الشيخ فاطلعت على ذلك وشاهدته ثم ردوا الترب عليه وانصرفوا
قال عبد الله بن إدريس لغيلان الممرور متى تقوم الساعة قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل غير أنه من مات فقد قامت قيامته قال فالمصلوب يعذب عذاب القبر قال إن حقت عليه الكلمة وما تدري لعل جسده في عذاب لا تدركه أبصارنا ولا أسماعنا فإن لله لطفا لا يدرك وانظر الحديث فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم ما أسمع من عذاب القبر
ومنه المازري مسألة التكفير بالمال مشكلة وقد اضطرب فيها قول مالك وهو إمام الفقهاء والقاضي أبي بكر وهو إمام المتكلمين
الغزالي لا يقطع بتكفير الفلاسفة إلا في ثلاث مسائل قدم العالم ونفي العلم بالجزيئات وإنكار المعاد البدني وتوابعه القطعية
____________________
(5/306)
أصل الفلاسفة اعتقاد المحسوسات معقولات والمعتزلة اعتقاد المشهورات قطعيات ومن ثم قيل لهم مخنثة الفلاسفة
لا يكفي التقليد في عقائد التوحيد لا فرق بين إنسان ينقاد وبهيمة تقاد
ومنه كان أبو هاشم من أفسق الناس فجلس ذات يوم يعيب الإرجاء وكان في المجلس مرجىء فأنشد
( يعيب القول بالإرجاء حتى ** يرى بعض الرجاء من الجرائر )
( وأعظم من ذوي الإرجاء ذنبا ** وعيدي يصر على الكبائر )
كان مالك ينشد كثيرا
( وخير أمور الدين ما كان سنة ** وشر الأمور المحدثات البدائع )
ابن عقيل يشبه أن يكون واضع الإرجاء زنديقا فإن صلاح العالم في إثبات الوعيد واعتقاد الجزاء فلما لم يمكن هذا المائن جحد الصانع لمخالفة العقل أسقط فائدة الإثبات وهي الخشية والمراقبة وهدم سياسة الشريعة فهم شر طائفة على الإسلام
سئل مالك عن أشر الطوائف فقال الروافض
بينا ابن المعلم شيخ الرافضة في بعض مجالس المناظرة مع أصحابه أقبل ابن الطيب فقال جاءكم الشيطان فسمعه على بعد فلما جلس إليهم تلا عليهم { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا } مريم 83
مالك أهل السنة من لا لقب له لا خارجي ولا قدري ولا رافضي
البديع
( يقولون لي ما تحب الوصي ** فقلت الثرى بفم الكاذب )
____________________
(5/307)
( أحب النبي وآل النبي ** وأختص آل أبي طالب )
( وأعطي الصحابة حق الولاء ** وأجري على السنن الواجب )
( فإن كان نصبا ولاء الجميع ** فإني كما زعموا ناصبي )
( وإن كان رفضا ولاء الجميع ** فلا برح الرفض من جانبي )
( أحب النبي وأصحابه ** فما المرء إلا مع الصاحب )
( أيرجو الشفاعة من سبهم ** بل المثل السوء للضارب )
( يوقى المكاره قلب الجبان ** وفي الشبهات يد الحاطب )
أخذ البيت الخامس من قول الشافعي
( إن كان رفضا حب آل محمد ** فليشهد الثقلان أني رافضي )
ومنه أبو حنيفة لقيت عطاء فقال لي ممن أنت فقلت من أهل الكوفة فقال من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا قلت نعم قال فممن أنت منهم قلت ممن يؤمن بالقدر ولا يسب السلف ولا يكفر بالذنب قال عرفت فالزم
ومنه الإرادة تطلق على المحبة وعلى قصد أحد الجائزين بالتخصيص وكل واحد من المعنيين يوجد بدون الآخر أما الأول فكقوله ( تريد النفس أن تعطى مناها ** )
وهو ظاهر وأما الثاني فكقصد المتوعد بالإهلاك إلى أمر عبده الذي أمره بأمر لينظر امتثاله ولدقة الفرق بينهما ضل المعتزلة في أمرهما فقالوا إن الله عز وجل لا يريد المعاصي لأنه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر قال عمار بن ياسر يوم صفين
____________________
(5/308)
( صدق الله وهو للصدق أهل ** وتعالى ربي وكان جليلا )
( رب عجل شهادة لي بقتل ** في الذي قد أحب قتلا جميلا )
ومنه العبدري قتل الحسين دعا إلى حرب وأخذ بثأره كذاب ثقيف ونوه باسمه أعداء ملة جده بنو عبيد ليقتص من قضية بمثلها فيقرأ الفهم سورة تلك الصور ويتهجى اللبيب حروف تلك الحروب فيعلم أن الكل آلات مستعملات حسبما اقتضاه العلم القديم
ومنه أبو العباس الأبياني ثلاث لو كتبت على ظفر لوسعهن وفيهم خير الدنيا والآخرة اتبع لا تبتدع اتضع لا ترتفع اتزع لا تتسع
ومنه كانت سكينة بني إسرائيل في التابوت فغلبوا عليها وسكينة هذه الأمة في القلوب فغلبوا بها استحفظوا كتابهم فحرفوا من أحكامه ووصفه وحفظ كتابنا فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
ومنه في الصحيح كان أبو ذر يقسم قسما أن { هذان خصمان اختصموا في ربهم } الحج 19 نزلت في الذين برزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة وعتبة وشيبة والوليد قلت ففي الآية شهادة من الله تعالى لعلي بالجنة والشهادة أما الجنة فبنصها وأما الشهادة فلأنه وصاحبيه استشهدوا وخصمهم قتلوا فهي رادة على الخوارج قطعا
ومنه جاز أبو بكر ابن نافع بالكرخ أيام الديلم وقوة الرفض فقالت له امرأة سيدي أبا بكر فقال لبيك يا عائشة فقالت له متى كان اسمي عائشة فقال أيقتلونني وتخلصين
وفي آخر هذا الكتاب ما صورته فهذه جملة تراجم وفيها مقنع لمن أراد المحاضرة أو تنميق مجالس المناظرة وكان الفراغ من جمعها في آخر
____________________
(5/309)
يوم من شعبان المكرم من عام سبعة وخمسين وسبعمائة انتهى ما تعلق به الغرض من بعض كلام مولاي الجد رحمه الله تعالى في كتابه المحاضرات
ولنرجع إلى سرد بقية تواليفه رحمه الله تعالى فنقول ومنها شرح لغة قصائد المغربي الخطيب ومقالة في الطلعة المملكة وشرح التسهيل والنظائر وكتاب المحرك لدعاوي الشر من أبي عنان وإقامة المريد ورحلة المتبتل وحاشية بديعة جدا على مختصر ابن الحاجب الفقهي فيها أبحاث وتدقيقات لا توجد في غيرها وقد وقفت عليها بالمغرب ومن أشهر كتبه في التصوف كتاب الحقائق والرقائق وهو من الحسن بمكان لا يلحق وقد شرحه الشيخ الصالح شيخ شيوخ شيوخنا سيدي أحمد زروق رضي الله عنه ونفعنا به نقول من كتاب الحقائق والرقائق للمقري
وقد سنح لي أن أسرد هنا شيئا من هذا الكتاب الفذ في بابه فنقول
قال فيه مولاي الجد رحمه الله تعالى هذا كتاب شفعت فيه الحقائق بالرقائق ومزجت المعنى الفائق باللفظ الرائق فهو زبدة التذكير وخلاصة المعرفة وصفوة العلم ونقاوة العمل فاحتفظ بما يوحيه إليك فهو الدليل وعلى الله قصد السبيل
حقيقة عمل قوم على السوابق وقوم على اللواحق والصوفي من لا ماضي له ولا مستقبل فإن كان زجاجيا فبخ بخ
رقيقة من لم يجد ألم البعد لم يجد لذة القرب فإن اللذة هي التخلص من الألم
____________________
(5/310)
حقيقة لما انطبعت الصور في مرآة الخيال قال العقل أنا الملك المكوكب فقالت الرياضة الزمني وتعرف قدرك فإذا العقل عقال
رقيقة من ضحك في نوم الغفلة بكي عند الانتباه فإن الأضغاث أضداد
حقيقة أثر الزهد عقل دن سقراط على سراج غوطة أبي نصر فقيل فأين اعتبار { أفلا ينظرون } فقال { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } الذاريات 21
رقيقة طالب الدنيا يخاف الفوت وصاحبها يترقب الزوال ولو بالموت فإذا حمي الوطيس وحج الرئيس أنشأ الزاهد بينهما ينشد
( عزيز النفس لا ولد يموت ** ولا أنس يحاذره يفوت )
حقيقة العابد طالب رياسة وحرمة والزاهد صاحب نفاسة وهمة والمعنى للعارف يعادي في الله تعالى ويوالي ويرضى الله ولا يبالي
رقيقة من سابق سبق ومن رافق ارتفق ومن لاحق التحق والعجز والكسل مقدمتا الخيبة و
( على قدر أهل العزم تأتي العزائم ** )
حقيقة العمل دواء القلب وإذا كان الدواء لا يصلح إلا إذا كان على حمية البدن فكذلك العمل لا ينجح إلا بعد صوم النفس فارق نفسك وتعال
رقيقة مثل دواعي الخير والشر في الإنسان كمثل الخلط الفاعل والقوة الدافعة في العليل تغلب القوة فيسكن الخلط فيجد الراحة وعن قليل يتحرك فيجد الألم
حقيقة العمل على السلامة مسالمة وعلى الغنيمة وعلى الأمر قرض فيضاعف له أضعافا كثيرة
رقيقة تطهر من أدناس هواك وتزين بلباس تقواك وقم لمسجد انقطاعك
____________________
(5/311)
على قدم شكواك وأحرم بتوجيه قلبك إلى قبلة نجواك تجد الحق عندك وليس بسواك
حقيقة وجد العارف فجاد بنفسه فوجد الله عنده وتواجد المريد فحاكى ومن لم يبك تباكى
رقيقة زك نفسك لقلبك تزك عند ربك بعها منه رخيصة فهي على ثمنها لديه حريصة { إن الله اشترى } التوبة 111
حقيقة الزوال وقت المناجاة فطهر قلبك قبله من الحاجات وإياك والحظ فذهاب نقطته أسرع من اللحظ
رقيقة الزاد لك وهو مكتوب والزائد عليك وهو مسلوب فأجمل في طلب المضمون ولا تلزم نفسك صفقة المغبون
حقيقة أمر بالتوكل لتقصر الطرف عليه وإذن في التسبب لتنصرف منه إليه فذاك مخبر بحقيقة التفرد وهذا مظهر لحكمة التعبد
رقيقة الملك أبو الدينا وهو مع ذلك محبوس فيها تبهم عليه الأبواب ويستدعي الحراس والحجاب فإذا خرج حدقت إليه الألحاظ وأحدقت بجهاته الحفاظ أي حظ حظ من فقد نعمة { فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه } الملك 15
حقيقة قال صاحب الزهر الأنيق علامات الحبة أربع الإفلاس والاستئناس والأنفاس والوسواس قلت الإفلاس التجرد إلا عنه كالخليل والاستئناس التوحش إلا منه كالكليم والأنفاس والوسواس صلة الاسم وعائده
رقيقة ذكر مذكر بمالقة فقام الخطيب الشيخ الولي أبو عبد الله الساحلي بهذا البيت
( ليت شعري أفي زمام رضاكم ** كتب اسمي أم في زمام الهوان )
____________________
(5/312)
وكنت يوما مع السلطان والجند يعرضون عليه وكان يسقط ويثبت وأنا أتفكر في البيت حتى خفت أن أفتضح فقلت واهماه من هذا الإبهام ثم كدت أخلد بقبح العمل إلى الأرض فينشلني حسن الظن بالله عز وجل فإنهض
( إن المقادير إذا ساعدت ** ألحقت العاجز بالحازم )
حقيقة إذا قابل إبرة القلب مغناطيس الحسن صبا فانجذب فإذا اتصل عشق فانقطع فإذا انجذ فني فبقي حاشا الصوفي أن يموت
رقيقة افتخر الغراب بإقامة قرآن الفجر فقيل حتى تغسل بول الشيطان من أذنك فطرب الديك فرحا بالفوز وندب العصفور ترحا على الفوت
حقيقة الخلوة بيت الاعتبار وفي بيته يؤتى الحكم وباب هذا البيت العلم { وأتوا البيوت من أبوابها } البقرة 189
رقيقة واقع فقير هناه ثم دخل خلوته فبدت له نفسه بوجه مومسة فقال ما أنت قالت أم الحياة فقال ما أجمل أن تبدل هاؤك همزة فقالت إذن لم تصنع ما شئت فانتبه لقرع العتاب فتاب
حقيقة القلب إيوان الملك ويسعني وعز الملك يأنف عن ذل المزاحمة أنا أغني الشركاء عن الشرك
رقيقة لما وضع البسطامي أوزار حوبه فك طابع الصحيفة عن قلبه فلم يجد بها غير الطفرى فصاح بنفسه لك البشرى انزل طيفور عما تريد ليس في الدار أبو يزيد
حقيقة قال شيخنا أبو هادي يوما لأصحابه بماذا يرتقي العبد عن مقامه إلى
____________________
(5/313)
مقام أعلى منه قالوا بفضل الله ورحمته فقال إنما سألتكم عن السبب الخاص بهذا الأمر قالوا ما عند الشيخ قال يخلق الله له همة فيرتقي بها إلى رتبة أسمى من رتبته
ومن هذا الكتاب
حقيقة التفت إلى مواهب الملوك تجدهم إنما يوسعون فيما قد يسترجعون فأما العلماء وكل من يعطي بحق فإنما يعطون بقصد { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم } طه 131 واصبر نفسك فعن قريب تنصرف عنهم
رقيقة قلت لقلبي كيف تجدك فقال أما من أمارتك ففي عناء الجهاد وأما من لوامتك فعلى جمر الصبر قلت فمتى الراحة قال إذا اطمأنت النفس فاضمحل الوهم وغاب الحس
حقيقة قطع السوي طهارة المنيب ولا يقبل الله صلاة بغير طهور وكتابه النحيب والمكاتب عبد ما بقي عليه وبابه الدخول على الحبيب
نظر رجل إلى امرأة عفيفة فقالت يا هذا غض بصرك عما ليس لك تنفتح بصيرتك فترى ما هو لك
رقيقا لما حنكت الطينة بتمر الجنة وغذيت بلبانها قطرت على محبتها انظروا إلى حب الأنصار التمر فلم تطق الفطام عنها ( وتأبى الطباع على الناقل ** )
فذاك ما تجد من الحنين إلى التلاق والأنين على الفراق والشغف بمدح العابر وذم الغابر وفي ذلك
____________________
(5/314)
( كم أردنا ذاك الزمان بمدح ** فشغلنا بذم هذا الزمان )
وإن لم تعرف عصرا خاليا ولا خلا نائيا لم يمر عليك مما تشتهيه أطيب مما أنت فيه
( كم منزل في الأرض يألفه الفتى ** وحنينه أبدا لأول منزل )
ومنه
حقيقة قيل عرض الكليم بطلب القوت في رحلة الهجرة { إني لما أنزلت إلي من خير فقير } القصص 24 فحمل على كاهل { إن أبي يدعوك } القصص 25 وصرح في سفر التأديب { لو شئت لاتخذت عليه أجرا } الكهف 77 فحمل على كاهل { هذا فراق بيني وبينك } الكهف 78 قلت لما تمحض الطلب له اكتفى فلما تعلق حق الغير به وفى ولذلك قضى أبا المرأتين الأجلين
رقيقة كان خرق السفينة إراءة لكرامة { فاقذفيه في اليم } طه 39 في مرآة { وكان وراءهم ملك } الكهف 79
( وربما صحت الأجسام بالعلل ** )
وقتل الغلام إشارة إلى اشتمال قتله { فقضى عليه } القصص 15 على رحمة { فنجيناك من الغم } طه 40 برمز { فخشينا أن يرهقهما } الكهف 80 والمحن الصم حبائل المنح وإقامة الجدار إثارة لفتوة { فسقى لهما } ليخفض له جناح { إني لما أنزلت إلي من خير فقير } القصص 24 فيستظل من حر { لو شئت لاتخذت عليه } الكهف 77 في نية { هذا فراق بيني وبينك } الكهف 78
____________________
(5/315)
حقيقة قيل لمحمد بن حسن الزبيدي التونسي وأنا عنده بها كيف لم يصبر الكليم وقد ناط الصبر بالمشيئة { ستجدني إن شاء الله صابرا } الكهف 69 وقد جاء في الصحيح في قصة سليمان عليه السلام لو قال إن شاء الله لكان كما قال والمقام الموسوي أجل { واصطنعتك لنفسي } طه 41 وطلابه أفضل ما جميع أعمال البر والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر فقال كان موسى على علم من علم الله وهو علم المعاملة لا يعلمه الخضر وكان الخضر على علم من علم الله لا يعلمه موسى فلم يظن أن ما لم يحط به خبرا يأباه حكم الظاهر وإلا كيف يلتزم الصبر عليه وقد أمر بصرف الإنكار إليه { ما منعك إذ رأيتهم ضلوا } طه 92 بل لم يعتد مثله من ملاقاة المشاق فيما كان عليه الخضر من اختراق الآفاق وركوب الطباق فما علقه بقوله فقد صدقه بفعله وما لم يستطع عليه صبرا فلم يدخل في التزامه اعتقادا ولا ذكرا
رقيقة قال لي عبد الرحمن بن يعقوب المكتب كان عندنا بالساحل سائح هجيراه إلهي بسطت لي أملي وأحصيت علي عملي وغيبت عني أجلي ولا أدري إلى أي الدارين يذهب بي لقد أوقفتني موقف المحزونين ما أبقيتني
حقيقة تنازع القلب والنفس الخلق فقسمها بينهما قاضي العقل فمن باع منهما حظه فلا شفعة لصاحبه عليه
ومنه
حقيقة الحجب ثلاثة فحجاب الغيرة منع وحجاب الحيرة دفع وحجاب الغفلة قطع { أولئك كالأنعام بل هم أضل } الأعراف 179
رقيقة اللحم أيام التشريق مكروه وكل لذة عند أرباب الدنيا كاللحم عندك أيام الأضحى فلا ترينك الغفلة عن سرك زيادة النعمة عندك
حقيقة الفقر إلى الله الاستغناء به عما سواه وهوية الرضى بالله أن لا يخطر بالبال إلاه
____________________
(5/316)
ومنه
حقيقة التلون مجون تارة طربا وطورا شجون والتمكن معرفة وأين الحال من الصفة
رقيقة قال لي محمد بن عبد الواحد الرباطي قال لي محمد بن عبد السيد الطرابلسي دخلت على أبي الحسن الحرالي فقلت له كيف أصبحت فأنشد
( أصبحت ألطف من مر النسيم سرى ** على الرياض يكاد الوهم يؤلمني )
( من كل معنى لطيف أحتسي قدحا ** وكل ناطقة في الكون تطربني )
حقيقة قال الطالب الوقت سيف وقال الواصل بل مقت فتلا العارف { قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } الأنعام 91
رقيقة لصاحب الوقت يومان
( يوم بأرواح يباع ويشترى ** وأخوه ليس يسام فيه بدرهم )
وفصل الفضل بينهما
( وما تفضل الأيام أخرى بذاتها ** ولكن أيام الملاح ملاح )
ومنه
حقيقة قال لي الشيخ أبو عبد الله محمد بن مرزوق العجيسي بعباد تلمسان قال لي أبو عبد الله ابن حيون إنه وجد على ظهر كتاب بخط عتيق قال أبو يزيد البسطامي يظهر في آخر الزمان رجل يسمى شعيبا لا تدرك له نهاية قالا وهو أبو مدين قلت وقف بظاهره مع الشريعة وذهب بباطنه مع الحقيقة فما انقطع لصحة البداية ولا رجع لعدم الغاية
____________________
(5/317)
رقيقة قمت ببعض الأسحار على قدم الاستغفار وقد استشعرت الصبابة واستدثرت الكآبة فأملى الجنان على اللسان بما نفث في روعه روح الإحسان
( منكسر القلب بالجنايا ** يدعوك يا مانح العطايا )
( أقعده الذنب عن رفيق ** حثوا لرضوانك المطايا )
ومنه إثر حقيقة في شأن الحلاج ما نصه ثم قلت
( ولرب داع للجمال أطعته ** وأبى الجلال علي أن أتقدما )
( فأطعت بالعصيان أمرهما معا ** وجنحت للتسليم كيما أسلما )
ومنه
حقيقة قلت للسر ما لك تحس من خلف الموانع فقال خرق شعاعي سور العوائق ثم انعكس إلي بصور الحقائق فأصبحت كما قيل
( كأن مرآة عين الدهر في يده ** يرى بها غائب الأشيا فلم يغب )
رقيقة الليل رداء الرهبة تهاب الجبان فيه الأبطال وتتقي الحواس دونه الخيال { إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا } المزمل 6
حقيقة النهار معاش النفس فهو استعداد { إن لك في النهار سبحا طويلا } المزمل 7 والليل رياش الأنس فهو معاد { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } المزمل 8 فهذا جمع وذلك فرق والحال أسرع ذهابا من البرق
ومنه
حقيقة إن أكبرت النفس حالها فذكرها أصلها ومآلها فإنها تصغر عند ذلك وتستقيم بك على أرض المسالك احثوا التراب في وجوه المداحين { منها خلقناكم وفيها نعيدكم } طه 55
____________________
(5/318)
رقيقة إنما يتعاظم من يجد الحقارة من نفسه ويتوهم المهانة عند أبناء جنسه فلذلك تراه مغمزا للعيون مهمزا للظنون من أسر سريرة حسنة كساه الله رداءها
رقيقة رأيت الملوك لا يشمتون ولا يدعى لهم إلا بما يتعلق بأغراض الدنيا وأكثر ذلك مما تحيل عقوده العوائد فعلمت أن الدنيا ضد الآخرة
حقيقة من لم يفر خور وذلك الجبن من خاف أدلج ورجا من لم يكر تمن وتلك الزمانة { يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما } النساء 72
رقيقة سمعت أبا محمد المجاصي يقول رويت بالسند الصحيح أن عابدا رابط ببعض الثغور مدة فكان كلما طلع الفجر يسمع من ينشد دون أن يرى شيئا
( لولا رجال لهم سرد يصومونا ** وآخرون لهم ورد يقومونا )
( لزلزلت أرضكم من تحتكم غضبا ** فإنكم فوم سوء لا تبالونا )
حقيقة ما حمد الله حق حمده إلا من عرفه حق معرفته وذلك مما لا ينبغي لغيره لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
رقيقة قلت
( أشيم البرق من بين الثنايا ** وأشتم العبير من الثناء )
( فأبدو تارة وأغيب أخرى ** مثار الشوق مثني الحياء )
حقيقة تحقق الحامد بكمال الذات فغاب عن حسه في بحار العظمة وتعلق الشاكر بجمال الفعل فوقف مع نفسه بسوق النعمة فهذا تاجر { لئن شكرتم لأزيدنكم } إبراهيم 7 وذاك ذاكر { وما بكم من } النحل 53
ومنه
حقيقة الصبر مطية المريد والرضى سجية المراد فهذا يقوم للأمر وذاك يسعى للأجر
____________________
(5/319)
رقيقة الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف والصبر بغير حساب والرضى بالرضى وذلك سدرة المنتهى
حقيقة النفس الأمارة آبدة لا تملك إلا بلطائف الحيل والمطمئنة ذلول لا تنفلت إلا ممن غفل { وأخاف أن يأكله الذئب } يوسف 13
رقيقة الدنيا معشوق الطالب عاشق الهارب هذا يستخدمها وذاك يخدمها يبني الخادم المسجد ليقال ويعمره المخدوم لينال فعلى الخادم السعي من غير جدوى
( وليس لرحل حطه الله حامل ** )
وللمخدوم الجدوى بغير سعي
( وليس لما تبني يد الله هادم ** إن السعادة أصلها التخصيص )
حقيقة الجمال رياش والحسن صورة والملاحة روح فذلك ستره عليك وهذا سره فيك { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي } الحجر 29
رقيقة أعطي يوسف شطر الحسن يعني حسن آدم لأنه إن لم يكن في الإمكان أبدع مما كان فقد خلقه الحق بيده في أحسن تقويم ثم نفخ فيه من روحه لتتم علة الأمر بسجود التحية والتكريم فكان كما قال من أنزل عليه الفرقان خلق الله آدم على صورة الرحمن فآدم إذا كمال الحسن وإلا فهو المراد لأن الشطر يقتضي الحصر والنصف ينزع عن الوصف وأعطي محمد كمال الجمال فما أبصره أحد إلا هابه وتمام الملاحة فما عرفه شخص إلا أحبه مع أنباء نوره في الآباء بأن أبوه المعنى لسيد نجباء الأبناء كما قال العارف عمر
( وإني وإن كنت ابن آدم صورة ** فلي فيه معنى شاهد بأبوتي )
____________________
(5/320)
حقيقة لا يثنينك الخوف عن قرع الباب فتيأس فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ولا يدنينك الرجاء من الفترة فتأمن فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون فإن لم تستطع بعد الحرص أن تعدل فلا تمل كل الميل مع النفس { إن النفس لأمارة بالسوء } يوسف 53
رقيقة ارفع قصتك في رقعة الإقبال على كف الرجاء خافضا من طرف الحياء وصوت الإدلال عاكفا في زاوية الإنكماش من وراء ستر الخوف يخرج عليك حاجب القدر من باب الكرم بتوقيع { فاستجبنا له } الأنبياء 848890
ومنه
حقيقة صدق مجاهدة الفاروق أيقظ الوسنان وطرد الشيطان وأرضى الرحمن ففاز بسلامة ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك وحقق مشاهدة الصديق أسمع من ناجى فحاز غنيمة لو كشف الغطاء ما ازداد يقينا
رقيقة ذهب أبو بكر في السابقين ولحق عمر بأهل اليقين فما أدرك الصديق أداء التصلية حتى استدرك الفاروق قضاء التقفية
( ولو كنت في أهل اليمين منعما ** بكيت على ما فات من زمن الصبا )
حقيقة النص سلاح والنظر مطية والإتباع جنة والورع نجاة والخلاف فتنة والبدع مهالك وخير الأمور أوساطها
ومنه
حقيقة تخير المساعد واختبر المصاعد وليكن همك في سفرك منك معرفتك كيف ترجع إليك فلن يحقق صفة الربوبية من لم يتحقق نعت العبودية
____________________
(5/321)
رقيقة حدثت أن سيدي أبا الحسن الشاذلي لما أزمع على التحول من طيبة على من بها الصلاة والسلام أوقف فعله على إذن رسول الله له فرآه في منامه فقال توحشنا يا علي فأخذ يعتل فأذن له وقال إذا جئت مصر فاقرأ عز الدين بن عبد السلام مني السلام قال فلما التقينا بلغته المالكة سرا فلم تظهر نفسه لذلك فلما قام المزمزم قال
( صدق المحدث والحديث كما جرى ** وحديث أهل الحب ما لا يفترى )
فاستغفر الشيخ ثم كذب نفسه ثم حط للتسليم رأسه
حقيقة الوهم شيطان القلب يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وسائر الجهات لمراقبة { قل هو القادر } الأنعام 65 فمن ثم كان أشد تقلبا من المرجل على النار فإذا ذكر الله سكن { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } الرعد 28
رقيقة فرق القلب من ذكر الله خوف { وجلت قلوبهم } الحج 35 ثم سكن لذكره رجاء { وتطمئن قلوبهم } الرعد 28 فعاد داء تقشعر منه دواء { ثم تلين } فنعق بلائمه
( دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ** )
ثم هتف بمنادمه
( وداوني بالتي كانت هي الداء ** )
حقيقة العبودية صفة نفسك لأنها حال أحد العبيد والعبودة صفة قلبك لأنها ملكة واحد العباد والعبادة قصد وجهك لأنها نعت الفردوس من العباد
____________________
(5/322)
ومنه
حقيقة إنما تزيد في الدنيا بقدر ما تنقص من الآخرة فإن تشييد الجدار على قدر انتقاص الجبل
رقيقة من جر لنفسه جار على قلبه فلا تجوز شهادته عند ربه لأن العدل من ترك العدول والميل
حقيقة لا تقدمن إلا بدليل وإذن واحذر ما لا ينفع ما استطعت فقد تم انظر فلا حرج إن جهلت ما لم تكلف علمه وأخاف عليك سوء عاقبة الهجوم
رقيقة إذا اهتز العرش بالسحر لدعاء أهل { تتجافى جنوبهم } السجدة 16 انبعث من نسيمه ما أغشاهم طيبه الراحة { أمنة منه } الأنفال 11 وأهب المستغفر من نومه لإدراك فضل { رضي الله عنهم ورضوا عنه } المائدة 119 والمجادلة 22 والبينة 8
حقيقة دع الغريب وما يريب واركب الجادة ولا تسلك بنيات الطريق { فتفرق بكم عن سبيله } الأنعام 153
ومنه
حقيقة سفر المريد تجارة وسفر العارف عمارة فهذا يرحل للإقامة عند الحقيقة وذاك يطلب الاستقامة على الطريقة
رقيقة إياك أيها المصلي لنا أن تلتفت إلى غيرنا وأقبل علينا بصدق نيتك وناجنا بخلوص سريرتك فقد قمنا بينك وبين قبلتك وناجيناك بلسان تلاوتك فإن غبت عنا فلست منا
حقيقة الشطح كناية والكرامة عناية والاعتراض جناية فإياك ولم فإن عرفت فاتبع وإن جهلت فسلم
____________________
(5/323)
رقيقة الليل معاد الأنس { إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا } المزمل 6 والنهار معاش النفس { إن لك في النهار سبحا طويلا } فهذا نشاط رغبة يتسع في مناكبه المجال وتعتور على مراكبه الأحوال وذلك حجاب رهبة تهوي إليه الأوجال وتجتمع فيه هموم الرجال ألا ترى كيف تهاب الجبان دونه الأبطال وتتقي الحواس خلفه الخيال كما قال
( نهاري نهار الناس حتى إذا دجا ** لي الليل هزتني إليك المضاجع )
( أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ** ويجمعني والهم بالليل جامع )
حقيقة حجب الطالب أربعة فحجاب الغيرة قاذع قيل لبعضهم أتحب أن تراه فقال لا قيل ولم قال أجل ذلك عن نظر مثلي وحجاب التيه قامع نزل فقير على ابن عجوز فبينما هي تصلح له الطعام غشي على الفتى فسألها الفقير فقالت له إنه يهوى ابنة عم له بتلك الخيمة فخطرت فاشتم غبار ذيلها فذهب الفقير ليخطبها عليه فقالت إذا لم يطق غبار ذيلي فكيف بيستطيع أن يشاهدني وحجاب الحيرة دافع ومن ثم حلا لأرباب الغيبة قال بعضهم يا دليل الحائرين زدني تحيرا ومر على أصحاب الرغبة والرهبة كما قال
قد تحيرت فيك خذ بيدي ** يا دليلا لمن تحير فيكا )
وحجاب الغفلة قاطع كان بعضهم يقول إن عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب ونظر آخر إلى امرأة فوقع عليه سهم فعوره وعليه مكتوب نظرت بعين العورة فرميناك بسهم الأدب ولو نظرت بعين الشهوة لرميناك بسهم القطيعة
رقيقة حدثت أن ابن الفارض دخل على الشيخ عز الدين وقد ذهب به التفكر فيما له عند الله عز وجل فكاشفه بأن أنشده من قصيدة له
____________________
(5/324)
( لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ** ذكرت ثم على ما فيك من عوج )
فبدرته البشاشة وأظن أن قد خلع قماشه
حقيقة وقفت ذات يوم بالجبانة واستفهمت اسمي هل عرف منها مكانه فأملى بعد هنيئة من نظمه ما وقفت منه على حقيقة مبلغ علمه
( كل ميت رأته عيني فإني ** ذلك الميت إن نظرت بقلبي )
( وجميع القبور قبري لولا ** جهل نفسي بما لها عند ربي )
رقيقة أهم ما على السالك مراعاة قلبه أن يتلف في تقلبه فذلك فساد حاله وذهاب رأس ماله تزوج فقير فلبس ثياب العرس فطلب قلبه فلم يجده فصاح خلقاني فأعطوه فأخذها وخرج
حقيقة حجب المطلوب ثلاثة فحجاب التيه جمال كما قال العارف عمر
( ته دلالا فأنت أهل لذاكا ** وتحكم فالحسن قد أعطاكا )
وحجاب العزة جلال
( همت بإتياننا حتى إذا نظرت ** إلى المرآة نهاها وجهها الحسن )
وحجاب الكبرياء كمال أنشدت لرابعة
( أحبك حبين حب الهوى ** وحبا لأنك أهل لذاكا )
( فأما الذي هو حب الهوى ** فشغلي بذكرك عمن سواكا )
( وأما الذي أنت أهل له ** فأن ترفع الحجب حتى أراكا )
( وما الحمد في ذا ولا ذاك لي ** ولكن لك الحمد في ذا وذاكا )
____________________
(5/325)
وهذا معنى ما في الصحيح وما بين أهل الجنة وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن
ومنه
حقيقة الآثار منصة التجلي فمن لم يزر مهلب { ويتفكرون } زار عمير ( يمرون ) وبطل رصد الحجاج
رقيقة من تفكر تذكر ومن تذكر تبصر فإن أكمل وقف وإن قصر انصرف { إنا هديناه السبيل } الإنسان 3
حقيقة الوحدة فهم والتوحيد علم والإتحاد حكم والاثنينية وهم ( ألا كل شيء ما خلا الله باطل ** )
ومنه
حقيقة أهم ما على السالك مراعاة قلبه أن يتلف في تقلبه فإن ذلك فساد حاله وذهاب رأس ماله رؤي فقير ينادي في السوق ارحموا صوفيا ذهب رأس ماله فقيل له وهل للصوفي رأس مال فقال نعم كان لي قلب ففقدته
ومنه
حقيقة تنازع القلب والنفس الخلق فترافعا إلى العقل فقسمه بينهما فانفردت النفس بالهوى والقلب بالتقوى فصرفت طرقهما إلى الجهتين وقطعت الشفعة فيهما بين الفئتين
ومنه عند ختم الكتاب ما نصه
حقيقة لا يودع السر إلا عند أهله ولا يذيعه إلا من ضاق ذرعا بحمله
____________________
(5/326)
فإن عدا مودعه الرمز فقد زل وإن تعدى مذيعه الغمز فقد ضل
رقيقة الحسن خلق والجمال خلق وحسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن وحيث هو الجمال هو الجميل
حقيقة تحقق العلماء بالتوحيد فاستشعروا { والله خلقكم وما تعملون } الصافات 96 لكنهم اعتبروا خلق السبب والابتلاء به فتصرفوا بدلالة الإذن في مذهبه فاستقاموا على طريقة الأدب ولم يفتهم فصل التوكل ولم تتسع معارف الزهاد لما عرفوا المسبب بكيفية الإنصراف إلى السبب منه لدقة الفرق بينه وبين الانصراف عنه فوقفوا مع التوكل للعذر ولم يستعملوا أدب الجريان مع ابتلاء الأمر وعكف الغافلون على ظاهر السبب ففاتهم التوكل والأدب { أولئك كالأنعام بل هم أضل } الأعراف 179
رقيقة أفيت لعبد الحق الإشبيلي بيتا هو عندي أفضل من قصيدة وهو
( قد يساق المراد وهو بعيد ** ويريد المريد وهو قريب )
ومن أراد معرفة قدر هذا البيت فليتل { الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب } الشورى 13
حقيقة أشرف أسمائك ما أضافك إليه وأكرم صفاتك ما دل فيك عليه
( لا تدعني إلا بيا عبدها ** فإنه أشرف أسمائي )
( ولا تصفني بالهوى عندها ** فعندها تحقيق أنبائي )
رقيقة
( أعزز بمن سوداء قلبي مغرب ** لخياله وسواد عيني مشرق )
( إن غاب عن سري فعنه لم يغب ** أو عن عياني فهو فيه محقق )
____________________
(5/327)
( والعين تعجز أن ترى إنسانها ** والقلب بالروح اللطيف مصدق )
صن عينك عن قلبك لربك وقلبك عن نفسك لحبك ونفسك عن طبعك لوليك وطبعك عن هواك لعدوك وهواك عمن سواك وقد كنت من نسل الجنة وكان بينك وبين البلاء أوقى جنة لطف الله تعالى بي وبكم في مجاري أحكامه ويسرنا أجمعين للعمل بموجبات إكرامه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا إلى يوم لقائه انتهى ما تعلق به الغرض من كتاب الحقائق والرقائق لمولاي الجد الإمام سقى الله عهده صوب الغمام وما ذكرته من كلامه غيض من فيض وقل من كثر ويكفي من الحلي ما قل وستر العنق
ولنذكر بعض نظمه رحمه الله تعالى وقد تقدم بعضه أثناء ما سبق من كلامه رضي الله عنه فراجعه إن شئت من شعر المقري الجد
ومن بديع نظمه رحمه الله تعالى ما في الإحاطة ونصه نقلت من ذلك قوله هذه لمحة العارض لتكملة ألفية ابن الفارض سلب الدهر من فرائدها مائة وسبعة وسبعين فاستعنت على ردها بحول الله المعين
من فصل الإقبال
( رفضت السوى وهو الطهارة عندما ** تلفعت في مرط الهوى وهو زينتي )
( وجئت الحمى وهو المصلى ميمما ** بوجهة قلبي وجهها وهو قبلتي )
( وقمت وما استفتحت إلا بذكرها ** وأحرمت إحراما لغير تحلة )
( فديني إن لاحت ركوع وإن دنت ** سجود وإن لاهت قيام بحسرة )
____________________
(5/328)
( على أننا في القرب والبعد واحد ** تؤلفنا بالوصل عين التشتت )
( وكم من هجير خضت ظمآن طاويا ** إليها وديجور طويت برحلة )
( وفيها لقيت الموت أحمر والعدا ** بزرقة أسنان الرماح وحدة )
( وبيني وبين العذل فيها منازل ** تنسيك أيام الفجار ومؤتة )
( ولما اقتسمنا خطتينا فحامل ** فجار بلا أجر وحامل برة )
( خلا مسمعي من ذكرها فاستعدته ** فعاد ختام الأمر أصل القضية )
( وكم لي على حكم الهوى من تجلد ** دليل على أن الهوى من سجيتي )
( يقول سميري والأسى سالم الأسى ** ولا توضع الأوزار إلا لمحنة )
( لو أن مجوسا بت موقد نارها ** لما ظل إلا منهلا ذا شريعة )
( ولو كنت بحرا لم يكن فيه نضحة ** لعين إذا نار الغرام استحرت )
( فلا ردم من نقب المعاول آمن ** ولا هدم إلا منك شيد بقوة )
( فمم تقول الأسطقسات منك أو ** علام مزاج ركبت أو طبيعة )
( فإن قام لم يثبت له منك قاعد ** وإلا فأنت الدهر صاحب قعدة )
( فما أنت يا هذا الهوى ماء أو هوا ** أم النار أم دساس عرق الأمومة )
( وإني على صبري كما أنا واصف ** وحالي أقوى القائمين بحجة )
( أقل الضنى أن عج من جسمي الضنى ** وما شاكه معشار بعض شكيتي )
( وأيسر شوقي أنني ما ذكرتها ** ولم أنسها إلا احترقت بلوعة )
( وأخفى الجوى قرع الصواعق منك في ** جواي وأخفي الوجد صبر المودة )
( وأسهل ما ألقى من العذل أنني ** أحب أقلي ذكرها وفضيحتي )
( وأوج حظوظي اليوم منها حضيضها ** بالأمس وسل حر الجفون الغزيرة )
____________________
(5/329)
( وأوجز أمري أن دهري كله ** كما شاءت الحسناء يوم الهزيمة )
( أروح وما يلقى التأسف راحتي ** وأغدو وما يعدو التفجع خطتي )
( وكالبيض بيض الدهر والسمر سوده ** مساءتها في طي طيب المسرة )
( وشأن الهوى ماقد عرفت ولا تسل ** وحسبك أن لم يخبر الحب رؤيتي )
( سقام بلا برء ضلال بلا هدى ** أوام بلا ري دم لا بقيمة )
( ولا عتب فالأيام ليس لها رضى ** وإن ترض منها الصبر فهو تعنتي )
( ألا أيها اللوام عني قوضوا ** ركاب ملامي فهو أول محنتي )
( ولا تعذلوني في البكاء ولا البكى ** وخلوا سبيلي ما استطعتم ولوعتي )
( فما سلسلت بالدمع عيني إن جنت ** ولكن رأت ذاك الجمال فجنت )
( تجلى وأرجاء الرجاء حوالك ** ورشدي غاو والعمايات عمت )
( فلم يستبن حتى كأني كاسف ** وراجعت إبصاري له وبصيرتي )
ومن فصل الاتصال
( وكم موقف لي في الهوى خضت دونه ** عباب الردى بين الظبي والأسنة )
( فجاوزت في حدي مجاهدتي له ** مشاهدتي لما سمت بي همتي )
( وحل جمالي في الجلال فلا أرى ** سوى صورة التنزيه في كل صورة )
( وغبت عن الأغيار في تيه حيرتي ** فلم أنتبه حتى امتحى اسمي وكنيتي )
( وكاتبت ناسوتي بأمارة الهوى ** وعدت إلى اللاهوت بالمطمئنة )
( وعلم يقيني صار عينا حقيقة ** ولم يبق دوني حاجب غير هيبتي )
( وبدلت بالتلوين تمكين عزة ** ومن كل أحوالي مقامات رفعة )
( وقد غبت بعد الفرق والجمع موقفي ** مع المحو والإثبات عند تثبتي )
____________________
(5/330)
( وكم جلت في سم الخياط وضاق بي ** لبسطي وقبضي بسط وجه البسيطة )
( وما اخترت إلا دن سقراط زاهدا ** وفي ملكوت النفس أكبر عبرة )
( وفقري مع الصبر اصطفيت على الغنى ** مع الشكر إذ لم يحظ فيه مثوبتي )
( وأكتم حبي ما كنى عنه أهله ** وأكني إذا هم صرحوا بالخبية )
( وإني في جنسي ومنه لواحد ** كنوع ففصل النوع عله حصتي )
( تسببت في دعوى التوكل ذاهبا ** إلى أن أجدى حيلتي ترك حيلتي )
( وآخر حرف صار مني أولا ** مريدا وحرف في مقام العبودة )
( تعرفت يوم الوقف منزل قومها ** فبت بجمع سد خرق التشتت )
( فأصبحت أقضي النفس منها منى الهوى ** وأقضي على قلبي برعي الرعية )
( فبايعتها بالنفس دارا سكنتها ** وبالقلب منه منزلا فيه حلت )
( فخلص الاستحقاق نفسي من الهوى ** وأوجب الاسترقاق تسليم شفعة )
( فيا نفس لا ترجع تقطع بيننا ** ويا قلب لا تجزع ظفرت بوحدة )
ومن فصل الإدلال
( تبدت لعيني من جمالك لمحة ** أبادت فؤادي من سناها بلفحة )
( ومرت بسمعي من حديثك ملحة ** تبدت لها فيك القران وقرت )
( ملامي بن عذري استبن وجدي استعن ** سماعي أعن حالي أبن قائلي اصمت )
( فمن شاهدي سخط ومن قائلي رضى ** وتلوين أحوالي وتمكين رتبتي )
( مرامي إشارات مراعي تفكر ** مراقي نهايات مراسي تثبت )
( وفي موقفي والدار أقوت رسومها ** تقرب أشواقي تبعد حسرتي )
( معاني أمارات مغاني تذكر ** مباني بدايات مثاني تلفت )
( وبث غرام والحبيب بحضرة ** ورد سلام والرقيب بغفلة )
____________________
(5/331)
( ومطلع بدر في قضيب على نقا ** فويق محل عاطل دون دجية )
( وممكن سحر بابلي له بما ** حوت أضلعي فعل القنا السمهرية )
( ومنبت مسك من شقيق ابن منذر ** على سوسن غض بجنة وجنة )
( ووصف اللآلي في اليواقيت كلما ** تعل بصرف الراح في كل سحرة )
( سل السلسبيل العذب عن طعم ريقه ** ونكهته يخبرك عن علم خبرة )
( ورمان كافور علته طوابع ** من الند لم تحمل به بنت مزنة )
( ولطف هواء بين حقف وبانة ** ورقة ماء في قوارير فضة )
( لقد عز عنك الصبر حتى كأنه ** سراقة لحظ منك للمتلفت )
( وأنت وإن لم تبق مني صبابة ** منى النفس لم تقصد سواك بوجهة )
( وكل فصيح منك يسري لمسمعي ** وكل مليح منك يبدو لمقلتي )
( تهون علي النفس فيك وإنها ** لتكرم أن تغشى سواك بنظرة )
( فإن تنظريني بالرضى تشف علتي ** وإن تظفريني باللقا تطف غلتي )
( وإن تذكريني والحياة بقيدها ** عدلت لأمني منيتي بمنيتي )
( وإن تذكريني بعدما أسكن الثرى ** تجلت دجاه عند ذاك وولت )
( صليني وإلا جددي الوعد تدركي ** صبابة نفس أيقنت بتفلت )
( فما أم بو هالك بتنوفة ** أقيم لها خلف الخلاب فدرت )
( فلما رأته لاينازع خلفها ** إذا هي لم ترسل عليه وضنت )
( بكت كلما راحت عليه وإنها ** إذا ذكرته آخر الليل حنت )
( بأكثر مني لوعة غير أنني ** رأيت وقار الصبر أحسن حلية )
( فرحت كما أغدو إذا ما ذكرتها ** أطامن أحشائي على ما أجنت )
____________________
(5/332)
( أهون ما ألقاه إلا من القلى ** هوى ونوى نيل الرضى منك بغيتي )
( أخوض الصلا أطفي العلا والعلو لا ** أصل السلا أرعى الخلا بين عبرتي )
( ألا قاتل الله الحمامة غدوة ** لقد أصلت الأحشاء نيران لوعة )
( وقاتل مغناها وموقف شجوها ** على الغصن ماذا هيجت حين غنت )
( فغنت غناء أعجميا فهيجت ** غرامي من ذكرى عهود تولت )
( فأرسلت الأجفان سحبا واوقدت ** جواي الذي كانت ضلوعي أكنت )
( نظرت بصحراء البريقين نظرة ** وصلت بها قلبي فصل وصلت )
( فيا لهما قلبا شجيا ونظرة ** حجازية لو جن طرف لجنت )
( وواعجبا للقلب كيف اعترافه ** وكيف بدت أسراره خلف ستره )
( وللعين لما سوئلت كيف أخبرت ** وللنفس لما وطنت كيف ذلت )
( وكنا سلكنا في صعود من الهوى ** يسامي بأعلام العلا كل رتبة )
( إلى مستوى ما فوقه فيه مستوى ** فلما توافينا ثبت وزلت )
( وكنا عقدنا عقدة الوصل بيننا ** على نحر قربان لدى قبر شيبة )
( مؤكدة بالنذر أيام عهده ** فلما تواثقنا شددت وحلت )
ومن فصل الاحتفال
( أزور اعتمارا أرضها بتنسك ** وأقصد حجا بيتها بتحلة )
( وفي نشأتي الأخرى ظهرت بما علت ** له نشأتي الأولى على كل فطرة )
( ولولا خفاء الرمز من لا ولن ولم ** تجدها لشملي مسلكا بتشتت )
( ولو لم يجدد عهدنا عقد خلة ** قضيت ولم يقض المنى صدق توبة )
____________________
(5/333)
( بعثت إلى قلبي بشيرا بما رأت ** على قدم عيناي منه فكفت )
( فلم يعد أن شام البشارة شام ما ** جفا الشام من نور الصفات الكريمة )
( فيا لك من نور لو أن التفاتة ** تعارض منه بالنفوس النفيسة )
( تحدث أنفاس الصبا أن طيبها ** بما حملته من حراقة حرقة )
( وتنبيء آصال الربيع عن الربى ** وأشجاره أن قد تجلت فجلت )
( وتخبر أصوات البلابل أنها ** تغنت بترجيعي على كل أيكة )
( فهذا جمالي منك في بعد حسرتي ** فكيف به إن قربتني بخلة )
( تبدى وما زال الحجاب ولا دنا ** وغاب ولم يفقده شاهد حضرتي )
( له كل غير في تجليه مظهر ** ولا غير إلا ما محت كف غيرة )
( تجلى دليل واحتجاب تنزه ** وإثبات عرفان ومحو تثبت )
( فما شئت من شيء وآليت أنه ** هو الشيء لم تحمد فجار أليتي )
( وفي كل خلق منه كل عجيبة ** وفي كل خلق منه كل لطيفة )
( وفي كل خاف منه مكمن حكمة ** وفي كل باد منه مظهر جلوة )
( أراد بقلب القلب واللغز كامنا ** وفي الزجر والفال الصحيح الأدلة )
( وفي طي أوفاق الحساب وسر ما ** يتم من الأعداد فابدأ بستة )
( وفي نفثات السحر في العقد التي ** تطوع لها كل الطباع الأبية )
( يصور شكلا مثل شكل ويعتلي ** عليه بأوهام النفوس الخبيثة )
( وفي خضرة الكمون تزجى شرابه ** مواعيد عرقوب على إثر صفرة )
( وفي شجر قد خوفت قطع أصلها ** فبان بها حمل لأقرب مدة )
( وفي النخل في تلقيحه واعتبر بما ** أتى فيه عن خير البرية واسكت )
____________________
(5/334)
( وفي الطابع السبتي والأحرف التي ** يبين منها النظم كل خفية )
( وفي صنعة الطلسم والكيمياء والكنوز ** وتغوير المياه المعينة )
( وفي حرز أقسام المؤدب محرز ** وحزب أصيل الشاذلي وبكرة )
( وفي سيمياء الخاتمي ومذهب ابن ** سبعين إذ يعزي إلى شر بدعة )
( وفي الملل الأولى وفي النحل الألى ** بها أوهموا لما تساموا بسنة )
( وفي كل ما في الكون من عجب وما ** حوى الكون إلا ناطقا بعجيبة )
( فلا سر إلا وهو فيه سريرة ** ولا جهر إلا وهو فيه كحيلة )
( سل الذكرى عن إنصاف أصناف ما انبنى ** عليه الكلام من حروف سليمة )
( وعن وضعها في بعضها وبلوغ ما ** أتت فيه أمضى عدها وتثبت )
( فلا بد من رمز الكنوز لذي الحجي ** ولا ظلم إلا ظلم صاحب حكمة )
( ولولا سلام ساق للأمن خيفتي ** لعاجل مس البرد خوفي لميتتي )
( ولو لم تداركني ولكن بعطفها ** درجت رجائي أن نعتني خيبتي )
( ولو لم تؤانسني عنا قبل لم ولم ** قضى العتب مني بغية بعد وحشي )
( ونعم أقامت أمر ملكي بشكرها ** كما هونت بالصبر كل بلية )
ومن فصل الاعتقال
( سر بفؤادي إذ سرت فيه نظرتي ** وسارت ولم تثن العنان بعطفة )
( وذلك لما أطلع الشمس في الدجى ** محيا ابنة الحيين في خير ليلة )
( يمانية لو أنجدت حين أنجدت ** لما أبصرت عيناك حيا كميت )
____________________
(5/335)
( لأصحمة في نصحها قدم بنى ** لكل نجاشي بها حصن ذمة )
( ألمت فحظت رحلها ثم لم يكن ** سوى وقفة التوديع حتى استقلت )
( فلو سمحت لي بالتفات وحل من ** مهاوي الهوى والهون جد تفلتي )
( ولكنها همت بنا فتذكرت ** قضاء قضاة الحسن قدما فصدت )
( أجلت خيالا إنني لا أجله ** ولم أنتسب منه لغير تعلة )
( على أنني كلي وبعضي حقيقة ** وباطل أوصافي وحق حقيقتي )
( وجنسي وفصلي والعوارض كلها ** ونوعي وشخصي والهواء وصورتي )
( وجسمي ونفسي والحشا وغرامه ** وعقلي وروحانيتي القدسية )
( وفي كل لفظ عنه ميل لمسمعي ** وفي كل معنى منه معنى للوعتي )
( ودهري به عيد ليوم عروبة ** وأمري أمري والورى تحت قبضتي )
( ووقتي شهود في فناء شهدته ** ولا وقت لي إلا مشاهد غيبة )
( أراه معي حسا ووهما وإنه ** مناط الثريا من مدارك رؤيتي )
( وأسمعه من غير نطق كأنه ** يلقن سمعي ما توسوس مهجتي )
( ملأت بأنوار المحبة باطني ** كأنك نور في سرار سريرتي )
( وجليت بالإجلال أرجاء ظاهري ** كأنك في أفقي كواكب زينة )
( فأنت الذي أخفيه عند تستري ** وأنت الذي أبديه في حين شهرتي )
( فته أحتمل واقطع أصل واعل أستفل ** ومر أمتثل واملل أمل وارم أثبت )
( فقلبي إن عاتبته فيك لم أجد ** لعتبي فيه الدهر موقع نكتة )
( ونفسي تنبو عن سواك نفاسة ** فلا تنتمي إلا إليك بمنة )
( تعلقت الآمال منك بفوق ما ** أرى دونه ما لا ينال بحيلة )
( وحامت حواليها وما وافقت حمى ** سحائب يأس أمطرت ماء عبرتي )
( فلو فاتني منك الرضى ولحقتني ** بعفو بكيت الدهر فوت فضيلة )
____________________
(5/336)
( ولو كنت في أهل اليمن منعما ** بكيت على ما كان من أسبقية )
( وكم من مقام قمت عنك مسائلا ** أرى كل حي كل حي وميت )
( أتيت بفاراب أبا نصرها فلم ** أجد عنده علما يبرد غلتي )
( ولم يدر ما قولي ابن سيناء سائلا ** فقل كيف أرجو عنده برء علتي )
( فهل في ابن رشد بعد هذين مرتجى ** وفي ابن طفيل لاحتثاث مطيتي )
( لقد ضاع لولا أن تداركني حمى ** من الله سعي بينهم طول مدتي )
( فقيض لي نهجا إلى الحق سالكا ** وأيقظني من نوم جهلي وغفلتي )
( فحصنت أنظار الجنيد جنيدها ** بترك فلي من رغبة ريح رهبة )
( وكسرت عن رجل ابن أدهم أدهما ** وأنقذته من أسر حب الأسرة )
( وعدت على حلاج سكري بصلبه ** وألقيت بلعام التفاتي بهوة )
( فقولي مشكور ورأيي ناجح ** وفعلي محمود بكل محلة )
( رضيت بعرفاني فأعليت للعلا ** وأجلسني بعد الرضى فيه جلتي )
( فعشت ولا ضيرا أخاف ولا قلى ** وصرت حبيبا في ديار أحبتي )
( فها أناذا أمسي وأصبح بينهم ** مبلغ نفسي منهم ماتمنت )
ومن نظمه أيضا ما حكى عنه في الإحاطة إذ قال وأنشدني قوله في حال قبض وقيدتها عنه
( إليك بسطت الكف أستنزل الفضلا ** ومنك قبضت الطرف أستشعر الذلا )
( وها أناذا قد قمت يقدمني الرجا ** ويحجم في الخوف الذي خامر العقلا )
( أقدم رجلا إن يضىء برق مطمع ** وتظلم أرجائي فلا أنقل الرجلا )
( ولي عثرات لست آمل إن هوت ** بنفسي أن لا أستقيل وأن أصلى )
( فإن تدركني رحمة أنتعش بها ** وإن تكن الأخرى فأولى بي الأولى )
____________________
(5/337)
ومن نظمه رحمه الله تعالى
( وجد تسعره الضلوع ** وما تبرده المدامع )
( هم تحركه الصبابة ** والمهابة لا تطاوع )
( أمل إذا وصل الرجا ** أسبابه فالموت قاطع )
( بالله يا هذا الهوى ** ما أنت بالعشاق صانع )
وقال رحمه الله تعالى كما في الإحاطة ومما كتبت به لمن بلغني عنه بعض الشيء
( نحن إن تسأل بناس معشر ** أهل ماء فجرته الهمم )
( عرب من بيضهم أرزاقهم ** ومن السمر الطوال الخيم )
( عرضت أحسابهم أرواحهم ** دون نيل العرض وهي الكرم )
( أورثونا المجد حتى إننا ** نرتضي الموت ولا نزدحم )
( ما لنا في الناس من ذنب سوى ** أننا نلوي إذا ما اقتحموا )
وقال مما قلته مذيلا به قول القاضي أبي بكر ابن العربي
( أما والمسجد الأقصى ** وما يتلى به نصا )
( لقد رقصت بنات الشوق ** بين جوانحي رقصا )
قولي
( فأقلع بي إليه هوى ** جناحا عزمه قصا )
( أقل القلب واستعدى ** على الجثمان فاستعصى )
( فقمت أجول بينهما ** فلا أدنى ولا أقصى )
____________________
(5/338)
قال رحمه الله تعالى ومما قلته في التورية بشأن راوي المدونة
( لا تعجبن لظبي قد دها أسدا ** فقد دها أسدا من قبل سحنون )
ومن نظم مولاي الجد مما لم يذكره في الإحاطة قوله حسبما ألفي بخطه على ظهر نسخة من تأليفه القواعد
( ناديت والقلب بالأشواق محترق ** والنفس من حيرة الإبعاد في دهش )
( يا معطشي من وصال كنت آمله ** هل فيك لي فرج إن صحت واعطشي )
ومن نظمه ما أسنده الونشريسي إليه
( خالف هواك وكن لعقلك طائعا ** تجد الحقيقة عند طرف الناظر )
ومنه مما نسبه له المذكور ورأيت من ينسبهما لغيره
( لما رأيناك بعد الشيب يا رجل ** لا تستقيم وأمر النفس تمتثل )
( زدنا يقينا بما كنا نصدقه ** بعد المشيب يشب الحرص والأمل )
وفي الإحاطة في ترجمة شعره ما صورته قال ومما قلته من الشعر وبه نختم الكلام
( أنبت عودا لنعماء بدأت بها ** فضلا وألبستها بعد اللحا الورقا )
( فظل مستشعرا مستدثرا أرجا ** ريان ذا بهجة يستوقف الحدقا )
( فلا تشنه بمكروه الجنى فلكم ** عودته من جميل من لدن خلقا )
( وانف القذى عنه واثر الدهر منبته ** وغذه برجاء واسقه غدقا )
( واحفظه من حادثات الدهر أجمعها ** ما جاء منها على ضوء وما طرقا )
____________________
(5/339)
انتهى ما قصدته من ترجمة مولاي الجد على ما اقتضاه الوقت ولو أرسلت عنان القلم في شأنه لضاق هذا الديوان عن ذلك ويرحم الله شيخ شيوخ شيوخنا عالم المغرب سيدي أبا العباس الونشريسي ثم التلمساني نزيل فاس صاحب المعيار وغيره إذ قال في تأليفه الذي عرف فيه بمولاي الجد لما سأله بعضهم في ذلك وذكر ما حضره ما نصه ولقد استوفى شيخ شيوخنا المحقق النظار أبو عبد الله ابن مرزوق الحفيد ترجمة المقري في كتاب سماه النور البدري في التعريف بالفقيه المقري وقد تقدمت الإشارة إلى أن اسم هذا التأليف مبني على أن المقري بفتح الميم وسكون القاف وقد علمت ما في ذلك مما مضى
قلت وقد ملكت بفاس مجلدا ضخما بخط مؤلفه وهو أحد علماء مدينة فاس ألفه برسم مولاي الجد وسماه بالزهر الباسم وأطال فيه في مدح مولاي الجد والثناء عليه والتنويه بقدره وذكر محاسنه ولم يحضرني الآن لكوني تركته مع جملة كتبي بالمغرب وقد تعلق بحفظي ما قاله في أوله من جملة أبيات
( إذا ذكرت مفاخر أهل فاس ** ذكرنا من أتى من تلمسان )
( وقلنا هل رأيتم في قضاة ** شبيها للفقيه العدل ثاني )
إلى أن قال
( ونفس العلم إن شانت لشخص ** فما للمقري في العلم شاني ) تلامذة المقري الجد
وقد أخذ عنه رحمه الله تعالى جماعة أعلام مشهورون منهم لسان الدين ابن الخطيب ذو الوزارتين والوزير أبو عبد الله ابن زمرك والأستاذ العلامة أبو عبد الله القيجاطي الآية في علم القراءات والشيخ الفقيه القاضي الرحال
____________________
(5/340)
الحاج أبو عبد الله محمد بن سعيد بن عثمان بن سعيد الصنهاجي الزموري الدار المعروف بنقشابو والولي ابن خلدون صاحب التاريخ وفي بعض المواضع يعبر عنه بصاحبنا وفي بعضها بشيخنا والنظار أبو إسحاق الشاطبي والعلامة أبو محمد عبد الله بن جزي والحافظ ابن علاق وغيرهم ممن يطول تعداده ولا كالشيخ الولي الشهير الكبير العارف بالله سيدي محمد بن عباد الرندي شارح حكم ابن عطاء الله فإنه ممن يفتخر مولاي الجد رحمه الله تعالى بكون مثله تلميذا له ولا بأس أن نورد ترجمته تبركا به في هذا الكتاب ولو لم تقتضه المناسبة التي راعيناها في هذا التأليف فكيف وقد اقتضته فنقول ترجمة تلميذه ابن عباد الرندي
قال في حقه صاحبه الشيخ أبو زكريا السراج ما صورته شيخنا الفقيه الخطيب البليغ الخاشع الخاشي الإمام العالم المنصف السالك العارف المحققق الرباني ذو العلوم الباهرة والمحاسن المتظاهرة سليل الخطباء ونتيجة العلماء أبو عبد الله محمد ابن الشيخ الفقيه الواعظ الخطيب البليغ العلم الحظي الوجيه الحسيب الأصيل أبي إسحاق إبراهيم بن أبي بكر بن عباد كان حسن السمت طويل الصمت كثير الوقار والحياء جميل اللقاء حسن الخلق والخلق على الهمة متواضعا معظما عند الخاصة والعامة نشأ ببلده رندة على أكمل طهارة وعفاف وصيانة وحفظ القرآن ابن سبع سنين ثم تشاغل بعد بطلب العلوم النحوية والأدبية والأصولية والفروعية حتى رأس فيها وحصل معانيها ثم أخذ في طريق الصوفية والمباحثة على الأسرار الإلهية حتى أشير إليه وتكلم في علوم الأحوال والمقامات والعلل والآفات وألف فيه تواليف عجيبة وتصانيف
____________________
(5/341)
بديعة غريبة وله أجوبة كثيرة في مسائل العلوم نحو مجلدين ودرس كتبا وحفظها أو جلها كشهاب القضاعي والرسالة ومختصري ابن الحاجب وتسهيل ابن مالك ومقامات الحريري وفصيح ثعلب وغيرها وقوت القلوب أخذ ببلده رندة عن أبيه القرآن وغيره وعن خاله الشيخ الفقيه القاضي عبد الله الفريسي العربية وغيرها وعن الشيخ الفقيه الخطيب أبي الحسن علي بن أبي الحسن الرندي حرف نافع وعرض عليه الرسالة وبتلمسان وفاس عن السيد الشريف الإمام العالم العلامة المحقق أبي عبد الله التلمساني الحسني جمل الخونجي تفهما وغيره وعن الشيخ الفقيه القاضي العالم أبي عبد المقري كثيرا من المختصر الفرعي لابن الحاجب وفصيح ثعلب وبعض صحيح مسلم كلها تفقها وعن الشيخ الفقيه العالم أبي محمد عبد النور العمراني الموطأ والعربية وعن الإمام العالم أبي عبد الله الآبلي الإرشاد لأبي المعالي وجميع كتاب ابن الحاجب الأصلي وعقيدة ابن الحاجب تفقها وعن الشيخ الفقيه الحافظ أبي الحسن الصرصري بعض التهذيب تفقها وعن الشيخ الأستاذ المقرىء الصالح أحمد بن عبد الرحمن المجاصي شهر بالمكناسي كثيرا من جمل الزجاج وتسهيل ابن مالك وعن الشيخ الفقيه الصالح أبي مهدي عيسى المصمودي جميع كتاب ابن الحاجب والحاجبية له أيضا تفقها وتفقه على الفقيه العالم أبي محمد الوانغيلي في كتاب ابن الحاجب الفقهي وأخذ عنه حرف نافع وعن الشيخ الفقيه الصالح المدرس بالحلفاويين أبي محمد عبد الله الفشتالي كثيرا من التهذيب وعن قاضي الجماعة وخطيب الحضرة أبي عبد الله محمد بن أحمد القشتالي كثيرا من التهذيب تفقها وكذا عن غيرهم ولقي بسلا الشيخ الحاج الصالح السني الزاهد الورع أحمد بن عمر بن محمد بن عاشر وأقام معه ومع أصحابه سنين عديدة قال قصدتهم لوجدان السلامة معهم ثم رحل لطنجة فلقي بها الشيخ الصوفي أبا مروان عبد الملك قال لازمته كثيرا
____________________
(5/342)
وقرأت عليه وسمعت منه وأنشدني من شعره وشعر غيره وترددت بيني وبينه مسائل في إقامته بسلا وانتفعت به عظيما في التصوف وغيره وأجازني إجازة عامة مولده برندة عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة وتوفي بعد العصر يوم الجمعة ثالث رجب عام اثنين وتسعين وسبعمائة وحضر جنازته الأمير فمن بعده وهمت العامة بكسر نعشه تبركا به ولم أر جنازة أحفل ولا أكثر خلقا منها ورثاه الناس بقصائد كثيرة انتهى كلام السراج
وقال غيره في حقه محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مالك بن إبراهيم بن محمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى بن عباد النفزي نسبا الرندي بلدا الشهير بابن عباد الفقيه الصوفي الزاهد الولي العارف بالله تعالى
وقال في حقه الشيخ ابن الخطيب القسمطيني في كتابه أنس الفقير وعز الحقير وهو الخطيب الشهير الصالح الكبير وكان والده من الخطباء الفصحاء النجباء ولأبي عبد الله هذا عقل وسكون وزهد بالصلاح مقرون وكان يحضر معنا مجلس شيخنا الفقيه أبي عمران موسى العبدوسي رحمه الله تعالى وهو من أكابر أصحاب ابن عاشر ومن خيار تلامذته وأخذ عنه وله كلام عجيب في التصوف وصنف فيه كما هو الآن يقرأ على الناس مع كتب التذكير وله في ذلك قلم انفرد به وسلم له فيه بسببه ومن تصانيفه شرح كتاب الحكم لابن عطاء الله في سفر رأيته وعلى ظهر نسخة منه مكتوب
( لا يبلغ المرء في أوطانه شرفا ** حتى يكيل تراب الأرض بالقدم )
ومن كلامه فيه الاستئناس بالناس ومن علامات الإفلاس فتح باب الأنس بالله تعالى الاستيحاش من الناس ومن كلامه فيه من لازم الكون وبقي معه وقصر همته عليه ولم تنفتح له طريق الغيوب الملكوتية ولا خلص بسره إلى
____________________
(5/343)
فضاء مشاهدة الوحدانية فهو مسجون بمحيطاته ومحصور في هيكل ذاته إلى غير ذلك من كلامه وكان يحضر السماع ليلة المولد عند السلطان وهو لا يريد ذلك وما رأيته قط في غير مجلس جالسا مع أحد وإنما حظ من يراه الوقوف معه خاصة وكنت إذا طلبته بالدعاء احمر وجهه واستحيا كثيرا ثم يدعو لي وأكثر تمتعه من الدنيا بالطيب والبخور الكثير ويتولى أمر خدمته بنفسه ولم يتزوج ولم يملك أمة ولباسه في داره مرقعة فإذا خرج سترها بثوب أخضر أو أبيض وله تلامذة كلهم أخيار مباركون وبلغني عن بعضهم أنه تصدق حين تاب على يده بعشرة آلاف دينار ذهبا وهو الآن إمام جامع القرويين بفاس وخطيبه وأكثر قراءته في صلاة الجمعة { إذا جاء نصر الله } وأكثر خطبته وعظ ومثله من يعظ الناس لأنه اتعظ في نفسه وقد أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام يا عيسى عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني ذكره الغزالي وعهدي به أنه على صفة البدلاء الصادقين النبلاء كثر الله مثله في الإسلام انتهى
قلت وقد زرت قبره مرارا بفاس ودعوت الله تعالى عنده وهوعند أهل فاس بمثابة الشافعي عند أهل مصر ومن منن الله سبحانه علي أني سكنت محله لما توليت الخطابة والإمامة بجامع القرويين من فاس المحروسة مضافين إلى الفتوى والدار المعلومة للخطيب بالجامع المذكور إلى الآن تعرف بدار الشيخ ابن عباد وأقمت على ذلك خمس سنين وأشهرا ثم قوضت الرحال للمشرق وها أنا إلى الآن فيها والله ييسر الخير حيث كان
وقال الشيخ سيدي أحمد زروق في شأن الشيخ ابن عباد إنه ولد برندة وبها نشأ في عفاف وصون ثم رحل لفاس وتلمسان فقرأ بهما الفقه والأصول والعربية ثم عاد فصحب بمدينة سلا أفضل أهل زمانه علما وعملا سيدي أحمد
____________________
(5/344)
ابن عاشر نفعنا الله به فأظهر الله تعالى عليه من بركاته ما لا يخفى على متأمل ثم نقل بعد وفاة الشيخ فجعل خطيبا بجامع القرويين من مدينة فاس وبقي بها خمس عشرة سنة خطيبا فتوفاه الله تعالى بها بعد صلاة العصر من يوم الجمعة رابع رجب سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ودفن بكدية البراطل من داخل باب الفتوح وكان رضي الله عنه ذا صمت وسمت وتجمل وزهد معظما عند الكافة معولا في حل المشكلات على فتح الفتاح العليم
( ومن علمه أن ليس يدعى بعالم ** ومن فقره أن لا يرى يشتكي الفقرا )
( ومن حاله أن غاب شاهد حاله ** فلا يدعى وصلا ولا يشتكي هجرا )
كذا رأيت بخط من أثق به في تعريفه مختصرا مع زيادة ما تحققت وكتبه شاهدة بكماله علما وعملا فهي كافية في تعريفه وكان الذي طلبه في وضع الشرح على الحكم سيدي أبو زكريا السراج الذي أكثر رسائله له وسيدي أبو الربيع سليمان بن عمر انتهى
وقال في موضع آخر سيدنا العارف المحقق الخطيب البليغ نسيج وحده ومقدم من أتى من بعده أبو عبد الله قرأ بفاس وتلمسان العربية والأصول والفقه ككتاب الإرشاد ومختصر ابن الحاجب الفقهي والأصلي وتسهيل ابن مالك وتوفي بفاس وقبره بها مشهور ومزيته معروفة شرقا وغربا وقد كتب مسائل معروفة أكثرها لسيدي يحيى السراج وله كتب الشرح مع سيدي سليمان بن عمر الذي قال في حقه إنه ولي بلا شك بطلبهما لذلك ورأيت كتابا في الإمامة سماه تحقيق العلامة في أحكام الإمامة فذكرته لشيخنا القوري رحمه الله تعالى وكان معتنيا بكتبه معولا عليها في حاله فقال أظنه لوالده سيدي إبراهيم وقد كان خطيبا بالقصبة إذ كانت عامرة وله خطب عظيمة الفصاحة حسنة الموقع انتهى
وقال الشيخ أبو يحيى ابن السكاك أما شيخي وبركتي أبو عبد الله ابن عباد
____________________
(5/345)
رضي الله عنه فإنه شرح الحكم وعقد درر منثورها في نظم بديع وجمعت من إنشائه مسائل مدارها على الإرشاد إلى البراءة من الحول والقوة فيها نبذ كأنفاس الأكابر مع حسن التصرف في طريق الشاذلي وجودة تنزيله على الصور الجزئية وبسط التعبير مع إنهاء البيان إلى أقصى غاياته والتفنن في تقريب الغامض إلى الأذهان بالأمثلة الوضعية فقرب بها حقائق الشاذلية تقريبا لم يسبق إليه كما قرب الإمام ابن رشد مذهب مالك تقريبا لم يسبق إليه وكان مع ذلك آية في التحقق بالعبودية والبراءة من الحول والقوة وعدم المبالاة بالمدح والذم بل له مقاصد نفيسة في الإعراض عن الخلق وعدم المبالاة بهم وأعظم أخلاقه التي لا يصبر عنها ويضطرب لها غاية الاضطراب أن يحضر حيث ينسى الحق لا سيما إن كان نسيان الحق بالنسبة إليه فهو الذي يقلقه ويضيق صدره على اتساعه ووفور انشراحه عن ذلك ولقد ذكر بعض من كان من أخص الناس به ومنقطعا إليه أحوال رجال الرسالة القشيرية والحلية وما منحوا من المواهب قال فلما مات الشيخ واستبصرت ما أشاهده منه من أفعال تدل على القطع بصديقتيه لاح لي أن تلك الصفات التي يذكر مشخصة فيه نشاهدها عيانا ولو لم أر الشيخ لقلت إنني لم أر كمالا وعلى الجملة فهو واحد عصره بالمغرب ذكر لي عن قطب المعقول بالمغرب والمشرق الآبلي أنه كان يشير إليه في حال قراءته عليه أعني الشيخ ابن عباد ويقول إن هناك علما جما لا يوجد عند مشاهير أهل ذلك الوقت إلا أنه كان لا يتكلم رضي الله عنه وشهد له المقطوع بولايتهم بالتقدم وأقروا له بالشيخوخة وتبركوا به كسيدي سليمان اليازغي وسيدي محمد المصمودي وسيدي سليمان بن يوسف ابن عمر الأنفاسي وأمثالهم وكان شيخه الحجة الورع أحمد بن عاشر يشيد بذكره ويقدمه على سائر أصحابه ويأمرهم بالأخذ عنه والانتفاع به
____________________
(5/346)
والتسليم له ويقول ابن عباد أمة وحده ولا شك أنه كذلك كان أعني غريبا فإن العارف غريب الهمة بعيد القصد لا يجد مساعدا على قصده وكان الغالب عليه الحياء من الله تعالى والتنزل بين يدي عظمته وتنزيله نفسه منزلة أقل الحشرات لا يرى لنفسه مزية على مخلوق لما غلب عليه من هيبة الجلال وعظمة المالك وشهود المنة نظارا إلى جميع عباد الله تعالى بعين الرحمة والشفقة والنصيحة العامة مع توفية المراتب حقها والوقوف مع الحدود الشرعية واعتبارهم من حيث مراد الله تعالى بهم هذا دأبه مع الطائع والعاصي ما لم يظهر له من أحد مخايل حب التعظيم والمدح والتجبر على المساكين ورؤية الحق إذ هي دعوى لا تليق بالعبد ومن كانت هذه صفته فقد وصل حد الخذلان بل هي علامة تقارب القطع على أنه شقي مسلم إلى غضب الله تعالى ومقته أعاذنا الله تعالى منه وكان من حال هذا السيد تألف قلوب الأولاد الصغار فهم يحبونه محبة تفوق محبتهم لآبائهم وأمهاتهم فينتظرون خروجه للصلاة وهم عدد كثير يأتون من كل أوب ومن المكاتب البعيدة فإذا رأوه ازدحموا على تقبيل يده وكذا كان ملوك زمانه يزدحمون عليه ويتذللون بين يديه فلا يحفل بذلك وذكر لي بعض تلامذته أن أقواله تشبه أفعاله لما منحه الله تعالى من فنون الاستقامة مع ما في كلامه من النور والحلاوة التي استفزت ألباب المشارقة بحيث صار لهم بحث عريض على تواليفه انتهى كلام ابن السكاك
وله من التواليف الرسائل الكبرى والصغرى وشرح الحكم ونظمها في ثمانمائة بيت من الرجز
وحدث الشيخ أبو مسعود الهراس قال كنت أقرأ في صحن جامع القرويين
____________________
(5/347)
والمؤذنون يؤذنون بالليل فإذا أبو عبد الله ابن عباد قد خرج من باب داره وجاء يطير في الصحن كأنه جالس متربع حتى دخل في البلاط الذي حول الصومعة ثم مشيت فوجدته يصلي حول المحراب وسأله السراج عن أبي حامد الغزالي فقال هو فوق الفقهاء وأقل من الصوفية ومما نقل من خطه رحمه الله تعالى ولا يدرى هل هي له أم لا
( الحزم قبل العزم فاحزم واعزم ** وإذا استبان لك الصواب فصمم )
( واستعمل الرفق الذي هو مكسب ** ذكر القلوب وجد وأجمل واحلم )
( واحرس وسر واشجع وصل وامنن وصل ** واعدل وأنصف وارع واحفظ وارحم )
( وإذا عدت فعد بما تقوى على ** إنجازه وإذا اصطنعت فتمم )
وذكر الشيخ الفقيه الخطيب القاضي الحاج الرحيل أبو سعيد ابن أبي سعيد السلوي أنه رأى في حائط جامع القرويين أبياتا مكتوبة بفحم بخط الشيخ أبي عبد الله ابن عباد وهي
( أيتها النفس إليه اذهبي ** فحبه المشهور من مذهبي )
( مفضض الثغر له نقطة ** من عنبر في خده المذهب )
( أيأسني التوبة من حبه ** طلوعه شمسا من المغرب )
قال الشيخ أبو سعيد فاستشكلت هذه الأبيات لما اشتملت عليه من التغزل وذكر الخال والخد والثغر ومقام الشيخ ابن عباد يجل عن الاشتغال بمثل هذا فلقيت يوما أبا القاسم الصيرفي فذاكرته بالقصة ووجه الإشكال فيها فقال لي مقامك عندي أعلى من أن تستشكل مثل هذا هذه أوصاف ولي الله القائم بأمر الله المهدي فشكرته على ذلك انتهى
____________________
(5/348)
قلت رأيت بخط الونشريسي إثر هذه الحكاية ما نصه قلت في صحة هذه الحكاية عن الشيخ نظر لما احتوت عليه من تعبير الحسن وقدر الشيخ وورعه أعلى من هذا فهذان إشكالان والله أعلم
وحكى أن الشيخ ابن عباد رحمه الله تعالى لما احتضر جعل رأسه في حجر أبي القاسم هذا وأخذ في قراءة آية الكرسي إلى قوله { الحي القيوم } ثم يقول يا ألله يا حي يا قيوم فيلقنه من حضر { لا تأخذه سنة ولا نوم } فيمتنع الشيخ من قراءتها ويقول يا الله يا حي يا قيوم فلما قربت وفاته سمع منه هذا البيت وكان آخر ما تكلم به
( ما عودوني أحبابي مقاطعة ** بل عودوني إذا قاطعتهم وصلوا )
ولما توفي الشيخ ابن عباد رضي الله عنه في التاريخ المتقدم حضر جنازته السلطان أمير المسلمين أبو العباس أحمد بن السلطان أبي سالم وأهل البلدتين يعني فاسا الجديد التي هي مسكن السلطان وخواص أتباعه وفاسا العتيق التي هي محل الأعلام والخاص والعام من الناس في ذلك القطر إذ هي إذ ذاك حضرة الخلافة وقبة الإسلام في المغرب وتقدم بعده للإمامة والخطبة بجامع القرويين نائبه أيام مرضه الشيخ الصالح الورع أبو زيد عبد الرحمن الزرهوني حسبما قاله الجاديري رحمه الله تعالى
وحكى الونشريسي رحمه الله تعالى أن الشيخ ابن عباد كلم ابن دريدة الوالي في مظلمة فلم يقبل فلما كان يوم الجمعة ونزل السلطان أبو العباس للصلاة بجامع القرويين وراء الشيخ ابن عباد قال الشيخ في خطبته من الأمور المستحسنة أن لا يبقى الوالي سنة انتهى
وللشيخ ابن عباد خطب مدونة بالمغرب مشهورة بأيدي الناس ويقرؤون
____________________
(5/349)
منها ما يتعلق بالمولد النبوي الشريف بين يدي السلطان تبركا بها وكذا يقرؤونها في المجتمعات في المواسم كأول رجب وشعبان ونصفهما والسابع والعشرين منهما كرمضان وقد حضرت بمراكش المحروسة سنة عشر وألف قراءة كراسة الشيخ في المولد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام بين يدي مولانا السلطان المرحوم أحمد المنصور بالله الشريف الحسني رحمه الله تعالى وقد احتفل لذلك المولد بأمور يستغرب وقوعها جازاه الله تعالى عن نيته خيرا وقد أشرت إلى ذلك في كتابي الموسوم بروضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس وسردت جملة من القصائد والموشحات في وصف ذلك التصنيع ورحمة الله وراء الجميع
رجع إلى مشايخ لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى فنقول
4 - ومنهم الشيخ الفقيه القاضي بمكناسة الزيتون أبو محمد عبد الحق بن سعيد بن محمد ذكره في نفاضة الجراب وقال إنه لقيه بمكناسة الزيتون سنة إحدى وستين وسبعمائة وكان من أهل المعرفة والحصافة قائما على كتاب أبي عمرو ابن الحاجب في مذهب مالك وكان ممتازا به فيما دون تلمسان قرأه على الشيخين علمي الأفق المغربي أبي موسى وأبي زيد ابني الإمام عالمي تلمسان والمغرب جميعا قال لسان الدين في النفاضة وتصدر المذكور لإقرائه الآن فما شئت من اضطلاع ومعرفة واطلاع وقيد جزءا نبيلا على فتوى الإمام القاضي أبي بكر ابن العربي المسماة بالحاكمة وسماه
____________________
(5/350)
بالخادمة على الرسالة الحاكمة أجاد فيه وأحسن وقرأت عليه بعضه وأذن في تحمله انتهى
5 - ومن أشياخ لسان الدين الذين لقيهم بمكناسة الزيتون الفقيه الفاضل الخير يونس بن عطية الونشريسي له عناية بفروع الفقه وولي القضاء بقصر كتامة
6 - ومنهم الفقيه الفاضل الخير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي عفيف المتصدر لقراءة كتاب الشفاء النبوي لديه جملة حسنة من أصول الفقه أشف بها على كثير من نظرائه قراءة منه إياها على أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل الصباغ وشاركه في قراءتها على الإمام أبي عبد الله الآبلي
7 - ومنهم الفقيه المدرك الأستاذ في فن العربية أبو علي عمر بن عثمان الونشريسي قال لسان الدين حضرت مذاكرته في مسألة أعوزت عليه وطال عنها سؤاله وهي قول الشاعر
( الناس أكيس من أن يمدحوا رجلا ** ما لم يروا عنده آثار إحسان )
وصورة السؤال كيف صح وقوع أفعل بين شيئين لا اشتراك بينهما في الوصف إذ أوقع الشاعر أكيس بين الناس وبين أن يمدحوا وهو مؤول بالمصدر وهو المدح ولا يوصف بذلك انتهى
قلت الإشكال مشهور والجواب عنه بضرب من المجاز ظاهر وقد
____________________
(5/351)
أشار إليه أبو حيان في الارتشاف وجماعة آخرون في قول بعض المؤلفين كصاحب التخليص أكثر من أن تحصى ولولا السآمة لذكرت ما قيل في ذلك وخلاصة ما قالوه أن في الكلام تقديرا والله أعلم
8 - وممن لقيه لسان الدين بمكناسة الزيتون الفقيه العدل الأخباري الأديب المشارك أبو جعفر أحمد بن محمد بن إبراهيم الأوسي الخباز من أهل الظرف والانطباع والفضيلة وهو كاتب عاقد للشروط ناظم ناثر مشارك في فنون من العلم مؤلف وقد ذكرنا في غير هذا المحل ما دار بينه وبين لسان الدين من المحاورة والمراجعة فليراجع قال لسان الدين رحمه الله تعالى ناولني المذكور تأليفه الحسن الذي سماه المنهل المورود في شرح المقصد المحمود شرح فيه وثائق الجزيري فأربى بيانا وإفادة وإجادة وأذن لي في حمله عنه وهو في ثلاث مجلدات وأنشدني كثيرا من شعره
9 - ومنهم القاضي بها أبو عبد الله ابن أبي رمانة قال لسان الدين لقيته بمكناسة وكان من أهل الحياء والحشمة وذوي السذاجة والعفة ثم ذكر ما داعبه به حين تأخر عن لقائه وقد ذكرنا ذلك في غير هذا الموضع
10 - وممن لقيه لسان الدين بمكناسة الفقيه العدل أبو علي الحسن بن عثمان ابن عطية الونشريسي قال وكان فقيها عدلا من أهل الحساب والقيام على الفرائض والعناية بفروع الفقه ومن ذوي السذاجة والفضل ويقرض الشعر وله أرجوزة في الفرائض مبسوطة العبارة مستوفية المعنى انتهى
وقال ابن الأحمر في حقه هو شيخنا الفقيه المفتي المدرس القاضي الفرضي الأديب الحاج أبو علي ابن الفقيه الصالح أبي سعيد عثمان التجاني المنعوت
____________________
(5/352)
بالونشريسي أجازني عامة أخذ عن الفقيه المفتي الأديب الخطيب المعمر القاضي المحدث الراوية خاتمة المحدثين بالمغرب أبي البركات ابن الحاج البلفيقي انتهى
ومولده في حدود أربع وعشرين وسبعمائة
وذكر صاحب المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي إفريقية والأندلس والمغرب جملة من فتاويه وقال في وثائقه وقد أجرى ذكره ما صورته إن بلدينا الشيخ القاضي العلامة أبا علي الحسن وقعت له قضية مع عدول مكناسة وذلك أن السلطان أبا عنان فارسا كان أمر بالاقتصار على عشرة من الشهود بمدينة مكناسة وكتب اسم الشيخ أبي علي هذا في العشرة فشق ذلك على بعض شيوخ العدول المؤخرين لحداثة سن أبي علي فلما علم تشغيبهم صنع رجزا ورفعه إلى مقام المتوكل على الله أبي عنان نصه
( نبدأ أولا بحمد الله ** ونستعينه على الدواهي )
( ثم نوالي بالصلاة والسلام ** على نبي دونه كل الأنام )
( وبعد ذا نسأل رب العالمين ** أن يهب النصر أمير المؤمنين )
( خليفة الله أبا عنان ** لا زال في خير وفي أمان )
( ملكه الله من البلاد ** من سوس الأقصى إلى بغداد )
( ويسر الحجاز والجهادا ** وجعل الكل له مهادا )
( يا أيها الخليفة المظفر ** دونك أمري إنه مفسر )
( عبدكم نجل عطية الحسن ** قد قيل لا يشهد إلا إن أسن )
( وهو في أمركم المعهود ** من جملة العشرة الشهود )
( نص عليه أمركم تعيينا ** وسنه قارب أربعينا )
____________________
(5/353)
( مع الذي ينتسب العبد إليه ** من طلب العلم وبحثه عليه )
( على الفرائض له أرجوزة ** أبرز في نظامها إبريزة )
( ومجلس له على الرسالة ** فكيف يرجو حاسد زواله )
( حاشا أمير المؤمنين ذاكا ** وعدله قد بلغ السماكا )
( وعلمه قد طبق الآفاقا ** وحلمه قد جاوز العراقا )
( وجوده مشتهر في كل حي ** قصر عن إدراكه حاتم طي )
وحكى بعض الحفاظ أنه لما بلغت الأبيات السلطان أمر بإقراره على ذلك وقد وقفت على رجزه المذكور وله شرح عليه لم أره والظاهر أنه ممن تدبج معه لسان الدين رحم الله الجميع وهو معدود في جملة من لقيه
11 - ومن مشايخ لسان الدين رحمه الله ذو الكرامات الكثيرة والمقامات الكبيرة سيدي الحاج أبو العباس أحمد بن عاشر الصالح المشهور كان لسان الدين رحمه الله تعالى حريصا على لقائه بسلا أيام كان بها وقد لقيه ولم يتمل منه لشدة نفوره من الناس خصوصا أصحاب الرياسة ولذا قال لسان الدين لما ذكر أنه لقيه في نفاضة الجراب ما صورته يسر الله لقاءه على تعذره انتهى
وسنترجم الولي المذكور في نظم لسان الدين حيث وصفه بقوله ( بولي الله فابدأ وابتدر ** )
وقبره الآن بسلا محط رجاء الطالبين وكعبة قصد الراغبين تلوح عليه أنوار العناية وتستمد منه أنواء الهداية وهو على ساحل البحر المحيط بخارج مدينة سلا المحروسة وقد زرته ولله الحمد عند توجهي إلى حضرة مراكش
____________________
(5/354)
سنة ألف وتسع والناس يشدون الرحال إليه من أقطار المغرب نفعنا الله تعالى به وأعاد علينا من بركاته بجاه نبينا محمد
رجع إلى مشايخ لسان الدين الوزير ابن الخطيب رحمه الله تعالى
12 - ومنهم الأستاذ المحقق العلامة الكبير النحوي الشهير أبو عبد الله محمد بن علي الفخار البيري رحمه الله تعالى
كان شيخ النجاه بالأندلس غير مدافع وأخذ عنه خلق كثيرون كالشاطبي أبي إسحاق صاحب شرح الألفية والوزير ابن زمرك وغيرهما وقد حكى عنه مسائل غريبة تلميذه الشاطبي وقال لسان الدين في الإحاطة في ترجمة مشيخته ما صورته ولازمت قراءة العربية والفقه والتفسير والمعتمد عليه العربية على الشيخ الأستاذ الخطيب أبي عبد الله ابن الفخار البيري الإمام المجمع على إمامته في فن العربية المفتوح عليه من الله تعالى فيها حفظا واطلاعا واضطلاعا ونقلا وتوجيها بما لا مطمع فيه لسواه انتهى
ولنورد بعض فوائد ابن الفخار فنقول
ومن فوائد ابن الفخار المذكور التي حكاها عنه الشاطبي قوله حدثني أن بعض الشيوخ كان إذا أتى بإجازة يشهد فيها سأل الطالب المجاز عن لفظ إجازة ما وزنه وما تصريفه ثم قال الشاطبي ولما حدثنا بذلك سألناه عنها فأملى علينا ما نصه وزان إجازة في الأصل إفعاله وأصلها إجوازة فأعلت بنقل حركة الواو إلى الجيم حملا على الفعل الماضي استثقالا فتحركت الواو في الأصل وانفتح ما قبلها في اللفظ فانقلبت ألفا فصارت إجازة بألفين فحذفت الألف الثانية عند سيبويه لأنها زائدة والزائد أولى بالحذف من الأصلي وحذفت
____________________
(5/355)
الأولى عند الأخفش لأنها لا تدل على معنى وهو المد وقول سيبويه أولى لأنه قد ثبت عوض التاء من المحذوف في نحو زنادقة والتاء زائدة وتعويض الزائد من الزائد أولى من تعويض الزائد من الأصلي للتناسب ووزنها في اللفظ عند سيبويه إفعلة وعند الأخفش إفالة لأن العين عنده محذوفة انتهى
وقال الشاطبي رحمه الله تعالى لما توفي شيخنا الأستاذ الكبير العلم الخطير أبو عبد الله ابن الفخار سألت الله عز وجل أن يرينيه في المنام فيوصيني بوصية أنتفع بها في الحالة التي أنا عليها من طلب العلم فلما نمت في تلك الليلة رأيت كأني أدخل عليه في داره التي كان يسكن بها فقلت له يا سيدي أوصني فقال لي لا تعترض على أحد ثم سألني بعد ذلك في مسألة من مسائل العربية كالمؤنس لي فأجبته عنها ولا أذكرها الآن انتهى
وقال الشاطبي أيضا ما صورته حدثنا الأستاذ الكبير الشهير أبو عبد الله محمد بن الفخار شيخنا رحمه الله تعالى قال حدثني بسبتة بعض المذاكرين أن ابن خميس لما ورد عليها بقصد الإقراء بها اجتمع إليه عيون طلبتها فألقوا عليه مسائل من غوامض الاشتغال فحاد عن الجواب عنها بأن قال لهم أنتم عندي كرجل واحد يعني أن ما ألقوه عليه من المسائل إنما تلقوها من رجل واحد وهو ابن أبي الربيع فكأنه إنما يخاطب رجلا واحدا إزدراء بهم فاستقبله أصغر القوم سنا وعلما بأن قال له إن كنت بالمكان الذي تزعم فأجبني عن هذه المسائل من باب معرفة علامات الإعراب التي أذكرها لك فإن أجبت فيها بالصواب لم تحظ بذلك في نفوسنا لصغرها بالنظر إلى تعاطيك من الإدراك والتحصيل وإن أخطأت فيها لم يسعك هذا البلد وهي عشر الأولى أنتم يا زيدون تغزون والثانية أنتن يا هندات تغزون والثالثة أنتم يا زيدون ويا هندات تغزون والرابعة أنتن يا هندات تخشين والخامسة
____________________
(5/356)
أنت يا هند تخشين والسادسة أنت ياهند ترمين والسابعة أنتن يا هندات ترمين والثامنة أنتن يا هندات تمحون أو تمحين كيف تقول والتاسعة أنت يا هند تمحين أو تمحون كيف تقول والعاشرة أنتما تمحوان أو تمحيان كيف تقول وهل هذه الأفعال كلها مبنية أو معربة أو بعضها مبني وبعضها معرب وهل هي كلها على وزن واحد أو على أوزان مختلفة علينا السؤال وعليك التمييز لنعلم الجواب فبهت الشيخ وشغل المحل بأن قال إنما يسأل عن هذا صغار الوالدان قال له الفتى فأنت دونهم إن لم تجب فانزعج الشيخ وقال هذا سوء أدب ونهض منصرفا ولم يصبح إلا بمالقة متوجها إلى غرناطة حرسها الله تعالى ولم يزل بها مع الوزير ابن الحكيم إلى أن مات رحمة الله تعالى عليه انتهى
ثم قال الشاطبي والجواب عن هذه المسائل ما يذكر أما الجواب عن تغزون الأولى فإنه معرب ووزنه أصلا تفعلون ولفظا تفعون وعن الثانية فمبني للحاق نون الإناث ووزنه تفعلين وعن الثالثة على التغليب فعلى رده للأول يلحق بالأول وللثاني كالثاني وأما تخشين من الرابعة فمبني للنون ووزنه تفعلن وعن الخامسة فمعرب ووزنه أصلا تفعلين ولفظا تفعين وأما ترمين من السادسة فمعرب ووزنه أصلا تفعين ولفظا تفعين ومن السابعة مبني للنون ووزنه تفعلن وأما تمحون وتمحين من الثامنة فهما لغتان وهما مبنيان للنون والتاسعة لا يقال إلا تمحين بالياء خاصة لتتفق اللغتان ووزنها تفعين كتخشين وأما تمحيان من العاشرة فعلى لغة الياء لا إشكال وعلى الواو فيظهر من كلام النحويين أنه لا يجوز إلا بالواو انتهى
وقد أورد هذه الحكاية عالم الدنيا سيدي أبو عبد الله محمد بن مرزوق رحمه الله تعالى في شرحه الواسع العجيب المسمى بتمهيد المسالك إلى شرح ألفية ابن مالك ونص محل الحاجة منه وقد حكى أن بعض طلبة سبتة أورد
____________________
(5/357)
على أبي عبد الله ابن خميس عشر مسائل من هذا النوع وهي أنتم يا زيدون تغزون وأنتن يا هندات تغزون وأنتم يا زيدون ويا هندات تغزون وأنتن يا هندات تخشين وأنت يا هند تخشين وأنت يا هند ترمين وأنتن يا هندات ترمين وأنتن يا هندات تمحون أو تمحين كيف تقول وأنت يا هند تمحون أو تمحين كيف تقول وأنتما تمحوان أو تمحيان على لغة من قال محوت كيف تقول وهل هذه الأمثلة كلها مبنية أو معربة أو مختلفة وهل وزنها واحد أو مختلف قالوا ولم يجب بشيء قلت ولعله استسهل أمرها فأما المثال الأول فمعرب ووزنه تفعلون كتنظرون إذ أصله تغزوون فاستثقلت ضمة الواو التي هي لام فحذفت ثم حذفت الواو أيضا لالتقائها ساكنة مع واو الضمير وكانت أولى بالحذف لأن واو الضمير فاعل ولغير ذلك مما تقدم بعضه وأما الثاني فمبني ووزنه تفعلن كتخرجن وأما الثالث فكالأول إعرابا ووزنا لأن فيع تغليب المذكر على المؤنث وأما الرابع فمبني ووزنه تفعلن مثل تفرحن لأنه لما احتيج إلى تسكين آخر الفعل لإسناده إلى نون جماعة النسوة ردت الياء إلى أصلها لأنها إنما قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها والآن ذهبت حركتها لاستحقاقها السكون وأما الخامس فمعرب ووزنه تفعلين كتفرحين وأصله تخشيين فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت لالتقائها ساكنة مع ياء الضمير وترك فتحة الشين دالة على الألف وأما السادس فمعرب ووزنه تفعلين كتضربين وأصله ترميين حذفت كسرة الياء لاستثقالها ثم حذفت الياء لاجتماعها ساكنة مع ياء الضمير وأما السابع فمبني ووزنه تفعلن كتضربن وأما الثامن والتاسع فمضارع محى ورد بالأوزان الثلاثة فمن قال يمحو قال في المضارع من جماعة النسوة تمحون مثله من غزا بناء ووزنا ومن قال يمحي قال فيه تمحين كترمين بناء
____________________
(5/358)
ووزنا ومن قال يمحى قال فيه تمحين كتخشين بناء ووزنا ويقال في المضارع للواحدة على اللغة الأولى تمحين كتدعين إعرابا ووزنا وتصريفا وقد تقدم في كلام المصنف وعلى الثانية كما يقال لها من رمى إعرابا ووزنا وتصريفا وعلى الثالثة كما يقال لها من تخشى أيضا وقد تقدما وليس ما وقع في السؤال كما نقل من خط بعض الشارحين أنه يقال فيها تمحون كتفرحن بشيء وأمر التثنية ظاهر انتهى بحروفه
وما قاله رحمه الله تعالى في الاعتذار عن ابن خميس هو اللائق بمقامه فإن مكان ابن خميس من العلوم غير منكر وقد مدحه ابن خطاب بقوله
( رقت حواشي طبعك ابن خميس ** فهفا قريضك لي وهاج رسيسي )
( ولمثله يصبو الحليم ويمتري ** ماء الشؤون به وسير العيس )
( لك في البلاغة والبلاغة بعض ما ** تحويه من أثر محل رئيس )
( نظم ونثر لا تبارى فيهما ** عززت ذاك وذا بعلم الطوسي )
يعني أبا حامد الغزالي ترجمة ابن خميس
وقال لسان الدين ابن الخطيب في عائد الصلة في حق أبي عبد الله محمد ابن خميس التلمساني المذكور ما صورته كان رحمه الله تعالى نسيج وحده زهدا وانقباضا وبأوا وهمة حسن الشيبة جميل الهيئة سليم الصدر قليل التصنع بعيدا عن الرياء عاملا على السياحة والعزلة عارفا بالمعارف القديمة
____________________
(5/359)
مضطلعا بتفاريق النحل قائما على العربية والأصلين طبقة الوقت في الشعر وفحل الأوان في المطول أقدر الناس على اجتلاب الغريب ثم ذكر من أحواله جملة إلى أن قال وبلغ الوزير أبا عبد الله ابن الحكيم أنه يروم السفر فشق ذلك عليه وكلفه تحريك الحديث بحضرته وجرى ذلك فقال الشيخ أنا كالدم بطبعي أتحرك في كل ربيع انتهى
وقال ابن خاتمة في مزية المرية على غيرها من البلاد الأندلسية إنه نظم في الوزير ابن الحكيم القصائد التي حليت بها لبات الآفاق وتنفست عنها صدور الرفاق وكان من فحول الشعراء وأعلام البلغاء يصرف العويص ويرتكب مستعصبات القوافي ويطير في القريض مطار ذي القوادم الباسقة الخوافي حافظا لأشعار العرب وأخبارها وله مشاركة في العقليات واستشراف على الطلب وقعد لإقراء العربية بحضرة غرناطة ومال بأخرة إلى التصوف والتجوال والتحلي بحسن السمت وعدم الاسترسال بعد طي بساط ما فرط له في بلده من الأحوال وكان صنع اليدين حدثني بعض ما لقيت من الشيوخ أنه صنع قدحا من الشمع على أبدع ما يكون في شكله ولطافة جوهره وإتقان صنعته وكتب بدائرة شفته
( وما كنت إلا زهرة في حديقة ** تبسم عني ضاحكات الكمائم )
( فقلبت من طور لطور فها أنا ** أقبل أفواه الملوك الأعاظم )
وأهداه خدمة للوزير أبي عبد الله ابن الحكيم
وأنشدنا شيخنا القاضي أبو البركات ابن الحاج وحكى لنا قال أنشدني أبو عبد الله ابن خميس وحكى لي قال لما وقفت على الجزء الذي ألفه ابن سبعين وسماه الفقيرية كتبت على ظهره
( الفقر عندي لفظ دق معناه ** من رامه ذوي الغايات عناه )
( كم من غبي بعيد عن تصوره ** أراد كشف معماه فعماه )
____________________
(5/360)
وأنشدنا شيخنا الأستاذ أبو عثمان ابن ليون غير مرة قال سمعت أبا عبد الله ابن خميس ينشد وكان يحسب أنهما له ويقال إنهما لابن الرومي
( رب قوم في منازلهم ** عرر صاروا بها غررا )
( ستر الإحسان ما بهم ** سترى لو زال ما سترا )
ثم قال ابن خاتمة وقد جمع شعره ودونه صاحبنا القاضي أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم الحضرمي في جزء سماه الدر النفيس في شعر ابن خميس وعرف به صدره وقدم ابن خميس المرية سنة ست وسبعمائة فنزل بها في كنف القائد أبي الحسن ابن كماشة من خدام الوزير ابن الحكيم فوسع له في الإيثار والمبرة وبسط له وجه الكرامة طلق الأسرة وبها قال في مدح الوزير المذكور قصيدته التي أولها
( العشي تعيبا والنوابغ ** عن شكر أنعمك السوابغ )
ووجه بها إليه من المرية وهي طويلة ومنها
( ودسائع ابن كماشة ** مع كل بازغة وبازغ )
( تأتي بما تهوى النغانغ ** من شهيات اللغالغ )
ومنها
( ما ذاق طعم بلاغة ** من ليس للحوشي ماضغ )
ويقال أن الوزير اقترح عليه أن ينظم قصيدة هائية فابتدأ منها مطلعها وهو قوله
____________________
(5/361)
( لمن المنازل لا يجيب صداها ** محيت معالمها وصم صداها )
وذلك آخر شهر رمضان من سنة ثمان وسبعمائة ثم لم يزد على ذلك إلى أن توفي رحمه الله تعالى فكان آخر ما صدر عنه من الشعر وقد أشار معناه إلى منعاه وآذن أولاه بحضور أخراه وكانت وفاته بحضرة غرناطة قتيلا ضحوة يوم الفطر مستهل شوال سنة ثمان وسبعمائة وهو ابن نيف وستين سنة وذلك يوم مقتل مخدومه الوزير ابن الحكيم أصابه قاتله بحقده على مخدومه وكان آخر ماسمع منه { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله } غافر 28 واستفاض من حال القاتل أنه هلك قبل أن يكمل سنة من حين قتله من فالج شديد أصابه فكان يصيح ويستغيث ابن خميس يطالبني ابن خميس يضربني ابن خميس يقتلني وما زال الأمر يشتد به حتى قضى نحبه على تلك الحال نعوذ بالله من الورطات ومواقعات العثرات انتهى ملخصا
وحكى غيره أن بعضهم كتب بعد قوله لمن المنازل لا يجيب صداها ما نصه لابن الحكيم ومن بديع نظم ابن خميس قوله
( تراجع من دنياك ما أنت تارك ** وتسألها العتبى وها هي فارك )
( تؤمل بعد الترك رجع ودادها ** وشر وداد ما تود الترائك )
( حلا لك منها ما حلا لك في الصبا ** فأنت على حلوائه متهالك )
( تظاهر بالسلوان عنها تجملا ** فقلبك محزون وثغرك ضاحك )
( تنزهت عنها نخوة لا زهادة ** وشعر عذاري أسود اللون حالك )
وهي طويلة طنانة وفي آخرها يقول
( فلا تدعون غيري لدفع ملمة ** إذا ما دهى من حادث الدهر داهك )
____________________
(5/362)
( فما إن لذاك الصوت غيري سامع ** وما إن لبيت المجد بعدي سامك )
( يغص ويشجي نهشل ومجاشع ** بما أورثتني حمير والسكاسك )
( تفارقني الروح التي لست غيرها ** وطيب ثنائي لاصق بي صائك )
( وماذا عسى ترجو لذاتي وأرتجي ** وقد شمطت مني اللحى والأفانك )
( يعود لنا شرخ الشباب الذي مضى ** إذا عاد للدنيا عقيل ومالك )
ومما اشتهر من نظمه قوله
( أرق عيني بارق من أثال ** كأنه في جنح ليلي ذبال )
( أثار شوقا في ضمير الحشا ** وعبرتي في صحن خدي أسأل )
( حكى فؤادي فلقا واشتعال ** وجفن عيني أرقا وانهمال )
( جوانح تلفح نيرانها ** وأدمع تنهل مثل العزال )
( قولوا وشاة الحب ما شئتم ** ما لذة الحب سوى أن يقال )
( عذرا للوامي ولا عذر لي ** فزلة العالم ما إن تقال )
( قم نطرد الهم بمشمولة ** تقصر الليل إذا الليل طال )
( وعاطها صفراء ذمية ** تمنعها الذمة من أن تنال )
( كالمسك ريحا واللمى مطعما ** والتبر لونا والهوى في اعتدال )
( عتقها في الدن خمارها ** والبكر لا تعرف غير الحجال )
( لا تثقب المصباح لا واسقني ** على سنا البرق وضوء الهلال )
____________________
(5/363)
( فالعيش نوم والردى يقظة ** والمرء ما بينهما كالخيال )
( خذها على تنغيم مسطارها ** بين خوابيها وبين الدوال )
( في روضة باكر وسميها ** أخمل دارين وأنسى أوال )
( كأن فأر المسك مفتوقة ** فيها إذا هبت صبا أو شمال )
( من كف ساجي الطرف ألحاظه ** مفوقات أبدا للنضال )
( من عاذري والكل في عاذر ** من حسن الوجه قبيح الفعال )
( من خلبي الوعد كذابه ** ليان لا يعرف غير المطال )
( كأنه الدهر وأي امرىء ** يبقى على الدهر إذا الدهر حال )
( أما تراني آخذا ناقضا ** عليه ما سوغني من محال )
( ولم أكن قط له عائبا ** كمثل ما عابته قبلي رجال )
( يأبى ثراء المال علمي وهل ** يجتمع الضدان علم ومال )
( وتأنف الأرض مقامي بها ** حتى تهاداني ظهور الرحال )
( لولا بنو زيان ما لذ لي العيش ** ولا هانت علي الليال )
( هم خوفوا الدهر وهم خففوا ** على بني الدنيا خطاه الثقال )
( لقيت من عامرهم سيدا ** غمر رداء الحمد جم النوال )
( وكعبة للجود منصوبة ** يسعى إليها الناس من كل بال )
( حذها أبا زيان من شاعر ** مستملح النزعة عذب المقال )
( يلتقط الألفاظ لقط النوى ** وينظم الآلاء نظم اللآل )
( مجاريا مهيار في قوله ** ماكنت لولا طمعي في الخيال )
وقصيدة مهيار مطلعها
____________________
(5/364)
( ما كنت لولا طمعي في الخيال ** انشد ليلى بين طول الليال )
ومن نظم ابن خميس قوله
( نظرت إليك بمثل عيني جؤذر ** وتبسمت عن مثل سمطي جوهر )
( عن ناصع كالدر أو كالبرق أو ** كالطلع أو كالأقحوان مؤشر )
( تجري عليه من لماها نطفة ** بل خمرة لكنها لم تعصر )
( لو لم يكن خمرا سلافا ريقها ** تزري وتلعب بالنهى لم تخطر )
( وكذاك ساجي جفنها لو لم يكن ** فيه مهند لحظها لم يحذر )
( لو عجت طرفك في حديقة خدها ** وأمنت سطوة صدغها المتنمر )
( لرتعت من ذاك الحمى في جنة ** وكرعت من ذاك اللمى في كوثر )
( طرقتك وهنا والنجوم كأنها ** حصباء در في بساط أخضر )
( والركب بين مصعد ومصوب ** والنوم بين مسكن ومنفر )
( بيضا إذا اعتكرت ذوائب شعرها ** سفرت فأزرت بالصباح المسفر )
( سرحت غلائلها فقلت سبيكة ** من فضة أو دمية من مرمر )
( منحتك ما منعتك يقظانا فلم ** تخلف مواعدها ولم تتغير )
( وكأنما خافت بغاة وشاتها ** فأتتك من أردافها في عسكر )
( ويجزع ذاك المنحنى أدمانة ** تعطو فتسطو بالهزبر القسور )
( وتحية جاءتك في طي الصبا ** أذكى وأعطر من شميم العنبر )
( جرت على واديك فضل ردائها ** فعرفت فيها عرف ذاك الإذخر )
( هاجت بلابل نازح عن إلفه ** متشوق ذاكي الحشا متسعر )
( وإذا نسيت ليالي العهد التي ** سلفت لنا فتذكريها تذكري )
____________________
(5/365)
( رحنا تغنينا ونرشف ثغرها ** والشمس تنظر مثل عين الأخزر )
( والروض بين مفضض ومعسجد ** والجو بين ممسك ومعصفر )
وكان السلطان أمير المؤمنين أبو عنان المريني رحمه الله تعالى كثير العناية بنظم ابن خميس وروايته قال رحمه الله تعالى أنشدنا القاضي خطيب حضرتنا العلية أبو عبد الله محمد بن عبد الرزاق بقصر المصارة يمنه الله قال أنشدنا بلفظه شيخ الأدباء وفحل الشعراء أبو عبد الله ابن خميس لنفسه
( أنبت ولكن بعد طول عتاب ** وفرط لجاج ضاع فيه شبابي )
( وما زلت والعلياء تعني غريمها ** أعلل نفسي دائما بمتاب )
( وهيهات من بعد الشباب وشرخه ** يلذ طعامي أو يسوغ شرابي )
( خدعت بهذا العيش قبل بلائه ** كما يخدع الصادي بلمع سراب )
( تقول هو الشهد المشور جهالة ** وما هو إلا السم شيب بصاب )
( وما صحب الدنيا كبكر وتغلب ** ولا ككليب ريء فخل ضراب )
( إذا كعت الأبطال عنها تقدموا ** أعاريب غرا في متون عراب )
( وإن ناب خطب أو تفاقم معضل ** تلقاه منهم كل أصيد ناب )
( تراءت لجساس مخيلة فرصة ** تأتت له في جيئة وذهاب )
( فجاء بها شوهاء تنذر قومها ** بتشييد أرجام وهدم قباب )
( وكان رغاء السقب في قوم صالح ** حديثا فأنساه رغاء سراب )
( فما تسمع الآذان في عرصاتهم ** سوى نوح ثكلى أو نعيب غراب )
( وسل عروة الرحال عن صدق بأسه ** وعن بيته في جعفر بن كلاب )
( وكانت على الأملاك منه وفادة ** إذا آب منها آب خير مآب )
____________________
(5/366)
( يجير على الحيين قيس وخندف ** بفضل يسار أو بفضل خطاب )
( زعامة مرجو النوال مؤمل ** وعزمة مسموع الدعاء مجاب )
( فمر يزجيها حواسر ظلعا ** بما حملوها من منى ورغاب )
( إلى فدك والموت أغرب غاية ** وهذا المنى يأتي بكل عجاب )
( تبرض صفو العيش حتى استشفه ** فداف له البراض قشب حباب )
( فأصبح في تلك المعاطف نهزه ** لنهب ضباع أو لنهس ذئاب )
( وما سهمه عند النضال بأهزع ** ولا سيفه عند الصراع بنابي )
( ولكنها الدنيا تكر على الفتى ** وإن كان منها في أعز نصاب )
( وعادتها أن لا توسط عندها ** فإما سماء أو تخوم تراب )
( فلا ترج من دنياك ودا وإن يكن ** فما هو إلا مثل ظل سحاب )
( وما الحزم كل الحزم إلا اجتنابها ** فأشقى الورى من تصطفي وتحابي )
( أبيت لها ما دام شخصي أن ترى ** تمر ببابي أو تطور جنابي )
( فكم عطلت من أربع وملاعب ** وكم فرقت من أسرة وصحاب )
( وكم عفرت من حاسر ومدجج ** وكم أثكلت من معصر وكعاب )
( إليكم بني الدنيا نصيحة مشفق ** عليكم بصير بالأمور نقاب )
( طويل مراس الدهر جذل مماحك ** عريض مجال الهم حلس ركاب )
( تأتت له الأهوال أدهم سابقا ** وغصت به الأيام أشهب كابي )
( ولا تحسبوا أني على الدهر عاتب ** فأعظم ما بي منه أيسر ما بي )
( وما أسفي إلا شباب خلعته ** وشيب أبى إلا نصول خضاب )
____________________
(5/367)
( وعمر مضى لم أحل منه بطائل ** سوى ما خلا من لوعة وتصابي )
( ليالي شيطاني على الغي قادر ** وأعذب ما عندي أليم عذاب )
( عكسنا قضايانا على حكم عادنا ** وما عكسها عند النهى بصواب )
( على المصطفى المختار أزكى تحية ** فتلك التي أعتد يوم حساب )
( فتلك عتادي أو ثناء أصوغه ** كدر سحاب أو كدر سخاب )
ومن مشهور نظم ابن خميس قوله
( عجبا لها أيذوق طعم وصالها ** من ليس يأمل أن يمر ببالها )
( وأنا الفقير إلى تعلة ساعة ** منها وتمنعني زكاة جمالها )
( كم ذاد عن عيني الكرى متألق ** يبدو ويخفي في خفي مطالها )
( يسمو لها بدر الدجى متضائلا ** كتضاؤل الحسناء في أسمالها )
( وابن السبيل يجيء يقبس نارها ** ليلا فتمنحه عقيلة مالها )
( يعتادني في النوم طيف خيالها ** فتصيبني ألحاظها بنبالها )
( كم ليلة جادت به فكأنما ** زفت علي ذكاء وقت زوالها )
( أسرى فعطلها وعطل شهبها ** بأبي شذا المعطار من معطالها )
( وسواد طرته كجنح ظلامها ** وبياض غرته كضوء هلالها )
( دعني أشم بالوهم أدنى لمعة ** من ثغرها وأشم مسكة خالها )
( ما راد طرفي في حديقة خدها ** إلا لقنته بحسن دلالها )
( أنسيب شعري رق مثل نسيمها ** فشمول راحك مثل ريح شمالها )
( وانقل أحاديث الهوى واشرح غريب ** لغاتها واذكر ثقات رجالها )
____________________
(5/368)
( وإذا مررت برامة فتوق من ** أطلائها وتمش في أطلالها )
( وانصب لمغزلها حبالة قانص ** ودع الكرى شركا لصيد غزالها )
( وأسل جداولها بفيض دموعها ** وانضح جوانحها بفضل سجالها )
( أنا من بقية معشر عركتهم ** هذي النوى عرك الرحى بثفالها )
( أكرم بها فئة أريق نجيعها ** بغيا فراق العين حسن مآلها )
( حلت مدامة وصلها وحلت لهم ** فإن انتشوا فبحلوها وحلالها )
( بلغت بهرمس غاية ما نالها ** أحد وناء لها لبعد منالها )
( وعدت على سقراط سورة كأسها ** فهريق ما في الدن من جريالها )
( وسرت إلى فاراب منها نفحة ** قديسة جاءت بنخبة آلها )
( ليصوغ من ألحانه في حانها ** ما سوغ القسيس من أرمالها )
( وتغلغلت في سهرورد فأسهرت ** عينا يؤرقها طروق خيالها )
( فخبا شهاب الدين لما أشرقت ** وخوى فلم يثبت لنور جلالها )
( ما جن مثل جنونه أحد ولا ** سمحت يد بيضا بمثل نوالها )
( وبدت على الشوذي منها نشوة ** ما لاح منها غير لمعة آلها )
( بطلت حقيقته وحالت حاله ** فيمايعبر عن حقيقة حالها )
( هذي صبابتهم ترق صبابة ** فيروق شاربها صفاء زلالها )
وهي طويلة
قال السلطان أبو عنان رحمه الله تعالى أخبرني شيخنا الإمام العالم العلامة
____________________
(5/369)
وحيد زمانه أبوعبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي رحمه الله تعالى قال لما توجه الشيخ الصالح الشهير أبو إسحاق التنسي من تلمسان إلى بلاد المشرق اجتمع هنالك بقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد فكان من قوله له كيف حال الشيخ العالم أبي عبد الله ابن خميس وجعل يحليه بأحسن الأوصاف ويطنب في ذكر فضله فبقي الشيخ أبو إسحاق متعجبا وقال من يكون هذا الذي حليتموه بهذا الحلي ولا أعرفه ببلده فقال له هو القائل
( عجبا لها أيذوق طعم وصالها ** )
قال فقلت له إن هذا الرجل ليس عندنا بهذه الحالة التي وصفتم إنما هو عندنا شاعر فقط فقال له إنكم لم تنصفوه وإنه لحقيق بما وصفناه به
قال السلطان وأخبرنا شيخنا الآبلي المذكور أن قاضي القضاة ابن دقيق العيد كان قد جعل القصيدة المذكورة بخزانة كانت له تعلو موضع جلوسه للمطالعة وكان يخرجها من تلك الخزانة ويكثر تأملها والنظر فيها ولقد تعرفت أنه لما وصلت هذه القصيدة إلى قاضي القضاة تقي الدين المذكور لم يقرأها حتى قام إجلالا لها انتهى
وكان ابن خميس رحمه الله تعالى بعد مفارقة بلده تلمسان سقى الله أرجاءها أنواء نيسان كثيرا ما يتشوق لمشاهدها ويتأوه من تذكره لمعاهدها وينشد القصائد الطنانة في ذلك سالكا من الحنين إليها المسالك فمن ذلك قوله
( تلمسان لو أن الزمان بها يسخو ** منى النفس لا دار السلام ولا الكرخ )
( وداري بها الأولى التي حيل دونها ** مثار الأسى لو أمكن الحنق اللبخ )
____________________
(5/370)
( وعهدي بها والعمر في عنفوانه ** وماء شبابي لا أجين ولا مطخ )
( قرارة تهيام ومغنى صبابة ** ومعهد أنس لا يلذ به لطخ )
( إذ الدهر مثني العنان منهنه ** ولا ردع يثني من عناني ولا ردخ )
( ليالي لا أصغي إلى عذل عاذل ** كأن وقوع العذل في أذني صمخ )
( معاهد أنس عطلت فكأنها ** ظواهر ألفاظ تعمدها النسخ )
( وأربع ألاف عفا بعض آيها ** كما كان يعرو بعض ألواحنا اللطخ )
( فمن يك سكرانا من الوجد مرة ** فإني منه طول دهري لملتخ )
( ومن يقتدح زندا لموقد جذوة ** فزند اشتياقي لا عفار ولا مرخ )
( أأنسى وقوفي لاهيا في عراصها ** ولا شاغل إلا التودع والسبخ )
( وإلا اختيالي ماشيا في سماطها ** رخيا كما يمشي بطرته الرخ )
( وإلا فعدوي مثلما ينفر الطلا ** وليدا وحجلي مثلما ينهض الفرخ )
( كأني فيها أردشير بن بابك ** ولا ملك لي إلا الشبيبة والشرخ )
( وإخوان صدق من لداتي كأنهم ** جآذر رمل لا عجاف ولا بزخ )
( وعاة لما يلقى إليهم من الهدى ** وعن كل فحشاء ومنكرة صلخ )
( هم القوم كل القوم سيان في العلا ** شبابهم الفرعان والشيخة السلخ )
( مضوا ومضى ذاك الزمان وأنسه )
( ومر الصبا والمال والأهل والبذخ )
____________________
(5/371)
( كأن لم يكن يوما لأقلامهم بها ** صرير ولم يسمع لأكعبهم جبخ )
( ولم يكن في أرواحها من ثنائهم ** شميم ولا في القضب من لينهم ملخ )
( ولا في محيا الشمس من هديهم سنا ** ولا في جبين البدر من طيبهم ضمخ )
( سعيتم بني عمور في شت شملنا ** فما تجركم ربح ولا عيشنا ربخ )
( دعيتم إلى ما يرتجى من صلاحكم ** فردكم عنه التعجرف والجمخ )
( تعاليتم عجبا فطم عليكم ** عباب له في رأس عليائكم جلخ )
( وأوغلتم في العجب حتى هلكتم ** جماح غواة ما ينهنههم قفخ )
( كفاكم بها سجنا طويلا وإن يكن ** هلاك لكم فيها فهي لكم فخ )
( فكم فئة منا ظفرتم بنيلها ** بأبشارها من حجن أظفاركم برخ )
( كأنكم من خلفها وأمامها ** أسود غياض وهي ما بينكم أرخ )
( فللسوق منها القيد إن هي أغربت ** وللهام إن لم تعط ما رعت النقخ )
( كأن تحتها من شدة القلق القطا ** ومن فوقها من شدة الحذر الفتخ )
( وأقرب ما تهذي به الهلك والتوى ** وأيسر ما تشكو به الذل والفنخ )
( فماذا عسى نرجوه من لم شعثها ** وقد حز منها الفرع واقتلع الشلخ )
____________________
(5/372)
( وما يطمع الراجون من حفظ آيها ** وقد عصفت فيها رياحهم النبخ )
( زعانف أنكاد لثام عناكل ** متى قبضوا كفا على إثره طخوا )
( ولما استقلوا من مهاوي ضلالهم وأوموا إلى أعلام رشدهم زخوا )
( دعاهم أبو يعقوب للشرف الذي ** يذل له رضوى ويعنو له دمخ )
( فلم يستجيبوه فذاقوا وبالهم ** وما لامرىء عن أمر خالقه نخ )
( وما زلت أدعو للخروج عليهم ** وقد يسمع الصم الدعاء إذا أصخوا )
( وأبذل في استئصالهم جهد طاقتي ** وما لظنابيب ابن سابحة قفح )
( تركت لمينا سبتة كل نجعة ** كما تركت للعز أهضامها شمخ )
( وآليت أن لا أرتوي غير مائها ** ولو حل لي في غيره المن والمذخ )
( وأن لا أحط الدهر إلا بعقرها ** ولو بوأتني دار إمرتها بلخ )
( فكم نقعت من غلة تلكم الأضا ** وكم أبرأت من علة تلكم اللبخ )
( وحسبي منها عدلها واعتدالها ** وأبحرها العظمى وأريافها النفخ )
( وأملاكها الصيد المقاولة الألى ** لعزهم تعنو الطراخمة البلخ )
( كواكب هدي في سماء رياسة ** تضيء فما يدجو ضلال ولا يطخو )
( ثواقب أنوار ترى كل غامض ** إذا الناس في طخياء غيهم التخوا )
____________________
(5/373)
وروضات آداب إذا ما تأرجت ** تضاءل في أفياء أفنانها الرمخ )
( مجامر ند في حدائق نرجس ** تنم ولا لفح يصيب ولا دخ )
( وأبحر علم لا حياض رواية ** فيكبر منها النضح أو يعظم النضخ )
( بنو العزفيين الألى من صدورهم ** وأيديهم تملأ القراطيس والطرخ )
( إذا ما فتى منهم تصدى لغاية ** تأخر من ينحو وأقصر من ينخو )
( رياسة أخيار وملك أفاضل ** كرام لهم في كل صالحة رضخ )
( إذا ما بدا منا جفاء تعطفوا ** علينا وإن حلت بنا شدة رخوا )
( نزورهم حذا نحافا فننثني ** وأجمالنا دلح وأبداننا دلخ )
( يربوننا بالعلم والحلم والنهى ** فما خرجنا بز ولا حدنا برخ )
( وما الزهد في أملاك لخم ولا التقى ** ببدع وللدنيا لزوق بمن يرخو )
( وإلا ففي رب الخورنق غنية ** فما يومه سر ولا صيته رضخ )
( تطلع يوما والسدير أمامه ** وقد نال منه العجب ما شاء والجفخ )
( وعن له من شيعة الحق قائم ** بحجة صدق لا عبام ولا وشخ )
( فأصبح يجتاب المسوح زهادة ** وقد كان يؤذي بطن أخمصه النخ )
( وفي واحد الدنيا أبي حاتم لنا ** دواء ولكن ما لأدوائنا نتخ )
____________________
(5/374)
( تخلى عن الدنيا تخلي عارف ** يرى أنها في ثوب نخوته لتخ )
( وأعرض عنها مستهينا لقدرها ** فلم يثنه عنها اجتذاب ولا مضخ )
( فكان له من قلبها الحب والهوى ** وكان لها من كفه الطرح والطخ )
( وما معرض عنها وهي في طلابه ** كمن في يديه من معاناتها نبخ )
( ولا مدرك ما شاء من شهواتها ** كمن حظه منها التمجع والنجخ )
( ولكننا نعمى مرارا عن الهدى ** ونصلج حتى ما لآذاننا صمخ )
( ومالامرىء عما قضى الله مزحل ** ولا لقضاء الله نقض ولا فسخ )
( أبا طالب لم تبق شيمة سؤدد ** يساد بها إلا وأنت لها سنخ )
( لسوغت أبناء الزمان أياديا ** لدرتها في كل سامعة شخ )
( وأجريتها فيهم عوائد سؤدد ** فما لهم كسب سواها ولا نخ )
( غذتهم غواديها فهي في عروقهم ** دماء وفي أعماق أعظمهم مخ )
( وعمتهم حزنا وسهلا فأصبحوا ** ومرعاهم وزخ ومرعيهم ولخ )
( بني العزفيين ابلغوا ما أردتم ** فما دون ما تبغون وحل ولا زلخ )
( ولا تقعدوا عمن أراد سجالكم ** فما غربكم جف ولا غرفكم وضخ )
( وخلو وراء كل طالب غاية ** وتيهوا على من رام شأوكم وانخوا )
____________________
(5/375)
( ولا تذروا الجوزاء تعلوا عليكم ** ففي رأسها من وطء أسلافكم شدخ )
( لأفواه أعدائي وأعين حسدي ** إذا جليت خائيتي الغض والفضخ )
( دعوها تهادي في ملاءة حسنها ** ففي نفسها من مدح أملاكها مدخ )
( يمانية زارت يمانين فانثنت ** وقد جد فيها الزهو واستحكم الزمخ )
وقد بسط في الإحاطة ترجمة ابن خميس المذكور ومما أنشد له قوله
( سل الريح إن لم تسعد السفن أنواء ** فعند صباها من تلمسان أنباء )
( وفي خفقان البرق منها إشارة ** إليك بما تنمي إليها وإيماء )
( تمر الليالي ليلة بعد ليلة ** وللأذن إصغاء وللعين إكلاء )
( وإني لأصبو للصبا كلما سرت ** وللنجم مهما كان للنجم إصباء )
( وأهدي إليها كل يوم تحية ** وفي رد إهداء التحية إهداء )
( وأستجلب النوم الغرار ومضجعي ** قتاد كما شاءت نواها وسلاء )
( لعل خيالا من لدنها يمر بي ** ففي مره بي من جوى الشوق إبراء )
( وكيف خلوص الطيف منها ودونها ** عيون لها في كل طالعة راء )
( وإني لمشتاق إليها ومنبىء ** ببعض اشتياقي لو تمكن إنباء )
( وكم قائل تفنى غراما بحبها ** وقد أخلقت منها ملاء وأملاء )
( لعشرة أعوام عليها تجرمت ** إذا ما مضى قيظ بها جاء إهراء )
____________________
(5/376)
( يطنب فيها عائثون وخرب ** ويرحل عنها قاطنون وأحياء )
( كأن رماح الناهبين لملكها ** قداح وأموال المنازل أبداء )
( فلا تبغين فيها مناخا لراكب ** فقد قلصت منها ظلال وأفياء )
( ومن عجب أن طال سقمي ونزعها ** وقسم إضناء علينا وإطناء )
( وكم أرجفوا غيظا بها ثم أرجأوا ** فيكذب إرجاف ويصدق إرجاء )
( يرددها عيابها الدهر مثلما ** يردد حرف الفاء في النطق فأفاء )
( فيا منزلا نال الردى منه ما اشتهى ** ترى هل لعمر الأنس بعدك إنساء )
( وهل للظى الحرب التي فيك تلتظي ** إذا ما انقضت أيام بؤسك إطفاء )
( وهل لي زمان أرتجي فيه عودة ** إليك ووجه البشر أزهر وضاء )
ومنها
( أحن لها ما أطلت النيب حولها ** وما عاقها من مورد الماء أظماء )
( فما فاتها مني نزاع على النوى ** ولا فاتني منها على القرب إجشاء )
( كذلك جدي في صحابي وأسرتي ** ومن لي به في أهل ودي إن فاؤوا )
( ولولا جوار ابن الحكيم محمد ** لما فات نفسي من بني الدهر إقماء )
( حماني فلم تنتب محلي نوائب ** بسوء ولم ترزأ فؤادي أرزاء )
( وأكفأ بيتي في كفالة جاهة ** فصاروا عبيدا لي وهم لي أكفاء )
( يؤمون قصدي طاعة ومحبة ** فما عفته عافوا وما شئته شاؤوا )
____________________
(5/377)
( دعاني إلى المجد الذي كنت آملا ** فلم يك لي عن دعوة المجد إبطاء )
( وبوأني من هضبة العز تلعة ** يناجي السها منها صعود وطأطاء )
( يشيعني منها إذا سرت حافظ ** ويكلؤني منها إذا نمت كلاء )
( ولا مثل نومي في كفالة غيره ** وللذئب إلمام وللصل إيماء )
( بغيضه ليث أو بمرقب خالب ** تبز كسا فيه وتقطع أكساء )
( إذا كان لي من نائب الملك كافل ** ففي حيثما هومت كن وإدفاء )
( وإخوان صدق من صنائع جاهه ** يبادرني منهم قيام وإيلاء )
( سراع لما يرجى من الخير عندهم ** ومن كل ما يخشى من الشر أبراء )
( إليك أبا عبد الإله صنعتها ** لزومية فيها لوجدي إفشاء )
( مبرأة مما يعيب لزومها ** إذا عاب إكفاء سواها وإيطاء )
( أذعت بها السر الذي كان قبلها ** عليه لأحناء الجوانح إضناء )
( وإن لم يكن كل الذي كنت آملا ** وأعوز إكلاء فما عاز إكماء )
( ومن يتكلف مفحما شكر منة ** فما لي إلى ذاك التكلف إلجاء )
( إذا منشد لم يكن عنك ومنشىء ** فلا كان إنشاد ولا كان إنشاء ) رجع إلى ترجمة ابن الفخار وفوائده
قال الشاطبي حدثنا الأستاذ الكبير أبو عبد الله ابن الفخار قال جلس بعض الطلبة إلى بعض الشيوخ المقرئين قأتى المقرىء بمسألة الزوائد الأربع في أول الفعل المضارع وقال يجمعها قولك نأيت فقال له ذلك الطالب لو جمعتها بقولك أنيت لكان أملح ليكون كل حرف تضعيف ما قبله فالهمزة لواحد وهو المتكلم والنون لاثنين وهما الواحد ومعه غيره والواحد
____________________
(5/378)
المعظم نفسه والياء لأربعة للواحد الغائب وللغائبين وللغائبين وللغائبات والتاء لثمانية للمخاطب وللمخاطبين وللمخاطبين والمخاطبة والمخاطبتين والمخاطبات وللغائبة وللغائبتين فاستحسن الشيخ ذلك منه
وحكى الشاطبي أيضا أن شيخه ابن الفخار أورد عليهم سؤالا وهو كيف يجمع بين مسألة رجل أوقع الصلاة بثوب حرير اختيارا وبين قوله
( جرى المدميان بالخبر اليقين ** )
فلم ينقدح لنا شيء فقال الجواب أن الأول ممنوع عند الفقهاء شرعا ورد اللام في دم في التثنية ممنوع عند النحاة قياسا وكلاهما في حكم المعدوم حسا وإذا كان كذلك كان الأول بمنزلة من صلى بادي العورة اختيارا فتلزمه الإعادة وكان الثاني بمنزلة ما باشر فيه عين دم علم التثنية فتلزمه الفتحة وإن كان أصلها السكون قال وهذه المسألة تشبه مسألة ابن جني في الخصائص قال ألقيت يوما على بعض من كان يعتادني مسألة فقلت له كيف تجمع بين قوله
( لدن بهز الكف يعسل متنه ** فيه كما عسل الطريق الثعلب )
وبين قوله اختصم زيد وعمرو فلم ينقدح فيها شيء وعاد مستفهما فقال له اجتماعهما أن الواو اقتصر به على بعض ما وضع له من الصلاحية الملازمة مطلقا والطريق اقتصر به على بعض ما كان يصلح له
قال الشاطبي وحدثني أيضا قال كان لقاضي القضاة علما وجزالة أبي جعفر ولد يقرأ علي بمالقة وكان ابنا نبيها فهما ونبلا فسأل مني يوما مسألة
____________________
(5/379)
يذكرها لأقرانه وكان معجبا بالغرائب فجرى على لساني أن قلت له بين على زيد فعل أمر وفاعل والأصل ابأين على زيد ثم سهل بالنقل والحذف على قياس التسهيل فصار بين كما ترى فأعجب بالمسألة حتى ناظر فيها ليلة أباه وكان انحى نحاة أهل عصره فأعجب مما يرى من ابنه من النبل والتحصيل فبلغت المسألة الشيخ الأستاذ أبا بكر ابن الفخار رحمه الله تعالى فاعتنى بها وحاول في استخراج وجه من وجوه الاعتراض على عادة المصلحين من طلبة العلم فوجد في مختصر العين أن الكلمة من ذوات الواو ولم يذكر صاحب المختصر غير ذلك ولم يكن رحمه الله تعالى رأى قول أبي الحسن اللحياني في نوادره إنه مما يتعاقب على لامه الواو والياء فيقال بأي يبأى بأوا وبأيا كما يقال شأى يشأى شأوا وشأيا فلم يقدم شيئا على أن اجتمع بالقاضي المذكور فقال له ألم تسمع ما قال فلان بين على زيد وإنما هو بون على زيد لأنه من ذوات الواو ونص على ذلك صاحب المختصر وحمله على أن يرسل إلي ويردني عن ذلك الذي قلته في المسألة واجتمعت أنا معه وحدثني بما جرى له مع الأستاذ ابن الفخار فذكرت له ما حكاه أبو الحسن اللحياني في نوادره وما قاله ابن جني في سر الصناعة فسر بذلك وأرسل بعد إلى الأستاذ ابن الفخار وذكر له نص اللحياني وقول ابن جني وجمع القاضي بيننا وعقد في قلوبنا مودة فكان الأستاذ ابن الفخار يومئذ يقصدني في منزلي وفي المواسم ويستشيرني في أموره على سبيل التأنيس رحمة الله عليه فأواه على فقد الناس أمثاله
وقال الشاطبي أيضا أنشدني الفقيه الأستاذ الكبير أبو عبد الله ابن الفخار رحمه الله تعالى وقال ألقي في سري بيت لم أسمعه قط في السادس عشر من شهر رجب عام ستة وخمسين وسبعمائة
____________________
(5/380)
( لتكن راجيا كما أنت ترجو ** ولأربى من الذي أنت راجي )
قال الشاطبي وقرر لنا الأستاذ ابن الفخار المذكور يوما توجيه قول أبي الحسن الأخفش في كسرة الذال من نحو يومئذ إنها إعرابية لا بنائية إذ لم يذكر أحد وجه هذا المذهب قبل قال ابن جني إن الفارسي اعتذر له بما يكاد يكون عذرا فلما تم التوجيه قلت له وانا حينئذ صغير السن هب أن الأمر على ما قاله الأخفش من أن الكسرة إعرابية فما يصنع ببناء الزمان المضاف إلى إذ في أحد الوجهين والإضافة إلى المفرد المعرب تقتضي الإعراب دون البناء فتعجب من صدور هذا السؤال مني لصغر سني وأجاب عنه بأنه قد يذهب السبب ويبقى حكمه كما قاله ابن جني في اسم الإشارة في ترجمة سيبويه هذا علم ما الكلم من العربية على أن يكون سيبويه وضعه غير مشير به وتركه مبنيا وأزال سبب البناء ونظر ذلك بباب التسوية على ما هو مقرر في موضعه قال ونظير ذلك ما قرر من إضافة حيث إلى المفرد مع بقاء البناء فيما ذكره الزمخشري وذلك قوله
( أما ترى حيث سهيل طالعا ** )
وقوله أنشدنا ابن الأعرابي لبعض المحدثين
( ونحن سعينا بالبلايا لمعقل ** وقد كان منكم حيث لي العمائم )
وقد كان حقها أن تعرب لزوال سبب البناء وهو الإضافة إلى جملة وحصول سبب الإعراب وهو الإضافة إلى المفرد ولكنه لم يعتبر النادر وأبقى الحكم الشائع
وقال الشاطبي أيضا كان شيخنا ابن الفخار يأمرنا بالوقف على قوله تعالى في سورة البقرة { قالوا الآن } ونبتدىء { جئت بالحق } وكان يفسر لنا معنى ذلك قولهم الآن أي فهمنا وحصل البيان ثم قيل جئت بالحق يعني في كل
____________________
(5/381)
مرة وعلى كل حال وكان رحمه الله تعالى يرى هذا الوجه أولى من تفسير ابن عصفور له من أنه على حذف الصفة أي بالحق البين وكان يحافظ عليه
وقال الشاطبي أنشدني صاحبنا الفقيه الأجل الأديب البارع أبو محمد ابن حذلم لنفسه أبياتا أنشدنيها يوم عيد على قبر سيدنا الإمام الأستاذ الكبير الشهير أبي عبد الله بن الفخار يرثيه بها
( أيا جدثا قد أحرز الشرف المحضا ** بأن صار مثوى السيد العالم الأرضى )
( عجبت لما أحرزته من معارف ** وشتى معال لم تزل تعمر الأرضا )
( طويت عليه وهو عين زمانه ** فيا جفن عين الدهر كم تؤثر الغمضا )
( فحياك من صوب الحيا كل ديمة ** تديم له في الجنة الرفع والخفضا )
( فها نحن في عيد الأسى حول قبره ** وقوفا لنقضي من عيادته الفرضا )
( كمثل الذي كنا وقوفا ببابه ** بعيد الأماني زائرين له أيضا )
( ومنا سلام لا يزال يخصه ** يذكره من بعض أشواقنا البعضا ) ترجمة ابن حذلم
قلت وابن حذلم المذكور له باع مديد في العلم والأدب وهو أبو محمد عبد الله بن عبد الله بن حذلم ومن نظمه قوله
( أبت المعارف أن تنال براحة ** إلا براحة ساعد الجد )
( فإذا ظفرت بها فلست بمدرك ** أربا بغير مساعد الجد )
وقوله رحمه الله
____________________
(5/382)
( كم من صديق حال في وده ** ولم أزل أزويه عن محضه )
( حضوره عين على وده ** وغيبه عين على بغضه )
( ولم أكن أجهل هذا ولا ** عجزت أن أجري على قرضه )
( لكن من قد سرني بعضه ** أحب أن أصفح عن بعضه )
وقوله رحمه الله يوم عيد وهو مما ألهج به أنا كثيرا
( يقولون لي خل عنك الأسى ** ولذ بالسرور فذا يوم عيد )
( فقلت لهم والأسى غالب ** ووجدي يحيى وشوقي يزيد )
( توعدني مالكي بالفراق ** فكيف أسر وعيدي وعيد )
وقوله رحمه الله
( حبيب زارني في الليل سرا ** فأحيا نفس مشتاق إليه )
( وعللني بنشر المسك منه ** وحياني بصفحة وجنتيه )
( وعانقني عناق الود صفحا ** وفارقني فيا لهفي عليه )
رجع وتوفي الأستاذ سيبويه زمانه أبو عبد الله محمد بن علي بن الفخار أستاذ الجماعة بغرناطة ليلة الإثنين ثاني عشر رجب عام أربعة وخمسين وسبعمائة رحمه الله تعالى
رجع إلى مشايخ لسان الدين رحمه الله تعالى
13 - ومنهم الأستاذ ابن العواد قال في الإحاطة قرأت كتاب الله عز وجل على المكتب نسيج وحده في تحمل المنزل حق حمله تقوى وصلاحا وخصوصية وإتقانا ونغمة وعناية وحفظا وتبحرا في هذا الفن
____________________
(5/383)
واضطلاعا بغرائبه واستيعابا لسقطات الأعلام الأستاذ الصالح أبي عبد الله ابن عبد الولي العواد تكتيبا ثم حفظا ثم تجويدا على مقرإ أبي عمرو ثم نقلني إلى أستاذ الجماعة ومطية الفنون ومفيد الطلبة الشيخ الخطيب المتفنن أبي الحسن على القيجاطي فقرأت عليه القرآن والعربية وهو أول من انتفعت به انتهى
14 - ومن أشياخه رحمه الله الشيخ العلامة أبو عبد الله ابن بيبش وله رحمه الله تعالى نظم جيد فمنه قوله ملغزا في مسطرة الكتابة
( ومقصورة خلف الحجاب وسرها ** مضاع فما يلقاك من دونها ستر )
( لها جثة بيضاء أسبل فوقها ** ذوائب زانتها وليس لها شعر )
( إذا ألبست مثل الصباح وبرقعت ** رأيت سواد الليل لم يمحه الفجر )
( عقيلة صون لا يفرق شملها ** سوى من أهمته الخطابة والشعر )
وقوله في ترتيب حروف الصحاح
( أساجعة بالواديين تبوئي ** ثمارا جنتها حاليات خواضب )
( دعي ذكر روض زاره سقي شربه ** صباح ضحى طير ظماء عواصب )
( غرام فؤادي قاذف كل ليلة ** متى ما نأى وهنا هداه يراقب )
وله جواب عن البيتين المشهورين
( يا ساكنا قلبي المعنى ** وليس فيه سواك ثاني )
( لأي معنى كسرت قلبي ** وما التقى فيه ساكنان )
فقال
( نحلتني طائعا فؤادا ** فصار إذ حزته مكاني )
( لا غرو إذ كان لي مضافا ** أني على الكسر فيه باني )
____________________
(5/384)
وقد ذكرت ذلك في غير هذا الموضع مع زيادة بلفظ لسان الدين فليراجع في الباب الخامس من هذا الكتاب
15 - ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى قاضي الجماعة الصدر المتفنن أبو عبد الله ابن بكر قال في الإحاطة وقرأت على قاضي الجماعة أبي عبد الله ابن بكر رحمه الله تعالى انتهى
وقاضي الجماعة عند المغاربة هو بمعنى قاضي القضاة عند المشارقة فليعلم ذلك وابن بكر المذكور هو محمد بن يحيى بن محمد بن أحمد بن بكر بن سعيد الأشعري المالقي من ذرية أبي موسى الأشعري كان من صدور العلماء وأعلام الفضلاء سذاجة ونزاهة ومعرفة وتفننا فسيح الدرس أصيل النظر واضح المذهب مؤثرا للإنصاف عارفا بالأحكام والقراءة مبرزا في الحديث تاريخا وإسنادا وتعديلا وجرحا حافظا للأنساب والأسماء والكنى قائما على العربية مشاركا في الأصول والفروع واللغة والعروض والفرائض والحساب مخفوض الجناح حسن الخلق عطوفا على الطلبة محبا في العلم والعلماء مطرحا للتصنع عديم المبالاة بالملبس بادي الظاهر عزيز النفس نافذ الحكم تقدم ببلده مالقة ناظرا في أمور العقد والحل ومصالح الكافة ثم ولي القضاء بها فأعز الخطة وترك الشوائب وأنفذ الحق ملازما للقراءة والإقراء محافظا
____________________
(5/385)
للأوقات حريصا على الإفادة ثم ولي القضاء بغرناطة المحروسة سنة 737 فقام بالوظائف وصدع بالحق وبهرج الشهود فزيف منهم ما ينيف على سبعين واستهدف بذلك إلى معاداة ومناضلة خاض ثبجها وصادم تيارها غير مبال بالمغبة ولا حافل بالتبعة فناله لذلك من المشقة والكيد العظيم ما ناله مثله حتى كان لا يمشي إلى الصلاة ليلا ولا يطمئن على حاله وجرت له في ذلك حكايات إلى أن عزم عليه الأمير أن يرد للعدالة بعض من أخره فلم يجد في قناته مغمزا ولا في عوده معجما وتصدر لبث العلم بالحضرة يقرىء فنونا جمة فنفع وخرج وأقرأ القرآن ودرس الفقه والأصول والعربية والفرائض والحساب وعقد مجالس الحديث شرحا وسماعا على انشراح صدر وحفظ تجمل وخفض جناح قال القاضي ابن الحسن إنه كان صاحب عزم ومضاء وحكم صادع وقضاء أحرق قلوب الحسدة وأعز الخطة بإزالة الشوائب وذهب وفضض الحق بمعارفه ونفذ في المشكلات وثبت في المعضلات واحتج وبكت وتفقه ونكت وحدثنا صاحبنا أبو جعفر الشقوري قال كنت جالسا بمجلس حكمه فرفعت إليه امرأة رقعة مضمنها أنها محبة في مطلقها وتبتغي الشفاعة لها في ردها فتناول الرقعة ووقع على ظهرها بلا مهلة الحمد لله من وقف على ما بالقلوب فليصخ لسماعه إصاخة مغيث وليشفع للمرأة عند زوجها تأسيا بشفاعة الرسول لبريرة في مغيث والله يسلم لنا العقل والدين ويسلك بنا سبيل المهتدين والسلام من كاتبه
____________________
(5/386)
قال الشقوري قال لي بعض الأصحاب هلا كان هو الشفيع لها فقلت الصحيح أن الحاكم لا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه على المنصوص
قرأ ابن بكر المذكور على الأستاذ ابن أبي السداد الباهي القرآن جمعا وإفرادا والعربية والحديث ولازمه وتأدب به وعلى الشيخ الصالح أبي عبد الله ابن عياش كثيرا من كتب الحديث وسمع عليه جميع صحيح مسلم إلا دولة واحدة وأخذ عن الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير والخطيب ابن رشيد والولي الصالح أبي الحسين ابن فضيلة والأستاذ أبي عبد الله ابن الكماد وأجازه العدل الراوية أبو فارس عبد العزيز بن الهواري وأبو إسحاق التلمساني ومن أهل إفريقية المعمر أبو محمد ابن هارون ومحمد بن سيد الناس ومن أهل مصر الشرف الدمياطي وجماعة من أهل الشام والحجاز فقد رحمه الله تعالى في المصاف يوم المناجزة بطريف زعموا أنه وقع عن بغلة ركبها وأشار عليه بعض المنهزمين بالركوب فلم يقدر وقال له انصرف هذا يوم الفرح إشارة لقوله تعالى { فرحين بما آتاهم الله من فضله } آل عمران 170 وذلك ضحى يوم الإثنين 7 جمادى الأولى سنة 741 رحمه الله تعالى
16 - ومن أشياخ لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى الشيخ أبو إسحاق ابن أبي يحيى الشهير الذكر في المغرب وقد عرف به في الإحاطة في اسم إبراهيم من ترجمة الغرباء بما نصه إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي بكر التسولي من أهل تازى يكنى أبا سالم ويعرف بابن أبي يحيى
____________________
(5/387)
حاله من الكتاب المؤتمن كان هذا الرجل قيما على التهذيب ورسالة ابن أبي زيد حسن الإقراء لهما وله عليهما تقييدان نبيلان قيدهما أيام قراءته إياهما على أبي الحسن الصغير حضرت مجالسه بمدرسة عدوة الأندلس من فاس ولم أر في متصدري بلده أحسن تدريسا منه كان فصيح اللسان سهل الألفاظ موفيا حقوقها وذلك لمشاركته الحضر فيما بأيديهم من الأدوات وكان مجلسه وقفا على التهذيب والرسالة وكان مع ذلك سمحا فاضلا حسن اللقاء على خلق بائنة على أخلاق أهل مصره امتحن بصحبة السلطان فصار يستعمله في الرسائل فمر في ذلك حظ كبير من عمره ضائعا لا في راحة دنيا ولا في نصب آخرة ثم قال وهذه سنة الله قيمن خدم الملوك ملتفتا إلى ما يعطونه لا إلى ما يأخذون من عمره وراحته أن يبوء بالصفقة الخاسرة لطف الله بمن ابتلى بذلك وخلصنا خلاصا جميلا
ومن كتاب عائد الصلة الشيخ الفقيه الحافظ القاضي من صدور المغرب مشاركة في العلم وتبحرا في الفقه كان وجيها عند الملوك صحبهم وحضر مجالسهم واستعمل في السفارة فلقيناه بغرناطة وأخذنا بها عنه تام السراوة حسن العهد مليح المجالس أنيق المحاضرة كريم الطبع صحيح المذهب
تصانيفه قيد على المدونة بمجلس شيخه أبي الحسن كتابا مفيدا وضم أجوبته على المسائل في سفر وشرح كتابه الرسالة شرحا عظيم الإفادة
مشيخته لازم أبا الحسن الصغير وهو كان قارئ كتب الفقه عليه وجل انتفاعه في التفقه به وروى عن أبي زكريا ابن يس قرأ عليه كتاب
____________________
(5/388)
الموطأ إلا كتاب المكاتب وكتاب المدبر فإنه سمعه بقراءة الغير وعن أبي عبد الله ابن رشيد قرأ عليه الموطأ وشفاء عياض وعن أبي الحسن ابن عبد الجليل السدراتي قرأ عليه الأحكام الصغرى لعبد الحق وأبي الحسن ابن سليمان قرأ عليه رسالة ابن أبي زيد وعن غيرهم
وفاته فلج بأخرة فالتزم منزله بفاس يزوره السلطان ومن دونه وتوفي بعد عام ثمانية وأربعين وسبعمائة انتهى
وقال ابن الخطيب القسمطيني إن ابن أبي يحيى المذكور توفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة انتهى
17 - ومن أشياخ لسان الدين الطنجالي الهاشمي وهو محمد بن أحمد قال في عائد الصلة كان على سنن سلفه كثرة حياء وسمة صلاح وشدة انقباض وإفراط وقار وحشمة بذ الكهولة على حداثة سنه في باب الورع والدين والإغراق في الصلاح والخير وتقدم خطيبا ثم قاضيا ببلده فأظهر من النزاهة والعدالة ما يناسب منصبه ففزع الناس إليه في كائنة الوباء العظيم بأموالهم وقلدوه عهود صدقاتهم فاستقر في يده من المال الصامت والحلى والذخيرة والعدة ما تضيق بيوت أموال الملك عنه وصرف ذلك مصارفه ووضعه وفق عهوده فلم يتلبس منه بنفير ولا قطمير وكان مدركا أصيل الرأي قائما على الفرائض والحساب ثم تخرج وطلب الإعفاء فأسعف به على حال ضنانة وفي ذلك يقول قريبه صاحبنا الفقيه القاضي أبو الحسن ابن الحسن يخاطبه
____________________
(5/389)
( لك الله يا بدر السماحة والبشر ** رفعت بأعلى رتبة راية الفخر )
( ولا سيما لما وليت أمورها ** فرويتها من عذب نائلك الغمر )
( ودارت قضاياها عليك بأسرها ** على حين لا بر يعين على بر )
( فقمت بها خير القيام مصمما ** على الحق تصميم المهندة البتر )
( فسر بك الإسلام يا ابن حمامة ** وأمست بك الأيام باسمة الثغر )
( تعيد عليك الحمد ألسن حالها ** وتتلو لما يرضيك من سور الشكر )
( لذاك أمير المسلمين بعدله ** أقامك تقضي الزمان على جبر )
( فأحييت رسم العلم بعد مماته ** وغادرت وجه الحكم أسنى من البدر )
( ولكنك استعفيت عنه تورعا ** وتلك سبيل الصالحين كما تدري )
( فكم من ولي فر عنه لعلمه ** به كأبي الحجاج جدك من ذخر )
( فزاد اتصالا عزة باجتنابه ** له وسما قدرا على قنة النسر )
( جريت على نهج السلامة في الذي ** تبعت له فأبشر بأمنك في الحشر )
( وأرضاك مولاي الإمام بفضله ** وأعفاك إعفاء الكرامة والبر )
( فأنت على الحالين أفضل من قضى ** وأشرف من يعفي إلى أخر الدهر )
( لما حزت من شتى المعالي التي بها ** تحليت عن أسلافك السادة الغر )
( صدور مقامات المعارف كلها ** بحور النوال الجم في اليسر والعسر )
( هم النفر الأعلون من آل هاشم ** وناهيك من مجد أثيل ومن فخر )
وهي طويلة انتهى
18 - ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الشيخ الإمام الخطيب الرئيس سيدي أبو عبد الله ابن مرزوق ولنلخص ترجمته من الإحاطة وغيرها
____________________
(5/390)
فنقول هو محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق العجيسي التلمساني يكنى أبا عبد الله ويلقب من الألقاب المشرقية بشمس الدين
قال أبو الحسن علي بن لسان الدين ابن الخطيب في حقه سيدي وسند أبي فخر المغرب وبركة الدول وعلم الأعلام ومستخدم السيوف والأقلام ومولى أهل المغرب على الإطلاق أبقاه الله تعالى وأمتع بحياته وأعانني على ما يجب في حقه قال تربيته وولده علي ابن المؤلف انتهى يعني ابن الخطيب
وقال لسان الدين هذا الرجل من طرف دهره ظرفا وخصوصية ولطافة مليح التوسل حسن اللقاء مبذول البشر كثير التودد نظيف البزة لطيف التأني خير البيت طلق الوجه خلوب اللسان طيب الحديث مقدر الألفاظ عارف بالأبواب درب على صحبة الملوك والأشراف متقاض لإيثار السلاطين والأمراء يسحرهم بخلابة لفظه ويفتلهم في الذروة والغارب بتنزله ويهتدي إلى أغراضهم الكمينة بحذقه ويصطنع غاشيتهم بتلطفه ممزوج الدعابة بالوقار والفكاهة بالنسك والحشمة بالبسط عظيم المشاركة لأهل وده والتعصب لإخوانه آلف مألوف كثير الأتباع والعلق مسخر الرقاع في سبيل الوساطة مجدي الجاه غاص المنزل بالطلبة منقاد للدعوة بارع الخط أنيقه عذب التلاوة متسع الرواية مشارك في فنون من أصول وفروع وتفسير يكتب ويشعر ويقيد ويؤلف فلا يعدو السداد في ذلك فارس منبر غير جزوع ولا هياب رحل إلى المشرق في كنف حشمة من جناب والده رحمه الله تعالى فحج وجاور ولقي الجلة ثم فارقه وقد عرف بالمشرق حقه وصرف وجهه إلى المغرب فاشتمل عليه السلطان أبو الحسن أميره اشتمالا خلطه بنفسه وجعله مفضي سره وإمام جمعه وخطيب منبره وأمين رسالته فقدم في غرضها على الأندلس أواخر عام ثمانية وأربعين
____________________
(5/391)
وسبعمائة ولما حالت بالأمير المذكور الحال استقر بالأندلس مفلتا من النكبة في وسط عام اثنين وخمسين وسبعمائة فاجتذبه سلطانها رحمه الله وأجراه على تلك الوتيرة فقلده الخطبة بمسجده في السادس لصفر عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة وأقعده للإقراء بالمدرسة من حضرته وفي أخريات عام أربعة وخمسين صرف عنه جفن بره في أسلوب طماح ودالة وسبيل هوى وقحة فاغتنم الفترة وانتهز الفرصة وأنفذ في الرحيل العزمة وانصرف عزيز الرحلة مغبوط المنقلب فاستقر بباب ملك المغرب أمير المؤمنين أبي عنان فارس في محل تجلة وبساط قرب مشترك الجاه مجدي التوسط ناجع الشفاعة والله يتولاه ويزيده من فضله
مشيخته من كتابه المسمى عجالة المستوفز المستجاز في ذكر من استجازني من المشايخ دون من أجاز من أئمة المغرب والشام والحجاز فممن لقيه بالمدينة المشرفة على ساكنها الصلاة والسلام الإمام العالم العلامة عز الدين أبو محمد الحسن ابن علي ابن إسماعيل الواسطي صاحب خطتي الإمامة والخطابة بالمسجد الكريم النبوي وأفرد جزءا في مناقبه والشيخ الإمام جمال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خلف بن عيسى الخزرجي السعدي العبادي تحمل عن عفيف الدين أبي محمد عبد السلام بن مزروع وأبي اليمن وغيره والشيخ الإمام خادم الوقت بالمسجد الكريم ونائب الإمامة والخطابة به ومنشد الأمداح النبوية هنالك والشيخ الصالح الثقة المعمر محيي الدين أبو زكريا يحيى بن محمد المغراوي التونسي سمع ابن حامل والتوزري والشيخ نور الدين أبو الحسن علي ابن محمد الحجار الفراش بحرم رسول الله والوقاد به وكان مقصودا من كل قطر والشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد الصنعاني نائب القضاء بالمدينة والشيخ الإمام
____________________
(5/392)
قاضي القضاة بالمدينة شرف الدين بن محرز الإخميمي بن الأسيوطي والشيخ الصالح عز الدين خالد بن عبد الله الطواشي والشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الله المعيشي سمع ابن مزروع البصري وغيره والشيخ بهاء الدين موسى بن سلامة الشافعي المصري الخطيب بالمسجد الكريم بها والشيخ الخطيب أبو طلحة الزبير ابن أبي صعصعة الأسواني والشيخ عفيف الدين المطري والشيخ الأديب أبو البركات أيمن بن محمد بن محمد إلى أربعة عشر ابن أيمن التونسي المجاور والشيخ أبو محمد عبد الله بن محمد بن فرحون اليعمري التونسي المجاور والشيخ أبو فارس عبد العزيز بن عبد الواحد بن أبي ركبون التونسي وقرأ بها على أبيه القرآن العظيم قال وكانت قراءتي عليه بالمدينة عند قبره عليه الصلاة والسلام
وبمكة شرفها الله تعالى الشيخ المعمر الثقة شرف الدين أبو عبد الله عيسى ابن عبد الله الحجبي المكي المتوفى وقد قارب المائة والشيخ زين الدين أحمد ابن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الطبري المكي والشيخ الصالح شرف الدين خضر بن عبد الرحمن العجمي وشيخ شيوخ رباط الأعجام حيدر بن عبد الله المقرىء والشيخ مقرىء الحرم برهان الدين إبراهيم ابن مسعود بن إبراهيم الأيلي المصري والشيخ مصلح الدين الحسن بن عبد الله العجمي والإمام الصالح أبو الصفاء خليل بن عبد الله القسطلاني التوزري والشيخ الإمام الصالح أبو محمد عبد الله بن أسعد الشافعي الحجة انتهت إليه الرياسة العلمية والخطط الشرعية بالحرم والشيخ فخر الدين عثمان بن أبي بكر النويري المالكي والشيخ الإمام المدرس بالحرم شهاب الدين أحمد بن الحرازي اليمني والشيخ قاضي القضاة نجم الدين محمد بن جمال الدين بن عبد الله بن المحب الطبري والشيخ جلال الدين أبو عبد الله محمدبن أحمد بن براجين القشيري التلمساني وقرأ بها على أبيه وألبسه بها الخرقة والشيخ الملك شرف الدين عيسى بن محمد بن أبي بكر بن أيوب والشيخة فاطمة بنت محمد ابن محمد بن أبي بكر بن أيوب والشيخة فاطمة بنت محمد بن محمد بن أبي بكر بن
____________________
(5/393)
محمد بن إبراهيم الطبري المكية والشيخ أبو الربيع سليمان بن يحيى بن سلمان المراكشي السفاح والشيخ قاضي القضاة وخطيب الخطباء عز الدين أبو عمر عبد العزيز بن محمد بن جماعة الكناني قاضي القضاة بالديار المصرية
وبمصر الشيخ علاء الدين القونوي والتقي السعدي وقاضي القضاة القزويني وهو شهير الذكر رفيع القدر وقاضي القضاة البرهان الحنفي والشرف أقضى القضاة الإخميمي والشيخ المحدث المسند البدر محمد بن محمد الفارقي والقطب الحافظ محمد ابن منير والشهاب أحمد الجوهري الحلبي والمعمر الشرف يحيى المقدسي بن المصري والشيخ محسن القرشي والشهاب الحنبلي وفتح الدين محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمدبن يحيى بن سيد الناس اليعمري والشيخ المسند شمس الدين أبو بكر بن سيد الناس أخوه والإمام أبو حيان والحافظ النسابة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن طي ابن حاتم بن خيش الزبيري المصري يبلغ شيوخه نحوا من ألفي شيخ والشيخ الشمس بن عدلان والشهاب البوشي المالكي والشيخ المتصوف تاج الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن ثعلب المصري مدرس المالكية والشمس ابن كتشغري الخطابي الصيرفي والعماد ابن النجم الدمياطي والتاج الأشعري والتقي الثعلبي والفتح بن عبد القوي والشمس الورجمي والتقي الأشموني والعلامة التقي السبكي والمعروف ابن بنت الشاذلي وأبو الحسن التميمي والبرهان الخيمي والشمس الأسواني والبرهان الحكري والشمس بن جابر الوادي آشي وأبو محمد عبد الكريم الطوسي وأبو فارس الزروالي التونسي وصالح بن عبد العظيم بن يونس وأبو عبد الله ابن القماح والتاج التبريزي والشيخ محمود الأصبهاني والشرف المغيلي والبرهان السفاقسي
ومن النساء الشيخة المسندة ست الفقهاء فاطمة بنت محمد الفيومي البكري
وببلبيس أسد الدين يوسف بن داود الأيوبي من أبناء الملوك
ومن الشاميين بالقدس علاء الدين أبو الحسن علي بن أيوب وخطيب
____________________
(5/394)
القدس النور ابن الصائغ المقدسي ومحمد بن علي بن مثبت الأندلسي والبرهان الجعبري إمام الخليل
ومن أهل دمشق البرهان بن الفركاح والشمس بن مسلم قاضي الحنابلة
وبالإسكندرية أحمد المرادي بن العشاب وأبو القاسم ابن علي بن البراء والناصر بن المنير
وبطرابلس الخطيب أبو محمد جابر بن عبد الغفار
وبتونس الزبيدي والقاضي ابن عبد الرفيع والقاضي ابن عبد السلام وابن راشد وأبو موسى هارون والمحدث أبو عبد الله التلمساني والحافظ أبو زكريا يحيى بن عصفور التلمساني نزيل تونس وأبو محمد بن سعد الله بن أبي القاسم بن البراء
وببلاد الجريد الشيخ الخطيب أبو عبد الملك ابن حيون
وبالزاب ابن أبي والشيخ أبو محمد ابن راشد
وببجاية الإمام النظار المجتهد أبو علي ناصر الدين المشدالي والحافظ فقيه زمانه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن يللبخت الزواوي والشيخ الفقيه أبو عبد الله الخطيب المسفر
وبتلمسان الشيخان الإمامان ابنا الإمام وقاضي القضاة بها أبو عبد الله ابن هدية والخطيب أبو محمد المجاصي والشريف أبو علي حسن بن يوسف بن يحيى الحسني والشيخ أبو عثمان سعيد بن إبراهيم بن علي المعروف بابن إسحاق الخياط وغيرهم
محنته اقتضى الخوض الواقع بين يدي تأميل الأمير أبي الحسن رحمه الله
____________________
(5/395)
تعالى عودة الأمر إليه وقد ألقاه اليم إلى الساحل بمدينة الجزائر أن قبض عليه بتلمسان أمراؤها المتوثبون عليها في هذه الفترة من بني زيان إرضاء لقبيلهم المتهم بمداخلته وقد رحل عنهم دسيسا من أميرهم عثمان بن يحيى فصرف مأخوذا عليه طريقه منتهبا رحله منتهكة حرمته وأسكن قرارة مطبق عميق القعر مقفل المسلك حريز القفل ثاني اثنين انتهى ملخصا
ورأيت بخط ابن مرزوق على قوله وقد رحل عنهم دسيسا إلى آخره ما نصه لم أرحل عنهم إلا بإذنهم واقتراحهم علي في الإصلاح بينهم لكنهم غدروا تقية على أنفسهم قاله ابن مرزوق انتهى وكتب تحته ولد ابن الخطيب ما صورته نعم ما ترى
( وعند الله تجتمع الخصوم ** )
انتهى
رجع إلى كلام لسان الدين في حقه قال بعد الكلام السابق ما ملخصه ولأيام قتل ثانية ذبحا بمقربة من شفا تلك الركية وانقطع أثره وأيقن الناس بفوات الأمر فيه ولزمان من محنته ظهرت عليه بركة سلفه في خبر ينظر بطرفه إلى الكرامة فنجا ولا تسل كيف وخلصه الله خلاصا جميلا وقدم على الأندلس والله ينفعه بنيته انتهى
وكتب ابن مرزوق على هذا المحل ما نصه لم يكن المقتول حين قتل معي ولا قتل ذبحا قاله ابن مرزوق انتهى وكتب بعض علماء مصر تحته ما نصه هذه دعوى والمؤرخ أعرف انتهى فكتب آخر بعد هذا ما نصه أتخبرني عني انتهى
رجع ثم قال لسان الدين في ترجمة شعره ما صورته ركب مع السلطان
____________________
(5/396)
بخارج الحمراء أيام ضربت اللوز قبابها البيض وزينت الفحص العريض والروض الأريض فارتجل في ذلك
( انظر إلى النوار في أغصانه ** يحكي النجوم إذا تبدت في الحلك )
( حيا أمير المسلمين وقال قد ** عميت بصيرة من بغيرك مثلك )
( يا يوسفا حزت الجمال بأسره ** فمحاسن الأيام تومي هيت لك )
( أنت الذي صعدت به أوصافه ** فيقال فيه ذا مليك أو ملك )
إلى أن قال ومن الشعر المنسوب إلى محاسنه ما أنشد عنه وبين يديه ليلة الميلاد المعظم من عام ثلاثة وستين وسبعمائة
( قل لنسيم السحر ** لله بلغ خبري )
( إن أنت يوما بالحمى ** جررت فضل المئزر )
( ثم حثثت الخطو من ** فوق الكثيب الأعفر )
( مستقريا في عشبه ** مخفي وطء المطر )
( تروي عن الضحاك في الروض ** حديث الزهر )
( مخلق الأذيال بالعبير ** أو بالعنبر )
( وصف لجيران الحمى ** وجدي بهم وسهري )
( وحقهم ما غيرت ** ودي صروف الغير )
( لله عهد فيه قضيت ** حميد الأثر )
( أيامه هي التي ** أحسبها من عمري )
( ويا لليل فيه ما ** عيب بغير القصر )
( العمر فينان ووجه ** الدهر طلق الغرر )
( والشمل بالأحباب منظوم ** كنظم الدرر )
____________________
(5/397)
( صفو من العيش بلا ** شائبة من كدر )
( ما بين أهل تقطف الأنس ** جني الثمر )
( وبين آمال تبيح ** القرب صافي الغدر )
( يا شجرات الحي حياك ** الحيا من شجر )
( إذا أجال الشوق في ** تلك المغاني فكري )
( خرجت من خدي حديث ** الدمع فوق الطرر )
( وقلت يا خد آرو من ** دمعي صحاح الجوهري )
( عهدي بحادي الركب كالورقاء ** عند السحر )
( والعيس تجتاب الفلا ** واليعملات تنبري )
( تخبط بالأخفاف مظلوم ** البرى وهو بري )
( قد عطفت عن ميد ** والتفتت عن حور )
( قسي سير ما سوى العزم ** لها من وتر )
( حتى إذا الأعلام حلت ** لحفي البشر )
( واستبشر النازح بالقرب ** ونيل الوطر )
( وعين الميقات للسفر ** نجاح السفر )
( فالناس بين محرم ** بالحج أو معتمر )
( لبيك لبيك إليه ** الخلق باري الصور )
( ولاحت الكعبة بيت ** الله ذات الأثر )
( مقام إبراهيم والمأمن ** عند الذعر )
( واغتنم القوم طواف ** القادم المبتدر )
( وأعقبوا ركعتي السعي ** استلام الحجر )
( وعرفوا في عرفات ** كل عرف أذفر )
____________________
(5/398)
( ثم أفاض الناس سعيا ** في غد للمشعر )
( فوقفوا وكبروا ** قبل الصباح المسفر )
( وفي منى نالوا المنى ** وأيقنوا بالظفر )
( وبعد رمي الجمرات ** كان حلق الشعر )
( أكرم بذاك السفر والله ** وذاك السفر )
( يا فوزه من موقف ** يا ربحه من متجر )
( حتى إذا كان الوداع ** وطواف الصدر )
( فأي صبر لم يخن ** أو جلد لم يغدر )
( وأي وجد لم يطر ** وسلوة لم تهجر )
( ما أفجع البين لقلب ** الواله المستعبر )
( ثم ثنوا نحو رسول ** الله سير الضمر )
( فعاينوا في طيبة ** لألاء نور نير )
( رأوا رسول الله واستشفوا ** بلثم الجدر )
( نالوا به ما أملوا ** وعرجوا في الأثر )
( على الضجيعين أبي ** بكر الرضى وعمر )
( زيارة الهادي الشفيع ** جنة في المحشر )
( فأحسن الله عزاء ** قاصد لم يزر )
( ربع ترى مستنزل الآي ** به والسور )
( وملتقى جبريل بالهادي ** الزكي العنصر )
( وروضة الجنة بين ** روضة ومنبر )
( منتخب الله ومختار ** الورى من مضر )
( والمنتقى والكون من ** ملابس الخلق عري )
( إذ لم يكن في أفق ** من زحل ومشتري )
____________________
(5/399)
( ذو المعجزات الغر أمثال ** النجوم الزهر )
( يشهد بالصدق له ** منها انشقاق القمر )
( والضب والظبي إلى ** نطق الحصى والشجر )
( من أطعم الألف بصاع ** في صحيح الخبر )
( والجيش رواه بماء ** الراحة المنهمر )
( يا نكتة الكون التي ** فاتت منال الفكر )
( يا حجة الله على ** الرائح والمبتكر )
( يا أكرم الرسل على الله ** وخير البشر )
( يا من له التقدم الحق ** على التأخر )
( يا من لدى مولده ** المقدس المطهر )
( إيوان كسرى ارتج إذ ** ضاءت قصور قيصر )
( وموقد النار طفي ** كأنه لم يسعر )
( يا عمدتي يا ملجئي ** يا مفزعي يا وزري )
( يا من له اللواء والحوض ** وورد الكوثر )
( يا منقذ الغرقى وهم ** رهن العذاب الأكبر )
( إن لم تحقق أملي ** بؤت بسعي المخسر )
( صلى عليك الله يا ** ثمال كل معسر )
( صلى عليك الله يا ** نور الدجى المعتكر )
( يا ويح نفسي كم أرى ** في غفلة من عمري )
( واحسرتي من قلة الزاد ** وبعد السفر )
( يحجني والله بالبرهان ** وعظ المنبر )
( يا حسنها من خطب ** لو حركت من نظري )
( يا حسنها من شجر ** لو أورقت من ثمر )
____________________
(5/400)
( أؤمل الأوبة والأمر ** بكف القدر )
( أسوف العزم به ** من شهر لشهر )
( من صفر لرجب ** من رجب لصفر )
( ضيعت في الكبرة ما ** أعددته في صغري )
( وليس ما مر من ** الأيام بالمنتظر )
( وقلما أن حمدت ** سلامة في غرر )
( ولي غريم لا يني ** في طلب المنكسر )
( يا نفس جدي قد بدا ** الصبح ألا فاعتبري )
( واتعظي بمن مضى ** وارتدعي وازدجري )
( ما بعد شيب الفود من ** مرتقب فشمري )
( أنت وإن طال المدى ** في قلعة وسفر )
( وليس من عذر يقيم ** حجة المعتذر )
( يا ليت شعري والمنى ** تسرق طيب العمر )
( هل أرتجي من عودة ** أو رجعة أو صدر )
( فأبرد الغلة من ** ذاك الزلال الخصر )
( مقتديا بمن مضى ** من سلف ومعشر )
( نالوا جوار الله وهو ** الفخر للمفتخر )
( أرجو بإبراهيم مولانا ** بلوغ الوطر )
( فوعده لا يمتري ** في الصدق منه ممتري )
( وهو الإمام المرتضى ** والخير ابن الخير )
( أكرم من نال العلا ** بالمرهفات البتر )
( ممهد الملك وسيف ** الحق والليث الجري )
( خليفة الله الذي ** فاق بحسن السير )
( وكان منه الخبر في ** العلياء وفق الخبر )
____________________
(5/401)
( فصدق التصديق من ** مرآه للتصور )
( ومستعين الله في ** ورد له وصدر )
( فاق الملوك الصيد بالمجد ** الرفيع الخطر )
( فأصبحت ألقابهم ** منسية لم تذكر )
( وحاز منه أوحد ** وصف العديد الأكثر )
( برأيه المأمون أو ** عسكره المظفر )
( بسيفه السفاح أو ** بعزمه المقتدر )
( بالعلم المنصور أو ** بالذابل المنتصر )
( يا ابن الإمام الطاهر البر ** الزكي السير )
( مدحك قد علم نظم ** الشعر من لم يشعر )
( جهد المقل اليوم من ** مثلي كوسع المكثر )
( فإن يقصر ظاهري ** فلم يقصر مضمري )
قلت قول لسان الدين في حق هذه القصيدة إنها من الشعر المنسوب إلى محاسنه فيه تعريض خفي بأن هذه القصيدة يحتمل أن تكون قيلت على لسانه حسبما جرت بذلك عادة الأكابر والرؤساء أن ينسب إليهم ما ليس من كلامهم في نفس الأمر وليس الواقع عندي كذلك لأن باع ابن مرزوق في النظم والنثر مديد فأنى يقصر عن هذا القصيد ومن يصدر منه على البديهة قوله
( انظر إلى النوار في أغصانه ** )
الأبيات السابقة في اللوز لا يستغرب منه مثل هذا ولذ كتب ابن لسان الدين على قول والده من الشعر المنسوب إلى محاسنه ما صورته حضرت إنشاءها وإنشادها ليلة الميلاد الشريف في التاريخ المذكور واستحسنها شعراء العدوتين وهي مما لا ينكر على مدارك سيدي أبي عبد الله ورسوخه في علم
____________________
(5/402)
النظم والنثر قاله علي بن الخطيب انتهى
وكتب بعضهم على قوله في هذه القصيدة
( أيامه هي التي ** أعدها من عمري )
ما نصه ولت والله انتهى فكتب ابن مرزوق بعده ما نصه لكنها بدلت بخير منها والحمد لله وحسنت الخاتمة ببركة رسول الله تسليما انتهى
وكتب ابن لسان الدين على قوله
( وقلما أن حمدت ** سلامة في غرر )
ما نصه كذلك كان وليت والدي رحمه الله تعالى كذلك انتهى
وكتب على قوله برأيه المأمون إلخ ما نصه لو كان له رأي مأمون ما نزل على قلعة الملك لسكنى القصبة بدخيلة طلب الراحة فضربت عنقه وكانت الراحة منه انتهى
وكتب بعض أثر هذا ما صورته القدر لا يغالب الحذر ينفع ما لم يأتك القدر فإذا أتى قدر لم ينفع حذر انتهى
وكتب ابن لسان الدين على قوله فلم يقصر مضمري ما صورته صدق والله انتهى
ثم قال لسان الدين ووردت باب السلطان الكبير العالم أبي عنان فبلوت من مشاركته وحميد سعيه ما يليق بمثله ولما نكبه لم أقصر عن ممكن حيلة في أمره فلما هلك السلطان أبو عنان وصار الأمر لأخيه المتلاحق من الأندلس أبي سالم بعد
____________________
(5/403)
الولد المسمى بالسعيد كان ممن دانت له الطاعة وأناخ راحلة الملك وحلب ضرع الدولة وخطب عروس الموهبة فأنشب ظفره في متات معقود من لدن الأب مشدود من لدن القرابة فاستحكم عن قرب واستغلظ عن كثب فاستولى على أمره وخلطه بنفسه ولم يستأثر عنه ببثه ولا انفرد بما سوى بضع أهله بحيث لا يقطع في شيء إلا به و عن رأيه ولا يمحو ويثبت إلا واقفا عند حده فغشيت بابه الوفود وصرفت إليه الوجوه ووقفت عليه الآمال وخدمته الأشراف وجلبت إلى سدته بضائع العقول والأموال وهادته الملوك فلا تحدو الحداة إلا إليه ولا تحط الرحال إلا لديه إن حضر أجرى الرسم وأنفذ الأمر والنهي لحظا أو سرارا أو مكاتبة وإن غاب ترددت الرقاع واختلفت الرسل ثم انفرد أخيرا ببيت الخلوة ومنتبذ المناجاة من دونه معصب الوزراء وغايات الحجاب فإذا انصرف تبعته الدنيا وسارت بين يديه الوزراء ووقفت ببابه الأمراء وقد وسع الكل لحظه وشملهم بحسب الرتب والأحوال رعيه ووسم أفذاذهم تسويده وعقدت ببنان عليتهم بنانه لكن رضى الناس الغاية التي لا تدرك والحسد بين بني آدم قديم وقبيل الملك مباين لمثله فطويت الجوانح على سل وحنيت الضلوع على بث وأغضيت الجفون على قذى إلى أن كان من نكبته الثالثة ما هو معروف جعلها الله له طهورا ولما جرت الحادثة على الدولة بالأندلس وكان لحاق جميعنا بالمغرب جنيت ثمرة ما أسلفته من وده فوفي الكيل وأشرك في الجاه وأدر الرزق ورفع
____________________
(5/404)
المجلس بعد التسبب في الخلاص والسعي في الجبر جبره الله تعالى وكان له أحوج ما يكون إلى ذلك { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } الشعراء 89 انتهى
وكتب ابن لسان الدين على هذا المحل ما صورته هذا لسان أبي عليه في الغيبة والحضور انتهى
ومما خاطبه به لسان الدين مهنئا من طريق القدوم على الأبواب المرينيبة مفلتا من البلية بشفاعته ما نصه سيدي الذي إليه انقطاعي وانحياشي وملاذي وملجئي الذي يسر خلاصي وسني انتياشي ومنعمي الذي جبر جناحي وأنبت رياشي ومولى هذا الصنف العلمي ولا أحاشي كتبه صنيع نعمتكم الخالصة الحرة ومسترق فضلكم الذي تألقت منه في ليل الخطوب الغرة ابن الخطيب لطف الله به من كذا وقد شد إلى إبلاغ النفس عذرها في مباشرة تقبيل اليد التي لها اليد العظمى والسجية الرحمى فلكم طوقت من نعمى وجبال النعم قد أثقلت الظهر واستغرقت السر والجهر فبأي لسان أو بأي بنان ولا أثر بعد عيان تقابل نعمة تداركت الرمق وقد أشفى وأبقت الذماء والشروع في استئصالها لا يخفى فيا لك من فرد هزم ألفا ووعد نصر لم يعرف خلفا ونية خلصت تبتغي إلى الله زلفى لقد صدع بها مولاي غريبة في الزمن بالغا حسن صنيعها صنعاء اليمن مترفعة عن الثمن وإن لم يقم بها مثله وإلا فمن فليهن سيدي ما ذاع لمجده بها من فخر وما قدم يوم تزل الأقدام من ذخر وما جلب للمقام المولوي الإبراهيمي من طيب ذكر واستفاضة حمد وشكر
____________________
(5/405)
لقد ارتهن دعاء الحافي والناعل والدال على الخير شريك الفاعل والذي أحيا النفس جدير برد عدتها وإنجاز عدتها وأنا قد قويت بجاهكم وإن كنت ضعيفا واستشعرت سعدا جديدا وقدرا منيفا وأيقنت أن الله عز وجل كان بي لطيفا إذ هيأ لي من رحمة ذلك المقام المولوي على يدكم نصرا عزيزا وبوأني من جاهه حرزا حريزا وقد استأسدت الأعداء وأعضل الداء وأعمل الاعتداء وعز الفداء فانفرج الضيق وتيسرت للخير الطريق وساغ الريق ونجا الغريق غريبة لا تمثل إلا في الحلم ولطيفة فيها اعتبار لأولي العلم اللهم جاز سيدي في نفسه وولده وحاله وبلده ومعاده بعد طول عمره وانفساح أمده وكن له نصيرا أحوج ما يكون إلى نصر واجعل له سعة من كل حصر واقصر عليه جاه كل قصر كما جعلت ذاته فوق كل ذات وعصره فوق كل عصر وليعلم سيدي أن من أراد بي منافسة وحسدا وزأر علي أسدا لما استقل على الكرسي جسدا من غير ذنب تبين ولا حد تعين أصابه من خلاصي المقيم المقعد ووعد النفس بأمل أخلف منه الموعد لما استنقذني الله برحمته من بين ظفره ونابه وغطاني بستر جنابه وكثرني في العيون على قلة وأعزني بعز نصره على حال ذلة لم يدع حيلة إلا نصبها أمامي ليحبط ذلك المقام الكريم ذمامي ويكدر جمامي ويستدرك حمامي وزعم أن بيده على البعد زمامي ويأبى ذلك رأي يفرق بين الحق وضده وعدل لا يخرج الشيء عن حده فنبهت سيدي خوفا أن تتجه حيلة أو تفسد وسيلة وأنا قادم بالأهل والولد ليعمل في رب الصنيعة على شاكلة الحمد الذي هو له أهل فما بابتدائه جهل ولا يختلف في عظم ما أسداه غر ولا كهل ولا ينبه مثله على تتميم وإجزال فضل عميم ومؤانسة غريب وصلة
____________________
(5/406)
نصر عزيز وفتح قريب بحول الله تعالى
وقال لسان الدين بعد ما سبق نقله عنه في حق ابن مرزوق ولما انقضى أمر سلطانه رحمه الله تعالى متجنى عليه بسببه محمولا عليه من أجله تقبض عليه وأجمع الملأ على قتله وشد اعتقاله وطلب بالمال العريض وانتهبت أمواله واعتقلت رباعه وجنبت مراكبه واصطفيت أمهات أولاده وتمادى به الإعتقال والشدة إلى أن عادته عوائد الله في الخلاص من الشدة والانتياش من الورطة ظاهرة عليه بركة سلفه قائمة له حجة الكرامة في أمره
حكى أمير المسلمين سلطاننا أعزه الله قال عرض لي والدي رحمه الله تعالى في النوم فقال يا ولدي اشفع في الفقيه ابن مرزوق فقبلت يده واقتضيت حظه وحكيت داعيته وعينت للوجهة في ذلك قاضي الحضرة فكان في ذلك ابتداء الفرج
وحدثني الثقة من خدام السلطان أبي عنان عنه مخبرا عن نفسه لما نفس عنه من نكبته وأجاره من سخطته قال رأيت رسول الله فأمرني بذلك وكفى بها جاها وحرمة قلت فترك سبيله وأتيح له ركوب البحر إلى البلاد المشرقية بأهله وولده فسار في كنف الستر وتحت جناح الوقاية في وسط رجب من عام أربعة وستين وسبعمائة من ساحل باديس صحب الله وجهته وختم عصمته انتهى ما لخصته من كلام لسان الدين بلفظه
____________________
(5/407)
ورأيت على هامش هذا المحل من الإحاطة بخط المذكور ما صورته أقول وأنا ابن مرزوق المسمى فيه إني قد وصلت إلى تونس المحروسة في شهر رمضان من سنة خمس وستين فلقيت بها من المبرة والكرامة والوجاهة فوق ما يعهده أمثالي ووليت خطابة جامع ملكها وتدريس أم المدارس فيها وهي المعروفة بمدرسة الشماعين كل ذلك تحت رعاية وعناية وملازمة لمجلس ملكها إلى أن توفي سنة إحدى وسبعين ثم مع ولده وابن أخيه إلى أن رحلت في البحر في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين فحللت بالديار المصرية ولقيت من ملكها الذي لم أر في الملوك مثله حلما وفضلا وحياء وجودا وتلطفا ورحما السلطان المالك الملك الأشرف ناصر الدين والدنيا شعبان بن حسين فأحسن لي وأجري علي وعلى أولادي ما قام به الحال وقلدني دروسا ومدارس وأهلني للمثول بين يديه والحال مستمر على ذلك حتى الآن وذلك من فضل الله ومعهود إحسانه والمرجو من الله حسن العاقبة وكتب في رمضان سنة خمس وسبعين انتهى
وكتب بعده أبو الحسن علي بن لسان الدين رحمهما الله تعالى ما صورته صدق وهو فوق ذلك كله فقدره معروف ولطالما كان ملك المغرب يفتخر به فصار يفتخر بتقليد الدروس
( والدهر لا يبقي على حالة ** )
انتهى
قال في الإحاطة ولما شرح كتاب الشفاء للقاضي عياض رحمه الله تعالى واستبحر فيه وأكثر النقل وبذل الجهد طلب أهل العدوتين نظم
____________________
(5/408)
مقطوعات تتضمن الثناء على الكتاب المذكور وإطراء مؤلفه فانثال عليه من ذلك الطم والرم بما تعددت منه الأوراق واختلفت في الإجادة وغيرها الأرزاق إيثارا لغرضه ومبادرة من كل الجهات لإسعاف أربه وطلب مني أن ألم في ذلك بشيء فكتبت له في ذلك
( شفاء عياض للصدور شفاء ** فليس بفضل قد حواه خفاء )
( هدية بر لم يكن لمديلها ** سوى الأجر والذكر الجميل كفاء )
( وفى لنبي الله حق وفائه ** وأكرم أوصاف الكرام وفاء )
( وجاء به بحرا يقول بفضله ** على البحر طعم طيب وصفاء )
( وحق رسول الله بعد وفاته ** رعاه وإغفال الحقوق جفاء )
( هو الذخر يغني في الحياة عتاده ** ويترك منه للبنين رفاء )
( هوالأثر المحمود ليس يناله ** دثور ولا يخشى عليه عفاء )
( حرصت على الإطناب في نشر فضله ** وتمجيده لو ساعدتني فاء )
واستزاد من هذا الغرض الذي لم يقنع فيه بالقليل فبعثت إليه من محل انتقالي من مدينة سلا حرسها الله تعالى
( أأزاهير رياض ** أم شفاء لعياض )
( جدل الباطل للحق ** بأسياف مواض )
( وجلا الأنوار برهانا ** بحق وافتراض )
____________________
(5/409)
( وشفى من يشتكي الغلة ** في زرق الحياض )
( أي بنيان مقال ** آمن خوف انقضاض )
( أي عهد ليس يرمي ** بانتكاث وانتقاض )
( ومعان في سطور ** كأسود في غياض )
( وشفاء لصدور ** من ضنى الجهل مراض )
( حرر القصد فما شين ** بنقض واعتراض )
( يا أبا الفضل أدر أن الله ** عن سعيك راض )
( فاز عبد أقرض الله ** برجحان القراض )
( وجبت غر المزايا ** من طوال أو عراض )
( لك يا أصدق راو ** لك يا أعدل قاض )
( لرسول الله وفيت ** بجد وانتهاض )
( خير خلق الله في حال ** وفي آت وماض )
( سدد الله ابن مرزوق ** إلى تلك المراضي )
( زبدة العرفان معنى ** كل نسك وارتياض )
( فتولى بسط ما أجملت ** من غير انقباض )
( ساهرا لم يدر في استخلاصه ** طعم اغتماض )
( إن يكن دينا على الأيام ** يا قدحان التقاضي )
( دام في علو ومن عاداه ** يهوي في انخفاض )
( ما وشي الصبح الدياجي ** بسواد في بياض )
ثم نظمت له أيضا في الغرض المذكور والإكثار من هذا النمط في هذا الموضع ليس على سبيل التبجح بإجادته وغرابته ولكن على سبيل الإشادة
____________________
(5/410)
بالشرح المشار إليه فهو بالغ غاية الاستبحار
( حييت يا مختط سبت بن نوح ** بكل مزن يغتدي أو يروح )
( وحمل الريحان ريح الصبا ** أمانة فيك إلى كل روح )
( دار أبي الفضل عياض الذي ** أضحت برياه رياضا تفوح )
( يا ناقل الآثار يعنى بها ** وواصلا في العلم جري الجموح )
( طرفك في الفضل بعيد المدى ** طرفك للمجد شديد الطموح )
( كفاك إعجازا كتاب الشفا ** والصبح لا ينكر عند الوضوح )
( لله ما أجزلت فينا به ** من منحة تقصر عنها المنوح )
( روض من العلم همى فوقه ** من صيب الفكر الغمام السفوح )
( فمن بيان الحق زهر ند ** ومن لسان الصدق طير صدوح )
( تأرج العرف وطاب الجنى ** وكيف لا يثمر أو لا يفوح )
( وحلة من طيب خير الورى ** في الجيب والأعطاف منها نضوح )
( ومعلم للدين شيدته ** فهذه الأعلام منها تلوح )
( فقل لهامان كذا أو فلا ** يا من أضل الرشد تبني الصروح )
( في أحسن التقويم أنشأته ** خلقا جديدا بين جسم وروح )
( فعمره المكتوب لا ينقضي ** إذا تقضى عمر سام ونوح )
( كأنه في الحفل ريح الصبا ** وكل عطف فهو غصن مروح )
( ما عذر مشغوف بخير الورى ** إن هاج منه الذكر أن لا يبوح )
( عجبت من أكباد أهل الهوى ** وقد سطا البعد وطال النزوح )
( إن ذكر المحبوب سالت دما ** ما هن أكباد ولكن جروح )
____________________
(5/411)
( يا سيد الأوضاع يا من له ** بسيد الأرسال فضل الرجوح )
( يا من له الفضل على غيره ** والشمس تخفى عند إشراق يوح )
( يا خير مشروح وفى واكتفى ** من ابن مرزوق بخير الشروح )
( فتح من الله حباه به ** ومن جناب الله تأتي الفتوح )
ثم قال وعلى الجملة والتفصيل فهذا الرجل نسيج وحده شهرة وجلالة وخصالا وأبوة صالحة تولاه الله وكان له وانصرف بجملته إلى بلاد المشرق عام أربعة وستين وسبعمائة تولاه الله تعالى وأسعد منقلبه ومولده بتلمسان عام أحد عشر وسبعمائة انتهى كلام لسان الدين تراجم أخرى لابن مرزوق
ولنزد في هذه الترجمة على ما ذكره فنقول قال ابن خلدون صاحبنا الخطيب أبو عبد الله ابن مرزوق من أهل تلمسان كان سلفه نزلاء الشيخ أبي مدين بالعباد ومتوارثين تربته من لدن جدهم خادمه في حياته وكان جده الخامس أو السادس أبو بكر ابن مرزوق معروفا بالولاية فيهم ونشأ محمد هذا بتلمسان ومولده فيما أخبرني عام عشرة وسبعمائة انتهى
وهو مخالف لما ذكره لسان الدين فيما مر عنه
ثم قال ابن خلدون وارتحل مع والده إلى الشرق سنة ثلاث عشرة وسمع ببجاية على الشيخ ناصر الدين ولما جاور أبوه بالحرمين رجع إلى القاهرة فأقام وبرع في الطلب والرواية وكان يجيد الخطين ورجع سنة ثلاث وثلاثين إلى
____________________
(5/412)
المغرب ولقي السلطان أبا الحسن محاصرا لتلمسان وقد شيد بالعباد مسجدا عظيماوكان عمه محمد بن مرزوق خطيبا به على عادتهم في العباد وتوفي فولاه السلطان خطابة ذلك المسجد مكان عمه وسمعه يخطب على المنبر ويشيد بذكره ويثني عليه فحلي بعينيه فقربه وهو مع ذلك يلازم ابني الإمام ويأخذ نفسه بلقاء الأفاضل والأكابر والأخذ عنهم وحضر مع السلطان وقعة طريف ثم استعمله في الرسالة إلى الأندلس ثم إلى ملك قشتالة في تقرير الصلح واستنقاذ ولده المأسور يوم طريف ورجع بعد وقعة القيروان مع زعماء النصارى فرجع إلى المغرب ووفد على السلطان أبي عنان بفاس مع أمه حظيه أبي الحسن ثم رجع إلى تلمسان وأقام بالعباد وعلى تلمسان يومئذ أبو سعيد عثمان بن عبد الرحمن وأخوه أبو ثابت والسلطان أبو الحسن بالجزائر وقد حشد هنالك فأرسل أبو سعيد ابن مرزوق المذكور إليه سرا في الصلح فلما اطلع أخوه أبو ثابت على الخبر أنكره على أخيه فبعثوا من حبس ابن مرزوق ثم أجازوه البحر إلى الأندلس فنزل على أبي الحجاج سلطانها بغرناطة فقربه واستعمله على الخطبة بجامع الحمراء فلم يزل خطيبه إلى أن استدعاه أبو عنان سنة أربع وخمسين بعد مهلك أبيه واستيلائه على تلمسان وأعمالها فقدم عليه ورعى له وسائله ونظمه في أكابر أهل مجلسه ثم بعثه لتونس على ملكها سنة ثمان وخمسين ليخطب له ابنة السلطان أبي يحيى فردت الخطبة واختفت بتونس ووشي إلى السلطان أبي عنان أنه كان مطلعا على مكانها فسخطه لذلك وأمر بسجنه فسجن مدة ثم أطلقه قبل موته
ولما استولى أبو سالم على السلطنة آثره وجعل زمام الأمور بيده فوطىء الناس عقبه وغشي أشراف الدولة بابه وصرفوا إليه الوجوه فلما وثب عمر بن عبد الله بالسلطان أخر عام اثنين وستين حبس ابن مرزوق ثم أطلقه
____________________
(5/413)
بعد أن رام كثير من أهل الدولة قتله فمنعه منهم ثم لحق بتونس سنة أربع وستين ونزل على السلطان أبي إسحاق وصاحب دولته أبي محمد ابن تافراكين فأكرموه وولوه الخطابة بجامع الموحدين وأقام بها إلى أن هلك السلطان أبو يحيى سنة سبعين وولي ابنه خالد ثم لما قتل السلطان أبو العباس خالدا واستولى على السلطنة وكان بينه وبين ابن مرزوق شيء لميله مع ابن عمه محمد صاحب بجاية عزله عن الخطبة فوجم لها فأجمع الرحلة إلى المشرق وسرحه السلطان فركب السفينة ونزل بالإسكندرية ثم ارتحل إلى القاهرة ولقي أهل العلم وأمراء الدولة ونفقت بضائعه عندهم وأوصلوه إلى السلطان الأشرف فولاه الوظائف العلمية فلم يزل بها موفر الرتبة معروف الفضيلة مرشحا لقضاء المالكية ملازما للتدريس إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين انتهى ملخصا
وقال الحافظ ابن حجر إنه لما وصل تونس أكرم إكراما عظيما وفوضت إليه الخطابة بجامع السلطان وتدريس أكبر المدارس ثم قدم القاهرة فأكرمه الأشرف شعبان ودرس بالشيخونية والصرغتمشية والنجمية وكان حسن الشكل جليل القدر مات في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين انتهى
وقال ابن الخطيب القسمطيني هو شيخنا الفقيه الجليل الخطيب توفي بالقاهرة ودفن بين ابن القاسم وأشهب وله طريق واضح في الحديث ولقي أعلاما وسمعنا منه البخاري وغيره في مجالس ولمجلسه لباقة وجمال وله شرح جليل على العمدة في الحديث انتهى
وكتب بخطه بلدينا أبو عبد الله ابن العباس التلمساني ما نصه نقلت من خط بعض السادات كتبه للإمام زعيم العلماء الحفيد ابن مرزوق أنه وجد بخط جده
____________________
(5/414)
الخطيب ابن مرزوق لما ثقفه عمر بن عبد الله على يد الشيخ أبي يعقوب كتب ما نصه الحمد لله على كل حال خرج الطبري في منسكه وأبو حفص الملاي في سيرته عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم قالا وقف رسول الله على الثنية التي بأعلى مكة وليس بها يومئذ مقبور فقال يبعث الله من ههنا سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب وجوههم كالقمر ليلة البدر فقال أبو بكر من هم يا رسول الله قال هم الغرباء من أمتي الذين يدفنون ههنا ففي هذا الموضع دفن والدي رحمه الله تعالى وبعد سماعه لهذا الحديث بسبعة أيام دفن فيه أفتراه لا يشفع فيمن أقال عثرة ولده أفما يشترى هذا بأموال الأرض أفلا يرعى لي ثمانية وأربعين منبرا في الإسلام شرقا وغربا وأندلسا أفلا يرعى لي أنه ليس اليوم يوجد من يسند أحاديث الصحاح سماعا من باب إسكندرية إلى البرين والأندلس غيري ونحو من مائتين وخمسين شيخا والله ما أعلمه لكن حرمني الله تعالى نبذت الاشتغال به وآثرت اتباع الهوى والدنيا فهويت اللهم غفرانك أفلا يرعى لي مجاورة نحو اثني عشر عاما وختم القرآن في داخل الكعبة والإحياء في محراب النبي والإقراء بمكة ولا أعلم من له هذه الوسيلة غيري أفلا يرعى لي الصلاة بمكة وغربتي بينكم ومحنتي في بلدي على محبتكم وخدمتكم من ذا الذي خدمكم من الناس يخرج على هذا الوجه أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله من ذنوبي وذنوبي أعظم وربي أعلم وربي أرحم والسلام انتهى
____________________
(5/415)
ففي هذا دليل على عظم قدره ومكانته في الدين والدنيا
قلت ولقد رأيت مصحفه بتلمسان عند أحفاده وعليه خطه الرائق الذي أعرفه وهو يقول قرأت في هذا المصحف تجاه الكعبة المشرفة اثني عشر ألف ختمة انتهى
ومع هذا فقد نسي في المصحف المذكور لفظة إليك من قوله تعالى { ينقلب إليك البصر } حتى كتبه بخطه فوق السطر حفيده العلامة سيدي أبو عبد الله محمد ابن مرزوق رحم الله الجميع
قال الخطيب المذكور رحمه الله تعالى في بعض تعاليقه ما صورته ومن أشياخ والدي سيدي محمد المرشدي لقيه في ارتحالنا إلى الشرق وحين حملني إليه وأنا ابن تسع عشرة سنة نزلنا عنده ووافقنا صلاة الجمعة ومن عادته أن لا يتخذ للمسجد إماما وحضر يومئذ من أعلام الفقهاء من لا يمكن اجتماع مثلهم في غير ذلك المشهد قال فقرب وقت الصلاة فتشوف من حضر من الفقهاء والخطباء إلى التقديم فإذا الشيخ قد خرج فنظر يمينا وشمالا وأنا خلف والدي فوقع بصره علي فقال لي يا محمد تعال قال فقمت معه حتى دخلت معه في موضع خلوة فباحثني في الفروض والشروط والسنن قال فتوضأت وأخلصت النية فأعجبه وضوئي ودخل معي إلى المسجد وقادني إلى المنبر وقال لي يا محمد ارق المنبر فقلت له يا سيدي والله لا أدري ما أقول فقال لي ارق وناولني السيف الذي يتوكأ عليه الخطيب عندهم وأنا جالس مفكر فيما أقول إذا فرغ المؤذنون فلما فرغوا ناداني بصوته وقال لي يا محمد قم وقل بسم الله قال فقمت وانطلق لساني بما لا أدري ما هو إلا أني كنت أنظر إلى الناس ينظرون إلي ويخشعون من موعظتي فأكملت الخطبة فلما نزلت قال لي أحسنت يا محمد
____________________
(5/416)
قراك عندنا أن نوليك الخطابة وأن لا تخطب بخطبة غيرك ما وليت وحييت ثم سافرنا فحججنا وأراد والدي الجوار وأمرني بالرجوع لأونس عمي وقرابتي بتلمسان وأمرني بالوقوف على سيدي المرشيدي هنالك فوقفت عليه وسألني عن والدي فقلت له يقبل أيديكم ويسلم عليكم فقال لي تقدم يا محمد واستند إلى هذه النخلة فإن شعيبا يعني أبا مدين عبد الله عندها ثلاث سنين ثم دخل خلوته زمانا ثم خرج فأمرني بالجلوس بين يديه ثم قال لي يا محمد أبوك من أحبابنا وإخواننا إلا أنك يا محمد إلا أنك يا محمد فكانت هذه إشارة إلى ما امتحنت به من مخالطتي أهل الدنيا والتخليط ثم قال لي يا محمد أنت متشوش من جهة أبيك تتوهم أنه مريض ومن بلدك أما أبوك فبخير وعافية وهو الآن عن يمين منبر رسول الله وعن يمينه خليل المالكي وعن يساره أحمد قاضي مكة وأما بلدك فسم الله فخط دائرة في الأرض ثم قام فقبض إحدى يديه على الأخرى وجعلهما خلف ظهره يطوف بتلك الدائرة ويقول تلمسان تلمسان حتى طاف بتلك الدائرة مرات ثم قال لي يا محمد قد قضى الله الحاجة فيها فقلت له كيف يا سيدي ففال ستر الله إن شاء الله على من فيها من الذراري والحريم ويملكها هذا الذي حصرها يعني السلطان أبا الحسن فهو خير لهم ثم جلس وجلست بين يديه فقال لي يا خطيب فقلت يا سيدي عبدك ومملوكك فقال لي كن خطيبا أنت الخطيب وأخبرني بأمور وقال لي لا بد أن تخطب بالجامع الغربي وهو الجامع الأعظم بالإسكندرية ثم أعطاني شيئا من كعيكات صغار وزودني بها وأمرني بالرحيل
____________________
(5/417)
وأما خبر تلمسان فدخلها المريني كما ذكر وستر الله من فيها من الذراري والحريم وكان هذاالمرشدي يتصرف في الولاية كتصرف سيدي أبي العباس السبتي نفعنا الله بهما
وللخطيب ابن مرزوق المذكور تآليف منها شرحه الجليل على العمدة في خمسة أسفار جمع فيه بين ابن دقيق العيد والفاكهاني مع زوائد وشرحه النفيس على الشفاء ولم يكمل وشرحه على الأحكام الصغرى لعبد الحق وشرحه على ابن الحاجب الفرعي سماه إزالة الحاجب لفروع ابن الحاجب وله غيرها وديوان خطب بالغرب مشهور كقصديته التي قالها في تكبته بتلمسان وأولها
( رفعت أموري لباري النسم ** وموجدنا بعد سبق العدم )
ومن نظمه عند وداعه أهل تونس
( أودعكم وأثني ثم أثني ** على ملك تطاول بالجميل )
( وأسأل رغبة منكم لربي ** بتيسير المقاصد والسبيل )
( سلام الله يشملنا جميعا ** فقد عزم الغريب على الرحيل )
ومن نظم أبي المكارم منديل بن آجروم يسلي المذكور عندما سجن بعد قتل السلطان أبي سالم رحمهم الله أجمعين
( يا شمس علم أفلت بعدما ** أضاءت المشرق والمغربا )
( حجبت قسرا عن عيون الورى ** والشمس لا ينكر أن تحجبا )
وهو بيت علم وولاية وصلاح لعمه وجده وأبيه وجد أبيه ولولديه محمد وأحمد وحفيده عالم الدنيا البحر أبي عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق وولد حفيده المعروف بالكفيف وحفيد حفيده المعروف بالخطيب وهو آخر المذكورين منهم فيما نعلم
____________________
(5/418)
ابن مرزوق الكفيف
قلت كان مرادي أن أعرف بجميعهم ولكني خشيت الطول فلنلم بذكر الحفيد عالم الدنيا وابنه العلامة المشهور بالكفيف لأنه أعني الكفيف والد أم جدي أحمد لأني أحمد بن محمد بن أحمد فوالدة الجد أحمد بنت الكفيف المذكور وهو أعني الكفيف محمد بن محمد بن أحمد بن الخطيب الرئيس أبي عبد الله بن مرزوق المتقدم الذكر وكان الكفيف إماما عالما علامة ووصفه ابن داود البلوي بأنه الشيخ الإمام علم الأعلام فخر خطباء الإسلام سلالة الأولياء وخلف الأتقياء الأرضياء المسند الراوية المحدث العلامة المتفنن القدوة الحافل الكامل وأخذ العلم عن جماعة منهم عالم الدنيا أبوه قرأ عليه الصحيحين والموطأ وغير ما كتاب من تآليفه وغيرها وتفقه عليه وأجازه عموما وعن عالمي تلمسان أبوي الفضل ابن الإمام والعقباني وغيرهما واللجائي والثعالبي وللنظار أبي عبد الله محمد بن أبي القاسم المشدالي وقاضي الجماعة ابن عقاب وحافظ الإسلام ابن حجر العسقلاني وكل هؤلاء أجازوه وقرأ عليهم مشافهة إلا ابن حجر فمكاتبة ومولده غرة ذي القعدة عام أربعة وعشرين وثمانمائة نصف ليلة الثلاثاء ومن شيوخه العلامة ابن العباس التلمساني وغيره
وقال السخاوي قدم الكفيف مكة سنة إحدى وستين وثمانمائة وسمعت سنة إحدى وسبعين وثمانمائة أنه في الأحياء انتهى
وأخذ عنه جماعة أئمة كالسنوسي صاحب العقائد الشهيرة وغيرها والونشريسي صاحب المعيار والعلامة أبي عبد الله ابن العباس وحلاه بشيخنا
____________________
(5/419)
ومفيدنا علم الأعلام وحجة الإسلام آخر حفاظ المغرب وقال قرأت عليه الصحيحين وبعض مختصري ابن الحاجب الفرعي والأصلي وحضرت عليه جملة من التهذيب وبعض الخونجي وغيرها وأخذ عنه بالإجازة عالم فاس ابن غازي حسبما ذكره في كتابه المسمى بالتعلل برسوم الإسناد بعد انتقال الساكن والناد
وقال بعض الحفاظ إن وفاته عام أحد وتسعمائة بتلمسان وزرت قبره مرارا رحمه الله تعالى ونقل عنه المازوني في نوازله المسماة بالدرة المكنونة في نوازل مازونة ابن مرزوق الحفيد
وأما والده عالم الدنيا أبو عبد الله محمد بن مرزوق الشهير بالحفيد فهو البحر الإمام المشهور الحجة الحافظ العلامة المحقق الكبير النظار المطلع المنصف التقي الصالح الناصح الزاهد العابد الورع البركة الخاشع الخاشي النبيه القدوة المجتهد الأبرع الفقيه الأصولي المفسر المحدث الحافظ المسند الراوية الأستاذ المقرىء المجود النحوي اللغوي البياني العروضي الصوفي الأواب الولي الصالح العارف بالله الآخذ من كل فن بأوفر نصيب الراعي في كل علم مرعاه الخصيب حجة الله على خلقه المفتي الشهير الرحلة الحاج فارس الكراسي والمنابر سليل الأكابر سيد العلماء الأخيار وإمام الأئمة وآخر الشيوخ ذوي الرسوخ بدر التمام الجامع بين المعقول والمنقول والحقيقة والشريعة بأجل محصول وآخر النظار الفحول شيخ المشايخ صاحب التحقيقات البديعة والإختراعات الأنيقة والأبحاث الغريبة والفوائد الغزيرة المتفق على علمه وصلاحه
____________________
(5/420)
وهديه الذكي الفهامة القدوة الذي لا يسمح الزمان بمثله أبدا أوحد الأفراد في جميع الفنون الشرعية ذو المناقب العديدة والأحوال السديدة شيخ الإسلام وإمام المسلمين ومفتي الأنام الذي له القدم الراسخ في كل مقام ضيق والرحب الواسع في حل كل مشكل مقفل صاحب الكرامات والاستقامات السني السني الحريص على تحصيل السنة ومجانبة البدعة السيف المسلول على أهل البدع والأهواء الزائغة الذي أفاض الله تعالى على خلقه به بركته ورفع بين البرية محله ودرجته ووسع على خليقته به نحلته معدن العلم وشعلة الفهم وكيمياء السعادة وكنز الإفادة ابن الشيخ الفقيه العالم أبي العباس أحمد ابن الإمام العلامة الرئيس الكبير الخطيب الحافظ الرحلة الفقيه المحدث الشهير شمس الدين محمد ابن الشيخ العالم الصالح الولي المجاور أبي العباس أحمد ابن الفقيه الولي الصالح الخاشع محمد ابن الولي الكبير ذي الكرامات والأحوال الصالحة محمد بن أبي بكر ابن مرزوق العجيسي التلمساني كان رحمه الله تعالى آية الله في تحقيق العلوم والاطلاع المفرط على النقول والقيام التام على الفنون بأسرها أما الفقه فهو فيه مالك ولأزمة فروعه حائز ومالك فلو رآه الإمام قال له تقدم فلك العهد والولاية فتكلم فمنك يسمع فقهي وفروعي ومثلك من راعى ما ينبغي فروعي أو ابن القاسم لقر به عينا وقال له طالما دفعت عن المذهب عينا وشينا او المازري لعلم أنه بمناظرته حري أو الحافظ ابن رشد لقال هلم يا حافظ الرشد أو اللخمي لأبصر منه محاسن التبصرة أو القرطبي لنال منه التذكرة أو القرافي لاستفاد منه قواعده المقررة أو ابن الحاجب لاستند إلى بابه في كشف الإشكالات المحررة إلى ما انضم إلى ذلك من معرفة التفسير ودرره والاضطلاع بحقائق التأويل وغرره فلو
____________________
(5/421)
رآه مجاهد لعلم أنه في التحقيق خير جاهد أو مقاتل لقال مثلك طبق من الفهوم الكلي وأصاب المقاتل أو الزمخشري لعلم أنه كشاف الخفيات على الحقيقة وقال لكتابه تنح لهذا الحبر عن سلوك الطريقة أو ابن عطية لركب في الرحلة إلى الاستفادة منه المطية أو أبو حيان لغرق في نهره ولم تسل له نقطة من بحره إلى الإحاطة بالحديث وفنونه والاطلاع على أسانيده ومتونه ومعرفة منكره ومعروفه ونظم أنواعه ورصف صنوفه إذ إليه الرحلة انتهت في رواياته ودراياته وعليه المعول في حل مشكلاته وفتح مقفلاته وأما الأصول فالعضد ينقطع عند مناظرته ساعده والسيف يكل عند بحثه حده حتى يترك ما عنده ويساعده والبرهان لا يهتدي معه لحجة والمقترح لا يركب في بحره لجة وأما النحو فلو رآه محمود لتلجلج في قراءة المفصل واستقل ما عنده من القدر المحصل أو الرماني لاشتاق إلى مفاكهته وارتاح واستجدى من ثمار فوائده وامتاح أو الزجاج لعلم أن زجاجه لا يقوم بجواهره وأنه لا يجري معه في هذا العلم إلا في ظواهره بل لو رآه الخليل لقال هذا هو المقصد الجليل وأثنى عليه بكل جميل وقال لفرسان النحو ما لكم إلى لحوق عربيته من سبيل وأما البيان فالمصباح لا يظهر له نور عند هذا الصبح وصاحب المفتاح لا يهتدي معه إلى الفتح والقزويني يلقي علومه لإيضاح المعاني والسعد يرقى بمفهومه في مطالع المثاني وكم له من مناقب تنحط عن منالها الثواقب ومواهب تجلو بأنوارها الغياهب وأما زهده
____________________
(5/422)
وصلاحه فقد سارت به الركبان واتفق عليه الثقلان فمن وصفه بالبحر فقل له دون علمه البحر أو البدر فما يصل خلقه البدر أو الدر فأنى يشبه منطقه الدر وبالجملة فالوصف يتقاصر عن صفاته وفضلاء عصره لا يرتقون إلى صفاته فهو شيخ العلماء في أوانه وإمام الأئمة في عصره وزمانه شهد بنشر علومه العاكف والبادي وارتوى من بحار تحقيقاته الظمآن والصادي
( حلف الزمان ليأتين بمثله ** حنثت يمينك يا زمان فكفر )
هكذا وصفه بعض العلماء وهو فوق ذلك كله
وقال في حقه بلدينا الشيخ أبو الفرج ابن أبي يحيى الشريف التلمساني رحمه الله تعالى هو شيخنا الإمام العالم العلم جامع أشتات العلوم الشرعية والعقلية حفظا وفهما وتحقيقا راسخ القدم رافع لواء الإمامة بين الأمم ناصر الدين بيده ولسانه وبنانه وبالقلم محيي السنة بالفعال والمقال والشيم قطب الوقت في الحال والمقام والنهج الواضح والسبيل الأمم مستمر على الإرشاد والهداية والتبليغ والإفادة والرواية والدراية والعناية ملازم الكتاب والسنة على نهج الأئمة المحفوظين من البدع في زمن لا عاصم فيه من أمر الله إلا من رحم ذو همة علية ورتبة سنية وأخلاق مرضية وفضل وكرم إمام الأئمة وعلم الأمة الناطق بالحكم ومنير الظلم سليل الصالحين وخلاصة مجد التقى والدين نتيجة مقدمات المهتدين حجة الله على العلم والعالم جامع بين الشريعة والحقيقة على أصح طريقة متمسك بالكتاب لا يفارق فريقه الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد اتصلت به فأويت منه إلى ربوة ذات قرار ومعين وقصرت توجهي عليه ومثلت بين يديه فأنزلني أعلى الله قدره منزلة ولده رعاية للذمم وحفظا على الود الموروث من القدم فأفادني من بحار علمه ما تقصر عنه العبارة
____________________
(5/423)
ويكل دونه القلم فقرأت عليه جملة من تفسير القرآن ومن الحديث صحيح البخاري بقراءتي وقراءة غيري مرارا وصحيح مسلم كذلك وسنن الترمذي وأبي داود بقراءتي والموطأ سماعا وتفقها والعمدة ومن علم الحديث أرجوزته الحديقة وبعض الكبرى وهي الروضة تفقها ومن العربية نصف المقرب تفقها وجميع سيبويه كذلك وألفية ابن مالك وأوائل شرح الإيضاح لابن أبي الربيع وبعض المغني لابن هشام وفي الفقيه التهذيب كله تفقها وابن الحاجب الفرعي وبعض مختصر الشيخ خليل والتلقين وثلثي الجلاب وجملة من المتيطية والبيان لابن رشد وبعض الرسالة وكل ذلك قراءة تفقه وتفقهت عليه من كتب الشافعية في تنبيه الشيرازي ووجيز الغزالي من أوله إلى كتاب الإقرار ومن كتب الحنفية مختصر القدوري تفقها ومن كتب الحنابلة مختصر الخرقي تفقها ومن أصول الفقه المحصول ومختصر ابن الحاجب والتنقيح وكتاب المفتاح لجدي وقواعد عز الدين وكتاب المصالح والمفاسد له وقواعد القرافي وجملة من النظائر والأشباه للعلائي وإرشاد العميدي ومن أصول الدين المحصل والإرشاد تفقها وفي القراءات قصيدة الشاطبي تفقها وابن بري وفي البيان التلخيص والإيضاح والمصباح وكلها تفقها وفي التفقه الإحياء للغزالي سوى الربع الأخير منه وألبسني خرقة التصوف كما ألبسه أبوه وعمه وهما ألبسهما أبوهما جده انتهى ملخصا
وكتب المذكور تحت هذا ما نصه صدق السيد بن السيد أبو الفرج المذكور فيما ذكر من القراءة والسماع والتفقه وبر وقد أجزته في ذلك كله فهو
____________________
(5/424)
حقيق بها مع الإنصاف وصدق النظر جعلني الله وإياه ممن علم وعمل لآخرته واعتبر قاله محمد بن مرزوق انتهى
وقال تلميذه الولي أبو زيد سيدي عبد الرحمن الثعالبي قدم علينا بتونس شيخنا أبو عبد الله ابن مرزوق فأقام بها فأخذت عنه كثيرا وسمعت عليه جميع الموطإ بقراءة صاحبنا أبي حفص عمر ابن شيخنا محمد القلشاني وختمت عليه أربعينيات النووي قرأتها عليه في منزله قراءة تفهم فكان كلما قرأت عليه حديثا يعلوه خشوع وخضوع ثم يأخذ في البكاء فلم أزل أقرأ وهو يبكي إلى أن ختمت الكتاب وكان من أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله وأجمع الناس على فضله من المغرب إلى الديار المصرية واشتهر ذكره في البلاد فكان بذكره تطرز المجالس وجعل الله تعالى حبه في قلوب العامة والخاصة فلا يذكر في مجلس إلا والنفوس مشوقة إلى ما يحكى عنه وكان في التواضع والإنصاف والإعتراف بالحق في الغاية وفوق النهاية لا أعلم له نظيرا في ذلك في وقته ثم ذكر كثيرا جدا من الكتب مما سمعه عليه وأطال في ذلك
وقال في موضع آخر هو سيدي الشيخ الإمام الحبر الهمام حجة أهل الفضل في وقتنا وخاتمتهم ورحلة النقاد وخلاصتهم ورئيس المحققين وقادتهم السيد الكبير والذهب الإبريز والعلم الذي نصبه التمييز بن البيت الكبير والفلك الأثير ومعدن الفضل الكثير سيدي أبو عبد الله محمد بن الإمام الجليل الأوحد الأصيل جمال الفضلاء سليل الأولياء أبي العباس أحمد ابن العالم الكبير العلم الشهير تاج المحدثين وقدوة المحققين أبي عبد الله محمد بن مرزوق
____________________
(5/425)
وقال أيضا في موضع آخر هو شيخي الإمام العلم الصدر الكبير المحدث الثقة المحقق بقية المحدثين وإمام الحفظة الأقدمين والمحدثين سيد وقته وإمام عصره وورع زمانه وفاضل أقرانه أعجوبة أوانه وفاروق زمانه ذو الأخلاق المرضية والأحوال الصالحة السنية والأعمال الفاضلة الزكية أبو عبد الله
وقال في حقه المازوني في أول نوازله شيخنا الإمام الحافظ بقية النظار والمجتهدين ذو التواليف العجيبة والفوائد الغريبة مستوفي المطالب والحقوق أبو عبد الله بن مرزوق
وقال تلميذه الحافظ العلامة أبو عبد الله التنسي عند ذكره إن إمامنا مالكا سئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين لا أدري وجنة العالم لا أدري ما نصه ولم نر فيمن أدركنا من شيوخنا من تمرن على هذه الخصلة الشريفة ويكثر استعمالها غير شيخنا الإمام العلامة رئيس علماء المغرب على الإطلاق أبي عبد الله محمد بن مرزوق
وقال الشيخ أبو الحسن القلصادي في رحلته أدركت كثيرا من العلماء والعباد والزهاد والصلحاء أولاهم في الذكر والتقديم الشيخ الفقيه الإمام العلامة الكبير الشهير شيخنا وبركتنا أبو عبد الله ابن مرزوق حل كنف العلم والعلا وجل قدره في الجلة الفضلا قطع الليالي ساهرا وقطف من العلم أزاهرا فأثمر وأورق وغرب وشرق حتى توغل في فنون العلم واستغرق إلى أن طلع للأبصار هلالا لأن الغرب مطلعه وسما في النفوس موضعه وموقعه فلا ترى أحسن من لقائه ولا أسهل من إلقائه لقي الشيوخ الأكابر وبقي حمده متعرفا من بطون الكتب وألسنة الأقلام وأفواه المحابر
____________________
(5/426)
وكان رضي الله عنه من رجال الدنيا والآخرة وكانت أوقاته كلها معمورة بالطاعات ليلا ونهارا من صلاة وقراءة قرآن وتدريس علم وفتيا وتصنيف وكانت له أوراد معلومة وأوقات مشهورة وكانت له بالعلم عناية تكشف بها العماية ودراية تعضدها الرواية ونباهة تكسب النزاهة قرأت عليه رضي الله عنه بعض كتابه في الفرائض وأواخر إيضاح الفارسي وشيئا من شرح التسهيل وعرضت عليه إعراب القرآن وصحيح البخاري والشاطبيتين وأكثر ابن الحاجب الفرعي والتلقين وتسهيل ابن مالك والألفية والكافية وابن الصلاح في علم الحديث ومنهاج الغزالي وبعض الرسالة وغيرها ثم توفي يوم الخميس بمصر رابع عشر شعبان عام اثنين وأربعين وثمانمائة وصلي عليه بالجامع الأعظم بعد صلاة الجمعة وحضر جنازته السلطان فمن دونه ولم أر مثلها قبل وأسف الناس لفقده وآخر بيت سمع منه قبل موته
( إن كان سفك دمي أقصى مرادكم ** فما غلت نظرة منكم بسفك دمي )
انتهى ملخصا
وفي فهرست ابن غازي في ترجمة شيخه أبي محمد الورياجلي ما صورته وممن لقي من شيوخ تلمسان المحروسة الإمام العلم العلامة الصدر الأجل الأوحد المحقق النظار الحجة العالم الرباني أبو عبد الله محمد بن مرزوق وقد حدثني بكثير من مناقبه وصفة إقرائه وقوة اجتهاده وتواضعه لطلبة العلم وشدته على أهل البدع وما اتفق له مع بعضهم إلى غيرها من شيمه الكريمة ومحاسنه العظيمة انتهى
وقال بعضهم في حقه إنه كان يسير سيرة سلفه في العلم والتخلق والحلم والشفقة وحب المساكين آية الله في الفهم والذكاء والصدق والعدالة والنزاهة
____________________
(5/427)
واتباع السنة في الأقوال والأفعال ومحبة أهلها في جميع الأحوال مبغضا لأهل البدع ومحبا سد الذرائع وله كرامات انتهى
أخذ العلم عن جماعة أجلاء فمنهم العلامة السيد عبد الله الشريف التلمساني وعالم المغرب القاضي سيدي سعيد العقباني التلمساني والولي العابد الصالح أبو إسحاق سيدي إبراهيم المصمودي وأفرد ترجمته بتأليف وعن عمه وأبيه ويروي عن جده بالإجازة وابن عرفة وأبي العباس القصار التونسي وبفاس عن النحوي أبي حيان وأبي زيد المكودي وجماعة غيرهما وبمصر عن السراج البلقيني والزين الحافظ العراقي والشمس الغماري والسراج ابن الملقن وصاحب القاموس والمحب ابن هشام ابن صاحب المغنى والنور النويري والولي ابن خلدون والقاضي التنسي وغيرهم
وأخذ عنه جماعة كالثعالبي والقاضي عمر القلشاني وابن العباس والعلامة نصر الزواوي والولي سيدي الحسن أبركان وابنه وأبي البركات الغماري وأبي الفضل المشدالي وقاضي غرناطة أبي العباس ابن أبي يحيى الشريف وإبراهيم بن فائد وأبي العباس الندرومي وابنه الكفيف وسيدي علي بن ثابت والشهاب بن كحيل التجاني والعلامة أحمد بن يونس القسمطيني والعلامة يحيى بن يدير وأبي الحسن القلصادي والشيخ عيسى بن سلامة البسكري وغيرهم كالحافظ التنسي التلمساني
قلت وسندي إليه عن عمي الإمام سيدي سعيد المقري عن الشيخ أبي عبد الله التنسي عن والده الحافظ أبي عبد الله محمد التنسي المذكور عن ابن مرزوق المذكور بكل مروياته وتآليفه
وقال السخاوي في حقه هو أبو عبد الله يعرف بحفيد ابن مرزوق وقد
____________________
(5/428)
يختص بابن مرزوق وقد تلا لنافع على عثمان الزروالي وانتفع في الفقه بأبي عبد الله ابن عرفة وأجازه أبو القاسم محمد بن الخشاب ومحمد بن علي الحفار الأنصاري ومحمد القيجاطي وحج قديما سنة تسعين وسبعمائة رفيقا لابن عرفة وسمع من ابن البهاء الدماميني والنور العقيلي بمكة وفيها قرأ البخاري على ابن صديق ولازم المحب ابن هشام في العربية وكذا حج سنة تسع عشرة وثمانمائة ولقيه الزيني رضوان بمكة وكذا لقيه ابن حجر انتهى
وأما تواليفه فكثيرة منها شروحه الثلاثة على البردة وسمي الأكبر إظهار صدق المودة في شرح البردة واستوفى فيه غاية الاستيفاء وضمنه سبعة فنون في كل بيت والأوسط والأصغر المسمى بالاستيعاب لما فيها من البيان والإعراب ومنها الغاية القراطيسية في شرح الشقراطيسية والمفاتيح المرزوقية في استخراج رموز الخزرجية ورجز في علوم الحديث سماه الروضة ومختصره في رجز سماه الحديقة ورجز في الميقات سماه المقنع الشافي مشتمل على ألف وسبعمائة بيت ونهاية الأمل في شرح الجمل أي جمل الخونجي واغتنام الفرصة في محادثة عالم قفصة وهو أجوبة عن مسائل في فنون العلم وردت عليه من علامة قفصة أبي يحيى ابن عقيبة فأجابه عنها والمعراج إلى استمطار فوائد الأستاذ ابن سراج في كراسة ونصف أجاب به أبا القاسم ابن سراج الغرناطي عن مسائل نحوية ومنطقية وأنوار اليقين في شرح حديث أولياء الله المتقين وهو حديث أول حلية أبي نعيم في شأن البدلاء وغيرهم والدليل المومي في ترجيح طهارة الكاغد الرومي والنصح الخالص في الرد على مدعي رتبة الكامل الناقص في سبعة كراريس رد به على عصرية الإمام أبي
____________________
(5/429)
الفضل قاسم العقباني في فتواه في مسألة الفقراء الصوفية لما صوب العقباني صنيعهم وخالفه هو ومختصر الحاوي في الفتاوي لابن عبد النور والروض البهيج في مسائل الخليج وأنوار الدراري في مكررات البخاري وأرجوزة نظم تلخيص ابن البناء ورجز تلخيص المفتاح نظمه في حال صغره ورجز حرز الأماني ورجز جمل الخونجي ورجز اختصار ألفية ابن مالك وتأليفه في مناقب شيخه المصمودي وتفسير سورة الإخلاص على طريقة الحكماء وهذه كلها تامة
وأما ما لم يكمل من تآليفه فالمتجر الربيح والسعي والرجيح والمرحب الفسيح في شرح الجامع الصحيح وروضة الأريب في شرح التهذيب والمنزع النبيل في شرح مختصر خليل شرح منه كتاب الطهارة في مجلدين ومن الأقضية إلى آخره في سفرين وإيضاح السالك على ألفية ابن مالك إلى اسم الإشارة أو الموصول مجلد كبير في قدر شرح المرادي وشرح شواهد شراح الألفية إلى باب كان مجلد وله خطب عجيبة
وأما أجوبته وفتاويه على المسائل المنوعة فقد سارت بها الركبان شرقا وغربا بدوا وحضرا وقد نقل المازوني والونشريسي منها جملة وافرة
ومن تآليفه أيضا عقيدته المسماة عقيدة أهل التوحيد المخرجة من ظلمة التقليد والآيات الواضحات في وجه دلالة المعجزات والدليل الواضح المعلوم في طهارة كاغد الروم وإسماع الصم في إثبات الشرف من قبل الأم وذكر السخاوي أن من تواليفه شرح ابن الحاجب الفرعي وشرح التسهيل انتهى
ومولده كما ذكره في شرحه على البردة ليلة الاثنين رابع عشري ربيع الأول عام ستة وستين وسبعمائة قال حدثتني أمي عائشة بنت الفقيه الصالح
____________________
(5/430)
القاضي أحمد بن الحسن المديوني وكانت من الصالحات ألفت مجموعا في أدعية أختارتها وكانت لها قوة في تعبير الرؤيا اكتسبتها من كثرة مطالعتها لكتب الفن أنه أصابني مرض شديد أشرفت منه على الموت ومن شأنها وأبيها أنهما لا يعيش لهما ولد إلا نادرا وكانوا أسموني أبا الفضل أول الأمر فدخل عليها أبوها أحمد المذكور فلما رأى مرضي وما بلغ بي غضب وقال ألم أقل لكم لا تسموه أبا الفضل ما الذي رأيتم له من الفضل حتى تسموه أبا الفضل سموه محمدا لا أسمع أحدا يناديه بغيره إلا فعلت به وفعلت يتوعد بالأدب قالت فسميناك محمدا ففرج الله عنك انتهى
ومن فوائده ما حكى في بعض فتاويه قال حضرت مجلس شيخنا العلامة نخبة الزمان ابن عرفة رحمه الله تعالى أول مجلس حضرته فقرأ { ومن يعش عن ذكر الرحمن } الزخرف 36 فجرى بيننا مذاكرات رائقة وأبحاث حسنة فائقة منها أنه قال قرئ يعشو بالرفع ونقيض بالجزم ووجهها أبو حيان بكلام ما فهمته وذكر أن في النسخة خللا وذكر بعض ذلك الكلام فاهتديت إلى تمامه فقلت يا سيدي معنى ما ذكره أن جزم نقيض بمن الموصولة لشبهها بالشرطية لما تضمنت من معنى الشرط وإذا كانوا يعاملون الموصول الذي لايشبه لفظه لفظ الشرط بذلك فما يشبه لفظ الشرط أولى بتلك المعاملة فوافق رحمه الله تعالى وفرح كما أن الإنصاف كان طبعه وعند ذلك أنكر علي جماعة من أهل المجلس وطالبوني بإثبات معاملة الموصول معاملة الشرط فقلت نصهم على دخول الفاء في خبر الموصول في نحو الذي يأتيني فله درهم من ذلك فنازعوني في ذلك وكنت حديث عهد بحفظ التسهيل فقلت قال ابن مالك فيما يشبه المسألة وقد يجزم متسبب عن صلة الذي تشبيها بجواب الشرط وأنشدت من شواهد المسألة قول الشاعر
____________________
(5/431)
( كذاك الذي يبغي على الناس ظالما ** تصبه على رغم عواقب ما صنع )
فجاء الشاهد موافقا للحال انتهى بنقل تلميذه المازوني
وقد ذكر الشيخ ابن غازي الحكاية في فهرسته في ترجمة شيخه الأستاذ الصغير وفيها بعض مخالفة لما تقدم فلنسقه قال حدثني أنه بلغه عن ابن عرفة أنه كان يدرس من صلاة الغداة إلى الزوال يقرىء فنونا ويبتدىء بالتفسير وأن الإمام ابن مرزوق أول ما دخل عليه وجده يفسر هذه الآية { ومن يعش عن ذكر الرحمن } فكان أول ما فاتحه أن قال له هل يصح كون من هنا موصولة فقال ابن عرفة كيف وقد جزمت فقال له تشبيها لها بالشرط فقال ابن عرفة إنما يقدم على هذا بنص من إمام أو شاهد من كلام العرب فقال أما النص فقول التسهيل كذا وأما الشاهد فقول الشاعر
( فلا تحفرن بئرا تريد أخا بها ** فإنك فيها أنت من دونه تقع )
( كذاك الذي يبغي على الناس ظالما ** تصبه على رغم عواقب ما صنع )
فقال ابن عرفة فأنت إذا ابن مرزوق قال نعم فرحب به انتهى وهو خلاف ما تقدم والأول أصوب لنقل غير واحد أن جزم الموصولات إنما يكون في الجواب لا في الشرط والله تعالى أعلم
وفي بعض المجاميع أن ابن عرفة اشتغل بضيافته لما انقضى المجلس
ومن فوائده أنه كان يصرف لفظ أبي هريرة بناء على أن جزء العلم غير علم وخالفه أهل فاس في ذلك لما بلغهم ومال الأستاذ الصغير والحافظ القوري إلى منع الصرف لوجوه ليس هذا موضعها ومنها قول ابن مالك
____________________
(5/432)
( ولاضطرار كبنات الأوبر ** )
فإنه مؤذن بان جزء العلم علم وقد ألف في المسألة ابن العباس التلمساني تأليفا سماه الاعتراف في ذكر ما لفظ أبي هريرة من الإنصراف انتهى
ومن نظمه رحمه الله تعالى
( بلد الجدار ما أمر نواها ** كلف الفؤاد بحبها وهواها )
( يا عاذلي كن عاذري في حبها ** يكفيك منها ماؤها وهواها )
يعني ببلد الجدار تلمسان ولذلك قال في رجز في علم الحديث ما صورته
( ومن بها أهل ذكاء وفطن ** في رابع من الأقاليم قطن )
( يكفيك أن الداودي بها دفن ** مع ضجيعه ابن غزلون الفطن )
قلت وحدثني عمي الإمام سيدي سعيد المقري رحمه الله تعالى أن العلامة ابن مرزوق لما قدم تونس في بعض الرسائل السلطانية طلب منه أهل تونس أن يقرأ لهم في التفسير بحضرة السلطان فأجابهم إلى ذلك وعينوا له محل البدء فطالع فيه فلما حضروا قرأ القارىء غير ذلك وهو قوله تعالى { فمثله كمثل الكلب } الآية الأعراف 176 وأرادوا بذلك إفحام الشيخ والتعريض به فوجم هنيهة ثم تفجر بينابيع العلم إلى أن أجرى ذكر ما في الكلب من الخصال المحمودة وساقها أحسن مساق وأنشد عليها الشواهد وجلب الحكايات حتى عد من ذلك جملة ثم قال في آخرها فهذا ما حضر من محمود أفعال الكلب وخصاله غير أن فيه واحدة ذميمة وهي إنكاره الضيف ثم افترق المجلس وأخبرني أنه أطال في ذلك المجلس من الصبح إلى قرب الظهر وقد طال عهدي بالحكاية وإنما نقلتها بمعناها من حفظي وهي من الغرائب ولولا الإطالة لذكرت ما وقع له مع بعض علماء برصه في الحجاز حسبما ذكره في مناقب شيخه المصمودي رحم الله الجميع
____________________
(5/433)
رجع إلى ذكر مشايخ لسان الدين فنقول
19 - ومن مشايخ لسان الدين الرئيس أبو الحسن علي بن الجياب وهو كما في الإحاطة علي بن محمد بن سليمان بن علي بن سليمان بن حسن الأنصاري الغرناطي أبو الحسن قال وهو شيخنا ورئيسنا العلامة البليغ ومن مشايخه أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي وخلق قال وقد دونت شعره فمن معشراته قوله في حرف الجيم
( جريئا على الزلات غير مفكر ** جبانا على الطاعات غير معرج )
( جمعت لما يفنى اغترارا بجمعه ** وضيعت ما يبقى سجية أهوج )
( جنونا بدار لا يدوم سرورها ** فدعها سدى ليست بعشك فادرجي )
( جيادك في شأو الضلال سوابق ** تفوت مدى سن الوجيه وأعوج )
( جهلت سبيل الرشد فاقصد دليله ** تجد دار سعد بابها غير مرتج )
( جناب رسول ساد أولاد آدم ** وقرب في السبع الطباق بمعرج )
( جمال أنار الأرض شرقا ومغربا ** فكل سنا من نوره المتبلج )
( جلا صدأ المرتاب أن سبح الحصى ** لديه بنطق ليس بالمتلجلج )
( جعلت امتداحي والصلاة عليه لي ** وسائل تحظيني بما أنا مرتج )
وقال من الأغراض الصوفية السلطانية
( هات اسقني صرفا بغير مزاج ** راحي التي هي راحتي وعلاجي )
____________________
(5/434)
( إن صب منها في الزجاجة قطرة ** شف الزجاج عن السنا الوهاج )
( وإذا الخليع أصاب منها شربة ** حاجاه بالسر المصون محاجي )
( وإذا المريد إصاب منها جرعة ** ناجاه بالحق المبين مناجي )
( تاهت به في مهمه لا يهتدي ** فيه لتأويب ولا إدلاج )
( يرتاح من طرب بها فكأنما ** غنته بالأرمال والأهزاج )
( هبت عليه نسمة قدسية ** في فيء باب دائم الإرتاج )
( فإذا انثنى يوما وفيه بقية ** سارت به قصدا على المنهاج )
( وإذا تمكن منه سكر معربد ** فليصبرن لمصرع الحلاج )
( قصرت عبارة فيه عن وجدانه ** فغدا يفيض بمنطق لجلاج )
( أعشاه نور للحقيقة باهر ** فتراه يخبط في الظلام الداجي )
( رام الصعود بها لمركز أصله ** فرمت به في بحرها المواج )
( فلئن أمد برحمة وسعادة ** فليخلصن من بعد طول هياج )
( وليرجعن بنعمة موفورة ** ما شيب عذب شرابها بأجاج )
( ولئن تخطاه القبول لما جنى ** فليرجعن نكسا على الأدراج )
( ما أنت إلا درة مكنونة ** قد أودعت في نطفة أمشاج )
( فاجهد على تخليصها من طبعها ** تعرج بها في أرفع المعراج )
( واشدد يديك معا على حبل التقى ** فإن اعتصمت به فأنت الناجي )
( ولدى العزيز ابسط بساط تذلل ** وإلى الغني امدد يد المحتاج )
( هذا الطريق له مقدمتان صادقتان ** أنتجتا أصح نتاج )
( فاجمع إلى ترك الهوى حمل الأذى ** واقنع من الإسهاب بالإدماج )
( حرفان قد جمعا الذي قد سطروا ** من بسط أقوال وطول حجاج )
( والمشرب الأصفى الذي من ذاقه ** فقد اهتدى منه بنور سراج )
( أن لا ترى إلا الحقيقة وحدها ** والكل مضطر إليها لاجي )
____________________
(5/435)
( هذي بدائع حكمة أنشأتها ** بإشارة المولى أبي الحجاج )
( وسع الأنام بفضله وبعدله ** وبحلمه وبجوده الثجاج )
( من آل نصر نخبة الملك الرضى ** أمن المروع هم وغيث الراجي )
( من آل قيلة ناصري خير الورى ** والخلق بين تخاذل ولجاج )
( ماذا أقول وكل قول قاصر ** في وصف بحر زاخر الأمواج )
( منه لباغي العرف در فاخر ** ولمن يعادي الدين هول فاجي )
( دامت سعودك في مزيد والمنى ** تأتيك أفواجا على أفواج )
وقال من المطولات
( لمن المطايا في السراب سوابحا ** تفلى الفلاة غواديا وروائحا )
( عوج كأمثال القسي ضوامر ** يرمين في الآفاق مرمى نازحا )
وقال يمدح ويصف مصنعا سلطانيا
( زارت تجر بنخوة أذيالها ** هيفاء تخلط بالنفار دلالها )
( فالشمس من حسد لها مصفرة ** إذ قصرت عن أن تكون مثالها )
( وافتك تمزج لينها بقساوة ** قد أدرجت طي العتاب نوالها )
( كم رمت كتم مزادها لكنه ** صحت دلائل لم تطق إعلالها )
( تركت على الأرجاء عند مسيرها ** أرجا كأن المسك فت خلالها )
( ما واصلتك محبة وتفضلا ** لو كان ذاك لواصلت إفضالها )
( لكن توقعت السلو فجددت ** لك لوعة لا تتقي ترحالها )
( فوحبها قسما يحق بروره ** لتجشمنك في الهوى أهوالها )
____________________
(5/436)
حسنت نظم الشعر في أوصافها ** إذ قبحت لك في الهوى أفعالها )
( يا حسن ليلة وصلها ما ضرها ** لو أتبعت من بعدها أمثالها )
( لما سكرت بريقها وجفونها ** أهملت كأسك لم ترد إعمالها )
( هذا الربيع أتاك ينشر حسنه ** فافسح لنفسك في مداه مجالها )
( واخلع عذارك في البطالة جامحا ** واقرن بأسحار الهنا آصالها )
( في جنة تجلو محاسنها كما ** تجلو العروس لدى الزفاف جمالها )
( شكرت أيادي للحيا شكر الورى ** شرف الملوك همامها مفضالها )
( وصميمها أصلا وفرعا خيرها ** ذاتا وخلقا سمحها بذالها )
( الطاهر الأعلى الأمين المرتضى ** بحرالمكارم غيثها سلسالها )
( حاز المعالي كابرا عن كابر ** وجرى لغايات الكرام فنالها )
( إن تلقه في يوم بذل هباته ** تلق الغمائم أرسلت هطالها )
( أو تلقه في يوم جرب عداته ** تلق الضراغم فارقت أشبالها )
( ملك إذا ما صال يوما صولة ** خلت البسيطة زلزلت زلزالها )
( فبسيبه وبسيفه نلت المنى ** واستعجلت أعداؤه آجاها )
( الواهب الآلاف قبل سؤالها ** فكفى العفاة سؤالها ومطالها )
( القاتل الآلاف قبل قراعها ** فكفى العداة قراعها ونزالها )
( إن قلت بحر كفه قصرت إذ ** شبهت بالملح الأجاج نوالها )
( ملأ البسيطة عدله وأمانه ** فالوحش لا تعدو على من غالها )
( وسقى البرية فيض كفيه فقد ** عم البلاد سهولها وجبالها )
( جمع العلوم عناية بعيونها ** آدابها وحسابها وجدالها )
( منقولها معقولها وأصولها ** وفروعها تفصيلها إجمالا )
( فإذا عفاتك عاينوك تهللوا ** لما رأوا من كفك استهلالها )
____________________
(5/437)
( وإذا عداتك أبصروك تيقنوا ** أن المنية سلطت رئبالها )
( بددت شملهم ببيض صوارم ** رويت من علق الكماة نصالها )
( وأبحت أرضهم فأصبح أهلها ** خورا تغادر نهبة أموالها )
( فتحت إمارتك السعيدة للورى ** أبواب بشرى واصلت إقبالها )
( وبنت مصانع رائقات ذكرت ** دار النعيم جنانها وظلالها )
( وأجلها قدرا وأرفعها مدى ** هذا الذي سامى النجوم وطالها )
( هو جنة فيها الأمير مخلد ** بلغت إمارته بها آمالها )
( ولأرض أندلس مفاخر أنتم ** أربابها أضفيتم سربالها )
( فحميتم أرجاءها وكفيتم ** أعداءها وهديتم ضلالها )
( فبآل نصر فاخرت لا غيرهم ** لم تعتمد من قبلهم أقيالها )
( بمحمد ومحمد ومحمد ** قصرت على الخصم الألد نضالها )
( فهم الألى ركبوا لكل عظيمة ** جردا كسين من النجيع جلالها )
( وهم الألى فتحوا لكل ملمة ** بابا أزاح بفتحه إشكالها )
( متقلدون من السيوف عضابها ** متأبطون من الرماح طوالها )
( الراكبون من الجياد عرابها ** والضاربون من العدا أبطالها )
( أولي عهد المسلمين ونخبة الأملاك ** صفوة محضها وزلالها )
( إن العباد مع البلاد مقرة ** بفضائل لك مهدت أحوالها )
( فتفك عانيها وتحمي سربها ** وتفيد حلما دائما جهالها )
وقال يرثي ولده أبا القاسم رحمهما الله تعالى
( هو البين حتما لا لعل ولا عسى ** فما بال نفسي لم تفض عنده أسى )
( وما لفؤادي لم يذب منه حسرة ** فتبا لهذا القلب سرعان ما قسا )
____________________
(5/438)
( وما لجفوني لا تفيض موردا ** من الدمع يهمي تارة ومورسا )
( وما للساني مفصحا بخطابه ** وما كان لو أوفى بعهد لينبسا )
( أمن بعد ما أودعت روحي في الثرى ** ووسدت مني فلذة القلب مرمسا )
( وبعد فراق ابني أبي القاسم الذي ** كساني ثوب الثكل لا كان ملبسا )
( أؤمل في الدنيا حياة وأرتضي ** مقيلا لذى أبنائها ومعرسا )
( فآها وللمفجوع فيها استراحة ** ولا بد للمصدور أن يتنفسا )
( على عمر أفنيت فيه بضاعتي ** فأسلمني للقبر حيران مفلسا )
( ظللت به في غفلة وجهالة ** إلى أن رمى سهم الفراق فقرطسا )
( إلى الله أشكو برح حزني فإنه ** تلبس منه القلب ما قد تلبسا )
( وهدة خطب نازلتني عشية ** فما أغنت الشكوى ولا نفع الأسا )
( فقد صذعت شملي وأصمت مقاتلي ** وقد هدمت ركني الوثيق المؤسسا )
( ثبت لها صبرا لشدة وقعها ** فما زلزلت صبري الجميل وقد رسا )
( وأطمع أن يلقى برحمته الرضى ** وأجزع أن يشقي بذنب فينكسا )
( أبا القاسم اسمع شكو والدك الذي ** حسا من كؤوس البين أفظع ما حسا )
( وقفت فؤادي مذ رحلت على الأسى ** فأشهد لا ينفك وقفا محبسا )
( وقطعت آمالي من الناس كلهم ** فلست أبالي أحسن المرء أم أسا )
( تواريت يا بدري وشمسي ناظري ** فصار وجودي مذ تواريت حندسا )
( وخلفت لي عبئا من الثكل فادحا ** فما أتعب الثكلان نفسا وأتعسا )
( أحقا ثوى ذاك الشباب فلا أرى ** له بعد هذا اليوم حولي مجلسا )
( فيا غصنا نضرا ثوى عندما استوى ** وأوحشني أضعاف ما كان أنسا )
( ويا نعمة لما تبلغتها انقضت ** فأنعم أحوالي بها صار أبؤسا )
____________________
(5/439)
( لودعته والدمع تهمي سحابه ** كما أسلم السلك الفريد المخمسا )
( وقبلت في ذاك الجبين مودعا ** لأكرم من نفسي علي وأنفسا )
( وحققت من وجدي به قرب رحلتي ** وماذا عسى أن ينظر الدهر من عسا )
( فيا رحمة للشيب يبكي شبيبة ** قياس لعمري عكسه كان أقيسا )
( فلو أن هذا الموت يقبل فدية ** حبوناه أموالا كراما وأنفسا )
( ولكنه حكم من الله واجب ** يسلم فيه من بخير الورى ائتسى )
( تغمدك الرحمن بالعفو والرضى ** وكرم مثواك الجديد وقدسا )
( وألف منا الشمل في جنة العلا ** فنشرب تسنيما ونلبس سندسا )
وكتب إلى القاضي الشريف وهو بوادي آش
( أهزلا وقد جدت بك اللمة الشمطا ** وأمنا وقد ساورت يا حية رقطا )
( أغرك طول العمر في غير طائل ** وسرك أن الموت في سيره أبطا )
( رويدا فإن الموت أسرع وافد ** على عمرك الفاني ركائبه حطا )
( فإذا ذاك لا تسطيع إدراك ما مضى ** بحال ولا قبضا تطيق ولا بسطا )
( تأهب فقد وافى مشيبك منذرا ** وها هو في فوديك أحرفه خطا )
( فوافقت منه كاتب السر واشيا ** له القلم الأعلى يخط به وخطا )
( معمى كتاب فكه احذر فهذه ** سفينة هذا العمر قاربت الشطا )
( وإن طالما خاضت به اللجج التي ** خبطت بها في كل مهلكة خبطا )
( وما زلت في أمواجها متقلبا ** فآونة رفعا وآونة حطا )
( فقد أوشكت تلقيك في قعر حفرة ** تشد عليك الجانبين بها ضغطا )
( ولست على علم بما أنت بعدها ** ملاق أرضوانا من الله أم سخطا )
____________________
(5/440)
( وأعجب شيء منك دعواك في النهى ** وهذا الهوى المردي على العقل قد غطى )
( قسطت عن الحق المبين جهالة ** وقد خالفتك النفس فادعت القسطا )
( وطاوعت شيطانا تجيب إذا دعا ** وتقبل إن أغوى وتأخذ إن أعطى )
( تناءى عن الأخرى وقد قربت مدى ** تدانى من الدنيا وقد أزمعت شحطا )
( وتمنحها حبا وفرط صبابة ** وما منحت إلا القتادة والخرطا )
( فها أنت تهوي وصلها وهي فارك ** وتأمل قربا من حماها وقد شطا )
( صراط هدى نكبت عنه عماية ** ودار ردى أوعيت في سحتها سرطا )
( فما لك إلا السيد الشافع الذي ** له فضل جاه كل ما يرتجي يعطي )
( دليل إلى الرحمن فانهج سبيله ** فمن حاد عن نهج الدليل فقد أخطا )
( محبته شرط القبول فمن خلت ** صحيفته منها فقد فقد الشرطا )
( وما قبلت منه لدى الله قربة ** وما زكت الأعمال بل حبطت حبطا )
( به الحق وضاح به الإفك زاهق ** به الفوز مرجو به الذنب قد حطا )
( هو الملجأ الأحمى هو الموئل الذي ** به في غد يستشفع المذنب الخطا )
( لقد مازجت روحي محبته التي ** بقلبي خطت قبل أن أعرف الخطا )
( إليك ابن خير الخلق بنت بديهة ** تقبل تبجيلا أناملك السبطا )
( وحيدة هذا العصر وافت وحيدة ** لتبسط من شتى بدائعها بسطا )
( وتتلو آيات التشيع إنها ** لموثقة عهدا ومحكمة ربطا )
( لك الشرف المأثور يا ابن محمد ** وحسبك أن تنمى إلى سبطه سبطا )
( إلى شرفي دين وعلم تظاهرا ** تبارك من اعطى وبورك في المعطى )
( ورهطك أهل البيت بيت محمد ** فأعظم به بيتا وأكرم به رهطا )
( بعثت به عقدا من الدر فاخرا ** وذكر رسول الله درته الوسطى )
( وأهديت منها للسيادة غادة ** نظمت من الدر الثمين بها سمطا )
____________________
(5/441)
( وحاشيتها من كل ما شأنها فإن ** تجعد حوشي تجد لفظها سبطا )
( وفي الطيبين الطاهرين نظمتها ** فساعدها من أجل ذلك حرف الطا )
( عليك سلام الله ما ذر شارق ** وما رددت ورقاء في غصن لغطا )
وقال
( لله عصر الشباب عصرا ** فتح للخير كل باب )
( حفظت ما شئت فيه حفظا ** كنت أراه بلا ذهاب )
( حتى إذا ما المشيب وافى ** ند ولكن بلا إياب )
( لا تعتنوا بعدها بحفظ ** وقيدوا العلم بالكتاب )
وقال
( يا أيها الممسك البخيل ** إلهك المنفق الكفيل )
( أنفق وثق بالإله تربح ** فإن إحسانه جزيل )
( وقدم الأقربين واذكر ** ما روي ابدأ بمن تعول )
وقال
( وقائله لم عراك المشيب ** وما إن بعهد الصبا من قدم )
( فقلت لها لم أشب كبرة ** ولكنه الهم نصف الهرم )
وقال
( أيعتادني سقم وأنت طبيب ** وتبعد آمالي وأنت قريب )
( يقيني أن الله جل جلاله ** يقيني فراجي الله ليس يخيب )
وقال
( هي النفس إن أنت سامحتها ** رمت بك أقصى مهاوي الخديعه )
____________________
(5/442)
( وإن أنت جشمتها خطة ** تنافي رضاها تجدها مطيعه )
( فإن شئت فوزا فناقض هواها ** وإن وصلتك اجزها بالقطيعة )
( ولا تعبأن بميعادها ** فميعادها كسراب بقيعة )
وقال
( من أنت يا مولى الورى مقصوده ** طوبى له قد ساعدته سعوده )
( فليشهدنك له فؤاد صادق ** وشهوده قامت عليه شهوده )
( وليفنين عن نفسه ورسومه ** طرا وفي ذاك الفناء وجوده )
( وليحفظنه بارق يرقى به ** في أشرف المعراج ثم يعيده )
( حتى يظل وليس يدري دهشة ** تقريبه المقصود أن تبعيده )
( لكنه ألقى السلاح مسلما ** فمراده ما أنت منه تريده )
( فلقد تساوى عنده إكرامه ** وهوانه ومفيده ومبيده )
وقال ملغزا في حجل
( حاجيت كل فطن لبيب ** ما اسم لأنثى من بني يعقوب )
( ذات كرامات فزرها قربة ** فزورها أحق بالتقريب )
( تشركها في الاسم انثى لم تزل ** حافظة لسرها المحجوب )
( وقد جرى في خاتم الوحي الرضى ** لها حديث ليس بالمكذوب )
( وهو إذا ما الفاء منه صحفت ** صبغ الحياء لا الحيا المسكوب )
( فهاكها واضحة أسرارها ** فأمرها أقرب من قريب )
وقال أيضا في آب
____________________
(5/443)
( حاجيتكم ما اسم علم ** ذو نسبة إلى العجم )
( يخبر بالرجعة وهو ** راجع كما زعم )
( وصف الحبيب هو بالتصحيف ** أو بدء قسم )
( دونكه أوضح من ** نار على رأس علم )
وقال في كانون
( وما اسم لسميين ** ولم يجمعهما جنس )
( فهذا كلما يأتي ** فبالآخر لي أنس )
( وهذا ما له شخص ** وهذا ما له حس )
( وهذا ما له سوم ** وذا قيمته فلس )
( وهذا أصله الأرض ** وهذا أصله الشمس )
( وهذا واحد من سبعة ** تحيا بها النفس )
( فمن محموله الجن ** ومن موضوعه الإنس )
( فقد بان الذي ألغزت ** ما في أمره لبس )
وقال في سلم
( ما اسم مركب مفيد الوضع ** مستعمل في الوصل لا في القطع )
( ينصب لكن أكثر استعمال من ** يعنى به في الخفض أو في الرفع )
( هو إذا حققته مغيرا ** تراه شملا لم يزل ذا صدع )
( فالاسم إن طلبته تجده في ** خامسة من الطوال السبع )
( وهو إذا صحفته يعرب عن ** مكسر في غير باب الجمع )
____________________
(5/444)
( له أخ أفضل منه لم تزل ** آثاره محمودة في الشرع )
( هما جميعا من بني النجار والأفضل ** أصل في حنين الجذع )
( فهاكه قد سطعت أنواره ** لا سيما لكل زاكي الطبع )
وقال في مائدة
( حاجيت كل فطن نظار ** ما اسم لأنثى من بني النجار )
( وفي كتاب الله جاء ذكرها ** فقلما يغفل عنها القاري )
( في خبر المهدي فاطلبها تجد ** إن كنت من مطالعي الأخبار )
( ما هي إلا العيد عيد رحمة ** ونعمة ساطعة الأنوار )
( يشركها في الاسم وصف حسن ** من وصف قضب الروضة المعطار )
( فهاكه كالشمس في وقت الضحى ** قد شف عنها حجب الأستار )
ثم قال لسان الدين وأما نثره فمطولات عرفت بما تخللها من الأحوال متونها وقلت لمكان البديهة والاستعجال عيونها وقد اقتنصت جزءا منها سميت تافه من جم ونقطة من يم وولد بغرناطة في جمادى الأولى عام ثلاثة وسبعين وستمائة وتوفي ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة وأنشدت من نظمي في رثائه خامس يوم دفنه على قبره هذه القصيدة
( ما لليراع خواضع الأعناق ** طرق النعي فهن في إطراق )
( وكأنما صبغ الشحوب وجوهها ** والسقم من جزع ومن إشفاق )
( ما للصحائف صوحت روضاتها ** أسفا وكن نضيرة الأوراق )
( ما للبيان كؤوسه مهجورة ** غفل المدير لها ونام الساقي )
____________________
(5/445)
( ما لي عدمت تجلدي وتصبري ** والصبر في الأزمات من أخلاقي )
( خطب أصاب بني البلاغة والحجي ** شب الزفير به عن الأطواق )
( أما وقد أودى أبو الحسن الرضى ** فالفضل قد أودى على الإطلاق )
( كنز المعارف لا تبيد نقوده ** يوما ولا تفنى على الإنفاق )
( من للبدائع أصبحت سمر السرى ** ما بين شام للورى وعراق )
( من لليراع يجيل من خطيها ** سم العدا ومفاتح الأرزاق )
( قضب ذوابل مثمرات بالمنى ** وأراقم ينفثن بالترياق )
( من للرقاع الحمر يجمع حسنها ** خجل الخدود وصبغة الأحداق )
( تغتال أحشاء العدو كأنها ** صفحات دامية الغرار رقاق )
( وتهز اعطاف الولي كأنها ** راح مشعشعة براحة ساقي )
( من للفنون يجيل في ميدانها ** خيل البيان كريمة الأعراق )
( من للحقائق أبهمت أبوابها ** للناس يفتحها على استغلاق )
( من للمساعي الغر تقصد جاهه ** حرما فينصرها على الإخفاق )
( كم شد من عقد وثيق حكمه ** في الله أو أفتى بحل وثاق )
( رحب الذراع بكل خطب فادح ** أعيت رياضته على الحذاق )
( صعب المقادة في الهوادة والهوى ** سهل على العافين والطراق )
( ركب الطريق إلى الجنان وحورها ** يلقينه بتصافح وعناق )
( فاعجب لأنس في مظنه وحشة ** ومقام وصل في مقام فراق )
( أمطيبا بمحامد العمل الرضى ** ومكفنا بمكارم الأخلاق )
( ما كنت أحسب قبل نعشك أن أرى ** رضوى تسير به على الأعناق )
( ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ** أن اللحود خزائن الأعلاق )
( يا كوكب الهدي الذي من بعده ** ركد الظلام بهذه الآفاق )
( يا واحدا مهما جرى في حلبة ** جلى بغرة سابق السباق )
____________________
(5/446)
( يا ثاويا بطن الضريح وذكره ** أبدا رفيق ركائب ورفاق )
( يا غوث من وصل الصريخ فلم يجد ** في الأرض من وزر ولا من واق )
( ما كنت إلا ديمة منشورة ** من غير إرعاد ولا إبراق )
( ما كنت إلا روضة ممطورة ** ما شئت من ثمر ومن أوراق )
( يا مزمعا عنا العشي ركابه ** هلا ثويت ولو بقدر فواق )
( رفقا أبانا جل ما حملتنا ** لا تنس فينا عادة الإشفاق )
( واسمح ولو بمزار لقيا في الكرى ** تبقي بها منا على الأرماق )
( وإذا اللقاء تصرمت أسبابه ** كان الخيال تعلة المشتاق )
( عجبا لنفس ودعتك وأيقنت ** أن ليس بعد نواك يوم تلاقي )
( ما عذرها إن لم تقاسمك الردى ** في فضل كأس قد شربت دهاق )
( إن قصرت أجفاننا عن أن ترى ** تبكي النجيع عليك باستحقاق )
( واستوقفت دهشا فإن قلوبنا ** نهضت بكل وظيفة الآماق )
( ثق بالوفاء على المدى من فتية ** بك تقتدى في العهد والميثاق )
( سجعت بما طوقتها من منة ** حتى زرت بحمائم الأطواق )
( تبكي فراقك خلوة عمرتها ** بالذكر في طفل وفي إشراق )
( أما الثناء على علاك فذائع ** قد صح بالإجماع والإصفاق )
( والله قد قرن الثناء بأرضه ** بثنائه من فوق سبع طباق )
( جادت ضريحك ديمة هطالة ** تبكي عليه بواكف رقراق )
( وتغمدتك من الإله سعادة ** تسمو بروحك للمحل الراقي )
( صبرا بني الجياب إن فقيدكم ** سيسر مقدمه بما هو لاق )
( وإذا الأسى لفح القلوب أواره ** فالصبر والتسليم أي رواق )
وأنشد في هذا الغرض الفقيه أبو عبد الله ابن جزي
____________________
(5/447)
( ألم تر أن المجد أقوت معالمه ** فأطنابه قد قوضت ودعائمه )
( هوى من سماء المعلوات هلالها ** وخانت جواد المكرمات قوائمه )
( وثلت من الفخر المشيد عروشه ** وفلت من العز المنيع صوارمه )
( وعطل من حلي البلاغة قسها ** وعري من جود الأنامل حاتمه )
( أجل إنه الخطب الذي جل وقعه ** وثلم غرب الدين والعلم هاجمه )
( وإلا فما للنوم طار مطاره ** وما للزيم الحزن قصت قوادمه )
( وما لصباح الأنس أظلم نوره ** وما لمحيا الدهر قطب باسمه )
( وما لدموع العين فضت كأنها ** فواقع زهر والجفون كمائمه )
( قضى الله في قطب الرياسة أن قضى ** فشتت ذاك الشمل من هو ناظمه )
( ومن قارع الأيام سبعين حجة ** ستنبو غراراه ويندق قائمه )
( وفي مثلها أعيا النطاسي طبه ** وضل طريق الحزم في الرأي حازمه )
( تساوى جواد في رداه وباخل ** فلا الجود واقيه ولا البخل عاصمه )
( وما نفعت رب الجياد كرامه ** ولا منعت منه الغني كرائمه )
( وكل تلاق فالفراق أمامه ** وكل طلوع فالغروب ملازمه )
( وكيف مجال العقل في غير منفذ ** إذا كان باني مصنع هو هادمه )
( ليبك عليا مستجير بعدله ** يصاخ لشكواه ويمنع ظالمه )
( ليبك عليا مائح بحر علمه ** يروى بأنواع المعارف هائمه )
( ليبك عليا مظهر فضل نصحه ** يحلا عن ورد المآثم حائمه )
( ليبك عليا معتف جود كفه ** يواسيه في أمواله ويقاسمه )
( ليبك عليا ليله وهو قائم ** يكابده أو يومه وهو صائمه )
( ليبك عليا فضل كل بلاغة ** يخلده في صفحة الطرس راقمه )
( وشخص ضئيل الجسم يرهب نفثه ** ليوث الشرى في خيسها وضراغمه )
____________________
(5/448)
( تكفل بالرزق المقدر للورى ** إذا الله أعطى فهو في الناس قاسمه )
( يسدده سهما وينضوه صارما ** ويشرعه رمحا فكل يلائمه )
( إذا سال من شقيه سائل حبره ** بما شاء منه سائل فهو عالمه )
( ليبك عليه اليوم من كان باكيا ** فتلك مغانيه خلت ومعالمه )
( تقلد منه الملك عضب بلاغة ** يقد السلوقي المضاعف صارمه )
( وقلده مثنى الوزارة فاكتفى ** بها ألمعي حازم الرأي عازمه )
( ففي يده وهو الزعيم بحقها ** براعته والمشرفي وخاتمه )
( سخي على العافين سهل قياده ** أبي على العادين صعب شكائمه )
( إذا ضلت الآراء في ليل حادث ** رآها برأي يصدع الخطب ناجمه )
( وقام بأمر الدين والملك حاميا ** فذل معاديه وضل مراغمه )
( وقد كان نيط العلم والحلم والتقى ** به وهو ما نيطت عليه تمائمه )
( ودوخ أعناق الليالي بهمة ** يبيت ونجم الأفق فيها يزاحمه )
( وزاد على بعد المنال تواضعا ** أبى الله إلا أن تتم مكارمه )
( سقيت الغوادي أي علم وحكمة ** ودين متين ذلك القبر كاتمه )
( وما زال يستسقى بدعوتك الحيا ** وها هو يستسقى لقبرك ساجمه )
( بكت فقدك الكتاب إذ كان شملهم ** يؤلفه من دوح فضلك ناعمه )
( وطوقتهم بالبر ثم سقيتهم ** نداك فكنت الروض ناحت حمائمه )
( ويبكيك مني ذاهب الصبر موجع ** توقد في جنبيه للحزن جاحمه )
( فتى نال منه الدهر إلا وفاءه ** فما وهنت في حفظ عهد عزائمه )
( عليل الذي زرت عليه جيوبه ** قريح الذي شدت عليه حزائمه )
( فقد كنت ألقى الخطب منه بجنة ** تعارض دوني بأسه وتصادمه )
( سأصبر مضطرا وإن عظم الأسى ** أحارب حزني مرة وأسالمه )
( وأهديك إذ عز اللقاء تحية ** وطيب ثناء كالعبير نواسمه )
____________________
(5/449)
وأنشد الفقيه القاضي أبو جعفر ابن جزي قصيدة أولها
( أبثكما والصبر للعهد ناكث ** حديثا أملته علي الحوادث )
وأنشد القاضي أبو بكر ابن علي القرشي قصيدة أولها
( هي الآمال غايتها نفاد ** وفي الغايات تمتاز الجياد )
وأنشد الفقيه الكاتب القاضي أبو القاسم ابن الحكم قصيدة أولها
( لينع الحجي والحلم من كان ناعيا ** ويرع العلا والعلم من كان راعيا )
قصائد مطولات يخرج استقصاؤها عن الغرض فكان هذا التأبين غريبا لم يتقدم به عهد بالحضرة لكونها دار ملك والتجلة في مثل هذا مقصورة على أولي الأمر انتهى ما لخصته من ترجمته في الإحاطة
ولنرد فنقول ومن ألغازه في الدرهم
( ما يغيض إلى الكرام خصوصا ** وحبيب إلى الأنام عموما )
( فاعجبوا منه كيف يحمي ويحمى ** ويكف الغدا ويغني العديما )
( إن تغير شطريه فالأول اسم ** يألف الضرع والغمام السجوما )
( ويكون الثاني كبير أناس ** حطمته حياته تحطيما )
( فإذا ما قلبت أول شطر ** رد منطوق لغزه مفهوما )
( وإذا ما قلبت ثاني شطر ** كان كفا وليس كفا رقيما )
( قلبه بعد حذفك الفاء منه ** وهو شيء يحلل التحريما )
( أو صغير مستحسن لم يؤدب ** إن تعلمه يقبل التعليما )
( فلتبين ما قلته ولتعين ** وبه فلتقم مقاما كريما )
وقال في المسك
____________________
(5/450)
( ما طاهر طيب ولكن ** ما أصله من ذوي الطهارة )
( من الظباء الحسان لكن ** إذا تأملته ففاره )
( نص حديث الرسول فيه ** شهادة تقتضي بشارة )
( تصحيفه بعد حذف حرف ** منزلك الآهل العمارة )
يعني مبني
وقال في فلك
( ما اسم لشيء مرتقي ** في مغرب ومشرق )
( إذا حذفت فاءه ** كان لك الذي بقي )
وقال أيضا في الفنار
( ما اسم إذا حذفت منه ** فاءه المنوعة )
( فإنه ابنة الزنا ** مضافة لأربعة )
يعني ابنة الزناد وهي النار
وقال في النوم
( ما اسم مسماه به ** يسقط حكم التكليف )
( وإن دخلت البيت ** بالتصحيف حق التعنيف )
( وإن أردت شبهه ** فقلبه بالتصحيف )
( بينه فهو في كتاب ** الله بادي التعريف )
وقال في غزال
( حاجيتكم ما اسم شيء ** يروق في الوصف حسنا )
( له محاسن شتى ** منها فرادى ومثنى )
____________________
(5/451)
( 0000000 ** له بل الشعر أثنى )
( مهما تنله بحذف ** أتاك حرفا لمعنى )
( إن زال أول حرف ** زال الذي منه يعنى )
( أو زال ثانيه منه ** فالقتل أدهى وأفنى )
( أو زال ثالثه فهو ** لغو صب معنى )
( أو زال رابعه ** فالجهاد فيه تسنى )
( فأوضح القصد يا من ** قد فاق عقلا وذهنا )
وقال في النمل
( ما حيوان اسمه ** قد جاء في الذكر الحكيم )
( وهو إذا قلبته ** لمن به أنت عليم )
( وإن تصحف اسمه ** فبعض أوصاف اللئيم )
وقال في دواة
( وما أنثى بها رعي الرعايا ** وإمضاء المنايا والقضايا )
( وتقصدها بنوها من رضاع ** إذا انبعثوا لإبرام القضايا )
( لها اسم إن أزلت النقط منه ** فعذ بالله من شر البلايا )
( وإن أبدلت آخره بهمز ** فقد أبرأت نازلة الشكايا )
( وإن بدلت أوله بنون ** أتيت ببعض أرزاق المطايا )
( فأوضح ما رمزناه بفكر ** سديد القصد مبد للخفايا )
وقال في سفينة
( ما ذات نفع وغناء عظيم ** لها حديث في الزمان القديم )
____________________
(5/452)
( أوحى بها الله إلى عبده ** فحبذا فعل الرسول الكريم )
( وعابها فيما مضى صالح ** حسبك ما نص الكتاب الحكيم )
( وفي كتاب الله تردادها ** فاقرأ تجده في قضايا الكليم )
( إن أنت صحفت اسمها تلقه ** محل أنس أو بلاء مقيم )
( أو هو فعل لك فيما مضى ** لكن إذا أبرأت داء السقيم )
( فهاكه قد لاح برهانه ** مبينا لكل فكر سليم )
وقال أيضا في المسك
( كتبتم كثيرا ولم تكتبوا ** كهذا الذي سبله واضحة )
( فما اسم جرى ذكره في الكتاب ** فإن شئته فاقرإ الفاتحة )
( ففيها مصحف مقلوبه ** يعبر عن حالة صالحه )
( وليست بغادية فاعلموا ** ولكنها أبدا رائحه )
ويعني بقوله في الفاتحة قوله أول الأبيات كتبتم فافهم
وقال في صقر
( حاجيتكم ما اسم لبعض السباع ** تصحيفه ما لك فيه انتفاع )
( وعكسه إن شئت عكسا له ** يوجد لكن عند دور السماع )
( وإن تصحف بعد قلب له ** فمذهب يعزي لأهل النزاع )
( فبين الإلغاز وارفع لنا ** بنور فكر منك عنه القناع )
وقال في الحوت
( ما حيوان في اسمه ** إن اعتبرته فنون )
____________________
(5/453)
( أحرفه ثلاثة ** والكل منها هو نون )
( إن أنت صحفت اسمه ** فما جناه المذنبون )
( أو أبيض أو أسود ** أو صفة النفس الخؤون )
( قلب اسمه مصحفا ** عليه دارت السنون )
( كانت به فيما مضى ** عبرة قوم يعقلون )
( أودع فيه زمنا ** سر من السر المصون )
( فهاكه كالنار في الزند ** له فيها كمون )
وقال في لبن
( أفديك ما اسم إذا ما ** صحفته فهو سبع )
( وإن تصحف بعكس ** ففيه للقبط شرع )
( والاسم يعرب عما ** لديه ري وشبع )
( في النحل يلفى ولكن ** لا يتقي فيه لسع )
( فليس للنحل أصل ** ولا لها فيه فرع )
( فهاكه قد تبدى ** لحجبه عنه رفع )
وقال في القلم
( وماموم به عرف الإمام ** كما باهت بصحبته الكرام )
( له إذ يرتوي طيشان صاد ** ويسكن حين يعروه الأوام )
( ويذري حين يستسقي دموعا ** يرقن كما يروق الإبتسام )
وله رحمه الله تعالى كثير من هذا ولم أر أحدا أحكم الإلغاز مثلما أحكمه ابن الجياب المذكور ولولا الإطالة لذكرت منها ما يستدل به على
____________________
(5/454)
صحة الدعوى وفيما ذكرنا كفاية
ومن نظم الرئيس ابن الجياب المذكور في رثاء عمر بن علي بن عتيق القرشي الهاشمي الغرناطي قوله
( قضي الأمر فيا نفس اصبري ** صبر تسليم لحكم القدر )
( وعزاء يا فؤادي إنه ** حكم ملك قاهر مقتدر )
( حكمه أحكمها تدبيره ** نحن منها في سبيل السفر )
( أجل مقدر ليس بمستقدم ** يوما ولا مستأخر )
( أحسن الله عزاء كل ذي ** خشية لربه في عمر )
( في إمامنا التقي الخاشع ** الطاهر الذات الزكي النير )
( قرشي هاشمي منتقى ** من صميم الشرف المطهر )
( يشهد الليل عليه أنه ** دائم الذكر طويل السهر )
( في صلاة بعثت وفودها ** زمرا للمصطفى من مضر )
( قائما وراكعا وساجدا ** لطلوع فجره المنفجر )
( جمع الرحمن شملنا غدا ** بحبيب الله خير البشر )
( وتلقته وفود رحمة الله ** تأتي بالرضى والبشر )
قلت هذا النظم وإن برد ما فيه من الزحاف فله من الوعظ وذكر الله ورسوله خير لحاف
قال لسان الدين ولما نظم القاضي أبو بكر ابن شبرين ببيت الكتابة ومألف الجملة هذين البيتين
( ألا يا محب المصطفى زد صبابة ** وضمخ لسان الذكر منك بطيبه )
( ولا تعبأن بالمبطلين فإنما ** علامة حب الله حب حبيبه )
وأخذ الأصحاب في تذييل ذلك قال الشيخ الرئيس أبو الحسن ابن الجياب
____________________
(5/455)
رحمه الله تعالى ورضي عنه
( فمن يعمر الأوقات طرا بذكره ** فليس نصيب في الهدى كنصيبه )
( ومن كان عنه معرضا طول ذكره ** فكيف يرجيه شفيع ذنوبه )
وقال أبو القاسم ابن أبي العافية
( أليس الذي جلى دجى الجهل هديه ** بنور أقمنا بعده نهتدي به )
( ومن لم يكن من ذاته شكر منعم ** فمشهده في الناس مثل مغيبه )
وقال أبو بكر ابن أرقم
( نبي هدانا من ضلال وحيرة ** إلى مرتقى سامي المحل خصيبه )
( فهل ينكر الملهوف فضل مجيره ** ويغمط شاكي الداء شكر طبيبه )
فانتهى القول إلى الخطيب أبي محمد ابن أبي المجد فقال
( ومن قال مغرورا حجابك ذكره ** فذلك مغمور طريد عيوبه )
( وذكر رسول الله فرض مؤكد ** وكل محق قائل بوجوبه )
وقال يوما الشيخ أبو الحسن ابن الجياب تجربة للخاطر على العادة
( جاهد النفس جاهدا فإذا ما ** فنيت منك فهو عين الوجود )
( وليكن حكمها المسدد فيها ** حكم سعد في قتله لليهود )
فأجابه أبو محمد ابن أبي المجد بقوله
( أيها العارف المعبر ذوقا ** عن معان عزيزة في الوجود )
( إن حال الفناء عن كل غير ** كمقام المراد غير المريد )
( كيف لي بالجهاد غير معان ** وعدوي مظاهر بجنود )
____________________
(5/456)
( ولو أني حكمت فيمن ذكرتم ** حكم سعد لكنت جد سعيد )
( فأراها حبابة بي فتونا ** وأراني في حبها كيزيد )
( سوف أسلو بنصحكم عن هواها ** ولو أبدت فعل المحب الودود )
( ليس شيء سوى إلهك يبقى ** واعتبر صدق ذا بقول لبيد ) ترجمة ابن أبي المجد
وابن أبي المجد المذكور هو عبد الله بن عبد البر بن علي بن سليمان بن محمد بن محمد بن أشعب الرعيني من أرجدونة من كورة رية يكنى أبا محمد ويعرف بابن أبي المجد كان من أعلام الكورة سلفا وصلاحا ونية في الصالحين كثير الإيثار بما تيسر مليح التخلق حسن السمت طيب النفس حسن الظن له حظ من الأدب والفقه والقراءات والفرائض وخوض في التصوف قطع عمره خطيبا وقاضيا ببلده ووزيرا قرأ على الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير وابن فضيلة المعافري وابن رشيد وأجازه طائفة كبيرة توفي ليلة النصف من شعبان عام تسعة وثلاثين وسبعمائة رحمه الله تعالى رجع إلى ابن الجياب
ومن نظم ابن الجياب ما كتب على باب المدرسة العلمية بغرناطة
( يا طالب العلم هذا بابه فتحا ** فادخل تشاهد سناه لاح شمس ضحى )
( واشكر مجيرك من حل ومرتحل ** إذ قرب الله من مرماك ما نزحا )
( وشرفت حضرة الإسلام مدرسة ** بها سبيل الهدى والعلم قد وضحا )
____________________
(5/457)
( أعمال يوسف مولانا ونيته ** قد طرزت صحفا ميزانها رجحا )
ومنه قوله
( أبى الله إلا أن تكون اليد العليا ** لأندلس من غير شرط ولا ثنيا )
( وإن هي عضتها بنوب نوائب ** فصيرت الشهد المشور بها شريا )
( فما عدمت أهل البلاغة والحجى ** يقيمون فيها الرسم للدين والدنيا )
( إذا خطبوا قاموا بكل بليغة ** تجلي القلوب الغلف والأعين العميا )
( وإن شعروا جاءوا بكل غريبة ** تخال النجوم النيرات لها حليا )
( فأسأل في الدنيا من الله ستره ** علينا وفي الأخرى إذا حانت اللقيا )
وقال أبو الحسن ابن الجياب
( أرى الدهر في أطواره متقلبا ** فلا تأمنن الدهر يوما فتخدعا )
( فما هو إلا مثلما قال قائل ** مكر مفر مقبل مدبر معا )
وحكي أنه أهدى له الفقيه ابن قطبة رمانا ثم دخل عليه عائدا فلما رآه قال له يا فقيه نعم بالهدنة زمانك أراد نعمت الهدية رمانك وكان هذا قبل موته من مرضه بيسير وهو مما يدل على ثبوت ذهنه حتى قرب الموت سامحه لله تعالى
ومن نثر ابن الجياب رحمه الله تعالى ما كتبه عن سلطانه إلى بعض سلاطين وقته وهو السلطان أبو سعيد المريني صاحب فاس ونصه المقام لدى الملك المنصور الأعلام والفضل الثابت الأحكام والمجد الذي أشرقت به وجوه الأيام والفخر الذي تتدارس أخباره بين الركن والمقام والعز الذي تعلو به كلمة الإسلام مقام محل الأب الواجب الإكبار والإعظام السلطان الكذا أبقاه
____________________
(5/458)
الله في ملك منيع الذمار وسعد باهر الأنوار ومجد رفيع المقدار وسلطان عزيز الأنصار كريم المآثر والآثار كفيل بالإعلاء لدين الله والإظهار معظم مقامه وموقره ومجل سلطانه ومكبره المثني على فضله الذي أربى على ظاهره مضمره الشاكر لمجده الذي كرم أثره المعتد بأبوته العلية في كل ما يقدمه ويؤخره ويورده ويصدره الداعي إلى الله تعالى بطول بقائه في سعد سام مظهره حام عسكره فلان سلام كريم طيب عميم يخص مقامكم الأعلى ورحمة الله وبركاته
أما بعد حمد الله الذي أولاكم ملكا منصورا وفخرا مشهورا وأحيا بدولتكم العلية لمكارم الأخلاق ذكرا منشورا والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسول الله الذي اختاره بشيرا ونذيرا وشرح بهدايته صدورا وجعل الملأ الأعلى له ظهيرا والرضى عن آله وصحبه الذين ظاهروه في حياته وخلفوه في أمته بعد وفاته فنالوا في الحالين فضلا مسطورا وأجرا موفورا والدعاء لمقامكم الأعلى أسماه الله تعالى بنصر لا يزال به الإسلام محبوا محبورا وسعد يملأ أرجاء البسيطة نورا فكتبته كتب الله لكم عوائد السعادة وحباكم من آلائه بالحسنى والزيادة من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وليس بفضل الله سبحانه ثم ببركته مقامكم أيد الله تعالى سلطانه إلا الخير الأكمل واليسر الأشمل والحمد لله كثيرا كما هو أهله فلا فضل إلا فضله
وأما الذي عند معظم أمركم من الإعظام لمقامكم والإكبار والثناء المردد المجدد على توالي الأعصار والشكر الذي تتلى سوره آناء الليل والنهار والعلم بما لكم من المكارم التي سار ذكرها في الأقطار أشهر من المثل السيار والاعتداد بسلطانكم العلي في الإعلان والإسرار والاستناد لى جنابكم الكريم في الأقوال والأفعال والأخبار فذلك لا يزال بحمد الله تعالى محفوظا ملحوظا بعين الاستبصار والله ولي العون على ذلك بفضله وطوله
وإلى هذا أيد الله تعالى سلطانكم ومهد أوطانكم فقد تقدمت مطالعة
____________________
(5/459)
مقامكم أسماه الله أن ملك قشتالة دس من يتحدث في عقد صلح يعود بالهدنة على البلاد ويرتفع به عنها مكابدته من جهة الأعاد وقدرنا أولا أن ذلك ليس على ظاهر الحال فيه وأنه يبدي به غير ما يخفيه ولكن جرينا معه في ذلك المضمار قصدا للتشوف على الأخبار فلما دار الحديث في هذا الحكم ظهر منه أنه قد جنح للسلم وكان خديمنا نقروز بحكم الاتفاق قد ورد إشبيلية لبعض أشغاله فاستحضره وأخذ معه في أمر الصلح وشرح أحواله وأعاده إلى معظمكم ليستفهم ما عنده ويعلم مذهبه وقصده فأعيد إليه بأنه إن أراد المصالحة على صلح والده مع هذه الدار النصرية من غير زيادة على شروط تلك القضية ولا يعرض لاسترجاع معقل من المعاقل التي أخلصت من يد النصرانية وان يكون عقده على الجزيرة الخضراء ورندة وغيرهما من البلاد الأندلسية فلا بد من مطالعة محل والدنا السلطان أمير المسلمين أبي سعيد أيده الله واستطلاع ما يراه وحينئذ نعمل بحسب نظره الجميل ومقتضاه وأكد على نقروز في أنه إن انقاد لهذا الأمر فليعقد معه هدنة لأمد من الدهر بقدر ما يتسع لتعريفكم بهذه الحال وإعلامكم ويستطلع فيها نظر مقامكم فما هو إلا أن عاد يوم تاريخ هذا بكتاب ملك قشتالة وقد أجاب إلى الصلح وانقاد إليه على حسب ما شرط عليه وأعطى مهادنة مدة شهر فبرير ليعرف فيها مقامكم ويعلم ما لديه ووافق ذلك وصول الشيخ الفقيه الأجل أبي عبدالله ابن حبشية أعزه الله من بابكم الكريم أسماه الله فأخذ معه في هذا القصد واستفهم عما لديه من مقامكم في ذلك من الإمضاء أو الرد فذكر أنكم قد أذنتم لمعظمكم في عقد السلم على مايراه من الأحكام إذ ظهر فيها المصلحة لأهل الإسلام فلما عرف مذهبكم الصالح وقصدكم الناجح رأى أن يوجه إلى ملك النصارى من يخلص معه حال الصلح على ما يعود إن شاء الله
____________________
(5/460)
تعالى على المسلمين بالنجح وقدم تعريفكم بما دار من الحديث بين يدي جوابه الوافد على مقامكم صحبة الفقيه أبي عبدالله أعزه الله تعالى ولا يخفى على مقامكم حاجة هذه البلاد في الوقت إلى هدنة يستدرك بها رمقها مما لقيته من جهد الحرب وما حل بها في هذه السنين من القحط والجدب فالصلاح بحمد الله في هذه الحال بادي الظهور وإلى الله عاقبة الأمور
هذا ما تزيد لدى معظم مقامكم وما يتزيد بعد فليس إلا المبادرة إلى مطالعتكم وإعلامكم وما كان إمساك الفقيه أبي عبد الله ابن حبشية في هذه الأيام إلا لانتظار خبر الصلح حتى يأتيكم به مستوفى الشرح وها هو قد أخذ في الرجوع إلى بابكم الأسمى والقدوم إلى حضرتكم العظمى والله يصل سعودكم ويحرس وجودكم ويبلغكم أملكم ومقصودكم والسلام
ومن إنشاء ابن الجياب رحمه الله تعالى في العزاء بالسلطان أبي الحسن المريني ما صورته بعد الصدر
أما بعد حمد الله الواحد القهار الحي القيوم حياة لا تتقيد بالأعصار القادر الذي كل شيء في قبضة قدرته محصور بحكم الاضطرار الغني في ملكوته فلا يلحقه لاحق الافتقار المريد الذي بإرادته تصريف الأقدار وتقدير الآجال والأعمار العالم الذي لا تعزب عن علمه حفايا الأسرار وخبايا الأفكار مالك الملك وأهله ومدبر الأمور بحكمته وعدله تذكرة لأولي الألباب وعبرة لأولي الأبصار خالق الموت والحياة لينقلنا من دار الفناء إلى دار القرار والصلاة والسلام على سيدناومولانا محمد رسوله المصطفى المختار الذي نهتدي بهديه الكريم في الإيراد والإصدار والإحلاء والإمرار في الشدة والرخاء والسراء والضراء بسيره الكريمة الآثار ونتعزى بالمصيبة به عما دهم من المصائب الكبار ونتقدم منه إلى ربنا شفيعا ماحيا للأوزار وآخذا بالحجز عن النار
____________________
(5/461)
ونعلم أننا باتباع سبيله نسعد سعادة الأبرار وبإقامة ملته وحماية شرعته ننال مرضاة الملك الغفار والرضى عن آله وصحبه وأوليائه وحزبه الذين ظاهروه في حياته على إقامة الحق الساطع الأنوار وخلفوه في أمته قائمين بالعدل حامين للذمار والدعاء لمحل أبينا والدكم قدس الله روحه وبرد ضريحه بالرحمة التي تتعهد روضته التي هي أذكى من الروض المعطار والرضوان الذي يتبوأ به مبوأ صدق في الملوك المجاهدين الأخيار ولمقامكم الأعلى بسعادة المقدار وتمهيد السلطان وبلوغ الأوطار فإنا كتبناه كتب الله لكم عوائد النصر وربط على قلبكم بالصبر من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى عندما تحقق لدينا النبأ الذي فت في الأعضاد وشب نار الأكباد والحادث الذي هد أعظم الأطواد وزلزل الأرض الراسية الأوتاد والواقع الذي لولا وجودكم لمحا رسم الأجواد وعطل رسوم الجهاد وكسا الآفاق ثوب الحداد والخطب الذي ضاقت له الأرض بما رحبت وأمرت الدنيا بما عذبت من وفاة محل أبينا أكبر ملوك المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين والدكم ألحفه الله تعالى برود رضاه وجعل جنته نزله ومثواه ونفعه بما أسلف من الأعمال الكريمة وما خلده من الآثار العظيمة فإنا لله وإنا إليه راجعون تسليما لما قضاه ورضى بما أنفذه وأمضاه وعند الله نحتسب منه والدا شفيقا حانيا رفيقا لم يزل يولي الجميل قوله وفعله ويصل لنا من أسباب عنايته ما اقتضاه فضله وما هو أحق به وأهله
وكنا طول حياته لم نجد أثرا لفقد الوالد لما أولانا من جميل العوائد وكرم المقاصد جزاه الله أحسن جزائه وأعاننا على توفية حقه وأدائه ولمثل هذه المصيبة ولا مثل لها تظلم الأرجاء ويضيق الفضاء وتبكيه مسومة الجياد ومعالم الجهاد والسيوف في الأغماد وشتى العباد والبلاد فلا تسألوا كيف هو عندنا موقع هذا الخطب العظيم والحادث المقعد المقيم والرزية التي لا رزية مثلها والحادثة التي أصيبت بها الملة وأهلها فوجدنا لفقده
____________________
(5/462)
يتضاعف مع الآناء ويتجدد تذكار ما أسلف من أعمال الملوك الفضلاء ولكنه أمر حتم وقضاء من الله جزم وسبيل يسلك عليها الأول والآخر والآتي والغابر وليس إلا التسليم لما حكم به الحكيم العليم
ولما انتهى إلينا هذا النبأ الذي ملأ القلب حسرة والعين عبرة وتوارت شتى الأنباء وغلب اليأس فيها على الرجاء وجدنا له ما يوجد لفقد الأب الذي ابتدأ بالإحسان والإجمال وأولى عوارف القبول والإقبال ولكنه ما أطفأ نار ذلك الوجد وجبر كسر ذلك الفقد إلا ما من الله به علينا وعلى المسلمين من تقلدكم ذلك الملك الذي بكم سمعت معالمه وقامت مراسمه وعليكم انعقد الإجماع وبولايتكم استبشرت الأصقاع وكيف لا تستبشر بولاية الملك الصالح الخاشع الأواب صاحب الحرب والمحراب عدة الإسلام وعلم الأعلام من ثبت فضائله أوضح من محيا النهار وسارت مكارمه في الآفاق أشهر من المثل السيار
وقد كان محل أبينا والدكم رضي الله عنه لما علم من فضائلكم الكريمة الآثار وما قمتم به من حقه الذي وفيتموه توفية الصلحاء الأبرار ألقى إليكم مقاليد سلطانه وآثر إليكم أثر قبوله ورضوانه حتى انفصل عن الدنيا وقد ألبسكم من أثواب رضاه ما تنالون به قرة العين وعز الدارين والظفر بكلتا الحسنيين فتلك المملكة بحمد الله تعالى قد قام بها حامي ذمارها وابن خيارها ومطلع أنوارها الملك الرضي العدل الطاهر قوام الدياجي وصوام الهواجر حسنة هذا الزمان ونخبة ذلك البيت المؤسس على التقوى والرضوان فالحمد لله على أن جبر بكم صدع الإيمان وانتضى منكم سيفا مسلولا على عبدة الصلبان وأقر بكم ملك آبائكم الملوك الأعاظم وتدارك بولايتكم أمر هذا الرزء المتفاقم فإن فقدنا أعظم مفقود فقد ظفرنا بأكرم مقصود وما مات من أبقى منكم سلالة طاهرة تحيي سنن المعالي والمكارم وتعمل على شاكلة أسلافها الأكارم فتلك المملكة قد أصبحت بحمد الله ونور سعدكم في أرجائها طالع وسيف
____________________
(5/463)
بأسكم في أعدائها قاطع وعزمكم الأمضى لأمرها جامع مانع قد أوت منكم إلى الملجأ الأحمى واستمسكت بإيالتكم العظمى وعرفت أنكم ستبدون فيها من آثار دينكم المتين وفضلكم المبين ومعاليكم القاطعة البراهين ما يملؤها عدلا وإحسانا وتبلغ به آمالها مثنى ووحدانا فهنيئا لنا ولها أن صارت في ملككم وأن تشرفت بملككم وألقت مقاليدها إلى من يحمي حماها ويدفع عداها وليهن ذلك المقام الأعلى ما أولاه من العز المكين وما قلده من الملك الذي هو نظام الدنيا والدين وأن أعطاه راية الجهاد فتلقاها باليمين لينصر بها ملة الرسول الصادق الأمين فله الفخر بذلك على جميع السلاطين
وأما هذه البلاد الأندلسية حماها الله فهي وإن فقدت من السلطان الأعلى أبي سعيد أكرم ظهير ووقع مصابه منها بمحل كبير فقد لجأت منكم إلى من يحميها ويكف بأس أعاديها ويبتغي مرضاة خالقها فيها فملككم بحمد الله تعالى مقتبل الشباب جديد الأثواب عريق الأنساب أصيل الأحساب ومجدكم جار على أعراقه جري الجياد العراب
وإنا لما ورد علينا هذا النبأ معقبا بهذه البشرى ووفد علينا ذلك الخبر مردفا بهذه المسرة الكبرى علمنا أن الله سبحانه قد رأب ذلك الصدع بهذا الصنع الجميل وتلافى ذلك الخطب بهذا الخير الجزيل فأخذنا من مساهمتكم في الأمور النصيب الوافر ورأينا أن آمالنا منكم قد جلت عن محياها السافر وعينا للوفادة على بابكم لينوب عنا في العزاء والهناء عين الأعيان الفضلاء ووجه القواد والكرماء
ولنقتصر على هذا المقدار من كلام الرئيس ابن الجياب رحمه الله تعالى ويظهر لي أن نظمه أعلى طبقة من نثره وعلى كل حال فهو لا يتكلف نظما ولا نثرا رحمه الله تعالى ورضي عنه وعامله بمحض فضله
20 - ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الفقيه الكاتب البارع العلامة
____________________
(5/464)
النحوي اللغوي صاحب العلامة بالمغرب الشهير الرئيس أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي قال في الإحاطة فيه ما ملخصه عبد المهيمن بن محمد بن عبد المهيمن بن محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن محمد الحضرمي أبو محمد شيخنا الرئيس صاحب القلم الأعلى بالمغرب
من الإكليل تاج المفرق وفخر المغرب على المشرق أطلع منه نورا أضاءت له الآفاق وأثر منه بذخيرة حملت أحاديثها الرفاق ما شئت من مجد سامي المصاعد والمراقب عزيز عن لحاق النجم الثاقب وسلف زينت سماؤه بنجوم المناقب نشأ بسبتة بلده بين علم يقيده وفخر يشيده وطهارة يلتحف مطارفها ورياسة يتفيأ وارفها وأبوه رحمه الله تعالى قطب مدارها ومقام حجها واعتمارها فسلك الوعوث من المعارف والسهول وبذ على حداثة سنه الكهول فلما تحلى من الفوائد العلمية بما تحلى واشتهر اشتهار الصباح إذا تجلى تنافست فيه همم الملوك الأخاير واستأثرت به الدول على عادتها في الاستئثار بالذخاير فاستقلت بالسياسة ذراعه وأخدم الذوابل والسيوف يراعه وكان عين الملك التي بها يبصر ولسانه الذي يسهب به أو يختصر وقد تقدمت له إلى هذه البلاد الوفادة وجلت به عليها الإفادة وكتب عن بعض ملوكها وانتظم في عقودها الرفيعة وسلوكها وله في الآداب الراية الخافقة والعقود المتناسقة ومشيخته حافلة تزيد عن الإحصاء وشعره منحط عن محله من العلم والشهرة وإن كان داخلا تحت طور الإجادة فمن ذلك قوله
( تراءى سحيرا والنسيم عليل ** وللنجم طرف بالصباح كليل )
( وللفجر نهر خاضه الليل فاعتلت ** شوى أدهم الظلماء منه حجول )
( بريق بأعلى الرقمتين كأنه ** طلائع شهب في السماء تجول )
____________________
(5/465)
( فمزق ساجي الليل منه شراره ** وخرق ستر الغيم منه نصول )
( تبسم ثغر الروض عند ابتسامه ** وفاضت عيون للغمام همول )
( ومالت غصون البان نشوى كأنها ** يدار عليها من صباه شمول )
( وغنت على تلك الغصون حمائم ** لهن حفيف فوقها وهديل )
( إذا سجعت في لحنها ثم قرقرت ** يطيح خفيف دونها وثقيل )
( سقى الله ربعا لا تزال تشوقني ** إليه رسوم دونها وطلول )
( وجاد رباه كلما ذر شارق ** من الودق هتان أجش هطول )
( وما لي أستسقي الغمام ومدمعي ** سفوح على تلك العراص همول )
( وعاذلة باتت تلوم على السرى ** وتكثر من تعذالها وتطيل )
( تقول إلى كم ذا فراق وغربة ** ونأي على ما خيلت ورحيل )
( ذريني أسعى للتي تكسب العلا ** سناء وتبقي الذكر وهو جميل )
( فإما تريني من ممارسة الهوى ** نحيلا فحد المشرفي نحيل )
( وفوق أنابيب اليراعة صعدة ** تزين وفي قد القناة ذبول )
( ولولا السرى لم يجتل البدر كاملا ** ولا بات منه للسعود نزيل )
( ولولا اغتراب المرء في طلب العلا ** لما كان نحو المجد منه وصول )
( ولولا نوال ابن الحكيم محمد ** لأصبح ربع المجد وهو محيل )
( وزير سما فوق السماك جلالة ** وليس له إلا النجوم قبيل )
( من القوم أما في الندى فإنهم ** هضاب وأما في الندى فسيول )
( حووا أشرف العلياء إرثا ومكسبا ** وطابت فروع منهم وأصول )
( وما جونة هطالة ذات هيدب ** مرتها شمال حرجف وقبول )
( لها زجل من رعدها ولوامع ** من البرق عنها للعيون كلول )
( كما هدرت وسط القلاص وأرسلت ** شقاشقها عند الهياج فحول )
( بأجود من كف الوزير محمد ** إذا ما توالت للسنين محول )
____________________
(5/466)
ولا روضة بالحسن طيبة الشذا ** ينم عليها إذخر وجليل )
( وقد أذكيت للزهر فيها مجامر ** تعطر منها للنسيم ذيول )
( وفي مقل النوار للطل عبرة ** ترددها أجفانها وتجيل )
( بأطيب من أخلاقه الغر كلما ** تفاقم خطب للزمان يهول )
( حويت أبا عبد الإله مناقبا ** تفوت يدي من رامها وتطول )
( فغرناطة مصر وأنت خصيبها ** ونائل يمناك الكريمة نيل )
( فداك رجال حاولوا درك العلا ** ببخل وهل نال العلاء بخيل )
( تخيرك المولى وزيرا وناصحا ** فكان له مما أراد حصول )
( وألقى مقاليد الأمور مفوضا ** إليك فلم يعدم يمينك سول )
( وقام بحفظ الملك منك مؤيد ** نهوض بما أعيا سواك كفيل )
( وساس الرعايا منك أشوس باسل ** مبيد العدا للمعتفين منيل )
( وأبلج وقاد الجبين كأنما ** على وجنتيه للنضار مسيل )
( تهيم بها العلياء حتى كأنها ** بثينته في الحب وهو جميل )
( له عزمات لو أعير مضاءها ** حسام لما نالت ظباه فلول )
( سرى ذكره في الخافقين فأصبحت ** إليه قلوب العالمين تميل )
( وأعدى قريضي جوده وثناؤه ** فأصبح في أقصى البلاد يجول )
( إليك أيا فخر الوزارة أرقلت ** برحلي هوجاء النجاء ذلول )
( فليت إلى لقياك ناصية الفلا ** بأيدي ركاب سيرهن ذميل )
( تسددني سهما لكل ثنية ** ضوامر أشباه القسي نحول )
( وقد لفظتني الأرض حتى رمت إلى ** ذراك برحلي هوجل وهجول )
( فقيدت أفراسي به وركائبي ** ولذ مقام لي به وحلول )
( وقد كنت ذا نفس عزوف وهمة ** عليها لأحداث الزمان ذحول )
( وتهوى العلا حظي وتغري بضده ** لذاك اعترته رقة ونحول )
____________________
(5/467)
( وتأبي لي الأيام إلا إدالة ** فصونك لي إن الزمان مديل )
( فكل خضوع في جنابك عزة ** وكل اعتراز قد عداك خمول )
وقال
( أبت همتي أن يراني امرؤ ** على الدهر يوما له ذا خضوع )
( وما ذاك إلا لأني اتقيت ** بعز القناعة ذل الخشوع )
مولده بسبتة عام ستة وسبعين وستمائة وتوفي بتونس ثاني عشر شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة في الطاعون وكانت جنازته مشهورة رحمه الله تعالى انتهى
وحكى أن السلطان أبا الحسن المريني سب الشيخ عبد المهيمن الحضرمي بمجلس كتابه فأخذ عبد المهيمن القلم وكسره وقال هذا هو الجامع بيني وبينك ثم إن السلطان أبا الحسن ندم وأفضل عليه وخجل مما صدر منه وأحسن إليه
وكان عبد المهيمن ينطق بالكلام معربا ويرتفع نسبه إلى العلاء بن الحضرمي صاحب رسول الله وأصل سلفه من اليمن وكان جدهم الأعلى عبدون لحقه الضيم ببلده فارتحل إلى المغرب فنزل سبتة
ولعبد المهيمن الحضرمي شيوخ أجلاء كابن أبي الربيع النحوي وابن الشاط وابن مسعود وغيرهم وكان ذا سعد وسؤدد حسن الخط رأيت خطه بإجازته لأبي عبد الله بن مرزوق وغيره وكان عالي الهمة سريا أعطى المنصب حقه وكان لا يحتمل الضيم واحتقار العلم وكان سريع الجواب حكي أن القاضي المليلي وأبا محمد عبد المهيمن الحضرمي المذكور صاحب العلامة للسلطان أبي الحسن حضرا مجلس السلطان فجرى ذكر الفقيه ابن عبد الرزاق فقال المليلي جمع من الفنون كذا حتى وضع يده على أبي محمد عبد المهيمن وقال
____________________
(5/468)
مخاطبا للسلطان ويكتب لك أحسن من ذا فوضع عبد المهيمن يده على المليلي وقال نعم يا مولاي ويقضي لك أحسن من ذا
وقال ابن الخطيب القسمطيني الشهير بابن قنفذ في وفياته ما نصه وفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة توفي الشيخ الراوية المحدث الكاتب أبو محمد عبد المهيمن ابن محمد بن عبد المهيمن بن محمد بن علي بن محمد الحضرمي السبتي ومن أشياخه الأستاذ ابن أبي الربيع وابن الغماز وابن صالح الكناني وغيرهم من الأعلام انتهى
وقال غيره إن والد عبد المهيمن توفي غرة صفر سنة اثنتي عشرة وسبعمائة رحمه الله تعالى
وحكي أن الشيخ أبامحمد عبد المهيمن ذكر يوما بني العزفي فأثنى عليهم فقال له أحد الحسنيين وكان بينهم شيء إنهم كانوا لا يحبون أهل البيت فكيف حبك أنت لهم يعني لأهل البيت فقال أحبهم حب التشرع لا حب التشيع انتهى
قيل يعني بالعزفيين أهل الدولة الثانية وأما أهل الأولى فكانوا من المختصين بمحبة الآل وهم أحدثوا بالمغرب تعظم ليلة الميلاد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام
ومن أغرب ما وقع للرئيس عبد المهيمن الحضرمي من التشبيه قوله
( لقد راقني مرأى سجلماسة الذي ** يقر له في حسنه كل منصف )
( كأن رؤوس النخل في عرصاتها ** فواتح سورات بآخر مصحف )
وهذا من التشبيه العقيم لم يسبق إليه فيما أظن وكان سبب قوله ذلك أن السلطان أمير المسلمين أبا الحسن المريني لما تحرك لقتال أخيه السلطان أبي علي عمر بسجلماسة فظفر به استمطر أنواء أفكار الكتاب وغيرهم في تشبيه النخل فقال عبد المهيمن ما مر فلم يترك مقالا لقائل
وقد أنشد الحافظ ابن مرزوق الحفيد قال أنشدني شيخنا ولي الدين الرئيس
____________________
(5/469)
أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي لشيخه الرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي السبتي رحمه الله تعالى قوله
( يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبة ** باب الغني كذا حكم المقادير )
( وإنما الناس أمثال الفراش فهم ** يلفون حيث مصابيح الدنانير )
قلت ورأيت هذين البيتين في كتاب روح الشحر وروح الشعر للعالم الكاتب ابن الجلاب منسوبين لأبي المتوكل الهيثم بن أحمد السكوني الإشبيلي قال أنشدني أبو الحجاج الحافظ قال أنشدني الهيثم فذكر البيتين وكان تاريخ وفاته قبل أن يخلق عبد المهيمن فتعين أن البيتين ليسا من نظمه وإنما تمثل بهما ونسبتهما له وهم لا محالة والله أعلم
وأما ما اشتهر على الألسنة بالمغرب من أن أبا حيان مدح عبد المهيمن بقوله
( ليس في الغرب عالم ** مثل عبد المهيمن )
( نحن في العلم أسوة ** أنا منه وهو مني )
فقد نسبه ابن غازي إلى ابن حيان كما اشتهر لكن تاريخ مرور أبي حيان بالمغرب كان قبل ظهور عبد المهيمن بلا خفاء وهو عندي محمول على أحد أمرين أن المراد عبد المهيمن جد عبد المهيمن المذكور أو أن أبا حيان كتب بالبيتين من مصر بعدما ظهر عبد المهيمن وصارت له الرياسة بالمغرب إذ أبو حيان عاش إلى ذلك الزمان بلا ريب ولذا لما ذكر لسان الدين ابن الخطيب في كتابه الكتيبة الكامنة في أنباء أهل المائة الثامنة الشيخ أبا حيان قال وهذا الرجل طالت حياته حتى أجاز ولدي
ولعبد المهيمن المذكور أخبار غير ما قدمناه منع منها الاختصار وقد ألف الخطيب ابن مرزوق باسم ولد فهرسته المشهورة وحلاه في صدرها أحسن
____________________
(5/470)
حلية وهو أهل لذلك وقد ذكره مولاي الجد في شيوخه كما تقدم وقال فيه إنه إمام الحديث والعربية وكاتب الدولة العثمانية والعلوية فليراجع ذلك فيما سبق في ترجمة الجد
وأبو سعيد ابن عبد المهيمن كان عالي الهمة كآبائه ولما بويع السلطان أبو عنان طلب منه أن يكون مرتسما في جملة كتاب بابه فامتنع وقال لا أكون تحت حكم غيري وعنى بذلك أن أباه كان رئيس الكتاب فكيف يكون هو مرؤوسا بغيره فلم ترض همته رحمه الله تعالى إلا برتبة أبيه أو الترك وارتحل أبو سعيد محمد المذكور وكان فقيها عالما من فاس لسبتة إلى أن توفي بها سنة 787 وكان قليل الكلام جميل الرواء حسن الهيئة والبزة والشكل روى عن والده وعن الحجار وكتب له سنة 724 وروى عن الفقيه أبي الحسن ابن سليمان والرحالة ابن جابر الوادي آشي وابن رشيد وغيرهم
وابن أبي سعيد هذا اسمه عبد المهيمن كجده وكان صاحب القلم الأعلى روى عن أبيه وجده وغيرهما رحم الله الجميع
21 - ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الإمام العلامة قاضي الجماعة أبو البركات ابن الحاج البلفيقي نادرة الزمان وشاعر ذلك الأوان وهو محمد ابن محمد بن إبراهيم بن محمد ابن الشيخ الولي أبي إسحاق ابن الحاج البلفيقي وكان أبو البركات أحد رجال الكمال علما ومجدا وسؤددا موروثا ومكتسبا وقد عرف به في الإحاطة بترجمة مد فيها النفس وكتب ابنه على أول الترجمة ما صورته
رحمك الله تعالى يا فقيه الأندلس وحسيبها وصدرها وشيخها وبرد ضريحك فلله ما أفدت من نادرة واكتسبت من فائدة انتهى
____________________
(5/471)
وحكى في الإحاطة أنه لما استسقى وحصلت الإجابة أنشده لسان الدين
( ظمئت إلى السقيا الأباطح والربى ** حتى دعونا العام عاما مجدبا )
( والغيث مسدول الحجاب وإنما ** علم الغمام قدومكم فتأدبا )
ثم ذكر في الإحاطة تأليف أبي البركات وشعره إلى أن قال حاكيا عن أبي البركات ما صورته ومما نظمته وقد أكثروا من التعجب لملازمتي البناء وحفر الآبار
( في احتفار الأساس والآبار ** وانتقال التراب والجيار )
( وقعودي ما بين رمل وآجر ** وجص والطوب والأحجار )
( وامتهاني بردي بالطين والماء ** ورأسي ولحيتي بالغبار )
( نشوة لم تمر قط على قلب ** خليع وما لها من خمار )
( من غريب البناء أن بنيه ** متعبون يهوون طول النهار )
( يبتغون الوصال من صانعيه ** والبدار إليه كل البدار )
( فإذا حل في ذراهم تراهم ** يشتهون منه بعيد المزار )
( من عذيري من لائم في بنائي ** وهو لي الترجمان عن أخباري )
( ليس يدري معناه من ليس يدري ** أن ما عنده على مقدار )
( أقتدي بالذي يقول بناها ** ذلك الخالق الحكيم الباري )
( وبمن يرفع القواعد من بيت ** عتيق للحج والزوار )
( وبمن كان ذا جدار وقد كان ** أبوه من صالحي الأبرار )
( وبما قد أقامه الخضر المخصوص ** علما بباطن الأسرار )
____________________
(5/472)
( كان تحت الجدار كنز وما أدراك ** ما كان تحت كنز الجدار )
( وبمن قد مضى من آبائي الغر ** الألى شيدوا رفيع المنار )
( فالذي قد بنوه نبني له مثلا ** ونجري له على مضمار )
( قد بنينا من المساجد دهرا ** ثم نبني لجارها خير جار )
( مثلما قد بنيت للمجد أمثال ** مبانيهم بكل اعتبار )
( فالمباني لسان حالي ولي فيها ** لعمري ذكر من الأذكار )
( روح أعمالنا المقاصد لكن ** حيث تخفى تخفى مع الأعذار )
( فعسى من قضى ببنيان هذي الدار ** يقضي لنا بعقبى الدار )
ثم قال في الإحاطة بعد كلام ومن نظمه في الإنحاء على نفسه واستبعاد وجود المطالب في جنسه قال مما نظمته يوم عرفة عام خمسين وسبعمائة وأنا منزو في غار ببعض جبال المرية
( زعموا أن في الجبال رجالا ** صالحين قالوا من الأبدال )
( وادعوا أن كل من ساح فيها ** فسيلقاهم على كل حال )
( فاخترقنا تلك الجبال مرارا ** بنعال طورا ودون نعال )
( ما رأينا بها خلاف الأفاعي ** وشبا عقرب كمثل النبال )
( وسباع يجرون بالليل عدوا ** لا تسلني عنهم بتلك الليالي )
( ولو أنا كنا لدى العدوة الأخرى ** رأينا نواجذ الرئبال )
( وإذا أظلم الدجى جاء إبليس ** إلينا يزور طيف خيال )
( هو كان الأنيس فيها ولولاه ** أصيبت عقولنا بالخيال )
( خل عنك المحال يا من تعنى ** ليس يلقى الرجال غير الرجال )
وجمع شعره وسماه العذب والأجاج من كلام أبي البركات ابن الحاج
____________________
(5/473)
وسمى أبو القاسم الشريف ما استخرجه منه باللؤلؤ والمرجان من بحر أبي البركات ابن الحاج يستخرجان
ومن نظم الشيخ أبي البركات ابن الحاج قوله رحمه الله تعالى
( ألا ليت شعري لما أنا أرتجي ** من الله في يوم الجزاء بلاغ )
( وكيف لمثلي أن ينال وسيلة ** لها عن سبيل الصالحين مراغ )
( وكم رمت دهري فتح باب عبادة ** يكون بها في الفائزين مساغ )
( فكدت ولم أفعل وكيف وليس لي ** المعينان فيها صحة وفراغ )
( لأصبحت من قوم دعاهم إلى الرضى ** منادى الهدى فاستنكروه فراغوا )
( أباغ ترى أخراه من يزدهيه من ** زخارف دنياه الدنية باغ )
( ويضرب صفحا عن حقيقة ما طوت ** فيلهيه زور قد أتته مصاغ )
( إذا ما بدا للرشد نهج بيانه ** يراع به عن وحشة فيراغ )
( فيا رب برد العفو هب لي إذا غلت ** من الحر في يوم الحساب دماغ )
( فمن حرق للنفس فيه لواعج ** ومن خجل للوجد فيه صباغ )
( وعظتك نفسي لو أنبت وفي الذي ** وعظت به لو ترعوين بلاغ )
وأنشد القاضي أبو البركات في هذا الروي قول شيخه الأستاذ أبي علي ابن سليمان القرطبي
( ألا هل إلى ما أرتضيه بلاغ ** وكيف يرى يوما إليه فراغ )
( وقد قطعت دوني قواطع جمة ** أراع لها مهما جرت وأراغ )
( وما لي إلا عفو رب وفضله ** ففيه إلى ما أرتجيه بلاغ )
وكان القاضي أبو البركات من بيت كبير علما وصلاحا وزهدا وجده الإمام الولي العارف سيدي أبو إسحاق ابن الحاج أشهر من نار على علم وقبره مشهور بمراكش وقد زرته بها وله كرامات مشهورة
____________________
(5/474)
وحكى في مزية المرية من كراماته جملة قال حفيده الشيخ أبو البركات دخلت على الشيخ الصالح العابد المجتهد الحاج أبي عبد الله محمد بن علي البكري المعروف بابن الحاج في منزله بالمرية عائدا قال أظنه في مرضه الذي مات فيه فقال حين سألته عن حاله ادع لي فقلت له يا سيدي بل أنت تدعو لي فقال لي شرح الله صدرك ونور قلبك بنور معرفته فمن عرف الله لم يذكر غيره فقد حكى سيدي أبو جعفر ابن مكنون عن جدك قال كنت مع سيدي أبي إسحاق ابن الحاج بمراكش فقال لي هل ترى في المنام شيئا فقلت نعم أرى كأني في المرية أمشي من الدار إلى المسجد ومن كذا إلى كذا فأعرض عني وقال ألا ترى إلا الله قال ثم مر به في أثناء كلامه ابنه محمد فقال لي رأيت هذا والله ما أدري أن لي ابنا حتى يمر بي ولا أذكره إذا غاب عني ولا أرى إلا الله انتهى
ومن تآليف أبي البركات رحمه الله تعالى كتاب ذكر فيه أخبار سلفه رضي الله عنهم وذكر جملة من كرامات جدي سيدي أبي إسحاق المذكور نفعنا الله به
ومن شعر جده المذكور قوله
( ألا كرم الله البلاد بخطبة ** هم حسنات الدهر لا نابهم خطب )
( رعايتهم فرض على كل مسلم ** وحبهم حقا قد أوجبه الرب )
( إذا ما سألت الله شيئا فسل بهم ** فتعظيمهم قرب وغيبتهم حرب )
وقوله
( شكا فشكا قلبي خبالا مبرحا ** على غير علم كان مني بشكواه )
( وما التقت الأسرار إلا بجامع ** من النعت سلطان الحقيقة سواه )
____________________
(5/475)
( فيا فرحة المجهود إن بات سره ** وسر الذي يهواه مأواه مأواه )
( ومن أجله قد كان بالبعد راضيا ** فكيف ترى معناه والقلب مثواه )
( بدا فبدت أعلام ضدين في الهوى ** هما عجب لولا الدليل وفحواه )
( برؤيته فارقت موتي لبعده ** ومت بها من أجل علمي ببلواه )
( فها أنا حي ميت بلقائه ** ولم ينج من لم يسعد الفهم نجواه )
( إذا لم تكن أنت الحبيب بعينه ** رضى وعتابا ضل من قال يهواه )
( وأكذب ما يلفى الفتى وهو صادق ** إذا لم يحقق بالأفاعيل دعواه )
وقوله رضي الله تعالى عنه
( الحب في الله نور يستضاء به ** والهجر في ذاته نور على نور )
( جنب أخا حدث في الدين ذا غير ** إن المغير في نكس وتغيير )
( حاشا الديانة أن تبنى على خبل ** سبحان خالقنا من قول مثبور )
( إن الحقائق لا تبدو لمبتدع ** كذا المعارف لا تهدى لمغرور )
( تالله لو أبصرت عيناه أو ظفرت ** يمناه ما ظل في ظن وتقدير )
( حقق ترى عجبا إن كنت ذا أدب ** ولا يغرنك الجهال بالزور )
( إن الطريقة في التنزيل واضحة ** وما تواتر من وحي ومشهور )
( فافهم هديت هدى الرحمن واهد به ** هدى يفيدك يوم النفخ في الصور )
وقوله صدر رسالة وجه بها إلى ابنه محمد أيام قراءته بإشبيلية )
( إذا شئت أن تحظى بوصلي وقربتي ** فجنب قرين السوء واصرم حباله )
( وسابق إلى الخيرات واسلك سبيلها ** وحصل علوم الدين واعرف رجاله )
وكان رحمه الله تعالى كثيرا ما يتمثل ببيتي مهيار الديلمي وهما
( ومن عجب أني أحن إليهم ** وأسأل شوقا عنهم وهم معي )
____________________
(5/476)
( وتبكيهم عيني وهم في سوادها ** ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي )
وحدث القاضي أبو البركات حفيده عن ابن خميس التلمساني المتقدم الذكر قال سمعت بعض الأشياخ يقول كان الشيخ أبو إسحاق البلفيقي الكبير يقول اجتمع لنا في الله أربعون ألف صاحب
وحكى الشيخ أبو البركات المذكور عن الشيخ الصالح الحاج الصوفي أبي الأصبغ ابن عزرة قال هذه صلاة على النبي أخذتها عن رابك الشيخ الصالح الحاج ابي عبد الله محمد بن علي بن الحاج مشافهة وقال لي إنها صلاة أبي إسحاق ابن الحاج جدك وهي اللهم صل على محمد وعلى آل محمد صلاة دائمة مستمرة تدوم بدوامك وتبقى ببقائك وتخلد بخلودك ولا غاية لها دون مرضاتك ولا جزاء لقائلها ومصليها غير جنتك والنظر إلى وجهك الكريم
ونقل أبو البركات المذكور عن جده أنه كان يستفتح مجلسه بالمرية بهذا الدعاء اللهم اجعلنا في عياذ منك منيع وحصن حصين وولاية جميلة حتى تبلغنا آجالنا مستورين محفوظين مبشرين برضوانك يوم لقائك قال وفي وسط الدعاء وآخره واكفنا عدونا إبليس وأعداءنا من الجن والإنس بعافيتنا وسلامتنا
وكان الشيخ رضي الله عنه يواصل أربعين يوما ومن مآثره أنه بنى ثمانية عشر جبا في مواضع متفرقة ونحو عشرين مسجدا وبنى أكثر سور حصن بلفيق كل ذلك من ماله
وقال رضي الله عنه في بعض رسائله الصوفي عبارة عن رجل عدل تقي صالح زاهد غير منتسب لسبب من الأسباب ولا مخل بأدب من الآداب قد عرف شأنه وزمانه وملكت مكارم الأخلاق عنانه لا ينتصر لنفسه ولا يتفكر في غده وأمسه العلم خليله والقرآن دليله والحق حفيظه ووكيله
____________________
(5/477)
نظره إلى الخلق بالرحمة ونظره إلى نفسه بالحذر والتهمة انتهى
وأحوال هذا الشيخ عجيبة وكراماته شهيرة وإنما ذكرنا هذا النزر اليسير تبركا بذكره رضي الله عنه في هذا الكتاب وتطفلا على رب الأرباب أن ينفعنا بأمثاله ويحقق لنا النجاة والمتاب إنه على ذلك قدير
رجع إلى أخبار أبي البركات ولما وقع بينه وبين ابن صفوان ما يقع بين المتعاصرين رد عليه ابن صفوان فانتصر لأبي البركات بعض طلبته بتأليف سماه شواظ من نار ونحاس يرسل على من لم يعرف قدره وقدر غيره من الناس وهو قدر رسالة الشيخ أو أطول وألفي على ظهره بخط الشيخ أبي البركات ما صورته
( قد شبع الكلب كما ينبغي ** من حجر صلد ومن مقرع )
( فإن يعد من بعد ذا للذي ** قد كان منه فهو ممن نعي )
ومن بديع نظم الشيخ أبي البركات رحمه الله تعالى قوله
( يلومونني بعد العذار على الهوى ** ومثلي في وجدي له لا يفند )
( يقولون أمسك عنه قد ذهب الصبا ** وكيف أرى الإمساك والخيط أسود )
وقوله في المجبنات
( ومصفرة الخدين مطوية الحشا ** على الجبن والمصفر يؤذن بالخوف )
( لها بهجة كالشمس عند طلوعها ** ولكنها في الحين تغرب في الجوف )
وفي هذين البيتين تورية متعددة
وحدث القاضي أبو البركات أنه لما أراد الانصراف عن سبتة قال له السيد الشريف أبو العباس رحمه الله متى عزمت على الرحيل فأنشد أبو البركات
____________________
(5/478)
( أما الرحيل فدون بعد غد ** فمتى تقول الدار تجمعنا )
فأنشد الشريف رحمه الله تعالى
( لا مرحبا بغد ولا أهلا به ** إن كان تفريق الأحبة في غد )
وحكي أن السيد أبا العباس الشريف المذكور ساير القاضي أبا البركات في بعض أسفاره زمن الشباب ببر الأندلس أعاده الله تعالى فلما انتهيا إلى قرية ترليانة وأدركهما النصب واشتد عليهما حر الهجير نزلا وأكلا من باكر التين الذي هناك وشربا من ذلك الماء العذب واستلقى أبو البركات على ظهره تحت شجرة مستظلا بظلها ثم التفت إلى السيد أبي العباس وقال
( ماذا تقول فدتك النفس في حالي ** يفنى زماني في حل وترحال )
وأرتج عليه فقال لأبي العباس أجز فقال بديها
( كذا النفوس اللواتي العز يصحبها ** لا ترتضي بمقام دون آمال )
( دعها تسر في الفيافي والقفار إلى ** أن تبلغ السؤل أو موتا بتجوال )
( الموت أهون من عيش لدى زمن ** يعلي اللئيم ويدني الأشرف العالي )
ولما أوقع الشيخ أبو البركات على زوجه الحرة العربية أم العباس عائشة بنت الوزير المرحوم أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الكتاني ثم المغيلي طلقة كتب نسختها بما نصه بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وعلى آل محمد يقول عبد الله الراجي رحمته محمد المدعو بأبي البركات ابن الحاج خار الله له ولطف به إن الله جلت قدرته لما أنشأ خلقه على طبائع مختلفة وغرائز شتى ففيهم السخي والبخيل والشجاع والجبان والغبي والفطن والكيس والعاجز والمسامح والمناقش والمتكبر والمتواضع إلى غير ذلك من الصفات المعروفة من الخلق كانت العشرة لا تستمر بينهم إلا بأحد أمرين إما بالاشتراك في الصفات أو في
____________________
(5/479)
بعضها وإما بصبر أحدهما على صاحبه إذا عدم الاشتراك ولما علم الشارع أن بني آدم على هذا الوضع شرع لهم الطلاق ليستريح إليه من عيل صبره على صاحبه وتوسعة عليهم وإحسانا منه إليهم فلأجل العمل على هذا طلق كاتب هذا عبد الله محمد المذكور زوجه الحرة العربية المصونة عائشة ابنة الشيخ الوزير الحسيب النزيه الأصيل الصالح الفاضل الطاهر المقدس المرحوم أبي عبد الله محمد المغيلي طلقة واحدة ملكت بها أمر نفسها دونه عارفا قدره قصد بذلك إراحتها من عشرته طالبا من الله أن يغني كلا من سعته مشهدا بذلك على نفسه في صحته وجواز أمره يوم الثلاثاء أول يوم من شهر ربيع الثاني عام أحد وخمسين وسبعمائة انتهى
ومن نوادره رحمه الله تعالى أنه لما استناب بعض قضاة المرية الفقيه أبا جعفر المعروف بالقرعة في القضاء بخارج المرية من عمله فاتفق أن جاء بعض الجنانين بفحص المرية يشتكي من جائحة أو أذاية أصابت جنانه ففسدت غلته لذلك فأخذ ذلك الجنان قرعة وأشار إليها متشكيا وقال هذه القرعة تشهد بما أصاب جناني فقال الشيخ أبو البركات عند ذلك غريبتان في عام واحد القرعة تقضي والقرعة تشهد
وكان له رحمه الله تعالى من هذا النمط كثير
وقال رحمه الله تعالى نظمت صبيحة يوم السبت السابع والعشرين لرجب عام خمسة وأربعين وسبعمائة وقد رأيت في النوم كأني أريد إتيان امرأة لا تحل لي فيأتي رقيب فيحول بيني وبين ذلك المرة بعد المرة قولي
( ألا كرم الله الرقيب فإنه ** كفاني أمورا لا يحل ارتكابها )
( وبالغ في سد الذريعة فاغتدى ** يلاحظني نوما ليغلق بابها )
وقال رحمه الله أنشدني شيخي أبو عبد الله ابن رشيد عند قراءتي عليه
____________________
(5/480)
شرحه لقوافي أبي الحسن حازم وقد باحثته يوما مناقشة في بعض ألفاظه من الشرح المذكور
( تسامح ولا تستوف حقك كله ** وأغض فلم تستوف قط كريم )
ومن نظم الشيخ أبي البركات قوله
( ألا خل دمع العين يهمي بمقلتي ** لفرقة عين الدمع وقف على الدم )
( فللماء فيه رنة شجنية ** كرنة مسلوب الفؤاد متيم )
( وللطير فيه نغمة موصلية ** تذكرني عهد الصبا المتقدم )
( وللحسن أقمار به يوسفية ** ترد إلى دين الهوى كل مسلم )
وله رحمه الله تعالى
( ما كل من شد على رأسه ** عمامة يحظى بسمت الوقار )
( ما قيمة المرء بأثوابه ** السر في السكان لا في الديار )
وله سامحه الله تعالى
( إذا ما كتمت السر عمن أوده ** توهم أن الود غير حقيقي )
( ولم أخف عنه السر من ضنة به ** ولكنني أخشى صديق صديقي )
وله وقد جلس في حلقة بعض المشايخ واستدبر بعض الفضلاء ولم يره بسبتة
( إن كنت أبصرتك لا أبصرت ** بصيرتي في الحق برهانها )
( لا غرو أني لم أشاهدكم ** فالعين لا تبصر إنسانها )
ومما يعجبه رحمه الله من قوله قال في الإحاطة ويحق أن يعجبه
( تطالبني بما ليس لي به ** يدان فأعطيها الأمان فتقبل )
____________________
(5/481)
( عجبت لخصم لج في طلباته ** يصالح عنها بالمحال فيفصل )
ومما أورد له في الإحاطة وذكر أنه لو رحل راحل إلى خراسان لما أتى إلا بهما
( رعى الله إخوان الخيانة إنهم ** كفونا مؤونات البقاء على العهد )
( فلو قد وفوا كنا أسارى حقوقهم ** نراوح ما بين النسيئة والنقد )
وقد تمثل القاضي أبو البركات في مخاطبة له للسان الدين بقول القائل
( أيتها النفس إليه اذهبي ** فحبه المشهور من مذهبي )
( أيأسني التوبة من حبه ** طلوعه شمسا من المغرب )
وحكى غير واحد منهم ابن داود البلوي أن القاضي أبا البركات لما عزم على الرحلة إلى المشرق كتب إليه ابن خاتمة بما صورته
( أشمس الغرب حقا ما سمعنا ** بأنك قد سئمت من الإقامة )
( وأنك قد عزمت على طلوع ** إلى شرق سموت به علامه )
( لقد زلزلت منا كل قلب ** بحق الله لا تقم القيامة )
قال الحاكي فحلف أبو البركات أن لا يرحل من إقليم فيه من يقول مثل هذا انتهى يشير بقوله لقد زلزلت إلخ إلى طلوع الشمس من مغربها
قلت ولما عزمت على هذا الرحلة كتب إلي بعض أصحابنا المغاربة بالأبيات المذكورة متمثلا ولم أرجع عن العزم والله غالب على أمره
قال الوزير لسان الدين رحمه الله تعالى وما أحسن قول شيخنا أبي البركات معتذرا عن زرقة عينيه
( حزنت عليك العين يا مغني الهوى ** فالدمع منها بعد بعدك ما رقا )
____________________
(5/482)
( ولذاك ما ظهرت بلون أزرق ** أوما ترى ثوب المآثم أزرقا ) قال رحمه الله تعالى وهو من الغريب
وقال بعض الشيوخ كنت أقرأ على الشيخ أبي البركات التفسير فنسيت ذات ليلة السفر الذي كنت أقرأ فيه بمنزلي فاتفق أن أحضر الجامع الصحيح للبخاري فقال الشيخ بعد أن أردت القراءة عليه من أوله افتح في أثناء الأوراق ولا تعين وما خرج لك من ترجمة لجهة اليمين فاقرأها ففعلت فإذا غزوة أحد فقرأت الحديث الأول من الباب وهو عن عقبة بن عامر قال إن رسول الله صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع المنبر فقال إني بين أيديكم فرط وأنا شهيد عليكم وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه من مقامي هذا وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها قال فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله فقال الشيخ قوله صلى على قتلى أحد لفظ الصلاة يطلق لغة على الدعاء وشرعا على الأفعال المخصوصة المعلومة وإذا دار اللفظ بين الشرعي واللغوي فحمله على الشرعي أولى حتى يدل الدليل على خلافه فقوله صلى على قتلى أحد يحتمل الصلاة الشرعية ويكون ذلك منسوخا إذ قد تقرر أنه لا يصلى على شهيد المعترك ولا على من قد صلي عليه ولمن يعارضه أن يقول إن قتلى أحد متفرقون في أماكن فلا تتأتى الصلاة الشرعية عليهم إذ الصلاة الشرعية إنما تتأتى لو كانوا مجتمعين والجواب أنهم وإن كانوا متفرقين تجمعهم جهة واحدة وليس بعد ما بينهم بحيث لا تتأتى معه الصلاة عليهم هذا وإن احتمل حمله على الصلاة اللغوية وقوله كالمودع للأحياء والأموات أما وداعه للأحياء فلا إشكال فيه وأما الأموات فمعنى وداعه لهم وداع الدعاء لهم لأنه إذا مات فقد حيل بينه وبين
____________________
(5/483)
الدعاء لهم فلاجرم يودعهم بالدعاء لهم قبل أن يحال بينه وبين ذلك وقوله إني بين أيديكم أي أتقدم قبلكم وقوله بين أيديكم فرط أي متقدم وبين إذا أضيفت إلى الأيدي تستعمل فيما قبل زمانك وفيما بعده والمعنى هنا في قوله بين أيديكم أي أتقدم قبلكم وقوله وأنا شهيد عليكم فيه وجهان أحدهما أن يخلق الله في قلبه علما ضروريا يميز به بين البر والفاجر فيشهد بما خلق الله في قلبه من ذلك إذ لا تكون الشهادة إلا على أمر مشاهد ومعلوم أنه لم يشاهد مافعل بعده من أمته فيخلق الله له علما بذلك الوجه الثاني أن يخبره الله تعالى بذلك كما في حديث الحوض ليذادن عنه أقوام كما يذاد البعير الضال فأقول ألا هلم ألا هلم فيقال إنهم قد غيروا بعدك فأقول فسحقا فسحقا فسحقا فشهد بما أخبره الله تعالى به وهو نظير ما روي في تفسير قوله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } البقرة 143 من ان قوم نوح يقولون كيف تشهدون علينا وزمانكم متأخر عن زماننا فيقولون لأن الله تعالى قص علينا اخباركم في كتابه فقال { إنا أرسلنا نوحا إلى قومه } - إلى آخره نوح 1 وقوله صلى الله عليه وسلم وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه من مقامي هذا نظره صلى الله عليه وسلم إلى الحوض فيه وجهان أحدهما أن يكون نظره إليه بقلبه إذ كان قد أطلعه الله عليه ليلة الإسراء فصار مرتسما في قلبه فيكون نظره إليه بعين قلبه كما يرتسم في قلب أحدنا شكل بيته وما فيه من المتاع والثياب وغير ذلك الثاني أن يكون الله تعالى قد كشف له عنه فيكون نظره إليه بعينه مشاهدة وقوله وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا إن قيل كيف قال ذلك وقد ارتد عن الإسلام من ارتد من العرب بعده فالجواب أنه إنما خاطب بذلك من لم يشرك من أصحابه ومن بعدهم من التابعين وغيرهم من أمته ولم يراع رعاع العرب
____________________
(5/484)
وجهالهم إذ لا اعتبار بهم لاحتقارهم وقوله عليه الصلاة والسلام ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها قد وقع ما خشي منه عليه الصلاة والسلام من المنافسة في الدنيا فكان كما ذكر انتهى
وحدث الشيخ أبو البركات قال كنت ببجاية بمجلس الإمام ناصر الدين المشدالي أيام قراءتي عليه وقد أفاض طلبة مجلسه بين يديه هل الملائكة أفضل أم الأنبياء فقلت الدليل لأن الملائكة أفضل أن الله أمرهم بالسجود لآدم قال فجعل الطلبة ينظر بعضهم إلى بعض حتى قال لي بعضهم استند يا سيدنا كأنه يقول استند إلى حائط ليزول هوس رأسك وكانت عبارتهم في ذلك وكل منهم يقول لي نحو ذلك إزراء وقال لي الإمام ناصر الدين أبصر فإنهم يقولون لك الحق وكانت لغته أن يقول أبصر قال فقلت أتقولون إن أمر الله للملائكة بالسجود لآدم أمر ابتلاء واختبار قالوا نعم قلت أفيختبر العبد بتقبيل يد سيده ليرى تواضعه قالوا لا فإن ذلك من شأن العبد دون أن يؤمر بل السيد يختبر تواضعه بأن يؤمر بالسجود للعبد قلت فكذا الملائكة لو أمرت بالسجود لأفضل منها لكان بمنزلة أمر العبد بالسجود لسيده قال فكأنما ألقمتهم حجرا
قال الشيخ أبو البركات وهذه كحكاية أبي بكر ابن الطيب مع بعض رؤساء المعتزلة وذلك أنه اجتمع معه في مجلس الخليفة فناظره في مسألة رؤية الباري فقال له رئيسهم ما الدليل أيها القاضي على جواز رؤية الله تعالى قال قوله تعالى { لا تدركه الأبصار } فنظر بعض المعتزلة إلى بعض وقالوا جن القاضي وذلك أن هذه الآية هي معظم ما احتجوا به على مذهبهم وهو ساكت ثم قال لهم أتقولون إن من لسان العرب قولك الحائط لا يبصر قالوا لا قال أتقولون إن من لسان العرب الحجر لا يأكل قالوا لا قال فلا يصح إذا نفي الصفة إلا عما من شأنه صحة إثباتها له قالوا نعم قال فكذلك قوله تعالى { لا تدركه الأبصار } لولا جواز إدراك الأبصار له لم يصح نفيه عنه
____________________
(5/485)
فأذعنوا لما قال واستحسنوه
وقال الشيخ أبو البركات كنت ببجاية وقدم علينا رجل من فاس برسم الحج يعرف بابن الحداد فركب الناس في الأخذ عنه والرواية لما يحمله كل صعب وذلول مع أنه لم تكن منزلته هناك في العلم فعجبت لذلك حتى قلت لبعض الطلبة لقد أخذتموه بكلتا اليدين ولم أركم مع من هو أعلى قدرا منه كذلك فقالوا لي لأنه قدم علينا ونحن لا نعرفه وهو في زي حسن بخادم يخدمه يظن من يراه أن أباه من أعيان أهل بلده فسألناه أحي أبوه أم لا قال بل حي قلنا أهو من أهل العلم قال لا هو دلال في سوق الخدم فلذلك آثرناه على من هو فوقه في العلم قال فقلت لهم حق له أن ترتفع منزلته ويعلو صيته لتخلقه وفضله
وفوائد أبي البركات كثيرة
ومن تواليفه المؤتمن على أنباء أبناء الزمن كتاب مفيد جدا وهو رضي الله عنه من ذرية العباس بن مرداس السلمي صاحب رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
وقال الشيخ أبو البركات ذكر لي أن الفقيه الكاتب أبا الحسن ابن الجياب يحدث عني ولا أذكر الآن أني قلت ذلك ولكنني لما سمعته علمت أنه مما من شأني أن أقوله وهو أني قلت مثل العالم مثل رجل يصب ماء في قفة إن واضب على صب الماء بقيت القفة ملأى وإن ترك صب الماء بقيت القفة لا شيء فيها من الماء فكذلك العالم إن واظب على طلب العلم بقي العلم لم ينقص منه شيء وإن ترك الطلب ذهب علمه انتهى
ونقلت ممن رأى كلام ابن الصباغ في ترجمة أبي البركات ما نصه لما ورد مدينة فاس في غرض الهناء والعزاء على أمير المسلمين أبي بكر السعيد ابن أمير المؤمنين أبي عنان وأبصر الدار غاصة بأرباب الدولة الفاسية ولم يعدم منها عدا شخصه والولد على أريكة أبيه أنشد
____________________
(5/486)
( لما تبدلت المجالس أوجها ** غير الذين عهدت من جلسائها )
( ورأيتها محفوفة بسوى الألى ** كانوا حماة صدورها وبنائها )
( أنشدت بيتا سائرا متقدما ** والعين قد شرقت بجاري مائها )
( أما القباب فإنها كقبابهم ** وأرى نساء الحي غير نسائها )
وأظن أنه تمثل بالأبيات في سره وإلا فيبعد أن يقولها في ذلك الحفل لما في ذلك من التعرض للهلك والله سبحانه أعلم
وحكى بعضهم انه كان جالسا في دهليز بيته مع بعض الأصحاب فدخلت زوجته من الحمام وهي بغير سراويل لقرب الحمام من البيت فانكشف ساقها فدخل خلفها مسرعا وغاب ساعة ثم خرج وأنشد
( كشفت على ساق لها فرأيته ** متلألئا كالجوهر البراق )
( لا تعجبوا إن قام منه قيامتي ** إن القيامة يوم كشف الساق )
وله في خديم اسمه يحيى احتجم محجمة واحدة
( أراني يحيى صنعة في قفائه ** مهذبة لما تبادر للباب )
( أرى الخمس فيها لا تفارق ساعة ** فصور بالموسى بها شكل محراب )
وتوفي الشيخ القاضي أبو البركات المذكور بشوال سنة 771 رحمه الله تعالى
22 - ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الشيخ الحكيم العلامة التعاليمي الشاعر البليغ أعجوبة زمانه في الإطلاع على علوم الأوائل أبو زكريا يحيى بن هذيل وقد قال في الإحاطة في حقه ما ملخصه يحيى
____________________
(5/487)
ابن احمد بن هذيل التجيبي أبو زكريا شيخنا جرى ذكره في التاج المحلى بما نصه درة بين الناس مغفلة وخزانة على كل فائدة مقفلة وهدية من الدهر الضنين لبنيه محتفلة أبدع من رتب التعاليم وعلمها وركض في الألواح قلمها وأتقن من صور الهيئة ومثلها وأسس قواعد البراهين وأثلها وأعرف من زاول شكاية ودفع عن جسم نكاية إلى غير ذلك من المشاركة في العلوم والوصول من المجهول إلى المعلوم والمحاضرة المستفزة للحلوم والدعابة التي ما خالع العذار فيها بالملوم فما شئت من نفس عذبة الشيم وأخلاق كالزهر من بعد الديم ومحاضرة تتحف المجالس والمحاضر ومذاكرة يروق النواظر زهرها الناضر وله أدب ذهب في الإجادة كل مذهب وارتدى من البلاغة بكل رداء مذهب والأدب نقطة من حوضه وزهرة من زهرات روضه وسيمر له في هذا الديوان ما يبهر العقول ويحاسن بروائه ورائق بهائه الفرند المصقول فمن ذلك ما خرجته من ديوانه المسمى بالسليمانيات والعزفيات قوله
( ألا استودع الرحمن بدرا مكملا ** بفاس من الدرب الطويل مطالعه )
( ففي فلك الأزرار يطلع سعده ** وفي أفق الأكباد تلفى مواقعه )
( يصير مرآه منجم مقلتي ** فتصدق في قطع الرجاء قواطعه )
( تجسم من ماء الملاحة خده ** وماء الحيا فيه ترجرج مائعه )
( تلون كالحرباء في خلجاته ** فيحمر قانيه ويبيض ناصعه )
( إذا اهتز غنى حليه فوق نحره ** كغصن النقا غنت عليه سواجعه )
( يؤكد حتف الصب عامل قدره ** وتعطف من واو العذار توابعه )
____________________
(5/488)
( أعد الورى سيفا كسيف لحاظه ** فهذا هو الماضي وذاك مضارعه )
وقال
( وصالك هذا أم تحية بارق ** وهجرك أم ليل السليم لتائق )
( أناديك والأشواق تركض جمرها ** بصفحة خدي من دموع سوابق )
( أبارق ثغر من عذيب رضابه ** قضت مهجتي بين العذيب وبارق )
ومنها
( فلا تتعبن ريح الصبا في رسالة ** ولا تخجل الطيف الذي كان طارقي )
( متى طعمت عيني الكرى بعد بعدكم ** فإني في دعوى الهوى غير صادق )
وقال
( بدا بدر تم فوقه الليل عسعسا ** وجنة أنس في صباح تنفسا )
( حوى النجم قرطا والدراري مقلدا ** وأسبل من مسك الذوائب حندسا )
( كأن سنا الإصباح رام يزورنا ** وخاف العيون الرامقات فغلسا )
( أتى يحمل التوراة ظبيا مزنرا ** لطيف التثني أشنب الثغر ألعسا )
( وقابل أحبار اليهود بوجهه ** فبارك ربي عليه وقدسا )
( فصير دمعي أعينا شرب سبطه ** وعمري تيها والجوانح مقدسا )
ومنها
( رويت ولوعي عن ضلوعي مسلسلا ** فأصبحت في علم الغرام مدرسا )
( نفى النوم عني كي أكون مسهدا ** فأصبحت في صيد الخيال مهندسا )
____________________
(5/489)
( غزال من الفردوس تسقيه أدمعي ** ويأوي إلى قلبي مقيلا ومكنسا )
( طغى ورد خديه بجنات صدغه ** فأضعفه بالآس نبتا وما أسا )
وهذا البيت محال على معنى فلاحي قال أهل الفلاحة إن الآس إذا اغترس بين شجر الورد أضعفه بالخاصية
وقال رحمه الله تعالى ورضي عنه
( نام طفل النبت في حجر النعامى ** لاهتزاز الطل في مهد الحزامى )
( وسما الوسمي أغصان النقا ** فهوت تلثم أفواه الندامى )
( كحل الفجر لهم جفن الدجى ** وغدا في وجنة الصبح لثاما )
( تحسب البدر محيا ثمل ** قد سقته راحة الصبح مداما )
( حوله الزهر كؤوس قد غدت ** مسكة الليل عليهن ختاما )
( يا عليل الريح رفقا علني ** أشف بالسقم الذي حزت سقاما )
( أبلغن شوقي عريبا باللوى ** همت في أرض بها حلوا غراما )
( فرشوا فيها من الدر حصى ** ضربوا فيها من المسك خياما )
( كنت أشفي غلة من صدكم ** لو أذنتم لجفوني أن تناما )
( واستفدت الروح من ريح الصبا ** لو أتت تحمل من سلمي سلاما )
وقال منها أيضا
( نشأت للصب منها زفرة ** تسكب الدمع على الربع سجاما )
( طرب البرق مع القلب بها ** وبها الأنات طارحن الحماما )
____________________
(5/490)
( طلل لا تشتفي الأذن به ** وهو للعينين قد ألقى كلاما )
( ترك الساكن لي من وصله ** ضمة الجدران لثما والتزاما )
( نزعات من سليمان بها ** فهم القلب معانيها فهاما )
( شادن يرعى حشاشات الحشا ** حسب حظي منه أن أرعى الذماما )
وقال
( أأرجو أمانا منك واللحظ غادر ** ويثبت عقلي فيك والطرف ساحر )
ومنها
( أعد سليمان أليم عذابه ** لطائر قلبي فهو للبين صائر )
( أشاهد منه الحسن في كل نظرة ** وناظر أفكاري بمغناه ناظر )
( دعت للهوى أنصار سحر جفونه ** فقلبي له عن طيب نفس مهاجر )
( إذا شق عن بدر الدجى أفق زره ** فإني بتمويه العواذل كافر )
( وفي حرم السلوان طابت خواطري ** وقلبي لما في وجنتيه مجاور )
( وقد ينزع القلب المبلى لسلوة ** كما اهتز من قطر الغمامة طائر )
( يقابل أغراضي بضد مرادها ** ولم يدر أن الضد للضد قاهر )
( ونار اشتياقي صعدت مزن أدمعي ** فمضمر سري فوق خدي ظاهر )
( وقد كنت باكي العين والبين غائب ** فقل لي كيف الدمع والبين حاضر )
____________________
(5/491)
( وليس النوى بالطبع مرا وإنما ** لكثرة ما شقت عليه المرائر )
وقال
( يا بارقا قاد الخيال فأومضا ** اقصد بطيفك مدنفا قد غمضا )
( ذاك الذي قد كنت تعهد نائما ** بالسهد من بعد الأحبة عوضا )
( لا تحسبني معرضا عن طيفه ** لكن منامي عن جفوني أعرضا )
ومنها
( عجب الوشاة لمهجتي أن لم تذب ** يوم النوى وتشككت فيما مضى )
( خفيت لهم من سر صبري آية ** ما فهمت إلا سليمان الرضى )
( لله درك ناهجا سبل الهوى ** فلمثله أمر الهوى قد فوضا )
( أمنت نملا فوق خدك سارحا ** وسللت سيفا من جفونك منتضى )
وقال في المدح
( حريص على جر الذوائب والقنا ** إذا كعت الأبطال والجو عابس )
( ويعتنق الأبطال لولا سقوطها ** لقلت لتوديع أتته الفوارس )
( إذا اختطفتهم كفه فسروجهم ** مجال وهم في راحتيه فرائس )
وقال يمدح السلطان أبا الوليد ابن نصر عند قدومه من فتح أشكر
( بحيث البنود الحمر والأسد الورد ** كتائب سكان السماء لها جند )
( وتحت لواء النصر ملك هو الورى ** تضيق به الدنيا إذا راح أو يغدو )
____________________
(5/492)
( تأمنت الأرواح في ظل بنده ** كأن جناح الروح من فوقه بند )
( فلو رام إدراك النجوم لنالها ** ولو هم لانقادت له السند والهند )
ومنها
( بعيني بحر النقع تحت أسنة ** تنمنمه وهنا كما نمنم البرد )
( سماء عجاج والأسنة شهبها ** ووقع القنا رعد إذا برق الهند )
( وظنوا بأن الرعد والصعق في السما ** محاق به من أيده الصعق والرعد )
( عجائب أشكال سما هرمس بها ** مهندسة تأتي الجبال فتنهد )
( ألا إنها الدنيا تريك عجائبا ** وما في القوى منها فلا بد أن يبدو )
وقال وهو معتقل
( تباعد عني منزل وحبيب ** وهاج اشتياقي والمزار قريب )
( وإني على قرب الحبيب مع النوى ** يكاد إذا اشتد الأنين يجيب )
( لقد بعدت عني ديار قريبة ** عجبت لجار الجنب وهو غريب )
( أعاشر أقواما تقر نفوسهم ** فللهم فيها عند ذاك ضروب )
( إذا شعروا من جارهم بتأوه ** أجابته منهم زفرة ونحيب )
( فلا ذاك يشكو هم هذا تأسفا ** لكل امرىء مما دهاه نصيب )
( كأني في غاب الليوث مسالم ** يروعني منه الغداة وثوب )
( تحكم فيها الدهر والعقل حاضر ** بكل قياس والأديب أديب )
( ولو مال بالجهال ميلته بنا ** لجاء بعذر إن ذا لعجيب )
( رفيق بمن لا ينثني عن جريمة ** بطوش بمن ما أوبقته ذنوب )
( ويطعمنا منه بوارق خلب ** نقول عساه يرعوي فيؤوب )
____________________
(5/493)
( إذا ما تشبثنا بأذيال برده ** دهتنا إذا جر الخطوب خطوب )
( أدار علينا صولجانا ولم يكن ** سوى أنه بالحادثات لعوب )
ومنها
( أيا دهر إني قد سئمت تهدفي ** أجرني فإن السهم منك مصيب )
( إذا خفق البرق الطروق أجابه ** فؤادي ودمع المقلتين سكوب )
( وإن طلع الكف الخضيب بسحرة ** فدمعي بحناء الدماء خضيب )
( تذكرني الأسحار دارا ألفتها ** فيشتد حزبي والحمام طروب )
( إذا علقت نفسي بليت وربما ** تكاد تفيض أو تكاد تذوب )
( دعوتك ربي والدعاء ضراعة ** وأنت تناجي بالدعا فتجيب )
( لئن كان عقبى الصبر فوزا وغبطة ** فإني على الصبر الجميل دروب )
قال وبعثت إليه هدية من البادية فقال يصف منها ديكا
( أيا صديقا جعلته سندا ** فراح فيما أحبه وغدا )
( طلبت منكم سريدكا خنثا ** وجئتم لي مكانه لبدا )
( صير مني مؤرخا ولكم ** ظللت في علمه من البلدا )
( قلت له آدم اتعرفه ** قال حفيدي بعصرنا ولدا )
( نوح وطوفانه رأيتهما ** قال علونا بفيضه أحدا )
( فقلت هل لي بجرهم خبر ** فقال قومي وجيرتي السعدا )
( فقلت فحطان هل مررت به ** قال نفثنا ببرده العقدا )
( فقلت صف لي سبا وساكنها ** فعند هذا تنفس الصعدا )
____________________
(5/494)
( فقال كم لي بدجنهم سحرا ** من صرخة لي وللنؤوم هدا )
( فقلت هاروت هل سمعت به ** فقال ريشي لسهمه نفدا )
( فقلت كسرى وآل شرعته ** فقال كنا بجيشه وفدا )
( ولوا وصاروا وها أنا لبد ** فهل رأيتم من فوقهم أحدا )
( ديك إذا ما انثنى لفكرته ** رأى وجودا طرائقا قددا ) ( يرفل في طيلسانه ولها ** قد صير الدهر لونه كمدا )
( إذا دجا الليل غاب هيكله ** كأن حبرا عليه قد جمدا )
( كأنما جلنار لحيته ** برجان جازا من الهواء مدى )
( كأن حصنا علا بهامته ** أعده للقتال فيه عدا )
( يرنو بياقوتتي لواحظه ** كأنما اللحظ منه قد رمدا )
( كأن متجالتي ذوائبه ** قوس سماء من أصله بعدا )
( وعوسج مدد من مخالبه ** طغى بها في نقاره وعدا )
( فذاك ديك جلت محاسنه ** له صراخ بين الديوك بدا )
( يطلبني بالذي فعلت به ** فكم فللنا بلبتيه مدى )
( وجهته محنة لآكله ** والله ما كان ذاك منك سدى )
ولم نزل بعد نستعدي عليه بإقراره بقتله ونطلبه بالقود عند تصرفه بالعمل فيوجه الدية لنا في ذلك رسائل
وقال في غرض أبي نواس
( طرقنا ديور القوم وهنا وتغليسا ** وقد شرفوا الناسوت إذ عبدوا عيسى )
( وقد رفعوا الإنجيل فوق رؤوسهم ** وقد قدسوا الروح المقدس تقديسا )
( فما استيقظوا إلا لصكة بابهم ** فأدهش رهبانا وروع قسيسا )
____________________
(5/495)
( وقام بها البطريق يسعى ملبيا ** وقد لين الناقوس رفعا وتأنيسا )
( فقلنا له أمنا فإنه عصابة ** أتينا لتثليث وإن شئت تسديسا )
( وما قصدنا إلا الكؤوس وإنما ** لحنا له في القول خبثا وتدليسا )
( ففتحت الأبواب بالرحب منهم ** وعرس طلاب المدامة تعريسا )
( فلما رأى رقي أمامي ومزهري ** دعاني أتأنيسا لحنت وتلبيسا )
( وقام إلى دن يفض ختامه ** فكبس أجرام الغياهب تكبيسا )
( وطاف بها رطب البنان مزنر ** فأبصرت عبدا صير الحر مرؤوسا )
( سلافا حواها القار لبسا فخلتها ** مثالا من الياقوت في الحبر مغموسا )
ومنها
( إلى أن سطا بالقوم سلطان نومهم ** ورأس فتيل الشمع نكس تنكيسا )
( وثبت إليه بالعناق فقال لي ** بحق الهوى هب لي من الضم تنفيسا )
( كتبت بدمع العين صفحة خده ** فطلس حبر الشعر كتبي تطليسا )
( فبئس الذي احتلنا وكدنا عليهم ** وبئس الذي قد أضمروا قبل ذا بيسا )
( فبتنا يرانا الله شر عصابة ** نطيع بعصيان الشريعة إبليسا )
وقال بديهة في غزالة من النحاس ترمي الماء على بركة
( عنت لنا من وحش وجرة ظبية ** جاءت لورد الماء ملء عنانها )
( وأظنها إذا حددت آذانها ** ريعت بنا فتوقفت بمكانها )
( حيت بقرني رأسها إذ لم تجد ** يوم اللقاء تحية ببنانها )
( حنت على الندمان من إفلاسهم ** فرمت قضيب لجينها لحنانها )
( لله در غزالة أبدت لنا ** در الحباب تصوغه بلسانها )
____________________
(5/496)
قال لسان الدين وفلج المذكور فلزم منزلي لمكان فضله ووجوب حقه وقد كانت زوجه توفيت وصحبه عليها وجد فلما ثقل وقربت وفاته استدعاني وكاد لسانه لا يبين فأوصاني وقال
( إذا مت فادفني حذاء حليلتي ** يخالط عظمي في التراب عظامها )
( ولا تدفنني في البقيع فإنني ** أريد إلى يوم الحساب التزامها )
( ورتب ضريحي كيفما شاءه الهوى ** تكون أمامي أو أكون أمامها )
( لعل إله العرش يجبر صدعتي ** فيعلي مقامي عنده ومقامها )
ومات رحمه الله تعالى في الخامس والعشرين لذي قعدة عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة ودفن بحذاء زوجه كما عهد رحمه الله تعالى انتهى
ومن نظم ابن هذيل
( وظبي زارني والليل طفل ** إلى أن لاح لي منه اكتهال )
( وألغى الشك من وصل فقلنا ** بليل الشك يرتقب الهلال )
23 - ومن أشياخ لسان الدين الشيخ أبو بكر ابن ذي الوزارتين وهو أعني أبا بكر الوزير الكاتب الأديب الفاضل المشارك المتفنن المتبحر في الفنون أبو بكر محمد ابن الشيخ الشهير ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم الرندي ومن نظمه قوله
( تصبر إذا ما أدركتك ملمة ** فصنع إله العالمين عجيب )
( وما يلحق الإنسان عار بنكبة ** ينكب فيها صاحب وحبيب )
____________________
(5/497)
( ففي من مضى للمرء ذي العقل أسوة ** وعيش كرام الناس ليس يطيب )
( ويوشك أن تهمي سحائب نعمة ** فيخصب ربع للسرور جديب )
( إلهك يا هذا قريب لمن دعا ** وكل الذي عند القريب قريب )
قال ابن خاتمة وأنشدني الوزير أبو بكر مقدمه على المرية غازيا مع الجيش المنصور قال أنشدني أبي
( ولما رأيت الشيب حل بمفرقي ** نذيرا بترحال الشباب المفارق )
( رجعت إلى نفسي فقلت لها انظري ** إلى ما أرى هذا ابتداء الحقائق ) ترجمة أبي عبد الله ابن الحكيم
وبيتهم بيت كبير وأخذ عن غير واحد وعن والده وهو ذو الوزارتين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى اللخمي الرندي الكاتب البليغ الأديب الشهير الذكر بالأندلس وأصل سلفه من إشبيلية من أعيانها ثم انتقلوا إلى رندة في دولة بني عباد ويحيى جد والده هو المعروف بالحكيم لطبه وقدم ذو الوزارتين على حضرة غرناطة أيام السلطان أبي عبد الله محمد بن محمد بن نصر إثر قفوله من الحج في رحلته التي رافق فيها العلامة أبا عبد الله ابن رشيد الفهري فألحقه السلطان بكتابه وأقام يكتب له في ديوان الإنشاء إلى أن توفي هذا السلطان وتقلد الملك بعده ولي عهده أبو عبد الله المخلوع فقلده الوزارة والكتابة وأشرك معه في الوزارة أبا سلطان عبد العزيز بن سلطان الداني فلما توفي أبو سلطان أفرده السلطان بالوزارة ولقبه ذا الوزارتين
____________________
(5/498)
وصار صاحب أمره إلى أن توفي بحضرة غرناطة قتيلا نفعه الله تعالى غدوة يوم الفطر مستهل شوال سنة ثمان وسبعمائة وذلك لتاريخ خلع سلطانه وخلافة أخيه أمير المسلمين أبي الجيوش مكانه ومولده برندة سنة ستين وستمائة
وكان رحمه الله تعالى علما في الفضيلة والسراوة ومكارم الأخلاق كريم النفس واسع الإيثار متين الحرمة عالي الهمة كاتبا بليغا أديبا شاعرا حسن الخط يكتب خطوطا على أنواع كلها جميلة الانطباع خطيبا فصيح القلم زاكي الشيم مؤثرا لأهل العلم والأدب برا بأهل الفضل والحسب نفقت بمدته للفضائل أسواق وأشرقت بإمداده للأفاضل آفاق ورحل للمشرق كما سبق فكانت إجازته البحر من المرية فقضى فريضة الحج وأخذ عمن لقي هنالك من الشيوخ فمشيخته متوافرة وكان رفيقه كما مر الخطيب أبا عبد الله ابن رشد الفهري فتعاونا على هذا الغرض وقضيا منه كل نفل ومفترض واشتركا فيمن أخذا عنه من الأعلام في كل مقام وكانت له عناية بالرواية وولوع بالأدب وصبابة باقتناء الكتب جمع من أمهاتها العتيقة وأصولها الرائقة الأنيقة ما لم يجمعه في تلك الأعصر أحد سواه ولا ظفرت به يداه أخذ عنه الخطيب الصالح أبو إسحاق ابن أبي العاصي وتدبج معه رفيقه أبو عبد الله ابن رشيد وغير واحد وكان ممدحا وممن مدحه الرئيس أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي والرئيس أبو الحسن ابن الجياب وناهيك بهما
ومن بديع مدح ابن الجياب له قصيدة رائية رائقة يهنيه فيها بعيد الفطر منها في أولها
( يا قادما عمت الدنيا بشائره ** أهلا بمقدمك الميمون طائره )
( ومرحبا بك من عيد تحف به ** من السعادة أجناد تظافره )
____________________
(5/499)
( قدمت فالخلق في نعمى وفي جذل ** أبدى بك البشر باديه وحاضره )
( والأرض قد لبست أثواب سندسها ** والروض قد بسمت منه أزاهره )
( حاكت يد الغيث في ساحاته حللا ** لما سقاها دراكا منه باكره )
( فلاح فيها من الأنوار باهرها ** وفاح فيها من النوار عاطره )
( وقام فيها خطيب الطير مرتجلا ** والزهر قد رصعت منه منابره )
( موشي ثوب طواه الدهر آونة ** فها هو اليوم للأبصار ناشره )
( فالغصن من نشوة يثني معاطفه ** والطير من طرب تشدو مزاهره )
( وللكمام انشقاق عن أزاهرها ** كما بدت لك من خل ضمائره )
( لله يومك ما أزكى فضائله ** قامت لدين الهدى فيه شعائره )
( فكم سريرة فضل فيك قد خبئت ** وكم جمال بدا للناس ظاهره )
( فافخر بحق على الأيام قاطبة ** فما لفضلك من ند يظاهره )
( فأنت في عصرنا كابن الحكيم إذا ** قيست بفخر أولي العليا مفاخره )
( يلتاح منه بأفق الملك نور هدى ** تضاءل الشمس مهما لاح زاهره )
( مجد صميم على عرش السماك سما ** طالت مبانيه واستعلت مظاهره )
( وزارة الدين والعلم التي رفعت ** أعلامه والندى الفياض زاخره )
( وليس هذا ببدع من مكارمه ** ساوت أوائله فيه أواخره )
( يلقى الأمور بصدر منه منشرح ** بحر وآراؤه العظمى جواهره )
( راعى أمور الرعايا معملا نظرا ** كمثل علياه معدولا نظائره )
( والملك سير في تدبيره حكما ** تنال ما عجزت عنه عساكره )
( سياسة الحلم لا بطش يكدرها ** فهو المهيب وما تخشى بوادره )
( لا يصدر الملك إلا عن إشارته ** فالرشد لا تتعداه مصايره )
( تجري الأمور على أقصى إرادته ** كأنما دهره فيه يشاوره )
( وكم مقام له في كل مكرمة ** أنست موارده فيها مصادره )
____________________
(5/500)
( ففضلها طبق الآفاق أجمعها ** كأنه مثل قد سار سائره )
( فليس يجحده إلا أخو حسد ** يرى الصباح فيعشى منه ناظره )
( لا ملك أكبر من ملك يدبره ** لا ملك أسعد من ملك يوازره )
( يا عز أمر به اشتدت مضاربه ** يا حسن ملك به ازدانت محاضره )
( تثني البلاد وأهلوها بما عرفوا ** ويشهد الدهر آتيه وغابره )
( بشرى لآمله الموصول مأمله ** تعسا لحاسده المقطوع دابره )
( فالعلم قد أشرقت نورا مطالعه ** والجود قد أسبلت سحا مواطره )
( والناس في بشر والملك في ظفر ** عال على كل عالي القدر قاهره )
( والأرض قد ملئت أمنا جوانبها ** بيمن من خلصت فيها سرائره )
( وإلى أياديه من مثنى وموحدة ** تساجل البحر إن فاضت زواخره )
( فكل يوم تلقانا عوارفه ** كساه أمواله الطولى دفاتره )
( فمن يؤدي لما أولاه من نعم ** شكرا ولو أن سحبانا يظاهره )
( يا أيها العيد بادر لثم راحته ** فلثمها خير مأمول تبادره )
( وافخر بأن قد لقيت ابن الحكيم على ** عصر يباريك أو دهر تفاخره )
( ولى الصيام وقد عظمت حرمته ** فأجره لك وافيه ووافره )
( وأقبل العيد فاستقبل به جذلا ** واهنأ به قادما عمت بشائره )
ومن نثر ذي الوزارتين آخر إجازة ما صورته وها أنا أجري معه على حسن معتقده وأكله في هذا الغرض إلى ما رآه بمقتضى تودده وأجيز له ولولديه أقر الله بهما عينه وجمع بينهما وبينه رواية جميع ما نقلته وحملته وحسن اطلاعه يفصل من ذلك ما أجملته فقد أطلقت لهم الإذن في جميعه وأبحت لهم الحمل عني ولهم الإختيار في تنويعه والله سبحانه يخلص أعمالنا لذاته ويجعلها في ابتغاء مرضاته قال هذا محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم حامدا لله عز وجل ومصليا
____________________
(5/501)
ومن شعر ذي الوزارتين ابن الحكيم قوله
( ما أحسن العقل وآثاره ** لو لازم الإنسان إيثاره )
( يصون بالعقل الفتى نفسه ** كما يصون الحر أسراره )
( لا سيما إن كان في غربة ** يحتاج أن يعرف مقداره )
وقوله رحمه الله
( إني لأعسر أحيانا فيلحقني ** يسر من الله إن العسر قد زالا )
( يقول خير الورى في سنة ثبتت ** أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا )
وهو من أحسن ما قال رحمه الله
ومن شعر ذي الوزارتين المذكور قوله
( فقدت حياتي بالعراق ومن غدا ** بحال نوى عمن يحب فقد فقد )
( ومن أجل بعدي عن ديار ألفتها ** جحيم فؤادي قد تلظى وقد وقد )
وقد سبقه إلى هذا القائل
( أواري أواري بالدموع تجلدا ** وكم رمت إطفاء اللهيب وقد وقد )
( فلا تعذلوا من غاب عنه حبيبه ** فمن فقد المحبوب مثلي فقد فقد )
كذا رواه ابن خاتمة ورواه غيره هكذا
( أواري أواري والدموع تبينه ** )
وهو الصواب قال ابن خاتمة وأنشدني رئيس الكتاب الصدر البليغ
____________________
(5/502)
الفاضل أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان النجاري قال أنشدني رئيس الكتاب الجليل أبو محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي قال أنشدني رئيس الكتاب ذو الوزارتين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم رحمه الله
( صح الكتاب وعنه ** واختم على مكتنه )
( واحذر عليه من مخالسة ** الرقيب بجفنه )
( واجعل لسانك سجنه ** كيلا ترى في سجنه )
قال ابن خاتمة وفي سند هذه القطعة نوع غريب من التسلسل
وحكى أن ذا الوزارتين المذكور لما اجتمع مع الجليل الفقيه الكاتب ابن أبي مدين أنشده ابن أبي مدين
( عشقتكم بالسمع قبل لقاكم ** وسمع الفتى يهوى لعمري كطرفه )
( وحببني ذكر الجليس إليكم ** فلما التقينا كنتم فوق وصفه )
فأنشد ذو الوزارتين ابن الحكيم
( ما زلت أسمع من علياك كل سنا ** أبهى من الشمس أو أجلى من القمر )
( حتى رأى بصري فوق الذي سمعت ** أذني فوفق بين السمع والبصر )
ويعجبني في قريب من هذا المعنى قول الحاج الكاتب أبي إسحاق الحسناوي رحمه الله
( سحر البيان بناني صار يعقده ** والنفث في عقده من منطقي الحسن )
( لا أنشد المرء يلقاني ويبصرني ** أنا المعيدي فاسمع بي ولا ترني )
رجع وقال لسان الدين في عائد الصلة في حق ذي الوزارتين ابن الحكيم
____________________
(5/503)
ما صورته كان رحمه الله فريد دهره سماحة وبشاشة ولوذعية وانطباعا رقيق الحاشية نافذ العزمة مهتزا للمديح طلقا للأمل كهفا للغريب برمكي المائدة مهلبي الحلوى ريان من الأدب مضطلعا بالرواية مستكثرا من الفائدة يقوم على المسائل الفقهية ويتقدم الناس في باب التحسين والتقبيح ورفع راية الحديث والتحديث نفق بضاعة الطلب وأحيا معالم الأدب وأكرم العلم والعلماء ولم تشغله السياسة عن النظر ولا عاقه تدبير الملك عن المطالعة والسماع وأفرط في اقتناء الكتب ختى ضاقت قصوره عن خزائنها وأثرت أنديته من ذخائرها قام له الدهر على رجل وأخدمه صدور البيوتات وأعلام الرياسات وخوطب من البلاد النازحة وأمل في الآفاق النائية انتهى المقصود منه
ومن أحسن ما رثي به الوزير ابن الحكيم رحمه الله قول بعضهم
( قتلوك ظلما واعتدوا ** في فعلهم حد الوجوب )
( ورموك أشلاء وذا ** أمر قضته لك الغيوب )
( إن لم يكن لك سيدي ** قبر فقبرك في القلوب )
وقال لسان الدين في الإحاطة في حق رحلة ذي الوزارين ابن الحكيم ما صورته رحل إلى الحجاز الشريف من بلده على فتاء سنة أول عام ثلاثة وثمانين وستمائة فحج وزار وتجول في بلاد المشرق منتجعا عوالي الرواية في مظانها ومنقرا عنها عند مسني شيوخها وقيد الأناشيد الغربية والأبيات المرقصة واقام بمكة شرفها الله من شهر رمضان إلى انقضاء الموسم فأخذ بها
____________________
(5/504)
عن جماعة وانصرف إلى المدينة المشرفة ثم قفل مع الركب الشامي إلى دمشق ثم كر إلى المغرب لا يمر بمجلس علم أو تعلم إلا روى أو روى واحتل رندة حرسها الله أواخر عام خمسة وثمانين وستمائة وفأقام بها عينا في قرابته وعلما في أهله معظما لديهم إلى أن أوقع السلطان بالوزراء من بني حبيب الوقيعة البرمكية وورد رندة في أثر ذلك فتعرض إليه وهنأه بقصيدة طويلة من أوليات شعره أولها
( هل إلى رد عشيات الوصال ** سبب أم ذاك من ضرب المجال )
فلما أنشدها إياه أعجب به وبحسن خطه ونصاعة ظرفه فأثنى عليه واستدعاه إلى الوفادة على حضرته فوفد آخر عام ستة وثمانين فأثبته في خواص دولته وأحظاه لديه إلى أن رقاه إلى كتابة الإنشاء ببابه واستمرت حاله معظم القدر مخصوصا بالمزية إلى أن توفي السلطان ثاني الملوك من بني نصر وتقلد الملك بعده ولي عهد أبو عبد الله فزاد في إحظائه وتقريبه وجمع له بين الكتابة والوزارة ولقبه بذي الوزارتين وأعطاه العلامة وقلده الأمر فبعد الصيت وطاب الذكر إلى أن كان من أمره ما كان انتهى ملخصا
وقال في الإحاطة بعد كلام طويل في ترجمته قال شيخنا الوزير أبو بكر ابن الحكيم ولده وجدت بخطه رحمه الله تعالى رسالة خاطب بها أخاه الأكبر أبا إسحاق إبراهيم افتتحها بقصيدة أولها
( ذكر اللوى شوقا إلى أقماره ** فقضى أسى أو كاد من تذكاره )
( وعلا زفير حريق نار ضلوعه ** فرمى على وجناته بشراره )
____________________
(5/505)
وقد ذكرناها في غير هذا المحل
وقال ممايكتب على قوس
( أنا عدة للدين في يد من غدا ** لله منتصرا على أعدائه )
( أحكي الهلال وأسهمي في رجمها ** لمن اعتدى تحكي رجوم سمائه )
( قد جاء في القرآن أني عدة ** إذ نص خير الخلق محكم آية )
( وإذا العدو أصابه سهمي فقد ** سبق القضاء بهلكه وفنائه )
قال لسان الدين ومن توقيعه ما نقلته من خط ولده يعني أبا بكر في كتابه المسمى بالموارد المستعذبة وكان بوادي آش الفقيه الطرائفي فكتب إلى خاصة والدي أبي جعفر ابن داود قصيدة على روي السين يتشكى فيها من مشرف بلدهم إذ ذاك أبي القاسم ابن حسان منها
( فيا صفي أبي العباس كيف ترى ** وأنت أكيس من فيها من أكياس )
( ولوه إن كان ممن ترتضون به ** فقد دنا الفتح للأشراف في فاس )
ومنها يستطرد ذكر ذي الوزارتين
( للشرق فضل فمنه أشرقت شهب ** من نورهم أقبسونا كل مقباس )
فوقع عليها رحمه الله تعالى
( إن أفرطت بابن حسان غوائله ** فالأمر يكسوه ثوب الذكر والباس )
( وإن تزل به في جورة قدم ** كان الجزاء له ضربا على الراس )
____________________
(5/506)
( فقد أقامني المولى بنعمته ** لبث أحكامه بالعدل في الناس )
ثم أطال في أمره إلى أن قال في ترجمة قتله ما صورته واستولت يد الغوغاء على منازله شغلهم بها مدبر الفتنة خيفة من أن يعاجلوه قبل تمام أمره فصاع بها مال لا يكتب وعروض لا يعلم لها قيمة من الكتب والذخيرة والفرش والآنية والسلاح والمتاع والخرثي وأخفرت ذمته وتعدى به عدوه القتل إلى المثلة وقانا الله مصارع السوء فطيف بشلوه وانتهب فضاع ولم يقبر وجرت فيه شناعة كبيرة رحمه الله تعالى انتهى المقصود منه
رجع
24 - ومن مشايخ لسان الدين الأستاذ أبو الحسن علي القيجاطي
وقال في حقه في الإحاطة ما محصله علي بن عمر بن إبراهيم بن عبد الله الكناني القيجاطي أبو الحسن أوحد زمانه علما وتخلقا وتواضعا وتفننا ورد على غرناطة مستدعى عام اثني عشر وسبعمائة وقعد بمسجدها الأعظم يقرىء فنونا من العلم من قراءات وفقه وعربية وأدب وولي الخطابة وناب عن بعض القضاة بالحضرة مشكور المأخذ حسن السيرة عظيم النفع وقصده الناس وأخذوا عنه وكان أديبا لوذعيا فكها حلوا وهو أول أستاذ قرأت عليه القرآن والعربية والأدب إثر قراءة المكتب وله تآليف في فنون وشعر ونثر فمن شعره قوله
( روض المشيب تفتحت أزهاره ** حتى استبان ثغامه وبهاره )
____________________
(5/507)
( ودجى الشباب قد استبان صباحه ** وظلامه قد لاح فيه نهاره )
( فأتى حمام لا يعاف وقوعه ** ومضى غراب لا يخاف مطاره )
( والعمر مثل البدر يبدو حسنه ** حينا ويعقب بعد ذاك سراره )
( ما للإخاء تقلصت أفياؤه ** ما للصفاء تكدرت آثاره )
( والحر يصفح إن أخل خليله ** والبر يسمح إن تجرأ جاره )
( فتراه يدفع إن تمكن جاهه ** وتراه ينفع إن علا مقداره )
( ولأنت تعلم أنني زمن الصبا ** ما زلت زندا والحياء سواره )
( ولأنت تعلم أنني زمن الصبا ** مازلت ممن عف فيه إزاره )
( والهجر ما بين الأحبة لم يزل ** ترك الكلام أو السلام مثاره )
( ولكم تجافى عن جفاء خليله ** فطن وقد ظفرت به أظفاره )
( ولكم أصر على التدابر مدبر ** أفضى إلى ندم به إصراره )
( فأقام كالكسعي بأن نهاره ** أو كالفرزدق فارقته نواره )
( أنكرتم من حق معترف لكم ** بالحق ما لا ينبغي إنكاره )
( والشرع قد منع التقاطع نصه ** قطعا وقد وردت به أخباره )
( والسن سن تورع وتبرع ** وتسرع لتشرع تختاره )
( ما يومنا من أمسنا قدك اتئد ** ذهب الشباب فكيف ينفى عاره )
( هلا حظرتم أو حذرتم منه ما ** حق عليكم حظره وحذاره )
( عجبا لمن يجري هواه لغاية ** محدودة إضماره مضماره )
( يأتي ضحى ما كان يأتيه دجى ** فكأنه ما شاب منه عذاره )
( فيعد ما تفنى به حسناته ** ويعيد ما تبقى به أوزاره )
( فالنفس قد أجرته ملء عنانها ** يشتد في مضمارها إحضاره )
( والمرء من إخوانه في جنة ** بل جنة تجري بها أنهاره )
( واليمن قد مدت إليه يمينه ** واليسر قد شدت عليه يساره )
____________________
(5/508)
( شعر به أشعرت بالنصح الذي ** يهديه من أشعاره إشعاره )
( ولو اختبرتم نقده بمحكة ** لامتاز بهرجه ولاح نضاره )
( هذا هدى فبه اقتده تنل المنى ** أو أنت في هذا وما تختاره )
( وعليكم مني سلام مثلما ** أرجت بروض يانع أزهاره )
وقال من قصيدة رثائية
( حمام حمام فوق أيك الأسى تشدو ** تهيج من الأشجان ما أوجد الوجد )
( وذلك شجو في حناجرنا شجا ** وذلك هزل في ضمائرنا جد )
( أرى أرجل الأرزاء تشتد نحونا ** وأيديها تسعى إلينا فتمتد )
( ونحن أولو سهو عن الأمر ما لنا ** سوى أمل إيجابنا عنده جحد )
( فإن خطرت للمرء ذكرى بخاطر ** فتسبيحة الساهي إذا سمع الرعد )
( مصاب به قدت قلوب وأنفس ** لدينا إذا في غيره قطعت برد )
( تلين له الصم الصلاب وتنهمي ** عيون ويبكي عنده الحجر الصلد )
( فلا مقلة ترنو ولا أذن تعي ** ولا راحة تعطو ولا قدم تعدو )
( وقد كان يبدو الصبر منا تجلدا ** وهذا مصاب صبرنا فيه ما يبدو )
ومولده عام خمسين وستمائة وتوفي بغرناطة ضحى السبت في السابع والعشرين لذي حجة عام ثلاثين وسبعمائة وحضره السلطان فمن دونه رحمه الله تعالى انتهى
25 - ومنهم العلامة شيخ الشيوخ أبو سعيد فرج بن لب
قال في الإحاطة في حقه ما محصله فرج بن قاسم بن أحمد بن لب
____________________
(5/509)
قال ابن الصباغ من شعر ابن لب يمدح رسول الله
( إذا القلب ثار أثار ادكارا ** لقلبي فأذكى عليه أوارا )
( تروم جفوني لنار الهوى ** خمودا فتهمي دموعا غزارا )
( فماء جفوني يسح انهمالا ** ونارفؤادي تهيج استعارا )
( أطيل العويل صباحا مساء ** كئيبا ولست أطيق اصطبارا )
( رقيت مراقي للحب شتى ** فأفنى مرارا وأحيا مرارا )
( أحن اشتياقا لريح سرت ** وأبدي هياما لبرق أنارا )
( حنينا وشوقا إلى معلم ** حوى شرفا خالدا لا يجارى )
( به أسكن الله أسمى الورى ** نبيا كريما وصحبا خيارا )
( هو المصطفى المنتقى المجتبى ** أرى معجزات وآيا كبارا )
( يحق علينا ركوب البحار ** وجوب القفار إليه ابتدارا )
ومنها
( فيا فوز من فاز في طيبة ** بلثم المغاني جدارا جدارا )
( وألصق خدا على تربها ** وأكمل حجا بها واعتمارا )
( وأهدى السلام لخير الأنام ** على حين وافى عليه مزارا )
( فيا هادي الخلق دار نعيم ** تناهت جمالا وطابت قرارا )
( لأنت الوسيلة والمرتجى ** ليوم يرى الناس فيه سكارى )
( وما هم سكارى ولكنهم ** دهتهم دواه فهاموا حيارى )
( ترى المرء للهول من أمه ** ومن أقربيه يطيل الفرارا )
( وكل يخاف على نفسه ** فيكسوه خوف الإله انكسارا )
( فصلى الإله رسول الهدى ** عليك وأبقى هداك منارا )
( وقدس ربي ثرى روضة ** يعم الجهات سناها انتشارا )
____________________
(5/510)
( أعير شذا المسك منها الثرى ** بل المسك منه شذاه استعارا )
( هنيئا لمن بهداك اهتدى ** ومغناك وافى وإياك زارا )
وقصد رحمه الله تعالى بهذه القصيدة معارضة قصيدة الشهاب محمود التي نظمها بالحجاز في طريق المدينة المشرفة على ساكنها الصلاة والسلام وهي طويلة ومطلعها
( وصلنا السرى وهجرنا الديارا ** وجئناك نطوي إليك القفارا )
وقد تبارى الشعراء في هذا الوزن وهذا الروي ومنه القصيدة المشهورة
( أقول وآنست بالحي نارا ** )
ولابن لب رحمه الله تعالى الفتاوي المشهورة
وقال في الإحاطة في حقه ما محصله فرج بن قاسم بن أحمد بن لب التغلبي غرناطي أبو سعيد من أهل الخير والطهارة والذكاء والديانة وحسن الخلق رأس بنفسه وبرز بمزية إدراكه وحفظه فأصبح حامل لواء التحصيل وعليه مدار الشورى وإليه مرجع الفتوى لقيامه على الفقه وغزارة علمه وحفظه إلى المعرفة بالعربية واللغة ومعرفة التوثيق والقيام على القراءات والتبريز في التفسير والمشاركة في الأصلين والفرائض والأدب وجودة الحفظ وأقرأ بالمدرسة النصرية في الثامن والعشرين لرجب عام أربعة وخمسين وسبعمائة معظما عند الخاصة والعامة مقرونا اسمه بالتسويد قعد للتدريس ببلده على وفور الشيوخ وولي الخطابة بالجامع قرأ على القيجاطي والعربية على ابن الفخار وأخذ عن ابن جابر الوادي آشي فمن شعره في النسيب
( خذوا للهوى من قلبي اليوم ما أبقى ** فما زال قلبي كله للهوى رقا )
____________________
(5/511)
( دعوا القلب يصلى في لظى الوجد ناره ** فنار الهوى الكبرى وقلبي هو الأشقى )
( سلوا اليوم أهل الوجد ماذا به لقوا ** فكل الذي يلقون بعض الذي ألقى )
( فإن كان عبد يسأل العتق سيدا ** فلا أبتغي من مالكي في الهوى عتقا )
( بدعوى الهوى يدعو أناس وكلهم ** إذا سئلوا طرق الهوى جهلوا الطرقا )
( فطرق الهوى شتى ولكن أهله ** يحوزون في يوم السباق بها السبقا )
( وكم جمعت طرق الهوى بين أهلها ** وكم أظهرت عند السوى بينهم فرقا )
( بسيما الهوى تسمو معارف أهله ** فحيث ترى سيما الهوى فاعرف الصدقا )
( فمن زفرة تزجي سحائب عبرة ** إذا زفرة ترقى فلا عبرة ترقا )
( إذا سكتوا عن وجدهم أعربت به ** بواطن أحوال وما عرفت نطقا )
وقال في وداع شهر رمضان
( أأزمعت يا شهر الصيام رحيلا ** وقاربت يا بدر الزمان أفولا )
( أجدك قد جدت بك الآن رحلة ** رويدك أمسك للوداع قليلا )
( نزلت فأزمعت الرحيل كأنما ** نويت رحيلا إذ نويت نزولا )
( وما ذاك إلا أن أهلك قد مضوا ** تفانوا فأبصرت الديار طلولا )
( تفكرت في الأوقات ناشئة التقى ** أشد به وطأ وأقوم قيلا )
وهي طويلة
وكان موجودا عند تأليف الإحاطة رحمه الله تعالى انتهى بالمعنى
وقال الحافظ ابن حجر إنه صنف كتابا في الباء الموحدة وأخذ عنه شيخنا بالإجازة قاسم بن علي المالقي ومات سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة انتهى
وقال تلميذه المنتوري ما نصه من شيوخي الشيخ الأستاذ الخطيب المقرئ
____________________
(5/512)
المتفنن المفتي أبو سعيد ابن لب مولده سنة إحدى وسبعمائة وتوفي ليلة السبت لسبع عشرة ليلة مضت من ذي الحجة عام اثنين وثمانين انتهى
وهو مخالف لما سبق عن ابن حجر لكن صاحب البيت أدرى إذ المنتوري تلميذه ونحوه للشيخ أبي زكريا السراج في فهرسته إذ قال شيخنا الفقيه الخطيب الأستاذ المقرىء العالم العلم الصدر الأوحد الشهير كان شيخ الشيوخ وأستاذ الأستاذين بالأندلس إليه انتهت فيها رياسة الفتوى في العلوم كان أهل زمانه يقفون عندما يشير إليه قرأ على أبي علي القيجاطي بالسبع وتفقه عليه كثيرا في أنواع العلوم ولازمه إلى أن مات وأجازه عامة وعليه اعتمد وأخذ عن أبي جعفر ابن الزيات وأبي إسحاق ابن أبي العاصي وابن جابر الوادي آشي وقاضي الجماعة أبي بكر سمع عليه البخاري وتفقه عليه وقرأ عليه أكثر عقيدة المقترح تفهما وبعض الإرشاد وبعض التهذيب وعن أبي محمد ابن سلمون والبركة أبي عبد الله الطنجالي الهاشمي وأجازه انتهى بمعناه
وبالجملة فهو من أكابر علماء المالكية بالمغرب حتى قال المواق فيه شيخ الشيوخ أبو سعيد ابن لب الذي نحن على فتاويه في الحلال والحرام انتهى
وقل من لم يأخذ عنه في الأندلس في وقته فممن أخذ عنه الشاطبي وابن علاق وأبو محمد ابن جزي والأستاذ القيجاطي والأستاذ الحفار والشيخ الوزير ابن الخطيب السلماني والكاتب ابن زمرك في خلق كثير من طبقتهم ثم من الطبقة الثانية أبو يحيى ابن عاصم وأخوه القاضي أبو بكر ابن عاصم والشيخ أبو القاسم ابن سراج والمنتوري في خلق لا يحصون
وله تواليف فمنها شرح جمل الزجاجي وشرح تصريف التسهيل
____________________
(5/513)
وكتاب ينبوع عين الثرة في تفريع مسألة الإمامة بالأجرة وله فتاوي مدونة بأيدي الناس وممن جمعها الشيخ ابن طركاط الأندلسي وله كتابة في مسألة الأدعية إثر الصلوات على الهيئة المعروفة وقد رد عليه في هذا التأليف تلميذه أبو يحيى ابن عاصم الشهيد في تأليف نبيل انتصارا لشيخه أبي إسحاق الشاطبي رحم الله تعالى الجميع
26 - ومن أشياخ لسان الدين ابن الخطيب أبو القاسم ابن جزي ففي الإحاطة ما ملخصه محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي الكلبي أبو القاسم من أهل غرناطة وذوي الأصالة والنباهة فيها شيخنا وأصل سلفه من ولبة من حصن البراجلة نزل بها أولهم عند الفتح صحبة قريبهم أبي الخطار حسام بن ضرار الكلبي وعند خلع دولة المرابطين كان لجدهم يحيى رياسة وانفراد بالتدبير وكان رحمه الله تعالى على طريقة مثلى من العكوف على العلم والاقتصار على الاقتيات من حر النشب والاشتغال بالنظر والتقييد والتدوين فقيها حافظا قائما على التدريس مشاركا في فنون من عربية وفقه وأصول وقراءات وأدب وحديث حفظة للتفسير مستوعبا للأقوال جماعة للكتب ملوكي الخزانة حسن المجلس ممتع المحاضرة قريب الغور صحيح الباطن تقدم خطيبا بالمسجد الأعظم من بلده على حداثة سنه فاتفق على فضله وجرى على سنن أصالته قرأ على الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير العربية والفقه والحديث والقرآن وعلى ابن الكماد ولازم الخطيب أبا عبد الله ابن رشيد وطبقتهم كالحضرمي وابن أبي الأحوص وابن برطال وأبي عامر ابن ربيع الأشعري والولي أبي عبد الله
____________________
(5/514)
الطنجالي وابن الشاط
وله تواليف منها وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم والأنوار السنية في الكلمات السنية والدعوات والأذكار المخرجة من صحيح الأخبار والقوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية والتنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنبلية وكتاب تقريب الوصول إلى علم الأصول وكتاب النور المبين في قواعد عقائد الدين وكتاب المختصر البارع في قراءة نافع وكتاب أصول القراء الستة غير نافع وكتاب الفوائد العامة في لحن العامة إلى غير ذلك مما قيده في التفسير والقراءات وغير ذلك وله فهرسة كبيرة اشتملت على جملة كبيرة من علماء المشرق والمغرب
ومن شعره قوله في الأبيات الغينية ذاهبا مذهب المعري وابن المظفر والسلفي وأبي الحجاج ابن الشيخ وأبي الربيع ابن سالم وابن أبي الأحوص وغيرهم من علماء المشرق والمغرب
( لكل بني الدنيا مراد ومقصد ** وإن مرادي صحة وفراغ )
( لأبلغ في علم الشريعة مبلغا ** يكون به لي للجنان بلاغ )
( ففي مثل هذا فلينافس أولو النهى ** وحسبي من دار الغرور بلاغ )
( فما الفوز إلا في نعيم مؤبد ** به العيش رغد والشراب يساغ )
وقال
( أروم امتداح المصطفى فيردني ** قصوري عن إدراك تلك المناقب )
( ومن لي بحصر البحر والبحر زاخر ** ومن لي بإحصاء الحصى والكواكب )
( ولو أن أعضائي غدت ألسنا إذا ** لما بلغت في المدح بعض مآربي )
( ولو أن كل العالمين تألفوا ** على مدحه لم يبلغوا بعض واجب )
( فأمسكت عنه هيبة وتأدبا ** وعجزا وإعظاما لأرفع جانب )
____________________
(5/515)
( ورب سكوت كان فيه بلاغة ** ورب كلام فيه عتب لعاتب )
وقال
( يا رب إن ذنوبي اليوم قد كثرت ** فما أطيق لها حصرا ولا عددا )
( وليس لي بعذاب النار من قبل ** ولا أطيق لها صبرا ولا جلدا )
( فانظر إلهي إلى ضعفي ومسكني ** ولا تذيقنني حر الجحيم غدا )
وقال
( وكم من صفحة كالشمس تبدو ** فيسلي حسنها قلب الحزين )
( غضضت الطرف عن نظري إليها ** محافظة على عرضي وديني )
مولده يوم الخميس تاسع ربيع الثاني عام ثلاثة وتسعين وستمائة وفقد وهو يحرض الناس يوم الكائنة بطريف ضحوة يوم الإثنين تاسع جمادى الأولى عام أحد وأربعين وسبعمائة وعقبه ظاهر بين القضاء والكتابة انتهى شعر لابن لؤلؤة
وأذكرني روي الغين الصعب قول الشيخ أبي عبد الله محمد بن علي بن يوسف السكوني الأندلسي المعروف بابن لؤلؤة رحمه الله ورضي عنه
( أمن بعد ما لاح المشيب بمفرقي ** أميل لزور بالغرور يصاغ )
( وأرتاح للذات والشيب منذر ** بما ليس عنه للأنام مراغ )
( ومن لم يمت قبل الممات فإنه ** يراع بهول بعده ويراغ )
( فيا رب وفقني إلى ما يكون لي ** به للذي أرجوك منه بلاغ )
توفي المذكور بالطاعون سنة 750 وكان خطيبا بحصن قمارش رحمه الله تعالى
____________________
(5/516)
من نظم ابن جزي
ومن نظم ابن جزي المذكور قوله
( أيا من كففت النفس عنه تعففا ** وفي النفس من شوقي إليه لهيب غرام )
( ألا إنما صبري كصبر وإنما ** على النفس من تقوى الإله رقيب لجام )
وهما من التخيير المعلوم في فن البديع
وقول لسان الدين رحمه الله تعالى وله عقب ظاهر بين القضاء والكتابة يريد به بنيه البارع أبا بكر والعلامة أبا عبد الله والقاضي أبا محمد عبد الله تراجم أولاد ابن جزي
ولنذكرهم فنقول أما أبو بكر أحمد فهو الذي ألف أو أبوه الأنوار السنية وهو من أهل الفضل والنزاهة وحسن السمت والهمة واستقامة الطريقة غرب في الوقار ومال إلى الانقباض وله مشاركة حسنة في فنون من فقه وعربية وأدب وخط ورواية وشعر تسمو ببعضه الإجادة إلى غاية بعيدة وقرأ على والده ولازمه واستظهر ببعض تآليفه وتفقه وتأدب به وقرأ على بعض معاصري أبيه ثم ارتسم في الكتابة السلطانية لأول دولة السلطان أبي الحجاج ابن نصر وولي القضاء ببرجة وبأندرش ثم بوادي آش مشكور السيرة معروف النزاهة
ومن شعره
( أرى الناس يولون الغني كرامة ** وإن لم يكن أهلا لرفعة مقدار )
( ويلوون عن وجه الفقير وجوههم ** وإن كان أهلا أن يلاقي بإكبار )
( بنو الدهر جاءتهم أحاديث جمة ** فما صححوا إلا حديث ابن دينار )
____________________
(5/517)
ومن بديع نظمه الصادر عنه تصديره أعجاز قصيدة امرىء القيس بن حجر الكندي بقوله
( أقول لعزمي أو لصالح أعمالي ** ألا عم صباحا أيها الطلل البالي )
( أما واعظي شيب سما فوق لمتي ** سمو حباب الماء حالا على حال )
( أنار به ليل الشباب كأنه ** مصابيح رهبان تشب لقفال )
( تهاني عن غي وقال منبها ** ألست ترى السمار والناس أحوالي )
( يقولون غيره لتنعم برهة ** وهل يعمن من كان في العصر الخالي )
( أغالط دهري وهو يعلم أنني ** كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي )
( ومؤنس نار الشيب يقبح لهوه ** بآنسة كأنها خط تمثال )
( أشيخا وتأتي فعل من كان عمره ** ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال )
( وتشغفك الدنيا وما إن شغفتها ** كما شغف المهنوءة الرجل الطالي )
( ألا إنها الدنيا إذا ما اعتبرتها ** ديار لسلمى عافيات بذي خال )
( فأين الذين استأثروا قبلنا بها ** لناموا فما إن من حديث ولا صال )
( ذهلت بها غيا فكيف الخلاص من ** لعوب تنسيني إذا قمت سربالي )
( وقد علمت مني مواعد توبتي ** بأن الفتى يهذي وليس بفعال )
( ومذ وثقت نفسي بحب محمد ** هصرت بغصن ذي شماريخ ميال )
( وأصبح شيطان الغواية خاسئا ** عليه قتام سيء الظن والبال )
( ألا ليت شعري هل تقول عزائمي ** لخيلي كري كرة بعد إجفال )
( فأنزل دارا للرسول نزيلها ** قليل هموم ما يبيت بأوجال )
( فطوبى لنفس جاورت خير مرسل ** بيثرب أدنى دارها نظر عالي )
( ومن ذكره عند القبول تعطرت ** صبا وشمال في منازل قفال )
( جوار رسول الله مجد مؤثل ** وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي )
____________________
(5/518)
( ومن ذا الذي يثني عنان السرى وقد ** كفاني ولم أطلب قليل من المال )
( ألم تر أن الظبية استشفعت به ** تميل عليه هونة غير مجفال )
( وقال لها عودي فقالت له نعم ** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي )
( فعادت إليه والهوى قائل لها ** وكان عداء الوحش مني على بال )
( رثى لبعير قال أزمع مالكي ** ليقتلني والمرء ليس بفعال )
( وثور ذبيح بالرسالة شاهد ** طويل القرا والروق أخنس ذيال )
( وحن إليه الجذع حنة عاطش ** لغيث من الوسمي رائده خال )
( وأصلين من نخل قد التأما له ** فما احتبسا من لين مس وتسهال )
( وقبضة ترب منه ذلت لها الظبي ** ومسنونة زرق كأنياب أغوال )
( وأضحى ابن جحش بالعسيب مقاتلا ** وليس بذي رمج وليس بنبال )
( وحسبك من سوط الطفيل إضاءة ** كمصباح زيت في قناديل ذبال )
( وبذت به العجفاء كل مطهم ** له حجبات مشرفات على الفال )
( ويا خسف أرض تحت باغية إذ علا ** على هيكل نهد الجزارة جوال )
( وقد أخمدت نار لفارس طالما ** أصابت غضا جزلا وكفت بأجزال )
( أبان سبيل الرشد إذ سبل الهدى ** يقلن لأهل الحلم ضلا بتضلال )
( لأحمد خير العالمين انتقيتها ** وريضت فذلت صعبة أي إذلال )
( وإن رجائي أن ألاقيه غدا ** ولست بمقلي الخلال ولا قالي )
( فأدرك آمالي وما كل آمل ** بمدرك أطراف الخطوب ولا آلي )
ولا خفاء ببراعة هذا النظم وإحكام هذا النسج وشدة هذه العارضة قصيدتان لحازم
قلت وقد أذكرني هذا التصدير قصيدة الأديب حازم صاحب المقصورة
____________________
(5/519)
إذ صدر قصيدة امرىء القيس قفا نبك ولنذكرها هنا قال رحمه الله تعالى
( لعينيك قل إن زرت أفضل مرسل ** قفا نبك من ذكر حبيب ومنزل )
( وفي طيبة فانزل ولا تغش منزلا ** بسقط اللوى بين الدخول فحومل )
( وزر روضة قد طالما طاب نشرها ** لما نسجتها من جنوب وشمال )
( وأثوابك اخلع محرما ومصدقا ** لدى الستر إلا لبسة المتفضل )
( لدى كعبة قد فاض دمعي لبعدها ** على النحر حتى بل دمعي محملي )
( فيا حادي الآبال سر بي ولا تقل ** عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل )
( فقد حلفت نفسي بذاك وأقسمت ** علي وآلت حلفه لم تحلل )
( فقلت لها لاشك أني طائع ** وأنك مهما تأمري القلب يفعل )
( وكم حملت في أظهر العزم رحلها ** فيا عجبا من رحلها المتحمل )
( وعاتبت العجز الذي عاق عزمها ** فقالت لك الويلات إنك مرجلي )
( نبي هدى قد قال للكفر نوره ** ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي )
( تلا سورا ما قولها بمعارض ** إذا هي نصته ولا بمعطل )
( لقد نزلت في الأرض ملة هديه ** نزول اليماني ذي العياب المحمل )
( أتت مغربا من مشرق وتعرضت ** تعرض أثناء الوشاح المفصل )
( ففازت بلاد الشرق من زينة بها ** بشق وشق عندنا لم يحول )
( فصلى عليه الله ما لاح بارق ** كلمع اليدين في حبي مكلل )
( نبي غزا الأعداء بين تلائع ** وبين إكام بعد ما متأمل )
( فكم ملك وافاه في زي منجد ** بمنجرد قيد الأوابد هيكل )
( وكم من يمان واضح جاءه اكتسى ** بضاف فويق الأرض ليس بأعزل )
____________________
(5/520)
( ومن أبطحي نيط منه نجاده ** بجيد معم في العشيرة مخول )
( أزالوا ببدر عن بروجهم العدا ** كما زلت الصفواء بالمتنزل )
( وفادوا ظباهم لا بفتك فتى ولا ** كبير أناس في بجاد مزمل )
( وفضي جموعا فدفدا جامعا بها ** لنا بطن حقف ذي ركام عقنقل )
( وأحموا وطيسا في حنين كأنه ** إذا جاش فيه حميه غلي مرجل )
( ونادوا بنات النبع بالنصر أثمري ** ولا تبعدينا من جناك المعلل )
( وممن له سددت سهمين فاضربي ** بسهميك في أعشار قلب مقتل )
( فما أغنت الأبدان درع بها اكتست ** ترائبها مصقولة كالسجنجل )
( وأضحت لواليها ومالكها العدا ** يقولون لا تهلك أسى وتجمل )
( وقد فر منصاع كما فر خاضب ** لدى سمرات الحي ناقف حنظل )
( وكم قال يا ليل الوغى طلت فانبلج ** بصبح وما الإصباح منك بأمثل )
( فليت جوادي لم يسر بي إلى الوغى ** وبات بعيني قائما غير مرسل )
( وكم مرتق أوطاس منهم بمسرج ** متى ما ترق العين فيه تسهل )
( وقرطه خرصا كمصباح مسرج ** أمال السليط بالذبال المفتل )
( فيرنو لهاد فوق هاديه طرفه ** بناظرة من وحش وجرة مطفل )
( ويسمع من كافورتين بجانبي ** أثيث كقنو النخلة المتعثكل )
( ترفع أن يعزى له شد شادن ** وإرخاء سرحان وتقريب تتفل )
( ولكنه يمضي كما مر مزبد ** يكب على الأذقان دوح الكنهبل )
( ويغشى العدا كالسهم أو كالشهاب أو ** كجلمود صخر حطه السيل من عل )
( جياد أعادت رسم رستم دارسا ** وهل عند رسم دارس من معول )
( وريعت بها خيل القياصر فاختفت ** جواحرها في صرة لم تزيل )
( سبت عربا من نسوة العرب تستبي ** إذا ما اسبكرت بين درع ومجول )
( وكم من سبايا الفرس والصفر أسهرت ** نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل )
____________________
(5/521)
( وحزن بدورا من ليالي شعرها ** تضل العقاص في مثنى ومرسل )
( وأبقت بأرض الشام هاما كأنها ** بأرجائها القصوى أنابيش عنصل )
( وما جف من حب القلوب بغورها ** وقيعانها كأنه حب فلفل )
( لخضراء ما دبت ولا نبتت بها ** أساريع ظبي أو مساويك إسحل )
( شدا طيرها في مثمر ذي أرومة ** وساق كأنبوب السقي المذلل )
( فشدت بروض ليس يذبل بعدها ** بكل مغار الفتل شدت بيذبل )
( وكم هجرت في القيظ تحكي ذوارعا ** عذارى دوار في ملاء مذيل )
( وكم أدلجت والقتر يهفو هزيزه ** ويلوي بأثواب العنيف المثقل )
( وخضن سيولا فضن بالبيد بعدما ** أثرن غبارا بالكديد المركل )
( وكم ركزوا رمحا بدعص كأنه ** من السيل والغثاء فلكه مغزل )
( فلم تبن حصنا خوف حصنهم العدا ** ولا أطما إلا مشيدا بجندل )
( فهدت بغضب شيب بعد صقاله ** بأمراس كتان إلى صم جندل )
( وجيش بأقصى الأرض ألقى جرانه ** وأردف أعجازا وناء بكلكل )
( يدك الصفا دكا ولو مر بعضه ** وأيسره عالي الستار ويذبل )
( دعا النصر والتأييد راياته اسحبي ** على أثرينا ذيل مرط مرحل )
( لواء منير النصل طاو كأنه ** منارة ممسى راهب متبتل )
( كأن دم الأعداء في عذباته ** عصارة حناء بشيب مرجل )
( صحاب بروا هام العداة وكم قروا ** صفيف شواء أو قدير معجل )
( وكم أكثروا ما طاب من لحم جفرة ** وشحم كهداب الدمقس المفتل )
( وكم جبن من غبراء لم يسق نبتها ** دراكا ولم ينضح بماء فيغسل )
( حكى طيب ذكراهم ومر كفاحهم ** مداك عروس أو صلاية حنظل )
( لأمداح خير الخلق قلبي قد صبا ** وليس فؤادي عن هواها بمنسل )
( فدع من لأيام صلحن له صبا ** ولا سيما يوم بدارة جلجل )
____________________
(5/522)
( وأصبح عن أم الحويرث ما سلا ** وجارتها أم الرباب بمأسل )
( وكن في مديح المصطفى كمدبج ** يقلب كفيه بخيط موصل )
( وأمل به الأخرى ودنياك دع فقد ** تمتعت من لهو بها غير معجل )
( وكن كنبيث للفؤاد منابث ** نصيح على تعذاله غير مؤتل )
( ينادي إلهي إن ذنبي قد عدا ** علي بأنواع الهموم ليبتلي )
( فكن لي مجيرا من شياطين شهوة ** علي حراص لو يسرون مقتلي )
( وينشد دنياه إذا ما تدللت ** أفاطم مهلا بعض هذا التدلل )
( فإن تصلي حبلي بخير وصلته ** وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي )
( وأحسن بقطع الحبل منك وبته ** فسلي ثيابي من ثيابك تنسل )
( أيا سامعي مدح الرسول تنشقوا ** نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل )
( وروضة حمد للنبي محمد ** غذاها نمير الماء غير المحلل )
( ويا من أبى الإصغاء ما أنت مهتد ** وما إن أرى عنك الغواية تنجلي )
( فلو مطفلا أنشدتها لفظها ارعوت ** فألهيتها عن ذي تمائم محول )
( ولو سمعته عصم طود أمالها ** فأنزل منها العصم من كل منزل )
وقد عرفت بحازم هذا في أزهار الرياض وذكرت جملة من نظمه ومن بارع ما وقع له قوله
( أدر المدامة فالنسيم مؤرج ** والروض مرقوم البرود مدبج )
( والأرض قد لبست برود جمالها ** فكأنما هي كاعب تتبرج )
( والنهر مما ارتاح معطفه إلى ** لقيا النسيم عبابه متموج )
( يمسي الأصيل بعسجدي شعاعه ** أبدا يوشى صفحه ويدبج )
( وتروم أيدي الريح تسلب ما اكتسى ** فتزيده حسنا بما هي تنسج )
( فارتح لشرب كؤوس راح نورها ** بل نارها في مائها تتوهج )
____________________
(5/523)
واسكر بنشوة لحظ من أحببته ** أو كأس خمر من لماه تمزج )
( واسمع إلى نغمات عود تطبي ** قلب الخلي إلى الهوى وتهيج )
( بم وزير يسعدان مثانيا ** ومثالثا طبقاتها تتدرج )
( من لم يهيج قلبه هذا فما ** للقلب منه محرك ومهيج )
( فأجب فقد نادى بألسن حاله ** للأنس دهر للهموم مفرج )
( طربت جمادات وأفصح أعجم ** فرحا وأصبح من سرور يهزج )
( أفيفضل الحي الجماد مسرة ** والحي للسراء منه أحوج )
( ما العيش إلا ما نعمت به وما ** عاطاك فيه الكأس ظبي أدعج )
( ممن يروقك منه ردف مردف ** عبل وخصر ذو اختصار مدمج )
( فإذا نظرت لطرة ولغرة ** ولصفحة منه بدت تتأجج )
( أيقنت أن ثلاثهن وما غدا ** من تحتها ينآد أو يتموج )
( ليل على صبح على بدر على ** غصن تحمله كثيب رجرج )
( كأس ومحبوب يظل بلحظه ** قلب الخلي إلى الهوى يستدرج )
( يا صاح ما قلبي بصاح عن هوى ** شيئان بينهما المنى تستنتج )
( وبمهجتي الظبي الذي في أضلعي ** قد حل وهو يشبها ويؤجج )
( ناديت حادي عيسه يوم النوى ** والعيس تحدى والمطايا تحدج )
( قف أيها الحادي أودع مهجة ** قد حازها دون الجوانح هودج )
( لما تواقفنا وفي أحداجها ** قمر منير بالهلال متوج )
( ناديتهم قولوا لبدركم الذي ** بضيائه تسري الركاب وتدلج )
( يحيي العليل بلفظة أو لحظة ** تطفي غليلا في الحشا يتأجج )
( قالوا نخاف يزيد قلبك لاعجا ** فأجبتهم خلوا اللواعج تلعج )
( وبكيت واستبكيت حتى ظل من ** عبراتنا بحر ببحر يمرج )
( وبقيت أفتح بعدهم باب المنى ** ما بيننا طورا وطورا يرتج )
____________________
(5/524)
( وأقول يا نفس اصبري فعسى النوى ** بصباح قرب ليلها يتبلج )
( فترقب السراء من دهر شجا ** والدهر من ضد لضد يخرج )
( وترج فرجة كل هم طارق ** فلكل هم في الزمان تفرج )
وتذكرت هنا جيمية ابن قلاقس وهي
( عرضت لمعترض الصباح الأبلج ** حوراء في طرف الظلام الأدعج )
( فتمزقت شيم الدجى عن غرتي ** شمسين في أفق وكلة هودج )
( ووراء أستار الجمول لواحظ ** غازلن معتدل الوشيج الأعوج )
( من كل مبتسم السنان إذا جرى ** دمع النجيع من الكمي الأهوج )
( ولقد صحبت الليل قلص برده ** لعباب بحر صباحه المتموج )
( وكأن منتثر النجوم لآلىء ** نظمت على صرح من الفيروزج )
( وسهرت أرقب من سهيل خافقا ** متفردا وكأنه قلب الشجي )
( واستعبرت مقل السحاب فأضحكت ** منها ثغور مفوف ومدبج )
ولنعد إلى ذكر أبي بكر ابن جزي فنقول
وله تقييد في الفقه على كتاب والده المسمى بالقوانين الفقهية ورجز في الفرائض وإحسانه كثير وتقدم قاضيا للجماعة بحضرة غرناطة ثامن شوال عام ستين وسبعمائة ثم صرف عنها ثم لما توفي الأستاذ الخطيب العالم الشهير أبو سعيد فرج بن لب رحمه الله تعالى وكان خطيب الجامع الأعظم بغرناطة ولي عوضا عنه أستاذا وخطيبا عام اثنين وثمانين وسبعمائة فبقي في الخطابة ثلاثة أعوام ثم توفي وأظن وفاته آخر عام خمسة وثمانين وسبعمائة رحمه الله تعالى
____________________
(5/525)
وأما أخوه أبو عبد الله محمد فهو الكاتب المجيد أعجوبة الزمان وتوفي بفاس رحمه الله تعالى عام ثمانية وخمسين وسبعمائة وقيل وهو الصواب إن وفاته آخر شوال من السنة قبلها حسبما ألفيته بخط بعض أكابر الثقات بداره من البيضاء وهي فاس الجديدة قرب مغرب يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شوال من عام سبعة وخمسين وسبعمائة وكان دفنه يوم الأربعاء بعد صلاة العصر وراء الحائط الشرقي الذي بالجامع الأعظم من المدينة البيضاء وكان مولده في شوال من عام واحد وعشرين وسبعمائة انتهى
قال الأمير ابن الأحمر في نثير الجمان أدركته ورأيته وهو من أهل بلدنا غرناطة وكان أبوه أبو القاسم محمد أحد المفتين بها عالم الأندلس الطائرة فتياه منها إلى طرابلس وقتل شهيدا بطريف بعد أن أبلى بلاء حسنا وأبو عبد الله ابنه هذا كتب بالأندلس في حضرة ابن عم أبينا أمير المسلمين أبي الحجاج يوسف وله فيه أمداح عجيبة ولم يزل كاتبا في الحضرة الأحمرية النصرية إلى أن امتحنه أمير المسلمين أبو الحجاج انتهى
ويعني ابن الأحمر بهذا الامتحان أنه ضربه بالسياط من غير ذنب اقترفه بل ظلمه ظلما مبينا هكذا ألفيته في بعض المقيدات
ثم قال ابن الأحمر فقوض الرحال عن الأندلس واستقر بالعدوة فكتب بالحضرة المرينية لأمير المسلمين أبي عنان إلى أن توفي بها رحمه الله تعالى وكان رحمه الله تعالى طلع في سماء العلوم بدرا مشرقا وسارت براعته مغربا ومشرقا وسما بشعره فوق الفردقين كما أربى بنثره على الشعرى والبطين له باع مديد في التاريخ واللغة والحساب والنحو والبيان والآداب بصير بالفورع والأصول والحديث عارف بالماضي من الشعر والحديث
____________________
(5/526)
إن نظم أنساك أبا ذؤيب برقته ونصيبا بمنصبه ونخوته وإن كتب أربى على ابن مقلة بخطه وإن أنشأ رسالة أنساك العماد بحسن مساقها وضبطه وهو رب هذا الشان وفارس هذا الميدان ومع تفننه في الشعر فهو في العلوم قد نبغ وما بلغ أحد من شعراء عصره منه ما بلغ بل سلموا التقدم فيه إليه وألقوا زمام الاعتراف بذلك في يديه ودخلوا تحت راية الأدب التي حمل إذ ظهر ساطع براعته ظهور الشمس في الحمل أنشدني لنفسه يمدح أمير المسلمين أبا الحجاج يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل عم أبينا ابن جدنا الرئيس الأمير أبي سعيد فرج هذه القصيدة البارعة وحذف منها الراء المهملة
( قسما بوضاح السنا الوهاج ** من تحت مسدول الذوائب داج )
( وبأبلج بالمسك خطت نونه ** من فوق وسنان اللواحظ ساجي )
( وبحسن خد دبجت صفحاته ** فغدت تحاكي مذهب الديباج )
( وبمبسم كالعقد نظم سلكه ** ولمى حكى الصهباء دون مزاج )
( وبمنطق تصبو القلوب لحسنه ** أنسى المسامع نغمة الأهزاج )
( وبمائس الأعطاف تثنيه الصبا ** فيميس كالخطي يوم هياج )
( ومنعم مثل الكثيب يقله ** مستضعف يشكو من الإدماج )
( وبموعد للوصل أنجز فجأة ** من بعد طول تمنع ولجاج )
( وبأكؤس أطلعن في جنح الدجى ** شمس السلافة في سماء زجاج )
( وحدائق سحب السحاب ذيوله ** فيها وبات لها النسيم يناجي )
( وجداول سلت سيوفا عندما ** فجئت بجيش للصبا عجاج )
( وبأقحوان قد تضاحك إذ بكت ** عين الغمام بمدمح ثجاج )
( وقدود أغصان يملن كأنها ** تخفي حديثا بينها وتناجي )
( وحمائم يهتفن شجوا بالضحى ** فهديلهن لذي الصبابة شاجي )
____________________
(5/527)
( إن المعالي والعوالي والندى ** والبأس طوع يدي أبي الحجاج )
( ملك تتوج بالمهابة عندما ** لم يستجز في الدين لبس التاج )
( وأفاض حكم العدل في أيامه ** فالحق أبلج واضح المنهاج )
( هو منقذ العاني ومغني المعتفي ** ومذلل العاتي وغوث اللاجي )
( ماضي العزيمة والسيوف كليلة ** طلق المحيا والخطوب دواجي )
( علم الهدى والناس في عمياء قد ** ضلوا لوقع الحادث المهتاج )
( غيث الندى والسحب تبخل بالحيا ** والمحل يبدي فاقه المحتاج )
( ليث الوغى والخيل تزجي بالقنا ** والبيض تنهل في دم الأوداج )
( يتقشع الإظلام إذ يبدو له ** وجه كمثل الكوكب الوهاج )
( من آل قيلة من ذؤابة سعدها ** أعلى بني قحطان دون خلاج )
( حيث العلا ممدودة الأطناب لم ** تخلق معالمها يد الإنهاج )
( والأعوجيات السوابق تمتطي ** فتظلل الآفاق سحب عجاج )
( والبيض والأسل العوامل تقتضي ** مهج الكماة بأبلغ الإزعاج )
( مجد ليوسف جمعت أشتاته ** أعيا سواه بعد طول علاج )
( مولاي هاك عقيلة تزهو على ** أخواتها كالغادة المغناج )
( إنشاء عبد خالص لك حبه ** ومن العبيد مداهن ومداجي )
( آوى إلى أكناف نعماك التي ** ليست إليه صلاتها بخداج )
( سباق ميدان البلاغة والوغى ** لشعاب كل منهما ولاج )
( جانب أخت الزاي منها عامدا ** فأتت من الإحسان في أفواج )
( فافتح لها باب القبول وأول من ** أهداكها ما يبتغي من حاج )
ثم قال ابن الأحمر وأنشدني أيضا لنفسه يمدح أمير المؤمنين المتوكل على الله أبا عنان فارس ملك المغرب
____________________
(5/528)
( إن قلبي لعهدة الصبر ناكث ** عن غزال في عقدة السحر نافث )
( أضرم النار في فؤادي وولي ** قائلا لا تخف فإني عابث )
( ورماني من مقلتيه بسهم ** ثم قال اصطبر لثان و ثالث )
( كم عذول أتى يناظر فيه ** كان تعذاله على الحب باعث )
( ويمين آليتها بالتسلي ** فقضى حسنه بأني حانث )
( جبر الله صدع قلب عميد ** صدعت شمله صروف الحوادث )
( فهو يهفو إلى البروق ويروي ** عن نسيم الصبا ضعاف الأحادث )
( سلبته الأشجان إلا بقايا ** من أماني حبالهن رثائث )
( وبكاء على عهود مواض ** ملأت صدره هموما حدائث )
( لست وحدي أشكو بليلة وجدي ** إن داء الغرام ليس بحادث )
( يا مضيع العهود والله يعفو ** عنك إنى ارتضيت خطه ناكث )
( غرني منك والجمال غرور ** وظبي اللحظ في القلوب عوابث )
( مقل يقتسمن أعشار قلبي ** بالرضى مني اقتسام الموارث )
( كيف غيرت بانتزاحك حالي ** وتغيرت لي ولست بحارث )
( فرط حبي وفرط بخلك آلى ** أن عينيك بالفتور نوافث )
( وندى فارس وحسبك ردا ** قول من قال سد باب البواعث )
( ملك البأس والندى فهو بالسيف ** وبالسيب عائث أو غائث )
( محرز المجد والثناء فهذا ** سائر في الورى وذلك لابث )
( أوطأ الشهب رجله وترقى ** صاعدا في سموه غير ماكث )
( فدرار تسري وما لحقته ** ونجوم خلف القصور لوابث )
( وله المقربات لا بل هي العقبان ** من فوقها الليوث الدلاهث )
____________________
(5/529)
( مطلعات من كل نعل هلالا ** فلهذا تجلو دجى كل حادث )
( إن ترافقن فالجبال الرواسي ** أو تسابقن فالغيوث الحثائث )
( والمواضي كأنها قد أعيرت ** حدة الذهن منه عند المباحث )
( هي نار محرقات الأعادي ** وهي ماء مطهرات الخبائث )
( فيردن الوغى ذكورا عطاشا ** ثم يصدرن ناهلات طوامث )
( من معانيه قد رأينا عيانا ** كل فضل ينصه من يحادث )
( خلق كالنسيم مر سحيرا ** بالأزاهير في البطاح الدمائث )
( في سبيل الإله يقصي ويدني ** ويوالي في ذاته ويناكث )
( شرف الملك منه سام وحام ** ففدته سام وحام ويافث )
( هاكها من بنات فكري بكرا ** ليس يسمو لها من الناس طامث )
( ذات لفظ لا يعتريه اختلال ** ومعان لا تنتحيها المباحث )
( زعماء القريض أبقوا بقايا ** كنت دون الورى لهن الوارث )
( من أراد انتقادها فهي هذي ** عرضة البحث فليكن جد باحث )
ورأيت بخط ابن الصباغ العقيلي على هامش قوله وندى فارس وحسبك ردا 000 البيت ما نصه ما أبدع تخلصه للمدح وأطبعه فإنه أشار إلى قول الشاعر رادا عليه بالتبكيت ومعقبا له بالتعنيت
( قالوا تركت الشعر قلت ضرورة ** باب السماحة والملاحة مغلق )
( مات الكرام فلا كريم يرتجى ** منه النوال ولا مليح يعشق )
وقيل إن السلطان أبا عنان أطل من برج يشاهد الحرب بين الثور والأسد على ما جرت به عادة الملوك فقال ابن جزي المذكور في وصف الحال
____________________
(5/530)
( لله يوم بدار الملك مر به ** من العجائب ما لم يجر في خلدي )
( لاح الخليفة في برج العلا قمرا ** يشاهد الحرب بين الثور والأسد )
ومن بارع نظمه رحمه الله تعالى قوله
( أ با حسن إن شتت الدهر شملنا ** فليس لود في الفؤاد شتات )
( وإن حلت عن عهد الإخاء فلم يزل ** لقلبي على حفظ العهود ثبات )
( وهبني سرت مني إليك إساءة ** الم تتقدم قلبها حسنات )
وقوله وهو بحال مرض
( إن يأخذ السقم من جسمي مآخذه ** وأصبح القوم من أمري على خطر )
( فإن قلبي بحمد الله مرتبط ** بالصبر والشكر والتسليم للقدر )
( فالمرء في قبضة الأقدار مصرفه ** للبرء والسقم أو للنفع والضرر )
وحكي أن الفقيه الرحال أبا اسحاق إبراهيم ابن الحاج النميري بقي في خلوته جميع شهر رمضان المعظم من عام سبعة وخمسين وسبعمائة فلما خرج في يوم عيد الفطر أنشده صهره أبو عبد الله ابن جزي المذكور لنفسه
( ما سرار البدور إلا ثلاث ** فلماذا أرى سرارك شهرا )
( أتعجلته سرارا لعام ** ثم تبقى في سائر العام بدرا )
وحكي أنه كتب للرئيس صاحب القلم الأعلى والعلامة بفاس أبي القاسم ابن رضوان يطلب منه شراب سكنجبين وقصد التصحيف بقوله أحسن زان بيتك نجيب تسر به بر مرضي تصحيفه أحب شراب سكنجبين شربه برء مرضي قال فجاوبني ابن رضوان بقوله أن برك نفيس تصحيفه مقلوبا يشفيك ربنا
ومن نظم ابن جزي المذكور قوله
____________________
(5/531)
( رعى الله عهدا بالمرية ما أرى ** به أبدا ما عشت في الناس بالناسي )
( وكيف ترى بالله صحبة معشر ** مجاهد بعض منهم وابن عباس )
وقوله في الزاوية التي أنشأها السلطان أبو عنان
( هذا محل الفضل والإيثار ** والرفق بالسكان والزوار )
( دار على الاحسان شيدت والتقى ** فجزاؤها الحسنى وعقبى الدار )
( هي ملجأ للواردين ومورد ** لابن السبيل وكل ركب ساري )
( آثار مولانا الخليفة فارس ** أكرم بها في المجد من آثار )
( لا زال منصور اللواء مظفرا ** ماضي العزائم سامي المقدار )
( بنيت على يد عبدهم وخديم بابهم ** العلي محمد بن جدار )
( في عام أربعة وخمسين انقضت ** من بعد سبع مئين في الاعصار )
ومن نظمه قوله موريا
( وما أنسى الأحبة يوم بانوا ** تخوض مطيهم بحر الدموع )
( وقالوا اليوم منزلنا الحنايا ** فقلت نعم ولكن من ضلوعي )
وقوله موريا أيضا
( ورب يهودي أتى متطببا ** ليأخذ ثارات اليهود من الناس )
( إذا جس نبض المرء أودى بنفسه ** سريعا ألم تسمع بفتكة جساس )
وقوله
( من أي أشجاني التي جنت النوى ** أشكو العذاب وهن في تنويع )
( من وصلي الموقوف أو من هجري الموصول ** أو من نومي المقطوع )
____________________
(5/532)
( أو من حديث تولهي وتولعي ** خبرا صحيحا ليس بالموضوع )
( يرويه خدي مسندا عن أدمعي ** عن مقلتي عن قلبي المفجوع )
وأول هذه القصيدة
( ذهبت حشاشة قلبي المصدوع ** بين السلام ووقفة التوديع )
وقد ضمن شطرها الفقيه عبيد شارح الحلبة اذ قال من قصيدة مطلعها
( اهمي دموعك ساعة التوديع ** يا مقلتي ممزوجة بنجيع )
بقوله
( يوم استقلت عيسهم وترحلوا ** ذهبت حشاشة قلبي المصدوع )
وقوله
( بخدي وجسمي والفؤاد وأدمعي ** شهود بهم دعوى الغرام تصحح )
( ومن عجب أن رجح الناس نقلهم ** وكلهم ذو جرحة فيه تقدح )
( فجسمي ضعيف والفؤاد مخلط ** ودمعي مطروح وخذي مجرح )
وقوله
( يا محيا كتب الحسن به ** أحرفا أبدع فيها وبرع )
( ميم ثغر ثم نون حاجب ** ثم عين هي تتميم البدع )
( أنا لا أطمع في وصلك لي ** وعلى وجهك مكتوب منع )
ثم قال ابن الأحمر ومن إنشائه البارع موريا بالكتب ورفعها لأمير المؤمنين
____________________
(5/533)
المتوكل على الله أبي عنان فارس رحمه الله تعالى يهنيه بإبلال ولده ولي عهده الأمير أبي زيان محمد بن مرض
( ماذا عسى أدب الكتاب يوضح من ** خصال مجدك وهو الزاهر الزاهي )
( وما الفصيح بكليات موعبها ** كاف فيأتي بأنباء وإنباه )
أبقى الله تعالى مولانا الخليفة ولسعادته القدح المعلى ولزاهر كماله التاج المحلى تجلى من حلاه نزهة الناظر ويسير بعلاه المثل السائر ويتسق من سناه العقد المنظم ويتضح بهداه القصد الامم ولا زالت مقدمات النصر له مبسوطة ومعونة السعد بإشارته منوطة وهدايته متكلفلة باحياء علوم الدين وإيضاح منهاج العابدين وإرشاده يتولى تنبيه الغافلين ويأتي من شفاء الصدور بالنور المبين وميقات الخدمة ببابه مطمح الانفس وملخص الجود من كفه بغية الملتمس قد حكم ادب الدين والدنيا بأنك سراج الملوك لما أتت عوارفك بالمشرع السلسل ومعارفك بنظم السلوك ووضحت معالم مجدك وضوح انوار الفجر وزهت بعدلك المسالك والممالك زهو خريدة القصر فلك في جمهرة الشرف النسب الوسيط ومن جمل المآثر الخلاصة والبسيط وسيل الخيرات لها برعايتك تيسير ومحاسن الشريعة لها بتحصيلك تحبير وانت حجة العلماء الذي تقصر عن تقصي مآثره فطن الاذكياء ان انبهم التفسير ففي يدك ملاك التأويل أو اعتاص تفريع الفقه فعندك فصل البيان له والتحصيل وان تشعب التاريخ فلديك استيعابه أو تطاول الادب ففي ايجاز بيانك اقتضابه وان ذكر الكلام ففي انتقائك من برهانه المحصول او المنطق ففي موجز آمالك لبابه المنخول وليس اساس البلاغة الا ما تأتي به من فصل المقال ولا جامع
____________________
(5/534)
الخير الا حزته من تهذيب الكمال ولذلك صارت خدمتك غاية المطلوب وحبك قوت القلوب ولا غرو ان كنت من العلياء درتها المكنونة فاسلافك الكرام هم جواهرها الثمينة بحماستهم أصيبت مقاتل الفرسان وبجود جودهم تسنى ري الظمآن وبتسهيل عدلهم وضحت شعب الايمان وانت المنتقى من سمط جمانهم والواسطة في قلائد عقيانهم عنك تؤثر سيرة الاكتفاء وعن فروعك السعداء تروى أخبار نجباء ألابناء فهم لمملكتك العلية بهجة مجالسها وأنس مجالسها وقطب سرورها ومطالع نورها وولي عهدك درتهم الخطيرة وذخيرتهم الأثيرة لا زال كامل سعادته بطول مقامك محكما وحرز أمانيه بالجمع بين الصحيحين حبك ورضاك معلما وقد وجبت التهنئة بما كان في حيلة برئه من التيسير وما تهيأ في استقامة قانون صحته من نجح التدبير ولم يكن الا ان بعدت به عنك المسالك واعوز نور طرفه تقريب المدارك وتذكر ما عهده من الايناس الموطأ جنابه عند أفضل مالك فوري من شوقه سقط الزند والتهب في جوانحه قبس الوجد فأمددته من دعائك الصالح بحلية الاولياء فظفر لما شارف مشارق الأنوار من حضرتك بالشفاء وقد حاز اكمال الأجر بذلك العارض الوجيز وكان له كتشبيب الابريز وها هو قادم بالطالع السعيد آيب بالمقصد الأسنى من الفتح والتمهيد يطلع بين يديك طلوع الشهاب ويبسم عن مفصل الثناء في الهناء بذلك زهر الآداب فاعد له تحفة القادم من احسانك الكامل واخصصه بالتكملة من إيناسك الشامل فهو الكوكب الدري المستمد من أنوارك السنية وفي تهذيب شمائله ايضاح للخلق الكريمة الفارسية لازالت تزدان بصحاح مآثرك عيون الاخبار وتتعطر بنفحة الزهر من ثنائك روضة الأزهار وتتلى من محامدك الآيات البينات وتتوالى عليك الألطاف الالهيات بمن الله سبحانه وفضله والسلام الكريم
____________________
(5/535)
يعتمد المقام العلي ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى
وللمذكور عدة مقطعات يوري فيها بأسماء الكتب فمنها قوله
( ظبي هو الكامل في حسنه ** وثغره أبهى من العقد )
( جماله المدهش لكنما ** أخلاقه تحكي صبا نجد )
وقوله أيضا
( لك الله من خل حباني برقعة ** حبتني من آياتها بالنوادر )
( رسالة رمز في الجمال نهاية ** ذخيرة نظم أتحفت بالجواهر )
وقوله
( قصتي في الهوى المدونة ** الكبرى وأخبار عشقي المبسوطة ) ( حجتي في الغرام واضحة إذ ** لم تزل مهجتي بوجد منوطة ) نماذج من التورية بأسماء الكتب
وتذكرت بالتورية بأسماء الكتب قول الأرجاني
( لما تألق بارق من ثغره ** جادت دموعي بالسحاب الممطر )
( فكأن عقد الدر حل قلائد العقيان ** منه على صحاح الجوهري )
وقول لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى
( وظبي لأوضاع الجمال مدرس ** عليم بأسرار المحاسن ماهر )
( أرى جيده نص المحلى وقررت ** ثناياه ما ضمت صحاح الجواهر )
____________________
(5/536)
وقول ابن خاتمة
( ومعظم الأنفاس يبسم دائما ** عن در ثغر زانه ترتيب )
( من لم يشاهد منه عقد جواهر
لم يدر ما التنقيح والتهذيب )
وقوله أيضا
( سفهني عاذلي عليه ** وقال لي وده عليل )
( فقلت معتل أو صحيح ** يودعه عينه الخليل )
وقوله أيضا
( حازالجمال بصورة قمرية ** تجلو عليك مشارق الأنوار )
( وحوى الكمال بصورة عمرية ** تتلو عليك مناقب الأبرار )
وقول الرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي
( من اغتدى موطأ أكنافه ** صح له التمهيد في أحواله )
( وقابل استذكاره بالمنتقى ** من رأيه المختار من أعماله )
( وأضحت المسالك الحسنى له ** تدني تقصيا قصى آماله )
( وسار من مشارق الأنوار في ** أدنى المدارك إلى إكماله )
ولما وقف على هذه القطعة الفاضل أبو علي حسين بن صالح بن أبي دلامة عارضها وزاد ذكر القبس والمعلم
____________________
(5/537)
( قل للموطأ للورى أكنافه ** بشراه بالتمهيد في الأحوال )
( وإذا اكتفى بالمنتقى استذكاره ** وفى له المختار في الأعمال )
( ومسالك الحسنى تؤديه إلى ** أقصى التقصي من قصى الآمال )
( ويلوح من قبس الهداية رشده ** من معلم التفصيل والإجمال )
رجع إلى ابن جزي ومن نظمه
( يا دوحة الأنس من بطحاء واسجة ** هل من سبيل إلى أيامك الأول )
( إذ تجتلي أوجه الإيناس مسفرة ** ونجتني ثمر اللذات والغزل )
ومن نظمه رحمه الله تعالى عند خروجه إلى بلاد المغرب وورى بكتابي تحفة القادم وزاد المسافر فقال
( وإني لمن قوم يهون عليهم ** ورود المنايا في سبيل المكارم )
( يطيرون مهما ازور للدهر جانب ** بأجنحة من ماضيات العزائم )
( وما كل نفس تحمل الذل إني ** رأيت احتمال الذل شأن البهائم )
( إذا أنا لم أظفر بزاد مسافر ** لديكم فعند الناس تحفة قادم )
وزاد المسافر لصفوان والتحفة لابن الأبار
ومن نظمه قوله
( نصب الحبائل للورى بالحسن إذ ** رفع اللثام وذيله مجرور )
( وأماله عني العواذل غيلة ** فهو الممال وقلبي المكسور )
وقوله أيضا
( تلك الذؤابة ذبت من شوقي لها ** واللحظ يحميها بأي سلاح )
( يا قلب فانج وما إخالك ناجيا ** من فتنة الجعدي والسفاح )
____________________
(5/538)
وقوله أيضا
( وعاشق صلى ومحرابه ** وجه غزال ظل يهواه )
( قالوا تعبدت فقلت نعم ** تعبدا يفهم معناه )
وقوله رحمه الله تعالى
( لاتعد صنفك إن ذهبت لصاحب ** تعتده لكن تخير وانتق )
( أوما ترى الأشجار مهما ركبت ** إن خولفت أصنافها لم تعلق )
وقوله رحمه الله تعالى
( أيتها النفس قفي عندما ** ألزمت فعلا كان أو قولا )
( فمن يكن يرضى بما ساءه ** أوسره فهو له الأولى )
( لا يترك العبد وما شاءه ** إلا إذا أهمله المولى )
وقوله أيضا
( لولا ثلاث قد شغفت بحبها ** ما عفت في حوض المنية موردي )
( وهي الرواية للحديث وكتبه ** والفقه فيه وذاك حسب المهتدي )
وأما أخوهما القاضي أبو محمد عبد الله بن أبي القاسم بن جزي فهو الإمام العالم العلامة المعمر رئيس العلوم اللسانية قال في الإحاطة هذا الفاضل قريع بيت نبيه وسلف شهير وأبوة خير وأخوة بليغة وخؤولة اديب حافظ قائم على فن العربية مشارك في فنون لسانية ظرف في الإدراك جيد النظم مطواع القريحة باطنه نبل وظاهره غفلة قعد للإقراء ببلده غرناطة معيدا ومستقلا ثم تقدم للقضاء بجهات نبيهة على زمن الحداثة أخذ عن والده
____________________
(5/539)
الأستاذ الشهير الشهيد أبي القاسم أشياء كثيرة وعن القاضي أبي البركات ابن الحاج وقاضي الجماعة الشريف السبتي والأستاذ البياني والأستاذ الأعرف أبي سعيد ابن لب والشيخ المقرىء أبي عبد الله ابن بيبش وأجازه رئيس الكتاب أبو الحسن ابن الجياب وقاضي الجماعة أبو عبد الله ابن بكر وأبو محمد ابن سلمون والقاضي ابن شبرين والشيخ أبو حيان وقاضي الجماعة أبو عبد الله المقري وأبو محمد الحضرمي وجماعة آخرون وشعره نبيل الأغراض حسن المقاصد انتهى المقصود منه
وممن أخذ عنه العباس البقني شارح البردة والقاضي أبو بكر ابن عاصم وبالإجازة الإمام ابن مرزوق الحفيد وغيرهم
وقد عرف ابن فرحون في الديباج المذهب بأبيه الشهيد أبي القاسم وأخيه القاضي أبي بكر دونه وعرف ابن الخطيب في الإحاطة بأبيه وأخويه أبي بكر وأبي عبد الله وفيما ذكرنا من أمرهم كفاية
ومما نسبه الوادي آشي لأبي محمد عبد الله بن جزي قوله
( يا من أتاني بعده بعدما ** عاملته بالبر واللطف )
( إني تأملت وقد سرني ** بجملة من سورة الكهف )
وله أيضا
( لقد قطعت قلبي يا خليلي ** بهجر طال منك على العليل )
( ولكن ما عجيب منك هذا ** إذ التقطيع من شأن الخليل )
رجع إلى مشايخ لسان الدين رحمه الله تعالى
____________________
(5/540)
27 - ومنهم القاضي الأديب جملة الظرف أبو بكر ابن شبرين
وقد استوفى ترجمته في الإحاطة وذكره أيضا في ترجمة ذي الوزارتين ابن الحكيم بأن قال بعد حكايته قتل ابن الحكيم ما صورته وممن رثاه شيخنا أبو بكر ابن شبرين رحمه الله تعالى بقوله
( سقى الله أشلاء كرمن على البلى ** وما غض من مقدارها حادث البلا )
( ومما شجاني أن أهين مكانها ** وأهمل قدر ما عهدناه مهملا )
( ألا اصنع بها يا دهر ما أنت صانع ** فما كنت إلا عبدها المتذللا )
( سفكت دما كان الرقوء نواله ** لقد جئتما شنعاء فاضحة الملا )
( بكفي سبنتى أزرق العين مطرق ** عدا فغدا في غيه متوغلا )
( لنعم قتيل القوم في يوم عيده ** قتيل تبكيه المكارم والعلا )
( ألا أن يوم ابن الحكيم لمثكل ** فؤادي فما ينفك ما عشت مثكلا )
( فقدناه في يوم أغر محجل ** ففي الحشر نلقاه أغر محجلا )
( سمت نحوه الأيام وهو عميدها ** فلم تشكر النعمى ولم تحفظ الولا )
( تعاورت الأسياف منه ممدحا ** كريما سما فوق السماكين مزحلا )
( وخانته رجل في الطواف به سعت ** فناء بصدر للعلوم تحملا )
( وجدل لم يحضره في الحي ناصر ** فمن مبلغ الأحياء أن مهلهلا )
____________________
(5/541)
( يد الله في ذاك الأديم ممزقا ** تبارك ما هبت جنوبا وشمالا )
( ومن حزني أن لست أعرف ملحدا ** له فأرى للترب منه مقبلا )
( رويدك يا من قد غدا شامتا به ** فبالأمس ما كان العماد المؤملا )
( وكنا نغادي أو نراوح بابه ** وقد ظل في أوج العلا متوقلا )
( ذكرناه يوما فاستهلت جفوننا ** بدمع إما ما أمحل العام أخضلا )
( ومازج منا الحزن طول اعتبارنا ** ولم ندر ماذا منهما كان أطولا )
( وهاج لنا شجوا تذكر مجلس ** له كان يهدي الحي والملأ الألى )
( به كانت الدنيا تؤخر مدبرا ** من الناس حتما أو تقدم مقبلا )
( لتبك عيون الباكيات على فتى ** كريم إذا ما أسبغ العرف أجزلا )
( على خادم الآثار تتلى صحائحا ** على حامل القرآن يتلى مفصلا )
( على عضد الملك الذي قد تضوعت ** مكارمه في الأرض مسكا ومندلا )
( على قاسم الأموال فينا على الذي ** وضعنا لديه كل إصر على علا )
( وأنى لنا من بعده متعلل ** وما كان في حاجاتنا متعللا )
( ألا يا قصير العمر يا كامل العلا ** يمينا لقد غادرت حزنا مؤثلا )
( يسوء المصلى أن هلكت ولم تقم ** عليك صلاة فيه يشهدها الملا )
( وذاك لأن الأمر فيه شهادة ** وسنتها محفوظة لن تبدلا )
( فيا أيها الميت الكريم الذي قضى ** سعيدا حميدا فاضلا ومفضلا )
( لتهنك من رب السماء شهادة ** تلاقي ببشرى وجهك المتهللا )
( رثيتك عن حب ثوى في جوانحي ** فما ودع القلب العميد وما قلى )
( ويا رب من أوليته منك نعمة ** وكنت له ذخرا عتيدا وموئلا )
( تناساك حتى ما تمر بباله ** ولم يدكر ذاك الندى والتفضلا )
____________________
(5/542)
( يرابض في مثواك كل عشية ** صفيف شواء أو قديرا معجلا )
( لحي الله من ينسى الأذمة رافضا ** ويذهل مهما أصبح الأمر مشكلا )
( حنانيك يا بدر الهدى فلشد ما ** تركت بدور الأفق بعدك أفلا )
( وكنت لآمالي حياة هنيئة ** فغادرت مني اليوم قلبا مقتلا )
( فلا وأبيك الخير ما أنا بالذي ** على البعد ينسى من ذمامك ما خلا )
( فأنت الذي آويتني متغربا ** وأنت الذي أكرمتني متطفلا )
( فآليت لا ينفك قلبي مكمدا ** عليك ولا ينفك دمعي مسبلا )
وكتب ابن لسان الدين على هامش هذه القطعة ما صورته شكر الله وفاءك يا ابن شبرين وقدس لحدثك وأين مثلك في الدنيا حسنا ووفاء وعلما لا كما صنع ابن زمرك في ابن الخطيب مخدومه قاله علي بن الخطيب انتهى
28 - ومن أشياخ لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى الشيخ الأستاذ العلامة العلم الأوحد الصدر المصنف المحدث الأفضل الأصلح الأورع الأتقى الأكمل أبو عثمان سعد ابن الشيخ الصالح التقي الفاضل المبرور المرحوم أبي جعفر احمد بن ليون التجيبي رضي الله تعالى عنه وهو من أكابر الأئمة الذين أفرغوا جهدهم في الزهد والعلم والنصح وله تواليف مشهورة منها اختصار بهجة المجالس لابن عبد البر واختصار المرتبة العليا لابن راشد القفصي وكتاب في الهندسة وكتاب في الفلاحة وكتاب كمال الحافظ وجمال اللافظ في الحكم والوصايا والمواعظ وكان مولعا باختصار الكتب وتواليفه تزيد على المائة فيما يذكر وقد وقفت منها بالمغرب على أكثر من عشرين
ومما حكي عن بعض كبراء المغرب أنه رأى رجلا طوالا فقال لمن
____________________
(5/543)
حضره لو رآه ابن ليون لاختصره إشارة إلى كثرة اختصاره للكتب
ومن تواليفه كتاب نفح السحر في اختصار روح الشحر وروح الشعر لابن الجلاب الفهري رحمه الله ومنها كتاب أنداء الديم في الوصايا والمواعظ والحكم وكتاب الأبيات المهذبة في المعاني المقربة وكتاب نصائح الأحباب وصحائح الآداب أورد فيه مائتي قطعة من شعره تتضمن نصائح متنوعة ولننقح منها نبذه فنقول منها في التحريض على العلم قوله رحمه الله تعالى
( زاحم أولي العلم حتى ** تعتد منهم حقيقة )
( ولا يردك عجز ** عن أخذ أعلى طريقة )
( فإن من جد يعطى ** فيما يحب لحوقه )
وقوله
( شفاء داء العي حسن السؤال ** فاسأل تنل علما وقل لا تبال )
( واطلب فالاستحياء والكبر من ** موانع العلم فما إن ينال )
وقوله
( علمت شيئا وغابت عنك أشياء ** فانظر وحقق فما للعلم إحصاء )
( للعلم قسمان ما تدري وقولك لا ** أدري ومن يدعي الإحصاء هذاء )
وقوله
( من لم يكن علمه في صدره نشبت ** يداه عند السؤالات التي ترد )
( العلم ما أنت في الحمام تحضره ** وماسوى ذلك التكليف والكمد )
____________________
(5/544)
وقوله
( الدرس رأس العلم فاحرص عليه ** فكل ذي علم فقير إليه )
( من ضيع الدرس يرى هاذيا ** عند اعتبار الناس ما في يديه )
( فعزة العالم من حفظه ** كعزة المنفق فيما عليه )
وقال رحمه الله تعالى في غير ما سبق
( ثلاث مهلكات لا محالة ** هوى نفس يقود إلى البطالة )
( وشح لا يزال يطاع دأبا ** وعجب ظاهر في كل حاله )
وقال
( اللهو منقصة بصاحبه ** فاحذر مذلة مؤثر اللهو )
( واللغو نزه عنه سمعك لا ** تجنح له لا خير في اللغو )
وقال
( لا تمالىء على صديقك وادرأ ** عنه ما اسطعت من أذى واهتضام )
( ما تناسى الذمام قط كريم ** كيف ينسى الكريم رعي الذمام )
( تطعم الكلب مرة فيحامي ** عنك والكلب في عداد اللئام )
وقال
( احذر مؤاخاة الدنيء فإنها ** عار يشين ويورث التضريرا )
( فالماء يخبث طعمه لنجاسة ** إن خالطته ويسلب التطهيرا )
وقال
____________________
(5/545)
( تحفظ من الناس تسلم ولا ** تكن في تقربهم ترغب )
( ولا تترك الحزم في كل ما ** تريد ولا تبغ ما يصعب )
وقال
( إخوانك اليوم إخوان الضرورة لا ** تثق بهم يا أخي في قول أو فعل )
( لا خير في الأخ إلا أن يكون إذا ** عرتك نائبة يقيك أو يسلى )
وقال
( طلب الإنصاف من قلة ** إنصاف فساهل )
( لا تناقش وتغافل ** فاللبيب المتغافل )
( قلما يحظى أخو الإنصاف ** في وقت بطائل )
وقال
( من خافه الناس عظموه ** وأظهروا بره وشكره )
( ومن يكن فاضلا حليما ** فإنما حظه المضرة )
( فامرر وكن صارما مبيرا ** يهبك من قد تخاف شره )
وقال
( إن تبغ عدلا فما ترضى لنفسك من ** قول وفعل به أعمل في الورى تسد )
( وكل ما ليس ترضاه لنفسك لا ** تفعله مع أحد تكن أخا رشد )
وقال
( حسبي الله لقد ضلت بنا ** عن سبيل الرشد أهواء النفوس )
( عجبا أن الهوى هون وأن ** نؤثر الهون وإذلال الرؤوس )
____________________
(5/546)
وقال
( من يخف شره يوف الكرامة ** ويوالي الرعاية المستدامه )
( وأخو الفضل والعفاف غريب ** يحمل الذل والجفا والملامه )
وقال
( دع من يسيء بك الظنون ولا ** تحفل به إن كنت ذا همه )
( من لم يحسن ظنه أبدا ** بك فاطرحه تكتفي همه )
وقال
( نزه لسانك عن قول تعاب به ** وارغب بسمعك عن قيل وعن قال )
( لا تبغ غير الذي يعنيك واطرح الفضول ** تحيا قرير العين والبال )
وقال
( كثرة الأصدقاء كثرة غرم ** وعتاب يعيي وإدخال هم )
( فاغن بالبعض قانعا وتغافل ** عنهم في قبيح فعل وذم )
وقال
( ذل المعاصي ميتة يا لها ** من ميتة لا ينقضي عارها )
( عز التقي هو الحياة التي ** ذو العقل والهمة يختارها )
وقال
( لا تسمع يوما صديقك قولا ** فيه غض ممن يحب الصديق )
( إن بر الصديق لا شك منه ** لصديق الصديق أيضا فريق )
____________________
(5/547)
وقال
( للجار حق فاعتمد بره ** واحمل أذاه مغضيا ساترا )
( فالله قد وصى به فاغتفر ** زلله الباطن والظاهرا )
وقال
( سالم الناس ما استطعت وداري ** أخسر الناس أحمق لا يداري )
( ضرك الناس ضر نفسك يجني ** لا يقوم الدخان إلا لنار )
وقال
( النصح عند الناس ذنب فدع ** نصح الذي تخاف أن يهجرك )
( الناس أعداء لنصاحهم ** فاترك هديت النصح فيمن ترك )
وقال
( تجري الأمور على الذي قد قدرا ** ما حيلة أبدا ترد مقدرا )
( فارض الذي يجري القضاء به ولا ** تضجر فمن عدم الرضى أن تضجرا )
وقال :
( أخوك الذي يحميك في الغيب جاهدا ** ويستر ما تأتي من السوء والقبح )
( وينشر ما يرضيك في الناس معلنا ** ويغضي ولا يألو من البر والنصح )
وقال
( لا تصحب الأردى فتردى معه ** وربما قد تقتفي منزعه )
( فالحبل إن يجرر على صخرة ** أبدى بها طريقة مشرعة )
وقال
____________________
(5/548)
( ما فات او كان لا تندم عليه فما ** يفيد بعد انقضاء الحادث الندم )
( ارجع إلى الصبر تغنم أجره وعسى ** تسلو به فهو مسلاة ومغتنم )
وقال
( السخط عند النائبات زيادة ** في الكرب تنسي ما يكون من الفرج )
( من لم يكن يرضى بما يقضى فيا ** لله ما أشقى وأصعب ما انتهج )
وقال
( إن تبتغ الإخوان ما إن تجد ** أخا سوى الدينار والدرهم )
( فلا تهنهما وعززهما ** تعش عزيزا غير مستهضم )
وقال
( من يستهن بصديقه ** يعن العدو على أذاته )
( بر الصديق مهابة ** للمرء تخمل من عداته )
( فاحفظ صديقك ولتكن ** تبدي المحاسن من صفاته )
وقال
( نعوذ بالله من شر اللسان كما ** نعوذ بالله من شر البريات )
( يجني اللسان على الإنسان ميتته ** كم للسان من آفات وزلات )
وقال
( من لم يكن مقصده مدحة ** فقد أتى بحبوحة العافيه )
( محبة المدحة رق بلا ** عتق وذل يا له داهيه )
( من لا يبالي مدحا ولا ** ذما أصاب العيشة الراضية )
____________________
(5/549)
وقال
( شر إخوانك من لا ** تهتدي فيه سبيلا )
( يظهر الود ويخفي ** مكره داء دخيلا )
( يتقي منك اتقاء ** وهو يوليك الجميلا )
وقال
( قوام العيش بالتدبير فاجعل ** لعيشك منه في الأيام قسطا )
( وخذ بالصبر نفسك فهو عز ** تلوذ به إذا ما الخطب شطا )
وقال
( العيش ثلث فطنة ** والغير منه تغافل )
( فتغافل أن كنت امرأ ** إيثار عيشك تامل )
وقال
( ينفذ المقدور حتما لا يرد ** فعلاء الحرص دأبا والكمد )
( أرح النفس تعش في غبطة ** وكل الأمر إلى الله فقد )
وقال زر من تحب وزره ثم زره ولا ** تمل واجعله دأبا موضع النظر )
( لولا متابعة الأنفاس ما بقيت ** روح الحياة ولا دامت مدى العمر )
وقال
( لا تترك الحزم في شيء فإن به ** تمام أمرك في الدنيا وفي الدين )
( من ضيع الحزم تصحبه الندامة في ** أيامه ويرى ذل المهاوين )
____________________
(5/550)
وقال
( كن إذا زرت حاضر القلب واحذر ** أن تمل المزور أو أن تطيلا )
( لا تثقل على جليس وخفف ** إن من خف عد شخصا نبيلا )
وقال
( من خلا عن حاسد قد ** مات في الأحياء ذكره )
( إنما الحاسد كالنار ** لعود طاب نشره )
( لا عدمنا حاسدا في ** نعمة ليست تسره )
وقال
( حبيبك من يغار إذا زللتا ** ويغلظ في الكلام متى أسأتا )
( يسر إن اتصف بكل فضل ** ويحزن إن نقصت أو انتقصتا )
( ومن لا يكترث بك لا يبالي ** أحدت عن الصواب أم اعتدلتا )
وقال
( لن لمن تخشى أذاه ** والقه في باب داره )
( إنما الدنيا مداراة ** فمن تخشاه داره )
وقال
( حسد الحاسد رحمه ** لا يرى إلا لنعمه )
( إنما الحاسد يشكو ** حر أكباد وغمه )
( لا عدمنا حاسدا في ** نعمة تكثر همه )
وقال
( تبديل شخص بشخص ** خسران الاثنين جملة )
____________________
(5/551)
( فاشدد يديك على من ** عرفت وارفع محله )
( فإن قطع خليل ** بعد التواصل زله )
وقال
( أنت بخير ماتركت الظهور ** والقال والقيل وطرق الشرور )
( من خاض بحرا فهو لا بد يبتل ** ومن يجر يصبه العثور )
( سلامة المرء اشتغال بما ** يهمه لنفسه من أمور )
وقال
( أنت حر ما تركت الطمعا ** وعزيز ما تبعت الورعا )
( وكفى بالعز مع حرية ** شرفا يختاره من قنعا )
وقال
( خل بنيات الطرق ** ووافق الناس تفق )
( من خالف الناس أتى ** أعظم أبواب الحمق )
( فكن مع الناس فترك ** جملة الناس خرق )
وقال
( لا تضق صدرا بحاسد ** فهو في نار يكابد )
( من يرى أنك خير ** منه تعروه شدائد )
( إنما الحاسد يشقى ** وهو لا يحظى بعائد )
____________________
(5/552)
وقال
( من يستمع في صديق قول ذي حسد ** لا شك يقصيه فاحذر غيلة الحسد )
( يهابك الناس ما تدني الصديق فإن ** أقصيته زدت للأعداء في العدد )
وقال
( كم من أخ صحبته ** والنفس عنه راغبة )
( خشيت إن فارقته ** بالهجر سوء العاقبة )
وقال
( إذا كانت عيوبك عند نقد ** تعد فأنت أجدر بالكمال )
( متى سلمت من النقد البرايا ** وحسبك ما تشاهد في الهلال )
وقال
( إذا انطوت القلوب على فساد ** فإن الصمت ستر أي ستر )
( فلا تنطق وقلبك فيه شيء ** بغير الحق واحذر قول شر )
وقال
( إن كنت لا تنصر الصديق فدع ** سماعك القول فيه واجتنب )
( سماع عرض الصديق منقصة ** لا يرتضيها الكريم ذو الحسب )
وقال
( أنت في الناس تقاس ** بالذي اخترت خليلا )
( فاصحب الأخيار تعلو ** وتنل ذكرا جميلا )
____________________
(5/553)
( صحبة الخامل تكسو ** من يواخيه خمولا )
وقال
( اسمح يزنك السماح ** إن السماح رباح )
( لا تلق إلا ببشر ** فالبشر فيه النجاح )
( تقطيبك الوجه جد ** أجل منه المزاح )
وقال
( من كنت تعرفه كن فيه متئدا ** يكفيك من خلقه ما أنت تعرفه )
( لا تبغ من أحد عرفته أبدا ** غير الذي كنت منه قبل تألفه )
وقال
( حاسب حبيبك كالعدو تدم له ** ولك المحبة فالتناصف روحها )
( من كان يغمض في حقوق صديقه ** نقصت مودته وشيب صريحها )
وقال
( تغافل في الأمور ولا تناقش ** فيقطعك القريب وذو المودة )
( مناقشة الفتى تجني عليه ** وتبدله من الراحات شده )
وقال
( إن شئت تعرف نعمة الله التي ** أولاك فانظر كل من هو دونكا )
( لا تنظر الأعلى فتنسى ما لديك ** ومن من الضعفاء يستجدونكا )
وقال
( عجبا أن ترى قبيح سواكا ** وتعادي الذي يرى منك ذاكا )
____________________
(5/554)
( لو تناصفت كنت تنكر ما فيك ** وترضى الوصاة ممن نهاكا )
وقال
( جرب الناس ما استطعت تجدهم ** لا يرى الشخص منهم غير نفسه )
( فالسعيد السعيد من أخذ العفو ** ودارى جميع أبناء جنسه )
وقال
( فرط حب الشيء يعمي ويصم ** فليكن حبك قصدا لا يصم )
( نقص عقل أن يغطي حسك الحب ** أويلهيك عن أمر مهم )
وقال
( سلم وغض احتسابا ** فذا هو اليوم أسلم )
( النقد نار تخلي ** في القلب جمرا تضرم )
( فاطو اعتراضك واغفل ** عن عيب غيرك تسلم )
وقال
( عدة الكريم عطية ** لا مطل في عدة الكريم )
( المطل تحريض العداة ** وذاك من فعل اللئيم )
( فدع المطال إذا وعدت ** فإنه عمل ذميم )
وقال
( من تناسى ذنوبه قتلته ** وأبانت عنه الولي الحميما )
____________________
(5/555)
( ذكرك الذنب نفرة عنه تبقى ** لك إنكار فعله مستديما )
وقال
( عجبا لمادح نفسه لا يهتدي ** لتنقص يبديه فيه مدحها )
( مدح الفتى عند التحدث نفسه ** ذكرى معايبه فيدرى قبحها )
وقال
( ومن حست أخلاقه عاش في ** نعمى وفي عز هنيء وود )
( ومن تسؤ للخلق أخلاقه ** يعش حقيرا في هموم وكد )
وقال
( من كان يحمي ناسه صار ذا ** عز و هابته نفوس البشر )
( ومن يكن يخذل أحبابه ** هان ومن هان فلا يعتبر )
وقال
( قارب وسدد إذا ما كنت في عمل ** إن الزيادة في الأعمال نقصان )
( ما حالف القصد في كل الأمور هوى ** نفس وكل هوى شؤم وحرمان )
وقال ( بقدر همته يعلو الفتى أبدا ** لا خير في خامل الهمات ممتهن )
( هيهات يعلو فتى خمول همته ** يقوده لابتذال النفس والمهن )
____________________
(5/556)
وقال
( اصحب ذوي الحدة وارغب عن الخبيث ** فالصحبة ذا داؤها )
( وانظر إلى قول نبي الهدى ** خيار أمتي أحداؤها )
قال
( ما صديق الإنسان في كل حال ** يا أخي غير درهم يقتنيه )
( لا تعول على سواه فتغدو ** خائب القصد دون ما تبتغيه )
وقال ( يستفز الهوى للإنسان حتى ** لا يرى غير محنة أو ضلال )
( ويرى الرشد غير رشد ويغدو ** يحسب الحق من ضروب المحال )
وقال
( لا تبالغ في الشر مهما استطعتا ** وتغافل واحلم إذا ما قدرتا )
( فانقلاب الأمور أسرع شيء ** وتجازي بضعف ما قدرتا )
وقال
( مثل عواقب ما تأتي وما تذر ** واحذر فقد ترتجي أن ينفع الحذر )
( لا تقدمن على أمر بلا نظر ** فإن ذلك فعل كله خطر )
( وانظر وفكر لما ترجو توقعه ** فعمدة العاقل التفكير والنظر )
وقال
( حافظ على نفسك من كل ما ** يشينها من خلل أو زلل )
____________________
(5/557)
( واحرص على تخليصها بالذي ** تنجو به من قول أومن عمل )
وقال
( سكر الولاية ما له صحو ** وكلامها وحراكها وزهو )
( يهذي الفتى أيام عزتها ** فإذا تقضت نابه شجو )
( فحذار لا تغررك صولتها ** وزمانها فثبوتها محو )
وقال
( دع الجدال ولا تحفل به أبدا ** فإنه سبب للبغض ما وجدا )
( سلم تعش سالما من غير متعبة ** قرير عين إذا لم تعترض أحدا )
وقال
( إذا ترى المبتلي اشكر أن نجوت ولا ** تشمت به ولتسل من ربك العافية )
( وخف من أن تبتلى كما ابتلي فترى ** كما تراه وما تقيك من واقية )
وقال
( العمر ساعات تقضى فلا ** تقضها في السهو والغفلة )
( واعمل لما أنت له صائر ** ما دمت من عمرك في مهلة )
( ولا تكن تأوي لدينا وقل ** لا بد لابد من النقله )
وقال
( كن رفيقا إذا قدرت حليما ** وتغافل تسلك طريقا قويما )
( لا تظن الزمان يبقى على من ** سره أو ينيل عزا سليما )
____________________
(5/558)
( إن للدهر صولة وانقلابا ** ولهذا نعيمه لن يدوما )
وقال
( من لم يكن ينفع في الشدة ** فلا تكن معتمدا وده )
( لا تعتمد إلا أخا حرمه ** إن ناب خطب تلفه عده )
( وخل من يهزأ في وده ** ولا ترى في معضل جده )
وقال
( أخوك الذي تلفيه في كل معضل ** يدافع عنك السوء بالمال والعرض )
( ويستر ما تأتي من القبح دائما ** وينشر ما يرضى وإن سؤته يغضي )
وقال
( ولا تنه عما أنت فاعله ** وانظر لما تأتيه من ذنب )
( وابدأ بنفسك فانهها فإذا ** تقفو الصواب فأنت ذو لب )
وقال
( ليس الصديق الذي يلقاك مبتسما ** ولا الذي في التهاني بالسرور يرى )
( إن الصديق الذي يولي نصيحته ** وإن عرت شدة أغنى بما قدرا )
وقال
( عجبا لمستوف منافع نفسه ** ويرى منافع من سواه تصعب )
( ما ذاك إلا عدم إنصاف ومن ** عدم التناصف كيف يرجو يصحب )
وقال
( من عدم الهمة في راحة ** من أمره يكرم أو يهتضم )
____________________
(5/559)
( وإنما يشقي أخو همة ** فإن الانكاد بقدر الهمم )
وقال
( قلما تنفع المداراة إلا ** عند أهل الحفاظ والأحساب )
( من يداري اللئيم فهو من يستعمل ** الدر في نحور الكلاب )
وقال
( دنياك هذي عرض زائل ** تفتن ذا الغرة والغفلة )
( فاعمل لأخراك وقدم لها ** ما دمت من عمرك في مهله )
وقال
( نصيحة الصديق كنز فلا ** ترد ما حييت نصح الصديق )
( وخذ من الأمور ما ينبغي ** ودع من الأمور ما لا يليق )
وقال
( أنت حر ما لم يقيدك حب ** أو تكن في الورى يرى لك ذنب )
( الهوى كله هوان وشغل ** والمعاصي ذل يعانى وكرب )
وقال
( هون عليك الأمورا ** تعش هنيئا قريرا )
( واعلم بأن الليالي ** تبلي جديدا خطيرا )
( وتستبيح عظيما ** ولا تجير حقيرا )
وقال
( ألف صديق قليل ** والود منهم جميل )
____________________
(5/560)
( كما عدو كثير ** إذ ضره لا يزول )
( فلا تضيع صديقا ** فالنفع فيه جليل )
وقال
( دع الحسود تعاتبه لظى حسده ** حتى تراه لقى بموت من كمده )
( ما للحسود سوى الإعراض عنه وأن ** يبقى إلى كربه في يومه وغده )
وقال
( الناس حيث يكون الجاه والمال ** فخل عنك ولا تحفل بما قالوا )
( وعد عمن يقول العلم قصدهم ** أو الصلاح أما تبدو له الحال )
( انظر لماذا هم يسعون جهدهم ** بين لك الحق لا يعروه إشكال )
وقال
( توسط في الأمور ولا تجاوز ** إلى الغايات فالغايات غي )
( كلا الطرفين مذموم إذا ما ** نظرت وأخذك المذموم عي )
وقال
( عامل جميع الناس بالحسنى ** إن شئت أن تحظى وأن تهنا )
( ولا تسىء يوما إلى واحد ** فتجمع الراحة والأمنا )
وقال
( لا تفكر فللأمور مدبر ** وارض ما يفعل المهيمن واصبر )
( أنت عبد وحكم مولاك يجري ** بالذي قد قضى عليك وقدر )
____________________
(5/561)
وقال
( إذا رأيت القبيحا ** فقل كلاما مليحا )
( وأغض واستر وسلم ** وكن حليما صفوحا )
( تعش هنيئا وتلقى ** برا وشكرا صريحا )
وقال
( من ينكر الإحسان لا توله ** ما عشت إحسانا فلا خير فيه )
( البذر في السباخ ما إن له ** نفع فذره فهو فعل السفيه )
وقال
( من لم يكن ينفع في وده ** دعه ولا تقم على عهده )
( ود بلا نفع عناء فلا ** تعن بشيء حاد عن حده )
وقال
( در مع الدهر كيفما ** دار إن شئت تصحبه )
( ودع الحذق جانبا ** ليس بالحذق تغلبه )
( وحذار انقلابه ** فكثير تقلبه )
وقال
( من ليبس يغني في مغيب عنك لا ** تحفل به فوداده مدخول )
( يثني عليك وأنت معه حاضر ** فإذا تغيب يكون عنك يميل )
وقال
( دع نصح من يعجبه رأيه ** ومن يرى ينجحه سعيه )
____________________
(5/562)
( النصح وإرشاد فلا توله ** إلا فتى يحزنه غيه )
( لا يقبل النصح سوى مهتد ** يقوده لرشده هديه )
وقال
( البخت أفضل ما يؤتي الفتى فإذا ** يفوته البخت لا ينفك يتضع )
( يكفيك في البخت تيسير الأمور وأن ** يكون ما ليس ترضى عنك يندفع )
وقال
( افعل الخير ما استطعت ففعل الخير ** ذكر لفاعليه وذخر )
( وتواضع تنل علاء وعزا ** فاتضاع النفوس عز وفخر )
وقال
( صديق المرء درهمه ** به ما دام يعظمه )
( فصنه ما استطعت ولا ** تكن في اللهو تعدمه )
( ففقر المرء ميتته ** لذا تغدو فترحمه )
وقال
( لاتقرب ما اسطعت خل عدو ** فخليل العدو حلف عداوة )
( وتحفظ منه وداره وانظر ** هل ترى من سيماه إلا القساوة )
وقال
( لا تعد ذكر ما مضى فهو أمر ** قد تقضى وقد مضى لسبيله )
( وتكلم فيما تريد من الآتي ** ودبر للشيء قبل حلوله
وقال
( قساوة المرء من شقائه فإذا ** يلين ساد بلا أين ولا نصب )
____________________
(5/563)
لا يرحم الله إلا الراحمين فمن ** يرحم ينل رحمة في كل منقلب )
وقال
( جىء بالسماح إذا ما جئت في غرض ** ففي العبوس لدى الحاجات تصعيب )
( سماحة المرء تنبي عن فضيلته ** فلا يكن منك مهما اسطعت تقطيب )
وقال
لا تسامح يوما دنيا إذا ما ** قال في فاضل كلاما رديا )
( إن قصد الدني إنزال أهل الفضل ** حتى يرى عليهم عليا )
وقال
( خذ من القول بعضه فهو أولى ** وتحفظ مما يقول العداة )
( ربما تأخذ الكلام بجد ** وهو هزل قد نمقته عدات )
( فاحترز من غرور الأقوال واعلم ** أن الاقوال بعضها كذبات )
وقال
( نافس الأخيار كيما ** تحرز المجد الأثيلا )
( لا تكن مثل سراب ** ريء لم يشف غليلا )
( إنما أنت حديث ** فلتكن ذكرا جميلا )
وقال
( الصمت عز حاضر ** وسلامة من كل شر )
( فإذا نطقت فلا تكثر ** واجتنب قول الهذر )
( وحذار مما يتقى ** وحذار من طرق الغرر )
____________________
(5/564)
وقال
( سلامة الإنسان في وحدته ** وأنسه فيها وفي حرفته )
( ما بقي اليوم صديق ولا ** من ترتجي النصرة في صحبته )
( فقر في بيتك تسلم ودع ** من ابتلى بالناس في محنته )
وقال
( مطاوعة النساء إلى الندامة ** وتوقع في المهانة والغرامة )
( فلا تطع الهوى فيهن واعدل ** ففي العدل الترضي والسلامة )
وقال
( كانت مشاورة الإخوان في زمن ** قول المشاور فيهم غير متهم )
( والآن قد يخدع الذي تشاوره ** إشماتا أو حسدا يلقيك في الندم )
( فاضرع إلى الله فيما أنت تقصده ** يهديك للرشد في الأفعال والكلم )
وقال
( عد عمن يراك تصغر عنه ** وتحفظ من قربه وأبنه )
( إن من لا يراك في الناس خيرا ** منه فالخير في التحفظ منه )
وقال
( رزانة المرء تعلي قدره أبدا ** وطيشه مسقط له وإن شرفا )
( فاربأ بنفسك من طيش تعاب به ** وإن تكن حزت معه العلم والشرفا )
وقال
( الصدق عز فلا تعدل عن الصدق ** واحذر من الكذب المذموم في الخلق )
____________________
(5/565)
( من لازم الصدق هابته الورى وعلا ** فالزمه دأبا تفز بالعز والسبق )
وقال
( ليس التفضل يا أخي أن تحسنا ** لأخ يجازي بالجميل من الثنا )
( إن التفضل أن تجازي من أسالك ** بالجميل وأنت عنه في غنى )
وقال
( من واصل اللذات لا بد أن ** تعقبه منها الندامات )
( فخذ من اللذات واترك ولا ** تسرف ففي الإسراف آفات )
وقال
( دع معجبا بنفسه ** في غيه ولبسه )
( لا يقبل النصح لها ** من نخوة برأسه )
( فخله لكيده ** وعجبه بنفسه )
وقال
( عتب الصديق دلالة ** منه على صدق المودة )
( فإذا يقول فقصده التنزيه ** عما قام عنده )
( فاحلم إذا عتب الصديق ** ولا تخيب فيك قصده )
وقال
( ترتجى في النوائب الإخوان ** هم لدى كل شدة أعوان )
( فإذا لم يشاركوا فسواء ** هم والأعداء كيفما قد كانوا )
____________________
(5/566)
وقال
( انصر أخاك على علاته أبدا ** تهب وتسلك سبيل العز والظفر )
( ولا تدعه إلى الإشمات مطرحا ** فإن ذلك عين الذل والصغر )
وقال
من عز كانت له الأيام خادمة ** تريه آماله في كل ما حين )
( ومن يهن أولغت فيه المدى وأدت ** له النوائب في أثوابها الجون )
وقال
( خل المنجم يهذي في غوايته ** واقصد إلى الله رب النجم والفلك )
( لو كان للنجم حكم لم تجد أحدا ** يخالف النجم إلا انهد في درك )
وقال
( حماية المرء لمن يصحب ** تدل أن أصله طيب )
( لا خير فيمن لا يرى ناصرا ** صديقه وهو له ينسب )
وقال
( يا عاتبا من لا له همة ** ألا اتئد إلى متى تعتب )
( هل يسمع الميت أو يبصر الأعمى ** محال كل ما تطلب )
وقال
( لا يعرف الفضل لأهل الفضل ** إلا أولو الفضل من أهل العقل )
( هيهات يدري الفضل من ليس له ** فضل ولو كان من اهل النبل )
____________________
(5/567)
وقال
( لا تطلب المرء بما اعتدت من ** أخلاقه والمرء في وهن )
( تنتقل الأخلاق لا شك مع ** تنقل الحالات والسن )
وقال
( لا تعامل ما عشت غيرك إلا ** بالذي أنت ترتضيه لنفسك )
( ذاك عين الصواب فالزمه فيما ** تبتغيه من كل أبناء جنسك )
وقال
( باعد الناس يوالوكا ** واعتزل عنهم يهابوكا )
( فإذا ما تصطفيهم وقعوا فيك وعابوكا )
وقال
( إياك لا تخذل الصديقا ** وارع له العهد والحقوقا )
( نصرته ما قدرت عز ** تمهده للعلا طريقا )
( فلا تسامح به عدوا ** وكن له ناصرا حقيقا )
وقال
( حدث جليسك ما أصغى إليك فإن ** تراه يعرض فاقطع عنه وانصرف )
( خفف فقد يضجر الذي تجالسه ** طول المقام أو التحديث في سرف )
وقال
( جماع الخير في ترك الظهور ** وإظهار التواضع والبرور )
( وفي أضدادها من غير شك ** جميع وجوه أنواع الشرور )
____________________
(5/568)
وقال
( محبة الدرهم طبع البشر ** فاقنع من المرء بما قد حضر )
( وقس على نفسك في بذله ** تقف على تحقيق عين الخبر )
وقال
( لايلم غير نفسه كل من قد ** عرض النفس أن تهان فذلا )
( ينظر العاقل الأمور فيأبى ** أن يرى منه غير ما هو أولى )
وقال
( أعذر الناس من أتته المضرة ** من أخ كان يرتجي منه نصره )
( مثل من غص بالشراب فكان ** الهلك فيما رجاه يدفع ضره )
وقال
( سلم تعش سالما مما يقال ** من يعترض يعترض في كل حال )
( نقد الفتى غافلا عن عيبه ** لا يرتضى عند أرباب الكمال )
وقال
( تواضع المرء ترفيع لرتبته ** وكبره ضعة من غير ترفيع )
( في نخوة الكبر ذل لا اعتزاز له ** وفي التواضع عز غير مدفوع )
وقال
____________________
(5/569)
( إياك لا تنكر فضيلة كل من ** تدري فضيلته فترمي بالحسد )
( إنكارها يجني عليك تنقصا ** ويزيده شرفا يديم لك الكمد )
وقال
( انصر أخاك ما استطعت فإنما ** تعتز بالإخوان ما عزوا )
( من يخذل الإخوان يخذل نفسه ** ويهن وما لهوانه عز )
وقال
( إذا جزاك بسوء من أسأت له ** فذاك عدل وما في العدل من زلل )
( جزاء سيئة بالنص سيئة ** لا حيف في ذاك في قول ولا عمل )
وقال
( نفس وشيطان ودنيا والهوى ** يارب سلم من شرور الأربعة )
( أنت المخلص من رجاك وإنني ** أرجوك فيما أتقي أن تدفعه )
وقال
( لا تعظم يا أخي نفسك ** إن شئت السلامة )
( من يعظم نفسه يجن ** امتهانا وملامة )
( فتواضع تلق عزا ** واحتفاء وكرامة )
وقال
( دع لذة الدنيا فمن يبتلى ** بحبها ذاق عذاب السموم )
( لذاتها حلم وأيامها ** لمح ولكن كم لها من هموم )
( محبة الدنيا هلاك فمن ** يرومها أهلكه ما يروم )
____________________
(5/570)
وقال
( كل خل ما أنت تخطي ** لا تعول على صفاء وداده )
( إنما الخل من تناسى خطاياك ** ويبقى له جميل اعتقاده )
وقال
( من عامل الناس بالإنصاف شاركهم ** في ما لهم وأحبوه بلا سبب )
( إنصافك الناس عدل لا تزال به ** تعلو إلى أن ترى في أرفع الرتب )
وقال
( قل جميلا ان تكلمت ولا ** تقل الشر فعقبي الشر شر )
( من يقل خيرا ينل خيرا ومن ** يقل الشر اذا يخشى الضرر )
وقال
( اذا التأمت أمورك بعض شيء ** بأرضك فاستقم فيها ولازم )
( فما في غربة الانسان خير ** وما بالغربة الدنيا تلايم )
وقال ( الى متى تسرح مرخى العنان ** قل يا أخي حتى متى ذا الحران )
( ارجع الى الله وخل الهوى ** فما الهوى يا صاح الا هوان )
( قد أنذر الشيب فهل سامع ** أتن فمصغ للذي قد أبان )
وقال
( من يكفر النعمة لا بد أن ** يسلبها من حيث لا يشعر )
( ومن يكن يشكرها معلنا ** دامت له نامية تكثر )
____________________
(5/571)
وقال ( اعذر أخا الفقر في أن ** يضيق ذرعا بنفسه )
( الفقر موت ولكن ** من للفقير برمسه )
( إن الفقير لميت ** ما بين أبناء جنسه )
وقال
( كما تدين أنت يا صاحبي ** تدان فاعمل عمل الفاضل )
( أنت كما أنت فخل الذي ** تزين النفس من الباطل )
( وأين أنت ثم أنت أدر ذا ** حسبك فاحذر زلل العاقل )
وقال
( مالك ما أنفقته قربة ** لله والباقي حساب عليك )
( فقدم المال ترد آمنا ** من بعده وهو ثواب لديك )
وقال ( دع مدح نفسك ان أردت زكاءها ** فبمدح نفسك من مقامك تسقط )
( ما أنت تخفضها يزيد علاؤها ** والعكس فانظر أيما لك أحوط )
وقال
( ذو النقص يصحب مثله ** فالشكل يألف شكله )
( فاصحب أخا الفضل كيما ** تقفو بفعلك فعله )
( أما ترى المسك دأبا ** يكسب طيبا محله )
وقال
( من عيني المرء يبدو ما يكتمه ** حتى يكون الذي يرعاه يفهمه )
____________________
(5/572)
( ما يضمر المرء يبدو من شمائله ** لناظر فيه يهديه توسمه )
وقال
( انما الدنيا خيال ** وأمانيها خبال )
( حبها سكر ولكن ** وصلها ما ان ينال )
( فتنزه عن هواها ** فهوى الدنيا ضلال )
وقال
( قلما يؤذيك من لا يعرفك ** فتحفظ من صديق يألفك )
( لا تثق بالود ممن تصطفي ** كم صديق تصطفيه يتلفك )
وقال
( لا تضجرن في الامور وارض بما ** يقضي به الله فهو مكتتب )
( ما قدر الله لا مرد له ** فما يفيد العناء والتعب )
وقال
( تنزه عن دنيات الأمور ** وخذ بالحزم في الامر الخطير )
( فأشراف الأمور لها جمال ** وخطر في البهاء وفي الظهور )
( وفي سفسافها لا شك وهن ** وتمهين يشين مدى الدهور )
وقال
( من يبتلى من أهله بمنغص ** يصبر فما أحد بغير منغص )
( ومن أزمنت بالوجه منه قرحة ** يعزم على ضرر يشين مخصص )
وقال
( من كان في عزته داره ** وكرر المشي الى داره )
____________________
(5/573)
( قبل يدا تعجز عن قطعها ** ولن لمن تخشى من اضراره )
وقال
( لا تبتغ النعمة من جائع ** لم يرها قبل لآبائه )
( لا يرشح الاناء ما لم يكن ** ملآن قد أفعم من مائه )
وقال
( مروءة المرء رأس ماله ** وصونه أشرف اعتماله )
( من لم يصن نفسه تردى ** وزال عن رتبة اكتماله )
وقال
( ترك المطامع عزه ** واليأس أهنأ وانزه )
( هيهات يعتز مثر ** أضحى للاطماع نهزه )
( نزاهة النفس عز ** ما ذل من يتنزه )
وقال
( تعظيمك الناس تعظيم لفسك في ** قلوب الأعداء طرا والأوداء )
( من يعظم الناس يعظم في النفوس بلا ** مؤونة وينل عز الأعزاء )
وقال
( اقنع من الناس بمقدار ما ** يعطون لا تبتغ منهم مزيد )
( حسبك من كل امرىء قدر ما ** يعطيك فالأطماع ما إن تفيد )
وقال
( لن إذا كانت الأمور صعابا ** وتواضع لها تجدها قرابا )
____________________
(5/574)
( دار من شئت تنتفع منه واترك ** صوله الكبر فهي تجني عذابا )
( لا تكن تأخذ الأمور بعنف ** من يعاني الأمور بالعنف خابا )
وقال
( سامح الناس إن أساؤوا إليكا ** وتغافل إذا تجنوا عليكا )
( ما ترى كيف أنت تعصي ومولاك ** يزيد الإنعام دأبا لديكا )
وقال
( اغتنم ساعة الأنس ** وانس ما كان بالأمس )
( ليس للمرء من الدنيا ** سوى راحة نفس )
( من يكن حلف هموم ** باع دنياه ببخس )
وقال
( حبك الشيء يغطي قبحه ** فتراه حسنا في كل حال )
( لا يرى المحبوب إلا حسنا ** كان قبح فيه مع ذا أو جمال )
( حتم الحب على ذي الحب أن ** لا يرى المحبوب إلا في كمال )
وقال
( يحسب الناقص أن الناس قد ** غفلوا عن حاله في ضعته )
( لا يرى الناقص إلا أنه ** كامل من نعته في صفته )
( غلط المرء يغطي عقله ** أن يرى النقص الذي في جهته )
وقال
____________________
(5/575)
( أيام عمرك هذي ** ساعاتها رأس مالك )
( فاحرص على الخير فيها ** قبل أوان ارتحالك )
( فإنما أنت طيف ** تجتاب سبل المهالك )
وقال
( تجد الناس على النقص ولا ** تجد الكامل إلا من ومن )
( زمن الباطل وافى أهله ** وكذاك الناس أشباه الزمن )
وقال
( قل جميلا إذا أردت الكلاما ** تجن عزا مهنأ مستداما )
( إن قول القبيح يورث بغضا ** وصغارا عند الورى وملاما )
وقال
( حسن الظن تعش في غبطة ** إن حسن الظن من أوقى الجنن )
( من يظن السوء يجزى مثله ** قلما يجزى قبيح بحسن )
وقال
( إن تبغ إخوان الصفاء فهم ** تحت التراب انتقلوا للقبور )
( إخوانك اليوم كأزمانهم ** مشتبهون في جميع الأمور )
وقال
( ومستقبح من أخ خلة ** وفيه معايب تسترذل )
( كأعمى يخاف على أعور ** عثارا وعن نفسه يغفل )
____________________
(5/576)
وقال
( من يبتغ الود من الناس ** يكن لما قالوه بالناسي )
( أغض عن الناس تنل ودهم ** إنك لا تغني عن الناس
وقال
( أعيت مع الناس الحيل ** وبار فيهم العمل )
( في أي وجه أملوا ** يخيب منهم الأمل )
( فآثر العزلة عن ** هم تنج من كل خلل )
وقال
( لا ترج غير الله في شيء تنل ** ما تبتغيه وتكف كل تخوف )
( الله أعظم من رجوت فثق به ** فهو الذي أعطى وأنجى من كفي )
وقال
( توسل إلى الله في كل ما ** تحب بمحبوبه المصطفى )
( تنل ما تحب كما تنبغي ** وحسبك جاها به كفى )
انتهى ما لخصت واخترت من الكتاب المذكور
وهذه نبذة من كتابه الأبيات المهذبة في المعاني المقربة فمن ذلك قوله
( اكتم السر واجعل الصدر قبره ** لا تبح ما حييت منه بذرة )
( أتت ما لم تبح بسرك حر ** فإذا بحت صرت عبدا بمرة )
( من يرد أن يعيش عيشا هنيئا ** يتحفظ مما عسى أن يضره )
____________________
(5/577)
وقال
( عداوة العاقل مع عسرها ** آمن من صداقة الأحمق )
( يمكن الأحمق من نفسه ** عمدا ومن أحبابه يتقي )
( لا يحفظ الأحمق خلا ولا ** يرضاه للصحبة إلا شقي )
وقال
( إذا أمعنت في الدنيا اعتبارا ** رأيت سرورها رهن انتحاب )
( بعاج عن تدان وافتقار ** عن استغنا وشيب عن شباب )
( حياة كلها أضغاث حلم ** وعيش ظله مثل السراب )
وقال
من تره يسرف في ماله ** يتلفه في لذة وانهماك )
( فذلك المغبون في رأيه ** يسلك بالنفس سبيل الهلاك )
وقال
من لا يرى نفسه في الناس قاصرة ** عن الكمالات لم يكمل له أدب )
( ومن يكن راضيا عن نفسه أبدا ** فذاك غر عن الآداب محتجب )
( آداب الانسان تحقيقا تواضعه ** وجريه دائما على الذي يجب )
( وقال
( يحق الحق حتما دون شك ** وإن كره المشكك والملد )
( صريح الحق قد يخفى ولكن ** بعيد خفائه لا شك يبدو )
وقال
( كل ما قد فات لا رد له ** فلتكن عن ذاك مصروف الطمع )
____________________
(5/578)
( أيعود الحسن من بعد الصبا ** قلما أدبر شيء فرجع )
وقال
( اغتنم غفلة الزمان وبادر ** لذة العيش ما بقيت سليما )
( أمر هذي الحياة أيسر من ان تغتدي فيه لائما أو ملوما )
وقال
( لا تغرنك صولة الجاه يوما ** أو تظنن أنها تتمادى )
( صولة الجاه لفح نار ولكن ** كل نار لا بد تلفى رمادا )
وقال
( تنح عن الناس مهما استطعت ** ولا تك في الناس بالراغب )
( من اعتمد الناس يشقى ولا ** يرى غير منتقد عائب )
وقال
( لا تقل يوما أنا ** فتقاسي محنا )
( من يعظم نفسه ** يلق هونا وعنا )
( شر ما يأتي الفتى ** مدحه لو فطنا )
وقال
( الناس إخوان ذي الدنيا وإن قبحت ** أفعاله وغدا لا يعرف الدنيا )
( يعظمون أخا الدنيا وإن عثرت ** يوما به أولغوا فيه السكاكينا )
وقال
( العدل روح به تحيا البلاد كما ** هلاكها أبدا بالجور ينحتم )
____________________
(5/579)
( الجور شين به التعمير منقطع ** والعدل زين به التمهيد ينتظم )
( يا قاتل الله أهل الجور كم خربت ** ) بهم بلاد وكم بادت بهم أمم )
وقال
( اليأس أسلى وأغنى ** من نيل ما يتمنى )
( يسلو أخو اليأس ** حتى يهنا ولا يتعنى )
( لليأس برد فمن لم ** يذقه لم يتهنا )
قال
( إذا عظمت نفس امرىء صار قدره ** حقيرا وحيث احتل فالذل صاحبه )
( يسود ويعلو ذو التواضع دائما ** ويحظى كما يرضى وتقضى مآربه )
وقال
( ود من يصطفيك للنفع زور ** والجميل الذي يريك غرور )
( إنما الود ود من ليس يخشى ** فيك ممن يلوم أو من يضير )
وقال
( اشكر لمن والاك معروفا ** تكن بفضل النفس معروفا )
( شكر أخي المنة عدل فكن ** بالعدل مهما اسطعت موصوفا )
( من يكفر الإحسان لا بد أن ** يلفى عن الإحسان مصروفا )
وقال
( حسب الإنسان ماله ** وهو في الدنيا كماله )
( يضجر الفقر أخا الحلم ** وإن طال احتماله )
( عزة المرء غناه ** وبه تحسن حاله )
____________________
(5/580)
وقال
( لا تصاحب أبدا من ** عقله غير متين )
( إن نقص العقل داء ** يتقى مثل الجنون )
( صحبة الأحمق عار ** لاحق في كل حين )
وقال
( وافق الناس إن أردت السلامة ** إن روح الوفاق روح كرامه )
( من يوافق يعش هنيئا قريرا ** آمنا من أذية وملامه )
( فتوق الخلاف واحذر أذاه ** فركوب الخلاف عمدا ندامه )
وقال
( ظلمات الخطوب مهما ادلهمت ** يجلها كالصباح فجر انفراج )
( أرح النفس لا تبت حلف هم ** كم هموم فيها السرور يفاجي )
وقال
( من لم يكن يقصد أن يحمدا ** يعش هنيئا وينل أسعدا )
( من يبتغي المدحة لا بد أن ** يلحقه الذل وأن يجهدا )
( عيش الفتى في ترك تقييده ** وموته البحت إذا قيدا )
وقال
( قل لأهل الحاجات مهما ابتغوها ** حسبكم ما أتى من التنبيه )
( إن تريدوا الحاجات من غير بطء ** فاطلبوها عند الحسان الوجوه )
____________________
(5/581)
وقال
( خذ الأمور برفق واتئد أبدا ** إياك من عجل يدعو إلى وصب )
( الرفق أحسن ما تؤتى الأمور به ** يصيب ذو الرفق أو ينجو من العطب )
( من يصحب الرفق يستكمل مطالبه ** كما يشاء بلا أين ولا تعب )
وقال
( من يبتغي السؤدد لا بد أن ** يرهقه الجهد فلا يضجر )
( يصعب إدراك المعالي فمن ** يرم لحاق بعضها يصبر )
( لا يحصل السؤدد هينا ولا ** يظفر بالبغية إلا جري )
وقال
( عاش في الناس من درى قدر نفسه ** ثم دارى جميع أبناء جنسه )
( علم الإنسان قدره نبل عقل ** وذكاء يبين عن فضل حدسه )
وقال
( عظم الناس تنل تعظيمهم ** واجتنب تحقيرهم فهو الردى )
( من ير الناس بتحقير يكن ** عندهم مؤذى حقيرا أبدا )
( لا يغرنك إهمال امرىء ** ربما يؤذي الذباب الأسدا )
وقال
( حب الرياسة يا له من داء ** كم فيه من محن وطول عناء )
( طلب الرياسة فت أعضاد الورى ** وأذاق طعم الذل للكبراء )
( إن الرياسة دون مرتبة التقى ** فإذا اتقيت علوت كل علاء )
____________________
(5/582)
وقال
( لا تركنن إلى بشر ** إن شئت تأمن كل شر )
( ذهب الذين إذا ركنت ** لهم أمنت من الضرر )
( لم يبق إلا شامت ** أو من يضر إذا قدر )
وقال
( خل رأي الجهال ما اسطعت واتبع ** رأي أهل الحلوم والتجريب )
( لا تحد عن مشورة في مهم ** فهي مما تنمي حياة القلوب )
( رأي أهل الصلاح نور يجلي ** ظلمة الكرب في ليالي الخطوب )
وقال
( لا يرتضي بالدون إلا امرؤ ** مقصر ذو همة حاملة )
( الموت خير من حياة الفتى ** مهتضما ذا رتبة سافلة )
( روح حياة المرء في عره ** من ذل مات الميتة العاجله )
وقال
( استغن عمن تشاء ** فالله يغنيك عنه )
( من أمل الناس يشقى ** وليس يقنع منه )
( فإن ظفرت بحر ** فاحفظ عليه وصنه )
وقال
( خذ من صديقك قدر ما يعطيكا ** لا تبغ أزيد واحذر أن يجفوكا )
( من يبغ مقدار الذي يحتاجه ** من أخيه يبق مخيبا متروكا )
( شأن الألى رزقوا الحجى أن يقنعوا ** فابغ القناعة إنها تغنيكا )
____________________
(5/583)
وقال
( هن إذا عز أخوكا ** واخش أن يقرض فيكا )
( إن من عاند أقوى ** منه قد ضل سلوكا )
( نقص عقل أن تعادى ** بشرا لا يتقيكا )
وقال
( تنزه ما حييت عن القبيح ** وخالف من يرى رد النصيح )
( وخذ بالحزم مهما اسطعت واحذر ** من أن يلقيك حزمك في فضوح )
( فلا تعدل عن الحق التفاتا ** لغير الحق من بعد الوضوح )
وقال
( لا تخف في الحق لوما ** صدقه ينجيك حتما )
( ينجلي الحق ويبدو ** نوره لا يتعمى )
( شأن ذي الحق اهتداء ** وأخو الباطل أعمى )
وقال
( عامل بجد جميع الناس تحظ به ** وجنب الهزل إن الهزل يرديكا )
( الجد أحسن ماتبديه من خلق ** والجد أشرف ما في الناس يعليكا )
( من لازم الجد هابته النفوس ومن ** يهزل يكن أبدا في الناس مهتوكا )
وقال
( كفاك الله شر من اصطفيتا ** وضر من اعتمدت ومن عرفتا )
( جميع الناس موتى عنك إلا ** معارفك الذين لهم ركنتا )
( تحفظ من قريب أو صديق ** وكن في الغير دهرك كيف شئتا )
____________________
(5/584)
وقال
( من كان يرغب عن أحبابه ويرى ** تقريب أعدائه لا شك يهتضم )
( يدني العدو فلا تدنو مودته ** هيهات كل معاد قربه ندم )
( فاحفظ صديقك واحذر أن تعاديه ** إن الصديق إذا عاديته يصم )
وقال
( جامل عدوك كي يلين حقده ** فيكف بعض البعض من إيذائكا )
( واحفظ صديقك ما استطعت فإنه ** أدرى بطرق الضر من أعدائكا )
وقال
( إذا ظفرت بمن أنحى عليك فخذ ** بالحلم فيه ودع ما منه قد فرطا )
( إن المسيء إذا جازيته أبدا ** بفعله زدته في غيه شططا )
( العفو أحسن ما يجزى المسيء به ** يهينه أو يريه أنه سقطا )
وقال
( قاتل عدوك بالفضائل إنها ** أعدى عليه من السهام النفذ )
( كسب الفضائل عدة تعليك في ** رتب بها سبل السعادة تحتذى )
( فاحرص على نيل الفضائل جاهدا ** إن الفضيلة صعبة في المأخذ )
وقال
( وعد الكريم وفاء ** تجنيه كيف تشاء )
( ما حال قط كريم ** ولا ثناه التواء )
( فأنجز الوعد مهما ** وعدت فهو الزكاء )
____________________
(5/585)
وقال
( ليس الغني عن كثرة العرض ** إن الغني في النفس إن ترض )
( رأس الغني ترك المطامع عن ** زهد بلا ميل ولا غرض )
( فازهد تعش أغنى البرية في ** عز بلا هم ولا مضض )
وقال
( زمن الفضائل قد مضى لسبيله ** ولوى بطيب العيش وشك رحيله )
( ركدت رياح الجد بعد هبوبها ** وعلا فريق الهزل بعد خموله )
( هيهات ما زمن الكرام وما هم ** ذهبوا وجد الدهر في تحويله )
وقال
( مروءة المرء ثوبه ** والعري في الناس عيبه )
( بثوبه المرء يعلو ** قدرا ويحفظ قربه )
( من لم يصن ثوبه لم ** يصن وإن لاح شيبه )
وقال
( لا تصخ ما بقيت حيا لقول ** ليس يجني عليك إلا المضره )
( واطرح ما اتاك منه وجنب ** من يرى بالفضول واتق ضره )
وقال
( ثقيل تراه النفس في العين كالقذى ** وكالجبل الراسي على الصدر والقلب )
( تثير غموم المرء رؤية وجهه ** وتشكو جفاه الأرض شكوى ذوي الكرب )
وقال
( أما ترى الأشجار مصفرة ** أوراقها كالشمس عند المغيب )
____________________
(5/586)
( ما هي إلا صفرة آذنت ** بأنها ترحل عما قريب )
وقال
( كل ما تحب وتشتهي ** ودع الطبيب وما يرى )
( حفظ الغذاء مشقة ** ليست ترد مقدرا )
( كم عد من متحفظ ** كم صح ممن قصرا )
( كل التحفظ زائد ** لابد مما قدرا )
وقال
( من كان يأكل ما اشتهى ** ويرى مخالفة الطبيب )
( سيرى مضرة ما أتى ** بطرا ويندم عن قريب )
( إن التحفظ في الأمور ** لشيمة الفطن اللبيب )
( من لم يكن متحفظا ** يخطي ويبعد أن يصيب )
وقال
( وللحمام حاءات إذا ما ** ظفرت بها عثرت على النعيم )
( فحناء وحكاك مجيد ** وقل حجر يمر على الأديم )
( وحوض مفعم ماء لذيذا ** وحجام على النهج القويم )
( وللحلق الحديدة حين تنمى ** وأطيبها حديث أخ كريم )
وقال في الغزل وهي آخر كتابه المذكور
( الله أكبر جلت فتنة البشر ** بنور غرتك المغني عن البصر )
( شمس تطلع في أفق الجمال لها ** نور تألق في داج من الشعر )
( ووردة الخد في أبراد سوسنها ** شقائق زانها التغليف بالدرر )
____________________
(5/587)
( ومسكة الخال فوق الخد شاهدة ** بأن إبداعها إحكام مقتدر )
وهذه نبذة من كتابه أنداء الديم في المواعظ والوصايا والحكم وكل ما فيه كالذي قبله من نظمه رحمه الله تعالى فمن ذلك قوله رحمه الله
( العلم نور وهدى ** فكن بجد طالبه )
( واحرص عليه واعتمد ** فيه الأمور الواجبة )
( من لازم العلم علا ** على الأنام يخاطبة )
وقال
( خالف النفس عند قصد هواها ** تبق ما عشت سالما من أذاها )
( فاتباع الهوى هوان ولكن ** هان للنفس كي تنال مناها )
وقال
( من يخالف في شيء الناس يرجع ** هدفا للسهام من كل راشق )
( كم مع الناس كيف كانوا ووافق ** إن من لا يوافق الناس مائق )
وقال
( أرح النفس تنتفع بحياتك ** واغنم العيش قبل يوم وفاتك )
( واطرح عيب من سواك وسالم ** جملة الناس يغفلوا عن أذاتك )
( واعتبر بالذين بادوا وبادر ** ما يدانيك من سبيل نجاتك )
وقال
( سالم الناس ما استطعت وجامل ** من يعاديك إن أردت السلامه )
( وتنزه عن القبيح وجنب ** من يرى بالفضول واحذر كلامه )
____________________
(5/588)
وقال
( صديقي أنت ما أبقى بخير ** وموتي غير محتاج إليكا )
( فإن أحتج إليك فأنت مني ** بريء لا صداقة لي عليكا )
وقال
( من أنت عنه غني ** كن فيه مثل اعتقاده )
( فإن يكن منه ود ** فجازه بوداده )
( وإن يكن منه بعد ** فخله لبعاده )
وقال
( عليك بنفسك لا تشتغل ** بشيء سواها وخل الفضول )
( تعش رائح القلب في غبطة ** فلا من يضر ولا من يقول )
وقال
( اترك الفكر في الأمور ودعها ** فكما قدرت تكون الأمور )
( كل فكر وكل رأي وحزم ** غير مجد إذا جرى المقدور )
وقال
( هون عليك خطوب الدهر إن لها ** نهاية والتناهي عنده الفرج )
( واصبر فإن لحسن الصبر عاقبة ** بصبحها ظلمة المكروب تنبلج )
وقال
( احذر البخل إنه شر خلق ** يتحلى به وشر طريقه )
( من يجد غير مسرف فهو في الناس ** موقى تثني عليه الخليقه )
____________________
(5/589)
وقال
( الذل في طلب الإفادة عزة ** فاحرص على نيل الإفادة ترشد )
( إن التعزز في الذي تحتاجه ** كبر وكبر المرء أقبح مقصد )
وقال
( دع من عرفت ولا تشدد عليه يدا ** وداره وتحفظ منه ما بقيا )
( أما ترى البلد الذي نشأت به ** محقرا كلما أصبحت معتليا )
( وغيره من بلاد الله قاطبة ** يعليك لا سيما إن كنت متقيا )
وقال
( ينبغي للذي تحلى بعقل ** أن يرى كالبازي مدة عمره )
( بين أيدي الملوك أو في فلاه ** خيفة من شرور أبناء دهره )
وقال
( العزل يضحك ذله ** من تيه سلطان الولاية )
( فإذا وليت فسر على ** نهج الدماثة والرعاية )
( واقصد مداراة الورى ** واحذر كيود ذوي السعاية )
وقال
( لا تقبل الحكم على بلدة ** نشأت فيها إنه يحقد )
( رياسة المرء على الأهل والجيران ** والخلان لا تحمد )
وقال
( هي الدنيا إذا فكرت فيها ** رأيت نعيمها سما نقيعا )
____________________
(5/590)
( فلا تجفل بها واحذر أذاها ** فإن لسمها قتلا ذريعا )
( ولا تأسف على ما فات منها ** وبادر في حياتك أن تطيعا )
وقال
( كن وحيدا ما عشت تحيا بخير ** سالما ** من شرور كل البرية )
( إن من لا يخالط الناس يبقى ** دهره لا تعروه منهم أذية )
وقال
( لا تبح ما حييت يوما بسر ** لصديق ولا لغير صديق )
( إن سرا يجاوز الصدر فاش ** يدريه العدا ومن في الطريق )
وقال
( لا تصاحب ما عشت إلا الكبارا ** تنم ذكرا وتعتلي مقدارا )
( إن من ماشى في طريق حقيرا ** يكتسي منه مهنة واحتقارا )
( فتحفظ من أن تؤاخي دنيا ** فهو يعديك ذلة وصغارا )
وقال
( محدثات الأمور أردى الشرور ** فتحفظ من محدثات الأمور )
( إنما المحدثات غي فدعها ** واجتهد أن ترى مع الجمهور )
( كل من يتبع الحوادث يشقى ** ويرى نفسه بغير نظير )
وقال
( من تفضلت عليه ** أنت لا شك أميره )
( ومن احتجت إليه ** أنت بالرغم أسيره )
( ومن استغنيت عنه ** أنت في الدنيا نظيره )
____________________
(5/591)
وقال
( لم يبق من يطمع في وده ** كلا ولا من ترتضى صحبته )
( الناس أشباه ذئاب فهل ** يعلم ذئب حسنت عشرته )
( من يبتغي اليوم صديقا كما ** يرضى فقد زلت به بغيته )
وقال
( فاعل الخير موقى كل ما ** يتقي من ضر أو من فتنة )
( ليس يخشى فاعل الخير أذى ** إن فعل الخير أوقى جنة )
وقال
( تحفظ من صديقك في أمور ** فربتما يضر بك الصديق )
( من اعتمد الصديق ولم يبال ** يصبه الضر وهو به خليق )
وقال
( لا تركنن لمخلوق وكن أبدا ** ممن توكل في الدنيا على الله )
( ولا تمل لسواه ما حييت فمن ** يرجو سوى الله هاو حبله واهي )
وقال
( طلب الغاية اتباع غوايه ** فاعتمد في الأمور ترك النهاية )
( من يكن راضيا بما يتسنى ** عاش عيش الملوك دون أذايه )
وقال
( لا تعتمد أبدا على مخلوق أن ** تبغ النجاح وتقصد الرشدا )
____________________
(5/592)
( من يرج غير الله يحرم رشده ** ويذل وهو مخيب قصدا )
وقال
( سفر المرء قطعة من عذابه ** فيه تخليق جسمه وثيابه )
( إنما العيش للفتى بين أهليه ** وخلانه وفي أحبابه )
( من يرده بخير الله يكفى ** كرب تجواله وذل اغترابه )
وقال
( سلم ولا تعترض يوما على أحد ** إن شئت تسلم من حقد وأضرار )
( من يعترض يعترض لا شك وهو حر ** بذاك فالشر مقدار بمقدار )
وقال
( إن الصديق لعون ** في كل ما تبتغيه )
( فلا تسىء لصديق ** واحذر وقوعك فيه )
( فالمرء قيل كثير ** بنفسه وأخيه )
وقال
( افعل الخير ما استطعت تنل ما ** تبتغيه من الثناء الجميل )
( فاعل الخير آمن ليس يخشى ** صرف دهر ولا حلول جليل )
وقال
( يحق الحق حتما دون شك ** وإن كره المشكك والملد )
____________________
(5/593)
( صريح الحق قد يخفى ولكن ** بعيد خفائه لا شك يبدو )
وقال
( إن شئت عزا دائما ** فاسلك سبيل من اقتنع )
( إن القناعة عزة ** والذل عاقبة الطمع )
( المرء إن قنع اعتلى ** قدرا وإن طمع اتضع )
وقال
( استعن في الأمور بالكتمان ** وتحفظ من شر كل لسان )
( كل ما لا يدرى من أمرك فضل ** ليس فيه شيء من الخسران )
وقال
( من مال عنك بشبر ** مل أنت عنه بميل )
( فالله يغنيك عنه ** فمنه كل جميل )
( فليس في الود خير ** مع ترك حسن القبول )
وقال
( لا تقطعن صديقا ** وإن يضق بك صدرا )
( واحرص عليه وزده ** إن يجف برا وشكرا )
( فإن قطع صديق ** لا شك يعقب ضرا )
وقال
( خل التأنق في اللباس وسر على ** نهج الأفاضل في اختصار الملبس )
( إن التأنق في اللباس يكثر الحساد ** والأعداء للمتلبس )
( فالبس كمثل الناس لا تخرج عن المعتاد ** في شيء فتحظى أو تسي )
____________________
(5/594)
وقال
( لا تحقرن عدوا ** ولو يكون كذره )
( واحذره ما اسطعت واجهد ** أن لا تحرك شره )
( إن البعوضة تؤذي الملوك ** فوق الأسرة )
وقال
( ما أهنأ الإنسان في عيشه ** ما بين أهليه وفي منزله )
( الذل في الغربة يا كربها ** وكرب من قوض عن معقله )
( وفي اقتلوا أو اخرجوا شاهد ** ساوى خروج المرء مع مقتله )
وقال
( المال يستر عيب المرء فاقتتنه ** واحفظه تبق موقى مدة الزمن )
( من ضيع المال أبدى عيبه وجنى ** تمهينه أبدا من كل ممتهن )
وقال
( سريرة المرء تبديها شمائله ** حتى يرى الناس ما يخفيه إعلانا )
( فاجعل سريرتك التقوى ترى أملا ** في كل ما انت تبغيه وبرهانا )
وقال
( ما تمت الدنيا لشخص ولا ** أمل ذا فيها سوى من فتن )
( عادتها الفتك بمن رامها ** وكل من أعرض عنها أمن )
( فلا تغرنك بلذاتها ** فإن من غر بها قد غبن )
وقال
( لا يكن عندك الخديم نديما ** إن قدر الخديم دون النديم )
____________________
(5/595)
( من ينادم خديمه يتأذى ** ويصير الخديم غير خديم )
( إنما يصلح الخديم ابتعاد ** واشتغال بشأنه المعلوم )
وقال
( تثبت في الأمور ولا تبادر ** لشيء دون ما نظر وفكر )
( قبيح أن تبادر ثم تخطي ** وترجع للتثبت دون عذر )
وقال
( كن في زمانك كيف يرضى أهله ** ولا تعد طورهم ولا تتبدل )
( فإذا ترى الحمقى تحامق معهم ** وإذا ترى العقلاء فلتتعقل )
( من لم يكن أبدا كأهل زمانه ** يشقى ولا يحظى بنيل مؤمل )
وقال
( الفاضل اليوم غريب بلا ** عون على شيء من الحق )
( إن غاب لم يحضر وإن قال لم ** يسمع ولم يؤبه بما يلقي )
( ما أضيع الفاضل يا ويحه ** كانه ليس من الخلق )
وقال وهو آخر أنداء الديم
( العز عاقبة التقى ** والذل عاقبة الرياسة )
( فإذا اتقيت علوت في ** أهل المجادة والنفاسة )
( وإذا رأست نزلت في ** طرق التخلق والسياسة )
( فلتختر التقوى ولا ** ترأس فتخطيك الكياسة )
وكان تاريخ فراغه من كتاب أنداء الديم نصف شعبان عام واحد وثلاثين وسبعمائة
ولنذكر بعض أناشيده التي كان ينشدها أهل مجلسه ببلد قصبة المرية أعادها
____________________
(5/596)
الله تعالى فما أنشده رحمه الله تعالى لأبي العباس أحمد بن العريف صاحب محاسن المجالس
( من لم يشاور عالما بأصوله ** فيقينه في المشكلات ظنون )
( من أنكر الأشياء دون تيقن ** وتثبت فمعاند مفتون )
( الكل تذكار لمن هو عالم ** وصوابها بمحالها معجون )
( والفكر غواص عليها مخرج ** والحق فيها لؤلؤ مكنون )
وأنشد رحمه الله تعالى من وجادة
( أعوذ بالله من أناس ** تشيخوا قبل أن يشيخوا )
احدودبوا وانحنوا رياء ** فاحذرهم إنهم فخوخ )
وأنشد لنفسه رحمه الله تعالى
( أقلل العشرة تغبط ** وإن من أكثر ينحط )
( وعليك الصدق واحذر ** أن ترى في القول تشتط )
( والزم الصمت إذا ما ** خفت أن تلحى فتغلط )
( فعلى الفاضل يلفى ** كل مفضول مسلط )
وأنشد لنفسه أيضا
( جنة العالم لا أدري ** إذا ما احتاج جنة )
( فإذا ما ترك الجنة ** بانت فيه جنة )
( فالزم الجنة تسلم ** إنما الجنة جنة )
وأنشد للحلاج رحمه الله تعالى
____________________
(5/597)
( يا بدر يا شمس يا نهار ** أنت لنا جنة ونار )
( تجنب الإثم فيك واثم ** وخشية العار فيك عار )
( يخلع فيك العذار قوم ** فكيف من لا له عذار )
وأنشد مما ينسب للحلاج أيضا
( سقمي في الحب عافيتي ** ووجودي في الهوى عدمي )
( وعذاب ترتضون به ** في فمي أحلى من النعم )
( ما لضر في محبتكم ** عندنا والله من ألم )
وأنشد لسيدي أبي العباس ابن العريف في محاسن المجالس وهي أحسن ما قيل في طول الليل
( لست أدري أطال ليلي أم لا ** كيف يدري بذاك من يتقلى )
( لو تفرغت لاستطالة ليلي ** ولرعي النجوم كنت مخلا )
( إن للعاشقين عن قصر الليل ** وعن طوله من الفكر شغلا )
وأنشد رحمه الله تعالى مما أنشده بعض الوعاظ الغرباء
( عانقت لام صدغها صاد لثمي ** فأرتها المرآة في الخد لصا )
( فاسترابت لما رأت ثم قالت ** أكتابا أرى ولم أر شخصا )
( قلت بالكشط ينمحي قالت اكشط ** بالثنايا وتابع الكشط مصا )
( ثم لما ذهبت أكشط قالت ** كان لصا فصار والله فصا )
( قلت إن الفصوص تطبع باللثم ** على خد كل من كان رخصا )
وأنشد لابن خفاجة
____________________
(5/598)
( وأغر كاد لطافة وطلاقة ** ينساب ماء بيننا مسكوبا )
( قد قام في سطر الندامى فاستوى ** فحسبه ألفا به مكتوبا )
( وأكب يشربها وتشرب ذهنه ** فرأيت منه شاربا مشروبا )
( مشمولة بينا ترى في فكه ** ماء ترى في خده ألهوبا )
وأنشد لابن عبد ربه صاحب العقد مما نسبه له الفتح في مطمح الأنفس ومسرح التأنس
( يا لؤلؤ يسبي العقول أنيقا ** ورشا بتقطيع القلوب رفيقا )
( ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ** درا يعود من الحياء عقيقا )
( وإذا نظرت إلى محاسن وجهه ** ألفيت وجهك في سناه عريقا )
( يا من تقطع خصره من رقة ** ما بال قلبك لا يكون رقيقا )
وأنشد لابن عبد ربه أيضا
( ودعتني بزفرة واعتناق ** ثم قالت متى يكون التلاقي )
( وتصدت فأشرق الصبح منها ** بين تلك الجيوب والأطواق )
( يا سقيم الجفون من غير سقم ** بين عينيك مصرع العشاق )
( إن يوم الفراق أفظع يوم ** ليتني مت قبل يوم الفراق )
وأنشد له أيضا
( هيج البين دواعي سقمي ** وكسا جسمي ثوب الألم )
( أيها البين أقلني مرة ** فإذا عدت فقد حل دمي )
( يا خلي الذرع نم في غبطة ** إن من فارقته لم ينم )
( ولقد هاج لقلبي سقما ** حب من لو شاء داوى سقمي )
____________________
(5/599)
وأنشد للمصحفي
( صفراء تطرق في الزجاج فإن سرت ** في الجسم دبت مثل صل لاذع )
( عبث الزمان بجسمها فتسترت ** عن عينه برداء نور سابغ )
( خفيت على شرابها فكأنما ** يجدون ريا في إناء فارغ )
وأنشد لابن شهيد
( هب من رقدته منكسرا ** مسبل للكم مرخ للردا )
( يمسح النعسة عن عيني رشا ** صائد في كل يوم أسدا )
( شربت أعطافه خمر الصبا ** وسقاه الحسن حتى عربدا )
( رشأ بل غادة ممكورة ** عممت صبحا بليل أسودا )
( أححت من عضتي في نهدها ** ثم عضت حر وجهي عمدا )
( فأنا المجروح من عضتها ** لا شفاني الله منها أبدا )
وأنشد لصفوان بن إدريس
( حمى الهوى قلبه وأوقد ** فهو على أن يموت أو قد )
( وقال عنه العذول سال ** قلده الله ما تقلد )
( وباللوى شاذن عليه ** جيد غزال ولحظ فرقد )
( علله ريقه بخمر ** حتى انتشى طرفه فعربد )
( لا تعجبوا لانهزام طرفي ** فجيش أجفانه مؤيد )
( أنا له كالذي تمنى ** عبد نعم عبده وأزيد )
( إن بسملت عينه لقتلي ** صلى فؤادي على محمد )
____________________
(5/600)
وأنشد لأبي علي إدريس بن اليماني
( علقته شادنا صغيرا ** وكنت لا أعشق الصغارا )
( يسفر عن مستنير وجه ** صير جنح الدجى نهارا )
( لم أر من قبل ذاك ماء ** أضرم فيه الحياء نارا )
وأنشد للرمادي أو لابن برد القرطبي
( لما بدا في لازور ** دي الحرير وقد بهر )
( كبرت من فرط الجمال ** وقلت ما هذا بشر )
( فأجابني لا تنكروا ** ثوب السماء على القمر )
وأنشده من وجادة
( يا ذا الذي عذب محبوبه ** أنخت عيس العز مغنى الهوان )
( لم ينبت الشعر على خده ** بل دب في أصداغه عقربان )
( رفقا على نفسك لا تفنها ** فجوهر الأنفس در يصان )
وأنشد من حديقة ابن يربوع
( غزا القلوب غزال ** حجت إليه العيون )
( خطت بخديه نون ** وآخر الحسن نون )
وأنشد من وجادة
( أودع فؤادي حرقا أو دع ** ذاتك تؤذي أنت في أضلعي )
( وارم سهام اللحظ أو كفها ** أنت بما ترمي مصاب معي )
( موقعها قلبي وأنت الذي ** مسكنه في ذلك الموضع )
____________________
(5/601)
وأنشد من حديقة ابن يربوع
( يخط الشوق شخصك في ضميري ** على بعد التزاور خط زور )
( وتدنيك الأماني من فؤادي ** دنو البرق من لمح البصير )
( فلا تذهب فإنك نور عيني ** إذا ما غبت لم تطرف بنور )
وأنشد للوزير المصحفي
( لعينيك في قلبي علي عيون ** وبين ضلوعي للشجون فنون )
( لئن كنت صبا مخلقا في يد الهوى ** فحبك غض في الفؤاد مصون )
( نصيبي من الدنيا هواك وإنه ** عذابي ولكني عليه ضنين )
وأنشد لصالح بن شريف
( أيها العاذل بالله اتئد ** لك قلب في ضلوعي أو كبد )
( هي أجفاني فذرها تنهمي ** هي أحشائي فدعها تتقد )
( لا تظن الحب شيئا هينا ** ليس في الحب قياس يطرد )
( أنت خلو وأنا صب شج ** فإذا حدثت عني قل وزد )
( فاترك اليوم ملامي إنه ** يترك الشيء إذا ما لم يفد )
( أنا أسلو عن حبيبي ساعة ** يا عذولي قل هو الله أحد )
وأنشد له أيضا
( وافى وقد زانه جماله ** فيه لعشاقه اعتذار )
( ثلاثة ما لها شبيه ** الوجه والخد والعذار )
( فمن رآه رأى رياضا ** الورد والآس والبهار )
وأنشد من حديقة ابن يربوع
( عليك بإكرام وبر لستة ** من الناس واحذر شرهم وتوقه )
____________________
(5/602)
( طبيب وحجام وشيخ وشاعر ** وصاحب ديوان ومن يتفقه )
وأنشد لبعض الصوفية
( ما ترى عند أحمق ** في أمور توسطا )
( بل تراه في أمره ** مفرطا أو مفرطا )
وأنشد لبعض الأدباء
( الصبر أولى بوقار الفتى ** من قلق يهتك ستر الوقار )
( من لازم الصبر على حالة ** كان على أيامه بالخيار )
ولنقتتصر من ترجمة ابن ليون على هذا القدر فقد حصلت الإطالة بل ونكتفي من مشايخ لسان الدين بمن ذكرنا ولنورد ما في الإحاطة في ترجمة مشيخته وإن تكرر مع ما تقدم ونصه ثبت عام بشيوخ لسان الدين
المشيخة قرأت كتاب الله عز وجل على المكتب نسيج وحده في تحمل المنزل حق حمله تقوى وصلاحا وخصوصية وإتقانا ونغمة وعناية وحفظا وتبحرا في هذا الفن واطلاعا لغرائبه واستيعابا لسقطات الأعلام الأستاذ الصالح أبي عبد الله ابن عبد الولي العواد تكتيبا ثم حفظا ثم تجويدا إلى مقرءات أبي عمرو رحمة الله عليهما ثم نقلني إلى أستاذ الجماعة ومطية الفنون ومفيد الطلبة الشيخ الخطيب
____________________
(5/603)
المتفنن أبي الحسن علي القيجاطي فقرأت عليه القرآن والعربية وهو أول من انتفعت به وقرأت على الخطيب الحسيب الصدر أبي القاسم ابن جزي رحمه الله تعالى ولازمت قراءة العربية والفقه والتفسير والمعتمد عليه العربية على الشيخ الأستاذ الخطيب أبي عبد الله ابن الفخار البيري الإمام المجمع على إمامته في فن العربية المفتوح عليه من الله فيها حفظا واطلاعا ونقلا وتوجيها بما لا مطمع فيه لسواه وقرأت على قاضي الجماعة الصدر المتفنن أبي عبد الله ابن بكر رحمه الله وتأدبت بالشيخ الرئيس صاحب القلم الأعلى الصالح الفاضل أبي الحسن ابن الجياب ورويت عن الكثير ممن جمعهم الزمان بهذا القطر من أهل الرواية كالمحدث أبي عبد الله ابن جابر وأخيه أبي جعفر والقاضي الشهير الشيخ بقية السلف شيخنا أبي البركات ابن الحاج والشيخ المحدث الصالح أبي محمد ابن سلمون وأخيه القاضي أبي القاسم ابن سلمون وأبي عمرو ابن الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير وله رواية عالية والأستاذ اللغوي أبي عبد الله ابن بيبش والمحدث الكاتب أبي الحسن التلمساني المسن والحاج أبي القاسم ابن المهني المالقي والعدل أبي محمد السعدي يحمل عن الإمام ابن دقيق العيد والقائد الكاتب ابن ذي الوزارتين أبي بكر ابن الحكيم والقاضي المحدث الأديب جملة الظرف أبي بكر ابن شبرين والشيخ أبي عبد الله ابن عبد الملك والخطيب أبي جعفر الطنجالي والقاضي أبي بكر ابن منظور والراوية أبي عبد الله ابن حزب الله كلهم من مالقة والقاضي أبي عبد الله المقري التلمساني والشريف أبي علي حسن بن يوسف والخطيب الرئيس أبي عبد الله ابن مرزوق كلهم من تلمسان والمحدث الفاضل الحسيب أبي العباس ابن يربوع والرئيس أبي محمد الحضرمي
____________________
(5/604)
السبتيين والشيخ المقرىء أبي محمد ابن أيوب المالقي آخر الرواة عن ابن أبي الأحوص وأبي عثمان ابن ليون من أهل المرية والقاضي أبي الحجاج المنتشاقري من أهل رندة وطائفة كبيرة من المعاصرين تحملا وتدبجا ومن أهل العدوة الغربية والمشرق وإفريقية الكثير بالإجازه وأخذت الطب والتعاليم والمنطق وصناعة التعديل عن الإمام أبي زكريا ابن هذيل ولازمته هذا على سبيل الإلماع ولو تفرغت لذكر أفذاذهم لخرج هذا التأليف عما وضع له انتهى كلامه في الإحاطة
وقد ذكرت في هذا الباب زيادة في بعض التراجم على ما في الإحاطة على ما اقتضاه الحال إذ ذلك لا يخلو من فائدة زائدة وحكمة بالخير عائدة
ولو لم يكن في هذا الكتاب غير هذا الباب لكان كافيا لاشتماله على تصوف وحكم وكرامات وآداب ووصايا وإنشادات وغيرها مما يغني عن خبره العيان ويشتاق إلى الوقوف عليه ذوو الملكة في البيان ولو لم يشتمل إلا على المدائح النبوية التي فيه لتمت محاسنه والله سبحانه وتعالى ينفع به بجاه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وتابعيه وحزبه
انتهى المجلد الخامس
____________________
(5/605)
6
____________________
(6/1)
& الباب الرابع &
فى مخاطبات الملوك والأكابر الموجهة إلى حضرته العلية وثناء غير واحد من أعلام أهل عصره عليه وصرف القاصدين وجوه التأميل إليه واجتلائهم أنوار رياسته الجلية وكتبهم بعض المؤلفات باسمه ووقوفهم عند إشارته ورسمه وما يضاهي ذلك فى حظه وقسمه وسعيهم بين يديه
اعلم سلك الله بى وبك الطريق الأقوم الأقوى وحلى صدور جميعنا بزينة التقوى أن لسان الدين ذكر فى كتبه كالإحاطة ونفاضة الجراب وغيرهما جملة مما خاطبه به الملوك وغيرهم من تبجيل وتنويه ولنذكر بعض ذلك من كتبه ومن غيرها تتميما للمقصود وتبليغا لنفوس الناظرين فى هذه العجالة ما تؤمله وتنويه 1 - ظهير من أبى زيان المرينى للسان الدين
فمن ذلك ما ذكره فى الإحاطة من إكرام السلطان أبى زيان المرينى ابن الأمير أبى عبد الرحمن ابن السلطان أبى الحسن له وسرد ما كتب له به من قوله هذا ظهير الى قوله أيده الله ونصره وسنى له الفتح المبين ويسره
____________________
(6/5)
وبعده ما صورته للشيخ الفقيه الأجل الأسنى والأعز الأحظى الأرفع الأمجد الأسمى الأوحد الأنوه الأرقى العالم العلم الرئيس الأعرف المتفنن الأبرع المصنف المفيد الصدر الأحفل الأفضل الأكمل أبى عبد الله ابن الشيخ الفقيه الوزير الأجل الأسنى الأعز الأرفع الأمجد الوجيه الأنوه الأحفل الأفضل الحسيب الأصيل الأكمل المبرور المرحوم أبى محمد ابن الخطيب قابله أيده الله بوجه القبول والإقبال وأضفى عليه ملابس الإنعام والإفضال ورعى له خدمة السلف الرفيع الجلال وما تقرر من مقاصده الحسنة فى خدمة أمرنا العال وأمر فى جملة ما سوغه من الآلاء الوارفة الظلال الفسيحة المجال بأن يجدد له حكم ما بيده من الأوامر المتقدم تاريخها المتضمنة تمشية خمسمائة دينار من الفضة العشرية فى كل شهر عن مرتب له ولولده الذى لنظره من مجبى مدينة سلا حرسها الله فى كل شهر ومن حيث جرت العادة أن يتمشى له ورفع الاعتراض ببابها فيما يجلب من الأدم والأقوات على اختلافها من حيوان وسواه وفيما يستفيده خدامه بخارجها وأحوازها من عنب وقطن وكتان وفاكهة وخضر وغير ذلك فلا يطلب فى شىء من ذلك بمغرم ولا وظيف ولا يتوجه فيه إليه بتكليف يتصل له حكم جميع ما ذكر فى كل عام تجديدا تاما واحتراما عاما أعلن بتجديد الحظوة واتصالها وإتمام النعمة وإكمالها من تواريخ الأوامر المذكورة إلى الآن ومن الآن الى ما يأتى على الدوام واتصال الأيام وأن يحمل جانبه فيمن يشركه أو يخدمه محمل الرعى والمحاشاة فى السخر مهما عرضت والوظائف إذا افترضت حتى يتصل له تالد العناية بالطارف
____________________
(6/6)
وتتضاعف أسباب المنن والعوارف بفضل الله وتحرر له الأزواج التى يحرثها بتالمغت من كل وجيبة وتحاشى من كل مغرم أو ضريبة بالتحرير التام بحول الله وعونه ومن وقف على هذا الظهير الكريم فليعمل بمقتضاه وليمض ما أمضاه إن شاء الله وكتب فى العاشر من شهر ربيع الآخر من عام ثلاثة وستين وسبعمائة وكتب فى التاريخ انتهى
____________________
(6/7)
وقوله وكتب فى التاريخ هو العلامة السلطانية فى ذلك الزمان يكتب بقلم غليط وبعض ملوك المغرب يكتب عند العلامة صح فى التاريخ ترجمة أبى زيان المرينى
وقد عرف لسان الدين فى الإحاطة بهذا السلطان بما نصه محمد بن يعقوب أبى عبد الرحمن بن على أمير المسلمين بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق أمير المسلمين بالمغرب إلى هذا العهد يكنى أبا زيان وصل الله نصره على عدو الدين وارشده الى سنن الخلفاء المهتدين
حاله فاضل سكون منقاد مشتغل بخاصة نفسه قليل الكلام حسن الشكل درب بركض الخيل مفوض للوزراء عظيم التأتى لأغراضهم ووكل الأمور لمن استكفاه منهم استقدم من أرض النصارى بالأندلس وقد فر
____________________
(6/7)
إليهم خوفا على نفسه فسمح به ملك الروم بعد اشتراط واشتطاط فكان وصوله إلى مدينة الملك بفاس يوم الاثنين الثانى والعشرين لصفر عام ثلاثة وستين وسبعمائة ودخوله داره مغرب ليلة الجمعة بطالع الثامن من السرطان وبه السعد الأعظم كوكب المشترى من الكواكب السيارة وقد كان الوزير قيم الأمر والمثل فى الكفاية والاضطلاع بالعظيمة عمر بن عبد الله بن على اليابانى لما ثار بعمه السلطان أبى سالم رحمه الله تعالى وأقام الرسم بأخيه المعتوه المدعو بأبى عمر استدعى هذا المترجم به وقد نازله الأمير عبد الحليم ابن عمهم وتوجه عنه رسوله أثناء الحصار لما رأى الأمر لا يستقيم بمن نصبه فتلطف فيه إلى طاغية النصارى واستعان بالسلطان أبى عبد الله ابن نصر وقد جمعتهما إيالته فتم له اللحاق بالمغرب وانصرف الأمير عبد الحليم إلى سجلماسة فتملكها وتم الأمر للأمير أبى زيان يقوم به عنه وزيره ومستدعيه المذكور مصنوعا له فى خدمته أعانه الله تعالى وأصلح حاله وأحوال الخلق على يديه ووفدت عليه من محل الانقطاع بسلا وأنشدته قولى
( لمن علم فى هضبة الملك خفاق ** أفاقت به من غشية الهرج آفاق )
( تقل رياح النصر منه غمامة ** تمد لها أيد وتخضع أعناق )
( وبيعة شورى أحكم السعد عقدها ** وأعمل إجماع عليها وإصفاق )
( قضى عمر فيها بحق محمد ** فسجل عهد للوفاء وميثاق )
( أحلما ترى عيناى أم هى فترة ** أعندكما فى مشكل الأمر مصداق )
( وفاض لفضل الله فى الأرض تبتغى ** ومجتمعات لا تريب وأسواق )
( وسرح تهنيه الكلاءة بالكلا ** وفلح لسقى الغيث قام له ساق )
____________________
(6/8)
( وقد كان طيف الحلم لا يعمل الخطا ** وللفتنة العمياء فى الأرض إطباق )
( وللغيث إمساك وفى الأرض رجة ** وللدين والدنيا وجوم وإطراق )
( فكل فريق فيه للبغى راية ** وكل طريق فيه للعيث طراق )
( أجل إنه من آل يعقوب وارث ** يحن له البيت العتيق ويشتاق )
( له من جناح الروح ظل مسجف ** ومن رفرف العز الإلهى رستاق )
( أطل على الدنيا وقد عاد ضوءها ** دجى وعلى الأحداق للذعر إحداق )
( فأشرقت الأرجاء من نور ربها ** وساح بها لله لطف وإشفاق )
( فمن ألسن لله بالشكر أعلنت ** وكان لها من قبل همس وإطباق )
( وليس لأمر أبرم الله ناقض ** وليس لمسعى أنجح الله إخفاق )
( محمد قد أحييت دين محمد ** وللخلق أذماء تفيض وأرماق )
( ولو لم تثب غطى على شفق الضحى ** دم لسيوف البغى فى الأرض مهراق )
( فأيمن بمشحون من الفلك سابح ** له باختيار الله حط وايساق )
( اقلك والدأماء تظهر طاعة ** إليك وصفح الماء أزرق رقراق )
( إلى هدف السعد أنبرى منه والدجى ** يضل الحجى سهم من السعد رشاق )
( فخطت لتقويم القوام جداول ** وصحت من التوفيق واليمن أوفاق )
( تبارك من أهداك للخلق رحمة ** ومستبعد أن يهمل الخلق خلاق )
( هو الله يبلو الناس بالخير فتنة ** وبالشر والأيام سم وترياق )
( سمت منك أعناق الورى لخليفة ** له فى مجال السعد وخد وإعناق )
____________________
(6/9)
( وقالوا بنان ما استقل بكفه ** تفيض على العافين أم هى أرزاق )
( وأطنب فيك المادحون وأغرقوا ** فلم يجد إطناب ولم يغن إغراق )
( ألست من القوم الذين أكفهم ** غمام ندى ان أخلف الغيث غيداق )
( ألست من القوم الذين وجوههم ** بدور لها فى ظلمة الروع إشراق )
( رياض إذا العافى استظل ظلالها ** ففيها جنى ملء الأكف وإيراق )
( أبوك ولى العهد لو سالم الردى ** وجدك قد فاق الملوك وإن فاقوا )
( فمن ذا له جد كجدك أو أب ** لآلىء والمجد المؤثل نساق )
( وحسب العلا فى آل يعقوب أنهم ** هم الأصل فى العلياء والناس ألحاق )
( أسود سروح أو بدور أسرة ** فان حاربوا راعوا وإن سالموا راقوا )
( يطول لتحصيل الكمال سهادهم ** فهم للمعالى والمكارم عشاق )
____________________
(6/10)
ومنها
( لئن نسيت إحسان جدك فرقة ** تزر على أعناقهم منه أطواق )
( أجازت خروج ابن أبنه عن تراثه ** ولم تدر ما ضمت من الذكر أوراق )
( ومن دون ما راموه لله قدرة ** ومن دون ما أموه للفتح أغلاق )
( خذ العفو وابذل فيهم العرف ولتسع ** جريرة من أبدي لك الغدر أخلاق )
( فربتما تنبو مهندة الظبى ** وتهفو حلوم القوم والقوم حذاق )
( وما الناس إلا مذنب وابن مذنب ** ولله إرفاد عليهم وإرفاق )
( ولا ترج فى كل الأمور سوى الذى ** خزائنه ما ضرها قط إنفاق )
( إذا هو أعطى لم يضر منع مانع ** وإن حشدت طسم وعاد وعملاق )
( عرفت الردى واستأثرت بك للعدا ** تخوم بمختط الصليب وأعماق )
( فيسر لليسرى وأحيا بك الورى ** وللروع إرعاد عليك وإبراق )
( فجاز صنيع الله وازدد بشكره ** مواهب جود غيثها الدهر دفاق )
( وأوف لمن أوفى وكاف الذى كفى ** فأنت كريم طهرت منك أعراق )
____________________
(6/10)
( وتهنيك يا مولى الملوك خلافة ** شجتها تباريح اليك وأشواق )
( فقد بلغت اقصى المنى بك نفسها ** وكم فاز بالوصل المهنإ مشتاق )
( فلا راع منها السرب للدهر رائع ** ولا نال منها جدة السعد إخلاق )
( أمولاي راع الدهر سربى وغالنى ** فطرفى مذعور وقلبى خفاق )
( وليس لكسرى غيرك اليوم جابر ** ولا ليدي إلا بمجدك أعلاق )
( ولى فيك ود واعتداد غرسته ** فراقت به من يانع الحمد أوراق )
( وقد عيل صبرى فى ارتقابى خليفة ** تحل به للضر عنى أوهاق )
( وأنت حسام الله والله ناصر ** وأنت أمين الله والله رزاق )
( وأنت الأمان المستجار من الردى ** إذا راع خطب أو توقع إملاق )
( وأهون ما ترجى لديك شفاعة ** إذا لم يكن عزم حثيث وإرهاق )
( ودونكها من ذائع الحمد مخلص ** له فيك تقييد يروق وإطلاق )
( اذا قال أما كل سمع لقوله ** فمصغ وأما كل أنف فنشاق )
( ودم خافق الأعلام بالنصر كلما ** ذهبت لمسعى لم يكن فيه إخفاق )
وعدت منه ببر كثير واحترام شهير
دخوله غرناطة لحق بها مفلتا عند القبض على قرابته وبنى عمه وتقريبهم إلى مصارعهم فكان وصوله فى رمضان من عام خمسين وسبعمائة ثم رابه رائب لحق لأجله بصاحب قشتالة وأقام فى جملته إلى حين استدعائه المتقرر آنفا وهو لهذا العهد أمير المسلمين بالمغرب أعانه الله تعالى على الخير وأطلق به يده وألهمه لما يرضى منه بفضله وكرمه انتهت الترجمة
ورأيت على هامش هذا المحل من الإحاطة بخط الخطيب الشهير الإمام
____________________
(6/11)
أبى عبد الله ابن مرزوق التلمسانى رحمه الله ما صورته توفى يعنى السلطان أبا زيان مغتالا عام ستة وستين على يد مظاهره الخائن عمر بن عبد الله ابن على الوزير رداه فى بئر وأشاع انه أفرط فى السكر وألقى نفسه فى البئر المعروفة برياض الغزلان وبايع لعمه عبد العزيز ابن السلطان أبى الحسن فسلطه الله عليه وأخذ حقوق الخلائق على يديه فقتله غيلة بعد أن كان تغلب عليه فأعمل الحيلة فى قتله واستمر ملك عبد العزيز ظاهرا ظافرا قد جمع بين المغرب إلى أقصاه وبين ملك تلمسان وقد شرد أهلها كل مشرد فعندما أقبلت الدنيا عليه واستقام ملكه وكاد يلحق ملك أبيه أو يزيد مات رحمه الله تعالى قيل مطعونا وقيل غير ذلك وذلك فى حدود أربع وسبعين وولى ولده ثم عزل بابن عمه أبى العباس ابن السلطان أبى سالم وحاز ملك المغرب إلى حين كتب هذا سنة سبع وسبعين وسبعمائة انتهى ما ألفيته بخط سيدي أبى عبد الله ابن مرزوق
ورأيت تحته بخط ابن لسان الدين أبى الحسن على ما صورته رحمه الله عليك يا عمر بن عبد الله بن على فلقد كنت غسلت ملك المغرب من درن كبير وقمت على ملك لهو وضعف شهير وشهرت سيف الحق على الزواكرة الخرق فابتهج منبر الدين انتهى
ومراده بهذا الكلام الرد على ابن مرزوق فى ذمه للوزير عمر وقوله الزواكرة لفظ يستعمله المغاربة ومعناه عندهم المتلبس الذى يظهر النسك والعبادة ويبطن الفسق والفساد وعند الله تجتمع الخصوم
____________________
(6/12)
2 - رسالة من أبى سالم الى لسان الدين
ولنرجع إلى ما كنا بسبيله فنقول
ومما خوطب به ابن الخطيب رحمه الله تعالى من قبل سلطان المغرب المستعين بالله أبى سالم إبراهيم ابن السلطان أبى الحسن المرينى ما صورته بعد البسملة والصلاة
من عبد الله المستعين بالله إبراهيم أمير المسلمين المجاهد فى سبيل رب العالمين ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد فى سبيل رب العالمين أبى الحسن ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد فى سبيل رب العالمين أبى يوسف يعقوب ابن عبد الحق أيد الله أمره وأعز نصره إلى الشيخ الفقيه الأجل الأسنى الأعز الأحظى الأوجه الأنوه الصدر الأحفل المصنف البليغ الأعرف الأكمل أبى عبد الله ابن الشيخ الأجل الأعز الأسنى الوزير الأرفع الأنجد الأصيل الأكمل المرحوم المبرور أبى محمد ابن الخطيب وصل الله عزته ووإلى رفعته سلام عليكم ورحمه الله وبركاته
أما بعد حمد الله تعالى والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم المصطفى والرضى عن آله وصحبه أعلام الإسلام وأئمة الرشد والهدى وصلة الدعاء لهذا الأمر العلى العزيز المنصور المستعينى بالنصر الأعز والفتح الأسنى فإنا كتبناه اليكم كتب الله تعالى لكم بلوغ الأمل ونجح القول والعمل من منزلنا الأسعد بضفة وأدى ملوية يمنه الله وصنع الله جميل ومنه جزيل والحمد لله ولكم عندنا المكانة الواضحة الدلائل والعناية المتكفلة برعى الوسائل ذلكم لما تميزتم به من التمسك بالجناب العلى المولوى العلوى جدد الله تعالى عليه ملابس غفرانه وسقاه غيوث رحمته وحنانه
____________________
(6/13)
وما أهديتم إلينا من التقرب لدينا بخدمة ثراه الطاهر والاشتمال بمطارف حرمته السامية المظاهر
وإلى هذا وصل الله حظوتكم ووإلى رفعتكم فإنه ورد علينا خطابكم الحسن عندنا قصده المقابل بالإسعاف المستعذب ورده فوقفنا على ما نصه واستوفينا ما شرحه وقصه فآثرنا حسن تلطفكم فى التوسل بأكبر الوسائل الينا ورعينا أكمل الرعاية حق ذلكم الجناب العزيز علينا وفى الحين عينا لكمال مطلبكم وتمام مأربكم والتوجه بخطابنا فى حقكم والاعتماد بوفقكم خديمينا أبا البقاء ابن تاسكورت وأبا زكريا ابن فرقاجة أنجدهما الله وتولاهما وأمس تاريخه انفصلا مودعين إلى الغرض المعلوم بعد التأكيد عليهما فيه وشرح العمل الذى يوفيه فكونوا على علم من ذلكم وابسطوا له جملة آمالكم وإنا لنرجو ثواب الله فى جبر أحوالكم وبرء اعتلالكم والله سبحانه وتعالى يصل مبرتكم ويتولى تكرمتكم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته كتب فى الرابع والعشرين لرجب عام واحد وستين وسبعمائة 3 - جواب لسان الدين
فراجعه ابن الخطيب بما نصه مولاى خليفة الله بحق وكبير ملوك الأرض عن حجة ومعدن الشفقة والحرمة ببرهان وحكمة أبقاكم الله تعالى عالي الدرجة فى المنعمين وافر الحظ عند جزاء المحسنين وأراكم ثمرة بر أبيكم فى البنين وصنع لكم فى عدوكم الصنع الذى لا يقف عند معتاد وأذاق العذاب الأليم من أراد فى مثابتكم بإلحاد عبدكم الذى ملكتم رقه
____________________
(6/14)
وآويتم غربته وسترتم أهله وولده وأسنيتم رزقه وجبرتم قلبه يقبل موطىء الأخمص الكريم من رجلكم الطاهرة المستوجبة بفضل الله تعالى لموقف النصر الفارعة هضبة العز المعملة الخطو فى مجال السعد وميسر الحظ ابن الخطيب من شاله التى تأكد بملككم الرضى احترامها وتجدد برعيكم عهدها واستبشر بملككم دفينها وأشرق بحسناتكم نورها
وقد ورد على العبد الجواب المولوي البر الرحيم المنعم المحسن بما يليق بالملك الأصيل والقدر الرفيع والهمة السامية والعزة القعساء من رعى الدخيل والنصرة للذمام والاهتزاز لبر الأب الكريم فثاب الرجاء وانبعث الأمل وقوى العضد وزار اللطف فالحمد لله الذى أجرى الخير على يدكم الكريمة وأعانكم على رعى ذمام الصالحين المتوسل اليكم أولا بقبورهم ومتعبداتهم وتراب أجداثهم ثم بقبر مولاي ومولاكم ومولى الخلق أجمعين الذى تسبب فى وجودكم واختصكم بحبه وغمركم بلطفه وحنانه وعلمكم آداب الشريعة وأورثكم ملك الدنيا وهيأتكم دعواته بالاستقامة إلى ملك الآخرة بعد طول المدى وانفساح البقاء وفى علومكم المقدسة ما تضمنت الحكايات عن العرب من النعرة عن طائر داست أفراخه ناقة فى جوار رئيس منهم وما انتهى إليه الامتعاض لذلك مما أهينت فيه الأنفس وهلكت الأموال وقصارى من امتعض لذلك أن يكون كبعض خدامكم من عرب تامسنا فما الظن بكم وأنتم الكريم ابن الكريم ابن الكريم فيمن لجأ أولا إلى رحماكم بالأهل والولد عن حسنة تبرعتم بها وصدقة حملتكم الحرية
____________________
(6/15)
على بذلها ثم فيمن حط رحل الاستجارة بضريح أكرم الخلق عليكم دامع العين خافق القلب واهى الفزعة يتغطى بردائه ويستجير بعليائه كأننى تراميت عليهم فى الحياة أمام الذعر الذى يذهل العقل ويحجب عن التمييز بقصر داره ومضجع رقاده ما من يوم إلا وأجهر بعد التلاوة يا ليعقوب يا لمرين نسأل الله تعالى ان لا يقطع عنى معروفكم ولا يسلبنى عنايتكم ويستعملنى ما بقيت فى خدمتكم ويتقبل دعائى فيكم
ولحين وصول الجواب الكريم نهضت إلى القبر المقدس ووضعته بإزائه وقلت يا مولاي يا كبير الملوك وخليفة الله وبركة بنى مرين صاحب الشهرة والذكر فى المشرق والمغرب عبدك المنقطع اليك المترامى بين يدي قبرك المتوسل إلى الله ثم إلى ولدك بك ابن الخطيب وصله من مولاه ولدك ما يليق بمقامه من رعي وجهك والتقرب إلى الله تعالى برعيك والاشتهار فى مشرق الدنيا وغربها ببرك وأنتم من أنتم من إذا صنع صنيعة كملها وإذا من منة تممها وإذا أبدى يدا أبرزها طاهرة بيضاء غير معيبة ولا ممنونة ولا منتقضة وأنا بعد تحت ذيل حرمتك وظل دخيلك حتى يتم أملى ويخلص قصدي وتحف نعمتك بى ويطمئن إلى مأملك قلبى
ثم قلت للطلبة أيها السادة بيني وبينكم تلاوة كتاب الله تعالى منذ أيام ومناسبة النحلة وأخوة التأليف بهذا الرباط المقدس والسكنى بين أظهركم فأمنوا على دعائى بإخلاص من قلوبكم واندفعت فى الدعاء والتوسل الذى نرجو أن يتقبله الله تعالى ولايضيعه وخاطب العبد مولاه شاكرا لنعمته مشيدا بصنيعته مسرورا بقبوله وشأنه من التعلق والتطارح شأنه حتى يكمل القصد ويتم الغرض معمور الوقت بخدمة يرفعها ودعاء يردده والله المستعان
____________________
(6/16)
4 - رسالة من لسان الدين الى أبى سالم
وكان تقدم من لسان الدين كتاب للسلطان المذكور وكان ما سبق من كتاب السلطان جوابا له وذلك بعد رجوع لسان الدين من مراكش واستقراره فى مدينة سلا برباط شالة مدفن السلاطين من بنى مرين ومنهم السلطان ابو الحسن والد السلطان أبى سالم المذكور ونص الكتاب
مولاي المرجو لإتمام الصنيعة وصلة النعمة وإحراز الفخر أبقاكم الله تعالى تضرب بكم الأمثال فى البر والرضى وعلو الهمة ورعى الوسيلة مقبل موطىء قدمكم المنقطع إلى تربة المولى والدكم ابن الخطيب من الضريح المقدس بشالة وقد حط رحل الرجاء فى القبة المقدسة وتذمم بالتربة الزكية وقعد بإزاء لحد المولى أبيكم ساعة إيابه من الوجهة المباركة وزيارة الربط المقصودة والترب المعظمة وقد عزم أن لا يبرح طوعا من هذا الجوار الكريم والدخيل المرعى حتى يصله من مقامكم ما يناسب هذا التطارح على قبر هذا المولى العزيز على أهل الأرض ثم عليكم والتماس شفاعته فى أمر سهل عليكم لا يجر إنفاد مال ولا اقتحام خطر إنما هو إعمال لسان وخط بنان وصرف عزم وإحراز فخر وأجر وإطابة ذكر وذلك أن العبد عرفكم يوم وداعكم أنه ينقل عنكم إلى المولى المقدس بلسان المقال ما يحضر مما يفتح الله تعالى فيه ثم ينقل عنه لكم بلسان الحال ما يتلقى عنه من الجواب وقال لى صدر دولتكم وخالصتكم وخالصة المولى والدكم سيدي الخطيب يعنى ابن مرزوق سنى الله تعالى أمله من سعادة مقامكم وطول عمركم أنت يا فلان والحمد لله ممن لا ينكر عليه الوفاء بهذين الفرضين وصدر عنكم من البشر والقبول والإنعام ما صدر جزاكم الله تعالى جزاء المحسنين
____________________
(6/17)
وقد تقدم تعريف مولاي بما كان من قيام العبد بما نقله إلى التربة الزكية عنكم حسبما أداه من حضر ذلك المشهد من خدامكم والعبد الآن يعرض عليكم الجواب وهو أنى لما فرغت من مخاطبتة بمرأى من الملإ الكبير والجم الغفير أكببت على اللحد الكريم داعيا ومخاطبا وأصغيت بأذنى عند قبره وجعل فؤادي يتلقى ما يوحيه إليه لسان حاله فكأنى به يقول لى قل لمولاك يا ولدي وقرة عيني المخصوص برضاي وبري ومن ستر حريمى ورد ملكى وصان أهلى وأكرم صنائعي ووصل عملى أسلم عليك وأسال الله تعالى أن يرضى عنك ويقبل عليك الدنيا دار غرور والآخرة خير لمن اتقى
( وما الناس إلا هالك وابن هالك ** )
ولا تجد إلا ما قدمت من عمل يقتضى العفو والمغفرة أو ثناء يجلب الدعاء بالرحمة ومثلك من ذكر فتذكر وعرف فما أنكر وهذا ابن الخطيب قد وقف على قبري وتهمم بي وسبق الناس الى رثائى وأنشدنى ومجدنى وبكاني ودعا لي وهنأني بمصير أمري اليك وعفر وجهه فى تربى وأملنى لما انقطعت مني آمال الناس فلو كنت يا ولدى حيا لما وسعنى أن اعمل معه إلا ما يليق لى وأن أستقل فيه الكثير وأحتقر العظيم لكن لما عجزت عن جزائه وكلته اليك وأحلته يا حبيب قلبى عليك وقد أخبرنى أنه سليب المال كثير العيال ضعيف الجسم قد ظهر فى عدم نشاطه أثر السن وأمل أن ينقطع بجواري ويستتر بدخيلي وخدمتى ويرد عليه حقه بخدمتى ووجهى ووجوه من ضاجعنى من سلفي ويعبد الله تعالى تحت حرمتك وحرمتى وقد كنت تشوفت إلى استخدامه فى الحياة حسبما يعلمه حبيبنا الخالص المحبة وخطيبنا العظيم المزية القديم القربة أبو عبد الله ابن مرزوق فاسأله يذكرك
____________________
(6/18)
واستخبره يخبرك فأنا اليوم أريد أن يكون هذا الرجل خديمي بعد الممات إلى أن نلحق جميعا برضوان الله تعالى ورحمته التى وسعت كل شىء وله يا ولدي ولد نجيب يخدم ببابك وينوب عنه فى ملازمة بيت كتابك وقد استقر بدارك قراره وتعين بأمرك مرتبة ودشاره فيكون الشيخ خديم الشيخ والشاب خديم الشاب هذه رغبتى منك وحاجتى اليك واعلم أن هذا الحديث لا بد له أن يذكر ويتحدث به فى الدنيا وبين أيدي الملوك والكبار فاعمل ما يبقى لك فخره ويتخلد ذكره وقد أقام مجاورا ضريحي تاليا كتاب الله تعالى على منتظرا ما يصله منك ويقرؤه على من السعى فى خلاص ماله والاحتجاج بهذه الوسيلة فى جبره وإجراء ما يليق بك من الحرمة والكرامة والنعمة فالله الله يا إبراهيم اعمل ما يسمع عنى وعنك فيه ولسان الحال أبلغ من لسان المقال انتهى
والعبد يا مولاي مقيم تحت حرمته وحرمة سلفة منتظر منكم قضاء حاجته ولتعلموا وتتحققوا أنى لو ارتكبت الجرائم ورزأت الأموال وسفكت الدماء وأخذت حسائف الملوك الأعزة ممن وراء النهر من الططر وخلف البحر من الروم ووراء الصحراء من الحبشة وأمكنهم الله تعالى منى من غير عهد بعد أن بلغهم تذممى بهذا الدخيل ومقامى بين هذه القبور الكريمة ما وسع أحدا منهم من حيث الحياء والحشمة من الأحياء والأموات وإيجاب الحقوق التى لا يغفلها الكبار للكبار إلا الجود الذى لا يتعقبه البخل والعفو الذى لا تفسده المؤاخذة فضلا عن سلطان الأندلس أسعده الله تعالى بموالاتكم فهو فاضل وابن ملوك أفاضل وحوله أكياس ما فيهم من يجهل قدركم وقدر سلفكم لا سيما مولاي والدكم الذى أتوسل به اليكم وإليهم فقد كان يتبنى مولاي أبا الحجاج ويشمله بكنفه وصارخه بنفسه وأمده بأمواله
____________________
(6/19)
ثم صير الله تعالى ملكه إليكم وأنتم من أنتم ذاتا وقبيلا فقد قرت يا مولاي عين العبد بما رأت فى هذا الوطن المراكشى من وفور حشودكم وكثرة جنودكم وترادف أموالكم وعددكم زادكم الله تعالى من فضله ولا شك عند عاقل أنكم ان انحلت عروة تأميلكم وأعرضتم عن ذلك الوطن استولت عليه يد عدوه
وقد علم تطارحى بين الملوك الكرام الذين خضعت لهم التيجان وتعلقى بثوب الملك الصالح والد الملوك الكرام مولاي والدكم وشهرة حرمة شالة معروفة حاش لله أن يضيعها أهل الأندلس وما توسل إليهم قط بها إلا الآن وما يجهلون اغتنام هذه الفضيلة الغريبة وأملى منكم أن يتعين من بين يديكم خديم بكتاب كريم يتضمن الشفاعة فى رد ما أخذ لى ويخبر بمثواي متراميا على قبر والدكم ويقرر ما ألزمكم بسبب هذا الترامى من الضرورة المهمة والوظيفة الكبيرة عليكم وعلى قبيلكم حيث كانوا وتطلبون منه عادة المكارمة بحل هذه العقدة ومن المعلوم أنى لو طلبت بهذه الوسائل من صلب ما وسعهم بالنظر العقلي إلا حفظ الوجه مع هذا القبيل وهذا الوطن فالحياء والحشمة يأبيان العذر عن هذا فى كل ملة ونحلة
وإذا تم هذا الغرض ولا شك فى إتمامه بالله تعالى تقع صدقتكم على القبر الكريم بي وتعينوني لخدمة هذا المولى وزيارته وتفقده ومدح النبى صلى الله عليه وسلم ليلة المولد فى جواره وبين يديه وهو غريب مناسب لبركم به إلى أن أحج بيت الله بعناية مقامكم وأعود داعيا مثنيا مستدعيا للشكر والثناء من أهل المشرق والمغرب وأتعوض من ذمتى بالأندلس ذمة بهذا الرباط المبارك يرثها ذريتى وقد ساومت فى شىء من ذلك منتظرا ثمنه مما يباع بالأندلس بشفاعتكم ولو ظننت أنهم يتوقفون لكم فى مثل هذا أو يتوقع فيه وحشة أو جفاء والله ما طلبته لكنهم أسرى وأفضل وانقطاعى أيضا لوالدكم مما لا يسع مجدكم إلا عمل ما يليق بكم فيه وها أنا أرتقب جوابكم بما لي عندكم
____________________
(6/20)
من القبول ويسعنى مجدكم فى الطلب وخروج الرسول لاقتضاء هذا الغرض والله سبحانه يطلع من مولاي على ما يليق به والسلام
وكتب فى الحادي عشر من رجب عام أحد وستين وسبعمائة
وفى مدرج الكتاب بعد نثر هذه القصيدة
( مولاي ها أنا فى جوار أبيكا ** فابذل من البر المقدر فيكا )
( أسمعه ما يرضيه من تحت الثرى ** والله يسمعك الذى يرضيكا )
( واجعل رضاه إذا نهدت كتيبة ** تهدي اليك النصر أو تهديكا )
( واجبر بجبرى قلبه تنل المنى ** وتطالع الفتح المبين وشيكا )
( فهو الذى سن البرور بأمه ** وأبيه فاشرع شرعه لبنيكا )
( وابعث رسولك منذرا ومحذرا ** وبما تؤمل نيله يأتيكا )
( قد هز عزمك كل قطر نازح ** وأخاف مملوكا به ومليكا )
( فإذا سموت إلى مرام شاسع ** فغصونه ثمر المنى تجنيكا )
( ضمنت رجال الله منك مطالبى ** لما جعلتك فى الثواب شريكا )
( فلئن كفيت وجوهها فى مقصدي ** ورعيتها بركاتها تكفيكا )
( وإذا قضيت حوائجى وأريتنى ** أملا فربك ما أردت يريكا )
( واشدد على قولى يدا فهو الذى ** برهانه لا يقبل التشكيكا )
( مولاي ما استأثرت عنك بمهجتى ** إنى ومهجتى التى تفديكا )
( لكن رأيت جناب شالة مغنما ** يضفى على العز فى ناديكا )
( وفروض حقك لا تفوت فوقتها ** باق إذا استجزيته يجزيكا )
( ووعدتنى وتكرر الوعد الذى ** أبت المكارم أن يكون أفيكا )
( أضفى عليك الله ستر عناية ** من كل محذور الطريق يقيكا )
____________________
(6/21)
( ببقائك الدنيا تحاط وأهلها ** فالله جل جلاله يبقيكا )
فلما وصل الكتاب إلى السلطان أجابه بما مر آنفا
ورأيت بخط الفقيه الأديب المؤرخ أبى عبد الله محمد بن الحداد الوادي آشى نزيل تلمسان على هامش قول ابن الخطيب فى هذه الرسالة ولا شك عند عاقل أنكم إن انحلت عروة تأميلكم إلخ ما صورته كذلك وقع آخر الأمر وكان الاستيلاء على مدينة غرناطة آخر ما بقى من بلاد الأندلس للإسلام فى محرم عام سبعة وتسعين وثمانمائة فرحم الله تعالى ابن الخطيب العاقل اللبيب وغفر له برحمته انتهى
ومما خاطب به لسان الدين السلطان أبا سالم فى الغرض المتقدم قوله
( عن باب والدك الرضى لا أبرح ** يأسو الزمان لأجل ذا أو يجرح )
( ضربت خيامى فى حماه فصبيتي ** تجني الجميم به وبهمي تسرح )
( حتى يراعى وجهه فى وجهتى ** بعناية تشفى الصدور وتشرح )
( أيسوغ عن مثواه سيري خائبا ** ومنابر الدنيا بذكرك تصدح )
( أنا فى حماه وأنت أبصر بالذى ** يرضيه منك فوزن عقلك أرجح )
( فى مثلها سيف الحمية ينتضى ** فى مثلها زند الحفيظة يقدح )
( وعسى الذى بدأ الجميل يعيده ** وعسى الذى سد المذاهب يفتح ) ترجمة ابى سالم المرينى
وقد عرف في الإحاطة بالسلطان أبي سالم فقال بعد كلام أملاك المسلمين وحماة الدين وأمرأء المغرب الأقصى من بني مرين غيوث المواهب وليوث العرين ومعتمد الصريخ وسهام الكافرين حفظ الله تعالى على الإسلام والمسلمين ظلهم وزين ببدور الدنيا والدين هالتهم وأبقى الكلمة فيمن اختاره منهم أو من
____________________
(6/22)
أقاربهم فما عسى أن يطنب اللسان فى مدحهم وأين تقع العبارة وماذا يحصر الوصف إلى أن قال وفاته وفى ليلة العشرين من ذي القعدة من عام اثنين وستين وسبعمائة ثار عليه بدار الملك وبلد الإمارة المعروف بالبلد الجديد من مدينة فاس الخائن الغادر مخلفه عليها عمر بن عبد الله بن علي نسمه السوء وجملة الشؤم والمثل البعيد فى الجراءة على الله تعالى وقد اهتبل غرة انتقاله الى القصر السلطانى بالبلد القديم متحولا إليه حذرا من قاطع فلكى كان يحذر منه استعجله بضعف نفسه وأعانه على فرض صحة الحكم به وسد الباب فى وجهه ودعا الناس إلى بيعة أخيه المعتوه وأصبح حائرا بنفسه يروم ارتجاع أمر ذهب من يده ويطوف بالبلد يلتمس وجها إلى نجاح حيلة فأعياه ذلك ورشقت من معه السهام وفرت عنه الأجناد والوجوه وأسلمه الدهر وتبرأ منه الجد وعندما جن عليه الليل فر لوجهه وقد التف عليه الوزراء فسفهت حلومهم وفالت آراؤهم ولو قصدوا به بعض الجبال المنيعة لولوا أوجههم شطر مظنه الخلاص واتصفوا بإبلاغ الأعذار ولكنهم نكلوا عنه ورجعوا أدراجهم وتسللوا راجعين إلى يد غادر الجملة قد سلبهم الله سبحانه لباس الحياء والرجولية وتأذن الله تعالى لهم بعد بسوء العاقبة
وقصد بعض بيوت البادية وقد فضحه نهار الغد واقتفى المتبعة أثره حتى وقعوا عليه فسيق إلى مصرعه وقتل بظاهر البلد ثانى اليوم الذى غدر به فيه جعلها الله تعالى له شهادة ونفعه فلقد كان بقية البيت وآخر القوم دماثة وحياء وبعدا عن
____________________
(6/23)
الشرور وركونا للعافية وأنشدت على قبره الذى ووريت به جثته بالقلعة من ظاهر المدينة قصيدة أديت فيها بعض حقه
( بني الدنيا بنى لمع السراب ** لدوا للموت وابنوا للخراب )
انتهى المقصود من الترجمة
وكان يصف لسان الدين بمقربي وجليسي كما سبقت الإشارة إليه من كلام لسان الدين فيما خاطب به ابن أبى رمانة والله يسبل على الجميع رداء عفوه سبحانه
وقد تقدم أنه شفع لابن الخطيب عند أهل الأندلس ولذلك قال يخاطبهم
( سمي خليل الله أحييت مهجتي ** وعاجلنى منك الصريخ على بعد )
( فإن عشت أبلغ فيك نفسى عذرها ** وإن لم أعش فالله يجزيك من بعدي ) ثناء المغاربة والمشارقة على لسان الدين
وقال الرئيس الأمير الأديب أبو الوليد إسماعيل ابن الأحمر فى حق ابن الخطيب ما صورته هو شاعر الدنيا وعلم المفرد والثنيا وكاتب الأرض إلى يوم العرض لا يدافع مدحه في الكتب ولا يجنح فيه إلى العتب آخر من تقدم في الماضى وسيف مقوله ليس بالكهام إذ هو الماضي وإلا فانظر كلام الكتاب الأول من العصبة كيف كان فيهم بالإفادة صاحب القصبة للبراعة باليراعة وبه أسكت صائلهم وما حمدت بكرهم وأصائلهم للجزالة المشربة بالحلاوة الممكنة من مفاصل الطلاوة وهو نفيس العدوتين ورئيس الدولتين بالإطلاع على العلوم العقلية والإمتاع بالفهوم النقلية لكن
____________________
(6/24)
صل لسانه فى الهجاء لسع ونجاد نطاقه فى ذلك اتسع حتى صدمنى وعلى القول فيه أقدمنى بسبب هجوه فى ابن عمي ملك الصقع الأندلسى سلطان ذلك الوطن فى النفر الجنسي المعظم فى الملوك بالقول الجنى والإنسى ثم صفحت عنه صفحة القادر الوارد من مياه الظفر غير القاذر لأن مثلى لا يليق به إظهار العورات ولا يجمل له تتبع العثرات اتباعا للشرع فى تحريم الغيبة وضربا عن الكريهة وإثباتا لحظوظ النقيبة الرغيبة فما ضره لو اشتغل بذنوبه وتأسف على ما شربه من ماء اللهو بذنوبه وقد قال بعض الناس من تعرض للأعراض صار عرضه هدفا لسهام الأغراض انتهى
ومثل هذا فى لسان الدين لا يقدح وما زالت الأشراف تهجى وتمدح وعلى تقدير صدور ما يخدش وجه جنابه الرفيع فالأولى أن ينشد
( وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ** جاءت محاسنه بألف شفيع )
وممن أثنى على لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى بعض أكابر علماء تلمسان ولم يحضرنى الآن اسمه فى تأليف عرف فيه بالشيخ العلامة سيدي أبى عبد الله الشريف التلمساني وابنيه العالمين أبى يحيى وسيدي عبد الله فقال بعد كلام فى حق الشريف ما نصه وكان علماء الأندلس أعرف الناس بقدره وأكثرهم تعظيما له حتى إن العالم الشهير لسان الدين ابن الخطيب صاحب الأنباء العجيبة والتآليف البديعة كلما ألف تأليفا بعثه إليه وعرضه عليه وطلب أن يكتب عليه بخطه وكان الشيخ الإمام الصدر المفتى أبو سعيد ابن لب شيخ علماء الأندلس وآخرهم كلما أشكلت عليه مسألة كاتبه بها وطلب منه بيان ما أشكل عليه مقرا له بالفضل انتهى ما نقلته من الكتاب المذكور
____________________
(6/25)
رجع
وكتب لسان الدين ابن الخطيب متمثلا بشيخه الأوحد قاضى الجماعة أبى البركات ابن الحاج البلفيقي رحمهما الله تعالى
( أيتها النفس إليه اذهبي ** فحبه المشهور من مذهبي )
( أيأسنى التوبة من حبه ** طلوعه شمسا من المغرب )
ويغلب على ظنى أنه خاطبه بذلك عند قدومه أعنى لسان الدين من المغرب إلى الأندلس والله تعالى أعلم
وكان قاضى القضاة برهان الدين الباعوني الشامى كثير الثناء على لسان الدين رحمه الله تعالى لأنه تلقى أخباره من قاضي القضاة ابن خلدون حسبما ذكرناه فى غير هذا الموضع ولقد رأيت بخطه على هامش بعض تآليف لسان الدين فى الإنشاء ما نصه هذا بليغ إلى الغاية انتهى
وكتب أثره بعض أكابر علماء المشرق ما نصه هذا خط العلامة قاضى القضاة برهان الدين الباعوني وهو شديد الاعتناء والمدح للمصنف ابن الخطيب الأندلسى معظم له ولإنشائه وهو خليق بالتعظيم جدير بمزيد التمجيد والتكريم وكيف لا وهو شاعر مفلق وخطيب مصقع وكاتب مترسل بليغ لولا ما فى إنشائه من الإكثار الذى لا يكاد يخلو من عثار والإطناب الذى يفضى الى الاجتناب والإسهاب الذى يقد الإهاب ويورث الالتهاب انتهى
____________________
(6/26)
قلت وهذا الانتقاد غير مسلم فإن لسان الدين وإن أطنب وأسهب فقد سلك من البلاغة أحسن مذهب ويرحم الله تعالى العلامة البرهان الباعوني المذكور أعلاه إذ كتب بخطه فى آخر بعض تآليف لسان الدين فى الإنشاء ما صورته قال كاتبه إبراهيم بن أحمد الباعونى لطف الله تعالى به الحمد لله على ما ألهم من البيان وعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم وقفت على هذا الكتاب من أوله إلى آخره وعمت من بحر بلاغته فى زاخره وعددته من مناقب مؤلفه ومفاخره فإنه برز فيه غاية التبريز وأتى بما هو أحسن من الذهب الإبريز لا بل هو أبهى من الجواهر والنجوم الزواهر وعجبت من تلك الألفاظ المشبهة لسحر الألحاظ ورقة المعانى المحكمة المبانى انتهى
فانظر أيدك الله تعالى بعين الإنصاف إلى كلام هذا الفاضل المنصف الكامل وقسه مع كلام ذلك المنتقد المتعصب الناقص الخامل مع أن الكلام الذى تعرض له ذاك بالقدح هو الذى تصدى له الباعوني بالمدح وكل إناء بالذى فيه ينضح وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل أهل الفضل والأمر أجلى من أن يقام عليه دليل وأوضح رجع إلى ما كنا بصدده
وقال الوزير ابن عاصم عندما أجرى ذكر سلطان ابن الخطيب أمير المسلمين الغنى بالله بعد كلام كثير ما صورة محل الحاجة منه وكان هذا السلطان من نيل الأغراض على أكمل ما يكون عليه مثله ممن نزع غرقا فى قوس الخلافة حكى لي شيخنا القاضى أبو العباس الحسنى أن كبير ولده الأمير أبا الحجاج طلب من الشيخ ذي الوزارتين أبى عبد الله ابن الخطيب أن يطلب من أبيه الغنى بالله أن يبادر بإعذاره إذ كان قد جاوز سن الإثغار دون إعذار لمكان ما لحق والده من التمحيص وغير ذلك من الحوادث المهمة فأسعده الشيخ بذلك وقال
____________________
(6/27)
للغنى بالله يا مولانا إن سيدي يوسف وكلنى على طلب إعذاره من مولانا نصره الله على ما يليق بك وبه فقال له الغنى بالله حسبي الله وسكت سكتة لطيفة تشعر بفصل الكلام بعضه من بعض ثم قال ونعم الوكيل فعدها الأكياس من مدارك نبله ومحاسن قوله وفعله انتهى
قلت هذا من السلطان فى حق لسان الدين غاية التبجيل أعنى قوله ونعم الوكيل فأين هذا من سماع كلام أعدائه فيه بعد حتى آل أمره إلى النحس بعد ذلك السعد وسقاه دهره بعد الحلاوة ما مر ولم يكن قتله إلا بتسبب السلطان المذكور كما مر
( ثلاثة ليس لها أمان ** البحر والسلطان والزمان ) 5 - رسالة ابن خاتمة الى لسان الدين
وقال لسان الدين رحمه الله تعالى ولما قضى الله عز وجل بالإدالة ورجعنا الى أوطاننا من العدوة واشتهر عنى ما اشتهر من الانقباض عن الخدمة والتيه على السلطان والدولة والتكبر على أعلى رتب الخدمة وتطارحت على السلطان فى استنجاز وعد الرحلة ورغبت فى تبرئة الذمة ونفرت عن الأندلس بالجملة خاطبنى يعنى أبا جعفر ابن خاتمة بعد صدر بلغ من حسن الإشارة وبراعة الاستهلال الغاية بقوله وإلى هذا يا سيدي ومحل تعظيمي واجلالى أمتع الله تعالى الوجود بطول بقائكم وضاعف فى العز درجات ارتقائكم فإنه من الأمر الذى لم يغب عن رأى العقول ولا اختلف فيه أرباب المعقول أنكم بهذه الجزيرة شمس أفقها وتاج مفرقها وواسطة سلكها وطراز ملكها وقلادة نحرها وفريدة دهرها وعقد جيدها المنصوص وتمام
____________________
(6/28)
زينتها على العموم والخصوص ثم أنتم مدار أفلاكها وسر سياسة أملاكها وترجمان بيانها ولسان إحسانها وطب مارستانها والذى عليه عقد إدارتها وبه قوام إمارتها فلدية يحل المشكل واليه يلجأ فى الأمر المعضل فلا غرو أن تتقيد بكم الأسماع والأبصار وتحدق نحوكم الأذهان والأفكار ويزجر عنكم السانح والبارح ويستنبأ ما تطرف عنه العين وتختلج الجوارح استقراء لمرامكم واستطلاعا لطالع اعتزامكم واستكشافا عن مرامى سهامكم لا سيما مع إقامتكم على جناح خفوق وظهوركم فى ملتمع بروق واضطراب الظنون فيكم مع الغروب والشروق حتى تستقر بكم الديار ويلقى عصاه التسيار ولها العذر فى ذلك إذ صدعها بفراقكم لم يندمل وسرورها بلقائكم لم يكتمل ولم يبرأ بعد جناحها المهيض ولا جم ماؤها المغيض ولا تميزت من داجيها لياليها البيض ولا استوى نهارها ولا تألفت أنهارها ولا اشتملت نعماؤها ولا نسيت غماؤها بل هى كالناقة والحديث العهد بالمكاره يستشعر نفس العافية ويتمسح منكم باليد الشافية فبحنانكم عليها وعظيم حرمتكم على من لديها لا تشوبوا لها عذب المجاج بالأجاج وتفطموها عما عودت من طيب المزاج فما لدائها وحياة قربكم غير طبكم من علاج
وإنى ليخطر بخاطرى محبة فيكم وعناية بما يعنيكم ما نال جانبكم صانه الله تعالى بهذا الوطن من الجفاء ثم أذكر ما نالكم من حسن العهد وكرم الوفاء وأن الوطن إحدى المواطن الأظآر التى يحق لهن جميل الاحتفاء وما يتعلق بكم من حرمة أولياء القرابة وأوداء الصفاء فيغلب على ظنى أنكم لحسن العهد أجنح وبحق نفسكم عن حق أوليائكم أسمح وللتى هى أعظم قيمة من فضائلكم أوهب وأسجح وهب أن الدر لا يحتاج فى الإثبات إلى شهادة النحور واللبات والياقوت غنى فى المكان عن مظاهرة القلائد والتيجان أليس أنه أعلى للعيان وأبعد عن مكابرة البرهان تألقها فى تاج الملك أنو شروان فالشمس وإن كانت أم الأنوار وجلاء الأبصار مهما أغمى مكانها من الأفق
____________________
(6/29)
قيل أليل هو أم نهار وكما فى علمكم ما فارق ذوو الأرحام وأولو الأحلام مواطن استقرارهم وأماكن قرارهم إلا برغمهم واضطرارهم واستبدال دار خير من دارهم ومتى توازن الأندلس بالمغرب أو يعوض عنها إلا بمكة أو يثرب ما تحت أديمها أشلاء أولياء وعباد وما فوقه مرابط جهاد ومعاقد ألوية فى سبيل الله ومضارب أوتاد ثم يبوأ ولده مبوأ أجداده ويجمع له بين طارفه وتلاده أعيذ أنظاركم المسددة من رأى فائل وسعى طويل لم يحل منه بطائل فحسبكم من هذا الإياب السعيد والعود الحميد وهى طويلة 6 - من لسان الدين إلى ابن خاتمة
قال لسان الدين رحمه الله تعالى فأجبته بقولى
( لم فى الهوى العذرى أو لا تلم ** فالعذل لا يدخل أسماعى )
( شأنك تعنيفي وشأنى الهوى ** كل امرىء فى شأنه ساعى )
أهلا بتحفة القادم وريحانة المنادم وذكر الهوى المتقادم لا يصغر الله مسراك فما أسراك لقد جبت إلى من همومى ليلا وجست رجلا وخيلا ووفيت من صاع الوفاء كيلا وظننت بى الأسف على ما فات فأعملت الالتفات لكيلا فأقسم لو أن الأمر اليوم بيدى أو كانت اللمة السوداء من عددى ما أفلت أشراكى المنصوبة لأمثالك حول المياه وبين المسالك ولا علمت ما هنالك لكنك طرقت حمى كسعته الغارة الشعواء وغيرت
____________________
(6/30)
ربعة الأنواء فخمد بعد ارتجاجه وسكت أذين دجاجه وتلاعبت الرياح الهوج فوق فجاجه وطال عهده بالزمن الأول وهل عند رسم دارس من معول وحيا الله ندبا إلى زيارتى ندبك وبآدابه الحكمية أدبك
( فكان وقد أفاد بك الأمانى ** كمن أهدى الشفاء إلى العليل )
وهى شيمة بوركت من شيمة وهبة الله تعالى قبله من لدن المشيمة ومن مثله فى صلة رعى وفضل سعى وقول وعى
( قسما بالكواكب ** الزهر والزهرعاتمة )
( إنما الفضل ملة ** ختمت بابن خاتمه )
كسانى حله فضله وقد ذهب زمان التجمل وحملنى شكره وكتدى واه عن التحمل ونظرنى بالعين الكليلة عن العيب فهلا أجاد التأمل واستطلع طلع نثى ووالى فى مبرك المعجزة حثى { إنما أشكو بثي }
( ولو ترك القطا ليلا لناما ** )
وما حال شمل وتده مفروق وقاعدته فروق وصواع بنى أبيه مسروق وقلب قرحه من عضة الدهر دام وجمرة حسرته ذات احتدام هذا وقد صارت الصغرى التى كانت الكبرى لمشيب لم يدع أن هجم لما نجم ثم تهلل عارضة وانسجم
( لا تجمعى هجرا على وغربة ** فالهجر فى تلف الغريب سريع )
____________________
(6/31)
3 نظرت فإذا الجنب ناب والنفس فريسة ظفر وناب والمال أكيلة انتهاب والعمر رهن ذهاب واليد صفر من كل اكتساب وسوق المعاد مترامية والله سريع الحساب
( ولو نعطى الخيار لما افترقنا ** ولكن لا خيار مع الزمان )
وهب أن العمر جديد وظل الأمن مديد ورأى الاغتباط بالوطن سديد فما الحجة لنفسى إذا مرت بمطارح جفونها وملاعب هفوتها ومثاقف قناتها ومظاهر عزاها ومناتها والزمان ولود وزناد الكون غير صلود
( وإذا إمرؤ لدغته أفعى مرة ** تركته حين يجر حبل يفرق )
ثم إن المرغب قد ذهب والدهر قد استرجع ما وهب والعارض قد اشتهب وآراء الاكتساب مرجوحة مرفوضة وأسماؤه على الجوار مخفوضة والنية مع الله على الزهد فيما بأيدى الناس معقودة والتوبة بفضل الله عز وجل منقودة والمعاملة سامرية ودروع الصبر سابرية والاقتصاد قد قرت العين بصحبته والله قد عوض حب الدنيا بمحبته فإذا راجعها مثلى من بعد الفراق وقد رقى لدغتها ألف راق وجمعتنى بها الحجرة ما الذى تكون الأجرة جل شانى وإن رضى الوامق وسخط الشانى إنى إلى الله تعالى مهاجر وللعرض الأدنى هاجر ولأظعان السرى زاجر لنجد إن شاء الله تعالى وحاجر لكن دعانى للهوى إلى هذا المولى المنعم هوى خلعت نعلى الوجود وما خلعته وشوقى أمرنى فأطعته وغالب والله صبرى فما استطعته والحال أغلب وعسى أن لا يخيب المطلب فإن يسر رضاه فأمر كمل وراحل احتمل وحاد أشجى الناقة والجمل وإن كان خلاف ذلك فالزمان جم العلائق والتسليم
____________________
(6/32)
بمقامى لائق
( ما بين غمضة عين وانتباهتها ** يصرف الأمر من حال إلى حال ** )
وأما تفضيله هذا الوطن ليمن طيره وعموم خيره وبركة جهاده وعمران رباه ووهاده بأشلاء عباده وزهاده حتى لا يفضله إلا أحد الحرمين فحق برىء من المين لكننى للحرمين جنحت وفى جو الشوق إليهما سنحت فقد أفضت إلى طريق قصدى محجته ونصرتنى والمنة لله تعالى حجته وقصد سيدى استى قصد توخاه الحمد والشكر ومعروف عرف به النكر والآمال من فضل الله بعد تمتار والله تعالى يخلق ما يشاء ويختار ودعاؤه بظهر الغيب مدد وعدة وعدد وبره حالى الظعن والإقامة معتمل معتمد ومجال المعرفة بفضله لا يحصره أمد والسلام أنتهى
ومن خط ابن الصباغ ما صورته يكفى ابن خاتمه الغاية التى سلمها له إمام الطريقة وواحدها الفذ على الحقيقة حيث قال
( إنما الفضل ملة ** ختمت بابن خاتمه )
ومن نظمه وقد تخلى عن الكتابة وطلب منه أن يعود فأبى وأنشد
( تقضى فى الكتابة لى زمان ** كشأن العبد ينتظر الكتابه )
( فمن الله من عتقى بما لا ** يطيق الشكر أن يملا كتابه )
( وقالوا هل تعود فقلت كلا ** وهل حر يعود إلى الكتابه )
فانظر حسن هذه التورية العجيبة انتهى رسالة ابن خاتمة إلى ابن جزى
ولابن خاتمة يخاطب ابن جزى يا أخى الذى سما وده أن يجازى
____________________
(6/33)
وسيدى الذى علا مجده عن أن يوازى وصل الله تعالى لك أسباب الاعتلاء والاعتزاز وكافأ ما لك من الاختصاص بالفضائل والامتياز أما إنه لو وسع التخلف عن جواب أخ أعز ولم يجب التكلف عمن قد عجز لغطيت عجزى عن عين تعجيزك ولما تعاطيت المثول بين يدى مناهزك أو مجيزك لكنه فى حكم الود المكنون المكنوز مما لا يحل ولا يجوز فلكم الفضل فى الإغضاء عن عاجز دعاه حكم التكلف إلى القيام مقام مناجز وإن لم يكن ذلك عند الإنصاف وحميد الأوصاف من السائغ الجائز فعن جهد ما بلغ وليك إلى هذه الأحواز ولم يحصل الحقيقة إلا على المجاز
أما ما ذهبتم إليه من تخميس القصيدة التى أعجزت وبلغت من البلاغة الغاية التى عزت مناهضتها وأعوزت فلم أكن لأستهدف ثانيا لمضاضة الإعجاز وأسجل على نفسى بالإفلاس والإعواز انتهى
وكتب قبلها قصيدة زائية أجابه بها عن قصيدة زائية التزم فيها ابن جزى ترك الراء لأنه كان الثغ يبدلها غينا رحم الله تعالى الجميع
وقال لسان الدين فى ترجمة ابن خاتمة المذكور إنه الصدر المتفنن المشارك القوى الإدراك السديد النظر الثاقب الذهن الكثير الاجتهاد الموفور الآدوات المعين الطبع الجيد القريحة الذى هو حسنة من حسنات الأندلس أحمد بن على بن خاتمة من أهل المرية 7 - رسالة من ابن خاتمة إلى لسان الدين
إلى أن قال ومما خاطبنى به بعد إلمام الركاب السلطانى ببلده وأنا صحبته ولقائه إياي بما يلقى به مثله من تأنيس وبر وتودد وتردد
( يا من حصلت على الكمال بما رأت ** عيناى منه من الجمال الرائع )
____________________
(6/34)
( قمر يروق وفى عطافى برده ** ما شئت من كرم ومجد بارع )
( أشكو إليك من الزمان تحاملا ** فى فض شمل لى بقربك جامع )
( هجم البعاد عليه ضنا باللقا ** حتى تقلص مثل برق لامع )
( فلو آننى ذو مذهب لشفاعة ** ناديته يا مالكى يا شافعى )
شكواى إلى سيدى ومعظمى أقر الله تعالى بسنائه أعين المجد وأدر بثنائه ألسن الحمد شكوى ظمآن صد عن القراح العذب لأول وروده والهيمان رد عن استرواح القرب لمعضل صدوده من زمان هجم على بابعاده على حين إسعاده ودهمنى بفراقه غب إنارة أفقى به وإشراقة ثم لم يكفه ما اجترم فى ترويع خياله الزاهر حتى حرم عن تشييع كماله الباهر فقطع عن توفية حقه ومنع من تأدية مستحقه لا جرم أنه أنف لشعاع ذكائه من هذه المطالع النائية عن شريف الإنارة وبخل بالإمتاع بذكائه عن هذه المسامع النائية عن لطيف العبارة فراجع أنظاره واسترجع معارة وإلا
____________________
(6/35)
فعهدى بغروب الشمس إلى الطلوع وأن البدر يتصرف بين الإقامة والرجوع فما بال هذا النير الأسعد غرب ثم لم يطلع من الغد ما ذاك إلا لعدوى الأيام وعدوانها وشأنها فى تغطية إساءتها وجه إحسانها وكما قيل عادت هيف إلى أديانها أستغفر الله أن لا يعد ذلك من المغتفر فى جانب ما أولت من الأثر التى أزرى العيان فيها بالأثر وأربى الخبر على الخبر فقد سرت متشوفات الخواطر وأقرت مستشرفات النواظر بما حوت من ذلكم الكمال الباهر والجمال الناضر الذى قيد خطا الأبصار عن التشوف والاستبصار وأخذ بأزمة القلوب عن سبيل كل مأمول ومرغوب وأنى للعين بالتحول عن كمال الزين أو بالطرف بالتنقل عن خلال الظرف أو للسمع من مراد بعد
____________________
(6/35)
ذلكم الإصدار الأدبى والإيراد أو للقلب من مراد غير تلكم الشيم الرافلة من ملابس الكرم فى حلل وأبراد وهل هو إلا الحسن جمع فى نظام والبدر طالع لتمام وأنواع الفضل ضمها جنس اتفاق والتئام فما ترعى العين منه فى غير مرعى خصيب ولا تستهدف الأذن بغير سهم فى حدق البلاغة مصيب ولا تستطلع النفس سوى مطلع له فى الحسن والإحسان أوفر نصيب لقد أزرى بناظم حلاه فيما يتعاطاه التقصير وانفسح مدى علاه بكل باع قصير وسفه حلم القائل إن الإنسان عالم صغير شكرا للدهر على يد أسداها بقرب مزاره وتحفة أهداها بمطلع أنواره على تغاليه فى ادخار نفائسه وبخله بنفائس ادخاره لا غرو أن يضيق عنا نطاق الذكر ولا يتسع لنا سوار الشكر فقد عمت هذه الأقطار بما شاءت من تحف بين تحف وكرامة واجتنت أهلها ثمرة الرحلة فى ظل الإقامة وجرى لهم الأمر فى ذلك مجرى الكرامة
ألا وإن مفاتحتى لسيدى ومعظمى حرس الله تعالى مجده وضاعف سعده مفاتحة من ظفر من الدهر بمطلوبه وجرى له القدر على وفق مرغوبة فشرع له إلى أهله بابا ورفع له من خجله جلبابا فهو يكلف بالاقتحام ويأنف من الإحجام غير أن الحصر عن درج قصده يقيده والبصر يبهرج نقده فيقعده فهو يقدم رجلا ويؤخر أخرى ويجدد عزما ثم لا يتحرى فإن أبطأ خطابى فلواضح الأعذار ومثلكم من قبل جليات الأقدار والله سبحانه يصل لكم عوائد الإسعاد والإسعاف ويحفظ بكم ما للمجد من جوانب وأكناف إن شاء الله تعالى وكتب فى عاشر ربيع الأول عام ثمانية وأربعين وسبعمائة انتهى
ومن خاتمة رسالة من إنشاء ابن خاتمة المذكور فلنصرف عنان البطالة عن الإطالة ونسلم على السيادة الطاهرة الأصالة بأطيب تسليم ختامة مسك ومزاجه من تسنيم
____________________
(6/36)
ومن نظم ابن خاتمة المذكور
( هو الدهر لا يبقي على عائذ به ** فمن شاء عيشا يصطبر لنوائبه )
( فمن لم يصب بفي نفسه فمصابه ** بفوت أمانيه وفقد حبائبه ) ومنه قوله
( ملاك الأمر تقوى الله فاجعل ** تقاه عدة لصلاح أمرك )
( وبادر نحو طاعته بعزم ** فما تدري متى يقضى بعمرك ) 8 - رسالة أخرى من ابن خاتمة إلى لسان الدين
وقال لسان الدين وكتب إلى يعني ابن خاتمة المذكور عقب انصرافه من غرناطة في بعض قدماته عليها ما نصه مما قلته بديهة عند الإشراف على جنابكم السعيد ودخوله مع النفر الذين أتحفتهم سيادتكم بالإشراف عليه والدخول إليه وتنعيم الأبصار في المحاسن المجموعة لديه وإن كان يوما قد غابت شمسه ولم يتفق أن كمل أنسه وأنشدته حينئذ بعض من حضر ولعله لم يبلغكم وان كان قد بلغكم ففضلكم يحملني في إعادة الحديث
( أقول وعين الدمع نصب عيوننا ** ولاح لبستان الوزارة جانب )
( أهذى سماء أم بناء سما به ** كواكب غضت عن سناها الكواكب )
( تناظرت الاشكال منه تقابلا ** على السعد وسطى عقده والحبائب )
( وقد جرت الامواه فيه مجرة ** مذانبها شهب لهن ذوائب )
( وأشرف من علياه بهو تحفه ** شماسي زجاج وشيها متناسب )
____________________
(6/37)
( يطل على ماء به الآس دائرا ** كما افتر ثغر أو كما اخضر شارب )
( هنالك ما شاء العلا من جلالة ** بها يزدهي بستانها والمراتب )
ولما أحضر الطعام هنالك داعي شيخنا القاضي أبو البركات فاعتذر أنه صائم قد بيته من الليل فحضرني ان قلت
( دعونا الخطيب أبا البركات ** لاكل طعام الوزير الأجل )
( وقد ضمنا في نداه جنان ** به احتفل الحسن حتى كمل )
( فأعرض عنا لعذر الصيام ** وما كل عذر له مستقل )
( فإن الجنان محل الجزاء ** وليس الجنان محل العمل ) وعندما فرغنا من الطعام أنشدت الأبيات شيخنا أبا البركات فقال لي لو اتشدتنيها وانتم بعد لم تفرغوا منه لأكلت معكم برا بهذه الابيات والحوالة في ذلك على الله تعالى انتهى
ومن نظم ابن خاتمة المذكور في فران
( رب فران جلا صفحته ** لهب الفرن جلاء العسجد )
( يضرم النار بأحشاء الورى ** مثلما يضرم في المستوقد )
( فكأن الوجه منه خبزة ** فوقها الشعر كقدر أسود ) احمد بن ضفوان وقال لسان الدين رحمه الله تعالى ولما قدمت مالقة آيبا من السفارة الى ملك المغرب محفوفا بفضل الله تعالى وجميل صنعه موفي المآرب مصحبا
____________________
(6/38)
بالاعانة لقيني على عادته مهنيا يعني احمد بن صفوان أحد أعلام مالقة وبقية أدبائها وصدور كتابها وأنشدني معيدا في الود مبديا وضمن غرضا له تعجل قضاءه والحمد لله تعالى
( قدمت بما سر النفوس اجتلاؤه ** فهنيت ما عم الجميع هناؤه )
( قدوما بخير وافر وعناية ** وعز مشيد بالمعالي بناؤه )
( ورفعة قدر لا يداني محلها ** رفيع وان ضاهى السماك اعتلاؤه )
( عنيت بأمر المسلمين فكلهم ** بما يرتجيه قد توالى دعاؤه )
( بلغت الذي أملته من صلاحهم ** فأدركت مأمولا عظيما جزاؤه )
( فيا واحدا أغنت عن الجمع ذاته ** وقام بأعباء الامور غناؤه )
( تشوقك الملك الذي بك فخره ** وأنت حقيقا حسنه وبهاؤه )
( فلا زال مزدانا بحليك جوده ** ولا زال موفورا عليك اصطفاؤه )
( وخصصت من رب العباد بنعمة ** ينيلكها تخصيصه واحتفاؤه )
( وعشت عزيزا في النفوس محببا ** يلبي بتبجيل وبر نداؤه )
( وقد جاءني داعي السرور مؤديا ** لحق هناء فرض عين أداؤه )
( ولي بعد هذا مأرب متوقف ** على فضلك الرحب الجناب قضاؤه )
( هززت له عطف البطرني راجيا ** له النجح فاستعصى وخاب رجاؤه )
( ولم يدر اني من علائك منتض ** حساما كفيلا بالنجاح انتضاؤه )
( يصمم إن هزته كفى لمعضل ** فيكفي العنا تصميمه ومضاؤه )
( فحقق له دامت سعودك حرمتي ** لديك يرحني مطله والتواؤه )
( وشارك محبا خالصا لك حبه ** قديما كريما عهده ووفاؤه )
( وصل بجزيل الرعى حبل ذمامه ** يصلك جزيلا شكره وثناؤه )
( بقيت وصنع الله يدني لك المنى ** ويوليك من مصنوعة ما تشاؤه )
( بحرمة من حقت سيادته على ** بني آدم والخير منه ابتداؤه )
____________________
(6/39)
وجمعت ديوان شعره أيام مقامي بمالقة عند توجهي صحبة الركاب السلطاني إلى إصراخ الخضراء عام أربعة وأربعين وسبعمائة وقدمت صدره خطبة وسميت الجزء ب الدرر الفاخرة واللجج الزاخرة 9 - أجازة ابن صفوان للسان الدين
وطلبت منه أن يجيزني وولدي عبد الله رواية ذلك عنه فكتب بخطه الرائق بظهر المجموع ما نصه الحمد لله مستحق الحمد أجبت سؤال الفقيه الاجل الافضل السرى الماجد الأوحد الاحفل الاديب البارع الطالع في افق المعرفة والنباهة والرفعة المكينة والوجاهة بابهى المطالع المصنف الحافظ العلامة الحائز في فني النظم والنثر واسلوبي الكتابة والشعر رتبة الرياسة والامامة محلي جيد العصر بتاليفة الباهرة الرواء ومجلي محاسن بنية الرائقة على منصة الاشادة والانباء ابي عبد الله ابن الخطيب وصل الله تعالى سعادته وحرس مجادته وسني من الخير الاوفر والصنع الابهر مقصده وإرادته وبلغه في نجله الاسعد وابنه الراقي بمحتده الفاضل ومنشئه الاطهر محل الفرقد افضل ما يؤمل نحلته اياه من المكرمات وافادته وأجزت له ولابنه عبد الله المذكور ابقاهما الله تعالى في عزة سنية الخلال وعافية ممتدة الافياء وارفة الظلال رواية جميع ما تقيد في الأوراق المكتتب على ظهر اول ورقة منها من نظمي ونثري وما توليت انشاءه واعتمدت بالارتجال والرواية اختياره وانتقاءه ايام عمري وجميع ما لي من تصنيف وتقييد ومقطوعة وقصيد وجميع ما أحمله عن أشياضي رضى الله تعالى عنهم من العلوم وفنون المنثور والمنظوم باي وجه تأدى ذلك الي وصح حملي له وثبت اسناده لدي اجازة تامة في ذلك كله عامة على سنن الاجازات الشرعي وشرطها
____________________
(6/40)
المأثور عند أهل الحديث المرعى والله ينفعنى وإياهما بالعلم وحمله وينظمنا جميعا فى سلك حزبه المفلح وأهله ويفيض علينا من أنوار بركته وفضله قال ذلك وكتبه بخط يده الفانية العبد الفقير الى الله الغنى به أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صفوان ختم الله تعالى له بخير حامدا الله تعالى ومصليا ومسلما على نبيه المصطفى الكريم وعلى آله الطاهرين ذوى المنصب العظيم وصحابته البررة أولى الأثرة والتقديم فى سادس ربيع الآخر عام أربعة وأربعين وسبعمائة وحسبنا الله ونعم الوكيل انتهى 10 - من العذرى إلى لسان الدين
وكتب الفقيه أبو جعفر ابن عبد الملك العذرى من أهل سبتة الى لسان الدين رحمه الله تعالى فى بعض الأغراض
( إنى بمجدك لم أزل مستيقنا ** أن لا يهدم بالتغير ما بنى )
( إذ أنت أعظم ماجد يعزى له ** صفح وأكرم من عفا عمن جنى ) وكتب أيضا
( إن كان دهرى قد أساء وجارا ** فذمام مجدك لا يضيع جارا )
( فلأنت أعظم ملجإ ينجى إذا ** ما الدهر أنجد موعدا وأغارا ) 11 - رسالة من لسان الدين الى ابن نفيس
وقال لسان الدين رحمه الله تعالى خاطبت الشيخ الشريف الفاضل أبا عبد الله ابن نفيس صحبة ثمن مسكن اشتريته منه وكان قد أهدانى فرسا عتيقا
( جزيت يا ابن رسول الله أفضل ما ** جزى الإله شريف البيت يوم جزى )
____________________
(6/41)
( إن أعجز الشكر منى منه ضعفت ** عن بعض حقك شكر الله ما عجزا )
سيدى أبقى الله شرفك تشهد به الطباع إذا بعدت المعاهد المقدسة والرباع وتعترف به الأبصار والأسماع وإن جحدت عارضها الإجماع بأى لسان أثنى أم أي الأفنان أهصر واجنى أم أى المقاصد الكريمة أعنى أمطيت جوادك المبارك وأسكنت دارك وأوسعت مطلبى اصطبارك وهضمت حقك وبوأت جوارك ووصلت للغرباء إيثارك أشهد بانك الكريم ابن الكريم لا أقف فى تعدادها عند حد إلى خير جد فإن أعان الدهر على مجازاة وإن ترفع كرمك عن موازاة فحاجة نفس قضيت وأحكام آمال أمضيت وإن اتصل العجز فعين على القذى أغضيت ومناصل عزم ما انتضيت وعلى كل حال فالثناء ذائع والحمد شائع واللسان والحمد لله طائع والله مشتر ما أنت بائع وقد وجهت من يحاول لسيدى ثمن ما اكتسبه مجده وسفر عنه حمده والعقيدة بعد التراضى وكمال التقاضى وحميد الصبر وسعة التغاضى وكونه الخصم والقاضى أنه هبة سوغها إنعامه وأكله هناها مطعامه نسأل الله تعالى أن يعلى ذكره ويتولى شكره وينمى ماله ويرفع قدره والولد جاره الغريب الذى برز إلى مقارعة الأيام عن خبره قاصرة وتجربة غير منجده على الدهر وناصرة قد جعلته وديعة فى كرم جواره ووضعته فى حجر إيثاره فإن زاغ فيده العليا فى تبصيرة ومؤاخذته بتقصيره ومن نبه مثله نام ومن استنام إليه بمهمة أكرم بمن إليه استنام وإن تشوف سيدى لحال محبه فمطلق للدنيا من عقال ورافض أثقال ومؤمل اعتياض بخدمة الله تعالى وانتقال انتهى
____________________
(6/42)
12 - من لسان الدين إلى ابن رضوان
وقال رحمه الله تعالى مما خاطبت به صدر الفضلاء الفقيه المعظم أبا القاسم ابن رضوان بما يظهر داعيته من فحواه
( مرضت فأيامى لديك مريضة ** وبرؤك مقرون ببرء اعتلالها )
( فلا راع تلك الذات للضر رائع ** ولا وسمت بالسقم غر خلالها )
وردت على من فئتى التى إليها فى معرك الدهر أتحيز وبفضل فضلها فى الأقدار المشتركة أتميز سحاءة سرت وساءت وبلغت من القصدين ما شاءت أطلع بها سيدى صنيعة وده من شكواه على كل عابث فى السويداء موجب اقتحام البيداء مضرم نار الشفقة فى فؤاد لم يبق من صبره إلا القليل ولا من إفصاح لسانه إلا الأنين والأليل ونوى مدت الغير ضرورة يرضاها الخليل فلا تسأل عن ضنين تطرقت اليد إلى رأس ماله أو عابد نوزع متقبل أعماله أو آمل ضويق فى فذلكة آماله لكننى رجحت دليل المفهوم على دليل المنطوق وعارضت القواعد الموحشة بالفروق ورايت الخط يبهر والحمد لله تعالى ويروق واللفظ الحسن تومض فى حبره للمعنى الأصيل بروق فقلت ارتفع الوصب ورد من الصحة المغتصب وآله الحس والحركة هى العصب وإذا أشرق سراج الإدراك دل على سلامة سليطه والروح خليط البدن والمرء بخليطة وعلى ذلك فلا يقنع بليد احتياطى إلا الشرح ففيه يسكن الظمأ البرح وعذرا عن التكليف فهو محل الاستقصاء والاستفسار والإطناب والإكثار وزند القلق فى مثلها أورى والشفيق بسوء الظن مغرى وسيدى هو العمدة التى سلمت لى الأيام فيها وقالت حسب آمالك ويكفيها فكيف لا أشفق ومن أنفق من عينه فأنا من عينى لا أنفق والله لا يحبط سعيى فى سؤال عصمتها ولا يخفق ويرشد إلى شكره على ما وهب منها ويوفق والسلام الكريم على سيدى البر الوصول
____________________
(6/43)
الذى زكت منه الفروع لما طابت الأصول وخلص من وده لابن الخطيب المحصول ورحمه الله تعالى وبركاته 13 - جواب ابن رضوان
قال فراجعنى حفظ الله سيادته بما نصه
( متى شئت ألفى من علائك كل ما ** ينيل من الآمال خير منالها )
( كبرء اعتلال من دعائك زارنى ** وعادات بر لم ترم عن وصالها )
أبقى الله ذلك الجلال الأعلى متطولا بتأكيد البر متفضلا بموجبات الحمد والشكر وردتنى سحاءته المشتملة على معهود تشريفه وفضله الغنى عن تعريفه متحفيا فى السؤال عن شرح الحال ومعلنا بما تحلى به من كرم الخلال والشرف العال والمعظم على ما يسر ذلك الجلال الوزارى الرياسى أجراه الله تعالى على أفضل ما عوده كما أعلى فى كل مكرمة يده ذلك ببركة دعائه الصالح وحبه المخيم بين الجوانح والله سبحانه المحمود على نعمه ومواهب لطفه وكرمه وهو سبحانه المسؤول أن يهيىء لسيدى قرار الخاطر على ما يسره فى الباطن والظاهر بمن الله تعالى وفضله والسلام الكريم على جلاله الأعلى ورحمة الله وبركاته كتبه المعظم الشاكر الداعى الذاكر المحب ابن رضوان وفقه الله تعالى فى ذى الحجة ختام عام واحد وستين وسبعمائة انتهى 14 - من لسان الدين إلى الجنان
وقال رحمه الله تعالى وفاتحته يعنى الشيخ الجنان محركا قريحته ومستثيرا ما عنده بقولى
____________________
(6/44)
( إن كانت الآداب أضحت جنة ** فلقد غدا جنانها الجنان )
( أقلامه القضب اللدان بدوحها ** والزهر ما رقمته منه بنان )
وذكر بعد البيتين سجعا بليغا 15 - جواب الجنان
ثم قال فراجعنى الجنان بما نصه
( يا خاطب الآداب مهلا فقد ** ردك عن خطبتها ابن الخطيب )
( هل غيره فى الأرض كفء لها ** وشرطها الكفاة قول مصيب )
( أصبح للشرط بها معرسا ** فاستفت فى الفسخ فهل من مجيب )
أيها السيد الذى يتنافس فى لقائه ويتغالى ويصادم بولائه صرف الزمان ويتعالى وتستنتج نتائج الشرف بمقدمات عرفانه وتقتنص شوارد العلوم بروايات كلامه فكيف بمداناة عيانه جلوت على من بنات فكرك عقائل نواهد وأقمت بها على معارفك الجمة دلائل وشواهد واقتنصت بشرك بديهتك من المعانى أوابد شوارد وفجرت من بلاغتك وبراعتك حياضا عذبة الموارد ثم كلفتنى من إجراء ظالعى فى ميدان ضليعها مقابلة الشمس المنيرة بسراج عند طلوعها فأخلدت إخلاد مهيض الجناح وفررت فرار الأعزل عن شاكى السلاح وعلمت أنى إن أخذت نفسى بالمقابلة وأدليت دلو قريحتى للمساجلة كنت كمن كلف الأيام مراجعة أمسها أو طلب ممن علته السماء محاولة لمسها وإن رضيت من القريحة بسجيتها وأظهرت القدر الذى كنت امتحت من ركيتها أصبحت مسخرة للراوين والسامعين ونبت عن أسمى دواوينهم نانها الجنان )
( أقلامه القضب اللدان بدوحها ** والزهر ما رقمته منه بنان ) وذكر بعد البيتين سجعا بليغا 15 - جواب الجنان ثم قال فراجعنى الجنان بما نصه
( يا خاطب الآداب مهلا فقد ** ردك عن خطبتها ابن الخطيب )
( هل غيره فى الأرض كفء لها ** وشرطها الكفاة قول مصيب )
( أصبح للشرط بها معرسا ** فاستفت فى الفسخ فهل من مجيب )
أيها السيد الذى يتنافس فى لقائه ويتغالى ويصادم بولائه صرف الزمان ويتعالى وتستنتج نتائج الشرف بمقدمات عرفانه وتقتنص شوارد العلوم بروايات كلامه فكيف بمداناة عيانه جلوت على من بنات فكرك عقائل نواهد وأقمت بها على معارفك الجمة دلائل وشواهد واقتنصت بشرك بديهتك من المعانى أوابد شوارد وفجرت من بلاغتك وبراعتك حياضا عذبة الموارد ثم كلفتنى من إجراء ظالعى فى ميدان ضليعها مقابلة الشمس المنيرة بسراج عند طلوعها فأخلدت إخلاد مهيض الجناح وفررت فرار الأعزل عن شاكى السلاح وعلمت أنى إن أخذت نفسى بالمقابلة وأدليت دلو قريحتى للمساجلة كنت كمن كلف الأيام مراجعة أمسها أو طلب ممن علته السماء محاولة لمسها وإن رضيت من القريحة بسجيتها وأظهرت القدر الذى كنت امتحت من ركيتها أصبحت مسخرة للراوين والسامعين ونبت عن أسمى دواوينهم
____________________
(6/45)
كما تنبو عن الأشيب عيون العين ثم إن أمرك يا سيدى لا يحل وثيق مبرمه ولا يحل نسخ محكمه فامتثلته امتثال من لم يجد فى نفسه حرجا من قضائك ورجوت حسن تجاوزك واغضائك أبقاك الله تعالى قطبا لفلك المكارم والمآثر وفصا لخاتم المحامد والمفاخر والسلام انتهى ترجمة ابن الجنان
والجنان المذكور مغربى من مكناسة الزيتون وهو الشيخ الفقيه العدل الأديب الأخبارى المشارك أبو جعفر أحمد بن محمد بن إبراهيم الأوسى الجنان من أهل الظرف والانطباع والفضيلة كاتب عاقل ناظم ناثر مشارك فى فنون من العلم له تصنيف حسن فى ثلاث مجلدات سماه المنهل المورود فى شرح المقصد المحمود شرح فيه وثائق أبى القاسم الجزيرى المالكى فأربى على غيره بيانا وإفاده قال فى نفاضه الجراب وناولنى إياه وأذن لى فى حملى عنه وأنشدنى كثيرا من شعره فمن ذلك ما صدر به رسالة يهنىء بها ناقها من مرض
( البس الصحة بردا قشيبا ** وارشف النعمة ثغرا شنيبا )
( واقطف الآمال زهرا نضيرا ** واعطف الإقبال غصنا رطيبا )
( إن يكن ساءك وعك تقضى ** تجد الأجر عظيما رحيبا )
( فانتعش فى دهرنا ذا سرور ** يصبح الحاسد منه كئيبا ) مقطعات وقصائد تكتب على المبانى
وقال أيضا لسان الدين فى النفاضة قرأت بالدور الخشبى فى الدار التى
____________________
(6/46)
نزلت بها بمكناسة الزيتون أبياتا منقشة استحسنتها لسهولتها فأخبرنى أنها من نظمه وهى
( انظر إلى منزل متى نظرت ** عيناك يعجبك كل ما فيه )
( ينبىء عن رفعة لمالكه ** وعن ذكاء الحجى لبانيه )
( يناسب الوشى فى أسافله ** ما يرقم النقش فى أعاليه )
( كأنه روضة مدبجة ** جاد لها وابل بما فيه )
( فأظهرت للعيون زخرفها ** ووافقتها على تجليه )
( فهو على بهجة تلوح به ** ورونق للجمال يبديه )
( يشهد للساكنين أن لهم ** من جنة الخلد ما يحاكيه )
قلت قد تذكرت هنا والشىء بالشىء يذكر ما رأيته مكتوبا على دائرة مجرى الماء بمدرسة تلمسان التى بناها أمير المسلمين ابن تاشفين الزيانى وهى من بدائع الدنيا وهو
( انظر بعينك بهجتى وسنائى ** وبديع إتقانى وحسن بنائى )
( وبديع شكلى واعتبر فيما ترى ** من نشأتى بل من تدفق مائى )
( جسم لطيف ذائب سيلانه ** صاف كذوب الفضة البيضاء )
( قد حف بى أزهار وشى نمقت ** فغدت كمثل الروض غب سماء )
وما أنشده بعض أهل العصر فى المغرب بقصد أن يرسم فى الأستار المذهبة المحكمة الصنعة التى جعلها السلطان المنصور أبو العباس الشريف الحسنى رحمه الله تعالى لكى يستر بها النواحى الأربع من القبة الكبيرة بالبديع وتسمى هذه الستور عند أهل المغرب بالحائطى ففى الجهة الأولى
( متع جفونك من بديع لباسى ** وأدر على حسنى حميا الكاس )
____________________
(6/47)
( هذي الربى والروض من جرعائها ** مما اغتذى بالعارض البجاس )
( أنى لروض أن يروق بهاؤه ** مثلى وأن يجرى على مقياس )
( فالروض تغشاه السوام وانما ** تأوى الى كنفى ظباء كناس )
وعلى الجهة الثانية
( من كل حسنا كالقضيب إذا انثنى ** تزرى بغصن البانة المياس )
( ولقد نشرت على السماك ذوائبى ** ونظرت من شزر إلى الكناس )
( وجررت ذيلى بالمجرة عابثا ** فخرا بمخترعى أبى العباس )
( ما نيط مثلى فى القباب ولا ازدهت ** بفتى سواه مراتب وكراسى )
وعلى الجهة الثالثة
( ملك تقاصرت الملوك لعزه ** ورماهم بالذل والإتعاس )
( غيث المواهب بحر كل فضيلة ** ليث الحروب مسعر الأوطاس )
( فرد المحاسن والمفاخر كلها ** قطب الجمال أخو الندى والباس )
( ملك إذا وافى البلاد تأرجت ** منه الوهاد بعاطر الأنفاس ) وعلى الجهة الرابعة
( وإذا تطلع بدره من هالة ** يعشي سناه نواظر الجلاس )
( أيامه غررا تجلت كلها ** ابهى من الأعياد والأعراس )
( لا زال للمجد السنى يشيده ** ويقيم مبناه على الآساس )
( ما مال بالغصن النسيم وحببت ** دررالندى فى جيده المياس )
وما أنشدنيه بعض العصريين من المغاربة لصاحبنا المرحوم الفقيه الكاتب
____________________
(6/48)
المحقق أبى محمد الحسن بن أحمد المسفيوي المراكشى أحد مشاهير الكتاب بباب أمير المؤمنين المنصور بالله أبى العباس الشريف الحسنى ملك المغرب صب الله تعالى على الجميع أمطار الرضوان مما كتب فى بعض مبانى صاحبنا الوزير العلامة الأجل سيدى عبد العزيز الفشتالى رحمه الله تعالى وهو
( أجل المعلى من قداح سرورى ** وأدر كؤوس الأنس دون شرور )
( ** خلعت على عطف البهاء محاسنى ** فكست به الآفاق ثوب حبور )
( وتناسق الوشى المفوف حلتى ** نسق الشذور على نحور الحور )
( شأو القصور قصورها عن رتبة ** لى بالسنا الممدود والمقصور )
( فى المبتنى المراكشى وأفقه ** أزرى على الزوراء والخابور )
( أعلى مقامى البارع الأسمى الذى ** قد حاز سبق النظم والمنثور )
( فإذا أقل بنانه أقلامه ** نفثت عقود السحر بين سطور )
( عبد العزيز أخو الجلالة كاتب ** سر الخليفة أحمد المنصور )
( لا زال فى يمن وأمن ما شدت ** ورق بروض بالندى ممطور )
وبعضه كتبته بالمعنى من حفظى لطول العهد والغاية فى هذا الباب ما أنشدنيه لنفسه الوزير أبو فارس عبد العزيز الفشتالى المذكور وهى جملة من قصائد كتبت فى المبانى الملوكية المنصورية بالحضرة المراكشية حاطها الله تعالى فمنها ما كتب خارج القبة الخمسينية أى التى فيها خمسون ذراعا بالعمل وذلك قوله رحمه الله تعالى على لسان القبة
____________________
(6/49)
( سموت فخر البدر دونى وانحطا ** وأصبح قرص الشمس فى أذنى قرطا )
( وصغت من الإكليل تاجا لمفرقى ** ونيطت بى الجوزاء فى عنقى سمطا )
( ولاحت بأطواقى الثريا كأنها ** نثير جمان قد تتبعته لقطا )
( وعديت عن زهر النجوم لاننى ** جعلت على كيوان رحلى منحطا )
( وأجريت من فيض السماحة والندى ** خليجا على نهر المجرة قد غطى )
( عقدت عليه الجسر للفخر فارتمت ** إليه وفود البحر تغرف ما أنطى )
( تنضنض ما بين الغروس كأنه ** وقد رقرقت حصباؤه حية رقطا )
( حواليه من دوح الرياض خرائد ** وغيد تجر من خمائلها مرطا )
( إذا أرسلت لدن الفروع وفتحت ** جنى الزهر لاح فى ذوائبها وخطا )
( يرنحها مر النسيم إذا سرى ** كما مال نشوان تشرب إسفنطا )
( يشق رياضا جادها الجود والندى ** سواء لديها الغيث أسكب أم أخطا )
( وسالت بسلسال اللجين حياضه ** بحارا غدا عرض البسيط لها شطا )
( تطلع منها وسط وسطاه دمية ** هى الشمس لا تخشى كسوفا ولا غمطا )
( حكت وحباب الماء فى جنباتها ** سنا البدر حل من نجوم السما وسطا )
( إذا غازلتها الشمس ألقى شعاعها ** على جسمها الفضى نهرا بها لطا )
( توسمت فيها من صفاء أديمها ** نقوشا كأن المسك ينقطها نقطا )
( إذا اتسقت بيض القباب قلادة ** فإنى لها فى الحسن درتها الوسطى )
( تكنفنى بيض الدمى فكأنها ** عذارى نضت عنها القلائد والريطا )
( قدود ولكن زانها الحسن عريها ** وأجمل فى تنعيمها النحت والخرطا )
( نمت صعدا تيجانها فتكسرت ** قوارير أفلاك السماح بها ضغطا )
( فيا لك شأوا بالسعادة آهلا ** بأكنافه رحل العلا والهدى حطا )
____________________
(6/50)
( وكعبة مجد شادها العز فانبرت ** تطوف بمغناها امانى الورى شوطا )
( ومسرح غزلان الصريم كناسها ** حنايا قباب لا الكثيب ولا السقطا )
( فلكن به ما طاب لا الأثل والخمطا ** ووسدن فيه الوشى لا السدر والأرطى )
( تراه من المسك الفتيت مدبرا ** إذا مازجته السحب عاد بها خلطا )
( وأن باكرته نسمة سحرا سرى ** إلى كل أنف عرف عنبره قسطا )
( أقرت له الزهراء والخلد وانتقت ** أواوين كسرى الفرس تغبطه غبطا )
( جناب رواق المجد فيه مطنب ** على خير من يعزى لخير الورى سبطا )
( إمام يسير الدهر تحت لوائه ** وترسى سفان للعلا حيثما وطا )
( وفتاح أقطار البلاد بفيلق ** يفلق هامات العدا بالظبى خبطا )
( تطلع من خرصانه الشهب فانثنت ** ذوائب أرض الزنج من ضوئها شمطا )
( كتائب نصر إن جرت لملمة ** جرت قبلها الأقدار تسبقها فرطا )
( إذا ما عقدن راية علوية ** جعلن ضمان الفتح فى عقدها شرطا )
( فما للسما تلك الأهلة إنما ** سنابكها أبقت مثالا بها خطا )
( يطاوع أيدى المعلوات عنانها ** فيعتاض من قبض الزمان بها بسطا )
( يد لأمير المؤمنين بكفها ** زمام يقود الفرس والروم والقبطا )
( أدار جدارا للعلا وسرادقا ** يحوط جهات الأرض من رعية حوطا )
وقوله مما كتب ببهوها بمرمر اسود فى أبيض
( لله بهو عز منه نظير ** لما زها كالروض وهو نضير )
( رصفت نقوش حلاه رصف قلائد ** قد نضدتها فى النحور الحور )
( فكأنها والتبر سال خلالها ** وشى وفضة تربها كافور )
____________________
(6/51)
( وكأن أرض قراره ديباجة ** قد زان حسن طرازها تشجير )
( وإذا تصعد نده نوءا ففى ** أنماطه نور به ممطور )
( شأو القصور قصورها عن وصفه ** سيان فيه خورنق وسدير )
( فإذا أجلت اللحظ فى جنباته ** يرتد وهو بحسنه محسور )
( وكأن موج البركتين أمامه ** حركات سجف صافحته دبور )
( صفت بصفتها تماثل فضة ** ملك النفوس بحسنها تصوير )
( فتدير من صفو الزلال معتقا ** يسرى إلى الأرواح منه سرور )
( ما بين آساد يهيج زئيرها ** وأساود يسلى لهن صفير )
( ودحت من الأنهار أرض زجاجة ** وأظلها فلك يضىء منير )
( راقت فمن حصبائها وفواقع ** تطفو عليها اللؤلؤ المنثور )
( يا حسنه من مصنع فبهاؤه ** باهى نجوم الأفق وهى تنور )
( وكأنما زهر الرياض بجنبه ** حيث التفت كواكب وبدور )
( ولدسته الأسمى تخير رصفه ** فخر الورى وإمامها المنصور )
( ملك أناف على الفراقد رتبة ** وأقلة فوق السماك سرير )
( قطب الخلافة تاج مفرق دولة ** رميت بجحفلها اللهام الكور )
( وجرى إلى أقصى العراق لرعيها ** جيش على جسر الفرات عبور )
( نجل النبى ابن الوصى سليل من ** حقن الدماء وعف وهو قدير )
( بحر الندى لكنه متموج ** سيف العلا لكنه مطرور )
( طود يخف لحلمه ووقاره ** ولجيشه يوم النزال ثبير )
( دامت معاليه ودام ومجده ** طوق على جيد العلا مزرور )
( وتعاهدته عن الفتوح بشائر ** يغدو عليه بها المسا وبكور )
____________________
(6/52)
)
( ما دام منزل سعده يرقى به ** نصر يرف لواؤه المنشور )
( ومشت به مرحا جياد مسرة ** وأدار كاس الأنس فيه سمير )
وقوله مما كتب بداخل القبة المذكورة
( جمال بدائعى سحر العيونا ** ورونق منظرى بهر الجفونا )
( وقد حسنت نقوشى واستطارت ** سنا يعشى عيون الناظرينا )
( وأطلع سمكى الأعلى نجوما ** ثواقب لا تغورالدهر حينا )
( وجوى من دخان الند ألقى ** على أرضى الغياهب والدجونا )
( علوت دوائر الأفلاك سبعا ** لذاك الدهر ما ألفت سكونا )
( فصغت من الأهلة والحنايا ** أساور والخلاخل والبرينا )
( تكنفنى حياض مائحات ** أمامى والشمال أو اليمينا )
( يقيد حسنها الطرف انفساحا ** ويجرى الفلك فيها والسفينا )
( تدافع نهرها نحوي فلما ** تلاقى البحر فى جرى دفينا )
( ترى شهب السماء بهن غرقى ** فتحسبها بها الدر المصونا )
( وقد نشر الحباب على سماها ** لآلىء تزدري العقد الثمينا )
( فخرت وحق لى لما اجتبانى ** لمجلسه أمير المؤمنينا )
( هو المنصور حائز خصل سبق ** وبانى المجد بنيانا مكينا )
( وليث وغى إذا زأر امتعاضا ** يروع زئيره هندا وصينا )
( إذا أمت كتائبه الأعادى ** بعثن برعبه جيشا كمينا )
____________________
(6/53)
( يدير عليهم من كل حرب ** تدقهم رحى أو منجنونا )
( إمام بالمغارب لاح شمسا ** بها الشرق اكتسى نورا مبينا )
( بقيت بذي القصور الغر بدرا ** تلوح بافقهن مدى السنينا )
( تحف بكم عواكف عند بابى ** ملائكة كرام كاتبونا )
( لك البشرى أمير المؤمنين اد ** خلوها بسلام آمنينا )
وقوله فى بعض المبانى المنصورية
( معانى الحسن تظهر فى المغانى ** ظهور السحر فى حدق الحسان )
( مشابه فى صفات الحسن أضحت ** تمت بها المغانى للغوانى )
( بكل عمود صبح من لجين ** تكون فى استقامة خوط بان )
( مفصلة القدود مثلثات ** مواصلة العناق من التدانى )
( تردت سابرى الحسن يزرى ** بحسن السابرى الخسروانى )
( وتعطو الخيزرانة من دماها ** بسالفة القطيع البرهمانى )
( لمجدك تنتمى لكن نماها ** إلى صنعاء ما صنع اليدان )
( يدين لك ابن ذى يزن ويعنو ** لها غمدان فى أرض اليمان )
( غدت حرما ولكن حل فيها ** لوفدكم الأمان مع الأمانى )
( مبان بالخلافة آهلات ** بها يتلوالهدى السبع المثانى )
( هى الدنيا وساكنها إمام ** لأهل الأرض من قاص ودانى )
( قصور ما لها فى الأرض شبه ** وما فى المجد للمنصور ثانى )
وقوله رحمه الله تعالى مما كتب فى المصرية المطلة على الرياض المرتفعة
____________________
(6/54)
على القبة الخضراء من بديع المنصور وكان إنشاؤها فى جمادى الأولى من عام خمسة وتسعين وتسعمائة
( باكر لدى من السرور كؤوسا ** وارض النديم أهلة وشموسا )
( واعرج على غرفى المنيف سماؤها ** تلق الفراقد فى حماي جلوسا )
( وإذا طلعت بأوجها قمر العلا ** لا ترتضى غير النجوم جليسا )
( شرق القصور بريقها لما اجتلت ** منى على بسط الرياض عروسا )
( واعتضت بالمنصور أحمد ضيغما ** وردا تحيز من بديعى خيسا )
( ملك أرى كل الملوك ممالكا ** لعلاه والدنيا عليه حبيسا )
( دامت وفود السعد وهي عواكف ** تصل المقيل لدي والتعريسا )
( وهناك يا شرف الخلافة دولة ** تلقى برايتها طلائع عيسى )
وقوله من جملة قصيدة من نمط ما تقدم لم أستحضر أولها
( سلبت تماثلها الحجى لما اغتدت ** تزهو بحسن طرازها تذهيبا )
( ولقد تشامخ فى العلو سماكها ** فجرى على الفلك المنير جنيبا )
( وسما الى الشهب الزواهر فاغتدى ** الإكليل منها تاجها المعصوبا )
( هذا البديع يعز شبه بدائع ** أبدعتهن به فجاء غريبا )
( أضنى الغزالة حسنة حسدا لذا ** أبدى عليها للأصيل شحوبا )
( وانقضت الزهر المنيرة إذ رأت ** زهر الرياض به ينور عجيبا )
( شيدتهن مصانعا وصنائعا ** أنجزن وعدك للعلا المرقوبا )
____________________
(6/55)
( وجريت فى كل الفخار لغاية ** أدركتها أو ما مست لغوبا )
( فانعم بملكك فيه دام مؤبدا ** تجنى به فنن النعيم رطيبا )
( وإليكها عذراء فكر أهديت ** وجعلت مدحك مهرها الموهوبا )
( ونظمت من درر البلاغة عقدها ** فغدا يروق بجيدها ترتيبا )
( ورفعتها لمقامكم تمشى على ** استحيا فيزعجها الولا ترغيبا )
( فأتت على شرف لكم فتوقفت ** لما رأت ذاك الجلال مهيبا )
( شفعت إليك بحب جدك أحمد ** لتنيلها منك الرضى المرغوبا )
( دامت بك الدنيا يروق جمالها ** وإلى القيامة أمركم مرهوبا )
( وكلاكم الله العظيم كلاءة ** يرعى بها خلفا لكم وعقيبا ) رسالة من الفشتالى إلى المؤلف
ومحاسن صاحبنا المذكور فى النظم والنثر يضيق عنها هذا التأليف وكنت أثبت منها جملة فى غير هذا الموضع
ولما أحس بعزمى على الرحلة إلى الحجاز واقتضائى من سلطان المغرب فى وعده لى بها النجاز كتب إلى من حضرة مراكش وأنا حينئذ بفاس ما صورته بعد سطر الافتتاح
( يا نسمة عطست بها أنف الصبا ** فتضمخت بعبيرها قنن الربى )
( هبى على ساحات أحمد واشرحى ** شوقى إلى لقياه شرحا مطنبا )
( وصفى له بالمنحنى من أضلعى ** قلبا على جمر الغضا متقلبا )
( بان الأحبة عنه حى قد توى ** منهم وآخر قد ناى وتغيبا )
( فعساك تسعد يا زمان بقربهم ** فأقول أهلا باللقاء ومرحبا )
السيادة التى سواها الله من طينة الشرف والحسب وغرس دوحتها الطيبة بمعدن العلم الزاكى المحتد والنسب سيادة العالم الذى تمشى تحت علم فتياه
____________________
(6/56)
العلماء الأعلام وتخضع لفصاحته وبلاغته صيارفة النثر والنظام وحملة الأقلام كلما خط أو كتب وإذا استطار بفكرة الوقاد سواجع السجع انثالت عليه من كل أو كارها ونسلت من كل حدب وحكت بانسجامها السيل والقطر فى صبب الفقيه العالم العلم والمحصل الذى ساجلت العلماء لتدرك فى مجال الإدراك شأوه فلم سيدنا الفقيه الحافظ حامل لواء الفتيا ومالك المملكة فى المنقول والمعقول من غير شرط ولا ثنيا أبو العباس سيدى أحمد بن محمد المقرى أبقاه الله تعالى للعلم يفتض أبكاره ويجنى من روضه اليانع ثماره سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته كتبه المحب الشاكر عن ود راسخ العماد ثابت الأوتاد مزهر الأغوار والأنجاد ولا جديد إلا الشوق الذى تحن إلى لقياكم ركائبه وترتاح وتحوم على مورد الأنس بكم حوم ذات الجناح على العذب القراح جمع الله تعالى الأرواح المؤتلفة على بساط السرور وأسرة الهنا وأتاح للنفوس من حسن محاضرتكم قطف المشتهى وهو غض الجنى
وقد اتصل بالمحب الودود الرقيم الذى راقت من سواد النقش وبياض الطرس شياته وأرانا معجز أحمد فبهرت آياته وخبا سقط الزند لما أشرقت من سماء فكركم آياته فأطربنا بتغريد طيور همزاته على أغصان ألفاته وعوذنا بالسبع المثانى بنانا أجادت نثر زهراته على صفحاته ثم مررنا بتضاعيفه بسوق الرقيق فرمنا السلوك على منحاها فعمى علينا الطريق وقلنا واها على سوق ابن نباتة وكساد رقيقها واستلاب البهجة عن نفيس دررها وأنيقها لا كسوق نفق فيها سوق الغزل وعلا كعب الرامح والأعزل وتضافر على سحر النفوس والألباب هاروت الجد وماروت الهزل وقد ألقينا السلاح وجنحنا للسلم وتهيأنا للسباحة فوقفنا بساحل اليم وسلمنا لمن استوت به سفينة البلاغة على الجودى فأبنا والحمد لله على السلامة بالفهاهة والعى وقلنا ما لنا وللإنشاء فهو فضل الله يؤتيه من يشاء
وعذرا أيها الشيخ عن البيت الذى عطست به أنف الصبا فقذفت به البديهة
____________________
(6/57)
من الفم وشرقت به صدر قناة القلم كما شرقت صدر القناة من الدم
وأما ما تحمل الرسول من كلام فى صورة ملام لا بل مدام أترع به من سلاف المحبة كأس وجام فلا وربك ما هى إلا نفحة نفحت لا سموم لفحت هززنا بها جذع أدبكم كى يتساقط علينا رطبا جنيا ويهمى ودقه على الربع المحيل من أفكارنا وسميا ووليا فجاد وأروى وأجاد فيما روى وأحيا من القرائح ميتا كان حديثا يروى وطرسا بين أنامل الأيام ينشر ويطوى أحيا الله تعالى قلوبنا بمعرفتة ونواسم رحمته وعرج بأرواحنا عند الممات إلى المحل الأخص بالمؤمن من حضرته
وأهدى السلام المزرى بمسك الختام إلى الفقيهين الأمجدين الصدرين الأنجدين الفذين التوأمين الفاضلين المجيدين فارسى البراعة واليراعة ورئيسى الجماعة فى هذه الصناعة رضيعى لبان الأدب وواسطتى عقده ومجيلى قدحه المعلى وموريى زنده الممتعين بشميم عراره ورنده الكارعين بالبحر الفياض من هزله وجده الآتيين بالجنس والفصل من رسمه وجده الكاتب البارع أبى الحسن سيدي على ابن أحمد الشامى والكاتب البليغ أبى عبد الله سيدى محمد بن على الوجدى وأقرر لهما الود المستحكم المعاقد الصافى المناهل العذب الموارد وأنى قائم بورد الثناء عليكم وعليهما لدى المقام العلى الإمامى الناصرى دام سلطانه وتمهدت أوطاره وأوطانه
وننهى إليكم أن الفقيه المحب الأستاذ سيدى محمد بن يوسف طلق اللسان بالشكر صادح على أيك الثناء عن تلكم السيادة بما واليتموه به من جزيل الإحسان وقابلتموه به عند الورود والصدر من البشر والكرامة وجميل الأمتنان والسلام التام معاد عليكم ورحمه الله تعالى وبركاته وبه وجب الكتب إليكم
____________________
(6/58)
والله سبحانه يرعاكم فى يوم الخميس موفى عشرين من محرم الحرام فاتح سبعة وعشرين وألف المحب الودود الشاكر عبد العزيز بن محمد الفشتالى لطف الله تعالى به وخار له بمنه وكرمه انتهى
ومن أراد شيئا من أخباره فعليه بكتابى الموسوم ب روضة الآس العاطر الأنفاس فى ذكر من لقيته من أعلام مراكش وفاس وقد بلغتنى وفاته رحمه الله تعالى وأنا فى مصر بعد عام ثلاثين وألف رحمه الله تعالى فلقد كان أوحد عصره حتى ان سلطان المغرب كان يقول إن الفشتالى نفتخر به على ملوك الأرض ونبارى به لسان الدين ابن الخطيب رحم الله تعالى الجميع تعريف بأبى الحسن الشامى
والشامى الذى أشار إليه هو من أعيان أهل فاس وذوى البيوت بها وجده قدم من الشام على حضره فاس فشهر بنوه بالنسبة إلى الشام وقد بلغتنى وفاته أيضا بعد الثلاثين بعد الألف وقد أجاب عن الأبيات البائية التى خاطبنى بها الوزير سيدى عبد العزيز الفشتالى المذكور رحم الله تعالى الجميع بقوله
( نمت نوافح عرف أنفاس الصبا ** فنمى بها روض الوداد وأخصبا )
( نثرت جواهر سلكها فتتوج ** الغصن النضير بدرها وتعصبا )
( ورمت محاجر منحنى ذاك الحمى ** فغدا بها خيف القلوب محصبا ** )
( وروت أحاديث الغرام صحيحة ** فشفت فؤادا من بعادك موصبا )
( لا غرو أن طارت حشاشة لبه ** طربا فما خلو الغرام كمن صبا )
( لا زلتم والزهر ينشق عرفكم ** والزهر تحسد من كمالك منصبا ) 4
ولنمسك عنان البنان ونرجع إلى ما كنا بصدده من شأن لسان الدين ابن الخطيب المريع منه بمزن البلاغة والفصاحة جنان الجنان فنقول والله سبحانه ولى التوفيق والإمداد وليس إلا عليه الاعتماد
____________________
(6/59)
16 - بين ابن الجياب ولسان الدين
وقال ابن الصباغ العقيلى كان أبو الحسن ابن الجياب رئيس كتاب الأندلس وهم رؤساء غيرهم واختص به ذو الوزارتين أبو عبد الله ابن الخطيب اختصاصا تاما وأورثه رتبة من بعده وعهد بها إليه مشيرا بذلك على من استشاره من أعلام الحجاب عند حضور عمره وتدرب بذكائه حتى استحق أزمته فأنسى بحسن سياسته شيخه المذكور ونال التى لا فوقها من الحظوة وبعد الصيت وسعادة البخت اتفق له يوما بعدما عزم النصرانى على ورود البلد وضاقت به الصدور فأنشد ابن الجياب بديها بمحضر الكتاب
( هذا العدو قد طغى ** وقد تعدى وبغى )
وقال لابن الخطيب أجز أبا عبد الله فأنشده بديها
( وأظهر السلم وقد ** أسر حسوا فى ارتغا )
( فبلغ الرحمن سيف ** النصر فيه ما ابتغى )
( ورده رد ثمود ** والفصيل قد رغا )
( حتى يرى وليمة ** لكل مرهوب الثغا )
فقال ابن الجياب هكذا وإلا فلا وعجب الحاضرون من هذه البديهة انتهى 17 - قصيدتان للبلوى يخاطب بهما لسان الدين
ومما خوطب به لسان الدين قول الفقيه أبى يحيى البلوى المرى رحم الله الجميع
____________________
(6/60)
( عللونى ولو بوعد محال ** وصلونى ولو بطيف خيال )
( واعلموا اننى أسير هواكم ** لست أنفك دائما عن عقال )
( فدموعى من بينكم فى انسكاب ** وفؤادى من هجركم فى اشتغال )
( يا أهيل الحمى كفانى غرامى ** لا تزيدوا حسبى بما قد جرى لى )
( من مجيرى من لحظ ريم ظلوم ** حلل الهجر بعد طيب الوصال )
( ناعس الطرف أسهر الجفن منى ** طال منه الجفا بطول الليالى )
( بابلى اللحاظ أصمى فؤادى ** وزماه من غنجه بنبال )
( وكسا الجسم من هواه نحولا ** قصده فى النوى بذاك انتحالى )
( ما ابتدى فى الوصال يوما بعطف ** مذ روى فى الغرام باب اشتغالى )
( ليس لى منه فى الهوى من مجير ** غير تاج العلا وقطب الكمال )
( علم الدين عزه وسناه ** ذروه المجد بدر أفق الجلال )
( هو غيث الندى وبحر العطايا ** هو شمس الهدى فريد المعالى )
( ان وشى فى الرقاع بالنقش قلنا ** صفحة الطرس حليت باللآلى )
( أو دجا الخطب فهو فيه شهاب ** زانه الصبح فى ظلام الضلال )
( أو نبا الأمر فهو فى الأمر عضب ** صادق العزم عند ضيق المجال )
( لست تلقى مثاله فى زمان ** جل فى الدهر يا أخى عن مثال )
( قد نأى بى حبى له عن ديارى ** لا لجدوى ولا لنيل نوال )
( لكن اشتقت أن ارى منه وجها ** نوره فاضح لنور الهلال )
( وكما همت فيه ألثم كفا ** جاد لى بالنوال قبل السؤال )
( هاكها ابن الخطيب عذراء جاءت ** تلثم الأرض قبل شسع النعال )
( وتوفى حق الوزارة عمن ** هو ملك لها على كل حال ) ومن نظمه قوله يخاطبه مهنئا فى إعذاره أولاده بعد نثر نصه يعتذر عن خدمة الإعذار ويصل المدح والثناء على بعد الدار بتاريخ الوسط من شهر
____________________
(6/61)
شعبان عام تسعة وأربعين وسبعمائة
( لا عذر لى عن خدمة الإعذار ** ولئن نأى وطنى وشط مزارى )
( أو عاقنى عنه الزمان وصرفه ** تقضى الأمانى عادة الاعصار )
( قد كنت أرغب أن أفوز بخدمتى ** وأحط رحلى عند باب الدار )
( بادى المسرة بالصنيع وأهله ** متشمرا فيه بفضل إزارى )
( من شاء أن يلقى الزمان وأهله ** ويرى جلالا شاع فى الأقطار )
( فليأت حى ابن الخطيب ملبيا ** فيفوز بالإعظام والإكبار )
( كم ضم من صيد كرام قدرهم ** يسمو ويعلو فى ذوى الأقدار )
( إن جئت ناديه فنب عنى وقل ** نلت المنى بتلطف ووقار )
( يا من له الشرف القديم ومن له ** الحسب الصميم العد يوم فخار )
( يهنيك ما قد نلت من أمل به ** فى الفرقدين النيرين لسارى )
( نجلاك قطبا كل مجد باذخ ** أملان مرجوان فى الإعسار )
( عبد الإله وصنوه قمر العلا ** فرعان من أصل زكا ونجار )
( ناهيك من قمرين فى أفق العلا ** ينميهما نور من الأنوار )
( زاكى الأرومة معرق فى مجده ** جم الفضائل طيب الأخبار )
( رقت طبائعه وراق جماله ** فكأنما خلقا من الأزهار )
( وحلت شمائل حسنة فكأنما ** خلعت عليه رقة الأسحار )
( فإذا تكلم قلت طل ساقط ** أو وقع در من نحور جوارى )
( أو فت حبر المسك فى قرطاسه ** فالروض غب الواكف المدرار )
( تتبسم الأقلام بين بنانه ** فتريك نظم الدر فى الأسطار )
( فتخال من تلك البنان كمائما ** ظلت تفتح ناضر النوار )
____________________
(6/62)
( تلقاه فياض الندى متهللا ** يلقاك بالبشرى والاستبشار )
( بحر البلاغة قسها وإيادها ** سحبانها حبر من الأحبار )
( إن ناظر العلماء فهو إمامهم ** شرف المعارف واحد النظار )
( أربى على العلماء بالصيت الذى ** قد طار فى الآفاق كل مطار )
( ما ضره أن لم يجىء متقدما ** بالسبق يعرف آخر المضمار )
( إن كان أخره الزمان لحكمه ** ظهرت وما خفيت كضوء نهار )
( الشمس تحجب وهى أعظم نير ** وترى من الآفاق إثر درارى )
( يا ابن الخطيب خطبتها لعلاكم ** بكرا تزف لكم من خجل الأفكار )
( جاءتك من خجل على قدم الحيا ** قد طيبت بثنائك المعطار )
( وأتت تؤدى بعض حق واجب ** عن نازح الأوطان والأوطار )
( مدت يد التطفيل نحو علاكم ** فتوشحت من حليكم بنضار )
( فابذل لها فى النقد صفحك إنها ** تشكو من التقصير فى الأشعار )
( لا زلت فى دعة وعز دائم ** ومسرة تترى مع الأعمار ) ترجمة أبى يحيى البلوى
قال لسان الدين فى حق المذكور فى الإحاطة هو محمد بن محمد بن عبد الواحد بن محمد البلوى من أبناء النعم وذوى البيوتات كثير السكون والحياء آل به ذلك أخيرا إلى لوثة لم يستفق منها لطف الله به حسن الخط مطبوع الأدب سيال الطبع معينة وناب عن بعض القضاة وهو الآن رهين ما ذكر يتمنى أهله موته والله ولى المعافاة
وجرى ذكره فى الإكليل بما نصه من أولى الاتصال بأولى الخلال البارعة والخصال خطا رائقا ونظما بمثله لائقا ودعابه يسترها تجهم
____________________
(6/63)
وسكونا فى طيه إدراك وتفهم عنى بالدراية والتقييد ومال فى النظم إلى بعض التوليد وله أصالة نبتت فى السرو عروقها وتألقت فى سماء المجادة بروقها وتصرف بين النيابة فى الأحكام الشرعية وبين الشهادات العلمية المرعية انتهى
ورأيت بخط أبى الحسن على بن لسان الدين على هامش هذا المحل من الإحاطة ما صورته رحمه الله عليه ما أعذب حلاوته وأعظم مروءته وأكرم أصالته وبنو البلوى ذوو حسب وأهل نعيم وتربية ملوكية حياهم الله وبياهم قال ذلك حبيبهم وأخوهم على بن الخطيب انتهى 18 - من ابن مرزوق إلى لسان الدين
وقال لسان الدين رحمه الله تعالى عند ذكر الخطيب الرئيس أبى عبد الله محمد ابن مرزوق التلمسانى ما صورته ولما قدمت على مدينة فاس فى غرض الرسالة خاطبنى بمنزل الشاطبى على مرحلة منها بما نصه
( يا قادما وافى بكل نجاح ** أبشر بما تلقاه من أفراح )
( هذى ذرى ملك الملوك فلذ بها ** تنل المنى وتفز بكل سماح )
( مغنى الإمام أبى عنان يممن ** تظفر ببحر فى العلا طفاح )
( من قاس جود أبى عنان فى الندى ** بسواه قاس البحر بالضحضاح )
( ملك يفيض على العفاة نواله ** قبل السؤال وقبل بسطة راح )
( فلجود كعب وابن سعدى فى الندى ** ذكر محاه عن نداه ماحى )
( ما إن سمعت ولا رأيت بمثله ** من أريحى للندى مرتاح )
( بسط الأمان على الأنام فاصبحوا ** قد ألحفوا منه بظل جناح )
( وهمى على العافين سيب نواله ** حتى حكى سح الغمام الساحى )
____________________
(6/64)
( فنواله وجلاله وفعاله ** فاقت وأعيت ألسن المداح )
( وبه الدنا أضحت تروق وأصبحت ** كل المنى تنقاد بعد جماح )
( من كان ذا ترح فرؤية وجهه ** متلافة الأحزان والأتراح )
( فانهض أبا عبد الإله تفز بما ** تبغيه من أمل ونيل نجاح )
( لا زلت ترتشف الأمانى راحة ** من راحة المولى بكل صباح )
فالحمد لله يا سيدى وأخى على نعمة التى لا تحصى حمدا يؤم به جميعنا المقصد الأسنى فيبلغ الأمد الأقصى فطالما كان معظم سيدى للأسى فى خبال وللأسف بين اشتغال بال واشتعال بلبال ولقد ومكم على هذا المقام المولوي فى ارتقاب ولمواعيدكم بذلك فى تحقق وقوعه من غير شك ولا ارتياب فها أنت تجتلى من هذا المقام العلى بتشيعك وجوه المسرات صباحا وتتلقى أحاديث مكارمه ومواهبه مسندة صحاحا بحول الله تعالى ولسيدى الفضل فى قبول مركوبه الواصل إليه بسرجه ولجامه فهو من بعض ما لدى المعظم من إحسان مولاه وإنعامه ولعمرى لقد كان وافدا على سيدى فى مستقره مع غيره فالحمد لله الذي يسر فى إيصاله على أفضل أحواله 19 - جواب لسان الدين
فراجعته بما نصه
( راحت تذكرنى كؤوس الراح ** والقرب يخفض للجنوح جناحى )
( وسرت تدل على القبول كأنما ** دل النسيم على انبلاج صباح )
( حسناء قد غنيت بحسن صفاتها ** عن دملج وقلادة ووشاح )
( أمست تحض على اللياذ بمن جرت ** بسعوده الأقلام فى الألواح )
____________________
(6/65)
( بخليفة الله المؤيد فارس ** شمس المعالى الأزهر الوضاح )
( ما شئت من شيم ومن همم غدت ** كالزهر أو كالزهر فى الأدواح )
( فضل الملوك فليس يدرك شأوه ** أنى يقاس الغمر بالضحضاح )
( أنسى بنى عباسهم بلوائه ** المنصور أو بحسامه السفاح )
( وغدت مغانى الملك لما حلها ** تزهى ببدر هدى وبحر سماح )
( وحياة من أهداك تحفة قادم ** فى العرف منها راحة الأرواح )
( ما زلت أجعل ذكره وثناءه ** روحى وريحانى الأريج وراحى )
( ولقد تمازج حبه بجوارحى ** كتمازج الأجسام بالأرواح )
( ولو أننى أبصرت يوما فى يدى ** أمرى لطرت إليه دون جناح )
( فالآن ساعدنى الزمان وأيقنت ** من قربه نفسى بفوز قداحى )
( إيه أبا عبد الإله وانه ** لنداء ود فى علاك صراح )
( أما إذا استنجدتنى من بعد ما ** ركدت لما جنت الخطوب رياحى )
( فإليكها مهزولة وأنا امرؤ ** قررت عجزى واطرحت سلاحى )
سيدى أبقاك الله لعهد تحفظه وولى بعين الوفاء تلحظه وصلتنى رقعتك التى أبدعت وبالحق من مولى الخليقة صدعت وألفتنى وقد سطت بى الأوجال حتى كادت تتلف الرحال والحاجة إلى الغذاء قد شمرت كشح البطين وثانية العجماوين قد توقع فوات وقتها وإن كانت صلاتها صلاة الطين والفكر قد غاض معينه وضعف وعلى الله جزاء المولى الذى يعينه فغزتنى بكتيبة بيان أسدها هصور وعلمها منصور وألفاظها ليس فيها قصور ومعانيها عليها الحسن مقصور واعتراف مثلى بالعجز فى المضايق حول ومنة وقول لا أدرى للعالم فكيف لغيره جنة لكنها بشرتنى بما يقل لمؤديه بذل النفوس وإن جلت وأطلعتنى من السراء على وجه تحسده الشمس إذا تجلت بما أعلمتنى به من جميل اعتقاد مولانا أمير المؤمنين أيده الله فى
____________________
(6/66)
عبده وصدق المخيلة فى كرم مجده وهذا هو الجود المحض والفضل الذى شكره هو الفرض وتلك الخلافة المولويه تتصف بصفات من يبدأ بالنوال من قبل الضراعة والسؤال من غير اعتبار للأسباب ولا مجازاة للأعمال نسأل الله تعالى أن يبقى منها على الإسلام أوفى الظلال ويبلغها من فضله أقصى الآمال ووصل ما بعثه سيدى صحبتها من الهدية والتحفة الودية وقبلتها امتثالا واستجليت منها عتقا وجمالا وسيدي فى الوقت أنسب لاتخاذ ذلك الجنس وأقدر على الاستكثار من إناث البهم والإنس وأنا ضعيف القدرة غير مستطيع على ذلك إلا فى الندوة فلو راء سيدي ورأيه سداد وقصده فضل ووداد أن ينقل القضية إلى باب العارية من باب الهبة مع وجود الحقوق المترتبة لبسط خاطرى وجمعه وعمل فى رفع المؤونة على شاكله حالى معه وقد استصحبت مركوبا يشق على هجرة ويناسب مقامى شكله ونجره وسيدي فى الإسعاف على الله أجره وهذا أمر عرض وفرض فرض وعلى نظره المعول واعتماد إغضائه هو المعقول الأول والسلام على سيدي من معظم قدره وملتزم بره ابن الخطيب فى ليلة الأحد السابع والعشرين لذى قعدة خمس وخمسين وسبعمائة والسماء قد جادت بمطر سهرت منه الأجفان وظن أنه الطوفان واللحاق فى غدها بالباب المولوى مؤمل بحول الله انتهى 20 - من البرجى إلى لسان الدين
وكتب القاضى أبو القاسم البرجى للسان الدين فى غرض الشفاعة لبعض قرابته قوله
____________________
(6/67)
( أيا سابقا فى مجال البراعة ** وفارس ميدان أهل اليراعة )
( ومن بدره فى سماء المعالى ** يزين بوصف الكمال ارتفاعه )
( بما لك فى الفضل من حجة ** ومن إمره فى ذويه مطاعه )
( قضاءك فى معسر حل دين ** عليه فإرجاؤه قد أضاعه )
( وقد كان يبغى لديكم شفيعا ** توسط عندكم فى شفاعة )
( على أنه فى اقتضاء الوداد ** يوفى موازينه أو صواعه )
( وما هو فى سوق تقريظكم ** ونشر حلاكم بمزجى البضاعه )
كتبت يا سيدى أدام الله تعالى علاكم وحرس مجدكم الطاهر وسناكم وأنا بين خجل مفحم وعجل مقحم أتذكر تسويفى بلقائكم حين سمح الدهر باقترابكم فأحجم وأفكر فى أن إحجامى عند ذلك بإرجائى عسى أن يكون وفق رجائى أفاتنى المقصود فأرى الحزم فى أن أقدم وموقفها بين يديكم فلان يطالبنى مطالبة الغريم وأروم مطاله فلا يبرح ولا يريم والانقياد فى زمام طاعته مما توجبه المروة بعدما أوجبه الشارع إذ جعل له حظا فى الأبوة وقد أعلقته من ذمام علائكم بالحبل المتين وأنزلته من حماكم بربوة ذات قرار ومعين فإن أعرتموه من لحظكم الجميل طرف اهتبال وأقبلتموه من اعتنائكم الجزيل وجه إقبال فقد عاد دهره بعد النفار مواتيا ونزل على أهل المهلب شاتيا ومجدكم كفيل بتبليغ أمله وتوسيع جذله وذلكم يد على معظمكم شكرها وعلى الله أجرها انتهى ترجمة أبى القاسم البرجي
والبرجى المذكور هو محمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن على بن إبراهيم الغسانى البرجى يكنى أبا القاسم من أهل غرناطة قال فى الإحاطة هو فاضل مجمع على فضله صالح الأبوة طاهر النشأة بادي الصيانة والعفة
____________________
(6/68)
طرف فى الخير والحشمة صدر فى الأدب جم المشاركة ثاقب الفهم جميل العشرة ممتع المجالسة حسن الشعر والخط والكتابة فذ فى الانطباع صناع اليد محكم لعمل الكثير من الآلات العلمية ويجيد تسفير الكتب رحل إلى العدوة ولقى جلة وتوسل إلى ملكها مجدد الرسم ومعتام أولى الشهرة وعامر دست الشعر والكتابة أمير المسلمين أبى عنان فاشتمل عليه ونوه به وملأ بالخير يده فاقتنى جده وحظوة وذكرا وشهرة وانقبض مع استرسال الملك لفضل عقله حتى تشكى إلى سلطانه بث ذلك عند قدومى عليه وآثر الراحة وجهد فى التماس الرحلة الحجازية ونبذ الكل وقصر الخطوة وسلا الحظوة فأسعفه سلطانه بغرضه وجعل حبل همه على غاربه وأصحبه إلى النبى الكريم صلوات الله عليه رسالة من إنشائه وقصيدة من نظمه وكلاهما يعلن فى الخلفاء ببعد شأوه ورسوخ قدم علمه وعراقة البلاغة فى نسب خصله ولما هلك وولى ابنه قدمه قاضيا بمدينة ملكه وضاعف له التنويه فأجرى الخطة على سبيل من السداد والنزاهة ثم لما ولى السلطان أبو سالم عمه أجراه على الرسم المذكور واستجلى المشكلات بصدقه وهو الآن بحاله الموصوفة مفخر من مفاخر ذلك الباب السلطانى على تعدد مفاخره
شعره ثبت فى كتاب نفاضة الجراب من تأليفنا عند ذكر المدعى الكبير بباب ملك المغرب ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر من أنشد ليلتئذ من الشعراء ما نصه وتلاه الفقيه الكاتب الحاج القاضى جملة السذاجة وكرم الخلق وطيب النفس وخدن العافية وابن الصلاح والعبادة ونشأة القرآن
____________________
(6/69)
المتحيز إلى حزب السلامة المنقبض عن الغمار العزوف عن فضول القول والعمل جامع المحاسن الأشتات من عقل رصين وطلب ممتع وأدب نقاوة ويد صناع أبو القاسم ابن أبى زكريا البرجى فأنشدت له على الرسم المذكور هذه القصيدة الفريدة
( أصغى إلى الوجد لما جد عاتبه ** صب له شغل عمن يعاتبه )
( لم يعط للصبر من بعد الفراق يدا ** فضل من ظل إرشادا يخاطبه )
( لولا النوى لم يبت حران مكتئبا ** يغالب الوجد كتما وهو غالبه )
( يستودع الليل أسرار الغرام وما ** تمليه أشجانه فالدمع كاتبه )
( لله عصر بشرقى الحمى سمحت ** بالوصل أوقاته لو عاد ذاهبه )
( يا جيرة أودعوا إذ ودعوا حرقا ** يصلى بها من صميم القلب ذائبه )
( يا هل ترى تجمع الأيام ألفتنا ** كعهدنا أو يرد القلب سالبه )
( ويا أهيل ودادى والنوى قذف ** والقرب قد أبهمت دونى مذاهبه )
( هل ناقض العهد بعد البعد حافظه ** وصادع الشمل يوم الشعب شاعبه )
( ويا ربوع الحمى لا زلت ناعمة ** يبكى عهودك مضنى الجسم شاحبه )
( يا من لقلب مع الأهواء منعطف ** فى كل أوب له شوق يجاذبه )
( يسمو إلى طلب الباقى بهمته ** والنفس بالميل للفانى تطالبه )
( وفتنه المرء بالمألوف معضلة ** والأنس بالإلف نحو الإلف جاذبه )
( أبكى لعهد الصبا والشيب يضحك بى ** يا للرجال سبت جدى ملاعبه )
( ولن ترى كالهوى أشجاه سالفه ** ولا كوعد المنى أحلاه كاذبه )
( وهمه المرء تغليه وترخصه ** من عز نفسا لقد عزت مطالبه )
____________________
(6/70)
( ما هان كسب المعالى أو تناولها ** بل هان فى ذاك ما يلقاه طالبه )
( لولا سرى الفلك السامى لما ظهرت ** آثاره ولما لاحت كواكبه )
( فى ذمة الله ركب للعلا ركبوا ** ظهر السرى فأجابتهم نجائبه )
( يرمون عرض الفلا بالسير عن عرض ** طي السجل إذا ما جد كاتبه )
( كأنهم فى فؤاد الليل سر هوى ** لولا الضرام لما خفت جوانبه )
( شدوا على لهب الرمضاء وطأتهم ** فغاص فى لجة الظلماء راسبه )
( وكلفوا الليل من طول السرى شططا ** فخلفوه وقد شابت ذوائبه )
( حتى إذا أبصروا الأعلام مائلة ** بجانب الحرم المحمى جانبه )
( بحيث يأمن من مولاه خائفه ** من ذنبه وينال القصد راغبه )
( فيها وفى طيبة الغراء لى أمل ** يصاحب القلب منه ما يصاحبه )
( إن أنس لا أنس أياما بظلهما ** سقى ثراه عميم الغيث ساكبه )
( شوقى إليها وإن شط المزار بها ** شوق المقيم وقد سارت حبائبه )
( إن ردها الدهر يوما بعدما عبثت ** فى الشمل منا يداه لا نعاتبه )
( معاهد شرفت بالمصطفى فلها ** من فضله شرف تعلو مراتبه )
( محمد المجتبى الهادى الشفيع إلى ** رب العباد أمين الوحى عاقبه )
( أوفى الورى ذمما أسماهم همما ** أعلاهم كرما جلت مناقبه )
( هو المكمل فى خلق وفى خلق ** زكت حلاه كما طابت مناسبه )
( عناية قبل بدء الخلق سابقة ** من أجلها كان آتيه وذاهبه )
( جاءت تبشرنا الرسل الكرام به ** كالصبح تبدو تباشيرا كواكبه )
( أخباره سر علم الأولين وسل ** بدير تيماء ما أبداه راهبه )
( تطابق الكون فى البشرى بمولده ** وطبق الأرض أعلاما تجاوبه )
____________________
(6/71)
( فالجن تهتف إعلانا هواتفه ** والجن تقذف إحراقا ثواقبه )
( ولم تزل عصمة التأييد تكنفه ** حتى انجلى الحق وانزاحت شوائبه )
( سرى وجنح ظلام الليل منسدل ** والنجم لا يهتدى فى الأفق ساربه )
( يسمو لكل سماء منه منفرد ** عن الأنام وجبرائيل صاحبه )
( لمنتهى وقف الروح الأمين به ** وامتاز قربا فلا خلق يقاربه )
( لقاب قوسين أو أدنى فما علمت ** نفس بمقدار ما أولاه واهبه )
( أراه أسرار ما قد كان أودعه ** فى الخلق والأمر باديه وغائبه )
( وآب والبدر فى بحر الدجى غرق ** والصبح لما يؤب للشرق آيبه )
( فأشرقت بسناه الأرض واتبعت ** سبل النجاة بما أبدت مذاهبه )
( واقبل الرشد والتاحت زواهره ** وادبر الغى فانجابت غياهبه )
( وجاء بالذكر آيات مفصلة ** يهدى بها من صراط الله لاحبه )
( نور من الحكم لا تخبو سواطعه ** بحر من العلم لا تفنى عجائبه )
( له مقام الرضى المحمود شاهده ** فى موقف الحشر إذ نابت نوائبه )
( والرسل تحت لواء الحمد يقدمها ** محمد أحمد السامى مراتبه )
( له الشفاعات مقبولا وسائلها ** إذا دهى الأمر واشتدت مصاعبه )
( والحوض يروى الصدى من عذب مورده ** لا يشتكى غله الظمآن شاربه )
( محامد المصطفى لا ينتهى أبدا ** تعدادها هل يعد القطر حاسبه )
( فضل تكفل بالدارين يوسعها ** نعمى ورحمى فلا فضل يناسبه )
( حسبى التوسل منها بالذى سمحت ** به القوافى وجلتها غرائبه )
( حياه من صلوات الله صوب حيا ** تحدى إلى قبره الزاكى نجائبه )
( وخلد الله ملك المستعين به ** مؤيد الأمر منصورا كتائبه )
( إمام عدل بتقوى الله مشتمل ** فى الأمر والنهى يرضيه يراقبه )
( مسدد الحكم ميمون نقيبته ** مظفر العزم صدق الرأى صائبه )
____________________
(6/72)
( مشمر للتقى اذيال مجتهد ** جرار اذيال سحب الجود ساحبه )
( قد أوسعت أمل الراجى مكارمه ** وأحسبت رغبة العافى رغائبه )
( وفاز بالأمن محبورا مسالمة ** وباء بالخزى مقهورا محاربه )
( كم وافد آمل معهود نائله ** أثنى وأثنت بما أولى حقائبه )
( ومستجير بعز من مثابته ** عزت مراميه وانقادت مآربه )
( وجاءه الدهر يسترضيه معتذرا ** مستغفرا من وقوع الذنب تائبه )
( لولا الخليفة إبراهيم لانبهمت ** طرق المعالى ونال الملك غاصبه )
( سمت لنيل تراث المجد همته ** والملك ميراث مجد وهو غاصبه )
( ينميه للعز والعليا أبو حسن ** سمح الخلائق محمود ضرائبه )
( من آل يعقوب حسب الملك مفتخرا ** بباب عزهم السامى تعاقبه )
( أطواد حلم رسا بالأرض محتده ** وزاحمت منكب الجوزا الجوزا مناكبه )
( تحفها من مرين أبحر زخرت ** أمواجها وغمام ثار صائبه )
( بكل نجم لدى الهيجاء ملتهب ** ينقض وسط سماء النقع ثاقبه )
( أكفهم فى دياجيها مطالعه ** وفى نحور أعاديهم مغاربه )
( يا خير من خلصت لله نيته ** فى الملك أو خطب العلياء خاطبه )
( جردت والفتنة الشعواء ملبسة ** سيفا من العزم لا تنبو مضاربه )
( وخضتها غير هياب ولا وكل ** وقلما أدرك المطلوب هائبه )
( صبرت نفسا لعقبى الصبر حامدة ** والصبر مذ كان محمود عواقبه )
( فليهن دين الهدى إذ كنت ناصرة ** أمن يواليه أو خوف يجانبه )
( لا زال ملكك والتأييد يخدمه ** تقضى بخفض مناويه قواضبه )
( ودمت فى نعم تضفو ملابسها ** فى ظل عز علا تصفو مشاربه )
( ثم الصلاة على خير البرية ما ** سارت إليه بمشتاق ركائبه )
____________________
(6/73)
ومن شعره ما قيده لى بخطه صاحب قلم الإنشاء بالحضرة المرينية الفقيه الرئيس الصدر المتفنن أبو زيد ابن خلدون
( صحا القلب عما تعلمين فأقلعا ** وعطل من تلك المعاهد أربعا )
( وأصبح لا يلوى على حد منزل ** ولا يتبع الطرف الخلى المودعا )
( وأضحى من السلوان فى حرز معقل ** بعيد عن الأيام أن يتضعضعا )
( يرد الجفون النجل عن شرفاته ** وإن لحظت عن كل أجيد اتلعا )
( عزيز على داعى الغرام انقيادة ** وكان إذ ناداه للوجد أهطعا )
( أهاب به للشيب أنصح واعظ ** أصاخ له قلبا منيبا ومسمعا )
( وسافر فى أفق التفكر والحجى ** زواهره لا تبرح الدهر طلعا )
( لعمرى لقد أنضيت عزمى تطلبا ** وقضيت عمرى رقبة وتطلعا )
( وخضت عباب البحر أخضر مزبدا ** ودست أديم الأرض أغبر أسفعا )
وقال حسبما قيده المذكور
( نهاه النهى بعد طول التجارب ** ولاح له منهج الرشد لاحب )
( وخاطبه دهره ناصحا ** بألسنة الوعظ من كل جانب )
( فأضحى إلى نصحه واعيا ** وألغى حديث الأمانى الكواذب )
( وأصبح لا تستبيه الغوانى ** ولا تزدريه حظوظ المناصب )
ثم قال فى الإحاطة وإحسانه كثير فى النثر والنظم والقصار والمطولات واستعمل فى السفارة إلى ملك مصر وملك قشتالة وهو الآن قاضى حضرة الملك
____________________
(6/74)
نسيج وحده فى السلامة والتخصص واجتناب فضول القول والعمل كان الله له انتهى
وكتب ابن المصنف بهامش ترجمة المذكور من الإحاطة ما صورته سيدى وشيخى علامة المغرب اليوم وحائز رتبه العلية من خطابه وقضاء وعلامة وهو أحق بها لخلاله الحميدة أبقاه الله تعالى قاله محبه على بن الخطيب انتهى
وكتب على القصيدة الميلادية المتقدمة ما نصه رويتها عنه وسمعتها من لفظه وأجازنى إياها بتلمسان انتهى
وكتب على حاشية قصيدته صحا القلب إلى آخره ما صورته سمعتها من لفظ سيدى وشقيق روحى الإمام العلامة الرائس أبى زيد ابن خلدون بالأندلس أمتع الله به تعالى قال ذلك أخوه على بن الخطيب انتهى 21 - مخاطبات ابن زمرك للسان الدين
وقال فى الإحاطة فى ترجمة ابن زمرك ما صورته وشعره مترام إلى هدف الإجادة خفاجى النزعة كلف بالمعانى البديعة والألفاظ الصقيلة غزير المادة فمن ذلك ما خاطبنى به وهى من أول ما نظمه قصيدة مطلعها
( أما وانصداع النور من مطلع الفجر ** )
يقول فيها بعد أبيات
( لك الله من فذ الجلالة أوحد ** تطاوعه الآمال فى النهى والأمر )
( لك القلم الأعلى الذي طال فخره ** على المرهفات البيض والاسل السمر )
( يقلد أجياد الطروس تمائما ** بصنفى لآل من نظام ومن نثر )
____________________
(6/75)
( تهيبك القرطاس فاحمر إذ غدا ** يقل بحورا من أناملك العشر )
( كأن رياض الطرس خد مورد ** يطرزه وشى العذار من الحبر )
( فشارة هذا الملك رائقة الحلى ** بألوية حمر وبالصحف الحمر )
( وما روضة غناء عاهدها الحيا ** تحوك بها وشى الربيع يد القطر )
( تغنى قيان الطير فى جنباتها ** فيرقص غصن البان فى حلل خضر )
( تمد لاكواس العرار أناملا ** من السوسن الغض المختم بالتبر )
( ويحرس خد الورد صارم نهرها ** ويمنع ثغر النور بالذابل النضر )
( يفاخر مرآها السماء محاسنا ** وتزرى نجوم الزهر منها على الزهر )
( إذا مسحت كف الصبا جفن نورها ** تنفس ثغر الزهر عن عنبر الشحر )
( بأعطر من ريا ثنائك فى السرى ** وأبهر حسنا من شمائلك الغر )
( عجبت له يحكى خلال خميلة ** وتفرق منه الأسد فى موقف الذعر )
( إذا أضرمت من بأسها الحرب جاحما ** تأجج منه العضب فى لجة البحر )
( وإن كلح الأبطال فى حومة الوغى ** ترقرق ماء البشر فى صفحة البدر )
( لك الحسب الوضاح والسؤدد الذى ** يضيق نطاق الوصف فيه عن الحصر )
( تشرف أفق أنت بدر كماله ** فغرناطة تختال تيها على مصر )
( تكلل تاج الملك منك محاسنا ** وفاخرت الأملاك منك بنو نصر )
( بعزمه مضمون السعادة أوحد ** وغرة وضاح المكارم والنجر )
( طوى الحيف منشور اللواء مؤيدا ** فعز حمى الإسلام بالطى والنشر )
( ومد ظلال الأمن إذ قصر العدا ** فيتلى سناء الملك بالمد والقصر )
( إذا احتفل الإيوان يوم مشورة ** وتضطرب الآراء من كل ذى حجر )
( صدعت بفصل القول غير منازع ** وأطلعت آراء قبسن من الفجر )
( فإن تظفر الخيل المغيرة بالضحى ** فعن رايك الميمون تظفر بالنصر )
( فلا زلت للعلياء تحمى ذمارها ** وتسحب أذيال الفخار على النسر )
____________________
(6/76)
( وللعلم فخر الدين والفتك بالعدا ** بأوت به يا ابن الخطيب على الفخر )
( فيهنيك عيد الفطر من أنت عيده ** ويثنى بما أوليت من نعم غر )
( جبرت مهيضا من جناحى ورشته ** وسهلت لى من جانب الزمن الوعر )
( وبواتنى من ذروة العز معتلى ** وشرفتنى من حيث أدرى ولا أدرى )
( وسوغتنى الآمال عذبا مسلسلا ** وأسميت من ذكرى ورفعت من قدرى )
( فدهرى عيد بالسرور وبالمنى ** وكل ليالى العمر لى ليلة القدر )
( فأصبحت مغبوطا على خير نعمة ** يقل لأدناها الكثير من الشكر ) وهى طويلة انتهى
قلت هذا الرئيس ابن زمرك صرح هنا بانه بجاه لسان الدين ابن الخطيب أدرك من العز ما أدرك ثم انقلب عليه مع الدهر وكفر نعمته وبها أشرك وحرك من دواعى قتله ما حرك وكم من صديق لك ضرك وعقك بعدما برك وساءك إثر ما سرك ولذا رأيت بخط ابن لسان الدين على هامش قوله فى هذه القصيدة ومد ظلال الأمن ألخ ما صورته هذا مدحه لحاه الله وعلى قوله وبوأتنى من ذروه العز إلخ ما مثاله هكذا شهادتك لحقه ثم تحولك عنه وكفر نعمته اغرب أخزاك الله انتهى
وكتب بهامش أول ترجمته من الإحاطة ما نصه أتبعه الله خزيا وعامله بما يستحقه فبهذا ترجمه والذي مولاه الذى رفع من قدره فيه ولم يقتله أحد غيره كفانا الله تعالى شر من أحسنا إليه
وكتب أيضا تحت هذا ما مثاله هذا الوغد ابن زمرك من شياطين الكتاب ابن حداد بالبيازين قتل أباه بيده أوجعه ضربا فمات من ذلك وهو أخس عباد الله تربية وأحقرهم صورة وأخملهم شكلا استعمله أبى فى الكتابة السلطانية فجنينا أيام تحولنا عن الأندلس منه كل شر وهو كان السبب فى قتل أبى مصنف هذا الكتاب الذى رباه وأدبه واستخدمه حسبما هو معروف
____________________
(6/77)
وكفانا الله شر من أحسنا إليه وأساء إلينا انتهى
وقد ألممنا بترجمته فى هذا الكتاب فى باب تلامذه لسان الدين فلتراجع هنالك
ومما كتب به ابن زمرك المذكور إلى لسان الدين ابن الخطيب جوابا عن رسالة قوله
( حيث صباحا فأحيت ساكنى القصبه ** واسترجعت أنفسا بالشوق مغتصبه )
( قضى البيان لها أن لا نظير لها ** فأحرزت من معانى خصله قصبه )
( ناجت طليح سرى لا يستفيق لها ** هدت جوارحه واستوهنت عصبه )
( فحركته على فتك الكلال به ** وأذهبت بسرور الملتقى نصبه )
( وأذكرت عهد مهديها على شحط ** فعاود القلب من تذكاره وصبه )
( ما كنت أسمح من دهرى بجوهره ** لو كان يسمح لى بالقلب من غصبه )
( سل أدمع الصب من أعدى السحاب بها ** وقلبه بجمار الشوق من حصبه )
( فالله يحفظ مهديها ويشكره ** فوجهها بعصاب الحسن قد عصبه )
( من كان وارث آداب يشعشعها ** بالفرض إنى فى إرثى لها عصبه )
( هو الملاذ ملاذ الناس قاطبة ** سبحان من لغياث الخلق قد نصبه )
وخاطبه كذلك بقوله
( يكلفنى مولاى رجع جوابه ** وما لتعاطى المعجزات وما ليا )
( أجيبك للفضل الذى أنت أهله ** وأكتب مما قد أفدت الأماليا )
( فأنت الذى طوقتنى كل منه ** وأحسبت آمالى وأكسبت ماليا )
( وأنت الذى أعدى الزمان كماله ** وصيرت أحرار الزمان مواليا )
( فلا زلت للفعل الجميل مواصلا ** ولا زلت للشكر الجزيل مواليا )
____________________
(6/78)
وخاطبه كذلك بقوله
( طالعتها دون الصباح صباحا ** لما جلت غرر البيان صباحا )
( ولقد رأيت وما رأيت كحسنها ** وجها أغر ومبسما وضاحا )
( عذراء أرضعها البيان لبانه ** وأطال مغدى عندها ومراحا )
( فأتت كما شاءت وشاء نجيبها ** تذكى الحجى وتنعم الأرواحا )
( لا بل كمثل الروض باكره الحيا ** وسقى به زهر الكمام ففاحا )
( وطوت بساط الشوق منى بعدما ** نشرت على من القبول جناحا )
وخاطبه كذلك بقوله
( ذرونى فإنى بالعلاء خبير ** أسير فإن النيرات تسير )
( وكم بت أطوى الليل فى طلب العلا ** كأنى إلى نجم السماء سفير )
( بعزم إذا ما الليل مد رواقه ** يكر على ظلمائه فينير )
( أخو كلف بالمجد لا يستفزه ** مهاد إذا جن الظلام وثير )
( إذا ما طوى يوما على السر كشحه ** فليس له حتى الممات نشور )
( وإنى وإن كنت الممنع جاره ** لتسبى فؤادى أعين وثغور )
( وما تعترينى فترة فى مدى العلا ** إلى أن أرى لحظا عليه فتور )
( وفى السرب من نجد تعلقت ظبية ** تصول على البابنا وتغير )
( وتمنع ميسور الكلام أخا الهدى ** وتبخل حتى بالخيال يزور )
( أسكان نجد جادها واكف الحيا ** هواكم بقلبى منجد ومغير )
( ويا سكنى بالأجرع الفرد من منى ** وأيسر حظ من رضاك كثير )
( ذكرتك فوق البحر والبعد بيننا ** فمدته من فيض الدموع بحور )
____________________
(6/79)
( وأومض خفاق الذؤابه بارق ** فطارت بقلبى أنه وزفير )
( ويهفو فؤادى كلما هبت الصبا ** أما لفؤادى فى هواك نصير )
( ووالله ما أدري أذكرك هزنى ** ام الكأس ما بين الخيام تدور )
( فمن مبلغ عنى النوى ما يسوءها ** وللبين حكم يعتدى ويجور )
( بأنا غدا أو بعده سوف نلتقى ** ونمسى ومنا زائر ومزور )
( إلى كم أرى أكنى ووجدى مصرح ** وأخفى اسم من أهواه وهو شهير )
( أمنجد آمالى ومغلى كاسدى ** ومصدر جاهى والحديث كثير )
( أأنسى ولا أنسى مجالسك التى ** بها تلتقينى نضرة وسرور )
( نزورك فى جنح الظلام وننثنى ** وبين يدينا من حديثك نور )
( على أننى إن غبت عنك فلم تغب ** لطائف لم يحجب لهن سفور )
( نروح ونغدو كل يوم وعندها ** رواح علينا دائم وبكور )
( فظلك فوقى حيثما كنت وارف ** ومورد آمالى لديك نمير )
( وعذرا فإنى إن أطلت فإنما ** قصاراى من بعد البيان قصور ) وكتب إليه خاتمه رسالة كذلك
( وحقك ما استطعمت بعدك غمضة ** من النوم حتى آذن النجم بالغروب )
( وعارضت مسرى الريح قلت لعلها ** تنم بريا منك عاطرة الهبوب )
( إلى أن بدا وجه الصباح كأنه ** محياك إذ يجلو بغرته الخطوب )
( فقلت لقلبى استشعر الأنس وابتهج ** فإن تبعد الأجسام لم تبعد القلوب )
( وسر فى ضمان الله حيث توجهت ** ركابك لا تخش الحوادث ان تنوب )
قلت هذه غاية فى معناها لولا خروجها عن القواعد فى ترتيب قافيتها ومبناها فانظر إلى تحوله عن لسان الدين بعد هذه المدائح ونسبته إليه بعده القبائح والأنسان خوان إلا النادر من الإخوان ولا حول ولا قوة إلا بالله
____________________
(6/80)
22 - من ابن سلبطور إلى لسان الدين
قال فى الإحاطة فى ترجمة ابن سلبطور ما نصه ومما خاطبنى به
( تالله ما أورى زناد القلق ** سوى بريق لاح لى بالأبرق )
( أيقنت بالحين فلولا نفحة ** نجديه منكم تلافت رمقى )
( لكنت أقضى بتلظى زفرة ** وحسرة بين الضلوع تلتقى )
( فآه من هول النوى وما جنى ** على القلوب موقف التفرق )
( يا حاكى الغصن انثنى متوجا ** بالبدر تحت لمة من غسق )
( الله فى نفس معنى اقصدت ** من لاعج الشوق بما لم تطق )
( أتى على أكثرها برح الأسى ** دع ما مضى منها وأدرك ما بقى ) ( ولو بالمام خيال فى الكرى ** إن ساعد الجفن رقيب الأرق )
( فرب زور من خيال زائر ** أقر عينى وإن لم يصدق )
( شقيت من برح الأسى لو ان من ** أصبح رقى فى يديه معتقى )
( ففى معاناة الليالى عائق ** عن التصابى وفنون العلق )
( وفى ضمان ما يعانى المرء من ** نوائب الدهر مشيب المفرق )
( هذا لعمرى مع أنى لم أبت ** منها بشكوى روعة أو فرق )
( فقد أخذت من خطوب غدرها ** بابن الخطيب الأمن مما اتقى )
( فخر الوزارة الذى ما مثله ** بدر علا فى مغرب أو مشرق )
( ومذ أرانيه زمانى لم ابل ** من صرفه بمرعد أو مبرق )
( لا سيما منذ حططت فى حمى ** مقامه الأمنع رحل اينقى )
( أيقنت أنى فى رجائى لم أخب ** وأن مسعى بغيتى لم يخفق )
( ندب له فى كل حسن آية ** تناسبت فى الخلق أو فى الخلق )
____________________
(6/81)
( فى وجهه مسحة بشر إن بدت ** تبهرجت أنوار شمس الأفق )
( تعتبر الأبصار فى اللألاء ما ** عليه من نور السماح المشرق )
( كالدهر فى استينائه وبطشه ** كالسيف فى حد الظبى والرونق )
( إن بخل الغيث استهلت يده ** بوابل من غيث جود غدق )
( وإن وشت صفحة طرس انجلى ** ليل دجاها عن سنا مؤتلق )
( بمثلها من حبرات أخجلت ** حواشى الروض خدود المهرق )
( ما راق فى الآذان أشناف سوى ** ملتقطات لفظه المفترق )
( تود أجياد الغوانى أن يرى ** حليها من در ذاك المنطق )
( فسل به هل آده الأمر الذى ** حمل فى شرخ الشباب المونق )
( إذا رأى الرأى فلا يخطئه ** يمن اختيار للطريق الأوفق )
( إيه أبا عبد الإله هاكها ** عذراء تحثو فى وجوه السبق )
( خذها إليك بكر فكر يزدرى ** لديك بالأعشى لدى المحلق )
( لا زلت مرهوب الجناب مرتجى ** موصول عز فى سعود ترتقى )
( مبلغ الآمال فيما تبتغى ** مؤمن الأغراض مما تتقى ) ترجمة ابن سلبطور
وابن سلبطور هو محمد بن محمد بن أحمد بن سلبطور الهاشمى
قال فى الإحاطة من أهل المرية يكنى أبا عبد الله من وجوه بلده وأعيانه نشأ نبيه البيت ساحبا بنفسه وبماله ذيل الحظوة متحليا بخصل من خط وأدب وزيرا متجندا ظريفا دربا على ركوب البحر وقيادة الأساطيل ثم انحط فى هواه انحطاطا أضاع مروءته واستهلك عقاره وهد بيته وألجأه أخيرا إلى اللحاق بالعدوة فهلك بها
وجرى ذكره فى الإكليل بما نصه مجموع شعر وخط وذكاء عن
____________________
(6/82)
درجة الظرفاء غير منحط إلى مجادة أثيلة البيت شهيرة الحى والميت نشأ فى حجر الترف والنعمة محفوفا بالمالية الجمة فلما عقل عن ذاته وترعرع بين لداته أجرى خيول لذاته فلم يدع منها ربعا إلا أقفره ولا عقارا إلا عقره حتى حط بساحلها واستولى بسفر الإنفاق على جميع مراحلها إلا انه خلص بنفس طيبة وسراوة سماؤها صيبة وتمتع ما شاء من زير وبم وتأنس لم يعط القياد لهم وفى عفو الله سعة وليس مع التوكل عليه ضعة
شعره من شعره قوله يمدح السلطان وأنشدها إياه بالمضارب من وادى الغيران عند قدومه المرية
( أثغرك أم سمط من الدر ينظم ** وريقك أم مسك به الراح تختم )
( ووجهك أم باد من الصبح نير ** وفرعك أم داج من الليل مظلم )
( أعلل منك الوجد والليل متلفى ** وهل ينفع التعليل والخطب مؤلم )
( وأقنع من طيف الخيال بزورة ** لو أن جفونى بالمنام تنعم )
ثم سرد لسان الدين القصيدة وهى طويلة
ثم قال ومن شعره مذيلا على البيت الأخير حسبما نسب إليه ببلده
( نامت جفونك يا سؤلى ولم أنم ** ما ذاك إلا لفرط الوجد والسقم )
( أشكو إلى الله ما بى من محبتكم ** فهو العليم بما ألقى من الألم )
( إن كان سفك دمى أقصى مرادكم ** فما غلت نظرة منكم بسفك دمى )
ومما ينسب إليه كذلك
( قف بى وناد بين تلك الطلول ** أين الألى كانوا عليها نزول )
( أين ليالينا بهم والمنى ** نجنيه غضا بالرضى والقبول )
____________________
(6/83)
( لا حملوا بعض الذى حملوا ** يوم تولت بالقباب الحمول )
( إن غبتم يا أهل نجد ففى ** قلبى أنتم وضلوعى حلول )
ثم قال ناب فى القيادة البحرية عن خاله القائد أبى على الرنداحى وولى أسطول المنكب برهة وتوفى بمراكش عام خمسة وخمسين وسبعمائة رحمه الله تعالى انتهى 23 - من ابن راجح إلى لسان الدين
وقال لسان الدين كتب إلى أبو عبد الله ابن راجح التونسى بما يظهر من أبياته وهى
( أما والذى لى فى حلاك من الحمد ** ومالك ملاكى لدى من الرفد )
( لقد أشعرتنى النفس أنك معرض ** عن المسرف الآتى لفضلك يستجدي )
( فإن زلة منى بدت لك جهرة ** فصفحا فما والله أذنبت عن قصد )4 - جواب لسان الدين فراجعته بقولى
( أجلك عن عتب يغض من الود ** وأكرم وجه العذر منك عن الرد )
( ولكننى أهدى إليك نصيحتى ** وإن كنت قد أهديتها ثم لم تجد )
( إذا مقول الإنسان جاوز حده ** تحولت الأغراض منه إلى الضد )
( فأصبح منه الجد هزلا مذمما ** وأصبح منه الهزل فى معرض الجد )
( فما اسطعت قبضا للعنان فإنه ** احق السجايا بالعلاء وبالمجد )
____________________
(6/84)
ترجمة ابن راجح
وقال فى الإحاطة فى حق ابن راجح المذكور ما محصله محمد بن على ابن الحسن بن راجح الشريف الحسنى باعترافه { ولا تزر وازرة وزر أخرى } الزمر والاسراء والأنعام تونسى أبو عبد الله يعرف بابن راجح صاحب رواء وأبهة نظيف البزة فاره المركب مطفف مكيال الإطراء جموح فى إيجاب الحقوق مترام إلى أقصى آماد التوغل سخى اللسان بالثناء ثرثاره مرسل لعنانه فى كل المحافل متواضع متودد فكه مطبوع حسن الخلق عذب الفكاهة مخصوص حيث حل من الملوك والأمراء بالأثرة وممن دونهم بالمداخلة والصحبة ينظم الشعر ويحاضر بالأبيات ويقوم على تاريخ بلده ويثابر على لقاء أهل المعرفة والأخذ عن أولى الرواية قدم الأندلس عام خمسين وسبعمائة مفلتا من الوقيعة بالسلطان أبى الحسن فمهد له سلطانها كنف بره وآواه إلى سعة رعيه وتأكدت بينى وبينه صحبة 25 - من لسان الدين إلى ابن راجح
كتبت إليه أول قدومه بما نصه أحذو حذو أبيات ذكر أن شيخنا أبا محمد الحضرمى خاطبه بها
( أمن جانب الغربى نفحة بارح ** سرت منه أرواح الجوى فى الجوارح )
( قدحت بها زند الغرام وإنما ** تجافيت فى دين السلو لقادح )
( وما هى إلا نسمة حاجرية ** رمى الشوق منها كل قلب بقادح )
( رجحنا لها من غير شك كأنها ** شمائل أخلاق الشريف ابن راجح )
____________________
(6/85)
( فتى هاشم سبقا إلى كل غاية ** وصبرا مغار الفتل فى كل فادح )
( أصيل العلا جم السيادة ذكره ** طراز نضار فى برود المدائح )
( وفرقان مجد يصدع الشك نوره ** حبا الله منه كل صدر بشارح )
( وفارس ميدان البيان إذا انتضى ** صحائفه أنست مضاء الصفائح )
( رقيق كما راقتك نغمة ساجع ** وجزل كما راعتك صولة جارح )
( إذا ما احتبى مستحضرا فى بلاغة ** وخوض خضم القول منه بسابح )
( وقد شرعت فى مجمع الحفل نحوه ** أسنة حرب للعيون اللوامح )
( فما ضعضعت منه لصولة صادع ** ولا ذهبت منه بحكمة ناصح )
( تذكرت قسا قائما فى عكاظة ** وقد غص بالشم الأنوف الجحاجح )
( ليهنك شمس الدين ما حزت من علا ** خواتمه موصولة بالفواتح )
( رعى الله ركبا أطلع الصبح مسفرا ** لمرآك من فوق الربى والبطائح )
( ولله ما أهدته كوماء أوضعت ** برحلك فى قفر عن الأنس نازح )
( أقول لقومى عندما حط كورها ** وساعدها السعدان وسط الأباطح )
( ذروها وأرض الله لا تعرضوا لها ** بمعرض سوء فهى ناقة صالح )
( إذا ما أردنا القول فيه فمن لنا ** بطوع القوافى وانبعاث القرائح )
( بقيت منى نفس وتحفة قادم ** ومورد ظمآن وكعبة مادح )
( ولا زلت تلقى البر والرحب حيثما ** أرحت السرى من كل غاد ورائح ) 26 - جواب ابن راجح
فأجبنى بما نصه
( أمن مطلع الأنوار لمحة لامح ** تعاد لموفؤود عن الحى نازح )
( وهل بالمنى من مورد الوصل يرتوى ** غليل عليل للتواصل جانح )
____________________
(6/86)
( فيا فيض عين الدمع ما لك والحمى ** ورند الحمى والشيح شيح الأشايح )
( مرابع آرامى ومورد ناقتى ** فسقيا لها سقيا لناقة صالح )
( سقى الله ذاك الحى ودقا فإنه ** حمى لمحات العين عن لمح لامح )
( وأبدى لنا حور الخيام تزف فى ** حلى الحسن والحسنى وحلى الملامح )
( ترى حى تلك الحور للحور مهيع ** يدل وهل حسم لداء التبارح )
( ويا يا دوحة الريحان هل لى عودة ** لعفر عفار الأنس بين الأباطح )
( وهل أنت إلا حلة حاتمية ** تغص نواديها بغاد ورائح )
( أقام بها الفخر الخطيب منابرا ** لترتيل ايات الندى والمنائح )
( وشفع بالإنجيل حمد مديحه ** وأوتر بالتوراة شفع المدائح )
( وفرق بالفرقان كل فريقة ** نأت عن رشاد فيه محض النصائح )
( وهل هو إلا للبرية مرشد ** لكل هدى هاد لأرجح راجح )
( فبشرى لسان الدين ساد بك الورى ** وأورى الهدى للرشد أوضح واضح )
( متى قلت لم تترك مقالا لقائل ** وإن لم تقل لم يغن مدح لمادح )
( فمن حام بالحى الذى أنت ربه ** وعام ببحر من عطاياك طافح )
( يحق له أن يشفع الحمد بالثنا ** ويغدو بذاك البحر اسبح سابح )
( ويا فوز ملك دمت صدر صدوره ** وبشرى له قد راح أربح رابح )
( بآرائك اللاتى تدل على الهدى ** وتبدى لمن خصصت سبل المناجح )
( ملكت خصال السبق فى كل غاية ** وملكت ما ملكت يا ابن الجحاجح )
( مطامح آمال لأشرف همة ** أقل مراميها أجل المطامح )
( فدونكها يا مهدى المدح مدحة ** أجبت بها عن مدح أشرف مادح )
____________________
(6/87)
( تهنيك بالعام الذى عم مدحه ** مواهب هاتيك البحار الطوافح )
( فخذها سمى الفخر يا خير مسبل ** على الخلق إغضاء ستور التسامح )
( ودم خاطب العليا بها خير خاطب ** وأتوق تواق وأطمح طامح ) بقية ترجمة ابن راجح
ثم قال لسان الدين توفى يوم الخميس ثالث شعبان سنة خمس وستين وسبعمائة وقد ناهز السبعين ودفناه بروضتنا إلبيرة وأعفى شارب الشعر من ثانى مقصه عفا الله تعالى عنا وعنه انتهى
قلت رأيت بخط البدر البشتكى فى اختصاره لإحاطة لسان الدين وسماه ب مركز الإحاطة فى هذا المحل ما نصه قال كاتبه لو وفق الله تعالى هذا الرجل لم يجب عن مثل تلك الحائية بهذا الهذاء ولعل ما فى كتاب أبى البركات الذى اسمه شعر من لا شعر له أنزل من هذه الطبقة انتهى
وقد أشار لسان الدين لهذا بقوله السابق وأعفى شارب الشعر من ثانى مقصه فلله دره من لوذعى زان خاتم البراعة بفصة فلكم له من عبارة وجيزة يقضى بها ما لم يستطيع غيره أن يعبر عنه بإطنابه فعلى كل من يروم التعبير عما فى الضمير أن يتمسك بأطنابه
وقال ابن خاتمة حدثنى الشريف الأديب أبو عبد الله ابن راجح التونسى مقدمة علينا بالمرية قال سجن القاضى أبو عبد الله ابن عبد السلام شابا وسيما لحق تعين عليه فأنشدته مداعبا
( أقاضى المسلمين حكمت حكما ** غدا وجه الزمان له عبوسا )
____________________
(6/88)
( سجنت على الدراهم ذا جمال ** ولم تسجنه إذ غصب النفوسا )
فأجابنى بأن قال إنما شكاه لى أرباب الدراهم دون أرباب النفوس انتهى
رجع إلى ما خوطب به لسان الدين رحمه الله تعالى 27 - من العشاب إلى لسان الدين
ومما خاطبه به أبو عبد الله العشاب التونسى فى بعض الأعياد قوله
( بيمن أبى عبد الإله محمد ** تيمن هذا القطر وانسجم القطر )
( أفاض علينا من جزيل عطائه ** بحورا تديم المد ليس له جزر )
( وآنسنا لما عدمنا مغانيا ** إذا ذكرت فى القلب ليس لها ذعر )
( هنيئا بعيد الفطر يا خير ماجد ** كريم به تسمو السيادة والفخر )
( ودمت مدى الأيام فى ظل نعمة ** تطيع لك الدنيا ويعنو لك الدهر )8 - من محمد بن محمد بن عبد الملك المراكشى إلى لسان الدين
وقال لسان الرحمن الدين فى ترجمة ابن عبد الملك المراكشى ما صورته وخاطبنى بقوله
( وليت ولاية أحسنت فيها ** ليعلم أنها شرفت بقدرك )
( وكم وال أساء فقيل فيه ** دنى القدر ليس لها بمدرك )
وقال أيضا يخاطبنى فى المعنى
____________________
(6/89)
( وليت فقيل أحسن خير وال ** ففاق مدى مداركها بفضله )
( وكم وال أساء فقيل فيه ** دنا فمحا محاسنها بفعله ) ترجمة ولد ابن عبد الملك
وفى الإحاطة ما محصله أن المذكور محمد بن محمد بن عبد الملك بن سعيد الأنصاري الأوسي كان شديد الانقباض محجوب المحاسن تنبو العين عنه جهامة ووحشة ظاهر وغرابة شكل وفى طى ذلك أدب غض ونفس حرة وحديث ممتع وأبوة كريمة أحد الصابرين على الجهد المستمسكين بأسباب الحشمة الراضين بالخصاصة وأبوه قاضى القضاة نسيج وحده الإمام العالم التاريخى المتبحر فى الآداب تقلبت به أيدى الليالي بعد وفاته لتبعة سلطت على نشبه فاستقر بمالقة مقدورا عليه لا يهتدي لمكان فضله إلا من عثر عليه ومن شعره قوله
( من لم يصن فى أمل وجهه ** عنك فصن وجهك عن رده )
( واعرف له الفضل وعرف له ** حيث أحل النفس من قصده )
ثم قال توفى فى ذى القعدة عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة انتهى 29 - من المكودي إلى لسان الدين ومما مدح به لسان الدين قول أبى عبد الله محمد المكودي الفاسي رحمه الله تعالى
( رحماك بى فلقد خلدت فى خلدي ** هوى أكابد منه حرقة الكبد )
( حللت عقد سلوى عن فؤادى إذ ** حللت منه محل الروح من جسدى )
( مرآك بدرى وذكراك التذاذ فمى ** ودين حبك إضمارى ومعتقدى )
____________________
(6/90)
( ومن جمالك نور لاح فى بصرى ** ومن ودادك روح حل فى خلدي )
( لا تحسبن فؤادى عنك مصطبرا ** فقبل حبك كان الصبر طوع يدي )
( وهاك جسمى قد أودى النحول به ** فلو طلبت وجودا منه لم تجد )
( بما بطرفك من غنج ومن حور ** وما بثغرك من در ومن برد )
( كن بين طرفى وقلبى منصفا فلقد ** حابيت بعضهما فاعدل ولا تحد )
( فقال لى قد جعلت القلب لى وطنا ** وقد قضيت على الأجفان بالسهد )
( وكيف تطلب عدلا والهوى حكم ** وحكمه قط لم يعدل على أحد )
( من لى بأغيد لا يرثى لذى شجن ** وليس يعرف ما يلقاه ذو كمد )
( ما كنت من قبل إذعانى لسطوته ** إخال أن الرشا يسطو على الأسد )
( إن جاد بالوعد لم تصدق مواعده ** فإن قنعت بزور الوعد لم يعد )
( شكوته علتى منه فقال ألا ** سر للطبيب فما برء الضنى بيدى )
( فقلت إن شئت برئى أو شفا ألمى ** فبارتشاف لماك الكوثرى جد )
( وإن بخلت فلى مولى يجود على ** ضعفى ويبرىء ما أضنيت من جسدى )
وخرج بعد هذا إلى مدح لسان الدين فأطال وأطاب وكيف لا وقد ملأ من إحسانه الوطاب رحم الله تعالى الجميع 30 - من اليتيم إلى لسان الدين
وقال لسان الدين كتبت إلى أبى عبد الله اليتيم أسأل منه ما أثبت فى كتاب التاج من شعره فكتب إلى بهذه الأبيات
( أما الغرام فلم أخلل بمذهبه ** فلم حرمت فؤادى نيل مطلبه )
____________________
(6/91)
( يا معرضا عن فؤاد لم يزل كلفا ** بحبه ذا حذار من تجنبه )
( قطعت عنه الذى عودته فغدا ** وحظه من رضاه برق خلبه )
( أيام وصلك مبذول وبرك بى ** مجدد قد صفا لى عذب مشربه )
( وسمع ودك عن إفك العواذل فى ** شغل وبدر الدجى ناس لمغربه )
( لا أنت تمنعنى نيل الرضى كرما ** ولا فؤادى بوان فى تطلبه )
( لله عرفك ما أذكى تنسمه ** لو كنت تمنحنى استنشاق طيبه )
( أنت الحبيب الذى لم أتخذ بدلا ** منه وحاشا لقلبى من تقلبه )
( يا ابن الخطيب الذى قد فقت كل سنا ** أزال عن ناظرى إظلام غيهبه )
( محمد الحسن فى خلق وفى خلق ** أكملت باسمك معنى الحسن فازه به )
( حضرت أو غبت ما لي عن هواك غنى ** لا ينقص البدر حسنا فى تغيبه )
( سيان حال التدانى والبعاد وهل ** لمبصر البدر نيل فى ترقبه )
( يا من أحسن ظنى فى رضاه وما ** ينفك يهدى قبيحا من تغضبه )
( إن كان ذنبى الهوى فالقلب منى لا ** يصغى لسمع ملام من مؤنبه ) 31 - من لسان الدين إلى اليتيم
فأجبته بهذه الرسالة وهى ظريفة فى معناها يا سيدى الذى إذا رفعت راية ثنائه تلقيتها باليدين وإذا قسمت سهام وداده على ذوى اعتقاده كنت صاحب الفريضة والدين دام بقاؤك لطرفة تبديها وغريبة تردفها بأخرى تليها وعقيلة بيان تجليها ونفس أخذ الحزن بكظمها وكلف الدهر بشت نظمها تؤنسها وتسليها لم أزل أشد على بدائعك يد الضنين وأقتنى
____________________
(6/92)
درر كلامك ونفثات أقلامك اقتناء الدر الثمين والأيام بلقائك تعد ولا تسعد وفى هذه الأيام انثالت على سماؤك بعد قحط وتواترت لدى آلاؤك على شحط وزارتنى من عقائل بيانك كل فاتنة الطرف عاطرة العرف رافلة فى حلل البيان والظرف لو ضربت بيوتها بالحجاز لأقرت لها العرب العاربة بالإعجاز ما شئت من رصف المبنى ومطاوعة اللفظ لغرض المعنى وطيب الأسلوب والتشبث بالقلوب غير أن سيدى أفرط فى التنزل وخلط المخاطبة بالتغزل وراجع الالتفات ورام استدراك ما فات ويرحم الله تعالى شاعر المعرة فلقد أجاد فى قوله وأنكر مناجاة الشوق بعد انصرام حوله
( أبعد حول تناجى الشوق ناجية ** هلا ونحن على عشر من العشر )
ولقد تجاوزت فى الأمد وأنسيت أخبار صاحبك عبد الصمد فأقسم بألفات القدود وهمزات الجفون السود وحامل الأرواح مع الألواح بالغدو والرواح لولا بعد مزارك ما أمنت غائلة ما تحت إزارك ثم إنى حققت الغرض وبحثت عن المشكل الذى عرض فقلت للخواطر انتقال ولكل مقام مقال وتختلف الحوائج باختلاف الأوقات ثم رفع اللبس خبر الثقات
ومنها وتعرفت ما كان من مراجعة سيدى لحرفة التكتيب والتعليم والحنين إلى العهد القديم فسررت باستقامة حاله وفضل ماله وإن لاحظ
____________________
(6/93)
اللاحظ ما قال الجاحظ فاعتراض لا يرد وقياس لا يطرد حبذا والله عيش التأديب فلا بالضنك ولا بالجديب معاهدة الإحسان ومشاهدة الصور الحسان
يمينا إن المعلمين لسادة المسلمين وإنى لأنظر منهم كلما خطرت على المكاتب أمراء فوق المراتب من كل مسيطر الدرة متقطب الأسرة متنمر للوارد تنمر الهرة يغدو إلى مكتبه كالأمير فى موكبه حتى إذا استقل فى فرشه واستوى على عرشه وترنم بتلاوة قالونه وورشه أظهر للخلق احتقارا وأزرى بالجبال وقارا ورفعت إليه الخصوم ووقف بين يديه الظالم والمظلوم فتقول كسرى فى إيوانه والرشيد فى أوانه أو الحجاج بين أعوانه فإذا استولى على البدر السرار وتبين للشهر الغرار تحرك إلى الخرج تحرك العود إلى الفرج أستغفر الله مما يشق على سيدى سماعه وتشمئز من ذكره طباعة شيم اللسان خلط الإساءة بالإحسان والغفلة من صفات الإنسان فأي عيش كهذا العيش وكيف حال أمير هذا الجيش طاعة معروفة ووجوه إليه مصروفه فإن أشار بالإنصات لتحقق القصات فكانما طمس على الأفواه ولأم بين الشفاه وإن أمر بالإفصاح وتلاوة الألواح علا الضجيج والعجيج وحف به كما حف بالبيت الحجيج وكم بين ذلك من رشوة تدس وغمزة لا تحس ووعد يستنجز وحاجة تستعجل وتحفز هنأ الله سيدى ما خوله وأنساه بطيب أخراه أوله وقد بعثت بدعابتى هذه مع إجلال قدره والثقة بسعة صدره فليتلقها بيمينه ويفسح لها فى المرتبة بينه وبين خدينه ويفرغ لمراجعتها وقتا من أوقاته عملا بمقتضى دينه وفضل يقينه والسلام
____________________
(6/94)
____________________
(6/95)
ترجمة أبى عبد الله اليتيم
ثم قال ومن المداعبة التى وقعت إليها الإشارة ما كتب به إليه صديقه أبو على ابن عبد السلام
( أبا عبد الإله نداء خل ** وفى جاء يمنحك النصيحة )
( إلى كم تألف الشبان غيا ** وخذلانا أما تخشى الفضيحة )
فأجابه بقوله
( فديتك صاحب السمة المليحة ** ومن طابت أرومته الصريحه )
( ومن قلبى وضعت له محلا ** فما عنه يحل بأن أزيحه )
( نأيت فدمع عينى فى انسكاب ** وأكبادى لفرقتكم قريحه )
( وطرفى لا يتاح له رقاد ** وهل نوم لأجفان جريحه )
( وزاد تشوقى أبيات شعر ** أتت منكم بألفاظ فصيحه )
( ولم تقصد بها جدا ولكن ** قصدت بها مداعبة وقيحه )
( فقلت أتألف الشبان غيا ** وخذلانا أما تخشى الفضيحه )
( ففيهم حرفتى وقوام عيشى ** وأحوالى بخلطتهم نجيحه )
( وأمرى فيهم أمر مطاع ** وأوجههم مصابيح صبيحه )
( وتعلم أننى رجل حصور ** وتعرف ذاك معرفة صحيحه )
ثم قال لسان الدين بعد إيراده ما مر ما صورته ولما اشتهر المشيب بعارضه ولمته وخفر الدهر بعهود صباه وأذمته أقلع واسترجع وتألم لما فرط وتوجع وهو الآن من جلة الخطباء طاهر العرض والثوب خالص
____________________
(6/95)
من الشوب باد عليه قبول قابل التوب وتوفى فى أخريات صفر سنة خمسين وسبعمائة فى الطاعون رحمه الله تعالى وغفر له انتهى
واليتيم المذكور هو أبو عبد الله محمد بن على العبدري المالقى وفى حقه يقول لسان الدين فى التاج ما مثاله هو مجموع أدوات حسان من خط ونغمة لسان أخلاقه روض تتضوع نسماته وبشره صبح تتألق قسماته ولا تخفى سماته يقرطس أغراض الدعابة ويصميها ويفوق سهام الفكاهة إلى مراميها فكلما صدرت فى عصره قصيدة هازلة أو ابيات منحطة عن الإجادة نازلة خمس أبياتها وذيلها وصرف معانيها وسيلها وتركها سمر الندمان وأضحوكة الأزمان وهو الآن خطيب المسجد الأعلى بمالقة متحل بوقار وسكينة حال من أهلها بمكانة مكينة لسهولة جانبه واتضاح مقاصده فى الخير ومذاهبه واشتغل لأول أمره بالتكتيب وبلغ الغاية فى التعليم والترتيب والشباب لم ينصل خضابه ولا سلت للمشيب عضابه ونفسه بالمحاسن كلفه صبه وشأنه كله هوى ومحبة ولذلك ما خاطبه بعض أودائه وكلاهما رمى أخاه بدائه حسبما يأتى خلال هذا المقول وفى أثنائه انتهى
وذكر نحو ما تقدم ذكره سامح الله الجميع بفضله 32 - مخاطبة الكرسوطى للسان الدين
وقال لسان الدين فى ترجمة أبى عبد الله محمد بن عبد الرحمن الكرسوطى الفاسى نزيل مالقة ما صورته وأنشدنى وأنا بمالقه أحاول لوث العمامة وأستعين بالغير على الإحكام لها
____________________
(6/96)
( أمعمما قمرا تكامل حسنة ** أربى على الشمس المنيرة فى البها )
( لا تلتمس ممن لديك زيادة ** فالبدر لا يمتار من نور السها ) ترجمة أبى عبد الله الكرسوطى
قال لسان الدين وهو فقيه محدث متكلم ألف كتبا منها الغرر فى تكميل الطرر طرر أبى إبراهيم الأعرج ثم كتاب الدرر فى اختصار الطرر المذكور وتقييدان على الرسالة كبير وصغير ولخص التهذيب لابن بشير وحذف أسانيد المصنفات الثلاثة والتزم إسقاط التكرار واستدرك الصحاح الواقعة فى الترمذى على البخارى ومسلم وقيد على مختصر الطليطلى وشرع فى تقييد على قواعد الإمام أبى الفضل عياض بن موسى برسم ولدى ويصدر منه الشعر مصدرا لا تكنفه منه العناية وكانت له اليد الطولى فى عبارة الرؤيا ومولده بفاس عام تسعين وستمائة انتهى ملخصا 33 - مخاطبة ابن الزبير للسان الدين
وقال فى الترجمة أبى عمرو ابن الزبير ما صورته ومما خاطبنى به عند إيابى من العدوة فى غرض الرسالة قوله
( نوالى الشكر للرحمن فرضا ** على نعم كست طولا وعرضا )
( وكم لله من لطف خفى ** لنا منه الذى قد شا وأمضى )
( بمقدمك السعيد أتت سعود ** ننال بها نعيم الدهر محضا )
( فيا بشرى لأندلس بما قد ** به والاك بارينا وأرضى )
( ويا لله من سفر سعيد ** قد أقرضك المهيمن فيه قرضا )
( ورحت بنية أخلصت فيها ** فأبت بكل ما يبغى ويرضى )
( وثبت لنصره الإسلام لما ** علمت بأن الأمر إليك أفضى )
____________________
(6/97)
( لقد أحييت بالتقوى رسوما ** كما أرضيت بالتمهيد أرضا )
( وقمت بسنة المختار فينا ** تمهد سنة وتقيم فرضا )
( ورضت من العلوم الصعب حتى ** جنيت ثمارها رطبا وغضا )
( فرأيك راجح فيما تراه ** وعزمك من مواضى الهند أمضى )
( تدبر أمر مولانا فيلقى ** المسىء لديك إشفاقا وإغضا )
( فأعقبنا شفاء وانبساطا ** وقد كانت قلوب الناس مرضى )
( ومن أضحى على ظمإ وأمسى ** يرد إن شاء من نعماك حوضا )
( أبا عبد الإله إليك أشكو ** زمانى حين زاد الفقر عضا )
( ومن نعماك أستجدى لباسا ** تفيض به على الجاه فيضا )
( بقيت مؤملا ترجى وتخشى ** ومثلك من إذا ما جاد أرضى ) ترجمة أبى عمرو ابن الزبير
وأبو عمرو المذكور هو محمد بن أحمد بن إبراهيم بن الزبير أبوه الأستاذ أبو جعفر ابن الزبير أستاذ الزمان شيخ أبى حيان وغيره وقال فى الإحاطة فى حقه إنه فكه حسن الحديث ركض طرف الشبيبة فى ميدان الراحة منكبا عن سنن أبيه وقومه مع شفوف إدراك وجوده حفظ كانا يطمعان والده فى نجابته فلم يعدم قادحا شرق فنال حظوة وجرت عليه خطوب ثم عاد إلى الأندلس فتطور بها وهو الآن قد نال منه الكبر يزجى لوقته بمالقة متعللا برمق من بعض الخدم المخزنية استجاز له والده الطم والرم من أهل المغرب والمشرق وبضاعته فى الشعر مزجاة ثم قال مات تاسع المحرم عام خمسة وستين وسبعمائة انتهى
____________________
(6/98)
ترجمة أبى يحيى الأكحل
وقال فى ترجمة أبى يحيى محمد بن أحمد بن محمد بن الأكحل ما صورته شيخ هيدورى الذقن خدوع الظاهر خلوب اللفظ شديد الهوى إلى الصوفية والكلف بإطراء أهل الخير من بيت صون وحشمة متقدم فى معرفة الأمور العلمية خائض فى غمار التصوف وانتحال كيمياء السعادة راكب متن دعوى عريضة فى مقام التوحيد تكذبها أحواله الراهنة لمعاصاة خلقه على الرياضة واستيلاء الشره وغلبة سلطان الشهوة والمشاحة أيام الولاية والسباب الشاهد بالشدة والحلف المتصل بياض اليوم فى ثمن الخردلة باليمين التى فيها فساد الأنكحة والغضب الذى يقلب العين 34 - مخاطبة الأكحل للسان الدين
خاطبنى بين يدى نكبته ولم أكن أظن الشعر مما تلوكه جحفلته ولكنه من أهل الكفاية
( رجوتك بعد الله يا خير منجد ** وأكرم مأمول وأعظم مرفد )
( وأفضل من أملت للحادث الذى ** فقدت به صبرى وما ملكت يدي )
( وحاشا وكلا أن يخيب مؤملى ** وقد علقت بابن الخطيب محمد )
( وما أنا إلا عبد نعمته التى ** عهدت بها يمنى وإنجاح مقصدي )
( وأشرف من حض الملوك على التقى ** وأبدى لهم رشدا نصيحة مرشد )
____________________
(6/99)
( وساس الرعايا الآن خير سياسة ** مباركة فى كل غيب ومشهد )
( وأعرض عن دنياه زهدا وإنها ** لمظهرة طوعا له عن تودد )
( وما هو إلا الليث الغيث إن أتى ** له خائف أو جاء مغناه مجتدي )
( وبحر علوم دره كلماته ** إذا رددت فى الحفل أي تردد )
( صقيل مرائى الفكر رب لطائف ** محاسنها تجلى بحسن تعبد )
( بديع عروج النفس للملإ الذى ** تجلت له الأسرار فى كل مصعد )
( شفيق رفيق دائم الحلم راحم ** ورأى جميل للجميل معود )
( صفوح عن الجاني على حين قدرة ** مواصل تقوى الله فى اليوم والغد )
( أيا سيدى يا عمدتى عند شدتى ** ويا مشربى مهما ظمئت وموردى )
( حنانيك والطف بى وكن لى راحما ** ورفقا على شيخ ضعيف منكد )
( رجاك رجاء للذى أنت أهله ** ووافاك يهدى للثناء المجدد )
( وأمك مضطرا لرحماك شاكيا ** بحال كحر الشمس حر توقد )
( وعندى افتقار لا يزال مواصلا ** لاكرم مولى حاز أجرا وسيد )
( ترفق بأولاد صغار بكاؤهم ** يزيد لوقع الحادث المتزيد )
( وليس لهم إلا إليك تطلع ** إذا مسهم ضر أليم التعهد )
( أنلهم أيا مولاى نظرة مشفق ** وجد بالرضى وانظر لشمل مبدد )
( وعامل أخا الكرب الشديد برحمة ** وأسعف بغفران الذنوب وأسعد )
( ولا تنظرن إلا لفضلك لا إلى ** جريمة شيخ عن محلك مبعد )
( وإن كنت قد أذنبت إنى تائب ** فعود لى الفعل الجميل وجدد )
( بقيت بخير لا يزال وعزة ** وعيش هنىء كيف شئت وأسعد )
( وسخرك الرحمن للعبد إنه ** لمثن وداع للمحل المجد )
ثم قال وهو الآن من مسطرى الأعمال على تهور واقتحام كبره من
____________________
(6/100)
خط لا غاية وراءه فى الركاكة كما قال المعرى
( تمشت فوقه حمر المنايا ** ولكن بعدما مسخت نمالا )5 - مخاطبة ابن عياش للسان الدين
وقال فى ترجمة أبى عبد الله محمد بن على بن عياش بن مشرف الأمى إنه من أهل الأصالة والحسب ظهرت منه على حداثة السن أبيات ونسب إليه شعر توسل به وتصرف فى الإشراف فحمدت سيرته وكتب إلى بقوله
( سفرت شموس اليمن والإقبال ** وبدت بدور السعد ذات كمال )
( لقدوم سيدنا الوزير محمد ** أعزز به من سيد مفضال )
( قمر تجلى بين زهر تجتلى ** يهدى لفعل الخير لا الإضلال )
( سر آمنا لا تكترث فلأنت فى ** حفظ الإله الواحد المتعالى )
( برا وبحرا لا تخاف ملمة ** وعدو ذاتك خلف ظهرك صالى )
( لا يستقر له قرار بعدكم ** مما يحل به من الاوجال )
( والآن ترجع سالما ومبشرا ** ببلوغ كل مسرة ومنال )
وهى طويلة نمطها متخلف عن الإجادة وهى من مثله مما يستظرف انتهى 36 - مخاطبة أبى عبد الله الوادى آشى للسان الدين
وقال فى ترجمة إبى عبد الله محمد بن محمد العراقى الوادى آشى فاضل
____________________
(6/101)
____________________
(6/102)
الأبوة بادى الاستقامة حسن الأخلاق تولى أعمالا كتب إلى وقد أبى عملا عرض عليه بقوله
( أأصمت ألفا ثم أنطق بالخلف ** وأفقد إلفا ثم آنس بالجلف )
( وأمسك دهرى ثم أفطر علقما ** ويمحق بدرى ثم ألحق بالخسف )
( وعزكم لا كنت بالذل عاملا ** ولو أن ضعفى ينتهى بى إلى الحتف )
( فإن تعملونى فى تصرف عزة ** وعدل وإلا فاحسموا علة الصرف )
( بقيتم وسحب العفو منكم تظلنى ** وحظ ثنائى دائما ثانى العطف )7 - مخاطبة أبى محمد الأزدى للسان الدين
وقال فى ترجمة أبى محمد عبد الله بن إبراهيم الأزدى ما صورته وخاطبنى لما وليت خطة الإنشاء وغيرها فى أواخر عام تسعة وأربعين وسبعمائة بما نصه
( حشاشة نفس أعلنت لمذيبها ** بتذكار أيام الوصال وطيبها )
( ونادته رحمى أحيها نفس مدنف ** تموت إذا لم تحيها بوجيبها )
( فداو بقرب منك لاعج وجدها ** وفيض أماقيها وطول نحيبها )
( وقد بلغت حدا به صح فى الهوى ** وأحكامه ثوب الضنى فى نصيبها )
( وهل يتداوى داء نفس تعيسة ** إذا كان يوما داؤها من طبيبها )
( لعل أوار الوجد تخمد ناره ** فيبرد عنها ما بها من لهيبها )
( إليك حداها الشوق يا بدرها الذى ** يعز عليها منه طول مغيبها )
( سلكت بها سبل الهوى فهى تبتغى ** لقاك وتبغى غفلة من رقيبها )
( أجبها بابقاء عليها فإنها ** ستفنى إذا ما لم تكن بمجيبها )
( ومل نحوها بالود فهى قد آذعنت ** كما تذعن الأقلام لابن خطيبها )
( وحيد الزمان الماهر الباهر الحلى ** وجهبذ آداب العلا وأديبها )
( إمام معاليها وبحر علومها ** وبدر دياجيها وصدر شعوبها )
____________________
(6/102)
( مصرفها كيف انثنت ومعيدها ** ومبدئها حيث انتهت ومصيبها )
( ورافع أعلام البلاغة والذى ** أتى ناثرا أو ناظما بعجيبها )
( وحامل رايات الرياسة رفعة ** قضى المجد تخصيصا له بوجوبها )
( من الغر ممن أوجبت لشبابها ** معاليهم الفضل العظيم وشيبها )
( من أبناء أرباب المنابر والأولى ** سما فخرهم بين الورى بركوبها )
( خلال ابن عبد الله طود الحجى أبى ** محمد باد حسنها من ضروبها )
( أجاد وأجدى فاسل عن ذكر طىء ** وحاتمها زهوا به وحبيبها )
( ففى كل ما يبدى محمد عبره ** محاسنها تنبى بسر غيوبها )
( تجيب القوافى إن دعا ببعيدها ** وتنقاد طوعا إن دعا بقريبها )
( تخير أخلاق الكرام فلم يكن ** نهى ولهى يرضى بغير رحيبها )
( تقدم فى دار الخلافة حاجبا ** لينجدها فى سلمها وحروبها )
( وقام لها فى ساحة العز كاتبا ** بمحضرها أسرارها ومغيبها )
( فأبدى من أنواع الفضائل أوجها ** تقر لها بالحسن عين لبيبها )
( هنيئا به يمنا بأسعد ماثل ** لغرناطة قاض بصرف خطوبها )
( فللسعد تأثير يجىء إذا جرى ** به قدر كالريح عند هبوبها )
( أموقد نار الفكر يقدح زندها ** فيسبى به الألباب سحر نسيبها )
( حدانى إليك الحب قدما ومال بى ** حديث لآمال خلت عن غريبها )
( فقدمتها نظما قوافى قصرت ** لديك بذاوى فكرتى ورطيبها )
( وكنت كمن وافى لدى الدار بالحصى ** يرفع منها ساهيا عن عيوبها )
( فصلها وخذ بالعفو فيها فلم أصل ** لأبلغ منها فاغتفر من ذنوبها ) قطع من شعر الأزدى
وصاحب هذا النظم من أهل بلش وله اقتدار على النظم والنثر قال فى
____________________
(6/103)
الإحاطة ما محصله ومما وقع له أثناء مقامات وأغراض تشهد باقتداره مهملا
( رعى الله عهدا حوى ما حوى ** لأهل الوداد وأهل الهوى )
( أراهم أمورا حلا وردها ** وأعطاهم السؤل كلا سوا )
( ولما حلا الوصل صالوا له ** وراموه مأوى وماء روا )
( وأوردهم سر أسرارهم ** ورد إلى كل داء دوا )
( وما أمل طال إلا وهى ** وما آمل صال إلا هوى )
وقال معجمه
( بث بينى يبثنى فيض جفنى ** شغفى شفنى فشبت ببينى )
( فتنتنى بغنج ظبى تجنى ** تبتغى نقض نيتى بتجنى )
( بزة زينت قضيب تثنى ** قضيت يغيتى ففزت بفن )
( خفت تشتيت بنيتى فجفتنى ** ثقة تنثنى فخيب ظنى ) وقال كلمة وكلمة
( الهوى شفنى وأهمل جفنى ** أدمعا تنثنى دما بتثنى )
( أحور شب حر بثى لما ** نقض العهد بين طول تجنى )
( حاكم يتقى ولا ذنب إلا ** شغف لم يخب لمسعاه ظنى )
( ما له ينقض العهود فيشجى ** ولها ينثنى مسهد جفن )
( لم يجز وصله فبت محالا ** يقتضى حل بغيتى كل فن )
وقال يرثى ديكا فقده ويصف الوجد الذى وجده ويبكى عدم أذانه إلى غير ذلك من مستظرف شانه
( أودى به الحتف لما جاءه الأجل ** ديكا فلا عوض منه ولا بدل )
____________________
(6/104)
( قد كان لى أمل فى أن يعيش فلم ** يثبت مع الحتف فى بقياه لى أمل )
( فقدته فلعمرى إنها عظة ** وبالمواعظ تذرى دمعها المقل )
( ما كان أبدع مرآه ومنظره ** وصفا به كل حين يضرب المثل )
( كأن مطرف وشى فوق ملبسه ** عليه من كل حسن باهر حلل )
( كأن إكليل كسرى فوق مفرقه ** وتاجه فهو عالى الشكل محتفل )
( موقت لم يكن يعزى له خطأ ** فيما يرتب من ورد ولا خلل )
( كأن زرقال فيما مر علمه ** علم المواقيت مما رتب الأول )
( يرحل الليل يحيى بالصراخ فما ** يصده كلل عنه ولا ملل )
( رأيته قد وهت منه القوى فهوى ** للأرض فعلا يريه الشارب الثمل )
( لو يفتدى بديوك الأرض قل له ** ذاك الفداء ولكن فاجأ الأجل )
( قالوا الدواء فلم يغن الدواء ولم ** ينفعه من ذاك ما قالوا وما فعلوا )
( أملت فيه ثوابا أجر محتسب ** إن نلت ذلك صح القول والعمل )
وأمره السلطان أبو عبد الله سادس الملوك النصريين وقد نظر إلى شلير وقد تردى بالثلج وتعمم وكمل ما أراد من بزته وتمم أن ينظم فى وصفه فقال بديها
( وشيخ جليل القدر قد طال عمره ** وما عنده علم بطول ولا قصر )
( عليه لباس أبيض باهر السنا ** وليس بثوب أحكمته يد البشر )
( فطورا تراه كله كاسيا به ** وكسوته فيها لأهل النهى عبر )
( وطورا تراه عاريا ليس يكتسى ** بحر ولا برد من الشمس والقمر )
( وكم مرت الأيام وهو كما ترى ** على حاله لم يشك ضعفا ولا كبر )
( وذاك شلير شيخ غرناطة التى ** لبهجتها فى الأرض ذكر قد اشتهر )
____________________
(6/105)
( بها ملك سامى المراقى أطاعه ** كبار ملوك الأرض فى حالة الصغر )
( تولاه رب العرش منه بعصمة ** تقيه مدى الأيام من كل ما ضرر )
وتوفى المذكور فى بلده بلش فى طاعون عام خمسين وسبعمائة انتهى 38 - من لسان الدين إلى ابن رضوان
وقال فى الإحاطة فى ترجمة صاحب القلم الأعلى بالمغرب أبى القاسم ابن رضوان النجارى ما صورته ولما ولى الإنشاء بباب ملك المغرب ظهر لسلطاننا بعض قصور فى المراجعات فكتبت إليه
( أبا قاسم لا زلت للفضل قاسما ** بميزان عدل ينصر الحق من نصر )
( مدادك وهو المسك طيبا ومنظرا ** وإلا سواد القلب والفود والبصر )
( عهدناه فى كل المعارف مطنبا ** فما باله فى حرمه الود مختصر )
( أظنك من ليل الوصال انتخبته ** إلينا وذاك الليل يوصف بالقصر )
( أردنا بك العذر الذى أنت أهله ** ومثلك لا يرمى بعى ولا حصر )9 - جواب ابن رضوان
فراجعنى ولا أدرى أهى من نظمه أم نظم غيره
____________________
(6/106)
( حقيق أبا عبد الإله بك الذى ** لمذهبه فى البر يتضح الأثر )
( وان الذى نبهت منى لم يكن ** نؤوما وحاشا الود أن أغمط الأثر )
( ورب اختصار لم يشن نظم ناظم ** ورب اقتصار لم يعب نثر من نثر )
( وعذرك عنى من محاسنك التى ** نظام حلاها فى الممادح ما انتثر )
( ومن عرف الوصف المناسب منصفا ** تأتى له نهج من العذر ما دثر )
ترجمة ابن رضوان
وهو عبد الله بن يوسف بن رضوان بن يوسف بن رضوان النجارى من أهل مالقة صاحب العلامة العلية والقلم الأعلى بالمغرب قرأ على جماعة منهم بتونس قاضى الجماعة ابن عبد السلام قال فى التاج فيه أيام لم يفهق حوضه ولا أزهر روضه ما نصه أديب أحسن ما شاء ومتح قليبه فملأ الدلو وبل الرشاء وعانى على حداثته الشعر والإنشاء وله ببلده بيت معمور بفضل وأمانة ومجد وديانة ونشأ هذا الفاضل على أتم العفاف والصون فما مال إلى فساد بعد الكون وله خط بارع وفهم إلى الغوامض مسارع وقد أثبت من كلامه ونفثات أقلامه كل محكم العقود زار بابنة العنقود فمن ذلك قوله
( لعلكما أن ترعيا لى وسائلا ** فبالله عوجا بالركاب وسائلا )
ومنها
( لقد جار دهرى إذ نأى بمطالبى ** وظل بما أبغى من القرب ماطلا )
( عتبت عليه فاغتدى لى عاتبا ** وقال أصخ لى لا تكن قط عاذلا )
( أتعتبنى أن قد أفدتك موقفا ** لدى أعظم الأملاك حلما ونائلا )
____________________
(6/107)
( مليك حباه الله بالخلق الرضى ** وأعلى له فى المكرمات المنازلا )
وهى طويلة
ومن نظم ابن رضوان المذكور
( تبرأت من حولى إليك وأيقنت ** برحماك آمالى أصح يقين )
( فلا أرهب الأيام إذ كنت ملجأ ** وحسبى يقينى باليقين يقينى )
وكلفه أبو عنان وصف صيد من غدير فقال من أبيات
( ولرب يوم فى حماك شهدته ** والسرح ناشرة عليك ظلالها )
( حيث الغدير يريك من صفحاته ** درعا تجيد به الرياح صقالها )
( والمنشآت به تدير حبائلا ** للصيد فى حيل تدير حبالها )
( وتريك إذ يلقى بها اليم الذى ** أخفت جوانحه وغاب خلالها )
( فحسبتها زردا وأن عواليا ** تركت به عند الطعان نصالها )
وقال فيه ايضا
( أبصرت فى يوم الغدير عجائبا ** جاءت بآيات العجائب مبصره )
( سمكا لدى شبك فقل ليل بدت ** فيه الزواهر للنواظر نيره )
( فكأن ذا زرد تضاعف نسجه ** وكأن تلك أسنة متكسره )
ومما نظمه عن أمر الخلافة المستعينية ليكتب فى طرة قبة رياض الغزلان
____________________
(6/108)
من حضرته
( هذا محل المنى بالأمن معمور ** من حله فهو بالآمال محبور )
( مأوى النعيم به ما شئت من ترف ** تهوى محاسنه الولدان والحور )
( ويطلع الروض منه مصنعا عجبا ** يضاحك النور من لألائه النور )
( ويسطع الزهر من أرجائه أرجا ** ينافح الند نشر منه منشور )
( مغنى السرور سقاه الله ما حملت ** غر الغمام وحلته الأزاهير )
( انظر إلى الروض تنظر كل معجبه ** مما ارتضاه لرأى العين تحبير )
( مر النسيم به يبغى القرى فقرى ** دراهم النور تبديد وتنثير )
( وهامت الشمس فى حسن الظلال به ** ففرقت فوقها منه دنانير )
( والدوح ناعمة تهتز من طرب ** همسا وصوت غناء الطير مجهور )
( كأنما الطير فى أفنائها صدحت ** بشكر مالكها والفضل مشكور )
( والنهر شق بساط الروض تحسبه ** سيفا ولكنه فى السلم مشهور )
( ينساب للجة الخضراء أزرقه ** كالأيم جد انسيابا وهو مذعور )
( هذى مصانع مولانا التى جمعت ** شمل السرور وأمر السعد مأمور )
( وهذه القبة الغراء ما نظرت ** لشكلها العين إلا عز تنظير )
( ولا يصورها فى الفهم ذو فكر ** إلا ومنه لكل الحسن تصوير )
( ولا يرام بحصر وصف ما جمعت ** من المحاسن إلا صد تقصير )
( فيها المقاصير تحميها مهابته ** لله ما جمعت تلك المقاصير )
( كأنها الأفق تبدو النيرات به ** ويستقيم بها فى السعد تسيير )
( وينشأ المزن فى أرجائه وله ** من عنبر الشحر إنشاء وتسخير )
( وينهمى القطر منه وهو منسكب ** ماء من الورد يذكو منه تقطير )
____________________
(6/109)
( وتخفق الريح منه وهى ناسمة ** مما أهب به مسك وكافور )
( ويشرق الصبح منه وهو من غرر ** غر تلألأ منهن الأسارير )
( وتطلع الشمس فيه من سنا ملك ** تبسم الدهر منه وهو مسرور )
( لله منه إمام عادل بهرت ** أوصافه فهى للأمداح تحبير )
( غيث السماح وليث البأس فالق به ** محيى الهدى وهو للعادين تتبير )
( قل للمبارى وإن لم تلقه أبدا ** ورب فرض محال وهو تقدير )
( فخر الأنام أحل الفخر منزله ** فكل مدح على علياه مقصور )
( إذا أبو سالم مولى الملوك بدا ** بدرا تضىء بمرآه الدياجير )
( فأى خطب يخاف الدهر آمله ** وأى سؤل له فى النيل تعذير )
( بشراك بشراك يا نجل الخلافة ما ** خولت من نيلها والضد مقهور )
( لك الخلود بعز الملك فى نعم ** لا يعترى صفوها فى الدهر تكدير )
( فانعم هنيئا بلذات مواصلة ** لا يأتليهن إلمام وتكرير )
( لا زلت تلقى المنى فى غبطة أبدا ** ما دام لله تهليل وتكبير )
وقال وكتب به على قلم فضة
( إذا شهدت بالنصر خطية القنا ** فملكت أمر الفتح من دون ما شرط )
( كفى شاهدا منى بفضلك ناطقا ** لسانى مهما أفصحت ألسن الخطى )
وقال وكتب به على سكين
( أرواح بأمر المستعين وأغتدى ** لإذهاب طغيان اليراع الرواقم )
( ويفعل فى الأقلام حدى مصلحا ** كفعل ظبى أسيافه فى الأقالم )
قال ومما كتب به على قصيدة عيدية
( لما رأيت هدايا العيد أعظمها ** هدية الطيب فى حسن وتعجيب )
____________________
(6/110)
( ولم أجد فى ضروب العاطرات شذا ** يحكى ثناءك فى نشر وفى طيب )
( أهديت نحوك منه كل ذى أرج ** أنفاسه بين تشريق وتغريب )
( وفى القبول منال السعد فالق به ** تلق الأمانى بتأهيل وترحيب )
وقال فى رجل يلقب بالبعير
( وذى لقب عنت له عند صحبه ** مآرب لم يسعد عليهن مسعد )
( دعوه بعيرا فاستشاط فقال مه ** أبا أحمد وارتد عنهم يهدهد )
( فقلت له عد نحوهم لتعود من ** مرامك بالمطلوب توفى وتحمد )
( فقال وقد غص الفضاء بصوته ** وقد هدرت منه الشقاشق تزبد )
( لئن عدت نادونى بعيرا كمثلها ** فقلت له لا تخش فالعود أحمد )
وقال
( وبخيل لما دعوه لسكنى ** منزل بالجنان ضن بذلك )
( قال لى مخزن بدارى فيه ** كل مالى فلست للدار تارك )
( قلت وفقت للصواب فحاذر ** قول خل مرغب فى انتقالك )
( لا تعرج على الجنان بسكنى ** ولتكن ساكنا بمخزن مالك )
وقال رحمه الله تعالى فى مركب
( يا رب منشأة عجبت لشأنها ** وقد احتوت فى البحر أعجب شان )
( سكنت بجنبيها عصابه شدة ** حلت محل الروح فى الجثمان )
( فتحركت بإرادة مع أنها ** فى جنسها ليست من الحيوان )
____________________
(6/111)
( وجرت كما قد شاءه سكانها ** فعلمت أن السر فى السكان )
وقال رحمه الله تعالى
( وذى خدع دعوة لاشتغال ** وما عرفوه غثا من سمين )
( فأظهر زهده وغنى بمال ** وجيش الحرص منه فى كمين )
( وأقسم لا فعلت يمين خب ** فيا عجبا لحلاف مهين )
( يغر بيسره ويمين حنث ** ليأكل باليسار وباليمين )
وهو الأن بحالة الموصوفة انتهى 40 - مخاطبة أبى بكر ابن عبد الملك للسان الدين
وقال لسان الدين رحمه الله تعالى خاطبنى أبو بكر عبد الرحمن بن عبد الملك مستدعيا إلى إعذار ولده بقوله
( أريد من سيدى الأعلى تكلفه ** إلى الوصول إلى دارى صباح غد )
( يزيدنى شرفا منه ويبصر لى ** صناعة القاطع الحجام فى ولدى )
فأجبته
( يا سيدى الأوحد الأسمى ومعتمدى ** وذا الوسيلة من أهلى ومن بلدى )
( دعوت فى يوم الأثنين الصحاب ضحى ** وفيه ما ليس فى سبت ولا أحد )
( يوم السلام على المولى وخدمته ** فاصفح وإن عثرت رجلى فخذ بيدى )
( والعذر أوضح من نار على علم ** فعد إن غبت عن لوم وعن فند )
( بقيت فى ظل عيش لا نفاد له ** مصاحبا غير محصور إلى أمد )
____________________
(6/112)
ترجمة أبى بكر ابن عبد الملك
وأبو بكر المذكور أصله من باغه ونشأ بلوشة وهو محسوب من الغرناطيين
وفى التاج فى حقه ما صورته فارض هاجى مداهن مداجى أخبث من نظر من طرف خفى وأغدر من تلبس بشعار وفى إلى مكيدة مبثوثة الحبائل وإغراء يقطع بين الشعوب والقبائل من شيوخ طريقة العمل المتقلبين من أحوالها بين الصحو والثمل المتعللين برسومها حين اختلط المرعى بالهمل وهو ناظم أرجاز ومستعمل حقيقة ومجاز نظم مختصر السيرة فى الألفاظ اليسيرة ونظم رجزا فى الزجر والفال نبه به تلك الطريقة بعد الإغفال انتهى
قال ومن شعره
( إن الولاية رفعة لكنها ** أبدا إذا حققتها تتنقل )
( فانظر فضائل من مضى من أهلها ** تجد الفضائل كلها لا تعزل )
توفى بالطاعون بغرناطة عام خمسين وسبعمائة انتهى 41 - مخاطبة أبى سلطان للسان الدين
وقال فى ترجمة أبى سلطان عبد العزيز بن على الغرناطى بن يشت ما صورته ومما خاطبنى به قوله
( أطلت عتب زمان فل من أملى ** وسمته الذم فى حل ومرتحل )
( عاتبته ليلين العتب جانبه ** فما تراجع عن مطل ولا بخل )
____________________
(6/113)
( فعدت أمنحه العتبى ليشفق لى ** فقال لى إن سمعى عنك فى شغل )
( فالعتب عندى كالعتبى فلست أرى ** أصغى لمدحك إذ لم أصغ للعذل )
( فقلت للنفس كفى عن معاتبه ** لا تنقضى وجواب صيغ من وجل )
( من يعتلق فى الدنا بابن الخطيب فقد ** سما عن الذل واستولى على الجذل )
( قالت فمن لى بتقريبى لخدمته ** فقد أجاب قريبا من جوابك لى )
( فقال للناس كفوا عن محادثتى ** فليس ينفعكم حولى ولا حيلى )
( قد اشتغلت عن الدنيا بآخرتى ** وكان ما كان من أيامى الأول )
( وقد رعيت وما أهملت من منح ** فكيف يختلط المرعى بالهمل )
( ولست أرجع للدنيا وزخرفها ** من بعد شيب غدا فى الرأس مشتعل )
( ألست تبصر أطمارى وبعدى عن ** نيل الحظوظ وإغذاذى إلى أجلى )
( فقلت ذلك قول صح مجمله ** لكن من شأنه التفصيل للجمل )
( ما أنت جالب أمر تستعين به ** على المظالم فى حال ومقتبل )
( ولا تحل حراما أو تحرم ما ** أحل ربك فى قول ولا عمل )
( ولا تبع آجل الدنيا بعاجلها ** كما الولاة تبيع اليم بالوشل )
( وأين عنك الرشا إن ظلت تطلبها ** هذا لعمرى أمر غير منفعل )
( هل أنت تطلب إلا أن تعود إلى ** كتب المقام الرفيع القدر فى الدول )
( فما لأوحد هذا الكون قاطبة ** وأسمح الخلق من حاف ومنتعل )
( لم يلتفت نحو ما تبغيه من وطر ** ولم يسد الذى قد بان من خلل )
( إن لم تقع نظره منه عليك فما ** يصفو لديك الذى أملت من أمل )
( فدونك السيد الأعلى فمطلبكم ** قد نيط منه بفضل غير منفصل )
( فقد خبرت بنى الدنيا بأجمعهم ** من عالم وحكيم عارف وولى )
( فما رأيت له فى الناس من شبه ** قل النظير له عندى فلا تسل )
( وقد قصدتك يا أسمى الورى همما ** وليس لى عن حمى علياك من حول )
( فما سواك لما أملت من أمل ** وليس لى عنك من زيغ ولا ميل )
____________________
(6/114)
( فانظر لحالى فقد رق الحسود لها ** واحسم زمانه ما قد ساء من علل )
( ودم لنا ولدين الله ترفعه ** ما أعقبت بكر الإصباح بالأصل )
( لا زلت معتليا عن كل حادثة ** كما علت ملة الإسلام فى الملل )
انتهى ترجمة عبد العزيز أبى سلطان
والمذكور هو عبد العزيز بن على بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد العزيز بن يشت من غرناطة يكنى أبا سلطان قال فى الإحاطة فى حقه فاضل حيي حسن الصورة بادى الحشمة فاضل البيت سريه كتب فى ديوان الأعمال فأتقن وترقى إلى الكتابة السلطانية وسفر فى بعض الأغراض الغربية ولازم الشيخ أبا بكر عتيق بن مقدم من مشيخة الصوفية بالحضرة فظهرت عليه آثار ذلك فى نظمه ومقاصده فمن نظمه ما أنشده ليلة الميلاد المعظم
( القلب يعشق والمدامع تنطق ** برح الخفاء فكل عضو منطق )
( إن كنت أكتم ما أكن من الجوى ** فشحوب لونى فى الغرام مصدق )
( وتذللى عند اللقا وتملقى ** إن المحب إذا دنا يتملق )
( فلكم سترت عن الوجود محبتى ** والدمع يفضح ما يسر المنطق )
( ولكم أموة بالطلول وبالكنى ** وأخوض بحر الكتم وهو الأليق )
( ظهر الحبيب فلست أبصر غيره ** فبكل مرئى أرى يتحقق )
( ما فى الوجود تكثر لمكثر ** إن المكثر بالأباطل يعلق )
( فمتى نظرت فأنت موضع نظرتى ** ومتى نطقت فما بغيرك أنطق )
( يا سائلى عن بعض كنه صفاته ** كل اللسان وكل عنه المنطق )
( فاسلك مقامات الرجال محققا ** إن المحقق شأوه لا يلحق )
( مزق حجاب الوهم لا تحفل به ** فالوهم يستر ما العقول تحقق )
____________________
(6/115)
( واخلص إذا شئت الوصول ولا تئل ** فالعجز عن طلب المعارف موبق )
( إن التحلى فى التخلى فاقتصد ** ذاك الجناب فبابه لا يغلق )
( ولتقتبس نار الكليم ولا تخف ** والغ السوى إن كنت منها تفرق )
( ومتى تجلى فيك سر جماله ** وصعقت خوفا فالمكلم يصعق )
( دع رتبه التقليد عنك ولا تته ** تلق الذى قيدت وهو المطلق )
( واقطع حبال علائق وعوائق ** إن العوائق بالمكاره تطرق )
( جرد حسام النفس عن جفن الهوى ** إن العوائد بالتجرد تخرق )
( فإذا فهمت السر منك فلا تبح ** فالسيف من بث الحقائق أصدق )
( بالذوق لا بالعلم يدرك علمنا ** سر بمكنون الكتاب مصدق )
( وبما أتى عن خير من وطىء الثرى ** سر الوجود وغيثه المتدفق )
( خير الورى وابن الذبيحين الذى ** أنواره فى هديها تتألق )
( من أخبر الأنباء قبل ببعثه ** ولنصه سر الكتاب يصدق )
( رفعت له الحجب التى لم ترتفع ** إلا إليه فكل ستر يخرق )
( ورقى مقاما قصرت عن كنهه ** رتب الوجود وكع عنه السبق )
( وطىء البساط تدللا وجرى إلى ** أمد تناهى ما إليه مسبق )
( إنسان عين الكون مبلغ سره ** قطب الجمال وغيثه المتدفق )
( سر الوجود ونكته الدهر الذى ** كل الوجود بجوده يتعلق )
( من جاء بالآيات يسطع نورها ** والذكر فهو عن الهوى لا ينطق )
( يا سيد الأرسال غير مدافع ** وأجلهم سبقا وإن هم أعنقوا )
( بالفقر جئتك موئلى لا بالغنى ** فالذل والإذعان عندك ينفق )
( فاجبر كسير جرائر وجرائم ** فالقلب من عظم الخطايا يقلق )
____________________
(6/116)
( أرجوك يا غوث الأنام فلا تدع ** باب الرضى دونى يسد ويغلق )
( حاشاك تطرد من أتاك مؤملا ** فلأنت لى منى أحن وأرفق )
( ومحبتى تقضى بأنك منقذي ** مما أخاف فما بغيرك أعلق )
( يا هل تساعدنى الأمانى والمنى ** وأحل حيث سنا الرسالة يشرق )
( إن كان ثبطنى القضا بمقيد ** فعنان عزمى نحو مجدك مطلق )
( ولئن ثوى شخص بأقصى مغرب ** فتشوقى منى إليك يشرق )
( فعليك يا أسنى الوجود تحية ** من طيب نفحتها البسيطة تعبق )
( وعلى صحابتك الذين تأنقوا ** رتب الكمال ومثلهم يتأنق )
( وعلى الألى آووك فى أوطانهم ** نالوا بذلك رتبة لا تلحق )
( أعظم بأنصار النبى وحزبه ** وبمن أتى بعباءة يتعلق )
( من مثل سعد أو كقيس نجله ** عرف السيادة من حماهم ينشق )
( أكرم بهم وبمن أتى من سرهم ** عز النظير فمجدهم لا يلحق )
( من مثل نصر أو بنيه ملوكنا ** كل الأنام لعزهم يتملق )
( بمحمد نجل الخليفة يوسف ** عز الهدى فحماه ما إن يطرق )
( مولى الملوك وتاج مفرق عزهم ** وأجل من تحدى إليه الأينق )
( ملك يرى أن التقدم مغنم ** مهما تعرض موكب أو فيلق )
( تروى أحاديث الوغى عن بأسه ** فالسيف يسند والعوالى تطلق )
( ملك البسالة والمكارم والنهى ** فعداته منه تغص وتفرق )
( ملئت قلوب عداه منه مهابة ** فمغرب من خوفه ومشرق )
( مولاى يا أسمى الملوك ومن غدت ** عين الزمان إلى سناه تحدق )
( لا تقطعوا عنى الذى عودتم ** فالعبد من قطع العوائد يشفق )
( لا تحرمونى مطلبى فمحبتى ** تقضى لسعيي أنه لا يخفق )
( فانعم بردى فى بساطك كاتبا ** وأعد لما قد كنت فهو الأليق )
( فاسلم أمير المسلمين لأمة ** أفواههم ما إن بغيرك تنطق )
____________________
(6/117)
( واهنا بها من ليلة نبوية ** جاءت بأكرم من به يتعلق )
( صلى عليه الله ما هبت صبا ** واهتز غصن فى الحديقة مورق )
ثم قال وهو الآن بحالته الموصوفة انتهى 42 - رسالة من النباهى للسان الدين
ومما خوطب به لسان الدين رحمه الله تعالى ما حكاه فى الإحاطة فى ترجمة القاضى أبى الحسن النباهى إذ قال ما نصه وخاطبنى بسبته وأنا يومئذ بسلا بقوله يا أيتها الآية البالغة وقد طمست الأعلام والغرة الواضحة وقد تنكرت الأيام والبقية الصالحة وقد ذهب الكرام أبقاكم الله تعالى البقاء الجميل وأبلغكم غاية المراد ومنتهى التأميل أبى الله أن يتمكن المقام بالأندلس بعدكم وأن يكون سكون النفس إلا عندكم سر من الكون غريب ومعنى فى التشاكل عجيب أختصر لكم الكلام فأقول بعد التحية والسلام تفاقمت الحوادث وتعاظمت الخطوب الكوارث واستأسدت الذئاب الأخابث ونكث الأكثر من ولد سام وحام ويافث فلم يبق إلا كاشح باحث أو مكافح عابث ويا ليت شعرى من الثالث فحينئذ وجهت وجهى للفاطر الباعث ونجوت بنفسى لكن منجى الحارث وقد عبرت البحر كسير الجناح دامى الجراح وإنى لأرجو الله سبحانه بحسن نيتكم أن يكون الفرج قريبا والصنع عجيبا فعمادى أعان الله على القيام بواجبه هو الركن الذى ما زلت أميل على جوانبه ولا تزيدنى الأيام إلا بصيرة فى الإقرار بفضله والاعتداد به وقد وصلنى خطاب سيدى الذى جلى الشكوك بنور يقينه ونصح النصح اللائق بعلمه ودينه وكأنه نظر إلى الغيب من وراء حجاب فأشار بما أشار به على سارية عمر بن الخطاب ومن العجب أنى عملت بمقتضى إشارته قبل بلوغ إضبارته فلله ما تضمنه مكتوبكم الكريم من الدر وحرره من الكلام
____________________
(6/118)
الحر وايم الله لو تجسم لكان ملكا ولو تنسم لكان مسكا ولو قبس لكان شهابا ولو لبس لكان شبابا فحل منى علم الله تعالى محل البرء من المريض وأعاد الأنس بما تضمنه من التعريض والكلم المزرية بقطع الروض الأريض فقبلته عن راحتكم وتخيلت أنه مقيم بساحتكم ثم وردت معينه الأصفى وكلت من بركات مواعظه بالمكيال الأوفى وليست بأول أياديكم وإحالتكم على الله فهو الذى يجازيكم وبالجملة فالأمور بيد الأقدار لا إلى المراد والاختيار
( وما كل ما ترجو النفوس بنافع ** ولا كل ما تخشى النفوس بضرار )
انتهى
قلت أين هذا الكتاب من الذى قدمناه عنه فى الباب الثانى حين أظلم بينه وبين لسان الدين الجو وعطفه إلى مهاجاته ثانى وسفر فى أمره إلى العدوة واجتهد فى ضرره بعد أن كان له به القدوة وقد قابله لسان الدين بما أذهب عن جفنه الوسن وألف فيه كما سبق خلع الرسن ترجمة النباهى
على أنه عرف به فى الإحاطة أحسن تعريف وشرفه بحلاه أجمل تشريف إذ قال ما ملخصه على بن عبد الله بن محمد بن محمد بن عبد الله ابن الحسن بن محمد بن الحسن الجذامى المالقى أبو الحسن ويعرف بالنباهى هذا الفاضل قريع بيت مجادة وجلالة وبقية تعين وأصالة عف النشأة طاهر الثوب مؤثر للوقار والحشمة خاطب للشيخوخة مستعجل للشيبة ظاهر الحياء متحرك مع السكون بعيد الغور مرهف الجوانب
____________________
(6/119)
مع الانكماش مقتصد فى الملبس والآلة متظاهر بالسذاجة بريء من النوك والغفلة يقظ للمعاريض مهتد إلى الملاحن طرف فى الجود حافظ مقيد طلعة إخبارى قائم على تاريخ بلده شرع فى تكميل ما صنف فيه ملازم للتقييد والتطرير منقر عن الإجادات والفوائد استفدت منه فى هذا الغرض وغيره كثيرا حسن الخط ناظم ناثر نثره يشف على نظمه ذاكر للكثير استظهر محفوظات منها النوادر للقالى وناهيك به محفوظا مهجورا ومسلكا غفلا فما ظنك بسواه نشأ ببلده حر الطعمة فاضل الأبوة وقرأ به ثم ولى القضاء بملتماس ثم ببلش وعملها فسيح الخطة مطلق الجراية بعيد المدى فى باب النزاهة ماضيا غير هيوب حتى أربى فى الزمن القريب على المحتنكين وغبر فى وجوه أهل الدربة وجرت أحكامه مستندة إلى الفتيا جارية على المسائل المشهورة ثم نقل منها إلى النظر فى أمور الحل والعقد بمالقة مضافة إليه الخطط النبيهة وصدر له منشور من إملائى إلى أن قال فى ترجمة نظمه قال نظمت سمح الله تعالى لى قطعتين موطئا فيهما على البيتين المشهورين إحداهما
( بنفسى من غزلان حزوى غزالة ** جمال محياها عن النسك زاجر )
( تصيد بلحظ الطرف من رام صيدها ** ولو أنه النسر الذى هو طائر )
( معطرة الأنفاس رائقة الحلى ** هواها بقلبى فى المهامه سائر )
( إذا رمت عنها سلوة قال شافع ** من الحب ميعاد السلو المقابر )
والأخرى
( وقائلة لما رأت شيب لمتى ** لئن ملت عن سلمى فعذرك ظاهر )
____________________
(6/120)
( زمان التصابى قد مضى لسبيله ** وهل لك بعد الشيب فى الحب عاذر )
( فقلت لها كلا وإن تلف الفتى ** فما لهواها عند مثلى آخر )
( سيبقى لها فى مضمر القلب والحشا ** سريرة ود يوم تبلى السرائر )
وكتب على مثال النعل الكريم وأهداه لمزمع سفر
( فديتك لا يهدى إليك أجل من ** حديث نبى الله خاتم رسله )
( ومن ذلك الباب المثال الذى أتى ** به الأثر المأثور فى شأن نعله )
( ومن فضله مهما يكن عند حامل ** له نال ما يهواه ساعة حملة )
( ولا سيما إن كان ذا سفر به ** فقد ظفرت يمناه بالأمن كله )
( فدونك منه أيها العلم الرضى ** مثالا كريما لا نظير لمثله )
وقال مراجعا عن أبيات يظهر منها غرضها
( إذا كنت بالقصد الصحيح لنا تهوى ** فسلم لنا فى حكمنا ودع الشكوى )
( ولا تتبع أهواء نفسك والتفت ** لنا حيث كنا فى الرخاء وفى اللأوا )
( وكم من محب فى رضانا وحبنا ** محا كل ما يبدو سوانا له محوا )
( رآنا عيانا عين معنى وجوده ** فعاج عن الشكوى وفوض فى البلوى )
( وقال تحكم كيف شئت بما ترى ** رضيت بما تقضى وهمت بما تهوى )
( فحل لدينا بالخلوص وبالرضى ** محل اختصاص نال منه المنى صفوا )
( فإن كنت ترجو فى الصبابة والهوى ** لحاقا بهم فاسلك طريقهم الأضوا )
( ومت فى سبيل الحب إن كنت مخلصا ** لنا فى الهوى تحيا حياة أولى التقوى )
( هنالك تؤتى ما تريد وتقتضى ** ديونك منا دون مطل ولا دعوى )
( وتشرب من عين اليقين وتغتذى ** بخمر الصفا الصرف الزلال لكى تروى )
____________________
(6/121)
وقال
( لا تلجأن لمخلوق من الناس ** من يافث كان أصلا أو من الياس )
( وثق بربك لا تيأس تجد عجبا ** فلا أضر على عبد من الياس )
وقال
( فديتك لا تصحب لئيما ولا تكن ** معينا له إن اللئيم خؤون )
( فلا عهد يرعى لا ولا نعمة يرى ** ولا سر خل عن عداه يصون )
وقال يخاطب أبا القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان
( لك الله قلبى فى هواك رهين ** وروحى عنى إن رحلت ظعين )
( ملكت بحكم الفضل كلى خالصا ** وملكت للحر الصريح يزين )
( فهب لى من نطقى بمقدار ما به ** يترجم سر فى الفؤاد دفين )
( فقد شملتنا من رضاك ملابس ** وسح لدينا من نداك معين )
( أعنت على الدهر الغشوم ولم تزل ** بدنياك فى الأمر المهم تعين )
( وقصر من لم تعلم النفس أنه ** خذول إذا خان الزمان يخون )
( وأنى بحمد الله عنه لفى غنى ** وحسبى صبر عن سواك يصون )
( أبى لى مجد عن كرام ورثته ** وقوفا بباب للكريم يهين )
( ونفس سمت فوق السماكين همه ** وما كل نفس بالهوان تدين )
( ولما رأت عينى محياك أقسمت ** بأنك للفعل الجميل ضمين )
( وعاد لها الأنس الذي كان قد مضى ** برية إذ شرخ الشباب خدين )
( بحيث نشأنا لابسين حلى التقى ** وكل بكل عند ذاك ضنين )
( أما وسنا تلك الليالى وطيبها ** ووجد غرامى والحديث شجون )
( وفتيان صدق كالشموس وكالحيا ** حديثهم ما شئت عنه يكون )
( لئن نزحت تلك الديار فوجدنا ** عليها له بين الضلوع أنين )
____________________
(6/122)
( إذا مر حين زاده الشوق جده ** وليس بعاب للربوع حنين )
( وأنى بمسلاها وللبين لذعة ** اقل أذاها للسليم جنون )
( لقد عبثت أيدى الزمان بجمعنا ** وحان افتراق لم نخله يحين )
( وبعد التقينا فى محل تغرب ** وكل الذى دون الفراق يهون )
( فقابلت بالفضل الذى أنت أهله ** وما لك فى حسن الصنيع قرين )
( وغبت وما غابت مكارمك التى ** على شكرها الرب العظيم يعين )
( يمينا لقد أوليتنا منك نعمة ** تلذ بها عند العيان عيون )
( ويقصر عنها الوصف إذ هى كلها ** لها وجه حر بالحياء مصون )
( ولما قدمت الآن زاد سرورنا ** ومقدمك الأسنى بذاك قمين )
( لأنك أنت الروح منا وكلنا ** جسوم فعند البعد كيف نكون )
( ولو كان قدر الحب فيك لقاؤنا ** إليك لكنا باللزوم ندين )
( ولكن قصدنا راحة المجد جهدنا ** فراحته شمل الجميع تصون )
( هنيئا هنيئا أيها العلم الرضى ** بما لك فى طى القلوب كمين )
( لك الحسن والإحسان والعلم والتقى ** فحبك دنيا للمحب ودين )
( وكم لك فى باب الخلافة من يد ** أقرت لها بالصدق منك مرين )
( وقامت عليها للملوك أدلة ** فأنت لديها ما حييت مكين )
( فلا وجه إلا وهو بالبشر مشرق ** ولا نطق إلا عن علاك مبين )
( بقيت لربع الفضل تحمى ذماره ** صحيحا كما قد صح منك يقين )
( ودونك يا قطب المعالى بنية ** من الفكر عن حال المحب تبين )
( أتتك ابن رضوان تمت بودها ** وما لسوى الإغضاء منك ركون )
( فخل انتقاد البحث عن هفواتها ** ومهد لها بالسمح حيث تكون )
( وخذها على علاتها فحديثها ** حديث غريب قد عراه سكون )
وهو بحاله الموصوفة انتهى باختصار
____________________
(6/123)
43 - مخاطبات بين لسان الدين وابن الجياب
ولما كتب لسان الدين الى شيخه الرئيس الكاتب أبى الحسن الجياب قصيدة أولها
( أمستخرجا كنز العقيق بآماقى ** أناشدك الرحمن فى الرمق الباقى )
( فقد ضعفت عن حمل صبرى طاقتى ** عليك وضاقت عن زفيري أطواقى ) وهى طويلة أجابه عنها بقوله
( سقانى فأهلا بالمدامة والساقى ** سلافا بها قام السرور على ساق )
( ولا نقل إلا من بدائع حكمه ** ولا كأس إلا من سطور وأوراق )
( فقد أنشأت لى نشوة بعد نشوة ** تمد بروحانية ذات أذواق )
( فمن خطها الفانى متاع لناظرى ** وسمعى وحظ الروح من خطها الباقى )
( أعادت شبابى بعد سبعين حجة ** فأثوابه قد جددت بعد إخلاق )
( وما كنت يوما للمدامة صاحبا ** ولا قبلتها قط نشأة أخلاقى )
( ولا خالطت لحمى ولا مازجت دمى ** كفى شرها مولاى فالفضل للواقى )
( وهذا على عهد الشباب فكيف لى ** بها بعد ماء للشبيبة مهراق )
( تبصر فحكما القهوتين تخالفا ** فكم بين إثبات لعقل وإزهاق )
( وشتان ما بين المدامين فاعتبر ** فكم بين إنجاح لسعى وإخفاق )
( فتلك تهادى بين ظلم وظلمة ** وهذى تهادى بين عدل وإشراق )
( أيا علم الإحسان غير منازع ** شهادة إجماع عليها وإصفاق )
____________________
(6/124)
( فضائلك الحسنى على تواترت ** بمنهمر من سحب فكرك غيداق )
( خزائن آداب بعثت بدرها ** إلى ولم تمنن بخشية إنفاق )
( ولا مثل بكر حرة عربية ** زكية أخلاق كريمة أعراق )
( فأقسم ما البيض الحسان تبرجت ** تناجيك سرا بين وحى وإطراق )
( بدور بدت من أفق أطواقها على ** رياض شدت فى قطبها ذات أطواق )
( فناظر منها الأقحوان ثغورها ** وقابل منها نرجس سحر أحداق )
( وناسب منها الورد خدا موردا ** سقاه الشباب النضر بورك من ساق )
( وألسبن من صنعاء وشيا منمنما ** وحلين من در نفائس أعلاق )
( بأحلى لأفواه وأبهى لأعين ** وأحيى لألباب وأشهى لعشاق )
( رايت بها شهب السماء تنزلت ** إلى تحيينى تحية مشتاق )
( ألا إن هذا السحر لآسحر بابل ** فقد سحرت قلبى المعنى فمن راق )
( لقد أعجزت شكرى فضائل ماجد ** أبر بأحباب وأوفى بميثاق )
( تقاضى ديوان الشعر منى منبها ** رويدك لا تعجل على بإرهاق )
( فلو نشر الصادان من ملحديهما ** لإنصاف هذا الدين لاذا بإملاق )
( فخذ بزمام الرفق شيخا تقاصرت ** خطاه وعاهده بمعهود إشفاق )
( فلا زلت تحيي للمكارم رسمها ** وقدرك فى أهل العلا والنهى راقى )
قال وكتبت إليه فى غرض العتاب قصيدة أولها
( أدرنا وضوء الأفق قد صدع الفضا ** مدامة عتب بيننا نقلها الرضى )
( فلله عينا من رآنا وللحيا ** حبى بآفاق البشاشة أومضا )
____________________
(6/125)
( نفر إلى عدل الزمان الذى أتى ** ونبرأ من جور الزمان الذى مضى )
( ونأسو كلوم اللفظ باللفظ عاجلا ** كذا قدح الصهباء داوى وأمرضا )
فراجعنى عنها بهذه القصيدة
( ألا حبذا ذاك العتاب الذى مضى ** وإن جره واش بزور تمضمضا )
( أغارت له خيل فما ذعرت حمى ** ولكنها كانت طلائع للرضى )
( تألق منه بارق صاب مزنه ** على معهد الحب الصميم فروضا )
( تلألأ نورا للصداقة حافظا ** وإن ظن سيفا للقطيعة منتضى )
( فإن سود الشيطان منه صحيفة ** أتى ملك الرحمى عليها فبيضا )
( وما كان حب أحكم الصدق عهده ** ليرمى بوسواس الوشاة فيرفضا )
( أعيذ ودادا زاكى القصد وافيا ** تخلص من أدرانه فتمحضا )
( ونية صدق فى رضى الله أخلصت ** سناها بآفاق البسيطة قد أضا )
( من الآفك الساعى ليخفى نورها ** أيخفى شعاع الشمس قد ملأ الفضا )
( وكيف يحل المبطلون بإفكهم ** معاقد حب أحكمتها يد القضا )
( تعرض يبغى هدمها فكأنه ** لتشييد مبناها الوثيق تعرضا )
( وحرض فى تنفيره فكأنما ** على البر والتسكين والحب حرضا )
( وأوقد نارا فهو يصلى جحيمها ** يقلب منها القلب فى موقد الغضا )
( أيا واحدي المعدود بالألف وحده ** ويا ولدى البر الزكى إن ارتضى )
( بعثت من الدر النفيس قلائدا ** على ما ارتضى حكم المحبة واقتضى )
( نتيجة آداب وطبع مهذب ** أطال مداه فى البيان وأعرضا )
( ولا مثل بكر باكرتنى آنفا ** كزورة خل بعدما كان أعرضا )
( هى الروضة الغناء أينع زهرها ** تناظر حسنا مذهبا ومفضضا )
( أو الغادة الحسناء راقت فينقضى ** مدى العمر فى وصفى لها وهو ما انقضى )
( تطابق منها شعرها وجبينها ** فذا الليل مسودا وذا الصبح أبيضا )
____________________
(6/126)
( أو الشهب منها زينة وهداية ** ورجم لشيطان إذا هو قيضا )
( أتت ببديع الشعر طورا مصرحا ** بآياتك الحسنى وطورا معرضا )
( ومهدت الأعذار دون جناية ** ولو أنك الجانى لكنت المغمضا )
( لك الله من بر وفى وصاحب ** محضت له صدق الضمير فامحضا )
( لسانك فى شكوى مفيض تفضلا ** فيا حسن ما أهدى وأسدى وأقرضا )
( وقلبك فاضت فيه أنوار خلتى ** فالقى يدي تسليمه لى مفوضا )
( وقصدك مشكور وعهدك ثابت ** وفضلك منشور وفعلك مرتضى )
( فهل مع هذا ريبة فى مودة ** بحال وإن رابت فما أنا معرضا )
( فثق بولائى إننى لك مخلص ** هوى ثابتا يبقى فليس له انقضا )
( عليك سلام الله ما هبت الصبا ** وما بارق جنح الدجنة اومضا )
وقال لسان الدين من غريب ما خاطبنى به قوله
( أقسم بالقيسين والنابغتين ** وشاعري طيىء المولدين )
( وبابن حجر وزهير وابنه ** والأعشيين بعد ثم الأعميين )
( ثم بعشاق الثريا والرقيات ** وعزة ومى وبثين )
( وبأبى الشيص ودعبل ومن ** كشاعرى خزاعة المخضرمين )
( وولد المعتز والرضى ** والسري ثم حسن وابن الحسين )
( واختم بقس وبسحبان وإن ** اوجب حق أن يكونا أولين )
( وحلبتى نثرهم ونظمهم ** فى مشرقى أقطارهم والمغربين )
( إن الخطيب ابن الخطيب سابق ** بنثره ونظمه للحلبتين )
( راقتنى الصحيفة الحسنا التى ** شاهدت فيها المكرمات رأى عين )
( تجمع من براعة المعنى إلى ** براعة الألفاظ كلتا الحسنيين )
____________________
(6/127)
( أشهد أنك الذى سبقت فى ** طريقى الآداب أقصى الأمدين )
( شعر حوى جزالة ورقة ** تصاغ منه حلة للشعريين )
( رسائل أزهارها منثورة ** سرور قلب ومتاع ناظرين )
( يا أحوذيا يا نسيج وحده ** شهادة تنزهت عن قول مين )
( بقيت فى مواهب الله التى ** تقر عينيك تملأ اليدين )
انتهى 44 - من سعيد الغرناطى إلى لسان الدين
وحكى لسان الدين ان سعيد بن محمد الغرناطى الغسانى استعار منه كتابا فأرسله إليه وعلى ظهره هذه الأبيات
( هذا كتاب كله معجم ** أفحمنى معناه إفحاما )
( أعجمه منشئه أولا ** وزاده الناسخ إعجاما )
( أسقط من إجماله جملة ** وزاد فى التفصيل أقساما )
( وغير الألفاظ عن وضعها ** وصير الايجاد إعداما )
( فليس فى إصلاحه حيلة ** ترجى ولو قوبل أعواما )
ولم أقف على جواب لسان الدين له عنها والله تعالى أعلم
وولد سعيد المذكور سنة 699 45 - مخاطبات بين ابن البناء ولسان الدين
ومما خوطب به لسان الدين لما تقلد الكتابة العليا قول ابى الحسن على بن محمد بن على بن البناء الوادي آشى رحمه الله تعالى
( هو العلاء جرى باليمن طائره ** فكان منك على الآمال ناصره )
____________________
(6/128)
( ولو جرى بك ممتدا الى امد ** لأعجز الشمس ما آبت عساكره )
( لقد حباه منيع العز خالقه ** بفاضل منك لا تحصى مآثره )
( فليزه فخرا فما خلق يعارضه ** ولا علاء مدى الدنيا يفاخره )
( لله اوصافك الحسنى لقد عجزت ** من كل ذى لسن عنها خواطره )
( هيهات ليس عجيبا عجز ذى لسن ** عن وصف بحر رمى بالدر زاخره )
( هل أنت إلا الخطيب ابن الخطيب ومن ** زانت حلى الدين والدنيا مفاخره )
( فان يقصر عن الأوصاف ذو أدب ** فما بدا منك فى التقصير عاذره )
( يا ابن الكرام الألى ما شب طفلهم ** إلا وللمجد قد شدت مآزره )
( مهلا عليك فما العلياء قافية ** ولا العلاء بسجع أنت ناثره )
( ولا المكارم طرسا أنت راقمه ** ولا المناقب طبا أنت ماهره )
( ماذا على سابق يسرى إلى سنن ** ان كان من رفقه خل يسايره )
( سر حيث شئت من العلياء متئدا ** فما أمامك سباق تحاذره )
( أنت الإمام لأهل الفخر ان فخروا ** أنت الجواد الذى عزت أوافره )
( ما بعد ما حزته من عزة وعلا ** شأو يطارد فيه المجد كابره )
( نادت بك الدولة النصرى محتدها ** نداء مستنجد أزرا يوازره )
( حليتها برداء البر مرتديا ** وصبح يمنك فجر السعد سافره )
( فالملك يرفل فى أبراده مرحا ** قد عمت الأرض إشراقا بشائره )
( فاهنأ بها نعمة ما إن يقوم لها ** من اللسان ببعض الحق شاكره )
( وليهنها أنها القت مقالدها ** إلى زكى زكت منه عناصره )
( فإنه بدر تم فى مطالعها ** قد طبق الأرض بالأنوار نائره )
وقال لسان الدين وأهدى الى قباقب خشب جوز وكتب معها
( هاكها ضمرا مطايا حسانا ** نشأت فى الرياض قضبا لدانا )
( وثوت بين روضة وغدير ** مرضعات من النمير لبانا )
____________________
(6/129)
( لابسات من الظلال برودا ** دونها القضب رقة وليانا )
( ثم لما أراد إكرامها الله ** وسنى لها المنى والأمانا )
( قصدت بابك العلى ابتدارا ** ورجت فى قبولك الإحسانا )
قال فأجبته
( قد قبلنا جيادك الدهم لما ** أن بلونا منها العتاق الحسانا )
( أقبلت خلف كل حجر تبيع ** خلعت وصفها عليه عيانا )
( فعنينا برعيها وفسحنا ** فى ربوع العلا لها ميدانا )
( وأردنا امتطاءها فاتخذنا ** من شراك الأديم فيها عنانا )
( قدمت قبلها كتيبة سحر ** من كتاب سبت به الأذهانا )
( مثلما تجنب الجيوش المذاكى ** عدة للقاء مهما كانا )
( لم يرق مقلتى ولا راق قلبى ** كعلاها براعة وبيانا )
( من يكن مهديا فمثلك يهدى ** لم أجد للثنا عليك لسانا )
وقال لسان الدين ومن أبدع ما هز به الى إقامة سوقه ورعى حقوقه قوله
( يا معدن الفضل موروثا ومكتسبا ** وكل مجد إلى عليائه انتسبا )
( بباب مجدكم الأسمى أخو أدب ** مستصرخ بكم يستنجد الأدبا )
( ذل الزمان له طورا فبلغه ** من بعض آماله فوق الذى طلبا )
( والآن أركبه من كل نائبه ** صعب الأعنة لا يألو به نصبا )
( فحملته دواعى حبكم وكفى ** بذاك شافع صدق يبلغ الأربا )
( فهل سرى نسمة من جاهكم فبها ** خليفة الله فينا يمطر الذهبا )
____________________
(6/130)
ترجمة ابن البناء
وقال لسان الدين فى الإكليل فى حق المذكور ما صورته فاضل يروقك وقارة وصقر بعد مطاره قدم من بلده يروم اللحاق بكتاب الإنشاء وتوسل بنظم أنيق ونسيب فى نسب الإجادة عريق تعرب براعته عن لسان ذليق وطبع طليق وذكاء بالأثرة خليق وبينما هو يلحم فى ذلك الغرض ويسدي ويعيد ويبدي وقد كادت وسائله ان تنجح وليل رجائه أن يصبح اغتاله الحمام وخانته الأيام والبقاء لله تعالى والدوام توفى بالطاعون فى عام واحد وخمسين وسبعمائة وسنة دون الثلاثين رحمه الله تعالى انتهى 46 - رسالة من لسان الدين الى سلطان تونس
ولما خوطب لسان الدين من سلطان تونس بما لم يحضرنى الآن أجاب عنه بما نصه المقام الإمامى الإبراهيمي المولوي المستنصري الحفصى الذى كرم فرعا وأصلا وشرف جنسا وفصلا وتملى فى ظل رعاية المجد من لدن المهد كرما وخصلا وصرفت متجردة الأقلام الى مثابة خلافته المنصورة الأعلام وجوه عبارة الكلام فاتخذ من مقام إبراهيم مصلى مقام مولانا أمير المؤمنين الخليفة الإمام أبى إسحاق ابن مولانا ابى يحيى أبى بكر ابن الخلفاء الراشدين أبقاه الله تعالى تهوى إليه الأفئدة كلما انتشت بذكره وتتنافس الألسنة فى إحراز غاية حمده وشكره وتتكفل الأقدار بإنفاذ نهيه وأمره وتغرى عوامل عوامله بحذف زيد عدوه وعمره ويتبرع أسمر الليل وأبيض النهار بإعمال بيضه وسمره ولا زال حسامه الماضى يغنى يومه فى النصر عن شهره والروض يحييه بمباسم زهره ويرفع إليه رقع الحمد ببنان قضبه الناشئة من معصم نهره وولى الدنيا والآخرة يمتعنا بهما بعد الإعانة على مهره يقبل بساطه المعود الاستلام بصفحات الخدود الرافع
____________________
(6/131)
عماده ظل العدل الممدود عبد مقامه المحمود ووارد غمر إنعامه غير المنزور ولا المثمود المثنى على نعمه العميمة ومنحه الجسيمة ثناء الروض المجود على العهود ابن الخطيب من باب المولى الموجب حقه المتأكد الفروض الثابت العهود المعتد منه بالود الجامع الرسوم والحدود والفضل المتوارث عن الآباء والجدود يسلم على مثابتها سلام متلو على مثلها ان وجد المثل فى الثانى ويعوذ كمالها بالسبع المثانى ويدعو الله تعالى لسلطانها بتشييد المبانى وتيسير الأمانى وينهى الى علوم تلك الخلافة الفاروقية المقدسة بمناسب التوحيد المستولية من مدارك الآمال على الأمد البعيد أن مخاطبتها المولوية تاهت على الملوك فارعة العلا مزعفرة الحلل والحلى ذهبية المجلى تفيد العز المكين والدنيا والدين وترعى فى الآباء والبنين على مر السنين ( صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ) البقرة وقد حملت من مدحها الكريم ما أخفى للمملوك من قرة عين وردة زين جبين الشرف الوضاح ومستوجب الحق على مثله من الخلق بالنسب الصراح والغرر والأوضاح والأرج الفواح فاقتنى دره النفيس ووجد المروع فى جانب الخلافة التنفيس وقراه لما قراه التعظيم والتقديس وقال { يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم } النمل وإن لم يكن بلقيس أعلى الله تعالى تلك اليد مطوقة الأيادي ومخجلة الغمائم والغوادى وأبقاها عامرة النوادى غالبة الأعادى وجعل سيفها السفاح ورأيها الرشيد وعلمها الهادى ووصل ما ألطف به رعيها من أشتات بر بلغت وموارد فضل سوغت أمدتها سعادة المولى بمدد لم يضر معه البحر الهائل ولا العدو الغائل وأقام أودها عند الشدائد الفلك المائل لا بل الملك الذى له إلى الله الوسائل وحسب الجفن رسالتكم الكريمة لحظا فصان وأكرم وعوذة فتعوذ بها وتحرم وتولى المملوك تنفيق عروضها
____________________
(6/132)
بانشراح صدره وعلى قدره فوقعت الموقع الذى لم يقعه سواها فأما الخيل فأكرم مثواها وجعلت جنان الصون مأواها ولو كسيت الربيع المزهر حللا وأوردت فى نهر المجرة علا ونهلا وقلدت النجوم العواتم صحلا ومسحت أعطافها بمنديل النسيم وألحفت بأردية الصباح الوسيم وأفترشت لمرابطها الحشايا وأقضمت حبات القلوب بالعشايا لكان بعض ما يجب لحقها الذى لا يجحد فضله ولا يحتجب وما عداها من الرقيق والفتيان رعاه ذلك الفريق تكفله الاستحسان وأطنب الاعتقاد وان قصر اللسان تولى الله تعالى تلك الخلافة بالشكر الذى يحسب العطاء والحفظ الذى يسبل الغطاء والصنع الذى ييسر من مطا الأمل الامتطاء وأما ما يختص بالمملوك فقد خصه بقبوله تبركا بتلك المقاصد التى سددها الدين وعددها الفضل المبين وأنشد الخلافة التى راق من مجدها الجبين
( قلدتنى بفرائد أخرجتها ** من بحر جودك وهو ملتطم الثبج )
( ورعيت نسبتها فإن سبيكة ** مما يلائم لونها قطع السبج )
والمملوك بهذا الباب النصرى أعزه الله تعالى على قدم خدمة وقائم بشكر منه لكم ونعمة وحاضر فى جملة الأولياء بدعائه وحبه ومتوسل فى دوام بقاء أيامكم ونصر أعلامكم إلى ربه وان بعد بجسمه فلم يبعد بقلبه والسلام الكريم الطيب البر العميم يخصها دائما متصلا ورحمه الله تعالى وبركاته انتهى 47 - مخاطبة من ابن البربري المالقى إلى لسان الدين
ومما خوطب به لسان الدين قول أبى الحسن على بن يحيى الفزارى المالقى
____________________
(6/133)
المعروف بابن البربرى وكان ممن يمدح الملوك والكبراء
( لبابك أم الآملون ويمموا ** وفى ساحتى رحماك حطوا وخيموا )
( ومن راحتى كفيك جدواك تنهمى ** فتروى عطاش من نداك وتنعم )
( وأنت لما راموه كعبه حجهم ** إذا شاهدوا مرآك لبوا وأحرموا )
( يطوفون سبعا حول بابك عندما ** يلوح لهم ذاك المقام المعظم )
( فيمناك يمن للرعايا ومنه ** ويسراك يسر للعفاة ومغنم )
( ولقياك بشر للنفوس وجنة ** ترن بها ورق المنى وترنم )
( فيا واحد الأزمان علما ومنصبا ** ويا من به الدنيا تروق وتبسم )
( ومن وجهه كالبدر يشرق نوره ** ومن جوده كالغيث بل هو أكرم )
( ومن ذكره كالمسك فض ختامه ** وكالشمس نورا بشره المتوسم )
( لقد حزت فضل السبق غير منازع ** فأنت على أهل السباق مقدم )
( حويت من العلياء كل كريمة ** بها الروض يندى والربى تتبسم )
( وباهيت أقلام الأنام براعة ** فلا قلم إلا يراعك يخدم )
( إذا فاخر الأمجاد يوما فإنما ** لمجدك فى حال الفخار يسلم )
( وإن سكتوا كنت البليغ لديهم ** تعبر عن سر العلا وتترجم )
ومنها
( فيا صاحبى نجواي عوجا برامة ** على ربعه حيث الندى والتكرم )
( وقولا له عبد ببابك يرتجى ** قضاء لبانات لديك تتمم )
( فليس له إلا علاك وسيلة ** ولا شىء أسمى من علاك وأعظم )
( فجد بالذى يرجوه منك فما له ** كعقد ثمين من ثنائك ينظم )
( بقيت ونجم السعد عندك طالع ** يضىء له بدر وتشرق أنجم )
توفى المذكور بالطاعون عام خمسين وسبعمائة انتهى
____________________
(6/134)
48 - مخاطبة من الحرالى الى لسان الدين
ومما خوطب به قول أبى القاسم قاسم بن محمد الحرالى المالقى القاضى بانتقيرة قبل وفاته
( عليك قصرت المدح يا خير ماجد ** وأفضل موصوف بكل المحامد )
( ويا كهف ملهوف وملجأ خائف ** ومورد جود قد كفى كل وارد )
( لقد شهرت بالمجد منك شمائل ** محاسنها أزكى وأعدل شاهد )
( وكل الذى يبدو من الفضل بعض ما ** حبيت به أعظم بها من محامد )
( إذا أملت منك المكارم ألفيت ** تنادي هلموا فزتم بالمساعد )
( عطاؤكم جزل فمن أمل الغنى ** فمثلكم يبغى فيا سعد قاصد )
( وراثة مجد كابرا بعد كابر ** وأصل زكى الفرع عذب الموارد ) ترجمة أبى القاسم الحوالى
وتوفى المذكور بالطاعون عام خمسين وسبعمائة وفى حقه يقول فى الإكليل مشمر فى الطلب عن ساق مثابر على اللحاق بدرجات الحذاق منتحل للعربية جاد فى إحصاء خلافها ومعاطاه سلافها وربما شرست فى المذاكرة أخلاقه إذا بهرجت أعلاقه ونوزع تمسكه بالحجة واعتلاقه
وقال لسان الدين فى ترجمة شعر المذكور إنه ضعيف مهزول انتهى 49 - رسالة من المنتشاقري الى لسان الدين
ومما خوطب به قول أبى الحجاج يوسف بن موسى الجذامى المنتشاقري من أهل رندة ونصه
( حباك فؤادى نيل بشرى وأحياكا ** وحيد بآداب نفائس حياكا )
____________________
(6/135)
( بدائع أبداها بديع زمانه ** فطاب بها يا عاطر الروض رياكا )
( أمهديها أودعت قلبى علاقة ** وإن لم يزل مغرى قديما بعلياكا )
( إذا ما أشار العصر نحو فريده ** فإياك يعنى بالإشارة إياكا )
( لاتحفنى لقياك أسنى مؤملى ** وهل تحفة فى الدهر إلا بلقياكا )
( وأعقبت إتحافى فرائدك التى ** وجوب ثناها يا لسانى أعياكا )
ووصل هذا النظم بنثر صورته خصصتنى أيها المخصوص بمآثر أعيا عدها وحصرها ومكارم طيب أرواح الأزاهر عطرها وسارت الركبان بثنائها وشملت الخواطر محبة علائها بفرائدك الأنيقة وفوائدك المزرية جمالا على أزهار الحديقة ومعارفك التى زكت حقا وحقيقة وهدت الضال عن سبيل الأدب مهيعه وطريقة وسبق تحفتك أعلى التحف عندى وهو مأمول لقائك والتمتع بالتماح سناك الباهر وسنائك على حين امتدت لذلكم اللقاء أشواقى وعظم من فوت استنارتى بنور محياك إشفاقى وتردد لهجى بما يبلغنى من معاليك ومعانيك وما شاده فكرك الوقاد من مبانيك وما أهلت به بلاغتك من دراسه وما أضفيت على الزمان من رائق ملابسه وما جمعت من أشتاته وأحييت من امواته وأيقظت من سناته وما جاد به الزمان من حسناته فلترداد هذه المحاسن من أنبائك وتصرف الألسنة بثنائك علقت النفس من هواها بأشد علاقة وجنحت إلى لقائك جنوح والهة مشتاقة والحوادث الجارية تصرفها والعوائق الحادثة كلما عطفت أملها إليه لا تتحفها به ولا تعطفها إلى إن ساعد الوقت وأسعد البخت بلقائكم فى هذه السفرة الجهادية وجاد إسعاف الإسعاد من أمنيتى بأسنى هدية فلقيتكم لقيا خجل ولمحت أنواركم لمحة على وجل ومحبتى فى محاسنكم الرائقة ومعاليكم الفائقة على
____________________
(6/136)
ما يعلمه ربنا عز وجل وتذكرت عند لقائكم المأمول إنشاء قائل يقول
( كانت مساءلة الركبان تخبر عن ** محمد بن الخطيب أطيب الخبر )
( حتى التقينا فلا والله ما سمعت ** أذنى بأحسن مما قد رأى بصرى )
قسم لعمرى أقوله وأعتقده واعتده واعمده فلقد بهرت منك المحاسن وفقت من يحاسن وقصر عن شأوك كل بليغ لسن وسبقت فطنتك النارية النورية بلاغة كل فطن وشهد لك الزمان أنك وحيده ورئيس عصبته الأدبية وفريدة فبورك لك فيما انلت من الفضائل وأوتيت من آيات المعارف التى بها نور الغزالة ضائل ولا زلت ترقى فى مراتب المعالى موقى صروف الأيام والليالى انتهى 50 - رسالة لسان الدين الى المنتشاقرى
وهذا الخطاب جواب من المذكور لكلام خاطبه به لسان الدين نصه
( حمدت على فرط المشقة رحله ** أتاحت لعينى اجتلاء محياكا )
( وقد كنت بالتذكار فى البعد قانعا ** وبالريح إن هبت بعاطر رياكا )
( فحلت لى النعمى بما أنعمت به ** على فحياها الإله وحياكا )
أيها الصدر الذى بمخاطبته يباهى ويتشرف والعلم الذى بالإضافة إليه يتعرف والروض الذى لم يزل على البعد بأزهاره الغضة يتحف دمت تتزاحم على موارد ثنائك الألسن ويروى الرواة من أنبائك ما يصح ويحسن طالما مالت إليك النفوس منا وجنحت وزجرت الطائر الميمون من رقاعك كلما سنحت فالآن اتضح البيان وصدق الأثر العيان ولقد كنا للمقام بهذه الرحال نرتمض ويجن الظلام فلا نغتمض هذا يقلقه إصفار كيسه وهذا يتوجع لبعد أنيسه وهذا تروعه الأهوال وتضجره بتقلباتها الأحوال
____________________
(6/137)
فمن أنه لا تنفع وشكوى إلى الله تعالى ترفع فلما ورد بقدومك البشير وأشار إلى ثنية طلوعك المشير تشوفت النفوس الصدئة إلى جلائها وصقالها والعقول إلى حل عقالها والأنفس المفحمة إلى فصل مقالها ثم إن الدهر راجع التفاته واستدرك ما فاته فلم يسمح من لقائك إلا بلمحة ولا بعث من نسيم روضك بغير نفحة فما زاد إن هيج الأشواق فالتهبت وشن غاراتها على الجوانح فانتهبت واعل القلوب وأمرضها ورمى ثغرة الصبر فأصاب غرضها فإن رأيت إن تنفس عن نفس شد الشوق مخنقها وكدر مشارب انسها وأذهب رونقها وتتحف من آدابك بدرر تقتنى وروضة طيبة الجنى فليست ببدع فى شيمك ولا شاذة فى باب كرمك ولولا شاغل لا يبرح وعوائق أكثرها لا يشرح لنافست هذه السحاءة فى القدوم عليك والمثول بين يديك فتشوقى إلى اجتلاء أنوارك شديد وتشيعى إلى ابلاء الزمان جديد انتهى ترجمة ابى الحجاج المنتشاقري
ووصف لسان الدين فى التاج المحلى أبا الحجاج المذكور بما صورته حسنة الدهر الكثير العيوب وتوبة الزمان الجم الذنوب ما شئت من أدب يتألق وفضل تتعطر به النسمات وتتخلق ونفس كريمة الشمائل والضرائب وقريحة يقذف بحرها بدرر الغرائب إلى خشية لله تعالى تحول بين القلوب وقرارها وتثنى النفوس عن اغترارها ولسان يبوح بأشواقه وجفن يسخو بدرر أماقه وحرص على لقاء كل ذى علم وأدب ومن يمت إلى أهل الديانة والعبادة بسبب سبق بقطره الحلبة وفرع من الأدب الهضبة ورفع الراية
____________________
(6/138)
وبلغ فى الإحسان الغاية فطارت قصائده كل المطار وتغنى بها راكب الفلك وحادى القطار وتقلد خطه القضاء ببلده وانتهت إليه رياسة الأحكام بين أهله وولده فوضحت المذاهب بفضل مذهبه وحسن مقصده وله شيمة فى الوفاء تعلم منها الآس ومؤانسة عذبه لا تستطيعها الأكواس وقد أثبت من كلامه ما تتحلى به مراتب المهارق ويجعل طيبه فوق المفارق وكنت أتشوق إلى لقائه فلقيته بالمحلة من جبل الفتح لقيا لم تبل صدى ولا شفت كمدا وتعذر بعد ذلك لقاؤه فخاطبته بهذه الرقعة
( حمدت على فرط المشقة رحله ** )
فذكر لسان الدين ما قدمنا إلى آخره
وقد أورد جملة من مطولاته وغيرها ومؤلفاته ولنلخص بعض ذلك فنقول
ومن شعر أبى الحجاج المذكور يمدح الجهة الكريمة النبوية مصدرا بالنسب لبسط الخواطر النفسانية قوله
( لما تناهى الصب فى تشويقه ** درر الدموع اعتاضها بعقيقه )
( متلهف وفؤاده متلهب ** كيف البقا بعد احتدام حريقه )
( متموج بحر الدموع بخده ** أنى خلاص يرتجى لغريقه )
( متجرع صاب النوى من هاجر ** ما ان يحن للاعجاب مشوقه )
( يسبى الخواطر حسنه ببديعه ** يصبى النفوس جماله بأنيقه )
( قيد النواظر إذ يلوح لرامق ** لا تنثنى الأحداق عن تحديقه )
( للبدر لمحته كبشر ضيائه ** للمسك نفحته كنشر فتيقه )
( سكرت خواطر لا محيه كأنهم ** شربوا من الصهباء كأس رحيقه )
( عطشوا لثغر لا سبيل لريقه ** إلا كلمحهم للمع بريقه )
____________________
(6/139)
( ما ضر مولى عاشقوه عبيده ** لو رق اشفاقا لحال رقيقه )
( عنه اصطبارى ما أنا بمطيعه ** مثل السلو ولا أنا بمطيقه )
( سجع الحمام بشوق ترجيع الهوى ** فأثار شجو مشوقه بمشوقه )
( وبكت هديلا راعها تفريقه ** ويحق إن يبكى أخو تفريقه )
( وبكاء أمثالى أحق لأننى ** لم اقض للمولى أكيد حقوقه )
( وغفلت فى زمن الشباب المنقضى ** أقبح بنسخ بروره بعقوقه )
( وبدا المشيب وفيه زجر ذوى النهى ** لو كنت مزدجرا لشيم بروقه )
( حسبى ندامة آسف مما جنى ** يصل النشيج لوزره بشهيقه )
( ويروم ما خرم الهوى زمن الصبا ** ويروم من مولاه رتق فتوقه )
( ويردد الشكوى لديه تذللا ** عل الرضى يحييه درك لحوقه )
( فيصح من سكر التصابى سكره ** نسخا لحكم صبوحه وغبوقه )
( لو كنت يممت التقى وصحبته ** وسلكت إيثار سواء طريقه )
( لأفدت منه فوائدا وفرائدا ** عرضت تسام لرابح فى سوقه )
( لله ارباب القلوب فانهم ** من حزب من نال الرضى وفريقه )
( قاموا وقد نام الأنام فنورهم ** هتك الدجى بضيائه وشروقه )
( وتأنسوا بحبيبهم فلهم به ** بشر لصدق الفضل فى تحقيقه )
( قصرت عنهم عندما سبقوا المدى ** ولسابق فضل على مسبوقه )
( لولا رجاء تلمح من نورهم ** يحيي الفؤاد بسيره وطروقه )
( وتأرج يستاف من أرواحهم ** سبب انتعاش الروح طيب خلوقه )
( لفنيت من جرا جرائرى التى ** من خوفها قلبى حليف خفوقه )
( ومعى رجاء توسل أعددته ** ذخرا لصدمات الزمان وضيقه )
( حبى ومدحى أحمد الهادى الذى ** فوز الأنام يصح فى تصديقه )
( أسمى الورى فى منصب وبمنسب ** من هاشم زاكى النجار عريقه )
( الحق أظهره عقيب خفائه ** والدين نظمه لدى تفريقه )
____________________
(6/140)
( ونفى هداه ضلالة من جائر ** مستوثق بيغوثه ويعوقه )
( سبحان مرسله الينا رحمة ** يهدى ويهدى الفضل من توفيقه )
( والمعجزات بدت بصدق رسوله ** وحقيقه بالمأثرات خليقه )
( كالظبى فى تكليمه والجذع فى ** تحنينه والبدر فى تشقيقه )
( والنار إذ خمدت بنور ولادة ** وأجاج ماء قد حلا من ريقه )
( والزاد قل فزاد من بركاته ** فكفى الجيوش بتمره وسويقه )
( ونبوع ماء الكف من آياته ** وسلام أحجار غدت بطريقة )
( والنخل لما إن دعاه مشى له ** ذا سرعة بعذوقه وعروقه )
( والآرض عاينها وقد زويت له ** فقريب ما فيها رأى كسحيقه )
( وكذا ذراع الشاة قد نطقت له ** نطق اللسان فصيحة وذليقة )
( ورمى عداه بكف حصبا فانثنت ** هربا كمذعور الجنان فروقه )
( وعليه آيات الكتاب تنزلت ** تتلى بعلو جلاله وبسوقه )
( وأذيق من كأس المحبة صرفها ** سبحان ساقيه بها ومذيقه )
( حاز السناء وناله بعروجه ** جاز السماء طباقها بخروقه )
( ولكم له من آية من ربه ** وعناية ورعاية بحقوقه )
( يا خيرة الأرسال عند إلهه ** يا محرز العليا على مخلوقه )
( علقت آمالى بجاهك عدة ** والقصد ليس يخيب فى تعليقه )
( وعلقت من حبل اعتمادى عمدة ** لتمسكى بقويه ووثيقه )
( ولئن غدوت أخيذ ذنبى إننى ** أرجو بقصدك أن أرى كطليقه )
( وكساد سوقى مذ لجأت لبابكم ** يقضى حصول نفوذه ونفوقه )
( ويحن قلبى وهو فى تغريبه ** لمزاره لرباك فى تشريقه )
( وتزيد لوعته متى حث السرى ** حاد حدا بجماله وبنوقه )
( وأرى قشيب العمر أمسى باليا ** ومرور دهرى جد فى تمزيقه )
____________________
(6/141)
( وأخاف أن أقضى ولم أقض المنى ** بنفوذ سهم منيتى ومروقه )
( فمتى أحط على اللوى رحلى وقد ** بلغت ركابى للحمى وعقيقه )
( وأمرغ الخدين فى ترب غدا ** كالمسك فى أرج شذا منشوقه )
( وأعيد إنشائى وإنشادى الثنا ** ببديع نظم قريحتى ورقيقه )
( حتى أميل العاشقين تطربا ** كالغصن مر صبا على ممشوقه )
( وتحية التسليم أبلغ شافع ** وثنا المديح حديثه وعتيقه )
( ولذى الفخار وذى الحلى ووزيره ** صديقه وأخى الهدى فاروقه )
( منى السلام عليهم كالزهر فى ** تأليفها والزهر فى تأنيقه )
وقال
( هواكم بقلبى ما لمحكمه نسخ ** ومن أجله جفنى بمدمعه يسخو )
( ومن نشأتى ما ان صحت منه نشوتى ** سواء به عصر المشيب أو الشرخ )
( عليه حياتى مذ تمادت وميتتى ** وبعثى إذا بالصور يتفق النفخ )
( ولى خلد أضحى قنيص غرامه ** ولا شرك يدنى إليه ولا فخ )
( قتلت سلوى حين أحييت لوعتى ** وما اجتيح بالإقرار فى حالتى لطخ )
( وأغدو الى سعدى بكرخ علاقتى ** وقصدى ليس سعدى ولا الكرخ )
( وناصح كتمى إذ زكت بيناته ** يجول عليه من دموع الأسى نضخ )
( وأرجو بتحقيقى هواكم بان أفى ** فعهد ولا نقض وعقد ولا فسخ )
( وما الحب إلا ما استقل ثبوته ** لمبناه رص فى الجوانح أو رسخ )
____________________
(6/142)
( إذا مسلك لم يستقم بطريقة ** سلكت اعتدالا مثلما يسلك الرخ )
( بدا لضميرى من سناكم تلمح ** فبخ لعقل لم يطر عندها بخ )
( على عود ذاك اللمح ما زلت نادبا ** كما تندب الورقاء فارقها الفرخ )
( يدي باياديكم وقلبى شاغل ** فمن فكرتى نسج ومن أنملى نسخ )
وقال
( إليك تحن النجب والنجباء ** فهم وهى فى أشواقهم شركاء )
( تخب بركاب تحب وصولها ** لأرض بها باد سنا وسناء )
( فأنفاسها ما إن تني صعداؤها ** وأنفسهم من فوقها سعداء )
( هم عالجوا إذ عجل السير داءهم ** وأشباه مثلى مدنفون بطاء )
( فعدت ودونى للحبيب ترحلوا ** وما قاعد والراحلون سواء )
( له وعليه حب قلبى وأدمعى ** وقد صح لى حب وسح بكاء )
( بطيبة هل أرضى وتبدو سماؤها ** وإن تك أرضا فالحبيب سماء )
( شذا نفحها واللمح منها كأنه ** ذكاء عبير والضياء ذكاء )
( فيا حاديا غنى وللركب حاديا ** عنانى بعد البعد عنك عناء )
( بسلع فسل عما أقاسى من الهوى ** وسل بقباء إذ يلوح قباء )
( وفى عالج منى بقلبى لاعج ** فهل لى علاج عنده وشفاء )
( وللرقمتين أرقم الشوق لادغ ** ودرياقه أن لو يباح لقاء )
( أماكن تمكين وأرض بها الرضى ** وأرجاء فيها للمشوق رجاء )
وقال
( أدب الفتى فى أن يرى متيقظا ** لأوامر من ربه ونواه )
( فإذا تمسك بالهوى يهوى به ** والحبل منه لمن تيقن واه )
____________________
(6/143)
وقال
( يا من بدنياه ظل فى لجج ** حقق بأن النجاة فى الشاطى )
( تطمع فى إرثك الفلاح وقد ** أضعت ما قبله من اشراط )
( كن حذرا فى الذى طمعت به ** من حجب نقص وحجب إسقاط )
وقال
( ترى شعروا أنى غبطت نسيمة ** ذكت بتلاقى الروض غب الغمائم )
( كما قابلت زهر الرياض وقبلت ** ثغور أقاحيه بلا لوم لائم ) وقال
( ورد المشيب مبيضا بوروده ** ما كان من شعر الشبيبة حالكا )
( يا ليته لو كان بيض بالتقى ** ما سودته مآثم من حالكا )
( إن المشيب غدا رداء للردى ** فإذا علاك أجد فى ترحالكا ) وقال
( لوعة الحب فى فؤادى تعاصت ** أن تداوى ولو أتى ألف راق )
( كيف يبرا من علة وعليها ** زائد علة النوى والفراق )
( فانسكاب الدموع جار فجار ** والتهاب الضلوع راق فراق )
ومن غرائب الاتفاق أنه قال كنت جالسا بين يدى الخطيب أبى القاسم التاكرونى صبيحة يوم بمسجد مالقة فقال لنا فى أثناء حديثه رأيت البارحة فى عالم النوم كأن أبا عبد الله الجليانى يأتينى ببيتي شعر فى يده وهما
____________________
(6/144)
( كل علم يكون للمرء شغلا ** بسوى الحق قادح فى رشاده )
( فإذا كان فيه لله حظ ** فهو مما يعده لمعاده )
قال فلم ينفصل المجلس حتى دخل علينا الفقيه الأديب أبو عبد الله الجليانى والبيتان معه فعرضهما على الشيخ فأخبره أنه صنعهما البارحة فقال له كل من فى المجلس أخبرنا بهما الشيخ قبل مجيئك فكان هذا من العجائب
ولأبى الحجاج المذكور تواليف منها كتاب ملاذ المستعين فى بعض خصائص سيد المرسلين أربعون حديثا وكتاب تخصيص القرب وتحصيل الأرب وقبول الرأى الرشيد فى تخميس الوتريات النبوية لابن رشيد وانتشاق النسمات النجدية واتساق النزعات الجدية وغرر الأمانى المسفرات فى نظم المكفرات والنفحات الرندية واللمحات الرندية مجموع شعره وحقائق بركات المنام فى مرأى المصطفى خير الأنام والاستشفاء بالعدة والاستشفاع بالعمدة فى تخميس البردة وتوجع الراثى فى تنوع المراثى واعتلاق السائل بأفضل الوسائل ولمح البهيج ونفح الأريج فى ترجيز كلام الشيخ أبى مدين من عبارات حكمية وإشارات صوفية وكتاب تجريد رؤوس مسائل البيان والتحصيل لتيسير البلوغ لمطالعتها والتوصيل وفهرسة روايته ورجز ذكر مشايخ ابى عمر الطنجى وكتاب أرج الأرجاء فى مزج الخوف والرجاء أربعون حديثا فى الرجاء والخوف
وكان رحمه الله تعالى حيا حين ألف لسان الدين الإحاطة رحم الله تعالى الجميع
ورأيت على ظهر أول ورقة من الريحانة بخط الإمام الكبير الشهير الشيخ إبراهيم الباعونى الدمشقى رحمه الله تعالى ما نصه قال كاتبه إبراهيم بن أحمد الباعونى غفر الله ذنوبه وستر عيوبه وبلغه من فضله مطلوبه صاحب كتاب الريحانة آية من آيات الله سبحانه لوجه أدبه طلاقة وللسانه ذلاقة
____________________
(6/145)
وللقلوب به علاقة وفى خطه غلاقة يعرفها من عرف اصطلاحه بمطالعته وينفتح له باب فهمها بتكرير مراجعته فليتأمل الناظر اليه والمقبل عليه ما فيه من الجواهر والنجوم الزواهر بل الآيات البواهر وليسبح الله تعالى تعجبا من قدرته جل وعلا ومواهبه التى عذب ماؤها النمير وحلا وليقل عند تأمل دره النظم { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } الحديد انتهى
وقوله رحمه الله تعالى وفى خطة غلاقة ليس المراد به إلا صعوبة الخط المغربى على أهل المشرق حسبما يعلم مما بعده وإلا فإن خط لسان الدين رحمه الله تعالى محمود عند المغاربة ولنقتصر من هذا الغرض على ماذكر فان تتبعه يطول إذ هو بحر لا ساحل له نقل من الروض الآريض لابن عاصم
وكان لسان الدين رحمه الله تعالى مؤثرا لقضاء حاجة من أمله وقصد بابه وأم له سواء كان من أودائه أو من أعدائه وقد ذكر الوزير الرئيس الكاتب أبو يحيى ابن عاصم رحمه الله تعالى عنه فى ذلك حكاية فى أثناء كلام رأيت أن أذكر جملته لما اشتمل عليه من الفائدة وهو انه ذكر فى ترجمة شموس العصر من ملوك بنى نصر من كتابه ب المسمى الروض الأريض فى اسم السلطان الذى كان ابن الخطيب وزيره وهو الغنى بالله محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن نصر الخزرجى بعد كلام ما صورته كان قد جرى عليه التمحيص الذى أزعجه عن وطنه الى الدار البيضاء بالمغرب من إيالة بنى مرين فأفادته الحنكة والتجربة هذه السيرة التى وقف شيوخنا على حقيقتها وانتهجوا واضح طريقتها وبلغتنا منقولة بألسنة صدقهم معبرا عنها فى عرف
____________________
(6/146)
التخاطب بالعادة فلم يكن الوزير الكيس والرئيس الجهبذ يجريان من الاستقامة على قانون ولا يطردان من الصواب على اسلوب الا بالمحافظة على ما رسم من القواعد والمطابقة لما ثبت من العوائد وكان ذوو النبل من هذه الطبقة وأولو الحذق من أرباب هذه المهن السياسية يتعجبون من صحة اختياره لما رسم وجوده تمييزه لما قصد ويرون المفسدة فى الخروج عنها ضربة لازب وأن الاستمرار على مراسمها آكد واجب فيتحرونها بالالتزام كما تتحرى السنن ويتوخونها بالإقامة كما تتوخى الفرائض وسواء تبادر لهم معناها ففهموه أو خفى عليهم وجه رسمها فجهلوه حدثنى شيخنا القاضى أبو العباس أحمد بن أبى القاسم الحسنى أن الرئيس ابا عبد الله ابن زمرك دخل على الشيخ ذى الوزارتين ابى عبد الله ابن الخطيب يستأذنه فى جملة مسائل مما يتوقف عادة على إذن الوزير وكان معظمها فيما يرجع الى مصلحة الرئيس أبى عبد الله ابن زمرك قال الشريف فأمضاها كلها له ما عدا واحدة منها تضمنت نقض عادة مستمرة فقال له ذو الوزارتين ابن الخطيب لا والله يا رئيس ابا عبد الله لا آذن فى هذا لأنا ما استقمنا فى هذه الدار إلا بحفظ العوائد
ثم قال صاحب الروض فلما تأذن الله تعالى للدولة بالاضطراب واستحكم الوهن بتمكن الأسباب عدل عن تلك القواعد الراسخة واستخف بتلك القوانين الثابتة فنشأ من المفاسد ما أعوز رفعه وتعدد وتره وشفعه واستحكم ضرره حتى لم يمكن دفعه وتعذر فيه الدواء الذى يرجى نفعه وكان قد صحبه من الجد ما سنى آماله وأنجح بإذن الله تعالى أقواله وأعماله فكان يجرى الأمر على رسم من السياسة واضح ونظر من الآراء السديدة راجح ثم يحفه من الجد سياج لا يفارقه الى تمام الغاية المطلوبة من حصوله وتمكن مقتضى الإرادة السلطانية من فروعه وأصوله انتهى كلام ابن عاصم
____________________
(6/147)
وإذ جرى ذكره فلا بأس ان نلمع بشىء من أحواله لأن أهل الأندلس كانوا يسمونه ابن الخطيب الثانى فنقول ترجمة أبى يحيى ابن عاصم
هو الإمام العلامة الوزير الرئيس الكاتب الجليل البليغ الخطيب الجامع الكامل الشاعر المفلق الناثر الحجة خاتمة رؤساء الأندلس بالاستحقاق ومالك خدم البراعة بالاسترقاق أبو يحيى محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عاصم القيسى الأندلسى الغرناطى قاضى الجماعة بها كان رحمه الله تعالى من أكابر فقهائها وعلمائها ورؤسائها أخذ عن الإمام المحقق أبى الحسن ابن سمعت والإمام القاضى ابى القاسم ابن سراج والشيخ الراوية ابى عبد الله المنتورى والإمام ابى عبد الله البيانى وغيرهم ومن تآليفه شرح تحفة والده وذكر فيه أنه ولى القضاء سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة ومنها كتاب جنة الرضى فى التسليم لما قدر الله تعالى وقضى وكتاب الروض الأريض فى تراجم ذوى السيوف والأقلام والقريض كأنه ذيل به إحاطة لسان الدين ابن الخطيب وله غير ذلك وقد أطلت الكلام فى ترجمته من كتابى أزهار الرياض فى اخبار عياض وما يناسبها مما يحصل للنفس به ارتياح وللعقل ارتياض
ووصفه ابن فرج السبتى بأنه الأستاذ العلم الصدر المفتى القاضى رئيس الكتاب ومعدن السماحة ومنبع الآداب انتهى نموذج من نثر ابن عاصم
وقد تقدم بعض كلامه فيما مر ومن بديع نثره الذى يسلك به نهج ابن
____________________
(6/148)
الخطيب رحمه الله تعالى قوله من كلام جلبت جملته فى أزهار الرياض واقتصرت هنا على قوله بعد الحمدلة الطويلة ما صورته أما بعد فان الله على كل شىء قدير وانه بعباده لخبير بصير وهو لمن أهل نيته وأخلص طويته نعم المولى ونعم النصير بيده الرفع والخفض والبسط والقبض والرشد والغى والنشر والطى والمنح والمنع والضر والنفع والبطء والعجل والرزق والأجل والمسرة والمساءة والإحسان والإساءة والإدراك والفوت والحياة والموت اذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون وهو الفاعل على الحقيقة وتعالى الله عما يقول الآفكون وهو الكفيل بان يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون وان فى احوال الوقت الداهية لذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد وعبره لمن يفهم قوله تعالى { إن الله يفعل ما يشاء } الحج { إن الله يحكم ما يريد } المائدة بينما الدسوت عامرة والولاة آمره والفئة مجموعة والدعوة مسموعة والإمرة مطاعة والأجوبة سمعا وطاعة واذا بالنعمة قد كفرت والذمة قد خفرت
إلى أن قال والسعيد من اتعظ بغيره ولا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا جعلنا الله تعالى ممن قضى عمره بخيره وبينما الفرقة حاصلة والقطيعة فاصلة والمضرة واصلة والحبل فى انبتات والوطن فى شتات والخلاف يمنع رعى متات والقلوب شتى من قوم أشتات والطاغية يتمطى لقصم الوطن وقضمه ويلحظه لحظ الخائف على هضمه والآخذ بكظمه ويتوقع الحسرة أن يأذن الله بجمع شمله ونظمه على رغم الشيطان ورغمه واذا بالقلوب قد ائتلفت والمتنافرة قد اجتمعت بعدما اختلفت والأفئدة بالألفة قد اقتربت الى الله تعالى وازدلفت والمتضرعة الى الله تعالى قد ابتهلت فى اصلاح الحالة التى سلفت فألقت الحرب أوزارها وأدنت الفرقة النافرة مزارها وجلت الألفة الدينية
____________________
(6/149)
أنوارها وأوضحت العصمة الشرعية آثارها ورفعت الوحشة الناشبة أظفارها أعذارها وأرضت الخلافة الفلانية أنصارها وغضت الفئة المتعرضة أبصارها وأصلح الله تعالى أسرارها فجمعت الأوطان بالطاعة والتزمت نصيحة الدين بأقصى الاستطاعة وتسابقت الى لزوم السنة والجماعة وألقت الى الإمامة الفلانية يد التسليم والضراعة فتقبلت فيأتهم وأحمدت جيأتهم وأسعدت آمالهم وارتضيت أعمالهم وكملت مطالبهم وتممت مآربهم وقضيت حاجاتهم واستمعت مناجاتهم وألسنتهم بالدعاء قد انطلقت ووجهتهم فى الخلوص قد صدقت وقلوبهم على جمع الكلمة قد اتفقت وأكفهم بهذه الإمامة الفلانية قد اعتلقت وكانت الإدالة فى الوقت على عدو الدين قد ظهرت وبرقت الى ان قال وكفت القدرة القاهرة والعزة الباهرة من عدوان الطاغية غوائل باعزاز دين الله الموعود بظهوره على الدين كله فواتح وأوائل ومعلوم بالضرورة أن الله تعالى لطيف بعباده حسبما شهد بذلك برهان الوجود { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } ابراهيم دليل على ما سوغ من الكرم والجود انتهى المقصود منه وهو كلام بليغ ومن أراد جملته فعليه بأزهار الرياض = من نظم ابن عاصم
ومن نظم ابن عاصم المذكور قوله مخاطبا شيخه قاضى الجماعة ابا القاسم ابن سراج وقد طلب الاجتماع به زمن فتنة فظن أنه يستخبره عن سر من أسرار السلطان فأعده معتذرا ولم يصدق الظن
( فديتك لا تسأل عن السر كاتبا ** فتلقاه فى حال من الرشد عاطل )
( وتضطره إما لحالة خائن ** أمانته أو خائض فى الأباطل )
( فلا فرق عندى بين قاض وكاتب ** وشى ذا بسر أو قضى ذا بباطل )
____________________
(6/150)
قصيدة لابن الأزرق فى مدحه
ومن بديع ما نظم فى مدح الرئيس أبى يحيى ابن عاصم المذكور قول العلامة ابن الأزرق رحمه الله تعالى
( خضعت لمعطفه الغصون الميس ** ورنا فهام بمقلتيه النرجس )
( ذو مبسم زهر الربى فى كسبه ** متنافس عن طيبه متنفس )
( ومورد من ورده أو ناره ** يتنعم القلب العميد وييأس )
( فالورد فيه من دموعى يرتوي ** والنار فيه من ضلوعى تقبس )
( كملت محاسنه فقد ناضر ** ولو احظ نجل وثغر العس )
( صعب التعطف بالغرام حبيته ** فالحب يحبى والتعطف يحبس )
( غرس التشوق ثم أغرى الوجد بى ** فالوجد يغرى والتشوق يغرس )
( ما كنت أشقى لو حللت بجنة ** من وصله تحيا لديها الأنفس )
( ألحاظه ورضابه وعذاره ** حور بها أو كوثر أو سندس )
( وليال أنس قد أمنت بهن من ** واش ينم ومن رقيب يحرس )
( أطلعت شمس الراح فيها فاهتدى ** عاش إلينا فى الدجى ومغلس )
( صفراء كالعقيان فى الألوان ** للندمان كالشهبان منها أكؤس )
( صبت شقيقا فاستحالت نرجسا ** فى مزجها فمورد ومورس )
( وحبابها يغنى بأسنى جوهر ** أنفى لغم المعدمين وأنفس )
( يجلى بها للغم منها حندسا ** قمر عليه من الذؤابة حندس )
( حتى إذا عمشت مراة البدر من ** صبح بدا تلقاه إذ يتنفس )
( ناديته وسنا الصباح محصحص ** ينجاب عنه من الظلام معسعس )
( يا مطلع الأنوار زهرا يجتنى ** ومشعشع الصهباء نارا تلمس )
( بك مجلس الأنس اطمأن وبابن ** عاصم اطمأن من الرياسة مجلس )
( بدر بأنوار الهدى متطلع ** غيث بأشتات الندى متبجس )
____________________
(6/151)
( حامى فلم نرتع لخطب يعترى ** ووفى فلم نحفل بدهر يبخس )
( شيم مهذبة وعلم راسخ ** ومكارم هتن ومجد أقعس )
( لو كان شخصا ذكره لبدا على ** أعطافه من كل حمد ملبس )
( ذاكم أبو يحيى به تحمى العلا ** وبه خلال الفخر طرا تحرس )
( بيت على عمد الفخار مطنب ** مجد على متن السماك مؤسس )
( خيم وعرس فى حماه فكم حوى ** فيه المراد مخيم ومعرس )
( إنا لنغدو هيما فينيلنا ** ريا ويوحشنا النوى فيؤنس )
( حتى اقمنا والأمانى منهضات ** وابتسمنا والزمان معبس )
( لم ندر قبل يراعه وبنانه ** ان الذوابل بالغمائم تبجس )
( هن اليراع بها يؤمن خائف ** ويحاط مذعور ويغنى مفلس )
( مهما انبرت فهى السهام يرى لها ** وقع لأغراض البيان مقرطس )
( يشفى بمأمله الشكى المعترى ** يحيا بمأمنه الحمام المؤيس )
( فتقص حين تشق منها ألسن ** وتسير حين تقط منها أروس )
( من كل وشاء بأسرار النهى ** درب بإظهار السرائر يهجس )
( قد جمع الأضداد فى حركاته ** فلذا اطراد فخاره لا يعكس )
( عطشان ذو ري يبيس مثمر ** غضبان ذو صفح فصيح أخرس )
( لله من تلك اليراع جواذب ** للسحر منك كأنها المغنيطس )
( رضنا شماس القول فى أوصافها ** فهى التى راضت لنا ما يشمس )
( وإليكها حللا تشابه نسجها ** مثلى يفصلها ومثلك يلبس )
( واهنأ بعيد باسم متهلل )
( وافاك يجهر بالسرور ويهمس )
( واحبس لواء الفخر موقوفا فان ** الحمد موقوف عليك محبس )
قلت وعندى الآن شك فى صاحب هذه القصيدة هل هو قاضى الجماعة بغرناطة محمد بن الأزرق أو ابن الأزرق الثانى القائل فيما يكتب على السيف
____________________
(6/152)
( ان عمت الأفق من نقع الوغى سحب ** فشم بها بارقا من لمع إيماضى )
( وان نوت حركات النصر أرض عدا ** فليس للفتح إلا فعلى الماضى ) والله سبحانه أعلم رسالة ابن عاصم الى ابن طركاط
ومن إنشاء الرئيس ابن عاصم المذكور ما كتب به يخاطب الكاتب أبا القاسم ابن طركاط وهو القضاء حفظ الله تعالى كمالك وأنجح آمالك اذا لم يحطه العدل من كلا جانبيه سبيل معوج ومذهب لا يوافق عليه مناظر ولا ينصره محتج كما أنه إذا حاطة العدل جاده للنجاة وسبب فى حصول رحمه الله تعالى المرتجاة وسوق لنفاق بضاعة العبد المزجاة وأجمل العدل ما تحلى به فى نفسه الحكم وجرى على مقتضى ما شهدت به الآراء المشهورة والحكم حتى يكون عن البغى رادعا وبالقسط صادعا ولأنف الأنفة من الإذعان للحق جادعا وأنت أجلك الله تعالى على سعة اطلاعك وشدة ساعد قيامك بالطريقة واضطلاعك ممن لا ينبه على ما ينبغى ولا يرد على طلبته من الإنصاف المبتغى فلك فى الطريقة القاضوية التبريز وأنت إذا كان غيرك الشبه الذهب الإبريز ولعلمية عدلك التوشية بالنزاهة والتطريز وليتنى كنت لمظهرك الحكمى حاضرا ولإعلام القضاة بآرائك المرتضاة محاضرا والوازع قد تمرس بالخصوم وجعل المتصدى للإذن فى محل المخصوم وأنت حفظك الله تعالى قد قمت من غلظ الحجاب بالمقام المعصوم ومثلت من سعة المنزل فى الفضل والطول كالشهر المصوم والباب قد سد وداعى الشفاعة قد رد والميقات للإذن قد حد ومطلب الأجرة المتعارفة قد بلغ الأشد حتى إذا قضى الواجب وأذن فى دخول الخصمين الحاجب وكبح السابقين الى الحد الذى
____________________
(6/153)
لا يعدونه وحفز إيماؤه من تعداه أو وقف دونه وقد حصل باللحظ واللفظ التساوى وأنتج المطالب الأربعة هذا اللازم المساوى ومجلسك قد رجح وقاره برضوى ومجتلاك قد فضح نوره البدر الأضوا وقد امتزت عن سواك من القضاة بمراسم لا تليق بجملتهم معارفها وتخصصت عنهم بملابس تعج عجيجا من جذامهم مطارفها بحيث تحد لخلع النعلين حدا لا يتجاوز طواه وتسد فى بعض الأوقات الباب سدا لا ترقع بالمحاجر كواه وتفصل بين الخصمين أحيانا بالنية دون الكلام ولكل امرىء ما نواه
وهذه أعانك الله تعالى مكملات من العدل فى الحكم وقف عياض دون تحقيق مناطها وأعيت ابن رشد فلم يهتد بيانه ولا تحصيله لاستنباطها فما بال النازحة عنك حسا ومعنى النازلة من تقاضى دينك بمنزلة الممطول المعنى المعتقلة من ملكة رقك بحيث أقصاها لاعج الشوق المعذبة من الصبابة فيك بما شب عمره عن الطوق تتنفس الصعداء مما تشاهده منك من مبتدعات الجور وتردد البكاء على ضياع ما استعار الحسن لصفاتها من النجد والغور وتقضى العجب مما تسمع من عدلك الذي لم تجتل لمحة من نوره ومن حلمك الذى أشقاها فلم تحضر لدكة طوره وتستصوب أنظار النحاة فى منع التهيئة والقطع فى العامل وتستجلب اصطلاح العروضيين فى المديد والبسيط دون الطويل والكامل فهلا راجعت فيها النظر وأنجزت لها الوعد المنتظر وكففت من
____________________
(6/154)
عيونها دموعا مستهلة واجتليت من جبينها الوضاح ما أخجل بدورا مشرقة وأهلة ولم تحوجها الى ان ينطق قرينها الروحانى بالشعر على لسانها ولسانك ولم تضطرها فى هذه المعاملة الى ما لا ترتضيه من كفر إحسانك والعذر أظهر والبرهان أبهر وخلافك فى العالم أشهر وأنت ان لم يكن ما يعصم الله تعالى منه لمقتضى الطبيعة أقهر
وقد أدرجت لك فى طى هذا ما يصل الى يدك وتلهج به فى يومك وغدك منتظرة منك إطفاء الجوى بالجواب ومحو ما سبق من الخطإ بالخطاب ان شاء الله تعالى والله تعالى يصل سعادته ويحفظ مجادته ومعاد السلام من الشاكر الذاكر ابن عاصم وفقه الله تعالى فى أوائل ذى الحجة عام خمسة وأربعين وثمانمائة انتهى وهو مما لم أذكره فى أزهار الرياض ظهير بتقديم ابن عاصم للنظر فى أمور الفقهاء
ولنذكر هنا الظهير الذى جلبته فيها بتقديم المذكور للنظر فى أمور الفقهاء وغيرهم ونصه هذا ظهير كريم اليه انتهت الظهائر شرفا عليا وبه تقررت المآثر برهانا جليا وراقت المفاخر قلائد وحليا وتميزت الأكابر الذين افتخرت بهم الأقلام والمحابر اختصاصا مولويا
فهو وان تكاثرت المرسومات وتعددت وتوالت المنشورات وتجددت أكبر مرسوم تمم فى الاعتقاد نظرا خطيرا وأحكم فى التفويض أمرا كبيرا وأبرم فى الاستخلاص عزما أبيا
اعتمد بمسطوره العزيز واختص بمنشوره الذى تلقاه اليمن بالتعزيز من لم يزل
____________________
(6/155)
بالتعظيم حقيقا وبالإكبار خليقا وبالإجلال حريا فهو شهير لم يزل فى الشهرة سابقا هاد لم يزل بالهدى ناطقا بليغ لم يزل بالبلاغة دريا عظيم لم يزل فى النفوس معظما علم لم يزل فى الأعلام مقدما كريم لم يزل فى الكرام سنيا اشتملت منه محافل الملك على العقد الثمين وحلت به المشورة فى الكنف المحوط والحرم الأمين فكان فى مشكاة الأمور هاديا وفى ميدان المراشد جريا فالى مقاماته تبلغ مقامات الإخلاص والى مرتبته تنتهى مراتب الاختصاص فيمن حاز خصلا وزين حفلا وشرف نديا واستكمل همما واستحمل قلما واستخدم مشرفيا فلله ما أعلى قدر هذا الشرف الجامع بين المتلد والمطرف السابق فى الفضل أمدا قصيا الحال من الاصطفاء مظهرا الفارع من العلاء منبرا الصاعد من العز كرسيا حاز الفضل إرثا وتعصيبا واستوفى الكمال حقا ونصيبا ثناء أرجه كالروض لو لم يكن الروض ذابلا وهديا نوره كالبدر لو لم يكن البدر آفلا ومجد علوه كالسها لو لم يكن السها خفيا فما أشرف الملك الذى اصطفاه وكمل له حق التقريب ووفاه وأحله قرارة التمكين ومن اختصاصه بالمكان المكين فسبق فى ميدان التفويض وشأى ورأى من الأنظار الحميدة ما رأى صادعا بالحق إماما علما موضحا من الدين نهجا أمما هاديا من الواجب صراطا سويا بانيا للمجد صرحا مشيدا مشهرا للعدل قولا مؤيدا مبرما للخير سببا قويا فالله تعالى يصل لمقام هذا الملك الذى طلع فى سمائه بدرا دونه البدور وصدرا تلوذ به الصدور سعدا لا تمطله الأيام فى تقاضيه ونصرا يمضى به نصل الجهاد فلا يزال ماضيه على الفتح مبنيا ويوالى له عزا يذود عن حرم الدين ويمنحه تأييدا يصبح فى أعناق الكفر حديث سيفه قطعيا
____________________
(6/156)
أمر به مرسوما عزيزا لا تبلغ المرسومات الى مداه ولا يبدى بآثار الاختصاص مثل ما أبداه عبد الله أمير المسلمين محمد الغالب بالله أيد الله تعالى مقامه ونصر أعلامه وشكر إنعامه ويسر مرامه لإمام الأئمة وعلم الأعلام وعماد ذوى العقول والأحلام وبركة حملة السيوف والأقلام وقدوة رجال الدين وعلماء الإسلام الشيخ الفقيه أبى يحيى ابن كبير العلماء شهير العظماء حجة الأكابر والأعيان مصباح البلاغة والبيان قاضى القضاة وإمامهم أوحد الجلة وطود شمامهم الشيخ الفقيه أبى بكر ابن عاصم أبقاه الله تعالى ومناطق الشكر له فصيحة اللسان ومواهب الملك به معهودة الإحسان وقلائد الأيادي منه متقلدة بجيد كل إنسان قد تقرر والمفاخر لا تنسب إلا لبنيها والفضائل لا تعتبر إلا بمن يشيد أركانها ويبنيها والكمال لا يصفى شربه إلا لمن يؤمن سربه أن هذا العلم الكبير الذى لا يفى بوصفه التعبير علم بآثاره يقتدى وبأنظاره يهتدى وبإشارته يستشهد وبإدارته يسترشد إذ لا أمد علو إلا وقد تخطاه ولا مركب فضل إلا وقد تمطاه ولا شارقة هدى إلا وقد جلاها ولا لبة فخر إلا وقد حلاها ولا نعمة إلا وقد أسداها ولا حرمه إلا وقد أبداها لما له فى دار الملك من الخصوصية العظمى والمكانة التى تسوغ النعمى والرتب التى تسمو العيون إلى مرتقاها وتستقبلها النفوس بالتعظيم وتتلقاها حيث سر الملك مكتوم وقرطاسه مختوم وأمره محتوم والأقلام قد روضت الطروس وهى ذاوية وقسمت الأرزاق وهى طاوية شقت ألسنتها فنطقت وقطت أرجلها فسبقت ويبست فأثمرت إنعاما ونكست فأظهرت قواما وخطت فأعطت وكتبت فوهبت ومشقت فرفقت وأبرمت فأنعمت فكم يسرت الجبر
____________________
(6/157)
وعفرت الهزبر وشنفت المسامع وكيفت المطامع وأقلت فيما ارتفع من المواضع وأحلت لما امتنع من المراضع فهى تنجز النعم وتحجز النقم وتبث المذاهب وتحث المواهب وتروض المراد وتنهض المراد وتحرس الأكناف وتغرس الأشراف مصيخة لنداء هذا العماد الأعلى طامحة لمكانه الذى سما واستعلى فيما يملى عليها من البيان الذى يقر له بالتفضيل الملك الضليل ويشهد له بالإحسان لسان حسان ويحكم له ببرى القوس حبيب بن أوس ويهيم بما من الأساليب عنده شاعر كنده ويستمطر سحبه الثرة فصيح المعرة الى منثور تزيل الفقر فقره وتدر الرزق درره لو أنهى الى قس إياد لشكر فى الصنيعة أياديه واستمطر سحبه وغواديه أو بلغ الى سحبان لسحره وما فارقه عشيته ولا سحره ولو رآه الصابى لأبدى اليه من صبوته ما أبدى أو سمعه ابن عباد لكان له عبدا أو بلغ بديع الزمان لهجر بدائعه واستنزر بضائعه أو أتحف به البستى لأتخذه بستانا أو عرض على عبد الحميد لأحمد من صوبه هتانا فأعظم به من عال لا ترقى ثنيته ولا تحاز مزيته ولا يرجم أفقه ولا يكتم حقه ولا ينام له عن اكتساب الحمد ناظر ولا ينقاس به فى الفضل مناظر وهل تقاس الأجادل بالبغاث أو الحقائق بالأضغاث
ألا وان بيته هو البيت الذى طلع فى أفقه كل كوكب وقاد ممن وشج به للعلوم اتقاء واتقاد وترامى به للمدارك ذكاء وانتقاد فأعظم بهم أعلاما وصدورا وأهله وبدورا خلدت ذكرهم الدواوين المسطرة وسرت فى محامدهم الأنفاس المعطرة الى أن نشا فى سمائهم هذا الأوحد الذى شهرة فضله لا تجحد فكان قمرهم الأزهر ونيرهم الأظهر ووسيطة عقدهم الأنفس ونتيجة مجدهم الأقعس فأبعد فى المناقب آماده ورفع الفخر وأقام عماده وبنى على تلك الآساس المشيدة وجرى لإدراك تلك الغايات البعيدة
____________________
(6/158)
فسبق وجلى وشنف بذكره المسامع وحلى ورفع المشكل ببيانه وحرر الملتبس ببرهانه الى ان أحله قضاء الجماعة ذروة أفقه الأصعد وبوأه عزيز ذلك المقعد فشرف الخطة واخذ على الأيدى المشتطة لا يراقب إلا ربه ولا يضمر إلا العدل وحبه والمجلس السلطانى أسماه الله تعالى يختصه بنفسه ويفرغ عليه من حلل الاصطفاء ولبسه ويستمطر فوائده ويجرب بأنظاره حقوق الملك وعوائده فكان بين يديه حكما مقسطا ومقسما لحظوظ الإنعام مقسطا الى ان خصه بالكتابة المولوية ورأى له ذلك حق الأولوية إذ كان والده المقدس نعم الله تعالى ثراه ومنحه السعادة فى أخراه مشرف ذلك الديوان ومعلى ذلك الإيوان يحبر رقاع الملك فتروق وتلوح كالشمس عند الشروق فحل ابنه هذا الكبير شرفا الشهير سلفا مرتبته التى سمت وافترت به عن السعد وابتسمت فسحبت به للشرف مطارف وأحرزت به من الفخر التالد والطارف فهو اليوم فى وجهها غرة وفى عينها قرة ولله هو فى ملاحظة الحقائق ورعيها وسمع الحجج ووعيها فلقد فضل بذلك اهل الآختصاص وسبقهم فى تبيين ما يشكل منها وما يعتاص إذ المشكلة معه جلية الأغراض والآراء لديه آمنة من مأخذ الأعتراض فكم رتبه عمرها بذويها فأكسبها تشريفا وتنويها وعلى ذلك فأعلام قضاه الوطن ومن عبر منهم وقطن مع أقدارهم السامية ومعاليهم التى هى للزهر مسامية إنما رقتهم وساطته التى أحسنت وزينت بهم المجالس وحسنت فيه أمضوا أحكامهم وأعملوا فى الأباطيل احتكامهم وكتبوا الرسوم وكبتوا الخصوم وحلوا دست القضاء وسلوا سيف المضاء وفى زمانه تخرجوا
____________________
(6/159)
وفى بستانه تأرجوا ومن خلقه اكتسبوا والى طرقه انتسبوا وعلى موارده حاموا وحول فوائده قاموا وبتعريفه عرفوا وبتشريفه شرفوا وبصفاته كلفوا وبعرفاته وقفوا فأمنوا مع انسكاب سحب إفادته من الجدب وقاموا بذلك الفرض بسبب ذلك الندب وهل العلماء وان عمت فوائدهم وانتظمت بجياد الأذهان فرائدهم إلا من أنواره مستمدون والى الاستفادة من أنظاره ممتدون وببركاته معتدون وبأسبابه مشتدون فبه اجتنيت من أفنان المنابر ثمراتهم وتأرجت فى روضات المعارف زهراتهم وبه عمروا الحلق وائتلق من أنوارهم ما ائتلق إذ كل من اصطناعه محسوب والى بركته منسوب فهو بدرهم الأهدى وغيثهم الأجدى وعقدهم المقتنى وروضهم المجتنى وبدر منازلهم وصدر محافلهم
وعلى ما أعلى المقام المولوي من مكانه وقضى به من استمكانه واعتمد من إبرامه وأبرم من اعتماده ومهد من إكرامه وكرم من مهاده واختص من علاه وأعلى من اختصاصه واستخلص من حلاه وحلا من استخلاصه ووفى من تكرمه وكرم من وفائه واصطفى من مجده ومجد من اصطفائه وقدم من براعته وحكم من يراعته وشقق من كتابته وأنطق من خطابته وسجل من أنظاره وعجل من اختياره فذكا ذكره وسطا سطره وأمعن معناه وأغنى مغناه أشار أيده الله تعالى باستئناف خصوصيته وتجديدها وإثبات مقاماته وتحديدها لتعرف تلك الحدود فلا تتخطى وتكبر تلك المراتب فلا تستعطى فأصدر له شكر الله تعالى إصداره وعمر بالنصر داره هذا المنشور الذى تأرج بمحامده نشره وتضمن من مناقبه البديع فراق طيه ونشره وغدا وفرائد المآثر لديه موجدة مكونه وأصبح للمفاخر مالكا لما أتى به مدونه وخصه فيه بالنظر المطلق الشروط الملازم للتفويض ملازمة
____________________
(6/160)
الشرط للمشروط المستكمل الفروع والأصول المستوفى الأجناس والفصول فى الأمور التى تختص بأعلام القضاة الأكابر وكتاب القضاة ذوى الأقلام والمحابر وشيوخ العلم وخطباء المنابر وسائر أرباب الأقلام القاطن منهم والعابر بالحضرة العلية وجميع البلاد النصرية تولى الله تعالى جميع ذلك بمعهود ستره ووصل لديه ما تعود من شفع اللطف ووتره يحوط مراتبهم التى قطفت من روضاتها ثمرات الحكم وجنيت ويراعى أمورهم التى أقيمت على العوائد وبنيت وحقوقهم التى حفظت لهم فى المجالس السلطانية ورعيت ويحل كل واحد منهم فى منزلته التى تليق ومرتبته التى هو بها خليق على ما يقتضى ما يعلم من أدواتهم ويخبر من تباين ذواتهم ويرشح كل واحد الى ما استحقه ويؤتى كل ذى حق حقه اعتمادا على أغراضه التى عدلت وصدحت على أفنانها من الأفواه طيور الشكر وهدلت واستنادا فى ذلك الى آرائه وتفويضا له فى هذا الشأن بين خلصاء الملك وظهرائه وذلك على مقتضى ما كان عليه أعلام الرياسة الذين سبقوا وانتهضوا بهممهم واستبقوا كالشيخ الرئيس الصالح ابى الحسن ابن الجياب والشيخ ذى الوزارتين أبى عبد الله ابن الخطيب رحمهما الله تعالى
فليقم أبقاه الله تعالى بهذه الأعمال التى سمت واعتزت ومالت بها اعطاف العدل واهتزت وسار بها الخبر حثيث السرى وصار بها الحق مشدود العرى وعلى جميع القضاة الأمضياء والعلماء الأرضياء والخطباء الأولياء والمقرئين الأزكياء وحملة الأقلام الأحظياء ان يعتمدوا هذا الولى العماد فى كل ما يرجع الى عوائدهم ويختص فى دار الملك من مرتباتهم وفوائدهم وما يتعلق بولاياتهم وأمنياتهم ويليق بمقاصدهم ونياتهم فهو الذى يسوغهم المشارب ويبلغهم المآرب ويستقبل العلى بالعلى والعاطل بالحلى والمشكل بالجلى والمفرق بالتاج والمقدمة بالانتاج وعلى ذلك فهذا المنشور الكريم قد أقرهم على ولاياتهم وأبقاهم ولقاهم من حفظ المراتب ما رقاهم فليجروا
____________________
(6/161)
على ما هم بسبيله وليهتدوا بمرشد هذا الاعتناء ودليله وكتب فى صفر عام سبعة وخمسين وثمانمائة انتهى
قلت وانما أتيت به لوجوه أحدها ما يتعلق بلسان الدين اذ وقعت الإشارة الى مرتبته فى أخره والثانى ما اشتمل عليه من الإنشاء الغريب والثالث معرفة حال الرئيس أبى يحيى ابن عاصم وتمكنه من الرياسة لأنا بنينا هذا الكتاب على ذكر ما يناسبه من انباء أهل المغرب لكون أهل هذه البلاد المشرقية ليس لهم بها عناية والرابع أن بعض أكابر شيوخنا ممن ألف فى طبقات المالكية لما عرف بابى يحيى ذكره فى نحو أسطر عشرة وقال هذا الذى حضرنى من التعريف به والخامس ان ابن عاصم المذكور كما قاله الوادى آشى وغيره كان يدعى فى الأندلس بابن الخطيب الثانى ويعنون بذلك البلاغة والبراعة والرياسة والسياسة رجع إلى أخبار لسان الدين فنقول
وأما كتب التأليف باسم لسان الدين رحمه الله تعالى فقد قال فى الإحاطة لما أجرى ذكر ذلك ما صورته وأما ما رفع الى من الموضوعات العلمية والوسائل الأدبية والرسائل الإخوانية لما أقامنى الملك صنما يعتمد وخيالا اليه يستند صادرة عن الأعلام وحملة الأقلام ورؤساء النثار والنظام فجم يضيق عنه الإحصاء ويعجز عن ضم نشره الاستقصاء وربما تضمن هذا الكتاب كتاب الإحاطة منه كثيرا ومنظوما أثيرا ودرا نثيرا جرى فى أثناء الأسماء وانتمى الى الإجادة أكرم الانتماء غفر الله تعالى لى ولقائله فما كان اولانى وإياه بستر زوره وإغراء الإضراب بغروره فأهون بما لا ينفع وإن ارتفع الكلم الطيب لا يرفع اللهم تجاوز عنا بفضلك وكرمك انتهى
وقد تقدم فى ترجمة أبى عبد الله محمد بن عبد الرحمن الكرسوطى الفاسى نزيل مالقة صاحب التآليف العديدة أنه ألف تقييدا على قواعد الإمام القاضى
____________________
(6/162)
أبى الفضل عياض رحمه الله تعالى برسم ولد لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى وكذلك غير واحد من أهل عصره قصدوه بالنظم والنثر وهى سنة الله سبحانه وتعالى فى عبادة اذ السلطان سوق يجلب اليها ما ينفق فيها والله سبحانه وتعالى ولى المكافأة لا رب غيره ولا مأمول سواه انتهى
____________________
(6/163)
____________________
(6/163)
الباب الخامس
فى إيراد جملة من نثره الذى عبق أريج البلاغة من نفحاته ونظمه الذى تألق نور البراعة من لمحاته وصفحاته وما يتصل به من أزجاله وموشحاته ومناسبات رائقة فى فنون الأدب ومصطلحاته
اعلم سلك الله تعالى بى وبك اوضح محجه وجعلنا ممن انتحى صوب الصواب ونهجه أن هذا الباب هو المقصود بتأليف هذا الكتاب وغيره كالتبع له وها أنا أذكر ما حضرنى الآن من بنات أفكار لسان الدين التى هى بالمحاسن متقنعة وللبدائع منتعلة فاقول
____________________
(6/164)
أما نثره فهو البحر الزخار بل الدر الذى به الافتخار وناهيك أن كتبه الآن فى المغرب قبلة أرباب الإنشاء التى اليها يصلون وسوق دررهم النفيسة التى يزينون بها صدور طروسهم ويحلون وخصوصا كتابه ريحانة الكتاب ونجعه المنتاب فإنه وإن تعددت مجلداته على فن الإنشاء والكتابة مقصور وقد اشتمل على السلطانيات وغيرها ومخاطباته لأهل المشرق والمغرب على لسان ملوك الأندلس الذين علم بلاغتهم منصور وقد تركت نسختى منه فى المغرب ولو حضرتنى لكفتنى عن هذه الفوائد التى أتعبت خاطرى فى جمعها من مقيداتى التى صحبتها معى وهى قليلة
وقد مر فى هذا الكتاب جملة من نثره ونظمه والذى نجلبه هنا زيادة على ما سبق
وقال رحمه الله تعالى فى الإحاطة عند ترجمة نثره ما صورته وأما النثر
____________________
(6/164)
فبحر زاخر ومدى طوله مستاخر وإنك لم يفخر عليك كفاخر وقد مر منه فى تضاعيف هذا الديوان كثير ونحن نجلب منه ما يشير اليه مشير انتهى 1 - فمن ذلك قوله فى غرض التحميد مما افتتح به الكتاب فى التاريخ المتضمن دولة بنى نصر الحمد لله الذى جعل الأزمنة كالأفلاك ودول الأملاك كأنجم الأحلاك تطلعها من المشارق نيره وتلعب بها مستقيمة أو متحيرة ثم تذهب بها غائرة متغيرة السائق عجل وطبع الوجود مرتجل والحى من الموت وجل والدهر لا معتذر ولا خجل بينما ترى الدست عظيم الزحام والموكب شديد الالتحام والوزعة تشير والأبواب يقرعها البشير والسرور قد شمل الأهل والعشير والأطراف تلثمها الأشراف والطاعة يشهرها الاعتراف والأموال يحوطها العدل أو يبيحها الإسراف والرايات تعقد والأعطيات تنقد إذ رأيت الأبواب مهجورة والدسوت لا مؤملة ولا مزورة والحركات قد سكنت وأيدي الإدالة قد تمكنت فكأنما لم يسمر سامر ولا نهى ناه ولا أمر آمر ما أشبه الليلة بالبارحة والغادية بالرائحة { لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح }
2 - ومن نثره قوله فى استدعاء إمداد وحض على الجهاد أيها الناس رحمكم الله تعالى إخوانكم المسلمون بالأندلس 4 قد دهم العدو قصمه الله تعالى ساحتهم ورام الكفر خذله الله تعالى استباحتهم وزحفت أحزاب الطواغيت إليهم ومد الصليب ذراعيه عليهم وأيديكم بعزة الله تعالى أقوى وأنتم المؤمنون أهل البر والتقوى وهو دينكم فانصروه وجواركم الغريب فلا تخفروه وسبيل الرشد قد وضح فلتبصروه الحهاد الجهاد فقد تعين
____________________
(6/165)
الجار الجار فقد قرر الشرع حقه وبين الله الله فى الإسلام الله الله فى أمه محمد عليه الصلاة السلام الله الله فى المساجد المعمورة بذكر الله الله الله فى وطن الجهاد فى سبيل الله قد استغاث بكم الدين فأغيثوه قد تاكد عهد الله وحاشاكم أن تنكثوه أعينوا إخوانكم بما أمكن من الإعانة أعانكم الله تعالى عند الشدائد جددوا عوائد الخير يصل الله تعالى لكم جميل العوائد صلوا رحم الكلمة واسوا بأنفسكم وأموالكم تلك الطوائف المسلمة كتاب الله بين أيديكم وألسنة الآيات تناديكم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمة فيكم والله سبحانه يقول فيه { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم } الصف ومما صح عنه قوله ( من اغبرت قدماه فى سبيل الله حرمهما الله على النار ) ولا يجتمع غبار فى سبيل الله ودخان جهنم ) ( من جهز غازيا فى سبيل الله فقد غزا ) أدركوا رمق الدين قبل ان يفوت بادروا عليل الإسلام قبل ان يموت احفظوا وجوهكم مع الله تعالى يوم يسألكم عن عباده جاهدوا فى الله بالألسن والأقوال حق جهاده
( ماذا يكون جوابكم لنبيكم ** وطريق هذا العذر غير ممهد )
( ان قال لم فرطتم فى أمتى ** وتركتموهم للعدو المعتدى )
( تالله لو ان العقوبة لم تخف ** لكفى الحيا من وجه ذاك السيد )
اللهم اعطف علينا قلوب العباد اللهم بث لنا الحمية فى البلاد اللهم دافع عن الحريم والضعيف والأولاد اللهم انصرنا على أعدائك بأحبابك وأوليائك يا خير الناصرين اللهم أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا انتهى
3 - ومن ذلك قوله فى صداق أمره السلطان بإنشائه لكبير الشرفاء بفاس فى فصل منه تضمن ذكر أوليتهم واستيطانهم لتلك المدينة ما صورته
فضرب بفاس عمرها الله تعالى حلته وأورث منها بالبقعة الزكية
____________________
(6/166)
الرفيعة سراته وجلته فتبوأوا من ذلك الغور المعشب الروض الأرج النور هالة سعد وأفق برق ورعد ودست وعيد ووعد يتناقلون رتب الشرف الصريح كابرا عن كابر ويروى مسلسل المجد عن بيتهم الرفيع الجد كل حريص على عوالى المعالى مثابر
( فالكف عن صلة والأذن عن حسن ** والعين عن قرة والقلب عن جابر )
حيث الأنوف الشم والوجوه الغر والعزة القعساء والنسب الحر والفواطم فى صدف الصون من لدن الكون كأنهن الدر آل رسول الله ونعم الآل والموارد الصادقة اذا كذب الآل ومن أذا لم يصل عليهم فى الصلاة حبطت منها الأعمال طلبه الراكب ونشدة الطالب وسراة لؤى بن غالب وملتقى نور الله تعالى ما بين فاطمة الزهراء وعلى بن أبى طالب انتهى وهو طويل لم يحضرنى منه الآن سوى ما ذكرته 4 - ومن ذلك قوله رحمه الله تعالى كتبت الى بعض السادة الفضلاء وقد بلغنى مرضه أيام كان الانزعاج عن الأندلس الى الإيالة المرينية
وردت على من فئتى التى اليها فى معركة الدهر أتحيز وبفصل فضلها فى الأقدار المشتركة أتميز سحاءة سرت وساءت وبلغت من القصدين ما شاءت أطلع بها سيدي صنيعة وده من شكواه على كل عابث فى السويداء موجب اقتحام البيداء مضرم نار الشفقة فى فؤاد لم يبق من صبره الا القليل ولا من إفصاح لسانه الا الأنين والأليل ونوى مدت لغير ضرورة يرضاها الخليل فلا تسأل عن ضنين تطرقت اليد الى رأس ماله أو عابد نوزع فى تقبل أعماله أو آمل ضويق فى فذلكة آماله لكنى رجحت دليل المفهوم على دليل المنطوق وعارضت القواعد الموحشة بالفروق ورايت الخط يبهر والحمد لله تعالى ويروق
____________________
(6/167)
واللفظ الحسن تومض فى حبره للمعنى الأصيل بروق فقلت ارتفع الوصب ورد من الصحة المغتصب وآلة الحس والحركة هى العصب واذا اشرق سراج الإدراك دل على سلامة سليطه والروح خليط البدن والمرء بخليطه وعلى ذلك فبليد احتياطى لا يقنعه إلا الشرح فبه يسكن الظمأ البرح وعذرا عن التكليف فهو محل الاستقصاء والاستفسار والإطناب والإكثار وزند القلق فى مثلها أورى والشفيق بسوء الظن مغرى والسلام 5 - ومن نثر لسان الدين ما ذكره فى الإحاطة فى ترجمة ابى عبد الله الشديد وهو محمد بن قاسم بن أحمد بن ابراهيم الأنصارى الجيانى الأصل ثم المالقى إذ قال ما صورته
جملة جمال من خط حسن واضطلاع بحمل كتاب الله بلبل دوح السبع المثانى وماشطة عروس ابى الفرج ابن الجوزي وآية صقعه ونسيج وحده فى حسن الصوت وطيب النغمة اقتحم لذلك دسوت الملوك وجر أذيال الشهرة عذب الفكاهة ظريف المجالسة قادرا على المحاكاة متسورا حمى الوقار ملبيا داعى الانبساط قلد شهادة الديوان بمالقة فكان مغار حبل الأمانة شامخ مارن النزاهة لوحا للألقاب وعززت ولايته ببعض الألقاب النبيهة وهو الآن الناظر فى أمور الحسبة ببلده ولذلك خاطبته برقعة أداعبه بها وأشير الى أضداده بما نصه
( يا أيها المحتسب الجزل ** ومن لديه الجد والهزل )
( يهنيك والشكر لمولى الورى ** ولاية ليس لها عزل )
كتبت أيها المحتسب المنتمى الى النزاهة المنتسب أهنيك ببلوغ تمنيك وأحذرك
____________________
(6/168)
من طمع نفس بالغرور تمنيك فكأننى بك وقد طافت بركابك الباعة ولزم أمرك السمع والطاعة وارتفعت فى مصانعتك الطماعة وأخذت أهل الريب بغتة كما تقوم الساعة ونهضت تقعد وتقيم وسطوتك الريح العقيم وبين يديك القسطاس المستقيم ولا بد من شرك ينصب وجماعة على ذى جاه تعصب ودالة يمت بها الجناب الأخصب فإن غضضت طرفك أمنت على الولاية صرفك وان ملأت ظرفك رحلت عنها حرفك وان كففت فيها كفك حفك العز فيمن حفك فكن لقالى المجبنة قاليا ولحوت السلة ساليا وأبد لدقيق الحوارى زهد حوارى وازهد فيما بأيدى الناس من العوارى وسر فى اجتناب الحلواء على السبيل السواء وارفض فى الشواء دواعى الأهواء وكن على الهراس وصاحب ثريد الراس شديد المراس وثب على طبيخ الأعراس ليثا مرهوب الافتراس وأدب أطفال الفسوق فى السوق لا سيما من كان قبل البلوغ والبسوق وصمم على استخراج الحقوق والناس أصناف فمنهم خسيس يطمع منك فى أكله ومستعد عليك بوكزة أو ركلة وحاسد فى مطية تركب وعطية تسكب فاخفض للحاسد جناحك وسدد الى حربه رماحك وأشبع الخسيس منهم مرقة فإنه حنق ودس له فيها عظما لعله يختنق واحفر لشريرهم حفرة عميقة فانه العدو حقيقة حتى اذا حصل وعلمت ان وقت الانتصار قد اتصل فأوقع وأوجع ولا ترجع وأولياءه من الشياطين فافجع والحق أقوى وأن تعفو أقرب للتقوى سددك الله تعالى الى غرض التوفيق وأعلقك
____________________
(6/169)
من الحق بالسبب الوثيق وجعل قدومك مقرونا برخص اللحم والزيت والدقيق انتهى
6 - ومما كتب به لسان الدين الى علي بن بدر الدين الطوسى بن موسى ابن رحو بن عبد الله بن عبد الحق من مدينة سلا ما نصه
( يا جملة الفضل والوفاء ** ما بمعاليك من خفاء )
( عندى بالود فيك عقد ** صحفه الدهر باكتفاء )
( ما كنت أقضى حلاك حقا ** لو جئت مدحا بكل فاء )
( فأول وجه القبول عذرى ** وحسبك الشك فى صفاء ) س
يدى الذى هو فصل جنسه ومزية يومه على أمسه فإن افتخر الدين من أبيك ببدره افتخر منك بشمسه رحلت على المنشإ والقرارة ومحل الصبوة والفرارة فلم تتعلق نفسى بذخيرة ولا عهد جيرة خيرة كتعلقها بتلك الذات التى لطفت لطافة الراح واشتملت بالمجد الصراح شفقة أن تصيبها معرة والله تعالى يقيها ويحفظها ويبقيها إذ الفضائل فى الأزمان الرذلة غوائل والضد عن ضده منحرف بالطبع ومائل فلما تعرفت خلاص سيدي من ذلك الوطن والقاءه وراء الفرضة بالعطن لم تبق لى تعلة ولا أحرضتنى له علة ولا أوتى جمعى من قلة فكتبت أهنىء نفسى الثانية بعد هناء نفسى الأولى وأعترف للزمان باليد الطولى فالحمد لله الذى جمع الشمل بعد شتاته وأحيا الأنس بعد مماته سبحانه لا مبدل لكلماته واياه أسال ان يجعل العصمة حظ سيدي ونصيبه فلا يستطيع حادث ان يصيبه وانا اخرج له عن بث كمين ونصح أنا به قمين
____________________
(6/170)
بعد أن أسبر غوره وأخبر طوره وأرصد دوره فان كان له فى التشريق أمل وفى ركب الحجاز ناقة وجمل والرأى فيه قد نجحت منه نية وعمل فقد غنى عن عرف البقرات بأزكى الثمرات وأطفا هذه الجمرات برمى الجمرات وتأنس بوصل السرى ووصال السراة وأنا به ان رضينى أرضى مرافق ولواء عزى به خافق وان كان على السكون بناؤه وانصرف الى الإقامة اعتناؤه فأمر له ما بعده والله يحفظ من الغير سعده والحق ان تحذف الأبهة وتختصر ويحفظ اللسان ويغض البصر وينخرط فى الغمار ويخلى عن المضمار ويجعل من المحظور مداخلة من لا خلاق له ممن لا يقبل الله تعالى قوله ولا عمله فلا يكتم سرا ولا يتطوق من الرجولة زرا ويرفض زمام السلامة وترك العلامة على النجاة علامة وأما حالى فكما علمتم ملازم كن ومهبط تجربة وسن أزجى الأيام وأروم بعد التفرق الألتئام خالى اليد ملىء القلب والخلد بفضل الواحد الصمد عامل على الرحلة الحجازية التى أختارها لكم ولنفسى وأصل فى التماس الإعانة عليها يومى بأمسى أوجب ما قررته لكم ما أنتم أعلم به من ود قررته الأيام والشهور والخلوص المشهور وما أطلت فى شىء عند قدومى على هذا الباب الكريم إطالتى فيما يختص بكم من موالاته وبذل مجهود القول والعمل فى مرضاته وأما ذكركم فى هذه الأوضاع فهو مما يقر عين المجادة والوظيفة التى ينافس فيها أولو السيادة والله يصل بقاءكم وييسر لقاءكم والسلام انتهى
7 - ومن نثر لسان الدين ما أثبته فى الإحاطة فى ترجمة ابن خلدون صاحب التاريخ الذى تكرر نقلنا منه فى هذا التأليف
ولنذكر الترجمة بجملتها فنقول قال رحمه الله تعالى فى الإحاطة ما نصه عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن
____________________
(6/171)
إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن خلدون الحضرمى من ذرية عثمان أخى كريب المذكور فى نبهاء ثوار الأندلس وينسب سلفهم الى وائل بن حجر وحاله عند القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفة انتقل سلفه من مدينة إشبيلية عن نباهة وتعين وشهرة عند الحادثة بها أو قبل ذلك فاستقر بتونس منهم ثانى المحمدين محمد بن الحسن وتناسلوا على حشمة وسراوة ورسوم حسنة وتصرف جد المترجم به فى القيادة وأما المترجم به فهو رجل فاضل حسن الخلق جم الفضائل باهر الخصل رفيع القدر ظاهر الحياء أصيل المجد وقور المجلس خاصى الزى عالى الهمة عزوف عن الضيم صعب المقادة قوى الجأش طامح لقنن الرياسة خاطب للحظ متقدم فى فنون عقلية ونقلية متعدد المزايا سديد البحث كثير الحفظ صحيح التصور بارع الخط مغرى بالتجلة جواد حسن العشرة مبذول المشاركة مقيم لرسم التعين عاكف على رعى خلال الأصالة مفخر من مفاخر التخوم المغربية 3 قرأ القرآن ببلده على المكتب ابن برال والعربية على المقرىء الزواوي وغيره وتأدب بأبيه وأخذ عن المحدث ابى عبد الله ابن جابر الوادى آشى وحضر مجلس القاضى ابى عبد الله ابن عبد السلام وروى عن الحافظ ابى عبد الله السطى والرئيس ابى محمد عبد المهيمن الحضرمى ولازم العالم الشهير ابا عبد الله الآبلى وانتفع به انصرف من إفريقية منشئة بعد ان تعلق بالخدمة السلطانية على الحداثة وإقامته لرسم العلامة بحكم الاستنابة عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة وعرف فضله وخطبه السلطان منفق سوق العلم والأدب أبو عنان فارس بن على بن عثمان واستحضره بمجلس المذاكرة فعرف حقه وأوجب فضله واستعمله على الكتابة أوائل عام ستة وخمسين ثم عظم عليه حمل الخاصة من طلبه الحضرة لبعده عن حسن التاتى وشفوفه بثقوب الفهم وجودة الإدراك فأغروا به
____________________
(6/172)
السلطان إغراء عضده ما جبل عليه عهدئذ من إغفال التحفظ مما يريب لديه فأصابته شدة تخلصه منها أجله كانت مغربة فى جفاء ذلك الملك وهناة جواره وإحدى العواذل لأولى الهوى فى القول بفضله وعدم الخشوع واهمال التوسل وإبادة المكسوب فى سبيل النفقة والإرضاخ على زمن المحنة وجار المنزل الخشن الى ان أفضى الأمر الى السعيد ولده فأعتبه قيم الملك لحينه وأعاده الى رسمه ودالت الدولة الى السلطان أبى سالم وكان له به الاتصال قبل تسوغ المحنة بما أكد حظوته فقلده ديوان الإنشاء مطلق الجرايات محرر السهام نبيه الرتبة الى آخر أيامه ولما ألقت الدولة مقادها بعده الى الوزير عمر بن عبد الله مدبر الأمر وله اليه وسيلة وفى حليه شركة وعنده حق رابه تقصيره عما ارتمى اليه أمله فساء ما بينهما بما آل الى انفصاله عن الباب المرينى وورد على الأندلس فى أول ربيع الأول عام أربعة وستين وسبعمائة واهتز له السلطان وأركب خاصته لتلقيه واكرم وفادته وخلع عليه وأجلسه بمجلسه ولم يدخر عنه برا ومؤاكله ومراكبه ومطايبه وفكاهة
8 - وخاطبنى لما حل بظاهر الحضرة مخاطبة لم تحضرنى الآن فأجبته عنها بقولى
( حللت حلول الغيث فى البلد المحل ** على الطائر الميمون والرحب والسهل )
( يمينا بمن تعنو الوجوه لوجهه ** من الشيخ والطفل المهدا والكهل )
( لقد نشأت عندى للقياك غبطة ** تنسى اغتباطى بالشبيبة والأهل )
أقسمت بمن حجت قريش لبيته وقبر صرفت أزمة الأحياء لميته ونور ضربت الأمثال بمشكاته وزيته لو خيرت أيها الحبيب الذى زيارته الأمنية السنية والعارفة
____________________
(6/173)
الوارفة واللطيفة المطيفة بين رجع الشباب يقطر ماء ويرف نماء ويغازل عيون الكواكب فضلا عن الكواعب إشارة وأيماء بحيث لا الوخط يلم بسياج لمته أو يقدح ذباله فى ظلمته أو يقوم حوارية فى ملته من الأحابش وأمته وزمانه روح وراح ومغدى فى النعيم ومراح وقصف صراح ورقى وجراح وانتحاب واقتراح وصدور ما بها إلا انشراح ومسرات تردفها أفراح وبين قدومك خليع الرسن ممتعا والحمد لله باليقظة والوسن محكما فى نسك الجنيد أو فتك الحسن ممتعا بظرف المعارف مالئا أكف الصيارف ماحيا بأنوار البراهين شبه الزخارف لما اخترت الشباب وان راقنى زمنه وأعيانى ثمنه وأجرت سحائب دمعى دمنه فالحمد لله الذى رقى جنون اغترابى وملكنى أزمة آرابى وغبطنى بمائى وترابى ومألف أترابى وقد أغصنى بلذيذ شرابى ووقع على سطوره المعتبرة إضرابى وعجلت هذه مغبطة بمناخ المطية ومنتهى الطية وملتقى السعود غير البطية وتهنى الآمال الوثيرة الوطية فما شئت من نفوس عاطشة الى ريك متجملة بزيك عاقلة خطى مهريك ومولى مكارمه نشيدة أمثالك ومظان مثالك وسيصدق الخبر ما هنالك ويسع فضل مجدك فى التخلف عن الإصحار لا بل اللقاء من وراء البحار والسلام
9 - ولما استقر بالحضرة جرت بينى وبينه مكاتبات أقطعها الظرف جانبه وأوضح الأدب مذاهبه فمن ذلك ما خاطبته به وقد تسرى جارية رومية اسمها هند صبيحة الابتناء بها
( أوصيك بالشيخ ابى بكره ** لا تأمنن فى حالة مكره )
( واجتنب الشك إذا جئته ** جنبك الرحمن ما تكره )
____________________
(6/174)