بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العالم المحدث علاء الدين مفتى المسلمين: أبو الحسن علي بن إبراهيم بن داود العطار رضي الله عنه، ونفعنا به، وجمع بيننا وبينه في دار كرامته بمحمد وآله وعترته.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته وأصحابه الطاهرين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شربك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد..
فلما كان لشيخي وقدوي إلى الله تعالى الإمام أبا زكريا يحيى بن شرف الخزامي النووي تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنات النعيم، وجمع بيني وبينه في دار كرامته، إنه جواد كريم، على من الحقوق المتكاثرة مالا أطيق إحصاؤها بعثني ذلك على أن في جمع كتاباً فيه مناقبه ومآثره، وكيفية اشتغاله، وما كان عليه من الصبر علىَ خشونة العيش وضيق الحال مع القدرة على التنعيم والسعة في جميع، الأحوال على عادة أئمة الحديث في ذلك. ليكون سبباً للرحمة عليه، والدعاء له، وفقنا الله لما وفقه، ورزقنا ما رزقه، فقد روينا بالإسناد إلى سفيان بن عيينه - رضي الله عنه - انه قال: -) عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة (.
وروينا بإسنادنا إلى محمد بن يونس - رحمه الله - أنه قال: - (ما رأيت للقلب أنفع من ذكر الصالحين) .
وعلى الله الكريم، وإليه أبتهل أن ييسّر ذلك أكمل الوجوه وأتمها، إنه على كل شيء قدير، وهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
فصل في نسبه ونسبته
هو أبو زكريا يحيى بن الشيخ الزاهد الورع ولى الله أبى يحيى شرف بن مري، بن حسن بن حسين، بن محمد، بن جمعة، بن حزام (بالحاء المهملة والزاي المعجمة) الحزامي، ذو التصانيف المفيدة، والمؤلفات الحميدة، أوحد دهره وفريد عصره، الصوام القوام، الزاهد في، الدنيا الراغب في الآخرة، صاحب الأخلاق المرضية والمحاسن السنية، العالم الرباني، المتفق على علمه، وإمامته وجلالته، وزهده، وورعه، وعبادته، وصيانته في أقواله وأفعاله، وحالته، له الكرامات الطافحة والمكرمات الواضحة، المؤثر بنفسه وماله للمسلمين، والقائم بحقوقهم وحقوق ولاة أمورهم بالنصح والدعاء في العالمين، وكان كثير التلاوة والذكر لله تعالى حشرنا الله تعالى في زمرته، وجمع بيننا وبينه في دار كرامته مع من اصطفاه من خليقته أهل الصفا والوفا والود، العاملين بكتاب الله تعالى وسنة محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته.
وأما نسبته الحزامي (فهي بالحاء والزاي) نسبه إلى جده المذكور حزام، وذكر الشيخ المذكور رضي الله عنه أن بعض أجداده كان يزعم أنها نسبة إلى حزام بن حكيم الصحافي - رضي الله عنه، وهو غلط. وحزام جده نزل في (الجولان) بقرية (نوى) على عادة العرب، فأقام بها ورزقه الله ذرية إلى أن صار منهم خلق كثير.
والنووي نسبة إلى (نوى) المذكورة (وهى بحذف الألف بين الواوين على الأصل، ويجوز كتبها بالألف على العادة) وهى قاعدة الجولان ألان من أرض حوران من أعمال دمشق، لأنه أقام بها نحوا من ثمانية وعشرين سنة.
وقد قال عبد الله بن المبارك - رحمه الله -: (من أقام في بلدة أربع سنين نسبب إليها) .
فصل في مولده ووفاته رضي الله عفه
مولده: فهو في العشر الأواسط من المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وذكر لي بعض الصالحين الكبار: أنه ولد وكتب من الصاد قين.
وذكر لي والده أن الشيخ كان نائماً إلى جنبه، وقد بلغ من العمر سبع سنين ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، قال: فإنتبه نحو نصف الليل وأيقظني وقال: يا أبتي، ما هذا الضوء الذي قد ملأ الدار؟ فاستيقظ أهله جميعاً فلم نر كلنا شيئاً.
قال والده: فعرفت أنها ليلة القدر.
وأما وفاته رضي الله عنه: فهي ليلة الأربعاء الثلث الأخير من الليل الرابع والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وستمائة بنوى، ودفن فيها صبيحة الليلة المذكورة، وكانت وفاته عقيب واقعة جدّت لبعض الصالحين بأمره بزيارة القدس الشريف والخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام فامتثل الأمر، وتوفى عقبها.
فصل في مبدأ أمر، اشتغاله(1/1)
ذكر لي الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي - ولي الله - رحمه الله قال: رأيت الشيخ محيي الدين، وهو ابن عشر سنين بنوى والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم، ويبكي، لإكراههم، ويقرأ القرآن في هذه الحالة فوقع في قلبي محبته، وجعله أبوه في دكان فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت الذي يقرئه القرآن، فوصيته به، وقلت له: هذا الصبي يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي: أمنجم أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده، فحرص عليه، إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام.
وقال لي الشيخ رضي الله عنه: لما كان عمري تسع عشرة سنة قدم بي والدي إلى دمشق في سنة تسع وأربعين، فسكنت المدرسة الرواحية، وبقيت نحو سنتين لم أضع جنبي على الأرض، وكان قوتي فيها جراية المدرسة لا غير.
قال: وحفظت التنبيه. في نحو أربعة أشهر ونصف، وحفظت ربع العبادات من المهذب في باقي السنة.
قال: وجعلت أشرح - وأصحح على شيخي الإمام الزاهد العالم الورع ذي الفضائل والمعارف: أبى إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي الشافعي رحمه الله تعالى، ولازمته.
قال: فأعجب بي لما - رأي من اشتغالي وملازمتي وعدم اختلاطي بالناس، وأحبني محبة شديدة وجعلني أعيد الدرس لأكثر الجماعة.
قال: فلما كان سنة إحدى وخمسين حججت مع والدي، وكانت وقفة الجمعة، وكان رحيلنا من أول رجب قال: فأقمت بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا من شهر ونصف.
قال لي والده رحمه الله: لما توجهنا من (نوى) للرحيل أخذته الحمى فلم تفارشه إلى يوم عرفة قال: ولم يتأوه قط، فلما قضينا مناسكنا ووصلنا إلى (نوى) ونزل إلى دمشق صب الله عليه العلم صبا، ولم يزل يشتغل بالعلم ويقتفى آثار شيخه المذكور في العبادة من الصلاة وصيام الدهر، والزهد والورع وعدم إضاعة شيء من أوقاته إلى أن توفى رحمه الله تعالى ورضى عنه، فلما توفى شيخه ازداد اشتغاله بالعلم والعمل.
قال لي شيخنا القاضي أبو المفاخر محمد بن عبد القادر الأنصاري رضي الله عنه: لو أدرك القشيري. صاحب الرسالة شيخكم وشيخه لما قدم عليهما في ذكره لمشايخها أحداً لما جمع فيها من العلم والعمل والزهد والورع والنطق بالحكم وغير ذلك.
وذكر لي شيخي - قدس الله روحه - قال: كنت أقرأ كل يوم أثنى عشر درساً على المشايخ شرحا وتصحيحاً، درسين في الوسيط ودرساً في المهذب.
ودرساً في (الجمع بين الصحيحين) في أو درسا في صحيح مسلم، ودرساً في (اللمح) لابن جني في النحو، ودرساً في (إصلاح المنطق) بإبن السكيت في اللغة، ودرساً في التصريف ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين.
قال: وكنت أعلق ما يتعلق بها من شرح مشكل، ووضح عبارة، وضبط لغة.
قال رحمه الله: وبارك الله له في وقتي واشتغالي وأعانني عليه.
قال: وخطر لي الاشتغال بعلم الطب فاشتريت كتاب القانون فيه، وعرضت على الاشتغال فيه فاظلم على قلبي، وبقيت لا أقدر على الاشتغال بشيء ففكرت في أمري، ومن أبن دخل على الداخل، فألهمني الله تعالى أن سببه اشتغالي بالطب فبعت في الحال الكتاب، وأخرجت من بيتي كل ما يتعلق بعلم الطب فأستنار قلبي، ورجع إلى حالي، وعدت على ما كنت عليه أولاً.
فصل في رؤيته لعنه الله(1/2)
قال المؤلف - رضي الله عنه - قال لي شيخي يحيى بن شرف الننوي رضي الله عنه: كنت مريضا بالمدرسة الرواحية فبينما أنا في بعض الليالي في الصفة الشرقية وفيها والدي وأخوتي وجماعة من أقاربي - نائمون إلى جانبي، إذ نشطني الله وعافاني من ألمي، فاشتاقت نفسي للذكر، فجعلت أسبح، فبينما أنا كذلك بين الجهر والاسرار اذ شيخ حسن الصورة جميل المنظر فتوضأ على حافة البركة، وقت نصف الليل أو قريباً منه، فلما فرغ من وضوئه أتاني وقال -: يا ولدي لا تذكر الله تعالى وتشوش على والدك وأخوتك وأهلك ومن في هذه المدرسة. فقلت: يا شيخ من أنت؟ قال: أنا ناصح لك، ودعني أكون من كنت، فوقع في نفسي أنه إبليس، فقلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ورفعت صوتي بالتسبيح فأعرض ومشى إلى ناحية باب المدرسة، فانتبة والدي والجماعة على صوتي، فقمت إلى باب المدرسة، فوجدته مغلقاً، وفتشتها فلم أجد فيها أحداً غير من كان فيها. فقال والدي: ما خبرك؟ فأخبرته الخبر فجعلوا يتعجبون، وقعدنا كلنا نسبح ونذكر، أعاذنا الله من شره ومكره.
فصل في ذكر شيوخه في الفقه رضي الله عنه
واذكرهم مسلسلاً مني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أنا فقرأت عليه الفقه تصحيحا وعرضاًً وشرحاً وضبطا، خاصاً وعاماً.
وعلم الحديث مختصره وغيره، تصحيحاً وضبطاً، وشرحاً وبحثاً وتعليقاً، خاصاً وعاماً، وكان - رحمه الله - رفيقاِ بي شفيقاً على، لا يمكن أحداً من خدمته غيري، على جهد مني في طلب ذلك منه، مع مراقبته لي - رضي الله عنه - في حركاتي وسكناتي، ولطفه بي في جميع ذلك، وتواضعه معي في جميع الحالات وتأديبه لي في كل شيء حتى الخطوات، وأعجز عن حصر ذلك، وقرأت عليه كثيراً من تصانيفه ضبطاً واتقاناً، وأذن لي - رضي الله عنه - في إصلاح ما يقع في تصانيفه، فأصلحت بحضرته أشياء، فكتبه بخطه، وأقرني عليه، ودفع إلى درج فيه عدة الكتب التي كان يكتب منها، ويصنف بخطه، وقال لي: إذا انتقلت إلى الله تعالى فأتم شرح المهذب من هذه الكتب، فلم يقدر ذلك لي، وكانت صحبتي له دون غيره من أول سنة سبعين وستمائة وقبلها بيسير إلى حين وفاته.
قال المؤلف - رضي الله عنه - قال لي شيخي أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي - رضي الله عنه -: أخذت الفقه قراءة وتصحيحا وسماعا وشرحا وتعليقا من جماعات: أولهم شيخي الإمام المتفق على علمه وزهده وورعه وكثرة عبادته وعظم فضله وتميزه في ذلك على إشكاله: أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي، كمال الدين ثم المقدسي. رضي الله عنه ثم شيخنا أبو حفص عمر بن أسعد ين أبى غالب الرَبَعي (بفتح الراء والياء) الإربلي، والإمام المتقن المفتى، كمال الدين رضي الله عنه، وأدركته أنا، وحضرت بين يديه، وسمعت عليه جزء أبى الجهم العلا ابن موسى الباهلي، وكان شيخنا كثير الأدب معه حتى كنا في الحلقة بين يديه فقام منها، وملأ إبريقاً وحمله بين يديه إلى الطهارة رضي الله عنهما ورضى عنا بهم.
قال: ثم شيخنا الإمام المجمع على إمامته وحجتهِ وتقدمه في علم المذهب على أهل عصره بهذه النواحي: أبو الحسن سلارين الإربلي ثم الحلبي ثم الدمشقي، كمال الدين رضي الله عنه، وأدركته أنا وحضرت جنازته مع شيخنا رضي الله عنهم.(1/3)
قال: وتفقه شيوخنا المذكورون أولاً على شيخهم أبى عمرو وعثمان ابن عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن الصلاح، وتفقه هو على والده وتفقه والده في طريق العراقيين على أبى سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن أبي عصرون الموصلي، وتفقه أبو سعد على القاضي أبى على الحسين ابن إبراهيم الفارقي، وتفقه الفارقي على أبى إسحاق الشيرازي، وتفقه أبو إسحاق على القاضي أبى الطيب طاهر بن طاهر بن عبد الله الطبري، وتفقه أبى الطيب على أبى الحسين محمد بن على بن سهل بن مصلح الماسرجسي، وتفقه الماسرجسي على أبي إسحاق إبراهيم بن محمد المروزي، وتفقه أبو إسحاق على أبو العباس أحمد بن سريج وتفقه بن سريج على أبي القاسم عثمان ابن بشار الاغاطي، وتفقه الاغاطي على إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، وتفقه المزني على أبى عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، وتفقه الشافعي على جماعات منهم أبو عبد الله مالك بن أنس إمام المدينة، ومالك على ربيعة عن أنس وعلى نافع عن أبن عمر كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والشيخ الثاني للشافعي سفيان بن عيينه عن عمرو بن دينار عن ابن عمرو ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
والشيخ الثالث: أبو خالد مسلم بن خالد، المعروف بالزنجي، مفتى مكة، وتفقه مسلم على أبى الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح، وتفقه ابن جريح على أبى محمد عطاء بن مسلم بن أبي رباح، وتفقه عطاء على أبي العباس عبد الله بن عباس، وأخذ أبن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطاب وعن زيد بن ثابت وجماعات من الصحابة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه طريقة أصحابنا العراقيين.
وأما طريقة أصحابنا الخراسانيين فأخذتها عن شيوخنا المذكورين وأخذها شيوخنا الثلاثة المذكورين عن أبى عمرو عن والده عن أبى القاسم بن البزري (بتقديم الزاي على الراء) عن أبى الحسن على بن محمد بن علي إليكا الهراسي عن أبى المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، إمام الحرمين عن والده أبى محمد، عن أبى بكر عبد الله بن أحمد القفال المروزي الصغير وهو إمام طريقة خراسان عن أبى زيد محمد بن أحمد عبد الله بنت محمد المروزي عن أبى إسحاق المروزي عن ابن سريج كما سبق، وتفقه شيخنا الإمام العالم أبو الحسن سلأر على جماعات منهم الإمام أبو بكر الماهاني، وتفقه الماهاني على ابن البرزي بطريقه السابق، والله أعلم.
فمعرفة هذه السلسلة من النفائس والمهم الذي يتعين على الفقيه والمتفقه علمه، ويقبح به جهله، والشيوخ في العلم آباء له في الدين، ووصلة بين العبد وبين رب العالمين.
قال يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه: العلماء أرأف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم لأنهم يحفظونهم من نار الآخرة، وأهوالها وآباؤهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا وآفاتها يعنى الآباء العلماء، وأما الآباء الجهال فلا يحفظونهم لا في الدنيا ولا في الآخرة والله أعلم.
فصل في شيوخه الذين أخذ عنهم أصول الفقه
قرأ على جماعهم أشهرهم وأجلهم العلامة القاضي أبو الفتح عمر بن بندار بن عمر بن علي بن محمد التغليسي الشافعي رحمه الله تعالى قرأ عليه المنتخب للإمام فخر الدين الرازي وقطعة من كتاب المستصفى الغزالي، وقرأ غيرهما من الكتب على غيره.
فصل فيمن أخذ منه اللغة والنحو التصريف
أول من أخذ عنه ذلك فخر الدين بن المالكي رضي الله عنه ذكر لي الشيخ رضي الله عنه ونفعنا به انه قرأ عليه كتاب اللمع لأبن جني، وانه قرأ على الشيخ أبى العباس أحمد بن سالم المصري النحوي اللغوي التصريفي بحثا كتاب إصلاح المنطق لابن السكيت، وكتابا في التصريف. قال: وكان لي عليه درس إما في سيبويه وأما في غيره (والشك منى) .
وقرأ على شيخنا العلامة أبى عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الجياني رحمه الله كتابا من تصانيفه وعلق عليه شيئاً، وأشياء كثيرة غير ذلك.
فصل فيمن اخذ عنه فقه الحديث وأسماء رجاله وما يتعلق به(1/4)
أخذ فقه الحديث عن الشيخ المحقق أبى إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي الأندلسي الشافعي رضي الله عنه، شرح عليه مسلماً وقرأ البخاري وجملة مستكثرة من الجمع بين الصحيحين للحميدي وأخذ علوم الحديث لابن الصلاح عن جماعة من أصحابه، وقرأ على الشيخ أبى البقاء خالد بن يوسف بن سعد النابلسي الحافظ كتاب الكمال في أسماء الرجال للحافظ عبد الغني المقدسي وعلق عليه حواشي، وضبط عنه أشياء حسنة.
فصل في الكتب التي سمعها
سمع البخاري، ومسلماً، وسنن أبي داود، والترمذي، وسمع النسائي بقراءته وموطأ مالك، ومسند الشافعي.
وأحمد بن حنبل والدارمي وأبي عوانه الاسفرايني وأبى يعلى الموصلي. وسنن أبن ماجه والدارقطني وشرح السنة للبغوي ومعالم التنزيل له في التفسير، وكتاب الأنساب للزبير بن بكار والخطب النباتية، ورسالة القشيري، وعمل اليوم والليلة لابن السني، وكتاب آداب السامع والراوي للخطيب وأخرى كثيرة غير ذلك تعلق ذلك جمعيه من خط الشيخ رحمه الله تعالى، وقُرأ عليه (البخاري ومسلم " بدار الحديث الأشرفية سماعاً وبحثاً، وحضرت مسلماً وأكثر البخاري وقطعه من سنن أبى داود. وقرأ عليه الرسالة للقشيري، و (صفوة الكفوة) وكتاب " الحجة على تارك الحجة " للنصر المقدس سماعاً وبحثاً، وحضرت معظم ذلك، وعلقت عنه أشياء في ذلك وغيره فرحمه الله تعالى ورضى عنه.
فصل في شيوخه الذين سمع منهم
سمع أبا الفرج عبد الرحمن بن أبى عمر، ومحمد بن أحمد المقدسي وهو أجل شيوخه، وأبا إسماعيل بن أبى إسحاق إبراهيم ابن أبى اليسر وأبا العباس أحمد بن عبد الدائم، وأبو البقاء خالد النابلسي، وأبا محمد عبد العزيز بن عبد الله محمد بن عبد المحسن الأنصاري، والضياء بن تمام الحيصي، والحافظ أبا الفضل محمد بن محمد البكري، وأبا الفضائل عبد الكريم بن عبد الصمد خطيب دمشق، وأبا محمد عبد الرحمن بن سالم ين يحيى الأبناري، وأبا زكريا يحيى بن الفتح الصيرفي الحراني، وأبا إسحاق إبراهيم بن على بن أحمد بن فاضل الواسطي وغيرهم.
وسمعت أنا من معظم شيوخه.
فصل فيمن سمع منه
وسمع منه خلق كثير من الفقهاء، وسار علمه وفتاويه في الآفاق، ووقع على دينه وعلمه وزهده وورعه ومعرفته وكرامته الوفاق، وانتفع الناس في سائر البلاد الإسلامية بتصانيفه، وأكبوا على تحصيل تواليفه حتى رأيت من كنان سناها في حياته مجتهدا على تحصيلها وانتفاع بها بعد وفاته فرحمه الله ورضى عنه، وجمع بيننا وبينه في جناته.
فصل في شغل أوقاته كلها بالعلم والعمل
ذكر لي رحمه الله أنه كان لا يضيع له وقتاً في ليل ولا في نهار إلا في وظيفة من الأشتغال بالعلم حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه يشتغل في تكرار أو مطالعة، وأنه بقي على التحصيل على هذا الوجه نحو ست سنين.
ثم اشتغل بالتصنيف والأشتغال والافادة والمناصحة للمسلمين وولاتهم مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه، والعمل بدقائق الفقه والاجتهاد على الخروج من خلاف العلماء، وإن كان بعيد المراقبة لأعمال القلوب وتصفيتها من السوء، يحاسب نفسه على الخطرة بعد الخطرة، وكان محققاً في علمه وفنونه مدققاً في علمه ولفنونه حافظاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عارفاً بأنواعه كلها من صحيحه وسقيمه وغرب ألفاظه وصحيح معانيه واستنباط فقهه حافظاً المذهب الشافعي وقواعده وأصوله وفروعه، ومذاهب الصحابة والتابعين، واختلاف العلماء ووفاقهم وإجماعهم، وما أشتهر من ذلك جميعه، ومازال سالكاً في كل ذلك من طريقة السلف.
قد صرف أوقاته كلها في أنواع العلم والعمل فبعضها للتصنيف وبعضها للتعليم، وبعضها للصلاة، وبعضها للتلاوة، وبعضها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ذكر لي صاحبنا أبو عبد الله محمد بن أبى الفتح البعلي الحنبلي الفاضل نفع الله به في حياة الشيخ رض الله عنه قال: كنت في أواخر الليل بجامع دمشق والشيخ واقف يصلي إلى سارية في ظلمة وهو يردد قوله تعالى (وَقِفُوهُم إنهم مَّسْئُولُونَ) ، مراراً بنحيب وخشوع، حتى حصل عندي من ذلك شيء الله به عليم، وكان رضي الله عنه إذا ذكر الصالحين ذكرهم بتعظيم وتوقير واحترام وسودهم وذكر مناقبهم وكراماتهم.
فصل في كراماته(1/5)
ذكر لي شيخنا العارف القدوة المسلك ولي الدين أبو الحسن علي، المقيم بجامع بيت لهيا خارج دمشق، قال: كنت مريضاً بمرض يسمى (النقرس) في رجلي فعادني الشيخ محيي الدين - قدس الله روحه - العزيز فلما جلس عندي شرع يتكلم في الصبر قال: فكلما تكلم جعل الألم يذهب قليلاً قليلاً فلم يزل يتعَلم فيه حتى زال جميع الألم، وكأن لم يكن قط.
قال: وكنت قبل ذلك لم أنم الليل كله من الألم، فعرفت أن زوال الألم من بركته رضي الله عنه.
وذكر لي صاحبنا في القراءة على الشيخ رضي الله عنه لمعرفة السنن للطحاوي الشيح العلامة المفتي رشيد الدين إسماعيل بن المعلم الحنفي رحمه الله قال: كنت عذلت الشيخ محيي الدين رضي الله عنه في عدم دخوله الحمام وتضييق عيشه في أكله ولبسه وجميع أحواله.
وقلت له: أخشى عليك مرضاً يعطلك عن أشياء أفضل مما تقصده قال فقال: إن فلاناً صام وعبد الله تعالى حتى اخضر عظمه.
قال: فعرفت إنه ليس له غرض في المقام في دارنا ولا يلتفت إلى ما نحن فيه.
ورأيت رجلاً من أصحابه قشر له خيارة ليطعمه إياها، فأمتنع عن أكلها، وقال: أخشى أن يرطب جسمى، ويجلب النوم.
وكان رضي الله عنه لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة بعد العشاء الآخرة، ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر، وكان لا يشرب الماء المبرد وكان لا يأكل فاكهه دمشق فسألته عن ذلك فقال: دمشق كثيرة الأوقاف، وإملاك من هو تحت الحجر شرعاً والتصرف لهم لا يجوز لأوجه الغبطة والمصلحة والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيه اختلاف بين العلماء: فمن جوزها قال: جوزها بشرط المصلحة والغبطة لليتيم والمحجور عليه، والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك. وقال لي الشيخ العارف المحقق المكاشف أبو عبد الرحيم الأخميمي. قدس الله روحه ونور ضريحه: كان الشيخ محيي الدين رضي الله عنه سالكاً منهاج الصحابة. رضي الله عنهم، ولا أعلم في عصرنا سالكا، منهاجهم غيره.
وكتب شيخنا أبو عبد الله محمد الظهير، الحنفي الأربلي شيخ الأدب في وقته رحمه الله تعالى في كتاب (العمدة في تصحيح التنبيه) ، للشيخ قدس الله روحه وسألني مقابلته معه بنسختي ليكون له رواية عنه مني، فلما فرغنا من ذلك قال لي: ما وصل الشيخ تقي الدين بن الصلاح إلى ما وصل إليه الشيخ محيى الدين من الفقه والعلم والحديث واللغة وعذوبة اللفظ والعبارة.
فصل في كتبه
صنف - رحمه الله - كتبا في الحديث والفقه عم النفع بها، وانتشر في أقطار الأرض ذكرها منها: المنهاج في الفقه، وشرح مسلم، ومنها المبهمات، ورياض الصالحين، والأذكار، وكتاب الأربعين، والتيسير في مختصر الإرشاد في علوم الحديث. ومنها الإرشاد، ومنها التحرير في ألفاظ التنبيه، والعمدة في صحيح التنبيه، والإيضاح في المناسك، والإيجاز في المناسك، والمناسك الثالث والرابع والخامس والسادس، ومنها التبيان في آداب حملة القرآن ومختصره، ومنها مسألة الغنيمة، وكتاب القيام، ومنها كتاب الفتاوي ورتبته أنا، ومنها الروضة في مختصر شرح الرافعي، ومنها المجموع في شرح المهذب إلى المعراة.
ومنها كتب ابتدأها ولم يتمها، عاجلته المنية، وقطعة في شرح التنبيه، وقطعة في شرح البخاري، وقطعة يسيره في شرح سنن أبي داود، وقطعة في الإسناد على حديث الأعمال والنيات، وقطعة في الأحكام، وقطعة كبيرة في التهذيب للأسماء واللغات، وقطعة مسودة في طبقات الفقهاء، ومنها قطعة في التحقيق في الفقه إلى باب صلاة المسافر، ومنها كتاب المنهاج في مختصر المحور للرافعي وشرح ألفاظه منه، ومسودات كثيرة. ولقد أمرني ببيع كراريس نحو ألف كراس بخطه وأمرني بأن أقف على غسلها في الوراقة، وخوفني إن خالفت أمره في ذلك فما أمكنني إلا طاعته، وإلى الآن في قلبي منها حسرات.
ولما اختصر المحرر للرافعي رحمه الله المسمى (بالمنهاج) حفظه بعد موته خلق كثير، ووقف عليه في حياته شيخنا الأديب الفاضل رشيد الدين أبو حفص إسماعيل بن مسعود الفارقي شيخ الأدب في وقته، فامتدحه بأبيات حسنة، وقف عليها الشيخ بخطه:
واعتنى بالفضل يحيى فاغتنى ... من بسيط بوجيز نافع
وتجلى بتقاه فضله ... فتجلى بلطيف جامع(1/6)
ناصباً أعلام علم جازما ... بمقال رافع المواقع
وكان ابن الصلاح حاضراً ... وكأن ما غاب عنا الشافعي
قال شيخنا العلامة حجة العرب شيخ النحاه، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الجياني رحمه الله وذكر المنهاج لي بعد أن كان وقف عليه، والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لحفظته، وأثنى على حسن اختصاره وعذوبة ألفاظه.
فصل في قناعته وتواضعه واستعداده للموت
وكان رحمه الله لا يأخذ من أحد شيئا، ولا يقبل إلا ممن تحقق دينه ومعرفته، ولا له به علاقه من اقراء وانتفاع به قاصداً الخروج من حديث القوس، والجزاء في الدار الآخرة وربما أنه كان يرى نشر العلم متعيناً عليه مع قناعة نفسه وصبرها، والأمور المتعينة لا يجوز أخذ الجزاء عليها في دار الدنيا بل جزاؤه في الدار الآخرة شرعاً كالقرض الجار إلى منفعه فإنها حرام باتفاق العلماء.
وكنت جالسا بين يديه قبل انتقاله بشهرين ونحوها، وإذا بفقير قد دخل عليه وقال: الشيخ فلان يسلم عليك من بلاد صرخا، وأرسل معي هذا الإبريق لك، فقبله الشيخ وأمرنى بوضعه في بيت حوائجه، فتعجبت من قبوله فشعر بتعجبي وقال: أرسل إلى بعض فقراء زدبولا، وهذا إبريق فهذه آلة السفر.
ثم بعد أيام يسيره كنت عنده فقال لي قد أذن في السفر، فقلت كيف أذن لك؟ قال: أنا جالس هنا يعني ببيته في المدرسة الرواحية وقدامه طاقة مشرفة عليها مستقبلة القبلة إذ مر على شخص في الهوى ومر هنا. ومن كذا (يشير من غرب المدرسة إلى شرقها) وقال قم سافر لزيارة بيت المقدس. وقد حملت كلام الشيخ على سفر العادة فإذا هو السفر الحقيقي. ثم قال: قم حتى تودع أصحابنا وأصحابنا فخرجت معه إلى القبور الذي دفن بها بعض مشايخه فزارهم، وقرأ شيئاً، ودعا وبكى ثم زار أصحابه الأحياء كالشيخ يوسف القفاعي والشيخ محمد الأخميمي وشيخنا الشيخ شمس الدين ابن أبي عمر شيخ الحنابلة. ثم سافر صبيحة ذلك اليوم، وجرى لي معه وقائع، ورأيت منه أمور تحتمل مجلدات، فسار إلى نوى، وزار القدس والخليل عليه السلام ثم عاد إلى نوى، ومرض عقب زيارته بها في بيت والده فبلغني مرضه، فذهبت من دمشق لعيادته ففرح رحمه الله ثم قال لي: ارجع إلى اهلك وودعته وقد أشرف على العافية يوم السبت العشرين من رجب سنة ست وسبعين وستمائة ثم توفي ليلة الأربعاء المتقدم ذكرها الرابع والعشرين من رجب فبينما أنا نائم تلك الليلة مناد ينادي على سدة جامع دمشق في يوم جمعة الصلاة على الشيخ ركن الدين المرقع، فصاح الناس لذلك النداء فاستيقظت فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فلم يكن إلا ليلة الجمعة عشية الخميس إذ جاء الخبر بموته، وصلى عليه رحمه الله فنودي يوم الجمعة عقيب الصلاة بموته وصلى عليه بجامع دمشق، وتأسف المسلمون عليه تأسفاً بليغاً الخاص والعام، والمداح والذام ورثاه الناس بمراثي كثيرة سيأتي ذكرها آخر الكتاب إن شاء الله تعالى.
فصل في مواجهة الملوك والجبابرة بالإنكار
وكان مواجها للملوك والجبابرة بالإنكار لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان إذا عجز عن مواجهة كتب الرسائل، ويتوصل إلى إبلاغها، فمما كتبه، وأرسلني في السعي فيه، وهو يتضمن العدل في الرعية وإزالة المكس عنهم، وكتب معه في ذلك شيخنا شيخ الإسلام أبى محمد عبد الرحمن ابن الشيخ أبى عمرو، وشيخ الحنابلة، وشيخنا العلامة قدوة. الوقت أبو محمد عبد السلام بن على بن سر الزواوي شيخ المالكية، وشيخنا العلامة قدوة الوقت ذو العلوم أبو بكر بن محمد بن أحمد السويسي المالكي، وشيخنا العارف القدوة أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ العارف ولي الله عبد الله عرف بأبن الأرمني، وشيخنا المفتى أبو حامد محمد بن العلامة أبى الفضائل عبد الكريم بن الجرستاني خطيب دمشق وابن خطيبها.
وجماعة آخرون ووضعها في ورقة وكتبها الأمير بدر الدين بيليك الخزندار، بإيصال ورقه العلماء إلى السلطان الظاهر التركي، وهذه صورتها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله يحيى النووي:(1/7)
سلام الله ورحمته بركاته، على المولى المحسن، ملك الأمراء، بدر الدين، أدام الله الكريم له الخيرات، وتولاه بالحسنات، وبلغه من خيرات الآخرة والأولى كل آماله، وبارك له في جميع أحواله، وننهى إلى العلوم الشريفة، أن أهل الشام في هذه السنة في ضيق عيش، وضعف حال، بسبب قلة الأمطار، وغلاء الأسعار، وقلة الغلات والنبات، وهلاك المواشي وغير ذلك وأنتم تعلمون أنه تجب على الرعية والسلطان ونصيحته في مصلحته ومصلحتهم، فإن الدين النصيحة، وقد كتب خدمة الشرع الناصحون للسلطان المحبون له كتاباً تذكره النظر في أحوال رعيتيه، والرفق بهم، وليس فيه ضرر، بل نصيحة محضة، وشفقة تامة، وذكرى لأولي الألباب، والمسؤول من الأمير أيده الله تقديمه إلى السلطان، أدام الله له الخيرات، ويتكلم عليه من الإشارة بالرفق بالرعية بما يجده مدخراً له عند الله: (يَوْمَ تَجِدْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمَلْتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحّضراً، وَمَا عَمَلَتْ مِنْ سُوءِ تَوَدّ لَوْ أِنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أمَداً بَعِيداً ويُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) .
وهذا الكتاب الذي أرسل، به العلماء إلى الأمير أمانة ونصيحة للسلطان أعز الله أنصاره والمسلمين كلهم في الدنيا والآخرة، فيجب عليكم إيصاله للسلطان أعز الله أنصاره، وأنتم مسؤولون عن هذه الأمانة ولا عذر لكم في التأخير عنها، ولا حجة لكم في التقصير فيها عند الله تعالى، وتسألون عنها: (يَومَ لاَ يَنْفَعُ مَالُ ولا بَنُونَ إلاَّ مَن أتَى الله بقَلْبٍ سَليم) . (يَوْمَ يفرُّ المرءُ مِنْ أخِيهِ، وَأمِّهِ وَأبِيِهِ وَصاحبَتِهِ وبنيه لكُلِّ امرئ منهم يومئذٍ شَأنُ يُغْنِيهِ) . وأنتم بحمد الله تحبون الخير، وتحرصون عليه، وتسارعون إليه، وهذا من أهم الخيرات وأفضل الطاعات، وقد أهلتم له، وساقه الله إليكم، وهو فضل من الله ونحن خائفون أن يزداد الأمر شدة إن لم يحصل النظر في الرفق بهم. قال الله تعالى: (إِنَّ الذّين اتقَوْا إذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِّنَ الشيطانِ تَذكَّرُوا فَإذاَ هُمْ مبصِروُنَ) .
وقال الله تعالى: (وَمَا تَفعلوا مِنْ خَيْرِ فَإنِ اللهَ بِهِ عَلِمٌ) .
والجماعة الكاتبون منتظرون ثمرة هذا، بما إذا فعلتموه وجدتموه عند الله (إن اللهَ مَعَ الذيِنَ اتقَوا والذيِنَ هُم محسِنُونَ) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فلما وصلت الورقات إليه أوقف عليها، رد جواباً عنيفاً مؤلماً، فتنكرت خواطر الجماعة الكاتبون وغيرهم.
فكتب رحمه الله جواباُ لذلك الجواب.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم.
من عبد الله يحيى النووي، يُنهى أن خدمه الشرع كانوا كتبوا ما بلغ السلطان أعز الله أنصاره، فجاء الجواب بالإنكار والتوبيخ والتهديد، وفهمنا منه أن الجهاد ذكر في الجواب على خلاف حكم الشرع، وقد أوجب الله إيضاًح الأحكام عند الحاجة إليها فقال تعالى: (وإِذْ أخَذَ الله مِيثَاقَ الذِينَ أوتُواْ الكِتَابَ لتُبَيَّنُنَّهُ للناسِ وَلاَ تَكتمونه) .
فوجب علينا حينئذ. بيانه وحرم علينا السكوت، قال الله تعالى: (لَّيْس عَلى الضُّعَفَاء ِولا على المرضى وَلاَ عَلى الذينَ لا يَجَدُونَ ما يُنفقُونِ حَرَجٌ إذا نَصحِوا لله وَرَسوُلِهِ مَا عَلى المُحَسِنِينَ منْ سَبيلٍ واللهُ غَفُورٌ رحيمٌ) .
وذكر في الجواب أن الجهاد ليس مختصاًً بالأجناد، وهذا أمر لم ندعه ولكن الجهاد من فرض كفاية، فإذا قرِر السلطان له أجناداً مخصوصين ولهم أخبار معلومه من بيت المال، كما هو الواقع تفرغ باقي الرعيه لمصالحهم ومصالح السلطان والأجناد وغيرهم من الزراعة والصنائع وغيرها، الذي يحتاج الناس، كلهم إليها، فجهاد الأجناد مقابل بالأخباز المقررة لهم. ولا يحل أن يؤخذ من الرعية شيء مادام في بيت المال شيء من نقد أو متاع أو أو أرض، أو ضياع أو غير ذلك.(1/8)
وهؤلاء علماء المسلمين في بلاد السلطان أعز الله أنصاره، متفقون على هذا، وبيت المال معمور، زداه الله عمارة وسعة وخيراً وبركة في حياة السلطان، المقرونة بكمال السعادة له والتوفيق والتسديد والظهور على أعداء الدين، (وَمَا النَّصْرُ إلا مِن عند الله) إنما يستعان في الجهاد وغيره لافتقار إلى الله واتباع آثَارَ النبي صلى الله عليه وسلم، وملازمه أحكام الشرع، وجميع ما كتبناه أولا وثانياً، هو النصيحة التي نعتقدها، وندين الله بها، ونسأله الدوام عليها حتى نلقاه.
والسلطان يعلم إنها نصيحة له، وللرعية، وليس فيها ما يلام عليه، ولم نكتب هذا للسلطان إلا لعلمنا بأنه يحب الشرع ومتابعة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في الرفق بالرعية، والشفقة عليهم وإكرامهم لآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ناصح للسلطان موافق على هذا الذي كتبناه.
وأما ما ذكر في الجواب من كوننا لم ننكر على الكفار حتى كانوا في البلاد، فكيف يقاس ملوك الإسلام وأهل القرآن بطغاة الكفار! وبأي شيء كنا نذكر طغاة الكفار، وهم لا يعتقدون شيئاً من ديننا! وأما تهديد الرعية بسبب نصيحتنا وتهديد طائفة، فليس هو المرجو من عدل السلطان وحلمه، وأي حيلة لضعفاء المسلمين الناصحين نصيحة للسلطان ولهم، ولا علم لهم به، وكيف يؤاخذون به لو كان فيه ما يلام عليه.
وأما أنا في نفسي فلا يضرني التهديد، ولا أكثر منه، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان. فإني أعتقد أن هذا واجب عَليَ وعلى غيري، وما ترتب عليه الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى (إنماَ هذه الحَيَاةُ الدُنْيَا مَتَاعٌ، وإنَّ الآخرةَ هيَ دَارُ القَرَار) (وأفَوِّضَ أمْريِ إلى اللهِ بَصيِرٌ بِالعَبادِ) .
وقد أمرنا رسول الله صلى الله وسلم أن نقول بالحق حيثما كنا، وأن لا نخاف في الله لوم لائم، ونحن نحب للسلطان معالي الأمور، وأكمل الأحوال، وما ينفعه في آخرته ودنياه ويكون سبباً لدوام الخيرات له، ويبقى ذكره له على الأيام، يخلد في سننه الحسنة ويجد نفعاً (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراٍ) .
وأما ما ذكر من تهيئة السلطان البلاد، وإدامته الجهاد، وفتح الحصون، وقهر الأعداء، فهذا بحمد الله من الأمور الشائعة التي اشترك في العلم بها الخاصة والعامة، وصارت في أقطار الأرض، وثواب ذلك مدخر للسلطان إلى يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، ولا حجة لنا عند الله إذا تركنا النصيحة الواجبة علينا والسلام عليكم ورحمة الله بركاته والحمد لله رب العالمين.
ومما كتبه لما احتيط به على أملاك دمشق حرسها الله تعالى بعد إنكاره مواجهة للسلطان الظاهر. وعدم إفادته وقبوله:
؟؟ بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: (وَذكِّر إنِ الذَّكْرَي تَنْفَع المُؤْمِنِنَ) ، وقال الله تعالى: (وَإذ اخَذَ الله ميثَاقَ الذيِنَ أوتُواً الكِتَابَ لتُبَيَّننهُ لِلناس وَلاَ تَكتُمونَهُ) .
وقال تعالى: (وَتَعاوَنُوا عَلى البرِّ والتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ على الإِثمً والعُدْوانِ) .
وقد أوجب الله تعالى على المكلفين نصيحة السلطان أعز الله أنصاره ونصيحة عامة للمسلمين. ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدين النصيحة لله ولكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم) ومن نصيحة السلطان وفقه الله لطاعته، وتولاه بكرامته، أن ينهى إليه الأحكام إذا جرت على خلاف قواعد الإسلام، وأوجب الله تعالى الشفقة على الرعية، والاهتمام بالضعفة وإزالة التضرر عنهم، قال الله تعالى: (واَخْفِضْ جَنَاحَكَ للمُؤمِنِينَ) .
وفى الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولى من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فأفرق به، ومن شق عليهم فأشقق عليه) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكل مسئول عن رعيته) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) .(1/9)
وقد أنعم الله تعلى علينا وعلى سائر المسلمين بالسلطان، واعزه الله أنصاًره.
فقد أقامه الدين، والذَّب عن المسلمين، وأذل له الأعداء من جميع الطوائف، وفتح عليه الفتوحات المشهورة في المدة اليسيرة، وأوقع الرعب في قلوب أعداء الدين وسائر الماردين، ومهد له البلاد والعباد، وقمع بسيفه أهل الزيغ والفساد، وأمره بالإعانة واللطف والسعادة، ولله الحمد على هذه النعم المتظاهرة، والخيرات المتكاثرة، ونسأل الله الكريم دوامها له وللمسلمين وزيادتها، في خير، وعافية آمين.
وقد أوجب الله شكر نعمه، ووعد الزيادة للشاكرين قال تعالى (وَلئنْ شَكَرْتُم لأزيدكم) وقد لحق المسليين بسبب هذه الحوطة على أملاكهم أنواع من الضر لا يمكن التعبير عنها، وطلب منهم إِثبات لا يلزمهم، فهذه الحوطة لا تحل عند أحد من علماء المسلمين؛ بل من في يده شيء فهو ملكه لا يحل الاعتراض عليه، ولا يكلف بإثباته، وقد اشتهر من سميرة السلطان أنه يحب العمل بالشرع، ويوصى نوابه به، فهو أولى من عمل به والمسؤول إطلاق الناس من هذه الحوطة، والإفراج عن جميعهم؛ فأطلقهم أطلقك الله من كل مكروه، فهم ضعفة وفيهم الأيتام والأرامل والمساكين، والضعفة والصالحون، وبهم تنصر، وتغاث، وترزق، وهم سكان الشام المبارك، جيران الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، سكان ديارهم، فلهم حرمات من جهات، ولو رأى السلطان ما يلحق الناس من الشدائد لأشتد حزنه عليهم، وأطلقهم في الحال ولم يؤخروهم، ولكن لا تُنهى الأمور إليه على وجهها.
فيالله أغث المسلمين، يغثك الله، وارفق بهم يرفق الله بك، وعجل لهم الإفراج قبل وقوع الأمطار، وتلف غلاتهم؛ فإن أكثرهم ورثوا هذه الأملاك من أسلافهم ولا يمكنهم تحصيل كتب شراء وقد نهبت كتبهم، وإذا رفق السلطان بهم حصل له دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رفق بأمته، ونصره على أعدائه فقد قال الله تعالى: (إنِ تَنصُرُوا اللهَ يَنْصرُكُم) ويتوفر له من رعيته الدعوات، وتظهر في مملكته البركات، ويبارك الله في جميع ما يقصده من الخيرات.
وفى الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) .
فنسأل الله الكريم، أن يوفق السلطان لله للسنن الحسنة التي يذكر بها يوم القيامة، ويحميه من السنن السيئة.
فهذه نصيحتنا الواجبة علينا للسلطان، ونرجوا من فضل الله تعالى أن يلهمه الله تعالى فيها القبول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* ومما كتبه رسالة كتبها تتعلق بالمكوس، والحوادث الباطلة.
ومما كتبه رسالة تتعلق بالأمراء والخيل، وابطل الله تعالى ذلك على يد من شاء من عباده من دولة السعيد بن الظاهر رحمهم الله تعالى.
* ومما كتبه بسبب الفقهاء لما رسم بأن الفقيه لا يكون منزلاً في أكثر من مدرسة واحدة وهذه صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم(1/10)
خدمة الشرع يُنهون، أن الله تعالى أمر بالتعاون على البر والتقوى، ونصيحة ولاة الأمور وعامة المسلمين، وأخذ على العلماء العهد بتبليغ أحكام الدين، ومناصحة المسلمين، وحث على تعظيم حرماته، وإعظام شعائر الدين، وإكرام العلماء وأتباعهم، وقد بلغ الفقهاء بأنه رسم في حقهم بأن يغيروا من وظائفهم، ويقطعوا من بعض مدارسهم، فتنكرت لذلك أحوالهم، وتضرروا بهذا التضييق عليهم، وهم محتاجون، ولهم عيال وفيهم صالحون والمشتغلون بالعلوم، وان كان فيهم أفراد لا يلتحقون بمراتب غيرهم فهم منتسبون إلى العلم، ويشاركون فيه، ولا يخفي مراتب أهل العلم وفضلهم، وثناء الله عليهم، وبيانه مرتبتهم على غيرهم، وأنهم ورثه الأنبياء صلوات الله وسلامة عليهم، فإن الملائكة عليهم السلام تضع أجنحتها لهم، ويستغفر لهم كل شيء حتى الحيتان، واللائق بالجناب العالي إكرام هذه الطائفة، والإحسان إليهم، ومعاضدتهم، ودفع المكروهات عنهم، والنظر في أحوالهم بما فيه الرفق بهم فقد ثبت في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم من ولى من أمر أمتي شيئاً ورفق بهم فأرفق به) وروي أبو عيسى الترمذي بسناده عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أنه يقول الطلبة العلم: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجالاً يأتونكم يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً) والمسئول أن لا يغير على هذه الطائفة شيء، وتستجاب دعوتهم لهذه الدولة القاهرة، وقد ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) .
ولد أحاطت العلوم بما أجاب الوزير نظام الملك حين أنكر عليه السلطان صرف الأموال الكثيرة في جهة طلبة العلم، فقال: (أقمت. لك بها جنداً لا ترد سهامهم بالأسحار، فاستصوب فعله، وساعده عليه) ، والله الكريم يوفق المثاب لمرضاته وأثمار المسارعة إلى طاعته. والحمد له رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وله رضي الله عنه كتب كثيرة في كليات تتعلق بالمسلمين وجريات، وفي أحياء سنن نيرات وفي إماتة بدع مظلمات، وله كلام طويل في. الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مواجهاً بها أهل المراتب العاليات.
قال لي المحدث أبو العباس أحمد بن نوح بالحاء المهملة الأشيبلي رحمه الله وكان له متعاد على الشيخ قدس الله روحه يومي الثلاثاء والسبت، يوم يشرح في صحيح البخاري، ويوم يشرح ض صحيح مسلم، قال: وكان الشيخ محيى الدين قد صار إليه ثلاث مراتب كل مرتبه منه لو كانت لشخص شدت إليه آباط الإبل من أقطار الأرض: المرتبة الأولى: العلم والقيام بوظائفه.
الثانية: الزهد في الدنيا بجميع أنواعها.
الثالثة: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
فصل في ذكر المراثي التي رثاه بها العلماء
قرأت على شيخنا العلامة شيخ الأدب أبى عبد الله محمد. أحمد بن عمر بن شاكر الحنفي الأربلي رحمه الله وكان مدرساً للقيمازية بدمشق.
قلت رضي الله عنك وكان ذلك في العشر الأول من شعبان سنة ست وسبعين وستمائة.
عزً العزاء وعَم الحادث الجَللُ ... وخاب بالموت في تَعميرك الأجل
واستَوْحشَتْ بعد ما كنت الأنيس بها ... وَساءَها فَقْدُك الأسخار والاصل
وكنت تَتلو كتاب الله مُعتبراً ... ولايعتريك على تكراره مَللُ
وقد كنْتَ للدين نوراً يستضاءُ به ... مسدداً منك فيه القولُ والعمل
وكنت في سنة المختارمجتهداً ... وأنت باليُمن والتوفيق مُشتَملُ
وكنت زَيْناً لأهل العلِم مُفتخراً ... على جَديد كساهم ثوبك السَّمَل
وكنتً اسبغهم ظِلاً إذا اسستعَرتْ ... هواجرَ الجهل والأطلال ينتقلُ
كسلك ربكَ أوصافاً مُجملةً ... يضيق عن حصرها التفصيلُ والجملُ
اسلى كمالك من قوم مَضنوا بدلا ... وعن كماك لا مثل ولا بدل
فمثلُ فقْدك ترتاع العقولُ له ... وفَقد مِثلكَ جرح ليس يَندمِل
زهدتَ في باطل الدنيا وزخرفها ... عزما وحزماً فمضروب بك المثلُ(1/11)
أعرضت عنها احتقاراً غير مُحتفلٍ ... وأنتَ بالسعي في أخراك مُحتفلُ
عزفتَ عن شهوات مالعَزم فتىً ... بها سِواك إذا عَنتَ له قِبلُ
اسهرتَ في العلم عيناً لمَ تَذق سِنةً ... إلا وأنت به في الحلم مشتَغلُ
يا لهف حفلِ عظيم كنت بهجتهُ ... وحله فعراه بعدك العَطلُ
فطالبوا العلم من دان ومُغترب ... نالوا بيمُنك منهُ فوق ما أمِلوا
حاروا لغيبة هاديهم وضاق بهم ... لفرط حزن عليه السهلُ والحيلُ
تُرى ذَرَى تُربه من غيبوه به ... أو نعشُه من على أعواده حملوا؟
عناه شُغلهم دهراً وعاذ لهم ... بلا عج الوجْد عن أشغالهم شغلُ
يامحيى الدين كم غادرت من كبدٍ ... حرّي عليك وعين دمعها هطلُ
وكم مُقام كحد السيف لا جَلدُ ... تقوي على هَوْله فيه ولا جدلُ
أمرتَ فيه بحمد الله منتضِيا ... وسيفاً من العزم كم يُصنع له خللُ
وكم تواضعت عن فضل وعن شرف ... وهمسةٍ هامه الجوزاء تنتعل
عالجت نفسسك والأذواء مسلمه ... حتى استقامت وحتى زالت العلل
بالغت بالتعب الفاني رضي ملك ... ثوابهُ في جنان الخُلد متصل
ضيفُ الكريم جدير أن يُضاف به ... إلى الكرامة من ألطافه نُزلُ
بَررت أهليك في داريك مُحتسباً ... فقد تكافأ فيك الحزن والجذلُ
فجعت بالأمس ليلاً كنت ساهره ... لله والنوم قد طابت به المقلُ
رَجاك نور نهار وكُنت صائمه ... إذا الهجير بنار النُفس مشتعلُ
لا زال مَثواك مثوى كل عارفه ... وروضة القصر من سُحب الرْضا خَضِلُ
إلى متى بغرور تطمئن ولا ... الملوك رُد الردى عنهم ولا الرسل
ولا حِمى من حمام جحفل لجب ... ولا حصون منيعات ولا قُللَ
ياساهماً لا هياً مسن هولِ مصرعه ... وضاحك السِّنِّ منه يضحك الأجلُ
لا تُخل نفسك من زاد فانك مِن ... حين النفاس مع الأنفاس مُرتحِلُ
وما قام يديم السير يتبعه ... إلى محل بلاهُ سائقُ عجلُ
قال شيخنا ناظمها نجزت بحمد الله تعالى ومنه خمسه وثلاثون بيتاً.
والجلل (بفتح الجيم) : هو الأمر العظيم، ويستعمل في الحقير، وينصرف إلى أحدهما بالقرينة.
قال: فقدك مرفوع الدال نصيره.
واستوحشت الأسحار: وساها الفقد عتب أي عرضت. واللهف: الحزن العُطل (بفتح العين) أي: خلا.
والظاهر عند التحلي هَامة الجوزاء: أعلاها البلاعح (بكر البلاء الموحدة) بعارض وهو الغرق.
بررت أهليلك في الدارين: من حيث أنهما صبرا على موته فاثنوا عليه.
ثم رثاه أخرى، وخصنى بها، وأرسلها إلى تعزية لى به لأني كنت سرت إلى نوى صحبة قاضي القضاة أبى المفاخر محمد بن القادر الأنصاري رحمه الله لتعزية والده وأقاربه، وأقمت عندهم أياما فلما عدت إلى دمشق كتبها وأرسلها رحمهم الله تعالى.
نبأ أَصم به وأصم الناعى ... فجنى على الأبصار والأسْماعِ
غَدَت النفوس بها شعاعاً إذ بَدَتْ ... شمس الضحى حزناً بغيرشعاع
أودى بها خوف التفرق قبله ... ما أشبه الأَوجْالِ بالأوجاع
حل المصابُ بَرب كل فضيلة ... وباي كل ثنية طلاع
هادٍ إلى السنن القويم وسُنة ... الهادي جميل مناقب ومتاع
يحيى الذي أحيا الفطائل سعيهُ ... وهدي بَبْارق ذهنة اللماع
القانت القوام والصوام والساعي ... بخطوة في العلوم وساع
هانت اعى هم له إليه ... لكنها عزت على الأطماع
مازال أوحد دهره في عصره ... وإلى سبيل الحق أفضل داع
طل الورَي طرباً على همه في كل صالحه وأطول باع(1/12)
وشاهم متحققاُ بمعارف ... محمودة الأجناس والأنواع
خَبَرُ جليلُ جل في تأبينه ... عن رثيه الأشعار والاسجاع
قد جُمعت فيه خلالا سيمة ... وثبوتها بشهادة الإجماع
نعم الموفق كان في أقواله ... وفعاله وموفق الأتباع
فقدته والآمال فيه فسيحة ... إذ كان خير ذخيرة ومتاع
بات لفقد حياته في وحشه ... وعلى الأسى محنية الأضلاع
طوبى له من واصل جنانه ... بالصالحات لليله قِطاَع
لقى المنون لقاءِ مرتاح إلى ... مولاه لا جزع ولا مرتاع
يالهف من كان السعيد بقربه ... ومنازل منه جل ورباع
لازال مثواه بصوب سحائب ... الرضوان روضاً دائم الأمراع
وقرأ الصدر الرئيس الفاضل أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن مصعب رحمه الله بدار الحديث النورية مرثاه نظمها وأنا أسمع، وكان قرأ على الشيخ قدس الله روحه قطعه من المنهاج في محضر المحرر، واستنسخ الروضة له، وقابلت له بعضها مع الشيخ، وأصلحت بأملائه رضي. الله عنه مواضع فيها، وهى:
وأكْتُم حزني والمدامع تُبدْيه ... لِفَقد امرئ كُلُّ البرية تبْكيه
رأى الناسُ منه زهدَ يحيى سَميه ... وتقواه فيما كان يُبْدى ويُخفيه
ولم يَرْضَ بالدُنيا ولا مَال لحظة ... إلى عيشتها فالله لا شك يرضيه
فليس له في زهده وخشوعه ... وتجريده في الناس مثل يُدانيه
تحلى بأوصاف النبي وصَحبه ... وتابعهم هَدْياً فمن ذا يُناويه
وشمر عن سَاق اجتهاد يُعلم ... الجهُول ويهديه السبيل ويلًقيهِ
وكان رؤوف بالضعيف وطالب ... العلوم يوفيه الجواب ويدنيه
إذا ماسدَّد الخصم حجة ... فان ضل عن قصد المحجة يُهديه
ومن جاء يسْتفتيه يدنى محله ... ويجلسه بالقرب منه ويفتيه
تصانيفه في كل علم بديعة ... وأبدع منه ما يقول ويمُليه
حديثُ رسول الله والفقه دَأبُهُ ... فصنف في هذا وهذاك يرويه
ويتلوا كتاب الله سراً وجهرة ... بفكر في تفسيره ومعانيه
يرى الموت حلوا في إمانة بدعة ... وكم سُنة أحيى بصدق مساعيه
فطوبى له ما شاقه طيف مطعم ... ولا ملبس رقت ولانت حواشيه
دائر مع فقريه وخصاصة ... على نفسه جودا بما كان يحويه
تفرق في أهل العلوم محاسن ... وقد جمعت أوصافهم كلها فيه
شكى فَقْده عِلْم الحديث وحفْظهُ ... وأهلوه والكتب الصحاح وقرايه
ولاحَ على وَجْه العلوم كآبة ... تُخبر أن الدَّين قد مات مُحيْيْه
مضى وله علم تجدد ذكره ... وينشره فالدهر هيهات يطويه
وعم بلاد المسلمين مصابه ... وخص دمشقا بالرزية ناعي
وكم نلت من خير له في حياته ... وبعد مماتي في معادي ارجيه
وما كنت أرجو أن أوخر بعده ... فاندبه بعد الممات وارشيه
فلو أنه يفدى بأهلي وجيرتي ... ومالي ونفسي كنت والله أفديه
ولكنه الموت الذي قهر الورى ... فما منهم إلا مجيب لداعيه
إذا عُدم الإسلام أشرَف أهله ... فحق لنا في ذا المصاب نُعزيه
فحيا الحيا قبراً به راح ساكنا ... ليروي ثري ذاك الضريح وواديه(1/13)
ورثاه الفقيه الفاضل الإمام الصدر الرئيس الأديب نجم الدين أبو العباس أحمد بن شيخنا عماد الدين أبى عبد الله محمد بن أمين الدين سالم بن الحسن ين هبه الله بن محفوظ بن صصري التغلبي (بالتاه المثناه والغين المعجمة) البلدي في شعبان سنة ست وسبعين وستمائة، وعتبه بعض مشايخه على ذلك، فبلغني إنه أجاب عتبه بأنك إذا مت رثيتك بأحسن منها، فلما كان في سنة اثنتين وسبعمائه ولي القضاء القضاة بالشام فتفضل وحضر مجلس الحديث بدار الحديث النورية رحم الله واقفها في جمادي الأولى، فأمرت قارئ الحديث أن يقرأها عليه ليسمعها الحاضرون منه، وتبركا بذكر الشيخ قدس الله روحه، سمعتها معهم لأرويها عنه من طلب ذلك إن شاء الله تعالى، وتجوز الرواية عن الأحياء بلا كراهه عند جمهور العلماء وكرهها الشافعي رضي الله عنه خوف نسيان المروي عنه وإيهام الراوي، والله أعلم.
القصيدة هي:
أعَيْنَيَّ جو ابالدمع الهواطل ... وجودا بها كالساريات الهواطل
على الشيخ محيي الدين ذي الفَضل والتقى ... ورَب الهُدى والزُهد حاوي الفضائلِ
على قانت بَرٍّ طهور مُوفق ... على عالم بالنسك والدين عاملَ
على زهد في طاعة الله جاهد ... على عابد يبغي رضي الله فاضل
على راغب في الدين قد رفض الدنا ... فغالته منها حادثات الغوائل
وسيلي دماً فالدمع ليس بنافع ... غَليْلي ولا مُطْفٍ أوار مفاصلي
لقد كان فرداً في الزمان مُكَّملاً ... عديم نظير أو شبيه مساجل
لقد كان بحراً للفضائل طامياً ... غزير عباب ماله من سواحل
لقد كان ذا فضل ونبل وسؤود ... سما عن سماء أو عديل مماثل
لقد كان عن دين الإله مناضلاً ... فأكْرم به من دَيَنٍ ومُناضلٍ
لقد كان في الدنيا الدْنية زاهداً ... فلم يُله مَنها قط يوماً بطائل
لقد كان في الأخرى العَليةجاهداً ... فَنَوْلهُ منها ربَّ أشرف نائل
لقد كان بالمعروف للنّاس آمراً ... وناهيهم عن منكر وباطل
فكم قام بالإسلام حَقَّ قيامه ... وما عاقه عن قصده عدلُ عاذل
وكم من مقام قام فيه بنصرة ... الأنام مقام الذايلات العوامل
وكم لذوي الحاجات واجد معلناً ... بإنكاره عند الضحى والأصائل
وكم بالهدي والحَق شَافه مُنكراً ... إذا لم يكن يصغي لأقوال قائل
فإن هو عنَ رُوياه أصبح عاجزاً ... يُبلغه إنكاره في الرسائل
تنزه عن دنياه يرجو إلهه ... فعوضه عن عاجلات بآجل
وصد عن الفاني ليصبح فائزاً ... بياق من الأخرى عديم معادل
فلم يكْ من حفظ له في حياته ... وذاك على الإخلاص أقوى الدلائل
ولم يكْ فعالا سوى الخير والهدى ... وهاتيك والرحمن أفعال عاقل
بك يسعى في سوى الزهد والتقا ... وقد كان منه خير ساع وفاعل
تعزوا جميع الناس عنه فكلكم ... مصابُ به من عالمين وجاهل
وكم قام فيما نابكم من ملمة ... وشغل بما فيه من الحزن شاغل
على قاصديكم منكراً بلفظ ... وخير للمواعظ شاملِ
وكم ذب عنكم مدة وحماكم ... بقول وعزم مثل حدُ المناضل
رجاء ثواب الله لا قصد سمعة ... ولا لحباء منكم وفواضل
فأسكنه الرحمن في دار خلده ... وبلغه منها أجل المنازل(1/14)
ورثاه بعض فضلاء الحنفية رحمهم الله أجمعين.
مصابُ أصاب القلب والجفن أرقا ... وخَطبُ أتى بالزن والصبر فَوقا
ورز تغشى المسلم بأسْرهِم ... وسَهمُ إلى عَين الشريعة فُوْقا
لقد سدد الرامي السهام ولم يكن ... ليخطئ به سهم المنون مفوقاً
وخطب يجوب الأرض، رفاً ومغربا ... وأشَامَ في قطع البلاد وأغرقا
وعَم جميع الأرض من كل وجهة ... وإن خص من دون الأقاليم حلقا
ومَادت نواحي الأرض حزناً ... بأهلها وكادتْ قلوب الخلقِ أن تتمزقا
وضاق الفضا الرحب حتى لقد غدا ... كسُمَّ خياط أو من السم أضيقا
وقد حكمت أيدي المنون بمن كسى ... على الدين والدنيا جمالا ورونقاً
ومن كان للدين الحنيفي عصمة ... يرد العدى عنه وللعين بوبقا
وبمن كان حلياً للزمان وأهله ... وعِقد نظام العِلم والحِلم والتقا
لقد كان وكنا للشريعة مانعا ... مصاب به الإسلام طوعاً ومسقفاً
وغيثا الأهال الرشد في المحل هاطلاً ... وصوتاً على أهل الضلالة مصعقاً
ونوراً لدين الله يهدى ذوى العمى ... وبالإتمام في سماه الشرع شرقاً
وغضبا يصون الشرع منْ كل ملحد ... وباغ صقيلاً ماضي الحد مطلقاً
إذا ما انقضاه الشرع من أمر حادثٍ ... فرى هامة الخطب الجسيم وَفَرقا
فقد أضحت الأقطاب والكون ... كله لفقدك محي الدين تبدى سُابقا
واقفر ربع الزهد والجود والبها ... وربح الحجى والنسك والدين والتقا
أسفت ولورد القضاء تأسفا ... لما كان مماتى إليك توطقا
رثيتك لا أنى ظننتك ميتا ... فكيف واحياء العلوم هو البقا
وكم ميت أحييته بعد موته ... فأصبح أبداً للصواب واحذقا
وكم غامض أوضحت للناس غمضه ... وإن كان قد أعى الإمام المحققا
وكم شق الأسماع دراً ولؤلؤا ... إذا ما سمى في مجلس منه منطلقا
بلفظ يفوق الماء منه عذوبة ... بل اللؤلؤ الرطب الأنيق المنمقا
ومفتقر للعلم اغنيت فقره ... فأضحى غنياً بعدما كان مملقا
وحيران في فقر من العين يلقع ... هداه إلى سيل الرشاد وطرقا
وكم فاجر قد راضه بتلطف ... فعوض عن ذاك الفجور به تقا
أبا زكريا أليس للمرء ملجأ ... يَرُد الرَدَى عنه جر فيلقا
فكل وإن طالت جريدة عمره ... سيصبح في درج المنون محققا
أيحيى لو أن الموت يثنيه عن فتىً ... ثِبات جَنان لا نثنى عنك أخْرقا
ومَا مُدَّ صَرْف الدْهر نحوك باعَه ... ولاصم جَنْبيكَ الصفيحُ مُطبقا
فكم موطناً قدمت فيه مجاهداً ... وطرف الردى فيه إليه محدقا
لئن كان قد وارى الثرى حسن خلقه ... فغير مطيق أن يواري التخلقا
وكيف يُواِرى الترب عَلماً غدا ... به على سَعَةِ صدر البسيطة ضيّقا
فَطوبى لِقبْر ضمّه فَلقدْ غدا ... يُباهى في دار المقامة والبَقا
سقى قبره صوباً غماما ورحمة ... إذا قيل أن قد أقلعا عنه أغدفا
ورثاه الصاحب الفقيه الفاضل أبو عبد الله محمد بن عمر بن أحمد بن عمر المنيحى، نفع الله به، أحد فقهاء مدرسة الناصرية بدمشق المحروسة والساكن بها أديب مُغلق.
سًبُل العلوم تقطعت أسبابها ... وتعطلت من حليها طلابَها
لمصيبة عزَّ العزاء لها كماً ... في الناس قدجلت وَجل مُصابها
أيها الحَبْر الذي من بعده ... كل الفضائل غلقت أبوابُها(1/15)
أضحى على الدنيا لفَقدك وحشةُ ... ما اعتادَها من قبل ذا أربابُها
مُسوْدَةُ أيامها مُتعيراً ... أحوالها مستوحش محرابُها
لله أيُّ بحار فضل غُيِّضت ... من بعد ما زخرت وعَجَّ عُيابُها
مَنْ للمسائل أعْضَلت من للفتاوي ... أشْكَلتْ عن أن يُرد جوابُها
مَنْ للتُّقى منْ للحيا مَن لِلحُجى ... طويتْ لِفَقْد اليفها أثوابها
قَدْ كانَ ذا سمت يقر لحسنه ... في العالمين شيوخها وشبابها
ومناقب مثلُ الكواكب ساِفر ... عنها للحظ الناظرين نقابها
حسناته أربت على قطر الحيا ... فلا جُل ذلك أتعبت كتابها
ما عذر أجفان عليه لم تدم ... بنَجيع دمع حرة تُسكابها
تباً لدنيا لا يدُوم سرورها ... مع أنها لا ينقضي أوصابها
فنعيها أنا نظرت شقاؤها ... والسهل منها أن تحقق صابها
وكذا المنون إذا اعتنوت مطية ... مرهونة كل الورى ركابها
فانظر نفسك أيها المغرور يوما يطول على النفوس حسابها
في موقف للناس صعب لم تفد ... أحسابها فيه ولا أنسابها
أسْلُكْ كمحيى الدين سبل السلامة ... يَعصمك من نار يدوم عذابها
عَزِفَت عن الدنيا الدنيةَ نفسه ... وهي التي عدد الحصى خُطابَها
هو تخير الباقي عن الفاني وما ... أضناه منها جليها وخضابها
أطنبت في نَطمي المراثي بعده ... لو كان يشفي علتي أطنابها
تسقى ضريحاً حل فيه رحمهَ ... تهمى على مر العصور سحابها
وأحله الرحمن عالي جنة ... مأنوسة رضوانه بوابها
ورثاه قارئ دار الحديث الاشرفية، والاخذ عن الشيخ، الفاضل المحدث أبو الفضل يوسف بن محمد بن عبد الله الكاتب الأديب المصري ثم الدمشقي.
وقال: نظمتها راثياً مشايخي رحمهم الله وسمعتها من لفظه وهي:
الحَمدُ لله العظيم الهادي ... جَلت محاَمده عن التعدادي
ربُّ علىَّ في مجده وجلالهِ ... عمن يُضاهيه من الأنداد
جل الذي هو واحد في ملكه ... مِنْ غير صاحبة ولا أولاد
خلقَ الورى والخَلقُ أظهارا لما ... يخفى من الملك العظيم البادي
قسَمْ الخلائق كيف شاء فكلهم ... ملك له من رائح أو غادي
فقضى لمن قد شاء بالإبعاد ... وقضى لمن قد شاء بالإسعاد
وقضاؤه عدلُ وليس بجائر ... إذ كان مالكهم بلا ترداد
رحم الأنام فأرسل الرسل الكرام ... الراشدين بواضح الإرشاد
والله شرفنا بفضل نبينا ... المبعوث حقاً رحمة لعباد
فأتى بقران عظيم باهر ... فيه الهدي أكرمْ به من هادي
وحديثه يُشفي الصدور نوره ... يَحي القلوب به ويروي الضادي
وأقام للدين المتين أئمة ... يهدي الورى فهم نجوم بلاد
نرجوهم بين الخلائق رحمة ... ومماتهم علم بقرب معادِ
فالعلم مقبوض بقبض نفوسهم ... قد جاء ذاك من النبي الهادي
فلقد فقدنا سادة في دهرنا ... نورُ العباد وعصمة الرواد
ابن الصلاح إمامنا خير الورى ... وبقية العلماء والعبادِ
والشيخ عز الدين أوحد دهره ... وكذا السخاوي الرحيب النادي
وكذا أبو عمر الإمام وشيخنا ... الحبر الخطيب ملقب بعماد
وكذا شهاب الدين شيخ بارع ... في كل علم ثابت الاطوادِ
وكذاك محيي الدين فاق بزُهدهِ ... وبفقهه الفقها مع الزُهادِ
القانت الأواب والحَبْر الذي ... نصرَا الشريعة دائما بجهاد(1/16)
تَبْكيه دار للحديث وأهلها ... لخُلوْها من فضله المعتاد
لم يَبق بعدَك للصحيح مُعَّرفُ ... قد كنت فيه جهْبذا النقاد
من ذا يبين مرسلاً من مُسند ... أو من حديث عُدَّ في الأفراد
أو كان مقطوعاً ضعيفاً مُعضلاً ... أو كان موضوعاً لذي إلحاد
أو من يبين منكراً في مَتْنِهِ ... أو من يعرَف عِلَة الإسنْادِ
من ذا لِدفع المنكرات وقد غَدَتْ ... بين الأنام كثيرة التردادِ
أنهكت جسمك بالصيام مراضياً ... وسهرتَ غير ممتع رقادِ
ونَصرْتَ دين الله وحدك جاهداً ... ورفعت منه شَبهة المراد
حتى حصلت على علوم جمة ... وفسرت أخبار النبي الهادي
تُشفي النفوس إذا أجيب سؤال ... من يلقى عليك دقائق الإيراد
الواضحات من الأدلة كلها ... ونص القران بذهنك الوقاد
وزهدت في الدنيا وفى لذتها ... وكُتبت عند الله في الزهادِ
أوحشت حلق إذا فقدت وأهلها ... من بعد أنس خالص وواددِ
يبكيك جامع حلق لما خلا ... منه تهجده على الأباد
يبكيه صحَبُ كان يجمع شَملهم ... فيه بشرح شارح لفؤادي
يا حبذا تلك الخلائق والنهي ... ما كان أبردها على الأكباد
يا حبذا من مستشار ناصح ... بمشورة تأتي بكل رشاد
قد كنت غيثاً للبلاد وأهلها ... تسعى بك الأرضون عند جهادِ
وقد كنت نوراً للبلاد وأهلها ... قد عاد بعدك مبدلاً بسواد
فبكينه لما ثوي بثرى نوى ... وفائي فقد أصمى صميم فؤادي
فقد سلبناه وبدل قربه ... لما حواه لحده له بيعاد
قد كان يسلينا محاسن علمه ... عن سالف الأباء والأجداد
أتري يعود لنا ليالي أنسكم ... هيهات لكن ذاك يوم معادِ
حقا البكا على الإمام لفقدكم ... حزناً وحق تفتت الأكباد
تَركوا منازلهم وساروا سرعة ... تتري كأنهم حداهم حادي
غدتْ المنونَ عليهم فتتابعوا ... فكأنما كانوا على ميعاد
ماذا اَمل بعدهم من لذة ... تبقى وهم كانوا جميع فؤادي
يا صائرا هدْا المصير إلا أشفق ... من عقلة تردي وطول رقادي
واعمل لنفسك قبل سكنان الثرى ... وَتصير في لحد من الألحاد
لا تستطيع إذا لنفسك حيلة ... وأحذر هواك فهو بالمرصاد
ما الناس إلا غافلون عن الهدى ... في هذه الدنيا سوي الزهاد
يا رب فاجبر كسرناً فيمن مضى ... منهم وأقظنا لاستعداد
واختم لنا بالخير عند مماتنا ... أنت الكريم وملجأ القصاد
والحمد لله المهيمن دائماً ... ثم الصلاة على النبي الهادي
وآل والأصحاب ثم سلامه ... ما عزّت ورق على الأعوادِ
وقال الشيخ الفاضل المحدث أبو الحسن على بن إبراهيم المظفر يرثي شيخنا الإمام العلامة الحافظ المفتي الزاهد الورع نموذج الطراز الأول محيي الدين النووي الشافعي رضي الله متقربا بذلك إلى الله سبحانه وتعالى:
لهفي عليه سيّداً وحَصُورا ... سَنَداً َلأعلام الهُدى وظهيرا
ومجاهداً ومجاهراً في الله لا ... يخشى مليكاً قاهراً أو أميراً
ومشيّداً ركن الشريعة ناصحاً ... بالباقيات الصالحات مُشيراً
ما أن يبالي راح معذولا إذا ... نصَحَ الورَى لله أو مَعذوراً
عَف الدنيا وكم عُرضتَ له ... جلا فأولاها قلى ونفورا
لم يصبح ألودقَ المزخرف رائقاً ... يوماً لديه ولا النضار نضيرا(1/17)
هجر الكرى والطيبات تورعاً ... إذا قام دَيْجوراً وصام هجيرا
مازال بر الوالدين شعاره ... مذولى الحكم المبين صغيرا
أحيا شريعة أحمد وأقامها ... فأفادنا نشرا لها ونشوراً
يُفتي فيغني كل حَبْر علمْهُ ... مع أنه يهدى الهُدي والنّورا
ما مات يحيى انه جبل هَوَى ... فأخاف ذلك بديلا وتبيرا
ما غاب عنه عالم بل عاَلمْ ... كانت له التقوى أعز نفيرا
إن المدارس وحشه لفراقه ... أضْحت دوارسَ لا تَببْن دَثُورا
وكذا المساجَدُ بالمصابيح انثنت ... تُبدْى عليه حرقة وزفيرا
يا من رأه وهو حي لو ترى ... بعد الممات العالم النحريرا
لرأيت ثم مسبوغاً ومسؤولا ... وحياء وافياً وحُبورا
ذاك الشحوب من العيادة والأسا ... في الله صارا نظرة وسرورا
تلك الزّوايا والثياب الخشن قد ... عادت عليه جَنَةً وحَريرا
آه على الأواه والأواب من ... صدْق المقال لِنفسه وهَجيرا
والطّاهر الآعراضِ والأغراض ... لا يُبْدي رياء الأنام وزورا
من كان يستسقي بيمين دعائه ... صوب الغمام فيستجيب مطيرا
ودربُه عِنْد الحوادث تَتقى ... عند الملوك بها الوَرَى المحذورا
سقيت نوَىَ الجولان من أخلاقه ... نوراً إذا ضن السَّحاب عزيزا
فالخصب حالف أرضها حتى كأن ... الجدب منها لم يكن مشهورا
وتقدست بقُدومه من قدُسه ... فيها فبورُك طاهراً وطهورا
ورثاه الشيخ الفاضل أبو محمد إسماعيل المشبطي، وتوفى رضي الله عنه بعد وفاة الشيخ بأربعة وعشرين يوماً، ودفن من يومه بدمشق رضي الله عنه:
ذرية مُحيى الدين قد عمَّ الورى ... فلست ترى إلا حزيناً مفكراً
فطالبهم للعلم يبكى لفقده ... وجاهلهم يبكى لعرف تنكرا
عزيز علينا فقده وفراقه ... ولكن هي الآجال لن تتأخرا
فيا ذوارة أورثتنا تحيرا ... كما أورثته في الجنان تبتخرا
لقد عطلت منا دروساً عزيزة ... كما عطلت أوراقه والمحابرا
كنا كعقد وهو واسطة الصبا ... فلما أجلى ذاك الصبا تناثرا
وكنا كبدر نحن هَالة أفقه ... فلما دنى منه الافول تغيرا
وعاش الذي قد عاش وهو مجاهد ... فلما آتاه الموت مات مهاجرا
وفي رابع العشرين من رجب سرا ... إلى الله يا بشراه ذكرا معطرا
ترى سيرة بعد الممات توضعا ... فيشار نوى حين نوى متسيرا
وبرا أباه إذ فداه بروحه ... فيا حبذا برا لديه موقرا
تواضع عند الموت فأن دار رفعه ... ونودي من بعد الصلاة كما جرى
قاضي قضاة المسلمين سعى له ... إلى قبره بعد الممات وكبرا
فتاويه كانت تستفيد بفعله ... وأوجب ذلك أن لا يرى متكبرا
خميص الحشا مما به من قناعة ... ولكنه ملآن درا وجوهرا
دليل يساوي المؤمنين بدينه ... عزيزا إذا ما الشرع يوماً تكدرا
تحلى قميص العلم من فضل ربه ... فما كان يخفيه بمصقولة يرا
فيا عاتبيه في رثائه طمرَه ... فعند صياح القوم تحمده السرى
لقد شرح التنبيه شرحا مهذباً ... وبينه للطالبين وفسرا
أصبح فيه قدس الله روحه ... بحسن عبارات وزاد وكبرا
وكم من مشكلات أعْجَمت فأزالها ... يحسن ثبات لا حجاج ولا مرا
ولا خاصم الأقران يوم جداله ... ولا دق كما قط يوماً على الثرى(1/18)
قدير على شرح الكتاب بسرعة ... ويشرح في سطرين إن شئت أشهرا
تصدى لنقل العلم منه تبرعا ... وكان ثواب الله أوفى وأوفرا
ومازال في دار الحديث مقامه ... فسار إلى دار المقام لينظرا
رواحية كانت محل دروسه ... فراح إلى روح النعيم بماقرا
فهذا هو الفضل المبين حقيقة ... وإن كنت في وصفي له المقصرا
سلام على تلك المقابر من ثوى ... لقد جاوزت مسكاً وندا وعنبرا
ويا قبره يهنيك ما حزت من تقى ... ومن ورع مرضى وقعه محبرا
سقيت الحيا مادامت الأرض مسجداً ... وما بليت أنا وجدناه صابرا
جزاه إلهى في الجنان مساكناً ... ورضوانه منه عليه له قرأ
ورثاه تلميذه الفقيه المقري أبو العباس أحمد بن الضرير الواسطي الملقب بالحلال رضي الله عنهم ونفعنا بهم بهذه القصيدة وهي:
لقد ذهب الحبر الجليل الموفق ... وعدنا حيارى والدموع تدفق
على رجل مافي البرية مثله ... فيا عجبا من ذا يجاري ويلحق
بزهد وإحسان وعلم ورأفة ... وأمر بمعروف وبالحق ينطق
ولم ير عنه في الإله مخافة ... ولم يخش من خلق لعمري وتفرق
لوجه إله العرش قد كان فعله ... وقد كان ذا قلب من الله يشفق
ولكنه قد أتعب الناس بعده ... بما قد رأو منه فذاك محقق
فمن لعلوم الشرع بعدك موضح ... لطالبها أتى له من يحقق
ومن لاثرة يبغي الفتاوي تخلصا ... ويجمع شملاً فالصحاب ترفقوا
فيا أسفي ضاعت علوم كثيرة ... لفقدك محيى الدين أتى مصدق
فأسأل رب العرش يوليك ... جنة تخلد فيها بالنعيم وترزق
ورثاه بعض الأخوان أيضاُ:
سُيُولُ دمعي ليس الصبر من شافي ... سحى أميالاً تنحى بالدمع الفاني
يا صاح لن ينصح العينين ربهُما ... إن لم يفض منهما بالحزن عينان
من ذا يقاربني في الحزن بعدك محي ... الدين بالسهم أصماني وأضناني
والحزن مَانح تاموري وَمانحة ... أجفان عيني والإعراض أجفاني
اني كفاني تدريج الفراق وما ... كابدته من صباباتي وأشجاني
حتى رمت برزقه في كبدي ... وخانني جلدي فيه وملواني
فلي هناك صعقات الكليم لدك ... الطور أعنى به موسى بن عمران
فلا هالك يا ناعي لعلك لم ... تكن على ثقة منه وإتقان
لم تدْر ويحك من تبغي بغيت لنا ... بحر حوى غايتي علم وإحسان
نعيت بدر تمام يستضئ به ... لم يرمه دهره يوماً بنقصان
ولقد وترت إماماً عالماً ورعا ... أعددته للزمان الجائر الجافي
وارحمتا لعلوم بعد مصرعه ... فكم لها من كآبات واحزان
لهفي علمه لقد كانت خلائقه ... مجبولة فيه من زهد وإيمان
أن ينقطع منه أسباب الرجاء فلي ... حزن أعانيه ماكر الجديدان
لم أدع صبرا إلا صد منهزماً ... والدمع لم أدعه إلا وَلياني
سقيا لتربه قبر ضمه فلقد ... ضم العظام العظام القدر والشأني
أصبحت من بعده كالطير يلتمس ... النهوض أنى وقد هيض الجناحان
يا لا عجب أن قلبي عندك في شغل ... دع الملام فما للصعب قلبان
فقد سقتني كؤوس الحزن فادحة ... للنار قادَحة في قلى العَاني
إن الإمام الذي في الترب خط له ... خط وأزعج عن أهل وأوطان
من قبله ما رأينا العلم مندرجاً ... والزهد والمجد في أثناء أكفاني
أحيى الشرائع والأحكام حيث له ... بشرعه المصطفى علم تبيان(1/19)
نفسي تطير شعاعاً من تذكره ... والسقم منتشر في طَّي جثماني
أهالها حسرة في القلب مصعدة ... تنفسي الروح عن لفحات نيران
لم يخفق القلب منى حين أذكره ... فلست أنسى أخا ما كان ينساني
سقيا وريا لقبر هيل فيه على غصن ... تنير بماء العلم ريان
يرتاح قلبي لقبر في نوى فلقد عيلت إليه صباباتي وأشجاني
سبحان من بنعيم الخلد نعمه ... وبالأسى بعده والبث أسقاني
خطب رفع من شق الجيوب له ... فقد شققت جَنَاني دون قمصان
خطب أفاض فلا أهل بمقدمه ... على جلبات حزن منه نَشِاني
الحمد لله هذا من مقادره وكل ... حي عليها هالك فاني
لورُدْ عنه الردى لناس لبادرني ... فدى به الناس من شيب وشبان
لكنه الموت عِلابُ بكرته ... لكل أقْلبَ من انس ومن جان
يا من به يقتدي في كل مشكلة ... وماله في علو الشأن من ثاني
ملأت قلبي حزناً لا نفادله ... من بعد فقدك والتسهيل يغشاني
فقد توارثني أفكار مبرحة ... حتى لقد هدمت صبري وجثماني
والدمع باكية بالدمع جارية ... وعنك يا سيدي قد عز سلواني
أفضى أحزاناً لما أفضى النبي له ... وصاحباه وصِنْواه الشهيدان
فأسأل الله وهى أن يسيره ... برحمة ايدا منه رضوان
منى السلام عليه كلما سَجَعَتِ ... قمرية هتفت من فوق أغصان
ورثاه بعض المحبين أيضاً رضي الله عنهم:
وَجَدَتْ عليك شريعة الإسلام ... أسفاً يلازمها مد! الأيام
واستودعت منك الرعية فى الثرى ... كَهْفُ الأرامل كَافِلُ الأيتام
ولقد حكمت فكان حكمك قائماً ... فينا بأمر الله خير قيام
تالله ما أخذتك لوْمةَ لائم ... في الله فى حال النقض والابْرام
أعطاك الله فى كلا الدارين من ... قسم السعادة أوفر الأقسام
والقد حماك من النقائض كلها ... إذ كنت عن شرع النبى تحامى
وسلامة الدنيا دليل سلامة ... الآخري من التبعات والائام
عجبى لقبرك كيف لم يْنَهَرله ... لحد وفيه بحرعلم طامى
لك وثبة كم رامها كفؤاً لها ... فتمتعت وعلت على المسام
مابال دمعي بعد فقدك خانني ... حتى المدامع ماوقت بذمام
أين الوفاء وما العيون قَرْيحة ... لما فقدت ولا الجفون وداَم
أسفى عليك ولو وجدت وسيلة ... تدنى حمامى ما كرهت حمامى
أما المدارس فاستمر ظلامها ... إذ غاب عنها منك بدر بتمام
وكذا المسائل صار حسن علومها ... فى غاية الإشكال والإبهام
ولقد رددت على الإجابة حقهم ... وأخذت حقاً من ذوي الأرحام
حكم تنزه أن يخالطه الهوى ... أن الهوى ألب على الحكام
ما كان ما أعطيته وسلبته ... إلا كطيف زائد نَمَّام
حذر ذوي الأرحام أن يعناقكم ... عن رشدكم معلم من الأحلام
واري حقيقة عيشه كمجازها ... ما أشعبه الإيجاز بالأعلام
مولاي محيى الدين كم أوليت من ... فهم نعم العالمين حسام
بالرغم منا ان تكون محجباً ... في الترب تحت صفائح ودَغَام
خشب المنايا أنَهْفَ فجعنا ... في شيخنا ودعامة الإسلام
قد رجت الأرض الفضاء لفقدكم ... فتزعمت برواسي الأعلام
لو أنه يفدي لقلّ له الفدي ... بالناس والأموال والأنعام
إن كان قد علقته إشراك الردا ... من بعد علم نافذ الإحكام
فله بار باب الخلافة أسوة ... وأئمة الإسلام والحكام(1/20)
أين المعمر ألف عام صاحب ... الفلك المدل بفلكه القوام
حتى تجى من المنية مَانجى ... من بعد طول العمر والأعوام
أين المعمر عمر سبعة أنس؟ ... أين الخليل مكسر الأصنام؟
أين الكليم المستجاب دعاؤه ... بالشام حين دعى على بلعام
أين النبي محمد الهادي إلى ... سبل الهدى حلول دار مقام
لا يبعدنك الله ياشيخ الورى ... وسقي ضريحك كل غيث هامى
يا خير من فجع الأنام يفقده ... يعد النبي وبعد كل إمام
حاشاك تصبح ضمن لحد ضيق ... من بعد وسع مدارس لقيام
إن كان عاجلك القضاء وصرمت ... من عمرك الأعوام بالأيام
فلقد تركت العين بعدك منهك ... يبكى لفقدك والقلوب دَواَمى
حيث ثراك سحابة هطالة ... مصحوبة بتحية وسَلام
وإذ الحيا اَتتك منه تحية ... في كل شهر مرة أو عام
فعليك مني كل يوم رحمة ... أدعو بها وتحيتي وسلامي
وقال المهذب عمرو بن علي الزرعي يرثيه رضي الله عنه:
أي غدر لغَلة عَير عَبرَاً ... بعد يحيى ومهجة غير حَراً
غاص بحر العلوم بعد عبابُ ... لم أضحى بعد العذوبة بحرا
أي علم يحيى إذا مات يحيى ... وحديث على المنابر يقراً
وعَهدت الديار يبكى عليها حين تضحي من الأحية قفرا
ولدار الحديث يبكى عليه ... حين أضحت من البلاغة صفرا
عطلت بعده المدارس طرا ... من جواد في حلية الدرس أحرا
يفحم الخصم في الجدال ببحث ... يدع اللوذعى بالعى مغرا
لا يشوب الجدال منه بلفظ ... غير ففه وليس ينطق هجرا
فقضى نحبه وعاش حميدا ... رب فضل من كل عيب مبرا
زاهداً ومن يضم دنياه حتى ... يتقاضاه من يعم فى الآخرى
ترك الطيبات في هذه الدنيا ... ولذاتها ليحوذ أخرى
وغدا قانعاً بأيسر قوت ... وهو عند الأنام أظم قدرا
وعصى النفس في طلاب هواها ... فاطأع الإله سرا وجهرا
ينصر الحق في المحافل إذ لا ... يستطيع الأنام للحق نصرا
فبحق تبكى العيون عليه ... بدمأء وتذنثر الدمع نثرا
فلقد أوحش المجالس منه ... صدرها الحبر حين أنس قبرا
كنْت للعلم يا أبا زكريا ... وعلو النَوائب ذخرا
عالماً عاملاً وكم رب علم يعظ الناس وهو بالوعظ أحرا
كنت في الملِمات ذخرا ... أعظم الله فيك للناس أجرا
وسقت قبرك السحائب ماء ... وسقت من بحار ذي العرش قطرا
لمفوح الرياض حولك طيبا ... مثل مافاح طيب ذكرك عطرا
ورثاه الحسن بن صدقة الموصلي عفى الله عنه:
خطب ألم ذهلت له الأصْلاَد ... وتَفَطرت بهجومه الأطواد
وهْمت عيون أولى النهى بمدامع ... منهلة وتصدعت أكباد
هذا وإن الموت فيما بيننا ... متحيز وكأنه نقاد
ذهب الإمام العالم الحبر الذي ... كانت تحصل نفعه العباد
نبكيك بامحيى الفتاوي دائماً ... والسنة البيضاء والإسناد
يا أيها الناعى إلينا سيدا ... فيه جدَال باهرُ وجَلاد
من للمسائل بعده إن أشكلت ... وبمن سواه يقتدي الزهاد
مازال بالمعروف فينا أمرا ... ولنا بنور علومه ارشاد
يا محيى الدين الحنيف شعائرا ... واردك من كرم الإله مهاد
واباحك الحسنى وحسن جواره ... مع أهله وزيادة تزداد
ورثاه بعض المحققين: حبيب نَعاك فقلبه مقروح وبكى عليك فدمعه مَسْفوُحُ
وغدا يعفر خده بمدامع ... تجرى عليك دما وأنت طريحُ(1/21)
أتراك يا قمرا تحجب بالثرى ... وجماله تحت التراب يلوحُ
شاهدت بعدك حال من فارقته أنت الحياة له وأنت الروحُ
متوجع الأحشاء بَرح حزنه آسف تَؤجج وقده التبريح
أمسى له قلب كَليمُ ناره ... يصلى الخليل بها وأنت ذبيحُ
ولقد رأيتك فوق أعواد الردى ... وامامك التهليل والتسبيح
والناس كالطوفان وهى سفينة ... تجرى بأدمعنا وشخصك نوح
والكون يندب مما أصابك سهمه ... والجو يبكي والحمام تنوح
وعليك قد رق الصبا فنسيه ... فلق بغيرك يغتدى ويروحُ
متصعد الأنفاس إلا أنه ... بجميل وصفك بالعبير يفوح
فالآن مثواك القلوب، وإن يكن ... أخفاك عن بطن العيون ضريح
حاشاك من بعد الوقار بأن ترى ... ميتاً وأنت مُعَفَرُ مطروح
لا تعرض عنا بوجهك معرضاً ... إن الوداد كما عهدت صحيح
لم يبق خل ناظراً. وسامع ... إلا عليك فؤاده مجروح
وتود لو جعلت وقاك نفسه ... ودوام مجدك. بالبقاء صريح
ثم انثنى آسفاً يردد شجوه ... ودموعه فوق الخدود سفوح
كيف التصبر وهو فيك ملامة ... وما التسلى وهو عنك قبيح
ألم كيف أكتم فيك نْوط توجعي ... وأخوا الجَوَي بدموعه مفضوح
لو لم يكن جَأرا الحُمى ما شاقني ... بَرَق يضيء بسفحه ويلوح
كلا ولولا طيب ذكرك ماجلا ... ذكرا بسمعى رنْدهُ والشيح
فلا يبكينك بالدماء إذا قضعى ... دمعي عليه صبابة وأنوح
ولو ارْعَويت شرحا درى إنما ... عندي بمختصر الخطوب شروح
فعليك رضوان الإله مؤيدا ... يهدي إليك وروحه والروح
ورثاه أيضاً بعض الأخوان رضي الله عنهم أجمعين:
سيف الحمام على البرية منتضا ... صبراً وتسليماً لما حكم القضا
وأحق مايبدء اللبيب بنفسه ... إن كان ممن يدعى طلب الرضى
واعز من يُيكى عليه تأسفا ... محيى الشرائع نوره ملأ الفضا
الزاهد الورع التقى ومن به ... عز العزا كالمصطفى والمرتضى
مازال يقضي عمره بلطافة ... من فضله متفضلاً حتى قضا
أذويه لا تتجلدوا والملمة ... لو نالت الصخر الأصم ترضرضا
لو كان محيى الدين يفتدى ... لفديته بحشاشتى خوف القضا
فعليك محيى الدين أولا ما جرى ... دمع يفيض وفى الحشى جمر الغضى
فلعن أعزى والعزاء ممنع ... منى بخطب وقد أمضى وأمرضا
للعاملين العالمين ومن بهم ... أرجو النجاة من التردي في لظى
لكنني أرجو يحيى فيهم ... غفران ربي من ذنوبي مامضى
فاسمع فريد العصر أكرم سامع ... قولا يريك الحق أبلج انبضا
قد كان اقرضك الإله علومه ... فى الدين فأسْق فى اللذي فد أقرضا
إن كان محيي قد حواه لحد ... وكذا الرسول وبعده فاطمة الرضى
لكن ذلك سنة محكومة ... بين الأنام وذاك سنة من مضى
فليهد إلى البشرى بصيرك والذي ... ترجوه بالصبر الجميل معوضاً
ياسيدى إن الرزية لم تزل ... تَتْري الأنام على تصاريف القضا
لكن مثل عزائنا في شيخنا ... يحيى التقي الزاهد الندب الرضا
هل عنه من عوض يقوم مقامه ... هيهات أن نلقي له متعوضاً
وجماعة الأخوان يدعوا خفية ... وتضرعا وتذللا وتعرضا
والرب مطلع وقد سمع الندا ... وافاض نوراً ساطعاً ملأ الفضا
فسقى ثَرى جَدَثَ حوأه بإرض ... مامر بالأرضين الا روضا(1/22)
وسمى عليه بارق من رحمة ... لم تخَبَّ نار بالأخفاء إلا أظنا
آسفى على محيي العلوم ونورها ... مازال صدراً في العلوم معرضاً
فلأن قضى وعفت بدأ في المجد من ... آثاره فالذكر منه ما انقضا
من سره عينى الوجود وانه ... ذخر لكل مؤمل يرحبوا الرضا
ورثاه الفاضل أبو عبد الله الأندلسي رحمه الله تعالى:
يادهر أقصر فما أبقيت من ثأر ... كم ذا تجرع أرْزاء بتكرار
غيبت عن ديننا محيى معالمه ... وامر بيته من بعد إظهار
يافجعة نكات قرح الجوانح وا ... ستدت عيون الورى من لحظها الطاوي
تبكى وهل ينفع الثكلى تعددها ... أوهل يرد فقيداً دمعها الجاري
من للحديث ومن للفقيه بعدك ... يامن كان يدحض منكرا بإنكار
من للمعارف من المُعْرفُ يظهره ... بحسن نصح وتسليك وأعذار
من للزهادة والنهح القويم ومن ... للصوم والنسك في حكم وإيثار
أو مَضَتّ عين علوم كنت مصلحها ... فاليوم من هأوها أبكى باكثار
لله درك كم أحييت من رمق ... بحسن فتوى وتفسير وأخبار
وكم عَدَلَتْ أخا جهل أعدله ... ورضت أشْوس هداد بإنذار
فاليوم أضحى أيدي الفضل منتدبا ... ومعلم النفع يشكون فرط اضرار
وللدَّروس دُروس غير مرتسم ... وأنسها وبلاد أنسها عار
مالى أرى الموت يهوى نقل صفوتنا ... عنا ويلحق أخياراً بأخيار
كأن بينهم ميعاد مجتمع ... أو استقلوا قلى في هذه الدار
كأنهم ركبا سبق اعنطوا ثقلا ... فأعملوا من وداع الأهل والجار
فيالها حسرة تدمى الدموع لها ... تمشى الخيار وتيقى غب أوْزار
اعار بالدهر منهم مفعة زمنا ... ثم استرد ولم يطفوا بأطوار
يانفس نوحي فما للموت باقية ... لابد حاديك يوماً خلفهم سارى
وليس بحديك إلا ما أدخرت فيا ... درى له قبل أرقَالَ وأحْصار
فإن تغزبعز الصبرعنك وقد ... تلقى المصاب تسفيه بتذكار
لقد فقدناك فقد القلب مهجته ... والعين رؤيتها من بعد إبصار
وحجب الترب رب الفضل واشتمل ... الضريح منك على كثر وأنوار
فالله يخلفنا خيراً ويأجرنا ... إليك مرجعنا ياخير غفار
وفي النبي لنا وعظ وصحبته ... صلى عليهم إله خالق بارى
ورثاه الفاضل الأديب أبو محمد سليمان بن علي عرف بالعفيف التلمساني رضي الله عنه.
نعم بعد يحيى معهد الفضل دارس ... مما انتصفت إن لم تنحه المدارسُ
فياصَبْرُ منْ عندي وياحزن انتَعِش ... فإنّ النْواوي قد حوته النواوسُ
بكتْهُ مساعيه التي بذت الأولى ... سحْرا لِلعلى في ركضهم وهو جالس
وناحت عليه ورق أوراقه وما ... لها من سوى الأقلام قصب مؤانس
إقسم مانَفْسُ بكته نفيسةُ ... اذا لم تساعدها النفوس النفائس
تلهب قلبُ البرق والرِعدُ صارخ ... أسمى ودموع الغاديات بواجس
وظل وبات اللؤلؤ الرّطب حامدا ... مدامع فيه! ودها مُتجانس
وَمثْوى الثريا فيه قد حَسَد الثرى ... فماذا عَسى فيه بقول المجالس
لقد كان يحيى الليل يحيى مسهدا ... الجفون وجُفن النجم في الأفق ناعس
ويَطوى على الداء الدفين من الطّوى ... لأضالع ما فيها سِوى الذكر هَاجْسُ
ورُضى جليس الحيز مُمتعُ بحثه ... فينقادُ لِلحق الممارى الممُارس
فان تضحكِ الدنيا سرورا بمتنله ... فوجهُك يادنيا من الفَقدْ عابَسُ(1/23)
وكُنتِ به مثْلَ العروس فأصبحت ... لديه من الحور الحسان العرائسُ
فِلِلَه غصنْ عندما ائم زهرْة ... فاينْع وأضحى رطبة وهو يابسُ
وبدر تمام والبدورُ متى تَغِبْ ... تُرَج وهذا منه قلبي آيسُ
فأقسم مَا النعْمى بها القلم ناعم ... عليه ولا البُؤس بها القلب يأنسُ
وهَيْهات لو أني صديق ومات لم ... أعْش بعده لما حوتْهُ الرّوامسُ
فيا دهرُ هل كانت مَناياه أكوسا مُلِئْت بها سُكْرا فرأسك ناكس
ويأكل يوم بعده صار ليلة ... أما تنجلي بالصبح منه الحنادِسُ
لقد أجفلت عرى المسائل بعده ... وعَهدي بها من قبل وهى أوانسُ
يطلود منهل الشرود كأنها ... مُهيأ يُدريها بالقسى الفوارس
ولو أنه فينا لعُدْنا وكُنّسُ ... الجواري لدينا إلا الظياء الكوانِسُ
لهُ في رسول الله والآل أسْوَةُ ... وأصحابه عنهم تقوى الفرادس
أبْو أن يؤبوا نحو دنيا دنية ... وملابسها تعُرى بها وهو لابسُ
وكانت لياليه كأيامه سنا ... فأيامنا مثل الليالي دوامسُ
سعى عهد عهد فأنا عصابة ... مدامعها تسقى لذى الحزن غارسُ
وكيف تبكيه ويعلم أنه ... على ما إليه صار كان يُنافَسُ
ورثاه تلميذه الفقيه الأديب الأمين سلطان إمام الروايحة رضي الله عنه:
بَكتْ العلومُ لفقد منْ أحياها ... منْ بعد طول خمولها وخفاها
ذَهبتْ لمذهبه المذاهب بعدما ... جَلى مأخذها وشدْ عراها
وغدت مودعة تودع من له ... قد أقسمتْ أنْ لا ينال خبَاها
أفلت شموس سعودنا من بعده ... والعين فارقها الكرى وقلاهَا
يا للرجال رزية عمت فلا ... جبرلها من ذا يطيف دواها
قد أظلم الأفق المنير لفقد من ... حاز الفضائل كلها وحواها
أضحى على الأقطار منه وحشة ... حتى تشابه صبحها بمساها
لله أية حسرة أبنا بها ... إذا فارقت تلك النفوس شفاها
السيد القوام والحبر الذي ... أعيت مناقبه لمن جاراها
والناسك الحبر الإمام المقتدي ... بأئمة في العلم طال بناها
يا محييا للدين بعد أماته ... ومؤيداً لشريعة اَخاها
يا آمراً بالعرف يرضى ربه ... بوَأت من دار النعيم أعلاها
يَبْكيك ذاَ الليل إليهم فطال ما ... قَدْ قُمتْ فيه مُسبحاً أواها
وكذاك صوَمُك في الهَواجرْ داَئباً ... سيان عندك حرها وشتاها
يا هذا سلت المعالي والرضا ... يا عارفاً عتَبَ الدنيا وفناها
أعرضت إذ دُنْيا أتتك مطيعة ... ورغبت في دنيا يدوم بقاها
خَطبتك حور في جنان زينت ... لقدوم نفس قد زكى مسعاها
فلجنة الفردوس من بشرى بالذي ... قد حلها طوبى لها سكناها
فالسنة الغراء تبكى فقده ... إذ من أغاليظ الرواة حماها
وكذاك مذهبُ ابن أدريس الذي ... فاق الأئمة سؤدداً فعلاها
فاليوم بُنْيان القواعد قد هوى من بعد تشييد وحسن بناها
من للمسائل كاشفاً عن سرها إذا عَضَلَتْ وتعسرت فتواها
إذ كنت توضحها بلفظ موجز ... فيطيب منك جدادها وجناها
وإذا تحل بنا النوازل من لنا ... في رفعها عنا رحل عراها
أمْ مِنْ نُرجية لدفع كريهة ... يوماً إذا ماعَمنا بلواها
قد كنت محيي الدين حِصْناً مانعا ... عنا فوا آسفا عليك وأهاً
فلقد غَدوتْ مكرما في صحبة ... كانت نفوسهم لديك شفاها(1/24)
فالآن شتت شماهم وتفرقعوا ... حيرى سكارى ليس من صَهباها
فلو أن نفساً تفتدي لفدتك من كأسى الحمام نفوسنا بدماها
لكن كاسات المنون دوائر ... لم يعدها من للحصون بناها
قد أكثرت فيك الرثاء وما أرى ... يجدي سوى تدكارها وهناها
روى الإله تراب تربتك التي بك قد علت شرفا وطاب شذاها
واتيك من رب العباد تحية ... حتى المعاًد صباحها ومساها
ورثاه بعض المحبين أيضاً رضي الله عن! ونفعنا بعلومه آمين:
سَلْ رَبَعَ دار أقْفَرتْ إن أخيرا ... عن أهلها وبأهلها ما قد جَرى
رَحَلوا فلم لا ودعوا لترى بهم ... يادار غلسُ ركبهم أم هجرا
أم في دجنة لَيْلهم كي لا يرى ... هَمْ حاسد ومكاشح بهم سرى
يا دار ما صنع الزمان فَحدثي ... عنهم بصدق لا حديث يفترى
فَفَهِمْتُ منها حيث لم تنطق إذا ... نَزل القضاء فإنما عين ترى
لا تسألني واسأل الأقدار هل ... منهن يحمي من دَرى أومد رأى
سل ان سابور وسابور وكم ... كسرى يجريه الزمان وقيصرا
ما أضعف الإنسان بل عجب له ... يختار أن يبقى وليس مُخيرا
ولقد أتانا عن فريد زمانه ... خَبَر فارق للجفون وأسهرا
جَافَا الجنوب عن المضاجع ذكره ... ونفى الرقادَ عن العيون ونفرا
يا ليت قبل سماعه أسماعنا ... صمت وأعيننا لذلك لا ترى
يا مخبرا عن هلك محيى الدين ما ... تخشى وتستحي به أن تجهرا
وصفيهه أم غيها لما أتى ... الناعي به إذا قمنا مشى القهقرا
وأعض من وَجْد عليه أناملي ... وأهيم منه تأسفا وتحسرا
قالت أويحك مادهاك ومِا الذي ... لك قد أصاب وما الذي لك قد جرا
فأجبتها ثَكلتْك أمك تسالي ... عما جرى لي هل قليل ما جرى
هذا دعامة ديننا بل جسرهُ وإن الرؤية فيه أم حيّو كري
لا تحسبيه من الهضات فإنه ... لم الجبال قفوا المنيفات الدرا
علامة ولا يكن علماؤنا ... جما فكل الصيد في جوف الفرا
يحيى وما يُدْريك ما يحيى إذا ... عدُت مآثره التي لن تحصرا
لله قبر فتى مرجاء به ... وأصروا به جثمان أشْعث أغبرا
أترى الذي واراه في ذاك العري ... ادري لمن وارى به أم ما درى
قبروا الفضائل كُلها في لحده ... والفضل ما من حقه أن يقبرا
وَمغسل ماذا أراد بغسله ... إذا كان من دَنس الذنوب مطهرا
هذا الثناء عليك يحيى دائماً ... منا تطيبه الإله وكثرا
ولإن تمت أحييت مجداً لم يخف ... بتغيْر الأيام أن يتغيرا
ولكن إن ودعت غير مذمم ... وحصلت فيما بين أطباق الثرى
لك أسوة بالمصطفى المعطى بيوم ... العرض هذاك اللوى والكوثرا
ولقد علمت بأن تلك سَجيًة ... من عادل رأساً بها بن الورى
وآسى بها بين الحقير وبين من ... بالمجد والعز أرتد أو تاس
ولحقت فضلاً من تقدم حيث من ... أعمارهم قد كان عمرك أقصرا
لم يثمر العلم الشريف لعالم ... فيما رأينا مثل مالك أثمرا
وقرته بالزهد تمت بالتقى ... فترى كما وقرته لك وقرا
وسهرت إذا غن العيون وانه ... عند الصباح ليحمد القوم السرى
ولتلك موهبة خصصت بها ولو ... كانت بيشمير لكل شمرا
ولقد تركت الأهل والأصحاب في ... موت لفقدك لو تشاهد أخرا
أجفانهم يا ويحهم قد حالقت ... حتى السُهَاد وحرمت طيب الكرا(1/25)
أسقى الغمام نوى وعمر أرضها ... حتى ضريحك لم يزل رطب الثرى
سحب تروح وتغتدي مشحونة ... مساء وريحانا ومسكاً أذفرا
ورثاه بعض المدرسين بالبادرائية بدمشق رضي الله عنه:
سَقَى قُبْرُ يحيى في النوى كل سيل ... من الغَيْث عِرَاض البوارق هَتْان
ولا زال قُبْر حل فيه يُحله ... من الله رضوان وروح وريحان
جري سابقاً والناس فى غفلاتهم ... فحاز العلا يحيى ويُحيى له شان
إذا سَّحْنةُ عيني بحل فقدته ... فلا بان خلانى الثقات بلى بانوا
وقد كان بي حزن يكدر عيشتي ... فها أنا ذاك من فراق أحزان
لقد أبحثت في ابنة القوم إذ أتت ... بمثلك واستقلت على الأرض شعورا
ورثاه بعض المحبين في الله تعالى رضي الله عنهم أجمعين:
بكى العلم حينا بعد حين على يحيى ... وآلى يميناً بعده لم يكن يحيى
وأزلفت الجنان والحور زخرفت ... سرورا بمن أبكى لنقلته الفتيا
له درجات العلم والزهد والتقى ... وتضييق من حاز العلوم وبما أحيا
أضاءت من المنهاج منا مناهج ... وراحت به عين الربا والردى أمنا
وبث لنا من نشره أي روضة ... على زهدها من هذه دائماً بقيا
سقى الوابل الوَسمى أرض نوا نوى ... كما حل فيها صادق الرأي والرؤيا
وحيا الحيا ذاك الضريح ومن به ... وسقيا ا! لأرض حل في وجها سقيا
ورثاه بعض المحبين من الفقهاء رضي الله عنهم:
بَانت مراثينا هذيان أخوان فأين ... معتبرو الدهر خوان
قد فارقت نواحي الأرض مادتها ... وغيرت بعدهم للدهر أزمان
قد تقصت مثل ما قد قال ينقصها ... أطرافها قائل ما قد قال ديان
أين الذين أقاموا الدين واجتهدوا ... ولم يكمن زاَنهم غير الذي زانوا
بانوا جميعاً ولا أرجوا رجوعهم ... فدمعتي أصبحت حمراء مذ بانوا
يا محيي الدين مذ فارقتنا عجلاً ... قد هدمت بمشيد الدين أركان
إن كان بنيانه عند الهوى عدمت ... فكيف يبقى ولا أركان بنيان
قد كنت في هذه الحياة على سير ... لم يستطع مثلها في الدهر إنسان
زهدت فيها ولم تخدع بزخرفها ... فدام فيك على الأصحاب إحسان
الناس في راحة الدنيا ولذتها وأنت عند جهاد النفس تعبان
وهم على دعة في طيب مرقدهم ... وأنت في حل علم الدين سهران
وأينما كنت قد حادّت ملائكة ... حول المكان ولم يقربك شيطان
وكنت بحراً محيطاً للحديث لنَا ... يفيض من موجه در ومرجان
وكنت في المذاهب المنصور ... مجتهدا وعنك تنقله شيب وشبان
لو كان يلقاك ممن قد مضى ... أحد من الصحابة أو ممن له شان
لكان طلحة فيما قلت مرتضياً ... وكأن يثنى عليك الحبر سلمان
وكأن مهما رآك الشافعي فرحا ... وكأن يفضلك البحاث نُعمان
قد كنت كاسمك محيى الدين مجتهدا ... ومن دعائك نال النصر فرسان
سلكت بين الورى سبل النجاة وقد ... قر فيك لسان الوحي قرآن
بان جاهك عند الله مرتفع وإن ... حظك من ذي العرش غفران
يوما يكون عصاة الناس قد جمعت ... والنار ذات لظى والرب غضبان
يفر كل امرئ من هول مصرعه ... من ابنه وأبيه وهو حَيران
قد فتحت للوري أبواب هاوية ... ونارها انتشرت والجسم عريان
فعند ذاك بلى ريب على عجل ... بالبشر من ربنا يأتيك رضوان
وقد ترى جنة الفردوس قد فتحت ... وعم من طيبها روح وريحان
تدوم فيها بأفراح على أبد ... وصل في فرح حور وولدان(1/26)
متى ذكرناك قد فاضت مدامعنا ... حتى جرت من دموع العين عِذران
ينوح كل امرئ من فرط لوعته ... حتى لقد فرحت بالدمع أجفان
من ذا يبوح إذا بانت أحبته ... أولا يسيل ما على خديه عَقَبْان
الناس طرا على ذكراك في حرق ... وليس يعرض وذكراك نسيان
قد سال بحر دماء من لواحظهم ... مذ قام مكتئبا يبكيك عثمان
عساك تشفع فيه حيث قام غدا ... لينمحى ذنبه فالله رحمان
فإنه مذنب عاص ومعترف ... وقد ملأ صحفه سوء وعصيان
يا نفس لا تخدعي باللهو واتعظى ... فإن ويحك عند الله خسران
كم من اناس من الأخيار قد عدموا ... كأنهم ساعة في الدهر ما كانوا
لا تطمعى في البقايا نفس بعدهم ... فإن كل الورى في الدهر ضيفان
فصل في عدم بناء قبه على ضريحه
لما توفى رضي الله عنه أراد أهله وأقاربه وجيرانه أن يبنرا على ضريحه قبة وأجمعوا على ذلك، إذ جاء - رضي الله عنه - إلى أكبر امرأة من قرابته في النوم أظنها عمته، وقال لها قولي: لأخي والجماعة لا يفعلوا هذا الذي قد عزموا عليه من البنيان فإنهم كلما بنوا أشياء تهدمت عليهم، فانتبهت مزعجة فقصت عليهم الرؤيا لا فامتنعوا عن البنيان، وحوطوا على قبره بحجارة تمنع الدواب وغيرها.
وقال لي جماعة من أقاربه وأصحابه بنوي إنهم ساءلوه يوماً أن لا ينساهم في عرصات القيامة فقال لهم: إن كان ثم جاه والله لا دخلت الجنة وواحداً ممن أعرفه ورائي ولا أدخلها إلا بعدهم فرحمه الله ورضى عنه.
لقد جمعت هذه الحكاية من الأدب مع الله عز وجل ومن الكرم مالا يخفى على متأمل فطن.
فصل مواجهته لعلماء السوء
قال المؤلف رضي الله عنه! كنت بين يديه طيب ثراه لتصحيح درس عليه في مختصر علوم الحديث الأصغر له، فلما فرغت منه. قال لي: رأيت الليلة في المنام كأني كنت سابحاً في بحر، وكأني خرجت منه إلى شاطئه، وإذا أنا بشخص فيه قد غرق وتعلق بخشبة على وجه الماء لحظة ثم غرق. قلعت يا سيدي علمت الشخص من هو؟ قال: نعم. قلت: من هو قال: ابن النجار. قلت في أوانه، قال: يظهر قليلاً ثم يخفى خفاء لا ظهور بعده مع نقاق قلبه. وكان من قصته المذكورة وهى إنه سعى في إحداث أمور على المسلمين باطلة فقام الشيخ قدس الله روحه مع جماعة من علماء المسلمين فأزالوها بأذن الله تعالى ونصر الله، الحق وأهله، فغضب لذلك لكراهية مصلحة المسلمين ونصيحة الدين وبعث إلى الشيخ يتهدده ويقُول: أنت الذي تحزب العلماء على هذا، فكتب إليه الشيخ قدس الله روحه كتاباُ هذه صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، من عبد الله يحيى النووي.
اعلم أيها المقصر في التأهب لمعاده، التارك مصلحة نفسه في تهيئة جهاده له وزاده، أني كنت لا أعلم كراهتك لنصرة الدين ونصيحة السلطان حملاً منى لك ما هو شأن المؤمنين من إحسان الظن بجميع الموحدين، وربما كنت أسمع في بعض الأحيان من يذكرك بغش المسلمين فأنكر عليه بلساني وبقلبي لأنها غيبة لا أعلم صحتها ولم أزل على هذا الحال إلى هذه الأيام فجري ما جرى من قول قائل للسلطان وفقه الله الكريم للخيرات إن هذه البساتين يحل انتزاعها من أهلها عد بعض العلماء، وهذا من الافتراء الصريح والكذب القبيح، فوجب علي، وعلى جميع من علم هذا من العلماء أن يبين بطلان هذه المقالة، ودحض هذه الشناعة؛ فإنها خلاف إجماع المسلمين، وإنه لا يقول بها أحد من أئمة الدين وأن يُنهوا ذلك إلى سلطان المسلمين فأنه يجب على الناس نصيحته لقول النبي صلى الله عليه وسام في الحديث الصحيح: (الدين النصيحة لله ولكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم) .(1/27)
وإمام المسلمين في هذا العصر هو السلطان وفقه الله تعالى لطاعته وتولاه بكرامته، وقد شاع بين الخواص والعوام أن السلطان كثير الاعتناء بالشرع ويحافظ على العمل به، وانه بنى المدرسة لطوائف العلماء ورتب القضاة من المذاهب الأربعة، وأمر بالجلوس في دار العدل لإقامة الشرع وغير ذلك مما هو معروف من اعتناء السلطان أعز الله أنصاره بالشرع، وأنه إذا طلب منه العمل بالشرع أمر بذلك ولم يخالفه.
فلما افترى هذا القائل في أمر البساتين ما افتراه، ودلس على السلطان وأظهر أن انتزاعها جائز عند بعض العلماء وغش السلطان في ذلك، وبلغ ذلك علماء البلد فوجب عليهم نصيحة الدين والسلطان وعامة المسلمين، فوفقهم الله تعالى للأتفاق على كتب كتاب يتضمن ما ذكرته على جهة النصيحة للدين والسلطان والمسلمين. وذكر بقية الكتاب وأنا اختصرته - ولم يذكروا فيه أحداً بعينه بل قالوا: من زعم جواز انتزاعها فقد كذب، وكتب علماء المذاهب الأربعة خطوطهم بذلك لما يجب عليهم من النصيحة المذكورة، واتفقوا على تبليغها ولى الأمر أدام الله أيامه، يوجب عليهم أن ينصحوا ويبينوا حكم الشرع، ثم بلغني عن جماعات متكاثرات في أوقات مختلفات حصل لى العلم بقولهم، إنك كرهت سعيهم في ذلك، وشرعت في ذم فاعل ذلك، واشتد معظم ذلك كله إلى، ويا حبذا ذلك من صنيع وبلغني عنك هؤلاء الجماعات إنك قلت: قولوا ليحيى هذا الذي سعى في هذا فينكف عنه وإلا أخذت منه دار الحديث، وبلغني هؤلاء الجماعات: انك حلفت مرات بالطلاق الثلاث إنك ما تكلمت في انتزاع هذه البساتين، وانك تشتهى إطلاقها، فيا ظالم نفسه؛ أما تستحي من هذا الكلام المتناقض وكيف يصح الجمع بين شهوتك، وإطلاقها وانك لم تتكلم فيها، وبين كراهيتك السعي في إطلاقها ونصيحة السطلان والمسلمين، وياظلم نفسه؛ هل تعرض لك أحد بمكروه أو تكلم فيك بغيبة؛ وإنما قال العلماء: من قال هذا السلطان فقد كذب ودلس عليه وغشه ولم ينصحه؛ فإن السلطان ما يفعل هذا إلا لإعتقاده أنه حلال عند بعض العلماء؛ فبينوا أنه حرام عند جميعهم، وإنك قد قلت إنك لم تتكلم فيها وحلفت على هذا بالطلاق الثلاث فأي ضرر عليك في إبطال قول كاذب على الشرع، غاش مدلس على السلطان؟ وقد قلت أنه غيرك؛ وكيف تكره السعي على شيء قد أجمع الناس على استحسانه. بل هو واجب على من قدر عليه، وأنا بحمد الله من القادرين عليه بالطريق الذي سلكت، وأما نجاحه فهو إلى الله تعالى مقلب القلوب والأبصار، ثم أني أتعجب غاية التعجب من اتخاذك إياي خصما، يا حبذا ذلك من اتخاذ، فأني بحمد الله تعالى أحب في الله وأبغض فيه، فأحب من أطاعه وأبغض من خالفه، وإذا أخبرت عن نفسك بكراهيتك السعي في مصلحة المسلمين ونصيحة السلطان فقد دخلت في جملة المخالفين، وصرت من نبغضه لله رب العالمين؛ فان ذلك من الإيمان كما جاءت به الآثار الصحيحة المنقولة بأسانيد الأئمة الأخيار.
أرض لمن غاب عنك غيبته، فذاك ذنب عقابه فيه، وياظالم نفسه، أنا ما خاصمتك أو كلمتك أو ذكرتك أو بيني وبينك مخاصمة أو منازعة أو معاملة في شيء فما بالك تكره فعل خير يسرني الله الكريم له: (وَمَا نَقَمواُ مِنْهُمْ إلاً أنْ يؤْمِنُوا بِالله العزِيز الحميد) بل أنت لسوء نظرك لنفَسك، تنادي على نفسك، وتشهد الشهود بكراهية هذه النصيحة التي هي مصرحة بأنك أنت الذي تكلمت في هذه البساتين، وإن الطلاق عليك واقع، وما أبعد أن تكون شبيها بمن قال الله تعالى فيهم: (وَلتَعْرِِفَنَهُمْ فِي لَحْنِ الْقَولِ والله يَعْلَمُ أعْمالكُمْ) .
وياعدو الله، وعدو نفسه، أتراني أتكره مصاداة من سلك طريقتك هذه، بل والله احيها وأوثرها وأفعلها بحمد الله تعالى فان الحب في الله والبغض فيه واجب علي وعليك وعلى جميع المكلفين.
ولست أدري أي غرض لك في حرصك على الإنكار على الساعين في إعظام حرمات الدين ونصيحة السلطان والمسلمين؟ فياظالم نفسه، انته عن هذا، وارجع عن طريقة المباهتين والمعاندين.(1/28)
وأعجب من هذا تكريرك الإشارة إلى بزعمك الفاسد كالمتوعد إن لم ينكف؛ أخذت منه دار الحديث. فياظالم نفسه، وجاهل الخير وتاركه أطلعت على قلبي أني متهافت عليها أو ما علمت إني منحصر فيها أو تحققت إني معتمد عليها مستندا إليها أو عرفت أعتقد انحصار رزقي فيها أو ما علمت لو أنصفت كيف ابتداء أمرها أو ما كنت حاضرا مشاهد أخذي لها. ولو فرض تهافتي عليها أكنت أوثرها على مصلحة عامة المسلمين مشتملة على نصيحة الله ورسوله وسلطان المسلمين وعامتهم، مخافة من خيالاتك. إن هذه لغباوة منك عظيمة، وتعجبا منك كيف تقول هذا؟.
أأنت رب العالمين بيدك خزائن السموات والأرضين، وعليك رزقي ورزق الخلائق أجمعين!، أم أنت سلطان الوقت تحكم على الرعية بما تريد، فلو كنت عاقلاً ما تهجمت على التفوه بهذا الكلام الذي لا ينبغي أن يقوله إلا رب العالمين أو سلطان الوقت، مع أن سلطان الوقت منزه عن قولك الباطل، مرتفع المحل عن فعل ما ذكرت ياظالم، فان كنت تقول هذا استقلالاً منك فقد أفتئت عليه، وأجرأت على أمر عظيم، ونسبته إلى الظلم والعدوان، وان كنت تقوله عنه فقد كذبت عليه، فانه بحمد الله حسن الاعتقاد في الشرع، وذلك من نعم الله تعالى عليه، والسلطان بحمد الله تعالى وفضله أكثر اعتقاداً في الشرع من غيره، ومعظم حرماته، وليس هو ممن يقابل ناصحه بهذيانات الجاهلين وترهات المخالفين، بل يقبل نصائحهم كما أمر الله تعالى. وأعلم أنها الظالم نفسه إني والله الذي لا إله إلا هو لا أترك شيئاً أقدر عليه من السعي في مناصحة الدين والسلطان والمسلمين وفرق حزب المخذلين، وسترى ما أتكلم به إن شاء الله تعالى عند هذا السلطان وفقه الله تعالى لطاعته وتولاه بكرامته في هذه القضية غيره الشرع وإعظاماً لحرمات الله تعالى وإقامة الدين، ونصيحة السلطان وعامة المسلمين.
ويالظالم نفسه، أجلب بخيلك إن قدرت، واستعن بأهل المشرقين وما بين الخافضين، فإني بحمد الله في كفاية تامة، وأرجو من فضل الله تعالى إنك لا تقوي لمنابذة أقل الناس مرتبة بحمد الله تعالى ممن يسعى أو يود القتل في طاعة الله تعالى.
أتقوى يا ضعيف الحيل لمنابذتي، أبلغك يا هذا أني لا أومن بالقدر أو بلغك إني اعتقد أن الآجال تنقض وأن الأرزاق تتغير، أما تفكر في نفسك من قبيح ما أتيته من الفعال، وسوء ما نطقت به من المقال ياظالم نفسه، من طلب رضي الله تعالى يرد خيالاتك وتمويهاتك وأباطيلك وترهاتك!! وبعد هذا كله، أرجو من فضل الله تعالى أن الله تعالى يوفق هذا السلطان ادام الله نعمه عليه لإطلاق هذه البساتين، وأن يفعل بها ما تقريه أعين المؤمنين، ويرغم به أنف المخالفين، فان الله تعالى قال: (والْعَاقِبة للمتَقين) والسلطان بحمد الله تعالى يفعل الخيرات فما تفوته في هذه القضية.
واعلم إنك عندي بحمد الله تعالى أقل ممن اهتم بشأنك، والتفت إلى خيالاتك وبطلانك، ولكني أريد أعرفك بعض أمري لتدخل نفسك في منابذة المسلمين بأسرهم، ومنابذة سلطانهم، وفقه الله تعالى على بصيرة منك وترتفع عنك جهالة بعض الأمر، ليكون دخولك بعد ذلك معاندة لا عذر لك فيها.
وياظالم نفسه؛ أتتوهم أنه يخفي علي وعلى من سلك طريق نصائح المسلمين وولاة الأمر وحماة الدين، أنا لا نعتقد صدق قول الله تعالى: (والْعَاقِبَةُ لِلمتقينَ) وقوله: (وَلا يَحيقُ الْمكر السيَّء إلا بِأُهلِهِ) .
وقوله تعالى: (والذين جَاهَدوا فينَا لَنهْديَنَّهُمْ سُبُلنَا) وقوله تعالى: (إنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصرُكُمْ وَيُثَبِِتْ أقْداَمكُم) وقوله تعالى (وكان حَقاًَ عَلينا نَصْرُ المؤمِنِيِن) .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم خذلان من خذلهم) والمراد بهذه الطائفة أهل العلم كذا قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وغيره من أولي النهى والفهم.(1/29)
وقوله صلى الله عليه وسلم: ٍ (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) هذا فيمن كان في عون واحد من الناس، فكيف الظن بمن هو في عون المسلمين أجمعين؟ مع إعظام حرمات الشرع ونصحه السلطان وموالاته وبذل النفس في ذلك. وأعلم أني والله لا أتعرض لك بمكروه سوى أني أبغضك في الله تعالى، وما امتناعي عن التعرض لك بمكروه من عجز بل أخاف الله رب العالمين من إيذاء من هو من جملة الموحدين، وقد أخبرني من أثق به ويخبره وصلاحه وكراماته وفلاحه بأنك إن لم تبادر بالتوبة حل بك عقوبة عاجلة تكون بك آية لمن بعدك، لا يأثم بها أحد من الناس، بل هو عدل من الله تعالى يوقعه بك عبره لمن بعدك.
فان كنت ناظرا لنفسك، فبادر بالرجوع عن سيئ أفعالك، وتدارك ما أسلفته من قبيح مقالك، قبل أن يحل بك مالا تقال فيه عثرتك ولا تغتر بسلامتك وثروتك ووصلتك وفكر في قول القائل:
قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعلم واريته ... وجامع بددت ما تجمع
والسلام على من اتبع الهدى، والحمد لله رب العالم
فصل
قال لي صاحبنا أبو العباس أحمد الشيخ أبى عبد الله محمد بن الحسن بن سالم الشافعي. قال ذكر الشيخ الصالح المعمر أبو القاسم بن عمير المزني، وكان من الأخيار أنه رأى فيما يري اِلنائم بالمزق رايات كثيرة قال: وسمعت توبة تضرب فقلت ما هذا؟ فقيل الليلة قطب يحيى النووي فاستيقظت من نومي، ولم أكن أعرف الشيخ ولا سمعت به قبل ذلك، فدخل المدينة يعني دمشق في حاجة قال: فذكرت ذلك الشخص فقال: هو شيخ دار الحديث الأشرفية، وهو الآن جالس فيها لميعادها، فاستدللت عليها ودخلتها فوجدته جالساً فيها وحوله جماعة فوقع بصره عليَ فنهض إلى جهتي وترك الجماعة ومشى إلى طرف أبوابها ولم يتركني أكلمه، وقال: اكتم ما معك ولا تحدث به أحدا ثم رجع إلى موضعه ولم يكن رأيته قبلها ولم اجتمع به بعدها.
هذا أخر الكتاب والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وأله وصحبه وسلم نسخ 978هـ(1/30)