كَرَائِمُ التَّرَاجِمِ
صَفَحَاتٌ مِنْ أعْلامِ العَصْرِ
مُحمَّدٌ العُثَيْمِيْنُ حُمُوْدٌ العُقْلاءُ
بَكْرٌ أبو زَيْدٍ
تَألِيْفُ
الحَمْدُ لله رَبِّ الأرْضِ والسَّماءِ، الَّذِي تَفَرَّدَ بدَوَامِ الحَيَاةِ والبَقَاءِ، وحَكَمَ على خَلْقِهِ بالمَوْتِ والفَنَاءِ، وخَلَقَ المَوْتَ والحَيَاةَ للابْتِلاءِ، أحمَدُهُ على سَوَابِغِ النِّعَمِ وضَوَافي الآلَاءِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفْضَلِ الرُّسُلِ والأنْبِيَاءِ، وعلى آلِهِ السَّادَةِ النُّجَبَاءِ، وأزْوَاجِهِ الطَّهَرَةِ الأنْقِيَاءِ، وأصْحَابِهِ البَرَرَةِ الأتْقِيَاءِ، وعلى مَنْ تَبِعَهُم مِنَ الصَّفْوَةِ الأوْلِيَاءِ، إلى يَوْمِ الحَشْرِ واللِّقَاءِ .
( أمَّا بَعْدُ : فَهَذِهِ بَعْضُ مَهَاجِمِ القِلْبِ، وأُلْقِيَاتِ الفُؤادِ، ممَّا قَدْ يَرْتَجِلُهَا الابْنُ عِنْدَ فَقْدِ أمِّهِ وأبِيْهِ، والصَّاحِبُ عِنْدَ فِرَاقِ خَلِيْلِهِ وأخِيْهِ، والتَّلْمِيْذُ عِنْدَ مُصَابِ شَيْخِهِ ومُرَبِّيْهِ ... إنَّها عُصَارَةُ قَلْبٍ رَقْرَاقَةٌ، ودَمَعَاتُ عَيْنٍ مِهْرَاقَةٌ، كَانَ صَعْبًا على المُصَابِ حَبْسُهَا بَلْهَ تَأخِيْرُهَا، فَهِي غَلَّابَةٌ قَلَّابَةٌ، بَلْ إخَالُهَا مُغِيْرَةً مُثِيْرَةً، يَضْعَفُ اللَّبِيْبُ عَنْ قِيَادِهَا، والحَازِمُ عَنْ لِجَامِهَا ...!
* * *
( إنَّها أحَاسِيْسُ سَاكِنَةٌ، ومَطَاوِي كَامِنَةٌ، يَعْجَزُ اللِّسَانُ عَنْ ذِكْرِهَا، وتَضِيْقُ القَوَافي عَنْ وَصْفِهَا!(1/1)
إنَّها حُبَاسَاتُ صَدْرٍ، وخَافِيَاتُ فِكْرٍ ... لا هَمَسَاتٌ فتُسْمَعُ، ولا رَكَزَاتٌ فتُحَسُّ ... حَتَّى إذا طَرَبَهَا البَشِيْرُ أو رَابَهَا النَّذِيْرُ، جَلْجَلَتْ في صَكَّةٍ، وهَمْلَجَتْ في رَكَّةٍ، وثَارَتْ بخَيْلِهَا وأقْبَلَتْ برَجْلِهَا؛ لتَخْرُجَ بَعْدَ احْتِبَاسٍ، ولتَسْتَبِيْنَ بَعْدَ الْتِبَاسٍ، فحِيْنَئِذٍ لا يَسَعُهَا إلَّا فَلَتَاتُ لِسَانِ المُصَابِ، أو صَرِيْفُ القَلَمِ في بَيَاضِ الصُحُفِ، أو أخْطَاطُ رِيَاضِ الكُتُبِ!
* * *
( حَتَّى إذَا اسْتَوَتْ على سُوْقِهَا، وخَرَجَتْ مِنْ ضِيْقِهَا؛ نَظَرَ إلَيْهَا المُصَابُ نَظْرَةَ الحَائِرِ، ووَقَفَ عَلَيْهَا وَقْفَةَ السَّادِرِ، مُتَّهِمًا نَفْسَهُ في ذِكْرِهَا أو فِكْرِهَا، ظَانًّا بقَلَمِهِ في شِعْرِهَا أو نَثْرِهَا، ولَوْ أقْسَمَ بالله أنَّ لِسَانَهُ لم يَحُطَّهَا، وأنَّ بَنَانَهُ لم يَخُطَّهَا لما حَنِثَ ولا أثِمَ!
فَكَأنَّهُ مِنْ هَوْلِ السَّكْرَةِ، وهُيَامِ الفِكْرَةِ : مُقَادٌ لا قَائِدٌ، وسَامِعٌ لا مُتَكَلِّمٌ؛ حَتَّى إذَا غَالَبَ نَفْسَهُ، وقَارَبَ رَأسَهُ، عَرَفَ مَا هُنَا، وعَلِمَ أنَّ مَا كُتِبَ في نَثْرٍ، أو نُظِمَ في شِعْرٍ، كَانَ قَدَرًا مَقْدُوْرًا، وشَيْئًا مَسْطُوْرًا!
ومَهْمَا اتَّهَمَ أو ظَنَّ؛ فإنْ أحْسَنَ فِيْما سَطَّرَ وحَبَّرَ بَعْدَ صَبْرٍ وتَرْجِيْعٍ، فلْيَحْمَدِ الله تَعَالى ، وإنْ كَانَتِ الأخْرَى فَلا يَلُوْمَنَّ إلَّا نَفْسَهُ، والله غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ .
* * *
((1/2)
وسَوْقًا بَعْدَ تَسْوِيْقٍ؛ فإنِّي أقِفُ بنَفْسِي هُنَا طَالِبًا مِنَ الخَالِقِ العَفْوَ والمَغْفِرَةَ، ومِنَ الخَلْقِ الصَّفْحَ والمَعْذِرَةَ : فإنَّني مَا ذَكَرْتُ هَذِهِ الوَرَقَاتِ المُقْتَضَبَاتِ في سِيْرَةِ هَؤلاءِ الأئِمَّةِ الأعْلامِ، إلَّا بِرًّا لهُم، وحَقًّا إلَيْهِم، بَيْدَهَا نُصْرَةً للحَقِّ في أهْلِهِ، وإغَاضَةً للبَاطِلِ في أهْلِهِ، وتَسْلِيَةً لرُوَّامِ العِلْمِ، وتَذْكِرَةً لمؤرِّخِي الأمَمِ .
كَمَا أنَّني أبْدِي وأعِيْدُ؛ بأنَّ ذِكْرِي هُنَا لسَيَرِ هَؤلاءِ الأعْلامِ لَيْسَ مِنْ مَآتي الإحَاطَةِ، بَلْ مِنْ نُثَارِ اللُّقَاطَةِ، فَهِيَ شَذَرَاتٌ في نَظَرَاتٍ، ومُقْتَطَفَاتٌ في فَقَرَاتٍ، جَرَّهَا القَلَمُ في بَيَانٍ، ومَدَّتْهَا الذِّكْرَى بَعْدَ نِسْيَانٍ .
لِذَا لم أتَكَلَّفْ التَّوَسُّعَ في ذَاكِرَاتِ سِيَرِ هَؤلاءِ الأعْلامِ جَمْعًا وتَرْتِيْبًا، وَضْعًا وتَبْوِيْبًا؛ بَلْ أجْرَيْتُ القَلَمَ تَقْيِيْدًا لأعَالِيْقِ الذَّاكِرَاتِ، وتَصْيِيْدًا لعُصُمِ المَغَارَاتِ، لَيْسَ إلَّا .
* * *
((1/3)
وكُنْتُ مُسْتَنًّا في تَرْسِيْمِ هَذِهِ الشَّذَرَاتِ المُخْتَصَرَاتِ بمَنْ سَلَفَ وغَبَرَ مِنْ أئِمَّةِ التَّارِيْخِ والسِّيَرِ والتَّراجِمِ في تَنْقِيْطِ سِيَرِ الأعْلامِ، فَكَمْ عِنْدَهُم مِنْ إمَامٍ وهُمَامٍ قَدْ أخَذُوا سِيْرَتَهُ في صَفَحَاتٍ، ورُبَّما في وَرَقَاتٍ، لكِنَّهَا آتِيَةٌ بِمَا للإمَامِ مِنْ جُمَلٍ شَافِيَةٍ، وأخْبَارٍ كَافِيَةٍ، فَكَانَ الخَيْرُ فِيْهَا والائْتِمامُ بِها، ومَنْ أرَادَ تَفْصِيلًا (عِنْدَهُم) لمَسِيْرَاتِ الإمَامِ أو تَكْمِيْلًا لمُتَمِّمَاتِ هَذَا الهُمَامِ، فَدُوْنَهُ المَبْسُوْطَاتِ مِنْ أمَّاتِ كُتُبِ السِّيَرِ والطِّبَاقِ، ففِيْهَا مَا يَرْوِي الغَلِيْلَ، ويَشْفِي العَلِيْلَ(1)، والله وَليُّ المُتَّقِيْنَ!
* * *
( وبَعْدُ؛ فَهَذِهِ مَسَايِرُ عَاطِرَةٌ، وتَرَاجِمُ خَاطِرَةٌ، كَتَبْتُهَا ارْتِجَالًا، واخْتَطْتُهَا حَالًا، ولم أتَحَقَّقْ في بَادِيَاتِهَا، ولم أدَقِّقْ في خَاتَماتِهَا، بَلْ سُقْتُهَا بعُصِيِّ الذِّكْرَى، وتَرَكْتُهَا كعُمَّى الثُّكْلَى ... هَكَذَا لتَبْقَى غَادَةً رَائِقَةً، وعَذْرَاءَ فَائِقَةً، دُوْنَ مَسٍّ لِيَدٍ، أو هَمْسٍ لِقَدٍ، فَلَمْ تُفَضْ بَكَارَتُهَا ولم تُكْشَفْ مُخَدَّرَاتُهَا ... إنَّها سِيِرٌ سَائِرَةٌ بِلا تَكَلُّفٍ، وكَلِمَاتٌ مُسَطَّرَةٌ بِلا كَلَفٍ .
* * *
(
__________
(1) أي : عِلَّةُ النَّهَمِ العِلْمِيِّ .(1/4)
وأخِيْرًا؛ فَهَؤلاءِ ثَلاثَةُ أعْلامٍ أفَاضِلَ، هَجَمَتْ سِيَرُهُم على قَلَمِي، وتَفَجَّرَتْ تَرَاجِمُهُم بكَلِمِي، دُوْنَ اسْتِئذَانٍ أو أوَانٍ، بَلْ جَادَتْ بِها القَرِيْحَةُ عَفْوًا، وفَاضَتْ بِها المَدِيْحَةُ قَفْوًا، حُبًّا لهُم، وبِرًّا بِهِم ... ومَا أنَا مِنَ المُتَكَلِّفِيْنَ، ولَسْتُ مِنَ المُؤرِّخِيْنَ، اللَّهُمَّ بَقَايَا مِنْ ذِكْرَى الفِكْرِ، ونَقَايَا مِنْ أحَادِيْثِ الصَّدْرِ، ولملَماتٍ مِنْ هُنَا وهُنَاكَ ... فأقْبَلَتْ في خُطَاهَا لتَحْكِي انْتِظَامَ العِقْدِ، واسْتَقَامَتْ في نَصِّهَا لتُسَامِي قِوَامَ القَدِّ، فللَّهِ مِنِّي الشُّكْرُ والحَمْدُ!
* * *
( فَكَانَ مِنْهُم اليَوْمَ؛ شَيْخُنَا العَلَّامَةُ شَيْخُ الإسْلامِ مُحَمَّدٌ العُثَيْمِيْنُ، والشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُجَاهِدُ حُمُوْدٌ العُقْلاءُ، وشَيْخُنَا العَلَّامَةُ البَلِيْغُ بَكْرٌ أبو زَيْدٍ، رَحِمَهُمُ الله تَعَالى جَمِيْعًا .
( وسَيَكُوْنُ مِنْهُم قَرِيْبًا إنْ شَاءَ الله : شَيْخُنَا العَلَّامَةُ الحُجَّةُ عَبْدُ العَزِيْزِ ابنُ بَازٍ، وشَيْخُنَا العَلَّامَةُ الفَقِيْهُ المُؤرِّخُ عَبْدُ الله البَسَّامُ، ومُحَدِّثُ العَصْرِ شَامَةُ الشَّامِ مُحْي السُّنَّةِ نَاصِرُ الدِّيْنِ الألْبَانيُّ، وشَيْخُ العَرَبِيَّةِ العَلَّامَةُ المُحَقِّقُ مَحْمُوْدُ شَاكِرٍ المِصْرِيُّ رَحِمَهُمُ الله تَعَالى، في غَيْرِهِم مِنَ الأحْيَاءِ؛ لاسِيَّما وَالدُنَا العَلَّامَةُ شَيْخُ الحَنَابِلَةِ عَبْدُ الله ابنُ عَقِيْلٍ، ووَالِدُنَا العَلَّامَةُ الفَقِيْهُ العَامِلُ عَبْدُ الله الجِبْرِيْنُ، والله الهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ .
* * *
( وقَدْ مَدَدْتُ لمَنَائِحِ هَذِهِ التَّرَاجِمِ حَبْلًا مَوْصُوْلًا في كَرَائِمَ ثَلاثٍ، وقَبْلَهَا مُقَدِّمَةٌ، وبَعْدَهَا تَوْطِئَةٌ، كَمَا يَلي :
((1/5)
المُقَدِّمَةُ، والتَّوْطِئَةُ .
( الكَرِيْمَةُ الأوْلى : شَيْخُ الإسْلامِ مُحَمَّدٌ بنُ عُثَيْمِيْنَ رَحِمَهُ الله .
( الكَرِيْمَةُ الثَّانِيَةُ : شَيْخُ الطَّبَقَةِ حُمُوْدٌ العُقْلاءُ رَحِمَهُ الله .
( الكَرِيْمَةُ الثَّالِثَةُ : شَيْخُ العُلَماءِ وبَلِيْغُ الأدَبَاءِ بَكْرٌ أبو زَيْدٍ رَحِمَهُ الله .
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على عَبْدِه ورَسُوْلِهِ الأمِيْنِ
وكَتبَهُ
لَيْلَةَ الاثْنِيْنَ لخَمْسٍ بَقِيْنَ مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ لعَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمائَةٍ وتِسْعَةٍ وعِشْرِيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ على صَاحِبِهَا أفْضَلُ الصَّلاةِ وأتَمُّ التَّسْلِيْمِ
(25/2/1429)
تَوْطِئَةٌ
لاشَكَّ أنَّ فَنَّ التَّراجِمِ والسِّيَرِ والطِّبَاقِ؛ فَنٌّ طَرِيْفٌ، يَشْتَاقُهُ كُلُّ ذِي طَبْعٍ لَطِيْفٍ، لمَا فِيْهِ مِنْ فَوَائِدَ عَظِيْمَةٍ، ومَنَافِعَ جَسِيْمَةٍ، أجَلُّهَا الاعْتِبَارُ بمَنْ مَضَى، والاقْتِدَاءُ بمَنْ سَارَ وانْقَضَى، لاسِيَّما أهْلُ السُّنَّةِ والرِّضَى .
مَعَ مَا فِيْهِ للطَّالِبِ مِنْ تَنْشِيْطِ هِمَّةٍ، وتَزْوِيْدِ طَلَبٍ ونِهْمَةٍ، كُلُّ ذَلِكَ لتُحْفَظَ مَآثِرُ العُلَماءِ وفَوَائِدُهُم، وتُدَوَّنَ مَنَاقِبُهُم وعَوَائِدُهُم .
( وقَدْ قِيْلَ :
جَمَالُ ذِي الأرْضِ كَانُوا في الحَيَاةِ، وهُمْ
بَعْدَ المَمَاتِ جَمَالُ الكُتُبِ والسِّيَرِ
* * *
وقَالَ الشَّافِعيُّ رَحِمَهُ الله (204) : «مَنْ حَفِظَ التَّارِيْخَ زَادَ عَقْلُهُ»!، وقَدْ قِيْلَ أيْضًا : مَنْ أحْيَاهَا فَقَدْ أحْيَا النَّاسَ جَمِيْعًا!(1/6)
كَمَا نَقَلَهُ السَّخَاوِيُّ رَحِمَهُ الله (902) عَنْ غَيْرِهِ في «الإعْلانِ بالتَّوْبِيْخِ» (41) : «فِيْهِ إحْيَاءُ ذِكْرِالأوَّلِيْنَ والآخِرِيْنَ ... فإنَّ ذِكْرَهَا حَيَاةٌ جَدِيْدَةٌ، ومَنْ أحْيَاهَا فَكَأنَّما أحْيَا النَّاسَ جَمِيْعًا» انْتَهَى .
ومَا أحْسَنَ مَا قَالَهُ نَاصِرُ الدِّيْنِ الأرِجَّانيُّ :
إذَا عَرَفَ الإنْسَانُ أخْبَارَ مَنْ مَضَى تَوَهَّمتُهُ قَدْ عَاشَ في أوَّلِ الدَّهْرِ
وتَحْسَبُهُ قَدْ عَاشَ آخِرَ دَهْرِهِ إلى الحَشْرِ إنْ أبْقَى الجَمِيْلَ مِنَ الذِّكْرِ
فَقَدْ عَاشَ كُلَّ الدَّهْرِ مَنْ عَاشَ بَعْضَهُ كَرِيمًا حَلِيمًا فاغْتَنِمْ أطْوَلَ العُمْرِ
* * *
لِذَا نَجِدُ فَنَّ التَّارِيْخِ قَدْ أخَذَ مَكَانَةً عَظِيْمَةً عِنْدَ عُلَمَاءِ المُسْلِمِيْنَ حَيْثُ اعْتَنَوْا بِه عِنَايَةً فَائِقَةً؛ إلاَّ أنَّ الَّذِيْنَ ذَهَبُوْا مِنْهُم بِفَضْلِ الشُّهْرَةِ والأمَانَةِ المُعْتَبَرَةِ قَلِيْلُوْنَ لا يَكَادُوْنَ يَتَجَاوَزَوْنَ عَدَدَ الأنَامِلِ .
ومَهْمَا يَكُنْ؛ فإنَّ الشُّرُوْعَ في فَنِّ التَّارِيْخِ والتَّراجِمِ والسِّيَرِ، أو الخَوْضَ فِيْهِ لَيْسَ مِنَ السَّهْلِ بِمَكَانٍ، ومَا كَانَ (يَوْمًا) مَرْتعًا خَصْبًا لكُلِّ أحَدٍ؛ كَلاَّ!
فَهَذا العَلاَّمَةُ ابنُ خُلْدُوْنٍ رَحِمَهُ اللهُ (808)، يُشِيْرُ إلى نَحْوِ هَذَا الكَلامِ في «مُقَدِّمَتِهِ» (9)، قَائِلاً : «فَهُوَ (التَّارِيْخُ) مُحْتَاجٌ إلى مَآخِذَ مُتَعَدِّدَةٍ ومَعَارِفَ مُتَنَوِّعَةٍ، وحُسْنِ نَظَرٍ وتَثَبُّتٍ ... لأنَّ الأخْبَارَ إذا اعتُمِدَ فِيْها على مُجَرَّدِ النَّقْلِ، ولَمْ تُحْكَمْ أُصُولُ العَادَّةِ ... لَمْ يُؤمَنْ فِيْهَا مِنَ العُثُوْرِ، ومَزَلَّةِ القَدَمِ، والحَيْدِ عَنْ جَادَّةِ الصِّدْقِ .(1/7)
وكَثِيْرٌ مَا وَقَعَ للمُؤرِّخِيْنَ والمُفَسِّرِيْنَ وأئِمَّةِ النَّقْلِ المَغَالِطُ في الحِكَايَاتِ والوَقَائِعِ، لاعْتِمَادِهِم فِيْها على مُجَرَّدِ النَّقْلِ غَثًا أو سَمِيْنًا، لَمْ يَعْرِضُوْها على أُصُوْلِها» انْتَهَى .
* * *
( فإذا عُلِمَ هَذَا؛ كان مِنَ الخطأ أنْ نَجْعَلَ مِنَ كِتَابَةِ التَّراجِمِ والطَّبَقَاتِ مَادَّةً سَهْلةً، ومَرْتعًا خَصْباً لِكُلِّ مَنْ هَبَّ ودَبَّ!
وعَلَيْهِ؛ كَانَ يُؤسِفُنَا أنْ هُنَاكَ طَائِفَةً مِنْ بَعْضِ المُنْتَسِبِيْنَ للعِلْمِ نَجِدُهُم والحَالَةُ هَذِهِ لا يَسْتَأخِرُوْنَ لحْظَةً في إخْرَاجِ سِيَرِ أهْلِ العِلْمِ الكِبَارِ، لاسِيَّما الشَّيْخَيْنِ : ابنِ بَازٍ والعُثَيْمِيْنِ رَحِمَهُمَا اللهُ وغَيْرِهِمَا .
تَحْتَ عَنَاوِيْنَ جَذَّابَةٍ، وطَبَاعَاتٍ خَلَّابَةٍ زِيَادَةً في التَّدْلِيْسِ، ومَنْ أجَالَ النَّظَرَ في ما كَتَبَه هَؤلاءِ عَلِمَ أنَّ القَوْمَ لَمْ يُدْرِكُوا أبْجَدِيَّاتِ فَنِّ التَّرَاجِمِ والسِّيَرِ فَضْلًا عَنْ سُمُوِّ العِلْمِ ورُسُوْخِه .
* * *
( وأدَلُّ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ مَا سَمِعْنَاهُ عَنْ بَعْضِهِم (هَدَاهُ الله) أنَّه لَمَّا سُئِلَ عَنِ الحَشْوِ الَّذِي حَشَرَ بِهِ كُتُبِهِ (التَّرجَمَاوِيَّةِ) الَّذِي لَيْسَ فِيْهَا غَالِبًا إلَّا قَصَاصَاتُ الجَرَائِدِ، وغَرَايِبُ النَّاسِ، وبَعْضُ أقْوَالِ الشَّاذِّيْنَ فِكْرِيًّا، والمُنْحَرِفِيْنَ عَقَدِيًّا؟!
( قَالَ مُعْتَذِرًا : أنَّه لَمْ يُتَرْجِمْ لهَؤلاءِ الأعْلامِ تَرْجَمَةً عِلْمِيَّةً بِقَدْرِ مَا أرَادَ أنْ يَرْصُدَ مَا قِيْلَ في هَؤلاءِ الشُّيُوْخِ المُتَوَفَّيْنَ!
فإذَا أصْبَحَ «حَاطِبُ اللَّيْلِ» مُتَرْجِمًا لأهْلِ العِلْمِ الكِبَارِ؛ فَعَلى كُتُبِ التَّراجِمِ العَفَاءُ والسَّلامُ!
* * *
((1/8)
هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ بَعْضَ أصْحَابِ هَذِه الكُتُبِ لا يَسْتَأخِرُوْنَ سَاعَةً في غَزْوِ المَكَاتِبِ الإسْلامِيَّةِ بكُتُبِهِم (التَّرْجَمَاوِيَّةِ) والشَّيْخُ بَعْدُ لَمْ يَمْضِ على وَفَاتِهِ شَهْرٌ أو شَهْرَانِ!
فَهْلَ يَدُلُّ هَذَا على عِلْمٍ كَبِيْرٍ عِنْدَ القَوْمِ (المُتَرْجِمِيْنَ)؟ أو أنَّهُم تَرْجَمُوا للشَّيْخِ قَبْلَ أنْ يَمُوْتَ؟ فإنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ (وهُوَ كَذَلِكَ!) فَلَعَلَّهُم (واللهُ أعْلَمُ) يُتَاجِرُوْنَ لا يُتَرْجِمُوْنَ، أو لَعَلَّهُم صَرْعَى شُهْرَةٍ لا مُحَقِّقُو سِيْرَةٍ (عَيَاذًا بالله)!
والله الهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ
شَيْخُ الإسْلامِ
مُحَمَّدُ ابنُ عُثَيْمِيْنُ
المولود (27/9/1347)، المتوفى (15/10/1421)
أرْبَعَةٌ وسَبْعُوْنَ عَامًا وثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا
تَألِيْفُ
الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِيْنَ، الَّذِي كَتَبَ المَوْتَ على الخَلْقِ أجْمَعِيْنَ، فَقَدَّرَهُ بحِكْمَةٍ وقَضَاهُ، وأجْرَاهُ بأمْرِهِ وأمْضَاهُ، فمَنْ رَضِيَ بِهِ أنْعَمَ عَلَيْهِ وأرْضَاهُ، ومَنْ سَخِطَ مِنْهُ أبْعَدَهُ وأقْصَاهُ، فنَحْمَدُهُ تَعَالى على حُلْوِ القَضَاءِ ومُرِّهِ، ونَشْكُرُهُ على خَلْقِهِ وأمْرِهِ .
والصَّلاةُ والسَّلامُ على عَبْدِه ورَسُوْلِهِ الأمِيْنِ المَأمُوْنِ، الَّذِي جَعَلَ ممَاتَهُ تَسْلِيَةً لكُلِّ مُؤمِنٍ مَحْزُوْنٍ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبِيْنَ الطَّاهِرِيْنَ، وأصْحَابِهِ الغُرِّ الميَامِيْنَ، ومَنْ تَبِعَهُم بإحْسَانٍ إلى يَوْمِ الدِّيْنِ .
((1/9)
أمَّا بَعْدُ : فَمَعَ غُرُوْبِ شَمْسِ يَوْمِ الأرْبِعَاءِ النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ لِعَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمَائَةٍ ووَاحِدٍ وعِشْرِيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ (15/10/1421)؛ جَاءنِي مَا كُنْتُ أُحَاذِرُهُ، والحَذَرُ مِنَ القَدَرِ سَفَاهَةٌ وعَمَايَةٌ : بأنَّ شَيْخَنَا مُحَمَّدًا العُثَيْمِيْنَ مَاتَ اليَوْمَ!
( فَحِيْنَئِذٍ مَا كَانَ لي أنْ أحْبِسَ دَمْعًا ظَنَنْتُهُ عَصِيًّا! فَعِنْدَهَا فَاضَتِ العَيْنَانِ، وبَرَدَ اللِّسَانُ، ولَمْ أَمْلِكْ عِنْدَها إلَّا تَرْجِيْعَاتٍ ورَحَمَاتٍ أُرَدِّدُها ... نَرْبِطُ بِهَا خَفَقَانَ قُلُوْبِنَا، ونَتَسَلَّى بِهَا في مُصَابِنَا، فإنَّا لله وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُوْنَ!
( وقَدْ قِيْلَ :
تَنَكَّرَ لي دَهْرِي ولَمْ يَدْرِ أنَّنِي أعِزُّ وأحْدَاثُ الزَّمَانِ تَهُوْنُ
وبَاتَ يُرِيْنِي الخَطْبَ كَيْفَ اعْتِدَاؤُهُ وبِتُّ أُرِيْهِ الصَّبْرَ كَيْفَ يَكُوْنُ
* * *
( ومَا عَليَّ أنْ أُرِيْقَ دَمْعًا مَا لَمْ يَكُنْ لَغْوًا ولا لَقْلَقَةً، وهَلْ يَمْلِكُ مِثْلي سِوَى دَمَعَاتٍ طَالَمَا جَنَّدَهَا وجَيَّشَهَا لِيَوْمِ الكَرِيْهَةٍ؟ والمَوْتُ حَقٌّ لاشَكَّ فِيْهِ!
( وقَدْ ذَكَرْتُ قَوْلَ ذِي الرُّمَّةِ :
لَعَلَّ انْحِدَارَ الدَّمْعِ يُعْقِبُ رَاحَةً مِنَ الوَجْدِ أو يَشْفي شَجِيَّ البَلابِلِ
( وهَذَا الفَرَزْدَقُ أيْضًا في نَفْسِ المَعْنَى :
ألَمْ تَرَ يَوْمَ جَوِّ سُوَيْقةٍ بَكَيْتُ فَنَادَتْني هُنيْدَةُ مَا لِيَا
فَقُلْتُ لَهَا إنَّ البُكَاءَ لَرَاحَةٌ بِه يَشْتَفي مَنْ ظَنَّ أنْ لا تَلاقِيَا
* * *
( نَعَمْ؛ مَاتَ حَسَنَةُ الوَقْتِ، وكَهْفُ العِلْمِ ... يَوْمَ نَحْنُ أحْوَجُ مَا نَكُوْنُ إلَيْهِم مِنَ الطَّعَامِ والشَّرَابِ؛ في زَمَنٍ تَكَاثَرَتْ رُوَيْبِضَاتُهُ، وطُفِّفَتْ مَوَازِيْنُهُ، وأقْبَلَتْ فِتَنُهُ كأمْوَاجِ لَيْلِ الدَّالِجِيْنَ!(1/10)
وهَلْ كَانَ البَقَاءُ يَوْمًا لأحَدٍ مِنَ العَالَمِيْنَ؟! لا؛ فَهَذِه تَعْزِيَةٌ فَخُذْهَا يَوْمَ تَقِلُّ التَّعَازِي!
فَرَحِمَكَ الله : أبَا عَبْدِ الله! فإنْ عَزَّتْ حَيَاتُكَ فَلَقَدْ هَدَّتْ وَفَاتُكَ، ولَنِعمَ الرُّوْحُ رُوْحٌ ضَمَّهُ بَدَنُكَ، ولَنِعْمَ البَدَنُ بَدَنٌ ضَمَّهُ كَفَنُكَ؛ فَطِبْتَ حَيًّا ومَيِّتًا، وإنْ كَانَتْ أنْفُسُنا غَيْرَ طَيِّبَةٍ بِفِرَاقِكَ، ولا شَاكَّةٍ فِيْما اخْتَارَهُ الله لَكَ!
فَقَدْ شَهَرَكَ ربُّكَ عِنْدَ مَوْتِكَ بِفَضْلِكَ، وألْبَسَكَ رِدَاءَ عَمَلِكَ، فَلَوْ رَأيْتَ مَنْ حَضَرَكَ عَلِمتَ : أنَّ رَبَّكَ قَدْ أكْرَمَكَ وشَرَّفَكَ، والله حَسِيْبُكَ!
( وعِنْدَهُ يَقُوْلُ غَيْرِي :
ومَا الدَّهْرُ والأيَّامُ إلاَّ كَمَا تَرَى رَزِيَّةُ مَالٍ أو فِرَاقُ حَبِيْبِ
* * *
( أمَا والله! لَئِنْ فَاتَنِي أنْ أُصَلِّيَ عَلَيْكَ صَلاةَ الحَاضِرِيْنَ، لا فَاتَنِي حُسْنُ الثَّنَاءِ عَلَيْكَ قُرْبَةً لِرَبِّ العَالَمِيْنَ، و«هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ»؟!
وحَسْبِي قَوْلُهُ ? : «لا يَشْكُرُ الله مَنْ لا يَشْكُرِ النَّاسَ» التِّرْمِذِيُّ، وهُوَ تَصْدِيْقُ قَوْلِهِ تَعَالَى : «وَقَلِيْلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُوْرُ»!
* * *
( نَعَمْ؛ قَدْ يَكْتُمُ بَعْضُ الشَّاكِرِيْنَ شُكْرَهُم حَالَ حِرَاكِ المَشْكُوْرِيْنَ، رَجَاءَ حَاجَةٍ في نُفُوْسِهِم، أو لأحَاجِي في رُؤوْسِهِم؛ أمَا وَقَدْ أُسْلِمَ المُتَفَضِّلُ في قَبْرِهِ، أو سُجِّيَ فَوْقَ سَرِيْرِهِ؛ فَحِيْنَئِذٍ لا!
يَوْمَ لا خَوْفَ ولا رَجَاءَ عِنْدَ مَنْ لا حِرَاكَ لَهُ؛ إلَّا مِنَ الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوْتُ (سُبْحَانَهُ)!
* * *
((1/11)
وبَعْدَ هَذَا؛ لا يَخْفَى أهْلَ الذِّكْرِ أنَّ كَثِيْرًا مِنْ أهْلِ العِلْمِ كَتَبُوا الكَثِيْرَ عَنْ سِيْرَةِ وتَرْجَمَةِ شَيْخِنَا العُثَيْمِيْنِ رَحِمَهُ الله، لاسِيَّما طُلابُهُ وعَارِفُوْهُ، إلَّا أنَّ مَا كُتِبَ عَنْه لَمْ يَبْلُغْ بَعْضَ حَقِّهِ فَضْلًا عَنْ مُسْتَحَقِّهِ، وعُذْرُهُم (وَفَّقَ الله الجَمِيْعَ) أنَّهُم تَرْجَمُوا لَهُ حَالَ حَيَاتِهِ .
ومِنَ المَعْلُوْمِ : أنَّ مَا يُكْتَبُ للشَّخْصِ بَعْدَ مَمَاتِه أوْسَعُ آفَاقًا، وأسْلَمُ وِفَاقًا مِمَّا لَوْ كَانَ حَالَ حَيَاتِهِ (لأمْرٍ أو لآخَرَ)، فَحِيْنَئِذٍ لا عُذْرَ لِمُتَرْجِمٍ بَعْدَ الآنَ، أنْ يُلْجِمَ عَنَانَ قَلَمِهِ، أو يُرْخِي خَفَقَانَ عَلَمِهِ، أو يُحْجِمَ يَوْمَ الكَرِّ والنِّزَالِ، يَوْمَ زُفَّتْ أبْكَارُ الأقْوَالِ، لِذَا فَعَلى أهْلِ العِلْمِ أنْ يَمْتَطُوا جَوَادَ أقْلامِهِم في السِّبَاقِ بتَحْبِيْرِ سِيْرَةِ هَذَا الإمَامِ الجَلِيْلِ، واللِّحَاقِ بتَرْتِيْبِ عِلْمِهِ وعَمَلِهِ الجَلِيْلِ، والله في عَوْنِ الجَمِيْعِ، والعَمَلُ الصَّالِحُ عِنْدَهُ لا يَضِيْعُ!
* * *
فَقَمِنٌ لِشَادِي العِلْمِ إذَا مَا أجْمَعَ أمْرَهُ، وشَدَّ مِأزَرَهُ في جَمْعِ تَرْجَمَةِ شَيْخِنَا العُثَيْمِيْنِ رَحِمَهُ الله؛ أنَّهُ سَيَجِدُ مَنْهَلًا ومَعِيْنًا فَيَّاضًا يَرْوِي غُلَّةَ الطَّالِبِ، ويَشْفي عِلَّةَ السَّائِلِ، فَدُوْنَكُم سِيْرَتَهُ الزَّاخِرَةَ في أعْطَافِ المُقَدِّمَاتِ والمُؤلَّفَاتِ، ومَثَانِي الفَتَاوِى والمُصَنَّفَاتِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَظَانِّ المَعَارِفِ والتَّرَاجِمِ؟
* * *
((1/12)
و»مَنْ لا يَشْكُرُ النَّاسَ لا يَشْكُرُ اللهَ« تَعَالى؛ فَكَانَ مِنْ شُكْرِ الله تَعَالى هُنَا؛ أنْ نَشْكُرَ طُلَّابَ الشَّيْخِ رَحِمَهُ الله لمَا قَامُوا بِهِ مُؤخَّرًا مِنْ جُهْدٍ مَشْكُوْرٍ وعَمَلٍ مَبْرُوْرٍ : بِرًّا بشَيْخِهِم، وحَقًّا لإخْوَانِهِم، ونَفْعًا لأمَّتِهِم؛ وذَلِكَ في إخْرَاجِ ذَخَائِرِ الشَّيْخِ المُخَزَّوْنَةِ، ونَفَائِسِ دُرَرِهِ المَدْفُوْنَةِ في الأشْرِطَةِ العِلْمِيَّةِ، والرَّسَائِلِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتي ألْقَاهَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ خِلالِ فَتَاوِيْهِ ودُرُوْسِهِ، ولِقَاءاتِهِ ومَجَالِسِهِ؛ حَيْثُ خَرَجَتْ مُؤخَّرًا مُنَقَّحَةً مَسْمُوْعَةً، ومُفَرَّغَةً مَطْبُوْعَةً، تَحْتَ إشْرِافِ «مُؤسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ صَالِحٍ العُثَيْمِيْنَ الخَيْرِيَّةِ»، فَجَزَاهُمُ اللهُ عَنِ العِلْمِ وأهْلِهِ خَيْرًا .
* * *
( ومِنْ قَبْلُ؛ فَعَوْذًا بالله ولَوْذًا بِه! أنْ يَتَرَامَى أقْزَامٌ في غَيْرِ مَيَادِيْنِهِم، أوْ تَتَنَافَسُ أقْلامٌ في غَيْرِ فُنُوْنِهَا يَوْمَ يَتَسَارَعُ مَنْ لَيْسَ أهْلًا (في عِلْمِه وقَدْرِه)، في تَرَاجِمِ سِيْرَةِ أهْلِ العِلْمِ الكِبَارِ دُوْنَ رَوِيَّةٍ أو بَصِيْرَةٍ، ظَنًّا مِنْهُم أنَّهُم يُحْسِنُوْنَ صُنْعًا، أو يَعْرِفُوْنَ وَضْعًا، لا وَالله، مَا هَذا إحْسَانٌ ولا عِرْفَانٌ، بَلْ سُوْءٌ وبُهْتَانٌ!
وهَلْ يَقْبَلُ أحَدٌ مِنَ العَاقِلِيْنَ سِيْرَةَ الأئِمَّةِ الكِبَارِ إلَّا مِنْ أقْلامِ أسَاطِيْنِ العِلْمِ، أو مُقَارِبِيْهِم؟ فإنْ لَمْ يَكُنْ فَمِنْ طُلاَّبِه النَّابِغِيْنَ، وخَوَاصِهِ المُلازِمِيْنَ، ممَّنْ أدْرَكُوا الشَّيْخَ في دِثَارِهِ وشِعَارِهِ؟!
* * *(1/13)
ولأجْلِ هَذا وذَاكَ؛ جَهَدْتُ نَفْسِي، وأشْهَرْتُ قَلَمِي عَسَانِي أكْتُبُ مَا أحْسِبُهُ مِنْ بِرِّ الطَّالِبِ لشَيْخِه، أو إبْرَاءِ ذِمَّةٍ نَذَرَهَا في حَقِّ أشْيَاخِهِ، عِلْمًا أنَّنِي كَمَا ذَكَرْتُ آنِفًا لَنْ أُحِيْطَ بشَيْخِنَا تَرْجَمَةً حَافِلَةً، أو أدْرِكَ لَهُ سَيْرَةً كَامِلَةً، كَي تَسُرَّ النَّاظِرِيْنَ، أو تُطْرِبَ السَّامِعِيْنَ، ومَا ذَاكَ إلَّا لضِيْقِ الوَقْتِ، وذَهَابِ الفَوْتِ، مَعَ قِلَّةِ البُضَاعَةِ وقُصُوْرِ الصِّنَاعَةِ، لاسِيَّما بمَدَاخِلِ الشَّيْخِ ومَخَارِجِهِ، ومَفَاتِيْحِ حَيَاتِهِ ورَتَائِجِهِ؛ في حِيْنَ أنَّ هُنَالِكَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ وطُلَّابِهِ مَنْ هُوَ أجْدَرُ بهَذَا وأقْدَرُ، وأخَصُّ بِهِ وأشْهَرُ، ونَحْنُ وغَيْرُنَا على انْتِظَارٍ مِنْهُم، والعُهُوْدُ وُعُوْدٌ(1)!
( فعِنْدَئِذٍ؛ سَأُبْدِي لَكَ أخِي الكَرِيْمِ مَا جَادَ بِه قَلَمِي، وأفَادَ بِهِ كَلِمِي، ونَظَرَتْهُ عَيْنَاي، وسَمِعَتْهُ أُذُنَاي عَنْ شَيْخِنَا وشَيْخِ عَصْرِه بِلا مَيْنٍ، وفَقِيْهُ دَهْرِهِ والحِيْنِ، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ وَمَضَاتٍ مُخْتَصَرَةٍ، ونُتَفٍ مُعْتَصَرَةٍ، تَبْصِرَةً للسَّائِلِيْنَ، وعَوْنًا للمُتَرْجِمِيْنَ .
__________
(1) وبَعْدَ سَنَةٍ تَقْرِيْبًا مِنْ كِتَابَتِي لِهَذِه الشَّذَرَاتِ عَنْ شَيْخِنا العُثَيْمِيْنَ رَحِمَهُ، وَجَدْتُ كِتَابًا حَافِلاً بتَرْجَمَةِ الشَّيْخِ العُثَيْمِيْنِ، وهُوَ لأحَدِ طُلابِ العِلْمِ الفُضَلاءِ مِمَّنْ لَهُم مَعْرِفَةٌ كَبِيْرَةٌ بالشَّيْخِ، وهَذَا مِمَّا زَادَ التَّرُجَمَةَ دِقَّةً وشُمُوْلًا لِحَيَاةِ وعِلْمِيَّةِ الشَّيْخِ، وهُوَ مَا كَتَبَهُ الأخُ الشَّيْخُ وَلِيْدٌ الزُّبَيْرِيُّ، فَجَزَاهُ اللهُ خَيْرًا .(1/14)
أمَّا التَّوَسُّعُ في سِيْرَةِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ الله؛ ابْتِدَءًا مِنْ مَرَاحِلِ تِعْلِيْمِهِ، وانْتِهَاءً بِسَرْدِ كُتُبِهِ، وشُيُوْخِهِ، وتَلامِيْذِهِ ... إلَخْ؛ فَلَيْسَ شَرْطِي هُنَا .
* * *
( أقُوْلُ؛ وبالله التَّوْفِيْقُ :
هُوَ شَيْخُنَا العَلَّامَةُ الفَهَّامَةُ الفَقِيْهُ الأصُوليُّ شَيْخُ الإسْلامِ : أبُو عَبْدِ الله مُحَمَّدُ بنُ صَالِحِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ سُلَيْمانَ بنِ عَبْدِ الرَّحمَنِ بنِ عُثْمَانَ الوَهَيْبِيُّ التَّمِيْمِيُّ؛ مِنْ آلِ مُقْبِلٍ مِنْ آلِ الرَّيِّسِ مِنْ الوَهَبَةِ مِنْ قَبِيْلَةِ بنِي تَميْمٍ، جَدُّهُ عُثْمانُ اشْتُهِرَ بعُثَيْمِيْنَ .
وُلِدَ في (27/9/1347)، أيْ : في السَّابِعِ والعِشْرِيْنَ مِنْ رَمَضَانَ لعامِ ألْفٍ وثَلاثَمَائَةٍ وسَبْعَةٍ وأرْبَعِيْنَ للهِجْرَةِ على صَاحِبِها أفْضَلُ الصَّلاةِ وأتَمُّ التَّسْلِيْمِ.
* * *
- أمَّا شُيُوْخُهُ :
فقد أخَذَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله العِلْمَ على أيْدِي أئِمَّةٍ أجِلَّاءَ، وأكَابِرَ فُضَلاءَ، فَكَانَ على رَأسِهِم :
( الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُفَسِّرُ الفَقِيْهُ الحُجَّةُ السَّلَفِيُّ : عَبْدُ الرَّحمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِي رَحِمَهُ الله (1376)؛ حَيْثُ أخَذَ عَنْهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله أكْثَرَ العُلُوْمِ الشَّرعِيَّةِ، بَلْ يُعَدُّ الشَّيْخُ السَّعْدِي رَحِمَهُ الله مِنْ أكَابِرِ شُيُوْخِ شَيْخِنَا العُثَيْمِيْنِ، وقَدْ تَأثَّرَ بِهِ تَأثُّرًا وَاضِحًا، سَوَاءٌ في سَبْكِ التَّألِيْفِ والتَّدْوِيْنِ، أو طَرِيْقَةِ الشَّرْحِ والتَّلْقِيْنِ، لاسِيَّما إذَا عَلِمْنَا أنَّ الشَّيْخَ العُثَيْمِيْنَ رَحِمَهُ الله قَدْ لازَمَ شَيْخَهُ السَّعْدِي قَرَابَةَ أحَدَ عَشَرَ عَامًا!
((1/15)
وكَذَا أخَذَ عَنْ شَيْخِ الإسْلامِ الحُجَّةِ الرَّبَّانيِّ عَبْدِ العَزِيْزِ بنِ بَازٍ رَحِمَهُ الله (1421)، حَيْثُ قَرَأ عَلَيْهِ بَعْضَ صَحِيْحِ البُخَارِي، وبَعْضَ رَسَائِلِ شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله (728)، وكَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله يَعْتَبِرُ الشَّيْخَ ابنَ بَازٍ رَحِمَهُ الله شَيْخَهُ الثَّاني في التَّعْلِيْمِ والتَّلَقِي .
( وكَذَا أخَذَ عَنِ الشَّيْخِ العَلَّامَةِ المُفَسِّرِ الأصُوليِّ العَالمِ الرَّبَّانيِّ فَقِيْهِ المَذَاهِبِ مُحمَّدِ الأمِيْنِ بنِ مُحَمَّدِ المُخْتَارِ الشِّنْقِيْطِيِّ رَحِمَهُ الله، (1393) .
( وكَذَا أخَذَ العِلْمَ عَنْ جِلَّةٍ مِنْ أهْلِ العِلْمِ لاسِيَّما في أيَّامِ الطَّلَبِ، مِثْلُ الشَّيْخِ العَلَّامَةِ المُحَقِّقِ الأصُوليِّ السَّلَفِيِّ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بنِ عَفِيْفِي رَحِمَهُ الله (1415)، والشَّيْخِ محَمَّدِ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ المُطَوِّعِ رَحِمَهُ الله (1383)، والشَّيْخُ عَليِّ بن حمَدٍ الصَّالحِيِّ رَحِمَهُ الله (1414)، والشَّيْخِ المُحَدِّثِ عَبْدِ الرَّحمَنِ الإفْرِيْقِيِّ رَحِمَهُ الله (1377)، وغَيْرِهِم مِنَ الشُّيُوْخِ الأفَاضِلِ، والعُلَماءِ الأمَاثِلِ .
* * *
( فَشَيْخُنَا رَحِمَهُ الله : هُوَ شَيْخُ الإسْلامِ، وأحَدُ الأئِمَّةِ الأعْلامِ، نَاصِرُ السُّنَّةِ وقَامِعُ البِدْعَةِ، بَقِيَّةُ السَّلَفِ، وقُدْوَةُ الخَلَفِ، الفَقِيْهُ، الأُصُوْلِيُّ، المُفَسِّرُ، النَّحْوِيُّ!
لَهُ مُشَارَكَاتٌ في فُنُوْنٍ كَثِيْرَةٍ، ولَهُ تَخْرِيْجَاتٌ في المَذْهَبِ شَهِيْرَةٌ، حَتَّى إنَّك إذَا سَمِعْتَهُ يَتَكَلَّمُ في فَنٍّ مِنْ فُنُوْنِ العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ، قُلْتَ (بَدَاهَةً) : مَا أظُنُّ الشَّيْخَ يُحْسِنُ أمْثَلَ مِنْ هَذَا!(1/16)
وهُوَ أيْضًا رَحِمَهُ الله مَعَ هَذا التَّفَنُّنِ في عُلُوْمِ الشَّرِيْعَةِ، والنُّبُوْغِ في الفُنُوْنِ البَدِيْعَةِ، ممَّا حَصَّلَهُ مِنْ بَيْنَ أقْرَانِه، وحَازَهُ مِنْ بَيْنَ إخْوَانِهِ، كَانَ (أيْضًا) رَحِمَهُ الله : آيَةً في أُصُوْلِ الدِّيْنِ، وحجةً في الفِقْهِ المُبِيْنِ، وضَابِطًا في اللُّغَةِ والتَّبْيِيْنِ؛ حَيْثُ تَرَكَ خَلْفَهُ مِنَ العِلْمِ جِبَالًاجُدُدًا، وزَوَامِلَ مِنَ الكُتُبِ مَدَدًا، مِمَّا تَنُوْءُ بِهِ أوْلُو العُصْبَةِ مِنَ أهْلِ العِلْمِ الأشِدَّاءِ، أو أوْلُو الرُّجُوْلَةِ الأقْوِياءِ، سَوَاءٌ عَبْرَ الأشْرِطَةِ المُنَقَّحَةِ المَسْمُوْعَةِ، أو المُؤلَّفَاتِ المُخَرَّجَةِ المَطْبُوْعَةِ، ولاسِيَّما الَّتِي حَرَّرَهَا قَبْلَ وَفَاتِهِ، أو بَيَّضَهَا قَبْلَ فَوَاتِهِ، وكَذَا الفَتَاوَى الَّتِي قَرَّرَهَا وأمْلاهَا، والرَّسَائِلِ الَّتِي حَرَّرَهَا وأهْدَاهَا، أو مَا حَفِظَهُ لَهُ طُلَّابُهُ مِنْ بَدِيْعِ العِلْمِ والفَوَائِدِ، وعَوِيْصِ المَسَائِلِ والشَّوَارِدِ، مَا تَسْتَحِقُّ أنْ تُنْظَمَ في عِقْدٍ مِنَ الزَّبَرْجَدِ، أو مَوْسُوْعَةٍ مِنَ العِلْمِ المُسَدَّدِ، وذَلِكَ ضِمْنَ مُؤلَّفٍ بَدِيْعٍ، جَامِعٍ للجَمِيْعِ، وهُوَ كَذَلِكَ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا شَغَلَ النَّاسَ بَعْدَهُ مِنَ المَعَارِفِ والعُلُوْمِ!
* * *
( كَانَ رَحِمَهُ الله عَالي القَدْرِ، سَامِي الذِّكْرِ، ثِقَةً أمِيْنًا، حُجَّةً مَتِيْنًا، صَادِقًا فِيْمَا يَقُوْلُهُ، شَاهِدًا لمَا يَحْكِيْهِ ويُحَصِّلُهُ، صَنَّفَ كُتُبًا كَثِيْرَةً، وجَمَعَ عُلُوْمًا وَفِيْرَةً، وانْتَفَعَ بِه خَلْقٌ عَظِيْمٌ؛ ولازَمَهُ جَمْعٌ كَرِيْمٌ، لا يُحْصَوْنَ ولا يُعَدَّوْنَ!(1/17)
وطَارَتْ فَتَاوَاهُ بِلا جَنَاحَيْنِ، وسَارَ بِها الرُّكْبَانُ بين المَشْرِقَيْنِ، صَاحِبُ الفُتْيا الوَاسِعَةِ، والتَّصَانِيْفِ النَّافِعَةِ، فَتَصَانِيْفُه في العَالَمِيْنَ دَائِرَةٌ، وكُتُبُه في الخَافِقِيْنَ سَائِرَةٌ مَا بَيْنَ تَألِيْفٍ مُفِيْدٍ، أو شَرْحٍ سَدِيْدٍ، أو تَعْلِيْقٍ مَجِيْدٍ ...!
( وكَانَ رَحِمَهُ الله عَالِمًا بَارِعًا في عُلُوْمٍ كَثِيْرَةٍ، ورَاسِخًا في فُنُوْنٍ شَهِيْرَةٍ، لاسِيَّما في مَذْهَبِ أبِي عَبْدِ الله الإمَامِ أحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ الله (241)، فَهُوَ إمَامُ الحَنَابِلَةِ في عَصْرِهِ، بَلْهَ عَالِمُهُم ومُدَرِّسُهُم في مِصْرِهِ، ونَاشِرُ المَذْهَبِ بِلا شِقَاقٍ، ومُحْي السُّنَّةِ في الأفَاقِ، وكَانَ حَسَنَ الكَلامِ في مَسَائِلِ الخِلافِ، وضَابِطًا لمَوَاقِعِ الائْتِلافِ، كَمَا لَهُ بِخَطِّ يَدِه كِتَابَاتٌ جِيَادٌ، ومُرَاسَلاتٌ وتَقْرِيْظَاتٌ فِرَادٌ؛ وفي لَفْظِهِ بَرَاءَةٌ صَرِيْحَةٌ، وفي خَطِّهِ رَدَاءةٌ مَلِيْحَةٌ!
( وقَدْ قِيْلَ في مِثْلِهِ ومِثَالِهِ :
اعْذُرْ أخَاكَ على رَدَاءَةِ خَطَّهِ واغْفِرْ رَدَاءَتَهُ لجَوْدَةِ ضَبْطِهِ
فالخَطُّ لَيْسَ يُرَادُ مِنْ تَعْظِيْمِهِ ونِظَامِهِ إلاَّ إقَامَةُ سِمْطِهِ
وإذَا أبَانَ عَنِ المَعَاني خَطُّهُ كَانَتْ مَلاحَتُهُ زِيَادَةَ شَرْطِهِ
* * *
( ولَهُ في المذْهَبِ تَخَارِيْجُ حَسَنةٌ، ولَهُ مَعَ المَذَاهِبِ تَرَاجِيْحُ بَسَنَةٌ، كَمَا جَمُلَ بِه المَذْهَبُ وَزَانَ، وبشُرُوْحِهِ ظَهَرَ وبَانَ، ولَهُ في المذْهَبِ تَحْقِيْقَاتٌ عَدِيْدَةٌ، وتَرْجِيْحَاتٌ سَدِيْدَةٌ .(1/18)
فَدُوْنَكَ كِتَابَهُ العُجَابَ المُسْتَطَابَ «الشَّرْحَ المُمْتِعَ»، كُلُّ ذَلِكَ أخْذًا بنَاصِيَةِ الدَّلِيْلِ، وأزِمَّةِ التَّعْلِيْلِ، لا بالتَّعَصُّبِ والتَّقْلِيْدِ، ولا بالغُلُوِّ والتَّشْدِيْدِ، كَمَا لَهُ مُشَارَكَاتٌ أدَبِيَّةٌ شِعْرِيَّةٌ ، لاسِيَّمَا إنْشَادُ المَنْظُوْمَاتِ الفِقْهِيَّةِ والأُصُوْلِيَّةِ، وغَيْرِهَا .
* * *
- وقَدِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْه الكَلِمَةُ، مِنَ الخَاصَّةِ والعَامَّةِ، وقَصَدَهُ الطَّلَبَةُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، ولازَمُوْهُ في كُلِّ زَمَانٍ، فقَامَتْ سُوْقُ العِلْمِ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ وعِنْدَ الخِلافِ يُرْجَعُ إلَيْهِ، فَمَرَّةً يَأخُذُ بأيْدِي الشُّدَاةِ إلى وَاحَاتِ اللُّغَةِ ابْتِدَاءً بـ«الآجُرُّوْمِيَّةِ»، وانْتِهَاءً بشَرْحِ «ألْفِيَّةِ ابنِ مَالِكٍ»، ما يَقْطَعُ بتَمَكُّنِهِ في اللُّغَةِ والنَّحْوِ، واقْتِيَادِهِ لنَاصِيَتِهَا خَطًّا ولَفْظًا .
* * *
- ومَرَّةً يَبْسُطُ لهُم «الكَافِي» في الفِقْهِ شَرْحًا وتَعْلِيْقًا، تَرْجِيْحًا وتَحْقِيْقًا، تَصْحِيْحًا وتَقْرِيْرًا، تَوْضِيْحًا وتَحْرِيْرًا، ممَّا يَدُلُّ على عُلُوِّ كَعْبِهِ في الفِقْهِ الحَنْبَليِّ، والخِلافِ الجَليِّ، وقُوَّتِهِ في الاسْتِدْلِ، وسُرْعَةِ اسْتِحْضَارِهِ للأقْوَالِ .
* * *
- ومِنْ قَبْلِهِ حِفْظُهُ لكِتَابِ «زَادِ المُسْتَنْقِعِ» في الفِقْهِ الحَنْبَليِّ؛ والتَّرجِيْحِ العَلي؛ بحَيْثُ اعْتَنَى بِهِ عِنَايَةً كَبِيرَةً، فَأخَذَ مِنْهُ في الشَّرْحِ حُظْوَةً شَهِيْرَةً، فأعَادَ شَرْحَهُ مَرَّتَيْنِ، وأطَالَ بَيْنَهُما بِلا بَيْنٍ .
فَكَانَ لشَيْخِنَا رَحِمَهُ الله مَعَ هَذَا الكِتَابِ وَقَفَاتٌ وتَرْجِيْحَاتٌ، نَظَرَاتٌ وتَوْضِيْحَاتٌ، لِذَا أخْرَجَهُ في شَرْحٍ ممْتِعٍ، وثَوْبٍ مُبْدِعٍ، تَحْتَ عُنْوَانِ : «الشَّرْحِ المُمْتِعِ»، في خَمْسةَ عَشَرَ مُجلَّدًا!(1/19)
وهَذَا الكِتَابُ يُعَدُّ مَعْلَمَةً فِقْهِيَّةً، ومَأدَبَةً عِلْمِيَّةً، بَحْرٌ جَامِعٌ، ومَنْهَلٌ نَافِعٌ، مُرَادُ الطُّلَّابِ، ومَفَادٌ للجُلَّابِ، سَهْلُ العِبَارَةِ، وَاضِحُ الإشَارَةِ، مَنْ طَالَعَهُ لا يَشْبَعُ، ومَنْ تَابَعَهُ لا يُقْطَعُ، فِيْهِ صُنُوْفُ الفُنُوْنِ، وعِنْدَهُ تُرْفَعُ الظُّنُوْنُ، الدَّلِيْلُ قَائِدُهُ، والتَّعْلِيْلُ رَائِدُهُ، حُلْوُ المُرَاسَلَةِ، جَيِّدُ المُسَاجَلَةِ، فِيْهُ اسْتِطْرَادَاتٌ نَفِيْسَةٌ، وتَفَارِيْعُ لُغُوِيَّةٌ أنِيْسَةٌ، بَلْهَ كِتَابُ فِقْهٍ مُسْتَطَابٌ، وشَرْحُ فِقِيْهٍ عُجَابٌ، وَضَعَ الله لَهُ القَبُوْلَ في حَيَاتِهِ وبَعْدَ المَمَاتِ، وبِيْعَ بأرْخَصِ الأثْمانِ وأجْوَدِ الطَّبَعَاتِ، تَلَقَّفَهُ سَائِرُ الطُّلَّابِ، على اخْتِلافِ المَذَاهِبِ والأسْبَابِ، واسْتَحْسَنَهُ أهْلُ العِلْمِ دُوْنَ ارْتِيَابٍ، والله يُؤتي فَضْلَهُ مَنْ يَشَاءُ!
ومَعَ هَذَا ففِيْهِ مَلْحُوْظَاتٌ وأحْرُفٌ يَسِيْرَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ، ذَكَرْتُها في جُزْءٍ صَغِيْرٍ تَحْتَ عُنْوَانِ : «الاسْتِدْرَاكِ المُقْنِعِ على الشَّرْحِ المُمْتِعِ»، لم يُطْبَعْ بَعْدُ!
* * *
- ومَرَّةً يَشْرَحُ «صَحِيْحَ البُخَارِي»، شَرْحًا يُطْرِبُ سَمْعَ القَارِئ، ويُضِيءُ بِهِ كالكَوَاكِبِ الدَّرَارِي، ومَرَّةً يُرَوِّضُ النُّفُوْسَ للتَّهْذِيْبِ، على كُتُبِ الآدَابِ والتَّأدِيْبِ : تَنْكِيْتًا وشَرْحًا، تَوْجِيْهًا وتَوْضِيْحًا، كـ«رِيَاضِ الصَّالِحِيْنَ» وغَيْرُهَا الكَثِيْرُ الكَثِيْرُ!
* * *(1/20)
- وقَبْلَ هَذَا كُلِّهِ يُرَسِّخُ التَّوْحِيْدَ في قُلُوْبِ الطَّالِبِيْنَ مُبْتَدِءًا بِكُتُبِ شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ عَبْدِ الوَهَّابِ رَحِمَهُ الله؛ حَتَّى يَرْتَقِي بِهِم إلى مَدَارِجِ كُتُبِ شَيْخَي الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَةَ، وتَلْمِيْذِهِ ابنِ القَيِّمِ رَحِمَهُمَا الله، وهَكَذَا دَوَالِيْكَ في غَيْرِ مَا ذُكِرَ مِنْ وَاحَاتِ العِلْمِ ورِيَاضِ التَّعْلِيْمِ!
- ومِنْ مُسْتَطَابَاتِ كُتُبِهِ رَحِمَهُ الله : شَرْحُهُ على كِتَابِ «العَقِيْدَةِ الوَاسِطِيَّةِ» لابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله (728)، وكَذَا شَرْحُهُ على كِتَابِ «التَّوْحِيْدِ» لابنِ عَبْدِ الوَهَّابِ رَحِمَهُ الله (1206)، تَحْتَ عُنْوَانِ : «القَوْلِ المُفِيْدِ على كِتَابِ التَّوْحِيْدِ» .
وشَرْحُهُ رَحِمَهُ الله في ذَيْنِ الكِتَابَيْنِ، كَانَ غَايَةً في التَّحْقِيْقِ والتَّحْرِيْرِ، نِهايَةً في التَّدْقِيْقِ والتَّحْبِيْرِ، ففِيْهِ تَقْسِيْماتٌ بَدِيْعَةٌ، وتَرْتِيْبَاتٌ مَتِيْعَةٌ، سَلَفِيُّ المَذْهَبِ، صَافي المَشْرَبِ، يَصُوْلُ فِيْهِما ويَجُوْلُ، ويُدَلِّلُ فِيْما يَكْتُبُ ويَقُوْلُ، جَرِئٌ بعِلْمٍ، وثَبْتُ بحِلْمٍ، شَبِيْهٌ بابنِ تَيْمِيَّةَ في المُنَازَعَةِ، ومَثِيْلٌ لابنِ القَيِّمِ في المُقَارَعَةِ، طَوِيْلُ الشَّرْحِ والنَّفَسِ، رَاسِخُ التَّقْعِيْدِ والأسُسِ، سُبِقَ في الشَّرْحِ لكِنَّهُ لحِقَ، عَارِفٌ بمَقَالاتِ أهْلِ الفِرَقِ، والله حَسَيْبُهُ، ولا نُزَكِّي على الله أحَدًا!
- ويَصْدُقُ فِيْهِ قَوْلُ القَائِلِ :
مَنْ لي بِمِثْلِ مَشْيِكَ المُدَلَّلِ تَمْشِي رُوَيْدًا وتَجِيءُ في الأوَّلِ
* * *(1/21)
- وهَكَذَا؛ تَرَاهُ رَحِمَهُ الله يَصُوْلُ ويَجُوْلُ كَاللَّيْثِ في مَيَادِيْنِ العِلْمِ : مُعَلِّمًا ومُتَعلِّمًا، دَارِسًا ومُدَرِّسًا؛ فَلا تَفْتَرُ لَهُ عَزِيْمَةٌ، ولا تَضْعَفُ لَهُ إرَادَةٌ، ولا تَكِلُّ لَهُ هِمَّةٌ ... وهَلْ دَرْسُهُ وإفْتَاؤُهُ في الحَرَمِ المَكِّيِّ في شَهْرِ رَمَضَانَ في سَنَةِ وَفَاتِهِ (1421) وهُوَ طَرِيْحُ الفِّرَاشِ عَنَّا ببَعِيْدٍ؟!
فَهُوَ بَحْرٌ لا سَاحِلَ لَهُ، وجَهْبَذٌ لا يُشَقُّ لَهُ غُبَارٌ، فأنَّى جِئْتَهُ وَجَدْتَّهُ؛ يَوْمَ فَازَ بقَصَبِ السَّبْقِ، وحَازَ القِدْحَ المُعلى في حَلَبَةِ العِلْمِ والتَّعْلِيْمِ!
إذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوْهَا فإنَّ القَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَامِ
* * *
- وقَدْ تَخَرَّجَ بِهِ أئِمَّةٌ أعْلامٌ، ومَشَاهِيْرُ في الإسْلامِ، مِنْ أهْلِ العِلْمِ الفُضَلاءِ، والوُجَهَاءِ الأكْفَاءِ، وكَذَا أسَاتِذَةُ الجَامِعَاتِ والكُلِّيَاتِ، وأعْيَانُ البِلادِ والوَزَارَاتِ؛ ومَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ أحَدٌ يَسْتَطِيْعُ أنْ يَتَكَلَّمَ بَيْنَ يَدِيْه، أو يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ : هَيْبَةً ووَقَارًا، إجْلالًا وتَقْدِيْرًا، لِغَزَارَةِ بُحُوْرِ عِلْمِهِ، وقُوَّةِ حُجَّتِهِ وفَهْمِهِ، وحِدَّةِ فِعْلِهِ وقَوْلِهِ، ووُفُوْرِ ذَكَائِهِ وعَقْلِهِ، والله حَسِيْبُهُ!
وفَوْقَ هَذَا رَأى النَّاسُ مِنْ تَلامِيْذِهِ مَنْ نَاظَرَ وتَمَرَّسَ، وأفْتَى في حَيَاتِهِ ودَرَّسَ، فَأَكْرِمْ بِثِمَارٍ جَنَتْهَا يَدَاكَ بَعْدَ أنْ رَعَتْهَا عَيْنَاكَ!
* * *(1/22)
- وكَانَ رَحِمَهُ الله عَظِيْمَ الحُرْمَةِ، وَافِرَ الجَلالَةِ، ذَا حُشْمَةٍ ووَجَاهَةٍ عِنْدَ السُّلْطَانِ والأعْيَانِ، ومَعَ هَذَا أيْضًا لَمْ يَفْتَأ رَحِمَهُ الله يَتَألَّفُ الغُرَبَاءَ ويُقَرِّبُهُم، ويتَلَطَّفُ بِهِم، حَتَّى صَارَ مِنْ أخِصَّاءِ تَلامِيْذِهِ بَعْضُ العَجَمِ، وكَانَ يَتَفَقَّدُهُم، ويَسْألُ عَنْ حَالِهِم .
ولَقَدْ صَحِبَهُ ثُلَّةٌ مِنْ أهْلِ المَذَاهِبِ فَرَجَعُوا عَنْ مَذَاهِبِهِم لِمَا شَاهَدُوْهُ فِيْهِ مِنْ فَقَاهَةِ النَّفْسِ، وفِقْهِ الشَّخْصِ عِنْدَ تَقْرِيْرِ الدَّلِيْلِ، وتَحْرِيْرِ التَّعْلِيْلِ، ومَا ذَاكَ إلَّا أنَّ الدَّلِيْلَ الصَّحِيْحَ جَلِيْسُهُ، والتَّعْلِيْلَ الصَّرِيْحَ أنِيْسُهُ!
كَمَا كَانَ رَحِمَهُ الله مُتَوَاضِعًا في مَلْبَسِه ومَأكَلِهِ لا تَرَى عَلَيْهِ أثَرَ الفَارِهِيْنَ، أو لُبْسَةَ المُتَنَعِّمِيْنَ؛ بَلْ أثَرُ الزُّهْدِ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ، وعَلامَةُ الخُشُوْعِ على قَسَمَاتِهِ سَافِرٌ!
* * *
وقَدِ اجْتَمَعَ حَوْلَهُ طَلَبَةُ العِلْمِ مِنْ كُلِّ فَوْجٍ عَمِيْقٍ، وقَصَدَهُ التَّلامِيْذُ مِنْ كُلِّ نَسْلٍ عَرِيْقٍ، واحْتَوَشَهُ رُوَّامُ العِلْمِ مِنْ زَوَايَا الأرْضِ، وسَقَاهُم سَلْسَبِيْلَ العِلْمِ كالحَوْضِ؛ حَيْثُ بَنَى لَهُم المَسَاكِنَ والدُّوْرَ، وأجْرَى عَلَيْهِم الأمْوَالَ الكَثِيْرَةَ، والمَعَائِشَ الوَفِيْرَةَ ... حَتَّى غَدَتْ مَدِيْنَةُ «عُنَيْزَةَ» مَعْقَلًاللعِلْمِ والتَّعْلِيْمِ، فلْيَفْخَرْ أهْلُهَا على العَالَمِيْنَ؛ إذَا تَفَاخَرَتْ طَيٌّ وتَمِيْمٌ!
* * *(1/23)
- أمَّا كُتُبُ الشَّيْخِ وتَصَانِيْفُهُ فَشَيءٌ آخَرَ، تَصْلُحُ أنْ تَكُوْنَ مَكْتَبةً شَامِلَةً، ومَعْلَمَةً كَامِلَةً، لغَالِبِ العُلُوْمِ الإسْلامِيَّةِ، والفُنُوْن المَعْرِفِيَّةِ، بَلْهَ قَدْ يَعْجَزُ البَلِيْغُ ذِكْرَها ووَصْفَهَا، ويَتْعَبُ البَاحِثُ عَدَّهَا ورَصْفَهَا، بَلْ للشَّيْخِ رَحِمَهُ الله مِنَ الفَتَاوَى الخَاصَّةِ والعَامَّةِ، والرَّسَائِلِ السَّائِرَةِ والهَامَّةِ، مَا يَعْجَزُ الخَوَاصُ مِنْ تَقَصِّيْهَا، فَضْلًا عَنْ تَفَصِّيْهَا.
* * *
( فَقِفَا نَذْكُرُ كَشَّافَ أسْمَاءِ كُتُبِ شَيْخِنا رَحِمَهُ الله مِمَّا يَقْطَعُ بِعُلُوِّ كَعْبِهِ، وغَزَارَةِ عِلْمِهِ، ونُبُوْغِ تَفَنُّنِهِ، وجِمَاعِ مَعَارِفِهِ ... مَا سَنَحَتْ بِهِ الذَّاكِرَةُ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ :
فَكَانَ مِنْهَا (لا كُلُّهَا) :
«القَوَاعِدُ المُثْلَى في صِفَاتِ الله وأسْمَائِهِ الحُسْنَى»، و«عَقِيْدَةُ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَة»، و«فَتْحُ رَبِّ البَرِيَّةِ بتَلْخِيْصِ الحَمَوِيَّةِ»، و«تَقْرِيْبُ التَّدْمُرِيَّةِ»، و«شَرْحُ العَقِيْدَةِ السَّفَّارِيْنِيَّةِ»، و«شَرْحُ العَقِيْدَةِ الوَاسِطِيَّةِ»، و«القَوْلُ المُفِيْدُ شَرْحُ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ»، و«التَّعْلِيْقُ على السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ» .
و«المَنْهَجُ لِمُرِيْدِ العُمْرَةِ والحَجِّ»، و«تَسْهِيْلُ الفَرَائِضِ»، و«الشَّرْحُ المُمْتِعُ شَرْحُ زَادِ المُسْتَقْنِعِ»، و«أصُوْلُ التَّفْسِيْرِ»، و«الأُصُوْلُ مِنْ عِلْمِ الأُصُوْلِ»، و«مُصْطَلَحُ الحَدِيْثِ»، و«مَنْظُوْمَةُ القَوَاعِدِ والأصُوْلِ» .(1/24)
و«مَجَالِسُ شَهْرِ رَمَضَانِ»، و«مَجْمُوْعُ فَتَاوَى ورَسَائِلِ الشَّيْخِ» وهَذَا الأخِيْرُ مِنْ أجْمَعِهَا وَضْعًا، وأكْثَرِهَا نَفْعًا؛ حَيْثُ بَلَغَتْ مُجَلَّدَاتُهُ أرْبَعةً وعِشْرِيْنَ وهُوَ لمَّا يَنْتَهِ بَعْدُ، وغَيْرُهَا الكَثِيْرُ مَا بَيْنَ كُتُبٍ وكُتَيِّبَاتٍ سَائِرَةٍ، ورَسَائِلَ وفَتَاوَى ظَاهِرَةٍ، وشُرُوْحٍ لِكَثِيْرٍ مِنْ كُتُبِ العِلْمِ، ومِنْ وَرَائِهَا ذَخَائِرُ عِلْمِيَّةٌ مُسَجَّلَةٌ ضِمْنَ شَرَائِطَ صَوْتِيَّةٍ، لَمْ تَزَلْ مُخَبَّأةً عَنْ كَثِيْرٍ مِنْ طُلابِ العِلْمِ .
* * *
( أمَّا طَرِيْقَةُ شَرْحِهِ ودُرُوْسِهِ :
فلِشَيْخِنَا رَحِمَهُ الله طَرِيْقَةٌ في الشَّرْحِ آخِذَةٌ برِقَابِ العِلْمِ والفَهْمِ، ودُرَرِ الفَوَائِدِ والشَّوَارِدِ، تَكَادُ تَنْتَظِمُ مِنْ حُسْنِهَا في عُقُوْدٍ بهِيَّةٍ، وتُعَلَّقُ مِنْ جَمَالهَا في مِشْكَاةٍ مُضِيَّةٍ، سَهْلَةٌ مَلِيْحَةٌ، وَاضِحَةٌ صَرِيحَةٌ، لا يَمَلُّهَا الطَّالِبُ، ولا يَرْغَبُ عَنْهَا الرَّاغِبُ، فَهِيَ باخْتِصَارٍ، كَذَا :
كَانَ رَحِمَهُ الله في شَرْحِهِ : سَهْلَ العِبَارَةِ، قَوِيَّ الإشَارَةِ، قَدْ أخَذَ بِنَاصِيَةِ اللُّغَةِ فِيْمَا يَقُوْلُ ويَكْتُبُ، يُقَرِّبُ البَعِيْدَ ويُرَسِّخُ القَرِيْبَ، ولَهُ فِيْمَا يَقُوْلُ ويَشْرَحُ تَصْوِيْرٌ بَلِيْغٌ للمَسَائِل مِمَّا زَانَتْ بِه دُرُوْسُهُ وفَاقَتْ؛ حَيْثُ كَانَ حَرِيْصًا ومُكْثِرًا مِنْ تَقْرِيْبِ المَسَائِلِ وتَهْذِيْبِ الدَّلائِلِ للطُّلابِ مِنْ خِلالِ تَصْوِيْرِها بأمْثِلَةٍ سَهْلَةٍ يَفْهَمُهَا الجَمِيْعُ، ويَسْتَمْلِحُهَا المُبْصِرُ والسَّمِيْعُ!(1/25)
وكَانَ رَحِمَهُ الله لا يَذْهَبُ لِمَسْألةٍ أو يَذْكُرُ حُكْمًا أو يُرَجِّحُ قَوْلًا إلَّا بِدَلِيْلِهِ الشَّرْعِيِّ، وتَعْلِيْلِهِ المُعْتَبَرِ الوَضْعِي، فَكَانَ غَايَةً في تَذْلِيْلِ صِعَابِ المَسَائِلِ العَقَدِيَّةِ، وتَرْوِيْضِ الأمْثِلَةِ الفِقْهِيَّةِ، يَقُوْدُهَا بتَصْوِيْرِ المَعَاني، ويُقَرِّبُها بِجَمالِ المَبَاني .
ومَعَ هَذَا كَانَ يَأخُذُ بألْبَابِ الطُّلابِ الحَاضِرِيْنَ، شَحْذًا وهِمَّةً للسَّائِلِيْنَ، فَقَلِيْلًا مَا يَغْفَلُ الطَّالِبُ منَّا، أو يَفْتُرُ في الدَّرْسِ عنَّا.
( فالشَّيْخُ لا يَسْأمُ في مَثَانِي دَرْسِه مِنْ مُشَارَكَةِ الطُّلابِ، فَمَرَّةً يَسْألُهُم، ومَرَّةًّ يَطْلُبُ مِنْهُم البُحُوْثَ وتَحْرِيْرَ بَعْضِ المَسَائِلِ، ومَرَّةً يَدْفَعُهُم للمُشَارَكَةِ في الدَّرْسِ حَثًّا مِنْهُ على تَعْوِيْدِهِم على الاسْتِنْبَاطِ .
وهَكَذَا كَانَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ الله : مُعَلِمًا ومُوَجِّهًا ومُرَبِّيًّا، وقَبْلَ ذَلِكَ كُلِّه كَانَ للطُّلابِ أبًا نَاصِحًا مُشْفِقًا!
* * *
فَكُلُّ مَا هُنَا (وهُنَاكَ) مِمَّا ذُكِرَ مِنْ شَمَائِلِ وسَجَايَا الشَّيْخِ العِلْمِيَّةِ والعَمَلِيَّةِ كَانَتْ مِنَ الله تَعَالى أوَّلًا مِنْحَةً ومِنَّةً، ثُمَّ كَانَتْ تَأثُّرًا كَبِيْرًا بطَرِيْقَةِ شَيْخِه عَلاَّمَةِ القَصِيْمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ نَاصِرٍ السَّعْدِيِّ رَحِمَهُ الله المُتَوَفَّي عَامَ (1376)، وقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ .
* * *
( أمَّا وَفَاتُهُ رَحِمَهُ الله :
فَلا نَامَتْ أعْيُنُ الجُهَلاءُ، يَوْمَ نَعَى النَّاسُ مَوْتَ شَيْخِ الإسْلامِ، وحَسَنَةِ الوَقْتِ والأيَّامِ، العَالمِ الرَّبَّانِيِّ!(1/26)
فَعِنْدَهَا بَكَتْ عَلَيْهِ العُيُوْنُ بِأسْرِهَا، وحُقَّ لَهَا البُكَاءُ، وعَمَّ مُصَابُهُ جَمِيْعَ المُحِبِّيْنَ، فأَيُّ دَمْعٍ مَا سُجِمَ، وأيُّ رُكْنٍ مَا هُدِمَ، وأيُّ فَضْلٍ مَا عُدِمَ؟! يَالَهُ مِنْ خَطْبٍ مَا أعْظَمَهُ، ومُصَابٍ مَا أفْخَمَهُ!
فَلَيْتَ شِعْرِي! لَوْ رَأيْتَنَا ونَحْنُ نَتَعَازَى؛ وكُلُّنَا مُصَابٌ، فَعِنْدَهَا سَتَعْلَمُ : أنَّ المُعَزِّيَّ هُوَ المُصَابُ؟!
المَرْءُ رَهْنُ مَصَائِبٍ مَا تَنْقَضِي حَتَّى يُوَسَّدَ جِسْمُهُ في رَمْسِهِ
فَمُؤجَّلٌ يَلْقَى الرَّدَى في غَيْرِهِ ومُعَجَّلٌ يَلْقَى الرَّدَى في نَفْسِهِ
* * *
( وأيْمُ الله! ذَهَبَ حَسَنَةُ الوَقْتِ، والأمَّةُ بَعْدُ فَقِيْرَةٌ إلى عِلْمِه، أمَّا طُلَّابُهُ في «عُنَيْزَةَ» فَلا تَسْألْ! فَحَسْبُهُمُ الله ونِعْمَ الوَكِيْلُ، فَمَنْ لَهُمْ بَعْدَهُ غَيْرُ الله؟ ومَنْ يَأْوِيْهِم بَعْدَهُ غَيْرُ الله؟ كَأنَّهُم ضَالَةٌ في أرْضٍ مُسْبِعةٍ شَاتِيَةٍ!
( وكَأنِّي بامْرِئِ القَيْسِ يَصِفُ أطْلالَهُم :
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ ومَنْزِلِ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُوْلِ فَحَوْمَلِ
تَرَى بَعَرَ الآرَامِ في عَرَصَاتِها وقِيعَانِها كَأنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ
وُقُوفًا بِها صَحْبِي عَليَّ مَطِيَّهُمُ يَقُوْلُوْنَ : لا تَهْلَكْ أَسَىً وتَجَمَّلِ
فَدَعْ عَنْكَ شَيْئًا قَدْ مَضَى لِسَبِيلِهِ ولَكِنْ على مَا غَالَكَ اليَوْمَ أقْبِلِ
وَقَفْتُ بِها حَتَّى إذَا ما تَرَدَّدَتْ عَمَايةُ مَحْزُونٍ بِشَوْقٍ مُوَكَّلِ
وإنَّ شِفائِي عَبْرةٌ مُهْرَاقَةٌ فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ؟!
* * *
((1/27)
فَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الشَّيْخُ الكَبِيْرُ مِنَ العُمُرِ أرْبَعَةً وسَبْعِيْنَ عَامًا قَامَ يُكَابِدُ وَقْتَئِذٍ الأمْرَاضَ والأوْصَابَ الآذِنَةَ بالرَّحِيْلِ والتِّرْحَالِ، على ضَعْفٍ مِنْهُ واسْتِثْقَالٍ، يَوْمَ عَلِمَ أنَّ الَّذِي اعْتَرَاهُ مَرَضٌ اسْتَعْصَتْ أدْوَاؤُهُ على أرْبَابِ الطِّبِّ، وتَصَاغَرَتْ عِنْدَهُ هَيْمَنَةُ وكِبْرِيَاءُ عُظَمَاءِ الدُّنْيَا، ومُلُوْكِ الأرْضِ، فَلا عِلاجٍ عَرَفُوْهُ، ولا سَبَبٍ أدْرَكُوْهُ! إنْ هِيَ إلَّا ظُنُوْنٌ لا فُنُوْنٌ، وحَالَ حِيْنَئِذٍ بَيْنَهُ وبَيْنَ العِلاجِ إيْمَانُهُ؛ يَوْمَ تَقَطَّعَتِ الأسْبَابُ، إلَّا مِنْ رَبِّ الأرْبَابِ الرَّحِيْمِ التَّوَّابِ!
وفي لَيْلَةِ الخَمِيْسِ النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ شَوَّالٍ لِعَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمَائَةٍ وإحْدَى وعِشْرِيْنَ للهِجْرَةِ؛ حِيْنَ كَانَ الشَّيْخُ تَحْتَ العِنَايَةِ والعِلاجِ في إحْدَى المُسْتَشْفَيَاتِ الكُبْرَى في مَدِيْنَةِ جُدَّةَ؛ إذْ بالمُسْلِمِيْنَ يَتَلَقَّوْنَ خَبَرَ وَفَاتِهِ ... فإنَّا لله وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُوْنَ!
* * *
( فعِنْدَها تَسَامَعَ النَّاسُ بِأنَّ الصَّلاةَ على فَقِيْدِ الأمَّةِ وحَسَنَةِ الوَقْتِ، سَتَكُوْنُ في المَسْجِدِ الحَرَامِ بِمَكَّةَ شَرَّفَهَا الله، وذَلِكَ عَصْرَ يَوْمِ الخَمِيْسِ مِنَ اليَوْمِ الثَّانِي مِنْ وَفَاتِه رَحِمَهُ الله، (16/10/1421) .
وبَعْدَ أنْ أشْرَقتْ شَمْسُ الخَمِيْسِ تَسَابَقَ النَّاسُ زَرَافَاتٍ ووُحْدَانًا رِجَالًاورُكْبَانًا يَتَدَافَعُوْنَ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْبٍ، وقَدْ رَكِبُوا الصَّعْبَ والذَّلُوْلَ، لا يَلْوُنَ على أحَدٍ، ولا يَسْتَأخِرُوْنَ!
( وكَأنِّي بالتَّمِيْمِيِّ قَدْ وَصَفَهُم بقَوْلِهِ :
لا يَسْألُوْنَ أخَاهُم حِيْنَ يَنْدُبُهُم في النَّائِبَاتِ على مَا قَالَ بُرْهَانَا
* * *(1/28)
فَكَأنِّي بالطُّرُقَاتِ قَدْ ضَاقَتْ بِهِم، وبالمَسْجِدِ الحَرَامِ قَدِ ازْدَحَمَ بِهِم؛ حَتَّى أنَّكَ لا تَجِدُ مَوْضِعَ قَدَمٍ وَقْتَئِذٍ، ولِسَانُ حَالِهِم يَقُوْلُ :«بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ الجَنَائِزُ» فأَكْرِمْ!
( وفي مِثْلِ هَذَا قَالُوا :
مَنْ شَاءَ بَعْدَكَ فَلْيَمُتْ فَعَلَيْكَ كُنْتُ أُحَاذِرُ
إنِّي وغَيْرِي لا مَحَا لَةَ حَيْثُ صِرْتَ لصَائِرُ
* * *
( وأخِيْرًا؛ فَهَذَا مَا جَادَ بِه القَلَمُ على ارْتِجَالٍ، وأدْلَتْ بِهِ الذَاكِرَةُ على كُلِّ حَالٍ، وتَضَوَّعَ بِهِ الشَّذَا الفَيَّاحُ، وتَنَاثَرَتْ عِنْدَهُ اللَّآلئ المِلاحُ، فَلا جَرَمَ أنْ كَانَ الخَطَأ حَالَفَنِي، أو الغَلَطُ رَافَقَنِي، فَذِي بِضَاعَةُ مَنْ خُلِقَ مِنْ عَجَلٍ، ونَبْرةُ بَنَانِهِ على وَجِلٍ!
والأخُ مَنْ أسْدَى النَصِيْحَةَ، وكَتَمَ الفَضِيْحَةَ، والعِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أهْلِهِ، والله يَغْفِرُ لي ولَوَالِدَيَّ، ولمَشَايخِي وعَامَّةِ المُسْلِمِيْنَ، آمِيْنَ!
* * *
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رَسُوْلِه الأمِيْنِ وكَتَبَهُ مُعَزِّيًا مُصَابًا يَوْمَ الخَمِيْسِ قُبَيْلَ المَغْرِبِ السَّادِسُ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ لِعَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمَائَةٍ ووَاحِدٍ وعِشْرِيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ على صَاحِبِها أفْضَلُ الصَّلاةِ، وأتَمُّ التَّسْلِيْمِ
( 16/10/1421هـ )
وكَتبَهُ
الطَّائِفُ المَأنُوْسُ
شَيْخُ الطَّبَقَةِ
حُمُوْدٌ العُقْلاءُ
المولود (1346)، المُتَوَفَّى (5/11/1422)
عَنْ عُمُرٍ يُنَاهِزُ السَّبْعَةَ والسَّبْعِيْنَ
تَألِيْفُ(1/29)
الحَمْدُ لله الَّذِي كَتَبَ المَوْتَ على أهْلِ هَذِهِ الدَّارِ، وجَعَلَ عُقْبَى الصَّابِرِيْنَ دَارَ الأبْرَارِ، وعُقْبَى المُتَسَخِّطِيْنَ دَارَ البَوَارِ، وجَعَلَ أعْلَى خَلْقِهِ أعْظَمَهُم صَبْرًا، وأهْوَنَهُم عِنْدَهُ أظْلَمُهُم تَضَجُّرًا .
والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى عَبْدِه ورَسُوْلِه الأمِيْنِ، وآلِهِ الطَّاهِرِيْنَ المُحْتَسِبِيْنَ، وصَحْبِهِ المُؤمِنِيْنَ الصَّابِرِيْنَ، وعلى مَنْ تَبِعَهُم إلى يَوْمِ الدِّيْنِ .
( أمَّا بَعْدُ : فأشْكُرُ اللهَ تَعَالَى أنْ خَصَّنِي بكَبِيْرِ فَضْلِهِ، وعَظِيْمِ حِلْمِه؛ حَيْثُ أوْصَلَنِي بصِلاتٍ لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى؛ فَكَانَ مِنْها :
قِرَاءةُ هَذا السِّفْرِ القَوِيْمِ، والعِلْمِ العَظِيْمِ المَزْبُوْرِ تَحْتَ مَجَامِيْعِ : «فَتَاوَى ورَسَائِلِ» لشَيْخِ الطَّبَقَةِ، وحَسَنَةِ الوَقْتِ، الشَّيْخِ الهُمامِ، فَارِسِ المَنْقُوْلِ والمَعْقُوْلِ، فَضِيْلَةِ الشَّيْخِ العَلَّامَةِ : أبي عَبْدِ الله حُمُوْدِ بنِ عَبْدِ الله العُقْلاءِ الشُّعَيْبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى .
فعِنْدَها؛ سِيْقَتْ إلَيَّ «رَسَائِلُهُ وفَتَاوَاهُ» رَجَاءَ النَّهْلَ مِنْ عِلْمِهَا، والثَّبَاتَ عَلَى فِعْلِها، لأتَفَيَّأ ظِلالَهَا، وأجْنِيَ ثِمَارَهَا؛ فَكَانَ ذَاكَ!
* * *
- فحَمْدًا؛ حَيْثُ زُفَّتْ إلَيَّ هَذِهِ المَجَامِيْعُ فِي أثْوَابٍ حِسَانٍ، وعُقُوْدٍ جُمَانٍ، قَدْ تَلألأتْ صَفَحَاتُهَا، وأضَاءتْ كَلِمَاتُها بنُوْرِ الوَحْيَيْنِ، ومَاءِ العَيْنَيْنِ، حَيْثُ تَضَوَّعَ مِسْكُهَا، وفَاحَ شَذَاهَا ...!(1/30)
لِذَا؛ كَانَ حَقًّا على المُؤْمِنِيْنَ أنْ يُسَلِّي بَعْضُهُم بَعْضًا بأنَّ الزَّمَانَ وَلَّادُ، والأيَّامَ جِيَادُ ... بعُلَمَاءَ أجِلاءَ، وأعْلامٍ نُبَلاءَ، كالشَّيْخِ العُقْلاءِ، في أيَّامٍ أظْلَمَ نَهَارُهَا، واغْبَرَّتْ سَمَاؤُهَا، فالحَمْدُ لله على بَقَاءِ الطَّائِفَةِ المَنْصُوْرَةِ، على رُغْمِ مُكَاثَرَةِ الطَّغَامِ، وفَسَادِ أهْلِ الزَّمَانِ!
* * *
- أمَّا تَذْكِيْرُ بَعْضِ سِيْرَةِ شَيْخِ الطَّبَقَةِ، فَشَيْءٌ آخَرُ، لِمِثْلِهِ تُطْرَبُ الأسْمَاعُ، وتُعَطَّرُ المَجَالِسُ، وتُقَادُ نَجَائِبُ العِلْمِ، وتَنْجَرُّ سُلالَةُ سِيَرِ الصَّالِحِيْنَ .
( فأمَّا نَسَبُهُ : فَهُوَ أبو عَبْدِ الله حُمُوْدُ بنُ عُبْدِ الله بنِ عُقْلاءِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عليِّ بنِ عُقْلاءِ الشُّعَيْبِيُّ الخَالِدِيُّ، مِنْ آل جنَاحٍ، مِنْ قَبِيْلَةِ بنِي خَالِدٍ، وكَانَ جَدُّهُ الخَامِسُ قَدِ انْتَقَلَ إلى المَنْطَقَةِ الشَّرْقِيَّةِ إلى شَقْرَاءَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ جَدُّهث إلى القَصِيْمِ وأقَامَ فِيْهَا، وكَانَ أخُو جَدِّهِ أيْضًا قَدِانْتَقَلَ إلى الجَوْفِ وأقَامَ فِيْهَا، والعُقْلاءُ كَانَ مِنْ أهْلِ الجَوْفِ مِنْ أبْنَاءِ عُمُوْمَتِهِ .(1/31)
ووُلِدَ الشَّيْخُ المُجَاهِدُ رَحِمَهُ الله في بَلْدَةِ الشَّقَّةِ، مِنْ أعْمالِ بُرَيْدَةَ، سَنَةَ (1346)، ونَشَأ فِيْهَا وعِنْدَمَا بَلَغَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ الله السَّادِسَةَ مِنْ عُمُرِهِ ألْحَقَهُ وَالِدُهُ رَحِمَهُ الله بالكُتَّابِ فَتَعَلَّمَ فِيْهَا القِرَاءةَ والحِسَابَ، ثُمَّ انْتَقَلَ بَعْدَ اتْقَانِ هَذِهِ العُلُوْمِ إلى قِرَاءَةِ القُرْآنِ، ولمَّا بَلَغَ السَّابِعَةَ مِنْ عُمُرِهِ كُفَّ بَصَرُهُ بسَبَبِ مَرَضِ الجُدَرِيِّ الَّذِي عَمَّ كَثِيرًا مِنْ مَنَاطِقِ الممْلَكَةِ، وذَلِكَ عَامَ (1352)، وعلى الرُّغْمِ مِنْ ذَلِكَ وَاصَلَ دِرَاسَتَهُ في الكُتَّابِ بِنَاءًا على رَغْبَةِ وَالِدِهِ رَحِمَهُ الله، وقَدْ حَفِظَ القُرْآنَ كَامِلًا وعُمُرُهُ ثَلاثَةَ عَشَرَ عَامًا وذَلِكَ عَامَ (1359)، إلاَّ انَّه رَحِمَهُ الله ضَبَطَ الحِفْظَ والتَّجْوِيْدَ لمَّا بَلَغَ الخَامِسَةَ عَشَرَ مِنْ عُمُرِهِ، وكَانَ ذَلِكَ عَامَ (1361)، ثُمَّ ارْتَحَلَ إلى الرِّيَاضِ لطَلَبِ العِلْمِ عَامَ (1367)، وبَدَأ الطَّلَبَ على كَثِيرٍ مِنْ أهْلِ العِلْمِ الكِبَارِ .
* * *
- فَقَدْ سَمِعَ مِنْ جَمَاعَةٍ كَثِيْرَةٍ، وعَلَى رَأسِهِم : الشَّيْخُ النَّحْرِيْرُ والسَّلَفِيُّ الكَبِيْرُ عَبْدُ اللَّطِيْفِ بنُ إبْرَاهِيْمَ آلِ الشَّيْخِ؛ حَيْثُ أخَذَ مِنْهُ «الأجْرُومِيَّةَ» و«الأصُوْلَ الثَّلاثَةَ» وغَيْرَهَا .(1/32)
ثُمَّ أخَذَ العِلْمَ أيْضًا عَنِ الشَّيْخِ الحَافِظِ المُفَسِّرِ الأُصُوْلِيِّ قُدْوَةِ الخَلَفِ وبَقِيَّةِ السَّلَفِ مُحَمَّدٍ الأمِيْنِ الشِّنْقِيْطِيِّ رَحِمَهُ الله (1393)، وكَذَا سَلِيْلِ الدَّعْوَةِ السَّلَفِيِّ الفَقِيْهِ نَاصِرِ السُّنَّةِ، وقَامِعِ البِدْعَةِ مُحَمَّدِ بنِ إبْرَاهِيْمَ آلِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ الله (1389)، وذَلِكَ عَامَ (1368)؛ حَيْثُ أخَذَ عَلَيْهِ «زَادَ المُسْتَقْنِعِ»، ثُمَّ «كِتَابَ التَّوْحِيْدِ»، و«كَشْفَ الشُّبُهَاتِ»، و«الوَاسِطِيَّةَ»، و«الفَتْوَى الحَمَوِيَّةَ»، و«الطَّحَاوِيَّةَ»، و«الدُّرَّةَ المُضِيْئَةَ» للسَّفَّارِيْنِيِّ (1188)، و«الأرْبَعِيْنَ النَّوَوِيَّةَ» و«ألْفِيَّةَ ابنِ مَالِكٍ»، و«بُلُوْغَ المَرَامِ» وغَيْرهَا مِنَ العُلُوْمِ، وكُلُّ هَذِهِ الكُتُبِ كَانَ يَحْفَظُهَا رَحِمَهُ الله كَما يَحْفَظُ الفَاتِحَةَ .
وهَكَذَا كَانَ رَحِمَهُ الله قَائِمًا في مُلازَمَةِ شَيْخِهِ ابنِ إبْرَاهِيْمَ؛ حَتَّى فُتِحَ المَعْهَدُ العِلْمِيُّ عَامَ (1371)، فَحَسْبُكَ بِهَؤلاءِ العُلَماءِ الَّذِيْنَ أخَذَ مِنْهُم، لاسِيَّما الشِّنْقِيْطِيِّ وابنِ إبْرَاهِيْمَ : فَهَمُا السَّمْعُ والبَصَرُ!
* * *
فحَنَانَيْكَ حَنَانَيْكَ! لَوْ اسْتَقْبَلَ مُؤَرِّخُ الإسْلامِ «الذَّهَبِيُّ» خَبَرَ الخَالِفِيْنَ، لَمَا اسْتَأخَرَ سَاعَةً فِي ذِكْرِ «العُقْلاءِ» فِي أعْلامِ «سِيَرِ أعْلامِهِ»، أو طِبَاقِ «تَذْكِرَةِ حُفَّاظِهِ»، فالعِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أهْلِه، ووَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ قَائِمُوْنَ حُجَّةً فِي كُلِّ زَمَانٍ!(1/33)
فَلا يَهُوْلَنَّكَ مَا هُنَا؛ فالشَّيْخُ الشُّعَيْبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عَالِمٌ عَامِلٌ، زَاهِدٌ عَابِدٌ، مُحَقِّقٌ مُدَقِّقٌ، مُجَاهِدٌ رَبَّانِيُّ ... فشُهْرَتُه تُغْنِي عَنِ الإطْنَابِ فِي ذِكْرِهِ، والإسْهَابِ فِي أمْرِهِ، فَقَدْ طَبَّقَ ذِكْرُهُ جَمِيْعَ الأمْصَارِ، وشَاعَ عِلْمُهُ فِي نَوَاحِي الدِّيارِ؛ لِذَا اسْتَغْنَيْنَا عَنِ التَّعْرِيْفِ بسِيْرَتِه(1).
* * *
- فهُوَ البَحْرُ مِنْ أيِّ النَّوَاحِي جِئْتَهُ، والبَدْرُ مِنْ أيِّ الضَّوَاحِي أتَيْتَهُ، لَمْ يَرْضَ بغَايَةٍ، ولَمْ يُقْضَ لَهُ بنِهَايَةٍ، رَضَعَ العِلْمَ مُنْذُ فُطِمَ، وطَلَعَ الصُّبْحُ ليُحَاكِيَهُ فلُطِمَ، وَصَّلَ النَّهَارَ باللَّيْلِ دَائِبَيْنِ، واتَّخَذَ العِلْمَ والعَمَلَ صَاحِبَيْنَ؛ حتَّى لَحِقَ بالسَّلَفِ بِهُدَاهُ، وأنْأى الخَلَفَ عَنْ بُلُوْغِ مَدَاهُ .
فرَحِمَهُ اللهُ؛ كَمْ جَادَلَ أهْلَ زَمَانِهِ! وجَدَّلَ خُصُوْمَهُ فِي وَسَطِ مَيْدَانِهِ، وفَرَّجَ مَضَايِقَ البَحْثِ بأدِلَّةٍ قَاطِعَةٍ، ونَصَرَ أقْوَالَهُ فِي ظُلُمَاتِ الشُّكُوْكِ بالبَرَاهِيْنِ السَّاطِعَةِ، كأنَّ السُّنَّةَ على رَأسِ لِسَانِهِ، وعُلُوْمَ الأثَرِ مُسَاقَةٌ فِي حَوَاصِلِ جِنَانِهِ، وأقْوَالَ العُلَمَاءِ مَجْلُوَّةٌ نُصْبَ عَيَانِهِ، فَمَا أسْبَقَ اسْتِحْضَارِهِ، ومَا أسْرَعَ إحْضَارِهِ!
__________
(1) لَقَدْ كُتِبَتْ رَسَائِلُ، ومَقَالاتٌ فِي سِيْرَةِ الشَّيْخِ حُمُوْدٍ الشِّعَيْبِي رَحِمَهُ الله فكَانَ مِمَّا وَقَعَ فِي يَدِي مَا سَطَّرَه أخِي الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الجِفْنُ حَفِظَه اللهُ؛ حَيْثُ ذَكَرَ سَيْرَتَه ذِكْرًا وَافِيًا، مِمَّا يُشَجِّعُ على مُطَالَعَتِهِ ومُذَاكَرَتِهِ، تَحْتَ عُنْوَانِ : «إيْنَاسِ النُّبَلاءِ فِي سَيْرَةِ شَيْخِنا العُقْلاء» فَجَزَاهُ اللهُ خَيْرًا!(1/34)
فَلا جَرَمَ أنَّه كَانَ فِي أرْضِ العُلُوْمِ حَارِثًا هَمَّامًا، وعَلَى مِنْبَرِ الحَقِّ مُنْذِرًا مِقْدَامًا!
* * *
- فَقَدْ سَمِعَ مِنْ جَمَاعَةٍ كَثِيْرَةٍ، وعَلَى رَأسِهِم : الشَّيْخُ الحَافِظُ المُفَسِّرُ الأُصُوْلِيُّ قُدْوَةُ الخَلَفِ وبَقِيَّةُ السَّلَفِ مُحَمَّدٌ الأمِيْنُ الشِّنْقِيْطِيُّ رَحِمَهُ الله (1393)، وكَذَا سَلِيْلُ الدَّعْوَةِ السَّلَفِيُّ الفَقِيْهُ نَاصِرُ السُّنَّةِ، وقَامِعُ البِدْعَةِ مُحَمَّدُ بنُ إبْرَاهِيْمَ آلُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ الله (1389)، فَحَسْبُكَ بِهِما مِنْ إمَامَيْنِ : فَهَمُا السَّمْعُ والبَصَرُ!
فَعِنْدَ ذَلِكَ بَرَعَ الشَّيْخُ الشُّعَيْبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي العَقِيْدَةِ، والفِقْهِ، والتَّفْسِيْرِ، والنَّحْوِ، والأُصُوْلِ، والخِلافِ، فِي حِيْنَ كَانَ يَتَوَقَّدُ ذَكَاءً، قَوَّالًا بالحَقِّ، نَاهِيًا عَنِ المُنْكَرِ، مُجاهِدًا فِي ذَاتِ الله بنَفْسِهِ، ويَدِهِ، ولِسَانِهِ، والله حَسِيْبُهُ، ولا نُزَكِّي على الله أحَدًا .
* * *
- كَمَا تَتَلْمَذَ عَلَيْه شُيُوْخُ العَصْرِ، ووُجَهَاءُ المِصْرِ، مَا يَقْضِ بإمَامَتِهِ وإجْلالِهِ، فَكَانَ حَقًّا : «شَيْخَ الطَّبَقَةِ»(1)!
كَمَا كَانَ لَهُ وَجَاهَةً وإجَابَةً عِنْدَ العَامَّةِ والخَاصَّةِ، وهَيْبَةً وإمَامَةً عِنْدَ الرَّاعِي والرَّعِيَّةِ، ورِضًى وقَبُوْلاً عِنْدَ القَاصِي والدَّانِي!
* * *
__________
(1) أهْلُ السِّيْرِ والتَّراجِمِ والطَّبَقَاتِ كَانُوا لا يُلَقِّبُوْنَ الرَّجُلَ بشَيْخِ الطَّبَقَةِ إلَّا إذَا كَانَ أكْثَرُ طُلابِهِ عُلَماءَ، وهَذَا مَا يَنْطَبِقُ على الشَّيْخِ حُمُوْدٍ الشِّعَيْبِي!(1/35)
- فأمَّا كُتُبُه فَهِي أشْهَرُ مِنْ أنْ تُذْكَرَ؛ فَقَدْ سَارَتْ مَسِيْرَ الشَّمْسِ في الأقْطَارِ، وامْتَلأتْ بِهَا البَلادُ والأمْصَارُ، فَمَنْ نَظَرَ فِيْها لا سِيَّمَا : «مُخْتَصَرُ عَقِيْدَةِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ»، و«البَرَاهِيْنُ القَاطِعَةُ عَلَى حَتْمِيَّةِ الإيْمَانِ بالله والدَّارِ الآخِرَةِ»، و«القَوْلُ المُخْتَارُ فِي حُكْمِ الاسْتِعَانَةِ بالكُفَّارِ» وغَيْرُهُا؛ عَلِمَ أنَّ الشَّيْخَ قَدْ رُزِقَ حِفْظًا وَاسِعًا، وفَهْمًا وَافِرًا، لكَأنَّه يَنْزَعُ مِنْ صَخْرٍ، ويَنْهَلُ مِنْ بَحْرٍ!
* * *
- أمَّا فَتَاوَاهُ، ورَسَائِلُهُ؛ فَقَدْ سَارَ بِهَا الرُّكْبَانُ، وطَارَتْ بِلا جَنَاحَيْنِ، كَمَا أنَّها سَابَقَتِ الزَّمَانَ، وسَادَتِ المَكَانَ، تَرِدُ إلَيْهِ الفَتَاوَى ولا يَرِدُهَا، وتَفِدُ عَلَيهِ فيُجِيْبُ عَلَيْهَا بأجْوِبَةٍ كَأنَّهُ كَانَ قَاعِدًا لَهَا يُعِدُّهَا!
* * *
- وأمَّا مَاجَرَيَاتُ هَذَا الإمَامِ فَكَثِيْرَةٌ عَدِيْدَةٌ، فَلَمْ يَظْهَرْ فِي ذَلِكَ لِمُعَانِدِيْهِ فِيْمَا ادُّعِيَ به عَلَيْهِ بُرْهَانٌ، غَيْرُ تَنْكِيْدَاتٍ رَسَخَتْ فِي القُلُوْبِ مِنْ ثَمَرَاتِ الشَّنَآنِ، وحُبِّ السُّلْطَانِ، وقُصَارَى ذَلِكَ أنَّه اتُّهِمَ وأوْذِيَ فِي غَيْرِ مَا يُعَابُ بِه ويُشَانُ .
وهَذَا كُلُّه مِنْ فَسَادِ أهْلِ الزَّمَانِ؛ حَيْثُ تَصَدَّى لَهُ : إمَّا جَاهِلٌ يَدَّعِي أنَّه عَالِمٌ، أو مُنَافِقٌ يَدَّعِي أنَّه نَاصِحٌ، فَقَدْ أوْذِيَ رَحِمَهُ اللهُ؛ حَتَّى أعْلَى اللهُ مَنَارَهُ، وجَمَعَ قُلُوْبَ أهْلِ الحَقِّ عَلَى مَحَبَّتِه، والدُّعَاءِ لَهُ، وكَبَتَ أعْدَاءهُ، فَهُوَ أكْبَرُ مْنَ أنْ يُنَبِّهَ على سَيْرَتِه مِثْلِي!
* * *(1/36)
- وهَكَذَا؛ مَا زَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ رَافِعًا رَأسًا فِي العِلْمِ والتَّعْلِيْمِ، والدَّرْسِ والتَّدْرِيْسِ، مُنْقَطِعَ النَّظِيْرِ، مَعَ مَا يُمْلِيْهِ مِنَ الرَّسَائِلِ والفَتَاوَى هُنَا وهُنَاكَ ... حَتَّى إذَا أزِفَتِ الآزِفَةُ، وأقْبَلَتِ الفِتَنُ فِي مَسَارِبَ مُهْلِكَةٍ، مُنْقَادَةً لتُعِيْدَهَا حَرْبًا صَلِيْبِيَّةً على الإسْلامِ والمُسْلِمِيْنَ فِي بِلادِ أفْغَانِسْتَانَ وغَيْرِهَا، بأمْرٍ مِنْ إمْرِيكَا وحُلَفَائِها، وتَعَاوُنٍ سَافِرٍ مِنْ (مُتَأسْلِمَةِ) العَصْرِ!
فَعِنْدَها بَرَدَ الحَقُّ، ومَرَدَ البَاطِلُ، وسَكَتَ أكْثَرُ العُلَمَاءِ، ونَطَقَتِ الرُّوَيْبِضَاتُ، كُلُّ ذَلِكَ تَحْتَ أصْوَاتِ العَلْمَانِيِّيْنَ، وصَرِيْفِ أقْلامِ الإعْلامِيِّيْنَ، فَكَانَ اللَّتَيَّا والَّتِي ... حَتَّى إذَا سَكَنَ اللَّيْلُ بظَلامِهِ، ورَفْرَفَ البَاطِلُ بأعْلامِهِ؛ جَاءَ الشَّيْخُ الشُّعَيْبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ مُزَمْجِرًا في وُجُوْهِ الأعْدَاءِ بصَوْتِهِ، ضَارِبًا البَاطِلَ بِكُلِّ قُوَّتِهِ، كَاشِفًا أقْنِعَةً خَرْقَاءَ بصَوْلَتِهِ ...!
حَيْثَ كَشَفَ زَيْفَ الضَّلالَةِ، بحُجَجٍ رَوَاسِخَ، فأقْدَمَ حِيْنَهَا إذْ كَانَ فِي الإقْدَامِ أخْطَارٌ، وبَرَزَ للنِّزَالِ حَيْنَ وَلَّى الفُرْسَانُ بالفِرَارِ، فَكَانَ مِنْه رَحِمَهُ اللهُ الثَّبَاتُ والإقْدَامُ فِي رَفْعِ أعْلامِ الحَقِّ، وتَسْوِيْقِهِ في زَمَنٍ كَسَدَ طُلابُّهُ، وخَافَهُ جُلابُهُ، إلاَّ ما رَحِمَ الله!
* * *(1/37)
- فَدُوْنَكَ مَا كَتَبَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ في مَجَامِيْعِهِ آنِفَةِ الذِّكْرِ؛ لِتَرَى بأمِّ عَيْنَيْكَ مَا أرَى، ولتَعْلَمَ أنَّ الحَقَّ لَهُ رِجَالاتٌ لا تُلْهِيْهِم مَنَاصِبُ سُلْطَانِيَّةٌ، ولا ظُنُوْنٌ شَيْطانِيَّةٌ، فَرَحِمَ اللهُ الشَّيْخَ إذْ لَمْ يَفْتَأ يُنَافِحُ عَنِ الحَقِّ حَتَّى آخِرَ حَيَاتِه، و«الأعْمَالُ بالخَوَاتِيْمِ»، و«يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ على مَا مَاتَ عَلَيْه»، واللهُ حَسِيْبُه!
* * *
- حَتَّى إذا كَانَ لَيْلَةُ السَّبْتِ لخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ ذِي القَعْدَةِ سَنَةِ ألْفٍ وأرْبَعْمائةٍ واثْنَتَيْنِ وعِشْرِيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ على صَاحِبِها أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ، فَارَقَ الشَّيْخُ الدُّنْيا بَعْدَ سِتٍّ وسَبْعِيْنَ سَنَةٍ مَدِيْدَةٍ، قَضَاهَا بَيْنَ عُلُوْمٍ مُفِيْدَةٍ، وأعْمَالٍ مَشِيْدَةٍ؛ تَارِكًا وَرَاءهُ كُنُوْزًا عِلْمِيَّةً، وسِيْرَةً مَرْضِيَّةً؛ فرَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً، ورَفَعَ ذِكْرَه في الدُّنْيا والآخِرَةِ، ونَفَعَ بعُلُوْمِهِ وفَتَاوَاهُ، وبَلَّ بالرَّحْمَةِ مَثْوَاهُ، وجَعَلَ جَنَّةَ الفِرْدَوْسِ مَأوَاهُ، آمِيْنُ!
ومَا أحْسَنَ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
سُبْحَانَ مَنْ يَبْتَلِي أُنَاسًا أحَبَّهُم والبَلاءُ عَطَاءُ
فاصْبِرْ لبَلْوَى وكُنْ رَاضِيًا فَإنَّ هَذَا هُوَ الدَّوَاءُ
سَلِّمْ إلى اللهِ مَا قَضَاهُ ويَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ
* * *
- وأخِيْرًا، فَهَذِهِ سِيْرَةٌ مٌقْتَضَبَةٌ بدِيْعَةٌ، وعُجَالَةٌ هَاجمَةٌ سَرِيْعَةٌ، كَتَبْتُهَا بمَاءِ العَيْنِ، وقَرَّبْتُهَا للسَّائِلِيْنَ، مَعَ عِلْمِي أنَّها غَيْرُ حَاوِيَةٍ، وبِسِيْرَةِ الشَّيْخِ لَيْسَتْ وَافِيَةً .(1/38)
وعُذْرِي أنَّني لم ألْتَقِ بالشَّيْخِ أو أُرَاهُ، اللَّهُمَّ وَقَفْتُ على سِيْرَتِهِ وفَتَاوَاهُ، وذَلِكَ لمَّا طَلَبَ مِنِّي بَعْضُ طُلَّابِهِ (الأخُ الجِفْنُ) أنْ أكْتُبَ سِيْرَةَ الشَّيْخِ ولَوْ في وَرَقَاتٍ، لتَبْقَى ذِكْرَى للشَّيْخِ بَعْدَ الممَاتِ.
لذا طَلَبْتُ العَفْوَ والاعْتِذَارَ، مِنْ كُلِّ نَقْصٍ وإقْتَارٍ، والله تَوَّابٌ غَفَّارٌ!
* * *
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على عَبْدِهِ ورَسُوْلِه الأمِيْنِ، المَبْعُوْثِ رَحْمَةً للعَالمِيْنَ
وكَتَبَهُ مُعَزِّيًا مُصَابًا لعَشْرٍ بَقِيْنَ مِنْ رَبِيْعِ الأوَّلِ لعَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمائة وأرْبَعَةٍ وعِشْرِيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
وكَتبَهُ
الطَّائِفُ المَأنُوْسُ
(20/3/1424)
شَيْخُ العُلَماءِ وبَلِيْغُ الأُدَبَاءِ
بَكْرٌ أبو زَيْدٍ
«ابنُ القَيِّمِ الصَّغِيْرُ»
رَحِمَهُ الله
المَولُوْدُ (1365) المُتَوَفَّى (27/1/1429)
شَهْرَانِ وأرْبَعَةٌ وسِتِّونَ عَامًا
تَألِيْفُ
الحَمْدُ لله الكَرِيْمِ الهَادِي، مُنْطِقِ البُلَغَاءِ باللُّغَى والأيَادِي، ومُجْرِي ألْسُنَ اللُّسُنِ في الحَضَرِ والبَوَادِي، وبَاعِثِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الهَادِي، أفْصَحَ مَنْ نَطَقَ بالضَّادِ دُوْنَ ضَوَادِي، وخَيْرَ مَنْ حَضَرَ النَّوَادِي، صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وعَلى آلِهِ وزَوْجَاتِهِ نُجُوْمِ الدَّآدِي، وعلى أصْحَابِهِ اللُّيُوْثِ العَوَادِي، ومَنْ تَبِعَهُم بإحْسَانٍ إلى يَوْمِ التَّنَادِي .(1/39)
وبَعْدُ : فَهَذِهِ تَعْزِيَةٌ هَاجِمَةٌ، ومَخْبَرَةٌ وَاجِمَةٌ، ألْقَتْ بعَصَاهَا، وخَذَفَتْ بحَصَاهَا؛ حِيْنَ جَاءَ نَعِيُ شَيْخِ العُلَماءِ، بَلْهَ بَلِيْغِ الأدَبَاءِ، العَالمِ الكَامِلِ، والأدِيْبِ الفَاضِلِ، بكْرٍ أبو زَيْدٍ، فَعِنْدَهَا اضْطَرَبَ قَلَمِي في سُقُوْطٍ، وكَادَ يأخُذُني اليَأسُ والقُنُوْطُ، لَوْلا رَحَماتٌ أتَذَاكَرُهَا، وتَرْجِيْعَاتٌ أتَرَادَدُهَا، فرَحِمَكَ الله أبَا عَبْدِ الله، وإنَّا لله وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُوْنَ!
( وقَدْ قِيْلَ :
تَنَكَّرَ لي دَهْرِي ولَمْ يَدْرِي أنَّنِي أعِزُّ وأحْدَاثُ الزَّمَانِ تَهُوْنُ
وبَاتَ يُرِيْنِي الخَطْبَ كَيْفَ اعْتِدَاؤُهُ وبِتُّ أُرِيْهِ الصَّبْرَ كَيْفَ يَكُوْنُ
* * *
فَهُنَا؛ غَلَبَتْنِي المَغَالِبُ، ورَزَأتْنِي الرَّزَايَا، وهَمْهَمَتِ النَّفْسُ بالصُّعَدَاءِ، وأبْدَتِ العَيْنَ البُكَاءَ، وحَشْرَجَ الصَّدْرُ بالآهَاتِ والنِّدَاءِ، يَوْمَ جَاءَ الخَبَرُ يَجُرُّ النَّفْيْرَ، ويُهَيِّجُ الزَّفِيْرَ!
ومَا أحْسَنَ مَا قَالَهُ أبو الحَسَنِ البَرْمَكِيُّ :
رَحَلْتُمْ فَكَمْ مِنْ أنَّةٍ بَعْدَ زَفْرَةٍ مُبَيِّنَةٍ للنَّاسِ شَوْقِي إلَيْكُمُ
وقَدْ كُنْتُ أعْتَقْتُ الجُفُوْنَ مِنَ البُكَا فَقَدْ رَدَّهَا في الرِّقِّ حُزْني عَلَيْكُمُ
* * *
ومِنْ ضُرُوْبِ الأسَفِ؛ أنِّي بَيْنَا أنَا آخِذٌ بلِجَامِ القَلَمِ رَاكِضًا في نَمْنَمَةِ ومُرَاجَعَةِ كِتَابي «ظَاهِرَةِ الفِكْرِ التَّربَوِيِّ» تَبْيِيْضًا وتَرْوِيْضًا إذْ طَنَّتْ نَائِحَةُ اللُّغَةِ عَزَاءً في فَقِيْدِهَا وعَمِيْدِهَا الشَّيْخِ بَكْرٍ أبو زَيْدٍ رَحِمَهُ الله، فَجَمَحَ القَلَمُ بيَدِي، وهَزَّ عَضُدِي، وأذْرَفَ هُنَا دَمْعَةً مِهْرَاقَةً في رِثَاءِ شَيْخِي وشَيْخِهِ :(1/40)
فَيَا أيُّها اليَلْمَعُ العَرُوْفُ، والمَعْمَعُ اليَهْفُوْفُ : لَقَدْ مَاتَ بَلِيْغُ نَجْدٍ وأدِيْبُهَا، حَارِسُ حِيَاضِ العَقِيْدَةِ ورِيَاضِهَا، المُتَفَرِّعُ عَنِ اللَّغَةِ بأفْنَانٍ وفُنُوْنٍ، وعَنْ دَوْحَاتِهَا بخِيْطَانٍ وغُصُوْنٍ، فَلَمْ يَكُنْ يَرْضَى مِنَ الفِقْهِ بالسَّافِيَةِ عَنِ الشَّحْوَاءِ، ولا ممَّنْ اهْتَافَ بِهِ رِيْحُ الشَّقَاءِ!
وبَعْدُ؛ فَهَذِهِ طِلْبَةٌ واسْتِجْدَاءٌ لرُوَّامِ العِلْمِ وطُلَّابِهِ بَعْدَ وَفَاةِ حَبِيْبِ النَّفْسِ أدِيْبِ الحِسِّ، بكَرٍ أبو زَيْدٍ : مَنْ يَأخُذِ القَلَمَ بحَقِّهِ؟!
* * *
( مَاتَ شَيْخُنَا بَكْرُ بنُ عَبْدِ الله أبُو زَيْدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الله بنِ بَكْرِ بنِ عُثَمانَ بنِ يَحْيَى بنِ غَيْهَبِ بنِ مُحَمَّدٍ القُضَاعِيُّ، مِنْ قَبِيْلَةِ بنِي زَيْدٍ القُضَاعِيَّةِ المَشْهُوْرَةِ في حَاضِرَةِ الوَشْمِ، وعَالِيَةِ نَجْدٍ، وفِيْهَا مَسْقَطُ رَأسِهِ، وذَلِكَ عَامُ ألْفٍ وثَلاثْمائَةٍ وخَمْسٍ وسِتِّيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ (1365)، فرَحِمَهُ الله، وجَعَلَ الجَنَّةَ مَأوَاهُ، وطَيَّبَ ذِكْرَهُ ومَثْوَاهُ، آمِيْنَ يَا رَبَّ العَالمِيْنَ!
* * *
( نَعَمْ؛ مَاتَ مَنْ جُبِلَ على العِلْمِ طَبْعُهُ، وعُمِّرَ بحُبِّ الفَضْلِ رَبْعُهُ، فَظَلَّ للعَقِيْدَةِ حَارِسًا أمِيْنًا، وللُّغَةِ صَاحِبًا قَرِيْنًا، وللآدَابِ سَمِيْرًا خَدِيْنًا، قَدْ عُجِنَتْ بالظَّرَافَةِ طِيْنَتُهُ، وسِيْرَتْ باللَّطَافَةِ سِيْرَتُهُ، كَانَ سَحَابَةَ عِلْمٍ على الطَّالِبِ والوَافِدِ، وعُبَابَ أدَبٍ لا تُكَدِّرُهُ دِلاءُ الصَّادِرِ والوَارِدِ، لَهُ مِنَ الأدَبِ مَآدِبُ تُغَذِّي الأرْوَاحَ، ومِنَ الكَلامِ لَهُ سُلافَةٌ تَهُزُّ الأعْطَافَ المِرَاحَ .
( وقَالَ بَعْضُهُم :
أرَى العِلْمَ نُوْرًا والتَّأدُّبَ حِلْيَةً فَخُذْ مِنْهُما في رَغْبَةٍ بنَصِيْبِ(1/41)
ولَيْسَ يَتِمُّ العِلْمُ في النَّاسِ للْفَتَى إذَا لم يَكُنْ في عِلْمِهِ بأدِيْبِ
( وقَالَ آخَرُ :
مَنْ كَانَ مُفْتَخِرًا بالمَالِ والنَّسَبِ فإنَّمَا فَخْرُنَا بالعِلْمِ والأدَبِ
لا خَيْرَ في رَجُلٍ حُرٍّ بِلا أدَبٍ لا، لا، وإنْ كَانَ مَنْسُوْبًا إلى العَرَبِ
* * *
( فسَقَى الله؛ تِلْكَ الأيَّامَ الخَالِيَةَ، وتِيْكَ المَجَالِسَ الرَّاوِيَةَ، يَوْمَ كَانَتْ وكُنَّا مَعَ شَيْخِنَا في إفَادَةٍ، ومَعَ عُلْمِهِ وآدَابِهِ في زِيَادَةٍ، ومَعَ حِلْمِهِ ومَآدِبِهِ في وِفَادَةٍ، فَكَانَتْ مَجَالِسُهُ لألْفَاظِ المَسَرَّاتِ كالمَعَاني، ولنُكَاتِ العِلْمِ كالمَبَاني، فِيْهَا أثْمارُ أطَايِبِ الأمَاني، مِنْ أشْجَارِ وِصَالِ الغَوَاني، فرَحِمَكَ الله أبَا عَبْدِ الله!
بكرٌ أبو زَيْدٍ، ومَا أدْرَاكَ مَا بَكْرٌ؟ خَيْرُ قَوْلُهُ، وطَيِّبٌ فِعْلُهُ، رَافِعُ ألْوِيَةِ الفَصَاحَةِ والبَيَانِ، ومَالِكُ رِقَابِ البَلاغَةِ والتِّبْيَانِ، ونَاشِرُ أرْدِيَةِ العِلْمِ والتَّألِيْفِ، وعَامِرُ أبْنِيَةِ الأدَبِ والتَّصْنِيْفِ :
للهِ دَرُّ إمَامٍ كُلُّهُ أدَبُ بفَضْلِهِ يَتَحَلَّى العُجْمُ والعَرَبُ
* * *
( الله يَعْلَمُ أنِّي وإنْ شَطَّ بِنَا المَزَارُ، ونَأتْ عَنَّا الدِّيَارُ، لا أنْسَاهُ ولا أُقْلِيْهِ، بَلْ حُبُّهُ تَخَلَّلَ الشِّغَافَ والسُّوَيْدَاءَ، وبِرُّهُ تَدَثَّرَ بالذِّكْرِ والدُّعَاءِ، فَلَهُ عَليَّ أفَاضِلُ الأفْنَانِ ، ومَحَاسِنُ التَّصَانِيْفِ والبَيَانِ .(1/42)
وكَيْفَ أُعْذَلُ في ثَنَائِهِ، أمْ كَيْفَ أُعَاتَبُ في دُعَائِهِ؟ وهُوَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ(1)، قَدْ شَرَحُوا للآدَابِ صَدْرِي، وأجْرُوا بالبَلاغَةِ قَلَمِي وفِكْرِي، وسَقَوْني كُؤُوْسَ العِلْمِ وأحْشَائِي صَادِيَةٌ، وكَسَوْني حُلَلَ الفَضْلِ وعَوْرَاتي بَادِيَةٌ، فَلَهُم مِنِّي العُتْبَى في الدُّعَاءِ، وإلَيْهِم العُقْبَى في الدِّلاءِ!
* * *
( لَقَدْ دَانَ للشَّيْخِ في العَقِيْدَةِ والفِقْهِ واللُّغَةِ كُلُّ دَانٍ وقَاصِي، واعْتَرفَ بفَضْلِهِ المُوَافِقُ والمُخَالِفُ، على رُغْمِ أنُوْفِ الجَلَّادِيْنَ، وإكْفَارِ المُتَعَالمِيْنَ .
فَلَهُ الذِّكْرُ والصِّيْتُ في المَجَالِسِ والمَحَافِلِ، ولَهُ الحُظْوَةُ والهَيْبَةُ بَيْنَ الأكَابِرِ والأمَاثِلِ، فَفِي حَيَاتِهِ أحَاطَتْ بِهِ التَّقَارِيْظُ والإطْرَاءُ، وبَعْدَ مَوْتِهِ اهْتَجَّتْ بِهِ المَدَائِحُ والثَّنَاءُ .
فَلا تَسْتَبْعِدْ مَا هُنَا فالشَّيْخُ قَدِ انْتَشَرتْ للعَالمِيْنَ لطَائِفُ حِلْمِهِ وعِلْمِهِ، وظَهَرَتْ للمُتَعَلِّمِيْنَ طَرَائِفُ آدَابِهِ وشِيَمِهِ، فَقَدْ أخَذَ بنَاصِيَةِ اللُّغَةِ يَقُوْدُهَا في ارْتِجَالٍ، وأمْسَكَ بأعْنَاقِ البَلاغَةِ يَسُوْدُهَا في جَمَالٍ .
* * *
(
__________
(1) أيْ : العُثَيْمِيْنُ، ومَحْمُوْدُ شَاكِرٌ، وبَكْرٌ أبُو زَيْدٍ!(1/43)
كَانَ رَحِمَهُ الله إمَامًا هُمَامًا بِلا مُدَافَعٍ، وفَاضِلًا مُنَاضِلًا بِلا مُنَازَعٍ، سَلِيْمَ العَقِيْدَةِ والمَنْهَجِ، نَقِيَّ المَدْخَلِ والمَخْرَجِ، حَسَنَ السِّيْرَةِ، مُحْسِنَ السَّرِيْرَةِ، صَافيَ المَشْرَبِ، طَيِّبَ المَطْلَبِ، عَلَيْهِ طَلاوَةٌ، وفِيْهِ حَلاوَةٌ، تَعْرِفُ مِنْهُ ولا تُنْكِرُ، وَاضِحُ العِبَارَةِ، سَانِحُ الإشَارَةِ، مَنْهُوْمُ عِلْمٍ وأذْكَارٍ، مَقْرُوْمُ تَألِيْفٍ وأسْطَارٍ، رُحْلَةٌ رَحَّالَةٌ خَفِيْفٌ، مُحَقِّقٌ مُدَقِّقٌ ظَرِيْفٌ، غَايَةٌ في التَّحْرِيْرِ، نِهَايَةٌ في التَّقْرِيْرِ .
هَكَذَا مَنْ خَالَطَهُ وعَرَفَهُ يَنْسُبُنِي إلى التَّقْصِيْرِ في وَصْفِهِ، ومَنْ جَهِلَهُ وغَالَطَهُ يَنْسُبُنِي إلى التَّغَالي فِيْهِ، مَعَ أنَّني لا ادَّعِي عِصْمَتَهُ، ولا أقُوْلُ بإجْمَاعِ كِلْمَتِهِ، بَلْ هُوَ بَشَرٌ مِنَ البَشَرِ، لَهُ وعَلَيْهِ، ويُؤخَذُ مِنْهُ ويُرَدُّ عَلَيْهِ، والله حَسِيْبُهُ، ولا نُزَكِّي على الله أحَدًا!
* * *
( لاجَرَمَ؛ فَقَدْ تَوَاقَفَتْ عِنْدَهُ التَّألِيْفُ، و تَثَاقَفَتْ مِنْهُ التَّصَانِيْفُ، بَارِعُ السَّبْكِ، رَافِعُ الشَّكِّ، لَهُ تَنْقَادُ البَلاغَةُ إرْسَالًا، ومِنْهُ تَأتي الفَصَاحَةُ إسْلَالًا، لَيْسَ عَنْهُ أئِمَّةُ اللُّغَةِ والبَلاغَةِ ببَعِيْدٍ، ولا سَحْبَانُ والجَاحِظُ بفَرِيْدٍ، ولا الرَّافِعِيُّ وشَاكِرٌ بشَرِيْدٍ، قَدْ اكْتَسَى مِنَ الكِسَائِي بكِسَاءٍ، وتَدَثَّرَ مِنَ الفَرَّاءِ بفِرَاءٍ، وانْتَهَلَ مِنَ مَعَيْنِ النُّحَاةِ بدِلاءٍ، وارْتَوَى مِنْ كَأسِ البُلَغَاءِ بصَفَاءٍ .
ولَوْلا التَّطَاوُلُ والتِّقْوَالُ، لَقُلْتُ : كَادَ أنْ يَقِفَ فَلَكُ اللُّغَةِ بَعْدَ بَكْرٍ، لَكِنْ لم تَزَلْ بَقِيَّةٌ في تمِيْمٍ وبَكْرٍ، ومَا زَالَ في بِلادِ الرَّافِدَيْنِ وأرْضِ الكِنَانَةِ مِنْ ذِكْرٍ!(1/44)
نَعَمْ؛ فإنَّ اللُّغَةَ لم تَزَلْ أبِيَّةً قَوِيَّةً، سَلِيْمَةً سَوِيَّةً، فلِرِجَالهَا قُدْمَةٌ وحَمِيَّةٌ، فَهُمْ حُمَاةٌ لهَا يَقَظَةٌ، وحُرَّاسٌ عِنْدَهَا بُلَغَةٌ، لِذَا فأنْسَابُها بالأمْوَاتِ مُتَأصِّلٌ، وسُلالَتُهَا بالأحْيَاءِ مُتَّصِلٌ!
( وقَدْ قِيْلَ في مِثْلِهِ :
وإذَا نَمْنَمَتْ بَنَانُكَ خَطًّا مُعْرِبًا عَنْ إصَابَةٍ وسَدَادِ
عَجِبَ النَّاسُ مِنْ بَيَاضِ مَعَانٍ يُجْتَنَى مِنْ سَوَادِ ذَاكَ المِدَادِ
* * *
( دَعَتْهُ هِمَّتُهُ، ودَفَعَتْهُ نَهْمَتُهُ فَجَابَ البِلادَ بَحْثًا ومُبَاحَثَةً، وسَائِلًا نَائِلًا، فَطَافَ بَعْضَ البِلادِ، وطَوَّفَ في المُؤتَمرَاتِ والتِّلادِ، فالْتَقَى بأفَاضِلِ العُلَماءِ، وأمَاثِلِ الأدَبَاءِ، وأخَذَ مِنْهُم وأعْطَى، وأفَادَ مِنْهُم وأبْدَى، فَكَانَ طَالِبًا مَطْلُوْبًا، وعَالمًا أدِيْبًا!
فَأصْبَحَ بَيْنَهُم ثِقَةً مَوْثُوْقًا، وأضْحَى عِنْدَهُم بأرْفَعِ طَرَفٍ مَرْمُوْقًا، وأمْسَى لَدَيْهِم مِنْ رَوِيِّ الكَأسِ مَصْبُوْحًا مَغْبُوْقًا، فَقَدْ هَدَاهُ الله لأرْشَدِ الطُّرُقِ المُسْتَقِيْمَةِ، وأرَاهُ أقْوَمَ السُّبُلِ القَوِيْمَةِ، فاسْتَمْسَكَ بعُرْوَةٍ مِنَ الدِّيْنِ وَثِيْقَةٍ، وثَبَتَ مِنَ الاسْتِقَامَةِ على بَصِيْرَةٍ وحَقِيْقَةٍ، والله يَهْدِي لفَضْلِهِ مَنْ يَشَاءُ، ومِنَ الله العَوْنُ والسَّدَادُ!
لعَمْرُ أبِيْكَ مَا نَسِبَ المُعَلَّى إلى كَرِيْمٍ وفي الدُّنْيَا كَرِيْمُ
ولكِنَّ البِلادَ إذَا اقْشَعَرَّت وَصَوَّحَ نَبْتُهَا رُعِيَ الهَشِيْمُ
* * *
((1/45)
وممَّا يَدُلُّ على إنَاخَةِ كَلْكَلِ الزَّمَانِ بَعْدَ النَّبَاهَةِ عَلَيْهِ، وصَرْفِ صُرُوْفِهِ بَعْدَ البَلاغَةِ إلَيْهِ، مَا كَتَبَهُ وحَرَّرَهُ في مَجامِيْعِ كُتُبِهِ، ومَضَامِيْنِ رَسَائِلِهِ، ومُخْتَارَاتِ مَشَارِيْعِهِ، ومُجَوَّدَاتِ أطَارِيْحِهِ، وأفْنَانِ مَوَاضِيْعِهِ، فَدُوْنَكَ مَا سَطَّرَهُ وأمْلاهُ، ومَا اخْتَارَهُ وجَنَاهُ، ففِيْهَا كِفَايَةٌ ومَقْنَعٌ، لكُلِّ طَالِبٍ ومُصْقَعٍ، وشَارِبٍ ومُكْرَعٍ!
فَإذَا كَانَ غَيْرُهُ يَكْتُبُ كَما يُرَادُ، فَشَيْخُنَا يَكْتُبُ كَما يُرِيْدُ، وبَيْنَ الحَالَيْنِ بَوْنٌ بَعِيْدٌ، وكَيْفَ جَرَى الأمْرُ ففَرْقٌ بَيْنَ الرَّائِدِ والمُرِيْدِ، ولَهُ التَّصَانِيْفُ السَّائِرَةُ، والتَّآلِيْفُ الرَّائِدَةُ، قَضَى بحُسْنِهَا وتَحْسِيْنِهَا أهْلُ الشَّرْقِ والغَرْبِ، وحَكَمَ ببَيَانِهَا وتَبْيِيْنِهَا أهْلُ العِلْمِ والأدَبِ .
فَكَانَ مِنْهَا مَا يَأخُذُ بلُبِّ الحَازِمِ اللَّبِيْبِ، ومِنْهَا مَا يَمْلِكُ لُبَابَ كُلِّ أدِيْبٍ، وبَيْنَهَا مَا يَقْمَعُ المُتَعَالمَ والمَجَاهِيْلَ، ومِنْهَا مَا يَرْفَعُ الظُّلْمَ عَنِ المَرْأةِ والأرَاجِيْلِ .
إذَا ثَنَى قَلَمَهُ في بَحْثِ مَسْألَةٍ فحَدِّثْ ولا حَرَجَ، وإذَا اسْتَرْسَلَ في مَوْضُوْعٍ لا يَكَادُ عَنْهُ يَخْرُجُ، مَعَ فَصَاحَةِ لِسَانٍ، وبَلاغَةِ تِبْيَانٍ، لَهُ اليَدُ الطُّوْلى في حُسْنِ التَّصْنِيْفِ، وسَبْكِ العِبَارَةِ والتَّحْذِيْفِ، وبَرَاعَةِ التَّرتِيْبِ والتَّقْسِيْمِ، وجَوْدَةِ التَّحَرِّي والتَّقْوِيْمِ .
* * *
((1/46)
شَيْخُ العُلُوْمِ الدِّيْنِيَّةِ، وابنُ بَجْدَةِ الأحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ، وقَاضِي الأحْكَامِ الفِقْهِيَّةِ، وخِرِّيْتُ المَسَائِلِ النَّازِلَةِ العَصْرِيَّةِ، فإلَيْهِ الغَايَةُ، وعِنْدَهُ النِّهَايَةُ، بَحْرٌ زَاخِرٌ بالنَّقْلِيَّاتِ، وحَبْرٌ مَتَلَفِّعٌ بالعَقْلِيَّاتِ، نَسِيْجُ وَحْدِهِ، وفَرِيْدُ عَصْرِهِ، تَقْصُرُ العِبَارَةُ عَنْ ذِكْرِ صِفَاتِهِ على التَّفْصِيْلِ، وتَعْجَزُ الإشَارَةُ عَنْ إحَاطَةِ شَمائِلِهِ على وَجْهِ التَّكْمِيْلِ، ولَوْ شُرِعَ في تَفَاصِيْلِهَا لأوْقِرَ مِنْهَا الأحْمَالُ، ولثَقُلَتْ بِها أقْتَابُ الجِمالِ .
مَا زَالَ يَسْبِقُ حَتَّى قَالَ حَاسِدُهُ لَهُ طَرِيْقٌ إلى العَلْيَاءِ مُخْتَصَرُ
* * *
( بَلْ كَانَ رَحِمَهُ الله رَجُلًا قوَّالًا بالحَقِّ، أمَّارًا بالمَعْرُوْفِ نهَّاءً عَنِ المُنْكَرِ، تَبَّاعًا للسُّنَنِ وأقْوَالِ الصَّحَابَةِ، قَفَّاءً لآثَارِ السَّلَفِ أوْلي الإنَابَةِ، يَتَوَقَّدُ ذَكَاءً، ويَتَلْألأ زَكَاءً، إمَامٌ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ، وهُمَامٌ لا يَمِيْلُ إلى حَلاوَةٍ مِنَ المِنَّةِ .
نَعَم؛ هُوَ شَيْخُنا الإمَامُ الرَّبَّانيُّ، والسَّيْفُ اليَمانيُّ، المَسْلُوْلُ على المُتَعَالمِيْنَ والمُخَالِفِيْنَ، والشَّوْكَةُ الشَّجِيَّةُ في حُلُوْقِ أهْلِ الأهْوَاءِ المُبْتَدِعِيْنَ، قُدْوَةُ الخَلَفِ، وبَقِيَّةُ السَّلَفِ، رَجُلٌ ذَكِيْرٌ، وفَحْلٌ كَبِيْرٌ، ثَقْفٌ لَقْفٌ رَامٍ رَاوٍ، وَرِعٌ في تَصَوُّنٍ وزَهَادَةٍ، مُقْتَصِدٌ في الدُّنْيَا والقِيَادَةِ، لا يَكْتَرِثُ بنَضْرَتِها وبِهْجَةِ نَضَارِهَا، ولا يَلْتَفِتُ إلى دِرْهَمِهَا ودِيْنَارِهَا، طَنَّتْ بذِكْرِهِ الأمْصَارُ، وضَنَّتْ بمِثْلِهِ الأعْصَارُ!
* * *
( أمَّا مَشَايِخُهُ، وإجَازَاتُهُ العِلْمِيَّةُ :(1/47)
فَقَدْ تَتَلْمَذَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله على أئِمَّةٍ أعْلامٍ، وعُلَماءٍ كِرَامٍ، فَقَدَ أخَذَ عِلْمَ «المَيْقَاتِ» عَنْ شَيْخِهِ القَاضِي صَالِحِ بنِ مُطْلَقٍ رَحِمَهُ الله (1385)، وقَرَأ عَلَيْهِ خَمسًا وعِشْرِيْنَ مَقَامَةً مِنْ «مَقَامَاتِ الحَرِيْرِي» رَحِمَهُ الله (516)، وكَذَا أخَذَ عَلَيْهِ كِتَابَ البُيُوْعِ مِنْ كِتَابِ «زَادِ المُسْتَقْنِعِ» .
وكَذَا أخَذَ عَنْ شَيْخِ الإسْلامِ الحُجَّةِ الرَّبَّانيِّ عَبْدِ العَزِيْزِ بنِ بَازٍ رَحِمَهُ الله (1421)، كِتَابَ الحَجِّ مِنْ «مُنْتَقَى الأخْبَارِ» للمَجْدِ ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله (652)، وكَانَ ذَلِكَ في حَجِّ عَامِ (1385) .
وقَدْ لازَمَ الشَّيْخَ العَلَّامَةَ المُفَسِّرَ الأصُوليَّ العَالمَ الرَّبَّانيَّ فَقِيْهَ المَذَاهِبِ مُحمَّدَ الأمِيْنَ الشِّنْقِيْطِيَّ رَحِمَهُ الله، نَحْوَ عَشَرَ سِنِيْنَ؛ حَتَّى وَفَاتِهِ عَامَ (1393)، فَقَرَأ عَلَيْهِ في تَفْسِيْرِهِ «أضْوَاءَ البَيَانِ»، ورِسَالَتَهُ «آدَابَ البَحْثِ والمُنَاظَرَةِ»، وانْفَرَدَ أيْضًا بأخْذِ عِلْمِ النَّسَبِ عَنْهُ، كَما قَرَأ عَلَيْهِ كِتَابَ «القَصْدِ والأمَمِ»، وأيْضًا بَعْضَ كِتَابِ «الأنْبَاهِ» كِلاهُمَا لابنِ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُ الله (463)، وكَذَا بَعْضَ الرَّسَائِلِ .
* * *
( ولشَيْخِنَا رَحِمَهُ الله عِنَايَةٌ بالإجَازَاتِ العِلْمِيَّةِ؛ حَيْثُ اسْتَجَازَ بَعْضَ أهْلِ العِلْمِ المَعْنِيِّيْنَ بالإجَائِزِ، حَيْثُ أخَذَ مِنَ الشَّيْخِ سُلَيْمانَ بنِ عَبْدِ الرَّحمَنِ الحَمْدَانَ النَّجْدِيِّ الحَنْبَليِّ (1397)، ولَدَيْهِ نَحْوَ عِشْرِيْنَ إجَازَةً مِنْ عُلَماءِ الحَرَمَيْنِ والرِّيَاضِ والمَغْرِبِ والشَّامِ والهِنْدِ وإفْرِيقِيَا وغَيْرِهَا، وقَدْ جَمَعَهَا في ثَبَتٍ مُسْتَقِلٍّ، ولم يُطْبَعْ بَعْدُ!
* * *
( أعْمَالُهُ ومَنَاصِبُهُ :(1/48)
فَقَدْ أسْبَغَ الله على شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله وَافِرَ نِعَمِهِ، وألْبَسَهُ ثَوْبَ العِلْمِ وقَدَّمَهُ؛ حَيْثُ نَالَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله شَرَفَ الإمَامَةِ والخَطَابَةِ في المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ خَمْسَ سِنِيْنَ مَا بَيْنَ عَامِ (1391) إلى عَامِ (1396)، قَضَاهَا نَوْبَةً مَعَ إخْوَانِهِ أهْلِ العِلْمِ والنَّبَاهَةِ، فَكَانَ خَطِيْبًا مُفَوَّهًا، وإمَامًا مُجَوِّدًا، وكَذَا جَلَسَ للتَّدْرِيْسِ والتَّعْلِيْمِ في المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ عَشْرَ سِنِيْنَ مَا بَيْنَ عَامِ (1390) إلى عَامِ (1400) .
ومَا زَالَ شَيْخُنَا في دُوْرِ العِلْمِ يُعْطِي ويُعَلِّم؛ حَتَّى عُيِّنَ للقَضَاءِ في المَدِيْنَةِ النَّبَوِيَّةِ ثَلاثَ عَشَرَةَ سَنَةً، مَا بَيْنَ عَامِ (1388) إلى عَامِ (1400)، ثُمَّ عُيِّنَ أيْضًا وَكِيْلًا عَامًا لوَزَارَةِ العَدْلِ فمَكَثَ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً، مَا بَيْنَ عَامِ (1400) إلى عَامِ (1412)!
وفي عَامِ (1412) صَدَرَ أمْرٌ مَلَكِيٌّ بتَعْيِيْنِهِ عُضْوًا في اللَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ للبُحُوْثِ العِلْمِيَّةِ والإفْتَاءِ، وهَيْئَةِ كِبَارِ العُلَماءِ .
وفي عَامِ (1405) صَدَرَ أَمْرٌ مَلَكِيٌّ بتَعْيِيْنِهِ مُمثِّلاً للمَمْلَكَةِ العَرَبِيَّةِ السُّعُوْدِيَّةِ في مَجْمَعِ الفِقْهِ الإسْلامِيِّ الدَّوْليِّ المُنْبَثِقِ عَنْ مُنَظَّمَةِ المُؤْتَمرِ الإسْلامِيِّ، وفِيْهَا أيْضًا اخْتِيْرَ رَئِيْسًا للمَجْمَعِ، وكَذَا في عَامِ (1406) عُيِّنَ عُضْوًا في المَجْمَعِ الفِقْهِي برَابِطَةِ العَالمِ الإسْلامِيِّ .
وهَكَذَا كَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله يَتَقَلَّبُ في أنْعُمٍ وَفِيْرَةٍ، ومَنَاقِبَ شَهِيْرَةٍ، فرَحِمَهُ الله وَبَلَّ بالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ!
* * *
( مِحنِتُهُ العِلْمِيَّةُ :(1/49)
وبَيْنَا شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله في صَوْلاتٍ عِلْمِيَّةٍ، وجَوْلاتٍ أدَبِيَّةٍ، هُنَا وهُنَاكَ إذْ دَبَّتْ إلَيْهِ مَكَائِدُ غَوِيَّةٍ، ودَفَائِنُ مَطْوِيَّةٍ، مِنْ مَجَاهِيْلِ أدْعِيَاءِ السَّلَفِيَّةِ، وتَنَابِيْلِ أغْبِيَاءِ الخَلَفِيَّةِ، ومِنْ وَرَائِهِم مَجَامِيْلُ في المُنَازَعَةِ، ومَخَاتِيْلُ في المُخَادَعَةِ، فَرَدَّ الله كَيْدَ كُلٍّ في نَحْرِهِ، ونَجَّاهُ بلُطْفِ مِنْهُ وتَدْبِيْرٍ، وجَعَلَ أعْدَاءهُ في دَبِيْرٍ، فَلَمْ يُبْقِ لهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ، ومَا جَرَتْ لهُم سَاقِيَةٌ، والله نَاصِرُ أوْلِيَائِهِ، في الحَيَاةِ وبَعْدَ المَمَاتِ!
فَلمَّا أحَسَّ شَيْخُنا بمَكَرَةِ اللَّيْلِ، وتَسَامَعَ بمَهَرَةِ التَّضْلِيْلِ؛ قَامَ رَحِمَهُ الله يَزْأرُ كَأنَّهُ غِظَنْفَرٌ هِزَبْرٌ، مُقْبِلٌ مُدْبِرٌ، كَأنَّهُ جُمْلُوْدُ صَخْرٍ، انْحَطّ مِنْ رَأسِ جَبَلِ وَعْرٍ، ليَقْضِيَ الله أمْرًا كَانَ مَقْدُوْرًا، فعِنْدَهَا أشْهَرَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله سَيْفَ أقْلامِهِ، وأطْلَقَ الأعِنَّةِ لإقْدَامِهِ، فأخَذَهُم أخْذَةَ أسَفٍ، واقْتَادَهُم إرْسَافًا في كِتَابِهِ العُجَابِ «تَصْنِيْفِ النَّاسِ بَيْنَ الظَّنِّ واليَقِيْنِ»!
فَعِنْدَهَا أصْبَحَ هَذَا الكِتَابُ تَسْلِيَةً للمُصَابِيْنَ مِنْ وَخَزِ إخْوَانِهِمُ الجَرَّاحِيْنَ، وكَانَ أيْضًا مَوْعِظَةً وتَذْكِيْرًا للأدْعِيَاءِ المُفْلِسِيْنَ، فانْظُرْهُ لِزَامًا ففِيْهِ امْتِدَادُ يَدٍ مَاسِحَةٍ على جُرُوْحِ أهْلِ العِلْمِ والدَّعْوَةِ، وتَسْلِيَةٌ يتَعَزَّى بِها أهْلُ الغُرْبَةِ السَّلَفِيِّيْنَ، وسَيَأتي لبَعْضِ كُتُبِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله بَعْضُ التَّوَاصِيْفِ إنْ شَاءَ الله .
* * *
((1/50)
وعَوْدًا بَعْدَ بَدْءٍ؛ ومَعَ هَذَا وذَاكَ فَقَدَ غَلَّبَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله جَانِبَ العُزْلَةِ، ورَجَّحَ صَفَاءَ الخَلْوَةِ، فارْتَاضَتْ نَفْسُهُ للوَحْدَةِ، وتَسَامَحَ مَعَ النَفْسِ الفَرْدَةِ، واكْتَفَى بالتَّألِيْفِ والتَّقْيِيْدِ، والقِرَاءةِ والتَّصْيِيْدِ، فانْجَمَعَ عَنِ النَّاسِ، واجْتَمَعَ إلى نَفْسِهِ بإيْنَاسِ .
فَلا يُخَالِطُ إلَّا على نُدُرٍ، ولا يُجَالِسُ إلَّا على قَدَرٍ، فَكَانَ فِيْهِ مِنَ النَّاسِ نُفْرَةٌ، ولَهُ في المَاضِيْنَ عِبْرَةٌ، وفِيْهِ مِنَ الحَنَابِلَةِ نَزْعَةٌ، إذْ كَانُوا يَجِدُوْنَ في الخَلْوَةِ مُتْعَةً ...!
ولَيْسَ ذَا بعَيْبٍ يُعِيْبُهُ، ولا رَيْبٍ يُرِيْبُهُ! لاسِيَّما والرَّجُلُ للنَّاسِ بكُتُبِهِ نَافِعٌ، ولنَفْسِهِ باللَّحْظِ جَامِعٌ، ولرَبِّهِ بالعِبَادَةِ طَائِعٌ! هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ شَرَّ الزَّمَانِ في ازْدِيَادٍ، وأهْلَهُ في رِيْبٍ وعِنَادٍ، والهَوَى غَالِبٌ غَلَّابِ، والجَهْلُ جَالِبٌ جَلَّابٌ، والسَّاعَةُ قَابَ قَوْسَيْنَ أو أدْنَى؟!
ومَا وَرَاءَ شَيْخِنَا إذَا اسْتَكَانَ طَبْعُهُ، ورَاضَ قَلْبُهُ، بحَدِيْثِ النَّبِيِّ ? : «أمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، ولْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وابْكِ على خَطِيْئَتِكَ» التَّرمِذِيُّ .
( ولله دَرُّ القَائِلِ :
تَوَارَيْتُ مِنْ دَهْرِي بظِلِّ جَنَاحِهِ فعَيْنِي تَرَى دَهْرِي ولَيْسَ يَرَاني
ولَوْ تَسْألُ الأيَّامُ مَا اسْمِي لمَا دَرَتْ وأيْنَ مَكَاني مَا عَرَفْنَ مَكَاني
* * *
((1/51)
ومِنْ هُنَا (؟!) دَخَلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ الله ووَلَجَ، ولَوْلا مَا هُنَا لكُمَلَ وخَرَجَ؛ حَيْثُ اعْتَرَاهُ بَعْضُ الأحَايِيْنِ، مَضَائِقُ أخْلاقٍ في لِيْنٍ، وجَفْوَةٌ للغَرِيْبِ يَكَادُهَا ولا يُبِيْنُ، لِذَا تَجَافَلَ عَنْهُ طُلَّابُهُ، وتَقَالَلَ أحْبَابُهُ، إلَّا نَزْرٌ في إقْلالٍ، وقَطْرَةٍ في قِلالِ، لكِنَّهُ إذَا اسْتَكَانَ لزَائِرِهِ وقَاصِدِهِ، كَانَ وَدِيْعًا بَدِيْعًا لعَائِدِهِ، سَهْلًا مَلِيْحًا في مُحَادَثَتِهِ، طَيِّبًا كَرِيمًا في مُبَاحَثَتِهِ ... لَكِنَّ الكَمالَ عَزِيْزٌ، وشَيْخُنَا عَزِيْزٌ!
( ومَا أجْمَلَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله :
تَصَبَّرْ على مُرِّ الجَفَا مِنْ مُعَلِّمٍ فَإنَّ رُسُوْبَ العِلْمِ في نَفَرَاتِهِ
ومَنْ لم يَذُقْ مُرَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةًً تَجَرَّعَ ذُلَّ الجَهْلِ طُوْلَ حَيَاتِهِ
* * *
( فكَانَ رَحِمَهُ الله مُنْكَفًّا على نَفْسِهِ في قِرَاءَةٍ وتَألِيْفٍ، أغْلَقَ بَابَهُ على التَّدْقِيْقِ والتَّصْنِيْفِ، رَاضٍ بخَلَوَاتِهِ مُسْتَأنِسٌ، مَاضٍ في طَلَعَاتِهِ مُتَحَسِّسٌ، صَبُوْرٌ فَخُوْرٌ، فَلِمَاذَا حِيْنَئِذٍ التَّشَكِّي؟!
وقَدْ حَادَثْتُهُ مَرَّةً فَأبَى، ورَاجَعْتُهُ أخْرَى فَنَبَى، فبَايَنَنِي بالحَدِيْثِ وتَنَهَّدَ، وسَارَرَني بكَوَائِنِ الزَّمَانِ وعَدَّدَ، وحَذَّرَني مِنْ بَنَاتِ طَبَقٍ، ومِنْ زَبَدِ مَفَالِيْسِ اللَّفَقِ .
( ومَا أجْمَلَ مَا قَالَهُ الأحَيْمِرُ السَّعْدِيُّ :
عَوَى الذِّئْبُ فَاسْتَأنَسْتُ بالذِّئْبِ إذْ عَوَى وصَوَّتَ إنْسَانٌ فَكِدْتُ أطَيْرُ
رَأى اللهُ أنِّي للأنِيْسِ لشَانِئٌ وتُبْغِضُهُم لي مُقْلَةٌ وضَمِيْرُ
* * *(1/52)
وهَكَذَا لم يَزَلْ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله يُدَافِعُ الأيَّامَ ويُزْجِيْهَا، ويُعَلِّلُ العُزْلَةَ ويُرَجِّيْهَا، فَامْتَطَى غَارِبَ الأمَلِ إلى الغُرْبَةِ، ورَكِبَ مُتُوْنَ التَّألِيْفِ مَعَ قِلَّةِ الصُّحْبَةِ، فَما زَالَ مَعَ الزَّمَانِ في تَفْنِيْدٍ وعِتَابٍ؛ حَتَّى رَضِيَ مِنَ الغَنِيْمَةِ بالإيَابِ، ومِنَ النَّاسِ بقِلَّةِ الأصْحَابِ، ممَّنْ ارْتَضَى خَلائِقَهُم، وأمِنَ بَوَائِقَهُم .
فَعِنْدَهَا تَسَلَّى بمُلازَمَةِ القَلَمِ والكِتَابِ، ومُطَالَعَةِ صَحَائِفِ أوْلي الألْبَابِ، مَا شَغَلَهُ عَنْ كَثْرَةِ المُخَالَطَةِ، وألهَاهُ عَنْ تَوَقِّي المُغَالَطَةِ، فَظَفَرَ مِنْهَا بضَالَّتِهِ المَنْشُوْدَةِ، وبُغْيَةِ نَفْسِهِ المَفْقُوْدَةِ، فجَعَلَ يَرْتَعُ بَيْنَ أزْهَارِ حَدَائِقِهَا، ويَسْتَمْتِعُ بحُسْنِ حَقَائِقِهَا .
وهَكَذَا اعْتَقَدَ مَقَامُهُ بذَلِكَ الجَنَابِ؛ حَتَّى تَوَارَى تَحْتَ التُّرابِ، فرَحِمَهُ الله الغَفُوْرُ التَّوَّابُ!
إذَا مَا الدَّهْرُ بيَّتَنِي بجَيْشٍ طَلِيْعَتُهُ اغْتِنَامٌ واكْتِئَابُ
شَنَنْتُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِي كَمِيْنًا أمِيْرَاهُ الذُّبَالَةُ والكِتَابُ
وبِتُّ أنُصُّ مِنْ شِيَمِ اللَّيَالي عَجَائِبَ في حَقَائِقِهَا ارْتِيَابُ
بِها أُجْلي هُمُومِي مُسْتَرِيْحًا إذَا جَلَّى هُمُوْمَهُمُ الشَّرَابُ
ولِسَانُ حَالِهِ، كَما قَالَ غَيْرُهُ :
وأدَّبَني الزَّمَانُ فَمَا أُبَالي هُجِرْتُ فَلا أُزَارُ ولا أزُوْرُ
ولَسْتُ بقَائِلٍ مَا عِشْتُ يَوْمًا أَسَارَ الجُنْدُ أمْ رَحَلَ الأمِيْرُ؟
* * *
( صِفَاتُهُ الخَلْقِيَّةُ :(1/53)
فَكَانَ رَحِمَهُ الله يَعْلُوْهُ بَيَاضٌ في حُمْرَةٍ، وتَكْسُوْهُ ممَاسِحُ سُمْرَةٍ، رِبْعَةٌ مِنَ الرِّجَالِ، لا قَصِيْرٌ ولا مِطْوَالٌ، ضَخْمُ القَامَةِ، عَظِيْمُ الهَامَةِ، شَثْنُ الكَفَّيْنِ والقَدَمَيْنِ، ضَخْمُ الرَّأسِ أدْعَجُ العَيْنَيْنِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، ضَلِيْعُ الفَمِّ والهَيْئَةِ، بَادِنٌ مُتَماسِكٌ، مُعْتَدِلٌ مُتَمالِكٌ!
* * *
( مُؤلَّفَاتُ ابنِ القَيِّمِ الصَّغِيْرِ :
أمَّا مَزْبُوْرَاتُ تَآلِيْفِهِ، ومَسْطُوْرَاتُ تَصَانِيْفِهِ، فمَعْلُوْمَةٌ مَشْهُوْرَةٌ، مَعْرُوْفَةٌ مَأثُوْرَةٌ، سَارَ بِها الرُّكْبَانِ، وتَقَبَّلَهَا النَّاسُ بإحْسَانٍ، فَاقَتْ عُقُوْدَ الجُمانِ، وسَابَقَتْ قَلائِدَ العِقْيَانِ، تَضَوَّعَ مِسْكُ ثَنَايَاهَا، وتَفَوَّحَ عَبِيْرُ خَفَايَاهَا، تَنْهَلُ مِنْهَا المَوَارِدُ، وتَصْدُرُ عَنْهَا المَزَاوِدُ، آثَارُهَا في العَالمِيْنَ مَكْتُوْبَةٌ، وثِمارُهَا في الخَافِقِيْنَ مَجْلُوْبَةٌ، فَهِيَ بحُسْنِ سَبْكِهَا غُرَّةٌ في جَبْهَةِ الزَّمَانِ، ودَلَّةٌ يقْتَدِي بِها أهْلُ العَدْلِ والإحْسَانِ، كَأنَّها صُنُوْجُ العَسْجَدِ تُصَفَّقُ، أو دَنَانِيْرُ مِنَ الإبْرِيْزِ تَبْرُقُ ...!
وحَسْبُهُ أنَّ الله تَعَالى نَشَرَ كُتُبَهُ في حَيَاتِهِ، وحَفِظَهَا بطُلَّابٍ بَعْدَ ممَاتِهِ، وجَعَلَ لهَا قَبُوْلًا في مَشَارِقِ الأرْضِ ومَغَارِبِهَا، وإقْبَالًا مِنْ أهْلِ السُّنَّةِ وطُلَّابِهَا، ارْتَضَاهَا أهْلُ العِلْمِ على اخْتِلافِ مَشَارِبِهِم، وتَنَوُّعِ طَرَائِقِهِم وأفْكَارِهِم ، فللَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ!
ولَيْسَ الإطْنَابُ فِيْهَا بكَثِيْرٍ، ولكِنْ يَكْفِي مِنَ القِلادَةِ مَا أحَاطَ بالعُنُقِ .
* * *
((1/54)
فلشَيْخِنَا رَحِمَهُ الله مِنَ التَّآلِيْفِ العِلْمِيَّةِ، والرَّسَائِلِ القَيِّمَةِ، والتَّحْقِيْقَاتِ المُجَوَّدَةِ، والفَتَاوَى المُحَرَّرَةِ مَا يُقَارِبُ السَّبْعِيْنَ أو يَزِيْدُ، والمَطْبُوْعُ مِنْهَا قَرَابَة بِضْعٍ وسِتِّيْنَ فِيْما أعْلَمُ، كَما أنَّه رَحِمَهُ الله قَدْ أكَّدَ لخَوَاصِهِ مِنَ طُلَّابِ العِلْمِ، وكَذَا قَدْ وَعَدَ في مَثَاني كُتُبِهِ أنَّهُ عَازِمٌ على إخْرَاجِ بَعْضِ الكُتُبِ المُفِيْدَةِ، والرَّسَائِلِ العَدِيْدَةِ ... فمِنْهَا مَا أظْهَرَ اسْمَهَا، وأُخْرَى قَدْ أضْمَرَ رَسْمَهَا، ونَحْنُ في انْتِظَارٍ لاسِيَّما مِنْ أبْنَائِهِ النُّجَبَاءِ، وطُلَّابِهِ الأكْفَاءِ، والوُعُوْدُ عُهُوْدٌ .
* * *
( وهَذِهِ ثَانِيَةً؛ أنَّهُ رَحِمَهُ الله كَانَ لَهُ عِنَايَةٌ تَامَّةٌ لامَّةٌ بكُتُبِ شَيْخِ الإسْلامِ الإمَامِ الحَافِظِ أبي عَبْدِ الله مُحمَّدِ بنِ أبي بَكْرٍ أيُّوْبَ ابنِ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ رَحِمَهُ الله (751)، وهَذَا مَا يَشْهَدُ لَهُ أهْلُ العِلْمِ والحِجَى، بَلْ أصْبَحَ اسْمُ بَكْرٍ قَرِيْنًا باسْمِ ابنِ القَيِّمِ، فَلا يُذْكَرُ أحَدُهُما إلَّا وذُكِرَ الآخَرُ، فللَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ، و«المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ»! مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
((1/55)
وثَالِثَةً؛ أنَّ مَجْمُوْعَ أطَارِيْحِهِ رَحِمَهُ الله (المَاجِسْتِيْر والدَّكْتُوْرَاه) كَانَتْ دِرَاسَةً مُحَرَّرَةً عَنْ فِقْهِ ابنِ القَيِّمِ، فرِسَالَتُهُ (للمَاجِسْتِيْر) كَانَتْ بعُنْوَانِ «الحُدُوْدِ والتَّعْزِيْرَاتِ عِنْدَ ابنِ القَيِّمِ»، ورِسَالَتُهُ العَالمِيَّةُ (الدُّكْتُوْرَاه) كَانَتْ بعُنْوَانِ «أحْكَامِ الجِنَايَةِ على النَّفْسِ ومَا دُوْنَها عِنْدَ ابنِ القَيِّمِ»، مَعَ ضَمايِمَ دَائِرَةٍ في فَلِكَ عُلُوْمِ ابنِ القَيَّمِ رَحِمَهُ الله، مِثْلُ : «ابنِ قِيِّمِ الجَوْزِيَّةِ، حَيَاتُهُ وآثَارُهُ»، و«التَّقْرِيْبِ لعُلُوْمِ ابنِ القَيِّمِ»، وغَيْرِهَا مِنْ مَعْلَمَةِ ابنِ القَيِّمِ .
حَتَّى كَانَ مِنْ آخِرِهَا وأنْفَعِهَا وأوْسَعِهَا : المَشْرُوْعُ القَيِّمِ، الجَامِعُ لعَلُوْمِ وكُتُبِ ابنِ القَيِّمِ، وذَلِكَ بإخْرَاجِ تُرَاثِ مَعْلَمَةِ ابنِ القَيِّمِ العِلْمِيِّةِ، وتَقْرِيْبُهَا لعَامَّةِ المُسْلِمِيْنَ؛ حَيْثُ قَامَ رَحِمَهُ الله بفِكْرَةِ إخْرَاجِ المَعْلَمَةِ القَيِّمَةِ لمَجَامِيْعِ عُلُوْمِ ابنِ القَيِّمِ وآثَارِهِ العِلْمِيَّةِ، وذَلِكَ تَحْتَ إشْرَافِهِ، فعِنْدَهَا خَرَجَتْ طَلائِعُ كُتُبِ ابنِ القَيِّمِ في مَجْمُوْعَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ، بَعْدَ تَنْضِيْدِهَا ومُرَاجَعَتِهَا، وإخْرَاجِهَا بتَحْقِيْقَاتٍ عِلْمِيَّةٍ، وطَبَعَاتٍ قِيَّمِةٍ، وبأسْعَارٍ زَهِيْدَةٍ.
وقَدْ خَرَجَ مِنْهَا حَتَّى سَاعَتِي هَذِهِ مَجْمُوْعَتَانِ في ثَمانِيَةَ عَشَرَ مُجلَّدًا، فَجَزَاهُ الله عَنْ ابنِ القَيِّمِ والمُسْلِمِيْنَ خَيْرَ الجَزَاءِ!
* * *
((1/56)
وهَكَذَا اعْتَنَى شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله بعُلُوْمَ ابنِ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ رَحِمَهُ الله، عِنَايَةً فَائِقَةً لَيْسَ لهَا نَظِيْرُ فِيْمَا سَبَقَ، بَلْ إخَالُكَ تَجْزِمُ قَطْعًا أنَّ أحَدًا لم يَخْدِمْ كُتُبَ وعُلُوْمَ ابنِ القَيِّمِ مِثْلَما خَدَمَهَا وقَرَّبَها شَيْخُنَا بَكْرٌ رِحِمَهُ الله!
بَلْ إذَا قِيْلَ : إنَّ ابنَ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله كَانَ مِنْ أبَرِّ طُلَّابِ شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّة في عُلُوْمِهِ، فَلا جَرَمَ أنَّ أبرَّ النَّاسِ بابنِ القَيِّمِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا كَانَ مِنْ شَيْخِنَا بَكْرٍ أبو زَيْدٍ، فعِنْدَهَا كَانَ حَقًّا أنْ يُلَقَّبَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله : بابنِ القَيِّمِ الصَّغِيْرِ!
ومِنَ الإدْلالِ هُنَا؛ إذَا قِيْلَ : إنَّ أحَدًا لَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ على الإمَامِ الشَّافِعِي رَحِمَهُ الله، إلاَّ مَا كَانَ منْ البَيْهَقِيِّ، فَكَذَا القَوْلُ هُنَا : لَيْسَ لأحَدٍ حَسَنَةٌ على الإمامِ ابنِ القَيِّمِ، إلاَّ مَا كَانَ مِنْ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله تَعَالى .
* * *
ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ النَّسَبَ ثَلاثَةٌ : نِسْبَةُ طِيْنٍ، ونِسْبَةُ دِيْنٍ، ونِسْبَةُ عِلْمٍ، فَأمَّا الطِّيْنِيَّةُ فَلِلأبَوَيْنِ، وأمَّا الدِّيْنِيَّةُ فللمُؤمِنِيْنَ، وأمَّا العِلْمِيَّةِ فلأهْلِ العِلْمِ، فَكَانَ والحَالَةُ هَذِهِ أنْ حَازَ شَيْخُنَا مِنْ شَيْخِهِ ابنِ القَيِّمِ نِسْبَتَيْنِ : نِسْببَةً دِيْنِيَّةً وعِلْمِيَّةً، فَلْيَهْنَأكَ النِّسْبَةَ أبَا عَبْدِ الله، وجمَعَكَ بشَيْخِكَ في عِلِّيْيِنَ، مَعَ العُلَماءِ الرَّبَّانِيِّينَ!
* * *
( وأمَّا كُتُبُ ابنِ القَيِّمِ الصَّغِيْرِ، فكَثِيرَةٌ جِدًّا، قَدَ مَضَى بَعْضُهَا، وبَقِيَ بَعْضٌ، فمِنْهَا (لا كُلُّهَا) :
( كِتَابُ «تَصْنِيْفِ النَّاسِ بَيْنَ الظَّنِّ واليَقِيْنِ»، وقَدْ مَرَّ مَعَنَا .
((1/57)
وكَذَا كِتَابُ «المَدْخَلِ المُفَصَّلِ إلى مَذْهَبِ الإمَامِ أحمَدَ بنِ حَنْبَلٍ» في مُجَلَّدَيْنِ كَبِيْريْنِ، ويُعَدُّ هَذَا الكِتَابُ مِنْ أنْفَعِ كُتُبِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله؛ حَيْثُ جَمَعَ شَتَاتَ مُتَفَرِّقَاتِ كُتُبِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ وأعْلامِهِ في حُسْنِ تَألِيْفٍ وتِقْسِيْمٍ، وجَوْدَةِ تَرْكِيْبٍ وتَرْقِيْمٍ، وكَذَا تَحْرِيْرٍ وتَقْوِيْمٍ، وسَبْكٍ لم يُسْبَقْ إلَيْهِ، وجَمْعٍ مَا سُبِقَ عَلَيْهِ، فَهُو عُمْدَةُ الحَنَابِلَةِ في هَذَا العَصْرِ، وبِهِ جَمُلَ المَذْهَبُ وزَانَ، وتمَهَّدَ طَرِيْقُهُ ولَانَ، وكُلُّ مْنَ ألَّفَ في هَذَا الفَنِّ فَهُمْ عِيَالٌ عَلَيْهِ، ومَعَ هَذَا ففِيْهُ بَعْضُ فَوَائِتٌ مُسْتَدْرَكَةٌ!
( ولَهُ أيْضًا كِتَابُ «مُعْجَمِ المَنَاهِي اللَّفْظِيَّةِ» في مُجْلَدٍ كَبِيْرٍ، وهُوَ كِتَابٌ بَدِيْعٌ نَافِعٌ، ومُحرَّرٌ جَامِعٌ، ولَهُ فِيْهِ تَرْتِيْبٌ وتَبْوِيْبٌ، على طَرِيْقَةِ المَعَاجِمِ اللُّغَوِيَّةِ، وفِيْهَ تَقْيِدَاتٌ وانْتِقَاءَاتٌ قَوِيَّةٌ، لم يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أحَدٌ فِيْما أعْلَمُ؛ حَيْثُ جَمَعَ فِيْهِ وأوْعَى، وأفَادَ فِيْهِ وأشْفَى، وفَاتَهُ شَيء كَثِيرٌ، وقَدْ رَأيْتُ مَنِ اسْتَدْرَكَهُ مُؤخَّرًا في مُجَلَّدٍ مُتَوَسِّطٍ قِيِّمٍ!
( ولَهُ أيْضًا كِتَابُ «طَبَقَاتِ النَّسَّابِيْنَ» في مُجَلَّدٍ، فَهُوْ جَامِعٌ نَافِعٌ، جَاءَ بِكُلِّ جَدِيْدٍ، وضَمَّهُ كُلَّ مُفِيْدٍ، ومَعَ هَذَا ففِيْهِ اسْتِدْرَاكَاتٌ وفَوَائِتُ يَسِيْرةٌ، وأحْرُفٌ غَيرُ مُحرَّرَةٍ!
((1/58)
ولَهُ أيْضًا كِتَابُ «حِرَاسَةِ الفَضِيْلَةِ»، وهَذَا الكِتَابُ مِنْ أنْفَسِ الكُتُبِ وأنْفَعِهَا؛ حَيْثُ خَرَجَ في الوَقْتِ الَّذِي شَالَتْ فِيْهِ العَلْمانِيَّةُ بأذْنَابِهَا في نَشْرِ الرَّذِيْلَةِ، ودَفْعِ المَرْأةِ المُسْلِمَةِ إلى سُوْقِ الشَّهَوَاتِ بَيْعًا وشِرَاءً، فَالله طَلِيْبُهُم!
لِذَا كَانَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ الله مُوَفَّقًا مُسَدَّدًّا في تَسْطِيْرِ هَذَا الكِتَابِ؛ حَيْثُ جَمَعَ فِيْهِ خُلاصَةَ مَنْ سَبَقَهُ، مَعَ زِيَادَاتٍ عِلْمِيَّةٌ، وتَحرِيْرَاتٍ قَوِيَّةٍ، ومُنَاقَشَاتٍ نَقْلِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ، فَجَاءَ الكِتَابُ وَاسِطَةَ العِقْدِ لمنَ سَبَقَهُ، وائْتَمَّ بِهِ مَنْ لحِقَهُ، فعِنْدَهَا انْتَشَرَ انْتِشَارَ الماءِ في عُرُوْقِ الوَرْدِ، والرُّوْحِ في الجَسَدِ، فطُبِعَ مِنْهُ عَشَرَاتُ الألافِ في أشْهُرٍ يَسِيْرةٍ كَما أخْبرني بِهِ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله، ثُمَّ تَوَالَتْ طَبَعَاتُه ممَّا يَعْسُرُ عَدُّهَا، وذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤتِيْهِ مَنْ يَشَاءُ!
( وكَذَا كِتَابُ «حِلْيَةِ طَالِبِ العِلْمِ»، وهُوَ كِتَابٌ مُهِمٌّ لطَالِبِ العِلْمِ، ورَائِمِ عُلُوِّ الهِمَمِ؛ حَيْثُ أتَي فِيْهِ وزَادَ بِمَا يَدُلُّ على عُلُوِّ كَعْبِ صَاحِبِهِ، ويَقْطَعُ بنُبُوْغِ وبَيَانِ قَلَمِ كَاتِبِهِ، ممَّا يُرَغِّبُ الطَّالِبَ في مُطَالَعَتِهِ، والعَالمَ الجِهْبَذَ في مُقَارَعَتِهِ .(1/59)
فَكَانَ مِنْ لَبُوْسِ القَبُوْلِ أنَّ شَيْخَنَا العَلَّامَةَ محَمَّدًا العُثَيْمِيْنَ رَحِمَهُ الله قَدْ شَرَحَ كِتَابَ «الحِلْيَةِ» لطُلَّابِهِ في عُنَيْزَةَ، والشَّيْخُ بَكْرٌ حَيٌّ يُرْزَقُ، وهَلْ هَذَا إلَّا اعْتِرَافٌ مِنْهُ بفَضْلِ أهْلِ العِلْمِ؟ وهَلْ العِلْمُ إلَّا رَحِمٌ بَيْنَ أهْلِهِ؟ فرَحِمَ الله العُلَماءَ الَّذِيْنَ يُقَدِّرُوْنَ العِلْمَ وأهْلَهُ مَهْمَا كَانَ المُتَكَلِّمُ والكَاتِبُ صَغْيرًا كَانَ أو كَبِيرًا .
( وكَذَا كِتَابُ «التَّعَالمِ»، وهَذَا الكِتَابُ مِنْ مُسْتَطَابَاتِ كُتُبِ الشَّيْخِ ونَوَادِرِهَا، ومُهِمَّاتِ الكُتُبِ وفَرَائِدِهَا، فَهُوَ بَابَاتُ طُلَّابِ العِلْمِ لمَعْرِفَةِ زَغَلِ العِلْمِ ودُخُولاتِهِ، ومَيَاسِمُ كَيٍّ لأدْعِيَاءِ العِلْمِ، فخُذْهُ بيَمِيْنِكَ، وابْصِرْهُ بعَيْنِكَ، فَهُوَ كِتَابٌ عُبَابٌ، ومَرْجِعٌ لُبَابٌ .
( وكَذَا كِتَابُ «المَدَارِسِ الأجْنَبِيَّةِ»، وهَذَا الكِتَابُ، نَادِرَةٌ فَارِدَةٌ، مخْتَصَرٌ مُعْتَصَرٌ، جَامِعٌ نَافِعٌ، جَاءَ فِيْهِ بخَلائِصِ مَنْ سَلَفَ، وأتَى على دُرَرِهِ مَنْ خَلَفَ، ففِيْهِ نَقْضٌ لأدْعِيَاءِ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَةِ، وكَشْفٌ لمُخَطَّطَاتِ (التَّنْصِيْرِ) الصَّلِيْبِيَّةِ، وتَحْذِيْرٌ لأبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ مِنَ الدَّعَوَاتِ الإرْسَالِيَّةِ، وفِيْهِ بَقِيَّةُ حَقَائِقَ ووَثَائِقَ مَيْدَانِيَّةٍ، فَدُوْنَكُهُ .
( وكَذَا كِتَابُ «حُكْمِ الانْتِماءِ»، وهُوَ كِتَابٌ مُهِمٌّ في ضَبْطِ جمَاعَةِ المُسْلِمِيْنَ، وجمْعِ كَلِمَتِهِم، ووِحْدَةِ صَفِّهِم، وأخْذِهِم بالكِتَابِ والسُّنَّةِ للانْضَوَاءِ تحْتَ مُبَايَعَةِ وَليِّ الأمْرِ، ومُنَابَذَةِ التَّفْرِقَةِ وشَقِّ عَصَا جمَاعَةِ المُسْلِمِيْنَ ...!(1/60)
ومَعَ هَذَا فَقَدْ لاقَى هَذَا الكِتَابُ بَعْضَ الرُّدُوْدِ والتَّعَقُّبَاتِ مِنْ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ مِنَ خَارِجِ هَذِهِ البِلادِ، ولكُلٍّ وُجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيْهَا، فالكِتَابُ إذَا ضَاقَ ببَعْضِ البِلادِ الإسْلامِيَّةِ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لأهْلِ هَذِهِ البِلادِ، فَتَأمَّلْ!
* * *
( ومِنْ وَرَائِهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ، ورَسَائِلُ عِلْمِيَّةٌ، لَيْسَ هَذَا مُقَامَ ذِكْرِهَا على وَجْهِ التَّفْصِيْلِ، فَخُذْهَا في مُعَنْوَنَاتِها للتَّذْكِيْرِ والتَّدْبِيْرِ، في حِيْنَ أنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ الله قَدْ جمَعَ مُتَفَرِّقَاتِ كُتُبِهِ، ولَمَّ ضَمايِمَهَا في مجَلَّدَاتٍ كِبَارٍ كَيْ تَكُوْنَ سَهْلَةَ المنَالِ، وتَبْقَى قَرِيْبَةَ النِّوَالِ، فَدُوْنَكُهَا في مجَلَّدَاتِها الآتِيَةِ، كَما يَلي :
( أحَدُهَا : كِتَابُ «ابنِ القَيِّمِ، حَيَاتُهُ، وآثَارُهُ، ومَوَارِدُهُ» في مُجَلَّدٍ، وهُوَ جَامِعٌ لسِيرَةِ حَيَاةِ شَيْخِهِ الإمَامِ الهُمامِ شَيْخِ الإسْلامِ ابن قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ رَحِمَهُ الله رَحْمَةً وَاسِعَةً، المُتَوَفَّى سَنَةَ (751) .
( وثَانِيْهَا : كِتَابُ «النَّظَائِرِ» في مُجَلَّدٍ، وهُوَ جَامِعٌ لأرْبَعِ رَسَائِلَ، كَما يَلي : «التَّراجِمُ الذَّاتِيَّةُ»، و«التَّحَوُّلُ المَذْهَبِيُّ»، و«العُزَّابُ»، و«لطَائِفُ الكَلِمِ في العِلْمِ» .
((1/61)
وثَالِثُهَا : كِتَابُ «الرُّدُوْدِ» في مُجَلَّدٍ، وهُوَ جَامِعٌ لسِتَّةِ كُتُبٍ، كَما يَلي : «الرَّدُّ على المُخَالِفِ مِنْ أصُوْلِ الإسْلامِ، ومَرَاتِبُ الجِهَادِ»، و«تَحْرِيْفُ النُّصُوْصِ مِنْ أدِلَّةِ أهْلِ الأهْوَاءِ»، و«بَرَاءَةُ أهْلِ السُّنَّةِ مِنَ الوَقِيْعَةِ في عُلَماءِ الأمَّةِ»، و«التَّحْذِيْرُ مِنْ مُختَصَرَاتِ الصَّابُوني في التَّفْسِيرِ»، و«تَصْنِيْفُ النَّاسِ بَيْنَ الظَّنِّ واليَقِيْنِ»، و«عَقِيْدَةُ ابنِ أبي زَيْدٍ القَيْرَوانيِّ، وعَبْثُ بَعْضِ المُعَاصِرِيْنَ بِهَا» .
( ورَابِعُهَا : كِتَابُ «التَّقْرِيْبِ لعُلُوْمِ ابنِ القَيِّمِ» في مُجَلَّدٍ، وهَذَا الكِتَابُ جَامِعٌ لمُتَفَرِّقَاتِ مَعْلَمَةِ ابنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله في مُفَهْرَسَاتٍ وجَدْولاتٍ مُهِمَّةٍ مُفِيْدَةٍ، غَيْرَ أنَّه في حَاجَةٍ إلى تَجْدِيْدِ عِزْوِ مَوْضُوْعَاتِهِ وإحَالاتِهِ إلى المَصَادِرِ الجَدِيْدَةِ في مَطْبُوْعَاتِهَا السَّائِرَةِ، لاسِيَّما إصْدَارَاتُ مَجَامِيْعِ وآثَارِ ابنِ القَيِّمِ الجَدِيْدَةِ الَّتِي أشْرَفَ عَلَيْهَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ الله، لِذَا كَانَ مِنْ الأرْفَقِ والأوْفَقِ ألَّا يُطْبَعُ هَذَا الكِتَابُ حَتَّى تَكْتَمِلَ آثَارُ ابنِ القَيِّمِ لتَقْيِيْدِ الإحَالاتِ والعَزْوِ، والله المُوَفِّقُ .
( وخَامِسُهَا : كِتَابُ «المَجْمُوْعَةِ العِلْمِيَّةُ» في مُجَلَّدٍ، وهُوَ جَامِعٌ لخَمْسِ رَسَائِلَ، كَما يَلي : «التَّعَالمُ»، و«آدَابُ طَالِبِ العِلْمِ» و«حِلْيَةُ طَالِبِ العِلْمِ»، و«الرَّقَابَةُ على التُّراثِ»، و«تَغْرِيْبُ الألْقَابِ العِلْمِيَّةِ» .
((1/62)
وسَادِسُهَا : كِتَابُ «الأجْزَاءِ الحَدِيْثِيَّةِ» في مُجَلَّدٍ، وهُوَ جَامِعٌ لخَمْسَةِ أجْزَاءٍ، كَما يَلي : «جُزْءٌ في حَدِيْثِ الحَوَالَةِ»، و«جُزْءٌ في مَسْحِ الوَجْهِ باليَدَيْنِ بَعْدَ رَفْعِهِما للدُّعَاءِ»، و«جُزْءٌ في زِيَارَةِ النِّسَاءِ للقُبُوْرِ»، و«جُزْءٌ في كَيْفِيَّةِ النُّهُوْضِ في الصَّلاةِ»، و«جُزْءٌ في مَرْوِيَّاتِ دُعَاءِ خَتْمِ القُرْآنِ» .
* * *
( وهُنَاكَ ضَمَايِمُ عِلْمِيَّةٌ، وبُحُوْثٌ تَأصِيْلِيَّةٌ، أدْرَجَهَا شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله في مُجَلَّدَيْنِ، تَحْتَ عُنْوَانِ «فِقْهِ النَّوَازِلِ»، وكُلُّ مُجلَّدٍ يَضُمُّ بَيْنَ دَفَّتَيْهِ خَمْسَ رَسَائِلَ، كَما يَلي :
( الأوَّلُ مِنْهُما : «التَّقْنِيْنُ والإلْزَامُ»، و«المُوَاضَعَةُ في الاصْطِلاحِ»، و«خِطَابُ الضَّمانِ البَنْكِي»، و«جِهَازُ الإنْعَاشِ، وعَلامَةُ الوَفَاةِ»، و«طُرُقُ الإنْجَابِ في الطِّبِّ الحَدِيْثِ» .
( والثَّاني مِنْهُما : «التَّشْرِيْحُ الجُثْماني»، و«النَّقْلُ والتَّعْوِيْضُ الإنْسَاني»، و«المُرَابَحَةُ للآمِرِ بالشِّرَاءِ»، و«حَقُّ التَّألِيْفِ، تَارِيخًا وحُكْمًا»، و«الحِسَابُ الفَلَكِيُّ لأوَائِلِ الشُّهُوْرِ العَرَبِيَّةِ»، و«دِلالَةُ البَوْصَلَةِ على القِبْلَةِ» .
وبِهَذَا نَكْتَفِي مِنْ ذِكْرِ كُتُبِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله، ومِنْ تَوْصِيْفِ مَضَامِيْنِهَا، وتَفَاصِيْلِ مَوْضُوْعَاتِها إلى أجَلٍ قَرِيْبٍ إنْ شَاءَ الله .
* * *
((1/63)
ومَهْما يَكُنْ؛ فَفِي سَابِقِ عِلْمِنَا أنَّ شَيْخَنَا رَحِمَهُ الله قَدِيْرٌ وجَدِيْرٌ (نَحْسَبُهُ كَذَلِكَ!) بأنْ يَتَصَدَّى ويتَصَدَّرَ لتَفْسِيْرِ كِتَابِ الله، وتَوْضِيْحِ السُّنَّةِ، و شَرْحِ مَا سِوَاهُمَا مِنْ كُتُبِ : العَقِيْدَةِ السَّلَفِيَّةِ، ومُخْتَصَرَاتِ الفِقْهِ الحَنْبلِيَّةِ في غَيْرِهَا، ولَوْ فَعَلَ رَحِمَهُ الله لأتَى بالعَجَبِ العُجَابِ وفَوْقَهُ، ولا نُزَكِّيْهِ على الله تَعَالى .
لكِنَّهُ رَحِمَهُ الله وَقَفَ نَفْسَهُ، وحَبَسَ قَلَمَهُ في إخْرَاجِ مَا يَحتَاجُهُ المُسْلِمُوْنَ اليَوْمَ، ومَا يُرِيْدُوْنَه في وَاقِعِهِم، فَكَانَ كَمَا أرَادَ رَحِمَهُ الله، في حِيْنَ أنَّه لَوْ أخْرَجَ أسْفَارًا عَدِيْدَةً، ومُجلَّدَاتٍ مَبْسُوْطَةً في تَفْسِيْرٍ أو شَرْحٍ أو غَيْرِهِ، فَلَنْ يَأتي على مَوَاقِعِ حَاجَاتِ إخْوَانِهِ المُسْلِمِيْنَ اليَوْمَ كَما هِيَ حَاجَتُهُم في «حِرَاسَةِ الفَضِيْلَةِ»، و«تَصْنِيْفِ النَّاسِ» و«المَدَارِسِ الأجْنَبِيَّةِ»، و«التَّعَالمِ»، وغَيْرِهَا مِنْ محَاسِنِ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ المُبَارَكَةِ النَّافِعَةِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، والله على كُلِّ شَيءٍ قَدِيْرٌ!
* * *(1/64)
فإنْ أبَيْتَ يَا رَعَاكَ الله؛ فَانْظُرْ طَلِيْعَةَ مَشْرُوْعِهِ الحَدِيْثِيِّ المَوْسُوْعِيِّ، في مُجلَّدِهِ الأوَّلِ تَحْتَ عُنْوَانِ «التَّأصِيْلِ في أصُوْلِ التَّخْرِيْجِ، وقَوَاعِدِ الجَرْحِ والتَّعْدِيْلِ»، الَّذِي يُعَدُّ مُقَدِّمَةً وتَوْطِئَةً لمَا يَتْبَعُهُ مِنْ مُجلَّدَاتٍ ... فمَنْ نَظَرَ فِيْهِ عَلِمَ رُسُوْخَ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله في عُلُوْمِ الحَدِيْثِ، وغَوْرَ عِلْمِهِ، وبُعْدَ نَظَرِهِ، وقُوَّةَ بَحْثِهِ ... ولَوْ أكْمَلَهُ رَحِمَهُ الله (أو أخْرَجَهُ) لصَارَ آيَةً في عُلُوْمِ الحَدِيْثِ، ومَرْجِعًا لكُلِّ مُحَدِّثٍ وأثَرِيٍّ ... لكِنَّ كَما قَالَ الله تَعَالى : «ومَنْ يُؤتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أوْتيَ خَيْرًا كَثِيْرًا»، وقَوْلُ النَّبِيِّ ? : «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لمَا خُلِقَ لَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، والله يَهْدِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ!
* * *
- وأمَّا المَشَارِيْعُ العِلْمِيَّةُ لابنِ القَيِّمِ الصَّغِيْرِ فَكَثِيْرَةٌ، مِنْهَا :
( أوَّلهَا : مَشْرُوْعُ «آثَارِ شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ ومَا لحِقَهَا مِنْ أعْمَالٍ»، حَيْثُ خَرَجَتْ في مَجْمُوعَاتٍ مُتَعَاقِبَةً، مَعَ تَحْقِيْقٍ عِلْمِيٍّ لأكْثَرِها، وسَتَخْرُجُ تِبَاعًا كَامِلَةً إنْ شَاءَ اللهُ، وقَدْ خَرَجَ مِنْهَا حَتَّى سَاعَتِي هَذِهِ ثَلاثُ مَجْمُوعَاتٍ، قَدْ حَوَتَ ثَلاثَةَ عَشَرَ مُجلَّدًا .
وسَتَخْرُجُ تِبَاعًا كَامِلَةً إنْ شَاءَ اللهُ، مَعَ تَحْقِيْقٍ عِلْمِيٍّ لأكْثَرِها .
((1/65)
ثَانِيْهَا : مَشْرُوْعُ «آثَارِ الإمَامِ ابنِ قيِّمِ الجَوزِيَّةِ ومَا لحِقَهَا مِنْ أعْمَالٍ» حَيْثُ خَرَجَتْ في مَجْمُوعَاتٍ مُتَعَاقِبَةً، مَعَ تَحْقِيْقٍ عِلْمِيٍّ لأكْثَرِها، وسَتَخْرُجُ تِبَاعًا كَامِلَةً إنْ شَاءَ اللهُ، وقَدْ خَرَجَ مِنْهَا حَتَّى سَاعَتِي هَذِهِ مَجمُوْعَتَانِ، قَدْ حَوَتْ ثَمانِيَةَ عَشَرَ مجَلَّدًا .
( ثَالِثُهَا : مَشْرُوْعُ «آثَارِ الشَّيْخِ العَلامَةِ مُحَمَّدِ الأمِيْنِ الشِّنْقِيْطِيِّ»، حَيْثُ خَرَجَتْ كَامِلَةً ولله الحَمْدُ، مَعَ تَحْقِيْقٍ عِلْمِيٍّ لأكْثَرِها، فَكَانَتْ في تَسْعةَ عَشَرَ مجَلَّدًا .
( رَابِعُهَا : مَشْرُوْعُ «آثَارِ الشَّيْخِ العَلامَةِ عَبْدِ الرَّحمَنِ المُعَلِّمِي»، وسَتَخْرُجُ قَرِيْبًا إنْ شَاءَ الله، كَما هِيَ في خِطَّةِ المَشْرُوْعِ العِلْمِيِّ المُبَارَكِ .
( في حِيْنَ أنَّنِي أُنَاشِدُ إخْواني طُلَّابَ العِلْمِ المُعْتَنِيْنَ بمُتَابَعَةِ هَذَا المَشْرُوْعِ العِلْمِيِّ تَحقِيْقًا ومُرَاجَعَةً، وطِبَاعَةً وتَمْوِيْلاً أنْ يَقُوْمُوا بإخْرَاجِ «آثَارِ الشَّيْخِ العَلامَةِ بَكْرٍ أبُو زَيْدٍ»، وَفَاءً لَهُ، وبِرًّا بِهِ، واسْتِجَابَةً لطُلَّابِهِ ومُحبِّيْهِ مِنْ عُمُوْمِ المُسْلِمِيْنَ(1) .
- فَكَانَ فَضْلُ هَذِهِ المَشَارِيْعِ العِلْمِيَّةِ : لله تعالى أوَّلًا وآخِرَ، ثُمَّ لشِيْخِنَا رَحِمَهُ الله، حيث أوْلاهَا إشْرَافًا ومُتَابَعَةً .
__________
(1) ياحَبَّذَا بَعْدَ لَعَلَّ؛ أنْ تُكْتَبَ «آثَارُ الشَّيْخِ العِلْمِيَّةِ» تَحْتَ عُنْوَانِ : ابنِ القَيِّمِ الصَّغِيْرِ، والله أعْلَمُ .(1/66)
وقَدْ شَرُفَتْ أيْضًا مَكْتَبَةُ «دَارِ عَالَمِ الفَوَائِدِ»، للقِيَامِ بإصْدَارَاتِ وطِبَاعَةِ هَذِهِ المَشَارِيْعِ العِلْمِيَّةِ، ثُمَّ يَعُوْدُ الفَضْلُ أيْضًا للرَّجُلِ المُحْسِنِ المُوْسِرِ : سُلَيْمانَ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ الرَّاجِحِيِّ حَفِظَهُ الله، الَّذِي قَامَ بتَمْويْلِ طِبَاعَةِ هَذِهِ المَشَارِيْعِ، فجَزَاهُ الله تَعَالى عَنِ العِلْمِ وأهْلِهِ خَيْرًا .
* * *
( فَهَذِهِ عُجَالَةٌ في سِيْرَةِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله أرْسَلْتُ فِيْهَا عَنَانَ القَلَمِ، ودَوَّنْتُ فِيْهَا بَعْضُ الفِهَمِ، لَعَلَّ وعَسَى أنْ أنْشَطَ في تَحرِيْرِهَا وتَتْمِيْمِهَا، وتَحْبِيرِهَا وتَنْمِيْمِهَا إذْا شَاءَ الله تَعَالى، فَشُهْرَةُ ذِكْرِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله تُغْنِي عَنِ الإطْنَابِ، وعُلُوْمُ فِكْرِهِ تَكْفِي عَنِ الإسْهَابِ، وبِهَذا جَرَى القَلَمُ بِما أرِيْدُ ودُوْنَ مَا أرِيْدُ، ولا يَكُوْنَ إلَّا مَا شَاءَهُ الله، فَهُوَ الفَعَّالُ لمَا يُرِيْدُ(1)!
كَمَا في هَذِهِ العُجَالَةِ اليَسِيْرَةِ فُتُوْحَاتُ أبْوَابٍ مُؤصَدَةٍ، وتَلْقِيْحُ أفْكَارٍ ممْتَدَّةٍ، تَدْفَعُ رُوَّامَ العِلْمِ لاسِيَّما طُلَّابَ الشَّيْخِ رَحِمَهُ الله إلى تَدْوِيْنِ تَرْجَمَتِهِ في سِيْرةٍ مَبْسُوْطَةٍ، آخِذَةً بِما للشَّيْخِ مِنْ فَوَائِدِ وفَرَائِدِ مَخْطُوْطَةٍ، كُلُّ ذَلِكَ على وَجْهِ التَّفْصِيْلِ والتَّكْمِيْلِ، والله مِنْ وَرَاءِ القَصْدِ!
* * *
- أمَّا وَفَاةُ ابنِ القَيِّمِ الصَّغِيْرِ، فَهَاكَهَا لاشِيَةَ فِيْهَا :
__________
(1) وقَدِ اسْتَفَدْتُ في تَحْرِيْرِ نَسَبِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله، ومُؤرَّخَاتِ أعْمالِهِ ومَنَاصِبِهِ مِنْ مُقَدِّمَةِ «مَجْمُوعِ فَتَاوَى اللَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ»، كَمَا أفَادَهُ ابْنُه الشَّيْخُ عَبْدُ الله حَفِظَهُ الله .(1/67)
فَأقُوْلُ : إنَّا لله وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُوْنَ، مِنْ حَادِثَة تَفُتُّ العَضُدَ، وتُضَاعِفُ الكَمَدَ، وتُوْهِي القَلْبَ، وتُوهِنُ اللُبَّ .. يَوْمَ جَاءَ الأجَلُ بقَضَاءٍ وقَدَرٍ، وجَاءَتِ المَنِيَّةُ بقَضَاءِ الأمْرِ؛ حَيْثُ مَاتَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله ظُهْرَ يَوْمِ الثُّلاثَاءِ، لثَلاثٍ بَقِيْنَ مِنْ شَهْرِ الله المُحَرَّمِ، لعَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمائَةٍ وتِسْعٍ وعِشْرِيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ، (27/1/1429) .
عَنْ عُمُرٍ قَارَبَ الشَهْرَيْنِ وأرْبَعَةٍ وسِتِّيْنَ عَامًا قَضَاهَا في العِلْمِ والتَّعْلِيْمِ، والتَّألِيْفِ والتَّصْنِيْفِ؛ حَتَّى إذَا ضَعُفَتْ قُوَاهُ عَنْ دَرْكِ الآمَالِ، وعَجِزَ عَنْ مَعَارِكِ الزَّمَانِ والنِّزَالِ، إذْ ضَمَّتِ البَسِيْطَةُ إخْوَانَهُ، وحَجَبَ الجَدِيْدَانِ أقْرَانَهُ .
فعِنْدَهَا ألْقَى عَصَا العِلْمِ بفِنَاءِ الأرْضِ الفَسِيْحِ، ليُقِيْمَ تَحْتَ أكْنَافِهَا ليَسْتَرِيْحَ، وذَلِكَ بَعْدَ مُقَاوَمَةِ الأمْرَاضِ والأخْطَارِ، ومُدَافَعَةِ الابْتَلاءِ بالاصْطِبَارِ، ومُطَالَبَةِ الأجْرِ بتَمْحِيْصِ الأوْزَارِ، ومُشَارَفَةٍ للهَلاكِ غَيْرَ مَرَّةِ على البَوَارِ، فَكَانَ شِعَارُهُ كُلمَّا عَلَا لهَا قَتَبًا، أو قَطَعَ مِنْهَا سَبَبًا :«لَقَدْ لَقِيْنَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا»، فرَحِمَهُ الله رَحْمةً وَاسِعَةً، آمِيْنَ!
* * *
- ولَيْتَكَ رَأيْتَ طَلَّابَهُ ومُحِبِّيْهِ، وإخْوَانَهُ ومُعَزِّيْهِ؛ وهُم يُشَيِّعُوْنَ جَنَازَتَهُ؟!
أم لَيْتَكَ اطَّلَعْتَ على تِلْكُمُ الجُمُوْعِ الغَفِيْرَةِ الكَثِيْرَةِ وهُم صُفُوْفٌ أمَامَهَا صُفُوْفِ، وجُمُوْعٌ خَلْفَهَا جُمُوْعٌ : كَيْ يُصَلَّوُا عَلَيْهِ في دُعَاءٍ، وليَقِفُوا بَيْنَ يَدَي الله أُمَنَاءَ وشُهَدَاءَ؟!(1/68)
فعِنْدَهَا سَتَعْلَمُ قَانُوْنَ أهْلِ السُّنَّةِ وشِعَارَهُم عِنْدَ الجَنَائِزِ : بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ الجَنَائِزُ!
ومَا أحْسَنَ مَا قَالَهُ الجَزَرِيُّ :
أخِلاَّيَ إنْ شَطَّ الحَبَيْبُ ورَبْعُهُ وعَزَّ تَلاقِيْهِ ونَاءَتْ مَنَازِلُه
وفَاتَكُمْ أنْ تُبْصِرُوْهُ بعَيْنِكُمْ فَمَا فَاتَكُمْ بالعَيْنِ هَذِهِ شَمَائِلُه
* * *
- هَذَا آخِرُ مَا عَلَّقْتُهُ مِنْ هَذِهِ التَّرَاجِمِ المُوَفَّقَةِ، بِما جَادَتْ بِهِ القَرِيحَةُ المُغْلَقَةُ، وأنَا ألْتَمِسُ ممَّنْ سَلِمَتْ بَصِيْرَتُهُ، وطَابَتْ سَرِيْرَتُهُ، أنْ يَغُضَّ الطَّرْفَ عَمَّا يَرَى مِنَ الإخْلالِ والإجْحَافِ، وأنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا بعَيْنِ الحِلْمِ والإنْصَافِ، فَإنِّي ما سَحَبْتُ ذَيْلَ هَذِهِ الكَرَائِمِ لتِيْكَ التَّراجِمِ إلَّا مِنْ بَابِ التَّطَفُّلِ والهُجُوْمِ، إذْ لم أقِفْ لهُم على سَابِقِ خَبْرٍ مِنَ العُلُوْمِ، فَإنْ أحْسَنْتُ فَرَمْيَةٌ مِنْ غَيْرِ رَامٍ، وإنْ أخْطَأتُ فمَعْذِرَةٌ أطْلُبُهَا عِنْدَ الكِرَامِِ، والله الهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ!
* * *
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رَسُوْلِه الأمِيْنِ
وكَتبَهُ مُعَزِّيًا مُصَابًا عَصْرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ قُبَيْلَ المَغْرِبِ، للثَّالِثِ مِنْ رَبِيْعِ الأوَّلِ لعَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمائَةٍ وتِسْعَةٍ وعِشْرِيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ
وكَتبَ
الطَّائِفُ المَأنُوْسُ
(3/3/1429)(1/69)