تاريخ الخلفاء الراشدين (2)
فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه
تأليف الدكتور علي محمد الصلابي
الإهداء
إلى كل مسلم حريص على إعزاز دين الله ونصرته أهدى هذا الكتاب سائلاً المولى عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكون خالصاً لوجه الكريم
قال تعالى (( فمن كان يرجوا لقاء ربه
فليعمل عملاً صالحاً ولايشرك بعبادة
ربه أحداً )) ( الكهف : 110 )
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102) } (آل عمران،أية:102)
{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1) } (النساء،الآية:1)
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71) }
(الأحزاب،الآية:70-71 ).
أما بعد :
هذا الكتاب ( الفاروق عمر بن الخطاب شخصيته وعصره )(1/1)
يرجع الفضل في كتابته إلى المولى عز وجل ثم إلى مجموعة خيرة من العلماء والشيوخ والدعاة الذين شجعوني على المضي في دراسة عصر الخلفاء الراشدين حتى إن أحدهم قال لي: لقد أصبحت هناك فجوة بين أبناء المسلمين وذلك العصر، وحدث خلط في ترتيب الأوليات حيث صار الكثير من أبناء المسلمين يلمون بسيرة الدعاة والعلماء والمصلحين أكثر من إلمامهم بسيرة الخلفاء الراشدين، وأن ذلك العصر غني بالجوانب السياسية، والتربوية، والإعلامية، والأخلاقية، والاقتصادية، والفكرية، والجهادية والفقهية التي نحن في أشد الحاجة إليها ، ونحتاج أن نتتبع مؤسسات الدولة الاسلامية، وكيف تطورت مع مسيرة الزمن، كالمؤسسة القضائية والمالية ونظام الخلافة والمؤسسة العسكرية، وتعيين الولاة وما حدث من اجتهادات في ذلك العصر عندما احتكت الأمة الإسلامية بالحضارة الفارسية، والرومانية، وطبيعة حركة الفتوحات الإسلامية .
كانت بداية هذا الكتاب فكرة أراد الله لها أن تصبح حقيقة، فأخذ الله بيدي وسهل لي الأمور وذلل الصعاب، وأعانني على الوصول للمراجع والمصادر والفضل لله تعالى الذي أعانني على ذلك .
إن تاريخ عصر الخلفاء الراشدين مليء بالدروس والعبر وهي متناثرة في بطون الكتب والمصادر والمراجع سواء كانت تاريخية أو حديثية أو فقهية أو أدبية أو تفسيرية أو كتب التراجم والجرح والتعديل فقمت بدراستها حسب وسعي وطاقتي فوجدت فيها مادة تاريخية غزيرة يصعب الوقوف على حقيقتها في الكتب التاريخية المعروفة والمتداولة، فقمت بجمعها وترتيبها وتوثيقها وتحليلها، وقد طبع الكتاب الأول عن الصديق رضي الله عنه وقد سميته (أبو بكر الصديق شخصيته وعصره).(1/2)
وبفضل الله انتشر هذا الكتاب في المكاتب العربية والمعارض الدولية ووصل إلى كثير من القراء والدعاة والعلماء وطلاب العلم، وعوام المسلمين، فشجعوني على الاستمرار في دراسة عصر الخلفاء الراشدين ومحاولة تبسيطه وتقديمه للأمة في أسلوب يلائم العصر .
إن تاريخ عصر الخلفاء الراشدين ملئ بالدروس والعبر، فإذا أحسنا عرضه وابتعدنا عن الروايات الضعيفة والموضوعة وعن كتب المستشرقين وأذنابهم من العلمانيين والروافض وغيرهم، واعتمدنا منهج أهل السنة في الدراسة نكون قد أسهمنا في صياغته بمنظور أهل السنة، وتعرفنا على حياة وعصر من قال الله فيهم { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(100) } (التوبة،آية:100).
وقال تعالى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا } (الفتح،الآية:29) .
وقال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ….))(1)
وقال فيهم عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - : من كان مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي
__________
(1) مسلم (4 / 1963-1964) .(1/3)
لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا والله أفضل هذه الأمة ،وأبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم(1)، فالصحابة قاموا بتطبيق أحكام الإسلام ونشروه في مشارق الأرض ومغاربها فعصرهم خير العصور، فهم الذين علموا الأمة القرآن الكريم ورووا السنن والآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتاريخهم هو الكنز الذي حفظ مدخرات الأمة في الفكر والثقافة والعلم والجهاد، وحركة الفتوحات والتعامل مع الشعوب والأمم ، فتجد الأجيال في هذا التاريخ المجيد ما يعينها على مواصلة رحلتها في الحياة على منهج صحيح وهدي رشيد وتعرف من خلاله حقيقة رسالتها ودورها في دنيا الناس ، وتستمد من ذلك العصر ما يغذي الأرواح، ويهذب النفوس، وينور العقول، ويشحذ الهمم، ويقدم الدروس، ويسهل العبر، وينضج الأفكار ويجد الدعاة والعلماء والشيوخ وأبناء الأمة ما يعينهم على إعداد الجيل المسلم وتربيته على منهاج النبوة ويتعرفوا على معالم الخلافة الراشدة وصفات قادتها وجيلها، وخصائصها وأسباب زوالها فهذا الكتاب الثاني عن عصر الخلفاء الراشدين يتحدث عن الفاروق عمر بن الخطاب ويتناول شخصيته وعصره ، فهو الخليفة الثاني وأفضل الصحابة الكرام بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنهم جميعاً وقد حثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرنا باتباع سنتهم والاهتداء بهديهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي(2)فعمر - رضي الله عنه - خير الصالحين بعد الأنبياء والمرسلين وأبي بكر الصديق- رضي الله عنه - وقد قال فيهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) شرح السنة للبغوي (1/214-215)
(2) سنن أبي داود (4/201 ) ، الترمذي (5/44 ) حسن صحيح .(1/4)
: اقتدوا باللذين من بعدي ،أبي بكر وعمر(1). وقد وردت الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة في فضائل الفاروق- رضي الله عنه - فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد كان فيمن قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر(2) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب (3)، فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له(4) ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقريا يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن(5)وقد قال عمرو بن العاص- رضي الله عنه - : قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة، قلت: يا رسول الله من الرجال؟ قال : أبوها قلت: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب ثم عد رجالاً(6).
إن حياة الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صفحة مشرقة من التاريخ الإسلامي الذي بهر كل تاريخ وفاقه والذي لم تحوِ تواريخ الأمم مجتمعة بعض ما حوى من الشرف والمجد والإخلاص والجهاد والدعوة في سبيل الله ولذلك قمت بتتبع أخباره وحياته وعصره في المصادر والمراجع واستخرجتها من بطون الكتب وقمت بترتيبها وتنسيقها وتوثيقها وتحليلها لكي تصبح في متناول الدعاة والخطباء والعلماء والساسة ورجال الفكر وقادة الجيوش وحكام الأمة وطلاب العلم وعامة الناس لعلهم يستفيدون منها في حياتهم ويقتدون بها في أعمالهم فيكرمهم الله بالفوز في الدراين.
__________
(1) صحيح سنن الترمذي للألباني (3/200 ) .
(2) البخاري رقم 3689 ، مسلم 2398 .
(3) القليب البئر غير المطوية .
(4) والله يغفر له : هذه عبارة ليس فيها تنقيص لأبي بكر وإنها كلمة كان المسلمون يدعمون بها كلامهم .
(5) مسلم رقم 2393 .
(6) الاحسان في صحيح ابن حبان (15/309) .(1/5)
لقد تتبعت حياة الفاروق منذ ولادته حتى استشهاده فتحدثت عن نسبه وأسرته وحياته في الجاهلية وعن إسلامه وهجرته وعن أثر القرآن الكريم وملازمته للنبي- صلى الله عليه وسلم - في تربيته وصياغة شخصيته الإسلامية العظيمة وتكلمت عن مواقفه في الغزوات وفي المجتمع المدني في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصديق - رضي الله عنه - وبينت قصة استخلافه ووضحت قواعد نظام حكمه كالشورى واقامة العدل والمساواة بين الناس واحترامه للحريات وأشرت إلى أهم صفات الفاروق وحياته مع أسرته واحترامه لأهل البيت وإلى حياته في المجتمع بعدما أصبح خليفة المسلمين كاهتمامه ورعايته لنساء المجتمع وحفظه لسوابق الخير لرعيته وحرصه على قضاء حوائج الناس وتربيته لبعض زعماء المجتمع وإنكاره لبعض التصرفات المنحرفة واهتمامه بصحة الرعية ونظام الحسبة. وبالأسواق والتجارة وحرصه على تحقيق مقاصد الشريعة في المجتمع كحماية جانب التوحيد ومحاربة الزيغ والبدع واهتمامه بأمر العبادات وحماية أعراض المجاهدين .(1/6)
وتحدثت عن اهتمام الفاروق بالعلم وعن تتبعه للرعية بالتوجيه والتعليم في المدينة وجعله المدينةَ داراً للفتوى والفقه ومدرسة تخرج منها العلماء والدعاة والولاة والقضاة وبينت الأثر العمري في مدارس الأمصار كالمدرسة المكية والمدنية والبصرية والكوفية والشامية والمصرية فقد اهتم الفاروق بالكوادر العلمية المتخصصة وبعثها إلى الأمصار وأرشد القادة والأمراء مع توسع حركة الفتوحات إلى إقامة المساجد في الأقاليم المفتوحة لتكون مراكز للدعوة والتعليم والتربية ونشر الحضارة الإسلامية فقد كانت المساجد هي المؤسسات العلمية الأولى في الإسلام ومن خلالها تحرك علماء الصحابة لتعليم الشعوب الجديدة التي دخلت في الإسلام طواعية بدون ضغط أو إكراه وقد وصلت المساجد التي تقام فيها الجمعة في دولة عمر - رضي الله عنه - إلى اثني عشر ألف مسجد وقد كانت المؤسسات العلمية خلف مؤسسة الجيش التي قامت بفتح العراق وإيران والشام ومصر وبلاد المغرب وقد قاد هذه المؤسسات كوادر علمية وفقهية ودعوية متميزة تربت على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة وقد استفاد الفاروق من هذه الطاقات فأحسن توجيهها ووضعها في محلها فأسست تلك الطاقات الكوادر للحركة العلمية والفقهية التي كانت مواكبة لحركة الفتح وتكلمت عن اهتمام الفاروق بالشعر والشعراء فقد كان عمر - رضي الله عنه - أكثر الخلفاء الراشدين ميلاً لسماع الشعر وتقويمه كما كان أكثرهم تمثلاً به حتى قيل: كان عمر بن الخطاب لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيتاً من الشعر وقد برع الفاروق في النقد الأدبي وكانت له مقاييس يحتكم إليها في تفضيله أو إيثاره نصاً على نص أو تقديمه شاعراً على غيره ومن هذه المقاييس سلامة العربية وأنس الألفاظ والبعد عن المعاضلة والتعقيد والوضوح والابانة وأن تكون الألفاظ بقدر المعاني وجمال اللفظة في موقعها وحسن التقسيم وكان- رضي الله عنه - يمنع الشعراء من قول الهجاء أو(1/7)
ما يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية واستخدم أساليب متعددة في تأديبهم منها أنه أشترى أعراض المسلمين من الحطيئة بثلاثة آلاف درهم حتى قال ذلك الشاعر :
وأخذت أطراف الكلام فلم تدع ... شتماً يضر ولا مديحاً ينفع
ومنعتني عرض البخيل فلم يخف ... شتمي فأصبح آمناً لا يفزع
وتحدثت عن التطور العمراني وإدارة الأزمات في عهد عمر فبينت اهتمام الفاروق بالطرق ووسائل النقل البري والبحري وإنشاء الثغور والأمصار كقواعد عسكرية ومراكز إشعاع حضاري، وتكلمت عن نشأة المدن الكبرى في عهد عمر كالبصرة والكوفة والفسطاط، وسرت،وعن الاعتبارات العسكرية والاقتصادية التي وضعها الفاروق عند إنشاء المدن، وعن الأساليب التي اتخذها عمر في مواجهة عام الرمادة، وكيف جعل من نفسه للناس قدوة؟ وعن معسكرات اللاجئين في تلك السنة، وعن الاستعانة بأهل الأمصار، والاستعانة بالله وصلاة الاستسقاء، وعن بعض الاجتهادات الفقهية في عام الرمادة، كوقف إقامة حد السرقة، وتأخير دفع الزكاة في ذلك العام.
وأشرت إلى عام الطاعون وموقف الفاروق من هذا الوباء الذي كان سبباً في وفاة كبار قادة الجيش الإسلامي بالشام، وقد مات أكثر من عشرين ألفاً من المسلمين بسبب الطاعون، واختلت الموازين وضاعت المواريث، فذهب الفاروق إلى الشام وقسم الأرزاق وسمى الشواتي والصوائف وسد ثغور الشام ومسالحها وولى الولاة، ورتب أمور الجند والقادة والناس، وورّث الأحياء من الأموات.(1/8)
ووضحت دور الفاروق في تطوير المؤسسة المالية والقضائية فتحدثت عن المؤسسة المالية، وعن مصادر دخل الدولة في عهد عمر رضي الله عنه، كالزكاة والجزية، والخراج، والعشور، والفيء والغنائم، وعن بيت مال المسلمين وتدوين الدواوين، وعن مصارف الدولة في عهد عمر وعن اجتهاد الفاروق في مسألة أرض الخراج وعن إصدار النقود الإسلامية، وبينت دور الفاروق في تطوير المؤسسة القضائية، وتكلمت عن أهم رسائل عمر إلى القضاة، وعن تعيين القضاة، ومرتباتهم وصفاتهم وما يجب عليهم، وعن مصادر الأحكام القضائية، والأدلة التي يعتمد عليها القاضي، وعن اجتهادات الفاروق القضائية كحكم تزوير الخاتم الرسمي للدولة، ورجل سرق من بيت المال بالكوفة، ومن جهل تحريم الزنا، وغيرها من الأحكام القضائية والفقهية ، وعن فقه عمر في التعامل مع الولاة، فبينت أقاليم الدولة في عهد عمر وأسماء من تولى إمارة الأقاليم في عصره، وعن أهم قواعد عمر في تعيين الولاة وشروطه عليهم ، وعن صفات ولاة عمر، وعن حقوق الولاة وواجباتهم، وعن متابعة الفاروق للولاة ومحاسبتهم، وعن تعامل الفاروق مع شكاوى الرعية في الولاة، وعن أنواع العقوبات التي أنزلها الفاروق بالولاة، وعن قصة عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه، وعن عزله في المرتين الأولى والثانية، ومجمل أسباب عزله، وعن موقف المجتمع الإسلامي من قرار العزل، وعن موقف خالد بن الوليد من ذلك القرار وماذا قال عن الفاروق وهو على فراش الموت.(1/9)
ووصفت فتوح العراق وإيران والشام ومصر وليبيا في عهد الفاروق ووقفت مع الدروس والعبر والفوائد والسنن في تلك الفتوح، وسلطت الأضواء على الرسائل التي كانت بين الفاروق وقادة جيوشه واستخرجت منها مادة علمية تربوية في توجيه الشعوب وبناء الدول، وتربية المجتمعات وترشيد القادة ، وفنون القتال، واستنبطت من رسائل عمر إلى القادة حقوق الله كمصابرة العدو، وأن يقصدوا بقتالهم نصرة دين الله ، وأداء الأمانة وعدم المحاباة في نصر دين الله، وحقوق القادة، كالتزام طاعتهم، وامتثال أوامراهم، وحقوق الجند، كاستعراضهم وتفقد أحوالهم، والرفق بهم في السير، وتحريضهم على القتال…إلخ.
وتكلمت عن علاقة عمر مع الملوك وعن نتائج الفتوحات العمرية وعن الأيام الأخيرة في حياة الفاروق وعن فهمه لفقه القدوم على الله الذي كان مهيمناً على نفسه ومتغلغلاً في قلبه منذ إسلامه حتى استشهاده ـ لقد حاولت في هذا الكتاب أن أُبين كيف فهم الفاروق الإسلام وعاش به في دنيا الناس، وكيف أثر في مجريات الأمور في عصره، وتحدثت عن جوانب شخصيته المتعددة السياسية، والعسكرية، والإدارية والقضائية، وعن حياته في المجتمع لمَّا كان أحد رعاياه وبعد أن تولى الخلافة بعد الصديق، وركّزت على دوره في تطوير المؤسسات المالية والقضائية والإدارية والعسكرية.
إن هذا الكتاب يبرهن على عظمة الفاروق ، ويثبت للقارئ بأنه كان عظيماً بإيمانه، عظيماً بعلمه، عظيماً بفكره عظيماً ببيانه، عظيماً بخلقه ـ عظيماً بآثاره ـ فقد جمع الفاروق العظمة من أطرافها وكانت عظمته مستمدة من فهمه وتطبيقه للإسلام وصلته العظيمة بالله واتباعه لهدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.(1/10)
إن الفاروق من الأئمة الذي يرسمون للناس خط سيرهم ويتأسى بهم الناس بأقوالهم وأفعالهم في هذا الحياة، فسيرته من أقوى مصادر الإيمان، والعاطفة الإسلامية الصحيحة والفهم السليم لهذا الدين، فما أحوج الأمة الإسلامية إلى الرجال الأكفاء الذي يقتدون بالصحابة الكرام ويجسّدون المعاني السامية ـ فيحيونها بتضحيات يراها الناس ويحسُّون بها، فإن تاريخ الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام يظل مذكراً للأمة عبر الأجيال، ويكون الانتفاع به بالتأسيِّ بأولئك العظماء وتطبيق تلك المواقف الكريمة من عظماء الرجال الذي يشاركون أفراد الأمة في ظروف الحياة المعاصرة حتى لا يظن ظان أن هذه المواقف والدروس والعبر، إنما كانت في عصور ملائمة لوجودها وأن تكرارها يتطلب ظروفاً حياتية مشابهة والحقيقة تقول إنه كلما قويَ المحرك الإيماني واتضح فقه القدوم على الله وحرص المسلمون على العمل به، فإن الله يتكفل بنصر أوليائه وتسخير ظروف الحياة لصالحهم.
هذا وقد اجتهدت في دارسة شخصية الفاروق وعصره حسب وسعي وطاقتي، غير مدع عصمة، ولا متبرئ من زلة ووجه الله العظيم لا غيره قصدت، وثوابه أردت، وهو المسؤول في المعونة عليه، والانتفاع به إنه طيب الأسماء، سميع الدعاء. ...
هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الأربعاء الساعة السابعة وخمس دقائق صباحاً بتاريخ 13 رمضان 1422هـ ـ الموافق 28/نوفمبر/ 2001م والفضل لله من قبل ومن بعد، واسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل ويشرح صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده ـ قال تعالى: { مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2) } (فاطر،آية:2).(1/11)
ولايسعني في نهاية هذه المقدمة إلا أن أقف بقلب خاشع منيب بين يدى الله عز وجل، معترفاً بفضله وكرمه وجوده، فهو المتفضل وهو المكرم وهو المعين وهو الموفِّق ، فله الحمد على ما منّ به عليّ أولاً وآخراً، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً، وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذي أعانوني بكافة ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه قال تعالى: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(19) } (النمل،آية:19)
سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه
علي محمد محمد الصَّلاَّبي
13/رمضان/1422هـ
الفصل الأول
عمر رضي الله عنه بمكة
المبحث الأول: اسمه ونسبه وكنيته وصفته وأسرته وحياته في الجاهلية:
أولاً: اسمه ونسبه وكنيته وألقابه:(1/12)
هو عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العُزَّى بن رياح بن عبد الله بن قرُط بن رَزاح بن عدي بن كعب بن لؤي(1)، بن غالب القرشي العدوي(2)، يجتمع نسبه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن لؤي بن غالب(3)، ويكنى أبا حفص(4)، ولقب بالفاروق(5)، لأنه أظهر الإسلام بمكة ففرّق الله به بين الكفر والإيمان(6).
ثانياً: مولده وصفته الخَلْقية:
ولد عمر رضي الله عنه بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة(7) وأما صفته الخَلْقية، فكان رضي الله عنه، أبيض أمهق، تعلوه حمرة، حسن الخدين والأنف والعينين، غليظ القدمين والكفين، مجدول اللحم، وكان طويلاً جسيماً أصلع، قد فرع الناس، كأنه راكب على دابة، وكان قوياً شديداً، لا واهناً ولا ضعيفاً(8)، وكان يخضب بالحناء، وكان طويل السَّبلة(9) وكان إذا مشى أسرع وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع(10).
ثالثاً: أسرته:
__________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/265) ، محض الصواب لابن عبد الهادي (1/131).
(2) محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (1/131).
(3) نفس المصدر (1/131).
(4) صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق عمر بن الخطاب ص15 .
(5) نفس المصدر ص15 .
(6) نفس المصدر ص15 .
(7) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص133 .
(8) الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني ص15 .
(9) السبلة: طرف الشارب وكان إذا غضب أو حزنه أمر يمسك بها ويفتلها.
(10) تهذيب الأسماء (2/14) للنووي، أوليات الفاروق للقرشي ص24 .(1/13)
أما والده، فهو الخطاب بن نفيل، فقد كان جد عمر نفيل بن عبد العزى ممن تتحاكم إليه قريش(1)، وأما والدته فهي حنتمة بنت هاشم بن المغيرة، وقيل بنت هاشم أخت أبي جهل(2)، والذي عليه أكثر المؤرخين هو أنها بنت هاشم ابنة عم أبي جهل بن هشام(3)، وأما زوجاته وأبناؤه وبناته؛ فقد تزوج في الجاهلية زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون، فولدت له عبد الله، وعبد الرحمن الأكبر، وحفصة، وتزوج مليكة بنت جرول، فولدت له عبيد الله، فطلقها في الهدنة، فخلف عليها أبو الجهم بن حذيفة، وتزوج قُرَيْبة بنت أبي أمية المخزومي، ففارقها في الهدنة، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن أبي بكر، وتزوج أم حكيم بنت الحارث بن هشام بعد زوجها عكرمة بن
أبي جهل حين قتل في الشام(4)، فولدت له فاطمة، ثم طلقها وقيل لم يطلقها(5)، وتزوج جميلة بنت(6) عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح من الأوس، وتزوج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفيل، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي بكر(7)، ولما قتل عمر تزوجها بعده الزبير بن العوام رضي الله عنه، ويقال هي أم ابنه عياض، فالله أعلم.
وكان قد خطب أم كلثوم ابنة أبي بكر الصديق، وهي صغيرة وراسل فيها عائشة فقالت أمُّ كلثوم: لا حاجة لي فيه، فقالت عائشة أترغبين عن أمير المؤمنين؟ قالت: نعم، إنه خشن العيش، فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص، فصدّه عنها ودلّه على
__________
(1) نسب قريش للزبيري ص347 .
(2) أوليات الفاروق السياسية ص22 .
(3) نفس المصدر ص22 .
(4) البداية والنهاية (7/144).
(5) نفس المصدر (7/144).
(6) ترتيب وتهذيب البداية والنهاية خلافة عمر للسُّلمي ص7 .
(7) نفس المصدر ص7 .(1/14)
أمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب، من فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: تعلق منها بسبب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخطبها من علي فزوجه أياها فأصدقها عمر رضي الله عنه أربعين ألفاً، فولدت له زيداً ورقية(1)، وتزوج لُهْيَة امرأة من اليمن فولدت له عبد الرحمن الأصغر، وقيل الأوسط. وقال الواقدي: هي أم ولد وليست بزوجة(2)، قالوا: وكانت عنده فكيهة أم ولد، فولدت له زينب قال الواقدي: وهي أصغر ولده(3)، فجملة أولاده رضي الله عنه ثلاثة عشر ولداً، وهم زيد الأكبر، وزيد الأصغر، وعاصم، وعبد الله، وعبد الرحمن الأكبر، وعبد الرحمن الأوسط، وعبد الرحمن الأصغر، وعبيد الله، وعياض، وحفصة، ورقية، وزينب، وفاطمة رضي الله عنهم، ومجموع نسائه اللاتي تزوجهن في الجاهلية والإسلام ممن طلقهن أو مات عنهن سبع(4)، وكان رضي الله عنه يتزوج من أجل الانجاب، والإكثار من الذرية، فقد قال رضي الله عنه: ما آتي النساء للشهوة، ولولا الولد، ما باليت ألا أرى امرأة بعيني(5)، وقال رضي الله عنه: إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله مني نسمة تسبحه وتذكره(6).
رابعاً: حياته في الجاهلية:
__________
(1) الكامل في التاريخ (2/212
(2) تاريخ الأمم والملوك للطبري (5/191).
(3) تاريخ الأمم والملوك (5/192).
(4) البداية والنهاية (7/144).
(5) الشيخان أبو بكر وعمر برواية البلاذري تحقيق الدكتور إحسان صدقي ص227 .
(6) فرائد الكلام للخلفاء الكرام، قاسم عاشور ص112 .(1/15)
أمضى عمر في الجاهلية شطراً من حياته، ونشأ كأمثاله من أبناء قريش، وامتاز عليهم بأنه كان ممن تعلموا القراءة وهؤلاء كانوا قليلين جداً(1)، وقد حمل المسؤولية صغيراً، ونشأ نشأة غليظة شديدة، لم يعرف فيها ألوان الترف، ولا مظاهر الثروة ودفعه أبوه الخطاب في غلظة وقسوة إلى المراعي يرعى إبله، وتركت هذه المعاملة القاسية من أبيه أثراً سيئاً في نفس عمر رضي الله عنه، فظل يذكرها طيلة حياته، فهذا عبد الرحمن بن حاطب يحدثنا عن ذلك فيقول: كنت مع عمر بن الخطاب بضجنان(2)، فقال: كنت أرعى للخطاب بهذا المكان، فكان فظاً غليظاً فكنت أرعى أحياناً وأحتطب أحياناً.. (3) ولأن هذه الفترة كانت قاسية في حياة عمر، فإنه كان يكثر من ذكرها فيحدثنا سعيد بن المسيب رحمه الله قائلاً: حجّ عمر، فلما كان بضجنان قال: لا إله إلا الله العلي العظيم، المعطي ما شاء، لمن شاء. كنت أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي، في مدرعة صوف، وكان فظاً، يتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصرت، وقد أمسيت ليس بيني وبين الله أحد، ثم تمثل:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويُردى المال والولد
لم تُغن عن هرمز يوماً خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له ... والإنس والجن فيما بينها بردُ
أين الملوك التي كانت نواهلها ... من كل أوب إليها راكب يفد
حوضاً هنالك، مورود بلا كذب ... لابد من ورده يوماً كما وردوا(4)
__________
(1) الإدارة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب، فاروق مجدلاوي ص90 .
(2) ضجنان جبل على مسيرة بريد من مكة وقيل على مسافة 25كم.
(3) أخرجه ابن عساكر في تاريخه (52/268)، حلقات ابن سعد (3/266) وقال الدكتور عاطف لماضة صحيح الإسناد.
(4) الفاروق مع النبي د. عاطف لماضه ص5 نقله عن ابن عساكر (52/269).(1/16)
ولم يكن ابن الخطاب رضي الله عنه يرعى لأبيه وحده بل كان يرعى لخالات له من بني مخزوم وذكر لنا ذلك عن عمر رضي الله عنه نفسه حين حدثته نفسه يوماً وهو أمير المؤمنين أنه أصبح أميراً للمؤمنين فمن ذا أفضل منه... ولكي يُعرِّف نفسه قدرها – كما ظن – وقف يوماً بين المسلمين يعلن أنه لم يكن إلا راعي غنم، يرعى لخالات له من بني مخزوم يقول محمد بن عمر المخزومي عن أبيه: نادى عمر بن الخطاب بالصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس، وكبروا، صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه عليه الصلاة والسلام ثم قال: أيها الناس.. لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبضن لي قبضة من التمر أو الزبيب، فأظل يومي
وأي يوم!!
ثم نزل، فقال له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن قمّأت نفسك – عبْتَ – فقال: ويحك يا ابن عوف!! إني خلوت فحدثتني نفسي، قال: أنت أمير المؤمنين، فمن ذا أفضل منك؟!
فأردت أن أعرفها نفسها وفي رواية: إني وجدت في نفسي شيئاً، فأردت أن أطأطئ منها(1).
__________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/293) وله شواهد تقويه.(1/17)
ولا شك أن هذه الحرفة – الرعي – التي لازمت عمر بن الخطاب في مكة قبل أن يدخل الإسلام قد أكسبته صفات جميلة كقوة التحمل، والجلد وشدة البأس، ولم يكن رعي الغنم هو شغل ابن الخطاب في جاهليته(1)، بل حذق من أول شبابه ألواناً من رياضة البدن، فحذق المصارعة، وركوب الخيل والفروسية، وتذوق الشعر ورواه(2)، وكان يهتم بتاريخ قومه وشؤونهم، وحرص على الحضور في أسواق العرب الكبرى، كـ ((عكاظ)) و((مجنة)) و((ذي المجاز)) واستفاد منها في التجارة ومعرفة تاريخ العرب وما حدث بين القبائل من وقائع ومفاخرات ومنافرات حيث تعرض تلك الأحداث في إطار آثار أدبية يتناولها كبار الأدباء بالنقد على مرأى ومسمع من ملء القبائل وأعيانها مما جعل التاريخ العربي عرضاً دائم الحركة لا ينسدل عليه ستار النسيان، وربما تطاير شرر الحوادث فكانت الحرب وكانت عكاظ – بالذات – سبباً مباشراً في حروب أربع سميت حروب الفجار(3).
__________
(1) الفاروق مع النبي ص6 .
(2) التاريخ الإسلامي العام، علي حسن إبراهيم ص226 ، الإدارة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب ص90 .
(3) عمر بن الخطاب، حياته، علمه، أدبه، د. علي أحمد الخطيب ص153 .(1/18)
واشتغل عمر رضي الله عنه بالتجارة وربح منها ما جعله من أغنياء مكة، وكسب معارف متعددة من البلاد التي زارها للتجارة، فرحل إلى الشام صيفاً وإلى اليمن شتاءً(1) واحتل مكانةً بارزة في المجتمع المكي الجاهلي، وأسهم بشكل فعَّال في أحداثه، وساعده تاريخ أجداده المجيد، فقد كان جده نفيل بن عبدالعزى تحتكم إليه قريش في خصوماتها(2)، فضلاً عن أن جده الأعلى كعب بن لؤي كان عظيم القدر والشأن عند العرب، فقد أرّخوا بسنة وفاته إلى عام الفيل(3)، وتوارث عمر عن أجداده هذه المكانة المهمة التي أكسبته خبرة ودراية ومعرفة بأحوال العرب وحياتهم، فضلاً عن فطنته وذكائه، فلجأوا إليه في فض خصوماتهم، يقول ابن سعد (( إن عمر كان يقضي بين العرب في خصوماتهم قبل الإسلام )) (4).
وكان رضي الله عنه، رجلاً حكيماً، بليغاً، حصيفاً، قوياً، حليماً، شريفاً، قوي الحجة، واضح البيان، مما أهله لأن يكون سفيراً لقريش، ومفاخراً ومنافراً لها مع القبائل(5)، قال ابن الجوزي: كانت السفارة إلى عمر بن الخطاب، إن وقعت حرب بين قريش وغيرهم بعثوه سفيراً، أو نافرهم منافر، أو فاخرهم مفاخر، بعثوه منافراً ومفاخراً، ورضوا به رضي الله عنه(6).
__________
(1) عمر بن الخطاب، د. محمد أحمد أبو النصر ص17 .
(2) الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب، د. العاني ص16 .
(3) تاريخ خليفة بن خياط ص(1/7) نقلاً عن د. العاني ص16 .
(4) الخليفة الفاروق د. العاني ص16 .
(5) نفس المصدر ص16 .
(6) مناقب عمر ص11 .(1/19)
وكان يدافع عن كل ما ألفته قريش من عادات وعبادات ونظم وكانت له طبيعة مخلصة تجعله يتفانى في الدفاع عما يؤمن به، وبهذه الطبيعة التي جعلته يشتد في الدفاع عما يؤمن به، قاوم عمر الإسلام في أول الدعوة، وخشي عمر أن يهز هذا الدين الجديد النظام المكي الذي استقر، والذي يجعل لمكة بين العرب مكاناً خاصاً، ففيها البيت الذي يُحَجّ إليه والذي جعل قريشاً ذات مكانة خاصة عند العرب، والذي صار لمكة ثروتها الروحية، وثروتها المادية، فهو سبب ازدهارها، وغنى سراتها ولهذا قاوم سراة مكة هذا الدين، وبطشوا بالمستضعفين من معتنقيه وكان عمر من أشد أهل مكة بطشاً بهؤلاء المستضعفين(1).
ولقد ظل يضرب جارية أسلمت، حتى عيت يداه، ووقع السوط من يده، فتوقف إعياء، ومر أبو بكر فرآه يعذب الجارية، فاشتراها منه وأعتقها(2).
لقد عاش عمر في الجاهلية وسبر أغوارها، وعرف حقيقتها، وتقاليدها وأعرافها ودافع عنها بكل ما يملك من قوة ولذلك لما دخل في الإسلام عرف جماله وحقيقته وتيقن الفرق الهائل بين الهدى والضلال والكفر والإيمان والحق والباطل ولذلك قال قولته المشهورة: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية(3).
المبحث الثاني: إسلامه وهجرته:
أولاً: إسلامه:
كان أول شعاعة من نور الإيمان لامست قلبه، يوم رأى نساء قريش يتركن بلدهن ويرحلن إلى بلد بعيد عن بلدهن بسبب ما لقين منه ومن أمثاله، فرق قلبه، وعاتبه ضميره، فرثى لهن، وأسمعهن الكلمة الطيبة التي لم يكنّ يطمعن أن يسمعن منه مثلها(4).
__________
(1) الفاروق عمر، عبد الرحمن الشرقاوي ص8 .
(2) نفس المصدر ص8 .
(3) الفتاوى (15/36)، فرائد الكلام للخلفاء الكرام ص144 .
(4) أخبار عمر، الطنطاويات ص12 .(1/20)
قالت أم عبد الله بنت حنتمة: لما كنا نرتحل مهاجرين إلى الحبشة، أقبل عمر حتى وقف عليّ، وكنا نلقى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت نعم، والله لنخرجنّ في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجاً. فقال عمر: صحبكم الله. ورأيت منه رقة لم أرها قط. فلما جاء عامر بن ربيعة وكان قد ذهب في بعض حاجته وذكرت له ذلك فقال: كأنك قد طمعت في إسلام عمر؟ قلت له: نعم فقال: إنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب(1).
لقد تأثر عمر من هذا الموقف وشعر أن صدره قد أصبح ضيقاً حرجاً؛ فأي بلاء يعانيه أتباع هذا الدين الجديد، وهم على الرغم من ذلك صامدون! ما سر تلك القوة الخارقة؟ وشعر بالحزن وعصر قلبه الألم(2)، وبعد هذه الحادثة بقليل أسلم عمر رضي الله عنه وبسبب دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كانت السبب الأساسي في إسلامه فقد دعا له بقوله: اللهم أعزَّ الإسلام بأحب الرجلين إليك: بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب، قال: وكان أحبهما إليه عمر(3)، وقد ساق الله الأسباب لإسلام عمر رضي الله عنه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر لشيء قط يقول: إني لأظنه كذا إلا كان كما يظن، بينما عمر جالس إذ مرّ به رجل جميل، فقال عمر: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم. عليّ بالرجل، فدُعي له، فقال له ذلك. فقال: ما رأيت كاليوم استُقبل به رجلٌ مسلم. قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني.
قال: كنت كاهنهم في الجاهلية.
__________
(1) سيرة ابن هشام (1/216)، فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/341) إسناد حسن.
(2) الفاروق عمر ص9 .
(3) الترمذي (3682) المناقب وصححه الألباني صحيح الترمذي 2907 .(1/21)
قال: فما أعجب ما جاءتك به جنِّيَّتُك؟ قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها(1)، ويأسها من بعد إنكاسها(2)، ولحوقها بالقلاص، وأحلاسها(3).
قال عمر: صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم، إذ جاء رجل بعجل فذبح، فصرخ به صارخ، لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: يا جليح(4)، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله. فقمت، فما نشبنا(5) أن قيل: هذا نبي(6) وقد ورد في سبب إسلام الفاروق رضي الله عنه الكثير من الروايات، ولكن بالنظر إلى أسانيدها من الناحية الحديثية فأكثرها لا يصح(7)، ومن خلال الروايات التي ذكرت في كتب السيرة والتاريخ يمكن تقسيم إسلامه والصدع به إلى عناوين منها.
1- عزمه على قتل رسول الله:
كانت قريش قد اجتمعت فتشاورت في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أي رجل يقتل محمداً؟ فقال عمر بن الخطاب: أنا لها، فقالوا: أنت لها يا عمر، فخرج في الهاجرة، في يوم شديد الحر، متوشحاً سيفه يريد رسول الله ورهطاً من أصحابه، فيهم
__________
(1) إبلاسها: المراد به اليأس ضد الرجاء.
(2) الإنكاس: الانقلاب.
(3) القلاص جمع قُلُص، وهي الفتية من النياق، والأحلاس ما يوضع على ظهور الإبل.
(4) يا جليح: معناه الوقح المكافح بالعداوة.
(5) فما نشبنا: أي لم نتعلق بشيء من الأشياء حتى سمعنا أن النبي قد خرج.
(6) البخاري رقم 3866 .
(7) صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق ص23 وقد ذكر الروايات التي ذكر منها إسلام عمر وخرجها وحكم على أسانيدها.(1/22)
أبو بكر وعلي وحمزة رضي الله عنهم في رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، وقد ذكروا له أنهم اجتمعوا في دار الأرقم في أسفل الصفا. فلقيه نُعَيم بن عبد الله النّحّام. فقال: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله. قال له نُعَيم: لبئس الممشى مشيت يا عمر، ولقد والله غرّتك نفسك من نفسك، ففرّطت وأردت هلكة بني عديّ، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟ فتحاورا حتى علت أصواتهما، فقال عمر: إني لأظنك قد صبوت ولو أعلم ذلك لبدأت بك، فلما رأى النَّحَّام أنه غير مُنْتَه قال: فإني أخبرك أن أهلك وأهل ختَنك قد أسلموا وتركوك وما أنت عليه من ضلالتك، فلما سمع مقالته قال: وأيهم؟ قال: خَتَنك وابن عمك وأختك(1).
2- مداهمة عمر بيت أخته وثبات فاطمة بنت الخطاب أمام أخيها:
__________
(1) سيرة ابن هشام (1/343) فيه انقطاع الطبقات لابن سعد (3/267) عن القاسم بن عثمان البصري عن أنس والقاسم ضعيف وقد حقق الروايات الدكتور وصي الله محمد عبّاس في تحقيقة لكتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد بن حنبل (1/342).(1/23)
لما سمع عمر أن أخته وزوجها قد أسلما احتمله الغضب وذهب إليهم فلما قرع الباب قالوا: من هذا؟ قال: ابن الخطاب. وكانوا يقرؤون كتاباً في أيديهم، فلما سمعوا حس عمر قاموا مبادرين فاختبئوا ونسوا الصحيفة على حالها، فلما دخل ورأته أخته عرفت الشر في وجهه، فخبأت الصحيفة تحت فخذها قال: ما هذه الْهَيْنَمَة والصوت الخفي التي سمعته عندكم؟ (( وكانوا يقرؤون طه )) فقالا: ما عدا حديثاً تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما، فقال له ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه سعيد وبطش بلحيته فتواثبا، وكان عمر قوياً شديداً، فضرب بسعيد الأرض ووطئه وطأ ثم جلس على صدره، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها، فقالت وهي غضبى: يا عدو الله، أتضربني على أن أوحّد الله؟ قال: نعم. قالت: ما كنت فاعلاً فأفعل، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لقد أسلمنا على رغم أنفك، فلما سمعها عمر ندم وقام عن صدر زوجها، فقعد، ثم قال: أعطوني هذه الصحيفة التي عندكم فأقرأها، فقالت أخته: لا أفعل. قال: ويحك قد وقع في قلبي ما قلت، فأعطينيها أنظر إليها، وأعطيك من المواثيق أن لا أخونك حتى تحرزيها حيث شئت. قالت: إنك رجس فـ { لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ } فقم فاغتسل أو توضأ، فخرج عمر ليغتسل ورجع إلى أخته فدفعت إليه الصحيفة وكان فيها طه وسور أخرى فرأى فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم(1/24)
فلما مرّ بالرحمن الرحيم ذعر، فألقى الصحيفة من يده، ثم رجع إلى نفسه فأخذها فإذا فيها: { طه(1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى(2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى(3) تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأرض وَالسَّمَواتِ الْعُلاَ(4) الرحمن عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى(5) لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى(7) اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى(8) } . (طه،الآيات:1-8)
فعظمت في صدره. فقال: من هذا فرّت قريش؟ ثم قرأ. فلما بلغ إلى قوله تعالى: { إنّني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري. إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى } (طه،الآيات:14،15،16).
قال: ينبغي لمن يقول هذا أن لا يُعبد معه غيره دلوني على محمد(1).
3- ذهابه لرسول الله وإعلان إسلامه:
فلما سمع خبّاب رضي الله عنه ذلك خرج من البيت وكان مختفياً وقال أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون قد سبقت فيك دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الإثنين:
(( اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب )) (2).
__________
(1) فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/344).
(2) سبق تخريجه، عمر بن الخطاب الطنطاويات ص117 .(1/25)
قال: دلوني على مكان رسول الله، فلما عرفوا منه الصدق قالوا: هو في أسفل الصفا. فأخذ عمر سيفه فتوشّحه ثم عمد إلى رسول الله وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته وَجِلوا ولم يجترئ أحد منهم أن يفتح له، لما قد علموا من شدته على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى حمزة رضي الله عنه وجَلَ القوم قال: مالكم؟ قالوا عمر بن الخطاب قال: عمر بن الخطاب؟ افتحوا له، فإن يرد الله به خيراً يُسلم، وإن يرد غير ذلك يكن قتله عليناً هيناً، ففتحوا، وأخذ حمزة ورجل آخر بعضديه حتى أدخلاه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أرسلوه(1)، ونهض إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ بحجزته(2)، وبجمع ردائه ثم جبذه جَبْذَة شديدة، وقال: ما جاء بك
يا ابن الخطاب؟ والله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة، فقال له عمر:
يا رسول الله جئتك أؤمن بالله وبرسوله وبما جئت به من عند الله، قال: فكبّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرف أهل البيت من أصحاب رسول الله أن عمر قد أسلم، فتفرق أصحاب رسول الله من مكانهم وقد عزّوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة بن عبد المطلب، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله، وينتصفون بهما من عدوهم(3).
4- حرص عمر على الصدع بالدعوة وتحمله الصعاب في سبيلها:
__________
(1) أخبار عمر الطنطاويات ص18 .
(2) حجز الإنسان: معقد السراويل والإزار لسان العرب (5/332).
(3) فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/344).(1/26)
دخل عمر في الإسلام بإخلاص متناهٍ، وعمل على تأكيد الإسلام بكل ما أوتي من قوة، وقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق، إن متّم وإن حييتم. قال: ففيمَ الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لَتَخرجنّ وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - على (ما يبدو) قد رأى أنه قد آن الأوان للاعلان، وأن الدعوة قد غدت قوية تستطيع أن تدفع عن نفسها، فأذن بالاعلان، وخرج - صلى الله عليه وسلم - في صفَّيْن، عمر في أحدهما، وحمزة في الآخر ولهم كديد ككديد الطحين(1)، حتى دخل المسجد، فنظرت قريش إلى عمر وحمزة فأصابتهم كآبة لم تصبهم قط وسمّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ الفاروق(2).
لقد أعز الله الإسلام، والمسلمين بإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد كان رجلاً ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره وامتنع به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبحمزة(3).
وتحدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مشركي قريش: فقاتلهم حتى صلى عند الكعبة(4)، وصلى معه المسلمون، وحرص عمر رضي الله عنه على أذية أعداء الدعوة بكل ما يملك، ونتركه يحدثنا عن ذلك بنفسه قال رضي الله عنه: كنت
__________
(1) الكديد: التراب الناعم فإذا وطئ ثار غباره.
(2) حلية الأولياء (1/40)، صفة الصفوة (1/103-104).
(3) الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب ص26،27 .
(4) الرياض النضرة (1/257) لمحب الطبري.(1/27)
لا أشاء أن أرى رجلاً من المسلمين، فذهبت إلى خالي أبي جهل – وكان شريفاً فيهم – فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟ قلت ابن الخطاب . فخرج إليّ فقلت: أعلمت أني قد صبوت؟ قال: فعلت؟ قلت: نعم. قال: لا تفعل. قلت: بلى! قال: لا تفعل ثم دخل وأجاف الباب (أي رده) دوني وتركني. قلت: ما هذا بشيء. فذهبت إلى رجل من أشراف قريش فقرعت عليه بابه، فقيل: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب فخرج إليّ، فقلت: أشعرت أني صبوت؟ قال: أفعلت؟ قلت: نعم. قال: لا تفعل، ودخل فأجاف الباب دوني، فقلت: ما هذا بشيء، فقال لي رجل: أتحب أن يُعلم إسلامك؟ قلت: نعم. قال: إذا جلس الناس في الحِجْر، جئتَ إلى ذلك الرجل (جميل بن معمر الجمحي) فجلست إلى جانبه وقلت: أعلمت أني صبوت؟ فلما جلس الناس في الحِجْر فعلت ذلك، فقام فنادى بأعلى صوته: إن ابن الخطاب قد صبأ. وثار إليّ الناس يضربونني وأضربهم(1) . وفي رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لما أسلم عمر لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أي أهل مكة أنقل للحديث؟ قيل له جميل بن معمر الجُمحي. فخرج إليه وأنا معه أتبع
__________
(1) شرح المواهب (1/320)، أخبار عمر الطنطاويان ص19 .(1/28)
أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كلّما رأيت وسمعت. فأتاه فقال: يا جميل إني قد أسلمت فوالله ما ردّ عليه كلمة حتى قام يجرّ رداءه، وتبعه عمر واتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش: وهم في أنديتهم حول الكعبة ألا إنَّ عمر بن الخطاب قد صبأ. وعمر يقول من خلفه: كذب ولكنني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فثاروا إليه، فوثب عمر على عتبة بن ربيعة، فبرك عليه وجعل يضربه، وأدخل إصبعيه في عينيه، فجعل عُتبة يصيح، فتنحى الناس عنه، فقام عمر فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ شريف من دنا منه، حتى أحجم الناس عنه، واتبع المجالس التي كان يجلسها بالكفر فأظهر فيها الإيمان(1)، وما زال يقاتلهم حتى ركدت الشمس على رؤوسهم وفتر عمر وجلس، فقاموا على رأسه، فقال: افعلوا ما بدا لكم، فوالله لو كنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا، أو تركناها لكم. فبينما هم كذلك إذ جاء رجل عليه حلة حرير وقميص مُوّشّى، قال: ما بالكم؟ قالوا: ابن الخطاب قد صبأ. قال: فمه؟ امرؤا اختار ديناً لنفسه، أتظنون أن بني عديّ يُسلمون إليكم صاحبهم، فكأنما كانوا ثوباً انكشف عنه، فقلت له بالمدينة: يا أبت من الرجل ردّ عنك القوم يومئذ؟ قال: يا بني، ذاك العاص بن وائل السهمي(2).
5- أثر إسلامه على الدعوة:
__________
(1) الرياض النظرة ص319 .
(2) فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/346) إسناده حسن.(1/29)
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نطوف بالبيت ونصلي، حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلهم حتى تركونا، فصلينا وطفنا(1). وقال أيضاً: كان إسلام عمر فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمارته رحمة، لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي ونطوف بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلناهم حتى تركونا نصلي(2) وقال صهيب بن سنان:
لما أسلم عمر بن الخطاب، ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقاً، وطفنا بالبيت وانتصفنا ممن غلظ علينا ورددنا عليه(3).
... ولقد صدق في عمر رضي الله عنه قول القائل:
أعني به الفاروق فرّق عنوةً ... بالسيف بين الكفر والإيمان
هو أظهر الإسلام بعد خفائه ... ومحا الظلام وباح بالكتمان(4)
6- تاريخ إسلامه وعدد المسلمين يوم أسلم:
أسلم عمر رضي الله عنه في ذي الحجة من السنة السادسة من النبوة، وهو ابن سبع وعشرين سنة(5)، وكان إسلامه بعد إسلام حمزة رضي الله عنه بثلاثة أيام(6)، وكان المسلمون يومئذ تسعة وثلاثين: قال عمر رضي الله عنه: لقد رأيتني وما أسلم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تسعة وثلاثون رجلاً فكملتهم أربعين، فأظهر الله دينه، وأعز الإسلام، (وروي) أنهم كانوا أربعين أو بضعة وأربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة، ولكن عمر لم يكن يعرفهم كلهم لأن غالب من أسلم كان يخفي إسلامه خوفاً من المشركين، ولا سيما عمر فقد كان عليهم شديداً فذكر أنه أكملهم أربعين ولم يذكر النساء لأنه لا إعزاز بهن لضعفهن(7).
ثانياً: هجرته:
__________
(1) فضائل الصحابة (1/344) إسناده حسن.
(2) الشيخان أبو بكر وعمر برواية البلاذري ص141 .
(3) الطبقات الكبرى (3/269)، صفة الصفوة (1/274).
(4) نونية القحطاني ص22 .
(5) تاريخ الخلفاء ص137 .
(6) أخبار عمر، الطنطاويان ص22 .
(7) نفس المصدر ص22 .(1/30)
لما أراد عمر الهجرة إلى المدينة أبى إلا أن تكون علانية يقول ابن عباس رضي الله عنهما: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا متخفياً، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما همّ بالهجرة، تقلد سيفه، وتنكّب قوسه، وانتضى في يده أسهماً، واختصر عنزته(1)، ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً متمكناً، ثم أتى المقام، فصلى متمكناً، ثم وقف على الحلق واحدة، واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه، لا يُرغم الله إلا هذه المعاطس(2)، من أراد أن تثكله أمه، ويوتم ولده، أو يرمل زوجه فليلقني وراء هذا الوادي. قال عليُّ رضي الله عنه: فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين علمهم، وأرشدهم ومضى لوجهه(3).
وكان قدوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المدينة قبل مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، وكان معه من لحق به من أهله وقومه، وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر، وخنيس بن حذافة السهمي، زوج ابنته حفصة، وابن عمه سعيد بن زيد، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وواقد بن عبد الله التميمي، حليف لهم، وخولى بن أبي خولى، ومالك بن أبي خولى، حليفان لهم من بني عجل وبنو البكير، وإياس وخالد، وعاقل، وعامر، وحلفاؤهم من بني سعد بن ليث، فنزلوا على رفاعة بن عبد المنذر في بني عمرو بن عوف بقباء(4).
__________
(1) عنزته: العنزة عصا في قدر نصف الرمح وهي أطول من العصا وأقوى من الرمح.
(2) المعاطس: الأنوف.
(3) خبر لا بأس به انظر صحيح التوثيق في سيرة الفاروق ص30 .
(4) فتح الباري (7/261) نقلاً عن صحيح التوثيق ص31 .(1/31)
يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أبي مكتوم، وكانوا يُقرئون الناس، فقدم بلال، وسعد، وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين نفراً من اصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1).
وهكذا ظل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خدمة دينه وعقيدته بالأقوال والأفعال لا يخشى في الله لومة لائم وكان رضي الله عنه سنداً ومعيناً لمن أراد الهجرة من مسلمي مكة حتى خرج، ومعه هذا الوفد الكبير من أقاربه وحلفائه، وساعد عمر رضي الله عنه غيره من أصحابه الذين يريدون الهجرة وخشي عليهم من الفتنة والابتلاء في أنفسهم(2)، ونتركه يحدثنا بنفسه عن ذلك حيث قال: اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي، التناضب(3)، من أضاءة(4) بني غفار، فوق سَرِف(5)، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حُبس فليمض صاحباه. قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التَّناضب، وحُبس عنا هشام، وفُتن فافتتن(6)، فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عيّاش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخوهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فكلّماه وقالا: إن أمك نذرت أن لا يمسّ رأسها مُشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرقّ لها، فقلت له: عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل
__________
(1) البخاري رقم 3925 .
(2) صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق عمر بن الخطاب ص31 .
(3) التناضب: جمع تنضيب وهو شجر.
(4) الأضاءة: على عشرة أميال من مكة.
(5) سرف: وادي متوسط الطول من أودية مكة.
(6) الهجرة النبوية المباركة، عبد الرحمن عبد البر ص129 .(1/32)
لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظللت. قال: أبرُّ قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه. قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. قال: فأبى عليُّ إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك، قال: قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول(1)، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تُعقبني(2) على ناقتك هذه؟ قال: بلى. قال: فأناخ، وأناخ، ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن(3). قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: { قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ(54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ
لاَ تَشْعُرُونَ(55) } (الزمر، الآيات: 53-55).
__________
(1) الذلول: أذلها العمل، فصارت سهلة الركوب والانقياد.
(2) تُعقبني: تجعلني أعقبك عليها لركوبها.
(3) السيرة النبوية الصحيحة (1/205).(1/33)
قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص قال: فقال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى(1)، أصَعَّد بها فيه، وأصَوَّبُ، ولا أفهمها حتى قلت: اللهمّ فهِّمنيها، قال: فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا. قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه، فلحقت برسول الله وهو بالمدينة(2).
هذه الحادثة تظهر لنا كيف أعد عمر رضي الله عنه خطة الهجرة له، ولصاحبيه عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي، وكان ثلاثتهم كل واحد من قبيلة، وكان مكان اللقاء الذي اتعدوا فيه بعيداً عن مكة وخارج الحرم على طريق المدينة، ولقد تحدد الزمان والمكان بالضبط بحيث إنه إذا تخلف أحدهم فليمض صاحباه ولا ينتظرانه، لأنه قد حبس، وكما توقعوا، فقد حبس هشام بن العاص رضي الله عنه بينما مضى عمر وعياش بهجرتهما ونجحت الخطة كاملة ووصلا المدينة سالمين(3) إلا أن قريشاً صممت على متابعة المهاجرين ولذلك أعدت خطة محكمة قام بتنفيذها
__________
(1) ذو طوى: واد من أودية مكة.
(2) الهجرة النبوية المباركة ص131 .
(3) التربية القيادية (2/ 159).(1/34)
أبو جهل، والحارث وهما أخوا عياش من أمه، الأمر الذي جعل عياشاً يطمئن إليهما، وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بأمه، فاختلق أبو جهل هذه الحيلة لعلمه بمدى شفقة ورحمة عياش بأمه، والذي ظهر جلياً عندما أظهر موافقته على العودة معهم، كما تظهر الحادثة الحس الأمني الرفيع الذي كان يتمتع به عمر رضي الله عنه، حيث صدقت فراسته في أمر الاختطاف(1) كما يظهر المستوى العظيم من الأخوة التي بناها الإسلام فعمر يضحي بنصف ماله حرصاً على سلامة أخيه، وخوفاً عليه من أن يفتنه المشركون بعد عودته،?ولكن غلبت عياش عاطفته نحو أمه، وبره بها ولذلك قرر أن يمضي لمكة فيبر قسم أمه ويأتي بماله الذي هناك، وتأبى عليه عفته أن يأخذ نصف مال أخيه عمر رضي الله عنه وماله قائم في مكه لم يمس، غير أن أفق عمر رضي الله عنه كان أبعد، فكأنه يرى رأي العين المصير المشؤوم الذي سينزل بعياش لو عاد إلى مكة، وحين عجز عن إقناعه أعطاه ناقته الذلول النجيبة، وحدث لعياش ما توقعه عمر من غدر المشركين(2).
__________
(1) السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث للصلابي ص512.
(2) التربية القيادية (2/160).(1/35)
وساد في الصف المسلم أن الله تعالى لا يقبل صرفاً ولا عدلاً من هؤلاء الذين فتنوا فافتتنوا وتعايشوا مع المجتمع الجاهلي فنزل قول الله تعالى: { قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ … } وما أن نزلت هذه الآيات حتى سارع الفاروق رضي الله عنه فبعث بها إلى أخويه الحميمين عياش وهشام ليجددا محاولاتهما في مغادرة معسكر الكفر. أي سمو عظيم عند ابن الخطاب رضي الله عنه. لقد حاول مع أخيه عياش، أعطاه نصف ماله على أن لا يغادر المدينة، وأعطاه ناقته ليفر عليها ومع هذا كله، فلم يشمت بأخيه، ولم يتشفَّ منه لأنه خالفه، ورفض نصيحته، وألقى برأيه خلف ظهره، إنما كان شعور الحب والوفاء لأخيه هو الذي يسيطر عليه، فما أن نزلت الآية حتى سارع ببعثها إلى أخويه من مكة وإلى كل المستضعفين هناك ليقوموا بمحاولات جديدة للانضمام إلى المعسكر الإسلامي(1).
هذا وقد نزل عمر بالمدينة، وأصبح وزير صدق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عويم بن ساعدة(2)، وقيل بينه وبين عتبان بن مالك(3) وقيل بينه وبين معاذ بن عفراء(4) وقد علق ابن عبد الهادي على ذلك وقال: لا تناقض بين الأحاديث ويكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد آخى بينه وبين كل أولئك في أوقات متعددة، فإنه ليس بممتنع أن يؤاخي بينه وبين كل أولئك في أوقات متعددة(5).
الفصل الثاني
التربية القرآنية والنبوية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه
المبحث الأول: حياة الفاروق مع القرآن الكريم:
أولاً: تصوره عن الله والكون والحياة والجنة والنار والقضاء والقدر:
__________
(1) نفس المصدر (2/ 160).
(2) مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي 31 .
(3) الطبقات لابن سعد (3/272).
(4) مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي 31 .
(5) محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (1/184).(1/36)
كان المنهج التربوي الذي تربى عليه عمر بن الخطاب وكل الصحابة الكرام هو القرآن الكريم، المنزل من عند رب العالمين، فهو المصدر الوحيد للتلقي، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التلقي وتفرده وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج والفكرة المركزية التي يتربى عليها الفرد المسلم والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، فكانت للآيات الكريمة التي سمعها عمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مباشرة أثرها في صياغة شخصية الفاروق الإسلامية، فقد طهّرت قلبه، وزكت نفسه، وتفاعلت معها روحه، فتحول إلى إنسان جديد بقيمه ومشاعره وأهدافه وسلوكه وتطلعاته(1).
فقد عرف الفاروق من خلال القرآن الكريم من هو الإله الذي يجب أن يعبده، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغرس في نفسه معاني تلك الآيات العظيمة فقد حرص - صلى الله عليه وسلم - أن يربي أصحابه على التصور الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم، مدركاً أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عندما تصفى النفوس وتستقيم الفطرة، فأصبحت نظرة الفاروق إلى الله، والكون والحياة والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الإنسان، وصراعه مع الشيطان مستمدة من القرآن الكريم وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فالله سبحانه وتعالى منزه عن النقائص موصوف بالكمالات التي لا تتناهى فهو سبحانه ( واحد لا شريك له، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً ).
وأنه سبحانه خالق كل شيء ومالكه ومدبره { إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54) } (الأعراف،آية:54).
__________
(1) السيرة النبوية للصلاَّبي (1/145).(1/37)
وأنه تعالى مصدر كل نعمة في هذا الوجود دقت أو عظمت ظهرت أو خفيت { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53) } (النحل،آية:53).
وأن علمه محيط بكل شيء، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ولا ما يخفي الإنسان وما يعلن.
وأنه سبحانه يقيد على الإنسان أعماله بواسطة ملائكته، في كتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وسينشر ذلك في اللحظة المناسبة والوقت المناسب: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(18) } (ق، آية:18).
وأنه سبحانه يبتلي عباده بأمور تخالف ما يحبون، وما يهوون ليعرف الناس معادنهم، ومن منهم يرضى بقضاء الله وقدره، ويسلم له ظاهراً وباطنا، فيكون جديراً بالخلافة والإمامة والسيادة، ومن منهم يغضب ويسخط فلا يساوي شيئاً، ولا يسند إليه شيء: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(2) } .
وأنه سبحانه يوفق ويؤيد وينصر من لجأ إليه، ولاذ بحماه ونزل على حكمه في كل ما يأتي وما يذر { إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى
الصَّالِحِينَ(196) } (الأعراف،آية:196).
وأنه سبحانه وتعالى حقه على العباد أن يعبدوه ويوحدوه فلا يشركوا به شيئاً { بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ(66) } (الزمر، آية:66).
وأنه سبحانه حدد مضمون هذه العبودية، وهذا التوحيد في القرآن الكريم(1).
__________
(1) منهج الرسول في غرس الروح الجهادية ص10 إلى 16 .(1/38)
وأما نظرته للكون فقد استمدها من قول الله تعالى: { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ(10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(12) } (فصلت:9-12).
وأما هذه الحياة مهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عظم فإنه قليل حقير قال تعالى: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأرض زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الأيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(24) } (يونس،آية:24).
وأما نظرته إلى الجنة، فقد استمدها من خلال الآيات الكريمة التي وصفتها، فأصبح حاله ممن قال الله تعالى فيهم: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(16) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(17) } (السجدة،آية:16،17).(1/39)
وأما تصوره للنار فقد استمده من القرآن الكريم، فأصبح هذا التصور رادعاً له في حياته عن أي انحراف عن شريعة الله فيرى المتتبع لسيرة الفاروق عمق استيعابه لفقه القدوم على الله عز وجل، وشدة خوفه من عذاب الله وعقابه، فقد خرج رضي الله عنه ذات ليلة في خلافته يعسُّ بالمدينة، فمرّ بدار رجل من المسلمين، فوافقه قائماً يصلي، فوقف يسمع قراءته، فقرأ: { وَالطُّورِ(1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ(2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ(3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ(4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ(5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ(6) } إلى أن يبلغ { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ(7) } (الطور،آية:7). قال: قسم ورب الكعبة حق. فنزل عن حماره، فاستند إلى حائط، فمكث ملياً، ثم رجع إلى منزله، فمرض شهراً يعوده الناس لا يدرون ما مرضه(1).
__________
(1) الرقة والبكاء، عبد الله بن أحمد المقدسي ص166 .(1/40)
وأما مفهوم القضاء والقدر فقد استمده من كتاب الله وتعليم رسول الله له، فقد رسخ مفهوم القضاء والقدر في قلبه، واستوعب مراتبه من كتاب الله تعالى، فكان على يقين بأن علم الله محيط بكل شيء { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(61) } (يونس، آية:61). وأن الله قد كتب كل شيء كائن { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ(12) } (يس،آية:12). وأن مشيئة الله نافذة وقدرته تامة { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَواتِ وَلاَ فِي الأرض إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا(44) } (فاطر،آية:44). وأن الله خالق لكل شيء { ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) } (الأنعام،آية:102).(1/41)
وقد ترتب على الفهم الصحيح والاعتقاد الراسخ في قلبه لحقيقة القضاء والقدر، ثمار نافعة ومفيدة ظهرت في حياته وسنراها بإذن الله تعالى في هذا الكتاب وعرف من خلال القرآن الكريم حقيقة نفسه وبني الإنسان وأن حقيقة الإنسان ترجع إلى أصلين: الأصل البعيد وهو الخلقة الأولى من طين، حين سواه ونفخ فيه الروح، والأصل القريب وهو خلقه من نطفة(1) فقال تعالى: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأنسَانِ مِنْ طِينٍ(7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ(8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ(9) } (السجدة،آية:7-9).وعرف أن هذا الإنسان خلقه الله بيده، وأكرمه بالصورة الحسنة والقامة المعتدلة، ومنحه العقل والنطق والتمييز وسخر الله له ما في السماء والأرض، وفضله الله على كثير من خلقه، وكرمه بإرساله الرسل له، وأن من أروع مظاهر تكريم المولى عز وجل سبحانه للإنسان أن جعله أهلاً لحبه ورضاه ويكون ذلك باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي دعا الناس إلى الإسلام لكي يحيوا حياة طيبة في الدنيا ويظفروا بالنعيم المقيم في الآخرة قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97) } (النحل،آية:97).
__________
(1) أصول التربية للخلاوي ص31 .(1/42)
وعرف عمر رضي الله عنه حقيقة الصراع بين الإنسان والشيطان وأن هذا العدو يأتي للإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، يوسوس له بالمعصية ويستثير فيه كوامن الشهوات، فكان مستعيناً بالله على عدوه إبليس وانتصر عليه في حياته، كما سترى من سيرته، وتعلم من قصة آدم مع الشيطان في القرآن الكريم؛ أن آدم هو أصل البشر، وجوهر الإسلام الطاعة المطلقة لله، وأن الإنسان له قابلية للوقوع في الخطيئة، وتعلم من خطيئة آدم ضرورة توكل المسلم على ربه، وأهمية التوبة والاستغفار في حياة المؤمن، وضرورة الاحتراز من الحسد والكبر، وأهمية التخاطب بأحسن الكلام مع الصحابة لقول الله تعالى: { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلأنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا(53) } (الإسراء،آية:53). وسار على منهج رسول الله في تزكية أصحابه لأرواحهم وتطهير قلوبهم بأنواع العبادات وتربيتهم على التخلق بأخلاق القرآن الكريم.(1/43)
لقد أكرم المولى عز وجل عمر بن الخطاب بالإسلام الذي قدم له عقيدة صحيحة صافية خلفت عقيدته الأولى، وقضت في نفسه عليها فانهارت أركان الوثنية، فلا زلفى لوثن، ولا بنات لله، ولا صهر بين الجن والله، ولا كهانة تحدد للمجتمع مساره، وتقذف به في تيه التشاؤم والطيرة ولا عدم بعد الموت(1)، انتهى ذلك كله وخلفته عقيدة الإيمان بالله وحده مصفَّاة من الشرك، والولد والكهانة والعدم بعد الحياة الدنيا، ليحل الإيمان بآخرة ينتهي إليها عمل الإنسان في تقويم مجزي عليه، انتهى عبث الجاهلية في حياة بلا بعث ولا مسؤولية أمام الديان وخلفتها عقيدة الإيمان باليوم الآخر ومسؤولية الجزاء وانصهر عمر بكليته في هذا الدين وأصبح الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وعبد الله وحده في إحسان كأنما يراه(2)، وتربى عمر على القرآن الكريم وتنقل به من تشريع إلى آداب، ومن تاريخ إلى حكمة، في عطاء مسترسل كريم، مع توفيق من الله تعالى له في العيش مع القرآن الكريم الذي أثر في عقله وقلبه ونفسه وروحه وانعكست ثمار تلك المعايشة على جوارحه، وكان سبب ذلك – بعد توفيق الله له – تتلمذه على يدي رسول الله(3).
ثانياً: موافقات عمر للقرآن الكريم، وإلمامه بأسباب النزول وتفسيره لبعض الآيات:
1- موافقات عمر للقرآن الكريم:
__________
(1) عمر بن الخطاب، علي الخطيب ص51 .
(2) عمر بن الخطاب، حياته، علمه، أدبه ص51 .
(3) نفس المصدر ص52 .(1/44)
كان عمر من أكثر الصحابة شجاعة وجرأة، فكثيراً ما كان يسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن التصرفات التي لم يدرك حكمها، كما كان رضي الله عنه يبدي رأيه واجتهاده بكل صدق ووضوح ومن شدة فهمه واستيعابه لمقاصد القرآن الكريم نزل القرآن الكريم موافقاً لرأيه رضي الله عنه في بعض المواقف، قال عمر رضي الله عنه: وافقت الله تعالى في ثلاث، أو وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مُصلّى، فأنزل الله تعالى ذلك، وقلت: يا رسول الله، يدخل عليك البرُّ والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله تعالى آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أزواجه، فدخلت عليهن، قلت: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن، حتى أتيت إحدى نسائه، قالت: يا عمر، أما في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعظ نساءه، حتى تعظهن أنت(1)؟ فأنزل الله: { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا(5) } (التحريم،آية:5).
2- ومن موافقته في ترك الصلاة على المنافقين:
قال عمر: لما توفي عبد الله بن أبي دُعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة عليه، فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره فقلت: يا رسول الله: أعلى عدوّ الله عبد الله بن أبيّ القائل يوم كذا: كذا وكذا، والقائل يوم كذا: كذا وكذا أعدد أيامه الخبيثة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتسم حتى إذا أكثرت عليه، قال: أخر عني
__________
(1) البخاري، ك التفسير رقم 4213 .(1/45)
يا عمر، إني خيّرت فاخترت: قد قيل لي: { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(80) } (التوبة،آية:80). فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له زدت. ثم صلى عليه ومشى معه على قبره حتى فرغ منه، فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله، والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان: { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } (التوبة،آية:84). فما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل(1).
3- موافقته في أسرى بدر:
قال عمر - رضي الله عنه - : لما كان يوم بدر وهزم الله المشركين فقتل منهم سبعون وأسر سبعون، استشار رسول الله أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، فقال لي: ما ترى يا ابن الخطاب؟ فقلت: أرى أن تمكنني من فلان – قريب لعمر – فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل(2)، فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم، وقادتهم. فلم يهوَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قلت، فأخذ منهم الفداء. فلما كان من الغد غدوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو قاعد وأبو بكر، وهما يبكيان، فقلت
__________
(1) مسلم رقم 2400، أخبار عمر الطنطاويان ص380،381 .
(2) عقيل بن أبي طالب الهاشمي أسلم يوم الفتح وتوفي في أول خلافة يزيد.(1/46)
يا رسول الله ما يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: للذي عَرَضَ عليَّ أصحابك: (( من الفداء، لقد عُرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة )) - لشجرة قريبة - فأنزل الله تعالى: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } إلى قوله { عَذَابٌ عَظِيمٌ(68) } (الأنفال،آية:68)، فلما كان من العام المقبل قتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله وكُسِرَت رباعيته(1)، وهشمت البيضة(2)، على رأسه، وسال الدم على وجهه، وأنزل الله تعالى: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } بأخذكم الفداء { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(165) } (آل عمران،آية:165) (3).
4- موافقته في الاستئذان:
أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - غلاماً من الأنصار إلى عمر بن الخطاب. وقت الظهيرة ليدعوَه، فدخل عليه وكان نائماً وقد انكشف بعض جسده، فقال: اللهم حرّم الدخول علينا في وقت نومنا وفي (رواية) قال: يا رسول الله وددت لو أن الله أمرنا ونهانا في حال الاستئذان(4) فنزلت { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ } (النور،آية:58) (5).
- عمر ودعاؤه في تحريم الخمر:
__________
(1) الرباعية: السّنُ التي بين الثَّنية والناب.
(2) البيضة: الخُذة سميت بذلك لأنها على شكل بيضة النعام.
(3) مسند أحمد (1/250) رقم 221 وصححه أحمد شاكر، مسلم بنحوه رقم 1763 .
(4) الرياض النضرة ص332 سنده ضعيف ذكره الواقدي بدون إسناد.
(5) الفتاوى (28/10).(1/47)
لما نزل قول الله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } (البقرة،آية:219). قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآية التي في النساء { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } (النساء،آية:43) فكان منادي النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أقام الصلاة نادى أن لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ(91) } (المائدة،آية:91). قال عمر: انتهينا، انتهينا(1)، وهكذا خضع تحريم الخمر لسنة التدريج وفي قوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ(91) } فهم عمر من الاستفهام الاستنكاري بأن المراد به التحريم، لأن هذا الاستفهام أقوى وأقطع في التحريم من النهي العادي، ففي ألفاظ الآية وتركيبها وصياغتها تهديد رهيب واضح كالشمس في التحريم(2).
- إلمامه بأسباب النزول:
حفظ عمر القرآن كله(3)، في الفترة التي بدأت بإسلامه، وانتهت بوفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد حفظه مع أسباب التنزيل إلا ما سبق نزوله قبل إسلامه، فذلك مما جمعه جملة ولا مبالغة إذا قلنا: أن عمر كان على علم بكثير من أسباب التنزيل، وبخاصة في الفترة الإسلامية من حياته، ثم لشدة اتصاله بالتلقي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم هو قد حفظ منه ما فاته، فإن يلم بأسباب النزول والقرآن بكر التنزيل، والحوادث
لا تزال تترى فذلك أمر يسير(4).
__________
(1) صححه أحمد شاكر في تخريجه لأحاديث المسند رقم 378 .
(2) شهيد المحراب للتلمساني ص101 .
(3) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/72)
(4) عمر بن الخطاب د. علي الخطيب ص90،91،92 .(1/48)
وقد كان عمر سبباً في التنزيل لأكثر من آية، بعضها متفق على مكيته، وبعضها مدني، بل كان بعض الآيات يحظى من عمر بمعرفة زمانه ومكانه على وجه دقيق، قال عن الآية الكريمة { … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الأسْلاَمَ دِينًا… } (المائدة،آية:3) والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله والساعة التي نزلت فيها على رسول الله عشية عرفة في يوم الجمعة(1)، وقد كان عمر – وحده أو مع غيره – سبباً مباشراً في تنزيل بعض الآيات منها، قول الله تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ
لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(22) } (التوبة،آبة:19-22).
__________
(1) إسناده صحيح على شرط الشيخين الموسوعة الحديثية مسند أحمد رقم 188 .(1/49)
وفي الصحيح: أن رجلاً قال: لا أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، فقال علي بن أبي طالب: الجهاد في سبيل الله أفضل من هذا كله. فقال عمر بن الخطاب: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله. ولكن إذا قضيت الصلاة. سألته عن ذلك، فسأله، فأنزل الله هذه الآية، فبين لهم أن الإيمان والجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام والحج والعمرة والطواف ومن الإحسان إلى الحجاج، بالسقاية، ولهذا قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : لأن أرابط ليلة في سبيل الله، أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود(1).
- سؤاله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بعض الآيات:
كان عمر رضي الله عنه يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بعض الآيات وأحياناً أخرى يسمع صحابياً يستفسر من رسول الله عن بعض الآيات فيحفظها ويعلمها لمن أراد من طلاب العلم، فعن يَعْلى بن أمية، قال: سألت عمر بن الخطاب، قلت: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ
__________
(1) الفتاوى (28/10).(1/50)
كَفَرُوا } (النساء،آية:101)، وقد أمن الله الناس(1)؟! فقال لي عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته(2)، وقد سئل عمر بن الخطاب عن هذه الآية: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } (الأعراف،آية:172)، فقال عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عنها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، واستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عملٍ من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار(3).
ولما نزل قول الله تعالى: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ(45) } (القمر،آية:45). قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثبت في الدرع وهو يقول: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } فعرفت تأويلها يومئذ(4).
- تفسير عمر لبعض الآيات وبعض تعليقاته:
كان عمر يتحرّج في تفسير القرآن برأيه ولذلك لما سئل عن قوله تعالى
{ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } قال: هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله
__________
(1) وفي رواية: أمن الناس.
(2) إسناده صحيح على شرط مسلم، مسند أحمد رقم 174 الموسوعة الحديثية.
(3) صحيح لغيره مسند أحمد رقم 311 الموسوعة الحديثية.
(4) تفسير ابن كثير (4/266).(1/51)
ما قلته، قيل: { فَالْحَامِلاَتِ وِقْرًا } . قال: السحاب، ولولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله ما قلته، قيل: { فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا } ؟ قال: السفن، ولولا أني سمعت رسول الله يقوله ما قلته، قيل: { فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا } ؟ قال: هي الملائكة، ولولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله ما قلته(1)، وكان رضي الله عنه له منهج في تفسيره للآيات، فإنه رضي الله عنه إذا وجد لرسول الله تفسيراً أخذ به، وكان هو الأفضل مثل ما مرّ معنا من تفسيره وإذا لم يجد طلبه في مظانه عند بعض الصحابة مثل: ابن عباس، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود ومعاذ وغيرهم - رضي الله عنهم _ وهذا مثال على ذلك؛ فقد قال عمر رضي الله عنه يوماً لأصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم -: فيم ترون هذه الآية نزلت { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الأيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(266) } (البقرة،آية:266)، قالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أولا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلاً لعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله(2)، وفي رواية قال ابن عباس: عني بها العمل، ابن آدم أفقر ما يكون إلى جنته إذا كبر سنه وكثر عياله، وابن آدم أفقر ما يكون إلى عمله يوم يبعث، فقال عمر: صدقت يا ابن أخي(3)
__________
(1) أخبار عمر بن الخطاب الطنطاويان ص308 نقلاً عن الرياض النظرة.
(2) فتح الباري (8/49).
(3) الخلافة الراشدة والدولة الأموية، د. يحيى اليحيى ص305 .(1/52)
.
وكانت له بعض التعليقات على بعض الآيات مثل قوله تعالى: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ(157) } (البقرة،آية:156،157). فقال: نعم العدلان ونعم العلاوة(1)، ويقصد بالعدلين الصلاة والرحمة والعلاوة الاهتداء(2).
وسمع القارئ يتلو قول الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الأنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) } (الانفطار،آية:6). فقال عمر: الجهل(3). وفسر قول الله تعالى: { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ(7) } (التكوير،آية:7). بقوله: الفاجر مع الفاجر والطالح مع الطالح(4)، وفسر قول الله تعالى: { تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } (التحريم،آية:8). بقوله: أن يتوب ثم لا يعود، فهذه التوبة الواجبة التامة(5)، وذات يوم مر بدير راهب فناداه يا راهب فأشرف الراهب، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي فقيل له يا أمير المؤمنين: ما يبكيك من هذا؟ قال ذكرت قول الله عز وجل في كتابه { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4) } (الغاشية،آية:4،3). فذاك الذي أبكاني(6)، وفسر الجبت بالسحر، والطاغوت بالشيطان في قوله تعالى: { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } (7) (النساء،آية:51).
المبحث الثاني: ملازمته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) المستدرك (2/270).
(2) الخلافة الراشدة والدولة الأموية ص305 .
(3) تفسير ابن كثير (4/513).
(4) الفتاوى (7/44).
(5) الفتاوى (11/382).
(6) تفسير ابن كثير (4/537).
(7) تفسير ابن كثير (1/524).(1/53)
كان عمر رضي الله عنه واحداً من المكيين الذين قرأوا وكتبوا في مجتمعه الأمي، وهذا دليل على شغفه بالعلم منذ صغره، وسعيه ليكون واحداً من القلة القليلة، الذين محوا أميتهم، وهذبوا أنفسهم، وتبوأوا مكانة مرموقة في عصر الرسالة، لمجموعة مقومات، لعل منها إلمامه بالقراءة والكتابة وهو حدث له قيمته آنذاك وقد تلقى عمر دروسه الأولى، وتعلم القراءة والكتابة على يدي حرب بن أمية والد أبي سفيان(1)، وقد أهلته هذه الميزة، لأن يثقف نفسه بثقافة القوم آنذاك، وإن كنا نجزم أن الرافد القوي الذي أثر في شخصية عمر وصقل مواهبه، وفجر طاقاته وهذب نفسه هو مصاحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة، ذلك أن عمر لازم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة بعد إسلامه كما لازمه كذلك في المدينة المنورة – حيث سكن العوالي – وهي ضاحية من ضواحي المدينة، وإن كانت قد اتصلت بها الآن وأصبحت ملاصقة لمسجد الرسول، حيث امتد العمران، وتوسعت المدينة، وزحفت على الضواحي، في هذه الضاحية نظم عمر نفسه، وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النبوة في فروع شتى من المعارف والعلوم على يدي معلم البشرية وهاديها، والذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وقد كان لا يفوته علم من قرآن، أو حديث أو أمر أو حدث أو توجيه قال عمر: كنت أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد – وهي من عوالي المدينة – وكنا نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئت بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك(2).
__________
(1) عمر بن الخطاب، د. محمد أحمد أبو النصر ص87 .
(2) نفس المصدر ص87 .(1/54)
وهذا الخبر يوقفنا على الينبوع المتدفق، الذي استمد منه عمر علمه وتربيته وثقافته، وهو كتاب الله الحكيم، الذي كان ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منجماً على حسب الوقائع والأحداث، وكان الرسول يقرأه على أصحابه، الذين وقفوا على معانيه، وتعمقوا في فهمه، وتأثروا بمبادئه، وكان له عميق الأثر في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم وأرواحهم وكان عمر واحداً من هؤلاء الذين تأثروا بالمنهج القرآني في التربية والتعليم، وعلى كل دارس لتاريخ عمر وحياته أن يقف وقفة متأملة أمام هذا الفيض الرباني الصافي، الذي غذى المواهب وفجر العبقريات، ونمى ثقافة القوم، ونعني به القرآن الكريم، وقد حرص عمر منذ أسلم على حفظ القرآن وفهمه وتأمله، وظل ملازماً للرسول يتلقى عنه ما أنزل عليه، حتى تم له حفظ جميع آياته وسوره، وقد أقرأه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعضه وحرص على الرواية التي أقرأه بها الرسول(1) وكان لعمر أحياناً شرف السبق إلى سماع بعض آياته فور نزوله كما عني بمراجعة محفوظه منه(2)، فقد تربى عمر رضي الله عنه على المنهج القرآني وكان المربي له - صلى الله عليه وسلم - وكانت نقطة البدء في تربية عمر هي لقاءه برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحدث له تحول غريب واهتداء مفاجئ بمجرد اتصاله بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج من دائرة الظلام إلى دائرة النور، واكتسب الإيمان، وطرح الكفر، وقوي على تحمل الشدائد، والمصائب في سبيل دينه الجديد وعقيدته السمحة، كانت شخصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحرك الأول للإسلام، وشخصيته - صلى الله عليه وسلم - تملك قوى الجذب والتأثير على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض والعظمة دائماً تحب، وتحاط من الناس بالاعجاب، ويلتف حولها المعجبون يلتصقون بها التصاقاً بدافع الاعجاب والحب، ولكن رسول الله - صلى الله
__________
(1) نفس المصدر ص88 .
(2) نفس المصدر ص88 .(1/55)
عليه وسلم - يضيف إلى عظمته تلك، أنه رسول الله، متلقي الوحي من الله، ومبلغه إلى الناس، وذلك بعد آخر له أثره في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه، فهو لا يحبه لذاته فقط كما يُحب العظماء من الناس، ولكن أيضاً لتلك النفحة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو معه في حضرة الوحي الإلهي المكرم، ومن ثم يلتقي في شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - البشر العظيم والرسول العظيم، ثم يصبحان شيئاً واحداً في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية. حب عميق شامل للرسول البشر أو للبشر الرسول ويرتبط حب الله بحب رسوله ويمتزجان في نفسه، فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية والسلوكية كلها كذلك.
كان هذا الحب الذي حرك الرعيل الأول من الصحابة هو مفتاح التربية الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطلقها الذي تنطلق منه(1)، لقد حصل للصحابة ببركة صحبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتربيتهم على يديه أحوال إيمانية عالية، يقول سيد قطب عن تلك التزكية: إنها لتزكية، وإنه لتطهير ذلك الذي كان يأخذهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. تطهير للضمير والشعور، وتطهير للعمل والسلوك، وتطهير للحياة الزوجية، وتطهير للحياة الاجتماعية، وتطهير ترتفع به النفوس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح، وترتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني، ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال، إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة، ولحياة السريرة، ولحياة الواقع، تزكية ترتفع بالانسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه، ويتعامل مع الملأ العلوي الكريم(2).
__________
(1) منهج التربية الإسلامية، محمد قطب ص34،35 .
(2) الظلال (6/3565).(1/56)
لقد تتلمذ عمر رضي الله عنه على يدي رسول الله، فتعلم منه القرآن الكريم والسنة النبوية، وأحكام التلاوة وتزكية النفوس قال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ(164) } (آل عمران،آية:164).
وحرص على التبحر في الهدي النبوي الكريم في غزواته، وسلمه وأصبح لعمر رضي الله عنه علم واسع ومعرفة غزيرة بالسنة النبوية المطهرة، التي أثرت في شخصية عمر وفقهه ولازم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستمع من رسول الله وتلقى عنه وكان إذا جلس في مجلس النبوة لم يترك المجلس حتى ينفض، كما كان حريصاً على أن يسأل الرسول- صلى الله عليه وسلم - عن كل ما تجيش به نفسه، أو يشغل خاطره(1)، لقد استمد من رسول الله علماً وتربية، ومعرفة بمقاصد هذا الدين العظيم وخصه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برعايته، وشمله بتسديده، ولقد شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعلم، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: بينما أنا نائم أتيت بقدح لبن، فشربت منه حتى أني لأرى الري يخرج من أظافري، ثم أعطيت فضلي يعني عمر.
قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: العلم(2).
قال ابن حجر: والمراد بالعلم هنا العلم بسياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -(3).
__________
(1) عمر بن الخطاب، د. محمد أبو النصر ص91 .
(2) البخاري، رقم 3681
(3) فتح الباري (7/36).(1/57)
وهذه المعرفة لا يمكن تَأتِّيها إلا لمن كان راسخ القدم في التزود بما يعينه على فهم كتاب الله، وسنة نبيه، وسبيله في ذلك: التعمّق في فهم اللغة وآدابها، والتمرس في معرفة أساليبها، والتزود في كل ما يساعد على فهمها من معارف وخبرات، وكذلك كان عمر رضي الله عنه(1)، ولقد جمع بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين عمر حب شديد، والحب عامل هام في تهيئة مناخ علمي ممتاز بين المعلم وبين تلميذه، يأتي بخير النتائج العلمية والثقافية، لما له من عطاء متجدد وعمر قد أحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حباً جماً، وتعلق فؤاده به، وقدم نفسه فداء له، وتضحية في سبيل نشر دعوته، فقد جاء في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين(2). فقال له عمر: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل أحد إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك )) فقال: فأنت أحب إلي من نفسي قال: الآن يا عمر(3).
واستأذن عمر يوماً إلى عمرة فقال له - صلى الله عليه وسلم -: (( لا تنسنا يا أخي في دعائك(4) )). فقال عمر: ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله: يا أخي(5).
__________
(1) عمر بن الخطاب، د. محمد أبو النصر ص93 .
(2) البخاري رقم 15 .
(3) البخاري رقم 6632 .
(4) أبو داود في الصلاة (1498)، والترمذي في الدعوات (3562). وقال: (هذا حديث حسن صحيح) وابن ماجه في المناسك (2894) كلهم عن عمر وهناك من ضعفه.
(5) نفس المصدر السابق.(1/58)
وهذا الحب السامي الشريف هو الذي جعل عمر يلازم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع غزواته، وقد أمده ذلك بخبرة ودربة ودراية بشؤون الحرب، ومعرفة بطبائع النفوس وغرائزها، كما أن ملازمته للرسول - صلى الله عليه وسلم - وكثرة تحدثه معه، قد طبعه على البلاغة والبيان والفصاحة وطلاقة اللسان، والتفنن في أوجه القول(1) وفي النقاط القادمة سنبين بإذن الله تعالى مواقفه في الميادين الجهادية مع رسول الله، وبعض الصور من حياته الاجتماعية بالمدينة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أولاً: عمر رضي الله عنه في ميادين الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
اتفق العلماء على أن عمر رضي الله عنه شهد بدراً، وأحداً، والمشاهد كلها مع رسول الله ولم يغب عن غزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2).
1- غزوة بدر:
__________
(1) عمر بن الخطاب، د. محمد أبو النصر ص94 .
(2) مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص89 .(1/59)
شارك عمر رضي الله عنه في غزوة بدر، وعندما استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه قبل المعركة، تكلم أبو بكر رضي الله عنه أول من تكلم، فأحسن الكلام، ودعا إلى قتال الكافرين، ثم الفاروق عمر رضي الله عنه فأحسن الكلام، ودعا إلى قتال الكافرين(1)، وكان أول من استشهد من المسلمين يوم بدر مِهجع(2) مولى عمر رضي الله عنه(3)، وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خاله العاص بن هشام(4) ضارباً بالقرابة عرض الحائط أمام رابطة العقيدة، بل كان يفخر بذلك تأكيداً لهذه الفكرة وبعد انتهاء المعركة أشار بقتل أسارى المشركين، وفي تلك الحادثة دروس وعبر عظيمة قد ذكرتها في كتابي السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، وعندما وقع العباس عمّ النبي في الأسر حرص عمر على هدايته وقال له: يا عباس أسلم، فوالله لئن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله يعجبه إسلامك(5)، وكان من بين الأسرى خطيب قريش سهيل بن عمرو، فقال لرسول الله: يا رسول الله، دعني أنتزع ثنيتي سهيل بن عمرو فيدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبياً، وإن عسى أن يقوم مقاماً لا تذمه(6)، وهذا ما حدث فعلاً بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ هم عدد من أهل مكة بالرجوع عن الإسلام، حتى خافهم والي مكة عتاب بن أسيد فتوارى، فقام سهيل بن عمرو، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة النبي وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة فمن رابنا ضربنا عنقه فتراجع الناس عن رأيهم(7)
__________
(1) الفاروق مع النبي، د. عاطف لماضة ص32 .
(2) الطبقات لابن سعد (3/391،392) ضعيف لانقطاعه.
(3) السيرة النبوية (2/388) لابن هشام، صحيح التوثيق ص187.
(4) الخلافة والخلفاء الراشدين، للبهنساوي ص154.
(5) البداية والنهاية (3/298).
(6) البداية والنهاية (3/311).
(7) التاريخ الإسلامي للحميدي (4/181).(1/60)
وحدثنا عمر عن حديث سمعه من رسول الله عندما خاطب مشركي مكة الذي قتلوا ببدر، فعن أنس قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءَيْنا الهلال، وكنتُ حديدَ البصر فرأيته، فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ قال: سأراه وأنا مُستلقٍ على فراشي، ثم أخذ يُحدثنا عن أهل بدر، قال: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَيُرينا مصارعهم بالأمس، يقول: هذا مصرع فلان غداً، إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، قال: فجعلوا يُصرعون عليها، قال: قلت: والذي بعثك بالحق، ما أخطؤوا تِيكَ، كانوا يُصرَعون عليها ثم أمر بهم فطُرحُوا في بئر، فانطلق إليهم، فقال: (( يا فلان، يا فلان، هل وجدتم ما وَعَدكم الله حقاً، فإني وجدت ما وعدني الله حقاً )) قال عمر: يا رسول الله، اتكلم قوماً قد جَيَّفوا؟ قال: ما أنتم بأسمَعَ لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يُجيبوا(1)، وعندما جاء عمير بن وهب إلى المدينة قبل إسلامه في أعقاب بدر يريد قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم في عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب وقد أناخ راحلته على باب المسجد متوشحاً سيفه، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشر وهو الذي حرش بيننا، وحرزنا للقوم يوم بدر. ثم دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحاً سيفه. قال: فأدخله عليّ، قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة(2) سيفه في عنقه فلببه(3)، بها وقال لمن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله فلما
__________
(1) مسند أحمد رقم 182 الموسوعة الحديثية إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(2) حمالة السيف: ما يربط به السيف على الجسم.
(3) لببة قيده.(1/61)
رآه رسول الله وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: أرسله
يا عمر، أدن يا عمير. فدنا ثم قال: انعموا صباحاً وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله: أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة(1).فقال: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه. قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف! وهل أغنت عنا شيئاً قال أصدقني، ما الذي جئت له، قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك. قال عمير: أشهد أنك لرسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا(2).
__________
(1) انظر صحيح السيرة النبوية للعلي ص259.
(2) صحيح السيرة النبوية ص260 .(1/62)
ومن خلال هذه القصة يظهر الحس الأمني الرفيع الذي تميز به عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد انتبه لمجيء عمير بن وهب وحذّر منه، وأعلن أنه شيطان ما جاء إلا لشر، فقد كان تاريخه معروفاً لدى عمر، فقد كان يؤذي المسلمين في مكة وهو الذي حرّض على قتال المسلمين في بدر، وعمل على جمع المعلومات عن عددهم، ولذلك شرع عمر في أخذ الأسباب لحماية الرسول فمن جهته فقد أمسك بحمالة سيف عمير الذي في عنقه بشده فعطله عن إمكانية استخدامه سيفه للاعتداء على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمر نفراً من الصحابة بحراسة النبي - صلى الله عليه وسلم -(1).
2- غزوة أحد، وبني المصطلق والخندق:
__________
(1) السيرة النبوية، عرض واقع وتحليل أحداث للصّلابي ص868 .(1/63)
من صفات الفاروق الجهادية: علو الهمة، وعدم الصغار، والترفع عن الذلة حتى ولو بدت الهزيمة تلوح أمامه، كما حدث في غزوة أحد، ثانية المعارك الكبرى التي خاضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعند ما وقف أبو سفيان في نهاية المعركة وقال أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن أبي قحافة، فقال لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء القوم قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخزيك. قال أبو سفيان: أعل هبل(1)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أجيبوه. قالوا ما تقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أجيبوه قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، قال أبو سفيان يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مُثلة لم آمر بها ولم تَسُؤني(2) ، وفي رواية قال عمر: ( لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار(3). فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن، قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر، لقول ابن قمئة لهم: إني قد قتلت محمداً(4) . كان في سؤال أبي سفيان عن رسول الله وأبي بكر وعمر دلالة واضحة على اهتمام المشركين بهؤلاء دون غيرهم لأنه في علمهم أنهم أهل الإسلام وبهم قام صرحه وأركان دولته وأعمدة نظامه، ففي موتهم يعتقد المشركون أنه
__________
(1) أعل هبل: ظهر دينك.
(2) البخاري، المغازي، رقم 404، السيرة الصحيحة (2/ 392).
(3) السيرة النبوية الصحيحة (2/ 392).
(4) صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق ص 189.(1/64)
لا يقوم الإسلام بعدهم، وكان السكوت عن إجابة أبي سفيان أولا تصغيراً له حتى إذا انتشى وملأه الكبر أخبروه بحقيقة الأمر وردوا عليه بشجاعة(1) .
وفي غزوة بني المصطلق كان للفاروق موقف متميز، ونترك شاهد عيان يحكي لنا ما شاهده، قال جابر بن عبد الله الأنصاري: كنا في غزاة فكسع(2) رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري:
يا للمهاجرين. فسمع ذلك رسول الله فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك
__________
(1) السيرة النبوية الصحيحة (2/ 392).
(2) كسع: ضربه برجله.(1/65)
عبد الله ابن أبي فقال: فعلوها:؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمع ذلك عمر فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر: كلام فيه نقص فقال ذلك فقال: يا رسول الله: دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه(1)، وفي رواية قال عمر بن الخطاب: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فكيف ياعمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا. ولكن أذن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتحل فيها، فارتحل الناس(2) ومن مثل هذه المواقف والتوجيهات النبوية استوعب عمر رضي الله عنه فقه المصالح والمفاسد، فهذا الفقه يظهر في قوله- صلى الله عليه وسلم -: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه(3)، إنها المحافظة التامة على السمعة السياسية، ووحدة الصف الداخلية، والفرق كبير جداً بين أن يتحدث الناس عن حب أصحاب محمد محمداً، ويؤكدون على ذلك بلسان قائدهم الأكبر أبي سفيان: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً(4)، وبين أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ولا شك أن وراء ذلك محاولات ضخمة ستتم في محاولة الدخول إلى الصف الداخلي في المدينة من العدو بينما هم يائسون الآن من قدرتهم على شيء أمام ذلك الحب وتلك التضحيات(5)
__________
(1) السيرة النبوية الصحيحة (2/ 409).
(2) السيرة النبوية لابن هشام (3/ 319).
(3) السيرة النبوية الصحيحة (2/409).
(4) التربية القيادية (3/463).
(5) نفس المصدر (3/463).(1/66)
وفي غزوة الخندق يروي جابر فيقول: أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسُبُّ كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس تغرب، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( وأنا والله ما صليتها، فنزلنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بُطحان(1)، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم بعدها المغرب(2).
3- صلح الحديبية، وسريه إلى هوازن، وغزوة خيبر:
__________
(1) بطحان: أحد أودية المدينة.
(2) البخاري رقم 571 .(1/67)
وفي الحديبية دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء به، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عديّ بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي لها وغلظتي عليها، ولكني أدلُّك على رجل أعزّ بها مني، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وأنه إنما جاء زائراً لهذا البيت ومعظماً لحرمته(1)، وبعد الاتفاق على معاهدة الصلح وقبل تسجيل وثائقها ظهرت بين المسلمين معارضة شديدة وقوية لهذه الاتفاقية، وخاصة في البندين اللذين يلتزم النبي بموجبهما بردّ ما جاء من المسلمين لاجئاً، ولا تلتزم قريش برد ما جاءها من المسلمين مرتداً، والبند الذي يقضي بأن يعود المسلمون من الحديبية إلى المدينة دون أن يدخلوا مكة ذلك العام، وقد كان أشد الناس معارضة لهذه الاتفاقية وانتقاداً لها، عمر بن الخطاب، وأسيد بن حضير سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وقد ذكر المؤرخون أن عمر بن الخطاب أتى رسول الله معلناً معارضته لهذه الاتفاقية وقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال إني رسول الله ولست أعصيه(2)، وفي رواية: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني(3)، قلت أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا، قال فإنك آتيه ومطوف به قال عمر: فأتيت أبا بكر فقلت له: يا أبا بكر: أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال بلى،
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (2/228)، وأخبار عمر ص34 .
(2) من معين السيرة للشامي ص333 .
(3) البخاري، رقم 3011 ، تاريخ الطبري (2/634).(1/68)
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر ناصحاً الفاروق بأن يترك الاحتجاج والمعارضة إلزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن نخالف أمر الله ولن يضيعه الله(1)، وبعد حادثة أبي جندل المؤلمة المؤثرة عاد الصحابة إلى تجديد المعارضة للصلح، وذهبت مجموعة منهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم عمر بن الخطاب لمراجعتة، وإعلان معارضتهم مجدداً للصلح إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أعطاه الله من صبر وحكمة وحلم وقوة حجة استطاع أن يقنع المعارضين بوجاهة الصلح، وأنه في صالح المسلمين وأنه نصر لهم(2)، وأن الله سيجعل للمستضعفين من أمثال أبي جندل فرجاً ومخرجاً، وقد تحقق ما أخبر به- صلى الله عليه وسلم -، وقد تعلم عمر رضي الله عنه من رسول الله احترام المعارضة النزيهة ولذلك نراه في خلافته يشجع الصحابة على إبداء الآراء السليمة التي تخدم المصلحة العامة(3)، فحرية الرأي مكفولة في المجتمع الإسلامي وأن للفرد في المجتمع المسلم الحرية في التعبير عن رأيه، ولو كان هذا الرأي نقداً لموقف حاكم من الحكام أو خليفة من الخلفاء، فمن حق الفرد المسلم أن يبين وجهة نظره في جو من الأمن والأمان دون إرهاب أو تسلط يخنق حرية الكلمة والفكر، ونفهم من معارضة عمر لرسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أن المعارضة لرئيس الدولة في رأي من الآراء وموقف من المواقف ليست جريمة تستوجب العقاب، ويغيب صاحبها في غياهب السجون(4).
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (3/346).
(2) صلح الحديبية، باشميل ص270 .
(3) القيادة العسكرية في عهد رسول الله ص495 .
(4) غزوة الحديبية لأبي فارس ص134،135 .(1/69)
لم يكن ذلك الموقف من الفاروق شكّاً أو ريبة فيما آلت إليه الأمور، بل طلباً لكشف ما خفي عليه، وحثّاً على إذلال الكفار، لما عرف من قوته في نصرة الإسلام(1)، وبعد ما تبينت له الحكمة قال عن موقفه بالحديبية: ما زلت أتصدق، وأصوم، وأصلي، وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً(2).
وفي شعبان سنة 7 من الهجرة بعث رسول الله عمر بن الخطاب إلى تربة في ثلاثين رجلاً إلى عُجزِ(3) هوازن بتربة وهي بناحية القبلاء(4)، على أربع مراحل من مكة(5)، فخرج، وخرج معه دليل من بني هلال(6)، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فأتى الخبر هوازن فهربوا، وجاء عمر محالهم فلم يلق منهم أحداً فانصرف راجعاً إلى المدينة رضي الله عنه(7) وفي رواية: قال له الدليل الهلالي: هل لك في جمع آخر تركته من خَشْعَمَ سائرين قد أجدبت بلادهم؟ فقال عمر: لم يأمرني رسول الله بهم، إنما أمرني أن أعْمَدَ لقتال هوازن بتُربة(8)، وهذه السرية تدلنا على ثلاث نتائج عسكرية:
الأولى: أن عمر أصبح مؤهلاً للقيادة إذ لولا ذلك لما ولاه النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - قيادة سرية من سرايا المسلمين تتجه إلى منطقة بالغة الخطورة وإلى قبيلة من أقوى القبائل العربية وأشدها شكيمة.
والثانية: أن عمر الذي كان يكمن نهاراً ويسير ليلاً، مشبع بمبدأ المباغتة، أهم مبادئ الحرب على الإطلاق، مما جعله يباغت عدوه ويجبره على الفرار، وبذلك انتصر بقواته القليلة على قوات المشركين الكثيرة.
__________
(1) صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق ص191 .
(2) مختصر منهاج القاصدين ص293 ، فرائد الكلام للخلفاء ص139 .
(3) العجز: مؤخَّر الشيء.
(4) في الأصل (( الفلا )) وهو تحريف.
(5) تربة: واد يقع شرق الحجاز يصب صوب عالية نجد.
(6) هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن.
(7) الطبقات لابن سعد (3/272).
(8) السيرة النبوية لابن هشام (2/228) أخبار عمر ص34.(1/70)
والثالثة: أن عمر ينفذ أوامر قائدة الأعلى نصاً وروحاً، ولا يحيد عنها، وهذا هو روح الضبط العسكري وروح الجندية في كل زمان ومكان(1) .
وفي غزوة خيبر عندما نزل رسول الله بحضرة أهل خيبر أعطى رسول الله اللواء(2) عمر بن الخطاب، فنهض معه من نهض من الناس، فلقوا أهل خيبر فانكشف عمر وأصحابه، فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله لأعطين اللواء غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فلما كان غداً تصدر(3) لها أبو بكر، وعمر، فدعا علياً، وهو أرمد(4) ، فتفل في عينيه وأعطاه اللواء، ونهض معه من الناس من نهض فتلقى أهل خيبر فإذا مرحب يرجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب
أطعن أحياناً وحيناً أضرب ... شاك السلاح بطل مجرب
إذا الليوث أقبلت تلهب
فاختلف هو وعلي – رضي الله عنه – فضربه علي على هامته حتى عضى السيف منه بيضتي(5) رأسه، وسمع أهل المعسكر صوت ضربته، فما تتام آخر الناس مع علي حتى فتح الله لهم وله.
وعندما أقبل في خيبر نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلا، إني رأيته في النار في بردة غلَّها، أو عباءة ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس: أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون قال: فخرجت فناديت: ألا أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون(6).
4- فتح مكة وغزوة حنين وتبوك:
__________
(1) الفاروق القائد ص117، 118 شيت خطاب.
(2) اللواء: العلم، والراية ولا يمسكها إلا صاحب الجيش.
(3) تصدر: نصب صدره في الجلوس، وجلس في صدر المجلس.
(4) الرمد: وجع العين وانتفاخها.
(5) البيضة: الخوذة.
(6) إسناده حسن رجاله رجال الشيخين، الموسوعة الذهبية مسند أحمد رقم (203).(1/71)
لما نقضت قريش صلح الحديبية بغدرها، خشيت من الخطر القادم من المدينة، فأرسلت أبا سفيان ليشد العقد ويزيد في المدة، فقدم على رسول الله فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان ولكن بدون جدوى، وخرج حتى أتى رسول الله فكلمه فلم يردّ عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكلمه، فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله؟ والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به(1)، وعندما أكمل النبي - صلى الله عليه وسلم - استعداده للسير إلى فتح مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهل مكة يخبرهم فيه بنبأ تحرك النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، ولكن الله سبحانه وتعالى أطلع نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن طريق الوحي على هذه الرسالة، فقضى - صلى الله عليه وسلم - على هذه المحاولة في مهدها، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً والمقداد فأمسكوا بالمرأة في روضة خاخ على بعد اثني عشر ميلاً من المدينة، وهددوها أن يفتشوها إن لم تخرج الكتاب فسلمته لهم ثم استدعي حاطب رضي الله عنه للتحقيق فقال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرأً ملصقاً في قريش -يقول- كنت حليفا ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إما إنه قد صدقكم، فقال عمر: يا رسول الله، دعني اضرب عنق هذا المنافق، فقال - صلى الله عليه وسلم -، إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم(2) ومن الحوار الذي تم بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعُمر بن
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (2/265)، أخبار عمر ص 37.
(2) البخاري في المغازي رقم 4274.(1/72)
الخطاب في شأن حاطب يمكن أن نستخرج بعض الدروس والعبر منها.
حكم الجاسوس القتل، فقد أخبر عمر بذلك ولم ينكر عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكن منع من إيقاع العقوبة بسبب كونه بدرياً.
شدة عمر في الدين: لقد ظهرت هذه الشدة في الدين حينما طالب بضرب عنق حاطب.
الكبيرة لا تسلب الإيمان: إن ما ارتكبه حاطب كبيرة وهي التجسس ومع هذا ظل مؤمنا.
لقد أطلق عمر على حاطب صفة النفاق بالمعنى اللغوي لا بالمعنى الاصطلاحي في عهده - صلى الله عليه وسلم -. إذ النفاق إبطان الكفر والتظاهر بالإسلام، وإنما الذي أراده عمر، إنه أبطن خلاف ما أظهر إذ أرسل كتابه الذي يتنافى مع الإيمان الذي خرج يُجاهد من أجله ويبذل دمه في سبيله(1).
تأثر عمر من رد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتحول في لحظات من رجل غاضب ينادي بإجراء العقوبة الكبيرة على حاطب إلى رجل يبكي من الخشية والتأثر ويقول: الله ورسوله أعلم، ذلك لأن غضبه كان لله ورسوله فلما تبين له أن الذي يرضي الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - غير ما كان يراه غض النظر عن ذلك الخطأ ومعاملة صاحبه بالحسنى تقديراً لرصيده في الجهاد واستجاب(2).
__________
(1) السيرة النبوية لأبي فارس ص 404.
(2) التاريخ الإسلامي (7/176،177).(1/73)
وعندما نزل رسول الله بمر الظهران وخشي أبو سفيان على نفسه وعرض عليه العباس عمّ رسول الله طلب الأمان من رسول الله فوافق على ذلك يقول العباس بن عبد المطلب قلت: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس واصباح قريش والله، قال فما الحيلة؟ فداك أبي وأمي، قال: قلت والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك، قال: فركب خلفي ورجع صاحباه، فجئت به، كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا عليها قالوا: عم رسول الله على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إليّ فلما رأى
أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخل عليه عمر فقال:(1/74)
يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه، قال قلت: يا رسول الله إني قد أجرته، فلما أكثر عمر من شأنه قلت: مهلاً يا عمر، فوالله أن لو كان من بني عدي ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال عمر: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إذهب به ياعباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به(1)، فهذا موقف عمر –رضى الله عنه- وهو يرى عدو الله يمر بقوات المسلمين، محتمياً بظهر العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد بدا ذليلاً خائفاً، فيود عمر –رضي الله عنه- أن يضرب عنق عدو الله قربى إلى الله تعالى وجهاداً في سبيله، ولكن الله تعالى قد أراد الخير بأبي سفيان فشرح صدره للإسلام، فحفظ دمه ونفسه(2).
وفي غزوة حنين، باغت المشركون جيش المسلمين وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد، وإنحاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين ثم قال: أين أيها الناس؟ هلموا إليّ أنا رسول الله: أنا محمد بن عبد الله، فلم يسمع أحد، وحملت الإبل بعضها على بعض، فانطلق الناس إلا أنه بقي مع رسول الله نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته وكان فيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي بن
__________
(1) السيرة النبوية ص 518، 519، 520.
(2) الفاروق مع النبي د.عاطف لماضة ص42.(1/75)
أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وابنه الفضل، وأبو سفيان بن الحارث، وابنه، وربيعة بن الحارث وغيرهم(1)، ويحكي أبو قتادة عن موقف عمر في هذه الغزوة فيقول: خرجنا مع رسول الله عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فضربته من ورائه على عاتقه(2)، بسيف فقطعت الدرع، وأقبل عليّ فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب فقلت: ما بال الناس؟ فقال: أمر الله، ثم رجعوا(3).
قال تعالى عن هذه الغزوة: { لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25) } ? (التوبة الآية: 25) فلما تاب الله تعالى على المؤمنين بعد أن كادت الهزيمة تلحق بهم نصر الله أولياءه، بعد أن أفاؤوا إلى نبيهم واجتمعوا حوله، فأنزل الله سكينته ونصره على جنده وقال تعالى يقص علينا ذلك: { ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(26) } (التوبة، آية 26).
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (2/289)، أخبار عمر ص 41.
(2) العاتِقُ: ما بين المنكب والعُنُق.
(3) البخاري رقم 4066، 4067.(1/76)
وبعد معركة حنين عاد المسلمون إلى المدينة وبينما هم يمرون بالجعرانة(1)، كان رسول الله يقبض الفضة من ثوب بلال رضي الله عنه ويعطي الناس، فأتى رجل وقال لرسول الله: يا محمد، اعدل، قال رسول الله: ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعني يا رسول الله، فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم(2)، يمرقون منه كما يمرق السهم(3) من الرمية(4)، ففي هذا الموقف منقبة عظيمة لعمر رضي الله، فهو
لا يصبر إذا انتهكت أمامه المحارم، فقد اعتدي على مقام النبوة والرسالة، فما كان من الفاروق إن أسرع قائلاً: دعني يا رسول الله، أقتل هذا المنافق. هذا هو رد الفاروق أمام من ينتهكون قدسية النبوة والرسالة(5)، وفي الجعرانة لبّى عمر رضي الله عنه رغبة يعلى بن أمية التميمي الصحابي المشهور في رؤية رسول الله حين ينزل عليه الوحي، فعن صفوان بن يعلى، أن يعلى كان يقول: ليتني أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ينزل(6) عليه قال: فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة(7)، وعليه ثوب قد أُظلَّ به، معه فيه ناس من أصحابه، إذ جاءه أعرابي عليه جُبَّة متضمِّخٌ(8)، بطيب، فقال:
__________
(1) الجعرانة: تقع شمال مكة مع ميل إلى الشرق بتسع وتسعين كيلاً.
(2) فيه تأويلات: أحدهما معناه لا تفقه قلوبهم، ولا ينتفعون بما تلوا منه، ولا لهم حظ سوى تلاوة الفم والحنجرة والثاني لا يصعد لهم عمل ولا تلاوة.
(3) يخرجون من الدين خروج السهم إذا نفذ الصيد.
(4) مسلم رقم 1063، البخاري رقم 3138.
(5) صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق ص 200.
(6) محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (2/408).
(7) موضع شمال مكة مع ميل إلى الشرق وتبعد عن مكة تسعةً وتسعين كيلاً.
(8) الضَّمخ: لطخ الجسد بالطيب حتى كأنما يقطر.(1/77)
يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بالطيب؟ فأشار عمر على يعلى بيده، أن تعالَ فجاء يعلى فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - مُحمَرُّ الوجه، يغط(1) كذلك ساعة، ثم سُرِّي عنه قال: أين الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبّةُ فاترعها، ثم ضع في عمرتك كما تضع في حجك(2) وأما في غزوة تبوك فقد تصدق بنصف ماله، وأشار على رسول الله بالدعاء للناس بالبركة عندما أصاب الناس مجاعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما كان في غزوة تبوك(3)، أصاب الناس مجاعة، فقالوا يا رسول الله لو أذنت فذبحنا نواضحنا(4)، فأكلنا وادَّهنَّا، فقال لهم رسول الله: افعلوا، فجاء عمر فقال يا رسول إنهم إن فعلوا قل الظّهر، ولكن ادعهم فليأتوا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف الذرة، والآخر بكف التمر، والآخر بالكسرة، حتى اجتمع من ذلك على النطع شيء يسير، ثم دعا - صلى الله عليه وسلم - بالبركة ثم قال: خذوا في أوعيتكم فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملأوه وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت منه فضلة، فقال رسول الله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني رسول الله لا يلقى الله بها عبد غير شاك، فيحجب عن الجنة(5).
هذه بعض المواقف العمرية التي شاهدها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شك أن الفاروق قد استوعب الدروس والعبر والفقه الذي حدث في غزوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصبحت له زاداً انطلق به في ترشيد وقيادة الناس بشرع الله تعالى.
ثانياً: من مواقفه في المجتمع المدني:
__________
(1) الغط: هو الصوت الذي يخرج من نفس النائم.
(2) البخاري، رقم 4700، مسلم رقم 1180.
(3) تبوك: موضع بين وادي القرى والشام.
(4) النواضح من الإبل التي يسقى عليها الماء.
(5) مسلم، ك الإيمان رقم 27.(1/78)
كان عمر شديد الحرص على ملازمة رسول الله وكان رضي الله عنه إذا جلس إلى رسول الله لم يترك المجلس حتى ينفض، فهو واحد من الجمع القليل الذي لم يترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب حين قدمت عير إلى المدينة(1)، وكان يجلس في حلقات ودروس ومواعظ رسول الله نشطاً يستوضح، ويستفهم، ويلقي الأسئلة بين يدي رسول الله في الشؤون الخاصة والعامة(2)، ولذلك فقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة حديث وتسعة وثلاثين حديثاً(3)، وفي رواية: خمسمائة وسبعة وثلاثين حديثاً(4)، اتفق الشيخان في صحيحيهما على ستة وعشرين منها، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين ومسلم بواحد وعشرين(5)، والبقية في كتب الأحاديث الأخرى(6)، وقد وفقه الله إلى رواية أحاديث لها قيمتها الأولوية في حقيقة الإيمان والإسلام والإحسان والقضاء والقدر، وفي العلم والذكر والدعاء وفي الطهارة والصلاة والجنائز، والزكاة والصدقات، والصيام، والحج، وفي النكاح والطلاق والنسب، والفرائض، والوصايا والاجتماع، وفي المعاملات والحدود، وفي اللباس والأطعمة والأشربة والذبائح، وفي الأخلاق والزهد والرقاق والمناقب والفتن والقيامة، وفي الخلافة والإمارة والقضاء، وقد أخذت هذه الأحاديث مكانها في مختلف العلوم الإسلامية، ولا تزال رافداً يمد هذه العلوم(7)، وإليك بعض المواقف التعليمية والتربوية والاجتماعية من حياة الفاروق مع رسول الله في المدينة.
1- رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عمر عن السائل:
__________
(1) الإحسان في تقريب صحيح بن حبان (15/300) مسلم رقم 863.
(2) انظر: عمر بن الخطاب، د. علي الخطيب ص 108.
(3) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص133.
(4) انظر: عمر بن الخطاب، د. علي الخطيب ص 109.
(5) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/40).
(6) عمر بن الخطاب د. علي الخطيب ص 109.
(7) عمر بن الخطاب د. علي الخطيب ص 112.(1/79)
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: أخبرني عمر بن الخطاب أنهم بينما هم جلوس – أو قعود – عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، جاءه رجل يمشي، حسن الوجه، حسن الشعر، عليه ثياب بياض، فنظر القوم بعضهم إلى بعض: ما نعرف هذا، وما هذا بصاحب سفر. ثم قال: يا رسول الله، آتيك؟ قال: نعم. فجاء فوضع ركبتيه عند ركبتيه، ويديه على فخذيه، فقال: ما الإسلام؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت. قال: فما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته، والجنة والنّار، والبعث بعد الموت، والقدر كلِّه. قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعمل لله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فمتى الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السَّائل. قال: فما أشراطها؟ قال: إذا العُراة الحفاة العالة رعاء الشاء تطاولوا في البنيان، ووَلَدت الإماء أربابهنَّ(1). قال: ثم قال عليَّ الرّجُلَ، فطلبوه فلم يروا شيئاً، فمكث يومين أو ثلاثة، ثم قال: يا ابن الخطاب أتدري من السائل عن كذا وكذا؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: ذاك جبريل جاءكم يعلمكم دينكم(2).
وهذا الحديث يبين أن الفاروق تعلم معاني الإسلام والإيمان والإحسان بطريقة السؤال والجواب من أفضل الملائكة وأفضل الرسل.
2- إصابة رأيه رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) في طبعة الشيخ أحمد شاكر: رباتهن.
(2) إسناده صحيح على شرط الشيخين، مسند أحمد رقم 184 .(1/80)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا قعوداً حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا أبو بكر وعمر، في نفر. فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين أظهرنا فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا وفزعنا، وقمنا، فكنت أوّل من فزع فخرجت أبتغي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتيت حائطاً(1) للأنصار لبني النجار فدرت به هل أجد له باباً فلم أجد، فإذا ربيع(2) يدخل في جوف حائط من بئر خارجة فاحتفزت(3) فدخلت على رسول الله فقال أبو هريرة؟ فقلت: نعم يا رسول الله قال: ما شأنك؟ قلت: كنت بين ظهرينا، فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقطع دوننا، ففزعنا، وكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي. فقال: يا أبا هريرة – وأعطاني نعليه – اذهب بنعلي هاتين فمن لقيته من وراء الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة. وكان أول من لقيت عمر، فقال: ما هذان النعلان يا أبا هريرة؟ فقلت: هذان نعلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشرته بالجنة. فضرب عمر بين ثديَيَّ بيده، فخررت لأستي، فقال: ارجع يا أبا هريرة فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجهشت بالبكاء وركبني(4) عمر. وإذا هو على أثري فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مالك يا أبا هريرة؟ قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني(5) به فضرب بين ثدييَّ ضربة فخررت لإستي، فقال: ارجع فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عمر ما حملك على ما فعلت؟ فقال: يا رسول الله، أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً به قلبه بَشَّرَهُ بالجنة؟ قال: نعم. قال:
__________
(1) الحائط: البستان.
(2) الربيع: الساقية أو الجدول.
(3) فاحتفزت: تضاممت ليسعني المدخل.
(4) ركبني عمر: تبعني وجاء على أثري.
(5) محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين (1/258).(1/81)
فلا تفعل؛ فإني أخاف أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فخلِّهِم(1).
3- حرص رسول الله على توحيد مصدر تلقي الصحابة:
عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: أمتهوكون(2) يا بن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيا ً ما وسعه إلا اتباعي وفي رواية: أن لو كان موسى حياً ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم(3).
4- رسول الله يتحدث عن بدءِ الخلق:
عن طارق بن شهاب قال سمعت عمر رضي الله عنه يقول قام فينا النبي - صلى الله عليه وسلم - مقاماً، فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه(4). وهذا الحديث يدخل ضمن فقه القدوم على الله الذي فهمه عمر من رسول الله.
5- نهي رسول الله عن الحلف بالآباء وحثه على التوكل على الله:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقول: إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها، ولا تكلمت بها ذاكراً ولا آثراً(5)، وسمع عمر رضي الله عنه نبي الله يقول: لو أنكم توكَّلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً(6).
6- رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً:
__________
(1) مسلم، ك الإيمان رقم 31 .
(2) أمتهوكون: التهوك كالتهور، وهو وقوع في الأمر بغير رؤية.
(3) الفتاوى (11/232)، مسند أحمد (3/387) عن جابر.
(4) البخاري، ك بدء الخلق رقم 192 .
(5) إسناده صحيح على شرط البخاري، مسند أحمد رقم 122 الموسوعة الحديثية.
(6) إسناده قوي، مسند أحمد رقم 205 الموسوعة الحديثية.(1/82)
عن أبي موسى قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء كرهها، فلما أكثر عليه غضب، ثم قال للناس. سلوني عمّا شئتم، قال رجل: من أبي؟ قال: أبوك حذافة فقام آخر، من أبي؟ قال: أبوك سالم مولى شيبة(1)، فلما رأى عمر ما في وجهه، قال: يا رسول الله إنا نتوب إلى الله عز وجل(2)، وفي رواية: فبرك عمر على ركبتيه، فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، فسكت(3).
7- لا ونعمةَ عينٍ بل للناس عامة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال: امرأة جاءت تبايعه فأدخلها الدولج(4) فأصبت منها ما دون الجماع؟ فقال: ويحك لعلها مُغيبة(5) في سبيل الله؟ ونزل القرآن: { وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ(114) } (هود،آية:114). فقال: يا رسول الله إلي خاصة أم للناس عامة، فضرب صدره
– يعني عمر – بيده، وقال: لا، ولا نعمة عين بل للناس عامة: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدق عمر(6).
8- حكم العائد في صدقته:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه صاحبه، فأردت أن أبتاعه وظننت أنه بائعه برخص، فقلت: حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تبتعه، وإن أعطاكه بدرهم، فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه(7).
9- من صدقاته ووقفه:
__________
(1) سعد بن سالم مولى شيبة بن ربيعة صحابي، محض الصواب (2/700).
(2) البخاري، رقم 92 ، مسلم رقم 2360 .
(3) البخاري، رقم 93 ، مسلم 2359 .
(4) الدولج: المخدع؛ وهو البيت الصغير داخل البيت الكبير.
(5) المغيبة: التي غاب عنها زوجها.
(6) مسند أحمد (4/41) رقم 2206 قال أحمد شاكر إسناده صحيح.
(7) إسناده صحيح على شرط الشيخين، مسند أحمد رقم 281 .(1/83)
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر تصدق بمال له على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يقال له: ثمغ، وكان به نخل، فقال عمر: يا رسول الله إني استفدت مالاً، وهو عندي نفيس، فأردت أن أتصدق به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب، ولا يورث، ولكن ينفق ثمر. فتصدق به عمر، فصدقته تلك في سبيل الله، وفي الرقاب، والمساكين، والضيف وابن السبيل، ولذوي القربى، ولا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف، أو يؤكل صديقه غير متمولٍ به(1)، وفي رواية: أصاب عمر بخيبر أرضاً، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط. أنفس منه، كيف تأمرني به؟ قال:إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق عمر: أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث، في الفقراء وذوي القربى، والرقاب، وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أويطعم صديقاً غير متموِّل فيه(2)، فهذا الموقف العمري فيه فضيلة ظاهرة للفاروق رضي الله عنه ورغبته في المسارعة للخيرات، وإيثاره الحياة الآخرة على الحياة الفانية.
10- هدية نبوية لعمر بن الخطاب وأخرى لابنه:
__________
(1) البخاري، ك الوصايا رقم 2772 رواية أخرى.
(2) البخاري، ك الوصايا رقم 2773 رواية أخرى.(1/84)
عن ابن عمر قال: رأى عمر على رجل حلة من استبرق، فأتى بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله اشتر هذه فالبسها لوفد الناس إذا قدموا عليك. قال: إنما يلبس الحرير من لا خلاق له. فمضى من ذلك ما مضى، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إليه بحلة، فأتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: بعثت إلي بهذه، وقد قلت في مثلها أو قال في حُلة عطارد(1) ما قلت؟ قال: إنما بعثت إليك لتصيب بها مالاً(2) وفي رواية: … فكساها عمر أخاً له بمكة قبل أن يسلم(3)، وأما هدية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر، فعن عبد الله بن عمر قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكنت على بكر صعب(4) لعمر، فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر ويرده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: بعنيه. قال: هو لك يا رسول الله قال: بعنيه: فباعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت(5).
11- تشجيعه لابنه وبشرى لابن مسعود:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدِّثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنّها النخلة، قال عبد الله: فاستحييت، فقالوا: يا رسول الله أخبرنا بها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هي النخلة. قال عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في
__________
(1) التميمي الدارمي.
(2) مسلم، رقم 2068 .
(3) البخاري، ك الأدب، رقم 5636 .
(4) صعب: غير منقاد ولا ذلول.
(5) البخاري، ك البيوع، رقم 2009 .(1/85)
نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا(1). وأما بشرى عمر لابن مسعود، فقد روى عمر رضي الله عنه أنه سمر في بيت أبي بكر مع رسول الله في أمور المسلمين، فخرج رسول الله، وخرجنا معه، فإذا رجل قائم يصلِّي في المسجد، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمع قراءته فلما كدنا أن نعرفه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد. قال: ثم جلس الرجل يدعو، فجعل رسول الله يقول له: سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ. قال عمر: قلت: والله لأغدون إليه فلأبشرنه، قال فغدوت إليه لأبشره فوجدت أبا بكر قد سبقني إليه فبشره، ولا والله ما سابقته إلى خير قط إلا سبقني إليه(2).
12- حذره من الابتداع:
__________
(1) البخاري، ك العلم رقم 131 .
(2) إسناده صحيح، مسند أحمد رقم 175 الموسوعة الحديثية.(1/86)
عن المسور بن مخرمة(1)، وعبد الرحمن بن عبد القاريّ أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان، في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤُها على حروف كثيرة، لم يُقرئنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكدت أُساوره(2) في الصلاة، فانتظرته حتى سلم، فلببته(3)، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: كذبت، فوالله إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك فانطلقت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقوده، فقلت له: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ الفرقان على حروف لم تُقرئنيها، وإنك أقرأتني سورة الفرقان، قال: يا هشام اقرَأها. فقرأها القراءة التي سمعته، فقال رسول الله: هكذا أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرات القراءة التي أقرأنيها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هكذا أنزلت. ثم قال رسول الله: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه(4).
13- خذ ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل:
عن عبد الله بن عمر قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قد كان رسول الله يعطيني العطاء فأقول أعطه من هو أفقر مني حتى أعطاني مرة مالاً. فقلت: أعطه من هو أفقر مني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خذه، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك(5).
14- دعاء رسول الله لعمر رضي الله عنه:
__________
(1) الزهري له ولأبيه صحبة توفي سنة 64هـ .
(2) ساوره: مساورة وسواراً: واثبه.
(3) لببه تلبيباً: جمع ثيابه عند نحره في الخصومة.
(4) البخاري، ك فضائل القرآن، رقم 4754 ، مسلم رقم 818 .
(5) مسلم، ك الزكاة رقم 1045 .(1/87)
رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - على عمر ثوباً وفي رواية قميصاً أبيض فقال: أجديد ثوبك أم غسيل؟ فقال: بل غسيل، فقال: البس جديداً، وعش حميداً، ومُت شهيداً(1).
15- لقد علمت حين مشى فيها رسول الله ليباركن فيها:
عن جابر بن عبد الله: أن أباه تُوُفِّي وترك عليه ثلاثين وسقاً لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشفع له إليه، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النخل فمشى فيها ثم قال لجابر: جُدَّ له، فأوف له الذي له، فجده بعد ما رجع رسول الله فأوفاه ثلاثين وسقاً(2)، وفضلت له سبعة عشر وسقاً، فجاء جابر رسول الله ليخبره بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلما انصرف أخبره بالفضل، فقال: أخبر بذلك ابن الخطاب، فذهب جابر إلى عمر فأخبره فقال له عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله ليباركن فيها(3).
16- زواج حفصة بنت عمر رضي الله عنهما من رسول الله:
قال عمر رضي الله عنه: حين تأيمت(4) حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوفي في المدينة، فقال عمر: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة بنت عمر، قال: قلت: إن شئت أنكحتك حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبث لياليَ، ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر رضي الله عنه فلم يرجع إليَّ شيئاً، فكنت عليه أوجد مني على عثمان بن عفان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكحتها إياه فلقيني
__________
(1) حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 352 ، وهو في الصحيح الجامع 1234 .
(2) الوسق: ستون صاعاً.
(3) البخاري، ك الاستقراض رقم 2266.
(4) تأيمت: مات عنها زوجها.(1/88)
أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ قال عمر: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي، إلا أني كنت علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو تركها رسول الله لقبلتها(1) .
ثالثاً: موقف عمر رضي الله عنه من خلاف رسول الله مع أزواجه:
عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، اللتين قال الله تعالى: { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } (التحريم: 4) حتى حجَّ عمر وحججت معه، فلما كنا ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة، فتبرز ثم أتاني، فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت، يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اللتان قال الله تعالى: { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ؟ فقال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس: قال الزهري: كره، والله
__________
(1) البخاري، ك النكاح، رقم 5122، عمر بن الخطاب، محمد رشيد ص23.(1/89)
ما سأله عنه ولم يكتمه عنه – قال هي حفصة وعائشة. قال: ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي، قال: فتغضبت(1) يوماً على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك، فو الله إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه، وتهجره إحداهنَّ اليوم إلى الليل. قال: فانطلقت، فدخلت على حفصة، فقلت: أتراجعين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: نعم. قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكنَّ وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب عليها لغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هي قد هلكت لا تراجعي رسول الله ولا تسأليه شيئاً، وسليني ما بدا لك،
ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك - يريد
__________
(1) أي: فغضبت.(1/90)
عائشة -: قال وكان لي جار من الأنصار، وكنّا نتناوب النّزول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فينزل يوماً، وأنزل يوماً، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك، قال: وكنا نتحدث أن غسّان تُنْعلُ الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يوماً، ثم أتاني عشاءً فضرب بابي، ثم ناداني فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم. فقلت: وماذا، أجاءت غسان؟ قال: لا بل أعظم من ذلك وأطول، طلق الرّسول نساءه. فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا كائناً. حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي، ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت أطلقكن رسول الله؟ فقالت: لا أدري، هو هذا معتزل في هذه المشربة: فأتيت غلاماً له أسود، فقلت: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج إليَّ، فقال: قد ذكرتُك له فصَمتَ، فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلاً، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر فدخل ثم خرج إليَّ، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فوليت مدبراً، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل، فقد أذن لك. فدخلت، فسلمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلي وقال؟ لا. فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فتغضبت على امرأتي يوماً فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليُراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر، أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت؟ فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت:(1/91)
يا رسول الله، فدخلت على حفصة، فقلت: لا يغرَّنك إن كانت جارتك هي أوسم وأحبَّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك، فتبسم أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم. فجلست، فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرُدُّ البصرَ إلا أهبة(1) ثلاثة، فقلت: ادع يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وُسِّع على فارس والروم، وهم لا يعبدون الله. فاستوى جالساً، ثم قال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت: استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم أن
لا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل(2).
هذا ما تيسر جمعه وترتيبه من حياة الفاروق في المجتمع المدني ولقد نال عمر رضي الله عنه أوسمة رفيعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينت فضله ودينه وعلمه رضي الله عنه وسنتحدث عنها بإذن الله.
رابعاً: شيء من فضائله ومناقبه:
إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يلي أبا بكر الصديق في الفضل فهو أفضل الناس على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين وأبي بكر وهذا ما يلزم المسلم اعتقاده في أفضليته رضي الله عنه وهو معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة(3)، وقد وردت الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة بفضائل الفاروق رضي الله عنه ومنها:
1- إيمانه وعلمه ودينه:
__________
(1) أهبة: الجلود قبل الدبغ.
(2) إسناده صحيح على شرط الشيخين مسند أحمد رقم 222 الموسوعة الحديثة.
(3) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام، د. ناصر بن علي عائض حسن الشيخ (1/243).(1/92)
فقد جاء في منزلة إيمانه رضي الله عنه ما رواه عبد الله بن هشام أنه قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر يا رسول الله، لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحبُّ إليّ من نفسي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الآن يا عمر(1). وأما علمه فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بينما أنا نائم شربت – يعني اللبن – حتى أنظر إني الرّي يجري في ظفري أو في أظفاري، ثم ناولت عمر. فقالوا: فما أولته قال العلم(2). وجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع وكونهما سبباً للصلاح، فاللبن للغذاء البدني والعلم للغذاء المعنوي وفي الحديث فضيلة – ومنقبة لعمر رضي الله عنه – وإن الرؤيا من شأنها أن لا تحمل على ظاهرها وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي لكن منها ما يحتاج إلى تعبير ومنها ما يحمل على ظاهره.. والمراد بالعلم – في الحديث – سياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة فلم تكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف ومع ذلك فساس عمر فيها مع طول مدته الناس بحيث لم يخالفه أحد ثم ازدادت اتساعاً في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء ولم يتفق له ما اتفق لعمر في طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله واستخلف عليُّ فما ازداد الأمر إلا اختلافاً والفتن إلا انشاراً، وأما دينه، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بينما أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص فمنها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك،
__________
(1) الصحيح المسند في فضائل الصحابة 66 .
(2) فتح الباري (7/46).(1/93)
وعرض على عمر وعليه قميص اجتره. قالوا فما أولته
يا رسول الله؟ قال: الدين(1).
2- هيبة عمر وخوف الشيطان منه:
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته فلما استأذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى فدخل عمر ورسول الله يضحك. فقال: أضحك الله سنك يا رسول الله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب. قال عمر: فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله ثم قال عمر يا عدوات أنفسهن، أتهبنني
ولا تهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلن: نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً(2) قط إلا سلك فجاً آخر(3) هذا الحديث فيه بيان فضل عمر رضي الله عنه وأنه من كثرة التزامه الصواب لم يجد الشيطان عليه مدخلاً ينفذ إليه(4).
قال ابن حجر: فيه فضيلة لعمر تقتضي أن الشيطان لا سبيل له عليه لا أن ذلك يقتضي وجود العصمة إذ ليس فيه إلا فرار الشيطان منه أن يشاركه في طريق يسلكها، ولا يمنع ذلك من وسوسته له بحسب ما تصل إليه قدرته، فإن قيل عدم تسليطه عليه بالوسوسة يؤخذ بطريق مفهوم الموافقة لأنه إذا منع من السلوك في طريق فأولى أن لا يلابسه بحيث يتمكن من وسوسته له فيمكن أن يكون حفظ من الشيطان، ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له لأنها في حق النبي واجبة وفي حق غيره ممكنة ووقع في حديث حفصة عند الطبراني في الأوسط بلفظ: إن الشيطان
__________
(1) مسلم رقم 2390 .
(2) الفج: الطريق الواسع ويطلق على المكان المنخرق بين الجبلين.
(3) البخاري رقم 3683 ، مسلم 2386 .
(4) عقيدة أهل السنة والجماعة (1/348).(1/94)
لا يلقى عمر منذ أسلم إلا فر لوجهه. وهذا دال على صلابته في الدين، واستمرار حاله على الجد الصرف والحق المحض، وقال النووي: هذا الحديث محمول على ظاهره وأن الشيطان يهرب إذا رآه: وقال عياض: يحتمل أن يكون ذاك على سبيل ضرب المثل وأن عمر فارق سبيل الشيطان وسلك طريق السداد فخالف كل
ما يحبه الشيطان قال ابن حجر والأول أولى(1).
3- ملهم هذه الأمة:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر(2) هذا الحديث تضمن منقبة عظيمة للفاروق رضي الله عنه وقد اختلف العلماء في المراد بالمحدَّث. فقيل: المراد بالمحدث: الملهم. وقيل: من يجري الصواب على لسانه من غير قصد، وقيل: مكلم أي: تكلمه الملائكة بغير نبوة.. بمعنى أنها تكلمه في نفسه وإن لم ير مكلماً في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام. وفسره بعضهم بالتفرس(3).
__________
(1) فتح الباري (7/47-48)، شرح النووي (15/165-167).
(2) البخاري رقم 3689 ، مسلم رقم 2398 .
(3) فتح الباري (7/50)، شرح النووي (15/166).(1/95)
قال ابن حجر: والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها ووقع له بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة إصابات(1) وكون عمر رضي الله عنه اختص بهذه المكرمة العظيمة وانفرد بها دون من سواه من الصحابة لا تدل على أنه أفضل من الصديق رضي الله عنه(2)، قال ابن القيم: ولا تظن أن تخصيص عمر رضي الله عنه بهذا تفضيل له على أبي بكر الصديق بل هذا من أقوى مناقب الصديق فإنه لكمال مشربه من حوض النبوة وتمام رضاعه من ثدي الرسالة استغنى بذلك عما تلقاه من تحديث أو غيره، فالذي يتلقاه من مشكاة النبوة أتم من الذي يتلقاه عمر من التحديث فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه من المعرفة وتأمل ما فيه من الحكمة البالغة الشاهدة لله بأنه الحكيم الخبير(3).
4- لم أر عبقرياً يفري فريه:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رأيت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب(4)، فجاء
__________
(1) فتح الباري (7/51).
(2) عقيدة أهل السنة والجماعة (1/251).
(3) مفتاح دار السعادة (1/255).
(4) القليب: البئر غير المطوية.(1/96)
أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له(1)، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن(2)، وهذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه تضمنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: فجاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً… الحديث ومعنى: استحالت صارت وتحولت من الصغر إلى الكبر وأمّا ((العبقري)) فهو السيد وقيل: الذي ليس فوقه شيء ومعنى ((ضرب الناس بعطن)) أي أرووا إبلهم ثم آووا إلى عطنها وهو الموضع الذي تساق إليه بعد السقي لتستريح وهذا المنام الذي رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثال واضح لما جرى للصديق وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما فقد حصل في خلافة الصديق قتال أهل الردة وقطع دابرهم وأشاع الإسلام رغم قصر مدة خلافته فقد كانت سنتين وأشهراً فوضع الله فيها البركة وحصل فيها من النفع الكثير ولما توفي الصديق خلفه الفاروق فاتسعت رقعة الإسلام في زمنه وتقرر للناس من أحكامه ما لم يقع مثله فكثر انتفاع الناس في خلافة عمر لطولها فقد مصر الأمصار ودون الدواوين وكثرت الفتوحات والغنائم.. ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه: أي لم أر سيداً يعمل عمله ويقطع قطعه ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: حتى ضرب الناس بعطن، قال القاضي عياض ظاهره أنه عائد إلى خلافة عمر خاصة وقيل: يعود إلى خلافة أبي بكر وعمر جميعاً لأن بنظرهما وتدبيرهما وقيامهما بمصالح المسلمين تم هذا الأمر ((وضرب الناس بعطن)). لأن أبا بكر قمع أهل الردة وجمع شمل المسلمين وألفهم وابتدأ الفتوح ومهد الأمور وتمت ثمرات ذلك وتكاملت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما(3).
__________
(1) والله يغفر له: هذه عبارة ليس فيها تنقيص لأبي بكر وإنما كلمة كان المسلمون يدعمون بها كلامهم.
(2) مسلم رقم 2393 .
(3) شرح النووي (15/161-162).(1/97)
5- غيرة عمر رضي الله وبشرى رسول الله له بقصر في الجنة:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طليحة
وسمعت خشفة فقلت من هذا؟ فقال: هذا بلال ورأيت قصراً بفنائه جارية، فقلت. لمن هذا؟ فقالوا: لعمر فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك. فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار(1)، وفي رواية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا لعمر فذكرت غيرته فوليت مدبراً. فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله(2)؟ هذان الحديثان اشتملا على فضيلة ظاهرة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - برؤيته قصراً في الجنة للفاروق وهذا يدل على منزلته عند الله تعالى(3).
6- أحب أصحاب رسول الله إليه بعد أبي بكر:
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: قلت يا رسول الله، أيُّ الناس أحبّ إليك؟ قال: عائشة قلت: يا رسول الله، من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب ثم عدّ رجالاً(4).
7- بشرى لعمر بالجنة:
__________
(1) مسلم رقم 2394 ، صحيح التوثيق ص54 ، البخاري برقم 3476 + 6620 .
(2) مسلم رقم 2395 .
(3) عقيدة أهل السنة والجماعة والصحابة (1/245).
(4) الإحسان في صحيح ابن حبان (15/209). الحديث في مسلم برقم 2384 ، والبخاري باب غزو ذات السلاسل برقم 4100 .(1/98)
عن أبي موسى الأشعري قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له، فإذا أبو بكر فبشرته بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فحمد الله ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله، ثم استفتح رجل، فقال لي افتح له وبشره بالجنة، على بلوى تصيبه فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله، ثم قال: الله المستعان(1).
خامساً: موقف عمر في مرض رسول الله ووفاته:
1- في مرض رسول الله:
قال عبد الله بن زمعة: لما مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليه بلال – رضي الله عنه – يدعوه إلى الصلاة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: مروا من يصلي بالناس. قال: فخرجت فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائباً، فقلت: قم يا عمر فصل بالناس، قال: فقام، فلما كبر سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوته، وكان عمر رجلاً مجهراً، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأين أبو بكر يأبى الله ذلك والمسلمون، فأبى الله ذلك والمسلمون. قال، فبعث إلى
أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس، قال: قال عبد الله بن زمعة: قال لي عمر:
__________
(1) البخاري، ك الصحابة رقم 3290.(1/99)
ويحك !! ماذا صنعت بي يا ابن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله أمر بذلك ولولا ذلك ما صليت بالناس، قال: قلت: والله ما أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ولكني حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس(1) ، وقد روى ابن عباس بأنه: لما اشتد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده. قال عمر رضي الله عنه: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا! فاختلفوا وكثر اللّغط قال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين كتابه(2) . وقد تكلم العلماء على هذا الحديث بما يشفي العليل ويروي الغليل، وقد أطال النفس في الكلام عليه النووي في شرح مسلم فقال: اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الكذب ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته وحال مرضه، ومعصوم من ترك بيان ما أمر ببيانه وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه، وليس معصوماً من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام ونحوها. مما لا نقص فيه لمنزلته، ولا فساد لما تمهد من شريعته، وقد سُحر - صلى الله عليه وسلم - حتى صار يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن يفعله، ولم يصدر منه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحال كلام في الأحكام مخالف لما سبق من الأحكام التي قررها، فإذا علمت ما ذكرناه فقد اختلف العلماء في الكتاب الذي هم النبي - صلى الله عليه وسلم - به. فقيل: أراد أن ينص على الخلافة في إنسان معين لئلا يقع فيه نزاع وفتن، وقيل: أراد كتاباً يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع فيها، ويحصل الإتفاق على المنصوص عليه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - هم بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحي إليه
__________
(1) حديث إسناده صحيح أخرجه أبو داود رقم 4660.
(2) البخاري، ك العلم رقم 114.(1/100)
بذلك ثم ظهر أن المصلحة تركه، أو أوحي إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول، وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره. لأنه خشي أن يكتب - صلى الله عليه وسلم - أموراً ربما عجزوا عنها، واستحقوا العقوبة عليها، لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها. فقال عمر: حسبنا كتاب الله، لقوله تعالى:
{ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (الأنعام، آية:38). وقوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (المائدة،آية:3). فعلم أن الله تعالى أكمل دينه، فأمن الضلال على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه، قال الخطابي: ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنه توهم الغلط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو ظن به غير ذلك مما لا يليق به بحال. لكنه لما رأى ما غلب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوجع وقرب الوفاة، مع ما اعتراه مع الكرب خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة له فيه فيجد المنافقون بذلك سبيلاً إلى الكلام في الدين. وقد كان أصحابه - صلى الله عليه وسلم - يراجعونه في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيم، كما راجعوه يوم الحديبية في الخلاف، وفي كتاب الصلح بينه وبين قريش. فأما إذا أمر النبي- صلى الله عليه وسلم - بالشيء أمر عزيمة فلا يراجعه فيه أحد منهم(1) . وقال القاضي: قوله: أهجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هكذا هو في صحيح مسلم وغيره: أهجر؟ على الاستفهام وهو أصح من رواية من روى هجر يهجر. لأن هذا كله لا يصح منه - صلى الله عليه وسلم -. لأن معنى هجر هذى. وإنما جاء هذا من قائله استفهاماً للإنكار على من قال: لا تكتبوا. أي لا تتركوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجعلوه كأمر من هجر في
__________
(1) صحيح السيرة النبوية ص750 نقلاً عن شرح مسلم (11/ 90).(1/101)
كلامه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يهجر، وقول عمر رضي الله عنه: حسبنا كتاب الله، رداً على ما نازعه، لا على من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -(1)، وعلق الشيخ علي الطنطاوي على ذلك فقال: والذي أراه أن عمر قد تعود خلال صحبته الطويلة للرسول أن يبدي له رأيه لما يعلم من إذنه له بذلك ولرضاه عنه، وقد مر من أخبار صحبته، مواقف كثيرة كان يقترح فيها على رسول الله أموراً، ويطلب منه أموراً، ويسأله عن أمورٍ، فكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقره على ما فيه الصواب، ويرده عن الخطأ، فلما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ائتوني أكتب لكم كتاباً، اقترح عليه عمر على عادته التي عوده الرسول، أن يكتفي بكتاب الله، فأقره الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان يريد الكتابة، لأسكت عمر، ولأمضى ما يريد(2).
2- موقفه يوم قبض الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
لما بلغ الناس خبر وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثت ضجة كبيرة، فقد كان موت الرسول صدمة لكثير من المسلمين خاصة ابن الخطاب، حدثنا عن ذلك الصحابي الجليل
أبو هريرة – رضي الله عنه – حيث قال: لما توفي رسول الله قام عمر بن الخطاب فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي، وإن رسول الله
__________
(1) شرح النووي (11/ 90)، فصل الخطاب في مواقف الأصحاب للغرسي ص41.
(2) أخبار عمر ص46.(1/102)
ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات، والله ليرجعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات(1)، وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد – حين بلغه الخبر – وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله في بيت عائشة رضي الله عنها ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجى في ناحية البيت، عليه بردة حبرة، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أقبل عليه فقبله، ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً، قال: ثم رد البردة على وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال:
على رسلك يا عمر، أنصت، فأبى إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت، أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس: إنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا قول الله تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ(144) } (آل عمران،آية:144).
قال أبو هريرة: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت، حتى تلاها
__________
(1) السيرة النبوية لابن أبي شهبة (2/594).(1/103)
أبو بكر يومئذ، قال: وأخذها الناس عن أبي بكر، فإنما هي في أفواههم، قال: فقال أبو هريرة: قال عمر: فو الله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله قد مات(1).
المبحث الثالث: عمر رضي الله عنه في خلافة الصديق:
أولاً: مقامه في سقيفة بني ساعدة ومبايعته للصديق:
عقب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فذهب عمر يتكلم،، فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاماً قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر: لا والله
لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء، وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب داراً، وأعربهم أحساباً، فبايعوا عمر، أو أبا عبيدة. فقال عمر: بل نبايعك أنت، وأنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس(2)، فرضي الله عن عمر وأرضاه، فإنه عندما ارتفعت الأصوات في السقيفة وكثر اللغط، وخشي عمر الاختلاف، ومن أخطر الأمور التي خشيها عمر أن يُبْدأ بالبيعة لأحد الأنصار فتحدث الفتنة العظيمة؛ لأنه ليس من اليسير أن يبايع أحد بعد البدء بالبيعة لأحد الأنصار، فأسرع عمر رضي الله عنه إخماداً للفتنة(3)، وقال للأنصار:
__________
(1) البخاري، ك الجنائز، رقم 1242.
(2) مسند أحمد (1/213) وصحح إسناده أحمد شاكر.
(3) الحكمة في الدعوة إلى الله، سعيد القحطاني ص226 .(1/104)
يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن يؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر(1)، ثم بادر رضي الله عنه وقال لأبي بكر: ابسط يدك، فبسط يده فبايعه، وبايعه المهاجرون، ثم الأنصار(2).
وعندما كان يوم الثلاثاء جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت، وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهده إليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيُدبّر أمرنا، يقول: يكون آخرنا، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوا فبايع الناس أبا بكر بيعته العامة بعد بيعة السقيفة(3)، فكان عمر رضي الله عنه يذود ويقوي، ويشجع الناس على بيعة أبي بكر حتى جمعهم الله عليه، وأنقذهم الله من الاختلاف والفرقة والفتنة، فهذا الموقف الذي وقفه عمر مع الناس من أجل جمعهم على إمامة أبي بكر، موقف عظيم من أعظم مواقف الحكمة التي ينبغي أن تسجل بماء الذهب(4).
__________
(1) محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (1/280).
(2) البخاري، ك فضائل الصحابة. رقم 3668 .
(3) البداية والنهاية (6/305،306) إسناده صحيح.
(4) الحكمة في الدعوة إلى الله ص227 .(1/105)
لقد خشي أن يتفرق أمر المسلمين وتشب نار الفتن فأخمدها بالمبادرة إلى مبايعة أبي بكر، وتشجيع الناس على المبايعة العامة فكان عمله هذا سبباً لنجاة المسلمين من أكبر كارثة كانت تحل بهم لولا يمن نقيبته وصحة نظره بعد معونة الله تعالى(1).
ثانياً: مراجعته لأبي بكر في محاربة مانعي الزكاة وإرسال جيش أسامة:
قال أبو هريرة رضي الله عنه: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر بعده. وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله. قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا(2) ، كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فو الله ما هو إلا أن رأيت أن الله – عز وجل – قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق(3)، وعندما اقترح بعض الصحابة على
__________
(1) الخلفاء الراشدون، عبد الوهاب النجار ص123 .
(2) العناق: هي الأنثى من أولاد المعز مالم يتم له سنة.
(3) البخاري، ك استتابة المرتدين والمعاندين رقم 6566.(1/106)
أبي بكر بأن يبقى جيش أسامة حتى تهدأ الأمور أرسل أسامة من معسكره من الجرف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع بالناس وقال: إن معي وجوه المسلمين وجلتهم، ولا آمن على خليفة رسول الله، وحرم رسول الله، والمسلمين أن يتخطفهم المشركون(1)، ولكن أبا بكر خالف ذلك وأصرّ على أن تستمر الحملة العسكرية في تحركها إلى الشام مهما كانت الظروف والأحوال والنتائج، وطلبت الأنصار رجلاً أقدم سناً من أسامة يتولى أمر الجيش وأرسلوا عمر بن الخطاب ليحدث الصديق في ذلك فقال عمر رضي الله عنه، فإن الأنصار تطلب رجلاً أقدم سناً من أسامة رضي الله عنه فوثب أبو بكر رضي الله عنه وكان جالساً وأخذ بلحية عمر رضي الله عنه وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله وتأمرني أن أعزله(2)، فخرج عمر رضي الله عنه إلى الناس فقالوا: ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم! ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله(3).
ثالثاً: عمر ورجوع معاذ من اليمن، وفراسة صادقة في أبي مسلم الخولاني، ورأيه في تعيين إبان بن سعيد على البحرين:
1- عمر ورجوع معاذ من اليمن:
__________
(1) الكامل لابن الأثير (2/226).
(2) تاريخ الطبري (4/46).
(3) نفس المصدر (4/46).(1/107)
مكث معاذ بن جبل باليمن في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان له جهاده الدعوي وكذلك ضد المرتدين، وبعد وفاة رسول الله قدم إلى المدينة، فقال عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه: أرسل إلى هذا الرجل فدع له ما يعيشه وخذ سائره منه. فقال أبو بكر: إنما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليجبره ولست بآخذ منه شيئاً إلا أن يعطيني، ورأى عمر أن أبا بكر رضي الله عنهما لم يأخذ برأية، ولكن عمر مقتنع بصواب رأيه، فذهب إلى معاذ لعله يرضى، فقال معاذ: إنما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليجبرني ولست بفاعل، إن عمر لم يذهب إلى أبي بكر مستعدياً، ولكنه كان يريد الخير لمعاذ وللمسلمين، وهاهو معاذ يرفض نصيحة عمر ويعلم عمر أنه ليس بصاحب سلطان على معاذ فينصرف راضياً، لأنه قام بواجبه من النصيحة، ولكن معاذاً رأى بعد رفضه نصيحة عمر ما جعله يذهب إليه قائلاً: قد أطعتك، وإني فاعل ما أمرتني به فإني رأيت في المنام أني في خوضة ماء قد خشيت الغرق فخلصتني منه يا عمر. ثم ذهب معاذ إلى أبي بكر رضي الله عنهما فذكر ذلك كله له وحلفه أنه لا يكتمه شيئاً، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أنا
لا آخذ شيئاً قد وهبته لك. فقال عمر رضي الله عنه: هذا حين حل وطاب(1) ، وقد جاء في رواية: أن أبا بكر قال لمعاذ: ارفع حسابك فقال معاذ: أحسابان حساب الله وحساب منكم؟ والله لا ألي لكم عملاً أبداً(2).
2- فراسة صادقة في أبي مسلم الخولاني:
__________
(1) شهيد المحراب ص69 نقلاً عن الاستيعاب (3/338).
(2) عيون الأخبار (1/125).(1/108)
كان عمر رضي الله عنه يتمتع بفراسة يندر وجودها في هذه الحياة فقد روى الذهبي: أن الأسود العنسي تنبأ باليمن – ادعى النبوة – فبعث إلى أبي مسلم الخولاني، فأتاه بنار عظيمة، ثم إنه ألقى أبا مسلم فيها، فلم تضره … فقيل للأسود: إن لم تنف هذا عنك أفسد عليك من اتبعك، فأمره بالرحيل،فقدم المدينة، فأناخ في راحلته، ودخل المسجد فبصر به فقام إليه، فقال: ممن الرجل؟ قال: من اليمن قال: وما فعل الذي حرقه الكذاب بالنار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثُوَب. قال نشدتك بالله، أنت هو؟ قال: اللهم نعم. فأعتنقه عمر، وبكى، ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين الصديق، فقال: الحمد لله الذي لم يُمتني حتى أراني في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من صنُع به كما صُنع بإبراهيم الخليل(1).
3- رأيه في تعيين أبان بن سعيد على البحرين:
انتهج أبو بكر رضي الله عنه خط الشورى في تعيين الأمراء، فقد ورد أنه شاور أصحابه فيمن يبعث إلى البحرين، فقال له عثمان: ابعث رجلاً قد بعثه رسول الله، فقدم عليه(2) ، بإسلامهم وطاعتهم، وقد عرفوه وعرفهم، وعرف بلادهم يعني العلاء بن الحضرمي، فأبى ذلك عمر عليه، وقال: أكره إبان بن سعيد بن العاص، فإنه رجل قد حالفهم، فأبى أبو بكر أن يكرهه وقال: لا أكره رجلاً يقول:
لا أعمل لأحد بعد رسول الله وأجمع أبو بكر بعثة العلاء بن الحضرمي إلى البحرين(3) .
رابعاً: رأي عمر في عدم قبول دية قتلى المسلمين، واعتراضه على إقطاع الصديق للأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن:
1- رأي عمر في عدم قبول دية قتلى المسلمين في حروب الردة:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/8+9)، أصحاب الرسول (1/137).
(2) كنز العمال (5/620) رقم 14093.
(3) القيود الواردة على سلطة الدولة وعبد الله الكيلاني ص169.(1/109)
جاء وفد بُزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح، فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية، فقالوا: هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية؟ قال تنزع منكم الحلقة والكراع، ونغنم ما أصبنا منكم وتردون علينا ما أصبتم منا، وتَدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار، وتتركون أقواماً يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين أمراً يعذرونكم به، فعرض أبو بكر ما قال على القوم، فقام عمر بن الخطاب، فقال: قد رأيت رأياً سنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت أن نغنم ما أصبنا منكم وتردّون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت تدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار، فإن قتلانا قاتلت فقتلت على أمر الله، أجورها على الله ليس لها ديات. فتبايع القوم على ما قال عمر(1) .
2- اعتراضه على إقطاع الصديق للأقرع بن حابس وعينيه بن حصن:
جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر – رضي الله عنه – فقالا:
__________
(1) أخبار عمر ص362 نقلاً عن الرياض النضرة، نيل الأوطار (8/22).(1/110)
يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضاً سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعنا لعلنا نحرثها أو نزرعها، لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم، فقال أبو بكر لمن حوله: ما تقولون فيما قالا، إن كانت أرضاً سبخة لا ينتفع بها؟ قالوا: نرى أن تقطعهما إياها، لعل الله ينفع بها بعد اليوم. فأقطعهما إياها، وكتب لهما بذلك كتاباً، وأشهد عمر، وليس في القوم، فانطلقا إلى عمر يشهدانه، فوجداه قائماً يهنأ(1) بعيراً له، فقالا: إن أبا بكر أشهدك على ما في الكتاب فنقرأ عليك أو تقرأ؟ فقال: أنا على الحال الذي تريان، فإن شئتما فاقرءا وإن شئتما فانظرا حتى فرغ، فأقرأ عليكما قالا: بل نقرأ فقرءا فلما سمع ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تفل عليه فمحاه، فتذمرا، وقالا مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله كان يتألفكما، والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام، فاذهبا فأجهدا جهدكما، لا رعى الله عليكما إن رعيتما. فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمران فقالا: والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر: فقال:لا بل هو لو كان شاء. فجاء عمر – وهو مغضب – فوقف على أبي بكر فقال: أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين أرض هي لك خاصة أم للمسلمين عامة. قال: بل للمسلمين عامة. قال: فما حملك أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين؟ قال: استشرت هؤلاء الذين حولي فأشاروا علي بذلك. قال: فإذا استشرت هؤلاء الذين حولك، فكل المسلمين أوسعتهم مشورة ورضي. فقال أبو بكر رضي الله عنه: قد كنت قلت لك إنك على هذا أقوى مني، ولكن غلبتني(2).
__________
(1) يهنأ: الإبل يهنؤها: طلاها بالهناء، أي القطران.
(2) محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (1/262).(1/111)
هذه الواقعة دليل لا يقبل الشك أن حكم الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين كان يقوم على الشورى، فهي تظهر لنا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حريصاً على استشارة المسلمين في الصغير والكبيرة، وما كان ليبرم أمراً دون مشورة إخوانه(1).
إن الخبر السالف الذكر يؤكد لنا أن خليفة رسول الله رضي الله عنه كان يمضي الشورى في كل شأن من شؤون المسلمين، بل وكان ينزل عن رأيه، وهو من هو رضي الله عنه، إنها صورة للشورى الحقيقية المنضبطة مع أوامر الله، مع الحلال والحرام، لا الشورى المزيفة التي تجري تحت قباب مجالس دستورية لم تجن من ورائها الشعوب إلا المرارة والاستبداد والظلم والضياع(2).
خامساً: جمع القرآن الكريم:
__________
(1) استخلاف أبو بكر الصديق، جمال عبد الهادي ص166،167.
(2) نفس المصدر ص167.(1/112)
كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثير من حفظة القرآن وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر رضي الله عنه بمشورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجمع القرآن حيث جمع من الرقاع والعظام والسعف ومن صدور الرجال(1)، وأسند الصديق هذا العمل العظيم إلى الصحابي زيد بن ثابت الأنصاري، قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: بعث إليّ أبو بكر رضي الله عنه لمقتل أهل اليمامة(2)، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر(3) يوم اليمامة بقراء القرآن الكريم، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن(4)، كلها فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!! فقال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال
أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتتبع القرآن فاجمعه(5). قال زيد: فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليَّ مما كلفني به من جمع القرآن(6).
ونستخلص من واقعة جمع القرآن الكريم بعض النتائج منها:
إن جمع القرآن الكريم جاء نتيجة الخوف على ضياعه نظراً لموت العديد من القراء في حروب الردة، وهذا يدل على أن القراء والعلماء كانوا وقتئذ أسرع الناس إلى العمل والجهاد لرفع شأن الإسلام والمسلمين بأفكارهم وسلوكهم وسيوفهم فكانوا خير أمة أخرجت للناس ينبغي الاقتداء بهم لكل من جاء بعدهم.
__________
(1) حروب الردة وبناء الدولة الإسلامية، أحمد سعيد ص145.
(2) يعني واقعة يوم اليمامة ضد مسيلمة الكذاب وإخوانه.
(3) استحر: كثر واشتد.
(4) أي في الأماكن التي يقع فيها القتال مع الكفار.
(5) أي من الأشياء التي عندي وعند غيرك.
(6) البخاري رقم 4986 .(1/113)
إن جمع القرآن تم بناء على المصلحة المرسلة ولا أدل على ذلك من قول عمر لأبي بكر حين سأله كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه والله خير وفي بعض الروايات أنه قال له: إنه والله خير ومصلحة للمسلمين، وهو نفس
ما أجاب به أبو بكر زيد بن ثابت حين سأل نفس السؤال وسواء صحت الرواية التي جاء فيها لفظ المصلحة أو لم تصح، فإن التعبير بكلمة خير، يفيد نفس المعنى، وهو مصلحة المسلمين في جمع القرآن، فقد كان جمع القرآن مبنياً على المصلحة المرسلة أول الأمر ثم انعقد الإجماع على ذلك بعد أن وافق الجميع بالإقرار الصريح أو الضمني وهذا يدل على أن المصلحة المرسلة يصح أن تكون سنداً للإجماع بالنسبة لمن يقول بحجيتها كما هو مقرر في كتب أصول الفقه.
وقد اتضح لنا من هذه الواقعة كذلك كيف كان الصحابة يجتهدون في جو من الهدوء يسوده الود والاحترام، هدفهم الوصول إلى ما يحقق الصالح العام لجماعة المسلمين، وأنهم كانوا ينقادون إلى الرأي الصحيح وتنشرح قلوبهم له بعد الإقناع والاقتناع، فإذا اقتنعوا بالرأي دافعوا عنه كما لو كان رأيهم منذ البداية، وبهذه الروح أمكن انعقاد إجماعهم حول العديد من الأحكام الاجتهادية(1).
الفصل الثالث
استخلاف الصديق للفاروق، وقواعد نظام حكمه، وحياته في المجتمع
المبحث الأول: استخلاف الصديق للفاروق وقواعد نظام حكمه:
أولاً: استخلاف الصديق للفاروق:
__________
(1) الاجتهاد في الفقه الإسلامي، عبد السلام السليماني ص127 .(1/114)
لما اشتد المرض بأبي بكر جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميت لما بي وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم فأمروا عليكم من أحببتم فإنكم إن أمرتم في حياتي كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي(1) وتشاور الصحابة رضي الله عنهم، وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية، لذا رجعوا إليه، فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده، فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني: فقال أبو بكر: وإن فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان. فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال: أنت أخبر به، فقال: على ذلك
__________
(1) البداية والنهاية (7/18)، تاريخ الطبري (4/238).(1/115)
يا أبا عبد الله فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. فقال أبو بكر: يرحمك الله والله لو تركته ما عدتك ثم دعا أسيد بن حضير فقال له: مثل ذلك، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر إلا طلحة بن عبيد الله خاف من شدته فقال لأبي بكر ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أبالله تخوفونني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم أقول اللهم استخلفت عليهم خير أهلك(1) وبين لهم سبب غلظة عمر وشدته فقال: ذلك لأنه يراني رقيقاً ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما عليه(2) ثم كتب عهداً مكتوباً يقرأ على الناس في المدينة وفي الأنصار عن طريق أمراء الأجناد فكان نص العهد بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي، وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ
ما اكتسب، والخير أردت ولا أعلم الغيب { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227) } (الشعراء،آية:227)
__________
(1) الكامل لابن الأثير (2/ 79)، التاريخ الإسلامي محمود شاكر ص101.
(2) الكامل لابن الأثير (2/79).(1/116)
إن عمر هو نصح أبي بكر الأخير للأمة، فقد أبصر الدنيا مقبلة تتهادى وفي قومه فاقة قديمة يعرفها، فإذا ما أطلوا لها استشرفوا شهواتها، فنكلت بهم واستبدت، وذاك ما حذرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه(1) ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم(2)، لقد أبصر أبو بكر الداء فأتى لهم رضي الله عنه بدواء ناجح … جبل شاهق، إذا ما رأته الدنيا أيست وولت عنهم مدبرة، إنه الرجل الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: إيها يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك(3). إن الأحداث الجسام التي مرت بالأمة، قد بدأت بقتل عمر، هذه القواصم خير شاهد على فراسة أبي بكر وصدق رؤيته في العهد لعمر، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أفرس الناس ثلاثة صاحبة موسى التي قالت: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، وصاحب يوسف حيث قال:أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً، وأبو بكر حين استخلف عمر(4) ، فقد كان عمر هو سد الأمة المنيع الذي حال بينها وبين أمواج الفتن(5) .
__________
(1) تاريخ الإسلام للذهبي عهد الخلفاء ص66-117، أبو بكر رجل دولة ص99.
(2) البخاري، ك الجزية والموادعة رقم 3158.
(3) البخاري، ك فضائل أصحاب النبي رقم 3683.
(4) مجمع الزوائد (10/ 268) صحيح الإسناد.
(5) أبو بكر رجل الدولة ص 100.(1/117)
هذا وقد أخبر عمر بن الخطاب بخطواته القادمة فقد دخل عليه عمر فعرفه أبو بكر بما عزم فأبى أن يقبل، فتهدده أبو بكر بالسيف فما كان أمام عمر إلا أن يقبل(1) ، وأرد الصديق أن يبلغ الناس بلسانه واعياً مدركاً حتى لا يحصل أي لبس فأشرف أبو بكر على الناس وقال لهم: أترضون بمن استخلف عليكم، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا: سمعنا وأطعنا(2) وتوجه الصديق بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه، وهو يقول: اللهم وليته بغير أمر نبيك، ولم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، واجتهدت لهم رأيي، فولَّيت عليهم خيرهم، وأحرصهم على
ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر، فأخلفني فيهم فهم عبادك(3).
__________
(1) مآثر الأنافة (1/ 49).
(2) تاريخ الطبري (4/248).
(3) طبقات بن سعد (3/199)، تاريخ المدينة لابن شبهة. (2/665-669).(1/118)
وكلف أبو بكر عثمان رضي الله عنه: بأن يتولى قراءة العهد على الناس وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر بعد أن ختمه لمزيد من التوثيق والحرص على إمضاء الأمر، دون أي آثار سلبية، وقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به(1)، فبعد أن قرأ العهد على الناس ورضوا به أقبلوا عليه وبايعوه(2)، واختلى الصديق بالفاروق وأوصاه بمجموعة من التوصيات لإخلاء ذمته من أي شيء، حتى يمضي إلى ربه خالياً من أي تبعة بعد أن بذل قصارى جهده واجتهاده(3)، وقد جاء في الوصية: اتق الله ياعمر، واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تُؤدى فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل غداً أن يكون خفيفاً، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف أن لا ألحق بهم، وإن الله تعالى ذكر أهل النار، فذكرهم بأسوأ أعمالهم، وردّ عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم، قلت: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء ليكون العبد راغباً راهباً، لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت ولست تُعجزه(4).
وباشر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعماله بصفته خليفة للمسلمين فور وفاة أبي بكر رضي الله عنه(5).
__________
(1) طبقات بن سعد (3/200).
(2) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة للشجاع ص272 .
(3) نفس المصدر ص272 .
(4) صفة الصفوة (1/264،265).
(5) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة ص272 .(1/119)
ويلحظ الباحث: أن ترشيح أبي بكر الصديق رضي الله عنه لعمر بن الخطاب، لم يأخذ قوته الشرعية، ما لم يستند لرضا الغالبية بعمر وهذا ما تحقق حين طلب أبو بكر من الناس أن يبحثوا لأنفسهم عن خليفة من بعده، فوضعوا الأمر بين يديه، وقالوا له، رأينا إنما هو رأيك(1)، ولم يقرر أبو بكر الترشيح إلا بعد أن استشار أعيان الصحابة فسأل كل واحد على انفراد، ولما ترجح لديه اتفاقهم أعلن ترشيحه لعمر، فكان ترشيح
أبي بكر صادراً عن استقراء، لآراء الأمة من خلال أعيانها، على أن هذا الترشيح
لا يأخذ قوته الشرعية إلا بقبول الأمة به، ذلك أن اختيار الحاكم حق للأمة، والخليفة يتصرف بالوكالة عن الأمة. ولا بد من رضا الأصيل، ولهذا توجه أبو بكر إلى الأمة: أترضون بمن استخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهدي الرأي ولا وليت ذا قرابة، وأني قد استخلفت عمر بن الخطاب. فأسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا(2)، وفي قول أبي بكر أترضون بمن استخلف عليكم، إشعار بأن الأمر للأمة وأنها هي صاحبة العلاقة والاختصاص(3).
إن عمر رضي الله عنه ولي الخلافة باتفاق أهل الحل والعقد وإرادتهم فهم الذين فوضوا لأبي بكر انتخاب الخليفة، وجعلوه نائباً عنهم في ذلك، فشاور ثم عين الخليفة، ثم عرض هذا التعيين على الناس فأقروه، وأمضوه ووافقوا عليه، وأصحاب الحل والعقد في الأمة هم النواب (الطبيعيون) عن هذه الأمة، وإذن فلم يكن استخلاف عمر رضي الله عنه إلا على أصح الأساليب الشورية وأعدلها(4).
إن الخطوات التي سار عليها أبو بكر الصديق في اختيار خليفته من بعده
__________
(1) القيود الواردة على سلطة الدولة في الإسلام ص172 .
(2) تاريخ الطبري (4/248).
(3) القيود الواردة على سلطة الدولة في الإسلام ص172 .
(4) أبو بكر الصديق، علي طنطاوي ص237 .(1/120)
لا تتجاوز الشورى بأي حال من الأحوال، وإن كانت الإجراءات المتبعة فيها غير الإجراءات المتبعة في تولية أبي بكر نفسه(1)، وهكذا تم عقد الخلافة لعمر رضي الله عنه بالشورى والاتفاق، ولم يورد التاريخ أي خلاف وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أن أحداً نهض طول عهده لينازعه الأمر، بل كان هناك إجماع على خلافته وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدة واحدة(2).
ثانياً: النصوص الشرعية التي أشارت إلى أحقية خلافة الفاروق:
1- في نص القرآن الكريم دليل على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وعلى وجوب الطاعة لهم وهو أن الله تعالى قال مخاطباً نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - في الأعراب: { فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا } (التوبة،آية:83). وكان نزول براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شك(3) التي تخلف فيها الثلاثة المعذورون الذين تاب الله عليهم في سورة براءة ولم يغز عليه الصلاة والسلام بعد غزوة تبوك إلى أن مات - صلى الله عليه وسلم - وقال تعالى أيضاً: { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ } ? فبين أن العرب لا يغزون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد تبوك لهذا، ثم عطف سبحانه وتعالى عليهم أثر منعه إياهم من الغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى:
__________
(1) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة ص272 .
(2) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة ص272 .
(3) الدر المنثور في التفسير المأثور (4/119،122).(1/121)
{ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(16) } (الفتح،آية:16-17). فأخبر تعالى أنه سيدعوهم غير النبي إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون ووعدهم على طاعة من دعاهم إلى ذلك بجزيل الأجر العظيم وتوعدهم على عصيان الداعي لهم إلى ذلك العذاب الأليم(1).
قال أبو محمد بن حزم: وما دعا أولئك الأعراب أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون إلا أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإن أبا بكر رضي الله عنه دعاهم إلى قتال مرتدي العرب بني حنيفة وأصحاب الأسود وسجاح وطليحة والروم والفرس وغيرهم، ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفرس، وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك(2). فوجب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بنص القرآن الذي لا يحتمل تأويلاً وإذ قد وجبت طاعتهم فقد صحت إمامتهم وخلافتهم رضي الله عنهم(3).
2- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن(4).
__________
(1) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام (2/634).
(2) الاعتقاد للبيهقي ص173 .
(3) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/109،110).
(4) مسلم رقم 2393 .(1/122)
هذا الحديث تضمن الإشارة إلى خلافة الشيخين رضي الله عنهما، كما تضمن الإشارة إلى خلافة الفاروق رضي الله عنه، وإلى كثرة الفتوح وظهور الإسلام في زمنه فهذا المنام النبوي مثال واضح لما حصل لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما وكل ذلك مأخوذ عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وآثار صحبته فقد كان - صلى الله عليه وسلم - هو صاحب الأمر فقام به أكمل قيام حيث قرر قواعد الدين ومهد أموره وأوضح أصوله وفروعه ودخل الناس في دين الله أفواجاً وأنزل الله تعالى عليه قوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الأسْلاَمَ دِينًا } (المائدة،آية:3).
ولما التحق - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى خلفه أبو بكر رضي الله عنه على الأمة سنتين وأشهراً وهو المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ذنوباً أو ذنوبين)) وهذا شك من الراوي والمراد ذنوبان كما جاء التصريح بذلك في رواية أخرى(1) وقد حصل في خلافته رضي الله عنه قتال المرتدين وقطع دابرهم وأشاع رقعة الإسلام في زمنه أكثر وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله لطول ولايته واتساع بلاد الإسلام وكثرة الأموال من الغنائم وغيرها فالحديث اشتمل على أحقية خلافة عمر رضي الله عنه وصحتها وبيان صفتها وانتفاع المسلمين بها(2).
3- عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - جلوساً فقال: إني لا أدري
__________
(1) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام (2/635).
(2) نفس المصدر (2/635).(1/123)
ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر وتمسكوا بهدي عمار وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه(1)، دل هذا الحديث دلالة صريحة على أحقية خلافة عمر رضي الله عنه فقوله - صلى الله عليه وسلم -: اقتدوا باللذين. بفتح الذال أي الخليفتين اللذين يقومان من بعدي أبو بكر وعمر، فأمره - صلى الله عليه وسلم - بطاعتهما. يتضمن الثناء عليهما لكونهما أهلاً لأن يطاعا فيما يأمران به وينهيان عنه المؤذن بحسن سيرتهما وصدق سريرتهما وإيماء لكونهما الخليفتين من بعده وسبب الحث على الاقتداء بالسابقين الأولين ما فطروا عليه من الأخلاق المرضية والطبيعة القابلة للخير ولذلك كانوا أفضل الناس بعد الأنبياء وصار أفضل الخلق بعدهم من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين(2).
4- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( بينما أنا نائم إذ رأيت قدحاً أتيت به فيه لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب )) قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم(3).
ففي هذا الحديث إشارة إلى أحقية خلافة عمر رضي الله عنه: والمراد بالعلم هنا العلم بسياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان فإن مدة
__________
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (3/233،236)، صحيح ابن حبان (15/328) ومصنف ابن أبي شيبة (7/433) وصححه الألباني في الصحيح (3/333-336).
(2) فيض القدير للمناوي (2/56).
(3) مسلم (4/1859،1860).(1/124)
أبي بكر كانت قصيرة فلم تكثر فيها الفتوح التي هي من أعظم الأسباب في الاختلاف ومع ذلك فساس عمر فيها – مع طول مدته – الناس بحيث لم يخالفه أحد ثم ازدادت اتساعاً في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء، ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله واستخلف علي فما ازداد الأمر إلا اختلافاً، والفتن إلا انتشاراً(1)، فالحديث فيه إشارة واضحة إلى أحقية خلافة الفاروق رضي الله عنه(2).
5- عن أبي بكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم: من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان فرأينا الكراهية في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3).
في هذا الحديث إشارة إلى ترتيب الثلاثة في الفضل، فأفضلهم أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم أجمعين كما أن الحديث تضمن الإشارة إلى أحقية خلافة عمر رضي الله عنه وأنه يلي الخلافة بعد الصديق رضي الله عنه وقوله في الحديث: فرأينا الكراهية في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك لما علم - صلى الله عليه وسلم - من أن تأويل رفع الميزان انحطاط رتبة الأمور وظهور الفتن بعد خلافة عمر(4).
__________
(1) فتح الباري (7/46).
(2) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام (2/637).
(3) سنن أبي داود (2/512)، سنن الترمذي (4/540).
(4) عون المعبود شرح سنن أبي داود (13/387).(1/125)
6- عن ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث أن رجلاً أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظللة تنطف(1) السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون(2) منها: فالمستكثر والمستقل وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل. فقال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت والله لتدعني فأعبرها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اعبرها قال: أما الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن حلاوته تنطف فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به ثم يأخذ به رجل فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطأت! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً. قال: فوالله
يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت. قال: لا تقسم(3). تضمن هذا الحديث الإشارة إلى أحقية خلافة عمر رضي الله عنه ووجه ذلك أن قوله في الحديث: ثم أخذ به رجل آخر فعلا به. هو أبو بكر رضي الله عنه وقوله ثانياً: ثم أخذ به رجل آخر فانقطع إشارة إلى خلافة الفاروق رضي الله عنه(4).
7- عن أنس رضي الله عنه قال: بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سل لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى من ندفع صدقاتنا بعدك قال: فأتيته فسألته فقال: إلى أبي بكر. فأتيتهم فأخبرتهم فقالوا: ارجع إليه فسله فإن حدث بأبي بكر حدث فإلى من؟ فأتيته فسألته فقال: إلى عمر، فأتيته فأخبرتهم(5)…
__________
(1) تنطف: أي تقطر: النهاية في غريب الحديث (5/75).
(2) يتكففون: يأخذون منها بأكفهم، النهاية في غريب الحديث (4/190).
(3) مسلم (4/1777،1778).
(4) عقيدة أهل السنة والجماعة (2/638).
(5) المستدرك (3/77) هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.(1/126)
اشتمل هذا الحديث على الإشارة إلى أحقية خلافة عمر رضي الله عنه وأنه يلي أمر المسلمين بعد وفاة الصديق رضي الله عنه(1).
8- ومما دل على أحقية خلافته رضي الله عنه اجتماع الصحابة على أنهم لا يقدمون إلا أفضلهم وأخيرهم مع قول أبي بكر وعلي رضي الله عنهما فيه، فأما قول
أبي بكر رضي الله عنه فيه فهو قوله: اللهم أمرت عليهم خير أهلك(2)، وأما قول علي رضي الله عنه فهو ما رواه البخاري عن محمد بن الحنفية وهو ابن علي بن
أبي طالب قال: قلت لأبي أي الناس خير بعد رسول الله: قال أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر وخشيت أن يقول: عثمان. قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين(3)، فهذه الأحاديث التي ذكرتها فيها الدلالة الواضحة على أحقية عمر رضي الله عنه(4).
قال السفاريتي رحمه الله: أعلم أن خلافة سيدنا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه مرتبة ولازمة لأحقية خلافة الصديق الأعظم أبي بكر رضي الله عنه وقد قام الإجماع وإشارات الكتاب والسنة على أحقية خلافته فما ثبت للأصل الذي هو الصديق من أحقية الخلافة يثبت لفرعه الذي هو عمر بن الخطاب فيها فلا مطمع لأحد من فرق الضلال في الطعن والنزاع في أحقية الخلافة وقد علم أهل العلم علماً باتاً ضرورياً أن الصحابة الكرام أجمعوا على تولية الصديق الخلافة ومن شذ لا يقدح في ذلك من غير مرية(5).
ثالثاً: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه:
وقد نقل إجماع الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم على خلافة عمر طائفة من أهل العلم الذي يعتمد عليهم في النقل منهم:
__________
(1) عقيدة أهل السنة والجماعة (2/639).
(2) الطبقات الكبرى (3/274).
(3) البخاري، ك الصحابة، رقم 3671.
(4) عقيدة أهل السنة في الصحابة الكرام (2/640).
(5) لوامع الأنوار البهية (2/326).(1/127)
1- روى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: دخلت على عمر حين طعن. فقلت: أبشر بالجنة يا أمير المؤمنين أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خذله الناس، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنك راض ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقتلت شهيداً فقال: أعد علي فأعدت عليه فقال: والله الذي لا إله غيره لو أن لي ما على الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع(1).
2- وقال أبو نعيم الأصبهاني مبيناً الإجماع على خلافة الفاروق رضي الله عنه: لما علم الصديق رضي الله عنه من فضل عمر رضي الله عنه ونصيحته وقوته على ما يقلده وما كان يعينه عليه من أيامه من المعونة التامة لم يكن يسعه في ذات الله ونصيحته لعباد الله تعالى أن يعدل هذا الأمر عنه إلى غيره، ولما كان يعلم من أمر شأن الصحابة رضي الله عنهم أنهم يعرفون منه ما عرفه ولا يشكل عليهم شيء من أمره فوض إليهم ذلك فرضي المسلمون ذلك وسلموه، ولو خالطهم في أمره ارتياب أو شبهة لأنكروه، ولم يتابعوه كاتباعهم أبا بكر رضي الله عنهم فيما فرض الله عليه الاجتماع وأن إمامته وخلافته ثبتت على الوجه الذي ثبت للصديق، وإنما كان الدليل لهم على الأفضل والأكمل فتبعوه على ذلك مستسلمين له راضين به(2).
3- وقال أبو عثمان الصابوني بعد ذكره خلافة الصديق باختيار الصحابة وإجماعهم عليه قال: ثم خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه باستخلاف أبي بكر رضي الله عنه إياه واتفاق الصحابة عليه بعده وإنجاز الله
سبحانه بمكانه في إعلاء الإسلام وإعظام شأنه وعده(3).
4- وقال النووي في معرض ذكره لإجماع الصحابة على تنفيذ عهد الصديق بالخلافة
__________
(1) الاعتقاد للبيهقي ص188 .
(2) كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص274 .
(3) عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنبرية (1/129).(1/128)
لعمر حيث قال: أجمعوا على اختيار أبي بكر وعلى تنفيذ عهده إلى عمر(1).
5- وقال ابن تيمية: وأما عمر فإن أبا بكر عهد إليه وبايعه المسلمون بعد موت أبي بكر فصار إماماً لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم(2).
6- وقال شارح الطحاوية: وتثبتت الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه وذلك بتفويض أبي بكر الخلافة إليه، واتفاق الأمة بعده عليه(3).
ومن هذه النقول التي تقدم ذكرها تبين أن خلافة عمر رضي الله عنه تمت بإجماع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث تلقوا عهد أبي بكر رضي الله عنه بالخلافة لعمر بالقبول والتسليم ولم يعارض في ذلك أحد وكذا أجمعت الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة على ما أجمع عليه أصحاب رسول الله ولم يخالفهم إلا من لا يعتد بخلافه ممن ابتلي ببعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالشيعة الرافضة ومن جرى في ركابهم ممن فتن بهم فإن اعترض معترض على إجماع الصحابة المتقدم ذكره بما رواه ابن سعد وغيره من أن بعض الصحابة سمعوا بدخول عبد الرحمن بن عوف وعثمان على أبي بكر فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلاف عمر علينا؟ وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أبالله تخوفني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك أبلغ عني ما قلت لك من وراءك(4)، والجواب عن هذا الانكار الصادر إن صح من هذا القائل ليس عن جهالة لتفضيل عمر بعد أبي بكر واستحقاقه للخلافة، وإنما كان خوفاً من خشونته وغلظته لا اتهاماً له في قوته وأمانته(5).
رابعاً: خطبة الفاروق لما تولى الخلافة:
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (12/206).
(2) منهاج السنة (1/142).
(3) شرح الطحاوية ص539 .
(4) الطبقات لابن سعد (3/199).
(5) كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص276 .(1/129)
اختلف الرواة في أول خطبة خطبها الفاروق عمر، فقال بعضهم، إنه صعد المنبر فقال: اللهم إني شديد فليِّنِّي، وإني ضعيف فقوني، وإني بخيل فسخِّني(1)، وروي إن أول خطبة كانت قوله: إن الله ابتلاكم بي وابتلاني بكم بعد صاحبيّ، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلو فيه عن أهل الجزء – يعني الكفاية – والأمانة، والله لئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلنّ بهم، فقال من شهد خطبته ورواها عنه: فوالله ما زاد على ذلك حتى فارق الدنيا(2)، وروي أنه لما ولي الخلافة صعد المنبر وهمّ أن يجلس مكان أبي بكر فقال: ما كان الله ليراني أرى نفسي أهلاً لمجلس أبي بكر. فنزل مرقاة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اقرؤوا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزيَّنوا للعرض الأكبر يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية، إنه لم يبلغ حق ذي حق أن يطاع في معصية الله ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم؛ إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف(3).
__________
(1) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص170،171 .
(2) الطبقات (3/275).
(3) كنز العمال رقم 44214 نقلاً عن الدولة الإسلامية د. حمدي شاهين ص120 .(1/130)
ويمكن الجمع بين هذه الروايات إذا افترضنا أن عمر ألقى خطبته أمام جمع من الحاضرين فحفظ بعضهم منها جزءاً فرواه، وحفظ آخر جزءاً غيره فذكره، وليس من الغريب أن يمزج الفاروق في أول خطبة له بين البيان السياسي، والإداري والعظة الدينية، فذلك نهج هؤلاء الأئمة الأولين الذين لم يروا فارقاً بين تقوى الله والأمر بها وسياسة البشر تبعاً لمنهجه وشريعته، كما أنه ليس غريباً على عمر أن يراعي حق سلفه العظيم أبي بكر فلا يجلس في موضع كان يجلس فيه فيساويه بذلك في أعين الناس، فراجع عمر نفسه رضي الله عنه ونزل درجة عن مكان الصديق رضي الله عنه(1)، وفي رواية أخرى أنه بعد يومين من استخلافه تحدث الناس فيما كانوا يخافون من شدته، وبطشه، وأدرك عمر أنه لابد من تجليه الأمر بنفسه، فصعد المنبر وخطبهم فذكر بعض شأنهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وخليفته، وكيف أنهما توفيا وهما عنه راضيان، ثم قال: … ثم إني قد وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يتعدى عليه حتى أضع خدّه على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق. وإني بعد شدتي تلك أضع خدي لأهل العفاف وأهل الكفاف، ولكم عليّ أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها؛ لكم علي أن لا أجتبي شيئاً من خراجكم، ولا مما أفاء الله عليكم إلا في وجهه، ولكم عليّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم عليّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى وأسُدّ ثغوركم، ولكم عليّ ألا ألقيكم في المهالك ولا أجمّركم(2) في ثغوركم، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، فاتقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر
__________
(1) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، د. حمدي شاهين ص120 .
(2) أجمركم أي لا أبقيكم على جبهات القتال بعيداً عن أهليكم مدة طويلة.(1/131)
بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم(1)، وجاء في رواية: إنما مثل العرب مثل أنف اتبع قائده، فلينظر قائده حيث يقوده، أما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق(2).
وفي هذه الروايات لخطبة عمر رضي الله عنه لما ولي الخلافة يتضح منهجه في الحكم الذي
لم يجد عنه، وأبرز ملامحه:
1- أنه ينظر إلى الخلافة على أنها ابتلاء ابتلي به سيحاسب على أداء حقه؛ فالحكم عند الراشدين تكليف وواجب وابتلاء، وليس جاهاً وشرفاً واستعلاء.
2- وهذا الاستخلاف يتطلب منه أن يباشر حمل أعباء الدولة فيما حضره من أمرها، وأن يولي على الرعية التي غابت عنه أفضل الأمراء وأكفأهم، غير أن ذلك – فيما يرى عمر – ليس كافياً لإبراء ذمته أمام الله تعالى؛ بل يرى أن مراقبة هؤلاء العمال والولاة فرض لا فكاك منه، فمن أحسن منهم زاده إحساناً، ومن أساء عاقبه ونكّل به(3)، وسيأتي بيان ذلك بإذن الله عن حديثنا مؤسسة الولاة، وفقه الفاروق في تطويرها.
3- إن شدة عمر التي هابها الناس سيخلصها لهم ليناً ورحمة، وسينصب لهم ميزان العدل، فمن ظلم وتعدى فلن يجد إلا التنكيل والهوان (( ولست أدع أحداً يظلم أحد ويتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض… )) أما من آثر القصد والدين والعفاف فسيجد من الرحمة ما لا مزيد عليه؛ أضع خدي لأهل العفاف(4)، وسيتّضح عدل عمر رضي الله عنه في رعيته من خلال المواقف واهتمامه بمؤسسة القضاء وتطويرها بحيث سيطر العدل على كل ولايات الدولة.
__________
(1) الإدارة العسكرية في عهد الفاروق ص106 .
(2) السياسة الشرعية. د. إسماعيل بدوي ص160 نقلاً عن الطبري.
(3) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين ص121 .
(4) نفس المصدر ص121 ، محض الصواب (1/385).(1/132)
4- وتكفل الخليفة بالدفاع عن الأمة ودينها وأن يسد الثغور ويدفع الخطر، غير أن ذلك لن يتم بظلم المقاتلين، فلن يحبسهم في الثغور إلى حد لا يطيقونه، وإن غابوا في الجيوش فسيرعى الخليفة وجهازه الإداري أبناءهم وأسرهم(1)، ولقد قام الفاروق بتطوير المؤسسة العسكرية وأصبحت قوة ضاربة لا مثيل لها على مستوى العالم في عصره.
5- وتعهد الخليفة بأداء الحقوق المالية للرعية كاملة … من خراج وفيء، لا يحتجن منه شيئاً ولا يضعه في غير محله، بل سيزيد عطاياهم وأرزاقهم باستمرار الجهاد والغزو والحض على العمل وضبط الأداء المالي للدولة(2) ، وقد قام بتطوير المؤسسة المالية، وضبط مصادر بيت المال وأوجه الإنفاق في الدولة.
6- وفي مقابل ذلك يطالب الرعية بأداء واجبها من النصح لخليفتها والسمع والطاعة له والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يشيع الرقابة الإسلامية في المجتمع.
7- ونبه إلى أنه لا يعين على ذلك إلا بتقوى الله ومحاسبة النفس واستشعار المسؤولية في الآخرة(3).
8- علق الشيخ عبد الوهاب النجار على قول عمر رضي الله عنه: إنما مثل العرب كمثل جمل آنف بقوله:الجمل الآنف: هو الجمل الذلول المواتي الذي يأنف من الزجر والضرب ويعطي ما عنده من السير عفواً سهلاً وهذا تشخيص حسن للأمة الإسلامية لعهده فإنها كانت سامعة مطواعة إذا أمرت ائتمرت، وإذا نهيت انتهت. ويتبع ذلك المسؤولية الكبرى على قائدها فإنه يجب عليه أن يرتاد لها ويصدر في شأنه بعقل، ويورد بتمييز حتى لا يورطها في خطر، ولا يقحمها في مهلكة،
ولا يعمل شأنها إهمالاً يكون من ورائه البطر. وقد أراد بالطريق: الطريق الأقوم الذي لا عوج فيه. وقد برَّ بما أقسم به(4).
__________
(1) نفس المصدر (121).
(2) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين ص122.
(3) نفس المصدر ص122.
(4) الخلفاء الراشدون ص123.(1/133)
9- سنة الله في الفظاظة والغلظة والرفق: مضت سنة الله في أحوال الناس واجتماعهم وفي إقبالهم على الشخص واجتماعهم عليه وقبولهم منه وسماعهم قوله وأنسهم به، أن ينفضوا عن الفظ الغليظ القلب حتى ولو كان ناصحاً مريداً للخير لهم حريصاً على ما ينفعهم(1) وقد دل على هذا قول الله تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ … } (آل عمران، آية:159). ولذلك كان دعاء الفاروق لما تولى الخلافة: اللهم إني شديدٌ فليني، وقد استجاب الله هذا الدعاء، وامتلأت نفس عمر بالعطف والرحمة واللين وأصبحت من صفاته بعد توليته الخلافة، فقد عرف الناس عمر في عهدي الرسول وأبي بكر شديداً حازماً، وصوره لنا التاريخ على أنه الشخص الوحيد الذي مثل منذ دخل الإسلام حتى تولى الخلافة دور الشدة والقوة بجانب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبجانب أبي بكر، حتى آلَ إليه الأمر انقلب رخاء ويسيراً ورحمة(2).
__________
(1) السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد، زيدان ص282.
(2) الإدارة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب ص107.(1/134)
10- كانت البيعة العامة في سيرة الخلفاء الراشدين مقيدة بأهل المدينة دون غيرهم. وربما حضرها وعقدها الأعراب والقبائل التي كانت محيطة بالمدينة، أو نازلة فيها، أما بقية الأمصار، فكانت تبعاً لما يتقرر في مدينة الرسول، وهذا لا يطعن بالبيعة، ولا يقلل من شرعيتها، لأن جمع المسلمين من كل الأقطار والأمصار كان أمراً مستحيلاً، ولا بد للدولة من قائم بها، ولا يمكن أن تعطل مصالح الخلق، أضف إلى ذلك أن الأمصار الأخرى قد أيدت في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان ما جرى في المدينة، تأييداً صريحاً أو ضميناً، ولا شك أن الأساليب التي لجأ إليها الناس في صدر الإسلام كانت تجارب تصب في حقل تطوير الدولة ومؤسساتها(1) .
11- المرأة والبيعة: لم أجد أثناء البحث إشارة إلى أن المرأة قد بايعت في زمن أبي بكر وعمر وفي عصر الخلفاء الراشدين، ولم تشر كتب السياسة الشرعية القديمة إلى حق المرأة أو واجبها في البيعة – على حد علمي القاصر – والظاهر أن البيعة قد اقتصرت في معظم عصور التاريخ الإسلامي على الرجال دون النساء، فلا الرجال دعوها إليها، ولا هي طالبت بها، واعتبر تغيب المرأة عن البيعة أمراً طبيعياً، إلى درجة أن علماء الحقوق الدستورية الإسلامية لم يشيروا إليها في قليل ولا كثير غير أن هذا الواقع التاريخي والفقهي لا يغير من حقيقة الحكم الشرعي شيئاً، فليس في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية، وهما المصدران الرئيسيان للشريعة، ما يمنع المرأة من أن تشارك الرجل في البيعة(2).
__________
(1) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي ص260.
(2) نفس المصدر (1/277).(1/135)
12- رد سبايا العرب: كان أول قرار اتخذه عمر في دولته رد سبايا أهل الردة إلى عشائرهم حيث قال: كرهت أن يكون السبي سنة في العرب(1) ، وهذه الخطوة الجريئة ساهمت في شعور العرب جميعاً أنهم أمام شريعة الله سواء، وأنه لا فضل لقبيلة على قبيلة إلا بحسن بلائها وما تقدمه من خدمات للإسلام والمسلمين، وتلت تلك الخطوة خطوة أخرى هي السماح لمن ظهرت توبتهم من أهل الردة بالاشتراك في الحروب ضد أعداء الإسلام، وقد أثبتوا شجاعة في الحرب وصبراً عند اللقاء، ووفاءً للدولة لا يعدله وفاء(2) .
13- تجذر منصب الخلافة في قلب الأمة وأصبح رمزاً للوحدة ولقوة المسلمين، ويرى الباحث القدرة الفائقة التي كان يتمتع به الصحابة الكرام، ومدى الأصالة في أعمالهم بحيث أن ما أقاموه في سويعات قليلة من نفس يوم وفاة الرسول- صلى الله عليه وسلم - احتاج هدمه إلى ربع قرن في المخطط البريطاني، رغم أن البريطانيين أنفسهم كانوا يطلقون على الخلافة في تلك الفترة الرجل العجوز، فأي شموخ هذا لتلك الخلافة، وأي رسوخ لها حيث تحتاج لهدمها - وبعد أن أصبحت شكلاً لا موضوعاً - ربع قرن كامل، وبعد حياة استمرت قروناً من الزمن(3).
__________
(1) الخلافة والخلفاء الراشدون ص160.
(2) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين د. محمد السيد الوكيل ص89.
(3) الحضارة الإسلامية د. محمد عادل ص30.(1/136)
14- الفرق بين الملك والخليفة: قال عمر رضي الله عنه: والله ما أدري أخليفة أم ملك، فإن كنت ملكاً فهذا أمر عظيم، فقال له قائل: إن بينهما فرقا، إن الخليفة لا يأخذ إلا حقاً، ولا يضعه إلا في حق، وأنت بحمد الله كذلك، والملك يعسف الناس، فيأخذ من هذا أو يعطي هذا، فسكت عمر(1) ، وفي رواية: أن عمر سأل سلمان الفارسي: أملك أنا أم خليفة؟ فقال سلمان: إن أنت جبيت من الأرض درهماً أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير موضعه فأنت ملك غير خليفة، فاستعبر عمر(2) .
خامساً: الشورى:
إن من قواعد الدولة الإسلامية حتمية تشاور قادة الدولة وحكامها مع المسلمين والنزول على رضاهم ورأيهم، وإمضاء نظام الحكم بالشورى قال تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159) } (آل عمران، آية:159).
وقال تعالى: { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(38) } (الشورى، آية:28). لقد قرنت الآية الكريمة الشورى بين المسلمين بإقامة الصلاة، فدل ذلك على أن حكم الشورى كحكم الصلاة، وحكم الصلاة واجبة شرعاً، فكذلك الشورى واجبة شرعاً(3)، وقد اعتمد عمر رضي الله عنه مبدأ الشورى في دولته، فكان رضي الله عنه لا يستأثر بالأمر دون المسلمين ولا يستبد عليهم في شأن من الشؤون العامة، فإذا نزل به أمر لا يبرمه حتى يجمع المسلمين ويناقش الرأي معهم فيه ويستشيرهم.
__________
(1) الشيخان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب من رواية البلاذري ص257.
(2) نفس المصدر ص256.
(3) النظام السياسي في الإسلام لأبي فارس ص9.(1/137)
ومن مأثور قوله: لا خير في أمر أبرم من غير شورى(1) ، وقوله الرأي الفرد كالخيط السحيل والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة مرار لا يكاد ينتقض(2) ،وقوله: (( شاور في أمرك من يخاف الله عز وجل)) (3) ، وقوله: الرجال ثلاثة: رجل ترد عليه الأمور فيسددها برأيه، ورجل يشاور فيما أشكل عليه وينزل حيث يأمره أهل الرأي ورجل حائر بائر، لا يأتمر رشداً ولا يقطع مرشداً(4)، وقوله: يحق على المسلمين أن يكون أمرهم شورى بينهم وبين ذوي الرأي منهم، فالناس تبع لمن قام بهذا الأمر ما اجتمعوا عليه ورضوا به لزم الناس وكانوا فيه تبعاً لهم، ومن أقام بهذا الأمر تبع لأولى رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم من مكيدة في حرب كانوا فيه تبعاً لهم(5)، وكان يحث قادة حربه على الشورى، فعندما بعث أبا عبيد الثقفي لمحاربة الفرس بالعراق قال له: أسمع وأطع من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأشركهم في الأمر وخاصة من كان منهم من أهل بدر(6)، وكان يكتب إلى قادته بالعراق يأمرهم أن يشاوروا في أمورهم العسكرية عمرو بن معديكرب وطلحة الأسدي قائلاً: استشيروا واستعينوا في حربكم بطلحة الأسدي وعمرو بن معديكرب ولا تولهما من الأمر شيئاً فإن كل صانع أعلم بضاعته(7)، وكتب إلى سعد بن أبي وقاص: وليكن عندك من العرب أول من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه والغاش عين عليك وليس عيناً لك(8)، ومما قاله عمر رضي الله عنه لعتبة بن غزوان حين وجهه إلى البصرة: قد كتبت إلى العلاء الحضرمي(9)
__________
(1) الخلفاء الراشدون للنجار ص246.
(2) سراج الملوك للطرطوشي ص132.
(3) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية، سليمان آل كمال (1/273).
(4) نفس المصدر (1/273).
(5) الطبري (3/481)، نقلاً عن الإدارة العسكرية.
(6) مروج الذهب (2/315).
(7) سير أعلام النبلاء (1/317).
(8) نهاية الأرب (6/169).
(9) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (1/274).(1/138)
، أن يمدك بعرفجة بن هرشمة(1)، وهو ذو مجاهدة للعدو ومكايدته فإذا قدم عليك فاستشره وقربه(2)، وكان مسلك الفاروق في الشورى جميلاً: فإنه كان يستشير العامة أول أمره فيسمع منهم، ثم يجمع مشايخ أصحاب رسول الله وأصحاب الرأي منهم ثم يفضي إليهم بالأمر ويسألهم أن يخلصوا فيه إلى رأي محمود، فما استقر عليه رأيهم أمضاه: وعمله هذا يشبه الأنظمة الدستورية في كثير من الممالك النظامية إذ يعرض الأمر على مجلس النواب مثلاً ثم بعد أن يقرر بالأغلبية يعرض على مجلس آخر يسمى في بعضها مجلس الشيوخ وفي بعضها مجلس اللوردات فإذا انتهى المجلس من تقريره أمضاه الملك. والفرق بين عمل عمر وعمل هذه الممالك أن هنا الأمر كان اجتهاداً منه وبغير نظام متبع أو قوانين مسنونة(3)، وكثيراً ما كان عمر يجتهد في الشيء ويبدي رأيه فيه ثم يأتي أضعف الناس فيبين له وجه الصواب وقوة الدليل فيقبله ويرجع عن خطأ ما رأى إلى صواب ما استبان له(4)، وقد توسع نطاق الشورى في خلافة عمر رضي الله عنه لكثرة المستجدات والأحداث وامتداد رقعة الإسلام إلى بلاد ذات حضارات وتقاليد ونظم متباينة فولدت مشكلات جديدة احتاجت إلى الاجتهاد الواسع مثل معاملة الأرض المفتوحة وتنظيم العطاء وفق قواعد جديدة لتدفع أموال الفتوح على الدولة، فكان عمر يجمع للشورى أكبر عدد من الصحابة الكبار(5)، وكان لأشياخ بدر لهم مكانتهم الخاصة في الشورى لفضلهم وعلمهم وسابقتهم إلا أن عمر رضي الله عنه أخذ يشوبهم بشباب، فإنهم على دربهم ماضون لأجلهم ورحمة ربهم ومغفرته والدولة لابد لها من تجديد رجالاتها وكان عمر العبقري الفذ قد فطن إلى هذه الحقيقة فأخذ يختار من شباب الأمة من علم منهم علماً وورعاً وتقى فكان عبد الله بن عباس من أولهم،
__________
(1) الإصابة (2/491).
(2) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (1/275).
(3) الخلفاء الراشدون للنجار ص246 .
(4) نفس المصدر ص247 .
(5) عصر الخلافة الراشدة ص90 .(1/139)
وما زال عمر يجتهد متخيراً من شباب الأمة مستشارين له متخذاً القرآن فيصلاً في التخير حتى قال عبد الله بن عباس: وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً(1)، وقد قال الزهري لغلمان أحداث: لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم(2). وقال محمد بن سيرين: إن كان عمر رضي الله عنه ليستشير في الأمر حتى إن كان ليستشير المرأة فربما أبصر في قولها الشيء يستحسنه فيأخذه وقد ثبت أنه استشار مرة أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها(3) وقد كان لعمر رضي الله عنه خاصة من علية الصحابة وذوي الرأي، منهم العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله، وكان لا يكاد يفارقه في سفر
__________
(1) نفس المصدر ص147 .
(2) عصر الخلافة الراشدة ص90.
(3) عصر الخلافة الراشدة ص90.(1/140)
ولا حضر وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب(1)، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب وزيد بن ثابت(2)، ونظرائهم فكان يستشيرهم ويرجع إلى رأيهم(3)، وكان المستشارون يبدون آراءهم بحرية تامة وصراحة كاملة، ولم يتهم عمر رضي الله عنه أحداً منهم في عدالته وأمانته، وكان عمر رضي الله عنه يستشير في الأمور التي لا نص فيها من كتاب وسنة وهو يهدف إلى معرفة إن كان بعض الصحابة يحفظ فيها نصاً من السنة، فقد كان بعض الصحابة يحفظ منها ما لا يحفظه الآخرون، وكذلك كان يستشير في فهم النصوص المحتملة لأكثر من معنى لمعرفة المعاني والأوجه المختلفة، وفي هذين الأمرين قد يكتفي باستشارة الواحد أو العدد القليل، وأما في النوازل العامة فيجمع الصحابة، ويوسع النطاق ما استطاع كما فعل عند وقوع الطاعون بأرض الشام متوجهاً إليها(4)، وبلغ عمر خبره فوافاه الأمراء بسرغ موضع قرب الشام وكان مع عمر المهاجرون والأنصار، فجمعهم مستشيراً، أيمضي لوجهه، أم يرجع؟ فاختلفوا عليه: فمن قائل: خرجت لوجه الله فلا يصدنك عنه هذا. ومن قائل: إنه بلاء وفناء، فلا نرى أن تقدم عليه. ثم أحضر مهاجرة الفتح من قريش، فلم يختلفوا عليه، بل أشاروا بالعودة، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر(5). فقال
__________
(1) السنن الكبرى للبيقي (9/29) نقلاً عن عصر الخلافة الراشدة ص90.
(2) الخلفاء الراشدون للنجار ص247.
(3) عصر الخلافة الراشدة ص90.
(4) عصر الخلفاء الراشدون ص91.
(5) الظهر: الدابة التي تحمل الأثقال ويركب عليها.(1/141)
أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟. فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له عدواتان إحداهما مخصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ فسمع بهم عبد الرحمن بن عوف، فجاءهم، وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع ببلد وأنتم فيه فلا تخرجوا فراراً منه(1)، وكانت مجالات الشورى في عهد عمر متعددة منها في المجال الإداري والسياسي كاختيار العمال والأمراء، والأمور العسكرية، ومنها في المسائل الشرعية المحضة، كالكشف في الحكم الشرعي من حيث الحل والحرمة والمسائل القضائية(2) وستتضح مجالات الشورى وتطبيقاتها وبحث عمر رضي الله عنه عن الدليل الأقوى من خلال هذا البحث كل في موضعه بإذن الله تعالى، والذي نحب أن نؤكد عليه أن الخلافة الراشدة كانت قائمة على مبدأ الشورى المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم تكن في عهد عمر فلتة استنبطها ولا بدعة أتى بها ولكنها قاعدة من قواعد المنهج الرباني.
سادساً: العدل والمساواة:
إن من أهداف الحكم الإسلامي الحرص على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم ومن أهم هذه القواعد العدل والمساواة، ففي خطاب الفاروق للأمة أقر هذه المبادئ، فعدالته ومساواته تظهر في نص خطابه الذي ألقاه على الأمة يوم توليه منصب الخلافة؛ ولا شك أن العدل في فكر الفاروق هو عدل الإسلام الذي هو الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل.
__________
(1) مسلم، ك السلام (4/1740) رقم 2219.
(2) القيود الواردة على سلطة الدولة في الإسلام ص167، 168.(1/142)
إن إقامة العدل بين الناس أفراداً وجماعات ودولاً ليست من الأمور التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو الأمير وهواه، بل إن إقامة العدل بين الناس في الدين الإسلامي تعد من أقدس الواجبات وأهمها، وقد اجتمعت الأمة على وجوب العدل(1)، قال الفخر الرازي أجمعوا على أن من كان حاكما وجب عليه أن يحكم بالعدل(2) .
وهذا الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة النبوية فإنّ من أهداف دولة الإسلام إقامة المجتمع الإسلامي الذي تسود فيه قيم العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربته بكافة أشكاله وأنواعه، وعليها أن تفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إليه بأيسر السبل وأسرعها دون أن يكلفه ذلك جهداً أو مالاً وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل التي من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إليه، وهذا
ما فعله الفاروق في دولته، فقد فتح الأبواب على مصاريعها لوصول الرعية إلى حقوقها، وتفقد بنفسه أحوالها، فمنعها من الظلم المتوقع عليها، وأقام العدل بين الولاة والرعية، في أبهى صورة عرفها التاريخ فقد كان يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحق ولا يهمه أن يكون المحكوم عليهم من الأقرباء أو الأعداء، أو الأغنياء أو الفقراء، قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(8) } (المائدة، آية:8).
__________
(1) فقه التمكين في القرآن الكريم للصلابي ص455.
(2) تفسير الرازي (10/ 141).(1/143)
لقد كان الفاروق قدوة في عدله أسر القلوب وبهر العقول، فالعدل في نظره دعوة عملية للإسلام به تفتح قلوب الناس للإيمان، وقد سار على ذات نهج الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكانت سياسته تقوم على العدل الشامل بين الناس، وقد نجح في ذلك على صعيد الواقع والتطبيق نجاحاً منقطع النظير لا تكاد تصدقه العقول حتى اقترن اسمه بالعدل وبات من الصعب جداً على كل من عرف شيئاً يسيراً من سيرته أن يفصل ما بين الاثنين، وقد ساعده على تحقيق ذلك النجاح الكبير عدة أسباب ومجموعة من العوامل منها:
أن مدة خلافته كانت أطول من مدة خلافة أبي بكر بحيث تجاوزت عشر سنوات في حين اقتصرت خلافة أبي بكر على سنتين وعدة شهور فقط.
إنه كان شديد التمسك بالحق حتى إنه كان على نفسه وأهله أشد منه على الناس كما سنرى.
أن فقه القدوم على الله كان قوياً عنده لدرجة أنه كان في كل عمل يقوم به يتوخى مرضاة الله قبل مرضاة الناس ويخشى الله ولا يخشى أحداً من الناس.
أن سلطان الشرع كان قوياً في نفوس الصحابة والتابعين بحيث كانت أعمال عمر تلقى تأييداً وتجاوباً وتعاوناً من الجميع(1).
__________
(1) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، حمد محمد الصمد ص145.(1/144)
وهذه بعض مواقفه في إقامته للعدل والقسط بين الناس فقد حكم بالحق لرجل يهودي على مسلم، ولم يحمله كفر اليهودي على ظلمه والحيف عليه، أخرج الإمام مالك(1) من طريق سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختصم إليه مسلم ويهودي، فرأى عمر أن الحق لليهودي فقضى له، فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق(2) ، وكان رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم، فإذا اجتمعوا قال: أيها الناس إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم، فما قام أحد إلا رجل واحد قام فقال: يا أمير المؤمنين إن عاملك ضربني مائة سوط، قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه، فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك ويكون سنة يأخذ بها من بعدك، فقال: أنا لا أقيد، وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه قال: فدعنا فلنرضه، قال: دونكم فارضوه، فاقتدى منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين(3) ولو لم يرضوه لأقاده(4) رضي الله عنه.
وجاء رجل من أهل مصر يشكو ابن عمرو بن العاص واليه على مصر قائلاً:
__________
(1) الوسطية في القرآن الكريم للصلابي ص96.
(2) الموطأ، ك الأقضية، بان الترغيب في القضاء بالحق رقم 2.
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/293 – 294).
(4) أقاده: اقتصَّ منه.(1/145)
يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم، قال عذت معاذا قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو رضي الله عنهما يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه: فقدم عمر فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين؟ قال أنس: فضرب، فوالله، لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما رفع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: اصنع على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه، فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني(1).
لقد قامت دولة الخلفاء الراشدين على مبدأ العدل وما أجمل ما قاله ابن تيمية: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، … بالعدل تستصلح الرجال وتستغزر الأموال(2).
وأما مبدأ المساواة الذي اعتمده الفاروق في دولته، فيعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام قال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13) } (الحجرات، آية:13).
إن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع
سواء(3)، وجاءت ممارسة الفاروق لهذا المبدأ خير شاهد وهذه بعض المواقف التي جسدت مبدأ المساواة في دولته:
__________
(1) وسطية أهل السنة بين الفرق، محمد باكريم ص 170.
(2) السياسة الشرعية ص10.
(3) فقه التمكين في القرآن الكريم ص501.(1/146)
- أصاب الناس في إمارة عمر رضي الله عنه سنة (جدب) بالمدينة وما حولها، فكانت تسقي إذا ريحت(1) تراباً كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، فآلى (حلف) عمر ألا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحي الناس من أول الحياء، فقدمت السوق عُكَّة من سمن، ووطب من لبن، فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثم أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، قد أبر الله يمينك، وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن، وعكة من سمن، فاتبعناهما بأربعين، فقال عمر: أغليت بهما، فتصدق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافاً، وقال عمر: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم(2)، هذا موقف أمير المؤمنين عام القحط الذي سمي عام الرمادة، ولم يختلف موقفه عام الغلاء، فقد: أصاب الناس سنة غلاء، فغلا السمن، فكان عمر يأكل الزيت، فتقرقر بطنه، فيقول: قرقر ما شئت، فو الله
__________
(1) فقه التمكين في القرآن الكريم ص501.
(2) تاريخ الطبري (4/ 98) نقلاً عن نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/ 87).(1/147)
لا تأكل السمن حتى يأكله الناس(1)، ولم يقتصر مبدأ المساواة في التطبيق عند خلفاء الصدر الأول على المعاملة الواحدة للناس كافة، وإنما تعداه إلى شؤون المجتمع الخاصة، ومنها ما يتعلق بالخادم والمخدوم، فعن ابن عباس أنه قال: قدم عمر بن الخطاب حاجاً، فصنع له صفوان بن أمية طعاماً، فجاؤوا بجفنه يحملها أربعة، فوضعت بين يدي القوم يأكلون وقام الخُدّام فقال عمر: أترغبونه عنهم؟ فقال سفيان بن عبد الله: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكنا نستأثر عليهم، فغضب عمر غضباً شديداً، ثم قال: ما لقوم يستأثرون على خدامهم، فعل الله بهم وفعل، ثم قال للخدام: اجلسوا فكلوا، فقعد الخدام يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين(2)، وكذلك فإن عمر رضي الله عنه لم يأكل من الطعام ما لا يتيسر لجميع المسلمين، فقد كان يصوم الدهر، فكان زمن الرمادة إذا أمسى أتى بخبز قد ثُرد بالزيت، إلى أن نحروا يوماً من الأيام جزوراً(3)، فأطعمها الناس وغرفوا له طيبها فأتي به، فإذا قديد من سنام ومن كبد، فقال: أنى هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، من الجزور التي نحرناها اليوم. فقال: بخ بخ، بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها، وأطعمت الناس كرادسها، ارفع هذه الجفنة، هات غير هذا الطعام، فأتي بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز(4) ولم يكن عمر ليطبق مبدأ المساواة في المدينة وحدها، من غير أن يعلمه لعماله في الأقاليم، حتى في مسائل الطعام والشراب(5) فعندما قدم عتبة بن فرقد أذربيجان أتى بالخبيص، فلما أكله وجد شيئاً حلواً طيباً، فقال: والله لو صنعت لأمير المؤمنين من هذا، فجعل له سفطين عظيمين، ثم حملهما على بعير مع رجلين، فسرّح بهما إلى عمر. فلما قدما عليه فتحهما، فقال: أي
__________
(1) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص101.
(2) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص101.
(3) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/ 87).
(4) نفس المصدر (1/ 188).
(5) نفس المصدر (1/ 188).(1/148)
شيء هذا؟ قالوا: خبيص فذاقه، فإذا هو شيء حلو. فقال: أكل المسلمين يشبع من هذا في رحله؟ قال: لا. قال: أما لا فارددهما. ثم كتب إليه: أما بعد، فإنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك. أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك(1).
ومن صور تطبيق المساواة بين الناس ما قام به عمر عندما جاءه مال فجعل يقسمه بين الناس، فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس، حتى خلص إليه، فعلاه بالدِّرة وقال إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض، فأحببت أن أعلمك أن سلطان الله لن يهابك(2)، فإذا عرفنا أن سعداً كان أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأنه فاتح العراق، ومدائن كسرى، وأحد الستة الذين عينهم للشورى، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات وهو راضٍ عنهم، وأنه كان يقال له فارس الإسلام … عرفنا مبلغ التزام عمر بتطبيق المساواة(3)، ويروي
__________
(1) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص147.
(2) الخلفاء الراشدون ص243.
(3) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/ 88).(1/149)
ابن الجوزي أن عمرو بن العاص، أقام حد الخمر على عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، يوم كان عامله على مصر. ومن المألوف أن يقام الحد في الساحة العامة للمدينة، لتتحقق من ذلك العبرة للجمهور، غير أن عمرو بن العاص أقام الحد على ابن الخليفة في البيت، فلما بلغ الخبز عمر، كتب إلى عمرو ابن العاص: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاص: عجبت لك يا ابن العاص ولجرأتك عليّ، وخلاف عهدي. أما إني قد خالفت فيك أصحاب بدر ممن هو خير منك، واخترتك لجدالك عني، وإنفاذ عهدي، فأراك تلوثت بما قد تلوثت، فما أراني إلا عازلك فمسيء عزلك، تضرب عبد الرحمن في بيتك، وقد عرفت أن هذا يخالفني؟ إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين. ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه، فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع(1)، وقد تم إحضاره إلى المدينة وضربه الحد جهراً، روى ذلك ابن سعد وأشار إليه ابن الزبير، وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر مطولاً(2)، وهكذا نرى المساواة أمام الشريعة في أسمي درجاتها، فالمتهم هو ابن أمير المؤمنين، ولم يعفه الوالي من العقاب، ولكن الفاروق وجد أن ابنه تمتع ببعض الرعاية، فآلمه ذلك أشد الألم، وعاقب واليه – وهو فاتح مصر – أشد العقاب وأقساه. وأنزل بالابن ما يستحق من العقاب، حرصاً على حدود الله، ورغبة في تأديب ابنه وتقويمه وإذا كان هذا منهجه مع أقرب الناس عنده فما بالك بالآخرين؟(3) ومن الأمثلة التاريخية الهامة التي يستدل بها المؤلفون على عدم الهوادة في تطبيق المساواة، ما صنعه عمر مع جبلة بن الأيهم وهذه هي القصه: كان جبلة آخر أمراء بني غسان
__________
(1) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص235.
(2) الخلافة الراشدة والدولة الأموية. يحيى اليحي. ص345.
(3) فن الحكم في الإسلام د. مصطفى أبو زيد ص475،476.(1/150)
من قبل هرقل، وكان الغساسنة يعيشون في الشام تحت إمرة دولة الروم، وكان الروم يحرضونهم دائماً على غزو الجزيرة العربية، وخاصة بعد نزول الإسلام. ولما انتشرت الفتوحات الإسلامية، وتوالت انتصارات المسلمين على الروم، أخذت القبائل العربية في الشام – تعلن إسلامها بدا للأمير الغساني أن يدخل الإسلام هو أيضاً، فأسلم وأسلم ذووه معه. وكتب إلى الفاروق يستأذنه في القدوم إلى المدينة، ففرح عمر بإسلامه وقدومه، فجاء إلى المدينة وأقام بهازمنا والفاروق يرعاه ويرحب به، ثم بدا له أن يخرج إلى الحج، وفي أثناء طوافه بالبيت الحرام وطئ إزاره رجل من بني فزارة فحله، وغضب الأمير الغساني لذلك – وهو حديث عهد بالإسلام – فلطم لطمة قاسية هشمت أنفه، وأسرع الفزاري إلى أمير المؤمنين يشكو إليه ماحل به وأرسل الفاروق إلى جبلة يدعوه إليه، ثم سأله فأقر بما حدث فقال له عمر: ماذا دعاك يا جبلة لأن تظلم أخاك هذا فتهشم أنفه؟
فأجاب بأنه قد ترفق كثيراً بهذا البدوي (وأنه لولا حرمة البيت الحرام لأخذت الذي فيه عيناه).
فقال له عمر : لقد أقررت، فأما أن ترضي الرجل وإما أن اقتص له منك.
وزادت دهشة جبلة بن الأيهم لكل هذا الذي يجري وقال: وكيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك؟
فقال عمر: إن الإسلام قد سوى بينكما.
فقال الأمير الغساني: لقد ظننت يا أمير المؤمنين أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية.
فقال الفاروق: دع عنك هذا فإنك إن لم ترضِ الرجل اقتصصت له منك.
فقال جبلة: إذا أتنصر.
فقال عمر: إن تنصرت ضربت عنقك، لأنك أسلمت فإن ارتددت قتلتك(1).
__________
(1) ابن خلدون (2/281) نقلاً عن نظام الحكم للقاسمي (1/90).(1/151)
وهنا أدرك جبلة أن الجدال لا فائدة منه، وأن المراوغة مع الفاروق لن تجدي، فطلب من الفاروق أن يمهله ليفكر في الأمر، فأذن له عمر بالانصراف، وفكر جبلة بن الأيهم ووصل إلى قرار، وكان غير موفق في قراره، فقد آثر أن يغادر مكة هو وقومه في جنح الظلام وفر إلى القسطنطينية، فوصل إليها متنصراً، وندم بعد ذلك على هذا القرار أشد الندم، وصاغ ذلك في شعر جميل ما زال التاريخ يردده ويرويه وفي هذه القصة نرى حرص الفاروق على مبدأ المساواة أمام الشرع، فالإسلام قد سوى بين الملك والسوقة، ولا بد لهذه المساواة أن تكون واقعاً حياً وليس مجرد كلمات توضع على الورق أو شعار تردده الألسنة(1).
لقد طبق عمر رضي الله عنه مبدأ المساواة الذي جاءت به شريعة رب العالمين وجعله واقعاً حياً يعيش ويتحرك بين الناس، فلم يتراجع أمام عاطفة الأبوة، ولم ينثنِ أم ألقاب النبالة، ولا تضيع أمام اختلاف الدين أو مجاملة الرجال الفاتحين، لقد كان ذلك المبدأ العظيم واقعاً حياً، شعر به كل حاكم ومحكوم، ووجده كل مقهور وكل مظلوم(2) لقد كان لتطبيق مبدأ المساواة أثره في المجتمع الراشدي فقد أثر الشعور بها على نفوس ذلك الجيل فنبذوا العصبية التقليدية، من الادعاء بالأولية والزعامة، والأحقية بالكرامة، وأزالت الفوارق الحسبية الجاهلية، ولم يطمع شريف في وضيع، ولم ييأس ضعيف من أخذ حقه، فالكل سواء في الحقوق والواجبات، لقد كان مبدأ المساواة في المجتمع الراشدي نوراً جديداً أضاء به الإسلام جنبات المجتمع الإسلامي وكان لهذا المبدأ الأثر القوي في إنشائه(3).
سابعاً: الحريات:
__________
(1) فن الحكم في الإسلام ص477،478 .
(2) نفس المصدر ص478 .
(3) المجتمع الإسلامي دعائمه وآدابه د.محمد أبو عجوة ص165 .(1/152)
مبدأ الحرية من المبادئ الأساسية التي قام عليها الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، ويقضى هذا المبدأ بتأمين وكفالة الحريات العامة للناس كافة ضمن حدود الشريعة الإسلامية وبما لا يتناقض معها، فقد كانت دعوة الإسلام لحرية الناس، جميع الناس دعوة واسعة وعريضة قلما تشتمل على مثلها دعوة في التاريخ، وكانت أول دعوة أطلقها في هذا المجال هي دعوته الناس في العديد من الآيات القرآنية لتوحيد الله والتوجه له بالعبادة وحده دون سائر الكائنات والمخلوقات، وفي دعوة التوحيد هذه كل معاني الحرية والاستقلال لبني الإنسان، أضف إلى ذلك أنّ الإسلام عرف الحرية بكل معانيها ومدلولاتها ومفاهيمها، فتارة تكون فعلاً إيجابياً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتارة فعلاً سلبياً كالامتناع عن إكراه أحد في الدخول في الدين، وفي أحيان كثيرة يختلط معناها بمعنى الرحمة، والعدل والشورى والمساواة لأن كل مبدأ من هذه المبادئ التي نادى بها الإسلام لا يستقيم أمره ولا يمكن تحقيقه إلا بوجود الحرية، وقد أسهم مبدأ الحرية مساهمة فعالة إبان حكم الخلفاء الراشدين خاصة بانتشار الدين الإسلامي، وبتسهيل فتوحات المسلمين واتساع رقعة دولتهم لأن الإسلام كرم الإنسان وكفل حرياته على أوسع نطاق ولأن النظم السياسية الأخرى السائدة آنذاك في دولة الروم والفرس كانت أنظمة استبدادية وتسلطية، وفئوية قاسى بسببها الرعايا وبصورة خاصة المناوئون السياسيون والأقليات الدينية أشد درجات الكبت والاضطهاد والظلم، فعلى سبيل المثال كانت دولة الروم تفرض على الآخذين بالمذهب اليعقوبي ولا سيما في مصر والشام أن يدينوا بالمذهب الملكاني (دينها الرسمي) وكم أخذ المخالفون بالمشاعل توقد نيرانها ثم تسلط على أجسامهم حتى يحترقوا ويسيل الدهن من جوانبهم على الأرض، والجبابرة القساة يحملونهم حملاً على الإيمان بما أقره مجمع مقدونية أو يضعونهم في كيس مملوء بالرمال ثم يلقون بهم في أعماق(1/153)
البحار. وكذلك كانت دولة فارس في مختلف العصور تضطهد معتنقي الملل السماوية ولا سيما المسيحيين بعد ازدياد القتال عنفاً بينها وبين دولة الروم، وأما في الإسلام في زمن رسول الله، وعصر الخلفاء الراشدين، فقد كانت الحريات العامة المعروفة في أيامنا معلومة ومصانة تماماً(1)، وإليك بعض التفصيل عن الحريات في زمن الفاروق رضي الله عنه:
1- حرية العقيدة الدينية:
إن دين الإسلام لم يكره أحداً من الناس على اعتناقه، بل دعا إلى التفكر والتأمل في كون الله ومخلوقاته وفي هذا الدين وأمر اتباعه أن يجادلوا الناس بالتي هي أحسن، قال تعالى: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } (البقرة،آية:256). وقال تعالى: { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ } (الشورى،آية:48). وقال تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(125) } (النحل،آية:125).
__________
(1) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، حمد الصمد ص157،158 .(1/154)
وقال تعالى: { وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(46) } (العنكبوت،آية:46). والآيات في ذلك كثيرة ولذلك نجد الفاروق في دولته حرص على حماية الحرية الدينية ونلاحظ بأن عمر سار على هدي النبي والخليفة الراشد أبي بكر في هذا الباب فقد: أقرّ أهل الكتاب على دينهم؛ وأخذ منهم الجزية وعقد معهم المعاهدات كما سيأتي تفصيله، وخططت معابدهم ولم تهدم وتركت على حالها وذلك لقول الله تعالى: { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } (الحج،آية:40).(1/155)
فحركة الفتوحات في عهد الفاروق التي قام بها الصحابة تشهد على احترام الإسلام للأديان الأخرى، وحرص القيادة العليا على عدم إكراه أحد في الدخول في الإسلام، حتى إن الفاروق نفسه جاءته ذات يوم امرأة نصرانية عجوز كانت لها حاجة عنده فقال لها: أسلمي تسلمي؛ إن الله بعث محمداً بالحق، فقالت: أنا عجوز كبيرة، والموت إليَّ أقرب، فقضى حاجتها، ولكنه خشي أن يكون في مسلكه هذا ما ينطوي على استغلال حاجتها لمحاولة إكراهها على الإسلام، فاستغفر الله مما فعل وقال: اللهم إني أرشدت ولم أكره(1)، وكان لعمر رضي الله عنه عبد نصراني اسمه (أشق) حدّث فقال: كنت عبداً نصرانياً لعمر، فقال أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين، لأنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم، فأبيت فقال: (لا إكراه في الدين). فلما حضرته الوفاة أعتقني وقال: اذهب حيث شئت(2)، وقد كان أهل الكتاب يمارسون شعائر دينهم وطقوس عبادتهم في معابدهم وبيوتهم، ولم يمنعهم أحد من ذلك لأن الشريعة الإسلامية حفظت لهم حق الحرية في الاعتقاد، وقد أورد الطبري في العهد الذي كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيليا (القدس) ونص فيه على إعطاء الأمان لأهل إيلياء على أنفسهم وأموالهم وصلبانهم وكنائسهم(3)،وكتب والي عمر بمصر عمرو بن العاص لأهل مصر عهداً جاء فيه؛ بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم وأكد ذلك العهد بقوله: على ماضي هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين(4)، وقد اتفق الفقهاء(5)، على أن لأهل الذمة
__________
(1) معاملة غير المسلمين في المجتمع الإسلامي إدوارغالي ص41.
(2) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/58).
(3) تاريخ الطبري (4/ 158).
(4) البداية والنهاية (7/ 98).
(5) السلطة التنفيذية د. محمد الدهلوي (2/ 725).(1/156)
لهم ممارسة شعائرهم الدينية وأنهم لا يمنعون من ذلك مالم يظهروا، فإن أرادوا ممارسة شعائرهم إعلاناً وجهراً كإخراجهم الصلبان يرون منعهم من ذلك في أمصار المسلمين، وعدم منعهم في بلدانهم وقراهم(1).
يقول الشيخ الغزالي عن كفالة الإسلام لحرية المعتقد إن الحرية الدينية التي كفلها الإسلام لأهل الأرض، لم يعرف لها نظير في القارات الخمس، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء والازدهار، مثل ما صنع الإسلام(2).
لقد حرص الفاروق على تنفيذ قاعدة حرية الاعتقاد في المجتمع ولخص سياسته حيال النصارى واليهود بقوله: وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم يقولون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحملهم ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدوهم بسوء قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم، إلا أن يأتوا راضين بأحكامنا فنحكم بينهم وإن غيبوا عنا لم نتعرض لهم(3).
__________
(1) نفس المصدر (2/ 725) وقد فصل المسألة.
(2) حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة ص111.
(3) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين ص117.(1/157)
وقد ثبت عن عمر أنه كان شديد التسامح مع أهل الذمة، حيث كان يعفيهم من الجزية عندما يعجزون عن تسديدها، فقد ذكر أبو عبيد في كتاب الأموال: أن عمر – رضي الله عنه – مر بباب قوم وعليه سائل يسأل – شيخ كبير ضرير البصر – فضرب عضده من خلفه وقال من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال يهودي، قال فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل(1)، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فو الله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه(2)، وقد كتب إلى عماله معمّماً عليهم هذا الأمر(3) وهذه الأفعال تدل على عدالة الإسلام وحرص الفاروق أن تقوم دولته على العدالة والرفق برعاياها ولو كانوا من غير المسلمين، وقد بقيت الحرية الدينية معلماً بارزاً في عصر الخلافة الراشدة، مكفولة من قبل الدولة، ومصانه بأحكام التشريع الرباني.
2- حرية التنقل أو حرية الغدو والرواح:
حرص الفاروق على هذه الحرية حرصاً شديداً ولكنه قيدها في بعض الحالات الاستثنائية التي استدعت ضرورة لذلك، أما الحالات الاستثنائية التي جرى فيها تقييد حرية التنقل أو حرية المأوى فهي قليلة جداً، ويكفينا أن نشير إلى الحالتين نظراً لأهميتها:
__________
(1) رضخ له: أعطاه شيئاً ليس بالكثير.
(2) الأموال لأبي عبيد ص57، أحكام أهل الذمة لابن القيم (1/ 38).
(3) نصب الراية للزيلعي (7/ 453).(1/158)
أمسك عمر كبار الصحابة في المدينة ومنعهم من الذهاب إلى الأقطار المفتوحة إلا بإذن منه أو لمهمة رسمية كتعيين بعضهم ولاة أو قادة للجيوش وذلك حتى يتمكن من أخذ مشورتهم والرجوع إليها فيما يصادفه من مشاكل في الحكم ويحول في الوقت نفسه دون وقوع أية فتنة أو انقسام في صفوف المسلمين في حال خروجهم للأمصار واستقرارهم فيها(1)، فقد كان من حكمته السياسية ومعرفته الدقيقة لطبائع الناس ونفسيتهم، أنه حصر كبار الصحابة في المدينة، وقال: أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد(2)، وكان يعتقد أنه إذا كان التساهل في هذا الشأن، نجمت الفتنة في البلاد المفتوحة، والتفَّ الناس حول الشخصيات المرموقة، وثارت حولها الشبهات، وكثرت القيادات والرايات، وكان من أسباب الفوضى(3)، لقد خشي عمر رضي الله عنه: من تعدد مراكز القوى السياسية والدينية داخل الدولة الإسلامية، حيث يصبح لشخص هذا الصحابي الجليل أو ذاك هالة من الإجلال والاحترام على رأيه، ترقى به إلى مستوى القرار الصادر من السلطة العامة، وتجنباً لتعدد مراكز القوى، وتشتت السلطة، فقد رأى عمر إبقاء كبار الصحابة، داخل المدينة يشاركونه في صناعة القرار، ويتجنبون فوضى الاجتهاد الفردي، ولولا هذا السند الشرعي لكان القرار الصادر عن عمر – رضي الله عنه – غير مجد ولا ملزم لافتقاده لسببه الشرعي الذي يسوغه؛ إذ التصرف على الرعية منوط بالمصلحة(4).
__________
(1) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين ص160.
(2) المرتضي سيرة أمير المؤمنين لأبي الحسن الندوي ص109.
(3) نفس المصدر ص109.
(4) القيود الواردة على سلطة الدولة ص151.(1/159)
وأما الحالة الثانية فقد حصلت عندما أمر عمر بإجلاء نصارى نجران ويهود خيبر من قلب البلاد العربية إلى العراق والشام وسبب ذلك أن يهود خيبر ونصارى نجران لم يلتزموا بالعهود والشروط التي أبرموها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجددوها مع الصديق، فقد كانت مقرات يهود خيبر ونصارى نجران أوكاراً للدسائس والمكر فكان لا بد من إزالة تلك القلاع الشيطانية، وإضعاف قواتهم، أما بقية النصارى واليهود، كأفراد فقد عاشوا في المجتمع المدني يتمتعون بكافة حقوقهم، روى البيهقي في سننه وعبد الرزاق بن همام الصنعاني في مصنفه عن ابن المسيب وابن شهاب: أن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- قال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب. قال مالك، قال ابن شهاب: ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حتى أتاه الثلج واليقين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب، فأجلى يهود خيبر. قال مالك: قد أجلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يهود نجران وفدك(1).
لقد كانت نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة للصحابة يقيناً ولذلك لم يستطع اليهود
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي (9/ 208)، مصنف عبد الرزاق (6/ 53).(1/160)
ولا نصارى نجران أن يلتزموا بعهودهم مع المسلمين لشدة عداوتهم وبغضهم وحسدهم للإسلام والمسلمين، فاليهود في خيبر كان من أسباب إجلائهم ما رواه ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: لما فدع(1) أهل خيبر عبد الله بن عمر قام عمر خطيباً فقال: إن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - – عامل يهود خيبر على أموالهم وقال: نقركم ما أقركم الله، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعدي عليه من الليل، ففدعت يداه ورجلاه وليس لنا هناك عدو غيره هم عدونا وتهمتنا وقد رأيت إجلاءهم فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني الحقيق فقال: يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا – محمد - صلى الله عليه وسلم - – وعاملنا على الأموال وشرط ذلك لنا؟ فقال عمر: أظننت أني نسيت قول رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - -: كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك(2)، ليلة بعد ليلة؟ فقال: كان ذلك هزيلة من أبي القاسم فقال: كذبت ياعدو الله. فأجلاهم عمر، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال وغير ذلك(3) لقد غدر اليهود ونقضوا عهودهم، فكان طبيعياً أن يخرجوا من جزيرة العرب تنفيذاً لوصية رسول الله فأجلاهم عمر إلى تيماء وأريحا، وأما نصارى نجران فلم يلتزموا بالشروط والعهود التي أبرموها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجددوها مع الصديق؛فأخلوا ببعضها وأكلوا الربا وتعاملوا به، فأجلاهم الفاروق من نجران إلى العراق وكتب لهم: أما بعد .. فمن وقع به من أمراء الشام أو العراق فليوسعهم خريب الأرض(4)، وما اعتملوا من شيء فهو لهم لوجه الله وعقب من أرضهم (( فأتوا العراق فاتخذوا النجرانية وهي قرية بالكوفة(5)، وذكر أبو يوسف أن الفاروق خاف من النصارى على
__________
(1) فدع: زوال المفصل.
(2) قلوصك: الناقة الصابرة على السير.
(3) البخاري، ك الشروط، رقم 2730.
(4) أي يقطعهم من الأرض التي لا زرع فيها ولا شجر.
(5) الأموال لأبي عبيد ص245.(1/161)
المسلمين(1)، وبذلك تتجلى سياسة الفاروق فيما فعل من إخراجهم بعد توفر أسباب أخرى إضافة إلى وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتجلى فقه الفاروق في توجيه الضربات المركزة إلى مقرات اليهود في خيبر، والنصارى في نجران بعد أن وجد المبررات اللازمة لإخراجهم من جزيرة العرب بدون ظلم أو عسف أو جور، وهكذا منع أوكار الدسائس والمكر من أن تأخذ نفساً طويلاً للتخطيط من أجل القضاء على دولة الإسلام الفتية.
3- حق الأمن، وحرمة المسكن، وحرية الملكية:
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص79.(1/162)
إن الإسلام أقر حق الأمن في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، قال تعالى: { فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } (البقرة، آية:193). وقال أيضاً: { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } (البقرة، آية194). وقد عرف الإسلام أيضاً حق الحياة الذي هو أوسع من حق الأمن، لأن هذا الأخير يتضمن فعلاً سلبياً من جانب الدولة يعبر عنه بالامتناع عن الاعتداء أو التهديد في حين أن حق الحياة يتضمن علاوة على ذلك فعلاً إيجابياً وهو حماية الإنسان ودمه من أي اعتداء أو تهديد ويجعل هذه الحماية مسؤولية عامة ملقاة على عاتق الناس كافة، لأن الاعتداء بدون حق على أحدهم هو بمثابة الاعتداء عليهم جميعاً(1)، قال تعالى: { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } (المائدة،آية:32). ومن المنطلق القرآني والممارسة النبوية تكفل الفاروق في عهده للأفراد بحق الأمن وحق الحياة وسهر على تأمينهما وصيانتهما من أي عبث أو تطاول وكان الفاروق رضي الله عنه يقول: (إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم ويشتموا أعراضكم ويأخذوا أموالكم، ولكن استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم فمن ظلمه عامله بمظلمة فليرفعها إليَّ حتى أقصه منه(2)، وجاء عن عمر أيضاً قوله: ليس الرجل بمأمون على نفسه أن أجعته أو أخفته أو حبسته أن يقر على نفسه(3)، وقوله هذا يدل على عدم جواز الحصول على الإقرار والاعتراف من مشتبه به في جريمة تحت الضغط أو التهديد سواء أكانت الوسيلة المستعملة بذلك مادية (كحرمانه من عطائه أو مصادرة أمواله) أو معنوية (كاللجوء إلى تهديده أم تخويفه بأي نوع من العقاب) وجاء
__________
(1) نظام الحكم في عهد الراشدين ص163.
(2) نظام الحكم في عهد الراشدين ص164.
(3) نفس المصدر ص165.(1/163)
في كتابه لأبي موسى الأشعري بصفته قاضياً: واجعل للمدعي حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا وجهت عليه القضاء فإن ذلك أنفى للشك)(1) وهذا القول يدل على أن حق الدفاع كان محترماً ومصاناً(2)، وفيما يتعلق بحرمة المسكن، فإن الله سبحانه حرم دخول البيوت والمساكن بغير موافقة أهلها أو بغير الطريقة المألوفة لدخولها، فقال سبحانه بهذا الشأن { لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(27) 0فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } (النور، آية: 27-28).
وقال أيضاً { ? وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } (البقرة: 189)، كما قال:
__________
(1) القضاء ونظامه في الكتاب والسنة د. عبد الرحمن الحميض ص 48.
(2) نظام الحكم في عهد الراشدين ص 165.(1/164)
{ ولا تَجسَّسُوا } وقد كانت حرمة المسكن مكفولة ومصانة في عهد الفاروق وعصر الخلفاء الراشدين(1)، وأما حرية الملكية فقد كانت مكفولة ومصانة في عصر الراشدين ضمن أبعد الحدود التي تقرها الشريعة الإسلامية في هذا المجال فحين اضطر عمر رضي الله عنه، لأسباب سياسية وحربية بإجلاء نصارى نجران ويهود خيبر من قلب شبه الجزيرة العربية، إلى العراق والشام أمر بإعطائهم أرضاً كأرضهم في الأماكن التي انتقلوا إليها احتراماً منه وإقراراً لحق الملكية الفردية الذي يكفله الإسلام لأهل الذمة مثلما يكفله للمسلمين(2)، وعندما اضطر عمر إلى نزع ملكية بعض الدور من أجل العمل على توسيع المسجد الحرام في مكة، ولم يكن دفعه للتعويض العادل إلا اعترافاً منه وإقراراً بحق الملكية الفردية التي لا يجوز مصادرتها حتى في حالة الضرورة إلا بعد إنصاف أصحابها(3)، وحرية الملكية لم تكن في عهد الراشدين مطلقة وإنما هي مقيدة بالحدود الشرعية وبمراعاة المصلحة العامة، فقد روي أن بلالاً بن الحارث المزني جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلب منه أن يستقطعه أرضاً، فأقطعه أرضاً طويلة عريضة، فلما آلت الخلافة إلى عمر رضي الله عنه، قال له: يا بلال، إنك استقطعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرضاً طويلة عريضة فقطعها لك، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يمنع شيئاً يسأله، وأنت لا تطيق ما في يدك فقال أجل: فقال عمر: فانظر ما قويت عليه منها فأمسكه، وما لم تطق وما لم تقو عليه فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال لا أفعل والله شيئاً أقطعنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عمر: والله لتفعلن، فأخذ عمر ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين(4) وهنا يدل على أن الملكية الفردية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمصلحة
__________
(1) نفس المصدر ص 168.
(2) نفس المصدر ص 189.
(3) نفس المصدر ص 190.
(4) المغني (5/579)، نظام الأرض. محمد أبو يحيى ص 207.(1/165)
الجماعة فإن أحسن المالك القيام بما يتطلبه معنى الاستخلاف في الرعاية والاستثمار فليس لأحد أن ينازعه ملكه، وإلا فإن لولي الأمر أن يتصرف بما يحول دون إهماله(1).
4- حرية الرأي:
كفل الإسلام للفرد حرية الرأي كفالة تامة، وقد كانت هذه الحرية مؤمنة ومصانة في عهد الخلفاء الراشدين، فكان عمر رضي الله عنه يترك الناس يبدون آراءهم السديدة ولا يقيدهم ولا يمنعهم من الإفصاح عما تكنه صدورهم(2)، ويترك لهم فرصة الاجتهاد في المسائل التي لا نص فيها، فعن عمر أنه لقي رجلاً فقال: ما صنعت؟ قال؟ قضى علي وزيد بكذا قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي مشترك ما قال علي وزيد(3)، وهكذا ترك الفاروق الحرية للصحابة يبدون آراءهم في المسائل الاجتهادية ولم يمنعهم من الاجتهاد ولم يحملهم على رأي معين(4)، وكان النقد أو النصح للحاكم في عهد الفاروق والخلفاء الراشدين مفتوحاً على مصراعيه، فقد قام الفاروق رضي الله عنه يخطب فقال: أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه، فقام له رجل وقال: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوم اعوجاج عمر بسيفه(5)، وقد جاء في خطبة عمر لما تولى الخلافة: أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة(6)، واعتبر الفاروق ممارسة الحرية السياسية البناءة (النصيحة) تعد واجباً على الرعية ومن حق الحاكم أن يطالب بها: أيها الرعية إن لنا عليكم
__________
(1) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين. حمد الصمد ص 192.
(2) السلطة التنفيذية للدهلوي (2/735).
(3) إعلام الموقعين (1/65)
(4) السلطة التنفيذية للدهلوي (2/738).
(5) أخبار عمر ص 331، 332، نقلاً عن الرياض النضرة.
(6) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين ص 197.(1/166)
حقاً: النصيحة بالغيب والمعاونة على الخير(1)، وكان يرى أن من حق أي فرد في الأمة أن يراقبه ويقوم اعوجاجه ولو بحد السيف إن هو حاد عن الطريق، فقال: أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه(2)، وكان يقول: أحب الناس إليّ من رفع إليّ عيوبي(3)، وقال أيضاً: إني أخاف أن أخطئ فلا يردني أحد منكم تهيباً مني(4)، وجاءه يوماً رجل فقال له على رؤوس الأشهاد: اتق الله يا عمر: فغضب بعض الحاضرين من قوله وأرادوا أن يسكتوه عن الكلام، فقال لهم عمر: لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها(5)، ووقف ذات يوم يخطب في الناس فما كاد يقول: (أيها الناس اسمعوا وأطيعوا) حتى قاطعه أحدهم قائلاً: لا سمع ولا طاعة يا عمر، فقال عمر بهدوء: لم يا عبد الله؟ قال: لأن كلاً منا أصابه قميص واحد من القماش لستر عورته. فقال له عمر: مكانك، ثم نادى ولده عبد الله بن عمر، فشرح عبد الله أنه قد أعطى أباه نصيبه من القماش ليكمل به ثوبه، فاقتنع الصحابة وقال الرجل في احترام وخشوع: الآن السمع والطاعة يا أمير المؤمنين(6) وخطب ذات يوم، فقال: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، وإن كانت بنت ذي القصة –يعني يزيد بن الحصين- فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة معترضة على ذلك: ما ذاك لك قال: ولم؟ قالت: لأن الله تعالى قال: { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا(20) } (النساء،آية:20). فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ(7)
__________
(1) نفس المصدر ص197.
(2) نفس المصدر ص197.
(3) نفس المصدر ص 198 الشيخان أبو بكر وعمر من رواية البلاذري ص 231.
(4) نفس المصدر ص198.
(5) نفس المصدر ص 200.
(6) عيون الأخبار (1/55) نقلاً عن محض الصواب (2/579).
(7) تفسير ابن كثير (2/213) عزاه للزبير بن بكار وفيه انقطاع، أخرجه أبو حاتم في مسنده والبيهقي في السنن وقال مرسل جيد.(1/167)
، وجاء في رواية: أنه قال: اللهم غفراً كل إنسان أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربع مئة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب وطابت به نفسه فليفعل(1) وليست حرية الرأي مطلقة في نظر الشريعة فليس للإنسان أن يفصح في كل ما يشاء، بل هي مقيدة بعدم مضرة الآخرين بإبداء الرأي، سواء كان الضرر عاماً أو خاصاً، ومما منعه عمر رضي الله عنه وحظره وقيده.
الآراء الضالة المضلة في الدين واتباع المتشابهات: ومن ذلك قصة النبطي الذي أنكر القدر بالشام(2) فقد اعترض على عمر –رضي الله عنه- وهو يخطب بالشام حينما قال عمر: ومن يضلل الله فلا هادي له، فاعترض النبطي منكراً للقدر، قائلاً: إن الله لا يضل أحداً! فهدده عمر بالقتل إن أظهر مقولته القدرية مرة أخرى(3)، وعن السائب بن يزيد أنه قال: أتى رجل عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين: { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا(1) فَالْحَامِلاَتِ وِقْرًا(2) } (الذاريات،آية:21) فقال عمر –رضي الله عنه- أنت هو؟ فقام إليه وحسر(4)، عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك، ألبسوه ثيابه، واحملوه على قِتْب(5)، ثم اخرجوا حتى تقدموا به بلاده، ثم ليقم خطيباً ثم ليقل: إن صبيغاً(6)،ابتغى العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعاً في قومه حتى هلك(7).
ب) والوقوع في أعراض الناس بدعوى الحرية:
__________
(1) قال أبو يعلى إسناده جيد، مجمع الزوائد (4/283).
(2) هو قسطنطين الجاثليق بطريق الشام.
(3) الأهواء والفرق والبدع وموقف السلف منها د.ناصر العقل ص223.
(4) حسر عن ذراعيه: أي أخرجهما من كميه.
(5) القتب: إكاف البعير.
(6) هو صبيغ بن عسيل الحنظلي، سأل عمر عن متشابه القرآن واتهمه عمر برأي الخوارج.
(7) شرح أصول اعتقاد أهل السنة اللالكائي (30/ 634، 635).(1/168)
وقد حبس عمر –رضي الله عنه- الحطيئة(1) من أجل هجائه الزبرقان بن بدر(2) بقوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي(3)
لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسين(4) وقد توعد عمر الحطيئة بقطع لسانه إذا تمادى في هجو المسلمين ونهش أعراضهم، وقد استعطفه الحطيئة وهو في سجنه بشعر منه قوله:
ماذا أقول لأفراخ بذي مرخ
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
أنت الأمير الذي من بعد صاحبه ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر فاغفر عليك سلام الله يا عمر
ألقى إليك مقاليد النهى البشر
فرق له قلب عمر وخلى سبيله، وأخذ عليه ألا يهجو أحداً من المسلمين(5)، وقد ورد أن الفاروق اشترى أعراض المسلمين من الحطيئة بمبلغ ثلاثة آلاف درهم حتى قال ذلك الشاعر:
أخذت أطراف الكلام فلم تدع
ومنعتني عرض البخيل فلم يخف ... شتما يضر ولا مديحاً ينفع
شتمي وأصبح آمنا لا يفزع(6)
5- رأي عمر في الزواج بالكتابيات:
لما علم عمر رضي الله عنه أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية كتب إليه: خل سبيلها، فكتب إليه حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن: وفي رواية إني أخشى أن تدعوا المسلمات وتنكحوا المومسات(7).
قال أبو زهرة: (يجب أن نقرر هنا أن الأولى للمسلم ألا يتزوج إلا مسلمة لتمام الألفة من كل وجه ولقد كان عمر –رضي الله عنه- ينهى عن الزواج بالكتابيات إلا لغرض سام كارتباط سياسي يقصد به جمع القلوب وتأليفها أو نحو
__________
(1) الحطيئة: هو جرول بن مالك بن جرول لقب بالحطيئة لقصره.
(2) الزبرقان بن بدر التميمي صحابي ولاه رسول الله صدقات قومه.
(3) السلطة التنفيذية (2/745).
(4) تفسير القرطبي (12/173، 174).
(5) الشعر والشعراء لابن قتيبة (1/327)، عمر بن الخطاب د. أحمد أبو النصر ص 223.
(6) أصحاب الرسول (1/110) محمود المصري، محض الصواب (1/376).
(7) إسناده صحيح، تفسير ابن كثير (1/265).(1/169)
ذلك ...) (1).
لقد بين المولى عز وجل في كتابه بأن الزواج بالمؤمنة ولو كانت أمة أولى من الزواج بالمشركة ولو كانت حرة قال تعالى: { وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلاَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(221) } (البقرة،آية:221)، ففي هذه الآيات الكريمة ينهى الحق سبحانه وتعالى عن الزواج بالمشركات حتى يؤمن بالله ويصدقن نبيه، وحكم بأفضلية الأمة المؤمنة بالله ورسوله -وإن كانت سوداء رقيقة الحال- على المشركة الحرة وإن كانت ذات جمال وحسب ومال، ويمنع في المقابل المؤمنات من الزواج بالمشركين ولو كان المشرك أحسن من المؤمن في جماله وماله وحسبه(2)، وإذا كان الزواج بالمشركة حراماً بنص هذه الآية فإن الزواج بالكتابية جائز بنص آخر وهو قوله تعالى:
__________
(1) الأحوال الشخصية لأبي زهرة ص104.
(2) فقه الأولويات دراسة في الضوابط، محمد الوكيلي ص77.(1/170)
{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ? (المائدة،آية:5) وهو نص مخصص للعموم في النص الأول، هذا هو رأي الجمهور(1)، إلا أنهم قالوا إن الزواج بالمسلمة أفضل، هذا فيما إذا لم تكن هنالك مفاسد تلحق الزوج أو الأبناء أو المجتمع المسلم، أما إن وجدت مفاسد فإن الحكم هو المنع، وهذا ماذهب إليه بعض العلماء المعاصرين(2)، وهو رأي سبق إليه عمر بن الخطاب: إذ هو أول من منع الزواج بالكتابيات مستنداً في ذلك إلى حجتين:
لأنه يؤدي إلى كساد الفتيات المسلمات وتعنيسهن.
لأن الكتابية تفسد أخلاق الأولاد المسلمين ودينهم وهما حجتان كافيتان في هذا المنع، إلا أنه إذا نظرنا إلى عصرنا فإننا سنجد مفاسد أخرى كثيرة استجدت تجعل هذا المنع أشد(3)، وقد أورد الأستاذ جميل محمد مبارك مجموعة من هذه المفاسد منها:
قد تكون للزوجة من أهل الكتاب مهمة التجسس على المسلمين.
دخول عادات الكفار إلى بلاد المسلمين.
تعرض المسلم للتجنس بجنسية الكفار.
جهل المسلمين المتزوجين بالكتابيات مما يجعلهم عجينة سهلة التشكيل في يد الكتابيات.
شعور المتزوجين بالكتابيات بالنقص وهو أمر أدى إليه الجهل بدين الله(4).
وهي مفاسد كافية للاستدلال على حرمة الزواج بالكتابية في عصرنا.
__________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة، عبد الرحمن الجزائري (5/ 76،77).
(2) فقه الأولويات، محمد الوكيلي ص77.
(3) فقه الأولويات، محمد الوكيلي ص78.
(4) شهيد المحراب، عمر التلمساني ص214.(1/171)
إن القيود التي وضعها عمر على الزواج بالكتابيات تنسجم مع المصالح الكبرى للدولة والأهداف العظمى للمجتمعات الإسلامية، فقد عرفت الأمم الواعية ما في زواج أبنائها بالأجنبيات من المضار، وما يجلبه هذا الزواج من أخطار تعيب الوطن عفواً أو قصداً، فوضعت لذلك قيوداً وبالذات للذين يمثلونها في المجالات العامة، وهو احتياط له مبرراته الوجيهة، فالزوجة تعرف الكثير من أسرار زوجها إن لم تكن تعرفها كلها، على قدر ما بينهم من مودة وانسجام، ولقد كان لهذه الناحية من اهتمام عمر رضي الله عنه مقام الأستاذية الحازمة الحاسبة لكل من جاء بعده كحاكم على مر الزمان، إن الزواج من الكتابيات فيه مفاسد عظيمة، فإنهن دخيلات علينا ويخالفننا في كل شيء، وأكثرهن يبقين على دينهن، فلا يتذوقن حلاوة الإسلام وما فيه من وفاء وتقدير للزوج، قدر عمر كل ذلك بفهمه لدينه، وبصائب تقديره، لطبائع البشر، وبحسن معرفته لما ينفع المسلمين وما يضرهم، فأصدر فيه أوامره وعلى الفور وفي حسم(1) لقد كانت الحرية في العهد الراشدي مصونة ومكفولة ولها حدودها وقيودها ولذلك ازدهر المجتمع وتقدم في مدار الرقي، فالحرية حق أساسي للفرد والمجتمع، يتمتع بها في تحقيق ذاته وإبراز قدراته، وسلب الحرية من المجتمع سلب لأهم مقوماته فهو أشبه بالأموات.
إن الحرية في الإسلام إشعاع داخلي ملأ جنبات النفس الإنسانية بارتباطها بالله، فارتفع الإنسان بهذا الارتباط إلى درجة السمو والرفعة، فأصبحت النفس تواقة لفعل الصالحات والمسارعة في الخيرات ابتغاء رب الأرض والسماوات، فالحرية في المجتمع الإسلامي دعامة من دعائمه تحققت في المجتمع الراشدي في أبهى صور انعكست أنوارها على صفحات الزمان(2).
ثامناً: نفقات الخليفة، والبدء بالتاريخ الهجري ولقب أمير المؤمنين:
1- نفقات الخليفة:
__________
(1) شهيد المحراب التلمساني ص214.
(2) المجتمع الإسلامي د. محمد أبو عجوة ص245.(1/172)
لما كانت الخلافة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله تعالى، فإن من يتولاها ويحسن فيها فإنه يرجى له مثوبته، وجزاؤه عند الله سبحانه وتعالى، فإنه يجازي المحسن، بإحسانه، والمسيء بإساءته(1)، قال تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ(94) } (الأنبياء،آية:94) ذلك بالنسبة للجزاء الأخروي، وأما بالنسبة للجزاء الدنيوي فإن الخليفة الذي يحجز منافعه الصالحة للأمة، ويعمل على أداء الواجب نحوها يستحق عوضاً على ذلك، إذ أن المنافع إذا حجزت قوبلت بعوضين(2)، فالقاعدة الفقهية أن كل محبوس لمنفعة غيره يلزمه نفقته، كمفت وقاض ووال(3)، وأخذ العوض على تولي الأعمال مشروع بإعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - العمال(4) لمن ولاه عملاً(5) ولما ولي عمر بن الخطاب أمر المسلمين بعد
أبي بكر مكث زماناً، لا يأكل من بيت المال شيئاً حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، لم يعد يكفيه ما يربحه من تجارته، لأنه اشتغل عنها بأمور الرعية، فأرسل إلى أصحاب رسول الله فاستشارهم في ذلك فقال: قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي فيه؟ فقال عثمان بن عفان: كل وأطعم، وقال ذلك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل(6)، وقال عمر لعلي: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك، وقد بين عمر حظه من بيت المال فقال: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم اليتيم، إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف(7)، وجاء في رواية أن عمر خرج على جماعة من الصحابة فسألهم
__________
(1) السلطة التنفيذية (1/215).
(2) المبسوط (15/147،166)، المغني (5/445).
(3) السلطة التنفيذية (1/215).
(4) العمالة: بالضم، رزق العامل.
(5) السلطة التنفيذية (1/216).
(6) سعيد بن زيد العدوي أحد العشرة المبشرين بالجنة.
(7) سنده صحيح، الخلافة الراشدة د. يحيى اليحيى ص270.(1/173)
ما ترونه يحل لي من مال الله؟ أو قال: من هذا المال؟ فقالوا: أمير المؤمنين أعلم بذلك منا، قال إن شئتم أخبرتكم ما أستحل منه، ما أحج وأعتمر عليه من الظهر، وحلتي في الشتاء وحلتي في الصيف، وقوت عيالي شبعهم، وسهمي في المسلمين، فإنما أنا رجل من المسلمين، قال معمر: وإنما كان الذي يحج عليه ويعتمر بعيراً واحداً(1)، وقد ضرب الخليفة الراشد الفاروق للحكام أروع الأمثلة في أداء الأمانة فيما تحت أيديهم، فقد روى أبو داود عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: ذكر عمر بن الخطاب يوماً الفيء فقال: ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم، وما أحد منا بأحق به من أحد، إلا أنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته(2)، وعن الربيع بن زياد الحارثي أنه وفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأعجبته هيئته ونحوه، فقال: يا أمير المؤمنين إن أحق الناس بطعام لين، ومركب لين، وملبس لين لأنت -وكان أكل طعاماً غليظاً- فرفع عمر جريدة كانت معه فضرب بها رأسه، ثم قال: أما والله ما أراك أردت بها الله، ما أردت بها إلا مقاربتي، وإن كنت لعلّها: لأحسب أن فيك خيراً، ويحك هل تدري مثلي ومثل هؤلاء؟ قال: وما مثلك ومثلهم، قال مثل قوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم، فقالوا: أنفق علينا، فهل يحل له أن يستأثر منها بشيء؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال فذلك مثلي ومثلهم(3)، وقد استنبط الفقهاء من خلال الهدى النبوي والعهد الراشدي مجموعة من الأحكام تتعلق بنفقات الخليفة منها:
__________
(1) مصنف عبد الرزاق رقم 20046 نقلاً عن السلطة التنفيذية.
(2) سنن أبي داود رقم 2950.
(3) محض الصواب (1/383)، الطبقات الكبرى (3/280، 281).(1/174)
أنه يجوز للخليفة أن يأخذ عوضاً عن عمله، وقد نص النووي(1)، وابن العربي(2)، والبهوتي(3)، وابن مفلح(4) على جواز ذلك.
وأن الخليفتين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد أخذا رزقاً على ذلك.
ث- وأن أخذ الرزق هو مقابل انشغالهما في أمور المسلمين كما قاله
أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
وأن الخليفة له أن يأخذ ذلك سواء كان بحاجة إليه أولا، ويرى ابن المنير(5)، أن الأفضل له أن يأخذ، لأنه لو أخذ كان أعون في عمله مما لو ترك، لأنه بذلك يكون مستشعراً بأن العمل واجب عليه(6).
2- بدء التاريخ:
__________
(1) روضة الطالبين (11/137).
(2) البداية والنهاية (12/228، 229).
(3) الأعلام للزركلي (8/249).
(4) السلطة التنفيذية (1/218).
(5) نفس المصدر (1/219).
(6) شرح مسلم للنووي (7/137).(1/175)
يعد التاريخ بالهجرة تطوراً له خطره في النواحي الحضارية، وكان أول من وضع التاريخ بالهجرة عمر، ويحكى في سبب ذلك عدة روايات، فقد جاء عن ميمون بن مهران أنه قال: دُفع إلى عمر رضي الله عنه صَكٌ محله في شعبان، فقال عمر: شعبان هذا الذي مضى أو الذي هو آت أو الذي نحن فيه، ثم جمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه، فقال قائل: اكتبوا على تاريخ الروم فقيل: إنه يطول وإنهم يكتبون من عند ذي القرنين، فقال قائل: اكتبوا تاريخ الفرس قالوا: كلما قام ملك طرح ما كان قبله، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة فوجدوه أقام عشرة سنين فكتب أو كتب التاريخ على هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1)، وعن عثمان بن عبيد الله(2)، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: جمع عمر بن الخطاب المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم فقال: متى نكتب التاريخ؟ فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: منذ خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من أرض الشرك، يعني من يوم هاجر، قال: فكتب ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه(3)، وعن ابن المسيب قال: أول من كتب التاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسنتين ونصف من خلافته، فكتب لست عشرة من المحرم بمشورة على بن أبي طالب رضي الله عنه(4)، وقال أبو الزناد(5): استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة(6)، وروى ابن حجر في سبب جعلهم بداية التاريخ في شهر محرم وليس في ربيع الأول الشهر الذي تمت فيه هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصحابة الذين أشاروا على عمر وجدوا أن الأمور التي يمكن أن يؤرخ بها أربعة، هي مولده ومبعثه
__________
(1) محض الصواب (1/316)، ابن الجوزي ص69.
(2) ابن أبي رافع مولى النبي r يروي عن أبيه.
(3) المستدرك (3/14) وصححه ووافقه الذهبي.
(4) تاريخ الإسلام للذهبي ص163.
(5) عبد الله بن ذكوان القرشي، ثقة فقيه، التقريب ص302.
(6) محض الصواب (1/317).(1/176)
وهجرته ووفاته، ووجدوا أن المولد والمبعث لا يخلو من النزاع في تعيين سنة حدوثه، وأعرضوا عن التأريخ بوفاته لما يثيره من الحزن والأسى عند المسلمين، فلم يبق إلا الهجرة، وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان من المحرم، إذ وقعت بيعة العقبة الثانية في ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هو هلال محرم، فناسب أن يُجعل مبتدأ.. ثم قال ابن حجر: وهذا أنسب ما وقعت عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم(1).
وبهذا الحدث الإداري المتميز أسهم الفاروق في إحداث وحدة شاملة بكل ما تحمله الكلمة من معنى في شبه الجزيرة، حيث ظهرت وحدة العقيدة بوجود دين واحد، ووحدة الأمة بإزالة الفوارق، ووحدة الاتجاه باتخاذ تاريخ واحد، فاستطاع أن يواجه عدوه وهو واثق من النصر(2).
3- لقب أمير المؤمنين:
لما مات أبو بكر رضي الله عنه وكان يدعى خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال المسلمون: من جاء بعد عمر قيل له: خليفة خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيطول هذا، ولكن أجمعوا على اسم تدعون به الخليفة، يُدْعى به من بعده من الخلفاء، فقال بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نحن المؤمنون وعمر أميرنا، فدعي عمر أمير المؤمنين فهو أول من سمي بذلك(3)، وعن ابن شهاب: أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه سأل
أبا بكر ابن سليمان بن أبي خيثمة(4)، لم كان أبو بكر رضي الله عنه يكتب من
__________
(1) فتح الباري (7/268)، الخلافة الراشدة، يحيى اليحيى ص286.
(2) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، محمد الوكيل ص90.
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/281)، محض الصواب (1/311).
(4) العدوي المدني، ثقة، عارف بالنسب من الثالثة، التقريب ص607.(1/177)
أبي بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ثم كان عمر رضي الله عنه يكتب بعده: من عمر بن الخطاب خليفة أبي بكر ومن أول من كتب أمير المؤمنين فقال: حدثتني جدتي الشفاء(1)، وكانت من المهاجرات الأول، وكان عمر إذا دخل السوق دخل عليها قال: كتب عمر بن الخطاب إلى عامل بالعراق(2)، أن ابعث إلي برجلين جلدين نبيلين، أسألهما عن العراق وأهله، فبعث إليه صاحب العراقين بلبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم، فقدما المدينة فأناخا راحلتيهما بفناء المسجد، ثم دخلا المسجد فوجدا عمرو بن العاص، فقالا له: (ياعمرو استأذن لنا على أمير المؤمنين، فدخل عمرو فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال له عمر: ما بدا لك في هذا الاسم يا بن العاص؟ لتخرجن مما قلت: قال: نعم، قدم لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم فقالا: استأذن لنا على أمير المؤمنين فقلت: أنتما والله أصبتما اسمه، إنه أمير ونحن المؤمنون، فجرى الكتاب من ذلك اليوم(3)، وفي رواية: أن عمر رضي الله عنه قال: أنتم المؤمنون وأنا أميركم فهو سمى نفسه(4)، وبذاك يكون عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أول من سمي بأمير المؤمنين
وأنه لم يسبق إليه، وإذا نظر الباحث في كلام أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أن جميعهم قد اتفقوا على تسميته بهذا الاسم وسار له في جميع الأقطار في حال ولايته(5).
المبحث الثاني: صفات الفاروق، وحياته مع أسرته، واحترامه لأهل البيت:
أولاً: أهم صفات الفاروق:
__________
(1) الشفاء بنت عبد الله العدوية، أسلمت قبل الهجرة.
(2) محض الصواب (1/312).
(3) المستدرك (3/81، 82) قال الذهبي صحيح.
(4) محض الصواب (1/312).
(5) نفس المصدر (1/313).(1/178)
إن مفتاح شخصية الفاروق إيمانه بالله تعالى والاستعداد لليوم الآخر وكان هذا الإيمان سبباً في التوازن المدهش والخلاّب في شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولذلك لم تطغ قوته على عدالته، وسلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه وأصبح مستحقاً لتأييد الله وعونه، فقد حقق شروط كلمة التوحيد، من العلم واليقين، والقبول، والانقياد، والإخلاص والمحبة وكان على فهم صحيح لحقيقة الإيمان وكلمة التوحيد فظهرت آثار إيمانه العميق في حياته والتي من أهمها:
1- شدة خوفه من الله تعالى بمحاسبته لنفسه:
كان رضي الله عنه يقول: أكثروا من ذكر النار، فإن حرّها شديد، وقعرها بعيد، ومقامها حديد(1)، وجاء ذات يوم أعرابي، فوقف عنده وقال:
يا عمر الخير جزيت الجنة ... جهِّز بُنيَّاتي وأمهنَّه
أقسم بالله لتفعلنه
قال: فإن لم أفعل ماذا يكون يا أعرابي؟ قال:
أقسم أني سوف أمضينه
قال: فإن مضيت ماذا يكون يا أعرابي؟ قال:
والله عن حالي لتسألنه
والواقف المسئول بينهنّه ... ثمّ تكون المسألات ثمّه
إما إلى نار وإما جنة
__________
(1) فرائد الكلام للخلفاء الكرام ص155.(1/179)
فبكى عمر حتى اخضلت لحيته بدموعه، ثم قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا لشعره، والله ما أملك قميصاً غيره(1)، وهكذا بكى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بكاءً شديداً تأثراً بشعر ذلك الأعرابي الذي ذكّره بموقف الحساب يوم القيامة، مع أنه لا يذكر أنه ظلم أحداً من الناس، ولكنه لعظيم خشيته وشدة خوفه من الله تعالى تنهمر دموعه أمام كل من يذكّره بيوم القيامة(2)، وكان رضي الله عنه من شدة خوفه من الله تعالى يحاسب نفسه حساباً عسيراً، فإذا خيل إليه أنه أخطأ في حق أحد طلبه، وأمره بأن يقتص منه، فكان يقبل على الناس يسألهم عن حاجاتهم، فإذا أفضوا إليه بها قضاها، ولكنه ينهاهم عن أن يشغلوه بالشكاوى الخاصة إذا تفرغ لأمر عام، فذات يوم كان مشغولاً ببعض الأمور العامة(3)، فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، انطلق معي فأعني على فلان، فإنه ظلمني، فرفع عمر الدرة، فخفق بها رأس الرجل، وقال: تتركون عمر وهو مقبل عليكم، حتى إذا اشتغل بأمور المسلمين أتيتموه، فانصرف الرجل متذمراً، فقال عمر علَيَّ بالرجل: فلما أعادوه ألقى عمر بالدرة إليه، وقال، أمسك الدرة، واخفقني كما خفقتك قال الرجل: لا يا أمير المؤمنين، أدعها لله ولك قال عمر: ليس كذلك: إما أن تدعها لله وإرادة ما عنده من الثواب، أو تردها عليّ، فأعلم ذلك، فقال الرجل: أدعها لله يا أمير المؤمنين، وانصرف الرجل، أما عمر فقد مشى حتى دخل بيته(4) ومعه بعض الناس منهم الأحنف بن قيس الذي حدثنا عمّا رأى: ... فافتتح الصلاة فصلى ركعتين ثم جلس، فقال: يا ابن الخطاب كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، ثم حملك على رقاب المسلمين، فجاء رجل يستعديك، فضربته، ما تقول لربك غداً إذا أتيته؟ فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه خير أهل الأرض(5)
__________
(1) تاريخ بغداد (4/312).
(2) التاريخ الإسلامي (19/46).
(3) الفاروق للشرقاوي ص222.
(4) نفس المصدر ص222.
(5) محض الصواب (2/503).(1/180)
، وعن إياس بن سلمة عن أبيه قال: مر عمر رضي الله عنه وأنا في السوق، وهو مار في حاجة، ومعه الدرة، فقال: هكذا أمِطْ(1) عن الطريق يا سلمة، قال: ثم خفقني بها خفقة فما أصاب إلا طرف ثوبي، فأمطت عن الطريق، فسكت عني حتى كان في العام المقبل، فلقيني في السوق، فقال: يا سلمة أردت الحج العام؟ قلت نعم يا أمير المؤمنين، فأخذ بيدي، فما فارقت يدي يده حتى دخل بيته، فأخرج كيساً في ست مائة درهم فقال: يا سلمة استعن بهذه واعلم أنها من الخفقة التي خفقتك عام أول، قلت والله يا أمير المؤمنين، ما ذكرتها حتى ذكرتنيها قال: والله ما نسيتها بعد(2)، وكان رضي الله عنه يقول في محاسبة النفس ومراقبتها: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ(18) } (3)، وكان من شدة خشيته لله ومحاسبته لنفسه يقول: لو مات جدْي بطف(4) الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر(5)، وعن علي رضي الله عنه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قتب يعدو، فقلت: يا أمير المؤمنين أين تذهب؟ قال: بعير ندَّ(6) من إبل الصدقة أطلبه فقلت: أذللت الخلفاء بعدك، فقال يا أبا الحسن لا تلمني فوالذي بعث محمداً بالنبوة لو أن عناقاً(7) أخذت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة(8)، وعن أبي سلامة قال: انتهيت إلى عمر وهو يضرب رجالاً ونساء في الحرم على حوض يتوضئون منه، حتى فرق بينهم، ثم قال: يا فلان، قلت: لبيك، قال لا لبيك ولا سعديك، ألم آمرك أن تتخذ حياضاً للرجال وحياضاً للنساء، قال: ثم اندفع فلقيه علي رضي الله عنه فقال: أخاف
__________
(1) ماطه وأماطه: نحّاه ودفعه.
(2) تاريخ الطبري (4/244) وإسناده ضعيف.
(3) مختصر منهاج القاصدين ص372، فرائد الكلام ص143.
(4) طف: الشاطئ.
(5) مناقب عمر ص160، 161.
(6) ندَّ: شرد وهرب.
(7) العناق: الأنثى من المعز ما لم يتم له سنة.
(8) مناقب عمر ص161.(1/181)
أن أكون هلكت قال: وما أهلكك؟ قال ضربت رجالاً ونساءً في حرم الله –عز وجل- قال: يا أمير المؤمنين أنت راع من الرعاة، فإن كنت على نصح وإصلاح فلن يعاقبك الله، وإن كنت ضربتهم على غش فأنت الظالم(1)، وعن الحسن البصري أنه قال: بينما عمر رضي الله عنه يجول في سكك المدينة إذ عرضت له هذه الآية { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فانطلق إلى أبي بن كعب فدخل عليه بيته وهو جالس على وسادة فانتزعها أبي من تحته وقال: دونكها يا أمير المؤمنين قال: فنبذها برجله وجلس، فقرأ عليه هذه الآية وقال: أخشى أن أكون أنا صاحب الآية، أوذي المؤمنين، قال: لا تستطيع إلا أن تعاهد رعيتك، فتأمر وتنهى فقال عمر: قد قلت والله أعلم(2)، وكان عمر رضي الله عنه ربما توقد النار ثم يدلي يده فيها، ثم يقول: ابن الخطاب هل لك على هذا صبر(3).
__________
(1) مصنف عبد الرزاق (1/75، 76) وإسناده حسن، محض الصواب (2/622).
(2) مناقب عمر ص162، محض الصواب (2/623).
(3) نفس المصدر ص62.(1/182)
وعندما بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر رضي الله عنه بقباء كسرى، وسيفه ومنطقته، وسراويله، وقميصه، وتاجه، وخفيه، نظر عمر في وجوه القوم فكان أجسمهم وأمدهم قامة سراقة بن جعثم المدلجي، فقال: يا سراقة قم فالبس فقام فلبس وطمع فيه، فقال له عمر: أدبر فأدبر ثم قال: أقبل فأقبل ثم قال: بخ بخ، أعرابي من بني مدلج عليه قباء كسرى، وسراويله، وسيفه، ومنطقته، وتاجه، وخفاه، رب يوم يا سراقة بن مالك لو كان عليك فيه من متاع كسرى كان شرفاً لك ولقومك انزع فنزع سراقة، فقال عمر، إنك منعت هذا رسولك ونبيك وكان أحب إليك مني وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك مني، ثم أعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي ثم بكى حتى رحمه من عنده ثم قال لعبد الرحمن: أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي(1) ومواقفه في هذا الباب كثيرة جداً.
1- زهده:
فهم عمر رضي الله عنه من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنبي الأمين - صلى الله عليه وسلم - ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء وعليه فإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرّر من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهراً وباطناً، وكان وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق:
أ- اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل(2).
__________
(1) محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (2/625).
(2) الترمذي، ك الزهد رقم 2333 وهو حديث صحيح.(1/183)
ب- وأن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله -تبارك وتعالى- إذ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء(1)، (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً، أو متعلماً) (2).
ج- وأن عمرها قد قارب على الانتهاء، إذ يقول - صلى الله عليه وسلم - بعثتُ أنا والساعة كهاتين بالسبّابة والوسطى(3).
د- وأن الآخرة هي الباقية، وهي دار القرار، كما قال مؤمن آل فرعون: { يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الأخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ(39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ(40) } (غافر،آية:39، 40) (4)، كانت الحقائق قد استقرت في قلب عمر فترفع رضي الله عنه عن الدنيا وحطامها وزهد فيها وإليك شيئاً من مواقفه التي تدل على زهده في هذه الفانية، فعن
أبي الأشهب(5) قال: مرّ عمر رضي الله عنه على مزبلة فاحتبس عندها، فكأن أصحابه تأذوا بها، فقال: هذه دنياكم التي تحرصون عليها، وتبكون عليها(6).
__________
(1) الترمذي، ك الزهد رقم 2320.
(2) الترمذي، ك الزهد رقم 2322 حسن غريب قاله الترمذي.
(3) مسلم، ك الفتن وأشراط الساعة رقم 132- 135.
(4) من أخلاق النصر في جيل الصحابة د. السيد محمد نوح ص48،49.
(5) جعفر بن حيان السعدي.
(6) الزهد للإمام أحمد ص118.(1/184)
وعن سالم بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب كان يقول: والله ما نعبأ بلذات العيش أن نأمر بصغار المعزى أن تسمط(1) لنا، ونأمر بلباب(2) الخبز فيخبز لنا، ونأمر بالزبيب فينبذ لنا في الأسعان(3) حتى إذا صار مثل عين اليعقوب(4)، أكلنا هذا وشربنا هذا، ولكنا نريد أن نستبقي طيباتنا، لأنا سمعنا الله يقول: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا } (الأحقاف،آية:20)، وعن أبي عمران الجوني قال: قال عمر بن الخطاب لنحن أعلم بلين الطعام من كثير من آكليه، ولكنا ندعه ليوم { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ
__________
(1) السمط: سمط الجدي: سمطه: نتف صوفه بالماء الحار.
(2) اللباب: الخالص من كل شيء.
(3) الأسعان: جمع سعن، والسعن: قربة تقطع من نصفها وينتبذ فيها.
(4) اليعقوب: الحجل.(1/185)
حَمْلَهَا } (الحج،آية:2)، وقد قال عمر رضي الله عنه: نظرت في هذا الأمر، فجعلت إن أردت الدنيا أضرّ بالآخرة، وإن أردت الآخرة أضر بالدنيا، فإذا كان الأمر هكذا، فأضر بالفانية(1)، وقد خطب رضي الله عنه الناس، وهو خليفة، وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة(2)، وطاف ببيت الله الحرام وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة، إحداهن بأدم أحمر(3)، وأبطأ على الناس يوم الجمعة، ثم خرج فاعتذر إليهم في احتباسه، وقال: إنما حبسني غسل ثوبي هذا، كان يغسل، ولم يكن لي ثوب غيره(4)، وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاجاً من المدينة إلى مكة، إلى أن رجعنا، فما ضرب له فسطاطاً(5)، ولا خباء، كان يلقى الكساء(6) والنطع(7)، على الشجرة فيستظل تحته(8)، هذا هو أمير المؤمنين الذي يسوس رعية من المشرق والمغرب يجلس على التراب وتحته رداءٌ كأنه أدنى الرعية، أو من عامّة الناس، ودخلت عليه مرة حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وقد رأت ما هو فيه من شدة العيش والزهد الظاهر عليه فقالت: إن الله أكثر من الخير، وأوسع عليك من الرزق، فلو أكلت طعاماً أطيب من ذلك، ولبست ثياباً ألين من ثوبك؟ قال: سأخصمك إلى نفسك(9)، فذكر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان يلقى من شدة العيش، فلم يزل يُذكرها ما كان فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت معه حتى أبكاها، ثم قال: إنه كان لي صاحبان سلكا طريقاً، فإن سلكت
__________
(1) الحلية (1/50) وهو ضعيف لانقطاعه، مناقب عمر لابن الجوزي ص137.
(2) الزهد للإمام أحمد ص124 له طرق تقويه.
(3) الطبقات الكبرى (3/328) إسناده صحيح.
(4) محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (2/566).
(5) الفسطاط: بيت من شعر.
(6) الكساء: في الطبقات والمناقب أو النطع.
(7) النُّطع: بساط من الأديم.
(8) الطبقات لابن سعد (3/279) وإسناده صحيح.
(9) سأخصمك إلى نفسك: أي سأجعلك حكماً على نفسك.(1/186)
الشديد، لعلي أن أدرك معهما عيشهما الرخي(1).
لقد بسطت الدنيا بين يدي عمر رضي الله عنه وتحت قدميه، وفتحت بلاد الدنيا في عهده، وأقبلت إليه الدنيا راغمة، فما طرف لها بعين، ولا اهتز لها قلبه، بل كان كل سعادته، في إعزاز دين الله، وخضد شوكة المشركين، فكان الزهد صفة بارزة في شخصية الفاروق(2)، يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: والله ما كان عمر بن الخطاب بأقدامنا هجرة، وقد عرفت بأي شيء فضلنا، كان أزهدنا في الدنيا(3).
2- ورعه:
__________
(1) الزهد للإمام أحمد ص125، الطبقات (3/277).
(2) الفاروق أمير المؤمنين د.لماظة ص11.
(3) إسناده جيد: أخرجه ابن أبي شيبة (8/149) في مصنفه، وابن عساكر (52/244).(1/187)
ومما يدل على ورعه رضي الله عنه ما أخرجه أبو زيد عمر بن شبة من خبر معدان بن أبي طلحة اليعمري أنه قدم على عمر رضي الله عنه بقطائف وطعام، فأمر به فقسم، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني لم أرزقهم ولن أستأثر عليهم إلا أن أضع يدي في طعامهم، وقد خفت أن تجعله ناراً في بطن عمر، قال معدان: ثم لم أبرح حتى رأيته اتخذ صحفة من خالص ماله فجعلها بينه وبين جفان العامة، فأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يرغب في أن يأكل مع عامة المسلمين لما في ذلك من المصالح الاجتماعية، ولكنه يتحرج من أن يأكل من طعام صنع من مال المسلمين العام، فيأمر بإحضار طعام خاص له من خالص ماله، وهذا مثال رفيع في العفة والورع إذ أن الأكل من مال المسلمين العام معهم ليس فيه شبهة تحريم لأنه منهم ولكنه قد أعف نفسه من ذلك ابتغاء مما عند الله تعالى، ولشدة خوفه من الله تعالى خشي أن يكون ذلك من الشبهات فحمى نفسه منه(1)، وعن عبد الرحمن بن نجيح قال: نزلت على عمر رضي الله عنه، فكانت له ناقة يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنا أنكره، فقال: ويحك من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشربها، فخليت لك ناقة من مال الله، فقال ويحك تسقيني ناراً، واستحل ذلك اللبن من بعض الناس، فقيل هو لك حلال يا أمير المؤمنين ولحمها(2)، فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، حيث خشي من عذاب الله جل وعلا لما شرب ذلك اللبن مع أنه لم يتعمد ذلك، ولم تطمئن نفسه إلا بعد أن استحل ذلك من بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم الذي يمثلون المسلمين في ذلك الأمر، وهذا الخبر وأمثاله يدل على أن ذكر الآخرة بما فيها من حساب ونعيم أو شقاء أخذ بمجامع عمر وملأ عليه تفكيره، حتى أصبح ذلك موجهاً لسلوكه في هذه الحياة(3)، لقد كان عمر رضي الله عنه شديد
__________
(1) التاريخ الإسلامي (19/37).
(2) تاريخ المدينة المنورة ص702.
(3) التاريخ الإسلامي (19/28).(1/188)
الورع، وقد بلغ به الورع فيما يحق له ولا يحق، أنه مرض يوماً، فوصفوا له العسل دواء، وكان في بيت المال عسل جاء من بعض البلاد المفتوحة، فلم يتداو عمر بالعسل كما نصحة الأطباء، حتى جمع الناس، وصعد المنبر واستأذن الناس: إن أذنتم لي، وإلا فهو علي حرام، فبكى الناس إشفاقاً عليه وأذنوا له جميعاً، ومضى بعضهم يقول لبعض، لله درك يا عمر! لقد أتعبت الخلفاء بعدك(1).
3- تواضعه:
عن عبد الله بن عباس قال: كان للعباس ميزاب على طريق عمر فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة وقد كان ذبح للعباس فرخان فلما وافى الميزاب صُبّ ماء بدم الفرخين فأصاب عمر، فأمر عمر بقلعه، ثم رجع عمر فطرح ثيابه ولبس ثياباً غير ثيابه، ثم جاء فصلى بالناس فأتاه العباس فقال: والله إنه للموضع الذي وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر للعباس: وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففعل ذلك العباس(2)، وعن الحسن البصري قال: خرج عمر رضي الله عنه في يوم حارّ واضعاً رداءه على رأسه، فمرَّ به غلام على حمار، فقال: يا غلام، احملني معك، فوثب الغلام عن الحمار، وقال: اركب
يا أمير المؤمنين، قال: لا، اركب وأركب أنا خلفك، تريد تحملني على المكان الوطئ، وتركب أنت على الموضع الخشن، فركب خلف الغلام، فدخل المدينة، وهو خلفه والناس ينظرون إليه(3)، وعن سنان بن سلمة الهذلي قال: خرجت مع الغلمان ونحن نلتقط البلح، فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه الدِّرَّة، فلما رآه الغلمان تفرقوا في النخل، قال: وقمت وفي إزاري شيء قد لقطته، فقلت:
__________
(1) فرائد الكلام للخلفاء الكرام ص113، الفاروق للشرقاوي ص275.
(2) صفة الصفوة (1/285).
(3) أصحاب الرسول، محمود المصري (1/157).(1/189)
يا أمير المؤمنين، هذا ما تلقي الريح، قال: فنظر إليه في إزاري فلم يضربني، فقلت: يا أمير المؤمنين، الغلمان الآن بين يديَّ، وسيأخذون ما معي، قال كلا، امش قال فجاء معي إلى أهلي(1).
وقدم على عمر بن الخطاب وفد من العراق فيهم الأحنف بن قيس في يوم صائف شديد الحر، وعمر معتجر (معمم) بعباءة يهنأ بعيراً من إبل الصدقة (أي يطليه بالقطران) فقال: يا أحنف ضع ثيابك، وهلم، فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير فإنه إبل الصدقة، فيه حق اليتيم، والأرملة، والمسكين، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين فهلا تأمر عبداً من عبيد الصدقة فيكفيك؟ فقال عمر: وأي عبد هو أعبد مني، ومن الأحنف؟ إنه من ولي أمر المسلمين يجب عليه لهم ما يجب على العبد لسيده في النصيحة، وأداء الأمانة(2)، وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت:
__________
(1) صلاح الأمة في علو الهمة، سيد العفاني (5/425).
(2) أخبار عمر ص343، أصحاب الرسول، محمود المصري (1/156).(1/190)
يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها(1)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب يوماً، وخرجت معه حتى دخل حائطاً، فسمعته يقول: وبيني وبينه جدار، وهو في جوف الحائط: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ، والله بنيّ الخطاب، لتتقين الله، أو ليعذبنك(2)، وعن جبير بن نفير: أن نفراً قالوا لعمر بن الخطاب: ما رأينا رجلاً أقضى بالقسط، ولا أقول للحق ولا أشدَّ على المنافقين منك يا أمير المؤمنين، فأنت خير الناس بعد رسول الله، فقال عوف بن مالك(3) : كذبتم – والله – لقد رأينا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: من هو؟ فقال: أبو بكر فقال عمر: صدق عوف، وكذبتم، والله لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك، وأنا أضل من بعير أهلي – يعني قبل أن يسلم – لأن أبا بكر أسلم قبله بست سنين(4).
وهذا يدل على تواضع عمر وتقديره للفضلاء ولا يقتصر على الأحياء منهم، ولكنه يعم منهم الموتى كذلك، فلا يرضى أن ينكر فضلهم أو يغفل ذكراهم، ويظل يذكرهم بالخير في كل موقف، ويحمل الناس على احترام هذا المعنى النبيل وعدم نسيان ما قدموه من جلائل الأعمال، فيبقى العمل النافع متواصل الحلقات يحمله رجال من رجال إلى رجال، فلا ينسى العمل الطيب بغياب صاحبه أو وفاته وفي هذا وفاء وفيه إيمان(5).
__________
(1) مدارج السالكين (2/330).
(2) مالك في الموطأ (2/992) إسناده صحيح.
(3) الأشجعي، صحابي مشهور، من مسلمة الفتح.
(4) مناقب عمر لابن الجوزي ص14، محض الصواب (2/ 586).
(5) شهيد المحراب ص144.(1/191)
إن عمر رضي الله عنه لا يقر إغفال فضل من سبقه في هذا المقام ولا يرضى أن تذهب أفضال السابقين أدراج النسيان. إن الأمة التي تنسى أو تغفل ذكر من خدموها، أمة مقضي عليها بالتبار، أليس من الخير أن يربي الناس على هذه الخلال السامية؟ لقد تربى عمر على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام فعلّماه ما تعجز عنه كتب التربية والأخلاق قديمها وحديثها، وما يزال كتاب الله بين أيدينا وما تزال سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محفوظة لدينا وفيها علم وتربية وأخلاق بما
لا يقاس عليه(1).
4- حلمه:
__________
(1) نفس المصدر ص144،145.(1/192)
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس(1)، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي هل لك أو قال: لك وجه عند الأمير، فاستأذن لي عليه قال: سأستأذن لك عليه قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: إيه، أو هي يا بن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل(2)، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه: { خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } (الأعراف: 199). وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله(3)، فعندما سمع رضي الله عنه الآية الكريمة هدأت ثائرته، وأعرض عن الرجل الذي أساء إليه في خلقه عندما اتهمه بالبخل، وفي دينه عندما اتهمه بالجور في القسم، وتلك التي يهتم لها عمر وينصب، ومن منا يملك نفسه عند الغضب؟ وخاصة إذا كان للغضب ما يحمل عليه، كثيرون لا أظن ولا قليلون، متى نتجمل بهذه التعاليم لنكون مثلاً قرآنياً نتحرك وفق ما نقرأ في كتاب الله الكريم؟ متى يكون خلقنا القرآن(4)؟ وعندما خطب عمر بالجابية في الشام تحدث عن الأموال وكيفية القسمة وعن أمور ذكر منها… وإني أعتذر إليكم عن خالد بن الوليد فإني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطى ذا البأس، وذا الشرف، وذا اللسان فنزعته وأمرت أبا عبيدة بن الجراح، فقام أبو عمرو بن حفص بن المغيرة(5)، فقال: والله ما اعتذرت يا عمر، ولقد نزعت عاملاً استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) الحر بن قيس الفزاري، صحابي أسلم مع وفد بني فزارة.
(2) الجزل: الجزيل العظيم: وأجزلت له العطاء أي أكثرت.
(3) البخاري، رقم 6856، 4366.
(4) شهيد المحراب ص181.
(5) المخزومي.(1/193)
وأغمدت سيفاً سله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضعت أمراً نصبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقطعت رحماً، وحسدت ابن العم. فقال عمر رضي الله عنه: إنك قريب القرابة، حديث السن، تغضب في ابن عمك(1).
هذه بعض صفاته التي كانت ثماراً لتوحيده وإيمانه بالله واستعداده للقدوم على الله تعالى وقد تحدث العلماء والباحثون عن صفاته الشخصية والتي من أهمها: القوة الدينية، والشجاعة، والإيمان القوي، والعدل، والعلم، والخبرة، وسعة الإطلاع، والهيبة وقوة الشخصية، والفراسة والفطنة وبعد النظر والكرم، والقدوة الحسنة، والرحمة، والشدة والحزم، والغلظة، والتقوى والورع، وتكلموا عن سمات السلوك القيادي عند الخليفة عمر بن الخطاب والتي من أهمها؛ سماع النقد، والقدرة على تفعيل الناس وإيجاد العمل، والمشاركة في اتخاذ القرارات بالشورى، والقدرة على إحداث التغيير والتقلب في المواقف الطارئة، وشدة مراقبته للولاة والأمراء وفي ثنايا البحث سوف يلاحظ القارئ الكريم هذه الصفات وأكثر ولا أريد حصرها في هذا المبحث خوفاً من التكرار.
ثانياً: حياته مع أسرته:
__________
(1) محض الصواب (2/ 602).(1/194)
قال عمر رضي الله عنه: إن الناس ليؤدون إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، وإن الإمام إذا رتع رتعت الرعية(1)، ولذلك كان رضي الله عنه شديداً في محاسبة نفسه وأهله، فقد كان يعلم أن الأبصار مشرئبة نحوه وطامحة إليه، وأنه لا جدوى إن قسا على نفسه ورتع أهله فحوسب عنهم في الآخرة، ولم ترحمه ألسنة الخلائق في الدنيا فكان عمر إذا نهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم فإن وقعتهم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أوتى برجل وقع فيما نهيت الناس عنه إلا أضعفت له العذاب، لمكانه مني، فمن شاء منكم أن يتقدم، ومن شاء منكم أن يتأخر(2) وكان شديد المراقبة والمتابعة لتصرفات أولاده وأزواجه وأقاربه وهذه بعض المواقف:
1- المرافق العامة:
منع عمر رضي الله عنه أهله من الاستفادة من المرافق العامة التي رصدتها الدولة لفئة من الناس، خوفاً من أن يحابي أهله به، قال عبد الله بن عمر: اشتريت إبلاً أنجعتها الحمى فلما سمنت قدمت بها، قال: فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سماناً، فقال: لمن هذه الإبل؟ قيل: لعبد الله بن عمر، قال، فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر بخ … بخ … ابن أمير المؤمنين، قال: ما هذه الإبل؟ قال، قلت: إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى ابتغى ما يبتغي المسلمون، قال: فقال: فيقولون ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر اغد إلى رأس مالك، واجعل باقيه في بيت مال المسلمين(3).
2- محاسبته لابنه عبد الله لما اشترى فيء جلولاء:
__________
(1) موسوعة فقه عمر بن الخطاب د. محمد قلعجي ص 146.
(2) محض الصواب (3/ 893).
(3) مناقب عمر لابن الجوزي ص157، 158.(1/195)
قال عبد الله بن عمر: شهدت جلولاء – إحدى المعارك ببلاد فارس – فابتعت من المغنم بأربعين ألفاً، فلما قدمت على عمر قال: أرأيت لو عرضت على النار فقيل لك: افتده، أكنت مفتدياً به؟ قلت والله ما من شيء يؤذي بك إلا كنت مفتدياً بك منه، قال: كأني شاهد الناس حين تبايعوا فقالوا: عبد الله بن عمر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابن أمير المؤمنين وأحب الناس إليه، وأنت كذلك فكان أن يرخصوا عليك أحب إليهم من أن يغلوا عليك، وإني قاسم مسؤول وأنا معطيك أكثر ما ربح تاجر من قريش، لك ربح الدرهم درهم، قال: ثم دعا التجار فابتاعوه منه بأربعمائة ألف درهم، فدفع إلي ثمانين ألفاً وبعث بالباقي إلى سعد بن أبي وقاص ليقسمه(1).
3- منع جرِّ المنافع بسبب صلة القربى به:
عن أسلم قال: خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهل وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى، هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين وأسلفكماه فتبيعان به متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون لكما الربح، ففعلاً، وكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال. فلما قدما على عمر قال: أكل الجيش أسلف كما أسلفكما؟ فقالا: لا.فقال عمر: أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين، لو هلك المال أو نقص لضّمناه. فقال: أديا المال. فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله. فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً ((شركة))(2). فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال. قالوا: هو أول قراض في الإسلام.
__________
(1) تاريخ الإسلام للذهبي عهد الخلفاء الراشدين ص270، 271.
(2) الخلفاء الراشدون للنجار ص244.(1/196)
4- تفضيل أسامة بن زيد على عبد الله بن عمر رضي الله عنهم في العطاء:
كان عمر رضي الله عنه يقسم المال ويفضل بين الناس على السابقة والنسب ففرض لأسامة بن زيد رضي الله عنه أربعة آلاف، وفرض لعبد الله بن عمر رضي الله عنه ثلاثة آلاف، فقال: يا أبت فرضت لأُسامة بن زيد أربعة آلاف، وفرضت لي ثلاثة آلاف؟ فما كان لأبيه من الفضل مالم يكن لك! وما كان له من الفضل مالم يكن لي! فقال عمر: إن أباه كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبيك، وهو كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك(1)!!
5- أنفقت عليك شهراً:
قال عاصم بن عمر: أرسل إليّ عمر يرفأ (مولاه) فأتيته – وهو جالسٌ في المسجد فحمد الله عز وجل – وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني لم أكن أرى شيئاً من هذا المال يحل لي قبل أن أليه إلا بحقه، ثم ما كان أحرم علي منه حين وليته، فعاد أمانتي، وإني كنت أنفقت عليك من مال الله شهراً، فلست بزائدك عليه، وإني أعطيت ثمرك بالعالية منحة، فخذ ثمنه، ثم ائت رجلاً من تجار قومك فكن إلى جانبه، فإذا ابتاع شيئاً فاستشركه وأنفق عليك وعلى أهلك قال: فذهبت ففعلت(2).
6- خذه يا معيقيب فاجعله في بيت المال:
قال معيقيب: أرسل إليَّ عمر رضي الله عنه مع الظهيرة، فإذا هو في بيت يطالب ابنه عاصماً … فقال لي: اتدري ما صنع هذا؟ إنه انطلق إلى العراق فأخبرهم أنه ابن أمير المؤمنين، فانتفقهم ((سألهم النفقة))، فأعطوه آنية وفضة ومتاعاً، وسيفاً محلى. فقال: عاصم: ما فعلتُ، إنما قدمت على ناس من قومي، فأعطوني هذا. فقال عمر: خذه يا معيقيب، فاجعله في بيت المال(3).
__________
(1) فرائد الكلام للخلفاء الكرام ص113.
(2) الطبقات (3/ 277) إسناده صحيح، محض الصواب (2/ 491).
(3) عصر الخلافة الراشدة للعمري ص236، الأثر حسن.(1/197)
فهذا مثل من التحري في المال الذي يكتسبه الإنسان عن طريق جاهه، ومنصبه، فحيث شعر أمير المؤمنين عمر بأنّ ابنه عاصماً قد اكتسب هذا المال لكونه ابن أمير المؤمنين تحرج في إبقاء ذلك المال عنده لكونه اكتسبه بغير جهده الخاص فدخل ذلك في مجال الشبهات(1).
7- عاتكة زوجة عمر والمسك:
قدم على عمر رضي الله عنه مسك وعنبر من البحرين فقال عمر: والله لوددت أني وجدت امرأة حسنة الوزن تَزِنُ لي هذا الطيب حتى أقسمه بين المسلمين، فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل: أنا جيدة الوزن فهلمّ أزن لك، قال: لا، قالت: لم؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه فتجعليه هكذا وأدخل أصابعه في صدغيه – وتمسحي به عنقك، فأصيب فضلاً على المسلمين(2)، فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه واحتياطه البالغ لأمر دينه، فقد أبى على امرأته أن تتولى قسمة ذلك الطيب حتى لا تمسح عنقها منه فيكون قد أصاب شيئاً من مال المسلمين، وهذه الدقة المتناهية في ملاحظة الاحتمالات لأوليائه السابقين إلى الخيرات، وفرقان يفرقون به بين الحلال والحرام والحق والباطل، بينما تفوت هذه الملاحظات على الذين لم يشغلوا تفكيرهم بحماية أنفسهم من المخالفات(3).
8- رفضه هدية لزوجته:
__________
(1) التاريخ الإسلامي (19/ 40).
(2) الزهد للإمام أحمد ص11، نقلاً عن التاريخ الإسلامي (19/ 30).
(3) التاريخ الإسلامي (19/ 30).(1/198)
قال ابن عمر: أهدى أبو موسى الأشعري لامرأة عمر عاتكة بنت زيد طنفسة، أراها تكون ذراعاً وشبراً، فرآها عمر عندها، فقال: أنَّى لك هذه؟ فقالت: أهداها لي أبو موسى الأشعري، فأخذها عمر رضي الله عنه فضرب بها رأسها، حتى نفض رأسها(1)، ثم قال علي بأبي موسى وأتعبوه فأتى به، وقد أتعب وهو يقول: لا تعجل علي يا أمير المؤمنين فقال عمر: ما يحملك على أن تهدي لنسائي؟ ثم أخذها عمر فضرب بها فوق رأسه وقال: خذها فلا حاجة لنا فيها(2)، وكان رضي الله عنه يمنع أزواجه في التدخل في شؤون الدولة، فعندما كتب عمر رضي الله عنه على بعض عماله، فكلمته امرأته فيه فقالت: يا أمير المؤمنين فيم وجدت عليه؟ قال: يا عدوة الله وفيم أنت وهذا؟ إنما أنت لعبة يلعب بك ثم تتركين، وفي رواية: فأقبلي على مغزلك ولا تعرضي فيما ليس من شأنك(3).
9- هدية ملكة الروم لزوجته أم كلثوم:
__________
(1) نفض الرأس: حركه في ارتجاف.
(2) الشيخان أبو بكر وعمر من رواية البلاذري ص260.
(3) أخبار عمر ص293، الشيخان رواية البلاذري ص188.(1/199)
ذكر الأستاذ الخضري في محاضراته، أنه – لما ترك ملك الروم الغزو وكاتب عمر وقاربه وسير إليه عمر الرسل مع البريد بعثت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب إلى ملكة الروم بطيب ومشارب وأحناش من أحناش النساء ودسته إلى البريد فأبلغه لها فأخذ منه وجاءت امرأة قيصر وجمعت نساءها وقالت: هذه هدية امرأة ملك العرب وبنت نبيهم وكاتبتها وأهدت لها وفيما أهدت لها عقد فاخر، فلما انتهى به البريد إليه أمر بإمساكه ودعا الصلاة جامعة، فاجتمعوا فصلى بهم ركعتين وقال: إنه لا خير في أمر أبرم عن غير شورى من أموري. قولوا في هدية أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم فقال قائلون: هو له بالذي لها: وليست امرأة الملك بذمة فتصانع به ولا تحت يديك فتبقيك. وقال آخرون قد كنا نهدي الثياب لنستثيب ونبعث بها لتباع ولنصيب شيئاً، فقال: ولكن الرسول رسول المسلمين والبريد بريدهم والمسلمون عظموها في صدرها فأمر بردها إلى بيت المال ورد عليها بقدر نفقتها(1).
10- أم سليط أحق به:
عن ثعلبة بن أبي مالك أنه قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطاً بين نساء أهل المدينة، فبقي منها مرطٌ جيد فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين، أعط هذا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي عندك – يريدون أم كلثوم بنت علي – فقال عمر: أم سليط أحق به - وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله- صلى الله عليه وسلم -- قال عمر: فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد(2).
11- غششت أباك ونصحت أقرباءك :
__________
(1) الخلفاء الراشدون د. عبد الوهاب النجار ص245.
(2) فتح الباري (7/ 424)، (6/ 93)، الخلافة الراشدة ص: 273.(1/200)
جيء إلى عمر رضي الله عنه بمال، فبلغ ذلك حفصة أم المؤمنين، فقالت: يا أمير المؤمنين، حق أقربائك من هذا المال، قد أوصى الله عز وجل بالأقربين من هذا المال، فقال: يا بنية حق أقربائي في مالي، وأما هذا ففي سداد المسلمين، غششت أباك ونصحت أقرباءك. قومي(1).
12- أردت أن ألقى الله ملكاً خائناً:
قدم صهرٌ لعمر عليه فطلب أن يعطيه عمر من بيت المال فانتهره عمر وقال: أردت أن ألقى الله ملكاً خائناً: فلما كان بعد ذلك أعطاه من صُلب ماله عشرة آلاف درهم(2).
هذه بعض المواقف التي تدل على ترفع عمر عن الأموال العامة ومنع أقربائه وأهله من الاستفادة من سلطانه ومكانته، ولو أن عمر أرخى العنان لنفسه أو لأهل بيته لرتعوا ولرتع من بعدهم وكان مال الله تعالى حبساً على أولياء الأمور. ومن القواعد الطبيعية المؤيدة بالمشاهد أن الحاكم إذا امتدت يده إلى مال الدولة اتسع الفتق على الراتق واختل بيت المال أو مالية الحكومة وسرى الخلل إلى جميع فروع المصالح وجهر المستسر بالخيانة وانحل النظام، ومن المعلوم أن الإنسان إذا كان ذا قناعة وعفة عن مال الناس زاهداً في حقوقهم دعاهم ذلك إلى محبته والرغبة فيه وإذا كان حاكما حدبوا عليه وأخلصوا في طاعته وكان أكرم عليهم من أنفسهم(3).
ومن خلال حياته مع أسرته وأقربائه يظهر لنا مَعْلمٌ من معالم الفاروق في ممارسة منصب الخلافة وهي القدوة الحسنة في حياته الخاصة والعامة، حتى قال في حقه علي بن أبي طالب: عففت فعفت رعيتك ولو رتعت لرتعوا، وكان لالتزامه بما يدعو إليه، ومحاسبته نفسه وأهل بيته أكثر مما يحاسب به ولاته وعماله الأثر الكبير في زيادة هيبته في النفوس وتصديق الخاصة والعامة له(4).
__________
(1) الزهد للإمام أحمد ص17، فرائد الكلام ص139.
(2) تاريخ الإسلام للذهبي ص271.
(3) الخلفاء الرائدون للذهبي ص271.
(4) القيادة والتغيير ص 182.(1/201)
هذا هو عمر الخليفة الراشد الذي بلغ الذروة في القدوة رباه الإسلام، فملأ الإيمان بالله شغاف قلبه، إنه الإيمان العميق، الذي صنع منه قدوة للأجيال، ويبقى الإيمان بالله والتربية على تعاليم هذا الدين سبباً عظيماً في جعل الحاكم قدوة في أروع ما تكون القدوة من هنا إلى يوم القيامة(1).
ثالثاً: احترامه ومحبته لأهل البيت:
لا شك أن لأهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلة رفيعة ودرجة عالية من الاحترام والتقدير عند أهل السنة والجماعة حيث يرعون حقوق آل البيت التي شرعها الله لهم، فيحبونهم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي قالها يوم غدير خم: أذكركم الله في أهل بيتي(2)، فهم أسعد الناس بالأخذ بهذه الوصية، وتطبيقها، فيتبرؤون من طريقة الروافض الذين غلوا في بعض أهل البيت، غلوا مفرطاً، وطريقة النواصب الذين يؤذونهم ويبغضونهم، فأهل السنة متفقون على وجوب محبة أهل البيت وتحريم إيذائهم أو الإساءة إليهم بقول و فعل(3)، وهذا الفاروق رضي الله عنه يوضح لنا معتقد أهل السنة في أهل البيت من خلال تصرفاته ومواقفه معهم.
الفصل الرابع
المؤسسة المالية والقضائية وتطويرها في عهد عمر رضي الله عنه
المبحث الأول: المؤسسة المالية:
أولاً: مصادر دخل الدولة في عهد عمر رضي الله عنه:
__________
(1) فن الحكم ص74.
(2) مسلم، ك فضائل الصحابة، رقم 2408.
(3) العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط ص59.(1/202)
نظر المسلمون في العصر الراشدي إلى المال بكل أشكاله وأنواعه بأنه مال الله، وبأن الإنسان مستخلف فيه، يتصرف فيه بالشروط التي وضعها المولى عز وجل، والقرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة في كل أمر يتعلق بالمال وإنفاقه فيقول: { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } (الحديد،آية:7)، { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ } (البقرة،آية:254)، وقوله تعالى يتحدث عن البر وهو جماع الخير(1/203)
{ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ } (البقرة،آية:137) وإيتاء المال اعتراف من المسلم -ابتداء- بأن المال الذي في يده هو رزق الله له: { ?وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } لأنه خلقه هو، ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق انبثق البر بعباد الله(1)، وعلى هذا الأساس الإيماني نظر الفاروق إلى مال الدولة التي توسعت مواردها في عصره، حيث فتحت الدولة بلداناً واسعة، وخضعت لحكمها شعوب كثيرة، فنظم علاقة الدولة مع هذه الشعوب، فمنهم من دخل في حكم الدولة صلحاً، ومنهم من دخل في حكمها كرهاً، وتبعاً للفتح آلت إليها أرض غلبت عليها عنوة (بقوة السلاح)، وأراضٍ صالح أصحابها، وأرضٌ جلا عنها مالكوها أو كانت ملكاً لحكام البلاد السابقين ورجالهم، ومن شعوب هذه البلاد كتابيون (أهل كتاب كاليهود والنصارى) نظم الفاروق طريقة التعامل معهم وفق شرع الله المحكم، وقد قام عمر رضي الله عنه بتطوير النظام المالي في دولته سواء في الموارد أو الإنفاقات أو ترتيب حقوق الناس من خلال نظام الدواوين، وقد أخذت موارد الدولة تزداد في عصر عمر رضي الله عنه، وشرع في تطويرها، ورتب لها عمالاً للإشراف عليها فكانت أهم مصادر الثروة في عهده: الزكاة، والغنائم، والفيء، والجزية، والخراج، وعشور التجار، فعمل الفاروق على تطوير هذه المصادر واجتهد في قضايا وفق مقاصد الشريعة التي وضعت لمصالح العباد، فقد أخذت الدولة تستجد فيها ظروف لم تكن موجودة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2)، وكان عمر رضي الله عنه منفذاً للكتاب والسنة تنفيذا عبقرياً، لا يستأثر بالأمر دون المسلمين، ولا يستبد بالرأي في شأن من الشئون، فإذا نزل به أمر جمع المسلمين يستشيرهم ويعمل بآرائهم(3)
__________
(1) دراسات في الحضارة الإسلامية أحمد إبراهيم الشريف ص253.
(2) نفس المصدر ص254.
(3) مبادئ النظام الاقتصادي الإسلامي د.سعاد إبراهيم صالح ص213.(1/204)
، وأما أهم مصادر الثروة في عهد الفاروق فهي الآتي:
1- الزكاة:
هي الركن الاجتماعي البارز في أركان الإسلام، وأول تشريع سماوي إسلامي، فرض في أموال أغنياء المسلمين، لتؤخذ منهم، وترد إلى الفقراء، بحسب أنصبتها المعروفة في الزروع والثمار، والذهب والفضة وعروض التجار والماشية، ليكون هناك نوع من التضامن والتكافل الاجتماعي، والمحبة والألفة بين الأغنياء والفقراء، فالزكاة تكليف يتصل بالمال، والمال كما يقولون عصب الحياة، فمن الناس سعيد بالمال ومنهم شقي به، وهذه سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ونظراً لما للمال من أثر في حياة الناس فقد عني الإسلام بأمره أشد العناية، واهتم بالزكاة غاية الاهتمام ووضع لها نظاماً دقيقاً حكيماً رحيماً، يؤلف بين القلوب(1)، ولذلك سار الفاروق على نهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، فقام بتنظيم مؤسسة الزكاة، وتطويرها، فأرسل المصدّقين لجمع الزكاة في أرجاء الدولة الإسلامية بعد أن أسلم الكثير من سكان البلاد المفتوحة، وكان العدل في جباية الأموال، صفة الخلافة الراشدة دون الإخلال بحقوق بيت المال، وقد أنكر الفاروق على عامل من عمال الزكاة أخذه لشاة كثيرة اللبن ذات ضرع عظيم قائلاً: ما أعطى هذه أهلها وهم طائعون، لا تفتنوا الناس(2)، وقد جاء ناس من أهل الشام إلى عمر، فقالوا: إنا قد أصبنا أموالاً وخيلاً ورقيقاً نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور قال عمر: ما فعله صاحباي قبلي فأفعله، واستشار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيهم عليُّ، فقال عليّ: هو حسن، إن لم يكن جزية راتبة يؤخذون بها بعدك(3)، وقد ذكر الدكتور أكرم ضياء العمري: أن الصحابة اقترحوا على عمر فرض الزكاة على الرقيق
__________
(1) سياسة المال في الإسلام في عهد عمر بن الخطاب، عبد الله جمعان السعدي ص8.
(2) الموطأ (1/256)، عصر الخلافة الراشدة ص194.
(3) الموسوعة الحديثة مسند أحمد رقم 82، إسناده صحيح.(1/205)
والخيل بعد ما توسعت ملكية الرقيق والخيل في أيدي المسلمين، فعدّ عمر الرقيق والخيل من أموال التجارة وفرض على الرقيق الصبيان والكبار ديناراً (عشرة دراهم) وعلى الخيل العربية عشرة دراهم وعلى البراذين (الخيل غير العربية) خمسة دراهم، ويفهم أنه لم يفرض الزكاة في رقيق الخدمة والخيل المعدة للجهاد لأنها ليست من عروض التجارة، بل إنه عوض من يدفع زكاتهما كل شهرين جربين (حوالي 209 كيلو غرام من القمح) وهو أكثر قيمة في الزكاة وذلك لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس على المسلم في فرسه ولا عبده صدقة(1)، وقد أخذ من الركاز (المال المدفون) -إذا عثر عليه- الخمس، وحرص على تداول الأموال وتشغيلها لئلا تذهب بها الزكاة مع تعاقب الأعوام(2)، فكان عنده مال ليتيم فأعطاه للحكم بن العاص الثقفي ليتجر به(3)، إذ لم يجد عمر وقتاً للتجارة لانشغاله بأمور الخلافة، وعندما صار الربح وفيراً من عشرة آلاف درهم إلى مائة ألف شك عمر في طريقة الكسب، ولما علم أن التاجر استغل صلة اليتيم بعمر رفض جميع الربح واسترد رأس المال حيث اعتبر الربح خبيثاً(4)، فهو يعمل بمبدأ فرضه على ولاته وهو رفض استغلال مواقع المسؤولية في الدولة، ومن هنا قاسم الولاة ثروتهم إذا نمت بالتجارة(5)، وسيأتي بيان ذلك عند الحديث عن الولاة بإذن الله تعالى، وقد أخذ عمر في زكاة الزروع العشر فيما سقته الأمطار والأنهار ونصف العشر فيما سقي بالآلة(6)، وهو الموافق للسنة، وكان يوصي بالرفق بأصحاب البساتين عند تقدير
__________
(1) صحيح الترمذي (1/196) وقال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم.
(2) عصر الخلافة الراشدة ص194،195.
(3) عصر الخلافة الراشدة ص195، الأموال لابن زنجويه (3/990) الأثر صحيح.
(4) الأموال أبو عبيد ص455 والأثر صحيح نقلاً عن عصر الخلافة الراشدة ص195.
(5) عصر الخلافة الراشدة ص195.
(6) المصنف (4/134، 135) والأثر صحيح نقلاً عن عصر الخلافة الراشدة ص195.(1/206)
الحاصل من التمر(1)، وأخذ زكاة عشرية من العسل إذا حمت الدولة وادي النحل لمستثمره(2)، وقد كثرت الحنطة في خلافته، فسمح بإخراج زكاة الفطر من الحنطة بنصف وزن ما كانوا يؤدونه قبل خلافته من الشعير أو التمر أو الزبيب(3)، وهذا فيه تيسير على الناس، وقبول للمال الأنفس في الزكاة وإن تفاوت الجنس(4)، وأما بخصوص مقادير أموال الزكاة التي كانت تُجنى كل عام فأمر غير معروف، والإشارات التي تذكر بعض الأرقام إشارات جزئية وغير دقيقة، ولا تنفع في إعطاء تقدير كلي، وقد قيل إن عمر بن الخطاب حمى أرض الربذة لنعم الصدقة، وكان يحمل عليها في سبيل الله، وكان مقدار ما يحمل عليه كل عام في سبيل الله أربعين ألفاً من الظهر(5)، وأما الموظفون الذين أشرفوا على هذه المؤسسة فقد ذكرت المصادر أسماء عدد منهم في خلافة عمر رضي الله عنه وهم، أنس بن مالك، وسعيد بن أبي الذباب على السراة وحارث بن مضرب العبدي، وعبد الله بن الساعدي، وسهل بن أبي حثمة، ومسلمة بن مخلد الأنصاري، ومعاذ بن جبل على بني كلاب، وسعد الأعرج، على اليمن، وسفيان بن عبد الله الثقفي كان والياً على الطائف فكان يجبي زكاتها(6).
2- الجزية:
__________
(1) عصر الخلافة الراشدة ص195 والأثر صحيح.
(2) نفس المصدر ص195 والأثر صحيح.
(3) نفس المصدر ص196 والأثر صحيح.
(4) فتح الباري (3/313) نقلاً عن عصر الخلافة الراشدة ص196.
(5) الحياة الاقتصادية في العصور الإسلامية الأولى د. محمد بطابنة ص104.
(6) عصر الخلافة الراشدة ص196، 197.(1/207)
هي الضريبة التي تفرض على رؤوس من دخل ذمة المسلمين من أهل الكتاب(1)، وقيل هي الخراج المحمول على رؤوس الكفار إذلالاً لهم (وصغاراً) (2) لقوله تعالى: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ(29) } (التوبة،آية:29).
__________
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية ص113، 114، المعاهدات في الشريعة د. الديك ص313.
(2) أهل الذمة في الحضارة الإسلامية حسن المِمّي ص39.(1/208)
وتؤخذ الجزية من أهل الكتاب: وهم اليهود والنصارى وهو إجماع لا خلاف فيه ومن لهم شبهة كتاب: وهم المجوس، وقد حار عمر رضي الله عنه في أمرهم في أول الأمر، أيأخذ منهم الجزية؟ أو لا يأخذها؟ حتى قطع عبد الرحمن بن عوف حيرته حين حدّثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر(1)، فقد روى ابن أبي شيبة وغيره أن عمر كان بين القبر والمنبر فقال: ما أدري ما أصنع بالمجوس، وليسوا بأهل كتاب، فقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سُنوا بهم سُنة أهل الكتاب(2)، وفي حديث آخر أن عمر لم يرد أن يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله أخذها من مجوس هجر(3)، وقد علل العلماء أخذها من المجوس بأنهم كانوا في الأصل أهل كتاب، وإنما طرأت عليهم عبادة النار بعد ذلك، وعندئذ أخذها من أهل السواد(4) وأخذها من مجوس فارس وكتب لجزء بن معاوية: انظر مجوس من قِبَلك فخذ منهم الجزية فإن عبد الرحمن بن عوف أخبرني أن رسول الله أخذها من مجوس هجر(5)، وهي تجب على الرجال الأحرار العقلاء، ولا تجب على امرأة ولا صبي ولا مجنون ولا عبد لأنهم أتباع وذراري، كما أن الجزية لا تؤخذ من المسكين الذي يتصدق عليه ولا من مقعد، والمقعد والزَّمِن إذا كان لهما يسار أخذت منهما وكذلك الأعمى وكذلك المترهبون الذين في الديارات إذا كان لهم يسار أخذ منهم، وإن كانوا مساكين يتصدّق عليهم أهل اليسار لم يؤخذ منهم(6)، وتسقط الجزية، بالموت، فإذا مات من تجب عليه الجزية سقطت الجزية، لأن الجزية واجبة على الرؤوس، فإذا فاتت الرؤوس بالموت سقطت، وبالإسلام، فإذا أسلم من فرضت عليه الجزية، سقطت
__________
(1) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص235.
(2) نفس المصدر ص235 نقلاً عن مصنف ابن أبي شيبة (1/141).
(3) البخاري، ك الجزية والموادعة رقم 3156.
(4) سواد العراق.
(5) البخاري، رقم 3156.
(6) أهل الذمة في الحضارة الإسلامية ص42.(1/209)
عنه بإسلامه، فقد أسلم رجلان من أهل أليس، فرفع عنهما جزيتهما(1)، وأسلم الرقيل دهقان النهرين ففرض له عمر في ألفين ووضع عن رأسه الجزية(2)، ومن الجدير بالذكر أن الجزية تسقط عن العام الذي أسلم فيه الذمي، سواء كان إسلامه في أوله أو في وسطه أو في آخره، قال عمر: إن أخذ الجزية الجابي بكفه ثم أسلم صاحبها ردها عليه(3)، وتسقط بالافتقار، فإذا افتقر الذمي بعد غنى وأصبح غير قادر على دفع الجزية سقطت عنه الجزية وقد أسقطها عمر عن الشيخ الكبير الضرير البصر عندما رآه يسأل الناس(4) وفرض له ما يعوله من بيت المال، وتسقط عند عجز الدولة عن حماية الذميين، لأن الجزية ما هي إلا ضريبة على الأشخاص القاطنين في أقاليم الدولة الإسلامية، وتدفع هذه الضريبة في مقابل انتفاعهم بالخدمات العامة للدولة، علاوة على أنها نظير حمايتهم والمحافظة عليهم وبدل عدم قيامهم بواجب الدفاع عن الدولة ومواطنيها(5)، ومن الأدلة على أن الجزية في مقابل الحماية، ما قام به أبو عبيدة بن الجراح، حينما حشد الروم جموعهم على حدود البلاد الإسلامية الشمالية، فكتب أبو عبيدة إلى كل وال ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جبي منهم من الجزية والخراج، وكتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا
__________
(1) موسوعة فقه عمر ص238.
(2) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص238 نقلاً عن المحلى (7/345).
(3) نفس المصدر ص239 نقلاً عن المغني (8/511).
(4) موسوعة فقه عمر ص239.
(5) المعاهدات في الشريعة الإسلامية د. الديك ص314.(1/210)
ما جمع لنا من الجموع وأنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم، فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم أموالهم التي جبيت منهم، قالوا: ردكم الله علينا ونصركم عليهم (أي الروم) فلو كانوا هم ما ردوا علينا شيئاً وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا لنا شيئاً(1)، كما تسقط إذا قاموا هم بعبء الدفاع بتكليف من الدولة كما حدث في العهد الذي وقعه سراقة بن عمرو مع أهل طبرستان بعد أن وافقه عمر على ذلك(2).
__________
(1) فتوح البلدان ص143، الموارد المالية د. يوسف عبد المقصود ص228.
(2) تاريخ الدعوة الإسلامية د. جميل المصري ص327.(1/211)
وأما قيمتها فقد كانت غير محددة واختلفت من إقليم لآخر بحسب قدرة الناس، وظروف الإقليم، فقد وضع على أهل السواد، ثمانية وأربعين درهماً، وأربعة وعشرين درهماً، بحسب حال كل واحد من اليسار، يؤخذ ذلك منهم كل سنة، وإن جاءوا بعرض قبل منهم مثل الدواب والمتاع وغير ذلك ويؤخذ منهم بالقيمة(1)، وجعل على أهل الشام أربعة دنانير وأرزاق المسلمين من الحنطة مدين وثلاثة أقساط من زيت لكل فرد، وعلى أهل الفضة أربعين درهماً وخمسة عشر صاعاً لكل إنسان وعلى أهل مصر دينارين لكل حالم إلا أن يكون فقيراً(2)، وأما أهل اليمن فقد خضعت للإسلام في عهد النبوة، وفرضت الجزية على كل رجل دينار أو عدله معافر، وتشير روايات ضعيفة إلى بقاء هذه الجزية على أهل اليمن دون تغير في خلافة عمر ورغم ضعفها فإنها تتفق مع سياسة عمر في مراعاة أحوال الرعية، وعدم تغيير الإجراءات النبوية(3)، فالجزية كانت تختلف بحسب يسار الناس وبحسب غنى الإقليم كذلك، وكانت تخضع للاجتهاد بما يكون من طاقة أهل الذمة بلا حمل عليهم ولا إضرار(4)، وكان عمر يأمر جباة الجزية بأن يرفقوا بالناس في جبايتها، وعندما أتي عمر بمال كثير فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس، قالوا: لا والله، ما أخذنا إلا عفواً صفواً، قال: بلا سوط ولا نوط؟ قالوا: نعم قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني(5)، ومن أشهر الموظفين في هذه المؤسسة عثمان بن حنيف، وسعيد بن حذيم، وولاة الأمصار كعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم.
__________
(1) دور الحجاز في الحياة السياسية ص230.
(2) دور الحجاز في الحياة السياسية ص230.
(3) عصر الخلافة الراشدة ص173.
(4) نفس المصدر ص231، عصر الخلافة الراشدة ص167.
(5) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص243.(1/212)
وقد نظمت الجزية بمجموعة من الأحكام والقوانين استمدها الفقهاء والمشرعون من نصوص القرآن والسنة وعمل الخلفاء الراشدين ودلت تلك الأحكام على أن مؤسسة الجزية من مصادر الدولة الإسلامية، كما أن لها صفة سياسية، فدفع أهل الذمة للدولة دليل على إخلاصهم لها وخضوعهم لأحكامها وقوانينها والوفاء بما عاهدوا عليه(1)، ويذهب الأستاذ حسن الممّي بأن مؤسسة الجزية لها صبغة سياسية أكثر منها صبغة مالية(2)، والحقيقة أن هذه المؤسسة جمعت بين الصبغتين وهي من مصادر الثروة في الدولة الإسلامية.
أخذ عمر الصدقة مضاعفة من نصارى تغلب:
__________
(1) أهل الذمة في الحضارة الإسلامية ص43.
(2) نفس المصدر ص43.(1/213)
كان بعض عرب الجزيرة من النصارى قد رفضوا دفع الجزية لكونهم يرونها منقصة ومذمة، فبعث الوليد برؤساء النصارى وعلمائهم إلى أمير المؤمنين فقال لهم: أدُّوا الجزية. فقالوا لعمر: أبلغنا مأمننا، والله لئن وضعت علينا الجزاء لندخلن أرض الروم والله لتفضحُنَّا من بين العرب، فقال لهم: أنتم فضحتم أنفسكم، وخالفتم أمتكم فيمن خالف وافتضح من عرب الضاحية، والله لتؤدنَّه وأنتم صَغَرة قَمأَة (يعني حقيرين) ولئن هربتم إلى الروم لأكتبن فيكم، ثم لأسبينكم قالوا: فخذ منا شيئاً ولا تسمه جزاء، فقال: أما نحن فنسميه جزاء وسموه أنتم ما شئتم، فقال له علي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين ألم يُضْعِف عليهم سعد بن مالك الصدقة؟ قال: بلى، وأصغى إليه فرضي به منهم جزاء، فرجعوا على ذلك(1)، ومن هذا الخبر نأخذ درساً في معاملة المتكبرين من الأعداء الذين يخاطبون المسلمين بعزة وأنفة ويهددون باللجوء إلى دول الكفر، فنجد أمير المؤمنين خاطبهم بعنف وحقّرهم وهددهم إذا لجأوا إلى الكفار بالسعي في إحضارهم ومعاملتهم كمعاملة الحربيين من سبي ذراريهم ونسائهم، وهذا أشد عليهم كثيراً من دفع الجزية، فهذا الجواب القوي أزال ما في رؤوسهم من الكبرياء والتعاظم فرجعوا متواضعين يطلبون من أمير المؤمنين أن يوافق على أخذ ما يريد من غير أن يُسمِّي ذلك جزية، وهنا تدخل علي رضي الله عنه وكان لرأيه مكانة عند عمر لفقهه في الدين، فأشار عليه بأن يُضعِف الصدقة كما فعل سعد بن أبي وقاص بأمثالهم، فقبل ذلك أمير المؤمنين تألفاً لهم ومنعاً من محاولة اللجوء إلى دول الكفر، وقد أصبح هذا الرأي مقبولاً حينما وقع موقعه، وذلك بعد ما أزال أمير المؤمنين ما في نفوسهم من العزة والكبرياء، فأما لو قبل ذلك منهم في بداية العرض فإنهم سيعودون بكبريائهم ولا يؤمن منهم بعد ذلك أن ينقضوا العهد
__________
(1) تاريخ الطبري (5/30) وقد ضعف الدكتور العمري هذه الرواية، انظر عصر الخلافة الراشدة ص167.(1/214)
ويسيئوا إلى المسلمين(1).
وقد جاء في رواية عن قصة بني تغلب، بأنهم دعوا إلى الإسلام فأبوا، ثم إلى الجزية فلم يطمئنوا إليها، وولوا هاربين يريدون اللحاق بأرض الروم، فقال النعمان بن زرعة لعمر: يا أمير المؤمنين، إن بني تغلب قوم عرب، يأنفون من الجزية، وليست لهم أموال إنما هم أصحاب حروث ومواشي، ولهم نكاية في العدو فلا تعن عدوك عليك بهم قال: فصالحهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على أن ضاعف عليهم الصدقة(2).. وقال: هي جزية وسموها ما شئتم(3)، فقال بنوا تغلب: أما إذا لم تكن جزية كجزية الأعلج فإنا نرضى ونحفظ ديننا(4)، والسر في قبول الخليفة عمر رضي الله عنه، الصدقة من بني تغلب وهل تعد صدقة أم جزية؟ يرجع إلى أن الاختلاف في التسمية أمر قد تسوهل فيه ورضي الخليفة به مادام في ذلك المصلحة العامة، والذي دفعه إلى ذلك خشية انضمام بني تغلب إلى الروم وما كان يرجوه من إسلامهم ليكونوا عوناً للمسلمين على أعدائهم ولأن هؤلاء قوم من العرب لهم من العزة والأنفة ما يبرر حفظ كرامتهم وأن ما يرد إلى بيت المال من أموالهم خير للمسلمين وأجدى على خزانة الدولة من هربهم وانضمامهم إلى صفوف الروم(5)، أما من ناحية هل هي صدقة أم جزية؟ فهي جزية لأنها تصرف في مصارف الخراج ولأن الصدقة لا تجب على غير المسلمين، ولأن الجزية في نظير الحماية وكان بنو تغلب في حماية المسلمين، وفي الوقت نفسه يمكننا أن نقول إنّها ليست بجزية عملياً، لأن ما فرض على
__________
(1) التاريخ الإسلامي (11/141، 142).
(2) الأموال (1/37) نقلاً عن سياسة المال في الإسلام عبد الله جمعان ص72.
(3) فتح القدير (1/514)، سياسة المال في الإسلام ص72.
(4) فتوح البلدان ص186، سياسة المال في الإسلام ص72، يعتبر كتاب سياسة المال في عهد عمر بن الخطاب للأستاذ عبد الله جمعان السعدي هو العمدة في مبحث المؤسسة المالية فقد قمت بتلخيصه وإضافة بعض الأشياء.
(5) سياسة المال في الإسلام ص72.(1/215)
نصارى بني تغلب كان على الأموال التي تفرض عليها الزكاة، فكل شيء على المسلمين فيه زكاة كالزروع والثمار والماشية والنقدين.. فهو عليهم مضاعف يؤخذ من النساء كما يؤخذ من الرجال ولم يكن على الأشخاص وهذا ينافي معنى الجزية عرفاً(1)، والمهم في كلتا الحالتين باعتبارها صدقة أو جزية فهي ضريبة بينت مدى خضوعهم لسلطة الإسلام(2)، هذا وقد كانت هنالك حقوق والتزامات كثيرة للعرب على البلاد المفتوحة عدا الجزية، وقد تنوعت هذه الحقوق وتطورت أيام الخليفة عمر رضي الله عنه، فمن ذلك ضيافة الحاكم إذا وفد والرسل والسفراء ومن نزل من المسلمين بأهل البلاد وقد حددت مدة الضيافة في خلافة عمر رضي الله عنه بثلاثة أيام مما يأكلون ولا يكلفون بذبح شاة ولا دجاجة ولا مما لا طاقة لهم به(3)، وقد مرّ معنا عند حديثنا عن التطوير العمراني في عهد عمر أن بعض الاتفاقيات في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه اشتملت على إصلاح الطرق، وإنشاء الجسور وبناء القناطر وقد تطور نظام الجزية في عهد عمر رضي الله عنه، فأحصى السكان وميز بين الغني والفقير ومتوسط الحال، واستحدث كثيراً من الشروط والالتزامات في نصوص المعاهدات مما لم يعرف من قبل وذلك لاتساع العمران وبسط السلطان على مصر والشام والعراق ومخالطة المسلمين لأهل البلاد واتصالهم الدائم بحضارتها مما مكنهم من سياسة الدولة وشئون العمران وما تتطلبه طبيعة التدرج والنمو فأوجدوا ما لم يكن موجوداً من إصلاح الطرق والعمران وبناء القناطر والجسور التي هي عون الأمم المتحضرة، ومن هنا انتظمت الأمور، واتسعت البلاد ورسخت قواعد النظم المالية وغيرها(4).
شروط عقد الجزية ووقت أدائها:
__________
(1) نفس المصدر ص73، النظام الإسلامي المقارن ص39.
(2) نفس المصدر ص73.
(3) الأحكام السلطانية والولايات الدينية ص164.
(4) سياسة المال في الإسلام في عهد عمر بن الخطاب ص174.(1/216)
وقد استنبط الفقهاء من خلال عصر الخلفاء الراشدين مجموعة من الشروط:
أن لا يذكروا كتاب الله تعالى بطعن فيه ولا تحريف له.
أن لا يذكروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتكذيب ولا إزدراء.
أن لا يذكروا دين ا لإسلام بذم له ولا قدح فيه.
أن لا يصيبوا مسلمة بزنا ولا باسم نكاح.
أن لا يفتنوا مسلماً عن دينه، ولا يتعرضوا لماله ولا دينه.
وأن لا يعينوا أهل الحرب ولا يودّوا أغنياءهم(1).
وأما وقت أدائها فقد حدد الخليفة عمر رضي الله عنه وقت أداء الجزية في آخر الحول ومرادنا به آخر العام الزراعي، ويرجع هذا التغيير في وقت أداء الجزية في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه إلى حالة الاستقرار والاستقرار يدعو إلى التنظيم وتعيين الأوقات المناسبة للدولة والمكلفين بدفع الجزية، كما أن تحصيلها وقت إتيان الغلات - وهو ما يعبر عنه المؤرخون بآخر العام - فيه دفع للمشقة، وتسهيل على المكلفين وراحة للدافعين(2).
1- الخراج:
الخراج له معنيان: عام وهو كل إيراد وصل إلى بيت مال المسلمين من غير الصدقات، فهو يدخل في المعنى العام للفيء ويدخل فيه إيراد الجزية وإيراد العشور وغير ذلك، وله معنى خاص: وهو إيراد الأراضي التي افتتحها المسلمون عنوة وأوقفها الإمام لمصالح المسلمين على الدوام كما فعل عمر بأرض السواد من العراق والشام(3)، والخراج كما قال ابن رجب الحنبلي لا يقاس بإجارة ولا ثمن، بل هو أصل ثابت بنفسه لا يقاس بغيره(4).
__________
(1) سياسة المال في الإسلام في عهد عمر ص76.
(2) نفس المصدر ص67.
(3) الخراج لأبي يوسف ص24،25، اقتصاديات الحرب ص215.
(4) الاستخراج لأحكام الخراج ص40، اقتصاديات الحرب ص215.(1/217)
عندما قويت شوكة الإسلام بالفتوحات العظيمة وبالذات بعد القضاء على القوتين العظيمتين الفرس والروم، تعددت موارد المال في الدولة الإسلامية وكثرت مصارفه، وللمحافظة على كيان هذه الدولة المترامية الأطراف وصون عزها وسلطانها، وضمان مصالح العامة، والخاصة كان لابد من سياسة مالية حكيمة ورشيدة، فكر لها عمر رضي الله عنه، ألا وهي إيجاد مورد مالي ثابت ودائم للقيام بهذه المهام، وهذا المورد هو:الخراج فقد أراد الفاتحون أن تقسم عليهم الغنائم من أموال وأراضٍ وفقاً لما جاء في القرآن الكريم خاصاً بالغنائم { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(41) } (الأنفال،آية:41).(1/218)
وقد أراد عمر رضي الله عنه في بداية الأمر تقسيم الأرض بعد الفاتحين، لكن عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه رأى عدم التقسيم، وشاركه الرأي معاذ بن جبل، وحذر عمر من ذلك(1)، وقد روى أبو عبيد قائلاً: قدم عمر الجابية فأراد قسم الأراضي بين المسلمين فقال معاذ: والله إذاً ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يَسُدون من الإسلام مَسَداً، وهم لا يجدون شيئاً فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم(2)، لقد نبه معاذ بن جبل رضي الله عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إلى أمر عظيم، جعل عمر يتتبع آيات القرآن الكريم، ويتأملها مفكراً في معنى كل كلمة يقرأها حتى توقف عند آيات تقسيم الفيء في سورة الحشر، فتبين له أنها تشير إلى الفيء للمسلمين في الوقت الحاضر، ولمن يأتي بعدهم، فعزم على تنفيذ رأي معاذ رضي الله عنه، فانتشر خبر ذلك بين الناس ووقع خلاف بينه وبين بعض الصحابة رضوان الله عليهم، فكان عمر ومؤيدوه لا يرون تقسيم الأراضي التي فتحت، وكان بعض الصحابة ومنهم بلال بن رباح، والزبير بن العوام يرون تقسيمها، كما تقسم غنيمة العسكر، كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر، فأبى عمر رضي الله عنه التقسيم وتلا عليهم الآيات الخمس من سورة الحشر من قوله تعالى: { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(6) } (الحشر،آية:6) حتى فرغ من شأن بني النضير ثم قال: { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ
__________
(1) سياسة المال في الإسلام ص103.
(2) الأموال لأبي عبيد ص75، سياسة المال ص103.(1/219)
كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(7) } (الحشر،آية:7) فهذه عامة في القرى كلها، ثم قال: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ(8) } (الحشر،آية:8) ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإْيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(9) } (الحشر،آية:9) فهذا في الأنصار خاصة ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم، فقال: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإْيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(10) } (الحشر،آية:10)، فكانت هذه عامة لمن جاء بعدهم، فما من أحد من المسلمين إلا له في هذا الفيء حق، قال عمر: فلئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه(1)، وفي رواية أخرى جاء فيها. قال عمر: فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت، ما هذا برأي، فقال له: عبد الرحمن ابن عوف فما الرأي؟ ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم، فقال عمر ما هو إلا كما تقول ولست أرى ذلك، والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل بل عسى أن يكون كلا على المسلمين، فإذا قسمت
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص67، اقتصاديات الحرب ص217.(1/220)
أرض العراق بعلوجها، وأرض الشام بعلوجها، فما يسد به الثغور؟ وما يكون للذرية والأرامل لهذا البلد وبغيره من أراضي الشام والعراق؟ فأكثروا على عمر وقالوا: تقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا، ولأبناء القوم وأبناء أبنائهم ولم يحضروا، فكان عمر رضي الله عنه، لا يزيد على أن يقول: هذا رأي، قالوا: فاستشر، فأرسل إلى عشرة من الأنصار من كبراء الأوس والخزرج وأشرافهم فخطبهم، وكان مما قال لهم: إني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي ثم قال: قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله، وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها واضعاً عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئاً للمسلمين، المقاتلة والذرية، ولمن يأتي من بعدهم، أرأيتم هذه الثغور
لا بد لها من رجال يلزمونها أرأيتم هذه المدن العظام لا بد لها من أن تشحن بالجيوش، وإدرار العطاء عليهم فمن أين يُعطى هؤلاء إذا قسمت الأرض والعلوج؟ فقالوا جميعاً: الرأي رأيك فنعم ما قلت ورأيت، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يَتَقَوّوْن به رجع أهل الكفر إلى مدنهم(1)، وقد قال عمر فيما قاله: لو قسمتها بينهم لصارت دولة بين الأغنياء منكم، ولم يكن لمن جاء بعدهم من المسلمين شيء، وقد جعل الله لهم فيها الحق بقوله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } ثم قال: فاستوعبت الآية الناس إلى يوم القيامة، وبعد ذلك استقر رأي عمر وكبار الصحابة رضي الله عنهم على عدم قسمة الأرض(2).
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص67، اقتصاديات الحرب ص217.
(2) سياسة المال في الإسلام في عهد عمر ص105.(1/221)
وفي حواره مع الصحابة يظهر أسلوب الفاروق في الجدل، وكيف جمع فيه قوة الدليل، وروعة الصورة، واستمالة الخصم، في مقالته التي قال للأنصار، عند المناقشة في أمر أرض السواد، ولو أن رئيساً ناشئاً في السياسة، متمرساً بأساليب الخطب البرلمانية أراد أن يخطب النواب (لينال موافقتهم) على مشروع من المشروعات لم يجيء بأرقّ من هذا المدخل، أو أعجب من هذا الأسلوب؟ وامتاز عمر فوق ذلك بأنه كان صادقاً فيما يقول، ولم يكن فيه سياسياً مخادعاً وأنه جاء به في نمط من البيان يسمو على الأشباه والأمثال(1).
هل كان الفاروق مخالفاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حكم أرض الخراج:
__________
(1) أخبار عمر ص210.(1/222)
من قال: إن الفاروق خالف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بفعله في عدم تقسيم أرض الخراج، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم خيبر، وقال: إن الإمام إذا حبس الأرض المفتوحة عنوة نقض حكمه لأجل مخالفة السنة، فهذا القول خطأ وجرأة على الخلفاء الراشدين – إذا فعلوا هذا الفعل – فإن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر إنما يدل على جواز ما فعله ولا يدل على وجوبه فلو لم يكن معنا دليل على عدم وجوب ذلك، لكان فعل الخلفاء الراشدين عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم دليلاً على عدم الوجوب، فكيف وقد ثبت أنه فتح مكة عنوة كما استفاضت به الأحاديث الصحيحة، بل تواتر ذلك عند أهل المغازي والسير؟ فإنه قدم حين نقضوا العهد ونزل بمر الظهران، ولم يأت أحد منهم يصالحه ولا أرسل إليهم أحداً يصالحهم، بل خرج أبو سفيان يتجسس الأخبار فأخذه العباس وقدم به كالأسير وغايته، أن يكون العباس أمنه فصار مستأمناً، ثم أسلم فصار من المسلمين، فكيف يتصور أن يعقد صلح الكفار – بعد إسلامه بغير إذن منهم؟ مما يبين ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق الأمان بأسباب، كقوله: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن(1)، فأمن من لم يقاتله، فلو كانوا معاهدين لم يحتاجوا إلى ذلك، وأيضاً، فسماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - طلقاء؛ لأنه أطلقهم من الأسر كثمامة بن أثال وغيره، وأيضاً فإنه أذن في قتل جماعة منهم من الرجال والنساء، وأيضاً فقد ثبت عنه في الصحاح أنه قال في خطبته: إن مكة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة(2).
__________
(1) مسلم رقم 1780.
(2) النسائي في الكبرى في الحج (2/ 38) الفتاوى (20/ 313).(1/223)
ودخل مكة وعلى رأسه المغفر ولم يدخلها بإحرام، فلو كانوا صالحوه لم يكن قد أحل له شيء، كما لو صالح مدينة من مدائن الحل لم تكن قد أحلت فكيف يحل له البلد الحرام وأهله مسالمون له صلح معه؟! وأيضاً فقد قاتلوا خالداً وقتل طائفةً من المسلمين طائفةً من الكفار، وفي الجملة، فإن من تدبر الآثار المنقولة علم بالاضطرار أن مكة فتحت عنوة، ومع هذا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقسم أرضها كما لم يسترق رجالها، ففتح خيبر عنوة وقسمها، وفتح مكة عنوة ولم يقسمها، فعلم جواز الأمرين(1)، وبذلك لم يكن الفاروق مخالفاً للهدي النبوي في عدم تقسيمه للأراضي المفتوحة، وقد كان سنده فيما فعل أموراً منها:
آية الفيء في سورة الحشر.
عمل النبي ي- صلى الله عليه وسلم - حينما فتح مكة عنوة فتركها لأهلها ولم يضع عليها خراجاً.
قرار مجلس الشورى الذي عقده عمر لهذه المسألة بعد الحوار والمجادلة وقد أصبح سنة متبعة في أرض يظهر عليها المسلمون ويقرون أهلها عليها وبهذا يظهر أن عمر حينما ميز بين الغنائم المنقولة وبين الأراضي كان متمسكاً بدلائل النصوص، وجمع بينها وأنزل كلا منها منزلته التي يرشد إليها النظر الجامع السديد يضاف إلى ذلك أن عمر كان يقصد أن تبقى لأهل البلاد ثرواتهم وأن يعصم الجند الإسلامي من فتن النزاع على الأرض والعقار، ومن فتن الدعة والانشغال بالثراء والحطام(2).
__________
(1) الفتاوى (20/ 312، 313).
(2) الاجتهاد في الفقه الإسلامي ص131.(1/224)
إن الفاروق رضي الله عنه كان يلجأ إلى القرآن الكريم يلتمس منه الحلول ويطوف بين مختلف آياته، ويتعمق في فهم منطوقها ومفهومها، ويجمع بينها ويخصص بعضها ببعض حتى يصل إلى نتائج تحقق المصالح المرجوة منها مستلهماً روح الشريعة غير واقف مع ظواهر النصوص وقد أسعفه في قطع هذه المراحل إدراكه الدقيق لمقاصد الشريعة بتلكم النصوص، وهي عملية مركبة ومعقدة لا يحسن الخوض فيها إلا من تمرس على الاجتهاد وأعطي فهماً سديداً وجرأة على الإقدام حيث يحسن الإقدام حتى خيل للبعض أن عمر كان يضرب بالنصوص عرض الحائط في بعض الأحيان، وحاشا أن يفعل عمر ذلك لكنه كان مجتهداً ممتازاً اكتسب حاسة تشريعية تضاهى حتى كان يرى الرأي فينزل القرآن على وفقه والنتيجة التي نخرج بها من هذه القضية هي أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، ومثله في السنة، فعلى المجتهد وهو يبحث عن الحكم الشرعي أن يستعرض جميع النصوص التي تساعد على الحل دون الاقتصار على بعضها، وإلا عد مقصِّراً في اجتهاده، ويكون ما توصل إليه لاغياً(1).
كيف تمّ تنفيذ مشروع الخراج في عهد الفاروق؟
لما انتهى كبار الصحابة ورجال الحل والعقد إلى إقرار رأي الخليفة عمر رضي الله عنه بتحبيس الأرض على أهلها، وتقسيم الأموال المنقولة على الفاتحين انتدب شخصيتين كبيرتين هما: عثمان بن حُنيف، وحذيفة بن اليمان وذلك لمسح أرض سواد العراق، وحين بعثهما لهذه المهمة زوّدهما الخليفة بنصائحه وتوجيهاته الثاقبة وأمرهما بأن يلاحظا ثروة الأفراد، وخصوبة الأرض وجدبها، ونوع النباتات والشجر، والرفق بالرعية، فلا تحمل الأرض ما يتحمله المكلفون، بل يترك لهم
__________
(1) المصدر نفسه ص131، 132.(1/225)
ما يجبرون به النوائب والحوائج ولكي ينطلق قرار عمر رضي الله عنه على أساس عادل، رغب أن يعرف الحالة التي كان عليها أهل العراق قبل الفتح، وطلب من الصحابيين عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان أن يرسلا إليه وفداً من كبار رجال السواد، فبعثا إليه وفداً من دهاقنة السواد، فسألهم عمر رضي الله عنه، كم كنتم تؤدون إلى الأعاجم في أرضهم؟ قالوا: سبعة وعشرين درهماً، فقال عمر رضي الله عنه لا أرضى بهذا منكم(1)، وهذا يدل على أن الفتح الإسلامي كان عدلاً على الناس الذين فتحت بلادهم، وكان عمر يرى أن فرض خراج على مساحة الأرض أصلح لأهل الخراج، وأحسن رداً، وزيادة في الفيء من غير أن يحملهم مالا يطيقون فقام عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان بما وكل إليهما خير قيام فبلغت مساحة السواد (36000.000) ستة وثلاثين ألف ألف(2)، ووضعا على جريب العنب عشرة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى جريب القصب ستة دراهم، وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشعير درهمين(3)، وكتبا إلى عمر بن الخطاب بذلك فأمضاه وقد حرص عمر (رضي الله عنه) على العناية بأهل تلك الأرض والبلاد، وما يوفر العدل ويحققه خوفاً أن يكون عثمان وحذيفة رضي الله عنهما حملا الناس والأرض ما لا يطيقون أداءه من خراج فسألهما: كيف وضعتما على الأرض لعلكما كلفتما أهل عملكما ما لا يطيقون؟ فقال حذيفة: لقد تركت فضلاً، وقال عثمان: لقد تركت الضعف، ولو شئت لأخذته فقال عمر رضي الله عنه عند ذلك: أما والله لئن بقيت لأرامل أهل العراق لأدعنهم لا يفتقرون إلى أمير بعدي(4).
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص40، 41.
(2) الخراج لأبي يوسف ص38.
(3) الخراج لأبي يوسف 39، سياسة المال في الإسلام ص108.
(4) الخراج لأبي يوسف ص40، سياسة المال في الإسلام ص108.(1/226)
وهذه الطريقة التي نفذت في سواد العراق هي ذاتها التي نفذت في الأراضي المصرية، لكن الذي تولاها هو عمرو بن العاص وكانت وحدة المساحة التي ربط على أساسها الخراج الفدان(1)، وكذلك فعل عمر (رضي الله عنه) بأرض الشام كما فعل بأرض السواد، ولم يذكر المؤرخون معلومات صريحة واضحة عن المساحة ونوع الزروع والثمار التي فرض عليها الخراج، ولا من قام بعملية مسح أراضي الشام(2)، وكان الخليفة عمر رضي الله عنه بهذا الصدد عمل إحصاءً دقيقاً لثروة الولاية قبل الولاية عليها، ثم إلزام الولاة عند اعتزالهم أعمالهم بمصادرة بعض الأموال التي جمعوها لأنفسهم في أثناء ولايتهم، إذا تبين له أن أعطياتهم لا تسمح لهم بادخار هذه الأموال كلها(3) وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله عند حديثنا عن الولاة وقد كثرت الممتلكات الخاصة للدولة التي اصطفاها عمر رضي الله عنه لبيت المال في العراق والشام ومصر، فكانت هذه الأملاك تدرّ دخلاً عظيماً ووفيراً على خزانة الدولة، خاصة في مصر لاتساع الأراضي الزراعية التي يملكها التاج في العصور القديمة(4).
ما هي القيم والمصالح الأمنية في عدم تقسيم أراضي الخراج؟
__________
(1) الدولة العباسية للخضري ص144، سياسة المال ص109.
(2) سياسة المال في الإسلام ص111.
(3) نفس المصدر ص114.
(4) نفس المصدر ص118.(1/227)
هناك جملة من المصالح الأمنية التي استند إليها الخليفة –والذين وافقوه على رأيه- في اتخاذ هذا القرار يمكنني تصنيفها إلى صنفين، أولهما المصالح الداخلية وأهمها سد الطريق على الخلاف والقتال بين المسلمين، وضمان توافر مصادر ثابتة لمعايش البلاد والعباد، وتوفير الحاجات المادية اللازمة للأجيال اللاحقة من المسلمين، وثانيهما المصالح الخارجية والتي يتمثل أهمها في توفير ما يسد ثغور المسلمين، ويسدّ حاجتها من الرجال والمؤن، والقدرة على تجهيز الجيوش، بما يستلزمه ذلك من كفالة الرواتب وإدرار العطاء وتمويل الإنفاق على العتاد والسلاح وترك بعض الأطراف لتتولى مهام الدفاع عن حدود الدولة وأراضيها اعتماداً على ما لديها من خراج، والذي يجب ملاحظته في هذه المصالح أن الخليفة أراد أن يضع بقراره دعائم ثابتة لأمن المجتمع السياسي ليس في عصره فقط، بل وفيما يليه من عصور بعده وعباراته من مثل (فكيف بمن يأتي من المسلمين)، و(كرهت أن يترك المسلمون) التي توحي بنظرته المستقبلية لهذا الأمن الشامل تشهد على ذلك، وقد أثبت تطور الأحداث السياسية في عصر الخليفة الثاني صواب وصدق ما قرره.(1/228)
- أن تعدد أطوار اتخاذ القرار بعدم تقسيم الأراضي قد أكد أمرين أولهما أن بعض القرارات المهمة التي تمس المصالح الجوهرية للمسلمين قد تأخذ من الجهد والوقت الكثير، كما أنها قد تتطلب قدراً من الأناة في تبادل الحجج والبراهين، دون أن يتيح ذلك مجالاً للخلاف وتعميق هوة الانقسام أحياناً أو يفوت باباً من أبواب تحقيق بعض المصالح الخاصة بأمن الأمة في حاضرها ومستقبلها، والأمر الثاني أن بعض القرارات المهمة التي قد تخرج بعد عسر النقاش والحوار، والبداية المتعثرة لها، يفرض على الحاكم الشرعي أن يكون أول المسلمين وآخرهم جهداً في السعي إلى تضييق هوة الخلاف، والتقريب بين وجهات النظر المتعارضة لكي يصل بالمسلمين إلى الحكم الشرعي فيما هو متنازع بشأنه(1).
- أن تبادل الرأي والاجتهاد بين الخليفة والصحابة الذين لم يوافقوه على رأيه واستناد الكل في ذلك إلى النصوص المنزلة في الاجتهاد يثبت أن الفيصل في إبداء الآراء في القرارات السياسية عامة والتي تمس مصالح المسلمين بصفة مباشرة خاصة، هو أن تجيء هذه الآراء مستندة إلى النصوص المنزلة، أو ما ينبغي أن يتفرع عنها من مصادر أخرى لا تخرج عن أحكامها في محتواها ومبرراتها.
- أن لجوء الخليفة إلى استشارة أهل السابقة من كبار الصحابة العلماء في فقه الأحكام ومصادر الشرع، واستجابتهم بإخلاص النصح له، يؤكد أن أهل الشورى لهم مواصفات خاصة تميزهم، فالذين يستشارون هم أهل الفقه والفهم والورع والدراية، الواعون لدورهم، إنهم بعبارة أدق الذين لا إمعية في آرائهم، ومن دأبهم توطين أنفسهم على قول الحق وفعله، غير خائفين في ذلك لومة لائم من حاكم أو غيره.
__________
(1) الأبعاد السياسية لمفهوم الأمن في الإسلام، مصطفى منجود ص317، 318.(1/229)
- ثم يبقى القول أن ما حدث بصدور قرار عدم تقسيم الأراضي، يظل نموذجاً عالياً سار عليه الصحابة في كيفية التعامل وفق آداب الحوار وأخلاقيات مناقشة القضايا، وتقليب أوجهها المختلفة ابتداء بمرحلة التفكير في اتخاذ القرار بعدم تقسيم الأراضي -بصفة مباشرة، أو غير مباشرة- وعلى رأسهم الخليفة الذي لم يخرج عن هذه الآداب رغم اختلاف اجتهاداتهم بشأنه(1)، بل إن الفاروق رضي الله عنه بين بأن الحاكم مجرد فرد في هيئة الشورى، وأعلن الثقة في مجلس شورى الأمة، خالفته، أو وافقته والرد إلى كتاب الله، فقد قال رضي الله عنه: إني واحد منكم، كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ومعكم من الله كتابٌ ينطق بالحق(2).
- أهم الآثار الدعوية في هذا القرار:
من أهم هذه الآثار: القضاء نهائياً على نظام الإقطاع، فقد ألغى عمر رضي الله عنه كل الأوضاع الإقطاعية الظالمة التي احتكرت كل الأرض لصالحها واستعبدت الفلاحين لزراعتها مجاناً، فقد ترك عمر رضي الله عنه أرض السواد في أيدي فلاحيها يزرعونها مقابل خراج عادل يطيقونه يدفعونه كل عام، وقد اغتبط الفلاحون بقرار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتمليكهم الأرض الزراعية يزرعونها مقابل دفع الخراج الذي يستطيعونه مما جعلهم يشعرون لأول مرة في حياتهم أنهم أصحاب الأرض الزراعية لا ملكاً للإقطاعيين من الطبقة الحاكمة، وكان الفلاحون مجرد أجراء يزرعونها بدون مقابل، وكان تعبهم وكدهم يذهب إلى جيوب الطبقة الإقطاعية طبقة ملاك الأرض ولا يتركون لهم إلا الفتات(3).
- قطع الطريق على دعوة جيوش الروم والفرس بعد طردهم:
__________
(1) الأبعاد السياسية لمفهوم الأمن في الإسلام، مصطفى منجود ص317، 318.
(2) الدور السياسي للصفوة ص185.
(3) الدعوة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب حسني غيطاس ص130.(1/230)
لقد أدت سياسة عمر رضي الله عنه في تمليك الأرض لفلاحي الأمصار المفتوحة عنوة إلى شعورهم بالرضا التام كما تقدم وهذا مما جعلهم يبغضون حكامهم من الفرس والروم ولا يقدمون لهم أية مساعدات بل كانوا على العكس من ذلك يقدمون المساعدات للمسلمين ضدهم، حتى إن رستم القائد الفارسي دعا أهل الحيرة فقال: يا أعداء الله فرحتم بدخول العرب علينا بلادنا وكنتم عيوناً لهم علينا وقويتموهم بالأموال(1):
- مسارعة أهل الأمصار المفتوحة إلى الدخول في الإسلام:
فقد ترتب على ما تقدم من تمليك الأرض للفلاحين أن سارعوا إلى الدخول في الإسلام، الذي انتشر بينهم بسرعة مدهشة لم يسبق لها مثيل، فقد لمسوا العدل وتبين لهم الحق، وأحسوا بكرامتهم الإنسانية من معاملة المسلمين لهم(2).
- تدبير الأموال لحماية الثغور:
فقد امتدت الدولة الإسلامية صوب جهاتها الأربع وانتقلت أسماء الثغور إلى
ما وراء حدود الدولة في عصورها الأولى ومن أهم هذه الثغور، ما كان يعرف بالثغور الفراتية والتي كانت تمتد على طول خط استراتيجي يفصل ما بين الدولة الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية وغيرها من الثغور، وقد اتخذ عمر في كل مصر على قدره خيولاً، وقد وصلت قوات الفرسان المرابطين في الأمصار إلى أكثر من ثلاثين ألف فارس، وهذا بخلاف قوات المشاة وأي قوات أخرى كالجمالة وخلافه وهذه خصصها عمر كجيش منظم لحماية ثغور المسلمين وكفل أرزاقهم وصرفهم عن الاشتغال بأي شيء إلا بالجهاد في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، فكان الخراج من الأسباب التي ساقها المولى عز وجل لتجهيز هذه القوات وكفالة أرزاق أجنادها(3).
__________
(1) الدعوة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين عمر ص131 .
(2) نفس المصدر ص132 .
(3) نفس المصدر ص135 .(1/231)
إن الفاروق رضي الله عنه وضع قواعد نظام الخراج باعتباره مورداً من الموارد المالية الهامة لخزينة الدولة وكان يهدف من ورائه إلى أن يكون بيت المال قائماً بما يجب عليه من تحقيق المصالح العامة للأمة وحفظ ثغورها وتأمين طرقها ولا يتأتى ذلك إلا بإبقاء أصحاب الأرض التي تملكها المسلمون عنوة لقاء نسبة معينة مما تنتجه الأرض وهذا أمرٌ من شأنه أن يزيدهم حماساً في العمل ورغبة في الاستغلال والاستثمار ومقارنة ذلك بما كانوا يرهقون به من الضرائب من طرف أولياء أمورهم قبل وصول المسلمين(1).
4- العشور:
__________
(1) أهل الذمة في الحضارة الإسلامية ص63 .(1/232)
هي الأموال التي يتم تحصيلها على التجارة التي تمر عبر حدود الدولة الإسلامية سواء داخلة أو خارجة من أراضي الدولة وهي أشبه ما تكون بالرسوم الجمركية في العصر الحاضر، ويقوم بتحصيلها موظف يقال له (العاشر) أي الذي يأخذ العشور(1)، ولم يكن لهذه الضريبة وجود في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخليفته الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لأن تلك الفترة كانت فترة دعوة إلى الإسلام، والجهاد في سبيل نشره، وبناء الدولة الإسلامية، فلما اتسعت الدولة في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه، وامتدت حدودها شرقاً وغرباً وصار التبادل التجاري مع الدول المجاورة، ضرورة تمليها المصلحة العامة، رأى الخليفة عمر رضي الله عنه أن يفرض تلك الضريبة على الواردين إلى دار الإسلام، كما كان أهل الحرب يأخذونها من تجار المسلمين القادمين إلى بلادهم، معاملة بالمثل وقد أجمع المؤرخون(2)، أن أول من وضع العشر في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك عندما كتب إليه أهل منبج ومن وراء بحر عدن يعرضون عليه أن يدخلوا بتجارتهم أرض العرب وله منها العشر فشاور عمر في ذلك أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - فأجمعوا على ذلك، فهو أول من أخذ منهم العشور، ولكن عمر أراد أن يتأكد من مقدار ما تأخذه الدول الأخرى من تجار المسلمين إذا اجتازوا حدودهم، فسأل المسلمين كيف يصنع بكم الحبشة إذا دخلتم أرضهم؟ قالوا: يأخذون عشر
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص271، اقتصاديات الحرب ص223 .
(2) سياسة المال في الإسلام ص128 .(1/233)
ما معنا، قال: فخذوا منهم مثل ما يأخذون منكم(1)، وسأل أيضاً عثمان بن حنيف كم يأخذ منكم أهل الحرب إذا أتيتم دارهم؟ قال: العشر، قال عمر: فكذلك فخذوا منهم(2)، وروي أن أبا موسى الأشعري كتب إلى الخليفة عمر رضي الله عنه: إن تجاراً من قبلنا من المسلمين يأتون أرض الحرب فيأخذون منهم العشر، فكتب إليه الخليفة عمر رضي الله عنه: خذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين، وخذ من أهل الذمة نصف العشر، ومن المسلمين من كل أربعين درهماً درهماً، وليس فيما دون المائتين شيء، فإذا كانت مائتين ففيها خمسة دراهم،
__________
(1) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص651 .
(2) نفس المصدر ص651 .(1/234)
وما زاد فبحسابه(1)، وقد ساهم هذا التشريع الجديد في تنظيم العلاقات التجارية بين الدول، وقد حققت التجارة الإسلامية مكاسب كبيرة في عالم التجارة حيث فتحت أبواب الدولة الإسلامية للتجارة وجلبت البضائع والسلع إلى الدولة الإسلامية من كل أنحاء العالم وهذا بطبيعة الحال شجع التاجر المسلم والأجنبي على زيادة نشاطهم في التصدير، والاستيراد من كافة أنحاء العالم، وبذلك نشطت المراكز التجارية داخل بلاد الدولة الإسلامية بما فيها الجزيرة وزادت حركة القوافل التجارية القادمة والذاهبة من أقاليم الجزيرة إلى الأقاليم الإسلامية الأخرى، كما استقبلت موانئ بلاد الإسلام السفن الكبيرة التي تصل إليها من الهند والصين وشرقي أفريقية محملة بأغلى وأنفس البضائع وظهر ذلك جلياً في العصر الراشدي والدولة الأموية(2)، وقد كان في عهد عمر عشارون يأخذون زكاة ما يمر بهم من أموال التجار ويعتبرون النصاب والحول، قال أنس بن مالك، بعثني عمر بن الخطاب على جباية العراق، وقال: إذا بلغ مال المسلم مائتي درهم فخذ منها خمسة دراهم، وما زاد على المائتين، ففي كل أربعين درهماً، درهم(3) وذكر الشيباني أنّ عمر بن الخطاب بعث زياد بن جرير وقيل زياد بن حدير مصدّقا إلى عين التمر، وأمره بأن يأخذ من أموالهم ربع العشر، ومن أهل الذمة إذا اختلفوا بها للتجارة نصف العشر، ومن أموال أهل الحرب العشر، وجعل عمر بن الخطاب نفقة العاشر أي المصدّق من المال الذي يأخذه(4).
__________
(1) الخرج لأبي يوسف ص145،146 سياسة المال ص128 .
(2) التجارة وطرقها في الجزيرة العربية د. محمد العمادي ص332 .
(3) الحياة الإقتصادية في العصور الإسلامية الأولى ص101 .
(4) شرح السير الكبير (5/2133،2134) الحياة الاقتصادية ص101 .(1/235)
إن من يفكر في ذلك التحديد الذي رسمه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد يصل إلى أنه فرض العشر على الحربيين لمعاملتهم المسلمين كذلك، فهذا مبدأ المعاملة بالمثل، وأنه فرض نصف العشر على أهل الذمة تمييزاً لهم عن المسلمين، وتطبيقاً لما سبق أن فرضه على نصارى بني تغلب. الذين قبلوا أن تؤخذ منهم الجزية ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الصدقة، وأن ما قرره على المسلمين هو بمثابة زكاة، ومعروف نصاب الزكاة لعروض التجارة، وهو الذي جعله حداً أدنى لأخذها ومنع من تكرار أخذها من المسلمين وأهل الذمة، ما دام رأس المال ثابتاً والبضاعة الواردة لم تزد قيمتها عنه، ولو تكرر مرات دخولها، إلا بعد الحول، وتمشياً لمبدأ المعاملة بالمثل، فإنه حينما يرفع أهل الحرب ما يأخذونه من المسلمين من ضريبة، فيحق للمسلمين رفع الضريبة على ما يرد منهم إلى دار الإسلام بنفس النسبة، وكذلك الحال عند إسقاطهم لها، فعلى المسلمين إسقاطها عنهم. وهذا(1/236)
ما تسير عليه الدول حديثاً، ويسمى برفع الحواجز الجمركية(1)، وعندما يكون المسلمون في حاجة إلى بعض البضائع والمنتجات الواردة إليهم فإنهم يخفضون أو يعفون التجار من ضريبتها تشجيعاً لتوريدها، والإكثار منها، وقد فعل الخليفة عمر رضي الله عنه ذلك، حين أمر عماله أن يأخذوا نصف العشر من الحربيين حين دخولهم الحجاز بالزيت والحبوب، كما أمر بإعفائهم أحياناً أخرى، فعن الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه، أنه كان يأخذ من النَبَط من القطنية العشر، ومن الحنطة والزبيب نصف العشر، ليكثر الحمل إلى المدينة(2)، وقد كان لهذه التنظيمات المالية التي وجدت أيام الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، النفع الكبير في سهولة التبادل التجاري بين المسلمين وجيرانهم، وورود أصناف متعددة من متطلبات الناس واحتياجاتهم فهو لم يقتصر اهتمامه على تنظيم المواد الآتية إلى بيت المال، بل نظم الطرق التي بواسطتها وبسببها يزداد دخل بيت المال، وتنعم البلاد بالرخاء ورغد العيش، ومن ذلك اهتمامه بالتجارة الخارجية، وحسن معاملته لأهلها، وتتبعه العمال والأمراء، والكتابة إليهم بذلك وحرصه على استيفاء حقوق الدولة من غير تعسف في جبايتها(3).
5- الفيء والغنائم:
أما الفيء، فهو كل مال وصل المسلمين من المشركين من غير قتال، ولا بإيجاف خيل ولا ركاب، ويوزع خمس الفيء على أهل الخمس(4) الذين بينهم الله سبحانه في كتابه الكريم: { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } (الحشر،آية:7).
__________
(1) سياسة المال في الإسلام ص132 .
(2) سياسة المال في الإسلام ص133 .
(3) نفس المصدر ص133 .
(4) تاريخ الدعوة الإسلامية د. جميل عبد الله المصري ص322 .(1/237)
وأما الغنائم: فهي ما غلب عليه المسلمون من مال أهل الحرب حتى يأخذوه عنوة(1)، قال تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ(41) } (الأنفال،آية:41).
ففي خلافة عمر رضي الله عنه زادت الغنائم زيادة كبيرة لاتساع المناطق المفتوحة ولما كانت تتمتع به من ازدهار اقتصادي كبير، وكان القادة الفرس والروم يخرجون إلى الميدان بكامل أبهتهم، فيقع سلبهم للمسلم، وأحياناً يبلغ 15.000 درهم، و 30.000 درهم(2)، وقد فتحت المدن العظيمة كالمدائن وجلولاء وهمذان والري واصطخر وغيرها، فحاز المسلمون أموالاً عظيمة، مثل بساط كسرى، وهو 3600 ذراع مربعة أرضه مفروشة بالذهب وموشى بالفصوص وفيه رسوم ثمار بالجواهر، وورقها بالحرير، وفيه رسوم للماء الجاري بالذهب، وقد بيعت بعشرين ألف درهم (20.000 درهم) وحاز المسلمون الذهب والفضة والمجوهرات العظيمة من غنائم جلولاء ونهاوند، حيث بلغ خمس جلولاء ستة ملايين درهم(3)، وأعظم الغنائم هي أرض السواد التي وقفها عمر رضي الله عنه للدولة، وأراضي الصوافي التي قتل أصحابها أو فروا عنها، وأملاك كسرى وأهله، حيث جعلت غلتها للدولة، فكانت بإدارتها لصالح بيت المال، ويقال إن
غلتها – فيما بعد – بلغت سبعة ملايين درهم، فقد كانت الغنائم عظيمة القدر، وأنها أغنت المسلمين أفراداً ودولة وارتفعت بمستوى المعيشة وظهرت آثارها أكثر جلاء في خلافة عثمان رضي الله عنه(4).
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص19 نقلاً عن عصر الخلافة الراشدة ص183 .
(2) عصر الخلافة الراشدة ص188 .
(3) عصر الخلافة الراشدة ص189 .
(4) نفس المصدر ص189 .(1/238)
هذه هي أهم مصادر الدولة في عهد الفاروق رضي الله عنه.
ثانياً: بيت مال المسلمين وتدوين الدواوين:
بيت المال: هو المكان الذي ترد إليه جميع موارد الدولة، وهو كذلك المكان الذي تصرف منه جميع مصروفاتها من أعطيات الخلفاء والجيش والقضاة والعمال والمرافق العامة والخاصة للدولة وهكذا(1)، وأما الدواوين: فهي السجلات والدفاتر التي تسجل فيها أمور الدولة وقد أطلقت كلمة ديوان على المكان الذي يجتمع فيه الكتاب والموظفون العاملون بتلك السجلات عند الفرس(2)، وفي بداية الدولة الإسلامية لم يكن هناك بيت مال بالمعنى الذي عرف به فيما بعد فقد كانت سياسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تقوم على أن لا يؤخر تقسيم الأموال أو إنفاقها، وقد سار أبو بكر على نهج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونهج الفاروق طريق صاحبيه في أول خلافته، حتى اتسع سلطان الدولة شرقاً وغرباً، فبدأ بالتفكير في طريقة يدبر فيها ما تجمع لدى الخليفة من أموال الفتوحات وغنائمها، وإيرادات الجزية والخراج والصدقات فكثرت الجيوش واحتاجت إلى ضبط احتياجاتها وأسماء رجالها خوفاً من ترك أحدهم دون عطاء، أو تكرار العطاء للآخرين وتوالت حملات الفتح وانتصاراتها، فكثرت الأموال بشكل لم يكن معروفاً لدى المسلمين من قبل، فرأى أمير المؤمنين عمر أن لا طاقة للخليفة وأمرائه بضبطها، وأنه ليس من الحكمة الاقتصادية أن يترك زمام الأمور المالية بيد العمال والولاة دون أن يضبطها عداً أو يحصيها حساباً، فكان نتيجة ذلك التفكير ملياً في وضع قواعد ثابتة لهذه الأموال، ومن هنا نشأ الديوان، وكان عمر رضي الله عنه هو أول من وضع الديوان في الدولة الإسلامية(3) وقصة ذلك كما تناقلها المؤرخون: أن أبا هريرة قال: قدمت من البحرين بخمسمائة ألف درهم فأتيت عمر بن الخطاب رضي
__________
(1) سياسة المال في الإسلام ص155 .
(2) مقدمة ابن خلدون 243 ، سياسة المال في الإسلام ص155 .
(3) سياسة المال في الإسلام ص157 .(1/239)
الله عنه فسألني عن الناس، فأخبرته، ثم قال لي: ماذا جئت به؟ قال: قلت: جئت بخمسمائة ألف، قال: ويحك. هل تدري ما تقول؟ قلت: نعم، مائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف. قال: إنك ناعس، ارجع إلى أهلك، فنم، فإذا أصبحت فائتني، فلما أصبحت أتيته، فقال: ماذا جئت به؟ قلت جئت بخمسمائة ألف، قال: ويحك! هل تدري
ما تقول؟! قلت: نعم، مائة ألف، حتى عدها خمس مرات، يعدها بأصابعه الخمس قال أطيب؟ قلت: لا أعلم إلا ذلك. قال: فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم أن نكيلكم كيلاً، وإن شئتم أن نعدكم عداً فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد رأيت هؤلاء الأعاجم يدونون ديواناً لهم(1)، فاشتهى عمر ذلك(2)، وقد استشار عمر المسلمين في تدوين الدواوين، فأشار بعضهم بما يراه إلا أن الوليد بن هشام بن المغيرة، قال: جئت الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديواناً وجندوا جنداً، فدون ديواناً وجند جنداً وفي بعض الروايات أن الذي قال ذلك هو خالد بن الوليد(3)، وذكر بعض المؤرخين أنه كان بالمدينة بعض مرازبة الفرس، فلما رأى حيرة عمر قال له: يا أمير المؤمنين: إن للأكاسرة شيئاً يسمونه ديواناً جميع دخلهم وخرجهم مضبوطة فيه لا يشذ منه شيء، وأهل العطاء مرتبون فيه مراتب لا يتطرق عليها خلل، فتنبه عمر وقال: صفه لي، فوصفه المرزبان فدون الدواوين وفرض العطاء(4)، وقد حبذ عثمان التدوين فأشار برأيه: أرى مالاً كثيراً يسع الناس وإن لم يحصوا حتى يُعرف من أخذ ممن لم يأخذ، خشية أن ينتشر الأمر(5) هذه بعض الروايات التي حدثت بناء
__________
(1) الطبقات لابن سعد (3/300،301) خبر صحيح.
(2) مقدمة ابن خلدون ص244 ، الخراج لأبي يوسف ص48،49 .
(3) الأحكام السلطانية ص226،227 فتوح البلدان ص436 .
(4) الأحكام السلطانية ص226 ، تاريخ الإسلام السياسي (1/456).
(5) الأحكام السلطانية ص226 ، سياسة المال ص158 .(1/240)
على استشارة عمر رضي الله عنه في مرات متعددة لمن يحضرون عنده، وهناك اختلاف بين المؤرخين في السنة التي تم فيها التدوين، فمن قائل إن ذلك في السنة الخامسة عشرة للهجرة كالطبري وعنه أخذ ابن الأثير وغيرهم وقال آخرون إن ذلك كان في شهر محرم من سنة عشرين هجرية كالبلاذري، والواقدي، والماوردي وابن خلدون(1) وغيرهم والأرجح أن يكون تمّ في سنة عشرين هجرية، لأنه في سنة خمس عشرة كانت القادسية، ولم يستكمل فتح العراق والشام ومصر إلا بعدها(2) وقد سار عمر في تقسيم الأموال على خلاف ما سار عليه أبو بكر حيث كان الصديق يقسم الأموال بين الناس بالسوية، في حين قسم عمر أعطياتهم على حسب السابقة في الإسلام والفضل في الجهاد ونصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3)، وقد كان رأي الفاروق هذا من زمن الصديق وقال لأبي بكر لما رآه سوّى بين الناس قال له: أتسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين، وبين من أسلم عام الفتح خوف السيف؟ فقال له أبو بكر: إنما عملوا لله وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا دار بلاغ للراكب، فقال له عمر: لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه(4)، ولذلك قسم الفاروق الناس في العطاء إلى:
ذوو السوابق الذين بسابقتهم حصل المال.
من يغني المسلمين في جلب المنافع لهم كولاة الأمور والعلماء الذين يجلبون لهم منافع الدين والدنيا.
من يبلي بلاء حسناً في دفع الضرر عنهم كالمجاهدين في سبيل الله من الجنود والعيون والناصحين نحوهم.
ذوو الحاجات(5).
__________
(1) مقدمة ابن خلدون ص244 ، سياسة المال ص159 .
(2) سياسة المال في الإسلام ص159 .
(3) نفس المصدر ص159 .
(4) الأحكام السطانية للماوردي ص201 .
(5) السياسة الشرعية لابن تيمية ص48 ، أولويات الفاروق ص358 .(1/241)
هذه سياسته في التقسيم تضمنها قوله: ليس أحد أحق بهذا المال من أحد إنما هو الرجل وسابقته والرجل وغناؤه، والرجل وبلاؤه، والرجل وحاجته(1)، وقد دعا الفاروق عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وكانوا من شبان قريش وقال: اكتبوا للناس على منازلهم، فبدأوا ببني هاشم فكتبوهم ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم عمر وقومه، وكتبوا القبائل ووضعوها على الخلافة ثم رفعوه إلى عمر، فلما نظر فيه قال: لا، ما وددت أنه كان هكذا، ولكن ابدأوا بقرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - الأقرب فالأقرب، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله، فجاءت بنو عدي إلى الخليفة عمر رضي الله عنه وقالوا: إنك خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخليفة أبي بكر رضي الله عنه وأبو بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم الذين كتبوا فقال: بخ بخ يا بني عدي، أردتم الأكل على ظهري، وأن أهب حسناتي لكم لا، ولكنكم حتى تأتيكم الدعوة وأن ينطبق عليكم الدفتر - يعني ولو تكتبون آخر الناس - إن لي صاحبين سلكا طريقاً فإن خالفتهما خولف بي، ولكنه والله ما أدركنا الفضل في الدنيا ولا نرجو الثواب عند الله تعالى على عملنا إلا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو شرفنا وقومه أشراف العرب ثم الأقرب فالأقرب، ووالله لئن جاءت الأعاجم بعمل وجئنا بغير عمل لهم أولى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - منا يوم القيامة، فإن من قصر به عمله لم يسرع به نسبه(2)، وبدأ عمر رضي الله عنه تسجيله بديوان سجل فيه أصحاب الأعطيات ومقدار أعطياتهم، وسمَّى ديوان الجند على أساس أن جميع العرب المسلمين جنود للجهاد في سبيل الله، فبدأ سجله للجيش ببني هاشم الأقرب فالأقرب من رسول الله ثم بمن بعدهم طبقة بعد طبقة، وجعل لكل واحد من المسلمين مبلغاً محدداً، وفرض لزوجات
__________
(1) جامع الأصول (2/71) ، أخبار عمر ص94 .
(2) فتوح البلدان ص436 ، الأحكام السلطانية ص227 .(1/242)
النبي - صلى الله عليه وسلم - وسراريه، وسائر المسلمين من الرجال والنساء والأطفال منذ الولادة والعبيد بمقادير مختلفة(1)، وبإخراج هذا الديوان أظهر عمر اهتمامه بأمر الجهاد في سبيل الله، واعتنى بأمر المجاهدين حفظاً لحقوقهم، وعمل سجل الجند باللغة العربية بالمدينة المنورة على يد نفر من نوابغ قريش وعلماء الأنساب منهم، ثم أمر بعمل الدواوين في أقاليم الدولة الإسلامية، فدونت بلغة البلاد المفتوحة، ولم يتم تعريبها إلا في خلافة عبد الملك بن مروان وابنه الوليد، وبعد تدوين الدواوين صار عمر يجمع المال مدة سنة ثم يقسمه بين الناس، لأنه يرى أن جمعه أعظم للبركة، فكان جمع المال يستلزم أن يكون له أمناء فكان زيد بن أرقم على بيت المال في عهد عمر(2)، وروى أبو عبيد بسنده عن
عبد القاري من قبيلة القارة قال: كنت على بيت المال زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه(3).
ثالثاً: مصارف الدولة في عهد عمر:
تنقسم مصارف بيت المال إلى ثلاثة أقسام هي: مصارف الزكاة وما يتصل بها، ومصارف الجزية والخراج والعشور وما يتصل بها، ومصارف الغنائم وما يتصل بها، وقد بين القرآن الكريم، والسنة النبوية، وعمل الصحابة رضوان الله عليهم مصارف هذه الأبواب(4).
1- مصارف الزكاة:
ذكر المولى عز وجل ثمانية أصناف ممن تجب لهم الزكاة قال تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ(60) } (التوبة،آية:60).
__________
(1) سياسة المال في الإسلام ص160 .
(2) صبح الأعشى في قوانين الإنشاء للقلقشندي (1/89).
(3) فقه الزكاة (1/318) هذا المصدر والذي فوقه من سياسة المال ص160 .
(4) سياسة المال في الإسلام ص169 .(1/243)
وقد كان الفقراء والمساكين في عهد عمر رضي الله عنه يعطون من هذه الأموال
ما يبعدهم عن المسكنة والفقر، ويخرجهم من الفاقة والعوز، ويقربهم إلى أدنى مراتب الغنى واليسار(1)، وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: إذا أعطيتم فأغنوا(2)، وهذه هي السياسة العمرية الراشدة وهي إعطاء ما يكفي وزيادة النسبة للعجز المؤقت، أما العجز المزمن من مرضى ونحوه، فإن الزكاة بالنسبة لهذا الصنف من والبطالة بالكسب، وتتعدى هذه السياسة العمرية المسلمين فتشمل مساكين أهل الكتاب بعد إسقاط الجزية عنهم(3)، كما أن من نفقات الزكاة العاملين عليها فهم لهم وظائف شتى، وأعمال متشعبة، كلها تتصل بتنظيم الزكاة، وبإحصاء من تجب عليه؟ وفيم تجب؟ ومقدار ما يجب؟ ومعرفة من تجب له؟ وكم عددهم؟ ومبلغ حاجتهم، وقدر كفايتهم، إلى غير ذلك من الشؤون التي تحتاج إلى جهاز كامل من الخبراء وأهل الاختصاص ومن يعاونهم(4)، وأما المؤلفة قلوبهم، فقد أسقط عمر سهمهم، وذلك لأن الإسلام كان قوي الجانب في خلافته فلا حاجة للانفاق من أموال الزكاة على هذا الصنف من الأصناف الثمانية التي نصت عليها الآية(5)، وأما في عصرنا الحاضر فلا يزال التأليف موجوداً بصورة أو أخرى، ويوجد من تنطبق عليهم شروط المؤلفة قلوبهم(6)، وقد استغل بعض خصوم الإسلام ودعاة الجمود من المسلمين إسقاط نصيب المؤلفة قلوبهم من الزكاة في عهد عمر فكتبوا عن هذه القصة، وادعوا أن عمر رضي الله عنه، بهذا أوقف نصاً من نصوص القرآن الكريم، وهذا الادعاء ليس بصحيح، كما أنه لا يتفق مع الحقيقة فالواقع أن الخليفة عمر رضي الله عنه أوقف نصيب المؤلفة قلوبهم لسبب وحكمة، وهي أن الإسلام أصبح
__________
(1) النظام الإسلامي المقارن ص112 ، سياسة المال ص171 .
(2) الأموال لأبي عبيد (4/676)، سياسة المال ص171 .
(3) سياسة المال في الإسلام ص172 .
(4) نفس المصدر ص173 .
(5) عصر الخلافة الراشدة ص202 .
(6) سياسة المال في الإسلام ص175 .(1/244)
عزيزاً قوياً بعد أن كان ضعيفاً في عهده الأول، ورأى رضي الله عنه أنه لا داعي لتأليف هؤلاء وهؤلاء بعد العزّة والنصر والقوة(1).
وقد وافق الصحابة على قرار الفاروق، ولم تأت هذه الموافقة اعتباطاً وإنما نتيجة الاقتناع بالمبررات التي دفع بها لإيقاف إعطاء المؤلفة قلوبهم من حيث إن الإسلام قد غدا في قوة ومكنة تجعلانه في غنى عن عدد قليل لا وزن له، بعد دخول أمم كثيرة في الإسلام، كما أنه ليس ثمة خوف من هؤلاء الذين يطلبون التأليف، بل كان الخوف عليهم أن يظلوا على نزعتهم التواكلية، ثم إن حق هؤلاء ليس حقاً موروثاً يتوارثونه جيلاً بعد جيل(2)،إن عمر لم يقف جامداً أمام هذا النص فيما يتصل بسهم المؤلفة قلوبهم، فهو قد فهم أن المقصود من النص هو إعزاز الإسلام بدخول أشراف العرب فيه، وتثبيت من أسلم منهم على الإسلام، فقد نظر إلى علة النص لا إلى ظاهره، وحيث أعز الله الإسلام وكثر أهله فقد أصبح الإعطاء حينئذ –في نظر عمر- ذلة وخنوعاً، وزالت العلة التي من أجلها جعل الله للمؤلفة قلوبهم نصيباً من الزكاة وبناء على ذلك أوقف عمر هذا السهم ولم يعطه لهم، وبناء على هذا الفهم الصحيح لا يجوز أن نقول إن عمر ألغى العمل بالنص القرآني المتعلق بإعطاء المؤلفة قلوبهم نصيباً من الزكاة لأن ذلك من قبيل النسخ، ولا نسخ إلا من طرف صاحب الشرع نفسه وعليه فلا نسخ بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -(3)، لقد كان عمر رضي الله عنه يراعي تغير الظروف والعلل التي بنيت عليها نصوص الأحكام، ولم يكن يقف مع ظواهرها كما سبق القول(4)، كما كان الإنفاق في الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله وابن السبيل، وقد اعتنى القرآن الكريم بابن السبيل أيّما اعتناء، فقد جعل له سهماً من الزكاة ونصيباً من
__________
(1) سياسة المال في الإسلام ص177،178 .
(2) الأبعاد السياسية لمفهوم الأمن في الإسلام ص306 .
(3) الاجتهاد في الفقه الإسلامي ص132، 133.
(4) المصدر نفسه ص134.(1/245)
الفيء ومن خمس الغنائم، وعناية الإسلام بالمسافرين الغرباء والمنقطعين عناية فذة لم يعرف لها نظير في نظام من الأنظمة أو شريعة من الشرائع، ويؤكد هذه العناية هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - والصديق، كما أن عمر بن الخطاب رضي الله اتخذ في عهده داراً خاصة أطلق عليها (دار الدقيق)، وذلك أنه جعل فيها الدقيق والسويق والتمر والزبيب
وما يحتاج إليه، يعين به المنقطع به، والضيف ومن ينزل بعمر، ووضع عمر في طريق السبل ما بين مكة والمدينة ما يصلح من ينقطع به، ويحمل من ماء إلى ماء(1).
إن هذا التحديد للأصناف الثمانية يوجب على الدولة حصرهم وتتبع حالتهم وأن يكون هناك سجلات في كل بلد، ثم في المقر الرئيسي للدولة، وقد كان للصدقة ديوان خاص بها في دار الخلافة، له فروع في سائر الولايات وقد كان ذلك في عهد الخليفة عمر (رضي الله عنه) بعد تدوين الدواوين(2)، إن نظرة إلى تلك الأصناف الثمانية الذين ذكرتهم الآية نلاحظ أنها قد شملت المصالح الدينية والسياسية والاجتماعية من دعوة للجهاد في سبيل الله، وتكوين الجيوش، والعمل على القضاء على الفقر، وسداد الدين، ودفع الحاجة عن ذوي الحاجة، أي أنها تشمل كل متطلبات المجتمع وإيجاد الأمن والمحبة والتآلف بين أفراده(3).
2- مصارف الجزية والخراج والعشور:
تصرف في أعطيات الخلفاء، والعمال والجند، وآل البيت، وزوجات المجاهدين وغيرها من أوجه الخير.
- أعطيات الخليفة: وقد فرض للخليفة عمر رضي الله عنه من الأعطيات خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم على رواية أخرى.
أعطيات العمال:
__________
(1) الطبقات (3/283).
(2) سياسة المال في الإسلام ص184.
(3) سياسة المال في الإسلام ص184.(1/246)
أي ولاة الأقاليم، ففي عهد الخليفة عمر (رضي الله عنه)، عين الفاروق في كل ولاية، واليا حازماً عادلاً لحكمها وإدارتها، وزوده بعدد من الأعوان والمساعدين والجباة والقضاة والكتّاب وعمال الخراج، والصدقات وغيرهم، فكان للصلاة والحرب عامل –وهو الأمير- ولتحصيل الأموال عامل آخر، ولمساحة الأراضي وتقدير الضرائب وإحصاء الناس عمّال لهم خبرة ودراية، وقد أجرى لهم الأعطيات بما يتناسب مع منصب كل منهم وما تتطلبه أعماله، مراعياً في ذلك حالة الإقليم من قرب وبعد، وتوفر خيرات، ورخص وغلاء، ولم يجعل لصرفها موعداً ثابتاً لا يتخلف(1) وسيأتي الحديث عن العمال بالتفصيل بإذن الله عند حديثنا عن مؤسسة العمال.
أعطيات الجند:
__________
(1) سياسة المال في الإسلام ص198.(1/247)
اهتم عمر رضي الله عنه بأمر الجند فنظم ديوان الجيش، وسار في تقسيم الأرزاق فيه على أساس القربى من النسب النبوي الشريف، والسابقة للإسلام(1)، وبذلك أصبح في مقدمة أصحاب المعاشات آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم بنو هاشم وكان العباس يتسلمها ويوزعها عليهم، ثم زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - وتختص كل واحدة بمعاش مستقل عن آل البيت أما بقية المسلمين فقد قسموا إلى طبقات حسب ترتيب اشتراكهم في الجهاد في سبيل الله، فبدأ بأهل بدر، ثم من حاربوا بعد بدر إلى الحديبية، ثم من حاربوا من الحديبية إلى آخر حروب الردة ثم من تلاهم من شهد القادسية واليرموك وهكذا، كما أنه جعل مخصصات لزوجات المحاربين وأطفالهم منذ الولادة ولم يغفل أمر الغلمان، واللقطاء، بل خصص لهم أعطيات سنوية، أدناها مائة درهم، تتزايد عند بلوغهم(2)، كما فرض للموالي من ألفين إلى ألف(3)، وقد وردت روايات كثيرة تتفق فيما بينها في كثير من أرقام المقررات التي قررها الخليفة عمر (رضي الله عنه) أعطيات للجند، وتختلف بعض الاختلافات في تلك المقادير(4)، وأما ما صح من مقادير العطاء، فإن عطاء زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عشرة آلاف درهم (10000 درهم) كل سنة إلا جويرية وصفية وميمونة فقد فرض لهن أقل من ذلك ثم زاد عطاءهن إلى اثني عشر ألف درهم
__________
(1) الأحكام السلطانية ص227، سياسة المال ص119.
(2) الطبقات (3/301).
(3) تاريخ اليعقوبي (2/153،154).
(4) سياسة المال في الإسلام ص200.(1/248)
(12000 درهم) إلا صفية وجويرية كان عطاؤهن ستة آلاف درهم (6000 درهم)، وقد طالبت عائشة بالمساواة بين أمهات المؤمنين، فوافق عمر على مساواتهن، وكان عطاء المهاجرين والأنصار أربعة آلاف درهم (4000 درهم) لكل واحد سنوياً سوى عبد الله بن عمر بن الخطاب فإنه فرض له ثلاثة آلاف وخمسمائة درهم (3500 درهم) معللاً ذلك بأنه هاجر به أبوه أي ليس كمن هاجر بنفسه(1)، وكان عبد الله صبياً حين الهجرة، ثم زاد المهاجرين ألفاً فصار عطاؤهم خمسة آلاف درهم (5000 درهم) كل سنة(2)، ويبدو أن هذا العطاء للبدريين فقط من المهاجرين والأنصار(3)، وأما من شهد صلح الحديبية فكان عطاؤه ثلاثة آلاف درهم (3000 درهم) كل سنة(4)، وفرض لكل مولود مائة درهم (100 درهم) وكان يفرض للفطيم ثم فرض للمولود حين ولادته خوفاً من تعجيل فطامه، وأما الموالي فقد فرض لأشرافهم كالهرمزان حينما أسلم ألفي درهم (2000 درهم) وغير ذلك من الأعطيات، وإضافة إلى العطاء السنوي فإن عمر رضي الله عنه كان يوزع عطايا متفرقة(5)، وإلى جانب ما خصص لكل فرد ممن سبق ذكرهم وزيادة على عطائه السابق طعام من الحنطة كل شهر(6)، وقد قال الخليفة عمر رضي الله عنه في آخر عهده: لئن كثر المال لأفرضن لكل رجل أربعة آلاف درهم، ألف لسفره، وألف لسلاحه، وألف يخلفها لأهله، وألف لفرسه وبغله(7)، وقد رأى الخليفة عمر رضي الله عنه أن لكل مسلم حقاً في بيت المال، منذ أن يولد حتى يموت، ولقد أعلن هذا المبدأ بقوله: والله الذي لا إله إلا هو
__________
(1) عصر الخلافة الراشدة ص214.
(2) نفس المصدر ص214.
(3) نفس المصدر ص214.
(4) نفس المصدر ص215.
(5) نفس المصدر ص215.
(6) سياسة المال في الإسلام ص202.
(7) سياسة المال في الإسلام ص203، الطبقات الكبرى (3/298).(1/249)
-ثلاثاً- ما من أحد إلا له في هذا المال حق أُعطيَه أو مُنِعَه، وما أحد بأحق به من أحد إلا عبد مملوك، وما أنا فيه إلا كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله وقسمنا من رسول الله فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو مكانه قبل أن يُخمَّرَ وجهه(1)، ومن المهم أن نتبين وجهة نظر عمر رضي الله عنه في عدم المساواة بين المسلمين في العطاء، ودعمه الواضح لقرابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكبار الصحابة من المهاجرين والأنصار واعتباره للسابقة في الإسلام والبلاء في الجهاد، فلا شك أن الفئة التي حازت الأموال الوفيرة في خلافته هي التي أقامت على أكتافها صرح الدولة الإسلامية، كما أنها أكثر فقهاً والتزاماً بالشرع ومقاصده، وأكثر ورعاً وصلاحاً في التعامل مع المال، وتذليله لتحقيق المقاصد الاجتماعية عن طريق الانفاق، ودعم هذه الفئة اقتصادياً يقوي نفوذها في المجتمع، ويجعلها أقدر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويلاحظ أن عمر رضي الله عنه عزم على تبديل سياسة التفضيل في العطاء إلى المساواة، وقد صرّح بذلك في آخر خلافته قائلاً: لئن بقيت إلى قابل، لألحقن آخر الناس بأولهم ولأجعلنهم بياناً واحداً(2) –أي سواء- وأما عن نظرة عمر إلى الأموال العامّة فقد عبّر عنها بقوله: إن الله جعلني خازناً لهذا المال، وقاسماً له، ثم قال: بل الله يقسمه(3)، وقد بكى عندما رأى عظمة الأموال التي جلبت إلى بيت المال في فتوح فارس، فلما ذكره عبد الرحمن بن عوف بأنه يوم شكر وسرور وفرح وقال عمر: كلا إن هذا لم يعطه قوم إلا ألقي بينهم العداوة والبغضاء(4)
__________
(1) الطبقات الكبرى (3/299) كتاب الخراج لأبي يوسف ص50.
(2) عصر الخلافة الراشدة ص216، الأموال ابن زنجويه (2/576).
(3) الأثر صحيح، عصر الخلافة الراشدة ص216.
(4) عصر الخلافة الراشدة، ص217 الأثر صحيح.(1/250)
، ونظر إلى أموال فتح جلولاء فقرأ الآية { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } (آل عمران،آية:14) وقال: اللهم لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، اللهم فاجعلني أنفقه في حقه وأعوذ بك من شره(1).
3- مصارف الغنائم:
أما توزيع الغنائم فقد قسمها الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الآية الكريمة، قال تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ... } (الأنفال،آية:41)، وأما أربعة أخماس الغنيمة الباقية فكانت توزع بين الغانمين للفارس ثلاثة أسهم -سهمان لفرسه وسهم له
__________
(1) عصر الخلافة الراشدة ص217 الأثر حسن.(1/251)
وللراجل سهم(1)، وقد كان للرسول - صلى الله عليه وسلم - سهم في حياته ينفقه على نفسه، وأزواجه، وما بقي من هذه الأسهم كان يجعله في المصالح العامة أو ينفقه على أهل الفاقة والاحتياج، وكان لذوي قربى الرسول - صلى الله عليه وسلم - - السهم الثاني، وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب الذين خضعوا للإسلام وشملتهم دعوته (عليه الصلاة والسلام) وقد اختلف الناس بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذين السهمين، سهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وسهم ذوي القربى، فقال قوم: سهم الرسول للخليفة من بعده، وقال آخرون: سهم ذوي القربى لقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالت طائفة: سهم ذوي القربى لقرابة الخليفة من بعده، فأجمعوا على أن جعلوا هذين السهمين في الكراع والسلاح(2)، وبذلك أصبحت مخصصات السهمين تصرف في مصالح المسلمين العامة، كتجهيز الجيوش، وسد الثغور، والعمل على تقوية الدولة وتمكينها، في عهد الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأما مخصصات الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، فقد بقيت كما كانت على أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يطرأ عليها أي تغيير أو تعديل في أيام الخليفة الثاني رضي الله عنه(3).
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص22.
(2) الخراج لأبي يوسف ص22.
(3) سياسة المال في الإسلام ص205، 206.(1/252)
هذه بعض المعالم الواضحة على المؤسسة المالية في زمن الفاروق وكيف عمل على تطويرها، وقد كان رضي الله عنه شديد الورع في المال العام ويظهر ذلك في قوله: أنا أخبركم بما أستحل من مال الله، حلة الشتاء والقيظ وما أحج عليه وأعتمر من الظهر، وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، أنا رجل من المسلمين يصيبني ما يصيبهم(1)، وكان يقول: اللهم إنك تعلم أني لا آكل إلا وجبتي، ولا ألبس إلا حلتي، ولا آخذ إلا حقي(2) وكان يقول: إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم، من كان غنياً فليستعفف، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف(3).
4- أمور متعلقة بالتطوير الاقتصادي في الدولة:
إصدار النقود الإسلامية:
تعتبر النقود من المعادن الثمينة كالذهب والفضة وهي وسيلة ضرورية للحياة الاجتماعية الخاصة والعامة، لا سيما في التعامل بين الأمم والدول، وما يعنينا من هذا الموضوع - وقد أصبح للإسلام دولة فيها مسلمون وغيرهم من الناس، ويجاورها أمم ودول ذات نظم وحضارات، ظلت تتعامل مع الدولة الإسلامية في عهد عمر وغيره من خلفاء وأمراء المسلمين - هو الناحية التنظيمية والإدارية التي سلكها عمر بشأن النقود، سواء أكان في داخل الدولة الإسلامية أم في دور الحرب الأخرى(4)، فالمعلومات التاريخية تشير إلى: أن عمر بن الخطاب قد أبقى على تداول النقود والعملة التي كانت متداولة قبل الإسلام وفي عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر بما كان عليها من نقوش هرقلية عليها نقوش مسيحية أو كسروية رُسم فيها بيت النار، بيد أنه أقرها على معيارها الرسمي المعروف على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) تاريخ المدينة لابن شبة (2/698) الأثر صحيح.
(2) نفس المصدر (2/698)، عصر الخلافة الراشدة ص218.
(3) الطبقات (3/313)، عصر الخلافة الراشدة ص218.
(4) الإدارة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب ص364 .(1/253)
وأبي بكر، مضيفاً إليها كلمة جائز، لتمييزها من البهارج الزائفات(1)، فالذي ضرب النقود المسكوكة في الخارج وأقر التعامل بها وقرر الدرهم الشرعي في الإسلام هو الفاروق رضي الله عنه يقول الماوردي: إن عمر بن الخطاب هو الذي حدد مقدار الدرهم الشرعي(2)، ويقول المقريزي: وأول من ضرب النقود في الإسلام عمر بن الخطاب سنة ثماني عشر من الهجرة على نقش الكسروية وزاد فيها: الحمد لله. وفي بعضها: لا إله إلا الله، وعلى جزء منها اسم الخليفة عمر(3)، وعليه فإن الفاروق رضي الله عنه قد وضع تنظيماً خاصاً لوسيلة من وسائل الحياة الضرورية للمسلمين وغيرهم أثناء حكمه وقد تبعه الخلفاء الراشدون وغيرهم ممن طوروا هذا الأمر مع تطور وتقدم المدنية والحضارة(4).
الإقطاع:
مضى أبو بكر رضي الله عنه في تطبيق السياسة النبوية في إقطاع الأراضي للناس طلباً لاستصلاحها فقد أقطع الزبير بن العوام أرضاً مواتاً ما بين الجرف وقناة(5)، وأقطع مجاعة بن مرارة الحنفي الخضرمة (قرية كانت باليمامة) وأراد إقطاع عيينة بن حصن الفزاري والأقراع بن حابس التميمي أرضاً سبخة – ليس فيها كلأ
__________
(1) نفس المصدر ص366 .
(2) الأحكام السلطانية ص147 .
(3) شذور العقود في ذكر النقود ص31-33 .
(4) الإدارة العسكرية في عهد عمر ص367 .
(5) الطبقات الكبرى (3/104) الأثر صحيح، عصر الخلافة الراشدة ص220 .(1/254)
ولا منفعة – أرادا استصلاحها ثم عدل عن ذلك أخذاً برأي عمر رضي الله عنه في عدم الحاجة لتأليفهما على الإسلام فقد قال لهما عمر رضي الله عنه: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله عز وجل قد أعز الإسلام، فاذهبا فأجهدا جهدكما(1)، ومن الواضح أن اعتراض عمر ليس على مبدأ الإقطاع لاستصلاح الأراضي بل على أشخاص بعينهم لا يرى تأليفهم على الإسلام، وقد توسع عمر رضي الله عنه في إقطاع الأراضي لغرض استصلاحها جرياً على السياسة النبوية، فقد أعلن: يا أيها الناس من أحيا أرضاً ميتة فهي له(2)، وتعتضد آثار ضعيفة لتؤكد انتزاع عمر رضي الله عنه ملكية الأرض المقتطعة إذا لم يتم استصلاحها، وتحدد رواية ضعيفة لذلك ثلاث سنوات من تأريخ الإقطاع وقد ثبت إقطاع عمر رضي الله عنه لخوات بن جبير أرضاً مواتاً(3) وللزبير بن العوام أرض العقيق جميعها، ولعلي بن أبي طالب أرض ينبع، فتدفق فيها الماء الغزير، فأوقفها علي رضي الله عنه صدقة على الفقراء، وتوجد آثار ضعيفة لإقطاعه عدداً من الصحابة الآخرين(4).
المبحث الثاني: المؤسسة القضائية:
__________
(1) البخاري، التاريخ الصغير (1/81)، عصر الخلافة الراشدة ص221 .
(2) عصر الخلافة الراشدة ص221 الأثر صحيح.
(3) نفس المصدر ص221 .
(4) نفس المصدر ص222 .(1/255)
عندما انتشر الإسلام، واتسعت رقعة الدولة في عهد عمر، وارتبط المسلمون بغيرهم من الأمم، دعت حالة المدنية الجديدة إلى تطوير مؤسسة القضاء، فقد كثرت مشاغل الخليفة، وتشعبت أعمال الولاة في الأمصار، وزاد النزاع والتشاجر، فرأى عمر رضي الله عنه أن يفصل الولايات بعضها عن بعض وأن يجعل سلطة القضاء مستقلون، حتى يتفرغ الوالي لإدارة شؤون ولايته، فأصبح للمؤسسة القضائية قضاة مستقلين، عن الولايات الأخرى، كولاية الحكم والإدارة فكان عمر بهذا أول من جعل للقضاء ولاية خاصة، فعين القضاة في الأمصار الإسلامية، في الكوفة والبصرة والشام، ومصر، وجعل القضاء سلطة تابعة له مباشرة، سواء كان التعيين من الخليفة، أو كان بتفويض أحد ولاته بذلك نيابة عنه، وهذا يدل على أن القيادة الإسلامية متمثلة في شخصية الفاروق، لم تكن عاجزة عن وضع قواعد أصلية، في تنظيم الدولة وترتيب شؤونها، وتحديد سلطاتها وإذا كانت أوربا قد اكتشفت هذه القاعدة بصورة نظرية في القرن الثامن عشر، واعتبرتها فتحاً جديداً في تنظيم الدولة، وفي رعاية حقوق المواطنين، يوم تحدث عنها (مونتسكو) في كتابة روح الشرائع، ولكن لم يكتب لهذه القاعدة التطبيق العملي إلا في أوائل القرن التاسع عشر، أي بعد الثورة الفرنسية، فإن الإسلام قد أقرّها قبل أربعة عشر قرناً، واعتبرها أصلاً من أصول نظامه وقد كان هذا الأصل من زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أرسل معاذاً إلى اليمن وسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما تقضي يا معاذ؟ فبين معاذ أنه يقضي بكتاب الله، فإن لم يجد فبسنة رسول الله، فإن لم يجد يجتهد رأيه(1/256)
ولا يألو، فأقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك(1) وأما الفاروق، فقد قام بتطوير المؤسسة القضائية وما يتعلق بها من أمور، وأصبح في عهده مبدأ فصل القضاء عن غيره من السلطات واضحاً في حياة الناس ولم يكن استقلال ولاية القضاء مانعاً لعمر رضي الله عنه من أن يفصل في بعض القضايا، وربما ترك بعض ولاته يمارسون القضاء مع السلطة التنفيذية، ويراسلهم في الشؤون القضائية، فقد راسل المغيرة بن شعبة في أمر القضاء وكان واليه على البصرة ثم الكوفة، وراسل معاوية واليه على الشام في النزاع القضائي، وراسل أبا موسى الأشعري في شأن بعض القضايا، وكان القاضي يعين للولاية كلها، سواء أكان تعيينه من قبل الخليفة أم كان من قبل الوالي بأمر الخليفة، وكان مقر القاضي حاضرة الولاية وإليه ترجع السلطة القضائية في ولايته(2)، وقد تم فصل السلطة القضائية في الولايات الكبيرة على الغالب، مثل الكوفة، ومصر، وقد جمع لبعض ولاته بين الولاية والقضاء إذا كان القضاء لا يشغلهم عن شؤون الولاية، وراسلهم بهذا الوصف في شؤون القضاء، وأنه كان يقوم بالقضاء في بعض الأحيان مع وجود قضاة له بالمدينة(3)، ومن القضاة الذين قصرهم الفاروق في خلافته على القضاء وحده:
عبد الله بن مسعود: ولاه عمر قضاء الكوفة، فقد روى قتادة عن مجلز أن عمر بن الخطاب بعث عمار بن ياسر على صلاة أهل الكوفة، وبعث عبد الله بن مسعود على بيت المال والقضاء(4).
سلمان بن ربيعة: ولاه عمر القضاء على البصرة ثم القادسية.
قيس بن أبي العاص القرشي تولى قضاء مصر.
وأما الذين جمعوا بين الولاية والقضاء فمنهم:
__________
(1) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (2/53).
(2) القضاء في الإسلام، عطية مصطفى ص77 .
(3) النظام القضائي في العهد النبوي والخلافة الراشدة، القطان ص47 .
(4) أخبار القضاء لوكيع (2/188).(1/257)
نافع الخزاعي والي مكة، ذكر ابن عبد البر أن عمر بن الخطاب استعمله على مكة وفيهم سادة قريش، ثم عزله وولى خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي(1).
يعلى بن أمية والي صنعاء.
سفيان بن عبد الله الثقفي والي الطائف.
المغير بن شعبة والي الكوفة.
معاوية بن أبي سفيان والي الشام.
عثمان بن أبي العاص الثقفي والي البحرين وعمان.
أبو موسى الأشعري والي البصرة.
عمير بن سعد والي حمص.
ومن هؤلاء من أبقاه الفاروق على القضاء مع الولاية، كما فعل مع معاوية، ومنهم من فصل القضاء عن سلطته وقصره على الولاية كما فعل مع المغيرة، وأبي موسى الأشعري، ومن قضاة الفاروق بالمدينة:
علي بن أبي طالب.
زيد بن ثابت رضي الله عنه فقد روي عن نافع: أن عمر استعمل زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقاً(2).
السائب بن أبي يزيد(3).
أولاً: من أهم رسائل عمر إلى القضاة:
__________
(1) النظام القضائي في العهد النبوي ص49 .
(2) أخبار القضاء لوكيع (1/108).
(3) وقائع ندوة النظم الإسلامية في أبي ظبي (1/375).(1/258)
إن الفاروق رضي الله عنه وضع دستوراً قويماً في نظام القضاء والتقاضي، وقد اهتم كثير من أعلام الفقه الإسلامي بشرح هذا الدستور والتعليق عليه، ونجد الدستور العمري في القضاء في رسالته لأبي موسى الأشعري وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن لخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس(1)، سلام عليك، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أُدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آسِ(2) بين الناس في وجهك وعَدْلِكَ ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك(3)، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادّعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرّم حلالاً، لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت فيه عَقْلَكَ، وهُدِيتَ فيه لرشدك: أن ترجع إلى الحقِّ، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التّمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعْرِف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك واعْمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحقِّ واجعل لمن ادّعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بيِّنته أخذت له بحقه وإلا استحْللت(4)،عليه القضيّة، فإنه أنفى للشك، وأجْلى للعَمَى، المسلمون عدول(5)، بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حدِّ، أو مُجرّباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السَّرائر، ودرأ(6) بالبينات والأيمان، وإياك والغلق(7)، والضجر والتأذي للخصوم، والتنكر عند الخصومات فإن القضاء في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذُّخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن
__________
(1) عبد الله بن قيس هو أبو موسى الأشعري.
(2) أسى بينهم: سوُى
(3) حيفك: ظلمك.
(4) استحللت: سأله أن يُحِله له.
(5) عُدول: هو المستقيم في أمره.
(6) درأ الشيء: دفعه.
(7) الغلق: ضاق صدره وقلّ صبره.(1/259)
تخلَّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه: شانه الله فما ظنك بثواب الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام(1)، وقد جمعت هذه الرسالة العجيبة آداب القاضي، وأصول المحاكمة، وقد شغلت العلماء بشرحها والتعليق عليها هذه القرون الطويلة ولا تزال موضع دهشة وإكبار لكل من يطلع عليها، ولو لم يكن لعمر من الآثار غيرها، لعد بها من كبار المفكرين والمشرعين ولو كتبها رئيس دولة في هذه الأيام التي انتشرت فيها قوانين أصول المحاكمات، وصار البحث فيها مما يقرؤه الأولاد في المدارس، لكانت كبيرة منه، فكيف وقد كتبها عمر منذ نحو أربعة عشر قرناً، ولم ينقلها من كتاب ولا استمدها من أحد، بل جاء بها في ذهنه، ثمرة واحدة من آلاف الثمرات، للغرسة المباركة التي غرسها في قلبه محمد - صلى الله عليه وسلم -، حين دخل عليه في دار الأرقم، فقال أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله(2)، ومن الرسائل المهمة في هذا الباب رسالة الفاروق إلى أبي عبيدة رضي الله عنه: أما بعد فإني كتبت إليك بكتاب لم آلك ونفسي خيراً، الزم خمس خصال يسلم لك دينك، وتأخذ بأفضل حظَّيك: إذا حضر الخصمان فعليك بالبينات العدول، والأيمان القاطعة، ثم ادن الضعيف حتى تبسط لسانه، ويجترئ قلبه، وتعهّد الغريب فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته وانصرف إلى أهله، وإنّ الذي أبطل من لم يرفع به رأساً. واحرص على الصلح ما لم يستبن لك القضاء. والسلام(3) وكتب رضي الله عنه إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما في القضاء: أما بعد، فإني كتبت إليك بكتاب في القضاء لم آلك ونفسي فيه خيراً، الزم خمس خصال يسلم لك دينك، وتأخذ فيه بأفضل حظك: إذا تقدم إليك خصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة، وأدْن الضعيف حتى يشتدّ قلبه وينبسط لسانه، وتعهد الغريب، فإنك إن لم تتعهده ترك
__________
(1) أعلام الموقعين لابن القيم (1/85).
(2) أخبار عمر ص174 .
(3) مجموعة الوثائق السياسية ص438 .(1/260)
حقه، ورجع إلى أهله، وإنما ضيع حقه من لم يرفق به، وآسِ بينهم في لحظك وطرفك، وعليك بالصلح بين الناس، مالم يستبن لك فصل القضاء(1)، وكتب إلى القاضي شريح عن الاجتهاد: إذا أتاك أمر فاقض فيه بما في كتاب الله فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سنَّ فيه رسول الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسنّه رسول الله ولم يتكلم فيه أحد فأيّ الأمرين شئت فخذ به وفي رواية أخرى: فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيراً لك(2)، ويمكن للباحث من خلال رسائل الفاروق وحياته في زمن خلافته أن يستخرج ما يتعلق بالمؤسسة القضائية في الأرزاق والعزل، وأنواع القضاة وصفاتهم وما يجب عليهم ومصادر أحكامهم وخضوع الخليفة نفسه للقضاء وغير ذلك من المسائل المتعلقة بهذه المؤسسة.
ثانياً: تعيين القضاة ورزقهم واختصاصهم القضائي:
1- تعيين القضاة:
__________
(1) البيان والتبيين (2/150).
(2) جامع بيان العلم وفضله (2/70).(1/261)
يصدر تعيين القضاة من الخليفة رأساً فقد عين عمر بن الخطاب شريحاً بالكوفة، أو يكون التعيين من الوالي بتفويض من الخليفة، كما عيّن عمرو بن العاص والي مصر عثمان بن قيس بن أبي العاص قاضياً بها فحق تعيين القاضي إلى الخليفة، إن شاء عينه بنفسه، وإن شاء فوّضه إلى واليه ولم يكن تعيين القضاة مانعاً من أن يتولى الخليفة القضاء بنفسه، لأن القضاء من سلطاته، وهو الذي يتعهد بالقضاء إلى غيره، فالحق الأول في القضاء إليه ولا يكتسب القاضي الصفة القضائية إلا إذا عيّنه الخليفة بنفسه، أو بواسطة واليه(1)، ويجوز للخليفة أن يعزل القاضي لسبب من الأسباب الداعية إلى ذلك، كما إذا زالت أهلية القاضي وصلاحيته للحكم، أو ثبت عليه ما يخل بواجب القضاء، وإن لم يجد سبباً للعزل فالأولى أن لا يعزله، لأن القاضي معيّن لمصلحة المسلمين فيبقى ما دامت المصلحة محققة(2)، وقد عزل عمر رضي الله عنه بعض القضاة وولى غيرهم(3)، مثلما عزل أبي مريم الحنفي، فقد وجد فيه ضعفاً فعزله.
2- رزق القضاة:
كان عمر رضي الله عنه يوصي الولاة باختيار الصالحين للقضاء، وبإعطائهم المرتبات التي تكفيهم(4)، فقد كتب إلى أبي عبيدة ومعاذ: انظروا رجالاً صالحين فاستعملوهم على القضاء وارزقوهم(5)، وقد ذكر الدكتور العمري مرتبات بعض القضاة في عهد عمر رضي الله عنه وهي كالآتي، سلمان بن ربيعة الباهلي (الكوفة) 500 درهم كل شهر، شريح القاضي، الكوفة 100 درهم كل شهر، عبد الله بن مسعود الهذلي (الكوفة) 100 درهم كل شهر وربع شاة كل يوم،
وعثمان بن قيس بن أبي العاص (مصر) 200 دينار، وقيس بن أبي العاص السهمي (مصر) 200 دينار لضيافته(6).
3- الاختصاص القضائي:
__________
(1) النظام القضائي، مناع القطان ص72،73 .
(2) مغني المحتاج (4/382)، النظام القضائي ص77 .
(3) النظام القضائي ص77 .
(4) عصر الخلافة الراشدة ص143 .
(5) النظام القضائي ص76 .
(6) عصر الخلافة الراشدة ص159 .(1/262)
كان القاضي في عصر الخلافة الراشدة يقضي في الخصومات كلها، أيّا كان نوعها، في المعارضات المالية، وفي شؤون الأسرة، وفي الحدود والقصاص، وسائر ما يكون فيه الشجار، وليس هناك ما يشير إلى ما يعرف اليوم بالاختصاص القضائي سوى ما جاء في تولية السائب بن يزيد بن أخت النمر من قول عمر بن الخطاب له: رُدّ عني الناس في الدرهم والدرهمين(1)، ويجوز أن يعهد الخليفة إلى القاضي أن يقضي في قضية بعينها وينتهي اختصاصه بالنظر فيها، وكان القضاة يقضون في الحقوق المدنية والأحوال الشخصية، أما القصاص والحدود فكان الحكم فيها للخلفاء، وأمراء الأمصار، فلا بد من موافقتهم على الحكم، ثم انحصرت الموافقة على تنفيذ حد القتل بالخليفة وحده، وبقي للولاة حق المصادقة على أحكام القصاص دون القتل، ولم يكن للقضاء مكان مخصص، بل يقضي القاضي في البيت والمسجد، والشائع جلوسهم في المسجد(2)، ولم تكن الأقضية تسجل لقلتها وسهولة حفظها، وكان بإمكان القاضي حبس المتهم للتأنيب واستيفاء الحقوق، وقد فعل ذلك عمر وعثمان وعلي، فكانت الدولة تهيء السجون في مراكز المدن، وكان القصاص ينفذ خارج المساجد(3).
ثالثاً: صفات القاضي وما يجب عليه:
صفات القاضي: من خلال سيرة عمر رضي الله عنه استنبط العلماء أهم صفات القاضي المراد تعيينه:
العلم بالأحكام الشرعية: لأنه سيطبقها على الحوادث، ويستحيل عليه تطبيقها مع الجهل بها.
التقوى: فقد كتب عمر إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح أن انظرا رجالاً من صالحي من قبلكم فاستعملوهم على القضاء(4).
__________
(1) النظام القضائي ص74 ، عصر الخلافة الراشدة ص144 .
(2) عصر الخلافة الراشدة ص145 .
(3) نفس المصدر ص145 .
(4) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص723 ، المغني (9/37).(1/263)
الترفع عما في أيدي الناس: فقد قال عمر رضي الله عنه: لا يقيم أمر الله إلا من لا يصانع، ولا يضارع(1)، ولا يتبع المطامع(2).
الفطنة والذكاء: ويشترط في القاضي أن يكوناً فطناً ذكياً ينتبه إلى دقائق الأمور، فعن الشعبي أن كعب بن سوار كان جالساً عند عمر فجاءته امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلاً قط أفضل من زوجي، والله إنه ليبيت ليله قائماً، ويظل نهاره صائماً في اليوم الحر ما يفطر، فاستغفر لها وأثنى عليها وقال: مثلُك أثنى بالخير، قال: فاستحيت المرأة فقامت راجعة، فقال كعب: يا أمير المؤمنين هلا أعديت المرأة على زوجها. قال: وما شكَت؟ قال: شكت زوجها أشد الشكاية، قال: أَوَ ذاك أرادت؟ قال: نعم، قال: ردُّوا عليَّ المرأة فقال: لا بأس بالحق أن تقوليه، إن هذا زعم أنك تشكين زوجك إنه يَجْنَبُ فراشك، قالت: أجل، إني امرأة شابة وإني لأبتغي ما تبغي النساء، فأرسل إلى زوجها فجاء، فقال لكعب: اقض بينهما، قال: أمير المؤمنين أحق أن يقضي بينهما، قال: عزمت عليك لتقضين بينهما فإنك فهمت من أمرهما ما لم أفهمه، قال: إني أرى كأنها عليها ثلاثة نسوة هي رابعتهم فأقضي له بثلاثة أيام بلياليهن يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة فقال عمر: والله ما رأيك الأول أعجب إليّ من الآخر، إذهب فأنت قاض على البصرة(3).
الشدة في غير عنف واللين من غير ضعف: قال عمر: لا ينبغي أن يلي هذا الأمر إلا رجل فيه أربع خصال: اللين في غير ضعف، والشدة في غير عنف، والإمساك في غير بخل، والسماحة في غير سرف(4)، وقال: لا يقيم أمر الله إلا رجل يتكلم بلسانه كلمة لا يُنقصُ غرْبُه، ولا يطمع في الحق على حدته(5).
__________
(1) يضارع: يرائي.
(2) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (2/102).
(3) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص723 .
(4) نفس المصدر ص724 .
(5) نفس المصدر ص724 .(1/264)
قوة الشخصية: قال عمر: لأعزلن أبا مريم وأولين رجلاً إذا رآه الفاجر فرِقَه، فعزله عن قضاء البصرة وولّى كعب بن سور مكانه(1).
أن يكون ذا مال وحسب: فقد كتب عمر إلى بعض عماله لا تستقضين إلا ذا مال وذا حسب؛ فإن ذا المال لا يرغب في أموال الناس، وإن ذا الحسب لا يخشى العواقب بين الناس(2).
ما يجب على القاضي:
هناك أمور بينها الفاروق لابد للقاضي من مراعاتها لإقامة صرح العدالة منها:
الإخلاص لله في العمل: فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: إن القضاء في مواطن الحق يوجب الله له الأجر ويحسن به الذخر، فمن خلصت نيته في الحق ولو كان على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس في قلبه شانه الله، فإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصاً وما ظنك بثواب غير الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته(3).
فهم القضية فهماً دقيقاً: ودراستها دراسة واعية قبل النطق بالحكم ولا يجوز له النطق بالحكم قبل أن يتبين له الحق، فكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: افهم إذا أدلى إليك، وقال أبو موسى مرة: لا ينبغي لقاضٍ أن يقضي حتى يتبين له الحق كما يتبين له الليل والنهار، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال: صدق
أبو موسى(4).
الحكم بالشريعة الإسلامية: سواء كان الخُصوم من المسلمين أم من غير المسلمين، فعن زيد بن أسلم أن يهودية جاءت إلى عمر بن الخطاب فقالت: إن ابني هلك، فزعمت اليهود أنه لا حق لي في ميراثه فدعاهم، عمر فقال: ألا تعطون هذه حقها، فقالوا: لا نجد لها حقاً في كتابنا، فقال: أفي التوراة؟ قالوا بل في المشناة، قال: وما المشناة؟ قالوا: كتاب كتبه أقوام علماء وحكماء، فسبهم عمر وقال: اذهبوا فأعطوها حقها(5).
__________
(1) نفس المصدر ص724 .
(2) نفس المصدر ص724 .
(3) أعلام الموقعين لابن القيم (1/85).
(4) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص725.
(5) نفس المصدر ص725.(1/265)
الاستشارة فيما أشكل عليه من الأمور: فقد كتب عمر إلى أحد القضاة: واستشر في دينك الذين يخشون الله عز وجل(1)، وكتب إلى شريح: وإن شئت أن تآمرني ولا أرى مآمرتك إياي إلا أسلم لك(2)، وكان عمر كثير الاستشارة حتى قال الشعبي: من سره أن يأخذ بالوثيقة من القضاء فليأخذ بقضاء عمر فإنه كان يستشير(3).
المساواة بين المتخاصمين: وقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: سوِّ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، وكتب أيضاً اجعلوا الناس عندكم في الحق سواء قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم، وعندما ادّعى أبيّ بن كعب على عمر دعوى -في حائط- فلم يعرفها عمر فجعلا بينهما زيداً بن ثابت فأتياه في منزله فلما دخلا عليه قال له عمر: جئناك لتقضي بيننا -وفي بيته يُؤتى الحَكَم- قال: فتنحى له عن صدر فراشه -وفي رواية فأخرج له زيد وسادة فألقاها إليه- وقال: هاهنا
يا أمير المؤمنين، فقال عمر: جُرْتَ يا زيد في أول قضائك، ولكن أجلسني مع خصْمي، فجلسا بين يديه(4).
تشجيع الضعيف: حتى يذهب عنه الخوف ويجترئ على الكلام، فقد كتب عمر إلى معاوية: أدنِ الضعيف حتى يجترئ قلبه وينبسط لسانه(5).
سرعة البت في دعوى الغريب أو تعهده بالرعاية والنفقة: وقد كتب عمر إلى
أبي عبيدة: تعاهد الغريب فإنه إن طال حبسه -أي طالت إقامته وبعده عن أهله من أجل هذه الدعوى- ترك حقه وانطلق إلى أهله، وإنما أبطل حقّه من لم يرفع به رأساً(6).
__________
(1) نفس المصدر ص725، سنن البيهقي (10/112).
(2) نفس المصدر ص725، سنن البيهقي (10/110).
(3) نفس المصدر ص725، سنن البيهقي (10/109).
(4) صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق ص259.
(5) مجموعة الوثائق السياسية ص438.
(6) نفس المصدر ص438.(1/266)
سعة الصدر: فقد كتب عمر إلى أبي موسى: إياك والضجر، والغضب والقلق والتأذي بالناس عند الخصومة، فإذا رأى القاضي من نفسه شيئاً من هذا، فلا يجوز له النطق بالحكم حتى يذهب عنه ذلك، لئلا يكون الدافع إلى الحكم حالة نفسية معينة، فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: ولا تحكم وأنت غضبان(1) وعن شريح قال: شرط عليّ عمر حين ولاني القضاء أن لا أقضي وأنا غضبان(2)، ومما يؤدي إلى ضيق الصدر ويدفع أحياناً إلى الاستعجال المخل في البت في بعض القضايا الجوع والعطش ونحو ذلك، ولذلك قال عمر: لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريّان(3).
تجنب كل ما من شأنه التأثير على القاضي: كالرشوة، وتساهل التجار معه في البيع والشراء والهدايا ونحو ذلك، ولذلك منع عمر القضاة من العمل بالتجارة، والصفق بالأسواق، وقبول الهدايا والرشاوي، فكتب إلى أبي موسى الأشعري:
لا تبيعن ولا تبتاعن ولا تضاربن ولا ترتش في الحكم، وقال شريح: شرط علي عمر حين ولاّني القضاء أن لا أبيع ولا أبتاع ولا أرشي وقال عمر: إياكم والرشا، والحكم بالهوى(4).
الأخذ بالأدلة الظاهرة: دون البحث عن النوايا، فقد خطب عمر بالناس فكان مما قال: إنا كنا نعرفكم ورسول الله فينا، والوحي ينزل وينبئنا بأخباركم، وأما اليوم فإننا نعرفكم بأقوالكم، فمن أعلن لنا خيراً ظننا به خيراً وأحببناه عليه ومن أعلن لنا شراً ظننا به شراً وأبغضناه عليه وسرائركم فيما بينكم وبين الله(5).
__________
(1) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص726.
(2) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص726، المغني (9/79).
(3) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص726، سنن البيهقي (10/106).
(4) نفس المصدر ص727.
(5) البخاري رقم 2641، سنن البيهقي (10/ 125، 150).(1/267)
الحرص على الصلح بين المتخاصمين: قال عمر: ردّوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث الضغائن بين الناس، فإن عادوا بصلح يتفق مع شرع الله أمضاه القاضي وإن كان صلحهم لا يتفق مع أحكام الشريعة نقضه القاضي: قال عمر: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً(1)، وعلى القاضي أن يحرص على الصلح خاصة بين المتخاصمين إذا لم يتبين له الحق، فقد كتب عمر إلى معاوية: احرص على الصلح بين الناس ما لم يستبن لك القضاء، أو كانت بينهم قرابة، فإن فصل القضاء يورث الشنآن(2).
__________
(1) تاريخ المدينة (2/ 769) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص727.
(2) أعلام الموقعين (1/ 108).(1/268)
العودة إلى الحق: إذا أصدر القاضي حكماً في قضية من القضايا ثم تغير اجتهاده في الحكم فيها، فلا يجوز له أن يجعل للاجتهاد الجديد أثراً رجعياً، فينقض به الحكم الذي أصدره قبل تغير اجتهاده، كما لا يجوز لقاضٍ بعده أن ينقض الحكم الصادر، فعن سالم بن أبي الجعد قال: لو كان علي طاعناً على عمر يوماً من الدهر لطعن عليه يوم أتاه أهل نجران، وكان علي كتب الكتاب بين أهل نجران وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكثروا على عهد عمر حتى خافهم على الناس، فوقع بينهم الاختلاف، فأتوا عمر فسألوه البدل، فأبدلهم، ثم ندموا، ووقع بينهم شيء فأتوه فاستقالوه، فأبى أن يقيلهم، فلما ولي عليّ أتوه فقالوا: يا أمير المؤمنين شفاعتك بلسانك وخطك بيمينك، فقال علي: ويحكم إن عمر كان رشيد الأمر(1)، فعمر رضي الله عنه رفض نقض القضاء الأول الذي قضاه فيهم، ورفض علي – من بعد عمر – نقض القضاء الذي قضاه عمر فيهم(2)، وقد حدث كثير من التغير في اجتهاد عمر في قضايا كثيرة، منها الحكم في الجد مع الإخوة، وإشتراك الإخوة لأب وأم مع الاخوة لأم في الثلث عندما لم يبق للإخوة لأب وأم من الميراث شيء، ولم ينقل أنه عاد إلى قضائه الأول فنقضه، ولكنه يعمل باجتهاده الجديد في القضايا المستقبلة، ولا يمنعه حكمه القديم من اتباع الحق إذا لاح له، فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: ولا يمنعك قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، ولا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل(3)، وبناء على ذلك فقد قضى عمر بن الخطاب في الجد بقضايا مختلفة، وقضى في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأخويها لأبيها وأخويها لأمها، فأشرك عمر بين الأخوة للأم والأب والأخوة لأم في الثلث فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا
__________
(1) سنن البيهقي (10/ 120) موسوعة فقه عمر ص728.
(2) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص728.
(3) أعلام الوقعين (1/ 85).(1/269)
وكذا. قال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ وهذه على ما قضينا اليوم(1).
تقرير البراءة للمتهم حتى تثبت إدانته: فعن عبد الله بن عامر قال: انطلقت في ركب حتى إذا جئنا ذا المروة سُرقت عيبة لي، ومعنا رجل منهم، فقال له أصحابي: يا فلان اردد عليه عيبته، فقال: ما أخذتها، فرجعت إلى
عمر بن الخطاب فأخبرته. فقال: من أنتم؟ فعددتهم، فقال: أظنه صاحبها
– للذي اتُّهم – فقلت: لقد أردت يا أمير المؤمنين أتي به مصفوداً، قال عمر: أتأتي به مصفوداً بغير بينة(2).
لا اجتهاد في مورد النص: قال عمر: ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور(3)، هذا أهم ما يجب على القاضي أن يلتزم به.
إخضاع القضاة أنفسهم لأحكام القضاة:
كان عمر رضي الله عنه أول من يخضع للقضاة وهو في ذروة الخلافة خضوعاً يزينه الرضى القلبي بالحكم، ويتوجه بالإعجاب الواضح إذا ما أصاب، والثناء الصادق على القاضي حتى ولو صدر الحكم ضده(4)، وهذا مثال على ذلك، فقد ساوم عمر أعرابياً على فرس، فركبه ليجربه، فعطب الفرس، فقال عمر: خذ فرسك. قال الرجل: لا. قال عمر: فاجعل بيني وبينك حكماً، قال الرجل: شريح. فتحاكما إليه، فلما سمع قال: يا أمير المؤمنين خذ ما اشتريت، أو رد كما أخذت. فقال عمر: وهل القضاء إلا هكذا؟ فبعثه إلى الكوفة قاضياً(5).
رابعاً: مصادر الأحكام القضائية:
اعتمد القضاة في العهد الراشدي على نفس المصادر التي اعتمدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقضاته، وهي الكتاب والسنة والاجتهاد ولكن ظهر في العهد الراشدي أمران:
__________
(1) أعلام الموقعين (1/ 111) موسوعة فقه عمر ص729.
(2) موسوعة فقه عمر ص729، المحلى (11/ 132).
(3) أعلام الموقعين (1/ 85)، مجلة البحوث العلمية (7/ 287).
(4) شهيد المحراب ص211.
(5) عصر الخلافة الراشدة ص147، شهيد المحراب ص211.(1/270)
تطور معنى الاجتهاد والعمل به، وما نتج عنه من مقدمات ووسائل وغايات، فظهرت المشاورة والشورى، والإجماع، والرأي والقياس.
ظهور مصادر جديدة لم تكن في العهد النبوي، وهي السوابق القضائية التي صدرت عن الصحابة من عهد خليفة إلى خليفة آخر، فصارت مصادر القضاء في العهد الراشدي هي؛ الكتاب، والسنة، والاجتهاد والإجماع، والقياس، والسوابق القضائية ويظلل ذلك كله الشورى والمشاورة في المسائل والقضايا والأحكام وقد وردت نصوص كثيرة، وروايات عديدة تؤكد هذه المصادر السابقة ونقتطف جانباً منها(1):
قال الشعبي عن شريح: قال لي عمر: اقض بما استبان لك من كتاب الله، فإن لم تعلم كل كتاب الله، فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضى به أئمة المهتدين، فاجتهد رأيك، واستشر أهل العلم والصلاح(2).
وعن ابن شهاب الزهري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال، وهو على المنبر، يا أيها الناس، إنّ الرأي إنما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصيباً، أن الله كان يُريه، وإنما هو منا الظن والتكلف(3)، وروي عنه أنه قال: هذا رأي عمر فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر(4).
3- قال ابن القيم: فلما استخلف عمر قال: إني لأستحي من الله أن أردّ شيئاً قاله
__________
(1) تاريخ القضاء في الإسلام، د. محمد الزحيلي ص118.
(2) أعلام الموقعين (1/224)، تاريخ القضاء في الإسلام ص119 .
(3) تاريخ القضاء في الإسلام ص120 ، إعلام الموقعين (1/57).
(4) أعلام الموقعين (1/58) ، تاريخ القضاء في الإسلام ص120 .(1/271)
أبو بكر(1)، وأكد ذلك عمر أيضاً في كتاب آخر إلى شريح قال فيه: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله، فإن لم يكن في سنة رسول الله فاقض بما قضى به الصالحون(2).
4- وأما الإجماع: فإن لم يجد القاضي نصاً في القرآن والسنة، رجع إلى العلماء واستشار الصحابة والفقهاء، وعرض عليهم المسألة، وبحثوا فيها، واجتهدوا، فإن وصل اجتهادهم إلى رأي واحد، فهو الإجماع، وهو اتفاق مجتهدي عصر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على أمر شرعي، وهو المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي باتفاق العلماء وظهر لأول مرة في العهد الراشدي، ووردت فيه نصوص كثيرة، وبحوث طويلة في كتب الفقه، وأصول الفقه، وتاريخ التشريع، ولكن القضايا والمسائل التي حصل فيها الإجماع قليلة، وإن إمكانيته محصورة في المدينة المنورة عاصمة الخلافة، ومجمع الصحابة والعلماء والفقهاء، وهذا يندر في الأمصار الأخرى(3)، فمن ذلك ما روي أن ابن عباس قال لعثمان رضي الله عنهم: الأخوان في لسان قومك ليسا إخوة، فلم تحجب بهما الأم؟؟ من الثلث إلى السدس في قوله تعالى: { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } (النساء،آية:11) فقال: لا أستطيع أن أنقض ما كان قبلي ومضى في البلدان وتوارث به الناس، وهذا معناه أنه إجماع تم قبل مخالفة ابن عباس، ولا يعتد بمخالفته، والإجماع يتضمن ثلاثة عناصر رئيسة: المشاورة، والاجتهاد، والاتفاق فإن فقد عنصر منها لجأ القاضي إلى المصدر التالي.
__________
(1) أعلام الموقعين (1/224).
(2) تاريخ القضاة في الإسلام ص120 .
(3) نفس المصدر ص122 .(1/272)
5- السوابق القضائية: التي قضى بها السابقون من الخلفاء والصالحين وكبار الصحابة رضي الله عنهم، وهذا ما عبر عنه صراحة عمر رضي الله عنه في سوابق أبي بكر، وما أمر به قضاته وولاته كما سبق(1)، وهذا ما بينه صراحة ابن القيم تحت عنوان (رأي الصحابة خير من رأينا لأنفسنا) وقال: وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيراً من رأينا لأنفسنا وكيف لا؟ وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نوراً وإيماناً، وعلماً، ومعرفة وفهماً عن الله ورسوله، ونصيحة للأمة، وقلوبهم على قلب نبيهم، ولا واسطة بينهم وبينه، وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضَّاً طرياً، لم يَشُبه إشكال، ولم يشُبه خلاف، ولم تدنسه معارضة، فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس(2).
6- القياس: لكن السوابق القضائية قليلة أيضاً، فإن لم يجد القاضي نصاً ولا إجماعاً، ولا سابقة قضائية اعتمد على الاجتهاد، كما جاء في حديث معاذ، ويأتي في أوليات الاجتهاد قياس مسألة لم يرد فيها نص بمسألة ورد فيها نص، وهو المصدر الرابع للتشريع والفقه والأحكام، وهذا ما جاء في رسالة عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري، قال: ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق(3).
__________
(1) نفس المصدر ص122 ، 123 .
(2) أعلام الموقعين (1/87) تاريخ القضاء في الإسلام ص123 .
(3) تاريخ القضاء في الإسلام ص124 .(1/273)
8- الرأي: فإن لم يكن للمسألة والقضية أصل من النصوص لتقاس عليها، اعتمد القاضي على الاجتهاد بالرأي فيما هو أقرب إلى الحق والعدل والصواب وقواعد الشرع ومقاصد الشريعة وهو ما تكرر في النقول السابقة، في رسائل عمر لشريح وغيره(1) وكانت المشاورة والشورى من أهم الوسائل التي يستعين بها القضاة، كما ورد في الروايات والكتب والرسائل السابقة، وهو ما أكده عمر رضي الله عنه قولاً وفعلاً، لكثرة محبته للشورى مع فقهه، وقلما يقدم على أمر إلا بعد استشارة كبار الصحابة وفقهائهم(2)، وعن الشعبي قال: كانت القضية ترفع إلى عمر رضي الله عنه، فربما يتأمل في ذلك شهراً، ويستشير أصحابه(3).
خامساً: الأدلة التي يعتمد عليها القاضي:
إن الأدلة التي يعتمد عليها القاضي في إصدار الحكم هي:
الإقرار وتعتبر الكتابة نوعاً من الإقرار.
__________
(1) أعلام الموقعين (1/70) فما بعدها.
(2) تاريخ القضاة ص125 .
(3) نفس المصدر ص125 .(1/274)
الشهادة: وعلى القاضي أن يتحقق من صلاحية الشهود لأداء الشهادة، فإن لم يعرفهم هو، طلب منهم أن يأتوا بمن يعرفهم، فقد شهد رجل عند عمر بشهادة فقال له: لست أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك، إئت بمن يعرفك فقال رجل من القوم: أنا أعرفه، فقال: بأي شيء تعرفه؟ قال بالعدالة والفضل، قال: فهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فهل عاملك بالدينار والدرهم اللذين بهما يستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: لست تعرفه(1)، والشهادة مقدمة على اليمين سواء أقامها صاحبها قبل أن يحلف خصمه اليمين أو بعد أن يحلف اليمين، فإذا استحلف المدعي المدعى عليه على دعواه، فحلفه القاضي على ذلك، ثم أتى المدعي بالبينة بعد ذلك على تلك الدعوى، قبلت بينته، وردت اليمين، قال عمر: اليمين الفاجرة أحق أن ترد من البينة العادلة(2)،والمطالب بالشهادة هو المدعي، فقد كتب عمر إلى أبي موسى فيما كتب: البينة على المدعي، واليمين على من أنكر(3)، فإن لم يتوفر عند المدعي إلا شاهد واحد اعتبر بشهادته وحلف معها المدعي اليمين، فقد كان عمر يقضي في المال باليمين مع الشاهد الواحد(4).
__________
(1) سنن البيهقي (10/125) موسوعة فقه عمر ص731 .
(2) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص731 .
(3) سنن البيهقي (10/153،150).
(4) المغني (9/151) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص732 .(1/275)
اليمين: ولا يلجأ القاضي إلى تحليف اليمين إلا عند عجز المدعي عن إقامة البينة ومطالبة المدعي باليمين، فإن حلف قضى بيمينه وقد قضى عمر على وادعة بالقسامة فحلفوا، فأبرأهم من الدم، وقد تحاكم عمر وأبي بن كعب إلى زيد بن ثابت في نخل ادّعاه أبيّ، فتوجهت اليمين على عمر فقال زيد: اعف أمير المؤمنين، قال عمر: ولم يعف أمير المؤمنين؟ إن عرفت شيئاً استحققته بيميني، وإلا تركته، والذي لا إله إلا هو إن النخل لنخلي وما لأبيّ فيه حق فلما خرجا وهب النخل لأبيّ، فقيل له: يا أمير المؤمنين هلا كان هذا قبل اليمين؟ فقال: خفت أن لا أحلف فلا يحلف الناس على حقوقهم بعدي فتكون سنة(1)،
ولا يجوز لمن استحقت عليه اليمين أن يمتنع عنها ورعاً، وقد رأينا فيما تقدم كيف أن عمر حلف فلما استحق الحق تنازل عنه.
وكان عمر رضي الله عنه يغلظ الأيمان على بعض المتخاصمين بتحليفهم إياها في مكان يوقع الرهبة في نفوسهم فلا يجرأون على الكذب فيها، فقد حلّف جماعة مرة في الحجر، واستحلف آخر بين الركن والمقام(2).
القيافة في قضايا إثبات النسب: وهي من القرائن القوية التي يُحكم بمقتضاها، دلّ على ذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمل الخلفاء الراشدين والصحابة، وقد أثبت الحكم بالقيافة عمر بن الخطاب، وابن عباس وغيرهم(3).
__________
(1) تاريخ المدينة المنورة (2/755) موسوعة فقه عمر ص732 .
(2) موسوعة عمر بن الخطاب ص733 .
(3) النظام القضائي مناع القطان ص81،82 .(1/276)
القرائن: والقرائن باب واسع يتفنن القضاة في استنباطها ويعتبر من القرائن القوية قرينة الحبل للمرأة التي لم يسبق لها زواج فهو يعتبر دليلاً على الزنا، ومثله الولادة لمدة أقل من مدة الحمل، ومنها وجود ميتين أحدهما فوق الآخر، فإن هذا الوضع قرينة قوية على أن الذي مات أولاً هو الأسفل، وأن الذي مات آخراً هو الأعلى، ولذلك فقد كان عمر في طاعون عمواس إن كانت يد أحد الميتين أو رجله على الآخر ورَّث الأعلى من الأسفل ولم يورث الأسفل من الأعلى، ومن القرائن القوية على شرب الخمر وجودها في القيء، وقد أقام عمر حد الشرب على من وجدها في قيئه(1).
__________
(1) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص735 .(1/277)
علم القاضي: لا يعتبر علم القاضي في الحدود دليلاً يخوّل له إصدارَ الحكمِ على المتهم، فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن لا يأخذ الإمامُ بعلمه ولا ظنه ولا بشبهته(1)، وقال لعبد الرحمن بن عوف أرأيتَ لو رأيتُ رجلاً قتل أو سرق أو زنى، قال: أرى شهادتك شهادة رجل من المسلمين قال عمر: أصبت(2)، وأما في غير الحدود؛ فقد اختلفت الرواية عن عمر في اعتبار علم القاضي حجة تخول القاضي الاعتماد عليها في الحكم إن لم يتوفر من الأدلة غيرها(3) هذا وقد كان عمر رضي الله عنه حريصاً على عدم تشجيع الناس على الاعتراف بخطاياهم، بل يريد لهم الستر والتوبة فيما بينهم وبين الله تعالى، فلما خطب شرحبيل بن السمط الكندي وكان يتولى مسلحة(4) دون المدائن، فقال: أيها الناس، إنكم في أرض الشراب فيها فاشٍ، والنساء فيها كثير، فمن أصاب منكم حداً، فليأتنا فلنقم عليه الحد، فإنه طهوره، فبلغ ذلك عمر فكتب إليه: (( لا أحل لك أن تأمر الناس أن يهتكوا ستر الله الذي سترهم ))(5)، ولكن إذا رفع الناس الأمر إلى القضاء، فإن الدولة كانت تقيم الحدود دون هوادة(6)، وكان رضي الله عنه عندما يريد أن يحكم بين خصمين يدعو بهذا الدعاء: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان علي من كان الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين(7).
سادساً: من أحكام الفاروق وعقوباته في بعض الجرائم والجنايات:
1- تزوير الخاتم الرسمي للدولة:
__________
(1) نفس المصدر ص735 ، مصنف عبد الرزاق (8/342).
(2) سنن البيهقي (10/144)، موسوعة فقه عمر ص735).
(3) موسوعة فقه عمر ص735 .
(4) مقاتلون يراقبون العدو في الثغر الذي يسكنونه لئلا يباغتهم.
(5) القضاء في خلافة عمر، ناصر الطريفي (2/862).
(6) عصر الخلافة الراشدة ص146 .
(7) الحلية (6/140) ، الطبقات (3/290) إسناده صحيح.(1/278)
حدث في عهد الفاروق رضي الله عنه أمر خطير لم يحدث من قبل، ذلك أن معن بن زائدة استطاع أن يزور خاتم الدولة بنقشه مثله وأخذ به مالاً من بيت مال المسلمين ورفع أمره إلى عمر رضي الله عنه، فضربه عمر مائة وحبسه، فكلم فيه فضربه مائة أخرى، فكلم فيه من بعد فضربه مائة ونفاه(1).
2- رجل سرق من بيت المال بالكوفة:
لم يقطع عمر من سرق من بيت المال، فقد سأل ابن مسعود عمر عمن سرق من بيت المال فقال: أرسله فما من أحد إلا وله في هذا المال حق(2)، وجلده تعزيراً(3).
3- السرقة في عام الرمادة:
سرق غلمان حاطب بن أبي بلتعة في عام الرمادة ناقة لرجل مزني فنحروها وأكلوها ورفع الأمر إلى الفاروق، فطلب الغلمان فاعترفوا أنهم سرقوها من حرز والذين سرقوا عقلاء مكلفون ولم يدعوا ضرورة ملجئة للسرقة، فأمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم – ولكنه – وهو يعيش عام الرمادة ويرى حال الناس التمس لهم عذراً فقال لمولاهم: إني أراك تجيعهم؟ واكتفى بذلك وأوقف القطع وأمر للمزني بثمن ناقته مضاعفة(4) (800 درهم)، فقد درء الحد عنهم للضرورة(5).
4- مجنونة زنت:
أتي عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار الناس فأمر بها عمر أن ترجم، فمر بها علي بن أبي طالب فقال: ارجعوا بها ثم أتاه فقال: أما علمت أن القلم قد رفع، فذكر الحديث وفي آخره قال: بلى قال فما بال هذه ترجم؟ فأرسلها(6)، وجعل عمر يكبر(7).
5- ذمي استكره مسلمة على الزنا:
حدث ذلك في خلافة عمر رضي الله عنه، فصلبه لأنه خالف شروط العهد(8).
6- إكراه نساء على الزنا:
__________
(1) أولويات الفاروق ص453 .
(2) المغني (12/386) في الإرواء (2422) إسناده ضعيف.
(3) عصر الخلافة الراشدة ص148 .
(4) المنتقى شرح الموطأ للباجي (6/63).
(5) عصر الخلافة الراشدة ص148 .
(6) الخلافة الراشدة د. يحيى اليحيى ص351 ، عصر الخلافة الراشدة ص148 .
(7) عصر الخلافة ص148 .
(8) الموطأ (2/827) ، المغني (12/217) ، البخاري رقم 2548 .(1/279)
أتي عمر بإماء من إماء الإمارة استكرههنّ غلمان من غلمان الإمارة فضرب الغلمان ولم يضرب الإماء(1)، وأتي عمر بامرأة زنت فقال: إني كنت نائمة فلم أستيقظ إلا برجل قد جثم علي فخلى سبيلها ولم يضربها(2)، فهذه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات ولا فرق بين الإكراه بالإلجاء وهو أن يغلبها على نفسها وبين الإكراه بالتهديد بالقتل، فقد حدث في عهد عمر: أن امرأة استسقت راعياً فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت فرفع ذلك إلى عمر فقال لعلي: ما ترى فيها؟ قال: إنها مضطرة فأعطاها عمر شيئاً وتركها.
7- حكم من جهل تحريم الزنا:
عن سعيد بن المسيب: أن عاملاً لعمر بن الخطاب كتب إلى عمر يخبره: أن رجلاً اعترف عنده بالزنى؟ فكتب إليه عمر، أن سله: هل كان يعلم أنه حرام، فإن قال: نعم، فأقم عليه الحد، وإن قال: لا، فأعلمه أنه حرام، فإن عاد فاحدده(3).
8- تزوجت في عدتها وهي وزوجها لا يعلمان التحريم:
تزوجت امرأة في عدتها فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فضربها دون الحد وفرق بينهما(4)، وجلد الزوج تعزيراً(5).
9- امرأة تزوجت ولها زوج كتمته:
رجمها عمر، وجلد الزوج مائة سوط، ولم يُرْجم للجهالة(6).
10- اتهام المغيرة بن شعبة بالزنا:
فشهد عليه ثلاثة وتراجع الرابع فقال عمر: الحمد لله الذي لم يشمت الشيطان بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -(7)، وأقام حد القذف على الشهود الثلاثة لأن الشهادة لم تكتمل بالثلاثة(8).
11- حكم من تسرت بغلامها:
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي (8/35) ، المغني (12/217).
(2) السنن الكبرى (8/236) ، المغني (12/218).
(3) المحلى (12/107) رقم 2198 .
(4) المحلى (12/192) رقم 2215 .
(5) عصر الخلافة الراشدة ص149 .
(6) نفس المصدر ص149 .
(7) المغني (12/245).
(8) عصر الخلافة الراشدة ص149 .(1/280)
تزوجت امرأة عبدها، فقيل لها، فقالت: أليس الله يقول { وَمَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ } فهذا ملك يمين ورفع الأمر إلى عمر رضي الله عنه فقال لها: لا يحل لك ملك يمينك(1) وفي رواية وفرق بينهما وجلدها مئة تعزيراً لا حداً، وقد أسقط عمر عنها الحد لجهلها بالتحريم(2).
12- امرأة اتهمت زوجها بجاريتها:
اتهمت امرأة زوجها بجاريتها ثم اعترفت بأنها وهبتها له، فحكم عمر رضي الله عنه؛ بإقامة حد القذف على المرأة ثمانين جلدة(3).
13- إقامة حد القذف بالتعريض:
حدث في عهد الفاروق أن عرّض أحد الأشخاص بآخر فقال له: ما أبي بزان
ولا أمي بزانية، فاستشار عمر في ذلك فقال قائل: مدح أباه وأمه، وقال آخرون: كان لأبيه وأمه مكان غير هذا، نرى أن تجلده الحد فجلده عمر الحد ثمانين جلدة(4)، فعمر رضي الله عنه قد جلد الحد بالتعريض لأن القرينة كانت واضحة، فقد كان الرجل يعرّض بصاحبه لأن الحال تبين لك فهو ما قال إلا بعد سب ومخاصمة، وفعل عمر رضي الله عنه يعتبر سياسة أراد بها تأديب السفهاء وحفظ أعراض الأبرياء وهي سياسة حكيمة لا تخالف نصاً من كتاب ولا سنة، بل إنها عمل بروح الشريعة الغرّاء(5).
14- إهدار دم اليهودي المعتدي على العرض:
كان شابان صالحان متآخيان في عهد عمر رضي الله عنه، فأغزى أحدهما فأوصى أخاه بأهله، فأنطلق ذات ليلة إلى أهل أخيه يتعهدهم فإذا سراج في البيت يزهر، وإذا يهودي في البيت مع أهل أخيه وهو يقول:
وأشعت غره الإسلام مني
أبيت على ترائبها ويمسي
كأن مجامع الربلات(6) منها ... خلوت بعرسه ليل التمام(7)
على جرداء لاحقه الحزام(8)
__________
(1) المحلى (12/194) رقم 2216 .
(2) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص203 .
(3) عصر الخلافة الراشدة ص150 .
(4) السنن الكبرى لليهقي (8/ 252).
(5) أوليات الفاروق ص439، 440.
(6) الربلات: جمع ربلة وهي باطن الفخذ وما حول الضرع.
(7) ليل التمام: الليل الطويل.
(8) الحزام: ضيقة غليظة.(1/281)
فئام ينهضون إلى فئام(1)
فرجع الشاب إلى أهله فاشتمل على السيف حتى دخل على أهل أخيه، فقتل اليهودي ثم جرده فألقاه في الطريق، فأصبح اليهود وصاحبهم قتيل لا يدرون من قتله، فأتوا عمر بن الخطاب، فدخلوا عليه، وذكروا ذلك له، فنادى عمر في الناس الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أنشد الله رجلاً علم من هذا القتيل علماً إلا أخبرني به فقام الشاب، فأنشد عمر الشعر وأخبره فقال عمر: لا يقطع الله يديك، وأهدر دمه(2).
15- قتيل الله لا يودى أبداً:
روى عبد الرزاق في مصنفه والبيهقي في سننه: أن رجلاً استضاف ناساً من هذيل، فأرسلوا جارية تحتطب لهم، فأعجبت المضيف فتبعها، فأرادها على نفسها، فامتنعت، فعاركها ساعة، فانفلتت منه، انفلاتة فرمته بحجر، ففضت كبده فمات، ثم جاءت إلى أهلها فأخبرتهم، فذهب أهلها إلى عمر فأخبروه، فأرسل عمر، فوجد آثارهما فقال: قتيل الله لا يودى أبداً فهو رضي الله عنه قد أهدر دم ذلك المعتدي فلا قصاص ولا دية ولا كفارة.
16- لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم:
__________
(1) الفئام: هي الجماعات من الناس.
(2) أوليّات الفاروق ص414 .(1/282)
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن غلاماً قتل غيلة فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم وفي رواية: إن أربعة قتلوا صبياً فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم(1)، وهذا الحكم لم يوجد فيه نص من كتاب ولا سنة ولم يوجد أثر عن الصديق أنه قضى بمثله، وإنما بنى حكمه على فهمه لمقاصد الشريعة والتي جاءت لحفظ أمن المجتمع واستقراره، إذ أن الدماء ليست أمراً هيناً، ولذلك يقتضي العدل، ومصلحة الأمة، ومقاصد الشريعة القصاص إذا ثبت أن الجميع تواطئوا على قتله وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء من الأئمة الأربعة وسعيد بن المسيب والحسن وأبي سلمة وعطاء وقتادة والثوري، والأوزاعي وغيرهم(2)، وهذا الرأي هو الأرجح والأَولى بالاتباع وذلك لقوة الدليل في فعل عمر وإجماع الصحابة ولما فيه من حكمة في ردع وزجر الناس وحفظ النفوس في المجتمع(3).
17- عقوبة الساحر القتل:
كتب عمر رضي الله عنه إلى عماله أن اقتلوا كل ساحر وساحرة(4)، ونفذ ذلك وكان إجماعاً من الصحابة(5).
18- من قتل ولده متعمداً؟ وما حكم المسلم الذي يقتل ذمياً؟
حكم عمر رضي الله في من قتل ولده بدفع الدية(6)، وأما المسلم الذي يقتل ذمياً فحكمه القتل قصاصاً وهذا حدث في عهد عمر حيث قتل مسلم ذمياً بالشام، فقتل قصاصاً(7).
19- الجمع بين الدية والقسامة:
__________
(1) البخاري، ك الديات رقم 6896.
(2) المغني لابن قدامة (11/ 387).
(3) انظر: أولويات الفاروق السياسية ص409.
(4) أولويات الفاروق السياسية ص447.
(5) نفس المرجع ص447.
(6) عصر الخلافة الراشدة ص153، المغني (11، 405).
(7) عصر الخلافة الراشدة ص153.(1/283)
القسامة: هي الأيمان المكررة في دعوى القتل من أولياء القتيل أو المدعى عليهم(1)، وقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عن الشعبي: أن قتيلاً وجد بين وادعة وشاكر(2)، فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما فوجدوه إلى وادعة أقرب فأحلفهم خمسين يميناً، كل رجل: ما قتلته ولا علمت قاتله، ثم أغرمهم الدية، فقالوا: يا أمير المؤمنين لا أيماننا دفعت عن أموالنا ولا أموالنا دفعت عن أيماننا فقال عمر: كذلك الحق(3).
20- اللهم لم أشهد ولم آمر، ولم أرضَ ولم أسر إذ بلغني:
لما أُتي عمر بفتح (تستر) قال: هل كان شيء؟ قالوا: نعم رجل ارتد عن الإسلام. قال: فما صنعتم به قالوا: قتلناه. قال: فهلا أدخلتموه بيتاً وأغلقتم عليه وأطعمتموه كل يوم رغيفاً فاستتبتموه فإن تاب وإلا قتلتموه، ثم قال: اللهم لم أشهد، ولم آمر، ولم أرضَ، ولم أُسر إذ بلغني(4).
21- جعل حد الخمر ثمانين جلدة:
__________
(1) أوليات الفاروق ص264.
(2) أوليات الفاروق ص266، قبيلتان باليمن.
(3) السنن الكبرى للبيهقي (8/ 123 – 124) أوليات الفاروق ص466.
(4) محض الصواب (1/ 372).(1/284)
لما تولى الفاروق الخلافة وكثرت الفتوحات الإسلامية وتحسنت أحوال الناس، وتباعدت الديار ودخل كثير من الناس الإسلام ولم يأخذوا التربية الإسلامية الكافية والتفقه في الدين كمن سبقهم من المسلمين، فكثر في الناس شرب الخمر وكانت مشكلة أمام عمر، فجمع كبار الصحابة وشاورهم في الأمر، فاتفقوا على أن يبلغ هذا الحد ثمانين وهو أدنى الحدود، فعمل به ولم يخالفه أحد من الصحابة في عهده(1)، فقد ذكر ابن القيم: أن خالد بن الوليد بعث وبرة الصليتي من الشام إلى عمر قال فأتيته وعنده طلحة والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف متكئون في المسجد فقلت له إن خالد بن الوليد يقرأ عليك السلام ويقول لك إن الناس قد انبسطوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فما ترى. فقال عمر: هم هؤلاء عندك. قال: فقال عليّ: أراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون فأجمعوا على ذلك فقال عمر: بلغ صاحبك ما قالوا، فضرب خالد ثمانين وضرب عمر ثمانين(2).
22- إحراق حانوت الخمر:
عن يحيى بن سعيد بن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وجد عمر في بيت رجل من ثقيف شراباً فأمر به فأحرق، وكان يقال له رويشد فقال: أنت فويسق(3)، وقال ابن الجوزي: وأحرق يعني عمر بيت رويشد الثقفي، وكان حانوتاً يعني نباذاً(4)، وقال ابن القيم: وحرق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حانوت الخمر بما فيه، وحرق قرية تباع فيها الخمر(5).
23- أنكحها نكاح العفيفة المسلمة:
__________
(1) أعلام الموقعين (1/ 211).
(2) أعلام الموقعين (1/ 211).
(3) الأموال لأبي عبيد ص125، رقم 267، أوّليات الفاروق ص435.
(4) نباذاً: صانع النبيذ.
(5) الطرق الحكيمة: ص15، 16.(1/285)
أتى عمر رضي الله عنه رجل فقال: إن ابنة لي كنت وأدتها في الجاهلية فاستخرجناها قبل أن تموت، فأدركت معنى الإسلام فأسلمت، ثم أصابها حد من حدود الله، فأخذت الشُّفرة لتذبح نفسها، وأدركناها وقد قطعت بعض أوداجها(1)، فداويتها حتى برأت، ثم أقبلت بعد توبة حسنة، وهي تخطب إلى قوم، فأخبرهم بالذي كان؟ فقال عمر: رضي الله عنه: أتعمد إلى ما ستره الله فتبديه، والله لئن أخبرت بشأنها أحداً لأجعلنك نكالاً لأهل الأمصار، أنكحها نكاح العفيفة المسلمة(2).
24- من طلق زوجته يمنعها من الميراث:
عن سالم عن أبيه أن غيلان الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال النبي- صلى الله عليه وسلم - اختر منهن أربعاً، فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرسل إليه عمر فقدم عليه، فقال له: إني أظهر أن الشيطان فيما يسترق السمع سمع بموتك فقذف في قلبك أنك تموت، فحملك مبادرة ذلك على ما صنعت، وإني والله لأظنك لا تلبث بعد أن تقوم عن حضري هذا حتى تموت، وايم الله لئن مت قبل أن تراجع نساءك وترجع مالك لأورثن نساءك من مالك، ثم لأرجمن قبرك حتى أجعل عليه مثل ما على قبر
أبي رغال، فراجع نساءه – ولم يكن بت طلاقهن – وارتجع ماله الذي قسم بين بنيه، ثم ما لبث أن مات(3).
25- أقل مدة الحمل وأكثره:
__________
(1) الودج: عرق في العنق.
(2) محض الصواب (2/ 709) إسناده صحيح إلى الشعبي ولكنه منقطع بين الشعبي وعمر .
(3) موسوعة فقه عمر ص47 .(1/286)
رفعت إلى عمر امرأة ولدت لستة أشهر، فأراد عمر أن يرجمها، فجاءت أختها إلى عليّ فقالت: إن عمر همّ برجم أختي، فأنشدك الله إن كنت تعلم لها عذراً لما أخبرتي به، فقال علي: إن لها عذراً، فكبرت تكبيرة سمعها عمر ومن عنده، فانطلقت إلى عمر فقالت: إن علياً زعم أن لأختي عذراً، فأرسل عمر إلى علي: ما عذرها؟ فقال إن الله يقول: ((والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين)) وقال: (( وحمله وفصاله ثلاثون شهراً)) فالحمل ستة أشهر والفصال أربعة وعشرون شهراً فخلى عمر سبيلها، وقد يبقى الحمل في بطن أمه أكثر من تسعة أشهر، فقد رفعت لعمر امرأة غاب عنها زوجها سنتين، فجاء وهي حبلى، فهم عمر برجمها فقال له معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين إن يك لك السبيل عليها، فليس لك السبيل على ما في بطنها، فتركها عمر حتى ولدت غلاماً قد نبتت ثناياه، فعرف زوجها شبهه به، قال عمر: عجز النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ هلك عمر(1)، ويظهر أن عمر كان يرى أن أكثر مدة الحمل أربع سنوات، لأنه قضى في امرأة المفقود أنها تتربص أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة قال ابن قدامة حاكياً مذهب عمر في ذلك: المفقود تتربص زوجته أربع سنين أكثر مدة الحمل، ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشراً وتحل للأزواج(2).
سابعاً: فرض القيود على الملكية حتى لا يقع تعسّف في استعمالها:
__________
(1) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص371.
(2) نفس المصدر ص371.(1/287)
ومن اجتهادات عمر التي سبق بها زمانه والتي تدل على تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وتفرض قيوداً على الملكية حتى لا يقع تعسف في استعمالها ما رواه مالك في الموطأ: عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن الضحاك بن خليفة ساق خليجاً له من العريض فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فأبى محمد، فقال له الضحاك، لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أولاً وآخراً ولا يضرك، فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، فقال محمد لا فقال عمر لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تسقي به أولاً وآخراً وهو لا يضرك، فقال محمد لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به، ففعلَ الضحاك(1)، وكان هذا قياساً من عمر على حديث
أبي هريرة الذي قال فيه: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يمنع أحدكم جاره خشبة يغرزها في جداره)) ثم قال أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم(2).
__________
(1) راجع الموطأ وكتاب إسعاف المبطأ برجال الموطأ ص638 – 639 ، الموطأ (2/746)
(2) سبل السلام شرح بلوغ المرام (3/ 60).(1/288)
ويظهر لنا أن ما فعله عمر هو قياس أولى، لأن نهي النبي الجار أن يمنع جاره غرز خشبة في جداره، هذه العملية وإن كانت لا تضر الجار فإنها في ذات الوقت لا تنفع هذا الجار، في حين أن مرور الماء اجتمع فيه الأمران معاً، نفع الجار، وعدم إلحاق الضرر به، فهو قياس أولى، وإذا كان أحمد إبراهيم يرى أن عمر قضى في هذه النازلة بما يعرف اليوم بقواعد العدالة(1)، فإن عبد السلام السليماني يرى أنها تدخل فيما يعرف اليوم في الفقه الغربي بنظرية التعسف في استعمال الحق هذه النظرية التي سبق إليها المسلمون الفقه الغربي بعدة قرون، وقد استمدت من حديث أبي هريرة سالف الذكر، الذي عممه عمر في كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز ذلك إلا بإذن جاره(2).
ويلاحظ على هذه النازلة عدة أمور وهي:
أن هذه النازلة تدخل في الاجتهاد القضائي لعمر، لأنه قضى فيها بناء على شكوى تقدم بها الضحاك إلى عمر بعد أن امتنع محمد بن مسلمة من الاستجابة لما طلب منه بصفة ودية، وبعد أن دعي هذا الأخير للحضور في مجلس عمر رضي الله عنه.
أن عمر لم يحكم في هذه النازلة جزافاً بل إنه تثبت في الأمر واطلع على ملابسات القضية وتأكد من إصرار الخصم على موقفه الرافض لمرور الماء في أرضه، وهو موقف لا مبرر له، لأن مرور الماء لم يكن يشكل أي ضرر على المدعى عليه بل على العكس من ذلك كان سيعود عليه بالنفع المحض ويحقق المصلحة المشتركة للطرفين معاً، وما دام الأمر كذلك فإن الامتناع عنه يشكل حائلاً أمام تحقيق مصلحة عامة ويدخل في نطاق التعسف في استعمال الحق، ولم يكن عمر ليتهاون في تحقيق الصالح العام لكل أفراد الأمة.
__________
(1) علم أصول الفقه وتاريخ التشريع ص39.
(2) الاجتهاد في الفقه الإسلامي ص140، 141.(1/289)
لاين سيدنا عمر محمد بن مسلمة، وهو يخاطبه مذكراً إياه بأخوة الإسلام محاولاً إقناعه بالرجوع إلى جادة الصواب ولما قابل هذا اللين بالرفض البات المشفوع بالقسم، وهو موقف أبان عن تحد لأمر الخليفة وامتناع عن الانصياع لحكمه، فجاء رد فعل عمر عنيفاً وفي مستوى مسؤوليته صونا لهيبة الخلافة التي لم يكن يستعملها إلا لتحقيق الصالح العام لجماعة المسلمين وصيانة الحقوق(1).
ثامناً: إمضاؤه الطلاق الثلاث بلفظ واحد:
عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم(2)، وعن أبي الصهباء قال
لابن عباس: أتعلم أنّما كانت الثلاث تُجعلُ واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وثلاثاً من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس نعم(3).
__________
(1) الاجتهاد في الفقه الإسلامي ص141، 142.
(2) مسلم، ك الطلاق رقم 1472 .
(3) مسلم، ك الطلاق رقم 1472 .(1/290)
في هذين الأثرين قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإيقاع الطلاق الثلاث ثلاثاً، على خلاف ما كان عليه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر الصديق، حيث كان الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد أو مجلس واحد يوقع طلقة واحدة. ووجهة عمر في إيقاع هذه العقوبة والتعزير أن الناس أكثروا من إحداث طلاق الثلاث، فأراد أن يردهم إلى الطلاق السُّنِّي الذي شرعه الله، وهو إيقاع طلقة واحدة ثم يتركها حتى تنتهي عدتها، فإن كان له رغبة في عودة وشائج الزوجية راجعها قبل انتهاء العدة، وهكذا حتى تنتهي عدد الطلاق الثلاث(1)، وهذا التصرف من عمر بن الخطاب اعتبره بعض الناس مخالفة للنصوص ومنهم الدكتور عطية مصطفى مشرفة حيث قال: وكان عمر جريئاً في العمل بالرأي ولو خالف ذلك بعض النصوص والقواعد التي كانت معروفة ومعمولاً بها من قبل، ليكون الحكم ملائماً لأحوال المجتمع الإسلامي الجديد(2)، وذكر من الأمثال التي ضربها إيقاع الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثاً(3) والحق أن عمر بهذا التصرف لم يخالف النصوص القطعية، وإنما اجتهد في فهم النصوص، إذ له سند منها:
1- روى مالك عن أشهب عن القاسم بن عبد الله أن يحيى بن سعيد حدّثه أن
__________
(1) القضاء في عهد عمر بن الخطاب د. ناصر الطريفي (2/733).
(2) القضاء في الإسلام ص98 .
(3) المصدر نفسه ص99 .(1/291)
ابن شهاب حدثه، أن ابن المسيب حدَّثه، أن رجلاً من أسلم طلق امرأته على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث تطليقات، فقال له بعض الصحابة: إن لك عليها رجعة، فانطلقت امرأته حتى وقفت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن زوجي طَلَّقَني ثلاث تطليقات في كلمة واحدة فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد بنت منه ولا ميراث بينكما(1). ففي هذا الحديث أمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ثلاثاً.
2- روى النسائي بسنده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجُلٌ وقال: يا رسول الله ألا أقتله(2)، ففي هذا الحديث غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من طلق امرأته ثلاثاً بلفظ واحد وأنكر عليه، مما يدل على وقوعها، إذ لو لم تقع الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً لبيَّن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن تأخير البيان عن وقت
الحاجة مع إمكانه غير جائز(3).
__________
(1) المدونة الكبرى، ك الطلاق، باب طلاق السنة (2/62) وهو مرسل، ولكن مراسيل سعيد بن المسيب كلها صحاح.
(2) سنن النسائي، ك الطلاق الثلاث المجموعة (6/142) قال ابن حجر عن هذا الحديث: أخرجه النسائي ورجاله ثقات فتح الباري (9/362) وقال ابن القيم: وإسناده على شرط مسلم زاد المعاد (5/241).
(3) القضاء في عهد عمر بن الخطاب(2/736).(1/292)
3- وعن نافع بن عمير بن عبد يزيد بن ركانة، أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سُهيمة ألبتَّة، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطلقها الثانية في زمان عمر، والثالثة في زمان عثمان(1).
__________
(1) سنن أبي داود، ك الطلاق، باب في البتة (1/511) قال أبو داود وهذا أصح من حديث جريج إن ركانة طلق امرأته ثلاثاً لأنهم أهل بيته وهم أعلم به وقال النووي: وأما الرواية التي رواها المخالفون أن ركانة طلق ثلاثاً فجعلها واحدة فرواية ضعيفة عن قوم مجهولين وإنما الصحيح منها ما قدمناه أنه طلقها ألبتة ولفظ البتة محتمل للواحدة والثلاثة شرح النووي (10/71).(1/293)
ففي هذا الحديث لما طلق ركانة زوجته البتة، وادعى أنه لم يرد إلا طلقة واحدة، استحلفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أنه ما يريد إلا طلقة واحدة، فحلف فردها إليه، مما يدل على أنه لو قصد بطلاقه البتة الطلاق الثلاث لوقعن، وإلا فلم يكن لتحليفه معنى، وبعد سياق ما تقدم نجد أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استند إلى دليل من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه بإمضائه الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً لم يكن بدعا من عند نفسه، كما أن كثيراً من الصحابة رضوان الله عليهم وافقه فيما ذهب إليه، كعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود ولهم أكثر من رواية، وعمران بن حصين وعلى هذا فقضية إيقاع الطلاق ثلاثاً بكلمة واحدة، أو كلمات مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثاً، أو أنت طالق وطالق وطالق أو أنت طالق ثم طالق ثم طالق أو يقول: أنت طالق ثم ثلاثاً أو عشر طلقات، أو مائة طلقة، أو ألف طلقة، أو نحو ذلك من العبارات مسألة اجتهادية للحاكم بحسب ما يرى من المصلحة في الزمان والمكان أن يوقعها ثلاثاً أو طلقة واحدة رجعية(1)، وقال ابن القيم رحمه الله: لم يخالف عمر إجماع من تقدمه، بل رأى إلزامهم بالثلاث عقوبة لهم، لما علموا أنه حرام وتتابعوا فيه، ولا ريب أن هذا سائغ للأئمَّة أن يلزموا الناس بما ضيقوا به على أنفسهم، ولم يقبلوا فيه رخصة الله عزوجل وتسهيله(2).
تاسعاً تحريم نكاح المتعة:
رويت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه آثار في تحريم نكاح المتعة والتشديد في ذلك، واعتباره زنا يعاقب عليه بالرجم بالحجارة لمن أحصن وقد ظن بعض الناس أن المحرِّم لنكاح المتعة هو عمر بن الخطاب دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن أبي نضرة قال: كان
ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، قال: فذكرت ذلك لجابر بن
__________
(1) الفقهاء في عهد عمر بن الخطاب (2/736-739).
(2) زاد المعاد (5/270).(1/294)
عبد الله فقال: على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قام عمر قال إن الله كان يحل لرسوله ما شاء الله بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازله، فأتموا الحجّ والعمرة لله كما أمركم الله، وأبتُّوا نكاح هذه النِّساء فلن أُوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة(1)، فهذا الأثر يفيد أن المتعة كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن الذي حرّمها عمر بن الخطاب والآثار التي تفيد أن المتعة كانت حلالاً في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يحرمها وكذلك عهد أبي بكر وإنما الذي حرم المتعة بعد أن كانت حلالاً، هو أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب ذُكرت عند مسلم، ومصنف
عبد الرزاق وفي الحقيقية أن الذي حرّم المتعة هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن الذين نقل عنهم من الصحابة الذين كانوا يرون جواز نكاح المتعة، ولم يبلغهم النهي القاطع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك من نسب تحريم المتعة إلى عمر بن الخطاب دون أن يكون له سند من النصوص الشرعية من المتأخرين، أمثال أبي هلال العسكري(2)، ورفيق العظم(3) فقد جهل أدلة ذلك من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي كانت سنداً للفاروق في تحريمه للمتعة وإليك بعض الأحاديث التي وردت عن رسول الله والتي تفيد أنه حرم نكاح المتعة والتي منها:
__________
(1) مسلم، ك الحج، رقم 1217 .
(2) الأوائل (1/238-239).
(3) أشهر مشاهير الإسلام (2/432)، القضاء في عهد عمر بن الخطاب (2/756).(1/295)
1- روى مسلم بسنده عن سلمة قال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام أوطاس(1) في المتعة ثلاثاً، ثم نهى عنها(2).
2- وروى مسلم بسنده عن سبرة أنه قال: أذن لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمتعة فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر، كأنها بكرة عيطاء(3)، فعرضنا عليها أنفسنا، فقالت: ما تعطى؟ فقالت ردائي وقال صاحبي ردائي، وكان رداء صاحبي أجود من ردائي، وكنت أشب منه(4)، فإذا نظرت إلى رداء صاحبي أعجبها، وإذا نظرت إليَّ أعجبتها، ثم قالت: أنت ورداؤك يكفيني، فمكثت معها ثلاثاً ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان عنده شيء من هذه النساء التي يَتَمتَّعُ، فليُخل سبيلها(5).
3- وروى مسلم بسنده عن سبرة الجهني، أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أيها الناس إنِّي قد كنت أَذِنْتُ لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده شيء فليُخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً(6).
__________
(1) أوطاس: وادٍ في الطائف ويوم أوطاس ويوم فتح مكة في عام واحد، وهو سنة ثمان من الهجرة شرح النووي لصحيح مسلم (9/184).
(2) مسلم، ك النكاح، باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ، ثم أبيح ثم نسخ، واستقر تحريمه إلى يوم القيامة (2/1033).
(3) البكرة: هي الفتية من الإبل، أي الشابة القوية، وأما العيطاء فهي الطويلة العنق في اعتدال وحسن قوام شرح النووي لمسلم (9/184-185).
(4) وفي رواية ثانية لمسلم. وهو قريب من الدمامة.
(5) أي يتمتع بها، فحذف بها لدلالة الكلام عليه، أو أوقع يتمتع موقع يباشر أي يباشرها وحذف المفعول.
(6) مسلم ك النكاح رقم 1406 .(1/296)
4- ورورى مسلم بسنده عن علي بن أبي طالب أنه سمع ابن عباس يُليِّنُ في متعة النساء فقال: مهلاً يا ابن عباس، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية(1).
إن الفاروق رضي الله عنه لم يبتدع تحريم نكاح المتعة من عند نفسه، بل كان متبعاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث حرمها - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح في السنة الثامنة من الهجرة تحريماً مؤبداً، بعد أن حرمها في خيبر سنة ست من الهجرة، ثم أحلها عام الفتح فمكث الناس خمسة عشرة يوماً وهم يستمتعون، ثم حرمها - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة(2).
عاشراً: من اختيارات عمر رضي الله عنه الفقهية:
أثّر عمر رضي الله عنه في المؤسسة القضائية باجتهاداته في مجال القصاص والحدود والجنايات والتعزير، كما أنه رضي الله عنه ساهم في تطوير المدارس الفقهية الإسلامية باجتهاداته الدالة على سعة اطلاعه وغزارة علمه وعمق فقهه وفهمه واستيعابه لمقاصد الشريعة الغرّاء وله مسائل كثيرة في الفقه الإسلامي اختارها ومال إليها وإليك بعضها:
1- اختار عمر رضي الله عنه أن جلد الميتة يطهر بالدباغ إذا كانت طاهرة في حال الحياة.
2- اختار عمر رضي الله عنه كراهة الصلاة في جلود الثعالب.
3- اختيار عمر رضي الله عنه لا يكره السواك للصائم بعد الزوال بل يستحب.
4- اختيار عمر رضي الله عنه أن المسح على الخفين وما أشبهها موقت بيوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر.
5- اختيار عمر رضي الله عنه ابتداء مدة المسح على المسح بعد الحدث.
6- أن وقت الجمعة إذا زالت الشمس.
7- اختيار عمر أن مس الذكر ينقض الوضوء.
8- اختيار عمر أن التكبير في العيد من الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق.
9- اختيار أبي بكر وعمر المشي أمام الجنازة أفضل.
__________
(1) مسلم ك النكاح _2/1027) رقم 1407 .
(2) القضاء في عهد عمر بن الخطاب (2/756).(1/297)
10- اختياره تجب الزكاة على الصبي والمجنون.
11- اختيار عمر القول بإثبات خيار الفسخ، وإن لكل واحد الخيار ما دام في المجلس.
12- اختيار لا يصح السلم في الحيوان.
13- اختياره أنه إذا شرط أنه متى حل الحق ولم يوف فالرهن بالدين، فهو مبيع بالدين، الذي عليك، فهو شرط فاسد.
14- اختيار عمر إذا وجد الغريم عين ماله عند المفلس فهو أحق بها.
15- اختيار عمر أن الجارية لا يدفع إليها مالها بعد بلوغها حتى تتزوج أو تلد أو تمضي عليها سنة في بيت الزوج.
16- اختيار عمر أن عين الدابة تضمن بربع قيمتها.
17- اختيار عمر أن الشفعة لا تكون إلا في المشاع غير المقسوم، فأما الجار فلا شفعة له.
18- اختياره تجوز المساقاة في جميع الشجر.
19- اختيار أبي بكر وعمر جواز استئجار الأجير بكسوته.
20- اختياره لا تلزم الهبة إلا بالقبض.
21- اختياره من وهب لغير ذي رحم فله الرجوع ما لم يُثب عليها، ومن وهب لذي رحم فليس له الرجوع.
22- اختياره أن مدة تعريف اللقطة سنة.
23- اختياره يجوز أخذ اليسير من اللقطة، والانتفاع به من غير تعريف.
24- اختيار عمر أن اللقطة إذا عرفها المدة المعتبرة، فلم يعرف مالكها، صارت كسائر أمواله غنياً كان أو فقيراً.
25 - اختيار عمر أن لقطة الحل والحرم سواء.
26- اختياره اللقيط يقر بيد من وجده إن كان أميناً.
27- اختياره: جواز الرجوع في الوصية وقال: يغير الرجل ما شاء من وصيته.
28- اختيار عمر أن الكلالة اسم للميت الذي لا ولد له ولا والد.
29- اختياره أن الأخوات مع البنات عصبة لهن ما فضل.(1/298)
30- إذا كان زوج وأم، وإخوة من أم وإخوة من أب وأم فهذه المسألة في علم المواريث اختلف العلماء فيها قديماً وحديثاً، فيروى عن عمر وعثمان وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم شركوا بين ولد الأبوين وولد الأم في الثلث، فقسموه بينهم بالسوية للذكر مثل حظ الأنثيين، ويروى أن عمر كان أسقط ولد الأبوين فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين هب أن أبانا كان حماراً أليست أمنا واحدة، فشرك بينهم وهذه المسألة تسمى المشرَّكة وتسمّى الحمارية لما تقدم.
31- اختياره أن للجدات وإن كثرت السدس وهو قول أبي بكر.
32- اختيار عمر في أم وأخت وجد؛ للأخت النصف، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي للجد.
33- اختيار عمر إذا كان زوج وأبوان؛ أعطي الزوج النصف، والأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب وإذا كانت زوجة وأبوان أعطيت الزوجة الربع، والأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب وهاتان المسألتان تسميان بالعمريتين، لأن عمر رضي الله عنه قضى فيهما بهذا.
34- اختيار توريث ذوي الأرحام إذا لم يكن ذوا فرض ولا عصبة(1).
هذه بعض الاختيارات العمرية في مجال الفقه وهي تستحق البحث والتأصيل وإنما ذكرتها من باب الإشارة.
الفصل الخامس
فقه عمر رضي الله عنه في التعامل مع الولاة
لما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد عمر، قسم الدولة أقساماً إدارية كبيرة، ليسهل حكمها والإشراف على مواردها، وقد كانت الفتوحات سبباً رئيساً في تطوير عمر لمؤسسات الدولة ومن بينها مؤسسة الولاة.
المبحث الأول: أقاليم الدولة:
يعتبر تقسيم الولايات في عهد عمر امتداداً في بعض نواحيه لما كانت عليه في عهد أبي بكر إقليمياً، مع وجود تغيرات في المناصب القيادية لهذه الولايات في كثير من الأحيان وإليك نبذة مختصرة عن هذه الولايات.
أولاً: مكة المكرمة:
__________
(1) انظر محض الصواب (3/754-774).(1/299)
تولى ولاية مكة في عهد عمر رضي الله عنه مُحرز بن حارثة بن ربيعة بن عبد شمس ثم ولي مكة لعمر فُنقُذ بن عمير بن جدعان التميمي، وشأنه شأن من سبقه فلم تذكر أخبار عن مدة ولايته لمكة أو أحداثها وبعده تولى مكة لعمر (نافع بن الحارث الخزاعي) وقد توفي عمر رضي الله عنه وهو على مكة وذكرت المصادر بعض الأحداث عن ولايته مكة منها شراؤه داراً من صفوان بن أمية بغرض جعلها سجناً وذلك فيما رواه البخاري(1) وقد ورد أيضاً أن نافعاً لقي عمر بـ (عُسْفَان) أثناء قدومه للحج فقال له عمر من استعملت على الوادي يعني مكة؟ قال نافع: ابن (أبْزى) قال: ومن ابن أبْزى؟ قال: مولى من موالينا، فقال: استعملت عليهم مولى؟ فقال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض قال عمر: أما إن نبيكم قال: الله يرفع بهذا الكتاب قوماً ويضع به آخرين(2)، وفي عهد عمر كانت أبرز الأعمال لولاية مكة هي توسعة الحرم المكي حيث قام عمر بشراء بعض الدور المجاورة للحرم وأمر بهدمها وإدخالها ضمن حرم المسجد وبنى حوله جدراناً قصيرة كانت مكة ملتقى الأمراء والولاة في مختلف الأصقاع بالخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في موسم الحج وبالتالي كان لمكة دور أساسي كبير كإحدى الولايات الرئيسية للدولة الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه.
ثانياً: المدينة النبوية:
__________
(1) البخاري، ك الخصومات (3،25) باب الربط والحبس مسند أحمد رقم 232 الموسوعة الحديثية إسناده صحيح.
(2) الولاية على البلدان عبد العزيز العمري (1/67) وهذا أهم مرجع في الفصل وقد قمت بتلخيص هذا الكتاب.(1/300)
يعتبر الخليفة هو الوالي المباشر للمدينة، نظراً لأنه كان يقيم فيها وبالتالي كان يتولى شؤونها ويسوس أمورها، وخلال غياب الخليفة عمر عن المدينة كان يولي عليها من يقوم مقامه في إدارة شؤون المدينة المختلفة، فكان عمر أحيانا يولي على المدينة خلال بعض أسفاره أو حجه ( زيد بن ثابت رضي الله عنه(1)) كما ولى عمر علي بن
أبي طالب على المدينة عدة مرات أثناء غيابه(2) وهكذا فإن عمر رضي الله عنه سار على سياسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر في الاستخلاف على المدينة في حال غيابه، وتكتسب ولاية المدينة المنورة أهمية سياسية متميزة بين الولايات المختلفة في تلك الأيام لعدة أسباب على رأسها أنها مقر الخليفة عمر، ومصدر الأوامر إلى مختلف الأقاليم الإسلامية ومنها تنطلق الجيوش المجاهدة، يضاف لذلك أنها مقر إقامة الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم، والذين كان عمر يمنعهم من الانتشار في الأمصار(3)، ولذلك كان يفد إليها الكثير من طلاب العلم الذين يريدون أن يأخذوا القرآن وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفقههما من أفواه الصحابة رضوان الله عليهم(4).
ثالثاً: الطائف:
تعتبر الطائف إحدى أهم المدن الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه، وكانت تمد حركة الجهاد بالمقاتلين الأشداء، وكان واليها منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن
__________
(1) الولاية على البلدان (1/68).
(2) تاريخ اليعقوبي (2/147).
(3) تاريخ اليعقوبي (2/157).
(4) الولاية على البلدان (1/68).(1/301)
أبي العاص وأقره أبو بكر على ما كان عليه، واستمرت ولايته على الطائف لمدة سنتين من خلافة عمر، وقد تاقت نفس عثمان بن أبي العاص إلى الجهاد، فكتب إلى عمر يستأذنه في الغزو فقال له عمر: أما أنا فلا أعزلك، ولكن استخلف من شئت فاستخلف رجلاً من أهل الطائف مكانه، وعين عمر عثمان على عُمان والبحرين(1) وقد ورد أن والي عمر على الطائف حين وفاته هو (سفيان بن عبد الله الثقفي) (2)، وقد كان بينه وبين عمر بن الخطاب مكاتبات تتعلق بأخذ الزكاة من الخضار والفواكه أو من العسل(3)، وكلها تدل على كثرة المزارع ووفرة الإنتاج الزراعي في الطائف أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد ظلت مدينة الطائف وما جاورها تنعم بالاستقرار في عهد عمر رضي الله عنه، وقد كانت لأهل مكة متنفساً يقدمون إليه في الصيف(4)، واعتبرت الطائف أحد الأمصار الرئيسية التابعة للدولة الإسلامية في عهد عمر(5).
رابعاً: اليمن:
__________
(1) تاريخ خليفة بن خياط ص134 .
(2) تاريخ الطبري (5/239).
(3) الطائف في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، نادية حسين صقر ص19 .
(4) الطائف في العصر الجاهلي وصدر الإسلام ص19 .
(5) الولاية على البلدان (1/69).(1/302)
عندما تولى عمر رضي الله عنه الخلافة كانت اليمن تنعم بالاستقرار، وقد ضبطت أمورها عن طريق ولاة موزعين في أنحاء اليمن، وقد أقر عمر عمال أبي بكر على اليمن(1)، وكان يعلى بن أمية أحد ولاة أبي بكر على اليمن، وقد لمع اسمه في خلافة عمر بن الخطاب، وذكر المؤرخون بأنه والي بعد ذلك على أنه والي عمر على اليمن واشتهر بذلك حتى وفاة عمر رضي الله عنه(2) وقد أوردت المصادر العديد من الحوادث التي وقعت لوالي اليمن (يعلى بن أمية) مع بعض الأهالي من اليمن، إضافة إلى حديثها عن بعض القضايا التي قدم أصحابها شكاوى ضد يعلى أمام عمر بن الخطاب، مما استلزم استدعاء يعلى إلى المدينة المنورة عدة مرات حقق خلالها عمر معه في هذه القضايا(3)،وفي أثناء غياب يعلى كان عمر أحياناً يعين مكانه من يقوم بعمله، وقد كانت بين يعلى وعمر عدة مكاتبات تتعلق بقضايا الزكاة(4)، كما ذكر يعلى نفسه ضمن الولاة الذين قاسمهم عمر أموالهم في أواخر خلافته(5) وقد ذكر من ولاة اليمن لعمر عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، ولعله كان على منطقة محددة من اليمن وهي (الجَنَد) كما صرح بذلك الطبري حيث ذكره ضمن ولاته حين وفاته إذ كان والياً لعمر على الجند بجانب ذكر ليعلى كوالٍ لليمن(6) وقد لعب أهل اليمن دوراً رئيسياً في حركة الفتوح أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاشتركوا في فتوح الشام وفي فتوح العراق ومصر(7)، وعندما اختطت الأمصار الإسلامية الجديدة في العراق كالبصرة والكوفة نزلتها الكثير من القبائل اليمنية وعلى رأسها كنده التي نزلت الكوفة(8)، كما استقرت أعداد أخرى من
__________
(1) غاية الأماني في أخبار القطر اليماني، يحيى بن الحسين (1/83).
(2) تاريخ الطبري (2/157).
(3) غاية الأماني (1/83).
(4) الأموال للقاسم بن سلام ص436 .
(5) تاريخ اليعقوبي (2/157).
(6) تاريخ الطبري (5/239).
(7) الولاية على البلدان (1/71).
(8) اليمن في ظل الإسلام د. عصام الدين ص49 .(1/303)
القبائل اليمنية بالشام، وكان لهم دور كبير في فتوحاتها، كما سكنت مجموعة منهم في مصر بعد إنشاء الفسطاط(1)، ولا شك أن هذه الهجرات المنظمة من القبائل اليمنية في عهد عمر قد خطط لها، وقد يكون لأمراء البلدان على اليمن دور كبير في هذا التخطيط وفي عملية توزيع القبائل على الأمصار، ومن هنا كانت اليمن من أهم الولايات الإسلامية على عهد عمر، وكان دورها وتأثيرها واضحاً بالنسبة لمختلف الولايات(2).
خامساً: البحرين:
عندما تولى عمر أمر المسلمين كان العلاء بن الحضرمي والياً على البحرين، فأقره عمر في بداية خلافته والياً عليها واستمر عليها حتى سنة أربع عشرة على أرجح الأقوال(3)، وقد اشترك العلاء رضي الله عنه في الجهاد المبكر في نواحي بلاد الفرس، وكان له دور رئيس فيه، وفي أواخر فترة ولاية العلاء على البحرين أصدر عمر رضي الله عنه قراراً بعزله العلاء عن الولاية، ونقله إلى ولاية البصرة وقد كره العلاء ذلك فتوفي قبل أن يصل البصرة ودفن في البحرين وقد قيل في سبب عزله إنه غزا فارس عن طريق البحرين دون إذن من عمر وكان عمر يكره أن يحمل المسلمين في البحر، وبعد وفاة العلاء تولى على البحرين عثمان بن أبي العاص، فأخذ يجاهد ما يليه من نواحي بلاد فارس، حتى وصل في بعض فتوحه إلى نواحي السند، وقد صدرت أوامر عمر رضي الله عنه إلى عثمان بن أبي العاص تأمره بالتعاون في فتوحه مع والي البصرة أبي موسى الأشعري فأصبحت جيوشهما تتعاون في غزو فارس عن طريق البصرة(4).
__________
(1) فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم ص119-123 .
(2) الولايات على البلدان (1/71).
(3) نفس المرجع (1/75).
(4) نفس المرجع (1/73).(1/304)
وقد اشتهر عن عثمان بن أبي العاص ورعه وبعده عن الوقوع في الحرام(1)، وقد تولى عثمان ولاية البحرين لعمر مرتين على الأقل إذ أنه ولاه للمرة الأولى في السنة الخامسة عشرة ثم احتاج إليه لقيادة بعض الجيوش في نواحي البصرة، ليشترك في فتوحاتها، وقد تولى (عيّاش بن أبي ثور) (2) البحرين بعد عثمان بن أبي العاص، ويبدو أن فترته لم تطل، ثم ولى عمر على البحرين (قدامة بن مظعون) رضي الله عنه الذي صحبه أبو هريرة ووليَ له أمر القضاء في البحرين بالإضافة إلى بعض المهام الأخرى، وخلال فترة ولاية قدامة للبحرين امتدحه الناس، إلا أنه حدث في آخر ولايته أن اتهم رضي الله عنه بشرب الخمر، وبعد التحقيق ثبتت التهمة، فأقام الفاروق عليه الحد وعثمان بن مظعون خال أولاد عمر بن الخطاب، عبد الله وأم المؤمنين حفصة(3)، وقد غضب عثمان على عمر إلا أن عمر أصر علي إرضائه وكان يقول: إني رأيت رؤيا أنه قد أتاني آت في منامي فقال لي: صالح قدامة فإنه أخوك(4) وقيل إن عزل قدامة عن ولاية البحرين كان في سنة عشرين(5) للهجرة، وقد تولى على البحرين بعد قدامة الصحابي المعروف (أبو هريرة) رضي الله عنه وقد كان أبو هريرة يتولى بعض المسؤوليات في البحرين أثناء ولاية قدامة بن مظعون السابقة وكان ضمن الشهود الذين شهدوا على قدامة في الخمر، وقد أصدر عمر رضي الله عنه أمراً بتولية أبي هريرة على البحرين بعد عزله لقدامة(6) وقد ولى البحرين لعمر فيما بعد عثمان بن أبي العاص الثقفي مرة أخرى واستمر والياً عليها حتى توفي عمر(7)، وقد وردت في كثير من النصوص ولاية البحرين مضافة إليها عمان، ووردت روايات عند
__________
(1) سير أعلام النبلاء (2/374).
(2) الولاية على البلدان (1/73).
(3) الطبقات (5/560)، تاريخ المدينة (3/843) الولاية على البلدان (1/74).
(4) الولاية على البلدان (1/74).
(5) البداية والنهاية (7/101).
(6) الولاية على البلدان (1/75).
(7) نفس المرجع (1/75).(1/305)
تولية عثمان بن أبي العاص أنه ولي البحرين واليمامة(1) وهذه الروايات تعطينا دلالة قوية على مدى ارتباط البحرين بكل من عمان واليمامة، وأن هذين القسمين ربما اعتبرا جزءاً من ولاية البحرين خلال عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا يخفى مدى الارتباط الجغرافي والبشري بين هذين الإقليمين وبين البحرين، وقد يفيد تعبير البحرين وما والاها الذي يردده المؤرخون ووجود توابع للبحرين ربما كان المقصود بها عمان واليمامة، وقد كانت البحرين مصدراً رئيسياً للخراج والجزية، وهذا يدل على ثراء هذه الولاية في تلك الأيام، وقد شاركت قبائل البحرين المسلمة وأمراؤها في بلاد فارس والمشرق، وكان لهم دور مهم في تلك الفتوح(2).
سادساً: مصر:
__________
(1) تاريخ الطبري (5/239).
(2) الولاية على البلدان (1/76).(1/306)
كان عمرو بن العاص رضي الله عنه هو الذي تولى فتح مصر وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله عند حديثنا عن الفتوحات وأقره عمر والياً عليها، واستمر في ولايته حتى توفي عمر بن الخطاب رغم اختلافه مع عمر في بعض الأحيان مما كان يدفع عمر إلى التهديد بتأديبه وكان عمرو هو والي مصر الرئيسي، مما كان يرد من وجود بعض الولاة الصغار الآخرين في مصر مثل ما ورد عن ولاية عبد الله بن أبي السرح على الصعيد إبان وفاة الخليفة عمر(1)، ومن الملاحظ في فترة ولاية عمرو بن العاص لمصر في عصر عمر كثرة تدخل الخليفة عمر في شؤون الولاية المختلفة(2)، وقد استفاد عمرو بن العاص من خبرة الأقباط في قضايا الخراج والجزية فاستخدمهم في هذا العمل(3)، وقد اشتهر عن عمرو منعه لجنوده من الزراعة والاشتغال بها ومعاقبة من يخالف ذلك بناءً على أوامر عمر بن الخطاب(4) وكان هذا بالطبع لتفريغ الجنود لأمور الجهاد، وعدم الركون إلى الدعة، أو الارتباط بالأرض، وقد كان للجند من الأرزاق التي تصرف من بيت المال ما يغنيهم عن ذلك، وقد استطاع عمرو بن العاص بمتابعة من الخليفة عمر تنظيم أمورها في سنوات قليلة حتى أخذت مكانتها كولاية كبرى من ولايات الدولة، وجرى فيها من الأحداث مما يدل على استقرار أوضاع الولاية، بالرغم من المخاطر التي كانت تحدق بها من جراء محاولة الروم المستمرة استعادتها عن طريق غزو الإسكندرية من ناحية البحر، وقد كانت هذه الولاية أرضاً خصبة لانتشار الإسلام فيها في عهد الخليفة عمر نظراً لما ظهر فيها من عدل بين الناس ورحمة، لم يعهدهما أهلها من قبل بالإضافة إلى اقتناعهم بحقائق الإسلام وتعاليمه السمحة فأصبحوا جنداً من جنوده، وكانت الأمور الإدارية في مصر تمضي بطريقة بسيطة إذ كان عمرو وهو الوالي وهو المسؤول عن الخراج، ولا يمنع هذا من
__________
(1) فتوح مصر ص173 .
(2) الولاية على البلدان (1/79).
(3) فتوح مصر وأخبارهم ص152 .
(4) الولاية على البلدان (1/82).(1/307)
استعانة عمرو ببعض الولاة على مناطق أخرى تابعة له كما مرّ، ولكن الوالي الرئيسي والمسؤول أمام الخليفة هو عمرو بن العاص طوال فترة حكم عمر بن الخطاب، وقد استفاد عمرو من بعض أهل البلاد في ترتيب أمور الخراج وتنظيم شؤونها المالية(1).
سابعاً: ولايات الشام:
حينما توفي أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان المسؤول عن جيوش الشام وبلادها هو خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولما تولى عمر رضي الله عنه الخلافة أصدر أمراً بعزل خالد بن الوليد عن ولاية الشام وتعيين أبي عبيدة بن الجراح مكانه أميراً لأمراء الشام، ومسؤولاً مباشراً عنهم ووالياً على الجماعة فيها(2)، وحينما تولى أبو عبيدة على الشام أخذ ينظم أمورها، ويعين الأمراء من قبله على المناطق المختلفة فيها، وأخذ يعيد تنظيمها حيث كان على بعضها أمراء سابقون فمنهم من أقره أبو عبيدة ومنهم من عزله، يقول خليفة بن خياط: فولى أبو عبيدة حين فتح الشامات يزيد بن أبي سفيان على فلسطين وناحيتها، وشرحبيل بن حسنة على الأردن، وخالد بن الوليد على دمشق وحبيب بن مسلمة على حمص ثم عزله، وولى عبد الله بن قرط الثمالي(3)، ثم عزله، وولى عبادة بن الصامت ثم عزله ورد عبد الله بن قرط(4)، وكان يبعث أحياناً بعض أصحابه لتولي مناطق من الشام لفترة معينة، ذلك أن أبا عبيدة بعث معاذ بن جبل على الأردن(5)، ومن ذلك إنابته لبعض الناس مكانه حين كان يسافر للجهاد فقد أناب سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل(6)، على دمشق حين خروجه إلى بيت المقدس،وكان أبو عبيدة رحمه الله طوال فترة ولايته على الشام مثالاً للرجل الصالح الورع الذي يقتدي به بقية أمرائه ويقتدي به العامة، وقد استشهد كما مرّ
__________
(1) الولاية على البلدان (1/83).
(2) تهذيب تاريخ دمشق (1/152).
(3) الأزدي له صحبة ورواية اشترك في فتوح الشام.
(4) تاريخ خليفة ص155 .
(5) فتوح الشام ص248 .
(6) الفتوح، ابن أعثم الكوفي ص289 الولاية على البلدان (1/90).(1/308)
معنا في طاعون عمواس ثم تولى بعده معاذ، فاستشهد بعده بأيام وحينما علم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بوفاة أبي عبيدة ووفاة معاذ من بعده عين على أجناد الشام يزيد بن
أبي سفيان رضي الله عنه وفرق أمراء آخرين على الشام، وقد كان يزيد صاحب خبرة في إمارة الأجناد، إذ كان على رأس أحد الجيوش التي بعثها أبو بكر إلى الشام للفتح، كما أن أبا عبيدة قد استخلفه عدة مرات على دمشق أثناء غزواته(1)، وقد ذكر المؤرخون أن عمر حينما ولّى يزيد على أجناد الشام حدد أمراء آخرين وزعهم على المناطق واختص يزيد بفلسطين والأردن(2)، وتعتبر فترة يزيد على الشام قصيرة لذلك يقل الحديث عنها في المصادر التاريخية وقد توفي يزيد في السنة الثامنة عشرة، وقبيل وفاته استخلف أخاه معاوية بن أبي سفيان على ما كان يتولاه وكتب إلى عمر كتاباً في ذلك، وكانت مدة ولاية يزيد قريباً من السنة(3)، وأقرّ عمر رضي الله عنه ولاية معاوية وأجرى تعديلات في إدارة الشام بعد وفاة يزيد، وقد حدد لمعاوية جند دمشق وخراجها، وحدّ من سلطات معاوية في القضاء والصلاة حيث بعث إليه برجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعلهما على القضاء والصلاة(4)، وهذا فيه تحديد لسطات معاوية خصوصاً أن الصلاة وكلت إلى غيره وكان الأمير في العادة هو أمير الصلاة، ولعل هناك أسباباً دفعت عمر إلى هذه السياسة الجديدة التي بدأت تظهر في الأقاليم الأخرى وبالأسلوب نفسه الذي نهجه مع معاوية تقريباً، وقد اشتهر معاوية بالحلم والبذل مما جعل مجموعات من الناس تلحق بولايته من العراق وغيرها(5)، وقد قام عمر بتعيين بعض الأمراء في الشام، وجعل ولايتهم من قبل معاوية، وخلال ولاية معاوية على بلاد الشام كان في بعض الأحيان
__________
(1) فتوح البلدان ص137 .
(2) فتوح البلدان ص145،146 .
(3) الوثائق السياسية للعصر النبوي والخلافة الراشدة ص493 .
(4) الولاية على البلدان (1/92).
(5) تاريخ الطبري (5/239).(1/309)
يقوم ببعض الغزوات ضد الروم في شمال الشام وهي ما عرفت بالصوائف(1)، وقد استمر معاوية والياً على الشام بقية عصر عمر حتى وفاته رضي الله عنه، مع وجود أمراء آخرين في مناطق معينة من الشام لهم اتصالهم المباشر بالخليفة في المدينة المنورة، إلا أن معاوية يعتبر أشهرهم، حيث كان والياً على البلقاء والأردن وفلسطين وانطاكية وقلقيلية ومعرة مصرين وغيرها من مدن الشام(2)، وقد سماه بعض المؤرخين والي الشام بينما تحفط بعضهم فقالوا حين ذكروا ولاة عمر ومعاوية بن أبي سفيان على بعض الشام ولكن بعضهم ذكر أنه قبل موت عمر جمع الشام كلها لمعاوية بن أبي سفيان(3)، ولابد من التنبيه على أن الولايات كانت تجري فيها تغييرات مستمرة تبعاً للظروف العسكرية والظروف العامة للدولة في تلك الأيام، فكانت الأردن أحياناً تستقل وأحياناً تضم لها أقاليم وأحياناً تنزع منها أقاليم وتضم إلى الشام أو إلى فلسطين إلى غير ذلك مما لا يتسع المقام لذكره(4).
ثامناً: ولايات العراق وفارس:
__________
(1) الولاية على البلدان (1/92).
(2) الولاية على البلدان (1/93).
(3) تاريخ خليفة بن خياط 155 ، سير أعلام النبلاء (3/88).
(4) الولاية على البلدان (1/102).(1/310)
كانت الفتوحات قد بدأت في العراق أيام أبي بكر رضي الله عنه وكانت في البداية تحت إمارة المثنى بن حارثة الشيباني إلى أن قدم خالد بن الوليد إلى العراق، فجعل الولاية له، فلما أمره بالمسير إلى الشام أعاد أبو بكر الولاية مرة أخرى إلى المثنى بن حارثة، وحينما تولى الخلافة عمر بن الخطاب عزل المثنى وعين أبا عبيدة بن مسعود الثقفي، وكان عزل المثنى في الوقت نفسه الذي عزل فيه خالداً، مما أثار استغراب الناس فقال عمر: إني لم أعزلهما في ريبة ولكن الناس عظموهما فخشيت أن يوكلوا إليهما(1)، ومع عزل المثنى فقد كان جندياً مخلصاً اشترك مع أبي عبيد في معظم معاركه وأبلى بلاء حسناً(2) وبعد استشهاد أبي عبيد عاد المثنى إلى القيادة ثم تولى قيادة جيوش العراق سعد بن أبي وقاص، وقد انتقضت على المثنى جراحه التي أصابته يوم الجسر فمرض منها ومات قبل أن يصل سعد بن أبي وقاص للعراق(3) فقد كانت البصرة قد بدأت بالظهور على مسرح الأحداث كولاية قبيل معركة القادسية، إلا أن انتصار القادسية وسقوط المدائن في يد المسلمين يعتبر بداية مرحلة جديدة وقوية في بلاد العراق، بدأ فيها تنظيم الولايات يأخذ شكلاً معيناً وبارزاً تتضح فيه الملامح العامة سواء في ولاية البصرة أو ولاية الكوفة، وما ألحق بكل منهما من المدن والقرى التي كانت تتبع كلاً منهما من أقاليم فارس والعراق، أو ما استقل عنهما من الولايات في بلاد فارس(4).
ولاية البصرة:
وجه عمر بن الخطاب إلى نواحي البصرة قبل إنشائها شريح بن عامر، أحد
__________
(1) نفس المصدر (1/108).
(2) البداية والنهاية (7/28).
(3) الولاية على البلدان (1/111).
(4) الولاية على البلدان (1/113).(1/311)
بني سعد بن بكر مدداً لقطبة بن قتادة ثم ولاه عمر في نواحي البصرة، وقتل في إحدى المعارك(1)، ثم قام عمر بن الخطاب بإرسال عتبة بن غزوان إلى نواحي البصرة مع مجموعة من الجند وولاه عليها، وذلك في السنة الرابعة عشر وليس في السادسة عشر كما يرجح ذلك صالح أحمد العلي إذ يقول: ويزعم بعض المؤرخين أن عتبة أرسل سنة 16هـ بعد معركة القادسية أو جلولا ولكن الأغلبية المطلقة من المؤرخين يؤكدون أنه أرسل سنة 14هـ مما يجعلنا نرجح روايتهم(2)، وقد كانت مرحلة ولاية عتبة على البصرة مرحلة تأسيسية وهامة في حياة هذه الولاية، فقد كانت حافلة بالعديد من الأعمال الجليلة، ومنها مجموعة من الفتوح قام بها في بلاد الفرس القريبة منه على ضفتي دجلة والفرات(3)، وقد استعفى عتبة من عمر فأبى عمر أن يعفيه وكان ذلك في موسم الحج وعزم عليه عمر ليرجعن إلى عمله ثم انصرف فمات في الطريق إلى البصرة، فلما بلغ عمر موته قال أنا قتلته، لولا أنه أجل معلوم، وأثنى عليه خيراً وكانت وفاته في السنة السابعة عشرة(4) ثم تولى من بعده المغيرة بن شعبة وهو أول من وضع ديوان البصرة واستمر والياً على البصرة إلى أن عزله عمر رضي الله عنه في السنة السابعة عشرة من الهجرة بعد التهمة الموجهة إلى المغيرة بالزنا وقد قام عمر بالتحقيق وثبتت براءة المغيرة وجلد الشهود الثلاثة وقام عمر بعزل المغيرة، من باب الاحتياط والمصلحة، وولاه عمر فيما بعد على أماكن أخرى(5)، وبعد عزل المغيرة بن شعبة ولّى عمر على البصرة أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، ويعتبر أبو موسى – بحق – أشهر ولاة البصرة أيام عمر بن الخطاب، فقد فتحت في أيامه المواقع العديدة في فارس، فكان يجاهد بنفسه ويرسل القواد للجهات المختلفة
__________
(1) تاريخ خليفة بن خياط ص155 .
(2) التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة ص36 .
(3) تاريخ خليفة بن خياط ص127،128 .
(4) الولاية على البلدان (1/115).
(5) نفس المصدر (1/117).(1/312)
من البصرة، ففي أيامه تمكن البصريون من فتح الأهواز وما حولها وفتحوا العديد من المواضع المهمة وكانت فترة ولايته حافلة بالجهاد، وقد تعاون أبو موسى مع الولاة المجاورين له في كثير من الحروب والفتوحات، وقد قام بجهود كبيرة لتنظيم المناطق المفتوحة وتعيين العمال عليها وتأمينها وترتيب مختلف شؤونها، وقد جرت العديد من المراسلات بين أبي موسى وعمر بن الخطاب في مختلف القضايا منها توجيهه لأبي موسى في كيفية استقباله للناس في مجلس الإمارة ومنها نصيحته لأبي موسى بالورع ومحاولة إسعاد الرعية، وهي قيّمة قال فيها عمر: أما بعد فإن أسعد الناس من سعدت به رعيته، وإن أشقى الناس من شقيت به رعيته، إياك أن ترتع فيرتع عمالك، فيكون مثلك عند ذلك مثل البهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض فرتعت فيها تبغي السمن وإنما حتفها في سمنها(1)، وهناك العديد من الرسائل بين عمر وأبي موسى تدل على نواحٍ إدارية وتنفيذية مختلفة كان يقوم بها أبو موسى بتوجيه من عمر، وقد جمع معظم هذه المراسلات محمد حميد الله في كتابة القيم عن الوثائق السياسية(2)، وتعتبر فترة ولاية أبي موسى على البصرة من أفضل الفترات حتى لقد عبر عنها أحد أحفاد البصريين فيما بعد، وهو الحسن البصري رحمه الله فقال: ما قدمها راكب خير لأهلها من أبي موسى(3)، إذ أن أبا موسى رحمه الله كان بالاضافة إلى إمارته خير معلم لأهلها، حيث علّمهم القرآن وأمور الدين المختلفة(4)، وفي عهد عمر بن الخطاب كان العديد من المدن في فارس، والتي فتحت في زمنه تخضع للبصرة وتدار من قبل والي البصرة الذي يعين عليها العمال من قبله، ويرتبطون به ارتباطاً مباشراً وهكذا اعتبرا أبو موسى من أعظم ولاة عمر اعتبر مراسلات عمر مع أبي موسى من أعظم المصادر التي كشفت
__________
(1) مناقب عمر لابن الجوزي ص130 .
(2) الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة.
(3) سير أعلام النبلاء (2/389).
(4) الولاية على البلدان (1/120).(1/313)
سيرة عمر مع ولاته، وبيّنَت ملامح أسلوبه في التعامل معهم(1).
ولاية الكوفة:
يعد سعد بن أبي وقاص أول ولاة الكوفة بعد إنشائها بل إنه هو الذي أنشأها بأمر عمر، وكان له الولاية عليها وعلى المناطق المجاورة لها قبل بناء الكوفة، وقد استمر سعد والياً على الكوفة وقام بدوره على أكمل وجه، وكانت لسعد فتوحات عظيمة بعد استقراره بالكوفة في نواحي بلاد فارس(2)، كما كان لسعد مجموعة من الإصلاحات الزراعية في ولايته، منها أن مجموعة من الدهاقين سألوا سعداً أن يحفر لهم نهراً لصالح المزارعين في مناطقهم، فكتب سعد إلى عامله في المنطقة يأمره بحفر النهر لهم فجمع العمال وحفر النهر، وقد كان سعد ينظم أمور المناطق التابعة للكوفة ويعين عليها الولاة من قبله بعد التشاور مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وقد أعجب عقلاء أهل الكوفة بسعد بن أبي وقاص وامتدحوه، فحين سأل عمر بن الخطاب أحد مشاهير الكوفة عن سعد أجاب: أنه متواضع في جبايته عربي في نمرته أسد في تأمُّرِه يعدل في القضية ويقسم بالسوية، ويبعد بالسرية ويعطف عليها عطف البرة وينقل علينا خفياً نقل الذرة(3)، كما سأل عمر جرير بن عبد الله عن سعد بن أبي وقاص وولايته فقال جرير: تركته في ولايته أكرم الناس مقدرة وأقلهم قسوة هو لهم كالأم البرة يجمع لهم كما تجمع الذرة أشد الناس عند البأس وأحب قريش إلى الناس(4)، ومع اقتناع خيار أهل الكوفة وعقلائها بسعد وامتداحهم له فقد وقعت بعض الشكاوي ضده من قبل بعض عوام الناس فتم عزله وسيتم بإذن الله بيان ذلك عند حديثنا عن الشكاوى ضد الولاة، وبعد عزل سعد بن أبي وقاص عن الكوفة أصدر عمر قراراً بتعيين عمار بن ياسر على صلاة الكوفة، ويلاحظ أن عماراً رضي الله عنه كان ضمن القادة الذي كانوا في الكوفة، وكان
__________
(1) الولاية على البلدان (1/120).
(2) فتوح البلدان ص139 ، تاريخ اليعقوبي (2/151).
(3) الولاية على البلدان (1/123).
(4) نفس المصدر (1/123).(1/314)
سعد بن أبي وقاص يستعين بهم أثناء ولايته على الكوفة ولذلك كانت لدى عمار خبرة سابقة وشبه كاملة عن الولاية قبل أن يتولى عليها، وتختلف ولاية عمار هذه عن ولاية سعد، إذ أن عمر جعل مع عمَّار أناساً آخرين يشتركون معه في المسؤولية ويتقاسمون المهام، فكان عمار على الصلاة وابن مسعود على بيت المال وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض، لذلك اختلف الوضع إلى حد ما في الولاية في هذه المرحلة عما كانت عليه أيام سعد، ولا يمكننا تجاهل هذا التوزيع الجديد للمسؤولية في الولاية، وقد قام كل منهم بما نيط به من أمور، فكان عمار يقوم بالصلاة، وينظم أمور الولاية وشؤونها ويقود الجيوش، فقام ببعض الفتوح، واشترك أهل الكوفة في أيامه في عدد من المعارك ضد الفرس الذين جمعوا الجموع ضد المسلمين، فكان عمار يدبر ولايته بمقتضى تلك الظروف الحربية حسب توجيهات عمر بن الخطاب، وقد استمر عمار يؤدي مهمته في ولاية الكوفة مع ابن مسعود إضافة إلى قيامه بالشؤون المالية للولاية يقوم بتعليم الناس القرآن وأمور الدين(1)، وكانت ولاية عمار لأهل الكوفة قرابة سنة وتسعة أشهر، وعزله عمر بناء على عدة شكاوى من أهل الكوفة ضده وقد قال عمر لعمّار أساءك العزل؟ فقال عمّار ما سرني حين استعملت ولقد ساءني حين عزلت، وقيل إنه قال ما فرحت حين وليتني ولا حزنت حين عزلتني(2)، كما ذكر أنه استعفى عمر حين أحس بكراهية أهل الكوفة له فأعفاه عمر ولم يعزله(3) ثم عين عمر جبير بن مطعم على الكوفة ثم عزله قبل أن يتجه إلى الكوفة، نظراً لأن عمر أمره بكتمان خبر التعيين، ولكن الخبر انتشر بين الناس فغضب عمر وعزله ثم تولى ولاية الكوفة المغيرة بن شعبة واستمر يؤدي واجبه والياً للكوفة إلى أن توفي عمر بن الخطاب(4).
المدائن:
__________
(1) الطبقات (3/157).
(2) الفتوح ابن أعثم (2/82).
(3) نهاية الأرب (19/368).
(4) تاريخ خليفة ص155 ، تاريخ الطبري (5/239).(1/315)
كانت المدائن عاصمة كسرى، قد تم فتحها من قبل سعد بن أبي وقاص، واستقر بها سعد فترة من الوقت ثم انتقل منها إلى الكوفة بعد تمصيرها، وقد كان ضمن جيش سعد سلمان الفارسي رضي الله عنه، وهو الذي اشترك في العديد من المعارك ضد الفرس، وكان له دور كبير في دعوتهم إلى الإسلام قبل القتال وقد ولاه عمر بن الخطاب على المدائن فسار في أهلها سيرة حسنة، فقد كان مثالاً حياً لتطبيق تعاليم الإسلام، وقد ذكر أنه كان يرفض الولاية لولا أن عمر أجبره على قبولها، فكان يكتب إلى عمر يطلب الإعفاء فيرفض عمر ذلك، وقد اشتهر عن سلمان رضي الله عنه زهده، فكان يلبس الصوف، ويركب الحمار ببرذعته بغير اكاف ويأكل خبز الشعير وكان ناسكاً زاهداً(1) وقد استمر سلمان يعيش في المدائن إلى أن توفي على أرجح الأقوال سنة 32هـ في خلافة عثمان بن عفان، ويبدو أن سلمان لم يكن والي المدائن في أواخر أيام عمر رضي الله عنه إذ أن عمر قد عين حذيفة بن اليمان على المدائن ولم يذكر المؤرخون عزل عمر لسلمان، فلعله استعفى عمر فوافقه بعد أن كان يمانع في إعفائه وولى بعده حذيفة بن اليمان، وقد ورد العديد من الأخبار عن ولاية حذيفة على المدائن منها كتاب عمر إلى أهل المدائن بتعيين حذيفة والياً عليهم، وأمر عمر أهل المدائن بالسمع والطاعة لحذيفة، وقد استمر حذيفة والياً على المدائن بقية أيام عمر وكذلك طيلة خلافة عثمان(2).
أذربيجان:
__________
(1) مروج الذهب (2/306) الولاية على البلدان (1/131).
(2) سير أعلام النبلاء (2/364).(1/316)
كان حذيفة بن اليمان أول الولاة على أذربيجان ثم تولى بعد ما نقل إلى المدائن عتبة بن فرقد السلمي وفي أثناء ولايته حدثت بينه وبين عمر العديد من المراسلات، من ذلك أن عتبة بن فرقد حين جاء إلى أذربيجان وجد عندهم نوعاً من الحلوى الطبية تسمى (الخبيص) ففكر أن يصنع منها لعمر بن الخطاب، وبالفعل وضع منها وغلفها بما يحفظها من الجلود وغيرها وبعث بها إلى عمر بن الخطاب في المدينة، فلما تسلمها ذاق الخبيص فأعجبه، فقال عمر: أكل المهاجرين أكل منه شبعه؟ قال الرسول: لا إنما هو شيء خصك بك، فأمر عمر بردها على عتبة في أذربيجان، وكتب إليه يا عتبة إنه ليس من كدك ولا كد أبيك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع في رحلك، وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبوس الحرير(1)، وقد رويت الحادثة بروايات مختلفة يؤكد بعضها بعضاً، وقد استمر عتبة والياً على أذربيجان بقية خلافة عمر رضي الله عنه وجزءاً من خلافة عثمان، وقد وجد العديد في ولاة عمر في مناطق مختلفة في العراق وفارس، منهم من كان مستقلاً بولايته، ومنهم من كانت ولايته مرتبطة بإحدى الولايتين الكبيرتين في العراق اللتين هما محورا الإدارة، والقيادة لبلاد العراق وفارس الكوفة، أو البصرة، ومن هذه البلدان التي اختصت بولاة، الموصل، حلوان، كسكر(2)،
المبحث الثاني: تعيين الولاة في عهد عمر:
__________
(1) الولاية على البلدان (1/133).
(2) الولاية على البلدان (1/133،134،135).(1/317)
سار الفاروق رضي الله عنه على المنهج النبوي الشريف في اختيار الولاة، فكان لا يولي إلا الأكفاء والأمناء والأصلح من غيرهم على القيام بالأعمال، ويتحرى في الاختيار والمفاصلة غاية جهده ولا يستعمل من يطلب الولاية، وكان يرى أن اختيار الولاة من باب أداء الأمانات، بحيث يجب عليه أن يعين على كل عمل أصلح من يجده، فإن عدل عن الأصلح إلى غيره مع عدم وجود ما يبرر ذلك، يكون قد خان الله، ورسوله والمؤمنين(1)، ومن أقواله في هذا الشأن: وأنا مسؤول عن أمانتي وما أنا فيه، ومطلع على ما يحضرني بنفسي إن شاء الله، لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم(2)، وقال رضي الله عنه: من قلد رجلاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين(3)، وقال أيضاً: من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين(4).
أولاً: أهم قواعد عمر في تعيين الولاة وشروطه عليهم:
1- القوة والأمانة:
وقد طبق الفاروق رضي الله عنه هذه القاعدة، ورجّح الأقوى من الرجال على القوي، فقد عزل عمر شرحبيل بن حسنة وعين بدله معاوية. فقال له شرحبيل: أعن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا إنك لكما أحب ولكني أريد رجلاً أقوى من رجل(5)، ومن أجمل ما أثر عن عمر في هذا المعنى قوله: اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة(6).
2- مقام العلم في التولية:
__________
(1) وقائع ندوة النظم الإسلامية (1/295،296).
(2) دور الحجاز في الحياة السياسية ص255 .
(3) الفتاوى (28/42).
(4) الفتاوى (28/138).
(5) تاريخ الطبري (5/39).
(6) الفتاوى (28/42).(1/318)
وقد جرى عمر الفاروق على سنة رسول الله صلى الله عله وسلم في تولية أمراء الجيوش خاصة. قال الطبري: إن أمير المؤمنين، كان إذا اجتمع إليه جيش من أهل الإيمان، أمّر عليهم رجلاً من أهل الفقه والعلم(1).
3- البصر بالعمل:
كان عمر بن الخطاب يستعمل قوماً، ويدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل(2)، والتفضيل هنا إنما يعني أن أولئك الذين تركهم عمر، كانوا أفضل ديناً، وأكثر ورعاً، وأكرم أخلاقاً، ولكن خبرتهم في تصريف الأمور أقل من غيرهم فليس من الضروري أن يجتمع الأمران كلاهما معاً، وهذه القاعدة التي وضعها عمر،
ما زالت متبعة حتى اليوم، في أرقى الدول، ذلك بأن المتدين الورع الخلوق، إذا لم تكن له بصيرة في شؤون الحكم، قد يكون عرضة لخديعة أصحاب الأهواء والمضللين، أما المحنَّك المجرَّب، فإنه يعرف من النظرة السريعة، معاني الألفاظ،
وما وراء معاني الألفاظ وهذا السبب نفسه هو الذي دعا عمر بن الخطاب أيضاً لاستبعاد رجل لا يعرف الشر، فلقد سأل عن رجل أراد أن يوليه عملاً فقيل له: يا أمير المؤمنين: إنه لا يعرف الشر. فقال عمر لمخاطبه: ويحك ذلك أدنى أن يقع فيه(3)، وهذا لا يعني أن يكون العامل غير متصف بالقوة والأمانة والعلم والكفاية وغيرها من الصفات التي يستلزمها منطق الإدارة والحكم، وإنما يقع التفاضل بين هذه الصفات، ويكون الرجحان لما سمّاه عمر بن الخطاب: البصر بالعمل(4).
4- أهل الوبر وأهل المَدَر:
__________
(1) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/479).
(2) المدينة النبوية فجر الإسلام (2/56).
(3) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/482).
(4) نفس المصدر (1/482).(1/319)
وكان عمر ينظر، حين تعيينه أحد عماله، إلى بعض الخصائص والطباع والعادات والأعراف، فلقد عُرف أنه كان ينهى عن استعمال رجل من أهل الوبر على أهل المدر(1)، وأهل الوبر هم ساكنوا الخيام، وأهل المدر هم ساكنوا المدن وهذه نظرة اجتماعية سلوكية في آن معاً، في اختيار الموظفين، فلكل من أهل الوبر والمدر طبائع وخصائص وأخلاق وعادات وأعراف مختلفة، ومن الطبيعي أن يكون الوالي عارفاً بنفسية الرعية، وليس من العدل أن يتولى أمرها رجلٌ جاهل بها، فقد يرى العُرف نُكراً وقد يرى الطبيعي غريباً، فيؤدي ذلك إلى غير ما يتوخاه المجتمع من أهداف يسعى إلى تحقيقها(2).
5- الرحمة والشفقة على الرعية:
كان عمر رضي الله عنه يتوخى في ولاته الرحمة والشفقة على الرعية، وكم من مرة أمر قادته في الجهاد ألا يغرروا بالمسلمين ولا ينزلوهم منزل هلكة، وكتب عمر لرجل من بني أسلم كتاباً يستعمله به، فدخل الرجل على عمر وبعض أولاد عمر في حجر أبيهم يُقبّلهم. فقال الرجل: تفعل هذا يا أمير المؤمنين؟ فوالله
ما قبَّلت ولداً لي قط، فقال عمر: فأنت والله بالناس أقل رحمة، لا تعمل لي عملاً، ورده عمر فلم يستعمله(3)، وغزت بعض جيوشه بلاد فارس حتى انتهت إلى نهر ليس عليه جسر فأمر أمير الجيش أحد جنوده أن ينزل في يوم شديد البرد لينظر للجيش مخاضة يعبر منها، فقال الرجل: إني أخاف إن دخلت الماء أن أموت، فأكرهه القائد على ذلك، فدخل الرجل الماء وهو يصرخ: يا عمراه يا عمراه! ولم يلبث أن هلك، فبلغ ذلك عمر وهو في سوق المدينة. فقال: يا لبيكاه يا لبيكاه، وبعث إلى أمير ذلك الجيش فنزعه وقال: لولا أن تكون سنّة لأقدت منك،
__________
(1) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/282).
(2) نفس المصدر (1/283).
(3) محض الصواب (2/519).(1/320)
لا تعمل لي على عمل أبداً(1)، وخطب عمر ولاته فقال: اعلموا أنه لا حلم أحب إلى الله تعالى ولا أعمّ من حلم إمام ورفقه، وأنه ليس أبغض إلى الله ولا أعمّ من جهل إمام وخرقه، واعلموا أنه من يأخذ بالعافية فيمن بين ظهرانيه يُرزق العافية ممن هو دونه(2).
6- لا يولي أحداً من أقاربه:
كان عمر حريصاً على أن لا يولي أحداً من أقاربه رغم كفاية بعضهم وسبقه إلى الإسلام مثل سعيد بن زيد ابن عمه وعبد الله بن عمر ابنه، وقد سمعه رجل من أصحابه يشكو إعضال أهل الكوفة به في أمر ولاتهم. وقول عمر: لوددت أني وجدت رجلاً قوياً أميناً مسلماً أستعمله عليهم. فقال الرجل: أنا والله أدلك عليه، عبد الله بن عمر، فقال عمر: قاتلك الله والله ما أردت الله بهذا(3)، وكان يقول: من استعمل رجلاً لمودة أو لقرابة لا يشغله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله(4).
7- لا يعطي من يطلبها:
كان لا يولي عملاً لرجل يطلبه، وكان يقول في ذلك: من طلب هذا الأمر لم يُعن عليه، وقد سار على هذا النهج اقتداء بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
8- منع العمال من مزاولة التجارة:
كان عمر يمنع عماله وولاته من الدخول في الصفقات العامة سواءً أكانوا بائعين أو مشترين(5)، روي أن عاملاً لعمر بن الخطاب اسمه الحارث بن كعب بن وهب، ظهر عليه الثراء، فسأله عمر عن مصدر ثرائه فأجاب: خرجت بنفقة معي فاتجرت بها. فقال عمر: أما والله ما بعثناكم لتتجروا وأخذ منه ما حصل عليه من ربح(6).
9- إحصاء ثروة العمال عند تعيينهم:
__________
(1) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص150 .
(2) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين ص334 .
(3) مناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص108 ، الولاية على البلدان (1/128).
(4) الفتاوى (28/138).
(5) الإدارة الإسلامية في عصر عمر بن الخطاب ص213 .
(6) نفس المصدر ص213 .(1/321)
كان عمر يحصي أموال العمال والولاة قبل الولاية ليحاسبهم على ما زادوه بعد الولاية مما لا يدخل في عداد الزيادة المعقولة، ومن تعلل منهم بالتجارة لم يقبل منه دعواه وكان يقول لهم: إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجاراً(1).
10- شروط عمر على عماله:
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا استعمل عاملاً كتب عليه كتاباً، وأشهد عليه رهطاً من الأنصار: أن لا يركب برذوناً(2)، ولا يأكل نقياً، ولا يلبس رقيقاً، ولا يغلق بابه دون حاجات المسلمين ثم يقول: اللهم فاشهد(3).
وهذه الشروط تعني الالتزام بحياة الزهد والتواضع للناس، وهي خطوة أولى في إصلاح الأمة بحملها على التوسط في المعيشة، واللباس والمراكب، وبهذه الحياة التي تقوم على الاعتدال تستقيم أمورها، وهي خطة حكيمة، فإن عمر لا يستطيع أن يلزم جميع أفراد الأمة بأمر لا يعتبر واجباً في الإسلام، ولكنه يستطيع أن يلزم بذلك الولاة والقادة، وإذا التزموا فإنهم القدوة الأولى في المجتمع، وهي خطة ناجحة في إصلاح المجتمع وحمايته من أسباب الانهيار(4).
11- المشورة في اختيار الولاة:
__________
(1) نفس المصدر ص215 .
(2) البرذون: الدابة، البراذين من الخيل ما كان من غير نتاج العرب.
(3) محض الصواب (1/510).
(4) التاريخ الإسلامي (19،20/268).(1/322)
كان اختيار الولاة يتم بعد مشاورة الخليفة لكبار الصحابة(1)، فقد قال رضي الله عنه لأصحابه يوماً: دلوني على رجل إذا كان في القوم أميراً فكأنه ليس بأمير، وإذا لم يكن بأمير فكأنه أمير(2)، فأشاروا إلى الربيع بن زياد(3)، وقد استشار عمر رضي الله عنه الصحابة في من يولي على أهل الكوفة فقال لهم: من يعذرني من أهل الكوفة ومن تجنيهم على أمرائهم إن استعملت عليهم عفيفاً استضعفوه، وإن استعلمت عليهم قوياً فجّروه، ثم قال: أيها الناس ما تقولون في رجل ضعيف غير أنه مسلم تقي وآخر قوي مشدّد أيهما الأصلح للإمارة؟ فتلكم المغيرة بن شعبة فقال يا أمير المؤمنين إن الضعيف المسلم إسلامه لنفسه وضعفه عليك وعلى المسلمين، والقوي المشدّد فشداده على نفسه وقوته لك وللمسلمين فأعمل في ذلك رأيك فقال عمر: صدقت يا مغيرة، ثم ولاه الكوفة وقال له: انظر أن تكون ممن يأمنه الأبرار ويخافه الفجّار، فقال المغيرة: أفعل ذلك يا أمير المؤمنين(4).
12- اختبار العمال قبل التولية:
كان عمر رضي الله عنه يختبر عماله قبل أن يوليهم، وقد يطول هذا الاختبار كما يوضحه الأحنف بن قيس حين قال: قدمت على عمر ابن الخطاب رضوان الله عليه، فاحتبسني عنده حولاً فقال يا أحنف قد بلوتك وخبرتك فرأيت أن علانيتك حسنة وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك وأنّا كنا نتحدث إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم، ثم قال له عمر أتدري لم احتبستك وبين له أنه أراد اختباره ثم ولاه(5)، ومن نصائح عمر للأحنف: يا أحنف، من كثر ضحكه قلتْ هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عُرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قلَّ حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه(6).
__________
(1) عصر الخلافة الراشدة ص114 .
(2) فرائد الكلام ص165 .
(3) نفس المصدر ص165 .
(4) الولاية على البلدان (1/ 128).
(5) الولاية على البلدان (1/ 142) مناقب أمير المؤمنين ص117.
(6) صفة الصفوة (1/ 287).(1/323)
13- جعل الوالي من القوم:
من الملاحظ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في كثير من الأحيان يولي بعض الناس على قومهم إذا رأى في ذلك مصلحة ورأى الرجل جديراً بالولاية، ومن ذلك توليته ((جابر بن عبد الله البجلي)) على قومه بجيلة(1)، حينما وجههم إلى العراق، وكذلك تولية سلمان الفارسي على المدائن، وتولية نافع بن الحارث على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، ولعله كان يرمي من وراء ذلك إلى أهداف معينة يستطيع تحقيقها ذلك الشخص أكثر من غيره(2).
14- المرسوم الخلافي:
وقد اشتهر عن عمر رضي الله عنه أنه حينما كان ينتهي من اختيار الوالي واستشارة المستشارين يكتب للوالي كتاباً يسمى عهد التعيين أو الاستعمال عند كثير من المؤرخين ويمكننا أن نسميه مجازاً (المرسوم الخلافي في تعيين العامل أو الأمير) وقد وردت العديد من نصوص التعيين لعمال عمر(3)ولكن المؤرخين يكادون يتفقون على أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا استعمل عاملاً كتب له كتاباً وأشهد عليه رهطاً من المهاجرين والأنصار واشترط عليه شروطاً في الكتاب(4) كما قد يكون الشخص المرشح للولاية غائباً، فيكتب له عمر عهداً يأمره فيه بالتوجه إلى ولايته، ومثال ذلك كتابه إلى العلاء بن الحضرمي عامله على البحرين أمره بالتوجه إلى البصرة لولايتها بعد عتبة بن غزوان، كما أنه في حال عزل أمير وتعيين آخر مكانه فإن الوالي الجديد كان يحمل خطاباً يتضمن عزل الأول وتعيينه مكانه، وذلك مثل كتاب عمر مع أبي موسى الأشعري حين عزل المغيرة بن شعبة عن ولاية البصرة وعين أبا موسى مكانه(5).
15- لا يستعين بنصراني على أمور المسلمين:
__________
(1) الولاية على البلدان (1/ 142).
(2) نفس المصدر (1/ 142).
(3) الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص407 .
(4) الولاية على البلدان (1/144).
(5) الولاية على البلدان (2/49).(1/324)
قدم على عمر فتح من الشام، فقال لأبي موسى: ادع كاتبك يقرأه على الناس في المسجد. قال أبو موسى: إنه لا يدخل المسجد. قال عمر: لم؟ أجنب هو؟ قال:
لا ولكنه نصراني، فانتهره عمر وقال: لا تدنوهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرموهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنوهم وقد خونهم الله، وقد نهيتكم عن استعمال أهل الكتاب، فإنهم يستحلون الرشوة(1)، وعن أُسِّقَ(2)، قال: كنت عبداً نصرانياً لعمر، فقال: أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين، لأنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم فأعتقني لما حضرته الوفاة وقال: اذهب حيث شئت(3).
ثانياً: أهم صفات ولاة عمر:
من أهم صفات ولاة عمر؛ سلامة المعتقد، والعلم الشرعي، والثقة بالله، والقدوة، والصدق، والكفاءة والشجاعة، والمروءة، والزهد، وحب التضحية، والتواضع وقبول النصيحة، والحلم، والصبر وعلو الهمة، والحزم والإرادة القوية، والعدل، والقدرة على حل المشكلات، وغير ذلك من الصفات وأما أهمها فهي:
1- الزهد:
فمن ولاة عمر الذين اشتهروا بزهدهم، سعيد بن عامر بن حذيم وعمير بن سعد وسلمان الفارسي، وأبو عبيدة ابن الجرّاح، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم وكان نساء بعض الولاة يقدمن الشكاوى إلى عمر نتيجة زهد أزواجهن، فقد اشتكت امرأة معاذ بن جبل رضي الله عنه وذلك: أن عمر بعث معاذاً ساعياً.. على بعض القبائل فقسم فيهم حتى لم يدع شيئاً، حتى جاء مجلسه الذي خرج به على رقبته. فقالت امرأته: أين ما جئت به مما يأتي به العمال من عراضة أهليهم؟ فقال: كان معي ضاغط(4)، فقالت: قد كنت أميناً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعند
__________
(1) بدائع السالك (2/27).
(2) ذكره بن حجر في الإصابة.
(3) محض الصواب (2/514)، الطبقات (6/158).
(4) ضاغط: مراقب.(1/325)
أبي بكر، أفبعث عمر معك ضاغطاً؟ فقامت بذلك في نسائها واشتكت عمر، فبلغ ذلك عمر فدعا معاذاً، فقال أنا بعثت معك ضاغطاً، فقال: لم أجد شيئاً أعتذر به إليها إلا ذلك. قال: فضحك عمر وأعطاه شيئاً وقال أرضها به(1).
2- التواضع:
اشتهر الولاة في عهد عمر بتواضعهم الشديد حتى إن القادمين إلى بلادهم
لا يميزون بينهم وبين عامة الناس فهم في لباسهم وبيوتهم ومراكبهم كعامة الناس
لا يميزون أنفسهم بشي، ومن أمثلة ذلك قصة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فقد بعث إليه الروم رجلاً ليفاوضه: فأقبل حتى أتى أبا عبيدة، فلما دنا من المسلمين لم يعرف أبا عبيدة من أصحابه، ولم يدر أفيهم هو أم لا ولم يرهبه مكان أمير. فقال لهم: يا معشر العرب، أين أميركم؟ فقالوا هاهو ذا. فنظر فإذا هو بأبي عبيدة جالس على الأرض وهو متنكب القوس وفي يده أسهم وهو يقلبها. فقال له الرسول: أنت أمير هؤلاء؟ قال: نعم. قال فما يجلسك على الأرض؟ أرأيت لو كنت جالساً على وسادة أو كان ذلك وضعك عند الله أو مانعك من الإحسان؟ قال أبو عبيدة: إن الله لا يستحي من الحق، ولأصدقنك عما قلت ما أصبحت أملك ديناراً ولا درهماً وما أملك إلا فرسي وسلاحي وسيفي، لقد احتجت أمسي إلى نفقة فلم يكن عندي حتى استقرضت من أخي هذا نفقة كانت عنده يعني معاذاً فأقرضنيها، ولو كان عندي أيضاً بساط أو وسادة ما كنت لأجلس عليه دون إخواني وأصحابي وأجلس أخي المسلم الذي لا أدري لعله عند الله خير مني على الأرض، ونحن عباد الله نمشي على الأرض، ونجلس على الأرض، ونأكل على الأرض ونضجع على الأرض وليس ذلك ينقصنا عند الله شيئاً، بل يعظم الله به أجورنا، ويرفع درجاتنا، ونتواضع بذلك لربنا(2).
3- الورع:
__________
(1) الولاية على البلدان (2/53).
(2) فتوح الشام للأزدي ص122، 123.(1/326)
حرص العديد من الولاة أن يُعفى من الأعمال الموكلة إليهم فقد استعفى عتبة بن غزوان عمر من ولاية البصرة فلم يعفه(1)، كما أن (النعمان بن مقرن) كان والياً على كسكر فطلب من عمر أن يعفيه من الولاية ويسمح له بالجهاد رغبة في الشهادة(2)، كما رفض بعض الصحابة الولاية حينما طلب منهم عمر أن يعملوا في الولايات، فقد رفض الزبير بن العوام ولاية مصر حينما عرض عليه ذلك قائلاً يا أبا عبد الله هل لك في ولاية مصر، فقال: لا حاجة لي فيها ولكن أخرج مجاهداً وللمسلمين معاوناً(3)، كما رفض ابن عباس ولاية حمص حينما عرض عليه عمر أن يوليه إياها بعد وفاة أميرها(4).
4- احترام الولاة لمن سبقهم من الولاة:
امتاز الولاة على البلدان باحترام من سبقهم من الولاة وتقديرهم وهذا يلاحظ في معظم الولاة في العصر الراشدي حيث نجد مثلاً أن خالداً بن الوليد حينما قدم إلى الشام أميراً على أبي عبيدة بن الجراح وغيره رفض أن يتقدم على أبي عبيدة في الصلاة، وحينما قام عمر بعزل خالد بن الوليد عن ولاية أجناد الشام وتعيين
أبي عبيدة مكانه أخفى أبو عبيدة الخبر عن خالد ولم يخبره به حتى ورد كتاب آخر من عمر، فعلم خالد بالخبر فعاتب أبا عبيدة على عدم تبليغه(5)، يقول الدكتور عبد العزيز العمري: ولم أجد من خلال البحث أن أحداً من الولاة عمل على إذلال من سبقه أو النيل منه، بل إنهم في الغالب يعملون على مدحهم في أول خطبة يلقونها ويثنون عليهم(6).
ثالثاً: حقوق الولاة:
__________
(1) الولاية على البلدان (2/ 54).
(2) نفس المصدر (2/ 54).
(3) فتوح البلدان للبلاذري ص214.
(4) الخراج لأبي يوسف ص22، 23.
(5) تاريخ اليعقوبي (2/ 139، 140).
(6) الولاية على البلدان )2/ 55).(1/327)
مما لا ريب فيه أن للولاة على البلدان حقوقاً مختلفة يتصل بعضها بالرعية وبعضها بالخليفة، وبالإضافة إلى حقوق أخرى متعلقة ببيت المال، وكل هذه الحقوق الأدبية أو المادية تهدف بالدرجة الأولى إلى إعانة الولاة على القيام بواجباتهم وخدمة دين الإسلام وهذه أهم حقوقهم:
1- الطاعة في غير معصية:
وواجب الطاعة من الرعية للأمراء والولاة قررته الشريعة قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(59) } (النساء، آية:59).
وهذه الآية تنص على وجوب طاعة أولى الأمر ومنهم الأمراء المنفذون لأوامر الله سبحانه وتعالى(1)، ولاشك أن طاعة الأمراء والخلفاء مقيدة بطاعة الله وأنهم متى عصوا الله فلا طاعة لهم(2).
2- بذل النصيحة للولاة:
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال له: يا أمير المؤمنين لا أبالي في الله لومة لائم خير لي أم أقبل على نفسي، فقال: أما من ولي من أمر المؤمنين شيئاً فلا يخف في الله لومة لائم، ومن كان خلواً من ذلك فليقبل على نفسه ولينصح لولي أمره(3).
3- إيصال الأخبار للولاة:
يجب على الرعية للوالي إيصال الأخبار الصحيحة إليه والصدق في ذلك، سواء
ما يخص أحوال العامة، أو ما يخص أخبار الأعداء أو ما كان متعلقاً بعمال الوالي وموظفيه والعجلة في ذلك قدر المستطاع خصوصاً ما كان متعلقاً بالأمور الحربية وأخبار الأعداء وما يتعلق بخيانات العمال وغير ذلك من منطق الاشتراك في المسؤولية مع الوالي في مراعاة المصلحة العامة للأمة(4).
4- مؤازرة الوالي في موقفه:
__________
(1) نفس المصدر (2/ 56).
(2) نفس المصدر (2/ 56).
(3) الخراج لأبي يوسف ص15، الولاية على البلدان (2/ 57).
(4) الولاية على البلدان (2/ 57).(1/328)
إذا كان موقفه للمصلحة العامة وتلزم المعاونة بالدرجة الأولى من قبل الخليفة، فقد كان عمر رضي الله عنه حريصاً على هذا المعنى كل الحرص حيث كان يولي عناية خاصة لاحترام الناس لولاتهم وتقديرهم لهم ويبذل في ذلك مختلف الأسباب (فكان عمر على شدة ما فيه مع عماله إذا أحس باعتداء أو شبه اعتداء وقع على أحدهم يشتد على المعتدين في تلك الناحية ليبقى للعامل هيبة توقره في الصدور ومهابة يلجم بها العامة والخاصة(1).
5- حق الأمير في الاجتهاد:
من حق الأمير الاجتهاد برأيه في الأمور التي يكون مجال الاجتهاد فيها مفتوحاً خصوصاً في الأمور التي لم يحددها الشرع بدقة وفي الأمور الأخرى التي لم يأت فيها تفويض من الخليفة للتصرف في حدود معينة، فقد اجتهد أحد ولاة عمر في الشام في قسمة الأسهم بين الراجلة والفرسان، فأجاز عمر اجتهاده، وقد اشتهر عن ابن مسعود وكان أحد ولاة عمر رضي الله عنه أنه خالف عمر في أكثر من مائة مسألة اجتهادية(2).
6- احترامهم بعد عزلهم:
من حقوق الولاة احترامهم بعد عزلهم، فعندما عزل عمر رضي الله عنه شرحبيل بن حسنة عن ولاية الأردن، بين للناس سبب عزله، وقال لشرحبيل عندما سأله أعن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا إنك لكما أحب ولكني أريد رجلاً أقوى من رجل(3)، وعزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة ولعله رأى أن احترامه يقضي بإبعاده عن أناس كانوا يعيبونه في صلاته مع أن سعداً كان أشبه الناس صلاة برسول الله لعلمه التام بصفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعزله عمر احتراماً له عن أن يقع فيه مثل هؤلاء الجهال(4).
7- حقوقهم المادية:
__________
(1) نفس المصدر (1/ 152).
(2) إعلام الموقعين (2/ 218).
(3) تاريخ الطبري (5/ 39).
(4) الولاية على البلدان (2/ 59).(1/329)
أما عن الناحية المادية فقد كان للولاة حقوق وعلى رأسها مرتباتهم التي يعيشون عليها، ولا شك أن الصحابة رضي الله عنهم وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون قد أحسوا بأهمية الأرزاق بالنسبة للعمال، وأنها حق من حقوقهم إضافة إلىاستغنائهم بها عن الناس وبالتالي عدم التأثير عليهم أو محاولة رشوتهم(1)، وقد كان عمر بن الخطاب حريصاً على نزاهة عماله وعفتهم عن أموال الرعية، واستغنائهم بأموالهم عن أموال الغير، ولعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أحس بهذه القضية الخطيرة، وأحس أنه لكي يضمن نزاهة عماله فلا بد له أن يغنيهم عن الحاجة إلى أموال الناس وقد دار حوار بينه وبين أبي عبيدة مفهومه أن أبا عبيدة قال لعمر بن الخطاب: دنّست أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني باستعمالهم فقال له عمر:
يا أبا عبيدة إذا لم أستعن بأهل الدين على سلامة ديني فبمن أستعين؟ قال
__________
(1) الولاية على البلدان (2/ 60).(1/330)
أبو عبيدة: أما إن فعلت فاغنهم بالعمالة عن الخيانة(1)، يعني إذا استعملتهم في شيء فأجزل لهم في العطاء والرزق، حتى لا يحتاجون إلى الخيانة أو إلى الناس وقد كان عمر يصرف لأمراء الجيش والقرى وجميع العمال من العطاء ما يكفيهم بالمعروف نظير عملهم ( على قدر ما يصلحهم من الطعام ما يقومون به من الأمور) (2)، وكان عمر يحرص على نزاهة العمال عما بأيديهم من الأموال العامة فيقول لعماله: قد أنزلتكم من هذا المال ونفسي منزلة وصي اليتيم من كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف(3)، وقد فرض عمر لجميع عماله تقريباً مرتبات محددة وثابتة سواء يومية أو شهرية أو سنوية وقد ورد ذكر بعضها في المصادر التاريخية منها ما كان طعاماً ومنها ما كان نقوداً محددة(4)، وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل عبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال وعثمان بن حنيف على ما سقى الفرات وعمّار بن ياسر على الصلاة والجند ورزقهم كل يوم شاة، فجعل نصفها وسقطها وأكارعها لعمار بن ياسر، لأنه كان في الصلاة والجند، وجعل ربعها لعبد الله بن مسعود والربع الآخر لعثمان بن حنيف كما ورد أن عمر بن الخطاب فرض لعمرو بن العاص أثناء ولايته على مصر مائتي دينار(5)، وكان عطاء سلمان الفارسي رضي الله عنه وهو على ثلاثين ألفاً من الناس في المدائن خمسة آلاف درهم، ولزهده كان يأكل من عمل يده من الخوص ويتصدق بعطائه(6)،وقد وردت روايات أخرى متفاوتة في أرزاق عمر لولاته، ولا شك أن هذا الاختلاف في الروايات مرده إلى تطور الأحوال وتغيرها خلال عهد عمر، فلا يعقل أن تبقى الأرزاق والمرتبات على ماهي عليه من أول عهده إلى نهايته، نظراً
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص122.
(2) الولاية على البلدان (1/ 149).
(3) تاريخ الدينة (2/ 694) الولاية على البلدان (1/ 149).
(4) الولاية على البلدان (1/ 150).
(5) الطبقات الكبرى (4/ 261).
(6) سير أعلام النبلاء (1/ 547).(1/331)
لتغير الظروف والأحوال واختلاف الأسعار وتطور الحاجات نتيجة اتساع الفتوح وزيادة الدخل في بيت المال(1)، وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رزق معاوية على عمله بالشام عشرة آلاف دينار في كل سنة، كما ذكر أن عمر كان يفرض لأمراء الجيوش والقرى في العطاء ما بين تسعة آلاف وثمانية آلاف وسبعة آلاف على قدر ما يصلهم من الطعام وما يقومون به من الأمور(2).
وقد كره بعض العمال أخذ الأرزاق نتيجة قيامه بأعمال الإمارة والولاية للمسلمين إلا أن الفاروق كان يوجههم إلى أخذها، فقد قال عمر رضي الله عنه لأحد ولاته: ألم أحدثك أنك تلي من أعمال المسلمين أعمالاً فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقال: بلى، فقال عمر: ما تريد إلى ذلك؟ قال إني لي أفراساً وأعبداً وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين فقال عمر: لا تفعل فإني كنت أردت الذي أردت، وكان رسول الله يعطيني العطاء فأقول أعطه أفقر إليه مني فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فخذه، ومالاً فلا تتبعه نفسك(3)، وعلى كل حال فإن مبدأ إعطاء الأرزاق للعمال وإغنائهم عن الناس كان مبدأ إسلامياً فرضه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وسار عليه الخلفاء الراشدون من بعده، حتى أغنوا العمال عن أموال الناس، وفرّغوهم للعمل ولمصلحة الدولة الإسلامية(4).
8- معالجة العمال إذا مرضوا:
__________
(1) الولاية على البلدان (2/ 63).
(2) الخراج لأبي يوسف ص50، الولاية على البلدان (2/ 63).
(3) الولاية على البلدان (2/64)، الإدارة الإسلامية محمد كرد ص48 .
(4) الولاية على البلدان (2/64).(1/332)
مرض معيقيب، وكان خازن عمر على بيت المال، فكان يطلب له الطب من كل من يسمع عنده بطب، حتى قدم عليه رجلان من أهل اليمن، فقال: هل عندكم من طب لهذا الرجل الصالح، فإن هذا الوجع قد أسرع فيه. قالا: أما شيء يذهبه فإنا لا نقدر عليه ولكنا نداويه بدواء يقفه فلا يزيد. قال عمر: عافية عظيمة أن يقف فلا يزيد قال: هل ينبت في أرضك هذا الحنظل. قال: نعم: قالا: فاجمع لنا فيه فأمر عمر فجمع له منه مكتلان عظيمان، فعمدا إلى كل حنظلة، قطعاها باثنين، ثم أضجعا معيقيباً فأخذ كل واحد منهما بإحدى قدميه ثم جعلا يدلكان بطون قدميه بالحنظل، حتى إذا امّحقت أخذ أخرى. ثم أرسلاه فقال عمر: لا يزيد وجعه هذا أبداً. قال الراوي: فوالله ما زال معيقيب بعدها متمسكاً ما يزيد وجعه حتى مات(1).
رابعاً: واجبات الولاة:
إن الولاة بما بوأهم الله من مكانة، قد ألقى على كاهلهم أعباءً ثقالاً، وواجبات جساماً، أثر منها عن عمر بن الخطاب ما يلي:
1- إقامة أمور الدين:
كنشر الدين الإسلامي بين الناس، وإقامة الصلاة، وحفظ الدين وأصوله، وبناء المساجد وتيسير أمور الحج، وإقامة الحدود الشرعية:
نشر الدين الإسلامي:
حيث اختص ذلك العصر بفتوحات عظيمة اقتضت من الولاة العمل على نشر الدين في البلاد المفتوحة مستعينين بمن معهم من الصحابة(2)، وفي زمن عمر كتب إليه يزيد بن أبي سفيان وكان والياً على الشام: إن أهل الشام قد كثروا وملؤوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم فأعني برجال يعلمونهم، فأرسل إليه عمر خمسة من فقهاء الصحابة(3)، وقد اشتهر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يردد: ألا إنني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم
__________
(1) أخبار عمر طنطاويات ص341 .
(2) أعلام الموقعين (2/247).
(3) سير أعلام النبلاء (2/247).(1/333)
ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم أمر دينكم وسنة نبيكم(1)، وكان عمر يقول لولاته إنا لا نوليكم على أشعار المسلمين ولا على أبشارهم وإنما نوليكم لتقيموا الصلاة وتعلموهم القرآن(2)، وقد أرسل عمر رضي الله عنه مجموعة من المعلمين إلى الأمصار الإسلامية، حيث أسسوا المدارس العلمية المشهورة كما مرّ معنا.
إقامة الصلاة:
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب لولاته: إن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أشد إضاعة(3)، كما كان عمر يؤكد لولاته أهمية إقامة الصلاة في الناس بقوله: وإنما نوليكم لتقيموا الصلاة وتعلموهم العلم والقرآن(4)، وكان عمر رضي الله عنه ينص في قرار التعيين أن فلاناً أمير الصلاة والحرب كالقرار الذي عين فيه عمار بن ياسر على الصلاة والحرب وعبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال(5)، وقد تحدث الفقهاء الذين كتبوا في السياسة الشرعية عن أهمية الصلاة بالنسبة للأمير
وما يتضمنه ذلك الأمر من معان عظيمة دنيوية وأخروية(6).
حفظ الدين وأصوله:
__________
(1) السياسة الشرعية ص150 .
(2) نصيحة الملوك للماوردي ص72 ، الولاية على البلدان (2/65).
(3) الطريقة الحكمية ص240 ، الولاية على البلدان (2/67).
(4) نصيحة الملوك ص72 .
(5) الأحكام السلطانية ص33 .
(6) الولاية على البلدان (2/67).(1/334)
حرص الفاروق على حفظ الدين على أصوله الصحيحة التي نزلت على رسول الله، وكان يعمل جاهداً على إحياء سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقضاء على البدع والعمل على احترام دين الله وإحياء سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أمر بطرد رجل وتغريبه نتيجة كثرة إثارته لمواضيع من المتشابه من القرآن(1) كما مر معنا، وأمر رضي الله عنه بالقيام في رمضان وتعميم ذلك على الأمصار(2)، وقد كتب إلى أبي موسى الأشعري: إنه بلغني أن ناساً من قبلك قد دعوا بدعوى الجاهلية يا آل ضبة فإذا أتاك كتابي هذا فانهكهم عقوبة في أموالهم وأجسامهم حتى يفرقوا إذا لم يفقهوا(3).
تخطيط وبناء المساجد:
وتذكر بعض الإحصاءات أنه أنشئ في عهد عمر 4000 مسجد في بلاد العرب وحدها وقد اشتهر الولاة بنشر المساجد وتأسيسها في مختلف مناطق حكمهم مثل عياض بن غنم الذي أنشأ مجموعة من المساجد في النواحي المختلفة من الجزيرة(4).
تيسير أمور الحج:
كان الولاة في عهد الخلافة الراشدة مسؤولين عن تيسير أمور الحج في ولاياتهم وتأمين سلامة الحجاج منها، فقد كان الولاة يعينون الأمراء على قوافل الحج، ويحددون لهم أوقات السفر حيث لا يغادر الحجاج بلدانهم إلا بإذن الوالي وقد أكد الفقهاء بعد ذلك على أن تسيير الحجاج عمل من مهام الوالي على بلده يقول الماوردي: أما تسيير الحجيج من عمله فداخلة في أحكام إمارته لأنه من جملة المعونات التي تنسب لها(5).
إقامة الحدود الشرعية:
__________
(1) نفس المصدر (2/68).
(2) الولاية على البلدان (2/68).
(3) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص133 .
(4) فتوح البلدان للبلاذري ص182 ، الولاية على البلدان (2/69).
(5) الأحكام السلطانية ص33 .(1/335)
أقام عمرو بن العاص الحد على أحد أبناء عمر بن الخطاب في مصر ثم عاقبه عمر نفسه بالجلد، وقيل أنه توفي بعد ذلك في أثر هذا الجلد(1)، وقد كان الولاة يقومون بالقصاص في القتل دون إذن الخليفة إلى أن كتب إليهم عمر: أن لا تقتلوا أحداً إلا بإذني(2)، فأصبحوا يستأذنون عمر في القتل قبل تنفيذه، فإقامة الحدود من الأمور الدينية والدنيوية التي كان ينظر إليها الخلفاء وولاتهم نظرة جادة ويهتمون بها كما يهتمون بشعائر الدين المختلفة(3).
2- تأمين الناس في بلادهم:
إن المحافظة على الأمن في الولاية من أعظم الأمور الموكلة إلى الوالي، وفي سبيل تحقيق ذلك فإنه يقوم بالعديد من الأمور أهمها إقامة الحدود على العصاة والفساق، مما يجد من الجرائم التي تهدد حياة الناس وممتلكاتهم(4) وقد كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: أخيفوا الفساق واجعلوهم يداً يداً ورجلاً رجلاً(5)، كما أن إقامة فريضة الجهاد ضد الأعداء كان له دور كبير في تأمين البلاد الإسلامية وأمصارها(6).
3- الجهاد في سبيل الله:
__________
(1) مناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص240،242 .
(2) الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص521 .
(3) الولاية على البلدان (2/70).
(4) الولاية على البلدان (2/71).
(5) عيون الأخبار (1/11).
(6) الولاية على البلدان (2/71).(1/336)
إذا استعرضنا أسماء الأمراء منذ بداية خلافة أبي بكر إلى خلافة عمر لوجدنا لهم باعاً طويلاً في الفتوحات، بل إنهم كانوا يتوجهون أمراء إلى بلدان لم تفتح بعد فيعملون على فتحها ومن ثم تنظيمها كأمراء الشام أبي عبيدة، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، وأمراء العراق كالمثنى بن حارثة وخالد بن الوليد وعيّاض بن غنم وغيرهم(1)، وقد كان الولاة في عهد الخلفاء الراشدين مع إدارتهم لبلادهم مجاهدين لنواحي العدو، ولم يمنعهم ذلك من القيام بأعمالهم الموكلة إليهم، وقد تحدثت المصادر التاريخية عن أهم أعمال الولاة في دعم حركة الجهاد والتي من أهمها:
إرسال المتطوعين إلى الجهاد.
الدفاع عن الولاية ضد الأعداء: فقد قال عمر: ولكم علي أن أسد ثغوركم.
تحصين البلاد: فقد أمر الفاروق ببناء حصون لمن نزل الجيزة في مصر من قبائل الفتح، خوفاً عليهم من الإغارات المفاجئة(2).
تتبع أخبار الأعداء: فقد اشتهر عن أبي عبيدة رضي الله عنه متابعته الدقيقة لتجمعات الروم في بلاد الشام، فكان يقوم ببعض العمليات الانسحابية التمويهية بناء على هذه الأخبار(3).
إمداد الأمصار بالخيل: وضع عمر رضي الله عنه سياسة عامة في الدولة لتوفير الخيل اللازمة للجهاد في الأمصار الإسلامية حسب حاجتها فأقطع أناساً من البصرة أراضي كي يعملوا فيها على إنتاج الخيل وتربيتها(4)
__________
(1) نفس المصدر (2/72).
(2) الولاية على البلدان (1/77).
(3) الفتوح بن أعثم ص215 .
(4) الولاية على البلدان (2/74).(1/337)
، كما أعطى عمر أناساً من المسلمين في دمشق أرضاً للعناية بالخيل فزرعوها فانتزعها منهم وأغرمهم لمخالفتهم الهدف من إعطائهم الأراضي وهو المساعدة في إنتاج الخيل، وقد كان لعمر أربعة آلاف فرس في الكوفة وكان قيمه عليها سلمان بن ربيعة الباهلي في نفر من أهل الكوفة يصنّع سوابقها ويجريها في كل عام، وبالبصرة نحوٌ منها، وأيضاً في كل مصر من الأمصار الثمانية عدد قريب من العدد السابق(1) وكانت هذه الخيول مجهزة للدفاع الفوري عن الدولة الإسلامية(2).
تعليم الغلمان وإعدادهم للجهاد:
فقد كان عمر رضي الله عنه يكتب إلى أهل الأمصار يأمرهم بتعليم أولادهم الفروسية والسباحة والرمي، وقد أصيب أحد الغلمان أثناء التعليم في الشام ومات، فكتبوا إلى عمر في ذلك فلم يثنه عن أمره بتعليم الأولاد الرمي(3).
متابعة دواوين الجند:
اهتم الفاروق رضي الله عنه اهتماماً خاصاً بدواوين الأمصار نظراً لاعتقاده أن أهل الأمصار أحوج الناس للضبط خصوصاً القريبة من الأعداء وهي الأمصار التي تحتاج إلى الجنود باستمرار(4)، وقد كان الولاة على البلدان مسؤولين مباشرة عن دواوين الجند رغم وجود بعض الموظفين الآخرين الذين يتولون مهمتها، ولكن باعتبار أن هؤلاء الولاة هم أمراء الحرب فقد كانت مسؤوليتهم عن الدواوين في بلدانهم كمسؤولية الخليفة باعتبارهم نواباً(5).
تنفيذ المعاهدات:
__________
(1) الولاية على البلدان (2/74).
(2) الولاية على البلدان (2/74).
(3) الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص486 .
(4) النظم الإسلامية، صبحي الصالح ص488،491 .
(5) الولاية على البلدان (20/77).(1/338)
وقد جرت بعض المعاهدات بين أبي عبيدة بن الجراح وبعض مدن الشام، وكذلك الحال بالنسبة لأمراء العراق كسعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وغيرهم من الولاة، وقد كان الولاة إضافة إلى ذلك يحرصون على حماية حقوق الذميين والمعاهدات الشخصية والعامة، وينفذون المعاهدات انطلاقاً من الأوامر الشرعية برعاية العهد(1)، وقد أوصى الفاروق بأهل الذمة فقال: أوصيكم بذمة الله وذمة رسوله خيراً، أن يقاتل مَنْ وراءهم، وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم(2).
4- بذل الجهد في تأمين الأرزاق للناس:
__________
(1) الولاية على البلدان (2/77).
(2) موسوعة فقه عمر بن الخطاب ص133 .(1/339)
فقد قال عمر: إن سلمني الله لأدعنّ أرامل العراق وهن لا يحتجن إلى أحد بعدي، ونحن لا ننسى موقف عمر عام الرمادة، حين حل الجوع بالناس، فإنه وضع جميع إمكانيات الدولة لحل الأزمة وإشباع البطون الجائعة، فقد روى البيهقي في سننه أن عمر أنفق على أهل الرمادة حتى وقع المطر، فترحلوا، فخرج إليهم عمر راكباً فرساً، فنظر إليهم وهم يترحلون بظعائنهم، فدمعت عيناه، فقال رجل من بني محارب بن خصفة: أشهد أنها انحسرت عنك، ولست بابن أمة - يمتدح عمر - فقال له عمر: ويلك، ذلك لو أنفقت من مالي أو من مال الخطاب، إنما أنفقت من مال الله(1)، وقد قال رضي الله عنه: ولكم عليّ ألا أجتبي شيئاً من خراجكم ولا مما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم عليّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم عليّ أن أزيد أعطياتكم وأرزاقكم إن شاء الله(2)، وقد أخذ توزيع الأعطيات في عهد عمر شكلاً دورياً منتظماً، ولم يكن ذلك خاصاً بسكان البلدان، بل إن القبائل في البادية شملتها الأعطيات، فقد كان عمر بن الخطاب يدور في القبائل القريبة من المدينة ويوزع عليهم أعطياتهم بنفسه وكان يكتب إلى بعض ولاته أن أعط الناس أعطياتهم وأرزاقهم فكتب إليه عمر أنه فيئهم الذي أفاء الله عليهم، ليس هو لعمر ولا آل عمر أقسمه بينهم(3)، ولم يكتف عمر بتأمين الأموال للناس بل إنه عمل على تأمين الطعام، ففي إحدى زيارته للشام قام إليه بلال بن رباح فقال: يا أمير المؤمنين إن أمراء أجنادك بالشام والله ما يأكلون إلا لحوم الطير والخبز النقي وما يجد ذلك عامة المسلمين، فقال لهم عمر رضي الله عنه ما يقول بلال؟ فقال له يزيد بن أبي سفيان، يا أمير المؤمنين إن سعر بلادنا رخيص وإنا نصيب هذا الذي ذكر بلال هنا بمثل ما كنا نقوت عيالاتنا بالحجاز فقال عمر رضي الله عنه: لا والله لا
__________
(1) سنن البيهقي (6/357) موسوعة فقه عمر ص135 .
(2) موسوعة فقه عمر ص137 .
(3) الولاية على البلدان (2/77).(1/340)
أبرح حتى تضمنوا لي أرزاق المسلمين في كل شهر. ثم قال انظروا كم يكفي الرجل ما يشتهيه؟ قالوا جريبين مع ما يصلحه من الزيت والخل عند رأس كل هلال فضمنوا له ذلك. ثم قال يا معشر المسلمين هذا لكم سوى أعطياتكم فإن وفّى لكم أمراؤكم بهذا الذي فرضت لكم عليهم، وأعطوكموه في كل شهر، فذلك أحب، وإن هم لم يفعلوا فأعلموني حتى أعزلهم وأولي غيرهم(1)، وقد كان عمر يحرص على توفير الطعام في البلدان ويتابع الأسواق ويمنع الاحتكار، وكذلك كان ولاته يقومون بمهمتهم في مراقبة الأسواق، كما كان يأمر التجار بالمسير في الآفاق والجلب على المسلمين وإغناء أسواقهم(2)، ولم يكتف الفاروق وولاته بتأمين الطعام ومراقبة الأسواق فقط، بل إن السكن وتوزيعه كان من المهام الموكلة لأمراء البلدان، فعند إنشاء الأمصار وتخطيطها وزعت الأراضي على الناس لسكناها في الكوفة والبصرة(3) والفسطاط كما كان الأمراء يشرفون على تقسيم البيوت في المدن المفتوحة، كحمص ودمشق والاسكندرية وغيرها(4).
5- تعيين العمال والموظفين:
كان تعيين العمال والموظفين في الوظائف التابعة للولاية في كثير من الأحايين من مهام الوالي حيث إن الولاية في الغالب تتكون من بلد رئيسي إضافة إلى بلدان وأقاليم أخرى تابعة للولاية، وهي بحاجة إلى تنظيم أمورها، فكان الولاة يعينون من مثلهم عمالاً وموظفين في تلك المناطق، سواء كانوا في مستوى أمراء، أو عمال خراج، وفي الغالب فإن هذا التعيين يتم بالاتفاق بين الخليفة والوالي(5).
6- رعاية أهل الذمة:
__________
(1) فتوح الشام للأزدي ص257 ، الولاية على البلدان (2/78).
(2) تاريخ المدينة (2/749).
(3) الولاية على البلدان (2/79).
(4) فتوح البلدان للبلاذري ص143،224 .
(5) الولاية على البلدان (2/79).(1/341)
كانت رعاية أهل الذمة واحترام عهودهم والقيام بحقوقهم الشرعية، ومطالبتهم بما عليهم للمسلمين من واجبات، وتتبع أحوالهم، وأخذ حقوقهم ممن يظلمهم انطلاقاً من الأوامر الشرعية في هذا الجانب، من واجبات الوالي، وقد كان الخلفاء يشترطون على الذميين في كثير من الأحيان شروطاً معينة قبل مصالحتهم، وبالتالي يوفون لهم بحقوقهم ويطالبون بما عليهم من شروط(1).
7- مشاورة أهل الرأي في ولايته وإكرام وجوه الناس:
شدد عمر على الولاة في استشارة أهل الرأي في بلادهم، وكان الولاة يطبقون ذلك ويعقدون مجالس للناس لأخذ آرائهم، وكان يأمر ولاته باستمرار بمشاورة أهل الرأي(2)، وطلب من ولاته إنزال الناس منازلهم، فقد كتب عمر إلى
أبي موسى الأشعري: بلغني أنك تأذن للناس جماً غفيراً، فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القران والتقوى والدين، فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة؛ وكتب إليه أيضاً: لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائج الناس، فأكرموا وجوه الناس، فإنه بحسب المسلم الضعيف أن ينتصف في الحكم والقسمة(3).
8- النظر إلى حاجة الولاية العمرانية:
فقد قام سعد بن أبي وقاص بحفر نهر في ولايته بناء على طلب بعض كبار الفرس لصالح المزارعين في المنطقة(4)، كما كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري يأمره بحفر نهر لأهل البصرة، وقام أبو موسى بحفر نهر طوله أربع فراسخ حتى تمكن من جلب المياه لسكان البصرة(5)
__________
(1) نفس المصدر (2/80).
(2) نفس المصدر (2/80).
(3) نصيحة الملوك للماوردي ص207 ، موسوعة فقه عمر ص134 .
(4) فتوح البلدان للبلاذري ص273 ، الولاية على البلدان (872).
(5) فتوح البلدان للبلاذري ص351،352 .(1/342)
كما اعتنى ولاة عمر رضي الله عنه عند تأسيسهم للأمصار المشهورة الكوفة، والبصرة والفسطاط بتخطيط الشوارع وتوزيع الأراضي وبناء المساجد وتأمين المياه، وغير ذلك من المصالح العامة لهذه المدن، كما اهتم الولاة بتوطين السكان في المناطق غير المرغوب فيها، لقربها من العدو أو غير ذلك من الأسباب فقد قدموا لهم الإغراءات وأقطعوهم الأراضي تشجيعاً لهم على البقاء فيها، وقد فعل ذلك عمر وعثمان في إنطاكية وفي بعض بلاد الجزيرة.
9- مراعاة الأحوال الاجتماعية لسكان الولاية:
كان الوفد إذا قدموا على عمر رضي الله عنه سألهم عن أميرهم فيقولون خيراً، فيقول هل يعود مرضاكم؟ فيقولون نعم فيقول هل يعود العبد؟ فيقولون نعم فيقول كيف صنيعه بالضعيف؟ هل يجلس على بابه؟ فإن قالوا لخصلة منها
(لا عزله) (1) وكان عمر يقوم بعزل العامل إذا بلغه أنه لا يعود المريض ولا يدخل عليه الضعيف(2)، كما حرص عمر بن الخطاب على أن يظهر عماله بالمظهر المتواضع أمام الناس حتى يشعر الناس بأن ولاتهم منهم ولا يتميزون عنهم، فكان عمر يشترط على عماله مركباً وملبساً مماثلاً للناس، وينهاهم عن اتخاذ الأبواب والحجاب(3).
10- عدم التفريق بين العربي وغيره:
يجب على الولاة أن يقوموا بالمساواة بين الناس وأن لا يفرقوا بين العربي وغيره من المسلمين، فقد قدم قوم على عامل لعمر بن الخطاب، فأعطى العرب وترك الموالي، فكتب إليه عمر: أما بعد: فبحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم وفي رواية، كتب إليه: ألا سويت بينهم(4).
كما أن هناك العديد من الواجبات الأخلاقية الأخرى التي أمر الإسلام بالتزامها مثل (الوفاء بالعهد، وإخلاص المرء في عمله، ومراقبة الله سبحانه وتعالى في كل
__________
(1) الولاية على البلدان (2/82).
(2) نفس المصدر (2/82).
(3) المصدر نفسه (2/82).
(4) الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص523.(1/343)
ما يعمل، واستعداده للتعاون مع سائر الجماعة في كل أعمال البرّ والتقوى، ووجوب النصح لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإن هذا ولا شك يؤدي إلى إصلاح حال الجماعة(1))، وكان على الوالي، فضلاً عن الالتزام بهذه المعاني، نشرها بين الناس في ولايته وذلك من خلال خطبه وكتبه ومواعظه وتصرفاته، وقد كان الولاة في عصر الراشدين –بصفة إجمالية- نموذجاً صالحاً لهذه الأخلاقيات والواجبات، سواء في أشخاصهم وخصوصياتهم أم في سلوكهم العام مع الرعية(2).
خامساً: الترجمة في الولايات، وأوقات العمل عند الولاة:
1- الترجمة في الولايات:
إن عملية الترجمة تعتبر من الوظائف المساعدة لولاة البلدان في عصر الخلفاء الراشدين، والحاجة ماسة إليها، في كثير من الأحيان، وقد طلب عمر من ولاته في العراق أن يبعثوا إليه في المدينة بدهاقين من فارس ليتفاهم معهم حول قضايا الخراج، فبعثوا إليه بالدهاقين وبترجمان معهم(3)، وقد ذكر عن المغيرة بن شعبة أنه كان يجيد شيئاً من اللغة الفارسية وقام بالترجمة بين عمر والهرمزان في المدينة(4).
__________
(1) النظريات السياسية الإسلامية محمد ضياء الريس ص307، 308.
(2) الولاية على البلدان (2/85).
(3) الخراج لأبي يوسف ص40، 41، الولاية على البلدان (2/ 105).
(4) المصدر نفسه.(1/344)
إن معرفة الترجمة أمر معروف في الدولة الإسلامية عموماً في عصر الخلفاء لراشدين وقبل ذلك، وإذا علمنا أن دواوين الخراج كانت بغير اللغة العربية، فإننا ندرك مدى الحاجة إلى وجود مترجمين في الولايات يتولون الترجمة في قضايا الخراج وغيرها خصوصاً أن العمال الرئيسيين على الخراج كانوا بالدرجة الأولى من العجم، كما أن انتشار الموالي والداخلين الجدد في الإسلام في البلدان الإسلامية المختلفة جعل الحاجة إلى الترجمة مهمة جداً في كثير من الأمور المتصلة بالقضاء وغيره، كما أن المفاوضات بين القواد الفاتحين وهم في الغالب من الولاة وبين أهل البلاد المفتوحة يحتاج إلى وجود المترجمين(1).
1- أوقات عمل الولاة:
لم يكن هناك تنظيم دقيق لوقت العمل في عهد الفاروق، فقد كان الخليفة والولاة يعملون في جميع الأوقات، وليس عليهم حجاب حتى إن بعضهم يقوم بالتجول ليلاً وقدوتهم في ذلك عمر بن الخطاب الذي اشتهر بالمشي ليلاً وتفقد المدينة، وقد كان الناس يدخلون على الولاة في مختلف الأوقات ويقضون حاجاتهم دون أن يجد الناس من يمنعهم من الدخول على الولاة بحجة أن ذلك الوقت ليس وقت عمل، وقد اشتهر الولاة بحرصهم على إنجاز الأعمال أولاً بأول وعدم تأخيرها، وقد كتب عمر بن الخطاب في هذا المجال إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قائلاً: لا تؤخر عمل اليوم إلى الغد فتدال عليك الأعمال، فتضيع، وأن للناس لنفرة عن سلطانهم أعوذ بالله أن تدركني وإياكم وضغائن محمولة ودنيا مؤثرة وأهواء متبعة(2).
المبحث الثالث: متابعة الولاة ومحاسبة عمر لهم:
أولاً: متابعة الولاة:
__________
(1) الولاية على البلدان (2/ 104).
(2) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص129.(1/345)
لم يكن عمر يرضى بأن يهتم بحسن اختيار عماله، بل كان يبذل أقصى الجهد لمتابعتهم بعد أن يتولوا أعمالهم ليطمئن على حسن سيرتهم ومخافة أن تنحرف بهم نفوسهم، وكان شعاره لهم: خيرُ لي أن أعزل كل يوم والياً من أن أبقي ظالماً ساعة نهار(1)، وقال: أيما عامل لي ظلم أحداً فبلغني مظلمته فلم أغيرها، فأنا ظلمته(2)، وقال يوماً لمن حوله: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما عليّ؟ فقالوا: نعم: قال: لا حتى أنظر في عمله، أعَمِل بما أمرته أم لا(3). وقد سار رضي الله عنه بحزم في رقابته الإدارية لعماله وتابعهم بدقة، وكانت طريقة عمر في الإدارة إطلاق الحرية للعامل في الشؤون المحلية وتقييده في المسائل العامة ومراقبته في سلوكه وتصرفاته، وكان له جهاز سري، مربوط به لمراقبة أحوال الولاة والرعية، وقد بينت لنا المصادر التاريخية أن ما يشبه اليوم (المخابرات) كان موجوداً عند عمر فقد كان علمه: بمن نأى عنه من عماله بمن بات معه في مهاد واحد، وعلى وساد واحد فلم يكن في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي عامل أو أمير جيش إلا وعليه عين لا يفارقه، فكانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل ممس ومصبح، وأنت ترى ذلك في كتبه إلى عماله حتى كان العامل منهم ليتهم أقرب الناس إليه وأخصّهم(4)، وكانت وسائل عمر في متابعتة لعماله متعددة منها:
1- طلب من الولاة دخول المدينة نهاراً:
كان رضي الله عنه يطلب من ولاته – القادمين إلى المدينة – أن يدخلوها نهاراً، ولا يدخلوها ليلاً، حتى يظهر ما يكون قد جاءوا به من أموال ومغانم فيسهل السؤال والحساب(5).
2- طلب الوفود من الولاة:
__________
(1) النظم الإسلامية، صبحي الصالح ص89، الإدارة الإسلامية 215.
(2) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص56، الإدارة الإسلامية 215.
(3) الإدارة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب ص215.
(4) التاج في أخلاق الملوك ص168.
(5) فن الحكم ص174.(1/346)
كان عمر رضي الله عنه يطلب من الولاة أن يرسلوا وفوداً من أهل البلاد ليسألهم عن بلادهم، وعن الخراج المفروض عليهم ليتأكد بذلك من عدم ظلمهم، ويطلب شهادتهم فكان يخرج إليه مع خراج الكوفة عشرة من أهلها، ومع خراج البصرة مثلهم، فإذا حضروا أمامه شهدوا بالله أنه مال طيب، ما فيه ظلم مسلم
ولا معاهد(1)، وكان هذا الإجراء كفيلاً بمنع الولاة من ظلم الناس إذ لو حدث هذا لرفعه هؤلاء الموفدون إلى أمير المؤمنين وأخبروه به، كما أن عمر في الغالب كان يقوم بمناقشة هؤلاء الموفدين وسؤالهم عن بلادهم وعن ولا تهم وسلوكهم معهم(2).
3- رسائل البريد:
كان عمر رضي الله عنه يرسل البريد إلى الولاة في الأمصار فقد كان يأمر عامل البريد عندما يريد العودة إلى المدينة أن ينادي في الناس من الذي يريد إرسال رسالة إلى أمير المؤمنين؟ حتى يحملها إليه دون تدخل من والي البلد، وكان صاحب البريد نفسه لا يعلم شيئاً من هذه الرسائل، وبالتالي يكون المجال مفتوحاً أمام الناس لرفع أي شكوى أو مظلمة إلى عمر نفسه دون أن يعلم الوالي أو رجاله بذلك، وحينما يصل حامل الرسائل إلى عمر ينثر ما معه من صحف ويقرأها عمر ويرى ما فيها(3).
4- المفتش العام (محمد بن مسلمة):
كان محمد بن مسلمة الأنصاري يستعين به الفاروق في متابعة الولاة ومحاسبتهم والتأكد من الشكاوى التي تأتي ضدهم، فكان موقع محمد بن مسلمة كالمفتش العام في دولة الخلافة، فكان يتحرى على حقائق أداء الولاة لأعمالهم، ومحاسبة المقصرين منهم، فقد أرسله عمر لمراقبة ومحاسبة كبار الولاة(4)، والتحقيق في الشكايات ومقابلة الناس والسماع منهم ونقل آرائهم عن ولاتهم إلى عمر مباشرة، وكان مع محمد بن مسلمة أعوان.
5- موسم الحج:
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص124 الولاية على البلدان (1/ 157).
(2) الولاية على البلدان (1/ 157).
(3) تاريخ المدينة (2/ 761).
(4) الأنصار في العصر الراشدي ص123إلى 126.(1/347)
كان موسم الحج فرصة لعمر ليستقي أخبار رعيته وولاته، فجعله موسماً للمراجعة والمحاسبة واستطلاع الآراء في شتى الأنحاء؛ فيجتمع فيه أصحاب الشكايات والمظالم، ويفد فيه الرقباء الذين كان عمر يبثهم في أرجاء دولته لمراقبة العمال والولاة ويأتي العمال أنفسهم لتقديم كشف الحساب عن أعمالهم، فكان موسم الحج ((جمعية عمومية كأرقى ما تكون الجمعيات العمومية في عصر من العصور(1)، وكان عمر يلخص في موسم الحج واجبات عماله أمام الرعية ثم يقول: فمن فعل به غير ذلك فليقم )) فما قام من أهل الموسم – آنذاك – أحد إلا رجل
واحد – مما يدل على عدالة هؤلاء الولاة ورضا الرعية عنهم – فقال ذلك الرجل: إن عاملك فلاناً ضربني مائة سوط؛ فسأل عمر العامل فلم يجد عنده جواباً، فقال للرجل قم فاقتص منه فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر، ويكون سُنَّة يأخذ بها بعدك، فقال عمر: أنا لا أقيد
– أي اقتص – وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقيد من نفسه؟ فقال عمرو: فدعنا فلنرضه، فقال: دونكم فأرضوه، فافتدى العامل من الرجل بمائتي دينار، كل سوط بدينارين(2).
6- جولة تفتيشية على الأقاليم:
__________
(1) عبقرية عمر للعقاد ص82، الدولة الإسلامية د. حمدي شاهين ص138.
(2) الطبقات لابن سعد (3/ 222).(1/348)
كان تفكير عمر قبل مقتله أن يجول على الولايات شخصياً لمراقبة العمال وتفقد أحوال الرعية، والاطمئنان على أمور الدولة المترامية، قال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني، أما عمالهم فلا يدفعونها إليّ، وأما هم فلا يصلون إليّ، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، ثم والله لنعم الحول هذا(1)، وقد طبق عمر شيئاً من هذا خصوصاً في ولاية الشام حيث سار إليها عدة مرات وتفقد أحوالها ودخل بيوت ولاتها وأمرائها(2)، ليعرف أحوالهم عن كثب فقد دخل دار أبي عبيدة وشاهد حالته وتقشفه ودار بينه وبين امرأة أبي عبيدة حوار شديد ألقت فيه اللوم على عمر نتيجة ما يعيشون فيه من تقشف، كما زار دار خالد بن الوليد ولم يجد عنده شيئاً يلفت النظر سوى أسلحته التي كان منشغلاً بإصلاحها، وقد كان عمر أثناء دخوله على هؤلاء يدخل فجأة إذ يصحبه رجل فيطرق الباب على الوالي فيتكلم الرجل ويطلب الأذن بالدخول له ولمن معه دون أن يعلموا أنه عمر وحينما يدخل عمر إلى الدار يقوم بالتمحيص فيها والاطلاع على ما فيها من أثاث(3)، وقد سمع عمر رضي الله عنه أن يزيد بن أبي سفيان ينوع في طعامه،فانتظر حتى إذا حان وقت عشاء يزيد استأذن عليه عمر، فلما رأى طعامه نهاه عن الإسراف في الطعام(4)، ولم يكتف عمر بالمراقبة عن طريق هذه الزيارات بل عمد إلى طريقة أخرى وهي إرسال كميات من الأموال إلى الولاة وإرسال كميات من الأموال إلى الولاة وإرسال من يراقبهم حتى يعرف كيف تصرفوا فيها فأرسل إلى أبي عبيدة بخمسمائة دينار فعمد إليها أبو عبيدة فقسمها كلها فكانت امرأته
__________
(1) تاريخ الطبري (5/ 18)، الولاية على البلدان (1/ 161).
(2) الولاية على البلدان (1/ 161).
(3) تاريخ المدينة (3/ 837).
(4) الولاية على البلدان (1/ 162).(1/349)
تقول: والله لقد كان ضرر دخول الدنانير علينا أكثر من نفعها ثم إن أبا عبيدة عمد إلى خلق ثوب كنا نصلي فيه فيشققه، ثم جعل يصبّر فيه من تلك الدنانير الذهب ويبعث بها إلى مساكين، فقسمها عليهم حتى فنيت(1)، وعمل عمر الشيء نفسه مع ولاة آخرين في سفرته تلك إلى الشام، ولم يكتف عمر بمراقبته للعمال أثناء سفره، بل كان يستقدمهم إلى المدينة ثم يوكل من يراقبهم في أكلهم وشربهم، ولباسهم، ويفعل ذلك بنفسه أيضاً(2).
7- الأرشيف أو الملفات الخاصة بأعمال الخلافة:
كان عمر رضي الله عنه حريصاً كل الحرص على حفظ الأوراق الخاصة بالولايات وبالخلافة عموماً وكان أكثر حرصه على حفظ المعاهدات التي يجريها الولاة مع أهل البلاد المفتوحة منعاً لظلم أحد، فقد ورد أنه كان هناك تابوت لعمر بن الخطاب فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده، ويمكننا أن نطلق على هذا التابوت (الأرشيف) أو الملفات الخاصة بأعمال الخلافة، ولعل الولاة أيضاً كانوا يحتفظون بأوراقهم ومكاتباتهم للعودة إليها عند الحاجة وحتى لا تلتبس عليهم الأمور(3).
ثانياً: شكاوى من الرعية في الولاة:
كان عمر رضي الله عنه يحقق بنفسه في شكاوى الرعية ضد ولاتهم وكان يحرص على استيضاح الأمر، والتحقيق الدقيق واستشارة أصحاب الرأي والشورى الذين كانوا من حوله، ثم كانت تأتي أوامره في تنفيذ الجزاء والعقوبة على من يستحق سواء أكان عاملاً أم من الرعية(4)، وهذه بعض الشكاوى ضد الولاة وكيف تعامل عمر معها رضي الله عنه:
1- شكوى أهل الكوفة في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
__________
(1) تاريخ المدينة (3/ 837).
(2) الولاية على البلدان (1/ 162).
(3) الولاية على البلدان (1/ 163).
(4) الإدارة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب 223.(1/350)
اجتمع نفر من أهل الكوفة بزعامة الجراح بن سنان الأسدي فشكوا أميرهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين عمر، وذلك في حال اجتماع المجوس في نهاوند لغزو المسلمين، فلم يشغلهم ما داهم المسلمين في ذلك، ولقد كان سعد عادلاً رحيماً بالرعية قوياً حازماً على أهل الباطل والشقاق، عطوفاً على أهل الحق والطاعة، ومع ذلك شغب عليه هؤلاء القوم ممن لا يطيقون حكم الحق ويريدون أن يحققوا شيئاً من أهوائهم، وقد وقتوا لشكواهم وقتاً رأوا أنه أدعى لسماع أمير المؤمنين منهم حيث كان المسلمون مقبلين على معركة مصيرية تستدعي اتفاق كلمة المسلمين وتظافر جهودهم في مواجهتها، وحيث كانوا يعلمون اهتمام عمر الشديد باجتماع كلمة المسلمين دائماً، وخاصة في مثل تلك الظروف، فرجوا أن يفوزوا ببغيتهم، وقد استجاب أمير المؤمنين لطلبهم في التحقيق في أمر شكواهم مع علمه بأنهم أهل هوى وشر، ولم يكتمهم اعتقاده فيهم، بل صرّح لهم بذلك، وبين لهم أن اعتقاده بظلمهم لواليهم وتزويدهم الحقائق لا يمنعه من التحقيق في أمرهم، واستدل على سوء مقصدهم بتوقيتهم السيء حيث قال لهم: إن الدليل على
ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الأمر وقد استعدّ لكم من استعدوا،، وايم الله لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم وإن نزلوا بكم(1)، فبعث عمر محمد بن مسلمة والناس في الاستعداد للأعاجم والأعاجم في الاجتماع، وكان محمد بن مسلمة هو صاحب العمال الذي يقتص آثار من شُكي زمان عمر فقدم محمد على سعد ليطوف به في أهل الكوفة، والبعوث تضرب على أهل الأمصار إلى نهاوند، فطوَّف به على مساجد أهل الكوفة، لا يتعرض للمسألة عنه في السر، وليست المسألة في السر من شانهم إذ ذاك(2).
__________
(1) تاريخ الطبري (5/ 103).
(2) تاريخ الطبري (5/ 103).(1/351)
وفي هذا بيان لمنهج الصحابة رضي الله عنهم في التحقيق في قضايا الخلاف التي تجري بين المسؤولين ومن تحت ولايتهم، فالتحقيق يتم في العلن، وذلك بحضور المسؤول والذين هو مسؤول عنهم وكان لا يقف على مسجد فيسألهم عن سعد إلا قالوا: لا نعلم إلا خيراً ولا نشتهي به بدلاً، ولا نقول فيه ولا نعين عليه، إلا من مالأ الجراح بن سنان وأصحابه فإنهم كانوا يسكتون لا يقولون سوءاً، ولا يسوغ لهم، ويتعمَّدون ترك الثناء، حتى انتهوا إلى بني عبس. فقال محمد: أنشد بالله رجلاً يعلم حقاً إلا قال، قال أسامة بن قتادة: اللهم إن نشدتنا فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية، فقال سعد: اللهم إن كان قالها كذباً ورئاء وسمعة فأعم بصره، وأكثر عياله، وعرِّضه لمضلات الفتن، فعمي واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتى يحبسها، فإذا عثر عليه، قال: دعوة سعد الرجل المبارك. قال: ثم أقبل – يعني سعد – على الدعاء على النفر، فقال: اللهم إن كانوا خرجوا أشراً وبطراً وكذباً فاجهد بلاءهم، فجُهد بلاؤهم، فقطع الجراح بالسيوف يوم ثاور الحسن بن علي ليغتاله بساباط، وشُدخ قبيصة بالحجارة، وقتل أربد بالوجء – يعني الضرب – بنعال السيوف – يعني بأعقابها – هذا وإن في هذا الخبر نموذجاً من معية الله تعالى لاوليائه المتقين حيث استجاب الله تعالى دعوة سعد على من ظلموه فأصيبوا جميعاً بما دعا عليهم، وإن في استجابة الله تعالى دعاء سعد وأمثاله لوناً من العناية الإلهية بأولياء الله المتقين، فكم خاف المبطلون من هذا السلاح الخفي الذي لا يملكون بكل وسائلهم المادية مقاومته ولا الحدَ منه، وكون هؤلاء الذين دعا عليهم سعد خُتم لهم بالخاتمة السيئة دليل على تمكن الهوى والشر من نفوسهم حتى أدى بهم ذلك إلى المصير السيء، وقد دافع سعد عن نفسه فقال: إني لأول رجل أهرق دماً من المشركين، ولقد جمع لي رسول الله أبويه، وما جمعهما لأحد قبلي –(1/352)
يعني حينما قال له يوم أحد: إرم فداك أبي وأمي – ولقد رأيتني خمس الإسلام، وبنو أسد تزعم أني لا أحسن أن أصلي وأن الصيد يلهيني، وخرج محمد بن مسلمة به وبهم إلى عمر حتى قدموا عليه، فأخبره الخبر، فقال: يا سعد ويحك كيف تصلي؟ قال: أطيل الأُوليين وأحذف الأخريين، فقال هكذا الظن بك، ثم قال عمر رضي الله عنه: لولا الاحتياط لكان سبيلهم بيِّنا، ثم قال: من خليفتك يا سعد على الكوفة؟ فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان فأقره واستعمله(1) وقول عمر رضي الله عنه: لولا الاحتياط كان سبيلهم بينا يعني قد اتضح أمرهم، وأنهم ظالمون جاهلون، وظهرت براءة سعد مما نسبوه إليه، ولكن الاحتياط لأمر الأمة يقتضي درء الفتن وإماتتها وهي في مهدها قبل أن تستفحل فتسبَّب الشقاق والفرقة وربما القتال، وإذا كان المسئول المدَّعى عليه بريئاً مما نُسب إليه، فإن ذلك لا يضره بشيء، وقد برئت ساحته مما نسب إليه من التهمة، وقد كانوا يفهمون الولاية مغرماً لا مغنماً، وتكليفاً يرجون به ثواب الله تعالى، فالولاية على أمر من أمور المسلمين نوع من الأعمال الصالحة لمن اتقى الله تعالى وأراد رضوانه والدار الآخرة، فإذا تحول هذا العمل إلى مصدر للفتنة فإن الحكمة تقتضي عدم الاستمرار فيه، كما هو الحال في هذه الواقعة، ولكل حادث حديث وهذا هو ما أقدم عليه عمر حينما أعفى سعداً من العمل، وكلّف نائبه الذي هو موضع ثقة سعد(2).
هذا وقد استبقى عمر سعداً رضي الله عنهما في المدينة وأقر من استخلفه سعد على الكوفة بعده، وصار سعد من مستشاري عمر في المدينة(3)، ثم جعله من الستة المرشحين للخلافة حين طعن ثم أوصى الخليفة من بعده بأن يستعمل سعداً (فإني لم أعزله عن سوء، وقد خشيت أن يلحقه من ذلك(4).
2- شكاوى ضد عمرو بن العاص والي مصر:
__________
(1) تاريخ الطبري (5/104).
(2) التاريخ الإسلامي للحميدي (11/222).
(3) دور الحجاز في الحياة السياسية ص257.
(4) تاريخ الطبري (5/225).(1/353)
كانت مراقبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن العاص صارمة وحازمة وكان الخليفة الفاروق يتدخل في شئون الولاية المختلفة وحتى عندما اتخذ عمرو بن العاص منبراً كتب إليه: أما بعد فقد بلغني أنك اتخذت منبراً ترقى به على رقاب المسلمين أو ما يكفيك أن تكون قائماً والمسلمون تحت عقبك فعزمت عليك إلا
ما كسرته(1)، وكان عمرو بن العاص يخشى مراقبة عمر بن الخطاب ويعلم مدى حرصه على إقامة العدل بين الناس، وعلى إقامة الحدود الشرعية، فكان يبذل جهده حتى لا يصل إلى عمر من الأخبار إلا ما يسره ومن ذلك أن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب ورجلاً آخر شربا شراباً دون أن يعلما أنه مسكر فسكرا، ثم إنهما جاءا إلى عمرو بن العاص يطلبان منه أن يقيم عليهما الحد فزجرهما عمرو وطردهما، فقال له عبد الرحمن: إن لم تفعل أخبرت أبي قال عمرو: فعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد غضب عمر وعزلني، ثم إن عمرو جلدهما أمام الناس وحلق رأسيهما داخل بيته، وكان الأصل العقاب بالحلق مع الجلد في وقت واحد أمام الناس، فجاءه كتاب من عمر يعنفه على عدم حلقه أمام الناس، وكان فيه: تضرب عبد الرحمن في بيتك وتحلق رأسه في بيتك وقد عرفت أن هذا يخالفني، إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلت هو ولد أمير المؤمنين وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه(2).
وقد وجهت ضد عمرو بن العاص بعض الشكاوى أثناء ولايته بعضها من جنوده المسلمين، وبعضها من أهل البلاد من الأقباط، مما دعا عمر رضي الله عنه إلى استدعاء عمرو بن العاص عدة مرات، لمعاتبته بل وأحياناً لمعاقبته على ما بدر منه، ومن ذلك ما تقدم به أحد المصريين ضد ابن لعمرو بن العاص ضربه بالسوط، مما جعل عمر بن الخطاب يستدعي عمرو وابنه ثم يأمر المصري بالقصاص من
__________
(1) فتوح مصر وأخبارها ص92.
(2) تاريخ المدينة (3/841).(1/354)
ابن عمرو بن العاص ويقول له: لو ضربت أباه عمرو لما حلنا بينك وبين ذلك، والتفت عمر إلى عمرو بن العاص وقال قولته المشهورة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً(1)، وكذلك يدخل في هذا الباب ما تقدم به أحد الجنود من أن عمرو بن العاص اتهمه بالنفاق وكتب معه عمر إلى عمرو بن العاص أمراً بأن يجلس عمرو أمام الناس فيجلده إذا ثبت صدق ما ادعاه بشهادة شهود، وقد ثبت بالشهادة أن عمرو رماه بالنفاق، فحاول بعض الناس أن يمنع الرجل من ضرب عمرو وأن يدفع له الأرش مقابل الضرب، ولكنه رفض ذلك، وعندما قام على رأس عمرو ليضربه سأله: هل يمنعني أحد من ضربك؟ فقال عمرو: لا فامض لما أمرت به، قال: فإني قد عفوت عنك(2).
3- شكاوى ضد أبي موسى الأشعري والي البصرة:
__________
(1) الولاية على البلدان (1/81).
(2) تاريخ المدينة (3/807، 808) في إسناده انقطاع.(1/355)
عن جرير بن عبد الله البجلي أن رجلاً كان مع أبي موسى الأشعري، وكان ذا صوت، ونكاية، في العدو، فغنموا مغنماً فأعطاه أبو موسى بعض سهمه، فأبى أن يقبله إلا جميعاً، فجلده أبو موسى عشرين سوطاً وحلقه، فجمع الرجل شعره ثم ترحل إلى عمر بن الخطاب حتى قدم عليه، فدخل على عمر بن الخطاب، قال جرير: وأنا أقرب الناس من عمر، فأدخل يده فاستخرج شعره ثم ضرب به صدر عمر ثم قال: أما والله لولا النار، فقال عمر: صدق والله لولا النار فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت ذا صوت ونكاية، فأخبره بأمره، وقال ضربني أبو موسى عشرين سوطاً، وحلق رأسي، وهو يرى أنه لا يقتص منه، فقال عمر رضي الله عنه: لأن يكون الناس كلهم على صرامة هذا، فأحب إلي من جميع ما أفاء الله علينا، فكتب عمر إلى أبي موسى: السلام عليك أما بعد فإن فلاناً أخبرني بكذا وكذا، فإن كنت فعلت ذلك في ملأ من الناس، فعزمت عليك لما قعدت له في ملأ من الناس، حتى يقتص منك وإن كنت فعلت ذلك في خلاء من الناس، فاقعد له في خلاء من الناس، حتى يقتص منك، فقدم الرجل، فقال له الناس: أعف عنه، فقال: لا والله لا أدعه لأحد من الناس، فلما قعد له أبو موسى ليقتص منه، رفع الرجل رأسه إلى السماء ثم قال: اللهم إني قد عفوت عنه(1)، وعن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- قال: كنا مع عمر في مسير فأبصر رجلاً يسرع في سيره، فقال: إن هذا الرجل يريدنا، فأناخ ثم ذهب لحاجته، فجاء الرجل فبكى وبكى عمر –رضي الله عنه- وقال: ما شأنك؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني شربت الخمر، فضربني أبو موسى وسود وجهي، وطاف بي، ونهى الناس أن يجالسوني، فهممت أن آخذ سيفي فأضرب به أبا موسى، أو آتيك فتحولني إلى بلد لا أعرف فيه، أو ألحق بأرض الشرك، فبكى عمر –رضي الله عنه- وقال: ما يسرني أنك لحقت بأرض الشرك وأن لي كذا وكذا، وقال: إن كنت ممن شرب الخمر، فلقد شرب الناس الخمر في الجاهلية، ثم كتب
__________
(1) محض الصواب (2/467) إسناده حسن.(1/356)
إلى أبي موسى: إن فلاناً أتاني فذكر كذا وكذا، فإذا أتاك كتابي هذا فأمر الناس أن يجالسوه وأن يخالطوه، وإن تاب فاقبل شهادته، وكساه وأمر له بمائتي درهم(1)، وجاء في رواية: إن فلاناً بن فلان التميمي أخبرني بكذا وكذا، وايم الله لئن عُدت لأسودنّ وجهك وليطاف بك في الناس، فإن أردت أن تعلم أحقًّ ما أقول فعد وأمُر الناس فليؤاكلوه وليجالسوه، وإن تاب فاقبلوا شهادته وكساه عمر رضي الله عنه حُلّة وحمله، وأعطاه مائتي درهم(2)، وهذه القصة فيها حرص الفاروق على ألا يتعدى أحدٌ من عماله العقوبات الشرعية عند معاقبة العاصين(3).
4- شكوى أهل حمص ضد سعيد بن عامر:
قال خالد بن معدان: استعمل علينا عمر بن الخطاب بحمص سعيد بن عامر الجُمحي، فلما قدم عمر حمص قال: يا أهل حمص، كيف وجدتم عاملكم؟ فشكوه إليه، وكان يقال لأهل حمص الكوفية الصغرى لشكايتهم العمال، قالوا: نشكوه أربعاً، لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: أعظم بها وماذا؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل، قال: وعظيمة، وماذا؟ قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا، قال عظيمة وماذا؟ قالوا: يَغْنَط الغَنْطَة بين الأيام (أي يغمى عليه ويغيب عن حسه) فجمع عمر بينهم وبينه وقال: اللهم لا تفيّل رأيي فيه اليوم، وافتتح المحاكمة فقال لهم أمامه: ما تشكون منه؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: ما تقول؟ قال: والله إن كنت لأكره ذكره: ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني ثم أجلس حتى يختمر ثم أخبز خبزي ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم فقال: ما تشكون منه؟ قالوا:
__________
(1) محض الصواب (2/552) إسناده حسن.
(2) صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق ص134 إسناده حسن.
(3) نفس المصدر ص133.(1/357)
لا يجيب أحداً بليل، قال: ما تقول؟ قال: إن كنت لأكره ذكره، إني جعلت النهار لهم وجعلت الليل لله عز وجل قال: وما تشكون منه؟ قالوا: إن له يوماً في الشهر لا يخرج إلينا فيه قال: ما تقول؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي ولا لي ثياب أبدلها، فأجلس حتى تجفّ ثم أدلكها ثم أخرج إليهم آخر النهار قال: ما تشكون منه، قالوا: يَغْنط الغنطة بين الأيام قال: ما تقول؟ قال: شهدت مصرع خُبيب الأنصاري بمكة وقد بضعت قريش لحمه ثم حملوه على جذعة فقالوا، أتحب أن محمداً مكانك؟ فقال، والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - يشتاكُ شوكة ثم نادى يا محمد فما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم إلا ظننت أن الله عز وجل لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً فتصيبني تلك الغنطة فقال عمر: الحمد لله الذي لم يفيّل فراستي، فبعث إليه بألف دينار وقال: استعن بها على أمرك، ففرَّقها(1).
5- عزل من استهزأ بأحد أفراد الرعية:
قال قيس بن أبي حازم رحمه الله: استعمل عمر –رضي الله عنه- رجلاً من الأنصار فنزل بعظيم أهل الحيرة عمرو بن حيان بن بقيلة، فأمال عليه بالطعام والشراب
ما دعا به، فاحتبس الهزل(2)، فدعا الرجل فمسح بلحيته، فركب إلى عمر –رضي الله عنه- فقال يا أمير المؤمنين، قد خدمت كسرى وقيصر فما أُتي إليّ ما أتي في ملكك، قال: وما ذاك؟ قال: نزل بي عاملك فلان فأمَلْنا عليه بالطعام والشراب، ما دعا به فاحتبس الهزل فدعاني فمسح بلحيتي، فأرسل إليه عمر –رضي الله عنه- فقال: هيه؟! أمال عليك بالطعام والشراب ما دعوت به، ثم مسحت بلحيته؟ والله لولا أن تكون سنة ما تركت في لحيتك طاقة إلا نتفتها، ولكن اذهب فوالله لا تلي لي عملاً أبداً(3).
__________
(1) حلية الأولياء (1/245)، أخبار عمر ص152.
(2) أي أكثر من الهزل.
(3) تاريخ المدينة (3/813) خبر صحيح، الفاروق الحاكم العادل ص11.(1/358)
ثالثاً: العقوبات التي نزلت بالولاة في عهد عمر رضي الله عنه:
نتيجة لمراقبة الفاروق لولاته لاحظ وجود بعض الأخطاء التي وقع فيها الولاة، فقام بتأديبهم ومعاقبتهم على هذه الأخطاء التي وقعوا فيها وقد اختلفت طرق تأديب الولاة حسب اختلاف الأحداث وحسب ما يراه الخليفة ومن أهم أساليب الولاة:
1- القود من الأمراء والاقتصاص منهم لو أخطأوا:
وقد كان عمر يقول: ألا وأني لم أرسل عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلمونكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي فوالذي نفسي بيده إذن لأقصنه(1)، ولم يكتف عمر بالبيانات الرسمية التي تهدد الولاة وتمنعهم من الاعتداء على الناس بل إنه طبق ذلك عملياً، كما مر معنا فيمن اشتكى من أبي موسى الأشعري، واشتكى من عمرو بن العاص رضي الله عنهم(2).
2- عزل الوالي نتيجة وقوعه في الخطأ:
وقد قام الفاروق رضي الله عنه بعزل الولاة نتيجة وقوعهم في أخطاء لا يرتضيها، فقد عزل رضي الله عنه أحد الأمراء نتيجة تدخله فيما لا يعنيه في شئون أجناده حيث بعثه على جيش، فلما نزل بهم قال: عزمت عليكم لما أخبرتموني بكل ذنب أذنبتموه فجعلوا يعترفون بذنوبهم فبلغ ذلك عمر فقال: ما له لا أم له، يعمد إلى ستر ستره الله فيهتكه؟ والله لا يعمل لي أبداً(3)، كما غضب عمر من أحد الولاة حينما بلغه بعض شعره وهو يتمثل فيها بالخمر فعزله(4).
3- إتلاف شيء من مساكن الولاة:
__________
(1) الولاية على البلدان (2/127)، الأموال لأبي سلام ص63، 64.
(2) الولاية على البلدان (2/126، 127).
(3) تاريخ المدينة (3/818).
(4) السياسة الشرعية لابن تيمية ص105.(1/359)
وهو ما يقع فيه المخالفة، فقد كان عمر رضي الله عنه يحرص على أن تكون بيوت الولاة بدون أبواب، وبدون حجاب، فلما بلغه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قد وضع بابا لداره بعث إليه محمد بن مسلمة وأمره بإحراق ذلك الباب(1)، وكان سبب ذلك الباب قرب الأسواق من داره، وكانت الأصوات مرتفعة بالسوق تؤذي سعداً، فوضع بابا يحجز عنه أصوات الناس بالسوق، وبلغ ذلك أسماع عمر عن دار سعد وبابه، وأن الناس يسمّونه قصر سعد، فدعا محمد بن مسلمة وأرسله إلى الكوفة، وقال: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك، فخرج حتى قدم الكوفة، فاشترى حطباً ثم أتى به القصر، فأحرق الباب(2)، وروى ابن شبة: أن عمر استعمل مجاشع بن مسعود على عمل فبلغه أن امرأته تجدد بيوتها فكتب إليه عمر: من عبد الله أمير المؤمنين إلى مجاشع بن مسعود سلام عليك أما بعد فقد بلغني أن الخضيراء تحدث بيوتها، فإذا أتاك كتابي هذا فعزمت عليك ألا تضعه من يدك حتى تهتك ستورها، قال: فأتاه الكتاب والقوم عنده جلوس فنظر في الكتاب، فعرف القوم أنه قد أتاه بشيء يكرهه، فأمسك الكتاب بيده ثم قال للقوم: انهضوا فنهضوا: والله ما يدرون إلى
ما ينهضهم، فانطلق بهم حتى أتى باب داره فدخل فلقيته امرأته فعرفت الشر في وجهه فقالت له: مالك؟ فقال إليك عني قد أرمقتني(3)، فذهبت المرأة، وقال للقوم: ادخلوا، فدخل القوم، فقال: فليأخذ كل رجل منكم ما يليه من هذا النحو واهتكوا، قال فهتكوا جميعاً حتى ألقوها إلى الأرض والكتاب في يده لم يضعه بعد وفي أثناء زيارة عمر إلى الشام دعاه يزيد بن أبي سفيان إلى الطعام فلما دخل عمر البيت وجد فيه بعض الستائر، فأخذ عمر يقطعها ويقول: ويحك أتلبس الحيطان
__________
(1) فتوح البلدان ص77، نهاية الأرب (19/8).
(2) الإدارة الإسلامية مجدلاوي ص216.
(3) أرمقتني أوجعتني وأغضبتني لسان العرب (7/161).(1/360)
ما لو ألبسته قوماً من الناس لسترهم من الحر والبرد(1).
3- التأديب بالضرب:
فقد استعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث اشتهر عنه حمل الدرة، وضربه بها وقد ضرب بعض الولاة، بسبب حوادث اقترفوها، ففي أثناء زيارة عمر إلى الشام دخل على بعض ولاته فوجد عندهم بعض المتاع الزائد، فغضب عمر وأخذ يضربهم بالدرة(2)، وفي أثناء زيارة عمر إلى الشام لقيه الأمراء، فكان أول من لقيه يزيد بن أبي سفيان، وأبا عبيدة، ثم خالد على الخيول، عليهم ثياب فاخرة لا تليق بالمجاهدين فنزل وأخذ الحجارة ورماهم بها وقال: ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم، إياي تستقبلون في هذا الزي، وإنما شبعتم مذ سنتين وبالله ولو فعلتم هذا على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم فقالوا يا أمير المؤمنين إنها يلاقة وإن علينا السلاح، قال فنعم إذن(3).
4- خفض الرتبة من وال إلى راعي غنم:
__________
(1) تاريخ المدينة (3/832)، الولاية على البلدان (2/128).
(2) تاريخ المدينة (3/834).
(3) الولاية على البلدان (2/129).(1/361)
وقد استعملها عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أحد ولاته، روى ابن شبة: أن عمر رضي الله عنه استعمل عياض بن غنم على الشام فبلغه أنه اتخذ حماماً واتخذ نوّاباً(1)، فكتب إليه أن يقدم عليه، فقدم، فحجبه ثلاثاً، ثم أذن له ودعا بجبة صوف، فقال البس هذه، وأعطاه كنف الراعي وثلاثمائة شاة وقال انعق بها، فنعق بها فلما جازه هنيهة، قال: أقبل، فأقبل يسعى حتى أتاه، فقال: اصنع بكذا وكذا، اذهب فذهب، حتى إذا تباعد ناداه: يا عياض أقبل فلم يزل يردده حتى عرّقه في جبينه، قال أوردها علي يوم كذا وكذا، فأوردها لذلك اليوم، فخرج عمر رضي الله عنه فقال انزع عليها فاستقى حتى ملأ الحوض فسقاها ثم قال: انعق بها، فإذا كان يوم كذا فأوردها فلم يزل يعمل به حتى مضى شهران أو ثلاثة، ثم دعاه فقال: هيه اتخذت نواباً واتخذت حماماً أتعود قال: لا قال: ارجع إلى عملك(2)، وقد كانت نتيجة هذه العقوبة التأديبية أن أصبح عياض بعد ذلك من أفضل عمّال عمر رضي الله عنه(3).
5- مقاسمة الولاة أموالهم:
__________
(1) نوّاباً: أي جماعة من الناس يختصون بالزيارة والمسامرة دون غيرهم.
(2) تاريخ المدينة (3/817، 818) الولاية على البلدان (2/130).
(3) الولاية على البلدان (2/130).(1/362)
وكان تطبيق هذا النظام أمراً احتياطياً في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث شعر عمر بنمو الأموال لدى بعض الولاة فخشي أن يكون الولاة قد اكتسبوا شيئاً من هذه الأموال بسبب ولايتهم(1) وقد علق ابن تيمية على فعل عمر هذا فقال: وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة، والمؤاجرة والمضاربة، والمساقات والمزارعة، ونحو ذلك هو من نوع الهدية، ولهذا شاطر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من عماله من كان له فضل ودين، لا يتهم بخيانة وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها، وكان الأمر يقتضي ذلك، لأنه كان إمام عدل، يقسم بالسوية (2) وقد قام عمر رضي الله عنه بمشاطرة أموال عماله منهم، سعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، وكان رضي الله عنه يكتب أموال عماله، إذا ولاهم ثم يقاسمهم ما زاد على ذلك، وربما أخذه منهم(3) وقد قام أيضا بمشاطرة بعض أقارب الولاة لأموالهم، إذا
ما رأى مبرراً لذلك، فقد أخذ من أبي بكرة نصف ماله، فاعترض أبو بكرة قائلاً: إني لم آلِ لك عملاً؟ فقال عمر: ولكن أخاك على بيت المال وعشور الأبلة، فهو يقرضك المال تتجر به(4).
6- التوبيخ الشفوي والكتابي:
وقد قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه على معاتبة الأمراء على تصرفاتهم أثناء اجتماعهم به، حيث إنه عاتب عمرو بن العاص مرات، كما عاتب عياض بن غنم، وخالد بن الوليد وأبا موسى الأشعري وغيرهم من الأمراء(5) وأما المعاتبة الكتابية في خلافة عمر فهي كثيرة، منها: أنه كتب إلى أحد الولاة، وكان قدم عليه قوم فأعطى العرب وترك الموالي: أما بعد فبحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم والسلام(6).
__________
(1) الولاية على البلدان (2/130).
(2) الفتاوى (28 / 157).
(3) فتوح البلدان ص220،221 ، الولاية على البلدان (2/131).
(4) شهيد المحراب ص250 .
(5) الولاية على البلدان (2/131).
(6) فتوح البلدان ص443 .(1/363)
ومن هذا كله نجد أن الولاة لم يكونوا بمنأى عن المحاسبة والتأديب بصور مختلفة، ولم تشهد البشرية مثيلاً لها في عدلها وجرأتها، مما جعل هذا العصر الراشدي بحق نموذجاً رفيعاً للحضارة الإسلامية بعد عصر الرسالة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام(1) هذا وقد كانت حرية النقاش وبحث المشاكل بين الخليفة وولاته مكفولة إلى أقصى ما يمكن تصوره من حرية النقاش، لا يرهب الوالي سلطان الخليفة وهذا مثال على ذلك: عندما قدم عمر على الشام تلقاه معاوية في موكب عظيم فلما رأى معاوية عمر نزل من على صهوة جواده، ومشى إليه، وقال: السلام على أمير المؤمنين، فمضى عمر، ولم يرد عليه سلامه، ومعاوية يسرع خلف جمل عمر وكان معاوية سميناً، فلهث. فقال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، أتعبت الرجل، فلو كلمته: فالتفت إليه عمر وقال يا معاوية، أأنت صاحب الموكب الذي أرى. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال عمر: مع شدة احتجابك ووقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال معاوية: نعم يا أمير المؤمنين. قال: لم ويحك؟ قال معاوية: لأننا ببلاد كثر بها جواسيس العدو، فإن لم نتخذ العُدة والعدد، استخف بنا، وهجم علينا! وأما الحجاب، فإننا نخاف من الابتذال وجرأة الرعية. وأنا بعد عاملك، إن استوقفتني وقفت، وإن نهيتني انتهيت يا أمير المؤمنين. قال عمر: ما سألتك عن شيء إلا خرجت منه، إن كنت صادقاً فإنه رأى لبيب، وإن كنت كاذباً فإنها خدعة أريب، لا آمرك ولا أنهاك، وانصرف عنه(2).
__________
(1) الولاية على البلدان (2/133).
(2) الفاروق عمر بن الخطاب للشرقاوي ص287 .(1/364)
ورغم شدة عمر على ولاته ودقته في محاسبتهم وإقدامه على عزل من تحوم حوله شبهة أو تثور في حقه شكاية ذات أثر، فإن رابطة قوية من الحب والولاء كانت تربطه بولاته الذين كانوا يثقون ثقة مطلقة في إخلاص خليفتهم وسلامة مقاصده وسياسته وتجرده وعدله، لقد كان عمر إذا غابت عنه أخبار بعض قادته في ساحات الجهاد يكاد يقتله القلق ويستبد به الخوف والشفقة عليهم، وكان في بعض الحروب الكبرى يخرج بنفسه يتنطّس الأخبار، ويتحسس الأنباء علّه يطمئن عليهم، وفي حالات أخرى كان يلتقي بهم فنجد أمارات الحب العميق بينهم،فلما سار عمر لفتح بيت المقدس وانتهى إلى الجابية لقيه قائداه عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة فوافقا عمر راكباً، فقبّلا ركبتيه، وضم عمر كل واحد منهما محتضنهما(1).
رابعاً: قصة عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه:
وجد أعداء الإسلام في سعة خيالهم وشدة حقدهم مجالاً واسعاً لتصيد الروايات التي تظهر صحابة رسول الله في مظهر مشين، فإذا لم يجدوا شفاء نفوسهم، اختلقوا ما ظنوه يجوز على عقول القارئين، لكي يصبح أساساً ثابتاً لما يتناقله الرواة وتسطره كتب المؤلفين وقد تعرَّض كل من عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما لمفتريات أعداء الإسلام الذين حاولوا تشويه صفحات تاريخهما المجيد ووقفوا كثيراً عند أسباب عزل عمر لخالد بن الوليد رضي الله عنهم وألصقوا التهم الباطلة بالرجلين العظيمين وأتوا بروايات لا تقوم على أساس عند المناقشة، ولا تقوم على البرهان أمام التحقيق العلمي النزيه(2) وإليك قصة عزل خالد بن الوليد على حقيقتها بدون لف أو تزوير للحقائق، فقد مرّ عزل خالد بن الوليد بمرحلتين، وكان لهذا العزل أسباب موضوعية.
1- العزل الأول:
__________
(1) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين ص151 .
(2) أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، إبراهيم شعوط ص123 .(1/365)
عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خالد بن الوليد في المرة الأولى عن القيادة العامة وإمارة الأمراء بالشام، وكانت هذه المرة في السنة الثالثة عشر من الهجرة غداة تولي عمر الخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق وسبب هذا العزل اختلاف منهج الصديق عن الفاروق في التعامل مع الأمراء والولاة، فالصديق كان من سنته مع عماله وأمراء عمله أن يترك لهم حرية ا لتصرف كاملة في حدود النظام العام للدولة مشروطاً ذلك بتحقيق العدل كاملاً بين الأفراد والجماعات، ثم لا يبالي أن يكون لواء العدل منشوراً بيده أو بيد عماله وولاته، فللوالي حق يستمده من سلطان الخلافة في تدبير أمر ولايته دون رجوع في الجزئيات إلى أمر الخليفة، وكان أبو بكر لا يرى أن يكسر على الولاة سلطانهم في مال أو غيره ما دام العدل قائماً في رعيتهم(1)، وكان الفاروق قد أشار على الصديق بأن يكتب لخالد رضي الله عنهم جميعاً: أن لا يعطي شاة ولا بعيراً إلا بأمره، فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك، فكتب إليه خالد: إما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك وعملك، فأشار عليه بعزله(2)، ولكنّ الصديق أقرّ خالداً على عمله(3)، ولما تولى الفاروق الخلافة، كان يرى أنه يجب على الخليفة أن يحدد لأمرائه وولاته طريقة سيرهم في حكم ولاياتهم ويحتم عليهم أن يردوا إليه ما يحدث حتى يكون هو الذي ينظر فيه ثم يأمرهم بأمره، وعليهم التنفيذ، لأنه يرى أن الخليفة مسؤول عن عمله وعن عمل ولاته في الرعية مسؤولية لا يرفعها عنه أنه اجتهد في اختيار الوالي. فلما تولى الخلافة خطب الناس، فقال: إن الله ابتلاكم بي، وابتلاني بكم، وأبقاني بعد صاحبي فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلوا فيه عن الجزء والأمانة، ولئن أحسن الولاة لأحسنن إليهم، ولئن أساؤوا لأنكلن بهم(4)
__________
(1) خالد بن الوليد، صادق عرجون ص321-331 .
(2) البداية والنهاية (7/115).
(3) التاريخ الإسلامي (11/146).
(4) خالد بن الوليد، صادق عرجون ص331 .(1/366)
، وكان يقول: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما علي؟ قالوا: نعم. قال: لا، حتى أنظر في عمله، أعمل بما أمرته أم لا؟(1)، فعندما تولى الفاروق الخلافة أراد أن يعدل بولاة أبي بكر رضي الله عنه إلى منهجه وسيرته، فرضي بعضهم وأبى آخرون وكان ممن أبى عليه ذلك خالد بن الوليد(2)، فعن مالك بن أنس، أن عمر لما ولي الخلافة كتب إلى خالد ألا تعطي شاة ولا بعيراً إلا بأمري، فكتب إليه خالد إما أن تدعني وعملي، وإلا فشأنك بعملك، فقال عمر: ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر فلم أنفذه، فعزله(3)، ثم كان يدعوه إلى العمل فيأبى إلا أن يخليه يفعل ما شاء فيأبى عليه(4).
__________
(1) نفس المصدر ص332 .
(2) نفس المصدر ص332 .
(3) البداية والنهاية (7/115).
(4) خالد بن الوليد صادق عرجون ص332 .(1/367)
فعزل عمر خالداً من وجهة سياسة الحكم وحق الحاكم في تصريف شؤون الدولة ومسؤوليته عنها، وطبيعي أن يقع كل يوم مثله في الحياة، ولا يبدو فيه شيء غريب يحتاج إلى بيان أسباب تتجاذبها روايات وآراء، وميول وأهواء ونزعات، فعمر بن الخطاب خليفة المسلمين في عصر كان الناس فيه ناساً لا يزالون يستروحون روح النبوة له من الحقوق الأولية أن يختار من الولاة والقادة من ينسجم معه في سياسته ومذهبه في الحكم ليعمل في سلطانه ما دامت الأمة غنية بالكفايات الراجحة، فليس لعامل ولا قائد أن يتأبد في منصبه، ولا سيما إذا اختلفت مناهج السياسة بين الحاكم والولاة ما كان هناك من يغني غناءه ويجزي عنه، وقد أثبت الواقع التاريخي أن عمر رضي الله عنه كان موفقاً أتم التوفيق وقد نجح في سياسته هذه نجاحاً منقطع النظير، فعزل وولى، فلم يكن من ولاّه أقل كفاية ممن عزله، ومرد ذلك لروح التربية الإسلامية التي قامت على أن تضمن دائماً للأمة رصيداً مذخوراً من البطولة والكفاية السياسية الفاضلة(1) وقد استقبل خالد هذا العزل بدون اعتراض وظل رضي الله عنه تحت قيادة أبي عبيدة رضي الله عنه حتى فتح الله عليه قنسرين فولاه أبو عبيدة عليها، وكتب إلى أمير المؤمنين يصف له الفتح وبلاء خالد فيه فقال عمر قولته المشهورة: أمّر خالد نفسه، رحم الله أبا بكر، هو كان أعلم بالرجال مني(2)، ويعني عمر بمقولته هذه أن خالداً فيما أتى به من أفانين الشجاعة وضروب البطولة قد وضع نفسه في موضعها الذي ألفته في المواقع الخطيرة من الإقدام والمخاطرة، وكأنما يعني عمر بذلك أن استمساك
أبي بكر بخالد وعدم موافقته على عزله برغم الإلحاح عليه إنما كان عن يقين في مقدرة خالد وعبقريته العسكرية التي لا يغني غناءه فيها إلا آحاد الأفذاذ من أبطال الأمم(3).
__________
(1) خالد بن الوليد، صادق عرجون ص332،333 .
(2) خالد بن الوليد، صادق عرجون ص321 .
(3) خالد بن الوليد، صادق عرجون ص321 .(1/368)
هذا وقد عمل خالد تحت إمرة أبي عبيدة نحواً من أربع سنوات فلم يعرف عنه أنه اختلف عليه مرة واحدة، ولا ينكر فضل أبي عبيدة وسمو أخلاقه في تحقيق وقع الحادث على خالد فقد كان لحفاوته به وعرفانه لقدره، وملازمته صحبته والأخذ بمشورته وإعظامه لآرائه وتقديمه في الوقائع التي حدثت بعد إمارته الجديدة، أحسن الأثر في صفاء قلبه صفاء جعله يصنع البطولات العسكرية النادرة وعمله في فتح دمشق وقنسرين وفحل شاهد صدق على روحه السامية التي قابل بها حادث العزل، وكان في حاليه سيف الله خالد بن الوليد(1)، ويحفظ لنا التاريخ ما قاله
__________
(1) خالد بن الوليد، صادق عرجون ص346 .(1/369)
أبو عبيدة في مواساة خالد عند عزله: .. وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن أخوان وقوّام بأمر الله عز وجل، وما يضير الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ودنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة لما تعرض من الهلكة إلا من عصم الله عز وجل، وقليل ما هم(1) وعندما طلب أبو عبيدة من خالد أن ينفذ مهمة قتالية تحت إمرته، أجابه خالد قائلاً: أنا لها إن شاء الله تعالى وما كنت أنتظر إلا أن تأمرني، فقال أبو عبيدة: استحيت منك يا أبا سليمان. فقال خالد: والله لو أمر علي طفل صغير لأطيعن له، فكيف أخالفك وأنت أقدم مني إيماناً وأسبق إسلاماً، سبقت بإسلامك مع السابقين وأسرعت بإيمانك مع المسارعين، وسماك رسول الله بالأمين فكيف ألحقك وأنال درجتك والآن أشهدك أني قد جعلت نفسي حبساً في سبيل الله تعالى ولا أخالفك أبداً، ولا وليت إمارة بعدها أبداً ولم يكتف خالد بذلك فحسب بل اتبع قوله بالفعل وقام على الفور بتنفيذ المهمة المطلوبة منه(2)، ويظهر بوضوح من قول خالد وتصرفه هذا، أن الوازع الديني والأخلاقي كان مهيمناً على تصرفات خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهم وقد بقي خالد محافظاً على مبدأ طاعة الخليفة والوالي بالرغم من أن حالته الشخصية قد تغيرت من حاكم إلى محكوم بسبب عزله عن قيادة الجيوش(3).
__________
(1) خالد بن الوليد، صادق عرجون ص323 .
(2) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين 84 .
(3) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين ص84 .(1/370)
إن عزل خالد في هذه المرة (الأولى)، لم يكن عن شك من الخليفة ولا عن ضغائن جاهلية، ولا عن اتهامه بانتهاك حرمات الشريعة ولا عن طعن في تقوى وعدل خالد، ولكن كان هناك منهجان لرجلين عظيمين، وشخصيتين قويتين كان يرى كل منهما ضرورة تطبيق منهجه، فإذ كان لابد لأحدهما أن يتنحى فلابد أن يتنحى أمير الجيوش لأمير المؤمنين؛ من غير عناد ولا حقد وضغينة(1).
إن من توفيق الله تعالى للفاروق تولية أبي عبيدة رضي الله عنهم لجيوش الشام، فذلك الميدان بعد معركة اليرموك كان يحتاج إلى المسالمة واستلال الأحقاد، وتضميد الجراح وتقريب القلوب فأبو عبيدة رضي الله عنه يسرع إلى المسالمة إذا فتحت أبوابها ولا يبطئ عن الحرب إذا وجبت عليه أسبابها، فإن كانت بالمسالمة جدوى فذاك وإلا فالاستعداد للقتال على أهبته، وقد كان أبناء الأمصار الشامية يتسامعون بحلم أبي عبيدة فيقبلون على التسليم إليه ويؤثرون خطابهم له على غيره، فولاية أبي عبيدة سنة عمرية وكانت ولايته للشام في تلك المرحلة أصلح الولايات لها(2).
2- العزل الثاني:
__________
(1) أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ ص132 .
(2) عبقرية خالد للعقاد ص154،155،156 .(1/371)
وفي (قنسرين) جاء العزل الثاني لخالد، وذلك في السنة السابعة عشرة(1)، فقد بلغ أمير المؤمنين أن خالداً وعياض بن غنم أدربا في بلاد الروم وتوغلا في دروبهما ورجعا بغنائم عظيمة، وأن رجالاً من أهل الآفاق قصدوا خالداً لمعروفه منهم الأشعث بن قيس الكندي فأجازه خالد بعشرة آلاف، وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله(2)، فكتب عمر إلى قائده العام أبي عبيدة يأمره بالتحقيق مع خالد في مصدر المال الذي أجاز منه الأشعث تلك الإجازة الغامرة، وعزله عن العمل في الجيش إطلاقاً واستقدمه المدينة، وتمّ استجواب خالد وقد تم استجواب خالد بحضور أبي عبيدة وترك بريد الخلافة يتولى التحقيق وترك إلى مولى أبي بكر يقوم بالتنفيذ، وانتهى الأمر ببراءة خالد أن يكون مدّ يده إلى غنائم المسلمين فأجاز منها بعشر آلاف(3) ولما علم خالد بعزله ودّع أهل الشام، فكان أقصى ما سمحت به نفسه من إظهار أسفه على هذا العزل الذي فرق بين القائد وجنوده أن قال للناس: إن أمير المؤمنين استعملني على الشام حتى إذا كانت بثنية(4)، وعسلاً عزلني فقام إليه رجل فقال: اصبر أيها الأمير، فإنها الفتنة فقال: خالد: أما
وابن الخطاب حي فلا(5)، وهذا لون من الإيمان القاهر الغلاب، لم يرزقه إلا المصطفون من أخصاء أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -: فأية قوة روحية سيطرت على أعصاب خالد في الموقف الخطير؟ وأي إلهام ألقي على لسان خالد ذلك الرد الهادئ الحكيم(6).
__________
(1) تاريخ الطبري (5/41).
(2) نفس المصدر (5/42).
(3) خالد بن الوليد، صادق عرجون ص324 .
(4) البثنية قيل المراد: حنطة منسوبة إلى بلد بالشام وقيل الناعمة من الرملة اللينة.
(5) خالد بن الوليد، صادق عرجون ص347 ، الكامل في التاريخ (2/156).
(6) خالد بن الوليد، صادق عرجون ص347 .(1/372)
سكن الناس وهدأت نفوسهم بعد أن سمعوا كلمة خالد في توطيد قواعد الخلافة العمرية، وعرفوا أن قائدهم المعزول ليس من طراز الرجال الذين يبنون عروش عظمتهم على أشلاء الفتن والثورات الهدّامة وإنما هو من أولئك الرجال الذين خلقوا للبناء والتشييد، فإن أرادتهم الحياة على هدم ما بنوا تساموا بأنفسهم أن يذلها الغرور المفتون(1).
ورحل خالد إلى المدينة فقدمها حتى لقي أمير المؤمنين، فقال عمر متمتلاً:
صنعت فلم يصنع كصنعك صانع ... وما يصنع الأقوام فالله يَصنعُ(2)
وقال خالد لعمر: لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله إنك في أمري غير مُجمل
يا عمر، فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسُّهمان، ما زاد على الستين ألفاً فلك، فقوم عمر عروضه فخرجت إليه عشرون ألفاً، فأدخلها بيت المال. ثم قال: يا خالد، والله إنك علي لكريم، وإنك إلي لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء(3)، وكتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالداً عن سُخطة
ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة(4).
3- مجمل أسباب العزل وبعض الفوائد:
ومن خلال سيرة الفاروق يمكننا أن نجمل أسباب عزل خالد رضي الله عنه في الأمور التالية:
__________
(1) نفس المصدر ص347 .
(2) تاريخ الطبري (5/43).
(3) تاريخ الطبري (5/43).
(4) تاريخ الطبري (5/43).(1/373)
حماية التوحيد: ففي قول عمر رضي الله عنه: ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به، يظهر خشية عمر من فتنة الناس بخالد وظنهم أن النصر يسير في ركاب خالد؛ فيضعف اليقين بأن النصر من عند الله سواء كان خالد على رأس الجيوش أم لا، وهذا الوازع يتفق مع حرص عمر علىصبغ إدارته للدولة العقائدية الخالصة وبخاصة وهي تحارب أعداءها حرباً ضروساً متطاولة باسم العقيدة وقوتها، وقد يقود الافتتان بقائد كبير مثل خالد خالداً نفسه إلى الافتتان بالرعية وأن يرى نفسه يوماً في مركز قوة لا يرتقي إليها أحد، وبخاصة أنه عبقري حرب ومنفق أموال، فيجر ذلك عليه وعلى الدولة أمر خُسْر، وهو إن كان احتمالا بعيداً في ظل ارتباط الناس بخليفتهم عمر وإعجابهم به، وفي ظل انضباط خالد العسكري وتقواه، فقد يحدث يوماً ما بعد عمر، ومع قائد كخالد، مما يستدعي التأصيل لها في ذلك العصر ومع أمثال هؤلاء الرجال(1)، والخوف في هذا الأمر من القائد الكفء أعظم من الخوف من قائد صغير لم يُبْلِ أحسن البلاء ولم تتساير بذكره الأنباء(2).
وقد أشار شاعر النيل حافظ إبراهيم رحمه الله إلى تخوف عمر فقال في عمريته في الديوان:
وقيل خالفت يا فاروق صاحبنا ... فيه وقد كان أعطى القوس باريها
فقال خفت افتتان المسلمين به ... وفتنة النفس أعيت من يداويها(3)
اختلاف النظر في صرف المال:
__________
(1) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، حمدي شاهين ص149 .
(2) عبقرية عمر ص158 .
(3) حروب الإسلام في الشام، باشميل ص566 .(1/374)
كان عمر يرى أن فترة تأليف القلوب، وإغراء ضعفاء العقيدة بالمال والعطاء، قد انتهت، وصار الإسلام في غير حاجة إلى هؤلاء، وأنه يجب أن يوكل الناس إلى إيمانهم وضمائرهم، حتى تؤدي التربية الإسلامية رسالتها في تخريج نماذج كاملة، لمدى تغلغل الإيمان في القلوب، بينما يرى خالد أن ممن معه من ذوي البأس والمجاهدين في ميدانه من لم تخلص نيتهم لمحض ثواب الله، وأن أمثال هؤلاء في حاجة إلى من يقوي عزيمتهم، ويثير حماستهم من هذا المال(1)، كما أن عمر كان يرى أن ضعفة المهاجرين أحق بالمال من غيرهم، فعندما اعتذر إلى الناس بالجابية من عزل خالد قال: أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطاه ذا البأس(2)،
ولا شك أن عمر وخالداً مجتهدان فيما ذهبا إليه ولكن عمر أدرك أموراً لم يدركها خالد رضي الله عنهما(3).
اختلاف منهج عمر عن منهج خالد في السياسة العامة:
فقد كان عمر يصر على أن يستأذن الولاة منه في كل صغيرة وكبيرة، بينما يرى خالد أن من حقه أن يُعطى الحرية كاملة من غير الرجوع لأحد في الميدان الجهادي وتطلق يده في كل التصرفات إيماناً منه بأن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب(4).
ولعل من الأسباب أيضاً، إفساح المجال لطلائع جديدة من القيادات حتى تتوفر في المسلمين نماذج كثيرة من أمثال خالد والمثنى وعمرو بن العاص، ثم ليدرك الناس أن النصر ليس رهناً برجل واحد(5)، مهما كان هذا الرجل.
موقف المجتمع الإسلامي من قرار العزل:
__________
(1) أباطيل يجب أن تحمى من التاريخ ص134 .
(2) البداية والنهاية (7/115).
(3) التاريخ الإسلامي (11/147).
(4) الخلافة والخلفاء الراشدون، سالم البهنساوي ص196 .
(5) أخطاء يجب أن تمحى من التاريخ ص134 .(1/375)
تلقى المجتمع الإسلامي قرار العزل بالتسليم لحق الخليفة في التولية والعزل، فلم يخرج أحد عن مقتضى النظام والطاعة والإقرار للخلافة بحقها في التولية والعزل وقد روي أن عمر خرج في جوف الليل فلقي عَلْقَمة بن عُلاثة الكلابي، وكان عمر يشبه خالداً إلى حد عجيب، فحسبه علقمة خالداً، فقال: يا خالد عزلك هذا الرجل، لقد أبى إلا شحّاّ حتى لقد جئت إليه وابن عم لي نسأله شيئاً، فأما إذا فعل فلن أسأله شيئاً، فقال له عمر يستدرجه ليعلم ما يخفيه: هيه! فما عندك؟ قال: هم قوم لهم علينا حق فنؤدي لهم حقهم، وأجرنا على الله، فلما أصبحوا قال عمر لخالد وعلقمة مشاهد لهما: ماذا قال لك علقمة منذ الليلة؟ قال خالد: والله ما قال شيئاً، قال عمر: وتحلف أيضاً؟ فاستثار ذلك علقمة وهو يظن أنه ما كلم البارحة إلا خالداً، فظل يقول: مَهْ يا خالد؛ فأجاز عمر علقمة وقضى حاجته، وقال لأن يكون من ورائي على مثل رأيك يعني حرصه على الطاعة لولي الأمر وإن خالفه أحب إليّ من كذا وكذا(1)، وهذا وقد جاء اعتراض من أبي عمرو بن حفص بن المغيرة بن عم خالد بن الوليد بالجابية، فعندما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للناس وإني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد، إني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطاه ذا البأس، وذا الشرف، وذا اللسان، فنزعته وأمّرت
أبا عبيدة بن الجراح. فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة: والله ما أعذرت يا عمر بن الخطاب، لقد نزعت عاملاً استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغمدت سيفاً سله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووضعت لواء نصبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقد قطعت الرحم وحسدت
__________
(1) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين ص151 .(1/376)
ابن العم. فقال عمر بن الخطاب: إنك قريب القرابة، حديث السن، مغضب في ابن عمك(1)، وهكذا اتسع صدر الفاروق لابن عم خالد بن الوليد، وهو يذب عن خالد حتى وصل دفاعه إلى دعوى اتهامه للفاروق بالحسد، ومع ذلك ظل الفاروق حليماً(2).
4- وفاة خالد بن الوليد وماذا قال عن الفاروق وهو على فراش الموت:
__________
(1) النسائي (8283) خبر صحيح في سننه الكبرى، محض الصواب (2/496) إسناده صحيح.
(2) صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق ص219 .(1/377)
دخل أبو الدرداء على خالد في مرض موته، فقال له خالد: يا أبا الدرداء، لئن مات عمر، لترين أموراً تنكرها. فقال أبو الدرداء: وأنا والله أرى ذلك. فقال خالد: قد وجدت عليه في نفسي في أمور، لما تدبرتها في مرضي هذا وحضرني من الله حاضر عرفت أن عمر كان يريد الله بكل ما فعل، كنت وجدت عليه في نفسي حين بعث من يقاسمني مالي، حتى أخذ فرد نعل وأخذت فرد نعل، ولكنه فعل ذلك بغيري من أهل السابقة، وممن شهد بدراً، وكان يغلظ علي، وكانت غلظته على غيري نحواً من غلظته علي، وكنت أدل عليه بقرابته، فرأيته لا يبالي قريباً ولا لوم لائم في غير الله، فذلك الذي ذهب عني ما كنت أجد عليه، وكان يكثر علي عنده، وما كان ذلك إلا على النظر: فقد كنت في حرب ومكابدة وكنت شاهداً وكان غائباً، فكنت أعطي على ذلك، فخالفه ذلك من أمري(1)، ولما حضرته الوفاة وأدرك ذلك، بكى وقال: ما من عمل أرجى عندي بعد لا إله إلا الله، من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، بتّها وأنا متترس والسماء تنهل عليَّ، وأنا أنتظر الصبح حتى أغير على الكفار، فعليكم بالجهاد، لقد شهدت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء لقد طلبت القتل في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي(2)، وأوصى خالد أن يقوم عمر على وصيته وقد جاء فيها: وقد جعلت وصيتي وتركتي وإنفاذ عهدي إلى عمر بن الخطاب، فبكى عمر رضي الله عنه فقال له طلحة بن عبيد الله: إنك وإياه كما قال الشاعر:
لا ألفينَّك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زوّدتني زادي(3)
__________
(1) خالد بن الوليد، صادق عرجون 349 ، الخلافة والخلفاء ص198 .
(2) سير أعلام النبلاء (1/382)، الطريق إلى المدائن ص367 .
(3) الفاروق عمر ص287 .(1/378)
فقد حزن عليه الفاروق حزناً شديداً، وبكته بنات عمه، فقيل لعمر أن ينهاهنَّ، فقال: دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة، على مثل أبي سليمان تبكي البواكي(1).
وقال عنه: قد ثلم في الإسلام ثلمة لا ترتق، وليته بقي ما بقي في الحمى حجر، كان والله سداداً لنحور العدو، ميمون النقيبة(2)، وعندما دخل على الفاروق هشام بن البختري في ناس من بني مخزوم، وكان هشام شاعراً، فقال له عمر: أنشدني ما قلت في خالد، فلما أنشده قال له: قصرت في الثناء على أبي سليمان رحمه الله، إن كان ليحب أن يذل الشرك وأهله، وإن كان الشامت به لمتعرضاً لمقت الله ثم تمثل بقول الشاعر:
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى
فما عيش من قد عاش بعدي بنافعي ... تهيأ لأخرى مثلها فكان قدِ
ولا موت من قد مات بعدي بمخلدي
ثم قال: رحم الله أبا سليمان ما عند الله خير له مما كان فيه ولقد مات فقيداً وعاش حميدا(3)ً ولقد رأيت الدهر ليس بقائل(4) هذا وقد توفي ودفن بحمص ببلاد الشام عام 21هـ(5) رحمه الله رحمة واسعة وأعلى ذكره في المصلحين.
الفصل السادس
فتوحات العراق والمشرق في عهد عمر رضي الله عنه
المبحث الأول: المرحلة الثانية من فتوحات العراق والمشرق:
تمثل الفتوحات في عهد الصديق رضي الله عنه في العراق بقيادة خالد بن الوليد المرحلة الأولى من الفتوحات الإسلامية التي انطلقت نحو المشرق وقد تم تفصيلها في كتابي:
أبو بكر الصديق رضي الله عنه شخصيته وعصره وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه استكملت الخطة على مراحل هذه إحداها:
أولاً: تأمير أبي عُبيد الثقفي على حرب العراق:
__________
(1) الطريق إلى المدائن ص366 .
(2) خالد بن الوليد، صادق عرجون ص348 .
(3) تهذيب تاريخ دمشق (5/116).
(4) ليس بقائل: أي ليس بتارك أحداً يخلد في هذه الدنيا، فهو من الإقالة في المعنى، صادق عرجون ص348 .
(5) تاريخ الطبري (5/130)، القيادة العسكري ص589 .(1/379)
لما مات الصديق ودفن ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، أصبح عمر فندب الناس وحثهم على قتال أهل العراق وحرضهم ورغبهم في الثواب على ذلك، فلم يقم أحد لأن الناس كانوا يكرهون قتال الفرس لقوة سطوتهم، وشدة قتالهم، ثم ندبهم في اليوم الثاني والثالث فلم يقم أحد، وتكلم المثنى بن حارثة فأحسن وأخبرهم بما فتح الله تعالى على يدي خالد من معظم أرض العراق ومالهم هناك من الأموال والأملاك والأمتعة والزاد، فلم يقم أحد في اليوم الثالث فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب من المسلمين أبو عبيد بن مسعود الثقفي ثم تتابع الناس في الإجابة(1)، وكان سليط بن قيس الأنصاري قد استجاب لنداء عمر بعد أبي عبيد الثقفي وقال: يا أمير المؤمنين إنما كان عن هؤلاء الفرس إلى وقتنا هذا شقشقة من شقاشق الشيطان، ألا وإني قد وهبت نفسي لله أنا ومن أجابني من بني عمي ومن اتبعني(2)، فكان لكلام سليط هذا أثر قوي في تشجيع الناس ورفع معنوياتهم وزيادة رغبتهم في جهاد الفرس، وطالبوا الخليفة أن يوليَ عليهم رجلاً من المهاجرين أو الأنصار فقال عمر: والله ما أجد لها أحق من الذي ندب الناس بدءاً ولولا أن سليطاً عجولٌ في الحرب لأمرته عليكم ولكن أبو عبيد هو الأمير وسليط هو الوزير فقال الناس سمعاً وطاعة(3)، وجاء في رواية: وأمّر على الجميع أبا عبيد ولم يكن صحابياً فقيل لعمر: هلا أمّرت عليهم رجلاً من الصحابة؟ فقال: إنما أومر أول من استجاب، إنكم إنما سبقتم الناس بنصرة هذا الدين، وإن هذا هو الذي استجاب قبلكم. ثم دعاه فوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، وأمره أن يستشير أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يستشير سليط بن قيس فإنه رجل باشر الحروب(4)
__________
(1) البداية والنهاية (7/ 26).
(2) الفتوح ابن أعثم (1/ 164) الأنصار في العصر الراشدي ص216.
(3) الأنصار في العصر الراشدي ص216.
(4) البداية والنهاية (7/ 26).(1/380)
،وقد جاء في وصايا عمر رضي الله عنه لأبي عبيد الثقفي ما يأتي: (( اسمع من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعاً، بل اتئد، فإنها الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث(1)، الذي يعرف الفرصة، ولا يمنعني أن أُؤَمّر سليطاً إلاّ سرعته إلى الحرب، والسرعة إلى الحرب إلاّ عن بيان ضياع والله لولا سرعته لأمَّرته(2)، ثم قال: إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجَبْرية، تقدم على قوم تجرّؤوا على الشر فَعَلِموه، وتناسو الخير فجهلوه: فانظر كيف تكون؟ واحرز لسانك، ولا تفشين سرّك، فإن صاحب السرّ ما يضبطه متحصن لا يؤتى من وجه يكره، وإذا لم يضبطه كان بمضيعة(3) ثم أمر المثنى بن حارثة أن يتقدم إلى أن يلحقه الجيش وأمره أن يستنفر(4)، من حسنت توبته من المرتدين، فسار مسرعاً حتى وصل الحيرة، وكان عمر رضي الله عنه يتابع جبهات العراق والفرس والشام ويمد الجيوش بالإمدادات ويرسل لهم التعليمات، والأوامر، ويضع الخطط للمعارك ويشرف بنفسه على تنفيذها.
__________
(1) المكيث: الرزين المتأني.
(2) اتمام الوفاء في سيرة الخلفاء ص65 . الجبرية: التكبر.
(3) اتمام الوفاء في سيرة الخلفاء ص65 .
(4) أن يستنفر: أن يطلب الإسراع في الخروج لقتال العدو.(1/381)
سار المسلمون إلى أرض العراق وهم سبعة آلاف رجل، وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرسل من كان بالعراق ممن قدم مع خالد إلى العراق فجهز عشرة آلاف عليهم هاشم بن عتبة، وأرسل عمر، جرير بن عبد الله البجلي في أربعة آلاف إلى العراق فقدم الكوفة، فلما وصل الناس إلى العراق وجدوا الفرس مضطربين في ملكهم، وآخر ما استقر عليه أمرهم أن ملكوا عليهم بوران بنت كسرى بعد ما قتلوا التي كانت قبلها أزرميدخت وفوضت بوارن أمر الملك عشر سنين إلى رجل منهم يقال له رستم بن فرّخزاد على أن يقوم بأمر الحرب، ثم يصير الملك إلى آل كسرى فقبل ذلك. وكان رستم هذا منجماً يعرف النجوم وعِلْمها جيداً فقيل له ما حملك على هذا؟ يعنون وأنت تعلم أن هذا الأمر لا يتم لك فقال: الطمع وحب الشرف(1).
ثانياً: وقعة النمارق، ومعركة السقاطية بكسكر ومعركة باروسما:
1- وقعة النمارق 13هـ :
__________
(1) البداية والنهاية (7/27).(1/382)
وقد كانت هذه المعركة عقب وصول أبي عبيد وتوّليه قيادة الجيوش من العراق، وكأنما أراد منها الفرس أن يرهبوا أبا عبيد، أول من انتدب، حتى يقهروا في نفسه إرادة الظفر ورغبة النصر، فأعدوا لها القوى الداخلية، وعبؤوا الجند، ولقوا فيها المسلمين من خلفهم ومن بين أيديهم ومن أمامهم: وكتبوا إلى دهاقين السودان أن يثوروا بالمسلمين، ودسّوا في كل رستاق رجلاً ليثور بأهله، فبعثوا جابان إلى الببهقّباذ الأسفل، ونَرْسِي إلى كسكر، وجنداً ليواقعوا المثنى.. وبلغ المثنى ذلك، فضم إليه مسالحه وحَذِر وخرج الدهاقين وتوالوْا على الخروج، وثار أهل الرساتيق وتتابعوا على الثورة، ونزل أبو عبيد والمثنى بخفّان، وتعبَّى، ثم كان اللقاء في النمارق.. وكان قتالاً شديداً هزم الله فيه أهل فارس وأُسر جابان القائد ومردانْشاه، وكان على المُجَنَّبة، وكانا معاً هما اللذان توليا أمر الثورة(1)، وكان الذي أسر جابان مطر بن فضة التميمي وهو لا يعرفه، فخدعه جابان حتى تفلَّت منه بشيء فخلَّى عنه، فأخذه المسلمون فأتوا به أبا عبيد وأخبروه أنه قائد الفرس وأشاروا عليه بقتله فقال: إني أخاف الله أن أقتله وقد أمّنه رجل مسلم، والمسلمون في التّواد والتناصر كالجسد ما لزم بعضهم فقد لزمهم كلهم فقالوا: إنه الملك يعني القائد قال: وإن كان، لا أغدر، فتركه(2).
وهذا الموقف من أبي عبيد الثقفي يعتبر مثالاً على سماحة المسلمين ووفائهم بالعهود وإن أبرمها بعض أفرادهم، ولا شك أن هذه الأخلاق العالية كان لها أثر كبير في اجتذاب الناس إلى الدخول في الإسلام، فحينما يتسامع الناس أن المسلمين أطلقوا أحد قادة الفرس الذين كانوا أسرع الناس في عدائهم لمجرد أنه اتفق مع أحد المسلمين على الفداء فإنهم ينجذبون إلى هذا الدين الذي أخرج هؤلاء الرجال.
__________
(1) حركة الفتح الإسلامي شكري فيصل ص72 .
(2) الكامل في التاريخ (2/87).(1/383)
ولا ننسى موقف المثنى بن حارثة الرائع حيث استلم الإمارة أبي عبيد مع أنه يَقْدمُ العراق لأول مرة، لأن أمير المؤمنين أمّره عليه، فكان نعم القائد ونعم الجندي، وهذه من سجايا المثنى فقد فعل ذلك مع خالد بن الوليد من قبل ولم يختلف عطاؤه للإسلام في حالي القيادة والجندية، وهكذا يكون عظماء الرجال(1).
- معركة السّقّاطية بكَسْكَر:
ثم ركب أبو عبيد في آثار من انهزم منهم وقد لجأوا إلى مدينة كَسْكَر(2)، وهي لابن خالة كسرى واسمه نَرْسي، فوازرهم نرسي على قتال أبي عبيد، فلقيهم أبو عبيد في السقاطية(3)، فقهرهم، وغنم منهم شيئاً كثيراً وأطعمات كثيرة جداً(4)، وهرب نرسي وغلب المسلمون على عسكره وأرضه، ووجدوا في خزائنه شيئاً عظيماً ولم يكونوا بشيء أفرح منهم بشجر النّرسيان لأن (نَرْسي) كان يحميه ويمالئه عليهم ملوكهم فاقتسموه فجعلوا يطعمونه الفلاحين وبعثوا بخمسه إلى عمر، وكتبوا إليه: إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحمونها وأحببنا أن تروها ولتذكروا إنعام الله وإفضاله(5).
وفي هذا الخبر إشارة إلى نوع من الأخلاق الرفيعة لدى المسلمين حيث رفعوا من شأن الفلاحين المحرومين فأطعموهم من طعام ملوكهم الذي كان محرماً عليهم، فكأنهم بهذا يقولون لهم: تعالوا إلى هذا الدين العظيم الذي يرفع من شأنكم ويرد عليكم كرامتكم الإنسانية(6).
وأقام أبو عبيد بكسكر وبعث قوات لمطاردة الفرس وتأديب أهل القرى المجاورة الذين نقضوا العهد ومالأوا الفرس، ورجحت كفة المسلمين في المنطقة بعد هذا الانتصار جاء بعض الولاة يطلبون الصلح، وقدّم واليان منهم طعاماً خاصاً
__________
(1) التاريخ الإسلامي (10/334).
(2) كسكر: بالفتح ثم السكون وكاف أخرى. كورة بين الكوفة والبصرة.
(3) السقاطية: ناحية كسكر من أرض واسط.
(4) تاريخ الطبري (4/272).
(5) تاريخ الطبري (4/272).
(6) التاريخ الإسلامي (10/335).(1/384)
لأبي عبيد من فاخر أطعمتهم فقالوا: هذه كرامة أكرمناك بها، وقِرىً لك، قال أأكرمتم الجند وقريتموهم مثله؟ قالوا: لم يتيسر ونحن فاعلون، فقال أبو عبيد: فلا حاجة لنا فيما لا يسع الجند، وهابوا وخافوا على أنفسهم. فقال أبو عبيد: ألم أعلمكم أني لست آكلاً إلا ما يسع من معي ممّن أُصبتم بهم قالوا: لم يبق أحد إلا وقد أُتِيَ بشبعه من هذا في رحالهم وأفضل. فلما علم قبل منهم، وأكل وأرسل إلى قوم كانوا يأكلون معه أضيافاً عليه يدعوهم إلى الطعام، وقد أصابوا من نُزُل فارس ولم يروا أنهم أتوا أبا عبيد بشيء فظنّوا أنهم يُدعون إلى مثل ما كانوا يُدعون إليه من غليظ عيش أبي عبيد، وكرهوا ترك ما أتوا به من ذلك، فقالوا له: قل للأمير، إنّا
لا نشتهي شيئاً مع شيء أتتنا به الدهاقين، فأرسل إليهم: إنه طعام كثير من أطعمة الأعاجم، لتنظروا أين هو مما أتيتم به(1).
وهكذا أكل هذا الأمير الكريم المتواضع بعد ما ردّ طعام الأعاجم مرتين لما علم في الثالثة أنهم أطعموا جميع الجند مثلما أطعموه وأفضل ومع هذا لم يرض أن يأكل وحده حتى دعا أضيافه وألح عليهم، حتى بعد أن علم أنهم أصابوا من طعام الفرس وعدّد لهم أصناف هذا الطعام ليرغبهم في مشاركته، وهذا لون من الكرم الرفيع، والكرم من أهم عناصر الزعامة، وإن هذه المواقف ترشدنا إلى مقدار ما بلغ إليه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم، بإحسان من الرقي الأخلاقي والتقدم الحضاري(2).
2- معركة بارُوسْما سنة 13هـ :
__________
(1) تاريخ الطبري (4/272،273).
(2) التاريخ الإسلامي (10/336).(1/385)
ثم التقوا بمكان بين كَسْكَر والسَّقاطية يقال له بارُوسما، وعلى ميمنة نَرْسي وميسرته ابنا خاله، بندويه وبيرويه وكان رستم قد جهز الجيوش مع الجالينوس فلما بلغ أبا عبيد ذلك أعجل نرْسي بالقتال قبل وصولهم فاقتتلوا قتالاً شديداً فانهزمت الفرس وهرب نرسي، فبعث أبو عبيد، المثنى بن حارثة وسرايا أخر إلى متاخم تلك الناحية كنهر جور ونحوها ففتحها صلحاً وقهراً، وضربوا الجزية والخراج وغنموا الأموال الجزيلة ولله الحمد وكسروا الجالينوس الذي جاء لنصرة جابان وغنموا جيشه وأمواله وفرَّ هارباً إلى قومه حقيراً ذليلاً(1).
وهكذا تم القضاء على ثلاثة جيوش للفرس في مدة وجيزة وكان بإمكان الفرس أن يوحدوا هذه الجيوش وأن يأتوا المسلمين من أمامهم وخلفهم وعن يمينهم وشمالهم، لكثرة عددهم، ولكن الله أعمى بصائرهم وكانوا لشدة خوفهم من المسلمين يتمنى كل قائد أن يكفيه الآخر مهمة المواجهة وإضعاف المسلمين ليظفر بالنصر عليهم بعد ذلك، وقد أفاد المسلمين سرعة تحركهم وبطء حركة جيوش الأعداء(2).
ثالثاً: وقعة جسْر أبي عبيد 13هـ:
__________
(1) ترتيب وتهذيب البداية والنهاية د. محمد صامل السُّلمي ص89 .
(2) التاريخ الإسلامي (10/337).(1/386)
لما رجع الجالينوس هارباً مما لقي من المسلمين تذامرت الفرس بينهم واجتمعوا على رستم فأرسل جيشاً كثيفاً عليهم ذا الحاجب بهمن جاذويه، وأعطاه راية كسْرى وتسمى دِرَفْش كابيان (الراية العظمى) وكانت الفرس تتيمَّن بها، وكانت من جلود النمور وعرضها ثمانية أذرع في طول اثني عشر ذراعاً، فوصلوا إلى المسلمين وبينهم النهر وعليه جسر، فأرسلوا: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم. فقال المسلمون لأميرهم أبي عبيد: مرهم فليعبروا هم إلينا، فقال: ما هم بأجرأ على الموت منا. ثم اقتحم إليهم فاجتمعوا في مكان ضيق هنالك فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يعهد مثله، والمسلمون في نحو عشرة آلاف، وقد جاءت الفرس معهم بأفْيلَة كثيرة عليها الجلاجل لتذعر خيول المسلمين، فجعلوا كلما حملوا على المسلمين فرت خيولهم من الفيلة ومما تسمع من الجلاجل التي عليها ولا يثبت منها إلا القليل على قَسْر، وإذا حمل المسلمون عليهم لا تقدم خيولهم على الفِيلة، ورشقتهم الفرس بالنبل فنالوا منهم خلقاً كثيراً، وقتل المسلمون منهم مع ذلك ستة آلاف(1)، وقد جفلت خيول المسلمين من أصوات الأجراس المعلقة بالفيلة، وصار المسلمون لا يستطيعون الوصول إليهم والفيلة تجوس خلالهم، فترجل أبو عبيد وترجل الناس معه، وتصافحوا معهم بالسيوف، وفقد المسلمون خيلهم فأصبحوا رجَّالة يقاومون سلاح الفيلة والفرسان والمشاة من الفرس، إلى جانب الرماة الذي أضرُّوا بالمسلمين وهم يدفعون بخيولهم نحوهم فلا تندفع، فكان موقفاً صعباً أظهر المسلمون فيه من البسالة والتضحية ما يندر أن يوجد له مثيل في التاريخ، وصمدوا للفرس رغم تفوقهم عليهم في كل وسائل القتال، وكانت الفيلة أشد سلاح واجهه المسلمون فقد كانت تهدُّ صفوفهم، فناداهم أبو عبيد بأن يجتمعوا على الفيلة ويقطعوا أحزمتها ويقلبوا عنها أهلها، وبدأ هو بالفيل الأبيض فتعلق بحزامه وقطعه ووقع الذين عليه،
__________
(1) ترتيب وتهذيب البداية والنهاية ص90 .(1/387)
وفعل المسلمون مثل ذلك، فما تركوا فيلاً إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه، ولكن الفيلة استمرت في الهجوم لأنها كانت مدربة، فرأى أبو عبيد أن يتخلص منها، فسأل عن مقاتلها، فقيل له إنها إذا قطعت مشافرها تموت، فهجم على الفيل الأبيض، ونفح خرطومه بالسيف فأتقاه، الفيل بيده وأطاح به ثم داسه بأقدامه، وأخذ الراية أخوه الحكم بن مسعود فقاتل الفيل حتى أزاحه عن أبي عبيد ولكن وقع له ما وقع لأبي عبيد، فقد أراد الحكم قتله، فألقاه بيده، ثم داسه بأقدامه، وانتقلت راية المسلمين إلى الذين سماهم أبو عبيد، ومنهم أبناؤه الثلاثة وهب ومالك وجبر، إلى أن قتلوا جميعاً فانتقلت القيادة للمثنى بن حارثة مع آخر النهار، وكان بعض المسلمين قد عبروا الجسر منسحبين، واستمر الانسحاب من الميدان، فلما رأى ذلك عبد الله بن مرثد الثقفي بادر وقطع الجسر، وقال: موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا، وحاول منع الناس من العبور فأتوا به إلى المثنى فضربه من شدة غضبه من صنيعه وقال: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ليقاتلوا، وقد كان اجتهاده في غير موضعه لأن قطع الجسر أدى إلى وقوع بعض المسلمين في النهر وغرقوا بسبب شدة الضغط من الفرس، فكانت الفكرة المناسبة أن يحافظ المسلمون على بقيتهم بالانسحاب إن استطاعوا ذلك، وهذا هو ما قام به المثنى حيث أمر بعقد الجسر ووقف هو ومن معه من أبطال المسلمين فحموا ظهور المسلمين حتى عبروا وقال المثنى: يا أيها الناس إنا دونكم فاعبروا على هينتكم – يعني على مهلكم – ولا تدهشوا فإنا لن نزايل حتى نراكم من ذلك الجانب، ولا تغرقوا أنفسكم، وكان المثنى ومن معه من الأبطال من أمثال عاصم بن عمرو والكلج الضَّبِّي هم آخر من عبر، وقد كان بَهْمَن جاذويه حاول أن يجهز على بقية المسلمين ولكنه لم يستطع وفَوَّتَ عليه هذه الفرصة المثنى حينما تولى قيادة هذا الانسحاب المنظم ولا شك أن هؤلاء الأبطال الذي حموا ظهور المسلمين حتى انسحبوا قد(1/388)
بذلوا جهوداً جبارة في الصمود أمام الأعداء لقد انسحب خمسة آلاف من المسلمين وخلفوا وراءهم أربعة آلاف من الشهداء منهم عدد كبير من الصحابة رضي الله عنهم خاصة الذين رافقوا أبا عبيد من المدينة، وقد عاد ألفان ممن انسحبوا إلى المدينة وغيرها ولم يبق مع المثنى غير ثلاثة آلاف، أما الفرس فقد قتل منهم ستة آلاف بالرغم من الوضع السيئ الذي كان فيه المسلمون مما يدل على بسالتهم وقوة احتمالهم(1).
أهم الدروس والعبر والفوائد من معركة جسر أبي عبيد:
أ- رؤية صادقة:
كانت دومة امرأة أبي عبيد قد رأت رؤيا أن رجلاً نزل من السماء بإناء فيه شراب فشرب أبو عبيد وابنه جبر في ناس من أهله فأخبرت بها أبا عبيد فقال: هذه الشهادة، وعهد أبو عبيد إلى الناس فقال: إن قُتلت فعلى الناس فلان حتى عد سبعة من ثقيف من أقاربه الذين ذكرتهم امرأته في الرؤيا، فإن قتل آخرهم فالقيادة للمثنى بن حارثة(2).
ب- غلطتان سببتا الهزيمة:
مخالفة أبي عبيد لمن معه من أركان الجيش ووجوهه، لقد نهوه عن العبور فلم ينته، واستقل برأيه، لقد عبر أبو عبيد الجسر بشجاعة وإقدام وحب للشهادة، لكنه لم يحسب للمعركة حسابها الكامل، ولم يدرس أرض المعركة بشكل كاف(3)
__________
(1) تاريخ الطبري (4/279) التاريخ الإسلامي (10/341).
(2) تاريخ الطبري (4/ 277).
(3) عوامل النصر والهزيمة ص55.(1/389)
، ولقد أفلت من يد أبي عبيد عنصر الأمن بانحصاره في مكان ضيق المخرج وكأنه وضع جيشه في مصيدة دون عذر مقبول، وأفلت من يده عنصر التعاون بين الأسلحة المختلفة بخروج سلاح الفرسان من المعركة، فصارت قواته مشاة دون فرسان وكان عليهم أن يواجهوا مشاة الفرس وفرسانهم وأفيالهم، وفقدت المعركة كفاءة القيادة حتى تولاها المثنى أخيراً بعد سبعة سبقوه، وكما فقد ذلك فقد أيضاً عنصر الحشد بسبب ضيق المكان إذ لا فائدة من أعداد الجند إذا لم تسعفها طوبوغرافية الأرض، كما أنه فقد حسن اختيار الهدف وما يتفرع عنه من اختيار الأرض واختيار طريق الوصول إليه وطريق ضربه وما إلى ذلك، فوّته على نفسه، بل أتاح لعدوه أن يفرضه عليه(1).
والذي زاد غلطة أبي عبيدة فداحة، غلطة زادت الغلطة الأولى أثراً وخسارة وفاجعة، إنها غلطة عبد الله بن مرثد الثَّقفي عندما قطع الجسر، كي لا يرتد أحد من المسلمين ولولا الله ثم ثبات المثنى بن حارثة ومن معه لهلك المسلمون عن آخرهم(2).
ت- قيمة القيادة الميدانية:
إن معركة الجسر أثبتت أهمية القيادة الميدانية المتمثلة في المثنى وأركان قيادته الذين معه، فعندما تنزل المحن بالجيوش يخرج القادة الذين يستطيعون أن يخرجوا بجيوشهم من تلك المحن(3)، فقد تولى المُثنى مع مساعديه من الأبطال حماية الجيش الإسلامي، فكان آخر من عبر الجسر، وهذا لون رفيع من ألوان التضحية والفداء(4).
ث- المثنى يقوم برفع الروح المعنوية لجيشه:
__________
(1) الطريق إلى المدائن ص414.
(2) عوامل النصر والهزيمة ص55 .
(3) الطريق إلى المدائن ص414 .
(4) التاريخ الإسلامي (10/343).(1/390)
انسحب المثنى بأربعة آلاف جندي من أصل عشرة آلاف، وقام بمطاردته قائدان فارسيان هما: (جابان)و(مردنشاه) باتجاه أليس (السماواة)، وجرهما المثنى وراءه مسافة حتى توغلا ولم يشأ أن يبدأ حملة مضادة إلا بعد مرحلة من الانسحاب وعند بلوغه السماواة شن هجوماً صاعقاً بالخيالة التي قاسدها بنفسه، فأنزل بهما هزيمة عجيبة، ويبدو أن هول المفاجأة وعدم تصورهم أن إنساناً قد أبيد معظم جيشه، يمكن أن يكون له مثل هذا العزم الذي يفل الحديد، ومن شدة ذهول القطعات الفارسية أنزلت بها خسائر كبيرة بحيث تمكن المثنى من أسر القائدين جابان ومردنشاه وأعدمهما المثنى، فكان لهذا النصر أثر كبير في تقوية معنويات البقية الباقية من الجيش، ورفعت الموقعة معنويات سكان المنطقة، ورفعت قيمة المثنى في نظر جنوده والقبائل المجاورة(1).
ج- كلما وقع المسلمون الصادقون في مأزق حرج قيض الله لهم الأسباب التي تخرجهم من ذلك الحرج:
بقي المثنى في العراق في عدد قليل لا يكفي حتى للاحتفاظ بالممالك التي استولى عليها المسلمون، ولقد كان بإمكان الفرس أن يلاحقوا بقية الجيش الإسلامي حتى يخرجوهم من العراق، وسيجدون ممن بقي على الوراء لهم من العرب من يتولى مطاردتهم في الصحراء ولكن الله تعالى مع هذه الفئة المؤمنة ومع المؤمنين في كل مكان، فكلما وقع المسلمون الصادقون في مأزق حرج يسر الله لهم الأسباب للخروج منه، فقد قيض المولى عز وجل أمراً صدّهم عن المسلمين حيث انقسموا إلى قسمين قسم مع رستم وقسم مع فيرزان، وأتى الخبر إلى قائد الفرس بهمن جاذويه فأسرع بالعودة إلى المدائن وكان ممن يُنظر إليه في أمور سياستهم وهكذا كفى الله المؤمنين القتال وأنقذهم من هذا المأزق الحرج وأخذوا فرصة كافية لتلقِّي الجيوش القادمة من دار الخلافة حتى تقوَّوا وأصبح لديهم جيش كبير(2).
__________
(1) الحرب النفسية د. أحمد نوفل (2/167).
(2) التاريخ الإسلامي (10/345،346).(1/391)
ح- موقف عمر رضي الله عنه عندما تلقى خبر الهزيمة:
بعث المثنى بن حارثة بأخبار المعركة إلى الخليفة عمر رضي الله عنه مع عبد الله بن زيد الأنصاري فقدم على عمر وهو على المنبر فقال: ما عندك يا عبد الله بن زيد؟ قال أتاك الخبر يا أمير المؤمنين، فلما انتهى إليه أخبره خبر الناس سراً(1)، فما سمع لرجل حضر أمراً تحدث عنه أثبت خبراً منه(2)، وقد تأثر عمر ومن حوله من الصحابة لمصاب الجيش الإسلامي في هذه المعركة وقال: اللهم كل مسلم في حلِّ مني، أنا فئة كل مسلم، من لقي العدو فَفُظِع بشيء من أمره فأنا له فئة، يرحم الله أبا عبيد لو كان انحاز إليَّ لكنت له فئة(3).
وهذا الموقف يدل على أن عمر وهو الرجل القوي الحازم يلين ويواسي في مقام الرحمة والعطف(4).
رابعاً: وقعة البُوَيب 13هـ:
قام الفاروق بحشد الناس واستنفارهم وبذلك أرسل الإمدادات إلى جيش الإسلام في العراق فكان منهم جرير بن عبد الله البجلي في قومه وحنظلة بن الربيع، وأرسل هلال بن علقمة مع طائفة الرباب ومجموعة من قبائل خثعم بقيادة عبد الله بن ذي السهمين فأرسلهما أيضاً إلى العراق لمد جند الإسلام، وجاء كل من عمر بن ربعي بن حنظلة في قومه وربعي بن عامر بن خالد إلى الخليفة فأمد بهم كذلك جند العراق وهكذا أخذت أرتال الدعم والإمداد تسير نحو العراق بدون انقطاع وفي الوقت ذاته أرسل المثنى بن حارثة الشيباني إلى من في العراق من أمراء المسلمين يستحثهم فبعثوا إليه بالإمداد حتى كثر جيشه(5).
__________
(1) الأنصار في العصر الراشدي ص217 .
(2) نفس المصدر ص218 .
(3) تاريخ الطبري (4/279).
(4) التاريخ الإسلامي (10/347).
(5) العمليات التعرضية الدفاعية، نهاد عباس ص115 .(1/392)
ولما علم قادة الفرس باجتماع جيش كبير عند المثنى بعثوا مهران الهمذاني بجيش من الفرسان لمواجهة جيش المثنى، ولما علم المثنى بذلك كتب إلى من يصل إليه من الأمداد أن يوافوه بالبويب وعلى رأس هؤلاء جرير بن عبد الله حيث كتب إليه المثنى يقول: إنا جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا فعجلوا اللِّحاق بنا وموعدكم البويب، فاجتمعوا بالبويب وليس بينهم وبين جيش الفرس إلا النهر، فأقام المثنى حتى كتب له مهران: إما أن تعبروا إلينا أو أن نعبر إليكم، فقال المثنى: اعبروا، فعبر مهران بجيشه، وكان ذلك في شهر رمضان من العام الثالث عشر للهجرة، فقام المثنى خطيباً وقال للمسلمين، إنكم صوام والصوم مَرَقَّة ومضعفة وإني أرى من الرأي أن تفطروا ثم تقوَّوا بالطعام على قتال عدوكم، قالوا: نعم فأفطروا، وكان المثنى قد عبأ جيشه وسار فيهم يحثهم على القتال، ويقول لأهل كل راية: إني لأرجو أن لا تُؤتَى العرب من قبلكم، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم قال الرواة: وأنصفهم المثنى في القول والفعل وخلط الناس في المكروه والمحبوب، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولاً ولا عملاً(1). وهذا دليل على حسن قيادته وسعة حكمته، حتى أصبح أفراد الجيش مطيعين له عن حب وقناعة، ولما رضي المثنى عن استعداد جيشه قال: إني مكبِّر ثلاثاً فتهيأوا ثم احملوا مع الرابعة، فلما كبر أول تكبيرة أعجلهم أهل فارس وعاجلوهم فخالطوهم مع أول تكبيرة، وليس من عادة الفرس هذا الاندفاع ولكن لعل ما حصلوا عليه في معركة الجسر من إصابة المسلمين خفف مما وقر في نفوسهم من هيبة المسلمين والرعب منهم، وهكذا بدأ الفرس بالهجوم وقد صمد لهم المسلمون واستمروا معهم في صراع شديد، والمثنى إلى جانب اشتراكه في القتال يراقب جيشه بدقة حتى إنه رأى خللاً في بعض صفوفه فأرسل إليهم رجلاً وقال: إن الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول: لا تفضحوا
__________
(1) تاريخ الطبري (4/287).(1/393)
المسلمين اليوم: فقالوا: نعم واعتدلوا(1)، فلما طال القتال واشتد قال المثنى لأنس بن هلال: يا أنس إذا رأيتني قد حملت على مهران فاحمل معي، وقال لابن مردي الفهر مثل ذلك فأجابه، ثم حمل المثنى على مهران، فأزاله حتى أدخله في ميمنته واستمر المثنى يضغط على عدوه، فخالطوهم، واجتمع القلبان، وارتفع الغبار، والمجنبات تقتتل لا يستطيعون أن يفرغوا لنصر أميرهم لا المشركون ولا المسلمون، وقال مسعود بن حارثة قائد مشاة المسلمين لجنده: إن رأيتمونا أُصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف، إلزموا مصافكم وأغنوا غناء من يليكم(2)، وأصيب مسعود وقواد من المسلمين، ورأى مسعود تضعضع من معه لإصابته وهو ضعيف قد ثقل من الجراح. فقال: يا معسكر بكر بن وائل ارفعوا راياتكم رفعكم الله، لا يهولنكم مصرعي. ويدرك المثنى مصرع أخيه فيخاطب الناس بقوله: يا معشر المسلمين
__________
(1) تاريخ الطبري (4/288).
(2) تاريخ الطبري (4/288).(1/394)
لا يرعكم مصرع أخي فإن مصارع خياركم هكذا، وقاتل أنس بن هلال النميري حتى أصيب فحمله المثنى وحمل أخاه مسعوداً وضمهما إليه، والقتال محتدم على طول الجبهة، ولكن القلب بدأ ينبعج في غير صالح الفرس، وأوجع قلب المسلمين في قلب المجوس، وقد دق فيه المثنى إسفينه، وكان فيمن تقدم في القلب جرير بن عبد الله ومعه بجير وابن الهوبر والمنذر بن حسان فيمن معهما من ضبة، وقاتل قرُط بن جماح العبدي حتى تكسرت في يده رماح وتكسرت أسياف، وقتل شهر براز من دهاقين الفرس وقائد فرسانهم في المعركة. واستمر القتال حتى أفنى المسلمون قلب المشركين وأوغلوا فيه(1)، ووقف المثنى عند ارتفاع الغبار حتى أسفر الغبار، وقد فني قلب المشركين وقُتل قائدهم مهران والمجنَّبات قد هز بعضها بعضاً، فلما رآه المسلمون وقد أزال القلب وأفنى أهله قويت مجنباتهم على المشركين، وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم، وجعل المثنى والمسلمون في القلب يدعون لهم بالنصر، وأرسل إليهم من يقول لهم: عاداتكم في أمثالكم، انصروا الله ينصركم، حتى هزموا القوم، فسابقهم المثنى إلى الجسر فسبقهم وقطعه، وأخذ الأعاجم، فافترقوا بشاطيء الفرات، واعتورتهم خيول المسلمين حتى قتلوهم، ثم جعلوا جثثهم أكواماً من كثرتها، حتى ذكر بعض الرواة أن قتلاهم بلغوا مائة ألف(2).
1- مؤتمر حربي بعد المعركة:
__________
(1) الطريق إلى المدائن ص433،434 ، الطبري (4/289).
(2) التاريخ الإسلامي (10/349)، تاريخ الطبري (4/289).(1/395)
سكن القتال ونظر المثنى والمسلمون إلى عشرات الألوف من الجثث وقد غطت الأرض دماؤها وأشلاؤها، ثم جلس مع الجيش يحدثهم ويحدثونه ويسألهم عما فعلوا، وكلما جاء رجل قال له المثنى: أخبرني عنك فيروون له أحاديث تصور لقطات من المعركة وقد قال المثنى: قد قاتلت العرب والعجم في الجاهلية والإسلام، والله لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشد عليّ من ألف من العرب، ولمائة اليوم من العرب أشد علي من ألف من العجم، إن الله أذهب مصدوقتهم، ووهّن كيدهم، فلا يروعنَّكم زُهاءُ ترونه – يعني هيئتهم – ولا سوادُ – يعني كثرتهم – ولا قسيُّ فُجّ – يعني قد باتت أوتارها – ولا ينالُ طوال إذا أُعجلوا عنها أو فقدوها كالبهائم أينما وجهتموها اتجهت(1).
وإن هذا القول في ذلك الوقت مناسب تماماً حيث عرض المثنى خبرته الجيدة في حربه مع الفرس في الوقت الذي دخل في حروب العراق أعداد كبيرة من المسلمين يشاركون في حرب الفرس لأول مرة، فجمع المثنى لهم بذلك بين المشاهدة في معركة من المعارك وبين وصف تجاربه في كل المعارك التي خاضها معهم قبل ذلك(2).
2- ندم المثنى في قطعه خط الرجعة على الفرس:
وقد ندم المثنى على قطعه خط الرجعة على الفرس، وأخذه بالجسر من خلفهم فقال: لقد عجزت عجزة وقى الله شرها لمسابقتي إياهم إلى الجسر، وقطعه حتى أُحرجهم فإني عائد، فلا تعودوا ولا تقتدوا بي أيها الناس، فإنها كانت مني زلة،
__________
(1) تاريخ الطبري (4/ 290).
(2) التاريخ الإسلامي (10/ 352).(1/396)
لا ينبغي إحراج أحد إلا من لا يقوى على امتناع(1)، فقد أبان المثنى في آخر هذا الكلام وجه الخطأ في هذه الخطة حيث قد لاحظ ببصيرته الحربية النافذة أن في منع الأعداء من الفرار إلجاءاً لهم إلى الاستماتة في القتال دفاعاً عن أنفسهم، فإنه حينما يشعر الإنسان بأنه مقتول يبذل كل طاقته في الدفاع عن نفسه، وهذا يكلف الجيش المقابل جهوداً ضخمة في محاولة القضاء عليه، ولكن الله تعالى وقى المسلمين شر هذه الخطة كما ذكر المثنى حيث ثبَّت المسلمين فكانت قوتهم أعلى بكثير من احتمال الأعداء وطاقتهم وألقى الله تعالى الرعب في قلوب الأعداء حتى فقدوا الطاقة والمقدرة على الدفاع عن النفس(2)، وإن في اعتراف المثنى بهذا الخطأ، وهو الرجل الذي بلغ في هذه المعركة أوج النصر والشهرة لدليلاً على قوة إيمانه، وتجرده من حظ النفس، وإيثاره مصلحة الجماعة وهكذا يكون العظماء(3).
3- علم النفس العسكري عند المثنى:
إلى جانب ما ظهر لنا من عبقريات المثنى فقد شملت عبقريته عمقاً أخر يتصل بالحرب وهو علم النفس العسكري والتعامل مع إخوان الجهاد وزملاء السلاح، إنا لنجد روحاً من المحبة فياضة تربط المثنى بمن معه تشير إلى جانب عاطفي نحوهم ويبرز هذا في أحاديثه لهم وفي كلامهم عنه، نرى هذا في طوافه بفرسه الشموس على راياتهم راية راية، يحمسهم ويعطيهم توجيهاته ويحرك مشاعرهم بأحسن
__________
(1) تاريخ الطبري (4/ 291).
(2) التاريخ الإسلامي (10/ 350).
(3) نفس المصدر (10/ 355).(1/397)
ما فيهم ويقول لهم: والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم(1)، فيجيبونه بمثل ذلك. يقول الرواة: فلم يستطع أحد أن يعيب له قولاً ولا عملاً(2) وعندما رأى صفوف العجم تهجم وقد علت صيحاتهم، يدرك ما لهذا من أثر في قتال الالتحام، لا سيما وذكرى معركة جسر أبي عبيد ماثلة في الأذهان فقال كلمة هادئة تساعد على الثبات وتدخل على النفوس لتبطل أثر تلك الهيعات فقال في هدوء يدعو إلى الإعجاب: إن الذي تسمعون فشل فألزموا الصمت وائتمروا همساً(3)، وعندما أصيب أخوه مسعود إصابة قاتلة قال مقالة تستحق أن تكتب بماء الذهب، وبحروف من نور: يا معشر المسلمين لا يرعكم مصرع أخي، فإن مصارع خياركم هكذا(4)، ولا يقل عن هذا قول أخيه نفسه وهو يجود بالنفس مستبشراً بالشهادة: ارفعوا راياتكم رفعكم الله، لا يهولنكم مصرعي، وعندما قام المثنى بالصلاة على أخيه وبعض الشهداء قال: والله إنه ليهون على وجدي أن شهدوا البويب، أقدموا وصبروا، ولم يجزعوا، ولم ينكلوا، وإن كان في الشهادة كفارة لتجوُّز الذنوب(5) وكما كان المثنى محباً لجنده عطوفاً عليهم متفقداً لكافة أحوالهم فقد كان في نفس الوقت حازماً حاسماً آخذاً بما يطلق عليه العسكريون المحدثون (الضبط والربط) (6)، فعندما أبصر رجلاً في الصف يستوفز(7) ويستنتل(8)، من الصف فقال المثنى: ما بال هذا قالوا: هو ممن فر من الزحف يوم الجسر، وهو يريد أن يستقتل، فقرعه بالرمح، وقال: لا أبالك: الزم موقفك فإذا أتاك قرنك فأغنه عن صاحبك ولا تستقتل، قال: إني بذلك لجدير، فاستقر ولزم الصف(9)، وكما كان المثنى متعاطفاً مع جيشه فلقد كان
__________
(1) تاريخ الطبري (4/ 287) الطريق إلى المدائن ص446.
(2) تاريخ الطبري (4/ 287).
(3) الطريق إلى المدائن ص446.
(4) الطريق إلى المدائن ص446.
(5) تاريخ الطبري (4/ 291).
(6) الطريق إلى المدائن ص447.
(7) استوفز: تهيأ.
(8) يستنتل: يتقدم.
(9) تاريخ الطبري (5/ 283).(1/398)
الشعور متبادلاً تماماً، ونرى ذلك جلياً في شعر المعركة الذي جرى على ألسنة جنودها فهذا الأعور الشني يقول:
هاجت لأعور دار الحي أحزاناً
وقد أرانا بها والشمل مجتمع
أزمان سار المثنى بالخيول لهم
سما لمهران والجيش الذي معه
ما أن رأينا أميراً بالعراق مضى
إن المثنى الأمير القرم لا كذب
... واستبدلت بعد عبد القيس حَفّانا
إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا
فَقَتَّلَ الزحف من فُرْس وجِيلانا(1)
حتى أبادهمُ مَثْنى ووحدانا
مثل المُثَنَّى الذي من آل شيبانا
في الحرب أشجع من ليث بخفَّانا(2)
فصاحب هذه الأبيات يفضل المثنى صراحة على خالد بن الوليد وعلي أبي عبيد الثقفي، ولقد كان الأعور من عبد قيس فهو لم يكن من بني شيبان ولا من بكر بن وائل حتى يقال إنَّه متعصب لقومه(3).
إن المثنى بن حارثة كان قائداً عميقاً في علم النفس العسكري قبل أن يخط أي أستاذ متخصص حرفاً في هذا العلم بقرون(4).
4- موقف لنساء المجاهدين:
إن من المواقف التي ينبغي الإشارة إليها ما كان من نساء المسلمين لما أرسل إليهم قادة المسلمين بعض ما أصابوا من الطعام، وقد أرسلوه مع أحد زعماء النصارى من العرب وهو عمرو بن عبد المسيح بن بُقيلة في رجال معه، فلما رأتهم النساء تصايحن وحسبنها غارة فقمن دون الصبيان بالحجارة والعُمد، فقال: عمرو بن عبد المسيح: هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش، وبشروهن بالفتح(5).
__________
(1) جيلان: اسم لبلاد كثيرة وراء طبرستان.
(2) الطريق إلى المدائن ص440، وبعضها (تاريخ الطبري (4/ 293) ).
(3) الطريق إلى المدائن ص447.
(4) الطريق إلى المدائن ص448.
(5) التاريخ الإسلامي (10/ 352)، تاريخ الطبري (4/ 292).(1/399)
وإن هذا الموقف ليدل على حسن التربية الإسلامية وإبراز شخصية المسلم حتى لدى النساء، فإنهن قد تدربن على حماية الموقف فيما إذا خلا من الرجال، هذا وقد أطلق هذا النصر الحاسم يد المسلمين في العراق فيما بين النهرين وأرسل المثنى قواده يُخضعون البلاد لسلطان المسلمين، ويتقوَّون بما يفيء الله عليهم من الغنائم على جهاد عدوهم(1).
5- مطاردة فلول المنهزمين:
لم يقعد إغراء النصر بالمثنى عن غايته، فقد ندب الناس أثر المعركة وراء الجيش المنهزم وسألهم أن يتبعوهم إلى السيب فخرج المسلمون خلف فلول المنهزمين وكان من ضمنهم من حضر معركة جسر أبي عبيد، فأصابوا غنماً كثيراً وأغاروا حتى بلغوا ساباط ثم انكفأوا راجعين إلى المثنى، وتبدو قيمة معركة البويب، لا في استصلاح الأثر النفسي الذي كان بعد هزيمة الجسر، بل إن المسلمين أضحوا قادرين على السواد كله، فقد كانوا يحاربون من قبل لا يجتازون الفرات ثم حاربوا فيما بين الفرات ودجلة، أما بعد البويب فقد استمكنوا من كل هذه المنطقة التي تمتد بين الفرات ودجلة: فمخروها لا يخافون كيداً ولا يلقون فيها مانعاً(2)، وكانت غزوة البويب نظير اليرموك بالشام(3).
خامساً: عمليات الأسواق:
استقام الأمر للمسلمين بعد معركة البويب، وانقاد لهم السواد وأخذ المثنى يجول هنا وهناك: وزّع القواد وأذكى المسالح، وأغار على تجمعات الفرس والعرب وكان من هذه الغارات غارته على الخنافس، وهي سوق يتوافى إليها الناس، ويجتمع بها ربيعة ومضر يخفرونهم، فأغار عليها وانتسف السوق وما فيها وسلب الخضراء(4)، ثم سار مسرعاً حتى طرق دهاقين الأنبار في أول النهار من نفس اليوم وهو يقول:
صبحنا بالخنافس جمع بكر
بفتيان الوغى من كل حيٍّ
أبحنا دارهم والخيل تُرْدي
__________
(1) التاريخ الإسلامي (10/ 352).
(2) تاريخ الطبري (4/ 293).
(3) ترتيب وتهذيب البداية والنهاية خلافة عمر ص93.
(4) تاريخ الطبري (4/ 296).(1/400)
نسفنا سوقهم والخيل رودُ ... وحيا من قضاعة غير مِيلِ
تباري في الحوادت كل جيل
بكل سَمْيْدَع سامي التليل
من التطواف والشر البخيل(1)
واستعان بدهاقين الأنبار وأخذ منهم أدلاء ورتب خطة لكسح سوق بغداد، وعبر دجلة وطلع على بغداد وسوقها مع أول ضوء النهار، فوضع فيهم السيف وقتل منهم وأخذ أصحابه ما شاءوا، وكان أمر المثنى لهم: لا تأخذوا إلا الذهب والفضة،
ولا تأخذوا من المتاع لا ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته(2)، وهرب أهل الأسواق وملأ المسلمون أيديهم من الذهب والفضة والحُرُّ من كل شيء. ثم كروا راجعين حتى إذا كانوا بنهر السبلحين(3)، على حوالي خمسة وثلاثين كيلو متراً من بغداد نزل وقال: أيها الناس انزلوا وقضّوا أوطاركم وتأهبوا للسير واحمدوا الله وسلوه العافية ثم انكشفوا قبيضاً(4)، ففعلوا، لقد قطعوا نحواً من ستين كيلو متراً على ظهور الخيل تخللها غارة، كل ذلك في مرحلة واحدة منذ قاموا في آخر الليل إلى بغداد حتى عادوا، ورأى المثنى أنهم في حاجة إلى استراحة وكذلك خيلهم وكان المسلمون يدركون عمق ما أوغلوا وبينما المثنى يمر بينهم إذ سمع همساً. قال قائل منهم: ما أسرع القوم في طلبنا. فقال المثنى: تناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان .. انظروا في الأمور وقدروها (احسبوها) ثم تكلموا .. إنه لم يبلغ التدبر مدينتهم بعد ولو بلغهم لحال الرعب بينهم وبين طلبكم. إن للغارات روعات تنتشر عليها يوماً إلى الليل، ولو طلبكم المحامون من رأي العين ما أدركوكم وأنتم على الجياد الغراب (الخيل الأصلية) وهم على المقاريف(5)، البِطاء حتى تنتهوا إلى عسكركم وجماعتكم: ولو أدركوكم
__________
(1) المراد من البيت أنهم شنوا الغارة على مهل.
(2) تاريخ الطبري (4/ 296).
(3) المراد من البيت أنهم شنوا الغارة على مهل قال أحمد كمال أعتقد نهر صرصر الطريق إلى المدائن ص255.
(4) القبيض: الإسراع.
(5) المقرف: الذي دخل في الفساد والعيث.(1/401)
لقاتلتهم لاثنتين، التماس الأجر، ورجاء النصر، فثقوا بالله وأحسنوا به الظن، فقد نصركم الله في مواطن كثيرة وهم أعدُّ منكم (أكثر عدداً) وسأخبركم عني وعن انكماشي(1)، والذي أريد بذلك. إن خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أوصانا أن نقلل العْرجة (الإقامة) ونسرع الكرة في الغارات، ونسرع في غير ذلك الأوبة (الإياب(2)).
هذا فهم المثنى للحروب والقتال، فقد كان يتحرك على حساب محسوب وتخطيط مرسوم وإيمان عميق، فكل معركة تضيف إليه دراية وتجربة وعلماً ومعرفة، وهي تكشف لنا عن عبقرية الصديق الحربية النادرة التي تتلمذ المثنى عليها أفاد منها رغم أنه لم يلقه إلا أقل من القليل(3).
نهض المثنى وأمرهم بالركوب، وأقبل بهم ومعهم أدلاؤهم يقطعون بهم الصحارى والأنهار حتى انتهى بهم إلى الأنبار، فاستقبلهم الدهاقين بالإكرام واستبشروا بسلامته، وكان وعدهم الإحسان إليهم إذا استقام لهم من أمرهم ما يحبون وقال أحدهم:
وللمثنى بالعَال معركة
كتيبة أفزعت بوقعتها
وشُجِّع المسلمون إذا حَذروا
سَهَّل نهج السيل فاقتفروا
... شاهدها من قبيلة بَشَرُ
كسرى وكاد الإيوان ينفطر
وفي صروف التجارب العِبَرُ
آثاره والأمور تقتفر(4)
ووسع المثنى غارته على شمال العرق حتى شمل من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، فأرسل غارته على الكباث وكان أهله كلهم من بني تغلب، فأخلوه وارفضّوا عنه، وتبعهم المسلمون يركبون آثارهم، وأدركوا أخرياتهم، وقتلوا وأكثروا، وأرسل غارة على أحياء من تغلب والنمر بصفين(5).
__________
(1) الانكماش: الجد في الأمر والسرعة في طلبه.
(2) الطريق إلى المدائن ص457.
(3) حركة الفتح الإسلامي، شكري فيصل ص78، تاريخ الطبري (4/ 299).
(4) الطريق إلى المدائن ص457.
(5) حركة الفتح الإسلامي، شكري فيصل ص78، تاريخ الطبري (4/ 299).(1/402)
وكان المثنى بن حارثة سيد هذه الغارات كلها بعد البويب، وكان على مقدمته حذيفة بن محصن الغلفاني وعلى مجنبَّته النعمان بن عوف بن النعمان ومطر الشيبانيان وقد حدث في إحدى غارات المثنى أن أدركت قواته مجموعات من الأعداء بتكريت يخوضون الماء، فأصابوا ما شاءوا من النعم، حتى أصاب الرجل خمساً من النعم، وخمساً من السبي، وخمس المال، وجاء به حتى ينزل على الناس بالأنبار. وعاد المثنى إلى الأنبار فبعث فرات بن حيان وعتيبى بن النهاس إلى صفين وأمرهما بالغارة على أحياء العرب من تغلب والنمر – ثم استخلف على الأنبار والتي اتخذها قاعدة متقدمة – عمرو بن أبي سلمى الهجيمي واتبعهما. فلما اقتربوا من صفين افترق المثنى عن فرات وعتيبة، وفر أهل صفين فعبروا الفرات إلى الجزيرة وتحصنوا بها، وكانوا من قبائل النمر وتغلب متساندين فاتبعهم فرات وعتيبة حتى رموا بطائفة منهم في الماء، فكانوا ينادونهم (الغرق الغرق) وكان عتيبة وفرات يحضان الناس ويحرضانهم ويقولان (تغريق بتحريق) يذكرانهم يوماً من أيام الجاهلية أحرقوا فيه قوماً من بكر بن وائل في غيضة من الغياض، ثم رجعوا إلى المثنى وقد أغرقوهم في الفرات، وبلغ خبر ذلك إلى عمر بالمدينة، فقد كانت له عيون في كل جيش تكتب له، فطلب فرأت بن حيان وعتيبة إلى المدينة وأجرى معهما تحقيقاً في هذا، فأخبراه أنهما قالا ذلك على وجه أنه مَثَلٌ ولم يفعلاه على وجه طلب ثأر الجاهلية، فاستحلفهما فحلفا أنهما ما أرادا بذلك إلا المثل وإعزاز الإسلام، فصدقهما عمر وردهما إلى العراق فرجعا إليه مع حملة سعد بن أبي وقاص(1)، فقد كان الفاروق حريصاً على صيانة أخلاق الرعية وحياطتها من تسرب الفساد إليها(2).
__________
(1) الطريق إلى المدائن 458، تاريخ الطبري (4/ 300).
(2) الخلفاء الراشدون للنجار ص132.(1/403)
لقد استغل المثنى النصر الرائع الذي أحرزه المسلمون يوم البويب وشن غارات منظمة على أسواق شما ل العراق وطبق مبدأ مطاردة الأعداء وقد استطاع بعد توفيق الله ثم بما أعطاه الله من صفات القائد العسكري أن ينفذه في قوة وعمق بلغ حوالي أربعمائة كيلو متراً أو يزيد شمالاً، خلاف ما تبحبحوا به شرقاً وجنوباً وغرباً على امتداد ذلك الخط(1)، وقد طبق المثنى استراتيجية وتكتيكات الحرب الخاطفة في عملياته تلك،
ولا شك أن هذه العمليات قد وجهت إلى السلطة الفارسية الحاكمة في المدائن أكبر إهانة أمام شعبها، وأضعفت الثقة في قدرتها على القيام بالدفاع ضد هجمات قوم كان الفرس حتى وقتها ينظرون إليهم نظرة ملؤها الإهانة والازدراء(2).
سادساً: رد فعل الفرس:
لم تكن أحداث كالتي وقعت لتمر دون أن يكون لها رد فعلٍ في الدوائر الحاكمة في فارس واجتمع ساداتهم وقالوا لرستم ولفيرزان: أين يذهب بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس وأطمعتما فيهم عدوهم. والله ما جر هذا الوهن علينا غيركم
يا معشر القواد، لقد فرقتم بين أهل فارس وثبطتموهم عن عدوهم، إنه لم يبلغ من خطركما أن يقركما فارس على هذا الرأي وأن تعرضها للهلكة، ما تنظرون والله إلا أن ينزل بنا ونهلك. ما بعد بغداد وساباط وتكريت إلا المدائن والله لتجتمعان أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت، والله لولا أن في قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة، ولئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك وقد اشتفينا منكم(3).
__________
(1) الطريق إلى المدائن 461.
(2) انظر الطريق إلى المدائن ص467.
(3) تاريخ الطبري (4/300).(1/404)
وبعد ذلك ذهب رستم وفيرزان إلى بوران فقالا لها: اكتبي إلى نساء كسرى وسراريه ونساء آل كسرى، وسراريهم، ففعلت وأخرجت لهم ذلك في كتاب، فأرسلوا في طلبهن فأتوا بهن جميعاً فسلموهن إلى رجال يعذبونهن ويستدلونهن على ذكر من أبناء كسرى، فلم يوجد عندهن منهم أحد، ولكن إحداهن ذكرت أنه لم يبق إلا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهر يار بن كسرى وأمه من أهل بادوريا، فأرسلوا إليها وأخذوها به يطلبونه منها، وكانت حين جمعهن عمه شيرويه في القصر الأبيض وقتل ذكور آل كسرى وهم وإخوته السبعة عشر حتى لا ينافسه أحد على عرش فارس، قد هربته وأخفته عند أخواله في إصطخر، وكان شيرويه قد قتل فيمن قتل أخاه شهريار بن كسرى برويز من زوجته المفضلة شيرين وهو والد يزدجرد هذا، فضغطوا على أم يزدجرد فدلتهم عليه، فأرسلوا إليه فجاؤوا به باعتباره الذكر الوحيد الباقي من بني ساسان، فملَّكوه وهو ابن إحدى وعشرين سنة، واجتمعوا عليه واطمأن جميع الفرس لذلك، فتباروا في طاعته ومعونته، ورأوا في ذلك مخرجاً مما كانوا فيه(1) وبدأ يزدجرد الثالث يزاول سلطاته بمعونة رستم وفيرزان، فجدد المسالح والثغور التي كانت لكسرى وخصص جنداً لكل مسلحة فسمّى جند الحيرة والأنبار وجند الأبلة(2).
سابعاً: توجيهات الفاروق للمثنى:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/301) الطريق إلى المدائن ص467 .
(2) الطريق إلى المدائن ص468 .(1/405)
بلغت المثنى أخبار تحركات يزدجرد الثالث وكانت عيونه تأتيه بتفاصيلها، فكتب بها وبما يتوقع من هجوم مضاد قوي إلى عمر رضي الله عنه، وصدق تقدير المثنى، فلم يصل كتابه إلى عمر حتى كفر أهل السواد وانتقضوا وتنكروا للمسلمين، من كان له منهم عهد ومن لم يكن له، وعاجلهم الفرس، فزاحفوهم مع ثورة أهل الذمة، فلما رأى المثنى ذلك كان يدرك أنه أحرز من التقدم والاكتساح أكثر مما تسمح قوته بالاحتفاظ به، ومن شأن هذا ألا يدوم فخرج في حاميته حتى نزل بذي قار وأنزل الناس بالطف في عسكر واحد، وكان عمر رضي الله عنه أكثر حذراً فجاءهم كتابه: أما بعد، فاخرجوا من بين ظهراني الأعاجم وتنحوا إلى البر وتفرقوا في المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرضكم وأرضهم، ولا تدعوا في ربيعة أحداً، ولا مضر ولا حلفائهم أحداً من أهل النجدات، ولا فارساً إلا اجتلبتموه، فإن جاء طائعاً وإلا حشرتموه، احملوا العرب على الجد إذ جد العجم، فلتلقوا جدهم بجدكم وأقم منهم قريباً على حدود أرضك وأرضهم حتى يأتيك أمري(1)،ونزل المثنى بذي قار ووزع المسلمين بالجُل وشراف إلى غُضَي(2)، وفرّق القوات في المياه من أول صحراء العراق إلى آخرها، من غضي إلى القطقطانة مسالح ينظر بعضهم إلى بعض ويغيث بعضهم بعضاً إن حدث شيء، في حالة ترقب وانتظار لحشد جديد، بينما عادت مسالح كسرى وثغوره واستقر أمر فارس وهم متهيبون مشفقون والمسلمون متدفقون في ضراوة كالأسد ينازع فريسته ثم يعاود الكر، وأمراؤه يكفكفونهم عملاً بكتاب عمر وانتظاراً للمدد، كان ذلك في أواخر ذي القعدة 13هـ يناير 635م(3)،وقال عمر: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب. ثم كان أول ما عمل أن كتب إلى عماله على الكور والقبائل، وذلك في ذي الحجة مع مخرج الحجاج إلى الحج، فجاءته أوائل القبائل التي طرقها على مكة والمدينة ومن كان على طريق
__________
(1) تاريخ الطبري (4/301).
(2) جبال تجاه البصرة.
(3) الطريق إلى المدائن 470.(1/406)
العراق وهو إلى المدينة أقرب، توافوا إليه بالمدينة مع رجوع الحج وأخبروه عمن وراءهم أنهم يجدون أثرهم، أما من كان في إلى العراق أقرب فقد لحقوا بالمثنى، فلم يدع عمر رئيساً ولا ذا رأي ولا ذا شرف ولا ذا سطوة ولا خطيباً ولا شاعراً إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم(1).
المبحث الثاني: معركة القادسية:
لما علم الفاروق أن الفرس يعدون العدة ويتجمعون لاستئصال القوة القليلة من المسلمين المتبقية في العراق أمر بالتجنيد الإجباري ذلك أن الحالة تقتضي ذلك؛ ولذلك أمر المثنى أن ينظر فيما حوله من القبائل ممن يصلح للقتال ويقدر عليه فيأتي به طائعاً أو غير طائع وهذا هو التجنيد الإجباري الذي رآه عمر وكان أول من عمل به في الإسلام، وبهذا يسقط ما قاله محمد فرج: صاحب كتاب (العسكرية الإسلامية) من أن التجنيد الإجباري ظهر في الدولة الأموية، فها هو عمر الفاروق قد أمر به ونفذ الأمر فما وصل كتاب أمير المؤمنين للمثنى إلا وبدأ بتنفيذ ما فيه على الفور وطبق الخطة التي رسمها له في تحركاته، وأرسل الفاروق إلى عماله أن لا يدعوا أحداً له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا أرسلوه إليه، يأمرهم بالتجنيد الإجباري ويطلب منهم أن يرسلوا المجندين الجدد إليه ليرسلهم إلى العراق(2)، لقد تغير الموقف في بلاد فارس مع مجيء يزدجرد للحكم فقد أصبح موقف الفرس كالتالي:
استقرار داخلي تمثل في تنصيب يزدجرد واجتماعهم عليه، واطمأنت فارس واستوثقوا وتبارى الرؤساء في طاعته ومعونته.
تجنيد عام شمل كل ما استطاع الفرس أن يجندوه، وتوزيع الفرق في كل أنحاء الأرض التي فتحها المسلمون.
وأخيراً إثارة السكان وتأليبهم على المسلمين، حتى نقضوا عهدهم وكفروا بذمتهم وثاروا بهم(3).
وتغير موقف المسلمين وأصبح كالتالي:
__________
(1) الطريق إلى المدائن ص471 .
(2) إتمام الوفاء ص70 .
(3) حركة الفتح الإسلامي ص80 .(1/407)
الانسحاب: خروج المثنى والقواد الآخرين على حاميتهم من الأرض التي فتحوها من بين ظهراني العجم.
التراجع: والتفرق في المياه التي تلي الأعاجم على حدود الأرض العربية والأرض الفارسية، وقد نزل المثنى في ذي قار، ونزل الناس الطَّف؟ فشكلوا في العراق مسالح ينظر بعضهم إلى بعض ويغيث بعضهم بعضاً عند الحاجة.
مقابلة التجنيد الإجباري عند الفرس بالتجنيد الإجباري لدى المسلمين(1).
أولاً: تأمير سعد بن أبي وقاص على العراق:
وهذه المرحلة الثالثة في فتوحات العراق تبدأ بتأمير سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه على الجهاد في العراق سنة 14هـ، فقد استهلت هذه السنة الرابعة عشر وعمر رضي الله عنه يحث الناس ويحرضهم على جهاد الفرس، وركب رضي الله عنه أول يوم من المحرم في هذه السنة في الجيوش من المدينة فنزل على ماء يقال له صِرَار(2)، فعسكر به عازماً على غزو العراق بنفسه واستخلف على المدينة علياً بن أبي طالب، واستصحب معه عثمان بن عفان وسادات الصحابة، ثم عقد مجلساً لاستشارة الصحابة فيما عزم عليه ونودي الصلاة جامعة، وقد أرسل إلى علي فقدم من المدينة، ثم استشارهم فكلهم وافقوه على الذهاب إلى العراق إلا عبد الرحمن بن عوف فإنه قال له: إني أخشى إن كُسِرتَ أن تَضْعف المسلمون في سائر أقطار الأرض، وإني أرى أن تبعث رجلاً وترجع أنت إلى المدينة فاستصوب عمر والناس عند ذلك رأي ابن عوف. فقال عمر: فمن ترى أن نبعث إلى العراق؟ فقال: قد وجدته قال: ومن هو؟ قال: الأسد في براثنه، سعد بن مالك الزهري فاستجاد قوله وأرسل إلى سعد، فأمّره على العراق(3).
1- وصية من عمر لسعد رضي الله عنهم:
__________
(1) المصدر نفسه ص80 .
(2) صرار: موضع على ثلاثة أميال عن المدينة، معجم البلدان (3/398).
(3) ترتيب وتهذيب البداية والنهاية ص96 .(1/408)
لما قدم سعد إلى المدينة أمّره عمر رضي الله عنهما على حرب العراق وقال له: يا سعد سعد بني وُهَيب لا يغرنّك من الله أن قيل خال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الله عز وجل لا يمحو السيء بالسيء ولكنه يمحو السيء بالحسن، فإن الله تعالى ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم، وهم عباده يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ بُعث إلى أن فارقنا فالزمْه فإنه الأمر، هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها كنت من الخاسرين(1).
وإنها لموعظة بليغة من خليفة راشد عظيم فقد أدرك عمر رضي الله عنه جانب الضعف الذي يمكن أن يؤتى سعد من قبله وهو أن يُدلي بقرابته من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيحمله ذلك على شيء من الترفع على المسلمين، بالمبدأ الإسلامي العام الذي يعتبر مقياساً لكرامة المسلم في هذه الحياة حيث قال الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة. فقوله: يتفاضلون بالعافية. يعني بالشفاء من أمراض النفوس فكأنه يقول يتفاضلون بالبعد عن المعاصي والإقبال على طاعة الله تعالى وهذه هي التقوى التي جعلها الله سبحانه ميزاناً للكرامة بقوله: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (الحجرات،آية:13)، وهو ميزان عادل رحيم بإمكان كل مسلم بلوغه إذا جَدَّ في طلب رضوان الله تعالى والسعادة الأخروية ثم ذكره عمر في آخر الموعظة بلزوم الأمر الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا يشمل الالتزام بالدين كله وتطبيقه على الناس(2).
2- وصية أخرى:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/306).
(2) التاريخ الإسلامي (10/362).(1/409)
ثم إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى سعد بن أبي وقاص مرة أخرى لما أراد أن يبعثه بقوله: إني قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتي، فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يُخلِّص منه إلا الحق، فعوِّد نفسك ومن معك الخير، واستفتح به، واعلم أن لكل عادة عتاداً، فعتاد الخير الصبر، فالصبر على
ما أصابك أو نابك تجتمع لك خشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته واجتناب معصيته، وإنما أطاعه من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة، وعصاه من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة، وللقلوب حقائق ينشؤها الله إنشاءً، منها السر ومنها العلانية، فأما العلانية فأن يكون حامده وذامّه في الحق سواء، وأما السر فيُعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه، وبمحبة الناس، فلا تزهد في التحبب فإن النبييين قد سألوا محبتهم، وإن الله إذا أحب عبداً حبَّبه، وإذا أبغض عبداً بغَّضه، فاعتبر منزلتك عند الله تعالى بمنزلتك عند الناس، ممن يشرع معك في أمرك(1) وفي هذا النص عبر نافعة منها:
إن لزوم الحق يخلِّص المسلم من الشدائد، وذلك أن من لزم الحق كان مع الله تعالى ومن كان مع الله تعالى كان الله معه جل وعلا بنصره وتأييده وإن هذا الشعور ليعطي المسلم دفعات قوية نحو مضاعفة العمل ومواجهة الصعاب والمآزق، إضافة إلى الطمأنينة النفسية التي يتمتع بها من لزم الحق قولاً وعملاً، بخلاف من حاد عن طريق الحق فإنه يشعر بالقلق والآلام المتعددة التي منها تأنيب الضمير والخوف من محاسبة الناس والدخول في مجاهيل المستقبل التي تترتب على الانحراف.
وذكر عمر رضي الله عنه أن عُدة الخير الصبر، وذلك أن طريق الخير ليس مفروشاً بالخمائل، بل هو طريق شاق شائك، بتطلب عبوره جهاداً طويلاً، فلابد لسالكه من الاعتداد بالصبر وإلا انقطع في أثناء الطريق.
__________
(1) تاريخ الطبري (4/306،307).(1/410)
وذكر أن خشية الله تعالى تكون في طاعته واجتناب معصيته ثم بين الدافع الأكبر الذي يدفع إلى طاعته ألا وهو بغض الدنيا وحب الآخرة، والدافع الأكبر الذي يدفع إلى معصيته، وهو حب الدنيا وبغض الآخرة.
ثم ذكر أن للقلوب حقائق منها العلانية ومثّل لها بالمعاملة مع الناس بالحق في حالَي الغضب والرضى، وأن لا يحمل الإنسان ثناء الناس عليه على مداراتهم في النكول عن تطبيق الحق، ولا يحمله ذمهم إياه على ظلمهم ومجانبة الحق معهم.
وذكر من حقائق القلوب السرّ، وجعل علامته ظهور الحكمة من قلب المسلم على لسانه، وأن يكون محبوباً بين إخوانه المسلمين، فإن محبة الله تعالى لعبده مترتبة على محبة المسلمين له، لأن الله تعالى إذا أحب عبداً حببه لعباده(1)، فإذا كان سعد بن أبي وقاص المشهود له بالجنة بحاجة إلى هذه الوصية فكيف بنا وأمثالنا ونحن ينقصنا الكثير من فهم الإسلام وتطبيقه(2).
3- خطبة لعمر رضي الله عنه:
__________
(1) التاريخ الإسلامي (10/364).
(2) نفس المصدر (10/365).(1/411)
وسار سعد إلى العراق ومعه أربعة آلاف مجاهد، وقيل في ستة آلاف، وشيعهم عمر من صرار إلى الأعوص(1)، ثم قام في الناس خطيباً فقال: إن الله تعالى إنما ضرب لكم الأمثال، وصرّف لكم القول ليحيي به القلوب فإن القلوب ميتة في صدورها حتى يحييها الله من علم شيئاً فلينتفع به، وإن للعدل أمارات وتباشير، فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهَيْن واللَّيْن، وأما التباشير فالرحمة، وقد جعل الله لكل أمر باباً، ويسَّر لكل باب مفتاحاً، فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد، والاعتبار ذكر الموت بتذكر الأموات، والاستعداد له، بتقديم الأعمال، والزهد أخذ الحق من كل أحد قِبَلَه حق، وتأدية الحق إلى كل أحد له حق، ولا تصانع في ذلك أحداً، واكتف بما يكفيك من الكفاف، فإن من لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء، وإني بينكم وبين الله وليس بيني وبينه أحد، وإن الله قد ألزمني دفع الدعاء عنه، فأنهُوا شكاتكم إلينا، فمن لم يستطع فإلى من يُبلِّغناها نأخذ له الحق غير مُتَعْتَع(2).
4- وصول سعد إلى العراق ووفاة المثنى:
سار سعد بجيشه حتى نزل بمكان يقال له ((زَرُود)) (3)، من بلاد نجد وأمدّه أمير المؤمنين بأربعة آلاف، واستطاع سعد أن يحشد سبعة آلاف آخرين من بلاد نجد، وكان المثنى بن حارثة الشيباني ينتظره في العراق ومعه اثنا عشر ألفاً.
__________
(1) الأعوص: على طريق العراق وهو واد يصب في صدر قناة من الشمال وفيه مطار المدينة اليوم.
(2) تاريخ الطبري (4/308).
(3) زرود: رمال بين الثعلبية والخزيمية بطريق الحاج من العراق.(1/412)
وأقام سعد بزرود استعداداً للمعركة الفاصلة مع الفرس وانتظاراً لأمر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهم أجمعين، وقد كان عمر عظيم الاهتمام بهذه المعركة فلم يدع رئيساً ولا ذا رأي ولا ذا شرف ولا ذا سلطة ولا خطيباً ولا شاعراً إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم(1)، وبينما كان سعد مقيماً بجيشه في زرود مرض المثنى مرضاً خطيراً يقول الرواة: إن الجراحة التي جرحها يوم الجسر انتقضت عليه، واستشعر دنو أجله واشتد وجعه واستخلف على من معه بشير بن الخصاصية، وطلب المثنى أخاه المعنى وأفضى إليه بوصيته وأمره أن يعجل به إلى سعد، ثم أسلم المثنى الروح إلى بارئها فانطفأ السراج المضيء وأفلت هذه الشمس المشرقة التي ملأت فتوح العراق نوراً ودفئاً(2)، وقد جاء في وصيته لسعد: أن
لا يقاتل عدوه وعدوهم – يعني المسلمين – إذا استجمع أمرهم وملؤهم في عقر دارهم، وأن يقاتلهم على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب وأدنى مردة من أرض العجم، فإن يظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم، وإن تكن الأخرى فاؤوا إلى فئة، ثم يكونون أعلم بسبيلهم، وأجرأ على أرضهم، إلى أن يرد الله الكرة عليهم(3)، فما أشبه لحظات المثنى الأخيرة باللحظات الأخيرة للخليفة
__________
(1) تاريخ الطبري (4/ 310).
(2) القادسية، أحمد عادل كمال ص29.
(3) تاريخ الطبري (4/ 313).(1/413)
أبي بكر رضي الله عنهما، كلاهما ترك الدنيا وهو يفكر للمسلمين في هذه الفتوح ويوصي لها، توفي أبو بكر وهو يوصي خليفته عمر بندب الناس وبعثهم لفتح العراق، وتوفي المثنى وهو يورّث القائد الجديد لحرب العراق سعد بن أبي وقاص تجاربه الحربية ضد الفرس، فهو يجود بنفسه وهو يفكر ويدبر ويوصي سعداً(1)، ولما انتهى إلى سعد رأيُ المثنى ووصيته ترَّحم عليه وأمّر المعنى بن حارثة على عمله، وأوصى بأهل بيته خيراً(2)، ومما يلفت النظر في هذا الخبر أن المثنى قد أوصى بزوجته سلمى بنت خصفة التيمية إلى سعد بن أبي وقاص، وحملها معه المعنى، ثم خطبها سعد بعد انتهاء عدتها وتزوجها، فهل أراد المثنى أن يَبَّر زوجته بعد رحيله بضمها إلى بطل عظيم من أبطال الإسلام شهد له رسول الله بالجنة؟ إنه نوع من الوفاء نادر المثال، أم أنها كانت ذكية وعاقلة وقد تكون لديها خبرة من حروب زوجها، فأراد أن ينتفع المسلمون بها؟ كل ذلك محتمل، وهو غيض من فيض مما تحلى به ذلك الجيل الراشد من الفضائل وعظائم الأمور(3)، ومما ينبغي الإشادة به الإشارة إليه، موقف قام به المعنى قبل إبلاغ هذه الوصية، وذلك أنه علم بأن أحد أمراء الفرس وهو الآزاذمر بعث قابوس بن قابوس بن المنذر إلى القادسية وقال له: ادع العرب فأنت علىمن أجابك وكن كما كان آباؤك – يعني المناذرة الذين كانوا ولاة الفرس – فنزل القادسية وكاتب بكر بن وائل بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به مقاربة ووعيداً، فلما انتهى إلى المعنَّى خبره، أسْرَى المعنَّى من
((ذي قار)) حتى بيَّته، فأنامه ومن معه، ثم رجع إلى ذي قار(4).
5- مسيرة سعد إلى العراق ووصية عمر رضي الله عنهما:
__________
(1) القادسية ص30 أحمد عادل كمال.
(2) تاريخ الطبري (4/ 313).
(3) التاريخ الإسلامي (10/370، 371).
(4) تاريخ الطبري (4/ 313).(1/414)
جاء الأمر من عمر أمير المؤمنين إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما بالرحيل من ((زرود)) إلى العراق استعداداً لخوض المعركة الفاصلة مع الفرس وأوصاه بالوصية التالية: أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله عز وجل أفضل العدة على العدو، وأقوى العدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدَّ احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عُدَّتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإن لا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله ولا تقولوا إن عدونا شر منَّا ولن يسلط علينا وإن أسأنا، فرُبَّ قوم سلط عليهم شرٌّ منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفرة المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولا، اسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم، أسأل الله ذلك لناولكم، وترفق بالمسلمين في مسيرهم، ولا تجشِّمهم مسيراً يتعبهم ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم، جامِّ الأنفس والكراع(1)، وأقم بمن معك كل جمعة يوماً وليلة حتى تكون لهم راحة، يجمعون فيها أنفسهم، ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم ونحَّ منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلنها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا ترزأ أحداً من أهلها شيئاً فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها، كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فوفوا لهم،
__________
(1) يعني: الخيول.(1/415)
ولا تنتصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح، وإذا وطئت أدنى أرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم، وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدق في بعض، والغاش عين عليك وليس عيناً لك، وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع، وتبثّ السرايا بينك وبينهم، فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع الطلائع عورتهم، وانتق الطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدوا كان أول من تلقاهم القوة من رأيك، واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد، والصبر على الجلاد،لعلها (ولا تخص أحداً بهوى) فيضيع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصتك، ولا تبعث طليعة ولا سرية في وجه تتخوف فيه ضيعة ونكاية، فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوتك، ثم لا تعالجهم المناجزة ما لم يستكرهك قتال، حتى تبصر عورة عدوك ومقاتله، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها، فتصنع بعدوك كصنيعته بك ثم أذك حراسك على عسكرك، وتحفظ من البيات جهدك، ولا تؤتى بأسير ليس له عهد إلا ضربت عنقه لترهب بذلك عدوك وعدو الله، والله ولي أمرك ومن معك وولي النصر لكم على عدوكم والله المستعان(1)، فهذا خطاب عظيم يشتمل على وصايا نافعة ، يوضح لنا جانباً مهماً من عظمة عمر رضي الله عنه وهو خبرته العالية في التخطيط الحربي، وقد كان التوفيق الإلهي واضحاً في كل توجيهاته ووصاياه(2)، ويمكننا أن نستخلص بعض المبادئ الهامة التي اشتملت عليها تلك الوصية منها:
__________
(1) الفاروق عمر بن الخطاب، لمحمد رشيد رضا ص119، 120.
(2) التاريخ الإسلامي (10/ 374).(1/416)
أمر الجيش بطاعة الله وتقواه في كل الأحوال، باعتبار أن هذا هو السلاح الأول، والتنبيه أن العدو الأول هو الذنوب، ثم المحاربون الكفار، ولفت النظر إلى أن ثمة رقابة دقيقة ودائمة، من الملائكة على أفراد الجيش الإسلامي، والإشارة إلى ضرورة الاستحياء من المعاصي، إذا لا يعقل أن يعصي المرء وهو في ساحة الجهاد في سبيل الله، والتأكيد على أنه من المجافي للصواب، اتخاذ سلوكيات العدو معياراً لتبرير سلوكيات الجيش الإسلامي واستحضار الحاجة الدائمة إلى معونة الله.
أما المبدأ الثاني الذي أكدت عليه رسالة عمر إلى سعد فهو: رعاية الطرف الأول في العلاقة محل البحث ضد أي خطر، وتأكيد حرمة قرى أهل الصلح وتلمس أسباب تأمينها، وتأمين الصورة الإسلامية من أية آثار عكسية تؤثر على نجاح عملية الاتصال بين المسلمين وغير المسلمين، من جراء سلوكيات غير مستقيمة من جانب بعض العناصر الإسلامية، وسعياً لتحقيق متطلبات هذا المبدأ، أمر عمر أميره بمراعاة أسباب الحفاظ على معنويات الجيش، وإيصاله إلى أرض العدو، وهو قادر على المواجهة، فقال: ترفق بالمسلمين في سيرهم.. إلى أن قال يكون ذلك لهم راحة يجمعون بها أنفسهم، ويصلحون أسلحتهم، وأمتعتهم، وبعد التأكيد على أسباب صيانة وسلامة الأنفس والعتاد الحربي الإسلامي، نبه عمر إلى أن الوقاية خير من العلاج، وأن من أهم أسلحة الجيش الظهور بسلوكيات إسلامية، يوافق فيها القول العمل، فأمر عمر – كإجراء احتياطي – بإبعاد منازل الجيش عن قرى الصلح درءاً لإمكانية وقوع أية تجاوزات، تعود بالسلب، على العلاقة المراد إقامتها، وعدم السماح إلا لأهل الثقة بدخول قرى الصلح، والتأكيد على حرمة أهل الصلح ولزوم الوفاء لهم.(1/417)
ونصت رسالة عمر على مبدأ ثالث وهو: التنوع في أسلوب المعاملة حسب نوعية شريك الدور، والرفق بأهل الصلح، وعدم تحميلهم فوق طاقتهم، فلقد طلب عمر من أميره، ألا يظلم أهل الصلح بغية النصر على أهل الحرب، وأن يستعين بمن يثق به من أهل المناطق الجاري فتحها، على أن تكون دواعي الثقة المطلقة بمعنى: التحرز فيها كيلاً يؤتى من قبيل الإفراط في حسن الظن.
أما المبدأ الرابع: فهو ضرورة جمع معلومات كافية عن العدو، فلقد نبه عمر إلى ضرورة إسناد أمر جمع المعلومات إلى طلائع استطلاع من أفضل عناصر الجيش، مع تسليحها بأفضل ما بحوزة الجيش من أسلحة، ذلك أن العدو قد يكشف بعضها فيكرهها على الدخول في قتال، ويجب بالتالي أن تكون من القوة بحيث تحدث الأثر النفسي المطلوب في العدو بإشعاره بقوة الجيش، وبتلمس أسباب الكف عن استخدام القوة.
أما المبدأ الخامس، والأخير، في رسالة عمر، فهو: وضعه الرجل المناسب في المكان المناسب، واعتبار أن الغرض من جمع المعلومات عن العدو ليس التمكن من محاربته، بقدر ما هو التحرز من استكراه الطرف الثاني للمسلمين على القتال، ولذا يجب على المسلمين الكف بعد الأخذ بالأسباب، والتأهب ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً مع أخذ الحيطة والحذر البالغين(1).
6- الاستعانة بمن تاب من المرتدين:
__________
(1) الدور السياسي للصفوة في صدر الإسلام ص429.(1/418)
إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لم يستعن في حروب الردة ولا في حركة الفتوحات بمرتد، وأما عمر رضي الله عنه فقد استنفرهم بعد أن تابوا وصلح حالهم وأخذوا قسطاً من التربية الإسلامية إلا أنه لم يول منهم أحداً(1)، وقد جاء في رواية أنه قال لسعد بن أبي وقاص في شأن طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معدي كرب الزبيدي: استعن بهما ولا تولينهما على مائة(2)، فنستفيد من سنة الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر(3)، أن من ارتد عن الإسلام ثم تاب ورجع إليه فإن توبته مقبولة ويكون معصوم الدم والمال، وله ما للمسلمين وعليه ما عليهم غير أنه
لا يولى شيئاً من أمور المسلمين المهمة وخاصة الأعمال القيادية، وذلك لاحتمال أن تكون توبته نفاقاً، وإذا كانت كذلك وتولى قيادة المسلمين المهمة وخاصة الأعمال القيادية، فإنه يفسد في الأرض ويقلب موازين الحياة فيقرب أمثاله من المنافقين ويبعد المؤمنين الصادقين ويحوّل المجتمع الإسلامي إلى مجتمع تسوده مظاهر الجاهلية، فكانت هذه السنة الراشدة من الخليفتين الراشدين لحماية المجتمع الإسلامي من تسلل المفسدين إلى قيادته وتوجيهه، ولعل حكم هذه السنة أيضاً ملاحظة عقوبة المرتدين بنقيض قصدهم، الذين يرتدون من أجل الحصول على الزعامات والقيادات، إذا أظهروا التوبة، وعادوا إلى الإسلام يحرمون من هذه القيادات عقوبة لهم، وردعاً لكل من تسول له نفسه أن يخرج عن الخط الإسلامي، ويبحث عن الزعامة في معاداة الإسلام وموالاة أعدائه(4).
7- كتاب من أمير المؤمنين إلى سعد بن أبي وقاص:
__________
(1) التاريخ الإسلامي (10/ 375).
(2) نفس المصدر (10/ 375).
(3) سنن الترمذي المناقب باب 52 حديث رقم 3742.
(4) التاريخ الإسلامي (10/ 376).(1/419)
وصل إلى سعد بن أبي وقاص كتاب من أمير المؤمنين وهو نازل في شراف على حدود العراق يأمره فيه بالمسير نحو فارس وقد جاء في هذا الكتاب: أما بعد فسر من شراف نحو فارس، بمن معك من المسلمين، وتوكل على الله واستعن به على أمرك كله، واعلم فيما لديك أنك تقدم على أمة عددهم كثير وعدتهم فاضلة، وبأسهم شديد، وعلى بلد منيع – وإن كان سهلاً – كؤود لبحوره وفيوضه ودأدائه(1)، إلا أن توافقوا غيضاً من فيض، وإذا لقيتم القوم أو أحداً منهم فابدؤوهم العتيد والضرب، وإياكم والمناظرة – لجموعهم – يعني الانتظار بعد المواجهة – ولا يخدعنكم فإنهم خدعة مكرة، أمرهم غير أمركم، إلا أن تجادوهم – يعني تأخذوهم بالجد – وإذا انتهيت إلى القادسية(2)، فتكون مسالحك على أنقابها ويكون الناس بين الحجر والمدر(3)، على حافات الحجر وحافات المدر، والجراع بينهما(4)، ثم ألزم مكانك فلا تبرحه فإنهم إن أحسوك انغضتهم رموك بجمعهم، الذي يأتي على خيلهم ورجلهم وحدهم وجدهم، فإن أنتم صبرتم لعدوكم، واحتبستم لقتاله ونويتم الأمانة رجوت أن تنصروا عليهم، ثم لا يجتمع لكم مثلهم أبداً، إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم، وإن تكن الأخرى كان الحجر في أدباركم، فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم، ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم، وكانوا عنها أجبن، وهذه الوصية في اختيار المكان الذي يستقر فيه الجيش تشبه وصية المثنى لسعد حيث اتفق رأي عمر والمثنى في اختيار المكان، وكانت تلك الوصية من المثنى نتيجة خبرة أكثر من ثلاث سنوات في حرب الفرس، وهذا دليل على براعة عمر رضي الله عنه في التخطيط الحربي مع أنه لم تطأ قدماه أرض العراق رضي الله عنهم أجمعين، وتتضمن هذه الوصية إبقاء الجيش بعيداً عن متناول
__________
(1) الدأداء: الفضاء وما اتسع من الأودية.
(2) القادسية: باب فارس في الجاهلية.
(3) الحجر والمدر: يعني الصحراء والقرى العامرة.
(4) الجراع بينهما: يعني الأرض السهلة.(1/420)
الأعداء، ثم رميهم بالسرايا التي تنغص عليهم حياتهم وتثير عليهم أتباعهم حتى يضطر المسلمون إلى منازلتهم في المكان الذي تم اختياره(1).
8- من أسباب النصر المعنوية في رأي عمر رضي الله عنه:
كتب عمر رضي الله عنه إلى سعد يذكره بأسباب النصر المعنوية وهي التي تأتي في المقام الأول، وقد جاء في كتابه: أما بعد فتعاهد قلبك وحادث جندك بالموعظة والنية والحسبة، ومن غفل فليحدثهما والصبر الصبر، فإن المعونة تأتي من الله على قدر النية والأجر قدر الحسبة، والحذر الحذر على ما أنت عليه وما أنت بسبيله واسألوا الله العافية، وأكثروا من قول ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) واكتب إليَّ أين بلغ جمعكم، ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم؟ فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم، فصف لنا منازل المسلمين، والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأني أنظر إليها، واجعلني من أمركم على الجيلة وخف الله وارجه، ولا تُدِل بشيء، واعلم أن الله قد وعدكم، وتوكل لهذا الأمر بما لا خُلف له، فاحذر أن تصرفه عنك، ويستبدل بكم غيركم(2)، ففي هذا الكتاب يوصي عمر رضي الله عنه بتعاهد القلوب، فإن القلب هو المحرك لجميع أعضاء الجسم والحاكم عليها فإذا صلح صلح الجسم كله، ثم يوصيه بموعظة جنده وتذكيرهم بالإخلاص لله تعالى واحتساب الأجر عنده، ويبين أن نصر الله مترتب على ذلك، ويحذره من التفريط في المسؤولية التي تحملها وما يستقبله من الفتوح، ويذكرهم بوجوب ارتباطهم بالله تعالى وأن قوتهم من قوته ويوصي قائد المسلمين بأن يكون بين مقام الخوف من الله تعالى والرجاء لما عنده، وهو مقام عظيم من مقامات التوحيد وينهاه عن الإدلال على الله بشيء من العمل أو ثناء الناس ويذكره بما سبق من وعد الله تعالى بانتصار الإسلام وزوال ممالك الكفر، ويحذره من التهاون في تحقيق شيء
__________
(1) التاريخ الإسلامي (10/ 379).
(2) تاريخ الطبري (4/ 315).(1/421)
من أسباب النصر، فيتخلف النصر عنهم ليتم على يد غيرهم ممن يختارهم الله تعالى(1).
9- سعد رضي الله عنه يصف موقع القادسية لعمر رضي الله عنه ورد عمر عليه:
كتب سعد إلى عمر رضي الله عنهما: يصف له البلدان التي يتوقع أن تكون ميداناً للمعركة الفاصلة، إلى أن قال: وأن جميع من صالح المسلمين من أهل السواد قبلي إلبٌ لأهل فارس قد خضعوا لهم واستعدوا لنا، وإن الذي أعدوا لمصادمتنا رستم في أمثال له منهم، فهم يحاولون إنغاضنا وإقحامنا، ونحن نحاول إنغاضهم وإبرازهم، وأمر الله بعد ماض، وقضاؤه مسلّم إلى ما قدر لنا وعلينا، فنسأل الله خير القضاء وخير القدر في عافية(2)، فكتب إليه عمر: قد جاءني كتابك وفهمته، فأقم بمكانك حتى ينغض الله لك عدوك، واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع حتى تقحم عليهم المدائن فإنه خرابها إن شاء الله(3)، ومن خلال رسالة عمر يتبين أنه اتخذ القرار المناسب وهو:
أن يثبت سعد في مواقعه فلا يبارحها.
أن لا يبادر العدو بالقتال بل يترك له أمر هذه المبادرة.
أن يعمد إلى استثمار النصر ويطارد العدو حتى المدائن، فيفتحها عليه(4)، ومع الأخذ بالأسباب المادية التي لا بد منها في إحراز النصر لم يترك الفاروق الجوانب المعنوية وشن حرب نفسية على الخصوم في عقر دراهم، وعز ملكهم، وقوة سطوتهم، فأرسل إلى سعد: إني ألقي في روعي: أنكم إذا لقيتم العدو غلبتموهم، فمتى لاعب أحد منكم أحداً من العجم بأمان وإشارة أو لسان كان عندهم أماناً، فأجروا له ذلك مجرى الأمان والوفاء فإن الخطأ بالوفاء بقية، وإن الخطأ بالغدر هلكة، وفيها وهنكم وقوة عدوكم(5).
__________
(1) التاريخ الإسلامي (10/ 379).
(2) البداية والنهاية (7/ 38).
(3) البداية والنهاية (7/ 38).
(4) الفن العسكري الإسلامي ص253.
(5) إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء ص73.(1/422)
لقد كان عمر رضي الله عنه يعيش مع الجيش الإسلامي بكل مشاعره وأحاسيسه، ولقد تكاثفت عليه الهموم حتى أصبح لا يهنأ بعيش ولا يقر له قرار حتى يسمع أخبارهم، وإن في مثل هذا الإلهام من الله تعالى تخفيفاً من هذا العبء الكبير الذي تحمله عمر وتثبيتاً للمسلمين وتقوية لقلوبهم، ونلاحظ أن الفاروق رضي الله عنه ذكّر المسلمين بشيء من عوامل النصر المعنوية حيث حثهم على الالتزام بشرف الكلمة والصدق في القول والوفاء بالعهود، ولو كان من التزم بذلك أحد أفراد المسلمين، أو كان هناك خطأ في الفهم فلم يقصد المسلم الأمان وفهمه
العدو أماناً(1).
ثانياً: الفاروق يطلب من سعد أن يرسل وفداً لمناظرة ملك الفرس:
وقال عمر لسعد في رسائله: لا يكربنك ما يأتيك عنهم ولا ما يأتونك به واستعن بالله، وتوكل عليه وابعث إليه رجالاً من أهل النظر والرأي والجلد يدعونه إلى الله فإن الله جاعل دعاءهم توهيناً لهم وفلجاً عليهم وطلب الفاروق من سعد أن يكتب له كل يوم(2) ، وشرع في جمع رجال من أهل النظر والرأي والجلد، فكان الذين وقع عليهم الاختيار من أهل الاجتهاد والآراء والأحساب.
النعمان بن مقرن المزني.
بسر بن أبي رهم الجهني.
حملة بن جويه الكناني.
حنظلة بن الربيع التميمي.
فرات بن حيان العجلي.
عدي بن سهيل.
المغيرة بن زرارة بن النباش بن حبيب(3).
واختار سعد نفراً عليهم مهابة ولهم منظر لأجسامهم ولهم آراء نافذة.
عطارد بن حاجب التميمي.
الأشعث بن قيس الكندي.
الحارث بن حسان الذهلي.
عاصم بن عمرو التميمي.
عمرو بن معدي كرب الزبيدي.
المغيرة بن شعبة الثقفي.
المعنى بن حارثة الشيباني(4).
__________
(1) التاريخ الإسلامي (10/ 381).
(2) انظر: البداية والنهاية (7/ 38).
(3) انظر: الدعوة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب لحسني محمد إبراهيم.
(4) انظر: الكامل في التاريخ (2/ 101).(1/423)
فهم أربعة عشر داعية بعثهم سعد دعاة إلى ملك الفرس بأمر عمر رضي الله عنه وهم من سادات القوم كما أرادهم عمر رضي الله عنه، كي يستطيعوا دعوة يزدجرد بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ولعل الله يهديه هو وجنده للإيمان وتحقن دماء الطرفين. لقد كان هذا الوفد المنتقى على درجة عالية من الكفاية والقدرة لما أوفد له، فالإضافة إلى ما يتمتعون به من جسامة وقوة ومهابة وحسن رأي، فلهم أيضاً سبق معرفة بالفرس، فقد كان منهم من عاركهم وعركهم ومارس معهم الحروب في حملات سابقة، ومنهم من وفد في الجاهلية على ملوك الفرس، ومنهم من يعرف اللغة الفارسية، فكأن سعد اختارهم لهذه الوفادة بعد أن اجتاز كل منهم كشفاً فنياً من حيث كفاءته وحسن رأيه، وكشفاً طبياً من حيث قوته وضعفه وكشف هيئة من حيث لياقته وجسامته(1). لقد كان الوفد يتمتع بميزتي الرغبة والرهبة التي تتوفر في جسامتهم ومهابتم وجلدهم وشدة ذكائهم(2).
وتحرك هذا الوفد الميمون بقيادة النعمان بن مقرن، فوصلوا المدائن وأدخلوا على ملك الفرس يزدجرد، فسألهم بواسطة ترجمانه: ما جاء بكم ودعاكم إلى غزونا والولوغ ببلادنا؟ أمن أجل أنا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا؟
فتكلم عنهم النعمان بن مقرن، فقال: (إن الله رحمنا، فأرسل إلينا رسولاً يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر، ووعدنا على إجابته خيري الدنيا والآخرة، فلم يدع قبيلة قاربه منها فرقة، وتباعد عنه منها فرقة، ثم أمر أن نبتدئ بمن خالفه من العرب، فبدأنا بهم، فدخلوا معه على وجهين مكره عليه فاغتبط(3)، وطائع فازداد، فعرفنا جميعاً فضل
__________
(1) انظر: القادسية لأحمد عادل كمال بتصرف ص70.
(2) انظر: الدعوة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب ص (241).
(3) اغتبط: فرح بالنعمة.(1/424)
ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق ثم أمر أن نبتدئ بمن جاورنا من الأمم، فندعوهم إلى الإنصاف. فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسن الحسن، وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر أهون من آخر شر منه: الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمنا على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع منكم وشأنكم وبلادكم، وإن بذلتم الجزاء قبلنا منكم وشأنكم وبلادكم، وإن بذلتم الجزاء قبلنا منكم ومنعناكم وإلا قاتلناكم).
فقال ملك الفرس يزدجرد : إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى ولا أقل عدداً
ولا أسوأ ذات بين منكم، فقد كنا نوكل لكم قرى الضواحي فيكفونا أمركم:
ولا تطمعون أن تقوموا لفارس، فإن كان غرور لحقكم فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد(1)، فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم.
فقام المغيرة بن زرارة، فقال: أما ما ذكرت من سوء الحال فكما وصفت وأشد وذكر من سوء عيش العرب ورحمة الله بهم بإرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - .. مثل مقالة النعمان .. ثم قال: ((اختر إما الجزية عن يدٍ وأنت صاغر، أو السيف، وإلا فنج نفسك بالإسلام)).
فقال يزدجرد: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي، ثم استدعى بوقر(2)، من تراب، وقال لقومه: احملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن فقام عاصم بن عمرو وقال: أنا أشرفهم وأخذ التراب فحمله وخرج إلى راحلته فركبها، ولما وصل إلى سعد قال له (أبشر: فوالله لقد أعطانا الله أقاليد(3)، ملكهم)) (4) .
__________
(1) الجهد: الضيق والشدة.
(2) الوقر: الحمل الثقيل.
(3) أقاليد: جمع إقليد: المفتاح.
(4) البداية والنهاية (7/ 43).(1/425)
ثم إن رستم خرج بجيشه الهائل، مائة ألف أو يزيدون، من ساباط، فلما مر على كوش – قرية بين المدائن وبابل – لقيه رجل من العرب فقال له رستم: ما جاء بكم، وماذا تطلبون منا؟ قال: جئنا نطلب موعود الله بملك أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تسلموا قال رستم: قد وضعنا إذا في أيديكم: قال العربي: أعمالكم وضعتكم، فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تجادل(1)، الإنس وإنما تجادل القدر!
فغضب منه رستم وقتله: فلما مرّ بجيشه على البرس – قرية بين الكوفة والحلة غصبوا أبناء أهله وأموالهم، وشربوا الخمور، ووقعوا على النساء! فشكى أهل البرس إلى رستم فقال لقومه: ((والله لقد صدق العربي! والله ما أسلمنا إلا أعمالنا، والله إن العرب مع هؤلاء وهم حرب أحسن سيرة منكم)) (2).
ولما علم سعد أمير جيش المسلمين خبر رستم، أرسل عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وطليحة بن خوليد الأسدي يستكشفان خبر الجيش مع عشرة رجال، فلم يسيروا إلا قليلاً حتى رأوا سرح العدو منتشراً على الطفوف(3)، فرجعوا إلا طليحة، فإنه ظل سائراً حتى دخل جيش العدو وعلم ما فيه، فرجع إلى سعد وأخبره خبره وكان طليحة هذا من زعماء الردة.
وقد سمح الفاروق لمن ارتد وتاب من العرب بالاشتراك في الجهاد وكان الصديق رضي الله عنه يمنع ذلك، وكان الفاروق يمنع من خرج من زعماء أهل الرد بعد توبته إلى الجهاد أن يتولى إمارة ولم يولِّ منهم أحداً وحرص على أن يتربوا على معاني الإيمان والتقوى وأتاح لهم فرصة ثمينة ليعبروا فيها عن صدق إيمانهم وتقواهم وكان لطليحة الأسدي وعمرو الزبيدي مواقف مشهودة في حروب العراق والفرس.
ثالثاً: سعد بن أبي وقاص يرسل وفوداً لدعوة رستم:
__________
(1) تجادل: تخاصم.
(2) إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء ص57.
(3) الطفوف: جمع طف. والطف: الجانب أو ما أشرفت من أرض العرب على الشاطئ.(1/426)
وسار رستم بجيشه من الحيرة حتى نزل القادسية على العتيق – جسر القادسية – أمام عسكر المسلمين، يحول بينهم النهر، ومع الفرس ثلاثة وثلاثون فيلاً، ولما نزل أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا رجلاً نكلمه.
فأرسل إليه: ربعيَّ بن عامر فجاءه وقد جلس على سرير من ذهب: وبُسُط النمارق والوسائد منسوجة بالذهب! فأقبل ربعيُّ على فرسه، وسيفه في خِرْقة(1) ورمحه مشدود بعِصَب(2)، فلما انتهى إلى البساط وطأه بفرسه، ثم نزل وربطها بوسادتين شقهما: وجعل الحبل فيهما، ثم أخذ عباءة بعيره فاشتملها، فأشاروا عليه بوضع سلاحه؛ فقال: لو أتيتك فعلت ذلك بأمركم، وإنما دعوتموني، ثم أقبل يتوكأ على رمحه ويُقارب خطوه حتى أفسد ما مرّ عليه من البُسط، ثم دنا من رستم، وجلس على الأرض، وركز رمحه على البساط، وقال: إنّا لا نقعد على زينتكم. فقال له رستم: ما جاء بكم؟ قال: الله جاء بنا، وهو بَعَثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومنْ ضيق الدُّنيا إلى سغنها، ومن جور الأدْيَان إلى عدل الإسلام، فأرسل لنا رسوله بدينه إلى خَلْقِهِ، فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه، ومن أبى قاتلناه حتى نُفضي إلى الجنة، أو الظَّفر(3).
فقال رستم قد سمعنا قولكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه؟ فقال: نعم، وإنَّ مما سَنَّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألاّ نمكن الأعداء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً، فانظر في أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك، وإن احتجت إلينا نصرناك، أو المنابذة(4) في اليوم الرابع إلا أن تبدأ بنا، وأنا كفيل عن أصحابي.
__________
(1) الخرقة: القطعة من الثوب الممزق.
(2) العِصاب: ما يُشَدُّ به خرقة أو منديل.
(3) الكامل في التاريخ (2/106).
(4) المنابذة: نابذ الحرب: جاهر بها.(1/427)
فقال رستم أسيِّدهم أنت؟ قال: لا ولكنّ المسلمين كالجسد الواحد بعضهم من بعض، يُجِيزُ أدناهم أعلاهم.
ثم انصرف، فخلا رستم بأصحابه، وقال: رأيتم كلاماً قط مثل كلام هذا الرجل؟ فأروه الاستخفاف بشأنه:
فقال رستم: ويلكم وإنما أنظر إلي الرأي والكلام والسيرة، والعربُ تستخف اللباس وتصون الأحساب.
فلما كان اليوم الثاني من نزوله، أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا هذا الرجل. فأرسل إليه حذيفة بن مِحْصَن الغلفاني، فلم يختلف عن ربعي في العمل والإجابة، ولا غرابة، فهما مستقيان من إناء واحد، وهو دين الإسلام.
فقال له رستم: ما قَعَد بالأول عنا؟ قال: (أميرُنا يَعْدل بيننا في الشدة والرّخاء، وهذه نوبتي). فقال رستم: والمواعدة إلى متى؟ قال: إلى ثلاث، من أمس.
وفي اليوم الثالث أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا رجلاً. فأرسل إليه المغيرة بن شعبة فتوجه إليه، ولما كان بحضرته جلس معه على سريره، فأقبلت إليه الأعوان يجذبونه! فقال لهم: قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضاً، إلا أن يكون محارباً لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني: أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم، وأن مُلكاً لا يقوم على هذه السِّيرة ولا على هذه العقول.
فقالت السوقة: صدق والله العربي، وقالت الدَّهاقين -زعماء الفلاحين- لقدر من بكلام لا تزال عبيدنا تنزع إليه، قاتل الله سابقينا حيث كانوا يُصَغِّرون أمر هذه الأمة.
ثمّ تكلم رستم بكلام صَغَّر فيه شأن العرب، وضخَّم أمر الفرس، وذكر ما كانوا عليه من سوء الحال وضيق العيش(1).
فقال المغيرة: أما الذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق والاختلاف، فنعرفه
__________
(1) انظر الكامل في التاريخ (2/108).(1/428)
ولا ننكره، والدنيا دُول، والشدة بعدها الرخاء، ولو شكرتم ما أتاكم الله لكان شُكركم قليلاً على ما أوتيتم، وقد أسلمكم ضعف الشُّكر إلى تغير الحال وإن الله بعث فينا رسولاً، ثم ذكر مثل ما تقدم، وختم كلامه بالتخيير بين الإسلام أو الجزية أو المنابذة(1).
فخلا رستم بأهل فارس، وقال: أين هؤلاء منكم؟ ألم يأتكم الأوَّلان فجسراكم(2) واستخرجاكم(3)، ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا، وسلكوا طريقاً واحداً، ولزموا أمراً واحداً، هؤلاء والله الرجال صادقين كانوا أم كاذبين والله لئن بلغ من أدبهم وصونهم لسرّهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم، لئن كانوا صادقين فما يقوم لهؤلاء شيء، فَلَجُّوا(4).
رابعاً: الاستعداد للمعركة:
لم ينتفع الفرس بدعوة الوفود، وتمادوا في غيهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فأجمع الفرس على القتال واستعد المسلمون لذلك وعبر الفرس نهر العتيق وعيّن رستم جيشه العرمرم على الشكل التالي:
في القلب: ذو الحاجب (ومعه 18 فيلاً) عليها الصناديق والرجال.
في الميمنة: مما يلي القلب: الجالينوس.
في الميمنة: الهرمزان (ومعه 7 أو 8 أفيال ) عليها الصناديق والرجال.
في الميسرة مما يلي القلب: البيرزان.
في الميسرة: مهران (ومعه 7 أو 8 أفيال) عليها الصناديق والرجال، وأرسل رستم فرقة من خيالته إلى القنطرة لتمنع المسلمين من عبورها نحو جيشه، فأصبحت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين وخيول المشركين وكان ترتيب الصفوف على الشكل التالي:
__________
(1) انظر الكامل في التاريخ (2/108).
(2) جسر: معنى ونفذ.
(3) استخرجاكم: استنبط.
(4) لجّوا: اختلطت أصواتهم.(1/429)
الخيالة في الصفوف الأولى، يليها الفيلة، ثم المشاة، ونصب لرستم مظلة كبيرة استظل بها على سريره وجلس يراقب سير المعركة(1)، وكان المسلمون على أهبة الاستعداد وعلى أحسن تعبئة للقتال، فقد عبأ سعد بن أبي وقاص جيشه مبكراً، وأمّر الأمراء، وعرّف على كل عشرة عريفاً، وجعل على الرايات رجالاً من أهل السابقة أيضاً ورتّب المقدمة والساقة والمُجنِّبات والطلائع، وقد وصل القادسية على تعبئة، وقد عبأ جيشه على الشكل التالي:
على المقدمة: زُهرة بن الحَويَّة.
وعلى الميمنة: عبد الله بن المُعْتمِّ.
وعلى الميسرة: شرحبيل بن السمط الكندي، وخليفته خالد بن عُرْفُطة.
وعلى الساقة: عاصم بن عمرو.
وعلى الطلائع: سواد بن مالك.
وعلى المجرّدة: سلمان بن ربيعة الباهلي.
وعلى الرَّجَّالة: حَمَّال بن مالك الأسدي.
وعلى الركبان: عبد الله بن ذي السهمين الحنفي.
وعلى القضاء بينهم: عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي.
وكاتب الجيش: زياد بن أبي سفيان.
ورائده وداعيه: سلمان الفارسي وكل ذلك بأمر من عمر(2) هذا وقد خطب سعد بن أبي وقاص في الناس وتلا قول الله تعالى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ(105) } (الأنبياء،آية:105). وأمر القرّاء أن يشرعوا في سورة الأنفال، فقرئت ولما أتموا قراءتها هشت(3) قلوب الناس وعيونهم، ونزلت السكينة وصلى الناس الظهر وأمر سعد جيشه أن يزحفوا بعد التكبيرة الرابعة وأن يقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله واستمرت المعركة أربعة أيام.
__________
(1) الفن العسكري الإسلامي ص255 .
(2) الفن العسكري الإسلامي ص255 .
(3) هشت: انشرحت صدورهم.(1/430)
وقد كان سعد رضي الله عنه مريضاً بعرق النسأ، وبه دمامل لا يستطيع الركوب ولا الجلوس فكان مكبِّا على صدره وتحته وسادة ويشرف على الميدان من قصر قُدَيْس الذي كان في القادسية وقد أناب عنه في تبليغ أوامره خالد بن عرفطة، وقد أمر بأن ينادي في الجيش: ألا إن الحسد لا يحل إلا على الجهاد في أمر الله، أيها الناس فتحاسدوا وتغايروا على الجهاد(1)، وقبل بدء القتال حصل اختلاف على خالد بن عرفطة نائب سعد فقال سعد: احملوني وأشرفوا بي على الناس، فارتقوا به، فأكبّ مطَّلعاً عليهم والصف في أسفل حائط قصر قُدَيْس يأمر خالداً فيأمر خالد الناس، وكان ممن شغب عليه بعض وجوه الناس فهمَّ بهم سعد وشتمهم، وقال: أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالاً لغيركم، فحبسهم، ومنهم أبو محجن الثقفي وقيدهم في القصر، وقال جرير بن عبد الله - مؤيداً طاعة الأمير - أما أني بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن أسمع وأطيع لمن ولاه الله الأمر وإن كان عبداً حبشياً. وقال سعد: والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويشاغلهم وهم بإزائهم إلا سننتُ فيه سنة يؤخذ بها من بعدي(2)، وقد قام فيهم سعد بن
أبي وقاص بعد هذه الحادثة خطيباً، فقال بعد أن حمد لله وأثنى عليه: إن الله هو الحق لا شريك له في الملك، وليس لقوله خُلف، قال الله جل ثناؤه: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي
__________
(1) تاريخ الطبري (4/356).
(2) تاريخ الطبري (4/356).(1/431)
الصَّالِحُونَ(105) } (الأنبياء،آية:105) إن هذا ميراثكم وموعود ربكم، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج فأنتم تطعمون منها وتأكلون، وتقتلون أهلها وتجبرنهم وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال منهم أصحاب الأيام منكم وقد جاءكم منهم هذا الجمع، وأنتم وجوه العرب وأعيانهم وخيار كل قبيلة، عِزَّ من وراءكم، فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرِّب ذلك أحداً إلى أجله، وإن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم تُوبقوا آخرتكم(1).
وكتب سعد إلى الرايات: إني قد استخلفت فيكم خالد بن عرفطة، وليس يمنعني أن أكون مكانه إلا وجعي الذي يعودني وما بي من الحبوب(2)، فإني مُكبُّ على وجهي وشخصي لكم باد فاسمعوا له وأطيعوا فإنه إنما يأمركم بأمري ويعمل برأيي، فقُرئ على الناس فزادهم خيراً، وانتهوا إلى رأيه وقبلوا منه وتحاثُّوا على السمع والطاعة، وأجمعوا على عذر سعد والرِّضى بما صنع(3)، وقد بقي سعد بن أبي وقاص فوق القصر وأصبح مشرفاً على ساحة المعركة ولم يكن القصر محصناً وهذا يدل على شجاعة سعد رضي الله عنه، فعن عثمان بن رجاء السعدي قال: كان سعد بن مالك أجرأ الناس وأشجعهم، إنه نزل قصراً غير حصين بين الصفين، فأشرف منه على الناس ولو أعراه الصف فواق ناقة أخذ برُمَّته(4)، فوالله ما أكرثه هول تلك الأيام ولا أقلقه(5).
- فزع رستم من الأذان:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/357).
(2) الحبوب: الدمامل.
(3) تاريخ الطبري (4/358).
(4) يعني لو انحسر عنه صف المسلمين وانكشف العدو مقدار حلب ناقة لأخذه الأعداء.
(5) التاريخ الإسلامي (10/347).(1/432)
لما نزل رستم النجف بعث منها عيناً إلى عسكر المسلمين، فانغمس فيهم بالقادسية كبعض من ندَّ منهم، فرآهم يستاكون عند كل صلاة ثم يصلون، فيفترقون إلى موقفهم، فرجع إليه فأخبره بخبرهم وسيرتهم، حتى سأله: ما طعامهم؟ فقال: مكثت فيهم ليلة، لا والله ما رأيت أحداً منهم يأكل شيئاً إلا أن يمصوا عيداناً لهم حين يُمسون وحين ينامون وقبيل أن يصبحوا، فلما سار فنزل بين الحصن والعتيق(1)، وافقهم وقد أذن مؤذن سعد الغداة فرآهم يتهيأون للنهوض، فنادى في أهل فارس أن يركبوا، فقيل له: ولم قال: أما ترون إلى عدوكم قد نودي فيهم فتحشحشوا(2) لكم، قال عينه ذلك: إنما تحشحشهم هذا للصلاة، فقال بالفارسية وهذا تفسيره بالعربية: أتاني صوت عند الغداة، وإنما هو عمر الذي يكلم الكلاب فيعلمهم العقل(3)، فلما عبروا تواقفوا وأذن مؤذن سعد للصلاة يعني صلاة الظهر فصلى سعد، وقال رستم: أكل عمر كبدي(4).
- رفع الروح المعنوية بين أفراد الجيش الإسلامي:
جمع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وجهاء المسلمين وقادته في بداية اليوم الأول من المعركة وقال لهم: انطلقوا فقوموا في الناس بما يحق عليكم ويحق لهم عند مواطن البأس، فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم، وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتُهم، فسيروا في الناس فذكروهم وحرضوهم على القتال، فساروا فيهم(5).
فقال قيس بن هبيرة الأسدي: أيها الناس احمدوا الله على ما هداكم له وأبلاكم له يزدكم، واذكروا آلاء الله، وارغبوا إليه في عاداته، فإن الجنة أو الغنيمة أمامكم، وإنه ليس وراء هذا القصر إلا العراء، والأرض القفر، والظِّراب الخُشْن والفلوات التي لا تقطعها الأدلة.
__________
(1) تاريخ الطبري (4/358).
(2) التحشش: التحرك للنهوض.
(3) تاريخ الطبري (4/358).
(4) تاريخ الطبري (4/358).
(5) تاريخ الطبري (4/359).(1/433)
وقال غالب بن عبد الله الليثي: أيها الناس احمدوا الله على ما أبلاكم وسلوه يزدكم، وادعوه يحيكم، يا معشر معدّ، ما علّتكم اليوم وأنتم في حصونكم يعني الخيل ومعكم من لا يعصيكم يعني السيوف؟ اذكروا حديث الناس في غد، فإنه بكم غداً يبدأ عنده، وبمن بعدكم يُثنَّى.
وقال ابن الهذيل الأسدي: يا معشر معدّ، اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليهم كالأسود الأجم، وتربَّدوا لهم تربُّد النمور وادرعوا العجاج، وثقوا بالله، وغضوا الأبصار، فإذا كلَّت السيوف فإنها مأمورة فأرسلوا عليهم الجنادل فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه.
وقال بسر بن أبي رهم الجهني: احمدوا الله وصدقوا قولكم بفعل، فقد حمدتم الله على ما هداكم له، ووحدتموه ولا إله غيره، وكبرتموه، وآمنتم بنبيه ورسله، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ولا يكوننَّ شيء بأهون عليكم من الدنيا، فإنها تأتي من تهاون بها، ولا تميلوا إليها فتهرب منكم لتميل بكم انصروا الله ينصركم.
وقال عاصم بن عمرو: يا معشر العرب إنكم أعيان العرب وقد صمدتم لأعيان من العجم، وإنما تخاطرون بالجنة، ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونُنّ على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم، لا تحدثوا اليوم أمراً تكونون شيئاً على العرب غداً.
وقال ربيع بن البلاد السعدي: يا معشر العرب قاتلوا للدين والدنيا { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ(133) } (آل عمران،آية:133).
وإن عظم الشيطان عليكم الأمر فاذكروا الأخبار عنكم بالمواسم ما دام للأخبار أهل(1).
وقال ربعي بن عامر: إن الله قد هداكم للإسلام، وجمعكم به، وأراكم الزيادة، وفي الصبر راحة، فعوِّدوا أنفسكم الصبر تعتادوه، ولا تعوّدوها الجزع فتعتادوه، وقد قال كلهم بنحو هذا الكلام، وتواثق الناس وتعاهدوا، واهتاجوا لكل ما كان ينبغي لهم(2).
__________
(1) تاريخ الطبري (4/359).
(2) تاريخ الطبري (4/360).(1/434)
1- يوم أرماث:
يطلق يوم أرماث على اليوم الأول من أيام القادسية وقد وجه سعد رضي الله عنه بيانه إلى الجيش قائلاً: الزموا مواقفكم لا تحركوا شيئاً حتى تصلُّوا الظهر، فإذا صليتم الظهر فإني مكبِّر تكبيرة فكبروا واستعدوا، واعلموا أن التكبير لم يُعْطه أحد قبلكم، واعلموا أنّما أُعطيتموه تأييداً لكم، ثم إذا سمعتم الثانية فكبروا، ولتسثتم عُدَتكم، ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا، ولينشط فرسانكم الناس ليبرزوا وليطاردوا، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعاً حتى تخالطوا عدوكم وقولوا:
لا حول ولا قوة إلا بالله(1).
ولما صلى سعد الظهر أمر الغلام الذي كان ألزمه إياه عمر وكان من القراء أن يقرأ سورة الجهاد (يعني الأنفال) فقرأ على الكتيبة الذي يلونه سورة الجهاد، فقرئت في كل كتيبة، فهشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها(2)، ولما فرغ القراء كبّر سعد، فكبَّر الذين يلونه بتكبيرة، وكبر بعض الناس بتكبير بعض، فتحشحش الناس (يعني تحركوا) ثم ننَّى فاستتمَّ الناس، ثم ثلث فبرز أهل النجدات فأنشبوا القتال، وخرج من أهل فارس أمثالهم فاعتوروا
الطعن والضرب(3)، وكان لأبطال المسلمين من أمثال غالب بن عبد الله الأسدي، وعاصم بن عمرو التميمي وعمرو بن معديكرب الزبيدي وطليحة بن خويلد الأسدي أثر ظاهر في النكاية بالعدو حيث قتلوا وأسروا عدداً من أبطالهم ولم يقتل من المسلمين أحد فيما ذُكر أثناء المبارزة، والمبارزة في عسير من فنون الحرب
__________
(1) نفس المصدر (4/361).
(2) نفس المصدر (4/362).
(3) نفس المصدر (4/362).(1/435)
لا يتقنه إلا الأبطال من الرجال، وهي ترفع من شأن المنتصرين وتزيد من حماسهم، وتخفض من شأن المنهزمين وتحط من معنوياتهم، والمسلمون الأوائل متفوقون في هذا الفن على غيرهم دائماً، ولذلك هم المستفيدون من المبارزة(1)، وبينما الناس ينتظرون التكبيرة الرابعة إذ قام صاحب رجالة بني نهد قيس بن حذيم بن جرثومة، فقال: يا بني نهد انهدوا فإنما سميتم نهداً لتفعلوا، فبعث خالد بن عرفطة، والله لتكفنّ أو لأوليِّن عملك غيرك، فكفَّ(2).
- رستم يأمر جانباً من قواته بالهجوم:
ولما رأى رستم تفوق المسلمين في مجالي المبارزة والمطاردة لم يمهلهم حتى يكملوا خطة قائدهم في المزيد من حرب المطاردة والمبارزة بل أمر جانباً من قواته بأن تهجم هجوماً عاماً على جانب جيش المسلمين الذي فيه قبيلة بجيلة ومن لفَّ معهم، وكان الهجوم ملفتاً للنظر لأن الفرس وجهوا ما يقرب من نصف الجيش إلى قطاع لا يمثل إلا نسبة قليلة من الجيش الإسلامي، وهذا يدل على محاولتهم المستميتة لقطع حرب المبارزة والمطاردة التي فشلوا فيها، وهكذا هجم الفرس على أحد جناحي جيش المسلمين بثلاثة عشر فيلاً وكل فيل يصحبه حسب تنظيم جيشهم أربعة آلاف مقاتل من المشاة والفرسان، ففرقت الفيلة بين كتائب المسلمين وكان الهجوم مركزاً على بجيلة ومن حولهم وثبت المشاة من أهل المواقف لهجوم الفرس.
أ- سعد يأمر أسد بالذّب عن بجيلة:
أبصر سعد رضي الله الموقف الذي وقعت فيه بجيلة فأرسل إلى بني أسد يقول لهم: ذَبِّبُوا عن بجيلة ومن لافَّها من الناس، فخرج طليحة بن خويلد وحَمَّال بن مالك، وغالب بن عبد الله والرّبيِّل بن عمرو في كتائبهم، يقول المعرور بن سويد وشقيق: فشدُّوا والله عليهم فما زالوا يطعنونهم ويضربونهم حتى حبسنا الفيلة عنهم، فأخِّرت وخرج إلى طليحة عظيم منهم فبارزه، فما لبَّث طليحة أن قتله، ولما رأت فارس
__________
(1) التاريخ الإسلامي (10/445).
(2) تاريخ الطبري (4/363).(1/436)
ما تلقى الفيلة من كتيبة أسد رموهم بحدِّهم وبدر المسلمين الشَّدَّة عليهم ذو الحاجب والجالينوس وهما قائدان من قادة الفرس والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد، فاجتمعت حلبة فارس على أسد ومعهم تلك الفيلة، وقد ثبتوا لهم، وقد كبَّر سعد الرابعة، فزحف إليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على أسد، وحملت الفيلةس من الميمنة والميسرة على خيول المسلمين، فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد، وتلح فرسانهم على المشاة ليدفعوا بالخيل لتُقدم على الفيلة.
ب- سعد يطلب من بني تميم حيلة للفيلة:
أرسل سعد إلى عاصم بن عمرو التميمي فقال: يا معشر تميم ألستم أصحاب الإبل والخيل؟ أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة؟ قالوا: بلى والله، ثم نادى في رجال من قومه رماة، وآخرين لهم ثقافة يعني حذق وحركة فقال لهم: يا معشر الرماة ذُبُّوا ركبان الفيلة عنهم بالنبل وقال: يا معشر أهل الثقافة استدبروا الفيلة فقطِّعوا وضُنُها يعني أحزمتها لتسقط توابيتها التي تحمل المقاتلين وخرج يحميهم والرحى تدور على أسد، وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد، وأقبل أصحاب عاصم على الفيلة فأخذوا بأذنابها وذباذب توابيتها يعني ما يعلق بها فقطعوا وضُنُها وارتفع عواء الفيلة فما بقي لهم يومئذ فيل إلا أُعْريَ، وقتل أصحابها، وتقابل الناس ونُفِّس عن أسد، ورَدُّوا فارس عنهم إلى مواقفهم فاقتتلوا حتى غربت الشمس، ثم حتى ذهبت هدأة من الليل، ثم رجع هؤلاء وهؤلاء، وأُصيب من أسد تلك العشية خمسمائة، وكانوا ردءاً للناس، وكان عاصم يعني وبني تميم عادية الناس وحاميتهم وهذا يومها الأول وهو يوم أرماث(1).
ج- موقف بطولي لطليحة بن خويلد:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/365).(1/437)
كان لأمر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه تأثير على بني أسد، فقد قال طليحة بن خويلد يومئذ: يا عشيرتاه إن المنوّه باسمه الموثوق به، وإن هذا لو علم أن أحداً أحق بإغاثة هؤلاء منكم استغاثهم، ابتدؤوهم الشدة، وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحربة فإنما سُمِّيتم أسداً لتفعلوا فعله شدُّوا ولا تصدوا، وكُرُّوا ولا تفروا، لله در ربيعة أيُّ فري يفرون، وأيُّ قِرنٍ يغنون، هل يوصل إلى موقفهم فأغنوا عن مواقفكم أغناكم الله، شدوا عليهم باسم الله(1)، وقد كان لهذا الكلام مفعول عجيب في نفوس قومه حيث تحولوا إلى طاقات فعالة، وتحملوا وحدهم رحى المعركة إلى أن ساندهم
بنو تميم، وقدموا في هذا اليوم خمسمائة شهيد(2)، وقد تأثرت القبائل من بطولة بني أسد فقال الأشعث بن قيس الكندي: يا معشر كندة لله در بني أسد أي فر يفرون وأي هذٍّ يهذّون عن موقفهم - فتحول موقف كنده من الدفاع إلى الهجوم فأزالوا من أمامهم من المجوس وردُّوهم إلى الوراء(3).
د- ما قيل في الشعر في ذلك اليوم:
قال عمرو بن شأس الأسدي:
لقد عَلِمَتْ بنو أسد بأنا
وأنا النازلون بكل ثغر
ترى فينا الجياد مسوّمات
ترى فينا الجياد مُجلجِّات
بجمع مثل سلم مُكْفَهِر
بمثلهمُ تلاقي يوم هيج
نفينا فارساً عما أرادت ... أولوا الأحلام إذ ذكروا الحُلوما(4)
ولو لم نُلْفِه(5) إلا هشيماً
مع الأبطال يَعْلُكْنَ الشَّكيما
تُنَهْنِه عن فوارسها الخُصوما(6)
تَشَبّهُهُم إذا اجتمعوا قروماً(7)
إذا لاقيت بأساً أو خصوماً
وكانت لا تُحاول أن تَرِيما
هـ- مستشفى الحرب:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/364).
(2) التاريخ الإسلامي (10/449).
(3) القادسية، أحمد عادل كمال ص139 تاريخ الطبري (4/364).
(4) الحلوم: العقول.
(5) نلفه: نجده أو نتركه، فهي من الأضداد.
(6) مجلجات: هاجمات.
(7) سلم مكفهر: سلم ساخن، كناية عن الاستعداد للمعركة، القروم اللحم المكوم.(1/438)
كان موقع مستشفى الحرب في العُذيب حيث تقيم نساء المجاهدين الصابرات المحتسبات، فيتلقين الجرحى ويتولين علاجهم وتمريضهم إلى أن يتم قضاء الله فيهم ومع ذلك فإن لهن مهمة أعجب من ذلك يشترك معهن فيها الصبيان ألا وهي حفر قبور الشهداء، ولئن كان تطييب الجرحى وتمريضهم من المهمات القريبة المنال للنساء فإن حفر الأرض من المهمات الخشنة، ولكن الرجال كانوا مشغولين بالجهاد، فلتقُم النساء بمهمتهم عند الضرورة، وهنَّ أهل لذلك لما يتصفن به من الإيمان والصبر(1)، وقد تم نقل الشهداء إلى وادي مشرِّف بين العذيب وعين الشمس في جانبيه جميعاً(2)، وكان التحاجز بين المسلمين وأعدائهم تلك الليلة فرصة لزيارة بعض المجاهدين لأهلهم في العذيب(3).
و- الخنساء بنت عمرو تحرض بنيها على القتال ليلة الهدأة:
في مضارب نساء المسلمين بالعذيب جلست الخنساء بنت عمرو شاعرة بني سليم المخضرمة ومعها بنوها أربعة رجال تعظهم وتحرضهم على القتال قالت: إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
__________
(1) التاريخ الإسلامي (10/451).
(2) التاريخ الإسلامي (10/452).
(3) التاريخ الإسلامي (10/452).(1/439)
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(200) } (آل عمران،آية:200). فإن أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وحللت تفجرت نار على أرواقها جوانبها فتيمموا وطيسها وسطها وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها - جيشها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة، فخرج بنوها قابلين لنصحها عازمين على قولها فلما أضاء الصبح باكروا مراكزهم(1).
ز- امرأة من النخع تشجع بنيها على القتال:
كانت امرأة من النخع لها بنون أربعة شهدوا القتال ذلك اليوم، فلما بدأ الصباح ينبلج قالت لهم: إنكم أسلمتم فلم تبدلوا، وهاجرتم فلم تثربوا(2)،
ولم تَنْب(3) بكم البلاد تقحمكم السنة(4)، ثم جئتم بأمكم عجوز كبيرة فوضعتموها بين يدي أهل فارس، والله إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره، فانصرفوا عنها مسرعين يشتدون، فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء وهي تقول: اللهم ادفع عن بنيّ، فرجعوا إليها بعد ذلك وقد أحسنوا القتال ما جرح منهم رجل جرحاً(5).
فهذا حال بعض النساء العجائز في اليوم الأول من القادسية.
2- يوم أغواث:
__________
(1) الاستيعاب رقم 287 نساء، القادسية ص146،147 .
(2) يعني لم تكن هجرتكم إلى يثرب.
(3) لم تنسب بكم البلاد: لم تلفظكم.
(4) السنة: القحط والجوع.
(5) تاريخ الطبري (4/366).(1/440)
كان يوم أغواث هو اليوم الثاني من أيام القادسية، وفي ليلة هذا اليوم قدمت طليعة جيش الشام يقودهم القعقاع بن عمرو التميمي وقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قد أمر أمير الشام، أبا عبيدة بإعادة جيش خالد بن الوليد إلى العراق مدداً للمسلمين في القادسية، فأعادهم وأبقى خالداً عنده لحاجته إليه، وولَّى على هذا الجيش هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ابن أخي سعد وكان هذا الجيش تسعة آلاف حين قدم من العراق إلى الشام بقيادة خالد بن الوليد، وعاد منهم إلى العراق ستة آلاف، وقد ولَّى هاشم بن عتبة القعقاع بن عمرو على المقدمة وعددهم ألف مجاهد(1).
أ- مواقف بطولية للقعقاع بن عمرو:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/367)، التاريخ الإسلامي (10/367).(1/441)
أسرع القعقاع بمقدمته حتى قدم بهم على جيش القادسية صبيحة يوم أغواث، وكان أثناء قدومه قد فكر بعمل يرفع به من معنوية المسلمين فقسم جيشه إلى مائة قسم كل قسم مكوَّن من عشرة، وأمرهم بأن يقدموا اتباعاً كلما غاب منهم عشرة عن مدى إدراك البصر سرّحوا خلفهم عشرة، فقدم هو في العشرة الأوائل وصاروا يقدمون تباعاً كلما سرّح القعقاع بصره في الأفق فأبصر طائفة منهم كبَّر فكبر المسلمون، ونشطوا في قتال أعدائهم، وهذه خطة حربية ناجحة لرفع معنوية المقاتلين، فإن وصول ألف لا يعني مدداً كبيراً لجيش يبلغ ثلاثين ألفاً، ولكن هذا الابتكار الذي هدى الله القعقاع إليه قد عوض نقص هذا المدد بما قوّى به عزيمة المسلمين، وقد بشرهم بقدوم الجنود بقوله: يا أيها الناس إني قد جئتكم في قوم والله إن لو كانوا بمكانكم ثم أحسوكم حسدوكم حَظْوتها وحاولوا أن يطيروا بها دونكم، فاصنعوا كما أصنع، فتقدم ثم نادى: من يبارز؟ فقالوا فيه بقول أبي بكر: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا، وسكنوا إليه، فخرج إليه ذو الحاجب(1)، فقال له القعقاع: من أنت(2)؟ فقال: أنا بهمن جاذويه. وهنا تذكّر القعقاع مصيبة المسلمين الكبرى يوم الجسر على يد هذا القائد فأخذته حميته الإسلامية فنادى وقال: يا لثارات
__________
(1) قائد كبير من قادة الفرس وأبطالهم وهو الذي أصاب المسلمين يوم الجسر.
(2) سأل القعقاع جاذويه: لأنه كان لا يعرفه لأن القعقاع يوم الجسر كان في الشام.(1/442)
أبي عبيد وسُليط وأصحاب الجسر، ولابد أن هذا القائد الفارسي بالرغم مما اشتهر به من الشجاعة قد انخلع قلبه من هذا النداء، فلقد قال أبو بكر رضي الله عنه عن القعقاع: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل(1)،فكيف سيثبت له رجل واحد مهما كان في الشجاعة وثبات القلب؟ ولذلك لم يمهله القعقاع أن أوقعه أمام جنده قتيلاً فكان لقتله بهذه الصورة أثر كبير في زعزعة الفرس ورفع معنوية المسلمين لأنه كان قائداً لعشرين ألف مقاتل من الفرس. ثم نادى القعقاع مرة أخرى من يبارز؟ فخرج إليه رجلان أحدهم البيرزان والآخر البندوان، فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان ابن الحارث أخو بني تميم اللات، فبارز القعقاع بيرزان(2)، فقتله القعقاع وبارز ابن ظبيان بندوان وهو من أبطال الفرس فقتله ابن ظبيان وهكذا قضى القعقاع في أول النهار على قائدين من قادة الفرس الخمسة ولاشك أن ذلك أوقع الفرس في الحيرة والاضطراب وساهم ذلك في تدمير معنويات أفراد الجيش الفارسي، والتحم الفرسان من الفريقين، وجعل القعقاع يقول: يا معشر المسلمين باشروهم بالسيوف فإنه يُحصد بها، فتواصى الناس بها، وأسرعوا إليهم بذلك فاجتلدوا بها حتى المساء، وذكر الرواة أن القعقاع حمل يومئذ ثلاثين حملة، كلما طلعت قطعة حمل حملة، وأصاب فيها وجعل يقول:
أُزعجهم عمداً بها إزعاجاً ... أطعن طعناً صائباً ثجّاجاً
وكان آخر من قتل بُزرُ جَمهَرْ الهمذاني وقال في ذلك القعقاع:
حبوته جيَّاشةً بالنفس
في يوم أغواث فَلَيْلُ الفرس ... هدّارة مثل شعاع الشمس
أنخس في القوم أشد النخس
ب- علباء بن جحش العجلي: انتثرت أمعاؤه في المعركة:
وبرز رجل من المجوس أمام صفوف بكر بن وائل فنادى من يبارز؟ فخرج له علباء بن جحش العجلي فنفحه(3)
__________
(1) التاريخ الإسلامي (10/455).
(2) تاريخ الطبري (4/368).
(3) النفح الضرب إلى خارج اليمين.(1/443)
، علباء في صدره وشقَّ رئته ونفحه الآخر فأصابه في بطنه وانتثرت أمعاؤه وسقطا معاً إلى الأرض، أما المجوسي فمات من ساعته، وأما علباء فلم يستطع القيام وحاول أن يعيد أمعاءه إلى مكانها فلم يتأت له ومرّ به رجل من المسلمين فقال له علباء: يا هذا أعني على بطني، فأدخل له أمعاءه فأخذ بصفاقيه ثم زحف نحو صف العجم دون أن يلتفت إلى المسلمين وراءه فأدركه الموت على ثلاثين ذراعاً من مصرعه وهو يقول:
أرجوا بها من ربنا ثواباً ... قد كنت ممن أحسن الضراباً
ج- الأعرف بن الأعلم العُقَيلي:
خرج رجل من أهل فارس ينادي من يبارز؟ فبرز له الأعرف بن الأعلم العُقَيلي فقتله، ثم برز له آخر فقتله، وأحاطت به فوارس منهم فصرعوه، وندر سلاحه عنه فأخذوه، فغبَّر في وجوههم بالتراب حتى رجع إلى أصحابه(1).
د- مواقف فدائية لأبناء الخنساء الأربعة:
كان لأبناء الخنساء الأربعة مواقف فدائية في ذلك اليوم فقد اندفعوا إلى القتال بحماس وقال كل واحد منهم شعراً حماسياً يقوِّي به نفسه وإخوانه فقال أولهم:
يا إخوتي إن العجوز الناصحة
مقالةً ذات بيان واضحة
وإنما تلقون عند الصائحة
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحة ... قد نصحَتْنا إذ دعتنا البارحة
فباكروا الحرب الضَّروس الكالحة
من آل ساسان الكلاب النابحة
وأنتم بين حياة وحياة صالحة
وتقدم فقاتل حتى قتل، فحمل الثاني وهو يقول:
إن العجوز ذات حزم وجلد
قد أمرتنا بالسداد والرّشد
فباكروا الحرب حماة في العدد
أو ميتة تورثكم عز الأبد ... والنظر الأوفق والرأي السَّدد
نصيحة منها وبرّاً بالولد
إما لفوز بارد على الكبد
في جنة الفردوس والعيش الرغد
وقاتل حتى استشهد. وحمل الثالث وهو يقول:
والله لا نعصي العجوز حرفاً
نصحاً وبراً صادقاً ولطفاً
حتى تلفوا آل كسرى لفا
إنا نرى التقصير عنكم ضعفاً ... قد أمرتنا حدباً وعطفاً
فبادروا الحرب الضروس زحفاً
أو يكشفوكم عن حماكم كشفاً
__________
(1) تاريخ الطبري (4/370).(1/444)
والقتل فيكم نجدة وزُلفى
وقاتل حتى استشهد، وحمل الرابع وهو يقول:
لست لخنساء ولا للأخْرَمِ
إن لم أرِدْ في الجيش جيش الأعجم
إما لفوز عاجل ومغنم ... ولا لعمرو ذي السناء الأقدم
ماض على الهول خضمِّ خضرم
أو لوفاة في السبيل الأكرم
فقاتل حتى استشهد(1) وبلغ الخنساء خبر بنيها الأربعة فقالت: الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته(2).
س- مكيدة قعقاعية بالغة التأثير على الفرس:
في هذا اليوم يوم أغواث قام القعقاع بن عمرو وبنو عمه من تميم بمكيدة قعقاعية بالغة التأثير على الفرس، وذلك أنه لما علم بما فعلته الفيلة في اليوم الأول بخيول المسلمين قام هو وقومه بتوفيق من الله تعالى بتهيئة الإبل لتظهر في مظهر مخيف يُنَصِّر الخيول فألبسوها وحلَّلوها ووضعوا لها البراقع في وجوهها، وحملوا عليها المشاة وأحاطوها بالخيول لحمايتها، وهجموا بها على خيول الفرس، ففعلوا بهم يوم أغواث كما فعلوا بالمسلمين يوم أرماث، فجعلت تلك الإبل لا تصمد لقليل ولا لكثير إلا نفرت بهم خيلهم وركبتهم خيول المسلمين، فلما رأى ذلك الناس استنُّوا بهم، فلقي الفرس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة يوم أرماث(3)، وهكذا نجد أن المسلمين الأوائل يتفوقون على أعدائهم في الابتكار الحربي، فالفرس أنهكوا المسلمين في اليوم الأول بسبب استخدام الفيلة، وما دام المسلمون
لا يملكون الفيلة فليخترعوا مما يملكون من الإبل ما يكيدون به الأعداء فكانت هذه الحيلة الحربية الممتازة التي أخافت خيول الأعداء فنفرت بمن عليها من الفرسان، وهكذا يجب أن يكون المسلمون متفوقين في مجال الإعداد المادي بعد تفوقهم في الإعداد الروحي.
ش- أبو محجن الثقفي في قلب المعركة:
__________
(1) القادسية ص154 أحمد عادل كمال.
(2) الخنساء أم الشهداء، عبد المنعم الهاشمي ص98 .
(3) التاريخ الإسلامي (10/46).(1/445)
استمر القتال يوم أغواث إلى منتصف الليل، وسميت تلك الليلة ليلة السواد، ثم وقف القتال بعد أن تحاجز الفريقان وكان لوقف القتال منفعة كبيرة للمسلمين، حيث كانوا ينقلون شهداءهم إلى مقر دفنهم في وادي مُشرِّق، وينقلون الجرحى إلى العُذَيب حيث تقوم النساء بتمريضهم، ولقد شارك في القتال في هذه الليلة لأول مرة أبو محجن الثقفي(1)، وكان أبو محجن قد حُبس وقُيّد، فهو في القصر، فصعد حين أمسى إلى سعد يستعفيه ويستقيله، فزبره وردّه فنزل فأتى سلْمى بنت خَصَفة، فقال: يا سلمى يا بنت آل خَصفة، هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلِّين عنِّي وتُعيرينني البلقاء، فلله علي إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قَيْدي، فقالت، وما أنا وذاك! فرجع يرسف في قيوده ويقول:
كفى حزناً أن تَرْدِىَ الخيلُ بالقنا(2)
إذا قُمتُ عنَّاني الحديدُ وأُغلقت
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة
ولله عهدٌ لا أخيسُ بعهده ... وأترك مشدوداً عليَّ وثاقيا
مصارع دوني قد تصمُّ المُناديا
فقد تركوني واحداً لا أخاليا
لئن فُرجَتْ ألاَّ أزور الحوانيا
__________
(1) نفس المصدر (10/462).
(2) القنا: الرمح.(1/446)
فقالت سَلْمى: إني استخرت الله ورضيت بعهدك، فأطلقته وقالت: أمّا الفَرَس فلا أعيره، ورجعت إلى بيتها، فاقتادها، فأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق فركبها، ثم دبّ عليها، حتى إذا كان بحيال الميمنة كبَّر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصّفَّين، فقالوا: بسرجها، وقال سعيد والقاسم عُزْياً، ثم رجع من خلف المسلمين إلى الميسرة فكبَّر وحمل على ميمنة القوم يلعب الصّفَّين برمحه وسلاحه، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فندر أمام الناس، فحمل على القوم يلعب بين الصّفين برمحه وسلاحه، وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفاً منكراً وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه من النَّهار، فقال بعضهم: أوائل أصحاب هاشم أو هاشم نفسه وجعل سعد يقول وهو مشرف على الناس مُكِبّ من فوق القصر: والله لولا محبس أبي مِحْجَن لقلت: هذا أبو محجن وهذه البلقاء، وتعددت الأقوال فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس، وتراجع المسلمون، وأقبل أبو محْجن حتى دخل من حيث خرج، وعاد رجليه في قيديه وقال:
لقد علمت ثقيف غير فخر
وأكثرهم دروعاً سابغات
وأنّا وفدهم في كل يوم
وليلة قادس لم يشعروا بي
فإن أُحبس فذلكم بلائي ... بأنا نحن أكرمَهُم سُيُوفاً
وأصبرهم إذا كَرهوا الوُقوفا
فإن عَميُوا فسل بهمُ عَريفاً
ولم أشعر بمخرجي الزُّحُوفا
وإن أترك أذيقُهُهُم الحُتوفا
فقالت له سلمى: يا أبا محْجَن، في أي شيء حبسك هذا الرجل؟ قال: أما والله
ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته، ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدبّ الشعر على لساني، يبعثه على شفتي أحياناً، فيساء لذلك ثنائي، ولذلك حبسني قلت:
إذا متُّ فادْفنِّي إلى أصل كَرْمَةُ
ولا تدفنِّي بالفلاة فإنني
وتُروي بخمر الحُصِّ لَحدي فإنني ... تُرَويِّ عظامي بعد موتي عُرُوقها
أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
أسيرُ لها من بعد ما قد أسوقُها(1/447)
فلما أصبحت سلمى أخبرت سعد بن أبي وقاص عن خبرها وخبر أبي محجن، فدعا به فأطلقه، وقال: أذهب فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله، قال: لا جرم
لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبداً(1).
ص- خطة قعقاعية في النصف الأخير من ليلة السواد:
من أبرز ما جرى من نصف ليلة السواد الأخير أن القعقاع بن عمرو اغتنم الفرصة في التخطيط لخطة يرفع بها من معنويات المسلمين في يومهم القادم، فلقد أمر أتباعه بأن يتسللوا سراً ثم يقدموا في النهار تباعاً على فرق كل فرقة مائة مقاتل، وقال لهم: إذا طلعت لكم الشمس فأقبلوا مائة مائة، كلما توارى عنكم مائة فليتبعها مائة، فإن جاء هاشم فذاك، وإلا جددتم للناس رجاء وجدَّاً فلما ذرَّ قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل وطلعت نواصيها كبَّر وكبر الناس وقالوا: جاء المدد، وقد تأسَّي به أخوه عاصم بن عمرو فأمر قومه أن يصنعوا مثل ذلك فأقبلوا من جهة (خفَّان)، فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى إليهم هاشم بن عتبة في سبعمائة من جيش الشام، فأخبروه برأي القعقاع وما صنع في يوميه، فعبَّأ أصحابه سبعين سبعين، فلما جاء آخر أصحاب القعقاع خرج هاشم في سبعين معه(2)، وهنا يلاحظ الباحث تواضع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص فلقد قبل الأخذ بالرأي الأمثل في التخطيط الحربي فصنع بتفريق جيشه كما صنع القعقاع بن عمرو، ولم يمنع اعتبار النفس والمنصب من أن يأخذ برأي قائد من قواده، بل كان رجلاً من الرجال الذين تخرجوا من مدرسة التربية النبوية، فأصبحوا يلغون ذواتهم ومصالحهم الخاصة في سبيل مصلحة الإسلام ومصلحة المسلمين العامة، وهذا من أهم أسباب نجاحهم في إقامة الدولة الإسلامية الكبرى، والقضاء على قوى العالم آنذاك(3).
3- يوم عماس:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/374).
(2) تاريخ الطبري (4/375).
(3) التاريخ الإسلامي (10/466).(1/448)
هذا اليوم الثالث، يوم عِمَاس فقد قدَّم الفرس فيه فيلتهم بتخطيط جديد تلافوا به ما كان في اليوم الأول من قطع حبالهم، فجعلوا مع كل فيل رجالاً يحمونه ومع الرجال فرسان يحمونهم وظل المسلمون يقاتلون الفيلة ومن فوقها وحولها، ولقوا منها عنتاً شديداً، ولما رأى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ما يلاقي المسلمون منها أرسل إلى مسلمي الفرس الذين كانوا مع جيش المسلمين سألهم عن الفيلة هل لها مقاتل؟ فقالوا: نعم المشافر والعيون لا ينتفع بها بعدها، فأرسل إلى القعقاع وعاصم بن عمرو وقال لهما: اكفياني الفيل الأبيض وكانت كلها آلفة له وكان بإزائها وأرسل إلى حمَّال بن مالك والربِّيِّل بن عمرو الأسدي فقال: اكفياني الفيل الأجرب، وكانت آلفة كلها وكان بإزائهما، فأخذ القعقاع وعاصم رُمحَيهما ودبَّا إليه في كتيبة من الفرسان والرجال، فقالا لمن معهما: اكتنفوه لتحيروه فأصبح الفيل ينظر يمنة ويسرة متحيراً ممن حوله، ودنا منه القعقاع وعاصم فحملا عليه وهو متشاغل بمن حوله فوضعا رمحيهما معاً في عين الفيل الأبيض، ونفض رأسه فطرح سائسه، ودلَّى مشفره، فنفحه القعقاع بسيفه فرمى به، ووقع لجنبه فقتل من كان عليه. وحمل حمّال بن مالك وقال للرِّبيِّل بن عمرو: اختر إما أن تضرب المشفر، وأطعن في عينه أو تطعن في عينه وأضرب مشفره، فاختار الضرب، فحمل عليه حمال وهو متشاغل بملاحظة من اكتنفه لا يخاف سائسه إلا على بطانه وذلك لأن المسلمين قطعوا ذلك منها في اليوم الأول فانفرد به أولئك فطعنه حمّال في عينه فأقعى على خلفه، ثم استوى، ونفحه الربيل بن عمرو فأبان مشفره، وبصُر به سائسه فضرب جبينه وأنفه بحديده كانت معه وأفلت منها الربيل وحمال، وصاح الفيلان صياح الخنزير، وكانت الفيلة تابعة لهما فرجعت على الفرس ورجعت معها الفيلة تطأ جيش الفرس حتى قطعت نهر العتيق وولَّت نحو المدائن وهلك من كان عليها(1) ولما خلا الميدان من
__________
(1) التاريخ الإسلامي (10/468).(1/449)
الفيلة زحف الناس بعضهم على بعض واشتد القتال بينهم، وكان لدى الفرس جيش احتياطي من أهل النجدات والبأس، فكلما وقع خلل في جيشهم، أبلغوا (يزدجرد) فأرسل لهم من هؤلاء وقد انتهى ذلك اليوم والمسلمون وأعداؤهم على السواء(1).
أ- بطولة عمرو بن معديكرب:
قال عمرو بن معديكرب: إني حامل على الفيل ومن حوله بإزائهم فلا تَدَعوني أكثر من جز جزور (يعني نحر الناقة) فإن تأخرتم عني فقدتم أبا ثور، فأنَّى لكم مثل أبي ثور فإن أدركتموني وجدتموني وفي يدي السيف، فحمل فما انثنى حتى ضرب فيهم، وستره الغبار، فقال أصحابه: ما تنظرون؟ ما أنتم بخلقاء أن تدركوه، وإن فقدتموه فقد المسلمون فارسهم، فحملوا حملة فأفرج المشركون عنه بعدما صرعوه وطعنوه وإن سيفه لفي يده يضاربهم وقد طعن فرسه، فلما رأى أصحابه وانفرج عنه أهل فارس أخذ برجل فرس من أهل فارس، فحركه الفارسي فاضطرب الفرس فالتفت الفارسي إلى عمرو، فهمَّ به وأبصره المسلمون، فغشُوه، فنزل عنه الفارسي، وحاضر يعني أسرع إلى أصحابه، فقال عمرو: أمكنوني من لجامه، فأمكنوه منه فركبه(2).
ب- طليحة بن خويلد الأسدي:
استمر القتال في اليوم الثالث إلى الليل، ثم حجز بينهم صوت طليحة بن خويلد الأسدي، وكان قد التف وراء جيش الفرس، ففزع لذلك الفرس وتعجب المسلمون، فكف بعضهم عن بعض للنظر في ذلك، وكان سعد رضي الله عنه قد بعثه مع أناس لحراسة مكان يحتمل منه الخطر على المسلمين، فتجاوز مهمته، ودار من خلف الفرس وكبَّر ثلاث تكبيرات(3)، ولقد أفادت حركته هذه حيث توقفت الحرب وكان هناك فرصة لإعادة الصفوف والاستعداد لقتال الليل.
ج- قيس بن المكشوح:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/376).
(2) تاريخ الطبري (4/378).
(3) تاريخ الطبري (4/382).(1/450)
يا معشر العرب، إن الله قد من عليكم بالإسلام، وأكرمكم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فأصبحتم بنعمة الله إخواناً، دعوتكم واحدة، وأمركم واحد، بعد إذ أنتم يعدو بعضكم على بعض عدو الأسد، ويختطف بعضكم بعضاً اختطاف الذئاب، فانصروا الله ينصركم، وتنجزوا من الله فتح فارس، فإن إخوانكم من أهل الشام قد أنجز الله لهم فتح الشام وانتشال(1)، القصور الحمر والحصون الحمر(2).
د- مما قيل من الشعر ذلك اليوم:
قال القعقاع بن عمرو:
حضَّض قومي مَضْرَحيُّ بن يعمر
وما خام عنها يوم سارت جموعُنا
فإن كنتُ قاتلتُ العدوَّ فَلَلْته
فيولاً أراها كالبُيوت مُغيرة ... فلله قومي حين هزُّوا العواليا
لأهل قُديس يمنعون المواليا
فإني لألقى في الحروب الدّواهيا
أُسَمِّلُ أعياناً لها ومآقيا(3)
وقال آخر:
أنا ابن حرب ومعي مخراقي
إذ كره الموت أبو إسحاق ... أضربهم بصارم رقراق
وجاشت النفس على التراقي
س- ليلة الهرير:
__________
(1) انتشال: استخراج، انتزاع.
(2) تاريخ الطبري (4/378).
(3) تاريخ الطبري (4/381).(1/451)
بدأ القتال ليلة الهرير في اليوم الرابع، وقد غيّر الفرس هذه الليلة طريقتهم في القتال، فقد أدرك رستم أن جيشه لا يصل إلى مستوى فرسان المسلمين في المطاردة ولا يقاربهم، فعزم على أن يكون القتال زحفاً بجميع الجيش حتى يتفادى الانتكاسات السابقة التي تسببت في تحطيم معنويات جيشه، فلم يخرج أحد من الفرس للمبارزة والمطاردة بعدما انبعث لذلك أبطال المسلمين، وجعل رستم جيشه ثلاثة عشر صفاً في القلب والمجنَّبتين وبدأ القعقاع بن عمرو القتال وتبعه أهل النجدة والشجاعة قبل أن يكبر سعد، فسمح لهم بذلك واستغفر لهم، فلما كبر ثلاثاً زحف القادة وسائر الجيش، وكانوا ثلاثة صفوف، صفاً فيه الرماة وصفاً فيه الفرسان وصفاً فيه المشاة، وكان القتال في تلك الليلة عنيفاً، وقد اجتلدوا من أول الليل حتى الصباح لا ينطقون، كلامهم الهرير، فسمّيت ليلة الهرير، وقد أوصى المسلمون بعضهم بعضاً على بذل الجهد في القتال لما يتوقعونه من عنف الصراع، ومما رُوي من الأقوال في ذلك(1) ما قاله كل من:
دريد بن كعب النخعي قال لقومه: إن المسلمين تهيئوا للمزاحفة فاسبقوا المسلمين الليلة إلى الله والجهاد فإنه لا يسبق الليلة أحد إلا كان ثوابه على قدر سبقه، نافسوهم في الشهادة وطيبوا بالموت نفساً، فإنه أنجى من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلا فالآخرة ما أردتم.
وقال الأشعث بن قيس: يا معشر العرب إنه لا ينبغي أن يكون هؤلاء القوم أجرأ على الموت ولا أسخى أنفساً عن الدنيا، تنافسوا الأزواج والأولاد، ولا تجزعوا من القتل فإنه أماني الكرام ومنايا الشهداء(2).
__________
(1) التاريخ الإسلامي (10/472).
(2) تاريخ الطبري (4/384).(1/452)
وقال حميضة ين النعمان البارقي: كان بإزاء قبيلة (جُعْفى) ليلة الهرير كتيبة من كتائب العجم عليهم السلاح التام، فازدلفوا لهم فجالدوهم بالسيوف، فرأوا أن السيوف لا تعمل مع الحديد فارتدعوا، فقال لهم حميضة بن النعمان البارقي: مالكم؟ قالوا لا يجوز فيهم السلاح، قال: كما أنتم حتى أريكم، انظروا، فحمل على رجل منهم فاستدار خلفه فدق ظهره بالرمح ثم التفت إلى أصحابه فقال:
ما أراهم إلا يموتون دونكم، فحملوا عليهم وأزالوهم إلى صفهم(1).
وكان بإزاء قبيلة كندة، ترك الطبري (أحد قادة الفرس) فقال الأشعث بن قيس الكندي: ياقوم ازحفوا لهم، فزحف لهم في سبعمائة فأزالهم وقتل قائدهم، ترك وكان القتال في تلك الليلة شديداً متواصلاً وقام زعماء القبائل يحثون قبائلهم على الثبات والصبر، ومما يبين عنف القتال في تلك الليلة، ما أخرجه الطبري عن أنس بن الحليس قال: شهدت ليلة الهرير، فكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم حتى الصباح، أفرغ عليهم الصبر إفراغاً وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمراً لم يروا مثله قط، وانقطعت الأصوات والأخبار عن رستم وسعد، وأقبل سعد على الدعاء حتى إذا كان نصف الليل الباقي سمع القعقاع بن عمرو وهو يقول:
نحن قتلنا معشراً وزائداً
نحسب فوق اللّبد الأساودا(2) ... أربعة وخمسة وواحداً
حتى إذا ماتوا دعوت جاهداً
الله ربي واحترست عامداً(3)
فاستدل سعد بذلك على الفتح، وهكذا بات سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يدعو الله تعالى تلك الليلة ويستنزل نصره، ومما ينبغي الإشارة إليه أن سعداً كان مستجاب الدعوة(4).
4- يوم القادسية:
__________
(1) نفس المصدر (4/386).
(2) اللّبد سرج الفرس، والأساود الحيات.
(3) تاريخ الطبري (4/386)
(4) التاريخ الإسلامي (9/474).(1/453)
أصبح المسلمون في اليوم الرابع وهم يقاتلون، فسار القعقاع بن عمرو في الناس فقال: إن الدَّبرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر، فآثروا الصبر على الجزع، فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء، وصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح ولما رأت ذلك القبائل قام فيها رجال، فقام قيس بن عبد يغوث والأشعث بن قيس، وعمرو بن معد يكرب وابن ذي السَّهمين الخشعمي وابن ذي البُردين الهلالي، فقالوا: لا يكونن هؤلاء (يعني أهل فارس) أجرأ على الموت منكم، ولا أسخى أنفساً عن الدنيا، وقام في ربيعة رجال فقالوا: أنتم أعلم الناس بفارس وأجرؤهم عليهم فيما مضى، فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ مما كنتم(1)، وهكذا يضيف القعقاع بن عمرو مأثرة جديدة في مآثره الكثيرة فقد جمع الله له بين الشجاعة النادرة، والرأي السديد وقوة الإيمان، فسخر ذلك كله لنصرة الإسلام والمسلمين، وكان قدومه في هذه المعركة فتحاً للمسلمين، لقد أدرك القعقاع أن الأعداء قد نفد صبرهم بعد قتال استمر يوماً وليلة دون انقطاع، وقبل ذلك لمدة يومين مع راحة قليلة، وعرف بثاقب فكره وطول تجربته -بعد توفيق الله له- أن عاقبة المعركة مع من صبر بعد هذا الإجهاد الطويل، واستطاع القعقاع ومن معه من الأبطال أن يفتحوا ثغرة عميقة في قلب الجيش الفارسي حتى وصلوا قريباً من رستم مع الظهيرة، وهنا تنزّل نصر الله تعالى، وأمدَّ أولياءه بجنود من عنده فهبَّت ريح عاصف وهي الدَّبور، فاقتلعت طيارة رستم عن سريره، وألقتها في نهر العتيق، ومال الغبار على الفرس فعاقهم عن الدفاع(2).
أ- مقتل رستم قائد الفرس:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/387).
(2) التاريخ الإسلامي (10/476).(1/454)
وتقدم القعقاع ومن معه حتى عثروا على سرير رستم وهم لا يرونه من الغبار، وكان رستم قد تركه واستظل ببغل فوقع على رستم وهو لا يشعر به فأزال من ظهره فقاراً، وهرب رستم نحو نهر العتيق لينجو بنفسه ولكن هلالاً أدركه فأمسك برجله وسحبه ثم قتله، وصعد السرير ثم نادى: قتلت رستم ورب الكعبة، إليَّ، فأطافوا به وما يرون السرير وكبَّروا وتنادوا، وانهزم قلب الفرس، أما بقية قادة المسلمين فإنهم تقدموا أيضاً فيمن يقابلهم وتقهقر الفرس أمامهم، ولما علم الجالينوس بمقتل رستم قام على الرّدم المُقام على النهر ونادى أهل فارس إلى العبور فراراً من القتل فعبروا، أما المقترنون بالسلاسل وعددهم ثلاثون ألفاً فإنهم تهافتوا في نهر العتيق فوخزهم المسلمون برماحهم، فما أفلت منهم أحد(1).
ب- نهاية المعركة:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/388).(1/455)
انتهت المعركة بتوفيق الله تعالى، ثم بجهود أبطال المسلمين وحكمة قائدهم سعد بن أبي وقاص، وكانت معركة عنيفة قاسية ثبت فيها الأعداء للمسلمين ثلاثة أيام حتى هزمهم الله في اليوم الرابع، بينما كان المسلمون يهزمون أعداءهم غالباً في يوم واحد، وكان من أسباب هذا الثبات أن الفرس كانوا يعتبرون هذه المعركة معركة مصير، فإما أن تبقى دولتهم مع الانتصار، وإما أن تزول دولتهم مع الهزيمة والاندحار ولا تقوم لهم قائمة، كما أن من أسباب ثباتهم وجود أكبر قادتهم رستم، على رأس القيادة، وهو قائد له تاريخ حافل بالانتصارات على أعدائه إضافة إلى تفوق الفرس في العدد والعُدد، حيث كان عدد الفرس عشرين ومائة ألف من المقاتلين من غير الأتباع، مع من كان يبعثهم يزدجرد مدداً كل يوم بينما كان عدد المسلمين بضعة وثلاثين ألفاً(1)، ومع هذا كله انتصر المسلمون عليهم بعد أن قدموا ثمانية آلاف وخمسمائة من الشهداء(2)، وهذا العدد من الشهداء هو أكبر عدد قدمه المسلمون في معاركهم في الفتوح الإسلامية الأولى، وكونهم قدموا هذا العدد من الشهداء دليل على عنف المعركة وعلى استبسال المسلمين وتعرضهم للشهادة رضي الله عنهم أجمعين(3).
ج- مطاردة فلول المنهزمين:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/388).
(2) تاريخ الطبري (4/388).
(3) التاريخ الإسلامي (10/479).(1/456)
أمر سعد رضي الله عنه بمطاردة فلول المنهزمين فوكل القعقاع ابن عمرو وشرحبيل بن السمط الكندي بمطاردة المنهزمين يميناً وشمالاً دون نهر العتيق، وأمر زُهرة بن الحوية بمطاردة الذين عبروا النهر مع قادتهم، وكان الفرس قد بثقوا النهر في الردم حتى لا يستطيع المسلمون متابعتهم، فاستطاع زهرة وثلاثمائة فارس أن ليتجاوزوا بخيولهم وأمر من لا يستطيع بموافاتهم من طريق القنطرة، وكان أبعد قليلاً، ثم أدركوا القوم وكان الجالينوس وهو أحد قادتهم الكبار يسير في ساقة القوم يحميهم، فأدركه زهرة فنازله فاختلفا ضربتين فقتله زهرة وأخذ سلبه وطاردوا الفرس وقتلوا منهم، ثم أمسوا في القادسية مع المسلمين(1).
س- بشائر النصر تصل إلى عمر رضي الله عنه:
وكتب سعد إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما يخبره بالفتح مع سعد بن عُميْلة الفزاري وجاء في كتابه: أما بعد فإن الله نصرنا على أهل فارس، ومنحهم سنن من كانوا قبلهم من أهل دينهم، بعد قتال طويل، وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعُدة لم ير الراؤون مثل زهائها (يعني مقدارها) فلم ينفعهم الله بذلك بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين، واتبعهم المسلمون على الأنهار وعلى طفوف الآجام، وفي الفجاج، وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ وفلان وفلان، ورجال من المسلمين لا نعلمهم، والله بهم عالم، كانوا يُدَوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل دَويَّ النحل، وهم آساد الناس لا يشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقي إلا بفضل الشهادة إذ لم تكتب لهم(2)، وفي هذه الرسالة دروس وعبر منها:
ما تحلى به سعد رضي الله عنه من توحيد الله تعالى وتعظيمه والبراءة من حول النفوس وقوتها، فالنصر على الأعداء إنما هو من الله تعالى وحده وليس بقوة المسلمين، بالرغم مما بذلوه من الجهاد المضني والتضحية العالية.
__________
(1) تاريخ الطبري (4/389).
(2) تاريخ الطبري (4/408).(1/457)
وقوة الأعداء الضخمة، ليس بقاؤها أو سلبها للبشر، بل ذلك كله لله تعالى، فهو الذي حرم الأعداء من الانتفاع بقوتهم، وهو الذي منحها للمسلمين، وإنما البشر مجرد وسائط يجري الله النفع والضرر على أيديهم، وهو وحده الذي يستطيع دفع الضرر وجلب المنفعة سبحانه وتعالى، وهكذا فهم سعد رضي الله عنه معنى التوحيد، وحققه مع جنوده في حياته.
ونلاحظ سعداً في رسالته يصف الصحابة رضي الله عنهم ومن معهم من التابعين بالتفوق في العبادة والشجاعة، فهم عُبَّاد في الليل لهم أصوات مدوِّية بالقرآن كأصوات النحل لا تكلُّ ولا تمل، وفرسان في النهار لا تصل الأسود الضارية إلى مستواهم في الإقدام والثبات(1) وكان عمر رضي الله عنه يستخبر الركبان عن أهل القادسية من حين يصبح إلى انتصاف النهار، ثم يرجع إلى أهله ومنزله، فلما لقي البشير سأله من أين؟ فأخبره، قال: يا عبد الله حدثني قال: هَزم الله العدو، وعمر يخُبُّ معه –يعني يسرع- ويستخبره، والآخر على ناقته ولا يعرفه، حتى دخل المدينة فإذا الناس يسلِّمون عليه بإمرة المؤمنين فقال: فهلا أخبرتني رحمك الله أنك أمير المؤمنين، وجعل عمر يقول لا عليك يا أخي(2) وفي هذا الخبر دروس وعبر منها:
الاهتمام الكبير من عمر رضي الله عنه الذي دفعه إلى أن يخرج إلى البرِّية كل يوم لعله يجد الركبان القادمين من العراق فيسألهم عن خبر المسلمين مع أعدائهم، وقد كان بإمكانه أن يوكل بهذه المهمة غيره ممن يأتيه بالخبر ولكن الهمَّ الكبير الذي كان يحمله للمسلمين لا يتيح له أن يفعل ذلك، وهنا منتهى الرحمة والشعور بالمسؤولية.
التواضع الجمِّ من عمر رضي الله عنه، فقد ظل يسير ماشياً مع الراكب، ويطلب منه خبر المعركة، وذلك الرسول لا يريد أن يخبره بالتفاصيل حتى يصل إلى
__________
(1) التاريخ الإسلامي (10/481).
(2) تاريخ الطبري (4/408).(1/458)
أمير المؤمنين، ولا يدري أنه الذي يخاطبه ويعدو معه، حتى عرف ذلك من الناس في المدينة وهذه أخلاق رفيعة يحق للمسلمين أن يفاخروا بها العالم في تاريخهم الطويل، وأن يستدلوا بها على عظمة هذا الدين الذي أنجب رجالاً مثل عمر في عدله ورحمته وحزمه وتواضعه(1).
خامساً: دروس وعبر وفوائد:
1- تاريخ المعركة وأثرها في حركة الفتوحات:
اختلف المؤرخون في تحديد تاريخ المعركة وللأستاذ أحمد عادل كمال تحقيق جيد توصل فيه إلى أنها في شهر شعبان من العام الخامس عشر(2)، وهذا القول أميل إليه، ولا شك أن القادسية تقع على قمة قائمة المعارك الحاسمة في تاريخ العالم فهي تبين أنواعاً من التمكين الرباني لأهل الإيمان الصحيح، فقد انفتحت على آثارها أبواب العراق، ومن وراء العراق فارس كلها، وهي التي من عندها استطرد نصر المسلمين، فاستطرد معه السقوط الساساني من الناحيتين الحربية والسياسية، والسقوط المجوسي من الناحية الدينية العقائدية، ومن هنا انساح دين الإسلام في بلاد فارس وما وراءها، ففي القادسية كسر المسلمون شوكة المجوس كسرة لم ينجبر شأنهُم بعدها أبداً، وبهذا استحقت القادسية مكانها على قمة المعارك الحاسمة في تاريخ البشر(3).
2- خطبة عمرية بعد فتح القادسية:
__________
(1) التاريخ الإسلامي (10/488).
(2) القادسية 266، التاريخ الإسلامي (10/ 488).
(3) الطريق إلى المدائن ص473، 474.(1/459)
لما أتى عمر رضي الله عنه خبر الفتح قام في الناس فقرأ عليهم الفتح، وقال: إني حريص على أن لا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجز ذلك منا تآسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف، ولوددت أنكم علمتم من نفسي مثل الذي وقع فيها لكم ولست معلمكم إلا بالعمل، إني والله ما أنا بملك فأستعبدكم، وإنما أنا عبد الله عُرض عليَّ الأمانة، فإن أبيتها (يعني أعففت نفسي من أموال الرعية) ورددتها عليكم واتبعتكم حتى تشبعوا في بيوتكم وترووا سعدت، وإن أنا حملتها واستتبعتها إلى بيتي شقيت، ففرحت قليلاً وحزنت طويلاً، وبقيت لا أقال ولا أرد فأستعتب(1).
3- الوفاء عند المسلمين، والعدل لا رخصة فيه:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/ 409).(1/460)
كتب سعد رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين رضي الله عنهما كتاباً آخر، يطلب فيه أمره في أهل الذمة من عرب العراق الذين نقضوا عهدهم في حال ضعف المسلمين فقام عمر رضي الله عنه في الناس فقال: إنه من يعمل بالهوى والمعصية يسقط حظه ولا يضر إلا نفسه، ومن يتبع السنة وينته إلى الشرائع ويلزم السبيل النهج ابتغاء ما عند الله لأهل الطاعة أصاب أمره وظفر بحظه، وذلك بأن الله عز وجل يقول: { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا(49) } (الكهف،آية:49)، وقد ظفر أهل الأيام والقوادس بما يليهم، وجلا أهله، وأتاهم من أقام على عهدهم، فما رأيكم فيمن زعم أنه استكره وحشر وفيمن لم يدع ذلك ولم يقم وجلا، وفيمن أقام ولم يدع شيئاً ولم يجل، وفيمن استسلم؟ فاجتمعوا على أن الوفاء لمن أقام وكف ولم يزده غلبه إلا خيراً، وأن من ادعى فصُدِّق أو وفى فمنزلتهم، وإن كُذِّب نبذ إليهم وأعادوا صلحهم، وأن يجعل أمر من جلا إليهم فإن شاءوا وادعوهم وكانوا لهم ذمة، وإن شاءوا تموا على منعهم من أرضهم ولم يعطوهم إلا القتال، وأن يُخَيَّروا من أقام واستسلم الجزاء إلاّ القتال، وأن يخيّروا من أقام واستسلم الجزاء أو الجلاء وكذلك الفلاحين(1).
وفي هذه الخطبة دروس وعبر منها:
تطبيق عمر رضي الله عنه مبدأ الشورى حيث كان يستشير أهل الرأي في كل أموره المهمة بالرغم مما عرف عنه من غزارة العلم وسداد الرأي، وإن هذا السلوك الرفيع كان من أسباب نجاحه الكبير في سياسة الأمة.
__________
(1) تاريخ الطبري (4/ 410).(1/461)
الاستفادة من هذه المقدمة التي قدمها عمر رضي الله عنه بين يدي استشارته حيث ذكر الصحابة رضي الله عنهم بلزوم التجرد من الهوى وإخلاص النية لله عز وجل، والاستقامة على المنهج القويم الذي سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن فعل ذلك عصم من الذل في الحكم وأصاب الحق وظفر بثواب الله تعالى(1)، وقد لخص عمر رضي الله عنه هذه المشورة بخطاب وجّهه إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه جاء فيه: أما بعد فإن الله جل وعلا أنزل في كل شيء رخصة في بعض الحالات إلا في أمرين: العدل في السيرة والذكر، فأما الذكر فلا رخصة فيه في حالة، ولم يرض منه إلا بالكثير، وأما العدل فلا رخصة فيه في قريب ولا بعيد، ولا في شدة ولا رخاء، والعدل – وإن رئي ليناً – فهو أقوى وأطفأ للجور، وأقمع للباطل من الجور، وإن رئي شديداً فهو أنكش للفكر، فمن تم على عهده من أهل السواد – يعني عرب العراق – ولم يُعِنْ عليكم بشيء فلهم الذمة وعليهم الجزية، وأما من ادعى أنه استُكره ممن لم يخالفهم إليكم أو يذهب في الأرض فلا تصدقوهم بذلك إلا أن تشاءوا، وإن لم تشاءوا فانبذوا إليهم، وأبلغوهم مأمنهم(2)،وفي هذا الرد دروس وعبر منها؛ أن العدل في الحكم هو الدعامة الكبرى لبقاء حكم الإسلام وسيادته وانتشار الأمن والرخاء في بلاد المسلمين، هذا في الدنيا وأما في الآخرة فلا مفر من العقاب للظالمين، لأن حقوق الله تعالى قد يغفرها لعبده ويتجاوز عنه، أما حقوق الناس فإن الله تعالى يوقف الظالمين والمظلومين يوم القيامة فيقتصّ بعضهم من بعض وأما ذكر الله تعالى فلا بد أن يسود حياة المسلم في قلبه ولسانه وجوارحه، فيكون تفكيره خالصاً لله تعالى، ومنطقه فيما يرضيه وعمله من أجله، ويكون همه الأكبر إقامة ذكر الله جل وعلا في الأرض قولاً وعملاً واعتقاداً فإذا كان كذلك عصمه الله سبحانه من فتنة الشبهات والشهوات وقد أخذ
__________
(1) التاريخ الإسلامي (10/ 485).
(2) تاريخ الطبري (4/ 410).(1/462)
سعد ومن معه من المسلمين بتوجيهات أمير المؤمنين فعرضوا على من حولهم ممن جلا عن بلاده أن يرجعوا ولهم الذمة وعليهم الجزية، وهكذا نجد أمامنا نموذجاً من نماذج الرحمة وتأليف القلوب، وقد أثرت هذه المعاملة الكريمة وحبَّبت المسلمين والإسلام لهؤلاء الناكثين فدخلوا بعد ذلك على مراحل في الإسلام وصاروا من اتباعه المخلصين(1).
4- الخمس في القادسية رده عمر علي المقاتلين وحسن مكافأته للبارزين:
أمر عمر رضي الله عنه في القادسية برد الخمس على المقاتلين، ونفذ سعد أمر الخليفة، وكان اجتهاد عمر هنا بارعاً كبراعة اجتهاده في ترك أراضي السواد بيد أصحابها، فقد رأى تمشياً مع المصلحة العليا للدولة أن يوزع الخمس على المجاهدين تشجيعاً لهم وتوسعة عليهم واعترافاً بجهودهم(2)، وقد أرسل عمر إلى سعد أربعة أسياف، وأربعة أفراس يعطيها مكافأة لمن انتهى إليه البلاء في حرب العراق، فقلد الأسياف لأربعة؛ ثلاثة من بني أسد وهم: حمّال بن مالك، والربيل بن عمرو بن ربيعة الواليين، وطليحة بن خويلد، والرابع لعاصم بن عمرو التميمي، وأعطى الأفراس: واحدة للقعقاع بن عمرو التميمي، والثلاثة لليربوعيين مكافأة لهم على واقعة عشية أغواث(3)، وهذه من الوسائل العمرية في تفجير طاقات المجاهدين وتحفيز همم المسلمين نحو المعالي والأهداف السامية والمقاصد النبيلة.
5- عمر يرد اعتبار زهرة بن الحوية:
__________
(1) التاريخ الإسلامي (10/ 487).
(2) أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الخليفة المجتهد للعمراني ص163.
(3) خلافة الصديق والفاروق للثعالبي ص253.(1/463)
عاد زهرة من مطاردته لفلول الفرس وبعد أن قتل جالنوس أحد قادة الفرس، فأخذ زهرة سلبه وتدرع بما كان على جالنوس فعرفه الأسرى الذين كانوا عند سعد وقالوا: هذا سلب جالنوس. فقال له سعد: هل أعانك عليه أحد؟ قال: نعم. قال: من؟ قال: الله. وكان زهرة يومئذ شاباً له ذؤابة وقد سُوِّد في الجاهلية وحسن بلاؤه في الإسلام، وغضب سعد أن تسرع زهرة فلبس ما كان على جالنوس واستكثره عليه فنزعه عليه وقال: ألا انتظرت إذني؟(1) ووصل الخبر إلى عمر، فأرسل إلى سعد: تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بمثل ما صلى به، وقد بقي عليك من حربك ما بقي – تكسر قرنه، وتفسد قلبه؛ امض له سلبه، وفضله على أصحابه عند العطاء بخمسمائة، وإني قد نفلت كل من قتل رجلاً سلبه،
فدفعه إليه فباعه بسبعين ألفاً(2).
وبهذا ردَّ عمر إلى زهرة اعتباره(3).
6- استشهاد المؤذن وتنافس المسلمين على الأذان:
في نهاية معركة القادسية حدث أمر عجيب يدل على مقدار اهتمام المسلمين الأوائل بأمور دينهم وما يقربهم إلى الله تعالى، فقد قتل مؤذن المسلمين في ذلك اليوم وحضر وقت الصلاة، فتنافس المسلمون على الأذان حتى كادوا أن يقتتلوا بالسيوف، فأقرع بينهم سعد، فخرج سهم رجل فأذن(4)، وإن التنافس على هذا العمل الصالح ليدل على قوة الإيمان، فإن الأذان ليس من ورائه مكاسب دنيوية ولا جاه ولا شهرة وإنما دفعهم إلى التنافس عليه تذكر ما أعده الله تعالى للمؤذنين يوم القيامة من أجر عظيم وإن قوماً تنافسوا على الأذان سيتنافسون بطريق الأولى على ما هو أعظم من ذلك، وهذا من أسرار نجاحهم في الجهاد في سبيل الله تعالى والدعوة إلى الإسلام(5).
7- التكتيك العسكري الإسلامي في المعركة:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/ 391).
(2) تاريخ الطبري (4/ 391).
(3) القادسية ص204.
(4) تاريخ الطبري (4/ 390).
(5) التاريخ الإسلامي (10/ 480).(1/464)
كانت القادسية نموذجاً مميزاً من نماذج التكتيك العسكري الإسلامي، حيث برع المسلمون فيها بإتقان المناورة التكتيكية التي تتلاءم مع كل حالة قتالية من حالات المعركة، فقد ظهر على مسرح الأحداث قدرة الفاروق على التعبئة العامة، أو التجنيد الإلزامي والحشد الأقصى للوسائل، إذ حشد الخليفة لهذه المعركة أقصى
ما يمكن حشده من الرجال، كما حشد لها الفئة المختارة من رجال المسلمين، فقد كتب إلى سعد أن ينتخب أهل الخيل والسلاح ممن له رأي ونجدة، فاجتمع لسعد في هذه المعركة بضعة وسبعون ممن حضروا بدراً، وثلاثمائة وبضعة عشر ممن صحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد بيعة الرضوان، وثلاثمائة ممن شهدوا فتح مكة، وسبعمائة من أبناء الصحابة ثم إنه لم يدع رئيساً ولا ذا رأي ولا ذا شرف ولا خطيباً ولا شاعراً إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم وهذا هو الحشد الأقصى للوسائل المادية والمعنوية للمعركة، ونجد في التعبئة لهذه المعركة، تجديداً لم نعهده عند المسلمين من قبل، إذ لم ينتظر سعد في ((صرار)) حتى يكتمل جيشه ثم ينطلق به إلى العراق بل انطلق في أربعة آلاف ووصل إلى مكان المعركة بالقادسية في سبعة عشر ألفاً، وهذه طريقة مبتكرة في تعبئة الجيوش لم يعتمدها المسلمون قبل عمر، وحدد الخليفة في رسائله إلى كل من المثنى وسعد مكان المعركة الحاسمة، وهو القادسية، وكان الفاروق أول قائد مسلم يعتمد (الرسالة الخارطة) في دراسته لأرض المعركة وبيئتها، إذ طلب من سعد أن يصف له في رسالة مفصلة، منازل المسلمين – أي مواقعهم – كأنه ينظر إليها، وأن يجعله من أمرهم – أي المسلمين على جلية، فكتب إليه سعد رسالة يشرح له فيها، بالتفصيل، جغرافية القادسية (بين الخندق والعتيق) وما يقع على يمينها ويسارها ثم يشرح له أوضاع البيئة التي تحيط بأرض المعركة فينبئه أن أهلها معادون للمسلمين، ويتخذ الخليفة، بناء على ذلك، قراره التكتيكي والإستراتيجي(1)
__________
(1) الفن العسكري الإسلامي ص271، 272.(1/465)
، واستخدم المسلمون اسلوب الغارات التموينية واستنزاف العدو منذ وصولهم إلى أرض العدو وتمركزهم فيها وقد أفادت تلك الغارات التموينية في سد احتياجات الجيش من المؤن، فكان يوم الأباقر ويوم الحيتان وغيرها من الأيام والغارات وقد اتخذت هذه الغارات بالإضافة إلى وجهها التمويني، وجهاً آخر هاماً، هو استنزاف طاقات العدو وقدرة الأهالي على تحمل آثار الحرب ومعاناتها، واستعمل المسلمون اسلوب الكمائن في مناوشاتهم مع الفرس قبل القادسية، وفي استنزافهم لطاقات العدو ومعنوياتهم، فقد كمن بكير بن عبد الله الليثي بفرقة من خيالة المسلمين، في أجمة من النخيل، وعلى الطريق إلى (الصنين) لقافلة تضم أخت أزاد مرد بن أزاذبه مرزبان الحيرة، وهي تزف إلى صاحب (الصنين) من أشراف العجم، وما أن وصلت القافلة إلى مكان الكمين حتى انقض المسلمون عليها، فقصم بكير صلب ((شيرزاد بن أزاذبه أخي العروس، وكان على رأس الخيل التي تتقدم القافلة ونفرت الخيل تعدو بمن على ظهورها من رجال، وأخذ المسلمون الأثقال وابنة أزاذبه في ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة من التوابع وما معهما لا يدرى قيمته(1)، واستعمل المسلمون في هذه المعركة أسلوب التكتيك المتغير وفقاً لكل حالة من حالات القتال وظرف من ظروفه، فبينما نراهم في اليوم الأول من المعركة يحتالون على الفيلة المهاجمة فيقطعون وضنها بعد أن يرموها بنبالهم فتفر من ميدان القتال ريثما يصل إليهم المدد القادم من الشام، كما يعمدون إلى إيصال هذا المدد إلى ساحة القتال تباعاً وزمرة زمرة بغية إيهام العدو بكثرته، ثم يعمدون إلى حيلة تكتيكية بارعة وذلك بأن يجللوا إبلهم ويبرقعوها تشبهاً بالفيلة ثم يطلقوها في صفوف العدو فتجفل خيلهم وتولي هاربة لا تلوي على شيء، ويعمد المسلمون في اليوم الثالث إلى مواجهة فيلة الفرس المحمية بخيالتهم ومشاتهم بأن يهاجموا أكبرها وأضخمها فيفقأوا عيونها
__________
(1) الفن العسكري الإسلام ص273.(1/466)
ويقطعوا مشافرها، فتفر الفيلة هاربة، ويتساوى الفرس والمسلمون في ساحة القتال، بعد أن يخسر الفرس فيلتهم، أي مدرعاتهم ولما رأى المسلمون أن أمد القتال يمكن أن يطول قرروا الهجوم العام فعبأوا صفوفهم وزحفوا زحفة واحدة، وما أن تخلت صفوف العدو وانكشف قلبه حتى كان رستم قائد جيش العدو هدفهم، وما أن قضي على رستم حتى انهزم جيش الفرس هزيمة ساحقة، وهكذا نرى أن الأسلوب الذي اتبعه المسلمون في هذه المعركة لم يتقيد بالأساليب التقليدية التي كانت متبعة في القتال بل أنه لبس لكل حالة لبوسها، فانتقل من الأساليب البدائية (المبارزة) إلى الحيل التكتيكية (الإبل المبرقعة وقطع وضن الفيلة وفقأ عيونها وقطع مشافرها إلى القتال الكلاسيكي التقليدي (الهجوم العام واستهداف القائد) وتميزت هذه المعركة بالتعبئة ذات الطابع القبلي، وميزة هذا الأسلوب أنه يوجد بين القبائل تنافساً فريداً في الحماسة والاندفاع في القتال(1) هذه بعض الأساليب العسكرية الإسلامية التي مارسها المجاهدون في القادسية.
8- ما قيل من الشعر في القادسية:
ومما قاله قيس بن المكشوح المرادي يتحدث عن فروسيته مفتخراً لما كان منه ومن المجاهدين الآخرين في مناهضة قادة الفرس فيقول:
جلبتُ الخيلَ من صَنعاءَ تَردِي
إلى وادي القُرى فديار كلب
وجئنا القادسية بعد شهر
فناهضنا هنالك جَمْعَ كسرى
فلمّا أن رأيت الخيل جالت
فاضربُ رأسه فهوى صريعا
وقد أبلى الإله هناك خيراً
ج ... بكل مُدَحَّجٍ كالليث سامي(2)
إلى اليرموك فالبلدِ الشَامي
مسَوَّمة دوابرها دوامي
وأبناء المرازبة الكرام (3)
قصدت لموقف الملك الهُمام
بسيفٍ لا أفلَّ ولا كَهامِ(4)
وفعل الخير عند الله نامي(5)
وقال بشر بن ربيع الخثعمي في القادسية:
__________
(1) الفن العسكري الإسلامي ص274، 275
(2) تردي الخيل: ترجم الأرضي بحوافرها
(3) المرازبة: رؤساء الفرس
(4) أفل: مثلّم ، كهام: كليل لا يقطع
(5) الأدب الإسلامي، د. نايف معروف ص222، 223(1/467)
تذَّكر هداك الله ـ وقع سيوفنا
عشية ودَّ القوم لو أن بعضهم
إذا ما فرغنا من قراع كتيبة
ترى القوم فيها واجمين كأنَّهم ... بباب قُديس والمكرُّ عَسِيرُ
يعار جَنَاحَيْ طائر فيطيرُ
دلْفنا لأخرى كالجبال تسير
جمال بأجمال لهُنَّ زَفِيرُ(1)
وقال بعض الشعراء:
وحيّتكَ عني عصبة نخعية
أقاموا لكسرى يضربون جنودَهُ
إذا ثوّب الداعي أناخوا بكلكل ... حسان الوجوه آمنوا بمحمد
بكلِّ رقيق الشفرتين مهنّدِ
من الموت مسودِّ الغياطيل(2) أجرد
وقال بعض الشعراء:
وجدنا الأكرمين بني تميم
هُمُوا ساروا بأرعن مكفهّرٍ(3)
بحور للأكاسر من رجال
تركن لهم بقادس عز فخر
مقطعة أكفهم وسوق ... غداة الروع أكثرهم رجالا
إلى لجب يرونهم رعالا(4)
كأسد الغاب تحسبهم جبالا
وبالخيفين أياماً طِوالا
بمرد حيث قابلت الرجالا(5)
ما قاله النابغة الجعدي وهو يصور بشعره ما دار بينه و بين امرأته، وقد جزعت بسبب ذهابه في فتوح فارس ، فقال:
باتَتْ تذكرني بالله قاعدة
يا بنت عمّي كتاب الله أخرجني
فإن رجعت فربُّ الناس أرجعني
ما كنت أعرجَ أو أعمى فيعذرني ... والدمع ينهل من شأْنَيْها سَبَلا
كرها، وهل أمنعنَّ الله ما بذلا
وإن لحقت بربي فابتغي بدَلا
أو ضارعاً من ضنىً لم يستطع حِوَلا(6)
...
سادساً: فتح المدائن:
__________
(1) واجم: من الوجوم وهو السكوت مع كظم الغيظ ، الأدب الإسلامي ص215.
(2) الغيطل: النسور
(3) أرعن مكفهر: ظلمة الليل الشديدة
(4) رعالا: النعامة
(5) البداية والنهاية (7/48)
(6) الضارع: النحيل الهزيل ، الأدب الإسلامي ص214(1/468)
أقام سعد بالقادسية شهرين ينتظر أمر عمر، حتى جاءه بالتوجه لفتح المدائن، وتخليف النساء والعيال بالعتيق مع جند كثيف يحوطهم وعهد إليه أن يشركهم في كل مغنم ماداموا يخلفون المسلمين في عيالاتهم، ففعل وسار بالجيش لأيام بقين من شوال، وكان فَلُّ المنهزمين لحق ببابل، وفيهم بقايا الرؤساء مصمِّمين على المدافعة، وبدأت مدن وقرى الفرس تسقط واحدة بعد واحدة، ففتح المسلمون البُرس ثم بابل بعد أن عبروا نهر الفرات ثم كُوثي ثم ساباط بعضهما عنوة والبعض الآخر صلحاً(1) واستمرت حملات المسلمين المنظمة حتى وصلوا إلى المدائن، وأمر عمر سعداً بأن يحسن إلى الفلاحين وأن يوفي لهم عهودهم ودخلت جموع هائلة من الفلاحين في ذمة المسلمين، وتأثر الفلاحون بأخلاق جيش المسلمين وبعدلهم ومساواتهم المنبثقة من دينهم العظيم، فأميرهم كأصغر الرعية أمام الحق الأكبر، ولا ظلم، ولا فساد في الأرض خفت عنهم
__________
(1) إتمام الوفاء ص82(1/469)
وطأة الكبرياء والعبودية التي كانوا يسامونها فصاروا عباداً لله وحده، وقد توجه سعد نحو المدائن بعد أمر أمير المؤمنين، فبعث مقدمة الجيش بقيادة زهرة بن الحَوِيَّة، وأتبعه بعبدالله بن المعتَّم في طائفة من الجيش ثم بشرحبيل بن السمط في طائفة أخرى، ثم بهاشم بن عتبة بن أبي وقاص وقد جعله على خلافته بدلاً من خالد بن عرفطة، ثم لحق سعد بهم ببقية الجيش وقد جعل على المؤخرة خالد بن عرفطة(1) وقد توجه زهرة قائد المقدمات إلى المدائن ، والمدائن هي عاصمة دولة الفرس، وتقع شرق نهر دجلة وغربه، فالجزء الذي يقع غربه يسمى "بَهُرْ سير" والذي يقع شرقه يسمى "أسبانير" و"طيسفون" وقد وصل زهرة إلى بهرسير وبدأ حصار المدينة، ثم سار سعد بن بي وقاص بالجيش الإسلامي ومعه قائد قواته ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى المدائن الغربية "بهر سير" وفيها ملك الفرس (يَزْدَجرد)، فحاصرها المسلمون شهرين، وكان الفرس يخرجون أحياناً لقتال المسلمين ولكنهم لا يثبتون لهم وقد أصيب زهرة بن الحوية بسهم، وذلك أنه كان عليه درع مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم فسُرد (حتى لا تبقى فيها فتحة تصل منها السهام) فقال: ولِمَ؟ قالوا: نخاف عليك منه، قال: إني لكريم على الله إن تَرك سهم فارس الجند كلَّه ثم أتاني من هذا الفصم حتى يثبت فيَّ وكان كريماً على الله كما أمَّل، فكان أولَ رجل من المسلمين أصيب يومئذ بسهم، فثبت فيه من ذلك الفصم، فقال بعضهم: انزعوها منه، فقال: دعوني فإن نفسي معي ما دامت فيَّ لعلي أن أصيب منهم بطعنة أو ضربة أو خطوة، فمضى نحو العدو فضرب بسيفه شهريار من أهل اصطخر فقتله(2) وقد بقي المسلمون في حصار بهر سير شهرين، استعملوا خلالها المجانيق وقد صنع لهم الفرس الموالون لهم عشرين منجنيقاً شغلوا بها الفرس، وأخافوهم(3) وفي هذا دلالة على أن الصحابة
__________
(1) التاريخ الإسلامي (11/155)
(2) تاريخ الطبري (4/454)
(3) تاريخ الطبري (4/453)(1/470)
رضي الله عنهم كانوا لا يهملون تحصيل أسباب النصر المادية إذا قدروا عليها، وأنهم كانوا على ذكر تام لقول الله تعالى"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" (الأنفال، آية 60) ، إلى جانب تفوقهم في أسباب النصر المعنوية التي انفردوا بأهمها وأبرزها وهو الاعتماد على الله وذكره ودعاؤه(1)
1- معية الله تعالى لأوليائه بالنصر والتأييد:
عن أنس بن الحليس قال: بينما نحن محاصرون بهرسير بعد زحفهم وهزيمتهم أشرف علينا رسول فقال: إن الملك يقول لكم: هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة وجبلنُا ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم، فبدر الناس أبو مُفَزِّر الأسود بن قطبة، وقد أنطقه الله بما لا يدري
ما هو ولا نحن، فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون إلى المدائن ـ يعني يعبرون النهر إلى شرق المدائن ـ فقلنا: يا أبا مفزر ما قلت له؟ قال: لا والذي بعث محمداً بالحق ما أدري ما هو إلا أن عليَّ سكينة، وأنا أرجو أن أكون أُنطقت بالذي هو خير، وانتاب الناس يسألونه حتى سمع بذلك سعد فجاءنا فقال: يا أبا مفزر
__________
(1) التاريخ الإسلامي (11/163)(1/471)
ما قلت؟ فو الله إنهم لهُرَّاب فحدثه بمثل حديثه إيانا، فنادى الناس ثم نهدبهم، وإن مجانيقنا لتخطر عليهم، فما ظهر على المدينة أحد ولا خرج إلينا إلا رجل نادى بالأمان فأمَّنَّاه، فقال: إن بقي فيها أحد، فما يمنعكم؟ (يعني لم يبق فيها أحد، فشورها الرجال وافتتحناها فما وجدنا فيها شيئاً ولا أحداً، إلا أسارى أسرناهم خارجاً منها، فسألناهم وذلك الرجل: لأي شئ هربوا؟ فقالوا: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح فأجبتموه بأنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبداً حتى نأكل عسل أفريذين باُتْرُجِّ كوثي، فقال الملك: واويله ألا إن الملائكة تكلَّم على ألسنتهم، ترد علينا وتجيب عن العرب، والله لئن لم يكن كذلك ما هذا إلا شئ أُلقي على فِيِّ هذا الرجل لِنَنْتَهي، فأرزُوا إلى المدينة القصوى(1) ...
2- الآيات التي قرأها سعد لما نزل مظلم ساباط:
نزل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في (مظلم ساباط) بعد أن قدم هاشماً ومن معه نحو بهرَ سير وهي الجزء الغربي من المدائن، ولما نزل سعد ذلك المكان قرأ قول الله تعالى { وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ(44) } (إبراهيم،آية:44). وإنما تلا هذه الآية لأن في ذلك المكان كتائب لكسرى تُدعى بوران ، وكانوا يحلفون بالله كل يوم، لا يزول ملك فارس ما عشنا(2) وقد هزمهم وفرقهم زهرة بن الحوية قبل استشهاده(3)
__________
(1) تاريخ الطبري (4/455)
(2) تاريخ الطبري (4/451) ، التاريخ الإسلامي (11/160)
(3) التاريخ الإسلامي (11/160)(1/472)
ولما دخل المسلمون "بهرسير" وذلك في جوف الليل ـ لاح لهم الأبيض وهو قصر الأكاسرة فقال ضرار بن الخطاب: الله أكبر أبيض كسرى، هذا ما وعد الله ورسوله، وتابعوا التكبير حتى أصبحوا(1)
3- مشورة بين سعد وجنوده في عبور النهر:
ولما علم سعد أن كسرى قد عبر بالسفن إلى المدائن الشرقية وضم السفن كلها إليه وقع في حيرة من أمره، فالعدو أمامهم وليس بينهم إلا النهر ولا سبيل إلى عبوره لعدم توفر السفن، وهو يخشى أن يرتحل عدوه فيصعب القضاء عليه، وقد أتى سعداً بعض أهل فارس فدلوه على مخاضة يمكن اجتيازها مع المخاطرة، فأبى سعد وتردد عن ذلك، ثم فاجأهم النهر بمدِّ عظيم حتى اسودَّ ماء النهر وقذف بالزبَّد من سرعة جريانه، وفي أثناء ذلك رأى سعد رؤيا صالحة مفادها أن خيول المسلمين قد عبرت النهر، فعزم لتأويل رؤياه على العبور، وجمع الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: إن أعدائكم قد اعتصموا منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم معه وهم يخلصون إليكم إذا شاؤوا فَيُنَاوشونكم في سفنهم وليس وراءكم شئ تخافون أن تؤتوا منه، قد كفاكموهم أهل الأيام(2)، وعطلوا ثغورهم وأفنوا ذادتهم(3) وقد رأيت من الرأي أن تبادروا جهاد عدوكم بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم فقالوا جميعاً: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل(4) ، وفي هذا الخبر دروس وعبر وفوائد منها:
تذكُّر معية الله جل وعلا لأوليائه المؤمنين بالنصر، والتأييد فهذه الرؤيا الصادقة التي رآها سعد رضي الله عنه من الله جل وعلا لتثبيت قلبه ليُقدم على هذا الأمر المجهول العاقبة.
__________
(1) تاريخ الطبري (4/451)
(2) يعني المجاهدين السابقين
(3) يعني مادتهم التي يدافعون عنها
(4) التاريخ الإسلامي (11/165)(1/473)
أن الله تعالى يُجري الأمور لصالح المؤمنين، فالنهر جرى بكثافة مفاجئة على غير المعتاد، وظاهر هذا أنه لصالح الفرس حيث إنه سيمنع أي محاولة لعبور المسلمين، ولكن حقيقته أنه لصالح المسلمين، حيث أعطى ذلك الكفار طمأنينة فلم يستعدوا لقدوم المسلمين المفاجئ لهم، ولم يستطيعوا أن يحملوا معهم كل ما يريدون حمله من الفرار.
أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتفاءلون خيراً بالرؤيا من الرجل الصالح، ويعتبرونها مُرجحاً للإقدام على العمل وكانوا رضي الله عنهم يحسنون الظن بالله تعالى ويعتبرون أن رُؤَى الخير تثبيت وتأييد منه تعالى.
أن قادة المسلمين في العهد الراشدي كانوا يتصفون غالباً بالحزم واغتنام الفرص وتفجير طاقة الجنود وهم في حماسهم وقوة إيمانهم، فهذا سعد رضي الله عنه يأمر جيشه بأن يعبروا إلى الأعداء بسلاح الإخلاص والتقوى وقد كان مطمئناً إلى مستوى جيشه الإيماني فأقدم على ما أقدم عليه مستعيناً بالله تعالى ثم بذلك المستوى الرفيع.
إتصاف الصحابة رضي الله عنهم ومن معهم من التابعين بالطاعة التامة لقادتهم، وكانوا يعتبرون هذه الطاعة واجباً شرعياً وعملاً صالحاً يتقربون به إلى الله تعالى(1).
4- عبور النهر وفتح المدائن:
__________
(1) التاريخ الإسلامي (11/167)(1/474)
ندب سعد الناس إلى العبور وقال: من يبدأ ويحمي لنا الفِراضَى(1) حتى تتلاحق به الناس لكي يمنعوهم من الخروج؟ فانتدب له عاصم بن عمرو التميمي وكان من أصحاب البأس والقوة، وانتدب بعده ستمائة من أهل النجدات، فأمّر عليهم سعد عاصماً فسار فيه حتى وقف على شاطئ دجلة وقال: من ينتدب معي لنحمي الفراضى من عدوكم ولنحميكم حتى تعبروا؟ فاندب له ستون من أصحاب البأس والنجدة، ثم اقتحموا دجلة، واقتحم بقية الستمائة على إثرهم، وهكذا تكونت من جيش المسلمين فرقة من الفدائيين عددهم ستمائة وقد سميت كتيبة الأهوال، واستخلص عاصم منهم ستين تحت قيادته ليكونوا مقدمة لهذه الفرقة، وهذا تخطيط محكم من سعد أولا ثم من عاصم، وذلك أن مواجهة الأهوال والمغامرات لا تكون بالعدد الكبير، وإنما تكون بأصحاب البأس الشديد والقدرة القتالية العالية وإن كانوا قلائل ، وذلك أنه إذا انضمَّ لهذه الفرقة من هم أقل كفاءة وشجاعة ثم ارتدوا عند هجوم الأعداء يسببون انهزام الفرقة كلها(2).
وقد اقتحم عاصم النهر بالستين على الخيول وقد ذُكر من طليعتهم الذين سبقوا إلى الشاطئ الآخر أصمُّ بني وَلاَّد التيمي، والكَلَج الضبيّ، وأبو مفزِّر الأسود بن قطبة ، وشرحبيل بن السَّمط الكندي، وحَجْل العجلي، ومالك بن كعب الهمداني، وغلام من بني الحارث بن كعب فلما رآهم الأعاجم أعدُّوا لهم فرساناً فالتقوا بهم في النهر قرب الشاطئ الشرقي، فقال عاصم: الرماح الرماح، أشرعوها وتوخَّوا العيون، فالتقوا فاطعنوا وتوخَّى المسلمون عيونهم، فولوّا نحو الشاطئ والمسلمون ينخسون خيولهم بالرماح لتسرع في الهروب فصارت تسرع وأصحابها لا يملكون منعها، ولحق بهم المسلمون فقتلوا عامتهم ونجا من نجا منهم عورانا، ولحق بقية الستمائة بإخوانهم فاستولوا على الشاطئى الشرقي(3)
5- المسلمون يقتحمون النهر:
__________
(1) يعني ساحل البحر الشرقي
(2) التاريخ الإسلامي (11/168)
(3) تاريخ الطبري (4/456،457)(1/475)
لما رأى سعد عاصماً على الفراضي قد منعها أذن للناس في الإقتحام وقال: قولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وتلاحق مُعظم الجند فركبوا اللُّجَّة، وإنَّ دجلة لترمي بالزبد، وإنها لمسودَّة، وإن الناس ليتحدثون في مسيرهم على الأرض(1)، وكان الذي يساير سعداً في الماء سلمان الفارسي فعامت بهم الخيل، وسعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرنّ الله وليَّه، وليظهرنّ الله دينه، وليهزمن الله عدوه إن لم يكن في الجيش بَغْي أو ذنوب تغلب الحسنات(2)، فقال له سلمان: الإسلام جديد، ذُلِّلتْ لهم والله البحور كما ذُلِّلَ لهم البر، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجنّ منه أفواجاً كما دخلوه أفواجاً(3)، وقول سلمان رضي الله عنه: الإسلام جديد، يعني لا يزال حياً واتباعه أقوياء الإيمان معتزون به، وقد جعلوه قضيتهم التي من أجلها يحيون ومن أجلها يموتون، وإليها يدعون وعنها يدافعون، أما حين يتقادم العهد فإنه تأتي أجيال ترث هذا الدين وراثة لا اختيارا، ولا تجعله القضية التي تأخذ على أفرادها مشاعرهم واهتماماتهم، بل يجعلون همهم الأكبر هو العلو في الدنيا والتمتع بمتاعها ويصبح الدين أمراً ثانوياً في قاموس حياتهم، فعند ذلك يخرجون منه أفواجاً كما دخلوه أفواجاً(4).
__________
(1) التاريخ الإسلامي (11/169)
(2) تاريخ الطبري (4/459)
(3) تاريخ الطبري (4/459)
(4) التاريخ الإسلامي (11/170)(1/476)
هذا وقد تم عبور المسلمين جمعياً سالمين لم يُصَب أحد منهم بأذى، ولم يقع منهم في النهر إلا رجل من بارق يدعى "غرقدة" زال عن ظهر فرس شقراء، فثنى القعقاع بن عمرو عنان فرسه إليه، فأخذ بيده فجره حتى عبر، فقال البارقي ـ وكان من أشد الناس ـ أعجَزْتَ الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع، وكان للقعقاع فيه خؤولة(1)، لقد دهش الفرس من عبور المسلمين وهرب يزدجرد قاصداً حلوان ودخل المسلمون من غير معارض ونزل سعد القصر الأبيض واتخذه مصلى وقرأ قوله تعالى: { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ(27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ(28) } (الدخان،آية:25، 28)، وصلى ثمان ركعات صلاة الفتح وكان أول من دخل المدائن كتيبة الأهوال ثم الكتيبة الخرساء(2) وكان الذي يقود كتيبة الأهوال، عاصم بن عمرو التميمي، وأما الكتيبة الخرساء فكان يقودها القعقاع بن عمرو(3)
6- مواقف من أمانة المسلمين:
أ- أحمد الله وأرضى بثوابه: لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض أقبل رجل يحُف معه، فدفعه إلى صاحب الأقباضى ، فقال: والذي معه: ما رأينا مثل هذا قط،
ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئاً؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأناً فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني: ولا غيركم ليقِّرظوني، ولكنني أحمد الله وأرضى بثوابه، فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه، فسال عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس(4)
__________
(1) تاريخ الطبري (4/459)
(2) البداية والنهاية (7/67)
(3) إتمام الوفاء ص85
(4) تاريخ الطبري (4/468)(1/477)
ب- قال عصمة بن الحاث الضَّبِّي: خرجت فيمن خرج يطلب فأخذت طريقاً مسلوكاً وإذا عليه حَمَّار، فلما رآني حثَّه فلحق بآخر قدامه، فمالا وحثَّا حماريهما، فانتهيا إلى جدول قد كُسر جسره فثبتا حتى أتيتهما ، ثم تفرقا، ورماني أحدهما فألظْظت به (يعني تبعته) فقتلته وأفلت الآخر، ورجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض، فنظر فيما على أحدهما فإذا سَفَطان في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج من فضة على ثغْر(1) ولبَبَه الياقوت والزمرُّد منظوم على الفضة ولجام كذلك، وفارس من فضة مكلَّل بالجواهر، وإذا في الآخر ناقة من فضة عليها شليل(2)من ذهب وبطان من ذهب ولها زمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت، وإذا عليها رجل من ذهب مكلل بالجوهر، كان كسرى يضعها إلى إسطوانتي التاريخ(3)
ج- خير القعقاع بن عمرو:
لحق القعقاع بفارسي يحمي الناس فقتله، وإذا معه غلافان وعيبتان، وإذا في أحد الغلافين خمسة أسياف وفي الآخر ستة، وهي من أسياف الملوك من الفرس ومن الملوك الذين جرت بينهم وبين الفرس حروب وفيها سيف كسرى وسيف هرقل وإذا في العيبيتين أدراع من أدراع الملوك وفيها درع كسرى ودرع هرقل، فجاء بها إلى سعد، فقال: اختر أحد هذه الأسياف فاختار سيف هرقل وأعطاه درع بهرام، وأما سائرها فنفلها كتيبة الخرساء التي هي بقيادة القعقاع ، إلا سيف كسرى والنعمان، فقد رأى أن يبعثهما إلى أمير المؤمنين لتسمع بذلك العرب لمعرفتهم بهما(4)
س- ثناء الصحابة على أفراد الجيش:
أثنى أكابر الصحابة رضي الله عنهم على ذلك الجيش ومن ذلك قول سعد بن
__________
(1) هو السير الذي في مؤخرة السرج
(2) هو ما يوضع على عجز البعير
(3) تاريخ الطبري (4/468)
(4) المصدر نفسه (4/467)(1/478)
أبي وقاص: والله إن الجيش لذو أمانة ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت على فضل أهل بدر(1)، وقال جابر بن عبدالله: والله الذي لا إله إلا هو ما أطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة، ولقد اتهمنا ثلاثة نفر فما رأينا كالذي هجمنا عليه من آمانتهم وزهدهم: طليحة بن خويلد، وعمرو بن معد يكرب، وقيس بن المكشوح، وأكبر من ذلك ثناء أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما رأى خُمس تلك الغنائم وكان معها سيف كسرى ومنطقته وزبرجده فقال: إن قوماً أدَّوا هذا لذَوو أمانة، فقال علي رضي الله عنه: إنك عففت فعفَّت الرعية ولو رتعت لرتعت(2).
ش- موقف عمر رضي الله عنه من نوادر الغنائم:
بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر بقباء كسرى وسيفه ومنطقته وسواريه وسراويله وقميصه وتاجه وخفِّيه وقد كانت غالية الثمن كالحرير والذهب والجوهر، فنظر عمر في وجوه القوم، وكان أجسمهم وأبدنهم قامة سراقة بن مالك بن جعثم، فقال:يا سُراقة قم فالبس، قال سراقة: فطمعت فيه، فقمت فلبست فقال: أدبر فأدبرت، ثم قال: أقبل فأقبلت، ثم قال بخٍ بخٍ أعرابي من مدلج عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه، رب يوم يا سراقه بن مالك لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى وآل كسرى كان شرفاً لك ولقومك، انزع فنزعت فقال: اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك وكان أحب إليك مني وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني وأكرم عليك مني وأعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي، ثم بكى حتى رحمه من كان عنده، ثم قال لعبد الرحمن بن عوف أقسمت عليك لما بِعتْه ثم قسمته قبل أن تمسي(3)
سابعاً: موقعة جلولاء:
__________
(1) التاريخ الإسلامي (11/181) ، تاريخ الطبري (4/468)
(2) تاريخ الطبري (4/468)
(3) تاريخ الطبراني (4/472، البداية والنهاية (7/68)(1/479)
اجتمع الفرس على مفترق الطرق إلى مدائنهم في جلولاء فتذامروا وقالوا: إن افترقتم لم تجتمعوا أبداً، وهذا مكان يفرق بيننا فهلموا فلنجتمع للعرب به ولنقاتلهم فإذا كانت لنا فهو الذي نريد وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا الذي علينا وأبلينا عذراً، واجتمعوا على قيادة مهران الرازي، وحفروا خندقاً حول مدينتهم وأحاطوا به الحسك من الخشب إلا الطرق التي يعبرون منها وقد كتب سعد بن أبي وقاص إلى أمير المؤمنين عمر يخبره بذلك، فكتب إلى سعد يأمره ببعث هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى جلولاء في اثني عشر ألفاً،وأن يجعل على مقدمته القعقاع بن عمرو التميمي وعلى ميمنته مسعر بن مالك، وعلى ميسرته عمرو بن مالك بن عتبة وعلى ساقته عمر بن مرة الجهني، وسار إليهم هاشم بجيشه فحاصرهم وطاولهم أهل فارس فكانوا لا يخرجون لهم إلا إذا أرادوا، وزاحفهم المسلمون ثمانين زحفاً، كل ذلك يعطي الله المسلمين عليهم الظفر، وغلبوا المشركين على حسك الخشب التي اتخذوها لإعاقة المسلمين فاتخذ الأعداء حسك الحديد، وجعل هاشم يقوم في الناس ويقول: إن هذا المنزل منزل له ما بعده وجعل سعد يمده بالفرسان، حتى إذا طال الأمر وضاق الأعداء من صبر المسلمين اهتموا بهم فخرجوا لقتالهم فقال: ابتلوا الله بلاءً حسنا ليتم لكم عليه الأجر والمغنم واعملوا لله، فالتقوا فاقتتلوا، وبعث الله عليهم ريحاً أظلمت عليهم البلاد فلم يستطيعوا إلا المحاجزة، فتهافت فرسانهم في الخندق فلم يجدوا بدِّا من أن يردموا الخندق مما يليهم لتصعد منه خيلهم فأفسدوا حصنهم(1)فلما بلغ المسلمين ما قام به الأعداء من ردم الخندق قالوا: أننهض إليهم ثانية فندخله عليهم أو نموت دونه؟ فلما نهض المسلمون لقتالهم خرجوا فرَموا حول الخندق مما يلي المسلمين بحسك الحديد لكيلا تقدم عليهم الخيل وتركوا مكاناً يخرجون منه على المسلمين فاقتتلوا قتلاً شديداً لم يقتتلوا مثله إلا ليلة الهرير وهي
__________
(1) تاريخ الطبري (4/475)(1/480)
من ليالي القادسية إلا أنه كان أقصر وأعجل، وانتهى القعقاع بن عمرو في الوجه الذي زاحف فيه إلى باب خندقهم فأخذ به وأمر منادٍ يقول: يا معشر المسلمين هذا أميركم قد دخل خندق القوم وأخذ به فاقبلوا إليه ولا يمنعنَّكم من بينكم وبينه من دخوله وإنما أمر بذلك ليقَوِيِّ المسلمين به ـ فحمل المسلمون وهم
ولا يشكُّون في أن هاشماً فيه فلم يقم لحملتهم شيء حتى انتهوا إلى بابا الخندق فإذا هم بالقعقاع بن عمرو وقد أخذ به وأخذ المشركون في هزيمة يمنة ويسرة عن المجال الذي بحيال خندقهم، فهلكوا فيما أعدوا للمسلمين فُعقرت دوابهم ـ يعني بسبب حسك الحديد التي أعدوها للمسلمين ـ وعادوا رجّالة، وأتبعهم المسلمون، فلم يفلت منهم إلا من لا يُعَدّ، وقتل الله منهم يومئذ مائة ألف، فجلَّلت القتلى المجال وما بين يديه
وما خلفه، فسميت جلولاء بما جللها من قتلاهم، فهو جلولاء الوقيعة(1)
أ- إن جندنا أطلقوا بالفَعال لساننا:
وبعث سعد بن أبي وقاص زياد بن أُبيه بالحسابات المالية إلى أمير المؤمنين، وكان زياد هو الذي يكتب للناس ويدوِّنهم فلما قدم على عمر كلمه فيما جاء له ووصف له فقال عمر: هل تستطيع أن تقوم في الناس بمثل ما كلمتني به؟ فكيف لا أقوى على هذا من غيرك ! فقام في الناس بما أصابوا وبما صنعوا، وبما يستأذنون فيه من الإنسياح في البلاد، فقال عمر: هذا الخطيب المصقع ، فقال زياد: إن جندنا أطلقوا بالفَعال لساننا(2)
ب- موقف عمر من غنائم جلولاء:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/475)
(2) تاريخ الطيري (4/479)(1/481)
انتهت معركة جلولاء بانتصار المسلمين ، وقد غنموا فيها مغانم عظيمة أرسلوا بأخماسها إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقال حين رآه: والله لا يُجنِّه سقف بيت حتى أقسمه فبات عبد الرحمن بن عوف وعبدالله بن أرقم يحرسانه في صحن المسجد، فلما أصبح جاء في الناس فكشف عنه جلابيبه ـ وهي الأنطاع ـ فلما نظر إلى ياقوته، وزبرجده وجوهره بكى، فقال له عبد الرحمن: ما يبكيك
يا أمير المؤمنين فوالله إن هذا لموطن شكر! فقال عمر: والله ما ذاك يبكيني، والله
ما أعطى الله هذا قوماً إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقي بأسهم بينهم(1)، وهذا لون من حساسية الإيمان المرهفة، حيث يدرك المؤمن الراسخ من نتائج الأمور المستقبلية ما لا يخطر على بال غيره، فيحمله الإشفاق على المؤمنين من أن يكدر صفو علاقاتهم الإيمانية شائبة من شوائب الدنيا التي تباعد بين القلوب، يحمله ذلك على التأثر العميق الذي يصل إلى تحدر دموعه أمام الناس وإنه لعجيب أن تنهمر الدموع من عيني رجل بلغ من القوة حداً يخشاه أهل الأرض قاطبة مسلمهم وكافرهم ومنافقهم، ولكنها الرحمة التي حلىَّ بها الله جل وعلا قلوب المؤمنين، فأصبحوا كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(29) } (الفتح، آية: 29).
ثامناً: فتح رامهرمز
__________
(1) المصدر نفسه (4/480)(1/482)
كان الفرس قد بدأو بالتجمع مرة أخرى بتحريض من ملكهم يزْدجرد، فاجتمعوا في رامهرمز بقيادة الهرمزان، وقد كان سعد بن أبي وقاص أخبر أمير المؤمنين بخبر اجتماعهم فأمره بأن يجهز إليهم جيشاً من أهل الكوفة بقيادة النعمان بن مقرن، وأمر أبا موسى الأشعري بأن يجهز جيشاً من البصرة بقيادة سهل بن عدي، وإذا اجتمع الجيشان فعليهم جميعاً أبو سبرة بن أبي رهم، وكل من أتاه فهو مدد له وخرج النعمان بن مقرن في أهل الكوفة، ثم سار نحو "الهرمزان" والهرمزان يومئذ برامهرمز ـ ولما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشَّدةَّ ورجا أن يقتطعه ، وقد طمع الهرمزان في نصر أهل فارس، وقد أقبلوا نحوه، ونزلت أوائل إمدادهم تنتشر، فالتقى النعمان والهرمزان بأربك، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم إن الله عزو جل هزم الهرمزان للنعمان، وأخلى رامهرمز ولحق بتستر وأما سهل بن عدي فإنه سار بأهل البصرة يريد رامهرمز فأتتهم المعركة وهم بسوق الأهواز، وأتاهم الخبر بأن الهرمزان قد لحق بتستر، فمالوا إلى تستر، ومال إليها النعمان بأهل الكوفة(1)
تاسعاَ: فتح تستر:
وصل جيش النعمان بن مقرن وجيش سهل بن عدي إلى تستر، واجتمعا تحت قيادة أبي سبرة بن أبي رُهْم، وقد استمد أبو سبرة أمير المومنين فأمدهم بأبي موسى الأشعري فأصبح قائد جيش البصرة، وظل أبو سبرة قائد الجيش كله وقد بقي المسلمون في حصار تستر عدة شهور قابلوا فيها جيش الأعداء في ثمانين معركة وظهرت بطولة الأبطال بالمبارزة فاشتهر منهم عدد بقتل مائة مبارز سوى من قتلوا في أثناء المعارك، وقد ذكر منهم : البراء بن مالك ومجزأة بن ثورة وكعب بن سور وأبو تميمة وهم من أهل البصرة وفي الكوفيين مثل ذلك ذُكر منهم حبيب بن قرة ورِبْعي بن عامر، وعامر بن عبدالله الأسود(2).
__________
(1) تاريخ الطبري (5/61،62)
(2) التاريخ الإسلامي (11/202)(1/483)
ولما كان أخر لقاء بين المسلمين وأعدائهم، واشتد القتال نادى المسلمون البراء بن مالك وقالوا: يا براء ـ أقسم على ربك ليهزمنَّهم لنا، فقال: اللهمَّ اهزمهم لنا، واستشهدني، وقد باشر المسلمون القتال وهزموا أعداءهم حتى أدخلوهم خنادقهم ثم اقتحموها عليهم وأنه لما ضاق الأمر على الفرس واشتد عليهم الحصار اتصل اثنان منهم في جهتين مختلفتين بالمسلمين وأخبراهم بأن فتح المدينة يكون من مخرج الماء، وقد وصل الخبر إلى النعمان بن مقرن، فندب أصحابه كذلك، فالتقى الأبطال من أهل الكوفة والبصرة في ذلك المكان ليلاً، ودخلوا منه بساحة إلى المدينة فكبَّروا وكبر من وقفوا في الخارج، وفتحوا الأبواب، فأبادوا من حولها بعد شيء من المقاومة(1)، وقد استشهد في هذه المعركة البراء بن مالك ومجزأة بن ثور حيث رماهما الهرمزان، وكان استشهادهما بعد انتصار المسلمين في المعركة ولجأ الهرمزان قائد الفرس إلى القلعة، وأطاف به المسلمون الذين دخلوا من مخرج الماء، فلما عاينوه وأقبلوا قِبلَه قال لهم:
ما شئتم ، قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم ومعي في جعبتي مائة نشَّابه، ووالله ما تصلون إليَّ ما دام معي نشابة، وما يقع لي سهم، وما خير إساري إذا أصبت منكم مائة بين قتيل وجريح، قالوا: فتريد ماذا؟ قال: أن أضع يدي في أيديكم على حكم عمر يصنع بي ما شاء قالوا: فلك ذلك، فرمى بقوسه وأمكنهم من نفسه، فشدوا وثاقه وأرصدوه ـ أي راقبوه ـ ليبعثوا إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، ثم تسلموا ما في البلد من الأموال والحواصل، فاقتسموا أربعة أخماسه، فنال كل فارس ثلاثة آلاف وكل راجل ألف درهم(2) وفي غزوة تستر دروس وعبر منها:-
ما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما عليها:
__________
(1) التاريخ الإسلامي (11/204)
(2) تاريخ الطبري (5/63، 64)(1/484)
قال أنس بن مالك أخو البراء: شهدت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح الله لنا، قال أنس بن مالك الأنصاري: ما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما عليها(1)
وسامٌ من أوسمة الشرف ناله البراء بن مالك:
علّق النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدر البراء بن مالك وساماً عظيماً من أوسمة الشرف وذلك بقوله: (كم من أشعث أغبر ذي طِمْرين لا يُؤبَه له، لو أقسم على الله لأبرَّه، منهم البراء بن مالك(2)، فقد كان البراء مستجاب الدعوة، وعرف الناس عنه ذلك بموجب هذا الحديث ولذلك طلبوا منه في هذه المعركة أن يدعوا الله ليهزم عدوهم، ومع هذا الثناء العظيم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على البراء فإنه لم يَبْطَر ولم يتكبر، بل ظل الرجل المتواضع الذي يقتحم الأهوال، ويأتي بأعظم النتائج، من غير أن تكون له إمرة أو قيادة وإذا كان قد سأل الله تعالى النصر للمسلمين وهو عزُّ لهم وللإسلام فإنه لم يُغفل نفسه أن يسأل الله تعالى أغلى ما يتمناه المؤمن القوي الإيمان، حيث سأل الله تعالى الشهادة، وقد استجاب الله تعالى دعاءه فهزم الأعداء ، ورزقه الشهادة في ذلك اليوم(3).
3- خبر أمير المؤمنين عمر مع الهرمزان:
__________
(1) الأنصار في العصر الراشدي ص223
(2) سنن الترمذي، ك المنافب (5/ 650) رقم 3854.
(3) التاريخ الإسلامي (11/204)(1/485)
وأرسل أبو سَبرة بن أبي رُهم قائد المسلمين في تلك المعارك وفداً إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وأرسل معهم الهرمزان، حتى إذا دخلوا المدينة هيأوا الهرمزان في هيئته، فألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجاً يُدعى الأذين مكللاً بالياقوت وعليه حليته، كيما يراه عمر والمسلمون في هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله فلم يجدوه، فسألوا عنه فقيل لهم: جلس في المسجد لوَفد قدموا عليه من الكوفة، فانطلقوا يطلبونه في المسجد، فلم يروه، فلما انصرفوا مرُّوا بغلمان من أهل المدينة يلعبون، فقالوا لهم: ما تلدُّدكم(1)؟ أتريدون أمير المؤمنين؟ فإنه نائم في ميمنة المسجد، متوسداً برنسه
__________
(1) يعني: لماذا تلتفتون يميناً وشمالاً.(1/486)
- وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس - فلما فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه وأخلوه نزع برسنه ثم توسده فنام - فانطلقوا ومعهم النظارة حتى إذا رأوه جلسوا دونه وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والِّدرة في يده معلقة فقال الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا ، وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه وأصغى الهرمزان إلى الوفد فقال: أين حرسه وحُجَّابه عنه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب ولا ديوان، قال: فينبغي له أن يكون نبياً، فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء، وكثر الناس فاستيقظ عمر بالجلبة فاستوى جالساً ثم نظر إلى الهرمزان، فقال الهرمزان؟ قالوا: نعم، فتأمله وتأمل ما عليه وقال: أعوذ بالله من النار؟ واستعن الله، وقال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا و أشياعه، يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، ولا تُبطرنكم الدنيا فإنها غرارة. فقال الوفد: هذا ملك الأهواز فكَّلمه ، فقال: لا حتى لا يبقى عليه من حليته شئ فُرمي عنه بكل شئ عليه إلا شيئاً يستره، وألبسوه ثوباً صفيقاً، فقال عمر: هيه يا هرمزان! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال: يا عمر إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلىَّ بيننا وبينكم، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا، فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا، ثم قال عمر: ما عذرك وما حجتك في انتقاضك مرة بعد مرة؟ فقال: أخاف أن تقتلتني قبل أن أخبرك،قال:لا تخف ذلك، واستسقى ماء ، فأتى به في قدح غليظ، فقال: لو متُّ عطشاً لم أستطع أن أشرب في مثل هذا ، فأتي به في إناء يرضاه، فجعلت يده ترجف، وقال إني أخاف أن أُقتل وأنا أشرب الماء، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه فقال عمر: أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه القتل والعطش، فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به، فقال له عمر: إني قاتلك ، قال: قد(1/487)
آمنتني، فقالك كذبت، فقال أنس: صدق أمير المؤمنين، قد آمنته، قال ويحك يا أنس أنا أُؤمِّن قا تل مجزأة والبراء، والله لتأتين بمخرج أو لأعاقبنك قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني،وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه، وقال له من حوله مثل ذلك فأقبل على الهرمزان وقال: خدعتني ، والله لا أنخدع إلا لمسلم ، فأسلم، ففرض له على ألفين، وأنزله المدينة(1).
عاشراً: فتح مدينة جُنْدَيْ سابور:
لما فرغ أبو سبرة بن أبي رهم من فتح بلاد السوس خرج في جنده حتى نزل على "جندي سابور" وكان زر بن عبد الله بن كليب محاصرهم، وأقاموا عليها يغادرونهم ويراوحونهم القتال، فمازالوا مقيمين عليها حتى رُمي إليهم بالأمان من المسلمين وكان فتحها وفتح نهاوند في مقدار شهرين، فلم يفاجأ المسلمون إلا وأبوابها تفتح، ثم خرج السرح، وخرجت الأسواق، وانبثَّ أهلها، فأرسل المسلمون أن مالكم؟ قالوا: رميتم لنا بالأمان فقبلناه، وأقررنا لكم بالجزاء على أن تمنعونا، فقالوا: ما فعلنا، فقالوا:
ما كذبنا فتسأل المسلمون فيما بينهم، فإذا عبد يُدعَى مكنفاً كان أصله منها، هو الذي كتب لهم فقالوا: إنما هو عبد، فقالوا: لا نعرف حُرَّكم من عبدكم ، قد جاء أمان فنحن عليه قد قبلناه ولم نبدِّل فإن شئتم فاغدروا، فأمسكوا عنهم، وكتبوا بذلك إلى عمر، فكتب إليهم: إن الله تعالى عظَّم الوفاء فلا تكونون أوفياء حتى تفوا، ما دمتم في شك أجيزوهم ووَفُوا لهم، فوفوا لهم وانصرفوا(2)، وهذا مثال يدل على تفوق المسلمين الشاسع في مجال مكارم الأخلاق على جميع أعدائهم من الكفار ولا شك أن هذا التفوق الأخلاقي كان من الدوافع الأساسية لدخول الكفار في الإسلام بتلك الكثافة والسرعة المذهلة(3)
1- النعمان بن مقرن ومدينة كسكر:
__________
(1) تاريخ الطبري (5/66).
(2) تاريخ الطبري (5/ 72).
(3) التاريخ الإسلامي (11/217).(1/488)
كان النعمان بن مُقرِّن والياً على كسكر، فكتب إلى عمر رضي الله عنه : مثلي ومثل كسكر كمثل رجل شابِّ وإلى جانبه مُومسة تلوَّن له وتعطَّر، فانشدك الله لما عزلتني عن كسكر، وبعثتني إلى جيش من جيوش المسلمين، فكتب إليه عمر: أن ائت الناس بنهاوند، فأنت عليهم(1).
المبحث الثالث: معركة ناهاوند (فتح الفتحوح) المرحلة
الرابعة 21هـ:
كان المسلمون قد انتصروا على جيوش الفرس في معارك عديدة متتالية ، وأضحوا يطاردون فلول تلك الجيوش دون أن يتركوا لها فرصة لإلتقاط أنفاسها، فمنذ انتصارهم الساحق في معركة القادسية بالعراق حتى المعركة الحاسمة في نهاوند، مرت أربع سنوات كان المسلمون ينتقلون خلالها من نصر إلى نصر، وكانت تلك الجيوش تتابع تقدمها لكي تقضي على ما تبقى من فلول جيوش الإمبراطورية الهرمة، لولا أن أوامر الخليفة عمر رضي الله عنه كانت تقضي بالتوقف أمام جبال زاغروس وعدم تجاوزها، وذلك بغية إعادة تنظيم الجيوش المنهكة من القتال المستمر، وتنظيم إدارة الأقاليم المفتوحة (2)
__________
(1) تاريخ الطبري (5/ 109).
(2) انظر: الفن العسكري الإسلامي ص(284)(1/489)
ولقد أثارت الهزائم المتتالية التي ألحقها المسلمون بالفرس بعد القادسية خاصة حفيظتهم وخنقهم ولم تكن كافية على ما يبدو للقضاء نهائياً على مقاومتهم فكتب أمراؤهم وقادتهم إلى مليكهم (يزدجرد) يستنهضونه للقتال من جديد، فعزم عليه ، وأخذ يعد العدة للعودة إلى قتال المسلمين فيما تبقى له في بلاده من معاقل ومعتصمات ، فكتب إلى أهل الجبال من الباب إلى سجستان فخراسان أن يتحركوا للقاء المسلمين وواعدهم جميعاً نهاوند ، وكان قد وقع عليها كمركز أخير للمقاومة ، وكميدان للمعركة الحاسمة فهي مدينة منيعة تحيط بها الجبال من كل جانب ولا يمكن الوصول إليها إلا عبر مسالك وعرة صعبة ، وقد تحشَّد الفرس في هذه المدينة واجتمع ليزدجرد فيها مائة وخمسون ألف مقاتل : ثلاثون ألفاً من الباب إلى حلوان، وستون ألفاً من خراسان إلى حلوان، ومثلها من سجستان إلى حلوان، فجعل يزدجرد عليهم الفيرزان قائداً(1).
كان سعد بن أبي وقاص في الكوفة حين علم بخبر الحشود الفارسية فكتب إلى الخليفة عمر ينبئه بذلك ويستأمره، شارحاً له الوضع من مختلف جوانبه، فجمع عمر في المدينة أهل الرأي والمشورة من المسلمين واستشارهم في الأمر، ثم قرر بعدها إرسال جيش لقتال الفرس في معقلهم الأخير "نهاوند"، وكان النعمان بن مقرن المزني يومئذ عاملاً على كسكر، وكان قد كتب إلى الخليفة كتاباً يقول له فيه: ( مَثلي ومثل كسكر كمثل رجل شاب إلى جنبه مومسة تلون له وتعطر، فانشدك الله لما عزلتني عن كسكر وبعثتني إلى جيش من جيوش المسلمين)(2).
واستشار عمر مجلس شوراه وتقرر أن يتولى قيادة جيوش المسلمين في نهاوند النعمان بن مقرن، ووضع الخليفة خطة لتعبئة جيش المسلمين على الشكل التالي:
النعمان بن مقرِّن المزني (والي كسكر) قائداً عاماً للجيش.
حذيفة بن اليمان ـ قائداً لفرقة تعبأ من أهل الكوفة.
__________
(1) انظر: الفن العسكري الإسلامي ص(285)
(2) تاريخ الطبري (5/109)(1/490)
أبو موسى الأشعري (والي البصرة) قائداً لفرقة تعبأ من أهل البصرة.
عبد الله بن عمر (بن الخطاب): قائداً لفرقة تعبأ من المهاجرين والأنصار.
سلمى بن القين، وحرملة بن مريطة، وزر بن كليب، والأسود بن ربيعة، وسواهم من قادة المسلمين في الأهوار وباقي بلاد فارس: إحتياط ومشاغلة للأعداء.
وكتب عمر إلى الولاة والقادة بتعليماته واستطاع الفاروق أن يحشد جيشاً مقداره ثلاثين ألف مقاتل(1) وتحرك جيش الإسلام بقيادة النعمان بن مقرن إلى نهاوند.
ووجدها محصنة تحصيناً قوياً وحولها خندق عميق وأمام الخندق حسك شائك مربع الأضلاع يثبت منه ضلع في الأرض وتظل الأضلاع الثلاثة الباقية أو إثنان منها على الأقل فوق سطحها ، لتعيق تقدم المهاجمين أو تؤذي خيالتهم بأحداث ثقوب في حوافر جيادهم مما يمنعها من متابعة الجري، أما جيش الفرس داخل سور المدينة فكان على تعبئة وقد انضم إليه بنهاوند "كل من غاب عن القادسية" ، وقد ركز الفيرزان رماته بإتجاه محاور التقدم المحتملة للمسلمين كي يطالوا جندهم بنبالهم إذا ما حاولوا التقدم(2).
لقد اصطدمت خيول المسلمين بالحسك الشائك ثم بالخندق فلم يستطيعوا اجتيازها، بينما تولى رماة الفرس رمي جند المسلمين الذي تمكنوا من الإقتراب من السور، واستمر الأمر كذلك لمدة يومين ورأى النعمان أن يجمع أركان الجيش الإسلامي لتدارس الوضع معه، وخرجوا بنتيجة الاجتماع بالخطة التالية وكان صاحبها طليحة بن خويلد الأسدي:
تخرج خيول المسلمين فتنشب القتال مع الفرس، وتستفزهم حتى تخرجهم من أسوارهم.
إذا خرجوا تقهقرت خيول المسلمين أمامهم فيعتقدون تراجعها ضعفاً ويطمعون بالنصر، فيلحقوا بها وهي تجري أمامهم.
تستدرج خيول المسلمين المتظاهرة بالهزيمة ، الفرس إلى خارج أسوارهم ومواقعهم.
__________
(1) انظر: الفن العسكري الإسلامي ص(286)
(2) انظر: الفن العسكري الإسلامي ص (288)(1/491)
يفاجئ المسلمون الذي يكونون قد كمنوا في أماكن محددة ومموهة الفرس المتدفقين خلف خيول المسلمين ، ويطبقون عليهم وهم بعيدون عن مراكزهم وخنادقهم وأسوارهم(1)، وشرع النعمان لتنفيذ هذه الخطة ووزع قواته فرقاً على الشكل التالي:
الفرقة الأولى: خيالة بقيادة القعقاع بن عمرو ومهمتهما تنفيذ عملية التضليل وفقاً للخطة المرسومة آنفاً، واقتحام أسوار العدو والإشتباك معه.
الفرقة الثانية: مشاة بقيادته هو ، ومهمتهما التمركز في مواقع ثابتة ومموهة بانتظار وصول الفرس إليها حيث تنشب القتال معها في معركة جبهية.
الفرقة الثالثة: خيالة ، وهي القوة الضاربة في الجيش ، ومهمتها التمركز في مواقع ثابتة ومموهة ثم الهجوم على قوات العدو من الجانبين.
وأمر النعمان المسلمين في كمائنهم ( أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوهم حتى يأذن لهم)(2)، والتزم المسلمون بالأمر ينتظرون إشارة النعمان بالهجوم.
وشرع القعقاع في تنفيذ الخطة ونجح نجاحاً رائعاً، وكانت مفاجأة الفرس مذهلة عندما وجدوا أنفسهم، في آخر المطاف محاصرين بين قوات المسلمين التي شرعت سيوفهم في حصد رقاب المشركين ولاذ المشركون بالفرار ليتحصنوا بخندقهم وحصونهم إلا أنهم وقعوا في خنادقهم وفي الحسك الشائك ،واستمر المسلمون يطاردونهم ويعملون سيوفهم في ظهورهم واقفيتهم حتى سقط من الفرس ألوف في الخندق واستطاع القعقاع أن يطارد الفيرزان فلحقه وقضى عليه ودخل المسلمون، بعد هذه المعركة "نهاوند" ثم همذان، ثم انطلقوا بعد ذلك يستكملون فتح ما تبقى من بلاد فارس دون مقاومة تذكر، ولم يكن للفرس بعد نهاوند اجتماع ، وملك المسلمون بلادهم لذلك سميت معركة نهاوند بفتح الفتوح(3).
لقد ظهر فقه الفاروق في معركة نهاوند في عدة أمور منها:
__________
(1) انظر: تاريخ الطبري (5/113)
(2) تاريخ الطبري (5/114)
(3) انظر: الفن العسكري الإسلامي ص(294)(1/492)
التحشد ومنع العدو من التحشد حيث لم يكتف الخليفة عمر (رضي الله عنه) بأن أمر عماله في الكوفة والبصرة والمسلمين في الجزيرة بالتحشد لقتال الفرس بل أمر قادته في الأهواز وباقي بلاد فارس أن يمنعوا العدو من التحشد فكلف سلمى بن القين وحرملة بن مريطة وزر بن كليب والأسود بن ربيعة وسواهم أن يقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز وأن يمنعوا الفرس من الانضمام إلى الجيش المتحشد في نهاوند ، وهكذا فقد أقام هؤلاء القادة في تخوم أصبهان وفارس وقطعوا الإمداد عن نهاوند(1).
تعيين القادة إن مات قائد الجيوش:
كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم مؤته (8هـ/629م) عندما أمَّر على المسلمين زيد بن حارثة فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة على الناس، كذلك فعل عمر الفاروق يوم نهاوند عندما أمَّر النعمان على المسلمين فإن حدث بالنعمان حدث فعلى الناس حذيفة بن اليمان، فإن حدث بحذيفة حدث فعلى الناس نعيم بن مقرن وتميز النعمان بقيادته الرفيعة والتي ظهرت في عدة أمور:
أ- الاستطلاع قبل السير للقتال:
كلف النعمان قبل السير بجيشه نحو نهاوند وكان على بعد "بضعة وعشرين فرسخاً" منها، كلاً من طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن أبي سلمى العنزي وعمرو بن معد يكرب الزبيدي بالتقدم نحوها واستطلاع الطريق الموصلة إليها ومعرفة ما إذا كان من عدو بينه وبينها ، فسار الثلاثة مقدار يوم وليلة ثم عادوا ليبلغوا القائد العام أن ليس بينه وبين نهاوند شئ يكرهه ولا أحد فكانت هذه البعثة أشبه بما يعرف في عصرنا بالطليعة "أو المفرزة المتقدمة" التي تسبق أي جيش لإستطلاع الطريق له قبل تقدمه، ومع ذلك أخذ النعمان كل الاحتياطات اللازمة عند تحركه بجيشه فسار "على تعبئة" كما يفترض أن يسير.
ب- عملية التضليل:
__________
(1) نفس المصدر ص (294)(1/493)
وكانت "عملية التضليل" التي نفذها المسلمون في نهاوند من أروع المناورات العسكرية التي يمكن أن ينفذها جيش في التاريخ القديم والحديث، فعندما عجز المسلمون عن اقتحام أسوار المدينة المحصنة والمحمية بالخندق المحيط بها وبالحسك الشائك وبالرماة المهرة، وقدروا أن الحصار سوف يستمر طويلاً دون جدوى طالما أن لدى الفرس المحاصرين داخل أسوار المدينة من الذخائر والمؤن ما يكفيهم للمقاومة مدة طويلة ، رأوا أن يعمدوا إلى الحيلة في استدراج العدو وإخراجه من "جحوره" ومواقعه، لكي يقاتلوه خارج تلك الأسوار فيكونون قد فرضوا عليه ميدان القتال الذي اختاروه بأنفسهم وقد تم ما قدَّره المسلمون تماماً ، فاستُدرج العدو إلى مواقع حددها المسلمون للقتال حيث كمنوا له ثم نازلوه في تلك المواقع جبهياً ومن كل جانب ، ففوجئ ثم ذعر فاسقط في يده وانهزم وليس هناك من حيلة أخرى يمكن أن يلجأ إليها خصم لإحراج خصمه وإخراجه والتغلب عليه أفضل من هذه الحيلة(1).
ج- اختيار ساعة الهجوم:
وقد تكلمت كتب التاريخ عن صبر النعمان بن مقرن وحنكته المتميزة المتناهية في اختيار ساعة الهجوم التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبها عند الزوال، وتفيؤ الأفياء وهبوب الرياح.
لقد نال النعمان بن مقرن الشهادة في تلك المعركة الحاسمة ووصل خبر النعمان إلى أمير المؤمنين فقال: ( إنّا لله وإنا إليه راجعون) وبكى ونشج واشتد حزنه وسأل عن الشهداء فسمى له أسماء لا يعرفها فقال: أولئك المستضعفون من المسلمين ولكنَّ الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم وما يصنع أولئك بمعرفة عمر(2)؟
__________
(1) انظر: الفن العسكري الإسلامي ص(295،296)
(2) انظر: البداية والنهاية (7/113)(1/494)
ومما يستحق الذكر أن المسلمين عثروا في غنائم نهاوند على سفطين(1) مملؤين جوهراً نفيساً من ذخائر كسرى فأرسلهما حذيفة أمير الجيش إلى عمر مع السائب بن الأقرع، فلما أوصلهما له قال: ( ضعهما في بيت المال، والحق بجندك).
فركب راحلته ورجع فأرسل عمر وراءه رسولاً يُخِب السيَر في أثره حتى جنة لحقه بالكوفة فأرجعه(2).
فلما رآه عمر قال: مالي وللسائب ماهو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها ، فباتت الملائكة تسحبني إلى السفطين يشتعلان ناراً؟ يتوعدوني بالكيِّ إن لم أقسمها فخذهما عني وبعهما في أرزاق المسلمين فبيعا بسوق الكوفة .
فرضى الله عنك ياعمر لقد سرت بسيرة نبيك فعزْزتَ وأعززت الإسلام والمسلمين ، اللهم ألهمنا الإتباع واكفنا شر الإبتداع(3).
وبعد معركة نهاوند تسارع زعماء الفرس من همذان وطبرستان، وأصبهان وطلبوا الصلح وتم لهم ذلك على التوالي(4).
المبحث الرابع: الإنسياح في بلاد العجم ((المرحلة الخامسة)):
بعد انتصار المسلمين في وقعة نهاوند لم يقم للفرس أمر، وانساح المسلمون في بلاد العجم وأذن لهم عمر في ذلك فافتتح المسلمون بعد نهاوند مدينة جَيّ ـ وهي مدينة أصْبهان(5) بعد قتال كثير وأمور طويلة ، فصالحوا المسلمين وكتب لهم عبدالله بن عبدالله كتاب أمان وصلح وفر منهم ثلاثون نفراً إلى كرْمان لم يصالحوا المسلمين، وفي سنة إحدى وعشرين افتتح أبو موسى قُمَّ وقاشان(6)، وافتتح سهيل بن عدي مدينة كَرْمان.
أولاً: فتح همَذَان ثانية 22هـ:
__________
(1) السفط: وعاء من قضبان الشجر
(2) انظر: البداية والنهاية (7/114)
(3) انظر: اتمام الوفاء ص(98)
(4) انظر: إتمام الوفاء ص (99، 100،101)
(5) مدينة عظيمة من أعلام المدن في بلاد فارس
(6) قم وقاشان: مدن فارسية يذكران جميعاً(1/495)
تقدم أن المسلمين لما فرغوا من نهاوند فتحوا حُلْوان وهمذان ثم إن أهل همذان نقضوا عهدهم الذي صالحهم عليه القعقعاع بن عمرو، فكتب عمر إلى نعيم بن مقرن أن يسير إلى همذان فسار حتى نزل على ثنية العسل ، ثم تحدر على همذان ، واستولى على بلادها وحاصرها فسألوه الصلح فصالحهم ودخلها فبينما هو فيها ومعه اثنا عشر ألفاً من المسلمين إذ تكاتب الديلم، وأهل الرأي وأهل أذر بيجان ، واجتمعوا على حرب نعيم بن مقرن في جمع كثير، فخرج إليهم بمن معه من المسلمين حتى التقوا بمكان يقال له واج الرُّواذ(1)، فاقتتلوا قتالاً شديداً وكانت وقعة عظيمة تعدل نهاوند ولم تك دونها فقتلوا من المشركين جماً غفيراً لا يحصون كثرة ،وقتل ملك الديلم وتمزق شملهم ، وانهزموا بأجمعهم ، بعد من قتل بالمعركة منهم ، فكان نعيم بن مقرن أول من قاتل الديلم(2) من المسلمين ،وقد كان نعيم كتب إلى عمر يعلمه باجتماعهم فهمّه ذلك واغتم له، فلم يفاجأه إلا البريد بالبشارة ، فقال: أبشير؟ فقال: بل عروة، فلما ثنَّى عليه، أبشير؟ فطِن فقال: بشير، فقال عمر: رسول نغيم وسماك بن عبيد؟ قال: رسول نعيم ، قال: ا لخبر؟ قال: البشرى بالفتح والنصر وأخبره الخبر، فحمد الله وأمر بالكتاب فقُرئ على الناس فحمدوا الله ثم قدم سماك بن مخرمة وسماك بن عُبيد وسماك بن خرشة في وفود الكوفة بالأخماس على عمر، فنسبهم، فانتسب له سماك وسماك وسماك ، فقال: بارك الله فيكم، اللهم اسمك بهم الإسلام ، وأيدهم بالإسلام(3).
ثانياً: فتح الرَّيّ سنة 22هـ :
__________
(1) واج روذ: موضع بين همدان وقزوين
(2) ترتيب وتهذيب البداية والنهاية ص160
(3) تاريخ الطبري (5/134)(1/496)
استخلف نعيم بن مقرن على يزيد بن قيس الهمداني، وسار هو بالجيوش حتى لحق بالري(1) ، فلقي هناك جمعاً كثيراً من المشركين، فاقتتلوا عند سفح جبل الري، فصبروا صبراً عظيماً ثم انهزموا وقتل منهم نعيم بن مقرن مقتلة عظيمة بحيث عُدّوا بالقصب، وغنموا منهم غنيمة عظيمة قريباً مما غنم المسلمون من المدائن ، وصالح أبو الفرُّخان الملقب بالزينبي على الري، وكتب له أماناً بذلك، ثم كتب نعيم إلى عمر بالفتح ثم بالأخماس ولله الحمد والمنة(2).
ثالثاً: فتح قُومِسْى وجُرْجَان سنة 22هـ :
ولما ورد البشير بفتح الري وأخماسها كتب عمر إلى نعيم بن مقرن أن يبعث أخاه سويد بن مقرن إلى قوميس(3)، فسار إليها سويد ، فلم يقم له شئ حتى أخذها سلما وعسكر بها وكتب لأهلها كتاب أمان وصلح ولما عسكر سويد بقوميس بعث إليه أهل بلدان شتى منها: جُرْجَان(4) وطبرستان(5)، وغيرها يسألونه الصلح على الجزية، فصالح الجميع ، وكتب لأهل كل بلدة كتاب أمان وصلح(6).
رابعاً: فتح أذربيجان سنة 22هـ :
__________
(1) الري: مدينة مشهورة تبعد عن قزوين سبعة وعشرين فرسخاً.
(2) تاريخ الطبري (5/136، 137).
(3) قوميس: تقع في نهاية جبال طبرستان وهي بين الري ونيسابور.
(4) جرجان: مدينة عظيمة بين طبرستان وخراسان.
(5) طبرستان: بلد واسع والغالب عليها الجبال اشتهرت بالعلماء والأدباء.
(6) تهذيب البداية والنهاية ص161.(1/497)
لما افتتح نعيم بن مقرن همذان ثانية ، ثم الري، بعث بين يديه بُكير بن عبد الله من همذان إلى أذربيجان(1) وأردفه بسماك بن خرشَة وذلك عن أمر عمر بن الخطاب وليس بأبي دجانة(2) فلقى أسفندياذ بن الفرُّخزاذ بكيراً وأصحابه، قبل أن يقدم عليهم سماك فاقتتلوا فهزم الله المشركين وأسر بكير اسنفدياذ، فقال له: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ فقال: بل الصلح. فقال: فأمسكني عندك فأمسكه ثم جعل يفتح أذربيجان بلداً بلداً ، وعتبة بن فرقد في مقابله في الجانب الآخر من أذربيجان يفتحها بلداً بلداً ، ثم جاء كتاب عمر بأن يتقدم بُكير إلى الباب، وجعل سماكاً موضعه ـ نائباً لعتبة بن فرقد وجمع عمر أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد وسلم إليه بكيرُ اسفندياذ، وقد كان اعترض بهرام بن فرّ خزاذ لعتبة بن فرقد فهزمه عتبة وهرب بهرام ، فلما بلغ ذلك اسفندياذ قال: الآن تم الصلح وطفئت الحرب، فصالحه وعادت أذربيجان سلماً، وكتب بذلك عُتْبةُ وبكير إلى عمر، وبعثوا بالأخماس إليه، وكتب عتبة حين انتهت إليه إمرة أذربيجان كتاب أمان وصلح لأهلها(3).
خامساً: فتح الباب سنة 22هـ :
__________
(1) أذربيجان: إقليم واسع غالب عليه الجبال وتحدها بلاد الديلم.
(2) الصحابي المشهور.
(3) تاريخ الطبري (5/141، 142)(1/498)
كتب عمر بن الخطاب كتاباً بالإمرة على هذه الغزوة لسراقة بن عمرو ـ الملقب بذي النور فسار كما أمر عمر وهو على تعبئته فلما انتهى مقدم العساكر ـ وهو عبد الرحمن بن ربيعة إلى الملك الذي هناك عند الباب(1) وهو شهر براز، ملك أرمينية وهو من بيت الملك الذي قتل بني إسرائيل وغزا الشام في قديم الزمان فكتب شهر براز لعبد الرحمن واستأمنه فأمنّه عبد الرحمن بن ربيعة فقدم عليه المَلكِ، فأنهى إليه أن صُغْوَه(2) إلى المسلمين وأنه مناصح للمسلمين فقال له: إن فوقي رجلاً فاذهب إليه ، فبعثه إلى سراقة بن عمرو أمير الجيش ، فسأل مِنْ سراقة الأمان فكتب كتاباً بذلك ثم بعث سراقة بكير بن عبدالله الليثي، وحبيب بن مسلمة وحذيفة بن أسيد، وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية جبال اللاّن، تفِليسس، ومُوقَان ، فافتتح بكير مُوقان، وكتب لهم كتاب أمان، ومات في غضون ذلك أمير المسلمين هناك سراقة بن عمرو، واستخلف بعده عبد الرحمن بن ربيعة ، فلما بلغ عمر ذلك أقره وأمره بغزو الترك(3).
سادساً: أول غزو الترك:
لما جاء كتاب عمر إلى عبد الرحمن بن ربيعة يأمره بأن يغزو الترك ، سار حتى قطع الباب قاصداً لما أمره عمر، فقال له شهر براز: أين تريد؟ قال: أريد ملك الترك بَلَنْجَر، فقال له شهر براز: إنّا لنرضى منهم بالموادعة، نحن من وراء الباب ـ فقال عبد الرحمن: إن الله بعث إ لينا رسولاً ووعدنا على لسانه بالنصر والظفر ونحن لا نزال منصورين، فقاتل الترك وسار في بلاد بلنجر مائتي فرسخ وغزا مرات متعددة ، ثم كانت له وقائع هائلة في زمن عثمان رضي الله عنه(4).
سابعاً: غزو خُراسان سنة 22هـ :
__________
(1) الباب: مدينة عظيمة على بحر طبرستان وهو بحر الخزر
(2) صغوه: أي ميله
(3) تاريخ الطبري (5/145).
(4) تاريخ الطبري (5/ 142 إلى 147).(1/499)
كان الأحنف بن قيس قد أشار على عمر بأن يتوسع المسلمون بالفتوحات في بلاد العجم، ويُضيقوا على كسرى يزدجرد، فإنه هو الذي يحث الفرس والجنود على قتال المسلمين فأذن عمر بن الخطاب في ذلك عن رأيه، وأمّر الأحنف وأمره بغزو بلاد خراسان ، فركب الأحنف في جيش كثيف إلى خراسان قاصداً حرب يزدجرد فدخل خراسان فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليه صُحَار بن فلان العبدِي ، ثم سار إلى مَرو الشهجان(1) وفيها بزدجرد وبعث الأحنف بين يديه مُطرّف بن عبدالله بن الشخِّير إلى نيسابور(2)،والحارث بن حسان إلى سَرْخَس(3)ولما اقترب الأحنف من مرو الشاهجان، ترحل منها يزدجرد إلى مرو الروذ(4)، فافتتح الأحنف مرو الشاهجان فنزلها ، وكتب يزدجرد حين نزل مرو الروذ إلى خاقان ملك الترك يستمدَّه، وكتب إلى ملك الصغد يستمدَّه، وكتب إلى ملك الصين يستعينه ، وقصده الأحنف بن قيس إلى مرو الروذ وقد استخلف على مرو الشاهجان حارثة بن النعمان ، وقد وفدت إلى الأحنف إمدادات من أهل الكوفة مع أربعة أمراء فلما بلغ ذلك يزدجرد ترحل إلى بلخ(5)، فالتقى معه ببلخ فهزمه الله عز وجل وهرب هو ومن بقي معه من جيشه فعبر النهر، واستوثق مُلك خراسان على يدي الأحنف بن قيس، واستخلف في كل بلدة أميراً ، ورجع الأحنف فنزل مرو الروذ، وكتب إلى عمر بما فتح الله عليه من بلاد خراسان بكاملها وكتب عمر إلى الأحنف ينهاه عن العبور إلى ما وراء النهر. وقال: احفظ ما بيدك من بلاد خراسان ولما وصل رسول يزدجرد إلى اللذين استنجد بهما لم يحتفلا بأمره، فلما عبر يزدجرد النهر ودخل في بلادهما تعين عليهما إنجاده في شرع
__________
(1) مرو الشاهجان: هي مدينة مرو العظمى ، وهي قصبة خراسان.
(2) نيسابور: مدينة مشهورة في هذا الإقليم.
(3) سرخس: مدينة بين نيسابور ومرو في وسط الطريق.
(4) مرو الروذ: تقع على نهر عظيم ولكنها أصغر من مرو الأخرى.
(5) بلخ: مدينة من أجمل مدن خراسان تقع بالقرب من نهر جيحون(1/500)
الملوك، فسار معه خاقان ، فوصل إلى بَلْخ حتى نزلوا على الأحنف بمرو الروذ فتبرز الأحنف بمن معه من أهل البصرة وأهل الكوفة والجميع عشرون ألفاً فسمع رجلاً يقول لآخر: إن كان الأمير ذا رأي فإنه يقف دون هذا الجبل فيجعله وراء ظهره، ويبقى هذا النهر خندقاً حوله فلا يأتيه العدو إلا من جهة واحدة فلما أصبح الأحنف أمر المسلمين فوقفوا في ذلك الموقف بعينه، وكان أمارة النصر والرشد وجاءت الأتراك والفرس في جمع عظيم هائل مزعج، فقام الأحنف في الناس خطيباً فقال: إنكم قليل وعدوكم كثير فلا يهولُنّكم { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249) } (سورة البقرة ، آية:249)، فكان الترك يقاتلون بالنهار ولا يدري الأحنف أين يذهبون في الليل ، فصار ليلة مع طليعة من أصحابه نحو خاقان ، فلما كان قريب الصبح خرج فارس من الترك طليعة وعليه طوق وضرب بطبلة فتقدم إليه الأحنف فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنف فقتله وهو يرتجز:
إنّ على كُل رئيس حقا
إنّ لها شيخا بها مُلَقىّ ... أن يخضِبَ الصّعْدة أو تَنْدَقّا
سَيفَ أبي حفص الذي تبقَّى(2/1)
ثم استلب التركيَّ طوقه ووقف موضعه، فخرج آخر عليه طوق ومعه طبل فجعل يضرب بطبلة ، فتقدم إليه الأحنف فقتله أيضاً واستلبه طوقه ووقف موضعه، فخرج ثالث فقتله وأخذ طوقه، ثم أسرع الأحنف الرجوع إلى جيشه ولا يعلم بذلك أحد من الترك بالكلية، وكان من عادة الترك أنهم لا يخرجون حتى تخرج ثلاثة من كهولهم بين أيديهم يضرب الأول بطبلة ثم الثاني، ثم الثالث . فلما خرجت الترك فأتوا على فرسانهم مقتولين، تشاءم بذلك الملك خاقان وتطير ، وقال لعسكره: قد طال مقامنا وقد أصيب هؤلاء القوم بمكان لم نصب بمثله ، مالنا في قتال هؤلاء القوم من خير فانصرفوا بنا فرجعوا إلى بلادهم(1) وقد قال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتباعهم؟ فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم. وقد أصاب الأحنف في ذلك، فقد جاء في الحديث: اتركوا الترك ما تركوكم(2) ، { وَرَدَّ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرَاً وَكَفَى الله الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ الله قَوِيَّاً عَزِيزَاً } (الأحزاب،آية:25) ، ورجع كسرى خاسر الصفقة لم يشف له غليل، ولا حصل على خير ، ولا انتصر كما كان في زعمه، بل تخلى عنه من كان يرجو النصر منه، وتنحى عنه وتبرأ منه أحوج ما كان إليه، وبقى مذبذباً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء: { وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً(88) } (النساء،آية:88).
__________
(1) تاريخ الطبري (5/159)
(2) الطبراني الكبير قال الألباني موضوع سلسلة الأحاديث الضعيفة 1747(2/2)
وتحير في أمره ماذا يصنع؟ وإلى أين يذهب ؟ ثم بعث إلى ملك الصين يستغيث به ويستنجده فجعل ملك الصين يسأل الرسول عن صفة هؤلاء القوم الذي قد فتحوا البلاد وقهروا رقاب العباد، فجعل يخبره عن صفتهم، وكيف يركبون الخيل والإبل، وماذا يضعون؟ وكيف يُصَلُّون؟ فكتب معه إلى يزدجرد: إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق عليّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدوها، ولو جئت لنصرك أزالوني ما داموا على ما وصف لي رسولك فسالمهم وأرضَ منهم بالمسالمة ، فأقام كسرى وآل كسرى في بعض البلاد مقهورين ولم يزال ذلك دأبه حتى قتل في إمارة عثمان(1)، ولما بعث الأحنف بكتاب الفتح وما أفاء الله عليهم من أموال الترك ومن كان معهم، وأنهم قتلوا منهم مع ذلك مقتلة عظيمة، ثم ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً ، فقام عمر على المنبر وقُرِئَ الكتاب بين يديه، ثم قال عمر: إن الله بعث محمداً بالهدى ووعد على ابتاعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة فقال: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(33) } (التوبة،آية:33).
فالحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر جنده . ألا وإن الله قد أهلك مُلْك المجوسية وفرق شملهم، فليس يملكون من بلادهم شبراً يضير بمسلم، ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، فقوموا في أمره على وجل ، يُوفِ لكم بعهده ويؤتكم وعده، ولا تغيروا فيستبدل قوماً غيركم، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم(2).
ثامناً: فتح اصطخر سنة 23هـ :
__________
(1) تاريخ الطبري (5/160)
(2) تاريخ الطبري (5/162، 163)(2/3)
افتتح المسلمون اصطخر ـ للمرة الثانية ـ في سنة ثلاث وعشرين وكان أهلها قد نقضوا العهد بعدما كان جند العلاء بن الحضري افتتحوها حين جاز في البحر ـ في أرض البحرين ـ والتقوا هم والفرس في مكان يقال له طاوس، ثم صالحه الهِرْبذة على الجزية ، وأن يضرب لهم الذمة ، ثم إن شهرك خلع العهد، ونقض الذمة، ونشّط الفرس ، فنقضوا العهد، فبعث إليهم عثمان بن أبي العاص ، ابنه وأخاه الحكم ، فاقتتلوا مع الفرس فهزم الله جيوش المشركين ، وقتل الحكمُ بن أبي العاص شهَرك(1).
تاسعاً: فتح فساودار بجرد سنة 23هـ:
قصد سارية بن زُنَيم فساودارا بجرد، فاجتمع له جموع من الفرس والأكراد عظيمة ودهم المسلمين منهم أمر عظيم ، رأى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في وقت من النهار، وأنهم في صحراء ، وهناك جبل إن أسندوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فنادى في الغد الصلاة جامعة حتى إذا كانت الساعة التي رأي أنهم اجتمعوا فيها ـ خرج إلى الناس وصعد المنبر ـ فخطب الناس وأخبرهم بصفة ما رأى ـ ثم قال: يا سارية الجبل ـ ثم أقبل عليهم وقال: إن لله جنوداً ولعل بعضها أن يبلغهم. قال: ففعلوا ما قال عمر ـ فنصرهم الله على عدوهم ـ وفتحوا البلد(2) .
عاشراً: فتح كَرْمان وسجستان سنة 23هـ :
__________
(1) تاريخ الطبري (5/166)
(2) تاريخ الطبري (5/168، 169) وأخرجها اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة رقم 2537 وحسن الشيخ الألباني اسنادها في حاشيته على مشكاة المصابيح(3/1678) رقم 5954، انظر : تهذيب البداية والنهاية ص170.(2/4)
قام سهيل بن عدي في سنة 23 بفتح كرمان (1)، وقيل فتحت على يدي عبدالله بن بُدَيل بن ورقاء الخزاعي(2)، وذكر بعض المؤرخين فتح سجستان على يدي عاصم بن عمرو، بعد قتال شديد ، وكانت ثغورها متسعة ، وبلادها متنائية ما بين السد إلى نهر بلخ، وكانوا يقاتلون القُندهار والترك من ثغورها وفروجها(3)
الحادي عشر: فتح مُكرَان سنة 23هـ:
في السنة 23هـ فتحت مكران على يدي الحكم بن عمرو، وأمده شهاب بن المخارق، ولحق به سهيل بن عدي ، وعبدالله بن عبدالله بن عتبان واقتتلوا مع ملك السند فهزم الله جموع السند وغنم المسلمون منهم غنيمة كثيرة ، وكتب الحكم بن عمرو بالفتح وبعث بالأخماس مع صُحار العبدي فلما قدم على عمر سأله عن أرض مُكْران فقال: يا أمير المؤمنين أرض سهلها جبل ، وماؤها وشل(4)، وتمرها دقل(5)، وعدوها بطل ، وخيرها قليل ، وشرها طويل والكثير بها قليل والقليل بها ضائع ، وما وراءها شر منها فقال عمر: أسجاع أنت أم مخبر؟ فقال: لا ، بل خبر، فكتب عمر إلى الحكم بن عمرو، أن لا يجوزون مكران، وليقتصروا على ما دون النهر(6).
الثاني عشر: غزوة الأكراد :
__________
(1) تهذيب البداية والنهاية ص171
(2) تهذيب البداية والنهاية ص171
(3) ترتيب وتهذيب البداية والنهاية ص171
(4) الوشل: القليل
(5) الدقل: ردئ التمر
(6) تاريخ الطبري (5/172، 173،174)(2/5)
ذكر ابن جرير بسنده عن سيف عن شيوخه: أن جماعة من الأكراد والتف إليهم طائفة من الفرس، اجتمعوا فلقيهم أبو موسى بمكان من أرض بيرُوذ قريب من نهر تِيرَى(1)، ثم سار عنهم أبو موسى إلى أصبهان وقد ا ستخلف على حربهم الربيع بن زياد بعد مقتل أخيه المهاجر بن زياد ـ فتسلم الحرب وخنق عليهم، فهزم الله العدو وله الحمد والمنة كما هي عادته المستمرة وسنته المستقرة، في عباده المؤمنين ، وحزبه المفلحين من أتباع سيد المرسلين ثم خمست الغنيمة وبعث بالفتح والخمس إلى عمر رضي الله عنه(2).
وهكذا تم فتح العراق وبلاد إيران في عهد عمر رضي الله عنه وأقام المسلمون المسالح في شتى أرجائها متوقعين انتقاض الفرس في هذه الديار ـ لقد كانت فتوح المشرق عنيفة اقتضت من المسلمين تضحيات جسيمة بسبب اختلاف الدم، فسكان إيران فرس لا تربطهم بالعرب لغة ولا جنس ولا ثقافة وكان الشعور القومي عند الإيرانييين يزكيه التاريخ الطويل والثقافة المتأصلة، كما أن القتال كان يدور في صميم الوطن الإيراني ويشترك رجال الدين المجوسي في تأليب السكان على المقاومة يضاف إلى ذلك بعد هذه المناطق عن مراكز الجيش في البصرة والكوفة ، وطبيعة الأرض الجبلية التي تمكن السكان من المقاومة ـ ولذلك فقد انتقضت معظم هذه المراكز، وأعيد فتحها في عهد الفاروق أو في خلافة عثمان رضي الله عنهما(3).
المبحث الخامس: أهم الدروس والعبر والفوائد من فتوحات العراق والمشرق:
أولاً: أثر الآيات والأحاديث في نفوس المجاهدين:
__________
(1) بيروز ونهر تيرى بلدان من نواحي الأهواز
(2) تهذيب وترتيب البداية والنهاية ص172
(3) عصر الخلافة الراشدة ص339، 340(2/6)
كان للآيات والأحاديث التي تتحدث عن فضل الجهاد أثرها في نفوس المجاهدين ، فقد بين المولى عز وجل أن حركات المجاهدين كلها يثاب عليها قال تعالى: { مَا كَانَ لأِهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(120) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ(121) } (التوبة،آية:120-121) ، وقد أيقن المسلمون الأوائل أن الجهاد تجارة رابحة قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } (الصف،آية:10-13).(2/7)
وقد تعلموا أن الجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحجاج فيه قال تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ
دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ
وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ(2/8)
أَجْرٌ عَظِيمٌ(22) } (التوبة،آية:19-21)، واعتقدوا أن الجهاد فوز على كل حال قال تعالى: { قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ(52) } (التوبة،آية:52)، وأن الشهيد لا تنقطع حياته بل هو حي قال تعالى: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ(171) } (آل عمران:169-171) وكانوا يشعرون بسمو هدفهم الذي يقاتلون من أجله قال تعالى: { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالأخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(74) وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا(75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا(76) } (النساء، آية: 74-76).(2/9)
وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين فضل الجهاد فألهبت تلك الأحاديث مشاعرهم وفجّرت طاقاتهم ومن هذه الأحاديث ما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (مؤمن يجاهد بنفسه وماله)(1) ، وقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - درجات المجاهدين قال - صلى الله عليه وسلم -: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة(2)، وقد وضح - صلى الله عليه وسلم - فضل الشهداء وكرامتهم فقال: (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يُخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلفْ سرَّية ولوددتُ أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل)(3) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شئ إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة)(4)، وغير ذلك من الأحاديث وقد تأثر المسلمون الأوائل ومن سار على نهجهم بهذه الآيات والأحاديث ـ فكان كبار الصحابة رضي الله عنهم يغزون وقد شاخوا فيشفق عليهم الناس وينصحونهم بالقعود عن الغزو لأنهم معذورون فيجيبونهم أن سورة التوبة تأبى عليهم القعود ويخافون على أنفسهم من النفاق إذا ما تخلفوا عن الغزو(5).
1- من ثمرات الجهاد في سبيل الله:
__________
(1) البخاري رقم 2786
(2) البخاري رقم 2790
(3) مسلم (3/1497)
(4) البخاري رقم 2817
(5) الجهاد في سبيل الله للقادري (1/145)(2/10)
كان الصحابة والتابعون بإحسان في العهد الراشدي يرون أن الجهاد في سبيل الله ضرورة من ضرورات بقاء الأمة الإسلامية فقاموا بهذه الفريضة في فتوحات العراق وبلاد المشرق والشام ومصر والشمال الأفريقي وترتب على قيامهم لهذه الفريضة ثمرات كثيرة منها: تأهيل الأمة الإسلامية لقيادة البشرية ،القضاء على شوكة الكفار وإذلالهم وإنزال الرعب في قلوبهم ، ظهور صدق الدعوة للناس الأمر الذي جعلهم يدخلون في دين الله أفواجا فيزداد المسلمون بذلك عزاً والكفار ذلاً، وتوحدت صفوف المسلمين ضد أعدائهم واسعدوا الناس بنور الإسلام وعدله ورحمته(1).
ثالثاً: من سنن الله في فتوحات العراق وبلاد المشرق:
يلاحظ الباحث في دراسته لفتوحات العراق وبلاد المشرق بعض سنن الله في المجتمعات والشعوب والدول ومن هذه السنن :
1- سنة الأخذ بالأسباب:
قال تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ(60) } (الأنفال،آية:60).
وقد طبق الفاروق رضي الله عنه في عهده هذه الآية وأخذ بالأسباب المادية والمعنوية كما مرّ معنا.
2- سنة التدافع:
قال تعالى: { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ(251) } (البقرة،آية:251).
__________
(1) نفس المصدر (2/411 إلى 482)(2/11)
وقد تحققت هذه السنة في حركة الفتوحات عموماً وسنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه وخلقه وهي من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية ، وقد استوعب المسلمون الأوائل هذه السنة وعملوا بها وعلموا: أن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به وسواعد تمضي به وقلوب تحنو عليه وأعصاب ترتبط به ـ إنه يحتاج إلى جهد بشرى لأن هذه سنة الله في الحياة الدنيا وهي ماضية(1).
3- سنة الابتلاء:
قال تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(214) } (البقرة،آية:214).
وقد وقع البلاء في فتوحات العراق في معركة جسر أبي عبيد على الخصوص حيث قتل الآلاف من المسلمين وهزم جيشهم ثم أعادوا صفوفهم وحققوا انتصارات عظيمة على الفرس وقد قال تعالى: { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ... }
(آل عمران،آية:186).
ومن الملاحظ من خلال الآيات الكريمة أن تقرير سنة الإبتلاء على الأمة الإسلامية جاء في أقوى صورة من الجزم والتأكيد(2)، وهذه سنة الله تعالى في العقائد والدعوات لا بد من بلاء ، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام(3).
4- سنة الله في الظلم والظالمين:
__________
(1) لقاء المؤمنين ، عدنان النحوي (2/117)
(2) التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن الكريم ص237
(3) تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين للصّلابي ص456(2/12)
قال تعالى: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ(100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ(101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(102) }
(هود،آية:100-102).
وسنة الله مطردة في هلاك الأمم الظالمة وقد مارست الدولة الفارسية الظلم على رعاياها وتمردت على منهج الله فمضت فيها سنة الله وسلط الله عليها المسلمين فأزالوها من الوجود(1).
5- سنة الله في المترفين:
قال تعالى: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16) } (الإسراء،آية:16).
وجاء في تفسيرها: وإذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطاعة مترفيها أي متنعميها
وجبّاريها وملوكها ففسقوا فيها فحق عليها القول فأهلكناها وإنما خص الله تعالى المترفين بالذكر مع توجه الأمر بالطاعة إلى الجميع لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم إنما وقع باتباعهم وإغوائهم ، فكان توجه الأمر إليهم آكد(2)، وقد مضت هذه السنة في زعماء الفرس وأئمتهم.
6- سنة الله في الطغيان والطغاة:
قال تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14) } (الفجر،آية:14). والآية وعيد للعصاة مطلقاً وقيل وعيد للكفرة وقيل وعيد للعصاة ووعيد لغيرهم(3).
وفي تفسير القرطبي: أي يرصد كل إنسان حتى يجازيه به(4).
__________
(1) السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد ص119 إلى 121
(2) تفسير الآلوسي (15/42)
(3) السنن الإلهية ص193
(4) المصدر نفسه ص193 نقلاً عن القرطبي من تفسيره(2/13)
وواضح من أقوال المفسرين في الآيات التي ذكرناها في الفقرة السابقة أن سنة الله في الطغاة إنزال العقاب بهم في الدنيا فهي سنة ماضية لا تتخلف جرت على الطغاة السابقين وستجري على الحاضرين والقادمين فلن يفلت أحد منهم من عقاب الله في الدنيا كما لا يفلت أحد منهم من عقاب الآخرة(1).
وسنة الله في الطغاة وما ينزله الله بهم من عقاب في الدنيا إنما يعتبر بها من يخشى الله جلّ جلاله ويخاف عقابه ويعلم أن سنة الله قانون ثابت لايحابي أحداً قال تعالى في بيان المعتبرين بسنته في الطغاة بعد أن ذكر ما حلّ بفرعون من سوء العقاب
{ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الأخِرَةِ وَالأولَى(25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى(26) } (النازعات،آية:25،26)، فهؤلاء الطغاة من زعماء الفرس مضت فيهم سنة الله.
7- سنة التدرج:
خضعت فتوح العراق وبلاد المشرق لسنة التدرج ـ فكانت المرحلة الأولى في عهد الصديق حيث تم فتح الحيرة بقيادة خالد بن الوليد ، وأما المرحلة الثانية فتبدأ من تولي أبي عبيد الثقفي قيادة لجيوش العراق حتى معركة البويب ـ وأما المرحلة الثالثة فتبدأ منذ تأمير سعد بن أبي وقاص على الجهاد في العراق إلى ما قبل وقعة نهاوند ، وتبدأ المرحلة الرابعة من وقعة نهاوند وأما المرحلة الخامسة فهي مرحلة الإنسياح في بلاد الأعاجم.
إن حركة الفتوحات يتعلم منها أبناء المسلمين أهمية مراعاة سنة التدرج في العمل للتمكين لدين الله ، ومنطلق هذه السنة أن الطريق طويل ولذلك لا بد من فهم واستيعاب هذه السنة بالنسبة للعاملين في مجال الدعوة الإسلامية ، فالتمكين لدين الله في العراق وبلاد المشرق لم يتحقق بين عشية وضحاها ولكنه خضع بإرادة الله لهذه السنة.
8- سنة تغيير النفوس:
قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ... } ? (الرعد،آية:11)
__________
(1) السنن الإلهية ص194(2/14)
وقد قام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في فتوحات العراق وبلاد المشرق بالعمل بهذه السنة الربانية مع الشعوب التي أرادت أن تدخل في دين الله
ـ فشرعوا في تربية الناس على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ـ فغرسوا في نفوسهم العقائد الصحيحة والأفكار السليمة والأخلاق الرفيعة.
9- سنة الله في الذنوب والسيئات:
قال تعالى: { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ(6) } (الأنعام،آية: 6).
وقد أهلك الله تعالى أمة الفرس بسبب ذنوبهم التي اقترفوها والتي من أعظمها الكفر والشرك بالله وفي هذه الآية حقيقة ثابتة وسنة مطردة: أن الذنوب تهلك أصحابها وأن الله تعالى هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم(1)، وقد سلط الله أمة الإسلام على الفرس عندما حققت شروط التمكين وعملت بسننه وأخذت بأسبابه .
رابعاً: الأحنف بن قيس يغير مجرى التاريخ:
كان عمر متمسكاً برأيه في الاقتصار على ما فتح من فارس ومنع جيوشه من التوغل في المشرق ولا سيما بعد أن انكسر الهرمزان وفتح المسلمون الأهواز.
فقال عمر: حسبنا لأهل البصرة سوادهم والأهواز، وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم ،وقال لأهل الكوفة: وددت أن بينهم وبين الجبل جبلاً من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم .
__________
(1) السنن الإلهية ص210(2/15)
وفاوض عمر الوفد في هذا الأمر فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين أخبرك إنك نهيتنا عن الإنسياح في البلاد وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا وإن ملك فارس حيَّ بين أظهرهم وإنهم لا يزالون يساحلوننا مادام ملكهم فيهم ولم يجتمع ملكان فاتفقا - أي التقيا - حتى يخرج أحدهما صاحبه ـ وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئاً إلا بانبعاثهم وإن ملكهم هو الذي يبعثهم ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فلنسح في بلادهم حتى نزيله عن فارس ونخرجه من مملكته وغرامته ، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويُضربون جأشاً(1) .
فقال عمر للأحنف: صدقتني والله وشرحت لي الأمر على حقه.
وأذن عمر بالانسياح في بلاد فارس وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف،وعرف فضله وصدقه فساحوا في تلك البلاد ودفع لواء خراسان إلى الأحنف ، ووزع بقية الألوية إلى الأبطال من قادة المجاهدين ، ورسم لهم خطة الحرب والتقدم ، ثم جعل يمدهم بالجيوش من ورائهم(2).
الفصل السابع
فتوح الشام ومصر وليبيا
المبحث الأول: فتوحات الشام:
__________
(1) البداية والنهاية (7/130)
(2) مع الرعيل الأول ، محب الدين الخطيب ص146(2/16)
كان أول خطاب وصل إلى الشام من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحمل نبأ وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتولية أبي عبيدة على الشام وقد جاء فيه: أما بعد فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توفي فإنا لله وإنا إليه راجعون، ورحمة الله وبركاته على أبي بكر الصديق العامل بالحق، والآخذ بالعرف، اللين الستير الوادع، السهل القريب الحكيم، ونحتسب مصيبتنا فيه ومصيبة المسلمين عامة عند الله تعالى، وأرغب إلى الله في العصمة بالتقى في مرحمته، والعمل بطاعته ما أحيانا، والحلول في جنته إذا توفانا، فإنه على كل شيء قدير، وقد بلغنا حصاركم لأهل دمشق، وقد وليتك جماعة المسلمين، فابثث سراياك في نواحي أهل حمص ودمشق وما سواها من أرض الشام، وانظر في ذلك برأيك ومن حضرك من المسلمين ولا يحملنك قولي هذا على أن تعري عسكرك فيطمع فيك عدوك ولكن من استغنيت عنه فسيره، ومن احتجت إليه في حصارك فاحتبسه، وليكن فيمن تحتبس خالد بن الوليد فإنه لا غنى بك عنه(1)، وعند وصول الكتاب دعا أبو عبيدة معاذ بن جبل، فأقرأه الكتاب، وقال حامل الرسالة: يا أبا عبيدة، إن عمر يقول لك أخبرني عن حال الناس، وعن خالد بن الوليد أي رجل هو؟ وأخبرني عن يزيد بن أبي سفيان، وعن عمرو بن العاص، وكيف هما في حالهما وهيئتهما ونصحهما للمسلمين وأجاب أبو عبيدة رسول عمر وكتب
__________
(1) تاريخ دمشق (2/125).(2/17)
أبو عبيدة ومعاذ بن جبل كتاباً واحداً إلى عمر جاء فيه: … من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، سلام عليكم، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، وإنك يا عمر، أصبحت وقد وليت أمر أمة محمد، أحمرها وأسودها، يقعد بين يديك العدو والصديق، والشريف والوضيع، والشديد والضعيف، ولكل عليك حق وحقّه من العدل فانظر كيف تكون يا عمر، وإنا نذكِّرك يوماً تُبلى فيه السرائر، وتكشف فيه العورات، وتظهر فيه المُخبَّات، وتَعْنُو فيه الوجوه لملك قاهر، قهرهم بجبروته، والناس له داخرون، ينتظرون قضاءه، ويخافون عقابه، ويرجون رحمته، وإنه بلغنا أنه يكون في هذه الأمة رجال إخوان العلانية أعداء السريرة، وإنا نعوذ بالله من ذلك، فلا ينزل كتابنا من قلبك بغير المنزلة التي أنزلناها من أنفسنا والسلام عليك ورحمة الله(1).
حوار بين خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهما:
علم خالد بأمر عزله فأقبل حتى دخل على أبي عبيدة فقال: يغفر الله لك، أتاك كتاب أمير المؤمنين بالولاية فلم تعلمني وأنت تصلي خلفي والسلطان سلطانك؟ فقال أبو عبيدة: وأنت يغفر الله لك ما كنت لأعلمك ذلك حتى تعلمه من عند غيري، وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كله، ثم قد كنت أعلمك إن شاء الله وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع وإنما نحن إخوان وُقوَّام بأمر الله عز وجل، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه، في دينه ولا دنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة لما يعرض له من الهلكة، إلا من عصم الله عز وجل وقليل
ما هم ودفع أبو عبيدة كتاب عمر إلى خالد(2).
عمر رضي الله عنه يرد على رسالة أبي عبيدة ومعاذ رضي الله عنهما:
__________
(1) فتوح الشام ص99-102 ، التاريخ الإسلامي (9/274).
(2) تاريخ دمشق (2/126).(2/18)
عندما وصل كتاب أبي عبيدة ومعاذ بواسطة شداد بن أوس بن ثابت بن أخي حسان بن ثابت الأنصاري ردّ عمر رضي الله عنه على كتابهما وجاء فيه: … فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني أوصيكما بتقوى الله، فإنه رضاء ربكما، وحظ أنفسكما، وغنيمة الأكياس(1) لأنفسهم عند تفريط العجزة، وقد بلغني كتابكما تذكران أنكما عهدتماني وأمر نفسي لي مُهمّ، فما يدريكما، وهذه تزكية منكما لي، وتذكران أني وليت أمر هذه الأمة، يقعد بين يديّ الشريف والوضيع والعدوّ والصديق، والقوي والضعيف، ولكلِّ حصته من العدل، وتسألانني كيف أنا عند ذلك، وإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وكتبتما تخوفاني يوماً هو آت، وذلك باختلاف الليل والنهار، فإنهما يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، حتى يأتيا بيوم القيامة، يوم تُبلى السرائر، وتكشف العورات، وتعنو فيه الوجوه لعزة ملك قهرهم بجبروته، فالناس له داخرون، يخافون عقابه، وينتظرون قضاءه، يرجون رحمته. وذكرتما أنه بلغكما أنه يكون في هذا الأمة رجال يكونون إخوان العلانية، أعداء السريرة، فليس هذا بزمان ذلك، فإن ذلك يكون في آخر الزمان إذا كانت الرغبة والرهبة، رغبة الناس ورهبتهم، بعضهم إلى بعض. والله عز وجل قد ولاني أمركم، وإني أسأل الله أن يعينني عليه وأن يحرسني عنه كما حرسني عن غيره، وإني امرؤ مسلم وعبد ضعيف، إلا ما أعان الله عز وجل، ولن يغير الذي وَليت من خلافتكم من خُلُقي شيئاً إن شاء الله، وإنما العظة لله عز وجل، وليس للعباد منها شيء، فلا يقولن أحد منكم إن عمر قد تغير منذ وَلي، وإني أعقلُ الحق من نفسي وأتقدم، وأُبيِّن لكم أمري، فأيما رجل كانت له حاجة، أو ظُلم مظلمة، ليس بيني وبين أحد من المسلمين هوادة، وأنا حبيب إليّ صلاحكم عزيز عليّ عتبكم، وأنا مسؤول عن أمانتي وما أنا فيه، ومطلع على
__________
(1) جمع كيِّس بتشديد الياء وكسرها وهو النبيه الفطن.(2/19)
ما يضيرني بنفسي إن شاء الله لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد ذلك إلا بالأمناء، وأهل النصح منكم للعامة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم، إن شاء الله وأما سلطان الدنيا وإمارتها؛ فإن كل ما تريان يصير إلى زوال، وإنما نحن إخوان، فأينا أمَّ أخاه، أو كان عليه أميراً لم يَضُره ذلك في دينه ولا في دنياه، بل لعل الوالي أن يكون أقربهما إلى الفتنة وأوقعهما بالخطيئة إلا من عصم الله، وقليل ما هم(1).
أولاً: فتح دمشق:
تمثل الفتوحات في بلاد الشام في عهد عمر بن الخطاب المرحلة الثانية من الفتوحات في هذه الجبهة بعد الفتوح في عهد الصديق فبعد أن انتهت معركة اليرموك وانهزمت جموع الروم استخلف أبو عبيدة بن الجراح على اليرموك بشير بن كعب الحميري، وأتاه الخبر أن المنهزمين من الروم اجتمعوا بفحل، وأن المدد قد أتى أهل دمشق من حمص، فأصبح لا يدري أبدمشق يبدأ أم بفحل في بلاد الأردن، فكتب القائد أبو عبيدة بن الجراح إلى الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأمره فأجابه: أما بعد، فابدأوا بدمشق فانهدوا لها، فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، واشغلوا عنكم أهل فحل، بخيل تكون بإزائهم في نحورهم وأهل فلسطين وأهل حمص، فإن فتحها الله قبل دمشق فذاك الذي نحب، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق، فلينزل في دمشق من يمسك بها ودعوها، وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تغيروا على فحل فإن تم فتحها، فانصرف أنت وخالد إلى حمص وأمير كل بلد على جند حتى يخرجوا من أمارته(2).
__________
(1) فتوح الشام ص99-102 .
(2) الدعوة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين بن الخطاب ص276 ، تهذيب وترتيب البداية والنهاية ص52 .(2/20)
ومن خلال أوامر الفاروق نلاحظ: أنه حدد مسؤولية قيادة العمليات، وبموجبه تم تطبيق مبدأ الاقتصاد بالجهد، فضلاً عن المرونة في التصرف إزاء الأهداف المطلوبة، كما يستنتج من هذه الأوامر أن الهدف الرئيس الأول هو دمشق مع توجيه قوة صغيرة لفحل، والهدف الرئيس الثاني هو فحل، لتوجيه الجيش كله لفتحها والهدف الثالث مدينة حمص، واستناداً إلى هذه التوجيهات أرسل أبو عبيدة بن الجراح وحدات قتالية إلى فحل وعلى قيادتها: أبو الأعور السلمي عامر بن حتمة، وعمرو بن كليب وعبد عمر بن يزيد بن عامر، وعمارة بن الصعق بن كعب، وصفي بن علية بن شامل، وعمر بن الحبيب بن عمر، ولبدة بن عامر، وبشير بن عصمة، عمارة بن مخشن وهو القائد لهذه المجموعات، وتوجهت إلى فحل(1)، وانطلق أبو عبيدة نحو دمشق، ولم يلق أية مقاومة ذات أهمية تذكر، إذ أن الروم قد اعتمدوا على أهل البلاد في المنطقة قبل دمشق لإعاقة تقدم قوات المسلمين، إلا أن هؤلاء لم تكن لهم الحماسة والاستماتة للدفاع ويعود ذلك لسوء معاملة الروم لهم وخاصة لأهل القرى الصغيرة(2)، ووصلت قوات المسلمين إلى (غوطة دمشق) التي فيها قصور الروم ومنازلهم، وشاهدوها خالية لأن أهلها هجروها إلى دمشق، وأرسل هرقل قوة من حمص لإمداد دمشق، وكانت تقدر بـ(500) خمسمائة مقاتل(3)، وهي قوة قليلة مقارنة بما يتطلبه الموقف، إلا أن القوة الإسلامية التي وضعها أبو عبيدة بن الجراح شمال دمشق بقيادة (ذي الكلاع) تصدت لها، وجرى قتال عنيف بين الجانبين، انهزم فيه الروم(4)، وناشد أهل دمشق هرقل الخلاص، فأرسل إليهم كتاباً يدعوهم إلى الثبات ويحرضهم على القتال
__________
(1) العمليات التعرضية الدفاعية عند المسلمين ص182 .
(2) الهندسة العسكرية في الفتوحات الإسلامية د. قصي عبد الرؤوف ص188 .
(3) البداية والنهاية (7/20)، الهندسة العسكرية 188 .
(4) البداية والنهاية (7/20).(2/21)
والمقاومة، ويعدهم بالمدد، فتقوت عزائمهم وجعلهم ذلك يصمدون للحصار وحركات القوات الإسلامية(1).
1- قوات الطرفين:
القوات الرومية:
القائد العام، هرقل.
أمير دمشق، نسطاس بن نسطورس.
قائد قوات دمشق، باهان الذي اشترك باليرموك وهرب منها واسمه ورديان.
القوات العمومية للقوات الرومية في دمشق (60000) ستون ألف مقاتل، مع احتمال وصول تعزيزات إضافية من حمص (20000) عشرين ألف مقاتل لخط الدفاع و(40000) وأربعين ألف مقاتل للتعرض فالروم أقاموا في دمشق للاستفادة من الأبنية وحصونها وسورها وربما كانوا ينتظرون المدد ليقوموا بالتعرض.
القوة الرومية في (فحل) تتألف من حاميتها ومن فلول جيش اليرموك الذي أثرت على معنوياتهم معركتها وفشلهم وهروبهم منها، فهم في فزع آخذ بنفوسهم.
قوات المسلمين:
القائد العام للقوات الإسلامية، عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قائد مسارح العمليات في بلاد الشام، أبو عبيدة بن الجراح.
بعث القائد أبو عبيدة بن الجراح بعشرة من قواده وفي مقدمتهم أبو الأعور السلمي مع حجم مناسب من القوات الإسلامية – لم تذكر المصادر تعداد هذه القوة – للسيطرة على طريق دمشق وحتى بيسان ومحلها معروف اليوم بخربة فحل(2).
أرسل أبو عبيدة بن الجراح قوات بقيادة (علقمة بن حكيم ومسروق) كل واحد بمحل الآخر باتجاه فلسطين، فأمن محور الحركات من الغرب والجنوب(3).
أرسل أبو عبيدة بن الجراح قوة بقيادة (ذي الكلاع) إلى شمال دمشق ليرابط على الطريق الذي يربطها مع حمص لحماية هذا الاتجاه ومنع وصول التعزيزات الرومية إلى دمشق(4).
__________
(1) الهندسة العسكرية ص188 .
(2) المصدر نفسه ص189 .
(3) المصدر نفسه ص189 .
(4) انظر تاريخ الطبري (4/258)، الهندسة العسكرية ص189 .(2/22)
كان حجم القوات الإسلامية بعد اليرموك بحدود (40000) أربعين ألف مقاتل، وهذه القوات متماسكة التنظيم، وتمتاز بالروح المعنوية العالية بعد النصر في اليرموك(1).
بلغ حجم القوات الإسلامية التي ضربت الحصار على دمشق بحدود (20000) عشرين ألف مقاتل، وباقي القوات أرسلت إلى فحل لتثبيت الجبهة هناك وبالإمكان عند الضرورة سحبها من فحل لتعزز قوة الحصار(2).
2- وصف مدينة دمشق:
كانت دمشق مدينة عظيمة سميت باسم بانيها (دمشاق بن كنعان) وقد خضعت لحكم مصر، الأسرة الثامنة عشر فهي أقدم المدن في التاريخ وكانت مركز عبادة الأوثان، ولما دخلت المسيحية جعلت من معبدها الوثني كنيسة لا يضاهيها بجمالها وجلالها إلا كنيسة إنطاكية وفي جنوب دمشق تقع أراضي البلقاء وشمالها الجولان، وهي أرض جبلية وأراضيها كلها زروع وغدران مياه، وهي مركز تجاري مهم يسكنها العرب، وكان المسلمون يعرفونها لأنهم يتاجرون معها، وقد كانت مدينة دمشق، مدينة محصنة، تمتاز بالمناعة، فلها سور يحيطها مبنى من الحجارة وارتفاعه ستة أمتار، وفيه أبواب منيعة، وعرض المبنى ثلاثة أمتار، وقد زاد هرقل من مناعته بعد الغزو الفارسي لها، والأبواب يحكم إغلاقها، ويحيط بالسور خندق عرضه ثلاثة أمتار، ونهر بردى يؤثر على الخندق بمياهه وطينه، فأصبحت دمشق قلعة حصينة ليس من السهل اقتحامها(3)، وبذلك تظهر لنا الدفاعات الرومية ذات المتانة، والقوة، لحماية مدينة دمشق، إذ أن هذه الاستحكامات تعطينا الدلائل الآتية:
__________
(1) اليرموك وتحرير ديار الشام، شاكر محمود رامز ص103 .
(2) الهندسة العسكرية ص189 .
(3) المصدر نفسه ص190 .(2/23)
لم تنشأ الدفاعات الميدانية حول دمشق على عجل، فهي دفاعات كانت مهيأة منذ مدة ليست بالقصيرة، لما لدمشق من أهمية استراتيجية، وخوف الروم من فقدانها واستيلاء الفرس عليها، وهذا يعني أن الجهد الهندسي الميداني الرومي قد عمل في ترتيب وتنظيم هذه الدفاعات بحرية مطلقة وبموارد هندسية مناسبة غير مطلوبة باتجاهات أخرى فضلاً عن تيسر الإمكانيات الهندسية لدى جيش الروم في هذا المجال.
برزت الإبداعات الهندسية الرومية من خلال الموانع حول مدينة دمشق، فقد استفادت عناصر الهندسة العسكرية من طبيعة الأرض في إنشاء هذه المنظومة، وعلى الأخص توظيف نهر بردى بما يخدم ملء الخندق الذي يحيط بالمدينة، فضلاً عن الاستفادة الأخرى منه بجعله مانعاً طبيعياً يعوق حركة القطعات المهاجِمة على المدينة من اتجاهها الشمالي والشمال الشرقي.
كانت ثقة القيادة الرومية بتحصينات مدينة دمشق كبيرة جداً الأمر الذي جعلها تجمع قواتها هناك وتتخذ الدفاع الموضوعي فيها، ريثما تتمكن القوات الرومية في حمص من جمع شتات أمرها والتعرض لجيش المسلمين، وهذا يعني أن الدفاعات الهندسية الميدانية قد تدخلت في إجبار القيادة الرومية على اتخاذ هذا الموقف الدفاعي، وبذلك أصبحت السبب المباشر في صنع القرار، وهذا مهم جداً في التعرف على مدى أهمية الهندسة العسكرية في الميدان.
وعلى عكسه أجبرت الدفاعات الهندسية الميدانية جيش المسلمين على عدم التعرض لمدينة دمشق واقتحامها، إذ وقفت منظومة المانع الرومية عائقاً بوجههم فصارت خطة الجيش الإسلامي تقتضي فرض الحصار على المدينة.
تقول المصادر التاريخية أن مدة حصار مدينة دمشق استمرت (70) ليلة، وكان الحصار شديداً، استخدمت فيه أسلحة الحصار الثقيلة، كالمجانيق والدبابات(1).
3- سير المعركة:
سار أبو عبيدة بن الجراح قاصداً دمشق متخذا تشكيل المسير الآتي:
القلب: خالد بن الوليد.
__________
(1) الهندسة العسكرية ص190،191 .(2/24)
المجنبات: عمرو بن العاص وأبو عبيدة.
الخيل: عياض بن غنم.
الرجالة: شرحبيل بن حسنة.
ولما كان لسور دمشق أبواب لا يمكن الخروج والدخول للبلدة إلا بواسطتها، فقد نظم المسلمون قوة الحصار على الشكل الآتي:
قطاع الباب الشرقي بقيادة خالد بن الوليد.
قطاع باب الجابية بقيادة أبي عبيدة بن الجراح.
قطاع باب توما بقيادة عمرو بن العاص.
قطاع باب الفراديس بقيادة شرحبيل بن حسنة.
قطاع الباب الصغير بقيادة يزيد بن أبي سفيان.
وقد ظن الروم بأن المسلمين لا يستطيعون أن يصمدوا أمام طول الحصار وخاصة في أيام الشتاء، إلا أن المسلمين أصحاب العقيدة الراسخة والصبر الجميل، صمدوا أمام تغيرات الطقس، فقد عمل قادة المسلمين على إشغال الكنائس المتروكة بالغوطة والمنازل الخالية من أهلها ليرتاح فيها المجاهدون، على وفق أسلوب أسبوعي تتبادل قوات الجبهة التي على الأبواب، مع قوات من الخلف وبهذا التنظيم يستمر الحصار مهما طال الزمن(1).
__________
(1) الهندسة العسكرية ص192 .(2/25)
ولم يقف المسلمون عند هذا الحد، وإنّما استمرت استطلاعاتهم الميدانية والهندسية، لمنظومة الموانع المعادية، وتمكن خالد بن الوليد من انتخاب منطقة عبور ملائمة في هذه المنظومة، يمكن من خلالها اقتحام مدينة دمشق، فوقع الاختيار على أحسن مكان يحيط بدمشق وأكثره ماء وأشده مدخلاً(1)، كما جهز حبالاً كهيئة السلاليم توضع على الجدران لتساعد على تسلق الأسوار، وقد علم خالد بن الوليد أن بطريق دمشق قد رزق بولد وجمع الناس في وليمة، فانشغل أفراد الروم بالأكل والشرب وأهملوا واجباتهم ومن ضمنها مراقبة الجبهة والأبواب فلما أمسى ذلك اليوم نهض خالد بن الوليد هو ومن معه من جنده الذي قدم عليهم، وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي وقالوا: إذا سمعتم تكبيراً على السور فارقوا إلينا واقصدوا الباب(2) وعبر خالد وجماعته الأولى الخندق المائي على عائمتين من القرب(3)، ووصلوا السور، ورموا عليه الحبال التي هي بهيئة السلاليم، فلما ثبت لهم وهقان(4) تسلق فيها القعقاع ومذعور، ثم لم يدعوا أحبولة إلا أثبتاها، والأوهاق الشرف حتى إذا ارتفعوا نظموا السلاليم لتستفيد منها الجماعة الثانية، ثم انحدرت الجماعة الأولى من السور ونزلوا قرب الباب، فكثر الأفراد الذين مع خالد، فكبر أولاً من أعلى السور، فتسلقت الجماعة الثانية السور وتقدموا نحو الباب، فاقتحموه بسيوفهم وهكذا دخلت على هذا النحو قوات المسلمين إلى مدينة دمشق(5).
أهم الفوائد والدروس والعبر:
هل كان الفتح صلحاً أم عنوة؟
__________
(1) تاريخ الطبري (4/259).
(2) الهندسة العسكرية ص192 ، البداية والنهاية (7/20).
(3) الهندسة العسكرية ص192،193 .
(4) الأوهاق: جمع وهق الحبل في طرفيه النشوطة.
(5) الهندسة العسكرية ص192 .(2/26)
اختلف العلماء في دمشق هل فتحت صلحاً أو عنوة؟ فأكثر العلماء على أنه استقر أمرها على الصلح، لأنهم شكُّوا في المتقدم على الآخر، أفتِحَت عنوة ثم عَدَلَ الروم إلى المصالحة؟ أو فتحت صلحاً، أو اتفق الاستيلاء من الجانب الآخر قسراً؟ فلما شكُّوا في ذلك جعلوها صلحاً احتياطاً، وقيل بل جُعِلَ نصفها صلحاً، ونصفها عنوة، وهذا القول قد يظهر من صنع الصحابة في الكنيسة العظمى التي كانت أكبر معابدهم حين أخذوا نصفها وتركوا نصفها(1)، والله أعلم.
- تاريخ فتحها:
قال ابن كثير: وظاهر سياق سيف بن عمر، يقتضي أن فتح دمشق وقع في سنة ثلاث عشرة، ولكن نصَّ سيف على ما نصّ عليه الجمهور من أنها وقعت في نصف رجب سنة أربعة عشرة(2)، وقد ذكر خليفة بن خياط: أن أبا عبيدة حاصر الروم بدمشق في رجب وشعبان ورمضان وشوال وتم الصلح في ذي القعدة(3)، والمهم أن فتحها كان بعد معركة اليرموك(4).
تطبيقات لبعض مبادئ الحرب:
__________
(1) ترتيب وتهذيب البداية والنهاية ص56 .
(2) نفس المصدر ص55 .
(3) تاريخ خليفة ص126 .
(4) الهندسة العسكرية ص193 .(2/27)
لم يخل فتح دمشق من تطبيقات مبادئ الحرب عند المسلمين فاشتملت على المباغتة، والمبادأة، وانتهاز الفرص وإبداعات القادة الميدانيين، وقد رأينا ما قام به خالد بن الوليد من استطلاع ومن انتخاب منطقة العبور الملائمة، كيف تغير الموقف، وانقلب من عملية حصار إلى عملية اقتحام وإذا ما قارنّا بين ما فعله خالد بن الوليد باستخدامه الحبال على هيئة سلاليم والاستفادة منها بتسلقه على سور دمشق، وبين ما فعله الجيش المصري في حرب تشرين عام 1973م على الجبهة المصرية عند عبوره خط بارليف الإسرائيلي واستخدامه الحبال على هيئة سلاليم أيضاً للوصول إلى المواضع الدفاعية المعادية، نجد أنه قد تم بالصيغة والأسلوب والأداة نفسها، والتي توضح لنا عبقرية المسلمين إبان الفتوحات الإسلامية، وما معاركنا الحديثة إلا امتداداً لهذا الإبداع والعبقرية(1).
بعض ما قيل من الشعر في فتح دمشق:
قال القعقاع بن عمرو:
أقمنا على دار سليمان أشهراً ... بخالد روما وقد حملنا بصارم(2)
قصصنا إلى الباب الشرقي عنوة ... فدان لنا مستسلماً كل قائم(3)
أقول وقد دارت رحانا بدارهم ... أقيموا لهم حر الورى بالغلاصم(4)
فلما زأدنا في دمشق نحورهم ... وتدمر عضوا منهما بالأباهم(5)
تمهيد الفتح بعد دمشق:
__________
(1) الهندسة العسكرية ص195 .
(2) داري سليمان: تدمر ودمشق – كانا دارين لسليمان بن داود.
(3) المعنى: توجهنا إلى الباب الشرقي الذي يسار منه العراق وفتحناه عنوة.
(4) الحديث موجه إلى نساء العدو: أقيموا لهم حر الورى بالغلاصم اجعلوا لرجالكم المدارى به برأس حلوقهم لجبنهم أو خوفهم من الحرب.
(5) زأدنا: أفزعنا.(2/28)
بعد فتح دمشق أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى البِقَاع(1)، ففتح بالسيف، وبعث سرية فالتقوا مع الروم بعين ميسنون، وعلى الروم رجل يقال له (سنان) تحدّر على المسلمين من عَقَبة بيروت، فقتل من المسلمين يومئذ جماعة من الشهداء فكانوا يسمون عين ميسنون عين الشهداء واستخلف أبو عبيدة على دمشق يزيد بن أبي سفيان وبعث يزيد دِحْيَة بن خليفة إلى تدمر في سرية ليمهدوا أمرها وبعث
أبا الزهراء القشيري إلى البثنّية وحوران فصالح أهلها، وافتتح شرحبيل بن حسنة الأردن كلها عنوة ما خلا طبريَّة فإن أهلها صالحوه، وغلب خالد على أرض البقَاع، وصالحه أهل بعلبك وكتب لهم كتاباً.
ثانياً: وقعة فِحْل:
__________
(1) ترتيب وتهذيب البداية والنهاية ص58،59 وانظر العمليات التعرضية والدفاعية عند المسلمين ص185 .(2/29)
تحركت القوات المكلفة بمهاجمة مدينة (فحل) نحو الجنوب وعندما وصلت مشارفها كانت قوة جيش الروم تقارب المائة ألف، تسلل أكثرهم من حمص وانضمت إليهم القرى التي هزمت في معارك سابقة عندما وصلت القوة المكلفة بمحاصرة فحل من جيش المسلمين بقيادة عمار بن مخشن جابهها جيش الروم بشق الترع من بحيرة طبرية وسلطوا مياهها على الأطيان المحيطة بفحل بقصد إعاقة جيش الإسلام وخاصة الفرسان وهذا ما يستخدم في وقتنا الحاضر ضد الدروع وبذلك أعاقوا حركة فرسان المسلمين، لقد جعل الرومان من هذه الأوحال خطاً دفاعياً منيعاً عن فحل رغم أنها تقع في سهل منبسط ولو كان هذا السهل يابساً لتمكن المسلمون بسهولة من اقتحام المدينة لأنهم أقدر الناس على مباشرة حرب الصحراء، وتوقف عمارة بن مخشن ووزع قواته لحصار فحل ولم يقتحمها وذلك للفارق العددي الكبير في القوة ولصعوبة التقدم وعدم التمكّن من اجتياز هذا المانع المائي الذي عمله الرومان واقتصر المسلمون على فرض الحصار على مدينة فحل التي يعتصم بها الروم إلى أن فرغ أبو عبيدة من فتح دمشق العاصمة وضم جيشه إلى جيش أبي الأعور السلمي وأعاد أبوعبيدة تنظيم قواته على النحو التالي:
المقدمة بقيادة خالد بن الوليد.
الميمنة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح.
الميسرة بقيادة عمرو بن العاص.
الفرسان بقيادة ضرار بن الأزور.
قيادة مجموعات المشاة عياض بن غنم.(2/30)
القيادة العامة لشرحبيل بن حسنة وذلك لأن موقع المعركة هو في حدود المنطقة التابعة له واستلم القيادة شرحبيل بن حسنة ثم نظم إقامة القوات وإمدادها ووضع مخططاً لاستنفار القوات وبقاء القوة جاهزة باستمرار لمواجهة الطوارئ وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة(1)، وطال حصار المسلمين لمدينة فحل وظن الروم أن باستطاعتهم تحقيق المباغتة والقيام بهجوم ليلي حاسم وعلى الروم سقلاب بن مخراق فهجموا على المسلمين فنهضوا عليهم نهضة رجل واحد لأ نهم كانوا على أهبة دائمة ودارت معركة حتى الصباح وذلك اليوم بكامله إلى الليل فلما أظلم الليل فر الروم وقتل أميرهم وركب المسلمون أكتافهم واسلمتهم هزيمتهم إلى ذلك الوحل المانع الذي أعدوه للمسلمين ونتيجة للإجراءات الأمنية والاستعداد الذي قام به شرحبيل على قواته، حدثت الفوضى في جيش الرومان المهاجم والتفرغ للهجوم المضاد الذي شنه المسلمون فوقع الرومان لدى انهزامهم في المانع المائي الذي صنعوه بأيديهم حول فحل فركب المسلمون أكتافهم ولم ينجو منهم إلا الشريد، ولقد تمت تصفية القوة المحاصرة في فحل وعندها توجه المسلمون نحو أهدافهم لمتابعة خطة العمليات الأساسية فتم توجيه:
شرحبيل بن حسنة إلى الأردن.
عمرو بن العاص إلى فلسطين.
انطلق أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد إلى حمص وعند وصولهما إلى مرج الروم دارت معركة طاحنة حتى غطت جثث الموتى السهل وفي هذه المعركة تمكن المسلمون من تطبيق مبدأ مهم من مبادئ الحرب والعمليات التعرضية حيث اصطدمت مقدمة الروم بمقدمة المسلمين فعندما شعر (توذرا) باصطدام مقدمة جيشه بجيش المسلمين قام بحركة استدارة وانطلق في اتجاه دمشق وعلم المسلمون بالأمر ودرسوا الموقف فقرر
__________
(1) العمليات التعرضية والدفاعية عند المسلمين ص188 .(2/31)
أبو عبيدة توجيه قوة بقيادة خالد بن الوليد لمطاردة (توذرا) والانقضاض عليه من الخلف وأبو عبيدة يبقى في مواجهة ومشاغلة جيش الروم في الوقت نفسه استطاعت استخبارات المسلمين من معرفة حركة واتجاه تقدم توذرا فتقدم جيش يزيد بن
أبي سفيان للقائه واشتبك معه وما أن تم الاصطدام بين توذرا وجيش يزيد حتى باغت خالد بن الوليد الروم بضربهم من الخلف وتمت تصفية توذرا تصفية كاملة تقريباً(1).
- مما قاله القعقاع بن عمرو في يوم فحل:
وغداة فحل قد رأوني معلماً ... والخيل تنحط والبلا أطوار
ما زالت الخيل العراب تدوسهم ... في يوم فحل والقنا موار(2)
حتى رمين سراتهم عن أسرهم ... في ردة ما بعدها استمرار(3)
يوم الرداغ فعند فحل ساعة ... خر الرماح عليهم مدار؟
ولقد أبدنا في الرداغ جموعهم ... طراً ونحوي تبسم الأبصار
وقال أيضاً:
وغداة فحل قد شهدنا مأقطاً ... ينسى الكمي سلاحه في الدار(4)
ما زلت أرميهم بقرحة كامل ... كر المبيح ريانة الأبسار(5)
حتى فضضنا جمعهم بترس ... ينفي العدو إذا سما جرار(6)
نحن الأولى جسوا العراق بتردس ... والشام جساً في ذرى الأسفار(7)
ثالثاً: فتح بيسان وطبريّة:
__________
(1) العمليات التعرضية والدفاعية عند المسلمين ص189 .
(2) موار: أي الرياح تموج فيهم.
(3) الردغ: الماء والطين والوحل الشديد.
(4) المأقط: ضيف المواقع في الحرب.
(5) ريانة: التمهل والبطء. المبيح: الأسد. الإبسار: من بسر كلح وجهه وتذمر.
(6) العمليات الدفاعية ص192 .
(7) ذرى الأسفار: أعاليها وأصعبها.(2/32)
انصرف أبو عبيدة وخالد بمن معهما من الجيوش نحو حمص كما أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، واستخلف أبو عبيدة على الأردن شرحبيل بن حسنة، فسار شرحبيل ومعه عمرو بن العاص، فحاصر بَيْسَان فخرجوا إليه فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم صالحوه على مثل ما صالحت عليه دمشق، وضرب عليهم الجزية، والخراج على أراضيهم، وكذلك فعل أبو الأعور السلمي بأهل طبرية سواء(1).
رابعاً: وقعة حِمْص سنة 15هـ:
__________
(1) ترتيب وتهذيب البداية والنهاية ص61 .(2/33)
واصل أبو عبيدة تتبعه للروم المنهزمين إلى حمص، ونزل حولها يحاصرها، ولحقه خالد بن الوليد، فحاصروها حصاراً شديداً، وذلك في زمن البرد الشديد، وصابر أهل البلد رجاء أن يصرف المسلمين عن المدينة شدة البرد، وَصَبَر الصحابة صبراً عظيماً بحيث إنه ذكر غير واحد أن من الروم من كان يرجع، وقد سقطت رجله وهي في الخف، والصحابة ليس في أرجلهم شيء سوى النعال، ومع هذا لم يصب منهم قدم ولا إصبع، ولم يزالوا كذلك حتى انسلخ فصل الشتاء فاشتد الحصار، وأشار بعض كبار أهل حمص عليهم بالمصالحة فأبوا عليه ذلك وقالوا: أنصالح والمَلِك منا قريب؟ فيقال إن الصحابة كبروا في بعض الأيام تكبيرة ارتجت منها المدينة ووقعت زلزلة تفطرت منها بعض الجدران ثم تكبيرة أخرى فسقطت بعض الدور، فجاءت عامتهم إلى خاصتهم فقالوا: ألا تنظرون إلى ما نزل بنا، وما نحن فيه؟ ألا تصالحون القوم عنا؟ قال: فصالحوهم على ما صالحوا عليه أهل دمشق، على نصف المنازل، وضرْبِ الخراج على الأراضي، وأخذ الجزية على الرقاب بحسب الغنى والفقر، وبعث أبو عبيدة بالأخماس والبشارة إلى عمر مع عبد الله بن مسعود وأنزل أبو عبيدة بحمص جيشاً كثيفاً يكون بها مع جماعة من الأمراء منهم بلال، والمقداد، وكتب أبو عبيدة إلى عمر يخبره بأن هرقل قد قطع الماء(1) عن الجزيرة وأنه يظهر تارة ويخفى أخرى فبعث إليه عمر يأمره بالمقام ببلده(2).
خامساً: وقعة قنَّسرين سنة 15هـ:
__________
(1) أي نهر الفرات إلى الجزيرة.
(2) ترتيب وتهذيب البداية والنهاية ص62 .(2/34)
بعث أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قِنّسرين(1)، فلما جاءها ثار إليه أهلها ومن عندهم من نصارى العرب، فقاتلهم خالد فيها قتالاً شديداً وقتل منهم خلقاً كثيراً، فأما من هناك من الروم فأبادهم وقتل أميرهم ميناس، وأما الأعراب فإنهم اعتذروا إليه بأن هذا القتال لم يكن عن رأينا فقبل منهم خالد وكف عنهم، ثم خلص إلى البلد فتحصنوا فيه، فقال لهم خالد: إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا ولم يزل بهم حتى فتحها الله عليه، فلما بلغ عمر ما صنعه خالد في هذه الموقعة قال: يرحم الله أبا بكر، كان أعلم بالرجال مني، والله إني لم أعزله عن ريبة ولكن خشيت أن يوكل الناس إليه(2).
سادساً: وقعة قِيسارية سنة 15هـ:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/427).
(2) ترتيب وتهذيب البداية والنهاية ص63 .(2/35)
وفي هذه السنة أمّر عمر معاوية بن أبي سفيان على قيْسارية(1) وكتب إليه: أما بعد فقد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا فنعم المولى ونعم النصير، فسار إليها فحاصرها، وزاحفه أهلها مرات عديدة، وكان آخرها وَقْعَةَ أن قاتلوا قتالاً عظيماً، وصمم عليهم معاوية، واجتهد في القتال حتى فتح الله عليه فما انفصل الحال حتى قتل منهم نحوٌ من ثمانين ألفاً، وكمَّل المائة الألف من الذين انهزموا عن المعركة وبعث بالفتح والأخماس إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه(2) هذا ويرى الدكتور عبد الرحمن الشجاع أن مدن الشام تساقطت تحت ضربات المجاهدين الواحدة تلو الأخرى، لأن الروم كانوا من الهزيمة بمكان لا تجعلهم يفكرون في المقاومة فتساقطت مدن بيروت، وصيدا، ونابلس، واللد، وحلب، وإنطاكية وكانت قيسارية آخر مدن الشام فتحاً على يد معاوية بن أبي سفيان وكان ذلك بعد فتح القدس(3).
سابعاً: فتح القدس: 16هـ:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/431).
(2) ترتيب وتهذيب البداية والنهاية ص63،64 .
(3) دراسات في عهد النبوة والخلاقة الراشدة ص355 .(2/36)
كان على فلسطين قائدٌ رومانيٌ دعى (الأرطبون) أي القائد الكبير الذي يلي الإمبراطور وكان هذا أدهى الروم وأبعدها غوراً وأنكاها فعلاً، وكان قد وضع بالرملة جنداً عظيماً، وبإيلياء جنداً عظيماً(1)، وكتب عمرو بن العاص إلى عمر رضي الله عنهما، يخبره بذلك، ويستشيره ويستأمره، فقال عمر كلمته الشهيرة: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عما تنفرج (2) وكان يقصد بذلك، أن كلا القائدين أدهى الرجال في قومهما، وكانت معركة أجنادين الثانية (15هـ) التي انتصر فيها عمرو على الروم قد مهدت الطريق إلى فلسطين(3)، وقد بدأت معركة القدس عملياً، قبل معركة أجنادين الثانية (15هـ) ذلك أن أرطبون الروم كان قد وزع (جنداً عظيماً) له في كل من إيلياء والرملة كما سبق أن قدمنا وبين الرملة وإيلياء أي القدس، ثمانية عشر ميلاً، وذلك تحسباً لأي هجوم من قبل المسلمين، بقيادة عمرو بن العاص، على المدينتين اللتين كانتا أهم مدن (كورة فلسطين)، إذ كانت الرملة (قصبة فلسطين)، وكانت إيلياء أكبر مدنها(4)، وكان على الروم في إيليا حاكمها الأرطبون وهو الأرطبون نفسه الذي كان قد لجأ وفلول جيشه إليها بعد هزيمتهم في أجنادين، وكان عليهم في الرملة التذارق(5) وهذه أهم المراحل التي مرّ بها المسلمون عند فتحهم للقدس.
1- المشاغلة:
__________
(1) حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي د. ياسين سويد ص35 .
(2) تاريخ الطبري (4/431).
(3) حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي ص35 .
(4) المصدر نفسه ص35،36 .
(5) تاريخ الطبري (4/432).(2/37)
كانت خطة الخليفة عمر أن يشغل الروم عن عمرو في فلسطين ريثما يتم الانتصار على حشودهم في أجنادين، حتى يتفرغ المسلمون بعدها لفتح القدس وما تبقى من بلاد الشام، فأمر معاوية أن يتوجه بخيله إلى قيسارية ليشغل حاميتها عن عمرو وأما عمرو فكان قد اعتمد الخطة نفسها التي اعتمدها الخليفة، فأرسل كلاً من علقمة بن حكيم الفراسيّ، ومسروق بن فلان المكيّ على رأس قوة لمشاغلة حامية الروم في إيلياء، فصاروا بإزاء أهل إيلياء، فشغلوهم عن عمرو(1)، ثم أرسل أبا أيوب المالكي على رأس قوة أخرى لمشاغلة حاميتهم في الرملة، وما إن وصلت الإمدادات إلى عمرو حتى أرسل محمد بن عمرو مع مدد لقواته المرابطة في مواجهة حامية إيلياء، كما أرسل عمارة بن عمرو بن أمية الضمري مع مدد لقواته المرابطة في مواجهة حامية الرملة، أما هو فأقام في أجنادين بانتظار المعركة الحاسمة مع الأرطبون وفي هذه الأثناء كانت حامية إيلياء تصد المسلمين عن أسوارها، وكان القتال يستعر حول المدينة المقدسة بينما كان المسلمون والروم يحتشدون للقتال في أجنادين وكانت معركة أجنادين عنيفة(2)، إذ يقول الطبري فيها: اقتتلوا – أي المسلمون والروم – قتالاً شديداً كقتال اليرموك، حتى كثرت القتلى بينهم(3)، فقد نازل أرطبون العرب أرطبون الروم في أجنادين فهزمه، وارتدّ أرطبون الروم وجنده ليحتموا بأسوار المدينة المقدسة فأفرج له المسلمون حتى دخلها(4)، ويذكر الطبري أن كلاً من علقمة ومسروق ومحمد بن عمرو وأبي أيوب التحقوا بعمرو في أجنادين، وسار عمرو بجيشه جميعاً نحو إيلياء لمحاصرتها(5).
__________
(1) حروب القدس ص36 .
(2) المصدر نفسه ص36 .
(3) تاريخ الطبري (4/433).
(4) المصدر نفسه (4/433).
(5) حروب القدس ص37 .(2/38)
اجتمع المسلمون، بقيادة عمرو بن العاص حول إيلياء، وضرب عمرو على المدينة حصاراً شديداً، وكانت المدينة حصينة ومنيعة، ويصف الواقدي أسوار المدينة بأنها كانت محصنة بالمجانيق والطوارق والسيوف والدرق والجواشن والزرد الفاخرة ويذكر أن القتال بدأ بعد ثلاثة أيام من الحصار، حيث تقدم المسلمون نحو أسوار المدينة فأمطرتهم حاميتها بوابل من السهام والنبال التي كان المسلمون يتلقونها (بدرقهم) وكان القتال يمتد من الصباح إلى غروب الشمس واستمر على هذا المنوال عدة أيام، حتى كان اليوم الحادي عشر إذ أقبل أبو عبيدة على المسلمين ومعه خالد وعبد الرحمن بن أبي بكر، ومعهم فرسان المسلمين وأبطال الموحدين(1) مما ألقى الجزع في قلوب أهل إيلياء، واستمر الحصار أربعة اشهر، ما من يوم إلا وجرى فيه قتال شديد (والمسلمون صابرون على البرد والثلج والمطر(2)، إلى أن يئس الروم من مقاومة حصار المسلمين لمدينتهم، فقرر بطريقهم (البطريق صفرونيوس) القيام بمحاولة أخيرة، وكتب إلى عمرو بن العاص، قائد جيش المسلمين، رسالة يغريه فيها بفك الحصار نظراً لاستحالة احتلال المدينة(3).
3- الاستسلام :
__________
(1) حروب القدس ص38 .
(2) المصدر نفسه ص38 .
(3) المصدر نفسه ص38 .(2/39)
كتب أرطبون الروم إلى عمرو بن العاص يقول له: إنك صديقي ونظيري، أنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتح من فلسطين شيئاً بعد أجنادين، فارجع ولاتُغرِه فتلقى ما لقي الذين قبلك من الهزيمة(1)، فكتب إليه عمرو كتاباً يقول فيه إنه (صاحب فتح هذه البلاد)، وأرسل الكتاب مع رسول وأمره أن ينقل إليه رد الأرطبون، فلما قرأ الأرطبون كتاب عمرو ضحك مما جاء فيه وقال إن صاحب فتح بيت المقدس هو رجل اسمه (عمر)، ونقل الرسول إلى عمرو ما سمعه من الأرطبون، فعرف عمرو أن الرجل الذي يعنيه الأرطبون هو الخليفة(2)، فكتب إلى الخليفة يخبره بما جاء على لسان الأرطبون أنه لا يفتح المدينة إلا هو، ويستمده، ويستشيره قائلاً إني أعالج حرباً كؤوداً صدوماً وبلاداً ادُّخرت لك، فرأيك(3)، فخرج الخليفة – بعد الاستشارة – في مدد من الجند، إلى الشام، بعد أن استخلف على المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونزل بالجابية، فجاءه أهل إيلياء (فصالحوه على الجزية، وفتحوها له) (4).
4- اختلاف الروايات فيمن حاصر القدس والتحقيق فيها:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/433).
(2) المصدر نفسه (4/433).
(3) تاريخ الطبري (4/433).
(4) تاريخ الطبري (4/434).(2/40)
روى الطبري أكثر من رواية في حصار القدس وقد ذكرت أن الذي حاصرها هو عمرو بن العاص وذكر رواية أخرى قال فيها: كان سبب قدوم عمر إلى الشام، أن أبا عبيدة حضر بيت المقدس، فطلبت أهلها منه أن يصالحهم على صلح مدن أهل الشام، وأن يكون المتولي للعقد عمر بن الخطاب، فكتب إليه ذلك، فسار عن المدينة بعد أن استخلف عليها (علياً)، وخرج (ممداً لهم) أي لعسكر الشام ويروي ابن الأثير روايتين مماثلتين لروايتي الطبري، بل متشابهتين في النص إلى حد كبير(1)، وينسب الواقدي حصار القدس وما جرى خلاله من تشاور مع الخليفة عمر رضي الله عنه ومن تفاوض مع حاميتها الرومية، إلى أبي عبيدة، فيذكر أن أبا عبيدة سرّح إلى بيت المقدس خمسة وثلاثين ألف مقاتل بقيادة سبعة قادة، مع كل قائد خمسة آلاف، وهم: خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، والمرقال بن هاشم بن أبي وقاص، والمسيّب بن نجيه الفزاري، وقيس بن هبيرة المرادي، وعروة بن المهلل بن يزيد، سرّحهم في سبعة أيام، كل يوم قائد، ثم لحق بهم بعد أن نشب القتال، عدة أيام، بينهم وبين حامية المدينة(2)، ويستطرد الواقدي فيقول إن أهل إيلياء جاءوا إلى أبي عبيدة يعرضون عليه دخول المدينة صلحاً، على أن يتم الصلح على يدي خليفة المسلمين عمر، ثم يذكر رواية مشابهة لتلك التي رواها كل من الطبري وابن الأثير ويضيف أن أبا عبيدة كتب إلى الخليفة يخبره بما جرى، فسار الخليفة إلى بيت المقدس ونزل عند أسوار المدينة، فخرج إليه بطريقها وتعرف إليه وقال: هذا والله الذي نجد صفته ونعته في كتبنا ومن يكون فتح بلادنا على يديه(3). ثم عاد إلى قومه يخبرهم فخرجوا مسرعين وكانوا قد ضاقت أنفسهم من الحصار، ففتحوا الباب، وخرجوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه العهد والميثاق والذمة ويقرون له بالجزية(4)، ونحن نستبعد رواية
__________
(1) حروب القدس ص40 .
(2) فتوح الشام (1/213-216).
(3) المصدر نفسه (1/225).
(4) حروب القدس ص40 .(2/41)
الواقدي هذه، لاعتقادنا أنه، بينما كان عمرو بن العاص يحاصر القدس، كان رفاقه من قادة المسلمين، بعد اليرموك ودمشق وفحل، يجوبون أنحاء بلاد الشام غانمين منتصرين، فيحتل
أبو عبيدة، ومعه خالد بن الوليد، حمص وحماة وقنسرين وحلب، ثم يسلك طريق الساحل الشامي جنوباً فيستولي على إنطاكية واللاذقية وعرقة. ويحتل يزيد بن
أبي سفيان الساحل، جنوباً من بيروت إلى صيدا، وشمالا من عسقلان إلى صور(1)، ولكن البلاذري يذكر، في رواية له، أن عمرو بن العاص هو الذي حاصر القدس، بعد أن فتح رفح، وأن أبا عبيدة (قدم عليه.. بعد أن فتح قنسرين ونواحيها وذلك في سنة 16، وهو محاصر إيلياء، وإيلياء مدينة بيت المقدس(2)، وأن أهل إيلياء طلبوا من أبي عبيدة (الأمان والصلح على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام) على أن يتولى العقد لهم عمر بن الخطاب نفسه، وقد كتب أبو عبيدة إلى الخليفة بذلك، فقدم عمر فنزل الجابية من دمشق، ثم صار إلى إيلياء، فأنفذ صلح أهلها وكتب به، وكان فتح إيلياء في سنة 17هـ، ويضيف البلاذري بعد ذلك: وقد روي في فتح إيلياء وجه آخر(3)، ومع أننا نرجح الرواية الأولى التي أوردها الطبري وهي أن حصار القدس تمّ على يد عمرو بن العاص، وليس على يد
أبي عبيدة فنحن نرى أنه لم يكن صعباً على أبي عبيدة أن يلتحق بالخليفة عمر في الجابية للتشاور معه حول أمور الفتح باعتباره القائد العام لجيوش المسلمين في الشام، وخصوصاً عندما نعلم أن أبا عبيدة كان ثاني من لقي بعد الخليفة يزيد حين وصوله إلى الجابية واستدعائه لسائر أمراء الأجناد في الشام(4)، للتشاور، وأن
__________
(1) حروب القدس ص41 .
(2) فتوح البلدان (1/188-189).
(3) المصدر نفسه (1/189).
(4) تاريخ الطبري (4/431-436).(2/42)
أبا عبيدة حضر، مع يزيد وشرحبيل وكبار قادة المسلمين في الشام، عقد الصلح والأمان، وتسليم المدينة(1). إلا أنه لم يشهد على هذا العقد كما شهد عليه كل من عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان وخالد بن الوليد كما يستدل من نص المعاهدة نفسها وليس لدينا أي تفسير لذلك سوى أن
أبا عبيدة لم يكن قائد الجيش الذي حاصر المدينة المستسلمة، بل هو عمرو(2).
5- نص المعاهدة:
وفيما يلي نص المعاهدة كما أوردها الطبري:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيّزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم ولا يُضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها الروم واللصوت (اللصوص) فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلّي بِيَعهم وصُلُبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعهم وصُلُبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان؛ فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشر(3).
أهم الدروس والعبر والفوائد:
__________
(1) حروب القدس ص41 .
(2) حروب القدس ص42 .
(3) تاريخ الطبري (4/436).(2/43)
أ- موقف فدائي لواثلة بن الأسقع رضي الله عنه: قال واثلة: .. فأسمع صرير باب الجابية – وهو واحد من أبواب دمشق – فمكثت فإذا بخيل عظيمة فأمهلتها، ثم حملت عليهم وكبّرت فظنوا أنهم أحيط بهم، فانهزموا إلى البلد، وأسلموا عظيمهم – يعني قائدهم – فدعسته بالرمح وألقيته عن برذونه، وضربت يدي على عنان البرذون وركضت، والتفتوا فلما رأوني وحدي تبعوني فدعست فارساً بالرمح فقتلته، ثم دنا آخر فقتلته، ثم جئت خالد بن الوليد فأخبرته وإذا عنده عظيم من الروم يلتمس الأمان لأهل دمشق(1).
ب- سفارة معاذ بن جبل إلى الروم قبيل (موقعة فحل):
بعد مناوشات بين المسلمين والروم، قبيل موقعة فحل، أرسل الروم إلى المسلمين أن ابعثوا إلينا رجلاً، نسأله عما تريدون وما تسألونه وما تدعون إليه ونخبره بما نريد. فأرسل إليهم أبو عبيدة معاذ بن جبل الأنصاري مفاوضاً وسفيراً عن المسلمين، فاستعد الروم لاستقباله، وأظهروا أجمل ما عندهم من الزينة، وأنفذ ما عندهم من الأسلحة: وفرشوا الأرض بأثمن البسط والنمارق التي تكاد تخطف الأبصار، ليفتنوا معاذا عما جاء له أو يرهبوه ويفتوا في عضده ففاجأهم بتعاليه عن زينتهم، ورفضه لكل أشكال المغريات، وبشدة تواضعه وزهده، بل اغتنم ذلك الموقف لاستخدامه سلاحاً ضد الروم، فأمسك بعنان فرسه، وأبى أن يعطيه لغلام من الروم،
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/386-387) ، التاريخ الإسلامي (10/319).(2/44)
وأبى الجلوس على ما أعدوه لاستقباله وقال لهم لا أجلس على هذه النمارق التي استأثرتم بها على ضعفائكم.. وجلس على الأرض.. وقال إنما أنا عبد من عباد الله أجلس على بساط الله، ولا أستأثر بشيء من مال الله على إخواني(1)، ودار بينهم حوار سألوه فيه عن الإسلام فأجابهم، وسألوه عن نبي الله عيسى عليه السلام فقرأ عليه قوله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(59) } (آل عمران،،آية:59).وأوضح لهم ما يريد منهم المسلمون، وقرأ عليهم قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } (التوبة،آية:123). وقالوا له إن سبب انتصار المسلمين على الفرس هو موت ملكهم، وإن ملك الروم حي وجنوده لا تحصى، فقال لهم إن كان ملككم هرقل، فإن ملكنا الله وأميرنا رجل منا، إن عمل فينا بكتاب الله وسنة نبينا أقررناه، وإن غير عزلناه، ولا يحتجب عنا ولا يتكبر ولا يستأثر علينا(2)، وأما عن كثرتهم فقد قرأ عليهم قوله تعالى: { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249) } (البقرة،آية:249). ولما فشل الروم في التأثير في معاذ أو النيل منه، فيما أعدوه من بهارج وخيلاء، عادوا إلى الواقع يعرضون عليه الصلح، وأن يعطوا المسلمين البلقاء وما والاها فأعلمهم معاذاً أنه ليس أمامهم إلا الإسلام أو الجزية، أو الحرب، فغضبوا وقالوا اذهب إلى أصحابك، إنا لنرجو أن نقرنكم في الحبال. فقال معاذ: أما الحبال فلا، ولكن والله لتقتلننا عن آخرنا أو لنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون، ثم انصرف(3)، وهكذا ظهر معاذ في هذه السفارة شخصية سياسية عسكرية، وداعية إلى الإسلام
__________
(1) الاكتفاء للكلاعي (3/194).
(2) الاكتفاء للكلاعي (3/194).
(3) الاكتفاء للكلاعي (3/194).(2/45)
يواجه حجج خصومه، ويوجه إليهم النقد اللاذع، مظهراً عيوبهم واستئثارهم على رعيتهم، ويذكرهم بتعاليم دينهم، ويدعوهم إلى الإسلام، أما تهويلهم وحربهم النفسية فيرد عليها بالواقع
لا بالتهويل والتخويف، ثم يعود إلى قيادته التي أقرت كل ما قام به وما قاله للروم(1)، وقد كان المسلمون يدعون خصومهم للإسلام قبل القتال.
ج- موقف لعبادة بن الصامت في فتح قيسارِية:
كان عبادة بن الصامت على ميمنة جيش المسلمين في حصار قيسارية، فقام رضي الله عنه بوعظ جنده ودعاهم إلى تفقد أنفسهم، والحيطة من المعاصي ثم قاد هجوماً قتل فيه كثيراً من الروم، لكنه لم يتمكن من تحقيق هدفه، فعاد إلى موقعه الذي انطلق منه، فحرض أصحابه على القتال، وأبدى لهم استغرابه الشديد لعدم تحقيق أهداف ذلك الهجوم فقال: يا أهل الإسلام إني كنت من أحدث النقباء سناً وأبعدهم أجلاً وقد قضى الله أن أبقاني حتى قاتلت هذا العدو معكم.. والذي نفسي بيده ما حملت قط في جماعة من المؤمنين على جماعة من المشركين، إلا خلوا لنا الساحة وأعطانا الله عليهم الظفر فما بالكم حملتم على هؤلاء فلم تزيلوهم؟(2) ثم بين لهم ما يخشاه منهم فقال: إني والله لخائف عليكم خصلتين، أن تكونوا قد غُللتم، أولم تناصحوا الله في حملتكم عليهم(3)، وحث أصحابه على طلب الشهادة بصدق، وأعلمهم أنه سيكون في مقدمتهم وأنه لن يعود إلى مكانه، إلا أن يفتح الله عليه أو يرزقه الشهادة(4)، فلما التحم المسلمون والروم، ترجل عبادة عن جواده، وأخذ راجلاً فلما رآه عمير بن سعد الأنصاري نادى المسلمين يعلمهم بما فعل أميرهم ويدعوهم إلى الاقتداء به فقاتلوا الروم حتى هزموهم و(أحجروهم في حصنهم) (5).
د- أم حكيم بنت الحارث بن هشام في معركة مرج الصُّفر:
__________
(1) الأنصار في العصر الراشدي ص207 .
(2) المصدر نفسه ص209 .
(3) المصدر نفسه ص209 .
(4) المصدر نفسه ص209 .
(5) المصدر نفسه ص209 .(2/46)
كانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل فقتل عنها في معارك الشام(1)، فاعتدت أربعة أشهر وعشراً، وكان يزيد بن أبي سفيان يخطبها، وكان خالد بن سعيد يرسل إليها يعرض لها في خطبتها، فخطبت إلى خالد بن سعيد، فتزوجها، فلما نزل المسلمون مرج صفر–وكان خالد قد شهد أجنادين وفِحل ومرج الصفر– أراد أن يعرّس بأم حكيم فجعلت تقول: لو أخرت الدخول حتى يفضّى الله هذه الجموع، فقال خالد: إن نفسي تحدثني أني أصاب في جموعهم. قالت: فدونك، فأعرس بها عند القنطرة التي بالصفر، فبها سميت قنطرة أم حكيم، وأولم عليها، فدعا أصحابه إلى طعام، فما فرغوا من الطعام حتى صفت الروم صفوفها وبرز خالد بن سعيد فقاتل فقتل وشدت أم حكيم عليها ثيابها وتبدت، وإن عليها أثر الخلوق فاقتتلوا أشد القتال على النهر، وصبر الفريقان جميعاً، وأخذ السيوف بعضها بعضاً، وقتلت أم حكيم يومئذ سبعة بعمود الفسطاط الذي بات فيه خالد معرساً بها(2).
هـ- قيصر ملك الروم يودع الشام :
__________
(1) قيل أنه استشهد باليرموك وقيل أجنادين، وقيل يوم فحل.
(2) الاستيعاب (4/486) دور المرأة السياسي، أسماء محمد ص313 .(2/47)
في السنة الخامسة عشرة تقهقر هرقل بجنوده، وارتحل عن الشام إلى بلاد الروم(1) وقيل في سنة ست عشرة(2)، وكان هرقل كلما حج إلى بيت المقدس وخرج منها يقول: عليك السلام يا سورية، تسليم مودع لم يقض منك وطراً وهو عائد؛ فلما عزم على الرحيل من الشام وبلغ الرُّها(3)، طلب من أهلها أن يصحبوه إلى الروم فقالوا: إن بقاءنا هاهنا أنفع لك من رحيلنا معك، فتركهم؛ فلما وصل إلى شِمْشَاط(4) وعلا على شرف هنالك التفت إلى نحو بيت المقدس وقال: عليك السلام يا سورية سلاماً لا اجتماع بعده(5)، ثم سار هرقل حتى نزل القسطنطينية واستقر بها ملكه، وقد سأل رجلاً ممن اتبعه، كان قد أُسِرَ مع المسلمين، فقال أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أخبرك كأنك تنظر إليهم. هم فرسان بالنهار ورهبان بالليل، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقضون على من حاربوه حتى يأتوا عليه، فقال: لئن كنت صدقتني ليملكن موضع قدمي هاتين(6).
و- إن الله أعزَّكم بالإسلام:
لما قدم عمر رضي الله عنه الشام راكباً على حماره ورجلاه من جانب قال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، الآن يتلقاك عظماء الناس فقال عمر رضي الله عنه: إن الله أعزّكم بالإسلام، فمهما طلبتم العزّ في غيره أذلكم(7).
ز- من خطبته بالجابية لما وصل الشام:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/428).
(2) ترتيب وتهذيب البداية والنهاية ص66 .
(3) الرُّها: مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام.
(4) مدينة على شط الفرات في طرف أرمينية بينها وبين الشام.
(5) تاريخ الطبري (4/429).
(6) تاريخ الطبري (4/429).
(7) محض الصواب (2/590) إسناده صحيح.(2/48)
خطب عمر رضي الله عنه بالجابية، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في مثل مقامي هذا فقال: أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئُ قوم يحلف أحدهم على اليمين قبل أن يُسْتَحْلَف عليها، ويشهد على الشهادة قبل أن يُستشهد، فمن أحب منكم أن ينال بُحْبُوحة الجنة، فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان، ومن كان منكم تسرُّه حسنته وتسوؤه سيئته فهو مؤمن(1).
ح- غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة:
لما قدم عمر الشام قال لأبي عبيدة رضي الله عنه: اذهب بنا إلى منزلك، قال:
وما تصنع عندي؟ ما تريد إلا أن تعصر عينيك عليّ، قال: فدخل فلم ير شيئاً، قال: أين متاعك؟ لا أرى إلا لَبَداً وصحفة وشناً(2)، وأنت أمير أعندك طعام؟ فقام أبو عبيدة إلى جونة(3)، فأخذ منها كسيرات، فبكى عمر، فقال له أبو عبيدة: قد قلت لك إنك ستعصر عينيك عليّ، يا أمير المؤمنين يكفيك ما يُبلغُك المقيل، قال عمر: غيَّرتنا الدنيا كلّنا غيرك يا أبا عبيدة(4) وعلق الذهبي على هذه الحادثة فقال: وهذا والله هو الزهد الخالص لا زهد من كان فقيراً معدماً(5)، وجاء في رواية عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قدم عمر –رضي الله عنه- الشام، فتلقاه أمراء الأجناد، وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة بن الجراح، قالوا: يأتيك الآن، فجاء على ناقة مخطومة بحبل فسلم، عليه، فسأله ثم قال للناس: انصرفوا عنا فسار معه حتى أتى منزله، فنزل عليه، فلم ير في بيته إلا سيفه، وترسه، ورحله(6)…
ط- تعليق على نص معاهدة أهل بيت المقدس:
__________
(1) مسند أحمد الموسوعة الحديثية رقم 177 حديث صحيح ورجاله ثقات.
(2) اللَّبد السرج والشنّ القربة القديمة.
(3) الجونة: السلة.
(4) سير أعلام النبلاء (1/17).
(5) المصدر نفسه (1/17).
(6) محض الصواب (2/589، 590) إسناده صحيح إلى عروة.(2/49)
إن كتاب الصلح الذي أبرمه عمر رضي الله عنه يشهد شهادة حق بأن الإسلام دين تسامح وليس دين إكراه وهو شاهد عدل بأن المسلمين عاملوا النصارى الموجودين في القدس معاملة لم تخطر على بالهم إن عمر وهو الفاتح كان يستطيع أن يفرض عليهم ما يشاء، وأن يجبرهم على ما يريد، ولكنه لم يفعل لأنه كان يمثل الإسلام، والإسلام لا يكره أحداً على الدخول فيه ولا يقبل من أحد إيماناً إلا عن طواعية وإذعان، إن الإيمان ليس شيئاً يجبر عليه الناس لأنه من عمل القلوب، والقلوب لا يعلم مخبآتها إلا الله سبحانه فقد يريك الإنسان أنه مؤمن وليس كذلك وتكون مضرته لأهل الإيمان أكثر ممن يجاهرون بالكفر والإلحاد ولهذا آثر المسلمون أن يعطوا الناس حرية العبادة، ويؤمنوهم على كل عزيز لديهم على أن يعيشوا في كنف المسلمين، ويؤدوا الجزية مقابل حمايتهم والذود عنهم، وفي ظلال الحياة الهادئة الوديعة وفي رحاب الصلات والجوار، وفي كنف المسلمين وعدالتهم سيرى غير المسلمين عن قرب جمال الإسلام وسماحته وإنصافه وعدالته وسَيَرون فيه الحقائق التي قد عميت عليهم لبعدهم عنه، وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجاً كما حدث في كل البلاد التي فتحها المسلمون، وأعطوا أهلها مثل هذا الأمان(1).
ي- عمر رضي الله عنه يصلي في المسجد الأقصى:
قال أبو سلمة حدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لكعب: أين ترى أن أصلي؟ فقال: إن اخذت عنّي، صليت خلف الصخرة فكانت القدس كلُّها بين يديك، فقال عمر: ضاهيت اليهودية،
__________
(1) جولة في عصر الخلفاء الراشدين، محمد سيد الوكيل ص200، 201.(2/50)
لا ولكن أصلي حيث صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتقدم إلى القبلة فصلّى، ثم جاء فبسط ردائه فكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس(1) وقال ابن تيمية: المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد.. وقد صار بعض الناس يسمي الأقصى المصلّى الذي بناه عمر بن الخطاب في مُقَدّمه، والصلاة في هذا المصلى الذي بناه عمر للمسلمين، أفضل من الصلاة في سائر المسجد، فإن عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس، وكان على الصخرة زبالة عظيمة، لأنَّ النصارى كانوا يقصدون إهانتها، مقابلة لليهود الذي يصلّون إليها، فأمر عمر بإزالة النجاسة عنها. وقال كعب: أين ترى أن نبني مصلى للمسلمين؛ فقال: خَلْفَ الصخرة، فقال: يا ابن اليهودية: خالطت اليهودية بل أبنيه أمامها، فإنّ لنا صدور المساجد(2).
وهذا موقف آخر جليل وعظيم من مواقف أمير المؤمنين التي لا تحصى، والتي برهن فيها عملياً على أن الإسلام يحترم جميع الأديان السماوية ويجعل كل المقدسات محترمة ولا يختصر شيئاً منها، إن هذه الصخرة التي أزال عنها عمر التراب والأوساخ بيده وحملها في قبائه لينفيها عنها هي قبلة اليهود والصخرة المعظمة عندهم التي كلم الله عليها يعقوب عليه السلام كما يعتقدون، فكما كان موقف عمر من النصارى رائعاً وجليلاً حين منحهم حرية الاعتقاد وأمنهم على صلبانهم وكنائسهم لم يضن على اليهود مع ما ارتكبوه في حق المسلمين من الجرائم بمثل هذا الموقف الرائع الجليل، حيث رفع التراب عن الصخرة، وأظهر عنايته بها وحرصه على احترامها(3).
محاولة الرومان احتلال حمص من جديد:
__________
(1) البداية والنهاية (7/57) هذا إسناد جيد.
(2) مجموعة الرسائل الكبرى (2/57،58).
(3) جولة في عصر الخلفاء اراشدين ص203،204 .(2/51)
قدمت عيون أبي عبيدة فأخبروه بجمع الروم وخطاب هرقل فيهم وسيرهم إليه، ورأى أبو عبيدة ألا يكتم جنوده الخبر، فدعا رؤوس المسلمين وذوي الهيئة والصلاح منهم ليستشيرهم ويسمع رأي جماعتهم(1)، فكان رأي معاذ بن جبل الأنصاري، عدم الانسحاب وقال: هل يلتمس الروم من عدوهم أمراً أضر لهم مما تريدون بأنفسكم تخلون لهم عن أرض قد فتحها الله عليكم، وقتل فيها صناديدهم وأهلك جنودهم.. أما والله لئن أردتم دخولها بعد الخروج منها لَتُكابدنَّ من ذلك مشقة فقال أبو عبيدة صدق والله وبرّ(2)، ولكن الأحداث سارت على غير هذا الاتجاه، فأعاد المسلمون ما جبوه من أهل حمص فقد أمر أبو عبيدة حبيب بن مسلمة وقال له: اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد، ما كنا أخذنا منهم، فإنه لا ينبغي لنا إذ لم نمنعهم أن نأخذ منهم شيئاً، وقال لهم نحن على ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح لا نرجع فيه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا عليكم أموالكم أنا كرهنا أن نأخذ بأموالكم ولا نمنع بلادكم، ولكنا نتنحى إلى بعض الأراضي ونبعث إلى إخواننا فيقدموا علينا ثم نلقي عدونا فنقاتلهم فإن أظفرنا الله بهم وفينا لكم بعهدكم إلا أن لا تطلبوا ذلك وأصبح الصباح فأمر
أبو عبيدة برحيل جيش المسلمين إلى دمشق، واستدعى حبيب بن مسلمة القوم الذين كانوا أخذ منهم الجزية فرد عليهم مالهم وأخبرهم بما قال أبو عبيدة، وأخذ أهل حمص يقولون: ردكم الله إلينا ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا علينا بل غصبونا وأخذوا ما قدروا عليه من أموالنا، لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم(3).
__________
(1) الطريق إلى دمشق ص408،409 .
(2) الأنصار في العصر الراشدي ص207 .
(3) الطريق إلى الشام ص410،411 .(2/52)
وأرسل أبو عبيدة سفيان بن عوف إلى عمر ليلة غدا من حمص إلى دمشق، وقال إئت أمير المؤمنين فأبلغه عني السلام، وأخبره بما قد رأيت وعاينت وبما قد جاءتنا به العيون، وبما استقر عندك من كثرة العدو، وبالذي رأى المسلمون من التنحي عنهم، وكتب معه: أما بعد، فإن عيوني قدمت عليّ من أرض عدونا، من القرية التي فيها ملك الروم، فحدثوني بأن الروم قد توجهوا إلينا وجمعوا لنا من الجموع ما لم يجمعوه لأمة قط كانت قبلنا، وقد دعوت المسلمين وأخبرتهم الخبر واستشرتهم في الرأي، فأجمع رأيهم على أن يتنحوا عنهم حتى يأتينا رأيك، وقد بعثت إليك رجلاً عنده علم ما قبلنا فسله عما بدا لك فإنه بذلك عليم وهو عندنا أمين، ونستعين بالله العزيز العليم وهو حسبنا ونعم الوكيل(1).
الخطة الحربية البديعة التي رسمها عمر رضي الله عنه لنجدة أبي عبيدة رضي الله عنه:
__________
(1) الطريق إلى الشام ص411 ، تاريخ الطبري (4/23،25).(2/53)
لما بلغ الخبر عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه: أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو، وسرِّحهم من يومهم الذي يأتيك فيه كتابي إلى حمص، فإن أبا عبيدة قد أحيط به، وكان عمر قد أعد خيولاً احتياطية في كل بلد استعداداً للحروب المفاجئة، فكان في الكوفة أربعة آلاف فرس، فجهز سعد عليها الجيش الذي أرسله إلى الشام، وكتب عمر أيضاً إلى سعد: أن سرِّح سهيل بن عدي إلى الجزيرة في الجند، ولْيَأت (الرَّقَّة)، فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص، وإن أهل (قَرْقِيسياء) لهم سلف، وسرّح عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى (نصيبين) فإن أهل قرقيسياء لهم سلف ثم لينْفُضا(1) حرَّان والرَّها، وسرِّح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، وسرح عياضاً، فإن كان قتال فقد جعلت أمرهم جميعاً إلى عياض بن غَنْم، فمضى القعقاع في أربعة آلاف من يومهم الذي أتاهم فيه الكتاب نحو حمص، وخرج عياض بن غنم وأمراء الجزيرة فأخذوا طريقهم نحو الأهداف التي وجهوا إليها، وخرج أمير المؤمنين عمر من المدينة مغيثاً لأبي عبيدة يريد حمص حتى نزل الجابية وعلم أهل الجزيرة الذين اشتركوا مع الروم في حصار أهل حمص بخروج الجيوش من العراق، ولا يدرون هل مقصدهم حمص أم بلادهم في الجزيرة فتفرقوا إلى بلدانهم وإخوانهم، وتركوا الروم يواجهون المعركة وحدهم ولما رأى أبو عبيدة أن أنصار الروم من أهل الجزيرة قد انفضوا عنهم، استشار خالداً في الخروج إليهم وقتالهم فأشار عليه بذلك، فخرجوا إليهم وقاتلوهم وفتح الله عليهم، وقدم القعقاع بن عمرو ومن معه من أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من المعركة وقدم أمير المؤمنين بالجابية، فكتبوا إليه بالفتح وبقدوم المدد عليهم بعد ثلاثة أيام من الفتح وبالحكم في ذلك، فكتب إليهم أن شركوهم فإنهم قد نفروا لكم وقد تفرق لهم عدوكم(2)،
__________
(1) نفض البلد: طهرها من اللصوص والأعداء.
(2) تاريخ الطبري (5/24،25).(2/54)
وقال: جزى الله أهل الكوفة خيراً يكفون حوزتهم ويُمِدّون أهل الأمصار(1).
حينما نتأمل هذه الخطة الحربية البديعة التي رسمها عمر رضي الله عنه لإرباك الأعداء وتفريقهم نرى عبقرية الفاروق العسكرية، فقد أمر ببعث جيش سريع من الكوفة إلى حمص ليقوم بعملية الإنقاذ وخرج هو بجيش من المدينة، وهذا كله يبدو أمراً معتاداً، ولكن الأمر الذي يثير الإعجاب هو ما قام به من الأمر ببعث الجيوش إلى بلاد المحاربين ليضطرهم إلى ترك ميدان القتال والتفرق إلى بلادهم لحمايتها، وقد نجحت هذه الخطة حيث تفرقوا فهان على المسلمين القضاء على الروم(2).
فتح الجزيرة: 17هـ:
تقدم لنا أن الروم وأهل بلاد الجزيرة أغاروا على مدينة حمص وحصروا فيها
أبا عبيدة رضي الله عنه والمسلمين وأن عمر رضي الله عنه أرسل إلى سعد بن
أبي وقاص رضي الله عنه يأمره بإمداد أهل حمص بجيش يخرج من الكوفة إلى حمص، وجيوش تخرج إلى الجزيرة وقد أرسل سعد جيشاً من الكوفة بقيادة القعقاع بن عمرو التميمي، وأرسل جيوشاً إلى الجزيرة وكلها تحت قيادة عياض بن غنم رضي الله عنه، فخرجَت هذه الجيوش إلى الجزيرة فسلك سهيل بن عدي وجنده طريق الفراض حتى انتهى إلى الرَّقًّة فحاصرهم، فنظروا إلى أنفسهم بين قوتين للمسلمين في العراق والشام فصالحوهم، وسلك عبد الله بن عبد الله بن عِتْبان طريق دجلة حتى انتهى إلى نصيبين فلقيه أهلها بالصلح كما صنع أهل الرقة، ولما أعطى أهل الرقة ونصيبين الطاعة ضم عياض سهيلاً وعبد الله إليه وسار بالناس إلى حران فأخذ ما دونها، فلما انتهى إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية فقبل منهم، ثمّ سرَّح عبدالله وسهيلاً إلى الرُّها فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية وهكذا فتحت الجزيرة كلها على سعتها صلحاً، فكانت أسهل البلدان أمراً(3).
المبحث الثاني: فتوحات مصر وليبيا:
__________
(1) تاريخ الطبري (5/25).
(2) التاريخ الإسلامي (11/137).
(3) تاريخ الطبري (5/26-30).(2/55)
كانت دوافع فتح مصر عند المسلمين قوية، فهناك العقيدة التي يريدون التمكين لها في كل مكان، ومصر تتصل بفلسطين فمن الطبيعي بعد فتح فلسطين أن يتجه المسلمون إلى مصر، وقد قسم المسلمون الإمبراطورية البيزنطية إلى قسمين لا يصل بينهما سوى البحر وذلك باستيلائهم على الشام، وفي مصر وشمال أفريقية جيوش ومسالح رومية، ولبيزنطة أسطول قوي في البحر، ولن يأمن المسلمون في الشام ومصر تحت النفوذ الروماني، ومصر غنية، وهي مصدر لتموين القسطنطينية فإذا فتحها المسلمون ضعف نفوذ بيزنطية كثيراً وأمن المسلمون في الشام والحجاز حيث يسهل اتصال الروم بالحجاز عن طريق مصر(1) ومن العوامل أيضاً أن (القبط) أنفسهم يعانون من اضطهاد الروم، وأن هؤلاء لا يعيشون في مصر إلا بمثابة حاميات عسكرية، فلماذا لا تنتهز هذه الفرصة خاصة أن عدل المسلمين لابد أن يكون قد سبقهم إلى مصر(2)، أما الحامية نفسها فإن الرعب(3) لابد أن يكون قد تملّكها حينما رأت ملكها هرقل يترك بلاد الشام لتصير جزءاً من الدولة الإسلامية كل هذا كان يدركه عمرو بن العاص وخلص إلى نتيجة وهي: أن الروم في مصر سيكونون عاجزين عن الوقوف في وجه المسلمين بينما لو تركت مصر دون فتح فستظل مصدر تهديد لهم، وهذا ما صرح به عمرو بن العاص نفسه(4) وبالرغم من تعدد الروايات حول أول من فكر في فتح مصر: عمرو بن العاص أم الخليفة نفسه دون تدخل من عمرو، أم أن الخليفة وافق تحت إلحاح عمرو(5)، بالرغم من ذلك الاختلاف فإن العوامل السابقة كلها تنفي أن تكون خطة فتح مصر هي مجرد خاطرة من عمرو وأن الخليفة غير راضٍ عن ذلك، أو أنهم لم يكن لديهم التصور الكامل عن مصر وأرضها وحجم قوة أعدائهم فيها وقد جاءت
__________
(1) عصر الخلافة الراشدة للعمري ص348 .
(2) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة ص357 .
(3) فتوح الشام للأزدي ص118 .
(4) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة ص357 .
(5) النجوم الزاهرة (1/4-7).(2/56)
الروايات التاريخية تؤيد ما ذهبت إليه فقد بين ابن عبد الحكم: أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص بعد فتح الشام أن أندب الناس إلى المسير معك إلى مصر، فمن خف معك فسر به(1)، وجاء في الطبري: .. أقام عمر بإيلياء بعدما صالح أهلها ودخلها أياماً، فأمضى عمرو بن العاص إلى مصر، وأمّره عليها، إن فتح الله عليه، وبعث في إثره الزبير بن العوام مدداً له ويؤكد هذا تلك الإمدادات التي أرسلها عمر إلى مصر ووصل عددها إلى اثني عشر ألفاً، وكذلك أمره بفتح الإسكندرية دون خلاف في ذلك(2)، فهل من الممكن أن يتوغل عمرو في مصر دون رضاً من الخلافة؟ ونحن نعرف المسلمين قادة وجنوداً كانوا غاية في السمع والطاعة والالتزام ومن ثم نكرر أن فتح مصر لم يكن إلا استجابة لخطة مرسومة سلفاً عند الخليفة وقواده، ولم تكن استجابة لرغبة عابرة(3).
أولاً: مسير الفتح الإسلامي لمصر:
يعتبر فتح مصر المرحلة الثالثة من الفتوحات بالنسبة لمحور الدولة البيزنطية ولقد كانت مسيرة عمرو من فلسطين إلى مصر محاذياً البحر فسار من رفح إلى العريش إلى الفرما واستمر فتحه للقاهرة فالاسكندرية وهذا يدلنا على موهبة عمرو العسكرية حيث سار في هذا الخط ربما لأنه لم يكن للروم ثقل عسكري في هذا الخط كما كان في بلاد الشام وربما لأن الدرب كان معروفاً لعمرو بن العاص، فكان تسلسل الفتح كما هو مرتب فيما يلي مع بيان أوجه الاختلاف والاضطراب حيث لم يخل سير الفتح من اختلاف كما حدث في فتح بلاد الشام(4).
1- فتح الفرما:
__________
(1) فتوح مصر ص57 .
(2) تاريخ الطبري (5/84-93).
(3) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراسدة ص357،358 .
(4) عمرو بن العاص القائد والسياسي، د. عبد الرحيم محمد ص79 .(2/57)
تقدم عمرو غرباً ولم يلاق جيشاً رومانياً إلا في (الفرما) أما قبل ذلك فقد قابله المصريون بالترحاب والتهليل، فكان أول موضع قوتل فيه كان في (الفرما) فقد تحصن الروم في المدينة لمواجهة المسلمين، واثقين من قدراتهم على الذود عنها ورد المسلمين بعد أن علموا أن المسلمين الذين جاءوا مع عمرو قلة في العدد والعدة وليس معهم عدة للحصار، عرف عمرو عدد الروم، واستعداداتهم وأنهم يزيدون على جنده أضعافاً، فكانت خطته في الاستيلاء على الفرما هي المهاجمة وفتح الأبواب أو الصبر عليها إلى أن يضطر الجوع أهلها فينزلوا إليها، واشتد حصار المسلمين للمدينة واشتد عناد الروم ودام الحصار شهوراً، وكانت بعض القوات الرومانية تنزل إلى المسلمين بين الحين والآخر لقتالهم فيجهز عليهم المسلمون وكان عمرو يشد أزر المسلمين بكلماته القوية، فمن قوله لهم: يا أهل الإسلام والإيمان، يا حملة القرآن، يا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - اصبروا صبر الرجال واثبتوا بأقدامكم(2/58)
ولا تزايلوا صفوفكم، واشرعوا الرماح واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله، ولا تحدثوا حدثاً حتى آمركم(1) وذات يوم خرجت فرقة من الرومان من القرية إلى المسلمين ليقاتلوهم وكانت الغلبة للمسلمين والدائرة على الروم فلاذوا بالفرار إلى القرية، وتبعهم المسلمون، وكانوا أسرع منهم، فملكوا الباب قبل أن يقتحمه الرومان، وكان أول من اقتحم المدينة من المسلمين هو (أسميقع) فكان الفتح المبين، ومما هو جدير بالذكر أن أقباط مصر الذين كانوا بالقرى عاونوا المسلمين ودلوهم على مناطق الضعف وتلقوا المسلمين في (اتميدة) بالترحاب، وبعد تمام احتلال الفرما قام المسلمون بهدم أسوارها وحصونها حتى لا يستفيد منها الروم لو رجعوا إليها لا قدر الله ثم خطب عمرو في الجيش قائلاً: أيها الناس، حمداً لله الذي جعل لجيش المسلمين الغلبة والظفر، والله عظيم حمى بالإسلام ظهورنا، وتكفل به طريق رجوعنا، ولكن إياكم أن تظنوا أن كل ما نرغب فيه قد تحقق، وأن تخدعوا بهذا النصر، فلا يزال الطريق أمامنا وعراً شاقاً والمهمة التي وكلها لنا أمير المؤمنين بعيدة المنال، وعليكم بالصبر والطاعة لرؤسائكم، فسيعلم القوم هنا أننا جنود السلام، لا نبغي فساداً في الأرض بل نصلحها وكونوا خير قدوة للرسول - صلى الله عليه وسلم -(2).
__________
(1) فتح مصر، صبحي ندا ص19،20 .
(2) نفس المصدر ص20 .(2/59)
اطمأن عمرو إلى أن المدينة لم تعد صالحة لحماية جيش يأوي إليها، وتفقد جيشه وما فقده في المعركة وتألم لفقد رجال كانوا حريصين على فتح مصر فعاجلتهم المنية، وخشي إن استمرت المعارك على هذا النحو مع وقوع الخسائر في الجيش القليل العدد ألا يستطيع مواصلة الزحف، ولا يتمكن من بلوغ الغاية ولكن الله تعالى قد عوضه عمن فقده فانضم إلى جيشه كثير من رجال القبائل العربية من راشدة ولخم وكانوا يقيمون بجبل الحلال(1)، ومضى عمرو بجيشه لا يلقى شيئاً من المقاومة متجهاً غرباً حتى وصل القواصر (القصاصين) ومن هناك اتجه نحو الجنوب حتى أصبح في وادي الطمبلان بالقرب من التل الكبير ثم اتجه إلى الجنوب حتى نزل بلبيس. قال صاحب النجوم الزاهرة فتقدم عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس(2).
2- فتح بلبيس:
__________
(1) جولة في عصر الخلفاء الراشدين ص214 .
(2) النجوم الزاهرة (1/7،8).(2/60)
وعند بلبيس برز الروم في قوة كبيرة قاصدين صدّ عمرو عن التوجه نحو حصن بابليون وأرادوا منازلة المسلمين، فقال لهم عمرو رضي الله عنه لا تعجلونا حتى نعذر إليكم وليبرز إليّ أبو مريم وأبو مريام، وعندئذ كفوا عن القتال، وخرج إليه الرجلان، فدعاهما إلى الإسلام أو الجزية، وأخبرهما بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل مصر، بسبب هاجر أم اسماعيل: روى مسلم في صحيحه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنّكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط(1)، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمّة ورحماً؛ أو قال: ذمة وصهراً(2)، فقالا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء، آمِنّا حتى نرجع إليك. فقال عمرو: مثلي لا يُخدع: ولكني أوجلكما ثلاثاً لتنظرا فقالا: زدنا، فزادهما يوماً، فرجعا إلى المقوقس عظيم القبط(3)، وأرطبون الوالي من قِبَل الروم، فأخبراهما خبر المسلمين، فأما أرطبون فأبى وعزم على الحرب، وبيّت المسلمين، فهزموه هو وجنده إلى الإسكندرية(4)، ومما هو جدير بالذكر، ما يدل على شهامة المسلمين ومروءتهم أنه لما فتح الله على المسلمين (بلبيس) وجدوا فيها ابنة المقوقس واسمها (أرمانوسة) وكانت مقربة من أبيها، وكانت في زيارة لمدينة بلبيس مع خادمتها (بربارة) هرباً من زواجها من قسطنطين ابن هرقل (وهو فيما بعد والد قنسطتز) صاحب موقعة ذات الصواري وكانت غير راغبة في الزواج منه، ولما تمكنت مجموعة من الجيش الإسلامي من أسر أرمانوسة جمع عمرو بن العاص الصحابة وذكرهم بقوله تعالى: { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ(60) } (الرحمن،آية:60). ثم قال: لقد أرسل المقوقس هدية إلى نبينا وأرى أن نبعث إليه بابنته وجميع من أسرناهم من جواريها وأتباعها، وما
__________
(1) القيراط: معيار في الوزن وفي القياس، اختلفت مقاديره باختلاف الأزمنة.
(2) مسلم، ك فضائل الصحابة رقم 2543 .
(3) البداية والنهاية (7/100).
(4) فتح مصر ص24 .(2/61)
أخذنا من أموالهم، فاستصوبوا رأيه(1)، فأرسلها عمرو إلى أبيها معززة مكرمة ومعها كل مجوهراتها وجواريها ومماليكها وقالت لها خادمتها (بربارة) أثناء سفرهما: يا مولاتي إن العرب يحيطون بنا من كل جانب فقالت أرمانوسة: إني آمن على نفسي وعرضي في خيمة العربي، ولا آمن على نفسي في قصر أبي(2)، ولما وصلت إلى أبيها سُرَّ بها وبتصرف المسلمين معها(3).
3- معركة أم دنين:
__________
(1) الدور السياسي للصفوة في صدر الإسلام ص431 .
(2) فتح مصر، صبحي ندا ص24 .
(3) نفس المصدر ص24 .(2/62)
ذكر ابن عبد الحكم في روايته أن عمراً مضى بجيشه حتى فتح ((بلبيس)) بعد قتال دام نحواً من شهر، ثم مضى حتى أتى ((أم دنين)) وتسمى المقسس وهي واقعة على النيل فقاتل المسلمون حولها قتالاً شديداً وأرسل عمرو إلى أمير المؤمنين يستمده فأمده أمير المؤمنين بأربعة آلاف رجل على كل ألف منهم رجل يقوم مقام الألف، وهم الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مُخلَّد، وقيل الرابع خارجة بن حذافة، وقال عمر في كتابه له: اعلم أن معك اثني عشر ألفاً، ولن تغلب اثنا عشر ألفاً من قلَّة(1)، وقد خرج الروم مع الأقباط لمواجهة المسلمين، وجرت بينهم معركة حامية استعمل فيها عمرو بن العاص دهاءه الحربي كما صنع خالد بن الوليد في حروب العراق، وذلك أنه جعل جيشه ثلاثة أقسام، حيث أقام كميناً للأعداء في الجبل الأحمر، وأقام كميناً آخر على النيل قريباً من أم دنين، وقابل أعداءه ببقية الجيش، ولما نشب القتال بين الفريقين خرج الكمين الذي في الجبل الأحمر وانقضَّ على الروم فاختل نظامهم وانهزموا إلى أم دنين فقابلهم الكمين الذي بقربها فأصبحوا بين جيوش المسلمين الثلاثة وانهزموا وتفرق جيشهم ولجأ بعضهم إلى حصن بابليون الحصين(2)، وهكذا كسب المسلمون هذه المعركة ووقاهم الله شر أعدائهم بفضله تعالى وذلك بتوفيق قائدهم المحنَّك إلى هذه الخطة المحكمة التي شتت بها قوات الأعداء(3).
4- معركة حصن بابليون:
__________
(1) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين ص218.
(2) نفس المصدر ص219.
(3) نفس المصدر ص219.(2/63)
تقدم عمرو وجيشه إلى حصن بابليون وحاصروه حصاراً محكماً ودام الحصار سبعة أشهر، وأرسل المقوقس خلال ذلك رسله إلى عمرو بن العاص للمصالحة فاستجاب عمرو بن العاص على الشروط: الإسلام أو الجزية أو الحرب فاختار المقوقس الجزية، وكتب المقوقس إلى هرقل يستأذنه في ذلك، فلم يقبل منه بل حنق عليه ولامه لوماً شديداً واستدعاه إلى القسطنطينية ثم نفاه، ولما أبطأ فتح حصن بابليون قال الزبير بن العوام: إني أهب نفسي لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين(1)، وراح عمرو بن العاص يحاصر حصن بابليون ثم تسوروا الحصن في الليل واشتبكوا مع الجنود في قتال عنيف وكان أول من تسور الحصن الزبير بن العوام فوضع سلماً من ناحية سوق الحمام ثم صعد وأمر المسلمين إذا سمعوا تكبيره أن يقتحموا الحصن، فما شعروا إلا والزبير بن العوام على رأس الحصن يكبر ومعه السيف، فكبر تكبيرة فأجابه المسلمون من خارج الحصن، ولم يشك أهل الحصن أن المسلمين قد اقتحموا جميعاً الحصن فهربوا، فعمد حواري رسول الله بأصحابه إلى باب حصن بابليون ففتحوه، واقتحم المسلمون الحصن وفتحوه عنوة، ولكن عمرو بن العاص أمضى الصلح على أن يخرج جند الروم ما يلزمهم من القوت لبضعة أيام، أما حصن بابليون وما فيه من الذخائر وآلات الحرب فتبقى غنيمة للمسلمين ثم خرب أبو عبد الله أبراج الحصن وأسواره(2).
ثانياً: فتح الإسكندرية:
__________
(1) الفتوحات الإسلامية د. عبد العزيز الشناوي ص91.
(2) نفس المصدر ص91.(2/64)
رابط عمرو بن العاص ورجاله عدة أشهر في حصن بابليون ليستجمَّ الجنود ويصله الإذن من أمير المؤمنين عمر بالسير لفتح الإسكندرية، فلما تحقق ذلك ترك عمرو في الحصن مسلحة قوية من المسلمين، وفصل بجنوده من بابليون في مايو سنة 641م، الموافق جمادى الآخرة سنة 21هـ، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط الذين اطمأنوا إلى أن مصلحتهم باتت في مساندة القوة الإسلامية المظفرة، وقد أصلحوا لهم الطرق، وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعواناً على ما أرادوا من قتال الروم(1)، وقد آثر عمرو السير على الضفة اليسرى للنيل حيث محافظة البحيرة لتتيح له الصحراء مجالاً واسعاً لحركة خيله وجنوده، وكي يتجنب ما كان سيعترضه من الترع الكثيرة لو سار في دلتا النيل، ولم يلق عمرو إلا قتالاً يسيراً عند مرفوط أو (الطرانة) كما يسميها المؤرخون العرب(2)، ثم عبر النهر إلى الضفة الشرقية حيث تقع مدينة نقيوس الحصينة(3)، وكانت ذات حصن منيع فتخوف عمرو أن يتركها على جانبه ويسير عنها، ولكن الروم بدل أن يتحصنوا من المسلمين في حصنهم ركبوا سفنهم ليحاربوا المسلمين فيها ويمنعوهم من الاقتراب من مدينتهم، فرماهم المسلمون بالنبال والسهام وطاردوهم في المياه، فولوا الأدبار في سفنهم نحو الإسكندرية، وسرعان ما استسلم من بقي في الحصن ودخله المسلمون ظافرين، وأمضوا عدة أيام يستبرئون ما حوله من أعدائهم(4)، وأرسل عمرو قائده شريك بن سُميَّ ليتعقب الروم الفارين، فالتقى بهم وليس معه إلا قوة معدودة، فطمع فيه الروم وأحاطوا به، فاعتصم بهم في نهد من الأرض عُرف فيما بعد بكوم شريك، فأرسل إلى عمرو يطلب الأمداد، وما إن علم الروم أن المدد في الطريق إلى المسلمين حتى لاذوا بالفرار(5)، وعند سُلْطَيْس على ستة أميال جنوبي
__________
(1) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين ص224 .
(2) نفس المصدر ص224 .
(3) نفس المصدر ص224 .
(4) نفس المصدر ص225 .
(5) نفس المصدر ص225 .(2/65)
دمنهور كان اللقاء التالي بين عمرو والروم، وجرى قتال شديد انهزموا فيه وولوا الأدبار(1)، ومما يؤسف له أن هذه المعارك التي خاضها المسلمون بقواتهم المحدودة ضد قوات تفوقهم عدة أضعاف من الروم عدداً وعدة، والتي استمر بعضها عدة أيام لم تظفر من مؤرخي المسلمين سوى بأسطر قليلة أو كلمات معدودة، في حين أفرد بعضهم عشرات الصفحات للحديث عن القادسية أو اليرموك أو نهاوند(2)، ومن هذه المعارك الكبرى التي لا تشفى فيها مصادرنا العربية غليلاً معركة كِرْيون وهي آخر تلك السلسلة من الحصون التي تمتد بين بابليون والإسكندرية وقد تحصن بها تيودرو قائد الجيش الرومي ودار قتال شديد استمر بضعة عشر يوماً، ورغم ذلك فلم يظفر من ابن عبد الحكم سوى بهذه الكلمات: ثم التقوا بكريون، فاقتتلوا بها بضعة عشر يوماً، وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو، وصلى (عمرو) يومئذ صلاة الخوف، ثم فتح الله للمسلمين، وقتل منهم المسلمون مقتلة عظيمة واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية، وفي أثناء ذلك أورد قصة عن بطولة عبد الله بن عمرو ووردان مولى أبيه(3)، وقد كانت الإسكندرية عند فتح المسلمين لها عاصمة البلاد وثانية حواضر الإمبراطورية البيزنطية بعد القسطنطينية، وأول مدينة تجارية في العالم، وكان البيزنطيون يدركون خطورة استيلاء المسلمين عليها ويحملون همّ ذلك، حتى قال هرقل: لئن ظهر العرب على الإسكندرية إن ذلك انقطاع ملك الروم وهلاكهم(4)، وقد زعم الرواة أنه تجهز ليخرج إلى الإسكندرية بنفسه ليباشر قتال المسلمين بها، فلما فرغ من جهازه صرعه الله فأماته، وكفى الله المسلمين مؤنته(5)، واضطربت أمور الدولة البيزنطية بعد موت هرقل إذ تولى الحكم إبناه
__________
(1) نفس المصدر ص225 .
(2) نفس المصدر ص225 .
(3) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، حمدي شاهين ص226 .
(4) نفس المصدر ص226 .
(5) نفس المصدر 226 نقلاً عن ابن عبد الحكم.(2/66)
قسطنطين وهرقل الثاني (هرقليانوس) وشاركتهما الإمبراطورة مارتينة أم هرقليانوس، لكن قسطنطين سرعان ما وافته منيته بعد مائة يوم من وفاة أبيه مما جعل أصابع الاتهام تتجه إلى الإمبراطورة التي كانت ترغب في أن ينفرد ولدها بالحكم، فاشتعلت الثورة ضدها، واستمرت الفتن ضاربة في البلاد عدة أشهر، حتى تولى كونستانس بن قسطنطين الحكم شريكاً لعمه هرقليانوس(1).
وكانت الإسكندرية فضلاً عن متانة أسوارها وضخامة ووفرة حماتها تمتاز بموقعها الدفاعي المميز فكان البحر يحميها من شمالها؛ حيث السيطرة آنذاك للروم، وكانت بحيرة مريوط تحميها من جنوبها، وكان اجتيازها عسيراً، بل غير مستطاع، وكانت إحدى تفريعات النيل قديماً واسمها نزعة الثعبان تدور حولها من الغرب، وبذلك لم يبق إلا طريق واحد من الشرق يصل إليها؛ وهو الطريق الواصل بينها وبين كرْيون(2).
__________
(1) نفس المصدر ص227 .
(2) نفس المصدر ص225 .(2/67)
وطال الحصار عدة أشهر مما أثار مخاوف عمرو من ملل جنوده أو شعورهم بالعجز أمام عدوهم، فقرر أن يبث كتائبه تجوس خلال بلاد الدلتا وقرى الصعيد، غير أن طول حصار الإسكندرية آثار حفيظة الخليفة عمر، وأثار في نفسه الهواجس والظنون حول استعداد جنوده للتضحية والمبادأة، ورأى أن ذلك ما كان إلا لما أحدثوا(1)، وشرح ذلك في رسالة إلى عمرو بن العاص يقول فيها: (( أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلونهم منذ سنتين ذلك إلا لما أحدثتم، وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوماً إلا بصدق نيّاتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، (يعني الزبير وصحبه)، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكون غيّرهم ما غيّر غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحُضَّهم على قتال عدوهم، ورغِّبهم في الصبر والنية، وقدِّم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومُر الناس جميعاً أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة ووقت الإجابة، وليعجّ الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم، فلما أتى عمرو الكتاب جمع الناس وقرأه عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدّمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله ويسألوه النصر، ففعلوا ففتح الله عليهم(2)، ويروى أن عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلد الأنصاري فقال: أشر علي في قتال هؤلاء فقال مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فتعقد له على الناس، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيه، فقال عمرو: ومن ذلك؟ قال: عبادة بن الصامت، فدعاه عمرو إليه، فلما دنا منه أراد النزول عن جواده؛ فقال له عمرو: عزمت عليك إن نزلت، ناولني سنان رمحك، فناوله إياه فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولاه قتال الروم،
__________
(1) نفس المصدر ص227 .
(2) نفس المصدر ص228 .(2/68)
ففتح الله على يديه الإسكندرية في يومهم ذاك(1)، وقد جاء في رواية: إني فكرت في هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله يريد الأنصار، فدعا عبادة بن الصامت فعقد له ففتح الله على يديه(2)، ويروي ابن عبد الحكم أن حصار الإسكندرية استمر تسعة أشهر وأنها فتحت في مستهل المحرم سنة عشرين للهجرة(3)، وهي ما يوافق 21 ديسمبر سنة 640م بينما انتهى بتلر في دراسته عن فتح مصر إلى أن حصار المدينة قد بدأ في أواخر يونيو سنة 640م وأنها استسلمت في 8 نوفمبر سنة 641م وهو ما يوافق 7 ذي الحجة سنة 21هـ، وقد يرجح هذا القول ما ورد في رسالة عمر الفاروق إلى عمرو بن العاص: إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، فما بين وصول عمرو العريش في ديسمبر سنة 639م وتسليم الإسكندرية في نوفمبر 641م ما يعادل سنتين هلاليتين واستبقى عمرو أهل الإسكندرية فلم يقتل ولم يَسْبِ وجعلهم أهل ذمة، كأهل بابليون… ثم ترك في الإسكندرية حامية من قواته بعد أن اطمأن إليها ونشر بقية كتائبه لتفتح بقية حصون الروم وجيوبهم في مصر، فاستكمل فتح ساحل البحر المتوسط ومدنه الكبرى مثل رشيد ودمياط وغيرها: وكذلك بسط سيطرته على كل دلتا مصر وصعيدها(4).
ثالثاً: فتح برقة وطرابلس:
__________
(1) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين ص228 .
(2) الأنصار في العصر الراشدي ص212 .
(3) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين ص229 .
(4) المصدر نفسه ص229 .(2/69)
وسار عمرو بعد أن استقر له فتح مصر ليؤمن فتوحه من ناحية الغرب إذ كانت للروم قوات في برقة وطرابلس تتحصن هناك، وربما واتتها الفرصة ساقها الإغراء إلى مهاجمة المسلمين بمصر، فاتجه في قواته إلى برقة سنة 22هـ وكان الطريق بينها وبين الإسكندرية آنذاك منزعاً بالخضرة والعمران، فلم يلق كيداً في طريقه إليها، فلما وصلها صالحه أهلها على أداء الجزية، وكان أهل برقة بعد فتحها يبعثون بخراجهم إلى والي مصر من غير أن يأتيهم حاث أو مستحث فكانوا أخصب قوم بالمغرب ولم يدخلها فتنة، ثم سار عمرو إثر ذلك إلى طرابلس ذات الحصون المنيعة، وبها جيش رومي كبير، فأغلقت أبوابها وصبرت على الحصار الذي استمر شهراً لا يقدر المسلمون منها على شيء وكان البحر من ورائها لاصقاً ببيوت المدينة، ولم يكن بين المدينة والبحر سور، فاستبانت جماعة من قوات المسلمين الأمر، فتسللت إلى المدينة من جهة البحر، وكبروا؛ فلم يكن للروم مفزع إلا سفنهم، إذ هاجمهم عمرو في قواته أيضاً فلم يفلت منهم إلا ما خفت بهم مراكبهم، وغنم المسلمون ما بالمدينة، وبث عمرو قواته فيما حولها وأراد عمرو أن يستكمل فتوحه في الغرب ويسير إلى تونس وأراضي إفريقية ليفتحها، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب، غير أن الخليفة كان يخشى على جيوش المسلمين من الانسياح في جبهة جديدة ولم يطمئن بعد إلى ما فتحت في زحفها السريع من الشام إلى طرابلس، فأمر القوات الإسلامية بالتوقف عند طرابلس وبذلك امتدت دولة الإسلام في عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتشمل مساحة شاسعة من الأرض يحدها من الشرق نهر جيحون والسند ومن الغرب بلاد إفريقية وصحراؤها، ومن الشمال جبال آسيا الصغرى وأراضي أرمينية، ومن الجنوب المحيط الهادي وبلاد النوبة في دولة عالمية واحدة متعددة الأجناس والديانات والنحل والعادات، عاش أهلها في عدل الإسلام ورحمته، ذلك الدين الذي احتفظ لهم بحقهم في الحياة الكريمة وإن اختلفوا معه في عقائدهم؛(2/70)
ومع أهله في عاداتهم وأعرافهم(1).
المبحث الثالث: أهم الدروس والعبر والفوائد في فتح مصر:
أولاً: سفارة عبادة بن الصامت الأنصاري إلى المقوقس:
حاصر عمرو بن العاص حصن بابليون فأرسل المقوقس إلى عمرو الرسالة التالية: إنكم قد وَلَجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عُصْبَة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم، ومعهم من العُدّة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فأرسلوا إلينا رجالاً منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبُّون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام، ولا يقدر عليه. ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفاً لمطلبكم ورجائكم، فابعثوا إلينا رجالاً من أصحابكم، نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء. فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس حبسهم عنده يومين وليلتين، حتى خاف عليهم المقوقس، فقال لأصحابه: أتروْن أنهم يقتلون الرسل ويحبسونهم، ويستحلون ذلك في دينهم! وإنما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين. فرد عليهم عمرو مع رسلهم: إنه ليس بيني وبينك إلا إحدى خصال ثلاث: إما إن دخلتم في الإسلام، فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا وإن أبيتم أعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين(2)، فلما جاءت رسل المقوقس إليه، قال: كيف رأيتموهم قالوا: رأينا قوماً الموت أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نَهمة، وإنما جلوسهم على التراب وأكلهم على رُكبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد فيهم من العبد: وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم
__________
(1) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين ص231 .
(2) عبادة بن الصامت صحابي كبير وفاتح مجاهد ص91 .(2/71)
بالماء، ويتخشعون في صلاتهم. فقال عند ذلك المقوقس: والذي يُحْلف به، لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، ولا يقوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم، وهم محصورون بهذا النيل، لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض، وقووا على الخروج من موضعهم فردّ إليهم المقوقس رسله، وقال: ابعثوا إلينا رسلاً منكم نعاملهم، ونتداعى نحن وهم إلى ما عسى أن يكون فيه صلاح لنا ولكم. فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر، وأحدهم عبادة بن الصامت، وكان طوله عشرة أشبار، وأمره عمرو أن يكون متكلم القوم، وألا يجيبهم إلى شيء دعوه إلا إحدى هذه الثلاث الخصال(1)؛ فإن أمير المؤمنين قد تقدم في ذلك إليّ، وأمرني ألا أقبل شيئاً سوى خصلة من هذه الثلاث الخصال. وكان عبادة بن الصامت أسود، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس، ودخلوا عليه، تقدم عبادة، فهابه المقوقس لسواده، فقال: نحُّوا عني هذا الأسود، وقدموا غيره يكلمني. فقالوا: إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً، وهو سيدنا وخيرنا، والمقدَّم علينا، وإنا نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمّره الأمير دوننا بما أمره به، وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله. فقال المقوقس للوفد: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغي أن يكون دونكم؟ قالوا: كلا: إنه وإن كان أسود كما ترى، فإنه من أفضلنا موضعاً وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأياً، وليس ينكر السواد فينا. فقال المقوقس لعبادة: تقدم يا أسود وكلمني برفق فإني أهاب سوادك، وإن اشتد علي كلامك، ازددت هيبة فتقدم إليه عبادة فقال: قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلَّفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم مثلي، وأشد سواداً مني وأفظع منظراً، ولو رأيتهم لكُنت أهيب لهم مني، وأنا قد ولّيت وأدبر شبابي، وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي وذلك إنما رغبتُنا، وبغيتنا الجهاد في سبيل
__________
(1) وهي التي تقدمت: وهي الإسلام أو الجزية أو القتال.(2/72)
الله تعالى، واتباع رضوان الله، وليس غزونا عدوَّنا ممن حارب الله لرغبة الدنيا، ولا طلباً للاستكثار منها؛ إلا أن الله عز وجل قد أحلّ ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً، وما يبالي أحدنا: أكان له قنطار من ذهب، أم كان لا يملك إلا درهما، لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها، يسد بها جَوْعَته، وَشمْلة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى، واقتصر على هذا الذي بيده؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا ربنا، وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا فيما يمسك جَوْعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضا ربه، وجهاد عدوه، فلما سمع المقوقس ذلك منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط، لقد هِبت منظره؛ وإن قوله لأهيب عندي من منظره، إن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها. ثم أقبل المقوقس على عبادة فقال: أيها الرجل، قد سمعت مقالتك، وما ذكرت عنك وعن أصحابك ولعمري ما بلغتكم إلا بما ذكرت ولا ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبِّهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم مما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشدة ممن لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل وإنا لنعلم أنكم لن تقوَوا عليهم، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلَّتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهراً، وأنتم في ضيق وشدة في معاشكم وحالكم، ونحن نرِقُ عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما
لا قوَّة لكم به. فقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: يا هذا؛ لا تغرّنَّ نفسك(2/73)
ولا أصحابك. أما ما تخوِّفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمْري ما هذا الذي تخوفنا به، ولا بالذي يكْسِرنا عما نحن فيه، إن كان ما قلتم حقاً فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم، وأشد لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، وإن قتلنا من آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجَنّته، وما من شيء أقرّ لأعيننا، ولا أحب إلينا من ذلك وإنا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين؛ إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفِرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله تعالى قال لنا في كتابه: { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249) } (البقرة،آية:249).(2/74)
وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحاً ومساء: أن يرزقه الشهادة وألا يرد إلى بلده، ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا همٌ فيما خلفه، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده وإنما همنا ما أمامنا. وأما قولك: إنا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا، فنحن في أوسع السّعة، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا لأنفسنا منها أكثر مما نحن فيه فانظر الذي تريد، فبيّنه لنا، فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منكم، ولا نجيبكم إليها إلا خصلة من ثلاث، فاختر أيها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين؛ وهو عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل إلينا؛ إما إن أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته، أمرنا الله أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا وكان أخانا في دين الله، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك، فقد سعدتم في الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحلَّ أذاكم ولا التعرض لكم. وإن أبيتم إلا الجزية، فأدُّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على بشيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبداً ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم، إذا كنتم في ذمتنا، وكان لكم به عهد الله علينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت عن آخرنا أو نصيب ما نريد منكم هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم فقال المقوقس: هذا مما لا يكون أبداً، ما تريدون إلا تتخذونا عبيداً ما كانت الدنيا. فقال له عبادة: هو ذاك، فاختر ما شئت. فقال المقوقس: أفلا تجيبونا إلى خصلة غير هذه الخصال الثلاثة؟ فرفع عبادة يديه، وقال: لا، ورب السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء، ما لكم عندنا خصلة غيرها فاختاروا لأنفسكم. فالتفت(2/75)
المقوقس عند ذلك إلى أصحابه، وقال: قد فرغ القول مما ترون؟ فقالوا: أو يرضى أحد بهذا الذل؟ أما ما أرادوا من دخولنا في دينهم؛ فهذا لا يكون أبداً،
ولا نترك دين المسيح ابن مريم، وندخل في دين لا نعرفه، وأما ما أرادوا من أن يسْبُونا ويجعلونا عبيداً أبداً، فالموت أيسر من ذلك؛ لو رضوا منا أن تُضعف لهم ما أعطيناهم مراراً، كان أهون علينا. فقال المقوقس لعبادة: قد أبى القوم، فما ترى؟ فارجع صاحبك على أن نعطيكم في مَرّتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفون فقام عبادة وأصحابه. فقال المقوقس لمن حوله عند ذلك: أطيعوني، وأجيبوا القوم إلى خصلة واحدة من هذه الثلاث، فوالله ما لكم بهم طاقة؛ وإن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم منها كارهين. فقالوا: أي خصلة نجيبهم إليها؟ قال: إذا أخبركم.. أما دخولكم في غير دينكم، فلا آمركم به؛ وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقدروا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولابد من الثالثة. قالوا: فنكون لهم عبيداً أبداً؟ قال: نعم تكونوا عبيداً مُسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خير لكم من أن تموتوا عن آخركم، وتكونوا عبيداً، وتباعوا وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبداً، أنتم وأهلوكم وذراريكم. قالوا: فالموت أهون علينا، وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط والجزيرة، وبالقصر من جمع القبط والروم كثير(1).
ومن الحوار الذي دار بين عبادة والمقوقس، ظهرت نباهة عبادة وإدراكه لمرامي خصمه فلم يتأثر بتلك الأساليب التي استخدمها للتأثير في نتائج المحادثات تلك كما ظهر عبادة واضحاً في تصوراته وأهدافه، ولم ينس في خضم ذلك أن يدعو إلى الإسلام ويرغب فيه، ويظهر انفتاح المسلمين على غيرهم من الأمم والأديان مما ترك أثراً طيباً في نفس المقوقس الذي اختار الصلح مع المسلمين(2).
ثانياً: من فنون القتال في فتوح مصر:
__________
(1) النجوم الزاهرة، ملوك مصر والقاهرة (1/10-16).
(2) الأنصار في العصر الراشدي ص211 .(2/76)
مارس عمرو بن العاص رضي الله عنه في فتح مصر فنوناً عدة في القتال منها:
1- الحرب النفسية:
عندما أمر المقوقس النساء أن يقمن على سور بابليون مقبلات بوجوههنّ إلى داخله، وأقام الرجال بالسلاح مقبلين بوجههم إلى المسلمين ليرهبوهم بذلك، فأرسل إليه عمرو: .. إنا قد رأينا ما صنعت، وما بالكثرة غلبْنا من علينا، فقد لقينا مِلكَكُم فكان من أمره ما كان فقال المقوقس لأصحابه: صدق هؤلاء القوم، أخرجوا ملكنا من دار مملكته حتى أدخلوه القسطنطينية، فنحن أولى بالإذعان(1)، فقد كان عمرو من القادة الذين يستخدمون الحرب النفسية لإرهاب عدوه وإحباط روح القتال لديه، وكان يعتمد في الحرب على الله ثم على العقل والسيف لتحقيق هدف واحد هو تحقيق النصر الحاسم في نهاية المعركة(2).
2- أسلوب المباغتة بالكمائن:
مارس عمرو أسلوب المباغتة بالكمائن في وقعة عين شمس، فقد أعدّ هذه الكمائن إعداداً محكماً مما يسر له سبل النجاح الكامل فهو قد أرسلها لاتخاذ مواقع معينة من الليل، فأحسن اختيار تلك المواقع، وعيّن ساعة انطلاق كل منها في وقت يكون العدو منشغلاً بمجابهته، فباغتته تلك الكمائن في ميمنته وميسرته، فأحسن بذلك اختيار التوقيت، وساعة الصفر ونقاط الصدام مع العدو. وهكذا تعتبر عملية عمرو (المباغتة بالكمائن) في هذه الوقعة من أكثر عمليات المباغتة نجاحاً وإتقاناً(3).
3- أسلوب المباغتة في أثناء الحصار:
__________
(1) الحرب النفسية، الدكتور أحمد نوفل: ص174 .
(2) المصدر نفسه ص174 .
(3) الفن العسكري الإسلامي ص320 .(2/77)
وأتقن عمرو كذلك أسلوب المباغتة في أثناء حصار حصن بابليون فبينما كان الروم المحاصَرون في هذا الحصن مطمئنين إلى أن المسلمين لن يستطيعوا النيل منهم، بفضل مناعة حصونهم وأسوارهم وما لديهم من ذخائر ومؤن ومعدات حربية، وبسبب ما وضعوه من عوائق من الحسك الشائك على أبواب الحصن وفي الخندق الذي جفت مياهه بعد هبوط مياه النيل إذا بهم يفاجأون في ليلة مظلمة بالزبير بن العوام ومجموعة من رجاله المقاتلين، يعتلون السور مكبرين، ويباغتونهم فيعملون السيف فيهم، ويهزم من في الحصن من المدافعين فيطلبون الصلح والأمان، ويدخل المسلمون الحصن فاتحين(1).
4- أسلوب النفس الطويل في الحصار:
اعتمد عمرو في حصار ((كِرْيون)) و((الاسكندرية)) النفس الطويل؛ فهو عندما أيقن صعوبة الانتصار على الروم المتمركزين في مواقع منيعة ومحصنة في كريون، بدأ بمناوشتهم محاولاً، لمرة واحدة فقط، شن هجوم على الحصن، إلا أنه فشل، فاستمر في المناوشة تاركاً للزمن، والإرهاق، ونفاذ الذخيرة، والمؤونة وصبر الرجال أن يفعل فعله، وهكذا كان، وما أن استمر حصار كريون بضعة عشر يوماً حتى أيقن الروم عزم المسلمين على الاستمرار في هذا الحصار فلم يجدوا بداً من الاستسلام وتسليم الحصن للمهاجمين، وحدث الشيء نفسه في حصار الإسكندرية، إلا أن هذا الأخير استمر مدة أطول (ثلاثة أشهر) وذلك لأن الروم كانوا يدركون إدراكاً تاماً أن هذه هي الفرصة الأخيرة لجيشهم بل ولهم جميعاً، فإن سقطوا في الإسكندرية سقطوا في مصر وفي إفريقيا بأسرها. وهذا ما حصل(2) تماماً.
ثالثاً: بشارة الفتح إلى أمير المؤمنين:
__________
(1) المصدر نفسه ص320 .
(2) المصدر نفسه ص320 .(2/78)
بعث عمرو بن العاص معاوية بن حديج وافداً إلى عمر بن الخطاب بشيراً بالفتح فقال له معاوية: ألا تكتب معي؟ فقال له عمرو: وما أصنع بالكتاب: ألست رجلاً عربياً تبلغ الرسالة، وما رأيت حضرت(1) فلما قدم على (عمر) أخبره بفتح الإسكندرية فخرَّ عمر ساجداً وقال: الحمد لله ونترك معاوية بن حديج يحدثنا عن قصته في إبلاغ أمير المؤمنين ببشارة الفتح: لما بعثني عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب وصلت المسجد فبينما أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل (عمر بن الخطاب)، فرأتني شاحباً عليَّ ثياب السفر، فأتتني، فقالت: من أنت؟ قال: فقلت: أنا معاوية بن حديج، رسول عمرو بن العاص، فانصرفت عني ثم أقبلت تشتد أسمع حفيف إزارها على ساقها أو على ساقيها حتى دنت مني فقالت: قم فأجب أمير المؤمنين يدعوك، فتتبعتها فلما دخلت فإذا بعمر بن الخطاب يتناول رداءه بإحدى يديه، ويشد إزاره بالأخرى، فقال: ما عندك؟ فقلت: خيراً يا أمير المؤمنين، فتح الله الإسكندرية فخرج معي إلى المسجد فقال للمؤذن: أذن في الناس (الصلاة جامعة)، فاجتمع الناس، ثم قال لي: قم فأخبر أصحابك فقمت فأخبرتهم، ثم صلى ودخل منزله، واستقبل القبلة، فدعا بدعوات، ثم جلس فقال: يا جارية هل من طعام؟ فأتت بخبز وزيت فقال: كل فأكلت على حياء ثم قال: كله فإن المسافر يحب الطعام فلو كنت آكلاً لأكلت معك فأصبت على حياء، ثم قال: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ قال: قلت لعل أمير المؤمنين قائل – نوم القيلولة – قال: بئس ما قلت أو بئس ما ظننت، لئن نمت النهار لأضيعن الرعية ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية(2).
__________
(1) فتوح مصر والمغرب ص104،105 .
(2) فتوح مصر والمغرب ص105 ، فتح مصر بين الرؤية الإسلامية والرؤية النصرانية، د. إبراهيم المتناوي ص114 .(2/79)
ومن هذا الخبر نستنتج أن المسجد في عصر الإسلام الأول كان يمثل أهم وسائل الإعلام حيث يجتمع المسلمون فيه بنداء الصلاة جامعة، وهذا النداء يعني أن هناك أمراً مهماً سيتم إبلاغه لعموم المسلمين فإذا اجتمعوا أُلقيت عليهم البيانات العسكرية والأمور السياسية والاجتماعية وغير ذلك، كما نستفيد من هذا الخبر وصفاً لحياة عمر رضي الله عنه، وهو خليفة المسلمين، حيث يقول لمعاوية بن خديج لئن نمت النهار لأضيِّعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعنَّ نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية وهذا يدل على كمال اليقظة لحق النفس وحقوق الآخرين، وإذا استطاع المسلم أن يجمع بين مراعاة ذلك كله فإنه يكون من المتقين المحسنين(1).
رابعاً: حرص الفاروق على الوفاء بالعهود:
ذكر ابن الأثير: … إن المسلمين لما انهوا إلى بِلْهِيب وقد بلغت سباياهم إلى اليمن أرسل صاحبهم إلى عمرو بن العاص:إنّني كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إليّ منكم: فارس والروم فإن أحببت الجزية على أن تردّ ما سبيتم من أرضي فعلت.
فكتب عمرو إلى عمر يستأذنه في ذلك، ورفعوا الحرب إلى أن يرد كتاب عمر. فورد الجواب من عمر: لعمري جزية قائمة أحب إلينا من غنيمة تُقسم ثمّ كأنها لم تكن، وأمّا السبي فإن أعطاك ملكهم الجزية على أن تخيّروا من في أيديكم منهم بين الإسلام ودين قومه فمن اختار الإسلام فهو من المسلمين ومن اختار دين قومه فضع عليه الجزية، وأمّا مَنْ تفرّق في البلدان فإنّا لا نقدر على ردّهم، فعرض عمرو ذلك على صاحب الإسكندريّة، فأجاب إليه، فجمعوا السبي واجتمعت النصارى وخيّروهم واحداً واحداً، فمن اختار المسلمين كبّروا، ومن اختار النصارى نخروا وصار عليه جزية، حتى فرغوا(2).
__________
(1) التاريخ الإسلامي للحميدي (11،12/348،349).
(2) الكامل في التاريخ (2/177).(2/80)
إن هذا يعتبر شاهد صدق على ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من العزوف عن الدنيا والإقبال على الآخرة، والرغبة الصادقة في هداية العالمين إلى الإسلام، فإن دخول الأسرى في الإسلام لا يفيد المسلمين شيئاً من الدنيا، وبقاؤهم على دينهم يتضمن فائدة دنيوية لهم حيث يُلزَمون بدفع الجزية للمسلمين ومع ذلك نجد عمر رضي الله عنه يأمر بتخيير الأسرى بين الإسلام أو دفع الجزية، وحينما تمّ تطبيق ذلك كان الصحابة ومن معهم يكِّبرون تكبيراً أشد من تكبير الفتح حينما يختار أولئك النصارى دين الإسلام ويجزعون جزعاً شديداً حينما يختارون البقاء على دينهم حتى كان أولئك الأسرى من ضمن جماعة المسلمين وخرجوا عن دين الإسلام ومما يلفت النظر في هذا الخبر حرص الصحابة على خلق الوفاء ويتضح ذلك من قول عمر رضي الله عنه في كتابه: وأما من تفرّق في البلدان فإنّا لا نقدر على ردّهم، وجاء في رواية: … ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفي له به(1)، فعمر رضي الله عنه ينظر إلى الوفاء بالعهد قبل إبرام الاتفاق مع الأعداء، حتى لا يكون المسلمون في وضع لا يستطيعون فيه الوفاء، وهذا الخلق يعتبر مرحلة عالية من الوفاء – وهو من أخلاق النصر – لأن من يبرم اتفاقية على أمر ثم لا يستطيع الوفاء به يكون معذوراً ولكن حينما يفكر بعمل الاحتياطات اللازمة لموضوع الوفاء بالعهد حتى لا يجد نفسه بعد ذلك عاجزاً عن الوفاء، فهذا نهاية التدبير، وغاية النظر الثاقب(2).
خامساً: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم:
توجه عمرو بجيشه نحو الإسكندرية، وفي طريقه إليها جرت بينه وبين أهل تلك البلاد حروب كان النصر فيها حليف المسلمين ومن المواقف التي تذكر في ذلك أن عبد الله بن عمرو بن العاص أصيب بجراحات كثيرة في معركته مع أهل الكريون فجاءه رسول أبيه يسأله عن جراحه فقال عبد الله:
__________
(1) التاريخ الإسلامي (12/351).
(2) المصدر نفسه (12/351).(2/81)
أقول إذا ما جاشت النفس ... ا ااصبري، فعما قليل تحمدي أو تلامي
فرجع الرسول إلى عمرو فأخبره بما قال فقال عمرو: هو ابني حقاً(1)، وهذا موقف من مواقف الصبر والتحمل يذكر لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الذي اشتهر بالعلم والعبادة فجمع إلى ذلك الشجاعة والصبر على الشدائد(2).
سادساً: دار بنيت لأمير المؤمنين بمصر:
بعث عمرو بن العاص إلى الفاروق بقوله: إنا قد اختططنا لك داراً عند المسجد الجامع، فكتب عمر: إنّى لرجل بالحجاز تكون له دار بمصر وأمره أن يجعلها سوقاً للمسلمين(3).
وهذا دليل على كمال ورع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وزهده في مظاهر الحياة الدنيا، وإذا كان الكبار والزعماء هم الذين يترفعون عن أوحال الدنيا، ومتاعها الزائل، فإن من دونهم من باب أولى أن يترفعوا عن ذلك(4).
سابعاً: دعوى حرق المسلمين مكتبة الإسكندرية:
يقول الدكتور عبد الرحيم محمد عبد الحميد: لم نعثر على نص أو إشارة إلى أن عمرو بن العاص حرق مكتبة الإسكندرية وجل ما في الأمر أننا قرأنا نصاً لابن القفطي ينقله ابن العبري (ت 685هـ/1286م) قائلاً: اشتهر بين الإسلاميين يحيى النحوي وكان اسكندرياً، وعاش إلى أن فتح عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية، ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلوم فأكرمه وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم تكن للعرب بها أنسة ونرى ابن القفطي (ت 646/1267م). يكمل القصة قائلاً فقال له عمرو
__________
(1) فتوح مصر ص57 .
(2) التاريخ الإسلامي (12/330).
(3) فتوح مصر ص69 .
(4) التاريخ الإسلامي (12/356).(2/82)
وما الذي تريده إليه قال: كتب الحكمة في الخزائن الملوكية.. أربعة وخمسون ألفاً ومائة وعشرون كتاباً.. فاستكثر عمرو ما ذكره يحيى وقال لا يمكنني أن آمر بأمر إلا بعد استئذان أمير المؤمنين، وكتب إلى عمر، وعرفه قول يحيى، فورد كتاب عمر يقول: أما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنها غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليها، فتقدم بإعدامها، فشرع عمرو بن العاص في توزيعها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقد وذكرني عدة الحمامات يومئذ وأنسيتها فذكروا أنها استنفذت في ستة أشهر فاسمع ما جرى وأعجب(1).
إلا أن قصة الحرق هذه وردت قبل ابن القفطي، وقبل ابن العبري فهذا عبد اللطيف البغدادي (ت 649هـ/ 1231) قال: وأنه دار العلم الذي بناه الإسكندر حيث بنى مدينة وفيها كانت خزانة الكتب التي أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه(2)، وعند دراسة هذه الروايات نرى أنه لابد من إبداء الملاحظات التالية:
1- لا يوجد ترابط بين تلك الروايات الثلاث، ولا صلة في النقل التاريخي تربط من ألفوها فضلاً عن أنهم عاشوا في فترة زمنية متقاربة.
2- لا يوجد أي إسناد يرجع إليه في هذه الروايات وإنما هي افتراضات افترضها أصحابها.
3- أنها وجدت في فترة بعيدة عن زمن فتح مصر وعمرو بن العاص ويمكن القول بكل ثقة أن هذه القصة مختلقة اختلاقاً واضحاً يمكن الطعن فيها من النواحي التالية:
لم يذكر قصة حرق مكتبة الإسكندرية من أرخ لتاريخ مصر وفتحها ممن عاش قبل من ذكروا هذه القصة بعدة قرون.
لم تذكر هذه القصة عند الواقدي ولا الطبري، ولم يتفق عليها ابن الأثير
ولا ذكرها ابن خلدون، فضلاً عن ابن عبد الحكم، ولم يصفها ياقوت الحموي عند وصف الإسكندرية.
__________
(1) عمرو بن العاص القائد والسياسي ص133 .
(2) المصدر نفسه ص134 .(2/83)
يمكن إرجاع هذه القصة إلى فترة الحروب الصليبية، من جهة البغدادي وربما وضعها تحت ضغط معين أو ربما انتحلت عليه فيما بعد.
إذا وجدت هذه المكتبة المزعومة، فيمكن القول: إن الروم الذي غادروا الإسكندرية كان بإمكانهم إخراجها معهم، أو ربما فعلوا ذلك.
لقد كان بإمكان عمرو إلقاؤها في البحر في فترة قصيرة بدلاً من حرقها الذي استغرق ستة أشهر، مما يدل على القصد في تزييف هذه القصة وتأليفها، ويمكن القول بلا وجل: إن عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص رضي الله عنهما بريئان مما نسب إليهما في هذه القصة المصطنعة التي كانت من تخيلات أناس أحبوا التهويل فتخيلوا وجود مالم يكن موجوداً(1).
ثامناً: لقاء عمرو بن العاص والبابا بنيامين:
__________
(1) عمرو بن العاص القائد والسياسي ص134 .(2/84)
يقول المؤرخ ابن عبد الحكم: كان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له أبو بنيامين، وكان هارباً في الصحراء بسبب الاضطهاد المذهبي الذي تعرض له الأقباط على أيدي الرومان المسيحيين، فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص إلى مصر، كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقي عمرو، فيقال إن القبط الذين كانوا بالفرما صاروا يومئذ لعمرو أعواناً(1)، وقد جاء في رواية المؤرخ القبطي ساويرس بن المقنع أنه سانوتيوس أحد رؤساء القبط وقتئذ، والذي كان يتولى إدارة شئون الكنيسة مدة اختفاء البطريق بنيامين، قد روى لعمرو موضوع الأب المجاهد بنيامين البطرك وأنه هارب من الروم خوفاً منهم، فكتب عمرو بن العاص إلى عمّال مصر كتاباً يقول فيه الموضع الذي فيه بنيامين بطرك النصارى القبط له العهد والأمان والسلامة من الله، فليحضر آمناً مطمئناً ويدبر حال بيعته وسياسة طائفته، فلما سمع القديس بنيامين هذا، عاد إلى الإسكندرية بفرح عظيم بعد غيبة ثلاث عشرة سنة، فلما ظهر فرح الشعب وكل المدينة بمجيئه ولما علم عمرو بوصوله أمر بإحضاره بكرامة وإعزاز ومحبة، فلما رآه أكرمه وقال لأصحابه إن في جميع الكور التي ملكناها إلى الآن ما رأيت رجلاً يشبه هذا وكان الأب بنيامين حسن المنظر جداً، وجيد الكلام بسكون ووقار، ثم التفت عمرو إليه وقال له: جميع بيعتك ورجالك اضبطهم ودبِّر أحوالهم وانصرف من عنده مكرّماً مبجلاً وعلق الأستاذ الشرقاوي على هذا اللقاء فقال: وقرَّب عمرو إليه البطريق بنيامين حتى لقد أصبح من أعز أصدقائه عليه، واطمأن العرب الفاتحون في مصر، وخطبهم أميرهم عمرو بن العاص في أول جمعة صلاها بجامعه بالفسطاط فقال: .. استوصوا بمن جاوركم من القبط، فإن لكم فيهم ذمة وصهراً، فكفوا أيديكم، وعفُّوا وغضوا أبصاركم(2).
__________
(1) فتوح مصر وأخبارها ص73،74 .
(2) الفاروق ص247 .(2/85)
المبحث الرابع: أهم الدروس والعبر والفوائد في فتوحات الفاروق:
أولاً: طبيعة الفتح الإسلامي:
حاول بعض المؤرخين من النصارى والمستشرقين تشويه الفتح الإسلامي في العصر الراشدي وزعموا أن الفتوحات كانت حروباً دينية وقالوا: إن المسلمين أصحاب عقيدة، ولكنهم توسلوا بالتعصب الأعمى، وأخضعوا الناس لمبادئهم بالقهر والإرغام، وخاضوا إلى ذلك بحار الدم والقسوة، وأنهم كانوا يحملون القرآن بإحدى يديهم، والسيف باليد الأخرى(1)، وممن ركز منهم على هذه الفكرة، (سيديو) و(ميور) و(نيبور). إذ ينقل (ميور) عن نيبور قوله: وكان من الضروري لدوام الإسلام أن يستمر في خطته العدوانية وأن ينفذ بحد السيف ما يطالب به من دخول الناس في الإسلام كافة، أو بسط سيطرته العالمية على الأقل، غير أنه لا مناص لأيّ من الأديان أن يجنح أتباعه للحرب في إحدى مراحل حياته، وكذلك كان الحال في الإسلام، ولكن الزعم أن المسلمين هدفوا إلى بث الدعوة بالقوة، أو أنهم كانوا أكثر عدواناً من غيرهم، زعم يجب إنكاره إنكاراً تاماً(2)، وقد ردّ بعض المستشرقين على هذه التهم ووصفوا الفتح الإسلامي بالمثل العالية والأخلاق الكريمة فهذا فون كريمر يقول: وكان العرب المسلمون في حروبهم مثال الخلق الكريم، فحرم عليهم الرسول(3)، قتل الرهبان، والنساء، والأطفال، والمكفوفين، كما حرم عليهم تدمير المزارع، وقطع الأشجار، وقد اتبع المسلمون في حروبهم هذه الأوامر بدقة متناهية، فلم ينتهكوا الحرمات، ولا أفسدوا الزروع، وبينما كان الروم يرمونهم بالسهام المسمومة، فإنهم لم يبادلوا أعداءهم جرماً بجرم، وكان نهب القرى وإشعال النار قد درجت عليها الجيوش الرومانية في تقدمها وتراجعها، أما المسلمون فقد احتفظوا بأخلاقهم المثلى فلم يحاولوا من
__________
(1) تاريخ العرب العام، سيديو ص133 .
(2) فتح مصر بين الرؤية الإسلامية والرؤية النصرانية ص126 .
(3) الرسول r لا يحرم من تلقاء نفسه بل بالوحي الإلهي.(2/86)
هذا شيئاً(1)، وقال روزنتال: وقد نمت المدينة الإسلامية بالتوسع لا بالتعمق داعية إلى العقيدة، مناقشة لتلك الحركات الفكرية الموجودة وفوق كل ذلك تقدم الإسلام فتهاوت الحواجز القديمة من اللغة والعادات، وتوفرت فرصة نادرة لجميع الشعوب والمدنيات لتبدأ حياة فكرية جديدة على أساس المساواة المطلقة، وبروح المنافسة الحرة(2).
إن الحقيقة التاريخية تقول بأن المسلمين لم يكرهوا أحداً على اعتناق الإسلام لأنهم قد التزموا بقول الله تعالى: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(256) } (البقرة،آية:256).
__________
(1) الإسلام وحركة التاريخ أنور الجندي ص83 .
(2) علم التاريخ عند المسلمين، ترجمة صالح أحمد العلي ص46 .(2/87)
وأما إقبال الشعوب على الإسلام فكان بسبب ما لمسوه في الإسلام نفسه، فهو النعمة العظيمة، ولما لمسوه في المسلمين من التخلق بأخلاق الإسلام والالتزام بأحكامه وأوامره ونواهيه ولما لمسوه في القادة والجند الذين كانوا يقومون بالدعوة بالتطبيق العملي، فتميزت مواقفهم بأنبل المواقف التي عرفها التاريخ العالمي، فقد كان الخلفاء والقادة يوصون جندهم بالاستعانة بالله، والتقوى، وإيثار أمر الآخرة على الدنيا، والإخلاص في الجهاد، وإرادة الله في العمل، والابتعاد عن الذنوب، فكانت فيهم الرغبة الأكيدة الملحة لإنقاذ الأمم والإفراد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ونقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، فكان قادة المسلمين على رأس جندهم يتلقون الصدمات الأولى في معارك الجهاد، واستشهد عدد كبير منهم، وقد كان القادة يسيرون خلف جندهم في وقت الأمن والعودة يرفقون بهم ويحملون الكلأ ويعينون الضعيف وكان القادة دعاة في المقام الأول، طبقوا مبادئ الحرب الإسلامي تماماً والحق أن المسلمين كانوا يخوضون جهاداً في سبيل الله، وليس حرباً كما كانت تفعل الدول الأخرى(1).
ثانياً: الطريقة العمرية في اختيار قادة الجيوش:
كانت للفاروق طريقة متميزة في اختيار قادة الفتح، فقد وضع عدة شروط وضوابط لاختيار قادة جنده وهي كالآتي:
1- أن يكون تقياً ورعاً عالماً بأحكام الشريعة:
وكان يقول ويردد: من استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله(2)، ولما أرسل إلى سعيد بن عامر ليستعمله على بعض الشام، فأبى عليه، فقال عمر: كلا والذي نفسي بيده لا تجعلونها في عنقي وتجلسون في بيوتكم(3).
2- أن يشتهر القائد بالتأني والتروي:
__________
(1) فتح مصر، الدكتور إبراهيم المتنَّاوي ص127 .
(2) موسوعة فقه عمر ص100 عن سيرة عمر لابن الجوزي ص67 .
(3) موسوعة فقه عمر ص100 عن مصنف عبد الرزاق (11/348).(2/88)
لما ولَّى عمر رضي الله عنه أبا عبيد الثقفي قال له: إنه لم يمنعني أن أؤمر سليطاً إلا سرعته إلى الحرب، وفي التسرع إلى الحرب ضياع إلا عن بيان والله لولا سرعته لأمرته ولكن الحرب لا يصلحها إلا المكيث(1).
3- أن يكون جريئاً، وشجاعاً ورامياً:
ولما أراد عمر أن يولي قائداً لجيوش المسلمين لفتح نهاوند(2) واستشار الناس فقالوا يا أمير المؤمنين أنت أعلم بأهل العراق وجندك قد وفدوا عليك، ورأيتهم وكلمتهم فقال: أما والله لأولين أمرهم رجلاً ليكوننّ أول الأسنّة(3) إذا لقيها غداً، فقيل من يا أمير المؤمنين؟ قال: النعمان بن مقرن المزنيِّ، فقالوا: هُوَ لها(4).
4- أن يكون ذا دهاء وفطنة وحنكة:
قال عمر رضي الله عنه: ولكم عليّ ألا ألقيكم في المهالك ولا أحجزكم في ثغوركم(5). ولما نزل عمرو بن العاص وجنده على الروم بموقعة أجنادين لفتحها وكان قائد الروم الأرطبون وهو أدهى الروم، وأبعدها غوراً، وأنكاها فعلاً، ووضع جنداً عظيماً بإيلياء والرملة وكتب عمرو إلى عمر بالخبر، فلما جاءه كتاب عمر قال: رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فانظروا عمّ تنفرج(6)، ولما أراد عمرو أن يجمع المعلومات عن الأرطبون وجيشه، حتى يضع خطته الحكيمة لمهاجمته، والانتصار عليه دخل بن العاص معسكر قائد الروم وكاد أن يقتل إلا أن الله نجاه وخدع عمرو بن العاص أرطبون الروم ولما وصل الأمر إلى عمر بن الخطاب. قال: غلبه عمرو لله عمرو(7).
5- أن يكون القائد لبقاً حاذقاً له رأي وبصر بالحروب:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/266).
(2) نهاوند: من بلاد الفرس قرب همذان.
(3) الأسنة: واحدة السنان أي سن الرمح.
(4) تاريخ الطبري (5/109).
(5) موسوعة فقه عمر ص109 .
(6) تاريخ الطبري (4/431).
(7) تاريخ الطبر (4/432).(2/89)
يقول صاحب المغني (ابن قدامة الحنبلي) في كلامه عن أمير الحرب: .. ويكون ممن له رأي وعقل ونجدة وبصر بالحرب ومكايدة للعدو، ويكون فيه أمانة ورفق ونصح للمسلمين(1). ولذلك اختار الفاروق سعد بن أبي وقاص لقيادة حرب العراق بعد أن استشار الناس.
6- الرغبة في العمل:
كان من خطة عمر رضي الله عنه أن لا يولِّي رجلاً عملاً لا رغبة له فيه ولا قناعة إلا إذا اضطر إلى ذلك ليكون العمل أكثر إتقاناً، فقد ندب الناس مرة وحثهم على قتال الفرس بالعراق، فلم يقم أحد ثم ندبهم في اليوم الثاني فلم يقم أحد، ثم ندبهم في اليوم الثالث وهكذا ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي، ثم تتابع الناس، فأمّر على الجميع أبا عبيد – وهو لذلك أهلٌ – ولم يكن صحابياً فقيل لعمر: هلا أمّرت عليهم رجلاً من الصحابة؟ فقال: إنما أومر عليهم من استجاب(2)، وقد تجسدت هذه الصفات في كل من سعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص رضي الله عنهم وغيرهم كثير.
ثالثاً: حقوق الله، والقادة والجند من خلال رسائل الفاروق:
حقوق الله: كان الفاروق رضي الله عنه يرشد قادته وجنوده من خلال رسائله ووصاياه إلى أهمية التزامهم بحقوق الله والتي من أهمها:
__________
(1) المغني لابن قدامة (8/352).
(2) البداية والنهاية (7/26).(2/90)
1- مصابرة العدو: قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(200) } (آل عمران،آية:200). وكان مما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصبر لسعد بن أبي وقاص حين بعث به إلى العراق: واعلم أن لكل عادة عتاداً، فعتاد الخير الصبر، فالصبر على ما أصابك أو نابك، يجتمع لك خشية الله(1)، كما كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح وهو بالشام قائلاً: لقد أثنى الله على قوم بصبرهم. فقال: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(147) فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(148) } (آل عمران،آية:146،147،148). فأما ثواب الدنيا فالغنيمة والفتح وأما ثواب الآخرة فالمغفرة والجنة واقرأ كتابي هذا على الناس ومرهم فليقاتلوا في سبيل الله وليصبروا كيما يؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة(2).
2- أن يقصدوا بقتالهم نصرة دين الله: فقد استوعب الفاروق رضي الله عنه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله(3)، فنجد حياته وتوصياته ورسائله يهيمن عليها هذا المعنى العظيم.
__________
(1) تاريخ الطبري (4/306).
(2) تاريخ فتوح الشام ص183 .
(3) البخاري رقم 2655 .(2/91)
3- أداء الأمانة: قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(161) }
(آل عمران،آية:161). فمن وصايا الفاروق رضي الله عنه للقادة والعسكر في عدم الغلول قوله: (إذا لقيتم العدو فلا تفروا، وإذا غنمتم فلا تغلوا)(1).
4- عدم الممالأة والمحاباة في نصرة دين الله: ومن مشهور قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المحاباة والمودة: من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يستعمله إلا لذلك فقد خان الله ورسوله، ومن استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله(2).
حقوق القائد: وبين الفاروق في رسائله وتوجيهاته حقوق القائد والتي منها.
1- إلتزام طاعته: فحين بعث الفاروق بأبي عبيد بن مسعود الثقفي على رأس جيش نحو العراق أرسل برفقته سلمة بن أسلم الخزرجي وسليط بن قيس الأنصاري رضي الله عنهما وأمره أن لا يقطع أمراً دونهما وأعلمه أنهما من أهل بدر ثم إن
أبا عبيد حارب الفرس بموقعة الجسر وقد أشار عليه سليط أن لا يقطع الجسر
ولا يعبر إليهم فلم يسمع له مما أدى إلى هزيمة عسكر المسلمين فقال سليط في بعض قوله: لولا أني أكره خلاف الطاعة لأنحزت بالناس ولكني أسمع وأطيع وإن كنت قد أخطأت وأشركني عمر معك(3).
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص85 .
(2) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (1/66).
(3) مروج الذهب (2/315،316).(2/92)
2- أن يفوضوا أمرهم إلى رأيه: قال تعالى: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً(83) } (النساء،آية:83). جعل الله تفويض الرعية الأمر إلى ولي الأمر سبباً لحصول العلم وسداد الرأي، فإن ظهر لهم صواب خفي عليه بينوه له وأشاروا به عليه ولذلك ندب إلى المشاورة ليرجع بها إلى الصواب(1)، وقد جعل عمر رضي الله عنه للعسكر أميراً واحداً يفوضون أمرهم إلى رأيه ويكلونه إلى تدبيره حتى
لا تختلف أراؤهم فتختلف كلمتهم(2) ففي السنة التي بعث فيها الفاروق بجيوش المسلمين إلى نهاوند وأمرهم بالتجمع هنالك كان الجيش يتألف من جند أهل المدينة المنورة من المهاجرين والأنصار وفيهم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وجند أهل البصرة بقيادة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وجند أهل الكوفة بقيادة حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وبعد تجمعهم كتب إليهم الفاروق رضي الله عنه: إذا التقيتم فأميركم النعمان بن مقرن المزني(3).
__________
(1) الأحكام السلطانية ص48 .
(2) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية نشأتها وتطورها (1/100).
(3) المصدر نفسه (1/100).(2/93)
3- المسارعة إلى امتثال أمره: وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أول عمل قام به هو ندب الناس إلى فارس حيث أخذ يدعوهم لمدة ثلاثة أيام ولم يستجب أحد وفي اليوم الرابع كان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي مما أدى بعمر رضي الله عنه أن يوليه ذلك البعث بالرغم من وجود صحابة رسول الله لأنه سارع إلى تلبية النداء(1)، وعندما وجه الفاروق عتبة بن غزوان إلى البصرة قال ناصحاً إياه ومذكراً له بقوله: اتق الله فيما وليت وإياك أن تنازعك نفسك إلى كبر يفسد عليك إخوتك وقد صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعززت به بعد الذلة، وقويت به بعد ضعف حتى صرت أميراً مسلطاً وملكاً مطاعاً تقول فيسمع منك وتأمر فيطاع أمرك فيا لها من نعمة إن لم ترفعك فوق قدرك وتبطرك عن من دونك(2).
__________
(1) المصدر نفسه (1/113).
(2) المصدر نفسه (1/114).(2/94)
4- عدم منازعته في شيء من قسمة الغنائم: ومما قاله عمر بن الخطاب حول قسمة الغنائم: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار فإني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم ويقسموا فيئهم ويعدلوا عليهم فمن أشكل عليه شيء رفعه إليّ(1)، فمن ذلك في فتح الأبلة(2) عندما تم تقسيم الغنائم بين الجند كان نصيب أحدهم قدراً من نحاس فلما صار بيده تبين أنه من ذهب وعرف ذلك الجند فشكوا إلى أمير الجند(3)، فأشكل ذلك عليه فكتب بدوره إلى عمر رضي الله عنه يخبره بذلك فأتاه الرد بقوله: أصر على يمينه بأنه لم يعلم أنها ذهب إلا بعد أن صارت إليه فإن حلف فأدفعها إليه وإن أبى فأقسمها بين المسلمين فحلف فدفعها إليه(4)، وعندما جمعت الغنائم في معركة جلولاء ذكر جرير بن عبد الله البجلي أن له ربع ذلك كله هو وقومه فكتب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: صدق جرير قد قلت له، فإن شاء أن يكون قاتل هو وقومه على جعل المؤلفة قلوبهم فأعطهم جعلهم، وإن كانوا إنما ما قاتلوا إلا لله ولدينه واحتسبوا ما عنده فهم من المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فلما قدم الكتاب على سعد أخبر جريراً بذلك، فقال جرير: صدق أمير المؤمنين وبر لا حاجة لنا إلى الربع بل نحن من المسلمين(5).
حقوق الجند: وقد بين الفاروق في رسائله ووصاياه حقوق الجند والتي منها:
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص50 .
(2) الأبلة: بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى في زاوية الخليج.
(3) الإدارة العسكرية (1/120).
(4) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص128 .
(5) الإدارة العسكرية (1/121).(2/95)
1- إستعراضهم وتفقد أحوالهم: فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إدارته أنه قال: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة فذاك لأن عمر كان مأموراً بالجهاد وهو أمير المؤمنين فهو أمير الجهاد فصار بذلك من بعض الوجوه بمنزلة المصلي الذي يصلي صلاة الخوف حال معاينة العدو(1)، وكان رضي الله عنه عندما يعقد الألوية لقادته وقبل سيرهم للغزو يستعرضهم ويوصيهم فمما كان يقول لهم: ائتزروا وارتدوا وانتعلوا واحتفوا وارموا الأغراض وألفوا الركب وانزوا على الخيل وعليكم بالمعدية – أو قال العربية – ودعوا التنعم وزي العجم ولن تخور قواكم ما نزوتم ونزعتم على ظهور الخيل ونزعتم بالقسي(2)، وهذا يظهر لنا مدى حرص الفاروق رضي الله عنه في الاستعداد وإظهار القوة واحتذى قادته حذوه في صف واستعراض العسكر وإبراز القوة للعدو سواء في المعارك الحربية أو أثناء الاستعداد لها، فكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يخطب الجند بمصر في صلاة الجمعة ويحثهم على إسمان دوابهم ويتوعدهم إن لم يفعلوا ذلك بحط الفريضة عنهم يوم العرض فمن قوله: ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه واعلموا إني معرض الخيل كاعتراض الرجال فمن أهزل فرسه من غير علة حططت من فريضته قدر ذلك(3)، وعندما لقي معاوية عمر رضي الله عنهما عند قدومه الشام وجد أبهة الملك وزيه من العديد والعدة فاستنكر عليه ذلك وقال له: أكسروية يا معاوية؟ قال: يا أمير المؤمنين أنا في ثغر تجاه العدو وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجة فسكت ولم يخطئه لما اجتمع عليه بمقصد من مقاصد الحق والدين(4).
__________
(1) الفتاوى (22/609).
(2) نهاية الأرب (6/168).
(3) فتوح مصر لابن عبد الحكم ص141 .
(4) الإدارة العسكرية (1/137) نقلاً عن المقدمة.(2/96)
2- الرفق بالجند في السير: وقد كتب الفاروق إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما قائلاً: وترفق بالمسلمين في مسيرهم ولا تجشمهم مسيراً يتعبهم ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس والكراع، وأقم بمن معك في كل جمعة يوماً وليلة حتى تكون لهم راحة يحيون فيها أنفسهم ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح(1)..، وحين بعث الخليفة عمر رضي الله عنه بمدد إلى جند الشام حمل ضعيفهم وزودهم وأمر عليهم سعيد بن عامر، وعندما هم بالمسير قال عمر على رسلك حتى أوصيك، ثم سار عمر نحو الجيش راجلاً وقال له: يا سعيد وليتك هذا الجيش ولست بخير رجل فيهم إلا أن تتقي الله، فإذا سرت فأرفق بهم ما استطعت ولا تشتم أعراضهم ولا تحتقر صغيرهم ولا تؤثر قويهم ولا تتبع سواك ولا تسلك بهم المغاور واقطع بهم السهل ولا ترقد بهم على جادة(2) الطريق والله تعالى خليفتي عليك وعلى من معك من المسلمين(3).
3- أن يتصفحهم عند مسيرهم: فقد كان الفاروق يتصفح الجيوش عند مسيرهم ويوصيهم بالأخلاق الرفيعة والقيم العظيمة، فقد أمر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بالوفاء مع الأعداء حين طلبهم للأمان وأن لا يغدروا وبين له أن الخطأ في الغدر هلكة ووهن له وقوة للأعداء وحذره أن يكون شيناً على المسلمين وسبباً لتوهينهم(4).
4- عدم التعرض عند اللقاء لمن خالفه منهم لئلا يحصل افتراق الكلمة والفشل:
ومن وصايا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأمرائه وقادته في هذا الباب قوله: لا يجلدن أمير جيش ولا سرية أحداً الحد حتى يطلع الدرب لئلا تحمله حمية الشيطان أن يلحق بالكفار(5).
__________
(1) نهاية الأرب (6/169).
(2) الجادة: معظم الطريق والجمع جواد.
(3) تاريخ فتوح الشام ص186 للأزدي.
(4) الإدارة العسكرية (1/179).
(5) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص131 .(2/97)
وعندما بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالقائد سلمان بن ربيعة الباهلي على رأس جيش كان برفقته عمرو بن معديكرب وطليحة بن خويلد الأسدي وحدثت بين عمرو بن معديكرب وسلمان بن ربيعة أمور بلغت عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر قائلاً: أما بعد: فقد بلغني صنيعك بعمرو وإنك لم تحسن بذلك ولم تجمل فيه فإذا كنت بمثل مكانك في دار الحرب فانظر عمراً وطليحة وقربهما منك واسمع منهما فإن لهما بالحرب علماً وتجربة وإذا وصلت إلى دار السلم فأنزلهما منزلتهما التي أنزلا أنفسهما بها وقرب أهل الفقه والقرآن(1)، وكتب إلى عمرو بن معديكرب: أما بعد فقد بلغني إفحامك لأميرك وشتمك له، وإن لك لسيفاً تسميه الصمصامة وإن لي سيفاً أسميه المصمم وإني أحلف بالله لو قد وضعته على هامتك
__________
(1) الأوائل للعسكري (2/45).(2/98)
لا أرفعه حتى أقدك به، فلما جاء الكتاب لعمرو قال: والله إن هم ليفعلن(1)، يتجلى من النصين السابقين فقه الفاروق فيما ينبغي أن يتحلى به القائد في دار الحرب من الإتلاف للقلوب وخاصة وهم بإزاء العدو، وأن على القائد أن يستشير من له خبرة بالحرب وهذا لا يعني انقطاع العلاقة والمودة بينهما حين عودة العسكر إلى دار السلام، وفي فتح الرها(2) على يد عياض بن غنم قدم عليه مدد من الشام بقيادة بسر بن أبي أرطأة العامري وجه به يزيد بن أبي سفيان بأمر من عمر رضي الله عنه وحدث بينهما خلاف وهم في دار الحرب وكان عياض مستغنياً عن المدد فطلب إليه الرجوع إلى الشام فكتب عمر رضي الله عنه إلى عياض طالباً منه أن يوضح له سبب إرجاعهم وخاصة وهم ما قدموا إلا لمساندتك ولإعلام العدو أن الأمداد متواترة إليك فتنكسر قلوبهم ويسارعوا إلى طاعتك، فأجابه عياض قائلاً: خشيت أن يحصل شيء من التمرد وتختلف قلوب العساكر ولما كنت غنياً عن مدده اعتذرت إليه وأمرته بالعودة هذا هو السبب في إعادته(3)، عندها صوبه عمر رضي الله عنه ودعا له وخاصة وهم بإزاء العدو حتى لا تفترق الكلمة ويتناحروا فيما بينهم ويحصل الفشل(4).
5- حراستهم من غرة يظفر بها العدو في مقامهم ومسيرهم:
اهتم الفاروق بأمر الحراسة ولذلك أمر قادته بالحرص والحذر من بيان العدو وأخذهم على غرة وطلب منهم إقامة الحرس في حلهم وترحالهم، فمن ذلك قوله لسعد بن أبي وقاص: أذك حراسك على عسكرك وتيقظ من البيان جهدك
__________
(1) المصدر نفسه (2/45).
(2) الرها: مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام.
(3) فتوح الشام ابن أعثم (1/253-255).
(4) الإدارة العسكرية (1/188).(2/99)
ولا تؤتى بأسير ليس له عقد إلا ضربت عنقه لترهب بذلك عدو الله وعدوك(1)، وكان رضي الله عنه يوصي قادته باتخاذ العيون وبث الطلائع عند بلوغ أرض العدو حتى يكونوا على علم ودراية بحالهم وبنواياهم، فمما كتبه إلى سعد بن أبي وقاص قوله: وإذا وطئت أرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم ولا يخفى عليك أمرهم وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تثق به وتطمئن إلى نصحه وصدقه فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه والغاش عين عليك ليس عيناً لك، وليكن منك عند دنوّك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم وتتبع الطلائع عوراتهم وانتق للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك وتخير لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدوا كان أول
__________
(1) نهاية الأرب (6/170).(2/100)
ما تلقاهم القوة من رأيك(1). ويتضح لنا من هذه الوصية القيمة أن الخليفة عمر رضي الله عنه لم تقتصر عنايته باتخاذ العيون على الأعداء بل اتخذها أيضاً في الجيوش الإسلامية في الرقابة الإدارية على الولاة والعمال والقادة والجند ليتعرف أحوالهم وسيرتهم ومعاملتهم وسير أعمالهم العسكرية، فقد كانت له عيون في كل جيش ومعسكر ترفع إليه تقريراً عما يدور فيه(2)، وعندما شكا عمير بن سعد الأنصاري إلى الخليفة عمر حين قدم عليه وكان على طائفة من أهل الشام قائلاً: يا أمير المؤمنين إن بيننا وبين الروم مدينة يقال لها عرب سوس(3)، وإنهم لا يخفون على عدونا من عوراتنا شيئاً ولا يظهروننا على عوراتهم، فقال له عمر: فإذا قدمت فخيرهم بين أن تعطيهم مكان كل شاة شاتين ومكان كل بعير بعيرين ومكان كل شيء شيئين فإن رضوا بذلك فأعطهم وخربها فإن أبوا فأنب إليهم وأجلهم سنة ثم خربها(4). ثم لما قدم عليهم عمير بن سعد عرض عليهم ذلك فأبوا فأجلهم سنة ثم خربها(5).
__________
(1) نهاية الأرب (6/169).
(2) الإدارة العسكرية (1/396).
(3) مدينة بالثغر من ناحية الحدث.
(4) فتوح البلدان للبلاذري (1/185).
(5) المصدر نفسه (1/185) ، الإدارة العسكرية (1/397).(2/101)
6- اختيار موضع نزولهم لمحاربة العدو: فقد كان الفاروق يوصي سعد بن أبي وقاص بأن لا يقاتل حتى يتعرف على طبيعة أرض المعركة كلها مداخلها ومخارجها ووفرة الماء والكلأ بها وما يجري مجرى ذلك(1)، كما كتب إليه قبل القادسية بأن يكون أدنى حجر من أرضهم لأنهم أعرف بمسالكها من عدوهم فمتى كانت الهزيمة استطاع التمكن من الانسحاب بالجند فينجوا من القتل فلا يستطيع العدو اللحاق بهم لجبنه من اتباعهم وعدم معرفته بطرقها(2)، وبالإضافة إلى ذلك فقد ولى الفاروق سعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان ريادة الجيش في اختيار موقع وموضع نزوله وإقامته، فقد قام الفاروق بتوزيع المهام الإدارية بين القادة(3)، وكان الفاروق يشترط في إدارته العسكرية على قادته عند اختيارهم لموضع نزولهم وإقامة معسكراتهم الحربية أن لا يفصلهم عن مقر القيادة العسكرية العليا ماء وذلك لما لها من مركزية في التخطيط ولتسهيل الإمداد والتموين(4)، كما كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح قائلاً: ولا تنزلهم منزلاً قبل أن تستريده لهم وتعلم كيف مأتاه(5).
__________
(1) نهاية الأرب (6/170) ، الإدارة العسكرية (1/205).
(2) الإدارة العسكرية (1/205).
(3) المصدر نفسه (1/206).
(4) الإدارة العسكرية (1/206).
(5) الإدارة العسكرية (1/207) نقلاً عن تاريخ الطبري.(2/102)
7- إعداد ما يحتاج إليه الجند من زاد وعلوفه: كان عمر رضي الله عنه يبعث لجند المسلمين بالعراق من المدينة المنورة بالتموين من الغنم والجزور(1)، وحمى النقيع والربذة(2)، للنعم التي يحمل عليها في سبيل الله، كما اتخذ في كل مصر على قدره خيولاً من فضول أموال المسلمين عدة لما يعرض فكان من ذلك بالكوفة أربعة آلاف فرس، وبالبصرة نحوُ منها، وفي كل مصر من الأمصار على قدره(3)، ثم حين قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالشام لمصالحة أهل بيت المقدس أنشأ إدارة لتموين الجيش عرفت باسم الأهراء(4)، وكان عمرو بن عبسة أول موظف عين لإدارة تموين الجيش(5).
8- تحريضهم على القتال: كتب الفاروق إلى أبي عبيدة يحرضه على الجهاد قائلاً: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى أمين الأمة
__________
(1) فتوح البلدان للبلاذري (2/314).
(2) الربذة: من قرى المدينة على ثلاثة أيام قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز.
(3) الإدارة العسكرية (1/217).
(4) الهرى: بيت كبير ضخم يجمع فيه طعام السلطان والجمع أهراء.
(5) الإدارة العسكرية (1/217).(2/103)
أبي عبيدة عامر بن الجراح سلام عليك فإني أحمد الله عز وجل سراً وعلانية وأحذركم من معصية الله عز وجل وأحذركم وأنهاكم أن تكونوا ممن قال الله في حقهم { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(24) } (التوبة،آية:24). وصلى الله على خاتم النبيين وإمام المرسلين والحمد لله رب العالمين(1)، فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة قرأه على المسلمين فعلموا أن أمير المؤمنين يحرضهم على القتال ولم يبق أحد من المسلمين إلا بكى من كتاب عمر بن الخطاب، كما كتب إلى سعد بن أبي وقاص بالعراق ومن معه من الأجناد يحرضهم على القتال ويمنيهم ويأمرهم الالتزام بالفضائل ويحذرهم من ارتكاب المعاصي(2)، هذا وكان من مهام أمراء الأعشار في إدارة الفاروق رضي الله عنه التحريض في القتال(3).
__________
(1) فتوح الشام للواقدي (1/117).
(2) الإدارة العسكرية (1/239).
(3) الإدارة العسكرية (1/239).(2/104)
9- أن يذكرهم بثواب الله وفضل الشهادة: ففي عصر الفاروق قام سعد بن أبي وقاص في القادسية يذكر جنده بثواب الله تعالى وما أعد لهم في الآخرة من النعيم ورغبهم في الجهاد وأعلمهم ما وعد الله نبيه من النصر وإظهار الدين وبين لهم ما سوف يكون بأيديهم من النفل والغنائم والبلاد وأمر القراء أن يقرأوا سورة الجهاد (الأنفال) (1)، كما قام أبو عبيدة بن الجراح في جند الشام خطيباً ومذكراً إياهم بثواب الله تعالى ونعيمه ومخبراً إياهم أن الجهاد خير لهم من الدنيا وما فيها(2)، كما اشتهر عن عمرو بن العاص قوله لجند فلسطين: من قتل شهيداً ومن عاش كان سعيداً وأمر الجند أن يقرأوا القرآن وحثهم على الصبر ورغبهم في ثواب الله وجنته(3).
10- أن يلزمهم بما أوجبه الله من حقوق: فقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص ومن معه من الأجناد يوصيه بقوله: أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي من احتراسكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله(4)…
__________
(1) تاريخ الطبري (4/356).
(2) الإدارة العسكرية (1/243).
(3) فتوح الشام (1/18،20).
(4) الفاروق عمر بن الخطاب، محمد رشيد رضا ص119 .(2/105)
11- أن ينهاهم عن الاشتغال بتجارة وزراعة ونحوها: فقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه مناديه أن يخرج إلى أمراء الأجناد في أن يبلغوا العسكر أن عطاءهم قائم وأن رزق عيالهم سائل وأن ينهوهم عن الزراعة حتى إنّه عاقب من لم يمتثل ذلك(1)، كل ذلك حرصاً من الفاروق رضي الله عنه بتفريغ الجند للجهاد ونشر الإسلام ولأن لا يلتصقوا بالأرض حين يزرعوا فيركنوا إلى ذلك ويصبح قلبهم منشغلاً، ولذلك استطاع عمر رضي الله عنه أن يوجد جنداً متفرغاً للقتال جاهزاً لوقت الحاجة والطلب وضمن عدم انتشارهم لجني الثمار والزراعة وما يتبعها من حصاد وحرث وتسويق(2).
رابعاً: اهتمامه بحدود الدولة:
__________
(1) الإدارة العسكرية (1/256).
(2) المصدر نفسه (1/257).(2/106)
كان عمر رضي الله عنه من خوفه على المسلمين وحدود الدولة الإسلامية لاتساعها وكرهه لقتال الروم يقول إذا ذكر الروم: والله لوددت أن الدرب جمرة بيننا وبينهم لنا ما دونه وللروم ما وراءه(1). وقال الشيء نفسه حول حدود الدولة الإسلامية نحو الفرس: لوددت أن بين السواد وبين الجبل سداً لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد، وإني أوثر سلامة المسلمين على الأنفال(2)، فأمر بإقامة قواعد عسكرية إسلامية لها عدة وظائف ومهام والتي سبق وأشرنا إلى بعض منها بالإضافة إلى كونها مراكز حربية في مواقع استراتيجية متقدمة على الحدود بينها وبين البلاد المفتوحة لترد أي عدوان خارجي وكمراكز تجمع للجند ولنشر الإسلام وكان في طليعتها مدينتا البصرة والكوفة في مجاورة الدولة الفارسية والفسطاط بمصر(3)، وثغور أخرى بسواحلها وسواحل الشام لرد هجمات الروم من البحر، وجند أربعة أجناد فيما بعد فيقال جند حمص وجند دمشق وجند الأردن وجند فلسطين حيث كانت لاختصاصهم حتى عرفوا بها وصارت لهم علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم لتسهيل عملية إدارتهم في المهمات العسكرية ولرعاية شؤونهم والتي كان منها العطاء(4)، هذا إلى جانب المعسكرات والتحصينات التي بالثغور والتي سبق إجلاء العدو عنها واستولى عليها المسلمون واتخذوها قواعد عسكرية لهم وأسكنوا بها جندهم لحماية حدود الدولة الإسلامية(5)، ثم صار المسلمون كلما تقدموا في الفتح أقاموا في نهاية توسعهم ثغراً يحرس الحدود يشحن بالجند المرابطين ويتولى أمره قائد من أكفأ القواد(6)، ومن أهم تلك الإجراءات التي اتخذها الفاروق رضي الله عنه بإقليم العراق والمشرق المسالح التي
__________
(1) تاريخ اليعقوبي (2/155).
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن الإدارة العسكرية (1/352).
(3) الإدارة العسكرية (1/452).
(4) فتوح البلدان (1/156).
(5) تاريخ التمدن، جرجي زيدان (1/179).
(6) الإدارة العسكرية (1/453).(2/107)
أقيمت بين المسلمين والفرس فحينما بلغ اجتماع الفرس على يزدجرد للقائد المثنى بن حارثة والمسلمين كتبوا إلى الخليفة عمر بذلك فجاءهم الرد بقوله: أما بعد فأخرجوا من بين ظهراني الأعاجم وتفرقوا في المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرضكم وأرضهم.. فنفذ المثنى الأمر(1)، كما أوصى الخليفة عمر رضي الله عنه سعداً قبل القادسية بقوله: وإذا انتهيت إلى القادسية فتكون مسالحك على أنقابها(2). وفي جلولاء كتب عمر رضي الله عنه إلى سعد: إن هزم الله الجندين، جند مهران وجند الأنطاق فقدم القعقاع بن عمرو بثغر حلوان بجنود المسلمين لحماية المنطقة والحفاظ عليها من تقدم الأعداء وحتى يكون ردءاً لإخوانه من جند المسلمين الغازي منهم والمقيم(3)، لذا كان القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بالعراق يطلب من الجند ويحثهم على التقدم نحو الفرس مخبراً إياهم أن الثغور والفروج قد سدت بقوله: ليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه كفاكموهم أهل الأيام وعطلوا ثغورهم وأفنوا ذاتهم(4)، والملاحظ أن هذه المسالح في عهد الفاروق لا تنشأ إلا بأمر من القيادة العليا المركزية للإدارة العسكرية وذلك في قول الخليفة عمر لقادة المسالح: اشغلوا فارس عن إخوانكم وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم وأقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمري(5)، وقد بلغت ثغور الكوفة وحدها في عهد الفاروق أربعة ثغور هي: ثغور حلوان وعليه القعقاع بن عمرو التميمي، وثغر ماسبذان وعليه ضرار بن الخطاب الفهري، وثغر قرقيسيا(6) وعليه عمر بن مالك الزهري، وثغر الموصل وعليه عبد الله بن المعتم العبسي وكان لكل قائد من هؤلاء من ينوب عنه في ثغره لإدارته إذا توجه لمهمة
__________
(1) الإدارة العسكرية (1/453).
(2) المصدر نفسه (1/453).
(3) المصدر نفسه (1/454) نقلاً عن الطبري.
(4) المصدر نفسه (1/454).
(5) المصدر نفسه (1/454).
(6) بلد على نهر الخابور قرب مالك بن طوق وعندها مصب الخابور في الفرات.(2/108)
ما، ومن الجدير بالذكر أن جند المسلمين لا يبنون الثغور حصناً ولا يمصرون مدينة إلا وأقاموا المسجد في المقدمة لما له من دور دعوي وتربوي وجهادي كما هو معروف(1)، وأما فيما يتعلق بحماية الحدود بين الروم والمسلمين في الجبهة الشامية في عهد عمر رضي الله عنه، فقد بدأت عنايته بها أيضاً منذ الفتح الإسلامي لبلاد الشام حيث اتخذ لذلك إجراءات دفاعية كثيرة ومتعددة لحماية المنطقة، منها بناء المناظر وإقامة الحرس واتخاذ المسالح به وتحصين المدن الساحلية إلى جانب الرباطات الدائمة بالإضافة إلى الحصون المفتوحة وترتيب المقاتلة فيها أي الجند الغازي وسياسة التهجير أو النواقل وجمعه الساحل الشامي كله تحت إدارة عسكرية موحدة ففي السنة التي سار فيها عمر بنفسه إلى بلاد الشام لتوقيع الصلح مع أهل بيت المقدس تفقد بعض الثغور الشامية ووضع بها الحاميات والمسالح ورتب بها أمراء الأخبار والقادة وسد فروجها ومسالحها وأخذ يدور بها ليرى احتياجاتها الدفاعية(2)، ثم رجع إلى المدينة وخطب الناس قبل رجوعه قائلاً: ألا قد وليت عليكم وقضيت الذي علي في الذي ولاني الله من أمركم إن شاء الله قسطنا بينكم فيئكم ومنازلكم ومغازيكم وأبلغنا ما لديكم فجندنا لكم الجنود وهيأنا لكم الفروج وبوأنا لكم ووسعنا عليكم
ما بلغ فيئكم وما قاتلتم عليه من شامكم وسمينا لكم أطماعكم وأمرنا لكم بأعطياتكم وأرزاقكم ومغانكم فمن علم علم شيء يينبغي العمل به فبلغنا نعمل به إن شاء الله
ولا قوة إلا بالله(3)، وعندما فتح أبو عبيدة بن الجراح ثغر انطاكية بالحدود الشامية الشمالية كتب إليه الخليفة عمر رضي الله عنه قائلاً: أن رتب بإنطاكية جماعة من المسلمين أهل نيات وحسبة وأجعلهم بها مرابطة ولا تحبس عنهم العطاء(4)، فنقل
__________
(1) الإدارة العسكرية (1/455).
(2) الإدارة العسكرية (1/457).
(3) تاريخ الطبري (4/40).
(4) فتوح البلدان (1/175).(2/109)
أبو عبيدة قوماً من أهل حمص وبعلبك مرابطة بها لحماية حدود المنطقة من أي عدوان خارجي وعين على الثغر حبيب بن مسلمة الفهري الذي اتخذ من ثغر إنطاكية قاعدة لانطلاقه لغزو ما خلف الحدود الإسلامية فمنها كان يأتي المدد للخطوط الأمامية في الجبهة الرومية وكان منها غزوة للجرجومة(1) التي صالح أهلها على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيوناً ومسالح في جبل اللكام ضد الروم(2)، وكذلك عندما سار أبو عبيدة إلى ثغر بالس(3) رتب به جماعة من المقاتلين وأسكنه قوماً من عرب الشام الذين أسلموا بعد قدوم المسلمين لحفظ الثغر وضبطه من هجمات الروم(4)، ومن التحصينات والوسائل الدفاعية التي اتخذها الوالي معاوية بن أبي سفيان لحماية الحدود الإسلامية لسواحل الشام في نهاية عهد عمر بن الخطاب بداية الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنهما هو قيامه ببناء عدة حصون مثل أطرسوس(5)، ومرقية(6)، وبلنياس(7)، وبيت سليمة، بالإضافة إلى قيامه بتطوير الحصون التي استولى عليها الجند المسلمين بسواحل الشام وشحنها جميعاً بالجند المقاتلة وأقطعهم القطائع بها وبنى المناظير ووضع بها الحرس لمراقبة اقتراب العدو فتقوم كل منظرة بإشعال النار لإخبار الأخرى التي تليها إلى أن يصل الخبر إلى المدينة والثغر والمسلحة في زمن قليل فيسرعون نحو الجبهة التي أقبل منها العدو للتصدي له ومنعه من التسلل(8)، وفيما يتعلق بحماية الحدود بين المسلمين والروم في الجبهة المصرية لإدارة عمر رضي الله عنه، فقد شملتها
__________
(1) الجرجومة: يقال لأهلها الجراجمة على جبل اللكام بالثغر الشامي.
(2) معجم البلدان (2/123).
(3) بالس: بلدة بالشام بين حلب والرقة.
(4) فتوح البلدان للبلاذري (1/224).
(5) بلد من سواحل بحر الشام وهي آخر أعمال دمشق من البلاد الساحلية.
(6) مرقية: قلعة حصينة في سواحل حمص.
(7) بلنياس: كورة ومدينة صغيرة وحصن بسواحل حمص على البحر.
(8) فتوح البلدان (1/150 إلى 158).(2/110)
الرعاية والعناية كمثيلاتها من الجبهات الأخرى فقد أمر عمرو بن العاص ببناء الفسطاط كقاعدة عسكرية أولى لإيواء جند المسلمين بالمنطقة وجعل لكل قبيلة محرساً وعريفاً فمنها كان المنطلق في الفتوحات الإسلامية لشمال أفريقيا بالإضافة إلى كونها إحدى الحاميات الدفاعية المهمة للثغر المصري إلى ما هنالك من مهام تضطلع بها واشترط عمر رضي الله عنه في موقعها، كما اشترط في مواقع القواعد السابقة بأن لا يفصل بينها وبين القيادة العليا المركزية بالمدينة ماء حتى يكون الاتصال بينهما مستمراً وميسرا(1)ً وكان عمرو بن العاص يذكر جنوده بأن مقامهم بمصر عبارة عن رباط وذلك في قوله: اعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم وتشوق قلوبهم إليكم وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية، وفي الفترة التي استولى فيها جند المسلمين على الحصون والمسالح التي بالثغر المصري قاموا بتجديدها وترميمها والاستفادة منها في مرابطتهم حيث شحنوها بالجنود وكان العريش أول مسالح مصر وأعمالها(2)، وقد أمر الفاروق بإقامة المسالح على سواحل مصر كلها(3)، وحينما فتح عمرو بن العاص ثغر الإسكندرية جعل به ألف رجل من أصحابه مسلحة به لحفظه وحمايته وكان عددهم لا يفي بالغرض المطلوب مما جعل الروم يعودون إليهم من البحر فقتلوا من قتلوا من أصحاب المسلحة وهرب من هرب فرجع إليهم عمرو بن العاص مرة أخرى وفتح الثغر وجعل من أصحابه لرباط الإسكندرية ربع الجيش كما جعل في السواحل الربع الآخر وأبقى معه بالفسطاط النصف الآخر(4)، وكان الفاروق يبعث في كل سنة غازية من أهل المدينة المنورة ترابط بثغر الإسكندرية ويكاتب الولاة بأن لا تغفل عنها وأن تكثف رابطتها، إضافة إلى
__________
(1) فتوح مصر لابن عبد الحكم، الإدارة العسكرية (1/462).
(2) تاريخ اليعقوبي ص330.
(3) البداية والنهاية (7/103).
(4) البحرية في مصر الإسلامية وآثارها الباقية سعاد ماهر ص77.(2/111)
من جعل بها عمرو بن العاص من المرابطين(1)، وبذلك استكمل عمر رضي الله عنه فقهه البعيد في حماية الحدود البرية وتحصينها في الجبهات الثلاث العراقية والشامية والمصرية(2)، ولم يقتصر الأمر على هذه الوسائل الدفاعية لحماية الحدود الإسلامية بل أنشأ عمر رضي الله عنه نظام الصوائف والشواتي وهي الحملات التي كانت تخرج بانتظام سنوياً كالدوريات المنظمة في فصل الصيف وفي فصل الشتاء(3)، ولم تقتصر حملات الشواتي والصوائف على ثغور بلاد الشام بل شملت كافة حدود الدولة الإسلامية حينئذ وكان يتولاها كبار القادة أمثال أبي عبيدة بن الجراح، ومعاوية بن أبي سفيان والنعمان بن مقرن وغيرهم كثير(4)، وكان الفاروق يزيد في الأرزاق والأعطيات للجنود الذين يبعثون إلى الثغور للمرابطة بها حتى تعينهم على تحمل بعدهم ويقطعهم القطائع بها(5)، ونرى قادة الفاروق رضي الله عنه في إدارتهم العسكرية للمعارك يقسمون لأهل المسالح من الفيء مثل الذي يقسم لهم لأنهم كانوا ردءاً للمسلمين لئلا يؤتوا من وجه من الوجوه(6)، وحين حضرت الخليفة عمر رضي الله عنه الوفاة قال موصياً الخليفة من بعده: وأوصي الخليفة من بعدي بأهل الأمصار خيراً فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو، وأن لا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم(7).
خامساً: علاقة عمر مع الملوك:
__________
(1) فتوح مصر ص192، الخطط للمقريزي (1/167).
(2) الإدارة العسكرية (1/464).
(3) المصدر نفسه (1/464).
(4) فتوح البلدان للبلاذري (1/194،195).
(5) الفن الحربي في صدر الإسلام عبد الرؤوف عون ص201، الإدارة العسكرية (1/465).
(6) الإدارة العسكرية (2/465)، تاريخ الطبري (4/134).
(7) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص219، 220.(2/112)
كانت علاقة الفاروق مع ملك الفرس حربية فقد توفي وجيوشه تطارد يزدجرد في بلاده وتدوخ ملكه وأما علاقته مع ملك الروم فقد استقر الصلح بين الدولتين منذ أتم عمر رضي الله عنه فتح الشام والجزيرة وجرت بينه وبين ملك الروم المكاتبات، وذكر مؤرخو العرب أن هذه المكاتبات كانت مع هرقل ولكن لم يذكروا هل كانت مع هرقل الأول الذي انتزع منه عمر بلاد الشام أم مع ابنه هرقل الثاني المعروف بهرقل قسطنطين لأن هرقل الأول توفي سنة (641م) الموافقة سنة (21هـ) وتولى الملك ابنه المذكور في هذه السنة أي قبل وفاة عمر رضي الله عنه بسنتين وسواء كانت المكاتبة والمراسلة مع هرقل الأول أو الثاني، فقد كانت الرسل تتردد بينهما بالمكاتبة وأن
أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزوج عمر بن الخطاب أرسلت مرة مع رسول جاء المدينة من قبل ملك الروم هدية من الطاف المدينة إلى إمبراطورة الروم امرأة هرقل وأرسلت لها هذه في نظيرها عقداً نفيساً من الجواهر، فأخذه منها عمر ورده إلى بيت المال وقد جاء في كتب التاريخ أن أم كلثوم أرسلت تلك الهدية مع بريد عمر(1).
سادساً: من نتائج الفتوحات العمرية:
إزالة الدولة الفارسية (الساسانية) من الوجود وفي الجانب المقابل حجمت الدولة الرومية (البيزنطية) ومن ثم انتهى ذلك الصراع الجاهلي الذي كان ناشباً بين الفرس والروم والذي جرّ شعوب المنطقة إلى حروب دامية أنهكت الدولتين معاً، لا لشيء إلا للمحافظة على مصلحة الزعامات في كلتا الدولتين.
2- وجود قيادة عالمية واحدة للمنطقة التي تقع في وسط الكرة الأرضية كلها الممتدة من حدود الصين شرقاً إلى المغرب غرباً، ومن بحر العرب جنوباً حتى آسيا الصغرى شمالاً، قيادة جديدة بمؤهلات لم تعهدها البشرية، فهي محكومة مثلها مثل بقية أبناء شعوب المنطقة بقيم ومثل ونظام.
__________
(1) تاريخ الطبري (5/259)، أشهر مشاهير الإسلام (2/359).(2/113)
3- هيمنة المنهج الرباني على جميع الناس، دون ضغط عليهم في تغيير معتقداتهم وديانتهم، ودون تفريق بين الأسود والأحمر والأبيض والأصفر، بل الناس كلهم أمام شرع الله سواء، ولا تفاضل بينهم إلا بالتقوى، ولمس الناس ثمار تطبيق شرع الله في حياتهم من الأمن والتمكين، والبركات، والسعة في الأرزاق وغيرها.
4- ظهر في دنيا الناس أمة الإسلام التي جمعت بين أفرادها عقيدة التوحيد، وشريعة المولى عز وجل وترفعت عن آصرة الأعراق والأنساب والاعتبارات الأرضية الأخرى، وبرز في هذه الأمة قيادات من كل الأجناس العرقية، فكان لها المكانة العالية في وسط هذه الأمة، ولم يوجد ما يشينها أو يغير من مكانتها في الأمة، ولهذا كانوا يقولون لمن يقاتلونهم: فإن أجبتم إلى ديننا خلّفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم بلادكم(1).
5- برزت حضارة ربانية متكاملة، ومتوازنة ومتناسقة ضمت بين أرجائها تفاعلات الأمم والشعوب المندرجة تحت شرع الله تعالى وقبلت في عضويتها العالم بأسره، أسوده وأصفره وأبيضه وفق المنهج الرباني، وأحكامه وأصبح الفاروق نموذجاً في قيادته الحضارية للبشرية في زمانه يعطينا صورة مشرقة للإنسان القوي المؤمن العالم، الذي يسخر كل إمكانات دولته وجنوده وأتباعه وعلومه ووسائله وأسبابه لتعزيز شرع الله وتمكين دينه وخدمة الإنسانية، وإعلاء كلمة الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الناس والمادة إلى عبادة الله، ونفذ قول الله تعالى: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الأمُورِ(41) } (الحج،آية:41).
__________
(1) دراسات في عهد النبوة للشجاع ص370 .(2/114)
لقد أنتجت الفتوحات الإسلامية حضارة إنسانية رفيعة في ظل دين الإسلام، وبذلك نستطيع أن نعرف الحضارة الربانية بأنها: تفاعل الأنشطة الإنسانية للجماعة الواحدة لخلافة الله في الأرض عبر الزمن، وضمن المفاهيم الإسلامية عن الحياة والكون والإنسان(1).
المبحث الخامس: الأيام الأخيرة في حياة الفاروق:
كان أمير المؤمنين الفاروق رضي الله عنه مثالاً للخليفة العادل المؤمن، المجاهد النقي الورع، القوي الأمين، الحصن المنيع للأمة وعقيدتها، قضى رضي الله عنه خلافته كلها في خدمة دينه وعقيدته وأمته التي تولى أمر قيادتها، فكان القائد الأعلى للجيش والفقيه المجتهد الذي يرجع الجميع إلى رأيه، والقاضي العادل النزيه، والأب الحنون الرحيم بالرعية، صغيرها وكبيرها، ضعيفها وقويها، فقيرها وغنيها، الصادق المؤمن بالله ورسوله، السياسي المحنك المجرب والإداري الحكيم الحازم، أحكم بقيادته صرح الأمة، وتوطدت في عهده دعائم الدولة الإسلامية، وتحققت بقيادته أعظم الانتصارات على الفرس في معارك الفتوح، فكانت القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند، وتمّ فتح بلاد الشام ومصر من سيطرة الروم البيزنطيين(2)، ودخل الإسلام في معظم البلاد المحيطة بالجزيرة العربية، وكانت خلافته سداً منيعاً أمام الفتن، وكان عمر نفسه باباً مغلقاً
لا يقدر أصحاب الفتن الدخول إلى المسلمين في حياته، ولا تقدر الفتن أن تطل برأسها في عهده(3).
أولاً: حوار بين عمر وحذيفة حول الفتن (واقتراب كسر الباب):
__________
(1) الإسلام والحضارة للندوة العالمية للشباب (1/90).
(2) الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني ص151 .
(3) الخلفاء الراشدون للخالدي ص77 .(2/115)
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كنّا عند بن الخطاب رضي الله عنه. فقال أيكم يحفظ حديث رسول الله في الفتنة؟ فقلت: أنا أحفظه كما قال! قال: هات، لله أبوك، إنك لجريء. قلت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال عمر: ليس هذا أريد. إنما أريد الفتن التي تموج كموج البحر! قلت: مالك ولها
يا أمير المؤمنين؟ إنّ بينك وبينها باباً مغلقاً!! قال: فيكسر الباب أو يفتح؟ قلت: لا. بل يُكسر!! قال: ذاك أحرى أن لا يغلق أبداً، حتى قيام الساعة!!! قال أبو وائل الراوي عن حذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال حذيفة: نعم. كما يعلم أن دون غد الليلة! إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط. قال أبو وائل: فهبنا أن نسأل حذيفة: من الباب؟ فقلنا لمسروق: سل حذيفة من الباب؟ فقال مسروق لحذيفة: من الباب؟ قال حذيفة: هو عمر(1)!!! إن حذيفة قدّم العلم لعمر رضي الله عنهم، بأن الباب المنيع هو الذي يمنع تدفق الفتن على المسلمين، ويحجرُها عنهم، إنَّ هذا سيُكسر كسراً، وسيتحطم تحطيماً، وهذا معناه أنه لن يغلق بعد هذا حتى قيام الساعة، وهذا ما فهمه عمر، أي أن الفتن ستبقى منتشرة ذائعة بين المسلمين، ولن يتمكَّنوا من إزالتها أو توقُّفها أو القضاء عليها، وحذيفة رضي الله عنه لا يقرر هذا من عنده، ولا يتوقعه توقعاً، فهو لا يعلم الغيب وإنما سمع هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعاه وحفظه كما سمعه، ولهذا يعلق على كلامه لعمر قائلاً:إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط. أي حدثته حديثاً صحيحاً صادقاً، لا أغاليط ولا أكاذيب فيه، لأنني سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ثم إن عمر رضي الله عنه يعلم الحقيقة التي أخبره بها حذيفة، فهو يعلم أن خلافته باب منيع يمنع تدفق الفتن على المسلمين، وأن
__________
(1) البخاري، ك الفتن رقم 7096 .(2/116)
الفتن لن تغزو المسلمين أثناء خلافته وعهده وحياته(1)،وكان عمر رضي الله عنه يعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه سيقتل قتلاً، وسيلقى الله شهيداً، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: صعد رسول الله جبل أحد، ومعه
أبو بكر و عمر وعثمان، فرجف الجبل بهم. فضربه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجله، وقال له: اثبت أُحُد: فإنما عليك نبيّ، وصديق، وشهيدان(2).
1- دعاء عمر في آخر حجة له سنة 23:
عن سعيد بن المسيب: أن عمر رضي الله عنه لما نفر من منى أناخ بالأبطح فكوم كومة من بطحاء، فألقى عليها طرف ثوبه، ثم استلقى عليها، ورفع يديه إلى السماء فقال: اللهم كُبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيّتي، فأقبضني غير مضيِّع، ولا مفرط، ثم قدم المدينة(3).
2- طلب الفاروق للشهادة:
عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد نبيك وجاء في رواية: اللهم قتلاً في سبيلك ووفاة في بلد نبيك. فقال عمر رضي الله عنه: وأنى يكون ذلك؟ قال: يأتي به الله إذا شاء(4) وقد علق الشيخ يوسف بن الحسن بن عبد الهادي على طلب عمر للشهادة فقال: وتمني الشهادة مستحب، وهو مخالف لتمني الموت فإن قيل: ما الفرق بينهما؟ قيل: تمني الموت، طلب تعجيل الموت قبل وقته، ولا يزيد الإنسان عمره إلا خيراً، وتمني الشهادة هو أن يطلب أن يموت عند انتهاء أجله شهيداً، فليس فيه طلب تقديم الموت عن وقته، وإنما فيه طلب فضيلة فيه(5).
3- رؤيا عوف بن مالك الأشجعي:
__________
(1) الخلفاء الراشدون للخالدي ص79.
(2) البخاري ك فضائل أصحاب النبي رقم 3675 .
(3) تاريخ المدينة وإسناده صحيح إلى سعيد بن المسيب (3/872).
(4) الطبقات لابن سعد (3/331) إسناده حسن، تاريخ المدينة (3/872).
(5) محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (3/791).(2/117)
قال عوف بن مالك الأشجعي: رأيت سبباً(1) تدلى من السماء، وذلك في إمارة
أبي بكر رضي الله عنه وأن الناس تطاولوا له، وأن عمر فضلهم بثلاثة أذرع، قلت: وما ذاك؟ قال: لأنه خليفة من خلفاء الله تعالى في الأرض، وأنه لا يخاف لومة لائم وأنه يقتل شهيداً قال: فغدوت على أبي بكر فقصصتها عليه فقال:
يا غلام انطلق إلى أبي حفص فادعه لي، فلما جاء قال: يا عوف اقصصها عليه كما رأيتها، فلما أتيت أنه خليفة من خلفاء الله تعالى قال عمر: أكل هذا يرى النائم؟ قال فقصها(2) عليه فلما ولي عمر أتى الجابية، وإنه ليخطب فدعاني فأجلسني، فلما فرغ من الخطبة قال: قص علي رؤياك. فقلت له: ألست قد جبهتني(3) عنها؟ قال: قد خدعتك أيها الرجل(4) وجاء في رواية: قال أولم تكذب بها؟ قال: لا ولكني استحييت من أبي بكر، فقصها علي(5). فلما قصصتها، قال: أما الخلافة فقد أوتيت ما ترى، وأما أن لا أخاف في الله لومة لائم، فإني أرجو أن يكون قد علم ذلك مني، وأما أن أقتل شهيداً، فأنى لي بالشهادة وأنا في جزيرة العرب(6).
4- رؤيا أبي موسى الأشعري حول وفاة عمر:
قال أبو موسى الأشعري قال: رأيت كأني أخذت جواداً كثيراً فجعلت تضمحل حتى بقيت واحدة، فأخذتها فانتهيت إلى جبل زلق، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنبه
أبو بكر، وإذا هو يومئ إلى عمر أن تعال، فقلت: ألا تكتب بها إلى عمر؟ فقال:
ما كنت لأنعي له نفسه(7).
5- آخر خطبة جمعة لعمر في المدينة:
__________
(1) سبباً: أي حبْلاً ، النهاية (2/329).
(2) محض الصواب (3/869).
(3) جبهه: كمنعه.
(4) تاريخ المدينة (3/868،869)، إسناده حسن فيه عبد الرحمن بن المسعودي. صدوق اختلط قبل موته التقريب رقم 3919 .
(5) الطبقات (3/331)، محض الصواب (3/868).
(6) محض الصواب (3/869).
(7) الطبقات لابن سعد (3/332) إسناده صحيح.(2/118)
وقد ذكر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بعض ما قاله عمر في خطبة الجمعة 21 ذي الحجة 23هـ وهي آخر خطبة له. وقد ذكرت ما قاله عبد الرحمن بن عوف من الخطبة عند حديثي عن كيفية استخلاف أبي بكر الصديق في كتابي الانشراح ورفع الضيق بسير أبي بكر الصديق. وقد أخبر عمر نفسه المسلمين عن رؤيا رآها، وعبّرها لهم. قال في نفس الخطبة: إني رأيت رؤيا، لا أراها إلا حضور أجلي. رأيت كأن ديكاً نقرني نقرتين!!! وإن قوماً يأمرونني أن أستخلف وأعين الخليفة من بعدي!! وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته، ولا الذي بعث به نبيّه، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض(1)!
6- اجتماع عمر مع حذيفة قبل طعنه:
قبل استشهاد الفاروق بأربعة أيام أي يوم الأحد 23 ذي الحجة قابل الصحابيين حذيفة بن اليمان وسهل بن حنيف رضي الله عنهما، وكان قد وظَّفَ حذيفة ليقدِّرَ خراج الأرض التي تُسقى بماء نهر دجلة، ووظَّفَ سهل بن حنيف ليقدِّر خراج الأرض التي تسقى بماء نهر الفرات. وقال لهما: كيف فعلتما؟ أخاف أن تكونا قد حمَّلتما الأرض ما لا تطيق. قالا: حمّلناها أمراً هي له مطيقة. فقال عمر: لئن سلّمني الله، لأدعنَّ أرامل أهل العراق لا يحتَجْنَ إلى رجل بعدي أبداً، ولكنه طعن في اليوم الرابع من هذه المحاروة بينه وبينهما(2).
7- منع الفاروق للسبايا من الإقامة في المدينة:
__________
(1) الموسوعة الحديثية مسند الإمام أحمد رقم 89 إسناده صحيح.
(2) الخلفاء الراشدون للخالدي ص82 ، البخاري رقم 3700 .(2/119)
كان عمر رضي الله عنه لا يأذن للسبايا في الأقطار المفتوحة بدخول المدينة المنورة، عاصمة دولة الخلافة، فكان يمنع مجوس العراق وفارس، ونصارى الشام ومصر من الإقامة في المدينة إلا إذا أسلموا ودخلوا في هذا الدين، وهذا الموقف يدل على حكمته وبعد نظره، لأن هؤلاء القوم المغلوبين المنهزمين حاقدون على الإسلام، مبغضون له، مهيئون للتآمر والكيد ضد الإسلام والمسلمين ولذلك منعهم من الإقامة فيها لدفع الشرِّ عن المسلمين ولكنّ بعض الصحابة رضي الله عنهم كان لهم عبيد ورقيق من هؤلاء السبايا النصارى أو المجوس، وكان بعضهم يلحُّ على عمر أن يأذن لبعض عبيده ورقيقه من هؤلاء المغلوبين بالإقامة في المدينة، ليستعين بهم في أموره وأعماله، فأذن عمر لبعضهم بالإقامة في المدينة، على كره منه ووقع
ما توقَّعه عمر، وما كان حذّر منه(1).
ثانياً: مقتل عمر وقصة الشورى:
1- مقتل عمر رضي الله عنه:
__________
(1) الخلفاء الراشدين للخالدي ص83 .(2/120)
قال عمرو بن ميمون: إني لقائم(1)، ما بيني، وبينه إلا عبد الله بن عباس، غداة أصيب وكان إذا مرّ بين الصفين، قال استووا، فإذا استووا ، تقدّم فكبّر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبَّر، فسمعته يقول: قتلني – أو أكلني – الكلب، حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين، لا يمرُّ على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه بُرْنساً، فلما ظنّ العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه – للصلاة بالناس – فمن يلي عمر، فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرُون، غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال عمر: يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعة، ثم جاء فقال: غلام المغيرة، قال: الصَّنَع(2)، قال: نعم، قال: قاتله الله لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيّتي بيد رجل يدّعي الإسلام قد كنت أنت وأبوك يريد العباس، وابنه عبد الله تحبّان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقاً، فقال عبد الله إن شئت، فعلت، أي: إن شئت قَتَلنا. قال: كذبت - أي: أخطأت – بعدما تكلموا بلسانكم، وصلّوا قبلتكم، وحجوا حجّكم. فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فأُتي بنبيذ(3) فشربه، فخرج من جوفه، ثمّ أتي بلبن فشربه فخرج من جُرْحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه.. وقال: يا عبد الله بن عمر انظر، ما عليّ من الدَّين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين
__________
(1) إني لقائم: أي: في الصف ينتظر صلاة الفجر.
(2) الصَّنَع: يشير إلى غلام المغيرة بن شعبة، أبو لؤلؤة، فيروز.
(3) المراد بالنبيذ المذكور، تمرة نبذت في ماء، أي نقعت فيه. كانوا يفعلون ذلك، لاستعذاب الماء.(2/121)
ألفاً أو نحوه، قال: إن وفى له مال آل عمر، فأدّه من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم، فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدّ عني هذا المال، وانطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل، يقرأ عليك عمر السلام،
ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يبقى مع صاحبيه.. فسلّم عبد الله بن عمر، واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السَّلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنّه به اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهمُّ إليّ من ذلك.. فإذا أنا قضيت فاحملني ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذن لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين. قال: فلما قبض خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلّم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت عائشة: أدخلوه، فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه(1)، وجاءت روايات أخرى فصلت بعض الأحداث التي لم تذكرها رواية عمرو بن ميمون قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن عمر رضي الله عنه طُعن في السحر، طعنه
__________
(1) البخاري، ك فضائل الصحابة رقم 3700 .(2/122)
أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وكان مجوسياً(1). وقال أبو رافع رضي الله عنه: كان أبو لؤلؤة عبداً للمغيرة بن شعبة وكان يصنع الأرحاء(2)، وكان المغيرة يستغله كل يوم أربعة دراهم، فلقي أبو لؤلؤة عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن المغيرة قد أثقل عليَّ غلتي، فكلِّمه أن يخفف عني. فقال عمر: اتق الله، وأحسن إلى مولاك، ومن نية عمر أن يلقى المغيرة فيكلمه يخفف عنه، فغضب العبد، وقال: وسع كلهم عدله غيري؟! فأضمر على قتله، فاصطنع خنجراً له رأسان، وشحذه، وسمّه، ثم أتى به الهُرْمُزان، فقال: كيف ترى هذا؟ قال: أرى أنك لا تضرب به أحداً إلا قتلته. قال: فتحين أبو لؤلؤة عمر، فجاءه في صلاة الغداة حتى قام وراء عمر، وكان عمر إذا أقيمت الصلاة يتكلم يقول: أقيموا صفوفكم، فقال كما كان يقول: فلما كبَّر، وجأه(3)، أبو لؤلؤة وجأةً في كتفه، ووجأة في خاصرته، فسقط عمر(4)، قال عمرو بن ميمون رحمه الله: سمعته لما طعن يقول: { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا } (الأحزاب،آية:38).
2- ابتكاره طريقة جديدة في اختيار الخليفة من بعده:
__________
(1) صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق ص369 .
(2) الأرحاء، جمع رحا، وهي التي يطحن بها.
(3) وجأه بالسكين وجاً: ضربه.
(4) صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق ص370 .(2/123)
استمر اهتمام الفاروق عمر رضي الله عنه بوحدة الأمة ومستقبلها، حتى اللحظات الأخيرة من حياته، رغم ما كان يعانيه من آلام جراحاته البالغة، وهي بلا شك لحظات خالدة، تجلى فيها إيمان الفاروق العميق وإخلاصه وإيثاره(1)، وقد استطاع الفاروق في تلك اللحظات الحرجة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد وكانت دليلاً ملموساً، ومعلماً واضحاً على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية. لقد مضى قبله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يستخلف بعده أحداً بنص صريح، ولقد مضى أبو بكر الصديق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصحابة ولما طلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت، فكر في الأمر ملياً وقرر أن يسلك مسلكاً آخر يتناسب مع المقام؛ فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الناس وكلهم مقر بأفضلية أبي بكر وأسبقيته عليهم فاحتمال الخلاف كان نادراً وخصوصاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجه الأمة قولاً وفعلاً إلى أن أبا بكر أولى بالأمر من بعده، والصدّيق لما استخلف عمر كان يعلم أن عند الصحابة أجمعين قناعة بأن عمر أقوى وأقدر وأفضل من يحمل المسؤولية بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة ولم يخالف رأيه أحد منهم، وحصل الإجماع على بيعة عمر(2)، وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد تعتمد على جعل الشورى في عدد محصور، فقد حصر ستة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم بدريون وكلهم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض وكلهم يصلحون لتولي الأمر ولو أنهم يتفاوتون وحدد لهم طريقة الانتخاب ومدته، وعدد الأصوات الكافية لانتخاب الخليفة وحدد الحكم في المجلس والمرجح إن تعادلت الأصوات وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس وعقاب من يخالف أمر الجماعة ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحد يدخل أو يسمع
__________
(1) الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني ص161 .
(2) أوليات الفاروق ص122 .(2/124)
ما يدور في مجلس أهل الحل والعقد(1)، وهذا بيان ما أجمل في الفقرات السابقة:
أ- العدد الذي حدده للشورى وأسماؤهم:
أما العدد فهو ستة وهم؛ علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعاً. وترك سعيد بن زيد بن نفيل وهو من العشرة المبشرين بالجنة ولعله تركه لأنه من قبيلته بني عدي(2).
ب- طريقة انتخاب الخليفة:
أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم ويتشاوروا وفيهم عبد الله بن عمر يحضرهم مشيراً فقط وليس له من الأمر شيء ويصلي بالناس أثناء التشاور صهيب الرومي وأمر المقداد بن الأسود وأبا طلحة الأنصاري أن يرقبا سير الانتخابات(3).
جـ- مدة الانتخابات أو المشاورة:
حددها الفاروق رضي الله عنه بثلاثة أيام وهي فترة كافية وإن زادوا عليها فمعنى ذلك أن شقة الخلاف ستتسع ولذلك قال لهم: لا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير(4).
د- عدد الأصوات الكافية لاختيار الخليفة:
لقد أمرهم بالاجتماع والتشاور وحدّد لهم أنه إذا اجتمع خمسة منهم على رجل وأبى أحدهم فليضرب رأسه بالسيف وإن اجتمع أربعة وفرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما(5).
__________
(1) أوليات الفاروق ص124 .
(2) البداية والنهاية (7/142).
(3) أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة ص648 .
(4) الطبقات لابن سعد (3/364).
(5) تاريخ الطبري (5/226).(2/125)
وهذه من الروايات التي لا تصح سنداً فهي من الغرائب التي ساقها أبو مخنف مخالفاً فيها النصوص الصحيحة وما عرف من سير الصحابة رضي الله عنهم، فما ذكره أبو مخنف من قول عمر لصهيب: وقم على رؤوسهم أي أهل الشورى فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان، فاضرب رؤوسهما(1): فهذا قول منكر وكيف يقول عمر رضي الله عنه هذا وهو يعلم أنهم هم الصفوة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضلهم وقدرهم(2)، وقد ورد عن ابن سعد أن عمر قال للأنصار: أدخلوهم بيتاً ثلاثة أيام فإن استقاموا وإلا فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم(3)، وهذه الرواية منقطعة وفي إسنادها (سماك بن حرب) وهو ضعيف وقد تغير بآخره(4).
والصحيح في هذا ما أخرجه ابن سعد بإسنادٍ رجاله ثقات أن عمر رضي الله عنه قال لصهيب: صل بالناس ثلاثاً وليخل هؤلاء الرهط في بيت فإذا اجتمعوا على رجل فمن خالفهم فاضربوا رأسه(5)، فعمر رضي الله عنه أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرهط ويشق عصا المسلمين ويفرق بينهم، عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: من أتاكم وأمركم جميع، على رجل واحد منكم، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه(6).
هـ- الحكم في حال الاختلاف:
__________
(1) تاريخ الطبري (5/226).
(2) مرويات أبي مخنق في تاريخ الطبري د.يحيى اليحيى ص175 .
(3) الطبقات (3/342).
(4) مرويات أبي مخنف من تاريخ الطبري ص176 .
(5) الطبقات (3/342).
(6) مسلم (3/1480).(2/126)
لقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم فحكّموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكم له، فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، ووصف عبد الرحمن بن عوف بأنه مسدد رشيد فقال عنه: ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف مسدد رشيد له من الله حافظ فاسمعوا منه(1).
و- جماعة من جنود الله تراقب الانتخابات وتمنع الفوضى:
طلب عمر أبا طلحة الأنصاري وقال له: يا أبا طلحة إن الله عز وجل أعز الإسلام بكم فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم(2)، وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم(3).
هكذا ختم حياته –رضي الله عنه- ولم يشغله ما نزل به من البلاء ولا سكرات الموت عن تدبير أمر المسلمين، وأرسى نظاماً صالحاً للشورى لم يسبقه إليه أحد،
ولا يشك أن أصل الشورى مقرر في القرآن والسنة القولية والفعلية وقد عمل بها رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- وأبو بكر ولم يكن عمر مبتدعاً بالنسبة للأصل ولكن الذي عمله عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة وحصر عدد معين جعلها فيهم وهذا لم يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا الصديق -رضي الله عنه- بل أول من فعل ذلك عمر ونعم ما فعل فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت(4).
ثالثاً: وصية عمر رضي الله عنه للخليفة الذي بعده:
__________
(1) تاريخ الطبري (5/225).
(2) المصدر نفسه (5/225).
(3) المصدر نفسه (5/225).
(4) أوليّات الفاروق السياسة ص127.(2/127)
أوصى الفاروق عمر -رضي الله عنه- الخليفة الذي سيخلفه في قيادة الأمة بوصية مهمة قال فيها: أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيراً أن تعرف لهم سابقتهم وأوصيك بالأنصار خيراً، فاقبل من محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأوصيك بأهل الأمصار خيراً، فإنهم ردء العدو، وجباة الفيء، لا تحمل منهم إلا عن فضل منهم وأوصيك بأهل البادية خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام أن تأخذ من حواشي أموالهم فترد على فقرائهم، وأوصيك بأهل الذمة خيراً، أن تقاتل من وراءهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدّوا ما عليهم للمؤمنين طوعاً، أو عن يد وهم صاغرون، وأوصيك بتقوى الله، والحذر منه، ومخافة مقته أن يطلع منك على ريبة وأوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله وأوصيك بالعدل في الرعية، والتفرغ لحوائجهم وثغورك، ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم، فإن في ذلك بإذن الله سلامة قلبك، وحطاً لوزرك، وخيراً في عاقبة أمرك حتى تفضي في ذلك إلى من يعرف سريرتك ويحول بينك وبين قلبك وآمرك أن تشتد في أمر الله، وفي حدوده ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذك في أحد الرأفة، حتى تنتهك منه مثل جرمه، واجعل الناس عندك سواء، لا تبال على من وجب الحق، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وإياك والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء على المؤمنين، فتجور وتظلم، وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك، وقد أصبحت بمنزلة من منازل الدنيا والآخرة، فإن اقترفت لدنياك عدلاً وعفة عما بسط لك اقترفت به إيماناً ورضواناً، وإن غلبك الهوى اقترفت به غضب الله، وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذّمة، وقد أوصيتك، وخصصتك ونصحتك فابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة، واخترت من دلالتك ما كنت دالاً عليه نفسي وولدي، فإن علمت بالذي وعظتك، وانتهيت إلى الذي أمرتك أخذت منه نصيباً وافراً وحظاً وافياً، وإن لم تقبل ذلك، ولم يهمك، ولم تترك معاظم الأمور(2/128)
عند الذي يرضى به الله عنك، يكن ذلك بك انتقاصاً، ورأيك فيه مدخولاً، لأن الأهواء مشتركة، ورأس الخطيئة إبليس داع إلى كل مهلكة، وقد أضل القرون السالفة قبلك، فأوردهم النار وبئس المورود، وبئس الثمن أن يكون حظ امرئ موالاة لعدو الله، الداعي إلى معاصيه، ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات، وكن واعظاً لنفسك، وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقرت عالمهم، ولا تضربهم فيذلوا، ولا تستأئر عليهم بالفيء فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلّها فتفقرهم، ولا تجمّرهم في البعوث فينقطع نسلهم ولا يجعل المال دُولة بين الأغنياء منهم، ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم هذه وصيتي إليك، وأشهد الله عليك، وأقرأ عليك السلام(1).
هذه الوصية تدل على بعد نظر عمر في مسائل الحكم والإدارة، وتفصح عن نهج ونظام حكم وإدارة متكامل(2)، فقد تضمنت الوصية أموراً غاية في الأهمية، فحق أن تكون وثيقة نفيسة، لما احتوته من قواعد ومبادئ أساسية للحكم متكاملة الجوانب الدينية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية يأتي في مقدمتها:
1- الناحية الدينية، وتضمنت:
الوصية بالحرص الشديد، على تقوى الله، والخشية منه في السر والعلن في القول والعمل، لأن من اتقى الله وقاه ومن خشيه صانه وحماه (أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له) (وأوصيك بتقوى الله والحذر منه.. وأوصيك أن تخشى الله.
__________
(1) الطبقات لابن سعد (3/339)، البيان والتبيين للجاحظ (2/46)، جمهرة خطب العرب (1/263-265)، الكامل في التاريخ (2/210)، الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني ص171، 172.
(2) الإدارة الإسلامية في عصر عمر بن الخطاب ص381.(2/129)
إقامة حدود الله على القريب والبعيد (لا تبال على من وجب الحق) (ولا تأخذك في الله لومة لائم) لأن حدود الله نصت عليها الشريعة فهي من الدين، ولأن الشريعة حجة على الناس، وأعمالهم وأفعالهم تقاس بمقتضاها، وأن التغافل عنها إفساد للدين والمجتمع.
الاستقامة (استقم كما أمرت) وهي من الضرورات الدينية والدنيوية التي يجب على الحاكم التحلي بها قولاً وعملاً أولاً ثم الرعية (كن واعظاً لنفسك) (وابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة).
2- الناحية السياسية، وتضمنت:
الالتزام بالعدل، لأنه أساس الحكم، وإن إقامته بين الرعية، تحقيق للحكم قوة وهيبة ومتانة سياسية واجتماعية، وتزيد من هيبة واحترام الحاكم في نفوس الناس (وأوصيك بالعدل) (واجعل الناس عندك سواء).
العناية بالمسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار لسابقتهم في الإسلام، ولأن العقيدة وما أفرزته من نظام سياسي، قام على أكتافهم، فهم أهله وحملته وحماته (وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيراً، أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيراً، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم.
3- الناحية العسكرية، وتضمنت:
الاهتمام بالجيش وإعداده إعداداً يتناسب وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه لضمان أمن الدولة وسلامتها، والعناية بسد حاجات المقاتلين (التفرغ لحوائجهم وثغورهم).
تجنب إبقاء المقاتلين لمدة طويلة في الثغور بعيداً عن عوائلهم وتلافياً لما قد يسببه ذلك من ملل وقلق وهبوط في المعنويات، فمن الضروري منحهم إجازات معلومة في أوقات معلومة يستريحون فيها ويجددون نشاطهم خلالها، من جهة، ويعودون إلى عوائلهم لكي لا ينقطع نسلهم من جهة ثانية (ولا تجمرهم في الثغور فينقطع نسلهم) (وأوصيك بأهل الأمصار خيراً، فإنهم ردء العدو).(2/130)
إعطاء كل مقاتل ما يستحقه من فيء وعطاء، وذلك لضمان مورد ثابت له ولعائلته يدفعه إلى الجهاد، ويصرف عنه التفكير في شؤونه المالية (ولا تستأثر عليهم بالفيء فتغضبهم ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم).
4- الناحية الاقتصادية والمالية، وتضمنت:
العناية بتوزيع الأموال بين الناس بالعدل والقسطاس المستقيم، وتلافي كل ما من شأنه تجميع الأموال عند طبقة منهم دون أخرى (ولا تجعل الأموال دولة بين الأغنياء منهم).
عدم تكليف أهل الذمة فوق طاقتهم إن هم أدوا ما عليهم من التزامات مالية للدولة (ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدّوا ما عليهم للمؤمنين).
ضمان الحقوق المالية للناس وعدم التفريط بها، وتجنب فرض ما لا طاقة لهم به (ولا تحمل منهم إلا عن فضل منهم) (أن تأخذ حواشي أموالهم فترد على فقرائهم) (1).
5- الناحية الاجتماعية، وتضمنت:
الاهتمام بالرعية، والعمل على تفقد أمورهم وسد احتياجاتهم وإعطاء حقوقهم من فيء وعطاء (ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها).
اجتناب الأثرة والمحاباة واتباع الهوى، لما فيها من مخاطر تقود إلى انحراف الراعي، وتؤدي إلى فساد المجتمع واضطراب علاقاته الإنسانية (وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله) (ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم).
احترام الرعية وتوقيرها والتواضع لها، صغيرها وكبيرها، لما في ذلك من سمو في العلاقات الاجتماعية، تؤدي إلى زيادة تلاحم الرعية بقائدها وحبها له (وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم ووقرت عالمهم).
الانفتاح على الرعية، وذلك بسماع شكاواهم، وإنصاف بعضهم من بعض وبعكسه تضطرب العلاقات بينهم ويعم الارتباك في المجتمع (ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم).
__________
(1) الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني ص174،175.(2/131)
اتباع الحق، والحرص على تحقيقه في المجتمع، وفي كل الظروف والأحوال، لكونه ضرورة اجتماعية لابد من تحقيقها بين الناس، (ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات) (واجعل الناس عندك سواء، لا تبال على من وجب الحق).
اجتناب الظلم بكل صوره وأشكاله، خاصة مع أهل الذمة، لأن العدل مطلوب إقامته بين جميع رعايا الدولة مسلمين وذميين، لينعم الجميع بعدل الإسلام (وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة).
الاهتمام بأهل البادية ورعايتهم والعناية بهم (وأوصيك بأهل البادية خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام) (1).
وكان من ضمن وصية عمر لمن بعده: ألا يقر لي عاملاً أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين(2).
رابعاً: اللحظات الأخيرة:
هذا ابن عباس رضي الله عنه يصف لنا اللحظات الأخيرة في حياة الفاروق حيث يقول: دخلت على عمر حين طُعنْ، فقلت: أبشر بالجنة، يا أمير المؤمنين، أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خذله الناس، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقُتلت شهيداً فقال عمر: أعد عليَّ، فأعدت عليه، فقال: والله الذي لا إله إلا هو، لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع(3)، وجاء في رواية البخاري، أما ما ذكرت من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضاه فإن ذلك من الله جل ذكره منَّ به علي، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طِلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه(4).
__________
(1) الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني ص173-175.
(2) عصر الخلافة الراشدة ص102.
(3) صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق ص383.
(4) البخاري، ك فضائل الصحابة، رقم 3692.(2/132)
لقد كان عمر رضي الله عنه يخاف هذا الخوف العظيم من عذاب الله تعالى مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد له بالجنة، ومع ما كان يبذل من جهد كبير في إقامة حكم الله والعدل والزهد والجهاد وغير ذلك من الأعمال الصالحة، وإن في هذا لدرساً بليغاً للمسلمين عامة في تذكر عذاب الله الشديد وأهوال يوم القيامة(1).
وهذا عثمان رضي الله عنه يحدثنا عن اللحظات الأخيرة في حياة الفاروق فيقول: أنا آخركم عهداً بعمر، دخلت عليه، ورأسه في حجر ابنه عبد الله بن عمر فقال له: ضع خدي بالأرض، قال: فهل فخذي والأرض إلا سواء؟ قال ضع خدي بالأرض لا أم لك، في الثانية أو في الثالثة، ثم شبك بين رجليه، فسمعته يقول: ويلي، وويل أمي إن لم يغفر الله لي حتى فاضت(2) روحه، فهذا مثل مما كان يتصف به أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من خشية الله تعالى، حتى كان آخر كلامه الدعاء على نفسه بالويل إن لم يغفر الله جل وعلا له، مع أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، ولكن من كان بالله أعرف كان من الله أخوف، وإصراره على أن يضع ابنه خده على الأرض من باب إذلال النفس في سبيل تعظيم الله عز وجل، ليكون ذلك أقرب لاستجابة دعائه، وهذه صورة تبين لنا قوة حضور قلبه مع الله جل وعلا(3).
1- تاريخ موته ومبلغ سنه:
__________
(1) التاريخ الإسلامي (19/33).
(2) فاضت: خرجت، صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق ص383.
(3) التاريخ الإسلامي (19/44، 45).(2/133)
قال الذهبي: استشهد يوم الأربعاء لأربع أو ثلاث بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح(1)، وكانت خلافته عشر سنين ونصفاً وأياماً(2)، وجاء في تاريخ أبي زرعة عن جرير البجلي قال: كنت عند معاوية فقال: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث وستين، وتوفي أبو بكر –رضي الله عنه- وهو ابن ثلاث وستين وقتل عمر –رضي الله عنه- وهو ابن ثلاث وستين(3).
2- في غسله والصلاة عليه ودفنه:
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- غسل وكُفِّن، وصلي عليه، وكان شهيداً(4)، وقد اختلف العلماء فيمن قتل مظلوماً هل هو كالشهيد لا يغسل أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنه يغسل، وهذا حجة لأصحاب هذا القول(5).
والثاني: لا يغسل ولا يصلى عليه، والجواب عن قصة عمر أن عمر عاش بعد أن ضرب وأقام مدة، والشهيد حتى شهيد المعركة لو عاش بعد أن ضرب حتى أكل وشرب أو طال مقامه فإنه يغسل، ويصلى عليه، وعمر طال مقامه حتى شرب الماء، وما أعطاه الطبيب، فلهذا غسل وصلي عليه رضي الله عنه(6).
3- من صلى عليه؟
__________
(1) في التهذيب ق 177/ب نقلاً عن محض الصواب (3/840).
(2) سير السلف لأبي القاسم الأصفهاني (1/160).
(3) مسلم، فضائل الصحابة رقم 2352، محض الصواب (3/843).
(4) الطبقات (3/366) إسناده صحيح.
(5) الإنصاف للمرداوي (2/503) محض الصواب (3/844).
(6) محض الصواب (3/845).(2/134)
قال الذهبي: صلى عليه صهيب بن سنان(1)، وقال ابن سعد: وسأل علي بن الحسين سعيد بن المسيب: من صلى على عمر؟ قال: صهيب، قال كم كبر عليه؟ قال: أربعاً، قال: أين صُلي عليه؟ قال: بين القبر والمنبر(2)، وقال ابن المسيب: نظر المسلمون فإذا صهيب يصلي لهم المكتوبات بأمر عمر رضي الله عنه فقدموه، فصلى على عمر(3)، ولم يقدم عمر رضي الله عنه أحداً من الستة المرشحين للخلافة حتى لا يظن تقديمه للصلاة ترشيحاً له من عمر، كما أن صهيباً كانت له مكانته الكبيرة عند عمر والصحابة رضي الله عنهم وقد قال في حقه الفاروق: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه(4).
4- في دفنه رضي الله عنه:
__________
(1) محض الصواب (3/845).
(2) الطبقات (3/366) وفي إسناده خالد بن إلياس وهو متروك.
(3) الطبقات (3/367)، محض الصواب (3/845).
(4) الفتاوى (15/140).(2/135)
قال الذهبي: دفن في الحجرة النبوية(1)، وذكر ابن الجوزي عن جابر قال: نزل في قبر عمر عثمان وسعيد بن زيد، وصهيب، وعبد الله بن عمر(2)، وعن هشام بن عروة قال: لما سقط عنهم –يعني قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في زمن الوليد بن عبد الملك(3) أخذوا في بنائه، فبدت لهم قدمٌ، ففزعوا، وظنوا أنها قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فما وجدوا أحداً يعلم ذلك، حتى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هي إلا قدم عمر -رضي الله عنه(4)- وقد مرّ معنا: أن عمر أرسل إلى عائشة –رضي الله عنهما- ائذني لي أن أُدفن مع صاحبي، فقالت: (أي والله) وقال هشام بن عروة بن الزبير: وكان الرجل إذا أرسل إليها -أي عائشة- من الصحابة قالت: لا والله لا أؤثرهم بأحد أبداً(5)، ولا خلاف بين أهل العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- في هذا المكان من المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام(6).
5- ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الفاروق:
قال ابن عباس: وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويصلون، قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يَرُعني إلا رجل آخذ منكبي، فإذا علي بن أبي طالب، فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحبّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وحسبت أني كنت كثيراً أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر(7).
6- أثر مقتله على المسلمين:
__________
(1) محض الصواب (3/846).
(2) ابن مروان الأموي من خلفاء بني أمية.
(3) البخاري، ك الجنائز رقم 1326.
(4) البخاري، ك الاعتصام، رقم 2671 رقم 6897.
(5) محض الصواب (3/847).
(6) محض الصواب (3/847).
(7) البخاري، ك فضائل الصحابة رقم 3482.(2/136)
كان هول الفاجعة عظيماً على المسلمين، فلم تكن الحادثة بعد مرض ألمَّ بعمر، كما كان يزيد من هولها في المسجد وعمر يؤم الناس لصلاة الصبح، ومعرفة حال المسلمين بعد وقوع الحدث يطلعنا على أثر الحادث في نفوسهم، يقول عمرو بن ميمون: .. وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، ويذهب ابن عباس ليستطلع الخبر بعد مقتل عمر ليقول له: إنه ما مرّ بملأ إلا وهم يبكون وكأنهم فقدوا أبكار أولادهم(1)، لقد كان عمر -رضي الله عنه- معلماً من معالم الهدى، وفارقا بين الحق والباطل فكان من الطبيعي أن يتأثر الناس لفقده(2)، وهذا الأثر يوضح شدة تأثر الناس عليه، فعن الأحنف بن قيس: قال… فلما طعن عمر أمر صهيباً أن يصلي بالناس، ويطعمهم ثلاثة أيام حتى يجتمعوا على رجل، فلما وضعت الموائد كف الناس عن الطعام، فقال العباس: يا أيها الناس إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات، فأكلنا بعده، وشربنا ومات أبو بكر -رضي الله عنه-، فأكلنا، وإنه لا بد للناس من الأكل والشرب، فمد يده فأكل الناس(3).
وكان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عندما يذكر له عمر يبكي حتى تبتل الحصى من دموعه ثم يقول: إن عمر كان حصناً للإسلام يدخلون فيه
ولا يخرجون منه، فلما مات انثلم الحصن فالناس يخرجون من الإسلام(4).
وأما أبو عبيدة بن الجراح، فقد كان يقول قبل أن يقتل عمر: إن مات عمر رق الإسلام، ما أحب أن لي ما تطلع عليه الشمس أو تغرب وأن أبقى بعد عمر، فقيل له: لم؟ قال: سترون ما أقول إن بقيتم، وأما هو فإن ولي وال بعد فأخذهم بما كان عمر يأخذهم به لم يطع له الناس بذلك ولم يحملوه، وإن ضعف عنهم قتلوه(5).
خامساً: أهم الفوائد والدروس والعبر:
__________
(1) العشرة المبشرون بالجنة، محمد صالح عوض ص44.
(2) المصدر نفسه ص44.
(3) محض الصواب (3/855).
(4) الطبقات الكبرى (3/284).
(5) الطبقات الكبرى (3/284)، العشرة المبشرون بالجنة ص44.(2/137)
1- التنبيه على الحقد الذي انطوت عليه قلوب الكافرين ضد المؤمنين:
ويدل على ذلك قتل المجوسي أبي لؤلؤة لعمر رضي الله عنه، وتلك هي طبيعة الكفار في كل زمان ومكان، قلوب لا تضمر للمسلمين إلا الحقد والحسد والبغضاء، ونفوس لا تكن للمؤمنين إلا الشر والهلاك والتلف، ولا يتمنون شيئاً أكثر من ردة المسلمين عن دينهم وكفرهم بعد إسلامهم(1)، وإن الذي ينظر جيداً في قصة مقتل عمر -رضي الله عنه- وما فعله المجوسي الحاقد أبو لؤلؤة يستنبط منها أمرين مهمين، يكشفان الحقد الذي أضمره هذا الكافر في قلبه تجاه عمر، وتجاه المسلمين، وهما:
أنه قد ثبت في الطبقات الكبرى لابن سعد بسند صحيح إلى الزهري(2)، أن عمر رضي الله عنه قال لهذا المجوسي ذات يوم: ألم أُحدّث أنك تقول: لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح، فالتفت إليه المجوسي عابساً، لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها، فأقبل عمر على من معه، فقال: توعدني العبد.
الأمر الثاني الذي يدل على الحقد الذي امتلأ به صدر هذا المجوسي أنه لمّا طعن عمر رضي الله عنه، طعن معه ثلاثة عشر صحابياً استشهد منهم سبعة جاء في رواية الإمام البخاري قوله: فطار العلج(3) بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة(4)، ولو كان عمر -رضي الله عنه- ظالماً له فما ذنب بقية الصحابة الذين اعتدى عليهم؟!، ومعاذ الله تعالى أن يكون عمر ظالماً له، إذ قد ثبت في رواية البخاري أنه لما طعن رضي الله عنه قال:
__________
(1) سير الشهداء دروس وعبر، عبد الحميد السحيباني ص36.
(2) الطبقات (3/345) إسناده صحيح.
(3) العلج: الواحد من كفار العجم، والجمع علوج وأعلاج وهو يعني أبا لؤلؤة.
(4) البخاري، ك فضائل الصحابة رقم 3704.(2/138)
يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة، قال: الصَنَع؟ أي: الصانع، قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام(1)، وهذا المجوسي أبو لؤلؤة قام أحبابه أعداء الإسلام ببناء مشهد تذكاري له على غرار الجندي المجهول في إيران يقول السيد حسين الموسوي من علماء النجف: واعلم أن في مدينة كاشان الإيرانية، في منطقة تسمى (باغي فين) مشهداً على غرار الجندي المجهول، فيه قبر وهمي لأبي لؤلؤة فيروز الفارسي المجوسي، قاتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث أطلقوا عليه ما معناه بالعربية (مرقد بابا شجاع الدين)، وبابا شجاع الدين هو لقب أطلقوه على أبي لؤلؤة لقتله عمر بن الخطاب، وقد كتب على جدران هذا المشهد بالفارسي: (مرك بر أبو بكر، مرك بر عمر، مرك بر عثمان) ومعناه بالعربية: الموت لأبي بكر، الموت لعمر، الموت لعثمان وهذا المشهد يُزار من قبل الشيعة الإيرانيين، وتُلقى فيه الأموال، والتبرعات، وقد رأيت هذا المشهد بنفسي، وكانت وزارة الإرشاد الإيرانية قد باشرت بتوسيعه وتجديده، وفوق ذلك قاموا بطبع صورة على المشهد على كارتات تستخدم لإرسال الرسائل والمكاتيب(2).
2- بيان الانكسار والخشية والخوف الذي تميز به عمر رضي الله عنه:
__________
(1) البخاري، ك فضائل الصحابة رقم 3704.
(2) لله ثم للتاريخ كشف الأسرار وتبرئة الأئمة الأطهار ص94.(2/139)
ومما يدل على هذا الخوف الذي سيطر على قلب عمر رضي الله عنه قبيل استشهاده قوله لما عَلِمَ أن الذي طعنه هو المجوسي أبو لؤلؤة: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام(1)، فإنه رغم العدل الذي اتصف به عمر رضي الله عنه، والذي اعترف به القاصي والداني، والعربي والعجمي، إلا أنه كان خائفاً أن يكون قد ظلم أحداً من المسلمين، فانتقم منه بقتله، فيُحاجَّه عند الله تعالى، كما تدل على ذلك رواية ابن شهاب: أن عمر قال: الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط، وكما تدل عليه كذلك رواية مبارك بن فضالة، يحاجني بقول: لا إله إلا الله(2)، وهذه عجيبة من عجائب هذا الإمام الرباني، ينبغي أن يتربى عليها الدعاة والمصلحون وأن يكون الانكسار علامة من أكبر علاماتهم حتى ينفع الله تعالى بهم، كما نفع بأسلافهم كعمر
-رضي الله عنه- وليكن مقال الجميع قول القائل:
واحسرتي، واشقوتي
واطُول حزني إن أكن
وإذا سُئلتُ عن الخطا
واحرّ قلبي أن يكون
كلا ولا قدّمتُ لي
بل إنني لشقاوتي
بارزت بالزلات في
من ليس يخفى عنه من ... مِنْ يوم نشر كتابيه
أوتيته بشماليه
ماذا يكون جوابيه؟
مع القلوب القاسية
عملاً ليوم حسابيه
وقساوتي وعذابيه
أيام دهر خالية
قبح المعاصي خافية(3)
3- التواضع الكبير عند الفاروق والإيثار العظيم عند السيدة عائشة:
التواضع الكبير عند الفاروق رضي الله عنه:
__________
(1) البخاري، ك فضائل الصحابة رقم 3704.
(2) سير الشهداء دروس وعبر ص40.
(3) الرقائق لمحمد أحمد الراشد ص121،122.(2/140)
وقد دل عليه من قصة استشهاده قوله لابنه عبد الله: انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً(1)، ويدل عليه كذلك قوله لابنه لما أذنت عائشة بدفنه إلى جنب صاحبيه: فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلِّمْ، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين(2)، فرحم الله عمر -رضي الله عنه-، ورزقنا خُلُقاً من خُلُقه، وتواضعاً من تواضعه، وجزاه خير ما يجزي به الأتقياء المتواضعين، إن ربي قريب مجيب(3).
الإيثار العظيم عند السيدة عائشة رضي الله عنها:
ومما يدل على الإيثار عند السيدة عائشة أنها رضي الله عنها كانت تتمنى أن تدفن بجوار زوجها - صلى الله عليه وسلم -، وأبيها أبي بكر، فلما استأذنها عمر لذلك أذنت وآثرته على نفسها وقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه اليوم على نفسي(4).
4 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو على فراش الموت:
__________
(1) البخاري، فضائل الصحابة رقم 3704.
(2) المصدر نفسه رقم 3700.
(3) سير الشهداء ص41.
(4) البخاري، ك فضائل الصحابة رقم 3704.(2/141)
إن اهتمام الفاروق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يتخل عنه حتى وهو يواجه الموت بكل آلامه وشدائده، ذلك أن شاباً دخل عليه لما طُعن، فواساه، وقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقَدَم في الإسلام ما قد علمت، ثم وُلِّيت فعدلت، ثم شهادة، قال -أي عمر- ودِدْت أن ذلك كفاف، لا عليّ ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يَمسُّ الأرض، قال رُدُّوا عليّ الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك فإنه أنقَى لثوبك وأتقى لربك(1)، وهكذا لم يمنعه -رضي الله عنه- ما هو فيه من الموت عن الأمر بالمعروف ولذا، قال ابن مسعود -رضي الله عنه- فيما رواه عُمر بن شبة: يرحم الله عمر لم يمنعه ما كان فيه من قول الحق(2)، ومن عنايته الفائقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الحالة أيضاً، لما دخلت عليه حفصة -رضي الله عنها- فقالت: يا صاحب رسول الله، ويا صهر رسول الله، ويا أمير المؤمنين، فقال عمر لابن عمر رضي الله عنهما: يا عبد الله: أجلسني فلا صبر لي على ما أسمع، فأسنده إلى صدره، فقال لها: إنّي أحرج عليك(3) بمالي عليك من الحق أن تندبيني(4)، بعد مجلسك هذا، فأما عينك فلن أملكها(5)، وعن أنس بن مالك قال: لما طُعن عمر صرخت حفصة فقال عمر: يا حفصة أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن المعول عليه يعذب؟ وجاء صُهَيب فقال: واعمراه فقال: ويلك يا صهيب أما بلغك أن المعول عليه يعذب(6)، ومن شدته في الحق رضي الله عنه حتى بعد طعنه وسيلان الدم منه فعندما قال له رجل: استخلف عبد الله بن عمر،
__________
(1) المصدر نفسه رقم 3704.
(2) فتح الباري (7/65)، سير الشهداء ص42.
(3) أحرج عليك: أحرج الشيء على فلان أي حرّمه عليه.
(4) تندبيني: من الندب: أن تذكر النائحة الميت بأحسن أو صافه.
(5) مناقب أمير المؤمنين ص230، الحسبة د. فضل إلهي ص27.
(6) فضائل الصحابة أحمد بن حنبل (1/418) إسناده صحيح.(2/142)
قال: والله ما أردت الله بهذا(1).
5- جواز الثناء على الرجل بما فيه إذا لم تُخْشَ عليه الفتنة:
كما هو الحال هنا مع عمر -رضي الله عنه-، إذ أُثني عليه من قِبل بعض الصحابة لأنهم كانوا يعلمون أن الثناء عليه لا يفتنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما وهو العالم الرباني والفقيه الكبير: أليس قد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعز بك الدين والمسلمين؛ إذ يخافون بمكة، فلما أسلمت كان إسلامك عزاً وظهر بك الإسلام..، وأدخل الله بك على كل أهل بيت من توسعتهم في دينهم، وتوسعتهم في أرزاقهم، ثم ختم لك بالشهادة، فهنيئاً لك وهكذا لم تؤثر هذه الكلمات في قلب عمر شيئاً، ولم يفرح بها، ولذا ردّ على ابن عباس قائلاً: والله إن المغرور من تغرونه(2).
6- حقيقة موقف كعب الأحبار من مقتل عمر رضي الله عنه:
__________
(1) سير الشهداء ص43.
(2) سير الشهداء دروس وعبر ص45 .(2/143)
كعب الأحبار هو كعب بن مانع الحميري، كنيته أبو إسحاق، واشتهر بكعب الأحبار، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو رجل وأسلم في خلافة عمر، سنة اثنتي عشرة(1)، وقد اشتهر قبل إسلامه بأنه كان من كبار علماء اليهود في اليمن، وبعد إسلامه أخذ عن الصحابة الكتاب والسنة، وأخذوا وغيرهم عنه أخبار الأمم الغابرة خرج إلى الشام، وسكن حمص وتوفي فيها(2)، وقد اتهم كعب الأحبار في مؤامرة قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقد جاءت رواية في الطبري عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه تشير إلى اتهامه في مقتل عمر جاء في تلك الرواية: .. ثم انصرف عمر إلى منزله، فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين، إعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، قال وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله عز وجل التوراة، قال عمر: آلله إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا ولكني أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك قال: وعمر
لا يحس وجعاً ولا ألماً فلما كان من الغد جاءه كعب، فقال: يا أمير المؤمنين ذهب يوم وبقي يوم وليلة؛ وهي لك إلى صبيحتها، قال: فلما كان الصبح، خرج إلى الصلاة، وكان يوكل بالصفوف رجالاً، فإذا استوت، جاء هو فكبر، قال: ودخل أبو لؤلؤة في الناس، في يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات، إحداهن تحت سرته، وهي التي قتلته(3)، وقد بنى بعض المفكرين المحدثين على هذه الرواية نتيجة، مفادها: اشتراك كعب الأحبار، في مؤامرة قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثل د. جميل
__________
(1) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين محمد السيد الوكيل ص294 .
(2) سير أعلام النبلاء (3/489-494).
(3) تاريخ الطبري (5/182،183).(2/144)
عبد الله المصري في كتابه: أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية في القرن الأول الهجري، وعبد الوهاب النجار في كتابه: الخلفاء الراشدون، والأستاذ غازي محمد فريج في كتابه: النشاط السري اليهودي في الفكر والممارسة(1)، وقد ردّ الدكتور أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الزّغيبي على الاتهام الموجه لكعب الأحبار فقال: والذي أراه في هذه القصة المعقدة: أن تلك الرواية، التي رواها الإمام الطبري رحمه الله تعالى غير صحيحة، لأمور كثيرة من أهمها:
أ- أن هذه القصة لو صحت لكان من المنتظر من عمر رضي الله عنه أن لا يكتفي بقول (كعب)، ولكن لجمع طائفة ممن أسلم من اليهود وله إحاطة بـ(التوراة) مثل عبد الله بن سلام، ويسألهم عن هذه القصة، وهو لو فعل لافتضح أمر (كعب)، وظهر للناس كذبه، ولتبين لعمر رضي الله عنه أنه شريك في مؤامرة دبرت لقتله، أو أنه على علم بها، وحينئذ يعمل عمر رضي الله عنه على الكشف عنها بشتى الوسائل، وينكل بمدبريها، ومنهم كعب، هذا هو المنتظر من أي حاكم، فضلاً عن عمر رضي الله عنه المعروف بكمال الفطنة، وحدة الذهن، وتمحيص الأخبار لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، فكان ذلك دليلاً على اختلاقها(2).
ب- أن هذه القصة لو كانت في التوراة، لما اختص بعلمها كعب رحمه الله تعالى وحده، ولشاركه العلم بها كل من له علم بـ(التوراة) من أمثال عبد الله بن سلام رضي الله عنه(3).
__________
(1) العنصرية اليهودية وآثارها في المجتمع الإسلامي (2/518،519).
(2) الحديث أو المحدثون، أو عانية الأمة الإسلامية بالسنة، محمد أبو زهو ص182 .
(3) المصدر نفسه ص182 .(2/145)
جـ- أن هذه القصة لو صحت أيضاً لكان معناها أن كعباً له يد في المؤامرة وأنه يكشف عن نفسه بنفسه، وذلك باطل لمخالفته طباع الناس، إذ المعروف أنه من اشترك في مؤامرة، يبالغ في كتمانها بعد وقوعها، تفادياً من تحمل تبعاتها، فالكشف عنها قبل وقوعها لا يكون إلا من مغفل أبله، وهذا خلاف ما كان عليه كعب، من حدة الذهن، ووفرة الذكاء(1).
د- ثم ما لـ(التوراة) وتحديد أعمار الناس؟ إن الله تعالى إنما أنزل كتبه هدى للناس، لا لمثل هذه الأخبار التي لا تعدو أصحابها(2).
و- ثم أيضاً هذه التوراة بين أيدينا ليس فيها شيء من ذلك مطلقاً وبعد أن أورد الشيخ محمد محمد أبو زهو(3) تلك الاعتراضات الأربعة الأولى، عقب عليها، بقوله: ومن ذلك كله، يتبين لك أن هذه القصة مفتراة، بدون أدنى اشتباه، وأن رمي كعب بالكيد للإسلام في شخص عمر، والكذب في النقل عن التوراة اتهام باطل، لا يستند على دليل أو برهان(4).
__________
(1) الحديث والمحدثون أو عناية الأمة الإسلامية بالسنة النبوية ص182 .
(2) العنصرية اليهودية (2/524).
(3) المصدر نفسه (2/524).
(4) الحديث والمحدثون ص183 .(2/146)
ويقول الدكتور محمد السيد حسين الذهبي رحمه الله: ورواية ابن جرير الطبري للقصة لا تدل على صحتها، لأن ابن جرير كما هو معروف عنه لم يلتزم الصحة في كل ما يرويه، والذي ينظر في تفسيره يجد فيه مما لا يصح شيئاً كثيراً(1)، كما أن ما يرويه في تاريخه لا يعدو أن يكون من قبل الأخبار التي تحتمل الصدق والكذب، ولم يقل أحد بأن كل ما يروى في كتب التاريخ(2)، ثابت وصحيح(3)، ثم يتابع قائلاً: ثم إن ما يعرف عن كعب الأحبار من دينه، وخلقه، وأمانته، وتوثيق أكثر أصحاب الصحاح(4) له، يجعلنا نحكم بأن هذه القصة موضوعة عليه، ونحن ننزه كعباً عن أن يكون شريكاً في قتل عمر، أو يعلم من يدبر أمر قتله ثم لا يكشف لعمر عنه، كما ننزهه أن يكون كذاباً وضاعاً، يحتال على تأكيد ما يخبر به من مقتل عمر نسبته إلى التوراة وصوغه في قالب إسرائيلي(5). إلى أن يقول: اللهم إن كعباً مظلوم من متهميه، ولا أقول عنه: إلا أنه ثقة مأمون، وعالم استغل اسمه، فنسب إليه روايات معظمها خرافات وأباطيل، لتروج بذلك على العامة، ويتقبلها الأغمار من الجهلة(6).
__________
(1) العنصرية اليهودية (2/525).
(2) المصدر نفسه (2/525).
(3) الإسرائيليات في التفسير والحديث ص99 .
(4) المصدر نفسه ص96 .
(5) المصدر نفسه ص99 .
(6) الإسرائيليات في التفسير والحديث ص99 .(2/147)
وأما الدكتور محمد السيد الوكيل فيقول: إن أول ما يواجه الباحث هذا هو موقف عبيد الله بن عمر الذي لم يكد يسمع بما حدث لأبيه حتى يحمل سيفه، ويهيج كالسبع الحرب، ويقتل الهرمزان وجفينة وابنة صغيرة لأبي لؤلؤة؛ أفترى عبيد الله هذا يترك كعب الأحبار والشبهة تحوم حوله، ويقتل ابنة أبي لؤلؤة الصغيرة؟ إن أحداً يبحث الموضوع بحثاً علمياً لا يمكن أن يقبل ذلك، ويضاف إلى ذلك أن جمهور المؤرخين لم يذكروا القصة، بل لم يشيروا إليها، فابن سعد في الطبقات وقد فصل الحادث تفصيلاً دقيقاً لم يشر قط إلى الحادثة، بل كل ما ذكر عن كعب الأحبار أنه كان واقفاً بباب عمر يبكي ويقول: والله لو أن أمير المؤمنين يقسم على الله أن يؤخره لأخره(1)، وأنه دخل على عمر بعد أن أخبره الطبيب بدنوا أجله فقال: ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيداً، وأنت تقول: من أين وأنا في جزيرة العرب(2)، ويأتي بعد ابن سعد ابن عبد البر في الاستيعاب فلا يذكر شيئاً قط عن قصة كعب الأحبار(3)، وأما ابن كثير فيقول: إن وعيد
__________
(1) الطبقات (3/361).
(2) المصدر نفسه (3/340).
(3) جولة في عصر الخلفاء الراشدين ص296 .(2/148)
أبي لؤلؤة كان عشية يوم الثلاثاء، وأنه طعنه صبيحة يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة(1)، لم يكن إذن بين التهديد والتنفيذ سوى ساعات معدودات، فكيف ذهب كعب الأحبار إلى عمر، وقال له ما قال: اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، ثم يقول: مضى يوم وبقي يومان، ثم مضى يومان وبقي يوم وليلة، من أين لكعب هذه الأيام الثلاثة إذا كان التهديد في الليل والتنفيذ صبيحة اليوم التالي؟ ويتوالى المؤرخون، فيأتي السيوطي في تاريخ الخلفاء، والعصامي في سمط النجوم العوالي، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وابنه عبد الله في كتابيهما مختصرة سيرة الرسول، وحسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام السياسي وغيرهم فلا نجد واحداً منهم يذكر القصة من قريب أو بعيد. أليس هذا دليلاً على أن القصة لم تثبت بصورة تجعل المحقق يطمئن إلى ذكرها هذا إذا لم تكن منتحلة مصنوعة كاد بها بعض الناس لكعب لينفروا منه المسلمين، وهذا ما تطمئن إليه النفس ويميل إليه القلب، وبخاصة بعد ما عرفنا أن كعباً كان حسن الإٍسلام، وكان محل ثقة كثير من الصحابة حتى رووا عنه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2).
7- ثناء الصحابة والسلف على الفاروق:
أ- في تعظيم عائشة رضي الله عنها له بعد دفنه:
__________
(1) البداية والنهاية (7/137).
(2) جولة في عصر الخلفاء الراشدين ص296 .(2/149)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلم وأبي، فلما دفن عمر معهما فوالله ما دخلته إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر(1)، وعن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: من رأى ابن الخطاب، علم أنه خلق غناء للإسلام، كان والله أحوذياً(2)، نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها(3)، وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: إذا ذكرتم عمر طاب المجلس(4).
ب- سعيد بن زيد رضي الله عنه:
روي عن سعيد بن زيد أنه بكى عند موت عمر فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: على الإسلام، إن موت عمر ثَلَم الإسلام ثلمة لا ترتق إلى يوم القيامة(5).
ت- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
قال عبد الله بن مسعود: لو أن علم عمر بن الخطاب وضع في كفة الميزان، ووضع علم الأرض في كفة لرجح علم عمر(6)، وقال أيضاً: إني لأحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم(7). وقال عبد الله بن مسعود: كان إسلام عمر فتحاً وكانت هجرته نصراً وكانت إمارته رحمة(8).
ث- قال أبو طلحة الأنصاري: والله ما من أهل بيت من المسلمين إلا وقد دخل عليهم في موت عمر نقص في دينهم وفي دنياهم(9).
ج- قال حذيفة بن اليمان: إنما كان مثل الإسلام أيام عمر مثل مقبل لم يزل في إقبال، فلما قتل أدبر فلم يزل في إدبار(10).
__________
(1) محض الصواب (3/852).
(2) الأحوذي: هو الجاد المنكمس في أموره، الحسن السياق للأمور.
(3) محض الصواب (3/853) رجاله كلهم ثقات إلا عبد الواحد بن أبي عوف صدوق يخطئ.
(4) المصدر نفسه (3/853) نقلاً عن مناقب أمير المؤمنين ص249 .
(5) الطبقات (3/372)، أنساب الأشراف الشيخان ص387 .
(6) مصنف بن أبي شيبة (12/32) إسناده صحيح.
(7) المعجم الكبير للطبراني (9/179،180) وإسناده صحيح.
(8) المعجم الكبير للطبراني (9/178) إسناده ضعيف فيه انقطاع.
(9) الطبقات (3/374).
(10) الطبقات (3/373) إسناده صحيح.(2/150)
ح- عبد الله بن سلام: جاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه بعدما صلى على عمر رضي الله عنه فقال: إن كنتم سبقتموني بالصلاة عليه، فلن تسبقوني بالثناء عليه، ثم قال، نعم أخو الإسلام كنت يا عمر جواداً بالحق، بخيلاً بالباطل، ترضى من الرضى وتسخط من السخط، لم تكن مداحاً ولا معياباً، طيب العَرْف(1)، عفيف الطرف(2).
خ- العباس بن عبد المطلب: قال العباس بن عبد المطلب: كنت جاراً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فما رأيت أحداً من الناس كان أفضل من عمر، إن ليله صلاة، ونهاره صيام، وفي حاجات الناس، فلما توفي عمر سألت الله تعالى: أن يرينه في النوم فرأيته في النوم مقبلاً متشحاً من سوق المدينة، فسلمت عليه وسلم عليَّ، ثم قلت له: كيف أنت؟ قال بخير. قلت له: ما وجدت؟ قال: الآن حين فرغت من الحساب، ولقد كاد عرشي يهوي لولا أني وجدت رباً رحيماً(3).
د- معاوية بن أبي سفيان: قال معاوية: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم تُرِده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يُرِدْها، وأمّا نحن فتمرغنا فيها ظهْراً لبطن(4).
ذ- علي بن الحسين: عن ابن أبي حازم عن أبيه قال: سئل علي بن الحسين عن
أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومنزلتهما من رسول الله قال: كمنزلتهما اليوم، وهما ضجيعاه(5).
ر- قبيصة بن جابر: عن الشعبي قال: سمعت قبيصة بن جابر يقول: صحبت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فما رأيت أقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله، ولا أحسن مدارسة منه(6).
__________
(1) العَرْف: الريح طيبة كانت أو خبيثة.
(2) الطبقات (3/369).
(3) تاريخ المدينة (3/345) فيه انقطاع، الحلية (1/54).
(4) تاريخ الإسلام عهد الخلفاء الراشدين للذهبي ص267 .
(5) محض الصواب (3/908).
(6) المعرفة والتاريخ للفسوي (1/457) في إسناده مجالد بن سعيد تغير آخر عمره.(2/151)
ز- الحسن البصري: قال الحسن البصري إذا أردتم أن يطيب المجلس فأفيضوا في ذكر عمر(1)، وقال أيضاً: أي أهل بيت لم يجدوا فقده فهم أهل بيت سوء(2).
س- علي بن عبد الله بن عباس: قال: دخلت في يوم شديد البرد على عبد الملك بن مروان فإذا هو في قبة باطنها فُوهِيُّ(3) معصفر، وظاهرها خزاعيز(4)، وحوله أربعة كوانين(5)، قال فرأى البرد في تقفْقُفي(6)، فقال: ما أظن يومنا هذا إلا بارداً. قلت: أصلح الله الأمير ما يظن أهل الشام أنه أتى عليهم يوم أبرد منه، فذكر الدنيا، وذمها، ونال منها، وقال: هذا معاوية عاش أربعين سنة عشرين أميراً، وعشرين خليفة، لله در ابن حنتمة ما كان أعلمه بالدنيا يعني عمر رضي الله عنه(7).
8- آراء بعض العلماء والكتّاب المعاصرين:
أ- قال الدكتور محمد محمد الفحام شيخ الأزهر السابق: لقد كشفت أعمال عمر عن تفوقه السياسي، وبيّنت مواهبه العديدة التي ملكها، وعن عبقريته الخالدة، التي لا تزال تضيء أمامنا الطريق في العديد من مشكلات الحياة المختلفة في معالجة القضايا والمشاكل التي واجهته أثناء خلافته(8).
__________
(1) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص251 ، محض الصواب (3/909).
(2) الطبقات (3/372).
(3) فُوهِيُّ: ثياب بيض.
(4) محض الصواب (3/911).
(5) الكانون: الموقد.
(6) تقفقف: ارتعد من البرد وغيره، أو اضطرب حنكاه واصطكت أسنانه (القاموس) ص1094 .
(7) محض الصواب (3/911)، ابن الجوزي ص252 .
(8) الإدارة في الإسلام في عهد عمر بن الخطاب ص391 .(2/152)
ب- قال عباس محمود العقاد: إن هذا الرجل العظيم أصعب من عرفت من عظماء الرجال نقداً ومؤاخذة ومن مزيد مزاياه أن فرط التمحيص وفرط الإعجاب في الحكم له أو عليه يلتقيان، وكتابي عبقرية عمر ليس بسيرة لعمر ولا بتاريخ لعصره على نمط التواريخ التي تقصد بها الحوادث والأنباء، ولكنه وصف له ودراسة لأطواره، ودلالة على خصائص عظمته واستفادة من هذه الخصائص لعلم النفس وعلم الأخلاق وحقائق الحياة.. وعمر يعد رجل المناسبة الحاضرة في العصر الذي نحن فيه، لأنه العصر الذي شاعت فيه عبادة القوة الطاغية وزعم الهاتفون بدينها أن البأس والحق نقيضان؛ فإذا فهمنا عظيماً واحداً كعمر بن الخطاب، فقد هدمنا دين القوة الطاغية على أساسه، لأننا سنفهم رجلاً كان غاية في البأس، وغاية في العدل، وغاية في الرحمة.. وهذا الفهم ترياق داء العصر يشفى به من ليس بميئوس الشفاء(1).
ت- قال الدكتور أحمد شلبي: .. وكان الاجتهاد من أبرز الجوانب في حياة عمر خلال حقبة خلافته الحافلة بالأحداث، فحفظ الدين، ورفع راية الجهاد، وفتح البلاد، ونشر العدل بين العباد، وأنشأ أول وزارة مالية في الإسلام، وكون جيشاً نظامياً للدفاع وحماية الحدود، ونظم المرتبات والأرزاق، ودون الدواوين، وعين الولاة والعمال والقضاة، وأقر النقود للتداول الحياتي، ورتب البريد، وأنشأ نظام الحسبة، وثبت التأريخ الهجري، وأبقى الأرض المفتوحة دون قسمة، وخطط المدن الإسلامية وبناها، فهو بحق أمير المؤمنين وباني الدولة الإسلامية(2).
ث- قال المستشار علي علي منصور: إن رسالة عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري قبل أربعة عشر قرناً من الزمن دستور للقضاء والمتقاضين، وهي أكمل ما وصلت إليه قوانين المرافعات الوضعية وقوانين استقلال القضاء(3).
__________
(1) المصدر نفسه ص392 .
(2) المصدر نفسه ص392 ، التاريخ الإسلامي (1/609).
(3) المصدر نفسه ص392 .(2/153)
جـ- اللواء الركن محمود شيت خطاب: وإذا كانت أسباب الفتح الإسلامي كثيرة، فإن على رأس تلك الأسباب ما كان يتمتع به عمر بن الخطاب من سجايا قيادية فذة لا تتكرر في غيره على مر السنين والعصور إلا نادراً(1).
ح- الدكتور صبحي المحمصاني: بانقضاء عهد الخليفة الراشد عمر، ينقضي عهد مؤسس الدولة الإسلامية التي وسع رقاعها، وثبت دعائمها، فكان مثال القائد الموجه، والأمير الحازم الحكيم، والراعي المسؤول، والحاكم القوي العادل والرفيق الرؤوف، ثم مات ضحية الواجب، وشهيد الصدق والصلاح، فكان مع الصديقين والصالحين من أولياء الله تعالى وسيبقى اسم عمر بن الخطاب مخلداً ولامعاً في تاريخ الحضارة والفقه(2).
س- الشيخ علي طنطاوي: أنا كلما ازددت اطلاعاً على أخبار عمر، زاد إكباري وإعجابي به، ولقد قرأت سير آلاف العظماء من المسلمين وغير المسلمين، فوجدت فيهم من هو عظيم بفكره، ومن هو عظيم ببيانه، ومن هو عظيم بخلقه، ومن هو عظيم بآثاره، ووجدت عمر قد جمع العظمة من أطرافها، فكان عظيم الفكر والخُلق والبيان، فإذا أحصيت عظماء الفقهاء والعلماء، ألفيت عمر في الطليعة، فلو لم يكن له إلا فقهه لكان به عظيماً، وإن عددت الخطباء والبلغاء كان اسم عمر من أوائل الأسماء، وإن ذكرت عباقرة المشرعين، أو نوابغ القواد العسكريين، أو كبار الإداريين الناجحين، وجدت عمر إماماً في كل جماعة، وعظيماً في كل طائفة، وإن استقريت العظماء الذين بنوا دولاً، وتركوا في الأرض أثراً، لم تكد تجد فيهم أجلّ من عمر. وهو فوق ذلك عظيم في أخلاقه عظيم في نفسه(3).
9- آراء بعض المستشرقين في عمر رضي الله عنه:
__________
(1) الإدارة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب ص393 .
(2) تراث الخلفاء الراشدين في الفقه والقضاء ص46،47 .
(3) أخبار عمر ص5 .(2/154)
أ- قال موير في كتابه الخلافة: كانت البساطة والقيام بالواجب من أهم مبادئ عمر وأظهر ما اتصفت به إدارته عدم التحيز والتعبد وكان يقدر المسؤولية حق قدرها وكان شعوره بالعدل قوياً ولم يحاب أحداً في اختيار عماله، ومع أنه كان يحمل عصاه ويعاقب المذنب في الحال حتى قيل إن دِرة عمر أشد من سيف غيره إلا أنه كان رقيق القلب وكانت له أعمال سجلت له شفقته، ومن ذلك شفقته على الأرامل والأيتام(1).
ب- وقالت عنه دائرة المعارف البريطانية: كان عمر حاكماً عاقلاً، بعيد النظر، وقد أدى للإسلام خدمة عظيمة(2).
ت- وقال الأستاذ واشنجتون إيرفنج في كتابه محمد وخلفاؤه: إن حياة عمر من أولها إلى آخرها تدل على أنه كان رجلاً ذا مواهب عقلية عظيمة، وكان شديد التمسك بالاستقامة والعدالة، وهو الذي وضع أساس الدولة الإسلامية ونفذ رغبات النبي - صلى الله عليه وسلم - وثبتها، وآزر أبا بكر بنصائحه في أثناء خلافته القصيرة، ووضع قواعد متينة للإدارة الحازمة في جميع البلدان التي فتحها المسلمون، وإن اليد القوية التي وضعها على أعظم قواده المحبوبين لدى الجيش في البلاد النائية وقت انتصاراتهم، لأكبر دليل على كفاءته الخارقة لإدارة الحكم وكان ببساطة أخلاقه واحتقاره للأبهة والترف، مقتدياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وقد سار على أثرهما في كتبه وتعليماته للقواد(3).
__________
(1) الفاروق عمر بن الخطاب، محمد رشيد رضا ص54،55 .
(2) المصدر نفسه ص55 .
(3) المصدر نفسه ص55 .(2/155)
جـ- وقال الدكتور مايكل هارت: إن مآثر عمر مؤثرة حقاً، فقد كان الشخصية الرئيسية في انتشار الإسلام بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -(1)، وبدون فتوحاته السريعة من المشكوك به أن ينتشر الإسلام بهذا الشكل الذي هو عليه الآن، زد على ذلك أن معظم الأراضي التي فتحها في زمنه بقيت عربية(2) منذ ذلك العهد حتى الآن، ومن الواضح أن محمد - صلى الله عليه وسلم - له الفضل الأكبر في هذا المضمار، ولكن من الخطأ الفادح أن نتجاهل دور عمر وقيادته الواعية(3).
10- ما قيل من الشعر في رثاء الفاروق رضي الله عنه:
قالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن الخطاب رضي الله عنها:
فجَّعَني فيروز لا در دره ... بأبيض تالٍ للكتاب مُنيب
رؤوف على الأدنى غليظ على العدا ... أخي ثقة في النائبات مجيب
متى ما يَقُل لا يُكذب القول فعله ... سريع إلى الخيرات غير قطوب(4)
وقالت أيضاً:
عين جودي بعبرة ونحيب ... لا تَمَلِّي على الإمام النجيب
فجعتني المنون بالفارس ... المعلم يوم الهياج والتلبيب(5)
عصمة الناس والمعين على ... الدهر وغيث المنتاب والمحروب
قل لأهل السراء والبؤس موتوا ... قد سقته المنون كأس شَعوب(6)
__________
(1) يبدو أن المستر مايكل هارت لا يعرف سيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
(2) الأراضي أصبحت ضمن الدولة الإسلامية.
(3) من الخطأ الفادح أيضاً أن نتجاهل دور الصديق وقيادته الوعية بعد وفاة رسول الله r.
(4) المائة الأوائل ترجمة خالد عيسى وأحمد سبانو ص163 .
(5) التلبيب: الأخذ بالصدر، كناية عن اشتداد المعركة.
(6) تاريخ الطبري (5/214)، الأيام الأخيرة في حياة الخلفاء د. إيلي منيف شهلة ص40 .(2/156)
هذا وقد طويت بوفاة الخليفة الراشد العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه صفحة من أنصع صفحات التاريخ وأنقاها فقد عرف فيه التاريخ رجلاً فذاً من طراز فريد، لم يكن همه جمع المال، ولم تستهوه زخرفة السلطان، ولم تمل به عن جادة الحق سطوة الحكم، ولم يحمل أقاربه ولا أبناءه على رقاب الناس، بل كان كل همه انتصار الإسلام، وأعظم أمانيه سيادة الشريعة وأقصى غايته تحقيق العدالة بين أفراد رعيته، وقد حقق ذلك كله بعون الله عز وجل في تلك الفترة الوجيزة التي لا تعد في عمر الدول شيئاً مذكوراً(1).
إن دراسة هذه السيرة العطرة تمد أبناء الجيل بالعزائم العمرية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية، وبهجتها وبهاءها، وترشد الأجيال بأنه لن يصلح أواخر هذا الأمر إلا بما صلحت به أوائله وتساعد الدعاة والعلماء على الاقتداء بذلك العصر الراشدي ومعرفة معالمه وصفاته ومنهجه في السير في دنيا الناس وذلك يساعد أبناء الأمة على إعادة دورها الحضاري من جديد.
هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الأربعاء الساعة السابعة وخمس دقائق صباحاً بتاريخ 13 رمضان 1422هـ الموافق 28 نوفمبر 2001م والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل ويشرح صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده قال تعالى: { مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2) } (فاطر،آية:2).
__________
(1) جولة في عصر الخلفاء الراشدين ص297 .(2/157)
ولا يسعني في نهاية هذا الكتاب إلا أن أقف بقلب خاشع منيب بين يدي الله عز وجل، معترفاً بفضله وكرمه وجوده فهو المتفضِّلُ وهو المكرم وهو المعين وهو الموفِّقُ، فله الحمد على ما منَّ به عليَّ أولاً وآخراً، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً، وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكافة ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه. قال تعالى: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي
عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(19) } (النمل،آية:19).
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه
علي محمد محمد الصَّلاَّبي
... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ...(2/158)