سلسلة كتب الأمة
عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية
مصطفى محمد حميداتو
الفهرس
تقديم بقلم : عمر عبيد حسنه مصطفى
محمد حميداتو
الفصل الأول : المجتمع الجزائري في عصر ابن باديس العرب والبربر في الجزائر
مقدمة الفصل الثاني : حياة الشيخ ابن باديس
المبحث الأول : التعريف بالشيخ ابن باديس
الحالة الثقافية والفكرية العوامل الثقافية والدينية التي أثرت في فكر ابن باديس
المبحث الثالث : شيوخ ابن باديس
المبحث الثاني : نشأة ابن باديس وطلبه للعلم الفصل الثالث ابن باديس والعمل الجماعي
المبحث الأول: العمل الجماعي في نظر ابن باديس
المبحث الرابع : مكانة ابن باديس العلمية
المبحث الثالث : جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
المبحث الثاني : جمعية التربية والتعليم الإسلامية الباب الثاني الفكر التربوي عند ابن باديس الفصل الأول دعائم الفكر التربوي عند ابن باديس
المبحث الأول : حالة التعليم في زمن ابن باديس
المبحث الرابع : من مواقف جمعية العلماء
المبحث الثالث : طلب العلم في نظر ابن باديس
المبحث الثاني: أهمية العلم والتعلم عند ابن باديس
الفصل الثاني إصلاح التعليم عند ابن باديس
المبحث الأول : إصلاح المناهج
المبحث الرابع : سمات ابن باديس الشخصية وأثرها على منهجه التربوي
المبحث الثالث : المعلم في نظر ابن باديس
المبحث الثاني : إصلاح التعليم في جامع الزيتونة
المبحث الخامس : رعاية الطلبة الموهوبين
المبحث الرابع : تعليم المرأة في نظر ابن باديس
المبحث الثاني: ميزات مدرسة ابن باديس التربوية
الفصل الثالث مجالات ومميزات مدرسة ابن باديس
التربوية المبحث الأول : الوسائل المادية للتربية عند ابن باديس
خاتمة المبحث الثالث: الهدف التربوي عند ابن باديس
مصطفى محمد حميداتو
* ولد عام 1956م، بالجزائر
* حصل على شهادة التقنية العليا في ميكانيك البترول من المعهد الجزائري للبترول(1/1)
* حصل على درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية، ودرجة الماجستير في اللغة العربية، من جامعة البنجاب، لاهور، باكستان
* نال درجة الماجستير في التفسير والحديث من الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد، باكستان
* رسالته لنيل شهادة الدكتوراة، في الحديث النبوي الشريف
تقديم بقلم : عمر عبيد حسنه
الحمد لله الذي أورثنا النبوة والكتاب، وجعل الرسالة الإسلامية هي خاتمة الرسالات، واللبنة الأخيرة في البناء النبوي، فكان عندها الاكتمال وفيها الكمال، قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ً)(المائدة:3)، وناط بالأمة المسلمة، حاملة الرسالة الخاتمة، الشهادة على الناس والقيادة لهم، إلى يوم الدين، وأَهَّلَها لذلك بما تمتلك من الخطاب الإلهي السليم والبيان النبوي المعصوم، اللذين يشكلان المعيارية التي تمكّن من الشهادة، ويمنحان الخصائص التي تؤهل للقيادة، وإلحاق الرحمة بالعالمين، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا ) (البقرة:143). وقال: (ليكون الرسول شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) (الحج:78). وقال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه) (المائدة:48).(1/2)
لقد استحقت الأمة المسلمة هذا الموقع، بما تمتلك من قيم سماوية سليمة، وبما أوقفها الله عليه من قصص الأنبياء مع أقوامهم، وتجارب الدعوة إلى الله تاريخيًا، ومراحل وأقدار التدين هبوطًا وصعودًا، وخطأ وصوابًا، وانحرافًا وتوبة، وما لحق بالتدين وأتباع النبوات السابقة من علل وإصابات في تدينهم، لتكون على بينة من أمرها، ودراية لواقعها، ووقاية لمستقبلها.. ولم يكن القصص القرآني من باب سرد التاريخ والحكايات الغابرة، بعيدًا عن بيان الأسباب والسنن الاجتماعية، وإنما كان صورة بشرية كاملة الأبعاد لتعامل الإنسان مع التكليف السماوي في حالاته المتعددة، والسنن التي تحكم هذه المسيرة البشرية، أو القوانين والأقدار التي يخضع لها الفعل التاريخي، الذي يعتبر دليل صدقية هذه السنن ومختبرها، بعيدًا عن الأماني والرغبات.. فالأمة المسلمة بذلك، تقف على قمة التجربة البشرية، بمواقعها المختلفة وحالاتها المتعددة، الأمر الذي يبين خطورة الأمانة وعظيم المسؤولية، ويمنحها القدرة على التجدد والتجديد الذاتي.
والصلاة والسلام على النبي القدوة، الذي تمثلت في شخصيته كمالات الأنبياء، وانتهت إلى رسالته أصول الرسالات السماوية، وجُمعت في أمته الشعوبُ والقبائلُ والأقوامُ، وتحققت النقلة النوعية من دولة اللون والجنس والأرض، إلى أمة ودولة الفكر والعقيدة، حيث أصبح الكسب والاختيار هما معيار التفاضل وتحقيق كرامة وإنسانية الإنسان، القائل صلى الله عليه و سلم: (إن اللهَ يبعثُ لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها ) (رواه أبو داود).
وبعد :(1/3)
فهذا كتاب الأمة السابع والخمسون: (الشيخ عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية)، للأستاذ مصطفى محمد حميداتو، في سلسلة (كتاب الأمة)، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إعادة التشكيل الثقافي والوعي الحضاري، ذلك أن الحال التي نحن عليها بحاجة إلى الكثير من المراجعة، والتفاكر، والتشاور، والفحص، والاختبار، وإعادة المعايرة بقيم الكتاب والسنة، والإفادة من تجارب النبوة، والتعرف بدقة على علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة، والتي أصبحت تتسلل إلينا ونعاني الكثير منها، ومحاولة اكتشاف الأسباب التي أورثتنا هذا الواقع الذي نحن عليه، ذلك أن عدم المراجعة والفحص والاختبار لأفكارنا المطروحة ووسائلنا، يعني فيما يعني -إلى جانب العجز والتخاذل- القبول بهذا الواقع تحت الشعار المميت للفاعلية والتطلع صوب المستقبل: (ليس في الإمكان أفضل مما كان).. وهذا لا يتحصل ما لم نتعرف إلى قدراتنا وإمكاناتنا، أو بتعبير آخر: التعرف إلى استطاعاتنا، ومن ثم تربية الإرادة القادرة على وضع هذه القدرات في مواقعها الصحيحة.(1/4)
ولعل من أخص خصائص التفكير الاستراتيجي: استشراف الماضي، والتوغل في العمق التاريخي، واستيعاب التجارب، واكتشاف العلل الحضارية أو علل التدين، وجوانب القوة والنهوض، وأسباب الضعف والسقوط، وتحديد السنن الاجتماعية الفاعلة في الحياة والأحياء، والإحاطة بالقضايا المطروحة، وتحليل جوانبها المتعددة، وسننها أو قوانينها، والنظر في نتائج هذا الماضي، المتمثلة في الحاضر بكل معاناته، ومحاولة وضع هذا الحاضر في موقعه المناسب من مسيرة الأمة، وبناء الخطة المستقبلية بحيث تكون واضحة الأهداف الاستراتيجية والأهداف المرحلية، ودراسة الاحتمالات والتداعيات الممكنة، لأخذها بالاعتبار والاستعداد لها، والتعرف إلى الأولويات، واعتماد سنة التدرج وعنصر الزمن كوعاءِ حركةٍ وقيمةِ إنجاز في الوقت نفسه، والتعامل مع المتاح، وعدم خلط الأهداف بالوسائل، والإمكانات بالأمنيات، والحماس بالاختصاص، والإحساس بالإدراك، وتجنب عثرات دعوات الإصلاح والتجديد والتغيير، والتخلص من حالة الانطفاء الثقافي، الذي يبعثر القدرة، ويعطل الإرادة، مستعينين بالله في كل أحوالنا -اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام- من العجز الذي يشل القدرة، والكسل الذي يميت الإرادة، حيث كان من دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم المأثور والدائم: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل )(متفق عليه).
وقد يكون من القضايا الأساسية المطلوب أن نعرض لها، ونحن بسبيل الكلام عن رائد من رواد الحصانة الحضارية والثقافية والتحضير للإصلاح والتغيير، أن نلقي بعض الأضواء على قضية ملامح دعوات الإصلاح والتغيير بشكل عام، لأنها من أهم القضايا، فيما نرى، وتكاد تكتسب أهميتها أكثر فأكثر من خلال معاناتنا، وعجزنا عن الإفادة من تجاربنا، والاقتصار على مدحها والافتخار بها فقط، دون القدرة على تمثلها وتحليلها، وبيان صوابها وخطئها، لستر عجزنا ومعالجة مركب النقص في نفوسنا.(1/5)
وأية دراسة تقويمية في هذا الميدان، لابد لها من الإحاطة الكاملة بدعوات الإصلاح والتغيير، ودراسة ظروفها وطروحاتها ووسائلها، وما واجهها من عقبات، وما أصابها من عثرات، وما لحقها من تداعيات، في ضوء منهج واضح ومدروس.
ولعل من أهم القضايا المطلوبة في هذا الإطار، دراسة الظروف التي عملت فيها تلك الدعوات، ومناقشتها بجرأة وأمانة، سواء على مستوى التنظير أو على مستوى الممارسة والتطبيق، وإلى أي مدى خرجت من داخل الأمة، وتشكلت في رحمها، وتجاوبت مع معادلتها الاجتماعية ؟ وقد يكون المطلوب كذلك عدم الاقتصار على دراسة دعوات التغيير والإصلاح والتجديد، التي خرجت من الداخل الإسلامي، وإنما أيضًا دراسة تيارات التغريب والاستلاب الحضاري، ورصد تأثيرها وأثرها، وكيفيات التعامل معها، وتحديد موطن الصواب والخطأ.
وأعتقد أن المنهج المعتمد في دراسة دعوات الإصلاح والتغيير في الداخل الإسلامي، لابد أن يكون من عطاء النبوة، ومنطلقًا من معرفة الوحي الخاتم، التي وفرت لها جميع التجارب التاريخية، وأوقفت عليها وقدمت لها النماذج المتعددة، لاختصار التجربة والبدء من حيث انتهى الآخرون، وعدم السقوط بالحفر نفسها، حتى (لا يُلْدَغ المؤمن من جُحْرٍ مرتين).. فالرسول صلى الله عليه و سلم على الرغم من أنه خيار من خيار من خيار، من حيث المؤهلات والمزايا الشخصية، وأنه محل الرسالة الخاتمة -والله أعلم حيث يجعل رسالته- وأنه معصوم، مسدد بالوحي ومؤيد به، قدمت له النماذج والتجارب النبوية، التي سارت وفق السنن، وطلب إليه أن يتعرف على هذه التجارب، ويقتدي بالجوانب الإيجابية، ويَحْذَر ويُحذِّر أمته من علل التدين التي كانت سبب السقوط الحضاري، قال تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده )(الأنعام:90).(1/6)
والمنهج النبوي أكد على أن عمليات الإصلاح ومحاولات التغيير، تبدأ من تحرير الإرادة، وتحرر الضمير.. تبدأ من داخل النفس.. ذلك أن القيام بأي عمل مؤثر في الواقع الثقافي أو السياسي أو الاجتماعي، غير ممكن قبل تحرير الإرادة وانعتاق الضمير من رواسب ذلك الواقع وتأثيراته، الأمر الذي يمكِّن من إعادة صياغة الإنسان، وإعادة تشكيله، باعتباره أداة التغيير وهدفه في وقت واحد، وعلى الرغم من أن الإنسان نفسه يتأثر بالواقع، لكنه في ذات الوقت يؤثر به.
لقد جعل الله سبحانه وتعالى إرادة الإنسان هي مفتاح التغيير والإصلاح، فقال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد:11)، وكأن سياق الآية -وكل شيء عند الله بقدر- جعل إحداث التغيير من الله منوط بإرادة التغيير من الناس.. فهو بقدَره أراد لهم أن يريدوا ذلك، لإحداث التفاعل والوصول إلى الأهداف.
وإرادة التغيير، لا تنافي القَدَر -ولا تصادمه- الذي بات يشكل تُكَأَةً ومسوِّغًا للقاعدين والمنسحبين وأصحاب المذاهب الإرجائية، ومن ينتسبون إلى القَدَر، ويدّعون الإيمان به، بل هي من القَدَر، حيث إن الله هو الذي أراد لنا أن نريد -كما أسلفنا- وأن ندفع الأقدار بأقدار أحب إلى الله منها، كما يقول ابن القيم رحمه الله، بفهمه الدقيق ورؤيته الذكية: (ليس المسلم الحق هو الذي يستسلم للقدر (والاستسلام غير الرضا)، وإنما هو الذي يدفع القَدَر بقَدَر أحب إلى الله منه).
وهذه المدافعة للأقدار بالأقدار، التي هي من أمر الله أيضًا، لا تتأتى إلا بإدراك سنن الله الاجتماعية في الأنفس، وسننه الكونية في الآفاق.. فهي ليست أمنية عائمة بمقدار ما هي إيمان بصير، وإرادة ومعرفة بالإمكان، وعلم بالسنن الفاعلة، يمنح القدرة على إدراكها وفاعليتها، ومن ثم المداخلة في مسارها وتسخيرها.(1/7)
ولعلنا نقول هنا: بأن الارتكاز إلى معرفة الوحي (قيم الكتاب والسنة)، هو وحده الذي يحقق الانتشال الحقيقي للإنسان من تحكم العادات والتقاليد والإرث الآبائي في التشكيل الثقافي وإرادة التغيير، وهو الذي يشكل معايير التغيير والإصلاح، ويمنح الاطمئنان وقوة العزيمة على الانعتاق من البيئة المتحكمة، والبدء بإصلاحها.
وعملية التغيير والإصلاح -كما هو معروف- لابد أن تُسْبَق باكتشاف الواقع، والإدراك الكامل له، وتحليله، والمفارقة بينه وبين ما يجب أن يكون، ومن ثم التفكير في الكيفيات والمناهج والبرامج التي تعيد مسيرة هذا الواقع إلى الجادة الصحيحة، في ضوء السنن التي تأخذ بالاعتبار الإمكانات المتاحة، والظروف المحيطة، والميراث الثقافي والحضاري، وعقيدة الأمة، ومعادلتها الاجتماعية، وحالتها الثقافية.
ذلك أن أية دراسة لدعوات الإصلاح، أو للواقع الذي تريد تغييره، تتطلب عملية نقدية جريئة، لأنها ضرورة لأية دعوة إصلاحية تغييرية، تريد أن تقوم على خطة استراتيجية ومنهج ونظام يسعى إلى تحقيق أهداف معينة، وإلى تسجيل غايات كبرى في الواقع التاريخي، وتنبيه الأذهان إلى العيوب المنهجية في دعوات الإصلاح السابقة، التي أدت إلى الإحباط والفشل رغم توفر الطاقات المادية والإمكانات النفسية.
وعملية النقد للدعوات الإصلاحية والتغييرية، لا يمكن أبدًا أن تُصَنَّف في خانة الحط من قدرها أو بخسها حقها، وإنما تعني تقديرها والعناية الكاملة بها، ومحاولة الإفادة منها، وذلك بامتلاك القدرة على استصحابها وحسن الإفادة منها، وإضافة رصيدها من الصواب، والخطأ الذي تقود معرفته إلى الصواب، لدعوات الإصلاح والتغيير الحديثة أو المأمولة.(1/8)
والمحزن حقًا أن أغلب مَنْ كَتَبَ ويكتب في تاريخ الدعوات الإصلاحية والتغييرية، لا يحاول أبدًا أن يوجه نقدًا، أو يقدم تقويمًا، وإنما يسلك منهجًا أقل ما يوصف به بأنه عاطفي يغلب عليه التبسيط وأحيانًا التسطيح، قد يتجاهل الداء أو يخفيه، ظنًا منه أن النقد يرادف التجريح والغيبة المنهي عنها، الأمر الذي يسمح للداء بالتكرار والامتداد ويزيده تمكنًا.. ذلك أن جوهر التغيير والإصلاح النفسي والخلقي والاجتماعي والسياسي، يقوم على أساس النقد والتقويم، واستشعار التناقض بين الواقع الذي نعيشه، والمثال الذي نسعى إليه.
ولعل من المهم أن نشير إلى أن مبدأ النقد أو منهج النقد له أصوله وأخلاقه وآدابه، فلا يجوز أن يتعرض للأشخاص وشؤونهم الذاتية إلا بالأقدار الضرورية التي تخدم الموضوع، لأنه بذلك يتحول عن غايته الإصلاحية ويصبح عامل هدم وجلد، وتشهير وإساءة، وإنما يتوجه صوب الأعمال والمسالك التي تمس شؤون الحياة العامة، اقتداء في ذلك بمنهج النبوة: (ما بالُ أقوامٍ يفعلون كذا وكذا)، بلا بَخس ولا تطفيف.. مع مراعاة أن النقد لجانب من جوانب دعوات الإصلاح، لا يعني الإلغاء لإنجازاتها وفضلها وكسبها الطيب، واختزال تاريخها في عمل خاطئ أو موقف عاجز متخاذل، والحكم عليها من خلاله، وإنما يعني التوازن، وضبط النِّسب، وإعطاء كل شيء حقه من الحكم، صوابًا أو خطأ، في ضوء معايير معرفة الوحي، بعيدًا عن الذاتية والنرجسية والمعايير الشخصية، وتقديم هذا الرصيد من تقويم الخطأ والصواب للقادمين على الطريق.
وقد يكون من المحزن أيضًا، ضمور وانكماش الأدبيات النقدية لدعوات الإصلاح والتغيير الحديثة والمعاصرة، على الرغم من الشكوى المرة من أنها جميعًا تكرر التجارب نفسها ولا تفيد من أخطائها أو أخطاء مَن سبقها.(1/9)
ومن اللافت للنظر حقًا أنه على الرغم من الإخفاقات الكبيرة والخيبات الكثيرة، والورطات الغريبة التي دُفعت لها بعض الحركات الإسلامية، التي تمت تصفية الحسابات الدولية والإقليمية بدمائها، لم نقف منها على اعتراف واحد بالخطأ أو التقصير أو سوء التدبير، وكأن كل ممارساتنا كانت محض صواب، وكأن غيرنا من الأمم والحضارات وحركات ودعوات الإصلاح والتغيير الأخرى، أولى بهذا الاعتراف بالخطأ، وهذه الشجاعة في العودة إلى الحق منا، لذلك جاءت النتيجة: أن تتراكم المعرفة والخبرة عندهم، وتتكدس الأخطاء وتتكرر عندنا، وتسلمنا هزيمة إلى هزيمة، على الرغم من امتلاكنا القيم السليمة والتجربة الأنموذج، التي وضعناها في خانة التبرك والعزلة عن الحياة.
والملاحظ أن الكثير من الكتابات المتوفرة حول دعوات الإصلاح والتغيير، إما أنها تذهب كليًا للمديح والفخر بالإنجاز، وإما أنها تقدم دراسات وصفية سردية تفسيرية، بعيدًا عن أي تحليل ودراسة موضوعية خاضعة لمنهج واضح في التناول والمعايرة، للوصول إلى نتائج يمكن أن تفيد في متابعة الطريق.. لذلك فمعظمها كتابات هي أقرب للتكديس والتكرار والتلقين، منها إلى إثارة التفكير والملاحظة والاستنتاج والتعرف إلى جوانب الخطأ والصواب.(1/10)
ولا أدري كيف يمكن أن نستفيد من أخطاء مَن سبقنا وصوابه، إذا لم نمتلك الجرأة الكافية في بيان الصواب والخطأ، والكشف عن أسباب الإصابات، ذلك أن الكثير من الدعوات الإصلاحية والتغييرية للواقع، لم تبلغ أهدافها، كما هو معروف، وإن حققت بعضها، ولا يمكن بحال أن نعزو ذلك كله إلى العامل الخارجي الذي كان ولايزال مستمرًا وقائمًا، ليشكل لنا ذلك مهربًا ومبررًا ومشجبًا نعلِّق عليه أخطاءنا، لأننا لو سلمنا بذلك فلابد أن نعترف بما هو أدهى وأمر: بأننا قيادات قاصرة وعاجزة عن التفكير الاستراتيجي، ودون سوية العصر، والتعامل مع الظروف المحيطة في ضوء الإمكانات المتوفرة.. وأكثر من ذلك، ومصرة على الادعاء بعدم التقصير والخطأ.. لذلك قد يصبح من أعدى أعدائها، أولئك الذين يقدمون لها المناصحة، ويكشفون لها بعض جوانب التقصير، ويبصِّرون الأجيال ببعض الإصابات لتجنبها، وكأن قيادات بعض دعوات الإصلاح والتغيير، فوق مراتب الأنبياء المؤيَّدِين بالوحي والمسدَّدين به، الذين عاتبهم الله على بعض أعمالهم، وبيَّن الوحي خطأ بعض اجتهادهم، وغفر الله لهم ذنوبهم التي وقعوا بها بطبيعتهم البشرية، ليعلِّموا الناس أن المناصحة والتقويم والنقد والمراجعة، هي سبيل الطريق الصحيح والسبيل القويم لصواب العمل وبلوغه أهدافه.(1/11)
أو كأنهم فوق مرتبة الصحابة الذين بيّن القرآن خطأهم، وهم في أعلى مراتب الجهاد، وأخطر المآزق العسكرية، وأشد مراحل الهزيمة في أُحُد، والنصر في بدر، وكشف عن طوايا نفوسهم، ونشرها على الدنيا، إلى يوم الدين، في آيات تُتلى ويُتَعَبَّد بتلاوتها، وتُصَوَّب المسيرة بتدبرها، وتُهدى الأجيال بها، إلى يوم القيامة: (قل هو من عند أنفسكم )(آل عمران:165).. (منكم من يريد الدنيا )(آل عمران:152).. (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ) (الأنفال:17).. (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) (الأنفال:1).. (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم )(الأنفال:68) ...إلخ.
إضافة إلى أنه لولا النقد والتقويم والمراجعة والجرح والتعديل، لاختلط الصحيح بالموضوع، والغث بالسمين في ميراثنا الثقافي، والتبست معرفة الوحي بكلام الناس.. تلك العمليات النقدية، هي التي نتميز بها ونفخر، وتشكل لنا في كل عصر إمكانية النهوض.
إن غياب منهج النقد والتقويم والجرح والتعديل، عن الواقع المتحرك لدعوات الإصلاح والتغيير، أوقعها بالكثير من الحفر، وفوَّت عليها الكثير من الأهداف.. وليس ذلك فقط، وإنما ساهم ولايزال بتضليل الأجيال عن البصيرة الصحيحة، والتفكير بالعواقب والمآلات، والإعداد لها بالقدر نفسه للتفكير بالوسائل، وتقديم التضحيات والاقتصار عليها.. ولا أعتقد أن المباهاة والتفاخر بامتلاكنا لمناهج متقدمة للنقد وميراثنا المتميز من الجرح والتعديل، وإعلانه على المنابر فقط، يغيّر من الأمر شيئًا، حيث إن واقعنا يشكل شاهد إدانة على ذلك.(1/12)
إن أخطاءنا هي التي تحيط بنا، وتدمرنا، وتقضي على أهدافنا وطموحاتنا، وتُمكِّن للعامل الخارجي أن يمتد في داخلنا، ويعمل فينا عمله الذي نراه.. والادعاء بأن النقد والتصويب يشوش الصفوف ويخلخلها، ويبصر العدو بمواطن الضعف ليتسلل منها، مردود بأن الصفوف التي لا تحتمل النقد، لا ثقة بها للقيام بأي عمل، وأن العدو -كما هو ملاحظ- أعرف بنا وبأخطائنا منا، وقد يكون وراء صناعة الأخطاء وتكريسها، والإغراء بالتستر عليها، ليحاصرنا ويشل حركتنا.. وما أعتقد بأنه كان -في تاريخنا- أسوأ من هزيمة أُحُد للمسلمين، وانتفاخ عدوهم، ومحاولته إعلاء الوثنية على الإيمان، ومع ذلك عوتبوا وخُطئوا على الملأ، وما ادعى أحد بأن ذلك كان سبيل الأعداء إليهم، لأنهم كانوا يدركون أن ذلك سبيلهم إلى الأعداء في الجولات القادمة.
وفي تقديري أن شيوع الروح الحزبية المتعصبة، والانغلاق على الذات وعن الآخر، وحماية الضعف والعجز والتخاذل، وراء الأسوار الحزبية السميكة، هو الذي سمح بوصول بعض الناس من غير المؤهلين إلى مواقع القيادة، وجعل مهمة الحفاظ على استمرارهم هو الهدف، بعيدًا عن الامتحان والاختبار، وكان ذلك أهم سبب في تكريس الخطأ ومطاردة ومحاصرة أي توجه نقدي أو إصلاحي.. ونخشى أن تتحول الأمور إلى ضروب من الجاهلية، مغلفة بشعارات إسلامية.
ومن المفيد أن نذكر هنا أن خطورة الحضارة القائمة الغالبة وامتدادها، يكمن في قدرتها على اكتشاف أمراضها وأخطائها، ومعالجة نفسها بنفسها، حتى نرى أن خصومها من أمثالنا، الذين يعيشون في غرف الانتظار ويتمنون سقوطها، يبرهنون على فسادها بالعلل والأمراض التي كشفتها هي، واستنفرت للتحذير من خطورتها، والعمل على علاجها.. حتى العلل لا نستطيع إدراكها إلا من خلال دراساتهم وإحصاءاتهم!! أما نحن فلا علل ولا أخطاء لنا، على الرغم من واقعنا المتردي، وكأننا فوق مرتبة البشر!!(1/13)
وهنا قضية قد تكون جديرة بالملاحظة والانتباه، ونحن بصدد إلقاء بعض الأضواء على دعوات ومحاولات الإصلاح والتغيير والتجديد، في الداخل الإسلامي، وهي أن دعوات الإصلاح والتجديد التي نبتت في التربة الإسلامية، وعلى الرغم مما أدركها من الخطأ والنقص والتقصير، الأمر الذي حال دون بلوغها أهدافها كاملة، إلا أنها تركت رصيدًا طيبًا في ضمير الأمة، وجددت ذاكرتها تجاه واقعها الأليم، وبصّرتها بأعدائها الذين كادوا يلبّسون عليها، ومكّنتها من الاحتفاظ بقيمها، والاستشعار بأن القيم الإسلامية في الكتاب والسنة، هي سبيل الخروج وسفينة النجاة، وإن لم تستطع أن تفلح بشكل كامل في تقديم الأوعية المطلوبة لحركة الأمة في اتجاه عودتها للإسلام، وتحويل المبادئ إلى برامج والسياسات إلى خطط وممارسات.
لقد نجحت هذه الدعوات في أن تعزل الفساد ومؤسساته عن ضمير الأمة، وتحد من استشراء الشر، وتترك بصماتها في العمق التاريخي لمسيرة الأمة، وتجديد ذاكرتها تجاه عدوها.
وعلى النقيض من ذلك، نجد أن دعوات التغيير وادعاء الإصلاح والثورة على التقاليد والواقع الاجتماعي، التي جاءت من خارج الأمة، وحاولت أن تفرض نفسها وأفكارها وتغري بها، بالمال والسلطان والإعلام، والإكراه، ومساندة الاستعمار بكل أنواعه، عاشت على هامش ضمير الأمة، وإن أوقعت بعض الضحايا لتضليلها الفكري وعمالتها الثقافية، وتحولت لتصبح شاهد إدانة تاريخي على محاولات النيل من عقيدة هذه الأمة وتفتيتها وتضليلها، باسم إصلاحها والنهوض بها، بل لعلها كانت من عوامل النجاح لدعوات الإصلاح الإسلامية بصورة أو بأخرى، بسبب استفزازها وتحديها.(1/14)
وقد يكون السبب الأساس في ذلك، أن أية محاولة أو دعوة للإصلاح والتغيير، تأتي من خارج الأمة وعقيدتها ومعاناتها ومشكلاتها ومخزونها الثقافي وتقاليدها الاجتماعية السليمة، سوف تبوء بالفشل، لأنها دخيلة، وأقل ما يقال فيها: إنها تحاول التجديد لواقع أمة ومعايرته من خلال أصول حضارية وثقافية ودينية غير أصولها وحضارتها وثقافتها ودينها.
ولعل الكثير من الارتكاسات والصراعات وصور العنف، التي تعاني منها مواقع كثيرة في العالم العربي والإسلامي، في مرحلة ما بعد الاستعمار، إنما هي بسبب عدم قدرة دعوات الإصلاح والتجديد والتغيير على الامتداد بدعوتها، والحفاظ على إنجازاتها، وتنميتها وحمايتها، وتحقيق أهدافها، الأمر الذي مكّن الآخر من السطو ومحاولة العبث، وسوء التعامل، والتنكر للأهداف، في مراحل ما بعد الاستقلال.. تلك الأهداف التي دفعت الأمة ثمنها غاليًا من دمائها وأوقاتها، وبات من الصعب جدًا التنازل عنها، لذا يتحول بأس الأمة الشديد إلى ما بينها، وتبدأ مرحلة التآكل والتناكر والتنافر والخلاف والدخول في الأنفاق المظلمة، التي يسودها عمى الألوان، وممارسة البطش في الاتجاهات كلها، ومن الجهات كلها، وتبدأ لغة القوة والعنف تفرض نفسها، وتستدعي مزيدًا من السلاح نفسه لجميع أطراف النزاع، ويسود شعار: الخوف على الديمقراطية من الديمقراطية!!(1/15)
وبعد هذه الملامح الرئيسة لدعوات الإصلاح والتغيير والتجديد، نعرض لبعض جوانب النجاح التي أصابها الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، رائد الإصلاح والتجديد والتغيير، ورئيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر، ونسارع إلى القول: بأن الشيخ -وإلى حد بعيد- حاول أن يستوعب الواقع بكل مكوناته، سواء في ذلك الداخل الإسلامي (واقع الشعب الجزائري)، أو على مستوى المحاولات الاستعمارية في طمس الهوية وممارسة عملية التذويب، عن طريق الثقافة والسياسة والتربية والتعليم، وتشكيل الطابور الخامس الملحق بفرنسا والمروج لها، سياسة وثقافة وحضارة.. كما أنه لم ينس الأساليب السياسية والثقافية المستمرة في السيطرة على العالم الإسلامي، المتمثلة بسياسة: (اقطع الشجرة بأحد جذوعها)، وذلك باحتواء واختراق بعض الفئات والتجمعات التي ترفع الشعارات الإسلامية، لتصبح ظهيرة للاستعمار بأنواعه المتعددة، ولِتُوهِمَ بأن فرنسا ليست ضد الإسلام كدين، وإنما ضد بعض الأنشطة الإسلامية، ولعل هذا أوضح ما يكون في تاريخ الجزائر، ابتداءًا من التحضير للثورة وقيام القيادات الشعبية الإسلامية.. ولا نرى أنفسنا بحاجة إلى ذكر بعض الأسماء والعناوين، وإشاعة الفهوم المعوجة والتدين المغشوش، الذي مارسته بعض الجماعات الصوفية المنحرفة، صنيعة الاستعمار، لدرجة وصلت محاولاتها إلى التفكير في اغتيال زعماء الإصلاح والتغيير والتحرير.(1/16)
لقد سيطرت الطرق الصوفية على الفكر الإسلامي والمجتمع في القرن التاسع عشر سيطرة مذهلة، فبلغ عدد الزوايا في الجزائر 349 زاوية، وعدد المريدين أو الإخوان 295.000 مريدًا.. والفقهاء الذي عرفوا بمعارضتهم الصوفية، أصبحوا بدورهم (طرقيين)، فساد الظلامُ، وخيّم الجمود، وكثرت البدع، واستسلم الناس للقدر، بمفهومهم المتواكل، وأصبحوا إذا سئل أحدهم عن حاله، أجاب: (نأكل القوت ونستنى' الموت).. وهذه الظاهرة الاجتماعية أدت إلى تعطيل الفكر، وشل جميع الطاقات الاجتماعية الأخرى (انظر: ابن باديس حياته وآثاره، جمع ودراسة الدكتور عمار الطالبي، ص18).
ولقد لخص الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله ذلك بقوله: أما ابن باديس، فقد جاء في فترة جددت فيها النزعة الصوفية، وهنا موضع الخطورة، ذلك أن الحلقة لم تُستأنف بالفقه والرباط، بل بالتميمة والزاوية.
ويرى الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله أن الشيخ عبد الحميد بن باديس قد قام بتلك الثورة الفكرية على أحسن وجه، وبدد ما كان مخيمًا على الجزائر من تقاليد ثقيلة تتمثل في تلك الطرق الجامدة المخدرة للشعب (ابن باديس، حياته وآثاره، ص9).
وقد يكون من المفيد أن نثبت رؤية الأستاذ الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله للواقع الذي بدأ العملَ فيه الشيخُ ابن باديس وجمعيةُ العلماء، يقول واصفًا الحال التي عليها الناس: (فهذا يرنوا إلى المذهب الكمالي... وذاك ينزع إلى التمدن الغربي، ومنهم من انحدر إلى مذهب المادة... ونرى من بين هؤلاء وأولئك عمائم الإصلاح تدلنا على منهاج آخر، يقوم على عقيدة صحيحة، ورجوع إلى السلف الصالح، وتغيير ما بالنفس من آثار الانحطاط). (آثار ابن باديس، ص67).(1/17)
ويجعل حركة العلماء المسلمين أقرب الحركات والقيادات إلى النفوس ولكنها -حسب رأيه- ما لبثت أن انحرفت منهجيًا عن أهدافها، وأعطت القيادة للانتهازيين السياسيين في سنة 1936م في المؤتمر الجزائري الإسلامي، فأخفق المؤتمر ودب الشقاق في صفوف الجمعية، كأن مركب النقص هو الذي جعلهم يسلمون الزعامة لرجل اللغة الأجنبية، فسايروا قادة السياسة في تلك الفترة، ظنًا منهم أنهم سيحمونهم ويدفعون عنهم شر الحكومة الفرنسية، باعتبار أن التغيير الاجتماعي الذي يبدأ في تغيير النفس هو الأساس في المشكلة لا الذهاب إلى باريس، والتعلق بسراب ووعود الجبهة الشعبية، وهذا ما تأكد لهم فيما بعد، حيث عبر ابن باديس عن ذلك بوجوب الاعتماد على أنفسنا والاتكال على الله (آثار ابن باديس، ص68).
ويوجه مالك من ناحية أخرى نقدًا للحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي بشكل عام، التي وإن أخذت بفكرة الإصلاح الديني، الذي يعتبر نقطة انطلاق في كل تغيير اجتماعي، إلا أنها ابتدأت بمرحلة علم الكلام، وتخطت المرحلة الأخلاقية التي تؤدي إلى أول تغيير للقيم الاجتماعية، فهذا يعتبر مزلقة لا تؤدي إلى الوعي بقدر ما تؤدي إلى علم الجدليات، لكنه يستثني حركة الإصلاح في الجزائر، ويعود الفضل في ذلك إلى شخصية الشيخ ابن باديس في بداية الأمر، حيث كانت الحركة تنطوي على جذوة روحية، لكن ما لبثت أن أضحت تكوّن متخصصين بارعين أكثر مما تعمل على تكوين دعاة مخلصين (آثار ابن باديس، ص69).
وأعتقد أن مثل هذه النظرات النقدية القويمة، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا حول بعض جوانبها، تمثل ظاهرة صحة، وتشكل علامات مضيئة على الطريق، حتى لا نقع بالخطأ نفسه، فنستفيد من الخطأ لنتجنبه، كما نستفيد من الصواب فنتلمسه، خاصة وأن أخطاءنا تتكرر اليوم على الجغرافيا نفسها.(1/18)
نعود إلى القول: بأن الشيخ ابن باديس رحمه الله وأجزل ثوابه، استطاع أن يدرك جوانب الإصابة والخلل في المجتمع الجزائري الواقع تحت الاحتلال، والأسباب التي ألحقت به هذه الإصابات، وبدأ التفكير بمعالجة جذور الأزمة، أو السبب العميق الذي يكمن وراءها، ولم يقتصر في ذلك على معالجة الآثار، على الرغم من أهميتها، ولم يغب عنه ولا لحظة واحدة أن صلاح هذه الأمة مرهون بالمنهج الذي صلح به أولها، واختبر ذلك في نفسه وما تحقق له من نقلة ثقافية فتحت بصيرته بسبب صلته بالقرآن وانضباطه بمنهجه، وأدرك أن البعث والإحياء إنما ينطلق من مجموعة مرتكزات وجهت إليها الآية الكريمة في قوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )(الجمعة:2).
فالبعث والإحياء للواقع الإسلامي الراكد، الذي يسوده التقليد والجمود على مستوى الداخل، ومحاولات التغريب والخروج عن منظومته المعرفية وأصوله الحضارية على مستوى الوافد، لا يكون ولن يكون إلا بالعودة إلى الرسالة (قيم الكتاب والسنة)، ومعايرة الواقع بها، بحيث ينظر إلى الواقع من خلالها، وتستوحى' الحلول لمعاناة الواقع ومشكلاته في هديها، وأن ينطلق دعاة الإصلاح من داخل الأمة، بكل ظروفها ومعاناتها وميراثها الثقافي ومعادلتها الاجتماعية: (رسولاً منهم)، والتأكد من أن أية طروحات وافدة من خارج الأمة، محكوم عليها بالفشل.. ولا نعتقد أننا بحاجة إلى الأدلة على أن ينطلق الإصلاح من تلاوة القرآن وتدبر آياته: (يتلوا عليهم آيته).. وأن تؤسس مناهج التربية والتزكية وتحرير الضمائر وتطهير النفوس (ويزكيهم)، على قيم الكتاب والسنة .. وأن تتمحور مناهج بناء المرجعية في أنظمة التعليم على قيم الكتاب والسنة: (ويعلمهم الكتاب والحكمة)، فيصبح الكتاب والسنة، مصدري المعرفة والتربية والثقافة والأخلاق، كما هما مصدرا التشريع.(1/19)
فلقد كرّس الشيخ ربع قرن من حياته للقرآن، بعد أن حفظه، فالقرآن صاغ نفسه وهز كيانه، واستولى على قلبه، فاستوحاه في رسم منهجه طوال حياته، وترسم خطاه في دعوته، وناجاه ليله ونهاره، يستلهمه ويسترشده ويتأمل فيه، فيَعُب منه، ويستمد علاج أمراض القلوب وأدواء النفوس، ويذيب نفسه ويبيد جسمه الهزيل في سبيل إرجاع الأمة الجزائرية إلى الحقيقة القرآنية، منبع الهداية الأخلاقية والنهوض الحضاري، وكان همه أن يُكَوِّن رجالاً قرآنيين يوجهون التاريخ، ويغيرون الأمة، ولذلك فإنه جعل القرآن قاعدة أساسية ترتكز عليها تربيته وتعليمه للجيل، قال: فإننا والحمد لله نربي تلامذتنا على القرآن من أول يوم، ونوجه نفوسهم إلى القرآن في كل يوم) (انظر ابن باديس، حياته وآثاره، ص79).
وقد وصف معاناته من نظام تعليم القرآن السائد بقوله: (وذلك أني كنتُ متبرمًا بأساليب المفسرين، وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية واصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله، ضَيِّقَ الصدرِ من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن، وكان على ذهني بقية غشاوة من التقليد واحترام آراء الرجال، حتى في دين الله وكتاب الله، فذاكرتُ يومًا الشيخ محمد النخلي (أستاذه المدرس بجامع الزيتونة)، فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق، فقال لي: اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، وهذه الآراء المضطربة، يسقط الساقط ويبقى الصحيح وتستريح، فوالله لفد فتح بهذه الكلمات القليلة عن ذهني آفاقًا واسعة لا عهد له بها) (ابن باديس، حياته وآثاره، ص78).(1/20)
ولم يقتصر الشيخ ابن باديس رحمه الله على نقد مناهج التعليم والتربية في المدارس التي أنشأتها فرنسا، القائمة على إلغاء الهوية العربية الإسلامية وتذويب الشعب الجزائري، والعمل على تقديم البدائل من المدارس والمعاهد الخاصة، وكتاتيب تحفيظ القرآن، وإنما عانى من واقع المدارس والمعاهد ومؤسسات التعليم الشرعي القائمة، التي أصيبت بالعجز والعقم، وتحولت من إدراك المقاصد وتحقيق الأهداف، إلى استنزاف الطاقة في علوم الآلة (الوسائل)، دون استخدامها، فأضاعت بذلك الأجر والعمر، وانعزلت عن ضمير الأمة، وبعث نهضتها، وسمحت بامتداد الآخر من خلال مناهج التعليم الاستعماري المتطورة، وكان يلمس ذلك في نفسه أثناء دراسته في جامع الزيتونة، لذلك تعرّض لنقد طرق التدريس في جامع الزيتونة، وبيّن أنها ليست وسيلة تؤدي إلى تحقيق الغرض من التربية كما يتصوره، بل إنما تكوِّن ثقافة لفظية يهتم أصحابها بالمناقشات اللفظية العقيمة طوال سني الدراسة.
ويذكر ابن باديس، أن الطالب كان يُفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية، دون أن يكون قد طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير كتفسير الجلالين مثلاً، وإنما يغرق في خصومات لفظية بين الشيخ عبد الحكيم وأصحابه في القواعد، التي كان يظن الطالب أنه فرغ منها، ويتخرج الطالب دون أن يعرف عن حقيقة التفسير شيئًا، وذلك بدعوى أنهم يطبقون القواعد على الآيات، كأنما التفسير يدرس من أجل تطبيق القواعد لا من أجل فهم الشرائع والأحكام، وهذا يعتبره الشيخ ابن باديس هجر للقرآن، مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم يخدمون القرآن (ابن باديس، حياته وآثاره، ص108).
وكان يرى أن هذا يتعارض مع الهدف التربوي الإصلاحي، الذي يتمثل في إرجاع ضمير الإنسان المسلم إلى الحقيقة القرآنية، كأنه أنزل على قلبه، واتصاله به من جديد اتصالاً حيًا دافعًا للعمل.(1/21)
لقد كان منهج الشيخ ابن باديس رحمه الله للبعث والإحياء والتغيير والإصلاح، ينطلق -كما أسلفنا- من القرآن الكريم، وبيانه النبوي، مستلهمًا قوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ). وقوله تعالى: (رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) (التوبة:128)، فتوجه صوب التربية والتعليم لرفع المعاناة وتحرير الضمير، وإعادة بناء الرسالة القرآنية في نفوس الشعب، وإشاعة اللغة العربية في لسانه وحياته الثقافية، وإحداث التفاعل مع القرآن من جديد، بحيث تُزال الحواجز اللفظية الجدلية والنفسية بين القرآن والإنسان، فكانت حلقاته ودروسه القرآنية والحديثية، في المساجد (مجالس التذكير).
فأحيا بهذه المجالس معاني القرآن، وبيّن أهمية المجاهدة به في إحياء النفوس بعد مواتها، واسترد رسالة المسجد في التعليم الجماهيري العام، أو الثقافة الجماهيرية -إن صح التعبير- واعتبر تعليم الجماهير في المسجد هو صنو الصلاة، من حيث أثره وانعكاساته على الواقع الاجتماعي والتربوي، ذلك أن الثقافة الجماهيرية والتشكيل الثقافي، يبقى محلها المسجد، إلى جانب التعليم المنهجي الذي مكانه المعاهد والمدارس والجامعات، حيث يتأكد دور المسجد في التعليم والتربية والتثقيف أكثر فأكثر، في ظروف الاستعمار وعهود ما بعد الاستعمار، وما يرافقها من محاولات الارتهان الثقافي والتربوي.(1/22)
ولم يقتصر على دور المسجد في عملية التعليم والتثقيف الجماهيري، وإنما أدرك أن هناك شرائح من المجتمع لابد أن تخاطَب بوسائل إعلامية أخرى، فدخل ميدان الصحافة، و(أنشأ صحافة عربية كانت منبرًا رحبًا، يعلن في عزم وثقة أن الحركة الإصلاحية الجزائرية، حركة شعبية أصيلة، تعمل لإحياء التراث الثقافي للأمة، وتنقيته من الشوائب التي علقت به، وتنشر الوعي الديني والاجتماعي والوطني، وهكذا أصدر جريدة (المنتقد) عام 1925م، ثم صحيفة (الشهاب الأسبوعي)، التي حولها إلى مجلة الشهاب الشهرية، منذ فبراير 1939م، ومجلات أخرى منها (الشريعة)، و(السنة)، و(الصراط)، و(البصائر).. وقد قامت هذه الصحافة بعمل إيجابي ضخم في مجال اليقظة الفكرية والوعي الوطني، والإصلاح الديني، وإحياء اللغة العربية، محبطًا بذلك كله مخططات الاستعمار الرامية إلى تشويه الشخصية الجزائرية في كل ميدان) (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، ص482).
وعلى الرغم من عناية ابن باديس رحمه الله بالثقافة الجماهيرية، وإدراكه لأهميتها، إلا أنه ركّز أيضًا على بناء النخبة التي تمثل عقل الأمة ومرجعيتها وقيادتها، لذلك عمد إلى فتح المدارس والمعاهد، واهتم بوضع المناهج والأنظمة التربوية والتعليمية.(1/23)
ولقد تنبه الشيخ ابن باديس رحمه الله تعالى إلى خطورة دور المرأة في النهوض والتحرير، وأهميتها في التربية والبناء الثقافي، وأهمية تعليمها، حتى تقوم برسالتها كما شرع الله، وتحسن القيام بوظيفتها في المجتمع، حيث لابد من الاعتراف أن المرأة كانت أحد معابر الغزو الثقافي أو أحد الثغور المفتوحة في الجسم الإسلامي، في أكثر من بلد إسلامي، وحتى عند بعض حركات الوعي واليقظة الإسلامية، لأنها حُكمت بالتقاليد الجاهلية، بعيدًا عن التعاليم الإسلامية، وحُرمت مما أعطاها الله من حقوق وواجبات، فكانت مجالاً مفتوحًا لامتداد شياطين الإنس والجن.. حُرمت من التعليم باسم حمياتها من الفساد، وكأن الجهل خير من العلم، وكأن التعليم نقيض التدين، والعلم ضد الإيمان، لذلك اختلت المعادلة الاجتماعية، واهتزت الوظيفة التربوية، وسبق الآخرون بإرسال الإناث إلى المدارس، ومن ثم جئن معلمات ومرشدات لبنات المسلمين، لإفساد دينهن وعقلهن، ومحاولة إقناعهن أن تعلمهن إنما هو بسبب الابتعاد عن الدين، لإغراء بنات المسلمين بالانسلاخ عن دينهن، وحصلت خسائر كبيرة قبل إدراك المسلمين الذي جاء متأخرًا بأهمية تعليم المرأة.
لذلك أدرك الشيخ ابن باديس رحمه الله ببصيرة نافذة، منطلقًا من الكتاب والسنة، ما للمرأة من دور ووظيفة، فأوجب تعليمها، وإنقاذها مما هي فيه من الجهالة العمياء، ونصح بتكوينها تكوينًا يقوم على أساس العفة وحسن تدبير المنزل والشفقة على الأولاد، وحسن تربيتهم، كما أنه حمَّل مسؤولية جهل المرأة أولياءها والعلماء الذين يجب عليهم أن يعلّموا الأمة رجالها ونساءها، وقرر أنهم آثمون إثمًا كبيرًا، إذا فرطوا في هذا الواجب واستدل إلى جانب الآيات والأحاديث، بما استفاض في تاريخ الأمة المسلمة من وجود العالمات والكاتبات الكثيرات.(1/24)
ولعل القضية الأهم التي تمحور حولها نشاط ابن باديس التعليمي والإعلامي، واعتبرها من قسمات الشخصية الجزائرية، ومرتكزات الهوية الوطنية، وحصن الثقافة الذاتية، ومقومات إعادة بناء الأمة، وسبيل إدراكها لعقيدتها وشريعتها ودينها، هي اللغة العربية، لأنها من الدين، ولغة الدين، على الرغم من أنه كان ينحدر من أصول بربرية، وأنه كان يحسن قراءة الفرنسية وفهمها، إلا أنه كان يترفع عن الكلام بها لغير ضرورة.
واللغة عنده ليست وسيلة تعبير وأداة تفاهم فقط، كما يحلو لبعضهم أن يشيع، لتمرير وتسويغ التعليم والمحادثة بغير العربية، وبذلك تصبح اللغة إحدى معابر الغزو الفكري، وبدل أن نترجم تراثنا وعقيدتنا إلى لغة الآخرين، نترجم تراث الآخرين إلى لغتنا، ونقبل بالموقع الأدنى.
فاللغة -إضافة لما أسلفنا- هي أداة تعبير وتفاهم، ووعاء تفكير، وسبيل تغيير وبناء ثقافي، حيث لا يُنكر دور وطبيعة الألفاظ والمفردات في التأثير والتحريك والتغيير، سواء في مجال الوجدان والمشاعر، أو في مجال التفكير وتخصيب الخيال أو تجمده ومحاصرته.. فعُجمة اللسان تدعو إلى عُجمة العقل والقلب.
ولا نريد هنا الإطالة حول هذه النقطة، ولا نحب أن يُفْهَم منها أننا ضد تعلم اللغات الأجنبية والإفادة منها بالقدر المطلوب، والسن المناسب لذلك، وموقع ذلك ومرحلته العمرية من بناء المرجعية اللغوية والفكرية، وحسبنا أن نقول: لقد اتضح من أبحاث علم النفس المعرفي أن اللغة ليست وسيلة للتخاطب الخارجي فقط، بل هي النظام الأساس الذي يستخدمه الإنسان في التفكير أو الكلام النفسي.(1/25)
وقد يكون من الأمور اللافتة للنظر حقًا والدالة على أهمية اللغة -في صياغة التفكير، والمساهمة في التشكيل الثقافي، والارتباط بالجذور، وتحقيق النقل الثقافي، وأهم من هذا وذلك كونها لغة التنزيل، ومفتاح فهمه، وإدراك مقاصده، والصلة بين الأمة وأجيالها- الهجمة الاستعمارية المتركزة على عزل اللغة وتهميشها، وإشاعة اللهجات العامية والمحلية، وتقطيع أوصال الأمة، وبعث اللغات العرقية، ليس كوسيلة تفاهم محلي، وإنما كبديل حضاري وثقافي، ومعبر من معابر الغزو الفكري، الذي يؤدي إلى التفتيت والتبعثر وتمزيق النسيج المعرفي.. ومن هنا ندرك دور العربية في الاحتفاظ بهوية الجزائر وعروبتها وإسلامها، وندرك إصرار الشيخ عبد الحميد ابن باديس رائد الإصلاح والتجديد، على إشاعة العربية والتكلم بها، وجعلها لغة التعليم والتعلم، والارتكاز حول حفظ وتلاوة القرآن، حفاظًا على وحدة الأمة، ولغتها، وعاء تفكيرها، ومصنع أحاسيسها ومشاعرها، ومخزن تراثها، مع أنه بربري الأصل وعلى معرفة بالفرنسية.
ولا يفوتنا أن نبين هنا، أن مصطلح العروبة في بلاد المغرب العربي الإسلامي، يرادف في مدلوله الإسلام تمامًا، ولا يعني فلسفة بديلة عنه، أو توجهًا مقابلاً له، كما هو الحال عند ملاحدة المشرق من العرب، وبعض الأقليات الدينية المتعصبة الحاقدة على حضارة الإسلام.. لذلك لابد من إدراك هذه الحقيقة بوضوح، حتى لا تختلط الأوراق.(1/26)
ومن القضايا القديمة الجديدة، الجديرة بالتوقف والمزيد من التأمل، والتي أدرك الاستعمار ورصيده الباقي في عالم المسلمين، دورها وأثرها في البناء الثقافي والحفاظ على هوية الأمة وتقديم المدد لمؤسسات التعليم الوطني والإسلامي، وتحقيق التكافل الاجتماعي: المؤسسات الوقفية في الجزائر، التي كانت وراء التعليم الخاص الخارج عن السيطرة الاستعمارية، والتي حاولت أن تبني النخب والخمائر الاجتماعية للمستقبل.. لذلك عمد الاستعمار إلى الإشراف عليها، لشل حركتها وتعطيلها -تجفيفًا للمنابع- كما هو الحال اليوم في الكثير من مجتمعات ما بعد الاستعمار، ومجتمعات الارتهان السياسي والثقافي، فحاول الجزائريون تأمين بدائل مالية، لتأمين استمرار التعليم الخاص الخارج عن ربقة الاستعمار والارتهان الثقافي، من خلال التجار والزراع والمواطنين من كل المستويات، مما مكّن من الاستمرار في بناء جيل التحرير وجيش التحرير وتضحيات التحرير.
ولنا أن نقول: إن من أبرز القضايا وأجرأها، التي طرحها الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، إلى جانب جهوده التربوية والتعليمية والدعوية، وحماية الشخصية الجزائرية من الذوبان، تحريم التجنس بجنسية المحتل، الذي كان يحاول الإتيان على كل ما هو عربي مسلم، على مستوى الأرض والإنسان معًا.. وقد يكون من المفيد أن نثبت نص الفتوى بتحريم التجنس قبل إلقاء بعض الأضواء عليها.
يقول ابن باديس: (التجنس بجنسية غير إسلامية، يقتضي رفض أحكام الشريعة، ومن رفض حكمًا واحدًا من أحكام الإسلام عُد مرتدًا عن الإسلام بالإجماع، فالمتجنس مرتد بالإجماع).(1/27)
ولا أريد ابتداءً أن أشير إلى دور هذه الفتوى، وكيف أنها كانت في حينها أمضى من أسلحة جيش كامل العتاد، وما كان لها من الأثر البالغ في حماية الذات والهوية، والاعتزاز بالثقافة العربية والإسلامية وربط الشعب بالقيم الإسلامية في الجزائر، في مرحلة المواجهة والتذويب.. كما أني لست بسبيل المقارنة بين هذه الفتوى وموقعها من النفس، ودورها في الصمود والمواجهة، وبين مئات الفتاوى التي أصبح ديدن أصحابها العبث والتلاعب بالأحكام الشرعية، وتفصيلها حسب الطلب، بل لقد وصل التهافت مع الأسف إلى درجة السؤال عن المطلوب قبل الفتوى، حتى تتم (فبركة) الفتوى من أجله، فهي تحل اليوم ما حرّمته البارحة، وتحرّم غدًا ما أحلته اليوم.. وبعض السياسيين، لا مانع عندهم من توظيف الدين لخدمتهم، في الوقت الذي يحاولون فيه فصل قيم الدين عن حكم الحياة.. ونحمد الله سبحانه وتعالى أن أصبحت الأمة على إدراك كامل لطبيعة مثل هذه الفتاوى، التي تلهث وراء السياسة، وتصنع لها المسوغات، والتي لا تتجاوز إقناع حتى أصحابها.كما نحمد الله أنه لا يوجد في الإسلام كهانات تتحدث باسم الله إلى الناس، مهما كانت مواقعها ووظائفها.
وأعتقد أنه لابد أن نتوقف قليلاً عند هذه الفتوى، التي شكلت عمقًا ثقافيًا لا يجوز تجاوزه في ضمير الأمة، وبعدًا تاريخيًا وسياسيًا لا يمكن طمسه وإغفاله، ذلك أن لهذه الفتوى ظروفها المحيطة، ومرحلتها الدقيقة، وأسبابها ومسوغاتها، وقد شكلت إحدى الأسلحة الماضية في المعركة، والفتوى كما يقال على حسب حال المستفتي، فقد جاءت بوقتها محكومة بمجموعة شرائط، وبالتالي لا يمكن النظر إليها من خارج ظروفها، أو وضعها خارج إطارها، وإغفال مقاصدها.(1/28)
كما لا يمكن تعميمها على كل الحالات والظروف المختلفة اليوم، وقد انتهى حال الكثير من بلدان العالم الإسلامي إلى ما نعلم جميعًا، فهناك الكثير من الأقليات المسلمة في دول أوروبا وأمريكا وأستراليا وسائر بلاد العالم، سواء كانت مهاجرة أو اعتنقت الإسلام هناك، تحمل جنسيات البلاد التي تقيم فيها، وتؤمِّن لها هذه الجنسيات الكثير من الحقوق، وتمنحها الكثير من حرية الحركة والممارسة، وفي مقدمتها حرية العقيدة والعبادة واختيار الانتماء الثقافي، كما تمكنها من الاندماج -وليس الذوبان- في تلك المجتمعات، الأمر الذي يتيح لها نشر عقيدتها، والإغراء بها، وإثارة الاقتداء.
والحقيقة أن هذه الحالات وهذا الواقع الديمغرافي الجديد، يحتاج إلى فقه دقيق، وفهم عميق، يحيط بالقضايا من جميع جوانبها، ويحسن تقدير المصلحة الإسلامية المؤقتة والدائمة، في ضوء ظروف تلك الأقليات وظروف العالم الإسلامي، وهذا لا يعني الدعوة إلى التنازل عن الهوية، فجنسية المسلم عقيدته، وليست الأرض التي يعيش عليها، وإن كانت الأرض كلها لله. لذلك فالمسلم لا يعاني من عُقدة الاغتراب، ولا عقدة الأوراق التي يحملها، لأنها تشكل في النهاية جوازات مرور، وتحقيق مصالح، وتأمين حقوق، وأوضاع شرعية، قد تكون مفقودة في بعض بلدان العالم الإسلامي.
ونستطيع أن نقول اليوم: إن الجغرافيا السياسية بدأت تتراجع إلى حدٍ ما، أمام الجغرافيا الثقافية، والحدود السياسية بدأت تذوب أمام الضَّخِّ الإعلامي والثقافي، والأمور تقدر بقدرها.. وسيبقى فقه هذه الأقليات الإسلامية مطلبًا ملحًا، بحيث يشكل حماية للمسلمين، بقدر ما يشكل دليل تعامل مع المجتمعات التي يعيشون فيها.
أما إذا تعارض التجنس مع الدين، وكان من شروطه التنازل عن العقيدة والعبادة، والتنكر لقيم الإسلام والإنكار لها، فهذا له شأن آخر وفتوى أخرى، قد تحكمها الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، بلا بغي ولا عدوان.(1/29)
والمطلوب أن نأخذ حذرنا، ونستشرف مستقبلنا، ونطرح السؤال الدائم: إلى أي مدى يمكن أن يؤدي منح هذه الجنسيات إلى التذويب المستقبلي للأجيال، أو يحقق ويسهل بعض الحقوق والمواقع الإيجابية لنشر الإسلام، والإغراء باعتناقه، وإثارة الاقتداء بأهله، بحيث لا تبقى الأقليات المسلمة جسمًا غريبًا ? وأعتقد أن مثل هذه القضية، لا يمكن أن تحكمها فتوى عامة، وإنما لكل حالة حكمها، ولكل واقع ظروفه.. والخشية كل الخشية أن تتحول هذه الجنسيات إلى معابر غزو إلى مجتمعات الإسلام والمسلمين لإلحاق الضرر بأهلها، واستلابهم ثقافيًا. والقضية أولاً وأخيرًا مرتبطة بالمسلم نفسه، ومدى إدراكه لرسالته ومجتمعه، وكونه في مستوى إسلامه وعصره معًا، وبذلك يصبح قادرًا وفاعلاً في كل الظروف، وليس كَلاًّ على نفسه ومجتمعه وأمته وانتمائه.. ويتأكد دور المسلم وفاعليته أكثر فأكثر في مرحلة تحول العالم من الجغرافيا السياسية إلى الجغرافيا الثقافية -كما أسلفنا- والتوجه نحو العولمة وصراع الثقافات أو حوار الثقافات، وما يمكن أن يكون من دور للأقليات المسلمة كمواقع متقدمة في الثقافات والحضارات الأخرى، تحمل لها الخير، وتلحق بها الرحمة، وتقنع أهلها أن الإسلام أصلاً ليس دينًا عرقيًا أو طائفيًا، وإنما هو دين الإنسانية جمعاء.
وبعد :
فلا شك أن دراستنا لدعوات الإصلاح والتجديد والتغيير، تمنحنا الحس النقدي، وتمكنا من تحديد أسباب القصور ومواطن التقصير، وإعادة تقويم الواقع بقيم الكتاب والسنة، كما تمنحنا القلق السوي الذي يعتبر بمثابة المحرض الحضاري، والحس بالتناقض بين الواقع القائم والمثال الغائب، كما تحقق لنا -في إطار كيفيات التعامل والنهوض- الاطلاع على التجارب السابقة التي خضعت للاختبار التاريخي، فنضيف عقولاً إلى عقلنا، وتجارب إلى تجاربنا، وتبصرنا بمدى سلامة وسائلنا وجدواها، وتحقق لنا العبرة والعظة، وتمنحنا الوقاية، حتى لا نُلدغ من جُحر مرتين.(1/30)
ولا تعني دراستنا لدعوات الإصلاح والتجديد والتغيير، حصر أنفسنا في إطار الزمان والمكان والمشكلات التي كانت مطروحة في ذلك الزمان، والتي تتغير وتتبدل، وإنما تعني التعرف على المنهج وطريقة التعامل وردود الأفعال، واكتناز الخبرات التي صقلها التاريخ.
ولابد أن ندرك أن صوابية وسائل بعض دعوات الإصلاح، وصلاحها لعصر ماض، لا يعني بالضرورة صوابيتها وصلاحها لكل عصر، فلكل زمان مشكلاته وقضاياه ومتغيراته، التي لابد أن تستدعي تغيير الوسائل كلها، التي لم تعد تنفع لمواجهة المتغيرات، بما في ذلك الأشكال التنظيمية والإدارية نفسها، إذا اقتضى الأمر ذلك، والتي جاء تكوينها طبقًا لرؤية ظرفية معينة.
وهذا الكتاب: يقدم ملامح رئيسة ومحطات بارزة عن منهجيةٍ وتجربةٍ في الإصلاح، تعتبر من أغنى' تجارب دعوات الإصلاح والتجديد والتغيير في العصر الحديث، كان لها الدور الأهم في الاحتفاظ بعروبة الجزائر وإسلامها، أو بعبارة أدق: بهويتها، وبناء جيل التحرير وجيش التحرير.. تلك التجربة التي شكلت عمقًا تاريخيًا في الضمير الجزائري والإسلامي، وتركت بصماتها التي لاتزال مستمرة على الشخصية الجزائرية، والتي تشكل رؤية لابد منها، لفهم الكثير من الخلفيات والتداعيات التي تمر بها حركات الإصلاح والتجديد في مغرب العالم الإسلامي ومشرقه على السواء.
وتبقى تجارب الإصلاح والتجديد تجارب بشرية غير معصومة، يجري عليها الخطأ والصواب، تحقق لنا العظة والعبرة، وتمنحنا الوقاية، وتبصِّرنا بمحاولات تنزيل القيم الإسلامية على الواقع المعيش، بكل ظروفه ومشكلاته.. لكن لابد من التنبه إلى أن فترة السيرة المسددة بالوحي، تبقى هي النموذج والمعيار ودليل الاهتداء لكل السائرين على الطريق، في كل زمان ومكان.
والحمد لله من قبل ومن بعد.
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.(1/31)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، بعثه الله رحمة للعالمين، وإمامًا للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين، هاديًا إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، صلى الله عليه وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الدارس للتاريخ الإسلامي، والمطلع على أسراره، يدرك بوضوح العداوة المستمرة لهذا الدين، يقول تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا )(البقرة:217). فالصراع معهم مستمر، وقديم قدم هذا الدين.
فمنذ أن أشرقت أنوار الحق في ربوع الجزيرة العربية، انطلق هذا المسلسل في حلقات مازالت تلاحقنا إلى اليوم، ورغم سماحة الإسلام وحسن معاملته لأهل الذمة، إلا أن هولاء ما فتئوا يتربصون به الدوائر.
فقد غدر اليهود بالمسلمين في المدينة المنورة (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار )(الحشر:21).
وازداد هذا الصراع ضراوةً حين بدأ الإسلام يتجاوز حدود الجزيرة العربية، فحاول الفرس والروم ضربه وإيقاف مدّه، فتحطمت قوتهم على صخرة الحق المبين، ولم يهدأ أعداء الإسلام من الكيد له، وكلّما أرادوا به شرًا قيض الله لهم من عباده الصالحين من يشرّد بهم، لتبقى كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.. وما الحروب الصليبية المتعاقبة، إلا لون من ذلك الصراع المتواصل بين الحق والباطل.
وفي كل مرة يبعث الله من يجدّد أمر هذا الدين، الذي قضى بخلوده. وما حدث للشعب الجزائري -الذي ابتلي بأعتى استعمار- دليل على ذلك.
والمتتبع لتاريخ الجزائر القريب، تظهر أمامه بجلاء مكانة الدين في نفوس أهلها، وقد عَضوا عليه بالنواجذ، كما تظهر كذلك في مخططات الاستعمار الفرنسي، الذي عقد العزم على إنهاء مهمة الإسلام في تلك الربوع.(1/32)
وقد أدى إصرار الصليبيين الفرنسيين على إزالة الإسلام من أمامهم، إلى إصرار المسلمين الجزائريين على دينهم وعقيدتهم.. وتظهر روح الحقد الدفين على الإسلام، في الكلمات التي قالها سكرتير الجنرال بيجو Bugeaud حاكم الجزائر: (إن أيام الإسلام قد دنت، وفي خلال عشرين عامًا لن يكون للجزائر إله غير المسيح، ونحن إذا أمكننا أن نشك في أن هذه الأرض تملكها فرنسا، فلا يمكننا أن نشك بأي حال من الأحوال أنها قد ضاعت من الإسلام إلى الأبد).
وقد انتهجت فرنسا تجاه الجزائر سياسة لو تحققت لربما كان تاريخ الجزائر قد كُتب على نحو آخر.
فقد تدهورت الحالة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والدينية للمجتمع الجزائري، فحلّت اللغة الفرنسية محل اللغة العربية، وحوصر الدين في أضيق نطاق، وما بقي منه عَبَثَ به أصحابُ الطرق الصوفية المنحرفة، الذين خدّروا الشعب بنشر الخرافات والبدع بما لهم من سلطان على الأرواح والأبدان.
ولكن حكمة الله اقتضت أن يقيّض لهذا الشعب من يجدّد له أمر دينه، ويعود به إلى المنابع الأصيلة لهذا الدين الحنيف، فظهر الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس، رائدًا للحركة الإسلامية الحديثة في الجزائر، فكان نعمةً منَّ الله بها على هذا الشعب المسلم في عسره وشدائده، وشعلة من نور أضاءت طريقه خلال حوالك الظلمات. فانطلق رحمه الله، معتمدًا على الله، مستنيرًا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، يعلّم جيلاً كادت تغمره ظلمات الجاهلية، ويربي أمة أراد الاستعمار أن يُنصرّها، فأبت إلا أن تكون إسلامية، ويكافح أمية ألقت على الشعب أوحالاً من التبعية، ويعالج أمراضًا اجتماعية يغذيها استعمار طال ليله.
من هنا ندرك ثقل الأمانة التي تصدّى ابن باديس لحملها، والغاية التي ضحى من أجلها، فكان رحمه الله قدوة لأهل العلم، ونارًا على المستعمر وأتباعه، وخزيًا لأهل البدع والأهواء.(1/33)
ويعتبر الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس عَلَمًا من أعلام الإسلام وأحد كبار المصلحين في القرن العشرين، وآثاره مازالت زادًا علميًا وثقافة لطلاب العلم والمعرفة.
وإن إبراز جهوده في المحافظة على الشخصية العربية الإسلامية للشعب الجزائري، ومنهجه في تربية تلك الأجيال التي صارعت المستعمر، مسؤولية كبرى تقع على عاتق الباحثين من أجل التعريف بهذا العالِم الجليل.
وهذه الدراسة تهدف إلى إبراز الجهود، واستخلاص الآراء التربوية للإمام ابن باديس، من خلال ما جُمِعَ من آثاره، كما تهدف أيضًا إلى إبراز محاسن آرائنا التربوية، وإظهار أصالتنا الإسلامية في هذا المجال.
ولا شك أن للإمام عبد الحميد بن باديس جهودًا فكرية في مجالات شتى، لكننا نقتصر في بحثنا هذا على جهوده في مجال التربية والتعليم، راجين من المولى العلي القدير أن يوفق ويعين.
هذا وقد حاولتُ طيلة البحث التزام الدقة فيما أوردته، والموضوعية فيما ذهبتُ إليه، مدعمًا ذلك كله بالأمثلة والشواهد من آثار ابن باديس.
وقد اعتمدت في استخراج الآراء التربوية على مصادر رئيسة، منها:
1- آثار الإمام عبد الحميد بن باديس (الجزأين الأول والثاني).
2- مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، وأرمز إليه بـ: (مجالس التذكير ـ التفسير).
3- مجالس التذكير من حديث البشير النذير، وأرمز إليه بـ (مجالس التذكير ـ الحديث).
وذلك لأنها تمثل المنهج الحقيقي لابن باديس، ولاحتوائها على أهم عناصر البحث.
الفصل الأول : المجتمع الجزائري في عصر ابن باديس العرب والبربر في الجزائر
إن البربر شعوب متعددة القبائل، تنتهي في رأي النسابة إلى جذرين أصليين: (البرانس) و(البتر)، وينتهي البرانس والبتر معًا إلى (مازيغ ابن كنعان، من نسل حام بن نوح، عليه السلام، ويذكر ابن خلدون أنهم -البربر- من بني برّ بن قيس بن عيلان، وهي قبيلة مضرية، فهم إذن ساميون عرب، وكان دينهم دين المجوسية.(1/34)
ومع وصول قوافل العرب الفاتحين في القرن الأول الهجري، بدأ المغاربة يدخلون في دين الله أفواجًا، وكان لهؤلاء الفاتحين الأوائل، أمثال عقبة بن نافع وأبي المهاجر دينار، دور عظيم في نشر الإسلام في تلك الربوع، (كما ترك موسى بن نصير سبعة عشر فقيهًا بالمغرب، وأرسل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعثة إلى المغرب تضم عشرة من فقهاء التابعين).
وقد ثبت الأمازيغ على عقيدة الإسلام بعد فترة قصيرة من الزمن، فما كاد ينتهي القرن الأول إلا وهم ثابتون على عقيدة الإسلام.
وما الجهود التي قدمها (البربر) في فتح الأندلس بقيادة طارق ابن زياد البربري، إلا دليل على وجود مد إسلامي قوي بينهم. وامتزج العرب والبربر مع مرّ القرون، وتكوّن منهم جنس، أُمُّهُ الجزائر وأَبُوهُ الإسلام، كما يحلو للإمام ابن باديس أن يصفهم، إذ يقول: (إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ، وحّد بينهم الإسلام منذ بضعة عشر قرنًا، ثم دأبت تلك القرون تمزج بينهم في الشدة والرخاء، حتى كوّنت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرًا مسلمًا جزائريًا، أمّه الجزائر وأبوه الإسلام).
وقد أقبل البربر على دين الله، وتشرّبوا وأُشربوا حُبه، وتثقفوا بثقافته، وتحصنوا بعقيدته، فأصبحوا ركنًا من أركانه يذودون عنه باللسان والقلم والسيف.
واليوم لا يمكن التمييز بين هاتين الطائفتين أبدًا، فلا طرائق المعيشة ولا اللغة يمكن أن يستخلص منها أساس لمثل هذا التمييز، ناهيك عن عقيدة التوحيد التي ألّفت بين قلوبهم.
ولقد اتضحت آيات اتحادهم جلية، وبرهن الشعب الجزائري في أحلك الأوقات أنه شعب واحد، لا يرضى بغير الإسلام دينًا، فهبّ منذ وطئت أقدام المستعمر بلاده يقاوم ويحارب جحافل الغزاة.(1/35)
وعلى الرغم من أهمية الإحاطة بالحالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع الجزائري، التي مهدت لظهور الحركة الإصلاحية، إلا أننا سوف نركّز على الحالة الثقافية والفكرية، لأنها الصورة الأكثر دقة وتعبيرًا عن الواقع بكل أبعاده تقريبًا.
الحالة الثقافية والفكرية العوامل الثقافية والدينية التي أثرت في فكر ابن باديس
أولاً: الحالة الثقافية والفكرية في الجزائر قبل الاحتلال:
إن انتشار المدارس والمعاهد والزوايا في مختلف نواحي الجزائر خلال تلك الفترة، دليل على أن الحياة الفكرية والثقافية كانت مزدهرة بها.
وقد اشتهرت مدن قسنطينة والجزائر وتلمسان وبلاد ميزاب في الجنوب بكثرة المراكز التعليمية، وكان يقوم عليها أساتذة وعلماء مشهود لهم بعلو المكانة ورسوخ القدم في العلم والمعرفة، مثل الشيخ (الثميني) في الجنوب، والشيخ (الداوودي) في تلسمان، والشيخ (ابن الحفّاف) بالعاصمة، والشيخ (ابن الطبّال) بقسنطينة، والشيخ (محمد القشطولي) في بلاد القبائل، وغيرهم كثير ممن تفرّغوا للتدريس ونشر العلم.
وكان من نتائج هذا الانتشار الواسع لمراكز التربية والتعليم، أن أصبحت نسبة المتعلمين في الجزائر تفوق نسبة المتعلمين في فرنسا، (فقد كتب الجنرال فالز سنة 1834م بأن كل العرب (الجزائريين) تقريبًا يعرفون القراءة والكتابة، حيث إن هناك مدرستين في كل قرية... أما الأستاذ ديميري، الذي درس طويلاً الحياة الجزائرية في القرن التاسع عشر، فقد أشار إلى أنه قد كان في قسنطينة وحدها قبل الاحتلال خمسة وثلاثون مسجدًا تستعمل كمراكز للتعليم، كما أن هناك سبع مدارس ابتدائية وثانوية يحضرها بين ستمائة وتسعمائة طالب، ويدرّس فيها أساتذة محترمون لهم أجور عالية).
وقد أحصيت المدارس في الجزائر سنة 1830م، بأكثر من ألفي مدرسة ما بين ابتدائية وثانوية وعالية.(1/36)
وكتب الرحالة الألماني (فيلهلم شيمبرا) حين زار الجزائر في شهر ديسمبر 1831م، يقول: (لقد بحثتُ قصدًا عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتابة، غير أني لم أعثر عليه، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلما يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد الشعب).. وخير المثال ما شهد به الأعداء.
وقد برز في هذه الفترة علماء في كثير من العلوم النقلية والعقلية، زخرت بمؤلفاتهم المكتبات العامة والخاصة في الجزائر، غير أن يد الاستعمار الغاشم عبثت بها سلبًا وحرقًا، في همجية لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً.
يقول أحد الغربيين واصفًا ذلك: (إن الفرنسيين عندما فتحوا مدينة قسنطينة في شمالي أفريقيا، أحرقوا كل الكتب والمخطوطات التي وقعت في أيديهم، كأنهم من صميم الهمج).
يظهر مما ذكرنا أنه كان للجزائر مكانها المرموق بين أقطار المغرب في خدمة علوم العربية والإسلام، كما قدّمت للميدان أعلامًا من رجالها، حملوا الأمانة، وكانت تُشدُّ إليهم الرحال في طلب العلم.
ثانيًا: الحالة الثقافية والفكرية والدينية أثناء الاحتلال:
يمكن تقسيم الفترة الممتدة من دخول الاستعمار إلى ظهور دعوة الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى مرحلتين:
* المرحلة الأولى (1830-1900م):
لم تقتصر اعتداءات الاحتلال الفرنسي للجزائر على الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية فحسب، بل عمد إلى تدمير معالم الثقافة والفكر فيها، وقد ظهر حقده الصليبي في إصراره على تحطيم مقومات الأمة، وفي مقدمتها الدين الإسلامي واللغة العربية، معتمدًا في ذلك على ما يلي:
1 - مصادرة الأوقاف الإسلامية:
كان التعليم في الجزائر يعتمد اعتمادًا كبيرًا على مردود الأوقاف الإسلامية في تأدية رسالته، وكانت هذه الأملاك قد وقفها أصحابها للخدمات الخيرية، وخاصة المشاريع التربوية كالمدارس والمساجد والزوايا.(1/37)
وكان الاستعمار يدرك بأن التعليم ليس أداة تجديد خُلقي فحسب، بل هو أداة سلطة وسلطان ووسيلة نفوذ وسيطرة، وأنه لا بقاء له إلا بالسيطرة علىه، فوضع يده على الأوقاف، قاطعًا بذلك شرايين الحياة الثقافية.
جاء في تقرير اللجنة الاستطلاعية التي بعث بها ملك فرنسا إلى الجزائر يوم 7/7/1833م ما يلي: (ضممنا إلى أملاك الدولة سائر العقارات التي كانت من أملاك الأوقاف، واستولينا على أملاك طبقة من السكان، كنا تعهدنا برعايتها وحمايتها... لقد انتهكنا حرمات المعاهد الدينية ونبشنا القبور، واقتحمنا المنازل التي لها حُرْمَتها عند المسلمين...).
2- التضييق على التعليم العربي :
أدرك المستعمر منذ وطئت أقدامه أرض الجزائر، خطورة الرسالة التي تؤديها المساجد والكتاتيب والزوايا، في المحافظة على شخصية الأمة.
فلم تكن هذه المراكز قاصرة على أداء الشعائر التعبدية فحسب، بل كانت أيضًا محاضر للتربية والتعليم وإعداد الرجال الصالحين المصلحين، لذلك صبّت فرنسا غضبها عليها بشدة، فعمدت إلى إخماد جذوة العلوم والمعارف تحت أنقاض المساجد والكتاتيب والزوايا، التي دُمّرت فلم تبق منها سوى جمرات ضئيلة في بعض الكتاتيب، دفعتها العقيدة الدينية، فحافظت على لغة القرآن ومبادئ الدين الحنيف في تعليم بسيط وأساليب بدائية.
فقد حطم الفرنسيون في 18/12/1832م جامع كتشاوه، وحوّلوه بعد تشويه شكله وتغيير وضعيته إلى كاتدرائية، أُطلق عليها اسم القديس فيليب Cathedrale Saint Philipe ، والشيء نفسه وقع لمسجد حسن باي بقسنطينة غداة سقوطها بأيديهم(2) سنة 1837م.. هكذا اختفت كثير من الكتاتيب القرآنية ومدارس التعليم الإسلامي، التي كانت مزدهرة قبل الاحتلال الفرنسي.(1/38)
كما طالت يد الحقد الصليبي المكتبات العامة والخاصة، حيث أحرق جنود الجنرال دوق دومال Dauk Daumale مكتبة الأمير عبد القادر الجزائري بمدينة تاقدامت في ربيع الثاني 1259هـ، 10 مايو 1843م، وكان فيها من نوادر المخطوطات ونفائس المؤلفات ما لا يقدر بثمن، ونفس المصير واجهته معظم المكتبات الأخرى.
إن هذه الحرب الشعواء التي شنها الاستعمار على الدين الإسلامي واللغة العربية، جعلت التعليم في الجزائر يصل إلى أدنى مستوى له، فحتى سنة 1901 -أي بعد حوالي 70 سنة من الاحتلال- كانت نسبة المتعلمين من الأهالي لا تتعدى 3.8%، فكادت الجزائر أن تتجه نحو الفرنسة والتغريب أكثر من اتجاهها نحو العروبة والإسلام.
وقد تأثرت الحياة الفكرية والدينية في هذه الفترة ببعض العوامل الأخرى، نذكر منها ما يلي:
أ- الطرق الصوفية:
من الإنصاف أن نذكر هنا الدور الإيجابي الذي قامت به بعض الطرق الصوفية منذ بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر، فقد ساهمت بعض زواياها في نشر الثقافة العربية الإسلامية، كما قام كثير من رجالاتها بالتصدي للاستعمار والاستبسال في محاربته.(1/39)
فقد كان الأمير عبد القادر الجزائري راسخ القدم في التصوف، وكان الشيخ الحداد -أحد قادة ثورة القبائل الكبرى عام 1871م- قد انتهت إليه مشيخة الطريقة الرحمانية في وقته، إلا أن كثيرًا من الطرق قد انحرفت في ما بعد عن الخط العام الذي رسمه مؤسسوها الأوائل، فكثرت عندها البدع والضلالات والخرافات، وتقديس القبور والطواف حولها، والنذر لها، والذبح عندها، وغير ذلك من أعمال الجاهلية الأولى. كما أنه كانت لبعض رجالاتها مواقف متخاذلة تجاه الاستعمار، حيث سيطرت هذه الطرق على عقول أتباعها ومريديها، ونشرت بينهم التواكل والكسل، وثبّطت هممهم في الاستعداد للكفاح من أجل طرد المحتل الغاصب، بدعوى أن وجود الاحتلال في الجزائر هو من باب القضاء والقدر، الذي ينبغي التسليم به، والصبر عليه، وأن طاعته هي طاعة لولي الأمر.
بهذه الروح المتخاذلة والتفكير المنحرف، كانت بعض الطرق سببًا في إطالة ليل الاستعمار المظلم في البلاد من جهة، وتفرق صفوف الأمة وضلالها في الدين والدنيا من جهة أخرى.
ب- انتشار الجهل والأمية :
لقد أدّت الثورات المتتالية التي خاضها الشعب ضد الاحتلال الفرنسي الغاشم، إلى فقدان الأمة لزهرة علمائها في ميدان الجهاد.
كما أن كثيرًا من المستنيرين من حملة الثقافة العربية الإسلامية هاجروا إلى المشرق العربي، وإلى البلاد الإسلامية الأخرى، يتحيّنون الفرص للرجوع إلى الوطن وتطهيره من سيطرة الفرنسيين، كل ذلك ساهم في انتشار الجهل وتفشي الأمية بين أفراد الأمة، مما أثّر سلبًا على الحياة الفكرية في تلك الفترة.
ج- المدارس البديلة التي أنشأها الاستعمار :
لم تفتح هذه المدارس في حقيقة الأمر من أجل تعليم أبناء الجزائر، ورفع مستواهم الثقافي، بل كان الاستعمار يقصد من وراء ذلك عدة أمور، منها:(1/40)
- تجريد الشعب الجزائري من شخصيته العربية الإسلامية، ومحاولة إدماجه وصهره في البوتقة الفرنسية بإعطائه تعليمًا هزيلاً يجعله أسهل انقيادًا لسياسته.
- قتل الروح الوطنية التي أدت إلى اشتعال الثورات المتوالية، وجعل الشعب أكثر خضوعًا للاحتلال.
- إيجاد قلة متعلمة للاستفادة منها في بعض الوظائف التي تخدم الاحتلال.
فقد أنشأت فرنسا لهذا الغرض عدة مدارس ابتدائية، منها المدارس (الفرنسوية الإسلامية Franco-Musulmane ، في الجزائر العاصمة وبعض المدن الأخرى ابتداءً من سنة 1836م.
ولم تكن هناك مدارس للتعليم الثانوي والعالي إلا بحلول القرن العشرين، حيث فتحت المدرسة الثعالبية في عهد الحاكم الفرنسي (جونار) سنة 1904م، رغم أن مرسوم إنشائها صدر منذ سنة 1850م.
د- هجر الأهالي للمدارس الفرنسية :
كان الأهالي يتخوّفون كثيرًا من التعليم الرسمي المقصور على تعلّم اللغة الفرنسية وحضارتها، إذ رأوا فيه وسيلة خطيرة لفرنسة أبنائهم، فكان الإقبال على هذه المدارس ضئيلاً جدًا.. ومع عدم وجود المدارس الحرّة الكفيلة باحتضان أبناء المسلمين، فإن نسبة الأمية ارتفعت إلى درجة مذهلة، كما مر بنا آنفًا.
كل هذه العوامل ساهمت بطريقة أو بأخرى في انتشار الجهل والأمية بين أفراد الشعب، مما جعل الحالة الثقافية والفكرية والدينية في تلك الفترة تبعث على الحزن والأسى.
* المرحلة الثانية (1900-1914م):
الأمة الجزائرية هي قطعة من المجموعة الإسلامية العظمى من جهة الدين، وهي ثلة من المجموعة العربية، من حيث اللغة التي هي لسان ذلك الدين.
فالأمة الإسلامية بهذا الدين وهذا اللسان وحدة متماسكة الأجزاء، يأبى الله لها أن تتفرق وإن كثرت فيها دواعي الفرقة، ويأبى لها دينها، وهو دين التوحيد، إلا أن تكون موحدة.(1/41)
فعلى الرغم من الحصار الذي فرضته فرنسا على الجزائر لعزلها عن بقية الأقطار الإسلامية، خاصة تلك التي لم تُبْتَل بما ابتليت به من محاولة طمس دينها ولغتها، فإنه مع إطلالة القرن العشرين بدأت الجزائر تعيش حركة فكرية شبه متواصلة مع الأقطار الإسلامية الأخرى، سواء عن طريق الطلبة الذين ابتعثوا للدراسة في جامع الزيتونة والأزهر والجامعات الإسلامية الأخرى، أو عن طريق الدعوات الإصلاحية التي قامت في البلاد الإسلامية، مثل دعوة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
وهناك عوامل أخرى ساعدت على قيام هذه الحركة الفكرية، كتلك البوادر الإصلاحية الفردية التي قام بها في الجزائر بعض العلماء المتفاعلين مع حركة الإصلاح الإسلامي.. ولعل مما ساعد على قيام هذه النهضة أيضًا، تولي المسيو (شارل جونار) الولاية العامة في الجزائر.
وهنا نلقي بعض الضوء على جانب من تلك العوامل التي ساهمت في ظهور وانتعاش النهضة الفكرية في الجزائر:
1- عودة الطلبة الذين درسوا في الخارج:
وأقصد بهم الطلبة الذين درسوا في جامع الزيتونة، وجامعة القرويين، والأزهر، وفي الحجاز والشام.
ساهم هؤلاء المثقفون بعد عودتهم إلى الوطن بجهود عظيمة في النهوض بالحياة الفكرية والدينية، بما أثاروا من همم وأحيوا من حمية، وبنوا من مدارس في مختلف أنحاء الوطن، وبما أصدروا من صحف، معتمدين في ذلك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، فأصلحوا العقائد، وصححوا المفاهيم، ونقّوا الأفكار من رواسب البدع والخرافات التي علقت بها، وأحيوا الشعلة التي أخمدها الاستعمار في نفوس الأمة.. ويوم اسوداد المآزم وتلاحم الخطوب، أعادوا ذكرى أسلافهم في الصبر والصمود.. ومن هؤلاء الرواد الذين ساهموا في إثراء هذه النهضة الفكرية الإسلامية بالجزائر نذكر:
- الشيخ عبد القادر المجاوي [1848-1913م]:(1/42)
تخرج الشيخ المجاوي من جامعة القرويين بمدينة فاس، ويعتبر من العلماء القلائل الذين كانوا على رأس الحركة الإصلاحية في الجزائر، (فلا تجد واحدًا من هؤلاء (المصلحين) في الربع الأول من هذا القرن إلا وهو من تلامذته).. خرّج أفواجًا كبيرة من المدرسين والأئمة والوعاظ والمترجمين والقضاة، كان من بينهم الشيخ (حمدان الونيسي) أستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس.. وقد ترك الشيخ المجاوي آثارًا علمية كثيرة في اللغة والفلك والعقيدة والتصوف، نذكر منها: كتاب (الدرر النحوية)، و(الفريدة السنيَّة في الأعمال الحبيبية)، و(اللمع في إنكار البدع)، و(نصيحة المريدين)، وغيرها مما يضيق المقام بسردها.
ومن بين رواد النهضة الإسلامية في تلك الفترة أيضًا العلامة:
- الشيخ عبد الحليم بن سماية [1866-1933]:
يعتبر الشيخ ابن سماية في مقدمة الأفاضل الذين أمدوا هذه النهضة بآثار فضلهم، ومن أوائل المصلحين الجزائريين الداعين لفكرة الإمام محمد عبده الإصلاحية، ومن رفاق الشيخ المجاوي في التدريس، كما يعدّ من أوسع علماء عصره علمًا وثقافة. (فقد تخرّج على يديه جيل من المثقفين مزدوجي الثقافة، وخلّف مؤلفات كثيرة منها كتاب (فلسفة الإسلام).
ومما تجدر الإشارة إليه هنا، أن أغلب أعضاء البعثات العلمية التي ذكرنا سابقًا، قد ظهر تأثيرهم على الحياة الفكرية والحركة الإصلاحية بشكل ملحوظ، في العقدين الثالث والرابع من هذا القرن خاصة، مثل: الشيخ عبد الحميد بن باديس، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والشيخ مبارك بن محمد الميلي، وغيرهم.
2- الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي :(1/43)
كان للدعوة التي قادها الأستاذ جمال الدين الأفغاني أثر كبير في نشر الفكر الإصلاحي السلفي في الجزائر، فرغم الحصار الذي ضربه المستعمر لعزلها عن العالم الإسلامي، زار الشيخ محمد عبده -تلميذ الأستاذ جمال الدين- الجزائر عام 1903م، واجتمع بعدد من علمائها، منهم الشيخ محمد بن الخوجة، والشيخ عبد الحليم بن سماية، كما ألقى في الجزائر تفسير سورة العصر. وقد كان لمجلة العروة الوثقى ومجلة المنار، تأثير كبير على المثقفين من أهل الجزائر، الذين اعتبروا دروس العقيدة التي كانت تنشرها (المنار) للإمام محمد عبده، بمثابة حبل الوريد الذي يربطهم بأمتهم.
وقد استمر الاتصال الفكري بين الجزائر وغيرها من البلاد الإسلامية ولم ينقطع، فقد شارك الشيخ عمر بن قدور بقلمه في جريدة (الحضارة) بالآستانة، و(اللواء) و(المؤيد) بمصر سنة 1914م، وقد كانت هذه الجرائد والمجلات تدعو إلى نهضة العرب والمسلمين، وكانت رائجة في بلاد المغرب والجزائر خاصة.
ويعترف الفرنسيون بأن هناك (مجرى سريًا، ولكنه غزير ومتواصل، من الصحف والمجلات الشرقية التي أعانت المغاربة في مجهوداتهم الإصلاحية، وجعلتهم مرتبطين أبدًا بالرأي العام العربي).
3- ظهور الصحافة العربية الوطنية في الجزائر:
ظهرت في الجزائر خلال تلك الفترة صحافة وطنية عربية، ساهمت مساهمة فعالة في بعث النهضة الفكرية والإصلاحية الحديثة.(1/44)
فقد عالجت في صفحاتها كثيرًا من الموضوعات الحساسة، منها: الدعوة إلى تعليم الأهالي، وفتح المدارس العربية لأبناء المسلمين، والتنديد بسياسة المستعمرين واليهود، ومقاومة الانحطاط الأخلاقي والبدع والخرافات. فهذا الأستاذ عمر راسم يجلجل بآرائه في غير مواربة ولا خوف، فيقول: (أجل، يجب أن نتعلم لكي نشعر بأننا ضعفاء.. يجب أن نتعلم لكي نعرف كيف نرفع أصواتنا في وجه الظلم.. يجب أن نتعلم لكي ندافع عن الحق، وتأبى نفوسنا الضيم، ولكي نطلب العدل والمساواة بين الناس في الحقوق الطبيعية، وفي النهاية لكي نموت أعزاء شرفاء ولا نعيش أذلاء جبناء).
كما ظهر في هذا الميدان كتّاب شاركوا بمقالاتهم وتحليلاتهم في تشخيص الداء الذي ألمّ بالأمة، واقتراح الدواء الناجع لذلك، من هؤلاء الشيخ المولود بن الموهوب، والشيخ عبد الحليم بن سماية، والأستاذ عمر بن قدور وغيرهم.
4- تولي (شارل جونار) الولاية العامة في الجزائر:
على الرغم من أن المسيو (جونار) فرنسي نصراني، إلا أن وصوله إلى منصب الحاكم العام في الجزائر، كان له أثر كبير على الحياة الفكرية في تلك الفترة.
يُذكر أن هذا الأخير (شجّع إحياء فن العمارة الإسلامية، وبعْث التراث المكتوب، والتقرّب من طبقة المثقفين التقليديين، وتشجيعهم على القيام بمهمتهم القديمة، كإقامة الدروس في المساجد ونحوها)، كما اهتم بالتأليف ونشر الكتب العلمية وكتب التراث، مما كان له أثر هام على الحياة الثقافية في الجزائر.(1/45)
وقد أشرف (جونار) على فتح المدرسة الثعالبية سنة 1904م، بجوار مقام (سيدي عبد الرحمن الثعالبي) في حي القصبة بالعاصمة الجزائرية، وندب اثنين من الشيوخ للتدريس ونشر العلم بها، كما أمر بنشر كتابين هامين، أحدهما كتاب: (تعريف الخلف برجال السلف)، الذي صنّفه الشيخ أبو القاسم الحفناوي وطبعه سنة 1907م، والكتاب الثاني: (البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان)، لابن مريم الشريف التلمساني، الذي تولى إعداده للنشر الأستاذ (محمد ابن أبي شنب)، المدرِّس بالمدرسة الثعالبية الدولية، وطبع سنة 1908م برعاية المسيو (جونار).
هذه باختصار أهم العوامل التي ساعدت على قيام تلك الحركة الفكرية الإصلاحية بالجزائر، في الفترة التي ظهر فيها الشيخ عبد الحميد ابن باديس.
وبهذا العرض المتواضع، تتضح لنا طبيعة الوسط الثقافي والفكري الذي تربى وترعرع فيه الشيخ ابن باديس، ويبقى أن نتعرف على شخصية الشيخ وأسرته ونشأته، ورحلاته، وشيوخه، ومكانته العلمية.
الفصل الثاني : حياة الشيخ ابن باديس المبحث الأول : التعريف بالشيخ ابن باديس
مولده : ولد الشيخ عبد الحميد بن باديس بمدينة قسنطينة، عاصمة الشرق الجزائري، في ثاني الربيعين من سنة 1307هـ، الموافق لليلة الجمعة 4 ديسمبر عام 1889م.
والداه: والده هو السيد محمد المصطفى بن مكي بن باديس، حافظ للقرآن الكريم.. كان يشتغل بالتجارة والفلاحة، يعدّ من أعيان مدينة قسنطينة وسراة أهلها، عُرف بدفاعه عن حقوق المسلمين في الجزائر.. توفي سنة 1951م. أما أمّه فهي السيدة زهيرة بنت علي ابن جلول، من أسرة اشتهرت بالعلم والتدين.(1/46)
أسرته : أسرة ابن باديس مشهورة في شمالي إفريقيا، نبغ فيها عظماء الرجال، وكانت تجمع بين العلم والجاه.. تنحدر هذه الأسرة من العائلة الصنهاجيّة، التي سطع نجمها في ميدان الإمارة والملك بالمغرب الأوسط في القرن الرابع الهجري، كان منها الأمير زيري بن منّاد ابن منقوش، أمير صنهاجة التليّة، ثم ابنه يوسف بن زيري الملقب (بولغين)، الذي استخلفه المعز لدين الله الفاطمي على كامل المغرب بعد ارتحاله إلى مصر.
ومن رجالات هذه الأسرة المشهورين، الذين كان الشيخ عبد الحميد يفتخر بهم: المعز لدين الله بن باديس، الذي قاوم البدعة ودحرها، ونصر السنة وأظهرها، فأزال مذهب الشيعة الباطنية، وأعلن مذهب أهل السنة والجماعة مذهبًا للدولة، وبالتالي انفصل عن الدولة الفاطمية بمصر، وكان ذلك في حدود سنة 404هـ، وقد توفي المعز لدين الله بن باديس في حدود سنة 454هـ.
من هذه النبذة القصيرة، تتضح لنا خصائص العائلة التي ينحدر منها ابن باديس، وعراقتها في ميادين الملك والعلم.
المبحث الثاني : نشأة ابن باديس وطلبه للعلم
أ- نشأته :
نشأ الإمام ابن باديس في أحضان تلك الأسرة العريقة في العلم والجاه، وكان والده بارًا به، فحرص على أن يربيه تربية إسلامية خاصة، فلم يُدخلْه المدارس الفرنسية كبقية أبناء العائلات المشهورة، بل أرسل به إلى الشيخ المقرئ محمد بن المدّاسي، فحفظ عليه القرآن وتجويده، وعمره لم يتجاوز الثالثة عشر سنة.. نشأ منذ صباه في رحاب القرآن، فشبّ على حبه، والتخلّق بأخلاقه.
ثم ما لبث أن وجهه إلى المربّي الكبير والعالم الجليل الشيخ حمدان الونيسي، فتلقى منه العلوم العربية والإسلامية ومكارم الأخلاق، وعليه واصل السماع والتلقي في قسنطينة، فنال إعجاب أساتذته بما أظهر من استقامة في الخُلُق، وطيبة في السيرة، وشَغَف كبير في طلب العلم.
ب- رحلاته في طلب العلم :(1/47)
إن الرحلة في طلب العلم أمر شائع عند المسلمين، فقد رحل جابر ابن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس لأجل حديث واحد، وكذلك فعل كثير من الصحابة والتابعين.. ومن فضائل الارتحال أن العالِم يطوف ببلدان كثيرة، فيشاهد أحوال الشعوب وتقاليدها وعاداتها، واختلاف طبائعها، فيأخذ عن شيوخها وأعيانها، ويتلقى العلم عليهم، مما يؤدي إلى كثرة الاطلاع، ووفرة الثقافة.
والشيخ ابن باديس لم يكن بعيدًا عن هذه السنّة الحميدة، فما أن أحسّ أنه استوعب كثيرًا مما جاد به أستاذه الشيخ الونيسي، وعلم من عزم هذا الأخير على الهجرة، كان عليه أن يُواصل الطلب والتحصيل.. وبتشجيع من والده، ارتحل ابن باديس إلى تونس، متتبعًا ينابيع العلم والمعرفة، فأخذ هناك العلم من عظماء الزيتونة وفطاحلها.
1- رحلته إلى تونس :
مما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام، أنه في سنة 1908م، هاجر الشيخ حمدان الونيسي إلى المدينة المنوّرة للاستقرار بها، فحاول تلميذه ابن باديس الالتحاق به فمنعه والده من ذلك، وكان عمره آنذاك تسعة عشر عامًا، غير أن والده كان حريصًا على إتاحة الفرصة أمام هذا الابن البار لإتمام دراسته، فأرسله إلى جامع الزيتونة بتونس، فكانت تلك أولى رحلاته إلى الخارج.. تلقى العلم في هذه الجامعة على المبرزين من علمائها، أمثال الشيخ محمد النخلي، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وغيرهم، وظل يأخذ عن شيوخه حتى استوفى الكثير مما عندهم من العلوم الإسلامية، طيلة أربع سنوات إلى أن أجازوه للتدريس، فمكث بعد تخرجه سنة أخرى للتدريس فيها، وكانت تلك عادة متبعة في كثير من الجامعات الإسلامية.
ولم يكتف الشيخ ابن باديس بتلك البرامج التي أهلته لنيل الشهادة العالمية، بل زاد في تحصيله خارج أوقات الدراسة إلى أن تشبّع بمختلف فروع المعارف الإسلامية، وكان لتوجيهات الشيخ النخلي الأثر الكبير في ذلك.
2- رحلته إلى المشرق :(1/48)
عاد ابن باديس سنة 1912م إلى الجزائر، وكّله عزم على بعث نهضة علميّة جديدة يكون أساسها الهداية القرآنية والهدي المحمّدي، والتفكير الصحيح، فانتصب يُحْيِي دوارس العلم بدروسه الحية في الجامع الكبير بقسنطينة، عائدًا بالأمة المحرومة إلى رياض القرآن المونقة، وأنهاره العذبة المتدفقة، وأنواره الواضحة المشرقة.
ورغم ما للمفتي الشيخ المولود بن الموهوب من سبق في هذا الميدان، وجولات ضد البدع والانحراف، إلا أن الذي يحدث عادة بين الأقران من تنافس، دفعه للتصدّي لابن باديس، ومنعه من التدريس بالجامع الكبير، فتحوّل هذا الأخير إلى الجامع الأخضر للتدريس به، بعد توسّط والده لاستخراج إذن بذلك.
وفي موسم الحج لعام 1913م ارتحل ابن باديس إلى الديار المقدسة، لأداء هذا الركن، فالتقى هناك بأستاذه الأول الشيخ حمدان الونيسي، وكذلك التقى بعالم الهند الكبير الشيخ حسين أحمد المدني، كما التقى في المدينة المنورة بالشيخ البشير الإبراهيمي.
وقد ألقى الشيخ ابن باديس خلال الأشهر الثلاثة، التي قضاها هناك، دروسًا عديدة في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم.. وأثناء عودته إلى الجزائر طاف بعدّة بلدان عربية، فزار سوريا ومصر، التي التقى فيها بالشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ أبي الفضل الجيزاوي.
وقد تميّزت هذه الرحلة بالنسبة للشيخ ابن باديس بحدثين هامين، كان لهما الأثر الكبير في توجهه ومستقبل عمله:
الحدث الأول: هو التقاؤه بالشيخ أحمد الهندي، الذي نصحه بالعودة إلى الجزائر وخدمة الإسلام فيها والعربية بقدر الجهد، فحقق الله أمنية ذلك الشيخ بعودة ابن باديس إلى وطنه، وتفانيه في خدمة الدين واللغة، إلى أن تكوّنت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي كان أول رئيس لها، ثم واصل رفاقُ دَرْبِه المسيرةَ من بعده.
الحدث الثاني: هو التقاؤه بالشيخ محمد البشير الإبراهيمي، رفيق دربه في الذّود عن الإسلام ولغة الإسلام في الجزائر.(1/49)
فكانت لقاءات المدينة المنورة التي جمعت بينهما، هي التي وُضعت فيها الخطط العريضة لمستقبل العمل في الوطن، وحُددت فيها الوسائل التي تنهض بالجزائر نهضة شاملة، تهتك أستار الظلام، الذي فرضه المستعمر على الأمة، عقودًا طويلة من الزمن.
هذه باختصار ملامح من البيئة التي نشأ وترعرع فيها ابن باديس، وحتّى تزداد الصورة وضوحًا، لابدّ لنا من التعرف على شيوخه الذين تربّى على أيديهم وأخذ عنهم العلم والمعرفة، وهو ما سنتعرف عليه في المبحث القادم إن شاء الله.
المبحث الثالث : شيوخ ابن باديس
يُرجِع ابنُ باديس الفضلَ في تكوينه العلمي إلى والده، الذي ربّاه تربية صالحة، ووجّهه وجهة سليمة، ورضي له العلم طريقًا يتبعه، ومشربًا يَرِدُهُ، ولم يشغله بغيره من أعباء الحياة، فكفله وحماه من المكاره صغيرًا وكبيرًا.
وكان أول معلّم له هو الشيخ محمد بن المدّاسي، أشهر مقرئي مدينة قسنطينة في زمانه، تلقى عليه القرآن فأتقن حفظه وتجويده.. أما أستاذه الذي علّمه العلم، وخط له مناهج العمل في الحياة، ولم يبخس استعداده حقّه، فهو الشيخ حمدان الونيسي: العالم العارف، الذي استطاع أن ينفذ إلى نفسية تلميذه، فيطبع حياته العلمية والعملية بطابع روحي وأخلاقي لم يفارقه طول حياته.
وقد ظل ابن باديس يذكر تأثير شيخه على نفسيته، فيقول عنه: إنه تجاوز به حد التعليم المعهود من أمثاله، إلى التربية والتثقيف والأخذ باليد إلى الغايات المثلى في الحياة.
وفي جامع الزيتونة أخذ ابن باديس العلم عن المبرزين من الأساتذة والشيوخ، الذين كان لهم بالغ الأثر في تكوينه الفكري واتجاهه الإصلاحي، نذكر منهم على الخصوص:(1/50)
1- الشيخ محمد الطاهر بن عاشو ر: الذي لازمه قرابة الثلاث سنوات، فأخذ عنه الأدب العربي وديوان الحماسة لأبي تمّام، يقول ابن باديس عن ذلك: (وإن أنسى فلا أنسى دروسًا قرأتها من ديوان الحماسة على الأستاذ ابن عاشور، وكانت من أوّل ما قرأت عليه، فقد حبّبتني في الأدب والتفقه في كلام العرب، وبثت فيّ روحًا جديدًا في فهم المنظوم والمنثور، وأحيت مني الشعور بعزّ العروبة والاعتزاز بها كما أعتز بالإسلام)، ولم يمنع ابن باديس هذا التقدير لشيخه والثناء عليه، من مخالفته وانتقاده في بعض فتاواه.
2- الشيخ محمد النخلي القيرواني: هو العالم الجليل وصاحب الفضل الكبير والعلم الغزير، أستاذ التفسير في جامع الزيتونة المعمور، استقى ابن باديس الحكمة من بحر الخير الذي كان يتدفق من صدر هذا العالم العامل، فكان لذلك أثر عميق في توجهه العلمي والعملي.. يقول ابن باديس عن شيخه: (كنت متبرّمًا بأساليب المفسرين، وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية واصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله... فذاكرتُ يومًا الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق، فقال لي: (اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، وهذه الآراء المضطربة، يسقط الساقط، ويبقى الصحيح، وتستريح)، فوالله لقد فتح الله بهذه الكلمات القليلة عن ذهني آفاقًا واسعة لا عهد له بها).. ويقول عنه في موقع آخر: (ولا أكتمكم أني أخذت شهادتي في جامع الزيتونة في العشرين من عمري، وأنا لا أعرف للقرآن أنه كتاب حياة، وكتاب نهضة، وكتاب مدنية وعمران، وكتاب هداية للسعادتين، لأنني ما سمعتُ ذلك من شيوخي عليهم الرحمة ولهم الكرامة، وإنما بدأت أسمع هذا يوم جلست إلى العلامة الأستاذ محمد النخلي).(1/51)
فللأستاذ النخلي يرجع الفضل في تحرير تلميذه من قيود التقليد الذي لا فكر فيه ولا نظر، ففتح الله له على يد هذا الأستاذ الفاضل أبواب العمل والمعرفة، ففهم قواعد الإسلام ومحاسنه، وعقائده وأخلاقه، وآدابه وأحكامه، فأشرقت دعوته تهتك أستار الظلام والجهل، وتشع بالنور والعلم.
3- الشيخ البشير صفر : الذي يعتبر من أبرز علماء تونس، ومن القلائل الذين جمعوا بين التعليم العربي الإسلامي والتعليم الغربي الأوروبي، مع إتقانه لعدة لغات حية.
اشتغل الأستاذ بشير صفر بالتدريس في جامع الزيتونة والمدرسة الخلدونية، وكان لسعة اطلاعه وتنوع ثقافته، يعدّ من أشهر أساتذة التاريخ العربي والإسلامي فيها.. واعترافًا منه بفضل هذا الأستاذ الكبير عليه، يقول ابن باديس: (وأنا شخصيًا أصرح بأن كراريس البشير صفر، الصغيرة الحجم، الغزيرة العلم، هي التي كان لها الفضل في اطلاعي على تاريخ أمتي وقومي، والتي زرعت في صدري هذه الروح التي انتهت بي اليوم لأن أكون جنديًا من جنود الجزائر).
هؤلاء أهمّ الأساتذة الذين تلقى عليهم الشيخ ابن باديس العلوم العربية والإسلامية، وهم الذين كان لهم الأثر الكبير في تكوينه وتربيته، فحبّبوا إليه الاتجاه الإصلاحي منذ كان طالبًا إلى أن صار ركنًا ركينًا للنهضة الإسلامية في الجزائر.
وإن كان هؤلاء الأساتذة قد أخذ عليهم -ابن باديس- العلم مباشرة، فإن له شيوخًا كان لمؤلفاتهم وآثارهم ومناهجهم الأثر الكبير في تكوينه الفكري ومنهجه الإصلاحي، ومن بين الذين عاصروه نخص بالذكر ما يلي:(1/52)
1- الأستاذ محمد رشيد رضا : الذي خصّه ابن باديس بترجمة شاملة في أعداد مجلة الشهاب، أوضح فيها جوانب عظمة الأستاذ رشيد رضا، والجوانب التي تأثر بها، فيقول: (لقد كان الأستاذ نسيجَ وَحْدِهِ في هذا العصر، فقهًا في الدين، وعلمًا بأسرار التشريع، وإحاطة بعلوم الكتاب والسنة، ذا منزلة كاملة في معرفة أحوال الزمان وسر العمران والاجتماع، وكفى دليلاً على ذلك ما أصدره من أجزاء التفسير، وما أودعه مجلة المنار في مجلداتها).
ويوضح ابن باديس ما للسيد رشيد من آثار على الحركة الإصلاحية الحديثة، فيقول: (فهذه الحركة الدينية الإسلامية الكبرى اليوم في العالم -إصلاحًا وهداية، بيانًا ودفاعًا- كلها من آثاره).
ومن خلال ما قدّمنا، يبدو أن ابن باديس قد تأثر بالأستاذ محمد رشيد رضا في جوانب من منهجه، خاصة: استقلاليته في التفكير، وأسلوبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعده عن الوظائف، فرحمهما الله جميعًا، وأسكنهما فسيح جناته.
2- الشيخ محمد بخيت المطيعي : يعد من المدرسة الإصلاحية الحديثة، وكان -على معارضته للشيخ محمد عبده في نواح- يؤيده في إنكار البدع والمحدثات في الدين.. وعن علاقته به، يقول الشيخ ابن باديس: (لما رجعت من المدينة المنورة، على ساكنها وآله الصلاة والسلام سنة 1332هـ، جئت من عند شيخنا العلامة الشيخ حمدان الونيسي المهاجر إلى طيبة والمدفون بها -رحمه الله- جئت من عنده بكتاب إلى الشيخ بخيت، وكان قد عرفه بالإسكندرية لما مرّ بها مهاجرًا. فعرّجت على القاهرة وزرت الشيخ بخيت بداره بحلوان، فلما قدّمت له كتاب شيخنا حمدان، قال لي: (ذلك رجل عظيم)، وكتب لي إجازة في دفتر إجازاتي بخط يده، رحمه الله وجازاه عنا وعن العلم والدين خير ما يجزي العاملين الناصحين).(1/53)
ولعله من الأهمية بمكان أن نذكر في هذا المبحث، العلامة الكبير السيد حسين أحمد الهندي الفيض آبادي، الذي كان الشيخ ابن باديس يذكره كثيرًا، ويرجع إليه الفضل في توجيهه إلى العمل في الجزائر، عندما التقى به في المدينة المنورة سنة 1913هـ، فيقول: (أذكر أني لما زرتُ المدينة المنورة، واتصلت فيها بشيخي الأستاذ حمدان الونيسي، المهاجر الجزائري، وشيخي حسين أحمد الهندي، أشار عليّ الأول بالهجرة إلى المدينة المنورة، وقطع كل علاقة لي بالوطن، وأشار عليّ الثاني، وكان عالمًا حكيمًا، بالعودة إلى الوطن وخدمة الإسلام فيه والعربية بقدر الجهد، فحقق الله رأي الشيخ الثاني، ورجعنا إلى الوطن بقصد خدمته...)، وكان الشيخ حسين أحمد الهندي يتولى شرح صحيح الإمام مسلم في المسجد النبوي الشريف.
وممن تأثر بهم الشيخ عبد الحميد بن باديس في حياته العلمية ودعوته الإصلاحية، أعلام المدرسة الأندلسية المغربية، الذين قرأ كتبهم قراءة تمحيص وتحقيق، وهي كثيرة في فنون مختلفة، من الفقه والتفسير والحديث واللغة والأدب، وكانت جلّ هذه الكتب تشكل الزاد العلمي والثقافي لتلاميذ المدرسة الباديسية، ومِن هؤلاء الأئمة: القاضي عياض، والقاضي أبو بكر بن العربي، والإمام أبو عمر ابن عبد البر.
أما العلامة القاضي عياض، فقد اختار الشيخ عبد الحميد ابن باديس كتابه (الشفا)، لتدريسه لطلبته في المسجد الكبير بقسنطينة سنة 1913م، يقول ابن باديس عن ذلك: (ابتدأت القراءة بقسنطينة بدراسة الشفا للقاضي عياض بالجامع الكبير).(1/54)
وأما الإمام أبو بكر بن العربي فيقول عنه ابن باديس أنه: (خزانة العلم وقطب المغرب)، وقد حقق مخطوط كتاب العواصم من القواصم، وقدم له بمقدمة طويلة وطبعه سنة 1928م، في جزأين بمطابع الشهاب بقسنطينة، وقد تأثر الإمام ابن باديس به وبالإمام أبي عمر ابن عبد البر القرطبي، فأخذ عنهما الكثير من فيض علمهم، وخاصة فيما انتهجاه في إصلاح طرق التدريس، التي كانت سائدة في عصرهما بالأندلس، وهو نفس المنهج الذي اتّبعه ابن باديس في مقاومة روح التقليد والجمود الفكري الذي واجه دعوته الإصلاحية في الجزائر.
أولئك هم شيوخ ابن باديس وأساتذته، الذين في أحضانهم نشأ وترعرع، ومن ينابيعهم الصافية استقى العلم والمعرفة، وعلى منهاجهم أقام دعوته، وبمقاومة روح التقليد والجمود شق طريقه.
وقد ساهم الشيخ ابن باديس بقوة في جميع جوانب الحياة الدينية والفكرية والسياسية والاجتماعية في الجزائر، وهو ما سنتناوله في المبحث القادم إن شاء الله.
المبحث الرابع : مكانة ابن باديس العلمية
أ- الجهود العملية التي قام بها ابن باديس:
1- التدريس: لقد بدأ ابن باديس التدريس في جامع الزيتونة بعد تخرّجه منه، حيث جرت العادة أن يدرس النبغاء من الطلبة سنة في الجامعة بعد إنهاء دراستهم فيها، وكان ذلك خلال سنة 1911-1912م، وأثناء إقامته بالمدينة المنورة ألقى فيها دروسًا عديدة في المسجد النبوي الشريف.
وبعد عودته إلى الجزائر، استأنف ابن باديس الدروس التي كان يلقيها في الجزائر قبل رحلته إلى الحجاز، وعن ذلك يقول: (ابتدأت القراءة بقسنطينة بدراسة الشفاء للقاضي عياض بالجامع الكبير، حتى بدا لمفتي قسنطينة الشيخ ابن الموهوب، أن يمنعنا فمنعنا، فطلبنا الإذن من الحكومة بالتدريس في الجامع الأخضر فأذنت لنا...).
وقد كان رحمه الله مدرسًا متطوعًا مكتفيًا بالإذن له في التعليم.(1/55)
ولم يكتف بتعليم الكبار في المساجد فحسب، بل كان يهتم أيضًا بالناشئة الصغار، وعن ذلك يقول: (فلما يسرّ الله لي الانتصاب للتعليم سنة 1332هـ، جعلت من جملة دروسي، تعليم صغار الكتاتيب القرآنية بعد خروجهم منها إلى آخر الصبيحة وآخر العشية، فكان ذلك أوّل عهد الناس بتعليم الصغار...).
وقد تفرّغ الإمام ابن باديس للتعليم، حتى لم يبق له من الشغل سواه، واستمر يُحيي دوارس العلم بدروسه الحيّة، مفسرًا لكلام الله، على الطريقة السلفية، في مجالس انتظمت حوالي ربع قرن، ولم يَحد ابن باديس عن هذه الطريق إلى أن وافاه قدره المحتوم فالتحق بالحي القيوم.
2- الإفتاء: بدأ ابن باديس الفتوى مع انتصابه للتدريس، إلا أن هذا الأمر توسع واشتهر عند قيام الصحافة الإصلاحية، فكانت الأسئلة الفقهية ترد عليه من كافة عمالات القطر، فيجيب عليها في صفحات الشهاب، والبصائر، وكانت تدور حول العقائد والعبادات والمعاملات، ومن أشهر فتاوى ابن باديس، تلك المتعلقة بالتجنيس، حيث يقول فيها: (التجنس بجنسية غير إسلامية يقتضي رفض أحكام الشريعة، ومن رفض حكمًا واحدًا من أحكام الشريعة عُدّ مرتدًا بالإجماع، فالمتجنّس مرتد بالإجماع).
وللإمام ابن باديس فتاوى كثيرة حول ما كان شائعًا من بدع وانحرافات في زمانه، كانت محل استحسان من علماء عصره.
وعلى العموم فقد كانت تلك الفتاوى، أحد وسائل ابن باديس التي وجه بها الجزائريين إلى القرآن والسنة، وصرفهم بها عن البدع التي أُدخلت على الدين، والمنكرات التي ارتكبت باسمه.(1/56)
3- ابن باديس والسياسة : رغم انشغال ابن باديس بالتعليم والتفرّغ له، إلا أنه كان ممن لا يهابون الخوض في أمور السياسة، منطلقًا في ذلك من نظرته الشاملة للإسلام الذي لا يفرّق بين السياسة والعلم، وحول هذه المسألة يقول: (وقد يرى بعضهم أن هذا الباب صعب الدخول، لأنهم تعودوا من العلماء الاقتصار على العلم والابتعاد عن مسالك السياسة، مع أنه لابدّ لنا من الجمع بين السياسة والعلم، ولا ينهض العلم والدين حق النهوض، إلا إذا نهضت السياسة بجد)، ومع أن القانون الأساس لجمعية العلماء ينص على عدم اشتغال هذه الأخيرة بالأمور السياسية، إلا أنّها تركت المجال مفتوحًا أمام أعضائها للخوض في هذا الميدان بصفتهم الشخصية، وكان فارس الميدان في ذلك رئيسها، الإمام ابن باديس الذي كانت له مواقف ثابتة تجاه ما يجري في الجزائر وفي العالم الإسلامي من أحداث وتطورات.
ومن مواقفه المشهورة في هذا المجال، دعوته إلى عقد مؤتمر إسلامي في الجزائر للحيلولة دون تنفيذ مؤامرة إدماج الشعب الجزائري المسلم، في الأمة الفرنسية النصرانية، التي كان ينادي بها بعض النواب، ورجال السياسة الموالين لفرنسا، ورغم أن غالبية الذين حضروا هذا المؤتمر كانوا من أنصار سياسة الإدماج، إلا أن ابن باديس ورفاقه استطاعوا توجيه قراراته، للاعتراف بالشخصية العربية الإسلامية للجزائر.(1/57)
ولما لاحت نذر الحرب العالمية الثانية سنة 1939م، سعت فرنسا إلى كسب تأييد مختلف الجماعات السياسية في الجزائر، فأبدى الخاضعون لسلطانها تأييدهم ومساندتهم لها، ولما عُرض هذا الأمر على جمعية العلماء رفضته بأغلبية أعضائها، عندها قال ابن باديس: لو كانت الأغلبية في جانب موالاة فرنسا، لاستَقَلْتُ من رئاسة جمعية العلماء، وأنه لن يوقع على برقية التأييد ولو قطعوا رأسه.. وكان ابن باديس يرى ضرورة العمل من أجل الاستقلال والتضحية في سبيل ذلك، وأن الحرية لا تُعطى ولا توهب، بل سَجَّل التاريخ أنها تؤخذ وتنتزع، وفي هذا الصدد يقول:
(قلِّبْ صفحات التاريخ العالمي، وانظر في ذلك السجل الأمين، هل تجد أمة غلبت على أمرها، ونكبت بالاحتلال، ورزئت في الاستقلال، ثم نالت حريتها منحة من الغاصب، وتنازلاً من المستبد، ومنة من المستعبِد ؟ اللهم كلا... فما عَهِدْنا الحرية تُعطى، إنما عهدنا الحرية تُؤخذ.. وما عَهِدْنا الاستقلال يُمنح ويُوهب، إنما عَلِمْنا الاستقلال يُنال بالجهاد والاستماتة والتضحية.. وما رأينا التاريخ يُسجل بين دفتي حوادثه خيبة للمجاهد، إنما رأيناه يسجل خيبة للمستجدي).
وروي أنه قبيل وفاته -رحمه الله- صرح في اجتماع خاص قائلاً: (والله لو وجدت عشرة من عقلاء الأمة الجزائرية يوافقوني على إعلان الثورة، لأعلنتها).
وتظهر مواقف ابن باديس السياسية في المقالات المتعددة التي ضمّنها جرائد ومجلات الجمعية، والتي تناول فيها ما يجري على الساحة العربية والإسلامية من أحداث.
كما تظهر مواقفه كذلك في البرقيات العديدة التي بعث بها إلى جهات إسلامية وأخرى أجنبية، يوضح فيها موقف الجمعية من مختلف الأحداث، خاصة مسألة الخلافة الإسلامية، وقضية تقسيم فلسطين.
الجهود العلمية لابن باديس، وثناء العلماء عليه
1ـ آثار ابن باديس العلمية :(1/58)
من آثار الإمام عبد الحميد بن باديس: تفسيره للقرآن الكريم، إلقاءً على طلبته ومريديه، بدأه في ربيع سنة 1332هـ - 1914م، وختمه في ربيع عام 1357هـ - 1938م، ولكنه لم يكتب منه إلا قليلاً، فلم يكن الشيخ يكتب من التفسير ما يلقي، ولم تكن آلات التسجيل شائعة الاستعمال، متيسّرة الوجود، ولم يتح له تلميذ نجيب يسجل ما يقول، كما أتيح للشيخ محمد عبده في رشيد رضا رحمهم الله، ولكن الله أبى أن يضيّع فضله وعمله، فألهمه كتابة مجالس معدودة من تلك الدروس كان ينشرها فواتح لأعداد مجلة الشهاب، ويسمّيها (مجالس التذكير)، وقد جمعت هذه الافتتاحيات بعد وفاته في كتاب تحت عنوان (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير).
ولم يمض على ختمه لتفسير القرآن العظيم إلا شهورًا، وإذا به -رحمه الله- يختم شرح موطأ الإمام مالك، وكان ذلك في أواسط ربيع الثاني عام 1358هـ (يونيو 1939م).. وعلى غرار ما فعل في التفسير، لم يكتب من شرحه للموطأ إلا النزر اليسير في شكل افتتاحيات لمجلة الشهاب، وقد جمعت في كتاب تحت عنوان: (مجالس التذكير من حديث البشير النذير).. والملاحظ أن الشيخ ابن باديس لم يركّز كثيرًا على الكتابة والتأليف، فقد كان يرى حين تصدّر للتفسير مثلاً: (أن في تفسيره بالكتابة مشغلة عن العمل المقدّم، لذلك آثر البدء بتفسيره درسًا تسمعه الجماهير)، وكان -رحمه الله- مشغولاً مع ذلك بإنقاذ جيل ولد وترعرع في أحضان الاستعمار، وتربية أمة حوربت في دينها ومقدساتها، ومكافحة أمية طغت على الشيب والشباب.
وكان ابن باديس يؤمن بأن بناء الإنسان أصعب، ولكنه أجدى للأمة، من تأليف الكتب، وأن غرس الفكرة البنّاءة في صدر الإنسان، إيقاد لشمعة تنير الدجى للسالكين.
وقد جُمع كثيرٌ من آثاره العلمية بعد وفاته، نذكر منها ما يلي:
أ ـ تفسير ابن باديس: الذي نشره الأستاذان: محمد الصالح وتوفيق محمد، نقلاً عن (مجالس التذكير) الذي طبع ونشر سنة 1948م.(1/59)
ب ـ (مجالس التذكير من حديث البشير النذير): وقد طبعته وزارة الشؤون الدينية بالجزائر، سنة 1403هـ - 1983م.
جـ ـ (العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية): وهي عبارة عن الدروس التي كان يمليها الأستاذ ابن باديس على تلاميذه، في أصول العقائد الإسلامية وأدلتها من القرآن والسنة النبوية على الطريقة السلفية، وقد جمعها وعلق عليها تلميذه البار الأستاذ محمد الصالح رمضان.
د ـ كتاب (رجال السلف ونساؤه): وهي مجموعة من المقالات ترجم فيها ابن باديس لبعض الصحابة رضوان الله عليهم، وما لهم من صفات اكتسبوها من الإسلام، وما كان من أعمالهم في سبيله، نشر تلك التراجم في مجلة (الشهاب).
هـ ـ كما حقق ابن باديس كتاب (العواصم من القواصم): للإمام ابن العربي، وقدّم له وطبعه سنة 1928م، في جزأين بمطابع الشهاب بقسنطينة.
و ـ ترجم ابن باديس لكثير من أعلام الإسلام من السلف والخلف، في صفحات مجلة الشهاب، جمعت تحت عنوان (تراجم أعلام).
وقد قامت وزارة الشؤون الدينية في الجزائر بجمع كثير ممّا حوته صحافة الجمعية من نشاطات الإمام عبد الحميد بن باديس في مجالات: التربية والتعليم، والرحلات التي كان يقوم بها داخل الوطن لنشر دعوته، إضافة إلى ما ذكرنا من آثاره العلمية، تحت عنوان: (آثار الإمام عبد الحميد بن باديس).
ولعله من الأهمية بمكان أن نذكر في هذا المبحث، أن الشيخ ابن باديس رحمه الله، كان يطالع معظم الجرائد والمجلات التي تصدر في الجزائر سواء باللغة العربية أو باللغة الفرنسية، التي كان يقرأ بها ولا يتكلمها، ويردّ عليها بما يراه مناسبًا، كما كان يحاور ويناظر المستشرقين العاملين في سلك الحكومة في الجزائر آنذاك، ويظهر لهم عظمة الإسلام ومحاسنه.
2ـ ثناء العلماء عليه:(1/60)
لعل من أبلغ الظواهر الدالة على مكانة الشيخ عبد الحميد بن باديس بين علماء عصره، تلك التقاريظ وذلك الثناء الذي خصّه به معاصروه، ومن بعدهم من المؤرخين والعلماء والمفكرين، نذكر منها ما يلي:
أ ـ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: رفيق دربه في الإصلاح، وأقرب الناس إليه، وأعرفهم بمناقبه، يقول عنه: (إنه باني النهضتين العلمية والفكرية بالجزائر، وواضع أسسها على صخرة الحق، وقائد زحوفها المغيرة إلى الغايات العليا، وإمام الحركة السلفية، ومنشئ مجلة (الشهاب) مرآة الإصلاح وسيف المصلحين، ومربّي جيلين كاملين على الهداية القرآنية والهدي المحمّدي وعلى التفكير الصحيح، ومحيي دوارس العلم بدروسه الحيّة، ومفسّر كلام الله على الطريقة السلفية في مجالس انتظمت ربع قرن، وغارس بذور الوطنية الصحيحة، وملقّن مبادئها على البيان، وفارس المنابر، الأستاذ الرئيس الشيخ عبد الحميد ابن باديس، أول رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأول مؤسس لنوادي العلم والأدب وجمعيات التربية والتعليم، وحسبه من المجد التاريخي أنه أحيا أمّة تعاقبت عليها الأحداث والغير، ودينًا لابسته المحدثات والبدع، ولسانًا أكلته الرطانات الأجنبية، وتاريخًا غطى عليه النسيان، ومجدًا أضاعه وَرَثَةُ السوء، وفضائلَ قتلتْها رذائلُ الغرب)، فرحم الله تلك الأرواح الطاهرة.
ب ـ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: عميد مجلس الشورى المالكي بتونس في زمانه، وصاحب تفسير (التحرير والتنوير)، وأستاذ الشيخ ابن باديس في جامع الزيتونة. ورغم ما حدث بينهما من تباين في بعض المسائل العلمية والفتاوى الفقهية، إلا أن ذلك لم يمنع الأستاذ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور من أن ينزله منزلته، ويعترف له بمكانته، فيقول عنه: (العالم الفاضل، نبعة العلم والمجادة، ومرتع التحرير والإجادة، ابننا الذي أفتخرُ ببنوته إلينا... الشيخ سيدي عبد الحميد ابن باديس... أكثر الله من أمثاله في المسلمين).(1/61)
وفي الاحتفال بالذكرى السابعة لوفاة ابن باديس، قال الشيخ ابن عاشور: (إن فضل النهضة الجزائرية على العالم الإسلامي فضل عظيم، وإن أثر الشيخ عبد الحميد بن باديس في تلك النهضة أثر إنساني رئيس... وما تكريمنا للشيخ عبد الحميد بن باديس، إلا تكريم للفكرة العبقرية والنزعة الإصلاحية الفلسفية، التي دفعت به فريدًا إلى موقف إحياء التعاليم الإسلامية، في وطن أوشكت شمس الإسلام أن تتقلص في ربوعه، بعد ثمانين عامًا قضاها في أغلال الأسر).
جـ ـ المؤرخ الأستاذ خير الدين الزركلي: صاحب (الأعلام)، والذي عاصر ابن باديس، ويعتبر شاهدًا على جهاده، ينقل لنا شهادته قائلاً عنه: (كان شديد الحملات على الاستعمار، وحاولت الحكومة الفرنسية في الجزائر إغراءه بتوليته رئاسة الأمور الدينية فامتنع، واضطهد وأوذي، وقاطعه إخوة له كانوا من الموظفين، وقاومه أبوه، وهو مستمر في جهاده)، عليهم جميعًا سحائب الرحمة والرضوان.
د ـ الدكتور عبد الحليم عويس: أستاذ التاريخ الإسلامي، الذي كتب كثيرًا حول الدور الرائد الذي قامت به جمعية العلماء في تصحيح العقائد، وتحرير العقول، بالعودة إلى منابع الإسلام الأصيلة، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم. يشيد هذا الأخير بدور رئيسها الشيخ ابن باديس ومنهجه في الإصلاح قائلاً: (إن ابن باديس... كان يؤمن إيمانًا لا حدود له بدور القرآن الكريم في تكوين الجيل المنشود، على غرار الجيل الذي كوّنه القرآن في العصور الأولى للإسلام).
هـ ـ الشاعر الجزائري الكبير الشيخ محمد العيد آل خليفة: الذي رافق شعره النهضة الإسلامية في الجزائر في جميع أطوارها. فقد ألقى في حفل تكريم الإمام ابن باديس بختمه لتفسير القرآن الكريم، قصيدة طويلة، أثنى فيها على ابن باديس، وعدّد فيها جهوده العلمية، وجهاده من أجل الحفاظ على شخصية الجزائر الإسلامية، نذكر منها هذه الأبيات:
بمثلكَ تعتزُّ البلادُ وتفخرُ وتزهرُ بالعلمِ المنيرِ وتزخرُ(1/62)
طبعتَ على العلمِ النفوسَ نواشئًا بمخبرِ صدقٍ لا يُدانيهِ مخبرُ
نهجتَ لها في العلمِ نهجَ بلاغةٍ ونهج َمفاداةٍ كأنكَ حَيْدرُ
ودَرْسُكَ في التفسيرِ أشهى' مِنَ الجَنَى' وأبْهَى' مِنَ الروضِ النظيرِ وأبهر
ختمتَ كتابَ اللهِ ختمةَ دارس بصيرٍ له حَلُّ العويصِ مُيسَّر
فكمْ لكَ في القرآنِ فَهْمٌ موفَّق وكمْ لكَ في القرآنِ قولٌ محرر
بعد هذا العرض القصير الذي أوردنا فيه بعضًا من شهادات العلماء والمفكرين وثنائهم عليه، نستطيع أن نقول: إن مما ساعد ابن باديس على النجاح في دعوته والوصول بها إلى الغايات العلى، استقامته ونزاهته التي شهد بها كل من عرفه، وتضلعه في علوم التفسير والحديث والفقه، التي أنار بها الأفكار، وحرّر بها العقول، فضلاً عن تأثيره في مجموعة من معاصريه الذي واصلوا دعوته، وعلى رأسهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، الذي خلفه في رئاسة جمعية العلماء بعد وفاته، والشيخ مبارك الميلي، وغيرهم ممّن ضحوا في سبيل المحافظة على إسلامية الجزائر وعروبتها.
وفاته :
في مساء يوم الثلاثاء 8 ربيع الأول سنة 1359 هـ ، الموافق 16 أبريل 1940م، أسلم ابن باديس روحه الطاهرة لبارئها، متأثرًا بمرضه بعد أن أوفى بعهده، وقضى حياته في سبيل الإسلام ولغة الإسلام، وقد دفن -رحمه الله- في مقبرة آل باديس بقسنطينة.
الفصل الثالث ابن باديس والعمل الجماعي
المبحث الأول: العمل الجماعي في نظر ابن باديس
إن ما وصلت إليه أوضاع الأمة الجزائرية من تدهور وتردي في ظل الاستعمار الفرنسي الغاشم، لم يترك للإمام ابن باديس من خيار سوى الانطلاق في دعوته، ولو بصفة فردية.(1/63)
فقد اتخذ من الجامع الأخضر معهدًا لنشاطه العلمي والتعليمي والتربوي، معتقدًا بأن العلم هو وحده الإمام المتبع في الحياة، في الأقوال والأفعال والمعتقدات، ورغم الجهود الفردية المتواصلة التي كان يقوم بها ابن باديس في تلك الفترة، إلا أنه كان يؤمن بوجوب العمل الجماعي، وإنشاء حركة منظمة تتولى انتشال هذه الأمة من وهدة الجهل والتنصير والفرنسة.
وقد انسابت أشعة الفجر الجديد من تلك اللقاءات المباركة، التي جمعته بالأستاذ محمد البشير الإبراهيمي في المدينة المنورة، في موسم الحج سنة 1913م، حين وضعا البذور الأولى للنهضة، التي ما لبثت أن أيقظت الأصوات بعد سكوتها.. وحرّكت الهمم بعد سكونها، يصف لنا الشيخ الإبراهيمي تلك اللقاءات المباركة التي جمعته بالشيخ ابن باديس، فيقول: (وكانت تلك الأسمار المتواصلة كلها، تدابير للوسائل التي تنهض بها الجزائر، ووضع البرامج المفصلة لتلك النهضات الشاملة، التي كانت كلها صورًا ذهنية تتراءى في مخيلتنا، وصحبها من حسن النية وتوفيق الله ما حققها في الخارج بعد بضع عشرة سنة.
وأشهد الله على أن تلك الليالي من عام 1913 ميلادية، هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي لم تبرز للوجود إلا في عام 1931م).
فتطابقت أفكار الرجلين على وجوب إنشاء حركة إصلاحية في الجزائر، فرسما لها منهاجًا بحكمة ومهارة.
وعلى الرغم من الحصار الذي فرضه المستعمر على معاهد التعليم الإسلامي والكتاتيب القرآنية، إلا أن هذه الروح الجديدة والنفثات الهادئة، جعلتها تستمر في أداء رسالتها ومواصلة عطائها.
يصف لنا الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، تلك اليقظة فيقول: (لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلمات ابن باديس، فكانت ساعة اليقظة، وبدأ الشعب الجزائري المخدّر يتحرك، ويالها من يقظة جميلة مباركة).(1/64)
ولم تنقطع نداءات ابن باديس لجمع الطاقات وتوحيد الصفوف، وتكاتف الجهود، معتمدًا في ذلك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم اللذين هما الأساس لكل نهضة تتطلع لها الأمة، وفي هذا يقول: (إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوّة، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة، تفكّر وتدبّر، وتتشاور وتتآزر، وتنهض لجلب المصلحة ولدفع المضرّة، متساندة في العمل عن فكرة وعزيمة).
ورغم ما للأعمال الفردية من منافع ومزايا، إلا أنه لا ينهض بالأمم والشعوب من العمل إلا ما كان منه منظمًا، تتضافر فيه الجهود وتتآزر.
وبعد عشر سنوات من شروعه في التعليم وظهور نتائج ذلك في النشء العلمي الذي كوّنه، حاول ابن باديس أن يعلن الدعوة العامة إلى الإسلام الخالص والعلم الصحيح.
ففي سنة 1924م، تدارس مع الأستاذ البشير الإبراهيمي فكرة تأسيس جمعية تكون نواة للعمل الجماعي، تحت اسم: (الإخاء العلمي) تجمع شمل العلماء والطلبة، وتوجّه جهودهم، وتقارب بين مناحيهم في التعليم والتفكير، وتكون صلة تعارف بينهم، ومزيلة لأسباب التناكر والجفاء...). ثم حدثت حوادث عطّلت المشروع الذي كان لابد له من زمن أوسع، حتى يتخمّر وتأنس إليه النفوس التي ألفت التفرقة.. بعدها انصرف ابن باديس إلى تأسيس الصحافة الإصلاحية، فكانت (المنتقد) ثم (الشهاب)، التي كان لها في سنتها الثانية والثالثة دعوة إلى مثل تلك الجمعية، وكان كُتّاب (الشهاب) إذ ذاك قد كتبوا في ذلك الموضوع، وكانت تلك الأفكار والأقوال تمهيدًا للعمل.
وتمهيدًا لجمع شمل العلماء في الجزائر تحت لواء التنظيم المنشود، بادر ابن باديس إلى تأسيس: (جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة).
المبحث الثاني : جمعية التربية والتعليم الإسلامية(1/65)
وهي أول جمعية إسلامية تعنى بالتربية والتعليم، يرخّص لها في قسنطينة، وقد كان مكتب التعليم العربي النواة الأولى التي انبثقت عنها هذه الجمعية، التي اختارت الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيسًا لها.
وعن تأسيس هذه الجمعية يقول ابن باديس: (وفي سنة 1349هـ ـ 1930م، رأيت أن أخطو بالمكتب -مكتب التعليم العربي- خطوة جديدة، وأخرجه من مكتب جماعة إلى مدرسة جمعية، فحررت القانون الأساس لجميعة التربية والتعليم الإسلامية، وقدّمته باسم الجماعة المؤسسة إلى الحكومة، فوقع التصديق عليه).
وقد تميّزت طبيعة المرحلة التي أنشئت فيها هذه الجمعية بعدة أمور، نذكر منها ما يلي:
1 ـ تضاعف نشاط الإرساليات التبشيرية في الجزائر.
2 ـ انحسار التعليم العربي الإسلامي.
3 ـ مرور قرن كامل على الاحتلال الفرنسي للجزائر.
ولذلك فقد أخذ القانون الأساس للجمعية تلك المعطيات وغيرها بعين الاعتبار، وركّز على الجوانب الآتية:
1 ـ جعل المقصد الرئيس لهذه الجمعية هو نشر الأخلاق الفاضلة والمعارف العربية والفرنسية، وعدم الخوض في الأمور السياسية، تفاديًا للاصطدام بالسلطات، التي تعيش في غمرة التحضير لاحتفالات مرور قرن على الاحتلال.
2 ـ تأسيس مكتب لتعليم أبناء المسلمين الذين لم يتمكنوا من الالتحاق بالمدارس الحكومية، وتثقيف أفكارهم بالعلم باللسانين العربي والفرنسي.
3 ـ تأسيس ملجأ لإيواء اليتامى، الذين تتربص بهم البعثات التنصيرية لاحتوائهم وإبعادهم عن دينهم.
4 ـ تأسيس معمل للصنائع، بمثابة ورشات يتدرّب فيه الطلبة على مختلف الحرف، حتى إذا ما تخرّجوا سَهُل اندماجهم في الحياة العامة.
5 ـ إرسال البعثات العلمية إلى بعض جامعات الدول الإسلامية، لإتمام تحصيلهم العلمي، وإعدادهم لغد مشرق، يكونون فيه -بإذن الله- قادة يسوسون أمتهم وأمور حياتهم، ويجمعون شتاتها، ويعيدون لها أمجادها وقوتها.(1/66)
كما عزمت الجمعية على فتح قسم خاص لتعليم البنات، وتربيتهن التربية الإسلامية الصحيحة، إدراكًا بأن المجتمع لا يمكن أن ينهض إلا بالجنسين، الرجل والمرأة، كمثل الطائر لا يطير إلا بجناحيه.
ويشرح لنا ابن باديس أهمية ذلك فيقول: (إذا أردنا أن نكوِّن رجالاً، فعلينا أن نكوِّن أمهات دينيات، ولا سبيل لذلك إلا بتعليم البنات تعليمًا دينيًا، وتربيتهن تربية إسلامية.. وإذا تركناهنّ على ما هنّ عليه من الجهل بالدين، فمحال أن نرجو منهن أن يكوِّنَّ لنا عظماء الرجال). وقد جعلت الجمعية تعليم البنات مجانًا، لتتكون منهن -إن شاء الله- المرأة المسلمة المتعلمة. وأما البنون فلا يدفع منهم نفقات التعليم إلا القادرون على ذلك، وهي في الحقيقة نفقات رمزية، سعيًا لتيسير الاشتراك على جميع طبقات الأمة.
إن جوانب الإصلاح الإسلامي كثيرة ومتعددة، إلا أن جمعية التربية والتعليم الإسلامية اهتمت بالنشاط التربوي، والتعليم بوجه خاص، ذلك لأهمية هذا القطاع وحيويته بالنسبة لمستقبل الأمة، وتماشيًا مع ما تتطلبه تلك المرحلة من أولويات.
وما هي إلا أشهر قليلة إلا والعلماء في الجزائر يستعينون بأداة عصرية أخرى في حركتهم الإصلاحية، حيث أسسوا جمعية لهم تجمع شملهم وتوحّد صفوفهم.
فكانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، استجابة واعية لما تقتضيه التحديات الخطيرة، التي تواجهها الأمة الجزائرية في تلك المرحلة.
ولإن اقتصرت جمعية التربية والتعليم الإسلامي على جانب التربية والتعليم، فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وسّعت نشاطها ليشمل جوانب أخرى من حياة الأمة، وفق منهج واضح وأهداف محددة. ذلك ما سنتطرق له بالبحث والدراسة في المبحث القادم، إن شاء الله.
المبحث الثالث : جمعية العلماء المسلمين الجزائريين(1/67)
كما مرّ معنا، فقد بُذلت جهود كبيرة لتجميع وحشد القوى والطاقات تحت راية واحدة، لمواجهة التحديات والأخطار المحدقة بالأمة، مع ذلك فقد تضافرت ظروف عديدة وعوامل كثيرة، ساهمت جميعها في إظهار (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) إلى الوجود، نذكر منها ما يلي:
1 ـ الظروف التي نشأت فيها الجمعية :
أ ـ مرور قرن كامل على الاحتلال الفرنسي للجزائر، واحتفال الفرنسيين بذلك، استفزازًا للأمة، وإظهارًا للروح الصليبية الحاقدة التي يضمرونها للإسلام والمسلمين.
ب ـ التحضير للمؤتمر الإسلامي الذي عُقد في القدس برئاسة الحاج أمين الحسيني، في ديسمبر 1931م، الذي كان هدفه توحيد الصف الإسلامي بعد سقوط الخلافة الإسلامية. في تلك الظروف المفعمة بالتحديات، ظهرت جمعية العلماء للوجود.
2 ـ العوامل التي ساعدت على ظهور الجمعية :
أ ـ تسرب الدعوات الإصلاحية المشرقية عن طريق الصحافة.
ب ـ الثورة التعليمية التي أحدثها الشيخ عبد الحميد بن باديس بدروسه الحية ومنهجه التربوي القويم، والتعاليم الإسلامية الحقة التي كان يبثها في نفوس مريديه.
جـ ـ التغيير الفكري الذي ظهر بعد الحرب العالمية الأولى، حين سقطت أقنعة المشعوذين، الذين أماتوا على الأمة دينها بخرافاتهم وبدعهم، وتسلطهم على الأرواح والأبدان باسم الدين.
د ـ عودة فئة من أبناء الجزائر الذين درسوا في الحجاز وبلاد الشرق، متشربين الأفكار الإصلاحية الناضجة المتخمرة.
نشأة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين:
تجدر الإشارة هنا إلى أنه في سنة 1927م، تم تأسيس (نادي الترقي) في مدينة الجزائر، بجهود بعض رجالاتها، وكان من أهدافه تثقيف مسلمي الجزائر، وإعانة الفقراء، وقد استدعى مؤسسو هذا النادي، الشيخ (الطيب العقبي) ليقوم فيه بالوعظ والإرشاد على غرار ما يقوم به الشيخ عبد الحميد بن باديس في قسنطينة.(1/68)
وقد ألقى ابن باديس فيه محاضرة عند افتتاحه، واستمر يتعهده بالمحاضرات ودروس التفسير كلما حل بالعاصمة.. وكان لهذا النادي شرف احتضان الجلسات التمهيدية لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، قبل أن يصبح مقرها الرئيس في العاصمة.
في هذه الظروف المشحونة بالتحدي والاستفزاز من قِبَل المستعمر من جهة، وإحساس الأمة الجزائرية -التي دب فيها دبيب الحياة- بسوء الحال التي هي عليها، وشعورها بلزوم إصلاح عام يشمل الدين والعلم والاجتماع، من جهة أخرى... في هذه الظروف ظهرت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين رسميًا للوجود، في 5 مايو سنة 1931م، وقد انتخب أعضاؤها: الشيخ عبد الحميد بن باديس بالإجماع رئيسًا لها، في غيابه، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي نائبًا له.
وكان المجلس الإداري الأول للجمعية غير منسجم، لمكان العجلة والتسامح، فكان من بين أعضائه أولو بقية يخضعون للزوايا وأصحابها، رَغَبًا ورَهَبًا، كما ذكر ذلك الشيخ الإبراهيمي، إلا أن المناصب الرئيسة فيه كانت من نصيب علماء الإصلاح.
أهداف جمعية العلماء :
لقد كان ابن باديس ورفاقه أعضاء جمعية العلماء، من الحصافة بمكان، حيث أبدوا أشياء وأضمروا أخرى، مكتفين في تصريحاتهم الرسمية بإعلان الدعوة إلى الإصلاح الديني والتعليمي حذرًا. فقد جاء على لسان رئيسها: (أن الجمعية يجب أن لا تكون إلا جمعية هداية وإرشاد، لترقية الشعب من وهدة الجهل والسقوط الأخلاقي، إلى أَوْج العلم ومكارم الأخلاق، في نطاق دينها الذهبي وبهداية نبيها الأمي، الذي بُعث ليتمم مكارم الأخلاق، عليه وآله الصلاة والسلام، ولا يجوز بحال أن يكون لها بالسياسة وكل ما يتصل بالسياسة أدنى اتصال، بعيدة عن التفريق وأسباب التفريق...).(1/69)
ويضيف ابن باديس قائلاً: (إن المسلمين هم السواد الأعظم في وطنهم، فإذا تثقفوا بالعلم، وتحلوا بالآداب، وأُشْرِبُوا حبّ العمل، وانبعثت فيهم روح النشاط، كان منهم كل خير لهذا الوطن وسكانه على العموم، بما يُسرّ به الحاكم والمحكوم).
ويختصر لنا الشيخ محمد البشير الإبراهيمي مهمة الجمعية بقوله: (إن المهمة التي تقوم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بأدائها، وهي السير بهذه الأمة إلى الحياة عن طريق العلم والدين، هي أقوم الطرق وأمثلها وأوفقها لمزاج الأمة...).
والحقيقة أن جمعية العلماء المسلمين، أدركت بوضوح أن العلة في بقاء الاستعمار جاثمًا على صدر الأمة دهرًا طويلاً، تكمن في ما يسمى بالقابلية للاستعمار، والتي مردها إلى ما طرأ على الشعب من انحراف في عقيدته وفكره، وأن العلاج الصحيح يتمثل في إزالة تلك العلة من أساسها، وهو ما يعبّر عنه الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، بقوله: (إن القضية عندنا منوطة أولاً بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته). أو كما قال أحد الصالحين: (أخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم). وذلك مصداقًا لقول الحق تبارك وتعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد:11).
ويمكننا القول: بأن الجمعية ركّزت في مراحلها الأولى على الأهداف التالية:
1 ـ إصلاح عقيدة الشعب الجزائري، وتنقيتها من الخرافات والبدع، وتطهيرها من مظاهر التخاذل والتواكل التي تغذيها الطرق الصوفية المنحرفة.
2 ـ محاربة الجهل بتثقيف العقول، والرجوع بها إلى القرآن والسنة الصحيحة، عن طريق التربية والتعليم.
3 ـ المحافظة على الشخصية العربية الإسلامية للشعب الجزائري، بمقاومة سياسة التنصير والفرنسة التي تتبعها سلطات الاحتلال.(1/70)
والشيء الذي تجدر الإشارة إليه في هذا المجال، هو أنه رغم أن الفصل الثالث من القانون الأساس للجمعية، يحرّم عليها الخوض في المسائل السياسية، إلا أن هذه الأخيرة قد تركت لأعضائها كامل الحرية للخوض في السياسة، بصفتهم الشخصية لا بوصفهم أعضاء فيها، حفاظًا على كيان الجمعية واستمرار مسيرتها.
من مواقف جمعية العلماء
من خلال الأهداف التي حددتها الجمعية لنفسها، تظهر المسؤولية العظيمة التي تصدّرت للقيام بأعبائها، وفيما يلي نذكر بعضًا من مواقف الجمعية في الإصلاح الديني، بمعناه الشامل:
الجمعية والطرق الصوفية:
كما ذكرنا عند حديثنا عن نشأة جمعية العلماء، بأن مجلسها الإداري الأول لم يكن منقحًا ولا متجانس الأفكار، فقد ضمّ إلى جانب رجال الإصلاح، بعض الطرقيين ورجال الدين الرسميين، الذين أخفقوا في احتواء الجمعية وتصريفها وفق مصالحهم وأهوائهم، (فما أكملوا السنة الأولى حتى فرّوا من الجمعية، وناصبوها العداء، واستعانوا عليها بالظلمة، ورموها بالعظائم... ذلك لأنهم وجدوا كثيرًا من الآفات الاجتماعية التي تحاربها الجمعية، هم مصدرها، وهي مصدر عيشهم، ووجدوا قسمًا منها مما تُغْضِبُ محاربته سادتهم ومواليهم).
وبدعم من سلطات الاحتلال، تأسست (جمعية علماء السنة) في خريف سنة 1932م، تضم الطرقيين ورجال الدين الرسميين إضافة إلى بعض العلماء المأجورين، لمناهضة جمعية العلماء، ومناصبتها العداء.. ودعّموا حملتهم بإصدار بعض الصحف، منها (المعيار) و(الرشاد)، وقد انضمت إلى هذه الحملة جريدة النجاح التي كانت في بدايتها إصلاحية.
لم يكن الموقف الحازم الذي وقفته الجمعية تجاه انحرافات الطرقيين وليد نشأتها، بل كان امتدادًا للنهج الذي سار عليه ابن باديس والمصلحون من قبل.(1/71)
ولقد علمت الجمعية بعد التروي والتثبت، ودراسة أحوال الأمة ومناشئ أمراضها، (أن هذه الطرق المبتدعة في الإسلام، هي سبب تفرّق المسلمين... وأنها هي السبب الأكبر في ضلالهم في الدين والدنيا).. ويوضح لنا الشيخ الإبراهيمي الدوافع وراء محاربة ضلالات الطرقيين، فيقول: (ونعلم أننا حين نقاومها، نقاوم كل شرّ، وأننا حين نقضي عليها -إن شاء الله- نقضي على كل باطل ومنكر وضلال).
الجمعية والتعليم:
لقد أدركت جمعية العلماء أهمية التربية والتعليم في تحقيق مقاصدها العقيدية والفكرية، فركّزت على التعليم الإسلامي العربي، وإنشاء المدارس، وحثّ الأمة وتشجيعها على إرسال أبنائها إلى مدارسها، بغية تعليم وتثقيف أكبر عدد ممكن من أبناء المسلمين، فالتعليم هو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته.
وجّهت الجمعية اهتمامها إلى التعليم المسجدي، إدراكًا منها بأن (المسجد والتعليم صنوان في الإسلام من يوم ظهر الإسلام... فكما لا مسجد بدون صلاة، كذلك لا مسجد بدون تعليم).. وعليه، وضعت برامج واسعة لنشر التعليم الديني والعربي للصغار المبتدئين، وتكميل معلومات من درسوا باللسان الأجنبي، كما لم تحرم الكبار من دروس الوعظ والإرشاد ومحو الأمية، فشيّدت لذلك المدارس وفتحت النوادي لإلقاء المحاضرات في التهذيب وشؤون الحياة العامة.
ولم يقتصر دور جمعية العلماء التربوي والتعليمي داخل الوطن فحسب، بل رافق أبناء الجزائر الذي هاجروا إلى فرنسا حيث يشكلون جالية كبيرة.
فقد تنبّهت الجمعية إلى الأخطار المحدقة بأولئك المهاجرين المُعَرَّضِين لخطر الذوبان في الحضارة الأوروبية، والابتعاد عن أصول دينهم، فأرسلت إليهم المعلمين والوعاظ والمرشدين، وأسست النوادي والمدارس لتعليم أبنائهم.
وقد كانت جهود الجمعية في هذا الميدان تدور على محاور ثلاثة:
1 ـ إحداث مكاتب حرّة للتعليم المكتبي للصغار.
2 ـ دروس الوعظ والإرشاد الديني في المساجد العامة.(1/72)
3 ـ تنظيم محاضرات في التهذيب وشؤون الحياة العامة، في النوادي.
الجمعية والتجنيس :
كانت سياسة فرنسا منذ وطئت أقدام جيوشها أرض الجزائر، ترمي إلى الإدماج السياسي الكامل لهذا الوطن، وتذويب شعبه في ثقافتها الغربية، تمهيدًا لفرنسته وتنصيره.
ومع تعاقب الأحقاب، ظهرت بين الجزائريين فئة تربت في مدارس الاستعمار، تدعو وترغّب في التجنّس بالجنسية الفرنسية، والتخلي عن أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، بغية الحصول على بعض الحقوق السياسية، ولم تكن جمعية العلماء لتسكت عن هذه المسألة الخطيرة، بل كانت أول من تصدى لها وحاربها في الخطب العامة، والمحاضرات وفي الصحف، موضحة حكم الإسلام في ذلك.. ولما أصرّ دعاة التجنس على توسيع دعايتهم، وعقدوا اجتماعهم العام في ربيع سنة 1934م، لمطالبة الحكومة بتسهيل التجنيس، سعيًا منهم لتكثير سوادهم، أصدرت جمعية العلماء على لسان رئيسها، الفتوى الشهيرة بتكفير من يتجنس بالجنسية الفرنسية، ويتخلى عن أحكام الشريعة الإسلامية، جاء فيها: (التجنس بجنسية غير إسلامية يقتضي رفض أحكام الشريعة، ومن رفض حكمًا واحدًا من أحكام الإسلام، عُدَّ مرتدًا عن الإسلام بالإجماع، فالمتجنّس مرتدّ بالإجماع).(1/73)
ورغم المضايقات الشديدة من طرف الاستعمار، حققت جمعية العلماء نجاحًا كبيرًا في تصحيح عقائد الجزائريين، وتطهيرها من شوائب الشرك، والرجوع بهم إلى منابع الإسلام الأصيلة، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم يستنيرون بها في دينهم ودنياهم، مقدمة لهم العلم النافع، فالتفّ حولها الشعب وآزرها وأيّدها -بإذن الله- في وقت كانت تتناثر فيه الجمعيات كحَبِّ الحَصيد. وقبل أن أختتم الكلام عن جمعية العلماء، لا يفوتني في هذا المقام أن نتعرف على أولئك الأسود الأشاوس، رجال العلم، الذين ساهموا بقوة في تأسيس هذه الجمعية المباركة، والذين شدّوا أزر الإمام ابن باديس، وأولوه شرف الثقة والإخلاص، نذكر منهم:
1 ـ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي (1889-1965م)، نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ثم رئيسًا لها بعد وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس سنة 1940م، من أبرز قادة الحركة الإصلاحية السلفية في العالم العربي، عضو المجامع العلميّة العربية في القاهرة ودمشق وبغداد، عالم بالأدب والتاريخ واللغة العربية وعلوم الدين.
2 ـ الشيخ الطيب بن محمد العقبي (1890-1960م)، كاتب، صحفي، وخطيب، من رجالات الحركة الإصلاحية الإسلامية، هاجر مع أسرته إلى المدينة المنورة سنة 1895م، أخذ العلم عن مشايخها، ودرّس بالمسجد النبوي الشريف، ولاّه الشريف حسين رئاسة تحرير جريدة (القبلة)، خلفًا للكاتب الإسلامي الشهير (محب الدين الخطيب)، عاد إلى الجزائر سنة 1920م، أصدر جريدة (الإصلاح)، وشارك في تأسيس جمعية العلماء، واختير نائبًا للكاتب العام بها، تولى الوعظ والإرشاد في (نادي الترقي) بالعاصمة، استقال من الجمعية قبيل الحرب العالمية الثانية، حين عارضه أغلب أعضاء الجمعية في مسألة تأييد فرنسا في حربها ضد ألمانيا.(1/74)
3 ـ الأستاذ محمد الأمين العمودي (1890-1957م): شاعر، وصحفي، من رجالات الحركة الإصلاحية، اشتغل بالمحاماة الشرعية، اختير أول كاتب عام لجمعية العلماء سنة 1931م، نظرًا لمقدرته الكتابية بالعربية والفرنسية.
أنشأ جريدة الدفاع La Defence للدفاع عن حقوق الشعب الجزائري، وشارك في أغلب الصحف الإصلاحية.
4 ـ الشيخ العربي بن بلقاسم التبسيّ (1895-1957م): أحد رجال الفكر الإصلاحي، ومن أبرز أعضاء جمعية العلماء، درس في الزيتونة والأزهر، اختير سنة 1935م كاتبًا عامًا للجمعية، ثم نائبًا لرئيسها الشيخ الإبراهيمي سنة 1940م، وكان مديرًا لمعهد ابن باديس بقسنطينة سنة 1947م، خطفه الفرنسيون في 17 أبريل سنة 1957م واغتالوه.
5 ـ الشيخ مبارك بن محمد الميلي (1897-1945م): أحد أقطاب الحركة الإصلاحية تعليمًا وتأليفًا، ثم تكوينًا وتسييرًا (يمتاز في كتاباته بدقة التحليل، وعمق التفكير، ولذلك كان يُطلق عليه: فيلسوف الحركة الإصلاحية)، تولى رئاسة تحرير جريدة (البصائر)، لسان حال جمعية العلماء، كما كان مسؤول المالية في الجمعية.
من مؤلفاته: رسالة الشرك ومظاهره، وتاريخ الجزائر في القديم والحديث، في جزأين.
هؤلاء هم أبرز رجالات الجمعية الذين حملوا مشعل الإصلاح، وصارعوا ظلمات الجهل والانحراف، (وصبروا وصابروا من أجل الحفاظ على الشخصية العربية الإسلامية للشعب الجزائري، وهم في ذلك كمثل السحاب ساقه الله إلى بلد ميت، فلا يقلع حتى يُحييه... وإن سائق المطر للبلد الميت، هو سائق هذه الجمعية لهذا الوطن المشرف على الموت... وإن جاعل المطر سببًا في إحياء هذه الأرض، هو جاعل هذه الجمعية سببًا في إحياء هذا الوطن).
الباب الثاني الفكر التربوي عند ابن باديس
الفصل الأول دعائم الفكر التربوي عند ابن باديس
المبحث الأول : حالة التعليم في زمن ابن باديس(1/75)
على الرغم من أن الشيخ عبد الحميد بن باديس اهتم بالتربية والتعليم اهتمامًا كبيرًا، إلا أنه لم يفرد هذا الموضوع بتأليف خاص، لكنّ المتصفح لآثاره المتناثرة في الصحافة الإصلاحية آنذاك، يخرج بصورة واضحة عن حالة التعليم في زمنه.
علم المستعمر أن استقراره واستتباب أمره، لن يتم مادام الإسلام حيًّا ينبض في قلوب الجزائريين وحياتهم، فناصبه العداء، وتعرّض لمن يعلِّمه بالمكروه والبلاء.
يصف لنا ابن باديس تلك الحالة بقوله: (مضت سنوات في غلق المكاتب القرآنية، ومكاتب التعليم الديني العربي، والضنّ بالرخص، واسترجاع بعضها حتى لم يبقوا منها إلا على أقل القليل).
وعلى الرغم مما تعرّض إليه معلّمو التعليم العربي من مضايقات مستمرة وتهديدات متواصلة، إلا أن كثيرًا منهم استبسلوا في سبيل القيام بواجبهم نحو دينهم ولغة دينهم. وكان على رأسهم الشيخ عبد الحميد ابن باديس، الذي ما ادّخر جهدًا في نشرهما، ومحاربة أعدائهما باللسان والقلم، من ذلك قوله: (فهمنا -والله- ما يُراد بنا، وإنّنا نعلن لخصوم الإسلام والعربيّة، أننا عَقَدْنَا على المقاومة المشروعة عَزْمَنَا، وسنمضي -بعون الله- في تعليم ديننا ولغتنا رغم كل ما يصيبنا، وإننا على يقين من أنّ العاقبة -وإن طال البلاء- لنا، وأن النصر سيكون حليفنا، لأننا قد عرفنا إيمانًا، وشاهدنا عيانًا، أن الإسلام والعربية قضى الله بخلودهما، ولو اجتمع الخصوم كلهم على محاربتهما).(1/76)
ولا شك أن ذلك التضييق على تعليم الدين واللغة العربية، من قِبَل الاستعمار، كانت له آثار سلبية كبيرة على الشعب الجزائري بأكمله، حيث نشأت أجيال لم تتعلم من الإسلام إلا ما ورثته من الآباء والأجداد، مع ما أُدخل عليه من بِدع، وما أُهمل من أخلاقه وآدابه. غير أنّ ما وصلت إليه حالة التعليم الديني والعربي من انحطاط، لم تثن الدعاة ورجال الإصلاح عن مواصلة جهودهم في تربية وتعليم أبناء الأمة، فالشعب الجزائري فطره الله على الإسلام ولن يرضى به بديلاً، وأن ما أصابه -من غفلة وجهل- سوف يزول بعون الله أولاً، ثم بجهود الدعاة والمربين.
يشخّص لنا ابن باديس حالة الشعب وإمكانية علاجها، فيقول: (إن الذي يُبقي لنا في المسلمين الرجاءَ، ويفسح لنا الأمل، ويبعثنا على العمل، هو أن ما عليه أكثرنا ليس عن زهد في الإسلام، ولا عن قلة محبة فيه، وإنما هو عن جهلٍ طال عليه الأمد، وغفلةٍ توالت على الحقب.. وللجهل -بحمد الله- دواؤه الشافي وهو التعليم، وللغفلة علاجها النافع وهو التذكير).
وعلى أية حال، فإن وضع التعليم الديني والعربي في زمن ابن باديس، كان يمثل صورة واضحة للصراع الحضاري بين الشعب الجزائري المسلم، الذي يريد أن يحيا للإسلام وبالإسلام، وبين الاستعمار الفرنسي الصليبي، الذي جثم على صدره عقودًا طويلة لتحويله عن دينه، إلا أن عناية الله ولطفه بهذا الشعب، جعلته يستيقظ على صيحات المصلحين، ويالها من يقظة مباركة، زلزلت الأرض تحت أقدام الصليبيين، فكانت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، والحمد لله رب العالمين.
المبحث الثاني: أهمية العلم والتعلم عند ابن باديس(1/77)
أدرك الإمام ابن باديس أهمية العلم والتعليم بالنسبة للمسلمين عامة، وللأمة الجزائرية التي حوربت في دينها ولغتها وشخصيتها خاصة، فوجّه جل اهتمامه لنشره، ذلك لأن العلم الصحيح المبني على العقيدة السليمة، هو وحده السبيل إلى سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، فقد اعتنى -فيما أُثر عنه- بتوضيح معنى' العلم، وأنواعه، وأهميته، ووجوب طلبه، وطرق تحصيله، معتمدًا في ذلك على الآيات القرآنية الصريحة والأحاديث النبوية الصحيحة.
يقول تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم )(آل عمران:18).
وسنعرض في هذا المبحث بعض آراء الشيخ ابن باديس حول العلم والتعلم من الجانب النظري، على أن نتطرق إلى الجوانب العملية في الفصلين القادمين.
العلم:
يعرّف ابن باديس العلم بأنه: (إدراكٌ جازم مطابق للواقع عن بيّنة، سواء كانت تلك البيّنة حسًا ومشاهدة، أو برهانًا عقليًا كدلالة الأثر على المؤثر، والصنعة على الصانع، فإذا لم تبلغ البينة بالإدراك رتبة الجزم فهو ظن، هذا هو الأصل.. ويطلق العلم أيضًا على ما يكاد يقارب الجزم، ويضعف فيه احتمال النقيض جدًا، كما قال تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام: (وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين )(يوسف:81). فسمى القرآنُ إدراكهم لما شاهدوا: علمًا).
ويبسط هذا التعريف فيقول: (إن العلم هو إدراك أمر على وجهٍ لا يحتمل أن يكون ذلك الأمر على وجه من الوجوه سواه، وهو عام، ويليه الظن، وهو إدراك أمر على وجه هو أرجح الوجوه المحتملة، وهو معتبر عندما تتبين قوة رجحانه فيما لا يمكن فيه إلا ذاك، وهذه هي الحالة التي يطلق عليه فيها لفظ العلم مجازًا).
أهمية العلم عند ابن باديس:(1/78)
إن شرف العلم وفضله لا يخفيان على عامة الناس، فضلاً عن العلماء، إذ هو الذي خصّ الله به الإنسانية دون سواها من الحيوانات، وبه أظهر الله تعالى فضل آدم عليه السلام على الملائكة، وأمرهم بالسجود له. وإنما شُرِّف العلم لكونه وسيلة إلى التقوى، التي يستأهل بها المرء الكرامة عند الله والسعادة الدائمة، ذلك لأن العلم مع الإيمان، رفعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
يقول الله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات )(المجادلة:11).. ويقول تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء )(فاطر:28).
وفي هذا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم: (مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهه في الدين ). فالعلم هو الطريق إلى خشية الله وعبادته، كما يحب أن يُعبد، (فهو الأصل الذي تنبني عليه سعادة الدنيا والأخرى، وأنه هو الأساس لكل أمر من أمور الدين والدنيا).
ويرى ابن باديس أن البشرية بدون علم، تعود إلى حيوانيتها، ذلك لأن (الإنسان خاصيته التفكير في أفق العلم الواسع الرحيب، فمن حَرَمَ إنسانًا -فردًا أو جماعة- من العلم، فقد حَرَمَهُ من خصوصيته الإنسانية، وحوّله إلى عيشة العجماوات، وذلك نوع من المسخ).
ويذهب ابن باديس إلى أن العلم هو حياة القلوب وإمام العمل، وإنما العمل تابع له، فهو وحده الإمام المتبع في الأقوال والأفعال والاعتقادات، فمن دخل في العمل بغير علم، لا يأمن على نفسه من الضلال، ولا على عبادته من الفساد والاختلال.
(فسلوك الإنسان في حياته، مرتبط بتفكيره ارتباطًا وثيقًا، يستقيم باستقامته، ويعوج باعوجاجه، ويثمر بإثماره، ويعقم بعقمه، لأن أفعاله ناشئة عن اعتقاداته، وأقواله إعراب عن تلك الاعتقادات، واعتقاداته ثمرة إدراكه الحاصل من تفكيره ونظره).(1/79)
ولا يتأتى ذلك العلم والنظر إلا بالتعلّم وبذل الجهد في ذلك، يقول تعالى: (الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان )(الرحمن:1-4). ويقول تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم* علم الإنسان مالم يعلم )(العلق:1-5).
ويقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إنما بُعثتُ مُعَلِّمًا ).. فالتعلم هو الطريق الصحيح لاكتساب العلوم والمعارف: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )(الأنبياء:7).. ويكفي العلم شرفًا أن العلماء ورثة الأنبياء، وفي هذا يقول ابن باديس: (لا حياة إلا بالعلم، وإنما العلم بالتعلم، فلن يكون عالمًا إلا مَن كان متعلمًا، كما لن يَصْلُحَ معلمًا إلا مَن قد كان متعلمًا، ومحمد صلى الله عليه و سلم الذي بعثه الله معلمًا، كان أيضًا متعلمًا، علّمه الله بلسان جبريل، فكان متعلمًا عن جبريل عن ربِّ العالمين، ثم كان معلمًا للناس أجمعين.
أرأيت أصل العلم، ومن معلموه ومتعلموه ؟ ثم أرأيتَ شرف رتبة العلم والتعليم؟ لا جرم كان لرتبة التعلم آدابها، ولرتبة التعليم آدابها، وكان محمد صلى الله عليه و سلم أكملَ الخلق في آدابهما، بما أدبّه الله وأنزل عليه من الآيات فيهما).
وللإمام ابن باديس في طلب العلم وآدابه، ومسؤولية العلماء في نشره، مواقف سنعرض لها في المبحث القادم إن شاء الله.
المبحث الثالث : طلب العلم في نظر ابن باديس
يبدو موضوع العلم وطلبه، من أبرز الموضوعات التي استحوذت على اهتمام الشيخ ابن باديس، وإذا أمعنّا النظر في الجوانب الرئيسة التي عالج بها هذا الموضوع، نراه يهيب بالمتعلم أن يهتمّ بتصحيح نيته، والاجتهاد في طلب العلم، مبينًا مكانة أهله في المجتمع، والمسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم.
وسنحاول في هذا المبحث إن شاء الله أن نكشف عن تلك الجوانب وغيرها، لنعرف مدى ما أسهم به ابن باديس في هذا المضمار.
النية:(1/80)
إن العلم هو نبراس المسلم في ظلمة الجهل، وسبيله لتوحيد خالقه وحسن عبادته.. وإن طلبه من أشرف أنواع العبادات وأجلّها، يقول الله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك )(محمد:19).
ويقول تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم )(آل عمران:18).
وكما هو الشأن في جميع العبادات، فإنه ينبغي على طالب العلم أن تلازمه النية الحسنة والإخلاص لله تعالى في تعلّمه.
ويرشد ابنُ باديس المتعلِّمَ، أن ينوي بطلب العلم مرضاة الله تعالى والدار الآخرة، وإزالة الجهل عن نفسه وعن غيره، وخدمة الدين، متجاوزًا بذلك الأغراض الزائلة، فلا يرتبط هذا الجهد برُتَب أو مغانم قريبة. ويرى أن من أسباب نجاح طلبة العلم في تحصيلهم وتفقههم أن (لا يقصدوا إلا أن يتعلموا فيعلموا، ويتفقهوا فيفقهوا، ولا يرجوا من ذلك إلا رضا الله ونفع عباده).
وقد تنحصر نوايا بعض المتعلمين في تحصيل العلم فقط، وهذه بلا شك نية فاضلة، ولكن إذا جمع الطالب بين نيّة التحصيل ونية التقرّب إلى الله عز وجل، كان ذلك أكمل وأتم.
وأما من جعل ذلك وسيلة لإقبال الناس إليه، أو استجلاب بعضًا من حُطام الدنيا، فحسبه ما نوى، إذ النية هي الأصل في جميع الأحوال لقوله صلى الله عليه و سلم: (إنما الأعمال بالنيات ).
يقول ابن باديس في شرحه لهذا الحديث: (أفاد التركيب، حصر اعتبار الأعمال في نياتها، والمقصود بها، لا في صورها وظواهرها).
فكم من عمل ظاهره من أعمال الآخرة، ثم يصير من أعمال الدنيا بسوء النية، ذلك أن (أعمال الناس قد تشترك في صورها ومظاهرها، حتى لا يكون في ذلك فرق بينها، ولكنها بذلك التساوي الصوري الظاهري لا تكون متساوية في الاعتبار والحقيقة، وما يتبعهما من القبول والرد في نظر الشرع).
ومن قبل قال الشاعر:
مَن طلبَ العلمَ للمعاد فازَ بفضلٍ من الرشاد
فبالخسرانَ طالبِهِ لنيلِ فضلٍ من العباد(1/81)
وكما أنه ينبغي على الطالب تصحيح أعماله الظاهرة، وحصرها في طاعة الله تعالى، كذلك ينبغي عليه تصحيح ما بطن منها.
ويوضح ابن باديس ذلك فيقول: (كما علينا أن نجتهد في تطهير أعمالنا من المخالفات، وقصرها على الطاعات والمباحات، كذلك علينا أن نجتهد في طاعاتنا أن تكون خالصة لوجه الله، وأن نبعد عنّا كل خاطر يلفتنا إلى غيره، حتى يسلم لنا القصد كله خالصًا، والعمل كاملاً).
الاستمرار في طلب العلم والاجتهاد في تحصيله :
عانى قطاع التعليم في زمن ابن باديس من عوائق كثيرة، نذكر منها:
أولاً: نفور أغلب الشعب من تدريس أبنائهم اللغة الفرنسية، باعتبار أنها لغة العدو الكافر الذي اغتصب وطنه، الشيء الذي أوجد فراغًا كبيرًا لدى الأهالي في كثير من التخصصات العلمية، التي لا تدرس إلا باللغة الفرنسية.
ثانيًا: الطرق الصوفية المنحرفة، التي سعت جاهدة لإيقاف المد الإصلاحي.
وثمة آفة أخرى أصابت التعليم في الجزائر، هي أن العلوم كان منها ما يؤخذ باللسان العربي، وهي العلوم الشرعية والآلية، ومنها ما يؤخذ باللسان الأجنبي، وهي علوم الأكوان والعمران. (وقد كان الذين يزاولون العلوم الأولى على جمود تام، كما كان الذين يزاولون العلوم الثانية على تيه وضلال، فهؤلاء يعتبرون الآخرين أحجارًا... وأولئك يعتبرون هؤلاء كفارًا).. الأمر الذي جعل ابن باديس يتحسس مواضع الداء، ويبحث بجد عن أسبابه حتى نفذ إلى أعماق القضية، فعاب على كل من ينتقص علمًا من العلوم لم ينل منه حظًا، أو يزهد فيه لاعتبار من الاعتبارات، موجهًا نداءه إلى الجميع قائلاً: (احذر كل مُتَعَيْلِم يُزَهِّدك في علم من العلوم، فإن العلوم كلها أثمرتها العقول لخدمة الإنسانية، ودعا إليها القرآن الكريم بالآيات الصريحة)، وأنَّ العلم تراث الإنسانية، يستحقه على السواء جميع أفرادها المجتهدين.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله:(1/82)
تَعَلَّمْ فليسَ المرءُ يُولدُ عَالِمًا وليسَ أخو عِلْمٍ كمَنْ هو جاهل
وإنَّ كبيرَ القومِ لا عِلْمَ عِنْدَه صغيرٌ إذا التفَّتْ عليه الجحافل
وإنَّ صغيرَ القومِ إذا كان عَالِمًا كبيرٌ إذا رُدَّتْ إليه المحافل
ويرى ابن باديس ضرورة الاستمرار في طلب العلم، والاجتهاد في تحصيله، وأنه مهما بلغ الإنسان من درجات في العلم، يبقى بحاجة إلى طلب المزيد، وفي هذا يقول: (يتعلم الإنسان حتى يصير عالمًا ويصير معلّمًا، ولكنه مهما حاز وتوسّع فيه وتكمّل به، فلن يزال بحاجة إلى العلم، ولن تزال أمامه فيما علمه وعلّمه أشياء مجهولة يحتاج إليها، فعليه أبدًا أن يتعلم وأن يطلب المزيد، ولذا أمر الله نبيه صلى الله عليه و سلم -وهو المعلم الأعظم- أن يطلب من الله عز وجل، وهو الذي علّمه ما لم يكن يعلم، أن يزيده علمًا، فقال: (وقل رب زدني علمًا )(طه:114).
ومن المعروف أن لتحصيل العلم طريقين: أحدهما أن يتلقى ذلك من الكتب الموثوق بها، والثاني أن يتلقى ذلك من معلم موثوق به علمًا وديانة، إلا أن الطريق الثاني أسلم وأسرع وأثبت للعلم.
فإذا جمع الطالب بين الطريقين، كان ذلك أكمل وأتمّ، لذلك يرشد ابن باديس طلبة العلم إلى السير على الطريقين فيقول: (فعلى الطلبة والمتولين أمر الطلبة أن يسيروا على خطة التحصيل الدرسي والتحصيل النفسي، ليقتصدوا في الوقت، ويتوسعوا في العلم، ويوسّعوا نطاق التفكير).
هكذا عمل ابن باديس جاهدًا لتجاوز تلك العقبات، وتشجيع الجميع على طلب العلم ومحاربة الجهل، وذلك أقصر السبل لإنقاذ الأمة من وهدة الاستعمار والتخلف.
أنواع العلوم عند ابن باديس:
يرى ابن باديس أن العلم منه فرض عين ومنه فرض كفاية، ولابدّ للمسلم من معرفة ما هو فرض عين عليه، إذ (الإسلام دين له عقائد وأخلاق وأحكام، وأن على المسلم أن يعرف من ذلك ما لا يكون المسلم مسلمًا إلا به، وأن عليه أن يقوم بذلك في أهله وبنيه وبناته، ومَن في رعايته وكفالته).(1/83)
والسؤال الذي يدور حوله المطلب هو:
ما هي العلوم التي إذا عرفها البعض سقطت معرفتها عن الآخرين، والأخرى التي تجب على المسلم في خاصة نفسه؟
يوضح ابن باديس ذلك فيقول: (إن طلب العلم على وجهين:
أحدهما: الاشتغال بتحصيل مسائله، والانقطاع إلى تعلم قواعده، وهذا هو الواجب كفاية)، مثال ذلك ما روي (عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أتعلم له كتاب يهود، قال: (إني والله ما آمن يهود على كتاب). قال: فما مرَّ بي نصف شهر حتى تعلمته.. قال: فلما تعلمته، كان إذا كَتَبَ إلى يهود كتبتُ إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأتُ له كتابَهم).
ويتضح لنا من ذلك أن تعلّم لغة اليهود، لم يكن فرضًا على كل المسلمين، بل هو من فروض الكفاية، التي إذا عرفها البعض سقطت عن الآخرين.
وثانيهما: (السؤال عن حكم ما نزل به من أمر دينه، واستفتاء أهل العلم فيه: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) الآية، وهذا واجب عينًا.. فإذا احتاج الإنسان إلى شيء من العلم، كان تعلمه فرض عين عليه، فمثلاً: إذا أراد أن يتوضأ، يجب عليه عينًا أن يتعلم كيف يتوضأ، وإذا أراد أن يصلي وجب عليه عينًا أن يتعلم كيف يصلي، وهكذا.
ويخلص ابن باديس إلى القول: (فاحفظ هذا الضابط واعتبر به مسائل دينك، يسهل عليك الفرق بين ما هو واجب على عموم المسلمين، يسقط بوجود عَالِم بينهم، وما هو واجب عليك في خاصة نفسك، لا تبرأ ذمتك إلا بمعرفته)(1).
واجب العلماء:
لقد مدح الله العلماء العاملين في أكثر من آية فقال عز وجل: (إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور )(فاطر:28). (أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم، الموصوف بصفات الكمال، المنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتمّ والمعرفة به أكمل، كانت الخشية له أعم وأكثر).(1/84)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية).
وقال مالك رحمه الله: (إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب).
فالعلماء من الأمة كالقلب من الجسد، إذا صلح صلح سائر الجسد.. وقد أثبتَ التاريخُ، أنه لا مجد لهذه الأمة ولا صلاح لها إلا إذا صلح علماؤها، ولا صلاح لعلمائها إلا إذا كانوا ربانيين في هدفهم وسلوكهم وتفكيرهم، صادقين فيما يدعون إليه، فإذا كانت تلك صفاتهم كانوا بحق مصدر هداية لأمتهم.
وفي هذا يقول ابن باديس: (إن أهل العلم في كل قطر، هم مصدر الهداية والإرشاد، ومبعث التثقيف والتهذيب، وكل واحد في ناحيته هو نبراسها في ظلمة الجهل، ومرجعها في مشكلات الأمور).
ويبيّن ابن باديس فضل العلماء وعلو مكانتهم، وعظيم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، فيقول: (العلماء ورثة الأنبياء، وما وَرَّثَ الأنبياءُ دينارًا ولا دِرهمًا، وإنما وَرَّثُوا العلم، والعلم مستمد من الرسالة، فعلى أهله واجب التبليغ والنذارة، والصبر على ما في طريق ذلك من الأذى والبلاء، والعطف على الخلق والرحمة).
ويرى ابن باديس أن العلم مصدر لمزيد من المسؤولية عن المجتمع يتحملها العالم، وليس العلم مصدر امتياز في التمتع والمنافع والاستئثار، يُدلُّ به العالِم على سواه، فكلما ازداد الإنسان علمًا ازداد تحملاً للمسؤولية، لازدياد إدراكه لمدى واجباته. (وأن العلم أمانة عند العلماء، وهم مكلفون بأدائه لمستحقيه، وليس العلم ملكًا لهم يستغلونه، فيكتمونه إذا رأوا الكتمان أوفق بمصالحهم الشخصية، وينشرون منه ما لا يصادم أهواء العامة، بل يزيدهم جاهًا لديهم، ولا أبخس صفقة ممن اشترى الحياة الدنيا بالآخرة).
يقول تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاّعنون )(البقرة:159).(1/85)
فكما أنه يجب على المتعلم التعلم، كذلك يجب على العالِم التعليم، فيا فوزَ مَنْ زادَهُ عِلْمُهُ خشيةً، ومِن اللهِ قُرْبًا.
والحقيقة أن تاريخ الأمة الطويل يشهد على الارتباط الوثيق بين صلاح العلماء وازدهار الأمة، فكلما قام العلماء بواجبهم تجاه الأمة، صلحت أمورها وازدهرت، فكلما قعدوا عن ذلك تدهورت وانحطت. وفي هذا يقول ابن باديس: (وإنّا إذا راجعنا تاريخَ المسلمين، في سعادتهم وشقائهم وارتفاعهم وانحطاطهم، وجدنا ذلك يرتبط ارتباطًا متينًا بقيام العلماء بواجبهم، أو قعودهم عمّا فرض الله وأخذ به الميثاق عليهم).
يقول تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون )(النحل:44). ويقول تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه )(آل عمران:187).
فابن باديس يذكّر العلماء بالميثاق الذي أخذه الله عليهم، من وجوب تبيين الحق للناس، فيقول: (ولهذا فنحن ندعو العلماء كلهم إلى أن يذكروا هذا الميثاق، وأن لا ينبذوه وراء ظهورهم، وأن يبادر كل ساكت وقاعد إلى التوبة والإصلاح والبيان).
المبحث الرابع : سمات ابن باديس الشخصية وأثرها على منهجه التربوي
كان ابن باديس مدرسة أخلاقية بسلوكه وتصرفاته ومعاملاته، وكانت أقواله ونظرياته صورة صادقة لواقع حياته، وعصارة خالصة لأعماله ومعتقداته.
كان رحمه الله نموذجًا صادقًا وصورة حية لتلك المبادئ التي طالما نادى بضرورة العودة إليها، من أجل إنقاذ شعبه وإسعاده.. وكان أسوة في التواضع والتسامح ونكران الذات، وكذلك كان في الصرامة والشجاعة والثبات.
تأثر الشيخ ابن باديس كثيرًا بأخلاق شيوخه الذين تلقى عنهم العلم، خاصة أستاذه الأول الشيخ (حمدان الونيسي)، الذي طبع حياته بطابع روحي وأخلاقي لم يفارقه أبدًا، فكان لذلك تأثير كبير على منهاجه التعليمي والتربوي.(1/86)
وسوف أتبع في هذا العرض أسلوب التدليل بالوقائع والأحداث على ما تميّز به الشيخ ابن باديس من سمات شخصية، وأثر ذلك على دعوته ومنهجه التربوي.
1 ـ التواضع والتقشف :
اشتهر رحمه الله بالزهد والانصراف عن متاع الدنيا. ورغم أن عائلته كانت من سراة قومه، ووالده كان من أعيان مدينته، إلا أنه في شخصه كان متقشفًا، مخشوشنًا، متواضعًا تواضع العلماء العارفين، فكان بذلك أكثر قُربًا من العامة لا من الخاصة. وصدق الشاعر حين قال:
إنَّ التواضعَ مِن خصالِ المتّقي وبه التَّقيُّ إلى المعالي يرتقي
يُروى أنه خرج من مقصورته بجامع (سيدي قموش) بقسنطينة ذات يوم، فطلب من أحد أصدقائه أن يبحث له عمن يشتري له نصف لتر من اللبن، وأعطاه آنية، فرآها ذلك الصديق فرصة لإكرام الشيخ، فذهب بنفسه إلى الشوّاء واشترى له صحنًا من اللحم المختار، وعاد إلى الشيخ وهو يكاد يطير من شدة الفرح، ولمّا قدمها إليه استشاط غضبًا، وقال له في لهجة شديدة صارمة: (ألا تعلم أنّني ابن مصطفى ابن باديس، وأن أنواعًا مختلفة من الطعام اللذيذ تُعدّ كل يوم في بيته، لو أردتُ التمتع بالطعام، ولكن ضميري لا يسمح لي بذلك، وطَلَبَتي يسيغون الخبز بالزيت، وقد يأكله بعضهم بالماء).
هذا نموذج واحد من موقف الشيخ ابن باديس سردناه للتدليل على ما ذكرنا من التواضع والتقشف في حياته، ويمكن أن نستخلص من ذلك ما يلي:
أ ـ أن الشيخ ابن باديس كان عالمًا ربانيًا، عازفًا عن الدنيا وملذاتها، متواضعًا لله تواضع العلماء العارفين.
ب ـ أن المهمة التي انتصب إليها، وهي تربية الجيل وتعليمه، قد غلبت على نفسه، وهيمنت على قلبه فتفرغ لها تفرغًا زهّده في الملذات التي يطلبها الناس، والمتع التي يفرط في السعي وراءها الكبار والصغار.
2 ـ الحلم والتسامح:(1/87)
وهو من أبرز صفات الأنبياء والرسل، وقد أوذي رسول الله صلى الله عليه و سلم، فكان يقول: (رَبِّ اغفرْ لقومي فإنهم لا يعلمون )(رواه مسلم)، كذلك سار علماء السلف والخلف على هذا الهدي في الحِلْم والتسامح، فكانوا خيرَ مَن حمل إلينا هذه الأخلاق العالية والصفات السامية. عن عطاء بن يسار قال: (ما أوتي شيء إلى شيء أزين من حِلْم إلى عِلْم).
وللإمام ابن باديس رحمه الله سجل حافل، وتاريخ زاخر، بهذه المعاني الإسلامية السامية.
فقد توافرت في شخص الإمام صفات العالِم العامِل، الذي يخاطب عقول المسلمين وقلوبهم، صائغًا إليهم هذا الدين في أحسن صورة، لذلك كان موضع سخط السلطات الاستعمارية وأعوانها.
يُروى أن إحدى الجماعات الصوفية المنحرفة التي ضاقت ذرعًا بمواقف ابن باديس، أوعزت -بتنسيق مع سلطات الاحتلال- إلى نفرٍ من أتباعها باغتيال الشيخ عبد الحميد، ظنًّا منها أن في اغتياله قضاء على دعوته، غير أن الغادر الذي همّ بهذه الجريمة لم يفلح في تنفيذها، ووقع في قبضة أعوان الشيخ، وكانوا قادرين على الفتك به، إلا أن أخلاق الإمام العالية جعلته يعفُّ ويعفو، وينهى أصحابه عن الفتك به، متمثلاً قول النبي صلى الله عليه و سلم: (رَبِّ اغفرْ لقومي فإنهم لا يعلمون ).
فرحم اللهُ الشيخ ابن باديس، ما أحلَمَهُ مِن داعٍ ومربٍّ، عاش لدعوته، فملكت عليه نفسه، حتى أصبح محل إعجاب العدو قبل الصديق!!
3 ـ الشجاعة والصرامة في الحق:
لئن كان الشيخ ابن باديس في كثير من مواقفه ليّنًا من غير ضعف، فهو في الحق صارم.. وحين تخور العزائم، فهو شجاع شجاعة مَن لا يخاف في الله لومة لائم، ولا غطرسة ظالم متجبّر.(1/88)
تجسّدت هذه الخصال في مواقفه العديدة مع سلطات الاحتلال، ومن ذلك موقفه مع وزير الحربية الفرنسي (دلادييه)، أثناء ذهاب وفد المؤتمر الإسلامي إلى باريس في 18 يوليو 1936م، حيث هدّد الوزيرُ الفرنسيُّ الوفدَ الجزائريَّ وذكّرهم بقوة فرنسا، وبمدافعها بعيدة المدى قائلاً: (إن لدى فرنسا مدافع طويلة)، فردّ عليه ابن باديس: (إن لدينا مدافع أطول)، فتساءل (دلادييه) عن أمر هذه المدافع؟ فأجابه ابن باديس: (إنها مدافع الله).
فقد كان رحمه الله جريئًا في غير تهوّر، شجاعًا في غير حمق، يطرح مواقفه، ويعرض قضايا الأمة ومشكلاتها، وكلّه استعداد للبذل والتضحية، غير مبالٍ بصولة المستعمر وظلمه، متمثلاً قول الرسول صلى الله عليه و سلم: (إنَّ من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ).
4 ـ الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الحق متى تبيّن:
التواضع خلق متأصل عند ابن باديس، فكما أنه عُرف بتواضعه في حياته الاجتماعية، فهو كذلك في حياته العلمية، ويتجلى ذلك بوضوح في منهجه التربوي والتعليمي الذي سلكه طوال حياته.
ولم يكن ذلك حرصًا على مدح مادح، أو تجنّبًا لقدح قادح، بل كان ابتغاء رضوان الله تعالى، وذلك هو درب الصالحين، إذ لا يعيب الداعية والمعلم على الخصوص أن يقول قولاً ثم يرجع عنه إلى غيره، متى بدا له وجه الصواب فيه، فالحق دون غيره هو مطلبه وبغيته.(1/89)
سُئل رحمه الله مرة عن مسألة فقهية، فأفتى فيها بغير المشهور، ولمّا تبيّن له الصواب رجع إليه، ونبّه على ذلك الخطأ وأورد الصواب في مجلة (الشهاب)، وقد كان يكفيه أن يوضّح تلك المسألة للسائل فحسب، وعلّل صنيعه ذلك قائلاً: (أردتُ أن تكون لكم درسًا في الرجوع إلى الحق)، وأضاف موضحًا: (تركتُ لكم مَثَلاً أنه إذا كان الإنسان عالِمًا، يجب عليه أن يعيش للعلم)، وصدق الله القائل: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب )(الزمر:9).. وابن باديس في هذه الوقفات الصادقة، وهذا الوضوح في المنهج، ينطلق من قناعته العميقة بأهمية القدوة الحسنة في حياة الدعاة، وهو ما يجعل الناس يشعرون بصدق الداعي، ومن ثمّة يتقبّلون دعوته، ويكونون من جنوده وأنصاره.
حسن استغلاله للوقت:
ومما تميّز به ابن باديس رحمه الله، حسن استغلاله للوقت، فهو منظّم في عمله، دقيق في توزيع وقته على المهام العديدة التي يقوم بها.
كان مدركًا لقيمة الوقت، وضرورة استغلاله، والاستفادة من لحظاته، وتظهر نظرته هذه واضحة في سياق تفسيره لقول الله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهود اً)(الإسراء:78)، فيقول: (في ربط الصلاة بالأوقات، تعليم لنا لنربط أمورنا بالأوقات، ونجعل لكل عمل وقته، وبذلك ينضبط للإنسان أمر حياته، وتطرد أعماله، ويسهل عليه القيام بالكثير منها. أما إذا ترك أعماله مهملة غير مرتبطة بوقت، فإنه لابد أن يضطرب عليه أمره، ويشوّش باله ولا يأتي إلا بالعمل القليل، ويحرم لذّة العمل، وإذا حُرم لذة العمل أصابه الكسل والضجر، فقلّ سعيه وما كان يأتي به من عمل على قلته وتشوشه، بعيدًا عن أي إتقان).(1/90)
وليس عجيبًا أن يهتم مصلح مثل ابن باديس بالوقت هذا الاهتمام الكبير، وهو الذي يقول عند تعليقه على حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ ): (عمر الإنسان أنفسُ كَنزٍ يملكه، ولحظاته محسوبة عليه، وكل لحظة تمرّ معمورة بعمل مفيد، فقد أخذ حظّه منها وربحها، وكل لحظة تمر فارغة فقد غبن حظه منها وخسرها، فالرشيد هو مَن أحسن استعمال ذلك الكنز الثمين، فعمّر وقته بالأعمال.. والسفيه مَن أساء التصرف فيه فأخلى وقته من العمل).
بهذه النظرة الصائبة للوقت، نجح ابن باديس في استغلاله أحسن استغلال، فكان يلقي من الدروس في اليوم الواحد ما يعجز عنه غيره. يبدأ دروسه بعد صلاة الفجر، ويظل طيلة نهاره يُعَلِّم طَلَبَته الدين وعلوم العربية، ولا يقطع دروسه إلا لصلاة الظهر ولتناول الغداء، ثم يستمر إلى ما بعد صلاة العشاء. وكان رحمه الله مع أخذه بكل ما يستطيع من الأسباب في تأدية رسالته، يلتجئ إلى الله بثقة لا توهب إلا لأولي العزم من الرجال.. ففي إحدى ساعات الشدة والعسرة قال لأحد طلبته: (يا بُنَيّ إن جميع الأبواب يمكن أن تُغلق أمامنا، ولكن بابًا واحدًا لن يُغلق أبدًا، هو باب السماء).
هذه العقيدة الراسخة القوية، كانت دافعًا له على الثبات والمثابرة، وبهذه العزيمة القوية جاب ابن باديس أرجاء القطر الجزائري على اتساعها، وأنشأ فيها المدارس والنوادي، لتعليم أبناء الأمة لغتهم ودينهم، مدركًا بأن العلم أمانة عند العلماء، وهم مكلفون بأدائها لمستحقيها.(1/91)
فكان حقًا حارسًا من حراس العقيدة، مدافعًا عن الإسلام ولغة الإسلام، ثابتًا ثبات الجبال الرواسي، ماض في دعوته لا يُثنيه عن ذلك شيء. يؤكد هذا العزم لإخوانه بقوله: (إني أعاهدكم على أنني أقضي بياضي على العربية والإسلام، كما قضيتُ سوادي عليهما، وإنها لواجبات... وإنني سأقضي حياتي على الإسلام والقرآن ولغة الإسلام والقرآن، وهذا عهدي لكم).
لم يكن الهدف من سَرد هذه السمات، تتبع مناقب الإمام ابن باديس، وإنها لجديرة بذلك، إنما أردنا توضيح السر في نجاح هذا المربي في مهمته النبيلة. والواقع أن سمات ابن باديس الشخصية كانت إحدى عوامل نجاحه في جمع كلمة الشعب الجزائري بمختلف فئاته، وتوجيهه توجيهًا عربيًا إسلاميًا، وتربية أجيال من أبنائه تربية إسلامية صحيحة.
ويمكننا أن نستنتج مما أوردنا أمرين هامين:
1 ـ أن المربي يجب أن يكون قدوة لغيره، بأخلاقه الفاضلة، وأن يترفّع عن الشبهات، لأن الناس يتخذونه مَثَلاً يُحتذى.
وعليه كذلك أن يكون مخلصًا في عمله، شجاعًا في مواقفه، قويًّا في شخصيته، رؤوفًا بطَلَبته.
2 ـ أن سلوك المربي وأخلاقه الحميدة، تجعل الناس يطمئنون إليه ويستأمنونه على أبنائهم.
فقد دفع المسلمون في الجزائر بأفلاذهم إلى ابن باديس، دون المدارس الرسمية الحكومية، مع ما تتضمنه من مغريات في الوظائف وغيرها.
وهكذا يتبيّن لنا أن السمات الشخصية للمربي، لها بالغ الأثر في توفير الوسط الملائم لإنجاح جهوده التربوية، والوصول بها إلى الغايات العلا.
والحقيقة أن ابن باديس كان ناصعًا في تاريخه، سجّل في صفحاته كل خير وإحسان.
فقد تميزت مسيرته التربوية الطويلة بتوثيق صلته بالشعب عامة، وجماهير المساجد التي يخطب فيها خاصة، ولا شك أن الناس حينما يشعرون بقُرب الداعي منهم، ومجاملته ومشاركته لهم في أفراحهم وأتراحهم، يعيش بينهم ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم، يحبونه ويثقون به.(1/92)
وإذا كان كثير مما ذكرناه قد لا يؤثر في طلاب المدارس تأثيرًا مباشرًا لوقوعه خارج محيط المدرسة، فإن ابن باديس لم يحصر جهوده في ذلك المحيط، بل تعدّاه ليطال طبقات أوسع من المجتمع، إيمانًا منه بأن للعامة حقًا في ذلك.
الفصل الثاني إصلاح التعليم عند ابن باديس
المبحث الأول : إصلاح المناهج
إن ابن باديس عند وضعه لمناهج التعليم، لم يكن مذهبه مثاليًا مبنيًا على تصورات نظرية، بل كان واقعيًا، أملته متطلبات العصر، وأولويات المجتمع ومعتقداته.
وعناية ابن باديس بموضوع التربية، ليست عناية الباحث المنظّر، الذي لا شأن له بالتطبيق العملي، بل كان يمارس ذلك كل يوم في حلقات الدروس في الكتاتيب والمدارس، وحتى في النوادي والأسواق.
وقبل أن نتطرق إلى رأي ابن باديس في إصلاح المناهج والبرامج الدراسية، نوضح أولاً مفهوم الإصلاح عنده، والمدارس التي أثّرت في منهجه التربوي.
يعرّف ابن باديس الإصلاح فيقول: (هو إرجاع الشيء إلى حالة اعتداله، بإزالة ما طرأ عليه من فساد).. ويقول: (صلاح الشيء: هو كونه على حالة اعتداله في ذاته وصفاته، بحيث تصدر عنه أو به أعماله المرادة منه على وجه الكمال).
وقد لاحظ ابن باديس أن المناهج والبرامج المتبعة في زمانه، ليست في حالة اعتدال، سواء في صورتها أو مادتها، لإهمالها كثيرًا من المبادئ الخالدة التي جاء بها الإسلام، فهو يرى أنه (لن يصلح هذا التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه، في مادته وصورته، فيما كان يعلّم صلى الله عليه و سلم، وفي صورة تعليمه).(1/93)
ويرى ضرورة إعداد المناهج المناسبة لتنشئة أجيال المستقبل وتربيتها التربية الصالحة، موضحًا ذلك بقوله: (إن أبناءنا هم رجال المستقبل، وإهمالهم قضاء على الأمة إذ يسوسها أمثالهم، ويحكم في مصائرها أشباههم... ونحن ينبغي هنا أن نربّي أبناءنا كما علّمنا الإسلام، فإن قصّرنا فلا نلومنّ إلا أنفسنا، ولنكن واثقين أننا نبني على الماء ما لم نعدّ الأبناء بعدّة الخُلُق الفاضل، والأدب الديني الصحيح).
ويحرّض ابن باديس رجال التربية في عصره على ضرورة إعادة النظر في البرامج التربوية، فيتساءل مستنكرًا: (فهل نعدّ منهجًا ينبت به أبناؤنا نباتًا حسنًا فيكون رجاؤنا عظيمًا، أم نستمر على ما نحن عليه فيضيع الرجاء؟ ذلك ما نُسأل عنه يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليم).
ويوضح في هذا السياق أهمية إصلاح تلك البرامج، مؤكدًا على الصبغة المتميزة التي ينبغي أن تكون عليها، فيقول: (فالتعليم هو الذي يطبع المتعلّم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته، وما يستقبل من عمله لنفسه وغيره... ونعني بالتعليم: التعليم الذي يكون به المسلم عالمًا من علماء الإسلام، يأخذ عنه الناسُ دينهم، ويقتدون به فيه).
وكان أهل المغرب يبعثون بأبنائهم إلى الكتاتيب منذ الصغر، ولم تكن هناك سِنٌّ معينة يبدأ عندها الطفل في تلقي العلم، وإنما كان الأمر متروكًا للآباء، فمتى وجدوا أن الطفل بدأ في التمييز والإدراك أرسلوه إلى الكُتَّاب.
وأما طريقتهم في تعليم الصبيان في الكتاتيب، فيصفها العلامة ابن خلدون بقوله: (فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، لا من حديث، ولا من فقه، ولا من شِعْر، ولا من كلام العرب، إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه).(1/94)
وظلت تلك الطريقة متبعة عند أهل المغرب إلى أن سقطت آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وهاجر الكثير منهم إلى شمال أفريقيا، فتأثر المغاربة بطريقة أهل الأندلس التي يصفها ابن خلدون بقوله: (وأما أهل الأندلس فمذهبم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الذي يراعونه في التعليم، إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسّه ومنبع الدين والعلوم، جعلوه أصلاً في التعليم، فلا يقتصرون لذلك عليه فقط، بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسّل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها، وتجويد الخط والكتاب.
هذه هي طرق أهل المغرب وأهل الأندلس، فماذا كانت طريقة ابن باديس في ذلك؟
أما ابن باديس فلم يحدّد سنًا معلومة لالتحاق الطلبة بالمدارس، فكان من بين متعلميه من تناهز أعمارهم الثلاثين سنة.
وقد تأثر إلى حد كبير بالطريقة الأندلسية في التدريس وإصلاح التعليم، يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، واصفًا الطريقة التي ارتضاها وابن باديس لتربية النشء: (وكانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا في المدينة، في تربية النشء، هي ألا نتوسّع له في العلم، وإنما نربّيه على فكرة صحيحة، ولو مع علم قليل، فتمت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا).
ومن قبل قال ابن خلدون: (اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين يكون مفيدًا لو تمّ ذلك بالتدريج شيئًا فشيئًا، قليلاً قليلاً، فيلقى على المتعلم مسائل من كل باب من الفن، هي أصول ذلك الباب).
وكان ابن باديس رحمه الله يحرص على الكيف أكثر من حرصه على الكم، يرى التركيز على الفهم وإعمال الذهن وتشغيل قوى المخيلة، أكثر من شحن الذاكرة.(1/95)
هذا بالنسبة إلى الطريقة المتبعة، أما بالنسبة لمحتوى المنهج فيوضّحه ابن باديس بقوله: (تشتمل الدروس على التفسير للكتاب الحكيم وتجويده، وعلى الحديث الشريف، وعلى الفقه في المختصر وغيره، وعلى العقائد الدينية، وعلى الآداب والأخلاق الإسلامية، وعلى العربية بفنونها كالمنطق والحساب وغيرهما).
أما التفسير، فقد تصدّر هو بنفسه لتفسير كتاب الله العزيز الحكيم، وأما الحديث فمن (موطأ الإمام مالك)، والفقه من (أقرب المسالك)، و(رسالة ابن عاشر)، والعربية من (قَطْرِ النَّدَى)، والشعر من (ديوان الحماسة وديوان المتنبي)، إضافة إلى تدريس (مقدّمة ابن خلدون)، وتعليم الطلبة بعض الصنائع اليدوية.
وعلى هذا، فهو يقسم العلوم إلى صنفين:
علوم مقصودة لذاتها: كالتفسير والحديث والفقه والعقائد، وعلوم آلة كالعربية والحساب وغيرهما، ولم توضح آثار ابن باديس تفصيل برامج المستويات المختلفة، سوى أنها تشير إلى أن المتعلمين كانوا على أربع طبقات.. ويتبين من خلال ما ذكرناه أن ابن باديس كانت له طريقة خاصة في التعليم، فظروف الاستعمار لم تسعف الصبيان في الالتحاق بالكتاتيب والمدارس في السن المناسب، فاحتضنهم ولم يحرم منهم أحدًا من طلب العلم رغم تباين أعمارهم.
إلى جانب ذلك نراه جمع بين طريقة أهل المغرب في تركيزه على القرآن الكريم، الذي هو كتاب هداية للبشرية، وأساس تعليم الدين والتفقه فيه، وبين طريقة أهل الأندلس في تعلم الشعر وقوانين العربية، إضافة إلى إثراء برامجه بمادة الحساب والصنائع اليدوية، لأهميتها اللازمة للكسب والعمران، مشيرًا بذلك إلى ضرورة ربط المواد الدراسية بحاجات المجتمع ومتطلباته.
وقد أرشد ابن باديس إلى الاستفادة من خبرات المعلمين، والأخذ بآرائهم في ما يهمّ التعليم ومدارسه ونظمه وأساليبه، بغية التوصل إلى توحيد مناهج التعليم وترشيده.(1/96)
ودعى في رسالته التي وجهها إلى رجال التربية والتعليم في الجزائر، إلى عقد مؤتمر عام لتبادل الآراء والخبرات في مجال التربية، قصد تحسين وتطوير الجوانب التالية:
- أسلوب التعليم.
- أسلوب تربية الناشئة.
- طريقة اختيار الكتب.
- تعليم البنت المسلمة ووسائل تحقيقه.
- وسائل تنظيم وترقية التعليم المسجدي.
إضافة إلى الاستفادة من خلاصة تجاربهم في مجال التربية والتعليم.
المبحث الثاني : إصلاح التعليم في جامع الزيتونة
الحقيقة أننا حين نستحضر الجهود التي بذلها الشيخ ابن باديس في مجال إصلاح المناهج التربوية، ندرك بوضوح شمول نظرته، وصدق إحساسه بمواضع الداء.
وهو إذ يصب جل جهوده نحو ترشيد التعليم في الجزائر، فهو يسعى كذلك إلى إصلاحه في غيرها من المدارس والمعاهد، ولا أدلّ على ذلك من اهتمامه المُلِحّ بإصلاح التعليم في جامع الزيتونة. هذا الجامع هو عبارة عن كلية دينية يتخرج منها رجال القضاء والفتوى، ورجال الإمامة والخطابة ورجال التعليم.
واهتمام ابن باديس البالغ بهذا القطاع، نابع من اعتقاده بأن صلاح المسلمين بصلاح علمائهم، وأن (العلماء من الأمة بمثابة القلب، إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله... ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم، فالتعليم هو الذي يطبع المعلّم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته).
ومن خلال مقالات ابن باديس العديدة حول حالة التعليم في جامع الزيتونة، يتضح مدى التدهور الذي كان يعانيه ذلك القطاع في مناهجه ووسائله، من ذلك قوله: (قد حصلنا على شهادة العالمية من جامع الزيتونة، ونحن لم ندرس آية واحدة من كتاب الله، ولم يكن عندنا أي شوق أو أدنى رغبة في ذلك، ومن أين يكون لنا هذا ونحن لم نسمع من شيوخنا يومًا منزلة القرآن من تعلّم الدين والتفقه فيه، ولا منزلة السنة النبوية من ذلك، هذا في جامع الزيتونة، فدع عنك الحديث عن غيره مما هو دونه بمديد المراحل).(1/97)
والذي جعل البرامج في هذا الجامع قاصرة عن أداء رسالتها، هو عدم اتزانها، فكثر جمودها وقلّت فائدتها.
ومن المعروف عند أهل العلم، أن العلوم منها ما هي مقصودة بالذات كالتفسير والحديث والفقه، وأخرى آلية -وسيلة لتلك العلوم- كالعربية والحساب والمنطق. (فأما العلوم التي هي مقاصد، فلا حرج في توسعة الكلام فيها، وتفريع المسائل، فإن ذلك يزيد طالبها تمكنًا في ملكته، وإيضاحًا لمعانيها المقصودة.. أما العلوم التي هي آلة لغيرها... فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط).
غير أن الواقع في جامع الزيتونة، هو التوسع في العلوم الآلية، والإفراط في ذلك إلى درجة الابتعاد عن الغرض منها، وإعاقة تحصيل العلوم المقصودة لذاتها، فيخرج الطالب ولم يحصل من ذلك على شيء.. ويصف لنا ابن باديس استفحال ذلك الانحراف، فيقول: (وفي جامع الزيتونة عمّره الله تعالى، إذا حضر الطالب بعد تحصيل التطويع في درس التفسير -ويا للمصيبة- يقع في خصومات لفظية... في القواعد التي كان يحسب أنه فرغ منها من قبل، فيقضي في خصومة من الخصومات أيامًا وشهورًا، فتنتهي السنة، وهو لايزال حيث ابتدأ أو ما تجاوزه إلا قليلاً، دون أن يحصل على شيء من حقيقة التفسير، وإنما قضى سنته في المماحكات، بدعوى أنها تطبيقات للقواعد على الآيات، كأن التفسير إنما يقرأ لأجل تطبيق القواعد الآلية، لا لأجل فهم الشرائع والأحكام الإلهية، فهذا هجر آخر للقرآن مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم في خدمة القرآن).
هذه الأمور وغيرها مما يحدث في جامع الزيتونة، جعل ابن باديس يتقدم باقتراح شامل لإصلاح البرامج فيه، نلخصها في ما يلي:
* تقسيم المراحل الدراسية إلى مرحلتين:(1/98)
أ ـ مرحلة المشاركة: أو ما يسمى في بعض الجامعات بالقسم العام أو الجذع المشترك، حيث يتساوى فيه المتعلمون في المعلومات، على اختلاف مقاصدهم، وأن لا تقل مدة الدراسة في هذا القسم عن ثماني سنوات، يتعلم خلالها الطلبة:
1 ـ فنون اللغة العربية، وتاريخ الأدب العربي.
2 ـ العقائد الإسلامية، وأن تؤخذ من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
3 ـ الفقه، بحيث يقتصر فيه على تقرير المسائل دون تشعباتها.
4 ـ تفسير القرآن العظيم، من تفسير الجلالين.
5 ـ الحديث النبوي، بدراسة مختارات من كتب السنة.
6 ـ التربية الأخلاقية، من الآيات والأحاديث وآثار السلف الصالح.
7 ـ الحساب والجغرافيا ومبادئ الطبيعة والفلك والهندسة.
ب ـ مرحلة التخصص: لمّا كان المتخرّجون من الجامعة الزيتونية على ثلاثة أصناف حسبما يتصدّرون إليه بعد تخرجهم، رأى ابن باديس أن يفرّع قسم التخصص إلى ثلاثة فروع:
1 ـ فرع للتخصص في القضاء والإفتاء، على أن لا تقل مدة الدراسة فيه عن أربع سنوات، يدرس خلالها الطلبة ما يلي:
- يتوسع لهم في فقه المذهب، ثم في الفقه العام، ويكون كتاب (بداية المجتهد) من الكتب التي يدرسونها.
- دراسة آيات وأحاديث الأحكام، ودراسة علم التوثيق، والتوسع في علم الفرائض والحساب، ويطلعون على مدارك المذاهب، حتى يكونوا فقهاء إسلاميين، ينظرون إلى الدنيا من مرآة الإسلام الواسعة، لا من عين المذهب الضيّقة.
2- فرع للتخصص في الخطابة والإمامة، تكون مدة الدراسة فيه سنتين، يتوسّع الطلبة خلالها في صناعة الإنشاء، والاطلاع على أنواع الخطب، مع دراسة آيات المواعظ والآداب وأحاديثهما، ويتوسعون في السيرة النبوية ونشر الدعوة الإسلامية، ويتمرّنون على إلقاء الخطب الارتجالية.
3- فرع للتخصص في التعليم، تكون مدة الدراسة فيه سنتين، يتوسع الطلبة خلالها في العلوم التي يريدون التصدي لتعليمها، وتمرينهم على التعليم بالفعل، مع التركيز على دراسة كتب فنّ التعليم.(1/99)
هذا باختصار ما اقترحه الشيخ ابن باديس لإصلاح المناهج المتبعة في جامع الزيتونة.
إضافة إلى ذلك يرى (أن المعلمين في قسم الاشتراك يكونون من الحائزين على شهادة التخصص في التعليم، وكذلك المعلمون في فرع التخصص للتعليم، وأما المعلمون في فرع القضاء والفتوى فلابد أن يكونوا ممن تخصصوا فيهما وتخصصوا في التعليم، وكذلك المعلمون في فرع الخطابة).
يتبين من ذلك أن ابن باديس رحمه الله، أدرك أهمية المعلّم في إنجاح العملية التربوية، وأن إصلاح المناهج يفتقد أهميته إذا لم يتوفر المدرس الكفء. لذلك نراه قد ركّز على أمرين هامين:
1- أن يكون المعلم متمكنًا من العلوم والفنون التي يتصدر لتدريسها، مستوعبًا لتفاصيلها وفروعها.
2- أن يكون المعلم ملمًّا بمبادئ فن التعليم، حتى يتمكن من التأثير في طلبته ومعاملتهم بحسب ما يلائمهم في الجوانب المعرفية والسلوكية، ذلك أن أهم ما يحتاج إليه المعلم هو: (معرفة أساليب التفهيم، وفهم نفسية المتعلمين، وحسن التنزّل لهم، والأخذ بأفهامهم إلى حيث يريد بهم، حسب درجتهم واستعدادهم).
ولابن باديس آراء خاصة وجهود في إعداد المعلمين وتكوينهم، سنبسط البحث فيها في المبحث القادم إن شاء الله.
المبحث الثالث : المعلم في نظر ابن باديس
أدرك الشيخ عبد الحميد بن باديس أن المعلم هو أخطر ركن في العملية التربوية.. وأي مدرسة تهتم بتحقيق أهداف تعليمية وتربوية معينة، عليها أن تنتقي معلميها بدقة، أو تعدهم وتكونهم التكوين المناسب، لتحقيق تلك الأهداف.
وأن المعلم الصالح، غزير المعرفة، واسع الثقافة، العارف بنفسية المتعلمين، الملتزم بآداب التعليم، المتصل بالحياة الاجتماعية، عامل أساس في إنجاح العملية التربوية.
فمهمة التدريس على قدر كبير من الأهمية بالنسبة للمجتمع، ولا يمكن لأية مهنة أخرى أن تضاهيها في ذلك.(1/100)
غير أن واقع التعليم في عصر ابن باديس، كان يفتقر لكثير من مقوّماته الأساسية خاصة تلك المتعلقة بالمعلمين، يقول الشيخ واصفًا ضعف مستوى المعلمين في عصره، سواء في ثقافتهم العامة، أو إلمامهم بفروع المعرفة التي يقومون بتدريسها: (إنه ليقلّ في المتصدرين للتدريس، من كبار العلماء في أكبر المعاهد، مَن يكون قد خَتم كتب الحديث المشهورة كالموطأ والبخاري ومسلم ونحوها، مطالعة، فضلاً عن غيرهم من أهل العلم، وفضلاً عن غيرها من كتب السنة).
الحقيقة أن المستعمر الفرنسي كان يدرك جيدًا أهمية الرسالة التي يقوم بها قطاع التعليم وخطرها عليه، فحرص جاهدًا لإفراغه من محتواه، ومحاربة القائمين علىه، إلا مَن عرف أنهم لا يحرّكون ساكنًا ولا يوقظون نائمًا، ممن لا يفقه كتابًا ولا سنة.
يصف ابن باديس أولئك بقوله: (فالعلماء -إلا قليلاً منهم- أجانب أو كالأجانب من الكتاب والسنة، من العلم بهما والتفقه فيهما، ومن فطن منهم لهذا الفساد التعليمي الذي باعد بينهم وبين العلم بالدين، وحملِهم وزرهم ووزر مَن في رعايتهم، لا يستطيع -إذا كانت له همّة ورغبة- أن يتدارك ذلك إلا في نفسه.. أما تعليمه لغيره فإنه لا يستطيع أن يخرج فيه عن المعتاد، الذي توارثه عن الآباء والأجداد، رغم ما يعلم فيه من فساد وإفساد).
ثمّة آفة أخرى قد أصابت التعليم، ساهم في وجودها الجهل من جهة، والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية من جهة أخرى، هي استغلال هذه الوظيفة للحصول على أغراض ومطامع دنيوية، خاصة لدى القراء ومعلمي القرآن.
يقول ابن باديس مشيرًا إلى تلك الآفة: (وكثير من قراء زماننا لا يقصدون من حفظه إلا التوسل به للتلاوة على الموتى بأجرة، ونحو ذلك من الأغراض الدنيوية المحضة).
ولا يتناول هذا الذم من يأخذ الأجرة على تعليم القرآن، إذا كانت في مقابل تعبه وشغل وقته، ولم يتخذ تعليمه صناعة من الصناعات المادية المحضة.(1/101)
يميّز ابن باديس بين من يتخذ تعليم القرآن لأغراض دنيوية، وبين من يرجو بذلك مرضاة الله، فيقول: (على هذا المعلم -إن أراد السلامة من ذلك الذم- أن يكون هو نفسه عاملاً بكتاب الله، وأن يقصد من تعليمه الدعوة إلى العمل به).
وكان ابن باديس في نفسه، قدوة لأولئك المعلمين، فلم يكن يأخذ أجرًا مقابل ما يقدمه لطلبته من دروس، محتسبًا أجر ذلك عند الله، ولا شك أن تأثير المعلم على تلاميذه يكون أقوى إذا عفّ وابتعد عن أخذ الأجر.
ولم يكن لابن باديس في بداية دعوته برنامج لإعداد المدرسين وتكوينهم في معاهد خاصة، فقد استعان في ذلك بالطلبة المتفوقين، أو الذين تخرّجوا من بعض الزوايا المشهورة، مثل زاوية الهامل وغيرها.
وبعد اشتداد عود الحركة الإصلاحية، أرسل ابن باديس البعثات العلمية إلى الجامعات والمعاهد العليا في البلاد الإسلامية، مثل جامع الزيتونة، والجامع الأزهر، وغيرهما، استعدادًا لما ينتظر الأمة في مستقبل أيامها. وتبدو سعة أفق ابن باديس ونفاذ بصيرته، في تركيزه على تكوين المربين، فقد يُستغنى عن الكتاب وعن أبنية المدرسة، ولكن لا يمكن الاستغناء عن المعلم.
لذلك رأى ابن باديس أن إصلاحَ المعلِّم وإعداده، إصلاحٌ للمتعلم، بل تصويب للعملية التربوية برمتها.
إن دور المعلم لا يقتصر على توصيل العلم من الكتب إلى عقول المتعلمين، وختم البرنامج الدراسي في نهاية الفصل، بل يتعداه إلى بناء شخصية المتعلم، وتنمية عقله، وتهذيب سلوكه، وإعداده لمشاركة القوى الحية في المجتمع.
والخلاصة: أن ابن باديس أكد على أهمية دور المعلم في العملية التربوية، وأن صلاحها مرتبط بصلاحه، وعليه فإن من أهم صفات المربي المسلم في نظره، أن يكون متمكنًا من العلوم والفنون التي يدرسّها، ملمًا بمبادئ فن التعليم، قادرًا على تفهم نفسيات المتعلمين، وأن ينزه العلم عن المطامع الدنيوية، عاملاً بعلمه، صادقًا في عمله.(1/102)
وبمقدار سمو هذه الرسالة وشرف الهدف وعظيم المسؤولية، يكون الإعداد.
فالمنهج والمعلم عنصران رئيسان في العملية التربوية، وكلاهما مسخر لخدمة المتعلم وتثقيفه، وتنشئته التنشئة الصالحة. بهذه النظرة الواقعية أدرك ابن باديس الدور المتميز الذي يلعبه المعلم في إنجاح العملية التربوية وتطويرها.
المبحث الرابع : تعليم المرأة في نظر ابن باديس
قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحج ) (التحريم:6). قال الضحاك في ذلك: (حق المسلم أن يُعلم أهله من قرابته وإيمائه وعبيده، ما فرضَ الله عليهم، وما نهاهم الله عنه)(1).
وقال الله تعالى مخبرًا عن إسماعيل عليه السلام: (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ً)(مريم:55).
فالأسرة هي اللَّبِنَةُ الأولى في بناء المجتمع المسلم، ومحضن ذلك هو البيت وما يُقدّم فيه من تربية، وعماد ذلك كله هو المرأة المسلمة. (فالبيت هو المدرسة الأولى والمصنع الأصلي لتكوين الرجال، وتديّن الأم هو أساس حفظ الدين والخُلُق.. والضعف الذي نجده من ناحيتهما في رجالنا، معظمه نشأ من عدم التربية الإسلامية في البيوت، بسبب جهل الأمهات وقلة تدينهن).
لذلك أولى ابن باديس تعليم المرأة المسلمة اهتمامًا كبيرًا، مدركًا الخطر المحدق بالأمة إذا تركت المرأة بغير تعليم.
كان أهالي الجزائر في زمن الاستعمار يمنعون بناتهم من الذهاب إلى المدارس الحكومية، لأن القائمين عليها ليسوا مسلمين.. واستمر الأمر كذلك إلى أن منعوهن من التعليم في الكتاتيب الحرة، غََيْرَةً على الأعراض وحفاظًا على الدين في نظرهم.(1/103)
بقيت المرأة بعيدة عن التعليم إلى أن ظهرت بوادر الحركة الإصلاحية، فنادى الشيخ ابن باديس بضرورة تعليم البنات، وتوفير المكان المناسب لهن دون الاختلاط بالذكور، معطيًا بذلك روحًا جديدًا للتعليم في الجزائر لم يكن معهودًا فيها من قبل، ذلك لأن المجتمع لا ينهض إلا بالجنسين الرجل والمرأة، مثل الطائر لا يطير إلا بجناحيه.
إنّ النساء شقائق الرجال في التكليف (فمن الواجب تعليمهن وتعلّمهن، وقد علمهنَّ رسولُ الله صلى الله عليه و سلم، وأقرهنّ على طلب التعلم، واعتز بهن، وتفقدهن، كما في حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرجَ ومعه بلال، فظنّ أنه لم يُسْمِع النساء، فوعظهنّ وأمرهنَّ بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي القُرْطَ والخَاتَم، وبلال يأخذ في طرف ثوبه).
وللمرأة في المجتمع مسؤولية القيام بالجانب الداخلي للحياة على تشعب مهامه، يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: (... والمرأة راعيةٌ على أهل بيت زوجها وَوَلَدِه وهي مسؤولةٌ عنهم...).
ولو أمعنا النظر في مسؤولية المرأة، لوجدناها تتحمل العبء الأكبر من أعباء الحياة، ذلك لأنها هي الحامل والمرضع، والحاضن للأطفال، والملازم لهم في مختلف أطوار نشأتهم.. لذلك وجب تهيئتها، وإعدادها الإعداد اللازم لمثل تلك المهمة.
وفي ذلك يقول الإمام عبد الحميد بن باديس: (علينا أن نكمّل النساء تكميلاً دينيًا، يهيئهُنَّ للنهوض بالقسم الداخلي من الحياة، وإعداد الكاملين ومساعدتهم للنهوض بالقسم الخارجي منها، وبذلك تنتظم الحياة انتظامًا طبيعيًا تبلغ به الإنسانية سعادتها وكمالها).(1/104)
وإذا أردنا إعداد المرأة المسلمة للقيام بوظيفة تربية الأجيال، فلابد من توافر الشروط التي تؤهلها للقيام بذلك، مثل العلم الشرعي والعمل به، وهو ما يشير إليه ابن باديس بقوله: (إذا أردنا أن نكوِّن رجالاً، فعلينا أن نكوِّن أمهات دينيات، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتعليم البنات تعليمًا دينيًا، وتربيّتهنّ تربية إسلامية، وإذا تركناهنّ على ما هنّ عليه من الجهل بالدين، فمحال أن نرجو منهن أن تُكَوِّنَّ لنا عظماء الرجال.. وشرّ من تَرْكِهِنَّ جاهلاتٍ بالدين، إلقاؤهنّ حيث يُرَبَّيْنَ تربيةً تنفّرهنَّ من الدين، أو تحقِّره في أعينهنَّ، فيصبحن ممسوخات لا يلدن إلا مثلهنّ.
لذا كان تعليم المرأة أمرًا حيويًا بالنسبة لمستقبل الأمة، فهي مدرسة الأجيال، إذا صلحت صلح البيت، وإذا فسدت فلا تلد إلا نَكِدًا، (فنوع تعليم البنات هو دليل من سيتكوّن من أجيال الأمة في مستقبلها).
ويذهب الشيخ ابن باديس إلى عدم اختلاط البنات بالذكور في التعليم، لأن في ذلك مفسدة لهم، وعليه: (فلا يجوز اختلاط النساء بالرجال في التعليم، فإما أن يُفْرَدْنَ بيوم... وإما أن يَتَأَخْرَنَ عن صفوف الرجال).
ويميل الشيخ إلى أن يجعل لتعليم النساء يومًا خاصًّا، ويتكرّر هذا اليوم بقدر الحاجة، ولما كانت الحاجة دائمة فاليوم مثلها. ومن قبل قال سحنون: (وأكره للمعلم أن يعلّم الجواري يخلطهنّ مع الغلمان، لأن ذلك فساد لهم).
وقال القابسي: (ومن صلاحهم، ومن حسن النظر لهم، ألا يخلط بين الذكران والإناث).
ومن مبادراته لتشجيع المرأة على طلب العلم، إقرار مجانية التعليم للبنات، وفي هذا يقول الشيخ: (ندعو إخواننا المسلمين إلى المبادرة بأبنائهم وبناتهم إلى المكتب (مكتب جمعية التربية والتعليم بقسنطينة).. فأما البنون فلا يدفع منهم واجب التعليم (الرسوم) إلا القادرون، وأما البنات فيتعلمنّ كلهنّ مجانًا، لتتكون منهن -بإذن الله- المرأة المسلمة المتعلمة).(1/105)
المبحث الخامس : رعاية الطلبة الموهوبين
(الشباب نتيجة الماضي، وزهرة الحاضر، وآمال المستقبل، وعدة الحياة).. فهو أهم حلقات الوصل في مسيرة الأمة، وهو الجيل الذي يُناط به أمل النهوض بالأمة من كبوتها، والأخذ بيدها من عثرتها.. والتركيز على إعطائهم ما يستحقون من عناية وتربية وتجارب، وتعهدهم بالنصح والتقويم، لهو في صدارة اهتمامات وانشغالات رجال التربية.
وما جهود الشيخ عبد الحميد بن باديس في هذا المضمار، إلا استجابة واعية، نابعة من معرفته العميقة بظروف مجتمعه والتيارات التي تتجاذبه والعوامل النفسية والاجتماعية التي تضغط عليه، فكانت إصلاحاته موفقة وتوجيهاته راشدة.
وسأتناول في هذا المبحث بعض آراء الشيخ ابن باديس حول ضرورة احترام شخصية المتعلمين ومراعاة الفروق الفردية بينهم، على أن أتناول آراءه الخاصة بالجوانب الأخرى من شخصية المتعلم، في الفصل القادم عند الحديث عن أساليب التربية أو الوسائل المعنوية للتربية.
ـ احترام شخصية المتعلم عند ابن باديس:
يظهر ذلك في تشجيعه لطلبته ومريديه على إبداء آرائهم في المسائل المختلفة التي يدرسونها، واستخدام تفكيرهم لفهم ما أشكل منها، وكان ابن باديس يحرص طوال مسيرته التربوية على احترام شخصية المتعلمين وتقوية عزائمها، وبعثها لنيل درجات العلا، رافضًا بشدة أساليب التقنيط والتحقير التي كانت تُمارَس على المتعلمين، لخطورة ما يترتب على ذلك من جمود وانحطاط. يقول ابن باديس موضحًا ذلك: (إن النفوس عندما تشعر بحرمتها وقدرتها على الكمال، تنبعث بقوة ورغبة وعزيمة لنيل المطلوب، وعندما تشعر بحقارتها وعجزها، تقعد عن العمل، وترجع إلى أحط دركات الهبوط).(1/106)
ويبيّن خطورة التحقير والتقنيط على نفوس الأفراد والجماعات فيقول: (إن التحقير والتقنيط وقطع حَبْل الرجاء، قتلٌ للنفوس، نفوس الأفراد والجماعات، وذلك ضد التربية والاحترام والتنشيط.. وبعث الرجاء إحياء لها، وذلك هو غرض كل مربّ ناصح في تربيته).
وفق هذه النظرية الدقيقة لنفسية المتعلم، نادى ابن باديس بضرورة مراعاة الجوانب النفسية للطلبة، إضافة إلى مراعاة الجوانب العقلية والاجتماعية.
ـ مراعاة الفروق الفردية للمتعلمين:
قال الإمام علي رضي الله عنه: (حَدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُهُ).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما أنت محَدِّثٌ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولُهم، إلا كان لبعضهم فتنة).
ومن المسلّم به وجود تباين في مستوى الذكاء والفهم والحفظ بين المتعلمين، فمنهم المتفوق ومنهم المتوسط ومنهم الضعيف، وواجب المدرس أن يساعد كل واحد منهم حسب استعداده، وتشجيعهم على تحسين مستواهم وفق أفضل طرق التحصيل. وقد حرص ابن باديس على ضرورة مراعاة تلك الفوارق، بحيث لا يبخس الموهوبين حقهم، ولا يفرّط في الذين دونهم.
فخصّ النبهاء الأذكياء بحصص إضافية تتلاءم وما يمتلكون من مواهب وقدرات، وحرص على تعليم وتفهيم الذين دونهم ببذل الجهد وتبسيط الأمور لهم. وحول طريقته في التعامل مع الطلبة الموهوبين، يقول ابن باديس: (رأيتُ أن لهم الحق أن يأخذوا حظهم من التربية والتعليم على وجه يناسبهم، فأسست لهم درسًا يوم الأحد من كل أسبوع، يُلقى على جماعة منهم في الساعة العاشرة نهارًا، وعلى جماعة أخرى في الساعة الثامنة ليلاً، حتى يعُمَّ من يتفرغون له بالليل ومن يتفرغون له بالنهار).(1/107)
ومن عنايته بضبط أمور الطلبة، كان يرى ضرورة أن يجعل على كل جماعة من الطلبة عريف يضبط أمورهم ويراقب سيرتهم.. والعريف هو الصبي الذي أظهر تفوّقًا في العلم، يقوم بتعليم الصبيان، وقد أجاز الفقهاء هذه الطريقة في التعليم: (سئل مالك عن المعلم يجعل للصبيان عريفًا ؟ فقال: إذا كان مثله في النفاذ).
ويتضح مما سقناه، أن ابن باديس أدرك أهمية مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين، وضرورة التعامل معهم وفق استعدادهم وقدراتهم العقلية والفكرية، معطيًا لكل ذي حق حقه.
الفصل الثالث مجالات ومميزات مدرسة ابن باديس التربوية
المبحث الأول : الوسائل المادية للتربية عند ابن باديس
عرفنا في ما تقدم أن السلطات الاستعمارية ضيّقت على التعليم العربي والإسلامي تضييقًا شديدًا، بمصادرتها للأوقاف الإسلامية التي كانت تموّل هذا القطاع، وعليه فإن تمويل المشاريع التعليمية في تلك الفترة كان ذاتيًا، يؤمّنه الأهالي.
ولمعرفة طبقات الممولين، نأخذ مثالاً على ذلك حالة التعليم الحر في مدينة قسنطينة لسنة 1934م، على أساس أن هذه المدينة تعدّ النواة الرئيسة لتلك المشاريع.
ومن خلال ما كتبته الصحافة الإصلاحية، يتبين أن طبقات الممولين تتشكل من العناصر الرئيسة التالية:
1 ـ التجار: منهم مَن يكفل لطلبة العلم المأوى والغذاء، وهم أصحاب الأملاك وأصحاب المطاعم والمخابز، وتغطي مساهماتهم حوالي 17% من إجمالي دخل صندوق الطلبة.
2 ـ الفلاحون: الذين يساهمون بكميات من محاصيل غاباتهم وحقولهم مثل التمور وغيرها، وتمثل مساهماتهم حوالي 11% من دخل صندوق الطلبة.
3 ـ عامة الأهالي: يساهم الميسورون منهم حسب ما تسمح به ظروفهم المادية.. ويمثل ما يقدمه الأهالي لتمويل التعليم حوالي 61% من إجمالي المساهمات.(1/108)
4 ـ مشروع سبل الخيرات: الذي أسس سنة 999هـ - 1590م، وهو من قبيل المشاريع الخيرية العامة، كإصلاح الطرقات، وتشييد المساجد والمعاهد، وشراء الكتب لإيقافها على طلبة العلم.
هذا باختصار نموذج عن تمويل مشاريع التربية والتعليم في عهد ابن باديس.
ويلاحظ أن استقلالية التعليم العربي الحر في عصر ابن باديس، أكسبته قبولاً وتعاطفًا لدى الأهالي، الذين دفعوا بأفلاذ أكبادهم إلى تلك المدارس، لإدراكهم أنها أنسب مكان لتنشئة أبنائهم التنشئة الإسلامية الصحيحة.
المطلب الأول: المدارس والمعاهد
إن من أهم عوامل تمايز وتفاضل الأمم والشعوب، مدى اهتمامها بالتربية والتعليم، وحظها من ذلك، ونجاحها في إيصال العلم إلى العقول، وتوجيهها التوجيه النافع المثمر.
وتعتبر المؤسسات التعليمية على اختلاف مراحلها وأشكالها، ذات تأثير بالغ في بناء الفرد والمجتمع، فمن خلالها يتشرّب المبادئ والقيم التي يؤمن بها، والسلوك والأخلاق التي يتعامل بها. ولعظم الدور الذي تقوم به هذه المؤسسات، أولاها الإمام عبد الحميد بن باديس عناية خاصة، سواء في وسائلها المادية أو المعنوية.
لقد سعت فرنسا جاهدة على أن تكون فرصة التعليم الوحيدة المتاحة للجزائريين، تنحصر في الالتحاق بالمدارس الحكومية، وأن تضيّق بشدة على ما تبقى من المدارس العربية الحرة، حتى تصير اللغة الفرنسية لغة التعليم والثقافة، ولغة الآباء والأمهات. هذا كله جعل ابن باديس ورفاقه يهتمون كثيرًا بالمدرسة، باعتبارها الأداة الملائمة والفعّالة لانتشال الأمة من وهدة الجهل والتبعية.
ومن المدارس والمعاهد التي أسسها ابن باديس أو ساهم في نشاطها، نذكر ما يلي:(1/109)
- مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة، التي كانت بمثابة النواة الرئيسة للمشروع التربوي في منطقة الشرق الجزائري.. أسسها الشيخ عبد الحميد بن باديس وجماعة من الفضلاء المتصلين به، من بينهم السيدان: العربي وعمر بن غسّولة، وكان محل هذه المدرسة فوق مسجد (سيدي بومعزة)، ثم نقلت إلى مبنى الجمعية الخيرية بقسنطينة، التي تأسست في 1917، ثم أصبحت في سنة 1930 مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية، وقد أولاها ابن باديس عناية خاصة، في اختيار معلميها، ورعاية طلبتها، وتقديم مختلف ألوان العون المادي والمعنوي لهم.
- دار الحديث: افتتحها الشيخ عبد الحميد بن باديس بمدينة (تلمسان)، في خريف سنة 1356هـ- 1937م.. وتعتبر دار الحديث من أكبر المدارس التابعة للجمعية في الغرب الجزائري، وكان فتحها تحديًا لسياسة المستعمر، التي تحول دون فتح المدارس الحرة، وتدريس العلماء بها.
- المدرسة الموفقيّة: في مدينة (سانطارنو) قرب (سكيكدة)، أسسها الشاب الأديب السيد محمد بن الموفق، للتعليم والتهذيب، بتأييد فضلاء البلد، وقد زارها الشيخ ابن باديس في صيف 1348هـ- 1929م، وألقى فيها دروسًا في التفسير، ولزوم التعليم، ورفع الأمية.
- مدرسة الإخاء: أسست في سنة 1921م، بمدينة (بسكرة)، التي تبعد حوالي ثلاثمائة ميلاً جنوب الجزائر العاصمة.
وكانت تسميتها بمدرسة الإخاء تعبيرًا عن روح الأخوة والتضامن، في مواجهة المخاطر المحدقة بالأمة في تلك الآونة، وانتصب للتدريس بها جماعة من علماء البلدة.
إن المدارس التي ساهم ابن باديس في إنشائها كثيرة، يضيق المقام بسردها، وقد اكتفينا بما اشتهر منها.
وكانت دروس ابن باديس في المدارس التي زارها، تتمحور في دعوة الناس للرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، والأخذ بأسباب الحياة.(1/110)
يقول ابن باديس عن ذلك: (ما كنتُ أدعوهم في جميع مجالسي إلا لتوحيد الله، والتفقه في الدين، والرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله، ورفع الأمية، والجدّ في أسباب الحياة من فلاحة وتجارة وصناعة، وإلى اعتبار الأخوة الإسلامية فوق كل مذهب وطريقة وجنس وبلد، وإلى حسن المعاملة، والبُعد عن الظلم والخيانة مع المسلم وغير المسلم).
المطلب الثاني: المساجد والزوايا
كان للمسجد في صدر الإسلام وظائف جليلة، لم تفارقه إلا حين فرّط المسلمون في رسالته الحضارية. فقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم، منطلقًا للغزوات والسرايا وتبليغ دعوة الحق إلى الأمم، وإخراج البشر من عبادة الأوثان إلى عبادة الله الواحد الديان.
وكان المسجد مركزًا تربويًا يُرَبَّى فيه الناس على فضائل الأخلاق، وكريم الشمائل، ومعرفة حقوقهم وواجباتهم في المجتمع المسلم. وبقي المسجد على هذه الحال إلى أن ضعفت الأمة وتفرّقت، وطغت عليها الأغراض الدنيوية، فانقلبت بعض حلقاته إلى موارد للرزق، ومعاقل للتعصب المذهبي والطائفي والشخصي.
يقول ابن باديس حول الرسالة الرائدة للمسجد في مجال التعليم: (المسجد والتعليم صنوان في الإسلام، من يوم ظهر الإسلام، فما بنى النبي صلى الله عليه و سلم يوم استقر في دار الإسلام بيته حتى بنى المسجد، ولما بنى المسجد كان يقيم الصلاة فيه، ويجلس لتعليم أصحابه، فارتبط المسجد بالتعليم كارتباطه بالصلاة، فكما لا مسجد بدون صلاة، كذلك لا مسجد بدون تعليم، وحاجة الإسلام إليه كحاجته إلى الصلاة).
وإذا كان التعليم في المدارس والكتاتيب من نصيب الصبيان والشباب فإن للعامة نصيبًا وافرًا من التعليم في المساجد.(1/111)
ويُبْرز الشيخ ابن باديس الدور الإيجابي الذي تؤديه المساجد في تعليم وتثقيف العامة، فيقول: (إذا كانت المساجد معمورة بدروس العلم، فإن العامة التي تنتاب تلك المساجد تكون من العلم على حظ وافر، وتتكون منها طبقة مثقفة الفكر، صحيحة العقيدة، بصيرة بالدين، فتكمل هي في نفوسها، ولا تهمل -وقد عرفت العلم وذاقت حلاوته- تعليم أبنائها، وهكذا ينتشر التعليم في الأمة، ويكثر طلابه من أبنائها... أما إذا خلت المساجد من الدروس، كما هو حالنا اليوم -في الغالب- فإن العامة تعمى عن العلم والدين، وتنقطع علاقتها به، وتبرد حرارة شوقها إليه... وتُمسي والدين فيها غريب).
والمتتبع لتاريخ أسلافنا -رحمهم الله- يدرك الأهمية التي أعطيت لهذا النوع من التعليم، فقد بذلوا الأموال وحبسوا الأحباس، لضمان استمرار المسجد في تأدية رسالته التعليمية والتربوية.
وما انتهى المسلمون اليوم إلى ما هم عليه من انحراف في عقائدهم وسلوكهم، وجمود في فكرهم، إنما سببه هو انعدام التعليم الديني في المساجد، التي أصبحت مؤسسات رسمية خاضعة لتوجيهات الساسة.. ولن يرجى لهم شيء من السعادة الإسلامية، إلا إذا أقبلوا على التعليم الديني، فأقاموه في مساجدهم كما يقيمون الصلاة وكما كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعل من إقامته بمسجده).
وحينما بدأ المسجد -على عهد ابن باديس- يقترب من مكانته الطبيعية، أصبح من أعظم المؤثرات التربوية في نفوس العامة والناشئين، وفيه صدع الجزائريون بأنهم ليسوا فرنسيين كما كانت تدّعي فرنسا، وأن بلادهم ليست فرنسا ولا يمكن أن تكون كذلك ولو أرادت، وأثبتوا بأنهم أمة لها دينها ولغتها وحضارتها المتميزة.
- أهم المساجد التي كان ينشط بها الشيخ عبد الحميد بن باديس:
1 ـ المسجد الأخضر بقسنطينة:(1/112)
أحد الجوامع الثلاثة الجُمَعِيَّة بعد الاحتلال الفرنسي بقسنطينة، أسسه حسن بك بن حسين سنة 1156هـ - 1743م، للصلاة والتعليم كما هو منقوش فوق مدخل بيت الصلاة ما نصّه: (أمر بتأسيس هذا المسجد العظيم، وتشييد بنائه للصلاة والتسبيح والتعليم... حسين باي، أدام الله أيامه، وكان تمام بنائه أواخر شهر شعبان سنة ستة وخمسين ومائة وألف).
وقد اتخذ ابن باديس من المسجد الأخضر مدرسة لتكوين القادة وإعداد النخبة، التي حملت مشعل الإصلاح، وأخذت بيد الأمة تعلمها دينها، وتصحح عقائدها، وتوحد صفوفها ضد المستعمر الغاشم.
2 ـ الجامع الكبير بقسنطينة: وهو المسجد الذي اتخذه الشيخ ابن باديس لإلقاء دروسه.. فبعد إتمام دراسته بجامع الزيتونة، ابتدأ حلقاته العلمية فيه بدراسة كتاب الشفاء للقاضي عياض، حتى عمد مفتي قسنطينة السيد ابن الموهوب إلى منعه، فانتقل الشيخ حينها إلى المسجد الأخضر.
3 ـ الجامع الجديد بباب البحر بالعاصمة، المجاور للجامع الكبير، أنشئ على حساب خزينة مشروع سبل الخيرات، سنة 1070هـ - 1660م على عهد خليل أغا.
وكان الأستاذ الطيب العقبي يلقي دروسه الدينية بهذا المسجد فترة بقائه ممثلاً لجمعية العلماء في العاصمة.
والحقيقة أن المساجد التي تحت رعاية جمعية العلماء، والتي كان يؤمها الشيخ ابن باديس ورفاقه، كثيرة لا تحصى، وقد اكتفينا بذكر ما اشتهر منها خشية الإطالة.
ب ـ الزوايا: جميع زاوية، والزاوية في الأصل هي ركن البناء أو الدار، حتى أصبحت تطلق على المسجد الصغير أو المصلى.(1/113)
وضمن دعوته الإصلاحية الشاملة، كان ابن باديس يعرض أفكاره على أصحابها، ويدعوهم للوقوف إلى جانب حركته. كانت هذه اللفتة من ابن باديس، موفقة إلى حدكبير، فقد انضم إلى صفوف الجمعية الكثير من شيوخ تلك الزوايا، نذكر منهم على سبيل المثال: الشيخ عبد العزيز ابن الهاشمي، في واد سوف، الذي أبلى بلاءً حسنًا في مناصرة الجمعية، وكانت زاويته معقلاً للنشاط الإصلاحي في تلك الفترة.
المطلب الثالث: الصحافة
استعان ابن باديس ورفاقه بأدوات العصر لنشر دعوتهم، فإلى جانب الدروس والمحاضرات والخُطَب، اتخذوا من الصحافة منبرًا آخر لبيان المفاهيم الإسلامية الصحيحة.
وقبل أن نتطرق إلى تفاصيل ذلك، نلقي أولاً نظرة حول اتجاهات الصحافة قبل الحرب العالمية الأولى، وقبل ظهور الصحافة الإصلاحية في الجزائر.
1 ـ الصحافة قبل ظهور دعوة ابن باديس:
يصعب تعيين تاريخ محدّد لظهور الصحافة في الجزائر، إلا أن المؤكد أنها رافقت دخول الاستعمار، فقد استعملها الفرنسيون المعتدون لتبليغ القوانين والتشريعات والأوامر الإدارية إلى الشعب الجزائري، كما عنيت تلك الصحافة بإظهار سمعة فرنسا وما لها من الفضل على العرب والمسلمين من جهة، وتشويه رجال المقاومة الإسلامية الذين رفعوا السلاح في وجه الاستعمار من جهة أخرى.
وظلت الصحافة الاستعمارية على هذا الخط فترة طويلة، إلى أن ظهر بعض الكتّاب الجزائريين الذين كتبوا حول الأوضاع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وقد كانت في أغلبها ترمي إلى خدمة الوجود الفرنسي في الجزائر، أكثر مما ترمي إلى إفادة الشعب الجزائري، ذلك لأن الطابع الفكري العام لما يكتب في تلك الصحافة كان موجّهًا توجيهًا مباشرًا من طرف الاستعمار.. ولا نكاد نصل إلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، حتى ظهرت بعض الصحف التي تندد بسياسة اليهود والمستعمرين تجاه الأهالي.(1/114)
فقد ظهرت صحيفة (الحق) في مدينة (عنّابة) سنة 1893م بالفرنسية، ثم في سنة 1894م بالعربية، ثم جريدة المغرب سنة 1903م، وكانت تسعى إلى التأليف بين الأهالي وبين الأمة الفرنسية، وكان جُل الكتّاب في هذه الصحيفة جزائريين، منهم الشيخ عبد القادر المجاوي، والشيخ عبد الحليم بن سماية، وغيرهم من المثقفين الذين عُرفوا باتجاههم الإصلاحي.
بعد ذلك ظهرت طلائع الصحافة الإسلامية الإصلاحية، مثل (الفاروق) التي أصدرها الأستاذ عمر بن قدور، و(ذو الفقار) التي أصدرها الأستاذ عمر راسم سنة 1913م.
فاهتمت بالإصلاح الديني والوضع الاجتماعي، وأحوال الشباب، والتعليم واللغة العربية.
هذا باختصار هو الاتجاه العام للصحافة في تلك الفترة.
بداية نشاط ابن باديس الصحفي:
إن ما جرّته الحرب العالمية الأولى من ويلات على الأمة الجزائرية، ساهم في إيجاد يقظة عامة في معظم طبقات الشعب، وظهور نوع من النضج الفكري والإرادة القوية لتغيير الأوضاع المتردية التي آلت إليها البلاد.
وقد أحسّ ابن باديس بعد سنوات من الجهد المتواصل في التعليم المسجدي والخطب، بضرورة توسيع دائرة دعوته، لتشمل عددًا كبيرًا من الشعب، فأقدم على استخدام القلم مع اللسان، مستعينًا بأدوات العصر لإبلاغ دعوته، وفي مقدمتها الصحافة التي خصص للجانب التربوي فيها نصيبًا وافرًا.
شارك ابن باديس في تأسيس جريدة (النجاح)، التي كانت في بداية أمرها إصلاحية، ثم انحرفت فتركها ليستقل بصحافته.. في ذلك الحين ظهرت بعض الصحف الوطنية والإصلاحية، منها جريدة (الصدّيق)، التي رأس تحريرها السيد عمر بن قدور، ثم أصدر الأمير خالد جريدته (الإقدام) بين (1920-1923م).(1/115)
وفي سنة 1925م، شهدت الصحافة الإصلاحية انبعاثًا جديدًا تحت زعامة الشيخ عبد الحميد بن باديس، فتوحّدت الأهواء بعد أن كانت مشتتة، وتضافرت الجهود التي كانت مبعثرة، وتناسقت الأصوات المنادية بالإصلاح الديني والاجتماعي، والرجوع بالأمة إلى منابع الإسلام الأصيلة، كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، فدبّت الحركة من جديد في تلك الشجرة الكبيرة، وحرّكت البراعم أغصانها، فاخضرت وأورقت لما سقاها الغيث المنحدر من مقالات رجال الإصلاح من: المنتقد، والشهاب، والإصلاح، والدفاع...
وهكذا اقتحم ابن باديس ميدان الصحافة بنفس العزم والجدّ الذي عُرف به، مفتتحًا العدد الأول من جريدة (المنتقد) بقوله: (باسم الله، ثم باسم الحق والوطن، ندخل عالم الصحافة العظيم، شاعرين بعظمة المسؤولية التي نتحملها فيه، مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون، والمبدأ الذي نحن عليه عاملون...).
وانبرت للكتابة في (المنتقد) أقلام كانت ترسل شُواظًا من نارٍ على الباطل والمبطلين، ثم عطّل (المنتقد)، فخلفه (الشهاب) (الجريدة). ثم أُسست جريدة (الإصلاح) ببسكرة، فكان اسمها أخفّ وقعًا، وإن كانت مقالاتها أسدّ مرمىً وأشد لذعًا.
وكانت مجلة (الشهاب) هي لسان حال الحركة الإصلاحية، التي قرّبت بين الأمة وبين قرآنها... وأزالت ما بينهما من جفاء).
ومنذ أن ظهرت الشهاب سنة 1925م، عمد ابن باديس إلى توسيع دائرة نشاطه التعليمي ليشمل أكبر عدد من الشعب، فخصص افتتاحياتها لنشر مختارات من دروسه التفسيرية والحديثية، تحت عنوان: (مجالس التذكير).
الصحافة وسيلة تربية وتعليم:
كانت الصحافة الإصلاحية في زمن ابن باديس في طليعة وسائل التربية والتعليم، فقد ساهمت في نشر الفضيلة، ومحاربة الرذيلة، وتبصير العقول، يقول ابن باديس: (وسيكون هذا الباب من المجلة مجالاً لفنون من التذكير، جعلنا الله والمؤمنين من أهل الذكرى، ونفعنا بها دنيا وأخرى).(1/116)
ويوضّح أنواع ذلك التذكير، فيقول: (ننشر في هذا الباب من مجلة (الشهاب) ما فيه تبصرة للعقول أو تهذيب للنفوس، من تفسير آية كريمة أو حديث شريف، أو توضيح لمسألة في أصول العقائد أو أصول الأعمال، معتضدين بأنظار أئمة السلف الذين لا يُرتاب في رسوخ علمهم وكمال إيمانهم، وأئمة الخلف الذين درجوا على هديهم، في نمط وسط بين الاستقصاء والتقصير). فكانت الصحافة من أمضى الأسلحة التي حاربت بها الحركة الإصلاحية خصومها، ونشرت بها أفكارها وتعاليمها.
وقد شهدت الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى صراعًا مريرًا بين رجال الإصلاح من جهة، وأصحاب الطرق الصوفية المنحرفة من جهة أخرى.
المبحث الثاني: ميزات مدرسة ابن باديس التربوية
المطلب الأول: مصادر التربية عند ابن باديس
قبل تحديد المصادر التي اعتمد عليها الشيخ عبد الحميد بن باديس في عمليته التربوية، نلقي أولاً نظرة سريعة على فلسفته التربوية.
إذا كانت العملية التربوية تهتم بتزويد الفرد بمجموعة من المعارف والخبرات، التي تساعده على التكيف مع تغيرات البيئة المادية والاجتماعية، أو بعبارة أخرى تزويد الفرد بخلاصة التراث والحضارة السائدة في المجتمع في وقت وجيز، فإن فلسفة التربية تقدم له المقاييس والمعايير التي يختار على أساسها تلك المعارف والخبرات.
أما فلسفة التربية الإسلامية، فهي مستوحاة من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، اللذين رسما للمسلم منهج سلوكه في الدنيا، وعلاقته بما حوله في عالميْ الغيب والشهادة.(1/117)
والتربية عند ابن باديس هي التربية الإسلامية، التي تُعتبر الطريق السليم لإيجاد المجتمع الإسلامي، وإنقاذ الشعب من وهدة الذوبان في الحضارة الغربية المادية، وعليه فإن المصادر التي اعتمد عليها الشيخ عبد الحميد بن باديس في مسيرته التربوية، هي نفسها مصادر التربية الإسلامية: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، وذلك مصداقاً لقوله صلى الله عليه و سلم: (تركتُ فيكم شيئين، ما إن تمسكتم بهما، لا تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي ).
إن اعتبار كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم مصدران للتربية عند ابن باديس، له ما يدعّمه في تاريخ هذا الرجل، فقد قضى شطر عمره شارحًا لكتاب الله تعالى في حلقات استمرت ربع قرن، واثقًا بأن هذا الكتاب الذي سعد به المسلمون الأوائل، جدير بأن يوقظ هذا الشعب ويسعده إذا حسنت النوايا وحشدت الهمم.
كان -رحمه الله- يفتتح مجلة (الشهاب) بنماذج من تفسيره للقرآن الكريم، تحت عنوان: (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير). ويعلل ابن باديس تركيزه على القرآن الكريم في تربية الأجيال قائلاً: (فإننا نربي -والحمد لله- تلامذتنا على القرآن، ونوجه نفوسهم إلى القرآن من أول يوم وفي كل يوم، وغايتنا التي ستتحقق أن يكوِّن القرآن منهم رجالاً كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال الربانيين تعلّق هذه الأمة آمالها، وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودهم).
وأما المصدر الثاني الذي استقى منه الإمام ابن باديس منهجه التربوي فهو: الصحيح من سنة النبي صلى الله عليه و سلم.
فقد اعتنى بشرح موطأ إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله، وخصص جزءًا من (الشهاب) لنشر مقتطفات من ذلك الشرح، تحت عنوان: (مجالس التذكير من حديث البشير النذير).
هذه باختصار أهم المصادر التي اعتمد عليها الشيخ عبد الحميد ابن باديس رحمه الله في مسيرته التربوية.
المطلب الثاني: أساليب التربية أو الوسائل المعنوية للتربية عند ابن باديس(1/118)
الأساليب جمع أسلوب، وهو الطريق، ويطلق على الفن من القول أو العمل.. وفي التربية، تعني الطرق التي ينتهجها المربون مع متعلميهم. وقد استخدم الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، أساليب ووسائل متنوعة لإنجاح جهوده التربوية، استوحاها من مصادر الإسلام الأصيلة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، نذكر أهمها في ما يلي:
1 ـ التربية بالقدوة:
القدوة هي الأسوة، يُقال فلان قِدْوة يُقتدى به، وقد يضم فيقال: لي بك (قُدوة) و(قدة)، والتلميذ في المدرسة يحتاج إلى نموذج عملي وقدوة يراها في كل مربّ من مربيه، ليوقن ويتحقق بأن ما يُطلب منه من السلوك والأخلاق هو أمر واقعي يمكن ممارسته، فهو يأخذ بالتقليد والمحاكاة أكثر مما يأخذ بالنصح والإرشاد، وعليه فإن إنجاح العملية التربوية يتوقف إلى حد كبير على وجود المربي، الذي يحقق بسلوكه وممارساته التربوية، المثال الصادق لأهداف المنهج التربوي، المراد إقامته وتحقيقه.
فقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقتدي بهَدْي مَن سبقه من الرسل، فقال: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده )(الأنعام:90).
وأمر الله المؤمنين بأن يقتدوا برسوله صلى الله عليه و سلم، فقال: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر )(الأحزاب:21).
وخاطب اللهُ عز وجل رسولهَ والمؤمنين جميعًا بقوله: (لقد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ) (الممتحنة:4).
هكذا ارتبط التعليم في الإسلام من البداية بالقدوة الحسنة، فكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يقتدون بسلوك الرسول صلى الله عليه و سلم، وكان هو يَطلب منهم محاكاته والأخذ عنه قائلاً: (صلوا كما رأيتموني أصلي ) (رواه البخاري من حديث مالك بن الحُوَيْرِث).. (يا أيها الناس خذوا مناسككم) (رواه مسلم والنسائي واللفظ له من حديث جابر).(1/119)
وقد أسهبنا في ذكر الأمثلة العملية للتربية بالقدوة عند ابن باديس، عند كلامنا عن سماته الشخصية، بما يغني عن إعادتها في هذا المبحث.
2 ـ التربية بالوعظ والتذكير:
حقيقة التذكير عند ابن باديس أن تقول لغيرك قولاً يذكر به ما كان جاهلاً أو ناسيًا أو عنه غافلاً، وقد يقوم الفعل والسمت والهدى مقام القول، فيسمى تذكيرًا مجازًا وتوسعًا.
وحاجة العباد إلى هذا التذكير، أعظم ما يحتاجون إليه وأشرفه.
وكان النبي صلى الله عليه و سلم على سنّة إخوانه من الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام- في القيام بتذكير العباد، متمثلاً أمر ربّه تعالى له: (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر )(الغاشية:21).
وقوله تعالى: (فذكر إن نفعت الذكرى )(الأعلى:9).
وقوله تعالى: (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد )(ق:45).
وأما الوعظ والموعظة، فهو الكلام المليّن للقلب بما فيه من ترغيب وترهيب، فيحمل السامع -إذا اتعظ وقبل الوعظ وأثّر فيه- على فعل ما أمر به، وترك ما نهي عنه.
والموعظة الحسنة عند ابن باديس، هي التي ترقّق القلوب، لتحملها على الامتثال لما فيه خيري الدنيا والآخرة، وإنما تكون كذلك إذا حسن لفظها بوضوح دلالته على معناها، وحسن معناها بعظيم وقعه في النفوس، فَعَذُبَتْ في الأسماع، واستقرت في القلوب، وبلغت مبلغها من دواخل النفس البشرية، فأثارت الرغبة والرهبة، وبعثت الرجاء والخوف بلا تقنيط من رحمة الله، ولا تأمين من مكره، وانبعثت عن إيمان ويقين، وتأدت بحماس وتأثر، فتلقتها النفس من النفس، وتلقاها القلب من القلب.
وعلى الرغم من أن ابن باديس كان خطيبًا واعظًا مفوهًا بليغ الكلام، إلا أنه اهتم بالتكوين الأساس والبناء التربوي أكثر من الوعظ، ذلك لأن الوعظ في حقيقته يجدي في مجتمع صالح قد تحدث فيه أخطاء، فيقوم الوعّاظ عند ذلك بتنبيه الخاطئين بإيقاظ وتحريك تقوى الله في نفوسهم.(1/120)
لكن الأمر يختلف بالنسبة إلى حالة المجتمع الجزائري في أيام ابن باديس، حيث لم يبق في نفوس عامة الناس إلا إسلام طرقيّ قبوريّ، من تبعه فَقَدَ كلّ حيوية وفاعلية، ومن أعرض عنه ارتمى في أحضان الثقافة الفرنسية اللادينية.
لذلك فإن ابن باديس لم يركّز كثيرًا على الوعظ وإن لم يهمله، بل وجّه جُلّ اهتمامه للتربية والتعليم، وكان يعيب على خطباء عصره الذين لم يدركوا حقيقة الوعظ ولا التذكير، وكانت أغلب خطبهم لا تناسب الواقع ولا تتماشى مع النوازل التي ألمّت بالأمة، فأثناء شرحه لقول الله تبارك وتعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة )(الفرقان:32)، وتطرّقه إلى محاسن هذه الشريعة، وأنها نزلت بالتدريج المناسب حسب الوقائع، قال: (انظر إلى هذه الحكمة في هذا التنزيل، كيف نزلت آياته على حسب الوقائع ? أليس في هذا قدوة صالحة لأئمة الجُمع وخطبائها في توخّيهم بخطبهم الوقائع النازلة، وتطبيقهم خطبهم على مقتضى الحال ? بلى والله.. ولقد كانت الخطب النبوية والخطب السلفية كلها على هذا المنوال، تشتمل مع الوعظ والتذكير على ما يقتضيه الحال، وأما هذه الخطب المحفوظة المتلوّة على الأحقاب والأجيال، فما هي إلا مظهر من مظاهر قصورنا وجمودنا، فإلى الله المشتكى، وبه المستعان).
3 ـ التشجيع على التحصيل النفسي، وتنمية القدرات الذاتية للطالب:
لا شك أن الدروس والبرامج المدرسية إنما تُحصّل فيها قواعد بعض العلوم، وتبقى فنون كثيرة من فنون العلم يحصّلها الطالب ويصل إليها عن طريق البحث والمطالعة بنفسه أو مع زملائه.
(فالتحصيل الدرسي يؤدي إلى فهم قواعد العلم وتطبيقها حتى تحصل ملكة استعمالها، وأما توسيع دائرة الفهم والاطلاع فإنما يتوصل إليها الطالب بنفسه، بمطالعته للكتب).(1/121)
ويحث ابن باديس الطلبة ومعلميهم على عدم الاكتفاء بالبرامج المدرسية وحدها، قائلاً: (فعلى الطلبة والمتولين أمر الطلبة، أن يسيروا على خطة التحصيل الدرسي والتحصيل النفسي، ليقتصدوا في الوقت ويتسعوا في العلم، ويوسّعوا نطاق التفكير).
كما ركّز ابن باديس في خطته التربوية على تنمية القدرات العقلية للطلبة، وحثهم على إعمال عقولهم في ما يدرسون ويعالجون من مسائل، ويفكّروا تفكيرًا صحيحًا مستقلاً عن تفكير غيرهم مع الاستئناس به، موضحًا ذلك بقوله: (إذا كان التفكير لازمًا للإنسان في جميع شؤونه وكل ما يتصل به إدراكه، فهو لطلاب العلم ألزم من كل إنسان، فعلى الطالب أن يفكر فيما يفهم من المسائل وفيما ينظر من الأدلة، تفكيرًا صحيحًا مستقلاً عن تفكير غيره، وإنما يعرف تفكير غيره ليستعين به، ثم لابد له من استعمالِهِ فِكْرَهُ هو بنفسه).
4 ـ التربية بتفريغ الطاقة وملء الفراغ بما ينفع:
إن استغلال طاقة الشباب، وتوجيهها وجهتها الصحيحة، بطريقة تستهوي ميولهم ورغباتهم وتبعث فيهم المرح والحيوية، له ما يدعمه في سنة المصطفى صلى الله عليه و سلم، فقد أرشد صلى الله عليه و سلم أصحابه إلى بعض تلك الطرق فقال: (علِّمُوا أبناءكم السباحةَ والرمايةَ وركوبَ الخيل ).. وكان صلى الله عليه و سلم يسابق بين خيل الصحابة، ليعرفوا أن ذلك ليس من العبث، بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو، والانتفاع بها عند الحاجة.
وأكثر من ذلك، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها، أنها رأت رسول الله صلى الله عليه و سلم يومًا على باب حجرتها والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه و سلم يسترها بردائه تنظر إلى لعبهم.
والحقيقة أن الطاقة المتولدة لدى الإنسان عمومًا والشباب خصوصًا، ينبغي إطلاقها وتوجيهها نحو عمل إيجابي بنّاء، وأن كبحها وتخزينها من غير مبرّر، مخل بالتوازن الجسمي والنفسي للإنسان.(1/122)
وقد اعتنت المدرسة الحديثة بهذا الجانب، واستحدثت ما يُسمى بالنشاط المدرسي، الذي أصبح جزءًا من المناهج المعمول بها في أغلب المؤسسات التعليمية.
وقد أدرك الإمام ابن باديس رحمه الله، الأهمية البالغة لعملية توجيه طاقة الشباب المخزنة، وتفريغها في ما يعود عليهم بالمصلحة لحمايتهم من الانحراف والشذوذ، فكان ينهى متعلّميه عن تبديد أوقاتهم وجهودهم فيما لا فائدة فيه، ويرشدهم إلى الترويح عن أنفسهم بما يطيب لهم من المباحات والمستحبات، كالسباحة، والخروج إلى الطبيعة، والاستمتاع في أحضانها، والتفكر في مبدعها.
كان ابن باديس مربيًّا محنّكًا، له حسّ مُرْهف، وعبقرية متدفقة في فهم نفوس متعلّميه، ومعرفة ميولها وحاجتها إلى ما يبعث المرح والحيوية والتفاؤل.. يقول عن نفسه: (لم تفارقْني مهنة المعلم، فكنتُ أجدني عن غير قصد أقرر نكتة في بيت من الشعر، أو عِبرة في حادث من التاريخ)، مخافة السآمة على سامعيه.
والحقيقة أن ابن باديس رحمه الله، لم يقتصر على ما ذكرنا من الأساليب، فقد كان يربّي بالقصة لما لها من تأثير ساحر على القلوب، ويربّي بالعادة ويستخدمها وسيلة من وسائل التربية، بزرع الخصال الحميدة في نفوس الناشئة، وجعلها فيهم متأصلة يزاولونها بغير جهد ولا عياء.
وقد كان لمدرسة ابن باديس التربوية من الخصائص ما جعلها محل اهتمام الدارسين، ذلك ما سنتطرق إليه في المطلب القادم إن شاء الله.
المطلب الثالث: خصائص التربية عند ابن باديس
إذا جاز لنا تلخيص خصائص التربية عند ابن باديس، فإنها باختصار تربية شاملة متكاملة. وإذا عرفنا أن التربية عند ابن باديس مستوحاة من مصادر الإسلام الأصيلة، أدركنا أنها شاملة لكل جوانب الحياة في الدنيا والآخرة.
إن التربية عند ابن باديس لا تقتصر على جانب واحد من جوانب شخصية المتعلم، فهي تربية للجسم والروح والعقل معًا.(1/123)
يقول رحمه الله: (الإنسان مأمور بالمحافظة على عقله وخلقه وبدنه، ودفع المضارّ عنها، فيثقّف عقله بالعلم، ويقوِّم أخلاقه بالسلوك النبوي، ويقوّي بدنه بتنظيم الغذاء، وتوقّي الأذى، والتريّض على العمل.
والتربية عند ابن باديس لا تقتصر على مكان دون آخر، فهي في المدرسة والمسجد والنادي، وحتى في الشارع والسوق، وفي ما يلي نذكر بعض تلك الخصائص:
1 ـ تربية روحية:
يرى ابن باديس أن المخاطَب من الإنسان هو نفسه، وأن ما يظهره الجسد من تصرفات لا يعدو أن يكون انعكاسًا لما تضمره تلك النفس، التي لا صلاح للإنسان إلا بصلاحها: (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها )(الشمس:9-10).. لذلك ركّز ابن باديس على تطهير الروح وتنزيهها عن مساوئ الأخلاق، وتحليتها بمكارمها، لتسمو بصاحبها نحو الكمال الإنساني، ذلك لأن الإنسان (مهيأ للكمال بما فيه من الجزء النوراني العلوي وهو روحه، ومعرّض للسقوط والنقصان بما فيه من اختلاط عناصر جزئه الأرضي الظلماني وهو جسده، ولا يخلص من كدرات جثمانه، ولا ينجو من أسباب نقصانه، إلا بعبادة ربه، التي بها صفاء عقله وزكاء نفسه، وطهارة بدنه في ظاهره وباطنه).
2 ـ تربية جسمية:
لم يفصل ابن باديس بين هذا الجانب وغيره من جوانب التربية، فقد أولى اهتمامًا بالغًا للتربية الجسدية، التي لا تقل أهمية عن التربية الروحية، ذلك أن كثيرًا من الأعمال تتوقّف على سلامة الأبدان وقوتها، فضعيف الجسم يقل أداؤه العقلي والاجتماعي، وبالتالي لا يكون عنصرًا فعّالاً في مجتمعه.
فالرياضة البدنية والوجبات الغذائية، لها دور كبير في الحفاظ على سلامة الأبدان وصحّتها، يقول ابن باديس عند تفسيره لقول الله تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا إني بما تعملون عليم )(المؤمنون:51):(1/124)
(تتوقّف الأعمال على سلامة الأبدان، فكانت المحافظة على الأبدان من الواجبات، ولهذا قدّم الأمر بالأكل على الأمر بالعمل، فليس من الإسلام تحريم الطيبات التي أحلها الله، كما حرّم غلاة المتصوفة اللحم.. وليس من الإسلام تضعيف الأبدان وتعذيبها، كما يفعل متصوفة الهنادك ومن قلّدهم من المنتسبين إلى الإسلام.. والميزان العدل في ذلك، هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضي الله عنهم.
وفي تقديم الأكل من الطيبات على العمل الصالح، تنبيه على أنه هو الذي يثمرها، لأن الغذاء الطيب يصلح عليه القلب والبدن، فتصلح الأعمال، كما أن الغذاء الخبيث يفسد به القلب والبدن، فتفسد الأعمال).
3 ـ تربية سلوكية عملية:
كما ذكرنا عند حديثنا عن القدوة في التربية، فإن ابن باديس لم يكتف في مسيرته التربوية بالأقوال دون الأفعال، لأن من تمام كمال المسلم أن تتطابق أقواله مع أفعاله.
لذا حرص أن يكون من تلاميذه ومريديه رجالاً عمليين، يطبّقون ما يتعلمونه، فيعبدون الله على علم وبصيرة، فكان يحثهم على أن يمثّلوا الأخلاق الإسلامية الفاضلة بين أقوامهم -إذا رجعوا إليهم- فيحبّبوا الناس في العلم، ويكونوا لهم قدوة فيه وفي العمل به، وكان رحمه الله يوصيهم (بنشر ما تعلّموه برفق ولطف، وأن يكونوا مظاهر محبة ورحمة على ما قد يلقونه من جفوة من بعض الناس).
4 ـ تربية عقلية:
كما ذكرنا سابقًا، فإن التربية عند ابن باديس اهتمت بجميع جوانب المتعلم، فكما اهتمت بالروح والجسد، فإنها أولت العقل عناية خاصة، بالحفاظ عليه وتثقيفه بكل ما هو نافع من العلوم الدينية والدنيوية، يقول ابن باديس: (حافظ على عقلك، فهو النور الإلهي الذي مُنِحْتَهُ، لتهتدي به إلى طريق السعادة في حياتك).(1/125)
وقد تميزت المدرسة الباديسية بتنمية القدرات العقلية للطلبة، وحثهم على إعمال عقولهم فيما يدرسون، وأن يفكروا تفكيرًا صحيحًا مستقلاً عن تفكير غيرهم مع الاستفادة من تفكير غيرهم، يقول ابن باديس: (التفكير التفكير يا طلبة العلم، فإن القراءة بلا تفكير لا توصل إلى شيء من العلم، وإنما تربط صاحبها في صخرة الجمود والتقليد، وخير منهما الجاهل البسيط).
وكان رحمه الله، يحثّهم على تكريم العقول، بتنزيهها عن الأوهام والشكوك والخرافات والضلالات، وربطها على العلوم والمعارف وصحيح الاعتقادات.
والخلاصة: أن التربية عند ابن باديس، لم تقتصر على جانب واحد من جوانب شخصية المتعلم. فقد اعتنت بصحة الأبدان وسلامتها، وصفاء الأروح وتزكيتها، وتنشيط العقول وصيانتها.
هذه باختصار بعض الخصائص التي تميّزت بها مدرسة ابن باديس التربوية.
المبحث الثالث: الهدف التربوي عند ابن باديس
قبل الدخول في تفاصيل الهدف التربوي عند ابن باديس ومعرفة الأولويات التي راعاها في ذلك، نذكّر بأن الأمة الجزائرية في تلك الفترة كانت مهددة بخطر افتقاد الهوية الذاتية، بضياع شخصيتها وذوبانها في شخصية الأمة الفرنسية المسيحية، فالاستعمار بذل قصارى جهده لتفريغ هذا الشعب من مضمونه الإسلامي، وجعله مسخًا تابعًا له.
في ظل تلك الظروف القائمة، خاض ابن باديس معركته التربوية الرائدة، التي كان من أهدافها التصدي لتلك الحملة الشرسة.
وضع ابن باديس برامجه التربوية لإعداد المتعلمين لحياة تلائم البيئة التي يعيشون فيها، أخذًا في الاعتبار ما ينبغي أن يحدث من تغيير في المجتمع، لاسترجاع الحرية والكرامة المسلوبتين.
الهدف التربوي كما يراه ابن باديس:(1/126)
بيّن ابن باديس الهدف التربوي الذي يسعى لتحقيقه بأنه: (الرجوع (بالشعب) إلى عقائد الإسلام المبنيّة على العلم، وفضائله المبنية على القوة والرحمة، وأحكامه المبنية على العدل والإحسان، ونظمه المبنية على التعاون بين الأفراد والجماعات، والتآلف والتعامل والتعاون، وأن لا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله، ومن اتقى الله فهو أنفع الخلق لعباد الله).. فالتربية عند ابن باديس تهدف إلى:
- تحقيق العبودية الخالصة لله، في الحياة الفردية والجماعية، وذلك بتعلم الإسلام من مصادره الأصيلة.
- تكوين المواطن المؤمن المتميز عن المستعمر المغتصب في جميع جوانب حياته، وبالتالي إحداث التميز الاجتماعي للأمة الجزائرية، التي أرادت فرنسا احتواءها وابتلاعها.
- ربط الأجيال بالتراث والحضارة العربية الإسلامية، وهو ما يسميه بعض العلماء بوظيفة: (نقل التراث) أو (إحياء التراث).. ويؤكد ابن باديس أن هدفه التربوي هو:
- ترقية المجتمع الجزائري في (جميع نواحي الحياة إلى أقصى ما تترقى إليه الأمم، ليكونوا محترمين من أنفسهم ومن غيرهم، يفيدون ويستفيدون، ويعرفون كيف يسوسون وكيف يُسَاسون، فتربح بهم الإنسانية عضوًا مِن خيرِ مَن عَرَفَتْ من أعضائها).
فإذا ما تحقق للشعب الاستعداد الداخلي للتغيير، أو بعبارة أخرى: التخلص من القابلية للاستعمار، مصداقًا لقول الله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد:11)، أمكنه الرقي في جميع جوانب الحياة، وذلك بتزويد المتعلمين بالقدر المناسب من المعلومات والخبرات المختلفة، فيساهموا في بناء صرح الأمة وخدمتها والدفاع عنها.
ويمكن تلخيص الهدف التربوي عند ابن باديس بأنه:
1- إحداث التغيير الداخلي في الفرد الجزائري، بإرجاعه إلى دينه وتعلّمه من مصادره الأصيلة، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، خاليًا من البدع والشوائب، ليحافظ على شخصيته العربية والإسلامية.(1/127)
2- تأهيله لتسلّق درجات الرقي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والوصول إلى مصاف الشعوب الراقية، فيسعد في الدنيا والآخرة.
خاتمة
مما سبق من البحث في جهود الشيخ عبد الحميد بن باديس التربوية، وبعد أن عشت أوقاتًا ممتعة أفتش وأنقّب في خفايا آثاره، حتى استطعت بعون الله وتوفيقه جمع ما تيسر لي في هذا البحث المتواضع، اتضحت لي عظمة هذا الرجل، وأصالة أفكاره وآرائه التربوية، حيث أصبح عَلَمًا من أعلام الإسلام بفضل الله تعالى، ثم بفضل شدة اتصاله بكتابه وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه و سلم، اللذين وجّها منهجه، وأكسباه ما وصل إليه من وضوح في الرؤية، وسداد في الخطى، الأمر الذي جعله موفقًا في دعوته الإصلاحية، خاصة في جانبها التربوي.
ومن خلال استعراضي للآراء التربوية للإمام عبد الحميد بن باديس توصّلت إلى النتائج الآتية:
1 ـ لقد كانت لابن باديس جهود متميزة في مجال التربية والتعليم، ومساهمات موفقة في إصلاح وتطوير مناهجها.
2 ـ أن نجاح أي منهاج تربوي، يتوقف إلى حد كبير، على مقدار ما يراعي هذا المنهاج معتقدات الأمة وعاداتها وتقاليدها.
3 ـ أن أخذ أو اقتباس المناهج التربوية الغربية، مسلّمة، دون رفض أو طرح ما لا يتفق وخصائص الأمة وثوابتها، قد يوجد انشطارًا أو ثنائية في الكيان الاجتماعي والفكري لأفرادها.
4 ـ أن الطابع العربي الإسلامي المتميز للمدرسة الباديسية، جعل الجهود الاستعمارية التي قامت بها فرنسا في الجزائر تتقهقر أمامها، رغم الإمكانات المادية والمعنوية التي سخرت لذلك.
5 ـ دعا ابن باديس إلى ضرورة الاهتمام بإعداد المعلم الصالح، القوي في دينه وتكوينه، لأن إنجاح العملية التربوية، يتوقّف إلى حد كبير على وجود المربّي، الذي يحقّق بسلوكه وممارساته التربوية المثال الصادق لأهداف المنهج التربوي المراد إقامته وتحقيقه.(1/128)
6 ـ يعتبر العلم من الوسائل الفعالة في الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي، وفي المحافظة على شخصية الأمة وكيانها.
7 ـ التربية في نظر ابن باديس، تنظر إلى الإنسان نظرة متكاملة، لتطال جميع جوانبه الروحية والخُلُقية والجسمية والعقلية والنفسية، وغيرها من الجوانب، من غير تفريط ولا إفراط في جانب دون آخر.
إنما تُقاس الأمم بما تنتجه من الرجال، وإنما تكون منجبة للرجال، يوم تصير تعرف أقدار العاملين من أبنائها.
ويعدّ الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، نموذجًا للعلماء العاملين المجاهدين في القرن العشرين، وآثاره مازالت زادًا علميًا ومادة دسمة لطلاب العلم والباحثين.
وما قمتُ به في هذه الرحلة في رحاب آثار الإمام ابن باديس كان جمعًا لبعض أفكاره المنشورة، وآرائه المسطورة، في مجال التربية والتعليم، لممتُ شتاتها، لأضعها بين دفتي هذا البحث المتواضع، مركزًا على:
1 ـ إظهار العوامل والقوى التي أثرت في فكر ابن باديس.
2 ـ استخلاص واستخراج الآراء التربوية للإمام ابن باديس، من خلال ما نشرته الصحافة الإصلاحية في الجزائر في الثلث الأول من هذا القرن.
والحقيقة أن جهود ابن باديس في مجال التربية والتعليم تحتاج إلى مزيد بحث ودراسة، وما قمت به لم يكن سوى مساهمة بسيطة في إظهار جهود هذا المربي الكبير، راجيًا من الله المثوبة والتوفيق، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
رواد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
الشيخ عبد الحميد بن باديس(1/129)
في مدينة قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري ، ومن أسرة عريقة في المجد والثراء والعلم وُلد الشيخ عبد الحميد بن باديس عام 1308 هـ/1889م ، فهو ينتسب إلى الأسرة الباديسية المشهورة في التاريخ . فالمعز بن باديس (406-453) هو الذي أبعد النفوذ العُبيدي (الفاطمي) عن المغرب ، وعمل على تنظيم انفصال المغرب الإسلامي سياسياً ومذهبياً عن الحكم العبيدي ، وحارب الشيعة الرافضة في إفريقية ، وحمل الناس على اعتناق المذهب السني ، وكان الشيخ عبد الحميد يفتخر بأعمال هذا الجد ، أما والده محمد المصطفى فهو من كبار الموظفين والوجهاء في قسنطينة ، وعضو المجلس الجزائري الأعلى ، وقد عرف دائماً بدفاعه عن مطالب السكان المسلمين في قسنطينة ، يقول عنه ابنه:
"إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي رباني تربية صالحة ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها ، ومشرباً أرده ، وقاتني وأعاشني وبراني كالسهم وراشني وحماني من المكاره صغيراً وكبيراً.."(1).
فهذا الوالد لم يحاول ثني الشيخ عن أي عمل يقوم به في الدعوة كعادة الآباء الذين في مثل وظيفته ووجاهته ، كما أنه لم يُلحِقه بالمدارس الفرنسية كغيره من أبناء العائلات الكبيرة.
نشأ ابن باديس في بيئة علمية، فقد حفظ القرآن وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ثم تتلمذ على الشيخ (أحمد أبو حمدان الونيسي)، فكان من أوائل الشيوخ الذين لهم أثر طيب في اتجاهه الديني ، ولا ينسى ابن باديس أبداً وصية هذا الشيخ له: "اقرأ العلم للعلم لا للوظيفة"، بل أخذ عليه عهداً ألا يقرب الوظائف الحكومية عند فرنسا.
في جامع الزيتونة:(1/130)
في عام 1908 قرر ابن باديس - وهو الشاب المتعطش للعلم - أن يبدأ رحلته العلمية الأولى إلى تونس ، وفى رحاب جامع الزيتونة الذي كان مقراً كبيراً للعلم والعلماء يُشبه في ذلك الأزهر في مصر. وفي الزيتونة تفتحت آفاقه ، وعبّ من العلم عبًّا ، والتقى بالعلماء الذين كان لهم تأثير كبير في شخصيته وتوجهاته، مثل الشيخ محمد النخلي الذي غرس في عقل ابن باديس غرسة الإصلاح وعدم تقليد الشيوخ، وأبان له عن المنهج الصحيح في فهم القرآن. كما أثار فيه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور حب العربية وتذوّق جمالها ، ويرجع الفضل للشيخ البشير صفر في الاهتمام بالتاريخ ومشكلات المسلمين المعاصرة وكيفية التخلص من الاستعمار الغربي وآثاره.
تخرج الشيخ من الزيتونة عام 1912 وبقي عاماً آخر للتدريس حسب ما تقتضيه تقاليد هذه الجامعة ، وعندما رجع إلى الجزائر شرع على الفور بإلقاء دروس في الجامع الكبير في قسنطينة، ولكن خصوم الإصلاح تحركوا لمنعه، فقرر القيام برحلة ثانية لزيارة أقطار المشرق العربي.
في المدينة النبوية:
بعد أداء فريضة الحج مكث الشيخ ابن باديس في المدينة المنورة ثلاثة أشهر ، ألقى خلالها دروساً في المسجد النبوي ، والتقى بشيخه السابق (أبو حمدان الونيسي) وتعرف على رفيق دربه ونضاله - فيما بعد - الشيخ البشير الإبراهيمي. وكان هذا التعارف من أنعم اللقاءات وأبركها ، فقد تحادثا طويلاً عن طرق الإصلاح في الجزائر واتفقا على خطة واضحة في ذلك. وفي المدينة اقترح عليه شيخه (الونيسي) الإقامة والهجرة الدائمة ، ولكن الشيخ (حسين أحمد الهندي) المقيم في المدينة أشار عليه بالرجوع للجزائر لحاجتها إليه ، فكانت خير نصيحة. زار ابن باديس بعد مغادرته الحجاز بلاد الشام ومصر واجتمع برجال العلم والأدب وأعلام الدعوة السلفية ، وزار الأزهر واتصل بالشيخ بخيت المطيعي حاملاً له رسالة من الشيخ (الونيسي).
العودة إلى الجزائر:(1/131)
وصل ابن باديس إلى الجزائر عام 1913 واستقر في مدينة قسنطينة ، وشرع في العمل التربوي الذي صمم عليه ، وهو إنقاذ أطفال المسلمين وشبانهم من هوة الجهل والتخلف ، فبدأ بدروس للصغار ثم للكبار ، والمسجد هو المركز الرئيسي لنشاطه ، ثم تبلورت لديه فكرة تأسيس جمعية العلماء المسلمين والتي تحدثنا عنها في العدد السابق ، ولكن نشاط الشيخ كان متعدداً ، واهتماماته كثيرة لا يكتفي أو يقنع بوجهة واحدة ، فاتجه إلى الصحافة ، وأصدر جريدة (المنتقد) عام 1925 وأُغلقت بعد العدد الثامن عشر ؛ فأصدر جريدة (الشهاب) الأسبوعية ، التي بث فيها آراءه في الإصلاح ، وخاصة إصلاح عقائد الناس من الخرافات والدجل وأساليب الطُّرُقيين ، واستمرت كجريدة حتى عام 1929 ثم تحولت إلى مجلة شهرية علمية ، وكان شعارها: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها" ، وتوقفت المجلة في شهر شعبان 1328هـ / أيلول عام 1939م بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية ، وحتى لا يُكتب فيها أي شيء تريده الإدارة الفرنسية تأييداً لها ، وفي سنة 1936 دعا إلى مؤتمر إسلامي يضم التنظيمات السياسية كافة من أجل دراسة قضية الجزائر ، وقد وجه دعوته من خلال جريدة (لاديفانس) التي تصدر بالفرنسية ، واستجابت أكثر التنظيمات السياسية لدعوته وكذلك بعض الشخصيات المستقلة ، وأسفر المؤتمر عن المطالبة ببعض الحقوق للجزائر ، وتشكيل وفد سافر إلى فرنسا لعرض هذه المطالب وكان من ضمن هذا الوفد ابن باديس والإبراهيمي والطيب العقبي ممثلين لجمعية العلماء ، ولكن فرنسا لم تستجب لأي مطلب وفشلت مهمة الوفد.(1/132)
إن هذه الدعوة للمؤتمر وحضوره ، وذهاب وفد العلماء إلى فرنسا كانت اجتهاداً من ابن باديس - رحمه الله - يرى فيه مصلحة الجزائر ولكن يجب الاعتراف هنا بأن هذه الخطوة كانت خطأً وبشتى المقاييس التي تقوّمه سابقاً ولاحقاً ، وتد أصاب الأستاذ مالك بن نبي عندما اعتبر هذا المؤتمر نقطة ضعف في شخصية العلماء حين لجأوا إلى الأساليب غير المجدية ؛ لأنها أساليب الضعفاء للحصول على فتات الموائد.
واستغل السياسيون هذا المؤتمر ليصلوا إلى أهدافهم الهزيلة ، وأما غير مالك بن نبي ممن يهاجم جمعية العلماء - فهم في الحقيقة لا يتقون الله في خصوماتهم ، ويتكلمون من منطق الحقد والخصومات السياسية الشخصية.
ومثل هذا الخطأ من ابن باديس لا ينبغي أن يحجب عنا العمل العظيم الذي قام به وهو قيادة جمعية العلماء منذ تأسيسها عام 1931م وحتى وافاه الأجل عام 1940م ، وفقدت الجزائر بفقده عالماً مجدداً ومصلحاً مربياً ، وضع كل جهده وإمكاناته لرفع شأن المسلمين في الجزائر ، ولم يشغله ذلك عن أوضاع المسلمين في كل مكان.
العوامل المؤثرة في شخصية ابن باديس:
لا شك أن البيئة الأولى لها أثر كبير في تكوين شخصية الإنسان ، وفي بلد كالجزائر عندما يتفتح ذهن المسلم على معاناته من فرنسا ، وعن معاناته من الجهل والاستسلام للبدع - فسيكون هذا من أقوى البواعث لأصحاب الهمم وذوي الإحساس المرهف على القلق الذي لا يهدأ حتى يحقق لدينه ولأمته ما يعتبره واجباً عليه ، وكان ابن باديس من هذا النوع ، وإن بروز شخصية كابن باديس من بيئة ثرية ذات وجاهة لَهو دليل على إحساسه الكبير تجاه الظلم والظالمين ، وكان بإمكانه أن يكون موظفاً كبيراً ويعيش هادئاً مرتاح البال ولكنه اختار طريق المصلحين.(1/133)
وتأتي البيئة العلمية التي صقلت شخصيته وهذبت مناحيه والفضل الأكبر يعود إلى الفترة الزيتونية ورحلته الثانية إلى الحجاز والشام حيث تعرف على المفكرين والعلماء الذين تأثروا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما دعا إليه من نقاء العقيدة وصفائها. وكان لمجلة (المنار) التي يصدرها الشيخ رشيد رضا أثر قوي في النظر لمشكلات المسلمين المعاصرة والحلول المطروحة.
ومما شجع ابن باديس وأمضى عزيمته وجود هذه العصبة المؤمنة حوله ، وقد وصفهم هو بالأسود الكبار - من العلماء والدعاة أمثال الإبراهيمي والتبسي والعقبي والميلي... وقد عملوا معه في انسجام قلّ أن يوجد مثله في الهيئات الأخرى.
آثار ابن باديس:
شخصية ابن باديس شخصية غنية ثرية ومن الصعوبة في حيز ضيق من الكتابة الإلمام بكل أبعادها وآثارها؛ فهو مجدد ومصلح يدعو إلى نهضة المسلمين ويعلم كيف تكون النهضة. يقول:
"إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوة ، وإذا كانت لهم جماعة منظمة تفكر وتدبر وتتشاور وتتآثر ، وتنهض لجلب المصلحة ولدفع المضرة ، متساندة في العمل عن فكر وعزيمة".(1/134)
وهو عالم مفسر ، فسر القرآن كله خلال خمس وعشرين سنة في دروسه اليومية كما شرح موطأ مالك خلال هذه الفترة ، وهو سياسي يكتب في المجلات والجرائد التي أصدرها عن واقع المسلمين وخاصة في الجزائر ويهاجم فرنسا وأساليبها الاستعمارية ويشرح أصول السياسة الإسلامية ، وقبل كل هذا هو المربي الذي أخذ على عاتقه تربية الأجيال في المدارس والمساجد ، فأنشأ المدارس واهتم بها ، بل كانت من أهم أعماله ، وهو الذي يتولى تسيير شؤون جمعية العلماء ، ويسهر على إدارة مجلة الشهاب ويتفقد القاعدة الشعبية باتصالاته المستمرة. إن آثار ابن باديس آثار عملية قبل أن تكون نظرية في كتاب أو مؤلَّف ، والأجيال التي رباها كانت وقود معركة تحرير الجزائر ، وقليل من المصلحين في العصر الحديث من أتيحت لهم فرص التطبيق العملي لمبادئهم كما أتيحت لابن باديس ؛ فرشيد رضا كان يحلم بمدرسة للدعاة ، ولكن حلمه لم يتحقق ، ونظرية ابن باديس في التربية أنها لا بد أن تبدأ من الفرد ، فإصلاح الفرد هو الأساس.
وطريقته في التربية هي توعية هذا النشء بالفكرة الصحيحة كما ذكر الإبراهيمي عن اتفاقهما في المدينة: "كانت الطريقة التي اتفقنا عليها سنة 1913 في تربية النشء هي ألا نتوسع له في العلم وإنما نربيه على فكرة صحيحة" (2).
وينتقد ابن باديس مناهج التعليم التي كانت سائدة حين تلقيه العلم والتي كانت تهتم بالفروع والألفاظ - فيقول: "واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية ، مجردة بلا نظر ، جافة بلا حكمة ، وراء أسوار من الألفاظ المختصرة ، تفني الأعمار قبل الوصول إليها" (3).
أما إنتاجه العلمي فهو ما جمع بعد من مقالاته في "الشهاب" وغيرها ومن دروسه في التفسير والحديث(4).
ــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
1 - د.عمار الطالبي: ابن باديس.. حياته وآثاره 2/138 ، ط دار الغرب الإسلامي.
2 - د.الخطيب: جمعية العلماء المسلمين ، ص129.
3- المصدر السابق ص141.(1/135)
4 - مع الأسف لم يصلنا كل ما كتبه أو كل ما ألقاه من دروس في التفسير والحديث. وقد جُمع ما نشر في (الشهاب) من افتتاحيات تحت عنوان "مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير" بإشراف محمد الصالح رمضان ، وتوفيق شاهين. وحاول الدكتور عمار الطالبي جمع آثاره كلها ، ولكن لا يزال هناك أشياء لم تُجمع.
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
عندما أعلن عن تأسيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر عام 1931 م كان قد مضى قرن كامل على احتلال فرنسا لهذا البلد المسلم، وكانت استراتيجية هذا المحتل هي أن تصبح الجزائر قطعة منه أو بتعبير أدق كانت السياسة المتبعة هي فرنسة الجزائر، ولذلك مارس هذا الاستعمار أشد أنواع الاضطهاد والقهر وسلب الأموال، وتحويل المساجد إلى كنائس، وفرض اللغة الفرنسية كلغة ثقافة وتخاطب، واستطاعت قوات الاحتلال الفرنسي القضاء على جميع الثورات التي فجرها العلماء وزعماء البلاد، هذه الثورات التي كانت تفتقد الشمولية، والقدرة على التنظيم، رغم تضحياتها وبطولة زعمائها، ولذلك كانت تقمع في كل مرة، وما أن حل الثلث الأول من القرن العشرين حتى كان الظلام قد خيم على الجزائر كلها، فما تبقى من المساجد التي هدمها العدو كانت تحت رقابته لا يخطب فيها إلا من ينافق له، وألغيت المحاكم الإسلامية وبدأت جحافل المبشرين تزحف نحو الجزائر.
يقول الشيخ البشير الإبراهيمي واصفاً هذه الحالة: "كان من نتائج الدراسات المتكررة للمجتمع الجزائري بيني وبين ابن باديس منذ اجتماعنا بالمدينة المنورة (1913) أن البلاء المنصب على هذا الشعب المسكين آت من جهتين متعاونتين عليه، وبعبارة أوضح من استعمارين مشتركين يمتصان دمه ويتعرقان لحمه ويفسدان عليه دينه ودنياه:
1- استعمار مادي هو الاستعمار الفرنسي يعتمد على الحديد والنار.(1/136)
2- واستعمار روحاني يمثله مشائخ الطرق المؤثرون في الشعب، المتجرون بالدين، المتعاونون مع الاستعمار عن رضي وطواعية. والاستعماران متعاضدان يؤيد أحدهما الآخر بكل قوته، ومظهرهما معًا تجهيل الأمة لئلا تفيق بالعلم فتسعى في الانفلات، وتفقيرها لئلا تسعى بالمال على الثورة"(1).
أرادت فرنسا شيئاً وأراد الله شيئاً آخر، وإذا أراد الله شيئًا سهل أسبابه، وكان من كرمه سبحانه وفضله على أهل الجزائر أن يسر بروز رجال أعلام استفادوا من تجارب الذين سبقوهم، ودرسوا مشكلات أمتهم دراسة دقيقة، وقرروا العمل الجاد لإخراج المسلمين في الجزائر مما هم فيه إلى حالة ترضى الله سبحانه وتعالى، وكان فارس هذه الحلبة والبارز في ميدانها الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، فبعد رجوعه إلى الجزائر من رحلته العلمية إلى تونس ومصر، ثم الحجاز والشام(2) كانت فكرة الإصلاح والعمل المنظم قد اختمرت في ذهنه ولم يبق إلا التمهيد لها، فكان يبث هذه المفاهيم لكل من يشهد حلقاته العلمية في التفسير، يقول رحمه الله: "إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة تفكر وتدبر وتتشاور وتتآزر وتنهض لجلب المصلحة ولدفع المضرة"(3).
ثم يلتفت رحمه الله إلى العلماء والقادة فيقول:
"ما أصيب المسلمون في أعظم ما أصيبوا به إلا بإهمالهم أمر الاجتماع ونظامه، إما باستبداد أئمتهم وقادتهم، وإما بانتثار جماعتهم بضعف روح الدين فيهم، فعلى أهل العلم - وهم المسؤولون عن المسلمين بمالهم من إرث النبوة فيهم - أن يقوموا بما أرشدت إليه هذه الآية(4) الكريمة فينفخوا في المسلمين روح الاجتماع والشورى في كل ما يهمهم من أمر دينهم"(5).
وهكذا كان رحمه الله يمهد لما صمم عليه من تأسيس جمعية تلم شمل العلماء والدعاة الصادقين، ولا تقتصر على فئة دون فئة ولا على إقليم دون إقليم.
مراحل تأسيس جمعية العلماء:(1/137)
1-مرحلة الشعور بالخطر الجاثم على صدور أهل الجزائر والتفكير بالحلول، وأسباب الداء وكيفية الدواء، وهذه المرحلة كانت بوادرها في المدينة المنورة عام 1913م عندما التقى الشيخ ابن باديس مع رفيق دربه وجهاده الشيخ البشير الإبراهيمي الذي كان مهاجرًا إلى الحجاز للدراسة والاطلاع، وقد وصف الإبراهيمي هذه المرحلة أدق وصف فقال:
"كان من تدابير الأقدار الإلهية للجزائر، ومن مخبآت الغيوب لها أن يرد عليَّ بعد استقراري بالمدينة المنورة سنة وبضعة أشهر أخي ورفيقي في الجهاد بعد ذلك الشيخ عبد الحميد بن باديس أعلم علماء الشمال الأفريقي-ولا أغالي - وباني النهضات العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية للجزائر... كنا نؤدي صلاة فريضة العشاء الأخيرة كل ليلة في المسجد النبوي ونخرج إلى منزلي فنسمر مع الشيخ ابن باديس منفردين إلى آخر الليل حين يفتح المسجد فندخل مع أول داخل لصلاة الصبح. ثم نفترق إلى الليلة الثانية إلى نهاية ثلاثة الأشهر التي أقامها الشيخ بالمدينة، كانت هذه الأسمار المتواصلة كلها تدبيرًا للوسائل التي تنهض بها الجزائر ووضع البرامج المفصلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت كلها صوراً ذهنية تتراءى في مخيلتنا، وصحبها من حسن النية وتوفيق الله ما حققها في الخارج بعد بضع عشرة سنة.
وأشهد الله على أن تلك الليالي من عام 1913 ميلادية هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز للوجود إلا عام 1931"(6).(1/138)
2-التمهيد لجمع المسلمين وبث روح التعاون والعمل الجماعي في صفوفهم، بواسطة دروس التفسير في مساجد قسنطينة وكانت الإدارة الفرنسية تعرقل دروس الشيخ ابن باديس فينتقل من مسجد لآخر، كما أن هذه المرحلة كانت فترة نضوج لأبرز قادة الجمعية الذين رحلوا إلى المشرق وتنقلوا بين المدينة المنورة ودمشق والقاهرة، واتصلوا بأعلام الدعوة السلفية في هذه المدن، وتدارسوا معهم واقع العالم الإسلامي والحلول اللازمة للنهوض.
3-زار ابن باديس عام1924 الشيخ الإبراهيمي في مدينة (سطيف) وأخبره بأنه عقد العزم على تأسيس جمعية باسم (الإخاء العلمي) تجمع شمل العلماء والطلبة وتوحد جهودهم، وتقارب بين مناحيهم في التعليم والتفكير، وعهد ابن باديس إلى الإبراهيمي مهمة وضع القانون الأساسي للجمعية، فوضعه الإبراهيمي واتفقا عليه(7) ولكن هذا المشروع لم ير النور لعدم تجاوب علماء قسنطينية مع رغبة ابن باديس ولأن الاستعداد لمثل هذه الأعمال لم ينضج بعد.
4-أصر ابن باديس على إنشاء جمعية للعلماء وأنه لابد من عمل إصلاحي كبير، وتنازع العلماء رأيان: الأول تبناه الإبراهيمي وخلاصته: أن يكون هدف الجمعية تعليميًا، وأن يربي جيل متخصص في مختلف الفنون والمعرفة ينطلق المربون به في حملة شاملة على الباطل والبدع.(1/139)
والرأي الثاني: وقد تبناه ابن باديس ويقوم على مهاجمة المبطلين والمبتدعين منذ البداية، ولأن البدع قد طال عليها الأمد وشاب عليها الوالد وشب عليها الولد، فلا يطمع في زوالها إلا بصيحة مخيفة تزلزل أركانها، وإعصار شديد يكشف الستر عن هذا الشيء الملفق ليتبينه الناس على حقيقته. وقد تم الاتفاق على الأخذ بالرأي الثاني. وبناء على ذلك أصدر ابن باديس جريدة (المنتقد) عام 1925 التي يبين اسمها عن معنى النقد الذي يخالف منهج أرباب الطريقة (اعتقد ولا تنتقد) و كتب ابن باديس في المنتقد عن دعوة محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية ونقل عن (المنار) رسالة عبد الوهاب النجدي إلى عبد الله الصنعاني(8).
ثم صدرت(الشهاب)(9) وفيها الدعوة إلى مناصرة فكرة الإصلاح وتجميع القوى وأن يكتب إلى الشهاب من يوافق على هذه الأفكار، فانهالت الرسائل المؤيدة، ومنها رسائل من الشيخ الطيب العقبي، ومبارك الميلي.. وقد جاء في رسالة الشيخ العربي التبسي: "أزفت ساعة الجماعة وتصرم عصر الفرد "(10) وفي عام 1931 نشرت (الشهاب) اقتراحًا بتأسيس جمعية العلماء وكان الغرض هو جمع القوى الموزعة من العلماء على اختلاف حظوظهم من العلم للتعاون على خدمة الدين الإسلامي واللغة العربية، والنهوض بالأمة(11).
استجاب كثير من العلماء لدعوة ابن باديس وتقرر الاجتماع في الساعة الثامنة من صباح يوم الثلاثاء السابع عشر من ذي الحجة 1349 هـ الخامس من مايو 1931 في نادي الترقي بعاصمة الجزائر، وكان عدد المجتمعين اثنين وسبعين من العلماء وطلبة العلم، وكان هذا الاجتماع بمثابة جمعية عمومية لوضع القانون الأساسي ثم عقد اجتماع آخر وانتخب الشيخ ابن باديس رئيسًا والشيخ الإبراهيمي نائبًا للرئيس.(1/140)
إن تأخير قيام الجمعية إلى هذا الوقت مع أن نشاط ابن باديس وحديثه عن العمل الجماعي ورد في أوائل العشرينات إنما كان لتطلع ابن باديس إلى مشاركة جميع العلماء الذين يؤمنون بالإصلاح، وهذا يتطلب جهدًا كبيرًا والدخول في حوار مع كل فرد منهم، كما يتطلب وضوح الأهداف والغايات.
5- حاول بعض الصوفية من أعضاء الجمعية والمشايخ الذين لهم ارتباط بالإدارة الفرنسية السيطرة على الجمعية ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعًا، وفي عام 1932 خرجوا من الجمعية وانتخب ابن باديس مرة ثانية رئيسًا بالإجماع، وبذلك صفت الجمعية لرجال الإصلاح الذين كان منهجهم واضحًا منذ البداية.
أما السؤال المتبادر، لماذا دخل هؤلاء في الجمعية أصلاً؟ فالجواب:
أن ابن باديس تعاون مع المعتدلين من الطرقيين والعلماء الرسميين ولم يتعاون مع الملوثين الذين ظهرت أباطيلهم وأراد من هذا التعاون شيئين:
الأول: أراد أن يواجه المستعمرين وعموم أعداء هذا الدين بموقف إسلامي موحد، وموقفه هذا يذكرنا بالوفد الذي قابل به ابن تيمية قازان زعيم التتار وكان يضم الصوفيين والمبتدعين.
الثاني: كان ابن باديس يعرف كيف يتحرك، وكيف يتعامل مع الناس، وكيف يستفيد من الظروف والمناسبات التي تمر، وكان يضع هذه الأمور كلها في موضعها وإطارها الصحيح، وهذا التعاون لم يغير أو يبدل شيئًا من قناعات ابن باديس وزملائه، بل كانوا أصحاب القرار وأهل الأكثرية في الجمعية.(1/141)
ولابد من الإشارة هنا إلى إيمان ابن باديس بالمرحلية ولذلك نراه ينتقي العبارات لكل مرحلة انتقاء دقيقًا وذكيًا، فعندما أخذ الترخيص للجمعية كانت الغاية التي أعلنت في القانون الأساسي "محاربة الآفات الاجتماعية كالخمر والميسر والبطالة والجهل، وكل ما يحرمه صريح الشرع وينكره العقل" وهذه الأخيرة فيها تلميح إلى الصوفية، ولكن بعد الانتخاب الثاني 1932وتصفية الجمعية من أعوان الإدارة دعا ابن باديس إلى "الأخذ بالثابت عند أهل النقل الموثوق بهم، والاهتداء بفهم الأئمة المعتمد عليهم، ودعوة المسلمين كافة إلى السنة النبوية المحمدية..."(12).
وبعد مضي خمس سنوات على تأسيس الجمعية أكد البشير الإبراهيمي على غايات الجمعية وخاصة في الأمور التالية:
1- محاربة الطرقية وأنه لا يتم في الأمة الجزائرية إصلاح مع وجود هذه الطرقية المشؤومة.
2- نشر التعليم الحر البعيد عن إشراف الحكومة بين صفوف الصغار والكبار.
3- الوقوف في وجه التبشير والإلحاد.
وهكذا كلما قويت الجمعية ووجد ابن باديس أن الفرصة مناسبة لتوسيع دائرة عمل الجمعية، أعلن عن الأهداف الكبرى لها، وإذا لم يتح له ذلك ذكر أهدافه عن طريق الصحافة التي كان يمتلكها هو شخصيًا وليست تابعة للجمعية مثل(المعتضد) و(الشهاب).
أهداف الجمعية:
في عام 1356 هـ 1938 م حددت الجمعية أصولها ومبادئها في النقاط التالية:
1- الإسلام هو دين الله الذي وضعه لهداية عباده وأرسل به جميع رسله، وكمله على يد نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي لا نبي بعده.
2- القرآن هو كتاب الإسلام.
3- السنة "القولية والفعلية" الصحيحة تفسير وبيان للقرآن .
4- سلوك السلف الصالح (الصحابة والتابعين وتابعي التابعين) تطبيق صحيح لهدي الإسلام.
5- البدعة كل ما أحدث على أنه عبادة وقربة ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله، وكل بدعة ضلالة.(1/142)
6- المصلحة كل ما اقتضته حاجة المسلمين في أمر دنياهم ونظام معيشتهم وضبط شؤونهم وتقدم عمرانهم بما تقره أصول الشريعة.
7- التوحيد أساس الدين، فكل شرك في الاعتقاد أو في القول أو في الفعل فهو باطل مردود على صاحبه.
8- اعتقاد تصرف أحد من الخلق مع الله في شيء ما شرك وضلال،. وبناء القباب على القبور والذبح عندها لأجلها، والاستغاثة بأهلها ضلال من أعمال الجاهلية، فمن فعله جهلاً يُعلّم ومن أقره ممن ينتسب إلى العلم فهو ضال مضل.
9- الأوضاع الطرقية بدعة لم يعرفها السلف ومبناها كلها على الغلو في الشيخ، وتجميد العقول، وإماتة الهمم.
10- عند المصلحة العامة من مصالح الأمة يجب تناسي كل خلاف يفرق الكلمة ويصدع الوحدة، ويتحتم التآزر والتكاتف حتى تنفرج الأزمة وتزول الشدة بإذن الله ثم بقوة الحق، وادراع الصبر وسلاح العلم والعمل والحكمة:
((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ))
عبد الحميد بن باديس
بقسنطينة الجامع الأخضر أثر صلاة الجمعة 4 ربيع الأول 1356(13).
وما كانت الشعارات التي يرفعها ابن باديس: "القرآن إمامنا، والسنة سبيلنا، والسلف الصالح قدوتنا، وخدمة الإسلام والمسلمين وإيصال الخير لجميع سكان الجزائر غايتنا"(14) إلا تلخيصاً لهذه المبادئ.(1/143)
إن النزعة السلفية واضحة في هذه الأصول والغايات المعلنة ولا شك أن رحلة ابن باديس وزملائه إلى المشرق واطلاعهم على حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب واجتماعهم بعلماء الشام وما كتبه رشيد رضا في المنار له أثر كبير في توجهات الجمعية، كما أن جيل المصلحين الأول مثل الشيخ صالح بن مهنا قد تأثر بالحركة السلفية، ومع ذلك فإن ابن باديس وزملاؤه لم يكونوا نسخة مطابقة لعلماء الشام أو الجزيرة بل كان عندهم من سعة الأفق أحيانًا أكثر من الذين تأثروا بهم، وقد تظهر الدعوة السلفية أحيانًا في قطر من الأقطار الإسلامية دون أن يطلع أهله على ما في القطر الآخر وذلك لأنها دعوة حق يهتدي إليها من أوتي فطرة سليمة وقلب واع.
إنجازات الجمعية:
قامت الجمعية بأعمال كبيرة وجليلة وجهود تستحق التقدير والثناء الحسن، فلها دور كبير في بث الوعي الديني وإحياء المفاهيم الإسلامية الصحيحة من الكتاب والسنة ومحاربة الخرافيين الذين يتاجرون بالدين ويتعاونون مع المستعمرين، وقد سدوا منافذ العلم وسيطروا على عامة الشعب بسبب الجهل، وقد كانت كتابات ابن باديس والإبراهيمي مزلزلة لأركانهم فانقمعوا وانحسروا والتف الشعب حول العلماء العاملين.
يقول البشير الإبراهيمي ساخرًا من الطرقيين: "القوم عارفون بالله وإن لم يدخلوا كتابًا ولم يقرءوا كتابًا، وكل من ينتسب إليهم عارف بالله بمجرد الانتساب أو بمجرد اللحظة من شيخه، ومن تنقيحاتهم تحديد مراحل التربية(الخلوية) لمعرفة الله بثلاثة أيام (فقط لا غير) تتبعها أشهر وأعوام في الانقطاع لخدمة الشيخ من سقي الشجر ورعي البقر وحصاد الزرع وبناء الدور مع الاعتراف باسم الفقير والاقتصار على أكل الشعير..."(1/144)
وأنشطة الجمعية متشعبة وشاملة يصعب الحديث عنها كلها ولذلك سنقتصر على ذكر نشاطها التعليمي الذي كان من أهدافه الرئيسية إحياء اللغة العربية لغة القرآن والإسلام بعد أن حاول المستعمر إقصاء اللغة تمهيداً لإقصاء الدين. ولا شك أن هذه مهمة صعبة، وهي أمل كل المصلحين الذين عاشوا قبل هذه الفترة وبعدها، فقد كان من المجمع عليه عندهم أن أهم وسيلة لترقية الأمة ونقلها من ذلها وضعفها هو التربية والتعليم، لإنشاء أجيال جديدة تتسم بالسلوك الإسلامي والفهم العميق لهذا الدين، وقد حققت الجمعية كثيرًا من هذا مما يعتبر في عصرها من المعجزات.
كانت المدارس الحكومية قليلة جدًا، وهي خاضعة خضوعًا تامًا لإشراف الإدارة الفرنسية في مناهجها ومدرسيها، بل كانت فرنسا تتعمد التجهيل، يقول محمد فريد وجدي الذي زار الجزائر 1901: "هجرت ربوع العلم وخربت دور الكتب وصارت الديار مرتعًا للجهل وكادت تدرس معالم اللغة العربية الفصحى" (15).
ويقول الشيخ الإبراهيمي: "إن مدارساً عامرة بهذا الصنف من الأطفال الذي لم يجد إلى التعليم الحكومي سبيلاً، وإن عدده لكثير إنه ليقارب التسعين بالمائة من أبناء الأمة"(16).
قصدت الجمعية لهذا الخلل، فشجعت الجمعيات الإصلاحية في كل مدينة لإنشاء مدرسة، وهذه الجمعية تتكفل بدفع رواتب المعلمين وتشجيع الأهالي على التبرع، وكانت جمعية العلماء تشرف على هذه الجمعيات المحلية وتشرف على اختيار المدرسين، وقد بلغ عدد هذه المدارس عام 1935 سبعين مدرسة ويقدر عدد التلامذة بحوالي 30.000 بين صبي وفتاة.(1/145)
وكانت جمعية العلماء تنظم للمدرسين دورات تدريبية لرفع مستواهم التعليمي، ومناقشة أساليب ونظم التعليم وفي عام 1944 نشطت الجمعية نشاطًا بارزًا فأنشأت خلال عام واحد ثلاثاً وسبعين مدرسة في مدن القطر وقراه (17) وفي عام 1948 بلغت مدارس الجمعية حوالي140 مدرسة، وفي عام 1954 ازداد العدد إلى 170 مدرسة، وقد بلغ عدد تلاميذ هذه المدارس عام 1951 (36.286) تلميذًا وتلميذة منهم 16.286 يدرسون دراسة كاملة في المدارس العربية ولا يلتحقون بالمدارس الحكومية، وبقية الطلبة سهلت لهم الجمعية أمر متابعتهم الدراسة في مدارسها بأن جعلت لهم دوامين للتعليم في الصباح والمساء. وفي عام 1947 أسست الجمعية أول معهد للتعليم الثانوي في قسنطينة أطلق عليه اسم عبد الحميد بن باديس، وبدأت الجمعية تشجع خريجي هذا المعهد للالتحاق بجامعات الزيتونة في تونس أو الأزهر أو جامعة دمشق أو جامعة بغداد، وكأن الجمعية كانت تهيئ الشباب لعملية بناء الجزائر المستقلة.
وهذا الجهد العظيم هو صراع مرير مع الإدارة الفرنسية لتثبيت هوية هذا الشعب وأنه مسلم عربي، ففي هذه المدارس تعلم الأطفال العربية لأن التعليم في المدارس الحكومية كان كله باللغة الفرنسية، وهذه الأمور كانت واضحة في ذهن ابن باديس وصحبه من اليوم الأول وأن نهضة الإسلام مقرونة بنهضة اللغة العربية.
فجزاهم الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين، من رجال قاموا بواجبهم حق القيام.
الهوامش:
1- د.تركي رابح: الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح والتربية في الجزائر /100.
2- سنتكلم عن دراسة ابن باديس في الزيتونة ورحلته إلى المدينة ودمشق والقاهرة وأثر ذلك في فكره وشخصيته في ترجمة مفصلة لحياته إن شاء الله.
3- د. أحمد الخطيب: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين / 96 نقلاً عن تفسير ابن باديس.(1/146)
4- كان رحمه الله يفسر قوله تعالى: ((إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وإذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ))[النور:62].
5 - تفسير ابن باديس: دار الفكر / 559.
6- د. تركي رابح: عبد الحميد بن باديس /172 نقلاً عن البصائر.
7- الخطيب: جمعية العلماء / 96.
8- الطالبي: ابن باديس وآثاره 1/ 81.
9- أصدر ابن باديس جريدة الشهاب عام 1925 ، والجدير بالذكر أن الشيخ حسن البنا رحمه الله أصدر جريدة باسم الشهاب أيضاً عام1947 وأشار في افتتاحية العدد الثالث إلى أسبقية مجلة الشهاب التي أصدرها الشيخ ابن باديس ورجا أن تسير مجلته على طريق مجلة الشهاب الجزائرية.
10- الخطيب: جمعية العلماء / 98.
11- المصدر السابق / 102.
12- الخطيب: جمعية العلماء / 114.
13- جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. قانونها الأساسي ومبادؤها الإصلاحية. دار الكتب - الجزائر.
14- سجل الجمعية / 76.
15- الخطيب: جمعية العلماء المسلمين / 64.
16- تركي رابح: ابن باديس / 156.
17- الخطيب: جمعية العلماء / 210.(1/147)