أكثر الأوقات والأيام، فصيح اللسان ذو معرفة وإتقان، وكان مشتغلاً بنظم قصائد تسعة وعشرين، من كل حرف من حروف الهجاء قصيدة، على طرز قصائد صفي الدين أبي المحاسن عبد العزيز بن سرايا بن أبي القاسم الحلي التي سماها درر النحور في امتداح الملك المنصور، فكان يتلو علينا من أبياتها، ويفكهنا بسكر نباتها، وقد تخلص بكل قصيدة إلى مديح الحضرة المعظمة السلطانية الحميدية، وقد سماها بالعصر الجديد، جمع بها جواهر الآثار، ودقائق المعاني الأبكار، وبعد مدة سافر إلى الأستانة العيلة، وقدمها للسدة السنية الملوكانية، فأحسن إليه برتبة محترمة، وخدمة في دائرة المعارف العمومية الجليلة، ولم يزل مكباً على الاشتغال بالأدب، وآثاره مقبولة تألفها الطباع، وتلتذ بها الأسماع، ومن نظمه البديع وشعره الرفيع، قوله:
أعد الحديث عن الأماني الحفد ... واغتم مسالمة الليالي العود
وأدر كؤوس الراح فيها للهنا ... أيدي الصبا منها صحيفة عسجد
طوراً تطوف بها الشموس وتارة ... تسعى بها الأقمار حول الوقد
من كل وضاح الجبين أغر ذي ... شمم وعز بالشباب معربد
يلقاك ملتحف الوقار كلاهما ... بادي المشيخة في حداثة أمرد
يغدو بأصناف المسرة لاهيا ... يوماً ويوماً بالمقيم المقعد
لا تبصر العينان منه لذي نهى ... إلا خلال ممجد ومسود
إن قال كان الرأي منه مسددا ... أو صال كان الخصم غير مسدد
ومنها:
وخضيبة الكفين مزر قدها ... هيفا بأعطاف الغصون الميد
نشوانة بالحسن تعبث بالنهى ... عبث الحوادث بالوليد المبتدي
تلقاك في ديباجتين منوطة ... من فوق ضاف بالعبير مقرمد
أقسى مساساً من فؤاد معذبي ... وأرق من قلب حزين المكمد(1/1582)
ما بين طلعة بدر تم مشرق ... زاهي الجبين وليل شعر أجعد
فتاكة فتانة مأسورها ... لا يفتدي وقتيلها لا يستدي
إن أقبلت فتنت وإن ولت سبت ... مهج الأراقم دون نيل المقصد
تدني وتبعد بالذي تومي به ... لأخي العفاف وللبغي الأنكد
فتظنها من ثم غير عصية ... وتخالها من ههنا كالعضلد
وتروضها كخليستين عروبة ... غض المساس وحيزبون علكد
لا ينقضي من حبها وطر ولا ... يدنو لها بالغي عزم مجرد
وهي قصيدة طويلة تزيد على المائة وثلاثين بيتاً وتخلص بها لمديح السيد أحمد الرفاعي قدس الله تعالى سره. وله قصائد كثيرة وأشعار شهيرة. ولقد اجتمعت به في الآستانة عام ألف وثلاثمائة وسبعة، فوجدته قد تغير عن حاله، وتبدل الجلال عن جماله، وغلب عليه الجفا بعد ما كان عليه من الوداد والوفا، واللطف والصفا، فسبحان من لا تغيره الأزمان، ولا يحكم عليه وقت ولا أوان.
الشيخ يحيى الجابي المدني
ترجمه صاحب اللئالي الثمينة في أعيان شعراء المدينة، فقال: الأديب الذي كنهور ذهنه بالمحاسن هامي، وألفاظه تسكر الأسماع كابنة العنب ولا ينكر السكر من الجامي فكل بيت من أبياته راووق مدام(1/1583)
وكل لفظ منها زهر كمام، كلل برشح غمام، ومع ذلك فهو في الفضل سامي المقام، وفي المجد بالغ همام، حاوي شمائل كالنسيم رقة، وكالمسك تشتهي الروح شمه ونشقه، وجامع أدب شذي النفحة بهي اللمحة، فمن نظمه البهج وشعره الأرج هذه القصيدة، وأرسلها من الروم مبثاً بها ما حواه صدره من سر الغرام المكتوم:
على وادي النقا، قف لي صباحا ... وحي الريم والغرر الصباحا
وعانق لي بسح الدمع بانا ... بسوح من العقيق لديه ساحا
ومرغ لي الخدود على تراب ... تشم به عبير المسك فاحا
وغض الصوت في نجواك واخفض ... جناح الذل منك عسى نجاحا
وأم الجانب الغربي منه ... سقى الله رباه والبطاحا
وسل عن جيرة في سفح سلع ... وقبل القول قبل لي المراحا
بهم خز يشي حبرا برتني ... بروق ظباه دع عنك الرماحا
لروحي من صداه غذا وراح ... غدا يجلو الصدا عنها وراحا
ترى الأوتار ناطقة فصاحا ... إذا غنى بنغمتها فصاحا
به معنى فهمناه فهمنا ... فلاح سنا فشاهدنا فلاحا
فشاهد ساعة وارجع سريعا ... وحاذر يستميلك أن تصاحا
فإن حشاي مما في فؤادي ... يئن أنين من ذاق السلاحا
وذلك إن بازاً لي تصدى ... فأظهر لي الصداقة والمزاحا
فلما أن رآني مطمئنا ... أظن مزاجه الماء القراحا
غزا بالبابلي على غزالي ... فطار به وكان له جناحا
ولو بارزت لم يبرز لحربي ... ولكن خفت ارتكب الجناحا
فقلت تعجبا سبحان ربي ... فقنعني ومن قنع استراحا
ولي نفس أبت ذلاً لمن لا ... يراعيها ولو ماتت جراحا(1/1584)
ولا حكم على ملك بعنف ... خصوصاً من يرى قتلي مباحا
فحسبي أن محبوبي بقلبي ... وإني في الهوى أهوى الملاحا
وسلم لي على قمري العلالي ... وندماني غبوقا واصطباحا
وجمع الصحب بلغهم سلامي ... لعل الله يجمعنا صحاحا
وكرر لي السلام على عقيق ... كذوب مكرر يسقي الأقاحا
وتعرف يا عقيق الروح مني ... لمن في لحن قولي القصد لاحا
وله:
باتت تسامرني حمامة روضة ... فوق الغضا بين الغدير وزرعه
تبكي على إلف لها بترنم ... من أجل تسكين الفؤاد وروعه
فشربت من ذاك الغدير تلذذا ... وطربت من ذاك الهدير ورجعه
وأجبتها بي مثل ما بك كلنا ... نبكي على ذكر الحبيب وربعه
لكن ما مثلي ومثلك واحد ... لا والذي سمع الدعاء بسمعه
إن الذي أهواه بدر كامل ... كل الأشعة فرعت من فرعه
قالت صدقت يحق أن تبكي الدما ... ونهيم في ريم النقا مع سلعه
وله رحمه الله:
لقد كمنت محبتكم بقلبي ... كمون النار في قلب الزناد
ولكني افتضحت بدمع عيني ... وحالي كل حين في ازدياد
انتهى توفي المترجم المرقوم في القرن الثالث عشر رحمه الله تعالى.(1/1585)
الشيخ يحيى بن محمد بن منصور الحلبي الشافعي
الفقيه العالم المقرئ المسند البركة الدين التقي العابد الزاهد، كان من السادة الأخيار، والقادة الأتقياء الأبرار. مولده سنة عشرين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه وتلاه لحفص، وأخذ القراءات عن الشمس البصيري شيخ القراء بحلب، وأبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المصري، ولازم القراءة والأخذ والتلقي والسماع، وتلقى الكثير على الكثير، منهم أبو عبد الفتاح محمد بن الحسين الزمار ونور الدين علي بن مصطفى بن علي الدباغ الميقاتي وأبو محمد صالح بن رجب المواهبي وبايعه وأخذ عنه الطريقة القادرية، ولازم بعده ولده أبا عبد الله محمد وقاسم بن محمد البكرجي وأبو الثناء محمود بن شعبان البزستاني وقاسم بن محمد النجار وأبو المحاسن يوسف بن الحسين الدمشقي وأبو عبد الله جابر بن عودة الحوراني وعبد الوهاب بن أحمد الأزهري وعلاء الدين محمد بن محمد الطيب المالكي لما قدم حلب، وأبو جعفر منصور بن علي الصواف وأبو السعادات طه بن مهنا الجبريني وأبو عبد الله محمد بن كمال الدين الكبيسي وعبد الكريم بن أحمد الشراباتي وغيرهم. ويروي عالياً عن الشهاب أحمد بن محمد علوان بن عبد الله الشراباتي وأي داود سليمان بن خالد بن عبد القادر النحوي وجمال الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد عقيله بن سعيد المكي وبدر الدين حسن بن علي الطباخ وأبي عبد الرزاق محمد بن هاشم الديري وأبي محمد حسن بن شعبان السرميني وآخرين، وسمع الأولية من أكثرهم ولازم دروسهم وأكثر من السماع من صغره وكان لا يفتر عن حضور مجالسهم، وأجازوه بالإجازة العامة. وكان كثير التلاوة للقرآن العظيم يشتغل به غالب أوقاته، وكان من الصلحاء الأخيار، والمعمرين الأبرار، كثير الديانة مقبلاً على الأخرى معتنياً بما يقربه من مولاه، رافضاً زخارف الدنيا راضياً بما قسم له، يحب الناس ويحبونه. توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين ونيف في حلب ودفن بها.(1/1586)
الشيخ يحيى بن...... المزوري العمادي الشافعي البغدادي
بحر العلوم، وحبر ذوي المنطوق والمفهوم، جامع المنقول والمعقول، وحاوي الفروع والأصول، أستاذ علماء العراق على الإطلاق، وملاذ فحول فضلاء الآفاق في حل المشكلات بلا شقاق، النحرير الهمام حجة الإسلام، الناسك العابد والتقي الزاهد، المتوجه بكله إلى الله والمعتمد عليه لا على سواه.
نقل صاحب المجد التالد أن المترجم المذكور كان من أكابر هذه الأمة المحمدية، وقد بلغ درجة الترجيح في الفقه، مع كونه بحر جميع العلوم النقلية والعقلية والرياضية، كما شهد له بذلك حضرة شيخ الحضرة مولانا خالد النقشبندي، وكانت ولادته في حدود سنة ألف ومائة وخمس وأربعين، وقرأ على مشايخ كثيرين وأساتذة معتمدين، منهم الحبر العلامة والبحر الفهامة، السيد عاصم الحيدري، ومنهم العلامة المحقق والفهامة المدقق، السيد صالح الحيدري. وكان حافظاً لأوقاته مراقباً لحركاته وسكناته، مواظباً على الطاعة متباعداً عن الإضاعة، وآدابه في التقوى والحلم، ومكارم الأخلاق التي أدبه بها الفضل والعلم، كثيرة شهيرة. وفي عام ستة وعشرين ومائتين وألف، لما شرف حضرة مولانا خالد شيخ الحضرة من الهند إلى السليمانية صمم الجماعة البرزنجية الذين هم أكابر بلدة السليمانية وأصحابهم وأتباعهم، وكانوا نحو مائتي رجل على قتل الشيخ خالد المذكور، واتفق رأيهم أن يقفوا بالسلاح يوم الجمعة خارج باب المسجد، فإذا خرج قتلوه وقطعوه إرباً إرباً، فلما جاء يوم الجمعة قام حضرة الشيخ قدس الله سره ومشى إلى المسجد، وكان معه بعض مريديه وجماعة من الحيدريين، فلما تمت صلاة الجمعة وقف الأعداء على الباب ينتظرون خروج الشيخ وهم بالسلاح الكامل، وكان من عادة الشيخ أنه لا يخرج من المسجد(1/1587)
إلا بعد خروج الناس، فلما تكامل خروج الناس، ولم يبق في المسجد أحد، خرج حضرة الشيخ والتفت إلى صفوف الأعداء بعين الجلالة، فمنهم من هرب ومنهم من سقط مغمى عليه، ومنهم من صاح وانجذب، ومشى حضرة الشيخ إلى أن وصل إلى الزاوية بجماعته بدون أن يتعرض لهم أحد، وهذه القضية وقعت على رؤوس الأشهاد، فلم يبق أحد من أهل السليمانية إلا وعلمها، فحقد عليه العلماء وأرادوا أن يهينوه في تجهيله في العلم، فامتحنوه بمشكلات أنواع العلوم النقلية والعقلية فلم يقدروا عليه، بل صاروا كأحقر الطلبة بين يديه، فلما رأوا أنفسهم أنهم بالنسبة إليه جهال، وليس لهم قدرة عليه بحال، كتبوا كتاباً وأرسلوه إلى حضرة المترجم، ومضمون الكتاب من كافة علماء السليمانية إلى علامة الدنيا على الإطلاق والدين، حجة الإسلام والمسلمين، مولانا وشيخنا الشيخ يحيى المزوري العمادي متع الله تعالى المسلمين بطول حياته: أما بعد فقد ظهر عندنا خالد وادعى الولاية الكبرى والإرشاد، بعد عوده من الهند إلى هذه البلاد، وهو رجل قد ترك العلوم بعد تحصيلها على وجه الكمال، واختار سبيل الضلال، ونحن قد عجزنا إن إلزامه، وقهره وإفحامه، فيجب عليك أن تتوجه إلى طرفنا لإفحامه، ودفع ضلاله ومرامه، وإلا فقد عم الضلال بين العباد، وانتشر الفساد في البلاد، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
فلما وصل الكتاب إلى الشيخ يحيى وقرأه، قام وركب بغلته مع جملة من طلبته الفحول، وتوجه إلى السليمانية وقد استحضر في فكره عدة سؤالات من أشكل المشكلات، في المعقول والمنقول، الفروع والأصول، فلما قرب الشيخ من السليمانية خرج العلماء كافة وأكابر البلدة لاستقباله، وتقبيل يديه ورجليه وأذياله، فلما دخل البلدة دعاه كل إلى منزله من(1/1588)
السادة الأعيان، فأبى وقال لا بد أن ألاقي هذا الرجل الآن، فتوجه إلى زاوية الشيخ قدس الله سره، فلما دخل عليه وسلم وحياه، استقبله الشيخ وصافحه وأحسن لقياه، فجلس الشيخ يحيى بجانب مولانا خالد وتهيأ للسؤال، فابتدره الشيخ في الحال، وقال له إن في العلوم مشكلات كثيرة، منها كذا وجوابه كذا ومنها كذا وجوابه كذا، وعدد له جميع الأسئلة التي أعدها للسؤال عنها، وأجاب عن كل منها بأحسن جواب بحيث لم يبق للإشكال باب، فانكب المترجم على قدمي حضرة الشيخ وعرف إجلاله، وطلب منه العفو والسماح والتوجه له بما يصلح آماله، وأعطاه الطريقة النقشبندية، وعين له حجرة يسلك فيها فصار من أخص رجال السادة الخالدية، فلما سمع المنكرون ولوا الأدبار وخابوا، وبعضهم تاب وأكثر من الندم والاستغفار، وكان حضرة مولانا خالد يحب الشيخ يحيى محبة عظيمة، ويعامله مع كونه مريداً له معاملة الأقران ذوي العظمة والشان، والشيخ يحيى لا يعد نفسه في مجلس الشيخ إلا من الخدام.
وقد حدث العالم الأديب الصالح الشيخ إسماعيل البرزنجي، فقال كنت في خدمة الشيخ يحيى المزوري في حجرة واحدة، وكان الشيخ نائماً وقت القيلولة، فقام حضرة مولانا خالد من محله إلى حجرة الشيخ يحيى فاسقبلته، وقلت له إن الشيخ يحيى نائم فقال لا تنبهه، ثم دخل حضرة مولانا الحجرة وقبل فم الشيخ يحيى وهو نائم، وقال بعد التقبيل متعنا الله تعالى بحياتك، وخرج من الحجرة إلى محله، ومما وقع له أيضاً مما يدل على رفعة مقامه ووصوله في الطريق إلى مرامه، أن عبد الوهاب السوسي الذي خلفه(1/1589)
حضرة مولانا خالد في الأستانة العلية، ثم طرده عن الطريقة لعجبه بنفسه بمخالطة أكابر الرجال، وجمع الحطام والأموال، دخل يوماً على الشيخ يحيى وقبل يديه، والتمس منه أن يطلب العفو عنه من حضرة مولانا خالد قدس سره، فقام الشيخ يحيى ودخل على حضرة مولانا خالد والتمس منه العفو عن عبد الوهاب، فقال حضرة الشيخ أن الأمر لو كان بيدي لعفوت عنه، ولكن جميع روحانيات السلسلة العلية النقشبندية قد طردوه عن باب طريقتهم، اللهم إلا أن يحلق عبد الوهاب لحيته ويسود وجهه ويركب الحمار منكوساً ويشهر نفسه في الأزقة والأسواق كسراً لنفسه، فإنهم قدس الله تعالى أسرارهم يعفون عنه حينئذ فقال الشيخ يحيى قدس الله سره: يا شيخي إن عبد الوهاب لا تطاوعه نفسه على مثل هذا الفعل، ولكن رخصني فإني أعمل هذا الفعل عوضاً عنه لعله يعفى عنه وأنا أفدي نفسي في حاجة المسلم، فبكى حضرة مولانا خالد قدس الله سره وتعانق مع الشيخ يحيى وبقيا يبكيان ثم قام حضرة الشيخ قدس الله سره لصلاة النافلة وذهب الشيخ يحيى قدس الله سره إلى محله، وقال لعبد الوهاب فلا تلومن إلا نفسك، وقام عبد الوهاب خائباً والعياذ بالله تعالى من سوء المنقلب.
ومن جملة أدب المترجم مع السنة أنه كان يعاون زوجته في غسل الثياب والطبخ وحوائج البيت، وكان يغسل أولاده إذا ماتوا بنفسه، ويقول لزوجته لا تضجري من موتهم، واشكري الله تعالى. ولما قتل اليزيديون(1/1590)
ولده العلامة المحقق عبد الرحمن في الجبال وأتى خبر قتله إليه وهو يدرس العلم، قال حسبنا الله تعالى ونعم الوكيل، ولم يترك الدرس، ولما مات الحبر العلامة السيد أسعد صدر الدين الحيدري كان المترجم نازلاً في بيتهم ضيفاً، فقال أنا أغسل السيد المرقوم فقام وغسله على ملأ من الناس، وكان السيد عبيد الله الحيدري يصب له الماء، وصلى عليه مع خلائق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، وكان ذلك في أوائل سنة ألف ومائتين وثلاث وأربعين. ثم لما توفي الشيخ المترجم قدس الله سره في بغداد تعاطى غسله العالم الصالح الورع والتقي الملا حسين بن ملا جاحي والسيد محمد أمين ابن السيد عبد الله الحيدري وأخوه السيد صالح الحيدري وعدد كثير من العلماء الأعلام، يصبون الماء على جسده الشريف مناوبة، وصلى عليه العلامة الفهامة النحرير الشيخ عبد الرحمن الروزبهاني طاب ثراه، ولم يبق أحد بحسب الظاهر من أهل بغداد إلا ومشى خلف جنازته، وكأن القيامة في يوم موته قد قامت، ودفن في جوار الغوث الأعظم والقطب الأفخم سيدي عبد القادر الجيلاني قدس سره، وكان عمره يوم وفاته نحواً من مائة سنة، ومات في حدود سنة ألف ومائتين وخمس وأربعين.
الشيخ يحيى أفندي مفتي أنطاكية بن المرحوم....
عالم زمانه وإمام أهل وقته وأوانه، عمدة الأماثل ونخبة الأفاضل، ولد سنة ألف ومائتين وثلاثين تقريباً، ثم منذ نشأ وشب أقبل على العبادة والطلب، فبرع وفاق واشتهر في الآفاق وتفنن في العلوم وبرع في فني المنطوق والمفهوم، وأقبل الناس عليه للاستفادة منه والنظر إليه، وأخذ عن مشايخ ذوي رتب سامية أسانيدهم في الأخذ عالية، ولما رأوا منه المعرفة التامة أجازوه بالإجازة العامة، ثم ولي منصب الإفتاء بأنطاكية، وله بإقليمها شهرة عالية، وله معرفة بالسياسة قوية، ومهارة بالألسنة الثلاث(1/1591)
العربية والتركية والفارسية، ونظره في الأمور دقيق، مقصود في الاستشارة لكل بعيد أو قريب أو عدو أو صديق.
وفي سنة ثلاثمائة واثنتين بعد الألف جاء إلى حلب جميل باشا والياً عليها، وكان له شدة عظيمة على أهل الرآسة في حلب وما يتبعها من بقية الولاية، فاضطر المترجم أن يخرج من محله وأن يخرج من الولاية فرحل إلى دمشق، واتصل برؤوسها وولاتها وأكابرها وذواتها، وله حاضرة عجيبة، وحافظة غريبة، فكثيراً ما كان يستشهد تارة في العربية وتارة في التركية وتارة في الفارسية، بأبيات لطيفة رقيقة ذات معان أنيقة، وله حكايات ونوادر تشهد له أنه في الأدب له المقام النادر، ومعرفته في الشطرنج حظها وافر، فكان كثيراً ما يلعب به مع الحكام والأكابر، وكانت لي معه الصحبة الوافرة، والمحبة المتكاثرة، والمباحثة والمذاكرة والمسامرة والمحاضرة، وقد أخبرني بأنه ولد في الشام حين كان أبوه بها مستقيما، ثم عاد به أبوه إلى وطنه المذكور، ثم إنه لا زال في الشام يعلو مقامه وينمو احترامه، إلى أن وقع بينه وبين المشير حسين فوزي باشا بعض منافرة، وكان قد عزل جميل باشا من حلب فرجع إلى وطنه، وذلك عام ألف وثلاثمائة وخمسة، أطال الله بقاءه وحرسه بمنه وأبقاه.
الشيخ يحيى بن علي بن محمد الشوكاني
العالم الذي فاق أهل زمانه وترقى في فضله على أهل أوانه، ولحق من سلف وسبق من خلف، ولد في رجب سنة ألف ومائة وتسعين، قرأ على جملة من المشايخ المتصدرين والأفاضل الجهابذة المتصدين، كالعلامة محمد(1/1592)
بن أحمد السودي، والعلامة سعيد الرشيدي، وكان مواظباً على الطاعة حافظاً أوقاته عن الإضاعة، قليل الكلام، كثير القيام في الظلام، دائم الفكر حسن الصبر، يحب الاستفادة ولا يبخل بالإفادة، له مشاركة في العلوم وأعلا نثر وأحلا منظوم، سيرته حسنة وأوصافه مستحسنة، زاهد في الدنيا راغب في الأخرى، كثير الأذكار في الليل والنهار، محافظ على أوقاته متباعد عن غفلاته، وقد أجاز واستجاز وكان في الحقيقة على أحسن مجاز. وبالجملة فهو حسنة من حسنات الزمن، وفرد من أفراد قطر اليمن، قد انتفع به الكثير وأخذ عنه الجم الغفير، وانقاد له الأفاضل وذوو السيرة العالية والشمائل، توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وستين تقريباً.
الشيخ الإمام يحيى بن المطهر بن يحيى
العالم الفاضل الزاهد الورع العابد العامل، عمدة لأقران ونخبة العصر والأوان. نشأ في مدينة صنعاء ولازم العلامة الشوكاني، واستفاد من علومه، وقرأ جميع مؤلفاته عليه، وأكب على علم الحديث فبلغ فيه النهاية، وترك التقليد واشتغل بالاجتهاد. وله شرح على سنن أبي داوود أربع مجلدات، وله رسائل متعددة في فنون مختلفة، توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وثمان وستين.
الشيخ يحيى بن عبد الرحمن بن محمد بن زين الدين بن عبد الكريم الدمشقي الشافعي الشهير بالكزبري
الشيخ الأمجد والإمام الأوحد، علامة الزمان وفهامة الأوان. ولد بدمشق الشام ونشأ بها وأخذ عن علمائها، ومن أجلهم والده المرقوم، والعلامة الشهاب المنيني الكبير، والإمام العلامة الثاني علي أفندي الداغستاني، وأجازه خال والده العلامة علي بن أحمد بن علي الكزبري وغيرهم، وكان(1/1593)
صالحاً عابداً فالحاً زاهداً متواضعاً فقيهاً محدثاً نبيهاً. توفي ثاني شهر محرم الحرام سنة إحدى ومائتين وألف، ودفن في مرج الدحداح.
الشيخ يحيى السردست الحنفي الدمشقي
الإمام الفاضل والهمام الكامل، علامة الزمان وفهامة العصر والأوان، كان من العلماء العاملين والصلحاء الواصلين، إمام المحققين وهمام المدققين، وكان منقطعاً في المدرسة الباذرائية مقبلاً على الآخرة مدبراً عن الدنيا. توفي في دمشق سنة أربع وستين ومائتين وألف سابع عشر شهر شوال. ودفن في مقبرة الذهبية، في مرج الدحداح.
الشيخ يحيى المسالخي الحلبي
الإمام الأديب الماهر، والهمام الفاضل الباهر، الكامل الفقيه واللوذعي النبيه. أخذ عن الشيخ محمد الكزبري وعن غيره من المشايخ العظام. توفي قريباً من عشرين ومائتين وألف ودفن في باب الصغير رحمه الله تعالى.
الشيخ يوسف أبو خرج الدمشقي المجذوب
الولي المشهور، والقطب المعروف بطول الباع وبكل منقبة مذكور، قد اشتهر فضله في هذه الديار اشتهار الشمس في رابعة النهار. وكان معتقداً لا منتقداً، ومع جذبه كانت أحواله لا تنكر عليه بل تجد أموره مائلة إلى ظاهر الشرع مستندة إليه، وكان جليلاً مهاباً معظماً فخماً، عليه مخايل الولاية. توفي رحمه الله تعالى سنة ست وعشرين ومائتين وألف، ودفن بباب الصغير وقبره ظاهر يزار.
الشيخ يوسف أبو الفتوح جمال الدين بن أحمد بن مصطفى بن أحمد بن إبراهيم بن شمس العمري القادري الدمشقي الشافعي
الإمام، المحدث الهمام، العلامة المحقق والسيد السند المدقق، ذو المعارف والكمال، واللطائف والجمال، عمدة المحققين ونخبة المدققين. ولد بدمشق(1/1594)
ليلة الثلاثاء ثاني ذي الحجة الحرام سنة ثمان وخمسين ومائة وألف، وأخذ عن العلامة الشيخ عبد الرحمن العيدروس، وأحمد بن خليل التميمي الخليلي، ومحمد بن المرحوم ميرزا محمد، وتاج الدين الياس زاده المدرس بالحرم الشريف، والشيخ علي بن محمد بن سليم السليمي الصالحي، وأبي الفتح محمد بن محمد العجلوني، والسيد مصطفى بن ولي الدين محمد الأيوبي الأنصاري الحنفي الشهير بالرحمتي، وعلي الكاملي، وأحمد الداراني، وحسن بن علي المدابغي، وعيسى أفندي بن صبغة الله أفندي الحيدري، والسيد محمد البخاري، وأحمد البعلي، وأسعد المجلد، ومحمد التافلاني، وعليم الله الهندي اللاهوري، وإبراهيم الحافظ، وعبد الرحمن بن الملا حسن الكردي، وصالح الجينيني، والشهاب أحمد المنيني، وخليل الكاملي، ومحمد العربيلي، وابن بدير المقدسي، وأبو الجود محمود الكردي الكوراني، والسيد محمد السمان المدني، وعيسى البراوي، والشهاب الراشدي، وعطية الأجهوري، والحفني، والملوي، وأحمد الجوهري، والدمنهوري، ومحمد الفارسكوري، وأحمد الطبنشي وغيرهم، وعن الشيخ محمد الكزبري، والشيخ علي الداغستاني، مات رحمه الله تعالى تاسع شوال سنة خمس عشرة ومائتين وألف ودفن في مقبرة سيدي الشيخ أرسلان.
الشيخ يوسف بن عبد الله بن منصور السنبلاويني الشهير برزه
الشافعي الإمام العلامة النبيه الفاضل، الأستاذ الفهامة، العالم العامل. تفقه على بلديه الشيخ أحمد رزه، وحضر دروس الشيخ الحفني والشيخ البراوي(1/1595)
والشيخ عطية والشيخ الصعيدي وغيرهم من الأشياخ، وأنجب ودرس وأفاد، ولازم الإقراء، وكان إنساناً وجيهاً محتشماً ساكن الجأش وقوراً، بهي الشكل، قانعاً بحاله لا يتدخل كغيره في أمور الدنيا، مجمل الملابس، لا يزيد على ركوب الحمار في بعض الأحيان لبعض الأمور الضرورية، ولم يزل حتى تعلل وتوفي سنة سبع ومائتين وألف.
الشيخ يوسف المصيلحي الشافعي الأزهري
الشاب الصالح والمهاب الفالح، الفاضل الفقيه والكامل النبيه، حفظ القرآن والمتون، وحضر دروس أشياخ العصر كالشيخ الصعيدي والبراوي والشيخ عطية الأجهوري والشيخ أحمد العروسي، وحضر الكثير على الشيخ محمد المصيلحي وأنجب، وأملى دروساً بجامع الكردي بسويقة اللالا. وكان مهذب النفس لطيف الذات حلو الناطقة مقبول الطلعة خفيف الروح، ولم يزل ملازماً على حاله حتى اتهم أيضاً في حادثة الفرنسيس، وقتل مع من قتل شهيداً بالقلعة سنة أربع عشرة ومائتين وألف، ولم يعلم له قبر رحمه الله.
الوزير المعظم يوسف باشا والي الشام
أصله من الأكراد الدكرليه، وينسب إلى الأكراد الملية، وفي ابتداء أمره، هرب من أهله وعمره إذ ذاك خمس عشرة سنة، فوصل إلى حماة وتعاطى بيع الحشيش والسرجين والروث، ثم خدم عند رجل يسمى ملا حسين مدة سنين، إلى أن ألبسه قلبقاً، ثم خدم بعده ملا إسماعيل بلكباش وتعلم الفروسية، فلعب يوماً في القمار وخسر فيه وخاف على نفسه، فخرج هارباً إلى عمر آغا باسيلي من إشرافات إبراهيم باشا المعروف بالأردن،(1/1596)
فتوجه معه إلى غزة، وكان مع المترجم جواد أشقر من جياد الخليل، فقلد على آغا متسلم غزة عمر آغا المذكور، وجعله دالي باش ففي بعض الأيام طلب المتسلم من المترجم الجواد المذكور، فقال له إن قلدتني دالي باش قدمته لك، فأجابه إلى ذلك وعزل عمر آغا وقلد المترجم المنصب عوضاً عنه، وامتنع من إعطائه ذلك الجواد، وأقام في خدمته مدة، فوصل مرسوم من أحمد باشا الجزار خطاباً للمترجم بالقبض على المتسلم، وإحضاره إلى طرفه، وإن فعل ذلك ينعم عليه بخمسين كيساً ومائة بيرق، ففعل ذلك وأوقع القبض على علي آغا المتسلم، وتوجه به إلى عكا بلدة الجزار، فقال المتسلم للمترجم في أثناء الطريق تعلم أن الجزار رجل سفاك للدماء فلا توصلني إليه، وإن كان وعدك بمال أطلقني وأنا أعطيك أضعافه ولا تشاركه في دمي، فلم يجبه إلى ذلك، وأوصله إلى الجزار فحبسه ثم قتله، فحبسه ثم قتله ورماه في البحر، وأقام المترجم بباب الجزار ثم أرسل إليه يأمره بالذهاب إلى حيث يريد فإنه لا خير فيه لخيانته لمخدومه، فذهب إلى حماة وأقام عند إسماعيل آغا وهو متول من طرف عبد الله باشا المعروف بابن العظم، فأقام في خدمته كلارجي زمناً نحواً من ثلاث سنين، وكان بين عبد الله باشا وأحمد باشا الجزار عداوة فتوجه عبد الله باشا إلى الدورة، فأرسل الجزار عساكره ليقطع عليه الطريق، فسلك طريقاً أخرى، فلما وصل إلى جينين وجه الجزار عساكره عليه، فلما تقارب العسكران وتسامعت أهل النواحي امتنعوا من دفع الأموال، فما وسع عبد الله باشا إلا الرحيل، وتوجه إلى ناحية نابلس وحاصر بلدة تسمى صوفين، وأخذ مدافع من يافا وأقام محاصراً لها ستة أيام، ثم طلبوا الأمان فأمنهم ورحل(1/1597)
عنهم إلى طرف الجبل مسيرة نصف ساعة، وفرق عساكره لقبض أموال الميري من البلاد، وأقام هو في قلة من العسكر، فوصل إليه خيال وقت العصر يخبره بوصول عساكر الجزار، وأنه لم يكن بينه وبينهم إلا نصف ساعة، وهم خمسة آلاف مقاتل، فارتبك في أمره وأرسل إلى النواحي فحضر إليه من حضر، وهم نحو الثلاثمائة خيال، وبدائرته نحو الثمانين، فأمر بالركوب، فلما تقاربا هاله كثرة عساكر العدو وأيقنوا بالهلاك، فتقدم المترجم إلى العسكر وأشار عليهم بالثبات، وقال لهم لم يكن غير ذلك فإننا إن فررنا هلكنا عن آخرنا، وتقدم المترجم مآغاته ملا إسماعيل، وتبعهم العسكر وولجوا وسط خيل العدو وصدقوا الجملة جملة واحدة، فحصلت في العدو الهزيمة وركبوا أقفيتهم، وتبعهم المترجم حتى حال الليل بينهم، فرجعوا برؤوس القتلى والقلائع، فلما أصبح النهار عرضوها على الوزير وهي نحو الألف رأس وألف قليعة، فخلع عليهم وشكرهم، وارتحلوا إلى دمشق، وذهب المترجم مع آغاته إلى مدينة حماة، واستمر هناك إلى أن حضر الوزير الأعظم يوسف باشا المعروف بالمعدن لي إلى دمشق، بسبب الفرنساوية، ففارق المترجم مخدومه في نحو السبعين خيالاً، وجعل يدور بأراضي حماة بطالاً، ويقال له قيس، فيراسل الجزار لينضم إليه، وكان الجزار عند حضور الوزير انفصل حكمه عن دمشق ووجه ولايتها إلى عبد الله باشا العظم، فلما بلغ المترجم ذلك توجه إلى لقاء عبد الله باشا بالمعرة، فأكرمه عبد الله باشا وقلده دالي باشا كبيراً على جميع الخيالة حتى على آغاته ملا إسماعيل آغا، وأقام بدمشق مدة إلى أن حاصر عبد الله باشا مدينة طرابلس، فوصل إليه الخبر بأن عساكر الجزار استولوا على دمشق وبلادها، فركب عبد الله باشا وذهب إلى دمشق ودخلها بالسيف، ونصب عرضيه خارجها، فوصل خبر ذلك(1/1598)
إلى الجزار، فكاتب عساكر عبد الله باشا بتسليمهم، لأن معظمهم غرباء، فاتفقوا على خيانته والقبض عليه وتسليمه إلى الجزار، وعلم ذلك وتثبته فركب في بعض مماليكه وخاصته إلى المترجم، وهو إذ ذاك دالي باشا، وأعلمه الخبر وأنه يريد النجاة بنفسه، فركب بمن معه وأخرجه من بين العسكر قهراً عنهم
وأوصله إلى شول بغداد ذم ذهب على الهجن إلى بغداد، ورجع المترجم إلى حماة فقبل وصوله إليها ورد عليه مرسوم الجزار يستدعيه، فذهب إليه فجعله مقدم ألف، وقلده باش الجردة مسافر إلى الحجاز بالملاقاة، وكان أمير الحاج الشامي إذ ذاك سليمان باشا عوضاً عن مخدومه أحمد باشا الجزار، فلما حصلوا في نصف الطريق وصلهم خبر موت الجزار، فرجع يوسف باشا المترجم إلى الشام، واستولى إسماعيل باشا على عكا، وتوجه منصب ولاية الشام إلى إبراهيم باشا المعروف بقطر أغاسي، أي أغات البغال، وفي فرمان ولايته الأمر بقطع رأس إسماعيل باشا وضبط مال الجزار، فذهب المترجم بخيله وأتباعه إلى إبراهيم باشا وخدم عنده، وركب إلى عكا وحصروها، وحطوا في أرض الكرداني مسيرة ساعة من عكا، وكانت الحرب بينهم سجالاً، وعساكر إسماعيل باشا نحو العشرة آلاف، والمترجم يباشر الوقائع وكل وقعة يظهر فيها على الخصم، ففي يوم من الأيام لم يشعروا إلا وعسكر إسماعيل باشا نافذ إليهم من طريق أخرى، فركب المترجم وأخذ صحبته ثلاثة مدافع وتلاقى معهم، وقاتلهم وهزمهم إلى أن حصرهم بقرية تسمى دعوق، ثم أخرجهم بالأمان إلى وطاقه وأكرمهم، وعمل لهم ضيافة ثلاثة أيام، ثم أرسلهم إلى عكا بغير أمر الوزير، ثم توجه إبراهيم باشا إلى الدورة وصحبته المترجم، وتركوا سليمان باشا مكانهم، وخرج إسماعيل باشا من عكا وأغلقت أبوابها، فاتفقت عساكره وقبضوا عليه وسلموه إلى إبراهيم باشا، فعند ذلك برز(1/1599)
أمر إبراهيم باشا بتسليم عكا إلى سليمان باشا، وذهب بالمرسوم المترجم فأدخله إليها ورجع إلى مخدومه، وذهب معه إلى الدورة، ثم عاد معه إلى الشام، وورد الأمر بعزل إبراهيم باشا عن الشام وولاية عبد الله باشا المعروف بالعظم، على يد باشت بغداد، فخرج المترجم لملاقاته من على حلب، فقلده دالي باشا على جميع العسكر، فلما وصل إلى الشام ولاه على حوران وغربد والقنيطرة ليقبض أموالها، فأقام نحو السنة، ثم توجه صحبة الباشا مع الحج، وتلاقوا مع الوهابية في الجديدة فحاربهم المترجم وهزمهم، وحجوا واعتمروا ورجعوا، ومكثوا إلى السنة الثانية، فخرج عبد الله باشا بالحج وأبقى المترجم نائباً عنه بالشام، فلما وصل إلى المدينة المنورة منعه الوهابيون، ورجع من غير حج، ووصل خبر ذلك إلى الدولة فورد الأمر بعزل عبد الله باشا عن ولاية الشام وولاية المترجم على الشام وضواحيها، فارتاعت النواحي والعربان، وأقام السنة ولم يخرج بنفسه إلى الحج، بل أرسل ملا حسن عوضاً عنه، فمنع أيضاً عن الحج فلما كانت القابلة انفتح عليه أمر الدورة، وعصى عليه بعض البلاد، فخرج إليها وحاصر بلدة تسمى كردانية ووقع له فيها مشقة كبيرة إلى أن ملكها بالسيف، وقتل أهلها، ثم توجه إلى جبل نابلس وقهرهم وجبى منهم أموالاً عظيمة، ثم رجع إلى الشام واستقام أمره وحسنت سيرته، وسلك طريق العدل في الأحكام، وأقام الشريعة والسنة وأبطل البدع والمنكرات واستتاب الخواطئ وزوجهن، وطفق يفرق الصدقات على الفقراء وأهل العلم والغرباء وابن السبيل، وأمر بترك الإسراف في المآكل والملابس، وشاع خبر عدله في النواحي، ولكن ثقل ذلك على أهل البلاد بترك مألوفهم، ثم إنه ركب إلى بلاد النصيرية وقاتلهم وانتصر عليهم وسبى نساءهم(1/1600)
وأولادهم، وكان خيرهم بين الدخول في الإسلام والخروج من بلادهم، فامتنعوا وحاربوا وانخذلوا، وبيعت نساؤهم وأولادهم، فلما شاهدوا ذلك أظهروا الإسلام تقية، فعفا عنهم وعمل بظاهر الحديث وتركهم في البلاد، ورحل عنهم إلى طرابلس وحاصرها بسبب عصيان أميرها بربر باشا على الوزير، وأقام محاصراً لها عشرة أشهر حتى ملكها واستولى على قلعتها، ونهبت منها أموال للتجار وغيرهم، ثم ارتحل إلى دمشق وأقام بها مدة، فطرقه خبر الوهابية أنهم حضروا إلى المزيريب، فبادر مسرعاً وخرج إلى لقائهم، فلما وصل إلى المزيريب وجدهم قد ارتحلوا من غير قتال، فأقام هناك أياماً، فوصل إليه الخبر بأن سليمان باشا وصل إلى الشام وملكها، فعاد مسرعاً إلى الشام، وتلاقى مع عسكر سليمان باشا وتحارب العسكران إلى المساء، وبات كل منهم في محله، ففي نصف الليل في غفلتهم والمترجم نائم وعساكره أيضاً هامدة، فلم يشعروا إلا وعساكر سليمان باشا كبستهم، فحضر إليه كتخداه وأيقظه من منامه، وقال له إن لم تسرع وإلا قبضوا عليك، فقام في الحين وخرج
هارباً وصحبته ثلاثة أشخاص من مماليكه فقط، ونهبت أمواله وزالت عنه سيادته في ساعة واحدة، ولم يزل حتى وصل إلى حماة، فلم يتمكن من الدخول إليها ومنعه أهلها عنها، وطردوه فذهب إلى سيجر، وارتحل منها إلى بلدة يعمل بها البارود، ومنها إلى بلدة تسمى ريمة، ونزل عند سعيد آغا فأقام عنده ثلاثة أيام، ثم توجه إلى نواحي إنكاهية بصحبته جماعة من عند سعيد آغا المذكور، ثم إلى السويدة، ولم يبق معه سوى فرس واحد، ثم إنه أرسل إلى محمد علي باشا صاحب مصر واستأذنه في حضوره إلى مصر، فكاتبه بالحضور إليه والترحيب به، فوصل إلى مصر في التاريخ المذكور، فلاقاه صاحب مصر وأكرمه، وقدم إليه خيولاً وقماشاً ومالاً، وأنزله بدار واسعة بالأزبكية، ورتب له خروجاً زائدة من لحم وخبز وسمن وأرز وحطب، وجميع اللوازم المحتاج إليها، وأنعم عليه بجوائز وغير ذلك، وأقام بمصر هذه المدة، وأرسل في شأنه إلى الدولة، وقبلت شفاعة محمد علي باشا فيه ووصله العفو والرضا، ما عدا ولاية الشام، وحصلت فيه علة ذات الصدر، فكان يظهر به شبه السلعة مع الفواق بصوت يسمعه من يكون بعيداً عنه، ويذهب إليه جماعة من الحكماء من الإفرنج وغيرهم، ويطالع في كتب الطب مع بعض الطلبة من المجاورين، فلم ينجح فيه علاج، وانتقل إلى قصر الآثار بقصد تبديل الهواء، ولم يزل مقيماً هناك حتى اشتد به المرض، ومات في ليلة السبت العشرين من شهر ذي القعدة سنة ألف ومائتين وإحدى وثلاثين، وحملت جنازته من الآثار إلى القرافة من ناحية الخلاء، ودفن بالحوش الذي أنشأه الباشا وأعده لموتاه. وكانت مدة إقامته بمصر نحو الست سنوات، فسبحان الحي الذي لا يموت. وصحبته ثلاثة أشخاص من مماليكه فقط، ونهبت أمواله وزالت عنه سيادته في ساعة واحدة، ولم يزل حتى وصل إلى حماة، فلم يتمكن من الدخول إليها ومنعه أهلها عنها، وطردوه فذهب إلى سيجر، وارتحل منها إلى بلدة يعمل بها البارود، ومنها إلى بلدة تسمى ريمة، ونزل عند سعيد آغا فأقام عنده ثلاثة أيام، ثم توجه إلى نواحي إنكاهية بصحبته جماعة من عند سعيد آغا المذكور، ثم إلى السويدة، ولم يبق معه سوى فرس واحد، ثم إنه أرسل إلى محمد علي باشا صاحب مصر واستأذنه في حضوره إلى مصر، فكاتبه بالحضور إليه والترحيب به، فوصل إلى مصر في التاريخ المذكور، فلاقاه صاحب مصر وأكرمه، وقدم إليه خيولاً وقماشاً ومالاً، وأنزله بدار واسعة بالأزبكية، ورتب له خروجاً زائدة من لحم وخبز وسمن وأرز وحطب،(1/1601)
وجميع اللوازم المحتاج إليها، وأنعم عليه بجوائز وغير ذلك، وأقام بمصر هذه المدة، وأرسل في شأنه إلى الدولة، وقبلت شفاعة محمد علي باشا فيه ووصله العفو والرضا، ما عدا ولاية الشام، وحصلت فيه علة ذات الصدر، فكان يظهر به شبه السلعة مع الفواق بصوت يسمعه من يكون بعيداً عنه، ويذهب إليه جماعة من الحكماء من الإفرنج وغيرهم، ويطالع في كتب الطب مع بعض الطلبة من المجاورين، فلم ينجح فيه علاج، وانتقل إلى قصر الآثار بقصد تبديل الهواء، ولم يزل مقيماً هناك حتى اشتد به المرض، ومات في ليلة السبت العشرين من شهر ذي القعدة سنة ألف ومائتين وإحدى وثلاثين، وحملت جنازته من الآثار إلى القرافة من ناحية الخلاء، ودفن بالحوش الذي أنشأه الباشا وأعده لموتاه. وكانت مدة إقامته بمصر نحو الست سنوات، فسبحان الحي الذي لا يموت.
الشيخ يوسف بن بدر الدين المغربي بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن عبد الله بن عبد الملك بن عبد الغني المراكشي السبتي المالكي المصري مولداً الدمشقي إقامة
إمام لا يبارى وهمام في ميدان العلوم لا يجارى، قد اتصف بالعلم والعمل، ونال من مرغوبه فوق ما يتعلق به الأمل، ورقا فضله وفاق، واشتهر فضله في الآفاق، وكان ورعاً زاهداً تقياً عابداً، له شعر رقيق ونثر أنيق، ومحاضرة لطيفة، ومذاكرة ظريفة، وسيرة حسنة، وصفات مستحسنة، قرأ على السادة الأفاضل إلى أن جمع الفضائل، ومما اتفق له وكتب في صحيفته أن بعض الأروام القاطنين في دمشق الشام استولى على الدار التابعة لدار الحديث الأشرفية الواقعة في العصرونية ثم ضم إليها(1/1602)
الزاوية الغربية من المدرسة المرقومة التي كانت محل تدريس الإمام النووي قدس سره ومحل زاويته للأحاديث، فصارت محلاً لوضع براميل الخمر، فتعرض المترجم المرقوم وطلب إعادة المحل لحاله، ورفع الأمر إلى الوالي، فلم تلتفت الحكومة إلى دعواه، فتوجه المترجم إلى الأستانة وتعاطى أسباباً كثيرة لإنقاذ هذا المحل من أيدي الرومي، إلى أن استحصل فرماناً سلطانياً في ذلك، فعاد إلى الشام وقدمه إلى الوالي فطرحه في زوايا الإهمال، وبقي الأمر على ذلك، ولم يقع المترجم على ثمرة، إلى أن جاء الأمير السيد عبد القادر المغربي أمير الجزائر من فرانسا إلى الأستانة، اجتمع به المترجم وشكى الأمر إليه، ومشى مع الأمير في العود إلى الأستانة، بقصد الرحلة إلى المدينة الشريفة والإقامة بها، وبقي حضرة الأمير في بروسة بعد ذلك مدة طويلة، نحو خمس سنوات، ثم إنه لما توالت هناك الزلازل، وخربت كثيراً من المحلات، وخرجت الناس من العمران وسكنت في الصحراء، رحل الأمير إلى دمشق الشام وأقام بها، ورأى الأمر كما أخبره المترجم، فأخذته الحمية الدينية والغيرة الإسلامية، لإنقاذ هذا المحل، فأحضر الرومي ودفع له مالاً جزيلاً واشتراه منه، وجعله وقفاً على المترجم وعقبه، وأمر بترميم المسجد والمدرسة على نفقته، ثم أرسل خبراً إلى المترجم المرقوم إلى المدينة المنورة، وبعد حضوره من المدينة قرأ حضرة الأمير صحيح الإمام أبي عبد الله البخاري في المدرسة المرقومة، وكان ختامه في اليوم الرابع والعشرين من شوال سنة أربع وسبعين ومائتين وألف، وعند الختم قدم المترجم هذه القصيدة للأمير السيد عبد القادر:
بك المسرات قد نالت أمانيها ... يا نعمة ما لها شيء يدانيها
إن كان عيد الهنا تهنى بموسمه ... فالعيد كونك يا أقصى أمانيها(1/1603)
يا نجل فاطمة الزهراء من فضلت ... طراً نساء الدنا من ذا يضاهيها
إني أهنيك بالعيد المبارك بل ... بكون مثلك في الدنيا أهنيها
نعم أهني دمشق الشام إذ ظفرت ... بمثلك الآن تغدو في ضواحيها
لما بدا وجهك الأبهى بساحتها ... ترادف الخير فيها مع نواحيها
لا سيما سيدي ما كان مدخراً ... من فك دار حديث من خنا فيها
بك استنارت وأحيا الله مربعها ... لما تلوت البخاري وسط ناديها
تلاوة ما سمعنا من تلاه بها ... من عهد يحيى النواوي في مغانيها
فاشكر إلهك إذ ولاك منه يدا ... ليست لغيرك جل الله معطيها
وأبشر بخير فإن الله ذو كرم ... يخفي مقادير أشياء ويبديها
في علمه غيب أسرار إذا بلغت ... آجالها فلذا المخلوق يبديها
فالله يحبوكم عزاً كعزته ... أصحاب بدر الأولى ثم المضاهيها
لازلت يا نجل محيي الدين مرتقياً ... أوج الكمالات باديها وخافيها
ودام إشراقكم فيها ولكم ... بالبيت أرخت
وأجعل دعاء بظهر الغيب جائزتي ... ولا تعد لي الدنا إذ لست أبغيها
وللمترجم المرقوم هذه القصيدة الآتية، وقد أنشدها في ذلك اليوم عند ختم الصحيح بين يدي الأمير، فأحببت ذكرها لاشتمالها على فضل الممدوح حضرة الأمير، ودلالتها على فضل المترجم المذكور، وهي:
باب القبول لهذا الختم قد فتحا ... فلاح من يمنه برق السعود ضحى
وهب من روضة الرضوان عارفه ... أضحى بها القلب مسروراً ومنشرحاً
أما ترع السعد قد لاحت بشائره ... وطائر اليمن في أدواحه صدحاً
وهذه أوجه الإقبال مسفرة ... والوقت بالبشر والإقبال قد سمحا
فسل إلاهك ما ترجوه من أمل ... واضرع غليه فوجه القرب قد وضحا
وابسط يديك إلى مولاك مبتهلا ... فسعي من أم باب الله قد نجحا
إن البخاري معلوم الإجابة في ... ما أمه المرء في أقرانه ونحا(1/1604)
فما توسل محزون به ورجا ... إلا وأبدل من أحزانه فرحا
ولا تلاه لكشف الضر ذو حرج ... إلا تباعد عنه الضر وانفسحا
ولا تنفس من أنفاسه أرج ... إلا أتى فرج باللطف مفتتحا
فالهج به ورواة فيه قد وصلوا ... به حديث رسول الله متضحا
هم الأئمة تجلى كل داجية ... بنورهم وهم الأقطاب والصلحا
وهم أولو القرب في دنيا وآخرة ... والسادة القادة الهادون والنصحا
أهل الحديث حماة الدين تابعهم ... في متجر الحق والتحقيق قد ربحا
فازوا بدعوة خير الخلق ما وجدوا ... إلا ونور الهدى من وجههم لها
رووا حديث رسول الله عن كتب ... غضاً طرياً عليه الصدق متضحا
وقد نفوا كل شك عن شريعته ... فأرغموا أنف من للشك قد جمعا
جزاهم الله خيراً عن نبيهم ... ودينه وحباهم أجر من نصحا
وقد تسامى ابن إسماعيل في شرف ... بهم فنال العلا والفخر والمدحا
أدى إلينا صحيحاً من حديثهم ... بجامع فاق ترتيباً ومصطلحا
آتاه مولاه أجر المحسنين فقد ... أهدى المحدث عقداً ما له طمحا
قد اعتنى كل ذي دين وذي رشد ... به فحاز به التقديم والمنحا
ورددوا مرده في كل آونة ... يرجون من يمنه تقريب ما نزحا
وحاز قصب سباق في دراسته ... وفهمه عارف بالفضل قد رجحا
في مسجد الأشرف السلطان ما وسما ... دار الحديث بدرس أبهر الفصحا
ضبطاً وبحثاً مع الإتقان مقتضياً ... آثار من حلها من سادة صلحا
مثل الإمام النواوي والمضاهي له ... ممن على منهج الإرشاد قد سبحا
فالله ينفعنا فضلاً بجاههم ... ويكشف الكرب عن ذا الجمع والترحا
مولى به ملة الإسلام باسمة ... والدين عال وحال الناس قد صلحا
فكفه لذوي الحاجات بحر ندى ... وسيفه لضلال الكافرين محا(1/1605)
وصيته ألبس الإسلام عزته ... وعلمه لمعاني الدين قد شرحا
نور النبوة يبدو في أسرته ... وسرها من حلى أخلاقه وضحا
قد أكسب الدين رفعاً والعلوم حلا ... فالكفر أصبح والعصيان منطرحا
وعمر العمر بالطاعات مجتهدا ... في أشهر الخير للخيرات مقترحا
أدم إلهي لعز الدين عبدك من ... للقادر انضاف وامنحه العلا منحا
هو الإمام ابن محي الدين من ظهرت ... منه الكمالات في الدنيا كشمس ضحى
من قام لله في أمر الجهاد ومن ... غدا به صدر دين الله منشرحا
في عصرنا ما سمعنا من سواه حبى ... مثل الذي نال أو طرف كهو لمحا
أضحى له وزرا في كل نائبة ... تعرو وحصناً حصيناً كلما سنحا
وجاء للدرس والإملا جهابذة ... للبحث إن عد أو للفهم إن جنحا
قد لازموه ونالوا من معارفه ... ما يخرس اللسن أو ما يبهر الفصحا
فليهنأ الحاضرون نيل مقصدهم ... من الفوائد إن الباب قد فتحا
وليسأل القوم ما شاءوا لأنفسهم ... من فضله الجم إن الله قد منحا
والعلم أفضل ما ازدان اللبيب به ... وخير ما اغتبق النحرير واصطبحا
وأسعد الناس من كانت بضاعته ... علم الحديث الذي قد صح واتضحا
وأسند العلم أخذاً عن أئمته ... فنال من علية الإسناد ما اقترحا
وللبخاري رجال يستغاث بهم ... في المحل إن حل أو في الخطب إن قدحا
بجاههم أسأل الرحمن مغفرة ... ورحمة تذهب الأحزان والترحا
ونكبة لعدو الدين عاجلة ... تدير بالهلك والتدمير كل رحا
بك انتصرنا وأنت الله ناصرنا ... فالنصر منك لمن يدعوك ما برحا
إنزل بهم يا شديد البطش قارعة ... تكسوهم الذل والتبديد والبرحا
وامدد بنصرك والتأييد عبدك من ... أضفته للمجيد القدر ممتدحا(1/1606)
وانظم به شمل هذا الدين واكس به ... جماعة المسلمين الأمن والفرحا
واجعل بطاعته يا رب عصمتهم ... وألف الكل واهد كل من نزحا
وزده حلماً وتوفيقاً وعافية ... واجعله أفضل من أمسى ومن صبحا
وارفع عماد الهدى والدين واحم به ... شرع النبي وخذ من زاغ أو جمحا
واحفظ بطانته أركان دولته ... ممن أعان على خير ومن نصحا
ولا تدع لذوي العدوان قائمة ... وطهر الأرض ممن عاث أو مرحا
بخاتم الرسل المختار سيدنا ... محمد من به باب الهدى انفتحا
ما خاب من جعل المختار واسطة ... ووصلة للذي يرجوه واقترحا
فإنه باب فضل الله ما برحت ... سحائب الجود منه تمطر المنحا
ما نال ذو مطلب دنيا وآخرة ... إلا استعار من المختار ما منحا
صلى عليه إله العرش ما طلعت ... شمس وما سار عيس بالحجيج ضحى
والآل والصحب ما انجاب الظلام وما ... ورق على غصن أيك ناح أو صدحا
أو قال يوسف بدر الدين مبتهلا ... باب القبول لهذا الختم قد فتحا
وللمترجم قصائد شهيرة ومقاطيع كثيرة، وتأليفات بديعة، وكتابات رفيعة، وأسانيد عالية، وأساتذة ذوو رتبة سامية. وقد أجازني بجميع ما تجوز له روايته عن مشايخه العظام، وقادته الكرام، وقد انتفعت بفوائده، وارتضعت من ثدي عوائده، وأجازني أيضاً بسند عال، ينتهي فيه إلى القاضي شمهورش عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الالتفات إلي حسن الثناء علي، يذاكرني بمشكلات المسائل، ويعرض لي لأولى جواب أجلا الوسائل، وكان يطلب مني كثيراً قراءة حصة من القرآن، على طريقة التجويد والإتقان، وكان يحفظ القرآن الكريم المصون، وكثيراً من القواعد والمتون بأنواع الفنون، ويستشهد بها لإظهار الصواب،(1/1607)
ولا يسأل عن شيء إلا وبأحسن الأجوبة أجاب. وله شرح على مولد العلامة الدردير، لقد حمله من المعارف ما يحتاج إليه كل نحرير، وحضر في الجامع الأزهر، والمحل الأنور، على أفاضل سادة وجهابذة قادة، كالشيخ إبراهيم الباجوري، والشيخ محمد الأمير، وأمثالهما من كل همام خبير، وساح في كثير من الأقطار وأخذ عن علمائها الأخيار، حتى شهد له العموم بأنه قطب دائرة المنطوق والمفهوم. وكان له مع والدي محبة عظيمة، ومودة جسيمة، ومذاكرات تشهد لهما بالفضل والسيادة، ونصائح تدل على سلوكهما مناهج السعادة. وكان كثير التلاوة، ملازماً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم متمسكاً بالشريعة الغراء لا ينفك عن العمل بها إن فعل أو تكلم، متخلقاً بالأخلاق النبوية متحلياً بالشمائل الأحمدية، إن جلس في مجلس كان نقطة مدار كلامه، وواسطة عقد نظامه. مع ما عنده من الجسارة في إظهار الملائم، والديانة التي دعته أن لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان لا يهاب في الحق كبيرا، ولا يخشى حاكماً ولا وزيرا، فلذلك كان يهابه كل من رآه، ويتأمل منه الخير كل من رجاه، وقد كان منهل لكل وارد، وملجأ لكل راج وقاصد، ولم يزل على حاله متزايداً في تقواه وكماله، مستقيماً على أطواره متحلياً بأجمل أوطاره، إلى أن دعاه المنون لمقامه الأجل المصون، فلبى الدعوة العليا واختار الآخرة على الدنيا، سنة تسع وسبعين ومائتين وألف ودفن في تربة باب الصغير.
الشيخ يوسف بن الشيخ عمر البشتاوي النابلسي محتداً الدمشقي وطنا النقشبندي طريقة
فاضل نجيب وعالم أريب، وغصن في رياض المعالي رطيب، وبدر في سماء الأدب لا يغيب. لم يزل صدراً للإفادة، يرعى في ربيع فضله ذوو الاستفادة، وله نظم ونثر تنقله الركبان، وتقف دونه سوابق الحسن(1/1608)
والاستحسان، قد ألقى الدهر له مقاليد الإسعاد، وجعل من جملة مريديه الحاج محمد نجيب باشا والي بغداد، واطلع محيا بدره في أفق الجلالة والتعظيم، وخفض له جناح ذوي الفضل والتكريم، ومن جملة نظمه مستغيثاً بسيدنا يحيى الحصور صلى الله عليه وسلم:
باكر مصل بني أمية في الدجا ... واعطف على كنز السماح معرجا
وارقب مهب الجود من أعتابه ... والزم لذياك المقام أخا الحجا
يمم وقف متضرعاً بجنابه ... وابسط أكف الفقر في باب الرجا
وادعوه يا يحيى الحصور وقل له ... عطفاً على جان إليك قد التجا
يا سيداً وصف الإله كماله ... في محكم التنزيل أضحى مدرجا
ذو الجاه يرجى في الخطوب ولم يزل ... عند الشدائد مسعفاً ومفرجا
إني رجوتك حاجة فاشفع بها ... عند الكريم ومن رجاك فقد نجا
عجل بها يا ابن الكرام أجب أجب ... فالأمر ألجأ للجاج وأحوجا
سل خالقي فيما رجوت إجابة ... واسأله لي من كل ضيق مخرجا
صلى عليك الله ربي دائماً ... ما البدر أشرق فاستنار به الدجا
ومن نظمه:
زر والديك وقف على قبريهما ... فكأنني بك قد حملت إليهما
لو كنت حيث هما وكانا بالبقا ... زاراك حبواً لا على قدميهما
ما كان ذنبهما إليك فطالما ... منحاك نفس الود من نفسيهما
كانا إذا ما أبصرا بك علة ... جزعا لما تشكو وشق عليهما
كانا إذا سمعا أنينك أسبلا ... دمعيهما أسفاً على خديهما
وتمنيا لو صادفا لك راحة ... بجميع ما تحويه ملك يديهما(1/1609)
فنسيت حقهما عشية أسكنا ... دار البلا وسكنت في داريهما
فلتلحقنهما غداً أو بعده ... حتماً كما لحقا هما أبويهما
ولتندمن على فعالك مثل ما ... ندما هما حقاً على فعليهما
بشراك لو قدمت فعلاً صالحاً ... وقضيت بعض الحق من حقيهما
وقرأت من آي الكتاب بقدر ما ... تسطيعه وبعثت ذاك إليهما
فاحفظ حفظت وصيتي واعمل بها ... فعسى تنال الفوز من بريهما
وله نثر بديع وإنشاء قدره رفيع، توفي رحمه الله تعالى في ثامن ذي الحجة الحرام سنة ثلاث وستين ومائتين وألف من هجرة سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام، مدى الليالي والأيام.
الشيخ يوسف بن محمد البطاح الأهدل الشافعي
العلامة الماجد، والتقي النقي الراكع الساجد، نخبة العلماء وزبدة الفضلاء، ولد سنة ألف ومائة و.....ثم بعد حفظ القرآن وتجويده مع الإتقان أخذ العلوم العقلية، والمعارف النقلية، عن السيد العلامة والسند الفهامة، سليمان بن يحيى الأهدل، ولازمه كثيراً وكان لعمري بالملازمة جديرا، وأخذ عن أهل اليمن والحرمين الشريفين، وكانت له اليد الكولى في كل علم بلا ريب ولا مين. وتفرغ بمكة والمدينة تفرغاً عظيماً لنشر العلوم، وبرع وفاق على ذوي المنطوق والمفهوم، وألف ودرس ووقع به النفع العام، ومن مؤلفاته: إفهام الأفهام شرح بلوغ المرام في مجلدين، وكان رحب الصدر لين الجانب، له في الدرس صبر عظيم وتقدير يزدري بالدر النظيم، وقد قال فيه صاحب النفس اليماني:
العالم الفاضل النحرير أفضل من ... بث العلوم فأروى كل ظمآن
مات شهيداً في الوباء العام الواقع سنة ألف ومائتين وست وأربعين الذي مات فيه خلائق لا يحصون عدداً من الحجاج، حيث انتهى الأمر إلى العجز(1/1610)
عن دفن الأموات، وخلت في تلك السنة بيوت كثيرة في جدة ومكة من أهاليها بحيث لم يبق فيها أحد، وتركت أموال عظيمة لا يدري من يستحقها من الورثة، وكان ابتداء هذا الوباء من أرض الحبشة فكان يموت كل يوم أكثر من ألف، وخلا كثير من القرى بحيث لم يبق فيها إلا المواشي والأموال، ولا يزال ينتقل هذا الوباء في النواحي والأقطار، والقرى والأمصار، حتى عم البلاد الشامية والمصرية، والتركية والعربية، وكان تاريخ هذا العام لنهلكن الظالمين، ومن الذي لم يظلم نفسه، نسأل الله العفو والعافية والسلامة الوافرة السامية، ودفن ذلك المترجم في مكة في مقبرة المعلى رحمه الله تعالى آمين.
الشيخ يوسف بن محمد بن علاء الدين المزجاجي الزبيدي الحنفي رحمه الله تعالى
قد انكب على العلم واجتهد، حتى تميز بين العلماء وانفرد، واقد ترجمه العلامة الشوكاني بقوله: شيخنا المسند الحافظ، ولد تقريباً عام ألف ومائة وأربعة عشر ونشأ بزبيد، وأخذ عن علمائها، ومنهم والده، وبرع في العلوم دراية ورواية إلى أن صار حامل لواء الإسناد في آخر أيامه، ووفد إلى صنعاء في شهر ذي الحجة سنة ألف ومائتين وسبع، وسمع منه العدد الكثير والجم الغفير. وقد رووا عنه أسانيد الحافظ الشيخ إبراهيم الكردي، وهو يرويها عن أبيه عن جده علاء الدين، عن الشيخ إبراهيم. مات رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وثلاث عشرة، وكان رحمه الله تعالى له حب لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويقول عند ذكر حبه لهم:
وهل يستوي ود المقلد والذي ... له حجة في حبه ودلائل(1/1611)
يوسف بن إسماعيل أبي يوسف
بن إسماعيل بن محمد ناصر الدين النبهاني نسبة لبني نبهان قوم من عرب البادية توطنوا منذ أزمان قرية أجزم بصيغة الأمر الواقعة في الجانب الشمالي من أرض فلسطين من البلاد المقدسة، وهي الآن تابعة لقضاء حيفا من أعمال عكا التابعة لولاية بيروت أقول أن هذا الإمام، والشهم الأديب الهمام، قد طلعت فضائل محاسنه طلوع النجوم الزواهر، وسعدت مطالع شمائله بآدابه المعجبة البواهر، فهو الألمعي المشهود له بقوة الإدراك، واللوذعي المستوي مقامه على ذروة الأفلاك، وله ذكاء أحد من السيف إذا تجرد من قرابه، وفكر إذا أراد البحر أن يحكيه وقع في اضطرابه، ونثر يزري بالعقد الثمين والدر المنثور، وشعر يدل على كمال الإدراك وتمام الشعور، فهو فارس ميدان اليراع والصفاح، وصاحب الرماح الخطية والأقلام الفصاح، فلعمري لقد أصبح في الفضل وحيداً، ولن تجد عنه النباهة محيصاً ولا محيدا، وناهيك بمحاسن قلدها، ومناقب أثبتها وخلدها، إذا تليت في المجامع، اهتزت لها الأعطاف وتشنفت المسامع. ومن جملة آثاره، الدالة على علوه وفخاره، تآليفه الشريفة، التي من جملتها أفضل الصلوات، على سيد السادات، ووسائل الوصول، إلى شمائل الرسول، والشرف المؤبد لآل محمد، صلى الله عليه وسلم وقد اطلعت على هذا الكتاب، فوجدته قد ارتدى بالكمال وتمنطق بالصواب، وقد اشتمل آخره على شذرة من ترجمة هذا الهمام، قد ترجم بها نفسه فنقلتها بحروفها تتميماً للمرام.(1/1612)
وهي: ولدت في قرية أجزم المذكورة آنفاً سنة خمس وستين تقريباً، وقرأت القرآن على سيدي ووالدي الشيخ الصالح الحافظ المتقن لكتاب الله الشيخ إسماعيل النبهاني، وهو الآن في عشر الثمانين كامل الحواس قوي البينة جيد الصحة، مستغرق أكثر أوقاته في طاعة الله تعالى، كان ورده في كل يوم وليلة ثلث القرآن، ثم صار يختم في كل أسبوع ثلاث ختمات، والحمد لله على ذلك، " قل بفضل وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون " ثم أرسلني حفظه الله وجزاه عني أحسن الجزاء إلى مصر لطلب العلم، فدخلت الجامع الأزهر يوم السبت غرة محرم الحرام افتتاح سنة ثلاث وثمانين بعد المائتين والألف، وأقمت فيه إلى رجب سنة تسع وثمانين، وفي هذه المدة أخذت ما قدره الله لي من العلوم الشرعية ووسائلها، عن أساتذة الشيوخ المحققين، وجهابذة العلماء الراسخين، من لو انفرد كل واحد منهم في إقليم، لكان قائد أهله إلى جنة النعيم، وكفاهم عن كل ما عداه في جميع العلوم، وما يحتاجون إليه من منطوق ومفهوم، أحدهم، بل أوحدهم، الأستاذ العلامة المحقق، والملاذ الفهامة المدقق، شيخ المشايخ وأستاذ الأساتذة سيدي الشيخ إبراهيم السقا الشافعي المتوفى سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين عن نحو التسعين سنة، وقد قضى هذا العمر المبارك الطويل في قراءة الدروس، حتى صار أكثر علماء العصر تلاميذه إما بالذات أو بالواسطة، لازمت دروسه رحمه الله تعالى ثلاث سنوات، وقرأت عليه شرحي التحرير والمنهج لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري بحاشيتهما للشرقاوي والبجيرمي، وقد أجازني رحمه الله تعالى بإجازة فائقة وهي هذه بحروفها.
بسم الله الرحمن الرحيم لك الحمد على مرسل آلائك ومرفوعها، ولك الشكر على مسلسل نعمائك وموضوعها، بحسن الإنشاء وصحيح الخبر،(1/1613)
يا من تجيز من استجازك وافر الهبات، وتجير من استجارك واعر العقبات، فيغدو موقوفاً على مطالعة الأثر، ما بين مؤتلف الفضل ومتفقه، ومختلف العدل ومفترقه، جيد الفكر سليم الفطر، يجتنى بمنتج قياسه شريف الفوائد، ويجتبى بمبهج اقتباسه شريف الفرائد. ويحلى نفيس النفوس بعقود العقائد الغرر، فإن صادفه مديد الإمداد، وصادقه مزيد الإنجاد، وصفا مشربه الهني ولا كدر، ووجد درر الجواهر ويا نعم الوجادة، بادر عند ذلك بالاستفادة والإفادة، ولا أشر ولا بطر، فبذل المعروف وبدل المنكر، إذ ليس عنده إلا صحاح الجوهر، معتنى وما قتنى، غيرها عندما عثر، لا يزور ولا يدلس، ويطهر ولا يدنس، ولا يعاني الشرر، فيا من من على هذا المنقطع الغريب، ومنحه منحة المتصل القريب، امنحني السلامة في داره ونجني من سقر، ومنك موصول صلات صلواتك ومقطوعها، وسلسل سلسبيل تسليماتك ومجموعها، على سندنا وسيدنا محمد سيد نوع البشر، وعلى آله وأصحابه، وحملة شريعته وأحبابه، ومن اقتفى أثرهم وعلى جهاد نفسه صبر.
أما بعد فلما كان الإسناد مزية عالية، وخصوصية لهذه الأمة غالية، درن الأمم الخالية اعتنى بطلبه الأئمة النبلاء أصحاب النظر، إذ الدعي غير المنسوب، والقصي غير المحسوب، وسليم البصيرة غير أعشى الفكر، ولما كان منهم الإمام الفاضل، والهمام الكامل، والجهبذ الأبر، اللوذعي الأريب، والألمعي الأديب، ولدنا الشيخ يوسف بن الشيخ إسماعيل النبهاني الشافعي أيده الله بالمعارف ونصر، طلب مني إجازة ليتصل بسند ساداتي سنده، ولا ينفصل عن مددهم مدده، وينتظم في سلك قد فاق غيره وبهر، فأجبته وإن لم أكن لذلك أهلاً، رجاء أن يفشو العلم وأنال من الله فضلاً، وأنجو في القيامة مما للكاتمين من الضرر، فقلت: أجزت(1/1614)
ولدي المذكور بما تجوز لي روايته، أو تصح عني درايته، من كل حديث وأثر، ومن فروع وأصول، ومنقول ومعقول، وفنون اللطائف والعبر، كما أخذته عن الأفاضل السادة، الأكابر القادة، مسددي العزائم في استخراج الدرر، منهم أستاذنا العلامة ولي الله المقرب، وملاذنا الفهامة الكبير ثعيلب، بوأه الله أسنى مقر، عن شيخه الشهاب أحمد الملوي ذي التآليف المفيدة، وعن شيخه أحمد الجوهري الخالدي صاحب التصانيف الفريدة، عن شيخهما عبد الله بن سالم صاحب الثبت الذي اشتهر، ومنهم شيخنا محمد بن محمود الجزائري عن شيخه علي بن عبد القادر بن الأمين، عن شيخه أحمد الجوهري المذكور الموصوف بالعرفان والتمكين، عن شيخه عبد الله بن سالم الذي ذكره غبر، ومنهم الشيخ محمد صالح البخاري، عن شيخه رفيع الدين القندهاري، عن الشريف الإدريسي عن عبد الله بن سالم راوي أحاديث الأبر، ومنهم سيدي محمد الأمير، عن والده الشيخ الكبير، عن أشياخه الذين حوى ذكرهم ثبته الشهير، ومنهم غير هؤلاء، رحم الله الجميع ولي وللمجاز ولهم أكرم وغفر، وهؤلاء وغيرهم يروون عن جم غفير، وجمع كثير، كالشيخ الحفني والشيخ علي الصعيدي وغيرهما فمسانيدهم مسانيدي فما أكرمها من نسبة وأبر، وقد سمع مني المجاز كتباً عديدة، معتبرة مفيدة، كالتحرير والمنهج، وفقه الله لمحاسن ما به أمر، آمين، بجاه طه الأمين، في 18 رجب سنة ألف ومائتين وتسع وثمانين هجرية.
الفقير إليه سبحانه إبراهيم السقا الشافعي بالأزهر عفي عنه. ومن أشياخي المذكورين سيدي الشيخ المعمر العلامة السيد محمد الدمنهوري الشافعي المتوفى سنة ألف ومائتين وست وثمانين عن نحو التسعين سنة، وسيدي العلامة الشيخ إبراهيم الزرو الخليلي الشافعي المتوفى سنة ألف ومائتين وسبع وثمانين(1/1615)
عن نحو السبعين، وسيدي العلامة الشيخ أحمد الأجهوري الضرير الشافعي المتوفى سنة ألف ومائتين وثلاث وتسعين عن نحو الستين، وسيدي العلامة الشيخ حسن العدوي المالكي المتوفى سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين عن نحو الثمانين، وسيدي العلامة الشيخ السيد عبد الهادي نجا الأبياري المتوفى سنة ألف وثلاثمائة وخمس وقد أناف على السبعين، رحمهم الله أجمعين، وجمعني بهم في مستقر رحمته بجاه سيد المرسلين. ومنهم وحيد مصر وفريد هذا العصر سيدي العلامة الشيخ شمس الدين محمد الأنبابي الشافعي شيخ جامع الأزهر الآن، لازمت دروسه سنتين في شرح الغاية لابن قاسم والخطيب وفي غيرهما، وسيدي العلامة الشيخ عبد الرحمن الشربيني الشافعي، وسيدي العلامة الشيخ عبد القادر الرافعي الحنفي الطرابلسي شيخ رواق الشوام، وسيدي العلامة الشيخ يوسف البرقاوي الحنبلي شيخ رواق الحنابلة حفظهم الله، وأطال أعمارهم وأدام النفع بعلومهم. ولي شيوخ غيرهم، منهم من هو موجود الآن، ومنهم من قد دخل في خبر كان، وكلهم علماء أعلام، جزاهم الله عني خيراً وجمعني بهم في دار الكرامة والسلام.
الشيخ يوسف بن عبد القادر بن محمد المشهور بالأسير
شيخ فاضل، وعالم كامل، ذو أسلوب حسن، وبلاغة ولسن، وقريحة جيدة، وفكرة لما تبديه مجودة، قد سار ذكره مسير المثل، واشتهر أمره اشتهار الأثل، وانتفع به عدد وافر، وأذعن بفضله أعيان الأكابر، ولد في مدينة صيدا في حدود سنة ألف ومائتين واثنتين وثلاثين، وتعلم القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، على الشيخ إبراهيم عارفة، وجوده على الشيخ علي الديربي، ثم شرع في طلب العلم، فقرأ على الشيخ محمد الشرنبالي نحو خمس سنين، ثم توجه إلى دمشق الشام، فحضر على أعيان علمائها الأعلام،(1/1616)
وأقام في المدرسة المرادية ستة أشهر، وذلك سنة سبع وأربعين بعد المائتين وألف، ثم بلغه وفاة والده فعاد إلى وطنه وبلده، وأقام بها نحو ثلاث سنين يتعاطى التجارة في مكان أبيه، ويربي إخوته مع عدم تركه لطلب العلم، ثم توجه إلى الأزهر الشريف فأقام به سبع سنين، وقرأ فيه على جملة من العلماء الأعلام، منهم الشيخ محمد الشبيني والشيخ محمد الطنتدائي والشيخ محمد الدمنهوري والشيخ إبراهيم الباجوري والشيخ أحمد الدمياطي وغيرهم، ثم عاد إلى بلده صيدا وقرأ بها الفقه للعموم، ثم توجه إلى طرابلس الشام وأقام بها نحو ثلاث سنين، فحضر عليه بها جماعة من أفاضلها، ثم تقلد القضاء في لبنان نحو سبع سنين، ثم صار معاوناً لقاضي بيروت، ولم يزل يتعاطى التدريس للعموم والخصوص، وقد ألف جملة من الكتب، منها رائض الفرائض، ومنها شرح أطواق الذهب، وغيرهما، ومن نظمه:
لطيبة الغراء ذات النور ... سر بي أسر
فإن بي لتربها الكافور ... شوقاً أسر
أبقى إذا ما لاح للبرق ابتسام ... من نحوها أو فاح لي عرف انتسام
أو مر بي ذكر لتلك الدرو ... كالمحتضر
قد جد بي وجدي وأغراني الغرام ... إلى مقام المصطفى خير الأنام
من جاء كالمصباح في الديجور ... يهدي البشر
وقام يسعى في صلاح المهتدين ... ثم انتحى للماردين المعتدين
مثل انتحاء الباز للعصفور ... حتى قهر
وجاء للخلق بقرآن مجيد ... في الدين والدنيا بلا شك مفيد
ألفاظه كاللؤلؤ المنثور ... فصح غرر
حلو المعاني لذة للسامعين ... يا حبذا هاد إلى الحق المبين
به انمحت آثار كل زور ... لما ظهر(1/1617)
كم من براهين على صدق الرسول ... فيه وكم داع لأرباب العقول
إلى الهدى والعمل المبرور ... وكم عبر
محمد رسول رب العالمين ... بر رؤوف راحم بالمؤمنين
وقد غزا بجيشه المنصور ... من قد كفر
وعنه قد أخبرنا موسى الكليم ... بأنه رسول مولانا الكريم
وخط في كتابه المسفور ... هذا الخبر
كذاك روح الله عيسى عنه قال ... بأنه ليس لشرعه زوال
وذاك في إنجيله المسطور ... قد انسطر
يا ربنا احشرنا جميعاً آمنين ... ومن نحب من خيار المسلمين
تحت لواء عزه المنشود ... يوم الحذر
عليه من رب الصلاة والسلام ... وآله وصحبه الغر الكرام
ما انتظم الورد مع المنثور ... غب المطر
وغرد القمري مع الشحرور ... فوق الشجر
ومن موشحاته التي عارض بها الأندلسيين قوله:
يا بريقاً من ربى نجد بدا ... حي عني حي ذاك الوطن
لست أنسى حسن أنس أبدا ... كان كالعروس بذاك المسكن
دور
شهد الله شجاني ذكره ... لأريج جاء من أرجائه
فعلي اليوم حقاً شكره ... والثنا مني على أثنائه
لا تلم صبا تبدى سكره ... إن تلا الأنباء عن أبنائه
هم بدور الدور أرباب الندى ... وأولو الحسن وأهل اللسن
سكنوا الوادي دهراً فغدا ... كسما الدنيا كذا في حضن
دور(1/1618)
بينهم لي فرقد قد أشرقا ... ورعى مني الحشا لا ذممي
يتهادى بين غزلان النقا ... كتهادي البدر بين الأنجم
مفرد العصر جمالاً مطلقا ... فلذا أسري إليه ينتمي
منجد لكنه ما أنجدا ... متهما في وصله من شجن
مخلف وعد وصالي سرمدا ... وإذا أوعدني لم يخن
دور
يا له ظبياً بعقلي لعبا ... طلق الوجه وقيد الناظر
فاق إن قيس ببلقيس سبا ... مع سنا بحسن باهر
نونه أبدى سبيلاً عجبا ... صيده الصيد بجفن فاتر
ومن الشام له خال شدا ... بلبلاً في مصر حسن الحسن
ومن الحور له القلب فدا ... طرفه الهندي اليماني اليزني
دور
كنز در ثغره قد حرسا ... بارق رطب أنيق منتظم
عجباً كيف به قد غرسا ... في عقيق وبياقوت ختم
يا حريقي لو أسا مني الأسى ... برحيق فيه بالريق وسم
كنت أروي القلب من حر الصدى ... وأرى طرفي لذيذ الوسن
وأصوغ الشعر شفعا مفردا ... في حلى الشهم الزكي الفطن
دور(1/1619)
هو ذو الفضل سليم سلما ... من عدو وظلوم وحسود
طلب العلم فأمسى حلما ... فيه وازداد ارتقاء في السعود
وهو من قوم فخام كرما ... زانهم مجد وأفضال وجود
فهو في تلك المزيات اقتدى ... بأبيه ذي العلا عبد الغني
من لأهل الفقر أضحى سنداً ... ودواماً عنده الفضل عني
دور
باسم شهر الصوم في القوم اشتهر ... وهو ذو فضل على باقي السنه
وهو في الأعيان ذاك المعتبر ... مدحته في الصدور الألسنه
ذو أياد بهرت جود المطر ... وهو في تلك الوجوه الحسنه
كعبة للجود ركن للجدا ... محمل المدح لكل الألسن
فهو في عصر سعيد وجدا ... ثم لا زال بطول الزمن
دور
ملتقى الأبحر تلقى داره ... وبها المجد ينادي بالفصيح
أبشروا بالسعد يا أقماره ... واهنأوا بالمنزل العالي الفسيح
وتلا بشر بها آثاره ... وبها رونقه زاه صريح
فهي صرح بالمعالي مردا ... والمعالي وعلى التقوى بني
مد باليمن وفيه شيدا ... قصرها دام بذاك المأمن
دور
وبنوا بانيه أبناء العلا ... كنجوم في سماء بل بدور
قصروا الجهد على نيل العلا ... فاستطالوا وسواهم في قصور
واستووا في أوجها حيث علا ... وعلى الأوجه منهم كل نور(1/1620)
عندهم سوق المعالي والهدى ... نافق والكل بالعلم غني
فهم الغر الكرام السعدا ... والثنا منهم عليهم ينثني
دور
لسليم الطبع أهدي جملا ... ذاك من حلفي ويا نعم الرفيق
هو ممدوحي لدى كل الملا ... وهو حقا كامل حر رقيق
فهو لا زال كريماً مفضلاً ... لذوي الحب ومسرور الصديق
فأهنيه وأهدي منشدا ... بهداء شاديا في العلن
فهنيئاً تم تاريخ بدا ... جليت شمس إلى البدر السني
وله نظم كثير، ونثر بديع شهير، وقد نعاه الناعي ليلة السبت خامس ربيع الثاني سنة سبع وثلاثمائة وألف، فندبه كماله وفضله، وبكاه العلم وأهله، وحزن له البعيد والقريب، وأسف لفقده النسيب والغريب، وانفتح للتعازي والمراثي باب المقال، وانفسح للنوادب في تعداد محاسنه المجال، وعظم الكرب والهم، واشتد الخطب والغم، وقد ألبس الحزن بلدته لباس البوس، ووجه نحوها وجهه العبوس، وفي صباح ذلك اليوم حشر الناس لحضور مناحته، وشهود تشييع جنازته، وبعد تجهيزه والصلاة عليه وتوجيه أعالي الدعوات إليه، سار الناس بنعشه والنوح يحدوه، وصياح اللوعة لا يعدوه، إلى أن دفنوه، في مقبرة البشورة، ولا غرو فإنهم فقدوا من بلدهم فاضلاً عالماً عاملاً كاملاً، كان خير جليس مفيد، وملجأ للمتعلم والمستفيد، وما أحسن ما قيل من بديع الأقاويل:
إلا إنما الدنيا نظارة أيكة ... إذا اخضر منها جانب جف جانب
هي الدار ما الآمال إلا فجائع ... عليها ولا اللذات إلا مصائب
فلا تكتحل عيناك فيها بعبرة ... على ذاهب منها فإنك ذاهب(1/1621)
مستدركات
بيان وإيضاح
يقول الضعيف محمد بهجة البيطار: كان استعار مني الشيخان الجليلان محمد راغب الطباخ - مؤلف تاريخ حلب - ومحمد جميل الشطي مؤلف روض البشر - استعارا مني تاريخ الأستاذ الجد حلية البشر ونقلا منه ما فاتهما في تاريخيهما معزواً إلى المؤلف، رحمهم الله تعالى وأثابهم على عملهم خير الثواب.
وأرى الآن أن أنقل ملاحظة للأستاذ الشطي كان كتبها بخطه، وهي محفوظة عندي، وأجيب عنها بما هو واضح للقراء. قال رحمه الله تعالى: يستغرب من أستاذنا المؤلف أنه لم يترجم شقيقه العلامة الفقيه الشيخ محمد البيطار، مع أنه ترجم ولده الشيخ محمود البيطار، فلا عجب إذا لم يترجم صديقيه العالمين
الشيخ محمد الشطي والشيخ أحمد الشطي، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، آمين اه والجواب عن هذا الاستغراب، ما نشرته في مقدمة الكتاب، وهو أن مؤلفه رحمه الله تعالى ورضي عنه، قد كتبه في أدوار متفرقة من أيام شبابه وكهولته وشيخوخته، ثم ترك الكتابة والتصحيح فيه قبل وفاته بأكثر من عشر سنوات، لما أضر بيده اليمنى من الأسى والشلل القليل، إلى أن توفاه الله تعالى سنة 1335 هـ. غير أنك تجد في حلية البشر من الفوائد ما لا تجده في غيره، وقد اعتذرت عن المؤلف في كل ما يظهر فيه مجال للنظر أو موضع للنقد، بنحو ما تقدم من ضرورات ألجأته إلى ترك الكتابة. على أني استدركت بعض ما فات المؤلف أو سها عنه،(1/1622)
ومنه الترجمة لشقيقه الأكبر الشيخ محمد، فقد أوردتها في آخر من اسمه محمد من حرف الميم، وإني مورد هنا ما كتبه صديقنا الأعز الشيخ محمد جميل الشطي في تاريخه لصديقي المؤلف الشيخين محمد وأحمد الشطي، رحم الله الجميع رحمة واسعة.
قال في تراجم أعيان دمشق في نصف القرن الرابع عشر الهجري ما نصه:
الشيخ محمد الشطي
ترجمه ولده سيدي لعم مراد أفندي فقال ما خلاصته: هو محمد بن حسن بن عمر بن معروف الشطي الحنبلي الدمشقي، العالم الفاضل الفقيه الفرضي الحيسوبي الهمام، كان من أعيان العلماء سخياً ودوداً حسن العشرة. ولد بدمشق في 10 جمادى الثانية سنة 1248، ونشأ في حجر والده العلامة، وقرأ القرآن وجوده وحفظه على الشيخ مصطفى التلي، ولازم دروس والده توحيداً وفقهاً وفرائض وحساباً ونحواً وصرفاً وغير ذلك، وبه تخرج وانتفع، واستجاز له والده المنوه به من أئمة دمشق وقتئذ الشيخ سعيد الحلبي والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ حامد العطار والشيخ عبد الرحمن الطيبي ونزيل دمشق الشيخ محمد التميمي، فأجازوه، وروى عنهم حديث الأولية، ولازم بعد وفاة والده سنة 1274 هـ الشيخ عبد الله الحلبي فحضر عليه طرفاً من الحديث والفقه والنحو، ولما ورد إلى دمشق الشيخ محمد أكرم الأفغاني، لازمه مدة في علم الفلك وغيره، وكتب له إجازة عامة.
وقد عني المترجم بالتأليف والجمع، فألف وجمع كتباً ورسائل جمة. منها في الفرائض رسالة الفتح المبين طبعت بدمشق سنة 313 ثم أعيد طبعها سنة 353 وكتاب صحائف الرائض، وقد جعل في كل صفيحة منه بحثاً خاصاً. ومنها في الهندسة بسط الراحة لتناول المساحة، اختصره من كتاب والده، وذيله بخريطة فيها رسم الأشكال الهندسية، مع بيان(1/1623)
مساحتها بالأرقام، مطبوعة، وكان أرسلها إلى الأستانة، فأصدرت نظارة المعارف أمرها بطبعها ومكافأته عليها، وذلك سنة 292، ومنها في الفقه: توفيق المواد النظامية لأحكام الشريعة المحمدية، نحو مائتي مادة، طبعت في مصر سنة 325 وتسهيل الأحكام فيما يحتاج إليه الحكام، نحو ألف مادة، والقواعد الحنبلية في التصرفات العقارية مطبوعة ومنها شرح على الدور الأعلى للشيخ الأكبر، وشجرة في النحو على طريقة الإظهار واختصر منسك والده ومعراجه مطبوع وجمع دفتراً كبيراً في تقسيم مياه دمشق وبيان أسهمها المترية، وله غير ذلك.
وكان يميل إلى إحياء المذاهب المندرسة ونشرها، وله إطلاع واسع على أقوال المجتهدين، حتى إن العلامة محمود أفندي الحمزاوي مفتي دمشق كان طلب منه جمع مسائل الإمام داود الظاهري، فجمع رسالة في ذلك قدمها إليه في أيام يسيرة، طبعت بدمشق سنة 1330. ثم ذكر وظائفه وأعماله مرتبة على السنين، وكانت وفاته سنة 1307، ودفن في مقبرة الذهبية بمشهد عظيم انتهى.
قال: وقد ترجمه الأستاذ القاسمي في تاريخه المخطوط، والسيد تقي الدين في تاريخه المطبوع، رحمه الله وجزاه عنا خيراً، قال: وأعقب صاحب الترجمة أولاده الأربعة والدي العالم الفرضي عمر أفندي المتوفى سنة 337، والتقي معروف أفندي المتوفى سنة 317 والمتفنن مراد أفندي المتوفى سنة 314 والقاضي المتقاعد الشيخ حسن أفندي الباقي الآن سلمه الله اه. توفي الشيخ حسن في 28 جمادى الأولى سنة 1382 هـ 26 ت الأول 1962 رحمه الله تعالى.(1/1624)
الشيخ أحمد الشطي
هو أحمد بن حسن بن عمر الشطي الدمشقي، مفتني الحنابلة بدمشق، وأحد علمائها الأعلام، المحدث الفقيه الفرضي الحيسوبي. أستاذي وعم والدي. ولد في 24 صفر سنة 1251، ونشأ في حجر والده العلامة على أكمل تربية وأحسن أدب. وقد قرأ القرآن وجوده وحفظه على الشيخ مصطفى التلي، ثم لازم دروس والده من حديث وفقه وفرائض وحساب وهندسة ونحو وغير ذلك، وبه انتفع وتخرج، واستجاز له والده المنوه به من علماء دمشق وقتئذ: الكزبري والعطار والحلبي والطيبي والتميمي نزيل دمشق، فأجازوه، وروى عنهم حديث الرحمة بأولية حقيقية، واستجاز كلاً من الشيخ أحمد البغال والشيخ قاسم الحلاق فأجازاه، ولازم بعد وفاة والده الشيخ عبد الله الحلبي وحضر دروسه. ولما توفي والده سنة 274 قدم للتدريس في مكانه، فدرس في محراب الحنابلة من الجامع الأموي في محفل عظيم، واستمر يدرس به في رمضان إلى وفاته - وأما دروسه الخاصة في داره فكانت شائقة جداً، بحيث يجتمع عنده كثير من الطلاب، فيقرئهم في الحديث والتوحيد والفقه والفرائض والحساب والنحو. وكان حلو التقرير، حسن التعبير، طلق اللسان ثابت الجنان، ولم يؤلف شيئاً، وإنما كانت له حواش مفيدة على بعض كتب الفقه والفرائض، وقد انتفع به خلق كثير من دمشق ونابلس ونجد وحوران ودوما وغيرها، وفيهم علماء معروفون. وفي سنة 273 وجهت عليه من الدولة العثمانية رتبة تدريس ادرنة. وفي صفر سنة 288 وجهت عليه فتوى الحنابلة لدمشق، بإذن من مفتي دمشق العام، فأفتى في حوادث شتى، وفي سنة 295 ولي نيابة محكمة العمارة بدمشق. ولما توفي الشيخ محمد البرقاوي قاضي الحنابلة، ولي القضاء في مكانه واستقال من النيابة، ولم تطل مدته فيه حيث ألغي القضاء من أصله يومئذ، وكان ترك له أخوه سيدي الجد فرضية البلدية بدمشق، فاستقر بها وبالفتوى إلى وفاته.(1/1625)
وتولى هو والجد الموما إليه نظارة وتدريس المدرسة البادرائية، وكانا مرجع أهل دمشق في المناسخات والمساحات وتقسيم المياه والدور. وبالجملة فقد كان المترجم حسن من حسنات الدهر. وكانت وفاته فجأة عقب نزوله من بستان قرب الربوة، وذلك يوم الاثنين 12 صفر عام 1316 هـ ودفن في مقبرة الذهبية بمشهد حافل رحمه الله تعالى.
وقد ترجمه الأستاذ القاسمي والشريف تقي الدين في تاريخيهما وأثنيا عليه كثيراً، وأعقب المترجم أولاده الأربعة، العالم الصوفي الشيخ مصطفى أفندي المتوفى سنة 1348 والنبيل طاهر أفندي المتوفى سنة 1356، والذكي سعيد أفندي المتوفى سنة 1315 رحمهم الله، والوالي المتقاعد عبد اللطيف الباقي الآن حفظه الله. وقد توفي 2 رجب سنة 1367 هـ رحمه الله تعالى.
الشيخ محمد جميل الشطي
يقول الضعيف محمد بهجة البيطار: بعد أن أوردنا تراجم الأعلام الثلاثة: الشيخ محمد بن حسن البيطار، والشيخين الأخوين محمد وأحمد الشطي، استجابة لاستدراك صديقنا الشيخ محمد جميل الشطي رحمه الله، رأينا أن نختم هذه التراجم بترجمته لنفسه مكتوبة بقلمه في كتابه روض البشر وبها نختم تراجم الأستاذ الجد البيطار لمؤلفه حلية البشر والحمد لله أولاً وآخراً.
قال: جرى بعض المؤلفين والمؤرخين، على أن يترجموا أنفسهم في آخر كتبهم صوناً لسيرتهم من التشويه والعبث. وهي فكرة حسنة إذا لم يكن في الترجمة ما ينكره المعاصرون من أرباب العقل والفضل على أنا لا نكلف أحداً بشهادة أو مجاملة. وإنما نريد ذكر وقائع وحوادث ظهرت للعيان، وشهد بها الزمان والمكان، فها نحن نذكر من ذلك ما استحضره الفكر، وصلح للذكر، فنقول:(1/1626)
كان مولدي بدمشق في 18 صفر سنة 1300 ومن الاتفاق الغريب أنها آخر سنة في هذا القرن الذي عنيت بتاريخه، ونشأت في حجر والدي عمر أفندي رحمه الله تعالى، وقرأت مبادئ العلوم على عمي مراد أفندي، ثم على الشيخ أبي الفتح الخطيب، وأخذت الفقه والفرائض عن والدي، ثم عن عمه الشيخ أحمد الشطي، وتلقيت طرفاً من الحديث عن العلامة الشيخ بكري العطار، ثم عن العلامة الشيخ بدر الدين المغربي، وحضرت دروس الأستاذ صاحب التآليف الشيخ جمال الدين القاسمي، وغيره من علماء دمشق، واستجزت بعض الشيوخ فأجازوني بما تجوز لهم روايته لفظاً وخطاً جزاهم الله عني خيراً - وقد طالعت بنفسي بعض كتب التفسير والحديث والفقه والفرائض وانتفعت بها والحمد لله.
وقد ولعت بالأدب والتاريخ وأنا دون الخمسة عشر فنظمت ونثرت، وكان باكورة أعمالي رسالة في تراجم بني فرفور، سميتها الضياء الموفور جمعتها سنة 1317 وهي مخطوطة توجد الآن فقال يدار الكتب الظاهرية - وفي سنة 1322 طبعت القطعة الأولى من منظوماتي - وفي سنة 1323 شرعت بجمع تاريخ القرن الثالث عشر - وفي سنة 1329 طبعت القطعة الثانية من منظوماتي - ورسالتي الأولى في علم الفرائض - وفي سنة 1331 ترجمت وطبعت قانون الصلح وغيره من القوانين التركية المعمول بها اليوم - وفي سنة 1339 طبعت معجماً كنت جمعته في تراجم علمائنا باسم مختصر طبقات الحنابلة - وفي سنة 1340 وضعت وطبعت رسالة في الوهابيين وخصومهم باسم الوسيط بين الإفراط والتفريط - وفي سنة 1350 كتبت ونشرت رداً على الطائفة القاديانية باسم السيف الرباني - وفي سنة 1360 كتبت وطبعت رداً على أحد فقهاء المالكية باسم البرهان على صحة رسم مصحف الحافظ عثمان - وفي سنة 1363 طبعت رسالتي الثانية في الفرائض باسم الدروس الفرضية - وفي السنة المذكورة هذبت كتاب السراجية باسم تنقيح السراجية في فرائض الحنفية وهو لم يزل مخطوطاً محفوظاً عندي، مع ديوان شعري الأخير، وتاريخ سنة 1340 - وفي سنة 1363 أيضاً أخرجت من تاريخي العام المقدم ذكره هذا التاريخ المقصور على رجال دمشق.(1/1627)
وقد طبعت من مؤلفات آل الشطي وغيرهم شيئاً كثيراً، فمن ذلك مختصر عقيدة السفاريني لجدي الأعلى مجلد وتوفيق المواد النظامية لأحكام الشريعة المحمدية، وأقوال الإمام داود الظاهري لجدي الأدنى، وأقوال شيخ الإسلام ابن تيمية لابن القيم، والرسائل الفاتحية للهبراوي، وغير ذلك.
وأما ما كتبته في المجلات والصحف فشيء كثير قديم وحديث، ومن ذلك الرد على شيخ الأزهر المراغي، في قوله إن وجه المرأة ليس بعورة، والرد على المحدث الدهلوي في كتابين له، وكل ذلك منشور في مجلة التمدن الإسلامي.
وأما وظائفي فقد لازمت المحاكم الشرعية بدمشق منذ سنة 1313 مقيداً في محكمة البزورية فكاتباً في محكمة العمارة، ثم في محكمة الباب إلى سنة 1327 - وفيها عينت في المحاكم العدلية كاتباً في دائرة الإجراء، ثم في محكمة الحقوق، ثم في محكمة الصلح، ثم معاوناً لمأمور الإجراء بدمشق، ثم معاوناً للحاكم المنفرد في دوما، ثم عضواً في محكمة حماة سنة 1337 - ثم عينت نائباً حنبلياً، ثم رئيس كتاب في محكمة دمشق الشرعية إلى سنة 1348، وفيها انتخبت مفتياً حنبلياً في مدينتنا دمشق، وهي الوظيفة التي أقوم بها الآن مع الإمامة الحنبلية في الجامع الأموي منذ سنة 1334 والخطبة في المدرسة البادرأية منذ سنة 1352.
وأما البحث عن أخلاقي وأحوالي فهذا ما أتركه لأبناء وطني الأعزاء اعتماداً على إنصافهم ومحبتهم.
وأما شعري الكثير فسأقتصر منه على بيتين كتبتهما إلى نجم الدين أفندي الأتاسي في حمص، أشكره على تراجم أرسلها إلي سنة 1324، وهما قولي:
مولاي لولا كنت أول فاضل ... لم تدر أهل الفضل بالتبيين
فإذا ضللنا في أكابر ديننا ... فبك الهدى إذ أنت نجم الدين
وأختم هذه الترجمة ببيتين، رقمتهما على كتاب أهديته إلى أحد أساتذتي الأجلاء سنة 1326، وهما قولي:
أتى يهدي لك العبد الذليل ... كتاباً أيها المولى الجليل
إذا هو لم يكن أثراً جميلاً ... أليس يقال مهديه جميل؟
كانت وفاة هذا الصديق في 16 المحرم سنة 1379 هـ رحمه الله تعالى.(1/1628)