فإذا ما بدا ينضنض كالصمل ... على الخافقين سال لعابه
إنه ذلك الحسام الذي يخشى على كل من عليها ضرابه
وقال رحمه الله:
بي كاتب خطه المسود نسخته ... قد بيضت كل تسويد من اللمم
عوذت حاجبه مع شق قامته ... من عين حاسده بالنون والقلم
وقال مشطراً رحمه الله:
رسمت بمحمر البنان شقائقاً ... فزها برونقها طراز برودها
ومشت فألقت من شعاع ردائها ... في الروض مثل ورودها بخدودها
لم أدر أيهما الشقائق فانثنت ... مشغولة الأيدي بحل بنودها
ولمحت زمان النهود فبادرت ... عيني تثلث جلنار نهودها
ورمقت سطراً فوق صدر مشرق ... كنهار زورتها وليل صدودها
وبدت لتثبت بالجعود ضلالتي ... فيه حروف شهودها لجعودها
ومن نثره ما كتبه لصاحب الدولة العلامة الفاضل عبد اللطيف صبحي باشا ابن سامي باشا وكان قد أرسله إليه من دار السلام إلى الآستانة وهو: باسمك يا لطيف قسماً بمن أقسم بالصبح إذا أسفر، ما رأيت مناسبة لنسبتك أيها النسيب إليه، لكونه وأبيك السامي عليه، هو بالانتساب إليك أجدى، وبالاحتساب عليك أيها الحسيب أجدر، وأنى يتسنى له الوصول إلى حضيض سدتك القعساء، ولو طار بأجنحة النسر إلى عنان السماء، على أنه ما يتنفس إلا حسرة على انحطاطه عن علي رتبتك، ولا يتبسم إلا مسرة بما حازه من ارتباط قوي نسبك، ولا ينفلق إلا كاشفاً عن غرر محاسنك الكاشفة للكروب، ولا ينصدع إلا حاسراً عن طرر مآثرك الجاذبة للقلوب، ولا يهب سحراً نسيمه، إلا عن نفح الطيب من سجاياك، ولا يعب عبوب القلوب شميمه، إلا من عبير التعبير(1/775)
عن مزاياك، فليمل صحائف حكمة الإشراق على الآفاق، وليتل صفائح لواقح الأنوار على الأقطار، وليشدخ بعمود من نور، يا فوخ الديجور، وليمعط بلهذم رمحه جلباب الليل إلى الذيل، وليلق ملاحفاً من ضياه على الوهاد والأعلام، ولينشر مطارفاً من سناه، على البطاح والآكام، وليلف ذنب السرحان، بين الأفخاذ والأعكان، وليسمك بكافور تباشيره سائل العلق، من عرنين الشفق، وليعطس بأنفه الأقنى الأشم العرنين، ولينعم بتشميت ذكا صباحا، وليزهى غرراً وأوضاحا، تتلألأ بها أسرة الجبين، فها أنا والنبيه غني عن التنبيه، ما وقب غاسق، وذر شارق، وعن بارق، لا زلت أدامك الله ولم أزل آن الضحى ووقت الطف، أصل االاغتباق بالاصطباح، واقطع آناء الليل وأطراف النهار، بما يديره على مسامعي من الأقداح الكبار، مفعمة بما يتسلسل سلساله من سلاف محاسن الآثار، دوراً مسلسلاً مساء، ودوراً صباح، فيأخذني الارتياح بالراح من يدي، وأكاد أن أطير من غير جناح ليناديك الندي:
وكيف يطير المرء من غير أجنح ... ولكن قلب المستهام يطير
جناب من وطئت لجانبه أيها السعد بساعد مساعدتك، وعضد معاضدتك، سبل مقاصده، وطرق مواقفه، فوطاها مولاك ومولاي، الذي ملكت عقد ولائه، فاستملك عقد ولاي، فاستحق أن يكون من الموالي العظام، الفاضل الهمام الشيخ طه، لا زال ممتطياً مما مهدت له من نجائب النجابة، وركائب الرغائب المستطابة مطاها، فإنه السابق الذي لا يلحق، واللاحق الذي لم يسبق، ولا يشق له غبار، باستطراد مساعيك في مضمار الافتخار، فما حضر في محفل بأعلام مدينة السلام حافل، ولا جالس من عنادلها مساجل، إلا وملأ أقفاص الخواص، مما يليه بهديله وترتيله، من سورة الإخلاص في محبتكم أفراحا، وأجال من جريال هاتيك(1/776)
المعاني المروقة في أواني المباني أقداحا، ومن سني طالعه وبهي مطالعه لا برح مستديراً محور مباهاته، على قطب لسانه بأفلاك لهواته، فيطلع من كواكب المناقب، ما يزاحم النعائم في المناكب، ويملأ ضوءها ما بين المشارق والمغارب، ويشعل في مشكاة أولي البصائر والأبصار، من مصابيح خلائقك الحسان الساطعة الأنوار، ما يذكر في مجامر الضمائر، من طيب الذكر ما هو أذكى من عنبر الشجر المعطار، له في كل ديوان لسان شاكر لإحسانك، وفي كل لسان ديوان ذاكر لامتنانك، يتلو من آيات براعتك ونيلك، وبينات مجدك وفضلك، ما يقرط بدرره المسامع، وتأخذ فرائده بالمجامع، فما من ناد إلا وعطره بنفحات شذى أخلاقك الندية، ولا من واد إلا وأفعمه برشحات ندى أياديك الندية، ولا زلنا نتناول في أثناء مفاكهاته، من فواكه شهي كلماته، ما هو في أطباق كالبدور في الإشراق على خوان أخوان الصفا موضوعة، فهي كفاكهة الجنة، وله تعالى الحمد والمنة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، ولله أبوك يا غرة جبهة المالك والمملوك، ما أسرع ما لمحته بعين عنايتك، فجعلته نصب عينك ملحوظاً برعايتك، واتخذته مستودعاً لجواهر صنائعك، مروجاً لما استصحبه من مفاخر بضائعك، وعلمت أنه ممن إذا علم أكرم، وإذا جرب قرب، وإذا اختبر ادخر، لما ظهر لك بأول وهلة من المخايل، الدالة على كرم الشمائل من الاعتدال في أحواله، والطمأنينة والتؤدة اللتان هما من بعض خلاله، لا يتطارح على زاهد فيه، ولا يظهر حرصاً على غير حريص عليه.
وليس بواقع في قدر قوم ... وإن كرموا كما يقع الذباب
وما كان سقوطه عليك وانجذابه إليك إلا كسقوط الطل على الروض المخضل، هذا وما ينقضي عجبي منه وإعجابي به وهو العندليب بل مغني اللبيب، في لحنه المعرب عن المرفوع من مقامك، والمنصوب من أعلامك، والمجرور(1/777)
من أذيال أفضالك، والمجزوم، والمجزوم به من أجزال نوالك، بعد أن أرشت من شؤونه الخوافي والقوادم، وبللتها بعد بل الصدى بقطر الندى من هاطل وابل جودك المتراكم، كيف استطاع المطار مع الاختيار عن تلك الأوكار إلى هذه الأقطار، وخلف ما خلف من هاتيك الرياض الورقة الفضائل والحياض المتدفقة بالفواضل، وما دعاه إلى ذلك فأجاب بعد الاستئذان إلا حب الوطن الذي هو من الإيمان، والحنين إلى ما ترك في رصافة بغداد من الأولاد وأفلاذ الأكباد، ولعفاف مجبول في جبلته، وكفاف معجون في طينته، وما راعى قول من تقدم من الشعراء:
يقع الطير حيث يلتقط الحب ... ويغشى منازل الكرماء
فرجع مملوء الحقايب، مما أسديت له من غرائب الرغائب، بعد أن حصل ما كان يتوقعه من بلوغ الأمل، ولم يقنع من الغنيمة بعد الكد، وقد ساعد الجد بالقفل، وبناء على أشكال تأسيسه الرصينة البنيان، المهندسة الزوايا والأركان، في وصف رصف تلك المزايا الحسان، والسجايا السامية الشان، وضعت قواعد هذا الكلام السطحي التعبير، ورفعت أبنيته فسامتت منطقة البروج بل المحدب بالتقعير، وأنفت بوصف تلك المآثر على الأثير، فأدى فتح باب فصل الخطاب، إلى اتصال مد أطناب الإطناب، المؤذن بعدم رد الجواب، عن هذا الكتاب الكثير الإسهاب، فليسبل حضرة المولى، وهو باللطف أولى، ذيل مراحمه ولطفه، عما تداخل في هذا الكلام من العلل المفضية إلى عدم صرفه، وعلى أنه داخل في باب الوقف، وممنوع لدى المنتقد عن الصرف، فهو علا علاته موقوف عليك وقفاً مؤبداً، ومع ذكرك الجميل جيلاً بعد جيل مخلداً، والله أسأل وبنيته أتوسل أن يقيك ويبقيك خادماً لأبيك مخدوماً لبنيك، وأن لا يخليك من قرة عينك بهم وقرة أعينهم فيك، وأن يقيمك مركزاً(1/778)
للإحاطة بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وأن يديمك قطباً تدور على محور درايتك إدارة الأقاليم بالنون والقلم، والسيف والعلم، وأن يجعلك يا كريم الأب والجد مقيلاً لعثرات الكرام، وينصبك يا أيها العلم الفرد مقيلاً للعلماء الأعلام، ما نفخت أفواه المحابر وثغور الأقلام، فملأت الصحف والدفاتر مما حويته من مفاخر المآثر بمسك الختام:
سبرت بمسبار اختباري فما ارتضى ... سواك اختياري من كرام هموهم
وما سمعت أذني بغيرك من فتى ... به يبدأ الذكر الجميل ويختم
انتهى. هذا وإن للمترجم ديواناً يعبق روحه، حتى كان الزهر فوحه، توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وتسع وسبعين وقد أرخ المترجم وفاته رحمه الله قبل موته بأبيات آخرها:
بلسان يوحد الله أرخ ... ذاق كأس المنون عبد الباقي
1279هـ -
السيد عبد الجليل بن المرحوم الشيخ عبد السلام المدني المشهور ببرادة
عالم فاضل، وهمام إمام كامل، قد اشتهر في الناس اشتهار البدر، واستشرفت إليه النفوس استشرافها لليلة القدر، واتفق على كمال فضله الخاص والعام، وأذعن له العموم بأنه طود العلماء الأعلام، ومحور مدار(1/779)
الأدب ولسان بلاغة العرب. قد ضاهى السماكين رفعة وقدراً، وحيرت الأفكار بدائعه فنثره كالنثرة وشعره كالشعرى، ألفاظه رقيقة كخلقه اللطيف ومعانيه حسنة وقدره منيف.
قد اجتمعت به حينما شرف إلى دمشق الشام بعد الألف وثلاثمائة بقليل، وهو من المرض سقيم وعليل، وبديهة النظر تدل على أنه استكمل من السنين، ما بين الستين إلى السبعين، فرأيت شهما جيد الكلام، رفيع المقام، جميل المقابلة، جليل المعاملة، لطيف الموانسة، شريف المجالسة، طلق اللسان، عليه مهابة وجلالة وشان. ولم يطل بقاؤه في الديار الدمشقية، بل بعد مدة قليلة توجه إلى وطنه المدينة المنورة من جهة اسكندرية، وكان قد أسمعني من نظمه ونثره ما يدل على جودة ذهنه واتساع فكره، وقد حفظت شيئاً منه وقيدته، إلا أنني ظللته بعد ذلك وفقدته، ولم أجد عندي سوى ما قرظ به على الكتاب المسمى بعلم الدين، لحضرة العالم الفاضل علي باشا مبارك ناظر الأشغال العمومية المصرية سابقاً، وهو:
ما تنسج الأيدي يبيد وإنما ... يبقى لنا ما تنسج الأقلام
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد فإني تصفحت هذا الكتاب، بل العجب العجاب، الذي نسبت للشيخ علم الدين روايته، وأسندت للسائح الإنكليزي حكايته، فوجدته نزهة للناظر، وسلوة للخاطر، فيه للقلوب ارتياح، وللخواطر نشاط وارتياح، تعرب مبانيه عن لطيف معانيه، وتفصح روائع ألفاظه الرائقة عن بدائع مضامينه الفائقة، ويشهد لمؤلفه بعلو المقدار، ولمصنفه بحسن الاختيار. جمع فيه من غرائب الفنون ونقائض الجد والمجون، الضب والنون، وقرن إلى أسنى المقاصد أشرف المطالب، فصح أنه المرغوب لكل طالب، أظهر فيه ما خفي من أشرار الصنائع، وكشف عن وجه مخدرات العلوم(1/780)
البراقع، وأضاف إلى ذلك من حكم الحكماء، ما أغفلته القدماء، ووشحه بلطائف النوادر، وما تفردت به الأواخر، وأظهرته في هذا الدور الأخير فهو مخترع لجميع المخترعات جامع، وبديع في بيان معاني المبتدعات نافع، ينتقل من فصل إلى ضده، ويحكم الوصل بما أبداه من عنده فكأنه مؤلفه المفضال يقول فيه بلسان الحال:
تصديت في إتعاب فكري لجمعه ... فجاء كتاباً في البها لا يشارك
وكنت بحمد الله فيه موفقا ... فاسمي علي في الأنام مبارك
فلله در من أنشاه، وبطراز الحسن والإحسان وشاه، فإنه أجاد، وسلك طريق السداد، وبلغ به ما فوق المراد. بلغه الله تعالى أمانيه، وكبت حاسده وشانيه، ولا زال متواصل البقا دائم الارتقا، بهجة للياليه وأيامه، يزين الوجود بآثار أقلامه، مغتنماً للثناء الجميل، والأجر الجزيل، بحرمة سيد الأنام، الذي يحسن بذكره البدر والختام، ومن نظامه:
إن كان بختي عن الدنيا تقاعد بي ... فإن لي همة من دونها القمر
وإن تك الكف عن إدراكها قصرت ... فالرجل عن دفعها ليست بها قصر
ومن بديع كلامه:
ناولت ذات البها المرآة أوهمها ... بأن فيها لها شكلاً يحاكيها
وعندما أبصرت فيها محاسنها ... جارت وصالت على عشاقها تيها
ومن كلامه الأنيق ونظامه الرقيق:
أرى كل ما تحوي مجالس أنسنا ... جنوداً لدفع الهم سلطانها الشاهي
ولا عجب إن لم تتم بدونه ... فما تم أمر للجنود بلا شاهي
ومن كلامه حينما انتصرت الدولة العثمانية على اليونان وذلك في أحد عشر تموز سنة ألف وثلاثمائة وثلاث عشرة وكان المترجم نزيل الدار العلية فقال مهنئاً ومادحاً حضرة السلطان الأعظم عبد الحميد خان، نصره الرحمن:(1/781)
كذا فليكن ما يحرز المجد والفخر ... كذا فليكن ما يجمع الفتح والنصر
كذا فليكن ما يبلغ السؤل والمنى ... كذا فليكن ما يدرك الثأر والوتر
كذا فليكن سعي الملوك مقدساً ... يرافقه نسك ويتبعه أجر
كذا فليكن قهر الأعادي وهكذا ... تخاض المنايا والحديد لها جسر
حديث عن اليونان يضحك باكياً ... ويطرب محزوناً ويلهو به غر
أماني نفوس في الدجى حلموا بها ... وبالعكس في تعبيرها طلع الفجر
همو دبروا أمراً لأمر وفكروا ... فعاد عليهم ضلة ذلك الفكر
فعاثوا وجاسوا في البلاد بجهلهم ... وعم على جيرانهم منهم الغدر
صبرنا وكم عنهم عفونا فلم يفد ... وعن مثلهم لا يحسن العفو والصبر
فقام أمير المؤمنين لردعهم ... ببأس شديد لا يقوم له الصخر
فبادرهم منه هصور غضنفر ... كذا الليث يخشى من بوادره الهصر
مشيد أركان الخلافة فخرها ... عظيم بني عثمان يا حبذا الفخر
لقد قام في ذا العصر بالواجب الذي ... هو الفرض من غزو تباهى به العصر
فأحيا مواتاً للجهاد تقادمت ... عليه دهور لا يشاد له ذكر
وقام به في الله لله يبتغي ... مثوبته العظمى وحق له الشكر
غزاة لعمر الله قد نال خيرها ... وسالمه رغم العداة بها اليسر
بفتكته البكر التي شاع ذكرها ... وأفضل فتكات الملوك هي البكر
ليهنك يا كهف الأنام وظلهم ... فتوح به سر المحصب والحجر
وقبر لخير الخلق سر بطيبة ... وحق لهذا النصر أن يفرح القبر
فأنت ملاذ للعفاة مؤمل ... وفضلك جم لا قليل ولا نزر
ومن أين للمزن الكهنور جود من ... بكلتا يديه ديمة صوبها التبر
لك الرأي بالحزم السديد مؤيد ... تعاملهم بالمكر إن لزم المكر
فداو مريض الجهل بالحلم إن يفد ... وإلا فداء الشر يحسمه الشر(1/782)
ورأيك سيف ما ألمت شباته ... بأمر عصى إلا استطاع له الأمر
ومن أين للسيف الحسام مضاؤه ... إذا خامر الألباب من حادث ذعر
كهانته شق سطيح بجنبها ... يحار لها زيد ويعيا بها عمرو
سمعنا بأن الجبن فيهم سجية ... ولما التقينا صدق الخبر الخبر
لقد تركوا الأوطان والأهل عنوة ... وأجلاهمو القتل المبرح والأسر
وما وقفوا في ماقط الحرب لحظة ... ولا تثبوا كلا ولكنهم فروا
وأدهم بالدهم الجياد داهمو ... فحاصوا كحمر الوحش صادفها نمر
وترحالة عنها ترحل جمعهم ... ودكدك من أنحائها السهل والوعر
وغصت غلوص بعد ذاك بريقها ... فما ساغ لولا أن تداركها البحر
ولا ريس في لا ريس بعد انهزامهم ... رئيس فهم فوضى كأنهم الحمر
ودوميكة تدعوا اتينة جهدها ... لتنجددها هيهات أشغلها عذر
وحينما كنت في الآستانة سنة ألف وثلاثمائة وخمس عشرة كان حضرة المترجم بها أيضاً، وكنت أجتمع به كثيراً وأجلو الغم بمذاكرته وبديع محاضرته. وكان متقن اللغات الثلاث متبحراً بها، فمرة تلا علينا بيتين بالفارسية وأفاد أن معناهما أن هذا العالم قبل إيجاد كان مستريحاً من النعم والنقم، وأن الله تعالى ما أوجده إلا لتحمل الألم، والأكدار والسقم، وطلب مني رد هذا المعنى إلى العربية فلم أستطع إلا موافقته ومسايرته ومطاوعته، فقلت:
كان ذا العالم في غيب العدم ... ذا هناء من نعيم أو نقم
ما براه الله إلا للعنا ... والدواهي والنواهي والسقم
وقلت أيضاً:
قد كان ذا الخلق في غيب العما عدماً ... ما شابه نعم كلا ولا نقم
وما براه إله العرش من عدم ... إلا لتنهكه الآلام والسقم(1/783)
ونظم هذا المعنى حضرة الفاضل الكامل محي الدين باشا الجزائري شبل الأمير عبد القادر حفظه الله فقال:
قد كان هذا الخلق قبل ظهوره ... في راحة من رحمة وعناء
فأراد بارئه لسر قد خفي ... إظهاره للسقم والبلواء
وأرسلت ذلك للمترجم المومى إليه، وبعد أيام أرسل إلي كتاباً وفيه: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله يا سيدي ومنتهى أملي وهواي، لما تأملت القطعتين النفيستين، بل الدرتين بل الفرقدين النيرين، لم أستطع السكون والتمكين، حتى بادرت إلى التطفل عليهما ومزجت الغث بالثمين، وشطرتهما بما لم أرضه لهما، ثم أنه غلب علي الشره الخسيس، فلطختهما بالتخميس غير النفيس، وها هما يعثران في ذيل الخجل، والعفو منكما غاية الأمل. القطعة الأولى:
أيها السائل يا عالي الهمم ... ومريد الفهم عما قد أهم
خذ جواباً شافياً من كل هم ... كان ذا العالم في غيب العدم
ثابتاً في ذاته من القدم
ظرفه في لونه من لونه ... وصفه محتجب في صونه
قربه مندمج في بونه ... غافلاً عن كونه في كونه
ذا هناء من نعيم ونقم
ثم لما فاض بحر بالسنا ... وجرت فيه الجواري بالثنا
فلأمر يقتضيه الاعتنا ... ما براه الله إلا للعنا
ومقاساة هموم وألم
خصه باللطف من إنعامه ... وحباه بحبا إكرامه
وابتلاه رفعة لمقامه ... كي يرى الأهوال في أيامه
والدواهي والنواهي والسقم(1/784)
وأما قطعة حضرة الأمير محي الدين باشا:
يا من تحير في الوجود ونوره ... وعناه فهم صغيره وكبيره
اسمه مقالاً كاشفاً لضميره ... قد كان هذا الخلق قبل ظهوره
في عالم الأعيان والأسماء
هو كان في العدم الممحض رافلاً ... هو كان للعلم القديم مواصلاً
ما شم رائحة الوجود ولا ولا ... متنزهاً عن كل وصف غافلاً
في راحة من نعمة وعناء
هو بالعماء الصرف منه مكتفي ... ولغيره مهما يكن لم يعرف
وله بذاك مقام عز أشرف ... فأراد باريه لسر قد خفي
إيجاده فكساه ثوب بهاء
ما كان يدري نعمة من نقمة ... كلا ولا نوراً له من ظلمة
عن نفسه من نفسه في عصمة ... لكنه جعل الإله بحكمة
إظهاره للسقم والبلواء
وللمترجم المذكور فضائل شهيرة، وشمائل بديعة كثيرة، قد شاعت في العالم شيوع البدر، وقابلتها الأفواه بالحمد والشكر.
توفي هذا المترجم المرقوم وهو راجع من مكة المشرفة إلى المدينة المنورة قبل وصوله بثلاث مراحل وحمل إلى المدينة المنور وصلي عليه بالحرم الشريف ودفن في البقيع، وذلك في المحرم الحرام سنة 1327هـ.
السيد عبد الجليل بن السيد أحمد الحسيني الواسطي البلجرامي
عالم جل في الأنام قدره، وفاضل سار في سائر الأقطار صيته وذكره، فمن بديع نظامه، الدال على رفيع مقامه، قوله:
يا صاح لا تلم المتيم في الهوى ... هو عاشق لا ينثني عن خله(1/785)
يأبى الدواء سقامه كعيونه ... فعلى الطبيعة يا معالج خله
ومن قوله:
حبيب قوس حاجبه كنون ... وصاديد ابن مقلة شكل عينه
لعمري أنه نص جلي ... على أن الرماية حق عينه
وله شعر رقيق، ونثر بديع أنيق، توفي سنة ألف ومائتين وواحدة.
السيد عبد الجليل بن مصطفى بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي
ولد سنة أربع وثمانين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده فكان في العلم آية، وفي الآداب غاية، مع تقوى وعبادة، وأخلاق جميلة وزهادة، وعفة وديانة، وكمال وصيانة، وفضيلة مشهودة مشهورة، ومنزلة رفيعة بين الناس مذكورة، وأفعال حسنة، وأحوال مستحسنة، ومحاضرات غريبة، ومذاكرات عجيبة، لا يمله جليسه، ولا يروم فراقه أنيسه، يرى العزلة للدين أسلم، والابتعاد عن الناس أحسن وأحكم، فلله دره من فرد نادر، ناه عن المنكر والمعروف داع وآمر. ولم يزل على هذه الحالة الفاخرة، إلى أن دعاه داعي الآخرة، وذلك نهار الخميس أواخر شعبان سنة ألف ومائتين واثنتين وخمسين.
الإمام العارف بالله السيد الشيخ عبد الجواد بن الشيخ عبد اللطيف بن الحاج حسين بن الشيخ عطية بن الشيخ عبد الجواد القاياتي من أولاد الشيخ ياسين القاياتي منتهى نسبه إلى الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه
الإمام الأمجد والبطل الأوحد، مؤيد السنة وناصر الدين، ومربي الفقراء والمريدين، من ملأت شهرته الآفاق، وحصل على كمال فضله(1/786)
الإجماع والاتفاق، وتألفت على محبته القلوب، وزالت عن ذوي مشاهدته الهموم والكروب.
ولد في القايات سنة سبع وعشرين ومائتين وألف، ونشأ في حجر والده وبعد أن حفظ القرآن بالتجويد والإتقان، نقله والده إلى القاهرة، فأخذ العلم بها عن جماعة ذوي معرفة باهرة، منهم النور الشيخ علي البخاري الذي اشتهر في الآفاق علمه وولايته، ومعرفته بكمال الفنون ودرايته، وكان غالب أخذه عنه وجل تردده إليه، وأكثر اعتماده في مهماته عليه، وكان شيخه المرقوم يجله غاية الإجلال، ويقدمه على الواردين في الترحيب والإقبال، ويقول أنه من الأولياء، وسيكون له شأن بين العلماء. وأجازه العلماء ذوو القدر المصون، بما تجوز لهم روايته من جميع الفنون. وأخذ الطريق عن والده فجد واجتهد، وأفيضت عليه الأنوار وجذبته يد العناية والمدد، فلما أحس والده بالرحيل إلى جوار الملك الجليل، أمره بالتلقين والإرشاد والقيام بهداية العباد، فقام بإحياء تلك الشعائر أتم قيام، وبلغ به القاصدون والمريديون أتم مرام، وصار منهلاً عذباً للواردين، وملجأ وغوثاً للقاصدين، وبدراً منيراً للمسترشدين، وبحراً زاخراً للمستفيدين. وكثرت أتباعه كثرة فائقة جداً، وانتشرت مناقبه فلن تستطيع لها عدا. وشاع ذكره وعلا أمره في جميع البقاع، فكاد أن لا يخلو محل من المحلات إلا وله فيها مريدون وأتباع، وانطلقت الألسن بالثناء عليه، وكثرت وفود الوافدين إليه، حتى صارت قرية القايات، أكثر من كثير من المدن بطبقات، وكلهم ينالون منه أنواع الإجلال والكرامة، حتى كل منهم يتمنى أن يجعل في هذه القرية مقامه. وبنى لوالده المقام الأنور، والمسجد الشريف الأبهر، ورتب بالمقام ليلة الجمعة والسبت مقرأ عظيماً يحضره من أهل العلم والقرآن عدد كثير وجم غفير، ولكثرة الزوار لهذا المقام(1/787)
الكريم، حدث يوم الجمعة بتلك البقعة سوق عظيم، وجعل بالمقام خزانة كتب من جميع العلوم، فما من كتاب إلا كاد أن يكون في قلادة هذه الخزانة من جملة المنظوم، وصار يحث الناس على تعليم الأولاد، ويساعدهم فوق المراد، حتى كثر أهل العلم والقرآن، وصار لهم بهذا المحل عز وشأن. وكان مع شغله بالإرشاد وإكرام الوافدين بالمال والزاد، وذكره وأوراده وإقباله واجتهاده، يقرأ للطلبة في كل يوم درسين مما هو للطلبة قرة عين، وكان له زيادة اعتناء بتعظيم الأشراف، حتى لو قدم لهم روحه لا يعد ذلك من الإسراف، وكان شديد الرحمة باليتامى والمساكين، والأرامل والمنقطعين، وكراماته أشهر من أن تذكر، ومناقبه لا تعد ولا تحصر.
وله من التآليف كتاب مجموع الفتاوى يشتمل على أجوبة المسائل التي سئل عنها على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه. وله بعض رسائل في الانتصار لأهل الطريق في أمور أنكرت عليهم، وله كتاب في أشياء من غوامض الطريق. وجعل على ضريح والده مقصورة في غاية الانتظام، وبعد موته قد جعل الناس له ولوالده مولداً يحضره الجم الغفير من الخاص والعام. وتروج فيه البضائع وتكثر الخيرات، وتظهر فيه البركات وجميل النفحات. ومن أراد أن يرى العجب العجاب، فلينظر ما يحصل من الإكرام في هذا المولد لمن حل بهذا الرحاب.
توفي المترجم المرقوم والفرد الذي بكل فضل موسوم، ليلة الجمعة في السابع والعشرين من المحرم سنة سبع وثمانين ومائتين وألف، ودفن بجوار والده في القايات داخل المقام الأنور، وعلى ضريحه مقصورة في غاية الانتظام. وقد كتب على قبره الشريف من نظم الشيخ مصطفى حبيب العدوي:(1/788)
أيقظ جفونك من طيب الكرى وعظ ... فليس شخص على الدنيا يمتعظ
لو كان يبقى بهذا الدهر ذو شرف ... ما مات مثل الإمام العالم الوعظ
عبد الجواد الذي أحيا النفوس بما ... أسداه من نور قلب مشرق يقظ
ضاق الفضا مذ قضى أيامه ومضى ... إلى إله كريم خير محتفظ
بشرا فالحور قد قالت مهنئة ... أرخ بدار الهدى عبد الجواد حظي
وقد مدحه الشيخ محمد شهاب بقصيدة منها:
أدر كؤوس التصابي واجل قدحاً ... وخل من في مجالي صفوها قدحا
رهاتها خمرة بكرا معتقة ... بكر بها لحديث الوجد قد شرحا
إلى أن قال:
نعم الخليفة في وجود وفي كرم ... عبد الجواد سليل السادة الصلحا
يا حسنه واصلاً كانت طريقته ... لله في الله لا في نيل ما قبحا
دلت على سره أنوار ظاهره ... والظرف يشعر بالمظروف إن نضحا
وممن رثاه أحد علماء الأزهر العالم الفاضل الشيخ علي غزال فقال:
أبدرتم العلا من أفقه نزلا ... أم كوكب السعد لما تم قد أفلا
أم حادث الدهر وافتني نوائبه ... إذ ما سمعنا به في حكمه عدلا
حيث الإمام أبو الأنوار قد غربت ... من بيننا شمسه لما قضى الأجلا
شيخ الشيوخ القياتي الذي شرفت ... به الأواخر حتى أدركوا الأولا
وأطال فيما قال مع إنه لم يذكر من شيم هذا المفضال، إلا قطرة من بحر أو ذرة من بر، وقد رثاه غيره بمراثي كثيرة، وهي في محلة موجودة وشهيرة، ولو أردنا ذكرها مع ما مدح به هذا الفاضل صفوة الأخيار، لاحتاج الأمر إلى عدة أسفار، ولكن الشمس لا تحتاج إلى مديح، والبدر غني إشراقه عن التصريح نفعنا الله به والمسلمين آمين.(1/789)
الشيخ عبد الحليم بن مصطفى بن محمد بن خليل الشافعي العجلوني ثم الدمشقي
شيخ المحيا الشريف، والإمام الهمام ذو القدر المنيف، بركة أهل الشام ومعتقد العموم الخاص والعام، الفهامة المحقق والعلامة المدفق، والمرشد الزاهد والتقي العابد، مربي المريدين ومفيد الطالبين، بديع الزمان وعمدة ذوي العرفان، كان حسن التقرير قوي الحافظة سليم الصدر، كثير الطاعة مواظباً على الذكر.
ولد بدمشق الشام في اليوم الثامن من شهر شوال سنة خمسين ومائة وألف. ونشأ بها وأخذ عن أفاضلها وعلمائها كالشيخ العلامة أبي الفتح العجلوني وشمس الدين محمد الكزبري والشيخ أحمد البعلي والشيخ علي الداغستاني والشيخ مصطفى اللقيمي والشيخ أبي بكر القواف والشيخ أسعد المجلد والشيخ التافلاتي.
وأخذ في مصر عن الشيخ الملوي والشيخ الحفني والشيخ البراوي والشيخ عطية الأجهوري والشيخ الكامل محمد بن أبي بكر الجاويش والشيخ العيدروس وأجازوه جميعاً الإجازة العامة بجميع ما تجوز لهم روايته عن مشايخهم. وأخذ طريق المحيا عن الشيخ عبد الوهاب بن الشيخ مصطفى سوار والشيخ عيسى الشبراوي وعن الشيخ الحفني ولقنه الذكر والشهاب أحمد أبو الفوز بن العارف عبد الوهاب الشعراني وعن السيد محمد مرتضى الزبيدي وكتب له بخطه، والشيخ أحمد العروسي والشيخ أحمد الدردير المالكي الخلواتي وإبراهيم المصيلحي بن إبراهيم الشافعي إمام جامع الأزهر.
مات المترجم بدمشق الشام سنة سبع عشرة ومائتين وألف من هجرة سيد الأنام، ودفن رحمه الله تعالى في مقبرة باب الصغير، أعلى الله درجته.(1/790)
عبد الحميد بن شاكر بن إبراهيم الزهراوي الحمصي
ريحانة الجليس وحانة الأنيس، تفرع من دوحة الرسالة والنبوة، وترعرع في روضة البسالة والفتوة، فجمع بين كرم الأصل والأخلاق، وطلع بدره في سماء المعارف وراق، واقتطف من حدائق الآداب أزهاراً، وارتشف من زلال الكمال وعلا قدراً وفخاراً، وقرن بين النسب والسيادة، وتقلد بالحسب وتحلى بالعلم والزهادة. إن تكلم أفاد وأطرب، وإن كتب أجاد وعما في ضميره أعرب، مع رقة تفوق نسيم الصبا، ولطافة ما سمع بها نجيب إلا وإليها مال وصبا. صرف نقد شبابه في الطلب والتحصيل، وأكمل مواد معلوماته نهاية التكميل، مع ذكاء عجيب وإدراك غريب، وهمة عالية ومروءة سامية، وطبع أشهى من الراح وسجع الضم تثني الملاح. ثم سافر إلى الآستانة ليقضي بها شأنه، وعينت له الدولة العالية معاش الإكرام، وأخرجته من الآستانة إلى الشام، فاختلط بعلمائها وجلس مع فهمائها، وأظهر للبعض بعض ما لديه من بديع المعاني، وأضمر بعض أشياء لا يجوز كشف سترها إلا لمعاني. وكان من دأبه إظهار الانتقاد، وعدم الميل إلى التأويل وإن ما ورد به النص عليه الاعتماد.
وقد ألف رسالة سماها الفقه والتصوف، وهي مشتملة على ثلاث رسائل ينتقد بها على كتب الفقه والأصول والتصوف، وقد زاد في اعتراضه، وحكم على كثير مما قالوه بانتقاضه، وتجاهر بهذا الأمر بين الخاص والعام، ونشر هذه الرسالة بين الأنام. فلما علم الناس بها أنكروها، واحتقروا ما اشتملت عليه وحظروها، وقام لها العلماء على قدم وساق، واتفقوا على تكفير مؤلفها من غير شقاق. ثم ذهبوا أفواجاً إلى الوالي من غير فتور، وأخبروه عن المترجم بما يكدر الخاطر ويسجر الصدور. وقالوا لقد تعدى طوره، وأشاع في الناس جوره، وأذاع الضلال ولم يخش من أمير(1/791)
ولا وال. فأمر الوالي بالقبض عليه، وإحضاره لديه، وأن يجتمع المفتي والعلماء الكرام، لكي يسألوه عن قصده فيما أشاعه من غير احتشام. فلما سألوه نكل عن الجواب، وأعرض إعراض من لا يخاف ولا يهاب، فأمر الوالي في الحال بجمع الرسائل أجمع، وأرسلاه صحبته إلى المحل الأرفع، فلما وصلوا إلى الدار العلية، أسلموه إلى مدير الضبطية وكان ذلك في شهر شعبان، عام ألف وثلاثمائة وتسعة عشر من هجرة ذي المقام المصان. ثم أن هذه الرسالة وإن كان بعضها صواب، إلا أن الكثير منها لا ينبغي إذاعته بين الأحزاب، بل تدار كؤوس البحث به بين العلماء الخواص، من دون تعرض إلى امتهان وانتقاص. وإن رسالة المترجم مخصوصة بالمساوي والملام، ومقصورة على تخطئة أولئك العلماء الأعلام. فإشاعة هذه الرسالة خطأ وإن كان ظن مؤلفها جميلاً، وطبعها المقتضي لشهرتها بين معترضيها وغيرهم لا يناسب لأنه رتب أمراً جليلاً، والغريب كل الغريب أنه ما نظر إليها ناظر منصف، ولا اطلع عليها إلا متعصب مسرف. فمنهم من حكم بكفره وإبعاده. ومنهم من حكم بزندقته وعناده، ومنهم من أوجب عليه القتل، وإن وجوب ذلك مأخوذ من النقل، من قوله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " والحكم عليه بالقتل لهذا الدليل لا يخلو عن اعتساف.
والحاصل أن هذه القضية كانت قضية كبرى. ولكن انصرفت بإرسال الوالي له مع بعض رسائله إلى الآستانة لينظر في أمره، فبقي بعد وصوله أشهراً في دائرة الضابطة محجوزاً عليه غير مهان، ثم بعد ذلك شملته العواطف الحميدية، والمراحم العثمانية، فأغرقته في بحر إحسانها، وكسته ثوب عفوها وامتنانها، فأبقت معاشه عليه، وردته إلى بلده مع جميل نظرها إليه،(1/792)
ولم يزل يرفع أكف الضراعة في الدعاء لأمير المؤمنين. والحمد الله رب العالمين.(1/793)
السلطان عبد الحميد خان بن السلطان عبد المجيد خان بن السلطان محمود خان
قال في الفتوحات الإسلامية: هو السلطان المعظم المفخم، سلطان سلاطين العرب والعجم، حائز العلم والصلاح والكرم، المتشرف بخدمة طيبة والحرم، صاحب السيف والقلم، ظل الله في العالم غياث بني آدم، نعمة الله على العباد، وفضله على الحاضر والباد، ناصر الحق والدين، مؤيد شريعة سيد المرسلين، المحفوف بالسبع المثاني، أمير المؤمنين مولانا السلطان الغازي عبد الحميد الثاني، أعز اللهم سرير الملك والخلافة بوجوده، وأعد على القريب والبعيد آثار فضله وجوده، وأنفذ في جميع البلاد رسائل أوامر وأحكامه، وانشر على البرايا ألوية عدله وأعلامه، وأيده بتأييدك وأبده بتأبيدك، واجعل سلالة تلك السلطنة العلية العثمانية مسلسلة إلى منتهى الدوران، مستمرة على مرور الليالي والأيام، باقية إلى آخر الأزمان آمين يا رب العالمين. بويع أطال الله عمره لما خلعوا أخاه السلطان مراد في ثالث شعبان سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف، فكانت سلطنته زينة وبهجة وسروراً، وامتد بها في مشارق الأرض ومغاربها ما ملأهما نوراً، ومما كان من الحوادث في أول ولايته أنه وقع عصيان من بعض النصارى الداخلين في رعية الدولة العالية في بلاد الروم ايلي وهم طائفة يقال لهم الهرسك فجهز عليهم مولانا السلطان المذكور جيشاً فقاتلوهم، وكانوا قوماً ضعافاً لا يحتاج الاستيلاء عليهم وقهرهم إلى كلفة ولا إلى كثرة عساكر، إلا أن الروسية تداخلت معهم وصارت تقويهم بأشياء كثيرة حتى اتسعت فتنتهم وانتشرت، وأعانهم طوائف من النصارى(1/797)
الذين كانوا قريباً منهم، إلى أن صارت المحاربة بين الدولة والروسية وصارت تلك الطوائف من النصارى مع روسية، وساقت الدولة بهذه الفتنة العساكر الكثيرة، وأنفقت الخزائن الوفيرة، فقدر الله بانهزام جيوش الإسلام وأسر كثير منهم في بلونة وذلك بسبب محاصرة عساكر الروسية لهم في ذلك البلد، وعدم إمكان وصول الميرة إليهم لشدة البرد، وكثرة الثلج، وممن أسر من كبار عساكر الإسلام الوزير عثمان باشا الغازي قوماندان ذلك الجيش في بلونة، ثم أطلق مع كثير ممن أسروا وكان إطلاقهم بعد انعقاد الصلح وتملك الروسية كثيراً من المدائن العظام إلى أن وصلوا إلى قريب أدرنة.
والكلام على هذه الفتنة طويل قد أفرد بالتأليف، وختام الأمر أن بقية الدول توسطت في الصلح بين الدولة العلية ودولة الروسية وانعقد الصلح سنة خمس وتسعين على أن يبقى تحت يد الروسية ما تملكوه من البلاد، وأن الدولة العلية تدفع لهم غرامة الحرب وكان شيئاً كثيراً، وتبقى للدولة أدرنة وما يليها. وكان هذا الخلل إنما دخل على المسلمين بعد خلع السلطان عبد العزيز فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي سنة ست وتسعين ومائتين وألف أعطت الدولة العلية جزيرة قبرس للإنكليز، على أن تكون بأديهم سنين موقتة بشرط أن يدفعوا للدولة العلية قدر الخراج الذي كان يحصل منها، وقد تكرر وضع اليد على قبرس من المسلمين والنصارى مراراً كثيرة، أولها من زمن الصحابة حين افتتحها معاوية رضي الله عنه، وبعد ذلك صار المسلمون والنصارى يتداولونها، تارة تكون بيد هؤلاء وتارة بيد هؤلاء، وفي سنة ست وتسعين ومائتين وألف خلع والي مصر إسماعيل باشا بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا.(1/798)
وقد كان محمد علي باشا لما انعقد الصلح بينه وبين مولانا السلطان عبد الحميد سنة خمس وخمسين ومائتين وألف جعلت له مصر ولأولاده من بعده، فلما صارت ولايتها لإسماعيل باشا أراد حصر الولاية في أولاده ومنع إخوانه وأولاد إخوانه منها، فتوجه إلى دار السلطنة في مدة السلطان عبد العزيز سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف فتم له مراده، وجعلوا ولاية مصر له ولأولاده الأكبر فالأكبر، وكان الصدر الأعظم في ذلك الوقت في دار السلطنة هو محمد رشدي باشا الشرواني.
ثم أن الله قضى وقدر أن عاقبة هذا الأمر الذي فعله إسماعيل باشا أول ما ظهر سوءه عليه، فإنه في سنة ست وتسعين ظهر عليه كثيرة ديون أخذها من الدول الأجنبية وأنفقها في غير حقها، فتشاور أهل الديون على أنهم يضبطون خراجات مصر ومحصولاتها لأجل استيفاء ديونهم، فلما أحس بذلك أراد أن يجعل لهم عصبية يمنعهم بها، فتداخل مع العلماء وأهل مصر وعقد بينه وبينهم عهوداً ومواثيق على أن الأمور كلها تكون بيد العلماء والأهالي وبمشاورتهم، فملا أحس الإنكليز والفرنسيس وغيرهما بانعقاد هذه العصبية سعوا في خلعه ووافقهم على ذلك مولانا السلطان عبد الحميد، فخلعوه في سنة ست وتسعين وجعلوا ولاية مصر لولده الأكبر محمد توفيق باشا عملاً بما تقرر قبل ذلك حين نفى إخوته وبنيهم من دخولهم في الولاية من بعده، وإن الولاية من بعده تكون لأكبر أولاده فأقاموا عليها ولده الأكبر وهو محمد توفيق باشا، وتوجه والده إسماعيل باشا بعائلته وبقية أولاده إلى نابولي من بلاد إيطاليا، وجعل له مرتب من محصولات مصر وخزينتها.
وفي سنة سبع وتسعين ومائتين وألف استولت دولة الفرنسيس على تونس وأعمالها بالمكر والخديعة والحيلة، فجهزت دولة الفرنسيس عساكر(1/799)
كثيرة وأظهرت أنها تريد تأديب بعض قبائل العرب العصاة، منهم قبيلة يقال لهم الخمير في أعمال تونس، فوصلوا بعساكرهم إليهم وقاتلوهم وقهروهم ثم زحفوا بعساكرهم إلى تونس، ولم يستطع أحد أن يدفعهم إلى أن قاربوا دخول تونس، فاضطرب أهل تونس اضطراباً كثيراً، ثم عقدوا معهم صلحاً وأدخلوا طائفة من عساكرهم تونس وأبقوا الباي وهو حاكم الإقليم على ولايته بحسب الظاهر، واستولوا في الباطن على الأحكام والمحصولات والخراجات، واستقبلوا الديون التي كانت على والي تونس، وصارت الأمور كلها بأيديهم فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي سنة ثمان وتسعين ومائتين وألف كانت فتنة بمصر بين والي مصر توفيق باشا وبين عرابي باشا، وكان عرابي باشا من رؤساء عساكر محمد توفيق باشا، واتسع الأمر في ذلك، فجاء الإنكليز بعساكرهم البحرية نجدة لمحمد توفيق باشا إلى الإسكندرية، وضربوا مدافعهم على الإسكندرية، وقاتلوا الذين كانوا مع عرابي باشا، وكان ذلك في شعبان ورمضان سنة تسع وتسعين، واتسع الأمر بما يطول الكلام بذكره، وكانت الغلبة لتوفيق باشا ومن معه من الإنكليز، وتملكوا الإسكندرية، وذهب عرابي باشا ومن معه إلى مصر، ثم سارت الإنكليز بعساكرهم لقتاله بمصر، والكلام على ذلك طويل، وآخر الأمر أنه انهزم عرابي باشا ومن معه، ثم دخلوا مصر وقبضوا على عرابي باشا وعلى كثير ممن كانوا معه، فقتلوا جماعة منهم ونفوا جماعة نفياً موقتاً، وجماعة نفياً مؤبداً، وصار العفو عن قتل عرابي باشا ونفوه مع بعض من كانوا معه إلى جزيرة سيلان من أعمال مليبار من بلاد الهند، وجعلوا إقامته ومن معه هناك، ورتبوا لهم مرتباً يكفيهم. واستولى الإنكليز على القطر المصري، ووضعوا عساكرهم في القلعة على صورة أنهم إنما فعلوا ذلك إعانة لمحمد توفيق باشا وأبقوه على ولايته.(1/800)
والإنكليز مع ذلك كله يقولون ليس مرادنا الاستيلاء على مصر وإنما مرادنا الاصطلاحات والتأييد لمحمد توفيق وإذا استقامت الأمور وانتظمت أحوال مصر نخرج منها وتخرج عساكرنا.
وفي سنة سبع وتسعين ظهر رجل بالسودان يسمى محمد أحمد يقال أنه المهدي أو قائم طالب لإظهار الحق ولم يدع أنه المهدي، ويقال أنه شريف حسني، وكان قبل ظهوره مشهوراً بالصلاح ومن مشايخ الطرائق، قيل إنه على طريق الشيخ السمان، وأول ظهوره أنه لما كثرت أتباعه ومريدوه وقع اختلاف بينه وبين العساكر المصرية المتملكين للسودان عمالاً لصاحب مصر محمد توفيق باشا، ثم اتسع الأمر بينهم وبينه إلى القتال، وقاتلوه وقاتلهم مراراً، وكانت الغلبة لمحمد أحمد عليهم حتى استولى على كثير من بلاد السودان وأخرجهم منها، فلما دخل الإنكليز مصر صار الإنكليز هو الذي يجهز عليه العساكر ويقاتله بعساكر الإنكليز ومعهم عساكر مصر، ووقع بينهم وبينه وقائع كثيرة يطول الكلام بذكرها، والغلبة في تلك الوقائع كلها له عليهم، فتملك كردفان وكسلة والخرطوم وبربرة ودنقلة وغير ذلك، وقتل منهم خلقاً كثيراً لا يحصى عددهم، وكان أمره معهم عجيباً يأتون إليه بالعساكر الكثيرة، والمدافع والآلات الشهيرة التي لا يطيق أحد مقابلتها، فيقابلهم بجيوشه السودانيين وليس معهم إلا السيف والرمح والسكاكين، فيهجمون على تلك العساكر في موضعهم ومحط جيشهم ولا يبالون بمدافعهم وآلاتهم حتى يخالطوهم ويقتلوا أكثرهم من قرب طعناً بالرماح وضرباً بالسيوف والسكاكين، ويشتتون شملهم، ومنهم جماعة في براري سواكن قد ولى محمد أحمد عليهم رجلاً يسمى عثمان ذقنه، فجاء بمن معه من السودان لمحاصرة سواكن وإخراج الإنكليز والعساكر المصرية منها فخرجوا إليه بجيوشهم الكثيرة، وآلاتهم ومدافعهم الشهيرة، فهزمهم عثمان ذقنة ومن معه من السودان هزيمة بعد هزيمة، وقتل الكثير منهم حتى أنهم جاؤوه في(1/801)
سنة ثنتين وثلاثمائة بنحو من سبعين مركباً مشحونة بالعساكر الكثيرة، والآلات والاستعدادات الوفيرة، وخرجوا لقتاله في البر قريباً من سواكن، فهزمهم وقتل أكثرهم وشتت شملهم وغنم أكثر أموالهم ودوابهم وذخائرهم وأسبابهم، وإلى هذا الوقت وهو شهر ذي الحجة من سنة ثنتين وثلاثمائة وعثمان ذقنه ومن معه من السودان في نواحي سواكن محاصرون لها، وفيها عساكر للإنكليز وصاحب مصر قيل أن جيوش محمد أحمد تبلغ ثلاثمائة ألف أو يزيدون. وأما دعوى أنه المهدي فمختلف فيها فمن الناس من يقول أنه يدعي أنه المهدي، ومنهم من يقول لم يدع أنه المهدي بل يقول أنه قائم لإظهار الحق وإقامة الشريعة وإخراج الإنكليز من مصر، والأكثر من الناس يقولون أ، هـ رجل صالح على غاية من الاستقامة، ومنهم من يقدح فيه وينسب إليه خلاف ذلك، ويقول إن جيوشه يقع منهم فساد كثير، وليس لهم غرض إلا القتل والنهب، وإنهم في استيلائهم على كردفان والخرطوم وغيرهما قتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين، فيهم العلماء والصلحاء والنساء والأطفال، وقيل إن وقوع ذلك كان من بعض المفسدين منهم ولم يرض بذلك محمد أحمد ولم يأمر به، والله أعلم بحقيقة الحال. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن انتصار آخر هذه الأمة في آخر الزمان يكون بالسودان فيحتمل أنهم هؤلاء ويحتمل أن يكونوا غيرهم، وانتصار المسلمين بهم في آخر الزمان مأخوذ مما ذكره الخازن في تفسيره عند تفسير قوله تعالى " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " من سورة الواقعة فإنه قال ما نصه: ثلة من الأولين يعني من المؤمنين الذين قبل هذه الأمة، وثلة من الآخرين يعني من مؤمنين هذه الأمة، ويدل عليه ما رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن عروة بن رويم، وقال لما أنزل الله عز وجل قوله تعالى: " ثلة من الأولين وقليل من الآخرين " بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه(1/802)
وقال: يا رسول الله آمنا برسول الله وصدقناه ومن ينجو منا قليل، فأنزل الله عز وجل: " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين "، فدعا رسل الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب وقال له: قد أنزل الله فيما قلت، فقال عمر رضي الله عنه رضينا عن ربنا وصدقنا نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من آدم إلينا ثلة، ومنا إلى يوم القيامة ثلة، ولا يستتمها إلا سودان من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا الله. ومثل ذلك في تفسير الخطيب الشربيني وفي التفسير المسمى بالدر المنثور للجلال السيوطي أن عروة بن رويم يروي هذا الحديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحديث المذكور
أيضاً رواه ابن مردويه وابن عساكر، لكن اللفظ الذي ذكره في الدر المنثور قال في آخره: وأمتي ثلة، ولن تستكمل ثلتنا حتى نستعين بسودان من رعاة الإبل ممن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فيحتمل أن المراد من السودان هؤلاء القائمون مع محمد أحمد وعثمان ذقنه، ويحتمل أن يكون غيرهم والله أعلم بغيبه. وكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لا بد من وقوعه، وروى ابن مكرم الإفريقي في كتاب له سماه لسان العرب حديثاً لم يذكر من خرجه وقال فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرج في آخر الزمان رجل يسمى أمير الغضب، أصحابه محسرون محقرون مقصون عن أبواب السلطان ومجالس الملوك، يأتونه من كل أوب كقزع الخريف يورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها فيمكن أنهم هؤلاء السودان القائمون مع محمد أحمد أو غيرهم. أيضاً رواه ابن مردويه وابن عساكر، لكن اللفظ الذي ذكره في الدر المنثور قال في آخره: وأمتي ثلة، ولن تستكمل ثلتنا حتى نستعين بسودان من رعاة الإبل ممن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فيحتمل أن المراد من السودان هؤلاء القائمون مع محمد أحمد وعثمان ذقنه، ويحتمل أن يكون غيرهم والله أعلم بغيبه. وكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لا بد من وقوعه، وروى ابن مكرم الإفريقي في كتاب له سماه لسان العرب حديثاً لم يذكر من خرجه وقال فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرج في آخر الزمان رجل يسمى أمير الغضب، أصحابه محسرون محقرون مقصون عن أبواب السلطان ومجالس الملوك، يأتونه من كل أوب كقزع الخريف يورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها فيمكن أنهم هؤلاء السودان القائمون مع محمد أحمد أو غيرهم.
مباحث في المهدي المنتظر
وقد ذكر كثير من العلماء الذين ألفوا رسائل في ظهور المهدي وعلاماته أن من علامات ظهوره خروج السودان، منهم الجلال السيوطي والعلامة(1/803)
ابن حجر والعلامة المتقي والعلامة السيد محمد بن رسول البرزنجي في كتابه المسمى بالإشاعة في أشراط الساعة، ففي رسالة الجلال السيوطي المسماة بالعرف الوردي في علامة المهدي، حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه: إذا خرجت السودان طلبت العرب ينكشفون حتى يلحقوا ببطن الأردن أو ببطن الأرض، فبينما هم كذلك إذ خرج السفياني في ستين وثلاثمائة راكب حتى يأتوا دمشق، فلا يأتي عليهم شهر حتى يبايعه من كلب ثلاثون ألفاً. والأحاديث التي جاء فيها ذكر السقياني كثيرة شهيرة والكلام عليها طويل، وهو يريد قتال المهدي عند ظهوره، ثم يخسف بجيش السفياني ويهلكه الله تعالى. وفي رسالة ابن حجر المسماة بالقول المختصر في أخبار المهدي المنتظر، أن من علامات ظهور المهدي ألوية قبل من المغرب، وأن خروج أهل المغرب إلى مصر من أمارات خروج السفياني، وذلك إنما يكون عند ظهور المهدي، وجه السودان بالنسبة إلى مصر مغرب، فيحتمل أنهم هؤلاء القائمون مع محمد أحمد، ويحتمل أن يكون المراد غيرهم، وكذا قوله خروج أهل المغرب إلى مصر يحتمل أن يكونوا هؤلاء لأنه يصدق على الجهة التي ظهروا منها أنها من المغرب بالنسبة لمصر، ويحتمل أن يكونوا غيرهم، والله أعلم بأسرار غيبه وأسرار أحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن علامات ظهور المهدي الرايات السود التي تخرج من خراسان، وجاء فيها أحاديث كثيرة، قال في الإشاعة: يمكن أنها هي التي خرجت في زمن المهدي العباسي بن المنصور، ويحتمل أنها أيضاً تخرج عند ظهور المهدي المنتظر. وفي شرح الشجرة النعمانية تبقى قوتها وسلطنتها إلى ظهور المهدي، وأنهم يكونون من أعوانه وأنصاره بأنفسهم وأموالهم وخزائنهم وعساكرهم وآلاتهم وعددهم، فيجب الدعاء للدولة العثمانية على(1/804)
كل مسلم والذي يقاتلهم يكون باغياً خارجاً عليهم، فالواجب على كل مسلم السعي في تشييد دولتهم وتثبيت قواعدها، وإهانتهم في إظهار الشريعة وإحياء السنن وإماتة البدع، والدعاء لهم بالتوفيق، فنسأل الله تعالى أن يوفقهم لكل خير وأن يلهمهم كمال الرشد والصلاح، وكذا سائر وزرائهم وقضاتهم وعمالهم.
ثم إن هذا القائم بالسودان وهو المسمى محمد أحمد إما أن يكون باغياً خارجاً على السلطان فيجب قتاله وإن لم يدع أنه المهدي، ويمكن أن الله أقامه لإخراج الإنكليز من مصر إعانة للدولة العثمانية ولا يريد الخروج على السلطان وإنما يريد أن يكون من جملة رعايا الدولة العثمانية ثم يكون لإعانة المهدي؛ ويؤيد ذلك ما ذكره الجلال السيوطي في رسالته التي ألفها في علامات المهدي، فإنه ذكر فيها حديثاً أخرجه نعيم بن حماد عن أبي قبيل قال: يكون أمير بإفريقية اثنتي عشرة سنة ويكون بعده فتنة، فيملك رجل يملؤها عدلاً، ثم يسير إلى المهدي فيؤدي إليه الطاعة ويقاتل عنه، فيمكن أنه هو هذا الرجل المسمى محمد أحمد ويمكن أنه غيره والله أعلم بأسرار غيبه. وقيل إن الذين يشيعون أنه هو المهدي إنما هم بعض أتباعه ليرغبوا عامة الناس في اتباعه والدخول في طاعته، وأما هو فإنه لم يدع أنه المهدي، بل قال بعض من اجتمع به أنه سمع منه بلا واسطة أنه يقول: إني لست أنا المهدي المنتظر وإنما أنا قائم لإظهار الحق وإقامة الشريعة، وأما أن ثبت أنه يدعي أنه هو المهدي المنتظر فالأمر مشكل، لأن المهدي المنتظر لا يدعي أنه المهدي ولا يطلب البيعة لنفسه ولا يقاتل الناس لتحصيلها ولا يبايع إلا وهو مكروه، بل لا يبايع الناس حتى يتهددوه بالقتل وذلك أن الله يطلع بعض من اختصه من صالحي عباده وعلى علاماته، فيدلون الناس عليه فيطلبونه فيفر منهم مراراً، ثم يمسكونه ويكرهونه على البيعة ويتهددونه بالقتل،(1/805)
ولا يكون ظهوره والبيعة له إلا والناس بلا خليفة، أخذاً من حديث: يحصل اختلاف عند موت خليفة وهو أصح حديث روي في هذا الباب، وأما الآن فالناس لله الحمد لهم خليفة وهو أمير المؤمنين مولانا السلطان عبد الحميد بن المرحوم مولانا السلطان عبد المجيد، وبيعته في أعناق المسلمين، وسلسلة سلطنته من أحسن الدول الإسلامية مقيمين للشريعة السنية، محبين للصحابة وأهل البيت، ناصرين أهل السنة المحمدية قامعين أهل البدعة الردية، فلا يجوز خلع بيعته ولا الخروج عن طاعته، ثبت الله دولته وأبد سلطنته، فمن خلع بيعته أو ترك طاعته أو خرج عليه فهو باغ معتد. وأيضاً من علامات المهدي المنتظر أن يكون من ولد فاطمة رضي الله عنها، وأن يكون ظهوره والبيعة له بمكة بين الركنين، ولا يصح أن يكون ظهوره والبيعة له بغير مكة، قال الجلال السيوطي في آخر العرف الوردي في علامات المهدي: وأما قول القرطبي أن ظهور المهدي يكون من المغرب فهو باطل، وقد تبع السيوطي على ذلك العلامة العلقمي والعلامة الصبان في رسالته التي ألفها في علامات المهدي، فكل منهما قال كما قال السيوطي، أن قول القرطبي أن ظهور المهدي يكون بالمغرب باطل، وقال بعضهم يمكن حمل كلام القرطبي على غير المهدي المنتظر، فإن كثيراً ممن ادعى نفسه أنه المهدي وكان ظهورهم بالمغرب، كمحمد بن تومرت وعبيد الله العبيدي جد ملوك إفريقية ومصر، وخلق كثير غير هذين ادعى كل واحد منهم أنه المهدي بالمغرب وغيره، وذلك لأن المهديين متعددون والمهدي المنتظر واحد، وهو الذي يكون من ولد فاطمة ويكون ظهوره بمكة، والناس بلا خليفة، ويبايع مكرهاً ولا يطلب البيعة لنفسه ولا يقاتل الناس لتحصيلها، ويكون في زمنه خروج المسيح الدجال ونزول عيسى عليه السلام، ويجتمع به. ومما يدل على أن المهديين متعددون والمهدي المنتظر واحد، ما ذكره العلامة ابن حجر(1/806)
في الصواعق المحرقة لأهل الضلال والزندقة، حيث قال حاكياً لقول من قال أن المهدي من ولد العباس، وهو والد هارون الرشيد واسمه محمد المهدي بن عبد الله المنصور بناء على الأحاديث المذكور فيها أن المهدي من ولد العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أنه من أحسن خلفاء بني العباس، وهو فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، ثم قال ابن حجر موجهاً لقول هذا القائل: ويمكن أنه مهدي من ولد العباس وهو غير المهدي المنتظر فإن المهدي المنتظر من ولد فاطمة رضي الله عنها، ويكون في زمنه خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام ويجتمع به، فهذه العبارة صريحة في تعدد المهديين، وجمع بعضهم بين الأحاديث التي فيها أنه من ولد فاطمة، والأحاديث التي فيها أنه من ولد العباس بطريق آخر فقال: أن المهدي المنتظر من ولد فاطمة من جهة أبيه، ومن ولد العباس من جهة أمه، بأن تكون أمه أو
أم بعض آبائه من ولد العباس، وكلام ابن حجر في رسالته التي في علامات المهدي يقتضي أيضاً تعدد المهديين وأن المهدي المنتظر واحد فإنه قال فيها: أم بعض آبائه من ولد العباس، وكلام ابن حجر في رسالته التي في علامات المهدي يقتضي أيضاً تعدد المهديين وأن المهدي المنتظر واحد فإنه قال فيها: والذي يتعين اعتقاده ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من وجود المهدي المنتظر، وهو الذي يخرج الدجال وعيسى عليه السلام في زمنه، وهو المراد حيث أطلق المهدي، وأما من قبله فليس واحد منهم هو المهدي المنتظر، ويكون قبل المهدي أمراء صالحون لكنهم ليسوا مثله، فهو الأخير في الحقيقة، وكذلك غير ابن حجر ممن ألفوا رسائل في علامات المهدي كلهم يقتضي كلامهم تعدد المهديين وأن المهدي المنتظر واحد، وإنما قالوا بذلك التعدد لأنه قيل في محمد بن الحنفية أنه المهدي، وقيل في عمر بن عبد العزيز أنه المهدي، وقيل في محمد النفس الزكية ابن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط أنه المهدي، فهؤلاء أطلق على واحد منهم أنه المهدي، فيثبت بذلك تعدد المهديين قطعاً،(1/807)
لكن ليس واحد من هؤلاء هو المهدي المنتظر، فالمهدي المنتظر واحد وهو لم يظهر إلى الآن، فيمكن حمل كلام القرطبي على غير المهدي المنتظر ممن كان خروجهم بالمغرب، ولا يمكن حمل كلامه على المهدي المنتظر لأنه إنما يظهر بمكة والناس بلا خليفة كما تقدم إيضاحه، وكذلك لا يصح قول من قال إنما يكون ظهور المهدي المنتظر من ماسة بالغمرب، فهو قال باطل لا أصل له كما نبه على ذلك العلامة ابن خلدون في تاريخه، فإنه قال: أن القول بظهوره من ماسة باطل لا أصل له، وإنما نشأ ذلك من رجل من المتصوفة خرج بالسوس الأقصى وعمد إلى مسجد ماسة وزعم أنه الفاطمي المنتظر تلبيساً على العامة هناك بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك، وأفهمهم أن من ذلك المسجد يكون أصل دعوته، فتهافت عليه تهافت الفراش طوائف من عامة البربر، ثم خشي رؤساؤهم اتساع نطاق الفتنة فدسوا إليه من قتله في فراشه وانطفأت الفتنة. والحاصل أن الذي تقتضيه الأحاديث النبوية وصرح به العلماء أن المهدي المنتظر، إلى هذا الوقت لم يظهر، وذكروا له علامات كثيرة بعضها مضى وانقضى وبعضها باق لم يظهر، ومن أعظم علاماته أنه يصلحه الله في ليلته، وأنه من ولد فاطمة رضي الله عنها، وأنه يبايع مكرهاً لا أنه يطلب البيعة لنفسه ويقاتل الناس لتحصيلها، بل لا يبايع حتى يتهدد بالقتل، وأن ظهور البيعة له إنما تكون بمكة بين الركنين، وإن ظهوره إنما يكون عند وجود اختلاف بموت خليفة، فلا يظهر ويبايع إلا والناس بلا خليفة، فهذه الأشياء هي أقوى العلامات عليه، وله علامات كثيرة غير هذه ذكرها الذين ألفوا الرسائل في تحقيق أمره.
لكن تلك الأشياء ظنية ومختلف في كثير منها، وذلك مثل اسمه واسم أبيه وموضع ولادته ومقدار عمره وقت ظهوره، ومدة مكثه في الأرض بعد ظهوره، فكل هذه الأشياء مختلف فيها.(1/808)
فما قيل في مقدار عمره وقت ظهوره أنه ابن أربعين، وقيل أنه ابن عشرين، وقيل أنه ابن ثمانية عشر، وقيل غير ذلك. وقيل في مدة مكثه بعد ظهوره أنها سبع سنين أو تسع سنين وقيل أنها أربعون وقيل عشرون وقيل غير ذلك. وقيل في اسمه أنه محمد وقيل أحمد، وهل هو من ولد الحسن أو الحسين أو العباس؟ وجمع بعضهم بأنه من ولد أحد الحسنين من جهة أبيه ومن ولد الآخر من جهة أمه، وفي بعض أمهاته من هي من ولد العباس. والأحاديث التي جاء فيها ذكر ظهور المهدي كثيرة متواترة، فيها ما هو صحيح وفيها ما هو حسن وفيها ما هو ضعيف وهو الأكثر، لكنها لكثرتها وكثرة رواتها وكثرة مخرجيها يقوي بعضها بعضاً، حتى صارت تفيد القطع، لكن المقطوع به أنه لا بد من ظهوره، وأنه من ولد فاطمة، وأنه يملأ الأرض عدلاً نبه على ذلك العلامة السيد محمد بن رسول البرزنجي في آخر الإشاعة. وأما تحديد ظهوره بسنة معينة فلا يصح لأن ذلك غيب لا يعلمه إلا الله، ولم يرد نص من الشارع بالتحديد، وقد ذكر كثير من المتقدمين من العلماء تحديد ظهوره في سنين عينوها بالظن والتخمين، فلم يخرج فيها فأخطأوا في ظنهم وتحديدهم، ويؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم في المهدي أنه يصلحه الله في ليلته أن المهدي لا يعلم بنفسه أنه المهدي المنتظر قبل وقت إرادة الله إظهاره، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف المخلوقات لم يعلم برسالته إلا وقت ظهور جبريل له بغار حراء حين قال له: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " وأما قبل ذلك فكان يرى منامات كثيرة تأسيساً لرسالته وتقوية لقلبه، لكنه لم يعلم أن المراد منها تأسيس الرسالة، حتى أنه كان كلما رأى مناماً من تلك المنامات يخبر زوجته خديجة رضي الله عنه ويشكو إليها حاله،(1/809)
فكانت ثبته وتقول له كلاماً يقوى به قلبه كما هو موضح في كتب الحديث، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ظهور جبريل عليه السلام له، وقوله: " اقرأ باسم ربك " فبالأولى أن المهدي المنتظر لا يعلم بأنه المهدي المنتظر إلا بعد إرادة الله إظهاره، ولذلك يمتنع من البيعة حتى يتهدد بالقتل ويبايع مكرهاً، فهذا هو سر قوله صلى الله عليه وسلم يصلحه الله في ليلته ليعلم من ذلك أنه لم يعلم أنه المهدي إلا وقت إرادة الله إظهاره، فكل من يدعي أنه هو المهدي المنتظر ويطلب البيعة لنفسه أو يقاتل الناس لتحصيلها فهو مخالف لما صرحت به أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ادعى هذه الدعوى كثيرون فيما تقدم من الأزمان ولم تثبت دعواهم، وكان لهم مع الخلفاء وقائع وحروب مذكورة في التواريخ، وقد جمعت أسماؤهم ووقائعهم باختصار في رسالة مستقلة، ليعلم من وقف عليها أن كل من ادعى هذه الدعوى لا تتم له إلا إذا جاءت على طبق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى.
وقد ذكر العلامة ابن خلدون في تاريخه كلاماً فيه فوائد تعلق بهذا البحث، فلنذكر ملخص ذلك تتميماً للفائدة، وحاصل ذلك أن الذين يدعون هذه الدعوى إما أن يكونوا موسوسين أو مجانين فلا علاج لهم إلا التنكيل بالقتل والضرب إن أحدثوا فتنة، وإلا يسخر بهم وتذاع السخرية بهم، والصفع في الطرق أو الأسواق، وإما أن يكونوا من طالبي الرياسة والملك فيجعلون هذه الدعوى وسيلة لذلك ويغفلون عما ينالهم من الهلكة وإسراع الهلاك والقتل من الملوك والسلاطين عند إحداثهم فتنة بهذه الدعوى، وقد يكون بعض من ادعى هذه الدعوى من الصالحين ويريد إظهار الحق ويتخيل له أنه هو المهدي، فيخطئ ظنه ولا يعرف ما يلزمه وما يحتاج إليه في إقامة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،(1/810)
فإن الله لم يكتب عليه في ذلك إثارة فتنة وإنما أمره الله تعالى به حيث تكون القدرة عليه، قال صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ". وأحوال الملوك والدول قوية راسخة لا يزحزحها ولا يزلزلها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوة التي من ورائها العصبية بالقبائل والعشائر، وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله تعالى بالعشائر والعصائب، وهم المؤيدون من الله تعالى بالكون كله لو شاء، لكنه سبحانه وتعالى إنما أجرى الأمور على مستقر العادة وإنه حكيم عليم. فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب وكان محقاً قصر به الانفراد عن العصبية فطاح في هوة الهلاك، وأما إن كان من المتلبسين بذلك في طلب الرياسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك، لأن أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والإخلاص له والنصيحة للمسلمين، ولا يشك في ذلك مسلم ولا يرتاب فيه ذو بصيرة، وكل أمر يجتمع عليه كافة الخلق لا بد له من العصبية، وفي الحديث الصحيح: " ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه " وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم أن لا تخرق لهم العوائد في الغلبة بغير عصبية، والغفلة عن هذا هي أكثر أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء، فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طريق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه والأمر بالمعروف رجاء الثواب عليه من الله تعالى، فليكثر اتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغا والدهما، ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين، وكثير منهم يدعي أنه المهدي المنتظر ولم تصح دعواهم، ويتبعهم كثير من العامة والأغمار ممن لا يرجعون إلى عقل يهديهم ولا علم يقيدهم،(1/811)
يستجيبون لكثير ممن يدعون هذه الدعوى لما اشتهر من ظهور فاطمي، ولا يعلمون حقيقة الأمر، وأكثر ما يكون ذلك في الممالك القاصية وأطراف العمران بإفريقية والسوس من المغرب، وتجد الكثير من ضعفاء البصائر يقصدون رباطاً بماسة لما كان بذلك الرباط بالمغرب من الملثمين من كدالة، واعتقادهم هو أنهم قائمون بدعوة الفاطمي يزعمون ذلك زعماً لا مستند له إلا البعد عن القاصية عن مثار الدولة وخروجها عن نطاقها، فتقوى عندهم الأوهام في ظهور الفاطمي من ذلك الموضع، لخروجه عن رتبة الدولة ومثار الأحكام والقهر، ولا محصول لديهم في ذلك إلا هذا الوهم، وقد يقصد ذلك الموضع كثير من ضعفاء العقول للتلبيس بدعوة تنشأ عن وسواس وحمق، وقد قتل الملوك والرؤساء كثيراً منهم، ثم قال: أخبرني شيخنا محمد بن إبراهيم الأربلي، قال خرج برباط ماسة لأول المائة الثامنة وعصر السلطان يوسف بن يعقوب المريني رجل من منتحلي التصوف يعرف بالتوزيري، وادعى أنه الفاطمي المنتظر، واتبعه الكثير من أهل السوس من كدالة وكزولة، وعظم أمره وخافه رؤساء المصامدة وعلماؤهم، فدس عليه السكسوي من قتله بياتاً وانحل أمره. وكذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السابعة في عشر التسعين منها رجل يعرف بالعباس، وادعى أنه الفاطمي المنتظر، وتبعه الدهما من غمارة؛ ودخل مدينة فاس عنوة وحرق أسواقها، وارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة ولم يتم أمره، وكثير من هذا النمط.
وأخبرني شيخنا المذكور بفرسية عن مثل هذا، وهو أنه صحب في حجه رجلاً من أهل البيت من سكان كربلا كان متبوعاً معظماً كثير التلامذة، وكان الناس يتلقونه بالنفقات في أكثر البلدان، وتأكدت الصحبة بيننا في الطريق، ثم كشف لي عن أمرهم وأنهم إنما جاؤوا من موطنهم(1/812)
بكربلا قاصدين أرض المغرب، لإظهار دعوى أنه الفاطمي المنتظر، فلما وصل إلى المغرب وعاين دولة بني مرين، وكان أمير المؤمنين يوسف بن يعقوب في ذلك الوقت منازلاً تلمسان، فلما رأوا قوة ملكه قال ذلك الرجل لأصحابه: ارجعوا بنا فقد أزرى بنا الغلط وليس هذا الوقت وقتنا. وهذا يدل على أن ذلك الرجل استبصر بأن الأمر لا يتم إلا بالعصبية الكافية لأهل الوقت، فلما علم أنه غريب في ذلك الموطن ولا شوكة له وأن عصبية بني مرين في ذلك الوقت لا يقاومها أحد من أهل المغرب، استكان ورجع إلى الحق وأقصر عن مطامعه، وبقي عليه أن يستيقن أن عصبية الفواطم وقريش أجمع قد ذهبت لا سيما في المغرب، إلا أن التعصب لشأنه لم يترك لهذا القول، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وقد كانت بالمغرب لهذه العصور القريبة نزعة من الدعاة إلى الحق والقيام بالسنة، لا ينتحلون فيها دعوة فاطمي ولا غيره، وإنما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السنة وتغيير المنكر، ويعتني بذلك ويكثر تابعوه، وأكثر ما يعتنون بإصلاح السابلة، لما أن أكثر فساد الأعراب فيها لما فيها من طيب معاشهم، فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعوا، إلا أن الصبغة الدينية فيهم لم تستحكم، لما أن توبة العرب ورجوعهم إلى الدين إنما يقصدون به الأقصار عن الغارة والنهب، ولا يعقلون في توبتهم وإقبالهم إلى مناحي الديانة غير ذلك، لأنها المعصية التي كانوا عليها، ومنها توبتهم. ونجد ذلك المنتحل للدعوة والقائم بزعمه بالسنة غير متعمق في فروع الاقتداء والاتباع، إنما دينهم الإعراض عن النهب والبغي وإفساد السابلة، ثم الإقبال على طلب الدنيا والمعاش أقصى قصدهم، وشتان بين هذا الطالب للدنيا وبين من أراد إصلاح الخلق لكل ما يحتاجون إليه من أمر دينهم، فاتفاقهما ممتنع،(1/813)
لا تستحكم للأول صبغة في الدين ولا يكمل له نزوع عن الباطل، ويختلف حال صاحب الدعوة معهم في استحكام دينه وولايته في نفسه دون تابعيه، فإذا هلك انحل أمرهم وتلاشت عصبيتهم.
وقد وقع ذلك بإفريقية لرجل من كعب من سليم يسمى قاسم بن مرة في المائة السابعة، ثم من بعد لرجل من بادية رياح كان أشد ديناً من الأول وأقوم طريقة في نفسه، ومع ذلك فلم يستتب أمرهما، وبعد ذلك ظهر ناس بهذه الدعوة يشتبهون بمثل ذلك ويلبسون فيها، وينتحلون اسم السنة وليسوا عليها إلا الأقل، فلا يتم لهم ولا لمن بعدهم شيء من أمرهم.
وأول ابتداء هذه النزعة في الملة ببغداد حين وقعت الفتنة بين الأمين والمأمون ابني الرشيد وقتل الأمين، وكان المأمون بخراسان فأبطأ عن مقدم العراق، وأراد انتزاع الخلافة من بني العباس ونقلها للعلويين، فجعل ولي عهده علياً الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، فهاج من ذلك فتن كثيرة ببغداد، واجتمع بنو العباس وكشفوا وجه النكير على المأمون، وتداعوا للقيام وخلعوه وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي، فوقع الهرج وكثر القتل والنهب ببغداد، وانطلقت أيدي الذعار بها من الشطار والحربية على أهل العافية والصون، وقطعوا السبيل وامتلأت أيديهم من نهاب الناس، وباعوها علانية في الأسواق، ورفع أهلوها أمرهم إلى الحكام وقد ضعف أمرهم فلم ينصفوهم، فتوافر أهل الدين والصلاح وتعاقدوا على منع الفساق وكف عاديتهم.
وقام ببغداد رجل يعرف بخالد الدربوس ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابه خلق وقاتل بهم أهل الدعارة فغلبهم، وأطلق يده فيهم بالضرب والتنكيل، ثم قام من بعده رجل آخر يعرف(1/814)
سهل بن سلامة الأنصاري وعلق مصحفاً في عنقه ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فاتبعه كافة الناس من بين شريف ووضيع من بني هاشم فمن دونهم، ونزل قصر طاهر واتخذ الديوان وطاف ببغداد، ومنع كل من أخاف المارة، ومنع الخفارة لأولئك الشطار، فقال له القائم الأول وهو خالد الدربوس أنا لا أعيب على السلطان، فقال له سهل: لكني أقاتل كل من خالف الكتاب والسنة كائناً من كان، وذلك سنة إحدى ومائتين، فجهز إبراهيم بن المهدي بعد أن بايعه بنو العباس جيشاً لقتال سهل بن سلامة، فغلبه وأسره وانحل أمره سريعاً وذهب ونجا بنفسه، ثم اقتدى بهذا العمل بعده كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحق ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية، ولا يشعرون بمغبة أمرهم ومآل أحوالهم. ثم ذكر كثيراً من الأحاديث التي جاءت في المهدي وضعف كثيراً منها، ثم قال: والحق الذي يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره وتدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه، وقد قررنا لك ذلك من قبل بالبراهين القطعية، وعصبية الفاطميين بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الآفاق، ووجد أمم آخرون قد استعملت عصبيتهم على عصبية قريش، إلا ما بقي بالحجاز في مكة وينبع والمدينة من الطالبيين من بني حسن وحسين بن جعفر، منتشرون في تلك البلاد وغالبون عليها وهم عصائب متفرقة، فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته إلا أن يكون منهم، ويؤلف الله بين قلوبهم في اتباعه حتى يتم له شوكة وعصبية وافية بإظهار كلمته وحمل الناس عليها، وأما على غير هذا الوجه فلا يتم ذلك لما أسلفناه من البراهين الصحيحة انتهى ما أردت نقله من كلام ابن خلدون.(1/815)
ورأيت في كثير من الرسائل المؤلفة في شأن المهدي أنه لا يتم أمره إلا بالقيام بالشريعة الغراء، وأنه يكون على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون، ويفيض الله على الخلق نوراً ببركته فيتبعونه ويقتدون به في جميع شؤونه وأفعاله وأقواله وأحواله، حتى يكون حالهم كحاله، ووصفهم كحال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ووصفهم، لأن الناس على دين ملوكهم، فإذا استقام خليفة المسلمين وصار كالخلفاء الراشدين فإنهم كلهم يستقيمون، وإذا زهد في الدنيا يزهدون، وملاك الأمر كله هو الزهد في الدنيا وعدم التبسط فيها، ومن الأمثال القديمة: الناس على دين ملوكهم، وذكروا أن السبب في هذا المثل أن الوليد بن عبد الملك بن مروان، كان مشغوفاً بتشييد البنيان، فكان الناس في زمانه ليس لهم همة إلا تشييد البنيان والقصور، وفي ذلك طول الأمل والغرور، ثم ولي بعده أخوه سليمان بن عبد الملك بن مروان، فكان مشغوفاً بكثرة الأكل وتنويع الأطعمة وتكثير الألوان، فكان الناس في زمانه يتفاخرون بالتوسعة في تنويع المأكولات ونهمكون في التلذذ بالشهوات، وفي ذلك أعظم البليات، ثم ولي بعد سليمان ابن عمه عمر بن عبد العزيز بن مروان، الملحق بالخلفاء الراشدين، فكانت همته في الاشتغال بالطاعات والعدل وإقامة الدين، فكان الناس في زمنه راغبين في فعل الطاعات مستكثرين من فعل الخيرات، فقالوا الناس على دين ملوكهم، فالخليفة الأعظم هو القدوة لجميع المسلمين، وأعظم شيء يقتدون به هو فيه، فيكون به صلاحهم وانتظام أمرهم واتفاق كلمتهم، هو الزهد في الدنيا والتناول منها بقدر الضرورة والحاجة وترك الفضول الذي لا يحصل إلا بتعب ولجاجة، فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة وبلية، والزهد فيها أصل كل خصلة سنية، ولا يكون الزهد من العامة(1/816)
إلا بعد زهد الخاصة، فإن الخاصة هم العمدة في ذلك، والمراد من الخاصة: الملوك والسلاطين والأمراء والقضاة والعلماء. وأولى من يطلب منه الزهد في الدنيا الخليفة الأعظم الذي أقامه الله لإصلاح أمور الدنيا والدين، وإحياء الشريعة وقتال الكفار ودفع المفسدين. قال الإمام الطرطوشي في كتابه المسمى سراج الملوك: إن الخليفة إذا عدل في بيت المال، وساوى نفسه بالمسلمين في الأخذ من بيت المال بقدر الحاجة، كان المسلمون كلهم عسكراً للإسلام.
والحاصل أنه إذا زهد في الدنيا واقتصر على قدر الحاجة والضرورة في جميع الأحوال يتبعه على ذلك الوزراء والأمراء والقضاة والعلماء وجميع الناس من الرجال والنساء والأغنياء والفقراء، فإذا حصل ذلك يسهل حينئذ إقامة الشريعة والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتصير همة الجميع متوجهة لاتحاد الكلمة والاجتماع على منهج الشرع المطهر، فتحيا بذلك السنن التي أميتت، وتزول البدع التي أذيعت، وتقبل الناس على جهاد الكفار وفعل كل الطاعات، فإن الكفار إنما تغلبوا على المسلمين بسبب رغبة المسلمين في الدنيا واقتحامهم المعاصي لتحصيلها، وإزالتها مخالفة لأغراضهم الذين هم بصددها، فلا يمكن استقامتهم على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما داموا لم يكونوا كذلك لا يستقيم لهم أمر، وقد صح عن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان كثيراً ما يقول في خطبه ومجالسه: أن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله، ولا يحتمله إلا أفضلكم مقدرة وأملككم لنفسه. فهذه العبارة نص صريح في أنه لا يستقيم أمر المسلمين حتى يكونوا كما كان الصحابة رضي الله عنهم، وما دام الخليفة الأعظم يتبسط في الدنيا ويأخذ من بيت المال(1/817)
ما أراد مما زاد عن حاجته، ويتكرم في العطار بما شاء على من شاء، ولا يراعي في ذلك القواعد المشروعة، ولا يسلك مسلك الخلفاء الراشدين، فإن الناس يتبعونه فلا يمكن حصول الاستقامة لهم، ولا تتحد كلمتهم ولا ينتظم أمرهم، ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، بل يصيرون كلهم يطلبون الدنيا ويتلذذون بالشهوات، ويرتكبون لتحصيلها أنواع الخطيئات، لأن الله تعالى أجرى عادته بين العباد أن يكون الناس على دين ملوكهم، فهذا هو السبب في عدم اتحاد المسلمين واتفاق كلمتهم.
وأما في زمن المهدي فإنه يسلك هو مسلك الخلفاء الراشدين، ويزهد في الدنيا ولا يأخذ من بيت المال إلا بقدر الضرورة، والناس يكونون في زمنه على طريقته يفعلون كما يفعل. فظهر بهذا أنه إذا زهد الخليفة الأعظم في الدنيا وعدل في بيت المال وأخذ منه بقدر حاجته من غير زيادة له ولخدمه وأتباعه واتخذ له من الخدم الذين يقومون بخدمته بقدر الحاجة أيضاً من غير زيادة، يتبعه على ذلك كافة الوزراء والأمراء والقضاة والعلماء وجميع الأبرار والفجار، والخليفة أمين على بيت مال المسلمين لا يتصرف في شيء منه إلا بحسب المصلحة العائدة النفع على الإسلام والمسلمين، فهو مثل قيم مال اليتيم لا يتصرف إلا بالمصلحة الظاهرة، فإن كان له مال خاص به يسعف به عن الأخذ من مال المسلمين، فلا يأخذ شيئاً، وإن لم يكن له مال يأخذ بقدر الحاجة كما قال تعالى: " ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف " فإذا فعل ذلك اقتدى به الوزراء والأمراء والقضاة والعلماء وكافة الخلق فتتحد قلوبهم وتجتمع كلمتهم، ويقبلون على فعل الطاعات ويعرضون عن فعل السيئات، ويتركون التلذذ بالشهوات، فيتم اجتماعهم على نصرة الدين،(1/818)
ويصيرون كلهم عسكراً لنصرة الإسلام، ويقوى عزمهم على قتال أعدائهم من القوم الكافرين. وأما إذا تبسط الخليفة في مال المسلمين، وتبعه الوزراء والأمراء والقضاة والعلماء، فلا تطيب قلوب بقية المسلمين ببذل أموالهم وأنفسهم وأولادهم في قتال الكافرين، حيث يرون ملوكهم لم يساووهم، وما كان انتصار الصحابة على القوم الكافرين وفتحهم البلاد الواسعة مع الاتحاد واتفاق الكلمة، إلا بسبب مساواة أمرائهم لهم في جميع شؤونهم، وما حصل افتراق الكلمة وعدم ائتلاف القلوب، إلا لما استبد الملوك بالأموال وتبسطوا فيها، وترفعوا على بقية المسلمين وأكثروا من المكوسات والظلم بأخذ أمواله، وصرفوها في غير مصارفها، فشق على المسلمين تميزهم عنهم وترفعهم عليهم بأموالهم التي أخذوها منهم بغير حق.
ولا يظن ظان أن الخلفاء الراشدين إنما فتحوا الأمصار وانتصروا على الكفار بكثرة الصلاة والصيام، بل إنما كان ذلك بزهدهم في الدنيا وعدم تبسطهم بها وعدلهم في بيت المال، والحرص على مساواتهم للمسلمين، فطابت قلوب بقية المسلمين فبذلوا أموالهم وأنفسهم وأولادهم وجاهدوا الكفار وفتحوا البلاد، حتى كان الغزاة يتجهزون للغزو من أموال أنفسهم ويجهزون منها غيرهم إن قدروا على ذلك، ونفوسهم طيبة بذلك، وتأبى نفوسهم أن يأخذوا من بيت المال شيئاً إذا كان لهم ما يفي بذلك، لأنهم يرون أمراءهم مساوين لهم في جميع تلك الشؤون، وإذا سلك الخليفة والأمراء والعلماء هذا المسلك يرتفع عن المسلمين المكوسات والضرائب، وينتفي عنهم جور الحكام، لأنهم إنما يجورون عليهم ليتبسطوا في أموالهم ويتلذذوا بها، وإذا ساوى الحكام رعاياهم وعدلوا في بيت المال، تسخى نفوس الأغنياء بإعطاء الفقراء ويواسونهم، وتقنع نفوس الجميع بأقل القليل، فلا يبقى في المسلمين فقير، وينقاد الناس للحق وينصفون من أنفسهم،(1/819)
فتزول المخاصمات التي كانت بينهم وتقل مرافعاتهم إلى الحكام، ويحصل بينهم كمال المحبة والائتلاف، ويرتفع كل شقاق واختلاف، وإذا عدل الخليفة في بيت المال وسلك في ترك التبسيط في الدنيا طريق النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، كان قدوة للمسلمين، ويكون له من الأجر مثل أجر من عمل بمثل عمله من المسلمين، وكان سبباً في اتحاد المسلمين وائتلاف قلوبهم واتفاق كلمتهم، وانتصارهم على القوم الكافرين، ويكون له في ذلك من الله الرضا والرضوان في الدنيا وجنات النعيم، وتقر بذلك عين النبي صلى الله عليه وسلم فإنه بالمؤمنين رؤوف رحيم. ويستحيل أن يحصل لهم شيء من ذلك والخليفة لم يكن كذلك، لأنهم إنما يفعلون ما يفعل، وحالهم عن ذلك لا يتحول، والتبسط في الدنيا من أعظم أسباب الفسق الموجب للهلاك، قال تعالى: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " وعدم التبسط في الدنيا هو ملاك الأمر، وليس على الخليفة في سلوك هذا الطريق مشقة ولا ضيق، ولا منع من إدراك الحق ولا تعويق، وينال بغيته من الأكل والشرب والنكاح بغاية الراحة والتلذذ.
والحاصل أن استقامة الخليفة حتى يكون كالخلفاء الراشدين في عدله في بيت المال، هو السبب الأعظم في اجتماع كلمة المسلمين واتحادهم في جميع الأحوال، وعدم عدله في بيت المال سبب للافتراق في الحال والمآل، ولو صام النهار وقام الليالي الطوال، وبدون استقامة الخليفة وعدله في بيت المال كالخلفاء الراشدين لا يرجى للمسلمين فلاح، ولا يتم لهم اتحاد ولا نجاح، أطال الله عمر هذا السلطان عبد الحميد، ونظر إليه بعين العناية والرعاية والتأييد، ووفقه وأعلى مقامه وجمل به لياليه وأيامه آمين.(1/820)
عبد الحميد أبو الاقبال بن الشيخ عبد الغني الرافعي الطرابلسي
هو الشاب الأديب، والحسيب النسيب، قال صاحب العقود الجوهرية: ولد المترجم بطرابلس الشام سنة 1275 هجرية، ونشأ في حجر أبيه وقرأ عليه علم الأدب والعربية والفقه، وأحرز طرفاً عظيماً من الأدب، وشعره رقيق يحتوي على كل معنى دقيق. وقد أكثر في مدح السادة الرفاعية، والسلالة الأحمدية، وبيتهم القديم في طرابلس الشام معمور بالصلحاء الكرام، والعلماء الأعلام. وقال صاحب العقود الجوهرية: رأيته وهو في خدمة والده المحترم لما دخلت إلى صنعاء اليمن، وكان إذ ذاك أبوه رئيس استئنافها، ما بين هاشمها وعبد منافها، وتكحلت أنظاري بطلعة ذلك الشيخ الأكبر، وولده المومى إليه ذي الفكر الأنور، وقد علاهما النور الفاروقي، وقضيت من زورتهما بعض حقوقي، رعاية لما بيننا من حقوق النسب، وروابط الأدب، ومن نظمه مشطراً:
سرت ناقتي ليلاً فسبحان من أسرى ... بها للحمى العالي فما أحمد السرى
أضاء له صبح الهدى منه فانبرت ... إلى الساحة القعساء والحضرة الكبرى
وحطت حمول السير مثقلة على ... حضيرة قدس يزدهي تربها التبرا
وراحت كما قد رحت ملتثماً ثرى ... أريكة باب دون جبهته الخضرا
أنخت بها والفجر سل على الدجى ... سيوفاً بقايا الشهب حليهن درا
وهي قصيدة طويلة أصلها لأبي المظفر منصور الواسطي رضي الله تعالى عنه.(1/821)
الشيخ عبد الحميد بن الشيخ عبد الوهاب السباعي الحمصي الشافعي المفتي العام بحمص البهية
العالم العلامة، والحبر البحر الفهامة، صاحب التحقيقات الفائقة، والتدقيقات الرائقة، والمعارف العالية، والفضائل السامية، كان كثير العبادة، شهير الزهادة، عالي الهمة، طويل الباع في كشف الوقاع المدلهمة، مثابراً على العلم والعمل، حسن الظن والرجا والأمل.
تولى الإفتاء بحمص على مذهب أبي حنيفة النعمان، وإن كان شافعي المذهب لأنه لم يكن أعلم منه في المذهبين في ذلك الأوان، وكانت توليته للإفتاء بعد ذهاب شيخه الشيخ إبراهيم الأتاسي إلى طرابلس الشام، ولم(1/822)
يزل بها مفتياً إلى أن رحل إلى الآخرة دار السلام. وبلغني من بعض العلماء والسادة الفضلاء، أنه أتى في حياته إلى حمص رجل شيعي يقال له أبو مغزالة، فنزل في أطراف حمص ليحقق آمله، وصار يدس للعوام بعض عقائد الشيعة من حيث لا يشعرون به أنه مخالف، وكان يظهر لهم التقوى والعبادة والزهادة والمعارف. إلى أن مال إليه الكثير، من غير اعتراض عليه ولا نكير، وصار الناس ينوهون بذكره، ويميلون إلى إعلاء مقامه وترفيع قدره، فأخبر الشيخ المذكور بذلك، فأحضره وسأله عن سلوكه هذه المسالك، فأنكر وتنصل عما نسب إليه، وأظهر للشيخ أنه لا يعتقد هذا المذهب ولا يعول عليه، فما زال الشيخ يلقي عليه بعض مسائل، ويتوصل إلى اختبار حاله بدقيق الوسائل، إلى أن ظهر حاله وبان، وزال إنكاره وتوهيمه وبان، فقام الشيخ في الحال وضربه، وأخرجه من بلدته وأذهبه، وأظهر للناس ما أراده من المخالفة والابتداع، فتوجه ذلك الطاغي إلى جهة بعلبك والهرمل وكان بعض أهل تلك النواحي على مذهب أهل السنة والاجتماع، فدس إليهم عقائد الشيعة المخالفين، فاتبعوه من ذلك الوقت ونشأ لهم هذا من ذلك الحين.(1/823)
وله من المؤلفات حاشية على جمع الجوامع في مجلدين ضخمين، وفتاوى في المعاملات في مذهب السيد أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه في ثلاث مجلدات سماها الإقناعية، وشرح على رسالة السمرقندي في البيان، ومؤلف سماه بغية الطلاب في الرد على ابن عبد الوهاب أصل الفرقة الوهابية، توفي رحمه الله تعالى سنة العشرين بعد المائتين عن بعض ستين سنة في مدينة حلب ودفن هناك وقبره معروف.(1/824)
السيد الشيخ عبد الخالق المعروف بابن بنت الجيزي
الأجل العمدة الشريف الصالح بن أحمد بن عبد اللطيف بن محمد تاج العارفين المصري المنتهي نسبه إلى سيدي عبد القادر الحسني الجيلي ويعرف بابن بنت الجيزي، وهو أخو السيد محمد الجيزي المتوفى قبل ذلك من بيت الثروة والعز والسيادة. تولى بعد أخيه الكتابة ببيت النقابة ومشيخة القادرية وأحسن السير والسلوك مع الوقار والحشمة، وكان إنساناً حسناً كثير الحياء منحجباً عن الناس مقبلاً على شأنه، وفيه رقة طبع مع الأخلاق المهذبة والتواضع للناس والانكسار، توفي سنة ألف ومائتين وسنة واحدة.(1/825)
عبد الخالق بن علي المزجاجي الهندي رحمه الله تعالى
علامة التحقيق، وفهامة التدقيق، ويعسوب الأفاضل، ونخبة الأماثل، من طار في الآفاق ذكره، وانتشر في العالم مقامه وقدره. وقد مدحه بعضهم بقوله:
نيطت تمائمه عليه بمنزل ... سام بأهليه على الأبراج
أهل الشمال والفضائل والعلى ... سرج الهداية هم بنو المزجاجي
تربى في حجور الترقي، وتمسك بحبال التنزه والتوقي، وأخذ العلم عن أهله، وترقى إلى أن اعترف الكل بفضله، ومناقبه مشهورة غنية عن الإطناب، ومآثره معروفة لا تحتاج إلى الإسهاب. سمع صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري الجعفي من الإمام العلامة السيد أحمد بن محمد مقبول الأهدل، وسمع منه أيضاً صحيح الإمام مسلم بن الحجاج، وكثيراً من كتب الحديث الشريفة، وكان أثرياً على مذهب السلف يعمل بالحديث، توفي رحمه الله بعد الألف والمائتين رحمه الله تعالى.
السيد الشيخ عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى مؤلف كتاب النفس اليماني، والروح الريحاني
الكامل الفاضل، والعالم العامل، والجهبذ الهمام، والسميدع الإمام ولد رحمه الله وأحسن إليه ورعاه سنة تسع وسبعين ومائة وألف، ونشأ على بديع الاستقامة وأحسن وصف، في عيشة راضية مرضية، وهمة في تحصيل العلوم سنية، وطاعة وافية، وسريرة صافية، إلى أن صار إماماً فقيهاً، وهماماً نبيهاً، ومحدثاً مفسراً أصولياً، وتقياً نقياً صوفياً عاملاً بالحديث والقرآن، تاركاً للتقليد والأخذ بقول فلان وفلان. ولم(1/826)
يزل مجداً مجتهداً، مكباً على القرآن والحديث وعليهما معتمداً، إلى أن مرض مرض موته، وآن أوان ارتحاله وفوته. فمات رحمه الله ليلة الثلاثاء بعد العشاء الأخيرة في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة ألف ومائتين وخمسين، وله من العمر إحدى وسبعون سنة، وأرخ بعض الفضلاء وفاته بقوله: لينهك الفردوس مفتى الأنام.
الشيخ عبد الرحمن الروزبهاني مدرس الزاوية الخالدية في بغداد
عالم علماء العصر، وإما فضلاء مصره ذي القدر، من انعقد الاتفاق على أنه عالم الآفاق، وأقر له الورى بأن من سواه ورا، وقد نشأ في حجور المعارف إلى أن صار كنز العوارف، مع الزهد والتقوى في السر والنجوى، والتخلي عن المحارم والتحلي بالمكارم. أخذ عن سادات أهل العراق، واستجازهم فأجازوه بالإجازة العامة على الإطلاق، واستفاد فأفاد وأقبل عليه الطالبون من أقصى البلاد، ولا زال يسمو ومقامه يزكو وينمو، إلى أن اختار الآخرة على الأولى، وسار لينال من مولاه مأمولاً وذلك في بغداد دار السلام، سنة سبعين ومائتين وألف من هجرة سيد الأنام، وقد أرخ وفاته شاعر العراق، وأديبها على الإطلاق، السيد عبد الباقي العمري فقال:(1/827)
فاز هذا الضريح فوزاً عظيما ... بتقي يحكي الملائك سيما
هو حبر وصدره الرحب بحر ... أودع الله فيه قلباً سليما
ما رأى قبل لحده الناس لحدا ... ضار كهفاً ليذبل ورقيما
بعدم أم الفضل أمست كما أنه حي أبو الفضل عاقراً وعقيما
يا لبحر منه فقدنا عبابا ... زاخراً بالندى وغيثاً عميما
فترضوا عنه إذا زرتموه ... كل يوم وسلموا تسليما
فبدار السلام قد ارخوه ... حل عبد الرحمن مثوى كريما
وأرخه المذكور ثانياً:
أنت يا قبر مركز الحسنات ... وركاز المآثر الصالحات
بك عبد الرحمن حل فحلت ... معه فيك جملة البركات
وانطوت في ثراك منه علوم ... زاخرات تربو على الصيبات
قد قضى عمره بزهد وتقوى ... وصلاة مشفوعة بصلات
ببنان البيان في البحث كم قد ... حل للطالبين من مشكلات
وبقطر العراق محور فضل ... مثله لا أتى ولا هو آت
بعده أضحت المدارس حتى ... من حلى كل الأفاضل عاطلات
رجعت مطمئنة منه نفس ... وتسامت لأرفع الدرجات
وترقى بسلم العلم ارخ ... شان عبد الرحمن للجنات
وكانت جنازته غاصة بالمشيعين، وتأسف عليه الناس أجمعين. رحمه الله رحمة واسعة.
الشيخ عبد الرحمن البوصنه لي بن الشيخ أحمد المغربي الحنفي شيخ مكتب الرشدية الجقمقية في دمشق الشام
صاحب المعارف في العلوم، والسابق في ميدان التقدم في المنطوق والمفهوم، الثقة المشهور بالكمال، والهمام الموصوف بأشرف الأحوال،(1/828)
من رقى أوج الفضل وحل بناديه وتحلى بعقود مقاصد العالم ومباديه. كان كثير العبادة مهاباً محترماً عليه جلالة ووقار، وهيبة بين الأعيان والصغار والكبار، وكان حسن الأسلوب في التعليم، صاحب معرفة في التدريب والتفهيم.
قدم من الآستانة إلى دمشق الشام سنة سبع وسبعين ومائتين وألف واستقام بها، وكان موظفاً من معارف الآستانة بأن يكون معلماً أول في مدرسة الجقمقية شمال جامع بني أمية، وكانت هذه المدرسة مكتباً مقدماً على سائر المكاتب، كما أن شيخه مقدم على سائر مشايخ المكاتب، وحصل على يديه نفع كثير للطلبة في كثير من الفنون والألسنة من تركية وعربية وفارسية، وبعد مدة وجه عليه تدريس الشفا في حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم في تكية السلطان سليم خان، ولم يزل قائماً بوظائفه مع كمال الهمة وبذل الجد والاجتهاد حسب الطاقة، إلى أن توفي أواخر شهر رمضان المبارك سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير عند قبرة العلامة العلائي صاحب الدر رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الرحمن العراقي الشافعي الأشعري
قد ترجمه السيد عثمان بن سند فقال: إن المشار إليه، ممن تضرب أكباد الإبل للثم يديه، ويعول في المنقول والمعقول عليه، وهو ذو فنون كم من طيها من فنون، وإشارات لها نواظر العرفان عيون، ومحاسن يشهد بحسنها الحاسدون، وشمائل يتنافس بها المتنافسون. وآيات(1/829)
محكمة الآثار، وروايات تستفيض منها الأسرار، وسيادة بأرجها الكون معطار. فهو من الكمل الذين هزوا من العلوم فناً وفنا، والأجلاء الذين بهم طير الفضائل تغنى، والوجوه الذين أسفر بغرورها الزمان، والصدور الذين راق بهم كل صدر وزان، والأقطاب الذين تدير أنظارهم رحى العرفان، والشرفاء الذين لعالية الشرف كالسنان، والفضلاء المرتقين على الأقران، والأذكياء المحرزين قصب السبق في كل رهان، والأكارم الذين افتخر بهم الأوان، فهو لا ريب أنه على كمال الصفات أبهى عنوان، وهو الفاضل الذي أحيا للشافعي آثاره وأعلى من الفقه بالدقائق مناره، والقمر الذي له العلوم دارة، والمعتبر الذي أبان من روض الإسناد أزهاره، والمتصدر الذي رفعته على صهوتها الصدارة، والمحرر الذي شكره المحرر وعطر المحافل بما أملى وقرر، والمدرس الذي أبرز النكت وأظهر وأدنى قطوف الفوائد، وكان الصلة لطلاب العلم والعائد:
ولع بأبكار المعاني فكره ... فكأنها عرب إليها يطرب
صفى من العلم الدقيق زجاجة ... فوها عن السر الإلهي معرب
يا ربع فقه الشافعي بشارة ... إذ جاد روضك منه دان صيب
أصبحت مفتر الأزاهر ضاحكا ... من علمه فغناك منه مخصب
أضحت مواردك الشهية في الورى ... مورودة إذ طاب منك المشرب
حكم أراها ما بدون لعارف ... إلا سما وله أتم المطلب
ونوادر ما زلن منه شورداً ... نادي العلوم بها مريع مخصب
رقت زجاجة طبعه فطلبته ... لأنال منه ما به أتقرب
والشيب لم يكرع بفودي ذوده ... وقضيبه برد النجابة يسحب
فصرفت عنه لسوء جد في الورى ... وبقيت لا شرف لدي ومنصب(1/830)
وبالجملة فهو مفرد علم، وأوحد علت له في العلوم القدم، وحيث لم تؤذن الأقدار، بالإقامة في هذه الدار، دعاه داعي اللقا إلى دار البقا، وقد أثبت ترجمته السيد محمد سند، وتلا صحيح مناقبه بأعلى سند، وفي آخر مدته قصده للقراءة عليه حضرة مولانا الشيخ خالد، فوجدت يتقلب على فرش المرض الزائد، ولم يمض عليه أيام حتى اختار الآخرة دار السلام، وذلك عام ألف ومائتين واثني عشر رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
السيد عبد الرحمن أفندي بن السيد طالب الرفاعي نقيب البصرة
قد ترجمه السيد أبو الهدى أفندي فقال: الإمام الجواد، الطاهر الأجداد، الرفيع العماد، رب المحامد المشتهرة، ينتهي نسبه من طريق السيد شعبان إلى القطب الفرد عظيم الإمداد سيدنا الشيخ عز الدين أحمد الصياد رضي الله عنه. نشأ كأسلافه الكرام البررة في مدينة البصرة وشب بها وولي أمر النقابة بعد أبيه، واشتهر أمره وحسن في البلاد ذكره، وكان على جانب عظيم من الشهامة والمروة وحسن الأخلاق والفتوة، وكان يضرب بجوده المثل. توفي رحمه الله في البصرة سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف وأرخه شاعر العراق السيد عبد الغفار الأخرس بتاريخ بديع افتتحه بقوله رحمه الله:
قبر به سيد شريف ... تدفع في مثله الكروب
اختتمه بقوله:
يوم به قد قيل أرخ ... مضى إلى به النقيب
الشيخ عبد الرحمن بن حسن الريمي الذماري
ولد سنة ألف ومائتين وسبع. قال الإمام الشوكاني في البدر الطالع: له قراءة علي وهو من عباد الله الصالحين، ومن العلماء العاملين، المتعبدين(1/831)
بمقتضى الأدلة الشرعية، لا يميل إلى التقليد بل يعمل بالآيات والأحاديث النبوية، ولم يزل على قدم ثابت وطاعة وعبادة وتقوى وأوصاف أحمدية إلى أن توفاه الله سنة ألف ومائتين ونيف وسبعين.
الشيخ عبد الرحمن أفندي المعروف بالهلواتي الحنفي المصري الأزهري
نخبة عصره، وزينة مصره، من ألبسه الفضل رداء الكمال، وجذبته يد العناية للاستواء على مراتب الإجلال، وقد أثبته الجبرتي في ديوانه ونبه في تاريخه على رفعة مقامه وشانه، فقال: الصاحب الأمثل والأجل الأفضل، حاوي المزايا المنزه عن النقائص والرزايا، قد اشتغل بطلب العلم على السادة، ولازم الأشياخ للتحصيل والاستفادة، وحصل في المعقول والمنقول والفروع والأصول، ما تميز به عن غيره مع حسن الأخلاق، وشهرته في الآفاق، وحضر الكتب الكبار على العلماء الأخيار، وأخذ الحديث عن السيد مرتضى الزيبدي وكثيراً من المسلسلات وكتب الحديث كالصحيحين وغيره، وألف حاشية على مراقي الفلاح، وكان يباحث ويناضل مع عدم الادعاء وتهذيب النفس والسكون والتؤدة، والأمارة والسيادة، ولم يزل رفيع المقام عالي المرام، إلى أن أجاب الداعي، ونعته النواعي، سنة خمس ومائتين وألف رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الرحمن الجمل أخو الشيخ سليمان الجمل الأزهري
تفقه على أخيه ولازم دروسه وحضر غيره من أشياخ الوقت ومشى على طريقة في التقشف والتباعد عن مخالطة انلاس. ولما مات أخوه كان(1/832)
يملي الدروس بجامع المشهد الحسيني بين المغرب والعشا على جمع من مجاوري الأزهر، والعامة تجتمع لسماع قراءته أفواجاً في ذلك الوقت، فقرأ: الشمائل والمواهب والجلالين، ولم يزل على حالته حتى توفي ثاني عشر ذي الحجة سنة تسع وعشرين ومائتين وألف رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمد الدمشقي الشهير بالحفار
العالم الفقيه، والكامل النبيه، الحسن السيرة والصافي السريرة، له مشاركة في العلوم، وله في الناس قدر مشهور معلوم، وكان له حصة مع الحفارين في تربة الدحداح، وكان يقري كثيراً من الطلبة في جامع التوبة. وللناس به اعتقاد عظيم وتعلق جسيم، وله درس عام حافل بين العشائين في الجامع المرقوم. وقرأ على الشيخ عبد الرحمن الكزبري وعلى الشيخ حامد العطار وعلى غيرهما من الشيوخ العلماء الكبار، وأجازوا له بالإجازة العامة لجودة ذهنه وحسن فهمه، حسب شهادة شيوخه له بتفوقه وتقدمه في عمله وعلمه، وحسن خلقه ولين جانبه وتقواه وعبادته، وورعه وزهده وخشوعه وخضوعه وتواضعه ولم يزل ينمو مقامه ويسمو إلى أن مرض في شهر شعبان مرضاً ثقيلاً ودام مرضه يزداد إلى أن توفي ثاني رمضان المبارك سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف ودفن في تربة الدحداح.
الشيخ عبد الرحمن بن محمد الكزبري الشافعي الدمشقي محدث الديار الشامية
السيد الذي أشرقت شموس أفاضله في كل ناد، وفاضت بحار معارفه على صدور القصاد، وأفاد الطالبين بديع المعاني والبيان، وأروى المريدين بزلال الكمالات والعرفان. طلع من أفق المعارف هلالا، وأهل من ميقات المعالي إهلالا، فوصل طيبة العرفان، وسعى وطاف ببيت الفضل(1/833)
والإحسان. الإمام العالم العلامة، والمحدث الكبير الفهامة، من هو لتاج المعارف إكليل، المتسربل برداء التقديم والتفضيل، الزاهد القنوع ذو القدر المرفوع، مشهد الكمال ومظهر الجمال.
ولد يوم عيد الفطر سنة أربع وثمانين ومائة وألف في دمشق الشام، ونشأ وتربى في حجر والده الشمس الهمام، إلى أن أتقن وتفنن وفاق، وطار صيته في الأمصار والآفاق. وأخذ عن أفاضل متنوعين كثيرين تركيين وعربيين، منهم والده الشيخ محمد والشهاب أحمد العطار والشيخ محمد الكاملي وبدر الدين بن بدير المقدسي وشهاب الدين أحمد بن علوي باحسن الشهير بجمال الليل والشيخ نور الدين الوزائي الأزهري والشيخ صالح الغلاني والشيخ زين الدين عبد الغني بن محمد بن هلال مفتي الشافعية بمكة والشيخ محمد طاهر بن سعيد سنبل الحنفي والشيخ علي الخياط والشيخ محمد السقاط، وأخذ مكاتبة عن الشيخ حسن البقلي المالكي وعن الشيخ مصطفى العقباوي المالكي وعن الشيخ أحمد العروسي الشافعي وعن ابن القيصر عبد الرحمن المغربي النحراوي وعن الشيخ محمد الشنواني الأزهري الشافعي وعن الشيخ محمد السقاط الخلوتي وعن الشيخ عبد الوهاب النجاتي.
ويروي صحيح البخاري عن البربير عن الشمس الكزبري عن والده الشيخ عبد الرحمن الكزبري عن الشيخ إسماعيل العجلوني، ويرويه أيضاً عن والده الشمس الكزبري وهو عن والده الشيخ عبد الرحمن الكزبري عن خاله الشيخ علي كزبر عن السيد مصطفى البكري عن أبي المواهب محمد الحنبلي عن نقيب الأشراف السيد محمد بن حمزة الحسيني عن الشيخ عبد الباقي الحنبلي عن الشمس البابلي عن النجم الغزي.
وقد أخذ عنه علماء الشام، وغيرهم من العرب والأعجام. ومن جملة من أخذ عنه سيدي الوالد فإنه روى عنه صحيح الإمام أبي عبد الله البخاري الجعفي من أوله إلى آخره وقد أجازه به وبجميع ما تجوز له(1/834)
روايته عن مشايخه مما هو مذكور في ثبته، وأنا حضرته ولله الحمد على والدي في الدرس العام في جامع كريم الدين بين العشاءين من أوله إلى آخره وأجازني به وبجميع ما تجوز له روايته عن مشايخه، وقد أردت أن أذكر سندي من هذا الوجه لعلوه عن غيره فإني أخذته من طرق كثيرة ولكن هذا السند من أعلاها إسناداً فأقول أروى صحيح البخاري عن والدي المولود سنة 1206 المتوفى سنة 1272 عن الشيخ عبد الرحمن الكزبري المولود سنة 1184 المتوفى سنة 1262 عن والده الشمس محمد المولود سنة 1140 المتوفى سنة 1221 عن والده عبد الرحمن المولود سنة 1100 المتوفى سنة 1185 عن خاله الشيخ علي كزبر المولود سنة 1100 المتوفى سنة 1165 عن السيد مصطفى البكري المولود سنة 1099 المتوفى سنة 1162 عن أبي المواهب الحنبلي المولود سنة 1044 المتوفى سنة 1126 عن السيد كمال الدين بن حمزة المولود سنة 1024 المتوفى سنة 1085 عن الشيخ عبد الباقي الحنبلي المولود سنة 1005 المتوفى سنة 1073 عن الشيخ محمد البابلي المولود سنة 1000 المتوفى سنة 1077 عن النجم الغزي المولود سنة 977 المتوفى سنة 1061 عن الشهاب أحمد العيشاوي المولود سنة 941 المتوفى سنة 1025 عن الشمس محمد الرملي المولود سنة 826 المتوفى سنة 926 عن البدر محمد الغزي المولود سنة 904 المتوفى سنة 984 عن الجلال السيوطي المولود سنة 849 المتوفى سنة 911 عن القاضي زكريا الأنصاري المولود سنة 825 المتوفى سنة 926 عن الحافظ بن حجر العسقلاني المولود سنة 773 المتوفى سنة 852 عن ولي الدين أبي زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي المولود سنة 762 المتوى سنة 826 عن والده عبد الرحيم المولود سنة 725 المتوفى سنة 806 عن الجمال عبد الرحيم الأسندي المولود سنة 704 المتوفى سنة 772 عن التقي علي بن عبد الكافي السبكي المولود سنة 682 المتوفى سنة 756 عن الحافظ أبي الحجاج يوسف المزي المولود سنة 654 المتوفى(1/835)
سنة 742 عن الحافظ عبد المؤمن الدمياكي المولود سنة 613 المتوفى سنة 705 عن الإمام النووي المولود سنة 631 المتوفى سنة 676 عن الشمس عبد الرحمن بن قدامة المولود سنة 577 المتوفى سنة 682 عن أبي عبد الله الحسين بن المبارك الزبيدي الحنبلي المولود سنة 545 المتوفى سنة 631 عن أبي الوقت عبد الأول بن عيسى الشجري المولود سنة 458 المتوفى سنة 553 عن الداوودي المولود سنة 374 المتوفى سنة 467 عن أبي محمد عبد الله بن أحمد بن حموية السرخي المولود سنة؟ المتوفى سنة 381 عن أبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن بشر الفربري المولود سنة 231 المتوفى سنة 320 عن الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري الجعفي المولود سنة 194 المتوفى سنة 256 انتهى. وبعد موت والده وجه عليه تدريس البخاري الشريف تحت قبة النسر في شهر رجب وشعبان ورمضان بعد العصر كل يوم، وعامة العلماء تحضره للأخذ عنه. وفي عام اثنين وستين ومائتين وألف توجه المترجم إلى الحجاز بقصد النسك، وبعد العود من الوقوف رابع يوم من عيد الأضحى توفي إلى رحمة الله ودفن بعد أن غسل في محفل من الفضلاء والعلماء والوجهاء وصلي عليه في الحرم الشريف، والجامع الأنور المنيف، في مقبرة المعلا وقبره ظاهر يزار.
الشيخ عبد الرحمن بن علي بن علامة عبد الرؤوف البشبيشي الشافعي
العلامة المفيد الفهامة المجيد، نشأ في حجر والده وحفظ القرآن وحضر الأشياخ وتفقه في مذهب أبيه وجده وهم شافعيون، واجتمع بالشيخ حسن الجبرتي ولازمه ملازمة كلية. قال الشيخ عبد الرحمن الجبرتي: وحضر(1/836)
المترجم على الوالد في مذهب أبي حنيفة وحفظ كثيراً من الفروع الغريبة في المذهب والرياضيات، وكان به بعض رعونة. ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة وأخبر الوالد بذلك يظن سروره في انتقاله فلامه على فعله وسمعته يقول له:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
وانحط قدره عنده من ذلك الوقت وذلك بعد موت والده في سنة سبع وثمانين ومائة وألف. وأملق حاله وتكدر باله، ثم سافر إلى دمياط وأقام بها مدة يفتي على مذهب الحنفية، وراج أمره هناك لشغور الثغر عن مثله، ثم قدم مصر لأمر عرض له فأقام بمصر وأراد بيع داره ليصرف ثمنها في شؤونه فلم يجد من يشتريها بالثمن المرغوب. وكان إنساناً حسناً يذاكر بفوائد مع حسن المعرفة وصحة الذهن، وربما تعلق ببعض فنون غريبة، ولذا قل حظه وأنشدني لنفسه أبياتاً مدح بها قاضي الثغر واسمه محمد نصري وبيت تاريخها هذا:
رجاه مذهب النعمان أرخ ... بشرع محمد نصري مقدم
وهما تاريخان كما ترى، توفي رحمه الله سنة سبع ومائتين وألف وحيداً في داره وهو جالس من غير سابقة مرض ولا إشارة نسأل الله حسن الخاتمة.
السيد عبد الرحمن بن بكار الصفاقسي نزيل مصر
العمدة الجليل والنبيه النبيل، العلامة الفقيه الشريف والفهامة اللطيف، قرأ في بلاده على علماء عصره ودخل كرسي مملكة الروم فأكرم وانسلخ عن هيئة المغاربة، ولبس ملابس المشارقة مثل التاج والفراجة وغيرها، وأثرى وقدم إلى مصر وألقى دروساً بالمشهد الحسيني، واتحد مع شيخ السادات الوفائية السيد أبي الأنوار فراج حاله، وزادت شوكته على أبناء جنسه وتردد إلى الأمراء وأشير إليه، ودرس كتاب الغرر في مذهب السادة(1/837)
الحنفية، وتولى مشيخة المغاربة بعد وفاة الشيخ عبد الرحمن البناني، وسار فيها أحسن سيرة مع شهامة وصرامة وفصاحة لفظ في الإلقاء. وكان جيد البحث مليح المفاكهة والمحادثة واستحضار اللطائف والمناسبات، ليس فيه غلظة ولا فظاظة، ويميل بطبعه إلى الحظ والخلاعة وسماع الألحان والآلات المطربة.
توفي رحمه الله سنة تسع ومائتين وألف كما نقله الجبرتي.
الشيخ عبد الرحمن الأجهوري النحراوي الشهير بمقري الشيخ عطية الشافعي المصري
قال الجبرتي: الإمام العلامة، المفيد الفهامة، عمدة المحققين ونخبة المدققين، الصالح الورع المهذب. خدم العلم وحضر فضلاء الوقت ودرس ومهر في المعقول وبرع في المنقول، ولازم الشيخ عطية الأجهوري ملازمة كلية، وأعاد الدروس بين يديه، واشتهر بالمقري وبالأجهوري لشدة نسبته إلى الشيخ المذكور، ودرس بالجامع الأزهر وأفاد الطلبة، وأخذ طريق الخلوتية عن الشيخ الحفني ولقنه الأذكار وألبسه الخرقة والتاج وأجازه بالتلقين والتسليك. وكان يجيد حفظ القرآن بالقراءات، ويلازم المبيت في ضريح الإمام الشافعي في كل ليلة سبت، يقرأ مع الحفظة بطول الليل، وكان إنساناً حسناً متواضعاً لا يرى لنفسه مقاما، يحمل طبق الخبز على رأسه ويذهب به إلى الفران ويعود به إلى عياله، فإن اتفق أن أحداً رآه ممن يعرفه حمله عنه وإلا ذهب به، ووقف بين يدي الفران حتى يأتيه الدور ويخبزه له. وكان كريم النفس جداً يجود وما لديه قليل. ولم يزل مقبلاً على شأنه وطريقته حتى نزلت به الباردة وبطل شقه، واستمر على ذلك نحو السنة، وتوفي إلى رحمة الله في السنة العاشرة بعد المائتين والألف.(1/838)
الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الوهاب النجدي الحنبلي
العالم المشهور، والهمام الذي فضله مأثور. ولد في بلاد نجد، ثم أن محمد علي باشا وزير مصر لما أمره المرحوم السلطان محمود بمقاتلة الوهابيين أرسل ولده إبراهيم باشا ومعه معسكر عظيم من الأكراد والأرناؤوط وعرب مصر أغواره لمحاربة عبد الله بن سعود أمير نجد، فقاتلهم وقتل ونهب وحرق وخرب، وأسر عبد الله بن سعود وأرسله إلى مصر، فبعثه والي مصر إلى السلطان محمود فصلبه. وأما باقي عائلة أمراء الوهابيين المعبر عنهم بآل المقرن وباقي بيت الشيخ محمد بن عبد الوهاب المعبر عنهم ببيت الشيخ فإنه نقلهم جميعاً إلى مصر وأسكنهم هناك، ورتب لهم معاشات تكفيهم، وكان من جملتهم المترجم المرقوم، فالتفت إلى الطلب والتعلم والتعليم والاستفادة والإفادة إلى أن صار في الأزهر شيخ رواق الحنابلة، وكان ظاهر التقوى والصلاح والزهادة والعبادة، ولم يزل على حالته المرضية وطاعته وعبادته وإفادته السنية، إلى أن اخترمته المنية سنة أربع وسبعين ومائتين وألف رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الرحمن الكردي النقشبندي الخالدي
السباح في بحار التوحيد، والسياح في قفار التجريد، المعرض عما سوى الله، والمقبل بكليته على إلهه ومولاه، نشأ في مهد الطاعة والعبادة،(1/839)
وسلك مسالك التقوى والزهادة، واستفاد وأفاد ونفع وأجاد، وحسنت سيرته، وطابت سريرته، ولازم خدمة شيخ عصره حضرة مولانا خالد قدس سره، ولم ينفك عنه، سافر معه إلى الهند ورجع معه إلى بغداد مرات وإلى الشام، وسافر معه إلى الحجاز، فكان لا ينفك عنه أينما توجه، وقد خلفه خلافة مطلقة وأذن له بالإرشاد فأرشد كثيراً من العباد، ولم يزل يترقى على معراج الاتصال ويسمو في مراتب الجمال، ويقصده الواردون وينتفع به السالكون، إلى أن توفي في الشام بعد الألف والمائتين والخمسين رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الرحمن بن سعدى بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب الكناني البعلي الشهير بالتاجي الدمشقي الحنفي
أحد العلماء الصالحين والفضلاء المعتقدين، كان إماماً تقياً عابداً حسن المعاملة كثير الإقبال على الله، مشتغلاً بالعلم في ليله ونهاره، دائباً على شغل أوقاته بالاستفادة والإفادة، إلى أن انفرد في زمانه وفاق على أقرانه. مات رحمه الله تعالى ثامن شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن بن علي أفندي العمادي الدمشقي الحنفي
كان عالماً عملاً كاملاً فاضلاً، ذا شهرة حسنة وسيرة مستحسنة، ولد بدمشق الشام ونشأ بها في حجر والده، وكان ذا فطنة ونباهة وحذق ووجاهة، كثير التودد لأحبابه شفوقاً على أرحامه وأقاربه، متديناً ورعاً تقياً. مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف.(1/840)
الشيخ عبد الرحمن بن علي بن مرعي الشافعي الدمشقي الشهير بالطيبي
الشيخ الإمام والحبر الهمام، شيخ الإسلام وعمدة الأنام، وبركة الشام وكعبة العلماء الأعلام، ونخبة ذوي المعارف في الأحكام، من انتهت رياسة العلوم إليه، واعتمد الكل في معرفة الصواب عليه، فهو السامي ذروة الفضل في تحقيق الفروع والأصول، والرامي بسهام معارفه شوارد المعقول والمنقول، والقاطف بأنامل أفهامه ثمرات الدقائق والراشف من مناهل العرفان زلال الرقائق. علامة الزمان وفهامة العصر والأوان، التي العابد والنقي الزاهد، الذي شهد بكمال صلاحه الخاص والعام، ومال الجميع إليه في تمييز الحلال من الحرام.
ولد في بلاد عجلون سنة أربع وثمانين ومائة ألف، وقدم دمشق بعد المائتين فشمر عن ساعد الجد والاجتهاد وسعى في طلب العلم وتحصيل المراد، ولازم علماءها الأعلام وفضلائها الكرام، وكان من أعظم شيوخه الشيخ محمد الكزبري والشيخ يوسف شمس وغيرهما، ولا زال يترقى إلى أن صار يقلب بين الناس بالشافعي الصغير. ثم إنه في آخر شعبان سنة ألف ومائتين وثلاث وستين قد حضر من أمير المؤمنين السلطان عبد المجيد خان مرسوم، بطلب المترجم هو ووالدي الشيخ حسن البيطار ذو المقام الموسوم، للدار العلية والعاصمة العثمانية، يدعوهما لحضور ختان أولاده الكرام ذوي المقام والاحترام، فلبى كل منهما الإجابة، وتوجه بعد أن ودع أحبابه، فلما أن وصلا تلقتهما أيدي التكريم، وأنزلتهما في منازل الاحترام والتعظيم. وكانا متلازمين على الدوام لا ينفكان عن الاجتماع لدى يقظة أو منام. وكان لهما القدر الأعلى والمقام الأجل الأجلى، وقد قصدهما الأفاضل من كل جانب لاغتنام ما لديهما من العلم الذي هو أسنى(1/841)
المطالب، وبعد مدة دعاهما حضرة السلطان إلى حضور الختان. فدخلا حرمه السعيد، ودعوا لعلاه بالنصر والتأييد، ثم بعد مدة من تمام الختان قدما للذات العلية عريضة الاستئذان، وغب برهة من الزمن صدرت الإرادة السلطانية بعودهما إلى الوطن، فعادا إليه بكل سرور وكانت مدة غيبتهما أربعة شهور. ولما قربا من الشام وعلم الناس بحضورهما بسلام، هرع لاستقبالهما الكبير والصغير والحقير والفقير، وامتدت موائد السرور ودارت كؤوس الحبور، وعلى كل حال فهذا المترجم من الأفراد ومن السادة القادة الأجواد، وفي ثاني سنة من حضوره إلى الشام خطبته المنية لدار المقام، وذلك في رمضان سنة أربع وستين ودفن في مقبرة الشيخ ارسلان على جادة الطريق رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الرحيم البرزنجي الشافعي الأشعري
عالم عامل وإمام فاضل وهمام زاهد وناسك عابد، أخذ عن جملة من السادة وعن كثير من القادة إلى أن شهدوا له بالكمال وأجازوه بما تجوز لهم روايته عن الشيوخ الأبطال، وممن أخذ عنه من الأكابر ذوي الفضل الوافر، مولانا الشيخ خالد شيخ الحضرة الشافعي النقشبندي الدهلوي، فلازمه للاستفادة والاقتباس من أنوار معارف تلك السيادة، والانتشاق من عبهره والاجتناء من ثمره، والاقتطاف من كمائم زهره، والارتشاف من ضرب فكره، ولقد أجاد من قال فيه من بديع قوافيه:
من أناس يحيا بهم كل ربع ... نزلوه فاستنطق الأوطانا
نزلوا طيبة فطاب ثراها ... فاسألا عن ثنائها القرآنا
وكرام إن حدثوا في ندي ... عطروا من بردوه الأردانا(1/842)
وأناس منهم علي أناس ... مذ تساموا إلى العلا أعلانا
فاطميون يفطمون عن الغي ... نفوساً تهوى التقوى إعلانا
هم عيون من الوجود وإن هم ... حجبوا عن زهو الدنا الإنسانا
فصرف المترجم إلى العلوم العناية وأمسك بزمام الرواية والدراية، وأحيا مآثر أجداده واشتهر صيته في حاضر قطره وباده، وسقى رحيق تحريره بكؤوس تقرير وتحبيره كل معاصر ذكي وجهبذ سامي الجد زكي، وتقي فائض الأسرار وصوفي صفا ورده من الأكدار، وأعمل أقلامه ليرفع من شرع جده أعلامه، ويضحك من السنة ثغراً أضحك الله سنه، وداوى بمعارف إسناده وتنظيره وإيراده كلوم البحث والمناظرة، وأجرى كميت أنظاره فأفحم مناظره، ونظر في الحكمة فكان مركز الدائرة، وعرف علماء قطره فضله الذي يري أنه بدر عصره، وأقروا بأنه من الحكمة اللسان ومن عين النظر الإنسان. وأقبلوا إليه فرادى ومثنى، وزينوا من جواهر خاطره لكل فكر نحراً وأذناً:
يكاد إذا تصبب في حديث ... يضارع مالكاً حفظاً وضبطا
فقل للسامعين له أصيخوا ... لقول صار للأفكار سمطا
متى أصغى له ندب بسمع ... يجد منه لذاك السمع قرطا
وأضاف إلى العلوم النقلية ما هو عقد في نحرها من الدلائل العقلية، وتجلى على موجهات الشمسية إلى أن دعي ابن بجدتها في الناحية الكردية.
لنا من أولى البيت المطهر سادة ... يداوون للأحكام للملة الكلما
فوارس يقرون العدة صوارما ... ويقرون مهديا إلى سبلهم علما
فما مثلهم في العلم يوماً رأيته ... إذا نظروا أجلوا عن المشكل الظلما
وإن قرروا في حلبة الدرس ذقت من ... مقاولهم عذبا تخيله الظلما
وللمرتضى عبد الرحيم مباحث ... إذا امتص منها الفكر لم يذق السقما(1/843)
مباحث فيها للنبي سرائر ... لطفن فأحيت من مطالعها الفهما
إذا نظمت في عقد درس وعابها ... حواسدة قالوا هي الدرة العصما
مباحث إن قال المعاصر أنها ... جواهر قلنا الدر من سمة الدأما
فلا تنكروا منه فرائد زينت ... من الكرد ما ضاهى بأعلامه الشاما
إذا نفحت من أفق درس تشيمها ... شمائل تستدعي من الناشق الشما
وإن أسفرت في ليلة مدلهمة ... ارتك لأقمار الهدى القمر التما
فيحيى به يحيى إذا ما تفجرت ... ينابيع أفكار له تبهر الخصما
يقرر من قول النبي فتنبري ... دقائق بالتقرير تستغرق الوهما
فيا زمناً حلاه لؤلؤ فكره ... تنور بما أبداه للحكم النجما
فتقريره التنوير للفكر عن صدى ... وتحريره منهاج من هديه أما
أهب على الطلاب أنفاس بحثه ... فأحيا بأرواح الذكا للهدى الجسما
وأقرأ من لم ينظر العصر مثله ... بعين ولا جاراه ذو فطنة علما
يمين التقى لا بل يسار مؤمل ... إليه أتى يشكو من الزمن العدما
ومحيي دروس العلم بعد دروسها ... بذهن إذا ما مد علماً حكى اليما
فتى عبشميا ما وجدنا نظيره ... بزهد أرنا أنه البدر أو أسمى
توفي المترجم عام ألف ومائتين واثني عشر.
الشيخ عبد الرحيم الزياري المعروف بملا زاده الشافعي الأشعري
العلم المفضال، والأوحد الذي لم يزل مشاراً إليه بكل كمال، والعلم الفرد في محاسن الأخلاق والخلال، والجهبذ الهمام الذي نال بغية الآمال، والحبر الذي لنحر العلوم نحر، والبحر الذي بالدرر المنثور تلاطم وزخر، والألمعي الذي أدلة ألمعيته شواهد على أعلميته. سطعت أنواره في الأكراد،(1/844)
وتفجرت ينابيع حكمه في كل واد، وأزهرت رياض تقريره في كل فؤاد، فهو الإمام الذي شكرت المعضلات فكره، وعجز معاصره أن يقدر قدره، لم يدع من الفنون فناً إلا ارتقاه، ولا نوعاً غريباً إلا اختباره وانتقاه، ولا خفيا من المشكلات إلا أبان محياه، ولا دنا من دنان المباحثات إلا ارتشف حمياه، ولا وادياً من التحقيق إلا سلكه، ولا ارتدى برد تحرير إلا وشاه وحبكه، مع دين يشهد أعداؤه بمتانته وزهد ظهارته كبطانته، وصبر على مضض الأيام يظهر له أنه في الكمال إمام أي إمام، وله من التحابير أحسن التحارير، وبدائع بيان هي البديع والبيان، وكان من أعظم المقاصد للمداح بالقصائد، ولذلك قال عثمان أفندي بن سند أمدنا الله وإياه بوافر المدد:
قصائد لم يطربن إلا لأنها ... لها من علا عبد الرحيم مساند
إمام زكا عرقاً فأضحى محله ... له سمرت فوق السماك مصاعد
تجسد من علم فقد قال إنه ... عباب ففيما قال لاحت شواهد
تقارير أما زهرها فسوائر ... ولو أنها كالخالدات خوالد
فوائده في الدرس هن فوائد ... ولو أنها للدارسين موائد
قواعد أبداهن غرا يزينها ... نوادر في الآفاق هن الشوارد
إذا جال في بحث رأيت به فتى ... له طاب من بحث العلوم الموارد
له غرر لماعة وبراعة ... لها من بديع النظم سارت أوابد
توفي المترجم عام ألف ومائتين واثني عشر.
الشيخ عبد الرسول البخارلي الحنفي النقشبندي
العالم في الشريعة والحقيقة، المرشد الكامل في آداب الطريقة، كان أديباً كاملاً وهماماً فاضلاً، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، ما جلس في(1/845)
مجلس إلا وعظ وذكر، جواد كريم لطيف رحيم، كثير الوداد جميل الترداد. يسعى ماشياً من مكان إلى مكان لزيارة الأحباب والإخوان، وله أمور باهرة وكرامات ظاهرة، ما رآه إنسان إلا وأحبه وأخلص له في المحبة، وحينما ورد من بخارى إلى الشام أقبل عليه الخاص والعام، وكان يصرف صرف الأكابر والأعيان ولم يعلم له جهة ولا اعتماد على إنسان. ولم يزل على حاله من سلوكه في مناهج كماله، إلى أن توفي نهار الأربعاء الخامس والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة سبع وتسعين ومائتين وألف ودفن في تربة الدحداح رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الستار أفندي بن الشيخ إبراهيم أفندي بن الشيخ علي أفندي الأتاسي مفتي مدينة حمص البهية
العالم العامل والحبر المدقق الكامل، والدر المختار لتنوير الأبصار، وإمداد الفتاح للصعود على مراقي الفلاح، فلا ريب أنه محيي ربع العلم بعد اندراسه، ومنير كوكب الفضل بعد انطماسه، وقد استوى على عرش الورع والعبادة، واحتوى على ما يوجب التقدم للمعالي والسيادة.
ولد في طرابلس الشام وتربى على أيدي السادة الكرام، فأكب على تحصيل العلم من صغره، كما أنه تجرد لحسن العمل في كبره، وتولى رحمه الله التدريس في الجامع النوري. وقد حضر إلى دمشق المحمية، فأقبل على الأخذ عن علمائها بهمة قوية كالشيخ محمد الكزبري عمدة الأخيار، والشيخ محمد بن عبيد العطار. وأخذ الفقه على مذهب أبي حنيفة النعمان عن الشيخ نجيب القلعي والسيد شاكر العقاد وغيرهما من العلماء الأعيان. وكان مكملاً في العلوم من منطوق ومفهوم، تهابه القلوب لفضله وتعظمه، ويجله العموم ويحترمه، مع أنه لا تأخذه في الله لومة لائم،(1/846)
ولا تدنيه الأماني من المعاطب والمآثم، وله شعر لطيف رقيق، ونثر أعذب من الرحيق، ومفاكهات أدبية، ومناسبات لما يخل بالأدب أبية. توفي رحمه الله في معان بعد أداء الحج الشريف ودفن هناك وقبره على يسار الداخل إلى معان من جهة الحجاز، وقد صين قبره بأربعة جدر من اللبن، وما شاع عند أهل معان من أن صاحب هذا القبر اسمه الشيخ عبد الله فهو مما جرت به العادة بين الناس غالباً من أن كل من مات غريباً في محل وكان ذا قدر ولم يعرفوه فإنهم يسمونه بالشيخ عبد الله، والتحقيق أن هذا المقام مقام المترجم المرقوم كما هو محقق عند أهالي حمص خلفاً عن سلف، وكان قد حضر دفنه في هذا المحل جماعة من أهل حمص، وكانت وفاته سنة خمس وأربعين بعد المائتين والألف رحمه الله تعالى.
وقال هذا الموشح في مدح الشام:
حبذا الشام مقر الشرفا ... وديار الأنس فيها وطني
صانها المولى لطيف اللطفا ... من صروف الدهر طول الزمن
دور
كم بها الأخبار حقاً وردت ... وأحاديث روتها العلما
وكذا الأبدال فيها سكنت ... وخيار من خيار الكرما
خيرة الله تعالى قد غدت ... وإليها يجتبي أهل الحمى
فهي دار الأتقياء الحنفا ... من بهم يشفى عليل البدن
كنبي الله يحيى ذي الوفا ... وكذي الكفل جزيل المنن
دور
جامع الأموي حاوي العابدين ... في دياجي الليل والناس نيام
في خشوع لم تراهم ساجدين ... ووجوه زانها نور القيام(1/847)
يسألون الله رب العالمين ... جنة الفردوس في دار السلام
وجوار الهاشمي المصطفى ... أحمد المختار أوفى محسن
من له قلب رحيم قد صفا ... والد الزهراء جد الحسن
دور
كم رياض مع غياض حولها ... وبساتين زهت بالنيربين
وقصور عاليات كم لها ... وعيون فائقات كل عين
وسرور وحبور حلها ... تجمع الشمل الذي من بعد بين
طالما قضيت عمراً سلفا ... بين أحباب وشهم فطن
حينما قد كنت صبا دنفا ... خالي الأفكار في عيش هني
الشيخ عبد السلام بن الشيخ عبد الرحمن بن المرحوم الشيخ مصطفى الشطي الحنبلي الدمشقي
كان عالماً لطيفاً وأديباً كاملاً عفيفاً، محبوباً بين الناس مطلوباً لكل جمال وإيناس، حسن الخطاب محكم الجواب، ناظماً ناثراً شاعراً.
ولد سنة ألف ومائتين وست وخمسين ونشأ في طلب العلوم الشرعية والفنون الآلية والأدبية. وله قصائد كثيرة وموشحات شهيرة، منها قوله عارضاً حديث الرحمة:
لقد روينا حديثاً عن مشايخنا ... مسلسلاً أولياً جاء منتظما
إن ترحموا ترحموا دنيا وآخرة ... فإنما يرحم الرحمن من رحما
وقال مخمساً بيتين للأمير منجك:
يا من تعرض للشقا ... لا تنس يوم الملتقى
إن رمت فوزاً في البقا ... اشغل فؤادك بالتقى
واحذر بأنك تلتهي ... واترك لغمر حاسد(1/848)
واصحب لشخص ماجد ... واقصد لرب واحد
واعمل لوجه واحد ... يكفيك كل الأوجه
وقال في مدح الشيخ حسن الراعي:
في حاء حبك لم أزل مترقياً ... وبسين سرك لا أخاف ضياعي
وبنون نورك في الأنام مهابتي ... ورعايتي إذ أنت نعم الراعي
وقال في مدح كتابين حنبليين:
يا من يروم بفقهه ... في الدين نيل مطالب
اقرأ لشرح المنتهى ... واحفظ دليل الطالب
وقال مضمناً:
أجريت من شوقي إليك مدامعي ... وازداد من عشقي عليك تلهفي
لو كنت تعرف حالتي لرحمتني ... روحي فداك عرفت أم لم تعرف
مات رحمه الله تعالى ليلة الأربعاء تاسع شهر محرم الحرام سنة خمس وتسعين ومائتين وألف ودفن في الذهبية في مرج الدحداح.(1/849)
الشيخ عبد الصمد بن محمد الأرمنازي بن محمد الأرمنازي الشافعي الحلبي
الفقيه الأديب، والكامل اللبيب، مولده بأرمناز " قرية من أعمال حلب " ليلة الجمعة خامس عشر رمضان سنة ثلاثين ومائة وألف، ونشأ بها في كنف والده وقرأ القرآن وحفظه وتلاه مجوداً على الشيخ المقرئ يحيى بن الحسين الحلبي الزيات، وتفقه بأبي الحسن علي بن عبد الكريم الأرمنازي، وقرأ النحو وغيره من بقية الفنون، وخطب بعد والده في جامع أرمناز كأسلافه، ولهم زمان قديم في هذا المكان. ونظم الشعر وتعاناه، وأقبل على مطالعة الدواوين الشعرية وكان متديناً كريماً جواداً صالحاً، ومن شعره يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
لست أخشى ولي إليك التجاء ... يا نبياً سمت به الأنبياء
كنت نوراً وكان آدم طيناً ... فأضاءت بنورك الأرجاء
جئتنا من إلهنا بكتاب ... عربي عنت له البلغاء
أيها المادحون طيبوا نفوساً ... إن مدح النبي فيه الشفاء
ما رماني الزماني منه بسهم ... أو دهتني الخطوب والضراء
وتوسلت بالمشفع إلا ... داركتني الألطاف والسراء
قاب قوسين قد دنا فتدلى ... وتحلى لما أتاه النداء
كان جبريل البراق دليلاً ... حين أسرى به فنعم العطاء(1/850)
وبدت حين وضعه معجزات ... ضاق عنها التعداد والإحصاء
وضعته والكون كان ظلاماً ... وعن الحق في القلوب عماء
فانتفى الغي حينما حل في الأر ... ض ونارت أقطارها والسماء
يا رفيع الجناب أنت المرجى ... في المهمات إذ يعم البلاء
كن مجيري يا خير هاد لأني ... ليس لي في الأمور عنك غناء
وله أشعار كثيرة، وقصائد شهيرة. توفي بعد الألف والمائتين وخمسة.
السيد الشيخ عبد الصمد بن عبد الرحمن الجاوي
أوحد العلماء مفرد الفضلاء، الولي التقي والعارف النقي، قال في النفس اليماني: وفد إلى مدينة زبيد عام ألف ومائتين وستة، وكان من العلماء العاملين ومن المتفننين في سائر العلوم، أخذ عن عدة من علماء عصره وفضلاء مصره، منهم الشيخ إبراهيم الرئيس، والشيخ محمد مراد، والشيخ عطاء المصري، والشيخ محمد الجوهري، والشيخ محمد الكردي وغيرهم. ثم أقبل على علم التصوف وكان جل اشتغاله به ويعظم شأنه ويكثر من ذكر فوائده، وأن من أقلها أن ينكشف للمشتغل به والمقبل عليه عيوب نفسه ونقصها وتقصيرها، ويكون ذلك بعد توفيق الله سبحانه عاصماً له عن الغرور، وقيل في هذا المعنى:
يا رب إن العبد يخفي عيبه ... فاستر بحلمك ما بدا من عيبه
ولقد أتاك وما له من شافع ... لذنوبه فاقبل شفاعة شيبه
ثم أنه قد كثر من زمن الأولين الاعتناء والمطالعة في كتاب " إحياء(1/851)
علوم الدين " حتى أن بعض علماء المغاربة ألف كتاباً حافلاً في فضائل الإحياء. ومما يحكى أن رجلاً من المشتغلين به اطلع على كتاب تنبيه الأحيا على أغاليط الإحيا، فأقبل على مطالعته فما أتمه إلا وقد ذهب بصره، فأكثر من البكاء والتضرع إلى الله عز وجل وعرف السبب وتاب إلى الله عز وجل، فرد الله عليه بصره. انتهى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكلامه في الأحياء غالبه جيد، لكن فيه أربع مواد فاسدة: مادة فلسفية، ومادة كلامية، ومادة الترهات الصوفية، ومادة من الأحاديث الموضوعة. وبينه وبين ابن عقيل قدر مشترك من جهة تناقض المقالات المصنفات. قال الشيخ حسين بن عبد الله الحضرمي في حق الأحيا: يداوى به من سموم الغفلة ويوقظ علماء الظاهر، ويوسع للعلماء الراسخين، ومن أنكر عليه فهو خارج عن الصواب. ولا عبرة بقول محمد صديق حسن خان في كتابه المسمى بالتاج المكلل فإنه قال: وهو لا شك كذلك لكن بعد حذف المواد الفاسدة المشار إليها، ومثله كتابه الآخر المسمى بكيمياء السعادة. انتهى قال صاحب النفس اليماني: قرأت على المترجم من أول كل ربع شيئاً وأجازني، وكان لا يرى للدنيا قدراً، اتصف بالسماحة وبذل المال ما أمكن. توفي سنة ألف ومائتين و..
السلطان عبد العزيز بن السلطان محمود الثاني
تولى الملك بعد أخيه السلطان عبد المجيد وكان سلطاناً مهاباً جسوراً ذكياً نبيهاً عارفاً بدقائق السلطنة، تولى الملك سابع عشر ذي القعدة الحرام سنة ألف ومائتين وسبع وسبعين، وفي سنة ثمان وسبعين أظهر أهل الجبل الأسود العصيان فأرسل إليهم من أرجعهم إلى الطاعة بعد حرب عظيم،(1/852)
وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف أظهر العصيان أهل جزيرة كريد وكثير من البندقية، فجهزت الدولة جيوشها براً وبحراً وكذلك جهز صاحب مصر جيوشاً كثيرة فكانت مع عساكر الدولة، ووقع بينهم وبين العصاة حرب شديد كان النصر فيه لعساكر المسلمين، وأذاقوا العصاة الوبال، وأرجعوهم إلى الطاعة والاعتدال. وفي سنة تسع وسبعين توجه المترجم إلى الديار المصرية للتنزه والتفرج، وكان ذلك في ولاية إسماعيل باشا بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا. وفي سنة أربع وثمانين توجه إلى باريز تخت ملك الفرنسيس، وكان قد دعاه نابليون حينما دعا عدة من الملوك العظام، وكان في رحلته هذه قد مر على أدرنة وعلى قلعة بلغراد، وكان السرب قد طلبها منه أعطاهم إياها، فحين عاين تحصينها غضب لذلك، وكانوا أخبروه أنها مهدومة وأنها مدينة كاسدة، فلما رآها ندم حيث لا ينفع الندم. وفي سنة ثمان وثمانين أرسل جيشاً عظيماً تحت قيادة رديف باشا إلى بلد عسير حينما خرجوا عن طاعته، فهزمهم وقتل أميرهم محمد بن عايض ابن مرعي، وقتل كثيراً وأسر كثيراً وأرسلهم إلى الآستانة، وصارت بلاد عسير في حكم الدولة منضمة إلى ولاية صنعا واليمن، وفي هذه السنة أيضاً كانت فتنة عظمى بين ألمانيا وفرانسا آل الآمر فيها إلى هزيمة الفرنسيس وأسر ملكم نابليون الثاني. وفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف سابع شهر جمادى الأولى خلع المترجم المشار إليه ومات بعد خمسة أيام، وعمره ثمان وأربعون سنة، ومدة سلطنته ست عشر سنة وأربعة أشهر رحمه الله تعالى. وقد أشيع أنه قتل نفسه بمقص قص به عرقاً في ذراعه فمات، وفي سنة ثمان وتسعين ومائتين وألف نفي جماعة من الوزراء إلى الحجاز، فحبسوهم في قلعة الطائف، منهم: مدحت باشا ومحمود باشا داماد(1/853)
مولانا السلطان عبد الحميد، ونوري باشا داماد حضرة السلطان المتقدم ذكره، ومعهم جماعة آخرون منهم: شيخ الإسلام خير الله أفندي. وفي سنة ثلاثمائة توفي مدحت باشا ومحمود باشا الداماد في القلعة المذكورة، وكان خلع السلطان عبد العزيز سبباً لاضطراب كثير وحوادث شتى.
وكان القائم أكمل القيام في خلعه حسين عوني باشا، وكان السلطان عبد العزيز هو الذي رقاه وأعلى قدره إلى أن جعله رئيساً على العساكر كلها، بل جعله مقدماً على جميع أهل الرتب والمناصب، فكافأه الباشا المذكور على هذه الأمور العظيمة بأن أدخل في أفكار الوزراء أن السلطان المذكور قد تداخل مع الروسية، وأنه يريد أن يملكهم دار السلطنة، ولا زال هو ومن اتفق معه يسعون في الفساد ويدبرون التسلط على خلعه، إلى أ، تم لهم ذلك فخلعوه ووضعوا مكانه السلطان مراد، ابن أخيه السلطان عبد المجيد. فقدر الله تعالى أن رجلاً يقال له حسن جركس وكان السلطان عبد العزيز المومى إليه متزوجاً بأخته فأخذته حمية على السلطان عبد العزيز، فصمم على قتل حسين عوني باشا، ودخل عليه في دار الصدر الأعظم محمد راشد باشا فوجده مع جماعة من الوزراء مجتمعين للمشاورة في بعض الأمور، وكان مع حسن جركس فرد بست طلقات فقتل به حسين عوني باشا ومعه جماعة من الوزراء، ثم قبضوا على حسن جركس وقتلوه.
وكان موت المترجم كما تقدم سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف سابع جمادى الأولى.(1/854)
الشيخ عبد العليم بن محمد بن محمد بن عثمان المالكي الأزهري الضرير
الإمام الفاضل العمدة الصالح الكامل، عمدة الخلف ونخبة من أتقن العلوم وعرف، حضر دروس الفاضل الشيخ علي الصعيدي رواية ودراية فسمع عليه جملة من الصحيح والموطأ والشمائل والجامع الصغير ومسلسلات ابن عقيلة، وروى عن كل من المولوي والجوهري والبليدي والسقاط والمنير والدردير والتاودي ابن سودة حين حج، ودرس وأفاد. وكان من البكائين عند ذكر الله سريع الدمعة كثير الخشية، وكان يعرف أشياء في الرقى والخواص وفوائد القرينة وأم الصبيان، ثم ترك ذلك لرؤيا منامية رآها وأخبر بعض خواصه بها. أقول: أن كل ما أذن به الشارع صلى الله عليه وسلم لا بأس به، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم بالرقى فكان إذا أتى المريض فدعا له قال: أذهب الباس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً. وكان يأخذ من ريقه على إصبعه شيئاً ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء فيمسح بها على الموضع الموجوع، ويقول: تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا. وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم ولي وجع قد كاد يبطلني فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: اجعل يدك اليمنى عليه وقل: بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر سبع مرات، فقلت ذلك فشفاني الله. وعن أبي سعيد أن جبرائيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اشتكيت قال: نعم قال: بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين أو حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني فقال لي: ألا أرقيك برقية جاءني بها جبرائيل(1/855)
قلت: بأبي وأمي بلى يا رسول الله، قال: بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء فيك، من شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حاسد. توفي المترجم رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة ومائتين وألف، ودفن ببستان المجاورين بمحفل عظيم من العلماء والأعيان.
السيد عبد الغفار بن السيد عبد الواحد بن السيد وهب المعروف بالأخرس
أديب قد تحلى كلامه بقلائد العقيان، ولبيب قد احتوى نظامه على بلاغة قس وفصاحة سحبان، فهو الفرد الذي جرت في بحور شعره سفن الأذهان، ودارت على الندمان كرؤوس نثره ونظمه فأغنتهم عن الحان والألحان.
ولد في بلدة الموصل بعد المائتين والعشرين والألف من الهجرة النبوية، ونشأ في مدينة دار السلام المحمية، ولم يزل يجول في نواحي العراق مرتحلاً وحلاً، تارة مثرياً وتارة مقلاً، فتارة في البصرة وتارة في بغداد، يتنكب الأغوار منها والأنجاد. وفي إبان صباه كان قد أرسله المرحوم الوزير الخطير والمشير الكبير، حضرة داود باشا والي بغداد، عليه رحمة الملك الجواد، إلى بعض بلاد الهند ليصلحوا لسانه عن الخرس، وما كان فيه من الكلام قد احتبس، فقال له الطبيب: أنا أعالج لسانك بدواء، فإما أن ينطلق وإما أن تسارع إلى دار البقاء، فقال له وهو منه نافر وعنه مغضي، إنني لا أبيع كلي ببعضي، واتبع طريق الصواب والسداد، وكر راجعاً إلى بغداد. وبقي فيها مدة يكابد منها بعضاً من اليسر وبعضاً من الشدة. وفي عام التسعين بعد المائتين والألف عزم على(1/856)
التوجه إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيه عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، وكان ذلك الأثناء في البصرة الفيحاء، فتمرض هنالك بعد أن أقعد فرجع إلى مدينة الزوراء دار السلام، يكابد الشدائد والآلام، ثم في شهر رمضان من ذلك العام، عاد أيضاً إلى البصرة وبه من المرض حسرة وأي حسرة، وصار نزيلاً في دار ذي المقام الموفور، الشهم الكامل الشيخ أحمد نور. فلم يزل يثقل به المرض من جهة ما عرض لجوهر حياته من أنواع العرض، إلى حين الزوال من يوم عرفة فتوفاه الله، وكان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله. فتأسف عليه الخاص والعام، وقالوا أن الأدب قد طويت أعلامه بعد هذا الهمام، فشيع جنازته أفاضل البصرة وبقلوبهم على فقده حسرة وأي حسرة، وأقيمت الصلاة عليه بعد صلاة العيد، وكان ذلك المشهد دليلاً على أنه ختم له بالختم السعيد، فدفنوه بمقبرة الإمام الحسن البصري خارج قصبة سيدنا الزبير، لا زالت تنهل عليه هواطل الرحمة والخير، فهناك طواه ضريحه، وخفقت بحور شعره وأدبه بعد أن سكن ريحه، وانقض بموته ذلك البنيان، ونطقت أفواه نظمه بعد أن سكن منه اللسان، وانطفا نور ذياك الجنان، فسقط بسقوطه نجم النظم والبيان، وأضحى داثر الأثر خفي العيان.
وكان رحمه الله حسن العقيدة سلفي الأثر، ساكناً بجانب الكرخ من بغداد، علوي النسب المفتخر. وقد ناهز عمره السبعين، فلا زالت رحمة المعين تتولاه كل حين. ومن قصائده الحسان، التي اشتهرت في البلدان:
أتراك تعرف علتي وشفائي ... يا داء قلبي في الهوى ودوائي
ما رق قلبك لي كأن شكايتي ... كانت لمسمع صخرة صماء
والشوق برح بي وزاد شجونه ... بأشد ما ألقى من البرحاء(1/857)
عجباً لمن أخذ الغرام بقلبه ... أنى يعد به من الأحياء
هل يعلم الواشون أن صبابتي ... كانت بلحظ مهاً وجيد ظباء
وتجرعى مضض الملام من التي ... حلت عقيب الجزع في الجرعاء
لم يحسن العيش الذي شاهدته ... من بعد ذات الطلعة الحسناء
فمتى أبل صدى بمرشف شاذن ... نقض العهود ولا وفى لوفائي
وجفا ومل أخا الهوى من بعدما ... كنا عقيدي ألفة وإخاء
ونأى بركب الظاعنين عشية ... أين الركاب وأن ذاك النائي
أصبحت لما ماس عدل قوامه ... أشكو طعان الصعدة السمراء
وأجيب سائل مهجتي عن دائها ... دائي هواك فلا بليت بدائي
لم يدر واللعس الممنع طبه ... أن الدواء بمقتضى الأدواء
إلى آخرها وهي طويلة ومن قوله رحمه الله:
هل تركتم غير الجوى لفؤادي ... أو كحلتم عيني بغير السهاد
قد بعدتم عن أعين فهي غرقى ... بدموعي ولي فؤاد صادي
ثم وكلتمو السهاد عليها ... يمنع العين عن لذيذ الرقاد
من مجيري من الأحبة بجفو ... ن وتعدو منهم علي العوادي
علموا أنني عليل ومن لي ... أن أرى طيفهم من العواد
نزلوا وادي الغضا فكأن الدمع مني سيول ذاك الوادي
تركتني أضغانهم يوم بانوا ... وحدا فيهمو من البين حادي
بين دمع على المنازل موقو ... ف وشمل مشتت بالبعاد
وفؤاد يروعه كل يوم ... ذكر أيامنا الحسان الجياد
يا رفيقي وأين عهدك بالجز ... ع سقاه الغمام صوب عهاد(1/858)
إلى آخرها وله أيضاً:
أتنكر منك ما تطوي الضلوع ... وقد شهدت عليك به الدموع
ولولا أن قلبك مستهام ... لما أودى بك البرق اللموع
ولا هاجت شجونك فاتكات ... تكتم ما تكابد أو تذيع
تشوقك الربوع وكل صب ... تشوقه المنازل والربوع
ليال بالتواصل ماضيات ... بحيث الشمل ملتئم جميع
ومن كلامه المترجم أيضاً:
بارق لاح فأبكاني ابتساما ... نبه الشوق من الصب وناما
ولمن أشكو على برح الهوى ... كبداً حرى وقلباً مستهاما
ويح قلب لعب الوجد به ... ورمته أعين الغيد سهاما
دنف لولا تباريح الجوى ... ما شكا من صحة الوجد سقاما
ما بكى إلا جرت أدمعه ... فوق خديه سفوحاً وانسجاما
وبما يسفح من عبرته ... بل كميه وما بل أواما
ففؤادي والجوى في صبوتي ... لا يملان جدالاً وخصاما
ليت من قد حرموا طيب الكرى ... أذنوا يوماً لعيني أن تناما
منعونا أن نراهم يقظة ... ما عليهم لو رأيناهم مناما
قسماً باللوم والحب أن ... كنت لا أسمع في الحب ملاما
والعيون الباليات التي ... ما أحلت من دمي إلا حراما
وفؤاد كلما قلت استفق ... يا فؤادي مرة زاد هياما
إن لي فيكم ومنكم لوعة ... انحلت بل أوهنت مني العظاما
وعليكم عبرتي مهراقة ... كلما ناوحت في الأيك حماما
ومتى يذكركم لي ذاكر ... قعد القلب لذكراكم وقاما(1/859)
يا خليلي وما لي أن أرى ... بعد ذاك الصدع للشمل التئاما
احسب العام لديكم ساعة ... وأرى بعدكم الساعة عاما
لم يدم عيش لنا في ظلكم ... أي عيش قبله كان فداما
حيث سالمنا على القرب النوى ... وأخذنا العهد منها والذماما
ورضعنا من أفاويق الطلى ... وكرهنا بعد حولين الفطاما
أترى أن الهوى ذاك الهوى ... والندامى بعدنا تلك الندامى
كلما هبت صبا قلت لها ... بلغيهم يا صب نجد سلاما
وبنفسي ظالم لا يتقي ... حوبة المضنى ولا يخشى أثاما
ما قضى حقاً لمفتون به ... ربما يقضي وما يقضي مراما
لو ترشفت لماه لم أجد ... في الحشا ناراً ولو شبت ضراما
ولأطفأت لظى نار الجوى ... ولعفت الماء عذباً والمداما
شد ما مر جفا مستعذب ... من عذابي فيه ما كان غراما
إلى آخرها وهي طويلة وقال:
وظبي دعتني للحروب لحاظه ... وهيهات من تلك اللحاظ خلاص
تصدى لحرب المستهام وما له ... سوى اللحظ سهم والنقاب دلاص
فلما أجلت الطرف أدميت خده ... وأدمى فؤادي والجروح قصاص
ومن قوله:
وأقمار غربن فليت شعري ... إلا بعد الغروب لها طلوع
أمرت القلب أن يسلو هواها ... على مضض ولكن لا يطيع
وما أشكو الهوى لو أن قلبي ... تحمل بالهوى ما يستطيع
وقال:
وغادة لو بروحي بعت رؤيتها ... لكنت والله فيها غير مغبون(1/860)
ما البدر والغصن أحلى من شمائلها ... كأنها من بنات الحور والعين
وقال:
أنعم علي بشيء أستعين به ... على المسير لعل الله يشفيني
أقضي بنعماك أوقاتاً أعيش بها ... وأن أمت فهي تكفيني لتكفيني
وقصائده كثيرة وأشعاره شهيرة، رحمة الله عليه وعلى والدينا ووالديه.
عبد الغفور الكردي الكركوكي النقشبندي الخالدي
العالم المحقق والفاضل المدقق، كنز المعارف ومدار اللطائف، وقطب الإرشاد ومنهج الصواب والسداد. أخذ عن شيوخ زمانه وعمدة وقته وأوانه، وأفاد واستفاد وكان للمريدين أحسن مراد. ثم أخذ الطريق عن علامة الدنيا ومرشدها مولانا الشيخ خالد، وبعد أن رأى فيه كمال الاستعداد أذن له بإعطاء الطريق والإرشاد، فاشتغل بالطريق على العهد الوثيق، وحصل منه النفع وعرف بالكمال بين الأنام. وكانت وفاته رحمه الله بعد الألف والمائتين والأربعين.
عبد الغفور الخالدي الشاهدي البغدادي
العالم الفقيه والولي المرشد الكامل النبيه، العارف بالله والمستغرق في حب مولاه، صاحب الأنفاس القدسية والمعارف الأنسية، مربي السالكين ومفيد الواصلين، فإنه سلك أولاً على يد السيد عبيد الله الحيدري فلما دخل دائرة الكمال واستوى في تربيته على دائرة الاعتدال، خلفه حضرة مولانا خالد خلافة مطلقة وذلك حين عود الأستاذ المرقوم من البلاد الهندية، إلى البلاد العراقية، سنة ست وعشرين ومائتين وألف. وأذن له بالإرشاد في مدينة بغداد. ولهذا المترجم كرامات وخوارق عادات، قد ذكر بعضها صاحب المجد التالد. توفي المترجم سنة ألف ومائتين ونيف وثلاثين غالباً.(1/861)
الشيخ عبد الغني بن محمد هلال مفتي السادة الشافعية بمكة المكرمة
الإمام المتحلي بحلية الكمال، والمحتوي على أفضل الشمائل وأجمل الخلال. وكان معروفاً بالعبادة والتحقيق والزهادة والتدقيق، واليد الطولى في المعارف والفهم العالي في عويصات العوارف.
ولد بمكة المكرمة ونشأ بها وأخذ عن علمائها وحضر مجالس فضلائها، ومن أجلهم عمه السيد سعيد سنبل والعلامة الشيخ عمر باعلوي سبط العلامة البصري، وبرع في العلوم وفاق في معرفة المنطوق والمفهوم، وتولى إفتاء السادة الشافعية وأخذ عنه فضلاء السادة الحجازية، توفي ليلة الخميس لثلاث مضين من شعبان المعظم سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الغني بن عبد القادر الشهير كأسلافه بالسقطي الدمشقي
الصالحي الشافعي، من الشيوخ المتقدمين في الفضل والعلوم، والأفراد المعروفين بجولان ميدان المنطوق والمفهوم. زينة العباد من العباد، وصفوة الزهاد والسادة الأمجاد.
ولد سنة خمس وستين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده المذكور وأخذ عنه وعن الشهاب أحمد المنيني، وعن العلامة الشيخ علي السليمي الصالحي، ودرس في السليمية وكان تقياً صالحاً ونقياً في العبادة ناجحاً، وقد قرأ والدي عليه أكثر الفنون، وحصل له به الفضل المصون، ومن جملة ما قرأ عليه مؤلفات القاضي زكريا الأنصاري، وأجازه بسند مذكور فيه رجاله بتواريخهم إلى القاضي المرقوم، فأحببت ذكره كذلك تتميماً للفائدة أقول: يروي والدي المولود سنة 1206 والمتوفى سنة 1272(1/862)
وقد عاش 66 سنة عن شيخه الشيخ عبد الغني المرقوم المولود سنة 1165 والمتوفى سنة 1246 وعاش 81 سنة عن الشهاب أحمد المنيني ولد سنة 1089 وعاش 83 سنة ومات سنة 1172 عن الشيخ عبد الغني النابلسي ولد سنة 1050 وعاش 93 سنة ومات سنة 1143 عن النجم الغزي الدمشقي ولد سنة 977 وعاش 84 سنة ومات سنة 1061 عن والده البدر الغزي ولد سنة 904 " 14 ذي القعدة " ومات سنة 984 عن شيخ الإسلام القاضي زكريا الأنصاري ولد سنة 825 وعاش 101 سنة ومات سنة 926 وبهذا السند بعينه يروى تأليف ابن حجر الهيثمي المكي ولد سنة 909 وعاش 65 سنة ومات سنة 974 ويروى مؤلفات الشمس الرملي بهذا السند إلى النجم الغزي التهاوي عن الرملي ولد الرملي سنة 914 وعاش 90 سنة وتوفي سنة 1004 ويروى بالسند المرقوم للبدر الغزي عن السيوطي: تأليفات السيوطي ولد السيوطي سنة 849 وعاش 63 سنة وتوفي سنة 912 وبالسند المرقوم إلى البدر الغزي عن الشهاب الرملي الكبير توفي سنة 857 ويروى كتب العارف بالله الشيخ محي الدين العربي عن الشهاب المنيني، عن العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي، وأبي المواهب الحنبلي، عن النجم الغزي، عن البدر الغزي، عن القاضي زكريا الأنصاري، عن أبي الفتح المراغي، عن القطب إسماعيل الجبرتي، عن القطب الواني، عن الشيخ الأكبر قدس الله سره، ورضي الله عنهم أجمعين.
الشيخ عبد الغني بن محمد شريف بن أبي المعالي محمد الغزي العامري الدمشقي
ولد بدمشق في شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين ومائة وألف،(1/863)
ونشأ في حجر والده المرقوم المولود سنة خمسين ومائة وألف، والمتوفى سنة ثلاث ومائتين وألف، والمدفون في مرج الدحداح.
وقرأ المترجم على سادات عظام وعلماء كرام، إلى أن صار من أعلم علماء الديار الدمشقية. وتولى من بعد والده إفتاء الشافعية. وهذه الوظيفة قد تورثوها عن آبائهم إلى الجد الأعلى الشهاب أحمد الغزي المولود في غزة سنة ستين وسبعمائة، وتوفي في دمشق الشام يوم الخميس سادس شوال سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، وكانت وفاة صاحب الترجمة عاشر ربيع الثاني سنة ألف ومائتين وست عشرة، ودفن في مرج الدحداح رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الغني السادات الدمشقي الحنفي
الإمام الكامل والعمدة الفاضل، زين العلماء وصفوة الفضلاء، له تقييدات لطيفة ورسائل شريفة. مات سنة خمس وستين ومائتين وألف ودفن في الدحداح. وكان له أخذ عن سيدي الوالد، وله عليه اعتماد زائد. ولما ألف رسالته في حكم الحائط المشترك أرسل هذه الأبيات لسيدي الوالد ضمن مكتوب طويل محتو على نثر بديع جميل، ويطلب منه أن يقرظ له على الرسالة المرقومة، ونص الأبيات:
أرجوك يا بهجة الأيام مبتغياً ... أسامة الطرف في تنميقها الحسن
فإن ترى حسناً فالحسن وصفكم ... فطرزوا حسنها بالمنطق اللسن
لا غرو إن كسيت ثوب الجمال إذاً ... وقد هدى بسناها حائد السنن
لا زال منك يراع الحسن ينشر في ... أسماعنا لؤلؤ الألفاظ بالسكني
ما دبج الروض من حب الغمام وما ... قد غردت صادحات الطير في فنن
وللمترجم رسائل كثيرة وقصائد وأبيات شهيرة، وأبحاث لطيفة(1/864)
وتحقيقات طريفة. وكان تقياً عابداً نقياً زاهداً، جميل العبارة والتقرير حسن الأسلوب والتعبير. قرأ على المشايخ العظام كالشيخ عبد الرحمن الكزبري، والشيخ حامد العطار، والشيخ عبد الرحمن الكردي، والشيخ صالح القزاز، وغيرهم من السادات الأفاضل ذوي الفضائل والفواضل، وانتفع وحقق واجتهد ودقق، ونوع الأسباب في إفادة الطلاب، غير أن زمانه قد عانده وخالفه وما ساعده، فلذلك قصر به جواد التقديم، عن الوصول إلى مراتب ذوي الرفعة والتكريم، وكان أخبرني من كان يعرف حقيقة أطواره، ولم يخف عليه شيء من ظواهره وأسراره، بأن السبب الكبير في هذا التأخير، كونه ألف رسالة في تكفير أبوي النبي عليه الصلاة والسلام، وظن أن ذلك إنما يوجب له الكرامة والاحترام، وما عرف أنه لو لم يفعل لكان أولى، أو لو انتصر لهما لكان قدره عند السيد الأعظم أعلى، أعاذنا الله من كل بلوى وأحسن إلينا وإليه في السر والنجوى آمين.
ومن نظمه البديع الشاهد له بالمقام الرفيع، قوله يمدح الوزير علي باشا المعزول عن بغداد:
علوت لمجد فوق ما أنت آمله ... وفزت بإقبال لك العز حامله
لك السعد ما هذا العلو لمبتغ ... سواكم وما في الدهر شهم يحاوله
يميناً بعلياكم لقد حزت في الورى ... مقاماً على الجوزاء تعلو منازله(1/865)
بنيت من العز المنيع دعائماً ... وقمت على بحر تفيض سواحله
أبيت " وبيت الله " ذما وسبة ... وحزت نوالاً فوق ما أنت نائله
شرعت من المعروف فينا شرائعاً ... بها البطل الكرار تحيا فواضله
أقام بها راجيك يبسم ضاحكاً ... ينال من الخيرات ما هو آمله
وقمت بإحياء الوزارة حاملاً ... لسيف غدت للنصر تعزى حمائله
زرعت من الألفاظ روض محاسن ... لنا أثمرت در المعاني خمائله
يرى منك في الهيجاء بأس وشدة ... وفي غيرها لطف تروق محامله
رؤوف بأحوال الرعية منصف ... رحيم إذا المظلوم عزت وسائله
أهنيه بالشام المنيرة منصباً ... يطرزه السعد المبين تكامله
له منصب من بعدها مصر غانماً ... ومن بعدها يشتد بالختم كاهله
شهامة كسرى في سخاوة حاتم ... من المهد عنه قد حكتها قوابله
أتى شامة البلدان فاخضر عيشها ... وأصبح منها الغصن يحلو تمايله
متى ذكرت في الحي أوصاف وصفه ... يفوح به نشر من المسك شامله
فأضحى كروض البان فاح عبيره ... نسيم الربا أخلاقه وشمائله
مهاب جسور لا يسمى مهابة ... وإن كان شعري قد حكته أوائله
إلى هنا ما وجدته من هذه القصيدة. وله قصائد كثيرة ومقاطيع بالمدح جديرة، رحمه الله وأعلى علاه، وجعل الجنة مثواه، وأعطاه مراده في الآخرة ومناه. ومن نثره ما كتبه لوالدي رحمهما الله تعالى بطلب به منه أن يقرظ له على رسالة كان ألفها فأرسل له هذه العبارة وهي: سيدي المحترم دام بالنعم وسيع الرحاب والحمى والحرم، ما انهلت صيبات سوابغ الديم. قد تعود الداعي المتطفل على ساحة الفضل والرحاب من علي القدر والعز العريض والجناب، أن تشرفوا رسائله بسلاسل سطور ألفاظكم العنبرية، وتشنفوا المسامع بدرركم الجوهرية، وأن تلبسوها قباب الإحسان(1/866)
وتجلبوها بجلباب الامتنان، وتحلوها بسوار القبول وتقرطوها بقرط المعقول والمنقول. وتقرظوها بتقرير نظركم الاكسير، فيكون لها سير الشمس في المسير، وتصيغوا لها خلخال الجمال والبها، وتحلوا جبينها الأغر بعقود تجلت للمحاسن بها، وتوشحوها بنطاق الدلائل، وترشحوها بسلاسل السطور العنبرية والجدايل، وتكونوا أبا عذرها نصراً وفتحا وتذبون عن عرضها المصون سبة وقدحا، ذب الغيور عن الحرم، وذلك من محض الفضل والكرم، ولا تدعوا فيها للملام والمذمة غصة ونزهوها كالعروس على منصة. وقد علم القوم أنكم لا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا ترنم طير على غصن الهوى حائم، فمنوا جنابكم كما هو عادتكم الجميلة العميمة وأحاسن محاسن أخلاقكم الكريمة، وليس عليكم في ذلك ضير " ولباس التقوى ذلك خير " ولئن منعتم ذلك لخاطر الغير وحاشا لباس تقواكم، فعندنا شاهدا عدل خطكم الشريف ولفظكم الجزل، كيف وقد قام بصدق الحديث الدليل والله يدعو إلى الحق ويهدي إلى السبيل. فكنت كما كنت سابقاً، بلسان بلبل الحق ناطقاً، وحنانيك البدار البدار، فإني قد لبست ثوب الانكسار، وتقمصت بثوب البهار، وابتهلت بظلمي للأخذ بالثار بالواحد القهار. والآن قد قمت للإهاب للسفر بعصا الترحال، والحروب سجال. والله يعز بوجودكم الدين المحمدي والإسلام، وسلام الله عليكم ورحمته ممزوجاً بمسك الختام.
الشيخ عبد الغني بن طالب بن حمادة بن إبراهيم بن سليمان الميداني الحنفي
بحر علم لا يدرك غوره، وفلك فضل على قطب المعارف دوره، لم يقنع بالمجاز عن الحقيقة، حتى تبوأ البحبوحة من تلك الحديقة.(1/867)
ولديه من المعلومات ما يشق على القلم حشره، ويتعسر على الألسنة نشره، وتأليفاته التي يحق لرائيها أن ينافس بها ويفاخر، محشوة من الفوائد بما يعقل الأفكار ويقيد الخواطر. ولد في الشام في الميدان سنة ألف ومائتين واثنتين وعشرين، وربي في حجر والده، ثم بعد تمييزه قرأ القرآن، ثم طلب العلم الشريف بكل جد واجتهاد، فقرأ على الشيخ عمر أفندي المجتهد وعلى الشيخ سعيد الحلبي وعلى الشيخ عبد الغني السقطي وعلى السيد محمد عابدين وعلى الشيخ عبد الرحمن الكزبري وعلى الشيخ أحمد بيبرس وعلى والدي الشيخ حسن البيطار، فإنه لازمه ملازمة المرضعة للرضيع، وكان يكثر المديح في حقه لدى كل رفيع ووضيع، ولما طلب منه الإجازة حضرة المحترم السيد سلمان أفندي القادري نقيب بغداد كتب له بها أسماء مشايخه المرقومين، ولما ذكر والده قال وكان جل انتفاعي به. وكان ذا زهد وتقوى وعبادة في السر والنجوى، وهمة عالية ومروءة سامية، ولسان على الذكر دائب، وشهرة قد سارت في المشارق والمغارب، ومنزلة في القلوب حميدة وعقيدة في كماله وحيدة، له من المؤلفات: الشرح المسمى باللباب على متن القدوري وقد طبع مرتين لكثرة طالبيه، وشرح المراح في علم الصرف، وشرح رسالة الطحاوي في التوحيد، ورسالة وشرحها في الرسم، ورسالة سماها إسعاف المريدين لإقامة فرائض الدين وقد شرحها ولده الشيخ إسماعيل، وسل الحسام على شاتم دين الإسلام، ورسالة في صحة وقف المشاع، ورسالة في مشد المسكة، ورسالة في رد شبهة عرضة لبعض الأفاضل، ورسالة سماها كشف الالتباس في قول البخاري قال بعض الناس. وله نظم ونثر يفوق اللآلي والدر، فمما نظمه قصيدته التي مدح بها أستاذه الوالد التي صدرها بقوله: لمحررها عبد الغني يمدح فيها جناب شيخه وقدوته(1/868)
العالم الرباني والوالد الروحاني، من تفاخرت به الأقطار، سيدي الشيخ حسن بن إبراهيم البيطار ويهنيه بوصوله بالسلامة من الرحلة الحجازية إلى وطنه دمشق المحمية، دام كما رام والسلام:
ومضت بروق الحي في الظلماء ... سحراً أهاجت لاعج الأحشاء
ونضت سيوف الهند في إبراقها ... فهمت عيون مدامعي بدماء
ما شمتها إلا وملت ترنماً ... كتمايل النشوان بالصهباء
وشفت فؤاد المستهام من الضنى ... نعم الدواء يكون إثر الداء
وفكرت عهداً قد مضى فينا سقى ... عهدي القديم به غمام بكاء
زار الحبيب ونوره متشعشع ... يمحو ظلام الليل الليلاء
لما بدا أنشدت في تلك الربى ... شق الصباح غلالة الظلماء
نادمته والشوق بين جوانحي ... أذكى لهيب الوجد والأهواء
في ليلة جنت فأنور بدرها ... يحكي محيا مرتع البلغاء
من قد رعى حب القلوب وقد حوى ... روض الربيع معنبر الأرجاء
المرتقي رتب الفضائل والعلا ... فيها ارتقى للذروة العلياء
اللوعذي الألمعي ومن غدا ... علم العلوم ومرجع العلماء
المفرد العلم الذي آثاره ... دلت عليه بأصدق الأنباء
إن قيل من هذا الذي تعني فقل ... من مدحه فرض على الشعراء
الفاضل النحرير بدر قد سما ... " حسن " ولكن سيد الحسناء
ميداننا بقدومه قد فاخرت ... أمثالها فيه مع الندماء
صدر الشريعة والحقيقة والتقى ... من قلبه كالدرة البيضاء
من أتقن المعقول والمنقول وافتخرت به شام على الزوراء
مغني اللبيب فكفه قطر الندى ... ومطول التمداح فيه شفائي
قد قام في ذكر الإله ملاحظاً ... بسوابغ الآلاء والنعماء
بطريقة الصديق قد يروي الظما ... بخلوص صدق ساعة الظلماء
كهف ترى النجباء في أعتابه ... تأتي له بالنظم والإنشاء(1/869)
لا عيب فيه غير أن نظامه ... خلب العقول ببهجة وسناء
وجميع من في الكون من عشاقه ... في الدين والدنيا من السعداء
فجعلته بين البرية حليتي ... هو ملجأ الفقراء والغرباء
لا زال كالبيت الحرام محرماً ... عند استلام الركن والإيماء
والعذر لا يخفى فإني مادح ... يأتي إلى أعتابكم بعناء
متخلصاً من بطؤه متشفعاً ... بالهاشمي وسيد الشفعاء
المجتبى المختار من كل الملا ... وهو الذي قد خص بالإسراء
صلى عليه الله ربي دائماً ... ما ناح قمري على الورقاء
وعلى قرابته الذين تقدسوا ... والآل مع أصحابه النجباء
من بعد مختتم أتى تاريخها ... أمواج كافور سرت كرباء
سنة 1242 ومن نثره ما كتبه لوالدي حين كان في الحجاز سنة ألف ومائتين واثنتين وأربعين: غب إهداء سلام تنطبق كلياته وجزئياته على قضايا الأشواق، وتثبت مقدماته من الأشكال ما يعجز عن وصفه خاصة الرسم والحد من الاشتياق، نخص بذلك جناب سيدنا ذي القضية الموجهة إلى كل مجد، الحملية على مقدمات العز المعدولة عن العكس والطرد، حضرة مولانا الشيخ حسن البيطار، لا برح لواء فضله منشوراً في الآفاق والأمصار، ولا زال قدره بالرفعة مشفوعاً، ومقامه الأسمى على عاتق الجوزاء محمولاً وموضوعاً، وعدوه عقيماً عن بلوغ الآمال، ذميماً على ممر الأيام والليالي إلى آخره.
ومن كلامه في مدح الذات المحمدية، ذات الصفات الأحمدية:
هما مقلتي طير على البان ساجع ... وتغريده المسموع للقلب صادع
كأن صروف الدر القته بالنوى ... فناح على إلف له وهو خاضع(1/870)
فقلت له يا طير قطعت مهجتي ... وهيمت مضنى وهو بالحب والع
وذكرتني يوماً رمى القلب في الغنا ... ومن لي وقلبي في جوى الحب واقع
فهاك حديثاً عن حقيق محبتي ... تسلسله عني دموع هوامع
فقد رمقت عيني لوامع ظبية ... لها برق وجه في دجى الشعر لامع
وحاجبها قد فاق حسناً وثغرها ... فريد نظام للفرائد جامع
ولما بدت للصب ماست وقد رنت ... فما البرد ما الأغصان ما الريم راتع
وفي البعد عنها واسع الأرض ضيق ... وفي القرب منها ضيق الأرض واسع
وكل محب ما اهتدى بجمالها ... فذاك كذوب في الضلالة واقع
إليها جميع الحسن يعزى أصالة ... وحسن سواها في البرية تابع
إلى أن قال:
إذا أقبلت فالشمس تسجد هيبة ... وإن خطرت فالغصن في الروض راكع
ولي مخلص من صدها بتشفعي ... إليها بمن لي في القيامة شافع
فلولاه لم نعرف لدين ولا تقى ... ولولاه لم يوجد مدى الدهر طالع
ولا عيب أن قيل الغنيمي مادح ... رسول إله عبده فيه طامع
فذاك عبيد للغني ومن له ... سواه إذا اشتدت عليه الموانع
وله قصائد كثيرة، وفضائل معروفة شهيرة، وخيريات حسنة وتعميرات مستحسنة. وكانت الناس تأتيه بالهدايا وتقصده بعظيم الوصايا، وقد جدد عمارة الجامع الذي بجانب داره في الميدان في محلة ساحة السخانة وأنشأ له منارة عظيمة متينة. وبالجملة والتفصيل، قد كان شهماً ما له من مثيل، وقد اتسع جاهه وكثر في الناس ثناؤه، وخالطت هيبته القلوب فكان لها أجل مطلوب ومرغوب. ولم يزل على استقامته في طاعته وعبادته، وإفادته لطالبه ووارده، وإحسانه لراغبه وقاصده، إلى أن سجع على دوحه حمام الحمام، ودعاه إلى الرحلة داعي الأنام. فتوفي رحمه الله تعالى رابع(1/871)
ربيع الأول سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين. ولقد صلي عليه في جامع الدقاق بإمامة ولده الفاضل الشيخ إسماعيل، قدمه للإمامة شيخنا الفاضل الطنطاوي، وكان لجنازته مشهد قد غص به واسع الطريق، ودفن في تربة باب الله في أسفل التربة الوسطى من جهة الشرق، وطلب مني ولده أن أنظم له أبياتاً تكتب على القبر فقلت:
همام فاضل شهم إمام ... جليل ذو مقامات شريفة
ثوى في رمسه فاعجب لرمس ... حوى بحراً شمائله منيفة
فوا أسفا قضى عبد الغني ... سريعاً نحبه ونحا حليفة
ربيع الفضل حياً في ربيع ... بروح وارتياح مستضيفة
بكاء قد أتى تاريخه زد ... لقد ماتت علوم أبي حنيفة
الشيخ عبد الغني أبو محمد عز الدين بن علي بن صلاح ابن أحمد الحلبي الحنفي الحسيني
العالم الأستاذ والفاضل الملاذ، والفقيه الصالح والنبيه الفالح، ولد سنة ألف ومائة وثلاثين واجتهد في الطلب والتفت إليه، وأقبل بجده واجتهاده عليه، وسمع وقرا وفهم ودرى، وأخذ عن جماعة ذوي فضالة وبراعة، منهم أبو عبد القادر صالح بن عبد الرحمن البانقوسي، فتفقه عليه وأخذ عنه الحديث، وقرأ على والده أبي محمد عبد القادر البصير، وحضر كثيراً من دروس أبي محمد مصطفى بن عبد القادر الملقي ولازمه مدة وانتفع به، وسمع من أبي العدل قاسم بن محمد النجار الجامع الصغير في الحديث. وأخذ الطريقة القادرية عن أبي عبد القادر محمد بن صالح بن رجب المواهبي، والطريقة الرفاعية عن أبي الحسن علي الصعيدي المصري، والطريقة الشاذلية عن أبي محمد عبد الوها بن أحمد الأزهري البشاري المصري، والطريقة(1/872)
السعدية عن العماد إسماعيل السعدي. وكان حريصاً على الاستفادة والإفادة، كثير التقوى والعبادة، وفي آخر أمره انقطع إلى الذكر والإرشاد وأقبل عليه المريدون من كثير من البلاد، فانتفع به كثير من الناس، ولم يزل على صلاحه وتقواه وعبادته ودعايته إلى الله، إلى أن دعته المنية، إلى المنازل العلية بعد الألف والمائتين وخمسة رحمه الله.
أخي وشقيقي الشيخ عبد الغني بن المرحوم الشيخ حسن بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ حسن بن الشيخ محمد البيطار
العالم الذي هو بكل وصف جميل متخلق، والعامل الذي هو بكل خلق كريم متحقق، روضة الفضل التي أشرقت أنوارها، ودوحة المجد التي أينعت ثمارها، وسماء العلم الذي تنورقت مشارقه ومغاربه، وأمطرت بالمعارف والعوارف سحائبه، سلك منذ نشأ منهج العلم والعمل، وملك من الكمالات ما يتعلق به الأمل، وقادته يد المعالي إلى الفضائل، وألبسته حلل المآثر وكسته أعلى الشمائل.
ولد سنة أربعين ومائتين وألف، ونشأ في حجر والده، ثم بعد(1/873)
قراءة القرآن الشريف حفظه مع الشاطبية على شيخ القراء في الديار الشامية الشيخ أحمد الحلواني، بالروايات السبع مع غاية الإتقان والتجويد، ثم قرأ على والده مدة من كتب النحو والصرف والفقه والحديث والتفسير والتوحيد والمنطق والمعاني والبيان والبديع، وحضر الكتب العظيمة كالتحفة لابن حجر والبخاري بطرفيه رواية ودراية والإحياء للغزالي وللخطيب التفسير والمختصر للسعد والمواهب اللدنية وغير ذلك.
وقرأ أيضاً على الشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ سعيد الحلبي وعلى الشيخ سليم العطار وعلى الشيخ عبد الغني الميداني وعلى الشيخ عبد القادر الخطيب وعلى غيرهم من العلماء الأعلام والسادات العظام؛ وأخذ طريق السادة الشاذلية على المرشد الكامل السيد محمد المغربي الفاسي واشتغل به كثيراً، ودأب على مطالعة كتب القوم إلى أن طالع الفتوحات المكية مع الفهم من ابتدائها إلى انتهائها، مع ترك الانهماك على الدنيا، والزهد فيما يؤدي إلى تحصيلها، وليس له شغل سوى الإفادة والاستفادة وما يوجب له التقدم الأخروي، متباعداً عن الشهوات النفسانية، كثير التحرز مما يوجب الملام عند الله، مستقيم لأطوار، يحب العزلة عن سوى الكمل الأخيار، كثير المذاكرة، جميل المحاضرة، لطيف العبارة خصوصاً في علم الإشارة، إن حضر في جمعية لا يتكلم غالباً إلا في المسائل العلمية.
قد اجتمعت معه حينما كنت مشتغلاً بترجمته، وذكر شمائله وحليته، فسألني وإن كنت لا أصلح للسؤال، وأعلم أنه مستو على درجة الكمال، عن قول السيد أحمد بن إدريس: لو أطال الله عمر رجل من زمن أبينا آدم إلى قيام الساعة وهو يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، ورجل قال لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم الله، مرة واحدة، في القيمة يسبق ذاك! ما المقصود من هذه العبارة، هل(1/874)
هي على ظاهرها أم سلك فيها مسلك الحقيقة والإشارة؟ فطال بيننا الكلام، في هذا المقام، إلى أن قال لي: إن بعض الناس وقع من هذه العبارة في التباس، فبعضهم أنكرها وبعضهم توقف في المقصود منها وأمرني أن أكتب عليها ما يزيل حجاب الاعتراض عنها، فامتثلت أمره، وأجللت بالقبول قدره، وقلت مستعيناً بالله معتمداً على فضله وعلاه، مستمداً من فيضه العميم، أنه رؤوف رحيم: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جازى عباده عن ذكرهم بذكره، ورغبهم في السؤال والدعاء بأمره، فأطمع المطيع والعاصي والداني والقاصي، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وخيرة الأصفياء، وعلى آله والتابعين، وأصحابه السابقين الأولين، ما ذكر الله ذاكر وشكره على قبوله شاكر. أما بعد فيقول سيدي الشيخ الإمام أحمد بن إدريس المغربي الحسني نسباً الإدريسي من ذرية سيدنا إدريس بن عبد الله قدس الله روحه ونور مرقده وضريحه: لو أطال الله عمر رجل من زمن أبينا آدم إلى قيام الساعة وهو يقول " أي بلسانه مع تصديق جنابه لكثرة الأجر والثواب والخلاص من سوء العذاب " لا إله إلا الله محمد رسول الله بدون أن يكون مستغرق القلب بالله، متخلياً عن شهود ما سواه، بل قلبه مشغول بالأمور الدنيوية، وفكره محصور بالأحوال الدنية، قد استولى على قلبه الحجاب، على سبيل الاستيعاب، فلم يبق مع ذلك لديه مطمع لتجلي الحقائق فيه، لعدم نورانيته بتراكم ظلم الحجب على عين بصيرته، لم يطلب من ذكره مع الحجاب سوى الأجر والثواب، قد غفل عن السير في مناهج الوصول، وظن أن حالته هي المنى والمأمول، مع أن أهل الله ما ألقوا نفوسهم في المهالك، وسلكوا أصعب المسالك، وفعلوا الفرائض والنوافل وذكروا الله في البكر والأصائل، إلا ليكشف لهم الحجاب ويشهدهم بعين قلوبهم(1/875)
رب الأرباب، فيتمتعون بوصال المحبوب، ويحوزون على المنى والمرغوب، فهذا السائر الكامل الذي لم يكن سيره طلباً لثواب، ولا رهبة من عقاب، بل كان سيره في مقامات السائرين إلى رب العالمين. وهذه المقامات ثلاثة: مقام الإسلام ومقام الإيمان ومقام الإحسان، وإنما انحصرت مقامات السائرين إلى الله تعالى في هذه الثلاثة، لأن الإنسان لما كان من مبدأ ظهوره في النشأة الدنيوية الحسية إلى أن يبلغ مبلغ التمييز والعقل، إنما كان الغالب عليه أحكام الطبع والجهل بمبدئه ومعاده، عاملاً بحكم طبعه وهواه ومراده، فعندما عقل وأحس بالمبدأ والمعاد وأخذ في السير من طبعه إلى ربه بحكم شرعه، إما أن يكون في مبدأ هذا السير مع غلبة حكم الطبع وغلبة اقتضاء النفس الملهمة فجورها، فهو في مقام الإسلام، وهذا مقام الذي قال لا إله إلا الله محمد رسول الله من زمن سيدنا آدم على الفرض إلى يوم القيامة. وإما أن يكون في وسطع وذلك بظهور أحكام الروح الروحانية على أحكام الطبع والنفس حتى تصير مقتضيات الأمور الحسية والإرادات الطبيعية والجهالات النفسية، مقهورة تحت روحانيته، ومقتضاها من الإرادات العقلية والإدراكات العلمية، فهو في مقام الإيمان الذي هو مقام قبول الروح لما غاب عن الحس، وهو مقام غربة النفس. وإما أن يكون في آخر سيره من نفسه إلى ربه فهو في مقام الإحسان، وذلك بأن يخلص من الاعتدال، لاستغنائه بالشهود عن الاستدلال، ولخلاصه من شتات الأسفار، بالحصول في محل القرار، فاتحدت العين بالعين، وزال الأين من البين، فحينئذ أفناه التوحيد عن توحيده، وجرده الوجود عن تجريده، فانطمست عين تكثيره في تفريده، وأشرقت شمس واحديته في تعديده، قد وحد الحق ذاته عنه، وأوصل بصفة البقاء إليه بعد الفناء لطيفة منه، فصح فيه قول من قال:
توحيده إياه توحيده ... فهو الواحد الموحد لنفسه(1/876)
تعالت واحديته سبحانه ... عن التوحيد بالتوحيد في قدسه
وهذا هو المراد بقول سيدي أحمد بن إدريس: ورجل أي آخر قال لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم الله مرة واحدة في القيمة يسق ذاك لأنه قالها في حضرة الشهود حين انمحت الذات بالذات، والصفات بالصفات، وغابت العين بالعين وزال التعبير بالاثنين، حينئذ ما قالها إلا الله، ولا نطق بها سواه، وصح له أنه نطق بالكلمة الكريمة في كل لمحة ونفس، لأن ذلك وما فوقه لم يخرج عن كونه من الوسع الإلهي الذي هو عبارة عن التجلي بجميع المظاهر الوجودية والوجوبية والإمكانية والصورية والمعنوية والحكمية والأثرية والعينية والعلمية والفرضية والقولية والفعلية والحسية والتنزيهية والتشبيهية فكان عين جميع ذلك من وجه واحد من كل الوجوه، وكان غير ذلك جميعه من وجه واحد من كل الوجوه، فهو الواسع الذي قبل الضدين وتجلى بالوصفين، وكان عين الشيء وخلافه وتقيد فهو مقيد وانطلق فهو منطلق، وتقيد في الانطلاق وانطلق في التقييد فصدقت عليه جميع الاعتقادات، ووقعت عليه جميع العبارات، كلت الألسن عن حصر ما هو عليه، وانحسرت العقول السليمة عن الوصول إليه، أحاط الكون عدماً ووجوداً، ولم يحط الكون به، ووسع الأشياء كلها علماً وعيناً وذاتاً وصفات ولم يسعه شيء. أما قوله في الحديث القدسي ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن، فهذا الوسع عند المحققين إنما هو عبارة عن قبول القلب للألوهية من حيثه(1/877)
لنفسه على أنه الله، وهذا المعنى لا يتسع له شيء من المخلوقات سوى قلب الإنسان الكامل لأنه مظهر الذات، وما سواه فمظاهر الأفعال والأسماء والصفات، والإنسان الكامل ولو عرف أنه هو الله وتحقق بما تحقق به من الأسماء والصفات، فإنه لا يبلغ غاية الكنه الذاتي ولا يستوفيه بوجه من الوجوه، ولهذا قال الصديق الأكبر: العجز عن درك الإدراك إدراك، وقال سيد المقربين وخاتم المرسلين: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقال تعالى " وما قدروا الله حق قدره " يعني المقربين والكمل المحققين من الأنبياء والمرسلين من دونهم من الأنبياء والصديقين وسائر عباد الله المؤمنين والكافرين، بل هو فرق ما عرفوه وقدره فوق ما قدروه ووراء ما دروه.
فائدة
في معنى " لا إله إلا الله " ليكون السالك عند قولها ملاحظاً لذلك، أي لا مستغن عن كل ما سواه ومفتقر إليه كل ما عداه، إلا الله تعالى، ولا شك عند العقلاء جميعاً أن الوجود الواحد الحق مستغن عن كل ما سواه من صور العالم ومقاديرها، وتعينات أرواحهم ونفوسهم، وأشباحهم وجميع أحوالهم، لأنه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق، وجميع العوالم مفتقرة إليه لتظهر به وتتعين فيما هي متعينة به، وهذا معنى وحدة الوجود وهو معنى الكلمة الطيبة.
عائدة
لا بد للمريد السالك إن كان مراده الوصول، إلى مراتب أهل الحصول،(1/878)
من الاشتغال بالذكر دائماً بأي نوع كان من الأذكار، وأعلاها الاسم الأعظم وهو قولك الله الله لا يزيد عليه شيئاً، لأن الله ما وصف بالكثرة شيئاً إلى الذكر، وما أمر بالكثرة من شيء إلا من الذكر، فقال " والذاكرين الله كثيراً والذاكرات " وما أتى الذكر قط إلا بالاسم " الله " خاصة معرى عن التقييد فقال: " اذكروا الله ذكراً كثيراً " وما قال بكذا وقال: " ولذكر الله أكبر " ولم يقل بكذا وقال: " واذكروا الساعة حتى لا يبقى على وجه الأرض من يقول: الله الله " فما قيده بأمر زائد على هذا اللفظ لأنه ذكر الخاصة من عباده الذين يحفظ الله بهم عالم الدنيا وكل دار يكونون فيها، فإذا لم يبق في الدنيا منهم أحد لم يبق للدنيا سبق حافظ يحفظها الله من أجله، فتزول وتخرب. وكم من قائل الله الله باق في ذلك الوقت لكن ما هو ذاكر بالاستحضار الذي يستحضره أهل الله، فلهذا لم يعتبر اللفظ دون الاستحضار، فعلم من ذلك أن المريد لا ينتفع بأي ذكر كان إلا مع استحضار المعنى. والأدب الذي ذكره أهل الله في رسائل السلوك من التقوى والطاعة والعبادة والعمل بما في الكتاب والسنة وغير ذلك من المجاهدات.
وصل
اعلم أن الطرق شتى، ولكل طريق مرشدون يدلون الناس على الطريق الموصل إلى الله ليسلكوه، ومن المعلوم أن المرشد لا بد أن يكون على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم من كونه يخاطب الناس على قدر أحوالهم، فيخاطب المبتدي بما لا يخاطب به السالك. ويخاطب مريد السلوك بما لا يخاطب به مريد البركة والثواب، وله أساليب متعددة في دعاية الخلق إلى الله، لأن(1/879)
أكثر النفوس لها ميل إلى الدنيا والراحة من تكلف مشقات العبادة، ولا تهوى أن تعمل عملاً إلا بجائزة يسهل عندها القيام بالعمل، وإن الشيخ أحمد بن إدريس كان من كبار السادة المرشدين، والقادة الداعين إلى الله والمنشدين، فأتى لهم بهذه الصيغة التي تقتضي زيادتها الأخيرة زيادة ثواب لقائلها مرة، على من يقولها طول عمره من غير هذه الزيادة.
وليس مقصوده اقتصار القائل على مرة في تحصيل مراده، بل مراده أن يقول للناس في ترغيبهم إذا كان قولها مرة لها من الثواب ذلك فما بالك بالذي يلازم عليها آناء الليل وأطراف النهار، فحينئذ يلازم الإنسان على تلاوتها والحجب تتمزق شيئاً بعد شيق حتى يقع الشهود القلبي، فإذا حصل الشهود استغنى عن الذكر بمشاهدة المذكور، فلو ذكر العبد ربه في تلك الحضرة كان غير عارف بالأدب كما أن من كان بين يدي السلطان لا يناسبه تكرار اسمه جهراً على التوالي، بل ربما نسبوه إلى الجنون وأخرجوه من حضر السلطان لقلة أدبه، وكيف يكون منه ذلك وقد فني عن شهود السوى بحصوله في مقام الشهود، وقد ارتقى بفنائه عنه إلى مقام الوجود، فأي شيء له حينئذ وجود مع الله حتى ينفيه بتوحيده؟ ومن المعلوم أن النفي فرع الثبوت، وقد شهد هذا الكامل حينئذ أن الوجود لله وحده لا شريك له، وأن ما سواه ما شم رائحة الوجود أصلاً.
مهم
نقل أهل الشرع أنه لو قال إنسان لا إله إلا الله ألف مرة من غير أن يكررها وإنسان آخر قالها ألف مرة بالفعل هل يكونان متساويان؟ فأجابوا بأن كلاً منهما حصل العدد غير أن الذي قال ذلك مرة واحدة حصل له هذا العدد من غير مضاعفة، والذي كررها العدد المعلوم حصل له العدد مضاعفاً، وأمر المضاعفة شيء موكول علمه إلى الله عز وجل،(1/880)
فلا يمكن إدخاله تحت حصر مخصوص، وقد علمت أن أهل الله لا يسألون عن ثواب ولا عن عقاب، بل مرادهم الوصول إلى حضرة الحكيم الوهاب، فرضي الله عنهم ورضوا عنه، ومن عليهم بما طلبوه جوداً وكرماً منه. نسأل الله أن يمن علينا بالمرام، وأن ينعم من فضله بحسن المبدأ والختام. وإلى هنا كان انتهاء الكلام بإذن الملك العلام، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين. حررت غرة محرم الحرام سنة خمس وثلاثمائة وألف، وتوفي هذا الأستاذ والأخ الملاذ، ليلة الثلاثا مساء سابع عشر رجب الفرد عام خمسة عشر وثلاثمائة وألف ودفن في تربة باب الله رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الغني البقاعي الشافعي القادري
الدمشقي المعروف بكل معروف والموصوف بكل فضل موصوف، كان من العلماء والسادة الفضلاء، مع عبادة وتقوى ومجاهدة في الله في السر والنجوى، وزهد وصيانة، وكمال وأمانة، وقدر وعلا، ورفعة بين الملا، واعتقاد في قلوب الناس. وكان جميل المعاشرة حسن الإيناس، وله كرامات شهيرة وخوارق كثيرة. توفي في دمشق الشام ثامن عشر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الفتاح بن عبد الله بن صالح الكردي الشافعي الدمشقي
بقية السلف الصالح، ونخبة الخلف الناجح. أخذ عن أبيه وغيره من السادة الكرام، والقادة العلماء الأعلام، مات حادي عشر رجب سنة خمس وخمسين ومائتين وألف.(1/881)
عبد الفتاح بن أحمد بن الحسن الجوهري الشافعي الأزهري
عالم أذعن له في العلوم العقلية والنقلية كل فاضل، وقال العارف بمراتب علمه لمن حاول تناولها: أين الثريا من يد المتناول، كان نزعة الأبصار ولمحة البصائر، وكعبة الأبرار ونفحة الأكابر، وملجأ المتعلم والمستفيد، وأول متصدر يستفاد منه فيفيد، أضاءت الدنيا بأنوار علومه، وتزينت بدرر منثوره ومنظومه.
ولد سنة إحدى وأربعين ومائة وألف ونشأ في حجر والده، وحضر دروس العلامة الملوي وبعض دروس أبيه وغيره، ولم يكن معتنياً بإظهار جلالة العلم ولم يلبس لباس الفقهاء، بل كان يعاني التجارة والكسب. ولما توفي أخوه الأكبر الشيخ أحمد وقع الاتفاق على جلوسه في مكانه وإقرائه الدروس والتفاته للطلبة، وتقدم أمره وراج قدره، واستعت دنياه. ولم يزل حتى حصلت حوادث الفرنساوية في مصر، فصادرته فرنسا وأخذت منه خمس عشر ألف ريال فرنساوي، فعظمت همومه وتفاقمت غمومه، وسافر إلى بلدة جارية في التزامه يقال لها كوم النجار، فأقام بها أشهراً ثم ذهب إلى شيبين الكوم بلدة أقاربه، وأقام بها إلى أن مات رحمه الله تعالى سنة خمس وعشرة ومائتين وألف، وذلك بعد وفاة أخيه الشيخ محمد بنحو خمسة أيام، ودفن هناك في قرية شيبين.
الشيخ عبد الفتاح العقري النقشبندي الخالدي
المرشد الولي الفقيه العابد، والمقصد التقي الناسك الزاهد، صاحب الهمم العلية، والأخلاق المرضية، كان من أهل الاستقامة في التقوى منقطعاً إلى الله في السر والنجوى، أخذ الطريقة النقشبندية الخالدية فأحسن بها الاشتغال وقام على ساق الخدمة بها في الأيام والليالي، ثم لما رآه حضرة الأستاذ مولانا(1/882)
خالد قد استعد للإرشاد وصار عنده أهلية الدعوة إلى المراد، خلفه خلافة مطلقة يعطي الطريق لمن أراد من ذوي الهمة والاستعداد. وكان رحمه الله تعالى حسن الأخلاق صافي السريرة متواضعاً متذللاً كثير الخدمة هاضماً لنفسه. توفي رضي الله تعالى عنه بعد الألف والمائتين والخمسين.
الأمير الكبير السيد عبد القادر بن محي الدين الجزائري المغربي
هو الهمام الكامل العارف، والإمام المتحلي بأعلى العوارف، الراسخ القدم في العلم الإلهي والكاشف عن أسرار الحقائق حتى شهدها كما هي، قد حل من طرف الفضل في سواده، وتبوأ من صدر الشرف أوج فؤاده، فمحامده تملأ المجامع والمسامع، ومناقبه تنير المطالع وتقف عندها المطامع، فلا ريب أنه مفرد الزمان القائم مقام الجمع، المستجمع لصفات الكمالات الإنسانية لدى كل منطق وسمع، فهو البحر الذي سارت فيه سفن الأذهان فلم تدرك قراره، وعجزت أفكار النظراء وألباب البلغاء عن أن يخوضوا تياره. ما برز جواد علمه في ميدان البحث إلا وازدان على قاص ودان، ويقال لمن سأل عن حقيقة حاله ليس الخبر كالعيان. وأما جوده فهو القطر الذي عم الفجاج نتاجه، والبحر الذي طاولت الأبراج أمواجه. فلله دره من كامل قد استدارت منطقة المجد حول قطب سيادته، واستنارت كواكب المعالي الزاهرات بأضواء شمس سعادته. فهذا الذي تقتبس من مشكاته أنوار التقوى والصلاح، وتختلس من جانب طوره أطوار النجاة والنجاح. وحل من الشرف في طالع سعوده، واستوى على ذروة الغرف المشيدة لبذل نداه وجوده، وشهرته قد فاقت ضوء المصباح والصباح، وسيرته قد رقت فهي لسامعها الراح(1/883)
المباح. ولا غرو فهو فرع الشجرة الطيبة المنابت، قد ثبت أصلها وزاحمت أغصانها الثوابت، تسامت بالنسبة إلى شرف النبوة أعاليها، واخضرت بماء الفتوة أدواح معانيها ومعاليها:
كل المفاخر والمناقب جمعت ... فيه على الإطلاق والتقييد
والمجد مقصور عليه أثيله ... والعز تحت ظلاله الممدود
تلقى برؤيته المنى أو ما ترى ... عنوانه بجبينه المسعود
لو تشعر الدنيا لقالت إن ذا ... مضمون أشعاري وبيت قصيدي
ومع ذلك فهو فارس ميدان اليراع والصفاح، وليث الرماح الخطية والأقلام الفلاح. فهو لعمري الموصوف حقاً ببسط الكف ما أعرض يوماً عن بذل المعروف ولا كف. فهيهات أن يصفه الواصف وإن أطال الكلام، أو أن يحكيه العارف وإن ملأ بطون الدفاتر وبرى ألسنة الأقلام. وأما ذكر نسبه الموصول بأشرف نبي وأجل رسول، فهو التقي العابد والغازي المجاهد، الأمير عبد القادر المغربي الجزائري بن السيد محيي الدين بن السيد المصطفى بن السيد محمد بن السيد المختار بن السيد عبد القادر بن السيد أحمد المختار بن السيد عبد القادر بن السيد أحمد المعروف بابن حذه مرضعته بن السيد محمد بن السيد عبد القوي بن السيد علي بن السيد أحمد بن السيد عبد القوي بن السيد خالد بن السيد يوسف بن السيد أحد بن السيد بشار بن السيد محمد بن السيد مسعود بن السيد طاووس بن السيد يعقوب بن السيد عبد القوي بن السيد أحمد بن السيد محمد بن السيد إدريس الأصغر بن السيد إدريس الأكبر بن السيد عبد الله بن السيد الحسن المثنى بن السيد الحسن السبط بن السيد علي بن أبي طالب(1/884)
وفاطمة الزهراء بنت سيد العالمين، وإمام الأنبياء والمرسلين، محمد صلى الله عليه وسلم وشرف وعظم وكرم:
نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً ومن فلق الصباح عمودا
وقد نظم هذا النسب الشريف صاحب المقام العالي المنيف السيد محمود أفندي حمزة مفتي دمشق الشام رحمه الله تعالى فقال:
يا حبذا الوعد والإنجاز يصحبه ... حاشا علاكم بأن الخلف يعقبه
حيا فأحيا ظنوناً غير نائية ... لولاه كانت قضت مما تراقبه
وافى البشير به والفكر في قلق ... والقلب في حرق هم يقلبه
والجفن في أرق والعين في غرق ... والصبر في فرق كرب يداعبه
ومذ تفوه قام الحزن مرتحلاً ... عنا بعسكر لوم لست أنحبه
وباشر البشر في ضرب الخيام على ... قاع السرور فكم ذا كنت أرقبه
فالحمد لله حيث الفضل في ملك ... مسلسل الأصل يعلو حين تنسبه
العالم العامل الغازي أخو ورع ... الزاهد المنتقى للخير ينتبه
السيد الفرد عبد القادر الحسني ... من سيفه ملك الإفرنج يرهبه
نجل المحقق محيي الدين سيدنا ... من ضاء من علمه شرق ومغربه
ابن الإمام الهمام المصطفى كرماً ... من كل محمدة في الكون تطربه
ابن الممجد ركن العز أوحدهم ... محمد من غدا في الحمد مذهبه
ابن الهمام هو المختار قدوتنا ... عند الثريا مقاماً كنت تحسبه
ابن السميدع عبد القادر الورع المز ... دان بالقدر رفعاً لست تنصبه
ابن الشريف هو المختار أحمد من ... فعل المحامد والإحسان مشربه
ابن الممجد عبد القادر الحسن ال ... أخلاق فوق الدراري كان مطلبه
ابن المسمى بحذه عند نسبتهم ... أخدوده واصل لله راكبه(1/885)
ابن التقي الذي سموه أحمد من ... وسائط الحمد للتوفيق تجذبه
ابن الذي مر في عز وفي شرف ... محمد من لذيل الفخر يسحبه
ابن المسمى بعبد للقوي لما ... أبداه في دين مولاه تصلبه
ابن الكريم علي من سما عظماً ... حتى غدا في علاه البدر يرقبه
ابن الجواد العفيف السمح أحمد من ... أعي اليراع لفضل فيه حاسبه
وهو ابن عبد القوي الله سدده ... قواه في ضمن تقواه تقربه
ابن الذي خلد الفردوس خالدهم ... فالحور في روضة الرضوان تخطبه
ابن السمي إلى الصديق يوسف من ... قميصه من عفاف قد جاذبه
ابن الهمام جليل القدر أحمد من ... ساد المعالي بطرق المجد يركبه
ابن المبجل بشار الكرام ومن ... سمت لدى الخلق بالبشرى مراتبه
ابن المكرم فرع المجد واحده ... محمد من صفات الحمد تصحبه
ابن المهذب مسعود الطوالع من ... في الشرق والغرب لا يخشى تحجبه
ابن المفاخر طاووس بنسبته ... إلى المعالي ولا عجب يصاحبه
ابن المسمى إلى يعقوب سيدنا ... من صبره لم تضق فيه مذاهبه
ابن الشديد لأمر الله قدوتنا ... عبد القوي فذا يحلو تعصبه
ابن الكريم المفدى ذاك أحمد من ... ركن المعالي به تسمو جوانبه
ابن المعظم نسل الملك قسوره ... محمد من سمت فينا رغائبه
ابن المتوج تاج الملك في رحم ... إدريس أصغرهم تزهو كتائبه
ابن المسمى بإدريس المليك فكم ... خاض المفاخر فيه الدهر أشهبه
ابن المكمل عبد الله كاملهم ... من حصر أوصافه يعيي تطلبه
ابن الإمام المثنى فضله حسن ... من جمع إحسانه ما لست أكتبه
وهو ابن سبط الرسول المنتقى حسن ... من كان سيده المختار ناسبه
وهو ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء ... طراً كما الأخبار تعربه
وهي ابنة الخاتم الهادي محمدنا ... من شرف السلك في الأنساب كوكبه(1/886)
صلى عليه مع التسليم خالقنا ... ما ضاء في العالم العلوي موكبه
والآل والصحب ما أرخت أي وطر ... يا حبذا الوعد والإنجاز يصحبه
ولد رضي الله عنه وأرضاه في القيطنة من أعمال معسكر بالمغرب الأوسط يوم الجمعة الثالث والعشرين من رجب سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف من الهجرة النبوية، ونشأ رحمه الله تعالى في حجر والده إلى أن شب بالعفة والصيانة والطاعة والأمانة مرضي الحال محمود الأقوال والأفعال، مشهوراً بين أقرانه بالجد والاجتهاد دائباً على المطالعة والحفظ والرياضة والانفراد، قد ظهرت عليه من صغره لوائح الفلاح، وتقلد منذ تمييزه بمقاليد الصلاح والنجاح، وأخذ الفقه عن والده عمدة المحققين إمام الكل في الكل السيد محيي الدين، والفقه وغيره عن غيره من العلماء والسادة القادة الفضلاء، ثم رحل للطلب إلى هوران، فأخذ عن علمائها ذوي الإتقان. وكان يحفظ أكثر البخاري متضلعاً باللغة العربية، وله بذلك وبغيره اليد العلية، ولم يزل يكرع من شراب العلم كؤوساً روية، ويلبس للجولان في ميدان القيام بأنواع العبادات دروعاً قوية، وعين الرعاية ترعاه وتساعده على ما قصده وعناه، ويد الرفعة تشير إليه وتطرح تقاليد السعادة بين يديه، إلى أن صار عين زمانه وحدقة إنسان عصره وأوانه، وقد افتخر به من خلف على من تقدم من الأعلام وسلف، ومع ذلك فكان ذا شجاعة علوية، وأخلاق وأوصاف محمدية. ولما قصد حضرة والده البلاد الحجازية، أخذه معه للتشرف بتلك الأماكن والأخذ عن ذوي المراتب الألمعية، فمشى مع والده براً إلى تونس، ثم ركب معه البحر إلى الإسكندرية، ومنها سار إلى مصر ثم إلى السويس فركب معه إلى جدة ومنها إلى مكة، فحج مع والده وزار واعتمر وأدى بقية المناسك(1/887)
كما أخبر النبي وأمر، ثم سار معه إلى المدينة المنورة، فزار قبر جده الشريف وصلى بالمسجد النبوي المنيف، ثم سار معه إلى دمشق الشام، فأقام بها مدة وأخذ عن علمائها السادة الأعلام، كما أخذ عن أهل غيرها ممن مر عليهم في طريقه، غير أنه قد استقام في دمشق الشام مدة، قد بذل بها في طريق النقشية اجتهاده وجده، ثم سار إلى مدينة بغداد لزيارة السيد عبد القادر الجيلاني كعبة الإسعاد، فتكمل بهذه الرحلة، ونال ممن اجتمع بهم من ذوي الفضل كل نحلة، ولبس الخرقة القادرية من يد الأستاذ نقيب الأشراف وخليفة السيد عبد القادر سيدي السيد محمود القادري ذي الفضل الباهر، ثم رجع إلى مكة المشرفة مرة ثانية فحج وزار وتبرك بتلك الآثار السامية، ثم رجع مع والده إلى الأوطان وحالها مضمحل معدوم الراحة والأمان، وقد طال عليهم الأمد وتوالى عليهم الكرب والنكد، وتطاولت إليهم يد الأجانب، وأحاط بهم الهم والغم من كل جانب، وكثر بينهم الفساد وانحازت طوائفهم نحو التخالف والعناد، فتارة يرون كف العدو فرضاً، وتارة يحارب بعضهم بعضاَ، وقد يئسوا من نجدة الدولة العثمانية التي لها عليهم السيادة الحقية، وظهر لهم عجز جارهم سلطان المغرب الأقصى، وبحر الفتن لديهم لا تحد أمواجه ولا تحصى، فاجتمع العلماء والأشراف وأعيان القبائل من العرب وذوي الإنصاف، وقدموا على حضرة والد المترجم السيد محيي الدين وألزموه إما أن يقبل بيعتهم على الملك لنفسه وإما أن يقبلها لولده المترجم المرقوم، ولم يقبلوا له من اعتذار بل أصروا عليه غاية الإصرار، فنظر في هذا الأمر فوجد الاهتمام به واجباً، وقد خطبته هذه الإمارة ولم يكن لها طالباً. بيد أنه لا يقدر على القيام بها بنفسه لكبر سنه وعجزه، فاختار لها ولده المترجم المذكور ذا الفضل الباهر والمشهور، حيث أنه بلغ أشده ونال من الكمال حده، وترشح للإمامة وتأهل لها، حتى لم تكن تصلح(1/888)
إلا له ولا يصلح إلا لها، لما كان محتوياً عليه من علو الهمة واستقامة الأطوار، وقوة الملكة وتحمل المكاره وحسن الاصطبار، والشجاعة والعلم والسماحة والحلم، والقوة والعزم والإزماع والحزم، والنباهة والتيقظ والمواراة من المخاوف والتحفظ، والعبادة والتقوى في السر والنجوى، إلى غير ذلك من أنواع الفضائل وبديع الشمائل، التي لا بد للملك منها ولا غنى له عنها. فلما علموا من والده الشريف الإجابة ورأوا ما عند المترجم من البسالة والنجابة، نادى المنادون بلا توان باجتماع الأكابر والأعيان. فاجتمع العلماء والأشراف، وأهل الصولة من الأطراف، وكان اجتماعهم بوادي فروحه من غريس فجلس سيدي المترجم تحت دردارة هناك عظيمة، وتقدم والده إليه فبايعه ثم بايعه الناس بيعة عميمة. وفي الحال لقبه
والده بأمير المؤمنين ناصر الدين، وكانت هذه البيعة خصوصية في محل معلوم، لكنه لما تسامع خبرها حضر إليه الناس من كل جانب وبايعه العموم، حتى أنه لم يبق أحد ممن لم يحضر إلا وقد صدق على بيعته واتقاد لسلطنته وإمرته، وكان ذلك سنة ألف ومائتين وثمان وأربعين، فأسس ربوع الخلافة والسلطان، وشيد أركان دولته برفع الظلم وهدم جدار الطغيان، ثم قامت الحروب بينه وبين الفرنسيس على ساق، واتسع الخرق وقوي الشقاق، ولم يزل يصول عليهم ويوجه سهام الموت الأحمر إليهم، إلى آخر تلك القصة، التي لا يساعدنا الاختصار على ذكر تفصيلها. وقد ألف سعادة ولده الأمير السيد محمد باشا كتاباً مستوفى في ذلك ذكر فيه ترجمة حاله مفصلة من ابتدائها إلى انتهائها. وكتب المؤرخ الفاضل الشيخ محمد بيرم التونسي في كتابه صفوة الاعتبار، فقال: اعلم أن الدولة الفرنساوية لما ترقت في المعارف لا سيما في الأعصر الأخيرة لازمها حب الظهور، وعدم تحمل الهوان، وكانت الدولة العثمانية في شغلها الشاغل من أعمال الينكشارية وحروب الروسية وثورات اليونان وطغيان ولاة الأقاليم وعدم امتثالهم للأوامر، وكان والياً على الجزائر، حسين باشا وكان مستبداً ظلوماً مرتشياً قليل التدبر، وحصل منه إهانة لقنصل فرانسا، وذلك على ما في تاريخ ابن الضياف أن أحد التجار اليهود الأغنياء الجزائريين الملقب ببقرى أبو جناح، له خطلة مالية مع تجار من الفرانسيس، وتداعوا في خسائر من الجهتين، وانتصر حسين باشا لرعيته بالإلحاح على قنصل فرانسا في إنصافه، وآل الأمر إلى صلح يدفع على مقتضاه التجار الفرنساويون إلى التاجر الجزائري مالاً عظيماً وافراً، وأضمر حسين باشا أخذ المال لنفسه لما رآه ذريعاً وراجعاً لرعيته، وتلك كانت من عادته المألوفة له عن أمثاله. ولما قرب دفع المال وإذا بتجار أخر فرنساويين قاموا على بقرى المذكور بدين أوقفوا عليه المال الذي يريد قبضه، فتكدر حسين باشا لذلك كدراً عظيماً وطلب من القنصل رفع الإيقاف، وقال: إن أرباب الدين الفرنساويين يتبعون ذمة المديون بعد قبضه المال، حيث أنه لا حق لهؤلاء الطالبين في المال الذي يدفعه الفرنساويون، فامتنع من ذلك القنصل مستنداً إلى أن المال مال المديون والغرماء حقه عليهم، فحجزوا على المال لاستيفاء حقهم منه، وكان الديون قد دبر هذه الحيلة خوفاً على ماله من الهلاك باستيلاء الباشا عليه، فأعرض الباشا عن القنصل، وكاتب دولة فرنسا فأرسلت الدولة المكتوب بعينه إلى القنصل وأمرته بالجواب عنه، فذهب القنصل عند الباشا لمآرب أخر، فخطابه الباشا في استبطاء جواب مكتوبه الذي أرسله لدولة فرانسا، فقال له القنصل إن المكتوب أرسلته الدولة إلي وأمرتني بالجواب عنه، فسأل عن سبب عدم إجابة الدولة له، فأجابه بما فهم منه احتقاره، وكانت بيد الباشا منشة يطرد بها الذباب فضرب بها وجه القنصل وطرده، وبقي آسفاً على ما فاته من مال بقرى. ثم أن فرانسا تهددت الوالي المذكور على إهانة نائبها، وألحت عليه بأن يطلب منها الرضى ويعترف بالخطأ فأبى وأصر على غلطه، مع أن الدولة العثمانية والدول الأجانب وخواص الأعالي قد حسنوا ذلك له، ودولته أمرته أمراً قطعياً بذلك فأبى، وقد كانت فرانسا في شغل من داخليتها في ذلك الوقت لأن ذلك كان أثر حرب نابليون الأول، وكانت أيضاً متوقية المشاحنة مع العرب ومع الدولة العثمانية، حتى رضيت فرنسا بأن يكلف الباشا أي إنسان كان في باريس بطلب الترضية لكي تندفع هذه المعرة، ولا تلحقه هو مذلة بإرسال أحد من متوظفيه إلى " القنصلاتو " ولا إلى باريس، وكان قصدها بذلك اجتناب الحرب ما أمكن لاشتغالها بحروبها وأحزابها الداخلية، فأصر الوالي على رأيه، وأرسلت فرانسا أسطولها وحاربت بلد الجزائر، واستولت عليها، وحمل ذلك الوالي إلى باريس، ثم مات في إسكندرية. هـ بأمير المؤمنين ناصر الدين، وكانت هذه البيعة خصوصية في محل معلوم، لكنه لما تسامع خبرها حضر إليه الناس من كل جانب وبايعه العموم، حتى أنه لم يبق أحد ممن لم يحضر إلا وقد صدق على بيعته واتقاد لسلطنته وإمرته، وكان ذلك سنة ألف ومائتين وثمان وأربعين، فأسس ربوع الخلافة والسلطان، وشيد أركان دولته برفع الظلم وهدم جدار الطغيان، ثم قامت الحروب بينه وبين الفرنسيس على ساق، واتسع الخرق وقوي الشقاق، ولم يزل يصول عليهم ويوجه سهام الموت الأحمر إليهم، إلى آخر تلك القصة، التي لا يساعدنا الاختصار على ذكر تفصيلها. وقد ألف سعادة ولده الأمير السيد محمد باشا كتاباً مستوفى في ذلك ذكر فيه ترجمة حاله مفصلة من ابتدائها إلى انتهائها. وكتب المؤرخ الفاضل الشيخ محمد بيرم التونسي في كتابه صفوة الاعتبار، فقال: اعلم أن الدولة الفرنساوية لما ترقت في المعارف لا سيما في الأعصر(1/889)
الأخيرة لازمها حب الظهور، وعدم تحمل الهوان، وكانت الدولة العثمانية في شغلها الشاغل من أعمال الينكشارية وحروب الروسية وثورات اليونان وطغيان ولاة الأقاليم وعدم امتثالهم للأوامر، وكان والياً على الجزائر، حسين باشا وكان مستبداً ظلوماً مرتشياً قليل التدبر، وحصل منه إهانة لقنصل فرانسا، وذلك على ما في تاريخ ابن الضياف أن أحد التجار اليهود الأغنياء الجزائريين الملقب ببقرى أبو جناح، له خطلة مالية مع تجار من الفرانسيس، وتداعوا في خسائر من الجهتين، وانتصر حسين باشا لرعيته بالإلحاح على قنصل فرانسا في إنصافه، وآل الأمر إلى صلح يدفع على مقتضاه التجار الفرنساويون إلى التاجر الجزائري مالاً عظيماً وافراً، وأضمر حسين باشا أخذ المال لنفسه لما رآه ذريعاً وراجعاً لرعيته، وتلك كانت من عادته المألوفة له عن أمثاله. ولما قرب دفع المال وإذا بتجار أخر فرنساويين قاموا على بقرى المذكور بدين أوقفوا عليه المال الذي يريد قبضه، فتكدر حسين باشا لذلك كدراً عظيماً وطلب من القنصل رفع الإيقاف، وقال: إن أرباب الدين الفرنساويين يتبعون ذمة المديون بعد قبضه المال، حيث أنه لا حق لهؤلاء الطالبين في المال الذي يدفعه الفرنساويون، فامتنع من ذلك القنصل مستنداً إلى أن المال مال المديون والغرماء حقه عليهم، فحجزوا على المال لاستيفاء حقهم منه، وكان الديون قد دبر هذه الحيلة خوفاً على ماله من الهلاك باستيلاء الباشا عليه، فأعرض الباشا عن القنصل، وكاتب دولة فرنسا فأرسلت الدولة المكتوب بعينه إلى القنصل وأمرته بالجواب عنه، فذهب القنصل عند الباشا لمآرب أخر، فخطابه الباشا في استبطاء جواب مكتوبه الذي أرسله لدولة فرانسا، فقال له القنصل إن المكتوب أرسلته الدولة إلي وأمرتني(1/890)
بالجواب عنه، فسأل عن سبب عدم إجابة الدولة له، فأجابه بما فهم منه احتقاره، وكانت بيد الباشا منشة يطرد بها الذباب فضرب بها وجه القنصل وطرده، وبقي آسفاً على ما فاته من مال بقرى. ثم أن فرانسا تهددت الوالي المذكور على إهانة نائبها، وألحت عليه بأن يطلب منها الرضى ويعترف بالخطأ فأبى وأصر على غلطه، مع أن الدولة العثمانية والدول الأجانب وخواص الأعالي قد حسنوا ذلك له، ودولته أمرته أمراً قطعياً بذلك فأبى، وقد كانت فرانسا في شغل من داخليتها في ذلك الوقت لأن ذلك كان أثر حرب نابليون الأول، وكانت أيضاً متوقية المشاحنة مع العرب ومع الدولة العثمانية، حتى رضيت فرنسا بأن يكلف الباشا أي إنسان كان في باريس بطلب الترضية لكي تندفع هذه المعرة، ولا تلحقه هو مذلة بإرسال أحد من متوظفيه إلى " القنصلاتو " ولا إلى باريس، وكان قصدها بذلك اجتناب الحرب ما أمكن لاشتغالها بحروبها وأحزابها الداخلية، فأصر الوالي على رأيه، وأرسلت فرانسا أسطولها وحاربت بلد الجزائر، واستولت عليها، وحمل ذلك الوالي إلى باريس، ثم مات في إسكندرية.
فداء الجزائر قد ابتدأ منذ انخرم أمر الينكشارية في القسطنطينية التي هي مقر الدولة العامة، ونشأ عنه ما نشأ من فساد الإدارة والولاة، إلى أن أصيبت عدة جهات وباء حسين باشا بالخزي، وأثم الظلم والخراب والتهور الذي كان أعظم النكبات، وانتقلت حالة الجزائر بل وحالة السياسة في شطوط إفريقية الشمالية إلى طور آخر انتهى.
وكان مبدأ استيلاء فرانسا على الجزائر سنة ست وأربعين ومائتين وألف،(1/891)
في مدة كارلوس العاشر ملك فرانسا، وتمكن الفرانسيس أولاً من القاعدة وما حولها، لكن بقية الجهات أصروا على الامتناع من الطاعة لفرانسا، لأنها إنما أرادت الانتقام من الوالي حسين باشا وقد حصل، فالجهات الشرقية من القطر انفرد بالحكم فيها الحاج أحمد باي قسنطينة، والجهات الجنوبية والغربية تشتت تحت رؤساء القبائل، ورام الفرنساويون محاولة تطويعهم بالرفق بأن يتولى الأمر في وهران والي تونس، بإرسال أحد عائلته أو أحد متوظفيه، فأرسل والي تونس واحداً من جهته ومعه شرذمة من الحرس، فلم ينفذ أمره في مدين وهران فضلاً عن خارجها، فرجع من حيث أتى.
ثم أجمعت الجهات الغربية والجنوبية على مبايعة الرجل الوحيد سلالة النسل المطهر الأمير السيد عبد القادر الجزائري بن محي الدين الحسني، وقام لله حق القيام وصحبته النصرة الإلهية في كثير من الوقائع، إلى أن كان في بعضها ما هو خارق للعادة من الكرامات، كطفر فرسه الأزرق به ستين متراً وحين أحاطت به العساكر الفرانساوية كالحلقة، وراموا مسكه باليد فطفر به فرسه على رؤوس العساكر وأسلحتهم ذلك المدى ونجا راكضاً إلى منعته، ودام محارباً لهم نحو سبع عشرة سنة، واستقامت له حكومة ضرب فيها السكة باسمه وأنشأ المدافع والبنادق ونفذ أمره وخشيته فرانسا، وأرسل إلى الحاج أحمد باي ليتحدا ويكونا يداً واحدة، فامتنع تجبراً وطغياناً، وكان ذلك سبباً لتأخر أمره وحطته وغدره، وتنكيس أعلامه واستيلاء الفرانساوية على ما كان تحت أحكامه. وبقي الأمير السيد عبد القادر مدافعاً ومهاجماً إلى أن سولت الغلطات النفسانية المخالفة للديانة الإسلامية لسلطان المغرب الاتحاد مع الفرنسيس على محاربة الأمير السيد المشار إليه، وقطع عنه سلطان المغرب خط التجائه إلى جهات الصحراء، فاضطر(1/892)
حضرة الأمير إلى التسليم للفرنسيس، بعد المشاورة مع وكلائه ووزرائه وأمرائه، حيث سدت المناهج والمسالك وعز الخلاص، ولات حين مناص:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً ... فما حيلة المضطر إلا ركوبها
فأرسل المترجم رسوله إلى قائد الفرنساويين بالميل إلى التسليم، على شروط أرسلها له في رقيم، فقبلها القائد وأظهر الفرح، وزال عنه الغم والترح، ووجه إلى المترجم هدية ذات شان، مفيدة للتودد والأمان، وصدق له على عهده، وأظهر له من الاحتفال غاية جهده. ثم بعد أيام نزل بعائلته ومن معه من خاصته في البارجة الحربية إلى أن وصل إلى دينة أمبواز وبداخلها صرايا عظيمة حصينة، فوضع المترجم بها هو ومن معه، وكان ذلك في شعبان سنة ألف ومائتين وأربع وستين، ثم نقل الأمير منها إلى مدينة بوردو، ثم إلى مدينة نانت، ولما فصل رئيس جمهورية فرانسا وتولاه البرنس لويس نابليون، فاجتهد غاية الاجتهاد وسلك مناهج السداد، في تخليص الأمير من سجنه، وتسريحه إلى مكان يحول بينه وبين كدره وحزنه، فلم يزل يوجه إليه الرسائل، ويعمل في الحضور لديه الوسائل، إلى أن توجه نابليون إلى امبواز، ووعده بالوفاء بالعهد على الحقيقة لا المجاز، وقال له إنك بعد أيام تكون في باريز عاصمة ملكنا، ويكون لك كمال القدر عندنا، وكان قد أقام في امبواز أربع سنوات، فما مضى قليل من الأيام إلا وجاء الأمر بحضور الأمير إلى باريز بالجلالة والاحترام، فدخل في موكب لم يكن لغيره، وساق الله إليه جميل بره وإحسانه وخيره. ولم يزل في عز واحترام وجلالة وإعظام. يدور حيث شاء ويجتمع مع الأكابر والعظماء، إلى أن صدر الأمر من الذات الإمبراطورية بتسريح(1/893)
حضرته الآستانة العلية، وذلك في ربيع الأول سنة تسع وستين ومائتين وألف، فسافر هو ومن معه إلى الآستانة ولا يمر في طريقه على بلدة إلا ويتلقاه أهلها بالحبور وغاية السرور إلى أن وصل إلى الآستانة دار الخلافة العثمانية، واجتمع بأمير المؤمنين مولانا السلطان عبد المجيد فأجله وعظمه وأكبره واحترمه، وقال له أنت صاحب الرأي في سكناك في أل محل شئت من الممالك العثمانية والبلاد الإسلامية، فخرج من عنده حامداً شاكراً، داعياً له بدوام السعادة أولاً وآخراً، وأنشأ هذه القصيدة وقدمها لحضرته العالية السعيدة، وهي:
الحمد لله تعظيماً وإجلالا ... ما أقبل اليسر بعد العسر إقبالا
والشكر لله إذ لم ينصرم أجلي ... حتى وصلت بأهل الدين إيصالا
وما أتت نفحات الخير ناسخة ... من المكاره أنواعاً وأشكالا
وامتد عمري إلى أن نلت من سندي ... خليفة الله أفياء وأظلالا
فالله أكرمني حقاً وأسعدني ... وحط عني أوزاراً وأثقالا
قد طال ما طمحت نفسي وما ظفرت ... لكن للوصل أوقاتاً وآجالا
اسكن فؤادي وقر الآن في جسدي ... فقد وصلت بحزب الله أحبالا
هذا المرام الذي قد كنت تأمله ... هذا مناك فطب حالاً بما آلا
وعش هنيئاً فأنت اليوم آمن من ... حمام مكة إحراماً وإحلالا
فأنت تحت لواء المجد مغتبطاً ... في حضرة جمعت قطباً وأبدالا
وته دلالاً وهذا العطف من طرب ... وغن وارقص وجر الذيل مختالا
آمنت من كل مكروه ومظلمة ... فبح بما شئت تفصيلاً وإجمالا
هذا مقام التهاني قد حللت به ... فارتع ولا تخش بعد اليوم أنكالا
وابشر بقرب أمير المؤمنين ومن ... قد أكمل الله فيه الدين إكمالا
عبد المجيد حوى مجداً وعز علاً ... وجل قدراً كما قد عم أفضالا(1/894)
كهف الخلافة كافيها وكافلها ... من لا عهدنا له في القرن أمثالا
يا رب فاشدد على الأعداء وطأته ... واحفظ حماه وزده منك إجلالا
واظهرن حزبه في كل متجه ... وسددن منه أقوالاً وأفعالا
وابسط يديه على الغبراء قاطبة ... وذللن كل من في لأرض إذلالا
فالمسلمون بأقصى الغرب طامحة ... أبصارهم نحو يرجون إقبالا
كم خائف يرتجي أمناً بسطوته ... وحائر يرتجي للحزن تسهالا
فرع الخلافة وابن الأكرمين ومن ... شادوا عرا الدين أركاناً وأطلالا
كم أزمة فرجوا كم غمة كشفوا ... كم فككوا عن رقاب الخلق أغلالا
هم رحمة لبني الإيمان سائرهم ... هم الوقاية أسواء وأهوالا
أنصار دين النبي بعد غيبته ... في نصره بذلوا نفساً وأموالا
قد خصهم ربهم في خير منقبة ... ما خص صحباً بها قبلاً ولا آلا
كم حاول الصحب والآل الكرام لها ... والله يختص من قد شاء إفضالا
ما زال في كل عصر منهم خلف ... يحمي الشريعة أقوالاً وأفعالا
حتى أتى دهرنا في خير منتخب ... من آل عثمان أملاكاً وأقيالا
قد كنت مضمر خفض ثم أكسبني ... رفعاً وقد عمني جوداً وأفضالا
وبالإضافة بعد القطع عرفني ... وقد نفى عني تصغيراً وإعلالا
هذا وحق علاه منتهى أملي ... قد حط عني بمحض الفضل أثقالا
لا زال تخدمه نفسي وأمدحه ... مستغرق الدهر أبكاراً وآصالا
أهدي مديحي وحمدي ما حييت له ... أفادني أنعماً جلت وإقبالا
جزاه عني إله العرش أفضل ما ... جازى به محسناً يوماً ومفضالا
ولم تزل الباخرة واقفة على الآستانة عشرة أيام، وهو في كل يوم يزور الكبراء والعظماء والوكلاء ويزورونه، وقد كفله السلطان عبد المجيد(1/895)
حينما طلبت دولة فرانسا من السلطان المومى إليه أن يكفله، وبعد أن استقام عشرة أيام، والطعام في كل يوم يأتيه من السرايا إلى الباخرة، توجه إلى بروسة فدخلها يوم الاثنين السابع من ربيع الثاني سنة 1269 وتلقاه واليها خليل باشا صهر الذات الشاهانه ومعه العلماء والوزراء والكبراء، ثم أنه لم يستقر به الأمر أياماً حتى جاء عنده خليل باشا بأمر السلطان المعظم يخبره بأن مراد الدولة العلية أن تعين له معاشاً يكفيه مع الاتساع هو ومن يلوذ به، فسر المترجم بذلك، ووجه لأمير المؤمنين ما يليق من الدعوات، غير أنه اعتذر بأن إمبراطور فرنسا قد عين له ما يكفيه ويكفي من معه، وأما حضرة أمير المؤمنين فإن ما أسداه إليه من كفالته عند فرنسا فإنها هي المنة التي لا تقابلها منة، حيث أنه لولاها لم يتيسر له الخروج من بلاد فرنسا. ثم أنه لما رأى ما عرا هذه المدينة من كثرة الزلازل، ورأى أن جماعته قد ضاقت صدورهم من الإقامة بها، وقد تحسن عندهم تبعاً لسعادة الأميرة الرحلة إلى دمشق الشام، فسافر إلى الآستانة أول ذي الحجة سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف، ثم إلى باريز فتلقاه الإمبراطور ورجال الدولة بكل عظمة وإجلال، ثم رجع إلى الآستانة وقدم الاستئذان من الباب العالي بالرخصة له أن يرحل إلى دمشق الشام، فصدرت أوامر الدولة العلية لمحمود نديم باشا والي دمشق بالاستعداد لقدومه، وإعداد محل لائق به. ثم أن الأمير المرقوم غب حضور الإذن رجع إلى بروسة، وفي خامس ربيع الثاني خرج منها بمن معه وكانوا مائتين نفس فركب بهم باخرة فرنساوية إلى بيروت، فاستقبله الخاص والعام واهتزت لقدومه أنحاء الشام، وبقي قليلاً من الأيام ثم رحل ودخل الشام، وكان قد خرج للقائه أهل البلد، ولا يبعد أن يقال ما شذ منهم أحد،(1/896)
فتألف الكبير والصغير وشملهم بامتنانه وبشره الغزير، ثم بعد أن استراح من السفر وزال عنه النصب والكدر، توجه إلى بيت المقدس للزيارة الشريفة، وكان ذهابه من طريق صفد، وإيابه من طريق حوران، تتميماً للزيارات الواقعات في الطريقين وذلك سنة 1273.
وبعد ذلك في رمضان من تلك السنة، قرأ في المدرسة الأشرفية المشهورة بدار الحديث الواقعة في العصرونية صحيح الإمام الحافظ المجتهد أبي عبد الله البخاري، وكان ختامه في اليوم الرابع والعشرين من شوال سنة أربع وسبعين ومائتين وألف.
وفي نصف ذي الحجة الحرام سنة ألف ومائتين وست وسبعين حينما وقعت الحادثة الكبرى في نصارى الشام، وكان قد تعدى عليهم بعض الأشقياء المتوحشين فقتلوا وأضرموا النيران في أملاكهم ونهبوا متاعهم، فحصل من الأمير المرقوم ما يدل على كمال غيرته ومروءته وتمدنه من خلاصهم والإحسان إليهم، وبذل كمال المعروف، وقد كافأه حضرة أمير المؤمنين السلطان عبد المجيد خان بالكتاب الذي أرسله إليه بخطاب التفخيم والاحترام، مع النيشان المجيدي من الرتبة الأولى، وتواردت عليه كتابات بقية الملوك مع النياشين ذوات الفخر والقدر.
وتفصيل ذلك مذكور في كتاب مناقب المترجم من تأليف ولده المحترم سعادة محمد باشا الذي سماه بالكوكب الزاهر، في أخبار الأمير عبد القادر. وفي سنة سبع وسبعين ومائتين وألف توجه إلى حمص وحماه وغيرهما بقصد الزيارة للمشاهد العظيمة، ولما وصل إلى حماة ونزل في طيارة بني الكيلاني، ورأى الناعورة أنشد:(1/897)
وناعورة ناشدتها عن حنينها ... حنين الحوار والدموع تسيل
فقالت وأبدت عذرها بمقالها ... وللصدق آيات عليه دليل
الست تراني ألقم الثدي لحظة ... وادفع عنه والبلاء طويل
وحالي لحال العشق بات محالفاً ... يدور بدار الحب وهو ذليل
يطأطئ حزناً رأسه بتذلل ... ويرفع أخرى والعويل عويل
وفي أول رجب سنة ألف ومائتين وتسع وسبعين توجه إلى الحجاز من جهة البحر، فنزل من بيروت إلى الإسكندرية ثم إلى مصر، بكل عز وإكرام، ثم إلى مكة، وبعد أيام أخذ الطريقة الشاذلية عن العارف بالله الشيخ محمد الفاسي واختلى مدة في غار حراء فبلغ مطلوبه ونال مرغوبه، وفتحت له كنوز الأسرار وكشف له عن رموز الستار، وبرقت له البوارق ووردت عليه الواردات من المنهل الرائق، وبعد خروجه من غار حراء، توجه إلى الطائف الشريف فمكث هناك نحو ثلاثة أشهر، وهو على اشتغاله واجتهاده في الطريق، ونظم هناك قصيدته التي يذكر بها بدايته ونهايته، ويمدح بها شيخه ويذكر خلافته وولايته، وأولها:
أمسعود جاء السعد والخير واليسر ... وولت جيوس النحس ليس لها ذكر
إلى أن قال:
أتاني مربي العارفين بنفسه ... ولا عجب فالعسر من بعده يسر
وأعني به شيخي الإمام وعدتي ... لهيبته تغضي له الأسد والنمر
محمد الفاسي له من محمد ... كمال الرضى والحال والشيم الغر
أبو حسن لو قد رآه أحبه ... وقال له أنت الخليفة يا بحر
إلى آخرها، وهي طويلة ذكر بها أسراراً وأموراً تدل على بعض ما حصل له من الفتح الرحماني والكشف الصمداني.(1/898)
وفي أول يوم من جرب سنة ثمانين ومائتين وألف، توجه إلى المدينة المنورة من طريق جدة، فدخلها في اليوم السادس والعشرين من جرب، واستقبله أشرافها وحكامها وعلماؤها، ثم بعد مدة طلب من حضرة الهمام الشريف صاحب المقام المنيف السيد أحمد أسعد أن يهيء له محلاً يختلي فيه للعبادة مدة، فهيأ له المحل الذي كان لسيدنا الصديق قدس الله سره وبابه من المسجد الشريف، فاختلى فيه شهرين، وحصل له ما حصل ووصل إلى ما إليه وصل، ولم يزل في المدينة الشريفة والبلدة المنفية، إلى أن حضر ركب الشام فتوجه معه إلى مكة والبلد الحرام، وبعد إتمام حجه توجه إلى جده في الرابع عشر من ذي الحجة الحرام، وفي التاسع عشر ركب في الوابور المصري، ولم يزل تستقبله الولاة والكبراء والعلماء والوزراء، إلى أن دخل دمشق الشام، في التاسع عشر من المحرم سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف فاستقبله الخاص والعام، فقابلهم كعادته بالبشر والسرور والفرح والحبور، وبعد استراحته من رحلته وسياحته سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف، عزم على السفر إلى الآستانة لزيارة الخليفة الأعظم والسلطان الأفخم، مولانا السلطان عبد العزيز خان، فقابلته الدولة بما لاق وعاملته بما اشتهر في الآفاق، وأتاه حضرة الصدر الأعظم من طرف أمير المؤمنين بالنيشان العثماني من الرتبة الأولى، وكان إذ ذاك مسند الصدارة العظمى حضرة فؤاد باشا. وفي تلك الأيام قدم المترجم الرجا والشفاعة لحضرة أمير المؤمنين في تسريح الذوات الشاميين المنفيين إلى قبرص وردس فقبلت شفاعته وخرج الأمر العالي(1/899)
بتسريحهم، وقد تعرض لذلك العالم الجليل والفاضل النبيل، مفتي اللاذقية السيد عبد الرزاق أفندي فتاحي الحسيني في موشحه الذي قدمه لحضرة مولانا المترجم المرقوم وهو:
سلت لفتكي من الأحداث هنديا ... خود حكى قدها بالميل خطيا
دور
رشيقة القد بالأعطاف تسبيني ... تسمو بطلعتها حسناً على العين
رضابها العذب منه الرشف يحييني ... وقد دعاني بفرط الوجد مسميا
دور
يا بانة اللطف كم ذا تهجرين الصب ... مني بطيب اللقا وارعي حقوق الحب
متى تجودين يا أخذ المها بالقرب ... لمغرم قد غدا بالشوق مضنيا
دور
ما لي إذا ما جفا الأحباب أو بعدوا ... سوى الأمير الذي وافى به الرشد
السيد الشهم عبد القادر السنة ... مولى غدا عرفه في الكون عطريا
دور
سليل ذي الفضل محي الدين والحسن ... في نسبة منتهاها صاحب السنن
بدر الجزائر من وافى على سنن ... غدا به عند رب العرض مرضيا
دور
في فتنة الشام كم وفى من الهمم ... حتى حكى صنعه ناراً على علم
وقد حبته ملوك الأرض بالنعم ... وللفخار نياشيناً زهت زيا
دور
وقد أتم صنيع الخير حيث سرى ... لباب سلطاننا الأسمى الرفيع ذرا
يرجوه إطلاق من في النفي فاعتبرا ... منه المقام وبالبشرى له حيا
دور(1/900)
وقد بلغنا جميعاً غاية الأمل ... بحسن إقدام هذا السيد البطل
من فاق فينا بحسن العلم والعمل ... لا زال دهراً من الأسواء محميا
وله في ذلك أيضاً:
بشرى فقد نلنا المنى ... والغم زال والعنا
دور
الله عودنا الجميل ... من فيض إحسان جزيل
لا بد للخطب الجليل ... من منحة فيها الهنا
دور
كم شدة ذاب الفؤاد ... منها وجافانا السهاد
قد حفها لطف فعاد ... فيها لنا يسر دنا
دور
صبراً أخا العقل السليم ... ورضى بتقدير الحكيم
فالله ذو الفضل العظيم ... فبفضله قد عمنا
دور
بالصبر قد حزنا الفرج ... وبه لنا فاح الأرج
والغم زال كذا الحرج ... مع كل كرب أحزنا
دور
قد فاز عبد القادر ... رب الكمال الباهر
بجزيل أجر وافر ... لما بذا الخير اعتنى
دور
بدر الجزائر ذو العلا ... من فاق قدراً في الملا
بحر لوراد حلا ... وفي العطا مولى الغنا
دور(1/901)
ليث الوغى رب الندى ... سامي الذرا شمس الهدى
أهل التقى نور بدا ... يمحو الدياجي بالسنا
دور
في فتنة الشام الشريف ... قد سكن الخطب المخيف
بحزمه الوافي المنيف ... خف البلا عن قطرنا
دور
للوسع أضحى باذلاً ... وقد رقى منازلا
وله الملوك عاجلاً ... أهدوا نياشين الثنا
دور
ثم انتضى العزم الوفي ... لرد من منا نفي
فنحا حمى الليث الصفي ... بدر الملوك عزنا
دور
سلطاننا عبد العزيز ... غوث الملا الحرز الحريز
سامي الذرى الغوث المجيز ... من بالمراد أمدنا
دور
إلى حماه قد ورد ... قد فاز منه بالمدد
وأجابه فيما قصد ... وعفا له عمن جنى
دور
وحباه نيشان افتخار ... وأحله أوج الوقار
فسما له ذكر وسار ... مع ما من الخير اقتنى
دور
ندعوك رب العالمين ... بالمصطفى طه الأمين
أيد أمير المؤمنين ... سلطاننا غوث الدنا
دور(1/902)
واعطف بفضل وافر ... للشهم عبد القادر
سبط النبي الطاهر ... من قد هدانا سبلنا
دور
واحفظ لنا أشباله ... وامنحهم إقباله
يسر له آماله ... وافتح له يا ربنا
وبعد أن أقام حضرة الأمير المترجم مدة شهرين في الآستانة، توجه إلى فرنسا فاهتز القطر لقدومه، وتحرك لاستقباله ركن العاصمة من حاكمه ومحكومه، ونال من القدر أعلاه ومن الاحتفال أجلاه وأولاه. وقابل الإمبراطور نابليون وجلس معه ساعة وبذل له من الاحترام اتساعه، ثم بعد أيام رحل إلى لوندرا مملكة الإنكليز، وحصل له من الدولة والأهالي كل قدر عزيز، ثم بعد تمام اطلاعه على تلك المحلات رجع إلى باريز، وغب وداع الإمبراطور ورجال الدولة توجه إلى وطنه دمشق الشام، وكان قد زيد له في معاشة في كل سنة خمسون ألف فرنك، فصار جملة معاشه في كل شهر ستمائة ليرة فرنساوية، اثنا عشر ألف فرنك، ولا زال في طريق رجوعه إلى الشام إلى أن وصلها، لا يمر على بلدة إلا ويقابل بكل مقام عال، ولما أقبل على الشام خرج أكابرها وعلماؤها لاستقباله والسلام عليه، فعاملهم بأحسن معاملة ولاطفهم غاية الملاطفة، وكان يحادثهم بما أنعم الله به علي تحدثا بنعمة الله تعالى.
وفي تشرين الثاني سنة ألف وثمانمائة وتسع وستين الموافق سنة ألف ومائتين وخمس وثمانين، دعي إلى حضور فتح خليج السويس كما دعي إلى ذلك أعيان العالم، فاجتمع في مصر بإمبراطورة فرنسا وكان له منها الاحتفال العظيم والالتفات الجسيم، ثم عاد إلى الشام بعد مدة قريبة.
وفي سنة ألف ومائتين وتسع وتسعين، خرج ومعه بعض أولاده السادات(1/903)
وبعض خواصه وخدمه إلى طبرية وصفد ونواحيهما للتنزه والفرجة، وكان الوقت وقت الربيع، وأقام في تلك الرحلة نحو أربعين يوماً، وكان لي بحمد الله منه الحظ الأوفى والالتفات الأجدى الأجدر، والعناية العالية والبشاشة السامية، وحضرت عليه مع من حضر كتاب فتوحات الشيخ الأكبر، ورسالة عقلة المستوفز له، وكتاب المواقف للمترجم المرقوم، وهو كتاب كبير في الواردات التي وردت عليه ونسبت إليه. وكنا لا يرد علينا إشكال من آية أو حديث أو غير ذلك إلا وأجاب عنه بأحسن جواب، من فتح الملك الوهاب، وكان في كل مدة قليلة يدعونا إلى بعض محلاته خارج البلد، فكان يدخل علينا كل سرور ويفرغ علينا كل حبور، وفي كل سنة في أيام الصيف كان يخرج إلى قصره في أرض دمر، فكان يأمرني بالخروج معه، ولا زلت ملازماً لها إلى أن توفي.
وفي غرة رجب سنة ألف وثلاثمائة ابتدأه مرض المثانة وحصر البول، ولا زال يقوى عليه إلى الساعة السابعة من ليلة السبت التاسع عشر من رجب، فدعاه مولاه إلى جنابه وفسيح رحابه، وذلك في قصره في قرية دمر، فلما أصبح الصباح ماج الناس بالعويل والصياح. ونقل في عربته من قصره في دمر إلى داره في الشام، ثم غسل في داره بحضرة العلماء الأعلام، وصلي عليه في جامع بني أمية في مشهد لم يسبق لمثله، وخرج معه الناس أجمع مع الخضوع والتذلل، إلى أن دفن في الصالحية من دمشق في مدفن الشيخ الأكبر محي الدين العربي شمالي قبره الشريف، ليس بينه(1/904)
وبين الحائط الشمالي قبر آخر وكتب على بلاطة القبر الشريف من نظم الأخ الفاضل عبد المجيد أفندي الخاني:
لله أفق صار مشرق دارتي ... قمرين هلا من ديار المغرب
الشيخ محيي الدين ختم الأوليا ... قمر الفتوحات الفريد المشرب
والفرد عبد القادر الحسني الأمير ... قمر المواقف ذا الولي ابن النبي
من نال مع أعلى رفيق أرخوا ... أزكى مقامات الشهود الأقرب
في تاسع عشر رجب سنة ألف وثلاثمائة وقد رثاه كثير من العلماء الأعلام والشعراء الأدباء الكرام، منهم العلامة محمد إسحق أفندي الأدهمي الطرابلسي:
قامت عليك قيامة العلماء ... يا سيد العلماء والأمراء
وبكتك أجفان المكارم والعلا ... يوم النوى ممزوجة بدماء
هذا مصاب ما أصيب بمثله الإسلام بعد السادة الخلفاء
من لليتامى والأرامل يا ترى ... بعد الأمير ومن إلى الفقراء
ومن الذي يولي الجميل تفضلاً ... ويجود بالصفراء والبيضاء
ومن الذي يرجى لهذا الدين إن ... خفنا عليه سطوة الأعداء
من للمساجد والرياضات التي ... أرضيت فيها عالم السراء
تالله من بعد الأمير المرتضى ... ما ثم إلا كاشف الضراء
مات الأمير السيد الحسني عبد القادر ابن السادة الكرماء
أسفي على قمر بأفق سما العلا ... قد كان يحلف غرة الظلماء
القانت الأواب من أحيت موا ... قفه لنا العربي ذاك الطائي
علامة الآفاق ذاك العارف الغو ... ث المعظم بضعة الزهراء
أسفي على من كان يستسقى به ... صوب الغمام وصيب الأنواء
إلى أن قال:
أما الأمير فقد غدا في جنة ... المأوى وجاور أكرم الكرماء(1/905)
وغدا ينادي نلت ما أملته ... من خالقي وبلغت كل مناء
وسعادة الدارين حزت فأرخوا ... طيباً بحسن الظن من مولائي
سنة 1300 وهي قصيدة طويلة تزيد على ثمانين بيتاً.
ورثاه أيضاً الشيخ طاهر أفندي المغربي السمعوني فقال:
خطب جسيم عم بالأكدار ... ما بعده لسواه من مقدار
لو يعتري صم الجبال لأصبحت ... دكاً تنثر مثل نثر غبار
ولو اعترى نوع النبات لما نما ... ولصار مثل الترب والأحجار
إلى أن قال:
لو كان في الموت الفداء فداه ... م كل سميدع ندب من الأحرار
لكنه أمر على كل الورى ... متحتم في سابق الأقدار
إلى آخرها.
وممن رثاه حسن أفندي بيهم البيروتي:
بأي جناح سامنا صرفه الدهر ... أم الدهر خب من خلائقه الغدر
وعن حسد ما انتابنا من خطوبه ... وما نابنا إلا الخديعة والمكر
هو الدهر لم يحسن لمن كان قبلنا ... ولا يرتجى خير الذي طبعه الشر
يمد لنا بالنائبات أكفه ... أليس لهذا المد عن مسنا جزر
ويبغي ولا يبغي البقاء لغيره ... ولا بد يوماً أن يذوق الردى الدهر
ويحسدنا في كل شهم سميدع ... ولا عجب إذ كان في طبعه كبر
فليس من الحزم الوثوق بعهده ... فما عهده إلا الخلابة والخفر
لقد زادنا طعناً فأدمى قلوبنا ... وقابلنا بالكسر فامتنع الجبر
وأورثنا ريب المنون مصيبة ... لها ارتجت الأفلاك وانقضت الزهر
لها الأرض مادت والجبال تزلزلت ... لها صعق الأحيا وقد قضي الأمر(1/906)
ومنها:
بها جاء ناعي البرق يرعد قلبنا ... فأمطرت الآماق ما ضمه الصدر
عشية عين الغرب حجب نورها ... دجى الشرق حتى لا يخال له فجر
مصاب به العلياء تبكي أميرها ... وكل امرئ من ذا المصاب به شطر
أجل مات عبد القادر الحسني من ... به سادت السادات وافتخر الفخر
ومنها:
به ملتقى البحرين للعلم والندى ... ففي صدره بحر وفي كفه بحر
وكانت أياديه ولا من بعدها ... مناهل جود ليس يسبقها نهر
وهي طويلة تنوف عن خمسين بيتاً.
وممن رثاه أيضاً الأديب الأريب أبو النصر أفندي السلاوي المغربي فقال:
على نفسه فليبك من كان باكيا ... فمن مات من نال الحظوظا العواليا
هو الحق والدنيا لعمرك باطل ... ومن ينأ عنها كان للخير دانيا
وما الناس إلا بين نوم ويقظة ... يسومون بالبخس النفوس الغواليا
وأي امرئ آتاه مولاه رشده ... غدا زنده نحو الترحل واريا
ومن لم يسر في يومه سار في غد ... إلى حيث ألقى السابقون المراسيا
بلى كل نفس سوف يأتي كتابها ... ويحظى بعقبى الدار من كان راضيا
لنا في رسول الله يا قوم أسوة ... نقضي بها أيامنا واللياليا
وليس سوى التسليم والصبر ملجأ ... إذا زلزل الخطب الجبال الرواسيا
لئن ساءنا فقد الأمير فإننا ... بمطلوبه العالي نمني الأمانيا
تولاه مولاه الذي يبسط العطا ... لمن شاء بالحسنى ويجزي المواليا
ترقت به النفس الشريفة للعلا ... ولبت إلى نعم الرفيق المناديا
وما ذاك إلا أنه كان سالكاً ... سبيل الهدى بعد النبيين راعيا
مشيداً عماد الدين من شرع جده ... مقيماً حدود الله بالعهد وافيا(1/907)
رؤوفاً رحيماً دائم الشكر والرضى ... حليماً عليماً للفضائل حاويا
سميعاً بصيراً لا أرى غير أنه ... سواء لديه الأمر جهراً وخافيا
يمد أيادي المحسنين بفضله ... ويغفر للمستغفرين المساويا
ويبسط للراجين من بحر جوده ... على الرفد والإقبال منه الأياديا
وكم من سحاب كان للناس ممطراً ... سواريه تحكى من عطاه الغواديا
وكم نعمة من فضله طاب غرسها ... لدينا ونرجو أن تدوم كما هيا
وإنا وإن كنا فقدناه واحداً ... وقد عز أن يأتي به الدهر ثانيا
فأنجاله الأمجاد فيهم كفاءة ... بإحرازها حازوا الثنا والمعاليا
على أنه ألقى إليهم زمامها ... فقادوا بأسباب الكمال النواصيا
وأرشدهم حتى أتاه يقينه ... وجد إلى دار السعادة ساريا
فهم بعده أقمار مجد صفاتهم ... نجوم عن الأرجاء تجلو الدياجيا
ونعم الكرام الفائزون بألفة ... ترد الردى عنهم وتردي الأعاديا
ألا يا بني قطب الوجود تمسكوا ... بحسن التواخي تشكرون المساعيا
وكونوا من الدنيا على قلب واحد ... تناولن بالحزم الحظوظ القواصيا
ولا تأسفوا فالصبر أجدر بالفتى ... إذا أبرم الرحمن ما كان قاضيا
هنيئاً له بالبشر والفوز أنه ... غدا مكرماً في جنة الخلد راضيا
وله أيضاً مؤرخاً:
يا طالب الإمداد دونك روضة ... قد حل في أرجائها القمر المنير
الفرد عبد القادر الحسني من ... هو في الحقيقة وارث القطب الشهير
تاقت لحضرته الكريمة نفسه ... فحوى بحسن جواره حسن المصير
بشرى لمن وافى رحاب ضريحه ... يرجو إغاثته إذا عز النصير(1/908)
فبسره تقضى الحوائج كيفما ... كانت بعون عناية الملك القدير
ولذا لسان الحال قال مؤرخاً ... حي بدار الخلد مولانا الأمير
وممن رثاه العالم المجيد، والشاعر الذي حكى شعره شعر لبيد، فقال:
إنما الدنيا وإن طال مداها ... ليس للمرء بقاء في حماها
دأبه الفكر بما يعمرها ... وهو منقول إلى دار سواها
لو درى مقدار ما يحيا بها ... آثر الزهد ولم يعشق غناها
هو منها دائماً في خطر ... وترى خاطره في مشتهاها
إنه عما جرى منه بها ... غافل كالعين لم تنظر قذاها
لا يلم من لامه في حبها ... حيث يعطي نفسه فيها هواها
هي شوهاء عجوز إنما ... تتجلى كعروس في حلاها
إلى أن قال:
فجعتنا بأمير كامل ... كان يهدي كل نفس لهداها
هو عبد القادر الشهم الذي ... قد حوى بين الملا عزاً وجاها
سيد إن ذكرت أوصافه ... يعبق المحفل من طيب شذاها
أصله في الأرض أضحى ثابتاً ... وله فرع تسامى لسماها
كان ذا علم وحلم وتقى ... ووقار وسماح لا يضاهى
كان للآداب سوقاً أهلها ... ربحت أنفسهم منه مناها
كان في الغرب وفي الشرق حمى ... يرتجي الناس به دفع أذاها
ودمشق الشام منه قد خلت ... كسماء فقدت شمس ضحاها
أسفاً لو يقبل الموت الفدا ... لفدته كل نفس برضاها
أي عين قد بكته دهرها ... فلتلك العين عذر في بكاها
قبره لو أنه يدري بما ... حازه ساكنه تاه وباهى(1/909)
إلى آخر القصيدة. وممن رثاه أيضاً الشيخ إبراهيم الأحدب:
أصم نداء الخطب للمجد مسمعاً ... وراع المعالي والعوالي بما نعى
وهذا منار العز لفح سمومه ... وما صد عن هام العلى حين صدعا
تداعى له ركن الفخار وقد هوى ... به كوكب العلياء هولاً بما دعا
فلا كان يوم السبت يوم مصائب ... فقد جاء ظهراً فيه للنجم مطلعا
وقد راع أصحاب العبا وقع حادث ... بفقد إمام جل في الكون موقعا
وألوى بعبد القادر الدهر عادياً ... على قدر ساء الكرام وروعا
إلى آخرها، وهي طويلة تنوف عن ستين بيتاً.
وممن رثاه تاج الأدباء وقطب مدار الشعراء، محمد أفندي الهلالي الحموي فقال:
سهام قضاء الله ليس لها رد ... وكأس الردى ما من إذاقته بد
بلى كل شيء هالك غير وجهه من ... له الحكم حتماً لا شريك ولا ضد
محال إذا جاء المقدر حيلة ... لمستعصم من أن يلم بد كد
عناء حياتي كلها بعد سيد ... به فجع الإسلام والعلم والمجد
وأظلمت الأوطان حين بجسمه ... تنورت الأكفان وابتهج اللحد
سقى وابل الرضوان أعطر مرقد ... حوى بحر فضل ما لتياره حد
كأن لم يكن بر كأن لم يكن تقى ... كأن لم يكن صدق كأن لم يكن رشد
طوى الكل بعد النشر بعض من الثرى ... فلم يبق إلا الذكر والشكر والحمد
مضى الجود والإحسان والعفة انقضت ... وصاحبها العرفان والحلم والزهد
مضى ابن بني الزهراء حقاً لجده ... فيا حبذا الأبناء والأب والجد
معز اليتامى والأرامل كنزهم ... إذا الضبع الشهباء ذلت بها الأسد
بروحي بروحي آه لو يفتدى بها ... أمير بأمر الله جد به الجد
هنيئاً لجنات النعيم بقرب من ... أرانا جحيم الحزن من بعده البعد(1/910)
هنيئاً لمحيي الدين قدس سره ... بجار حماه اليمن للجار والسعد
مصاب أصاب الدين لو أن بعضه ... على أحد لا ندك من هوله أحد
قيامة رزء لو ترى الناس بالبكا ... محاجرهم جرحى وأعينهم رمد
لهم زحل بالذكر لله والدعا ... وأدمعهم سحب وأهوالهم رعد
سكارى وما هم بالسكارى وإنما ... وفاة ابن محيي الدين حق بها الوعد
سرى نعشه فوق الرقاب وحوله ... ملائكة الرحمن أنوارهم تبدو
لقد جل عن أن يدفنوه بروضة ... هي الروح والريحان والمسك والند
تقي نقي جاور الله في البقا ... وأقبل بالبشرى على القادر العبد
وقور غيور ناسك متواضع ... على أنه المقدام والأسد الورد
على أنه البسام يوم كريهة ... إذا عبست من تحت فرسانا الجرد
فتى من رجال الله كان على العدى ... حساماً صقيلاً لا يفل له حد
فتى كان لا يخشى من الخصم سطوة ... وليث الشرى حاشا يروعه القرد
فتى في سبيل الله كان مجاهداً ... وليس له إلا رضى ربه جهد
همام كمي كم أزاح ملمة ... بسيف رقاب المعتدين له غمد
هزبر هصور في الجزائر كم له ... وقائع لا يقوى على حصرها عد
سراج على سرج الجواد كأنما ... من الرعب والإرهاب يقدمه جند
نعيناه للمحراب والحرب والندى ... فكل علاه الحزن والسهد والوجد
عطاء ولا من وعفو ولا حقد ... وجبر ولا كسر وود ولا صد
حسان مزايا بانتقال حليفها ... تعطل جيد المجد وانفصم العقد
لحى الله داراً للزوال نعيمها ... وأولها مهد وآخرها لحد
غرور حياة وهي غراء حية ... بأنيابها سم يمازجه الشهد(1/911)
فتاة تراها وهي شر عجوزة ... كما الدهر لم يصرم حبائلها الشد
تصيد البرايا واحداً بعد واحد ... فلم ينج منها لا كريم ولا وغد
مجربة تباً لها من خؤونة ... فلا موثق منها يدوم ولا عهد
عروس ولكن المحال حليها ... لها المين مرط والخداع لها برد
لعوب كما الصهبا بألباب أهلها ... تروح بهم طوراً وطوراً بهم تغدو
فما نصحت إلا وغشت وهكذا ... قياس قضاياها بنا العكس والطرد
شكونا ونرد الدهر ليس بسامع ... وهل تنفع الشكوى إذا حكم النرد
فلس لنا إلا التوكل والرضى ... بما قد قضاه الواحد الأحد الفرد
فصبراً جميلاً إنها لمصيبة ... يذوب أسى من حرها الحجر الصلد
ولكن إذا في نار حزن ثوى الحجا ... خبت ومع التسليم أخمدها البرد
وآل رسول الله أولى من الورى ... بأن يتحلوا بالوقار ويعتدوا
هم الحسنيون الألى صوت صيتهم ... به ألسن الإحسان ما برحت تشدو
هم الكاظمون الغيظ والصابرون هم ... رياحين زهراء النبي إذا عدوا
وهم عدتي في شتي وذخيرتي ... بدنياي والأخرى هم القبل والبعد
ولا سيما أنجال من قد مضى ومن ... رحيق شراب الأنس طاب له الورد
مصابيح فضل عظم الله أجرهم ... ولا ساءهم من بعد من فقدوا فقد
وأبقاهم الرحمن للناس رحمة ... سحائبها يروى بها الغور والنجد
نعم كلهم نجب كرام ثوابت ... لدى الروع حتى أن أصغرهم طود
وأكبرهم من دونه الدهر همة ... بغيرة ندب أوحد ما له ند
محمد السامي سماء مقامه ... على الشمس لا نكر هناك ولا جحد
أمير وجيه الوجه والجاه كوكب ... منير به العلياء تم لها السعد
لإحسانه تصبو العفاة وحسنه ... تحن له ليلى وتشتاقه هند(1/912)
بديع معان عن أداء بيانها ... لقد كلت الأقلام والألسن اللد
كفى بشذاه سيرة وسريرة ... فما الشيخ ما القيصوم والبان والرند
وما غايتي بالمدح إلا تشرفي ... بأروع من بيت القصيد هو القصد
إليه سرت أسرار والده الذي ... بعدن مع الأبرار طاب له الخلد
وسار إلى المأوى بتاريخه وقد ... دعاه بجنات البقا رجب الفرد
سنة 1300 هـ.
عليه من الرب الرحيم السلام ما ... بكت مقلة وابتل من دمعها خد
وما ابن هلال راح ينشد قائلاً ... سهام قضاء الله ليس لها رد
وممن رثاه مصطفى أفندي رشدي:
قد طالما حاربت ضمن ضمائري ... جيش الخطوب ولا تجوب بخاطري
بل طالما خاطبت خطبي قائلاً ... خطرت ويحك ما الزمان بقاهري
هل كيف يقهرني الزمان ولي إلى ... فخر العلا نسب بود باهر
فأجاب وا أسفا على حامي الحمى ... مع يا فتى واندب بدمع وافر
ناديت مات المجد بل مات الندى ... من بعد ذي النعماء عبد القادر
إلى أن قال بعد أبيات كثيرة:
مذ قيل فاز بجنة أرخت كم ... بجنان خلد فاز عبد القادر
سنة 1300 وممن رثاه طيب الله ثراه الشاعر الشهير عمر أفندي البربير فقال:
لم اسودت الدنيا ولم يك غاسق ... وأظلمت الآفاق حتى المشارق
خليلي رعاك الله قل لي ما الذي ... لقد صار في الدنيا فإنك صادق
فهل آن خلي للقيامة وقتها ... ونفخ بصور ثم يصعق صاعق
وبعث الورى والحشر ثم وإنه ... تقوم لرب العالمين الخلائق
أرى الكون مسوداً أرى الشمس لم تبن ... أرى البدر لم يسفر وما هو شارق
وإن نجوم الأفق غير طوالع ... فلم يبد مسبوق ولم يبد سابق(1/913)
وأين السما غير الظلام فلا يرى ... ولو جد بالتحديق والوثق وامق
أزالت وإلا بالظلام تحجبت ... فما شأنها قل لي فصدري ضائق
وما لي أرى الأطواد ليست بحالها ... فكم قد هوى طود وكم دك شاهق
وما لي أرى الأطيار خرساً ولم يكن ... عن الصدح والتغريد يسكت ناطق
إلى أن قال:
وها لم أزل فيه إلى أن أجابني ... وأدمعه من مقلتيه دوافق
بصوت خفي قد يدق سماعه ... إجابة باك وهو بالدمع شارق
وقال نعم أودى خليفة مالك ... ومالك هذا العصر من لا يسابق
وجيه أولي التدقيق وهو أميرهم ... له نشرت فيهم عليه البيارق
هو الشمس عبد القادر السيد الذي ... على فضله أهل العلوم تصادقوا
إلى آخر ما قال وقد أسهب فيها وأطال في حق هذا السيد المفضال.
وممن رثاه أيضاً خليل أفندي البربير البيروتي فقال:
خطب ألم بنا أجرى العيون دما ... لقد شكى الخلق من أهواله ألما
فليندب المجد في الأكوان مظهره ... إذ راع ركن العلا والعز فانهدما
يا للمصيبة من خطب سطا وعدا ... فلم نجد أحداً من حزنه سلما
يا للنوائب من هول به كسفت ... شمس الهدى فكسا آفاقنا ظلما
رزء تداعب به شم الجبال وقد ... ألوى بها زعزع أضحت به عدما
يا للرزيئة من رزء بوقعته ... أنار في كل قلب بالأسى ضرما
كادت به الأرض من حزن تميد كما ... غدت هشيماً به من هول ما صدما
هل بعد ذا الخطب ما بين الأنام يرى ... خطب به كل جفن يرسل الديما
أو هل نرى بعده في الكون مزعجة ... تخفي السرور وتبدي الحزن والسقما
كلا لعمري فهذا الخطب صدمته ... قد زعزعت كل رأس قد غدا علما
أضحى به رجب يبدي لنا عجباً ... عشنا به فرأينا رزءه دهما
شهر أصم به في الكون قد ظهرت ... نوائب أوقرت أسماعنا صمما(1/914)
يد المنون به اغتالت أمير علا ... فاغتالت المجد والمعروف والكرما
نتيجة الدهر عبد القادر العلم المولى الذي في البرايا قدره عظما
السيد السند الشهم الذي عظمت ... أخلاقه فاغتدى بين الملا علما
دوح السيادة تاج المجد بهجته ... ثغر المعالي بها قد كان مبتسما
إنسان عين أولي العلياء سيد من ... سيب المكارم منهم سح وانسجما
أمير مجد سما هام السهى شرفاً ... وكان للعز والعلياء خير حمى
أمير حزم حكت آراؤه شهباً ... لكل مارد خطب رائع رجما
غوث الطريد وغيث اللائذين إلى ... حماه يمطرهم من جوده نعما
ناديه مصدر أنواع الندى أبداً ... ما من يوماً بما يعطي ولا سئما
أربى على كل ذي فخر بنسبته ... لسبط خير رسول بالفخار سما
بمجده سادت السادات وافتخرت ... وعقدهم بعلاه كان منتظما
أقواله درر أفعاله غرر ... وجه المعالي بها قد كان متسما
هذا وكان المترجم معظماً عند سائر ملوك البلاد الإفرنجية فكانوا يطلبون صورته ويطلبون أن يكتب عليها، فكتب على بعضها ما صورته:
لئن كان هذا الرسم يعطيك ظاهري ... فليس يريك النظم صورتنا العظمى
فثم وراء الرسم شخص محجب ... له همة تعلو بأخمصها النجما
وما المرء بالوجه الصبيح افتخاره ... ولكنه بالفضل والخلق الأسمى
وإن جمعت للمرء هذي وهذه ... فذاك الذي لا يبتغي بعده نعما
وله نظم بديع، ونثر فائق رفيع، غير أنها بعضها في الرقائق، وأكثرها في الحقائق، تدل على سمو معارفه، وعلو عوارفه، نفعنا الله به في الدارين بجاه محمد سيد الكونين. آمين.(1/915)
الشيخ عبد القادر بن أحمد بن عطاء الله بن إسكندر الحلبي الحنفي المقري
أحد الحفاظ والقراء الموجودين بحلب الشهباء. ولد بها سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه وجوده على الشيخ المقري المتقن أبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المعري نزيل حلب، ولازم أبا عبد الله محمد بن صالح بن رجب المواهبي القادري وقرأ عليه الدرر الفقهية والجامع الصغير في الحديث وسمع عليه الكثير من الأحاديث وغيرهما، وأخذ عنه الطريقة القادرية. وبعده لازم ولده أبا المواهب إسماعيل المواهبي وجدد عليه الأخذ في الطريقة وغيرها، وسمع عليه الكثير من الأحاديث الشريفة، ولازمه السنين العديدة وانتفع بمجالسه، وكان ينشد الموشحات والقصائد في حلقة ذكره والخلوة الأربعينية ويلازمه غالب الأوقات. وكان متوطناً في قلعة حلب وخطيباً بجامعها المعروف بجامع النور. وكان من القوم الأخيار ذوي الفضائل والآثار، واجتمع به سنة ألف ومائتين وخمس خليل أفندي المرادي مفتي دمشق بحلب، وشهد بفضله وعلمه وكماله. وتوفي المترجم المرقوم بعد ذلك ولم أقف على تعيين وفاته.
الشيخ عبد القادر بن عبد الرحمن بن عبد القادر بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم برهان الدين الدمشقي الصالحي البقاعي الأصل العدوي المعروف بالسقطي الحنفي
إمام الفضائل وعمدة ذوي الفواضل، العالم المحقق والهمام المدقق، عمدة الأكابر ونخبة ذوي المفاخر.
ولد بصالحية دمشق في منتصف رجب سنة اثنتين وثلاثين ومائة وألف، ونشأ(1/916)
بها وقرأ القرآن الكريم على الشيخ علي بن سليم الصالحي، وأخذ عن شيخه المذكور وعن العلامة الشيخ علي كزبر والعلامة عبد الله البصروي والعلامة الشمس محمد بن عبد الرحمن الغزي، وأجاز له الماجد محمد بن عيسى كنان الكناني والشمس محمد بن إبراهيم التدمري والشيخ علي البرادعي، وأخذ العربية والعقائد عن محمد بن أحمد قولقسز والعلامة الشيخ موسى بن أسعد المحاسني، وسمع حديث الرحمة من علامة الوجود ابن عقيلة المكي، والعلامة محمد بن الطيب المغربي وأجازوه جميعاً، وحضر دروس العلامة الكبير الشيخ إسماعيل ابن الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي. وأخذ عن صاحب الترجمة أجلاء دمشق وعلماؤها، وتوفي سنة خمس ومائتين وألف، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى. وتولى وظيفة مشيخة الحرم السليمي ودرس بالمدرسة العمرية وتولى إمامتها، وقبره قريب من قبر الشيخ موفق الدين والعلامة الشيخ عبد الرحمن الداودي.
الشيخ عبد القادر بن يحيى بن عبد الرحمن بن محمد بن زين الدين بن عبد الكريم الدمشقي الشافعي الشهير كأسلافه بالكزبري
العالم الهمام، والعامل الإمام، ولد بدمشق في اليوم السابع عشر من جمادى الآخرة سنة تسع وثمانين ومائة وألف ونشأ بها، وأخذ عن علمائها الكرام كالشيخ محمد الكزبري والشيخ أحمد العطار وغيرهم. مات سنة تسع وعشرين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح.
الشيخ عبد القادر بن صالح بن عبد الرحيم بن محمد بن وهبة بن عيسى بن محمد رشيد بن عبد الرزاق بن محمد بن خالد بن شمس الدين بن أبي محمد رشيد بن شمس الدين بن عثمان بن أحمد شهاب الدين ابن تاج الدين عبد الرزاق بن أبي النصر محيي الدين بن محمد نصر بن عبد الرزاق بن العارف بالله عبد القادر الجيلاني قدس الله سره.
الشافعي الدمشقي الشهير بالخطيب. ولد بدمشق سنة خمس عشرة ومائتين وألف، وقرأ على بعض العلماء الدمشقيين ثم انقطع للعلم وسافر إلى الأزهر وأخذ عن العلماء المصريين، إلى أن صار يشار إليه ويعتمد عليه، ثم عاد إلى وطنه دمشق الشام، ولم يزل معدوداً في من السادة العلماء الأعلام، إلى أن توفي رحمه الله خامس شهر رمضان سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح.(1/917)
السيد عبد القادر بن أحمد بن عبد القادر الكوكباني
قال في البدر الطالع: هو شيخنا الإمام المحدث الحافظ المسند المجتهد المطلق. ولد كما نقل من خطه سنة ألف ومائة وخمس وثلاثين، نشأ بكوكبان، ثم ارتجل إلى صنعاء، فأخذ عن أكابر علمائها كالعلامة السيد محمد بن إسماعيل الأمير. وإني أذكر وأنا في المكتب مع الصبيان أني سألت والدي رحمه الله من أعلم الناس بالديار اليمنية فقال السيد عبد القادر يعني صاحب الترجمة. وبالجملة فلم تر عيني مثله في كمالاته، ولم أجد أحداً يساويه في مجموع علومه، ولم يكن بالديار اليمنية في آخر(1/918)
مدته له نظير، وهو رحمه الله تعالى من جملة من رغبني في تأليف وشرح المنتقى، فشرعت فيه في حياته وعرضت عليه كراريس من أوله فقال: إذا كمل على هذه الكيفية في نحو عشرين مجلداً وأهل العصر لا يرغبون فيما بلغ من التطويل إلى هذا المقدار، ثم أرشدني إلى الاختصار ففعلت، فكمل بحمد الله وبيضته في أربع مجلدات، ولم يكمل إلا بعد موته بنحو ثلاث سنين. وترجمه في النفس اليماني والروح الريحاني بقوله: السيد الإمام إنسان عين الأعلام، صدر العلماء المعتمدين بدر الأئمة المجتهدين، له العلوم الزاخرة، والأحوال الشريفة الفاخرة، والأخلاق النبوية والسيرة المحمدية، من مشايخه الشيخان العلامتان عبد الخارق بن أبي بكر ومحمد بن علاء الدين المزجاجيان، ومن أهل الرحمين السيد الإمام العلامة محمد بن الطيب المغربي الفاسي. وله من الأساتذة الكملة نيف وثمانون شيخاً، ومن المؤلفات ما يزيد على الأربعين مؤلفاً: منها حاشية القسطلاني وحاشية الجلالين وحاشية المطول ومختصره وشرح كفاية المتحفظ، ومن مشايخه أيضاً محمد حياه السندي المدني، وقد ترجمه وامتدحه عمدة من العلماء الأعلام، منهم القاضي العلامة قال في جملة ترجمته: تسامى له السند العالي مع النسب الغالي، مظهر السنة النبوية على رؤوس الأشهاد، مبكتاً لأهل البدعة في الحاضرة والباد. ولقد قام بهذا الواجب أتم قيام، وذب عن سنة جده بين الأنام، وأدخلها إلى أذهان الفقهاء المقلدين، وقبلها من له الفهم المكين، والذهن السمين وسلك طريق المتقين، ومال عن الاعتساف وآض إلى الإنصاف، فلله دره من عالم هدى وأمال عن طريق الردى. امتدحه السيد العلامة علي بن محمد بن علي بن أحمد اليمني بقصيدة أبان فيها أوصافه الجميلة، وأياديه الجزيلة. توفي رحمه الله سنة ألف ومائتين وسبع.(1/919)
السيد عبد القادر بن السيد درويش بن السيد محمد بن السيد حسين بن السيد يحيى الشهير بابن حمزة الدمشقي الحنفي الحسيني
أحد أعيان دمشق الشام وأوحد علمائها الأعلام، كان نبيهاً ذكياً وفقيهاً زاهداً تقياً، عالماً عاملاً ماجداً فاضلاً.
ولد بدمشق سنة خمس وثلاثين ومائتين وألف، ونشأ بها في الانكباب على التحصيل والطلب، والتضلع في علوم الشريعة والأدب، وحضر دروس الشيوخ الأعلام والسادة الفضلاء الكرام، كالشيخ سعيد الحلبي والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ حامد العطار والشيخ محمد أكرم الأغواني.
وله مؤلفات كثيرة، منها رسالته في التوحيد المسماة بالرسالة الحمزاوية بالتوفيق بين الماتريدية والأشعرية، ورسالته في فضل آل البيت، ورسالة في الرد على من قال أن قراءة الفاتحة خلف الإمام أحوط. وقد ولي أمانة الفتوى أيام حسين أفندي المرادي مفتي دمشق الشام. مات رحمه الله تعالى بدمشق سنة تسع وسبعين ومائتين وألف، عاشر شهر رمضان المبارك ودفن في مرج الدحداح.
الشيخ عبد القادر أفندي بن عبيد الله الكردي ثم المارواني البغدادي الحيدري
قد ترجمه عثمان أفندي الحيدري بن سند فقال ما ملخصه: البليغ المنطيق المفلق السري، جمع الفصاحة في برود كلماته، والنباهة في مطاوي مبدعاته، إذا أخذ في أخبار الماضين وجدته بحراً عجاجاً، وإن مرد الأحكام أبدع تقريراً وإنتاجاً، كأنما الأحكام في صدره مرقومة، واللطائف(1/920)
في لسانه مصورة منظومة. " إلى أن قال ": اجتمعت به سنة أربع عشرة بعد المائتين والألف فرأيته قد استكمل من الكمال أعلاه ومن العلم أولاه. طلب العلوم على جهابذة سادة وأفاضل قادة، وكان لطيف المجالسة حسن المؤانسة، له شعر ذو أمثال سائرة، وتشبيهات بديعة نادرة، وفوائد أدبية ونوادر قريضية:
وإذا نظرت إلى نوادر شعره ... أبصرت فيه فصاحة لا توصف
يذر النوادر للبيان كأنها ... درر بعقد أو جمان يوصف
تولى قضاء البصرة مرتين، فكان للقضاء والحكم بالحق قرة عين. وقد مدحه عثمان أفندي سند سنة ألف ومائتين واثنتين وثلاثين بقوله:
حكم إذا حققت فيه رأيته ... لا جهل فيه ولا تعسف أو شطط
كم حكمة أبدى لنا في مشكل ... لو لم يزله لكان ليلاً لم يمط
ما أشار إلى معنى إلا أبداه ولا مشكل إلا أجاب إذا ناداه، ولا غرو فآباؤه كلهم نجوم، وأعمامه ولاة المنثور والمنظوم. توفي رحمه الله بعد الخمس والثلاثين والمائتين والألف. رحمه الله تعالى.
عبد القادر بن أحمد بن محمد بن مسلم بن إبراهيم بن عيسى بن مسلم الصمادي
القادري شيخ الطائفة الصمادية بدمشق الشام، ومرشد الفرقة القادرية ذات الاحترام، كان مستقيم الأطوار مقصوداً لبلوغ الأوطار، مشتغلاً بالطريق والاستعداد حسن السلوك والإرشاد، زاهداً عابداً خاشعاً متواضعاً، نبيهاً فقيهاً عالماً بعلمه فائقاً في فهمه. مات سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف، ودفن في باب الصغير قرب قبر الشمس الكزبري.(1/921)
الشيخ عبد القادر بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ مصطفى الخلاصي الحنفي الدمشقي الطبيب
ولد في دمشق الشام وأخذ عن والده علم الطب حتى برع به، ثم قرأ بقية العلوم على شيوخ دمشق وأجازوه بما تجوز لهم روايته به. وكان كثير الاستفادة حسن الإفادة، ذكياً بارعاً عارفاً بدقائق الطب، أستاذاً قد انتهت إليه رئاسة معرفة الأمراض وتشخيصها وكان له في رؤية المرضى أمور خارقة للعادة تدل على كمال علمه ومعرفته. وكان كثير التردد على والدي المرحوم وكان يسأله كثيراً عن بعض مشكلات، وقد أخذ عنه واستجازه فأجازه. وكان حسن الهيئة لطيف المعاشرة جميل الملاطفة غزير العلوم. شرح الدر المختار وألفية ابن مالك وله عدة تآليف وجملة من التصانيف. مات بدمشق سنة ألف ومائتين و.... ودفن بباب الصغير.
الشيخ عبد القادر الديملاني النقشبندي الخالدي
إمام في العلم والعبادة، قد استوى على عرش القناعة والزهادة، ثم أقبل على الطلب إقبال المشغوف وحضر دروس الأفاضل حضور الملهوف، واعتصم بحبل العمل وفاز من دهره بالأمنية والأمل، وساد بين الناس وكان مشهوراً باللطف والإيناس، ثم بعد مضي أيام الطلب وفوزه بما رجا وطلب، أخذ الطريقة الشريفة النقشية عن عالم الوقت والعصر الشيخ خالد شيخ الحضرة العلية، فخدمها حق الخدمة واجتهد بها اجتهاداً عالي الهمة، ولم يزل إلى أن وجد به الأستاذ كمال الاستعداد للإرشاد، فخلفه وأذن له بإعطاء الطريق لذوي الأهلية لنوال المراد، وكان الأستاذ كثيراً ما يحيل تربية المريدين إليه ويعتمد في علم اللوازم عليه. توفي سنة ألف ومائتين ونيف وأربعين.(1/922)
السيد عبد القادر البرزنجي النقشبندي الخالدي
العالم العامل الزاهد الورع العابد الخاشع الناسك. أخذ عن علماء عصره، ثم أخذ الطريقة النقشية عن عالم زمانه ومرشد وقته وأوانه الشيخ خالد شيخ الحضرة، ولما وجد فيه الأهلية أذن له في الإرشاد. توفي سنة ألف ومائتين وخمس وأربعين تقريباً.
القاضي عبد القادر الرضوي لاورتقباوي من أدباء الهند والعجم
غواص لجج البيان، المقرط بدرر بدائعه الآذان، فمن لطيف شعره:
صدر الورى فخر أهل الهند قاطبة ... علامة العصر مولانا غلام علي
لقد أقر على الأفلاك أخمصه ... وجل في المنصب العالي عن البدل
في قلبه من سنا العرفان بارقة ... وفي يديه زمام العلم والعمل
أملى لنا سبحة المرجان مرحمة ... وأثبتت المنة العظمى على المقل
أتى بمعجزة غراء ناسخة ... صحائفاً صنفت في الأزمن الأول
كجده باهر الإعجاز حيث محا ... كتابه صحفاً من معشر الرسل
أبقى إله الورى فينا إفادته ... ما نضر الغيث نبت السهل والجبل
السيد عبد القادر أفندي بن السيد تقي الدين القدسي الحلبي الكاتب الثاني في المابين
قد ترجمه سعادة أحمد عزت باشا في كتابه المسمى بالعقود الجوهرية في مدائح الحضرة الرفاعية فقال:
صاحب الخصائل الممدوحة والآداب والمعرفة، تدفق ذكاء وتجسم حياء(1/923)
قد صيغت أخلاقه من النسيم، وتهذبت أطواره بحكم التجاريب من الحديث والقديم، فهو من بيت شرف وعز مستديم. كان أبوه نقيب حلب الشهباء، وجده مفتيها ومرجع العلماء، فهم فيها عماد الشرف والمحامد، وركن الطارف والتالد.
ولد حفظه الله بحلب سنة ست وأربعين ومائتين وألف، وترعرع في حجر والده ونشأ على حال عظيم من الكمال والتقوى والأدب، وتلقى علوم العربية والفقه وغيرها من علوم السنة عن أفاضل حلب، ثم أتقن بعدها اللغة التركية والفارسية، وأحسن المنثور والمنظوم في اللغتين العربية والتركية، وله فيها الآثار الحسنة، والأفكار المستحسنة، ومن أعظمها أنه ترجم كتاب البرهان المؤيد مؤلف حضرة الغوث الرفاعي رضي الله عنه من العربية إلى التركية، ورسالة رحيق الكوثر التي هي من كلام الغوث الرفاعي الأكبر أبدع فيهما كل الإبداع، وترجم المجالس الأحمدية. وله غير ذلك من المآثر العديدة والآثار الحميدة، ما تتزين به الصحائف والأوراق وتهتز لها الأغصان بالأوراق. وقد تقلب منذ نشأ في خدمة الدولة العثمانية حتى أحرز المراتب العلية والمناصب السنية، وهو الآن الكاتب الثاني في المابين للجناب العالي السلطاني لا زال ملحوظاً بالأنظار الخفية والجلية بكل غدوة وعشية، وله نظم رقيق ونثر بكل مدح حقيق، ومن نظمه تخميسه على قصيدة حسن أفندي البزار الموصلي في مدح السيد أحمد الرفاعي قدس الله سره آمين وهي:
يا سادتي فضلكم في الصحف مكتوب ... وحبكم بلسان الشرع مندوب
والحمد لله أني فيه مسلوب ... قلبي إليكم بأيدي الشوق مجذوب
والصبر عن قربكم للوجد مغلوب
ولست أبغي براحاً عن مودتكم ... حسبي أعدد خيلاً في عشيرتكم(1/924)
وقد فنيت بكم من فيض همتكم ... لا أستفيق غراماً في محبتكم
وهل يضيق من الأشواق مسلوب
عسى بإسعافكم أستحصل الأملا ... فالصبر مر وفيكم للمحب حلا
كم ذا أقول وقيد البعد قد ثقلا ... يا قلب صبراً على هجر الأحبة لا
تجزع لذاك فبعض الهجر تأديب
لعل يوماً بلطف منهم يصلوا ... أسير هجر وحبل الوصل يتصل
فلا تحد عنهمو مهما بدت علل ... همو الأحبة إن صدوا وإن وصلوا
بل كل ما صنع الأحباب محبوب
والقصيدة طويلة ذكرها بتمامها صاحب العقود الجوهرية، وهي تدل على كمال صاحب الأصل والتخميس، والأصل مذكور بتمامه في ترجمة صاحبه توفي في الآستانة سنة ألف وثلاثمائة وعشر تقريباً.
الشيخ عبد الكريم البرزنجي
من سلسلة طيبة طاهرة ذي نسبة باهية باهرة، لهم الفضل الأعلى، والقدر الأجل الأجلى. وقد ترجمه الإمام الكامل والهمام العالم العامل، أديب العصر وزينة كل قرية ومصر، السيد عثمان بن سند العراقي في كتابه أصفى الموارد فقال: العالم الذي عرفت العلوم مقداره وأرتعه روض الدقائق نوره وبهاره، والمحقق الذي أقعده التحقيق على ربوة الصدارة، والمدقق الذي نشر فضله على النيرين إزاره، والنسيب الذي شرف الجوزاء(1/925)
ذكره والشريف الذي أعرق في الشرف سره، والسيد الذي مكانه من السؤدد صدره. قرأ على السادة الأفاضل وأخذ عنه ذوو الفضائل والفواضل، ممن طار ذكرهم في الأقطار وافتخرت بهم مصرهم على الأمصار. وممن قرأ عليه وجلس للأخذ عنه بين يديه، العالم الشهير والفاضل النحرير، والعارف بالله والمقبل عليه في سره ونجواه الشيخ خالد شيخ الحضرة النقشبندي الكردي الشافعي، فقرأ على المترجم كتباً جمة، وحضر مجالس علومه بالجد والاجتهاد وعلو الهمة، وكان رفيع المقام شامخ القدر والاحترام، ليس له من عيب لقال سوى أنه في عصره فرد بلا مثال، وإقباله على الله دائم ولا تأخذ فيه لومة لائم. ولم يزل كذلك إلى أن توفي رحمه الله تعالى وذلك في السليمانية عام ألف ومائتين واثني عشر ودفن بها.
الشيخ عبد الكريم بن محمد بن عبد الجبار بن محمد الحلبي الحنفي الماتريدي
أبو محمد كمال الدين العالم الواعظ الفقيه والإمام الفاضل النبيه. ولد سنة أربع وعشرين ومائة وألف وقرأ القرآن العظيم، واشتغل بالأخذ والتلقي والسماع والقراءة، فقرأ على والده وسمع عليه الكثير من الأحاديث وكتب المتون والأسانيد وانتفع به، وعلى أبي الفتوح علي بن مصطفى الميقاتي الدباغ والبدر حسن بن شعبان السرميني وقاسم بن محمد النجار وأبي عبد الفتاح محمد بن حسين الشهاب وأبي محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي وأبي المحاسن يوسف بن حسين بن درويش الدمشقي الحسيني المفتي والنقيب بحلب وأبي الثنا محمود بن شعبان البرستاني وأبي محمد عبد السلام بن مصطفى الحريري وآخرين، وأجازوه، وارتحل إلى دمشق وسمع بها على أبي النجاح أحمد بن علي المنيني الخطيب في جامع بني أمية وشرف الدين موسى ابن أسعد المحاسني وأبي الفدا العماد إسماعيل بن محمد جراح العجلوني(1/926)
وأبي الحسن علي بن أحمد كزبر وأبي الثناء محمود بن عباس الكردي العبدلاني نزيل دمشق وآخرين وسمع منهم غالب المسلسلات كالأولية وغيره وأجازوا له وكتبوا له بخطوطهم ودخل القدس وأخذ بها عن أبي الإرشاد مصطفى ابن كمال الدين بن علي البكري الصديقي الدمشقي الخلوتي وأجاز له بخطه في أواسط سنة ستين ومائة وألف وانتفع به وقرأ عليه البعض من تآليفه، وسمع عليه الكثير واستقام عنده أياماً، ثم ارتحل إلى مصر بقصد الأخذ والتلقي وقرأ بها على النجم الحفناوي والبدر حسن بن أحمد المدابغي والشمس محمد بن محمد الدفري والشهاب أحمد بن عبد الفتاح الملوي والزين أبي حفص عمر بن الطحلاوي وسمع عليهم غالب كتب الأحاديث الشريفة والمسلسلات وأولها حديث الرحمة، فإنه سمعه من جميع شيوخه كما هو مصرح في إجازاتهم، ولازمهم مدة أشهر وقرأ عليهم، وكتبوا له بخطوطهم الإجازات المؤرخة سنة أربع وستين ومائة وألف، وعزم على الحج من مصر وحج تلك السنة، وسمع الأولية وبعض المسلسلات من أبي عبد الله محمد بن محمد الطيب المغربي الفاسي المالكي نزيل المدينة المنورة وأجاز له بخطه، ثم عاد إلى حلب ودرس بها ووعظ بجامعها الأموي الكبير. توفي بعد الخمسة والمائتين والألف.
الشيخ عبد الله الدهلوي المعروف بشاه غلام علي بن شاه عبد اللطيف الدهلوي
شيخ مشايخ السادة النقشبندية، وأستاذ أهل الطريقة الفاضلة العلية، وهو من رجال الحدائق الوردية، في حقائق أجلاء النقشبندية. فقال(1/927)
شاه العارفين، ومليك المرشدين الكاملين، مظهر علوم الدين، ومظهر سر الهداية واليقين، المحقق بمقام التلوين في التمكين، شيخ مشايخ الديار الهندية، ووارث المعارف والأسرار المجددية، سباح بحار التوحيد، سياح قفار التجريد، قطب الطرائق، وغوث الخلائق، ومعدن الحقائق. نال قدس الله سره من العلوم الإلهية ما نال، ومن المقامات العلية ما لا يخطر ببال. وذلك أن هذا العزيز، بعد ما بلغ سن التمييز، أكب على تحصيل الفضائل، والتحلي بأحسن الشمائل، حتى صعد بهمته إلى سماء علوم الرسوم، فتناول من ثرياها أعظم النجوم، إلى أن أصبح في كل علم إماماً، فزاد إقداماً على الترقي في المعالي واهتماماً، فصعد النظر إلى قمر المعارف، فرأى نوره مستمداً من شمس أستاذه العارف، فقصد على جنائب العزم جنابه، ويمم بالهمم الكبار رحابه، فأقبلت به نسمة القبول، على حرم مراحم الوصول، إلى ذلك المقام المأمول، مقام المرشد العظيم، فحنا عليه بقلبه السليم، حنو المرضعات على الفطيم، وجعل يمده بمدده الروحاني، ويربيه بنفيس نفسه الرحماني، ويرقيه إلى مدارج الأخيار، ويقيه أغيار الأغيان وأغيان الأغيار، حتى إذا جذبه إلى مقام حق اليقين، وانتهى به إلى سدرة منتهى المقربين، عاد إلى عالم الشهادة وقد خلع عليه خلع السيادة، وأصبح من غيث إحسانه غوث زمانه، وعهد إليه بعده بإرشاد المسترشدين عنده، فوفى عهده، وصدق وعده، وكان خير خلف، لأشرف سلف. قام بتأييد الشريعة المحمدية، وتجديد معالم السنة السنية، وأداء حقوق الحقائق، وإحياء(1/928)
جميع الطرائق، القادرية والسهروردية الكيروية، والجشتية والنقشبندية، رافعاً لواءها بين الخلائق، فأقبلت القلوب تستظل بظله، ولبت الألباب نداء فضله، وانتهت إليه رتبة الإرشاد، ورحلت إليه الأبدال والأوتاد، فنال ببركته كل مريد أقصى المراد.
شذرة من خبره وذرة من أثره
ولد قدس سره عام ثمان وخمسين ومائة وألف في قصبة بتاله ضلع بنجاب وجاء تاريخ ولادته مظهر جود وهو من آل البيت الكرام غير أني لم أقف على نسبه الشريف. وكان والده الشريف الشاه عبد اللطيف عالماً عارفاً صالحاً زاهداً كبير الشأن قادري الطريقة، تلقاها عن العارف الكبير الفائز بصحبة الخضر عليه السلام الشاه ناصر الدين القادري قدس سره، واشتغل بالرياضات الشاقة والمجاهدات التامة. وكثيراً ما كان يخرج إلى الصحراء فيذكر الله تعالى ويتغذى بالنبات بقي مرة أربعين يوماً(1/929)
لم يكتحل طرفه بنوم، ولم يذق الطعام إلا ليلاً قليلاً، ومع ذلك لم ينو الصيام مقاومة لرعونة نفسه، وكان له انتساب أيضاً للطريقة الجشتية والشعارية، ورأى والده في منامه قبل ولادة الشيخ قدس الله سره سيدنا علياً كرم الله وجهه فقال له: سم ولدك باسمي فلما ولد سماه علياً، إلا أن لما بلغ قدس الله سره سن التمييز سمى نفساً تأدباً غلام علي، ورأت أمه في المنام رجلاً جليلاً يقول لها: سميه عبد القادر، قال مترجمه الشيخ عبد الغني المعصومي: ويمكن أن يكون هذا العزيز هو الغوث الجيلاني رضي الله عنه وسيأتي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه في المنام عبد الله.
وكان قدس سره في الذكاء آية باهرة، حفظ القرآن المجيد في شهر واحد، وأكب على تحصيل العلوم معقولها ومنقولها، حتى أصبح عالم عصره. وكتب المترجم في بيان أحوال نفسه فقال: إني بعد تحصيل علم الحديث والتفسير تشرفت في أعتاب حضرة الشهيد قدس سره، فبايعني على الطريقة العلية القادرية بيده المباركة، ولقنني الطريقة العلية النقشبندية فتشرفت بالحضور في حلق الذكر، والمراقبة عنده خمس عشرة سنة حتى تفضل على هذا الحقير بالإجازة المطلقة في الإرشاد العام، وقد ترددت أول الأمر في أنه هل يرضى الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه أن اشتغل في الطريقة النقشبندية أولاً، فرأيته في واقعة جالساً في مكان وحضرة الشاه نقشبند في مكان تلقاءه، فخطر لي حينئذ أن أحضر عند شاه نقشبند فقال الغوث الجيلاني في الحال: المقصود هو الله تعالى فاذهب فلا مضايقة، وكان لي جهة تعيش فتركتها، فاشتدت عرى الفاقة علي فاعتصمت بالتوكل واتخذته سجية، ولم يكن يومئذ عندي غير خلق حصير أفترشها، ولبنة أتوسدها، فبلغ بي الضعف أقصاه، فلفرط ما نالني أغلقت باب حجرتي، وقلت هذا قبري حتى يأتي الله بالفتح أو بأمر من عنده، فما لبثت أن فتح الله تعالى علي يد من لا أعرفه، فمكثت في زاوية القناعة خمسين سنة.(1/930)
قيل: لما أغلق باب الحجرة وقال ما قال أدركته العناية الإلهية، فجاءه شخص وقال له: افتح الباب، فقال: لا أفتح، فقال له: إن لي معك شغلاً فافتح لي، فلم يفعل، فألقى له من خصال الباب جملة من الدراهم الهندية المعروفة بالروبية وذهب، فمن ذلك اليوم لم تنقطع الفتوحات عنه.
ولما توفي شيخه حضرة الشهيد قام مقامه في مسند تربية المريدين وإرشاد الطالبين فأكب الناس عليه، وشدوا الرحال إليه، من أماكن بعيدة من الروم والشام والعراق والحجاز وخراسان وما وراء النهر، بل من أقصى أرض الخطا إلى غاية أرض المغرب، بعضهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كحضرة مولانا خالد والشيخ أحمد الكردي والشيخ إسماعيل المدني، وبعضهم بإشارة السادات كالشيخ محمد جان، والبعض برؤيتهم له في المنام. وكان موصوفاً بأعلى مراتب الأخلاق الحميدة، فمن السخاء بحيث كان يوجد في رباطه دائماً ولا ينقص عن مائتي مريد إلا قليلاً، وكان يقدم لهم كفايتهم على أتم وجه، ولم يدخر لغد قط، ومن الحياء والتواضع بأنه لم يضطجع ماداً رجليه أبداً، ولم ينظر وجهه في المرآة، وإذا دخل إلى داره كلب ليطعم شيئاً يقول إلهي من أنا حتى أكون واسطة بينك وبين أحبابك فأسألك بحرمة مخلوقك هذا وكل من قصدني إلا ما رحمتني وقربتي إليك. ومن التمسك بالسنة المطهرة ما لا يدرك شأوه، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما لا يهاب معه الأمراء والملوك كما يعلم ذلك من مطالعة مكتوباته، حتى أنه لما حضر السيد إسماعيل المدني بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحابه وأحضر معه بعض آثار نبوية بإشارة منه(1/931)
عليه السلام أن يضعها في المسجد الجامع الذي في دهلي، فوضعها، عرض ذلك إلى حضرة الشيخ، فقال له إنه وإن تكن بركات فخر العالم صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان محسوسة ولكن لا يخلو من ظلمة الكفر، ففتشوا ذلك المكان فإذا فيه صورة بعض الأكابر، فرفعوا الأمر إلى السلطان وأزالوا التصاوير منه.
وكان قليل النوم جداً، فإذا قام إلى التهجد أيقظ النوام ثم يتهجد ويجلس للمراقبة، ويتلو من كلام الله تعالى ما شاء. وكان ورده في كل يوم عشرة أجزاء ثم يصلي الصبح جماعة في وقت الغلس، ثم يلتفت إلى حلقة الذكر والمراقبة إلى وقت الإشراق. وكان رباطه لا يستوعب المريدين لكثرتهم، فلذلك كان يكرر الأذكار لطائفة بعد طائفة، ثم يجلس لقراءة الحديث والتفسير إلى قرب الزوال، فيتناول الغداء. وكان إذا أرسل إليه أحد الأغنياء طعاماً نفيساً لا يأكله بل يكره أيضاً أن يأكل منه المريديون، وإنما يهديه لجيرانه، ومن كان حاضراً عنده من أهل البلدة، وربما ترك أواني الطعام في مكانها فيأخذها من شاء فيأكلها. نعم لو أرسل إليه شخص دراهم ولم يكن مظنة شبهة يخرج أولاً زكاتها على مذهب الإمام الأعظم من جواز إخراج زكاة المال إذا بلغ النصاب قبول الحول، لأن صدقة الفرض أفضل من النفل، ثم يعمل فيما بقي حلواء وغيرها ويرسل بها إلى فقراء الشاه نقشبند، وفقراء والده، ويؤدي ما كان عليه من دين في نفقة رباطه، ويعطي من قصده من ذوي الحاجة، وربما يأخذ الشخص من هذه الدراهم شيئاً في حضوره فيطلع عليه ويعرض عنه بوجهه ولا يتعرض له. وكان بعد تناول الغداء يقيل قليلاً، ثم يشتغل بمطالعة الكتب الدينية والحقائق وغيرهما والتحارير الضرورية، ثم إذا صلى الظهر قرأ درسي حديث وتفسير إلى العصر، فيصلي ثم يقرأ حديثاً وتصوفاً كمكتوبات الإمام الرباني وعواف المعارف ورسال القشيري، ثم يجلس(1/932)
في حلقة الذكر والتوجه العام إلى الغروب، وبعد صلاة المغرب يتوجه لخواص السالكين، ثم يتناول العشاء حتى إذا صلى العشاء أحيا عامة ليله بالذكر والمراقبة، فإذا غلبه النوم اضطجع في مصلاه وربما نام وهو جالس ولم يعلم أنه مد رجليه لفرط حيائه كما تقدم. وكان لا يجلس إلا محتبياً كما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وكبار الأولياء كالغوث الجيلاني حتى توفي على هذه الحال. وكان حريصاً على إخفاء الصدقة فإذا فتح عليه بشيء يقسمه على الفقراء وهم في المراقبة لئلا يشعر أحد منهم بالآخر، وكان يلبس الخشن من الثياب، ولو أهدي إليه ثوب نفيس باعه واشترى عدة أثواب وتصدق بها، وهكذا في غير ذلك ويقول لأن يكتسي جماعة خير من واحد. وورد في الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أخرجت يوماً إزاراً ورداء خشنين وقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين.
وكان رضي الله عنه شديد الشفقة على المسلمين يكثر من الدعاء لهم وأكثر ما يكون في جوف الليل، وكان له جار يسمى حكيم قدرة الله يصرف أكثر أوقاته في غيبته، فحبس يوماً فسعى كل السعي في خلاصه ولم يذكر ذلك له، وكان مجلس المترجم كمجلس سفيان الثوري لا ترفع فيه الأصوات ولا تنتهك المحارم، مبرأ عن حديث الدنيا فلا يذكر فيه الأمراء ولا الفقراء، وقد استغاب بعض الحاضرين في مجلسه شخصاً فذكره وقال: أنا أحق بما قلته منه، ونال شخص في حضوره من سلطان الهند وكان صائماً فقال: وا أسفاه لقد فسد صومي فقيل له: أنتم ما ذكرتم أحداً بسوء، فقال: نعم ولكن سمعت، والذاكر والسامع في الإثم سواء، وكان عاشقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فانياً فيه بحيث إذا سمع اسمه الكريم اضطرب وغاب. وقد أحضر له خادم أقدامه يوماً ماء للتبرك وقال له: أنت منظور رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتعد عند سماع هذا الكلام، ثم قام فقبل الخادم وقال له: من أنا حتى أكون منظور رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالغ(1/933)
في إكرامه، وكان شديد الحرص على اتباعه صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله قوي التمسك بالسنة دؤوباً على مطالعة حديثه، حتى توفي وسنن الحكيم الترمذي على صدره، ولم يبلغه أنه صلى الله عليه وسلم فعل شيئاً إلا وتأسى به.
وكان له في القرآن المجيد ذوق عظيم، وكان كثير التلاوة له كثير المحبة لسماعه، وكان يحب سماعه من أحد خلفائه العظام الشيخ أبي سعيد المعصومي ويتأثر تأثراً بليغاً، فإذا ازداد من السماع اضمحل وتلاشى له، وقال: حسبي لا طاقة لي بأكثر. ويحب سماع أشعار القوم والمثنوي ويحصل له من ذلك وجد، غير أنه كان لثباته وكمال تمكنه لا يظهر عليه، ويقول: رقص أبو الحسين النوري يوماً والجنيد جالس قال: " إنما يستجيب الذين يسمعون " فقال الجنيد: " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب " فالجنيد كان في غاية الثبات. ومن جملة كلامه الدال على علو مقامه، قوله: إن التخلق بالأخلاق الحسنة واجب على كل أحد، وهي الحلم التواضع والشفقة والنصيحة والموافقة للأصحاب والإحسان والمداراة والإيثار والخدمة والألفة والبشاشة والكرم والمروءة والتودد والمودة والجود والعفو والصفح والحياء والسخاء والوفاء بالعهد والسكينة والوقار والثناء والدعاء إلى الله تعالى دائماً وحسن الظن وتصغير النفس واحتقار ما عندك واستعظام ما عند غيرك.
وأما المقامات فأولها الانتباه ثم التوبة ثم الإنابة ثم الورع ثم محاسبة النفس ثم الإرادة ثم الزهد ثم الفقر ثم الصدق ثم الصبر ثم الرضى ثم الإخلاص ثم التوكل. وأما الأحوال فمن ذلك المراقبة ثم القرب ثم الرجا ثم الخوف ثم الحياء وهو حصر القلب عن الانبساط ثم الشوق ثم الأنس ثم الطمأنينة ثم اليقين ثم المشاهدة وهي آخر الأحوال، وإليها الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ومن ذلك ما كتبه في إجازته للشيخ أبي سعيد المعصومي والشيخ بشارة الله، ولغرابة(1/934)
أسلوبها نقلتها بتمامها فقال: بعد الحمد والصلاة، من العلوم أن المقامات والاصطلاحات التي هي في طريقة الإمام الرباني مجدد الألف الثاني، مقررة، ينبغي أن تشاهد في كل درجة منها كيفيات وأحوال وأنواع وأسرار تلك الدرجة، وإلا فاختيار الطريقة عبث، فلم إضاعة العمر، وإن لم تكن المقامات العشر التي أولها التوبة وآخرها الرضا لازمة للباطن فما الفائدة من هذه الطريقة، فإنه يحصل في سير لطائف عالم الأمر كيفيات كثيرة ففي سير لطيفة القلب المفيدة لمراقبة الأحدية الصرفة بعد مراقبة المعية، يحصل الفناء والاستغراق وقطع العلائق والآمال وغيرها، وفي سير لطيفة النفس المفيدة لمراقبة االأقربية والمحبة، يحصل الاستهلاك والاضمحلال، وفناء أنا وغيره، وفي سير عالم الخلق ينهل الفيض الإلهي على العناصر الثلاثة ما عدا عنصر التراب، وتوجد المناسبة لتجليات اسم الباطن والملأ الأعلى وتهذيب اللطيفة القالبية، وتحصل في الحقائق السبعة، وسعة الأنوار وبداهة الأمور النظرية، وزيارة حضرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وثبوت أذواق المحبة الذاتية، فإن أدرك سالك هذه الطريقة هذه العلوم والمعارف فهو مبارك، وغلا فقد اكتسب العجب والأنانية فويل له. وكل شيء يحصل في الصحبة من هذه الحالات فهو حسن، وإلا فهو تحقير للطريقة، ويلحق المشايخ من ذلك الشخص عار، والمريدين عجب وترذيل للطريق، ودعوى الانتظام في سلك المشايخ هداهم الله سبحانه إلى رضائه واشتياق لقائه آمين. وإذ قد وصل ولله الحمد صاحباي حضرة المولوي بشارة الله وحضرة الحافظ أبو سعيد سلمهم الله تعالى وجعلهم سرجاً لإشاعة أشعة الطريقة لهذه المقامات، والمرجو من الله سبحانه وتعالى أن يتفضل على بقية أصحابي الأعزاء وأحبابي وعلى هذا الدليل المقصر، بالتوفيق للاستقامة واتباع السنة ومحبة المشايخ، والترك والانزواء، واليأس من الخلق،(1/935)
والترقي لهذه الحالات، فإني مع تمام الخجل أكتب لأن المرشدين يكتبون في الإجازات هاتين الكلمتين، فأقول: يد هذين العزيزين التي هي أحسن من يدي، هي يدي، وبيعة خدمتهم التي هي أقوى ذريعة للسعادة والنجاة بيعتي، بارك الله بهما، بشرط أن يعرضوا عن أهل الدنيا، ويلازمون بقدم مكسورة باب الحق، مع صدق الوعد الكريم المطلق جل سلطانه، فإنه أركان طريقي وتربية توجهات حياتي، اللهم وفقتني وإياهم لمرضاتك ومرضات حبيبك صلى الله عليه وسلم، واجعل آخرتنا خيراً من الأولى آمين.
وكان رضي الله عنه يقول: إن أحب الشهادة في سبيل الله تعالى ولكن أتذكر ما حصل للناس في شهادة شيخنا مرزا جان جانان رضي الله عنه من البلاء، إذ قحطوا ثلاث سنين، ومات بذلك خلق كثير، ووقع قتل وحروب لا تعد، فأترك سؤالها. وقد غلب عليه البواسير آخر مرضه، وكان الشيخ أبو سعيد وقتئذ في مدينة لكنهو فأرسل إليه في برهة يسيرة كتباً كثيرة يحقه على الحضور ليكون قائماً مقامه، وأن يستخلف مكانه نجله الشيخ أحمد السعيد أحد خلفاء حضرة مرشد المكرم، فترك أهله وأتى مخفا، فلما تشرف بلقائه قال له: كان مرادي إذا لقيتكم أبكى كثيراً ولكن أتيتني في وقت لا يمكنني فيه ذلك، ثم التفت بكليته إليه وأوصى له بخلافة الإرشاد العام. وكان من عادته المستمرة أنه إذا حصل له شائبة مرض أوصى قلماً وأكد لساناً بمداومة الذكر وتحسين الأخلاق وتقوية النسبة الشريفة، ومجاملة المعاملة مع الجميع، والإعراض عن الاعتراض بلو ولم على مجاري القضاء، وملازمة الاتحاد مع الاخوان، والتفرغ للعبادة مع الفقر والقناعة والرضى والتسليم والتوكل، فجدد هذه المرة تلك العادة المستمرة، وقال: إذا قضي الأمر فاحملوني إلى المكان(1/936)
الذي فيه الآثار النبوية التي في جامع دهلي، واطلبوا لي من صاحبها الشفاعة وأوصاهم أن ينشدوا أمام جنازته هذين البيتين:
وفدت على الكريم بغير زاد ... من الحسنات والقلب السليم
فحمل الزاد أقبح ما رأينا ... إذا كان القدوم على الكريم
فلما كان وقت الإشراق من يوم الاثنين ثاني عشر صفر أمر بحضور أبي سعيد من داره سريعاً، فنظر إليه ثم وضع رأسه في صدره، وهو جالس على هيئة الاحتباء وقتئذ، فالتحق بالرفيق الأعلى، فغسل بأمواه الأنوار، وكفن بأثواب الأسرار، وحمل على أطراف الأصابع إلى المسجد الجامع، وقد انفضت لأجله المجامع وهرعت لرباطه الناس حتى غصت بالمشيعين الشوارع، فصلى عليه الإمام أبو سعيد ووضعوه تبركاً عند الآثار النبوية، ثم أتوا به الخانقاه فدفنوه في الجانب الأيمن من البقعة المباركة التي ضمت المرحوم مرشده الشهيد. وكان لمشهده في دهلي يوم مشهور، وأرخ أدباء الهند ذلك بتواريخ متعددة أحسنها تاريخان، أحدهما نثر وهو " نور الله مضجعه " وثانيهما ضمن مقطوعة بالفارسية وهو قوله: " في روح وريحان وجنات النعيم " فنظمتها تبركاً به فقلت في الأول:
حضرة القطب الدهلوي ... رغب الحق مرجعه
فلهذا إذ أرخوا ... نور الله مضجعه
وقلت في الثاني:
الدهلوي الشاه عبد الله ... ذا الغوث العظيم(1/937)
أرخه في روح وريحان ... وجنات النعيم
ومن ذلك بيت فيه تاريخ ولادته وحياته ووفاته قدس سره:
بمظهر جود جاء مدة عيشه ... إمام قضى قل نور الله مضجعه
وله رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة متقلبه ومثواه خلفاء حنفاء هم علماء الأولياء، وأولياء العلماء، ملؤوا الخافقين إرشاداً والثقلين إمداداً. انتهى بتصرف.
الشيخ عبد الله أبو الكمال بن عطا الله بن عبد الله بن بركات الحلبي الشافعي الكتبي
الفاضل الأديب والشاعر البارع الأريب. ولد بأحد الجمادين سنة أربع وسبعين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم على مصطفى بن سليمان الحموي المقري وأبي بكر بن عمر الحلبي وحفظه برواية حفص، واشتغل بالأخذ والتحصيل، فقرأ على والده العربية وتخرج عليه، وقرأ بقية العلوم على جماعة منهم أبو محمد مصطفى بن أبي بكر الكوراني وأبو محمد عبد القادر بن عبد الكريم الدري وأبو اليمن محمد بن طه العقاد وأبو عبد الله محمد بن حجازي الخفاف ومحمد بن يوسف الاسبيري المفتي وزين الدين عمر بن عبد الله الخفاف وقاسم بن علي المغربي المالكي التونسي، وسمع صحيح البخاري بطرفيه على عماد الدين إسماعيل بن محمد المواهبي وحضر دروسه وأجازه بخطه، وسمع حديث الرحمة المسلسل بالأولية من أبي الفتوح محمد كمال الدين بن مصطفى البكري الصديقي، وهو ابن ثماني سنين،(1/938)
هو ووالده لما قدم حلب وأجازه بخطه، وسمعه أيضاً من أبي البركات عبد القادر بن عبد اللطيف النيسابوري الطرابلسي، وأجازه غالب شيوخه، وتفوق وتنبل ومهر وأقبل على نظم الشعر فنظم ونثر، وكان من الأدباء البارعين. ولما سافر العالم المؤرخ الفاضل محمد خليل أفندي المرادي إلى حلب سنة خمس ومائتين وألف اجتمع المترجم به فأخذ عنه واستجازه ونظم هذه القصيدة يمدحه ويهنيه بعيد الفطر:
أبدت لنا الورقاء من ألحانها ... سجعاً ينوب عن السلاف وحانها
تثني على أيامك الغر التي ... هي عندنا الأعياد في أعيانها
فترنحت تلك الغصون صبابة ... وسرت حميا الأنس في عيدانها
وتأرجت أزهارها وتبلجت ... أنوارها وافتر ثغرها أوانها
فالنشر ند والمحاسن غادة ... وطغى الحباب على عقود جمانها
طارحتها شكوى الغرام وحالتي ... وهوى أقام على حمى أوطانها
أخبار حب قد روتها أدمعي ... وتسلسلت في الخد عن نعمانها
كادت بطلف حديثنا وسماعه ... أن ترسل العبرات من أجفانها
حتى درت ماذا أكابد في الهوى ... وتعرفت صدق الهوى بعيانها
ذكرت لتجديد العهود مواعداً ... يجب الوفاء بها على ندمانها
واستقبلت عود الأماني باللقا ... لقدوم عيد الفطر من إبانها
فيه يهنى واحد المجد الذي ... ثنى ذكاء في سمو مكانها
المشتري رتب الكمال من العلا ... والواهب الجوزاء من كيوانها
المنتقى من أكرمين أعاظم ... نالوا الثوابت من لدى دورانها
شم العرانين الفخام إلى السهى ... من غير ما يزهو على أخدانها
فهم الصدور مهابة وجلالة ... وهم البدور طوالعا في آنها
والجود ألقى في ذراهم رحله ... إذ كذبوا الأنواء في هتانها(1/939)
والعلم والتقوى شعار مقامهم ... وسنا المحامد مخبر عن شانها
ما ثم إلا وارد صادر ... شكر السحائب في ندى إحسانها
فاذكر مرادك عندهم تلق المنى ... وتساعد الأقدار في جريانها
كم رائد في المكرمات مرادهم ... ومشمر عن ساعد وبنانها
والموهبات تقول ألسن حالها ... إن المواهب في يدي منانها
فبنو المرادي هم أساطين الملا ... تعنوهم الفصحاء في أوزانها
لا سيما المولى الخليل المجتلي ... نور البراعة من سنا حسانها
العالم النحرير من وضحت له ... سبل الهداية سالكاً بأمانها
بحر الفضائل ملتقى مجموعها ... همع الهوامع مرتوي ظمآنها
ضوء السراة منارهم نحو الهدى ... كنز العفاة الطب من أحزانها
صدر الشريعة والحقيقة نجمها ... يبدي الدليل الحق من برهانها
حلى بسلسلة الجواهر فضله ... عن مالك قطب العلا سلطانها
طرقاً تعانى جمعها أحيا بها ... سنن الرواة أجاد في إتقانها
وأطاعه الخبر العويص عن النهى ... وتنقب الآثار من أكنانها
وأبان عمن في العصور تقدموا ... بغراسة يمتاز في عرفانها
وغدا مخلد جلها أسفاره ... بعبارة لم تنأ عن سحبانها
قس المخضرمة الذين تخيروا ... الكلم النوابغ بانتقا عدنانها
كاسي القريض محاسناً من لفظه ... كالخود زينها حلى عقيانها
الملبس الألفاظ لما حاكها ... شبه الملوك تتيه في تيجانها
فالنظم يلثم من ثنايا دره ... والدر ينظم في ثنا مرجانها
وحلاوة القند الشهي سلافها ... وسلاف أهل الشوق خمرة حانها
ونضارة الحسن البهيج نضارها ... وغضارة الولدان شرب دنانها
لا زال سيدنا مدير كؤوسها ... في سائر الأعياد بدر زمانها
صافي السريرة لا يشاب بشائب ... ومنيع ذات مجتني أقرانها(1/940)
وتظل تصدح بالثنا لجنابه ... أهل البسيطة شامها ويمانها
وملاحظين جنابه بدعائهم ... لا سي مخلصه فتى فتيانها
ما لاح في القصوى هلال الفطر أو ... طلعت شموس السعد من ميزانها
وكتب يمدحه أيضاً:
بحقكما هبا فقد سطع الفجر ... وأذن داعيه ألا وجب الأمر
وفي الطير والأفنان شاد ومائس ... غناء ولا هجر، ووصل ولا هجر
ومن نشرها ريح الصبا زهر الربا ... إذا ضمها من نحو كاظمة النشر
ودارت حميانا على البر والتقى ... حميا عفاف ما على ربها حجر
سلافة قوم لم يذوقوا مدامة ... ولا خامروا خمراً ولا نالهم وزر
نعم سمعوا يوماً أحاديث ماجد ... هي الدر قد وافى بتنظيمها الثغر
هو البحر يرجى للعواطل دره ... كما أنه يحوي مناهله القطر
ثمال عفاة في المآتم والأسى ... وحين صروف الدهر حان لها الغدر
بقية أسلاف كرام تقدموا ... ومن سنن الآداب أن يختم الصدر
إمام المعالي يقتدي أهلها به ... وقطب العوالي رقه الشمس والبدر
بجد وجد ساد أمة جيله ... وشاد ذرى ما فوق ذروته قدر
غذاه لبان الفضل من هو يافع ... وتوجه التوفيق والفتح والنصر
فدانت له الأعلام من كل وجهة ... وقيل لأبناء الرجا هذه مصر
فإن قصروا عن شأو علم أمدهم ... وإن مدت الأوغاد حاولهم قصر
إذا ابن نجيم قاسه بنظائر ... ترى الفرق مثل الفجر ما دونه سر
تنائى حبيب إن تدانى حبيبنا ... وأما زهير أين أنجمه الزهر
وقس يقاسي العي عند خطابه ... وعمرو بن عثمان حوى زيده عمرو
هنيئاً بني شهبائنا بقدومه ... فقد لعبت فينا الصبابة والخمر
وحيا فأحيا بالتحية مغرماً ... يقلبه ليلاً على الكبد الجمر
وباعد أحزاناً تحصن جيشها ... على قلب صب لا يناصره ذمر(1/941)
فيا من به يستطلع البدر سعده ... وفاقاً لعلياه كما اتضح الأمر
لأنت مراد الفضل وابن مراده ... وعامر ركن المجد طال لك العمر
بقيت مدى الأيام أرباً لأهلها ... يسود بها الراجي ويتضع الغمر
ويثني عليك الحظ أبيض ناصعاً ... وتخرس أعداك الأبالسة الحمر
وعيشك والأيام والدهر والمنى ... رضي وأعياد وطوعك والأمر
وكتب إليه أيضاً يمدحه:
يا در در الجمال ما صنعا ... أسيره دون نيله قنعا
أعز قوماً بعز منصبه ... وكلنا هيبة له خضعا
فمن مجيري من أسر غانية ... غيداء في القلب طيفها رتعا
رخيمة رخصة المعاطف والبنان تكشو من حيلها الجزعا
أهدى إلي السقام ناظرها ... قاسيت سهداً لكنه هجعا
عسالة القدر والمباسم وال ... حديث نشفي الطعان والوجعا
فالغصن في الروض فرع قامتها ... والبدر في أفق وجهها طلعا
كأنه ازدان من محاسن من ... حاز التقى والكمال والورعا
بقية السادة الألى جمعوا ... مناقب العلم والصلاح معا
حيث مراد العلياء كوكبهم ... يزهو على الكون كلما لمعا
ومن سناه وعز طالعه ... نور علي على العلا سطعا
فخلد الله أصل دوحتهم ... وصان باللطف فرعها ورعى
أعني خليل الكرام سيدهم ... ومن نداه السحاب إن همعا
الباسل الشهم والخضم إذا ... داعي الكمالات والنوال دعا
الحائز الرفق والتعطف إن ... وافاه جان فحلمه وسعا
والعالم الفاضل الذي ذكرت ... أبحاثه إن ضده منعا
والناظم الناثر المجيد بما ... أبرزه الفكر والحجا تبعا
ألفاظه الدر والجمان حلى ... فالقرط في أذن كل من سمعا(1/942)
أو هي سحر ومن يعرضها ... يخال في الحال أنه طبعا
أو هي بنت الكرام روقها ... أين الندامى يسقونها جرعا
لا زال فوق النسرين طائره ... يصدح بالشكر كلما سجعا
ومن يعاديه خاسراً حزناً ... ثاوي درك الحضيض متضعا
ما افتر نور الخزام مبتسماً ... عن روق حسن صفاءه نصعا
وما العطائي جاء معتذراً ... وراجياً أن يقال حيث لعا
فإن جهد المقل مغتفر ... بقيت ما ارتاح مخلص ودعا
وكتب له يمدحه أيضاً:
ولهي بكم في غدوتي ورواحي ... وله العليل إلى شذى الأرواح
وترنمي في مدحكم بين الملا ... روحي وندماني وملئ الراح
وصدى يراعي إذ يراعي ذكركم ... عودي الرخيم ورنة الأقداح
وطروسي اللاتي حوين سناءكم ... صفحات غراء الجبين رداح
ومدادها نقش البنان من الدمى ... والنقط خيلان البياض الماحي
أبي الأيادي الهاشمية والأكف ... الحاتمية والندى المياح
الصاعدين إلى الكمال بلا انتها ... والمحرزين المجد دون براح
من منكم قطب الوجود مرادنا ... روح المكارم بلبل الأفراح
وحفيده علامة العصر الذي ... هو جوهر من فالق الأصباح
السائر الأخبار في آفاقه ... ذكر يضوع بنشره الفواح
من ليس يرغب عن مدائحه شج ... متهيم وأطاق فيه اللاحي
ويك اتئد يا عاذلي أنا مغرم ... في وصفه أصبو إلى التمداح(1/943)
سكنت محبته القلوب بأسرها ... خلقاً بدون تعرض الأشباح
سر أبان إلى النهى مرموزه ... إن الوفاق بعالم الأرواح
أخلصت تهنيتي له بالصوم في ... هذا الربيع الوارق الأدواح
لرجاء نيل القرب من ساحاته ... ثم التملي بالسنا الوضاح
ظل ظليل في المهامه وارف ... خل خليل بحر كل سماح
لا زال يبقى كل عام رافلاً ... متوشحاً بالمجد كل وشاح
ما أهديت لجنابه تحف الثنا ... من مخلص ثمل المودة صاح
أو ما يقول أبو الكمال مصدراً ... ولهي بكم في غدوتي ورواحي
وله مخمساً أبيات الصغي الحلي
سايرتنا إلى الليوث الحوامي ... مرهفات إلى الدماء ظوامي
ما الأعادي إذا عدوا ما الروامي ... إن أسيافنا القصار الدوامي
صيرت ملكنا طويل الدوام
قد وعينا التلويح من كل مور ... وقدحنا من الزناد لموري
لم يشب حزمنا ارتشاف خمور ... نحن قوم لنا سداد أمور
واقتحام الأخطار من وقت حام
من يفد حينا يعد بسلام ... ليس يخشى من سطوة وملام
ولنا القرن طائع كغلام ... واصطلام الأعداء من وسط لام
واقتسام الأموال من وقت سام
مات رحمه الله عام ألف ومائتين وبعد الخمسة رحمه الله تعالى.(1/944)
الشيخ عبد الله بن مصطفى بن أحمد بن موسى الحلبي الحنفي الشهير كوالده بالجابري نسبة إلى القاضي جابر بن أحمد الحلبي والد أم جده أحمد
الفاضل الأديب الفقيه الكاتب البارع المنشئ، مولده في ربيع الأول سنة تسع وستين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم واشتغل بالتحصيل والأخذ، فقرأ على أبي الهدى صالح بن سلطان وأبي محمد مصطفى بن أبي بكر الكوراني وأبي المواهب إسماعيل بن محمد بن صالح المواهبي وسمع الكثير عليهم وعلى غيرهم، وأجاز له جماعة كأبي جعفر منصور بن مصطفى ابن منصور السرميني وأبي البركات عبد القادر بن عبد الللطيف البيساري الطرابلسي وغيرهم، وكان يكتب أنواع الخطوط مع الإتقان وكانت الأفاضل تشهد بنبله ونجابته.
وفي سنة أربع وثمانين ومائة وألف دخل دمشق مع والده وعمه، ونزل في دار بني المرادي، وكانوا يشهدون له بالنبل والفضل. وفي سنة أربع وتسعين دخل دمشق المرة الثانية قاصداً الحج بالنسك، ونزل أيضاً في دار بني المرادي عند خليل أفندي صاحب التاريخ، وكان أيضاً مع والده، وكان يعرف اللغات الثلاث العربية والتركية والفارسية، وكانت علماء الروم يحررون ما يكتبه من الترسل التركي ويقيدونه عندهم، ويشهدون بتفوقه ونبله. وكان مع والده يشتغل بتحرير الوثائق الشرعية والصكوك لدى قاضي قضاة حلب، وكان والده رئيس العدول والكتاب بالمحكمة الكبرى. ولما صار والده نقيب الأشراف بحلب والمفتي العام بها صار ولده المترجم مكانه رئيس الكتاب، وشهد الناس بأدبه وعقله،(1/945)
واحترمته الصدور والأعيان وكان ينظم القليل من الشعر، ومن كلامه مشطراً بيتي الجواليقي:
ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... بزلال فيض فضائل ومراحم
فقصدت مقصدهم وجئتك راجياً ... ووقفت خلف الورد وقف حائم
حيران أطلب غفلة من وارد ... ولهان أرجو نجدة من راحم
فأقمت منتظراً ببابك واقفاً ... والورد لا يزداد غير تزاحم
وشطرهما أيضاً الأديب أبو بكر بن مصطفى الكوراني الحلبي:
ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... وكأنهم ظفروا بمنهل حائم
فقصدته متتبعاً وراده ... ووقفت خلف الورد وقف حائم
حيران أطلب غفلة من وارد ... كي أرتوي وأنال عطفة راحم
فبقيت ظمآناً أكابد لوعة ... والورد لا يزداد غير تزاحم
وقد خمس تشطير الجابري الفاضل عبد الله بن عطاء الله الكتبي الحلبي:
يا ذا الذي عنه الأكارم قد رووا ... وعلى نداه ورحب كفيه لووا
وبك الملا كعب الأيادي قد طووا ... ورد الورى سلسال جودك فارتووا
من فيضكم بمكارم ومراحم
أموا من الأنواء صوباً هامياً ... يحيي مرابع للكرام خواليا
واخضل عود الدهر طلقاً باهياً ... فقصدت مقصدهم وجئتك راجيا
ووقفت خلف الورد وقف حائم
أتراك يا حظي الخؤون مساعدي ... أرد الظلال بمعصي وبساعدي
حتى م أبقى في عنا وتباعد ... حيران أطلب غفلة من وارد
ولهان أرجو نجدة من راحم(1/946)
لأبدع إن جانبت ظلاً وارفاً ... أو كنت من حر الأوام مشارفاً
وافيت أثر الناس بيتك طائفاً ... وأقمت منتظراً ببابك واقفاً
والورد لا يزداد غير تزاحم
مات المترجم المذكور سنة ألف ومائتين ونيف.
الشيخ عبد الله بن محمد بن طه بن أحمد العقاد الحلبي الشافعي
أبو البركات جمال الدين العالم الفاضل والمحدث الكامل، شيخ القراء في حلب الشهباء، زين الثقات، جمال الرواة.
مولده يوم عيد الأضحى سنة خمس وستين ومائة وألف، وقرأ القرآن وحفظه وتلاه مجوداً، وقرأ القراءات السبع من طريق الشاطبية، واشتغل بالتحصيل والأخذ والانتفاع، وقرأ وسمع وأخذ الفنون المتنوعة عن كثير من السادة المشايخ في المدة الطويلة، منهم والده وجل انتفاعه به وعليه، وأبو السعادات طه بن مهنا الجبريني، وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي، ومصطفى بن عبد القادر الملقي، وأبو عبد الله محمد بن محمد الأريحاوي، وأبو عبد الله محمد بن صالح المواهبي، وأبو محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري، والشمس محمد بن مصطفى البصيري شيخ القراء بحلب، والمقري زين الدين عمر بن شاهين، والتاج عبد الوهاب بن أحمد المصري، وأبو عبد الله محمد بن محمد التافلاتي، ولطف الله بن أحمد الأرضرومي، وعلاء الدين محمد بن محمد الطيب المغربي، وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم الطرابلسي مفتي الحنفية، وأبو الحسن علي الرابقي، وأبو داود سليمان بن أحمد الكليسي المفتي، وأبو بكر بن أحمد الهلالي القادري، وأبو إسحق عبد الجواد بن أحمد الكيالي، وأبو الفرج عبد الرحمن بن(1/947)
عبد الله الحنبلي، والشهاب أحمد بن عبيد الله العطار الدمشقي، والشمس محمد حاجي بن علي المفتي، وعبد الرحمن الدمشقي بن إبراهيم المصري، والشهاب أحمد بن إبراهيم الأربلي الكردي نزيل حلب، وأبو عبد الله محمد الصوارني الكردي، وأبو العدل قاسم بن علي التونسي المغربي، وأبو جعفر منصور بن مصطفى السرميني، وأبو الفضل فخر الدين عثمان بن عبد الرحمن العقيلي، وأبو عبد الله طاهرالحنفي، وأبو العباس أحمد بن أحمد المصري نزيل حلب، والشهاب أحمد الكعاك، وأبو عبد الله محمد بن حجازي السختياني، وأبو عبد الله محمد الفرضي، والشيخ شرف الدين المقري، وأبو عبد الله عبد الكافي بن حسين الإمام، ومحمد بن زكريا المقري، ومهذب الدين سعيد بن عبد الله السويدي البغدادي، ومحمد بن يوسف المفتي، وأبو الإخلاص حسن بن عبد الله النجشي، وأبو الحسن محمد بن صادق السندي نزيل المدينة المنورة، وأبو الفيض محب الدين مرتضى بن محمد بن محمد الزبيدي اليمني نزيل مصر وغيرهم.
وسمع الكثير من كتب الأحاديث الصحيحة والمسلسلات لحديث الرحمة وغيره وفضله لا زال في ازدياد إلى أن اخترمته المنية بعد الألف والمائتين وخمس سنوات رحمه الله رحمة واسعة.
عبد الله باشا والي عكا ابن علي آغا الخزندار أحد مماليك أحمد باشا الجزار
نقل صاحب المناقب الإبراهيمية، والمآثر الخديوية، إن المترجم المذكور، كان لا يركن إليه في أمر من الأمور، عديم الوفاء، متقلب الآراء،(1/948)
لا يرعى عهداً، ولا يحفظ وداً، عاكفاً على الملاهي واللذات، مشغوفاً بسماع الأغاني والأصوات، فساعدته يد العناية، حتى تمكن من الولاية، وطابت له الأيام، وبلغ القصد والمرام، وكان دأبه الاهتمام بإقامة العمار، وتحصين عكا بالأبراج والأسوار، وجمع الأموال من جميع الأقطار، وكان قد استولى عليه الطيش، واستخفه البطر وطيب العيش، حتى حاد عن الطريق المحمود، وتجاوز في الأحكام الحدود، وأشهر العصيان على الدولة، ذات الشوكة والصولة، أملاً بالاستقلال، وطمعاً في الجاه والأموال، ولما بلغ حضرة السلطان محمود خان، ما هو عليه من الجنون والهذيان، والتمرد والعصيان، وارتكاب الظلم والعدوان، غضب من سوء فعاله، وأرسل عسكراً لتربيته وقتاله، تحت راية البطل الهمام، درويش باشا والي دمشق الشام، فحاصره زمناً طويلاً، وأذاقه عذاباً وبيلاً، ولما اشتد عليه القتال، وأحاطت به الأهوال، وانقطع عنه الإمداد، من سائر البلاد، صحا من غفلته، واستفاق من سكرته، وداخله الخوف والفزع، واضطرب من الهلع، وأيقن أنه إذا طالت عليه تلك الحالة، يؤخذ أسيراً لا محالة، فابتدر بالعجل، لاستدعاء الأمير بشير حاكم الجبل، وكان من أفراد الرجال، موصوفاً بالفضل والكمال، وحسن التدبير وجميل الخصال، ولقد أجاد من وصفه فقال:
إنما أنت واحد غير أني ... لست أعطيك منزل الآحاد
فبماذا يبالغون وهم لا ... يبلغون الإنصاف بعد الجهاد
لك خوف لو صادف العين في م الحلم لصارت تخاف طيب الرقاد
تفخر الناس بالجدود ولكن ... أنت فخر الآباء والأجداد
وأرسله إلى الديار المصرية، ليستميل له خاطر الحضرة الخديوية، لإصلاح أمره مع الدولة العلية، وكان محمد علي باشا له وجاهة كبيرة، ومنزلة عند الدولة رفيعة خطيرة، فلبى دعوته، وأجاب طلبته، وكتب(1/949)
في شأنه إلى القسطنطينية، واسترضى الدولة بموجب إرادة سنية، ورفع عنه تلك الشدة، بعدما أقام في الحصار مدة، وصار له عليه حق الجميل والإحسان، على مدى السنين والأزمان، غير أن عبد الله باشا كبرت نفسه بعد ذلك عليه، وجحد فضل محمد علي باشا وإحسانه إليه، وحصول العفو له على يديه، وسلك معه سلوك اللئام، الذين لا عهد لهم ولا ذمام، وتكلم في حقه بما لا يليق من الكلام، فلما بلغ محمد علي باشا هذا الخبر، زاد به الغيظ والكدر، وكتب إلى حضرة السلطان محمود خان، يعلمه بهذا الشأن، ويلتمس من جلالته، خلع عبد الله باشا عن ولايته، فلم يكترث بخطابه، ولا أجابه على كتابه، واستعظم منه ذلك الأمر، ورآه من عجائب الدهر، ولم يعد يمكنه الاصطبار، على ذلك الذل والعار، فجهز ولده المعلوم بالعناد، والمبغوض لدى العباد، إبراهيم باشا رأس الفساد وخراب البلاد، أن يسير لحرب الديار الشامية، وأردفه بالعمارة البحرية، وأصحبه بثلاثين ألفاً من العسكر، الذين لا يبالون بالخطر، ولا يهابون الموت الأحمر، فسارت العساكر، بالمهمات والذخائر، قاصدة الديار الشامية، على طريق البرية، وأما القائد العام، لهؤلاء العساكر الطغام، وهو إبراهيم باشا فإنه نزل في العمارة البحرية، مع باقي الجيوش العسكرية، وكان من جملة معاونيه، عباس باشا ابن أخيه، وإبراهيم باشا الصغير، وغيرهما من القواد المشاهير، وكانت العمارة المصرية، مؤلفة من ست عشرة قطعة حربية، وسبع عشرة سفينة وسقية، تحت رياسة أحد القوادين من الضباط المصرية، عثمان بك نور الدين، وكان خروجه من بغاز الإسكندرية، في غزو جمادى الأولى سنة 1247 هجرية، فوصل في خمسة أيام، إلى حيفا إحدى أساكل بر الشام، وهي بلدة تبعد عن عكا ثلاث ساعات، وأهلها(1/950)
يبلغون نحو ثلاثة آلاف من النسمات، ولما ألقت المراكب مراسيها نزل إبراهيم باشا إليها وخيم في نواحيها، فتزلزت بقدومه الديار الشامية، وارتجت من هيبته رجة قوية، وأما باقي الجيش والعسكر، الذي سار على طريق البر الأقفر، فإنه كان قد واصل التسيار، وجد في قطع البراري والقفار، فأشرف على عكا من الجهة الجنوبية، في عشرين من تشرين الثاني " سنة 1831 مسيحية "، وانضم إلى باقي الجيوش المصرية، وكان لما بلغ عبد الله باشا هذا الخبر، وأبصر الجيش والعسكر، أحاط به الخوف وانذعر، وطار من عينيه الشرر، ففرق الأموال، وجمع الفرسان والأبطال، وشرع في تحصين القلع والأسوار، واستعد للقتال والحصار، وأرسل يستدعي من حوله من الأكابر والأعيان، وكتب بخط يده إلى الأمير بشير حاكم لبنان، يستنجده لهذا الأمر، ويقول له: إن المشايخ بني الجرار وبني صقر وعرب السلط وبني صخر ينتظرون قدومه إليهم، ليكون رئيساً عليهم. وفي أثناء ذلك يذكره بالصداقة القديمة والمحبة، ويثنى على أمانته وحفظه المودة والصحبة، متمثلاً بقول الشاعر:
وأنت الخالص الذهب المصفى ... بتزكيتي ومثلي من يزكي
وكانت عكا في تلك الأيام، من أشهر مدن بر الشام، وكرسي الولاة والحكام، ذات أبراج حصينة، وقلاع متينة، مشحونة بالذخائر والمهمات، وآلات القتال والجباخانات، وفيها من رجال الحرب، وفرسان الطعن والضرب، نحو خمسة آلاف مقاتل، بين فارس وراجل، وكان إبراهيم باشا صاحب الهمة العلية، قد تقدم نحو عكا في فرقة قوية، من الفرسان والطوبجية،(1/951)
وبنى أتراساً متينة، على تل هناك تجاه المدينة، ويقال له تل الفخار، ووضع عليه المدافع والقنابل الكبار، وأرسل إلى عبد الله باشا يقول، ضمن كتاب مع رسول، أن يسلم المدينة، بطريقة أمينة، ويربح دم العباد، وسلامة البلاد، ويبادر إلى ملتقاه، ويعتذر مما جناه، ويدخل تحت لواء الحضرة الخديوية، ويعيش باقي أيامه في عيشة رغد ورفاهية، وعين له أجلاً للحضور وتسليم الحدود والثغور، إن تجاوزه ولم يخضع لأمره، يضربه بالمدافع ويجعل كيده في نحره، وحينئذ يأخذ أسيراً، ويرسله إلى مصر ذليلاً حقيراً، ولا يعود يفيده الندم، بعد فوات الفرصة وزلة القدم، فلما وقف على كتابه، وفهم فحوى خطابه، شق ذلك عليه، وعظم الأمر لديه، وحدثه عقله السقيم، بعدم الطاعة والتسليم، وتصلب على المحاصرة والمقاومة، وأصر على المدافعة والمصادمة، ورفض أمر الصلح والمسالمة، وسعى بسوء تدبيره، على خرابه وتدميره، ولم يعلم أن أيامه قد مضت، ومدة أحكامه زالت وانقضت، واستمرت بينهما المخابرة نحو عشرة أيام، وعبد الله باشا يحاوله بالكلام، ولا يقدر عواقب الأيام، وكان مستر بيتر أبوت، قنصل دولة الإنكليز في بيروت، لما بلغته هذه الأخبار، سار قاصداً تلك الديار، واجتمع في إبراهيم باشا في الخيام، بعد مسيرة ثلاثة أيام، وأخذ يلومه بالكلام، على قدومه إلى بر الشام، بدون رخصة سنية، من الدولة العلية، بقوله له أن هذا العمل، لا توافق عليه بقية الدول، لا سيما الدولة الإنكليزية، المتحدة مع الدولة العثمانية، على حفظ الصداقة وإخلاص الطوية، فاغتاظ إبراهيم باشا منه وتأثر، غير أنه لم يظهر له من غيظه ما أضمر، وقال له اعلم، أيها الصديق الأكرم؛ أني حضرت بالعساكر(1/952)
الجهادية، لاستخلاص الديار الشامية، انتقاماً من عبد الله باشا بأمر الحضرة الخديوية، فإن كان ذلك لا يوافق دولة الإنكليز، فعليها أن تخاطب به جناب والدي العزيز، فمتى أمرني بالرجوع، عدلت عن هذا المشروع، وإلا فلا أرجع بدون ذلك، ولو قامت علي جميع الممالك، ثم نهض على الأثر وتوجه قاصداً المعسكر، ولم يلتفت إلى حديث مستر أبوت وكلامه، ولا اكترث بتعنيفه وملامه، واستمر على ما كان قد قصد. من ضرب الأسوار وهدم البلد، فلما انقضت مدى الميعاد المعهود، وفات وقت الأجل الموعود، وعبد الله باشا ما زال مصراً على عدم تسليم المدينة، معتمداً على قوته وعلى أسوارها الحصينة، استعد إبراهيم باشا وتأهب، في اليوم الرابع من شهر رجب، إلى ضرب المدينة، وهدم أبراجها المتينة، فأرسل إلى رؤساء الطوبجية، وقائد العمارة الحربية، يأمرهم بإطلاق النار، على الأبراج والأسوار، فامتثلوا ما أمر، ولم يمض إلا لمحة بصر، حتى أطلقت المدافع والقنابل، على الحصون والمعاقل، وكان الضرب متواصلاً من الخارج والداخل، كالغيث الهاطل، وكان قد أرسل إلى الأمير بشير حاكم الجبل، كتاباً يستدعي حضوره بالعجل، ليقرره في مركز حكومته، ويعيش في ظل نعمته، فلما وقف على هذا الخطاب، داخله الخوف والاحتساب، وجمع أكابر لبنان، ومن يعتمد عليهم من الأعيان، واستشارهم في هذا الشأن، فاستقر رأي الجمهور، على عدم التسليم والحضور، خوفاً من عواقب الأمور، فلما أبطأ في قدومه، وأصر على عدم تسليمه، استشاط إبراهيم باشا غضباً، وتبدل واسع حلمه لهباً، وكان قد صمم النية، على أن يدهمه بالعساكر النظامية، ويقبض عليه جبراً، ويستولي على لبنان قوة وقهراً، ثم توقف وعدل، عن هذا العمل، لأن أباه كان أوصاه به قبل خروجه من القاهرة، وبالعساكر الظافرة، نظراً لما كان وقع له عنده، من التقرب في المودة، وذلك عند زيارته الديار المصرية، وتمثله أمام(1/953)
الحضرة الخديوية، في طلب العفو والأمان، حسبما قررناه قبل الآن، فكتب إلى والده بمصر، يعلمه بهذا الأمر، فلما وقف العزيز على هذا الخبر، داخله الغيظ والكدر، وتأثر من مخالفة الأمير، وكتب إليه كتاباً على سبيل التنبيه والتحذير، يعاتبه على ذلك القصور
ويتهدده بسوء العاقبة إن تأخر عن الحضور، ومن جملة فحواه، ومضمون ما حواه إن لم تحضر إلى خدمة ولدي إبراهيم باشا سريعاً، وتكون لأوامره سريعاً مطيعاً، فليكن عندك يقيناً، أني سأخرب مساكنك وأغرس أرضها عنباً وتيناً، وقد بالغنا في النصيحة، وحذرناك بأقوالنا الصحيحة، فاستيقظ من رقادك، واحذر عاقبة عنادك، قبل أن تهجم العساكر عليك، وتأخذ ولايتك من بين يديك. فاضطرب الأمير بشير، من هذا التهديد والتنذير، وأثر فيه هذا الكلام، وخاف عواقب الانتقام، فصمم على التأهب والمسير، للورود على إبراهيم باشا من غير تأخير، وركب من يومه، في مائة فارس من قومه. ولما أقبل على المعسكر، خرج إلى ملتقاء أميرالاي العسكر، وتبعه بحري بك رئيس الكتيبة ومصطفى آغا بربر، وبعض رؤساء العساكر والجنود، بالموسيقى وإطلاق البارود، فدخلوا به الأوردي بموكب عظيم، ونزل في الخيمة المعدة له قرب خيمة إبراهيم. وكان إبراهيم باشا حينئذ يجول بين الجيوش والقواد، ويرتب الصفوف والأجناد، وينشطهم على الهجوم والثبات، والحرب قائمة على عكا من جميع الجهات. وعند رجوعه في المساء استدعى الأمير إليه، فطيب قلبه وصفى خاطره عليه، ولاطفه بالحديث والكلام، وأجلسه معه على سفرة الطعام، وفوض إليه أحكام جبل لبنان، واتخذه من جملة الحواشي والأعوان، وكان قد أرسل فريقاً من العساكر، بالمهمات والذخائر، لاستخلاص الثغور والأساكل، تحت قيادة حسن بك المناسطرلي الرجل الباسل، فاستولى على صيدا وصور، وبيروت وطرابلس وباقي الثغور، وكانت العمارة الرابطة تجاه عكا قد تعطل بعضها من شدة العواصف والأنواء ووقوع الكلل الكبار، التي كانت تسقط عليها كالأمطار، من الأبراج والأسوار، في الليل والنهار، فأقلعت بأمر إبراهيم باشا إلى الإسكندرية، في آر كانون الثاني سنة ألف ومائتين وسبع وأربعين هجرية، وألف وثمانمائة واثنتين وثلاثين رومية. هـ بسوء العاقبة إن تأخر عن الحضور، ومن جملة فحواه، ومضمون ما حواه إن لم تحضر إلى خدمة ولدي إبراهيم باشا سريعاً، وتكون لأوامره سريعاً مطيعاً، فليكن عندك يقيناً، أني سأخرب مساكنك وأغرس أرضها عنباً وتيناً، وقد بالغنا في النصيحة، وحذرناك بأقوالنا الصحيحة، فاستيقظ من رقادك، واحذر عاقبة عنادك، قبل أن تهجم العساكر عليك، وتأخذ ولايتك من بين يديك. فاضطرب الأمير بشير، من هذا التهديد والتنذير، وأثر فيه هذا الكلام، وخاف عواقب الانتقام، فصمم على التأهب والمسير، للورود على إبراهيم باشا من غير تأخير، وركب من يومه، في مائة فارس من قومه. ولما أقبل على المعسكر، خرج إلى ملتقاء أميرالاي العسكر، وتبعه بحري بك رئيس الكتيبة ومصطفى آغا بربر، وبعض رؤساء العساكر والجنود، بالموسيقى وإطلاق البارود، فدخلوا به الأوردي بموكب عظيم، ونزل في الخيمة المعدة له قرب خيمة إبراهيم. وكان إبراهيم باشا حينئذ يجول بين الجيوش والقواد، ويرتب الصفوف والأجناد، وينشطهم على الهجوم والثبات، والحرب قائمة على عكا من جميع الجهات. وعند رجوعه في المساء استدعى الأمير إليه، فطيب قلبه وصفى خاطره عليه، ولاطفه بالحديث والكلام، وأجلسه معه على سفرة الطعام، وفوض إليه أحكام جبل لبنان، واتخذه من جملة الحواشي والأعوان، وكان قد أرسل فريقاً من العساكر، بالمهمات والذخائر،(1/954)
لاستخلاص الثغور والأساكل، تحت قيادة حسن بك المناسطرلي الرجل الباسل، فاستولى على صيدا وصور، وبيروت وطرابلس وباقي الثغور، وكانت العمارة الرابطة تجاه عكا قد تعطل بعضها من شدة العواصف والأنواء ووقوع الكلل الكبار، التي كانت تسقط عليها كالأمطار، من الأبراج والأسوار، في الليل والنهار، فأقلعت بأمر إبراهيم باشا إلى الإسكندرية، في آر كانون الثاني سنة ألف ومائتين وسبع وأربعين هجرية، وألف وثمانمائة واثنتين وثلاثين رومية.
ولما بلغ السلطان محمود خان، قدوم إبراهيم باشا إلى عربستان ووضع يده على المدن والبلدان، استولى عليه الغيظ والغضب، وكتب إلى محمد باشا والي حلب، يقول له من جملة الكلام: اعلم أيها الوزير الهمام، قد انتهى إلينا في هذه الأيام، مجيء إبراهيم باشا بالعساكر المصرية، لفتح البلاد الشامية، والاستيلاء على ولاياتها، ومدنها وباقي ملحقاتها، واستولى على أطراف البلاد، وانقادت إليه العباد، فلذلك قد أصدرنا الأوامر والمراسيم، بتجهيز العساكر وإرسالها إلى تلك الأقاليم، تحت راية السردار الأكرم، حسين باشا الأفخم، فيجب عليكم، بوصول أمرنا هذا إليكم، أن تحصنوا القلاع والمعاقل، وتجمعوا العساكر والجحافل، وتستخلصوا منه تلك الأساكل، قبل قدوم الجيوش المذكورة، والعساكر المنصورة. فلما وصل هذا المنشور، إلى الوالي المذكور، شرع في تحصين البلد، بالسلاح والعدد والعدد، وجمع العساكر والجنود، وعقد الرايات والبنود، وسار إلى حمص من غير توان، في سبعة آلاف عنان،(1/955)
من الأرناؤوط والهواري والعربان، وعند وصوله إلى المدينة، حصن قلاعها بالمدافع والأبنية المتينة، وأقام بفرسانه فيها، وعسكر في جهاتها ونواحيها، منتظراً قدوم العساكر العثمانية، ومجيء حسين باشا من القسطنطينية، وأرسل أمامه عثمان باشا كامل، في أربعة آلاف مقاتل، بين فارس وراجل، لقتال العساكر المصرية، واستخلاص المدن البحرية، فسار بهمة وحمية، واستولى على اللاذقية، ثم تقدم بعزم وثبات، إلى نواحي طرابلس وتلك الجهات، فالتقاه من عساكر مصر شرذمة، نحو خمسمائة نسمة، وكان في مقدمتهم الأمير خليل الشهير، ابن الأمير الشهابي بشير، وبمعيته ستمائة بطل، من عسكر الجبل، ولما وقعت العين على العين، اشتعلت نيران الحرب بين العسكرين، والتقت الفرسان بالفرسان، والأقران بالأقران، واختلف الضرب والطعان، وسالت الدماء على أديم الصحصحان، وأخذ حده السيف والسنان، ولم تكن إلا ساعة من الزمان، حتى تضعضعت من عثمان الأركان، فولى الأدباء، واستنجد بالفرار، ورجع بمن معه من الفرسان والأنفار، إلى قلعة الحصن وبلاد عكار، وهو في حالة الذل والانكسار، وحينما بلغ إبراهيم باشا هذا الخبر، ومجيء محمد باشا إلى حمص بذلك العسكر، وهو إذ ذاك محاصر عكا الحصينة، وقد كاد أن يفتحها ويهدم أسوارها المتينة، تجهز من يومه وسار، في أربعة آلاف فارس كرار، قاصداً تلك الديار، وترك عكا تحت الحصار، ثم عجل في السير، وسابق بمسيره الطير، فأدرك عثمان باشا في أرض الزراعة بقرب القصير، وكان محمد باشا قد أمده بالمهمات والذخائر، وأضاف إليه فرقة من العساكر، فناوشه الحرب، وبادره بالطعن الضرب، فقهره وكسره، وفرق جيشه وعسكره، وفر عثمان باشا من ساحة المعمعة، وترك الذخائر والمهمات والأمتعة، ولجأ إلى حمص بمن سلم من جنده معه، بعدما قتل من عسكره(1/956)
نحو ألف قتيل، ومن المصريين نفر قليل، ثم رجع إبراهيم باشا على الأثر، بعدما غلب وقهر، وفاز وانتصر، وغنم وأسر وبلغ القصد والوطر، وأتى دير القمر، وترك فيها ألفاً وخمسمائة نفر، من شجعان العسكر، وعاد إلى عكا بعد ذلك الانتصار، وشدد عليها الحصار، وكان قد أرسل عباس باشا إلى بعلبك في اليوم الخامس عشر من نيسان، وأصحبه بألابين من الفرسان، ليقيم محافظاً في ذلك المكان، وكانت الحرب على عكا قائمة، والمدافع على أبراجها متصلة دائمة، حتى هدم أكثر حصونها وأسوارها، وسقط رونق مجدها وفخارها، من وقوع الكلل والقنابل، وهجوم الأبطال والجحافل، وكانت سكان البلد، من الشيخ إلى الولد، في خوف واحتساب، وقلق واضطراب، من سقوط الكلل وأصوات البارود، فكانوا يستترون تحت العقود، واستمر القتال، على هذا المنوال، مدة سبعة شهور، بلا انقطاع ولا فتور، وكان المصريون في أثناء الحصار، يحفرون حفراً تحت أساسات الأسوار، ويضعون فيها البارود ويضرمونها بالنار، فتهدم ما فوقها من البنيان.
ولما كان يوم الجمعة الموافق من ذي الحجة سنة 1247 هجرية، صمم إبراهيم باشا النية، بقيام هجمة قوية، لينتهي بها الحال، وتكون واقعة الانفصال، فجمع أركان حربه إليه، وأخبرهم بما قد عول عليه، وأعطاهم الأوامر والإرشادات اللازمة، المتعلقة بكل واحد منهم في تلك المهاجمة، وعين لها اليوم الثاني من ذلك النهار، وهو السابع والعشرون من ذي الحجة والثامن والعشرون من أيار، ولكن لما كان الأحسن قبل القتال طلب التسليم على أحسن حال، أرسل إلى عبد الله باشا قائداً من العمد، يطلب إليه أخيراً أن يسلم البلد، قبل أن تفوته فرصة الأمان، ويقع في قبضة الأسر والهوان، وأنه غير منفك عن هذا الشأن، ولو تخربت عليه جبابرة الأرض ومردة الجان، فلم يلتفت عبد الله باشا إلى هذا التحذير والتنذير،(1/957)
وعده من باب الخوف والتقصير، وقال للقائد المذكور: إن مدة الحصار لم تتجاوز بعد سبعة شهور، والمدينة بحمد الواحد الأحد، مشحونة بالسلاح والعدد، وفيها من الجبخانات، والذخائر والعلوفات، ما يكفيها خمس سنوات، فمتى جاء الوقت المعهود، وفرغ الزاد والبارود، وانقطع عنها الإمداد والإسعاف، ننظر حينئذ في إنهاء هذا الخلاف. فلما عاد القائد إلى مولاه، وبلغه جواب عبد الله، تعجب من وقاحته وحار وأمر بإطلاق المدافع على الحصون والأسوار، فأطلق طول ذلك الليل، وانصبت على البلد كعارض السيل، ولما كان الصباح، تأهب العسكر للهجوم والكفاح، فقرعت الطبول، ولمعت النصول، وخفقت الرايات ونفخ النفير، وانقسمت الآليات إلى فرق وطوابير، وسارت العساكر، كالأسود الكواسر، بحسب صدور الأوامر، طالبة القلاع والأبراج، بدون خوف ولا انزعاج، وفي مقدمتها هاتف السعد والإقبال، ينشد قول من قال:
هيا بنا هيا بنا ... للحرب نلقى ضدنا
نحن الأسود الكاسرة ... نحن السيوف الباترة
من أرض مصر القاهرة ... سرنا وقد نلنا المنى
هيا بنا هينا بنا ... للحرب نلقى ضدنا
نحن الجهاديون لا ... نخشى غباراً إذ علا
ولم ندق في البلا ... صدراً إذا الموت دنا
هيا بنا هيا بنا ... للحرب نلقى ضدنا
بارودنا شراره ... يشوي الوجوه ناره
وسيفنا بتاره ... من العدى تمكنا(1/958)
ولم تكن إلا ساعة من النهار، حتى أشرفوا على الأسوار، واندفقوا عليها كالبحار، وكان أول من هجم بأمر إبراهيم، طابور من الألاي العاشر على برج كريم، الكائن في الجهة الغربية، من الأسوار الشمالية، ثم أتبعه على الأثر ثلاثة طوابير أخر، تحت قيادة الشجاع الشهير، إبراهيم باشا الصغير، وهو والد جناب حيدر باشا وخليل باشا يكن، أصحاب الخلق الجميل والصيت الحسن، وانعطفوا بحملاتهم أسرق من البرق، على الكائنة تجاه الشرق، وكانت أكثر هذه المواضع، مثقوبة بكلل المدافع. وأما أسد الآساد، وسيف الجهاد، وقائد القواد، فكان سائراً على أثر العساكر، وبمعيته طابوران من الألاي الخامس والعاشر، وكان يجول على ظهر جواده، بين صفوف فرسانه وأجناده، وهو يشجعهم بالكلام، وينشطهم على الهجوم والاقتحام، ويعدهم بالمكافأة والإنعام، فلله درهم من فرسان وأبطال، ما أشدهم في الحرب والقتال، وأثبتهم في ميدان النزال، على المخاطر والأهوال. وكان الرصاص يتناثر عليهم كالبرد، من الأبراج ومتاريس البلد وهم ثابتون ثبات الجبابرة، أو الأسود الكاسرة، غير مبالغين بالخطر، طمعاً بالنصر والظفر، وبلوغ القصد والوطر، بل كانوا يهجمون، على الأسوار والحصون، بهمم وعزائم، أمضى من الصوارم، وينصبون عليها السلالم، ويتسلقون فوقها كالضراغم، هذا ولم ينتصف النهار، حتى تمكنوا بالقوة والاقتدار، على أكثر الحصون والأسوار، ونشروا عليها بيارق الانتصار، فاستولى الطابور الثاني، على المراكز والمباني، التي في الناحية الشرقية، المتصلة بأطراف الأسوار الشمالية، واستولى الطابور السادس، من الألالي الخامس، على جميع الصوايح، التي في جهة النبي صالح، وهكذا استولى الألالي الاحتياطي،(1/959)
على المتاريس الواقعة بقرب الشاطئ، فلما رأى عبد الله باشا ذلك الهول العظيم، والخطب الجسيم، ندم على عدم الطاعة والتسليم، وعلم أن نجمه قد سقط، وعقد عزه قد انحل وانفرط، وأنه عما قريب يؤخذ أسيراً، ويقاد أمام عدوه ذليلاً حقيراً، بعد أن كان والياً ومشيراً، ولكنه أظهر الصبر والجلد، وسار بالعسكر إلى خارج البلد، بقصد المدافعة والممانعة، وسد أبواب الهجمات المتتابعة، فخاض ساحة المعركة، وجرت بينهم وقعة مهلكة، قتل فيها من قواد المصريين، وأبطالها المشهورين، الشجاع المقدام، إسماعيل بك القائم مقام، وبموت هذا الأسد الغضنفر، ارتد جيش المصريين وتأخر، وضعفت عزيمته وتقهقر، فلما رأى إبراهيم باشا أن العسكر، قد أمسى في ارتباك منكر، خشي من الهزيمة والانكسار، بعد ذلك الفوز والاستظهار، فتقدم نحو جنوده بحرسه، وهو راكب على ظهر فرسه، وجعل يحرضهم على الثبات والجهاد، ويحثهم على الصبر والجلاد، ويقول هذا يوم الانتصار، هذا يوم الافتخار، هذا يوم بلوغ الأوطار، فكانوا تارة يتقدمون وتارة يتأخرون، فعند ذلك سل سيفه من غمده، وانعطف بالحملة أمام جنده، واقتحم مواكب الأعداء فشق الصفوف والكتائب، وأظهر بشدة شجاعته وبسالته العجائب، فتشجعت عزيمة العساكر، من هيبة هذا البطل الكاسر، وداخلتهم الحماسة والفتوة، وكروا على أعدائهم بكل نشاط وقوة، فسدوا عليهم الطرق والطرائق، وأثخنوهم بضرب السيوف والبنادق، وأزاحوهم إلى ما وراء الخنادق، ثم قويت عزيمة المحصورين، وانعطفوا بالحملة على المحاصرين، وحينئذ اختلط الرجال بالرجال، والأبطال بالأبطال، والتحم القتال، واتسع المجال، وعظمت الأهوال، وجرى الدم وسال، وتمكنت الصوارم، في الرقاب والجماجم، والحراب والخناجر، في الصدور(1/960)
والخواصر، وكان يوماً من أعظم الأيام، وساعة يشيب من هولها رأس الغلام، لأن الدماء كانت تسيل كالمطر، والجثث تتساقط على الأرض كأوراق الشجر، والسهول والتلال، تهتز من ضجيج الرجال، وأصوات المدافع التي تزعزع الجبال، حتى خيل للنظار، في ذلك النهار، أن الساعة اقتربت، والأرض ارتجت واضطربت، والسماء غابت واحتجبت، والمدينة احترقت وانقلبت، ولقد أحسن المقال، وصدق من وصف عكا في ذلك وقال:
قد قيل أن جهنماً تحت الثرى ... مالي أراها فوق عكة تضرم
لو لم تكن دار الشقاوة عكة ... ما أضرمتها بالشرار جهنم
واستمرت تلك المعاركة، والمهاجمة المتداركة، من الصباح إلى بعد العصر، حتى هبت ريح النصر، وكانت قد كلت جموع عبد الله باشا، وانحل عزم نشاطها وتلاشى، وعجزت عن حماية البلد، ولم يعد لها أدنى ثبات ولا جلد، فألقوا سلاحهم، وسلموا أرواحهم، خوفاً من حلول البوار، ونزول الدمار، وطلبوا لأنفسهم الأمان، واختاروا الأسر والهوان، وانصبت العساكر المصرية كالسباع، واندفعوا على البلد أشد اندفاع، بقلوب لا تخشى الموت ولا ترتاع، وتسلموا باقي الأبراج والقلاع، واستولوا على مدينة عكا عنوة وقهراً، بعد انحصار سبعة أشهر براً وبحراً، وتسلم إبراهيم باشا زمام تدبيرها، وقبض على عبد الله باشا وزيرها، وألقاه تحت الحفظ والترسيم، بعدما وبخه على فعله الذميم، وسلوكه الغير المستقيم. وفي اليوم الثاني وهو يوم الأحد، نزل في قصر البهجة خارج البلد، وهو أحد القصور، المختص بعبد الله باشا المذكور، ولما استقر في ذلك المكان، خرج إليه الأكابر والأعيان، وطلبوا منه الأمان، فأجابهم إلى ذلك الشان، وعاملهم باللطف والإحسان، ثم أمر(1/961)
بكتابة الأوامر والمراسيم، إلى ولاة المدن والأقاليم، يعلمهم بذلك الفتح والنصر، وأنه استولى على عكا بالقوة والقهر، فكتبت في الحين، وأرسلت إلى الولاة والمحافظين، وهذه صورتها: بعد السلام عليكم، المنهى إليكم، إنه نهار أمس، عند طلوع الشمس، زحفت عساكرنا المصرية الظافرة، بالقوة والسطوة القاهرة، واندفعوا على مدينة عكا اندفاع الأسود الكاسرة، وبادروها بالمهاجمة، واقتحموها بالمصادمة والمقاومة، إلى أن فتحوها بقوة الحرب والنار الدائمة، وصعدوا أسوارها الرفيعة، ووطئوا أبراجها المنيعة، وغدت عساكر الأعداء مقهورة، أما عساكرنا المنصورة. ولما تضعضعت منهم الأركان، ورأوا ما جرى وكان، ورفعوا الرايات وطلبوا الأمان، فأجبناهم إلى سؤالهم، وبلغناهم غاية آمالهم، وعاملناهم بالرفق والإحسان، شفقة على الأهالي والسكان، ورأفة بالبنات والصبيان، والأطفال والنسوان، وأخرجنا عبد الله باشا وكتخداه، وقواد عسكره وزعماه، واستولينا على عكا قهراً بإذن الله، ولأجل إعلان هذه البشرى حررنا لكم هذا المنشور، من ديوان عسكرنا المنصور، لتعلنوا مضمونه بالشنلك والسرور وتواظبوا تأدية الدعوات الخيرية، إلى حضرة باري البرية، بدوام بقاء سعادة ولي النعم، جناب والدنا المعظم. حرر في 28 ذي الحجة سنة ألف ومائتين وسبع وأربعين وختمه تحت الإمضا: سلام على إبراهيم.
وبعد ذلك استدعى بعبد الله باشا فحضر بين يديه، وسلم عليه، واعتذر إليه، وتصور الموت نصب عينيه، فلاطفه وطيب قلبه، وسكن روعه ورعبه، وأجلسه بالقرب من حضرته، وقابله بما يليق بمقامه ورتبته،(1/962)
ثم أرسله إلى أبيه أسيراً، وعند دخوله على أبيه وقع على قدميه مستجيراً، ملتمساً منه الرضى، والعفو عما قد مضى. فلما رأى حاله، صفح عنه وأذهب أوجاله، وأنزله في أحسن السرايات، وأجرى له ما يلزمه من الحوائج والنفقات، ثم أرسله بالتكريم إلى دار السعادة، فبعد وصوله أرسلته الذات الشاهانية شيخاً على حرم المدينة الشريفة ذات السيادة. ولم يزل في المدينة عدة سنين، حتى توفي بها سنة ألف ومائتين ونيف وخمسين.
الشريف عبد الله باشا بن الشريف محمد بن الشريف عبد المعين ابن الشريف عون بن الشريف عبد المعين بن الشريف عون بن الشريف محسن المكي.
بدر فضل قد ترقى على مدارج الصعود، ومشكاة أصل قد اقتبس من نورها طالع اليمن والسعود، وبحر نوال قد احتوى على أفنان الرغائب، وجد كمال قد استوى على عرش المناقب، سرى في معارج السعادة حتى وقف على الأعلى، وجرى في مناهج السيادة إلى أن كشف الجلي منها والأجلى:
طيب النبوة فيه عنه يخبرنا ... بأنه ثمر من دوح طوباها
كريم نفس من الإحسان قد جبلت ... منه الطباع وإن الفضل أعلاها
ذات من اللطف صاغ الله عنصرها ... وقد كساها حلاها حين سواها
لم يظفر الوهم يوماً في تصورها ... ولا يزور خيال الوهم مغناها
تردى برداء الفضائل فكان لها مظهراً، وتصدى لورود الأفاضل فكان لها مورداً ومصدراً، وجمع المحاسن الداعية لطواف الأحاسن حول(1/963)
كعبة ذاته، وطبع القلوب على الشغف بمديح أفعاله ومليح صفاته، واشتهر قدره في العالم اشتهار الحسن للقمر، وانتشر ذكره بين الأنام انتشار العبير في حدائق الزهر، وتسامى علاه بالمجد إلى أن سما فوق المجرة، وترامى على أقدامه فرقد السعد وحفه بأنواع المسرة، وبسم له ثغر الدهر مبشراً له بنوال مناه، ورسم له من جلي القدر وعلي الذكر ما تقر به عيناه، ولاحظته عين الإمداد بإيثار البر والندى، وصافحته يد الإسعاد براحة الإرشاد والهدى:
انظر إليه ترى بدراً وشمس علا ... وقطب فهم وعلم زان بالعمل
وليس يشبه هطل السيل نائله ... هذا الذي جوده قد جل عن ملل
هيهات يحصي ذوو الأقلام ما اجتهدوا ... أوصافه الغر ذات العز والجزل
حقق ترى جملة الأوصاف شيمته ... كأنه قد براها الله في رجل
قد ألبسه الفخار تاج التوقير والإجلال، وحرسته عين الحماية عن معاكسة الآمال، وجذبته يد الأماني نحو كل مطلوب، وجبذته يمين التهاني إلى كل محبوب ومرغوب، وتهادت بنشر أريجه زهر الربا، وتوالت بنقل عطر أخباره نسمات الصبا، وتبدى في أفق السمو فكان شمسه المنيرة، وتردى بموجب الثناء فاستوجب قليله وكثيره، وتكلل بإكليل المعالي فكان لإمارة الحجاز لي عهدها، وتسلسل نسبه الشريف في الأعالي فكان لراية الاعتزاز علي مجدها:
هذا هو الشهم الذي حاز العلا ... وجلت لنا الألطاف رفعة قصده
والماجد البطل الذي للارتقا ... لا زال يرفعه الزمان بجده
تالله هذا للفضائل حلية ... ولجيد هذا العصر لؤلؤ عقده(1/964)
فلعمري لقد أنار الله به ربوع الفضائل، وأدار على محور عليائه مدار شمائل الأفاضل، ونشر للخافقين أجنحة الثناء عليه، وجمله بما كمله به من العواطف النبوية الآيلة بالإرث إليه، وخفضت هيبة جلالته العيون عن النظر في محياه، وحجبت عظمة ذاته المصطفوية الظنون عن توهمها إحصاء نعمته وحلاه:
فهو الهمام الذي صحت سيادته ... واشتق من خير خلق الله عنصره
مهذب فطن كادت فراسته ... عما بقلبك قبل القول تخبره
من معدن المجد حقاً كان هيكله ال ... عالي وكاد فؤاد اللطف يضمره
هذا وإن غوامض فكره تحكي الدراري عداً، وفرائض شكره لم تبلغ الألسنة لها حداً، فاق على الكرا بكرمه المشهور، وراق لديه الإنعام حتى صار به كالعلم المنشور، ونحته المعالي إلى أن وقفت ببابه وتخيرته لأن تكون مقصورة على سموها بجنابه:
ربيع إذا ما زرته زرت روضة ... يفتح فيها جوده حدق الزهر
إذا يده البيضاء أخرجها الندى ... فقد نلت ما ترجوه من وافر البر
فكم من بيوت شادها فيض كفه ... فأضحت تجيد المدح بالنظم والنثر
فحدث وقل ما شئت في شأن فضله ... فقد صح عندي أنه زينة الدهر
فلا ريب أنه عماد بيت قد ارتفعت بالشرف علائمه، ومفرد وقت قد ارتقت على ذروة المجرة دعائمه، وملاذ يمن لمن أم ساحة إشراق بدره، ومعاذ أمن لمن يممه مشفقاً من إملاق دهره، كيف لا وهو الذي استرق الأفئدة نوالاً، واستحق الأثنية جمالاً وكمالاً، مع كونه مجلي دقائق العلوم، ومولى من تحلى بفهم حقائق المنطوق والمفهوم:
من كان يجهل في الأنام كماله ... فأنا الذي أرويه من أنبائه
فيمينه كنز العطية والغنا ... وشماله لم تدر جود عطائه(1/965)
وصفاته نجم السماء يعدها ... وجبينه للدهر بدر سنائه
وكلامه الدر الثمين وعلمه ... قد فاق ضوء الشمس في إهدائه
ولد حفظه الله تعالى وأبقاه، وأعلى في معارج السعادة والسيادة مرتقاه، في أوائل ذي الحجة الحرام، سنة ألف ومائتين وتسع وخمسين من هجرة جده سيد الأنام، فبسمت له ثغور الأفراح، وحل طالع سعده في برج الإقبال والنجاح، ولحظته عين الرئاسة منذ كان طفلاً، ونظرته حدقة الفراسة فوجدته لكل رفعة أهلاً، ولقد تمثل الدهر لوالده المعظم بين يديه، وغدا يشدوه مهنئاً له بما لديه:
بملاذنا غوث الأنام لك الهنا ... أبداً وقابلك الزمان بسعده
قد خصك المولى الكريم به وقد ... ود الهلال يكون خادم عبده
فرفع قدم الصعود منذ كان صبياً، وارتفع على كاهل السعود فكان من ابتداء أمره علياً. ولم يزل مذ كان في حجر أبيه، تنميه يد الإجلال وتربيه، وهو يعرج على مدارج الكمال، وينتقي أعلى الشمائل والخصال، ويتخلق بأخلاق السادة ممن سلف، ويتحقق بحقائق ذوي السعادة والشرف، وذلك في البلدة المكرمة، والبقعة الشريفة المعظمة، مكة التي بها أميطت عنه التمائم، وتحلت بعقود حلاه أجياد الفضائل والمكارم، محوطاً بسور إمارة والده على الأقطار الحجازية، وكان الذي ولى والده هذه الإمارة العلية، حضرة المرحوم السلطان محمود سنة ألف ومائتين وسبع وستين. وحينما انفضل والده من الإمرة توجه إلى الآستانة العلية بطلب أمير المؤمنين، فتوجه معه المترجم وكان عمره ثماني سنين، فقرأ القرآن العظيم وأجاده، ثم أقبل على طلب العلم فوق العادة، ونهج مناهج(1/966)
الصدور والأعيان، وعرج معارج السادة ذوي الفضل والشان، واستدام حفظه الله على ذلك، سالكاً في مستقيم هذه المسالك، إلى أن عاد والده الشريف إلى الإمارة العلية، سنة ألف ومائتين واثنتين وسبعين هجرية، فعاد مع والده لوطنه وبلدته، ومحل ولادته ونشأته، فنما بها ونحا نحو المعالي والصعود، وسما إلى أن استوى على مطالع اليمن والسعود، ولازم أهل العلم والفضل، وتحلى بالعبادة واللطافة والعقل، متكللاً بإكليل النباهة والأدب، متكملاً بجميل المجد وجليل النسب، حاسماً مادة الخروج عن المنهج الأكمل، راسماً على نفسه أن يترقى في أطواره عن كل جميل إلى أجمل، ولم يزل إلى أن طلع في سماء الهداية بدراً، وارتفع على أسره العناية فكان لها هامة وصدراً، وزرع في القلوب حب المحبة، فأثمرت سنابلها كل سنبلة ألف حبة.
وفي سنة ألف ومائتين وأربع وسبعين في شهر شعبان، توفي والده الشريف وانتقل لأعلى الجنان، وكان قد بلغ من العمر سبعين سنة، جعل الله ذروة الفردوس مقره ومسكنه، وكانت مدة إمارته أولاً أربعة وعشرين عاماً، وثانياً سنتان وجملة إمارته ستة وعشرون عاماً تنقص أياماً، وبقي المترجم بعد موت والده مستقيماً في البلد الحرام، وكان له بها التقدم ورفعة المقام.
وفي سنة سبع وتسعين توفي أخوه الشريف حسين باشا وكان بعد موت والده على الحجاز أميراً، فمات شهيداً وفاز مع الذين جزاهم بما صبروا جنة وحريراً، فتولى حضرة المترجم الإمارة بطريق الوكالة، إلى أن حضر الشريف عبد المطلب إلى الحجاز أميراً بالأصالة، ثم في السنة المذكورة في رجب، توجه إلى الآستانة وكان قد توجه له من الخليفة الأعظم طلب، وفي ذي الحجة من السنة المذكورة، عاد بالرخصة إلى وطنه وبلدته المشهورة، وبقي هناك إلى سنة تسع وتسعين، فانفصل الشريف عبد المطلب(1/967)
آخر شوال فكان المترجم لوكالة الإمارة خير أمين، ولم يزل إلى أن شرف أخوه عون الرفيق باشا من الدار العلية، فاستوى من إمارة الحجاز على سدتها السنية، وفي أواخر ربيع الأول سنة ثلاثمائة وألف، عاد سيدنا المترجم إلى دار السعادة بكل تكريم ولطف، فعينه مولانا أمير المؤمنين السلطان عبد الحميد خان، عضواً في شورى الدولة مع توجيه الوزارة ذات القدر والشان، وهو بحمد الله لم يزل عالي القدر، رفيع المرتبة عميم الشهرة والذكر، وافر العلم والعمل، نائلاً من الرغائب كل مرام وأمل. وفي سنة ألف وثلاثمائة وسبع في ذي القعدة الحرام، حينما توجهت لدار السعادة دار العز والاحترام، تشرفت بالحضور لديه، والمثول بين يديه، فأفرغ علي حلة سروره، وقابلني ببشره وحبوره، وأنالني من إقباله فوق ما يتعلق به الأمل، وأولاني من أفضاله والتفاته ما ألبسني ثوب الخجل، وحباني من رعايته ما أغرقني ببحر فضله، ولا غرو إن الشيء لا يستكثر على أهله.
الأمير عبد الله باشا فكري بن الأمير محمد أفندي بليغ بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد المصري رحمهم الله تعالى أجمعين
هذا الأمير حيا الرضوان منه تلك الشيم، وعامله بالمن والإحسان والجود والكرم، إن لم يكن فوق أبي تمام، فهو نظيره في النثر والنظام، وإن كل ناطق بلسان، وعارف بحسن واستحسان، مجمع على(1/968)
فضله الذي اقتضى لذكره التخليد، فالعالم عرفه بعلمه والجاهل قال بالتقليد وهو منذ لاح هلاله في أوجه، وحل نجم سعوده في برجه، يطير صيته في الأقطار، ويسير ذكره في البلاد والأمصار، وحينما شرف إلى الشام هو وولده أمين بك الهمام حصلت بيني وبينه مودة، ومجالس اجتماعات لمذاكرة الأدب معدة، ولقد رأيت من فضله ما لم أكن رأيته قبل ذلك، وشاهدت من بديع كمالاته ما لم أكن شاهدته من قبله لسالك. فلعمري هو المعروف بأصله وفصله، والمشهود له بنبله وفضله، له المقام الأحظى، والمعارف التي ملأت سمعاً ولحظا، وهو منذ حلت عنه تمائمه، ونيطت عليه عمائمه مخطوب الحظوة عند الأنام، مطلوب الاتصاف بكل فضل ومرام.
تروى محاسن لفظه وكأنها ... درر وآراء كمثل دراري
ومآثر قد خلدت فكأنها ... غرر وعزم مثل حد غرار
ولد رحمه الله في أوائل شهر ربيع الأول، من شهور سنة ألف ومائتين وخمسين من هجرة السيد المكمل، ومن غريب الاتفاق الموقع في العجب العجاب، أن تاريخ ميلاده وافق جمل قوله تعالى: " قال إني عبد الله آتاني الكتاب " وجمل ذلك ألف ومائتان وخمسون، وهذه الموافقة المتفاءل بها على كماله من أعجب ما يكون، وكان له في الكتابة النفس العال، ولأسلوب الذي ليس له مثال، حتى قيل فيه أنه لو تقدم به الزمان، لكان له بديعان، أعني المترجم وعلامة همذان، مع الديانة والعبادة، والورع والزهادة، والصلاح والتقوى، والإخلاص في السر والنجوى. ولقد حفظ القرآن المجيد، وأتقنه وجوده غاية التجويد، ثم اشتغل في طلب العلم في(1/969)
الجامع الأزهر، والمكان الأنور، وتلقى العلوم المعروفة المنقولة، والرياضيات المشهورة المعقولة، عن سادة أفاضل، معروفين بالفضائل، كالشيخ إبراهيم السقا والشيخ محمد عليش والشيخ حسن البلتاني وغيرهم من السادة العظام والعلماء الأعلام، من أهل الفروع والأصول، والمعقول والمنقول، ثم اتصل بخدمة الحكومة السنية، بعد أن أتقن اللغة التركية، وذلك في أوائل جمادى الآخرة، سنة ألف ومائتين وسبع وستين من الهجرة الفاخرة، ولم يزل ينتقل من مكان إلى أعلى، ومن محل إلى أولى، إلى أن توفي وزير مصر سعيد باشا رحمه أرحم الراحمين، وذلك سنة ألف ومائتين وتسع وسبعين، وخلفه الوزير إسماعيل باشا على البلاد المصرية فذهب المترجم المرقوم معه إلى الآستانة العلية، لاستلام تقليد الولاية وأداء التشكر للحضرة السلطانية. وفي عام اثنين وثمانين ترقى إلى رتبة " بيك " المعروفة بالرتبة الثانية، ولم يزل بعد ذلك يتنقل إلى المقامات السامية، وفي سنة ست وثمانين نقل إلى ديوان المالية، وفي سنة ثمان وثمانين جعل وكيل ديوان المكاتب الأهلية، وفي سنة أربع وتسعين وجهت إليه رتبة المتمايز، وفي سنة ست وتسعين صار وكيلاً لنظارة المعارف العمومية فكان لها حائزاً وأي حائز، وترقى إلى رتبة ميرميران، ثم ضمت إليه وظيفة الكاتب الأول بمجلس النواب مع بقاء الوظيفة المتقدمة الذكر العالية الشأن، وفي سنة تسع وتسعين فوضت إليه نظارة المعارف العمومية، في ضمن النظار الذين كان منهم عرابي باشا صاحب الوقعة المصرية، وفي سنة تسع وتسعين استقال من وظيفته، مع بقية النظار الذين كانوا في معيته، بناء على ما حصل من الفتنة والاضطراب، والخلف بين العرابيين وحضرة الخديوي فخيم الجناب، أثناء الحادثة العسكرية المشهورة، وفي أواخر السنة المذكورة(1/970)
عقب الثورة العرابية، طلب المترجم في الضبطية، وسجن مع المتهمين من العلماء، وغيرهم من الأكابر والأمراء، ومنعوا عنه معاشه، وتكلم فيه بعض حاسديه بكل قباحة ووحاشه، بما ليس له حقيقة، ولا أصل ولا طريقة، وتكرر عليه السؤال، وتكدرت عليه الأحوال، ولما ظهرت براءته، وانفرجت عنه مساءته، خرج من السجن المعلوم، وظهرت براءته لدى العموم، فنظم قصيدة بارعة سارت مسرى الأمثال، يمدح بها الجناب الخديوي ويتبرأ مما افتراه عليه الجهال، ولما عرضت على حضرة الخديوي أجلها، وأحلها من القبول محلها، وطلبه للمثول بين يديه، وأقبل عليه بكليته وأعاد معاشه إليه، فنظم قصيدة ثانية ضمنها واقعة الحال، مع التنصل مما نسب إليه والتشكر على ما نال، وفي سنة ثلاثمائة واثنتين توجه إلى الأقطار الحجازية، لأداء فريضة الحج الشرعية، فاجتمع بأكابر علمائها، وأفراد فضلائها وأدبائها، فاعترفوا له بقدره، وصدق كل منهم على ارتقائه في سره وجهره، وله في هذه السفرة رحلة جليلة، قد احتوت من بديع النظم والنثر على كل نكتة جميلة. وفي سنة ثلاثمائة وثلاث سافر من مصر لزيارة بيت المقدس والخليل والشام، ومعه حضرة نجله عز تلو أمين بك الشهم الهمام، فحينما حضر اعترف له الجميع بكماله، وأنه يندر في هذا الوقت وجود مثاله، وشهد له فقاؤهم بالتضلع من علوم الشريعة، وفصحاؤهم بالبراعة في كل بديعة، ومحدثوهم بصحة الرواية، وعقلاؤهم بكمال الدراية، ولا يزال أثره بينهم مأثوراً، وفضله على ألسنتهم مذكوراً، ثم رجع من دمشق إلى بعلبك وأخذ طريق الجبل إلى بيروت، وألوان الزهور في طريقه وأرجها يغني عن الشراب والقوت. وقد كان رحمه الله من الطبقة الأولى في النظم والنثر، ومن الفرقة الذين انفردوا بالجاه والرفعة والقدر، قد اشتهر ببراعة القلم في(1/971)
ريعان
شبابه أيام كانت مصر خالية من الكتاب، يقل فيها الناظرون إلى لباب الآداب، وكان على تأخره في الزمان، يذهب في نثره مذهب أهل القرون الوسطى من أبناء اللسان، تمتزج عباراته بالأرواح رقة، وتسري معانيه إلى عمائق القلوب دقة، ولا شيء أسلسل من سجعه، إلا ما وهب من طبعه، وغاية ما أقول أن شهرته رحمه الله في النثر والشعر معلومة تغني عن إطالة الكلام. شبابه أيام كانت مصر خالية من الكتاب، يقل فيها الناظرون إلى لباب الآداب، وكان على تأخره في الزمان، يذهب في نثره مذهب أهل القرون الوسطى من أبناء اللسان، تمتزج عباراته بالأرواح رقة، وتسري معانيه إلى عمائق القلوب دقة، ولا شيء أسلسل من سجعه، إلا ما وهب من طبعه، وغاية ما أقول أن شهرته رحمه الله في النثر والشعر معلومة تغني عن إطالة الكلام.
وكان من حال شبابه له في أكثر العلوم تضلع وإلمام، فكان يكتب للملوك والأعيان، على لسان الدولة المصرية ذات القدر والشان، ولا يقدر أحد من أهل الأدب، أن يقلده إذا أنشأ أو كتب، فكأن هذا الأمر قد انتهى إليه، ودار مدار قطبه عليه، وقد نوه بفضله وعلو قدره، كثير من ذوي مصره وأهالي عصره، منهم الأديب الماهر، والناظم الناثر، أحمد أفندي فارس صاحب الجوائب والرأي العال، فقد ذكره في كتابه سر الليال، حين تكلم على السجع فقال: وممن برع فيه في هذا العصر، وحق لديه العلو والفخر، في الإنشاءات الديوانية، وهي عندي أوعر مسلكاً من المقامات الحريرية، الأديب الأريب الفاضل العبقري، عبد الله بيك فكري المصري، فلو أدركه صاحب المثل السائر، لقال كم ترك الأول للآخر. فسبحان المنعم على من يشاء بما شاء، ومن أجل تلك النعم الإنشاء.
ومن إنشائه كتاب له في زمن جناب إسماعيل باشا الخديوي السابق على لسان سعادة علي باشا مبارك ناظر المعرف العمومية إلى المرحوم سلطان باشا حين كان مفتش الأقاليم الصعيدية يستحثه فيه على ترويج جريدة روضة المدارس وهي صحيفة استحدثت إذ ذاك في ديوان المدارس.
قال رحمه الله بعد ديباجة الكتاب:(1/972)
لا يخفى أن تقدم الأمة في طريق التمدن، ورسوخ أقدامها في ذروة التمكن، إنما يكون بواسطة عظمائها وعلمائها، وفضلائها ونبلائها، وهذا إنما يمكن الوصول إليه، والحصول عليه، بنشر آثار بيانهم، واستفادة العامة من استفاضة أنوار أذهانهم، وهذا أيضاً لا يتأتى إلا بالوسائل النشرية، أي بوسائط الصحف الدورية العلمية والخبرية، وهذه إنما تستقيم سوقها، وتنفق سوقها، بواسطة أعيان الأمة الكرام، وترويجهم لها عند الخاص والعام، وهذا كما يقال تشبيب بعده مديح، وتلويح يعقبه توضيح وتصريح، والغرض من هذه الوسائط المتصلة، والوسائل المتسلسلة، إنما هي روض المدارس وهي روضة ابتدئ غراسها، وجنة أنشئ أساسها، فإن ساعدها الإقبال بإقبال سعادتكم عليها، وتوجيه نظر أولي العوارف والمعارف إليها، رويت بماء الفضل والإفضال، وانتعشت بنسمات الكمال والجمال، فعند ذلك تتنوع أشجارها، وتتضوع أزهارها، وتينع ثمارها، وتثبت أصولها، ويكثر محصولها، وتتسع مزارعها، وتعم الأمة منافعها، وإن نالها من الإغماض سموم الإدبار، وأصابها من الإعراض إعصار فيه نار، خصوصاً وهي قريبة العهد بالوجود، عاطشة لماء الفضل والجود، ذبلت أغصانها، وذوت أفنانها، وانتثرت أوراقها، وسقطت ساقها، وأنتم أولى من يغار للفضل وأسبابه، وينهض ويستنهض غيره لفتح بابه، لا سيما وإقليم الصعيد، أول ما عمر من هذا القطر السعيد، وقد صار والحمد لله سلطان الفضل به ظاهراً، وصادف من العناية العلية الخديوية قوة وناظراً، والمرتب فيه الآن، من روضة المدارس نسختان لا غير، وهو أقل القليل بالنسبة لمن به من أهل الفطنة والخير " إلى آخره ". ومن إنشائه مقدمة وجيزة له، في محاسن آثار الداروي المعظم محمد علي الكبير وأخلافه(1/973)
قال: بك اللهم نستفتح باب النجاح، ونستمنح أسباب الفلاح، وبالثناء عليك بجلائل أسمائك، نستوهب المزيد من جزيل نعمائك، وباستدعاء صلات صلاتك على خير الشفعاء لديك، نتقرب به ونستشفع به إليك، فإنه أكرم الخلق عليك، باسطين على أبوابك أكف السؤال، متوسلين إلى جنابك ببضاعة الرجاء وضراعة الابتهال، أن تديم دولة أمير المؤمنين، وأمين أمور المسلمين، خليفة رسولك الأمين، على من استرعيته من العالمين، وتعز به الملك والدين، أبد الآبدين، وأن تمتع بطول الدوام، وحصول المرام، حضرة عزيز مصرنا، وغرة وجه عصرنا، وتحفظ له أنجاله الأمجاد، وتبلغه من حسن أمرهم ما أراد، وأن تديم توفيقه لما فيه صلاح حالنا ومآلنا، ونجاح أعمالنا وآمالنا، وفوز أوطاننا بأوطانا، وسمو أقدارنا بأقطارنا، وأن تعين أمراءه وعماله وأمناءه، على معاضدته في أعماله الناجحة، ومساعدته على آماله الراجحة، وأن توزعنا شكر نعمك، وتودعنا بر كرمك، وتهدينا سبيل الرشاد، وتوفقنا للخير والسداد، " كي نسبحك كثيراً، ونذكرك كثيراً، إنك كنت بنا بصيراً ".
وبعد فلما كان التحدث بالنعمة طاعة، والشكر عليها واجباً على قدر الاستطاعة، كان علينا أن نحلي بنان البراعة، ونطلق في ميدان البلاغة عنان اليراعة، بذكر ما أنعم الله به على هذه الديار السعيدة الجد في عهد عزيزها الأسعد، ووالده الماجد وجده الأمجد، وقد أفادت التواريخ العظيمة بإجماعها، وشهدت الآثار القديمة بلسان إبداعها، إن هذه الديار، كانت في سالف الأعصار، قدوة الأمصار، في المجد والفخار، وكعبة الفضل التي يحجها كل ناجب، من كل جانب، ومدينة العلم التي يقصدها كل طالب، من الأجانب، ليستفيدوا من أهلها عوارف معارفهم، ويستزيدوا في طرائف لطائفهم، ويتعلموا عليهم، ما لم يكن إلا لديهم، من الصنائع العجيبة، والبدائع الغريبة، فهم الذي سهلوا سبل البراعة لسالكيها،(1/974)
وذللوا أعنة الصناعة لمالكيها، على حين كان غيرها لم ينشق عن صبح المعارف ظلامها، ولا انزاح عن وجه التمدن لثامها، فكانت مصر أم الدنيا تقدماً وتقديماً، وأهلها آباء الناس تربية وتعليماً، وكان الكل عيالاً عليها، وأطفالاً بالنسبة إليها، وناهيك دلالة على فضلها القديم، ما حكاه أفلاطون الحكيم، أن سولون الفيلسوف الكبير، أحد حكماء اليونان المشاهير، لما قدم إلى إقليم الغربية، ليمارس العلوم والمعارف الحكمية، وذلك قبل المسيح عليه السلام، بنحو من سبعمائة عام، قال له قسوسها: يا سولون إنما أنتم معاشر اليونان بالنسبة إلينا أطفال، ليس فيكم من شيخ يعد في الرجال، إلى آخر ما قال. وحسبك من بقاياها، ما تراه في خبايا زواياها من بدائع الأسرار المرموزة، في روائع الآثار المكنوزة، التي سارت بأحاديث فضلها الأيام فهي نجائب، وعقمت عن إنتاج مثلها حبالى الليالي التي تلد العجائب، فهي أحدوثة الزمان، وأعجوبة الإمكان، وبكر الفلك الدائر، ويتيمة الدهر الداهر، وقد طالما حاولت يد الزمان الغالب أن تعفي آثارها، وطاولت همم المتغلبين عليها من الملوك الأجانب دمارها، فلم تزل منها بقية يغالبهم إفناؤها، ويعاندهم بقاؤها، حتى شلت عنها يد الأعادي، وملت منها غوادي العوادي، وحتى خضعت لديها أرباب الأفكار العالية، وتقطعت عليها رقاب الأمصار الخالية، وحتى لقد هرمت الأيام، وهي متباهية بشبابها، وتصرمت الأنام، وهي باقية بين أترابها، ناطقة ببراعة عبارتها، شاهدة في إشارة حسن شارتها، شاهدة لمصر بما لها من قدم المجد المؤيد، وقدم الصدق في السبق إلى كل سؤدد، على أنها لو جحد الخصم دعواها وهيهات، وطالبها خصمها في محافل الفخر بإثبات ما فات، لكفاها أن تقيم شاهديها الكريمين، من هرميها الهرمين، فيخبرا بما كان، من قبل الطوفان، ويشهدا بما علم من فضلها، وما كان من مجد أهلها، وأنهم كانوا أثبت الناس في التمدن قدماً، وأسبقهم إلى(1/975)
التفنن قدماً، وأطولهم في محاسن الفضائل باعاً، وأميلهم إلى محاسن الشمائل طباعاً، ثم تناولتها الأيادي المتطلبة، وتداولتها الأعادي المتغلبة، فنددوا فضلها، وبددوا شملها، وأتلفوا ما استطاعوا من تلك المعالم، وتفننوا في أنواع المظالم، حتى أصبح مزاج الفضل بها فاسداً، وسوق العلم فيها كاسداً، وربع المعالي خالياً، وبيت الأماني على عرشه خاوياً ولم تزل كذلك إلى أن انتهت إلى المرحوم محمد علي علي الشان، سقى الله ضريحه سحائب الغفران، وأحل روحه رياض الرضوان، فخلصها من مصاعب المصائب، واستخلصها من نيوب النوائب، وصيرها موطنه ومأمنه وحماه، ومنع جانبها من صنوف الصروف وحماه، وبذل الجد في لم شعثها، ولم يأل الجهد في تسهيل دعتها، وأعاد ما سلب الفقر من نضارة نضارتها، ورد ما غصب لدهر من غضارة حضارتها، حتى زهت بحسن علاها وحلاها، ونسيت ما كان من بلائها وبلاها، إلى آخر.
ومن كلام هذا الشهم المصان عليه سحائب الرحمة والرضوان مقالة تليت يوم توزيع المكافأة على تلامذة المدارس والمكاتب بحضور الخديوي السابق إسماعيل باشا المعظم تلاها أحد التلامذة بحضوره وقد جعل في أثناء المقالة أبياتاً مرتبة في مواضع منها، فكلما وصل التالي إلى موضع ترنم بما فيه من النظم جماعة من التلامذة بألحان معجبة، وأنغام مطربة، صنع ذلك حسب الاقتراح، والمقالة المذكورة هي هذه " قال ": يا مفيض الجود على الوجود، ويا جامع الناس ليوم مشهود، نحمدك اللهم حمداً يكافئ مزيد نوالك، ونشكرك اللهم شكراً يستتبع دوام أفضالك، ونسألك أن تهدي لسيد الشاكرين، وأشرف الأولين والآخرين، صلة صلاة تليق بجنابه، وتعم جميع آله الكرام وأصحابه:
أزكى صلاة وأسناها يرادفها ... أزكى سلام على المختار هادينا
وآله الطهر والصحب الأماجد من ... بهديهم قد أقاموا للهدى دينا(1/976)
ونتوسل اللهم بهم لديك، باسطين أكف الضراعة إليك، سائلين من فضل كرمك، متمسكين بحبل نعمك، أن تديم عزة عصرنا، وقرة عين مصرنا، من أعاد لهذه الأوطان العزيزة قديم اشتهارها، وجدد ما اندرس من معالم فخارها، وأجرى ما نضب " قوله نضب أي غار " من منابع يسارها، فأضحت تباهي سائر بلاد الدنيا وأمصارها، ونشر أنوار الفنون والمعارف بين أبنائها، بما أنشأ من المدارس والمكاتب في جميع أنحائها، وما صرف من جزيل كرمه عليها، وما عطف من جليل هممه إليها، حتى أصبح نور العلم والعدل في ظل أيامه فاشياً، وظلام الظلم والجهل بحكمة أحكامه متلاشياً.
في ظل دول إسماعيل قد ظهرت ... في مظهر الشرف الأعلى معالينا
وساعدتنا الليالي وازدهت فرحاً ... أوطاننا وسعدنا في أمانينا
أدامه الله محفوظ الجناب على ... طول الزمان وهناه المنى فينا
ودام أنجاله في عز دولته ... مدى الليالي فهم عز لوادينا
فحق على جميع أهل الوطن الكريم، شكر هذا الجناب الخديوي الفخيم، على ذلك الخير العظيم، والبر العميم، ولا سيما نحن أبناء المدارس الميرية، والمكاتب المحلية، الأهلية والخيرية، فقد نشأنا في ظل عدله، وربينا على موائد فضله، وتعلمنا كل ما تعلمنا بحسن إرشاده، وتقدمنا فيما تعلمنا بمساعدته وإسعاده، فنحن صنائع كرمه، وربائب نعمه، وغرس أياديه الكريمة، وثمرات مساعيه الجسيمة، غرسنا في أرض أفضاله، وسقانا زلال نواله، وتولانا بكامل عنايته، وتعهدنا بعلي رعايته، وسنكون بمشيئة الله وعونه أرواح نجاح، ونثمر بمنه ويمنه للوطن حسن صلاح وفلاح، وها هو أدام الله أيامه، وبلغه من جميع الخير ما رامه، شرع يكافئنا على نعمه بنعمه، وشرفنا في هذا المحفل الباهر بنقل قدمه، كرماً على كرم، ونعمة على نعم، فعلينا من الواجب البين، وجوب الفرض(1/977)
المتعين، أن نجعل أيامناً ظرفاً لشكر نعمته، وأجسامنا وقفاً على حسن خدمته، وألسنتنا مدى الدهر ناطقة بمدحته، وقلوبنا مدة العمر متفقة على طاعته، ومحبته، وأن نبذل في تحصيل رضاه غاية إمكاننا، ونجاري إن شاء الله مقاصده الكريمة في نفع أوطاننا، وحق لنا الآن أن نتهادى بيننا علائم التهاني. ونبشر نفوسنا وأوطاننا بغايات الأماني، وعلينا أن نعلن بعد شكره وشكر حضرات الأمراء العظام، وإعلام علماء الإسلام، وسائر الحضائر الكرام، أدام الله معاليهم، وأسعد بهم أيامهم ولياليهم، وعلينا أيضاً أن نعترف بحسن اجتهاد رؤسائنا معنا في التربية والتعليم، على وفق مقاصد الجناب الخديوي الفخيم، ونقوم لهم بواجبات الشكر والتكريم، شكر الله أياديهم، وتقبل مساعيهم، وأعاد لنا وللجميع في مثل هذه الأيام، عيد هذه العادة الحسنة الخديوية كل عام، ببقاء ولي النعم، الخديوي الأفخم، متعه الله بدوام توفيقه وإقباله، وكامل أشباله الأماجد وأنجاله، وسائر ذويه الكرام، وبلغه غاية المرام.
ندعو له وإله العرش يسمعنا ... فضلاً ويعلن بالإخلاص داعينا
دعاء صدق إذا الداعي استهل به ... يقول سامعه آمين آمينا
ومن كلامه رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه، ما كتبه لبعض أصحابه ذكر فيه من أحوال الذين يلبسون لباس العلم على تماثيل الجهل، وينتحلون النسبة إلى الفضل، وليسوا منها في كثر ولا قل، وقد جاء في ذلك الكتاب على ذكر اللغة العربية وقواعدها، وآدابها وفرائدها، بما فيه تنبيه لغافل، وعظة لعاقل، بعبارات تأخذ بالألباب، إلى جادة الصواب، قال رحمه الله في وصف أشخاص: أما فلان وأترابه، وفلان وأضرابه، فهم أعجوبة الأيام، وأحدوثة الأنام، أحوال متناقضة، وأفعال متعارضة، فكبر وفقر، وعجز وفخر،(1/978)
وأنف في السماء، وقدم في الماء، وحال تحت التراب، ونفس فوق السحاب، إن صدقتهم كذبوا، وإن أرضيتهم غضبوا، وإن تباعدت عنهم لاموا وعذلوا، وإن تقربت منهم سئموا وملوا، كلاب في جلود أسود، وجوه بيض وقلوب سود، صغيرة السيئة عندهم كبيرة، وكبيرة الحسنة لديهم صغيرة، عيون منتقدة، وقلوب متقدة، وألسنة حداد، وأفئدة شداد، وأجسام صحيحة وقلوب مريضة، وجهل طويل ودعاو عريضة، النصح لديهم خيانة، والسوء عندهم ديانة، وقد بذلت في مرضاتهم جهدي، وأجنيتهم مري وشهدي، وقابلتهم باللطف والعنف، وعاملتهم بالنكر والعرف، فلا وأبيك ما زادوا إلا فجورا، وعتوا عتواً كبيرا، ومكراً وشرورا، وكبراً وغرورا، ولو وقف عليهم ليلتي ويومي، وهجرت لديهم راحتي ونومي، وفديتهم بعشيرتي وقومي، ثم أطعمتهم من جسمي، وآثرتهم من العافية بقسمي، لما بلغت من نفوسهم رضاها، ولا أديت من حقوقهم على زعمهم مقتضاها، بل ولو صاحبهم جبريل، وخاطبهم بالتنزيل، وأهداهم الجنة في منديل، وأنزل الشمس إليهم في قنديل، ونظم لهم النجوم عقودا، وشق لهم من المجرة برودا، وصير الأنس والجن لهم عبيدا، وجعل الملائكة لهم بعد ذلك جنودا، وأطلعهم على غيب السماء والأرض، وخبرهم بما كان وما يكون إلى يوم العرض لما أصبح عندهم إلا مذموما، ولا أمسى لديهم إلا ملوما، ولكان منسوبا للقصور والتقصير، والإخلال بالقليل والكثير، قوم هذه طباعهم وتلك أوضاعهم، من ذا يرضيهم بحال، ولو فعل لهم المحال إلى آخر ما قال.
ومن ذلك ما كتبه رحمه الله تعالى إلى الأديب الفاضل، والأريب الكامل الشيخ عبد المجيد أفندي الخاني، يصف له رحلته من الشام إلى بعلبك وما رآه من الرياض البديعة، والمناظر الرفيعة، والمياه الصافية الجارية(1/979)
والنسمات العليلة السارية مما يشرح الخاطر ويسر الناظر، فقال: أهدي إليك من منعشات التحية والسلام، وأتلو عليك من مدهشات الشوق والغرام، ما يجمل أجماله لواصفه، ولا يلزم تفصيله لعارفه، وأحمد إليك الله سبحانه على كرامة السلامة، ومنحة الصحة، حمداً أستفيض به غمام عطائه، وأستفيد به دوام نعمائه، وأقص عليك من أمر الرحلة البعلبكية، نظير ما سلف من خبر الرحلة المكية، وذلك أنا سرنا، يوم ثرنا، من دمشق في طريق دمر، نستحث إليها الضمر، بين مياه تتكسر في مجاريها، ونسائم تتعثر في مساريها، وأشجار تميد بأغصانها، كما تميس الخود بين أخدانها، وأحاديث عن الشام ومبانيها وبهجة مغانيها، ولطف أهليها لا سيما بيت خانيها، تستطيبها الشفاه، وتتعطر بها الأفواه:
فإن أك قد فارقت نجدا وأهله ... فما عهد نجد عندنا بذميم
وأقول:
يا أهل جلق لا زالت مفاخركم ... في المجد تسمو علاها فوق كيوان
أغنت مكارم خانيها نزيلكم ... عن أن يعرج في المثوى على خان
ورب واصف خان لي ألم به ... فقلت حسبك ما قصدي سوى الخاني
فلما جاوزنا دمر عرجنا تعريجة، نبتغي الطريق إلى الفيجة، وبين يدينا مكار، جاهل بها ممار، لا يهتدي إليها سبيلا، ولا يستهدي عليها دليلا، فمشى يخبط بنا خبط عشواء، في بهماء دهماء، لا يدري في أي أنحائها يسير، ولا إلى أي أرجائها يصير، فما زال يخطونا ويخطي، ويسرع ويبطي، حتى وافينا على طريقنا شجرا، ألفينا عنده نفرا، فسلمنا عليهم، وجلسنا إليهم وعرفناهم ما نحن فيه، وعرفونا الطريق الذي نقتفيه، ثم أكلنا ورحلنا، وانبرى معنا شاب منهم خفيف الخطا، وأهدى من القطا، فمضى يتخلل بنا شجر التين، ذات الشمال وذات اليمين، حتى وصل بنا إلى درب دمأته الأقدام، وقال لنا الأمام الأمام، فقال المكارى عرفت الدرب(1/980)
بشارته، وفهمت إشارته، فلا تخافوا دركاً ولا نضل من بعد مسلكاً، فلم يكن إلا أن غاب الشاب، في خلال الغاب، وسرنا نحو ما قصدنا قاب قوسين أو أدنى، وتفرقت على المكاري الشعاب، فأخطأ صواب الصواب وأضل الأسباب، فسلك ذات اليمين طريقاً ترجح عنده، وانقلب على عقبه فسلك ضده، ثم ارتد ثانياً، ولوى عطفه ثانياً، ولعن الحصان الذي تحته وسبه، وألحق به دينه ومذهبه، ومن باعه ومن ركبه، وأمواته وأحياءه، وعشائره وأحياءه، ووقف بين الطرق وقفة المتخير، والأحرى في العبارة أن نقول وقفة المتحير، يتنفس حسرة، ويتلفت يمنة ويسرة، بنفس يائسة بائسة، بين جبال يابسة عابسة، في معطشة تجفف الريق في الحلوق، وتكاد تسيل الدم من العروق، فصرنا نتردد بين تلك الجبال، تردد الحب بين جوانب الغربال:
كريشة بمهب الريح ساقطة ... لا تستقر على حال من القلق
ثم جاز بنا إلى طريق توخيناه، " وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله "، فوافينا خضرة ونضرة، وجمال سعة ونظرة، وأشجاراً وأنهاراً، وأثماراً وأزهاراً، وحدائق ذات بهجة، وحقائق تنعش المهجة، حتى انتهينا إلى موضع غدير، من ماء نمير، غزير الموارد، عذب بارد، غير مزدحم بالصادر والوارد، ونهر أحلى من لمى العذراء، يعرف بالعين الخضراء، وجدناه أبهى من العين السوداء، وأشهى من الوجنة الحمراء، وأغلى من البيضاء والصفراء، وأحسن ما تحت الزرقاء، وفوق الغبراء، تحف حافتيه أشجار بديعة(1/981)
الائتلاف والاصطفاف، مكللة بآلاف من الفاكهة متنوعة الأصناف، عليها من رونق الورق المونق، ثياب سندس خضر واستبرق، ومن الثمر والزهر، أنواع زمرد وجوهر، والنهر بفرط صفائه، ورقة مائه، ينم على ما بأسفل أجزائه، من رحله وحصبائه، كأنها در منثور، في باطن بلور، أو كافور مذرور، في غلائل من نور، يظفر فيه كل من الحواس الخمس بحصته، من نعيمه ولذته، فالباصرة بحسن رؤيته وبهجته، واللامسة بطلف ملمسه مع برودته، والذائقة بعذوبته، والسامعة بخرير تياره، والشامة بعبير أشجاره وأزهاره، فلم نتمالك أن ملنا إليه، وترامينا عليه، لائذين من خطر ما مر، عائذين به من ضرر الظمأ والحر، لنتبوأ به مقيلا، ونتفياً منه ظلاً ظليلا، ونتلو " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلا "، ونتمثل بقول الأول:
وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم
يرد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم
نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالاً ... ألذ من المدامة للنديم
إلى آخر ما قال وبالجملة فلا عيب يذكره لهذا المنظر، سوى إعجاز واصفيه، عن وصف ما فيه. فلما أخذنا بغيتنا من الراحة والاستقرار، وخشينا أن ينهار جرف النهار، نهضنا إلى الترحال فشددنا الرحال وملأنا المزاود من ذلك الماء الزلال، ونزعنا عنه والنفس نازعة إليه، حائمة عليه، مرفرفة حواليه، ثم سرنا نخبط، ونصعد ونهبط، والنهر(1/982)
يبعد ويقرب، ويشرق نوره ويغرب، حتى وصلنا الفيجة فوجدناها مغلقة الأبواب، خالية الدروب والشعاب، لا يرى سالكها من أنيس، ولا اليعافير ولا العيس، إلا كما قال الأعرابي:
عجائزاً مثل السعالى خمسا ... يأكلن ما يلقى لهن همسا
لا ترك الله لهن ضرسا
كأن الإنسان يمر بها في جبانة قبور، وأرض متناسقة الصخور، أو مساكن قوم بور فجاوزناها واستمر مريرنا في المسير، وإن كنا لا ندري كيف يكون المصير، نسأل عن الدرب والسؤال ذل، إن وجد في طريقنا من يدل، وما زلنا في صعود وهبوط، ورجاء وقنوط، حتى وصلنا إلى رأس السوق، وكأنا قد ظفرنا ببيض الأنوق، فصادفنا بها مجمع فئام، بين قعود وقيام، فزعموا أن ليس بها دار للمقام، غير ما سبق إليه بعض مأموري الحكام، فأخبرناهم بأنا لسنا من أولئك الأقوام، وأنا لا نبخل ببذل الحطام، فمضى معنا بعضهم إلى دار لبعض أهاليها، من خير مبانيها على ما فيها، وسألنا عما ينبغي للمأكول، من اللحم والبقول، فلم نجد غير دجاجات أضلتهن أيدي الحدثان، وأفلتتهن مخالب أنسر لقمان، قد وعين الطوفان وتطاول عليهن تقادم الزمان، فما زلن يصاولن الأيام، ويواصلن الصيام، حتى يبسن وسمجن، وفني عليهن الحطب ولم ينجضن، فرغبنا عنهن، ويئسنا منهن، وملنا على بقية(1/983)
ما معنا من الزاد، وسارعنا بعد ذلك إلى الرقاد، فهاجمتنا بالسير الحثيث، جيوش البراغيث، تدب الضراء، وتمص الدماء، ولله در القائل:
وليلة بتنا لدى معشر ... قد غرت الناس أحاديثهم
فما أكلنا عندهم قدر ما ... قد أكلت منا براغيثهم
ولكن غلب علينا النوم، من تعب ذلك اليوم، حتى عطس الفجر بالأذان، وتنفس الصبح بأذن الرحمن، وأقبلت جيوش النهار من شرقها، وولت رايات الليل إلى غربها، وأشرقت الأرض بنور ربا، فبادرنا إلى المسير، يدل بنا على الدرب فارس خبير، جمعنا معه في الطريق لطف التقدير، لا عمل التدبير، حتى انفصل عنا منحرفاً لبعض القرى، بعد أن أشار لنا إلى طريق واضحة المسالك لمن يرى، فمضينا حتى انتهينا إلى الزبداني وهي قرية كثيرة الغراس، عامرة بالناس، فمكثنا بها حيناً للاستراحة من تعب السفر، وأخذها منها للوازم الغذاء بعض ما حضر، وأردنا أن نستأجر من أهلها من يرشدنا إلى المسالك، فكأن المكاري أنف من ذلك، فزعم أنه لن يضل بعد الآن، وأنه يعرف باقي الطريق حتى العرفان، وأكد الكذب بالأيمان:
وأكذب ما يكون أبو المثنى ... إذا آلى يميناً بالطلاق
فخرجنا، حتى وصلنا، رأس عين سائغة صافية، لدى ظلال سابغة ضافية، فنزلنا وأكلنا، واسترحنا وانشرحنا، ثم سرنا أميالاً، نعدها طوالاً، فصادفنا رجلين من السفار، من أهل تلك الأقطار، فعرفنا منهما أننا قد انصرفنا عن القصد ببعد، وانحرفنا بالكلية عن الطريق ولله الحمد من قبل ومن بعد، فاستصحبنا منهما من ردنا إلى الطريق المقصود،(1/984)
بعد بذل المجهود، في الهبوط والصعود. ثم وصلنا سرغاية فنزلنا واسترحنا، وبتنا حتى أصبحنا، فاتخذنا دليلاً من أهلها لما عرفناه مما أسلفنا، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين بل مرارا، ولا يلقي المرء بيده إلى مهالك التيه اختيارا، والحاصل أن مشى معنا ساعات من الزمان، بين جبال ووديان، في طريق تتلوى تتلوي الأفعوان يضل فيها الخريت، ويخاف بها العفريت، إلى أن وصلنا إلى الصراط المستقيم، بعون الله الكريم، فقال من هاهنا طريق بعلبك واضحة الأعلام. ثم ودعنا وانصرف بسلام، وسرنا حتى وصلناها بنية المقام فيها عدة أيام، وأعدنا المكاري بالدواب وباقي الأجرة إلى دمشق الشام، وتلونا بعد مفارقة طلعته، " وأن يتفرقا يغن الله كلا من سعته "، وفي العزم الجولان، أياماً في جبل لبنان ثم العودة لبيروت ومنها إن شاء الله للأوطان.
ومن توسلاته العلية حين زيارته للذات النبوية قوله:
يا أكرم الثقلين دعوة آمل ... عان ضعيف جاهد مجهود
يا أكرم الثقلين ضيف وافد ... ونداك أجدر بالقرى لوفود
يا أكرم الثقلين هذا سائل ... وافى لسدة بابك المقصود
يرجو لبانته ويشكو ضره ... ويرى منال السول غير بعيد
ويمد كف الذي روما للعطا ... وللاعتصام بحبلك الممدود
فامدد إليه يداً تعود جودها ... أن لا يرد يداً لطالب جود(1/985)
ومن غرر قصائده ودرره وفرائده، تهنئته السنية ومدحته البهية، يمتدح ويهني بها الحضرة التوفيقية يوم جلوسه على الأريكة الخديوية، وهي بنت ليلتها مع عذوبتها وبلاغتها، وسهولتها وسلامتها، وذلك أنها بعد الموكب التوفيقي بليلة عرضت على مسامعه الشريفة الجميلة وهي:
اليوم يستقبل الآمال راجيها ... وينجلي عن سماء العز داجيها
وتزدهي مصر والنيل السعيد بها ... والملك والدين والدنيا وما فيها
قد أطلع الله في سعد السعود سنى ... بدر بلألائه ابيضت لياليها
وقام بالأمر رحب الباع مضطلع ... بالعبء جم شؤون النفس ساميها
ذو همة دون أدنى شأوها قصرت ... غايات من رام في أمر يدانيها
وراحة لو تحاكيها السحائب في ... فيض الندى هطلت تبرا غواديها
يزهو بها قلم سام يسوس به ... أمر الأقاليم نهائيها ودانيها
يجري بما شاء من حكم ومن حكم ... يصبو لحسن معانيها معانيها
ورأفة بعباد الله كافلة ... بخير ما حدثت نفساً أمانيها
مؤيد بالهدى والحق ملتمس ... رضا البرية لاسترضاء باريها
تربو على وصف مطريه محاسنه ... وهل يعد نجوم الأفق راعيها
توفيق مصر ومولاها وموئلها ... وركنها ومفداها وفاديها
وغصنها النضر أنمته منابتها ... من دوحة أينعت فيها مجانيها
خديوها، ابن خديويها ابن فارسها ... أميرها البطل الشهم ابن واليها
رأى الخليفة فيه رأي حكمته ... وللملوك صواب في مرائيها(1/986)
رآه أجدر أن يرعى رعيته ... وأن يقوم بما يرجوه راجيها
وأن ينحي عنها ما أحاط بها ... من الخطوب التي هالت أهاليها
فجاء مرسومه السامي تطير به ... نجائب البرق يطوي البر ساريها
لله يوم جلا عن نور غرته ... كالشمس مزق برد الغيم ضاحيها
في موكب مثل عقد الدر في نسق ... أو كالنجوم الدراري في مساريها
يسير في مصر والبشرى تسابقه ... من حيث سار وتسري في نواحيها
يحفه أخواه الماجدان به ... مع الوزير شريف النفس عاليها
مشير صدق بحزم الرأي قد غرفت ... أفكاره بين باديها وخافيها
لا تنثني عن صواب الرأي رغبته ... لرهبة كائناً ما كان راعيها
حتى أتى القلعة الفيحاء فانطلقت ... فيها المدافع بالبشرى تواليها
واستقبلته صفوف الجند قد نظمت ... نظم القلائد زانتها لآليها
داعين تعلن ما في النفس ألسنهم ... بدعوة الخير والتأمين تاليها
فلتفتخر مصر إعجاباً بحاضرها ... على محاسن ماضيها وآتيها
إيه لقد أبدت الأيام سر منى ... طالت عليه الليالي تماديها
وأسعد الطالع الميمون أنفسنا ... بخير أمنية كانت تناغيها
هذا الذي كانت الآمال ترقبه ... دهراً وتعتده أقصى مراميها
ما زال في قلب مصر من محبته ... سر تبوح به نجوى أهاليها
تصبو له وأمانيها تطاوعها ... في حبه ولياليها تعاصيها
وترتجيه من الرحمن سائلة ... حتى أستجيب بما ترجوه داعيها
فالحمد لله شكرانا لأنعمه ... فالشكر حافظ نعماه وواقيها
يا ابن الذين لهم في المجد قد عرفت ... أخبار صدق لسان الحمد راويها(1/987)
قادوا الجنائب من مصر مسومة ... إلى الحجاز إلى أقصى أعاليها
غرا سوابق مشهوراً سوابقها ... مقرونة بأعاليها عواليها
قباً ضوامر كالآرام يكنفها ... ليوث حرب بأيديها مواضيها
تموج في زرد الماذي سابحة ... تحدي بأرجلها عدواً أياديها
رموا بهن صدور البيد معنقة ... على نحو أعاديها عواديها
قد عددوهن أن لا ينثنين عن الهيجاء إلا إذا كفت عواديها
وإن يطأن على هام الكماة إذا ... لف الوغى بهواديها تواليها
فاستنفذوا حرم الرحمن من عصب ... لم يرع حرمة بيت الله راعيها
وأوردوا الخيل نجداً فاستبوه ولم ... تعسر عليها عسير في مساعيها
وكان تأييدها أمر الخلافة في ... مواطن الحرب من جلى معاليها
مولاي دعوة إخلاص يكررها ... داع أياديك أرضته أياديها
هنئت علياء قد وافتك خاطبة ... تختال تيهاً وتزهو في تهاديها
علياء فاقت علواً كل منزلة ... فلم يكن في سواها ما يساويها
رأت علاك فشاقتها حلاك فلم ... تسمح لغيرك من خل يخاليها
وكم سمت نحوها نفس تؤملها ... من قبل لكنها ضلت مساعيها
تجاذبوها فرثت في أناملهم ... حبالها وتمادت في تنائيها
قضوا غراماً ولم يقضوا بها وطراً ... فكان أصل مناياهم أمانيها
فاسلم أقر بك الرحمن أعيننا ... ولا برحت لها مولى تواليها
وأقر سمعك من حلو الثناء حلى ... يلهو بلحن المثاني صوت شاديها
حلى كما انتظم العقد الفريد على ... لبات حسناء تجلوه تراقيها(1/988)
وهاك غراء من حر القريض إذا ... ما أنشدت خلب الألباب تاليها
وفخرها أنها في المدح قد صدعت ... بقول صدق فلا حي يلاحيها
يسهو بها الراكب المزجى مطيته ... عن حاجة راح يغدو في تقاضيها
يسائل الناس أي الناس قائلها ... وأي بر به الممدوح جازيها
وإنما حسبها براً وتكرمة ... منه قبول وإقبال يوافيها
تدري القصائد أني لست أقصدها ... إلا وللحب داع من دواعيها
ولا تجافيت عنها قبل من حصر ... بحمد ربي ولا ضنت قوافيها
لكنها نفس حر لا تهم بما ... لا يستوي فيها باديها وخافيها
تسعى إليك وفرط الشوق قائدها ... إلى رحابك والإخلاص حاديها
وافت تهنئ مولاها مؤرخة ... توفيق مصر بأيد الله راعيها
سنة 1296 وله أيضاً رحمه الله تشكراً للحضرة الفخيمة الخديوية بناء على إحسان سموه إلى حضرة نجله عز تلو أمين بيك فكري بالنيشان العثماني من الدرجة الرابعة قوله:
لمولاي العزيز علي فضل ... بنعمته على ولدي الأمين
تحقق في مقام الشكر عجزي ... فآثر أن أرى ولدي معيني
ومن ذلك قصيدته التي تلاها يوم فتح المؤتمر العلمي السويدي بحضرة جلالة الملك اشكار المعظم وأمراء دولته، ووجهاء الوفد المذكور، وقبل ذكر هذه القصيدة نذكر فصلاً خفيفاً مما حصل قبل فتح المؤتمر في السويد والنرويج فنقول: أنه لما وصل الوفد العلمي إلى استكلم ونزلوا الأوتيل " الفندق " وكان هناك الكونت لاندبرج فحضر وسلم عليه ومضى بهم إلى مكتب المؤتمر محل أشغاله، فأطلعهم على المحل المعد لانعقاد المؤتمر في جلساته العامة والخاصة،(1/989)
وموضع كل من الوافدين فيه، وفي ذلك الموضع محل معد للوفد المصري، وهو في جزء مرتفع عن باقيه بدرجة، وبه كرسي الملك، وخلف ظهره كراسي العائلة الملوكية، وعن يساره موقف من يخطب، وكراسي لجلوس الوفد المصري، وهو الجزء المذكور، وعن يمينه بعض وزرائه، وسفير العجم في الآستانة العلية محسن خان، والوفد العثماني وبقية وفد العجم، وبين يديه الكتب المهداة إليه، وفي باقي المحل أسفل من هذه الدرجة مواضع باقي الناس أعضاء المؤتمر، والمحل يسع الخمسمائة نفس، وفي أعلاه محل مرتفع مشرف عليه لجلوس النيابة، يسع نحو مائة وخمسين. وقد حضر جلالة الملك في أثناء وجودهم في المحل المذكور، فرآهم وعرفه بهم الكونت لاندبرج، فسلم عليهم بيده واحداً واحداً، وقابل الجميع بغاية البشاشة، ولما سلم على سعاد تلو المرحوم عبد الله باشا فكري المترجم أظهر له محبته الزائدة، ومحبة جناب الخديوي المعظم، وشكره على إرسال هذا الوفد للمؤتمر العلمي الذي كان سبباً لحضور المترجم، ولما سلم على حضرة نجله عز تلو أمين بك فكري وكان أحد أعضاء الوفد المصري، قال له أنت ترجماني لوالدك مما دمتما هاهنا، ولم تكن مقابلتهم هذه رسمية. وفي ثاني يوم طلبهم الملك إلى سرايته وأرسل إليهم عربات مخصوصة حضرت إليهم لمقابلة جلالته المقابلة الرسمية فتوجهوا بالكساوي التشريفية والنيشانات فأعلن المسرة والمنونية، والثناء على الجناب الخديوي الفخيم، فسلم إليه المترجم المحرر الكريم الذي أرسله الخديوي لجلالة الملك، وأجاب رحمه الله قائلاً: مولاي أقدم لجلال مقامك الرفيع الشان تحايا التعظيم والإجلال والثناء الفائق من لدن مولاي خديوي(1/990)
مصر المعظم، مؤيداً ذلك بتقديم محرر سموه المنطوي على خاص المودة، المتضمن تعييني وتعيين رفاقي الماثلين بين يدي عظمتكم للحضور في المؤتمر العمومي العلمي الذي توجهت خواطركم الملوكية لانعقاده في هذه المملكة العامرة، لما يترتب عليه من الفوائد المهمة لنشر العلم وتقدمه واتحاده باشتراك القريب والبعيد والشرقي والغربي فيه، ولم يكن ذلك ليأتي إلا بتوجيه همة الملك إليه. فلك يا مولاي الفضل الجزيل على ذلك المسعى الجميل، وأختم قولي بتقديم واجب تشكراتي لما نلت من لطف الرعاية الملوكية في هذا الموقف النبيل، لا زال موقع إجلال ومنتهى كمال. وكان ذلك يوم الأحد غرة سبتمبر سنة 1889 وانصرفوا.
وفي ثالث يوم اجتمع الناس لافتتاح المؤتمر، وحضر الملك وحضر الناس، وأخذ كل موضعه، فافتتح الملك المؤتمر بخطبة حسنة ألقاها وأجاد فيها وفي حسن أدائها، قال في ضمنها: إن السلطة قبل كانت للقوة والاستبداد، وليست الآن إلا للعلم، ومضى فيها حتى أتمها واقفاً، والناس بين يديه وقوف، ثم جلس، وخطب بعده المسيو كريمر وافد النمسا، ثم سفر العجم، فخطب خطبة باللغة الفارسية، ثم وافد السلطنة العلية العثمانية أحمد مدحت بك، فتلا مقالة باللغة التركية. ثم أشير إلى سعادة المرحوم المترجم، فأنشد قصيدة وهي بألفاظها الرائقة، ومعانيها الشائقة، قوله:
اليوم أسفر للعلوم نهار ... وبدت لشمس سمائها أنوار
وزهت فنون العلم وازدهرت به ... أفنانها وتناسقت أزهار
وغدت لأرباب المعارف دولة ... غراء صاحب ملكها أسكار
اسكار الثاني الذي اعترفت به الأقطار وارتفعت به الأقدار
ورعى حقوق العلم يعلي قدره ... فنما بهمته له مقدار
ودعا له الفضلاء دعوة ناصر ... للعلم فهو بهم له أنصار(1/991)
هي دعوة طنت بآذان العلى ... وتناقلت أخبارها السمار
عرفت بقيمتها البلاد وأهلها ... وملوكها وتسامع الأقطار
أمر أمير المؤمنين أعاره ... نظراً وأنظار الكبار كبار
فسرى به في مصر من توفيقه ... نور ومن بركاته أسرار
وإذا المليك أراد ينجح مقصداً ... نالته من توفيقه آثار
مولى له في كل مكرمة يد ... ولكل موقع مقصد أنظار
وأعان كل زعيم مملكة له ... بشؤون أهل بلاده استبصار
يحدو إلى أرض السويد أماثلاً ... من قومه أمثالهم أخيار
مستظهرين بدعوة الملك التي ... عمت وما لسماعها إنكار
فتسارع العلماء تلبية له ... بالطوع تسبقهم له الأخيار
بفنائهم صيت يشوق سماعه ... ويسوقهم شوق إليه مثار
سمعوا بشهرته وصيت ثنائه ... سمعاً يذكرهم به التكرار
وسما بهم في استكلم بأمره ... ناد تشاخص دونه الأبصار
جمعته من شرق البلاد وغربها ... وجنوبها وشمالها الأقدار
ألقت بأفلاذ الكبود إليه من ... أبنائها في حبه الأمصار
ناد به احتفل الأفاضل حفلة ... بحديثها تتقادم الأعصار
جمعت لنا من مرة معدودة ... في الدهر لا ينسى لها تذكار
جمعتهم الأقدار جمع سلامة ... والله في أقداره مختار
متآلفين بعيدهم بقريبهم ... والفضل أقرب وصلة تمتار
من كل فياض القريحة ورده ... عذب وبحر علومه زخار
تتدفق الأفكار نحو يراعه ... فيفيض من أنبوبه تيار
من كل معنى شف عنه لفظه ... كالخمر نم بها الزجاج تدار
ومؤزر بالفضل مشتمل به ... منه شعار زانه ودثار
حبر إذا ولى اليراع بنانه ... زان الطروس بوشيها الأحبار(1/992)
ويغوص أعماق المباحث باحثاً ... عن كشف كل فريدة تختار
درر يروق الطرف منها رونق ... بهج تحار بوصفه الأفكار
لذوي المفاخر من حلاها زينة ... تبقى ولا يبلى لهن فخار
لا زال ملك الفضل معمور الذرا ... بذويه ممدوداً له الأعمار
ولما فرغ رحمه الله من قراءتها، كل من في المؤتمر استحسنها وصفق، وخاطبه ناس منهم في ذلك اليوم باستحسانها، وحضر إليه كاتب المؤتمر على أثر الفراغ منها وساره بطلب نسختها، فأخذها في الحفلة وخطب بعد ذلك أناس منهم الموسيو شفر وافد فرانسا، وغيره، وكانت هذه الحفلة خاصة بذلك ليس فيها تقديم موضوعات علمية، وبعد ذلك صارت الناس تجتمع في المؤتمر في أوقات مخصوصة، ويقدم كل واحد ما أراد تقديمه، وقدم المترجم ما أعده لذلك، فقوبل منه بغاية الاستحسان والاعتبار، وأعطي للمترجم نيشان " وسام " من النوع المسمى " وازا " من الدرجة الأولى، فشكر الملك على ذلك. وبعد انتهاء المؤتمر والمأمورية، ورجع كل إلى بلاده، نظم رحمه الله تعالى قصيدة غراء قالها في البحر، وهم عائدون إلى وطنهم العزيز، وهي مدحة سنية لمآثر الجناب الخديوي المعظم، ويقص على مسامعه الزكية بعض أحوال هذا المؤتمر، وهي:
دنت الديار ودانت الأوطار ... هذا المنار وهذه الأنوار
هذا المنار يلوح نجم هداية ... للناظرين تؤمه الأنظار
والثغر وضاح المباسم باسم ... للبشر في قسماته آثار
فرح يبشرنا ببشر سروره ... إن الخديو له به استقرار(1/993)
فاليوم نلثم من بنان يمينه ... سحباً موارد فيضهن غزار
من كف فياض اليدين يمينه ... يمن ويسراه ندى ويسار
ونشنف الأسماع من ألفاظه ... دراً غدت أصدافه الأفكار
ونرى منار الحق فوق جبينه ... كالشمس ليس وراءها أستار
نور تلألأ في جبين موفق ... للحق في توفيقه أسرار
مولاي قد سرنا بأمرك نبتغي ... لرضاك ما تسمو به الأقدار
نصل المغارب بالمشارق والسرى ... بالسير لا ملل ولا إقصار
ونلف أذيال الأباطح بالربى ... تنتابنا الأنجاد والأغوار
لا البحر ذو الأمواج نخشى بأسه ... يوماً وليس البر فيه نضار
البحر بر في رضاك بمن به ... والبر من جدوى نداك بحار
ومدى النهار صباح خير كله ... بسعود جدك والدجى أسحار
نطوي البلاد بطيب ذكره نشره ... عبق ونفحة ريحه معطار
ونؤرج الأرجاء باسمك مدحة ... طابت بها الأسحار والأسمار
يهتز سامعها بحسن سماعها ... طرباً ويخبر غائباً حضار
ويروح سامعها يميل بعطفه ... ثملاً كأن دارت عليه عقار
نفشي بها صدر الندي ندية ... يحلو بها الإيراد والإصدار
نتلو مديحك معلنين بنشره ... جهراً فلا كتم ولا أسرار
لا يعتري فحواه وصمة ريبة ... تخشى ولا رد ولا استنكار(1/994)
ثم امتطينا للسويد ركائباً ... لا الركض يجهدها ولا التسيار
تسعى على عجل إلى غاياتها ... كالماء ساعد جريه تيار
سرع الخطى لا السوط حل بجلدها ... يوماً ولا شدت به أكوار
تذر الرياح إذا جرين وراءها ... حسرى طلابح جريهن غبار
سرنا بهن على العشي فأصبحت ... في أستكلم وقد بدا الأسفار
ولقبت صاحب تاجها في قصره ... والوفد ثم بصحبتي نظار
فدنا وصافح باليمين مردداً ... شكر الخديو يزينه التكرار
فشرعت مقتصداً أجاوبه بما ... أرضاه لا قل ولا إكثار
ونحوت مؤتمر العلوم أؤمه ... بالوفد تهوي نحونا الأبصار
حتى إذا احتل الندي وأقبل العظماء والعلماء والأخيار
وتلا به اسكار رب سريره ... قولاً به لذوي النهي اسكار
وأجابه الخطباء كل محسن ... يزري بنظم الدر منه نثار
ودعيت باسمي للمقال موفياً ... حق الوفادة والوفاء شعار
أقبلت أبتدر القريض يزينه ... مولاي باسمك بهجة ووقار
حتى استتم الشعر فاصطفقت له الأيدي وذاك بمدحه أشعار
وتشعبت شعب الفصول مقرراً ... في كل فصل للعلوم قرار
فنحوت بالوفد الذين بصحبتي ... خير الفصول وصحبتي أخيار
ما فيهمو وهل الفؤاد يهوله ... حفل ولا واهي القوى خوار
كل أعد من المعارض ما اصطفى ... للعرض ثمة جملة تختار
وأجاد فيما قد أفاد بمنطق ... طوع المراد أمده استحضار
في لهجة العرب الفصيحة لفظهم ... حر، وهم في نفسهم أحرار
لا في مقالة قائلينا وقفة ... عرضت ولا لمقولنا إنكار(1/995)
كالقطر جاد به غمام مبرق ... دانى الهيادب عارض مدرار
نبدي الذي نبدي وكل مطرق ... سمعاً ومنطق ذي المقال جهار
حتى نتم كما نشاء القول في ... أمد أعد لوقته مقدار
فيقول صاحبهم أما من باحث ... فيما يقول وقوله استفسار
وتصفق الحضار لاستحسان ما ... قلنا ويظهر فيهم استبشار
هاهم رجالك أيها المولى ولا ... من عليك ونعم من تختار
لا أبتغي مدحاً لنفسي أنني ... بعلاك أفخر لا عداك فخار
هذي محاسن يمن طالعك الذي ... بسعوده قد ساعد المقدار
ثم انثنينا راجعين يسوقنا ... لحماك أشواق لهن أوار
نأوي لخير حمى بظلك كله ... أمن وما للجور فيه جوار
فاسلم لمصر وأهلها ليرى بها ... لنماء غرس يمينك استثمار
واسلم لأنجال وآل كلهم ... خير وآل الخيرين خيار
وإليكها مولاي صنعة ليلة ... لحق العشار بوشيها الأسحار
حتى كساها الصبح رونق وجهه ... حسناً وألبسها الضياء نهار
إلى هنا اقتصرنا على بعض غرره وفرائده، من شائق نثره ورائق قصائده، وإلا فرحمه الله، درره لا تحصى، وجواهره لا تستقصى، وكم له من نثر فائق، ونظم رائق، والحق يقال أنه لغني بشهرته في الآفاق عن التعريف، وكيف لا وقد سبق رحمه الله فرسان التصنيف والترصيف، وبالجملة فإنه لا يماثله بكل فن مماثل، ولا يعادله في الفضل معادل، وحيث أنه قد أصيب هذا القطر بفقده وهو من أجلائه،(1/996)
لوذعي فاضل من أكابر فضلائه، وعالم من أجل علمائه، وأمير من صفوة أمرائه، وأديب حاز السبق في مضمار الفضل والأدب، وحسيب نسيب زينت أردان فضله سجايا المجد والحسب، رثاه بعض فضلاء العصر وأدباء مصر بقصائد طنانات يلوح عليها من قائليها الحسرات والزفرات، فقد فقد هذا القطر بل الدنيا هذا الحبر الفخيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولنذكر الآن بعض قصائد أولئك الفضلاء، تتميماً لترجمة من حلت روحه بالملأ الأعلى.
ومن ذلك ما كتبه حضرة العالم الأديب، والفاضل الأريب، أخونا عبد المجيد أفندي الخاني، أناله الله أحسن الأماني.
حجب البدرالذي أد ... رك في العلياء ما أدرك
هو عبد الله فكري ... فاختبر في وصفه فكرك
إذ غدا في كل علم ... غاية بالسعي لا تدرك
يا أمين المجد صبراً ... طول الله لنا عمرك
عظم الخطب فأرخ ... عظم الله به أجرك
ومن ذلك قصيدة حضرة الأستاذ العلامة، والحبر البحر الفهامة، الشيخ علي الليثي:
نذم المنايا وهي في النقد أعدل ... غداة انتقت مولى به الفضل يكمل
تخطت أناساً من كثير نعدهم ... وغالت وحيداً من قليل يحصل
ونحن بني الدنيا نباين فعلها ... فلا ننتقي حراً عليه يعول
كأن المنايا في انتقاها خبيرة ... بكسب النفوس العاليات تعجل
فتم لها من منتقى الدر حلية ... بها العالم العلوي أنساً يهلل(1/997)
وتم نظام العقد وأزينت به ... نحور بدور الحور وهو مفصل
وكل بعبد الله فكري مهيم ... ينافس فيه غيرة حيث ينزل
ومنها:
لقد كان ذا دين قويم وعفة ... بها ساد أمثالها لديه تمثلوا
لقد كان ذا بر عطوفاً مهذباً ... سجاياه صفر القطر بل هي أمثل
رقيق حواشي الطبع سهل محبب ... إلى كل قلب حيث كان مبجل
كريم السجايا لا الدنايا تشينه ... عظيم المزايا إذ يقول ويفعل
شمائله لو قسمت في زماننا ... على الناس لازدانوا بها وتجملوا
إلى أن قال بعد كلام نفيس:
ولولا " أمين " المكرمات الذي إلى ... مخايله سر الأبوة ينقل
فتى المجد والعلياء والصدق والحيا ... وأوفى أمين يرتجى ويؤمل
يشم شذى المرحوم منه ويجتلى ... بغرته اليمن الذي يتهلل
لذبنا أسى مما عرانا من النوى ... ونحنا كما ناح الهديل المبتل
ومنها:
ومذ سمت نفسي الصبر وارتحت للقضا ... تنفست والمخبوء في النفس أجزل
فخذها أمين الله ما شابها الريا ... ولا عابها إلى امرؤ يتقول
وقل لمشير الحزن عني مؤرخاً ... ألا في جنان الخلد فكري المبجل
وقال حضرة أستاذنا العلامة الفاضل، واللوذعي الكامل، الشيخ سليمان العبد أحد أفاضل الجامع الأزهر:
نضا ثوب الحياة وسار " فكري " ... وكدر بالفراق صفاء فكري
تكبدت القلوب ضرام حزن ... عليه يذيب وجداً كل صخر(1/998)
ومصر بموته ارتعدت وضجت ... وقد شقت عليه دروع صبر
وصار دم الدموع لها خضاباً ... على كف الأسى يا ويح مصر
إلى أن قال:
أمين لك المعالي في صعود ... وسر أبيك منه إليك يسري
فحسن نفسك العليا بصبر ... فمثلك قدوة بجميل صبر
سقى الرحمن قبر أبيك غيثاً ... من الرحمات عصراً بعد عصر
ورضوان لصفو قال أرخ ... بجنات النعيم مقر فكري
وقال حضرة الفاضل الزاهد، والإمام النحرير العابد، الشيخ أحمد موافي يرثي المترجم رحمه الله تعالى:
ما العيش يحلو والتفرق مشرب ... سبل الفراق بها العيون تسيل
ما العيش في دار الغرور بمشتهى ... وصخور أعمال الجبال تهيل
من يوم غزو البحر بحر علومنا ... لم أرج أن يشفى إلي غليل
ودعته وأنا الموافي صحبة ... أخذت لتغرب والفؤاد عليل
ومنها:
في يوم نيخت للرحيل مطية ... صدعت قلوب فالبعاد طويل
عزريل نادى يا جنود ترحموا ... رفقاً بفكري للعلوم خليل
لولا الإرادة ما نزلت لقبضه ... إني برفق العاملين وكيل
ومبشرات الحق وافت نحوهم ... من قبل قبض والبشير دليل
في لمحة البصر الخفيف أزورهم ... وفراقهم أبدا علي ثقيل
ومنها:
ففوارس العلم الشريف تصرعت ... بالنحو جرح والأصول قتيل
جيش المجاز مع المعاني أدبرا ... والفحل من فقه البديع فصيل
سبيت لغات والعلوم أسيرة ... ويرق حر الفهم وهو جزيل(1/999)
ولت مسائل قد تقادم عهدها ... فاليوم عقل للغبي يحيل
دار العلوم على الهمامة كئيبة ... والقبر مسرور به وخميل
ومنها:
لاقت لعبد الله باشا حوره ... كانت تئن لبعدها وتطيل
قد كان في الدنيا يحاسب نفسه ... فهو الذي عند السؤال نبيل
قال الثرى أرخته وداً به ... أهلا به ظل الجنان مقيل
سنة 1307 وقال حضرة العالم الفاضل الأديب، والأمير الأفخم الحبيب، عز تلو علي بيك رفاعة:
دنياي لم تبدلين المدح تأبينا ... وتمنعين الوفا ظلماً وتأبينا
وتظهرين إزاء العجز مقدرة ... وإن نويت لنا خباً تناوينا
إذا وعدت وأعددت الصفاء لنا ... تلوين وعدك بالأكدار تلوينا
في روضة العيش كم تدنين من ثمر ... لمن إذا حان أن تجنيه تجنينا
إلى أن قال بعد كلام تركناه خوف الإطالة:
مصاب مثلك عبد الله سيء له ... كل الأنام وملك حل عبدينا
فما مصاب أخي صهطا برزء أخي ... دار المعز فيا مولاي عزينا
من خال بعدك عبد الله أن له ... جواً خلا عنك كنا عنه خالينا
ومنها:
أللبيان نرجي أن يشاد له ... بيت وبعدك سد الباب بانينا
سل دولة هي إنشاء ومقترح ... أمضى يراعك فيها أم مواضينا(1/1000)
هل فوق نثرك ما نزهى بنثرته ... أو فوق شعرك شعري أو يمانينا
من للمطول أو جمع الجوامع أو ... من للمواقف توقيفاً وتبيينا
من للتفاسير تأويلاً لمشتبه ... أو للتواريخ توقيتاً وتأوينا
هل للشفا وحديث المصطفى طرق ... بها طبيب النهى يأتي بشافينا
ومنها:
سل آستانة عن تركي منطق من ... سما عشائرها وهو ابن عشرينا
لو كان فيها لجارى كل ذي قلم ... يختال بالفكر ترصيفاً وترصينا
ينشي القوافي فتحلو في مباسمنا ... ذوقاً كأن بها الصهباء تنشينا
إلى أن قال:
وأنت يا نفحات البرزخ اتجهي ... لوجهه وانفحي ورداً ونسرينا
وأنت يا حور جنات زففن له ... تبارك الله هاك المهر " ياسينا "
وأرخيه فما كفؤ يؤرخه ... في رحمة الله عبد الله فكرينا
سنة 1307
أصيب رحمه الله بداء السكتة بعد ظهر الخميس في اليوم السابع من ذي الحجة الحرام، وفي الساعة الثانية من صباح يوم الأحد عاشر الشهر المذكور وهو يوم النحر وافاه الأجل المحتوم، والقضاء المعلوم، وذلك سنة ألف وثلاثمائة وسبع، فنحرت عليه في يومه القلوب، وشقت المرائر وازدادت الكروب، وامتلأت مصر بالأحزان، وأظلم العصر في كل مكان، وشيع محمولاً على هامات الوقار، والسكينة والتبجيل والاعتبار، والمحاجر تودعه ودموعها تتحدر، والقلوب تكاد من شدة تألمها إذ ذاك(1/1001)
تتفطر، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عوضه الله الجنة وأسكنه دار النعيم.
السيد عبد الله بن محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني رحمه الله تعالى
هو من رجال البدر الطالع: ولد سنة ستين ومائة وألف، وبرع في جميع العلوم، وهو أحد علماء العصر العاملين بالأدلة الراغبين عن التقليد لمذهب من المذاهب، مع قوة ذهنه وجودة فهمه، ووفور ذكائه، وحسن تعبيره وصدق وفائه، وخبرته بمسالك الاستدلال، ومتانة دينه وصيام نهاره وقيام الليال، وله شعر كثير، قد جمع في مجلد كبير، وبلغني أنه نظم بلوغ المرام، وشرحه فوق المرام، وليس له شغل سوى العلم والحديث والقرآن، وتحرير المسائل وتقرير الدلائل وإقامة البرهان، ومن نظمه في مطلع قصيدة:
لله درك أيها البدر الذي ... يهدي إلى نهج الصواب الظاهر
أبرزت من تيار علمك درة ... في سلك تبرقعه بحر زاخر
انتهى. قال في النفس اليماني في ترجمته: ومنهم ولد شيخنا السيد الجليل، العالم النبيل، فخر الإسلام، وزينة الليالي والأيام، السيد عبد الله صار من العلماء الأعلام، والنبلاء الفخام، أحد أئمة العصر، وحامل لواء الفضل والفخر، له اليد الطولى في العلوم النقلية والعقلية، وجودة النظر والنقادة(1/1002)
في الأحاديث النبوية، مشتغلاً بذلك غاية الاشتغال، حتى نال من العلم الشريف أعلى منال، مواظباً على الإفادة في جميع أوقاته، مقبلاً على الطالبين في حركاته وسكناته، تاركاً للتعصبات المذهبية، والانتصارات التعصبية، يدور مع الحديث حيث دار لا يعتريه ملل، ولا يجنح نحو راحة ولا يميل نحو كسل، فاكهته النظر في الزبر والأسفار، والمطالعة عنده أعذب من نسمات الأسحار، جعل العلم له جليساً، وفي الخلوة نديماً وأنيساً، فهو فارس ميدان العلوم، ولحائز قصب السبق إن تأخرت الفهوم، مع أخلاق شريفة، وشيم لطيفة، يسمح بها للمتعلمين، ويمنحها للمتفهمين، فهم لها عاشقون، وبها متخلقون، وعليها معولون، مع حسن نية، وسلامة طوية، وهمة علية، يحلو منه الإطناب والإيجاز، وإبداء فصيح الحقيقة والمجاز، وطاعته تسر الودود، وتسوء كل هماز حسود، حاز من الرتب الشريفة أعلاها، ومن الأوصاف السنية أغلاها وأحلاها، من رآه أحبه بمجرد النظر، فكيف إذا خالطه في الحضر والسفر، تالله لقد أقر الله به عين كل وافد، وكبت بطلعته البهية عين العدو والمعاند، وأطلع شمس معرفته على كل جاحد، فغط بكفك على الشمس أيها الحسود، ولم نفسك أيها المعاند لأنها لام الجحود، توفي رحمه الله، وأحسن مثواه، سنة ألف ومائتين وأربع وأربعين.
الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمد الكزبري الشافعي الدمشقي
عالم أوحد، وفاضل مفرد، من أهل بيت قد نشأوا على العلم والعمل، وبرعوا فيه حتى صار لهم عوضاً عن المال والخول، فما منهم إلا(1/1003)
من هو محدث فاضل، متورع زاهد عابد كامل، قد افتخر بهم مصرهم على الأمصار، وتاه بهم عصرهم على غابر الأعصار.
ولد رحمه الله سنة ألف ومائتين وإحدى وعشرين، ونشأ من أول عمره على الطاعة والدين، ناهجاً منهج والده الهمام، إلى أن صار معدوداً من أفراد العلماء الأعلام، وبعد وفاة والده جلس في مكانه تحت قبة النسر، يقرأ صحيح الإمام البخاري في شهر رجب وشعبان ورمضان كل يوم بعد العصر، ولم يزل مثابراً على ذلك، سالكاً أعلى المناهج والمسالك، إلى أن سقته المنية كأس الحمام، وجرحت بفقده قلوب أهالي الشام، وذلك سنة ألف ومائتين وخمس وستين ودفن بتربة باب الصغير، رحمة الله تعالى عليه.
الشيخ عبد الله بن مصطفى بن عبد الله بن محمود العبدلاني الكردي الدمشقي
كان حسن الأوصاف، جميل الإنصاف، يميل إلى الحق ميل الصب الهائم، ولا تأخذ في الله لومة لائم، قرأ على العلماء الأفاضل، إلى أن حاز على أجل الفضائل، ولازم والدي مدة طويلة، واستجازه فأجازه إجازة عامة جليلة وكان محبوباً بين الناس، مشهوراً بالجمال والكمال والإيناس، كثير الطاعة والعبادة، حريصاً على الإفادة والاستفادة، مات في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير قرب قبر الصحابي الجليل سيدنا بلال بن رباح الحبشي رضي الله تعالى عنه.(1/1004)
السيد عبد الله بن عابدين الدمشقي الحنفي الماتريدي
إمام قد تحلى بالفضائل، وارتدى بأجمل الشمائل، وأكب على العلم والطلب، إلى أن نال المرام والأرب، وكان شهماً فاضلاً، عالماً عاملاً، حسن الاعتقاد، جميل المعاملة والوداد، ذا تقوى وعبادة، وصيانة وزهادة، وكان مقدم الطريقة النقشية، في جامع بني أمية، وله أحوال عجيبة، ومكاشفات غريبة، وكرامات مشهودة، وصفات محمودة. توفي يوم الجمعة في صلاة العصر في السجدة الثانية من الركعة الثانية في اليوم التاسع عشر من شعبان سنة تسع وخمسين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير قرب قبر المرحوم السيد محمد عابدين المشهور.
الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن أحمد أبي العباس إمام السادس الحنفية في جامع بني أمية
كان رجلاً صالحاً تقياً نقياً، عابداً زاهداً، متباعداً عن الناس، له في التمسك بطاعته تعلق وإيناس، وكان مقدم الطريقة الشاذلية بعد موت والده رحمه الله. فأرشد كل سالك، ونهج بالمريدين أحسن المناهج والمسالك، وكان كثير الوداد، معتصماً بحبل الصواب والسداد، دائم الإقامة، على حالة الاستقامة، حسن السيرة، صافي السريرة. مات رحمه الله سنة ستين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشافعي الأزهري الشهير بالشرقاوي
العلامة النحرير، والفهامة الشهير، والأصولي الفقيه، والفاضل النبيه، شيخ الإسلام، وعمدة الأنام، من طلع في فلك الأزهر بدراً، وتقدم(1/1005)
على صلة الأفاضل ذوي الفضائل علماً وجلالة وقدرا، فكان في جبهة الدهر غرة، ولأهل العصر روضة فرح ومسرة.
ولد ببلدة تسمى الطويلة بشرقية ببلبيس في حدود الخمسين بعد المائة والألف، ونشأ على غاية الكمال واللطف، فلما ترعرع وحفظ القرآن، قدم إلى الجامع الأزهر المصان، وسمع من الملوي والجوهري الحفني والدمنهوري ومن الشيخ يوسف الحفني والبليدي ومحمد الفارسي وعلي الصعيدي وعمر الطحلاوي وعطية الأجهوري، وسمع الموطأ على علي بن العربي الشهير بالسقاط، وأخذ الطريقة على الشيخ محمود الكردي بكمال الاحتياط، ودرس الدروس بالجامع الأزهر، وقرأ بغيره أيضاً وتحقق ودقق وحرر، وله تأليفات دالة على علو قدره، ورفعة مقامه وسمر ذكره، من ذلك حاشية على التحرير، وشرح نظم الشيخ يحيى العمريطي وشرح العقائد المشرقية والمتن له أيضاً، وشرح مختصر في العقائد والفقه والتصوف مشهور في بلاد داغستان، وشرح رسالة عبد الفتاح العادلي في العقائد، ومختصر الشمائل وشرحه له، ورسالة في لا إله إلا الله، ورسالة في مسألة أصولية في جمع الجوامع وشرح الحكم والوصايا الكردية في التصوف وشرح ورد السحر للبكري، ومختصر المغني في النحو، وغير ذلك. وبعد موت الشيخ العروسي حولت إليه مشيخة الأزهر إلا أنه كان له معارضون كثيرون فلم يتركوا له راحة لدعوى استحقاقها للشيخ مصطفى الصاوي، وبقي هذا الاختلاف وعدم الراحة إلى أن توفي الشيخ مصطفى الصاوي فسلمت للمترجم من غير منازع. ولم يزل في منصبه مع اختلاف وشقاق من واقعات اقتضاها الحال، إلى أن مرض مدة، ومات يوم الخميس(1/1006)
ثاني شهر شوال سنة سبع وعشرين ومائتين وألف وصلي عليه بالأزهر ودفن في مدفنه الذي بناه لنفسه ومقامه شهير رحمة الله تعالى عليه.
الشيخ عبد الله بن محمد بن عيسى بن سعيد الدمشقي الصالحي الشهير بالكناني
شيخ الطريقة الخلوتية، وإمام ذوي إرشادها في دمشق المحمية، وكان يغلب عليه في بعض الأيام، غيبة وجذبة واصطلام، فكان في تلك الحالة يتكلم بما هب ودرج. وليس عليه في كلامه حينئذ ملام ولا حرج، وله كشوفات كلية عجيبة، وإخبارات صائبة غريبة، ولي والحمد لله منه إجازة في إذكار الطريقة المرقومة وأذن عام في إعطاء الطريق لأهل الإعطاء المستحقين. وشاهدت كثيراً من كشوفاته، وسمعت منه كثيراً من إخباراته الخارقة للعادة، التي لم يتخلف منها شيء عن ما أفاده، وكنت أطالع لديه بعض عبارات في كلام السادة الصوفية، فيسمع ولكنه لم يتكلم بشيء بالكلية. ولد في صالحية دمشق الشام سنة ثمان ومائتين وألف، ونشأ بها، وأخذ الطريق عن جده الشيخ عيسى، وكان يقيم الأذكار بزاويتهم الكائنة في صالحية دمشق. مات رحمهه الله يوم الاثنين بعد الظهر في عشرين من ذي الحجة الحرام سنة اثنتين وتسعين ومائتين وألف، ودفن بقاسيون قرب مقام الشيخ محمد بن مالك صاحب الألفية.
الشيخ عبد الله المعروف بالمرادي بن طاهر بن عبد الله بن مصطفى بن القطب مراد
الدمشقي الحنفي الشهير بالمرادي النقشبندي صدر صدور الشام، وبدر العلماء الأعلام، الشهم الكبير، والهمام الشهير.(1/1007)
ولد بدمشق ونشأ بها، وقرأ على علمائها، إلى أن صار من أوتادها وأقطابها، فسعى منصب الإفتاء إليه، وعول في أمره عليه، ودام له أحد عشر شهراً ثم فصل عنه ولم يزل على تقواه وعبادته، وتقدمه بين الناس ورئاسته، إلى أن نشبت به أظفار المنية، فحالت بينه وبين المرام والأمنية، فمات مخنوقاً في قلعة دمشق الشام سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف ودفن في مقبرة الدحداح رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الله بن سعيد بن حسن بن أحمد المشهور بالحلبي
فرد الشام وعالمها، وصدرها وفاضلها، قد طلع في أفقها بدراً تحرس مجده الثواقب، وارتفع في أهلها قدراً تتنافس به ذوو المعالي والمناقب:
إذا ما بدت للطرف غرة وجهه ... رأيت بها الشمس المنيرة والبدرا
وإن رمت أن تدري علاه فإنه ... هو الغاية القصوى هو الآية الكبرى
له خلق كالروض يزهو بزهره ... وكيف يساور الزهر أخلاقه الزهرا
فهذا الذي فوق السماكين قد رقى ... واحرز من دون الورى الفخر والقدرا
لقد انفرد بعلو الهمة، واقتصر عليه الخاص والعام في الأمور المهمة، وكانت الحكام تفضله وتهابه وتعظمه، وترفع مكانه وتجله وتحترمه، وتعتمد في المهمات عليه، وتستند في حل المشكلات إليه، فقوله في المهمات فصل(1/1008)
الخطاب، وحكمه مدار الحق على مركز الصواب، قد طار صيته وفاق وملأ ذكره الأقطار والآفاق، فلا ريب أنه عين الأعيان، وفرد الدهر والزمان، قد تصدر بعد موت والده للإقراء والتدريس، فما عداه في الشام مرؤوس وهو بمفرده الرئيس، ولم يزل في كل يوم يسمو مقامه إلى العلا وينمو قدره وفخره بين الملا، ويقصده الناس من كل جانب، لقضاء الحوائج ونيل المآرب، فليس من عظيم ولا كبير، ولا حاكم ولا وزير إلا وينقاد لكلامه، ويعترف بعلاه واحترامه.
وكان يقرأ صحيح الإمام البخاري تحت قبة النسر في جامع بني أمية في كل يوم جمعة من شهر رجب وشعبان ورمضان، إلى سنة ألف ومائتين وسبع وسبعين، فوقعت في الشام حادثة النصارى، التي جعلت الناس سكارى وما هم بسكارىن فتبدل النهار على الشام ليلاً، ومال الغم والهم عليها ميلاً، وانفرط نظامها وتشوش قوامها، واختل تشييدها، واعتل رشيدها، وانحطت في فلكها إلى الحضيض، ورقعت في النكد الطويل العريض، وتلا قارئها على أهلها من كبير وصغير، " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير "، فارتجت من المترجم جوانب ناديه، وارتبطت في عنقه طوال أياديه، وأضحت منازله قد بان عنها الأنس والحبور، وألوت بهجتها عنها ساعد الصبا وكف الدبور، فبكت العيون عليه دماً، وعاد قدره ومقامه عدماً، وصار بعد أن كان مخدوم أحرار الدهر لا يخدمه من كان لهم خدماً، فسحقاً لزمان لم يرع حقوقه، ولم يحفظ عليه شروقه، فنفاه فؤاد باشا المرسل من جانب السلطان لهذه القضية، إلى المغوصا قلعة(1/1009)
في قبرص أعدت لذوي الجنايات الكلية، ومعه جملة من ذوات الشام، من أهل القدر والاحترام، واستقام إلى سنة ألف ومائتين وثمانين منفياً، ثم عاد إلى الشام رفيعاً علياً، إلا أنه قد تولى الدرس في جامع بني أمية، صاحب الأصالة محمد أفندي المنيني ذو النسب العثمانية، ولم يزل المترجم في رفعة وعلو، وقدر ذي سمو، إلى أن دعته المنية للدار الآخرة، والمنزلة الفاخرة، وذلك في ثالث ذي القعدة الحرام سنة ست وثمانين ومائتين وألف. توفي في قرية برزة قرية من قرى دمشق الشام، وفي صبيحة تلك الليلة أحضر إلى الشام، وصلي عليه في جامع بني أمية ودفن عند قبر أبيه في مرج الدحداح بمشهد عظيم، وكانت ولادته في دمشق الشام سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف وكان عمره ثلاثاً وستين سنة رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الله بن صالح بن حيدر الكردي الأشكتي ثم الدمشقي الشافعي
الحبر الفقيه، والبحر المحقق النبيه، ولد بدمشق سنة ثمان وسبعين ومائة وألف، ونشأ في حجر أبيه وأخذ عنه وعن العلامة الشمس الكزبري(1/1010)
واستفاد وأفاد، وارتفع مقامه وساد، توفي رحمه الله تعالى سنة أربعين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح.
عبد الله بن إبراهيم ن حسن بن محمد أمين بن علي ميرغني بن حسن بن مير
خودر بن حيدر بن حسن ن عبد الله بن علي بن حسن بن أحمد ببن علي بن إبراهيم بن يحيى بن عيسى بن أبي بكر بن علي بن محمد بن إسماعيل بن مير خودر البخاري بن عمر بن علي بن عثمان بن علي المتقي بن الحسن بن علي الهادري بن محمد الجواد الحسيني المتقي المكي الطائفي الحنفي الملقب بالمحجوب.
نقل الإمام الجبرتي أنه ولد بمكة وبها نشأ وحضره في مباديه دروس بعض علمائها كالشيخ النخلي وغيره، واجتمع بقطب زمانه السيد يوسف المهدلي وكان إذ ذاك أوحد عصره في المعارف، فانتسب غليه ولازمه، وبعد وفاته جذبته عناية الحق وأرته من المقامات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فحينئذ انقطعت الوسائل وسقطت الوسائط فكان أويسيا تلقيه من حضرة جده صلى الله عليه وسلم كما أشار إلى ذلك السيد مرتضى عندما اجتمع به بمكة في سنة ثلاث وستين ومائة وألف وأطلعه على نسبه الشريف وأخرجه إليه من صندوق. قال وطلبت منه الإجازة وإسناد كتب الحديث فقال: غني عنه قال: فعلمت أنه أويسي المقام، ومدده من جده عليه الصلاة والسلام. وانتقل إلى الطائف بأهله وعياله في سنة ست وستين وشرف تلك المشاهد ومآثره شهيرة، ومفاخره كثيرة، وكراماته كالشمس في كبد السماء، وكالبدر في غيهب الظلماء، وأحواله في احتجابه عن الناس مشهورة، وأخباره في زهده عن الدنيا على ألسنه الناس مذكورة.(1/1011)
ومن مؤلفاته كتاب فرائض وواجبات الإسلام لعامة المؤمنين، وقد كتب على ظهرها بخطه الشريف:
فروض الدين أنواع ... وهذا الدر هافيها
فعض بناجذ فيها ... وقل يا رب صافيها
وهذه النبذة عجيبة في بابها جامعة مسائل العقائد والفقه، وشرحه شيخنا المذكور شرحاً نفيساً، ومنها سواد العين في شرف النبيين، ولها قصة في ضمنها كرامة قال في آخرها أنه فرغ من تأليفها في رجب سنة سبع وخمسين ومائة وألف، ومنها السهم الداحض في نحر الروافض، وهذه ألفها بعد خروجه من مكة لقصة جرت بينه وبين أهلها في جمادى سنة ست وستين ومائة وألف، ومنها الفروع الجوهرية في الأئمة الاثني عشرية، ومنها الدرة اليتيمة في فضائل السيدة العظيمة ألفها سنة أربع وستين ومائة وألف، وكتب بخطه الشريف على ظهرها:
لله در مؤلف ... درست به درر الملا
كم درة يتمت به ... حتى أفاقت للألى
يا رب فاعل مقامه ... كالدر في تاج العلا
ومن مؤلفاته الكوكب الثاقب وشرحه وسماه رفع الحاجب عن الكوكبب الثاقب، وله ديوانان متضمنان لشعره أحدهما المسمى بالعقد المنظم على حروف المعجم، والثاني عقد الجواهر في نظم المفاخر، ومنها المعجم الوجيز في أحاديث النبي العزيز صلى الله عليه وسلم اختصره من الجامع وذيله، وكنوز الحقائق والبدر المنير وهو في أربعة كراريس، وقد شرحه العلامة سيدي محمد الجوهري وقرأ دروساً، ومنها شرحه صيغة القطب ابن مشيش ممزوجاً وهو من غرائب الكلام، ومنها مشارق الأنوار في الصلاة والسلام على النبي المختار. توفي رضي الله عنه سنة سبع ومائتين وألف رحمه الله تعالى.(1/1012)
الشيخ عبد الله أبو محمد بن محمد بن رجب الحلبي الحنفي الشهير بالفرضي
العالم الحيسوب، والفاضل الذي هو لكل كمال منسوب، والعامل الهمام التقي، والكامل الإمام النقي. ولد سنة أربع وأربعين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وأخذ الفرائض عن صهره الشمس محمد بن حسين الفرضي وأبي اليمن تاج الدين محمد بن طه العقاد، وقرأ عليه وسمع منه في الحديث والنحو وغيره، وتفقه على أبي محمد عبد الوهاب العداس وأبي عبد الله محمد بن يوسف الأسبيري المفتي وأبي محمد مصطفى بن أبي بكر الكوراني الحلبي، وكان أحسن أهل بلدته وأمهرهم علماً في وقته، وكان في الفرائض متقناً ماهراً حفاظاً. توفي رحمه الله تعالى بحلب ليلة الأحد الثالث والعشرين من رجب الفرد سنة ألف ومائتين وخمس.
السيد عبد الله الكيلاني نسباً السمزيني الهكاري النقشبندي الخالدي
الحبر العلامة، والولي الفهامة، المرشد الكامل، والمقصد لكل آمل، صاحب الأخلاق المصطفوية، والشمائل المرضية، الفاضل الذي لا يبارى، والهمام الذي لا يجارى، كان من أهل الإقبال، والتجرد إلى ما ينفعه في المآل، ولما أتى حضرة الأستاذ مولانا خالد إلى بغداد دار السلام، رحل المترجم إليه، وأخذ الطريقة العلية عليه، فجاهد في الله حق جهاده، واجتهد فيما يوصله إلى مراده، حتى فاز بالفتوحات الربانية، والأسرار القدسية الرحمانية، وخلفه خلافة مطلقة وأذن له بالإرشاد، وإفادة العلم للعباد، ثم رجع إلى وطنه بأمر حضرة مولانا قدس سره وشرع في الإرشاد،(1/1013)
وسلك منهج السداد، وانتفع به الناس في تلك البلاد، وله من الخوارق والكرامات العظام، ما شهد له بها الخاص والعام، ولم يزل مثابراً على دعوة الناس إلى الله، وإرشادهم إلى ما يوصل كلاً منهم إلى مناه، إلى أن توفي رحمه الله في سنة ألف ومائتين وفوق الخمسين تقريباً.
الشيخ عبد الله الأرزنجاني المكي الخالدي النقشبندي
الفاضل العالم العامل، والولي المرشد الكامل صاحب الأنفاس القدسية، والإلهامات الربانية، مربي السالكين، ومذهب الواصلين، المتوجه بكليته إلى مولاه، والمعتمد عليه لا على سواه، قد أعرض عن الدنيا وما فيها لعلمه بأنها على شفا جرف هار، ولم يزل من المستغفرين بالأسحار، وترك الأوطان مع الجلالة والاحترام، واختار التذلل في المسجد الحرام. ذكر السيد إبراهيم الحيدري بأن المترجم سلك على يد حضرة مولانا خالد قدس سره ورباه أحسن التربية ولازم خدمته، ثم خلفه خلافة مطلقة وأذن له بالإرشاد. وكان قدس الله سره من أكابر الأولياء والخلفاء، وله مقام الصحو والبقاء، سلك على يد كثير من الأعلام، واشتهر بالولاية بين الأنام، وكان حضرة مولانا خالد ملتفتاً إليه بالتوجه التام، وكان كثير المودة له حتى إنه قدس سره في بعض حجاته قال له إني أتيت هذه المرة لأجلك يا عبد الله فانكب على قدميه. توفي سنة ألف ومائتين وبعد الأربعين.(1/1014)
الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن الكردي الخالدي النقشبندي
العالم الفاضل النحرير، والمرشد الكامل الكبير، مالك أزمة التقرير والتحرير، جامع المعقول والمنقول، حاوي الفروع والأصول، فهو الكامل العابد، والولي بن الولي الناسك الزاهد، أخذ الطريقة الخالدية أولاً وسلك فيها ثم سافر إلى حج بيت الله الحرام، وزيارة خير الأنام، عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، وبعد عوده من الحجاز، خلفه شمس الحقيقة في الحقيقة لا المجاز، وعلم الشريعة الواضحة، وقطب الطريقة الناجحة، قطب العارفين بالله شيخنا ومولانا خالد قدس الله تعالى سره خلافة مطلقة في الطريقة النقشبندية وأذن له بالإرشاد العام، ونشر العلم بين الأنام، ولم يزل على وصيته عاملاً بها في ظاهره ونيته، إلى أن توفي سنة ألف ومائتين وزيادة على الأربعين رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الله بن محمد الكردي البيتوشي الألاني الخانلي الشافعي
نشأ في بيتوش وقرأ فيها القرآن، وحصل العلم على أجلاء علماء بلاد بابان، فممن أخذ عنه الإمام ابن الحاج، وعني بالأدب فنفق به وراج، ثم رحل من بلاده إلى بغداد، ثم إلى الشام فاستفاد وأفاد، وكان في أول أمره على أقدام الطلب ساعياً، ولطاعته وعبادته وإقباله على الله مراعياً. وكان كثير المطالعة في كتب الحقائق، شديد التمسك بأسفار الوعظ والرقائق. ثم آثر الاشتغال بالعلوم الرسمية، وأكثر من الالتفات إلى العلوم الآلية واللغوية، وله شعر يسحر الألباب برقته، ويدع الأديب مشتغلاً بحيرته، جمع إلى الرقة الجزالة، ونزل من البلاغة منزل البدر من الهالة، ألف المؤلفات الجمة الفوائد، وانفرد بأبحاث هي لعمري الفرائد، توطن في(1/1015)
هجر البحرين، فدعي في علمائها عين الإنسان وإنسان العين، وأهدى الأعيان والملوك كواعب العذارى من بنات الأفكار، فحير في بداعتها مصاقع هاتيك الأقطار، ونظم أيام محاصرة صادق خان للبصرة تراجم الزواجر نظماً ضاهى به عقود الجمان، وشرحه شرحاً حل من البنيان محل الروح من الإنسان، ولما خرج من الأحساء فاراً بدينه توطن البصرة، ولم يزل في رفعة وقدر، له بين العلماء والأعيان من أرفع الأماكن الصدر، إلى أن توفي رحمه الله سنة عشرين ومائتين وألف.
الشيخ عبد الله أفندي بن عيسى أفندي الكردي الشافعي الحيدري
العالم العامل الورع الزاهد العابد المعتزل عن الناس والمقبل على الله. ولد في بغداد، وطلب العلوم على العلماء الجهابذة الأمجاد، وجنى ثمر الفوائد ببنان فكر وقاد، وتعطر به من الفضل الحيدري كل محفل وناد، وكان في المعقول والمنقول، آية الفروع والأصول، ولي تدرسي المدرسة العلوية، أواخر أيام دولة سعيد باشا فقرت به عيون العلماء ذوي المراتب العلية، توفي بعد الألف والمائتين وثلاث وثلاثين كما ذكر ذلك عثمان أفندي سند رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الله الهراتي النقشبندي الخالدي
العالم العامل، والمرشد الكامل، صاحب الأنفاس القدسية، والمعاني(1/1016)
الأنسية، والكلمات العالية، والتحقيقات السامية. قال في المجد التالد: أن المترجم قد لازم حضرة مولانا خالد النقشبندي وخدمه حضراً وسفراً ولم يتخلف عن أمره وأدى حق السلوك والخدمة في مرضاته، وكان من أخص خدامه ومريديه في حياته وبعد مماته، وكان قد اختار مقام التجريد ولم يتزوج لأنه كان على قدم الغوث الأعظم حضرة شاه عبد الله الدهلوي قدس سره، فإنه لم يتزوج إذ كان على قدم رسول سيدنا عيسى صلى الله عليه وسلم في مقام التجرد كما أن حضرة مولانا خالد قدس سره كان على قدم خاتم النبيين وسيد المرسلين، نبينا وسيدنا حبيب رب العالمين، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف، فإن كل ولي من الأولياء على قدم نبي من الأنبياء على ما ذكره السادة الصوفية، أفاض الله علينا وعليهم من بركاته القدسية. ولما سافر حضرة مولانا خالد إلى الهند ومر ببلدة هرات لقي الشيخ عبد الله الهراتي هناك فقال له إلى أين تذهب فقال مولانا خالد: إلى سلطان الأولياء شاه عبد الله الدهلوي لإصلاح حالي، فقال الشيخ عبد الله الهراتي: وأنا معك، فأجابه مولانا خالد بقوله انتظر رجوعي، فقال الشيخ عبد الله المذكور: أذهب إلى العراق وأنتظرك هناك، فجاء إلى الموصل وقرأ بعض العلوم، فلما سمع برجوع حضرة الشيخ مولانا خالد أتى إلى السليمانية ولازم خدمته، وذهب معه إلى بغداد والشام، وسلك أحسن السلوك وتخلف خلافة مطلقة. وبعد وفاة حضرة مولانا خالد قدس سره بمدة زمان، توجه حرمه مع ولده الشيخ نجم الدين طاب ثراه إلى بغداد، وتوجه الشيخ عبد الله معهم بخدمتهم، ولم يزل مع سلوكه في الطريق على أحسن سلوك ملازماً لخدمة من يلوذ بالأستاذ، إلى أن توفي سنة ألف ومائتين ونيف وأربعين.(1/1017)
السيد عبد الله بن محمد بن عبد الله أسعد
نجيب أبدى المحاسن وأبدع، ومن سلسال حياض النباهة تضلع، ولبيب سلك مسالك المعارف، فملك منها كل تليد وطارف، بعزم غير ذي كلال، وجد وجد به مكنون در الأفضال، تابعاً في ذلك آباءه، وجاعلاً في الاستفادة آناءه، وله الذهن الوقاد، والذكاء الذي أورده على الأدب حسن إيراد، فمن نظمه الأنيق المطلع، وشعره الذي من روض فكره اطلع، قوله:
يا ساكنين المنحنى من أضلعي ... منوا على قلبي وعظم توجعي
بالله إن جزتم بوادي رامة ... ورأيتم تلك الظباء بلعلع
ونظرتم تلك الأثيلات التي ... بين العقيق وبين ذاك الأجرع
ووجدتم تلك الأحبة عندها ... ردوا السلام عليهم بتوجع
قولوا لهم عبد الإله معذب ... يبكي الفراق يصب سيل الأدمع
وقوله مادحاً الشيخ عمر بن عبد السلام الداغستاني:
أشذى نسيم في سحر ... حاكت روائحه الزهر
من ظبي حسن آنس ... أنست محاسنه تتر
رشأ رقيق خصره ... ككلامه مهما نثر
ذو رقة من دونها ... غنج الحبوش إذا خطر
كم رمت ألثم ثغره ... من فوق أسنان درر
فحمى عقيق شفاهه ... بسهام أهداب النظر(1/1018)
يا حسنه من أغيد ... أسر الأحبة بالحور
شهدت ملاحته له ... مذ قلت هذا كالقمر
لكنه مذ قسته ... بمحاسن المولى الأبر
أرخى حجاب خفائه ... وأجاب ما هذا بشر
لله در كماله ... وبهائه ذاك الأغر
بهر العقول بسحره ... وبيانه المنشي سور
ما خلت لباً في الورى ... تتلى عليه ولا انبهر
فكأنما إنشاؤه ... آي الشفا لمن استغر
واهاً له هلا رقى ... مضنى بها بين البشر
كم أشتكى لمسامري ... ذاك السراج المفتخر
رب الفضائل من له ... في الشعر نظم معتبر
مولى النجابة والفصا ... حة والبلاغة إن شعر
دامت لنا أوقاته ... في نشأة تجلو الكدر
ما غردت ورق اليرا ... ع بمدحه بين الغرر
المرحوم عبد الله البري بن يحيى بن إبراهيم البري
من أفاضل هذا البيت الكمل، والمتقدم من جوامع فضلهم في الصف الأول، حاز بنبله لطائف أجداده، وفاق على أقرانه وأنداده، أثره كالبدر مشرق، وكالقصر مغدق، ينبي على أنه في حلبة المجد لم يقصر، وأنه في الكمالات متقدم وإن كان ظهوره في العصر المتأخر، فمن محاسن نظامه، ومستعذب كلامه، قوله:
ما عذب قلبي وما أثار به النار ... إلاك أيا من يفوق ضوء الأقمار
كم أسهد طرفي لذا تزايد وجدي ... بالسقم فحسبي من المحبة أكدار
يا مالك قلبي ومن تحكم فيه ... رفقاً بمحب سوى جمالك ما اختار(1/1019)
أواه إلى كم أبيت منك بقلب ... في الناس وحق الهوى تلهب بالنار
لو شمت غرامي لجدت لي بمرامي ... يا برء سقامي ولم تزدني أضرار
من لي بغزال إذا بدا كهلال ... قد صاد فؤادي ولم ينلني أوطار
دع عنك عذابي ولا تمل لبعادي ... يا كل مرادي ويا نزيهة أبصار
ناهيك بأني إذا أطلت صدودي ... سلسلت دموعي على خدودي أنهار
يا بدر فهل كان في لقاك وصول ... بالله فقل لي ولا تدعني محتار
وهذا الوزن من بحر السلسلة ووزنه فعلن فعلن فاعلن فعو فعلاتن كما ذكره السيد كبريت والسيوطي ورشيد الدين الأسواني في شرح مقامته الحصيبية رحمهم الله تعالى.
المرحوم عبد الله بن عبد الكريم بن محمد الخليتي
فرع زكي من طيب مغرس، وحديقة مجد بالفضل تنفس، شبيه أبيه مهابة وجلالة، وتابع سلفه إصابة وكمالة، وله ابن سامي الذكر، مثله في علاء القدر، فهو درة بين جوهرين، وقمر حف بفرقدين، كلل هام مجده بجواهر أدبه، وأتى من حديقة فكره بنظم لا بأس به، فمن ذلك قوله:
لقد وافى لزورة قبر طه ... أخو العليا وأهل للصدارة
ونال شفاعة الهادي المرجى ... وكانت عنده أسنى تجارة
هو المولى عزيز الله خان ... ومن أضحى الفخار له شعاره
رئيس ماجد فرد همام ... بليغ في الفصاحة والمهارة
مقام قدومه عام شريف ... غدا تاريخه حسن العبارة
بتاج للهنا يزهو ببيت ... وفيه من المسرة والبشارة
ينادينا لسان الحال جهراً ... عزيز الله مقبول الزيارة(1/1020)
السيد عبيد الله كدك المدني
ماجد الكمال قرينه، والوقار خدينه، صاحب فصاحة ولسن، ومكانة في الأدب منها تمكن، ومشاركة في فنون المعارف، ومطارحة في فنون اللطائف، فمما صدحت به عنادب قريحته وإفهامه، في غياض طروسه على أملد أقلامه، قوله من قصيدة مجيباً بها حضرة الأديب السيد عمر بن عبد السلام المدرس، مكللة بدرر غزلها ونسيبها وهي قوله بقوله:
ولى زماني وانقضى منعمي ... لم يبق لي ذوقي ولا منعمي
كلا ولا قلبي يعي ذرة ... حتى ولا سمعي ولم أعلم
من مربع قد زرته إذ عفا ... خلي منه ليت لم أقدم
إن الزمان المعتدي قد رمى ... قلبي بسهم صائب مسهم
بالعضب بل بالرمح مع خنجر ... أومى إلي ليت لم يعزم
لو كان رمحاً لاتقيت التي ... يا هل ترى عن أيها أحتمي
قالوا تصبر وارتجز واحتسي ... صرفاً عقاراً خلصت عن دم
قد عتقت من كرمة زانها ... كأس من البلور في معصم
تتسقي الأخلا من رحيق غدا ... ممزوجها مسك رضاب الفم
فصحت واشوقاً لذاك الرضا ... ب المشتهى من لي بذا المبسم
إني لمن قد خانه دهره ... من للحزين المسهد المعدم
قالت أنا الخود التي جاد بي ... حبي لا أصغي إلى لومي
لا أختشي قول العذول الغبي ... كلا ولا أرجع عن مغرمي
إني إلى مغناك مأمورة ... بالسعي كي أحظى فقلت اسلمي
أهلاً وسهلاً قد صفا وقتنا ... يا حبذا الحظ السني فاقدمي(1/1021)
إن أقبلت كغصن بان النقا ... والنهد باد فوق صدر سمي
أو ادبرت فخصرها ناحل ... من عظم ردف تحته مرتمي
عيناني من أعينها قد رأت ... سحراً لهاروت غدا ينتمي
والقوس من حاجبها حاجب ... عين الرقيب الأعين المقحم
لا عذر لي إن لم أبس فاهها ... وإن أغض الطرف لم أسلم
كيف وهي بنت لفكر الأديب اللوذعي البارع الأكرم
مغني اللبيب البارع المقتدى ... وابن الهمام الفارس الضيغم
سراجه الوهاج مستوضحاً ... إيضاح تلويح لمستفهم
ومنها
أهدى إلى ذي ورم عاجز ... رهين غم في الحشا مؤلم
سليل نظم رائق ينتقي ... در المقال الأعذب الأفخم
مستمهراً كشف نقاب لها ... من نظم در فائق أقوم
يا أيها المفضال يا ذا النهى ... إني لما كلفت لم أقحم
لكنني ألفت نظماً جرى ... من غير ما قصد ولم يسلم
موجود هذا الخل أبذلته ... فاقبل وعامل بالرضا واحلم
واسلم ودم في عيش عز علا ... أعلى مقام دائم مكرم
وهذه قصيدة السيد عمر بن السيد عبد السلام المدرس:
زار عذيب القلب والمبسم ... عشاقه في الحلك المظلم
وشرف المجلس من وصله ... في غفلة الحراس واللوم
ذو طلعة تخجل بدر الدجى ... قد سلبت عقل الشجي المغرم
كأنه ظبي النقا إذ رنا ... يسبي بلحظ فاتر أحوم
يهتز تيهاً كالقنا قده ... من طعنة العاشق لم يسلم
وجنته ورد وقد عمها ... خال إلى العنبر قد ينتمي(1/1022)
قد صانها خشية عشاقه ... بسحر طرف للنهى موهم
وجيده أزرى بجيد الظبي ... لما بدا في حسنه الأقوم
في صدره رمان نهد حلا ... غض الجنى مستعذب المطعم
ودونه أسود خال له ... به عن القطف ولمس حمي
منعطف الأعطاف ذو رقة ... ذل لها كل فتى ضيغم
فقلت أهلاً يا بديع الحلا ... ومرحباً بالزائر المكرم
أنعمت بالوصل على عاشق ... ذي صبوة للعشق مستسلم
يا أبيضاً حل سويدا الحشا ... حبك والله ثوى أعظمي
فهش ضحكاً بشفاه حوت ... راحاً حلت طيبة المنسم
فبان من ياقوتها لؤلؤ ... منتسق في سلكه الأنظم
وأنعش الأحباب من ليلة ... طابت لنا من وصله المنعم
في ساعة أحبب بها ساعة ... شفت فؤاد المدنف المسقم
فانشرح الخاطر شوقاً إلى ... مدح أخي المجد العلي المحكم
غواص بحر الفضل بالفكر من ... يرفل في برد العلى المعلم
شهم إذا ما ذكرت ذا رفعة ... تراه أسنى طالب مقدم
منها:
يا أيها الماجد يا من له ... نظم إلى الدر غدا منتمي
دونكم نظماً غدا فاتراً ... من أحقر عن فضلكم معدم
يرجوكم نظماً لكي يغتدي ... وجه كتابي منه في مبسم
فعاملوه بالرضا إنه ... هدية الأدنى إلى المقرم
وقابلوه بقبول ولا ... تلقوه إذ لبس بمستعظم(1/1023)
لا زلتم في رفعة دائماً ... ما أخفت الشمس سنا الأنجم
وما تجلت غادة في الحمى ... بين الصفا والحوض من زمزم
السيد عبيد الله بن صبغة الله بن إبراهيم بن حيدر الحيدري النقشبندي الخالدي مفتي الحنفية العام بمدينة السلام
الحبر العلامة، والنحرير الفهامة، جامع المعقول المنقول، محرر الفروع والأصول، زمخشري زمانه، وحريري وقته وأوانه، الفصيح البليغ الهمام، والجهبذ اللوذعي الإمام، الذي هو كأحد فصحاء العرب العرباء، والأديب الذي فاق المتأخرين والقدماء، الشاعر المفلق في اللغات الثلاث العربية والتركية والفارسية، والولي النبوي المرشد الكامل ذو الأخلاق الأحمدية، العارف بالله، والمتوجه بكله إلى مولاه، صاحب الأنفاس القدسية، واللطائف الأنسية، فاته منذ نشأ وميز، فاق على أقرانه وتميز، وأقبل على التحصيل والطلب، وجعله لفوزه عند الله أقوى سبب، وتمسك بالتقوى والعبادة، وسرى في مناهج السيادة والسعادة. وفي سنة ست وعشرين ومائتين وألف لما عاد حضرة الأستاذ، والعمدة الملاذ، مرشد الأمة المحمدية، للطريقة العلية النقشبندية، مولانا خالد إلى الأراضي العراقية، من الأماكن الهندية، تشرف المترجم بخدمته، وانتسب إلى طريقته، وتحمل مع حضرة الشيخ المشاق، في الرحلة إلى الآفاق، ولازم خدمته، وبذل في مرضاته همته، وقرأ عليه حتى اعترف بالمنن، وترقى على يديه حتى ترك الأهل والوطن، وذهب مع حضرة الشيخ الإمام، إلى السليمانية وإلى دمشق الشام، وسلك السلوك التام، وهجر المآكل والملابس والراحة والمنام، وأمره حضرة الأستاذ بحمل الماء على ظهره وتسبيله في أسواق بغداد وأزقتها وسقي العطاشى(1/1024)
من حاضر وباد، فامتثل الأمر العالي، وفعل ذلك مدة عشرين يوماً على التوالي، ثم أمره ببيع الماء من دون تسبيل، ففعل ذلك عشرة أيام من البكرة إلى الأصيل، مع كونه أجل العلماء، وأفضل الفضلاء في الأماكن البغدادية، والنواحي العراقية، ثم بعد مدة رأى الأستاذ عليه لوائح الإسعاد، وأمر في باطنه أن يخلفه في مكانه وأن يفوض إليه أمر الإرشاد، وأكثر خلفاء بغداد سلكوا أولاً على يديه ورباهم، ثم خلفهم حضرة الأستاذ وحباهم، وكان حضرة الشيخ قدس سره يثني على المترجم أحسن الثنا، ويقول بأنه وصل إلى غاية درجة الفنا، وأنه من جملة أفراد لا يوجد لهم نظير، إلا في حلقة شاه نقشبندي ذي القدر الكبير، وناهيك بهذه الشهادة من هذا السيد ذي المكارم، الذي لا تأخذ في الله لومة لائم، وله من الخوارق والكرامات أشياء كثيرة، معروفة في محلة شهيرة، كما ذكر ما يدل على ذلك صاحب المجد التالد. ولم يزل المترجم يترقى في درج الكمال، ويكرع كؤوس الصفا من دنان الجمال، إلى أن دعاه داعي المنون إلى من أمره بين الكاف والنون، وذلك في سنة ألف ومائتين وزيادة على الأربعين.(1/1025)
الشيخ عبيد الله بن عبيد الله بن صبغة الله بن إبراهيم الحيدري
العالم الذي ترك الدنيا وراءه، وطوى على محبة الآخرة أحشاءه، أعمل نفسه في المجاهدة والرياضة، لكي يروي من ماء الوصول إلى الله رياضه فمنع الطرف الكرى، وحمد مع القوم السرى، وتعانى العلوم الرسمية، ثم أقبل على العلوم الإلهية، قرأ القرآن وهو ابن ثمان أو سبع، وتعانى تحصيل الفضائل فاجتمعت عنده أي جمع، وأخذ عن نادرة الزمان، وشيخ الوقت والأوان، مولانا الشيخ خالد الطريقة النقشبندية، فنال منها غاية المراد والأمنية، إلى أن صار خليفة شيخه في زورائه، وعين وجوه أتباعه وأوليائه، يدعو إلى طريقته الخالدية، واقتفاء آثاره المرضية، مع تواضع وأدب، وهمة في الإقبال والطلب، ولقد مدحه عثمان أفندي سند سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين بقصيدة أولها وهي طويلة:
أناس دعاهم للمعالي عليهم ... وأخلصهم للعلم موسى وجعفر
إذا افتخروا فالفخر فيهم ومنهم ... ومن جده المختار لا شك يفخر
توفي رحمه الله تقريباً سنة ألف ومائتين ونيف وأربعين.
الشيخ عبد اللطيف بن مصطفى بن حجازي بن محمد بن عمر الحلبي الحنفي
أبو محمد زين الدين الفقيه الصالح الدين، مولده سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وتلاه مجوداً واشتغل بالأخذ والقراءة(1/1026)
والسماع، والحضور على الأجلاء، والسادة الفضلاء، منهم أبو عبد الفتاح محمد بن الحسين الزمار والبدر حسن بن شعبان السرميني وأبو الثنا محمود بن شعبان البزستاني وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي وأبو الصفا خليل ابن مصطفى الغنجراني وغيرهم. وارتحل إلى قسنطينية في أوائل سنة ستين ومائة وألف، وقرأ بها نخبة الفكر في أصول الحديث على المحدث الشهاب أحمد بن علي الغزي الشافعي نزيل القسطنطينية، وسمع منه الكثير ولازمه وحضر بقراءة الغير صحيح البخاري والبعض من صحيح مسلم في جامع أيا صوفيا الكبير، وأجاز له بخطه في السنة المذكورة بما تجوز له روايته؛ وقرأ الفقيه وسمع بقسطنطينية على الشهاب أحمد السليماني المصري وأجاز له بخطه في عاشر شعبان سنة إحدى وستين، وسمع الأولية من المذكورين ومن أبي عبد الله محمد بن أحمد الأريحاوي شارح الكنز والشمس محمد بن حسن ابن همات الدمشقي وآخرين. وأخذ عنه خليل أفندي المرادي سنة ألف ومائتين وخمس وسمع منه حديث الأولية بسماعه من أشياخه وأجازه بالإجازة العامة، كما رأيت ذلك بخطه. وتوفي المترجم سنة ألف ومائتين ونيف.
عبد اللطيف بن عبد السلام بن عبد القادر بن محمد الحلبي الشافعي
الإمام أبو محمد علم الدين المسند المعمر البركة التقي الصالح العمدة الهمام. مولده في حلب في شهر رجب الفرد سنة عشرين ومائة ألف، وسمع الكثير من الفنون والعلوم على الكثير من الأفاضل السادات كمحمد أبي عبد الفتاح الزمار وأبي الفتوح علي بن مصطفى الدباغ والبدر حسن بن شعبان السرميني وأبي عبد الكريم محمد بن عبد الجبار الواعظ وأبي السعادات طه(1/1027)
ابن مهنا الجبريني وأبي محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي وعبد الرحمن البكغالوني وأخويه عد الوهاب وياسين أولاد مصطفى البكغالوني وأبي المحاسن يوسف بن الحسين الدمشقي المفتي والنقيب في حلب وروى عالياً عن الشمس محمد بن هاشم الدري وأبي داود سليمان بن خالد النحوي وأبي الحياة خضر ابن محمد بن عمر الفرضي وأبي محمد عبد القادر بن عمر الإمام الحلبي وقد أخذ عنه واستجازه خليل أفندي المرادي مفتي دمشق الشام حينما كان في حلب سنة ألف ومائتين وخمس وتوفي بعدها ولم أقف على تاريخه وفاته رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد اللطيف بن الحاج حسين بن الشيخ عطية بن الشيخ عبد الجواد القاياتي من أولاد الشيخ ياسين القاياتي ينتهي نسبه إلى سيدي أبي هريرة الصحابي الجليل رضي الله عنه
المرشد الكامل المشهور، والفاضل الذي هو بكل فضيلة مذكور، نسل السادة الأمجاد، ونخبة القادة الأجواد، من ارتفع قدره في الأنام وسما، وطلع بدر علاه في أفق السما، وتوجهت له في المحبة القلوب، وتوسلت به ذوو الحوائج لنوال المطلوب، ودفع الكروب، فهو العامل الكامل، والفاضل المعروف بالفضائل.
ولد رضي الله عنه ببلدته المعروفة بالقايات، فلما صار عمره سبع سنين، وميز الشمال من اليمين، أقبل على قراءة القرآن، إلى أن أتمه بالتجويد والإتقان، وجه إلى الجامع الأزهر، والمحل الأنور، ثم دأب على الطلب، تمسك للتقدم بأقوى سبب، فأخذ العلم عن جملة أجلاء، وسادة قادة(1/1028)
علماء، منهم الإمام عمدة الأنام، العالم التقي، والعامل النقي، المرشد إلى الله، والمعتمد على ملاه، الشيخ عبد العليم السنهوري نسبة إلى سنهور بلدة بالفيوم، ومنهم الهمام العلامة، والإمام الفهامة، الورع الزاهد، والناجح العابد، الشيخ محمد الشنويهي المدفون ببلدة شنويه من أعمال القليوبية وأخذ عن غيرهما من السادة الأعلام والقادة الكرام، وأجازوه بكل ما تجوز لهم روايته، وتعزى إليهم درايته، وكتبوا له خطوطهم، وقد شهدوا له بالكمال، وأنه من الأفاضل ذوي الرفعة والإجلال. ثم بعد تضلعه من العلوم، وتمكنه من تحقق المنطوق والمفهوم، رجع إلى بلدته القايات لإرشاد أهلها، وإبعادها عن جهلها، ونصرة الدين، وإرشاد الواردين والقاصدين، وزجر العصاة والمفسدين، فبذل جهده في العبادة والتقوى، وانتهت إليه في تلك الأماكن رئاسة العلم والإرشاد والفتوى، وسلك أحسن المسالك في الإرشاد، وعمر أماكن العبادة وشاد، وأقبل عليه الناس من كل جانب، وامتثلوا أمره امتثال الفرض والواجب، ومع كونه مطبوعاً على اللطف والجمال، كان كل من رآه ينظر إليه بعين الهيبة والإجلال، وكان شديد الغيرة إذا انتهكت المحارم، فلا تأخذه في الله لومة لائم، متمسكاً بالتقوى، والسبب الأقوى، ثم أنه اجتمع بقطب زمانه، وفرد وقته وأوانه، الولي الأمي، والعالم العامل اللدني، الشريف الصمداني، واللطيف الرباني، العارف بالله سيدي إبراهيم الشلتامي العمراني، فطلب منه الطريق فدله على أستاذه عبد العليم فرحل إليه في الحال، وطلب منه أن يتكرم عليه بطريق السادة ذوي الكمال، فلقنه الذكر وأمره بالتردد على الأستاذ الشلتامي لتقارب بلديهما فجد واجتهد، إلى أن حصل له الفتح والمدد، في مدة يسيرة وبرهة قصيرة، ثم أذن له بالتلقين، وإرشاد المريدين، فاشتهرت الطريق به الشهرة التامة، وحصلت منه الهداية العامة، وظهرت كراماته، وبهرت إشاراته، وكان في الكرم بحراً، وفي العلم والفضائل حبراً،(1/1029)
ورعاً زاهداً، تقياً عابداً، متخلقاً بالأخلاق الأحمدية، متحققاً بالحقائق المحمدية، كثير التواضع والحلم، غزير العمل والعلم، حسن الخلق والخلق، جميل اللطافة والرفق. وقد أفرد مناقبه بالتأليف، ولده الروحي الجامع بين الشريعة والحقيقة، والناهج منهج السنة والطريقة، العالم الإمام، والجهبذ الهمام، سيدي الشيخ خليفة السفطي، أحسن الله قراه، وجعل الجنة مأواه ومثواه، ولم يزل يعلو مقامه، ويسمو احترامه، إلى أن دعاه داعي المنون، لمقامه العالي المصون، وذلك في رابع عشر صفر سنة ثمان وخمسين ومائتين وألف ودفن ببلدة القايات وبني لها بها مقام كبير، ومسجد عظيم شهير، بمنارة عالية، وعمارة سامية، والقايات " بقاف بعدها ألف ثم ياء بعدها ألف فتاء مثناة من فوق " بلدة من بلاد الصعيد تابع القطر المصري.
السلطان الغازي عبد المجيد خان بن السلطان الغازي محمود خان
ولد سنة ألف ومائتين وسبع وثلاثين، وجلس على تخت السلطنة بعد موت والده السلطان محمود تاسع عشر ربيع الأول سنة ألف ومائتين وخمس وخمسين، فجهز الجيوش لقتال عساكر محمد علي باشا وإخراجها من الشام، وأعانه على ذلك دولة إنكلترا، وكانوا عرضوا على السلطان محمود الإعانة فأبى، فلما توفي وتسلطن ولده السلطان عبد المجيد قبل إعانتهم فأعانوه، وسير جيوشه إلى الشام فهزموا عساكر إبراهيم باشا وأخرجوهم من الأراضي الشامية، وأرادوا التوجه إلى مصر والإسكندرية لإخراج محمد علي باشا فتوسطت دولة إنكلترا بالصلح إلى أن أتموه بشرط أن تكون الإسكندرية(1/1030)
ومصر وأقطارهما لمحمد علي باشا ولأولاده من بعده، وضربوا عليه خراجاً معلوماً يدفعه في كل سنة، ويرجع إلى الدولة الشام والحجاز وتم الأمر على ذلك.
وكانت مدة تملكه الأقطار الشامية قريباً من تسع سنين وفي مدة السلطان المترجم المومى إليه قوي الاتحاد مع دولتي فرنسا وإنكلترا، فحسنوا له إحداث القوانين المسماة بالتنظيمات الخيرية، فصدر منه الفرمان السلطاني بذلك سنة خمس وخمسين ومائتين وألف، وهي سنة جلوسه على تخت السلطنة. وفي سنة تسع وستين ومائتين وألف كانت الحروب العظيمة بين السلطان عبد المجيد والروسيا المسماة بحرب القرم، وسببها أنه وقع اختلاف بين طائفتي الروم واللاتين في القدس من عدة سنين بسبب كنيسة القيامة وبعض الأماكن المقدسة، فكانت كل طائفة منهما تدعي لنفسها حق الرياسة والتقدم على الأخرى بالاستيلاء على مفاتيحها، ثم أخذت هذه المسألة تتعاظم بينهما وتمتد يوماً بعد يوم إلى أن آل الأمر إلى النزاع والجدال في سنة ثمان وستين ومائتين وألف، فوقع الباب العالي في ارتباك وحيرة من جهة تسكينها وإخماد نارها، لأن الروسيا كانت تحامي عن حقوق الروم، وفرنسا تحتشد لطرف اللاتين، فتداخل سفر إنكلترا في صرف هذا المشكل ورسم ترتيباً لائتلاف الملتين والمتخالفتين، فقبلته فرنسا ولم تقبله الروسية، لأن مقصدها التوحد، ولم يكن مقتصراً على المحاماة عن حقوق الروم بل كان لها غايات أخرى طالما كانت تجتهد على نوالها(1/1031)
وتترقب الفرص لاستحصالها، وهي إبعاد الدولة العثمانية من قارة أوروبا والاستيلاء على أقاليهما وولاياتها، فانتهز إمبراطورها نقولا تلك المنازعة فرصة مناسبة لنوال بغيته وبلوغ أربه، فبعث سفيراً إلى القسطنطينية لمقابلة السلطان عبد المجيد، بعد أن كان بعث جيشاً يبلغ مائة وأربع وأربعين ألفاً إلى نهر الطونة ليكون مستعداً لوقت اللزوم والحاجة، فلما وصل السفير المذكور إلى القسطنطينية رفض مواجهة فؤاد باشا وزير الخارجية، ودخل رأساً على الحضرة الشاهانية، وعرض عليه مطالب الأمبراطور نقولا في المسألة المتعلقة بالأماكن المقدسة، وأن جميع الروم الذين هم من تبعة الدولة العلية تكون تحت حمايته من الآن وصاعداً، وأن بطرك الروم القسطنطيني وباقي أساقفة الطائفة يكون انتخابهم وتغيرهم منوطاً به، وأن الشكاوى والدعاوى التي تصدر عليهم من جهة تصرفاتهم تعرض عليه لينظر فيها، ومغايرة للأصول وقوانين الدول، فانثنى السفر راجعاً من حيث أتى، وأعلم الامبراطور نقولا بواقعة الحال، فاستشاط غضباً وأصدر أمراً إلى العساكر التي أرسلها إلى أطراف الطونة أن تعبر النهر وتستولي على تلك الأطراف، فاجتازت النهر وشنت الغارات على إمارات الأفلاق والبغدان، واستولت عليها، ولما تحقق الباب العالي قدوم ذلك الجيش إلى أطراف بلاده علم أن مقاصد الروسية في تطلبها لم تكن إلا وسيلة لإشهار الحرب، فجهز جيشاً وأرسله إلى تلك الحدود تحت قيادة عمر باشا المجري لردع الروسيين، ولما تأكدت الدول الأرباوية بغية الروسية ومقاصدها بادرت إنكلترا وبروسيا والنيمسا إلى عقد جمعية للنظر بإجراء الوفاق بين الدولتين، وأرسلت كل دولة منهما معتمداً من طرفها إلى مدينة آثينا حيث وافاهم سفير من طرف الروسية وآخر من طرف الدولة العلية، وعقدوا هناك مجلساً في سنة ألف ومائتين وسبعين لم يأت بالمرغوب.(1/1032)
فلما لم يكن سبيل للصلح أشهر الباب العالي الحرب، وصدم سليم باشا العساكر الروسية في الأناطول، وانتصر عليهم في عدة مواقع، وهاجمهم عمر باشا في الروم ايلي وانتصر عليهم أيضاً، وأما العمارة التي للروسية في البحر الأسود فصدمت العمارة العثمانية واستظهرت عليها بعد حرب شديد فأتلفتها، وكانت مؤلفة من سبعة فركاتات وباخرتين وثلاث مراكب حربية، ثم أن إنكلترا وفرانسا لما تيقنتا سوء نتائج هذه الحرب احتشدتا لمعونة السلطان وأعلنتا الحرب على الروسية، وفي سنة إحدى وسبعين ابتدأتا في نقل رجالهما ومهماتهما إلى ساحة الحرب، واشتبكتا في القتال، وأما باقي دول أوروبا فكانت محافظة على الحيادة، وكانت دولة إنكلترا قد أرسلت عمارة بحرية إلى بحر بلتيك فاستولت على قلعة بومارستود ثم على جزيرة ألاند ولكنها لم تقدر على استخلاص القلعة نظراً لحصانتها. وإذ كانت سيواسطبول أعظم قوات الروسية التي يعول عليها في البحر الأسود، ووجهت إنكلترا وفرانسا قواتهما لافتتاحها والاستيلاء عليها فأرسلتا فرقاً من عساكرهما يبلغ عددها ستين ألفاً وكان أكثرها فرنساويين، فنزلوا في بوباسرايا، وبينما كانوا يتقدمون إلى سيواسطبول صادفهم العساكر الروسية فاقتتل الفريقان قتالاً شديداً إلى أن دارت الدائرة على الروسيين، فانهزموا عند نهر الماء، وكان جيش عساكر الروسية يحاصر مدينة سليسترة، ولم تقدر على أخذها، فخرجت عليهم العساكر العثمانية من المدينة واقتحمتهم فانتصرت عليهم وفرقتهم، فذهبوا عن المدينة خائبين وانضموا إلى آخرين، وقصدوا القرم لنجدة حصار قلعة سيواسطبول التي إليها وجهت الروسية كل قوتها من المهمات والعساكر والذخائر، وصادم جيش من الإنكليز جيشاً للروسيين عند بالاكلا فانتصروا عليهم بعد ما فقد منهم خلق كثير، فكان جيش للروسية محاصراً في الكرمات وعددهم ستون ألفاً، فخرجوا من(1/1033)
مكان حصارهم واقتحموا العساكر العثمانية والإنكليزية والفرنساوية، ودارت بينهم معركة شديدة الخسران على الفريقين، وانجلت بانهزام الروسية وألزموهم حصن يكن حينئذ في قوة الدول المتحدة الاستيلاء على سيواسطبول مع أنهم كانوا يزيدون في قوتهم الحربية ويكثرون هجماتهم وقنابرهم، ولم يقدروا على استخلاص تلك القلعة أو أن يمنعوا المساعدات التي كانت تأتيها من داخل البلاد، ولقد قاست العساكر المتحدة لا سيما الإنكليز في شتاء سنة إحدى وسبعين وشتاء اثنتين وسبعين أهوالاً وشدائد يكل اللسان عن وصفها وتعدادها، فإن الأمراض والأوجاع قد أخذت في العساكر كل مأخذ، وأهكلت كثيراً منهم فضلاً عن الجوع والتعرض لبرد تلك البلاد، والأبخرة المنتنة التي كانت تتصاعد من جثث القتلى والحيوانات. أما إيطاليا فقد هيأت جنودها للحرب وانضمت إلى الدول المتحدة، فأرسلت خمسة عشر ألف مقاتل بعدما تعهدت لها إنكلترا بدفع مبلغ مليون ليرة على سبيل الإعانة واشتهرت رجالها في تلك المجامع بالشجاعة والثبات، وفي خلال ذلك هلك الإمبراطور نقولا سنة اثنتين وسبعين ومائتين وألف، وجلس ولده إسكندر الثاني مكانه، وفي خلال ذلك وقعت وقعة هائلة بين الروسية والعساكر المتحدة، كانت الدائرة فيها على الروسية، واستولت جيوش فرانسا على قلعة ملاكوف، وإذ لم يبق للروسية استطاعة على حفظ مراكزهم تركوا سيواسطبول في مساء ذلك النهار، وعولوا على الهزيمة والفرار، ودخلت العساكر المتحدة إلى القلعة وامتلكتها، فانفتحت حينئذ مخابرات الصلح، وعقدت جمعية في باريز سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف حضرها اثنان من طرف كل دولة من الدول الست المتحاربة، وهي إنكلترا وفرانسا والعثمانية والنمساوية وروسيا وسردانيا، وأمضت شروط الصلح متضمنة أربعة وثلاثين بنداً أخصها أن الدولة العلية يكون لها الامتيازات التي لباقي دول أوروبا من جهة القوانين والتنظيمات السياسية، وأنها تكون(1/1034)
مستقلة في ممالكها كغيرها من الدول، وأن البحر الأسود يكون بمعزل عن جولان مراكب حربية فيه من أي جنس كان، ما عدا الدولة العثمانية والروسية فإن لهما حقاً في إدخال عدد قليل من المراكب الصغيرة الحربية لأجل محافظة أساكلها، وأن لا يكون للدولة العثمانية ولا الروسية ترسانات بحرية حربية على شواطئ البحر الأسود إلى مواطنها، وانتهت الحرب التي لم يكن لها داع سوى المطامع.
وفي سنة اثنتين وسبعين كانت فتنة عظيمة بمكة المشرفة بين أهالي مكة وعساكر الدولة بسبب ورود أمر يمنع بيع الرقيق، وانتهت في رمضان بالقبض على الشريف عبد المطلب بن غالب أمير مكة، وتولية الشريف محمد بن عون، والكلام عليها طويل.
وفي سنة أربع وسبعين وقعت فتنة في جدة بين أهالي جدة والنصارى الذين بها، بسبب اختلاف بعض أهل المراكب في وضع بنديرة الإسلام والإنكليز على بعض المراكب والكلام عليها أيضاً طويل.
وفي سنة سبع وسبعين كانت فتنة بالشام بين النصارى وأهل الشام الكلام عليها أيضاً طويل، قد ذكرت بعضه في ترجمة أحمد باشا الشهيد، وكان ابتداء الفتنة في هذه السنة بين النصارى والدروز في جبل لبنان فآل الأمر إلى وقوع حرب بين الفريقين، وكانت النتيجة ردية على النصارى بسبب اختلافهم وعدم انضمام بعضهم لبعض، وعدم انقيادهم لبعضهم، ففتكت بهم الدروز، ثم ما زال الأمر يتفاقم إلى أن وقع الأمر في الشام، وكانت فتنة كبرى، وداهية عظمى، فأرسل الباب العالي فؤاد باشا ليمهد الأمور وينتقم من المذنبين، وأرسلت فرانسا عشرة آلاف جندي(1/1035)
للمحافظة ومنع التعدي، وكذلك باقي الدولة الإفرنجية، منها من أرسل مراكب حربية، ومنها من أرسل نواباً لإصلاح الحال وتمهيد الأمور، وغب إجراء ما لزم إجراؤه استحسنت الدولة العلية باتفاق الدول وضع نظامات جديدة لأهل هذا الجبل، وأن تتحول أحكامه لمشير من الطائفة النصرانية من غير أهالي الجبل، ليكون متصرفاً بها ويخابر رأساً الباب العالي، فتوجهت المتصرفية لداود باشا الأرمني.
ومن خيرات السلطان عبد المجيد وفتوحاته المعنوية تجديد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة فإنه كان على بناء السلطان قايت باي، وكان مسقفاً بالخشب، فطالبت مدته وحصل فيه خراب، فصدرت إرادة مولانا أمير المؤمنين السلطان عبد المجيد خان بهدمه وتجديده سنة ألف ومائتين وسبعين، فهدم وجدد وجعل سقفه قبباً وطواجن كالمسجد الحرام، وتممت عمارته بعد مضي أربع سنين، فجاء على صفة لم ير الراؤون أحسن منها، وله عمارات كثيرة في الأماكن المأثورة بالحرمين الشريفين، وله تجديد ميزات للكعبة المشرفة سنة خمس وسبعين ومائتين وألف. وتوفي السلطان عبد المجيد في سابع عشر ذي القعدة سنة ألف ومائتين وسبع وسبعين وعمره أربعون سنة ومدة سلطنته ثنتان وعشرون سنة وستة أشهر.
الشيخ عبد المجيد بن الشيخ محمد صلاح الدين بن الشيخ عبد الله الحنبلي الشهير بأبي شعر الدمشقي
شهم سما في سماء المكارم، وطلعت شمس فضائله في أفلاك الأكارم، فكان فرد ذوي الذكر والتقوى، والعبادة في السر والنجوى، والطاعة في كل أحيانه، والإقبال على الله في سره وإعلانه، كثير الطواف والسعي ببيت الحمد والشكر، دائم التوجه إلى مولاه كأن كل لياليه ليلة القدر،(1/1036)
مع عشق بالله وهيام، وولوع ومحبة وغرام، قد شرب من صافي الشراب، فسكر وعن الأغيار غاب. مات رحمه الله سنة ثمان وستين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير وقبره ظاهر.
الشيخ عبد المجيد بن الشيخ محمد بن الشيخ محمد الخاني النقشبندي
همام حظه من الأدب وافر، وإمام وجه أمانيه طلق سافر، ما زال من الرفعة في أعذبها شرعة، ومن الحظوة في أسوغها جرعة، له في اللطائف والطرائف من الروضان روضان، ومن بداعة النظم والنثر من المرجان مرجان.
ولد في حدود الستين والمائتين والألف. وبعد أن أتم القرآن وجوده قرأ النحو والصرف، وحضر جملة من العلوم على سادة لهم اليد الطولى في المنطوق والمفهوم، منها الأمير الكبير، والفاضل الشهير السيد عبد القادر الجزائري، ومنهم علامة الشام الشيخ محمد الطنطاوي، ومنهم والده، واشتغل في علم الأدب إلى أن حاز على الأرب. وفي(1/1037)
عام ألف وثلاثمائة وأربعة عشر سافر إلى الآستانة وكان لجده معاش مقداره ألف وخمسمائة قرش في كل شهر، وبعد موت جده انتقلت لأبيه وما زالت تتناقص إلى أن صارت تسعمائة وخمسين قرشاً، فأراد المترجم إرجاعها إلى أصلها فلم يمكن، غير أنهم وجهوا على والده ثلاثمائة قرش قيد حياة، فجاء المترجم إلى الشام بعد ما مكث في الآستانة نحواً من سنتين، ولم يمض مدة بعد حضوره إلا وقد توفي والده، فانقطعت الثلاثمائة، وأما المعاش الأول فإنه تخاصم مع عمه الشيخ أحمد عليه، وكل منهما يدعيه لنفسه وأنه أحق به، وطال الخصوم إلى أن أصلح بينهما مفتي الشام صالح أفندي قطنا مناصفة، فيه وفي مشيخة التكة النقشية.
وللمترجم نظم ونثر كثير، ومن ذلك قصيدته الرائية المؤرخة في كل شطر، التي بارك بها لسمو خديوي مصر، بمسند الخديوية. ومطلعها:
اللطف في أرجاء مصر يشير ... أني بتوفيق العزيز بشير
1296 1296 - وما أرشق ما قال منها:
دانت إليه الآصفية منصباً ... ودنا سروراً منبر وسرور
1296 1296 - ومن القصائد الحماسية، قصيدته البهية البائية، ومطلعها:
تجلى من العلم الإلهي كواكبه ... لنا وبنا سارت إلينا مواكبه
ونحن وإن جر الخمول ذبوله ... علينا فإنا للوجود مناقبه
وما الكون إلا شاعر وصفاتنا ... مشارقه تشدو بها ومغاربه
وما أعلى ما قال منها:
توهم أهل الجهل إدراك شأونا ... ومن نال هذا الفضل تسمو مراتبه
وهب أنهم قد أمطروا منه قطرة ... فمن بعد ما انهلت علينا سحائبه(1/1038)
ومن ذلك قصيدته الغراء الرائية ومطلعها:
نحن الملوك على الأسره ... في دولة الفقر المسرة
م ساح في ساحاتنا ... نحمي من الأغيار سره
أو غاب عن غاباتنا ... حرم الحماة من المعرة
ومن غزلياته وحسن اقتباساته:
أما وليال من ذوائبها عشر ... وما نسخت بالفرق من صورة الفجر
وما كتبت بالمسك في وجناتها ... فخالاتها تختال بالشفع والوتر
وسين جبين فوق نون حواب ... على قمر والليل فيه إذا يسري
وما نفثت بالسحر من لحظاتها ... وذا قسم لا ريب فيه لذي حجر
إذا كان من أهواه عني راضياً ... فلا رضيت عني الأنام إلى الحشر
ومن موشحاته وطيب رشحاته:
سلم الله غزالاً سلما ... بعيون كحلت بالنعس
وفم أتقنه الله فما ... فيه عيب غير طيب اللعس
دور
ربرب ربي في وادي زرود ... ما لوى الجيد إلى ماء اللوا
لو رآه البدر يهوى للسجود ... وهو لا يعلم ما معنى الهوى
ذو محيا خاله فوق الخدود ... ملك الزنج على العرش استوى
كل من علمه منع اللما ... جاهل قدر حياة الأنفس
ما له من مشبه نفسي وما ... لي فدا ذاك الرضاب الأنفس
ومن مقطفاته ما كتب به إلى أحد الفضلاء الكرام، وقد ذهب إلى بيت المقدس ووعده بالعود إلى دمشق الشام:(1/1039)
أسرت بآية الإسراء عبداً ... تلهى بالعهود إذا تلاما
وما قالوا له إيه إذا ما ... تحدث عنك إلا قال آها
ومن ذلك وقد عارض صاحب العقد الفريد في قوله:
إن يوم الفراق أفظع يوم ... ليتني مت قبل يوم الفراق
فقال:
من تمنى الممات قبل الفراق ... ما له في شرع الهوى من خلاق
كيفما كان قد تصبر حتى ... ذاق يوف الفراق بين الرفاق
لو يكن صادق المحبة مثلي ... مات خوفاً من ذكر يوم الفراق
ومن تطريزه في كل كلمة ما كتب إلى رئيس كتاب ولاية سورية الجليلة:
سلام على أقمار دهر ترى لهم ... وضاءة حسن ساطع يوم تلمح
حرقت لهم مستعطفاً يوم أقبلوا ... فؤادي نداً دائماً يتفوح
ومن ذلك ما أنشده عند دخوله إلى بيروت مقرظاً جرائدها السبع عام ثلاثمائة وألف فقال:
ثمرات مقتطف الجنان بشيرها ... بلسان مصباح التقدم قائل
ظل المعارف وارف في روض بيروت وحزب الفضل فيه قائل
وكان والده رحمه الله يقرأ في كل يوم ثلاثا وجمعة صحيح البخاري صباحاً في حجرته في جامع السويقة وبعد موته جلس المترجم في مكانه. ثم بعد موت عمه الشيخ أحمد سافر المترجم إلى الدار العلية لتكون المشيخة والمعاش له بمفرده فلم ينجح ووجهت المشيخة على الجامع والمعاش على عمه الشيخ عبد الله، وتوفي المترجم في الآستانة وذلك سنة ألف وثلاثمائة وخمس عشرة.(1/1040)
الشيخ عبد العزيز بن أحمد ولي الله الدهلوي رحمه الله تعالى.
سلطان إقليم المعاني، ومالك أزمة البيان وبديع الزمان الثاني، ومؤيد مذهب النعمان، ومسدد أقوال ذوي المعرفة والشان، مصنفاته لا تحصى، ومؤلفاته تجل عن أن تستقصى، فمن نظمه ما كتبه إلى السيد العلامة حسين اللندني الهندي وهو هذا:
هنيئاً قد أقر الله عيني ... بأخبار أتتني من حسين
فتى إن عدت الأعيان قالت ... له الأعيان إنك أنت عيني
فدام بقاؤه ما لاح برق ... واطرب صوت قمري وعين
ثم أتبعه بهذا النثر: روض ممطور، ودر منظوم في رق منشور، وقراضات ذهب ساقطها اليراع من الأحرف النورانية فهي نور على نور، وشمس من الكلام، أطلعها أفقها في بروج من القراطيس، وكواكب من حسن الانتظام تبلجت في سماء البلاغة وتدبجت فما هي إلا أجنحة الطواريس. وردت من تلقاء قطب فلك الكرم، ينبوع مكارم الأخلاق والشيم، ربيع الوفاد، وثمال المرتاد، ومقصد الحاضر والباد، ربوة الفخر العليا وبهجة الحياة الدنيا، دوحة المجد التي سقاها ماء النبوة ريا، من كرم جده وسما في سماه المعالي جده، وتغلغل في الشرف صيته وشرف مجده، لا زال للصريح نصرة، وللعصر البهيم غرة، ما جن غاسق وجن عاشق وطلع نجم(1/1041)
ولاح في برجه، ونجم طلع وفاح في مرجه، على محب حل حبه منه محل الروح وملك ما يغدو منه وما يروح، بل حب مازج القلب فما تشابها وتشاكل الأمر، بل اتحدا فلم يقل: " رق الزجاج ورقت الخمر " إلى غير ذلك، والسلام.
ألا وإن هذا الهمام له من النظم أعلاه، ومن النثر أجمله وأجله وأحلاه، لقد سرى في الناس حسن معناه، وسلم له الكل بأنه نال من الكمال مناه، فظهر ظهور القمر، ومهر في المعارف حتى بهر. توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين ونيف.
السيد عبد المحسن بن حمزة بن السيد علي الدمشقي الحنفي الشهير بابن عجلان الشريف الحسني
نقيب الأشراف بدمشق الشام. ونخبة أعيانها وأشرافها الكرام، المتحلي بحلى الأدب والكمال، والمستوي على عرش اللطافة والجمال، أحد فضلاء الأفاضل المعروفين، وأوحد السادات الأوائل المشهورين، المشار إليهم بعلو الذكر، وسمو القدر، فلا ريب أنه ممن علا قدره وفاق، وعم ذكر النواحي والآفاق.
ولما توفي والده السيد حمزة ولي نقابة الأشراف مكانه ومشى على نسق والده من التقوى والديانة والصيانة.
فائدة
النقابة معناها الرئاسة قال في القاموس: النقيب ضمين القوم وعريفهم وقال في مادة عرف: والعريف كأمير من يعرف أصحابه، والعريف(1/1042)
رئيس القوم. وقيل إن النقيب دون الرئيس، وعلى كل حال فنقيب الأشراف رئيسهم. نقل صاحب الشرف المؤبد أن هذه النقابة على الأشراف وضعت في الأصل لصيانتهم عن أن يتولى عليهم من لا يكافئهم في النسب ولا يساويهم في الشرف، ويختار لها أجلهم بيتاً وأكثرهم فضلاً وأجزلهم رأياً، لتجتمع فيه شروط الرياسة والسياسة، فيسرعوا إلى طاعته برياسته، وتستقيم أمورهم بسياسته، ويلزمه لهم بتقلدها اثنا عشر حقاً " أحدها " حفظ أنسابهم من داخل فيها وليس منها أو خارج عنها وهو منها. " والثاني " معرفة أنسابهم وتمييز بطونهم ويثبتهم في ديوانه على التمييز. " والثالث " معرفة من ولد منهم من ذكر أو أنثى فيثبته ومعرفة من مات فيذكره. " والرابع " أن يحملهم على الآداب التي تضاهي شرف أنسابهم وكرم محتدهم لتكون حشمتهم في النفوس موفورة، وحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم محفوظة. " والخامس " أن ينزههم عن المكاسب الدنيئة ويمنعهم عن المطالب الخبيثة حتى لا يستقل ولا يستضام منهم أحد. " والسادس " أن يكفهم عن ارتكاب المآثم ويمنعهم من انتهاك المحارم ليكونوا على الدين الذي نصروه أغير، وللمنكر الذي أزالوه أنكر، فلا ينطلق بذمهم لسان ولا يشنؤهم إنسان. " والسابع " أن يمنعهم من التسلط على العامة لشرفهم والتشطط عليهم لنسبهم فيدعوهم ذلك إلى المقت والبغض ويبعثهم على المناكرة والبعد وأن يندبه إلى استعطاف القلوب وتألف النفوس ليكون الميل إليهم أوفى والقلوب لهم أصفى. " والثامن " أن يكون عوناً لهم في استيفاء حقوقهم حتى لا يضعفوا عنها وعوناً عليهم في أخذ الحقوق منهم حتى لا يمنعوا أهلها منها، ليصيروا بالمعونة لهم منتصفين وبالمعونة عليهم منصفين، فإن من عدل السيرة فيهم إنصافهم وانتصافهم. " والتاسع " أن ينوب عنهم في حقوقهم في بيت مال المسلمين. " والعاشر " أن يمنعهم نساءهم أن يتزوجن إلا من الأكفاء لشرفهن على سائر النساء صيانة لأنسابهن وتعظيماً لحرمتهن. " والحادي عشر "(1/1043)
أن يقوم ذوي الهفوات منه ويقيل ذا الهيئة منهم عثرته ويغفر بعد الوعظ زلته. " والثاني عشر " أن يراعي وقوفه بحفظ أصولها وتنمية فوعها ويراعي قسمتها عليهم بحسب الشروط والأوصاف ويزداد على ذلك في النقابة العامة خمسة أشياء أخرى: " أحدها " الحكم بينهم فيما تنازعوا فيه. " والثاني " الولاية على أيتامهم فيما ملكوه. " والثالث " إقامة الحدود عليهم فيما ارتكبوه. " والرابع " تزويج الأيامى اللاتي لا يتعين أولياؤهن أو قد تعينوا فعضلوهن. " والخامس " إيقاع الحجر على من عته منهم أو سفه وفكه إذا أفاق ورشد انتهى ملخصاً من الأحكام السلطانية للإمام الماوردي.
ثم أن المترجم كان مستقيماً، وكان لأهل النسب والشرف قدر عظيم في أيامه لملاحظته لهم بعين الإجلال والتعظيم. مات عقيماً في شعبان سنة ثلاث وستين ومائتين وألف ودفن في مدفنهم المعروف بمدفن بني عجلان.
الشيخ عبد الملك القلعي الحنفي مفتي السادة الحنفية بمكة المشرفة
وهو الشيخ عبد الملك بن القاضي عبد المنعم بن القاضي تاج الدين محمد القلعي، فارس ميدان الأفاضل، وعنوان شرف الفضائل، عمدة الأعيان، ونخبة ذوي القدر والشان، فقيه السادة الحنفية، ومحدث الديار الحجازية، ومدار كرة المعقول والمنقول، ومنار فلك القادة الفحول. ولد في مكة سنة ألف ومائة ونحو الخمسين وأخذ عن والده وعن العلامة السيد سعيد سنبل. وعن الفهامة الشيخ عبد الله الشبراوي االأزهري وغيرهم، وولي الإفتاء بمكة المكرمة وكانت له الصدارة في العلوم، من منطوق ومفهوم، وكانت وفاته سنة تسع وعشرين ومائتين وألف ودفن في مقبرة المعلى.(1/1044)
الشيخ عبد المنعم بن شيخ الإسلام الشيخ أحمد العماوي المالكي الأزهري المصري
شيخ الإسلام والمسلمين، وعمدة الأعلام المتقدمين، ينبوع العلم والعرفان؛ المطبوع على الفضائل والإحسان، من افتخرت به الأفاضل وهرعت إليه الأكابر والأماثل، آخر طبقة الأشياخ من أهل القرن الثاني عشر، تفقه على الشيخ الزهار وغيره من أهل مذهبه المعتبر، وحضر الأشياخ المتقدمين كالدفري والحفي والصعيدي والشيخ سالم النفراوي والشيخ الصباع الإسكندري والشيخ فارس وأمثالهم من الموجودين، وانتفع الناس بعلمه الأنور، ولم يزل ملازماً لإقراء الدروس في الأزهر، مع العفة والديانة، والمروءة والصيانة، والانزواء عن الناس والرضى بحالته، والقناعة بما لم يشغله عن ديانته، ليس بيده من التعلقات الدنيوية سوى النظر على ضريح سيدي صفوة الأكابر، أبي السعود المعروف بأبي العشائر، ولم يتجرأ على الفتيا مع أهليته لذلك، وسلوكه في أحسن المسالك، ولم تمل نفسه لزخارف الدنيا وسفاسف الأمور، مع التجمل في الملبوس والمركوب وإظهار الغنى والحبور، وكان يصدع بالحق ولا يلتفت إلى مكابره ولا يتردد إلى بيوت الحكام والأكابر، إلا لضرورة داعية، فيدخل مع مروءة وهمة عالية، ولم يزل كذلك حتى دعاه الحمام، إلى دار السلام، وذلك ليلة الخميس حادي عشر ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف وعاش أربعاً وثمانين سنة، وصلي عليه في الأزهر ودفن في تربة المجاورين.(1/1045)
عبد الهادي بن السيد سليم الدمشقي الفاروق الشهير بالعمري الحنفي
كان من مشاهير صدور الشام، وأعيانها العظماء الفخام، له صولة عظيمة، وهيبة جسيمة، وجلالة في قلوب الناس سامية، وشهرة في الأماكن جميلة وافية.
ولد بدمشق الشام، ونشأ على أتم مرام، حتى ساد وبرع، وسما على كاهل الكمال وارتفع، وصار عضواً في المجلس الكبير، وكان عليه تولية وقف سيدي علي بن عليل الفاروقي العمري ذي المقام الشهير، ثم بعد ذلك ترك الاختلاط بالأكابر وذوي السياسة والأعيان، وانزوى في بيته للصلاة والعبادة وتلاوة القرآن، إلى أن توفي في شهر ربيع الثاني سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح.
الشيخ عبد الوهاب بن الحسن البوسنوي الساري المعروف ببشناق
ترجمه الجبرتي بقول: العمدة الفاضل الواعظ، قدم مصر سنة تسع وستين ومائة وألف ووعظ بمساجدها وأكرمه العلماء للجنسية، ثم توجه إلى الحرمين وقطن بمكة ورتب له شيء معلوم على الوعظ والتدريس، ومكث مدة، ثم حصلت فتنة بين الأشراف والأتراك فنهب بيته وخرج هارباً إلى مصر، فالتجأ إلى علمائها فكتبوا له عرضاً إلى الدولة، بمعرفة ما جرى عليه، فعين له شيء في نظير ما ذهب من متاعه، وتوجه إلى الحرمين فلم يقر له(1/1046)
بمكة قرار، ولم يمكنه الامتزاج مع رئيس مكة لسلاقة لسانه واستطالته في كل ما دب ودرج، فتوجه إلى الروم ومكث بها أياماً حتى حصل لنفسه شيئاً من معلوم آخر، فأتى إلى مكة، وصار يطلع على الكرسي ويتكلم على عادته في الحط على أشراف مكة وذمهم والتشنيع عليهم وعلى أتباعهم، وذكر مساويهم وظلمهم، فأمره شريف مكة بالخروج منها إلى المدينة فخرج إليها، وقد حنق غيظاً على الشريف، فلما استقر بالمدينة ضم إليه بعض الأوباش ومن ليس له ميل إلى الشريف، فصار يطلع على الكرسي ويستطيل بلسانه عليه ويسبه جهراً، وغره مرافقة أولئك معه وأن الشريف لا يقدر أن يأتي لهم بحركة، فتعصبوا وزادوا نفوراً، وأخرجوا الوزير الذي هو من طرف الشريف، وكاتبوا إلى الدولة برفع يد الشريف عن المدينة مطلقاً، وأنه لا يحكم فيهم أبداً، وإنما يكون الحاكم شيخ الحرم فقط، وأرسلوا بالمعروض مفتي المدينة إلى الدولة العلية، فكتب لهم على مقتضى طلبهم خطاباً إلى أمير الحاج الشامي وإلى الشريف، ولما أحس الشريف بذلك تنبه لهذه الحادثة وعرف أن أصلها من أنفار بالمدينة أحدهم المترجم، واستعد للقاء أمير الحاج بعسكر جرار على خلاف عادته، ورام مناوءته إن برز منه شيء خلاف ما عهد منه، فلما رأى أمير الحاج ذلك الحال كتم ما عنده، وأنكر أن يكون عنده شيء من الأوامر في حقه، ومضى لنسكه، حتى إذا رجع إلى المدينة تنمر وتشمر وكاد أن يأكل يده من التندم والحسرة، وذهب إلى الشام. ولما خلت مكة من الحجاج جرد الشريف عسكراً على العرب فقاتلوه، وصبر معهم حتى ظفر بهم، ودخل المدينة فجأة، ولم يكن ذلك يخطر ببالهم قط فما وسعهم إلا أنهم خرجوا للقائه، فآنسهم بأنه ما أتى إلا لزيارة جده عليه الصلاة والسلام، وليس له غرض سواه. فاطمأنوا بقوله، وشق سوق المدينة بعسكره وعبيده، حتى دخل من باب السلام، وتملى من الزيارة، وأقبلت عليه(1/1047)
الوظائف مسلمين، فأكرمهم وكساهم، فلما آنس منهم الغفلة أمر بإمساك جماعة من المفسدين فقبض على بعضهم، واختفى باقيهم وتسللوا وهرب منهم جماعة بالليل خفية، وكان المترجم أحد من اختفى في بيته ثلاثة أيام، ثم غير هيئته وخرج حتى أتى مصر، ومشى على طريقته في الوعظ، وعقد له مجلساً بالمشهد الحسيني، وخالط الأمراء، وحضر درسه الأمير يوسف بك، ومال إليه، وألبسه فروة ودعاه إلى بيته وأكرمه، وتردد إليه كثيراً، وكان يجله ويرفع منزلته، ويسمع كلامه وينصت إلى قوله، واستمر بمصر، وسكن في حارة الروم، ورتب له الضربخانة كل يوم مائة نصف فضة، وعلا جاهه وارتفع قدره عند أبناء جنسه، إلى أن وقع له ما وقع مع إسماعيل باشا، تغير خاطره بسببها عليه فحبسه ثلاثة أشهر ثم أخرجه بشفاعة الدفتردار وانزوى خاملاً في داره إلى أن مات في أوائل شعبان في الطاعون سنة خمس ومائتين وألف رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الوهاب الشبراوي الشافعي الأزهري
الإمام العمدة الفقيه الصالح، والهمام النخبة النبيه الفالح، تفقه على أشياخ العصر، وحضر دروس الشيخ عبد الله الشبراوي والحفني والبراوي وعطية الأجهوري وغيرهم، وتصدر للإقراء والتدريس والإفادة بالجوهرية وبالمشهد الحسيني وحضر درسه الجم الغفير من العامة، واستفاد منه الكثير من الناس، وقرأ كتب الحديث كالبخاري ومسلم، وكان حسن الإلقاء سلس التقرير جيد الحافظ جميل السيرة مقبلاً على شأنه، ولم يزل ملازماً على حالته حتى اتهم في إثارة الفتنة وقتل في القلعة شهيداً بيد الفرنسيس في أواخر جمادى الأولى سنة أربع عشرة ومائتين وألف ولم يعلم له قبر رحمه الله.(1/1048)
الشيخ عبد الوهاب بن أحمد بن يوسف الحلبي الشافعي السعدي
أحد المشايخ السعدبة بحلب، مولده بها بعد الخمسين ومائة وألف، وقدم دمشق الشام سنة ثمان وسبعين ومائة وألف، وأخذ الطريقة السعدية عن الشيخ الكامل والعمدة الفاضل، أبي عبد الله محمد سعد الدين بن مصطفى بن البرهان إبراهيم السعدي الجباوي الدمشقي الميداني، وكتب له الإجازة على عادتهم، وخلفه وأمره بالإرشاد والتسليك، وكتب له العلماء خطوطهم على الإجازة، وكان صالحاً عابداً زاهداً تقياً مرشداً نقياً مشتغلاً بالخلوات والرياضات والتسليك للمريدين من القاصدين والمريدين، سالكاً للطريق على منهم التوفيق. وفي سنة ألف ومائتين وخمس، اجتمع به في حلب حضرة العالم الفاضل خليل أفندي المرادي وتبرك به وشهد كل بكمال الآخر، ومات بعد ذلك، ببضع سنين في حلب، ولم أقف على تعيين تاريخ وفاته.
الشيخ عثمان بن إبراهيم الشامي الدمشقي
صدر العلماء، وخاتمة السادة الفقهاء، وبدر سماء الزمان، وشمس إشراق الأفاضل الأعيان، الإمام الكامل، والهمام الفاضل، كعبة المكارم، ونخبة الأكارم.
ولد سنة تسع وأربعين ومائة وألف، وأخذ عن العلامة الملوي والإمام الطحاوي والهمام الدمنهوري وحضر دروس الشمس محمد الأيوبي الأنصاري الشهير بالرحمتي. مات سنة تسع عشرة ومائتين وألف وبلغ سنه سبعين سنة رحمه الله تعالى.
السيد عثمان بن أحمد الصفائي المصري
الحبر الفريد، والبحر الوحيد، والنبيه اللبيب، والوحيد الأديب، والكامل النادر، والناظم الناثر، نشأ في ظل النعمة والرفاهية، وقرأ النحو(1/1049)
والمنطق وبقية الفنون بهمة متعالية، ولازم الشيخ علي الطحان والشيخ مصطفى المرحومي وغيرهما حتى مهر، وتاه به عصره وافتخر، وكان يباحث ويجادل، ويناقش في مشكلات المسائل. ويورد من الأبحاث العقلية، ونوادر الفروع النقلية، ما يشهد له بكمال علمه، وتمام فهمه، وقرأ العروض والقوافي وأحسن النثر والنظام، وحكى شعره بدائع أبي الطيب المتنبي ونوابغ أبي تمام، وكان فيه نوع من اللهو والخلاعة، وأشعاره لها ميل إلى البلاغة والبراعة، وله تخميس على البردة ومن قوله:
نظرت إلى حبي وكنت مفلساً ... فلم أر فيه للفلوس سوى السوى
فقلت له أين الدراهم قال لي ... على أنني راض بأن أحمل الهوى
ومن نظمه تشطير البيتين لعثمان الشمس وهما:
وأغيد لؤلؤي الجسم ذي هيف ... بوجنة أشرقت منها الفؤاد صبا
البدر طرته والغصن قامته ... متمم الحسن فيه كم أرى عجبا
كأنما خاله من نار وجنته ... قد زاد حسناً ومن أعلى الخدود ربا
وحين خاف اللظى في الخد يحرقه ... انقض يرشف شهداً جاوز الشنبا
وله رحمه الله تعالى:
ليس لي في القريض يا قوم رغبة ... بعد هذا الذي كساني رعبه
أشهد الله أنني تبت عنه ... توبة حرمت علي المحبه
حيثما فيه شعر نائب قاض ... ابعد الناس بالفصاحة نسبه
كان فيه جزاؤه صفع وجه ... أو قفاء أو كان قتلاً بحربه
لا جزاء الإله في الناس خيراً ... لا ولا فرج المهيمن كربه
حيث أهدى إلى البرية داء ... مستمراً أعيا فحول الأطبه
يا عديم الآراء ما أنت إلا ... آدمي بؤرية البغل أشبه
كيفما تدعي الفصاحة جهلاً ... أو ما تدر أنها دار غربه
عش جهولاً ومت بجهلك حتفاً ... يا خبيثاً بأخبث الأرض تربه(1/1050)
فلعمري ما قلته ليس شعراً ... بل نباح وأنت كلب بن كلبه
ثم أستغفر الله مما ... قد جناه اللسان إن كان سبه
وله في إسماعيل أفندي الكدار:
يا خليلي أفديك من كدار ... كوسج الذقن عاري الذقن شعرا
من يكن قرنه كقرنك هذا ... فليكن بيته كإيوان كسرى
ولم يزل رافلاً في حلل السعادة، حتى حلت بساحة شبابه الشهادة وتوفي مطعوناً بمليج وهو ذاب لموسم المولد الأحمدي بطندتا في شهر رجب وقد ناهز الأربعين، وحضروا به إلى مصر محمولاً على بعير، فغسل وكفن ودفن بها عند والده سنة أربع ومائتين وألف.
الشيخ عثمان بن محمد الحنفي المصري الشهير بالشامي
الإمام الكامل، والهمام الفاضل، قال الجبرتي: ولد بمصر وتفقه على علماء مذهبه كالسيد محمد أبي السعود والشيخ سليمان المنصوري والشيخ حسن المقدسي والشيخ الوالد حسن الجبرتي، وأتقن الآلات، ودرس الفقه في عدة مواضع وبالأزهر وانتفع به الناس، وقرأ كتاب الملتقى بجامع قوصون، وكان له حافظة جيدة واستحضار في الفروع، ولا يمسك بيده كراساً عند القراءة، ويلقي التقرير عن ظهر قلب مع حسن السبك، وألف متناً مفيداً في المذهب. ثم حج وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقطن بالمدينة، وطلب عياله في ثاني عام وباع ما يتعلق به وتجرد على المجاورة، ولازم قراءة الحديث والفقه بدار الهجرة، وأحبه أهل المدينة وتزوج وولد له أولاد ثم تزوج بأخرى، ولم يزل على ذلك حتى توفي في السنة العاشرة والمائتين والألف، ودفن في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.(1/1051)
الشيخ عثمان الكردي الطويلي الخالدي النقشبندي
مركز دائرة الإرشاد، الراقي في درجات السداد، المولى المرشد الكامل الأحوال، والهمام المعدود من أكابر الرجال، صاحب الكرامات الظاهرة، والأنفاس القدسية الزاهرة، هو أول خليفة خلفه حضرة مولانا خالد قدس سره وفاز بنظره وأنفاسه القدسية، وصل إلى مقام الفناء وحاز الأسرار الربانية، وله كرامات كثيرة باهرة، وخوارق عجيبة ظاهرة، شهد بولايته الخاص والعام، واشتهر قدره ومقامه بين الأنام وسلك على يديه كثير من العلماء الأعلام، وأكابر أهل التقوى والفضل ذوي الاحترام، وقد أسلم كثير من اليهود والنصارى على يده، وحازوا بالتفاته ونظره التنوير والاستمداد من مدده، وسلكوا في زاويته ونالوا مقامات الرجال، وكان الغالب على المترجم حال السكر والجلال، وعدم الصحو إلا في نوادر الأحوال، وبقي على حاله، مترقياً في كماله، إلى أن اخترمته المنية، ودعاه الأجل إلى الدار السنية، سنة ألف ومائتين ونيف وثلاثين وهو من رجال المجد التالد.
الحاج عثمان بن الحاج عبد الله بن الحاج فتحي بن عليوي المنسوب إلى بيت الطحان ويشتهر بالحافظ عثمان الموصلي المولوي
ترجمه أحمد عزت باشا العمري الموصلي في كتابه العقود الجوهرية في مدائح الحضرة الرفاعية، فقال: ولد في بلدة الموصل الخضراء سنة(1/1052)
إحدى وسبعين ومائتين وألف، وقبل أن يبلغ من العمر سبع سنين توفي أبوه وبقي يتيماً وفقد نور بصره على صغره، فرآه والدنا المرحوم محمود أفندي الفاروقي وكان إذ ذاك طفلاً، وتغرس به أن يكون للتربية أهلاً ومحلاً، أخذه إلى بيته العامر، وأعطاه منها إلى أحد الدوائر، وخصص له فيها من يحفظه القرآن، بصورة الإتقان، مع ما ينضم إلى ذلك من طيب الألحان، فأتقنها كلها، وحفظ أيضاً جانباً وافراً من الأحاديث النبوية، والسير المصطفوية، ورتب له من يلقي عليه علم الموسيقى حيث أنه قد رزق الصوت الحسن، وحفظ إذ ذاك من رقائق الأشعار، وغرائب الآثار، ما جمع فأوعى لأنه كان سريع الحفظ، لكيف اللفظ، فنشأ قطعة من أدب، وفرز دقة من لباب العرب، لأنه في الحقيقة ضرير، لكنه بكل شيء بصير، ينظر بعين الخاطر، ما يراه غيره بالناظر، وبقي بخدمة المرحوم الوالد إلى أن توفاه الله، وجعل الجنة مثواه، فتوجه إذ ذاك إلى بغداد، وكنت إذ ذاك فيها فنزل عندي، يعيد ويبدي، وفاء للحقوق التي لا زال يبديها، ولا يخفيها، متردياً بظاهرها وخافيها، فتلقيته ملاقاة الأب والأخ، وقلت له بخ بخ، فتهادته فيها أكف الأكابر وحفت به عيون الأصاغر، فأصبح في بغداد فاكهة الأدباء، ونقل الظرفاء، وشمامة الأوداء، واشتهر بحسن قراءة المولد الكريم، على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم، فأومض فيها برق اسمه، وعلا مبارك كعبه ورسمه، فتركته على هذه الصورة في الزوراء، تهب عليه ريح الرخاء، حيث يشاء، وأمسى عند كل ذي عين، جلدة ما بين الأنف والعين، وحفظ فيها نصف صحيح الإمام البخاري على المرحوم الشيخ داود أفندي، وبعد وفاته أكمل حفظ النصف الثاني على بهاء الحق أفندي الهندي مدرس الثاني في الحضرة الأعظمية. ثم أنه بعد ما قضى(1/1053)
الحج، وفاز بالعج والثج، رجع إلى مسقط رأسه الموصل الخضراء وقرأ فيها القراءات السبع على حيدرة الوطن، محمد أفندي الحاجي حسن، وأخذ الطريقة القادرية من حضرة المرشد الكامل العارف الفاضل المرحوم السيد محمد أفندي النوري، وبرخصته بل بعد استشارته واستخارته توجه راحلاً منها إلى مركز الخلافة العظمى وخصص له ببلدته خير معاش، يستوجب الانتعاش، وأخذ فيها الطريقة الرفاعية، من حضرة صاحب السماحة الصارم الهندي، الشيخ أبي الهدى السيد محمد أفندي، وهو لم يزل إلى الآن، على ما عليه كان، من انقياده في زمام الوفا، واستناده لسواري الأنس والصفا، تتجاذبته أيدي الكبراء، وتتهاداه قلوب الأوداء، وتتلاعب به أفكار الشعراء، وترتاح معه أذهان البلغاء، وتصغي إلى نغماته أسماع الخطباء، فهو بالليل أريب، وبالنهار خطيب، يرقى ذروة المنابر، فتهرع إليه الأكابر والأصاغر، فيسيل جامد دموعها، ويهيج كامن ولوعها، ويمنعها لذيذ هجوعها، خوفاً من رجوعها، وأما شعره فمثل شعوره، يتساقط فراش المضامين على مشكاة نوره، يذوب نظمه حلاوة، ويكتسي نشره طلاوة، فليس على عينه غشاوة، وإذا غنى ظننت الموصلي إبراهيم، أو قرأ حزباً من القرآن الكريم، تخيلت أبياً يترنم بصوته الرخيم، وبالجملة فهو نسخة جامعة، وكرة لامعة، مع ما ينضم إلى ذلك من الوفاء، وكرم الطبع والصفاء، ومن نظمه يمدح(1/1054)
السيد الرفاعي:
بباب الرفاعي بت أستبق الركبا ... ليصبح جفني لاثماً ذلك التربا
إمام له في الخافقين مفاخر ... بها امتاز بين الأولياء ولا ريبا
فمنها إذا نادى محبوه باسمه ... على النار أطفوها ولو أوقدت لهبا
ومنها سيوف الهند تنبو لبأسه ... وأسد الشرى ترتاع من ذكره رعبا
وأعظمها تقبيل يمنى نبينا ... بها لم يكن من قومه غيره يحبى
أمدت له في محفل خير محفل ... وقد صيرت كل الكرام له حزبا
تردى بأثواب المحبة والحجا ... ومن شرع طه المصطفى أخذ اللبا
أرى ذل حالي فيه خير معزتي ... وأبكي وتعذيبي أراه به عذبا
لقد جئته مستبقياً سبب جوده ... أناديه يا من قد شغفت به حبا
بجدك ذي الخلق العظيم ومن سما ... على الرسل إذ كل لدعوته لبا
بوالدك الكرار باب علوم من ... أماط عن التوحيد في بعثه الحجبا
بريحانتي خير الوجود وفاطم ... وما قد حواه ذلك البيت من قربى
أتيتك يا شيخ العواجز راجيا ... منائحك العليا التي تنعش القلبا
أيدعشني يا آل طه بحيكم ... خطوب وإني قد عرفت بكم صبا
أحبة قلبي ما لعثمان ملجأ ... سواكم وأنتم ملجأ الكون في العقبى
عليكم صلاة الله ما انهل وابل ... بواسط أو هبت بأرجائها النكبا
وأبياته كثيرة، وقصائده شهيرة، أطال الله بقاه آمين انتهى. هذا ولما سافرت إلى الآستانة العلية، في أوائل ذي القعدة الحرام سنة ألف وثلاثمائة وست هجرية، اجتمعت بهذا المترجم ذي الشمائل البهية، فرأيته شاعر الزمان، وناثر الأوان، يصبو القلب إليه ويحن، وينثني له غصن(1/1055)
البراعة ويرجحن، ففي أوصافه للروح عبق، ومن ألطافه يروق كأس المصطبح والمغتبق، وله أخلاق أقطعها الروض أنفاسه، وشيم يتنافس بها المتنافسون لطافة ونفاسة، وقد أنشدني أفانين من غزلياته، تعزل برونق الصدغ في لباته، وأطربني في ألحانه، ولا إطراب الخمار بحانه، يتلاعب بصوته تلاعب الأنامل بالأوتار، ويحرك القلوب إلى أن تكشف عن محيا غرامها حجب الأستار، وكانت أريحيات غرامه تستفزه وصبوة مدامه تستهزه، فلا يزال، هائماً بغزال، ولا يريم، عن عشق ريم، وشعره يشعر بأنه حليف الجوى، ويعرب عن حاله إعراب الدمع عن مكتوم سر الهوى، ولطفه أرق من العتاب بين الصحاب، وأوقع من الراح ممزوجاً بماء السحاب، ولله در حينما شكالي العذول والهجر والصدود وشداني على صوت الكمام وصوت العود:
لو أن بالعذال ما بي ... ما عنفوني بالتصابي
كلا ولو ذاقوا الهوى ... مثلي لما ملكوا خطابي
ويلاه من بعد المزا ... ر فإنه شر العقاب
قسماً بخلوات الحبيب ... وطيب وقفات العتاب
وتذللي يوم النوى ... لمنيع ذياك الجناب
وبوقفتي أشكو هوا ... ي له بألفاظ عذاب
أبكي وأسرق أدمعي ... خوف العواذل في تباب
ما للمحب أشد من ... نار التباعد من عذاب
بأبي غزال لين الأ ... عطاف معسول(1/1056)
مياس غصن قومه ... يزري ببانات الروابي
ريان من ماء الصبا ... سكران من خمر الشراب
جعل التجافي دأبه ... وجعلته وهواه دابي
قال العواذل عندما ... أبصرن بالأشواق ما بي
قد كنت من أهل الفصا ... حة لا تحول عن الصواب
فأجبتهم والقلب من ... نار الصبابة في التهاب
الحب قد أعيا فصيح القول عن رد الجواب
وتراه إن حضر الحبيب لديه يأخذ في اضطراب
وغير هذا كثير، لا يكاد يحصيه قلم التحبير، وعلى كل حال فهو حلية العصر، ونادرة الدهر، قضي له بالأدب الوافر منذ طلع من مهده طلوع البدر السافر، فظهر رشده قبل أوانه، ولا ريب أن الكتاب يعرف بيانه من عنوانه. وقد أسمعني من نثره خطبته التي ابتدأ بها تخميسه لقصيدة المرحوم عبد الباقي أفندي العمري المسماة بالباقيات الصالحات وهي:
أحمد من أسبغ علينا من سوابغ المانحات نشبا، وبلغنا بالباقيات الصالحات أربا، ونظمنا في سلك مدائح أهل العبا، وأصلي وأسلم على حبيبه المجتبى، وآله الذين تمدهت بهداهم فدافد وربا، وصحبه الذين بمجاراتهم جواد الضلال كبا، وبعد فيقول العبد العاجز الفقير، ذو الباع القصير، المتوسل لعلاه بحب آل علي، عثمان بن الحاج عبد الله الرفاعي الموصلي: لما كانت مدائح آل المصطفى هي من أعظم الوسائل، للنجاة يوم العرض والمسائل، وكان ممن أحرز قصب السبق في هذا المضمار، الجدير بأنواع الفضائل والفخار، فاروقي الأرومة والنجار الذي اشتهر بالآفاق، وفاق أدباء عصره على الإطلاق، المرحوم عبد الباقي أفندي الموصلي وذلك في(1/1057)
قصيدته البائية الموسومة بالباقيات الصالحات التي تنشر لديها برود القصائد، وتنثر عندها أفئدة الفرائد، وكانت كالعروس العذراء، ما اقتضها شاعر، ولا اقتحمها ناثر، لما تحصنت به من حسن السبك والإنشاء، خصوصاً فيما أثارته من مؤثرات الرثاء، والمعفر بغباره وجه الغبراء، قدمت على تخميسها مقراً بعدم استطاعتي، وقلة بضاعتي، وذلك لكوني محب بيتهم، ومقتبساً من نور زيتهم، فهذا شمرت ساعد الجد لتسميطها طلباً للثواب، ومحبة لآل النبي الأواب، وأسأل المولى جل وعلا، أن يتقبل منا قولاً وعملاً، ويجعلنا مظهر قوله تعالى: " والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً "، ثم قال التخميس العبهري على بائية العمري، وهو:
مذ شب زند الفكر بعد أن خبا ... قمت لمدح آل طه معربا
مسمطاً أوصافهم فيما احتبى ... هذا الكتاب المنتقى والمجتبى
في نهت آل البيت أصحاب العبا
تجلب للكونين أوفى غيرة ... بشرح رزء نال خير عترة
من قبل أن تحويه أغلى فكرة ... بالقلم الأعلى بيمنى قدرة
في لوح عزة بنور كتبا
روض معانيه غدا مؤرجاً ... مذ جدولت أسطره نهر الحجا
جبينه بالحسن قد تبلجا ... لاح به فرق العلا متوجا
مرصعاً مكللاً مذهبا ... وقد غدا حاجبها مزججا
وطرفها أمسى كحيلاً أدعجا ... وثغرها أضحى بسيما أفلجا(1/1058)
وكمهاً مطرزاً مدبجا ... وعقدها منقحاً مهذبا
عذب على التالي يسوغ حفظه
يلتذ مهما جال فيه لحظه ... صفا وطاب واستلان غلظه
فرق معناه وراق لفظه ... يحكي صفا الودق إذا ما انسكبا
حور معانيه الحسان لم تزل ... تلبس من مدائحي أبهى الحلل
إذ صغت من تفصيل هاتيك الجمل ... ثنا إذا أنشدته له ثنى ال
وجود عطفاً وتهادى طربا ... غصن مديحي ماس في رطيبه
كأنما نشر الكبا يسري به ... مذ فاح نفح الطيب من ترتيبه
ريح الصبا تضمخت بطيبه ... بطيبه تضمخت ريح الصبا
قاضي القضاة سراج الدين علي خان الذي تقلد أمر القضاء في بندر كلكته سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين
قدوة المحققين ونخبة المدققين، الفالق بعلمه وعمله والواثق من الله بنواله بغية أمله، قد برع في زمانه حتى صار مقصد أهل عصره وأوانه، وقصده الناس للاستفادة من كل جانب وكان أجل راغب في عمل الرغائب، وكان أديباً ماهراً ناظماً ناثراً، قد أتقن العربية مع لغته الفارسية والهندية. ومن جملة نثره الدال على كمال علوه وقدره، تقريظه على كتاب الحديقة ذات المعاني الرقيقة:
يا من ذكر اسمه الأسمى خير الأذكار، والفكر في أسمائه الحسنى خير الأفكار، صل على مذكرك الأقدم الأول، وكلمتك الأتم الأكمل، محمد(1/1059)
المبعوث إلى كافة الأمم، وآله وصحبه الذين نبغوا من ضئضئ الكرم، وفازوا بأعلى درجات الحكم. وبعد فهذا الكتاب المسمى " بحديقة الأفراح لإزاحة الأتراح " المحتوي على مباهج قرائح البلغاء، المشتمل على نتائج أفكار الفصحاء، تذكرة لأولي الألباب، وتبصرة لذوي الآداب، قد ألفه الإمام البارع اللوذعي الألمعي، وحيد عصره وفريد دهره، العالم الرباني الأوحد الأديب الأمجد، الشيخ الأجل أحمد بن محمد الأنصاري اليمني الشرواني، لا زالت إفادته شاملة للخواص والعوام ما دامت غياهب الليالي وأنوار الأيام.
وله نثر فائق وشعر رائق، غير أني لم أقع منها إلا على ما كان باللغة الفارسية فلم أكتبه. توفي المترجم المرقوم رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين ونيف وثلاثين.
علي بن محمد العنسي جمال الدين اليمني
هو من رجال الحديقة وأهلها ذوي الآداب الأنيقة، فقال في ترجمة المرقوم الذي هو في سلك الأفاضل منظوم: علي المجد والمقام واحد في صناعة النثر والنظام، ثمرات أفنان نفائس آدابه فرائد، وجداول طيباته جارية بالجواهر لكل ملم بغياض فنونه ووارد، ألفاظه بخندريس الرقة وشراب الجزالة ممزوجة، ومعانيه الباهرة يبهر حسنها عقل من شاهد مروجه. فمن لطائفه قوله مجاوباً الفقيه الأديب أحمد الرقيحي:(1/1060)
كذا يتجنى في الهوى فارغ القلب ... إذا رحت أشكو العتب غالط بالعتب
أيا ملزمي ذنباً وليس بمذنب ... سواه ألا اصفح عن شج مغرم صب
رضيت بما ترضى علي ولم أقل ... جرى الدمع ياقوتاً ولا قلت ما ذنبي
فديتك لولا أن لي فيك صبوة ... لما شرقت عيني من المدمع الغرب
لقد آن أن ترضى عن المغرم الصب ... وتصفح عما قد أتيت من الذنب
فلولاك لم أبكي بمحمر أدمعي ... عقيقاً ولا أشتاق للرمل والكثب
ولا بت في دهم الليالي لشهبها ... سميراً دموعي الحمر يا منيتي شربي
ولا رحت مسلوب الكرى واجب الحشى ... أعذب بالإيجاب منك وبالسلب
أما وجفون منك تلتذ بالكرى ... وتنشد أجفان الأنام ألا هبي
ونور جبين تحته نون حاجب ... وقد على ردف كغصن على كثب
لقد تركت قلبي عيونك في الهوى ... رهين غرام لا يفيق عن الحب
عجبت لها وهي التي بفتورها ... على ضعفها تضني وإن صحفوا تصبي
أتدعى عيوناً وهي في فعلها بنا ... أسود وما غاباتهن سوى الهدب
وأعجب من ذا أن خصرك ناحل ... وفيه شفاء الواله المغرم الصب
لي الله ما لي في الهوى من مساعد ... أبث إليه ما ألاقي من الكرب(1/1061)
ووا حزني من تائه في جماله ... علي ومن أسياف عينيه واحزني
فتنت ببدر كمل الله حسنه ... منازله في الطرف مني وفي القلب
وظبي كناس بالغضا من جوانحي ... له مرتع لا بالغضا موضع السرب
يقولون صحبي هل سلوت وقد نأى ... فقلت نعم عن صحة الجسم واللب
وقالوا وهل تقضي لبانة عاشق ... فقلت نعم أقضي ولكن به نحبي
رعى الله دهراً كان لي فيه مسعداً ... بلقياه ما خمري سوى لفظه العذب
ويجمعنا روض به الطير مطرب ... وساقيه نهر فوقه راقص القضب
تراه بأنواع الزهور مطرزاً ... كنظم صفي الدين طرز بالكتب
وقوله مكاتباً الفقيد أحمد الرقيحي:
تبدت فغاب البدر بالأفق واستخفى ... وماست فكاد الجو يسرقها لطفا
وأرخت دجى شعر فقلت لصاحبي ... أليلتنا قد أرسلت وارداً وجفا
ولاح عليها قرطها وهو خافق ... فبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا
حبابية الألمى مدامية اللمى ... يدير الحميا كأس أجفانها الوطفا
أغالط فيها واشياً ومفنداً ... لأكتم حبي والصبابة لا تخفى
فإن قلت آهاً للعذيب فإنما ... أردت الشنيب العذب لهفاً له لهفا
وإن همت في بان الحمى وكثيبه ... فما رمت إلا قدها اللدن والردفا
أما وأبيها ما رأتني بخالها ... أخا لوعة إلا زهت وانثنت عطفا(1/1062)
ومال بها خمر الشبيبة والصبا ... فصدت ولولا الصد لم تعرف الحتفا
أتوردني من طعن عسالها الردى ... وتمنعني من طعم معسولها الرشفا
ولولا حلى نظمي وأحمر مدمعي ... لما طوقت جيداً ولا خضبت كفا
أرى خدها يا طرف للحسن جامعاً ... فأجري عليه مدمعي أبدا وقفا
ويا فرعها قد كنت أصل ضلالتي ... وكم ضل سار في الظلام إذا التفا
لئن ضعفت خصراً وجفناً وموثقاً ... فقد زاد ذاك الضعف جسمي به ضعفا
نديمي قد بان الفريق وفرقت ... يد البين عن ألف معنى الحشا إلفا
فعلل بذكراها فؤادي واسقني ... سلافاً يحاكي شعر شمس الهدى لطفا
وقوله مكاتباً بعض خلانه
عوفيت من نار أشواقي ومن كلفي ... ماذا تريد بهذا البين من تلفي
يا نازح الدار والذكرى تقربه ... أضنيت نازح در الدمع بالذرف
ويا حبيباً همى دمعي لفرقته ... والغيث إن تحتجب شمس الضحى يكف
سل الدجى هل رآني راقداً وسل العذال هل شهدوني خالي الأسف
تركتني ما لسقم في من طمع ... قد صرت للبين ذا روح تردد في
كم قلت بعدك للطرف القريح وقد ... رمته يا بدري العذال بالسرف
انفق ولا تخش إقلالاً فقد كفلت ... لك الصبابة والأشواق بالخلف
يا من إذا قال ظبي البيد يشبهه ... جيداً قضينا لظبي البيد بالخرف
مالي ودهم الليلي فيك أسهرها ... تطول عمداً لتضنيني على كلفي
والله ما أنصفتني في معاملة ... أحببتها وتجد السعي في تلفي
بالله أين ليال باللقا قصرت ... يكاد دمعي بها يا بدر يعثر في
تلك الليالي التي يرتاح إن ذكرت ... قلبي الكليم ارتياح المجد بالشرف(1/1063)
أعني به شرف الدين المعد إذا ... عد الكرام كبسم الله في الصحف
وقوله مكاتباً أحد الأئمة الأعلام:
لو فتشوا عن قلبي المرهون ... وتحرشوا جمر الغضا المكنون
لتيقنوا أني حفظت وضيعوا ... عهد الهوى وابنت خير أمين
فعلام قالوا مال عنا وارعوى ... عنا وخان وكان غير خؤون
ما ملت لا والله بل مالوا وقد ... شهدت ركائبهم بصدق يميني
هزت قدودهم وقالوا للصبا ... هزؤاً أعند البان ميل غصون
هل أنكروا ميل الغصون فيطلبوا ... برهان دعوى العاشق المفتون
فإذا شرى برق الغوير وبعته ... دمعي رجعت بصفقة المغبون
ولفرط أشواقي وشدة لوعتي ... وتهتكي في حبهم وجنوني
لا بد لي من أن أقول صدقتم ... والله يعلم حرقتي وأنيني
وإذا بكيت على الربا فتضاحكت ... أنفاسها بمباسم النسرين
قالوا عيون السحب ترسل دمعها ... والدمع دمعي والعيون عيوني
أحبابنا والله ما صنع العدى ... ما تصنعون بقلبي المحزون
أيصيبني كيد الأعادي عندكم ... أسفي وإخلاص الهوى من ديني
ولشقوتي قد كنت أعتقد الهوى ... هذا الذي أخلصت فيه يقيني
لولا هواكم لم أقل جنح الدجى ... والبرق يذكي لوعتي وشجوني
يا بارقاً ألقى سناه على الربا ... ولهيبه في قلب كل حزين
قف بالحمى الغربي لكن واضعاً ... خداً ومن لي إن وضعت جبيني
واسأل بروج الحي عن أقمارها ... وبرغم أنفي إن تراها دوني
وبمهجتي البدر الذي لو قسته ... بالشمس لا يرضى ولا يرضيني
لم يكفه سهري فعلم طيفه ... ظلماً وقد غضب الكرى يشكوني
خذ في التجني كيف شئت تحكماً ... وامطل وإن كنت الملي ديوني
لا أستطيع أقول لست بمنصف ... يا بدر إجلالاً لبدر الدين(1/1064)
الشيخ علي بن أحمد المغربي اليشرطي الشاذلي الترشيحي
شيخ الطريقة، ومعدن السلوك والحقيقة، ولد في بيزرت من أعمال تونس الغرب، سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة. ووالده الحاج أحمد اليشرطي، قيل نسبته إلى بني يشرط قبيلة بالمغرب، قيل إنها تنسب إلى سيدنا الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قائداً كبيراً للجيش التونسي، ولم يترك ولداً غير المترجم المشار إليه، فالتفت المترجم من صغره إلى الطلب وحضور دروس العلماء والفضلاء إلى أن نال مطلوبه وملك مرغوبه. ثم أخذ الطريقة الشاذلية عن أستاذ العصر، وفرد الدهر، الأستاذ الكبير والعالم الشهير، أبي محمد بن حمزة ظافر المدني، فاشتغل بهمة قوية وسيرة مرضية، ودأب على الذكر في السر والجهر، وكان مقدماً عند الشيخ على الجماعة لما شاهده منه من كمال الانقياد والطاعة، ولم تزل مرتبته تتعالى، وخوارقه في الطريق تتوالى، إلى أن تأهل للإرشاد وارتقى مقامه وساد، وبعد وفاة شيخه وأستاذه وعمدته وملاذه، قصد مكة المكرمة للنسك، وبعد أن أتم حجه وعجه وثجه، توجه لزيارة أشرف إنسان، وأفضل مخلوق من ملك وأنس وجان، وجاور في تلك البلدة الشريفة ذات الرتبة العالية المنيفة، أربع سنوات، وكان يحج في كل عام، بعد التمام يرجع لمدينة خير الأنام، ثم قصد زيارة القدس الشريف، فلما وصل يافا في مركب شراعي تعسر عليه النزول إليها لأن النور كان شديداً غير لطيف، فطلع إلى عكا وكان قد مرض لشدة ما أصابه من الأهوال والعناء، فذهب منها إلى ترشيحا لتبديل الهواء، وكان ذلك سنة ألف ومائتين وست وستين، وأخذ أمره من ذلك العهد بالانتشار، فقصدته الناس من القرايا والأمصار، وأخذوا عنه الطريق باذلين همتهم في حفظ فلك العهد الوثيق، وف كل يوم يشتهر أمره ويزداد علوه وقدره، إلى أن انتشر الطريق في الآفاق، فلم يدخل الإنسان من(1/1065)
البلاد السورية إلى محل إلى ويجد مرشداً منهم قد وقف للترغيب على ساق، وفي حدود سنة ألف ومائتين وثمانين أيام ولاية رشدي باشا الشرواني رأى منهم اجتماعاً منافياً للسياسة العثمانية، فنفاه هو وبعض جماعته إلى الجزيرة القبرصية، ولم يزل بها ثلاثة أعوام إلى أن تداخل في الرجا في إحضاره الأمير عبد القادر الجزائري فاستجلبه إلى الشام، وقد أجرت الحكومة عليه شديد التنبيهات في ترك ما كانوا يفعلونه من الاجتماع وأنه من الممنوعات. ثم عاد إلى عكة ورجع، بعد أن أعطى المواثيق بأنه ترك ما كان عليه ونزع، ثم بعد أن انفصل ذاك الوالي المشار إليه رجع المترجم إلى ما كان من الظهور عليه، إلى أن وجهت الولاية على رشدي باشا وكان قد حصل من جماعته في بعض المحلات أمور مذمومة واعتقادات مشؤومة، فاستحضر الوالي المترجم تحت الحفظ إلى الشام وأراد نفيه إلى فزان، وقبض على نحو عشرين شخصاً من جماعته المعدومين من خلاصة الإخوان، فبذل الأمير عبد القادر رجاه لحضرة الوالي المرقوم أن يجعله محبوساً في داره، وأن يسمع عن نفيه رحمة لذله وانكساره، فحقق الوالي رجاه لما له عنده من الفضل والجاه، وأما جماعته فإنه نفاهم إلى فزان وأذاقهم بذلك الذل والهوان، ثم إن حضرة الأمير بعد مدة أطلقه من حبسه، وأرجعه إلى محله مشمولاً بسروره وكمال أنسه.
وحاصل الكلام في سيرة هذا المترجم المفضال فإنها اختلفت فيه أقوال الرجال، فمنهم من طعن به وزاد، ومنهم من برأه من كل ما يوجب الملام والفساد، وأن الحق يقال ما علمنا عليه سوى ما يوجب الكمال، غير أن بعضاً من جماعته قد خرجوا في الظاهرة عن دائرة الأدب، وتكلموا بما هو لكل ملام سبب، وتركوا في الظاهر كل مأمور، وارتكبوا أقبح(1/1066)
الأمور.
ثم أن المنفيين إلى فزان أحسنت عليهم الدولة بالإطلاق فرجعوا إلى الشام، ولم يزل بعض أهل هذه لطريقة يفتخرون بمخالفة الشريعة الغراء، وبترك كل مأمور به وبفعل كل ما يوصل فعله إلى كل شقاء، ويقولون بأن الشريعة حجاب، وفعل المنكرات موصل إلى رب الأرباب، فلاطوا بالأبناء وزنوا بالأمهات، وأكلوا الحرام وانهمكوا في المنكرات، واعتقدوا بأنفسهم أنهم صوفية الزمان، وأن من سواهم قد ألبس نفسه ثياب الحرمان، ويفسرون كلام الله ورسوله بكل تفسير فاسد، ويقولون بأن هذا التفسير قد ألقاه إليهم الوارد، فما أعظمها مفسدة في الدين، وما أجسمها فتنة على المسلمين، فيا عباد الله من يقول بأن المنهي عنه طريق الوصول، وهو المرضي عند الله تعالى وعند الرسول؟ وأما المأمور به فهو حجاب، ولا يتمسك به إلا المحجوبون عن طريق الصواب!! فإننا نبرأ إلى الله من هذا الاعتقاد، ونعوذ به مما يوصل إلى كل شر وفساد، ونتمسك بما جاء به النبي الأمين ونقول " ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين " ثم أن كثيراً من الناس قد شكا هؤلاء الجماعة إلى المترجم، فيقتصر على قوله عظوهم وعرفوهم أن هذا أمر محرم وإذا وعظهم إنسان، يسخرون به ويعدونه من أهل الجهالة والخسران، نسأل الله العفو والعافية، والمعافاة الدائمة والنعمة الوافية، وأن يحفظنا والمسلمين من مخالفة الملة والدين. وفي ليلة الأربعاء التاسع عشر من رمضان المبارك توفي هذا المترجم عام ألف وثلاثمائة وستة عشر رحمه الله تعالى.(1/1067)
الشيخ علي بن محمد القناوي المصري الشافعي الخلوتي
العالم الفاضل، والحبر البحر الكامل، صاحب الكشوفات والأحوال والثبات في طريق السادة الرجال، والسياحات الطويلة، والإرشادات الجليلة، نشأ في طلب العلوم، إلى أن صار يعتمد عليه في المنطوق والمفهوم، ثم أخذ الطريقة الخلوتية عن العارف بالله شيخ الشيوخ في مصر محمد بن سالم الحفناوي الآخذ لها عن إمام أهل الوجدان السيد مصطفى البكري الصديقي الآخذ لها عن كعبة ذوي العرفان السيد الشيخ عبد الغني النابلسي.
وكان المترجم المذكور يكرر التردد إلى زبيد وصنعاء اليمن وفي كل مرة يتلقونه بالإجلال والتكريم والمهابة والتعظيم، ويجتمع عليه في كل ليلة من الخاص والعام، جمعية كبرى مع معاملتهم بالأدب التام، ويدخلون معه في حلقة الذكر، مع اعتقادهم لولايته وإخلاصه في السر والجهر، ولقد اتفق له أنه وصل في بعض وفاداته إلى زبيد وأقام الذكر المذكور على الصفة المذكورة من اجتماع الناس بغاية الخضوع والانقياد والتسليم، وكان عنده من يقف في الحلقة وينشد من كلام القوم بالنغمات الرائعة، والحركات في الصوت الفائقة، بحيث يغيب الإنسان عن شعوره، ولا يفرق بين آصاله وبكوره، بل تأخذه نشأة وجدانية، وغيبة عرفانية، وكان من جملة الحاضرين، رجل من أكابر العلماء المتصوفين، المشغولين بذكر الله، المعرضين عما سواه، فلما حدا الحادي وشدا ذلك الشادي، ولم يكن ذلك الرجل من قبل قد عرف في الذكر طريقة الإنشاد، فحينما سمع ذلك وقع في الأرض يرتعد أشد الارتعاد، ولم يزل يبكي بكاء غزيراً، حتى أحدث له ذلك رعافاً مسترسلاً كثيراً، فكان ذلك سبب انعدامه، وشربه كأس حمامه. قال صاحب التاج المكلل وقد اختلف العلماء في حكم النغم والغناء على أحد عشر قولاً، ومذهب(1/1068)
الإمام العلامة ابن حزم الظاهري الحل مطلقاً، قال لأن التحريم لا يثبت إلا بنص صحيح صريح ولم أقف عليه، وخالفه الجمهور، والمسألة فيها رسائل مضبوطة مبسوطة من علماء المذاهب. انتهى كلامه ناقلاً عن النفس اليماني. ثم قال: والذي ترجح عند المحققين من أهل الحديث أن الذكر بالصفة المذكورة بدعة وأي بدعة، وفيها من إساءة الأدب مع الله سبحانه والتشبه بالفرق الذين يذكرون الله في معابدهم على نغمات العود والوتر ما لا يقدر قدره، فلم يثبت حديث واحد ولو ضعيفاً في جواز ذكر الله تعالى على هذه الصفة المشار إليها فلا خير فيه ولا أجر عليه، بل هو ضرر محض ووزر صرف، ومنكر واضح. نعم لا دليل على تحريم السماع من السنة فهو باق على أصله من الحل حتى يقول دليل صحيح يدل على حرمته ودونه خرط القتاد، ورحم الله القناوي أي المترجم المذكور فقد اجترأ جرأة عظيمة على فعل الذكر بهذه الصفة من الحادي وإنشاد الأشعار مع كونه من أهل العلم الممتازين، وهذا الصنيع منه دليل على أن الإنسان لا يخلو من عصيان، ولو بلغ من العلم والعمل نهاية الإمكان. هذا وقد نشر هذا المترجم هذه الطريقة على هذه الصفة بأمر شيخه الحفناوي في الآفاق، فدخل خراسان وأطراف الهند والعراقين وصنعاء اليمن وغير ذلك من المحلات، وهو في الجميع متلقى بالإعزاز والإكرام، والقبول والاحترام، وكلامه مقبول، على العيون والرؤوس محمول، وكان حلو العبارة، لطيف الإشارة، لا يفتر في وقت من الأوقات، عن الأخذ بنوع من أنواع العبادات، وكان إذا تكلم في تفسير حديث أو آية قرآنية، يتكلم من الفتح الإلهي والواردات العرفانية، ثم قال: وعندي أن الذكر الإلهي، والفكر القدسي لا يجتمعان مع شيء من البدعة، وإن اجتمعا كان ذلك من تلبيس إبليس، وتدليسه لأهل التدريس، ولهذا قال في النفس اليماني بعد المبالغة في الثناء عليه: وغير خاف أن الفقهاء لا سيما أهل مدينة ذمار ينكرون بعض ما يقع من طريقة(1/1069)
السيد المذكور انتهى. قلت: ولكن الحق معهم في ذلك وإن قيل فيهم ما قيل انتهى كلام صاحب التاج المكلل.
أقول: لقد سقط التاج، وتجاوز معتدل المنهاج، إذا كان ما ثبت على قوله حديث واحد ولو ضعيفاً في جواز ذكر الله تعالى على هذه الصفة، فليت شعري أين الحديث المثبت حرمة ذلك ومنعه ألم يدر أن الأصل في الأشياء الإباحة فمن أين له هذا الإنكار، وعلى أي مذهب استند من مذاهب الأئمة الأخيار، والأغرب من ذلك دعواه أن السماع مباح ولكن وقوعه على الذكر ليس من الفلاح، مع أن الذكر من أفضل مطلوب فهل إذا اقترن به الإنشاد المباح خرج عن دائرة المندوب، وإن اجتماع ذلك من تلبيس إبليس وتدليسه لأهل التدريس، مع أن الحرمة لا تثبت إلا بدليل ذي رفعة وهو قد قال بأنه لا دليل على تحريم السماع من السنة فكيف يحكم بحرمته في الأذكار، وعلى كل حال فهو كلام لا يلتفت إليه، ولا يعول أهل الإنصاف عليه، وإن قاله كثير من الناس، الواقعين في غفلة الالتباس، ولو كان هذا المحل يحسن فيه إطالة الكلام، وذكر أدلة المجوزين وإبطال قول المعترضين لقمنا بواجب حق المقام، خصوصاً وقد ملأت هذه المسألة بطون الدفاتر، وقام ببيان حكمها كثير من السادات الأكابر، خصوصاً في كتب الصوفية الفضلاء، ذوي الكشف عن حقائق الأشياء، فالأولى التسليم لذوي الكمال، وعدم التعرض لهم بحال، وإلا فاللائم مطرود، وعن موائد الإكرام مبعود. توفي المترجم المرقوم سنة ألف ومائتين وزيادة لم أقف على تعيينها.(1/1070)
الشيخ علي بن محمد بن علي الشوكاني
ولد يوم عاشوراء من محرم عامة سبعة عشر ومائتين وألف، قال في البدر الطالع: هو حسن الفهم جيد التصور قوي الإدراك. وكان لا يقول بالتقليد، بل يعبد الله بالاجتهاد والأخذ من الدليل من غير تقييد بمذهب إمام مجيد، وله مطالعة في الكتب الحديثية، والسنن المحمدية ولا يميل إلى سواها، ولا يلتفت لما عداها، ومن مؤلفاته: كتاب الدرة الفاخرة، الشاملة سعادة الدنيا والآخرة، وجمع فتاوى والده في مجلدين وسماه الفتح الرباني، في فتاوى الشوكاني، وهو مجموع مشتمل على أبحاث شريفة، ورسائل مجموعة لطيفة، ومسائل مفيدة، ومذاكرات فريدة، تتعلق بالفروع والأصول، من معقول ومنقول مات سنة ألف ومائتين.
الشيخ علي بن محمد الشوكاني جد الشيخ علي المتقدم والد والده ترجمه بعضهم فقال:
هو والد قاضي القضاة الشيخ محمد بن علي الشوكاني وقد ترجمه في البدر الطالع ترجمة حافلة، حسنة نافعة، وأوصل نسبه الشريف بعد التنقيح الكامل، والتصحيح الشامل، أباً عن جد إلى سيدنا هود عليه السلام. وقال أن الشوكاني نسبة إلى شوكان اسم موضع. وبعدما بسط الكلام في هذا المقام، قال أنه من قرية هجرة شوكان، وهذه الهجرة قرية معمورة بأهل الفضل والصلاح، والدين والفلاح، ولهم عند سلف الأئمة(1/1071)
جلالة عظيمة، ورئاسة في العلوم جسيمة، منهم العلامة حسين بن علي الشوكاني وأحمد بن سعيد الهبل ومحمد بن أحمد الهبل وحسن بن صالح الشوكاني وغيرهم. وقد برع في علم الفقه والفرائض وكان من بقية السلف الصالح في التفسير والحديث، ودرس وأفتى وولاه الإمام المهدي العباس ابن الحسين القضاء بالجهات الخولانية، ثم اعتذر عنه فولاه القضاء بصنعاء. قال في البدر الطالع: ولقد كان رحمه الله من عجائب الزمن، ومن عرفه حق المعرفة تيقن أنه من أولياء الله تعالى. توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة.
الشيخ علي بن قاسم بن حنش وزير الإمام المهدي
قال في التاج المكلل: ولد سنة ألف ومائة وثلاث وأربعين، وسكن بصنعاء، وهو من نوادر الدهر في جميع أوصافه، وله في العلم حظ وافر، وفي الأدب قدر باهر، وقد رأى نفسه أميراً، وكما رآها فقيراً، تارة في اليفاع، وتارة في أخفض البقاع، ومن محاسن كلامه: الناس على طبقات ثلاث فالطبقة العليا العلماء الأكابر، وهم يعرفون الحق من الباطل، وإن اختلفوا لم ينشأ عن اخلافهم فتنة لعلمهم بما عند بعضهم بعضاً، والطقة السافلة العامة وهم على الفطرة لا ينفرون عن الحق وهم أتباع من يقتدون به إن كان محقاً كانوا مثله وإن كان مبطلاً كانوا كذلك، والطبقة المتوسطة هي منشأ الشر وأصل الفتن الناشئة في الدين، وهم الذين لم يكبوا على العلم حتى يرتقوا إلى رتبة الطبقة العليا، ولا تركوه حتى يكونوا من أهل الطبقة السافلة، فإنهم إذا رأوا أحداً من أهل الطبقة العليا يقول بقول لا يعرفونه مما يخالف عقائدهم التي أوقعهم فيها القصور، فوقوا(1/1072)
إليه سهام التقريع، ونسبوه إلى كل قول شنيع، وغيروا فطرة أهل الطبقة السفلى عن قبول الحق بتمويهات باطلة، فعند ذلك تقوم الفتن الدينية على ساق انتهى. قال صاحب التاج: وقد صدق، فإن من تأمل ذلك وجده كذلك مات رحمه الله تعالى عام تسعة عشر ومائتين وألف.
السيد علي بن عبد الله بن أحمد جلال الصنعاني
قال في التاج: ولد سنة تسع وعشرين ومائة وألف، وقرأ على علماء صنعاء كصحاب البدر التمام والسيد عبد القادر الكوكباني. قال الشوكاني رحمه الله تعالى: برع في الحديث والتفسير وشارك في الفروع مشاركة قوية وتتبع الأدلة فعمل بها ولم يقلد أحداً، وانتفع به الطلبة في جميع الفنون، وأخذوا عنه جميع العلوم الميسرة للاجتهاد، وفيهم من النبلاء جماعة كثيرون، وهو من محاسن العصر ونوادر الدهر، مكب على العلوم في جميع الأوقات قوي الحفظ سريع الفهم، جعله مولانا الإمام من جملة قضاة صنعاء وعظمه بما يستحقه، بعد أن عرفته بجلالة مقداره وأشرت إليه بتوليته، وقد(1/1073)
دار بيني وبينه مباحثات نافعة ومراجعات جيدة واسعة، ومطارحات أدبية ومذاكرات علمية، وترافقنا في القراءة على شيخنا المغربي في الكشاف وفي شرح بلوغ المرام. توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وأربعين انتهى ببعض التصرف.
أمير المؤمنين علي بن الإمام المهدي العباس بن المنصور الحسين بن المتوكل
خليفة العصر ونتيجة الدهر، تولى إمارة اليمن بالعدل والإنصاف، وسار فيهم سيرة ذوي الكمال والعفاف، وأفرغ عليهم حلة الأمان، ورفع عنهم يد الظلم والطغيان، وترجمه العلامة الشوكاني وأطال بما هو بعض صفات هذا الإمام المفضال، وذكر في ضمنها بأنه بعد وفاة قاضي القضاة يحيى بن صالح السحولي عرض على العلامة الشوكاني تولية القضاء في مكان يحيى المرقوم فقال الشوكاني يذكر عبارة المترجم بنفسها ونص قوله: بينما كنت مشتغلاً بالتدريس في علوم الاجتهاد والإفتاء والتصنيف منزوياً عن الناس لا سيما أهل الأمر وأرباب الدولة، فإني لا أتصل بأحد منهم كائناً من كان، ولم تكن لي رغبة في سوى العلوم، كنت أقرأ للطلبة في اليوم الواحد ثلاثة عشر درساً منها ما هو في التفسير كالكشاف وحواشيه، ومنها ما هو في الأصول كالعضد وحواشيه والغاية وحاشيتها وجمع الجوامع وشرحه، ومنها ما هو في المعاني والبيان كالمطول والمختصر وحواشيهما، ومنها ما هو في النحو كشرح الرضي والمغني، ومنها ما هو في الفقه كالبحر وضوء النهار، ومنها ما هو في الحديث كالصحيحين وغيرهما، مع ما يعرض من تحرير الفتاوى ويمكن من التصنيف، فلم أشعر إلا بطلب من الخليفة بعد وفاة القاضي السحولي بنحو أسبوع، فقصدت مقامه العالي فذكر لي أنه قد ترجح عنده وضعي في مقام المرحوم القاضي السحولي، فاعتذرت إليه بما كنت(1/1074)
فيه من الاشتغال بالعلم، فقال القيام بالأمرين ممكن، وليس المراد إلا القيام بفصل ما يصل من الخصوات إلى ديوانه العالي في يومي اجتماع الحكام فيه، فقلت له ستقع مني الاستخارة لله والاستشارة لأهل الفضل، وما اختاره الله فالخير فيه ففارقته، وما زلت متردداً نحو أسبوع، ولكنه وفد إلي كل من ينتسب إلى العلم في مدينة صنعاء، وأجمعوا على أن الإجابة واجبة، وإنهم يخشون أن يدخل في هذا المنصب الذي إليه مرجع الأحكام الشرعية في جميع الأقطار اليمنية من لا يوثق بدينه وعلمه وأكثروا من هذا، ووجهوا إلي الرسائل المطولة بطلب القبول، فقبلت مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه، ولم يقع التوقف على مباشرة الخصومات في اليومين فقط، بل استغرقت الدعاوى جميع الأوقات إلا قليلاً، قد أفرغها للنظر في شيء من كتب العلم أو لشيء من التحصيل في تتميم ما كنت شرعت فيه، واشتغل الذهن شغلاً كبيراً وتكدر الخاطر كدراً كثيراً، ولا سيما وأنا لا أعرف الأمور الاصطلاحية في هذا الشأن، ولم أحضر عند قاض في خصومة ولا في غيرها، بل كنت لا أحضر في مجالس الخصومة عند والدي رحمه الله تعالى من أيام الصغر فما بعدها، ولكن شرح الله الصدور وأعان على القيام بحق الأمور. ثم إن الخليفة حفظه الله تعالى ما ترك شيئاً من التعظيم والإجلال إلا وفعله، وكان يجلني إجلالاً عظيماً، وينفذ حكم الشريعة على قرابته وأعوانه بل على نفسه. وفي رمضان سنة أربع وعشرين ومائتين وألف توفي السلطان المذكور بدار الإسعاد، وقمت إماماً عليه بالناس، ووقعت البيعة لولده مولانا الإمام المتوكل على الله أحمد بن المنصور في الليلة التي مات فيها الإمام، وكنت أول من بايعه، ثم كنت المتولي لأخذ البيعة له من إخوته وأعمامه وسائر أقاربه وجميع أعيان العلماء والرؤساء، وكانت البيعة منهم في أوقات،(1/1075)
والله المسؤول أن يجعل فيه للمسلمين صلاحاً وفلاحاً انتهى كلامه. قال صاحب التاج المكلل:
إن الولاية ليس فيها راحة ... إلا ثلاث يبتغيها العاقل
حكم بحق أو إزالة باطل ... أو نفع محتاج سواها باطل
سلكنا الله على الطريق المستقيم، وهدانا لما يرضيه إنه هو البر الرحيم. وكانت وفاة المترجم المذكور قريباً من ألف ومائتين وثلاثين.
الشيخ علي بن حسين السقطي الدمشقي الصالحي
العالم النجيب، والفاضل الأديب، زبدة ذوي الكمال، ونخبة أهل الصدق في الأقوال والأفعال، ولد بصالحية دمشق سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف ونشأ بها، وقرأ على عمه العلامة الشيخ عبد الغني السقطي وعلى والدي المرحوم الشيخ حسن البيطار وعلى الشيخ عبد الرحمن الطيبي وعلى الشيخ سعيد الحلبي وعلى الملا أبو بكر الكردي. وكانت عليه خطابة العمرية والتدريس والإمامة، توفي سنة تسع وثمانين ومائتين وألف ودفن بقاسيون في مقبرة أسلافه.
الشيخ علي بن محمد سعيد بن عبد الله بن الحسين بن مرعي بن ناصر الدين الدوري الشافعي البغدادي المعروف بالسويدي
ولد سنة سبعين ومائة وألف، وكان رحمه الله شيخ القراء والمحدثين، وإمام العلماء المتورعين، السيد المفضال المتحلي بالأدب والكمال، الصدر(1/1076)
الرئيس العلامة البارع الناهج منهج سيد كل نبي شارع. انتفع به جل من كان في عصره، واعترف الجميع بسمو مقامه وقدره. أخذ عن الشيخ العجلوني وأخذ هو عنه، وأخذ كذلك عن والده الشيخ محمد سعيد، وعن العلامة الشيخ عبد الرحمن الكزبري الكبير، وعن السيد مرتضى الزبيدي. مات رحمه الله سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف.
علي بن عبد الرحمن بن علي بن مرعي الطيبي الشافعي الدمشقي
ولد بعد المائتين والألف، ونشأ في حجر والده وأخذ عنه ما عنده من العلوم، حتى فاق عليه كما هو مشهور ومعلوم، وتمكن في الآلات خصوصاً في علم الفلك والميقات، والمساحة والحساب والمواريث، والفقه(1/1077)
والتفسير والتوحيد والتحديث. مات في رجب سنة خمس وخمسين ومائتين وألف ودفن في مقبرة سيدي ارسلان على جادة الطريق.
علي بن عثمان الطوالقي من أعمال الجزائر
الشريف المشهور، ذو العمل المبرور، والسعي المشكور، والأفعال الحسنة والأحوال المستحسنة، مقدم الطريقة الشافعية الرحمانية للقائم بوظائفها طبق السنة المحمدية، ومربى المريدين على النهج القويم المتين، مع الأعمال الصالحة والأفعال الناجحة، والأطوار المستقيمة والأوراد المستديمة والأذكار المتوالية والرياضات المتتالية، هذا هو الخليفة في الطريق والمرشد الكامل على التحقيق، كيف لا وهو العالم العامل المتصف بأعلى الفضائل والشمائل. ولما كان فرد المعقول والمنقول وأوحد ذوي الفروع والأصول، طلبه إفتاء الناحية الشمالية من دائرة بسكره، لأن يكون مفتياً بها لكمال علمه وإدراكه في فهمه، وسخائه وجوده وشرف آبائه وجدوده، لأنه من سلالة عائلة فضائلهم لا تحصى، وهم من شرفاء الساقية الحمراء في المغرب الأقصى، وكانت ولادته عام ألف ومائتين واثنين وثلاثين. وإنه من حين تمييز التفت إلى جهة الكمال وتأدب بآداب أفراد الرجال، وأخذ عن مشايخ زمانه إلى أن اشتهر في فضله وشأنه، ولم يزل يسمو وقدره ينمو، إلى أن خطبته المنية عام ألف وثلاثمائة وستة عشر عن أربع وثمانين سنة رحمه الله تعالى.(1/1078)
الشيخ علي بن عمر بن أحمد بن عمر بن ناجي بن قنيش العوني البهي الشافعي المصري
الإمام الفاضل الفالح والهمام الناسك الصالح القانع المتجرد والتقي المتعبد. ولد بالمنية إحدى قرى مصر وأول من قدمها جده فنيش، وكان مجذوباً من بني العونه العرب المشهورين بالبحيرة، فتزوج بها. وحفظ المترجم القرآن وقدم الجامع الأزهر وجوده على بعض القراء، واشتغل بالعلم على مشايخ عصره، ونزل طندتا ودرس العلم بالمسجد المجاور للمقام الأحمدي، وانتفع به الطلبة وآل به الأمر إلى أن صار شيخ العلماء هناك، وتعلم غالب من بالبلد علم التجويد منه، وهو فقيه مجود ماهر حسن التقرير جيد الحافظة، يحفظ كثيراً من النقول الغريبة وفيه أنس وتواضع وتقشف وانكسار. وكان كفيف البصر لا البصيرة، وورد مصر أيضاً في المحرم من سنة وفاته، ثم عاد إلى طندتا وتوفي باه في ثاني عشر ربيع الأول، ولم يمرض كثيراً، وذلك سنة أربع ومائتين وألف، ودفن بجانب قبر سيدي مرزوق من أولاد غازي في مقام مبني عليه، رحمه الله تعالى ونفعنا به.
الأمير علي بن عبد الله الرومي ثم المصري مولى الأمير أحمد كتخدا صالح
الأمير المبجل والنبيه المفضل، قال الجبرتي: اشتراه سيده صغيراً وأقرأه القرآن وبعض متون الفقه، وتعلم الفروسية ورمي السهام، وترقى حتى عمل خازندار عنده، وكان بيته مورداً للأفاضل، فكان يكرمهم(1/1079)
ويحترمهم ويتعلم منهم العلم، ثم أعتقه وأنزله حاكماً في بعض ضياعه، ثم رقاه إلى أن عمله رئيساً في باب المتفرقة، وتوجه أميراً على طائفته صحبة الخزينة إلى الأبواب السلطانية مع شهامة وصرامة، ثم عاد إلى مصر، وكان ممن يعتقد في شيخنا السيد علي المقدسي ويجتمع به كثيراً، وكان له حافظة جيدة في استخراج الفروع. وأتقن في رمي النشاب إلى أن صار أستاذاً فيه وانفرد في وقته في صنعة القسي والسهام والدهانات، فلم يلحقه أهل عصره.
ثم أن المترجم حصل له ضرر بعينيه فعالجهما كثيراً فلم يفد فصبر واحتسب، ومع ذلك فيرد عليه أهل فنه ويسألونه فيه ويعتمدون على قوله ويجيد القسي تركيباً وشداً، ولقد أتاه وهو في هذه المضرة رجل من أهل الروم اسمه حسن فأنزله في بيته وعلمه هذه الصنعة، حتى فاق في زمن قليل أقرانه، وسلم له أهل عصره، وحينئذ طلب منه أن يأذن له فيها، واجتمع أهل الصنعة في منزله لحضور هذا المجلس، فأرسل إلى السيد محمد مرتضى الزبيدي شارح القاموس، وطلب منه أن يكتب له شيئاً يناسب المجلس، فكتب عن لسانه ما نصه: الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وهدى بفيض فضله إلى الطريق الأقوم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأكرم، الناصر لدين الحق بالسيف والسنان المقوم، وعلى آله وصحبه ما رمى مجاهد في سبيل الله سهماً وإلى الجنة تقدم. أما بعد فيقول الفقير إلى الله تعالى علي بن عبد الله مولى المرحوم أحمد كتخدا صالح غفر الله ذنوبه وستر عيوبه، ورحم من مضى من سلفه وجعل البركة في عقبه وخلفه. اعلموا إخواني في الله ورسوله أن كل صنعة لها شيخ وأستاذ وقالوا صنعة بلا أستاذ يدخلها الفساد، وإن صنعة القوس والنشاب بين الأقران والأصحاب على ممر الأحقاب شريفة،(1/1080)
وطريقة بين السلف والخلف مقبولة منيفة، إذ بها تعمير باب الجهاد، وفتح قلاع أهل الكفر والفساد. وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الكتب بإعداد القوة، وفسر ذلك برمي النشاب حيث قال جل ذكره " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " وروى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في تفسير هذه الآية، ألا إن القوة الرمي فكرره ثلاث مرات، وذلك زيادة لبيانه وتفخيماً لشانه، والأمر من الله يقتضي الوجوب، وهو فرض كفاية على المسلمين لنكاية أعداء الدين، وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بالقوس وتقلد بالسيف وطعن بالرمح، وكانت عنده ثلاث قسي معقبة تدعى بالروحاء وقوس من شوحط تدعى البيضاء وأخرى تسمى الصفراء، وثبت أن كل شيء يلهو به المؤمن باطل إلا ثلاثاً، فذكر إحداهن الرمي بالقوس، وفي الأخبار الصحيحة أن الله تعالى ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه المحتسب فيه الخير والرامي به والممد له ومنبله، فارموا واركبوا ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا. وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على نفر من أسلم ينتضلون فقال ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً. وورد في فضل الرمي أحاديث كثيرة، منها في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا وقد عصى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تعلم الرمي ثم نسيه فهي نعمة سلبها. وروى النسائي عن عمرو ابن عقبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رمى بسهم(1/1081)
في سبيل الله بلغ العدو أو لم يبلغ كان له كعتق رقبة. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وهو متكئ على قوس، وجاء جبريل عليه السلام يوم أحد وهو متقلد قوساً عربياً، ويروى عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ قوساً عربياً نفى الله عنه الفقر. والأحاديث في ذلك كثيرة، وفي الكتب شهيرة. وقد ثبت أن أول من رمى بالقوس العربية آدم عليه السلام نزل جبريل عليه السلام من الجنة وبيده قوس ووتر وسهمان فأعطاها له وعلمه الرمي به، ثم صار إلى إبراهيم عليه السلام ثم صار إلى ولده إسماعيل عليه السلام وإليه ينتهي إسناد شيوخ هذا الفن.
ولما كان الأمر كذلك رغبه الرغبون في صنعة القسي واجتهدوا في تركيبها وأبدعوا في إتقان السهام التي يرمى بها، امتثالاً لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وإسعافاً لإخوانهم المسلمين من الغزاة والمجاهدين، وكان من بينهم الرجل الكامل الحسن السمت والشمائل، حسن بن عبد الله مولى علي، قد طال اجتهاده في هذه الصنعة من مد القوس وإطلاقها والاختلاس وحمل الأوتار والجلة والكشتوان وفرض سية القوس من سائر أنواعها العربية والمعقبية والواسطية والخراسانية والشامية، وما يتعلق بها من تنجير الخشب وتركيبه، ونشر اللحام وتوقيعه، والتوقيع والحزم والرقع والتنوير والدهان مما عليه عمل الأستاذين من سالف الزمان، فلما رأيت منه هذا الإتقان في صنعته والإذعان بحسن معرفته، والإحكام مع التفقه في سائر الأوقات لأصول صناعته، صدرت مني هذه الإجازة الخاصة له بشهادة الإخوان في هذه الصنعة الشريفة البيان، كما أجازني به الشيخ(1/1082)
الصالح الكامل الماهر البارع المرحوم عبد الله أفندي بن محمد البسنوي، بحق أخذه لذلك عن شيخه المرحوم الحاج علي الألباتي، عن شيخه محمد الاسطنبولي، بإسناده المتصل إلى عبد الرحمن الفزاري، والإمام صاحب الاختيار مؤلف الإيضاح المعروف بالطبري، بحق أخذهما عن أئمة هذا الفن المشهورين طاهر البلخي وإسحاق الرفاء وأبي هاشم البارودي، بأسانيدهم المتصلة عن شيخ إلى شيخ إلى أن ينتهي ذلك إلى سيدنا إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وحسبك من علو سند ينتهي إلى هذا الإمام. وأوصيه كما أوصي إخواني ونفسي المخالطة بالأدب الجميل، وتواضع النفس وحملها على مكارم الأخلاق، وأن لا يرفع نفسه على أحد، وأن لا يحقر أحداً من خلق الله، وأن يجعل دأبه لزوم الصمت والإدمان، والقناعة بالقليل مع المداومة على ذكر الله بالسكينة والوقار، وأن يسمى الله في أول مسكه في صنعته، ويستمد من الله القوة والحول ولا يضجر، ولا ييأس من روح الله، ولا يسب نفسه ولا قوسه ولا سهامه، ولا يحدث نفسه بالعجز فإنه يصل إلى ما وصل إليه غيره فإن الرجال بالهمم، ففي الحديث: " المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير " وأن يديم النظر إلى معرفة العيوب العارضة للقسي والسهام وعقد الأوتار، ويتعاهد لذلك وكيفية إزالة العيب إن حدث، وأن لا يبيع سلاح الجهاد لكافر، ويفتش دين من يشتري إن كان رجلاً، أو صبياً فيحتاج ذلك إلى إذن والده، فإذا علم إسلامه ووثق به فيأخذ عليه العهد أن لا يرمي به مسلماً ولا معاهداً، ولا كلباً ولا شيئاً من ذوات الأرواح إلا أن يكون صيداً أو ما يجب به قتله، وأن لا يعلم صنعته إلا لأهله الذي يثق بدينه، فقد روى أن لا يحل منع العلم عن مستحقه ويجب إعطاؤه بحقه، لا سيما إن كان عارفاً بقدر العلم راغباً فيه طالباً(1/1083)
لوجه الله تعالى، لا للمباهاة والمفاخرة، ويجب عليه أن يروض تلامذته ويؤلف بينهم ويحرضهم على العمل، ولا يعاتبهم إلا في خلوة، وهو مع ذلك لازم الهيبة كثير السكوت متأن في الأمور غير عجول للجواب، والتقوى أصل كل شيء وهو رأس مال الإنسان.
ونختم الكلام بالحمد والثناء للرب المالك المنان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد ولد عدنان، على آله وصحبه الأعيان انتهى.
وسمع المترجم على السيد المرتضى المذكور أكثر الصحيح بقراءة كل من الشريفين الفاضلين سليمان بن طه الأكراشي وعلي بن عبد الله بن أحمد، وذلك بمنزله المطل على بركة الفيل، وكذلك سمع عليه المسلسل بالعيد بشرطه، وحديثين مسلسلين بيوم عاشوراء تخريج السيد المذكور. وأشياء أخر ضبطت عند كاتب الأسماء، وأخذ الإجازة من الشيخ إسماعيل بن أبي المواهب الحلبي، وكان عنده كتب نفيسة في كل فن من الفنون، وكان لطيفاً رقيقاً حسن المعاشرة، مات سنة خمس ومائتين وألف رحمه الله تعالى.
السيد علي البكري المصري
قال الإمام الجبرتي ما ملخصه: كان مجذوباً أقام سنين متجرداً ويمشي في الأسواق عرياناً ويخلط في كلامه، وبيده نبوت طويل يصحبه معه في غالب أوقاته، وكان يحلق لحيته. وللناس فيه اعتقاد عظيم وينصتون إلى تخليطاته، ويوجهون ألفاظه ويؤولونها على حسب أغراضهم ومقتضيات أحوالهم ووقائعهم.
وكان له أخ من ذوي الكمال فحجر عليه في داره ومنعه من الخروج، وألبسه ثياباً ورغب الناس في زيارته، وذكر مكاشفاته وخوارق كراماته،(1/1084)
فأقبل الناس عليه من كل ناحية وترددوا لزيارته من كل جهة، وأتوا إليه بالهدايا والنذور وجروا على عوائدهم في التقليد، وازدحم عليه الخلائق وخصوصاً النساء، فراج بذلك أمر أخيه واتسعت دنياه، ونصبه شبكة لصيده، ومنعه من حلق لحيته فنبتت وعظمت، وسمن بدن وعظم جسمه من كثرة الأكل والراحة، وقد كان قبل ذلك عرياناً شقياناً تعباناً، غالب لياليه بالجوع طاوياً من غير أكل، بالأزقة في الصيف والشتاء، وقيد به من يخدمه ويراعيه في منامه ويقظته، وقضاء حاجته، ولا يزال يحدث نفسه ويخلط ألفاظه وكلامه، وتارة يضحك وتارة يشتم، ولا بد من مصادفة بعض الألفاظ لما في نفس بعض الزائرين وذوي الحاجات، فيعدون ذلك كشفاً واطلاعاً على ما في نفوسهم، ولا يبعد أن يكون كذلك لأنه كان من المجاذيب المستغرقين.
وسبب نسبتهم إلى البكري أنهم كانوا يسكنون بسويقة البكري لا أنهم من البكريةن ولم يزل هذا حاله حتى توفي سنة سبع ومائتين وألف، واجتمع الناس لجنازته من كل جهة، ودفنوه بمسجد الشرايبي بالقرب من جامع الرويعي، وعملوا على قبره مقصورة ومقاماً يقصد للزيارة نفعنا الله بعباده الصالحين.
الشي علي بن محمد الأشيولي الشافعي المصري
العالم الهمام والفاضل عمدة العلماء الأعلام، حفظ القرآن والمتون واشتغل بالعلم، وحضر الدروس وتفقه على أشياخ الوقت، ولازم الشيخ عيسى البراوي، ومهر في المعقول وأنجب وتصدر ودرس، وانتظم في(1/1085)
سلك الفضلاء والنبلاء، وصار له ذكر وشهرة ووجاهة. وحدثته نفسه بمشيخة الأزهر، وكان بيده عدة وظائف وتداريس مثل جامع الآثار والنظامية، ولم يزل حتى تعلل، وتوفي سنة إحدى عشرة ومائتين وألف، انتهى من الجبرتي ملخصاً.
الشيخ علي المعروف بالخياط الشافعي الأزهري
الشيخ الإمام العمدة الهمام، الفقيه النبيه الفالح. حضر أشياخ الوقت وتفقه على الشيخ عيسى البراوي ولازم دروسه وبه تخرج، واشتهر بالعلم والصلاح، وأقرأ الدروس الفقهية والمعقولية وانتفع به الطلبة، وانقطع للعلم والإفادة. ولما وردت ولاية جده محمد باشا توسون طلب إنساناً معروفاً بالعلم والصلاح، فذكر له الشيخ المترجم، فدعاه إليه وأكرمه وواساه وأحبه وأخذه صحبته إلى الحجاز وتوفي هناك سنة ثماني عشرة ومائتين وألف.
الشيخ علي النجاري المعروف بالقباني الشافعي مذهباً المكي مولداً
الإمام العمدة المحقق والهمام النخبة المدقق، والفاضل العامل والزبدة الكامل. وهو ابن أحمد تقي الدين بن السيد تقي الدين، ينتهي نسبه إلى أبي سعيد الخدري، وهو سعد بن مالك بن دينار بن تيم الله بن ثعلبة البخاري أحد بطون الخزرج وينتهي نسب أخواله إلى السيد أحمد الناسك ابن عبد الله بن إدريس بن عبد الله بن الحسن الأنور بن سيدنا الحسن السبط رضي الله تعالى عنه.(1/1086)
ولد المترجم بمكة سنة أربع وثلاثين ومائة وألف، وقدم إلى مصر مع أبيه وأخيه السيد حسن سنة إحدى وسبعين ومائة، فليلة وصولهم مرض أخوه المذكور وتوفي صبح ثالث يوم، فجزع والده لذلك جزعاً شديداً وتشاءم، وعزم على السفر إلى مكة ثانياً، ولم يتيسر له ذلك إلا أواخر شوال من السنة المذكورة، وبقي المترجم واشتغل بتحصيل العلوم وشراء الكتب النافعة واستكتابها، ومشاركة أشياخ العصر في الإفادة والاستفادة، مع مباشرة شغل تجارتهم من بيع الإرساليات التي ترد إليه من أولاد أخيه من جدة ومكة، وشراء ما يشتري وإرساله لهم، إلى أن تمرض وانقطع ببيته الذي بخطة عابدين قريباً من الأستاذ الحنفي، سنة تسع ومائتين. وكان عالماً ماهراً وأديباً ناثراً شاعراً، تخرج على والده وعلى غيره بمكة، وعلى كثير من أشياخ العصر المتقدمين، كالشيخ العشماوي والشيخ الحفني والشيخ العدوي وغيرهم، وتخرج في الأدب على والده وعلى الشيخ علي بن تاج الدين المسكي وعلى الشيخ عبد الله الأتكاوي وغيرهم.
وله مؤلفات: منها نفح الأكمام على منظومته في علم الكلام، ومنها تقريره على الرملي وهو مجلد ضخم، ومنها شرح بديعيته التي سماها مراقي الفرج في مدح عالي الدرج، وله ديوان شعر صغير غالبه جيد وكان في مدة انقطاعه لا يشتغل بغير المطالعة وتحصيل الكتب الغريبة، وقيد ولده السيد سلامة بأشغال تجارتهم، وولده السيد أحمد بملازمته واستماعه فيما يريد مطالعته، وكانت داره في غالب الأوقات لا تخلو من المترددين، إلى أن توفي ليلة السابع والعشرين من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف، وعمره سبع وثمانون سنة وصلي عليه في الأزهر ودفن بمقبرة أخيه بباب الوزير، وتأسف عليه الناس لكرمه وعلمه وزهده وورعه ولين جانبه ولطافته وكثرة حب الناس له، رحمة الله عليه.(1/1087)
الشيخ علي الحصاوي الشافعي الأزهري نسبة إلى بلدة بالقليوبية تسمى الحصة
الإمام العلامة الفقيه النحوي الأصولي النبيه، حضر إلى الجامع الأزهر صغيراً وحفظ القرآن والمتون، وحضر دروس الأشياخ ذوي القدر المصون، كالشيخ علي العدوي الشهير بالصعيدي والشيخ عبد الرحمن التحريري الشهير بالمقري ولازم الشيخ سليمان الجمل وبه تخرج، وحضر على الشيخ عبد الله الشرقاوي مصطلح الحديث، وكان يحفظ جمع الجوامع مع شرحه للجلال المحلى في الأصول ومختصر السعد، ويقرأ الدروس ويفيد الطلبة، وكان إنساناً حسناً مهذباً متواضعاً، ولا يرى لنفسه مقاماً، عاش معانقاً للخمول في جهد وقلة من العيش مع العفة وعدم التطلع لغيره، صابراً على مناكدة زوجته، وأصيب بداء الفالج وانقطع بسببه عن الدروس أشهراً، ثم انجلى عنه يسيراً مع سلامة حواسه، وعاد إلى الإقراء والإفادة، ولم يزل على حسن حاله ورضاه وانشراح صدره وعدم تضجره وشكواه للناس، إلى أن توفي في شهر جمادى الثانية سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف.
الشيخ علي المعروف بأبي زكريا البولاقي الأزهري الشافعي
الورع الفقيه والزاهد النبيه، علم العلماء وراية الفضلاء، كان ملازماً لإقراء الدرس ببولاق، ويأتي إلى الجامع الأزهر في كل يوم يقرأ الدروس ويفيد الطلبة، ويرجع إلى بولاق بعد الظهر. وكان له حمار يركبه، فلما مات حماره صار يأتي ماشياً، ولم يتخلف عن عادته إلى أن تعوض عنه غيره، وكان متواضعاً ذليلاً خاشعاً، لا يرى لنفسه قدراً ولا يترك شيئاً ولا يفعله ترفعاً وكبراً، ناهجاً منهج السنة مربياً لنفسه إلى أن عادت مطمئنة، توفي يوم الخميس ثامن شهر ذي القعدة سنة ألف ومائتين واثنتين وثلاثين.(1/1088)
الشيخ علي أفندي بن أبي الفضائل الشيخ علي أفندي العمري الفاروق
كان عالماً أديباً وشاعراً لبيباً، وفاضلاً إماماً وسيداً هماماً.
ولد سنة ثمانين ومائة وألف، قال السيد عبد الباقي أفندي العمري: لما حاولت الاطلاع في أثناء مطالعتي بعد إمعان النظر وأعمال الفكر، بكتاب الروض النضر، في ترجمة أدباء العصر، المنسوب لحضرة عم والدي المرحوم عثمان عصام أفندي الدفتري بن أبي الفضائل علي أفندي العمري، على ما يعجبني فيطربني، فما وقفت على أجمل وأحسن وألطف وأرق وأجزل وأبلغ وأفخم وأدق من هذه المقطوعات العلية الشان، عند أرباب هذا الشان، التي ذكرها في ترجمة صنوه وشقيقه المبرور، علي أفندي سليل المذكور أبي الفضائل، فما ترك بها قولاً لقائل وهي قوله:
طرة النهر سرحتها النسائم ... وعلت منبر الغصون الحمائم
ساجلتها بلابل الدوح حتى ... شق ورد الربا جيوب الكمائم
ما ترى الشرق سل مرهف فجر ... فقد تعرى براحة الأفق قائم
وساطا في الظلام حتى تبدى ... فلقاً فالدماء فيه علائم
فاختلس فرصة الزمان بروض ... يضحك الزهر من بكاء الغمائم
وتنبه لساعة الأنس وانهب ... صفوة العيش واطرح كل لائم
واجتلي كأس مبسم من غزال ... بابلي اللحاظ حلو ملائم
مائس العطف كلما راح يخطو ... وده الصب فوق جفنيه دائم
ذي دلال تمهد الحسن حتى ... قلدته زهر النجوم التمائم
نفثت مقلتاه سحراً فأمسى ... كل صب محلول عقد العزائم
وعلى غصن قده كم تمنى ... طائر القلب لو غدا فيه حائم
جال ماء الجمال في روض خد ... فيه إنسان مقلتي ظل عائم(1/1089)
لا تلمني إن سمته بيع روحي ... فعلى كل حالة أنا سائم
فسقى الله ملعباً قد تقضى ... حادث الدهر كان لي عنه نائم
بعتاب أرق من خد ورد ... نبهت جفنه أيادي النعائم
وله قصائد وأشعار، أرق من نسمات الأسحار. توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وأربع وأربعين.
السيد علي الخزام بن حسين برهان الدين بن عبد العلام بن عبد الله شهاب الدين المبارك بن السيد محمود الصوفي الصيادي الرفاعي
كان رجلاً تقياً صالحاً نقياً، خاشعاً عابداً متواضعاً زاهداً، كريم الطبع علي القدر لين الجانب رحب الصدر، مقبلاً على الطريق إقبال الشفيق على الشفيق.
ولد رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، سنة ست وثلاثين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده وقد لاحظته عين العناية والعطف، وبعد موت والده علا قدره وعظم أمره بين الناس واعتقدوه وحصل لهم به كل إيناس، وجذبته يد العناية وأكرمه الله بالولاية، ورزقه الكشف والتمكين والقوة واليقين، والتصرف الخارق والسر البارق. توفي رحمه الله سنة سبع وأربعين ومائة وألف ودفن بمقبرة خان شيخون.
الشيخ علي بن إبراهيم الإمام
الإمام الفاضل والسميدع الكامل، قطب العلوم ومحور المنطوق والمفهوم. قال صاحب التاج المكلل: لا أعلم أنه غضب قط ولا خاصم في شيء منذ عرفته إلى أن مات، وليس له نظير في حفظ الأشعار لأهل الجاهلية والإسلام الأخيار، وكتب من نفائس الكتب بخطه شيئاً كثيراً، وكنت(1/1090)
أعجب من سرعة ما يتحصل له من ذلك مع شغله بالتدريس، فسألته في بعض الأيام عن ذلك، فقال إنه لا يترك النسخ يوماً واحداً، وإذا عرض له ما يمنع فعل من النسخ شيئاً يسيراً ولو سطراً واحداً أو سطرين فلزمت قاعدته هذه، فرأيت في ذلك منفعة عظيمة انتهى. مات المترجم المذكور سنة سبع ومائتين وألف رحمه الله تعالى.
الشيخ علي بن إبراهيم حفيد صاحب سبل السلام
ذكر له الشوكاني ترجمة حسنة وقال: له مصنفات، منها " السر المصون في نكتة الإظهار والإضمار " ولد سنة ألف ومائة وإحدى وأربعين ونشأ من أول أمره على الطاعة والعبادة والتقوى والزهادة، وله في التصوف اليد العالية والمعارف السامية، ودأب على السلوك في أول أمره إلى أن حصل على مطلوبه وحاز على مرغوبه. وكان له في الوعظ أسلوب حسن له في القلوب تأثير يسري على الكبير والصغير. توفي رحمه الله عام ألف ومائتين وثلاثة عشر.
القاضي علي بن أحمد بن عطية من علماء الذمار
قال صاحب التاج المكلل: ولد عام ألف ومائتين وثمانية. قال العلامة الشوكاني: له ميل إلى العمل بالأدلة وفهم ثاقب وإدراك تام. مات في ذمار سنة ألف ومائتين واثنتين وخمسين.
الشيخ علي بن إسماعيل فهمي
عالم عامل وزاهد فاضل، قال صاحب التاج: كان من علماء صنعاء من تلامذة أحمد قاطن وغيره، بارع الذكاء فائق بين النبلاء، جيد(1/1091)
الإدراك حسن الأخلاق، كريم الصحبة. كان له معرفة تامة بغرائب المسائل. قال الشوكاني: وكان مجتهداً يميل إلى الدليل، ولا يعمل إلا بمقتضى السنة والتنزيل. مات سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين.
السيد علي بن إسماعيل من نسل الإمام المتوكل على الله
كان من أكابر العلماء وأحاسن الفضلاء، قال الشوكاني: وفد إلى صنعاء وسمع مني رسالتي المسماة " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وكذلك حضر معنا في قراءة مؤلفي المسمى " إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر " وكتب المؤلفين بخطه، وبالجملة فقد دار بيني وبينه من المساجلات الأدبية والمكاتبات الشعرية، ما يكثر سرد بعضه، وقد رقمت بعض ذلك في مجموع شعري، مات سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين رحمه الله تعالى.
الشيخ علي خضري الدمشقي
كان من الأولياء الصالحين وأهل الكرامات الناجحين، وللناس به اعتقاد جميل وكانوا يحلونه لمحبته كل محل جليل، ولد بقرب الألف والمائتين، ونشأ على أحسن حال وأتم منوال، تسعى الناس إليه ويتبركون بلثم يديه، وكثيراً ما يتكلم بالكلام، وكل من كان حاضراً يحمل كلامه على ما قصده من مصلحته ورام، وربما أن سألوه أجاب ولم يخطئ الواقع والصواب، ولم يزل مقبولاً معروفاً لا مجهولاً، مقصوداً في قضاء المآرب من كل ناحية وجانب، إلى أن توفي سنة ألف ومائتين وستين تقريباً، ودفن في زاويته المعروفة به على جادة طريق سويقة ساروجا، وقبره بها مشهور معروف والتبرك به كثير مألوف، مقصود للزيارة رحمه الله رحمة واسعة على ممر الأوقات والساعات.(1/1092)
الشيخ علي أفندي الحسبي
ولد سنة ألف ومائة وخمس وخمسين، ونشأ ناهجاً منهج الكمال إلى أن بلغ أوج الاعتدال، وكان عالماً لطيفاً فاضلاً شريفاً، من أكابر الأعيان ذوي القدر والشان. مات رحمه الله سنة اثنتين وأربعين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة الدحداح وكتب على قبره:
حسب الحسيبي الانتماء لمن غدا ... يغدو شفيع المنتمي والأجنبي
لا سيما وهو السمي لجده ... صنو النبي الهادي علي المنصب
بوفاته وافته رحمة ربه ... وحباه مولاه الرضى مع من حبى
مذ للبقاء الداعي دعاه مؤرخاً ... جنات عدن قد زهت بابن النبي
الشيخ علي الشهير بالطحان الأزهري المصري
قال الجبرتي: الإمام العلامة الفقيه، النحوي الأصولي الجدلي، النحرير الفصيح المتقن المتفنن حضر شيوخ العصر، ولازم الشيخ الملوي والجوهري، وكان معيد الدروس الأخير وبه تخرج، وكان يقرأ الكتب ويقرر الدروس بدون مطالعة، إلا أن كان يغلب عليه الملل والسآمة وحب البطالة غالب أيامه، ولا يتعفف عن الدنيا من أي وجه كان، ويطلبها وإن قلت، وكانت سليقته جيدة في النثر والنظم.(1/1093)
وله منظومة في الفقه، ومنظومة في المنطق، ومنظومتان في التوحيد كبرى وصغرى، ومنظومة في العروض، ومنظومة في البيان، ومنظومة في الطب، وله لاميتان على محاكاة لامية ابن الوردي كبرى وصغرى، وحاشية على شرح الملوي على السمرقندية. توفي في أواخر شعبان سنة سبع ومائتين وألف.
الشيخ علي الحصاوي الشافعي المصري الأزهري
الفقيه الفريد والعلامة المفيد، كريم الأوصاف جميل الإنصاف، حسن الشمائل المعروف بالفضائل، مفيد الطلبة بالفقه والمعقول ومقيد أركان الفروع والأصول، مع شهادة الشيوخ بفضله، ووثوقهم بعلمه ونقله، وكان على طريقة المتقدمين في الانقطاع للإفادة والاستفادة مع التقشف وعدم الرفاهية والرضى بما وجد من غير زيادة، وتمرض بالحمى ولم ينقطع عن ملازمة الدروس، حتى توفي في منتصف جمادى الثانية سنة خمس وعشرين ومائتين وألف وصلي عليه في الأزهر، ودفن في تربة المجاورين في الصحراء رحمه الله تعالى.
الشيخ علي بن محمد بن أحمد بن علي الديركوشي الشافعي
العالم الإمام والفقيه الفرضي الورع التقي الصالح الكامل، ولد بديركوش قرية من أعمال حلب عام ستة وثلاثين ومائة وألف، وقرأ على والده وعلى الشهاب أحمد بن محمد بن الحسن الديركوشي المفتي، وتفقه وأحسن الأخذ، وأفتى بديركوش وراجعه أهاليها بأمورهم، وكان صالحاً أديباً ديناً قليل المعاش قانعاً بما يحصل له من زراعته، راضياً بالكفاف والراحة، له تعشق بالعلم والعمل والمطالعة والإفادة والاستفادة، وكان ممن أخذ عنه العالم الفاضل محمد خليل أفندي المرادي سنة خمس ومائتين وألف كما نقلت ذلك من خطه، ولم يزل على ترقيه إلى أن توفي سنة ألف ومائتين ودفن في محلته رحمه الله تعالى.(1/1094)
الشيخ علي أفندي الشافعي بن الشيخ محمد سعيد بن أبي البركات الشيخ عبد الله السويدي البغدادي
قطب مدار العلماء في زمانه وعمدة السادة الفضلاء في وقته وأوانه، خادم السنة والكتاب مع تقوى وزهادة وخضوع وخشوع وعبادة، وجود وسخاء وكرم واتصاف بمعالي الشيم. قال صاحب جلاء العينين قال في النزهة من ترجمة طويلة ما نصه: وكان لأهل السنة برهاناً وللعلماء المحدثين سلطاناً، ما رأيت أكثر منه حفظاً ولا أعذب منه لفظاً ولا أحسن منه وعظاً، ولا أفصح منه لساناً ولا أوضح منه بياناً، ولا أكمل منه وقاراً ولا آمن منه جاراً، ولا أكثر منه حلماً ولا أكبر منه بمعرفة الرجال علماً، ولا أغرب منه عقلاً ولا أوفر منه في فنه فضلاً، ولا ألين منه جانباً ولا آنس منه صاحباً.
اختارت روحه وهو في دمشق الشام من الملأ الأعلى فريقاً، وهو يقرأ قوله تعالى " أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا " وجاء تاريخ وفاته: - أسكنه الله تعالى أعلا جنانه -: " إن المدارس تبكي عند فقد علي " انتهى، وذلك سنة الألف والمائتين والسابعة والثلاثين في السابع والعشرين من رجب الأصم، أحله الله تعالى دار النعيم الأتم. وله تأليفات مفيدة ورسائل عديدة، ومن أجلها كتاب " العقد الثمين في بيان مسائل الدين " وقد شرحه ولده الفهامة محمد الأمين، أسكنه الله في جنته وأسبغ عليه سوابغ نعمته، آمين.(1/1095)
السيد علي خزام بن السيد خزام ببن السيد الكبير الشيخ علي الخزام بن السيد حسين برهان الدين الخزامي الصيادي الرفاعي الخالدي
قد ترجمه السيد أبو الهدى أفندي الصيادي في تنوير الأبصار فقال: ولد عام ستة وثمانين ومائة وألف، وأمه من بني العابد، وهم عائلة لهم نسب صحيح للسيد محمد أبي عابد الخابوري الحسيني رضي الله عنه، وهو صاحب المرقد العامر بدير الخابور، وأصل عشيرة آل العابد بحران الرها، يقال لهم عبادده معروفون بصحة النسب للإمام زين العابدين رضي الله عنه، ويقال لما ولد السيد علي كان عمر أبيه إحدى وعشرين سنة، فكان بعد أن كبر إذا مشى مع أبيه يظن أنه أخوه. نشأ ببني خالد ربيب الكرم والتقوى، ورضيع الصدق والطريق الأسوى، بيته منهل الواردين ومرجع الوافدين:
لا عيب فيه سوى السخا وطباعه ... بذل الوجود كسائر الموجود
لم يبغ غير الله في أعماله ... وكذا طباع الآل أهل الجود
وقد اشتهر في قبيلتنا وثبت عند فصيلتنا، أن من ضاع له شيء وأكل من زاد المترجم بالنية، يرد الله عليه ضائعه، والسارق إذا أكل من طعامه وذهب لشغله لا يتيسر له سرقة شيء بإذن الله تعالى. ولما بلغ الأربعين داوم على صيام الأشهر الحرم وست شوال، إلى أن توفاه الله تعالى.
تزوج بامرأتين الأولى خالدية والثانية عبادية من أخوال آل العابد. مات المترجم المرقوم سنة سبع وأربعين ومائتين وألف، رحمه الله تعالى ودفن بمقبرة خان شيخون عند أقاربه.(1/1096)
السيد علي بن السيد خير الله الصيادي شيخ المشايخ بحلب الشهباء رحمة الله عليه
قد ترجمه صاحب تنوير الأبصار فقال: شيخنا الكامل الفاضل الصالح الناجح، الحسيب النسيب الشريف الغطريف، ابن عمنا وأحد أعيان بيتنا رفيع المنزلة مقبول الجاه، وهو السيد علي بن السيد خير الله بن السيد محمد بن السيد خير الله المتصل النسيب بسيد من رقي أعلى الرتب. ولد رحمه الله تعالى بحلب ونشأ بحجر والده، رضيع ثدي الولاية ربيب مهد السيادة والعناية، ولا زالت تحفه الوقاية الربانية وتشمله الأنظار المحمدية، حتى كبر وأحرز مشيخة المشايخ بعد أخيه السيد رحمه الله تعالى، وظهر واشتهر وعلا شانه وقدمه أقرانه، وطاب قلبه وعذب لسانه، وحسنت إشاراته وتواترت بالديار الحلبية كراماته. كان جمالي المشرب جلالي الجناب، رفيع المكانة، رقيق الطبع سليم القلب، مبارك المال، جليل المقام، له أحوال قدسية ومحاضرات أنسية، وكلمات شريفة ونكات لطيفة، وسريرة عامرة وسيرة زكية طاهرة. يسر الله توبة كثير من العصاة على يديه، وقاد قلوب العامة والخاصة إليه. وروى له الجم الغفير الكرامات الكثيرة، " منها " أن رجلاً معروفاً من أهل حلب رد شفاعته في نازلة وأغلظ الجواب، فخرج من مجلسه مغير الخاطر فقبل أن يصل المترجم قدس الله روحه إلى بيته، ألم بالرجل ماغص عظيم، فما مضى ذلك اليوم إلا وتوفاه الله تعالى. وهذه قصة متواترة في الشهباء أشهر من أن ينبه عليها.(1/1097)
" ومنها " أنه صب ماء في قنديل نفد زيته فأضاء إلى الصباح بإذن الله تعالى. " ومنها " أن رجلاً من ذوي البيوت يقال له عبد الكريم، مازح المترجم بكلمة أخذ منها شيئاً من نفسه، فقام من المجلس ولم يشعر أحد أنه اغبر خاطره، ففي الحال أصابت الحمى عبد الكريم المومى إليه، فعالج نفسه بالأدوية مدة فما أفاد، فألهمه الله تعالى بعد تلك المدة أن اغبرار خاطر صاحب الترجمة هو السبب فيما ألم به، فذهب لحضرته المباركة وقبل يديه وسأله العفو، وذكر له القصة فعفا عنه، وأمر له بماء فشربه، وانصرفت عنه الحمى ليومها بقدرة الله سبحانه وتعالى. " ومنها " أنه كان خارج داره ورجع ليلاً وخادمه أمامه بيده القنديل، فوجدا عند الباب شخصاً من الجن وصل رأسه إلى قرب حائط الدار ارتفاعاً، فخاف الخادم خوفاً شديداً، فقال له لا تخف وأخذ القنديل وضرب به الشخص، فسقط، وفي الصباح جاء أتباعه فوجدوا رماداً أمام الباب، فعرفوه أنه الجني. وهذه من غرر كراماته، وكراماته كثيرة لا تعد. لبس الخرقة من أبيه العارف بالله السيد خير الله الثاني، وسند خرقتهم معروف، وقد أخذ منه الإجازة بالطريق السيد أبو الهدى أفندي صاحب " تنوير الأبصار " توفي السيد المترجم قدس الله روحه بحلب سنة تسع وثمانين ومائتين وألف، ودفن بزاويته المباركة التي أنشأها بمحلة يانقوسا، وقد أرخه الكثير من الفضلاء منهم الحاج مصطفى الأنطاكي الحلبي وبيت التاريخ قوله:
ولدى زيارتنا له أرخ نرى ... نور الرفاعي من مقام علي(1/1098)
الشيخ علي الخاتمي الأدلبي الشاعر المشهور
أديب قد تحلى كلامه بقلائد العقيان، ونظامه ببلاغة قس وفصاحة سحبان، وأريب جرت في بحوره سفن الأذهان فلم تدرك قراره، وعجزت أفكار النظراء والبلغاء عن أن يدركوا تياره، فلا ريب أنه الفصيح الذي إن تكلم أجزل وأجز، وأسكت كل ذي لسان ببلاغته وأعجز، ما برز في موطن شعر إلا وكان فارس ميدانه، ولا في محفل إنشاء نثر إلا وكان المشار إليه في بديعه وبيانه، فهو للأدب حدقة الإنسان ومن رآه علم أنه ليس الخبر كالعيان، كيف لا وهو الفريد الذي تلألأت بمعاني بيانه السطور والطروس، واهتزت لبديع براعته وعبارته الأعطاف والرؤوس.
ولد سنة ألف ومائتين وست عشرة. وكان جواداً كريماً، مهاباً بين الناس عظيماً، جميل المعاملة والإحسان، كثير التودد للأحباب والإخوان. ومن نظمه هذا الموشح، الذي تردى بكل جمال وبكل حسن توشح، وهو:
طالع الإسعاد باد عندما ... ضم شمس الحسن برج الأطلس
وجلا صبح جبين أنجما ... فوق بدر تحت فرع حندس
دور(1/1099)
راحة الأرواح في أيدي الصباح ... قهوة الراح كأقداح الصبوح
في رياض باغتباق واصطباح ... للشجي راح وريحان وروح
هاتها بكراً إذا ما الفجر لاح ... عتقت في دنها من قبل نوح
بنت شمس زوجت ماء السما ... ولدت منه الجواري الكنس
فانتشائي كان منهما مغنما ... وبذكراها نديمي مؤنسي
دور
حي من صافي الحميا يا نديم ... وامل بدر الكأس من شمس المدام
وانشد الألحان بالصوت الرخيم ... واترك العذال تهذى بالملام
إنها العيش الرغيد المستقيم ... غادة تمحي شموساً في الظلام
مزجها الصهباء من عذب اللما ... تنهل الصب حياة الأنفس
فابسطن للجيد منها معصما ... عندما تسهو عيون الحرس
دور
والثمن أنفاس عطر يستطاب ... من خديد خاله المسكي طيب
وتنزه ناظراً تحت النقاب ... جنة تزهو على رغم الرقيب
واغتنم وقتاً من الهجران تاب ... حبذا وقت إلى الوصل منيب
واغتباق الغيد فيه خيما ... في ربا ضم القدور الميس
نم هنيئاً في حراس حيثما ... حاجب الهيفاء رام عن قسى
دور
لذ في العذراء لي خلع العذار ... واطراحي في خبا ذات الخدور
منشدي في الحان ألحان الهزار ... في رياض نجمها زهو الزهور
وردها يروي حديث الاحمرار ... عن شقيق الخد عن بسم الثغور(1/1100)
طرف حور العين أمسى مغرما ... في رباها في عيون النرجس
عنبرت نفح الشذا بل إنما ... عطرت من عرف عطر النفس
وله أيضاً رحمه الله، وحباه في دار الرضوان مرامه ومناه.
حتى م يا ظبي الكناس ... احنو إليك وأنت ناسي
أغريت بي سقم الجفو ... ن فحل منى كل آس
ونسيت عهداً لم أكن ... أبداً له وأبيك ناسي
مولاي لا تمتد في ... هجري فقد عجز المواسي
مرني فأمرك بالذي ... تهوى على عيني وراسي
هذي الرياض قد انجلت ... في حلتي ورد وآس
فاجل المدام أخا الهلا ... ل وحيني منها بكاس
واستنطق الوتر الرخيم عن الفؤاد وما يقاسي
وله أيضاً:
يا صاحبي عج بالمطي على الحمى ... فعسى تلوح لناظري شموسه
فهناك يستملي ابن مقلة فضة ... مني فيكتب والخدود طروسه
وأريك شوقاً لو يقاس بغيره ... بتوقد الجمرات كنت تقيسه
بان الخليط فلا تسل عن حالتي ... ما حال من قد بان عنه أنيسه
ودعته ورجعت عنه كأنني ... ذو نشوة دارت علي كؤوسه
لم أنس إذ غنى له الحادي ضحى ... وتراقصت تحت الهوادج عيسه
ورمى ابن عم الظبي لي بإشارة ... أخذ الفؤاد بها فهاج رسيسه(1/1101)
وله:
يا وردة من فوق بانه ... سر الأحبة من أبانه؟
أخفيته جهدي وقد ... علقت في قلبي مكانه
وكتمت أمر صبابتي ... وسدلت أستار الصيانه
ما كنت أحسب أن يكو ... ن الدمع يوماً ترجمانه
لولا وضوح الأمر ما ... أغرى بنا الواشي لسانه
ولوى عنانك عن شج ... شوقاً إليك لوى عنانه
يا ظبية البان الذي ... عند القلوب لها مكانه
قد أسكرتني مقلتا ... ك كأن في الخمار حانه
وكرعت من ماء الصبا ... ففضحت لين الخيزرانه
أجريت ذكرك بالحمى ... وقد اجتلى طرفي جنانه
فلوى القضيب معاطفاً ... نظم الندى فيها جمانه
واحمر خد شقيقها ... وافتر ثغر الأقحوانه
وله:
قد نضى طرفه الكحيل حسامه ... فسل الله يا فؤادي السلامه
فاتك قد سطا بألحاظ ريم ... بلغته من القلوب مرامه
ناقض للعهود ليس يراعي ... ذمة للذي يراعي ذمامه
قد تعشقته بديع جمال ... يملأ العين بهجة ووسامه
ما تذكرت عيشه الغض إلا ... أهطلت أدمعي عليه غمامه
يا نسيماً من عنبر اللطف أهدى ... طيب أنفاسه إلينا شمامه
هي عني أقاح تلك الروابي ... ثم قبل ثغوره البسامه(1/1102)
وألو عطف القضيب نحو أخيه ... ليطيل اعتناقه والتثامه
واقتطف من حديقة الحسن ورداً ... نقطت فوقه من المسك شامه
وارتشف من خلال تلك الروابي ... قاطر الشهد قطرته مدامه
واعتنق في منمنم البرد خوطا ... رنحت خمرة الشباب قوامه
ثم لاعب له ذؤابة شعر ... قد تدلت فقبلت أقدامه
وله:
يا زورة سمح الخيا ... ل بها فبات معانقي
خاض الدجنة طارقاً ... أكرم به من طارق
وأتم ساحة عاشق ... في جنح ليل غاسق
وأتى يجدد بالصبا ... بة عهد صب شائق
فجرت لطائف بين معشوق هناك وعاشق
وخلالها قبل تلذ ورشف ريق رائق
وسألت ذاك الريم عن ... سبب الصدود السابق
فانهل منه ما يريك الطل فوق شقائق
وافتر لي ياقوته ... عنه لؤلؤ متناسق
وصفا هنالك مورد ... بين العذيب وبارق
وله:
بروحي ساق قد جلا تحت فرعه ... جبيناً كبدر التم عند شروقه
سقاني بنجلاويه كأساً من الهوى ... فأسكرني أضعاف سكر رحيقه
وقال افترع بكر الأماني تغزلاً ... فلي منظر يهديك نحو طريقه
فوجهي مثل الروض باكره الحيا ... جني أقاحيه وغض شقيقه
وإن أشبه التفاح خدي حمرة ... فلي نونة تحكي مناط عروقه
النونة طابع الحسن ويسمى أيضاً جب يوسف.(1/1103)
وله:
رشق الفؤاد بأسهم لا تخطه ... ريم يشوق الريم مهوى قرطه
من ذا عذيري من هوى متلاعب ... قد راح يمزج لي رضاه بسخطه
أعطيته قلبي وقلت يصونه ... فأضاعه يا ليتني لم أعطه
وثناه عن محض المحبة رهطه ... فعناء قلبي في الهوى من رهطه
وقد اشترطنا أن ندوم على الوفا ... ما كنت أحسبه يخل بشرطه
كيف الخلاص ركب بحراً من هوى ... شوقاً إليه فشط بي عن شطه
علقته ريان من ماء الصبا ... كالروض أخضله الغمام بنقطه
غض الشباب وهذه وجناته ... قد كاد يقطر ماؤها من فرطه
يجلو عليك صحائفاً وردية ... رقم الجمال بها بدائع خطه
وتريك هاتيك المعاطف بانة ... تهتز ليناً في منمنم مرطه
وتخامر الألباب منه فكاهة ... تلهي حليف الكأس عن اسفنطه
لو بت أستملي لطائفه التي ... ضاهت برونقها جواهر سمطه
لدهشت إعجاباً بلؤلؤ لفظه ... ومددت كفك طامعاً في لقطه
وله:
لا تكن ويك طامعاً في سلوي ... فالهوى قد نما أشد نمو
شفني ذلك الشويدن حباً ... ورماني بسهم ذاك الرنو
قمر في ابتدائه تم حسناً ... وسما في الكمال أوفى سمو
وقضيب غض النبات رطيب ... عل من خمرة الشباب وروى(1/1104)
حبه خط في فؤادي سطراً ... أمد الدهر ليس بالممحو
يمزج الصد بالوصال دلالاً ... فترى منه قسوة في حنو
وهواه ما زال يوري لهيباً ... بين جنبي ما له من خبو
يا سقى الله عهدنا في ليال ... قد جنينا بها ثمار الدنو
جمعت شملنا بكأس سلاف ... هي أصفى من دمعة الممحو
كلما قلت يا بن ودي خذها ... قال لي هات يا عدو عدوي
وفي سنة ألف ومائتين وإحدى وأربعين امتدح المترجم متسلم حمص محمد آغا خير الله، وكان رجلاً كريماً حسن السيرة جميل الشهرة، إلا أنه لم يجازه عليها، فبحسب التقدير لم يمض على ذلك مدة حتى قتل الممدوح في شوارع البلد، وأما المادح فإنه قد تمرض وتحول فمه والعياذ بالله تعالى. وهذه القصيدة التي مدح بها الممدوح المرقوم أعلاه مضاهياً بها بانت سعاد لكعب بن زهير الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه:
أسيف لحظيك تجلوه الصياقيل ... أم مشرفي ابن خير الله مسلول
منه رأينا لديك الأسد صاغرة ... منهم حلا لك بعد العز تذليل
لله ريم بدا من ليل طرته ... بدر تلالا به بشرى وتهليل
حكى الغزالة منه الالتفات حكت ... منه المحيا سناماً فيه تأفيل
كم من كمي له ما بين معترك ال ... أحداق والقلب متبول ومبتول
ما السحر والخمر بالألباب أفتك من ... فنان طرف به هاروت مشغول
فرح معافى سليم القلب من حرق ... والجفن من قرح فالحب قتيل
ولا تعرض إذا هز القوام رشا ... من شك أحشاءه الخطي مقتول
ودم خلياً وإن تعشق فدم هدفاً ... لناقد فسهام الطرف مرسول(1/1105)
إليك نصحي ولكن من وعاه فبا ... م لإنعام يزدان عندي فيه تمثيل
بآية النور من صبح الجبين إلى ... رب المحاسن لي بالليل تبتيل
إلى أن قال متخلصاً إلى المدح:
كأنه موج هندي يهز به ... محمد ودجى الهيجاء مسدول
لعضبه ومض برق والغبار حكى ... مزناً وقطر دم العاصين مهطول
يلقى الكماة ابن خير الله يتركهم ... بلها ولب عميد الجيش مذهول
بغير درع يلاقي الدارعي ولا ... تهوله بعواليها الجحافيل
فصاله فصل الأكباد فيه وما ... ردت مضاربه تلك السرابيل
عليه ما شق أن يلقى الألوف به ... وشق قلب خميس فهو مغلول
بالبيض صلت ظباه عندما ركعت ... فأسجدت هامها الشم البهاليل
فيهم يذكرنا أقوام أبرهة ... لما رمتهم مراميها الأبابيل
صدورهم في لظى من نار لهزمة ... من حرها فلهم بالويل تعويل
برد وسمر القنا جمر وقائعه ... سود لها في بياض الطرس تسجيل
بهامهم أسمرت لما استقت بدم ... فهامهم لعواليه أكاليل
كأن عنتر يعني في مقالته ... هذا الأمير ما في الصدق تأميل
له النفوس وللطير اللحوم وللوحش العظام وللفرسان ما نيلوا
إلى آخرها، وهي قصيدة طويلة ولولا سآمة خطها المنقول عنه مع تحريفها لنقلتها بتمامها وكمالها هذا وإني لم أقف على تاريخ موت المترجم رحمه الله تعالى؟(1/1106)
السيد الحاج عمر لطفي أفندي بن الحاج محمد أفندي بن الحاج عمر أفندي بن الحاج علي أفندي، شيخ الإسلام ومفتي السادة الأنام، أدام الله وجوده وأغدق عليه أنعامه وجوده.
فهو قمر رفعة قد طلع في أفق الشريعة بدرا، وقطب مدار ملة قد اجتبته أن يكون لها هامة وصدرا، وسماء فضل إشراق نجومها بالهداية موصوف، وشمس عدل لا يعتري سناها مدى الدهر كسوف، قد تحلى به جيد الأبد فكان له عقد انتظام، وتجلى على كرة الأمد فكان لها غاية المرام، أورق عوده في رباض دار السعادة وأزهر، وارتقت سعوده في سماء السيادة فأشرق نجمها وأزهر:
لما بدا خفيت له شمس الضحى ... في ثوب غيم ترتديه وتكتسي
نطقت فضائله فأخرس دونها ... نطق الفصيح وحار فكر الكيس
ولد هذا السيد الهمام، وكانت ولادته لهذا الدهر بمنزلة شهر رمضان إذا ظهرت به ليلة القدر:
بمولده طاب الزمان وأهله ... ولا ريب قرت مقلة المجد والعدل
وذلك في سنة ألف ومائتين وإحدى وأربعين أطال الله بقاه وأدامه نعمة للعالمين. وكانت ولادته الشريفة في قرية صنديمة " قري من قرى بودروم " لا زالت عين العناية ترعاه بما يقضي له بالقدر الموسوم. وإن جده الأعلى كان قد هاجر من أغريبوز من بلاد المورة، إلى بودروم المعلومة المشهورة، فصارت نسبتهم إليها بين الناس مذكورة. ثم أن المترجم حفظه الله هو(1/1107)
من أحفاد القابودان الأسبق المرحوم سليمان باشا المعظم، وإن والدته هي المصونة فاطمة خانم بنت الحاج عمر أفندي المفتي المكرم. فلم تزل التربية في حجور السمو ترقيه ترقية الذهب الإبريز، وتربيه تربية النمو إلى أن زكا إدراكه وبلغ سن التمييز، فنهج على قدم الهمة منهج التقديم، وقرأ على شيخه محمود أفندي كتاب الله العظيم، ثم حضر على الحاج علي أفندي العلائيه لي، مقداراً من علم الصرف، باذلاً همته في الطلب حتى كأنه لم يغمض له خوف التقصير طرف:
تكهل في علم العلا وهو يافع ... وجاز بلوغ الرشد وهو رشيد
وأفصح عن فصل الخطاب بمنطق ... لديه لبيد ضارع وبليد
وفي آخر سنة ألف ومائتين وثلاث وخمسين غرة رجب، قدم به المرحوم والده إلى دار السعادة لأجل التحصيل والطلب، فوضعه في مدرسة الطب من مدارس حضرة المرحوم السلطان سليمان، عليه أكمل الرحمة وأتم الرضوان، عند خاله أبي بكر أفندي عليه رحمة المعيد المبدي، ثم رجع والده إلى دار إقامته وترك المترجم في دار السعادة ليفوز بسعادته، ففي السنة المذكور في غرة شوال، ابتدأ في قراءة الصرف وعلم الحال، على الحاج مصطفى أفندي القسطموني الهمام، وكان في كل فن إماماً وأي إمام! فاستعمل لعظيم المجد همته الكبرى، وأدرك في جده واجتهاده الأنجم الزهرا:
ومن يسعى إلى طلب المعالي ... فلا عجب إذا ركب البحارا
وفي سنة ألف ومائتين وأربع وستين، من هجرة رسول الأنبياء ونبي المرسلين، أيام شيخه شيخ الإسلام وعمدة السادة وإمام الأنام، حبر الأفاضل وبحر الفضائل، عارف حكمت بك قد فتح للتلامذة باب الامتحان، في مدرسة مولانا المرحوم السلطان بايزيد خان، فكان له في ذلك(1/1108)
الامتحان المقام الأول، وفي الامتحان العسكري كان له المحل الأرقى الذي عليه المعول، ولا زال مجتهداً في تحصيل العلوم، مكباً على أسباب التوصل إلى دقائق المنطوق والمفهوم. وفي عام ألف ومائتين وستة وستين حصل امتحان الرؤوس الهمايوني وكان هذا الهمام، من جملة مائة وخمسة عشر عالماً من العلماء الكرام، فكان له من بينهم الفضل الأعلى والقدر الأتم الأجل الأجلى، والجواب الصائب السديد والرأي الفائق الرشيد، مع لطيف خلق يسعى اللطف لينضم إليه، وشريف صدق يقف الكمال متحيراً لديه، وجميل طبع أرق من نسيم الصبا في الصباح، وأعذب من مذاق الظفر على مناهل النجاح:
همام جد في طلب المعالي ... ونال من العلا جل الأماني
فبدر علاه مكتمل منير ... وشمس نداه دائمة التداني
فدام ممتعاً بدوام عز ... وإنعام على طول الزمان
وفي شوال من السنة المذكورة، تعين في سنجاق سيروز مأموراً للامتحان في أخذ العساكر المنصورة. وفي سنة ألف ومائتين وسبع وستين قرأ علم الصرف لجم غفير في جامع المرحوم السلطان بايزيد خان ذي المقام الشهير. وفي سنة تسع وستين دخل في سلك المأمورين في الفتوى خانه الجليلة. وفي أربع وسبعين تعين نائباً في محكمة الغلطة الجميلة، فاحتاط غاية الاحتياط وعن كل مخالف تحاشى، وفي سنة ثمان وسبعين تعين نائباً في محكمة المرحوم داود باشا. وفي زمان المرحوم حسام الدين أفندي شيخ الإسلام، تعين نائباً في محكمة جلبي أفندي فأجرى الأحكام على أوفق مرام. وفي أثناء ذلك تعين مقرراً في الدرس الذي يقرأ(1/1109)
في حضور الحضرة السلطانية، وقد نال في قراءته الخط الوافر وتمام الالتفات من الذات الشاهانية. وصدرت الإرادة بتعيينه مفتياً في المجلس العسكري في الطوبخانة العامرة وترفيع رؤوسه إلى حركة التمشي المعروفة الباهرة. وعند رجوع الشهيد المرحوم حضرة السلطان عبد العزيز خان من سياحته الأورباوية، عينه أستاذاً لابنه يوسف عز الدين أفندي ولمن معه من أشبال الذات الشاهانية. وبعد سنتين أحسن إليه بباية أدرنه وحاز من الالتفات الزيادة. ونظراً لمحظوظية الذات الشاهانية من درسه أحسن إليه بخمسة وعشرين ألفاً غير العطية المعتادة. وبعد ثلاث سنين ونصف من إفتائه في الطوبخانة تعين مفتياً في دار الشورى العسكرية، وبقي في الشورى أربع سنين مع مشيخة أولاد الذات السلطانية، ثم انفصل حسب الإيجاب من الوظيفتين المذكورتين، وتعين عضواً في التدقيقات الشرعية فكان لوظيفته قرة عين. وبعد أربعة أشهر لما تشكلت العدلية تعين رئيساً في مجلس الحقوق باسكدار وبقي إلى سنة اثنتين وتسعين وعليه أمورها تدار، فتعين حسب الطريق قاضياً في اسلامبول، وبعد مرور ثلاثة أشهر أحيلت لعهدته باية أناطول. فترك الرياسة من نفسه، وكانت مدة قضاء اسلامبول قد ختمت فانفصل منها وجعلها من فكره كأمسه. وعند محاربة الروسية بقي مدة في قصره الموجود في الشاملجة البهية، وفي أثنائها كان يتعين تارة رئيساً وتارة عضواً في المجالس التي تشكل في باب المشيخة الإسلامية. وتعين كذلك مأموراً في المجلس الذي تشكل في سراية يلدز العالية. وفي ألف وثلاثمائة نال عطية عظمى من صاحب المقام الشامخ العظيم الشان، مولانا أمير المؤمنين السلطان الغازي(1/1110)
عبد الحميد خان، مع الإذن له بأداء فرض الحج الشريف، فتوجه مصحوباً بجميع عائلته إلى وطنه ومحل ولادته، لكي يغنم دعاء والدته ويدخل عليها السرور بزيارته، ومن هناك توجه إلى مكة ذات القدر السامي والاحترام فأدى فرائض الحج. ثم في السابع والعشرين من ذي الحجة الحرام، توجه مع المحمل الشامي نحو المدينة المنورة لزيارة خير الأنام، فوصل إليها في عاشر المحرم سنة ألف وثلاثمائة وواحدة، وزار أشرف قبر وصلى لديه الجمعة مرتين وأثنى على الله تعالى وحمده بأعظم المحامد. ثم توجه براً مع المحمل المصري فاستقام بمدينة مصر للزيارة خمسة عشر يوماً، ثم توجه إلى الإسكندرية فمكث بها ستة عشر يوماً، ومنها ركب في الوابور النمساوي فأجرى الكرانتينة في بلدة بيرة، ثم توجه إلى أزمير واستقام بها اثنين وعشرين يوماً بكل تعظيم وتوقير، وفي ثالث شهر رجب توجه في الوابور قاصداً الآستانة العلية، وعند وصوله توجه رأساً إلى السراية السلطانية، للتشرف بتلك الرحاب، والتشكر لحضرة ذلك المقام المهاب. ثم رجع لمنزله الذي كان استأجره بجهار شنبه إلى أن مضى الشتاء، وفي الصيف عاد إلى الشاملجة لقصره، وما زال داعياً لمولانا أمير المؤمنين بدوام تأييده ودوام بقائه ونصره. وفي سنة ألف وثلاثمائة وثلاث صار بالفعل قاضي عسكر أناطول البهية، وحسب الطريق عند ختام المدة كانت الحضرة المعظمة تدعوه للعطايا الخاقانية. وفي الخامس عشر من جمادى الأولى سنة ست دعي في الساعة الخامسة ليلاً بواسطة أحد المقربين، إلى الحضور لدى سيدنا الأعظم أمير المؤمنين، فعندما دخل السراية العالية بشر بمشيخة الإسلام، فوجهت في الحال عليه بتمام الفضل وجزيل الإنعام،(1/1111)
وفي الصباح توجه بموكب حافل إلى باب المشيخة الإسلامية، فاستوى على منصتها وكان لها به تمام البشرى والأمنية، ودارت كؤوس التهاني بين الأنام، وأشرق بدر الأماني على كرة الإسلام. وارتشف ثغر السرور كأس حمياه
وأزاح بدر الحبور اللثام عن محياه، وشدا شادي الفخار والإرشاد معلناً بوصفه على رؤوس الأشهاد: اح بدر الحبور اللثام عن محياه، وشدا شادي الفخار والإرشاد معلناً بوصفه على رؤوس الأشهاد:
شهم له شيم يريك إذا انجلت ... في ليلك الداجي شموساً تشرق
ومكارم فيه تدلك أنها ... خلق وفي طبع الغمام تخلق
أولى الملا عزاً وأعلاهم علا ... وأبرهم للمسلمين وأرفق
سبق الكرام وقد تأخر عصره ... عن عصرهم فهو الأخير الأسبق
فهيهات لمثلي أن يستقصي صفات هذا الفرد الهمام، وإن كان البحر مداداً والشجر أقلام.
ثم أنني في عام ألف وثلاثمائة وسبعة حينما تشرفت بزيارة الدار العلية، كحلت بصري باثمد النظر لذات هذا المترجم البهية، فرأيت إنساناً قد صاغه الله من جوهر الكمال، وأفرغ عليه حلة البها والجمال، ومن عليه بالشمائل ذات الفضائل، وأجلسه على ذروة الرفعة فكان لكل سائل من أعظم الوسائل، وحينما رآني قام وبش إلي، وحياني أجمل تحية وسلم علي، وأولاني من معروف إقباله ما أولى، وحياني بما أحياني به وإن لم أكن أهلا، وسمعت منه ما يشهد له بأنه شيخ الكل في الكل، ولم يسعني حينما رأيت ما رأيت سوى بذل جهد المقل، ولم تزل تتكرر زيارتي لحضرته، وإذا مدة تساهلت بالزيارة أخجلني بشديد معاتبته، أدام الله تعالى وجوده، وأغدق عليه إنعامه وجوده، وقد كنت حين وفودي على كعبة علاه الشريفة، مدحت سيادته بهذه القصيدة فأحببت إثباتها في ترجمته المنيفة، وهي:(1/1112)
تجلت فلاح البدر من خلل الشعر ... فتاة سبت عقل الشجي ولم تدر
وحدثنا عن نشرها مسك ثغرها ... حديثاً رواه الخال عن خدها البدر
وورد محياها البديع حكى لنا ... بأن رضاب الثغر يغني عن الخمر
عذولي لحاك الله دع عذل مغرم ... إلى الحشر حاشا أن يفيق من السكر
وكن عاذري في حب عذراء لو ترى ... سناها لأوضحت الدليل على عذري
بروحي فتاة حسنها فتنة الورى ... ولكن في أحداقها آية السحر
وفي مهجتي من صدها وبعادها ... حرارة ملتاع حكت لهبة الجمر
ممنعة ما نال منها محبها ... وصالاً سوى ما كان في الوهم والفكر
ولو شامها في النوم مغرى بحبها ... لأيقظه من نومه صادح القمري
أما وسيوف باترات بجفنها ... واسمر قد يزدري طعنة السمر
وشامات حسن قد بدت فوق وجنة ... وجيد به صدري غدا عادم الصبر
ورمان صدر قد حمته أراقم ... تقول لحظي أنت أسود من شعري
وتيه دلال زانه ميل قامة ... وحسن تثن قد ثنى للفنا صبري
لقد سلبت تلك الفتاة حشاشتي ... وصدت، وسيف الصد قلب الشجي يفري
وقبل هواها كنت لا أعرف الهوى ... ومذ شمتها أصبحت في قبضة الأسر
وذقت كؤوس الهون منذ علقتها ... وما نلت منها بعد صبري سوى هجري
فيا طلعة البدر المنير أما كفى ... محباً تمنى الموت من شدة الجور
لقد طال ما أولاه هجرك من عنا ... وإن الهوى ألقاه في لجة البحر
فقالت وما تبغي، أجبت وأدمعي ... على صفحات الخد تنهل كالقطر
أروم اقترابي منك عطفاً ومنة ... فحسبي الذي قد ذقت من صبري المر
أجابت وقد شامت بياض عوارضي ... أما آن بعد الشيب ترك الهوى العذري
إلام ترى حب الغواني فضيلة ... وأنت تجيد المدح في النظم والنثر(1/1113)
عليك بمدح الشهم فرد أولي العلا ... حمى من به قد لاذ من نوب الدهر
إمام الهوى مردي العدا فائق الندى ... مهاب جليل فاضل واسع الصدر
غدا عمري الاسم والعدل في الورى ... فمن ذا الذي يحكيه في السر والجهر
ومن لطفه لطفي تلقب ياله ... هماماً له باللطف مستحسن الذكر
تولى على الإسلام شيخاً لفضله ... فباهت به أيامنا سالف العصر
ملا ذكره الآفاق شرقاً ومغرباً ... فليس له ند بشام ولا مصر
تنافس هذا العصر فيه وكيف لا ... ينافس فيه كل عصر مدى العمر
تدانت له زهر الأماني لكي ترى ... له الشرف الأعلى على كرة البدر
فما هو إلا مظهر الحلم والنهى ... وما هو إلا منبع الجود والبر
سليل التقى والعدل والعلم والنقا ... فريد الذكا والمجد والرشد والقدر
فقل مكثراً ما شئت في نظم مدحه ... ومالك إن قصرت وجه إلى العذر
أياديه يحكي البدر جود نوالها ... وراحته تسمو حباء على البحر
لقد فاق أهل العصر علماً وحكمة ... وقلد جيد الدهر عقداً من الشكر
أخو همة فاقت على همم الملا ... وأوصافه تسمو على الأنجم الزهر
أخال بأن الأرض جهلاً بقدره ... لدى سيره لم تبدل الترب بالتبر
أرق من الماء الزلال شمائلاً ... وألطف من جسم النسيم إذا يسري
إذا ازدان ذو قدر عظيم بقدره ... ففيه وفي آبائه زينة الدهر
وإن مر ذكر الأكملين فذكره ... كبسملة التالي غدت مبدأ الذكر
به ضاء وجه الدهر وازداد بشره ... فحقاً هو الموسوم بالكوكب الدري
ودانت له الأيام تحبوه ما يشا ... وكل ليالي عمره ليلة القدر
لقد ضاق صدر الدهر عن كتم فضله ... وهيهات يخفى البدر في ليلة البدر
فيا سيداً ساد الورى بجميله ... وأوصافه الحسنى وأخلاقه الغر
لك الراية البيضاء في كل موكب ... كذا السيرة الحسناء بالحمد والشكر(1/1114)
وإني على مر الزمان لكم فتى ... دعاء بما ترجون في السر والجهر
فجد واعف عن عبد أتاك مقصراً ... وإن صاغ للمدح الثريا مع الزهر
فلا زلت مرفوع المقام مدى المدى ... ولا زال من عاداك في الذل والقهر
ولا برحت آيات مجدك ترتقي ... لها الموضع الأعلى على هامة الدهر
توفي هذا الفرد الكامل والأوحد الفاضل، في الدار العلية عام ألف وثلاثمائة وأربعة عشر.
السيد عمر بن عبد السلام المدرس الداغستاني صاحب اللآلئ الثمينة في أعيان شعراء المدينة
أديب لأشتات الفضائل جامع، وأريب إشراق بدره في سماء المعارف لامع، شمائله تزري بأنفاس الشمول والشمال، وفضائله قد تحلت بأنواع الحسن وأفنان الجمال، لا تسأم أصحابه لطيف مؤانسته، ولا تمل أحبابه ظريف مجالسته، مع فصاحة وبلاغة ولسن، وتجمل بكل خلق جميل حسن، ورقي من معالي المكارم ذراها، وتمسك من أعالي العزائم بأوثق عراها، دأب في كسب المآثر فتى وكهلا، وسلك من مسالكها حزنا وسهلا، حتى قيد منها كل شاردة، وشيد مبانيها فكانت لطلابها أبهى عائدة، ولله در نثره الرائق، ونظمه البديع الفائق. فمن لطائفه العالية، وطرائفه السامية، قوله مخاطباً الأديب الكامل، السيد عمر حيدر المدني بهذه المسمطة:
يوم عيد الوصل إذ ... أوفى لنا الحب الوعود
وتبدى بالحميا ... من محياه يجود(1/1115)
حل في منزل أنسى ... مسعداً سعد السعود
وتثنت في رياض الصفو أغصان القدود
وغدت ضاحكة بالأنس أزهار الخدود
دور
بالتلاقي والوفا قد ... أحسن الدر المسي
يا خليلي فامل من دن التهاني اكؤسي
لا تؤخر مطلبي ... عجل بها كي نحتسي
نمزج الأفراح بال ... أرواح ثم الأنفس
ما علينا من عذول ... هان أو واش حسود
دور
عاتها صفراء مثل التبر في كأس اللجين
ليس يحلو مزجها ... إلا بريق الشفتين
من لمى ذاك الرشا ... النفار ساجي المقلتين
كم له قد قلت أو ... ف الوعد إن الوعد دين
وهو نفار عن الوصل ... كما الظبي الشرود
دور
ما ترى طير الصفا يشدو على غصن السرور
ونسيم القرب قد هبت وفاحت بالعطور
ومن البشر غدا مبتسماً ثغر الزهور
أنس المجلس إذ ... واصلنا ذاك الغرور
وهو في تم البها كا ... لبدر بل أضحى يسود
دور
يا لها ساعة إقبا ... ل بها جاد الزمان(1/1116)
وبلغنا القصد والمأ ... مول مع حور الجنان
فاختلع فيها عذاراً ... واغتنم وقت التهاني
لا تؤخر ساعة الأنس إذا وافت لآن
إنما الدهر هبات ... قل فاحرص أن تعود
دور
وانشدن لي مدح حاوي ... الفخر والعز النبيل
الأديب الماجد الأر ... وع ذي الفضل الأثيل
عامر الأفضال محمو ... د البها الندب الكميل
حيدر العليا سراج الفضل والشهم الفضيل
دام في عيد المسرا ... ت وفي عيش البرود
فأجابه بقوله:
أم قلبي كعبي الريم المفدى في زرود
عرفات البعد طالت ... وهواه لي يقود
بمناه بت في نسك الهوى أو في الصدود
جمرات الهجر منه ألهبت ... قلبي الوقود
ليته يوفي ضمان القرب يولي بالسعود
دور
راح يسعى نحوه ... قلب المعنى المستهام
وغدا فيه جسيمي ... لابساً ثوب السقام(1/1117)
وحطيم البعد أضحى ... يحطم القلب دوام
قد جرى زمزم دمعي ... وانتهى في الانسجام
عل أوقات اللقا من ... فاتني يوماً تعود
دور
قيدوا قربان قلبي ... بعد أن حلوا المدى
أضجعوه كي يريقوا ... نفسه يوماً سدى
غاب شخصي عن عياني ... ما تراه إن بدا
إن تراه لائحاً ما ... ذاك إلا للردى
حشوه صار خيالاً ... مذ غدا رهن الصدود
دور
ليس يدري شخص جسمي ... مذ فني إلا الهوى
وكذاك السقم يدري ... حيث فيه قد ثوى
مازجت روحي هواها ... والهوى بي قد هوى
لست أصغي لعذول ... بملام لي كوى
جار عذري غرامي ... أرعدت منه الرعود
دور
هذه حالة خل ... قد توالاه السقام
ما له إلا سراج الفضل والشهم الهمام
بحر آداب وفهم ... شمس آيات النظام
عقد أجياد المعالي ... تاجها بين الأنام
يا سمياً ساعد المضنى ... على رغم الحسود
دور
فانتخب لي فرصة نحسو بها كأس الأدب(1/1118)
من صبوح وغبوق ... وخلاعات الطرب
يا سراجاً للتهاني ... يا ضيا عين الأرب
امزج الكأس بماء البشر واطفي ذا اللهب
واجل عن قلب صداه ... خلني من ذي القيود
وله رحمه الله أيضاً من الموشح:
قل لأحباب لنا رقدوا ... والشجي أودى به السهد
زاد منه الوجد والكمد ... صد عنه الشادن الشرد
ساعدوا المضنى ... في هوى لبنى
وافهموا المعنى ... ولي اسعدوا
دور
كم تكونوا في الكرى يا نيام ... وتروموا وصل بدر التمام
أنا والنجم وورق الحمام ... حالنا في الليل مطرد
لا نعي لو ما ... في هوى الألمى
لا نرى نوماً ... ولا نجد
دور
وسميري البدر في الأفق ... إذ تجلى في دجى الغسق
حوله الأنجم كالفرق ... وهو فيهم ملك سيد
في الورى مطلوب ... وجهه محبوب
حسنه المرغوب ... لا يجحد
دور
ليس إلا أنهم ضعفوا ... عن غرام ليس يتصف(1/1119)
تركوا العشق وما ألفوا ... ما لهم مثلي أنا جلد
فأنا الصبار ... في الدجى سهار
وصبا الأسحار ... لي تشهد
دور
خافق القلب صريع الهوى ... قد وهى مني قوي القوى
من جفا ظبي سبا وثوى ... في كناس حوله أسد
وصله قصدي ... قربه سعدي
بعده يردي ... وقد يجهد
دور
كيف أسلو لغزال سكن ... وسط قلب بهواه افتتن
حجبوه فانتمت بي المحن ... ليتهم لي باللقا بعدوا
ونقضي الوعد ... بالهنا والسعد
والأسى من بعد ... لا يرد
دور
هات روح مهجتي يا نديم ... واملأ الكأس براح قديم
كيف لا أصبو لها وأهيم ... ولها القلب متقد
هاتها حمراً ... خمرة بكرا
تنعش السكرى ... وقد تبرد
دور
والدجى ذو شعر أجعد ... مائساً في ردنه الأسود
في رياض ذات زهر ندي ... عرفها للهم قد يطرد
غصنها ممشوق ... ماؤها مدفوق(1/1120)
والرشا المعشوق ... لا يبعد
دور
هي حقاً راحة الأنفس ... فارتشفها جذلا واحتسي
من يدي ذي هيف ألعس ... إن تثنى زانه الميد
حسنه باهر ... خده ناضر
ثغره زاهر ... ومنتضد
دور
قده كالغصن في ميله ... لحظه كالسحر في كحله
وهو مثل الشمس في حلله ... خصره في الردف مستند
جفنه قتال ... كالظبا يختال
عنبري الخال ... منفرد
وقال هذه الموشحة والحديث شجون
هملت سحب دموعي عندما ... طرز البرق ذيول الحندس
فأسالت من بكاها عندما ... مقطراً من صاعدات النفس
دور
تتصابى بلييلات اللقا ... حيث مرت مثل نسمات البكر
يا ليالي سلفت لي بالنقا ... وهي شامات بوجنات السحر
إذ بها بدر السما قد أشرقا ... وهو محمر على بدر البشر
وعيون النجم في شزر اللمى ... نظرت أنجم تلك الأكؤس
فشفيت الجرح من راح اللمى ... بالتشامي للغزال الألعس دور(1/1121)
أحور يخجل بالطرف الظبا ... وعجيب من سقيم في كحل
قده ريان من ماء الصبا ... يتثنى في كثيب من كفل
لطفه ألطف من ريح الصبا ... ظلمه عندي أحلى من عسل
قلت يا ظبياً سباني ورمى ... بعيون نعس كالنرجس
أورثت بالنبل قلبي ورما ... فاطف عنه لهباً ذا قبس
دور
فانثنى عني نفوراً معرضاً ... بعد ذاك الأنس منه والطرب
مذكياً في منحنى ضلعي الغضا ... وأدام الصد من غير سبب
وقلاني وملاني مرضا ... فلذا أمسيت منه في تعب
مغرماً في ذا الذي فاق الدمى ... مسهداً في الليل حتى الغلس
فكأني ودموعي كالدما ... قد توكلت بحفظ الكنس
آه من حال التجافي والنوى ... قد رمى البعد فؤادي بالقلق
أعرض الحب وهجراني نوى ... ما أمر الصد من ساجي الحدق
هو في أنس بجيران اللوى ... وأنا صب بوجدي في حرق
أذكر الوصل وأيام الحمى ... قائلاً قولي الكئيب الموئس
يا زماناً كان سعدي قد حمى ... فيه أنسي عن رقيب انحس
وله مجاوباً الشيخ عابد السندي عن قصيدته وهي:
قد صحا الجو والربى قد تبسم ... زهره والنسيم عنه تنسم(1/1122)
إلى آخرها وهي قصيدة طويلة فأجابه المترجم المذكور بقوله:
جاد غيم السما لنا وتبسم ... عن سنا بارق له غير جهم
وغدا في الهواء يسحب برداً ... بطراز البروق أصبح معلم
واختفت تحت ذيله الشمس حتى ... أصبحت لا ترى كمثل الملثم
فتراه يجري وللرعد سوق ... خلفه كالحادي إذا ما ترنم
فكأن السماء غارت فغطت ... وجهها حينما الربى قد تبسم
فانظر الروض في حلاه نحلى ... لابساً سندساً عليه منمم
وكأن الأغصان يا صاح أعطا ... ف عليها خدود الأزهار تلثم
ذاك قد لاح أحمراً وترى ذا ... أصفراً فاقعاً وأخضر أدهم
أو كمثل الأجياد يبدو عليها ... عقد ودق من غير سلك منظم
فتهب الصبا عليها فتأتيها بأخبار كل عطف منعم
فترى ذا يميل شوقاً لهذا ... كقدود ببعضها تتلزم
ولصدح الحمام في القلب صدع ... إن بدا شادياً بعود وزمزم
وخصوصاً إذا تغنى بترقيق سجوع منه القلوب تهيم
يذكر الصب عهد ما كان منه ... مع صحب له يزيلون للهم
فإذا ما بكى الحمام تراني ... باكياً والدموع كالسحب تسجم
قائلاً آه يا حمام أفدني ... هل رجوع لعهد أنس تقدم
ما أظن الرجوع إلا محالاً ... أي ورب بحق علياه يقسم
فانهضن بي يا صاح نحو عقيق ... ماؤه يذهب الأسى مثل مرهم
واملأن لي من مائه كل كأس ... إنه مخجل العتيق المختم
واروني إن في حشاي أموراً ... من أمور منها أخو الصبر يهتم
وأغثني بوجه كل مليح ... مخجل الشمس بالجمال المتمم
إن تثنى تقول للبان بن عنه فإني أخشى قوامك يقصم(1/1123)
أو تبدى تقول للبدر بادر ... لاختفاء فوجه ذا البدر أعظم
وإذا هش قلت للدر حو ... ل ثناياه إنها منك أنظم
وله مبسم حوى خمر ريق ... خمرة الكرام عنده ليس تكرم
إن رآه الأقاح ظل حياء ... ذابلاً خاملاً من الصمت أبكم
وهلال السماء لما رآه ... بات يحكي قلامة منه تقلم
وجنتاه كالورد كالزهر كالنسرين مثل الشقيق والجمر مضرم
فاعجبن من جمع اللظى مع زهر ... كيف حلا بها وكل منقم
ومياه الجمال جالت عليها ... وهي تحكي من التودد عندم
كم قلوب تروم منها وروداً ... مثل صاري القطا إذا هو حوم
فترى أسهم اللواحظ تبدو ... من حنايا حواجب وتقوم
فتقول الأمان من هذه الأجفان إن المنون فيها مكتم
ذي عيون كالسحر تخلب للألباب كالخمر تسكر العقل الأحزم
كم بكى النرجس الغضيض عليها ... غيرة بالندى الهمي وتظلم
الفرار الفرار من قبل طحو ... في الهوى إنه لدى الناس معظم
عن قتال يا أعين الظبي كفى ... واتركي الحرب إنما السلم أسلم
كم معنى في حب ذا الظبي أضحى ... منجداً يطلب الوصال وأتهم
فترى البعض منه يحظى بقرب ... وترى البعض بالتباعد مغرم
فهو كالشمس كل شخص تراه ... مبصراً حسنها الذي الكون قد عم
عوذوه بالطور والنجم حفظاً ... وبطه كذا تبارك مع عم
ثم خطوا من الشوارب خطاً ... فوق كنز اللمى يلوح كطلسم(1/1124)
أو كمسك الختام فوق رحيق ... في شفاه منها الشفاء تنسم
ليت جيداً له كما الظبي جيدا ... بات من فوق ساعد لي ومعصم
وفمي فوق خده تارة أو ... فوق ثغر يقول يا عطر من شم
وعلى نحره أمرغ نحري ... وأداوي مكسور قلبي بالضم
وبزندي منه أمنطق خصراً ... مثل عود فيه غرامي خيم
قانعاً عن نجد الروادف إني ... لست حقاً ممن بذلك يتهم
إنني في الهوى عفيف سليم ... انعش الروح بالجمال وأسلم
حبذا حبذا المحيا إذا ما ... لاح لي وهو في ابتهاج ومبسم
فتراني أصبو إليه اشتياقاً ... لا لقصد من الخنا أو لمأثم
غير أني أهوى بأني أجلى ... لمراة الفؤاد بالحسن عن غم
هكذا هكذا المحب وإلا ... عاد ما كان مغنماً منه مغرم
أفعار علي إن كنت أهوى ... رشأ ناعس المحاجر أحرم
فاتهامي بحبه غير عيب ... إنه منجح لدي ومغنم
كل من لم يحب الغيد لم يعرف صفاء الهوى مما هو مذمم
حيني يا أخا المحبة واسند ... لي حديثاً من الصبابة محكم
واشرحن لي متن الغرام وأظهر ... لي ما كان منه مخفي ومبهم
وأفدني بوصف كل مليح ... بارع الحسن بالجمال معمم
حسن الجيد والشمال كريم ... خيمه منه بالمحاسن أكرم
مثل خيم الأديب رب المعالي ... والمعاني التي بها قد تقدم
مفرد العصر جيد الشعر رب النثر كالزهر لاح غير مكمم
بارع من خزائن الفضل والمجد كذا العلم صار أغنى وأغنم
نظمه في الأذواق والخلق منه ... ذاك أحلى وذاك باللطف أحلم(1/1125)
عابد الله بالخلوص صديق ... صادق الود طرسه عنه ترجم
ماهر في الآداب نابغة الوقت وكل بأنه الفرد يعلم
وذكاء في النور مثل ذكاء ... إن تجلى وقت الضحى لا تغيم
حاذق دافق القريحة حبر ... كم أديب منه الفنون تعلم
شاعر أظهر البدائع لما ... في رقاب الألفاظ حقاً تحكم
وغدا معدن المعارف بحر الظرف باللطف والتحايف قد طم
ومن قوله مراسلاً والده من الصعيد:
سهرت على الأحباب شوقاً لياليا ... فهل بهم من شدة الشوق ما بيا
وهل عندهم مثلي غرام ولوعة ... ووجد ببحر القلب قد صار طافيا
وهل هم كمثلي في الظلام تدرعوا ... ثياب سهاد غادر النوم جافيا
سقى الله جيران العقيق ولعلع ... ملث سحاب هامع القطر هاميا
وحيا مغاني الأنس أوفى تحية ... تدوم لهم ما دام شوقي وافيا
سقى ورعى أيامنا ولياليا ... تمضت بوصل في حماها حواليا
لقد هاجني التذكار نحو ربوعها ... كما هاجت الأرواح ورقاً شواديا
تبيت على الأغصان تصدح سحرة ... بمحسرة شوق تترك الصب باكيا
فهل منزل الأحباب بعدي عامر ... وإلا كجسمي صار بالبين باليا
وإلا كصبري شفه الافتراق بل ... أدام إلهي منزل الأنس عاليا
فإني لمشتاق إلى لثم سوحه ... لأني أراه من هيامي شافيا
متى أكحل الأجفان من تربه متى ... أشم ثرى يغدو به العقل صاحيا
متى عيني السكرى بدمع وحرقة ... تقر بقرب يترك العيش هانيا
إذا هب من أرض الحجاز نسيمها ... يظل كنيران الغضا لي صاليا
وقد كنت أرجوه يبرد لوعتي ... ويطفي لظى شوق لقلبي كاويا(1/1126)
سلوا الفرقدين النيرين سلوا السهى ... كذا اسألوا عني السهيل اليمانيا
سلوا أنجم الجوزا سلوا القطب بل سلوا ... سماكا، سلوا عني النجوم الدراريا
أردد فيها الطرف في غسق الدجى ... وأرقبها في طول ليلي مراعيا
وأشكو إليها ما بقلبي من جوى ... وأشهد أن العهد ما زال باقيا
وأذكر ساعات اللقا ومضيها ... كوامض برق في الدجى كان شاريا
وأذكر قربي من ديار أحبتي ... فقد صرت عنهم بالتباعد نائيا
رماني زماني بالتفرق والنوى ... وبالبعد عنهم بعد ما كنت دابيا
لعل الذي قد دبر الكون أمره ... يقصر أيام النوى واللياليا
ويجمع كلا عن قريب فإنه ... سميع مجيب للذي بات داعيا
فلا تقطعوا عني دعاكم فإنه ... لإكسير سعد يترك العبد واليا
وحياكم المولى بأزكى تحية ... تفوق من العرف الشذي غواليا
ومن قوله مجاوباً العلامة الشيخ علي الفرضي:
أبا الحسن اعذرني فإني آيب ... وسامح محباً للسماح يراقب
فإنك أهل الحلم والفضل والنهى ... وذو همم تحكى بذاك السحائب
بعثت بأبيات إلي كأنها ... من الحسن في أفق البيان كواكب
زعمت بها أني سلوت الوداد إذ ... تأخرت عنكم لا، ومن هو واهب
فكيف معاذ الله أصبح سالياً ... لخدني الذي لي معه تصفو المشارب
ولكن صروف الدهر أضحت تعوقني ... بأن التقي معكم وتقضى المآرب
وإني لمشتاق إليكم ومهجتي ... وحق إلهي للقاء تطالب
وما كان تأخيري من الهجر والقلا ... ولا القلب في إخلاصه الود كاذب
وكل الذي أبصرتمو من تأخري ... لأمر به عقلي من الهم غائب
وهذي الدنا ليست تجيء على الهوى ... ولا تشتهي أن قد تنال المطالب(1/1127)
تكدر ما بين الأحبة إن رأت ... على راح صفو قد تصافت حبايب
وقولي صدق ليس فيه تخالف ... لأني امرؤ قد طال مني التجارب
فسامح ولو أخطأ يا خير صاحب ... فذلك عند الأكرمين مناقب
فإني خجول منك أقوى خجالة ... وفي أضلعي من شدة الشوق واجب
فلا زلت أهلاً للسماحة والعلا ... ورب البها والعز ما حن صاحب
ومن قوله:
يا ساكني وادي الأجارع جودا ... بلقاكم فتصبري مفقود
جودوا علي مع الصبا برسائل ... تطفي فؤاداً في حشاه وقود
فلعله يأتي يشنف أدمعاً ... بلت بواكفها الهمي خدود
وعساه أن يطفي لهيب أضالع ... نحلت فشابهها انتحالا عود
لأشم منها نفحة عطرية ... بشميم أزهار الحجاز تجود
كيف اصطباري عن تنشق عرفكم ... أظننتم أن الحشا جلمود
أم تحسبوني بالسوى متبدلاً ... لا والذي بحقيقة معبود
أم غير ذكركم ثوى في خاطري ... أم غير قربكم الهني أرود
أم غير حب لقائكم أهوى منا ... يا منيتي إلا اللقاء فجودوا
إني إذا جن الظلام يزورني ... وجد وسهد للسها مشهود
ومسامري وجد مقيم مقعد ... وله حديث من جوى مسرود
وقريحة الأجفان تبكي حسرة ... إذ فر عنها النوم فهو شرود(1/1128)
وتقول أين النوم قلت لها سرى ... ليرى حبيباً قد حوته زرود
فتجيب ما هذا السرى جنح الدجى ... في الصبح قد قيل السرى محمود
إني مريض هواكم هل طيفكم ... يأتي إلي يعودني ويعود
ليكون للنوم الهني وسيلة ... كيف الهناء لمن جواه شديد
كيف الهناء لمن رمته يد النوى ... عن ربعه المأنوس وهو بعيد
والبين أبعده وبين مرامه ... لجج بحار بل مفاوز بيد
لكنني أرجو المهيمن عودتي ... فهو الكريم وبابه مقصود
لأفوز في يوم اللقاء بجيرتي ... فيكون عيداً كملته سعود
وإن قصائد المترجم كثيرة، ومعروفة وشهيرة، وفي سنة ألف ومائتين وواحدة قد رحل إلى الآستانة العلية، دار السلطنة السنية، وألف بها كتابه " الللآلئ الثمينة، في أعيان شعراء المدينة " ولم أقف على تاريخ مماته، أسبغ الله علينا وعليه جميل هباته.
الشيخ عمر بن الشيخ طه بن الشيخ أحمد بن عبيد الله بن عسكر بن أحمد الحمصي الأصل الدمشقي المشهور بالعطار
إمام عالم متقن، وهمام فاضل متفنن، قد ساد أهل عصره بعلومه، وزاد على أهل مصره بإدراكه لمنطوق العلم ومفهومه، فألف وصنف، وقرط المسامع وشنف، وتذاكر مع علماء الأمصار، فاتفقت على فضله أسماعهم والأبصار، ووضعته علوم المعقول على مفرقها تاجاً، وأطلعته في شامها سراجاً وهاجاً، وتبسم به ثغر التصوف والحقيقة، فكان لذوي المعارف(1/1129)
حديقة وأي حديقة، مع أخلاق لو مزج بها البحر لطابت عذوبته، ولطافة لو توجهت على الصخر لظهر ليونته، وشيم هي في المكارم غرر وأوضاح وهمم كادت أن تتناول بساعد سموها البدر الوضاح. وكان ولوعاً بالمحادثة والمذاكرة، مطبوعاً على شغل المجالس بالمحاضرة، كثير السياحة والجولان، في الأمصار والبلدان، وقد أخذ عن عدة أفاضل ما منهم إلا من سما وترقى في الفضائل، من دمشقيين ومصريين. ومدنيين ومكيين، وغيرهم من فرس وأغوان وأتراك وداغستان. وكلهم أجازوه وشهدوا بفضله وذكائه ونباهته ونبله، غير أن عبارته كانت أحسن من كتابته وإن كان كل منهما دالاً على فضالته.
وله عدة تصانيف وجملة تآليف، قد شرح الفصوص شرحاً غير مغموص، وله رد متين على منتقص العارف محي الدين، وله عدة رسائل هي للمقصود من أعظم الوسائل.
وكان حسن الصورة والكلام لا يمله جليسه مدى الأيام، وله شجاعة مشهورة وجسارة على المدح مقصورة. قد لازمه في آخر عمره المرض وجعله لسهامه الصائبة كالغرض، ولم يزل ملازماً له حتى وافاه حمامه، وترنم على أفنان الجنان حمامه. وذلك عام ألف وثلاثمائة وثمانية من الهجرة الشريفة السامية، بلغ من العمر نحو السبعين، رحمه الله وبلغه مرامه ومناه.(1/1130)
الشيخ عمر المجتهد بن الشيخ أحمد المجتهد الدمشقي الميداني الحنفي
شيخ حرم العلم وإمامه، ومن في يديه ناصيته وزمامه، لديه تنشد ضالة مشكل المسائل، وتوجد شوارد الفواضل والفضائل، فليس يباريه في التحقيق مبار، ولا يجاريه في التدقيق مجار، إلا وقف حسيراً، ووعى عنه أخيراً، ولو لم يكن لمآثره ولمفاخره ناشر، سوى شيخيه الإمامين الجليلين والعالمين الفاضلين، الشيخ عمر اليافي الخلوتي والشيخ خالد النقشبندي العثماني لكان ذلك كافياً، وبمقامه وعلاه وافياً، وقدمه على السادة الأفاضل، وأغناه عن قول كل قائل، فإنهما شهدا له بالعلم والإجادة، والتقوى والعبادة.
ولد رضي الله عنه سنة تسع وستين ومائة وألف، ونشأ في حجر العلم والعبادة، والفضل والزهادة، والإفادة والاستفادة، وكان من صغره تلوح عليه لوائح السعادة، أخذ الفقه عن شيخه السيد محمد هبة الله أفندي التاجي، والنحو عن السيد محمد شاكر العقاد الشهير بمقدم سعد، والحديث عن عمدة السادة الأخيار، الشيخ أحمد العطار، وقرأ كثيراً من العلوم، على مشايخ سوى هؤلاء كما هو في ثبته معلوم، وكان رضي الله عنه دائم الأذكار، في الليل والنهار، حسن الأخلاق والشمائل، حفاظاً لأحكام مشكلات المسائل، كثير العبادة والتقوى، دائم الالتفات إلى الله في السر والنجوى، قد علا صيته وفاق، وملأ النواحي والآفاق، وقد طلب لأمانة الفتوى في دمشق مرتين فلم يقبل، ويقول دعوني مما أحاسب عليه وأسأل وكان مهاباً معظماً عزيزاً مفخماً، يهابه كل من يراه، ويتبرك به كل من قصده ونحاه.(1/1131)
توفي رضي الله عنه في اليوم السابع والعشرين من شهر شعبان المعظم سنة أربع وخمسين ومائتين وألف، وصلى عليه الفاضل المقدام، والعالم الهمام الشيخ سعيد الحلبي وحضر جنازته عدد لا يحصر ولا يحصى، ولا يعلم ولا يستقصى، ودفن بتربة باب الصغير، وكان قد أوصى قبل موته أن يكتب على ضريحه البيتان المنسوبان للإمام الشافعي قدس الله سره، وهما:
ولما دنا عمري وضاقت مذاهبي ... جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك رب كان عفوك أعظما
الشيخ عمر أفندي الديار باكرلي والد طاهر أفندي مفتي دمشق الشام
إمام العلوم العربية وعلامها، والمنشورة به في الخافقين أعلامها، منهج السالك، لأرقى المسالك، وملهج البيان، في بديع التبيان، خطيب منير المعقول والمنقول، وكعبة طواف حجاج بيت المعاني والأصول، العابد الورع الزاهد، وعموم الناس له ما بين شاكر وحامد، خاتمة المحققين، ونخبة المدققين دليل أهل الفضل واليقين، إلى الزهد والصلاح، والتقوى التي أشرق نورها في أسرة وجهه ولاح، وله إلمام بالمعقول وافر، طلع في المنقول بأفق بدره السافر، وكان لا يجيل ذهنه وفكره، في غير مسائل العلم التي خلدت في صحائف الأيام ذكره، توفي رحمه الله نهار الأحد في ثامن رجب الفرد سنة ثلاث وستين ومائتين وألف ودفن في مقبرة الدحداح.
الشيخ عمر بن السبيعي الشافعي الأشعري الدمشقي
كان رجلاً من أهل العبادة، والطاعة والزهادة، كثير الصيام، مواظباً على التهجد والقيام، له شغف بتلاوة القرآن، والأذكار الواردة(1/1132)
عن السيد المصان، ملازم على دروس العلم من صغره، وعلى العمل بمقتضاه إلى نهاية عمره، وله شهرة بين الناس بالتقوى والصلاح، والاستقامة على نهج الفلاح، محبوب في القلوب، مؤتمن في كل مطلوب ومرغوب، مستقيم الأطوار، معدود من الأخيار، توفي رحمه الله يوم الأربعاء خامس شهر ربيع الثاني سنة ألف وثلاثمائة وألف من غير مرض، بل كان في حانوته مشتغلاً في تجارته ليس به أدنى مرض بل صحته في كمالها فأصابه وجع قليل في معدته فذهب إلى بيته فصادفته المنية عند وصوله ودفن يوم موته في مقبرة باب الصغير. وكان مشهد جنازته غريباً في كثرة الحاضرين وازدحام المشيعين، رحمة الله تعالى علينا وعليه وعلى المسلمين أجمعين.
الشيخ عمر أفندي بن عبد الغني بن محمد شريف بن محمد الدمشقي العامري الشهير بالغزي
مفتي السادة الشافعية بدمشق الشام. ولد بدمشق الشام ليلة الاثنين ثاني ذي الحجة الحرام سنة مائتين بعد الألف، ونشأ في حجر والده وقرأ القرآن، وبعد إتقانه حضر على العلماء، والسادة الفضلاء، منهم الشيخ حسن المكي والسيد محمد شاكر العقاد وغيرهم من الأفاضل الكرام(1/1133)
والسادة العظام، إلى أن صار من أفراد ذوي التحقيق على التحقيق، وساد أرباب التدقيق بنظره الدقيق. مد للرياسة كفاً وساعداً، فصادف الدهر له على مرامه مساعداً، وتبرجت له هيفاء المعالي والمعارف، من بروج مجده العريق بكل فضل تالد وطارف، فهو الطود الشهير والعمدة الكبير، عين أعيان دمشق الشام ونخبة ذوي المقامات العالية والاحترام.
وفي سنة ألف ومائتين وست عشرين وجه عليه إفتاء الشافعية بدمشق والتدريس في المدرسة الشامية مكان أسلافه، وشرح منظومة جده البدر الغزي في النحو، وسماها " الكواكب الدرية شرح الدرة المضية " وبلغ من الفضل والجاه ما تقدم به في دمشق على من سواه. وصار عضواً مقدماً بمجلس شورى الشام نيفاً وعشرين سنة بدون انفصال، واشتهر بالآفاق وانعقد على جلالته الاتفاق، ونبل قدره وارتفع صيته وذكره. وكان مفرداً بالذكاء والمعارف وموصوفاً بالشمائل العالية واللطائف، مهاباً جسوراً لا يهاب حاكماً ولا وزيراً. دخلت مرة مع والدي إلى المجلس الكبير وكنت غلاماً صغيراً، فوضعني المترجم بجانبه وجعل لي قدراً كبيراً، وكان المجلس قد غص بأهله واجتمع فيه أعيانه من فرعه إلى أصله، ولم يكن في البلدة مجلس سواه، يجلس فيه الوالي وحاكم الشرع والمفتي وسائر الأعيان ذوي القدر والجاه، فبعد أن جلسنا قليلاً وجدت أوراقاً كثيرة قد أهملت في زوايا الإهمال ولم ينظر إليها بحال، فقلت له سراً سيدي ما هذه الأوراق المعرض عنها أنظرتم بها وتم الشغل منها، فرفع صوته وقال:(1/1134)
ولم يخش من كبير ولا وال، هذه الأوراق الواردة من السلطان، المشتملة على أوامر لا تناسب الأوان، فألقيناها في البطال ولم نعمل بها بحال، ولم يخش من حاكم ولا كبير ولا قاض ولا وزير.
وفي اليوم الخامس من ربيع الثاني سنة سبع وسبعين ومائتين وألف، نفي من دمشق إلى جزيرة قبرص ووضع في قلعة الماغوصة أيام حادثة النصارى، ومات بهم ثاني رمضان في السنة المذكورة ودفن في جامعها، وكان عمره سبعاً وسبعين سنة رحمه الله.
الشيخ عمر التغلبي بن عبد القادر بن عمر بن علي ابن سعد الدين بن محمد
ابن محب الدين بن سعد الدين بن محمد بن الشيخ محمد أبي تغلب بن سالم بن محمد بن نصر بن منتصر بن علي بن عثمان بن حسين بن قاسم بن محمد بن سيف الدين الرجيحي بن سابق بن هلال بن الشيخ يونس الشيباني الكبير والد السيد سعد الدين الجباوي المدفون في قرية جبا من أعمال دمشق الشام ابن الشريف عبد الله بن الشريف سعيد بن السيد عبد الرحمن بن السيد أحمد بن السيد إدريس الأكبر بن السيد محمد بن السيد عبد الله بن السيد حسين بن السيد علي بن السيد عبد الله بن السيد عمر الغازي بن السيد موسى بن السيد يحيى بن السيد الإمام الكامل علي الهادي بن السيد محمد الجواد بن السيد علي الرضى بن السيد موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي الأصغر زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي زوج فاطمة الزهراء بنت سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ولد بدمشق سنة ألف ومائة وعشر ونشأ في السلوك والطريق والعلم والتحقيق والبراعة والتدقيق، وأخذ عن العلماء العظام والسادة الأعلام، وكان شيخ(1/1135)
السجادة التغلبية في دمشق المحمية، واشتهر وفاق وعم ذكره الآفاق، وأخذ عنه الكثير والجم الغفير، وله كرامات وأخبار غيبية ومكاشفات، مات سنة خمس عشرة ومائتين وألف، ودفن في مرج الدحداح.
الشيخ عمر بن عمر بن عبد القادر بن عمر التغلبي الدمشقي ولد الشيخ عمر المتقدم
كان شهيراً في الأمور الخارقة للعادة، كثير التقوى والعبادة، حسن الإرشاد ظاهر الإمداد.
ولد بدمشق ونشأ بها وصار من أجلائها وأعيانها، ذا هيبة وجلالة، وعظمة وفضالة، عفيفاً ديناً صالحاً توفي ثاني عشر رمضان المبارك سنة تسع وسبعين ومائتين وألف ودن في مرج الدحداح عند قبور أسلافه رحمهم الله تعالى.
الشيخ عمر بن محمد بن محمد بن عمر الدمياطي الأصل
اليافوي الشهرة والمولد الغزي الوطن، الحنفي الخلواتي البكري شيخ الطريقة الخلوتية بالشام.
ولد بثغر يافا في ساحل الشام سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف ونشأ بها، ثم قدم دمشق واستوطنها وأقام بها الأذكار، وأخذ عن قطب الوجود،(1/1136)
وصفوة أهل الشهود، شيخ الطريقة ومعدن الحقيقة، القطب الرباني والهيكل الصمداني، السيد مصطفى البكري الصديقي، قطب الديار المصرية والشامية، وعن العلامة الشيخ السفاريني والعلامة البخاري والعلامة الشيخ أحمد الباقاني وصار عمدة الأولياء، وزبدة الفضلاء. ومن نظمه في مدح الشيخ الأكبر قدس سره:
أقبل إلينا صادقاً ... وبعهدها كن واثقا
نسقيك كأساً رائقاً ... صرفاً تصفى من كدر
سلمى السحارى تنجلي ... في المشهد الأسنى العلي
وقد تحلت من حلى ... عقد اللآلي والدرر
يا حبذا ذاك الجمال ... الحاوي أنواع الكمال
قد جل حسناً عن مثال ... وعز عن درك البصر
فانهض وجرد همما ... وللتداني يمما
وارتع بروضات الحمى ... واقطف لمى ذاك القمر
وغب بوجد عن وجود ... وطب إذا طاب الشهود
إن اللقا عذب الورود ... فلا تكن ممن صدر
فاحرم وزمزم واستلم ... للكعبة الحسنا التزم
يا سعد عبد قد غنم ... وحج شوقاً واعتمر
ما الكون يا ذا غيرها ... إن رمت فادخل ديرها
وإن تغنى طيرها ... ألفيت عيناً في الأثر
إن رمت تدنو للطريق ... باكر لها تسقى العقيق
إن انتسابي للصديق ... وأنا عمر
توفي رحمه الله في ذي الحجة الحرام سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف ودفن في مقبرة الدحداح وقبره ظاهر مشهور يزار ويتبرك به. وقد رثاه العالم الأديب والماهر اللبيب الشيخ أمين الجندي الحمصي رحمه الله بقوله:(1/1137)
قسي المنايا ما لأسهمها رد ... فما حيلتي والصبر قد دكه البعد
دهيت برزء لا يطاق غناؤه ... وكرب وحزن ما لغايته حد
غرام وحزن واحتراق ولوعة ... وتذكار عهد يستغر به الوجد
وشوق إذا ما الدهر أطفأ حره ... تزايد ما بين الضلوع به الوقد
ونفس لفقد الألف أمست جزوعة ... إذا ما نحاها البين أتلفها الصد
وقلب على جمر الأسى متقلب ... وطرف كليل حله الدمع والسهد
حمام الحمى هل أنت بالنوح مسعفي ... فإني لفقد الألف أشدو كما تشدو
لقد كان شملي كالثريا فأسرعت ... بتشتيته الأيام وانتثر العقد
أخلاي صرف الحادثات أراعنا ... فعادت علينا عاديات الأسى تعدو
انطمع في دار سريع زوالها ... وكأس المنايا منه ليس لنا بد
فيا عين لا تبقي من الدمع طارفاً ... ولا تالداً وابكي وإن مسك الجهد
ويا نفس لا تبغي الإقامة بعدما ... ترحل عن أوج العلا العلم الفرد
هو ابن رسول الله والعلم الذي ... لسؤدده السامي انتمى الفخر والمجد
هو البحر إلا أن تيار لجه ... يفيض فيهدي دره الجزر والمد
هو الروض أنساً والنسيم لطافة ... هو الطود
هو السيف لا تخفى مقاتله على ... خبير ولا ينبو لقائمه حد
إمام يحاكي ليلة القدر فضله ... ببرهان صدق لا مراء ولا جحد
همام لقطبانية العصر حائز ... وفي المنصب الأعلى له الحل والعقد
فتي لبني الصديق أضحى خليفة ... إلى الحق يدعونا ونحن له جند
نشا بحجور الخلوتية راضعاً ... لبان المعالي والكمال له مهد
إلى أن كساه الله أفخر خلعة ... تجسم فيها العلم والحلم والزهد
هدانا لورد المنهل العذب منة ... فيا حبذاك المنهل العذب والورد
فطبنا بذكر الله في حال سيرنا ... سميراً وحادي الشوق ما بيننا يحدو(1/1138)
وهممنا بدعد ثم هند زينب ... وسلمى ولا هند لدنيا ولا دعد
تعاظم عن بث المقال مقامه ... فحسبي لديه الذكر والشكر والحمد
لئن ختمت فيه ولاية عصرنا ... فإن ختام المرسلين له جد
وإن غاب منه الجسم عنا فسره ... مدى الدهر فينا أن نروح ومذ نغدو
ففيه لمن عزى يقال لك البقا ... قضى العارف اليافي والجوهر الفرد
أقام على نهج الطريقة وهي في الحقيقة عن نهج الشريعة لم يعد
ومات شهيداً وهو حي بمالنا ... بناه من المجد الذي ما له حد
وهل مات من ألقى علينا كواكباً ... من الهدي يزهو في مطالعها السعد
فقل لجهول راح ينكر فضله ... ثكلتك فالجعلان يقتله الورد
أيبصر خفاش الضلال الضيا وهل ... ترى الشمس إذ لاحت عيون الورى الرمد
فيا بحر فضل كيف وارتك حفرة ... ويا بدر هدي كيف غيبك اللحد
لقد ثلم الإسلام بعدك ثلمة ... مدى الدهر والأعوام ليس لها سد
رعى الله أمراً كان بالأمس صادراً ... عن السيد البكري لم يحكه عهد
وعز بشارات أتت منه لي على ... لسانك تتلوه العناية والرفد(1/1139)
ولي منك وعد أخروي مقرر ... بحضرة سيف الله ما فوقه عهد
يكاد له الإنجاز يسبق بالوفا ... نعم هو آس في الحقيقة لا ورد
أمولاي هب أني عبيد مقصر ... وأن ذنوبي ليس يحصرها العد
أما عنكم أخذي وأنتم وسيلتي ... إلى الله وهو الغوث في كل ما يبدو
وكيف ولا أرجو بلوغ مقاصدي ... وراجي نداكم لا يخيب له قصد
دنوت فأقصاني النوى عن ظلالكم ... فأبت فأدناني التحبب والود
جعلتم لي الإطلاق قيداً بحبكم ... فذلي بكم عز وغيي بكم رشد
وإني وإن أدعى على سر سركم ... أميناً ولكني لعبدكم عبد
فلا زال هتان الرضى هامياً على ... ضريح به الفيض الإلهي يمتد
وأرواح غفران وعفو ورأفة ... يروحه من نشره المسك والند
لمن كان في العش اصطفاه مؤرخاً ... بباء بها حسن الختام به يبدو
وصل بتسليم على الرحمة التي ... بها في التنادي يرحم القبل والبعد
مع الآل والأصحاب من في سما العلا ... مناقبهم بالفضل لم يحصها العد
مدى لدهر ما الجندي صاح من الأسى ... قسي المنايا ما لأسهمها رد
الشيخ عمر بن عبد الله بن عبد العزيز بن أحمد بن أبي العباس ابن إبراهيم بن عبد الرحمن
السفرجلاني الدمشقي الشافعي الشاذلي.
ولد سنة ألف ومائة و ... وأخذ الطريق عن والده وبعد موت والده كان شيخ الطريقة مكانه وأخذ عن عمه أيضاً توفي سنة ألف ومائتين وسنة واحدة ودفن بباب الصغير.(1/1140)
الشيخ عمر البابلي الشافعي المصري الأزهري
قال الجبرتي في ترجمته هو: الإمام العلامة والحبر المدقق الفهامة، ذو الفضائل والتحقيقات المهمة الذكي الألمعي النحو الفقيه، البياني المنطقي الأصولي النبيه. تفقه على علماء العصر وحضر الشيخ عيسى البراوي والشيخ الصعيدي والشيخ أحمد البيلي والشيخ عبد الباسط السنديوني وتمهر في العلوم، وقرأ الدروس وأخذ الطريقة الخلوتية على شيخنا الشيخ محمود الكردي ولقنه الأسماء ولازمه في مجالسه وأورداه، ملازمة كلية ولوحظ بأنظاره، وتزوج بزوجة الشيخ أحمد أخي الشيخ حسن المقدسي الحنفي، وكانت مثرية فترونق حاله وتجمل بالملابس وعرفته الناس، وماتت زوجته المذكورة لاعن عصبة فحاز ميراثها، والتزم بحصة كانت لها بقرية يقال لها دار البقر، فعند ذلك اتسعت عليه الدنيا وسكن داراً واسعة، واقتنى الجواري والخدم ومواشي وأبقاراً وأغناماً، واستأجر أرضاً قريبة يزرعها بالبرسيم تغدو إليها المواشي وتروح كل يوم من أيام الربيع، ثم تزوج ببنت شيخه الشيخ محمود بعد وفاته، وأقام منعماً معها في رفاهية من العيش مع ملازمته للإقراء والإفادة إلى أن أدركه الأجل المحتوم. توفي سنة خمس ومائتين وألف بالطاعون.
الشيخ عمر بن مصطفى الحلبي
الولي المستغرق المجذوب صاحب الأحوال والكرامات، مولده بعد الأربعين والمائة والألف، ونشأ بكنف والده من صغره مجذوباً، وشوهدت(1/1141)
له كرامات وأشياء غريبة في أول أمره، ثم نما حاله وترقى، واعتقده الخاص والعام من الناس، وظهرت له كرامات يطول تعدادها، وكأنه لا يشك في ولايته، وكان يدور في شوارع حلب ويطلب من الناس الدراهم ويعطيها لأمهات الأولاد اللاتي مات عنهن أزواجهن لا عن شيء، فسخره الله تعالى لهن، وكانت هؤلاء النساء تكلفه الزيادة عن وسعه فيتحمل ويأتيهم بالمطلوب، وكان الناس يعرفون له هذه الحالة فيعطونه ولا يبخلون عليه، مع اعتقادهم غاية الاعتقاد، ويطلبون رضاه ودعاه، وكان مقبول الأطوار مستعذب الحركات والأحوال. مات رحمه الله بعد خمس ومائتين وألف.
الشيخ عمر الحريري الرفاعي شيخ السجادة المباركة الرفاعية بحماة الشام
قد ترجمه صاحب تنوير الأبصار السيد أبو الهدى أفندي فقال: هو السيد عمر بن السيد حسن بن السيد محمد بن السيد أبي بكر بن السيد محمد بن السيد أحمد بن السيد عبد الباسط بن السيد محفوظ بن السيد عبد الباسط بن السيد عبد الدائم بن السيد الكبير إبراهيم بن السيد ارسلان بن السيد أبي بكر منصور بن السيد إبراهيم بن السيد علي بن السيد حسن بن السيد خميسي بن السيد سعيد بن السيد داود بن السيد مطر شيخ الخرقة بحماه، بن السيد الزاهد محي الدين الحريري نزيل حماه بن السيد يحيى النجاب بن القطب الكبير السيد أبي الحسن برهان الدين علي الحريري نزيل بصرى بحوران الشام بن السيد عبد المحسن بن الحسن سبط النفس النفيسة الرفاعية بن القطب الأجل السيد ممهد الدولة عبد الرحيم الرفاعي الحسيني الكبير.(1/1142)
ولد بحماه ونشأ بحجر والده الشيخ الكامل الفاضل السيد حسن الحريري وقرأ القرآن وشيئاً من العلوم العربية والفقه والحديث، ولبس الخرقة الرفاعية من أبيه، واجتهد وخلف والده بالمشيخة في روايته، وعلا أمره وشاع في البلاد ذكره، وكان كثير الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أسخى من الغيث الهاطل، حسن الأخلاق غيوراً في الله، صاحب دين وعزم مكين، وحسن وفا، وجمال لطف وصفا، عذب المكالمة رقيق المنادمة، وبه انتشرت الطريقة الرفاعية وأخذ عنه جماعة من الأفاضل الأكابر، منهم السيد ياسين بن السيد حسين الرفاعي شيخ مشايخ الطريقة الرفاعية بمحروسة مصر، وغيره من السادات. وكان يقيم الذكر بزاويته بحماه يوم الخميس بعد العصر، فيجتمع عنده عالم عظيم، ويمد لهم السماط ويستمر إلى الليل. وقد ألقى الله محبته في القلوب، وجمع عليه كلمة الناس واعتقده الخاص والعام، وكان له خوارق عادة، وكرامات بلغت في العد الزيادة، توفي المترجم بدمشق الشام سنة ثمانين ومائتين وألف ودفن بزاوية بني الحريري بصالحية دمشق انتهى ملخصاً من الكتاب المذكور أعلاه مع اختصار وبعض تصرف.
بحمده تعالى: قد انتهت تعليقاتي على هذا الجزء الثاني من " حلية البشر " بعد صلاة العشاء من يوم الجمعة في 18 شوال سنة 1383هـ و23 - 3 - 1963م.(1/1143)
1 62 - //بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
حرف الميم
السيد محمد بن السيد أحمد بن السيد إسماعيل بن الشهاب أحمد المنيني قدس الله سره، مفتي السادة الحنفية بدمشق المحمية بحر كمال لاستمداد جداول الفضائل، وروض جمال قامت له أغصان المعارف على سوقها في الخمائل، إذا جلى كواعب كلماته فضحت الكواكب نورا، وإذا أديرت كؤوس مذاكراته كان ما سواها هباء منثورا. أطلع في سماء الشام قمر الهداية، وسور حصون طلابها بالوقاية والنقاية، وغاص لجج البحر المحيط فاستخرج لهم فرائد الدرر، وكحل عيونهم بإثمد تنوير الأبصار فالتقطوا عوائد الغرر. إذا نثرت عقود طبعه وانتشر أرج شميمها بن الطلول، ترنحت غصون الدوح وتاهت بما يزري بالشمائل والشمول:
شمائل لا جيب الزمان معطراً ... حكاها ولا خد الشمول موردا
فلا ريب أن قدره أعلا من النجوم العالية، ومسك مداده يرخص شذاه الغالية. فاخرت مصره الأمصار بإشراق شمسه، وعصره الأعصار بتحليه(1/1183)
بجمال أنسه، فهو روض تقبل الأرض فيه ثغور الزهور، وتطرز برود آدابه مع كونها تنسب لنفسها القصور. فحق لنا أن ننعته بأنه إنسان عين الزمان، بل عين إنسان نوع الإنسان، وسل الليالي المضمر في خاطر الدهر، بل بدرها الذي طلع في أفق هذا العصر. كشاف رموز الحقائق عن كنوز معاني الكشاف، وصاف شمائل ذوي الرقائق بما اشتمل عليه من بديع الأوصاف، كعبة طواف علماء القطر بل الأقطار فلذلك انتسب الإفتاء إليه، ومحراب اعتكاف ذوي القدر والاعتبار فمحور قطبهم دائر عليه. فلا غرو أنه وجيد الآفاق بالاتفاق، وفريد أولي الأخلاق بالاطلاق، وقد بوأه الله في الحديث تكرمة رفيعة الرواية والسند، وبرأه الله من نسبة الكلالة حيث ورث المجد عن أكرم أب وجد:
يا سائلي عنه لما ظلت أمدحه ... هذا هو الرجل العاري من العار
لو زرته لرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار
ولد حفظه الله في دمشق الشام في رمضان، من سنة ألف ومائتين وإحدى وخمسين من هجرة سيد الأنام. وبعد أن أتم قراءة القرآن بالإتقان، أقبل على العلم بهمة ذات قدر وشان. ولازم دروس الأفاضل، إلى أن تحلى بالفضائل والفواضل، ورقى معارج السيادة ولاحظته عيون السعادة، وخطبته المناصب ليكون لها سيداً ولتكون له مولى، ورفعته المراتب على كاهلها حيث وجدته لها أهلاً.
ولم يزل يصعد سلم الكمال، إلى أن استوى على عرش الرفعة والإجلال، فقيل لمنصب الإفتاء ائته طوعاً أو كرهاً فأتاه طوعاً من غير مهلة وقال إني أقسم بمن قسم له بي ما أعطيتم الشيء إلا أهله، ولقد رجع الأسد إلى غابه، وجلس الإمام في محرابه، وقال لسان الحال هذه بضاعتنا ردت إلينا، فلا عتب لنا ولا ملام علينا.(1/1184)
وكان ذلك بعد وفاة العلامة السيد محمود أفندي حمزه ووقوع اضطراب عظيم بين الناس، إلى أن استند الإفتاء إليه بعد مدة وزال الخلاف والبأس، وذلك في السنة الخامسة بعد الثلاثمائة والألف، فلا زال العلم له أعلا حلية وهو للعلم أحسن حصن وأمتن كهف.
وأنه قد حاز على ما كان لجده الشهاب من الخطبة في جامع بني أمية ذات الجلالة والقدر، وإقراء صحيح البخاري بعد صلاة الجمعة تحت قبة النسر. فهذا الدرس وهذه الخطبة كان أولهما في هذا البيت لجده حضرة الشهاب، ولم تزل فيهم إلى أن آلت إلى هذا المترجم المهاب، قال الشهاب المنوه به عليه رضوان ربه في كتابه المسمى بالقول السديد في اتصال الأسانيد: إعلم أنني أنا العبد الحقير العاجز الكسير، فقير رحمة ربه وأسير وصمة ذنبه، أحمد بن علي بن عمر بن صالح بن أحمد الطرابلسي الأصل المنيني المولد الدمشقي المنشأ العدوي الحنفي: ارتحل والدي من طرابلس الشام إلى صالحية دمشق، وبعد أن استعد لإقراء العلوم، وصار حجة في معرفة المنطوق والمفهوم، رحل إلى قرية منين قرية من قرى دمشق، واستمر بها إلى أن توفي في سنة ثمان ومائة وألف، ودفن بها وقبره معروف ظاهر مشهور. واشتهر أنه كان من ذرية العارف بالله عدي بن مسافر، من ذرية ذي النورين عثمان بن عفان، هكذا اشتهر في هذه البلاد، وفي وطنه الأصلي بين أقربائه في مدينة طرابلس الشام انتهى ملخصا.
ونقل العالم المؤرخ خليل أفندي المرادي بأن الشهاب المذكور بعد وفاة شيخه أبي المواهب درس بحجرته داخل مدرسة السميساطية إلى(1/1185)
أن توجه عليه تدريس العادلية الكبرى، فانتقل إليها ودرس بها، وأقام على الإفادة في المدرسة المذكورة والجامع الأموي مدة عمره، فدرس في الجامع المذكور في يوم الأربعاء في البيضاوي، وفي يوم الجمعة بعد صلاتها صحيح البخاري، وبين العشاءين في بعض العلوم، إلى أن قال: وأعطي رتبة السليمانية المتعارفة بين الموالي، وصارت عليه تولية السميساطية العمرية، وأحدث له في الجامع الأموي عشرون عثمانياً وربط عليه خطابة في الجامع المذكور، وصار بينه وبين الخطيب محمد يعيد بن أحمد المحاسني المجادلة في ذلك والشقاق وشاعت في وقتها، إلى أن استقر أمرها على الشهاب المرقوم انتهى بتصرف.
أقول: أن تقييد العادلية بالكبرى هو احتراز عن الصغرى فإنها في الصالحية في سفح قاسيون غربي دار الحديث الناصرية، وأما هذه فإنها تعرف بالعادلية الجوانية الكبرى تجاه المدرسة الظاهرية قال الأسدي في تاريخه: في سنة خمس عشرة وستمائة: الملك العادل أبو بكر بن أيوب بن محمد بن شادي بن مروان بن يعقوب الرويني، ثم التكريتي ثم الدمشقي السلطان الملك العادل: ولد ببعلبك سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة وقيل أول سنة أربعين، ثم نشأ في خدمة نور الدين الشهيد مع أبيه وإخوته وحضر مع أخيه صلاح الدين فتوحاته، وقاتل وفتح فتوحات كثيرة، وتوفي عن خمس وسبعين سنة. وكانت وفاته سنة ستمائة وخمس عشرة خارج دمشق، فحمل إلى قلعة دمشق وبها أظهروا موته ودفنوه بها، ثم نقل إلى تربته بمدرسته العادلية المرقومة التي وجه تدريسها على الشهاب أحمد المنيني(1/1186)
المومى أتليه، وانتقل إليها ولم تزل تحت توليته ومحل إقامته وتدريسه، إلى أن توفي يوم السبت تاسع عشر جمادى الثانية سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف، ودفن في تربة مرج الدحداح وقبره ظاهر مشهور يزار ويتبرك به، وخلفه في التولية على المدرسة المرقومة والتدريس بها أولاده السادات عبد الرحمن أفندي وعلي أفندي وإسماعيل أفندي، ولم يزل ذلك ينتقل في أولاده إلى أن آل ذلك إلى المترجم المومى إليه أطال الله بقاه، فلقد أحيا مآثر من سلف، وكان لهم خير خلف، ولقد كنت مدحته بهذه الأبيات وإن كانت بمقامه فير وافية، فأحببت ذكرها في هذه الترجمة السامية وهي:
يا عذولي إليك عني فدائي ... بهوى الغيد قد غدا متنائي
خل عذلي واعذر فتى ذا عناء ... بفتاة تسبي النهى عذراء
قد سئمت الغرام بعد هيامي ... ونبذت الهوى لجلب هنائي
إن أهل الهوى لكل هوان ... وامتحان ونكبة وبكاء
وحنين وزفرة وصدود ... وعذاب لاذقته وشقاء
ليت شعري وهل ترى كل هذا ... ذات حسن شيئاً من الأشياء
ظن قومي بأن داء غرامي ... مستديم إلى حلول عزائي
مذ رأوا علتي وقد لاح للمو ... ت عليها أدلة الحكماء
فغدا يخلص الغرام إلى أن ... بت منه مجملاً بشفائي
إن هذا لمذهب فيه قلبي ... قد تهنى وذاك فيه بلائي
طالما نصلة القدود فرتنى ... وسيوف اللحظ اعترت أحشائي
قل لساجي للعيون يعنى معنى ... بورود الخدود ذات الصفاء
ولذات الدلال تختار صبا ... ما صبا للتأنيب والنصحاء
قد كفاني ما ذقت من حر وجدى ... وشفاني الإله من لأوائي
يا شبيه القناة قداً ولينا ... كم أطلت الجفا تروم شقائي(1/1187)
إنني كنت للجمال رقيقاً ... لست أرجو ما دمت منه شفائي
ثم أصبحت رق حب إمام ... ذي كمال ورفعة وبهاء
من حباه الإله كل حباء ... منه قلب الحسود في برحاء
وتعالت به دمشق وتاهت ... ثم قالت ذا سيد الفضلاء
هو حبر الأنام مفتي دمشق ... ثاقب الفهم نافذ الآراء
مذ دعته الأيام للدين تاجا ... حسد الأرض فيه أوج السماء
رتبة فد لاذت به وتحلت ... بالمنيني محمد العلماء
لو أعار الظلام أخلاقه الغ ... ر لأغنت به عن الأضواء
ذي يراع يبدي إذا أمطر الطر ... س فنوناً جلت عن الإحصاء
بمعان تحكي جمال لآل ... كنجوم في الليلة الظلماء
لو نظمت النجوم فيه عقوداً ... ماقضيت من الحقوق منائي
عاتبي دع لوم المحب وسر بي ... لهمام ذي رتبة علياء
فعليه أني قصرت ثنائي ... وإليه وجهت كل ندائي
ليس يحلو الثناء إلا على من ... نال فضلاً مستوجباً للثناء
إن لي في مدحيه حسن وفاء ... منقذ لي من شدتي وبلائي
واقتراب قد نلت منه ابتعاداً ... عن همومي وكربتي وعنائي
دام مادام يشرق البدر ليلاً ... عالي القدر قاهر الأعداء
بنبي قد فاق كل نبي ... ورسول قد فاز بالإسراء
فعليه السلام ما جن ليل ... وأنار الصباح أفق السماء
توفي رحمه الله في ظهر يوم الأربعاء غرة شهر شعبان المبارك عام ألف وثلاثمائة وسنة عشر ودفن في تربة مرج الدحداح رحمه الله تعالى.(1/1188)
السيد محمد أفندي بن السيد عمر أفندي
شيخ السجادة الرفاعية بحماة المحمية ابن السيد حسن بن السيد محمد الحريري الرفاعي. وينتهي نسبه إلى " إمام الأولياء وتاج العرفاء مولانا " السيد أحمد الكبير الحسيني الرفاعي رضي الله عنه. من حفيده القطب الكبير السيد علي أبي الحسن الرفاعي رضي الله تعالى عنهم أجمعين قال صاحب العقود الجوهرية، في مدائح الحضرة الرفاعية: ولد المترجم المومى أتليه سنة أربع وسبعين ومائتين وألف في بلدة حماة، وتوفي والده وهو صغير، وكفله أخوه لأبيه الرجل الكامل السيد الشيخ أحمد أفندي، ونشأ على حال من الكمال والأدب، وتلقى علوم العربية عن علماء حماة الشام، وحضر إلى دار السعادة اسلامبول وأكرم في رتبة الموالي المعروفة برتبة أزمير، وأجيز في الخلافة في الطريقة العلية الرفاعية من صدور الصدور والفائض النور، حضرة السيد محمد أبي الهدى أفندي نقيب أشراف حلب المقيم بدار السعادة، وتربى بتربيته وسلك على يديه واستفاض من معارفه وله فيه المدائح الجميلة والقصائد الجزيلة وهو من بيت في الديار الحموية والبلاد الشامية، غني عن التعريف لاشتهاره كالشمس في رابعة نهاره، وهو الآن مقيم في بلدته حماه، مواظب على قراءة الأوراد والأذكار أطراف الليل وآناء النهار، مشتغل بإعلاء كلمة الإرشاد الرفاعية في زاويتهم الزاوية الحريرية. لا زال موفقاً لخدمة الشريعة الغراء مدى الآناء. ومن نظمه مشطراً أبيات سيدي أبي الهدى أفندي:(1/1189)
شيخ الورى غوث الخليفة أحمد ... سامي الذرا الفرد الأجل الأوحد
فجر العراق وصبحه البادي ومن ... كالشمس مظهر فضله لا يجحد
ذاك الرفاعي الحسيني الذي ... من ذكره النار الوقودة تخمد
والطائل الباع الذي في حجه ... مدت له من حجرة الهادي اليد
وتنور الحرم الشريف براحة ... من أجلها خلق الوجود الموجد
تلك اليد العليا التي لقبوله ... برزت له بعد المكانة تشهد
الله أكبر ذلك المجد الذي ... من دونه حط العلى والسؤدد
شرف عظيم ليس يدرك حده ... أولاه أحمدنا الحبيب محمد
رفع الله مقامه ورفع في مدارج التوفيق أعلامه آمين.
محمد سعد بن محمد سعد الشهير بالمصري صاحب تحفة أهل الفكاهة:
إمام علي القدر والمقام، همام قد انقاد له هام النثر والنظام، لآلئ أفنان آدابه فرائد، وحدائق فنونه مفتحة الأزهار لكل قاصد ووارد، ألفاظه بزلال الجمال ممزوجة، ومعانيه الباهرة في قراطيس الأفئدة مدروجة. فمن لطائف هذا البليغ الماهر، المزري دره الثمين بالجوهر الباهر، ما كتبه على طرة كتابه المسمى بتحفة أهل الفكاهة، في المنادمة والنزاهة:
إذا ما شئت أن تحيا سعيداً ... وتظفر باللطافة والنزاهه
فطالع سفرنا السامي المسمى ... بتحفة من هموا أهل الفكاهة
وكان فراغه حفظه الله من تأليف هذا الكتاب في شهر رجب الحرام سنة ألف ومائتين وخمس وتسعين. ومن قوله حفظه الله:(1/1190)
نادمتني ضحى وكان عليها ... حلة تشبه السماء صفاء
فتوهمت أن مجلس أنسي ... زاد فيه لنا السماء ضياء
وقال أيضاً:
منجم الحسن لما أن رأى قمري ... واستكسف القد منه قاس بالملك
وقال دائرة الخصر النحيل به ... موهومة ولذا قامت على الفلك
وقال أيضاً:
ألا إن أنسي وابتهاج أحبتي ... هما مطلبي الأعلا وغاية بغيتي
وظني لأنسي حيث بان منغص ... فلا كان من أخشاه عند مسرتي
وكتب إلى بعض الأحباب، وكان ذلك جواباً لهم على مراسلتهم:
كتبت أشكوك بينا ... مستصعبا من ملالك
وليتني كنت رقماً ... حتى أمر ببالك
أما بعد فقد ورد كتابك الكريم المشحون باللطائف، ويا حبذا ذاك الرقيم، فقمت له إجلالاً على قدم الفرح، وزال إذ ذاك ما كان عندي من الترح، وها أنا أرسلت جوابه في غاية الإجادة لأشكر مآثر السيادة، والتمس رسالة هي نصف المشاهدة وزيادة، أراني الله ضياء محياك الباهر وأنشقني عرفك العاطر، بمنه وكرمه آمين. ومن قوله في اسم اسمعيل تطريزاً:
الخد فيه الورد والنسرين ... والثغر منه اللؤلؤ المكنون
سمحت بك الدنيا وضن بك الوفا ... فانا الحزين الساهر المفتون
ما بالني أخلصت فيك مودتي ... وتقول لي لا خنتني وتخون
إن كنت قد أخطأت سبل بني الهوى ... في أي مؤتمر عليك تبين
عنفتني فازددت فيك تولها ... وأذعت أسراري وكنت أصون
يحلو فمي أني ذكرتك مرة ... ويشوقني لحديثك التلحين
لم يحكني قيس غراماً والذي ... أنا مرتجيه على هواك يقين
أنت الذي يا ظبي قد علمتني ... بين الأنام الشعر كيف يكون(1/1191)
من لي بان ترضي الرقاد لناظري ... وإلام أنت به علي ضنين
يا حسنه الراقي الكمال محله ... في الخلق ولدان وحور عين
نادي وقل هذا الذي قد صانني ... ما كل اسمعيل عز أمين
وله في اسم أحمد لطيف:
أيها الظبي المفدى ... منعش القلب الحزين
حبذا فيك التصابي ... يا ابن أنس العاشقين
ما لكي قد كان مني ... سفه فيك يقين
داره منك بعفو ... واصفح الصفح المبين
لا تكن مر التجافي ... متن أشواقي متين
طالما أنفقت شعراً ... فيك حيناً بعد حين
يا ترى أحظى بوصل ... منك أو أبقى رهين
فتدارك نار شوقي ... يا لطيف العالمين
ومن لطائفه قوله في عواد وعوده:
وعود في يدي رشأ كسته ... وضاءة وجهه نوراً بهيا
إذا ما خلته يحنو عليه ... تقول البدر يختطف الثريا
وقال الصفي الحلي في العود:
غنى على العود شاد سهم ناظره ... أمسى به قلبي المضني على خطر
دنا إلي وجست كفه وتراً ... فراحت الروح بين السهم والوتر
وقال أيضاً:
فتن الأنام بعوده وبشجوه ... شاد تجمعت المحاسن فيه
حتى كأن لسانه بيمينه ... طرباً وإن يمينه في فيه
وقال أيضاً:
وعود به عاد السرور لأنه ... حوى اللهو قدما وهو ريان ناعم(1/1192)
ليطرب في تغريده فكأنه ... يعيد لنا ما لقنته الحمائم
وقال برهان الدين القيراطي:
أقول إذ جس عوداً مطرب حسن ... يريك يوسف في أنغام داوود
من ضوء وجهك تبقى الأرض مشرقة ... ومن بنانك يجري الماء في العود
وقال شرف الدين القيرواني:
سقى الله أرضاً أنبتت عودك الذي ... ذكت منه أغصان وطابت مغارس
تغنت عليه الورق والعود أخضر ... وغنت عليه الغيد والعود يابس
وقال الرهان القيراطي:
سمع غنى فأغني ... بصفات الحسن ذاتي
قلت إذ حرك عوداً ... عارف بالنغمات
أنت مفتاح سروري ... يا سعيد الحركات
وقلت ونحن على مائدة السماع، متناولين من ألوانه الشهية ما يغذي الأرواح والأسماع، وكانت واقعة الحال، مناسبة لهذا المقال:
عجباً لعواد على العود انحنى ... وغدا يتيه تواجداً وهياما
وتكلما حتى فؤادي كلما ... وتشاكلا لذوي السماع كلاما
وتراقصا رقص المشوق لألفه ... والحب أثر فيهما الأسقاما
وتعانقا وتشاكيا أمر الهوى ... حتى بكينا رحمة وغراما
وقلت أيضاً:
وعواد بحب العود أضحى ... معنى ليس يصغي للمليم
بديع مغرد ظبي رشيق ... سما لطفاً على مر النسيم
فلما جسه أبدى حنيناً ... وقال ارحم ضنا جسم سقيم
تعطف ضاربي كرماً وجوداً ... فقلبي بات ملقى في الحميم
لعمر قد أذاب القلب وجدا ... وأبكانا وحقك يا نديمي
وضاربه انحنى وحنى عليه ... حنو الثاكلات على اليتيم(1/1193)
محمد بن محمد يوسف بن عبد الكريم الأنصاري
أديب ماجد، ولبيب قد أقام على أدبه آلف شاهد، وهو من رجال اللآلئ الثمينة في أعيان شعراء المدينة، فقال في ترجمة هذا الكامل والجهبذ الفاضل: الشبل بن الليث والقطر بن الغيث، الصادقة نجابته والفائقة لبابته، الذي اقر عين أبيه ببنائه في المكارم على مبانيه، وارتدائه برداء معانيه، فلله دره من نجل أفرح والده وأبكت حاسده. وأخبرني بعض بني عمه أن له كتاباً في محاسن الحبوش على منوال كتاب الطراز المنقوش، لم أقف عليه لأنقل منه بعض نظمه. ولكن رأيت له هذه الأبيات الدالة على وفور حظه في الأدب وسهمه، وهي قوله:
سبت عقلي مهفهفة بنجد ... فتاة من بني شرف ومجد
تمايل في مزعفرة عليها ... يفوح عبيرها مسك بند
فقلت أيوسف في الحسن أنتي ... فقالت يوسف في الحسن ندي
فقلت لها رشا أنتي فقالت ... أراك تعرض الغزلان عندي
حكيت من الظبا عيناً وجيداً ... ولكن ما لهم قد كقدي
فقلت لها أخد مثل ورد ... فقالت لا يحاكي الورد خدي
فكيف تقول خدي مثل ورد ... يباع مع الوصايف بيع زهد
وحقك ليس يشبهني فاني ... جميع الحور والولدان جندي
وأهل الحسن كلهم عبيدي ... ويشهد لي بذا ثغري وخدي
فبادر بالتحية قلت أهلاً ... ببدر زارني من غير وعد
فبت ملذذاً في طيب عيش ... ونجمي طالع في برج سعدي
إن هذه القصيدة قد أذكرتني بقصيدة كنت أنشأتها لواقعة لطيفة فأحببت ذكرها هنا لأدنى مناسبة وهي:
مربى محبوب قلبي ... وانثنى وهو يهب(1/1194)
قلت قف يا نور عيني ... أنني مضنى محب
قال لي أية شيء ... ترتجي ممن تحب
قلت خل صبا معنى ... قال وصل الصب صعب
قلت عدني قال دعني ... وعد من تهواه عيب
قلت في أحشاي نار ... قال لي دعها تشب
قلت ما تصبو لحالي ... قال لي هيهات أصبو
قلت أحشاك حديد ... قال ذا سهل ورطب
قلت هل تهوى هواني ... قال أهوى وأحب
قلت قلبي ذاب وجداً ... قال هل عندك قلب
قلت خف يوم حساب ... قال ذا والله قشب
قلت ما لي فيك طب ... قال ما للحب طب
قلت قتل الصب صعب ... قال بل سهل وعذب
قلت ما هذا التجافي؟ ... قال لي تيه وعجب
قلت هل ذنب لهجري ... قال لي كلك ذنب
قلت هل تدري بعيشي ... قال أحزان وندب
ثم ولى وزفير ال ... وجد في الأحشا يهب
من لولهان مهان ... عمره هم وكرب
خانني بدري ودهري ... يا إلهي أنت حسب
ثم إن هذا المترجم له أبيات كلها درر، وقصائد لها غرر. توفي في أوائل القرن الثالث عشر، ولم أقف لتعيين وفاته على أثر.
محمد أمين الزللي المدني الخطيب
ناظم جواهر الكلام، وناثر أزهار البيان بأنامل الأقلام، تقدم في مضمار البلاغة وما تأخر، وذلل صعاب البراعة بأدبه وما تعذر، فهو(1/1195)
العالم بشعار الأشعار والمقتنص لأبكار الأفكار، فمن بديعه المستجاد وصنيعه الذي أبدع فيه وأجاد، قوله:
أنا في الحب معنى ... والذي أهوى مهنى
ولسان الدمع أبدى ... من غرامي ما استكن
وفؤادي قد وها وج ... داً وعظمي زاد وهنا
واشتياقي قد براني ... وحشى الأحشاء حزنا
وزفيري وشهيقي ... أحرق الجسم وأفنى
وجفا النوم جفوني ... فغدت للسهد سكنى
يا لودي من لقلبي ... من مليح يتجنى
من مجيري من مليك ... أسر القلب وعنى
آمر في الحب ناه ... فرض الحب وسنا
ونضى سيف جفاه ... وبما أرجوه ضنا
ليت شعري ما عليه ... لو شفا بالوصل مضنى
وعفا عن شؤم ذنبي ... كرماً منه ومنا
وتلافى بالتلافي ... مبتلى فان معنى
ورضي عني فإني ... صرت كالعبد وأدنى
أيظن الهجر يسلى ... ويظن القلب يثنى
لا ومن قدر في الح ... ب بأن يبقى وأفنى
ما تسليت ولو أمس ... ت لي الجفوة سجنا
لا ولا أهوى سواه ... إن دنا أو صدعنا
كيف أسلوه وقلبي ... نحوه حن وأنا
واصطباري فر من بي ... ن يدي والعقل جنا
يا حبيبي هات قل لي ... أي ذنب كان منا
الذي أغراك حتى ... ملت عما قد عهدنا(1/1196)
ما الذي أوجب هذا ... هات بالله أفدنا
إن يكن ذاك دلالاً ... ما أحيلاه وأهنا
أو لذنب كان أنا ... عنه تبنا ورجعنا
أو وشى واش مريب ... أو حسود قد تعنى
فلقد أبلغته بالهج ... ر فينا ما تمنى
حبذا أن كان ير ... ضيك ولو أنا تلفنا
ومن الاقتباسات الشعرية الدالة على رفعته العلية قوله:
يا معشر العشاق أوصيكم ... حقاً وإني لمن الناصحين
والنجح في نصحي لكم فاسمعوا ... وصية العاني حليف الأنين
ومن قوله:
سواي محب للمواثيق ناكث ... وإني على عهد الصبابة ماكث
وإن تنس عهد الحب إني لحافظ ... لود قديم لم يغيره حادث
وأقسم أني لا أميل عن الهوى ... وما أنا في هذي الألية حانث
فكيف سلوي واشتياقي دائم ... إذا رث منه باعث جد باعث
وإن عقد العذال في كتب لومهم ... فصولاً فلي في حلهن مباحث
وإن سلموا حال الجدال تركتهم ... وإلا فلم أبرح بعلم أباحث
وشتان ما بيني وبين مؤنبي ... لأني مجد في الهوى وهو عابث
وإن كان صبري عن فؤادي راحلاً ... فجيش غرامي في سويداه لابث
فيا يوسفي الحسن يا من محبه ... غدا وهو من يعقوب للحزن وارث
ويا ناهبا عقلي وسالب صحتي ... بطرف مريض الجفن للسحر نافث
رويدك لا تصدع بصدك مهجتي ... فقد أزعجتني من جفاك الحوادث
وصلني ولا تصغي لقول عواذلي ... فما هم وما قالوه إلا خبائث
وذرهم يخوضوا في الملام فإنما ... عداوتهم للعاشقين توارث(1/1197)
ومن قوله:
ما أبصر الطرف بمصر وشام ... في الظرف والبهجة والاحتشام
مثل رشيق صاد أحشاي إذ ... صادفته يعطف غصن القوام
ما بين سلع ورياض بها ... قد رقص الغصن وغنى الحمام
وصفقت أوراقه فرحة ... إذ نثر الدر عليها الغمام
فصرت مبهوتاً لما عاينت ... من حسنه عيناي والقلب هام
ولم أطق تأخير رجل إلى ... خلف ولا تقديم أخرى أمام
فمذ رأى من حالتي ما رأى ... أيقن أني دنف مستهام
وجاء نحوي مقبلاً مسرعاً ... مبتسم الثغر وأدى السلام
فقلت يا أهلاً ويا مرحبا ... بمخجل الشمس وبدر التمام
وكان أن يعطف عطفاً إلى ... روض لشمل الأنس فيه انتظام
لولا صديق ظنه إذ بدا ... له رقيباً فتوقى الملام
وراح عني خجلاً مفزعاً ... وخلف الأحشاء فيها ضرام
لا توقعوا أنفسكم في الهوى ... فهو هوان وعذاب مهين
فامتثلوا الأمر وعنه انتهوا ... إني لكم منه نذير مبين
وقال:
تبدى لنا ملفتاً جيده ... ومن عادة الظبي أن يلتفت
ومر وأسرع في مشيه ... فخلناه من شرك منفلت
غزال غزاني وأبدى السرو ... ر لذلك حتى عذولي شمت
وصال بأسمر من قده ... وأبيض من جفنه منصلت
فلا بدع إن صرت من لحظه ... جريحاً وعقلي به قد بهت
وأمسيت لم أدر أين الطر ... يق ولا الفرق ما بين سبع وست
وأسرعت إن سار في خطة ... إليه وإن يلتفت التفت
فكل يميل إلى حسنه ... إذا ما بدا وإذا ما نعت
فيا ليته جاد لي باللقا ... على رغم أنف الزمان المشت
وإن سمح الدهر يوماً به ... فلم التفت طول دهري لست(1/1198)
وقوله:
مذ غبت يا بدر عن هذي المطالع ما ... أبقيت إلا غراماً في الضلوع نوى
فالجسم عندي وعيني في الطريق وها ... قلبي لديك يعاني حرقة وجوى
والشوق ولى علي الحزن إذ عزل ال ... صبر الجميل ونومي للفرار نوى
والدمع خطط لي ثوب الضنى بيد ... حمراء لما رأى جسمي سليب قوى
فكم يقاسي العنا قلبي وقلبك يا ... روحي مهنا لأنواع السرور حوى
وإن هذا المترجم من أعيان حديقة الأفراح لإزالة الأتراح. وقد ترجمه مؤلفها فقال: صاحبنا الأديب، محمد أمين الزللي المدني الخطيب، وأحد أدباء العصر، والجوهر الفرد الذي ما ظفر بمثله جوهري في الدهر، اجتمعت به عام ألف ومائتين واثنين وعشرين في بندر جدة، فرأيت من أخلاقه ما أوجب علي حمده، شمائله تدل على اللطافة ورقته أرق من السلافة، ما الدر النظيم بأفخر من عقد نظامه الثمين، وما أرج النسيم بأضوع من روائح منثوره الذي هو في الحقيقة سحر مبين، فمن لطائفه قوله:
لاح الصباح براية بيضاء ... وسطا ففرق عسكر الظلماء
والروضة الغناء قام هزارها ... يشدو فأشجانا بطيب غناء
والغصن لاح لنا بتاج أزاهر ... متكلل بجواهر الأنداء
فانهض وبادر للخلاعة واغتنم ... صفو الزمان ولا تكن متنائي
واقرن صبوحك بالغبوق ولا تدع ... فرص السرور بغدوة ومساء
واعقد ببنت الحان واجعل مهرها ... عقلي وأشهد سائر الندماء
واستجلها بكراً تقلد جيدها ... بعقود در بل نجوم سماء
واشهد محاسنها إذا ما أهديت ... من كأسها في حلة اللألاء
وافضض ختام كؤوسها واكشف لثا ... م عروسها وانشق لطيف شذاء
واعدل عن العيدان وارشفها على ... رقص الغصون ونغمة الورقاء
وإذا سألتك ما اسمها متلذذاً ... قل لي فديتك في جواب ندائي(1/1199)
هي راحة الأرواح والروح التي ... قامت بها أجساد كل هناء
لا بل هي الراح التي من شأنها ... جلب السرور ودفع كل عناء
راح تشابه لونها وإناؤها ... وتشاكلا في رقة وصفاء
راح إذا ظهرت بيوم مشرق ... أخفت أشعتها ضياء ذكاء
راح إذا ما أبرزت من خدرها ... في ظلمة لم تفتقر لضياء
راح يفوق المسك طيب شذائها ... يغنيك عن ند ونشر كباء
فاشرب هنيئا واسقنيها قهوة ... حمراء وسط زجاجة بيضاء
من كف ساق في لماه ولحظه ... وحديثه نوع من الصهباء
وبخده ورد حماه بأسهم ... عن قطفه باللحظ والإيماء
فإذا رنا هش العيون أو انثنى ... فضح الغصون بقامة هيفاء
وإذا بدا والبدر حال تمامه ... لم يدر أيهما رآه الرائي
فعليك يا هذا بها وإليك عن ... قول العواذل يا أخا السراء
واركض بميدان الخلاعة والهوى ... طلق العنان برغم كل مرائي
ودع المساجد عنك والزم عادة الأ ... دبا وخل ثقالة الفقهاء
واصرف زمانك كله في شربها ... صرفاً وحاذر مزجها بالماء
وامزج زجاجتها إذا ما عفتها ... بلماه فهو دواء هذا الداء
أو من لمى عذراء ذات مقبل ... عذب شهي فيه برء ضنائي
تسبي وتستلب العقول إذا رنت ... للعاشقين بعينها الكحلاء
واعص النصيح ولا تخف أحداً سوى ... مولاك في السراء والضراء
واخضع وذل له ولذ بجنابه ... ينجيك من سوء وشوم بلاء
واعد نوبة مخلص من قبل أن ... يزف الرحيل وأنت في الأهواء(1/1200)
فلعل أن يمحى بصادق فجرها ... ديجور ليلة جرمك الليلاء
إن هذا المترجم قد توفي بعد الألف والمائتين والاثنين والعشرين ولم أقف على تعيين وفاته، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
السيد محمد يوسف البلجرامي الحسيني هو من رجال الحديقة وقد ترجمه بها فقال
ومن قوله أيضاً:
اعطف ورق لحاليه ... يا ذا الشفاه الحاليه
لا تبل قلبي بالتجني ... فهو نار حاميه
خذ يا حبيبي ما ملكت ... وإن أردت فؤاديه
واحيرتي واحرقتي ... إن زدت في هجرانيه
ارحم فديتك ذلتي ... وكآبتي وبكائيه
جرعتني غصص الجفا ... وتركت روحي باليه
ها حالتي يامنيتي ... تنبيك عن أشجانيه
يا من حفظت وداده ... وأضاعني ووداديه
حرمت طيب النوم يا ... تياه عن أجفانيه
يكفيك إني مدنف ... حتى العذول رثى ليه
أراه مما نابني ... آه وآه ثانيه
ما ضر لو أطلقتني ... من لوعتي وعنائيه
سوفت بي ومطلتني ... وجحدت دين وصاليه
عرج علي ولا تعذبني ... وشرف داريه
والله روحي عن غرا ... مك قط ما هي ساليه
داوي بوصلك مهجتي ... لا ذقت مثل غراميه(1/1201)
قال حسان هندوستان المعروف بازاد، في كتابه سبحة المرجان: هو قسطاس المعقولات، ونبراس المنقولات، بل هو ملك كريم، وعلى الخزائن حفيظ عليم. علمه الله من تأويل الأحاديث، وأدار عليه كؤوس العناية بالتثنية والتثليث فمن لطائفه قوله فيمن ورد روضه.
قد شرف سيدي رفيع المقدار ... روضي ليرى به جمال الأزهار
رحبت به وقلت أهلاً سهلاً ... حياك الله أنت نور الأنوار
ويعجبني قوله:
سرت إلي وكان البدر ملتمعاً ... وكابدت في سراها أي معسور
فقلت أهلاً بمن جلت عنايتها ... بها تيسر لي نور على نور
انتهى. توفي في القرن الثالث عشر ولم أقف على تاريخ وفاته رحمه الله.
الشيخ محمد علي الجيلاني المعروف بالحزين نزيل نبارس
هو من رجال حديقة الأفراح، قد ترجمه مؤلفها بقوله: عالم توجه الله بتاج الكمالات وألبسه حلى الشرف والكرامات، عارف أوضحت شمس معارفه البازغة منهج الفلاح، عابد صرف شريف عمره في طاعة ربه المناح. أديب، ديوان نظمه باللسان الفارسي نزهة الأبصار،(1/1202)
بليغ، لطائفه باللسان العربي درر وأنوار. فمن جيد شعره قوله من لاميته المشهورة التي مدح بها الإمام المرتضى كرم اله وجهه:
وليس عنك سواد العين منصرفاً ... مهما تشاهد بالتدعيج والكحل
اسمع كلامي ودع لامية سلفت ... الشمس طالعة تغنيك عن زحل
فمن أنيني حمام الأيك في طرب ... قد افتدى بزفيري واقتفى رتلي
مني الأنين ومنكم ما يليق بكم ... بذلت جهدي لكم لا بد من بدل
فو الذي حجت الزوار كعبته ... وكم هنالك من داع ومبتهل
جرى مجاري دمعي حب حضرته ... وأشرق الشوق في صدري بلا طفل
ليس اصطباري ببعد الدار عن سكن ... بل من نحولي يا غوثي ومن فشلي
وكم دعوتك يا كهفي ومعتمدي ... مستنصراً فأتني بالنصر عن عجل
توفي في القرن الثالث عشر، ولم أعلم تاريخ موته رحمه الله.
قاضي القضاة الأمجد محمد نجم الدين خان
هو من أفراد أعيان الحديقة، وإنسان حدقة أهل المجاز والحقيقة، قد ترجمه صاحب الكتاب المذكور وإن كان فضله بين الأنام مشهور، فقال: نجم الهداية الثاقب مظهر المكارم والمناقب، غطمطم العلوم العقلية والنقلية، وسفينة النجاة لمن اهتدى بأنجم فضائله الجلية. نثاره شذور المسجد، ونثاره من وقف عليه لم يلهج بغير الصلاة والسلام على محمد. فمن لطائفه قوله:(1/1203)
لسلمى جمال كشمس الضحى ... لها جبهة قل هلال بدا
لها قامة مثل سروة تميل ... يداها كأغصانه بالصبا
وكانت لها حلة مع صفا ... عن القلب ما زال تجلو الصدا
لقد فارقتني بلا باعث ... وداع إلى نقض ذاك الهوى
وما لاحظت خدمتي كالعبيد ... ولم توف أصلاً عهود الحمى
ولي دونها هيأة الاضطراب ... كحوت عن الماء جاز الثرى
جرى من عيوني سيول الدما ... إلى الله أشكو جرى ما جرى
فيا ثاقب اصبر ولا تجزعن ... لأن النسا قل فيها الوفا
انتهى. مات المترجم عي أوائل القرن الثالث عشر.
المولوي محمد باقر النوايتي المدراسي
قد ترجمه صاحب الحديقة فقال: نابغة الدكن وجريرها، وريحانة الظرائف وزهيرها، بقر الفنون بأنفاسه الطويلة في النثر والنظم، وذبح الطروس بنفائس المدائح وزخارف الذم، فأهدى إلى السواد الأعظم المدح المليح، وأزجى إلى الفرقة الإمامية الذم القبيح. فمن لطائف نثره ما كتبه إلى السيد العلامة الأديب صفي الإسلام، مفتي الشافعية بالمدينة المنورة أخبرنا بن علوي باحسن جمل الليل:
سلام به نور المحبة لامع ... ونشر تباشير الهوى منه ساطع
على من جميل خلقه الذكي هو المسك ما كررته يتضوع، وحسن صيته العلي كبرق بدا من جانب الغور يلمع، المتروي بمنهل المجد الروي والمتحلي بملبس الشرف الجلي، الرافل في مطارف النسب الفاخر والحافل بطرائف الحسب الزاهر. المتسم ذروة العز الشامخ المتسلم لصفوة الفخر الباذخ، المتميز بمزايا الشيم الرضية والمتحيز بزوايا الهمم السنية، نخبة الفضلاء الأمجاد(1/1204)
ونقاوة الأدباء الأجواد المنسوب إلى اليمن الميمون كالسهيل، مولى السيد أحمد باحسن جمل الليل، أنار الله مهجته وأدام بهجته. وبعد فلا يخفى على ضميركم الذي هو ملواح كل فلاح ومصباح كل صلاح، إن التعارف المتحقق في معهد الأرواح، يورث التحالف في مشهد الأشباح، ويثبت تارة مضمون الغرام الأيمن بالخط الشعاعي المتصل بالوجه الحسن، ويجدد أخرى تلك النسبة المتناهية الكتمان، بإبلاغ المحاسن إلى مسامع الخلان. وإن اشتهر انتشاء الحب من العين سراً وعيانا، فالإذن تعشق قبل العين أحياناً. إلى غير ذلك والسلام انتهى. توفي المترجم المذكور في القرن الثالث عشر ولم أقف على تعيين وفاته.
السيد العلامة محمد بن إسحاق
هو من زهرات أفنان حديقة الأفراح، ترجمة صاحبها مع السادة الملاح، فقال: باب مدينة العلم ومعدن الكرم والحلم، نثره أبهى من الدر المنثور، ونظمه أفخر من قلائد النحور. فمن لطائفه قوله:
أيا بارق الجرعا هل الجزع ممطور ... وهل بالغواني ذلك السفح معمور
وهل ذلك الروض لنضير نضارة ... بعين الرضا من ساكن السفح منظور
وهل كسيت فيه الغصون قطيفة ... مطرزة خضرا وأزرارها نور
أزاهير تغدو بعد حين كأنها ... دراهم في حافاتها ودنانير
فلله ذاك الروض كم عبرت به ... نسيم الصببا في طيها المسك منشور
يكبر من يأتيه حتى طيوره ... لها فيه تهليل كثير وتكبير
إذا رقصت أغصانه فحجامه ... مزامير في أرجائه وطنابير
سقاها الحيا طول المدى فهي جنة ... لأن الحسان اللاعبات بها حور
كواعب لا تفتر عن حرب عاشق ... بتدبير رأي فيه للصب تدمير
يجهزن جيش الانكسار لحربه ... وما هو إلا لحظ عين وتفتير(1/1205)
وغيداء أما اللحظ منها ففاتك ... وأما اريج الثغر منها فكافور
إذا ابتسمت أو كلمت مغرماً يرى ... من الدر منظوم بغيها ومنثور
يحافظ مضناها على حبه لها ... وياليت مضناها على ذاك مشكور
لها في الجفا جزم على رغم أنفه ... وفي وصلها تقديم رجل وتأخير
بطول تجنيها وتفتير لحظها ... فؤادي مسجور هناك ومسحور
شكوت لها هجري وقلت لها متى ... بطيب التداني منك يسعد مهجور
فيا هذه عطفاً على ذي صبابة ... له في الهوى شأن لحسنك مشهور
أسرت منامي بعد اطلاق مدمعي ... وكم في الهوى يشكو طليق ومأسور
وأرسلت قلبي المستهام مع الصبا ... إليك فعاد القهقري وهو مقهور
هبي أنه ضيف ألم بداركم ... وللضيف إكرام عليك وتوقير
على كل حال أنت عندي حبيبة ... وعذرك مقبول وذنبك مغفور
انتهى كلام الحديقة. ثم إن المترجم المذكور رحمه الله تعالى قد كانت وفاته في أوائل القرن الثالث عشر لكنني لم اقف على تعيين تاريخها.
محمد الجرموزي
قال في حديقة الأفراح لإزالة الأتراح: بليغ ماهر يزدري دره الثمين بالجوهر الباهر، فمن لطائفه قوله مكاتب حسين بن علي الوادي وهو إذ ذاك بصنعاء:
الغيم أرخى أدمعاً لاتفيق ... وألبس الأغصان ثوباً انيق
ودبج الأرض فمن أخضر ... أو أصفر أو أحمر كالعقيق
وكلما مرت بنا نفحة ... أهدت من الأزهار مسكاً سحيق
روت حديثاً عاد دمعي له ... مسلسلاً بالود لما يستفيق(1/1206)
إن الربا قد كللت بالندى ... وانتظم المنثور بين الشقيق
يا أيها الوادي الذي نشره ... قد ملأ الأرجاء نشراً فتيق
بعدك عني والوفا شيمتي ... مالي إلى السلوان عنه طريق
انتهى. مات المترجم بعد الألف والمأتين ولم أقف على تاريخ موته.
السيد محمد بن صلاح الهادي
قال أحمد بن محمد الأنصاري اليمني الشرواني في حديقته المشمولة بأنواع الأماني: علم الهدى، والإمام الذي ما ضل من تبعه واقتدى، فمن لطائف قوله:
لست أنسى رقة العيش الذي ... زاد في الرقة حتى انقطعا
في ربا الشجعة كنا جيرة ... وأخلائي وأخداني معاً
جنة عندي رباها زخرفت ... سيما والكرم فيها أينعا
وسقى الله لييلات الحمى ... وكلاه وحماه ورعا
وصديقاً زارني من بعد ما ... بجلابيب الظلام ادرعا
قطع البيداء نحوي مسرعاً ... والفيافي والموامي قطعا
زار كالطيف اختلاساً ومضى ... ثم ما سلم حتى ودعا
أودع القلب أسى إذ ودعا ... فجميل الصبر مني امتنعا
وسعى الحادي به مستخفرا ... بعد أن فاقتكم لأسمعا
أو ظننتم أن جفني هاجع ... فلعمري بعدكم ما هجعا
عيل صبري إذ رحلتم جزعا ... وفؤادي ذاب فيكم ولعا
كان ينهاني الحيا أن أشتكي ... فغرامي لحيائي منعا
انتهى. مات في القرن الثالث عشر في أوله رحمه الله تعالى.(1/1207)
القاضي محمد بن أحمد مشحم
ممن تزينت الحديقة بطلعته وتحلت بصفته وحسن ترجمته، قال منشيها وبطراز البراعة موشيها: عدل عن الجور وفيما حكم عدل، وأتقن فن البلاغة بصائب رأيه الأكمل، فمن لطائفه قوله مجاوباً الفاضل الأديب محمد ابن خليل السمرجي الجداوي:
أزهر الربا أهديت أم لؤلؤ العقد ... أم الزهر جاءت في بديع من السرد
أم الروض لا، فالروض ماء وتربة ... وعشب وذا شئ يجل عن الحد
أم النسمات العاطرات تأرجت ... بأعبق من مسك فتيق ومن ند
أم الخمر في كأس الطروس أدرتها ... أم الشهد أم أحلى من الخمر والشهد
أم الريق من فتانة الثغر والرنا ... بعيدة مهوى القرط مياسة القد
أم الطرس وافى أم بدا قمر الدجى ... أم الشمس قد لاحت على شرف السعد
أم الغادة الهيفاء في الحلي أقبلت ... تميس بأزهى من مرنحة الملد
وجاءت بخل لا يخل بوده ... ولا يرتضي إلا الثبوت على العهد
بثغر كما يزهو الأقاح ملاحة ... وخد كما التف الشقيق على الورد
وجيد كما تزهو ظبا السفح لفتة ... وطرف كما تبدو الظباء من الغمد
أم السحر لا استغفر الله إنه ... حرام وذاحل فيا طيب ما أهدي
وما هي إلا بنت فكر فريدةتبختر من وشي البلاغة في بردنفائس أفكار أتت لم أجد لهاجزاء سوى الشكر المكلل بالحمد
ودر قريض رمت أدراك شأوه ... فقصر عنه في تطلبه كدي
حلى صاغها من حاز كل فضيلة ... بها قد حلا جيد المكارم والمجد
أخو الأدب الغض الذي جمعت به ... المحاسن حتى صار يعرف بالفرد
أديب أريب ألمعي مهذب ... ذكي، سجاياه تجل عن الحد
له خلق أزهى من الروض باسما ... وذهن دقيق الفكر أمضى من الحد(1/1208)
أعيذ سجاياه التي طاب ذكرها ... بآي المثاني السبع من سورة الحمد
لأنفاسه في الطرس أي تضوع ... تصعد منه دائماً عبق الند
فلله ما أهديت يا بدر من يد ... وكم لك أيضاً قبلها من يد عندي
أياد توالت منك عجلى كأنها ... شرار أطارته الأكف على الزند
وإني في عجزي عن الشكر سائل ... مسامحتي فيما أعيد وما أبدي
بمالك في سمعي وطرفي وخاطري ... من الصيت والمرأى المعظم والود
فودك في قلبي ألذ من المنى ... وذكرك أحلى في لساني من الشهد
قدم زينة الآداب بدر كمالها ... ودرة تاج العصر واسطة العقد
انتهى. توفي رحمه الله تعالى في القرن الثالث عشر.
عز الإسلام محمد بن محسن القرشي كاتب بندر المخا
هو ممن احتوت الحديقة عليه ووجهت وجهة الترجمة إليه، فقال مصنفها وجامعها ومؤلفها: مصدر الغرائب ومظهر العجائب، منهل أدبه صافي ومختصر المطول من بدائعه مغني اللبيب وكافي، فمن لطائفه قوله:
لقد نثرت أيدي السحائب لؤلؤا ... فنظمها كف الرياض بلا شك
وقلد أجياد الغصون عقوده ... فشاكلها نظم الأديب بلا شك
كذلك ألفاظ الحبيب وقد دنا ... بمستلطف الأعذار بعد الجفا يحكي
انتهى. توفي المترجم رحمه الله في أثناء القرن الثالث عشر.(1/1209)
الشيخ محمد بن عبد الله بن مصطفى الخاني الشافعي النقشبندي الخالدي
عالم غير أنه بعلمه عامل، ومرشد إلا أنه بإرشاده كامل، كأنما بينه وبين القلوب نسب، وبينه وبين الحياة من موت الجهل أقوى سبب. له فضل قد اعتلا على هام المناقب، وأدب نبوي تتوقد به نجوم الليل الثواقب، وشمائل قد كاثرت رمل النقا، وفضائل قد أربت على الجواهر في الرونق والنقا. مع ماله من كرم يخجل الأجواد، وسخاء هو في الأعناق كالأطواق في الأجياد. لم ترو صحاح التواريخ كأحاديثه الحسان، ولم تحرر كآثاره في صحائف الحسن والإحسان، وجاه قد استوى على سماء القبول، وقدر قد احتوى على ما يفوق المأمول. وهو من رجال الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية، لحفيده الأديب الكامل والأريب الفاضل، عبد المجيد أفندي فقال في ترجمة هذا السيد الأستاذ والسند العمدة الملاذ: فاتحة الأتقياء المهتدين، وخاتمة الخلفاء المرشدين، وقبلة أولياء العلماء، ورحلة علماء الأولياء، روض المعارف الوارف، يأوي إلى ظل فضله وفضل ظله كل عارف، جامع فرق الإرشاد، وفارق جمع الأمداد، منهل أنواء الأنوار الشعشعانية، ومظهر إسراء الأسرار الربانية. إلى رقيق أخلاق يعرفها كل من له في الطريق خلاق، وأنفاس تشف عن علو كشف وأذواق، ربى بها من السالكين نفوساً شموساً، فأشرقوا في فلك الهداية أقماراً وشموساً، وكرم وكرامات تثبت ماله من جلالة الهمم والمقامات، فهو الكوكب الذي قابل بقابليته المحمدية ضياء شمس الذات الخالدية، فانطبعت في لوح مرآته الصقيلة كافة صفاته الجلية الجليلة، فأشرق في سماء(1/1210)
الولاية بدراً وفي دولة الهداية صدراً، وأصبح منه فصلاً في وصل، والنسخة الثانية المقابلة على الأصل، وورثه رشداً فرضاً وردا.
ولد قد وأناله بقربه تمام المسرة، سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف في خان شيخون، محل مشهور في طريق حلب على مرحلة من حماه، منه سيدنا العارف الكبير الشيخ قاسم الخاني صاحب كتاب سير السلوك إلى ملك الملوك، وشرح عنقاء مغرب لخاتمة الأولياء المحمديين الشيخ الأكبر محيي الدين، قدس الله سره ورزقنا نظره وبره، آمين. وكان أبوه عبد الله معززاً في قومه موقراً في أهله، دمث الأخلاق حسن الأوصاف. توفي هذا العزيز، والجد الأمجد في سن التمييز، واشتغل بقراءة القرآن والكتابة وهو في حجر والدته الصالحة التوابة الأوابة، الصوامة القوامة، الذاكرة الشاكرة. ثم ارتحل قدس الله سره مع والدته إلى حماة المحمية، واشتغل بتحصيل العلوم الشرعية والآداب المرضية. فتفقه في مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه على العالم الفاضل الشيخ خالد السيد، والعالم الفاضل الشيخ عبد الرحيم البستاني، وقرأ النحو وطرفاً من الآلات على العالم الفاضل الأديب الشيخ حمود زهير، ولازم العبد الصالح الشيخ فارس - الذي كان في حلبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أول فارس - مدة ست سنين، ثم أخذ الطريقة العلية القادرية من السيد الشيخ محمد الكيلاني الأزهري قدس سره، واشتغل بها وبتعليم الناس الأحكام الشرعية، وصرف قصارى الهمة لإحياء السنة السنية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنفسه، فكم أزال من بدعة ومحا من ضلالة، حتى كان يحضر الناس قهراً إلى المسجد ويعلمهم فرائض الدين، والتوبة من المعاصي وتجديد الإسلام والعقود، فحصل على يده نفع عظيم، واشتهر في أرجاء حماة اشتهار الشمس في رابعة النهار، وصار يعبر عنه بمهدي الزمان، وكان جلوسه في جامع الجامع للعلوم والعرفان، الولي(1/1211)
الكامل بلا دفاع الشيخ علوان الحموي قدس الله سره، وإقامته كانت في زاويته، وحصل له بذلك مدد عظيم من روحانيته، ولم يزل كذلك إلى أن شرف الديار الشامية قطب دائرة الإرشاد وبحر الهداية والإمداد، ذو الجناحين وعلامة الثقلين، أبو البهاء ضياء الدين، حضرة سيدنا ومولانا الشيخ خالد قدس الله سره العزيز، فتشرف بأخذ الطريقة العلية النقشبندية عنه، كما ذكر ذلك في البهجة السنية، ودخل الرياضة حالاً في جامع العداس، فأدركته جذبة من جذبات الحق التي توازي عمل الثقلين، فحصل له بعد ثلاثة أيام النسبة المعبر عنها بالوصول والفناء، وهو دوام مقام الإحسان، ولم يزل في ذكر وفكر يترقى إلى أعلا المقامات، حتى أتم الأربعينية، فاستأذن بالذهاب إلى أهله في حماة فأذن له، ثم لم يبرح أن عاد فأدخله الرياضة ثانياً، فلما تمت عاد إلى أهله أيضاً ثم رجع فدخل الرياضة ثالثاً ونفسه متشوقة إلى ختم المقامات والترقي في مقام الأولياء، فبعد أن أكمل الرياضة انقلب إلى أهله فمكث غير بعيد، إذا بأمر من حضرة مولانا قدس الله سره بحضوره وعائلته إلى دمشق الشام، فلم يتأخر عن الإجابة لحظة، وذلك سنة إحدى وأربعين، فأقبل عليه قدس الله سره، لما رأى من علو همته وصفاء فطنته وفطرته، ووفور علمه وتوقد ذكاء ذكائه وفهمه، وكان قد ابتدأ يقرأ النهاية شرح المنهاج في فقه الإمام الشافعي رضي الله عنه، لعلامة الدنيا شمس الدين الشيخ محمد الرملي الأزهري نور الله مرقده، صباحاً في مدرسة داره، ويعيد له الدرس سليل العلماء عمر أفندي الغربي رحمه الله، فلما حضر الجد الأمجد جعله محله وسر به سروراً عظيماً، وبشره بأنه سيصير شيخ الشام، وقد حقق الله بشارته كما سبق الألماع بذلك. في ترجمة حضرة مولانا قدس الله سره العزيز.(1/1212)
ولما توفي خليفة جامع المرادية المشهور بالسويقة، العالم الفاضل والمرشد الكامل، ملا خالد الكردي قدس الله سره، عينه لمكانته عنده مكانه وخلفه خلافة مطلقة، وأذن له بالإرشاد وتلاوة الذكر الخوجكاني والتوجه للإخوان في الجامع المذكور، وكتب له صك الخلافة وختمه بخاتمه الشريف انتهى.
ولم يزل في ذلك المكان المذكور يرشد الناس إلى فضائل الأمور، مع تقوى وعبادة وقناعة وزهادة، وذكر وقيام وصلاة وصيام، إلى أن توفي رحمه الله وأعلا في مدارج السعادة مرتقاه، وذلك سحر يوم الاثنين تاسع عشر صفر الخير سنة تسع وسبعين ومائتين وألف، ودفن أعلا الله مقامه وبلغه في دار الجزاء مرامه، بتربة كعبة الإسعاد وختم الإرشاد سيدي الشيخ خالد الحضرة في صالحية دمشق، وقد رثاه حفيده عبد المجيد أفندي بهذه المرثية الجليلة وإن كانت في حقه حقيرة وقليلة:
متى يسعف الصبر الجميل ويسعد ... وحزن على حزن يقيم ويقعد
أثار بقلبي ما أثار من الجوى ... فنيرانه بين الجوانح توقد
ورزء يذوب الصخر من صدماته ... ويرجف قاف منه والبحر يجمد
فكم أورث الألباب بحران دهشة ... إلى أن غدت في صدقه تتردد
وشق قلوباً لا جيوبا مشقة ... ومزق أكباداً له تتكبد
وأرسل من أهواله سحب عبرة ... بلا فترة بل حين تصدر تورد
على فقد جد طالما جد في العلا ... وأصبح للدين الحنيف يجدد
على العلم والإرشاد والزهد والتقى ... على الجود والإمداد والخير يفقد
على الأمر بالمعروف والنهي زاجراً ... عن المنكر المطلوب فيه التقيد
على بحر عرفان موارده صفت ... لكل مريد فيه لله مورد
على شمس أسرار تضيء هداية ... وتحيي الطريق المجتبى وتؤيد(1/1213)
على صائم الأيام وهي هواجر ... يجاهد في الله ولله يجهد
على قائم الليلات وهي دياجر ... يقسمها ذكراً وفكراً ويسجد
على مرشد يهدي إلى الحق نوره ... فمن جاءه يسعى فبالله يسعد
على وارث القطب المعظم خالد ... بصدق له الذكر الجميل يخلد
فمن لدروس العلم يحيي دروسها ... بتحرير تقرير يحل ويعقد
ومن لعلوم القوم يظهر سرها ... بذوق له العلم اللدني مسند
ومن للطريق الخالدية بعده ... يشيد من أركانها ما يشيد
فيا طالما أحيا مآثر قطبه ... وآثاره الكبرى بذلك تشهد
وعزز من قاموا بحق مقامه ... فكانت بهم تحمى الطريق وتحمد
كواكب إرشاد أضاءت على الورى ... إذا غاب منهم مرشد لاح مرشد
هم الشيخ إسمعيل قدس سره ... وحضرة عبد الله والجد الأمجد
محمد الخاني والمظهر الذي ... له في مقامات الولاية مشهد
له العلم في هلك الطريق وملكه ... وما يصلح الأحوال فيه ويفسد
تفرد عن أقرانه بمناقب ... كبار وهم الأولياء التفرد
فقد كان في علم الحقيقة مفرداً ... كما هو في علم الشريعة مفرد
فطوبى له من عارف جد عارف ... إلى الله يهدي السالكين ويرشد
له مسجد بالذكر والفكر عامر ... وقوم كرام ركع فيه سجد
له الجود والإيثار والزهد والتقى ... له الورع الأولى به والتجرد
صبورعلى التقوى غفور لمن أسا ... شكور إذا أقوى وقور ممجد
تقلد في الإرشاد أكبر منصب ... بهمته الكبرى التي لا تقلد
كراماته في كل ملك شهيرة ... وخيراته في كل وقت تجدد
بديع بيان في حديث تصوف ... بتفسير فقه نحوه الحق يقصد
وبهجته أسنى كتاب مؤدب ... فآياته تتلى لنا وتجود
ولا عيب فيه غير أن وجوده ... عزيز فمن أمثاله ليس يوجد(1/1214)
أعد له الله مقام شهوده ... جزاء شهادات له تتعدد
وأحيا الليالي ساهد الطرف ساجداً ... فأضحى له دار النعيم تمهد
بنفسي أفدي فرقداً حل مرقدا ... وأعظم به من مرقد فيه فرقد
عجبت لقوم وسدوه بلحده ... وما فتتت منهم قلوب وأكبد
وأعجب منه أن بحراً يقله ... سرير ويحويه من الأرض مرقد
علوم وعرفان وزهد ورحمة ... وجود وإرشاد وتقوى وسؤدد
فيا ليتني ما ذقت صاب مصابه ... ولا كان لي في عالم الكون مولد
عليه من الله تحية رحمة ... وهتان رضوان وعفو مسرمد
ومني له حسن الثناء لأنه ... هو السيد المنشي الفخار المشيد
فلا أثمرت في روض طرسي يراعة ... براعة لفظ كاللآلي ينضد
إذا كنت لا أبكي دماً لفراقه ... وأندبه ما زلت أنشي وأنشد
وأشكره ما دمت حياً لعلني ... أكافي أياديه الكبار وأحمد
وأنى لذهني أن يكافئ فضله ... وإن عليه كل آن له يد
عهدت إليه أن يجيد رثاءه ... وعهدي به عند المهمات ينجد
فحال الجريض اليوم دون قريضه ... لعمرك إن الحزن للذهن يخمد
فصادمت أحزاني وقلت مؤرخاً ... توفي حصن الأتقياء محمد
وإلا فما دام المصاب مصاحبي ... متى يسعف الصبر الجميل ويسعد
الشيخ محمد بن محمد بن عبد الله الخاني الشافعي النقشبندي الخالدي
شمس معارف العوارف، المشرقة في أفق سماء العواطف، والكوكب الذي به يستنار ويهتدى، والمرشد الذي به الوصول إلى المأمول يقتدى، من أطلع الآمال في أفلاك المنى، وأظهر الأفضال في عالم الدنا، واستوى على أوج الرفعة متوجاً بالفضائل، واحتوى لله دره على أعلا الأوصاف(1/1215)
والشمائل، ومعاليه فوق السماك ذراها، وكمال علمه لا يبارى ولا يضاهى، ولأتباعه باتباعه الحظ الأوفر، واليد البيضاء التي دونها المطاول قصر، ولقد أدرج ترجمته ولده الفاضل، وشبله الماجد الكامل، عبد المجيد أفندي في كتابه الحدائق الوردية، في حقائق إجلاء النقشبندية، بقوله: الإنسان الكامل بالكمالات الإلهية، في مواقف فتوحات الأسرار القدسية، مفتاح غيب عروش الكلم، المكنونة في نقوش فصوص الحكم، بيت قصيد نظم السلوك، إلى ملك الملوك، قوت قلوب الطالبين، وقوة سامع الراغبين، الكبريت الأحمر الموزون بالموازين الذرية لفضله المتكفل بكشف السر الغامض، في قرب النوافل ومكتوبات الفرائض، المضنون به على غير أهله، قاموس لغة الخواص، فيه من منن اليواقيت والجواهر بلغة الغواص، من آل إليه عهود إحياء العلوم، بتنزلات الوجود لتدبيرات مواقع النجوم، وانتهت بمعرفة منطق الطير وترجمان أشواق الحضرة الإشارة إليه، وامتاز بتمييز اصطلاحات وإرادات طريق الخلوة في الجلوة عما لا يعول عليه، كشاف أسرار التنزيل الجامع، المؤيد من فتح الباري بالآيات البينات المطالع، القائمقام الرابع، سيدي الوالد الماجد، لا زال مقامه مظهر جمع الفوائد، ومشكاة مصابيح سنن المقاصد، ومغناه مغني اللبيب القاصد، بإرشاده إلى الطريق المحمدية، ومنهج روضة السيرة الخالدية المحامد.
ولد أدامه الله تعالى في دمشق الشام خلال شهر رجب، عام سبعة وأربعين ومائتين وألف، وقرأ أوائل القرآن المجيد صحبة نجل حضرة مولانا الشيخ نجم الدين على والده، وأتمه عند العبد الصالح المرشد الفالح، الشيخ علي الجزوري أحد خلفاء والده قدس الله سره، وكان سنه وقتئذ خمس سنين، وأجاز له بركة عصره وعالم مصره، المحدث الحجة الثبت الشيخ عبد الرحمن الكزبري نور الله ضريحه، جميع ما تجوز له وعنه روايته بعد ما أسمعه طرفاً من دلائل الخيرات، وهو في تلك السن ودعا له بالفتوح والبركة، وحضر دروس(1/1216)
والده كلها من نحو وفقه وحديث وتفسير وكلام وتصوف وحساب وفرائض، وتخرج على يد شيخ الكل في الكل المرحوم شيخنا الشيخ محمد الضندتائي، فقرأ عليه حاشية الخضري على ابن عقيل وحاشية الصبان على الأشموني في النحو، والتحفة في فقه الإمام الشافعي رضي الله عنه بحواشي ابن قاسم العبادي، وجمع الجوامع بحواشي البناني، والآيات البينات لابن قاسم المشار إليه، مع مراجعة الأطول في الأصول، وأشكال التأسيس في الهندسة، وتشريح الأفلاك للبهاء العاملي في الهيئة، والشنشوري في الفرائض، وشرح المختصر بحواشيه، وطرفاً من المنهج بحواشي البجيرمي، وشرح الملوي على السلم بحواشي الصبان، وبعض ابن قاسم الغزي بحواشي الباجوري في الفقه، وشرح الجوهرة بحواشي الأمير الكبير، وشرح العقائد النسفية للسعد بحواشي الكمال بن أبي شريف، وشرح المسايرة للمشار إليه في الكلام، وشرح الملوي على السمرقندية بحواشي الخضري، والأمير، ورسالة الوضع بحاشية العصام، وآداب البحث والكافي في العروض بحواشي الدمنهوري، والرقائق في الدرج والدقائق، ورسالة الربع المجيب، وشرح اللمعة في الكواكب السبعة، وحضر دروساً من البخاري تحت قبة النسر لدى المحدث المشهور الشيخ عبد الرحمن الكزبري وأجاز له يوم ختم الدرس بالإجازة العامة، وقرأ عليه شرح العقائد النسفية وغيره، وسمع حديث الأولية من العلامة المرشد الكامل أحد خلفاء حضرة مولانا خالد قدس الله سره، الشيخ إسماعيل البرزنجي قدس الله سره، وأجاز له بالإجازة العامة، وسمعه أيضاً من الإمام الكامل والهمام الفاضل الشيخ محمد التميمي أحد العلماء الأزهريين، وتلقى الطريقة العلية النقشبندية عن والده سنة أربع وخمسين ومائتين وألف، ولما حضر إلى الشام حضرة العارف بالله الأمير السيد عبد القادر الجزائري الحسني لازمه ملازمة كلية، وحضر دروسه في الحقائق، وكان له منه الالتفات التام، أطال الله عمره مدى الليالي والأيام، وأحسن إليه في البدء والختام، انتهى ما نقلته من(1/1217)
ترجمة هذا الهمام من الحدائق الوردية باختصار. ومن أراد الزيادة فعليه بذلك الكتاب فإنه نهاية الأوطار.
المرحوم محمد سعيد بن حماد الحمادي المدني
هو من الكمل الأمجاد، الذين أصبح لسان الفضل وهو لعلاهم حماد، فالحق أنه في الأقدمين، من النفر الأكرمين، و " السابقون السابقون، أولئك المقربون "، فقد أتى في الأدب بمحاورات، كالأنجم الزاهرات، ومحاسن، ماؤها العذب غير آسن، فمما نطق به لسان يراعه، وأبداه فم محبرته من محبر إبداعه، قوله:
يا سعد عرج على سكان ذي سلم ... ينبوك عن جيرة حلوا حمى الحرم
فسل خبيراً بهم ينبيك عن ثقة ... ليس المعبر عن رؤيا بمتهم
فكم ترعرع في بحبوح روضتها ... غصن تروحه الأرواح بالنعم
تكسو معاطفه أنوار بهجتها ... مطارفاً حكتها في صنع محتكم
كأنها الزهر في الزرقاء إذ برزت ... في هيكل بالبها والزين منتظم
وقوله من أخرى:
فاح نشر الربا وقد عم طيبه ... وتغنى بغصنه عندليبه(1/1218)
مذ تراءت أنامل السحب تولي ... من نثار الحيا فحيا خصيبه
وتمشت أرواحه ساحبات ... من ذيول البلال ما تستطيبه
في بساط يريك أنوار بسط ... فوق متن الوهاد ماس قضيبه
وعليه من أبدع الله منها ... كل وصف فلا يرى ما يعيبه
تتهادى بقامة مثل بان ... وعليه بالجور يجنى كثيبه
ذات فرق يلوح كالصبح لما ... شق عنه الدجا فبان مشيبه
قد أماطت نقابها عن محيا ... أي لب يسبى به لا يذيبه
فاسقني صاح صرف راح التصافي ... كي يداوى من الحشا ما يريبه
وله من موشحة:
شعشعت أرجاء ذي سلم ... حين حيت من حمى الحرم
غادة تسبي حجى الأمم ... مثلها في الخلق لم يشم
من رآها يقسم ... بر فيها القسم
إنها في الحسن قدس الله سره برعت ... إذ لأسباب البها جمعت
أفرغت في الزين مذ طلعت ... بدر تم حف بالأنجم
ثغرها المبتسم ... لؤلؤ منتظم
ذات فرق صبحه انبلجا ... تحت فرع خلته السبجا
في محيا يخطف المهجا ... إن بدا للشمس تنكتم
وصفه المستعظم ... ليس يحصيه فم
يا له لما انجلى فجلا ... عن فؤادي الهم والوجد
رونق للطرف منه جلا ... جل من أنشاه من عدم
روضة المزدحم ... ناضر معتصم
بت تحييني رواسمه ... وتحييني بواسمه(1/1219)
وترويني مباسمه ... وعيون الصفو لم تنم
والوفا منسجم ... ما حكته الديم
حيها من ليلة سلفت ... عن وجوه قط ما انكسفت
سجها بالفيض لي وكفت ... من صنوف البسط والنعم
لم يعبها ندم ... لم يرعها سدم
وله من قصيدة يمدح بها السيد عمار المغربي رحمهما الله تعالى:
تسعى إلي بمنظر متبلج ... الشمس تدهش من سناه وتفقد
ذي ناظر ساج كحيل فاتر ... فعل الظبى يعزى إليه ويسند
ناشدتها بالود هل أنت التي ... يا هذه الأرواح فيكي تنقد
أم أنت يا بدر البيسطة من غدت ... أحرارنا وهم لحسنك أعبد
فرنت بصارم لحظها ذاك الذي ... أبداً بغير قلوبنا لا يغمد
ثم انثنت تختال في حلل الصبا ... تيهاً يذوب لها الأصم الجلمد
وتبسمت عن مبسم عذب الجنا ... يفتر عنه لؤلؤ متنضد
تشدو بلفظ رق حتى خلته ... سحراً ينفثه الحيا ويعقد
تبدي من القول البديع بدائعاً ... جيد الزمان بعقدها متقلد
مفهوم ما تبديه يا هذا استفق ... ألمثل فضلي في البرية يجحد
وله مخمساً
قمر تلألأ في الدجى من حجبه ... يزهو على الغيد الحسان بعجبه
رفقاً بصب قد أقر بذنبه ... يا محرقاً بالنار قلب محبه
مهلاً فإن مدامعي تطفيه
من أجل من أهوى تركت مصالحي ... أعرضت عن قول العذول الناصح
إن شئت تقتلني وأنت مسامحي ... أحرق بها جسدي وكل جوارحي
واحذر على قلبي فإنك فيه
توفي رحمه الله في أوائل القرن الثالث عشر ودفن بالمدينة.(1/1220)
الحكيم محمد مؤمن بن محمد بن قاسم الجزائري الشيرازي الماتريدي
أديب لبيب ماهر، سيف ذهنه صقيل باتر، وحكيم حاذق، ثاقب فهمه كاشف عن دقائق الحكمة والحقائق، حاز من الكمالات الحظ الأوفر، وحير الأفكار بما انتخبه في نظمه ونثره من كل معنى نادر وأندر، مجاميعه كنوز الفوائد، ورسائله بين الرسائل فرائد. فمن شعره الدال على فكره الثاقب، قوله مادحاً أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وأعلا مقامه وقدره:
دع الأوطان يندبها الغريب ... وخل الدمع يسكبه الكئيب
ولا تحزن لأطلال ورسم ... يهب بها شمال أو جنوب
ولا تطرب إذا ناحت حمام ... ولاحت ظبية وبدا كثيب
ولا تصبو برنات المثاني ... وألحان فقد حان المشيب
ولا تعشق عذارى غانيات ... يزين بنانها كف خضيب
ولا تلهو بحب صبيح وجه ... شبيه قوامه غصن رطيب
ولا تشرب من الصهباء كأساً ... يكون مديرها ساق أديب
ولا تصحب حميماً أو قريباً ... فكل أخ يعادي أو يعيب
ولا تأنس بخل أو صديق ... وذرهم إنهم ضبع وذيب
ولا تفرح ولا تحزن بشيء ... فلا فرح يدوم ولا خطوب(1/1221)
ولا تجزع إذا ما ناب هم ... فكم يتلو الأسى فرج قريب
وسكن لوعة القلب المعنى ... وأنشده إذا غلب الوجيب
عسى الهم الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
ولا تيأس فإن الليل حبلى ... فعل ليومها شأن عجيب
وحسبك في النوائب والبلايا ... مغيث مفزع مولى وهوب
جواد قبل أن يرجى يواسي ... غياث قبل أن يدعى يجيب
تكلمت الظبا معه وشمس ... وثعبان وحيتان وذيب
وردت بعد ما غربت وغابت ... له شمس السماء ولا عجيب
كريم يستحي من مؤمن قد ... رجاه أن يماطل أو يخيب
أمير المؤمنين أبو تراب ... علي المرتضى البر الحسيب
عليه تحيتي ما جن ليل ... وجن من النوى دنف غريب
وله في رثاء الحسين سلام الله عليه قصيدة مخمسة وهي من غرر قصائده والمذكور هنا بعضها:
جاء شهر البكاء فلتبك عيني ... بحنيني على مصاب الحسيني
وإمام الأنام من غير مين ... وابن بنت الرسول قرة عيني
آه واحسرتا لرزء الحسين
آه فلنبك من دم قد أراقوا ... وبدور قد اعتراهم محاق
وسقوا طعم علقم لا يذاق ... خير رهط على البرية فاقوا
آه واحسرتا لرزء الحسين
خطفتهم بروق بيض المنايا ... وأصابتهم سهام البلايا
عن قسي القضا فدعني ألا يا ... لائمي في البكا لعظم الرزايا
آه واحسرتا لرزء الحسين
هم بدور وغربهم كربلاء ... هالهم كرب أرضها والبلاء(1/1222)
خسفوا إذ لهم سنا واعتلاء ... ما لهذي البدور منها انجلاء
آه واحسرتا لرزء الحسين
كم بها صادت البغاث نسورا ... كم بها صارت السروج قبورا
كم بها استوسد الكرام صخورا ... كم بها رضت الخيول صدورا
آه واحسرتا لرزء الحسين
وردته الخطوط منهم وقالوا ... مل إلينا بسرعة ثم مالوا
عنه إذ حل في فتاهم فحالوا ... بينه والفرات ثم استطالوا
آه واحسرتا لرزء الحسين
وعدوا النصر ثم خانوا عهودا ... أوثقوا عقدها وصادوا أسودا
بذلوا دونه النفوس سعودا ... حينما شاهدوا الجنان شهودا
آه واحسرتا لرزء الحسين
غاب فتيان أهله والكهول ... فغدا السبط يشتكي ويقول
وله مدمع عليهم همول ... هل بقي من يعين يا قوم قولوا
آه واحسرتا لرزء الحسين
لست أنسى الحسين فرداً وحيداً ... ورضيعاً له سعيداً مجيدا
قصدوا بالنصال منه وريدا ... وسقوه الردى فأضحى شهيدا
آه واحسرتا لرزء الحسين
ومن جملة قوله ونظامه وبديع شعره وكلامه:
معاشر إخواني سلام عليكم ... لقد دمعت عيناي شوقاً إليكم
ولا غرو إن جسمي ثوى أرض غربة ... فروحي وقلبي ثاويان لديكم
ومن مقاطيعه قوله:
علا هلالي على تلال ... فضاء منه فضاء مهمه
فقيل نور فقلت نور ... وقيل نجم فقلت مه مه
توفي رحمه الله في القرن الثالث عشر.(1/1223)
أبو مفلح محمد بن عبد الله البيلولي
عالم قد استوى على ذروة الكمال، وأديب قد اكتسى شعره ونثره حلة الجمال، قد فاق في عصره الأفاضل، واشتهر بالكمالات والفضائل، فمن بديع كلامه ورفيع نظامه، قوله:
عطر الأرجاء لما نسما ... شمأل الصهباء عند الغلس
وأتت شمس الضحى تنسخ ما ... يقرأ الليل لنا من عبس
دور
طاف بالكاس من الغيد فتى ... وعلى نهج التجني ما فتي
فتن الألباب لما التفتا ... وحسا الكأس بطرف الشفة
وأنا ما بين حتى ومتى ... صده تيه الهوى عن الفتي
وكؤوس الراح بين الندما ... عبقت بالعرف أفق المجلس
خمرة صفراء في البلور ما ... أشبه ألحان بروض النرجس
دور
بادر اللذة واجمع شملها ... بمدام وغلام مطرب
ذي لحاظ ناعسات كم لها ... من فنون السحر ما يلعب بي
ترف الأرداف عانى حملها ... دنف الخصر وذا من عجب
كلما أترع كأساً قال ما ... أنت بالشاري حياة الأنفس
فابذل الجهد وكن مغتنما ... لنفيس الوقت طيب الأنفس
دور
فرص الأيام كن منتهزاً ... مبتداها قبل قطع الخبر
ورحاب الأنس عج منتجزاً ... قبل أن تمضي كلمح البصر
واجن من زهر الهوى محترزاً ... من جنايات هجوم الكبر(1/1224)
لا تخف لوماً ويمم حيث ما ... لاحت اللذات كالمختلس
ما مضى أنس ووافى مثل ما ... كان فالدهر لنا بالحرس
قال صاحب الحديقة: وهي طويلة لم أقف إلا على هذا القدر. توفي المترجم في ألف ومائتين ونيف رحمه الله تعالى.
المرحوم السيد محمد بن سهل العلوي المدني رحمه الله تعالى
سهل الخلق والكلام سامي الرفعة والمقام، علوي المجد والنسب من قوم رفعهم الفضل على كاهل الحسب، فلا ريب أنه نال من العلوم أقصى مرامه، وتوطد من الفخار أعلا مقامه، وقد رأيت أن هذه الأبيات إليه منسوبة، وعلى رفيع ذكائه محسوبة، فدونكها فاجتل جمالها، فإن نسيم اللطف إلى صوب الحسن أمالها:
سلام من المضنى الذي ما سلاكم ... ولا قصده في الدهر إلا لقاكم
سلام عليكم في سلام مضاعف ... سلام محب قصده أن يراكم
سلام محب ماله من يعينه ... ولا مال عنكم قلبه لسواكم
بعثت سلامي نحوكم وتشوقي ... أسلي به نفسي وأرجو رضاكم
خيالكم في العين ما زال حاضراً ... وإن غبتم عني فقلبي فداكم
جفا جفن عيني فيكم لذة الكرى ... فلا العيش يهنا لي إذا لم أراكم
أروم اللقا والبعد يمنع دونكم ... فهيهات عيني عمرها أن تراكم
وإني على العهد القديم لثابت ... وما لي في الدنيا حبيب سواكم
مات في القرن الثالث عشر ولم أقف على تاريخ وفاته رحمه الله.
السيد العلامة محمد بن إسحق بن محمد اليمني
باب مدينة العلم ولباب الكرم والجود والحلم، نثره أبهى من الدر المنثور ونظمه أفخر من قلائد النحور، فمن جميل لطائفه وأحاسن طرائفه قوله:(1/1225)
أيا بارق الجرعا هل الجزع ممطور ... وهل بالغواني ذلك السفح معمور
وهل ذلك الروض النضير نضارة ... بعين الرضا من سكان السفح منظور
وهل كسيت فيه الغصون قطيفة ... مطرزة خضراً وأزرارها نور
أزاهير تغدو بعد حين كأنها ... دراهم في حافاتها ودنانير
فلله ذاك الروض كم عبرت به ... نسيم الصبا في طيها المسك منشور
يكبر من يأتيه حتى طيوره ... لها فيه تهليل كثير وتكبير
إذا رقصت أغصانه فحمامه ... مزامير في أرجائه وطنابير
سقاها الحيا طول المدى فهي جنة ... لأن الحسان اللاعبات بها حور
كواعب لا تفتر عن حرب عاشق ... بتدبير رأي فيه للصب تدمير
يجهزن جيش الإنكسار لحربه ... وما هو إلا لحظ عين وتفتير
وغيداء أما اللحظ منها ففاتك ... وأما أريج الثغر منها فكافور
إذا ابتسمت أو كلمت مغرماً يرى ... من الدر منظوم بفيها ومنثور
يحافظ مضناها على حبه لها ... ويا ليت مضناها على ذاك مشكور
لها في الجفا جزم على رغم أنفه ... وفي وصلها تقديم رجل وتأخير
يطول تجنيها وتفتير لحظها ... فؤادي مسجور هناك ومسحور
شكوت لها هجري وقلت لها متى ... يطيب التداني منك يسعد مهجور
فيا هذه عطفاً على ذي صبابة ... له في الهوى شأن لحسنك مشهور
أسرت منامي بعد إطلاق مدمعي ... وكم في الهوى يشكو طليق ومأسور
وأرسلت قلبي المستهام مع الصبا ... إليك فعاد القهقرى وهو مقهور
هبي أنه ضيف ألمّ بداركم ... وللضيف إكرام عليك وتوقير
على كل حال أنت عندي حبيبة ... وعذرك مقبول وذنبك مغفور
المرحوم محمد بن أمين بن عبد الله جلبي المدني رحمه الله
هو من رجال اللآليء الثمينة وذوي المعارف المكينة، ولقد قيل في وصفه تنبيهاً على شذرة من كماله ولطفه، أقسم بالقمر إذا اتسق وحل(1/1226)
في داره الصفا آمنا من كدر السحب والشفق، أنه لهو البليغ الذي أتى بالكلم المعجز السمين، والفصيح الذي لم يعارض لمعانيه ما يخل ولا يشين. فمن بديع كلامه وبديه نظامه، قوله:
أحب العذول لتكراره ... حديث الحبيب على مسمعي
وأهوى الرقيب لأن الرقيب ... يكون إذا كان حبيبي معي
ومن هذا المعنى قول الأديب أحمد بن القاسم الجداوي:
من أجل ذكرك لذّ لي التفنيد ... قل للوائم في الملامة زيدوا
أهوى اللوائم كالرقيب فرؤيتي ... وجه الرقيب لرؤيتي لك عيد
من ذا رأى صبا يحب عذوله ... ورقيبه ويرى هو المحمود
ومن كلامه:
تزايد بي الأنين فليت شعري ... أأحبابي بما ألقاه تدري
فكم آه يصعدها فؤادي ... ويشفعها بآه الموت صدري
ومنها:
فساعات التداني من حبيب ... ألذ لدي من نغمات زمر
ولا شيء يعادل ذاك أصلاً ... إذا ما كان وصلاً بعد هجر
وهي قصيدة طويلة، سوى أن الكاتب قد حرفها فتركت بقيتها. مات رحمه الله أوائل القرن الثالث عشر.
الشيخ محمد الكزبري بن الشيخ عبد الرحمن الدمشقي الشافعي قال السيد محمد عابدين:
مدرس الحديث الشريف تحت قبة النسر في جامع بني أمية في دمشق المحمية، نفعنا الله تعالى بصالح دعواته وأعاد علينا من بركاته، وأدام به النفع العميم أنه جواد كريم. ولد في ثالث عشر شعبان سنة ألف ومائة وأربعين ونشأ في جحر والده جامعاً لطارف مجده وتالده،(1/1227)
مرتضعاً من ثديه لبان العلوم، محلياً جيده من دره المنظوم، مع عفة وصيانة وورع وديانة، وتقوى وعفاف وحلم وإنصاف. وتفقه عليه وعلى خال والده الإمام الشهير الشافعي الصغير، الشيخ علي بن أحمد الكزبري وأخذ الحديث عنهما وعن العلامة الشهاب أحمد المنيني، ثم لزم الإمام العلامة الثاني علي أفندي الداغستاني، وقرأ عليه في أنواع العلوم من معقول ومنقول، وفروع وأصول، والعلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن جعفر الكردي وغيرهما حتى نبه ونبل وتجمل واكتمل، وفاق أقرانه وشرف زمانه. ولم يزل مثابراً على تعلم العلم وتعليمه وتوضيحه وتفهيمه، مكباً على الطاعات والعبادات مثابراً عليهما في جميع الأوقات، محباً للمساكين والفقراء والمنتمين إلى السادة الكبراء، كثير الصدقات والمبرات، متواضعاً للصغير والكبير، لين الجانب للعظيم والحقير. ذا هيبة ووقار يعلو وجهه نور أهل الآثار، كثير البكاء والخوف من مولاه، أماراً بالمعروف نهاء عن المنكر لا يخشى لومة لائم في الله. محيياً لبقع المدارس والمساجد بالدروس والعبادات، وأنواع الطاعات، ذا إتقان وتحقيق وترقيق وتدقيق، بذهن سيال ولسان فصيح المقال، مقصوداً من جميع الجهات والأقطار، مشهوراً بها كالشمس في رابعة النهار. قد انتفع به الجم الغفير والخلق الكثير، من قاطنين وأغراب، قد ارتكبوا لأجله غارب الاغتراب، حتى أنه لم يوجد الآن في دمشق من طالب، إلا وهو من فيض بحره كارع وشارب.
وهو إمام دمشق الكبير وكوكبها الذي به تنير. حج مرتين الأولى سنة ألف ومائة وثمان وتسعين، والثانية عام ألف ومائتين وعشرة. وكان والده قد أذن له بإفادة الطالبين في حياته، وجلس مكانه بين العشائين(1/1228)
في الأموي سنة ألف ومائة وخمس وثمانين بعد وفاته، فأقرأ في ذلك الوقت كتباً عديدة يأتي ذكرها، آخرها صحيح مسلم، قرأ منه نحو الثلثين، ثم قطع لضعف عرض له في بصره، ثم أتمه في داره.
وكانت عليه وظيفة التدريس في مدرسة سليمان باشا العظم، فأقرأ فيها كتباً كثيرة، منها صحيح مسلم وسنن أبي داود وتفسير البيضاوي والتحفة على المنهاج وغير ذلك.
وفي سنة عشر جاءته قبة النسر تسعى من غير طلب وفوق منبرها بلبل فصاحته خطب. فشرع بقراءة الجامع الصحيح، ورشح جيد الفضلاء بأجيد توشيح، وأنار مصابيح الجامعين، وأبدى ما تشنف به الآذان وتقر به العين. وهو في الثلاثة أشهر رجب وشعبان ورمضان من كل عام. وكان درساً عظيماً جامعاً لكل خاص وعام، مضماراً لفرسان أذهان الأعلام، وقد أشرت إلى ذلك في ضمن موشحة كنت تطفلت بها على مدح جنابه، والوقوف في أبوابه وأعتابه. حيث قلت:
من به قبة ذاك الجامع ... لم تزل في كل عام تسعد
حين يروي في الصحيح الجامع ... لحديث المصطفى أو يسند
يا له من خير درس جامع ... ولأهل العلم فيه مشهد
فكأن الوجه منه حينما ... ينثر الدر على الملتمس
قمر عن جانبيه العلما ... كنجوم أشرقت في الغلس
وقد وصل الآن فيه إلى باب الشهادات، وذلك مقدار ثلث الكتاب توفي رضي الله تعالى عنه ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف في داره الكائنة في محلة الشاغور، وصلى عليه ولده ضحوة النهار من ذلك اليوم في الجامع الأموي المعمور، ودفن بتربة باب الصغير.(1/1229)
السيد محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم عابدين الدمشقي
هو الشيخ الإمام العالم العلامة، والجهبذ الفهامة، قطب الديار الدمشقية، وعمدة البلاد الشامية والمصرية. المفسر المحدث الفقيه النحوي اللغوي البياني العروضي الذكي النبيه. الدمشقي الأصل والمولد، الحسيب النسيب الشريف الذات والمحتد، ابن السيد عمر الشهير بابن عابدين الحسيني إمام الحنفية في عصره، والمرجع عند اختلاف الآراء في مصره. صاحب التآليف العديدة والتصانيف المفيدة، منها حاشيته الشهيرة رد المحتار على الدر المختار، التي اشتهرت في سائر الأقطار، في خمس مجلدات كبار. ومنها ثبته المشهور الفائق. ومنها منحة الخالق على البحر الرائق، وحواشيه على شرح الملتقى للعلائي، وحواشيه على النهر الفائق، وحواشي على القاضي البيضاوي التزم أن لا يذكر فيها شيئاً ذكره المفسرون. وحواشي على حاشية الحلبي على الدر تتبع فيها المحشي المذكور، سماها رفع الأنظار عما أورده الحلبي على الدر المختار. والعقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية. وحاشية على المطول. والرحيق المختوم شرح قلائد المنظوم في الفرائض، وتنبيه الولاة والحكام في حكم شاتم خير الأنام أو أحد أصحابه الكرام. وشرح على رسالة البركوي سماها ذخر المتأهلين، وشرح على منظومة رسم المفتي.
وله من الرسائل في تحرير المسائل نيف وثلاثون رسالة معلومة في ثبته فمن أرادها فليراجعها. وله قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسلها ضمن مكتوب للحضرة الشريفة النبوية صحبة ركب الحاج الشريف سنة عشرين ومائتين وألف، لكي تقرأ أمام الحضرة الشريفة المحمدية، وهي:
لبيك يا قمرية الأغصان ... فلقد صدعت القلب بالألحان(1/1230)
لبيك يا من بالبكا أشبهتني ... لكن بلا فقد من الخلان
نوحي فنوحي في بحار مدامعي ... تعلو سفينته لدى الطوفان
وترنمي واحيي فؤاد معذب ... بتذكر الأحباب في نيران
إن رمت كتمان الهوى متكلفاً ... هيجت مني بالبكا أشجاني
حتى حكت مني الدموع سوافحا ... غيثاً همى بدعاء ذي عرفان
يا صاحبي أليس يعذر بالبكا ... صب كئيب نازح الأوطان
يقضي الليالي بالهموم وبالأسى ... مكسور قلب زائد الأحزان
أي والذي هو عالم بضمائري ... ليحق لي أبكي مدى الأزمان
فلقد مضى عمري القصير ولم أفز ... بزيارتي أرض اللوى والبان
بالله هل تريان أسعد لحظة ... وأخوض رمل أولئك القيعان
وأشم نفح الطيب من أرض الحبي ... ب وترجع الأرواح للأبدان
وأخب في أرض الحجاز ويا رعى ... مولاي عهد أولئك الكثبان
أرض من المسك العبير تكونت ... والنور جللها كما الهيمان
وازم مع حادي المطي قلائصا ... إشراقها تغني عن الأرسان
سكرت بترنام الحداة فما درت ... كم مهمه قطعت من الوجدان
عنقاً فسيحاً سيرها من وجدها ... وتحنّ باكية بدمع قان
وتكاد تستبق الهوادي أرجل ... منها تسير بسيرة العجلان
لم تعرف الإدلاج والتعريس مذ ... كانت تئن بأنة اللهفان
حتى طوت أرض الحجاز وشاهدت ... أنوار طيبة مورد الظمآن
وأتت إلى أرض السفوح ترومها ... وتطيبت بالروح والريحان
يا نوق سبحان الذي أدناك من ... أرض الحبيب وجل من أقصاني
في كل عام تبلغين مقاصداً ... وتشاهدين منازل القرآن(1/1231)
والحظ يقعدني وسوء الفعل ير ... ميني بإشراك الزمان الجاني
أواه من جور الزمان وظلمه ... فلقد تجاوز غاية الطغيان
كيف السبيل إلى النجاة ونيلها ... من شر دهر غادر خوان
مالي من الأهوال حسن تخلص ... إلا بمدحي المصطفى العدنان
خير الخلائق سيد الرسل الكرا ... م وما له في فضله من ثاني
يا خير من ركب المطي وأكرم ال ... كرما ببذل الجود والإحسان
يا منبع الأنوار يا شمس العلا ... يا منبع الإسلام والإيمان
يا من رقى أوج السما وعلا على ... أعلا العلى بترفع جثماني
ودنا الرحمن عز وجل قر ... ب مكانة من غير قرب مكان
والجذع حن تشوقاً لفراقه ... والضب جاء مسلماً بلسان
تالله مثلك ما رأت عين ولا ... أذن وعت في حادث الأزمان
قد كان جيد الدهر قبلك عاطلاً ... حيناً وقد حليته بجمان
قد جئت فرداً والأعادي جمة ... وأتيت بالتمييز والرجحان
لم تخش في التبليغ لومة لائم ... حاشاك من زيغ ومن نقصان
وترى إذا حمي الوطيس مشمراً ... عن ساق عزم فارس الفرسان
أطدت أركان الشريعة بعد ما ... هدمت فعادت أعدل الأركان
وبنيت بنياناً رصيناً محكماً ... وهدمت أس عبادة الأوثان
وهديت أهل الأرض بعد ضلالة ... كانوا بها من نزغة الشيطان
وجليت سحب الفكر عن أفق الهدى ... ومحوت ليل الزور والبهتان
تالله ما الشمس المنيرة في الضحى ... والبدر ليلة سبعة وثمان
بأجل هدايا أو سنا مما به ... قد جئت أو يدنوه بالبرهان
لا تدرك الألفاظ منك مدى ولو ... أبدى الثناء عليك كل لسان
هل تدرك المداح وصف من الذي ... أثنى عليه الله في القرآن
هذا الكريم بن الكريم بن الكر ... يم بن الكريم عطية المنان(1/1232)
هذا نبي الله خير عباده ... زين الخلائق نخبة الأعيان
هذا شفيع المذنبين ملاذهم ... يوم القيمة صفوة الرحمن
وبه تلوذ الأنبياء جميعهم ... حتى الكليم ومكرم الضيفان
كن لي مغيثاً يا شفيعاً بالورى ... يوم الزحام وخفة الميزان
إن لم تكن لي يوم لا مال ولا ... ولد ولا من والد يرعاني
فلباب من آتي وليس مشفعاً ... إلا جنابك يا مغيث العاني
فلأنت باب الله واسطة الرجا ... أنت الوسيلة والقريب الداني
أنت الملاذ لنا وأنت عياذنا ... أنت المشفع بالمسيء الجاني
أشكو إليك قساوة القلب الذي ... كالصخر في لج الردى أرساني
أرجوك تلحظني ختام الأنبيا ... ء بلحظة أغدو بها بأمان
وكذاك لي أبوان مع شيخ غدا ... لي ناصحاً بالجهد قد رباني
يرجون منك تسامحاً وشفاعة ... تنجيهم من لاعج النيران
وصلاة باريك المهيمن والسلا ... م كما الغيوث عليك كل أوان
مع آلك الغر الكرام وحزبهم ... من قد علوا شرفاً على كيوان
وعلى ضجيعيك الإمامين الجلي ... لين اللذين هما لنا شمسان
السيد الصديق ذي الفضل الذي ... ترك اللذائذ في رضى الديان
والأشجع الفاروق قهار العدا ... ليث الحروب وقامع العدوان
وعلى ابن عفان الذي حاز العلى ... حاوي الفضائل جامع القرآن
وعلى علي ذاك عالي القدر من ... قد كان بحر العلم والعرفان
وعلى بقية صحبك الغر الكرا ... م وتابعيهم في مدى الأكوان
وأبي حنيفة ذي الفخار ومالك ... والشافعي وأحمد ذي الشان
ولاتابعين لهم وأقطاب الوجو ... د وصاحب الوقت القريب الداني
لا سيما ختم الولاية من به ... فاز الوجود معطر الأردان
واختم لناظمها إلهي بالرضى ... والعفو والإحسان والغفران(1/1233)
وقوله أيضاً يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
أشكو إلى الله ما ألقاه من نصب ... مستشفعاً بشفيع الخلق كلهم
محمد من محا المولى ببعثته ... ليل الضلال يصبح طارد الغسم
فقام يدعو بأمر الله مبتدراً ... بالنصر متزراً في أرفع الهمم
حتى غدت ملة الإسلام ظاهرة ... ظهور نار بدت ليلاً على علم
مؤيداً بكتاب باهر عجزت ... عنه ذوو اللسن مثل الدر منتظم
ومعجزات توالت قبل مبعثه ... فكان يبصرها بالعين كل عمي
فالضب كلمه والجذع حن له ... والبدر شق له من باهر الحكم
والشمس قد وقفت من بعد ما غربت ... والسحب قد وكفت لما دعا بفم
والماء من كفه قد طاب منبعه ... فكان أعظم ماء سائغ شبم
بتفلة لعلي مذ شكا رمداً ... لم يشك من بعدها في العين من ألم
وقد كفى الألف من صاع الشعير وقد ... حلا وزاد بتفل ماء بئرهم
أروى ثلاثين ألفاً في تبوك بما ... ء ليس يروي سوى شخص من الأدم
سراقة خلفه ساخت قوائمه ... وكم أباد من الأعداء كل كمي
وفي حنين رمى بالترب أعينهم ... ففر جحفلهم مع جملة الريم
كذا رمى ملأ راموا المحال فمن ... أصيب كان ببدر آخر العصم
ومذ حكى بعضهم بالهزؤ مشيته ... ما زال مرتعشاً للموت ذا ندم
ومذ أوى الغار والصديق صاحبه ... فالعنكبوت غدا بالنسج ذا همم
وبين قوم ذراع الشاة حدثه ... عن سمه بكلام غير منبهم
وعن مصارعهم في القتل أخبر في ... بدر فكان كما قد قال ذو العصم
وعاش فرداً أبو ذر ومات كذا ... طبقاً لأخباره الخالي عن التهم
نعى النجاشي وكسرى يوم موتهما ... وقد كفى عدداً من كف تمرهم
وقد رأى أنس طبقاً لدعوته ... مالاً وعمراً وأولاداً من الخدم(1/1234)
قتادة عينه من بعد ما سالت ... عادت بأحسن ما كانت من القدم
كذاك عين علي مذ شكت رمداً ... بالتفل في دهرها لم تشك من ألم
ورب كف له فيها الطعام غدا ... مسبحاً والحصا من أعظم الشيم
وكم له معجزات غيرها ظهرت ... تربو على النجم في عد وفي عظم
فاق النبيين في علم وفي عمل ... لذا غدا بينهم كالمفرد العلم
من مثله وإله الخلق خاطبه ... فوق الطباق وجبريل من الخدم
ولا يفي عشر ما قد حاز من شرف ... ذوو المديح وما قد نال مكرم
كالدهر في همم والطود في عظم ... والبحر في كرم والدر في كلم
منيع حصن ولو البدر استجار به ... في ليلة التم بالنقصان لم يضم
لو كان في فضله شخص يشابهه ... لقلت مثل كذا للسائل الفهم
يكاد من يمنه يجلي الظلام به ... ولو من الدهر من ضر ومن نقم
فليس بعد الذي في النجم من عظم ... ومبعد ما في الضحى مع نون والقلم
فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم
فيا رسولاً به الرحمن أنقذنا ... وقد حمانا بركن غير منهدم
يا خاتم الأنبياء الغر يا سندي ... يوم الزحام إذا ما الخلق في غمم
يا من إذا لاذ مأسور الذنوب به ... غداً، غدا آمناً كالصيد في الحرم
وإنني بت في كرب بنازلة ... غدت بكلكلها تسطو على سقمي
ألم بي بأسها الضاري فآلمني ... وجل صبري غدا من أوهن الرمم(1/1235)
والدهر جار على ضعفي ولا جلد ... به يكون اتقاء الحادث العمم
قرعت بابك أرجو الله يرحمني ... فأنت غوث الندا حصن لمعتصم
وقد رجوتك في التفريج من كرب ... فأنت بر رؤوف ظاهر الشيم
وأنت أقبل من ترجى شفاعته ... عند الإله وأرعى الناس للذمم
حاشا يخيب رجائي من جنابك يا ... من عم بعثك جوداً سائر الأمم
أعطيت جاهاً عريضاً لا مرام له ... وعم بعثك جوداً سائر الأمم
والكون من أجلك الرحمن أبرزه ... وجعل جودك فينا غير منفصم
إني محب وإن قصرت من طمعي ... وحسن ظني برب واسع الكرم
وقد غدوت من الزلات في خجل ... وقد قرعت عليه السن من ندم
بلغت جهدي بمدح فيك أنظمه ... أرجو شفاعتك العظمى بمزدحم
عساك تحنو على ضعفي إذا نشرت ... صحيفتي عند ربي بارئ النسم
حيث النبيون في رعب وفي وجل ... جثوا على ركب من بطش منتقم
وأنت تسجد حتى أن يقال فقم ... سل تعط واشفع تشفع نافذ الكلم
فتخرج الناس من حر الزحام ومن ... حر السعير وقد صاروا كما الحمم
إقبل هدية نجل العابدين فقد ... غدا بمدحك معدوداً من الخدم
صلى عليك إله الخلق ما كشفت ... بك الكروب وزاحت ظلمة الغمم
وآلك الغر والأصحاب أجمعهم ... من ارتجي بنداهم حسن مختتم
وله معمى في عبد الغني
يا بديع الجمال يا ذا التثني ... لحظك الجؤزري سبا العقل مني
إنني فيك لم أزل ذا هيام ... وأنا رقك الغ هجري وصلني
وله في سعيد
رب حسناء ما لها من شبيه ... حين ترنو بالعارض المصقول
أسعدت أرباب الهوى بوصال ... يوم عيد من بعد سلب العقول
وله في نار
سباني كحيل المقلتين بلحظه ... وما زال من حظي بوصلي ضنينا(1/1236)
فيا نفس صبراً من قساوة قلبه ... فبدري بلا يد عسى أن يلينا
وله في غلام
بأبي أحور اللواحظ ألمى ... ما روى لي من الوصال غليلا
مال بالقلب بعد لثغة راء ... تيمتني وصيرتني عليلا
وله في دخان قهوة
بعذار له وخال سباني ... وسقاني فوق الضنا كأس صده
عم دون العذار بالند خالا ... فهو بالخال حاز غاية قصده
وله:
يا ذا القوم السمهري ومن ... قد زال من شغفي به رسمي
أمنن علي بضم خصرك إذ ... ضمي له يحيا به جسمي
جسمي كخصرك في النحول وذي ... جنسية هي علة الضم
وله
مرت مواشط نسمة الأسحار ... كيما ترجل جمة الأشجار
والقطر جللها بسندس برده ... وتزينت بلآلئ الأزهار
والنهر صفق والطيور ترنمت ... في غصنها من نغمة الأوتار
وله ملغزاً
فما اسم ثلاثي إذا عد لفظه ... قريب بعيد يختفي ثم يظهر
له رتبة علياء عزّ ارتقاؤها ... وحسن بلا غين له العين تبصر
وفي محكم القرآن قد جاء ذكره ... بوصف به قد جاء يزهو ويزهر
ومن ضل عن رشد له كان هادياً ... ويسلو به ذو لوعة حين يسمر
ويسحب ذيلاً حين يسطو على العدا ... كرمح به نار الحشاشة تسعر
إذا ما تهجيت الحروف فصدره ... ومبدؤه عن عجزه متأخر
ويبدو لنا من قلبه جنة العدا ... بها نتقي المكروه منهم وننصر
ويبدو لنا أيضاً حديث عن الذي ... غدا لا يبالي بالذي منه يصدر(1/1237)
وإن كنت يوماً طارحاً ثلث أصله ... ففي غور نجد ما بقي منه ينظر
وإن قلب الباقي تراه حديث من ... به لعب الشيطان أو كان يسخر
ويبدو إذا صحفته فعل من غدا ... عطوفاً على صب له كان يهجر
ومن أصله إن كان قد بال صدره ... تراه أتى جما من الناس يكثر
وله
ومن عادة الأيام رفعة جاهل ... وما حقت العلياء إلا لعارف
عفونا عن الأيام عن كل ما مضى ... بعصمة أفعال تسامت بعارف
وله غير ذلك من النظم والمراثي والتهاني والمديح والقواعد والضوابط رحمه الله تعالى آمين ولنكتف بهذا المقدار وإن كان قطرة من بحر أو شذرة من عقد نحر.
ولد رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين ومائة وألف بدمشق ونشأ بها وقرأ القرآن ثم جوده على الإمام القدوة الشيخ سعيد الحموي شيخ القراء بها، وقرأ عليه الميدانية والجزرية والشاطبية بعد ما حفظها قراة تدبر وإمعان وبحث وإتقان، وحفظ القرآن العظيم عن ظهر قلب، وتلقى منه القراءات بأوجهها وطرقها حتى جمع عليه. وقرأ عليه طرفاً من النحو والصرف وفقه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وحفظ متن الزبد وكان شافعي المذهب وقتئذ، ثم لزم شيخه الشيخ شاكر العقاد رحمه الله تعالى وقرأ عليه في المعقولات، وألزمه شيخه المذكور بالتحول لمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان عليه الرحمة والرضوان، فتفقه عليه، وقرأ عليه الفرائض والحساب حتى مهر في فن الأصول والحديث والتفسير والتصوف والمعقول، وقرأ عليه في الفقه الملتقى والكنز والبحر لابن نجيم وصدر الشريعة، والدراية والهداية وبعض شروحها وغير ذلك، ثم شرع في قراءة الدر المختار على شيخه المذكور مع جماعة، من جملتهم علامة زمانه وفقيه عصره وأوانه الشيخ سعيد الحلبي، وبقي ملازماً له إلى أن اخترمته المنية رحمه(1/1238)
الله، ولم تتم قراءة الدر فأتمه مع بعض من حضر معه من إخوانه على الشيخ سعيد الحلبي المذكور، ضاعف الله تعالى لنا وله الأجور، وقرأ على الشيخ سعيد غير ذلك من الفقه وغيره من الفنون. وحين أتم الدر عليه استجازه فأجازه. هذا وكان شيخه السيد شاكر يتفرس فيه الخير ويأخذه معه ويحضره دروس أشياخه ويستجيزهم له فيجيزونه، وكان ذلك بإشارة حصلت له من الشيخ عبد النبي أحد علماء الهند وصلحائها المشاهير حين قدم إلى دمشق، فذهب مع شيخه لزيارته، ولما دخلا عليه جلس شيخه وبقي المترجم واقفاً بين يدي شيخه كما هو دأبه معه، فطلب الشيخ عبد النبي من شيخ سيدي المترجم أن يأمره بالجلوس، وقال له: إني لا أجلس إلا أن يجلس هذا الغلام، وقال إني أشم منه رائحة أهل البيت، وأنه ستقبل يده ويظهر فضله بين الناس وينتفع بفضله. فأمره شيخه حينئذ بالجلوس، فجلس، ومن وقتئذ زاد اعتناء شيخه به. وأحضره مرة درس شيخه العلامة شيخ الحديث الشيخ محمد الكزبري واستجازه له فأجازه، وكتب له الإجازة، وكذلك حضر دروس الشيخ أحمد العطار مع شيخه فاستجازه له فأجازه عام ستة عشر وألف ومائتين.
وفضائله لا تنكر وشمائله لا تحصى ولا تحصر، وعباداته وورعه وإقباله على الله، يقضي له بالسعادة والفوز عند مولاه. توفي رضي الله تعالى عنه سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف، عن أربع وخمسين سنة، وأقيمت عليه صلاة الموت في جامع سنان باشا، وتقدم للصلاة عليه إماماً العلامة الهمام والعمدة النخبة الإمام، علامة العصر وفرد القطر، الشيخ حامد العطار رحمه الله تعالى. ودفن بمقبرة باب الصغير بالتربة الفوقية إلى جانب قبر الإمام أبي حنيفة الصغير، العمدة العلائي صاحب الدر المختار، وقبره مشهور هناك، عليه جلالة يقصد لطلب الحوائج ويزار. رحمه الله تعالى.(1/1239)
الشيخ محمد بن محمد بن عبد الله المغربي الأصل المدني المالكي
الفاضل الذي خفقت رايات علمه، واستخرج دقائق مشكلات المسائل بثاقب فهمه، وانتفع بفضله الخاص والعام، وكان له في جميع العلوم مشاركة وإلمام. فهو المحدث الفقيه، العالم العلامة النبيه، أوحدي العصر ألمعي الدهر، عمدة الأمثال ونخبة ذوي الكمال، من استوى على عرش الأفضال ودار عليه مدار ذوي اللطف والجمال.
ولد عام تسعة عشر ومائة وألف. وصار علم المدينة ومنارها وشمس تلك الأقطار ونهارها. وقد أخذ عنه بركة الشام وعمدة الأنام، ولوذعي السادة النقاد السيد شاكر العقاد، في مكة المشرفة، فأجازه بجميع ما تجوز له روايته عن مشايخه الأمجاد. وكانت وفاته رحمه الله تعالى نهار الجمعة حادي عشر جمادى الأولى سنة ألف ومائتين وسنة واحدة، ودفن في تربة المدينة المنورة المعروفة بالبقيع. وكان رضي الله عنه قد أقعد قبل موته بسنتين وأربعة أشهر واستمر إلى أن مات.
محمد علي باشا الأرنأوطي خديوي مصر القاهرة
كان أصله من الأرنأوط، وقدم عسكرياً مع عساكر الترك القادمين لأخذ مصر من الفرانسيس لما استولى الفرانسيس عليها وكان الفرانساويون قاصدين التوصل من هناك إلى افتكاك الهند من الانكليز لما كان بينهم من الحروب والعداوة، بل وكانت سائر أوربا إذ ذاك ضد الفرنساويين حسبما تقدم ذلك في محله. فحينئذ عاضدت انكلترا الدولة العثمانية على حرب فرانسا وإخراجها من مصر، وكان المترجم كامل الأوصاف للرياسة فتقدم إليها بنفسه على بني جنسه، وانقاد له الجميع. وقررت ولايته الدولة على دفع خراج معلوم سنوياً وذلك سنة 1219، فوجد مصر في نهاية درجة(1/1240)
الفقر والبربرية والجهل، بل حتى أن الأمراض الوبائية من الطاعون قد تمكنت فيها وصارت عادية تفني من الناس سنوياً خلقاً كثيراً، حتى قل العمران ولم يبق من مآثر تقدم المصريين سوى الاسم في التواريخ. نعم وجد للعلوم الشرعية بقية آثار في الجامع الأزهر من العلماء، وذلك كله لما مر عليها من تقلبات الدهر والظلم والجور والاستبداد والحروب في الأيام الخالية.
فشمر عن ساعد الجد ووافقه البخت وفتح لمصر عصراً جديداً، فنظم فيها جيشاً نظامياً من أهلها، ورتب الأداء على الأهالي على قانون غير مجحف، وألزمهم بتعمير الأرض وفتح الترع وإنشاء المدارس العلمية للعلوم الرياضية والحربية، وأحضر المعلمين من أروبا وأحيا المارستانات وألزم الأهالي بالنظافة، وتوسيع الطرقات والبناءات، وأرسل التلامذة إلى أروبا لتعلم الفنون، وأحيا نمو العلوم الشرعية، وسهل أبواب التجارة، وأنشأ معامل السلاح والسفن، وترجمت الكتب النافعة في فنون شتى من لغات شتى إلى العربية، فنشأ في مصر جيل جديد وعصر جديد، بسطت فيه طرق العمران والتمدن والقوة في مدة يسيرة، فافتتح النوبة وسنار واستولى على الشام والحجاز، وافْتَكّهُ من الوهابي، بل امتد بالاستيلاء إلى قرب الآستانة في الأناطولي، وخشيت شوكته من عصيانه على الدولة العثمانية، فتعصب الانكليز إلى الدولة في الظاهر لتوطيد أركانها، وفي الباطن خشية من إنشاء دولة إسلامية شابة ذات قوة مثل تلك ومركزها مصر،(1/1241)
فتخشى أن تمتد من هناك إلى الهند الذي هو روح الانكليز، لا سيما إذا عاضدته إحدى الدول الأروباوية مثل فرنسا، فلذلك حاربته مع الدولة العثمانية التي هي إذ ذاك على ضعف شديد من حرب الروسيا والثورات الداخلية واستقلال اليونان وغير ذلك، فقهروا محمد علي، ولكن لإتمام مقصد انكلاتيرة لم تسمح للدولة بالاستيلاء التام على مصر لمراعاة المقاصد المشار إليها أيضاً، فكان الأوفق لها إبقاء مصر على شبه إستقلال ليضعف كل من الجهتين، وبقي محمد علي والياً على مصر على أن تكون الولاية في ذريته من أكبر إلى أكبر، ويؤدي خراجاً سنوياً للدولة، ويعينها عند وقوع حرب معها بالعساكر الذين يبلغ عددهم الأربعين ألفاً، وكذلك يعينها بالسفن، وإن الرتب العالية في مصر يعين هو أصحابها، وتوليهم الدولة، والسكة والخطبة تكون باسم السلطان العثماني أيضاً، وأخرج الحجاز عنه إلى الدولة، وكذلك الشآم، وبقي على ذلك إلى أن ضعف بالسن، فتنازل عن الولاية لابنه الأكبر وهو رئيس جيوشه وحروبه إبراهيم باشا سنة 1265، وكان على قدم أبيه، وتوفي المذكور في تلك السنة.
الشيخ محمد سعيد بن حمزة بن طالب
بن عبد الله بن الشيخ الإمام الفاضل الهمام فريد السادة الأعلام شمس الدين محمد الشهير بابن المنقار الحنفي الدمشقي الميداني عالم ذو صلاح وبركة وفلاح، من أصول علماء وأسلاف فضلاء، قد اشتغل من أول عمره في العلم والطاعة حسب القدرة والاستطاعة ولوائح البركة تظهر عليه وتشير كمال الإشارة إليه، وله تأليفات كثيرة، وتقريرات هي بمعرفة بركته جديرة. ولد في ثمانية عشرة خلت من شهر ذي الحجة الحرام سنة ثلاثين ومائتين وألف، ومات تاسع وعشرين شوال سنة ألف وثلاثمائة وأربعة ودفن بتربة باب الصغير رحمه الله.(1/1242)
محمد سليم باشا الصدر الأعظم والي دمشق الشام عوضاً عن رؤوف باشا
وهو الصدر الذي اشترك في إهلاك الانكشارية في الآستانة وتنظيم العسكر الجديد، دخل الشام في سنة ألف ومائتين وست وأربعين، وأخاف الناس وفعل موجبات الإرهاب، وذلك بسبب حادثة وقعت هذه السنة قبل مجيئه مع سلفه رؤوف باشا الصدر، وهي أن السلطان أمر بأن يضع الصليان على حوانيت البلد. فنزل جماعة من مشايخ الطريق ومعهم راية وأولاد وغيرهم لأجل أن يشفعوا عند الباشا في ذلك، فلما وصلوا إلى باب السرايا خرج جماعة من التفنكجية من أهل الموصل وكركوت الذين أظهروا أنواع الفساد والفسق في هذه البلاد، فضربوا الناس فمات منهم جملة جماعة، فقام عليهم أهل البلد وصاروا كلما رأوا منهم واحداً قتلوه، وأمر رؤوف باشا بخروجهم من البلد لعلمه بفسادهم، وعظم أمر الصليان على أهل البلد وكان الوزير رجلاً له من اسمه مظهر من الرأفة والحلم، فكتب للدولة يستعطفها في رفع الصليان عن أهل الشام، فعزله السلطان بسبب ذلك، وأمر سليم باشا بوضع الصليان فلما دخل إلى البلد مكث نحو شهر وهو يحصن(1/1243)
القلعة ويجمع العساكر، ثم جمع أعيان البلد وذكر لهم أمر الصليان، فأطاعوه بعد تمهيد العوام وتخويفهم من مخالفة أمر السلطان لكونه محتاجاً إلى جمع المال بسبب ما حصل له في العام الماضي من قتاله مع المسكوب، ووصولهم إلى قرب اسلانبول، وأخذهم كثيراً من بلاد الإسلام، وصلحه معهم على أن يدفع لهم أموالاً بليغة، مما يطول شرحه فأطاع غالب أهل البلد، فخرج جماعة من أتباع الباشا مع كتبة في نهار الجمعة التاسع من ربيع الثاني سنة ألف ومائتين وأربعين، وصاروا يكتبون عدة الحوانيت حتى وصلوا إلى محلة العمارة والعقيبة بعد العصر، فقام جماعة من الأسفاه فأغلقوا الحوانيت وقالوا هذه جزية ونحن لا نقبلها، وقفلوا حوانيتهم، وكان ذلك سبب الفتنة. فلما سمع الباشا بذلك وكان رجلاً أحمق سفاكاً للدماء ليس له تبصرة في الأمور، أمر في الحال بجمع العساكر وغلق أبواب القلعة، وصار يضرب المدافع على البلد، وغالب أعيان هذا البلد عنده، فطلبوا منه التؤدة في الأمر وإنهم يظفرونه بمن خالف أمره، فلم يقبل منهم حتى خرج العسكر يوم السبت من السرايا، وتغلبوا على بيوت القنوات الجوانية وجامع العداس ونهبوها، وصاروا يطلقون الرصاص على الناس من البيوت. وفي ليلة الأحد صار يضرب المدافع والقنابل على البلد، فاجتمع أهل البلد وأشقياؤهم وحاصروه في السرايا إلى بعد العصر، فاستعان أهل البلد بحرق المواضع التي تغلب عليها العسكر، وتوصلوا إلى السرايا، فلما تيقن أنه مأخوذ لا محالة، خرج بعد المغرب ليلة الاثنين من السرايا مع العسكر، وأحرق سوق الجديد وسوق الأروام، حتى وصل الحريق إلى قريب من ضريح سيدي خليل، ودخل هو مع بعض العسكر إلى(1/1244)
القلعة، وبعض العسكر دخل إلى خان الدالاتية، وجامع المعلق الذي قبالة الخان تحت القلعة، فحاصرهم أهل البلد، وذلك بعد أن نهب أهل البلد ما في السرايا والكلار والدوالك، وأحرقوهم، واحترق معهم بعض البيوت المجاورة للسرايا، ولم يزالوا محاصرين لهم في الموضعين حتى فني الزاد من عند من كان في الجامع، فطلبوا الأمان، فأخرجوهم بأسوء حال من شدة الجوع والنتن من الأموات عندهم، وقتلوا بعضاً منهم. ثم تفرغ أهل البلد إلى حصار الباشا في القلعة بضرب المدافع والقنابر، كما فعل معهم أولاً وحاصروه حصاراً شديداً، وقتل من الفريقين خلق كثير، ونصبوا المدافع قبالة حمام الملكة في الدرويشية، وعند باب الحديد المقابل لباب السرايا وتحت القلعة، وهدموا جانباً عظيماً من البرج المقابل لباب السرايا بالمدافع واللغم، إلى أن فني الزاد من القلعة وأكلوا خيلهم، فطلب الباشا الأمان وأنه ينزل ويجلس إلى أن يأتي الأمر من السلطان كيف يفعل، فخرج من القلعة في تاسع عشر جمادى الأولى ومعه نحو ألف رجل من عسكره، اجتمعوا بأهل البلد مدة أيام قليلة، ثم سافروا ونزل الباشا مع بعض خواصه في دار بني الكيلاني التي في العصرونية، وجعلوا عليه حجبة من أهل البلد. ثم ليلة الجمعة في ثالث وعشرين من جمادى الأولى في نصف الليل، دخل عليه تلك الحجبة فقتلوه وقتلوا خمسة ممن معه كالكيخية والخازندار وخاله، ونهبوا ما معهم وجردوا بقية جماعته من ثيابهم وأطلقوهم بلا قتل، وألقوا الباشا في سوق العصرونية على خشبة، وحمل بعض السفهاء رأسه ودار به في البلد، نسأله سبحانه
السلامة. وأما قاضي قران فنجا بمن معه، وكان قد لجأ هو وجماعة تحت قيادته إلى الجامع المعلق، وكان من القواد الأشداء، ودافعوا عن أنفسهم،(1/1245)
حال كون سليم باشا كان يطلق المدافع على المدينة من القلعة، ووقع الخوف في قلوب النصارى أثناء تلك الحوادث، فأمنهم علي آغا خزنة كاتبي وصانهم مع الاسرائيليين من تعديات الجهال. ولما قتل سليم باشا أقام الدمشقيون حكومة مؤقتة، وأخذوا يتوقعون بطش الدولة بهم، على أنها اشتغلت عنهم بمحاربة إبراهيم باشا ابن الخديوي محمد علي باشا، وعدلت عن تأديبهم، وولت على دمشق علو باشا، فاطمأن القوم وقصة إبراهيم باشا تقدمت في ترجمته في حرف الألف مع الباء. لامة. وأما قاضي قران فنجا بمن معه، وكان قد لجأ هو وجماعة تحت قيادته إلى الجامع المعلق، وكان من القواد الأشداء، ودافعوا عن أنفسهم، حال كون سليم باشا كان يطلق المدافع على المدينة من القلعة، ووقع الخوف في قلوب النصارى أثناء تلك الحوادث، فأمنهم علي آغا خزنة كاتبي وصانهم مع الاسرائيليين من تعديات الجهال. ولما قتل سليم باشا أقام الدمشقيون حكومة مؤقتة، وأخذوا يتوقعون بطش الدولة بهم، على أنها اشتغلت عنهم بمحاربة إبراهيم باشا ابن الخديوي محمد علي باشا، وعدلت عن تأديبهم، وولت على دمشق علو باشا، فاطمأن القوم وقصة إبراهيم باشا تقدمت في ترجمته في حرف الألف مع الباء.
الشيخ محمد بن الشيخ عبد الجليل بن الشيخ مصطفى
بن الشيخ إسماعيل بن الشيخ القدوة الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي
الإمام العالم العامل، والجهبذ الفاضل الكامل، خاتمة المتعبدين، وكهف السلف الصالحين، حصل أنواع العلوم، وأتقن سبيل الأخذ من المنطوق والمفهوم.
ولد في دمشق الشام، ولم يزل مثابراً على الإفادة والاستفادة إلى أن توفي نهار الخميس في 20 شعبان سنة 1252 ودفن بقاسيون في مدفن بني النابلسي.
الشيخ محمد أفندي بن الشيخ عبد الله أفندي الرومي الحنفي الدمشقي
الإمام العمدة العارف الذي هو من بحر المعارف غارف، صاحب الآثار الحسنة والشهرة العالية المستحسنة. كان إمام أهل التحقيق وكعبة طواف ذوي التدقيق، زاهداً في الدرهم والدينار كثير الخوف حسن الأطوار، دائم البكاء والايتهال لا يلتفت لجاه ولا لمال. تهدى إليه الهدايا الفاخرة فلا يقبلها ويقول من أكرمني فليدلني على ما ينفعني في الآخرة. وكانت تشهد له المشايخ بالمقام الكبير، ويقولون على رؤوس الأشهاد هذا الفاضل في زمننا ليس له نظير. توفي رحمه الله في عشرين رمضان سنة(1/1246)
اثنتين وخمسين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير بقرب مقام سيدنا عبد الله بن زين العابدين من جهة الغرب. وبقرب قبره أم سلمة وأم حبيبة زوجتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهما وعنا بهم أجمعين.
الشيخ محمد أفندي بن الشريف إسماعيل أفندي العجلاني الدمشقي الميداني
مفخر الشرفاء الكرام ونخبة ذوي النسب العظام، يتصل نسبه الشريف بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان ذا أخلاق كريمة ومروءة عالية فخيمة، وشمائل جميلة، وله التفات إلى اكتساب ما يحصل به أنواع الفضيلة. ولا ينكر ذلك عليه لأنه من نسل من ينسب كل كمال إليه. توفي يوم الأربعاء عند الضحوة الكبرى ثالث عشر شوال سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف، ودفن بمدفنهم المعروف بمدفن بني العجلاني. وهو في سوق الغنم تجاه مقبرة باب الصغير.
الشيخ محمد بن المرحوم الشيخ محمد المغربي الأزهري المالكي
عالم وقته وأوانه وجهبذ عصره وزمانه، المحدث العمدة في العلوم والفاضل الذي تحل لديه مشكلات المنطوق والمفهوم، محط رحال السادة وكعبة طواف القادة، وحرم اعتكاف ذوي المعارف ومحراب توجه أهل الملح واللطائف. من سار في الآفاق ذكره وشاع في الناس علاه وقدره، الناهج في الكمال منهج الأوائل واللاهج بالأدب والتقوى وأنواع الفضائل.
حضر من الغرب سنة ألف ومائة وإحدى وستين تقريباً، ونزل في الجامع الأزهر والمقام الأبهى والأبهر، فتعلق بأذيال العلم تعلق الوالدة بالولد إلى أن امتزج به امتزاج الروح بالجسد، وأخذ عن الشيوخ الأكابر والجهابذة الذين حازوا المعالي كابراً عن كابر، ولم يزل معتكفاً على الطلب والاستفادة، إلى أن شهدوا له بأنه صار مستحقاً للتأليف والإقراء والإفادة، فخرج من(1/1247)
الأزهر بعد الاستئذان وطاف في الأمصار إلى أن وصل إلى حلب ذات القدر والاعتبار، فوجد الناس في قيل وقال وجدال كاد أن يوقع أصحابه في حيز الوبال، فقال ما هذا الأمر الذي دهى ودهم فقالوا اختلفنا في حديث ذكره صاحب المختار وليس له غيرك من حكم، فإن صاحب المختار قد ذكر في مادة عكك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال طوبى لمن رأى عكّا، وبعض الناس قد سلمه اعتماداً على ناقله وبعض الناس قد رده ولم يعتمد على مثبته وقائله. وقال بأنه ليس إسماعيل كلام الذات المحمدية، ولا عليه طلاوة الأحاديث النبوية، فاحكم بيننا بالإنصاف فورودك علينا من كمال الإسعاف، فقال لهم دعوني الآن وسأكتب رسالة في هذا المرام، تزيل عنكم بعون الله الشكوك في هذا الحديث وأمثاله والأوهام. وقد ألف لهم رسالة قاطعة بأن هذا الحديث ليس من كلام النبوة، بل هو كذب مختلق مصنوع، وقد ذكرت هذه الرسالة بتمامها آنفاً لداعية دعتني إلى ذلك، وهي أن كثيراً من الجهال وبعض من يدعي الطلب، قد تداولوا هذا الحديث وهو طوبى لمن رأى عكة، وذلك سنة ثلاث وثلاثمائة وألف، وحكموا بصحته اعتماداً على ناقله وهو محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي في كتابه مختار الصحاح، مع أن ذكر المرقوم لذلك لا يدل على أنه حديث لأنه نقل من هو أعلم منه وأفضل، أحاديث كثيرة حكم عليها أهل الإسناد أنها موضوعة، لغايات قصدوها فأرادوا ترويجها فوضعوا لها أحاديث مكذوبة.
قال ابن الجوزي ما أحسن قول القائل إذا رأيت الحديث يباين المعقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع ومعنى مناقضة الأصول أن يكون خارجاً عن دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة.
ثم إن الواضعين للحديث أقسام بحسب الأمر الحامل لهم على الوضع، أعظمهم ضرراً قوم ينسبون إلى الزهد وضعوه حسبة أي احتساباً للأجر عند الله في زعمهم الفاسد، فقبلت موضوعاتهم ثقة بهم وركوناً إليهم، لما نسبوا إليه من الزهد والصلاح، ولهذا قال يحيى القطان ما رأيت الكذب في أحد(1/1248)
أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير أي لعدم علمهم بتفرقة ما يجوز لهم وما يمتنع عليهم، أو لأن عندهم حسن ظن وسلامة صدر فيحملون ما سمعوه على الصدق، ولا يهتدون لتمييز الخطأ من الصواب، ولكن الواضعون منهم وإن خفي حالهم على كثير من الناس فإنه لم يخف على جهابذة الحديث ونقاده، وقد قيل لابن المبارك هذه الأحاديث المصنوعة فقال تعيش لها الجهابذة " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ومما وضع حسبة ما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزي أنه قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا، فقال إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحق فوضعت هذا الحديث حسبة، وكان يقال لأبي عصمة هذا نوح الجامع، قال ابن حبان جمع كل شيء إلا الصدق. وروى ابن حبان في الضعفا عن ابن مهدي قال قلت لميسرة بن عبد ربه من أين جئت بهذه الأحاديث من قرأ كذا فله كذا، قال وضعتها لأرغب الناس فيها، وكان غلام خليل يتزهد ويهجر شهوات الدنيا، وغلقت أسواق بغداد لموته، ومع ذلك كان يضع الحديث، وقيل له عند موته حسن ظنك، قال كيف لا وقد وضعت في فضل علي سبعين حديثاً، وكان أبو داوود النخعي أطول الناس قياماً بليل وأكثرهم صياماً بنهار، وكان يضع، قال ابن حبان وكان أبو بشر أحمد بن محمد الفقيه المروزي من أصلب أهل زمانه في السنة وأذبهم عنها، وأقمعهم لمن خالفها، وكان مع هذا يضع الحديث، وقال بن عدي كان وهب بن حفص من الصالحين مكث عشرين سنة لا يكلم أحداً وكان يكذب كذباً فاحشاً، وجوزت الكرّامية وهم قوم من المبتدعة نسبوا إلى محمد بن كرّام السجستاني الوضع في الترغيب والترهيب، دون ما يتعلق به حكم من الثواب والعقاب،(1/1249)
ترغيباً للناس في الطاعة وترهيباً لهم عن المعصية، واستدلوا بما روي في بعض طرق الحديث من كذب علي متعمداً ليضل به الناس، وحمل بعضهم حديث من كذب علي أي قال إنه شاعر أو مجنون، وقال بعضهم إنما نكذب له لا عليه، وقال محمد بن سعيد المصلوب الكذاب الوضاع: لا بأس إذا كان كاملاً حسناً أن يضع له إسناداً! وجميع ذلك خلاف إجماع المسلمين الذين يعتد بهم، بل بالغ الشيخ أبو محمد الجويني فجزم بتكفير واضع الحديث، ووضعت الزنادقة جملاً من الأحاديث يفسدون بها الدين، فبين جهابذة الحديث أمرها ولله الحمد، روى العقيلي بسنده إلى حماد بن زيد قال وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث منهم محمد بن سعيد المصلوب في الزندقة، فروى عن حميد عن أنس مرفوعاً أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله، وضع هذا الاستثناء لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة والدعوة إلى التنبي. ومن الواضعين من يضع الحديث انتصاراً لمذهبه كالخطابية والرافضة وغيرهم، وروى ابن حبان في الضعفاء بسنده إلى عبد الله بن يزيد المقري أن رجلاً من أهل البدع رجع عن بدعته، فجعل يقول انظروا هذا الحديث عمن تأخذونه فإنا كنا إذا رأينا رأياً جعلنا له حديثاً. وقسم من الواضعين وضعوا أحاديثهم تقرباً لبعض الخلفاء والأمراء موافقة لفعلهم وآرائهم، أو ترغيباً لهم في بلاد يعدونها لا قدر لها، فيضعون لهم أحاديث دالة على فضلها ورفعة قدرها، ترغيباً لهم بها، كالأحاديث الموضوعة في عكا على اختلاف أنواعها، وقسم كانوا يتكسبون بذلك ويرتزقون منه في قصصهم كأبي سعيد المدايني.
فائدة قال النسائي الكذابون المعروفون بوضع الحديث أربعة: ابن أبي يحيى بالمدينة، والواقدي ببغداد، ومقاتل بخراسان، ومحمد بن سعيد المصلوب بالشام. ومن الموضوع الحديث المروي عن أبيّ بن كعب مرفوعاً في فضل القرآن سورة(1/1250)
سورة من أوله إلى آخره، وقد أخطأ من ذكره من المفسرين في تفسيره كالثعلبي والواحدي والزمخشري والبيضاوي، قال العراقي لكن من أبرز إسناده منهم كالأولين فهو أبسط لعذره إذ أحال ناظره على الكشف عن سنده، وإن كان لا يجوز له السكوت عليه.
تنبيه ورد في فضائل السور مفرقة أحاديث بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف وليس بموضوع، وإنما ذكرت هذا التنبيه لئلا يتوهم أنه لم يصح في فضائل السور شيء. واعلم أن السور التي صحت الأحاديث في فضلها الفاتحة، والزهراوين، والأنعام والسبع الطوال مجملاً، والكهف ويس والدخان والملك والزلزلة والنصر والكافرون والإخلاص والمعوذتان وما عداها لم يصح فيه شيء.
ومن الموضوعات أيضاً أحاديث الأرز والعدس والباذنجان والهريسة، وفضائل من اسمه محمد وأحمد، وفضل عين سلوان، وعسقلان، ووصايا علي، وضعها حماد بن عمر، والنصيبي ووصيته في الجماع، وضعها إسحق بن نجيح الملطي.
والحاصل أن الموضوع تحرم روايته مع العلم بوضعه، وإثباته في كتاب مع عدم التنبيه عليه بأنه موضوع في أي معنى كان، سواء كان في حكم من الأحكام، أو في قصة أو في ترغيب أو في ترهيب، وسواء كان معناه صحيحاً أو باطلاً، لحديث مسلم: من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين.
ويعرف الوضع للحديث بإقرار واضعه أنه وضعه، كحديث فضائل القرآن فإن ميسرة قد اعترف بوضعه، وقال البخاري في التاريخ الأوسط حدثني يحيى اليشكري عن علي بن حدير قال سمعت عمر بن صبح يقول أنا وضعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استشكل ابن دقيق العيد الحكم بالوضع بإقرار من ادعى وضعه، لأن فيه عملاً بقوله بعد اعترافه على نفسه بالوضع، قال بعضهم: وهذا ليس باستشكال منه إنما هو توضيح وبيان، وهو أن الحكم بالوضع بالإقرار ليس بأمر قطعي موافق لما في نفس(1/1251)
الأمر، لجواز كذبه في الإقرار. ويعرف الوضع أيضاً بغير ذلك مما هو مذكور في كتب مصطلح الحديث، كركاكة اللفظ أو المعنى، قال الربيع بن خيثم: إن للحديث ضوء كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره، وقال ابن الجوزي: الحديث المنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم، وينفر منه قلبه في الغالب، قال الترمنيني:
والكذب المختلق الموضوع ... على النبي فذلك الموضوع
أي المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم فهو مختلق ومبتكر من عند واضعه فهو موضوع ومحطوط المنزلة فلا معول عليه بالمرة لأنه من جملة الأكاذيب، ولا تجوز روايته إلا لتعريف حاله، لا بنحو قال النبي صلى الله عليه وسلم، بل بنحو: هذا الكلام موضوع وليس بحديث، والكذب عليه صلى الله عليه وسلم من الكبائر ولو في ترغيب أو ترهيب، ويعرف الوضع بإقرار أو بركاكة.
وإنما أطلت الكلام في هذا المقام، لئلا يظن الإنسان أن نقل من هو معروف بالعلم والفضل لكلام مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنه حديث ولا يحتاج إلى نظر ولا إلى استدلال، فهذا قصور لا ينبغي التعويل عليه، لأن كثيراً من أفاضل العلماء قد نقلوا أحاديث في الترغيب والترهيب وفضائل القرآن سورة سورة، وقد تناقله أصحاب التفاسير وأهل الرقائق في كتبهم، ومع ذلك قد نبه المحدثون النقاد عليها بأنها موضوعة مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، فما كل ما صدر بقال صلى الله عليه وسلم يقتضي أن يكون حديثاً، إلا أن يجده الإنسان في كتب الحديث المسندة، وإن كان الناقل له عمدة كالواحدي والواقدي والزمخشري والبيضاوي وغيرهم، وصاحب مختار الصحاح في نقل الحديث المتقدم، ونحن لا نقول بأنهم هم الذين وضعوا الأحاديث التي ذكروها في كتبهم مما نبه العلماء عليها بأنها موضوعة، بل نقلوها اعتماداً على قائليها من غير أن ينظروا بها، فقد تبين لك مما تقدم أن هذا الحديث الذي ذكره صاحب المختار موضوع ليس بحديث، وذلك لا يطعن في مقام ناقله كما عرفت ولا في علمه، وها هي الرسالة للمترجم المذكور بحروفها:(1/1252)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي حَمَى حِمى السنة المحمدية بأئمة جهابذة نقاد، ونشر أعلامها وأسس بنيانها بأطواد الأفراد، وخص هذه الأيمة المصطفوية بشرف سلاسل الإسناد، ونضر وجوههم في الدارين فرقوا مراقي الإسعاد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الآمر بحفظ سنته، وصونها عن المحرف الوضاع وكل ذي إلحاد، وعلى آله وصحبه ما سلسل محدث وأرسل وعنعن وأفاد، وعلى التابعين لهم من كل حافظ متقن ضابط خبير بالمدارك نقاد.
أما بعد فيقول فقير مولاه الغني، محمد بن محمد المغربي الأزهري منح فتح الجواد، لما وردنا موارد حلب العذبة الأوراد سنة 1173، لإزاحة ما على القلب من الإنكاد، وحللنا في منزل رحب في مقعد صدق يزري بإرم ذات العماد، عند جناب رفيع سيد طويل النجاد، باذخ شامخ الأوتاد، فرآه يسابق بشاشته كل وارد من الوراد، طيب الشمائل، عذب المناهل نخبة الأفراد، بيض الله غرة احواله وأثمر أغصان آماله، وألبسه حلل الإرشاد والسداد، ورد علينا سؤال حديث مضمونه التنويه بفضل عكا الشهيرة عن التعريف بين الحاضر والباد، فكتبت عليه بأنه موضوع وكل ما ورد فيها وفي عينها فهو مفترى عند أعلام الإسناد، ولما رأيت الجوهري وتابعه صاحب المختار أوردا طوبى لمن رأى عكا، هززت عطفي لتحقيق الحق وإرشاد الأمجاد، وسميت الرقيم: تحذير أعلام البشر من أحاديث عكا وعينها المسماة بعين البقر، وينحصر المسطور في مقدمة وخاتمة، فيها تمام المقصد، وقد لبست حلة الإنصاف التي هي سنة علماء السنة والله الهادي وعليه اعتمادي وبه الحول والقوة ومنه المنة.
المقدمة لا يخفى على الممارس أن أئمة الذين ذكروا ضوابط يعرف بها وضع الحديث كسماجة ألفاظه أو برودة معانيه، أو(1/1253)
مخالفة للمحسوس أو لظواهر النصوص، أو لبلوغه في الحد مبلغاً يخرجه عن حده، فإن لكل شيء حداً، صرحوا بأن أحاديث البلدان لم يثبت منها إلا نزر يسير، وحذروا من أحاديثها غاية التحذير، وصرحوا بأنه لا يجوز أخذ حديث من أي كتاب كان، بل اشترطوا شروطاً يعرفها النبيل الخبير، وفي هذا المقام مهامه فسيحة يتيه فيها القطا ويحتاج معانيها إلى عون الملك الخبير.
القصد في ذكر الحديث الذي ورد علي في فضل عكا وليس هو عندي وقت هذه الكتابة، وإنما مضمونه أنها بلد على جبلين فمن دخلها رغبة فيها غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن خرج منها رغبة عنها لم يبارك له في خروجه، وبها عين من شرب منها أو اغتسل فيها فهو طاهر إلى يوم القيامة، أقول: أما أولاً فبرودة هذه المعاني لا تخفى على الممارس المعاني، وأما ثانياً فقد اشتمل هذا الحديث على أمور فاسدة، كونها على جبلين كذب ومين، فإني دخلتها وهي شهيرة عند الناس بينها وبين الجبال بون بعيد، وكون الداخل إليها رغبة فيها ينال تلك المغفرة التامة لا يصح، لأنه لم يثبت فيما هو أفضل منها بالنصوص القواطع، فكيف يثبت فيما لا فضل له أصلاً، ومما يؤيد ذلك قول المنلا علي القارئ في آخر كتابه في الموضوعات لما أورد حديثاً مضمونه أن الصلاة في بيت المقدس بخمسين ألفاً أن هذا الفضل محال، وإن روي في سنن ابن ماجه، فإن الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يثبت فيها هذا الفضل، فكيف يثبت في بيت المقدس، قال وإنما الذي ثبت في بيت المقدس أن الصلاة بخمسماية، فإذا تأملت ما قرره المنلا علي رحمه الله تعالى، علمت أن مدعي هذه المغفرة يحتاج إلى مغفرة لقرينه مكفرة، وأما دعوى أنه أمر جائز في العقول، وقد لا يثبت للأفضل شيء ويثبت للمفضول، فجوابه أن السنة وفضائلها لا تثبت بتجويز العقول، وشهد لما قلناه ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتحه، أن كل احتمال لا يقبل في(1/1254)
مدارك الحديث، ومما يدلك على رد قوله غفر الله له ما تقدم الخ أن الحافظ ابن حجر العسقلاني ألف رسالة في الفضائل المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة، ولم يعرج فيها على حديث عكا، وأما نقل الناجي له في رسالته إن صح نسبتها له، فالناجي ليس من أئمة هذا الِشأن، الذين لهم القدح المعلا كما لا يخفى على من عرف أهل هذا اللسان، وكون عينها من شرب منها أو اغتسل كان طاهراً إلى يوم القيامة، هذا أدهى وأمر، فما معنى طهور الشارب والمغتسل إلى يوم القيامة، فإن كان من الجنابة ولو أجنب من بعد، فهذا مذهب أهل المعمودية، وهو منابذ لصريح الشريعة المحمدية، وإن كان طاهراً من الذنوب، فهو شيء لم يثبت للشارب المغتسل من زمزم المرغوب، وإن كان غير ذلك فلا ندريه.
والحاصل أنه لا معنى له فقبح الله واضعه، فإنه ما أراد إلا تنقيص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إما جاهل مفسد، أو زنديق ملحد. وأما حديث الجوهري وصاحب المختار: طوبى لمن رأى عكا فهو من وادي الأول فإن المساجد الثلاثة التي شرفها الله تعالى بالنص والإجماع لم يرد فيها طوبى لمن رآها، ولا يغتر بذكره في الكتابين المذكورين، فإن أصحابهما ليس لهما قدم في السنة، ولا يجوز أخذ حديث من كتاب إلا بعد مراجعة أصوله المعتمدة، والقاعدة السابقة في البلدان ترده، والبينة على المدعي، فإن قواعد الأئمة لا تعارض إلا بثقل ثابت عن أثبات الأمة، وهذا الإمام الرافعي إمام السنة والتفسير والفقه المجمع على جلالته، أورد أحاديث في كتاب: التدوين، في مناقب قزوين ومرو وبخارى ونصيبين، فأقامت عليه علماء الأمة القيامة، ورموه بقوس واحدة مع أنه إمام علامة. والاغترار بكل ما سطر ليس على الفضل علامة، وطوبى هذه ليست طوبى الجنات بل هي طوبى تحتها عقارب وحيات، وكم من حديث فيه طوبى لا يساوي عند الأعلام طوبى، وأما عينها عين البقر، ففضلها مفترى منكر، غير معتبر.(1/1255)
وأما الحديث الطويل الذي آخره: واختار من العيون أربعاً، فذكر فيها عين عكا، فقد قال السيوطي وابن عراق وصاحب مثير الغرام منكر بالمرة. وهذا صاحب مثير الغرام وصاحب الأنيس الجليل، قد ذكرا فضائل مدن الشام على ما فيها، ولم يذكرا لعكا فضيلة مع أنهما بهذا الصدد، فلو ثبت لها أدنى فضيلة لطرزا بهما كتابيهما، فإنهما لم يصنعا كتابيهما إلا لنشر المحاسن الشامية، وأي محاسن أعظم من غفران الذنوب وطهارة الأبد؟ لا جزى الله الواضعين خيراً في الدنيا والآخرة، الذين ينسبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق بمنصب الفضلاء، فضلاً عن مقام سيد الأنبياء.
الخاتمة: لا يهولنك ويعظم عليك قولنا سابقاً لا يغتر بذكر الجوهري وصاحب المختار فتقول هذه جرأة على الجهابذة الأخيار، فاعلم أنه ليس كل قيل يقال، ولا كل ميدان تجول فيه الرجال، فكم من همام جهبذ في علم لا قدر له في علم الآخر، وهذا القاضي البيضاوي سيد المحققين قد أودع تفسيره أحاديث السور، وغالبها موضوع بإجماع المحدثين أهل النظر، وهذا الجلال المحلي على جلالة محله، نقل حديث أنا أفصح من نطق بالضاد، وكذا شيخ الإسلام تلميذه، وهو موضوع عند النقاد، ولو تتبعنا أمثال هذه لأسهبنا وأبعدنا كل الابعاد. ولقد كنت نظمت أبياتاً قبل هذه الرسالة، فأحببت ذكرها لتتميم المقالة وهي:
أقول لأرباب الحديث تبصروا ... حديثي فقولي عندكم غير مفترى
أحاديث عكا لا يشك بأنها ... أباطيل لا تعزى إلى سيد الورى
كقزوينهم السكندرية مثلها ... ومرو، ولو كان الحديث مسطرا
وما صاحب المختار يروى حديثه ... ولا الجوهري من بالصحاح تجوهرا
وأما الإمام الحال مجد زمانه ... فذاك من الحفاظ ممن لها درى
وها الرافعي مع مجده ورسوخه ... بتدوينه المعروف يرويه من قرا
أفاد أحاديثاً لقزوين مدحة ... فزيفها الأعلام ممن رقى الذرى(1/1256)
ومن شرطه لا اغترار بكل ما ... يسطر في كتب إلى أن ينقرا
فهذا سبيل الراسخين سلكته ... مخافة يوم العرض من وصمة الفرى
وأهدي صلاة من سلام لأحمد ... وآل وصحب ما رياض تعطرا
تذييل: لا يغتر بأحاديث الخطب ولا كتب التواريخ ولا القصص ولا الرقائق ولا كتب اللغة حتى تراجع أصولها، وتحقق فصولها، وهذا المقام واسع المدى فياض الندى، وفي هذا القدر كفاية والله ولي العناية، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ما طابت بذكره الأفواه، قال مؤلفها رحمه الله: تمت في ذي القعدة سنة 1172 وقد تم نقلها من نسخة منقولة عن نسخة مؤلفها.
توفي المترجم المرقوم رحمه الله تعالى بعد المائتين بقليل ولم أقف على مكان موته ودفنه.
الشيخ محمد سعيد أفندي بن الشيخ عبد الستاربن الشيخ إبراهيم الأتاسي الحنفي مفتي مدينة حمص الشامية
عالم لا يبارى وفاضل في ميدان الفضائل لا يجارى، ولد سنة أربع عشرة بعد المائتين والألف ونشأ في حجر والده المرقوم، فأخذ عنه أكثر المتداول من الكتب والفنون، إلى أن صار كعبة المسائل وبغية المقاصد والوسائل، نافذ القول، قوي القوة بالقوي المتين والحول. وكان رحمه الله مهاباً جسوراً فصيح اللسان، وولي منصب الإفتاء في حمص عن أهلية واستحقاق. وله شعر أرق من نسيم الصبا ونثر ألطف من خلع العذار في زمن الصبا، وتحقيقات أنيقة وأبحاث رقيقة، وتقييدات علية وتدقيقات سنية. ولم يزل مثابراً على السلوك في منهج الفضائل مقصوداً لحل مشكلات السادة الأفاضل، إلى أن ألحقته المنية بمن مضى وأحلته في ساحة العفو والرضى. وذلك غرة محرم الحرام سنة ست وسبعين بعد المائتين والألف من هجرة سيد الأنام.(1/1257)
الشيخ محمد الخشني الشافعي المصري الأشعري الأزهري
العالم المشهور بالصلاح والفاضل المعروف بالتقوى والفلاح، نزل في الجامع الأزهر والمكان الأرفع الأنور، فحفظ القرآن الشريف وأتقنه غاية الإتقان، ثم التفت إلى طلب العلم مع العمل والإذعان وقد لاحظته عين الرعاية والإسعاد وألبسته ثوب العناية والإستعداد فتخرج على الشيخ عطية الأجهوري وغيره من أشياخ العصر، كالحفني والعدوي من أفاضل شيوخ مصر. وكان مسكنه في خطة السيدة نفيسة، ويأتي في كل يوم إلى الأزهر فيقرأ دروسه، ثم يعود إلى داره متقللاً في معيشته، متمسكاً بتباعده عن الناس وعزلته. وهو آخر الطبقة العالية والمشيخة السامية، ولما نزلت به دواعي المنية وأرادت أن تلحقه بالعصابة العلية، تمرض شهوراً بمنزله الذي في المشهد النفيسي ذي الشأن، وكان دائماً يسأل عن الشيخ البجيرمي سليمان، يقول لا أموت حتى يموت هذا الهمام، لأني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وقال له أنت آخر أقرانك موتاً، فعلمت أن موتي قبله لا يتأتى، ولم يكن بقي من أقراني سوى هذه الذات العلية فلذلك أسأل عنه أهو حي أم اخترمته المنية؟ ثم مات البجيرمي بقرية مصطية ومات هو بعده بثلاثة أشهر عددية، وكانت وفاته في يوم الاثنين خامس وعشرين من ذي الحجة الحرام سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف من هجرة سيد الأنام. ولم يحضروا بجنازته إلى الأزهر، بل صلي عليه في المشهد النفيسي ودفن في ذلك المقام الأنور.
الشيخ محمد بن يوسف بن بنت الشيخ محمد بن سالم الحفناوي الشافعي الأزهري
العمدة الفاضل حاوي الكمالات والفضائل، عين الأعيان ونخبة الأقران. وله سنة ثلاث وستين ومائة وألف وترى في حجر جده وتخلق بأخلاقه،(1/1258)
وحفظ القرآن والألفية، وأكثر المتون المتداولة. وحضر دروس جده وأخي جده الشيخ يوسف الحفناوي، وحضر أشياخ الوقت كالشيخ علي العدوي والشيخ أحمد الدردير والشيخ عطية الأجهوري والشيخ عيسى البراوي وغيرهم، وتمهر وأنجب، وأخذ طريق الخلوتية عن جده ولقنه الأسماء. ولما توفي جده ألقى الدروس في محله بالأزهر، ونشأ من صغره على أحسن طريقة وعفة نفس، وتباعد عن سفاسف الأمور الدنيئة، ولازم الاشتغال بالعلم، وفتح بيت جده وعمل به ميعاد الذكر كعادته، وكان عظيم النفس مع تهذيب الأخلاق والتبسط مع الإخوان والممازحة، مع تجنبه ما يخل بالمروءة، وله بعض تعليقات وحواش وشعر مناسب، ولم يزل على حالته إلى أن توفي يوم السبت رابع شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف، وصلي عليه في الأزهر في مشهد عظيم، ودفن مع جده في تربة واحدة بمقبرة المجاورين ولم يخلف ذكوراً.
الشيخ محمد الحصافي المصري الأزهري الشافعي الفقيه النحوي الفرضي
فقيه عصره نبيه مصره، ونحوي زمانه وفرضي وقته وأوانه، من ارتقت في معالي الفضائل ملكته وافتخرت به أقرانه وطبقته، وعرف بالزهادة والعبادة واستوى على منصة السيادة، حضر أشياخ الطبقة الأولى، ودرس العلوم في الأزهر وبلغ به الطلبة مراداً ومأمولاً، وأجاد في الإفادة من معقول ومنقول، وكان متباعداً عن الاختلاط منعكفاً في زوايا الخمول، منعزلاً عن الدنيا كما أنها منعزلة عنه. قانعاً بما قسم الله له راضياً منه، لا يدعى إلى وليمة، ولا يفرح بمادحه ولا يلوم مليمه، ولا ينهمك على شيء من الأمور. ولم يزل على حالته حتى جاءه الأجل المسطور. توفي يوم الاثنين ثالث عشر شوال سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف رحمه الله تعالى.(1/1259)
الشيخ محمد بن عبد الفتاح المالكي الأزهري من أهالي كفر حشاد بالمنوفية
مدار العلوم والمعارف ومنار الآداب واللطائف، العمدة المفضل والصفوة المكمل، ذو التقوى والعبادة والرفعة والسيادة. قدم من بلده صغيراً فجاور بالأزهر المنير وحضر على أشياخ الوقت ولازم دروس الشيخ الأمير. وبه تخرج وتفقه ونال درجة علية، وقرأ على غيره من السادة لمالكية، وأنجب في المنقولات وتمهر في المعقولات، وصارت له ملكة واستحضار وشهرة كلية في الأماكن والأمصار. ثم رجع إلى بلده فأقام بها يفيد ويفتي في كل واقعة كلية أو جزية، ويرجع إليه في القضايا والدعاوى ولا يقبل جعالة ولا هدية. فاشتهر ذكره في الإقليم واعتقدوا فيه الزهد والعفاف، وأنه إذا أفتى أو قضى لا يحول عن الحق والإنصاف، لأنه لا يقبل شيئاً بحال ولا يروم سوى رضا الحق المتعال، فهرعت الناس إليه وصاروا لا يعولون في قضاياهم إلا عليه، ولا يعتمدون على سواه ولا يرومون إلا إياه، ولم يزل على هذه الحالة المرضية والمنقبة السامية العلية، حتى كان المولد المعتاد بطندتا فذهب الشيخ إلى هناك، فأتى المترجم لزيارته والسلام عليه، ونزل في الدار التي هو نازل فيها، فانهدمت جهته التي هو بها وسقطت عليه، فمات شهيداً مردوماً ومعه ثلاثة أنفار من أهالي قرية العكروت، فسبحان الحي الدائم الذي لا يموت، وذلك في أوائل شهر ذي الحجة الحرام، سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف رحمهم ذو الجلال والإكرام.(1/1260)
الشيخ محمد بن عبد الرحمن اليوسي المغربي المالكي
الناسك العابد والصالح الزاهد، والعالم العامل والفاضل الكامل. ورد إلى مصر وحج ورجع، فهرعت الناس إلى زيارته والتبرك به، وكان قليل الاختلاط بالناس كثير المذاكرة العلمية محفوظ المجلس مما لا يعني، متمسكاً بالسنة والعمل بها، متواضعاً متذللاً لين الجانب حسن المعاشرة جميل المجاوبة. ولم يزل عالي الهمة وافر المروءة ملازماً للطاعة والتقوى، والأعمال الجميلة العالية، إلى أن تعلل وتمرض ولازمه المرض سنين، وتوفي يوم الثلاثاء ثامن عشرين المحرم وصلي عليه في الجامع الأزهر في مشهد عظيم، ودفن بجانب الخطيب الشربيني بتربة المجاورين وهي القرافة الكبرى رحمه الله تعالى وذلك في سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف من هجرة من له الفضل والشرف.
الشيخ محمد الأسناوي الشهير بجاد المولى الأزهري
العالم المجيد والكامل المفيد، جاور بالأزهر وحضر دروس الشيوخ الأفاضل، ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي، فحضر دروسه ومجالس أذكاره، وتلقى عنه الطريقة الخلوتية، وألبسه التاج وتقدم في خطابة الجمعة والأعياد في الجامع الأزهر، بدلاً عن الشيخ عبد الرحمن البكري، عندما رفعوها عنه، وخطب بجامع عمرو بمصر العتيقة يوم الاستسقاء عند ما قصرت زيادة النيل سنة ثلاث وعشرين وتأخر في الزيادة عن أوانه، ولما حضر محمد باشا خسرو والي مصر وصلى صلاة الجمعة في الأزهر في سنة سبع عشرة، خلع عليه بعد الصلاة فروة سمور، فكان في كل جمعة يلبسها للخطبة فقط وفي الأعياد، وكان ملازماً على إقراء الدروس للطلبة، واشتهر ذكره ونما أمره في أقل زمن، وكان فصيحاً في التقرير والإلقاء لتفهيم الطلبة، ولم يزل على حالة حميدة في حسن السلوك والطريقة، إلى أن توفي في شهر ذي الحجة سنة تسع وعشرين ومائتين وألف وقد ناهز الأربعين رحمه الله تعالى.(1/1261)
الشيخ محمد بن أحمد عرفة الدسوقي المالكي الأزهري
العلامة الأوحد والفهامة الأمجد، محقق عصره ومدقق دهره، الجامع لأشتات العلوم والمنفرد بتحقيق المنطوق والمفهوم، بقية الفصحاء ونخبة الفضلاء، والمتميز بالفضائل وجميل الشمائل.
ولد ببلدة دسوق من قرى مصر، وحضر إلى مصر وحفظ القرآن وجوده على الشيخ محمد المنير، ولازم حضور دروس الشيخ علي الصعيدي والشيخ الدردير، وتلقى الكثير من المعقولات عن الشيخ محمد الخفاجي ولازم الشيخ حسنا الجبرتي في مدة طويلة، وتلقى عنه بواسطة الشيخ محمد بن إسماعيل النفراوي علم الحكمة والهيئة والهندسة وفن التوقيت أيضاً، وحضر عليه أيضاً في فقه الحنفية، وفي المطول وغيره برواق الجبرت بالأزهر، وتصدر للإقراء والتدريس وإفادة الطلبة، وكان فريداً في تسهيل المعاني وتبيين المباني، يفك كل مشكل بواضح تقريره، ويفتح كل مغلق برائق تحريره، ودرسه مجمع أذكياء الطلاب والمهرة من ذوي الأفهام والألباب، مع لين جانب وديانة وتواضع وحسن خلق وصيانه، وجمال وتلطف وعدم تكلف، جارياً على سجيته الأصلية وطريقته الفطرية، لا يرتكب ما تكلفه غيره من التعاظم وفخامة الألفاظ في التكلم، ولهذا كثر الآخذون عليه والمترددون إليه، وله تأليفات واضحة العبارات، سهلة المأخذ كاشفة لغوامض الإشكالات.
فمن تآليفه حاشية على مختصر السعد على التلخيص، وحاشية على شرح الشيخ الدردير على سيدي خليل في فقه المالكية، وحاشية على شرح الجلال المحلي على البردة، وحاشية على الكبرى للإمام السنوسي، وحاشية على شرحه للصغرى، وحاشية على شرح الرسالة الوضعية. هذا ما عني بجمعه وكتابته وبقي مسودات لم يتيسر له جمعها ولم يزل على حالته(1/1262)
في الإفادة والإفتاء والإلقاء، إلى أن مرض وتوفي يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر بيع الثاني سنة ثلاثين ومائتين وألف، وصلي عليه في الأزهر في مشهد حافل أنور، ودفن في تربة المجاورين في المدفن الذي بداخل المحل الذي يسمى بالطاولية، وقام بمؤنة تكفينه وتجهيزه ومصاريف جنازته ومدفنه السيد محمد المحروقي، وكذلك مصاريف منزله في ثلاثة أيامه، وأرسل من قيده لذلك من أتباعه بإدارة المطبخ ولوازمه من الأغنام والسمن والأرز والعسل والحطب والفحم، وجميع ما يحتاجون إليه للمقرئين والمعزين وغير ذلك مما يحتاج إليه. وقد رثاه عمدة الأخيار الشيخ حسن العطار رحمه الله تعالى بقوله:
أحادث دهر قد ألم فأوجعا ... وحل بنادي جمعنا فتصدعا
لقد صال فينا البين أعظم صولة ... فلم يخل من وقع المصيبة موضعا
وجاءت خطوب الدهر تترى فكلما ... مضى حادث يعقبه آخر مسرعا
وحل بنا ما لم نكن في حسابه ... من الدهر ما أبكى العيون وأفزعا
خطوب زمان لو تمادى أقلها ... بشامخ رضوى أو ثبير تضعضعا
وأصبح شأن الناس ما بين عائد ... مريضاً وثان للحبيب مشيعا
لقد كان روض العيش بالأمن يانعاً ... فأضحى هشيماً ظله متقشعا
أيحسن أن لا يبذل الشخص مهجة ... ويبكي دماً إن أفنت العين أدمعا
وقد سار بالأحباب في حين غفلة ... سرير المنايا عاجلاً متسرعا
وفي كل يوم روعة بعد روعة ... فلله ما قاسى الفؤاد وروعا
عزاء بني الدنيا بفقد أئمة ... لكأس مرير الموت كل تجرعا
يميناً لقد جل المصاب بشيخنا ال ... دسوقي وعاد القلب بالهم مترعا
وسابت قلوب لا مفارق عندما ... تنكرت الأسماع صوت الذي نعا
فللناس عذر في البكاء وللأسى ... عليه وأما في السواء فتجزعا
وكيف وقد ماتت علوم بفقده ... لقد كان فيها جهبذياً سميذعا(1/1263)
فمن بعده يجلو دجنة شبهة ... ويكشف عن ستر الدقائق مقنعا
وإن ذو اجتهاد قد تعثر فهمه ... فيا ليت شعري من يقول له لعا
يقرر في فن البيان بمنطق ... بديع معانيه يتوج مسمعا
وسار مسير الشمس غر علومه ... ففي كل أفق أشرقت فيه مطلعا
وأبقى بتأليفاته بيننا هدى ... بها يسلك الطلاب للحق مهيعا
وحل بتحريراته كل مشكل ... فلم يبق للإشكال في ذاك مطمعا
فأي كتاب لم يفك ختامه ... إذا ما سواه من تعاصيه ضيعا
ومن يبتغي تعداد حسن خصاله ... فليس ملوماً إن أطال وأشبعا
فللصدق عون للمقال فمن يقل ... أصاب مكان القول فيه موسعا
تواضع للطلاب فانتفعوا به ... على أنه بالحلم زاد ترفعا
وكان حليماً واسع الصدر ماجدا ... تقياً نقياً زاهداً متورعا
سعى في اكتساب الحمد طول حياته ... ولم نره في غير ذلك قد سعى
ولم تلهه الدنيا بزخرف صورة ... عن العلم كيما أن تغر وتخدعا
لقد صرف الأوقات في العلم والتقى ... فما أن لها يا صاح أمسى مضيعا
فقدناه لكن نفعه الدهر دائم ... وما مات من أبقى علوماً لمن وعى
فجوزي بالحسنى وتوج بالرضا ... وقوبل بالإكرام ممن له دعا
الشيخ محمد المهدي الحفني الأزهري
الأستاذ الفاضل الفريد والملاذ الكامل المجيد، الإمام العلامة والهمام الفهامة، والجهبذ الفقيه والسميدع النبيه، علامة عصره وفريد مصره، كان والده من الأقباط فأسلم قبل بلوغه على يد الشيخ الحفني، فحلت عليه أنظاره وأشرقت عليه أنواره، فحضنه الشيخ ورباه وزاد في وداده، وأنزله بمنزله مع خاصته وأولاده، ولما ترعرع اشتغل بطلب العلم وكان جيد الهمة حسن الفهم، فلازم دروس الشيخ وأخيه الشيخ وغيرهما من السادة الأعلام،(1/1264)
كالشيخ العدوي والشيخ عطية الأجهوري والشيخ الدردير والبيلي والجمل والخرشي والشيخ عبد الرحمن المقري والشرقاوي وأمثالهم من القادة الفخام، واجتهد في التحصيل وجد في منهج التوصيل، ولازم مجالس الذكر بعد وفاة الشيخ الحفني خليفة الدردير المكين، وتصدر للتدريس سنة ألف ومائة وتسعين، ولما مات الشيخ محمد الهلباوي سنة اثنتين وتسعين جلس مكانه في الأزهر، وقرأ شرح الألفية لابن عقيل وغيره من العلم الأنور، ونما أمره واشتهر ذكره، وبعد صيته في الآفاق وطار قدره وفاق، ولم يزل أمره ينمو واسمه يسمو، مع حسن السمت ووجاهة الطلعة، وجمال الهيئة وبشاشة الوجه وطلاقة اللسان وسرعة الجواب، واستحضار الصواب في ترداد الخطاب، ومسايرة الأصحاب، وصاهر الشيخ محمد الحريري على ابنته، وأقبلت عليه الدنيا وتداخل في الأكابر ونال منهم حظاً وافراً بحسن معاشرته، وعذوبة ألفاظه وتنميق كلماته، ومعاملة كل إنسان بما يليق به.
ولما وقع الطاعون في مصر سنة خمس ومائتين وألف خصه إسماعيل بك كتخدا حسن باشا الجزائرلي بما أحبه مما انحل عن الموتى من إقطاعات ورزق وغيرهما، فزادت ثروته وتمن شهرته، ولما حضرت الفرنساوية إلى مصر واستولت عليها خافتهم الناس وهرب كثير من العلماء والأعيان، فكان للمترجم عندهم قدر عظيم وجاه جسيم، فلا تهان جماعته ولا ترد شفاعته، ولا زالت تعلو شهرته في مصر حتى صار يلقب عند الأجانب وعند الأهالي بكاتم السر، وجعلوه رئيس الديوان، إذا حكم قابله الجميع بالرضى والأذعان، وكان يخدمه كبراء الناس وعظماؤهم، ويلتجئ إليه أعيانهم وعلماؤهم، وكان يؤمن من أراد ويرده إلى الوطن والبلاد، فلا يعارضه أحد ولا يصل إلى من احتمى به هم ولا نكد، فحسن صنعه وعم نفعه.
ولما انتقل الحكم إلى العثمانيين، بقي على حاله وقدره المكين، ولما كان آخر المحرم سنة ثلاثين ومائتين وألف توعك المترجم أياماً، ثم عوفي(1/1265)
وذهب إلى الحمام وهنأه الناس بالعافية، وذهب إلى جيرانه يتحدث عندهم كعادته، فخرج ليلة الجمعة الثاني من شهر صفر ودخل عند عثمان بن سلامة السناري، فتحدث عندهم حصة من الليل، ثم قام ذاهباً إلى داره ماشياً على أقدامه حتى وصل إلى داره ومضى نحو ساعة، وقد جامع زوجته واضطجع فحركوه فإذا هو ميت فجهزوه وصلي عليه في الأزهر ودفن عند الشيخ الحفني بجانب قبره، فسبحان الحي الذي لا يموت، وكان عمره نحواً من خمس وسبعين سنة.
وحاصل أمر المرحوم المترجم أنه كان من فحول العلماء يدرس الكتب الصعاب في المعقول والمنقول، بالتحقيق والتدقيق، وانتفع عليه الكثير من الطلبة إلى أن صاروا مدرسين مميزين على أقرانهم من أهل العصر، ولو أنه استمر على طريقة أهل العلم السابقين وبعض اللاحقين، ولم يشتغل بالانهماك على الدنيا وكثرة المداخلة مع الأكابر وذوي الحكومة، لكان نادرة عصره ونقطة مدار مصره، ولكن ذلك أداه إلى قطع الاشتغال، حتى أنه إذا ابتدأ كتاباً كان في الغالب لا يتمه، ولا ألف كتاباً ولا رسالة في فن من الفنون مع كمال أهليته لذلك. ثبت الله قلوبنا على التقوى وحفظنا من كل تقصير في السر والنجوى، وعصمنا والمسلمين مما يضر ويشين.
الشيخ محمد بن محمد بن عبد القادر بن عبد العزيز المالكي الأزهري الشهير بالأمير الكبير
العالم العلامة الفاضل الفهامة، صاحب التحقيقات الرائقة والتأليفات الفائقة، شيخ شيوخ أهل العلم وصدر صدور أهل الفهم، المتفنن في العلوم كلها، نقليها وعقليها وأدبيها. إليه انتهت الرياسة في العلوم بالديار(1/1266)
المصرية، وباهت مصر ما سواها بتحقيقاته البهية. استنبط الفروع من الأصول، واستخرج نفائس الدرر من بحور المعقول والمنقول، وأودع الطروس فوائد وقلدها عوائد وقرائد.
وشهرته بالأمير إنما جاءته من جده الأدنى أحمد، وسببه أن أحمد وأباه عبد القادر كان لهما أمرة بالصعيد، وأخبر المترجم عن نفسه أن أصلهم من المغرب، نزلوا بمصر عند سيدي عبد الوهاب أبي التخصيص كما أخبر عن ذلك وثائق لهم. ثم التزموا بحصنه بناحية سنبو وارتحلوا إليها، وقطنوا بها وبها ولد المترجم. وكان مولده في شهر ذي الحجة سنة أربع وخمسين ومائة وألف بإخبار والديه، وارتحل معهما إلى مصر وهو ابن تسع سنين وكان قد ختم القرآن فجوده على الشيخ المنير على طريقة الشاطبية والدرة، وحبب إليه طلب العلم، فأول ما حفظ متن الآجرومية وسمع سائر الصحيح والشفاء على سيدي علي بن العربي السقاط، وحضر دروس أعيان عصره، واجتهد في التحصيل، ولازم دروس الشيخ الصعيدي في الفقه وغيره من كتب المعقول، وحضر على السيد البليدي شرح السعد على عقائد النسفي، والأربعين النووية، واستمع الموطأ على هلال المغرب وعالمه الشيخ محمد التاودي بن سودة بالجامع الأزهر سنة وروده بقصد الحج، ولازم المرحوم حسنا الجبرتي سنين، وتلقى عنه الفقه الحنفي وغير ذلك من الفنون كالهيئة والهندسة والفلكيات والأوفاق والحكمة، بواسطة تلميذه الشيخ محمد بن إسماعيل النفراوي المالكي، وكتب له إجازة مثبتة في برنامج شيوخه، وحضر الشيخ يوسف الحفني في آداب البحث وبانت سعاد، وعلى الشيخ محمد الحفني أخيه مجالس من الجامع الصغير والشمائل والنجم الغيطي في المولد، وعلى الشيخ أحمد الجوهري في شرح الجوهرة للشيخ عبد السلام، وسمع منه المسلسل بالأولية، وتلقى عنه طريق الشاذلية من سلسلة مولاي عبد الله الشريف، وشملته إجازة الشيخ الملوي، وتلقى(1/1267)
عنه مسائل في أواخر أيام انقطاعه بالمنزل، ومهر وأنجب وتصدر لإلقاء الدروس في حياة شيوخه، ونما أمره واشتهر فضله، خصوصاً بعد موت أشياخه، وشاع ذكره في الآفاق وخصوصاً بلاد المغرب، وتأتيه الصلات من سلطان المغرب وتلك النواحي في كل عام، ووفد عليه الطالبون للأخذ عنه والتلقي منه، وتوجه في بعض المقتضيات إلى دار السلطنة، وألقى هناك دروساً حضره فيها علماؤهم، وشهدوا بفضله واستجازوه فأجازهم بما هو مجاز به من أشياخه.
وصنف عدة مؤلفات اشتهرت بأيدي الطلبة وهي في غاية التحرير، منها مصنف في فقه مذهبه سماه المجموع حاذى به مختصر خليل، جمع فيه الراجح في المذهب وشرحه شرحاً نفيساً، وقد صار كل منهما مقبولاً في أيام شيخه العدوي، حتى كان إذا توقف شيخه في موضع يقول هاتوا مختصر الأمير، وهي منقبة شريفة، وشرح مختصر خليل، وحاشية على المغني لابن هشام، وحاشية على الشيخ عبد الباقي على المختصر، وحاشية على الشيخ عبد السلام على الجوهرة، وحاشية على شرح الشذور لابن هشام، وحاشية على الأزهرية، وحاشية على الشنشوري على الرحيبة في الفرائض، وحواش على المعراج، وحاشية على شرح الملوي على السمرقندية، ومؤلف سماه النيرين فيما يتعلق بالقدرتين، وإتحاف الإنس في الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس، ورفع التلبيس عما يسأل به ابن خميس، وثمر الثمام في شرح آداب الفهم والإفهام، وحاشية على المجموع، وتفسير سورة القدر. ومن نظمه قوله متغزلاً:
أيها السيد المدلل ضاعت ... في الهوى ضيعتي وأنسيت نسكي
يا لك الله لا تمل لسوائي ... وتحكم ولو بما فيه فتكي
وانظر الحق في علو غناه ... كل شيء يمحوه غير الشرك(1/1268)
يا حسن لون الشمس عند غروبها ... في روض أنس نزهة للأنفس
فكأنه وكأنه في ناظري ... ذهب يجول على بساط سندس
وله أيضاً
تخيلت أن الشمس والبحر تحتها ... وقد بسطت منها عليه بوارق
مليح أتى المرآة ينظر وجهه ... ففي وجهها من وجهه الضوء دافق
وله أيضاً:
يا مالك القلب من بين الملاح وإن ... توهم الغير أن القلب مشترك
إني أغار على حظي لديك فغر ... أيضاً على قلب صب فيك مرتبك
وقل لهم ينتهوا عما تسوله ... نفوس سومهم طرق الردى سلكوا
توهموا أنهم حلوا وقد ملكوا ... ويعلم الله ما حلوا وما ملكوا
يا سيد الكل يا قطب الجمال ومن ... في دولة الحسن يروى أنه الملك
ما كان قلبي يهوى الغير يا أملي ... فابعث رميمي إذ أهل الهوى هلكوا
واسقط البين وارفع حجب شأنك لي ... ليشتفى خاطر الفكر يعترك
بلطف ذاتك لا تقطع رجاء فتى ... على عيوب له بالعهد يمتسك
وله أيضاً
دع الدنيا فليس بها سرور ... يتم ولا من الأحزان تسلم
ونفرض أنه قد تم فرضاً ... فغم زواله أمر محتم
فكن فيها غريباً ثم عبي ... إلى دار البقا ما فيه تغنم
وإن لا بد من لهو فلهو ... لشيء نافع والله أعلم
وله غير ذلك من النظم المليح والذوق الصحيح، واللسان الفصيح، وكان رحمه الله رقيق القلب لطيف المزاج، ينزعج طبعه من غير انزعاج، يكاد الوهم يؤلمه وسماع المنفر يوهنه ويسقمه. ولا زال تضعف قواه وتتراخى أعضاه وتزيد شكواه، ويتراخى ويتعلل ويزداد أنينه ومرضه ويتحمل،(1/1269)
وداعي المنون يدعوه ولا يدعه ويرفعه على كاهل الرحيل ولا يضعه. إلى أن توفي يوم الاثنين عاشر ذي القعدة الحرام سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف من هجرة سيد الأنام، وكان له مشهد قد انتهى فيه الاجتماع والازدحام، ودفن في الصحراء بجوار مدفن الشيخ عبد الوهاب العفيفي بالقرب من عمارة السلطان قايتباي وكثر عليه الأسف ولم يكن مثله فيمن خلف.
الشيخ محمد الشنواني الأزهري الشافعي
حبر العلماء الأعلام وبحر الفضلاء الفخام، شيخ الإسلام وعمدة الأنام، الفقيه العلامة والنحرير الفهامة، شيخ الجامع الأزهر والمكان الأبهى الأنور، النحوي الأصولي الفقيه والمحدث المفسر النبيه، حضر الأشياخ الأوائل والسادة الأفاضل، كالشيخ فارس وكالصعيدي والدردير والقرماوي، وتفقه على الشيخ عيسى البراوي، ولازم دروسه وبه تخرج، وأقرأ الدروس وأفاد الطلبة بالجامع المعروف بالفاكهاني، مهذب النفس كثير التواضع والانكسار والبشاشة لكل أحد من الناس، ويشمر ثيابه ويخدم بنفسه ويكنس الجامع ويسرج القناديل.
ولما توفي الشيخ عبد الله الشرقاوي اختاروه للمشيخة فامتنع وهرب إلى مصر العتيقة، فأحضروه قهراً عنه وولوه المشيخة. ولم يزل ملازماً لجامع الفاكهاني كعادته وأقبلت عليه الدنيا فلم يتهن بها. واعترته الأمراض ولازمه داء الزحير أشهراً، ثم عوفي ثم لازمته الحمى وانقطع بها في داره، إلى أن توفي يوم الأربعاء رابع عشرين محرم الحرام سنة(1/1270)
ألف ومائتين وثلاث وثلاثين، وصلى عليه في الأزهر في مشهد عظيم، ودفن في تربة المجاورين.
وله عدة تآليف منها حاشية جليلة على شرح الشيخ عبد السلام على الجوهرة وتقلد مشيخة الأزهر بعده الشيخ محمد بن الشيخ أحمد العروسي من غير معارض ولا منازع.
الشيخ محمد بن أحمد بن محمد المعروف بالدواخلي الأزهري الشافعي
العمدة الكامل والعالم العامل. ولد بمصر وتربى في حجر أبيه وحفظ القرآن واجتهد في طلب العلم، وحضر الأشياخ من أهل وقته كالشيخ محمد عرفة الدسوقي والشيخ مصطفى الصاوي والشيخ عبد الله الشرقاوي. وبرع في المعقول والمنقول، وأقرأ الدروس من سائر الفنون، وتداخل في قضايا الدعاوى بين الناس، واشتهر ذكره وعلا قدره، وكان له لدنياه والمال والجاه ميل كثير، ولا يقنع بالكثير فضلاً عن اليسير، وتقلد النقابة بعد موت الشيخ محمد بن وفا، وركب الخيول ولبس التاج الكبير، ومشى أمامه الخدم والمقدمون، وازدحم بيته بأرباب الدعاوى والتشكيات، وعمر داره وأنشأ تجاهها جامعاً عظيماً، وداخله الغرور، وظن أن الدهر يديم له المسرة والحبور.
فأول ما ابتدأه الدهر من نكباته أن مات ولده أحمد، وقد ناهز البلوغ ولم يكن له من الذكور غيره، فاختل نظام معاشه ولازمه الكدر ودفنه في جامعه الذي بناه تجاه بيته، وبنى عليه بناء ومقصورة مثل المقامات التي تقصد للزيارة، ثم إنه التفت إلى مناصبه، ورجع إلى سلوك مذاهبه، وخالط الوزراء وتداخل مع الكبراء، إلى أن صار من أعيان(1/1271)
الرؤوس ورؤوس الأعيان، يشار إليه، ويعتمد في جليل الأمور عليه، ويفصل القضايا والخصومة، ولا يعارضه الباشا ولا غيره من ذوي الحكومة. وتطاول على رؤوس الكتبة الأقباط. وسلك في غروره جهة الإفراط، إلى أن ضاق صدر الولي منه وأعرض بالكلية عنه، وأمر بنفيه إلى دسوق. وذلك سنة إحدى وثلاثين فأقام بها أشهراً، ثم توجه بشفاعة السيد المحروقي إلى المحلة الكبرى، فلم يزل بها منحرف المزاج مستعملاً للعلاج، مع كونه يراجع السيد المحروقي في أن يشفع له عند الباشا في الإذن بالحج أو بالعود إلى مصر، فلم يؤذن له، ولم يزل في المحلة إلى أن توفي في منتصف شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف، رحمه الله تعالى وعفا عنا وعنه بمنه وكرمه.
الشيخ محمد سعيد بن إبراهيم الحموي
العلامة الفاضل والجهبذ الكامل، وله في حماة سنة ألف ومائة وخمس وخمسين، وبعد بلوغه أكب على طلب العلم الشريف ذي المقام السامي المنيف، إلى أن حصل منه مطلوبه واقتطف من ثمراته مرغوبه، وقد أخذ عن سادات أكابر وقادات على مثلهم تجتنى المفاخر، منهم الشيخ حسن الحموي بن كديمة والشيخ منصور الحلبي الخلوتي وأبو الطيب المغربي المدني والشيخ صالح الجينيني والشيخ عبد الرحمن العيدروسي والشيخ أحمد الملوي والشيخ محمد الحفني والشيخ أحمد الجوهري والشيخ عمر الزاهد الدمياطي والشيخ حسن الرشيدي والشيخ عبد الله الحواط الحموي والشيخ فرج الحموي والشيخ يوسف الفقيه والشيخ عمر الكردي وعلي أفندي الداغستاني والشيخ محمد التافلاتي المغربي وغيرهم.(1/1272)
وأخذ عنه غب أن توطن دمشق الشام سيدي من لنا إليه شريف القرابة، السيد محمد عابدين، وأجازه بما تجوز له روايته عن مشايخه المرقومين وغيرهم. ولا زال على إفادته واستفادته وتقواه وطاعته، إلى أن توفي خامس عشر ذي الحجة الحرام، سنة ألف ومائتين وست وثلاثين رحمه الله تعالى.
الشيخ محمد بن محمد الجديني الشافعي خطيب قرية كفرسوسيا
فقيه زاهد وفقير صابر عابد، ذو تقوى وصلاح وسكينة ونجاح، نشأ في العلم والطلب ولم ينظر في تحصيل الدنيا إلى سبب، قرأ على كثير من العلماء والسادة الفضلاء، لكنه لازم شيخنا العلامة الفاضل والجهبذ الكامل، الشيخ محمد بن مصطفى الطنطاوي، فانتفع به كثيراً إلى أن صار حقيقاً بالعلم وجديراً، وحينما فصل الشيخ سعيد الخالدي من خطابة القرية المرقومة تولى خطابتها المترجم، فترقى على سلفه وتقدم، وكان كثير التردد إلي ويعتمد في بعض أموره المهمة علي، وقرأ عندي رسائل الربع المقنطر والمجيب إلى أن صار به كما رام وأحب، وكان فقير الحال ظاهر اللطف والجمال، جميل العشرة نظيف القشرة. ولم يزل على منهاجه القويم إلى أن خطبته المنية إلى جوار الكريم، فتوفي ليلة الجمعة ثاني وعشرين من ذي القعدة الحرام سنة ألف وثلاثمائة وأربع. وفي ليلة الجمعة صلى العشاء بالجماعة بغاية الاعتدال، فتوعك في الليل قليلاً ومات في الحال، رحمه الله تعالى.
الشيخ محمد بن مصطفى بن محمد الأنطاكي الحنفي السمرجي
العالم العامل، الفقيه الورع المتدين، الفاضل الكامل الزاهد العابد المتفنن، ولد سنة سبع وعشرين ومائة وألف، قرأ على المحقق الشيخ حسن(1/1273)
الأنطاكي، وأبي عبد الله محمودة بن محمد الأنطاكي ولازمه كثيراً وسمع عليه الحديث وغيره وأخذ عنه وانتفع به، وأجازه هو وغيره من أهل العصر، بخطوطهم، وفاق وتنبل وحصل الفضل الذي لا يجحد، وبرع في الفقه والأصول والفروع، ولازم العلماء واستفاد، ثم درس وأقرأ وأفاد، وكتب مسائل الفتوى وراجعته الناس، وأقبلت عليه العلماء والمفتون، وعليه قرأ جماعة من ذوي الطلب، وكان كثير الفضل والديانة، والزهادة والعبادة والتقوى وحسن السلوك، وجمال اللطف والمعاشرة، توفي سنة ألف ومائتين وبضع سنين رحمه الله تعالى.
الشيخ محمد بن عثمان بن محمد بن عثمان الحلبي الحنفي الشماع
فرد زمانه وعالم عصره وأوانه، زبدة الأفاضل وخزانة الفضائل، الفقيه الفرضي البياني، والأصولي المنطقي المعاني للمعاني، والمحدث الخبير والناقد الشهير.
ولد بحلب سنة أربع ومائة وألف، وقرأ غالب الفنون على البرهان إبراهيم بن مصطفى الحلبي المداري، وأبي عبد الله جابر بن عودة الحوراني الشافعي، وأبي المحاسن بن حسين الدمشقي الحسيني المفتي، وأبي عبد الله محمد بن الحسن بن همات الدمشقي الحنفي وأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الطرابلوسي ثم الحلبي وتفقه عليه، وتخرج في المسائل الشرعية والعقلية، وقرأ على غيرهم من الأجلاء، وروى بالسند العالي عن المعمر المسند الكبير زين الدين بن عبد اللطيف الشعيفي الجلوصي كاتب الفتوى الحنفي المتوفى سنة سبع وعشرين ومائة وألف، وكتب مسائل الفتوى وراجعه المستفتون واعتمدوه واعتبره العلماء المفتون. ولم يزل محترم القدر مرفوع الرتبة مشهور الذكر، علي المقام سني الاحترام، حسن الإفادة وافر العبادة صادق الزاهدة، لا يشغله هواه عن الإقبال على مولاه، إلى أن توفي سنة ومائتين وأربع رحمه الله تعالى ونفعنا به.(1/1274)
الشيخ محمد بن حجازي بن محمد الحلبي الشافعي
العالم الفاضل المتقن والعامل الجهبذ المتفنن، النظار الأصولي الفقيه، والنحوي الصرفي الجدلي النبيه.
ولد سنة إحدى وأربعين ومائة وألف، واشتغل بالأخذ والقراءة، فقرأء على أبي الثناء محمود بن شعبان البزستاني الحنفي، وأبي عبد الله محمد بن كمال الدين الكبيسي، ولازم تاج الدين محمد بن طه العقاد وبه تخرج في أكثر العلوم، وسمع منه أكثر صحيح البخاري وشيئاً من صحيح مسلم وغيرهما من كتب الحديث، وأخذ عنه القراءات من طريق الشاطبية وانتفع به، وأخذها أيضاَ عن أبي عبد اللطيف محمد بن مصطفى البصري شيخ القراء بحلب، وأبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المصري، وقرأ على أبي السعادات طه بن الجبريني شيئاً من أصول الحديث وشيئاً من صحيح البخاري، وحضره في دروسه الفقهيه، وقرأ المنطق وأخذه عن الشهاب أحمد بن إبراهيم الكردي الشافعي مدرس الأحمدية بحلب، وقرأ مختصر في المعاني والبيان على أبي الحسن علي بن إبراهيم العطار وألفية الأصول للسيوطي، وشرح السيراجية، وقرأ على أبي محمد عبد القادر الديري المنهاج بطرفيه، وشرح المنهج للقاضي زكريا الأنصاري وقرأ الكثير على الأجلاء وسمع منهم وأتقن وفضل ومهر ونبل، ودرس وأفاد، وأقرأ جماعة كثيرين وأخذوا عنه وما منهم إلا من انتفع به واستفاد، وكان من العلماء المشهورين والفضلاء المذكورين، وكان يحترف ويأكل من شغله، ولا يقبل من أحد إلا ما دعت الضرورة إليه، يغلب على حاله الزهد والعفاف والرضى برزق الكفاف. وكان قليل الإختلاط بغيره لا يألف إلا ما يفوز منه بخيره، كثير العبادة والتقوى شديد الإقبال على عالم السر والنجوى، دائم التفكر بالله لا يشغله عنه سواه.(1/1275)
مات بعد سنة خمس ومائتين وألف.
الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن فتيان بن محمد بن فتيان بن عثمان الحلبي الشافعي العقيلي
الخلوتي العالم الفقيه الفاضل والألمعي اللوذعي الكامل، والعامل الهمام والجهبذ الإمام.
ولد سنة سبع وأربعين ومائة وألف وقرأ القرآن العظيم وحفظه على شيخ القراء الشمس محمد بن مصطفى البصيري الحلبي، وعلى والده عبد اللطيف المقري، والشهاب أحمد البصراوي وغيرهم. وتفقه على أبي محمد عبد الهادي المصري، وعلى الشيخ أبي عبد الوهاب بن أحمد المصري وقرأ عليه التحرير والشربيني، وقرأ المنهاج والمنهج وغيره من كتب المذهب على أبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري. ولما قدم حلب أبو عبد الله محمد بن محمد الطيب الفلسي المغربي وعقد مجلس الإقراء والتحديث، سمع منه الصحيح للإمام البخاري وأجاز له، وسمع الشمائل على أبي محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي وأجاز له أيضاً، وسمع أيضاً على أبي اليمن محمد بن طه العقاد وغيره. وقرأ في العربية على أبي العدل قاسم بن علي التونسي المالكي وعلى أبي عبد الرحمن محمد بن أحمد المكتبي وأخذ عنه بعض الطرائق، وقرأ في الفرائض على أبي الفضيل عثمان بن عبد الرحمن العقيلي(1/1276)
الحلبي، وأجاز له غالب شيوخه بالإجازة العامة، وأخذ الطريقة الخلوتية عن أبي الفتوح محمد كمال الدين بن مصطفى البكري الصديقي، والرفاعية عن قريبه الشهاب أحمد بن محلول الزنار والطريقة العقيلية عن أقاربه عن أسلافهم، وتفوق وفضل وتفقه ونبل، ودرس في جامع التوبة خارج باب النيرب، وأقام الذكر والتوحيد في مقام ولي الله تعالى جاكير، وكان بحلب من المشايخ المعروفين بالفضل والصلاح، وكان من جملة من أخذ عن المترجم وانتفع به وبعلومه مفتي دمشق الشام محمد خليل أفندي المرادي، وأجازه بما تجوز له روايته عن مشايخه، وذلك سنة خمس ومائتين وألف حين كان في حلب. وما زال المترجم على حالة صالحة واستقامة راجحة، إلى أن دعاه داعي المنون إلى دار من أمره بين الكاف والنون، وذلك سنة ألف ومائتين.
الشيخ محمد بن عبد الكريم بن أحمد بن محمد علوان
بن عبد الله الحلبي الشافعي الشهير كأسلافه بالشراباتي مفتي الشافعية بحلب.
العالم المحدث الفقيه البركة الورع الصالح أحد الفقهاء المشهورين من المتأخرين.
مولده سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف، واشتغل بالقراءة والتلقي والسماع والاستفادة فقرأ على والده وعلى أبي السعادات طه بن مهنا بن يوسف(1/1277)
الجبريني وغيرهم، وسمع صحيح البخاري على أبي عبد الله محمد بن صالح بن رجب المواهبي، وأخذ عن محمد بن محمد الطيب المغربي الفاسي المالكي عند قدومه إلى حلب وسمع منه، ومن أبي عبد الله محمد بن محمد التافلاتي المغربي، وأجاز له الأستاذ أبو الإرشاد مصطفى بن كمال الدين البكري الصديقي الدمشقي، وجمال الدين محمد بن أحمد عقيلة المكي وأبو البركات عبد الله بن الحسين السويدي البغدادي عند دخولهم حلب، وسمع منهم حديث الرحمة وأجازوه مع أخيه مصطفى، وسمع الكثير منهم، وحصل الفضل الذي لا ينكر ودرس وأقرأ الفقه والحديث وغالب الفنون.
وكان يستقيم بجامع عبيس بساحة بزة وأفتى مدة سنين، وصار رئيس الشافعية بحلب، وتردد إليه الناس للاستفتاء، وكان متواضعاً صالحاً وعالماً فاضلاً، لين الجانب حسن المناقب، جميل المعاشرة حسن المحاضرة. توفي رحمه الله تعالى يوم السبت خامس عشر شوال سنة ثلاث ومائتين وألف.
الشيخ محمد بن محمد الأريحاوي الحلبي الشافعي
العالم المحقق العامل الإمام المدقق الكامل. مولده بأريحا سنة تسع وثلاثين ومائة وألف، وقرأ بها بعض المقدمات، وارتحل إلى مصر وأقام بها ولازم الشيوخ، وقرأ على الكثير معظم الفنون، واشتغل بالأخذ والتلقي والسماع والتحصيل، وأخذ عن كثير، منهم النجم الحفناوي، والشهاب أحمد بن عبد الفتاح الملوي، وأبو علي الحسن بن أحمد المدابغي، وأبو مهدي عيسى البراوي وغيرهم، ودأب واجتهد حتى أتقن وفضل ومهر،(1/1278)
وأذن له شيوخه بالإفتاء والتدريس، وأجازوا له، ثم عاد إلى حلب بفضل وافر، وأقام بها ينشر الفضائل ويفيد الأفاضل، وتصدر للإفادة والإقراء، ولازمه جماعة كثيرون وانتفعوا به، ثم ضرب عن ذلك صفحاً ورام ما هو أعظم ربحاً، واعتزل الناس واشتغل بالعبادة والسكون، وانزوى في داره مع الورع والزهد التام، واعتقده الناس وأقبلوا عليه، وكانت فضائله مشهورة وأحواله مذكورة. ولم يزل على حالته الحسنة حتى مات في صفر سنة أربع ومائتين وألف ودفن بتربة الشيخ أبي نمير خارج باب قنسرين.
الشيخ محمد مكي بن موسى بن عبد الكريم الحلبي الحنفي
العالم الفقيه الأصولي المقري الضابط الصالح أبو الإتقان، أحد القراء والحفاظ المشهورين، والفضلاء البارعين بحلب.
مولده بها سنة خمس وأربعين ومائة وألف، وكان جده من دمشق وارتحل إلى حلب، ومات بها قرأ القرآن العظيم وهو ابن ثمان عشرة سنة، وحفظه على الأجلاء من القراء، كالشمس البصري ومحمد بن عمر الشاهين وعبد الغني المقري بمحلة الجديدة وعلي المصري وأتقن الحفظ وضبطه، وحفظ الشاطبية وقرأ السبعة من طريقها على الشمس البصري شيخ القراء المذكور، وشرع بالأخذ والاشتغال بالعلوم، فقرأ الفقه والأصول والعقائد والمنطق والنحو والصرف والمعاني والبيان وغالب الفنون على جماعة، وأسمع الحديث على جمع، منهم أبو عبد القادر محمد بن صالح بن رجب المواهبي، قرأ عليه الدرر وشرح النخبة في أصول الحديث والتوضيح لابن هشام وشرح الألفية للأشموني والشفاء للقاضي عياض، وعلى والده عماد الدين إسماعيل أكثر من نصف الهداية، وشرح الجوهرة في التوحيد، وسمع عليه(1/1279)
صحيح البخاري، ومنهم قاسم بن محمد النجار قرأ عليه عدة كتب فقهية، وأبو الحسن علي بن إبراهيم العطار قرأ عليه الدر المختار للحصكفي والقدوري، وطالع عليه كتباً كثيرة كالبحر والذخيرة وشرح الكنز لابن سلطان والبدايع، وقرأ عليه النصف الأول من الهداية أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الطرابلسي، وأخذ الأصول عن محمد حاجي بن علي الكليسي مفتي الحنفية بحلب، وقرأ على أبي محمد يوسف بن أحمد الجابري وعلى أبي الثناء محمود بن سفيان البرستاني وأبي محمد عبد الرحمن بن مصطفى البكفالوني والشيخ رضي الدين بن عثمان الشماع.
ودخل دمشق وسكن المدرسة المرادية في جوار الجامع الأموي، ولازم زين الدين مصطفى بن محمد بن رحمة الله الأيوبي الدمشقي، وحفظ عليه نصف الكنز، ثم لما عاد إلى حلب أتم حفظه على شيخه محمد المواهبي، وأجاز له غالب شيوخه بالإجازة العامة، وكتبوا له خطوطهم، وتفوق وضبط القراءة بوجوهها وحفظها وتلا ورتل القرآن العظيم أحسن ترتيل، وكان من القراء الموصوفين بالتقوى والديانة والفضل. واجتمع بالسيد خليل أفندي المرادي سنة خمس ومائتين وألف، وأخذ كل عن الآخر وأجاز كل الآخر بالإجازة العامة، ولم يزل على حالة صالحة وعبادة راجحة، إلى أن توفي سنة ألف ومائتين ونيف.
الشيخ محمد بن عمر بن شاهين الحلبي الحنفي الرفاعي الشاذلي
شهاب الدين أبو الفضل، الصوفي الزاهد الورع، العالم الفاضل المقرئ، أحد الأجلاء من القراء والمشايخ النبلاء.
مولده سنة ست وثلاثين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه(1/1280)
على أخيه عبد القادر، ثم جمع على أبيه وعلى الشمس البصيري بالروايات السبع وقرأ القراءات وأتقن وضبط، وقرأ الحديث والفقه على أبي محمد عبد الوهاب بن أحمد المصري الأزهري نزيل حلب، وأخذ عنه الطريقة الشاذلية، وتخلف بعده. وقرأ على أبي السعادات طه بن محمد الجبريني وأبي محمد عبد الرحمن بن مصطفى البكفالوني وغيرهم، وأخذ الطريقة الرفاعية عن خير الله بن أبي بكر بن الصياد الرفاعي، والطريقة القادرية عن أبي علي عمر بن ياسين بن عبد الرزاق الكيلاني الحموي، والطريقة الخلوتية عن أبي محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد البخشي. وأجازه الجميع وكتبوا له خطوطهم، وخلفوه وأذنوا له بالإرشاد، ولازم الطريقة الشاذلية بعد شيخه عبد الوهاب المذكور، وأقام الأذكار والتوحيد، واختلى كعادتهم، وأقرأ القرآن العظيم بالروايات، وأخذ عنه القراآت وبقية الفنون أناس كثيرون وانتفعوا به، وأخذ عنه الطريق جمع كثير. وبالجملة فقد كان من خيار الناس وعلمائهم وفضلائهم، توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين ونيف.
السيد محمد بن عبد الله الخالدي المالكي الجزائري
العالم الأستاذ والعمدة الملاذ، ترجمه ولده الفاضل الشيخ محمد، وقد نقلت من خطه بأنه يتصل نسب المترجم بسيدنا الحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ولد عام ألف ومائتين وثمانية عشر في جبل هلالة من جزائر المغرب، ونشأ بها وقرأ القرآن على والده، وكان رحمه الله تعالى عالماً عاملاً، تقياً فاضلاً، فلما حفظ القرآن وأتقنه مجوداً أبدع إتقان، توجه إلى بلدة مازونة سنة ألف ومائتين وخمس وأربعين واشتغل بالعلوم الشرعية، وحفظ(1/1281)
متن الشيخ خليل في مذهب الإمام مالك وقرأ بعض شروحه، وبعدها توجه إلى قسنطينة سنة ألف ومائتين واثنتين وأربعين، وهي بلدة عظيمة بينها وبين مدينة الجزائر نحو خمس مراحل لطلب العلوم التي ترام، والأخذ عن علمائها الأعلام، وفي سنة ألف ومائتين وست وأربعين رجع إلى الوطن، واشتغل بنشر العلوم وفصل القضايا بين الناس، كما كان ذلك دأب والده قدس الله سره.
وفي سنة اثنتين وخمسين توجه إلى أداء فريضة الحج الشريف، وجاور في المدينة المنورة سنتين، ثم قدم إلى مصر القاهرة للمجاورة في جامعها الأزهر، فأخذ عن أكابر علمائها المحققين كشيخ الإسلام العلامة الشيخ إبراهيم الباجوري والشيخ محمد عليش المالكي والشيخ السقا والشيخ المبلط وغيرهم، وأجازه كل منهم بما حواه ثبت الشيخ محمد الأمير أو صحت له روايته عن غيره إجازة عامة، وفي عام ثمانية وستين قصد دمشق الشام وجعلها له دار مقام، وعكف على التدريس في مدرسة دار الحديث، في المنقول والمعقول، وتصدر للإفتاء، وفصل القضايا بين المهاجرين من المغاربة بأمر سيدنا المرحوم الأمير السيد عبد القادر الحسني، وكان من قبل قد أخذ الطريق الخلوتية، وصاحب جملة من أهل الله تعالى منهم المرحوم سيدي علي بن عيسى البكري الخلوتي في بلاد الغرب، ولما توجه إلى مكة المشرفة تلقن الطريقة السنوسية الإدريسية على سيدي الشيخ محمد السنوسي، وفي الديار الشامية لازم سيدي الشيخ محمد المبارك البكري الخلوتي، حتى توفي قدس الله سره العزيز، ثم اشتغل بالطريقة الشاذلية وصحب بعض أهلها كالأمير السيد عبد القادر الجزائري، ولم يصده الاشتغال بالعلم الظاهر عن المجاهدة في علم الله تعالى، وكان لي معه حضور واجتماع، ومذاكرة وملاطفة وعشرة قوية، ومحبة كثيرة وتودد غزير، وكان عابداً صالحاً تقياً فالحاً، مكباً على العلم والعمل، وكان مقيماً في مدرسة دار الحديث في العصرونية من(1/1282)
دمشق المحمية، في الصف الشرقي من الطبقة السفلى، وكان كثير العزلة عن الناس مقيماً على المجاهدة والإقبال على ما يعنيه، إلى أن خطبته المنية لدار نوال الأمنية، في أواخر جمادى الثانية سنة ألف ومائتين وثلاث وثمانين في دمشق ودفن بها.
الشيخ محمد بن المرحوم الشيخ حسن القبرستاني الشافعي
مولده في قبر الست سنة ألف ومائتين وعشرين، والنسبة إليها قبرستاني على غير قياس، وأصل اسمها قبل دفن الست بها راوية، وهي قرية من جهة الشرق إلى القبلة من الشام، بينها وبين الشام نحو ثلاثة أميال، وقد دفن في هذه القرية السيدة زينب أم كلثوم بنت الإمام علي بن أبي طالب، أمها فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عمر رضي الله تعالى عنه وأصدقها أربعين ألفاً، ولدت له زيداً الملقب بذي الهلالين، ولم يبق للإمام عمر منها ولد، ودفنت بهذه القرية وسميت القرية باسمها، وقبرها في وسط القرية، داخل جامع عظيم معمور بالعمارة اللطيفة، وله شهرة عظيمة يقصد في كل وقت للزيارة، وينذر لها في الحاجات وما ذكره في محاسن الشام من أن قبرها الشريف في باب الصغير، غير معروف عند أهل دمشق، وكان المترجم المذكور خطيباً وإماماً في ذلك الجامع، وكان عالماً أديباً لطيفاً صاحب همة عالية، وكان قد قرأ على والدي التحفة لابن حجر الهيثمي من أولها إلى آخرها، وقرأ عليه أيضاً عدة فنون كالنحو والتوحيد والمعاني والبيان والفرائض والحساب وغير ذلك، وكان في كل يوم يحضر من القرية المرقومة إلى الشام(1/1283)
لأجل الدرس ولا يقطع في صيف ولا في شتاء ولا في خريف ولا في ربيع، حتى أنه ربما يكون في بعض أيامه منحرف المزاج ولا يترك الدرس، وكان لطيف المعاشرة حسن العبارة كريماً في بيته بشوشاً كثير المذاكرة في المسائل العلمية خصوصاً في مسائل الفرائض والمناسخات، فإنه كان صاحب ولع عظيم في ذلك. وكان حسن الأخلاق طيب الأعراق، متواضعاً منقطعاً للطلب والعبادة والمطالعة والعمل، وكان يعتمد عليه في الاستفتاء فكانت أهالي القرايا القريبة إليه من أهل المرجين والغوطة يحضرون إليه ويعتمدون عليه، ويسألونه عن قضاياهم، ويأخذون منه الفتوى لإقناع خصمهم، فيقنع بها بعد تحققها ولا يردها. وكان لا يفتي في مسئلة سواء كانت مما يتعلق بالعبادات أو المعاملات إلا بعد المراجعة والوقوف على النص.
وبالجملة فإنه كان قليل المثال خصوصاً في القرايا فإن وجود مثله نادر، وما زال على عبادته وتقواه وإقباله على مولاه في سره ونجواه، وتمسكه بالإفادة والاستفادة وسلوكه في مناهج السادة القادة، إلى أن دعاه إلى الآخرة والدار الفاخرة، هادم اللذات ومفرق الجماعات. وذلك قريباً من سنة ألف ومائتين وثمانين، ودفن هناك في القرية وقبره ظاهر معروف مشهور.
الشيخ محمد بن الشيخ مصطفى بن الشيخ يوسف بن الشيخ علي الطنطاوي الأزهري
إنسان طرف الفضل ومقلة مآقيه، وفارع هضبة البيان وراقي مراقيه، زرت على الفضل أطوافه: وما اهتاجت إلا للكمال أشواقه، ترقى في معارج العلوم إلى أن استوى على عرش المنطوق والمفهوم، فلا ريب أنه في النباهة آية، لم تفته من مطالبه غاية، فكل خاطر ينفد إلا خاطره، وكل سحاب ينفد إلا سحاب يسح من فكره ماطره. تحلى بالصيانة والزهد،(1/1284)
وبذل في الإقبال على الديانة الجهد، أن أطلق لسانه في التقرير والبيان، تذكرت قول حجة الإسلام: ليس في الإمكان، وإن جلس في مجلس عمه السرور، وخاله الحاضرون أنه من اللطف والرقة مفطور. له من النباهة مكان مكين، يطلع له من كل ناحية على جيش البلاغة كمين، ومع وقاره الذي يعرف، يبدو له من النكات ما يستملح ويستطرف.
ولد في طنطا سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف، ومات أبوه وعمره أربع سنين، وماتت أمه وعمره ست سنين، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، على الشيخ محمد الشبرويشي، ثم دخل جامع السيد البدوي للطلب، فقرأ على السيد محمد أبي النجا المشهور صاحب الحاشية والشيخ عبد الوهاب بركات والشيخ علي حمزة مدة، وانتفع بهم وأجازوه بالإجازة العامة، ثم سافر مع أخيه الأكبر إلى بلاد الروم وبلاد الترك، ثم دخل حلب وقرأ على الشيخ أحمد الترمنيني وغيره، وأجازوه، ثم رحل إلى الشام سنة ألف ومائتين وخمس وخمسين، وقرأ على الشيخ سعيد الحلبي والشيخ عبد الرحمن الطيبي والشيخ عبد الرحمن الكزبري، وأخذ طريقة النقشية على المرشد الكامل الشيخ محمد الخاني الخالدي، فانتفع به حتى صار إذا ذهب إلى مكان يجعله خليفة عنه، ثم إنه في سنة ألف ومائتين وستين عاد إلى مصر، ودخل الجامع الأزهر، وانقطع للطلب بهمة وجد واجتهاد، فقرأ على شيخ الأوان الشيخ إبراهيم الباجوري والشيخ إبراهيم السقا والشيخ عليش المغربي والشيخ مصطفى البلتاني والشيخ مصطفى المبلط والشيخ محمد الخضري، وأكثر قراءته عليه في العلوم الغريبة كالميقات والفلك والجبر والمقابلة، إلى أن صار إماماً في العلوم العقلية والنقلية، مع شدة ذكائه وحفظه، ثم رجع إلى الشام واستوطن دمشق في محلة الميدان سنة ألف ومائتين وخمس وستين، وجلس في حجرة في جامع سيدنا صهيب الرومي،(1/1285)
فأقبل عليه الطلبة، ولم يزل يقرئ الطالبين إلى سنة ألف ومائتين واثنتين وسبعين، توفي والدي فحضرت عنده في دروسه كلها، ولم أزل أقرأ عليه إلى سنة ألف ومائتين وثمان وسبعين.
رحل المترجم المرقوم إلى داخل البلد بأمر حضرة الأمير السيد عبد القادر الجزائري، فاستأجر له داراً وعين له معاشاً، وأرسل إليه جميع أولاده للقراءة عنده، فكان يقرؤهم ويقرئ غيرهم في حجرته في مدرسة البدرقية، وكان مع ذلك يشتغل بحساب جداول مما يتعلق بالجيوب وغيرها، مما له تعلق بعلم الفلك والميقات والربع المقنطر والمجيب والاسطرلاب، وقد قرأت عليه جملة رسائل مما يتعلق بذلك.
وفي سنة ألف ومائتين وتسعين حصل خلل في بسيطة منارة جامع بني أمية المسماة بمأذنة العروس، فحسب المترجم سائر أعمالها وجعل لها جداول بعدة الأعمال، ورسم غيرها وأزالها، ووضع بسيطته في مكانها، وكنت في معيته حين رسمها من ابتدائها إلى انتهائها. وله أيضاً رسالة حسبها في رسم الربع المقنطر، لعرض دمشق لحل وقد رسمت عدة أرباع على حسابها. والحاصل أنه في كل علم عمدة ولكل مشكلة عدة، رقيق القلب رحيم، سخي الكف كريم، غير أن دهره قد عانده وعاكسه في آخر أمره وما ساعده، وهذا من دأبه مع أهل الفضائل، وذوي المآثر والشمائل، إلا أن المترجم يقابل ذلك بالتسليم والرضى، ويعلم أن ذلك مما جرى به القدر والقضاء. ومن نظمه في مديح راشد باشا والي ولاية سورية لأمر اقتضى ذلك:
أضحت دمشق ببهجة ومسرة ... تزهو على كل البلاد بنضرة
تهفو القلوب إلى محاسنها التي ... خصت بها من بين كل مدينة
وغدت تطاول كل قطر بالذي ... حازته من مخزون أعلى رتبة
فأقرت الأقطار طراً أنها ... من بينها خصت بكل فضيلة(1/1286)
وبلاد سوريا اكتست من حسنها ... حللاً فعمت أهلها بمسرة
لا تعجبوا والي حماها راشد ... بل مرشد والرشد أعلى خلة
ومحمدي الخلق وهو محمد ... ولذاته كل القلوب أحبت
أحيا بها العدل الذي يا طالما ... تاقت له كل النفوس وحنت
والأمن قد عم الأنام جميعهم ... فتقلدوا منه بأوفى منة
شهم تهاب الأسد سطوته فما ... أبقى لأهل الشر أدنى شوكة
وبحلمه وسع البرية كلها ... وله على الأعداء أعظم سطوة
متهلل بالبشر تلقاه وقد ... ملئت قلوب الحلق منه بهيبة
ورث المكارم كابراً عن كابر ... متحلياً منها بأعظم حلية
سحبان عند بيانه هو باقل ... والبحر عند نداه أصغر قطرة
لا عيب فيه غير أن نزيله ... لا ينثني إلا بأعظم غبطة
لما خشيت الظلم لذت ببابه ... فظفرت من عدل بأعلى بغية
وحباني من إكرامه ببشاشة ... ولطافة من غير سابق عرفة
فأخذت في شكري لأنعمه فما ... أديت شكراً واجباً للنعمة
فعلمت أني لا أطيق سوى الدعا ... لجنابه كيما أفوز بسنة
فأقول يا رب العباد أدم له ... عزاً وجنبه لكل كريهة
وافسح لنا في عمره يا ربنا ... وانله ما يرجوه من أمنية
فإليك يا رب البيان قصيدة ... بصفاتكم جملت وإن تك قلت
نرجو القبول تفضلاً وتكرماً ... والعفو عن تقصيرها بالمرة
أبقاك ربي سالماً كل المدى ... ما غرد القمري فوق الأيكة
ومحمد الطنطاوي أنشأ قائلا ... أضحت دمشق ببهجة ومسرة
وله قصائد كثيرة وتقيدات شهيرة، لا يحسن استقصاؤها للخروج عن المطلوب من الاختصار، وكذلك لو أردت أن أذكر عفته وتفصيل تعيين الحكومة له مقادير من المعاش ولم يقبلها ورعاً وزهداً، لأدى المقام إلى(1/1287)
الخروج عن المرام. وفي سنة خمس وثلاثمائة وألف رسم بسيطة في ميدان دمشق الشام في جامع الدقاق المعروف بكريم الدين إلا أن البسيطة التي في جامع بني أمية كان حسابها على الأفق الحقيقي، وأما هذه الثانية فإنها على الأفق المرئي، فلذلك كانت الثانية أحسن من الأولى، لأنها لا تحتاج إلى الالتفات لدقائق الاختلاف، وتم عملها ورسمها وحفرها، وصنع لها مكان في المنارة لوضعها فيه في أول برج الجدي، فعاجله المرض قبل ذلك، وتوفي غرة جمادى الأولى عام ألف وثلاثمائة وستة، ودفن في تربة باب الصغير قرب مدفن سيدنا بلال من جهة الغرب، ولم يتخلف عن جنازته إلا ما ندر من السوقة والأخيار والأعيان، سقى الله ثراه صبيب الرحمة والغفران، وبعد موته بقليل قد وضعت في مكانها، والأوقات تستفاد منها بغاية الضبط، جزاه الله خيراً وأعظم له منة وأجراً.
محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد الأريحاوي الشافعي الشهير كوالده بالعاري أبو عبد الرحمن شمس الدين
الشيخ العالم الفاضل المفتي الفقيه الشهير النسابة خاتمة أجلاء بلدته.
مولده بها سنة ثمان ومائتين وألف، وقرأ على جده ووالده وانتفع بهما وأخذ عنهما الكثير وسمع عليهما، ورحل إلى إدلب وسمع بها الحديث(1/1288)
وغيره عن الشهاب أحمد الكاملي المفتي، وأخذ الطريقة الرفاعية القصيرية عن العماد إسماعيل بن محمد القصيري وحصلت له بركته، وأفتى بأريحا بعد والده وخطب، وأم بجامعها قدر ستين سنة، ودخل عام حجة دمشق الشام، وكان له نظر دقيق وشعر رقيق. فمن شعره محمساً قصيدة الإمام الشيخ عبد الرحيم البرعي:
على الأحباب قلبي إن أنا ... وصرت بهم حليف ضنى معنى
ولما أن بدا ليلي وجنا ... سمعت سويجع الأثلاث إنا
على مطلولة العذبات رنا
وأجرى دمعه من فوق خد ... على إلف له يبكي لفقد
ولما بان منه عظيم وجد ... أجابته مغردةٌ بنجد
وثنت بالإجابة حيث ثنى
فزاد بي الهوا وجفوت قومي ... ولم أعرف متى أمسي ويومي
وكيف العاذلون يرون لومي ... وبرق الأبرقين أطار نومي
وأحرمني طروق الطيف وهنا
وجهز فاتني للحرب جيشاً ... وعقلي زاده التعنيف طيشا
ذكرت مغانيا جمعت قريشاً ... وذكرني الصبا النجدي عيشا
بذات البان ما أحلى وأهنى
وأنعش ذلك التذكار حسي ... وطابت بالتهاني منه نفسي
ومذ راق الطلا وأدير كأسي ... ذكرت أحبتي وديار أنسي
وراجعت الزمان بهم فضنا
وأورثني عقيب البشر هما ... وأقلقني فزدت لذاك غما
وصرت كأنني أسقيت سما ... وكاد القلب أن يسلو فلما
تذكر أبرق الحنان حنا
وعاد له سرور بعد ضيق ... يهيم بساكني وادي العقيق(1/1289)
أنادي لا عدمتك من صديق ... ترفق بي فديتك يا رفيقي
فما عين سويهرة كوسنا
اعلل منك نفسي بالأماني ... لأحظى من حبيبي بالتداني
فساعدني على ما قد دهاني ... وقف بي بالطلول وبالمغاني
لأندب يا فتى طللا ومغنى
فقد يجدي البكا لشج محب ... ويبلغ راحة من غير كرب
فلا تلم الشجي بغير ذنب ... لعل النوح يطفي نار قلب
يقلبه الهوى ظهراً وبطنا
أقام بي السقام فلا تلمني ... ومن عذل فديتك خل عني
فإن الحب فيهم صار فني ... أعيذك ما بليت به فإني
على أثر الفراق شجي معنى
ودمع العين فاض كفيض سحب ... وصرت مولعاً أبكي بندب
قتيل صبابة وأسير حب ... أشارك بالصبابة كل صب
إذا ما الليل جن عليه جنا
متى ألقى السرور مع التهاني ... وأحظى بالذي حقا سباني
وحين سكرت من صافي الدنان ... ولعت بجيرة الحي اليماني
ولوعاً زادني كمداً وحزنا
ومن عظم المصائب لست أدري ... وقد ضيعت في العصيان عمري
ودائي موصل أبداً بدهري ... ولو بسط الهوى العذري عذري
لما قاسيت سنة قيس لبنى
وروحي لم تزل تهوى لربع ... تفرق أهله من بعد جمع
وعادت عبرتي تجري بهمع ... أكاتبهم وقد بعدوا بدمع
فرادى في محاجره ومثنى(1/1290)
وعيني لا يفارقها سهادي ... بعشق أحبتي منعوا رقادي
أضر بي الغرام وكم أنادي ... فلا أدري أهم ملكوا فؤادي
بعقد البيع أم ملكوه رهنا
غدا شغفي بهم سراً وجهراً ... وفي حبي لهم شرفت قدرا
فما لي غيرهم في الكون ذخرا ... ثملت بهم وما خامرت خمرا
معتقة وما دانيت دنا
لزمت حماهم فازددت فضلاً ... لأنهم زكوا فرعاً وأصلا
ومنذ لقيتهم ناديت أهلا ... ألا يا ساجع الأثلات مهلا
ففي الأيام ما أكفى وأهنا
تقرب يا فتى لتنال نفعا ... من المحبوب وانح إليه سرعا
ولا تندم على ما فات قطعا ... تأن ولا تضق بالأمر ذرعا
فكم بالنجح يظفر من تأنى
وكم رزق الإله لكل جان ... واحرم بعض ذي عقل وشان
وليس لحكمه في الملك ثان ... فبالأرزاق يرزق كل عان
بلا سعي ويحرم من تعنى
ومن لم يشكر النعماء فظ ... غليظ الطبع لم ينفعه وعظ
لأن الشكر للأنعام حفظ ... ولم يفت الفتى بالعجز حظ
ولا بالجزم يدرك من تمنى
فلا تعجل ولازم للتأني ... تنل ما تشتهيه من التمني
وخذ مني النصيحة واحك عني ... وإن تر ما ترى مني فإني
لهجت بمنصب الحسن المثنى
أحاول مدح من جا بالمثاني ... ومن هو عمدتي فيما دهاني
مدى الأيام في طول الزمان ... لساني ينتقي زبد المعاني
ويودعهن شمس الكون ضمنا(1/1291)
ومالي مسعف عند المصير ... سوى الماحي المظلل في الهجير
به ألقى النجاة وكل خير ... ومدح محمد غرضي وغيري
إذا غنى حكى الرشأ الأغنا
فطه للنوائب أرتجيه ... ومن ألم وشر أختشيه
لهجت بذكره فنشدت فيه ... رعى الله الحجاز وساكنيه
وأمطره العريض المرجحنا
وأكرم ساحة دامت صفاء ... بخير العالمين وازدهاء
وأسعد بقعة كثرت رخاء ... وأخصب روضة ملئت وفاء
ومرحمة وإحساناً وحسنا
وأرضاً تربها خير البطاح ... وقاصدها يبشر بالنجاح
نمت شرفاً بسلطان المدح ... وقبراً فيه من ملأ النواحي
هدى وندى وإيماناً ويمنا
أجل المتقين ومصطفاهم ... ملاذ العاجزين وملتجاهم
ختام الأنبياء وقد علاهم ... إمام المرسلين ومنتقاهم
وأكثر غيثهم طللا ومزنا
وأجملهم خصالاً ثم وصفا ... وأكملهم نهى وسنا ولطفا
غدا للواردين عليه كهفا ... وأسرعهم إلى الملهوف عطفا
وأسمعهم لداعي الخير أذنا(1/1292)
وأفضل واطئ حزناً وسهلا ... وأفخر من نشأ طفلاً وكهلا
وأطهر من زكا نسباً ونسلا ... وخير مفارس الأكوان أصلا
وأطيب منشأ وأعز غصنا
رسول الواحد الملك المهيمن ... غياث الخائفين بكل موطن
من الأهوال ينقذ كل مؤمن ... نمته دوحة قرشية من
مدائحها ثمار الخير تجنى
شفيع الأنام بلا محال ... وركن للخلائق في مآل
وكم في الحرب أردى من رجال ... أتى والجاهلية في ضلال
وكفر تعبد الحجر الأصنا
وكانوا غافلين وقد أضلوا ... وعن طرق السبيل الحق ضلوا
وما قد حرم الباري أحلوا ... فجاء بملة الإسلام يتلو
مثاني في الصلاة الخمس تثنى
فحازوا منه تقريباً ووصلا ... وإيماناً ومطلوباً وسؤلا
وعلمهم فروضاً ثم نقلا ... وبدلهم بجور الشرك عدلا
وبالخوف الذي وجدوه أمنا
فطاب لهم به إذ ذاك عيش ... وقد ألفته في البيدا وحوش
ومدته ملائكة جيوش ... لقد خسرت بفرقته قريش
وكان لهم لو اعتقدوه ركنا
أتاهم منذراً فأبوا وهموا ... بإخراج له وطغوا فذموا
وللإيمان أصلاً لم يؤموا ... دعاهم واعظاً فعموا وصموا
فأعقب وعظهم ضرباً وطعنا(1/1293)
فحينئذ أهابوه جهارا ... ومنهم من نأى عنه نفارا
فولوا خوف سطوته فرارا ... وأمضى الحكم في القتلى بوارا
وفي الأسرى مفاداة ومنا
وأمسكهم جميعاً بالنواصي ... فلم يجدوا طريقاً للخلاص
وأوثق منهم دان وقاص ... وأنزل باغضيه من الصياصي
ولم يترك لهم في الأرض قرنا
فلم يلقوا لمهربهم سبيلا ... وكم أدمى من الأعدا قتيلا
وفوق الترب صيره جديلا ... غدا متقلداً سيفاً صقيلا
ومعتقلاً أصم الكعب لدنا
فقاتلهم وحاربهم بجد ... ويرمي بالنبال كقدح زند
وأرعبهم وأذهلهم بجند ... وصابحهم وراوحهم بأسد
على جرد طحن الأرض طحنا
أذاقهم الهوان مع الربال ... وأثخنهم جراحاً بالقتال
ونكس كل أعلام الضلال ... وكم رفعت له الهمم العوالي
مراتب في عراص المجد تبنى
فأحمد كان للأسرار معدن ... رفيقاً بالذي للحث يذعن
فأنعم في المضيق به وأحسن ... وكم للهاشمي محمد من
محامد عمت الأقصى وأدنى
ولولا المصطفى ما كان ركب ... ولا كون ولا بعد وقرب
ولا شمس ولا شرق ولا غرب ... ولو وزنت به عجم وعرب
جعلت فداه ما بلغوه وزنا
مغيث للعصاة لهم طبيب ... إذا ما الدمع منهمل سكيب(1/1294)
وذو قدر له جاه رحيب ... إذا ذكر الخليل فذا حبيب
عليه الله في التوراة أثنى
وكان لمن تولاه وَصُولا ... وحاز بليلة الإسراء وصُولا
وكرمه وآتاه قبولا ... وبشرنا المسيح به رسولا
وحقق فضله وسمى وكنى
فكرر فضله تحظى وتظفر ... بكل القصد والإحسان وانشر
ولازم دائماً للمدح وأشعر ... وإن ذكروا نجي الطور فاذكر
نجي العرش مفتقراً لتغنى
نبي قد سعى للحق سعياً ... حميداً مخلصاً أمراً ونهيا
أبان الشرع إثباتاً ونفياً ... وإن الله كلم ذاك وحيا
وكلم ذا مشافهة وإذنا
وقربه وأدناه إليه ... ونور حارت الأفكار فيه
فليس كصاحب الوجه الوجيه ... وموسى خر مغشياً عليه
وأحمد لم يكن ليزيغ ذهنا
وما أحد حوى شرف المعاني ... سوى المنعوت ذكراً في البيان
ونال مسرة حين التداني ... ولو قابلت لفظة لن تراني
بما كذب الفؤاد فهمت معنى
كفانا المصطفى يوماً عبوساً ... بشير في الوجود بدا عروسا
وللرسل الكرام غدا رئيسا ... وإن يك خاطب الأموات عيسى
فإن الجذع حن لذا وأنا
وشق البدر للمختار شقا ... وسبحت الحصا بيديه صدقا
وجا بالمعجزات الغر حقا ... وسلمت الجماد عليه نطقا
فأنى يستوي الفتيان أنى(1/1295)
أغثني في لمعاد بنيل ورد ... من الحوض المعد لخير وفد
بك المسكين يبلغ كل قصد ... وصل بالأنس منك رجاء عبد
بعيد الدار يطلب منك إذنا
مدحتك راجياً أن لا تكلني ... إلى أحد فمدحك صار فني
أنلني ما أريد من التمني ... وعجل بافتقادك لي فإني
ضعفت جوارحاً وكبرت سنا
وقد أصبحت مغموراً بسكري ... فلا أصغي لموعظة وزجر
وعاندني الزمان وحط قدري ... حججت فلم أزرك فليت شعري
متى بمزارك الجاني يهنى
عظيم الشان لم أر بي شفوقاً ... سواك ولم أجد خلاً صدوقا
فأدرك عبدك الراجي وثوقاً ... يكاد يذوب إن ذكروك شوقا
إليك فهل بجاهك منك يدنى
غريق في الذنوب له نحيب ... بجنح الليل مدمعه صبيب
وللأشجان في الأحشا لهيب ... عسى عطف عسى فرج قريب
فقد وصل الأحبة وانقطعنا
يهيج حزنه لمعان ومض ... وقد هجر الكرى ولذيذ غمض
فأتحفنا برفع بعد خفض ... وشرفنا بوطئ تراب أرض
بزورتنا يحط الوزر عنا
وأذهب كل ضر أشتكيه ... وباعدني عن الفعل الكريه
وأوصلني مقاماً أرتجيه ... وقل عبد الرحيم ومن يليه
معي يوم الخلود يحل عدنا(1/1296)
سميك محمد يرجوك تدني ... له والناس في ضيق وغبن
وبالعاري يلقب بالتكني ... ويوم الحشر إن سألوك عني
فقل عدوه منا فهو منا
وأبلغني المنى وافرج لكربي ... وأصلحني أيا قصدي وحسبي
كذاك أبي وأهلي واشف قلبي ... وقم بجميع إخواني وصحبي
وعم أباً من الأنساب وابنا
إليك من التجا قد حاز فتحا ... وفوزاً في المآل ونال ربحا
وظلاً في النعيم كذا وطلحا ... فما ضر امرؤ يرجوك نجحا
لمطلبه ويحسن فيك ظنا
حويت المجد في تنزيل وحي ... نفيت الإصر عنا كل نفي
جمعت الخير في أمر ونهي ... وكل الأنبياء بدور هدي
وأنت الشمس أشرقهم وأسنى
وأنت إمامهم ذرب فصيح ... وسيدهم وذا خبر صحيح
وهم بعض الرياض وأنت دوح ... وهم شخص الكمال وأنت روح
وهم يسرى إليه وأنت يمنى
وأمتك التي حقاً تباهت ... على من قد تقدمها وتاهت
وفضلك فيه أقوالي تناهت ... عليك صلاة ربي ما تناغت
حمام الأيك أو غصن تثنى
توفي رحمه الله بعد الألف والمائتين ودفن خارج أريحا عند والده.(1/1297)
وكان عالماً بأنساب الناس وأصولهم حافظاً للأخبار والوقائع، قوي الحافظة حسن النادرة جميل الأخلاق كريم الأعراق خاتمة علماء وفضلاء أهل أريحا ونبلائها، ولم يترك مثله في نواحيه رحمة الله عليه.
الشيخ محمد بن عثمان بن عبد الرحمن
بن عثمان بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن أحمد العمري العقيلي الحلبي الشافعي وتقدم بقية نسبه في ترجمة أخيه عبد الرحمن أبي البركات وأبيه عثمان أبي الفضل في حرف العين
وهو العالم الفقيه الفاضل الدين الصالح الورع الزاهد، المتفنن العابد، مولده سنة ثلاث وستين ومائة وألف، ونشأ بكنف والده وقرأ القرآن العظيم وحفظه وتلاوته، وجوده وحفظ الشاطبية، وأخذ القراءات المرواة السبع بالإتقان من طريق الشاطبية، واشتغل بتحصيل العلوم، وأخذ وانتفع بوالده وتخرج عليه وأكثر من الاستفادة لديه وسلكه وأجازه بالإجازة العامة، ونشأ كما شاء وأجاز له جماعة من المحدثين غب القراءة والسماع، منهم عطا الله بن أحمد المصري نزيل مكة، وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي الحلبي، والشهاب أحمد بن عبيد الله العطار الدمشقي، وأبو جعفر منصور بن مصطفى السرميني الحلبي، وآخرون، ولما مات والده في المحرم سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف قام خليفة بعده، كما خلفه ولزمه تلامذة والده وأحبابه، وأقام الأذكار والتوحيد واشتغل بإلقاء الدروس، واجتمع بالسيد خليل المرادي سنة خمس ومائتين وألف وأخذ كل منهما عن الآخر واستجاز كل الآخر، وكان على طريق مستقيم ومنهج قويم. ولم يزل على قدم التقوى والعبادة والإفادة والاستفادة وإقامة الأذكار وإرشاد الناس في الليل والنهار إلى أن اختار الآخرة والرحلة إلى الدار الفاخرة، وذلك في سنة ألف ومائتين و.(1/1298)
الشيخ محمد الملقب بالجديد البغدادي الخالدي الحنفي النقشبندي
الولي المرشد الكامل والعالم الفقيه الصوفي ذو الشمائل، العارف بالله المقبل عليه في شره ونجواه، صاحب العلوم الربانية والأنفاس الأنسية القدسية، كان عند مولانا خالد من أعظم الخلفاء وأكبر الفقهاء، المشهور في الفقه بأبي يوسف الثاني، صاحب التحقيقات والتدقيقات في مشكلات المعاني، وكان يرشد ويدرس الفقه والحديث والتفسير وكتب التصوف في الزاوية الخالدية في بغداد، وبيته ملتصق بها، ولا يخرج إلى بيته من الزاوية إلا بعد صلاة العشاء، وتأتيه الفقهاء أفواجاً أفواجاً للقراءة عليه، والاسترشاد به.
سلك أولاً وتربى على يد عبيد الله الحيدري، ثم بعد كماله خلفه حضرة مولانا خالد خلافة مطلقة، وجعله قائماً مقامه في الزاوية البغدادية، وأمر جميع الخلفاء كالسيد عبد الغفور وموسى الجبوري وغيرهما من خلفاء العراق بأن يكونوا في طاعته ولا يعدلوا عن أمره، وكانوا يعدونه بمنزلة شيخ الطريقة بأجمعها مولانا خالد شيخ الحضرة، وكان يمنع المريدين بأن يدخل بعضهم في حجرة بعض، ويأمر كلاً منهم بالاشتغال بالذكر وحده، ولا زال يراقبهم ويأمرهم بطلب العلوم الشرعية، وجعل لهم وقتاً مخصوصاً لمذاكرة الفقه والتصوف والعقائد، وسائر الأوقات بعد أداء الفرائض للاشتغال بالذكر.
وكان يأمر الخلفاء ويقول لا تخلفوا إلا العلماء، كما كان دأب شيخنا حضرة مولانا خالد قدس سره لا يخلف إلا العلماء الأعلام، ودام على حاله مترقياً في أحواله إلى أن سار إلى رمسه، وصار في حديقة قدسه، وكان ذلك في سنة ألف ومائتين وست وأربعين من الهجرة.
الشيخ محمد حافظ الأرفله الخالدي النقشبندي
العالم العامل والكامل الفاضل، قطب دائرة الإرشاد ومنهج الفضل وملهج السداد، من حسنت في العالمين سريرته وسمت أوصافه وسيرته، نشأ على(1/1299)
العلم والعمل ولازم الطلب حتى اكتمل، ثم لازم خدمة قطب الزمان ونادرة الأوان، مولانا خالد شيخ الحضرة النقشبندية في السليمانية وبغداد والشام، وأحسن الخدمة على وجه التمام، وسلك على يديه ورباه مع الالتفات إليه، ثم خلفه خلافة مطلقة، وأذن له بالإرشاد، وخصه بأنه إن مر أحد غيره من الخلفاء في ارفه فلا يسوغ له أن يرشدوا أحداً في مكانه. وكان فصيحاً بليغاً شاعراً مفلقاً، مع علمه الغزير، وغالب أحواله الجلال. وكان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، وله الهمة العلية والأنفاس الأنسية، ومقام التمكين والميل إلى عين اليقين، وهو لدى حضرة شيخه من المقربين، وله كثير من الخلفاء والمريدين، وقد حكى الشيخ محمد حافظ قدس سره أن حضرة مولانا خالد قدس سره قال للمترجم مرة: أي مقدار من الدراهم يكفيك كل يوم؟ فقال المترجم يكفيني كل يوم خمسون قرشاً، فقال له حضرة مولانا قدس سره ارفع البساط الذي تجلس عليه كل يوم ترى خمسين قرشاً خذها واصرفها في قضاء حوائجك، فبكى محمد حافظ وقال يا سيدي: ما تبعتك للدنيا وإنما تبعتك للآخرة، فازداد قبولاً لدى حضرة مولانا قدس سره، ولهذا المترجم أصول عجيبة ومآثر غريبة. توفي قدس سره سنة ألف ومائتين وقريب من الأربعين.
الشيخ محمد الإمام البغدادي النقشبندي الخالدي
العالم الورع العابد الهمام الناسك الزاهد، صاحب النفحات العلية والفيوضات الربانية، كان من الورع والتقوى والزهد والعبادة على جانب عظيم، ولازم(1/1300)
خدمة مولانا خالد شيخ الحضرة وأخذ عنه، ثم خلفه خلافة مطلقة وأذن له بالإرشاد، وقدمه على غيره للإمامة، وكان من الأولياء الكاملين وذوي الرفعة والتمكين، وهو لدى شيخه المرقوم من الواصلين والمقربين. توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وثلاثين تقريباً رحمه الله تعالى، ودفن في بغداد في جوار سيد الطائفتين سيدنا الجنيد البغدادي قدس سره.
الشيخ محمد الفزلري الشهرزوري النقشبندي الخالدي
العالم المحقق والفاضل المدقق، جامع المنقول والمعقول محرر الفروع والأصول، نشأ مكباً على الطاعة وطلب العلم إلى أن صار من ذوي البراعة، وأخذ الطريقة النقشبندية على إمام العارفين الشيخ خالد شيخ الحضرة العلية، واجتهد في أداء حق الخدمة وسلك على يده وأحسن عمله وعلمه، ثم خلفه خلافة مطلقة وأذن له بالإرشاد فشرع في تسليك الطريق وبذل وسعه وأفاد، وأقر بولايته الخاص والعام واشتهر فضله في الأنام. توفي سنة ألف ومائتين ونيف وثلاثين.
الشيخ محمد ناصح الخالدي النقشبندي
العالم العامل والجهبذ الكامل، والمرشد الإمام والناصح الهمام. أخذ الطريقة النقشبندية على الإمام العارف بالله حضرة مولانا الشيخ خالد الحضرة وانتفع به واستفاد وأفاد، وأرشد العباد، وكان ذا دين وتقوى وعبادة وصيانة وديانة، ودام على ذلك إلى أن توفي في الشام سنة ألف ومائتين وخمس وأربعين تقريباً.(1/1301)
الشيخ محمد المجذوب العمادي المشهور بسيد الخالدي النقشبندي
إمام فاضل عالم عامل، ناسك عابد تقي زاهد، رفيع المقام جميل الكلام، ذو سيرة حسنة وأخلاق مستحسنة، اشتغل في العلم من زمن الصبا وما مال إلى غير الكمال ولا صبا، بل كان ولوعاً بالفضائل مقصوراً على خدمة الأفاضل، إلى أن أخذ الطريق على حضرة مولانا خالد ثم خلفه خلافة عامة فأرشد وأفاد وسلك وأجاد، مع تواضع وخشوع وتذلل كأنه عليه مطبوع. توفي رحمه الله سنة ألف ومائتين واثنتين وأربعين تقريباً. وكان أكثر أخذه عن خاتمة العلماء المحققين الشيخ يحي المزوري العمادي الخالدي، وكان غالب أحواله السكر والجلال وقلة الصحو، ولذلك حينما قوي عليه الحال قل إرشاده وإفادته العلوم الشرعية، وكان يوماً يدرس على رأس جبل وفي أثناء التدريس انجذب وصعق، ثم وقع من أعلى الجبل متدحرجاً إلى أسفله، وبعد نحو ساعة أفاق وقام، ولم يتألم. وله كرامات كلية وخوارق كثيرة سنية. نفعنا الله ببركاته وعلومه الربانية بجاه محمد وآله.
الشيخ محمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد الصوي المغربي المالكي الشاذلي القسنطيني
الإمام الفاضل والعالم العامل، والتقي العابد والتقي الزاهد، كان إمام عصره ونخبة أهل إقليمه ومصره. برع في سائر الفنون وفاق وطار ذكره في الآفاق. ولد سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف، واشتغل في تحصيل العلوم، إلى أن صار مرجع أهل المنطوق والمفهوم، وقرأ على سادة أجلاء وقادة فضلاء. منهم الشيخ أحمد العباسي قاضي قسنطينة والشيخ محمد طبال مفتيها.(1/1302)
ولما أخذت فرانسا إقليم الجزائر من أميرها الأمير السيد عبد القادر ونقله الفرنسيس إلى أمبواز بالتكريم، نظرت الحكومة الفرنساوية في إحضار من يكون للأمير المرقوم مؤنساً في محله فأرسلوا إلى الجزائر بذلك، فوقع الاختيار على المترجم المرقوم لعلمه وأدبه وعلو شأنه، وحين وصوله ووروده على الأمير عالي المقام دخل عليه من السرور ما لا يرام، وقال له في الحال على طريق البداهة والارتجال:
أهلاً وسهلاً بالحبيب القادم ... هذا النهار لدي خير مواسمي
وهي قصيدة طويلة أثبتها ولده الأمير محمد باشا في كتابه الذي جمعه في مناقب والده الأمير المرقوم، فجاوبه المترجم في الحال بقوله:
سلام عليكم طال شوقي إليكم ... وقلبي سواكم في البرية ما أحب
سلام يفوق المسك نشر عبيره ... يعمكم والآل يا سادة العرب
أتيتكم عبداً وقصدي زيارة ... لعلي أؤدي ما علي لقد وجب
فمنوا على العبد الذليل بدعوة ... ينال بها حسن الختام مع الأرب
وكان مرادي أن ألاقيكم على ... بساط عزيز الملك والحرب في نشب
وما كان في ظني أرى سيدي كما ... رأيت ألا لله ما تصنع النوب
فصبراً لحكم الله راج ثوابه ... فإن ثواب الله يأتي على التعب
وله قصائد كثيرة ومقاطيع شهيرة. توفي رحمه الله تعالى سنة أربع وتسعين ومائتين وألف، ودفن في تربة أسلافه خارج قسنطينة.
الحاج محمد بن الحروبي القلعي المغربي المالكي أحد وزراء الأمير عبد القادر
العالم العامل والصدر الجهبذ الكامل، والتقي العابد والنقي المجاهد. كان كاتب الأمير السيد عبد القادر في بلاد الجزائر حينما كان الأمير بها خليفة، ثم جعله والياً في إيالة صطيف، ووقع في أسر الفرنسيس، ثم(1/1303)
أطلقوه وهاجر إلى الشام، وتوطن دمشق، إلى أن انتقل إلى بروسا لزيارة الأمير السيد عبد القادر حينما أطلقته فرنسا من أسرها، وهاجر إلى بروسه المعروفة الآن ببرصه، ولم يزل هناك مع الأمير إلى أن رحل الأمير من برسوه لكثرة الزلازل بها، وجاء إلى دمشق الشام فحضر المترجم معه إلى دمشق، واشتغل بالعلم والإفادة والتقوى والعبادة، وقد انتفع به كثير من الناس. وكان لطيفاً جميلاً حسن المعاشرة طلق اللسان، عالي المروءة واسع الهمة، حفاظاً كثير المحاضرة، حسوراً لا يهاب من شيء. وكنت أذهب إليه مع والدي للزيارة فأرى له من الهيبة والجلالة حظاً وافراً. وكان يزور والدي كثيراً، ولم يكن بينهما سوى المحاضرة والمذاكرة، والتأسف والاتعاظ، وذكر سير السلف وما كانوا عليه من العبادة. توفي رحمه الله سنة تسع وسبعين ومائتين وألف ودفن في تربة الدحداح.
الملا السيد الشيخ محمد صالح الكردي الشافعي الأشعري
العالم الذي هو نهاية السول، في علمي المعقول والمنقول، والفاضل الذي لا يدرك غور أبابه والفاضل الذي تقتطف البلاغة من إيجازه وإطنابه، والمعلم الذي سلسال تحريره أزال عطاش الأفهام، وأوابد أمثال تقريره هي الأوراد ضاحكة في الأكمام. كم مشكل أميط بفكره جلبابه، وأفق أبحاث سقط منه على معارضيه شهابه، ودرس عاطل جملت بفرائده رقابه، ومعضل دعي له إذ كان ليث غابه، وبدر سمائه وقطر سحابه، بذل شبابه وسخا به في العلم ونظم سخابه وقرأ عليه الجهبذ الكامل والعالم العامل(1/1304)
من رفع الله في الأنام قدره مولانا الشيخ خالد شيخ الحضرة، فاستفاد وأفاد وسما قدره وساد، ولم يزل في عبادة وتقوى وزهادة، إلى أن زهد في الدنيا واختار عليها الأخرى، وذلك في ألف ومائتين ونيف وعشرين.
الشيخ محمد بن قسيم السنندجي الشافعي الأشعري ترجمه الشيخ أسعد عثمان سند فقال:
العالم الذي علت في العلوم قدمه، وزان بقلب تدقيقه من الدرس معصمه، نادرة الزمان وحسنته وبهجة صباحه وغرته، جقمينية وقوشجية عطر فنائه ونديه، مبدي خفيات إشاراته يتحقيقاته وتدقيقاته، إذا قرر أذاق أرباً وإذا أشكل أمر توقد رأيا، الفلكي الذي حقق علوم الفلك وأزال عن وجود معانيها كل حلك:
سعى إلى العلم بالأفلاك مرتقيا ... لو لك يكن قمراً لم يسع في فلك
يا قطب علم رأينا من معارفه ... شمساً إذا طلعت لم تبق من حلك
سموت بالله نظاراً بطرف هدى ... قلباً من العلم كالإكليل للملك
نالت سنندج إذ تسمو بها شرفا ... يقول للشمس هذا الفخر ليس لك
الحقيق بالتصدير والحري على كل سيد وسري، الجاد في تحقيق المباحث العلمية، الشاد نطاق الفكر في خدمة الآثار المحمدية. لا غرو أن عُدّ ذكاء أفلاك المآثر السنية، جمع من العلم الزاخر عفة وبياض عرض وصفاء سرائر، ونشر من الإفادة ما كل لسان به دائر وروض كل جنان به ناضر:
أشار إلى البحوث فقلن أهلا ... بواحد عصره أدباً وفضلا
ومحيي سنة الهادي المقفى ... بتقرير أرانا الحزن سهلا(1/1305)
وأبدى الحق مغتر المحيا ... كروض جاده ودق وطلا
بوجه سنندج أمسى منيرا ... كبدر لاح في أفق وهلا
وسل على يد الإبداع سيفا ... فعادت بعد ذاك السل شلا
فهو الإمام الذي له الإفادة أضحت في نحر الإصابة القلادة، والسيد المبرز فضلاً على أولئك السادة، والسامي مجداً قارنه إقبال وسعادة، والمدعو في تلك الأقمار السابق في مضمار العتبار، تعانى العلوم الرسمية بالقلب والقالب، وطار إلى النكت بجناح الفكر وغالب، ونظم في لبات الأيام عقوداً راق لها الانتظام، وحسن وجوه الآثار المحمدية، وحرر الأبحاث الفقهية تحريراً شكرته فيه الإفهام، وطار إلى دقائق الأصلين، وصار من تحقيقهما المعطس والعين. وسقى من التقرير المصفى ما أرانا منه المحصول والمستصفى، وأفاد من الإسناد، ما أرانا ابن الصلاح وفتح الجواد:
ولقد طلبت من الزمان قرينه ... فضلاً فما اسطاع قرينا
علم رأيت الفضل فوق صباحه ... أبداً يلوح لدى العيون مبينا
ووجدت كل الناس في تشبيهه ... فرقاً كما استقرأتهم وتبيينا
قوم رأوه البحر في تقريره ... لو لم يكن بالجزر يوصف حينا
وسواهم خال الرياض علومه ... ولطالما من زهرهن عرينا
توفي رحمه الله عام ألف ومائتين واثني عشر من هجرة سيد البشر.
السيد محمد بن السيد إسماعيل بن السيد محمد بن السيد درويش الحسيني الحنفي الموصلي ولادة ومنشأ ومدفنا
إمام حسنت به الأيام وهمام استوى من الفضل على السنام، شيخ المعارف وإمامها ومن في يديه زمامها، كعبة الأفاضل وقطب دائرة الفضائل، فارس العلم وحامل لوائه، وكوكب إشراقه وشمس سمائه، شرح الله(1/1306)
لمكارم الأخلاق صدره، وطاول به زمانه وعمره، وهو في كل علم وافر النصيب، وفي كل عمل عال روضه خصيب.
ولد في سنة ألف ومائتين وسنة واحدة، ومنذ ميز شب أكب على الاستفادة والطلب، ولازم أكابر العلماء حتى ارتقى إلى رتبة الفضلاء، وكان له في الأدب اليد العالية والمعرفة السامية، فمن نظامه قوله:
ما بين غرته والجيد والعنق ... نور يفوق على المصباح والشفق
بدر إذا ما تجلى وانجلى كسفت ... شمس النهار وخرت أنجم الأفق
في ثغره وعذاريه ووجنته ... شهد وآس وورد بالحياء سقي
وفي الجبين هلال السعد منسطع ... والشعر كالمسك أو نوع من الغسق
والطرف من نرجس والريق من ضرب ... والخال كالعنبر الملقى على الورق
إذا تأملته ناديت معتجباً ... سبحان من خلق الإنسان من علق
يا لائمي في الهوى أقصر ففي كبدي ... نار إذا لمتني تزداد بالحرق
فالماء لم تطف ما في القلب من وهج ... لعل تطفى بدمع سال من حدق
وله تخميساً
أقبل الشيب والشباب تولى ... والحشا ذاب في الهوى وتسلى
إن لي مانعاً لديك وإلا ... كل يوم أريد أن أتملى
بك والدهر بيننا يتعذر
ببياض خد نقي سباني ... وبخال وحمرة ومعاني
كيف أسلو وقد سلوت جناني ... والليالي تقول لي بلساني
لا تلمني فالاجتماع مقدر
وله مخمسا
جسدي غدا في الحب منعدم القوى ... وصدى الفؤاد زوى لدي وما ارتوى
فأرى ألذ العيش وصلاً في الهوى ... وأمر ما لاقيت من ألم النوى
قرب الحبيب وما إليه وصول(1/1307)
واحسرتي قلب المشوق تكلما ... ووشى العذول لدى الرشا وتكلما
حالي وحالك يا منى قلبي هما ... كالعيس في البيداء تشكين الظما
والماء فوق ظهورها محمول
وله في مدح الإمام علي رضي الله عنه:
أرى صفو عيشي بالخطوب تكدرا ... وأيسر أمري بالزمان تعسرا
ولكن أنادي أن فؤادي تحيرا ... أيا سيدي أنجد عبيدك في الورى
بهمتك العظمى جعلت فداكا
يقينك لا يزداد إن كشف الغطا ... ورأيك حاشا منه أن يصدر الخطا
أنادي إذا جار الزمان وإن سطا ... أيا حيدر الكرار يا وافر العطا
فقير أتى يبغي جزيل عطاكا
سموت علوماً في الملا ومناقبا ... وشيدت للدين القويم مراتبا
وأصبحت صهراً للنبي وصاحبا ... فجد وأجرني كي أقول مخاطبا
لقلبي لك البشرى بلغت مناكا
وله أيضاً:
هزوا القدود فخلتهن رماحا ... واستلوا من غمد العيون صفاحا
ورموني عن تلك الحواجب أسهما ... تصمي ولكن ما ألقى قداحا
آهاً على تلك الوجوه تحجبت ... عني وكانت كالصباح صباحا
فلذا تذوب تكاد حبة مهجتي ... شوقاً إذا البدر استعار ولاحا
يا قلب كيف وقد فقدت أحبة ... تركوك بعد بعادهم ملتاحا
هم عودوا كبدي اللهيب وعلموا ... عيني النحيب وعذلي الإفضاحا
وتحجبوا عن ناظري ولم أجد ... أبداً لباب لقاهم مفتاحا
زعم الوشاة بأني بحت بسرهم ... حاشاي إلا أدمعاً ونياحا(1/1308)
وتحدثوا بسهام طرفي بعدهم ... إني وقد أجري دماً وقراحا
وشاعوا إني قد سلوت ودادهم ... كذبوا وما قصدوا به إصلاحا
لم أستطع ولو استطعت سلوتهم ... هلا يود ذوو الوثاق سراحا
أني وأيم الله لست بناقض ... تلك العهود ولو ثخنت جراحا
يا خاطفين من المحب فؤاده ... ومجرعين من الصبابة راحا
عطفاً على ذي لوعة متحير ... هجر الديار وغادر النصاحا
يهوى الغصون لأنها كقدودكم ... وإذا ترنمت الحمامة ناحا
ذو غصة هجر القرار ولم يزل ... طول الزمان لأجلكم كداحا
وجد الممات حياته في حبكم ... ويرى الخسارة في الغرام رباحا
ولد دوبيت
رأى الروض الخد يزهو فادعى ... وقال لعمري إنه لشقيقي
فصاح به بدر السما وهو قائل ... تأن لقد أخطأت فهو شقيقي
وله
يقولون عذالي أخال بخد من ... بذلت له من قلبك الحبة السودا
فقلت نعم قد حصن الحال خده ... كما حصن الكافور بالحبة السودا
وله
فتنت بمكحول فقلت لناصحي ... وفي السمع وقرعن نصوح وواعظ
فما اكتحل المحبوب من أجل سنة ... ولكن لقتلي سن سيف اللواحظ
وله أيضاً
لما تزاهى بخال فوق وجنته ... وحكمته معاني الحسن في الناس
أفتى بسفك دمي المضني محاسنه ... بنقطة من مداد فوق قرطاس
وله أيضاً
الجنبذ الورد في فيك ادعى شبها ... فقلت زورت فيما تدعيه فمه(1/1309)
فما ارعوى عن مقال في تزوره ... فشق من غيرة أيدي الزمان فمه
وله أيضاً
إذا التجأ اللهيف حذار خصم ... إلى باب الملوك يرى السكينة
فكيف أخاف معتدياً وإني ... لملتجئ إلى باب المدينة
وله أيضاً
دع الدنيا وزهرتها لوغد ... وجانبها إذا كنت الرشيدا
أترجو الخير من دنيا أهانت ... حسين السبط واختارت يزيدا
توفي سنة ألف ومائتين وإحدى وخمسين ودفن بمقبرة الموصل رحمه الله تعالى.
الشيخ محمد بن أبي بكر بن محمد المغربي الطرابلسي الشهير بالأثرم
الشيخ الفاضل والعمدة الكامل، ولد بقرية انكوان من أعمال طرابلس في حدود سنة خمس وأربعين ومائة وألف وبها نشأ، وكان مبدأ أمره أنه توجه إلى تونس برسم التجارة، فاجتمع على رجل من الصالحين هناك ولازمه، فلما قربت وفاته أوصى إليه بلمبوس بدنه، فلما توفي جمع الحاضرين وأراد بيعه، فأشار إليه بعض أهل الشأن أن يضن به ولا يبيعه، فتنافس فيه الشارون وتزايدوا فدفع الدراهم من عنده في ثمنه وأبقاه، وكان المتوفي فيما قيل قطب وقته فلبسه الوجد في الحال، وظهرت له أمور هناك واشتهر أمره، وأتى إلى الاسكندرية فسكنها مدة، ثم ورد مصر في أثناء سنة خمس وثمانين ومائة، وحصلت له شهرة تامة، ثم عاد إلى الاسكندرية فقطنها مدة، ثم عاد إلى مصر، وهو مع ذلك يتجر في الغنم وأثرى بسبب ذلك وتمول، وكانت الأغنام تجلب من وادي برقة، فتشارك عليها مشايخ عرب أولاد علي وغيرهم، وربما ذبح بنفسه بالثغر(1/1310)
فيفرق اللحم على الناس ويأخذ منهم ثمن ذلك. وكان مشهوراً بإطعام الطعام والتوسع فيه في كل وقت، وربما وردت عليه جماعة مستكثرة فيقر بهم في الحال، وتنقل له في ذلك أمور، ولما ورد مصر كان على هذا الشان لا بد للداخل عليه من تقديم مأكول بين يديه. وهادته أكابر الأمراء والتجار بهدايا فاخرة سنية، وكان يلبس أحسن الملابس وربما لبس الحرير المقصب، يقطع منها ثياباً واسعة الأكمام فيلبسها، ويظهر في كل طور في ملبس آخر غير الذي لبسه أولاً، وربما حضر بين يديه آلات الشرب وانكبت عليه نساء البلد، فتوجه إليه بمجموع ذلك نوع ملام، إلا أن أهل الفضل كانوا يحترمونه ويقرون بفضله وينقلون عنه أخباراً حسنة. وكان فيه فصاحة زائدة وحفظ لكلام القوم وذوق الفهم، ومناسبات للمجلس، وله إشراف على الخواطر فيتكلم عليها فيصادف الواقع.
ثم عاد إلى الاسكندرية ومكث هناك إلى أن ورد حسن باشا، فقدم معه وصحبته طائفة من عسكر المغاربة، ولما دخل مصر أقبلت عليه الأعيان وعلت كلمته وزادت وجاهته، وأتته الهدايا، وكانت شفاعته لا ترد عند الوزراء، ولما كان آخر جمادى الأولى من هذه السنة توجه إلى كرداسته لإيقاع صلح بين العرب وبين جماعة من القافلة المتوجهين إلى طرابلس، فمكث عندهم في العزائم والإكرامات مدة من الأيام ثم رجع، وكان وقت شديد الحر فخلع ثيابه فأخذه البرد والرعدة في الحال، ومرض نحو ثمانية أيام، حتى توفي نهار الثلاثاء ثالث جمادى الثانية سنة ألف ومائتين وسنة. وجهز وكفن وصلي عليه بمشهد حافل بالأزهر، ودفن تحت جدار قبة الإمام الشافعي في مدافن الرزازين، وحزنت عليه الناس كثيراً، وقد رآه أصحابه بعد موته في منامات عدة تدل على حسن حاله في البرزخ رحمه الله.(1/1311)
الشيخ محمد بن علي بن عبد الله بن أحمد المعروف بالشافعي المغربي التونسي نزيل مصر
العالم الفاضل والجهبذ الكامل، ولد بتونس سنة اثنتين وخمسين ومائة وألف، ونشأ في قراءة القرآن وطلب العلم، وقدم إلى مصر سنة إحدى وسبعين وجاور بالأزهر برواق المغارية، وحضر علماء العصر في الفقه والمعقولات، ولازم دروس الشيخ علي الصعيدي وأبي الحسن القلعي التونسي شيخ الرواق، وعاشر اللطفاء والنجباء من أهل مصر وتخلق بأخلاقهم، وطالع كتب التاريخ والأدب، وصار له ملكة في استحضار المناسبات الغريبة والنكات، وتزوج وتزيا بزي أولاد البلد وتحلى بذوقهم، ونظم الشعر الحسن، فمن ذلك ما أنشدني لنفسه يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم:
هذا الحمى وعبيره المتعطر ... فعلام دمعك من جفونك يمطر
وأنخ مطاياك التي أوصلتها ... إدلاجها بهجيرها إذ تعسر
فلكم قطعت بها بساط مفاوز ... ونقطت أسطره التي تتعذر
ودفعتها في كل حزن شامخ ... سامي السرى عنه البزاة تقصر
حتى أتت بك قبر أفضل مرسل ... فلها عليك فضائل لا تنكر
عين العناية مهبط الوحي الذي ... جاءت به الرسل الكرام تبشر
ومنها
ما نال معجزة نبي غيره ... إلا به فهو النبي الأكرم
أدناه بالمعراج خالقه إلى ... حيث الأمين يقول: زد وأقصر(1/1312)
حتى رأى المولى بعيني رأسه ... أرأى السوى المولى بعين تبصر؟
وله يمدح الشريف مساعد شريف مكة سنة سبع وسبعين بقوله:
لعلياك تأتي عليها ورجالها ... خفافاً وتغدو مثقلات رحالها
ولولاك لم تعجم سطور سباسب ... بأقلام عبيس قد برتها جبالها
إذا توج الحادي بمدحك لفظه ... نرى الأرض تطوى للركاب رحالها
وإن فكروا في حسن معناك والدجى ... أضاءت لهم أيمانها وشمالها
لعمري لقد أحببت ما كان دارسا ... من المكرمات المستطاب نوالها
وقمت لدين الله خير معاضد ... فحاق لأعداك الغداة نكالها
وله مضمنا بيت المتنبي
وقالوا نأى من كنت مغرى بحبه ... وتزعمه خلا ونعم خليلي
ولو كان خلا ما نأى عنك ساعة ... ولم يرض في شرع الهوى ببديل
فقلت دعوني لا تهيجوا بلابلي ... بقال على ما نابني وبقيل
وإن رمتموا رشدي فقولوا وأقبلوا ... فأي فتى يهدى بغير دليل
فقالوا اقترح صبراً عليه أو البكا ... فقلت البكا أشفى إذاً لغليلي(1/1313)
وله
أيد الحق بحده ... ملجأ في كل شده
فكفى بالمرء إثما ... أن يضيع الحق عنده
وله
أطال اشتياقي قرقف الشفة اللعسا ... وأيقظ وجدي سحر مقلته النعسا
وأخمد صبري حين شب جماله ... لهيباً نفت عني حرارته الأنسا
فتنا به مذ صاغه الله فتنة ... وأصبح يحكي في سماحته الشمسا
ومذ سأل العذال عنه لهوتهم ... ببيت به لغز به استخونوا الحدسا
فآخره عشر لأوله كما ... بدا عد ثانية لثالثه خمسا
واللغز في اسم محمد وله غير ذلك. توفي رحمه الله في يوم الجمعة ثالث شعبان من السنة الثانية بعد المائتين والألف.
الشيخ محمد مصطفى بن جاد المصري
الشاب الصالح والناجح الفالح العفيف الموفق. ولد بمصر ونشأ بالصحراء بعمارة السلطان قايتباي، ورغب في صناعة تجليد الكتب وتذهيبها، فعانى ذلك ومارسه عند الأسطى أحمد الدقدوسي، حتى مهر فيها وفاق أستاذه وأدرك دقائق الصنعة، والتذهيبات والنقوشات بالذهب المحلول والفضة والأصباغ الملونة والرسم والجداول والأطباع وغير ذلك، وانفرد بدقيق الصنعة بعد موت الصناع الكبار مثل الدقدوسي وعثمان أفندي بن عبد الله، عتيق المرحوم الشيخ حسن الجبرتي والشيخ محمد الشناوي.
وكان لطيف الذات خفيف الروح محبوب الطباع مألوف الأوضاع، ودوداً مشفقاً، عفوفاً صالحاً ملازماً على الأذكار والأوراد، مواظباً على استعمال اسم لطيف العدة الكبرى في كل ليلة على الدوام صيفاً وشتاء سفراً وحضرا، حتى لاحت عليه أنوار الاسم الشريف وظهرت فيه أسراره وروحانيته، وصار له ذوق صحيح وكشف صريح ومراء واضحة. وأخذ على شيخنا الشيخ محمود الكردي طريق السادة الخلوتية، وتلقن عنه الذكر(1/1314)
والاسم الأول، وواظب على ورد العصر أيام حياة الأستاذ، ولم يزل مقبلاً على شأنه قانعاً بصناعته، ويستنسخ بعض الكتب ويبيعها ليربح فيها، إلى أن وافاه الحمام، وتوفي سابع شهر ذي القعدة من سنة سنتين ومائتين وألف. بعد أن تعلل أشهراً رحمه الله تعالى وعوضنا فيه خيراً.
الشيخ محمد الكيالي الحلبي الأصل والمولد الحنفي القادري الحسني
من أولاد سيدنا الغوث الأعظم والقطب الأكرم السيد عبد القادر الجيلاني قدس الله سره، ولد المترجم رضي الله عنه بحلب سنة ألف ومائتين وأربعين تقريباً وبها نشأ، ثم هاجر إلى دمشق واستقام بها، وكان من الصالحين العابدين المعتقدين المواظبين على أذكار الطريقة. توفي أوائل ربيع الأنور سنة ألف ومائتين وأربع وتسعين ودفن في تربة سويقة صاروجا وقبره هناك معروف اه.
الشيخ محمد بن إسماعيل بن أحمد الربعي
فاضل ألمعي وكامل لوذعي، ومرشد أستاذ وعارف ملاذ، قيل فيه من بعض واصفيه:
ألمعي يرى بأول رأي ... آخر الأمر من وراء المغيب
لوذعي له فؤاد ذكي ... ما له في ذكائه من ضريب
لا يروي ولا يقلب كفا ... وأكف الرجال في تقليب
ولد رضي الله عنه سنة ألف ومائة وثلاثين تقريباً ثم انكب على طلب(1/1315)
العلوم إلى أن صار من أعيان العلماء والجهابذة النبلاء، له إجازة من العلامة عبد الخالق المزجاجي وقرأ عليه من الحديث كثيراً، منها سنن الترمذي من أوله إلى آخره، ولازم السنة وأخذ في الحديث، وله كتب ورسائل في علوم عديدة، وبالجملة فهو حقيق يقول الشاعر:
لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدهر ابتسام
مات رضي الله عنه سنة ألف ومائتين ونيف.
السيد محمد بن محمد الشامي الأصل الصنعاني الموطن والوفاة الحنفي
العالم الذي لا يبارى والفاضل الذي في ميدان الفضل لا يجارى، أوحد النبلاء ومفرد العلماء، لا زال يكلف نفسه طريق الصلاح ويقودها إلى التقوى والنجاح، إلى أن صار ذلك له عادة وصار يعده الناس أوحد السادة، وتفنن في العلوم والمعارف وتكمل في الفنون والعوارف، لسانه رطب بذكر الله لا يعول على غيره ولا يعتمد على سواه، يكره الاجتماع مع الناس كراهة زائدة إلا إن كان لمذاكرة أو فائدة، مات سنة ألف ومائتين وإحدى وخمسين.
الشيخ محمد بن علي بن حسين العمراني الصنعاني
عالم أديب وجهبذ أريب، متمكن في المعقول ومتضلع في المنقول، ولد سنة ألف ومائة وأربع وتسعين، ثم اشتغل بالطلب إلى أن حصل منه على الأرب، فغب تمكنه من مطلوبه ووقوعه على أتم مرغوبه، سلك طريق الاجتهاد والعمل بالدليل، وترك التقليد والعمل بقول الأئمة ذوي القدر الجليل، وقد تخرج على يد الفاضل والجهبذ الكامل محمد بن علي بن(1/1316)
محمد بن عبد الله الشوكاني، وكان يقدمه على من عداه لقوة ذهنه وسرعة فهمه، وجودة إدراكه العالي وحسن لطفه الحالي، وسمع منه أكثر مصنفاته وغالب مؤلفاته، وكان أكثر اشتغاله في علم الحديث ورجاله إلى أن صار من أعظم أهل هذا الشأن، وله تأليف على سنن ابن ماجه جعله أولاً كالتخريج ثم تجاوز ذلك إلى شرحه، قال في الديباج: توفي المترجم المرقوم سنة ثلاث وستين ومائتين وألف رحمه الله تعالى ودفن بزبيد.
السيد محمد بن السيد حسين حوتي الصنعاني
أوحد العلماء والسادة الفضلاء، ذو المجد الظاهر والقدر الباهر، ولد سنة ألف ومائة وخمسين، وأخذ العلم عن جماعة، منهم العلامة السيد محمد بن إسماعيل الأمير والقاضي أحمد قاطن وغيرهما، وصار أحد علماء صنعاء ذوي الإفادة، ودرس في فنون، وكان مائلاً إلى العمل بالأدلة تاركاً التقليد، له مباحث علمية جيدة، وكان حسن السيرة صافي السريرة، جميل الأخلاق لين المعاملة محبوباً بين الناس، مقبولاً مقدماً، اعترف شيوخه بفضله وكانوا يقدمونه في المجالس، ويحدثون الناس بكثرة علومه، وتخريجه ومعرفته واتساع ذكائه وفكره، توفي سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة سنة من الهجرة النبوية.
الشيخ محمد بن حسن دلامة الذماري
العالم الأستاذ والعمدة الملاذ، نخبة الأنام وحسن الليالي والأيام، ولد(1/1317)
تقريباً سنة ألف ومائة وخمسين، وكان حسن المحتضرة عارفاً بالبحث والمناظرة، رقيق الحاشية ذا شهرة منتشرة فاشية، كثير الميل إلى النظر إلى الولدان ذوي الصور الحسان، مع عفة وصيانة وحماية من كل خيانة، ناهز الستين من الأعوام وهو كالشاب في الوجد والغرام، ويغلب على الظن أن العشق قتله وأورده منهله، لأنه إلى حين موته وهو يتهيم بالملاح والوجوه الصباح، ولذلك تسلط عليه السقم والمرض حتى كأنه لسهام الأسقام غرض، ومع ذلك فإنه كان لا يكره من نسبة ذلك إليه، ولا ينقبض إذا ذكر ذلك بين يديه، وكان كل من كاتبه يكاتبه بعبارة العشق والنوى، والوجد والهوى، ويذكر له الجمال وفعله والغرام وأهله، وهو يتلذذ بذلك ويجاوبهم سالكاً هذه المسالك، ومعلوم أن الموت بالعشق بشروطه شهادة وموجب للفوز والسعادة، وكان يعاتبه بعض الناس مزاحاً بقصد الهزل والمداعبة فيقول:
لحظ النجوم بمقلتيه فراعها ... ما أبصرت من حسنه فتردت
فتساقطت في خده فنظرتها ... عمداً بمقلة حاسد فاسودت
ومقصوده بذلك أن اللائمين له يكلمونه حسداً وكلامهم لا يسري عليه فيخرجون ووجوههم مسودة، كما نظر هذا الناظم النجوم لما تساقطت في خد الحبيب نظرة حاسد فاسودت، إلا أنه فرق بين السوادين، مات المترجم سنة ألف ومائتين وتسع رحمه الله تعالى.
الشيخ محمد بن الحسن بن عبد الله الظفري الصنعاني
عالم صنعاء وفرد العلماء ونخبة الفضلاء وعمدة النبلاء، ولد في سنة ألف ومائة وست وسبعين. قال في البرج الطالع في ترجمته: برع في العلوم الآلية، وشارك في غيرها، وله فهم جيد وإدراك قوي، وسمت حسن وعقل رصين. وكان مجتهداً يعمل بالسنة والكتاب ولا يأخذ بقول(1/1318)
مجتهد ولا يعد التقليد من الصواب، بل يتقيد بالنصوص الصحيحة والدلائل الصريحة. توفي سنة ألف ومائتين وسنة واحدة.
السيد محمد بن حسن المعروف بالمحتسب
عالم زمانه العامل وفاضل أوانه الكامل، من استوى على عرش الفضائل واحتوى على سامي الشمائل، ولد سنة ألف ومائة وسبعين، وأخذ العلوم عن جماعة من علماء صنعاء المتقنين، فروى عنهم واستفاد وأعطى وأجاز وأفاد، وشارك في علم السنة مشاركة قوية حتى صار يعمل بالأدلة من الكتاب والسنة المحمدية، وكان حسن الطاعة بعيداً من الإضاعة، متعبداً صالحاً زاهداً ناجحاً، لين الجانب قريب الإجابة لكل طالب، توفي سنة ألف ومائتين وسبع وخمسين.
القاضي محمد بن حسن بن علي الذماري
الشيخ العابد والصالح الزاهد، العامل الهمام والألمعي الإمام، ولد سنة ألف ومائتين قال في البدر الطالع: له ذهن قوي وفهم سوي، وذكاء كأنه شعلة نار، وإدراك فاق به على الأخيار، وشعر رائق ونثر فائق، حضر الأكابر وأخذ عنهم كابراً عن كابر. وله مؤلفات عديدة، ومصنفات بكل حسن فريدة، وتقريرات فائقة وكتابات رائقة توفي سنة ألف ومائتين ونيف وستين.(1/1319)
الشيخ محمد بن أحمد مشحم الصفدي الأصل الصنعاني المولد
قال في البدر الطالع: ولد سنة ألف ومائة وست وثمانين، وقرأ في سائر العلوم، وشارك في سائر الفنون، له ذهن قويم وفهم جيد مستقيم، وذكاء متوقد وحسن تصور باهر وقوة إدراك مفرط، وهو ممن لا يعول على التقليد بل يعمل بما ترجحه الأدلة، ولاه مولانا الإمام المنصور بالله القضاء بصنعاء من جملة قضائها، ثم حج ثم نقل إلى قضاء الحديدة، ثم رغب عن القضاء لما حصل من الفتن بتهامة، ورجع إلى صنعاء وأخذ في فنون الحديث، ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى في رجب سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين، رحمه الله تعالى.
الشيخ محمد بن أحمد الشاطبي الصنعاني
العالم العامل والجهبذ الكامل، شمس سماء العلوم وكوكب إشراق المنطوق والمفهوم، ولد سنة ألف ومائتين وعشرة وقرأ على المشايخ في الآلات والحديث، وله مشاركة في باقي العلوم، وهو قوي الفهم صحيح التصور من عباد الله الصالحين، ومن العاملين بالأدلة، السائرين على الطريقة النبوية، الموثرين لها على الرأي وكذلك والده العالم الفاضل، الزاهد العابد الشيخ أحمد الشاطبي المرقوم أكثر الله أمثالهما، وجعل الجنة مأواهما.
قرأ نيل الأوطار وفتح القدير وإرشاد الفحول على مؤلفها، وقرأ في كثير من مجاميع الحديث من الأمهات وغيرها، وبالجملة فهو من أكابر العلماء وأحاسن الفضلاء توفي سنة ألف ومائتين و......(1/1320)
الشيخ محمد بن أحمد بن حسن بن عبد الكريم الخالدي الشافعي الشهير بابن الجوهري
الإمام الألمعي والذكي االلوذعي، من عجنت طينته بماء المعارف وتآخت طبيعته مع العوارف، العمدة العلامة والنحرير الفهامة، فريد عصره ووحيد دهره، وهو أحد الإخوة الثلاثة وأصغرهم ويعرف هو بالصغير.
ولد سنة إحدى وخمسين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده في عفة وصون وعفاف، وقرأ عليه وعلى أخيه الأكبر الشيخ أحمد، وعلى الشيخ خليل المغربي والشيخ محمد الفرماوي وغيرهم من فضلاء الوقت، وأجازه الشيخ محمد الملوي بما في فهرسته. وحضر دروس الشيخ عطية الأجهوري في الأصول والفقه وغير ذلك، فلازمه وبه تخرج في الإلقاء، وحضر الشيخ علي الصعيدي والبراوي، وتلقى عن الشيخ حسن الجبرتي كثيراً من العلوم، ولازم التردد عليه والأخذ منه مع الجماعة ومنفرداً، وكان يحبه ويميل إليه ويقبل بكليته عليه.
وحج مع والده في سنة ثمان وستين وجاور معه، فاجتمع بالشيخ السيد عبد الله الميرغني صاحب اللطائف، واقتبس من فوائده واجتنى من ثماره، وكان آية في الفهم والذكاء، والغوص والاقتدار على حل المشكلات، وأقرأ الكتب وألقى الدروس بالأشرفية، وأظهر التعفف والانجماع عن خلطة الناس، والذهاب والترداد إلى بيوت الأعيان، والتزهد عما بأيديهم، فأحبه الناس وصار له أتباع ومحبون، وساعده على ذلك الغنى والثروة وشهرة والده وإقبال الناس عليه ومدحتهم له وترغيبهم في زيادته، وتزوج ببنت الخواجا الكريمي وسكن بدارها المجاور لبيت والده بالأزبكية، واتخذ له مكاناً خاصاً بمنزل والده يجلس فيه في أوقات، وكل من حضر عند أبيه في حال انقطاعه من الأكابر أو من غيرهم للزيارة أو للتلقي، يأمره بزيارة(1/1321)
ابنه المترجم والتلقي عنه وطلبهم الدعاء منه، ويحكي لهم عنه مزايا وكرامات ومكاشفات ومجاهدات وزهديات، فازداد اعتقاد الناس فيه. وعاشر العلماء والفضلاء من أهل عصره ومشايخه وقرنائه، وتردد عليهم وترددوا عليه، ويبيتون عنده ويطعمهم ويكرمهم ويتنزه معهم في أيام النيل مع الحشمة والكمال، ومجانبة الأمور المخلة بالمروءة.
ولما مات أخوه الكبير الشيخ أحمد وقد كان تصدر بعد والده في إقراء الدروس، أجمع الخاص والعام على تقدم المترجم في إقراء الدروس في الأزهر والمشهد الحسيني في رمضان، فامتنع من ذلك، وواظب على حالة انجماعه وطريقته وإملائه الدروس بالأشرفية. وحج في سنة سبع وثمانين ومائة وألف، وجاور سنة وعقد دروساً بالحرم وانتفع به الطلبة، ثم عاد إلى وطنه وزاد في الانجماع والتحجب عن الناس في أكثر الأوقات، فعظمت رغبة الناس فيه، ورد هداياهم مرة بعد أخرى، وأظهر الغنى عنهم فازداد ميل الناس إليه، وجبلت قلوبهم على حبه واعتقاده.
وتردد الأمراء وسعوا لزيارته أفواجاً، وربما احتجب عن ملاقاتهم، وقلد بعضهم بعضاً في السعي، ولم يعهد عليه أنه دخل بيت أمير قط، أو أكل من طعام أحد قط، إلا بعض أشياخه المتقدمين، وكانت شفاعته لا ترد عند الأمراء والأعيان، مع الشكيمة والصدع بالأمر والمناصحة في وجوههم إذا أتوا إليه، وازدادت شهرته وطار صيته، ووفدت عليه الوفود من الحجاز والغرب والهند والشام والروم، وقصدوا زيارته والتبرك به، وحج أيضاً في سنة تسع وتسعين لما حصلت الفتنة بين أمراء مصر، فسافر بأهله وعياله وقصد المجاورة، فجاور سنة وأقرأ هناك دروساً، واشترى كتباً نفيسة، ثم عاد إلى مصر واستمر على حالته في انجماعه وتحجبه عن الناس، بل بالغ في ذلك، ويقرئ ويملي الدروس بالأشرفية، وأحياناً بزاويتهم بدري شمس الدولة، وأحياناً بمنزله بالأزبكية.(1/1322)
ولما توفي الشيخ أحمد الدمنهوري وتولى مشيخة الأزهر الشيخ عبد الرحمن العريشي الحنفي، باتفاق الأمراء والمتصدرين من الفقهاء، وهاجت حفائظ الشافعية، ذهبوا إليه وطلبوه للمشيخة فأبى ذلك، ووعدهم بالقيام لنصرتهم وتولية من يريدونه، فاجتمعوا ببيت الشيخ البكري واختاروا الشيخ أحمد العروسي لذلك، وأرسلوا إلى الأمراء فلم يوافقوا على ذلك، فركب المترجم بصحبة الجمع إلى ضريح الإمام الشافعي، ولم يزل حتى نقض ما أبرمه العلماء والأمراء، ورد المشيخة إلى الشافعية، وتولى الشيخ أحمد العروسي وتم له الأمر كما تقدم ذلك في ترجمة العريشي، ولما توفي الشيخ أحمد العروسي كان المترجم غائباً عن مصر في زيارة سيدي أحمد البدوي، فأهمل الأمر حتى حضر وتولى الشيخ عبد الله الشرقاوي بإشارته.
ولم يزل وافر الحرمة معتقداً عند الخاص والعام، حتى حضر الفرنساوية واختلت الأمور وشارك الناس في تلقي البلاء، وذهب ما كان له بأيدي التجار ونهب بيته وكتبه التي جمعها، وتراكمت عليه الهموم والأمراض، وحصل له اختلاط، ولم يزل حتى توفي يوم الأحد حادي عشرين شهر ذي القعدة الحرام عام ألف ومائتين وخمسة عشر بحارة برجوان، وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل، ودفن عند والده وأخيه بزاوية القادرية بدرب شمس الدولة. وبالجملة فكان من محاسن مصر والفريد في العصر، ذهنه وقاد ونظمه مستجاد، وكان رقيق الطبع لطيف الذات، مترفهاً في مأكله وملبسه.
ومن مؤلفاته مختصر المنهج في الفقه، وزاد عليه فوائد، واختصر الاسم وسماه النهج، ثم شرحه وهو بالغ في بابه، ومنها شرح المعجم الوجيز لشيخه السيد عبد الله الميرغني، وقد اعتنى به وقرأه درساً، ومنها شرح عقيدة والده المسماة منقذة العبيد في كراريس أجاد فيه جداً، ورسالة في تعريف شكر المنعم، وشرح الجزرية، والدر النظم في تحقيق(1/1323)
الكلام القديم، ونظم عقائد النسفي، وعقيدة في التوحيد وشرحها بشرحين، واللمعة الألمعية في قول الشافعي بإسلام القدرية، وتحقيق الفرق بين علم الجنس وبين اسمه، وإتحاف الكامل ببيان تعريف العامل، وزهر الأفهام في تحقيق الوضع وما له من الأقسام، وحلية ذوي الأفهام بتحقيق دلالة العام، وإتحاف الطرف في بيان متعلق الظرف، والروض الأزهر في حديث من رأى منكم منكر، ورسالة في تعريف الشكر العرفي، وثمرة غريس الاغتناء بتحقيق أسباب البناء، والدر المنثور في الساجور، وإتحاف الآمال بجواب السؤال في الحمل والوضع لبعض الرجال، وإتحاف الأحبة في الضبة أي المفضضة، ورسالة في التوجه وإتمام الأركان، ورسالة في زكاة النابت، ورسالة في ثبوت رمضان، ورسالة في أركان الحج، ورسالة في مد عجوة ودرهم، ورسالة في مسألة الغصب، وحاشية على شرح ابن قاسم العبادي إلى البيوع، والروض الوسيم في المفتى به من المذهب القديم، ورسالة في النذر للشريف، ورسالة في إهداء القرب للنبي عليه السلام، ورسالة في الأصولي والأصول، ورسالة في مسألة ذوي الأرحام وإتحاف اللطيف بصحة النذر للموسر والشريف. وله غير ذلك منظومات وضوابط وتحقيقات رحمه الله تعالى.
الشيخ محمد بن محفوظ بن منفاخ الدمشقي الصالحي المعروف بأبي تفالة
قطب الشام وبركة الأنام، صاحب الكرامات الكثيرة والكشوفات الشهيرة، والإخبارات العجيبة الواقعة المصيبة، وكان كثير الأحوال(1/1324)
مع الهيبة والجلال، دائم الاصطلام على ممر الأيام، لا يتقيد بلباس ولا بمعرفة قدر أحد من الناس، قد أسكره شراب المحبة، وقصره على الشخوص إلى الأحبة. وكان كثير القعود في الطريق أمام المحل الذي دفن فيه، ويطلب من المارين الدراهم فمن لم يعطه شتمه بملء فيه، ولكن من الغريب وأعجب العجيب، أن من مر عليه ولم يكن معه شيء من الدراهم لم يتعرض له بل يمر عليه وهو له باسم.
ولد بدمشق الشام ونشأ بها وهو على حالة الجذب والاصطلام، ولم يزل يقوى عليه الحال ويترقى في مدارج الجلال، ويزداد تصديق الناس لحاله ويحكمون بنواله لمرغوبه حسب آماله، إلى أن مات رضي الله عنه يوم عيد عرفة سنة سبع عشرة ومائتين وألف، وحضر جنازته الجم الغفير والعدد الكثير، ودفن في حجرته في جامع السكة جانب حمام العفيف، ويعرف الجامع الذي دفن فيه بجامع العفيف، وعليه شعرية حائلة بين القبر ومصلى الناس، وهو مقصود بالزيارة يزوره الناس ويتبركون به، ومن جملة ما رقم عند قبره الشريف رفع الله قدره المنيف:
أعط المعية حقها ... والزم له حسن الأدب
واعلم بأنك عبده ... في كل حال وهو رب
الشيخ محمد بن سعيد سنبل الدمشقي
العالم العامل والفاضل الكامل. ولد بدمشق وبها نشأ وأخذ عن والده المذكور، وعن الشيخ سعيد سفر وعن العلامة أحمد الجوهري وأخيه محمد الطاهر ووالدهما وعن العلامة محمد عارف بن حجار وعن العجيمي والدمنهوري، واشتهر بالعلم والصلاح والفضل. توفي عام ثمانية عشر ومائتين وألف رحمه الله تعالى.(1/1325)
الشيخ محمد المهدي المغربي الزواوي المالكي مقدم الطريقة الخلوتية
شيخ الطريقة ومعدن السلوك والحقيقة، صاحب الفيوضات الإلهية والكشوفات الربانية، العارف بالله والمقبل بكليته على مولاه، المرشد الإمام والمسلك الهمام.
ولد في المغرب سنة ألف ومائتين، ثم لما استولى الفرنسيون على الجزائر وتوابعها هاجر بعياله إلى دمشق الشام سنة ثلاث وستين ومائتين وألف، واستقام في حارة الخضيرية، وكان يقيم الأذكار ويسلك المريدين في مدرسة الخضيرية. وقد أخذ عنه كبراء دمشق وعلماؤها وحكامها وفضلاءها. وأخذ عنه الوزير الكبير والمشير العظيم الخطير، صاحب الدولة أحمد عزة باشا، وكان والي دمشق ومشير الأوردي الهمايوني الخامس ولم يزل ملازماً للطريق على أتم حال وأكمل منوال، إلى أن دخلت سنة ألف ومائتين وسبع وسبعين، فكان ما كان من حادثة النصارى المعروفة بفوق العادة، وقد أمرت الدولة بإطلاق الرصاص على الوالي المرقوم لنسبتها القصور إليه، وترتب هذه الفتنة على إهماله وعدم مدافعته، ولم تتمكن الدولة من إطفاء نار الفتنة إلا بإعدامه كما ذكرت ذلك بأطول من هذا الكلام في ترجمة الوالي المذكور، فمات شهيداً مظلوماً ودفن بمقبرة بني الزكي بصالحية دمشق، جوار سيدي محي الدين قدس سره. ومن المشهور أن صاحب الترجمة كان يقول له يا أحمد ستموت شهيداً، ولما أرادوا قتله عرضوا عليه الماء فلم يقبل وقال أنا صائم ولم أفطر إلا في الجنة، مات(1/1326)
المترجم سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف، وحضر غسله الأفاضل والأعيان والأمائل وذوو الشأن، ولما وضع نعشه على الأعناق ازدحم عليه الناس حتى صارت كالبساط تحته، وانسدت الطرقات فلم يجد الإنسان طريقاً للسلوك، وصلى عليه الألوف من الناس في جامع بني أمية، ودفن في قاسيون في مقبرة سيدنا نبي الله ذي الكفل، وقبره معروف مشهور عليه مهابة ونور.
الشيخ محمد أبو القاسم بن عربي المغربي الفلالي
الأسمر المشهور بالشرف، الصوفي الصالح والمرشد الناجح، بركة الأنام وعمدة الإسلام، القدوة الكامل والنخبة الفاضل، معتقد الصالحين ومعتمد الناجحين. كان إماماً في القراآت السبعية، وكان ملازماً لتلاوة الدلائل في الصلاة على خير البرية. وكان كثير التواضع مهاباً مقبول الدعوة مجاباً، له اليد الطولى في كلام القوم، ومواظبة كلية على القيام والصوم، وكان أسمر اللون طويل القامة، ذا هيئة حسنة جميلة، ملازماً لمقام الشيخ الأكبر. وكانت وفاته في منتصف رمضان المبارك سنة سبع وثمانين ومائتين وألف، ودفن في تربة ابن الزكي جوار جامع سلطان العارفين الشيخ الأكبر قدس سره.
الشيخ محمد بن صالح بن عبد القادر بن إبراهيم بن السيد شرف الدين
الحنفي الشهير بالكيلاني نسبة إلى سيدنا عبد القادر الكيلاني الحسني، ولد المترجم سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف، ونشأ في حجر والده واجتهد في العلم والطلب ونال بحمد الله غاية الأرب، وأجازه السادة الأفاضل والقادة ذوو الشمائل، واستفاد وأفاد، وألف الكتب والرسائل وأجاد. ومن جملة تأليفاته نسمات الأسحار في فضائل العشرة الأبرار والحاصل أنه(1/1327)
كان من السادات الصالحين والأفاضل المعتقدين، ناهجاً منهج أسلافه مشهوراً بين الناس في حسن أوصافه، وكان خاشعاً متواضعاً مهاباً مقبول الكلمة، وكانت وفاته رحمه الله تعالى في دمشق سنة أربع وأربعين ومائتين وألف، ودفن بسفح قاسيون بتربة سيدنا ذي الكفل.
الشيخ محمد أنيس بن حسن بن مصطفى الطرابلسي الأصل الدمشقي المولد الحنفي
أحد أمناء الفتوى بدمشق الشام لدى مفتيها العالم العلامة السيد محمود أفندي حمزة كان المترجم المرقوم على قدم صالح ودين راجح، وتقوى وعبادة وصلاح وزهادة، وحلم وعمل من غير ملل ولا كسل، مات في الخامس والعشرين من رمضان سنة خمس وتسعين ومائتين وألف ودفن قرب تربة بني حمزة.
السيد محمد نسيب بن السيد حسين بن السيد يحيى نقيب الأشراف بن السيد حسن نقيب الأشراف بن السيد عبد الكريم نقيب الأشراف الحسيني
الدمشقي الحنفي المشهور بابن حمزة. من أفاضل الصدور، والأعيان ذوي القدر العالي المشهور، الإمام الشريف والعالم العامل الزاهد العفيف، صاحب الفواضل والعرفان فريد العصر والأوان.(1/1328)
ولد بدمشق خامس عشر صفر سنة إحدى ومائتين وألف، ونشأ بها معتكفاً على الطلب والعلم والأدب، مع العفة والصيانة والتقوى والديانة، أخذ عن السيد شاكر العقاد الشهير بمقدم سعد، وعن الشمس محمد الكزبري وعن الشيخ محمد عبد العاني والشيخ عبد الكريم الطاراتي وعن الشيخ أحمد المخللاتي وعن غيرهم، وله من النثر والنظام ما يزدري بكلام ابن نباتة وأبي تمام.(1/1329)
مات غاية ذي الحجة الحرام سنة خمس وستين ومائتين وألف، ودفن بمقبرة مرج الدحداح بجوار أجداده قرب مزار سيدنا أبي شامة المقدسي.
الشريف محمد بن محمود بن حسين بن محمد بن أمين الدمشقي الحنفي
المعروف بمحمد أفندي الشريف المكي، ولد بدمشق سنة ثلاث ومائتين وألف، ونشأ بها واشتغل مدة بالطلب على العلماء الدمشقيين، كالشيخ سعيد الحلبي والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ عبد الله الكردي وغيرهم، وأخذ الطريقة النقشبندية عن الشيخ خالد الحضرة الكردي، وكان يشتغل خياطاً مدة طويلة، ثم تركها لضعف في بصره ولكبره، وكان فقيراً صالحاً. ثم وضع نائباً في المحكمة الكبرى بدمشق، فكان بعد ذلك عرضة(1/1330)
للكلام، وكثر عليه الانتقاد ونسب إليه ما لا يليق بمقام من يتولى الأحكام. مات يوم الأحد خامس عشر جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة مرج الدحداح رحمنا الله وإياه.
الشيخ محمد بن عمر البرجكلي ثم الدمشقي الحنفي الشهير بالصوفي
ولد في برجيك سنة ثلاث ومائتين وألف ونشأ بها، وفي سنة ثلاثين ومائتين وألف قدم الشام واستوطنها. وكان زاهداً عابداً متفقهاً في دينه حسن الكتابة في أنواع الخطوط، وكان له محل في حارة حمام القاضي يأخذ الناس عنه الكتابة فيه، وكان جميل المنظر ذا هيبة ووقار، لا يتكلم إلا في الوعظ والرقائق والمذاكرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنواع الأذكار. وكان معتقداً عند الخاص والعام يتبرك به ويطلب دعاه، وكان شافعي المذهب صوفي المشرب، مات في اليوم التاسع من ذي الحجة الحرام سنة خمس وثمانين ومائتين وألف، ودفن في مرج الدحداح.
الشيخ محمد كمال الدين بن محمد شريف بن أبي المعالي محمد الغزي الدمشقي الشافعي مفتي الشافعية في دمشق الشام.
حامل علم العلم الباذخ، وحامي حمى الفضل الذي هو فيه راس وراسخ، منبع الكمالات والفضائل، ومربع ذوي المعارف والفواضل، من ارتوى من نمير العوارف، وتحلى بحلية الجمالات واللطائف.(1/1331)
ولد في دمشق في اليوم السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده، واشتغل عليه وعلى غيره من السادة الفضلاء والأئمة النبلاء، منهم الشيخ أحمد البعلي الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق والعلامة صالح الأزهري والعلامة محمد البخاري ومحمد بن عبد الله بن محمد بن فيروز الحنبلي والعلامة البصير عن محمد سفر وعن العلامة أبي الطيب أحمد بن عبد الله السويدي وأخته أم الخير رقية وعن محمد سعيد السويدي ويوسف الزرقاني ومحمد بن علي الشنواني وإبراهيم بن خطاب البجيرمي الشافعي والعلامة عبد العليم المالكي والسيد مصطفى الأيوبي الأنصاري الرحمتي والشيخ التافلاتي مفتي القدس ومحب الله الهندي وابن منجا الطرابلسي وإسماعيل القاضي وإسماعيل أبو الفدا المواهبي.
وله تأليفات منيفة ورسائل شريفة، منها التذكرة الكمالية، المسماة بالدر المكنون والجمان المصون من فرائد العلوم وفوائد الفنون، ومنها الورد الأنسي والوارد القدسي، في ترجمة العارف عبد الغني النابلسي. وشاعت فضائله في أقطار البلاد وانتفع به الحاضر والباد، حتى ذاع ذكره بين أكابر الحكام، وشاع قدره بين الخاص والعام، مات في السابع والعشرين من صفر سنة أربع عشرة، ومائتين وألف ودفن في الدحداح.(1/1332)
الشيخ محمد أمين الكردي الشافعي المجاور في مسجد جامع الأقصاب
عالم عامل وزاهد فاضل، معتكف على التقوى والديانة متصف بالخلوة والصيانة، له شهرة عالية وآثار في الكمال وافية، ذو هيبة وجمال ولطف وكمال، له مواظبة على التفكر والمراقبة، مات في دمشق سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف، ودفن في مرج الدحداح رحمه الله تعالى.(1/1333)
الشيخ محمد بن أحمد وهبي الحنفي الدمشقي المعروف بابن سنان
الحائز حميد الخصال والمستوي في المكان على منصة الاعتدال، والمحتوي من العلوم علىالمرام وكان له ذكر جميل في كل مقام، وكان له حظ وافر وقبول عال وكان معدوداً من ذوي الكمال، مات بدمشق سنة أربعين ومائتين وألف ودفن في مقبرة مرج الدحداح.(1/1334)
السيد محمد علاء الدين بن السيد محمد عابدين بن السيد عمر بن السيد عبد العزيز
ابن السيد أحمد بن السيد عبد الرحيم بن السيد نجم الدين بن السيد الشريف العالم العامل والولي الفاضل، محمد صلاح الدين الشهير بعابدين، ابن السيد نجم الدين الثاني بن السيد محمد كمال بن السيد تقي الدين الشهير بالمدرس، بن السيد مصطفى الشهابي بن السيد حسين بن السيد رحمة الله بن السيد أحمد الثاني بن السيد علي بن السيد أحمد الثالث بن السيد محمود بن السيد أحمد الرابع بن السيد عبد الله بن السيد عز الدين بن السيد عبد الله الثاني بن السيد قاسم بن السيد حسن بن السيد إسماعيل بن السيد حسين بن السيد أحمد الخامس بن السيد إسماعيل الثاني بن السيد محمد بن السيد إسماعيل الأعرج بن السيد الإمام جعفر الصادق بن السيد الإمام محمد الباقر بن السيد الإمام علي زين العابدين بن حضرة السيد الإمام سيد الشهداء حسين بن السيدة الطاهرة البتول فاطمة الزهراء بضعة سيد المرسلين وزوجة سيدنا علي بن عم سيد الأولين والآخرين.
ولد المترجم المرقوم في دمشق الشام في ثالث ربيع الأول سنة أربع وأربعين ومائتين وألف، ومن حين تمييزه اشتغل في قراءة القرآن، إلى أن أتقنه غاية الإتقان، ثم اشتغل في الطلب ونال منه ما رام وطلب، وقصد البيت الحرام للنسك والعبادة، أربع مرات وهو عازم على الزيادة، وأخذ عن جملة من العلماء، وعصبة من الفضلاء، ما بين دمشقيين ومصريين وروميين وحجازيين. من أجلهم سيدي والده السيد الشيخ محمد أمين عابدين وسيدي والدي الشيخ حسن البيطار، والشيخ سعيد الحلبي، والشيخ عبد الرحمن الكزبري، وشيه الأزهر الشيخ إبراهيم الباجوري والشيخ عليش والشيخ إبراهيم السقا والشيخ المبلط والشيخ المنصوري وغيرهم من السادة(1/1335)
المصريين، وعن الشيخ جمال والمرغني والشيخ محمد الكتبي وعن الشيخ دحلان مفتي الشافعية بمكة المكرمة، وعن الشيخ يوسف الغزي رئيس المدرسين بالمدينة المنورة، وعن كثير من الواردين من عراقيين وروميين، ومن جملة من أخذ عنه في الشام أيضاً الشيخ عبد الرحمن الطيبي والشيخ حسن الشطي والشيخ حامد العطار والشيخ هاشم التاجي، وغيرهم من السادات الأجلاء العظام والقادات الفضلاء الكرام، وأفاد واستفاد وحصل ما رام وأراد.
وله من التأليفات الشريفة: كتاب معراج النجاح على متن نور الإيضاح في مجلد كبير، وكتاب قرة عيون الأخيار تكملة حاشية رد المحتار على الدر المختار، لوالده العلامة السيد محمد أمين عابدين، ورسالة إغاثة العاري لزلة القاري، وكتاب الهدية العلائية، وكتاب مثير الهمم الأبية إلى ما أدخلته العوام في اللغة العربية.
وقد سافر إلى الأستانة العلية دار مملكة الدولة الإسلامية، ووظف بها عضواً في الجمعية العلمية، الشعبة من ديوان أحكام العدلية، سنة خمس وثمانين ومائتين وألف. ثم بعد ثلاث سنين قدم استعفاء، وحضر للشام بمعاش شهري، ونيشان وسام من الرتبة الرابعة وباية إزمير، ثم تعين رئيساً للجمعية الخيرية في الشام، ثم صار نائباً في طرابلس الشام سنتين ونصفاً، أولها شوال سنة اثنتين وتسعين ومائتين وألف، ثم أرسل إليه من الدولة فرمان مولوية ادرنه من بلاد الخمسة باية مجردة سنة أربع وتسعين ومائتين وألف، ثم في سنة إحدى بعد الثلاثمائة والألف أرسل له فرمان باية بورسه من بلاد الخمسة موصلة الحرمين الشريفين. ثم في ثامن محرم الحرام سنة أربع بعد الثلاثمائة والألف وجهت(1/1336)
عليه باية مكة المكرمة والنيشان عالي الشان المجيدي من الصنف الثالث، وهو إلى الآن رئيس ثان في مجلس معارف ولاية سورية الجليلة. ولم يزل مشتغلاً في الإفادة، والإرشاد مع التقوى والعبادة، وإغاثة الملهوف وإعانة المحتاج.
ولم يزل يترقى في درج الكمال ويتعلق بأسباب النجاح والنوال، ويشتهر في الآفاق ذكره ويعلو في الأنام قدره، إلى أن مرض في يوم الجمعة مستهل شوال ولم يزل يزداد مرضه إلى أن توفي يوم الاثنين حادي عشر شوال قبيل طلوع الشمس، وذلك سنة ست وثلاثمائة وألف، وصلي عليه الظهر في الجامع الأموي. وحضر جنازته جم غفير وجمع كثير، حتى كاد أن يقال حضر جنازته أهل البلد ولم يتخلف عنها كبير ولا ولد، فغصت الطرقات من الازدحام وعلت الأصوات بالبكاء الذي لا يرام، ودفن بمقبرة باب الصغير بالقرب من والده رحمة الله تعالى عليه وعلى المسلمين أجمعين.
الشيخ محمد شمس الدين بن حسن بن يوسف الدمشقي الحنفي الخلوتي المعروف بالطباخ
شيخ الطريقة الخلوتية وعين الحقيقة الجلوتية، المربي الناصح والمرشد الناجح، ولد بدمشق ونشأ بها في حجر والده بالأدب والصيانة والعفة والأمانة. أخذ الطريقة الخلوتية عن والده وهو أخذها عن السيد نصري عن الشيخ مرجان، عن القطب عيسى بن كنان، عن القطب الكبير الشيخ العباسي، عن الهيكل الصمداني الشيخ أحمد العسالي الرباني، واشتغل المترجم في الطريق والأذكار. والإرشاد في الليل والنهار، إلى أن توفي سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف ودفن في الدحداح.
الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن محمد حجازي الشافعي البقاعي الشهير بالكفرسوسي
أحد العلماء العظام وأوحد الفضلاء الكرام، العالم الفاضل، والعامل الكامل، كان من الأماجد الأعيان والمقدمين ذوي القدر والشان، توفي يوم عاشوراء سنة تسع وعشرين ومائتين وألف ودفن في الدحداح.(1/1337)
الشيخ محمد الزهري بن عمر بن محمد بن محمد بن عمر الدمياطي الأصل الدمشقي
الحنفي المعروف باليافي الخلوتي، شيخ الطريقة الخلوتية بدمشق المحمية الشيخ الصالح المؤدب المرشد الناصح، الورع الزاهد والناسك العابد، الخاشع.
ولد بدمشق ونشأ بها، وأحيا الطريقة الخلوتية وأقام الأذكار، واشتهر صلاحه وزهده وورعه وتقواه في هذه الديار، وشاع صيته في سائر الأقطار، وكان ذا هيبة ووقار، أخذ الطريقة الخلوتية عن أبيه وألبسه الخرقة وأذن له في الأذكار، وأعطاء الطريق لمستحقه، ولا زال عاملاً بما أوصاه به والده إلى أن خطبته المنية سنة سبعين ومائتين وألف، ودفن في تربة الدحداح عنده والده.
السيد محمد سعيد أفندي الكيلاني بن السيد محمد بن السيد صالح بن السيد عبد القادر بن السيد إبراهيم
ابن السيد شرف الدين بن السيد أحمد بن السيد علي الهاشمي(1/1338)
بن السيد أحمد شهاب الدين بن السيد قاسم شرف الدين بن السيد يحيى محي الدين بن السيد حسين نور الدين بن السيد علي علاء الدين بن السيد شمس الدين بن السيد يحيى سيف الدين، وهو أول من نزل حماه واستوطنها، ابن السيد أحمد ظهير الدين بن السيد محمد أبو النصر بن قاضي القضاة السيد عبد الرزاق أبو صالح بن القطب الأعظم، والغوث الفرد الأفخم، السيد عبد القادر الجيلاني قدس الله روحه ونور مرقده وضريحه.
ولد المترجم سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف في دمشق الشام، ونشأ في الطاعة والتقوى والصيام والقيام، إلى أن جلس على سجادة المشيخة العلية في الطريقة القادرية، وأرشد وأفاد وخدم طريقة جده حسب المراد، وجعل داره مورد المريدين ومأوى القاصدين، وهو من أعيان دمشق الشام وصدورها ذوي القدر والاحترام. ومن حين أن شب خطبته المناصب ورفعته على أعلى المراتب، إلى أن صار عضواً في مجلس إدارة ولاية دمشق ذات الرعاية والحفظ والحماية، ومع ذلك فهو لطيف متواضع ليس على طالبه حاجب ولا مانع، حسن العبادة كثير الوداد، مساعد لمن يقصده على المراد، سيرته حسنة وشمائله مستحسنة، حاتمي الكرم علوي الهمم، صحيح النسب رفيع الحسب أعلا الله علاه ورفع على درجات القرب مرتقاه.
الشيخ محمد عيد بن محمد بن محمد أحمد العاني الدمشقي الشافعي
ولد بدمشق الشام ونشأ بها في حجر والده، وكان شهيراً في العلم والصلاح وسلوك منهج السعادة والفلاح، مستقيم الأطوار أشهر من الشمس في رابعة النهار. مات غرة جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف ودفن في تربة الدحداح.(1/1339)
الشيخ محمد بن مصطفى بن محمد بن رحمة الله بن عبد المحسن بن القاضي جمال الدين الأيوبي الأنصاري الدمشقي الحنفي المعروف بالرحمتي نسبة إلى جده رحمة الله.
ولد بدمشق سنة ست وسبعين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده، وكان حسن المجالسة لطيف المؤانسة، مفنناً في العلوم دقيق النظر ما بين المنطوق والمفهوم.
رحل إلى المدينة المنورة واستقام بها وأخذ عن فضلائها، ومن أجلهم صهره العلامة أحمد أفندي إلياس مفتي المدينة المنورة، وأخذ أيضاً عن محمد أفندي ميرغني مفتي مكة المكرمة، وقرأ الشفا الشريف للقاضي عياض درساً عاماً تجاه الحجرة الشريفة بتوجيه من السلطان محمود، وأقام في المدينة المنورة إلى سنة خمس وعشرين ومائتين وألف، ثم عاد إلى دمشق الشام.
وقد أخذ عن والده لحديث المسلسل بالحنفيين، ورواه عنه، ووالده يرويه عن الأستاذ عبد الغني النابلسي، عن والده الشيخ إسماعيل، عن والده عن الشيخ إسماعيل عن شمس الدين بن طولون عن لسان الدين محمود عن والده سري الدين عبد البر بن الشحنة عن زين الدين بن قطلوبغا عن أمين الدين القاهري عن موفق الدين محمد بن محمد الأكفاني عن عز الدين أحمد بن المظفر عن حافظ الدين محمد بن محمد عن شمس الأئمة محمد بن عبد الستار عن بدر الدين عمر بن عبد الكريم عن ركن الدين عبد الرحمن الكرماني عن شمس الدين محمد بن الحسن عن عبد الرحيم بن عبد العزيز عن القاضي أبي زيد عبد الله بن عيسى الدبوسي عن أبي جعفر السمرقندي عن أبي الحسن علي النسفي عن الإمام الكبير أبي بكر بن محمد بن الفضل عن أبي محمد عبد الله بن محمد بن يعقوب السندموني عن(1/1340)
أبي حفص عن أحمد أبي حفص الكبير عن أبي عبد الله محمد بن الحسين الشيباني عن تقي الدين أحمد بن محمد الشمني عن محمد بن الحسن عن الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان عن عبد الله بن أبي حبيبة عن أبي الدرداء قال كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا الدرداء من شهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله وجبت له الجنة، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال فسار ساعة فأعاد الكلام علي فقلت وإن زنى وإن سرق قال ص وإن زنى وإن سرق، وإن رغم أنف أبي الدرداء، قال فكان أبو الدرداء يحدث بهذا الحديث جميعه، ويضع إصبعه على أنفه ويقول: وإن رغم أنف أبي الدرداء. مات المترجم بدمشق سنة خمسين ومائتين وألف ودفن في الدحداح.
الشيخ محمد نجيب بن أحمد بن سليمان بن أحمد بن محمد الدمشقي الحنفي الشهير بالقلعي
البدر الذي سرى في سماء المعارف فاهتدى بنوره كل مريد صادق عارف، وحيد الفضائل والكمال محمود الشمائل والخصال، من سمت أوصافه وخلائقه وزكت شيمه وطرائقه. وساد على أقرانه وأحرز قصب السبق في ميدانه، وتحلى بأحاسن الشيم وتوشح بجلباب الفضائل والكرم، فهو الأوحد البارع في الكمال والأمجد السامي ندوة الأفضال، العلامة العارف الحائز رتب المعارف، قطب الدائرة الكونية وفقيه الديار الشامية، وإمام مذهب النعمان ومعتمد هذا الشان.(1/1341)
ولد بدمشق سنة ستين ومائة وألف، ونشأ متطوراً بطور الكمال متحلياً بأنواع الجمال، واشتغل بأنواع العلوم من فروع وأصول، ومعقول ومنقول، وأخذ عن جملة من العلماء الأعلام، والأئمة الكرام، من دمشقيين، وحجازيين، ومصريين، وعراقيين، ومن أجلهم السيد مصطفى بن شمس الدين محمد بن رحمة الله بن السيد عبد المحسن الأيوبي الأنصاري الدمشقي الحنفي، وعن السيد عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس والشيخ مصطفى بن إبراهيم الحلبي محشي الدر المختار، وأعلا أسانيده في أخذ الأحكام الفقهية عن السيد مصطفى الأيوبي المولود سنة 1135 المتوفى سنة 1205 عن العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي المولود في ذي الحجة سنة 1050 المتوفى سنة 1143 عن والده الشيخ إسماعيل النابلسي المولود سنة 1017 المتوفى سنة 1163 عن الشهاب أحمد الشوبري المولود سنة...... المتوفى سنة 1066 عن عمر بن نجيم المولود سنة.... المتوفى سنة 1005 عن الشهاب أحمد بن يوسف الشلبي المولود سنة 880 المتوفى سنة 947 عن الثر بن عبد البر بن الشحنة المولود سنة 851 المتوفى سنة 921 عن الكمال محمد بن عبد الواحد المولود سنة 788 المتوفى سنة 861 عن علاء الدين اليرامي المولود سنة ... المتوفى سنة 770 عن السيد جلال الدين الكبير المولود سنة؟ المتوفى سنة 745 عن الإمام أبي عبد الستار محمد بن عبد الستار الكردري المولود سنة 559 المتوفى سنة 643 عن البرهان علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني صاحب الهداية المولود سنة؟ المتوفى سنة 593 عن فخر الإسلام علي بن محمد بن الحسين البزدوي المولود سنة 400 المتوفى سنة 483 عن شمس الأئمة عبد العزيز بن أحمد بن نصر بن صالح الحلواني المولود سنة....المتوفى سنة 448 عن القاضي أبي علي الحسين بن الخضر النسفي المولود سنة 344 المتوفى سنة 424 عن الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري المولود سنة 307 المتوفى سنة 388 عن عبد الله(1/1342)
بن محمد بن يعقوب السيدموني المولود سنة 258 المتوفى سنة 340 عن الأمير أبي عبد الله محمد بن أبي حفص أحمد بن محمد البخاري ولد سنة.....وتوفي سنة 272 عن والده أبي حفص المولود سنة 150 المتوفى سنة 217 عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني المولود سنة 131 المتوفى سنة 189 عن سيدنا سراج الأمة أبي حنيفة النعمان بن ثابت المولود سنة 80 المتوفى سنة 150 عن حماد بن مسلم المولود سنة..... المتوفى سنة 120 عن إبراهيم النخعي الكوفي المولود سنة ... المتوفى سنة 96 عن علقمة بن قيس بن مالك النخعي الفقيه، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي سنة 63 عن عبد الله بن مسعود بن الحارث بن غافل بن حبيب المتوفى سنة 32 عن النبي صلى الله عليه وسلم المولود عام الفيل والمتوفى سنة 11 بعد الهجرة.
هذا وإن والدي يروي عنه ما تجوز له روايته عن مشايخه، ويروى عنه بالسند الحديث المسلسل بالأولية، كما يرويه هو عن الشيخ محمد عقيله قال وهو أول حديث سمعته منه، عن الشيخ محمد بن عبد العزيز المنوفي قال وهو أول حديث سمعته منه، عن أبي الخير بن عموس قال وهو أول حديث سمعته منه، عن شيخ الإسلام الشريف زكريا بن محمد الأنصاري قال وهو أول حديث سمعته منه، عن الحافظ ابن حجر العسقلاني قال وهو أول حديث سمعته منه، عن الحافظ زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم العراقي قال وهو أول حديث سمعته منه، عن الصدر أبي الفتح محمد بن محمد الميدومي قال وهو أول حديث سمعته منه، عن أبي الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني قال وهو أول حديث سمعته منه، عن الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي قال وهو أول حديث سمعته منه، عن أبي سعيد إسماعيل النيسابوري قال وهو أول حديث سمعته منه، عن أبي صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن قال وهو أول حديث سمعته منه، عن أبي طاهر محمد بن محمد بن مخمش الزيادي(1/1343)
قال وهو أول حديث سمعته منه، عن أبي حافد أحمد بن محمد بن يحيى البزار قال وهو أول حديث سمعته منه، عن عبد الرحيم بن بشر بن الحاكم النيسابوري قال وهو أول حديث سمعته منه، عن سفيان بن عيينة قال وهو أول حديث سمعته منه، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاص، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " قال الترمذي حديث حسن صحيح.
توفي المترجم المرقوم في اليوم السابع والعشرين من شهر شعبان المعظم سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف، ودفن في باب الصغير قرب قبر سيدنا أوس بن أوس الثقفي الصحابي الجليل رضي الله عنه.
السيد محمد عطا الله الأيوبي، بن محمد سعيد، بن الشهاب أحمد، بن محمد نجيب، بن إبراهيم، بن القاضي عبد المحسن، بن القاضي جمال الدين يوسف، ابن شهاب الدين أحمد، بن ولي الدين محمد، بن شهاب الدين أحمد، بن يوسف جمال الدين بن تقي الدين، بن أبي بكر عين الملك، بن رمضان الأخلاطي، بن زين الدين عبد القادر أبي عبد الله محمد، بن محمد بن إبراهيم، بن يوسف، بن عبد الرحمن، بن عمير، بن كثير بن زيد، بن حسان، بن سالم، بن عبد الرحمن، بن إبراهيم، بن الأشعث، بن ثعلبة، بن سهل بن سهيل، بن أبي القاسم الجنيد، بن مقدم، بن شرحبيل، بن عمير بن نظير، بن مطعم اليثربي، ابن الصحابي الجليل أبي أيوب خالد بن زيد الخزرجي الأنصاري، رضي الله تعالى عنهم ونفعنا بهم أجمعين.
ولد يوم الثلاثاء غاية جمادى الآخرة، سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف، ونشأ يتيماً، وعند بلوغه سبع سنين اشتغل بقراءة القرآن إلى أن أتقنه،(1/1344)
ثم اشتغل بطلب العلم إلى أن وقع على مقصوده منه، على أفاضل دمشق الشام، وفي سنة الألف والمائتين والخمسين خدم الشريعة المطهرة في محكمة الباب مدة سبع سنوات، ثم خاف على نفسه من وقوعه بالغلط فخرج منها، وأقبل على مولاه وأدبر عما سواه، مات يوم الخميس في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف.
الشيخ محمد المغربي السوسي ثم الدمشقي المالكي
ولد بسوس سنة نيف وثمانين ومائة وألف، وقرأ وأتقن، ثم انتقل إلى دمشق واستوطنها وحضر على علمائها، وكان صالحاً معتزلاً عن الناس مشتغلاً بنفسه، وكان فقيهاً عالماً بفن القراءة مات بدمشق نهار السبت سادس عشر ذي الحجة الحرام سنة خمسين ومائتين وألف ودفن في باب الصغير.
الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن الشيخ محمد الكزبري الشافعي الدمشقي
ولد سنة ألف ومائتين وتسع وأخذ عن والده ونشأ في حجره، وأخذ عن غيره من العلماء، إلى أن فاق والده كما قيل، وصار له ذكر بين الناس جميل، وقصده الناس للطلب والحيازة على الأرب، إلا أن المنية قد استعجلته ومن بين الناس قد أخذته، سنة ألف ومائتين وتسع وأربعين ودفن بباب الصغير.
الشيخ محمد بن سليمان الجوخدار الدمشقي الحنفي
وله سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين تقريباً، وأخذ عن شيخ الشام الشيخ سعيد الحلبي، وعلى الشيخ عبد الرحمن الكزبري، وعلى غيرهم من الشيوخ، حتى برع واشتهر وعد من العلماء الأعلام والسادة الكرام، وكثر(1/1345)
طالبوه حتى أن صار من أكثر العلماء طلبة وفي سنة ثمان وسبعين بعد المائتين والألف صار نائباً بمحكمة الباب بدمشق الشام، فتغير طوره وتكدر ذكره، وانكشف شمس إقباله وظهر الناس تبدل أحواله. نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. ولم يزل نائباً في محكمة الباب إلى أن نعق عليه غراب المنية بالذهاب، مات رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين ومائتين وألف ودفن في باب الصغير قرب قبر الشيخ هاشم التاجي.
الشيخ محمد بن سعيد المنير بن محمد أمين الحنفي الدمشقي الشهير بالمنير
ولد بدمشق سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف، ونشأ بها وأخذ العلوم عن السادة الفحول، ونال مرامه فوق المأمول، من أجلهم الشيخ سعيد الحلبي والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ عبد الرحمن الطيبي، والشيخ إبراهيم الباجوري، وعن الشيخ عبد اللطيف أفندي مفتي بيروت، وكان نبيل المحاضرة جميل المعاشرة، كثيراً ما أقرأ الطلبة في جامع بني أمية دروساً عامة وخاصة، وكذلك في جامع السنانية، وحج ثلاث مرات وقرأ الشفا درساً عاماً في حرم النبي صلى الله عليه وسلم. مات في الساعة(1/1346)
الثانية من ليلة الاثنين في الليلة التاسعة والعشرين من ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير.
القاضي شمس الدين محمد أفندي الجابي الحنفي العثماني الدمشقي
عين أعيان الذوات الدمشقية، وحلية سادات الأقطار الشامية، روض المعارف والإجلال وروح دوح المطارف والأفضال، ذو الأوصاف العلية والأحوال الجلية، بدر ذوي التحقيق المستضاء بنور أفضاله، وشمس أولي التدقيق المستنار بإشراق سناء كماله، الجامع بين طرفي المنقول والمعقول، والقاطف بأنامل إفهامه ثمرات الفروع من رياض الأصول، ولد عام مائتين وثمانية بعد الألف. وقرأ على والدي المرحوم كتباً جمة، وفنوناً عديدة بكل جد وهمة، وكان جل انتفاعه عليه، وأكثر تردده إليه، ثم توجهت إليه عين عناية المناصب، وخطبته لترتفع به على أعلى المراتب، فذهب إلى بغداد قاضياً، ثم بعدها توجه إليه قضاء المدينة المنورة. وفي شوال عام اثنين وتسعين ومائتين وألف وجه عليه قضاء الاستانة العلية، وأرسل لحضرته الفرمان العالي الشان مع نيشانين فاخرين، وألبسة رسمية، وعند حضور ذلك حضر الوزراء الفخام والأعيان الكرام، للتبريك له بذلك، فكان فرد الشام وعمدة الأعيان العظام، مات رابع شهر رمضان المبارك سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين، ودفن في مقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى.(1/1347)
وقد مدحه أديب عصره ولبيب إقليمه ومصره، عبد الباقي أفندي الفاروقي العمري حينما شرف المترجم إلى بغداد قاضياً فقال: لما شرف من دمشق الشام إلى دار السلام، جناب قاضيها السيد المولى محمد أفندي جامع أشتات الفضائل وابن جابيها، وذلك بواسطة مشيرها وواليها، وبالإشارة العلية من حضرة شيخ ملة الإسلام ومفتيها، واستبشرت بمبارك قدومه أهالي الزوراء قاصيها ودانيها، وقصدته مصاقع شعراء العراق بقصائدها المشحونة بتهانيها، قلت مهنئاً ومؤرخاً عام تشريفه بغداد وحلول ركابه بناديها، بهذه القصيدة المزرية بتأليف جواهرها وتنظيمات لئاليها، مرصعاً مصارعها بنعت ولي نعم هذه الأمم ومولى مواليها. شاكراً من تلك الأيدي على هذه النعمة فضل أياديها، فقال:
ظهر الدين طالعاً من أكنه ... كهلال عنه أميطت دجنه
وحمدنا عند الصباح سراه ... حيث قد جاء مطلقاً للأعنه
ونفى الجور عدل قاض بحق ... وقع آرائه كوقع الأسنه
ولأهل الزوراء من غير زور ... كم وكم منحة أتت إثر محنه
فأذاقت قطر العراق على مر ... الليالي أحلى من المن منه
وقضت حاجة ليعقوب كانت ... من قديم بنفسه مستجنه
بقضاء المولى محمد هذا ال ... عصر لما لربه بث حزنه
وشقيق النعمان جاء من الشا ... م فخلناه شامة فوق وجنه
وإذا جاء الحق من بعد يأس ... ذهب الباطل المورث هجنه
يا لندب رد الشريعة بكراً ... فغدت شبة وكانت مسنه
جبر الكسر من قلوب اليتامى ... فهي لم تخش بعد ذلك وهنه
وقد انتاش الشرع شرع أبيه ... من يدي هاتك من الشرع صونه
ثاقب رأيه بنصل حجاه ... شاهد الزور ليس يأمن طعنه
غوث أهل الكمال بل هو غيث ... كم بيوم النوال جاد بمزنه(1/1348)
خلقه كالنسيم والعقل منه ... مستقيم ونفسه مطمئنه
حسن كله تقول المعالي ... لا تلمني إذا تعشقت حسنه
لم نخف وهو عندنا من سوى سح ... ر عيون المها، لك الله، فتنه
بيض الله وجهه ما ازدهته ... من سواد العراق خضراء دمنه
أخذ الزهد والتقى عن أويس ... والهدى عن سفيان بن عيينه
صام عن أكل السحت حتى وقا ... هـ شر يوم الحساب والصوم جنه
شهد الحق أنه مثل ما قد ... قلت فيه ويشهد الله أنه
ويح قوم من قبله سجنوا الح ... ق وفيه قد أطلق الحق سجنه
وتعاطى إظهاره من خفاء ... بعد ما أدغموه من غير إنه
فيه شيخ الإسلام ما ضن لكن ... ظن خيراً فأحسن الله ظنه
ومنها
كنز فقه بصدره درر البحر الذي فيه غنيتي مستكنه
ومنها
ذو فنون أفنان دوح علاها ... فوقها العندليب أظهر فنه
ومنها
بيته بيت عصمة وفناه ... حرم فيه يبلغ الدين أمنه
بابه باب حطة رفع الل ... هـ على عاتق السموات ركنه
هو للدين حصنه وحري ... بالمعالي من شاد لله حصنه
طود فخر رأس تطاول حتى ... طاولت منه قنة العرش قنه
ومنها
وإشاراته العلية تكسو ... شامخات الرؤوس أسنى مئنه
ومنها
خصه الله بالكمال فأعطي ... للزبرقان ليلة التم ثمنه(1/1349)
إلى أن قال
عش مدى الدهر كم أمت بهذا ال ... قطر من بدعة وأحييت سنه
ولسان الدين انتضى ينشد الح ... ق بثغر قد أضحك البشر سنه
من يدي قاضي النار بشراك أرخ ... أنجد الحق حكم قاضي الجنه
1265
-
الشيخ محمد بن أحمد بن محمد أبي الفتح العجلوني الجعفري الشافعي الدمشقي
ولد بدمشق يوم الاثنين في اليوم العشرين من شهر رجب سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف، ونشأ بها بالأدب والصيانة والزهد والقناعة والديانة، أخذ عن والده المرقوم، وعن عمه الشيخ صالح بن محمد أبي الفتح، وعن الشيخ عبد الرحمن الكزبري، وعن الشهاب أحمد العطار، وأخذ الطريقة الشاذلية عن والده وعن عمه المرقوم الشيخ صالح، وأخذ الطريقة المحيوية عن ابن عمه الشيخ عبد الحليم العجلوني وكان مهاباً محترماً من أعيان دمشق الشام. مات في الليلة الأولى من ذي الحجة الحرام سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير.
الشيخ محمد المصري المجذوب
كان مقيماً في مدرسة الشميصانية شمالي جامع بني أمية في الأودة الحجرة التي عند المطاهر ويصعد إليها بدرج، كان ملازماً لهذه الحجرة لا يخرج منها في ليل ولا نهار، وكان لا يقبل من أحد شيئاً سوى الطعام في بعض الأوقات، مع أنه كان محبوباً عند الناس، وله هيبة وجلالة، إذا كان طوره متغيراً لا يجسر عليه أحد إجلالاً له وخوفاً منه. وكان له إخبارات(1/1350)
غيبية وكشوفات علية، وظهر له كرامات تثبت أنه عند الله من ذوي الرتب والعنايات، وعلى كل حال فإن أطواره كانت غريبة وأحواله كانت عجيبة، واستقامته لا يقدر عليها أحد إلا من لاحظته عين المدد. توفي رحمه الله ثاني عشر رجب سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف، وحضر غسله وجنازته والصلاة عليه الأعيان والكبار والأصناف والتجار، فكانت جنازته من أعجب العجائب وأغرب الغرائب، وما ترى من أحد إلا ودموعه تتساقط من عيونه تساقط البرد، كأنه له والد أو ولد، ودفن في باب الصغير عند قبر سيدنا بلال رضي الله عنه.
الشيخ محمد بن محمد بن محمود بن جيش المقدسي المعروف بابن بدير
الإمام الصالح العالم العامل الناجح، الورع الناسك العابد التقي النقي الزاهد، الفاضل المتقن واللوذعي المتفنن، أخذ عن الشيخ محمد الميهي والشيخ عيسى البراوي المتوفى سنة 1183 وعن الشيخ محمد الرزي والشيخ محمد الفارسكوري والعلامة الملوي والعلامة الشيخ أحمد الجوهري والشيخ محمد الحفني والشيخ أحمد الراشدي والشيخ أحمد الدمنهوري والشيخ علي الصعيدي والعلامة محمود الكردي والشيخ مصطفى أبو النصر وغيرهم.
مات رحمه الله تعالى في الثامن والعشرين من شعبان سنة عشرين ومائتين وألف عن نيف وستين سنة، وقد أخذ عنه الشيخ محمد الكزبري وابن فتح الله البيروتي وغيرهما، ولا ريب أنه كان أوحد الفضلاء ومفرد العلماء ونخبة الصلحاء.
الشيخ محمد بن عثمان أفندي العقيلي
أحد شيوخ دمشق الشام ونخبة السادة العلماء الأعلام، بحر الحقائق وكنز الدقائق، الفقيه ذو العرفان كعبة طواف أهل مذهب النعمان، أخذ(1/1351)
على والده عثمان أفندي، وهو عن الشيخ طه بن مهنا الشافعي الحلبي الشهير بالجبريني، وهو عن علامة الزمان سيدي عبد الله بن سالم البصري، وانتفع به خلق كثير وجم غفير، فأخذ عنه الشيخ سعيد الحلبي الدمشقي وأجازه، والشيخ مصطفى الأيوبي الأنصاري الحنفي الشهير بالرحمتي، وغيرهما من العلماء والسادة الفضلاء. مات رحمه الله تعالى سابع جمادى الأولى سنة تسع ومائتين وألف.
الشيخ محمد بن أحمد الحلواني مفتي ثغر بيروت
شيخ الإسلام مفتي الأنام، التقي الزاهد والهمام الماجد، نخبة الأئمة الكرام وعمدة السادة الأعلام، المتقن المحقق والمتفنن المدقق، الجامع بين طرفي المعقول والمنقول، والمتضلع في معرفة الفروع والأصول. أخذ عن الفضلاء الأفراد وشاع ذكره في الأمصار والبلاد، ثم ترك الإفتاء وقدم إلى الشام، واشتغل في الإفادة والطاعة والصلاة والصيام والقيام، ولقد قرأ على سيدي الوالد، وتلقى عنه الفنون والفوائد. مات رحمه الله تعالى سنة أربع وسبعين ومائتين وألف. ودفن بجبانة باب الصغير قرب ضريح سيدنا أوس الثقفي رضي الله عنه.
الشيخ محمد الدسوقي الدمشقي
إمام علم رقى في الأنام مناره، وارتفعت على طود الإقبال ناره، وهمام طيب الكون أرج نشره، وملأ الآفاق جميل ذكره، وتعلم الناس(1/1352)
منه حقيقة التقوى والعبادة والعفة والزهادة. مات رحمه الله تعالى في شهر محرم الحرام سنة تسع عشرة ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير.
الشيخ محمد بن شاكر بن محمد بن إسماعيل الدمشقي الحنفي الشهير بالسكري
الإمام الهمام الفاضل الكامل، ولد بدمشق الشام، ومذ نشأ شرع في تحصيل العلوم، ثم سافر إلى مصر ودخل الجامع الأزهر، فأخذ عن العلماء المصريين كالشيخ إبراهيم الباجوري والشيخ السقا والشيخ عليش وأمثالهم، ثم بعد أن علا قدره وأشرق بدره، عاد إلى وطنه دمشق الشام، وأخذ عن فضلائها الفخام، كالشيخ عبد الرحمن الكزبري والسيد محمد عابدين وسيدي الوالد، ثم تولى إمامة جامع المرحوم درويش باشا(1/1353)
وخطابته، وكان ملازماً لحجرته في الجامع المرقوم لإقراء الدروس ولإفادة الطالبين، ثم قبل وفاته بثلاثة أشهر ولي تدريس التكية السليمية بعد موت المرحوم عبد الرحمن أفندي البوصنه لي، فقرأ الدرس مدة ثلاثة أشهر ثم مرض مرض الموت، وكانت وفاته يوم عيد الأضحى سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف ودفن بباب الصغير.
الشيخ محمد الدمشقي الحنفي المعروف بسكر
أحد الأفاضل وأوحد الأماثل، ولد في دمشق ونشأ بها، وكان عالماً عاملاً متفنناً فاضلاً، له اليد الطولى في العلوم العقلية والنقلية، خصوصاً في المعاني والبيان، فإنه كان مرفوع الرتبة على الأقران، غير أنه قد أخره الدهر لفقره، وخفض له أعلام تعظيمه وقدره، وكان ذا طاعة وعبادة وتقوى وزهادة. توفي بدمشق سنة نيف وستين ومائتين وألف ودفن بباب الصغير.
الشيخ محمد بن الشيخ محمد المبارك المغربي الجزائري الدلسي الحسني المالكي الدمشقي
كعبة الأفراد الآتي من الإبداع بما أراد، والناظم لمنثور الأدب والراقم(1/1354)
في كتاب دلائله على فضائله ما يقضي له بأسمى الرتب. ولد سنة ثلاث وستين ومائتين وألف، وقرأ على السادة الأفاضل ذوي الفضائل والفواضل، إلى أن برع وفاق، واشتهر في الآفاق، وأتى من المنظوم والمنثور بما يدهش العقول ويشرح الصدور، ومن جملة ذلك مقامته التي توصل بها إلى مديح من كانت ذاته الشريفة مطلعاً للهمم ومشرعاً للكرم، حضرة مولانا الأمير السيد عبد القادر الحسني الجزائري التي سماها غناء الهزار في محاورة الليل والنهار، والسجعة الأولى من التسمية يؤخذ من حساب حروفها تاريخ إنشائها وترصيفها، وهي بحروفها لتدل على قدر مبدعها وموصوفها: حمداً لمن فتح أبواب الخير في جميع الأوقات، ويسر أنواع البر وقد أصناف الأقوات. وصلاة وسلاماً على من واظب على بث الحكمة ودأب، وعلى آله الذين تنافسوا فيما جاء من العلم والأدب، ما تعاقب الغدو والمساء، وضحكت الأرض من بكاء السماء.
وبعد فإني تفكرت ذات يوم في اختلاف الليل والنهار، وما أودع الله فيهما من لطائف الحكم والأسرار، مصغياً لما يترجمه لسان الحال، لأسند ذلك إليه دون انتحال، فرويت عنه من أنبائهما بدائع وغرائب، وقد قيل إن في الليل والنهار عجائب:
من لم يؤدبه والداه ... أدبه الليل والنهار
فصغت تلك المعاني، في مقامة رقيقة المباني، مشحونة بغرر من نتائج الأفكار، ودرر تزهو على البنات الأبكار، يزداد بها الأديب علماً وتبياناً، ويرتاد منها الأريب أدباً وعرفاناً. وأبرزتها في معرض المحاورة، لتجنح إليه أرباب المحاضرة، فهي فكاهة أحلى من عيش الصبا، ونفثة أرق من نفحة نسيم الصبا، وشحنتها بمدح أمير تتحلى بوصفه البراعة، وتنطلق في تقييد شمائله الشريفة أيدي اليراعة. فلله فوائد كفرائد اللؤلؤ(1/1355)
في السلك، أو رحيق مختوم ختامه مسك، وذلك أنه أبدى الضياء والدجى ما هو للعين قرة، فكلما أسفر ذاك عن بياض الغرة، قابله هذا بسواد الطرة، ثم استنجد كل منهما صاحبه، بعد أن رشق خصمه بسهام صائبة. وإذا بالليل حمل على النهار، فجعل حمرة وردته كصفرة البهار. وخطر يجر ذيول تيهه وعجبه، مرصعاً تيجان مفاخره بدرر شهبه، وقد كساه بدر الكمال برد الجمال، ولوائح الهيبة والجلال، تلوح عليه في ذلك المجال، فصدر النقول بأحاسن رواياته، وحير العقول بمحاسن كناياته. ثم قال: " والليل إذا يغشى " " إن في ذلك لعبرة لمن يخشى " ففتح باب المفاضلة في هذا الفصل، وعقد أسباب المناضلة بقوله الفصل، فإن الحرب أولها كلام، ثم تنجلي عن قتيل أو رهين كلام. فانتدب إليه النهار، ممتطياً صهوة الفخار، وقد ازورت مقلتاه، واحمرت وجنتاه، وصاح إذا أديرت كؤوس المنايا، أنا ابن جلا وطلاع الثنايا فأدهش الأفكار بعظيم وثباته، ورسوخ قدمه في الهيجاء وثباته، وتقدم في ذلك الميدان وجلى، مترنماً بقوله تعالى: " والنهار إذا تجلى " واستدل على كماله من الفرقان بسورة النور، والشمس ترسم آية جماله بالذهب على رقه المنشور، ولما استوى على عرش سنائه، واطلع أنوار طلعته في أرضه وسمائه، أعرب عن مكنون الحقائق، وأغرب في كشف الأسرار والدقائق، فابتدر إليه الليل، ومال عليه كل الميل، وجعل النجوم له رجوما، وما غادر من مغانيه إطلالاً ولا رسوما، ثم صعد على منبره ثانياً، وقد أمسى الفخر لعطفه ثانيا، وقال: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً " فأسدى إلي من عوارفه براً ونيلاً، أحمده على أن جعلني خلوة للأحباب، وجلوة لعرائس العرفان بين أولي الألباب، وخلقني مثوى لراحة العباد، ومأوى لخدمة المقربين والعباد، أتردد على أرباب المجاهدة بفنون الغرائب، وأتودد إلى أصحاب المشاهدة بعيون الرغائب، تدور عليه مبدور الإنس والسمر،(1/1356)
وتحييهم بشذا نفحاتها نسمات السحر، فأحيان وصلي بالتهاني مقمرة، وأفنان فضلي بالأماني مثمرة:
وما الليل إلا للمجد مطية ... وميدان سبق فاستبق تبلغ المنى
فوجم النهار لبراعة عبارته، وبلاغة معنى رمزه وإشارته، وتنفس الصعداء بنفح الصبا في الصباح، فأطفأ بأنفاسه العاطرة نور المصباح، ثم خرج للمبارزة من بابها، إذ كان من فرسانها وأربابها، فشمر للحرب العوان، غير ناكل ولا وان، ناشراً راية مجده البيضاء، وأسنته لامعة بين الخضراء والغبراء، وقال له أيها الليل، هلا قصرت من إعجابك الذيل، ولئن دارت رحى الحرب، واستعرت نار الطعن والضرب، فلأبرزن مخدراتك وهي عن الوجوه حاسرة، وأنت تتلو " تلك إذاً كرة خاسرة " وهل دأبك إلا الخداع والمكر، وترقب الفرصة وأنت داخل الوكر، إن كنت تجمع المحب بالحبيب، إذا جار عليه الهوى وحار الطبيب، فكن يقاسي منك في هاجرة الهجر، ويئن أنين الثكلى حتى مطلع الفجر.
ولله در القائل:
اقضّي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
وإن كنت مغنى الأنس والراحة، تفعل بعقول الناس فعل الراحة، فهل حسبت أن السكون خير من الحركة، وقد أجمع العالم أن الحركة بركة، وإن افتخرت ببدرك الباهر الباهي، فإنما تنافس بوزير شمس وتباهي، وهل له عند إشراق بهجتي من نور، أو لطلعته من خدور البطون ظهور، فأنشدك الله أينا أحق بالفخر، فقد حصحص الحق ووضح الفجر، أما لك في قوله تعالى بينة وتبصرة " فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة " وهل يستوي الأعمى والبصير والظلمات والنور، أم هل يستوي الأحياء وأصحاب القبور، ولقد أبدع من قال:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي(1/1357)
ألم تعلم أينا أبهى محيا، وشتان ما بين الثرى والثريا، ولا ريب أن الحسن في الجميل، عنوان على أنه رب الإحسان والجميل، وقد قال من نؤمل بره ونرجوه اطلبوا الخير عند حسان الوجوه فأنا مفتاح خزائن الأرزاق، وبي يستفتح باب المنعم الرزاق، وهل يخفى حسني وجمالي على إنسان، أو يحتاج فضلي وكمالي إلى برهان، وعرضي عار عن الدنية والعار، ونور البدر من ضيائي مستعار، ولولاي ما تميز الحسن من القبح، ولا أحيا ميت الكرى نسيم الصبح،
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
وإن ذكرت الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً معرضاً بكل غافل لاه، فلي في كل مجال، " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله "، وأين من احتجب بظلمات بعضها فوق بعض، ممن أضحى ينظر في ملكوت السموات والأرض، فإن أولي الألباب، رأوا الدنيا دار الأسباب، فلزموا الأدب مع الله باستعمالها وقلوبهم عاكفة على الباب، وقد أتحفني بالصلاة الوسطى فأوتر بها صلواتي، وشرع فيها الإسراء لأسرار اختصت بها أهل جلواتي، وكفاني شرفاً شهر رمضان، الذي أنزل فيه القرآن، فيا له من شهر أيامه للخيرات مواسم، وهي للجباه غرر وللثغور مباسم، فمآثري مشهورة في القديم والحديث، وبها نطق الكتاب العزيز والحديث، ومحاسني واضحة لأولي الأبصار، وهل تخفى الشمس في رابعة النهار؟ ثم انحدر من منبره، وقد أيد حديث خبره بآية مخبره، ولما جن الليل، اجلب عليه بالرجل والخيل، فسد ما بين الخافقين بسواده، وطفق يرمي بسهام جداله وجلاده، مقدماً بين يدي نجواه سورة القدر، آية على ما حازه من كمال الرفعة والقدر، ثم قال سحقاً لك أيها النهار، لقد أسست بنيانك على شفا جرف هار، تناضلني ومني كان انسلاخك وظهورك، وتفاضلني وبي أرخت أعوامك وشهورك، كيف أطعت هواك في عقوقي، وأضعت جميع مطالبي وحقوقي، ألم يأن لك أن تخشع للذكر، فتعترف لي برتبة التقديم في الذكر، وهل الأعمى سوى المحجوب عن المحبوب،(1/1358)
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب، كيف تعيرني بلون السواد، وهل يقبح السواد إلا في الفؤاد، أم كيف تعيبني بالخداع والحرب خدعة، مع أنك تعلم أني في عز ومنعة، أما تشهد الأنام من هيبتي حيارى وترى الناس سكارى وما هم بسكارى فأنا البطل الذي لا يصطلى لي بنار، ولا يؤخذ لقتيلي مدى الدهر بثار، فكم أرقت أسوداً كاسرة، وأرقت دماء ووجوه يومئذ باسرة، وكم أوريت نار الوغى تحت العجاج، وقد اكفهرت الوجوه واغبرت الفجاج، وليت شعري أنى لك بالحياة دون الورى، والحي من أحياه الله ولو كان تحت أطباق الثرى:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيباً ... كاسفاً باله قليل الرجاء
وافتخارك بالصلاة الوسطى، ليس إنصافاً منك ولا قسطاً، وهب أنك انفردت بتلك الصلاة، فأين أنت مما اشتملت عليه من وافر الصلات، أما علمت أن الركعة في تضاعف أجورها، ويعظم فضلها ويزهو نورها، وهل فرضت في زمنك منها فريضة، حتى تطاولت علي بدعواك الطويلة العريضة:
وما أعجبتني قط دعوى عريضة ... ولو قام في تصديقها ألف شاهد
وأما افتخارك بفضيلة شهر رمضان، وما نزل فيه من السبع المثاني والقرآن، فهل صح لك صيامه إلا بي بدأ وختاماً، وقد اختصصت بإحياء لياليه تهجداً وقياماً، على أني محل النية ونية المرء خير من عمله، لأنها بمثابة الروح له وبها يحظى الراجي ببلوغ أمله، فكيف تدعي التفرد بجمع فنون المجد والفضل. ولم تخف يوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل، هل في مطالع سعودك أشرقت بدور العيدين، أم على جناح جنحك أسرى بنور طلعة الكونين، وهل في أسحارك يقول الرب هل من سائل، ويجود على أهل مناجاته بأعظم الوسائل، أم فيك نزل الكتاب المنزه(1/1359)
في فضله عن المشاركة، والحق تعالى يقول: " إنا أنزلناه في ليلة مباركة " وحسبي من المفاخر أول ليلة من رجب التي تأكد مبتدأ فضلها بالخبر ووجب، وكيف لا وفيها قد حملت آمنة بمن به الأمة من العذاب آمنة، فهي فاتحة الليالي النيرة الزاهرة، وواسطة عقدها بحسن خاتمة النبوة الباهرة، فاكفف عن الجدال وأمسك، ولا تجعل يومك مثل أمسك، وسالم من ليس لك عليه قدرة، فإنه ما هلك امرؤ عرف قدره، وإني أستغفر الله عز وجل، وأسأله الأمن من كل وجل، فبرز إليه النهار بروز الأسد من غابة، وقد استل سيف سطوته من قرابه، وقال ما كل سوداء تمرة، ولا كل صهباء خمرة، فوالذي كساني حلل الحسن والجمال، وخلع علي خلع الفضل والكمال، لأمحون طرة الدجى بغرة الضياء، ولأثبتن ما خصصت به من السنا والسناء، ألست مظهر الهداية والدلالة، وهو مظهر الغواية والضلالة، فكم أظهرت منه عيباً كان غيباً، فابيضت عينه حزناً واشتعل الرأس شيباً، وما ارعوى عن ظلمة ظلمه، ولا رجع إلى الإنصاف في نثره ونظمه، ثم أقبل عليه، وأنشد مشيراً إليه:
يا مشبهاً في فعله لونه ... لم تعد ما أوجبت القسمه
خلقك من خلقك مستخرج ... والظلم مشتق من الظلمه
كيف تزعم أيها العبد الآبق، أنك لي في حلبة الشرف سابق، وقد قال الواحد القهار: " ولا الليل سابق النهار " متى قام على منابر العلا بنو حام، أن جلس أحدهم في ديوان الفخر بين أبناء سام، إن أنت ورب البيت إلا كافر، وبشموس أنوار الشهادة غير ظافر، لو كنت من السعداء لفزت بدار النعيم، ولولا شقاؤك لما شابهت سواد طبقات الجحيم، فكيف جعلت في الفضل حالي دون حالك، وأي فخر لمن وجهه اسود حالك. لقد سمعت أقاويلك التي قدمتها بين يديك، وأتيت بها حجة لك وهي حجة عليك، ولا جرم أن لسان الجاهل مفتاح حتفه، وكم(1/1360)
من باغ قتل بسيف بغيه وحيفه، أما انسلاخي منك فمن أبدع الطرف لي والطرر، وهل يحق للأصداف أن تفتخر على الدرر، وأما تقدمك علي فمن العادة، تقدم الخدم بين يدي السادة. أو ما ترى أن النبي محمداً فاق البرية وهو آخر مرسل. وأما حديث الإسراء ففي مجلسي روته الأمة، ثم بلغه الشاهد للغائب بعد أمة، ثم بلغه الشاهد للغائب بعد أمة، فما لاحت أسراره إلا في مرآة مطالعي، ولا زاحت أستاره إلا بأنوار طوالعي، وما أشرت إليه من بقية لياليك، التي سطعت بها نجوم معانيك ومعاليك، فأين أنت من يوم عرفة، الذي أفرده بالمزايا من عرفه، وأين أنت من يوم عاشوراء، الموسوم بأزكى الفضائل دون مراء، وناهيك بسمو شأن العيدين، فما أعظمهما من موسمين سعيدين، وكيف تباهيني بظهور ليلة القدر منك مرة في كل عام، ولي في كل أسبوع يوم تمتد فيه موائد الجود والإنعام، وهو معلوم شهير، يعرفه الكبير والصغير، وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء، ويستجاد الثناء على رب العزة والسناء، هذا ولو تأملت ما لي من المناقب والمآثر، لما تجارأت على مجاراتي في معترك المفاخر، أفي معاهدك كانت الصحابة تتلقى القرآن، وتتملى بأنوار رسول الله في كل آن، أم في مشاهدك وردت وقائع الجهاد، وعبد الله تعالى على رؤوس الأشهاد، فأحاديث فضلي سارت بها الركبان، وماست بنسيم لطفها معاطف البان، وقدري فوق ما تصفه الألسن، وفي ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فاضرب صفحاً عن تمويهك وغشك، فإن هذا ليس بعشك، ودع عنك قول الزور والمين، فقد بان الصبح لذي عينين، فوثب إليه الليل، وهجم عليه هجوم السيل، وقد امتطى جواده الأدهم، وتعمم بعمامة سوداء وتلثم، فأنسى بفتكاته عنترة بني عبس، إذ أمسى يتوعد عمارة بالأسر والحبس، ثم ضرب خباء عزه الباذخ، وقدح زناد عزمه الراسخ، وقال: " فلا أقسم بالخنس، الجواري الكنس " لقد تزيا المملوك بزي(1/1361)
الملوك، وادعى مقام الوصول صاحب السير والسلوك، طالما منحته جميل ستري، وهو لا يبالي بهتك أستاري، وأودعت سره في خزانة سري، وهو يبوح بمصون أسراري، أف له من فاضح، أما يكفيه ما فيه من الفضائح:
انمّ بما استودعته من زجاجة ... يرى الشيء فيها ظاهراً وهو باطن
وعلام جعل السواد على النقص علامة وهو مشتق من السؤدد لدى كل علامة، أما درى أني حزت من الكمال الحظ الأوفر حتى تحلى بوصف العنبر والمسك الأذفر، وهل يزري بالخال سواده البارع، أو يغري بالبرص بياضه الناصع، وفي لون المشيب عبرة وأي عبرة، فكم أجرت من الآماق أعظم عبرة، فما كل بيضاء شحمة، ولا كل حمراء لحمة، على أن السواد حلية أهل الزهد والصلاح، وهل يسترق الأسود أحداق الملاح، بيد أن الحر لا يبالي بالجمال الظاهر، وإنما يباهى بالفعل الجميل والقلب الطاهر، ثم أنشد، وزفيره يتصعد:
وما الحسن في وجه الفتى شرف له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق
فأفاض النهار، في حديث يفضح الأزهار، وقال ما أشبه الليلة بالبارحة، والغادية بالرائحة، كم تدعي يا هذا أعلا المقامات، وأنت كثيف الحجاب أسير المنامات، وهل يقرن أوقات الغفلة بأوقات الحضور، إلا من ليس له في الحقيقة أدنى شعور، إنك لفي واد وأنا في واد، ولكم بين لئيم وجواد، تجمع بين المعشوق والعاشق، وتسترهما بردائك عن الرقيب والطارق، ولقد قال مترجماً عن ذلك من سلكت به هاتيك المسالك:
بتنا على حال يسر الهوى ... وربما لا يمكن الشرح
بوابنا الليل وقلنا له ... إن غبت عنا هجم الصبح
وهل يترنم بذكرك إلا غافل، وأنى يغتر بك عاقل ونجمك آفل، وقد قدمت أني لك فاضح، وماذا علي في ذلك والحق أبلج واضح،(1/1362)
فإني نظرت إليك بنور علام الغيوب، فظهر لي ما بطن في سرك من العيوب، فجعلت مطوي معايبك كتاباً منشوراً، ومنظوم كواكبك هباءً منثوراً، فأنا الناقد البصير، والله الولي لي والنصير، وتعرضي لمحو دعاويك، وإثبات جرائمك ومساويك، من الواجب علي يا حليف الكرى، لخبر من رأى منكم منكراً فإلى متى تتبجح بما لا طائل تحته ولا معنى، اسمع جعجعة ولا أرى طحناً، وحتى متى تعنف من لامك عن اتباع هواك، وأنت تدعي رتبة الكمال فهلا نهاك نُهاك، فتنبه من غفلتك أيها الليل، قبل أن تدعو بالثبور والويل، وإلا فرقت طلائع سوادك في كل طريق، ومزقت سوابغ دروعك أي تمزيق! فاسود وجه الليل، وانقلب بحشف وسوء كيل، وندم على مناقشة النهار، ندامة الفرزدق على النوّار، ولما سقط في يده، ورزئ في عَدَده وعُدده، قال من ينصفني من هذا الجاني، فإنه اضطرني إلى الجهر بالسوء والجأني، حتى يرمقني بلحظه ازوراراً، ويرشقني بسهامه عتواً واستكباراً، وعلام يخفى دلائل فضلي وهي ذات وضوح واشتهار، ولقد صدق من قال كلام الليل يمحوه النهار، وما نم بسره وباح، حتى عطس أنف الصباح، فأسفر عن محاسن غرته، وقد برقت أسارير مسرته، وطلع بين يديه حاجب الشمس، فاستنقذ من الليل ما استأسره من الحواس الخمس، وقال له كم ذا تدعي أنك غبين، وتتشكى مني وأنت المفتري المبين، وهب أني ظلمتك فأنت البادي، وهل قابلتك إلا بما واجهتني به في المبادي، وإن رمت التقاضي، لدى الحاكم(1/1363)
أو القاضي، فهلم إلى حضرة الأمير، ولا ينبئك مثل خبير فإنه لا زالت عين العلا به قريرة، موسوم بحسن السيرة وطيب السريرة، فقال له على الخبير سقطت، وضالة الحكمة لقطت، وإني معترف بعدله في فصله، مغترف من بحر جوده وفضله، فهو الإمام العادل، والعالم العامل، فأمليا عليه سورة الواقعة والمجادلة، فحضهما على حسن المعاملة ودوام المجاملة، وقال لهما جانحاً إلى الصلح في جواب سؤاله: بعد حمد الله والصلاة على محمد وآله، إنكما كفتا ميزان أصحاب الرقائق، ودفتا كتاب أرباب الحقائق، بكما يتحلى المرء بحلا سعادته، ويتخلى من فضول طبيعته وعادته، فأنتما في الشرف رضيعا لبان، وفي مضمار المجد والفخر فرسا رهان. هذا وإن كنتما ابني ضرتين ظلمة ونور، فأبوكما هو الزمان الذي عليه أفلاك الوجود تدور، وعليكما باطراح رداء الافتخار، فإن العبد لا يسود إلا بالافتقار، بارك الله فيكما وبلغكما المرام، ومنحكما كمال التوفيق وحسن الختام. ولما أصلح ما بين الليل والنهار، وبوأهما مهاد الألفة بعد الوحشة والنفار، وردا من رشده موارد الائتلاف، وطرحا أعباء التعصب والاختلاف، فقلت مادحاً لحضرته الشريفة، مستمداً من علومه وأسراره المنيفة:
قد أسفرت بين العذيب وحاجر ... خود سبت أهل الهوى بمحاجر
هيفاء طرتها غدت تحكي دجى ... ليل وغرتها كصبح زاهر
يفتر جوهر ثغرها عن لؤلؤ ... أجريت منه عقيق دمع هامر
لله خال عم روضة خدها ... لطفاً على ورد جني عاطر
لما بدت تختال تيهاً خلتها ... بدراً على غصن رطيب ناضر
أسرت فؤادي في الغرام وأطلقت ... دمعي ومالي في الهوى من ناصر
ضنت بحسن وصالها يا ليتها ... منت علي ولو بطيف زائر
أنى يشاهد طرف صب ما درى ... طعم الكرى طيف الغزال النافر(1/1364)
يا عاذلي كن عاذري في حبها ... فالوجد أفنى مهجتي وسرائري
قد طاب فرط تهتكي في الحي بع ... د تنسكي والذل لذ لخاطري
هيهات يصحو من سلافة عشقها ... يا صاح صاح أسكرت بنواظر
أربت على كل الملاح لطافة ... وتفردت ببديع حسن باهر
كالشمس إن سفرت وغصن البان إن ... خطرت وإن نظرت فأخت جآذر
يصفو بطيب وصالها وقتي كما ... يحلو المديح بذكر عبد القادر
مولى حكت أخلاقه في لطفها ... مسرى النسائم في رياض أزاهر
بزغت به شمس المعارف بعد ما ... أفلت فأرشد كل لاه حائر
أكرم به براً غدا بحراً طما ... في كل علم باطن أو ظاهر
إن عدت العلماء فهو إمامهم ... ويرى لدى الأمراء أعظم آمر
إن الكمال بأسره في أسره ... والفضل طوع يديه دون تناكر
إن رمته في حل مشكلة جلا ... سر الحقيقة في أرق مظاهر
وإذا سألت عن السماحة كفه ... أنباك عن قطر وبحر زاخر
ولو اطلعت عليه في يوم الوغى ... لرأيت ليثاً أي ليث كاسر
قد حاز أنواع المعالي جملة ... بوراثة من كابر عن كابر
وعليه أسرار الكتاب تنزلت ... فغدا يحررها بأيدي شاكر
فانظر مواقفه وحسبك أنها ... تروي حديث صحيحه المتواتر
الله أكبر كم بها من آية ... شهدت له بفضائل ومآثر
يا مفرداً في جمع أشتات العلى ... قد فقت كل مفاضل ومفاخر
لله درك سيداً أوصافه ... عزت وجلت عن وجود نظائر
ته يا زمان به وطاول إن تشأ ... نجم السها بمناقب ومفاخر
فهو ابن طه خير من وطئ الثرى ... فبخ بخ شرف وطيب عناصر
سعدت بسيرة فضله أوقاته ... فتقلدت منه عقود جواهر
أيامه جمع كما أمست ليا ... ليه ليالي القدر ذات بشائر(1/1365)
من أمه في حاجة يحظى بوق ... ت إجابة ومديد فضل وافر
لا زال بدراً في سماء المجد محف ... وفاً بغر كالنجوم زواهر
ما قال ممتدحاً مؤرخ شكره ... هام الوجود بسر عبد القادر
وجملة ذلك خمس وتسعون ومائتان وألف ومن قوله مهنئاً أخاه الشيخ محمد الطيب بولده جعفر مؤرخاً ولادته:
نجم بدا في طالع الإسعاد من ... أفق الهنا يزهو بأبهى منظر
أم ذا هلال هل أول ليلة ... باليمن من ثاني ربيع الأنور
أم ذا غلام لاح يا بشراي في ... مهد الهنا يرنو بطرف أحور
رشق الحشا بسهام قوس حواجب ... وسطا وصال من القوام بأسمر
وأماط عن وجه البهاء لثامه ... فسبا النهى يا حسنه من جؤذر
وافتر ثغر جماله متبسما ... فروت ثناياه صحاح الجوهر
أفديه من نجل كريم قد زكا ... فرعاً وطاب لطيب ذاك العنصر
فاهنأ به يا ابن المبارك وارتشف ... راح التهاني من لماه الكوثري
وانشق شذاه فإنه ريحانة ... تزري بنشر فتيت مسك أذفر
لا غرو في طيب بدا من طيب ... وهو ابن فاطمة وبضعة حيدر
قد لاح بين الشمس والقمر المن ... ير سناه منجلياً بأبهى مظهر
لا زال قرة أعين لهما ومن ... ية أنفس ما فاح ريا العنبر
وشدا لسان الحال فيه مؤرخا ... نيل المنى في رشف وجنة جعفر
ومن قوله مشطراً أبيات الشاب الظريف، ابن العفيف التلمساني:
للعاشقين بأحكام الغرام رضى ... ولو أحلهم المحبوب نار غضا
إن العذاب لعذب فيه عندهم ... فلا تكن يا فتى بالعذل معترضا
روحي الفداء لأحبابي وإن نقضوا ... ميثاق ود عليهم كان مفترضا
ما ضرهم لورثوا لي في الهوى ورعوا ... عهد الوفي الذي للعهد ما نقضا(1/1366)
قف واستمع سيرة الصب الذي قتلوا ... بأسهم ليس يخطي رشقها غرضا
قد كان يرجو بأن يحظى بقربهم ... فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا
رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا ... فبات يشكو زماناً بالبعاد قضى
سقاه كأس النوى رغماً وجرعه ... فسام صبراً فأعيا نيله فقضى
وقد كنت شطرت هذه الأبيات قبله وهي مع التشطير:
للعاشقين بأحكام الغرام رضى ... بما ارتضى لو عليهم بالحمام قضى
والذل في الحب عز عندهم حسن ... فلا تكن يا فتى للعزل معترضا
روحي الفداء لأحبابي وإن نقضوا ... زمام صب لذيذ العيش قد رفضا
ماذا عليهم ترى لو أنهم حفظوا ... عهد الوفي الذي للعهد ما نقضا
قف واستمع سيرة الصب الذي قتلوا ... من غير ذنب سوى حب له وفضا
من بعد ما جرعوا كأس الهوى فطموا ... فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا
رأى فحب فسام الوصل فامتنعوا ... فاستعوض الدمع عند المنع والحرضا
وحاول النفس سلواناً لهم فأبت ... فرام صبراً فأعيا نيله فقضى
وكنت قد نظمت وخمسهما وهما مع التخميس
يا صاح فزت بنجدة ... والأنس جاد بعودة
فأدر كؤوس مودة ... وافى الحبيب بوردة
وغدا يميس بقده
نمت لآلي ومضها ... عن حسن مورد حوضها
وروت شذا في عرضها ... فسألته عن روضها
فأشار لي من بعده
وقد خمسهما الأديب الشيخ محمد بهاء الدين بن أخي عبد الغني أفندي.
حيا بزاهر طلعة ... والخال فاح بندة
لما هممت بشمة ... وافى الحبيب بوردة
وغدا يميس بقده
صوب الحيا من فيضها ... يهمي بعنبر أرضها(1/1367)
لمع السنا من ومضها ... فسألته عن روضها
فأشار لي من خده
الشيخ محمد المصيلحي الشافعي المصري
الإمام العلامة المتفنن المعمر الضرير، أحد العلماء العظام والسادات الكرام، قال الشيخ الجبرتي: أدرك الطبقة الأولى وأخذ عن شيوخ الوقت، وأدرك الشيخ محمد شنن المالكي وأخذ عنه وأجازه الشيخ مصطفى العزيزي والشيخ عبد ربه الديوي والشيخ أحمد الملوي والحفني والدفري والشيخ علي قايتباي والشيخ حسن المدابغي، وفاضل ودرس وأفاد وقرأ وانتفع عليه الطلبة. ولما مات الشيخ أحمد الدمنهوري وانقرض أشياخ الطبقة الأولى نوه بذكره واشتهر صيته وحف به تلامذته وغيرهم، ونصبوه شبكة لصيدهم وآلة لاقتناصهم، وأخذوه إلى بيوت الأمراء في حاجاتهم، وعارضوا به المتصدرين من الأشياخ في الرياسة، ويرى أحقيته لها لسنه وأقدميته. وملا مات الشيخ أحمد الدمنهوري وتقدم الشيخ أحمد العروسي في مشيخة الأزهر، كان المترجم غائباً في الحج فلما رجع وكان الأمر قد تم للعروسي أخذه حمية المعاصرة، وأكثرها من إغراء من حوله، فيحركونه للمناقضة والمناكدة، حتى أنه تعدى على تدريس الصلاحية بجوار مقام الإمام الشافعي المشروطة لشيخ الأزهر بعد صلاة الجمعة، فلم ينازعه الشيخ أحمد العروسي، وتركها له حسماً للشر وخوفاً من ثوران الفتن، والتزم له الإغضاء والمسامحة في غالب الأطوار،(1/1368)
ولم يظهر الالتفات لما يعانونه أصلاً حتى غلب عليهم بحلمه وحسن مسايرته، حتى أنه لما توفي المترجم ورجع إليه تدريس الصلاحية لم يباشر التصدر في الوظيفة، بل قرر فيها تلميذه العلامة الشيخ مصطفى الصاوي، وأجلسه وحضر افتتاحه فيها، وذلك من حسن الرأي وجود السياسة. توفي المترجم ثاني عشر شوال سنة إحدى ومائتين وألف، وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بالمجاورين رحمه الله تعالى.
الشيخ محمد كاظم الأزري البغدادي
أديب زمانه ولبيب وقته وأوانه. ولد سنة ألف ومائة وخمسين ومهر في علوم الأدب، ودلس من معرفته على أوج الرتب، وتوفي سنة ألف ومائتين وثلاثين ومن قوله:
أي عذر لمن رآك ولاما ... عميت عنك عينه أم تعامى
أو لم ينظر اللواحظ تهدي ... سقما والشفاه تشفي السقاما
لا هنيئاً ولا مريئاً لقوم ... شربوا من سوى لماك مداما
أتراهم توهموها عصيراً ... من محياك حين شبت ضراما
ما لمن يترك السلافة في في ... ك حلالاً ويستحل الحراما
إن للناس حول خديك حوما ... كالفراش الذي على النار حاما
بأبي أنت من خليل ملول ... لم يدم عهده إذا الظل داما
لك خد ومبسم علم الور ... د ابتهاجاً والأقحوان ابتساما
أي وعينيك ما المدام مدام ... يوم تجفو ولا الندام نداما
لا تقسني بالورق يا غصن إني ... أنا من علم النواح الحماما
أيها الريم ما ذكرتك إلا ... واحتقرت الأقمار والآراما
لست أدري والصدق بالحر أحرى ... إضراماً قد شب لي أم غراما
إن تصلني فصل وإلا فعدني ... ربما علل السراب الأواما(1/1369)
لم يكن طبعك الوشاة ولكن ... صلب الماء فاستحال ضراما
لو ملكنا ملك العراق ومصر ... دون لقياك ما بلغنا مراما
ألف الله فيك مختلفات ال ... حسن جمعاً وقال كوني غلاما
وله أيضاً
هزوا القدود فأخجلوا سمر القنا ... وتقلدوا عوض السيوف الأعينا
وتقدموا للعاشقين فكلهم ... طلب الأمان لنفسه إلا أنا
وبخده وبثغره وعذاره ... حمر العقيق وبارق والمنحنا
لا خير في جفن إذا لم يكتحل ... أرقاً ولا جسد تجافيه الضنا
وأنا الفداء لبابلي لحاظه ... لا تستطيع الأسد تثبت إن دنا
لما انثنى في حلة من سندس ... قالت غصون البان ما أبقى لنا
يا قلبه القاسي ورقة خصره ... لم لا تقلت إلى هنا من ها هنا
أقوى علي من الحديد فؤاده ... ومن الحرير تراه غصنا ألينا
شبهته للبدر قال ظلمتني ... يا عاشقي والله ظلماً بينا
من أين للبدر المنير ذوآبة ... أم شامة أو ورد خد يجتنى
البدر ينقص والكمال بطلعتي ... فلأجل ذلك صرت منه أحسنا
وله أيضاً
هل بعد أندية الحمى من نادي ... يحمى النزيل به ويروي الصادي
خلت الديار من الذين عهدتهم ... وتنافرت ظبيات ذاك الوادي
طاروا بأجنحة الشتات كأنما ... نادى بتفريق الفريق منادي
وعدوا الرحيل عشية ووفوا به ... بئس الوفاء لذلك الميعاد
الشيخ محمد بن محمد الشهير بالحوت الشافعي الشامي البيروتي
أحد العلماء الأفاضل والنبلاء ذوي الفواضل، ولد سنة ثلاث ومائتين وألف ونشأ في العلم والعبادة والتقوى والزهادة، وسار بين أمثاله واشتهر(1/1370)
في فضله وكماله. وأخذ عن الشيوخ العظام والسادة الكرام، وانتفع به الجم الغفير وعلى كل حال ففضله معلوم شهير. مات سنة سبع وسبعين ومائتين وألف، ودفن في تربة سيدنا عمر المشهورة الآن بالباشورة.
الشيخ محمد الفيومي الشهير بالعقاد المصري الشافعي
قال الجبرتي الإمام العلامة والجهبذ الفهامة الفقيه النبيه الأصولي المعقولي، الورع الصالح، أحد أعيان العلماء النجباء الفضلاء، تفقه على أشياخ العصر، ولازم الشيخ الصعيدي المالكي، ومهر وأنجب ودرس وانتفع به الطلبة في المعقول والمنقول، وألف وأفاد وكان إنساناً حسناً جميل الأخلاق مهذب النفس متواضعاً، مشهوراً بالعلم والفضل والصلاح، لم يزل مقبلاً على شانه محبوباً للنفوس، حتى تعلل بالبرقوقية في الصحراء وتوفي بها سنة اثنتين ومائتين وألف، ودفن هناك بوصية منه رحمه الله تعالى.
السيد الشيخ محمد المبارك المغربي الجزائري الدلسي الحسني المالكي
ولد سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين، ولدى تمييزه اشتغل بحفظ القرآن ثم في تحصيل ما لا بد منه من علوم الدين، ثم عكف على العبادة والتقوى في السر والنجوى، وكان في بداية أمره يأوي إلى غابة كثيرة الوحوش والسباع، يعبد الله فيها أياماً ثم يرجع إلى أهله يتزود لمثلها ويرجع(1/1371)
لمكانه، حتى نادته هواتف العنايات بلطائف الإشارات، وطابت سريرته واستنارت بصيرته، وتخلى من أوحاله وتحلى بجميل أحواله، فأخذ الطريقة البكرية الخلوتية عن صاحب المآثر الأحمدية، المرشد الكامل والولي الفاضل، سيدي الشيخ علي بن عيسى، ولازم المجاهدة مدة على يده، فلما دنت وفاته أوصى به خليفته الأكبر سيدي الشيخ محمد المهدي السكلاوي، فتولى تربيته، حتى فتح الله عليه فاشتغل بالإرشاد ونفع العباد، وشهر الطريقة وشيد معالمها ونهج منهج الحقيقة وأرشد إليها رائمها، حتى سار صيته في الأقطار وقصدته الناس من صغار وكبار، فبذل في نصح الخلق همته وأحسن لهم نيته، وجمعهم على الملك الحق وسلك بهم مسلك الصدق، وتخرج على يده عدد كثير ووصل إلى مقصوده من لاحظته عين عناية اللطيف الخبير، وسمعت من كثير ممن كان له تردد إليه، أن طائفة من الجن أخذوا عنه واهتدوا على يديه، وكانوا يتلقون من حكمه ومعارفه ويأخذون عنه معالي نصائحه ولطائفه، وكان له في السخاء والكرم والعطاء، اليد الطولى والقدح المعلى، يعطي قاصده العطاء الجزيل ويغمر بوافر فضله ومديد إحسانه الوارد والنزيل، ينفق دائماً على جماعته المتجردين ويحسن إلى الفقراء والمساكين، منزله مأوى لليتامى والأرامل، تلتمس فيه أنواع الفضائل والفواضل.
ولما قصدت الأمة الفرانساوية بلاد الجزائر جمع جموعاً من العباد وسار(1/1372)
بهم إلى المدافعة عن الوطن والجهاد، وما زال يحرض الناس على القتال ويساعدهم في الهمة والنفس والمال، إلى أن ظهر الكفار على الإسلام لحكمة أرادها الملك العلام، فقصد بلاد الشام مهاجراً بأهله وقرابته، وتبعه خلق كثير من مريديه وأهل عصابته، واستوطن دمشق الشام، وكان له بها من الله زيادة فتح وإنعام، وأخبر أنه لما استشرف عليها شاهد أولياءها قد أقبلوا بسلمون عليه، وأظهروا الفرح والسرور بقدومه وقدموا أنواع التهاني إليه، وخرج لملاقاته جملة من أشراف البلدة وعلمائها، وتجارها وعوامها وعظمائها، فاستأنسوا به الاستئناس التام واشتهر فضله لدى الخاص والعام، واجتمعت عليه القلوب وصار مقصوداً في التوسل به بدفع الهموم والكروب، فأقام في دمشق عامين، ثم توجه لبيت الله الحرام لأداء فرض الحج وزيارة خير الأنام، وفي خدمته خمسة وأربعون نفراً من أحبابه ومريديه وأصحابه، وبعد رجوعه لداره، اتخذ لنفسه خلوة في منزله لا يخرج منها إلا لقضاء أوطاره، إلا يوم الخميس فإنه جعله لزيارة القاصدين ومذاكرة الواردين، وكثيراً ما يقرأ عليهم كتب الرقائق ويستخرج لهم من كنوزها لآلئ الدقائق، ليزيدهم في فعل المأمور ترغيباً، وعن المآثم ترهيباً، ثم يعود لخلوته ليلة السبت بالهمة العالية والقوة السامية، ولم يزل على ذلك حتى قدم على السيد المالك.
وأخبرني ولده السيد محمد الطيب عن والدته بنت الشيخ محمد المهدي شيخ المترجم المرقوم، أنها دخلت عليه مرة في خلوته لتحظى برؤيته وتغنم جميل زيارته، فلما أشرفت عليه اعترتها هيبة عظيمة وقشعريرة جسيمة، حتى لم تطق أن تسلم عليه ولا أن تنظر إليه، وسمعته يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة ويقول له اضمني يا رسول الله، ثم حمد الله وقال يا رسول الله اضمن أولادي ثم حمد الله، وقال يا رسول الله اضمن أزواجي ثم حمد الله، وقال يا رسول الله اضمن كل من تعلق بي وتلقى وردي وبقي طويلاً(1/1373)
وهو يتضرع إليه صلى الله عليه وسلم في قبول مسئلته، ثم حمد الله وأثنى عليه وقال هذا جل آمالي، وربحي منك يا رسول الله ورأس مالي.
ثم سمعته يخاطب والدها ويذكر له بعض الأسرار والمكاشفات، وبعد فراغه من ذلك كله سرى عنها ذلك الحال وزال عنها الشتات، فأقبلت عليه فتلقاها بالرحب والبشاشة والسرور والهشاشة، وكان يعظمها جداً حرمة لأستاذه وقدوته وملاذه، ولما يرى فيها من الخير والصلاح والفوز والفلاح، وعزم عليها أن لا تحدث بهذا الحديث أحداً، ما دام موجوداً في قيد الحياة وإن طال المدى، فما ذكرت ذلك لسواه حتى توفاه الله.
وأخبر الشيخ المحفوظ ابن عم الأستاذ الشيخ محمد المهدي وكان رحمه الله تعالى رجلاً صالحاً تقياً ناجحاً، إنه توجه يوماً مع المترجم وشيخه الشيخ محمد المهدي في بلاد المغرب من قرية إلى أخرى وهو ساع في خدمتهما لينال ثواباً وأجراً، فوقفت بغلة الشيخ قرب قبر في الطريق، فقال الشيخ ما أصابها من البلاء؟ فقال المترجم إن الله كشف لي عن صاحب هذا الضريح، وهو الذي استوقف الدابة يلتمس منك صالح الدعاء، فدعا له فانطلقت، وإلى نحو المطلوب توجهت، ثم مرا في طريقهما على شجرة عظيمة، فقال الشيخ للمترجم ليت شعري في أي زمان غرست هذه الشجرة الجسيمة، ومن غرسها في هذا المكان فهل من يعرف ذلك الآن؟ فأطرق المترجم غير طويل، ثم قال أيها الأستاذ الجليل: إن الله أنطقها لي فأخبرتني أنها غرست في التاريخ الفلاني وإن غارسها فلان ابن فلان الفلاني.(1/1374)
وأخبر عنه أيضاً هذا الرجل الصالح أن المترجم جاء يوماً إلى أستاذه المرقوم، يخبره بوفاة أخ له في الله من مكة من رجال الغيب الكرام، ويستأذنه في التوجه إلى بيت الله الحرام، للصلاة عليه وتشييع جنازته، وحضور دفنه في تربته، فأذن له فغاب، وبعد برهة رجع وآب.
وطلب منه مرة بعض أصحابه زيارة الشيخ الأكبر والدعاء بالمرغوب في فسيح رحابه، فقال له: الرجل هو الذي يجتمع بالولي عند الوقوف بحضرته، وبعد انتقال المترجم إلى الدار الآخرة جاء بعض أولاده لزيارة جده والد والدته وشيخ المترجم المذكور الشيخ محمد المهدي، وفي يده كتاب الابريز في مناقب الشيخ الدباغ عبد العزيز، فأمره أن يسمعه منه شيئاً، فقرأ عليه جملة من كراماته وعلومه المستجادة، فقال له: لو سطر أحد مآثر والدك ومناقبه لبلغت هذا المبلغ وزيادة، وحدث ولده أنه كان يوماً عند الأمير السيد عبد القادر الجزائري، وعنده رجل من أهل فاس يسمى الشيخ عمر بن سودة، فقال له الأمير: إن والد هذا الشاب كان في المجاهدة من أضراب أبي يزيد البسطامي، وأبي سليمان الداراني. وبالجملة لو أردت أن أستقصي أحوال هذا السيد الجليل لأدى المقام إلى الإسهاب والتطويل، وما ذكرته يدل على بعض مقامه، وعلى رفيع رتبته ووجوب احترامه، مات رحمه الله تعالى سنة تسع وستين ومائتين وألف، ودفن في سفح قاسيون في جوار نبي الله ذي الكفل، على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
الشيخ محمد العطار بن....بن الشيخ إبراهيم الحسيبي جد بني الحسيبي
عالم عامل وهمام فاضل، قد أجمع الناس على طيب أصله وصحة كماله وفضله، قد اتصف بصفات من سلف وساد في معالي شمائله فيمن خلف،(1/1375)
وارتفع مقامه وعلا قدره واحترامه، وصار مقصوداً في مشكلات المسائل وموروداً في أخذ الفضائل.
ولد سنة ألف ومائة ونيف وثلاثين، واشتغل في العلم والعبادة والتقوى والزهادة، إلى أن برع وفاق واشتهر في الآفاق. تولى القضاء بمدينة غزة هاشم، وكان في أحكامه تقياً بعيداً عن المحارم، وكان السيد محمد التافلاتي قاضي القدس الشريف، فوقع بينهما في مسألة من المسائل اغبرار اقتضى اللوم والتعنيف، فكتب السيد محمد التافلاتي رسالة في تعنيفه وأرسلها إليه، فغب وصولها شرحها وردها من غير مهلة عليه، وابتداء هذه الرساله قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " جناب الأخ الأمجد الشيخ محمد التافلاتي حفظه الله تعالى، وصلت مكاتبتك إلينا ولم يسبقها منا إليك كتاب، وابتدأتنا بمخاطبتك ولم يتقدم في هذه المدة منا إليك خطاب، فتلقيناها تلقي الأحباب بالسعة والترحاب، وحين رأيناها نزلت منا منزلة الأضياف، عجلنا قراها بما يجب لها عند أهل الإنصاف:
سوداء شمطاء اللمم ... وافت بتيه وعجب
لما علمت جهلها ... أنكحتها فحل الأدب
فما مكثت إلا بمقدار ما يمكث الطيف، ولا لبثت إلا كم تلبث سحابة الصيف، حتى نهضت:
مسرعة تقول قطني قطني ... مهلاً رويداً قد ملأت بطني
وألبستها خلعاً حكت قطعاً من الليل مظلماً، كما يليق ذلك بشأنها فلم تكفر لنا أنعما، فالرجاء إذا وصلت أيها الشيخ إليك، وألفيت بكراً عذراء، بين يديك، أن تتقبلها بقبول حسن، وأن تكفلها وتهجر لأجلها الوسن، وإذا نسبتها فقل عربية قرشية، شامية قدسية، رملية(1/1376)
غزية. وإياك أن تنسبها لأمها الغريبة ذات اللامة التي أكسبتك فوق ما اكتسب ببغلته أبو دلامة، وأزرت بك في الشرق والغرب، إزراء الطيلسان بابن حرب، وستشتهر بها عند كل قريب وبعيد، كما اشتهر بشاته سعيد، فإذا ورد عليك بذلك الخبر، فلا تلم سواك في البشر. وتذكر ما أنشده سيدي عمر:
ولقد أقول لمن تحرش في الهوى ... عرضت نفسك للبلا فاستهدف
وأنت حيث فتحت هذا الباب، وابتدأت هذا الخطاب، تكرمت عليك بالجواب، لئلا تحقر نفسك إذا لم تجاب، واعلم بأنني كما قيل:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
ولا مبتغ للشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب
ولا يظن أحد أن إقدامك على هذا الأمر لجرأة في الخلد، فالعير كما لا يخفى تقدم من خوف على الأسد، ولولا ما أرشدنا سبحانه وتعالى إليه بقوله عز وجل: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه " وخشية ما قيل:
إذا المرء لم يكرم كريماً ولم يهن ... لئيماً ولم يبرز إلى من يجاوبه
فذاك الذي إن عاش لا يعتنى به ... وإن مات لا تبكي عليه أقاربه
لما فوقت من قسي الملام نحوك سهماً، ولا أفدتك من شهب الكلام رجما، على أنني أتيقن الملامة، وأتحقق على ذلك الندامة، إذا طاشت السهام في ظلك الزائل فلم تر فيه مرمى، وتساقطت شهب ثواقب الكلام عليك فلم تجد لك رسما، غير أني أخلص بقوله تعالى في محكم التنزيل " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " هذا(1/1377)
وإن كان يقع لا على شيء منك الفند، لأنك ما تحت الواحد في العدد، فالوهم يصورك وتشير إليك الأفكار، ليعتبر بذلك غيرك من ذوي الأبصار، وقد حملني على ذلك قول من تقدم: ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يتهدم، وكيف لا أناضل المناضل، وأنازل المنازل، وقد أعددت بحمد الله للكفاح أتم عدة وأمضى سلاح، ولكن أحببت أن أوضح لكل واقف على هذا المجال، ما حصل عليه وبسببه هذا الجدال، ليظهر لمتأمله حقيقة الحال، ويعلم أن الرجال تعرف بالحق ولا يعرف الحق بالرجال، فأقول: ملخص ذلك أن الشيخ المذكور، هو مفتي القدس التافلاتي المشهور، ضاقت عليه في بيت المقدس الأحوال، واشتد الضنك عليه بها واستطال، فنزل إلى أسكلة يافا ليقرع باب الفرج وصار يدرج بها مع من درج، فما ترك باباً يتوهم منه حصول رزق حتى عالجه، ولا وجد إنساناً يظن خيره إلا خالطه ومازجه، فلما أعيته المطالب واستحالت عليه المآرب واستدت في وجهه المسالك وتقطعت أحبال ما نصب من الشبائك، ولم يصطد عقعقاً ولا بوما واصبح من كل خير محروما، فعزم على الرجوع بخفي حنين وهو بهمومه أشغل من ذات النحيين وقد كان آلى أن يجيب كل من يستفتيه على وفق ما يرضيه، وأقسم أن لا يرد سائلاً يأتيه ولو ألقاه الجواب في التيه، فسمع إنساناً يذكر حادثة على سبيل المحادثة فسقط عليه سقوط الذباب، ووقع دونه وقوع الغراب، فجعل يفتيه قبل أن يسأله، ويقلب له الأجوبة عساه أن يوافق ما أمله، وكان الرجل عن جميع أجوبته مستغنيا، ولم يكن على حالة من الأحوال مستفتيا، ولكن فهم حاله فرثى إليه، واستطلع مرامه فعطفته الرحمة عليه،(1/1378)
فاستفتاه بحادثة واقعة في غزة، بما ملخصه في بكر بالغة تزوجها غير كفؤ برضاها، وولدت منه ولداً فقام وليها يطلب فسخ النكاح هل يجاب إلى ذلك، فأجاب الكفاءة شرط صحة انعقاد النكاح، وهذا النكاح المشروح في السؤال لم ينعقد أصلاً كما هو المختار للفتوى، كما صرح به قاضي خان، وصاحب التنوير، واتفقت عليه فتاوى المتأخرين، لفساد الزمان، وإذا طلب الولي الفسخ أم لم يطلبه رضيت المرأة أم لم ترض فالفسخ واقع لعدم انعقاد النكاح من أصله ولو ولدت أولاداً، والنقل به مستفيض لم يخل منه كتاب من كتب المذهب، والله سبحانه وتعالى أعلم، فأخذها السائل وأرسلها للولي بغزة هاشم وحرضه على إجراء ما فيها من الأحكام، فأخذها واستكتب مفتي غزة فكتب عليها، ثم عرضها على هذا العبد الضعيف، لكونه انتصب لفصل الأحكام بين كل وضيع وشريف، وكان الزوج غائباً، فأجبته أنك تحتاج إلى خصم لتثبت عليه عدم الكفاءة، فاستفتى علماء غزة فأجابوه كما أجبت، غير أن مفتيها قال ليس لذلك سبيل إلا بنصب مسخر، ولكن ينبغي أن تنظر في الصور، في الصور التي يجوز فيها نصب المسخر، فأجبت بأن هذه الصورة ليست منها فانفصل المجلس على أن المفتي والعلماء يراجعون كتب المذهب، وحرر الولي ذلك إلى يافا وأخبره المستفتي بما حصل وصدر في طرفنا، فاستشاط من الغضب وامتلأ من الغيظ، وصار وجهه كالمسافر في أشهر القيظ، ثم كتب سؤالاً آخر كالأول ولكن زاد فيه ونقص، وما أراد بذلك إلا إرضاء السائل ليطيب من عيشه ما تنغص، تم كتب جواباً غير الأول وبسط فيه المقال، وأكثر من نقل الأقوال، وذكر رواية الحسن ونقل ترجيحها والعمل بها عن أئمة أعلام، وساق أسماء من عول عليها واعتمدها من العلماء العظام، ثم قال: والحاصل أن هذا النكاح لم ينعقد من أصله وهو باطل، والباطل يجب إعدامه، ثم قال في آخرها: هذا(1/1379)
خلاصة مذهب الإمام النعمان، نعوذ بالله من الحظوظ الموجبة لغضب الرحمن، كأنه يشير إلى توقفنا وتوقف علماء غزة أنه من الحظوظ الموجبة لغضب الرحمن، ويدل على كونه أرادنا بذلك أنه حرر مكاتبة للولي، وأرسل له فتوى أخرى ثالثة داخل تلك المكاتبة، والفتوى صورة سؤالها في نكاح فاسد باطل، لكون الزوج غير كفؤ للزوجة، هل للزوجة أن تفسخ هذا النكاح ولو بعد الدخول، ولو كان زوجها غائباً، وهل يجب على القاضي التفريق والفسخ ولو
كان الزوج غير حاضر؟ والحاصل أنه اتسعت دائرة القيل والقال، وتفاقم أمر الجدال، وتعددت الرسائل اتخذت الوسائل، وطال الكلام في هذا المقام، وكثرت المخاطبة واللوم والمجاوبة، وانتقل مركز القضية لغير هذه الكيفية، ومن جملة ما قاله المترجم: كان الزوج غير حاضر؟ والحاصل أنه اتسعت دائرة القيل والقال، وتفاقم أمر الجدال، وتعددت الرسائل اتخذت الوسائل، وطال الكلام في هذا المقام، وكثرت المخاطبة واللوم والمجاوبة، وانتقل مركز القضية لغير هذه الكيفية، ومن جملة ما قاله المترجم:
يا أيها الشيخ الذي ... بزخرف القول اشتهر
خف عالم الأسرار أن ... يبدي الذي منك استتر
فلتصبحن عبرة ... مشتهراً بين البشر
ومن قوله
إذا أنت ضيعت الصنيع ولم تكن ... تقابله إلا بسوء فلا عجب
فقد جاء في معنى الحديث الذي رووا ... ولا يصلح المعروف إلا لذي حسب
وقال أيضاً في رسالته المذكورة:
ألا أيها الشيخ الذي أكثر الدعوى ... كذبت وايم الله في السر والنجوى
أما تستحي أن قلت ما ليس فاعلاً ... فأكبر به مقتاً وأعظم بها بلوى
وقال بها أيضاً:
أعد نظراً فيما كتبت ولا تكن ... بشقشقة للأفضلين منازعا
فحسبك ما تهذي به لك زاجراً ... وحسبك أن تخزى ويكفيك رادعا
وقال أيضاً:
يا للشريعة من مفت لقد فتنا ... وضل إذ فارق المفروض والسننا(1/1380)
أراد يكتم ما تحوي طويته ... فضاق ذرعاً وعن أثقاله وهنا
وقد تردى بما أخفت سريرته ... فأصبح الكتم منها للورى علنا
وقد استشهد بهذه الأبيات الثلاثة:
عجوز تمنت أن تكون فتية ... وقد يبس الجنبان واحدودب الظهر
وأضحت بلا عقل يصون حجابها ... فباحت بما في السر وانكشف الستر
وجاءت إلى العطار تبغي تحسنا ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
وقال أيضاً:
فتباً لشيخ يزعم الحق باطلاً ... وباطل ما يأتيه يزعمه حقا
فبعداً له من مفسد ما أضره ... على الملة الزاهرا وسحقاً له سحقا
وقال أيضاً:
ولو نسب الزمان لتافلات ... تغير وجهه وبدا القتام
وأصبح صبحه ليلاً بهيماً ... ودام على أهاليه الظلام
وقال أيضاً:
لو أن طينة آدم ... مزجت بتربة تافلات
ما كان في أولاده ... أهل التقى والمكرمات
ولا أتاه الصالح ... ون بنسله والصالحات
ول أردت أن أذكر رسالة التافلاتي وشرحها للمترجم العريض الطويل، لأدى المقام إلى الإطناب والتطويل. مات المترجم في الأستانة سنة تسع ومائتين وألف ودفن هناك رحمة الله عليه.(1/1381)
الشيخ محمد أفندي الشافعي المصري كاتب الرزق الأحباسية
العمدة الفرد والنجيب اللبيب الأوحد، والناهج منهج الصلاح والمتمسك بعرى التقوى والفلاح، كان حسن الأخلاق قد اشتهر في النواحي والآفاق. وكان يجيد القرآن بالقراءات العشر مع الإتقان. مات رحمه الله تعالى ثامن ربيع الثاني سنة اثنتين ومائتين وألف.
محمد بن الحسن بن عبد الله الطيب المصري
الشاب الأديب المذب الأريب، والكامل اللبيب والوحيد النجيب، نشأ في الرفاهية والنعم وعانى طلب العلم فنال منه ما أخرجه من ربقة الجهل والنقم، وتعلق بالعروض وأخذه عن الشيخ محمد بن إبراهيم العوفي المالكي فبرع فيه، ونظم الشعر إلا أنه كان يعرض شعره للذم بالتزامه فيه ما لا يلزم في قوافيه، كتب إليه صاحبنا المتقن العلامة السيد إسماعيل بن سعد بن إسماعيل الوهبي المعروف بالخشاب على ديوانه:
قل للرئيس أبي الحسين محمد ... خدن المعالي والسري الأمجد
والحاذق الفطن اللبيب أخي الذكا ... اللوذعي الألمعي الأوحد
ألزمت نفسك في القريض مذاهبا ... ذهبت بشعرك في الحضيض الأوهد
وتركت ما قد كان فيه لازماً ... هلا عكست فجئت بالقول السدي
كدرت منه بما صنعت بحوره ... فغدت مشارع ليس يمحوها الصدي(1/1382)
فإذا نظمت فكن لنظمك ناقدا ... نقد البصير بذهنك المتوقد
أولا فدع تكليف نفسك واسترح ... من قولهم ما شعره بالجيد
ولئن عنفت عليك فيما قلته ... فلقد بذلت النصح للمسترشد
فلما قرأها ضحك ولم يزد على أن قال له أنت في حل، وكان رحمه الله تعالى قد علق غلاماً من أبناء الكتاب فكتب إليه أيضاً السيد إسماعيل صاحب الأبيات المتقدمة:
إني أجلك أن تصبو بمبتذل ... على تسنمك العلياء من صغر
أمسك عليك وحاذر من إخاء فتى ... قميصه مذ نشا ينقد من دبر
وكتب إليه أيضاً الماهر الأديب، والذكي الأريب، طه بن عرفه مقرظاً على ديوانه بيتين في غاية الحسن:
لك لفظ كأنه الدر نظما ... صدف القلب عن سواه منيا
لو تجلى منه الجمال الإناثي ... لترضاك للفؤاد صفيا
ومن شعره رحمه الله تعالى:
نار الخليل إذا بدت في مهجتي ... ورشفت ذاك الثغر برد حرها
توفي رحمه الله تعالى في غره شعبان سنة خمس ومائتين وألف.
محمد أفندي بن سليمان أفندي بن عبد الرحمن أفندي بن مصطفى أفندي جمليان المصري
قال الجبرتي: الصنو الوجيه والفريد النبيه نشأ في عفة وصلاح وخير، وطلب العلم وعانى الجزئيات والرياضيات، ولازم الشيخ حسن الجبرتي وقرأ عليه كثيراً من الحسابيات والفلكيات والهيئة والتقويم، ومهر في ذلك وانتظم في عداد أرباب المعارف، واشترى كتباً كثيرة في الفن، واستكتب وكتب بخطه الحسن، واقتنى الآلات والمستظرفات، وحسب(1/1383)
وقوم الدساتير السنوية عشرة أعوام مستقبلة بأهلتها وتواريخها وتواقيعها، ورسم كثيراً من الآلات الغريبة والمنحرفات، وكان شغله وحسابه في غاية الضبط والصحة والحسن.
وكان لطيف الذات مهذب الأخلاق قليل الإدعاء جميل الصحبة، وقوراً. مات بالطاعون في شعبان سنة خمس ومائتين وألف وتبددت كتبه وآلاته.
الشيخ السيد محمد أبو العرفان بن علي الصبان الشافعي الأشعري المصري
الإمام الذي لمعت في أفق الفضل بوارقه، وروى أفئدة الواردين عذب شراب عرفانه ورائقه، لا يدرك بحر وصفه الإغراق، ولا تلحقه حركات الأفكار ولو كان لها في مضمار الفضل السباق، العالم النحرير واللوذعي الشهير.
ولد بمصر وحفظ القرآن والمتون، واجتهد في طلب العلم وحضر أشياخ عصره وجهابذة مصره، فحضر على الشيخ الملوي شرحه الصغير على السلم، وشرح الشيخ عبد السلام على جوهرة التوحيد، وشرح المكودي على الألفية، وشرح الشيخ خالد على قواعد الإعراب، وحضر على الشيخ حسن المدابغي صحيح البخاري بقراءته لكثير منه، وعلى الشيخ محمد العشماوي الشفا للقاضي عياض وجامع الترمذي وسنن بن داوود، وعلى الشيخ أحمد الجوهري شرح أم البراهين لمصنفها بقراءته لكثير منها، وعلى الشيخ السيد البليدي صحيح مسلم وشرح العقائد النسفية للسعد التفتازاني وتفسير البيضاوي وشرح رسالة الوضع للسمرقندي، وعلى الشيخ عبد الله الشبراوي تفسير البيضاوي وتفسير الجلالين وشرح الجوهرة للشيخ عبد السلام، وعلى الشيخ محمد الحفناوي صحيح البخاري والجامع الصغير وشرح المنهج والشنشوري على الرحبية ومعراج النجم الغيطي وشرح الخزرجية(1/1384)
لشيخ الإسلام، وعلى الشيخ حسن الجبرتي التصريح على التوضيح والمطول ومتن الجغميني في علم الهيئة وشرح الشريف الحسيني على هداية الحكمة قال: وقد أخذت عنه في الميقات وما يتعلق به، وقرأت فيه رسائل عديدة، وحضرت عليه في كتب مذهب الحنفية كالدر المختار على تنوير الأبصار وشرح ملا مسكين على الكنز، وعلى الشيخ عطية الأجهوري شرح المنهج مرتين بقراءته لأكثره، وشرج جمع الجوامع للمحلى، وشرح التلخيص الصغير للسعد، وشرح الأشموني على الألفية وشرح السلم للشيخ الملوي وشرح الجزرية لشيخ الإسلام والعصام على السمرقندية وشرح أم البراهين للحفصي وشرح الأجرومية لريحان آغا، وعلى الشيخ علي العدوي مختصر السعد على التلخيص وشرح القطب على الشمسية وشرح شيخ الإسلام على ألفية مصطلح الحديث بقراءته لأكثره وشرح ابن عبد الحق على البسملة لشيخ الإسلام ومتن الحكم لابن عطاء الله، رحمهم الله تعالى أجمعين.
قال: وتلقيت طريق القوم وتلقين الذكر على منهج السادة الشاذلية الأستاذ عبد الوهاب العفيفي المرزوقي وقد لازمته المدة الطويلة وانتفعت بمدده ظاهراً وباطناً، قال: وتلقيت طريق ساداتنا آل وفا، سقانا الله من رحيق شرابهم كؤوس الصفا، عن ثمرة رياض خلفهم ونتيجة أنوار شرفهم، مربح الأكابر والأصاغر ومطمح أنظار أولي الأبصار والبصائر، أبي الأنوار محمد السادات بن وفاء، نفحنا الله وإياه بنفحات جده المصطفى، وهو الذي كناني على طريقة أسلافه بأبي العرفان، وكتب لي سنده عن خاله السيد شمس الدين أبي الإشراق، عن عمه السيد أبي الخير عبد الخالق، عن أخيه السيد أبي الإرشاد يوسف، عن والده الشيخ أبي التخصيص عبد الوهاب، عن ولد عمه السيد يحيى أبي اللطف، إلى آخر السند هكذا نقلته من خط المترجم رحمه الله تعالى.
ولم يزل المترجم يخدم العلم ويدأب في تحصيله حتى تمهر في العلوم(1/1385)
العقلية والنقلية، وقرأ الكتب المعتبرة في حياة أشياخه، وربى التلاميذ، واشتهر بالتحقيق والتدقيق والمناظرة والجدل، وشاع ذكره وفضله بين العلماء بمصر والشام، وكان خصيصاً بالمرحوم الشيخ حسن الجبرتي والد صاحب التاريخ، اجتمع به من سنة سبعين ومائة وألف، ولم يزل ملازماً له مع الجماعة ليلاً ونهاراً. واكتسب من أخلافه ولطائفه، وكذلك بعد وفاته لم يزل على حبه ومودته مع ولده الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وانضوى إلى أستاذنا السيد أبي الأنوار بن وفا ولازمه ملازمة كلية، وأشرقت عليه أنواره ولاحت عليه مكارمه وأسراره.
ومن تآليفه حاشيه على الاشموني التي سارت بها الركبان، يشهد بدقتها أهل الفضائل والعرفان، وحاشية على شرح العصام على السمرقندية، وحاشية على شرح الملوي على السلم، ورسالة في علم البيان، ورسالة عظيمة في آل البيت ومنظومة في علم العروض وشرحها، ونظم أسماء أهل بدر، وحاشية على آداب البحث، ومنظومة في مصطلح الحديث ستمائة بيت، ومثلثات في اللغة، ورسالة في الهيئة، وحاشية على السعد في المعاني والبيان، ورسالتان على البسملة صغرى وكبرى، ورسالة في مفعل، ومنظومة في ضبط رواة البخاري ومسلم وله في النثر كعب على، وفي الشعر كأس ملي، فمن نظمه في مدح الأستاذ أبي الأنوار بن وفا، ويستعطف خاطره عليه بتقصير وانقطاع وقعا منه قوله:
عبيد جنى ذنباً ورحب الحمى حلا ... فهل من رضا عنه تجود به فضلا
إليك أبا الأنوار قد أبت مخلصاً ... ومن ذا الذي يا سيدي قط مازلا
أعيذك أن يسعى لبابك عائذ ... وتكسوه من أجل ذنب له ذلا
أعيذك أن ترضى حقارة لائذ ... لسالف جرم تاب منه وإن جلا
إذا أنت بالغفران والصفح لم تجد ... فمن منه نرجو العفو والصفو والبذلا(1/1386)
وكيف وأنت الصدر من سادة حووا ... مكارم الأخلاق العلا ما طووا إلا
ومن معشر هم نسل أشرف مرسل ... دعا لجميل الصفح أكرم بهم نسلا
أولئك آل المصطفى وبنو الوفا ... كنوز الصفا مزن العطاء الذي انهلا
وهم بركات الكون شرقاً ومغربا ... وغوث اللهافى والهداة لمن ضلا
بهم عند أستاذ الوجود توسلي ... ومن أم سادات الوفا لم يخب أصلا
هو المقصد الأسنى لمن كان آملا ... هو المنهل الأصفى لمن كان مغتلا
هو الكعبة العظمى لحج أولي النهى ... فمن بيته يدخل يكن آمناً جذلا
أجل بني الدنيا وأبهرهم سنا ... وأبهجهم سمتاً وأشرفهم أصلا
وأمضاهم عزماً وأبسطهم يدا ... وأوفرهم حزماً وأوسعهم عقلا
وأثبتهم قلباً وأكملهم تقى ... وأبلغهم نطقاً وأفضلهم نبلا
غزير المزايا طيب الجسم خير من ... حططنا بوادي حيه الأقدس الرحلا
همام له ألقى الزمان سلاحه ... وأمسى له دون الورى تبعاً كلا
جواد إذا هلت سماء سماحه ... على ما حل أضحى كان لم ير المحلا
لحا الله أوقاتاً ببعدي تصرمت ... أبيت ولي قلب بنار النوى يصلى
وأقوام سوء دينهم رفض دينهم ... وديدنهم شحن الصدود بما يقلى
إذا ما دعوا للخير صموا وإن دعوا ... لسيئة مدوا لسانا يداً رجلا
ولله أيام بها كنت أجتني ... ثمار الرضا والحظ مجتمع شملا
وأنظم في روضات أنسي بوده ... لآلئ مدح بين منثورها تجلى
اسود أشعاري بسؤدد ذكره ... وأرجع مبيض المحيا بما أولى
فيا ليت شعري هل يعود لي الهنا ... وأحظى بآمالي وأطرح الثقلا
ويا واحد الأعصار لا عصره فقط ... ويا ملكاً مثواه في الفلك الأعلا
أأجفى ولي ود مديد المدى ولي ... إليك انتماء ليس يبلى وإن أبلى(1/1387)
أأجفى ولي في ذا الجناب مدائح ... على مدد الزمان آياتها تتلى
وما زهر روض صافحته يد الصبا ... وهادت بريا نثره الوعر والسهلا
وغنت على أفنائه ساجعاته ... فنوناً من الألحان تسترق العقلا
وسطرت الأنداء في ورقاته ... أحاديث في الأشجان عن ورقة ثملى
بأبهج من شعر مدحتك طيه ... وحاشا للفظ أنت معناه أن يعلى
لقد قلت قولي ذا واعلم أنه ... إذا لم يكن حظ يضيع وإن جلا
على أن حظي أن يعود رضاك لي ... وإقبالك الشافي لمن كان معتلا
ولا شافعاً لي غير حلمك سيدي ... وأسلافك السادات أسنى الورى فضلا
سملت وما لاقت عداك سلامة ... وطبت ونال الحاسد الخزي والذلا
ودمت كما ترضى لشانيك غيظه ... وللخل جود من ندى دائم وبلا
على جدك الهادي صلاة إلهه ... وتسليمه ما عين استحسنت شكلا
وآل وصحب ما ترنح بالصبا ... معاطف أغصان وما هيجت خلا
وله قصائد شتى، ومراث وتهنئات بأعياد وغيرها، ومن قوله مهنئاً جناب الشيخ حسن الجبرتي في غلام، سنة أربع وسبعين ومائة وألف:
نهنيك بالنجل السعيد الذي بدا ... من الغيب بالأفراح والسعد والندى
أتاك فغنى بالهنا بلبل الرضا ... وقام على غصن المسرات منشدا
وأشرق من أفق العلا كوكب المنى ... فأمسى ببشراك الزمان مغردا
فطب سيدي نفساً بما ترتجي له ... وقر عيوناً بالذي يكمد العدا
فإن لسان المجد قال مؤرخاً ... نهنيك بالنجل السعيد الذي بدا
وله أيضاً قصائد غراء في مدح الأستاذ أبي الأنوار بن وفا، مذكورة في المدائح الأنوارية، ومن كلامه تهنئته للأجل الشيخ أبي الفوز إبراهيم السندوبي تابع السيد المشار إليه بقدومه من سفره:
بروحي حبيباً في محاسنه بدا ... فخرت له أهل المحاسن سجدا
وراح يثنيه مدام دلاله ... فخلناه من راح الدنان تميدا(1/1388)
ومر بنا في عسكر من جماله ... فقطع أحشاء وفتت أكبدا
مليح أعار النيرين سناهما ... وعلم غصن البان كيف تأودا
وشاكي سلاح يرهب الأسد لحظه ... ويرعب خطي القنا والمهندا
وحلوا إذا ما افتر باسم ثغره ... أرانا عقيقاً حف دراً منضدا
كسا الله خديه من الورد حلة ... وأسكن في فيه الزلال المبردا
نسيم وغصن رقة ورشاقة ... وأما شذا فالروض كلله الندى
فسبحان من سواه للناس فتنة ... وصوره في دولة الحسن مفردا
شغفت به قدماً ولذ هواه لي ... على رغم غمر لامني فيه واعتدى
وفي حبه أنفقت عمري جميعه ... ولم أخش في شرع الصبابة ملحدا
ولم ينسني ذكراه شيء سولا علا ... أبي الفوز إبراهيم شمس ذوي الهدى
إمام له في كل مجد وسؤدد ... مآثر لا تسطيع إنكارها العدا
ومولى أجل الله في الناس قدره ... وتوجه تاج القبول وأيدا
ونابغة دراكة من بيانه ... وآرائه المعروفة السحر والهدى
جواد له بذل الجزيل سجية ... وبحر ندى عن موجه يؤخذ الندى
تسير له قبل الجسوم قلوبنا ... فلا تنثني إلا وعتها انجلى الصدى
يمازج عز المجد منع تواضع ... ولطف به فيه نسيم الصبا أفندي
إليه انتهى جمع الفضائل سالماً ... فأصبح للأقران مولى وسيدا
ولا غرو عن حاز الكمال جميعه ... فمن يتبع السادات يزداد سؤددا
ومن لأبي الأنوار أستاذنا انتمى ... ينال من الآمال ما كان أبعدا
هو السيد السامي على أهل عصره ... هو السند الحامي إذا عدت العدا
هو الجوهر الفرد الذي بوجوده ... تجدد إيوان العلا وتشيدا
هو المقصد الأسنى لمن كان آملاً ... هو المنهل الأصفى لمن كان ذا صدى
هو المورد المقصود من كل وجهة ... هو الشرف النامي على عدد المدى(1/1389)
محط رحال العارفين وقطبهم ... وكعبة أهل الفضل حالاً ومبتدا
همام حباه الله كل حميدة ... فأصبح بين العالمين محمدا
وأورثه مولاه شامخ رتبة ... لآبائه آل الوفا أبحر الندى
مصابيح مصر بل صباح الوجود بل ... حياة الورى أزكى البرية محتدا
كنوز المعاني والحقائق والتقى ... شموس سموات الولاية والهدى
خلاصة آل المصطفى ولبابهم ... وسر بني الزهراء بضعة أحمدا
هم بركات الكون شرقاً ومغربا ... هم ملجأ العاني إذا خطب اعتدى
هم القوم لا ينقاس غيرهم بهم ... ومن ذا بسادات يقايس أعبدا
إذا أطلق السادات كانوا بني الوفا ... فيا حبذا فخراً صميماً وسؤددا
أبا الفوز خذها بالقبول تكرما ... وإن كنت كالمهدي إلى الكنز عسجدا
وقابل بحسن العفو سوء قصورها ... فذنب المحب العفو عنه تأكدا
على خير رسل الله خير صلاته ... وتسليمه ما شارق غاب أو بدا
وآل وأصحاب وكل متابع ... لمنهاجهم ما ناح طير وغردا
وما المخلص الصبان قال مؤرخا ... أبو الفوز بشراه السرور مؤبدا
وله في ديباجة سلام
يا نسيم الصبا تحمل سلامي ... لحبيب به شفاء سقامي
وإليه بلغ تحية صب ... مستهام ما خان عهد الغرام
لم يكن ناسياً وداداً قديما ... لا ولا سامعاً ملام لئام
ذو اشتياق إلى لقاء محب ... فاق نوراً على بدور التمام
وجه مولى حاز المحاسن طراً ... فهو شمس الكمال بين الأنام
وله أيضاً
ترحلتم عنا وشطت دياركم ... وبدلتمونا بالصفا غاية الكدر
وأعدى علينا الشوق جيش خطوبه ... وأصبح حزب الصبر ليس له أثر
فإن تسألوا عنا فإنا لبعدكم ... كجسم بلا روح وعين بلا بصر(1/1390)
ولولا رجاء النفس لقيا حبيبها ... لما بقيت منا معان ولا صور
وله متغزلاً
وحق صبح المحيا مع دجى الشعر ... وجنة الخلد مع راح اللمى العطر
ومقلة بفنون السحر قد كحلت ... وقامة رشحتها خمرة الخفر
وعرف عنبر خال وابتسام فم ... من اليواقيت عن ثغر من الدرر
ما غير البعد عهدي في الغرام ولا ... نسيت وداً مضى في سالف العصر
لي في المحبة شرع غير منتسخ ... ومذهب في التصابي غير مندثر
إن كنت ملت إلى السلوان يا أملي ... فلا تمتعت من خديك بالنظر
كيف السلو وأنت الروح في جسدي ... والعقل في خلدي والنور في بصري
كيف السلو لظبي ما نظرت له ... إلا رأيت شقيق الشمس والقمر
غصن من البان قد رقت شمائله ... ورق في حبه ذو البدر والحضر
بديع سحن يقول الناظرون له ... تبارك الله ما هذا من البشر
إلى محاسنه تصبو العقول وفي ... هواه يحلو مرير السقم والضجر
شاكي السلاح شديد البأس ذو مقل ... تعد أسهمها في أسهم القدر
ريم ولكن تخاف الأسد سطوته ... وكل أهل الهوى منه على خطر
يغزو النفوس بجيش من لواحظه ... وعسكر من جمال غير مقتدر
محاسن حار فيها لب ناظرها ... وفتنة دهشت منها ذوو الفكر
كأنما ذاته في لطفها خلقت ... من نفثة السحر أو من نسمة السحر
يغنيك عن كل ذي حسن محاسنه ... ومن يرى العين يستغني عن الأثر
أفديه من رشأ ما مثله أحد ... عدمت في حبه حلمي ومصطبري
أطال هجري بلا ذنب أتيت به ... وساءني بعد صفو الود بالكدر
أصغى إلى قول أعدائي وشمتهم ... مع أن قول الأعادي غير معتبر
يا أحمد الفعل إلا في تقلبه ... دع التقلب واجبر قلب منكسر
وأحي بالوصل نفساً فيك ميتة ... وأبر بالود جسماً من جفاك بري(1/1391)
يا من هو الآية الكبرى لناظره ... رفقاً بصب غدا من أكبر العبر
تكاد تحرقه نيران مهجته ... لولا سخاء سحاب الجفن بالمطر
إن كان عندك شك أنني دنف ... فسل دموعي وسل سقمي وسل سهري
وله أيضاً
أهابك أن أجيبك لا لعجز ... ولكن المحبة أخرستني
وأحتمل المكاره لا لذل ... ولكن الصبابة أحوجتني
وقدري لست تجهله ولكن ... غرامي باعني لك بيع غبن
فكن يا ابن الأكابر أهل عرف ... ولا تكثر علي من التجني
فلي جسم كساه الشوق سقماً ... ولي قلب علاه كل حزن
ولي في مذهب العشاق حال ... يطول بذكرها شرحي ومتني
وله غير ذلك كثير، وفضله وعلاه شهير، وكان في مبتدأ أمره وعنفوان شبابه وعمره، معانقاً للخمول والإملاق متكلاً على مولاه الرزاق، يستجدي مع العفة، ويستدر من غير كفة، وتنزل أياماً في وظيفة التوقيت بالصلاحية بضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه، ثم ترك ذلك.
ولما بنى محمد بك أبو الذهب مسجده تجاه الأزهر تنزل المترجم أيضاً في وظيفة توقيتها وعمر له مكاناً بسطحها سكن فيه بعياله فلما اضمحل أمر وقفه تركه واشترى له منزلاً صغيراً بحارة الشنواني وسكن به، ولما حضر عبد الله أفندي القاضي المعروف بططرزاده وكان متضلعاً من العلوم والمعارف، وسمع بالمترجم والشيخ محمد الجناحي واجتمعا به، أعجب بهما وشهد بفضلهما وأكرمهما، وكذلك سليمان أفندي الرئيس، فعند ذلك راج أمر المترجم وأثرى حاله، وتزين بالملابس وركب البغال، وتعرف أيضاً بإسماعيل كتخدا حسن باشا، وتردد إليه قبل ولايته، فلما أتته الولاية بمصر زاد في إكرامه وأولاه بره ورتب له كفايته في كل يوم(1/1392)
بالضربخانة والجزية، وخرجاً من كلاره من لحم وسمن وأرز وخبز وغير ذلك وأعطاه كساوي وفراء، وأقبلت عليه الدنيا، وازداد وجاهة وشهرة، وعمل فرحاً وزوج ابنه سيدي علي فأقبل الناس عليه بالهدايا وسعوا لدعوته، وأنعم عليه الباشا بدراهم لها صورة، وألبس ابنه فروة يوم الزفاف، وكذا أرسل إليه طبلخانته وجاويشيته وسعاته فزفوا العروس وكان ذلك في مبادئ ظهور الطاعون، فتوعك الشيخ المترجم بالسعال وقصبة الرئة، حتى دعاه داعي الأنام، وفجأة الحمام ليلة الثلاثاء من شهر جمادى الأولى سنة ست ومائتين وألف، وصلي عليه بالأزهر وكان محفل جنازته مجمع الأفاضل:
مضت الدهور وما أتين بمثله ... ولئن أتى لعجزن عن نظرائه
ودفن بالبستان رحمه الله تعالى، انتهى من كلام الجبرتي مع بعض تغيير.
محمد خليل أبو المودة بن السيد العارف علي بن السيد محمد بن القطب السيد محمد مراد المعروف بالمرادي
ابن علي الحسيني الحنفي الدمشقي مفتي دمشق الشام أعاد الله علينا من بركاتهم: الإمام السيد السند، والهمام الفهامة المعتمد، فريد عصره ووحيد شامه ومصره، الوارد من زلال المعارف، الصاعد لأعلى ذروة العوارف، نبعة صافيها ومبتدأ معينها، المؤيد بأحكام شريعة جده حتى أبان صبح يقينها، من بيت العلم والجلالة والسيادة، والعز والرياسة والسعادة، ولا ريب أنه كان شامة الشام، وغرة الليالي والأيام، أورق(1/1393)
عوده بالشام وأثمر، ونشأ بها في حجر والده والدهر أبيض أزهر، وقرأ القرآن على الشيخ سليمان الدبركي المصري، وطالع في العلوم والأدبيات واللغة التركية والإنشاء والتوقيع، ومهر وأنجب واجتمعت فيه أشتات الفضائل ومتفرقات الشمائل، مع لطيف خلق يسعى لينظر إليه، ورقيق جمال يقف الكمال متحيراً لديه.
ولما توفي والده المرحوم آل إليه إفتاء الحنفية في الديار الدمشقية، ونقابة الأشراف، واشتهر بين الخاص والعام بحسن الأوصاف، واستوى على العلوم العقلية والنقلية، وملك بنقد ذهنه جواهر المعارف والعوارف السنية، فكانت تتيه على سائر البقاع به بقاع الشام، ويفتخر به عصره على بقية الأعصار والأعوام، فلا تزال تصدح ورق الفصاحة في ناديه، وتسرح إليه وفود روام البلاغة فتباكره وتغاديه، ونور فضله باد، وموائده ممدودة لكل حاضر وباد، كما قيل:
كالشمس في أفق السماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا
وكان رحمه الله تعالى مغرماً بصيد الشوارد، وقيد الأوابد، واستعلام الأخبار وجمع الآثار، وتراجم العصريين، على طريق المؤرخين. وكان يراسل فضلاء البلدان البعيدة، ويواصلهم بالهدايا والرغائب العديدة، ويلتمس من كل منهم تراجم أهل بلاده، وأخبار أعيان أهل القرن الثاني عشر بحسب وسع همته واجتهاده. إلى أن بلغ مطلوبه وحصل مرغوبه، ورقم ما رام فجاء بحمد الله على أتم مرام، وسماه سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر.
وله أيضاً كتاب عظيم أرخ فيه المفتين في دمشق من أيام السلطان سليم، وسماه: عرف البشام فيمن ولي فتوى دمشق الشام(1/1394)
وقد ختمه بترجمة ذاته، فأحببت ذكرها بلفظها لدلالتها على رفيع مقامه وصفاته، فقال رحمه الله تعالى:
لا مزية فتذكر ولا محمدة فتشكر، ولا فضل فيقال، وليست عثرة واحدة فتقال، ولا سيئة واحدة فتغفر، وليس سهم واحد من المعائب يرده من الإغضاء مغفر، ولا طيب خلق ولا جمال، يوضح بيانه بالتفصيل والإجمال، ولا جملة كمالات، ولا محاسن كلمات، يشهد به البادي والحاضر والسامع والناظر، ولا فضائل ولا معارف، تنقدها بيد الإختبار من الأذكياء الصيارف، ولا فواضل ولا أدب ينسل إليه من كل حدب، ولا سماحة بنان وحماسة جنان، ولطافة بيان وعذوبة لسان، يعترف بها كل ماسان، ويقر لها كل إنسان، وتتشنف بسماعها الأذهان، ويرويها فم كل زمان في كل آن. وقد اقترفت الذنوب، وارتكبت العيوب، وغدوت منها ملآن الذنوب، واغترفت الإساءة، واغترفت بالبطالة ورفضت الأصدقا، وجانبت الأودا، وخبطت خبط عشوا، وكنت كخاطب في الليلة الظلما، ووصفت فما أنصفت، وأطلت الكلام وما أفدت، وجنحت للأماني، وتبعت في الأفعال زماني، ونصبت الآمال الكواذب، أشراك الرغبات والمطالب، وجهلت الكريم وعرفت الوضيع، وسامرت الوغد وتركت الرفيع، وجبت الجهل وسلكت حزنه والسهل، وصرفت أوقاتي للإضاعة فقلت البضاعة، وتبعت الأهواء النفسية، وفعلت في أيام شيخوختي أفعال الطفولية، لا أميز الخسيف من الشريف، ولا الربيع من الخريف، ولا الفاضل من المفضول، ولا الناقل من المنقول، ولا الأفيال من الأقيال، ولا الجهد من الجهر، ولا الجمر من الخمر، ولا الحبر من الحبر، ولا الجبر من الجبر، ولا القضا من الفضا، ولا العلا من الغلا، ولا النهار من البهار، ولا الأشجار من الأسحار، ولا العرار من الغرار، ولا الحلال من الخلال، ولا الحمار من الخمار ولا الملاح من الملاح، ولا الصبا(1/1395)
من الصباح، ولا الريا من الرياح، ولا النوى من النواح، ولا الفلا من الفلاح، ولا السما من السماح، ولا القرا من القراح، ولا الربا من الرباح، ولا العقار من العقار، ولا بوح من نوح، ولا الخد من الحد، ولا الجد من الجد، ولا الوجد من الوخد، ولا الشمع من السمع، ولا قابوس من فانوس، ولا الشاعر من المشاعر، ولا القاضي من القاصي، ولا الضد من الصد، ولا الحامد من الجامد، ولا الصائغ من الصانع، ولا الناظر من الباصر، ولا الصابر من الصائر، ولا الجابر من الحاير، ولا المعنى من المغنى، ولا القاصي من القاصر، ولا الزاهي من الزاهر، ولا الوافي من الوافر، ولا الهاجي من الهاجر، ولا الهامي من الهامر، ولا الآمي من الآمر، ولا الراسي من الراسخ، ولا الناسي من الناسخ، ولا الساري من السارق، ولا العالي من العالم، ولا الشاكي من الشاكر، ولا الصابي من الصابر، ولا السالي من السالك.
فكيف أترجم ويذكر حالي المبهم المعجم، وأنعت بمقال وكلام، وتجري بخصوصي مياه الأقلام، ويقال عني مادح نفسه يقريك السلام، وانخرط في سلك من ذكرته، وسمط من وضعته ونشرته، وأصف نفسي لشيء يمحضه التكذيب، وأنشئ مقالاً يصير هدفاً للتعريض والتأنيب، ولا يخفى أن الجهل شلل في يد الرياسة، آفة في رجل الرجولية، صمم في سمع الأريحية، قذى في عين المروءة، بخر في فم الفتوة، فلج في سن السيادة، لكنه في لسان الشهامة، بهق في وجه السعادة، صداع في رأس الكياسة، علة في جسم المعالي، مرض قي قلب المجد والفضل، قوة في قلب السيادة، متانة في يد الفتوة، ابتسام في فم الشهامة، جلاء في عين المعالي، وضاءة في وجه الكياسة والرياسة، فصاحة في لسان السعادة، صحة في جسم الدولة، ونعمة مغبوطة ومنحة بها المفاخر مربوطة، فيا ليتني ارعويت، وما تصديت وادعيت، ولكني وإن كنت(1/1396)
الموصوف بهذه الأوصاف المذكورة، والنعوت الغير المحمودة والمشكورة، فأفتخر بجدي وأبي، وبنجاري ونسبي، لا بأدبي ونشبي، فرونق الأخلاف بالأسلاف، وإن طابت تربة الكرم تحسن السلاف، والذنب اختلاجه بسلامة الرأس، والبناء لا يقوم إلا بالأساس، والأفق الصافي لا يطلع إلا زهرا، والتربة الطيبة لا تنبت إلا زهرا، وبصحو الجو بصحو النهار، ومتى عذبت العيون تصفو الأنهار:
شمس كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً ومن فلق الصباح عمودا
وناهيك بهذا البيت، الخالي عن لو النقائص والليت، فقد خرج منه رجال وأي رجال، يضيق عن حصر أوصافهم كل مجال، خضعت لهم من الأقيال شم الأنوف والمعاطس، وتناولوا من المعالي والمفاخر ما لا تلامسه كف ملامس، أضاء بدر علاهم وأشرق، ونجم نجم هداهم وتألق، إن حرروا حرروا رقاب المعاني، وإن حبروا ذلت لهم أعناق المباني، فمآثرهم حسنات ظاهرة، وأنفاسهم زكية طاهرة، فكم سفر أودعوه حكماً نبوية، وكم من علم حققوا دقائقه اللفظية والمعنوية، لم تخل أناتهم برهة عن طاعة، ولا عن اجتهاد فوق الاستطاعة، رجال لا تلهيهم تجارة، ولا تفي بوصف محاسنهم عبارة، ولا يشق أحد لأحد منهم غباره، أحاطوا بالفضل إحاطة الهالة بالبدر، وافتخر بهم المجد افتخار الليالي بليلة القدر:
قوم إذا ذكروا لم تلق بينهم ... إلا هماماً تردى المجد واتزرا
صيد غطارفة غر لبابهم ... تأوي الصناديد والحكام والوزرا
إلى أن قال: وأما إيضاح حالي في إقامتي وترحالي، وذكر شيوخي والأساتذة، ومن تخرجت عليه بالفنون من الجهابذة، وتقلباتي مع الدهر في كل آن وشهر، وذكر تلاعب الأيام بي، وصرفي لردع بوائقها اجتهادي وتعبي، وذكر ما وليت من المناصب العالية، والرتب الشامخة السامية، وما حباني الله به من النعم والدولة، والحشمة والجاه والصولة،(1/1397)
ومؤلفاتي وآثاري، ونظامي ونثاري، وذكر من نظمتني وإياه أيدي الأقدار، في هذه الدار وغيرها من الأجلاء أولي الفضل والمقدار، وما وقع لي وجرى بالإرادة الإلهية، والحكمة الأزلية، فقد يطول ذكره هنا ويتعذر، ويصعب بيانه وشرحه ويتعسر.
وقد ذكرت جميع ذلك في سفر مطول، وأوضحت أمري به فهو عليه المعول، ولما عزل ابن العم عبد الله بن الطاهر من فتوى دمشق الشام، وبقيت البلدة خالية عمن يصونها، ومفتقرة لمن يحرس رباعها وحصونها، ويتولى أمرها، ويطفئ برأيه من البوائق المدلهمة جمرها، وينشر مسائلها، وينقح رسائلها، ويتصدر في دستها السامي الأركان ويتصدى لحل مشكلاتها حسن الإمكان، كنت في قسطنطينية فوليت هذا المنصب بعده برأي رجالها ورؤساء الدولة، وكان مفتيها الحلاحل الغطريف، شيخ الإسلام محمد شريف، وهو العلامة والبحر الزخار، وطود الفضائل والفخار، لا برح السعد يراوح ناديه، وتزاحم القلانس والتيجان على لثم بابه وأياديه، فقد أحلني مكان بنيه، ومن يحنو عليه ويدنيه:
وألبسني ثوب المكارم معلماً ... وتوجني من فضله وكساني
وكانت توليتي للمنصب المذكور من طرف الدولة في اليوم السابع من شعبان سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف، وأنا حينئذ في البلد المذكورة قسطنطينية دار السلطنة العلية، صانها الله من كل آفة وبلية، ثم قدمت مفتياً لبلدتي دمشق ذات النيربين والشرف، التي أكرمها الله تعالى بالبركة والشرف، وأنخت ببقاعها من المسير المطايا وأنا متوكل على مجزل العطايا،(1/1398)
وغافر الذنب والخطايا، ورجوته ودعوته أن يوفقني في هذا الأمر لما يرضاه، ويداركني باللطف فيما قدره وقضاه، إنه خير مجيب لمن دعاه، وأكرم مسؤول لمن رجاه ووعاه، لأني لست من هذه الحمائم، ولا قطرة تلك الغمائم، ولا من نور هذه الكمائم، ولا من درر تلك الأسلاك، ودراري هذه الأفلاك، ولكني أقول متمثلاً بقول من يقول:
لعمر أبيك ما نسب المعلى ... إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اضمحلت ... وصوح نبتها رعي الهشيم
وقد أثبت هنا من أشعاري، التي نسجتها يد أفكاري، نبذة حربة بالمحو، لا يستر عوارها إلا الإغضاء والعفو، عارية عن الجزالة والحلاوة، خالية عن البلاغة والطلاوة، فمن ذلك قولي مفتخراً وأنا في الروم:
أما نحن أبناء السراة الأكاسر ... لنا في الندى والحلم جم المآثر
نجود بما نحوى ونعفو عن السوى ... ونصفح عن زلات باغ وقاصر
ونحن أناس لا يغير عهدنا ... تغلب محتال وصولة فاجر
نعف متى نقوى ونغضي تكرما ... ونظهر في الحالين ما في السرائر
وآباؤنا صيد غطارفة لهم ... جلابيب مجد نسجها بالمفاخر
هم القوم سادوا منذ شادوا دعائماً ... من العز منها الركن ليس بدائر
فلا يجد الملهوف غير مقامهم ... إذا اشتد خطب أو بدا جور جائر
أزاحوا من العدوان ليلاً لقد دجى ... بصبح من الإيمان أسفر ظاهر
فكم أشهروا يوم الوطيس مهنداً ... يحز نجوداً سترت بالمغافر
فوارس في الهيجا متى طرفا امتطوا ... رؤوس العدى تلقاها تحت الحوافر
وإن جردوا عضباً وهزوا أسنة ... ترى في الوغى يبدو انهزام العساكر
وليدهم يردي الكماة إذا انتحى ... يذل له خوفاً أشد القساور
وليس خضاب في أنامله بدا ... ولكنه بالبطش دامي الأظافر
فلم يلف في نعمائهم غير حامد ... ولم يبق في الدنيا لهم غير شاكر(1/1399)
ففي دستهم أقيال قوم أجلة ... وفي أفق العلياء هم كالزواهر
وآياتهم جل المصاقع لم تزل ... ترددها للناس فوق المنابر
متى أمّ من أم القرى وافد قرا ... سطور القرى والجود غب البشائر
أو اجتازهم راج سماحة جودهم ... رأى لطف مفضال وهمة ناصر
وفي الشام ما شام الغريب ببابهم ... أذى حاجب وغد وسطوة ناهر
بهم جلق والروم تسمو وتزدهي ... ولم يبق ذكر فيهما للأواخر
فيا روم هل تبغين بعد فراقهم ... كراماً ويا ذي الشام غيرك فاخري
وفي الروم قسطنطينة تبتغيهم ... وجلق تبغيهم هما كالضرائر
فأي مكان ضمهم كان موئلاً ... يضم قروماً من خيار أكابر
فلو حاتم أدى المكارم حقها ... وشاهدهم أضحى كنادم حائر
وفي صمم أذن المناصب بعدهم ... وقد عميت حزناً عيون المفاخر
فغيثاً لقفر الفقر يهمع جودهم ... وناديهم مأوى لعائذ زائر
وإني وإن شط المزار وأبعدت ... منازل من أهوى وكدر خاطري
أخو همة قعسا يؤم ومؤتسى ... وفرع لأصل بالشرافة طاهر
ولست بمغبون إذا سر حاسدي ... وصرت قطيناً في نوادي الأصاغر
وإني امرؤ ما ذل يوماً لماجد ... ولا هاب آلاف الأسود الخوادر
ولم يخش دهراً قد أعز أذلة ... وما راعه إلا عيون الجآذر
لها موقع في القلب أنى له دوا ... فوا عجباً من جرح أحور فاتر
ولا يشتكي ضيم الخطوب وإن دهت ... ويشكو صدوداً من نفور وهاجر
فقل لفخور يحسب المجد هينا ... ويظهر أرفاداً لباد وحاضر
أتبغي منالاً يشمخر اعتلاؤه ... ويسمو وأنت اليوم ليس بقادر
أأنت ابن من لولاه لم يك كائن ... وأول مخلوق وآخر آخر
أأنت ابن من فيه العوالم تزدهي ... ولم يبق في إرساله شرك كافر(1/1400)
أأنت ابن من في الحشر يرجى ومن أضا ... به الكون لما كان مثل الدياجر
إليه انتمائي وانتسابي فعلني ... أفوز بعفو شامل لي وساتر
وليس قريضي محصياً لشمائل ... حواها وعن ذا ضاق صدر الدفاتر
عليه صلاة الله ثم سلامه ... وآل وأصحاب كرام أكابر
مدى الدهر ما اشتاق الغريب لألفه ... وهبت جنوب في رياض أزاهر
وقال رحمه الله
أدر ذكره أن الفؤاد لذو ضنى ... وإن له ذكر الرسول شفاء
وروح نفوس العاشقين بنعته ... ففيه لداء العاشقين دواء
وقال
يا رب إن ذنوبي ... كثيرة ليس تحصر
وفيك كل يقيني ... بأن عفوك أكثر
وقال
إذا ما دهتك صروف الزمان ... ووافاك منه سقام وخطب
فداوم على الصبر تلقى المرام ... وفيه مع الفوز للداء طب
وقال رضي الله عنه مشطراً أبيات ابن عبد ربه
ودعتني بزفرة واعتناق ... وأثارت لواعج الأشواق
وتهادت عند الفراق عشيا ... ثم قالت متى يكون التلاقي
وبدت لي فأشرق الوجه منها ... يتسامى بزائد الإشراق
وارتنى طلوع شمس وبدر ... بيت تلك النهود والأطواق
يا سقيم الجفون من غير سقم ... قد فتكت القلوب بالإحداق
فتنة لعاشقين أنت لهذا ... بين عينيك مصرع العشاق
إن يوم الفراق أصعب يوم ... أورث القلب زائد الأحراق
كل من في هواك عانٍ ينادي ... ليتني مت قبل يوم الفراق
انتهى كلامه ملخصاً. وله ديوان شعر، ذو جمال وقدر.(1/1401)
ومن مكاتباته للسيد المرتضى الزبيدي رحمهما الله تعالى قوله كما ذكره الجبرتي: أحمد الله على كل حال، في حالتي المقام والترحال، وأصلي على نبيه وآله الطاهرين، وأصحابه السامين بالفضائل والفواضل والظاهرين، وأهدي السلام العاطر، الذي هو كنفح الروض باكره السحاب الماطر، والتجايا المتأرجة النفحات، الساطعة اللمحات، النافحة الشميم الناشئة من خالص الصميم، وأبدى الشوق الكامن وأبثه، وأسوق ركب الغرام وأحثه، إلى الحضرة التي هي مهب نسائم العرفان والتحقيق، ومصب مزن الإتقان والتدقيق، ومطلع شمس الإفادة والتحرير، ومنبع مياه البلاغة والتقرير، وموئل العائذ، ومطمح اللائذ، وكعبة الطائف، ومنتدى التحف واللطائف، ومجمع مجرى العمل والعلم، وملتقى أنهر الملاطفة والرأفة والحلم، وروض المكارم الوريق الوارف، وحوض العوارف والمعارف، المنهل الصافي، والظل السابغ الضافي، صانها الله من البوائق وحماها، وحرس من الخطب الفادح حماها، ولا برح السعد مخيماً في رباعها، واليمن والأمن مقيمين في بقاعها، هذا وإن عطف مولانا الأستاذ عنان الاستفسار والاستخبار عن حليف آثاره، وأليف نظامه ونثاره، وسمير تذكاره، في ليله ونهاره، والمشتاق لمرآه، والواله بهواه، والمقيم على عهده، والمتمسك بوثيق وده، والمتمسك بعرف نده، والصانع عقود تمداحه، في مسائه وصباحه، فهو بمنه تعالى رهين صحة وعافية، وقرين نعمة وآلاء وافية، يستأنس بأخبارك، ويتوقع ورود رسائلك وآثارك، وقد مضت مدة ولم يجر بين البين ماء محاورة ومراسلة، وأدى هذا الجدب لقحط غلال المواصلة، وعلى كل حال فالقصور من الجانبين، واعتقاد ذلك يحسم مادة العتاب بين المحبين، ثم الباعث لتحرير الأسطار، ونميقة الاعتذار، وإجراء فيض النفس المدرار، تنفقد الأحوال، واستدعاء المراسلة ببليغ تلك الأقوال، وللشغل الشاغل، الذي ما تحته طائل، اقتضى تأخير المراسلة لهذا الحين، والتقصي من الجواب،(1/1402)
عن استنشاق أوراد ورياحين، والله يشهد أن غالب الأوقات، ذكراك نقل وأقوات، وقلبك شاهد على ما أقول، وحجة المحبة ثابتة بأقوى دليل ونقول.
ولقد كنت حرضت الأستاذ لا برح وجوده للسائل نفعا، والدهر لما يقول مجيباً سمعاً، لجمع تراجم المصريين والحجازيين، ومن للأستاذ الوقوف على ترجمته وحاله من أهل الأمصار، من أبناء القرن الثاني عشر، ووعد حفظه الله بالإنجاز، ولسبب الشواغل الطارئة في هذه السنين الموجبة لتكدير الأفكار، ورخص أسعار الأشعار، وأخلاق برد الفضائل وذاك الشعار، أوجب قطع المراسلة وتأخير المطلوب والمأمول، ولم يفز المحب بمرام من ذلك ومسؤول، ولما كنت في الروم قبل ذلك العام، جرى ذكر الأستاذ لدى حضرة أحد رؤسائها الأجلة الصناديد القروم، فأطال بالمدح وأطنب، ثم جرى ذكر التاريخ وفقدانه في هذا الوقت وعدم الرغبة إليه من أبناء الدهر، مع أنه هو المادة العظمى في الفنون كلها، فتأوه تأوه حزين، وكان في مجلسه أحد الأفاضل المولعين باقتناص الأخبار، فقال إن الأستاذ أبا الفيض مرتضى بلغه الله مرامه، وقرن بالنجاح آماله وبالسعود أيامه، قد باشر تأليف تاريخ عظيم بإشارة هذا وأشار إلي، فقلت نعم قد كنت حرضت الأستاذ بجمع ذلك ولا أدري كيف فعل، هل أوقد الطروس تلك المصابيح والشعل، أم عاقه الزمن بأحواله، قال لا بل شعر الوزير الكبير المقتول إسماعيل باشا الرئيس وذكره في ترجمته، ثم إنه أطال على الأستاذ في الثناء، وأطال طرف المدح في حلبة ذلك المجلس إلى المساء، فسرني هذا الخبر الطارئ، من ذلك الرجل الإخباري، وطرت بأجنحة السرور والأماني، وقلت قد صافاني زماني، ولما عدت لبلدتي دمشق دامت معمورة، وبالخيرات مغمورة، وقعت بإشراك الشواغل المتبادرة، وتركت من الفنون كل نادرة، وحرصت على تدبير أمورها(1/1403)
خوف القال والقيل، وصرفت أوقاتي للإضاعة حتى في المقيل، وأروم من واهب النعم، ومسدي الخير ومسدل الكرم، أن يهبني لطفاً في مسعاي والأمور، وعوناً في نظام الجمهور، إنه خبير بصير، وإليه المصير. وكان هذا الشغل الشاغل سبباً أعظم لتأخير المراسلة، والاستخبار من الأستاذ عن إتمام التراجم وتحصيلها، والآن بادرت لنسخ هذه الأسجاع، بيد اليراع، وحررته عجلا، ورقمته خجلاً، فالمأمول تبييض مسودات التراجم، وإرسالها حتى تكمل بها مادة التاريخ، وبحسن توجهاتكم القلبية، مع هذه الأشغال الدنيوية، بلغ من التراجم نحو ثلاث مجلدات ضخام، ونحوها وزيادة باقية في المسودات، هذا ما عدا تراجم أبناء العصر وشعرائه الذين في الأحياء، ومن نظمتني وإياه الأقدار وامتدحني بنظام أو نثار، فتراجمهم وآثارهم مجموعة بمجلد آخر، وعلى كل حال فالأستاذ له الفضل التام، في هذا المقام، وإن شاء الله تعالى بآثاره يتم الكتاب على أحسن نسق ونظام، وجل القصد أن يكون هذا الأود المحب مشمولاً بالأدعية الصالحة، لتنطق بالثنا منه على كل جارحة، والمأمول ستر عواره المتبادر، والإغماض عما أظهره الفكر القاصر، والذهن الفاتر، وألقته أفواه المحابر، على صفحات الدفاتر، ولك الثناء العاطر، والسلام الوافر، والشوق المتكاثر، من القلب والخاطر، ما همى وادق، وذر شارق، وصدح يمام، وناح حمام، وسح ركام، وفاح خزام والسلام. وتاريخه في أواخر ربيع الثاني سنة مائتين وألف. انتهى كلام الرسالة قال الجبرتي رحمه الله تعالى وما أدري ما فعل الدهر(1/1404)
بتاريخه المذكور، لأنه انتقل المترجم بعد ذلك لأمور أوجبت رحلته منها إلى حلب الشهباء، كما ذكر لي ذلك في مراسلاته في سنة خمس ومائتين وألف، وهناك عصفت رياح المنية بروضه الخصيب، وهصرت يد الردي يانع غصنه الرطيب، فاحتضر وأحضر بأمر الملك المقتدر، لا زال جدثه روضة من رياض الجنة، ولا برح مجرى الجداول الرحمة الرضوان. وذلك في أواخر صفر الخير سنة ست ومائتين وألف، مه هجرة مظهر الرحمة واللطف.
محمد أبو عبد الله بن الطالب بن سودة المري الفاسي التاودي المالكي
الإمام الفقيه المحدث البارع المتبحر عالم المغرب قال العلامة الجبرتي ولد بفاس سنة ثمان وعشرين ومائة وألف، وأخذ عن أبي عبد الله محمد بن عبد السلام بناني الناصري شارح الاكتفاء والشفاء ولامية الزقاق وغيرها، والشهاب أحمد بن عبد العزيز الهلالي السجلماسي، قرأ عليهما الموطأ وغيره، والشهاب أحمد بن مبارك السجلماسي اللمطي، قرأ عليه المنطق والكلام والبيان والأصول والتفسير والحديث، وكان في أكثرها هو القارئ بين يديه مدة مديدة، وأذن له في إقراء الصحيح في حياته فألقى دروساً بين يديه، وكان يوده ويسر به ويقدمه على سائر الطلبة. ولما توفي ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة خمس ومائة وألف بالطاعون، تزاحم ذوو الجاهات فيمن يلحده في قبره، فكان الشيخ هو المتولي لذلك دون غيره، وتلك كرامة له، ورضوا بذلك، قال: وكلمته يوماً في شأن الحج متمنياً له ذلك فقال لي مشيراً إلى شيخه عبد العزيز الدباغ أن الناس قالوا لي جعلناك في حق فلا تخرج من هذه البلدة، وأنت ستحج وأعطيك ألف دينار وألف مثقال إن شاء الله تعالى، قال: ولم تكن نفسي تحدثني بالحج يومئذ ولم يخطر بالبال، ومن جملة مشايخ المترجم الفقيه المتواضع صاحب التآليف أبو عبد الله(1/1405)
محمد بن قاسم جسوس، لازمه مدة وقرأ عليه كتباً، منها رسالة ابن أبي زيد، ومختصر خليل ثلاث مرات، مع مطالعة شروح وحواش، والحكم والشمائل وجميع الصحيح من غير فوت شيء منه، ومنهم حافظ المذهب الفقيه القاضي أبو البقاء يعيش ابن الزغاوي الشاوي، قرأ عليه طرفاً من الصحيح وغيره. توفي سنة خمسين ومائة وألف، كان منزله بالدوخ في أطراف المدينة، فنزل به اللصوص ليلاً فدافع عن حريمه وقاتلهم حتى قتل شهيداً رحمه الله تعالى، ومنهم قاضي الجماعة ومفتي الأنام أبو العباس أحمد بن أحمد الشدادي الحسني، قرأ عليه المختصر الخليلي من أوله إلى الوديعة أو العارية، وسمع عليه بعض التفسير من أوله، ومنهم الفقيه الزاهد القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد التماق قرأ عليه رسالة بن أبي زيد والحكم، والتفسير من أوله إلى سورة النساء، ومنهم الإمام الناسك الزاهد أبو محمد عبد الله محمد بن جلون، قرأ عليه الآجرومية وختم عليه الألفية مرتين، والمختصر الخليلي من أوله إلى اليمين، ولم يكن له نظير في الضبط والإتقان والتحرير، وهو أول شيخ أخذ عليه وذلك قبل البلوغ، وكان إذا قام من درسه عرض على نفسه ما قاله فيجده لا يدع منه حرفاً واحداً، ومنهم سيبويه زمانه أبو عبد الله سيدي محمد بن الحسن الجندوز، قرأ عليه الألفية فكان يملي من حفظه في أثنائه الشروح والحواشي، وشروح الكافية والتسهيل والرضي والمغني والشواهد وغير ذلك مما يستجاد ويستغرب، وقرأ عليه السلم والتلخيص، ومن إنصافه أنه لما قرب أواخره بلغه أن الشيخ ابن مبارك يريد أن يقرأه، فقام مع جماعة وذهب إليه ليسمع منه، وهذا من حسن إنصافه واعترافه بالحق، ومنهم أبو العباس أحمد بن علال الوجاري، قرأ عليه الألفية بلفظه ثلاث مرات، وشيئاً من التسهيل والمغني، وقد ذكر له بعض الشيوخ عن ابن هشام، أنه قرأ الألفية ألف مرة، فقال له بعض من سمعه وكم قرأتها؟ قال أما المائة فجزتها، فهؤلاء عشرة شيوخ. كذا لخصتها من إجازة المترجم للشيخ أحمد بن علي بن عبد الوهاب بن الحاج الفاسي في تاسع جمادى الثانية سنة ثلاث وألف.(1/1406)
وحج المترجم فقدم مصر سنة إحدى وثمانين ورجع عام اثنين وثمانين ومائة وألف، وعقد درساً حافلاً بالجامع الأزهر برواق المغاربة، فقرأ الموطأ بتمامه وحضر غالب الموجودين من العلماء، وأجاد في تقريره وأفاد، وسمع عليه الكثير أوائل الكتب الستة والشمائل والحكم وغيرها، وأجاز، ولقي بمكة أبا زيد عبد الرحمن بن أسلم اليمني، وأبا محمد حسين بن عبد الشكور صاحب الشيخ عبد الله الميرغني، والشيخ إبراهيم الزمزمي، وغيرهم. وبالمدينة أبا عبد الله محمد بن عبد الكريم السمان، وأبا الحسن السندي، وعبد الله جعفر الهندي، وغيرهم. وأجازوه وأجازهم، وعاد إلى مصر واجتمع بأفاضلها كالجوهري والصعيدي وحسن الجبرتي والطبلاوي والسيد العيدروس والشيخ محمود الكردي وعيسى البراوي والبيومي والعريان وعطية الأجهوري، وكان صحبته ولداه سيدي محمد وهو الأكبر وسيدي أبو بكر، خالي العذار جميل الصورة، وتردد على الشيخ حسن الجبرتي كثيراً وتلقى عنه بعض الرياضيات، وترك عنده ولديه المذكورين مدة إقامته بمصر، فكنا نطالع معهما سوية صحبة الشيخ سالم القيرواني والشيخ أحمد السوسي، ونسعر غالب الليل نراعي المطالعه والمغارب وممرات الكواكب، بالسطح حذاء خيط المساترة، ونراجع الشيخ فيما يشكل علينا فهمه وهو معنا في ناحية أخرى، وأوقفت سيدي أبا بكر على طريق رسم ربع الدائرة المقنطر والمجيب.
ومن تأليف المترجم حاشية على البخاري في أربع مجلدات، وحاشية على الزرقاني شارح خليل، وشرحان على الأربعين النووية، ومناسك حج، وشرح الجامع لسيدي خليل، وشرح تحفة ابن عاصم في القضاء والأحكام، والمنحة الثابتة في الصلاة الفائتة، وفتح المتعال فيما ينتظم منه بيت المال، وحاشية على ابن جزي المفسر، وحاشية على البيضاوي لم تكمل، وشرح المشارق للصاغاني ومنظومة فيما يختص بالنساء، أولها:(1/1407)
الحمد لله العلي الصمد ... ثم صلاته على محمد
وبعد فالقصد بهذا النظم ... تحصيل نبذة من المهم
إلى أن قال:
الدم صفرة وكدرة ترى ... من قبل من تحمل حيض قد جرى
مثل أقل الطهر والمعتاده ... عادتها تمكث مع زياده
ثلاثة إن لم تجاوز أكثره ... وبعد طاهر لدى من حرره
إلى آخرها، وكلفه سلطان المغرب خطة القضاء في ثلاث ومائتين وألف فقبلها كرهاً، وكانت فتاويه مسددة وأحكامه مؤيدة، مع غاية التحرز والصيانة والإتقان. وبالجملة فكان عين الأعيان في عصره ومصره، شهير الذكر وافر الحرمة مهيب الصورة، يغلب جلاله على جماله، قليل التبسم. ولما توفي محمد سلطان المغرب ووقع الاختلاف والاضطراب بين أولاده، اجتمع الخاصة والعامة على رأي المترجم، فاختار المولى سليمان وبايعه على الأمر بشرط السير على الخلافة الشرعية، والسنن المحمدية، وبايعه الكافة بعده على ذلك، وعلى نصرة الدين وترك البدع والمظالم والمكوس والمحارم، وكان كذلك.
ولم يزل المترجم على طريقته الحميدة، حتى توفي سنة سبع ومائتين وألف، وكان قد توفي قبله ولده السيد محمد سنة أربع وتسعين ومائة وألف، وتوفي بعده ولده السيد أبو بكر سنة عشر ومائتين وألف.
الشيخ محمد بن داود بن سليمان بن أحمد بن خضر الخربتاوي المالكي الأزهري
قرأ على والده، وحضر دروس شيخنا الشيخ علي العدوي الصعيدي وبه تخرج وأنجب في العلوم، وله سليقة جيدة في النثر والنظم، وحصل كتباً نفيسة المقدار زيادة على الذي ورثه من والده، قال الشيخ الجبرتي:(1/1408)
وله محبة في آل البيت ومدائح كثيرة، وهو ممن قرظ على شرح القاموس لشيخنا السيد محمد مرتضى تقريظاً بديعاً، وهو أحمد من أبدى من صنائع الحكم محكم المصنوعات، وأسدى من سوابغ النعم أنواع المبدعات، سبحانه من إله أفاض علينا جوده وإفضاله، وأزال عن قلوبنا رين الرين والجهالة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي خص بجوامع الكلم ومجامع الحكم، وعموم الرسالة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الإحسان والجلالة، وبعد فلما منّ الله على العبد الضعيف بالإطلاع على هذا الشرح الشريف، المسمى بتاج العروس من جواهر القاموس، الذي ألفه أعلى أرباب الكمال والكلام، لسان الحق الناطق ببيان الحلال والحرام، يد الزهادة ومنهج الطريقة، فهو السري بل البرهان على الحقيقة، من سلك مسالك التحقيق، وتتبع مواضع الفصل والتدقيق، حتى فاز من بغيته بالسهم المعلى، وجليت عليه غواني المعاني فتملى وتحلى، أعني به سيدي ومولاي، ومالك أزمة ولاي، من هو لي عمدتي ومعيني، السيد محمد مرتضى الحسيني، أدام الله للعالمين أنسه، وأشرق عليهم في هذا الوجود بجوده شمسه. وكان حفظه الله تعالى قد أشار بوقوفي على هذا الطراز المحلى، والقدح المعلى، وأن أكتب عليه بما تسمح به القريحة الخائفة لقصورها من الفضيحة، فنظرت فعلمت أن ذلك سبيل ليس لمثلي أن يسلكه، ولا لمن كان على قدري أن يقود زمامه ويملكه، لا سيما وقد قرظ عليه فحول الأئمة الأعيان، الذين تعقد عليهم الخناصر في كل زمان ومكان، فأحجمت من ذلك إحجاماً مخافة واحتشاماً، ثم علمت أن أمره قد ورد على سبيل الإيجاب، وإن قاضي الإنصاف لا يرضى إلا بشهادة الحق وقول الصواب، فأقدمت بعد الجموح، ودخلت إلى رحبات التوكل من باب الفتوح، وتأملت ما فيه من العجب العجاب، وتذكرت قول العلي الوهاب في محكم الكتاب "(1/1409)
هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب " وقلت فيه في الحال، معتمداً على الملك المتعال:
تاج العروس الذي أبداه سيدنا ... المرتضى العالم النحرير ذو الهمم
لما بدا أرخص التيجان كلهم ... لما حوى من عظيم الفخر والشيم
وأجمع أهل الهدى أن لا نظير له ... من التآليف في عرب وفي عجم
ثم غلب علي الرشد أن أحذو حذو شيخنا محيي النفوس سيدي العيدروس فقلت وعلى الله توكلت:
صاح إن شئت كل علم نفيس ... فانظرن ما حواه تاج العروس
شرح شيخ الإسلام تاج المعالي ... مرتضى العارفين راس الرؤوس
سيد الأكملين أعظم شهم ... حاز فضلاً قد جل عن تقييس
شرحه الجامع المهذب أبدى ... من خبايا العلوم ما قد تنوسي
قلت لما رأيته يا ابن ودي ... نشر روض أم ذاك عطر عروس
أم حياة النفوس من أسكرتني ... بسلاف من ريقها المأنوس
بنت سبع وأربع وثلاث ... إن تجلت أزرت ضياء الشموس
قال هذه لآلئ قد جلاها ... ماجد عارف زكي الغروس
بحر بر البيان رب المعاني ... حبر علم البديع محي النفوس
وهو نجل الزهراء وابن حسين ... وعلي أكرم بهم من هموس
وهو في الزهد كابن أدهم حقا ... وهو في العلم كالإمام السنوسي
يا ابن طه يا مرتضى يا كريما ... دعوة دعوة تزيل نحوسي
نجدة نجدة فقد ضاق صدري ... من زمان مقلب معكوس
ليس يخفاك والدي وعلاه ... في مقام التأليف والتدريس
وعلو الإسناد ذاك شهير ... عند أهل الكمال بالعيدروسي
سيدي والدي صديقي عزيزي ... من على بابه طروق الرؤوس
فبحق الشيخين يا خير شهم ... دعوة علها تضيء شموسي(1/1410)
أنت حصني الحصين يا ابن حسين ... في مقامي ورحلتي وجلوسي
كيف أخشى العدى وأنت ملاذي ... أو أخاف الردى وأنت أنيسي
دمت في عزة وفتح ونصر ... من إله مهيمن قدوس
وصلاة مع السلام دواما ... تغش طه النبي تاج العروس
ما غدا قائلا أسير ذنوب ... صاح إن شئت كل علم نفيس
وفي آخره: كتبه خجلاً وجلاً مرتجي غفر المساوئ الفقير الحقير محمد بن داود الخربتاوي المالكي، في عاشر شهر رجب الفرد سنة أربع وثمانين ومائة وألف. ولم يزل المترجم مقبلاً على شأنه، مواظباً على دروسه وحفظه وإتقانه، متباعداً عن الناس، ليس العالم بغير العلم والتقوى استئناس، إلى أن دعته المنية، إلى الدرجات العلية، في سنة سبع ومائتين وألف، غمره الله ببحر الرحمة واللطف.
الشيخ محمد بن عبد الحافظ أفندي أبو ذاكر الخلوتي الحنفي المصري
الأجل الصالح والناسك الفالح، العارف بالله. أخذ الطريق عن السيد مصطفى البكري والشيخ الحفني، وحضر الفقه على العلامة الشيخ محمد الدلجي والشيخ أحمد الحماقي، وأدرك الإسقاطي والمنصوري، ولم يتزوج قط، وكف بصره سنة إحدى وثمانين ومائة وألف، وانقطع في بيته إحدى وعشرين سنة بمفرده، وليس عنده قريب ولا غريب ولا جارية ولا عبد، ولا من يخدمه في شيء مطلقاً، وبيته متسع جهة التبانة، وبابه مفتوح دائماً، وعنده الأغنام والدجاج والأوز والبط والجميع مطلوقون في الحوش، وهو يباشر علفهم وإطعامهم وسقيهم الماء بنفسه، ويطبخ طعامه بنفسه،(1/1411)
وكذلك يغسل ثيابه، واشتهر في الناس بأن الجن تخدمه وليس ببعيد لأنه كان من أهل المعارف والأسرار، ويأتي إليه الكثير من الطلبة للأخذ عنه والتلقي منه. وكان له يد طولى في كل شيء، ومشاركة جيدة في العلوم والمعارف، والأسماء والروحانيات والأوفاق، واستحضار تام في كل ما يسأل عنه، وعنده عدة كثيرة من السنانير، ويعرفها بالواحدة بأسمائها وأنسابها وألوانها، ويقول هذه تحفة بنت بستانة، وهذه كمونة بنت ياسمين، وهذه فلانة أخت فلانة، إلى غير ذلك.
توفي رحمه الله تعالى في شهر شوال سنة سبع ومائة وألف كما ذكر ذلك العلامة الجبرتي رضي الله عنه وأرضاه آمين.
السيد محمد أفندي البكري الصديقي شيخ سجادة السادة البكرية، ونقيب السادة الأشراف في مصر المحيمة
نادرة الزمان، وغرة وجه العصر والأوان، إنسان عين الأقاليم، فريد عقد المجد النظيم، جامع الفضائل والمحاسن، ومظهر اسم الظاهر والباطن، من لبس رداء النجابة في صباه، ولاح عنوان المكارم على صحائف علاه، ولم تقصر عليه أثواب مجده التي ورثها عن أبيه وجده، فعلى جبينه نور النسب، وعلى رأسه لواء المجد يصونه عن كل عطب:
مستيقظ الحزم واري العزم ثاقبه ... همومه حين يتلوهن همات
صافي الطوية من غل يكدرها ... وأول المجد أن تصفو الطويات
الحسيب النسيب والنحيب الأريب، تقلد بعد والده المنصبين. وورث عنه السيادتين، فسار فيهما سيرة الملوك، ونثر فرائد المكارم من أسلاك السلوك، فجوده حدث عن البحر ولا حرج، وبراعة منطقه تنتج سلب(1/1412)
الألباب والمهج، مع حسن منظر تتزاحم عليه وفود الأبصار، وفيض نوال تضطرب لغيرتها منه البحار، وقد اجتمع فيه من الكمال ما تضرب به الأمثال، وأخباره غنية عن البيان، مسطرة في صحف الإمكان، زمانه كأنه عروس الفلك، فكم قال له الدهر أما الكمال فلك، ولم يزل كذلك إلى أن أذنت شمسه بالزوال، وغربت بعد ما طلعت من مشرق الإقبال، وقطفت زهرة شبابه، وقد سقتها دموع أحبابه، ورثاه الألمعي الفاضل السيد عبد الله المزاريقي وأرخه بقوله:
لقد مات من كانت موارد فضله ... تعم جميع الخلق في القرب والبعد
محمد البكري من فاز وارتقى ... كما بشر التاريخ في جنة الخلد
وكانت وفاته ليلة الجمعة ثامن عشر ربيع الثاني، وخرجوا بجنازته ودفن عند أجداده بجوار الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبالجملة فهو كان مسك الختام قلما تسمح بمثله الأيام.
ولما مات تولى سجادة الخلافة البكرية ابن خاله سيدي الشيخ خليل أفندي، وتقلد النقابة السيد عمر أفندي الأسيوطي، ومن نظمه مادحاً خليل أفندي المرادي مفتي دمشق الشام:
ينقضي الدهر والهوى لا يزول ... من فؤاد بعشقه مشغول
كل حين يمر بي من نهار ... هو عندي دهر عنيد طويل
والهوى يورد الفتى كل صعب ... وعلى عكس قصده مجبول
وعذولي قد لج يعذل جهلا ... أو هل يعرف الغرام جهول
وألذ الأيام ما لاح فيه ... قمر طالع وغصن يميل
قد حكته الغصون ليناً وقداً ... باعتدال وفاتها التمثيل
جمع الحسن كله مثل ما قد ... جمع الفضل والفخار خليل
فرع أصل نما فأثمر فضلا ... وذكاءً ما إن حكاه مثيل
ألمعي حاز السادة كسبا ... كل فضل بذاته موصول(1/1413)
خصه الله بالكمال فأضحى ... ما له من سوى الكمال خليل
وهو طود العلوم من كل فن ... وسواه عند الأنام الجهول
قل لمن رام أن يحاكيه جهلا ... أو يحكي شمس الضحى قنديل
لست أدري أرأيه أم ذكاه ... صاح أمضى أم سيفه المسلول
الرشيد الحميد نجل علي ... المرادي النقشبندي الجليل
شب في كسبه المعاني فأضحى ... طوعه الدهر طائعاً ما يقول
طاهر الذيل قد تبرأ مما ... بعضه قد تعاب منه الذيول
فاق بالحلم والتواضع والجو ... د وخلق الفتى إليه يؤول
وإذا كانت الطباع كراما ... لاح منها للمكرمات دليل
قد تسامت به مراتب مجد ... ساميات ما قالهن فحول
وأرانا من معجز القول شعراً ... ليس إلا به تحاكي الشمول
رق معنى وراق لفظاً فأزرى ... نسمة الروض إذ سقته السيول
كل معنى يستعبد الذهن وحياً ... وبحسن الخطاب تدري العقول
وبخط أزرى بكل نضيد ... زانه في طروسه التشكيل
لو تحلى تاج الملوك بحرف ... منه أضحى من حرفه إكليل
باسط الكف للأنام جميعاً ... وسواه بقبضها مشغول
تخجل السحب عند جود نداها ... حين تهمي وغيثها مهطول
وأرى المال يكسب المرء عزاً ... دائماً عندما البخيل الذليل
إلى أن قال:
قيل ماذا تاريخه حين أفتى ... قلت قد أرخوه أفتى الخليل
دام في عزه ومجد أثيل ... بدره التم ما اعتراه أفول
وإليك الكمال أهدى قصيداً ... باعتذار ففكره مشغول
بنت حيم من ساعة من نهار ... حيثما العذر عندكم مقبول
لا تقابل أصدافها بعقود ... من نظام يردها التخجيل
مات رحمه الله تعالى سنة ثمان ومائتين وألف. كما ذكره الشيخ الجبرتي.(1/1414)
الشيخ محمد السقاط الخلوتي المغربي الأصل ثم المصري خليفة الشيخ محمود الكردي
قال الإمام الجبرتي: العمدة الصالح الورع الصوفي الضرير نزيل مصر، جاور بالأزهر وحضر على الأشياخ في فقه مذهبه وفي المعقول، وأخذ الطريق على شيخنا الشيخ محمود المذكور، ولقنه الأسماء على طريق الخلوتية والأوراد والأذكار، وانسلخ من زي المغاربة وألبسه الشيخ التاج، وسلك سلوكاً تاماً، ولازم الشيخ ملازمة كلية بحيث أنه لا يفارق منزله في غالب أوقاته، ولاحت عليه الأنوار وتحلى بحلل الأبرار، وأذن له الشيخ بالتلقين والتسليك. ولما انتقل شيخه رحمه الله تعالى صار هو خليفته بالإجماع من غير نزاع. وجلس في بيته وانقطع للعبادة، واجتمع عليه الجماعة في ورد العصر والعشاء، ولقن الذكر للمريدين وسلك الطريق للطالبين، وانجذبت القلوب إليه واشتهر ذكره وأقبلت عليه الناس، ولم يزل على حسن حلاه، حتى توفي في منتصف شهر ربيع الأول سنة تسع ومائتين وألف، وصلى عليه في الأزهر الجم الغفير رحمه الله تعالى.
الشيخ محمد شمس الدين بن عبد الله بن فتح الفرغلي المحمدي الشافعي السبرباني المصري
نسبة إلى سبرباي قرية بالغربية قرب طندتا وبها ولد، ونسبه يرجع إلى القطب سيدي الفرغلي المحمدي من ولد سيدنا محمد بن الحنفية، قال الجبرتي في ترجمته: هو العمدة الفاضل والصفوة الكامل، العالم الفقيه والعامل النبيه، تفقه على علماء عصره وأنجب في المعارف والفهوم وعانى الفنون، فأدرك من كل فن الحظ الأوفر، ومال إلى فن الميقات والتقاويم فنال من ذلك ما يرومه، وألف في ذلك وصنف زيجاً مختصراً دل على سعة باعه(1/1415)
ورسوخه في الفن، ومعرفة القواعد والأصول ودقائق الحساب، ونهج مسلك الأدب والتاريخ والشعر ففاق فيه الأقران، ومدح الأعيان، وله المزدوجة المسماة بنفحة الطيب في محاسن الحبيب، التي نظمها باسم الأمير حسن بك رضوان، فكان طوداً راسخاً وبحراً راسخاً، مع دماثة الأخلاق وطيب الأعراق، ولين العريكة، وحسن العشرة، ولطف الشمائل والطباع. وكان يلي نيابة القضاء ببلده، وبالجملة فكان عديم النظير في أقرانه لم أر من يدانيه في أوصافه الجميلة.
وله مصنفات كثيرة منها الضوابط الجليلة في الأسانيد العلية ألفه سنة ست وسبعين ومائة وألف، وذكر فيه سنده عن الشيخ نور الدين أبي الحسن سيدي علي بن الشيخ العلامة أبي عبد الله سيدي محمد العربي الفاسي المغربي الشهير بالسقاط. وسليقته في الشعر عذبة رائقة، وكلامه بديع مقبول في سائر أنواعه، من المدح والرثاء والتشبيب والغزل والحماسة والجد والهزل. له ديوان جمع فيه أمداحه صلى الله عليه وسلم سماه عقود الفرائد وقد قرظ عليه الشيخ عبد الله الأدكاوي في سنة تسع وسبعين ومائة وألف بقوله:
هكذا من أراد نظم الفرائد ... أو نحا نحو حوك برد القصائد
هكذا هكذا عقود المعاني ... لا عقود المخدرات الخرائد
تلك صواغها البنان وهذي ... صاغها فكر شمس فضل الأماجد
فرغلي الأروم نامي ذرى المج ... د بديع الفهوم سامي المشاهد
الأريب الذي أتاح له الل ... هـ المعاني لذي العقود مصايد
واللبيب الذي لقد قيد الل ... هـ له في قريضه كل شارد
من معان لو حاز منها أبو الطي ... ب معنى لقال حزت المحامد(1/1416)
أو نحا نحوها الوليد لقلنا ... والداً صرت يا سني الموارد
أو شذا مثلها حبيب لحاز الحس ... ن طراً وقد سما للفراقد
أين منها بدائع ابن سناء المل ... ك حسنا مرونقاً ومقاصد
أين منها ما زخرفوه من القو ... ل وقالوا هنا محط الفوائد
ذاك والله ضاع وصفاً وهذا ... ضاء إذ ضاع منه أسنى الفوائد
بمديح الذي قد اختاره الل ... هـ رئيساً على جميع الأعابد
أحمد المصطفى الظهور فأمّ ... خير أمّ ووالد خير والد
صلوات مطيبات توالى ... تربه ما صلى وسلم عابد
وتعم الآل الكرام والأص ... حاب جميعاً ما خر لله ساجد
وله في رثاء شيخه القطب الحفني قصائد طنانة، وله جملة أراجيز، منها أرجوزة في تاريخ وقائع علي بيك ومحمد بيك. وله قصيدة من بحر الطويل ضمنها ما وقع للأمير مصطفى بك مولى محمد بك في سنة أربع وتسعين في طريق الحجاز حين ولي أميراً على الحج، وهي بديعة سلسلة النظم، حاوية وقائعه التي جرت له مع العربان، ولحلاوتها أوردت منها جملة، وسماها تغريد حمام الأيك، فيما وقع لأمير اللوا مصطفى بك وهي هذه:(1/1417)
إمارة حج البيت في سالف العصر ... هي المنصب الأعلا وحقك في مصر
وخدمة وفد الله جل جلاله ... هي النعمة العظمى لمغتنم الأجر
تنافس فيها الأولون وعظموا ... إمارتها في الخافقين مدى الدهر
وقام بها الأهلون وافتخرت بها ... ملوك بني عثمان في البر والبحر
وهان على الحجاج من فقد مالهم ... وما عندهم إنفاقه أنفس العمر
وطاب لهم نوم العقتقل بعد ما اس ... تراحوا على تلك الأرائك القصر
ولذ لهم بعد الفرات ودجلة ... ونيل الهنا شرب الأجاج مع المر
وصاموا وهاموا في جمال حبيبهم ... وظلوا سكارى لا بكأس ولا خمر
وأفلتهم صوت المنادي فأعلنوا ... إجابته في عالم الغيب والذر
وفي عالم الملك المشاهد طلقوا ... منامهم شوقاً إلى البيت والحجر
وشدوا على العيس الرحال وأخلصوا ... سرائرهم لله في السر والجهر
وساروا وزند الشوق بين ضلوعهم ... له شرر أذكى لهيباً من الجمر
وخلوا ديار الأنس بعد مسيرهم ... يغرد فيها بليل الدوح والقمري
وفيها من الغادات كل خريدة ... إذا ابتسمت تغنيك عن طلعة الفجر
وحجوا وطافوا البيت سبعاً وعرفوا ... وزاروا رسول الله ثم أبا بكر
وعادوا إلى الأوطان ليس عليهم ... ذنوب ولا إثم كما جاء في الذكر
وفي عام ألف تم، ثم ومائة ... وأربعة من بعد تسعين في الحصر
تولى أمير الحج مفرد عصره ... كريم السجايا ذو المهابة والفخر
أمير اللوا كنز الصفا مصطفى الوفا ... مبيد العدى بالمرهفات وبالسمر
بديع الحلى مولى الأمير محمد ... أبى الذهب المحفوف بالعز والنصر
أمير اللوا من كان سلطان عصره ... فريداً وحيداً بالتكلم في مصر
وكان كبدر التم في أفق العلا ... وكان هلال السعد في غرة الدهر
فسار على نهج العلا مصطفى الوفا ... وشيد أركان الإمارة بالفخر(1/1418)
وشد جواد العزم والحزم والقوى ... وعظم شأن الحج في ذلك العصر
وأنفق أموالاً عليه كثيرة ... وفاز بتحصيل الثواب مع الأجر
وقضى شؤوناً بالحجاز تعلقت ... وأحكمها بالعقل والنقل والفكر
وقد وضع الأشياء طراً محلها ... ودبرها تدبير مجتهد حبر
وجهز ما يحتاجه من ذخائر ... ووجهها نحو السويس على الظهر
وسير منها جانباً نحو جدة ... وأرسل باقيها إلى ينبع البر
وقرر حقاً في الوظائف أهلها ... وقلد أجياد المناصب بالدر
وأمسى خلي البال بعد اشتغاله ... وأصبح بعد الكل في راحة السر
وقد عملت أرباب دولة عزه ... على كل أمر مقتضاه بلا كبر
وفي شهر شوال المبارك زينت ... لموكبه أطلال مصر من الفجر
وسرت به الآفاق وابتهجت به ... جميع القرى والسعد وافى من البشر
وأضحت بقاع الأرض مخضرة الربا ... وأضحت رياض الزهر مبهجة الثغر
وسلمه شيخ الكنانة محملا ... قد افتخرت مصر به غاية الفخر
ونالت بنو عثمان حظاً به على ... جميع ملوك الأرض في البر والبحر
وسار به كالبدر عند تمامه ... وأتباعه الأمجاد كالأنجم الزهر
وماس به يهتز في حلة البها ... على صافن مثل النسيم إذا يسري
وبين يديه الدفتدار وحوله ... صناجق مصر في ازدهاء وفي فخر
ومن خلفه الفرسان من كل جانب ... أحاطت به مثل الكواكب بالبدر
بأسلحة كالبرق تخطف عمر من ... دنا نحوه بالسوء والغدر والشر
وما زال يسعى مع سلامة ربه ... بمحمل طه ذي الفتوحات والنصر
إلى أن دنا من حصوة طاب ريحها ... ونسمتها تشفي العليل من الضر
وأنزله فيها وبات بها وقد ... دعته إلى مصر دواعي الهوى العذرى(1/1419)
وأصبح فيها قائماً هائماً له ... حنين إلى الجوزا وشوق إلى بدر
وبات بها والقلب خيم باللوا ... وأم القرة ذات القضائل والفخر
وأصبح منها سائراً متوكلاً ... على الله رب البيت والركن والحجر
وفي بركة الحج الشريف أتى بها ... محط رجال الوفد من سائر القطر
أقام بها حتى انقضت يا أولي النهى ... مهماته طراً وأعلن بالشكر
وغلق واستوفى جميع الذي له ... وللعرب العربا من الذهب التبر
وغلق أيضاً بعد ذا مال صرة ... أعدت لأشراف الحجاز مدى الدهر
وأقبلت الحجاج من كل جانب ... عليه وأضحى ملجأ العبد والحر
وفي سابع العشرين دقت طبوله ... وسار كبدر التم في رابع العشر
وصحبته الحجاج طراً بأسرهم ... وزوار طه ملجأ الناس في الحشر
وودعه شيخ الكنانة قائلاً ... تعود إلينا بالسلامة والجبر
وتنظر مصراً في السرور وفي الهنا ... ونحن بخير سالمين من الضر
وبالحج فافعل كل ما أنت أهله ... من الخير والإحسان والحلم والبر
ولا تنسنا في البيت من صالح الدعا ... وفي حجر إسماعيل يا طيب النشر
وفي عرفات والمحصب من منى ... وفي الروضة الغرا تجاه أبي بكر
وفي ينبع مع بدر والقاع فاحترص ... من العرب العرباء في الورد والصدر
ولا تأمن الصغرا ونقب عليهما ... فإنهما يا ذا العلا بقعة الشر
وكل قليل يا أمير اللوى لنا ... فوجه بشيراً عاقلاً كاتم السر
ومن بعد ذا كل الصناجق أقبلت ... تميس دلالاً في ثياب الهوى العذري
وعانقهم مذ عانقوه وودعوا ... وأدمعهم فوق المحاجر كالقطر
وأحبابه طرا تقول له مع الس ... لامة يا ذا العز والمجد والقدر
وهي طويلة. توفي المترجم في شهر ربيع الأول سنة عشر ومائتين وألف من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.(1/1420)
استدراك
الشيخ محمد بن حسن بن إبراهيم الشهير بالبيطار الدمشقي الميداني
فات مؤلفنا العلامة أن يترجم لشقيقه الأكبر الشيخ محمد البيطار، مع أنه ترجم لولده الشيخ محمود، وإنا ننقل ترجمته عن منتخبات التواريخ للتقي الحصني، وروض البشر للأستاذ الشطي، ومما كتبه هو بقلمه رحمه الله تعالى. قال في منتخبات التواريخ: ومن الأسر الشهيرة في العلم والفضل في حي الميدان ودمشق بنو البيطار خرج من رجال هذا البيت جماعة من أجلة العلماء، والشعراء، تقدم ذكرهم في كتابنا في العصر الأخير، وهم الشيخ محمد أمين الفتوى، وله ذرية كبيرة نجيبة، والمؤرخ الشهير الشيخ عبد الرزاق وله أحفاد نجباء، والشيخ عبد الغني وله ذرية أدباء، والشيخ سليم أحد أركان رجال هذا البيت. مات سنة 1341 هـ وقد أعقب ذرية نجيبة، عرفنا منهم الشيخ جميل إمام جامع الدقاق، وحسني بك المحاسب المركزي لمالية دمشق. واشتهر منهم بالفضيلة والعلم، الشاعر الشهير الشيخ بهاد الدين، وهو والد صديقنا الشيخ محمد بهجة من علماء دمشق، ومن مدرسي الحرم المكي اليوم أي من سنة 1344هـ إلى سنة 1349هـ اه. بتصحيح قليل وذكره الأستاذ الشطي في وفيات سنة 1312هـ فقال: إن المترجم من كبار علماء دمشق وفقهائها وهو أمين الفتوى بها أكثر من ثلاثين سنة، ثم نقل ترجمته عن التقي الحصني وزاد عليها زيادات جعلها بين هلالين، ونحن نثبتها كما وردت، قال: هو محمد بن حسن بن إبراهيم الشهير بالبيطار الدمشقي الميداني الشافعي ثم الحنفي، الشيخ المعمر أمين الفتوى بدمشق. ولد في حدود سنة 1230 وقرأ على والده، وبه كان أكثر انتفاعه، وأدرك الطبقة العليا من الشيوخ الأعلام، وأخذ عنهم حتى برع في جميع العلوم، المنطوق منها والمفهوم، وتولى أمانة الفتوى في دمشق بزمن أمين أفندي الجندي والعلامة الحمزاوي والسيد المنيني وانفرد في الفقه، وأصوله،(1/1421)
ونال ربتة أزمير المجردة، فاشتهر فضله وعم نفعه، وقصدته الناس في أمر دينهم ودنياهم، وفي كل اختلاف بينهم، حتى كانوا يستفتونه وهو سائر في الطريق، فيقف لهم ويفتيهم، وقد اشتهر أنه أعلم من بعض المفتين. وكان يرزقه الله من حيث لا يحتسب، وكانت وفاته سنة 1317 صوابه عام اثني عشر وثلاثمائة وألف انتهى.
وهذه شذرة من كلامه، تدل على جلالة قدره وعلو مقامه، وهي إجازة له من شيوخه الكثيرين، في قراءته لكتاب إحياء علوم الدين قال رحمه الله تعالى: قد أخذت هذا الكتاب عن أساتذة فضلاء، وجهابذة كرماء، ما بين مكيين ومدنيين ومصريين وشاميين، وروميين، ولكن لا أذكر منهم إلا من أرضعني بلبانه، ورباني بتأديبه وإحسانه، وعندي هو من أجلهم بل أجلهم، ومن أحسنهم هو بل أحسنهم، بركة الوقت في زمانه، إلى أن قال: قد أخذت بالإجازة كتاب إحياء علوم الدين عن والدي المرحوم حسن بن إبراهيم البيطار، عن شيخه الإمام الشيخ صالح الزجاج، عن محدث الشام الشيخ محمد الكزبري، عن الصالح والده القطب الشيخ علي الكزبري، عن العارف بالله تعالى الشيخ عبد الغني النابلسي، عن شيخه عبد الرحمن الكزبري وعن خاله الشيخ عبد الباقي الحنبلي، عن الشمس الميداني، عن الشهاب الطيبي، عن الكمال بن حمزة، عن القاضي أبي حفص الحنبلي، عن سليمان بن المحب، عن محمد بن العماد، عن أبي سعد السمعاني عن محمد بن ثابت عن مؤلفها الإمام الزاهد، الفقيه المقدام زين الدين، أبي حامد، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، حجة الإسلام إلى أن قال فانتقل إلى رضوان الله تعالى عن خمس وخمسين سنة اه وقد أجاز الشيخ محمداً أخوه في الطلب والتحصيل على والده الشيخ حسن البيطار، عن الشيخين عبد الرحمن الكزبري وحامد العطار، بشرطه المعتبر.(1/1422)
السيد محيي الدين باشا بن السيد الأمير عبد القادر بن السيد محيي الدين الجزائري الحسني المتصل نسبه بسيدي عبد القادر الجيلاني الحسني رضي الله عنه
إنني لم أجد عبارة تفي في حقه بالمدح، غير أني أرسلت اليراع يجول في ميدان الفتح، ومن أين لي أن أترجمه بما يليق، أو أن أصفه بما هو به حري وحقيق، وهو الأمير الذي ورث الإمارة عن أبيه وجده، والشهير الذي استوى على عرش الفضائل بإجتهاده وجده، والأديب الذي يمتزج كلامه بأجزاء النفس لطافة، والأريب الذي رق طبعه حتى حاكى النسيم رقة ونحافة، تحلى بالمكارم فكانت مقصورة عليه، وتجلى على عرش الكرائم المنتسب أكرمها إليه، ولقد لحظته عين السعادة فقصرته من كل محبوب على الأعلا، وجذبته يد السيادة لكل مرغوب فقلدته منه بالأولى، ورفعه ساعد العلم إلى ذروة الكمال، ووضعه صائب الفهم الثاقب على نقطة الاعتدال، فله من الملح ما يزري بنوافث السحر، ومن المنح ما ينقل ذوي الحاجات إلى الغنى بعد الفقر، وإن سألت عما ناله من رقيق الأخلاق وأنيق اللطف والارتفاق، فهو واحد هذا العصر بل نادرة الزمان وثمرة الدهر، وأما طلاوة نظمه ونثره، وحلاوة قريضه وشعره:
يستنبط الروح اللطيف نسيمه ... أرجاً ويوكل بالضمير ويشرب
فلعمري إن عقود ألفاظه أحلى من عقود النحور، وأبكار معانيه لو مازجها النسيم لأزالت ملاحتها ملوحة البحور، فما من جارحة إلا وهي تود لو كانت أذناً فتلتقط ثمين جواهره، أو عيناً لا تنفك عن مطالعة طرائفه ونوادره، أو لساناً يدرس محاسنه وشمائله، أو قلماً يرقم مآثره وفضائله. بالجملة فقد نال في الأدب رتبة عجز غيره عن استعلامها فضلاً عن علمها، وحاز فهمه الشريف منحة كل غيره عن استفهامها دون فهمها، تنتهي إليه محاسن الألفاظ وتزدهي معانيه على غمزات(1/1423)
الألحاظ، فأشعاره قد طارت في الآفاق، وانعقد على كمال جمالها الاتفاق، لا يبلي جدتها الجديدان، ولا تزداد إلا حسناً على تردد الأزمان، قد كادت الأيام تنشدها طرباً، والأنام توردها حلية وأدبا، ونثره يقطر ظرفاً ويمزج بالراح رقة ولطفا، لسان الراغب في مدحه عن مراده قاصر، وقلم الكاتب عن استيفاء حليته في ميدان جولانه حائر، فلا ريب أنه عين الزمان ويمينه، لو حلف الدهر ليأتين بمثله حنثت يمينه، فهو بحر كله جود، وحبر كل فضل في ذاته موجود، مع تواضع يفرغ على مجالسه جلباب السرور، ولطف يجلب لمؤانسه كل حبور، ومنطق تحاشى عن النطق بما يعاب، ووجه بشوش يوهم المسيء له أنه بفعله أصاب، غير أن يده قد صالت على ماله، فلا ترد يد مستمنح خالبة من نواله، كثير المروءة والفتوة، يميل في أموره إلى الحزم والقوة. حسن المجالسة عذب الاستشهاد، لا يأتي جليسه بمعنى من العلوم إلا واستشهد له بأبيات من حفظه أو نظمه حسب المراد.
وقد أخبرني حفظه الله حينما سألته عن مقدار ما يحفظه من الأبيات الشعرية، فقال: ما ينوف على عشرين ألف بيت من نظمه ونظم غيره زيادة على المحفوظات النثرية، يهوى الإطلاق والطرب ومذاكرة العلوم، ويأبى الترفع والتحجب والتمسك بأحوال ذوي الرسوم، ويقول بأن رفعة القدر والشأن، ليس بالعجب والكبر وسلاطة اللسان، وكيف لا يكون كذلك وهو فرع شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، قد اتصلت بسيد الرسل وسند الأنبياء.
وأما والده فهو علم الفضل والإنصاف، وشرف النعوت والأوصاف، افتخر به الآباء والبنون، وتجملت بفضائله الشهور والسنون، شهرته من الأنام شهرة القمر ليلة بدره، ومحله من الكمال حيث يستمد كل ذي قدر من قدره، وهذا المترجم نتيجة ذلك الأصل، فلذا تفرد في زمانه في الكمال والفضل، تحقق بأنواع العلوم الحديثة والقديمة، وتعشق في الطريق الواضح فكان لا يسلك غير الطريقة القويمة، وناهيك بهذا الشرف العظيم والفضل الجسيم.(1/1424)
ولد حفظه الله في ثالث ربيع الثاني سنة تسع وخمسين ومائتين وألف بإقليم الجزائر، ونشأ في حجر والده عمدة السادة الأكابر، وحفظ القرآن عن ظهر قلب وهو ابن ثمان سنين وشهور، وأقبل على حفظ المتون في أنواع العلوم ما بين منظوم ومنثور، ثم قرأ فقه المالكية على الشيخ محمد بن عبد الله الخالدي المغربي وعلى غيره من العلماء الأخبار، وقرأ جملة من الفنون على الفاضل الدمشقي الشيخ محمد الجوخدار. ثم قرأ على الإمام الكامل والهمام الفاضل الشيخ محمد الطنطاوي الزهري الكتب الكبيرة في أنواع العلوم، وحضر على والده الحديث والتوحيد، وأجازوه جميعاً بما تجوز لهم روايته من منثور ومنظوم. ولما رأى فيه والده الأهلية للتدريس العام، أمره بأن يقرأ درساً بحضرته وحضرة العلماء الكرام، فامتثل أمر والده المبرور، وكان يرى على وجهه حين حضوره في درسه البشر والسرور، وأجازه على ذلك ترغيباً له بجائزة سنية، وتفرس به الترقي إلى الرتب العلية، وكان سنه إذ ذاك ثمانية عشر، حتى تعجب من نبله وفصاحته وجسارته من حضر، وفي سنة إحدى وثمانين ومائتين وألف، أنعم عليه السلطان الغازي عبد العزيز خان، برتبة ازمير مع النيشان العثماني من الرتبة الثالثة ذات القدر والشأن.
وفي عام اثنين وثمانين في ثالث ذي الحجة الحرام من الهجرة النبوية، توجه للسياحة في البلاد الأفرنجية، فتوجه إلى رومة وبلاد إيطاليا، ثم إلى مملكة سويسرة، ثم إلى عاصمة الفرنسيس، وفي ثاني يوم وصوله زار الأمبراطور نابليون الثالث فأكرمه وعامله بغاية الإقبال والتأنيس، ودعاه إلى مائدته وبالغ في مودته، ثم استأذن منه في السياحة في أنحاء مملكته، فدارها ثم رجع إلى العاصمة فاستأذن من الإمبراطور في الرجوع إلى أهله وبلدته، فجدد إكرامه وأهداه ننيشاناً وودعه بك إقبال، فتوجه إلى البلاد المصرية فساح بها مدة ثم رجع إلى محل إقامته بعد ذلك الترحال، وكان مدة ذلك(1/1425)
ستة أشهر هلالية، فعاد إلى حاله وكماله بهمة قوية. ثم في سنة تسع وثمانين في شهر رجب، وقع بين دولة فرنسا وألمانيا للقتال أعظم سبب، فانتشبت بينهما نار الحرب، وتقابلت الدولتان بالسفك والطعن والضرب، وآل الأمر في مدة أربعة أشهر إلى انتصار ألمانيا على الدولة الفرنساوية، وتكبدت فرنسا خسائر ومشقات قوية، فخطر في بال المترجم أن الحرب يطول بين الدولتين، فينتهز الفرصة لتخليص وطنه الجزائر من يد فرنسا ويزيل عن الوطن الكدر والغين، فتوجه بقصد الزيارة في الديار المصرية، فحينما وصل إلى مدينة إسكندرية، توجه منها إلى تونس الغرب ولم يعلم أحد نيته الخفية، فأكرمه حاكمها صادق باشا وشاع ذكره في ذلك القطر عرضاً وطولاً، وأنزله ذلك الحاكم عنده وأهداه نيشاناً من الرتبة الأولى، فقصد المترجم التوجه منها إلى الجزائر، فلم يتمكن من ذلك نظراً لما ناله من الاشتهار، الذي ملأ تلك النواحي والأقطار، فحرر لرؤساء الجزائر نحو المائتي كتاب، لكي يتهيأوا لمحاربة فرنسا عند قدومه المستطاب، وأرسلها من تونس مع الرسل الخفية، ثم ودع الباشا مظهراً له قصد الرجوع إلى الديار الدمشقية، فتوجه إلى مالطه، وحين وصوله إليها أخفى نفسه وتنكر، ولبس لباس الدراويش وظهر في غير ذلك المظهر، وتوجه إلى طرابلس الغرب، فحينما وصلها أرسل ثقله مع بعض الخدم في البحر إلى مدينة قابس، وهو قد توجه براً متكبداً لمشقات لم يكن على مثلها بممارس، إلى أن وصل لبلاد الجريد، ومكانها عن حدود الجزائر غير بعيد، فهناك أظهر حاله للناس، ولم يخش على نفسه من بأس، ومن عجيب ما اتفق له أن شخصاً من المنصورة " قرية من قرى جريد " كان مرافقاً له من طرابلس متوجهاً إلى قريته ومحل إقامته، فكان يسأل رفقاه المترجم عنه، فيقولون له رجل من أشراف الجزائر كان في الحجاز، فيقول لهم هذا ابن ملك أو أمير حقيقة لا أقصد المجاز، ولم يمكنهم إقناعه بحال،(1/1426)
إلى أن وصلوا إلى قريته، فقال لهم إن عدم نزولكم عندي من المحال، فنزلوا عنده فما استقر به المجلس حتى جاء للسلام عليه حاكم البلد، وبعده نحو الأربعمائة فارس من ذوي الشجاعة والجلد، وكان قد أرسل لهم يخبرهم بوصوله، فسلموا عليه وعاهدوه على القيام معه حسب مأموله، ثم أنه سأل عن رفيقه صاحب الدار، فقال له رجل من أقاربيه أنه يقدم لحضرتك عن عدم حضوره جميل الاعتذار، حيث أنه من نحو سنتين قتل شخصاً وفر لطرابلس، والآن قد رجع خفية لرؤية عائلته ثم يرجع، فلما رأى حاكم البلد والخيل معه ظن أنهم حضروا للقبض عليه ففر منهم، فعند ذلك تذاكر المترجم مع حاكم البلد وطلب منه الصفح عنه حيث أنهم ضيوفه، فأجابه الحاكم بأنه إن يسمح عنه أهل المفتول فأنا أسمح عن حق الحكومة، فأحضروهم وكلموهم أن يسمحوا على الدية، فسمحوا فقال الحال بلا دية نظراً إلى خاطر المترجم، ثم فتشوا على الرجل فبعد الجهد وجدوه مختبئاً في مكان، فأحضروه عند الحاكم وأخبره الحكم بأن أهل المقتول قد سمحوا عنه، وكذلك هو نظراً لخاطر المترجم، فعندما قال الرجل لأتباع المترجم كيف رأيتم فراستي في الدرويش، مع كونكم أجهدتم أنفسكم في إقناعي فما قدرتم، وقد أشار إلى ذلك في قصيدة طويلة أرسلها إلى أخيه سعادة محمد باشا:
طوراً تراني مختف متنكراً ... كيما أرى من ماء قصدي أستقى
والبدر لا يخفيه جنح دجنة ... والمسك لا يخفى وإن لم يفتق
وسأورد بعض هذه القصيدة عند ذكر نظمه، ولنرجع إلى ذكر بعض ما وقع له في الجزائر، فانه لما وصلت كتبه إلى رؤساء الجزائر من تونس، استبشروا ولم يعد لهم صبر لانتظار قدومه، فتراسلوا وتؤامروا وأظهروا العصاوة على دولة فرنسا، وانتشب القتال بينهم في كل مكان، فلما وصل إليهم بايعوه على السمع والطاعة، ووقعت بينه وبين الجيوش(1/1427)
الفرنساوية مقاتلات عديدة، ما عدا التي وقعت بأمره في عدة أماكن ولم يحضرها، وقد قتل ألوف من الفرنساوية، ولكن حيث أن الباري لم يقدر خلاص الجزائر من اليد الفرنساوية تصالحوا هو وألمانيا، وأرسلوا في الحال جيوشاً جرارة لمحاربته، فتيقن عند ذلك بعدم اقتداره على مقاومتهم، والتمست دولة فرانسا من حضرة والده إرسال أمر ونصيحة له، فعندما رجع إلى حدود تونس بمن معه، ثم بقيت أهالي الجزائر في تونس، ورجع هو إلى الشام، وبقي في ثغر صيدا نحو السنة، ثم رجع إلى دمشق عند والده، وقد سألته بعد مدة معاتباً له عن عدم إخباره لي بما عزم عليه من السفر إلى الجزائر، وما ترتب على ذلك، فاعتذر لي بأن هذا من الأمور المكتومة التي لا يمكن إبداؤها لأحد، وأخبرني أيضاً حفظه الله أنه لما خطر له هذا الخاطر، ورأى أن أسباب اغتنام الفرصة متسهل بواسطة الخلاف الذي وقع بين فرانسا وألمانيا، عظم عليه الأمر واشتد عليه الخطر، وعلم أن دون ذلك مسالك جسيمة ومهالك عظيمة، وشديد مشقات عميمة، تباطأت عزمته وفترت همته، فجرى على فكره نظم هذه الأبيات، فلما أتمها وقرأها عادت له همته أعظم من الأول وهي:
على ماذا الخمول وأنت قرم ... مطاع في العشائر لا تمارى
وأنك لا تنال المجد حتى ... تقود عرمرماً يملا القفارا
تعوض من شدا الشادي صهيلاً ... وعن طيب الغوالي اعتض غبارا
وأطيب من عناق الخود حقاً ... عناق مدرع يورى الشرارا
فقومي سادة عرب كرام ... بغير الحرب ما نالوا فخارا
ثم أنه في سنة ست وتسعين، أنعم عليه حضرة مولانا السلطان الغازي عبد الحميد خان برتبة مير ميران الرفيعة، ثم في سنة ثلاثمائة وثلاث، رقاه إلى رتبة روملي بيكلر بيكي، وكان قد عين له بعد انتقال والده(1/1428)
معاشاً في كل شهر خمسين ليرة عثمانية من الخزينة السلطانية، حيث أنه رفض معاش دولة فرانسا التي طلبت منه أن يكون من رعيتها هو واخوته، وتعيد لهم معاش والدهم على التمييز والاستحقاق لا على التسوية.
ولنورد شيئاً من شعره وبديع نثره الذي هو أرفع من الدر قدرا، وأضوع من المسك نشرا، فمن ذلك وكان متنزهاً في صالحية دمشق بحديقة الشيخ الأكبر في فصل الربيع، فقال:
لله در الصالحية مذ بدت ... محفوفة بحدائق النوار
فكأنما هي غادة حفت بها ... سود المحاجر في جمال نوار
حوت المفاخر إذ غدت للحاتمي ... داراً فأضحت مطلع الأنوار
ومن نظمه حفظه الله موريا باسم فائق:
يقول معذبي هل حسن وجهي ... لبدر التم يشبه أو يطابق
فقلت وحق من أعطاك حسناً ... ملكت به القلوب لأنت فائق
وله متغزلاً حفظه الله:
دعوني فالغرام أذاب قلبي ... وأحرق مهجتي هجران حبي
أيا أهل الهوى كرماً أعينوا ... جريح لواحظ وقتيل حب
أنا المفتون وا ويلاه حالي ... غريب في الهوى عن كل صب
ملاح الشرق تيهوا قد أخذتم ... أسيراً في الغرام أمير غرب
رويت الحرب عن آباء صدق ... فها أنا ذا الأسير بغير حرب
لعمرك ما خشيت سواد جيش ... فما لي قد خشيت سواد هدب
ومن نظمه تشطير هذه الأبيات، وإنه يصعب تشطيرها لشدة ارتباطها:
أنا والحب ما خلونا ولا طر ... قة طيف يا صاح هذا عجيب
ما تواصلنا ساعة ولا طر ... فة عين إلا علينا رقيب
ما خلونا بقدر إن مكن الده ... شة إني عن السلام أجيب(1/1429)
ليس لي فرصة وقد فني العم ... ر بأني أقول أنت الحبيب
بل خلونا بقدر ما قلت أنت ال ... ح فلاح فقلت سيب النسيب
ومرضت فعادني قلت جاء ال ... ح فوافى فقلت كيم الطبيب
ومن نظمه أطال الله بقاه، وجعل في مدارج السعادة مرتقاه:
تأمل في بديع الحسن واعذر ... به صبا لقد خلع العذارا
من أحداق الورى قد صاغ خالا ... ومن أجفانها جعل العذارا
له لحظ ينادي من رآه ... هلموا واتركوا عشق العذارى
وله دام علاه تخميس على لامية العجم أوله:
الله عظم مقداري من الأزل ... وزادني شرفاً كالشمس في الحمل
وإن رماني العدا بالنقص والزلل ... أصالة الرأي صانتني عن الخطل
وحلية الفضل زانتني عن العطل
ولي جدود لبند المجد قد رفعوا ... جميع الورى طبعاً له تبع
وإنني مقتف آثار ما شرعوا ... مجدي أخيراً ومجدي أولاً شرع
والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
وله أحسن الله إليه، وأسبل جميل امتنانه علينا وعليه، مورياً في اسم خنجر:
يا قاتلي بلحاظ ... سيوفها لي أشهر
إني لأضعف عنها ... يكفي لقتلي خنجر
وله ألبسه الله حلة السرور، وأجلسه على ذروة الحبور:
إشرب على البدرين شمس مدامة ... بدر السماء وبدرنا في المجلس
واغنم زمان الأنس لا تسمع لمن ... يلحو المتيم في ارتشاف الأكؤس
ما العيش إلا راحة في راحة ... تجلى عليك من الغزال الألعس
يا أيها الظبي الذي ملك الحشا ... وغدا له شغل بقتل الأنفس
ارحم أميراً في هواك أهنته ... وغدا ذليلاً للعيون النعس
ما هاب من جيش يضيق به الفضا ... وبدا طعيناً بالقدود الميس(1/1430)
ومن نثره كتابه لأخيه الأمير محمد باشا كتبه له من ثغر صيدا: إن أطرب من خفق الأعواد، ومن ترجيع البلابل على الأعواد، ومن كؤوس الحميا يطوف بها بهي المحيا، في روض زاهر، غض الأزاهر، ومن نقر المثاني والمثالث، ومن وصل أليفين ليس بينهما ثالث، سلام عطري النشر، يبشر قتيل الفراق بالنشر، ويؤذن مطوي أيام التلاقي بالنشر، تتحمله وتؤديه ريح الجنوب، من مشوق تتجافى عن المضاجع منه الجنوب، إلى ذي المنصب العالي، وواسطة عقد المعالي، وفريدة سمط اللآلي، والبدر المنير في مدلهمات الليالي، إذا امتطى صهوة جواد، أزرى بكل فارس بطل جواد، فكأنه بدر فوق نسر، أو أسد ممتط النمر، وإذا جرد بسام هنديه في يوم بالقتال حالك، قال النحس لأبطال أعدائة اليوم يا سوأة حالك، له يد أحوالها كعدة البنان، ليست إلا لمسك عنان، أو هز هندي وسنان، أو تحبير رسائل، أو إعطاء سائل، أو تقبيل عدو خاضع، ذليل منكسر متواضع، أعني الأخ الشقيق والبر الرفيق، وارث المفاخر كابراً عن كابر، الأمير محمد باشا ابن الأمير عبد القادر، لا زال الدهر له يساعد، ويمده باليد والساعد. أما بعد إهداء التعظيم الواجب، من صميم قلب بالفراق واجب، فإن تفضلتم بالسؤال عن حالي، فهو لله الحمد بمر الصبر حالي، متسلق بتعظيم المقدار ما أوجبته حكمة الأقدار، والدهر ذو إحاله فلا يدوم على حاله، فمن ذا الذي أساءه وما سره، وأين يوجد من نفعه وما ضره، وفي مطالعة أخبار من سلف، تسلية وموعظة لمن بعدهم قد خلف.
ومن نثره ونظمه أيضاً جبا الله القلوب على محبته، وأدام لهم إشراق طلعة سعادته، ما كتبه إلي يدعوني للحضور في قريته المعروفة بالكفرين، الواقعة في ناحية المرج، بينها وبين دمشق نحو أربع ساعات، وصورة ما كتبه:
فديتك عجل اللقيا وبادر ... فإنك سيدي للكون بادر(1/1431)
فذا زمن الربيع أتى وحيا ... بأنواع اللطائف والأزاهر
فأضحى الروض يضحك من سرور ... وكل منىً سواك لدي حاضر
فديتك أنت تعلم إن حظي ... من الدنيا هواك به أفاخر
فلا تمهل بحق الود وأسرع ... فها طرفي لنحو الطرق ناظر
حضرة عالم الأدباء وأديب العلماء، العالم الأديب العلم، فارس المنبر والقلم، نخبة عصرنا وزينة مصرنا، من جبل الله القلوب على محبته، فغبطته الناس على عليِّ مرتبته، أخي وصديقي ومناي من الدنيا ورفيقي، الشيخ عبد الرزاق أفندي البيطار، حفظه الله في الإقامة والأسفار. مولاي: إني خرجت إلى القرية لأنزه الخاطر، وأجلو برؤية الخضرة صدى الناظر، فوجدت الربيع قبل وصولي قد وصل إليها، وهيأ كل ما تشتهيه الأنفس وتفضل عليها، وكسا الأرض بالحلل الخضر، والأغصان بالتيجان البيض والحمر، وطيبها نسيم الصبا بالمسك الأذفر، وبعده ريح الغرب بالعطر والعنبر، فأسرعت إليها شعراء الأطيار، لأجل أداء التهنئة بما نالته من الأوطار، فأطربت القلوب بتسجيعها، وشنفت الآذان بلطيف ترجيعها، وماست الأزهار من الطرب، ورقصت الأغصان فرحاً ولا عجب، فعندها اصطفت ندماني، وابتدوا بضرب المثالث والمثاني، ثم بعد أن أطربوا الفؤاد، وأزالوا الهموم برائق الإنشاد، أخذوا في المذاكرة، وشرعوا في المحاورة، فكان أول شيء ذكرهم لبعض ألطافكم، وما حزتموه من بديع أوصافكم، فتنغض على الحضور بسبب إبطائكم السرور، وقد كان حصل وعدكم الشريف بأنكم تتفضلون علينا بالتشريف، فطلب مني جميعهم إرسال رسالة لتحثكم على سرعة الإجابة بدون إطالة، فبادرت، بإرسال هذا الكتاب، وأملي أن تكون رؤية طلعتكم هي الجواب، وبصحبتكم صاحب القلب السليم، سيادة أخيكم الشيخ سليم، وشاديكم قرة العين، النجيب السيد حسين، وها هي جياد الخيل واصلة لأعتابكم،(1/1432)
وواقفة مسرجة ملجمة ببابكم، وأسأل الله أن يديم سرورنا بكم على الدوام، ما فاح على الرياض مسك ختام. وغب وصولنا إليه، وتمثلنا بعد السلام بين يديه، أنشدنا وقال:
أهلاً بمقدم سادة قد شرفوا ... ولذي الوداد بقربهم قد أسعفوا
حازوا اللطائف والفضائل كلها ... سروا الفؤاد وللمسامع شنفوا
دامت مسرتهم ودام علاهم ... فعلى مودتهم فؤادي أوقفوا
فقلت له على الارتجال، مع اعترافي بأني ضيق المجال:
يا أكمل الناس في فضل وفي شرف ... أنت الأمير على السادات والأمرا
حويت كل مقام عز مطلبه ... ونلت كل كمال في الورى ذكرا
حييت بالبشر والإقبال ذا شغف ... وليس ينكر ذا أن منك قد صدرا
لا زلت تاجاً على هام العلا أبداً ... ودام من رام ضراً فيك محتقرا
ولقد أنشدنا لنفسه أيضاً حينما شدا الشادي على العود، قصيدة مطلعها سعد السعود، وكان الوقت صافيا، والمقت بحمد الله قافيا.
بشير للصفاء غدا ينادي ... هلموا فالأيادي في أيادي
أنا قطب السرور علي دارت ... نجوم البسط يا أهل الوداد
إذا بأصابعي حركت عودي ... غرست رياض أنس في الفؤاد
فأنشدته ما أنشأته في الحال، حينما انحنى العواد على عوده ومال، وأجاد وأطرب، وأنبأ عن وجده وأعرب، وكان سعادته أمرني أن أقول شيئاً من هذا المعنى.
عجباً لعواد على العود انحنى ... وغدا يتيه تواجداً وهياما
وتكلما حتى فؤادي كلما ... وتشاكلا لذوي السماع كلاما
وتراقصا رقص الشجي لدى النوى ... والحب أثر فيهما الأسقاما
وتعانقا وتشاكيا أمر الهوى ... حتى بكينا رحمة وغراما(1/1433)
وفي أثناء حضوري عنده قال أجز هذا البيت وهو قوله:
قدم الربيع فلا تكن متواني ... عن نهب وقت مسرة وتهاني
فقلت:
فالأرض قد لبست رداءً أخضرا ... متلوناً ببدائع الألوان
وقال:
وبدا يميس كغادة قد حليت ... وتزينت بالدر والعقيان
فقلت:
والبدر أشرق والرياض تنورقت ... والنهر ساح على حصى المرجان
وقال:
وبلابل الروض الأنيق لقد شدت ... تسبي العقول بسائر الألحان
فقلت:
وتجاوبت خطباء أنواع الطيو ... ر بشدوها في منبر الأغصان
وقال:
وتمايلت قضب الرياض تميس إذ ... هب النسيم مبشراً بأمان
فقلت:
تهتز إن مر النسيم تمايلا ... كمتيم دنف الحشا ولهان
وقال:
فكأنها الأحباب بعد تشتت ... وتباعد قدس الله سره عدن للأوطان
فقلت:
وتعانقت لحنوها ولشجوها ... وتزايدت لعناقها أشجاني
وقال:
والزهر بين معصفر ومفضض ... ومذهب صاف وأحمر قاني
فقلت:
قم يا معنى للرياض مبادرا ... واطرب وقل والله طاب زماني
وقال:
وانظر عجائب صنع رب قادر ... سبحانه من مبدع منان(1/1434)
فقلت:
مقل الزهور تفتحت كيما ترى ... ما قد جرى في مجلس الندمان
وقال:
ورد ونسرين ومنثور زها ... قد فاخرته شقائق النعمان
فقلت:
والطل ينثر كالعقود لئالئا ... في الجيد ينظمها كنظم جمان
وقال:
يا أيها الساقي المفدى هاتها ... وأدر كؤوسك لا تكن متواني
فقلت:
صرفاً بها عنا تزيح همومنا ... واطرح ملام مؤنب النشواني
وقال:
خمراً معتقة غدت منسية ... في الدن طول تعاقب الأزمان
فقلت:
وبخمر فيك امزج كؤوسي علها ... تطفي حرارة قلبي الولهان
وكنت مرة في صحبته بروضة ذات أدواح، قد أقيمت بها مواكب أفراح، فجاء غلام حسن المحيا، فقبل يده وسلم وحيا، ثم بعد حصة قبل ذيله وذهب وخلف في القلوب أعظم غصة، فحينما غاب أنشد سيدي المترجم في الحال. على الارتجال:
فديت بديع حسن قد سباني ... بطلعته وبالقد الرشيق
ولم أنس الوداع له ودمعي ... دماً يجري وقلبي في حريق
فمبسمه ووجنته ودمعي ... عقيق في عقيق في عقيق
ومنه الخصر مع شفة وعهد ... رقيق في رقيق في رقيق
فأنشدته أبياتاً كنت أنشأتها من هذا المعنى وتخلصت منها بمدحه الشريف وهي:
أيا روحي وريحاني وراح ... إلى م وأنت لم ترحم جراحي
فجيدك والمحيا والثنايا ... صباح في صباح في صباح
وقربك والوصال وبعد ضدي ... صلاح في صلاح في صلاح(1/1435)
وعمري والملام وسوء هجري ... نواح في نواح في نواح
وسقمي والغرام وفقد صبري ... فلاح في فلاح في فلاح
وضمك والعناق ولثم خد ... رباح في رباح في رباح
وعطفك وابتسامك واقتبالي ... سماح في سماح في سماح
وعذالي ولوامي وضدي ... قباح في قباح في قباح
وثغرك والعيون وحمر دمعي ... ملاح في ملاح في ملاح
وتعذيبي وإبعادي وقتلي ... مباح في مباح في مباح
وإني لست أشكو منك حالي ... ولكن بحت في أصل افتضاحي
لقطب المجد محيي الدين باشا ... علي القدر في كل النواحي
فمهما عشت في الدنيا فإني ... عليه قصرت شكري وامتداحي
له دام العلا ما ضاء بدر ... ومن عاداه مقصوص الجناح
وأنشدته أيضاً حفظه الله ورفع في الخافقين قدره وعلاه، قولي:
هلال الحسن هل على جبيني ... ومن فرقي بدت شمس الكمال
فما لي لا أتيه على الندامى ... وأسعى ساحباً ذيل الدلال
دموع العاشقين عقود نحري ... ووصلي دونه حد النصال
ولب أولي الهوى في قيد أسري ... ولا يحلو لهم إلا وصالي
فكم بنصال قدي باد قرم ... وكم لحظي فرى مهج الرجال
فجيدي ثم نحري والمحيا ... هلال في هلال في هلال
وأخلاقي وألفاظي وحظي ... كمال في كمال في كمال
وقد اتفق لي أني مرة كنت في داره المعمورة فناولني غلام عنده وردة، وقال أنشدني شيئاً مناسباً لذلك، ووقف فقلت له بعد إطراق قليل:
وافى الحبيب بوردة ... وغدا يميس بقده
فسألته عن روضها ... فأشار لي من خده
فخمسهما سعادة الباشا في الحال بقوله:
نلت الهناء بروضة قد تم لي بأحبة لما غدوا بمسرة
وافى الحبيب بوردة ... وغدا يميس بقده(1/1436)
قد شابهته بلونها فكأنه وكأنها فرع بأصل قد زها
فسألته عن روضها ... فأشار لي من خده
ومرة كنت مع سعادته في البويضية قرية من قرى دمشق، فجلس غلام معه بعيداً مني ولم يسمح بالتداني فقلت له:
كم ذا تذل متيماً ... وتذيقه ألم النوى
فأجابني متبسما ... إن الهوان مع الهوى
وقد خمسهما سعادته أيضاً فقال:
أفدي مليحاً قد سما ... وأذلني واستعظما
فسألته مستفهما ... كم ذا تذل متيما
وتذيقه ألم النوى
وترى لقاه محرماً ... وعذابه عذباً فما
أقساك يا حلو اللما ... فأجابني متبسما
إن الهوان مع الهوى
وقد أسمعني حفظه الله وأدام بقاه وعلاه، قصيدته التي مدح بها والده وهنأه بها بعيد الفطر، سنة ألف ومائتين وثلاث وتسعين:
زمان الأنس والأفراح منا ... دنا إذ منيتي بالوصل منا
فبادر للصفاء وللتصابي ... فمن خوف التقاطع قد أمنا
ويا ساقي المدام أدر وعجل ... فطير الروض بالبشرى تغنا
وناول رفقتي كأساً فكأسا ... بظل حديقة بالزهر غنا
بها طير وظبي قد تبارا ... فذا يشدو على غصن نثنى
وذا شاد تثنى فوق عود ... ولم أسمع بظبي قبل غنا
تثنى مفرد في الحسن فأعجب ... بلا ثان فكيف به تثنى
إذا أبدى الدلال وهز قدا ... فلا تسأل عن الصب المعنى
غدا ملك الملاح بلا اعتراض ... وقالوا كلهم إنا أطعنا
له قتل الخلائق صار فرضا ... وسيف اللحظ للعشاق سنا
فهل للعاشقين له نصير ... بسحر عيونه إنا فتنا(1/1437)
ترى عشاقه سكرى غرام ... كأنهم سقوا دنّا ودنا
تراهم في النهار وهم حيارى ... وويلهم إذا ما الليل جنا
تبارك من براه بلا شبيه ... فلا عجب إذا ما الصب جنا
ولا أنسى مراجعة تقضت ... بأول وهلة لما التقينا
رنا شزراً إلي وقال مهلا ... فما لك من نجاة إن طعنّا
فقلت له فديتك لا أبالي ... سأصبر في الغرام فمن تأنى
وأبلغ منك مقصودي بلطف ... وإلا بالمهند وهو أدنى
فماس يتيه من قولي دلالا ... وقال أراك قد أخلفت ظنا
فإن معاشري فرسان حرب ... ولا يخشون يوم الروع طعنا
فقلت له ألم تسمع بقومي ... فقد جعلوا الوغى والفتك فنا
وقد ذاعت مفاخرهم وشاعت ... تناقلها الرواة بكل مغنى
وسل عنا الفرنجة فهي تنبي ... بما قاست من الأهوال منا
وقائد معشري بطل همام ... غدا لي والداً وبه افتخرنا
بعبد القادر المولى تسمى ... لعمرك في اسمه قد لاح معنى
وفي الأسماء للأشخاص فأل ... كذا نقل الرواة وقد صدقنا
أمير قد تفرد في البرايا ... غدا لجميع أهل العصر ركنا
له الجود العميم بكل قطر ... به أهل الفضائل قد سعدنا
له جد وجد ثم جد ... بهم نال الفخار وما تمنى
فجد فاق أهل الأرض طرا ... وشرف ذكره سهلاً وحزنا
وجد في المعارف والمزايا ... به نال العلا فناً ففنا
وجد منه يدني كل قاص ... فلو طلب النجوم لما بعدنا
أمير في الشجاعة لا يضاهى ... إذا ما السيف في الهامات رنا
يسير إلى الوغى فرحاً بشوق ... ويقتحم الكتائب مطمئنا
بسالته بكل الأرض شاعت ... بها أعداء دولته شهدنا(1/1438)
إذا ما لاح ممتطياً لطرف ... تخضب بالدماء بدت كحنا
ترى بدراً على شفق وبرق ... بيمنى قد غدت نحساً ويمنا
بها لعدو سدته هلاك ... وأضحت للصديق منى وأمنا
وإن شئت العلوم فكل فن ... غدا فيه فريداً لا يثنى
أيا مولى تفرد في المزايا ... ولم أعلم له في الفخر دنا
تفضل بالقبول فدتك نفسي ... فأنت أحق من بالصفح منا
ودم في عزة وعلو شان ... بك الأعياد يا سندي تهنا
وقد دعاني في عيد من الأعياد لأن أكون معه أيام العيد في بعض منتزهاته، فأرسل لي هذا الكتاب الشريف، المحتوي على كل معنى لطيف، فقال: الأستاذ العظيم والملاذ المفخم، الحائز للفضائل والمتمم للفواضل، سيدي وأخي الشيخ عبد الرزاق أفندي، وبعد: فإنني أهديكم من السلام أعطره، وأبث إلى صديقي من الشوق أوفره، هذا وإن عيد الفطر قد اقترب، والنفوس متشوقة إلى التنزه والطرب، لأن شهر الصيام يضني الأجسام، ولذلك قد صممت الجماعة على التوجه لمحل مخلصكم بالأشرفية بعد الغروب بساعة، وحيث أن حضرتكم واسطة عقدنا، وعروتنا الوثقى الرابطة لودنا، ولا يتم إلا بوجودكم سرورنا، وإن غبتم عنا غاب بسطنا وحبورنا، وبمشاهدتكم يكون لنا عيدان، بمجلس النايات والعيدان، فبادروا إلى المحفل الزاهر، واجتنوا من البستان الأزاهر، وسرحوا الناظر في الروض الناضر، ولا تنقصوا علينا بعدم تشريفكم المسرة، وتجلبوا لأهل ودادكم ببعادكم المضرة، لأنكم قطب دائرة أفراحنا، وطلعتكم البهية مزيلة أتراحنا، فبادروا لإسعافنا بتشريفكم وإتحافنا والسلام:
أهنيك يا بدر السادة والفخر ... بعيد سعيد بعد ما نلت من أجر
فدم ملجأ للناس في العلم والنهى ... يهنى بكم عيد الضحية والفطر
فلا زلت يا مولاي ترفل دائماً ... بثوب الهنا والعز ما رجع القمري(1/1439)
ثم إنه بعد الغروب، مر علي في عربيته فبادرت الركوب وسرت مع حضرته مصغياً لكلامه، مقتطفاً أزهار نثره ونظامه، بمحاضرة تهز المعاطف اهتزاز الغصون، ورونق لفظ لم يدع قيمة للدر المصون. وفي ثاني يوم صباح العيد، باركت له في الموسم السعيد، ثم قدمت هذه القصيدة، لطلعة حضرته السعيدة، فتناولها مني بيد القبول، وأجرى لها من البشاشة ما يفوق المأمول، وهي:
أما والهوى العذري المقيم على عذري ... بها كل برهان حكى طلعة البدر
لئن كان لي قلب يميل لغيرها ... فلا زلت طول الدهر في غصة الهجر
فتاة لها روحي وهبت ومهجتي ... وإن قبلت أسديتها ميتا شكري
أرى الموت في شرع الغرام بحبها ... حياة ومن لم يقض في الحب ذر كفر
رماني عذولي بالسلو ولامها ... على صلتي من لي بضد عنى ضري
أأسلو وقلبي كلما مر ذكرها ... أسال جفوني من يواقيتها الحمري
ألم يكف هذا الدهر سقمي ولوعتي ... فساعد في تسليط ضدي على غدري
رعى الله أيام الوصال وطيبها ... وياليت لو أنفقت في نيلها عمري
لقد كان لي ممن أحب رعاية ... فصار لها قلب يزيد على الصخر
ولم أنس مذ جاذبتها من ذوائب ... فمالت كغصن البان تيها على صدري
ولله ما أجراه رشح رضابها ... بلبي كأني سغت خمراً على خمر
ثوت في فؤادي حين شامته خالياً ... ولكن على صعب النوى أحكمت قصري
سقى الله مغناها سيواكب عبرتي ... فيغدو بدمعي منبت الورد والزهر
فليس لها في الحسن والله مشبه ... وليس لمحيي الدين ثان بلا نكر
أمير العلا بحر الندى صفوة الملا ... عليه يد النعماء قد قصرت شكري
تملكني عن أصله فهو سيدي ... وأني له المملوك في صورة الحر
أيا ابن النبي الهاشمي محمد ... لقد راق للأسماع في مدحكم شعري(1/1440)
إليك يحق المدح إذ أنت أهله ... وأنت لعمري كعبة النظم والنثر
وأنت الذي قد أعجز العقل دركه ... وهيهات أن تدري النهى لجة البحر
وإني لكم أهديت عذراء فكرة ... تفاخر إن أبدت حلاها سنا الفجر
وتفصح أن شامت قبولاً بقولها ... وحقك يا مولاي قد زدت في مهري
فلا زال شهر الصوم يحكيك قدره ... ولا زلت تحكي منه في ليلة القدر
وأعطاك ربي ما تروم وما تشا ... ودامت لك الأيام باسمة الثغر
ولازلت للأعياد عيداً وللعلا ... علاء وللدنيا ضياء مدى الدهر
وفي العيد الذي بعده كنت في معيته في بعض المتنزهات فأراد ملاطفتي بخطابه لي بهذه الأبيات وهي:
ألا يا واحد الفضلاء إني ... لغيرك ليس لي في الرد منزع
وقد كانت توافى كل عيد ... قصائدك التي للشان ترفع
فلم غيرت عادة ذي وداد ... بحبك دون كل الناس يقنع
وأكثرت المدائح والتهاني ... لغيري إن هذا الأمر أفظع
فأجبته في الحال:
ألا يا أوحد الأمراء طرا ... ويا من ساد أهل العصر أجمع
تفرقت المحاسن في البرايا ... وأنت لكل ما نالوه مجمع
فمهما كان مني من مديح ... فمالي في السوى والله مطمع
فأنت على الحقيقة جل قصدي ... وأنت لكل مدح راق مطلع
وقد آن أن نذكر بعض القصيدة التي وعدنا بها عند ذكر سفره إلى الجزائر.
بعد الأحبة عن عياني محرقي ... يا ويح قلب المستهام الشيق
يا قلب هل تقضي زمانك بالأسى ... إربأ بنفسك واشفقن وترفق
كم تقطعن الليل بين تنهد ... وتحسر وتفكر وتحرق(1/1441)
ومنها
هل نلتقي يا أهل ودي ساعة ... يا أهل ودي ساعة هل نلتقي
فأبثكم شكواي من ألم النوى ... تباً به بمتيم لم يرفق
أنا ذلك الصب الذي وحياتكم ... وحياتكم لسواكم لم يعشق
هل تحفظون ذمام خل عنده ... إن السلو سجية لم تخلق
ومنها في الحماسة:
إني ورثت شجاعة الآباء في ... صغري وإن بفعالهم لم الحق
إني اجتهدت وخانني دهري فلا ... عار علي برد سعي المخفق
لله أشهب كالشهاب علوته ... لولا اللجام غدا لشهب يرتقي
وطلبت سهم الموت قدماً جاهداً ... لكنه لتعاستي لم يرشق
إنا أناس لا نرى موت الفتى ... فقداً إذا كان برمح أزرق
ونرى عناق مدرع يوم الوغى ... أشهى وأبهى من عناق مقرطق
والشرب من جاري الدماء ألذ من ... صهباء ماء في الدنان معتق
وغبار يوم الحرب أعبق عندنا ... من نشر مسك في ثياب ممنطق
من كان معشره أمانيهم كذا ... فإذا تحدث بالبسالة صدق
وهي طويلة تنوف عن ثمانين بيتاً، وله حفظه الله من قصيدة يمدح بها والده:
فؤادي في حب الحسان تعذبا ... وما أحسن التعذيب منهم وأعذبا
ألا في سبيل الحب روحي وهبتها ... لبدر تمام بالهلال تنقبا
سبى العقل مني بل جميعي جملة ... وفرق صبري مثلما افترقت سبا
صبا كل قلب في الأنام لقده ... إذا ما انثنى كالغصن حركه صبا
ومنها:
يا ربة الحسن البديع ترفقي ... بصب على جمر الغرام تقلبا
ولا تسمعي قول الوشاة فإنه ... إلى غير ذاك الحسن في الحب ما صبا(1/1442)
صليه واصلي قلب واشيه حسرة ... فكم نمق التزوير عنه وأطنبا
ومنها:
أيا ويح من بالحب ذاب فؤاده ... وعلق بدراً في البروج محجبا
يرى الموت أدنى من نوال مرامه ... ونيل نجوم الأفق أيسر مطلبا
مهاة أسود الحرب تحرس خدرها ... يرى دونها سمر الأسنة والظبا
وما العيش إلا أن تكون ممتعا ... بوصل حبيب عن سواك تحجبا
ثم إنه كان قد قدم معروض الاستئذان من الحضرة العلية، والذات الشاهانية، حضرة مولانا بهجة الأنام وروح جسم الليالي والأيام، السلطان عبد الحميد خان ابن السلطان عبد المجيد خان، أيد الله صولته وأبد دولته، ما أشرقت الشمس وضاء النهار وطاب الأنس بين الرياض والأزهار، بأن يتشرف بأعتابه وأن يكون مأذوناً في السعي لواسع رحابه، فحصل له الإذن العال بكل تعظيم وإجلال، أن يشرف من غير إطالة لكي يحظى بمطلوبه وينال آماله، فأحكم العزو وعلى السفر عول، وتوجه عام خمس وثلاثمائة وألف في ربيع الأول، وخرج لوداعه أهل البلد، وكاد أن يقال ما بقي منهم أحد:
لا تطلبن القلب بعد رحيلهم ... مني فقد ذهب الفؤاد بأسره
يا ليت يوم البين من قبل النوى ... لم تسمح الدنيا بمولد شهره
ثم إنه لم يمض أيام من وصوله إلى الدار العلية، إلا وقد وجهت عليه الذات الشاهانية رتبة الفريقية مع الياورية العظمى ذات المقام الأسمى، بعد نقله من الملكية إلى العسكرية، ومعاملته بالمعاملة التي تليق بطلعته البهية، وأمره حضرة مولانا السلطان، بأن يبقى في الدار العلية ليكون تحت نظره العالي الشان، وبعد نحو سنة أرسله أفندينا السلطان إلى الشام في(1/1443)
مسألة سياسية، فجلس في الشام أياماً ثم أخذ عياله ورجع بهمة قوية، وفي شهر رمضان عام ألف وثلاثمائة وستة، أمرني بكتابه الشريف بالتوجه لحضرته، لما علم من كثرة شوقي لرؤية إشراق طلعته، وأرسل لي مصروف الطريق ونفقة العيال، فامتطيت جواد العزم على التوجه نحو التداني والوصال، وودعت الأهل والأولاد والإخوان الكرام، وتوجهت في سنة ألف وثلاثمائة وست سادس ذي القعدة الحرام، وحينما وقف الوابور القطار في موقفه من الدار العلية، وجدت حضرة عطوفة المترجم مقبلاً علينا بقاربه بهمة قوية، فعلمت أنه قد تنزل من مقامه العال، لأجل أن يحبر الخاطر بجميل الاستقبال، فوقف عند الوابور متبسماً تبسم السرور وهو في ملابسه الرسمية، الدالة على فخامة رتبته العلية، فنزلت من الوابور إليه، وحييته بما يجب وجلست في قاربه لديه، فخلع علي خلعة سروره وبشره، وصنع بي ما يوجب علي دوام حمده وشكره:
شهم يدل على كريم أصوله ... طيب النبوة في جميل صفاته
كل المطالب دونه فلو أنه ... طلب السماك لحل في عتباته
بدر السعادة والسيادة والعلا ... محيي لدين الجود بعد مماته
فلله دره من همام قد تشرفت الصفات بذاته، وإمام قد تحلت العبارات ببديع صفاته، فلعمري ما تليت آيات أوصافه إلا وركع لها القلم وسجد، ولا قرأت أحاديث سنده إلا وتفردت في صحيحها بعلو السند، فهو الذي حديثه في الفضل مرفوع، وغيث سحابه الهاطل لا مقطوع ولا ممنوع، ولقد وجه إلي خطابه التأنيسي الذي يستحق أن يرسم بنور البصر، في عنوان صحائف الأذهان والفكر، ثم خرجت معه من القارب إلى الركوب في عربته، وأخذت تسير بل تطير بنا إلى داره ومحلته، وكان قد قال لي من جملة الكلام، إياك أن تتأمل العود إلى الشام قبل مضي عام، وفي ثاني يوم من وصولي عين لي معاشاً لنفقة(1/1444)
الأهل والولد، وأخبرني بذلك لكي أستريح من كل هم ونكد، مع أنه مدة مكثي عنده ما قطع عني عطاءه، ولا منع عني يوماً حباءه، ولم يقيد حفظه الله إجراء هذا المعاش بمدة من الأيام، بل جعله من إحساناته المعتصمة بحبل الدوام، ثم إنه بعد أن رآني قد استرحت من لانصب، ونفضت ثوب السفر من غبار التعب، أخذ يطوف بي كل يوم في مكان، ويدخل بي إلى أمكنة لم يدخلها سوى أهل الرفعة والشان، ويجمعني بأكابر أعيانها، ويدخل بي أحسن رياضها وجنانها، ولم يبق مكان من أمكنتها أو سراي من سراياتها إلا وقد دخلته معه وقوبلت من أهله بالرحب والسعة، وقد أخذني حفظه الله وأعلا مقامه وعلاه، إلى مكان في البحر يقال له بيق اضا، ليس لداخله منه إلا السرور والرضى، فلا ريب أن ذلك المكان ما كأنه إلا قطعة من الجنان، تدرقت حواشيه وتأنق واشيه، فتنظمت عقوده وتنمنمت بروده، وراضته أكف المطر ودبجته أيدي الندى بأفانين الدرر، وأخرجت أرضه آثارها، وأبدت مخبآتها وأسرارها، والقيان في زينتها وزخارفها تتيه في وشيها ومطارفها، والولدان تزهو جمالاً، وتميل لطفاً ودلالاً، فلعمري إن ذلك المكان هو كالعين من الإنسان، قد تضوعت بالأرج الطيب أرجاؤه، وتبرجت في ظلل الغمام صحراؤه، وتنافجت بنوافج المسك أنواره، وتعارضت بغرائب النطق أطياره، وتنظمت بيوتها على طرز بديع، يزري بجمال الزهور في أيام الربيع، فجلسنا في ذلك المكان سحابة النهار، نشرح الصدر ونجلو الأبصار، وفي شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثمائة وألف أرسل حضرة مولانا السلطان أمير المؤمنين عبد الحميد خان لحضرة المترجم خبراً بالحضور، فتوجه إلى مكانه السامي المعمور، فحينما حضر لديه وتمثل في أعتابه بين يديه، أظهر له سروره وبشره وحبوره، وقال له قد عينتك عضواً في مجلس التفتيش العسكري الكائن في المابين،(1/1445)
فعند ذلك أحضر المترجم قلبه ورفع اليدين، ودعا له بما فتح الله به في الحال، وأبدى من التشكر والثناء على العواطف الشاهانية ما لم يكن يخطر في ذلك الوقت ببال، حيث أنه لم يزل يخصه برعايته، ويلحظه بعين عنايته، ويقربه من رفيع سدته، ويدنيه من منيع حضرته، ويرفع حجاب الوسائط بينه وبينه، ويمنع عنه همه وكدره وغينه. أبقاه الله له وللأنام حصناً حصيناً، ووقاه ما يضره وأدامه لنا سلطاناً أميناً.
ثم إنني حينما دخل المحرم سنة سبع وثلاثمائة وألف قدمت له قصيدة تبريكاً بالعام، أحببت ذكرها هنا تتميماً للغرام، وهي:
ألفت الهوى طفلاً وكهلاً وأشيبا ... وما رمت لي ديناً سواه ومذهبا
ولم أر شخصاً مثل شخصي متيما ... ولم أدر قلباً مثل قلبي معذبا
رعى الله من بات الفؤاد بحبها ... حريقاً على جمر الغضا متقلبا
إذا ما محيا البدر قابلها صبا ... إليها وأبدى للمغيب وغربا
ممنعة لا يمكن الطرف أن يرى ... جمال محياها البديع المحجبا
جفتني ومن لي من جفاها وليس لي ... أخلاي ذنب في جفاها تسببا
ومذ صوبت قلبي بسهم صدودها ... رأيت سهام القتل أولى وأقربا
أشابت شعوري ثم مني تنكرت ... ومنها مشيبي كان من زمن الصبا
شغفت بها حباً ومالي مأرب ... سواها ولا أرضى سوى الحب مأربا
ولم أنس مذ قالت دلالاً ومحنة ... أراك بدعواك الغرام مكذبا
وسهدي وسقمي وانتحالي وأدمعي ... شهود عدول رامت الصدق مركبا
وقالت بأني في الغرام سلوتها ... ولست أرى السلوان في الحب مذهبا
فلا عشت إن مر السلو بخاطري ... ولا أم إن كنت أسلو ولا أبا
وكيف ترى المشغوف يسلو حبيبه ... وهيهات يسلو الصب مهما تعذبا
وكان على سمعي حديث ملامها ... ألذ على المحرور من نسمة الصبا
وما أجمل التأنيب فيمن تحبه ... وما أعذب التعذيب فيه وأطربا(1/1446)
أما والهوى العذري قلبي بحبها ... أسير ولا يرضى من الأسر مهربا
أبى الله إلا شقوتي في غرامها ... ولم يرج من يشقى سوى الذل مطلبا
رأيت نواها لي مبيداً وليتها ... تنيل المعنى من جنى الوصل مأربا
فبالله دعني عاذلي لا تلم فتى ... يرى الموت في شرع الصبابة أقربا
وحاشاي أني أرهب الموت في الهوى ... ولكن أرى هجري من الموت أصعبا
فشقي لجيبي في الهوى ليس نافعاً ... فمن لم يشق القلب كان مكذبا
فما العز إلا بالحبيب وعطفه ... وما الذل إلا أن تكون مخيبا
أفاتنتي بالوصل عطفاً تكرمي ... على مغرم لا زال مضنى معذبا
وليس له ذنب يقود إلى الردى ... سوى الحب إن الحب يدعو إلى الحبا
فبالله يا ذات الجمال وما الذي ... أمالك عن وصلي وهجري أوجبا
يميناً بمحي الدين باشا أبو الهدى ... سليل الندى من فاق شرقاً ومغربا
لأنت مني روحي ولم تر مقلتي ... سواك غدا في ذروة الحسن كوكبا
كما أن هذا الشهم شمس أولي العلا ... وفي فضله باح الزمان وأعربا
سما في المعالي واستقر بأوجها ... جمالاً وإجلالاً ومجداً ومنصبا
لقد ورث المجد المؤثل والعلا ... عن الغوث فرد الكون من قد تقطبا
أبيه الذي دانت له مهج الورى ... وكان لدى كل الأنام محببا
أبي الفضل عبد القادر الحسني الذي ... له كان متن الدهر للعز مركبا
هو ابن علي وابن سيد من سما ... محمد المختار أفضل مجتبى
فهذا هو الفخر الرفيع مقامه ... هنيئاً له قد فاز بالعز والحبا
فلا ريب أن الله أعطاه ما رجا ... وكمله خلقاً وخلقاً ومنسبا
فما هو إلا في البرية أوحد ... بآداب خير الخلق طراً تأدبا
همام أعاد الفضل من بعد ما قفا ... وجدد رسم الجود من بعد ما نبا
له شيم تسمو إلى ذروة العلا ... فقل ما تشا حمداً عليه مرتبا
تجمع فيه الجود والعلم والتقى ... لذا كان من ظل الأنام مقربا(1/1447)
أجل ملوك الأرض قدراً وقدرة ... خليفة خير الخلق شرقاً ومغربا
سليل العلا عبد الحميد الذي سما ... وقر على عرش الصعود وطنبا
فبشرى لمحي الدين باشا بنعمة ... عليها دوام الشكر مولاه أوجبا
فأين الجبال الشم من عظم قدره ... وإن له من سيد الرسل منسبا
إذا الناس قد راموا مديحاً بفعلهم ... فعنه لسان المدح لبى وأعربا
وإن ذكر السادات يوماً فذكره ... كبسملة القرآن ممن تأدبا
فللشمس إن شامت بوارق حسنه ... حياء به مالت إلى جهة الخبا
له هيبة بين الأنام وطلعة ... غدت في سماء العز للعين كوكبا
يغص العدا إن فاح عطر ثنائه ... كأنك تغريهم على السم مشربا
وفي قلبهم مهما تقدم للعلا ... من النار مقدار عليهم تلهبا
فقل للأعادي خاب ظنكم به ... فقولوا لموت الغيظ أهلاً ومرحبا
غدا رأيه في المشكلات مقدماً ... إذا خابت الآراء كان المصوبا
يرى بذله للمال لو جل هينا ... وكان لديه الحمد أعلا وأكسبا
رأت جوده سحب السماء فأيقنت ... بأن نداه كان أغلا وأغلبا
وإن هز في يوم الوغى سمهريه ... فليس لمن يبغي من الموت مهربا
وأسد الشرى تخشى مواقع بطشه ... ففي يده اليمنى المنية والحبا
ضحوك إذا استمطرت هاطل جوده ... وإن هب ريح الحرب حياه مرحبا
إذا نشرت يوماً دواوين مدحه ... أذاعت لنا عطراً من المسك أطيبا
أرق من الراح الشمول شمائلاً ... ولطفاً ولكن زاد عن نسمة الصبا
به قد غدا حمدي بهيجاً ومدحه ... لدي غدا من نغمة العود أطربا
بمالي وأهلي أفتديه ومهجتي ... وإن لامني اللاحي العذول وأنبا
لأني به قد نلت كل مآربي ... ولست سواه أرتجي العمر مطلبا
فيا سيداً ساد الأنام بسؤدد ... ويا جيداً في جوده الدهر أطنبا
تهن بما ترجو ودم في سيادة ... تكون لمن والاك عزاً ومنصبا(1/1448)
فلا زلت في أثواب سعدك رافلاً ... وشانيك ما دام الزمان مخيبا
وأبشر بعام عمه منك نفحة ... يضوع لها نشر القرنفل والربا
وحينما وقفت لديه، وتلوتها بين يديه، هش وبش وقابلني بسروره، وأفرغ علي حلة حبوره، وحباني من نعمه، وأولاني ما يدل على مزيد كرمه، ولم أزل عنده في دار السعادة متقلباً على فرش السعادة، فائزاً بكل مطلوب، حائزاً على كل مرغوب، ولما كمل لي في ضيافته عام، وما كأنه إلا لحظة أو منام، أذن لي بالسفر إلى الوطن والأهل، فأخذت في تهيئة الأسباب على مهل. ثم ودعته بعد أن أودعته قلبي، وفارقته وقد فارقني صبري ولبي:
لأصبر كرها لا احتمالاً فربما ... صروف الليالي مسعدات بأسعد
وأبعث أنفاسي إذا هبت الصبا ... تروح بتسليم عليه وتغتدي
ولم أبرح بحمد الله موصولاً بصلاته، ممتعاً بجميل نعمه وهباته، مسعوداً بحسن شمائله، مقصوداً بشريف كتبه ورسائله، أطال الله مدته وعمره، ورفع في الدارين حضرته وقدره، وأناله كل منى، وقصر أيامه ولياليه على السرور والهنا، وأهلك حاسده وضده وجعل السعد خادمه وعبده. هذا وإنني لم أزل أقابل بره الدائم بالثناء الجميل، وأصرف مدة العمر عليه بالدعاء الجليل.
وغاية جهد أمثالي ثناء ... يدوم مدى الليالي مع دعاء(1/1449)
السيد الشيخ شهاب الدين محمود بن السيد عبد الله أفندي الألوسي البغدادي
ينتهي نسبه الشريف من جهة الأب إلى سيدنا الحسين، ومن جهة الأم(1/1450)
إلى سيدنا الحسن، بواسطة الشيخ الرباني والهيكل الصمداني، سيدي عبد القادر الجيلاني قدس سره. وقد كان رحمه الله تعالى خاتمة المفسرين ونخبة المحدثين، أخذ العلم عن فحول العلماء، ومنهم والده العلامة، ومنهم الشيخ علي السويدي، ومنهم الشيخ خالد النقشبندي، والشيخ علي الموصلي، وغيرهم من السادة والأفاضل القادة، كان رضي الله عنه أحد أفراد الدنيا يقول الحق ولا يحيد عن الصدق، متمسكاً بالسنن متجنباً عن الفتن، حتى جاء مجدداً وللدين الحنفي مسدداً، وكان جل ميله لخدمة كتاب الله، وحديث جده رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهما المشتملان على جميع العلوم، وإليهما المرجع في المنطوق والمفهوم، وكان غاية في الحرص على تزايد علمه وتوفير نصيبه منه وسهمه، واشتغل بالتدريس والتأليف وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ودرس ووعظ وأفتى للحنفية في بغداد المحمية، وأكثر من إملاء الخطب والرسائل، والفتاوى والمسائل، وخطه كأنه اللؤلؤ والمرجان، والعقود في أجياد الحسان، قلد الإفتاء سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف، وأرسل إليه السلطان بنيشان ذي قدر وشان، قال نجله السيد أحمد في ترجمته المسماة بأرج(1/1453)
الند والعود، كان عالماً باختلاف المذاهب، مطلعاً على الملل والنحل والغرائب، سلفي الاعتقاد، شافعي المذهب كآبائه الأمجاد، إلا أنه في كثير من المسائل يقتدي بالإمام الأعظم، ثم في آخر أمره مال إلى الاجتهاد قال: ومن مؤلفاته ما هو أعظمها قدراً وأجلها فخراً، تفسيره المسمى بروح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني أيد فيه مذهب السلف الأماثل، ومنها شرح السلم في المنطق، ومنها نزهة الألباب في غرائب الاغتراب، ومنها نشوة الشمول في السفر إلى إسلامبول، ونشوة المدام، وكتاب الأجوبة العراقية، والفيض الوارد، وغير ذلك. وقد مدحه السيد عبد الباقي أفندي العمري بقوله:
نزلوا بالسفح من وادي زرود ... ونزلنا بالغضا ذات الوقود
فانقضت منهم أويقات اللقا ... وقضت بالموت أيام الصدود
لو تراني يوم سارت عيسهم ... من خفوق خلتني بعض البنود
بخلوا عن أن تراهم في الكرى ... مقلتي يا مقلتي بالدمع جودي
وعدوا والوعد منهم خلب ... رب برق ما به غير الرعود
أين آرام المصلى والنقا ... من وفا وعد وإنجاز وعودي
أنكروا دعوى صباباتي بهم ... وشؤون الدمع من بعض الشهود
صوب العبرة تصعيد الحشا ... نار وجد جاوزت حد الصعود
ومحال حر وجدي ينطفي ... بسوى رشفي لمى ثغر برود
إلى أن قال:
ومتى روض الأماني قد ذوى ... بثنا المولى الشهاب اخضر عودي
وغصون القصد فيه أزهرت ... بورود كقدود وخدود
فانثنى ينظم منه قلمي ... درراً تزري بقرطي كل خود
قبله ما نظرت عين ذكا ... سيد في قومه غير مسود
خندف العليا به قد أنجبت ... فأتى خير وليد من ولود
ومنها:
فلقت أقلامه صبح هدى ... رفعت فسطاطه فوق عمود(1/1454)
جند الأرواح في تخبيره ... فهو مشغول بترتيب الجنود
مسلم أذكى مصابيح الهدى ... وبخاري الثنا بعد همود
وأحاديث على سلسلها ... ألحق الآباء منها بالجدود
حجة بالغة برهانها ... قام من غير دفوع وورود
توفي رحمه الله تعالى حادي وعشرين من ذي القعدة الحرام سنة ألف ومائتين وسبعين رحمه الله تعالى. وقد أرخ وفاته الإمام الأديب الشيخ عبد الباقي أفندي العمري المذكور آنفاً بقوله:
قبر به قد توارى خير مفقود ... فاغتم حزناً عليه كل موجود
أبو الثناء شهاب الدين فيه ثوى ... فيا لمثوى برفد الفضل مرفود
كجده كان سيفاً يستضاء به ... فحاز في الرشد حداً غير محدود
مضى تغمده المولى برحمته ... فليفتخر لحده فيه بمغمود
من بعده لا فقدنا من بنيه فتى ... لم يبك ميت ولم يفرح بمولود
تفسير روح معاني الذكر نضدها ... كعقد در بأيدي الفكر منضود
على تبحره في العلم شاهدة ... كفى بها شاهداً في حق مشهود
أجاب أعلام إيران بأجوبة ... برهانها غير مدفوع ومردود
حور الجنان به حفت مؤرخة ... جنات روح المعاني قبر محمود
ودفن رحمه الله تعالى بالقرب من الشيخ معروف الكرخي، وقبره مشهور يزار، وبلغ عمره نحو ثلاث وخمسين سنة.
الشيخ محمود الصاحب أخو الشيخ خالد الحضرة
العالم الكامل والعابد العامل، عمدة الأفاضل ونخبة ذوي الشمائل، ولد في بلدة السليمانية سنة ألف ومائتين، وقرأ القرآن والمحرر للإمام اليافعي الشافعي على السيد عبد الكريم البرزنجي، نسبة إلى قرية برزنجة من بلاد السليمانية، وقرأ على أخيه مولانا خالد، وأخذ عنه الطريقة النقشبندية(1/1455)
وانتفع. وفي سنة ألف ومائتين وست وثلاثين لما قدم مولانا خالد إلى دمشق، أقامه في محله لإعطاء الطريق وإرشاد المسترشدين، ثم في سنة ألف ومائتين وثمان وثلاثين حضر إلى الشام لعدم قدرته على فراق أخيه، ثم هاجر إلى مكة وأقام بها سبع سنوات، ثم رجع إلى دمشق واستقام في التكية السليمانية يرشد المريدين، إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وسبع وثمانين ودفن قرب قبر أخيه.
السلطان محمود خان بن السلطان عبد الحميد خان
ولد سنة ألف ومائة وتسع وتسعين، وفي سنة ألف ومائتين واثنتين وعشرين جلس أخوه السلطان مصطفى على تخت الملك، وما استقر أمره ولا صفا له دهره، فأمر بقتل السلطان سليم، وبقتل المترجم ذي القدر العظيم، فنفذ أمره في الأول، وأما الثاني وهو المترجم لما جاءه جنود السلكان مصطفى الذين يريدون قتله، أراد الفرار فرشقه أحدهم بخنجر أصاب يده، فهرب وصعد على سطوح السرايا، فلما نظرته جماعة مصطفى باشا البيرقدار وكان من عصبة السلطان محمود، وضعوا له سلماً فنزل إلى صحن الدار، حيث كان البيرقدار، وعندما نظر البيرقدار إلى المترجم فرح به فرحاً عظيماً وحمد الله تعالى على خلاصه من أخيه، وصار يقبل قدميه، ثم دخل به القاعة وأجلسه على تخت السلطنة في رابع جمادى الأولى سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين، وأرسل البيرقدار المشار إليه جنداً قبضوا على السلطان مصطفى وأمر بحبسه، فلما تم جلوس السلطان محمود جعل مصطفى باشا البيرقدار صدراً أعظم، وسلمه زمام الأحكام، فأخذ يجتهد في أخذ الثأر من الذين قتلوا السلطان سليم، ثم شرع في تنظيم العسكر الجديد، وأرسل وطلب اجتماع أهل الحل والعقد من رجال الدولة، فلما حضروا أخذ يبين لهم شدة الاضطرار لتعليم العساكر صناعة الحرب وإنفاذ أوامر السلطان،(1/1456)
طالباً رأيهم في ذلك، فصادقوه مذعنين لأمر السلطان، وتعهدوا بالمساعدة في كل ما يؤول لنجاح المملكة، وفي الحال أخذ الصدر الأعظم في وضع ترتيبات جديدة أوجبت الملام عليه من كثيرين، وأضمروا له السوء وصاروا يطعنون فيه جهاراً ويدعونه بالكافر، وعلقوا أوراقاً في الأسواق وعلى باب داره مكتوباً فيها قد قرب موت الصدر الأعظم، وساروا بأسلحتهم يطلبون قتل العساكر الذين تعلموا التعليم الجديد، فأخذوهم بغتة وشتتوهم وأحاطوا بمنزله وطرحوا فيه النار، ووقعت أمور يطول الكلام بذكرها.
وانقسم الناس فريقين فريقاً يريد التعليم الجديد وفريقاً يكرهه، وقتل بسبب هذه الفتنة خلق كثير، وأحرقت دور كثيرة، وحاصروا الصدر الأعظم في الدار التي كان فيها، وأطلق عليهم الرصاص وقتل كثيراً منهم، ثم التهبت عليه صناديق من بارود وكانت في داره، فمات بسبب ذلك، وكان قد أخرج جواريه ونساءه قبل ذلك، فأحيلت الصدارة إلى يوسف باشا، وكان ذلك في سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف، وعزل شيخ الإسلام عطا الله أفندي وأحيلت المشيخة إلى عرب زاده محمد عارف أفندي، وكتب السلطان مصطفى وهو محبوس كتاباً إلى عساكر الانكشارية يحرضهم على الغيرة وإرجاعه إلى سلطنته، فوقع ذلك الكتاب في يد بعض العلماء فذهب به إلى شيخ الإسلام، فجمع كثيراً من العلماء وأخذوا يتحدثون في عواقب هذه الأمور، ويتشاورون في إطفاء هذه الفتنة، وظهر لهم أنه إذا بقي السلطان مصطفى في قيد الحياة لا تنطفي الفتنة، فاختاروا رجلاً من بينهم يقال له منيب أفندي كان قاضي إسلامبول ليعرض على السلطان محمود رأي العلماء، ويلتمس منه قتل السلطان مصطفى، فسار منيب أفندي إلى السلطان محمود وعرض عليه ذلك، فقال السلطان محمود إن هذا أمر محال، وكيف يتصور أن يصدر أمري بقتل أخي من كوني قادراً على منعه من هذه الأعمال، وصار بينه وبين السلطان محمود محاورة(1/1457)
كثيرة في ذلك، فقال له منيب أفندي في أثناء تلك المحاورة: قد جاء في الحديث الشريف: إذا اجتمع خليفتان فاقتلوا أحدهما فشق ذلك على السلطان محمود، وحول وجهه إلى شباك هناك ولم يجبه بشيء لشدة أسفه على أخيه، فقال منيب أفندي إن السكوت إقرار، ففي الحال أرسل منيب أفندي إلى كبير البستانجية وقال له: إن مولانا السلطان قد صدر أمره الشريف بقتل أخيه السلطان مصطفى، فاذهب وأتم أمره، فذهب البستانجي باشي ومعه جماعة من أعوانه إلى الموضع الذي كان فيه السلطان مصطفى، فأحس بهم وعرف مقصدهم، فاختبأ بين فرش كانت هناك، فدخلوا فوجدوه وراء الفرش فقتلوه خنقاً، وكان العلماء الذين اجتمعوا عند شيخ الإسلام ينتظرون رجوع الجواب إليهم، فلما أبطأ ظنوا عدم قبول السلطان فدخلوا جميعاً على السلطان محمود ترويحاً لكلام منيب أفندي، فلما دخلوا قبل أن يبتدئوا الحديث رأى السلطان محمود من الشباك إخراج أخيه ميتاً، فتألم كثيراً والتفت إليهم وعيناه ممتلئتان دموعاً، فعزوه ودعوا له بطول العمر، وكان ذلك في شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف، ومدة سلطنة مصطفى سنة وشهران وعمره ثلاثون سنة.
ولما استقرت السلطة للسلطان محمود كانت أمور الدولة في غاية الارتباك، وكانت عساكر الروسية تتقدم إلى جهة الطونة بسرعة، فبعث جيشاً لمصادمتهم فلم يجد نفعاً، فطلبت فرانسا أن تتوسط في الصلح، فرفض السلطان مداخلتها لتأثره من الشروط التي عقدها نابليون مع الروسية سراً في تيلسيت، التي مضمونها اقتسام أوربا بينهما مع بلاد الدولة العلية، واستمر الحرب، مع كون الغلبة على العثمانيين، إلى أن وقع خلاف بين فرانسا وروسيا(1/1458)
ونشرت بينهما راية الحرب، وذلك سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين، فالتزمت الروسيا أن تخرج عساكرها من حدود الدولة العلية، وعقدت مع الباب العالي صلحاً موافقاً للدولة جداً، فاغتنم السلطان محمود فرصة هذا الصلح لتسكين الثورات في ولايتي بغداد وايدين وغيرهما، فإنه في سنة ألف وما وست وعشرين أظهر سليمان باشا والي بغداد العصيان، فأرسل إليه السلطان محمود من قتله.
وفي عام ألف ومائتين وسبعة وثلاثين تجاهر اليونان في المورة بالعصيان على الدولة، وكانوا يهجعون بمراكبهم على سواحل البحر، فيقتلون ويسلبون وينهبون ويأسرون، وبيان ذلك مع الاختصار أن بلاد المورة وهي قطعة من بلاد الروملي كانت ولاية من ولايات الدولة العلية، فلما اقتضى نظر السلطان محمود قتل الينجارية وتبديل وجاقهم بالعساكر النظامية الموجودة الآن، ضعفت عساكر الدولة وقلت، وطمع فيها الأعداء من كل جانب، فحاربها الروس وملكوا بلاداً من أراضيها، وممن ثار عليها في تلك المدة أهل المورة، وطردوا ولاة الدولة العلية، وقتلوا أكثر المسلمين الذين كانوا في تلك البلاد متولدين ومتوطنين منذ قورن طويلة، وكان المسلمون هم أهل الأراضي والأملاك والمزارع، وكانت نصارى المورة بصفة خدامين عندهم، فلا زال أمر النصارى يتقوى بواسطة الكنائس ورؤسائها لما يجتمعون في أعيادهم ومواسمهم، وينصح بعضهم لبعض بالاستقلال، وشرعوا في تعليم أولادهم الحروب والرمي بالرصاص، وأتقنوا أسباب الشجاعة بأنواعها سراً، وتعلموا الصنائع التي يتولد منها الغنى، فأرسلوا أولادهم إلى بلاد أوروبا لتعليم الصنائع، والمسلمون في غاية الغفلة والبله، يتركون تربية أولادهم للنساء والمخاصي المعبر عنهم بالأغوات، فلذلك تنشأ أولادهم، عقولهم بين عقول النساء والمخاصي، وما ألذ وأحسن ما قاله الشاعر المتنبي في هذه المناسبة حيث قال:
لقد كنت أحسب قبل الخصي ... أن الرؤوس مقر النهى
فلما تبين لي عقله ... علمت أن النهى كلها في الخصى(1/1459)
ولما ظهر للسلطان محمود ما حصل لمسلمي المورة من القتل والسبي والنهب إلا من فر منهم وهاجر إلى بلاد الإسلام، جهز جيشاً عرمرماً من عنده، وأمر محمد علي باشا والي مصر بتجهيز جيش آخر من عنده، فاجتمع الجيشان في بلاد المورة تحت قيادة ولده إبراهيم باشا، يزيد على خمسة وعشرين ألفاً، وعمارة بحرية، فأيس الأروام من النجاة ونوال الاستقلال، فاستنجدوا بالدول الأروباوية، فبادرهم كل من فرانسا وانكلترا بتوسط الصلح، فلم يقبل السلطان سؤالهما، فعند ذلك أطلق كل منهما نار حربه على عمارتي الدولة ومحمد علي فأحرقوهما، وكان ذلك سنة ألف ومائتين وإحدى وأربعين، ولما بلغ السلطان محمود ذلك التجأ لقبول ما اشترطاه من إبطال الحرب واستقلال الأروام. وكان أخذ المورة من يد المسلمين هو أكبر أسباب خروج الروملي بأجمعه من الدولة العلية، وفي سنة إحدى وأربعين أيضاً شرع السلطان محمود في تعليم بعض العساكر التعليم الجديد، وشرع يدبر تدمير الانكشارية وأبطال وجاقهم، فأبرز أمراً سلطانياً يتضمن القدح في وجاق الانقشارية، وبيان الخلل الواقع منهم، وتقلبهم على الدولة، وقتلهم بعض السلاطين، وأمر سليم باشا الصدر الأعظم أن يجمع العلماء في بيت شيخ الإسلام ويتلو عليهم الأمر الشاهاني ففعل ذلك، فأجابوا بالامتثال بما يصدر به الأمر السلطاني، وتعهدوا بإنفاذه، وكان مع الحاضرين جماعة يميلون إلى الانقشارية، فتعصبوا لهم سراً، وأخبروهم بما صار عليه الاتفاق، فهجموا على بيت الصدر الأعظم وبعض العظماء من رجال الدولة، وأخذوا ينادون في شوارع إسلامبول ويقولون اليوم قتل العلماء ورجال الدولة وكل من كان السبب في وضع النظام الجديد، ويقتلون كل من صادفوه منهم، وينهبون البيوت ويضرمون فيها النار، ففر الصدر الأعظم منهم، وجاء إلى السلطان محمود وأخبره بتلك الحوادث، فأمره أن يجمع الطوبجية وسائر أهل الإسلام(1/1460)
أمام باب السرايا، فاجتمع في ذلك النهار جمع غفير من العلماء ورجال الدولة، ينتظرون خروج السلطان إليهم، فلما خرج إليهم أخذ يحدثهم بكلام يهيج به نخوتهم، فأقسم جميعهم على أنهم يهرقون دماءهم في صيانة أوامره وتنفيذها، والتمسوا منه إخراج الصنجق الشريف النبوي ليهجموا على العصاة، فأراد السلطان أن يكون معهم، فتوسلوا إليه أن لا يتنازل إلى ذلك، وأرسلوا منادين في شوارع المدينة ويدعون أهل الإسلام للاجتماع تحت الصنجق الشريف، فلما علم بعض الانقشارية بذلك أرسلوا أناساً من جماعتهم ينادون لاجتماع الانقشارية، فلما قرعت أصوات المنادين آذان أهل الإسلام أسرعوا إلى فسحة السرايا أفواجاً أفواجاً، ففرقوا عليهم السلاح، وسلم السلطان الصنجق الشريف لشيخ الإسلام قاضي زاده طاهر أفندي وعاد إلى كرسيه الملوكي، وكان يشرف على الجميع أمام السرايا، وسار سليم باشا الصدر الأعظم أمام تلك الجموع التي كانت أكثر من خمسين ألفاً، وشنوا الغارة على الانقشارية صارخين الله أكبر على الأشقياء، وهجموا عليهم وأطلقوا المدافع والرصاص، وكان يوماً مهولاً عظيماً، فقتلوا منهم نحو عشرة آلاف، والباقون فروا إلى قشلهم وتحصنوا فيها، فهجم عليهم العساكر والأهالي وطرحوا فيها النار فاحترق كثير منهم، ومن بقي ولوا الأدبار، ثم قبضوا على كثير منهم فقتلوهم وطرحوهم في فسحات ميدان، وبعد ذلك دعا السلطان إليه العلماء ووكلاء الدولة وأخذ يريهم أثواب السلاطين العظام الملطخة بالدماء، الذين قتلهم العصاة الانقشارية طالباً ثمن دم السلاطين، فأجاب العلماء أن ثمن دم كل سلطان خمسة وعشرون ألف نفس، فصدرت الأوامر بتدمير الانقشارية في الآستانة العلية وفي جميع الجهات، فقتل منهم عدد كثير وارتاحت الدولة والناس من مظالمهم،(1/1461)
وألحق بهم بعض الدروايش من البكطاشية لكونهم يميلون إليهم ويساعدونهم ويفعلون في تكياتهم أفعالاً شنيعة محرمة وبدعا مسترذلة، فأمر السلطان بقتل أكثرهم وهدم تكياتهم، وأخذت الدولة في تكثير العساكر النظامية والجد في تعليمهم، وأبطلت وجاق الانقشارية، وفي أثناء تلك المدة غير السلطان محمود لبسه، ونزع العمامة والجبة، وتزيا بزي العسكر الجديد على هيئة الأوروباويين، وبالطربوش الصغير، ولم يبال بأقوال المعترضين.
ذكر القتال مع الروسية
وفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف، زحفت العساكر الروسية لمحاربة الدولة العلية عند نهر الطونة، وسار جيش إلى جهة الأناطول، فأرسلت الدولة عساكر لمصادمتهم تحت قيادة الصدر الأعظم سليم باشا، فوقع بين الفريقين حرب شديدة، وتغلبت عساكر الروسية وهزموا عساكر الدولة، واستولوا على جملة أماكن، وتقدمت عساكرهم إلى شوملة، وأقاموا الحصار على سليسترة واستولوا على مدينة وارنة، فعزل السلطان الصدر الأعظم سليم باشا وأمر بنفيه، وأقيم في الصدارة محمد عزت باشا، وسارت بعض عساكر الدولة إلى جبل البلقان، فتركت الروسية محاصرة شوملة، وكانوا قد استولوا على سليسترة، وكانت عساكر الروسية التي في الأناطول تتقدم، فملكوا القرص وبايزيد وطبراق وأرض روم، واستأسروا صالح باشا، وجاء جيش الروسية فيه مائة وستون ألف مقاتل وحاصروا أدرنة حصاراً شديداً، إلى أن استولوا عليها، ولما اشتد الأمر على رجال الدولة وعلى السلطان محمود اضطربت الأمور اضطراباً كثيراً، إلا أن السلطان محمود أظهر الثبات وقوة الجنان في وسط تلك الأخطار المحدقة به وبدولته،(1/1462)
ثم تداخلت دول أوربا في الصلح، وأتموه بشروط، سنة خمس وأربعين ومائتين وألف، ومآل تلك الشروط استقلال الأروام وتنازل الدولة عن إقليم السرب والأفلاق والبغدان لملوك من أهل تلك البلاد، تحت نظارة ملك الروسية، وعن بعض جزائر عند فم نهر طونة، وعن بعض أراض في الأناطول مع غرامة حربية قدرها مائة وعشرة ملايين فرنك، قال بعض مؤرخي الفرنج: وربما استغرب القارئ كيف أن الدولة التي سادت على أغلب ممالك العالم وأوقعت الرعب في قلوب جميعهم، لم تسمر في نموها وتقدمها، حتى التزم سلاطينها إلى أن يرتضوا هذه الشروط، فإذا نظر إلى هذا الأمر بعين خالية عن الغرض يحق الاستغراب من وجه آخر، وهو: كيف أمكن هذه الدولة أن تحتمل هذه الصدمات الشديدة والمقاومات المريعة من أعدائها مع وجود الخلل في داخليتها، بسبب أصحاب البغي والفساد وقلة الأموال، ولم تتزعزع أركانها بل استمرت في سلك الثبات العجيب، ولم تستطع قوة أو سبب آخر أن يثنيها، وإذا ضممنا إلى هذه الأسباب الخلل الذي أوقعه وجاق الانقشارية، وعدم تمام انتظام الترتيب العسكري الجديد، وعدم تمرن الجيوش بفنون الحرب وملاقاة الأهوال، لربما حق العجب كيف لم تنقرض هذه الدولة أصلاً، واستطاعت أن تناضل إلى هذه الدرجة، مستهينة بكل الموانع التي تعرضت لها، فهذا أعظم برهان على عظمها وسطوتها، انتهى كلامه.(1/1463)
وأقول أن ههنا سراً إلهياً لتأييدها، وهو سر بركة الإسلام وسر بركة النبي صلى الله عليه وسلم، وسريان روحانيته لتأييد ملته وأهل دينه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر استيلاء الفرنسيس على الجزائر
وفي سنة خمس وأربعين ومائتين وألف، استولت الفرنسيس بقوة جبرية على جزائر الغرب مدعين أن أهلها كانوا يقبضون على مراكبهم التجارية ويربطون عليهم البحر في تلك الجهات ويفتكون بهم، فلما بلغ الباب العالي ذلك أرسل طاهر باشا قبودان باشا إلى الجزائر يتعاطى الصلح بينهم وبين أحمد باشا والي الجزائر، فلما وصل وأراد النزول إلى البر منعته الفرنساوية، فعاد راجعاً إلى القسطنطينية، والجزائر المذكورة كانت في حكم الدولة العلية من حين تملكها السلطان سليمان، فلما طالت المدة صار الولاة الذين فيها يتوارثون الولاية بالتغلب، ويدفعون خراجاً للدولة، ويكون تحت أمر الدولة ظاهراً ومتغلبين باطناً، فلما أحدثت الدولة العساكر السلطانية بالتعاليم الجديدة امتنع والي الجزائر من تعليم عساكرها، ولم يمتثل أمر السلطان في ذلك، فقيل أن السلطان محمود هو الذي سلط عليه الفرنسيس لتأديبه فجاؤوا بجيوش كثيرة وحاصروا الجزائر إلى أن قبضوا على الباشا المتولي عليها وذهبوا به إلى بلادهم، وتملكوا الجزائر وحصنوها بالعساكر، فلما تملكها الفرنسيس لم يرجع تلك الجزائر لحكم الدولة بل استولى عليها وبقي على ذلك إلى عصرنا هذا.(1/1464)
ذكر القتال بين محمد علي باشا والسلطان محمود
وفي سنة سبع وأربعين ومائتين وألف، وجه محمد علي باشا والي مصر جيوشه براً وبحراً لتملك الشام وجعل قيادتها لولده إبراهيم باشا، فحاصر عكا وافتتحها مظهراً الانتقام من عبد الله باشا والي عكا لأسباب كانت بينهما، وفتح في طريقه غزة ويافا وحيفا فلما بلغ الدولة ذلك غضبت وأرسلت تأمر محمد علي باشا برجوع العساكر، وأنه إذا كان بينهما دعوى يقدمان إلى الباب العالي فيحكم بينهما، فلم يمتثل لأوامر الدولة، فأبرزت الدولة فرماناً بعصيان محمد علي باشا، وتنزيله عن ولاية مصر، وصدر الأمر السلطاني لوالي حلب بجمع العساكر لمحاربة إبراهيم باشا، وخرج حسين باشا بعساكر من الأستانة، وحصل القتال بين الفريقين خارج طرابلس، فهزم إبراهيم باشا واستولى على الأقطار الشامية، وقبض على عبد الله باشا والي عكا وأرسله إلى الاسكندرية لأبيه محمد علي باشا، ولما وصل إبراهيم باشا إلى داريا قرب دمشق خرج إليه علي باشا وزير دمشق، واشتبك الحرب بينهما فهزمهم إبراهيم باشا، وخرج أهل دمشق يسألونه الأمان فأمنهم ودخلها، وتقدم إلى حمص واشتبك القتال بينه وبين والي حلب، وكان يوماً عظيماً وحرباَ شديداً من أشهر الوقائع، قتل فيه خلق كثير، واستولوا على المهمات جميعها، وانهزم والي حلب ورجع إليها، فقفلت في وجوههم الأبواب، فساروا إلى أنطاكية، ولما وصل إبراهيم باشا إلى حلب خرج أهالي حلب لاستقباله، فدخلها وتسلم ما كان فيها من الذخائر والمهمات، وأمن أهلها، ثم سار إلى أنطاكية وحاربهم فيها ثم إلى بوغاز بيلان، ولما بلغ الباب العالي تقدم العساكر(1/1465)
المصرية سير رشيد باشا الصدر الأعظم بالجيوش لحربهم، فتقدم قونية، والتقى الجيشان واشتبك القتال، وانهزمت عساكر الدولة وقبض على رشيد باشا الصدر الأعظم، وأتي به إلى إبراهيم، فقابله بكل إكرام ثم خلى سبيله، وامتدت هذه الفتنة والحروب إلى سنة خمس وخمسين ومائتين وألف، ثم صدرت الأوامر السلطانية إلى حافظ باشا ليسير لمحاربة إبراهيم باشا، فالتقى الجيشان بالقرب من مرعش واقتتلا، ووقعت الهزيمة أولاً على عساكر إبراهيم باشا، وكان في واد عسر فجمع العساكر وخرج بهم من ذلك الوادي، وصعد إلى تل كان تجاه معسكر حافظ باشا، وأخذ يطلق عليهم المدافع فعطل أكثر مدافعهم وفرق صفوفهم، ثم هجم عليهم بعساكره هجمة هائلة، فانهزموا أمامه تاركين مدافعهم ومهماتهم عائدين إلى مرعش، وقتل من الفريقين خلق كثير، وهذه الوقعة من أشهر تلك الوقائع التي وقعت في تلك الحروب، وأعقبها إبراهيم باشا بفتح أكثر الجهات في تلك البلاد، ولم تصل أخبارها إلى القسطنطينية إلا بعد وفاة السلطان محمود بثمانية أيام، ومن فتوحاته المعنوية اعتناؤه بأهل الحرمين كمال الاعتناء، فإنه صدرت الإرادة الشاهانية من دولته بتحرير ما كان يصرف لهم من قمح الجراية، فوجدوا أكثر ذلك بيد الأغنياء والتجار كانوا يأخذونه من الفقراء بالفراغ بعوض حقير، فصار الفقراء ليس لهم شيء، فصدر الأمر الشاهاني بنقض ذلك وإبطاله، وتجديد كتابة دفتر بأسماء المستحقين، فحصل تجديد ذلك في المدة التي كان فيها محمد علي باشا بمكة.
ومن خيراته وفتوحاته المعنوية أنه جدد لأهل الحرمين خيرات ومرتبات زيادة على الذي كان مرتباً لهم من أسلافه، وذلك أنه في سنة إحدى(1/1466)
وخمسين بعد المائتين والألف رتب مرتبات للعلماء والخطباء بالحرمين الشريفين، وللقائمين بخدمة المسجدين الشريفين مثل المؤذنين والفراشين والكناسين والبوابين، وجعل للجميع مرتبات جزيلة من النقود الجليلة، بعضها شهريات وبعضها سنويات، واشترى لذلك عقارات كثيرة، وأوقفها ليصرف من غلاتها جميع المرتبات المذكورة، فصارت حسنة جارية إلى هذا الوقت يحصل منها كمال النفع والإعانة للمذكورين على معاشهم، ومن وقت هذا الترتيب كان ابتداء وضع المدير والمديرية بمكة والمدينة، ولم يكن ذلك موجوداً قبل ذلك، قم إن ولده مولانا السلطان عبد المجيد ضم إلى ذلك الترتيب مثله في مدة سلطنته، وكانت مدة سلطنة السلطان محمود اثنتين وثلاثين سنة وعمره خمس وخمسون سنة، وكانت وفاته تاسع عشر ربيع الأول سنة خمس وخمسين ومائتين وألف.
الشيخ محمود بن محمد بن علي الأنطاكي الحنفي
الإمام العلامة والهمام الفهامة، أحد السادة الأعلام والقادة الكرام، الفاضل المتقن والكامل المتفنن. ولد سنة أربعين ومائة وألف، وقرأ على جماعة من الأفاضل ذوي المعرفة والفضائل، وانتفع بالعلامة أبي محمد الحسن الأنطاكي وتفوق واشتهر، وأقرأ ودرس ولزمه جماعة من أهل العلم وتخرجوا على يديه، وانتفعوا كثيراً عليه، وأخذ عنه وسمع من فوائده العلامة محمد خليل أفندي المرادي سنة ألف ومائتين وخمس، ومات المترجم بعد ذلك رحمه الله تعالى.
السيد محمود بن المرحوم السيد نسيب أفندي مفتي دمشق الشام
إمام تصدر في محراب العلم والإمامة، وهمام تسنم صهوة جموع الفضل(1/1467)
فملك زمامه، رفع للعلوم أرفع راية، وجمع بين الرواية والدراية، فأصبح وهو كاسر الوسادة، بين الأئمة والسادة، يشنف المسامع بفرائد كلامه، ويشرح الخواطر بما تسطره أنامل أقلامه، فلا ريب أنه عين الزمان ويمينه، لو حلف الدهر ليأتين بمثله حنثت يمينه، فما من فضل إلا وهو في ذاته موجود، ولا من مرغوب إلا وهو له مطلوب ومقصود، قد أجمع كل ناطق بلسان وعارف بحسن واستحسان، على فضله الذي اقتضى لذكره التخليد، فالعالم عرفه بعلمه والجاهل اعتقده بالتقليد، وهو من منذ لاح هلاله في أوجه، لا زال بحر فضله آخذاً في مده وموجه، بزغ من أفق دمشق وبها برع، وترقى إلى أن بلغ فوق ما يتعلق به الطمع.
وكان قد ولد سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف في دمشق الشام، ونشأ في كنف والده السيد الهمام، وأحسن القراءة والكتابة وهو ابن اثني عشر، ثم جد في طلب العلوم على السادة الغرر، حتى برع وفاق أقرانه، وفضل أترابه وأخدانه، وتخرج على مشايخ عصره الأفاضل، حتى احتوى على أنواع الفضائل، وأتقن علم الفقه والتفسير والكلام والحديث والأصول والعربية والمنطق والبيان والفرائض والحساب والعروض والحكمة، وله مطالعة قوية في كلام السادة الصوفية، وعلا شأنه في الآداب وفاق، وطار صيته في الأقطار والآفاق. وعين في أيام شبابه نائباً في محكمة البزورية، ثم في محكمة السنانية، ثم في محكمة الباب الكبرى، ثم في سنة ست وستين صار عضواً في مجلس إيالة دمشق الشام الكبير عقب وفاة والده، وفي سنة تسع وستين عين مديراً لأوقاف إبالة الشام، وبعد مرور سنة أحيلت لعهدته رياسة مجلس الزراعة، وفي سنة تسع وستين(1/1468)
صار ناظراً للويركو، ثم ذهب من دمشق مع عارف باشا واليها الأسبق إلى خربوت حين عين كتخدا الإيالة هناك، ثم عاد إلى الشام وأعيد لعضوية المجلس الكبير. ثم في سنة ثلاث وسبعين أضيفت له مأمورية الدفتر الخاقاني في إيالة الشام، علاوة على كونه عضواً في المجلس المذكور، وفي سنة سبع وسبعين عين في هيأة المجلس الذي أسسه المرحوم فؤاد باشا حين وقعت الشام في ورطة الفتنة التي وقعت من رعاع دمشق وقراها، ومن الفرقة الدرزية، وحرقوا محلة النصارى، ووقع ما وقع من السفك والنهب وكان في ذلك الوقت حضرة الأمير السيد عبد القادر الجزائري قد بذل في حماية النصارى جهده، وأوسع لهم عطاءه ورفده، وذلك كان منه رحمة بأهل الشام، لما يعلم أن ما وقع منهم موجب للمجازاة والملام. وكان هذا الأمير له رعاية بالمترجم المرقوم وحسن تودد، فحينما حضر فؤاد باشا إلى الشام غب الواقعة، خفض رؤوسها وأذل نفوسها، وشتت شملها، وأثقل حملها، بيد أن الأمير المرقوم كان حينئذ عين الشام وهامها، وسيدها وهمامها، لا تعتمد الوزارة والقناصل إلا عليه ولا تجنح في مهماتها إلا إليه، فرتبته هي المرفوعة، وكلمته هي المسموعة، فحينما أزمعت الوزارة على نفي الأعيان، وإيقاع كثير من الناس في حضيض الذل والهوان، ضم حضرة الأمير حضرة المترجم إليه وشهد به لتخليصه أنه كان للحماية والوقاية ممن يعتمد عليه، فعلا قدره وحسن في الحكومة(1/1469)
ذكره، واستثنى من التكاليف والنوائب، ولاحظته عين العناية في نوال المآرب، فأدامت له الرعاية إجلاله، ولم يزل عضواً في مجلس الإيالة، واضطره الأمر إلى أن قال في أهل بلده ووطنه ما لا يقال، مما هو موجب للملام الشديد، والاعتراض الذي ما عليه من مزيد، وربما يعتذر عنه بأن ذلك كان منه وسيلة للخلاص، مما وقع لغيره من الخواص، ونص ما قاله وهو فيه معذور، ولا يبعد أن يقال أنه عليه مقهور ومجبور:
أشرقت بالعدل أنوار الشآم ... مذ فؤاد الملك والاها نظام
أشرقت من بعد ما قد أظلمت ... برهة لا ينجلي عنها ظلام
مدة يسطو بها قوم على ... معشر الذمة ظلماً واحتكام
لا يرى أمر بمعروف ولا ... نهيهم عن منكر أدى ملام
غير قوم أقعدتهم قلة ... عن أداء الفرض في هذا المقام
بادروا بالردع لكن لم يفد ... في حمى جمع النصارى بالتمام
واستقام البغي فينا سبعة ... يا لها من سبعة سود قتام
لا أزال الله عن مملكة ... ظل سلطان ولا حد الحسام
كان فينا حاكم بل بم يكن ... حيث أعطى موضع الفصد الصيام
إن للأحكام وقعاً باهراً ... حكمة الحكام إبراء السقام
كم جرعنا للحق سيفاً قسور ... عادل مولى غيور ذو اهتمام
شمس أفق الوكلا سيدهم ... فرقد في الوزرا بل تاج هام
ملك عثمان به مفتخر ... بل ملوك الأرض من سام وحام
عدل القطر الشآمي عدله ... وصحا من بغيهم قوم نيام
رأيه القداح في أهل الشقا ... جالب فيه القضا حط وسام
علمه في الكون لو قسمه ... لن ترى في الخلق وحشياً يذام
عزمه في الصخر لو أنفذه ... ذاب ذاك الصخر وانهل انسجام(1/1470)
حلمه في الأرض لو وزعه ... لن ترى فيها هياجاً واضطرام
وعده بالخير حقاً ناجز ... أي ومن زين بالطوق الحمام
انصف المظلوم من ظالمه ... ويلكم من غدركم أهل الشآم
يا أهيل الشام ماذا غركم ... إذ غدرتم ملة حازوا زمام
يا وحوشاً صادفت في غابها ... آمناً واستقبلته بالسهام
ويحكم ما خفتم سلطانكم ... إن مولاكم عزيز ذو انتقام
خنتم قول الرسول المصطفى ... في حديث صح من أحلى الكلام
إن من أجرى دماهم لم يرح ... ريح طوبى حبذا تلك المشام
حرم الأعراض مع أموالهم ... والدما عهداً إلى يوم القيام
إذ لهم من كل حق مالنا ... وعليهم ما على أهل السلام
بئسما خنتم به قرآنكم ... بئسما عاملتموهم يا لئام
أي قرآن محل فعلكم ... أي برهان على وزر حرام
فتككم بالآل محفوظ لكم ... وهو منقول لنا من ألف عام
أي علم زانكم بين الورى ... أي فضل كنتم فيه أمام
جبنكم أصغره طود حرا ... عقلكم أكبره أوهى المشام
حلمكم ذاك الحماري الذي ... شاع بالأمثال ضرباً بالأنام
أي إقدام لكم يوم الوغى ... أي إقدام لكم عند الصدام
أي آراء لكم محمودة ... إنكم أطيش من فرخ النعام
ما لكم من خصلة محمودة ... غير وضع النقص في القوم الكرام
أحسن الحالات عندي لكم ... إن توافوا جحفلاً ورد الحمام
أيد الله على إقليمكم ... ذا المشير الناظر السامي المقام
إذ قوام الدين والدنيا معاً ... بانبعاث الرسل أو عدل الإمام
بئس مصر قد خلت من حاكم ... جور سلطان ولا عدل عوام
وقد علمت أنه لولا ضرورة المقام، لكثر المتصدون للرد وإبطال هذا(1/1471)
الكلام، ولكن كان مقصود الناظم الخلاص، مما دهى غيره ولات حين مناص، غير أنه نهج منهج الغلو، وتنازل عن منازل الرفعة والعلو، وهجا أهل الشام من قديم وحديث، وطيب وخبيث، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك، ولا سلك بأهل الشام هذه المسالك، بل مدحها وأهلها، وأوصى بها وأجلها، وهب أنه أذنب بعض أهل الشام، فلا ينبغي تقبيح الخاص والعام، بل الفاعل بالذم أحرى، وقال الله تعالى: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " ومن طالع صحيح البخاري وكتب التاريخ المعتمدة، وجد أن قصة الحسين ليست لأهل الشام مستندة، على أن يزيد الملعون لم يكن من أهل الشام، وليس له بها من قرابة ولا نسب، وإضافة هذه القصة لأهل الشام خالية عن المعرفة وموجبة للعجب، ولكن طوبى لمن عقل لسانه وكفه، وأطلق بالخير بنانه وكفه، ولو سكت الكليم لرأى العجائب، ولو صمت يوسف لعصم النوائب، وليت شعري من في الشام الآن ممن كان في ذلك الزمان، ما بقي بها إلا مهاجر أو غريب، وإنكار ذلك أمر غريب. ويكفي للعاقل أن يتخلص من المكروه بجميل أحواله، بدون أن يلقي أخاه في أوحاله، فعلى كل حال لم يكن المترجم ممدوحاً بذلك، بل سلك أوعر المناهج والمسالك، والملام إنما يكون على ذوي المضرة والباس، لا على جميع الناس. فكيف يجوز أن يؤخذ زيد بجريمة غيره، وأن يعامل بالقبيح على معروفه وخيره:
ليس الفتى كل الفتى ... إلا الفتى في أدبه
وبعض أخلاق الفتى ... أولى به من نسبه
ولولا أن أهل الشام الآن من شيعة آل البيت، لقوبلت هذه القصيدة بكيت وكيت، ولكن الحب يدعو إلى الصبر، وإن تحمل الإنسان ما يوغر الصدر، على أن القبيح لا يقابل بالقبيح، وإلا فما فضل المليح على القبيح، وما هي إلا زلة عالم، وجهت على قائلها لسان اللائم.(1/1472)
هذا وإنه في سنة أربع وثمانين في أيام ولاية المرحوم راشد باشا قد فصل إفتاء الشام عن المرحوم أمين أفندي الجندي، ووجه إلى المترجم، وفي سنة تسع وتسعين أضيفت له أيضاً مديرية معارف الولاية الجليلة، وأول رتبة وجهت إليه باية إزمير المجردة، سنة اثنتين وسبعين، وفي سنة إحدى وتسعين بدلت برتبة البلاد الخمس، مع الوسام المجيدي، من الطبقة الثالثة، وفي سنة ست وتسعين رفعت درجة لكي تكون موصلة لباية الحرمين الشريفين، وأعطي النيشان العثماني من الطبقة الثالثة أيضاً، ثم وجهت عليه رتبة الحرمين الشريفين سنة تسع وتسعين. ثم في سنة ألف وثلاثمائة وجهت عليه باية استانبول مع النيشان المجيدي من الطبقة الثانية، مع أنه في اصطلاحهم من مقتضى الباية المذكورة أنها لا تعطى لمن يكون خارج الآستانة، وارتفع قدره ومقامه، وشاع ذكره واحترامه، وتعاظم جاهه وإن كان به بخيلا، وزاد إقباله عند الناس وإن كان لا يعد من سواه إلا ذميماً قليلا.
ومن تآليفه تفسير القرآن الكريم بالحروف المهملة سماه درر الأسرار، وكتاب في اللغة سماه دليل الكمل إلى الكلام المهمل ومنظوم غريب الفتاوى، والفتاوى المحمودية نثراً في أربع مجلدات، ونظم الجامع الصغير للإمام محمد في ثلاثة آلاف بيت، ونظم مرقاة الأصول لملا خسرو، والنور اللامع في أصول الجامع، والقواعد الفقهية، والطريقة الواضحة إلى البينة الراجحة، والتفاوض في التناقض، ورفع المجانة في حكم الغسل في الإجانة ورفع الستور عن المهاياة في الأجور، ورفع الغشاوة عن أخذ(1/1473)
الأجرة على التلاوة، ورسالة في مصطلح صاحب الهداية، وتنبيه الخواص، ورسالة في خلل المحاضر والسجلات، وجامع الأسانيد، والأحاديث المتواترة، ورسالة في بيان المرصد والكدك ومشد المسكة والحكر ونحوها، ورسالة في الماس والزمرد والياقوت، وأرجوزة لطيفة في فن الفراسة، ومجموعة صغيرة في مسائل فقهية، وله ديوان شعر بديع، قد أجاد فيه أنواع البديع، فمن نظمه مادحاً حضرة العارف بالله الأمير السيد عبد القادر الجزائري قوله:
هذا بريد اليمن والتوفيق ... وافاكم في محفل التصديق
وافى يترجم عن بشير خلفه ... في موكب التشويف والتشويق
يا سادتي يا آل طه مقولي ... في مدحكم عار عن التشديق
ومتى أحاول مدحةً لسواكم ... ألقاه مكتسباً من التمطيق
حيث المديح إلى علاكم والسوى ... جزؤ من التطبيق والتلفيق
لكنه في الغير يسهل مأخذا ... ويجول طرفي فيه كل طريق
وأرى يراعي صار سهماً صائدا ... خشن المعاني عند كل فريق
وإذا يغص يوماً لدر مديحكم ... ويلاه كم يحتار في التطريق
ويعود صفراً من مآمل أمها ... من بعد روم الدر والتعميق
فأعض إصبع نادم حرصاً على ... ما فاته متتابع التصفيق
وأقول علك يا يراعي واهن ... أو قد نسيت مسالك التدقيق
قد كنت لي نعم المسامر في الدجى ... ما هكذا شرط الإخاء صديقي
غواص تيار المعاني مخرجا ... من معدن الألفاظ كل رقيق
فأجابني مهلاً فهذا مركع ... لا مرتع لسوابق المطيق
هذا الهمام الشهم شمس الغرب من ... حجبت بها المداح عن تحديق
هذا الذي أعي الفرنج فرنده ... والرمح بالتحليق والتخريق(1/1474)
هذا الذي أسراه قد شهت له ... منهم لدى التطويل والتوثيق
هذا الذي إن قابلوه قلوبهم ... تقضي من التصفيق والتخفيق
هذا الذي حاز العلوم مع التقى ... وكذا السخا زهداً مع التوفيق
هذا الذي شكرت شمائله الورى ... طراً سوى البطريق والزنديق
إن كنت تطمع في انحصار خصاله ... فلقد وقفت مواقف التضييق
فعجبت من قلم يهذب ربه ... إذ قال قولة ناصح وشفيق
وأجبته يا ذا اليراع مسلم ... ما قد نقلت ومحكم التنسيق
أنا لم أرم عرض المديح لسيد ... كلت بحضرته يد التنميق
لكنني أبغى الوفود مهنئاً ... لقدوم مولود غدا تمليقي
وتفاؤلاً بالصدق منه تيمنا ... وتبركاً سماه باسم عتيق
أهلاً بمن وافى أمانا للملا ... من فتنة التحريق والتغريق
إذ قد روينا في الحديث مصححا ... أن الأمان بكم على التحقيق
تاريخ حمد في جمادى عامنا ... لقبت عبد الله بالتصديق
يا أيها المفضال يا غوث الورى ... يا كعبة الراجي لكل مضيق
كم أشرقت في الغرب أقمار لكم ... والآن قد بزغت من التشريق
فلذاك محمود يزف عروسة ... غصت قوافيها من التدقيق
تمشي على استحيا رضيعة يومها ... وافت حماكم خشيه التعويق
ترجو مسامحة القصور لسنها ... لولاه كم أبدت من التعشيق
لا زلت بدراً والكواكب حوله ... منظومة التدوير والتحليق
ثم كتب في إمضائه بخط يده: عبودية الداعي لكم بطول البقا وسمو الارتقا، مدى الأيام، محمود الحراني غفر الله له ولوالديه آمين.
ومن مشايخ المترجم الشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ سعيد الحلبي والشيخ حامد العطار والسيد محمد عابدين والشيخ نجيب القلعي ووالده نسيب أفندي، وغيرهم من المشايخ العظام والقادة الكرام، فأتقن وحقق وتضلع(1/1475)
في العلوم ودقق، وكان كثير المذاكرة حسن المحاضرة، ذا نطق فصيح وذكاء راجح مليح، وحافظة جيدة سامية، وتقريرات نحو الصواب وامية.
وقبل موته بنحو أربع سنين لازم داره، وجعل مطالعة العلوم وتحقيق المسائل مركزه ومداره، وكنت لا أجتمع معه في جمعية، إلا ويذاكرني في مشكل المسائل خصوصاً في الاصطلاحات الصوفية، ولم يزل صيته يعلو وقدره يسمو، إلى أن دعاه داعي المنون إلى حضرة من أمره بين الكاف والنون، وذلك منتصف ليلة الاثنين تاسع شهر محرم الحرام سنة خمس وثلاثمائة وألف، وصلى عليه في جامع بني أمية ما ملأ الجامع مع اتساعه من علماء ووزراء وفضلاء وغيرهم، ثم ساروا به في موكب عظيم إلى تربة الفراديس المعروفة بمقبرة الدحداح.
وفي تلك الليلة اجتمع من أعيان البلدة وصدورها جملة في دار الشيخ سليم أفندي العطار، وسطروا عرض وحضر إلى الوالي وكان غائباً في مدينة صيدا، وقدموه له في توجيه الإفتاء إلى أخيه أسعد أفندي، وكتب بموجبه مضبطة في مجلس إدارة الولاية، ثم في ثاني يوم كتب عرض محضر آخر وختم في بأختام جماعة آخرين بطلب توجبه الإفتاء إلى حضرة محمد أفندي المنيني، وقدم كذلك إلى الوالي، فأرسل الوالي الأوراق جميعاً إلى باب المشيخة مع كتابة منه خاصة سرية تجنح لتقديم منيني أفندي على أسعد أفندي، ثم إنه كثر بين الناس القيل والقال، وتفرقت الكلمة واتسع على الناس المجال، إلى أن مضى أيام، فجاء الأمر من المشيخة بتوجيه الإفتاء على محمد أفندي المنيني الهمام، فانقطع الخصام والجدال، ولم يكن إلا ما أراد ذو الجلال. ومن جملة من رثى المترجم المرقوم منير زاده محمد صالح أفندي فقال:
كل نفس ذائقة الموت حتما ... وإلى الله ترجع الناس حتما(1/1476)
ومنها:
كيف لا تبكي العالمون دماء ... لفقيد قد أورث الخلق غما
سيد القطر واحد العصر فضلا ... مع حسن الأعمال قد فاق علما
فهو محمود طاب حياً وميتاً ... وغدا الاسم فيه طبق المسمى
الشيخ محمود بن علي بن منصور بن محمد بن عبود الحلبي الشافعي الشهير بابن قنصه
وهو اسم أم جدهم الشيخ نور الدين. كان المترجم عالماً فقيهاً مقرئاً مجيداً من مشاهير القراء والحفاظ في حلب، ولد بها سنة خمس وأربعين ومائتين وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه على أبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المصري نزيل حلب، والشيخ فتيان، وعلى والده وتفقه بالأول، وقرأ العربية والفقه أيضاً وبعض الفنون على أبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري وأبي علي حسين بن محمد الديري الحلبي، وسمع على أبي اليمن محمد بن طه العقاد وأبي السعادات طه بن مهنا الجبريني، وسمع على الأول صحيح البخاري إلى كتاب الحج، وأجازه شيخه أبو محمد عبد الرحمن المصري وغيره، وأتقن وبرع وجود وأحسن التلاوة والحفظ، وأثرى ونال حظاً من الدنيا. ولم يزل في ارتقاء وعلو وتقدم وسمو، إلى أن اخترمته المنية في حدود عشرة ومائتين وألف رحمة الله تعالى عليه آمين.
محمود بيك بن خليل بك بن أحمد بيك بن عبد الله باشا العظم الدمشقي
الأديب الذي في ميدان الأدب لا يجارى، والأريب الذي في لطفه(1/1477)
وجماله لا يبارى، والفصيح الذي فاقت فصاحته والمليح الذي تسامت ملاحته، واللبيب الذي استوى على أوج الرقائق، والنجيب الذي لم يدع منهلاً في المعارف إلا وكرع منه الكأس الرائق.
ولد في سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف ونشأ في حجر والده، وقرأ القرآن وتعلم الكتابة الحسنة، وقرأ بعض الفنون على بعض الأفاضل، إلى أن صار له يد طولى، ثم انفرد في دار وحده، وكان غنياً غنى مفرطاً من جهة أمه، إلا أنه سلط عليها يد الإتلاف من غير إرادة ولا إنصاف، والدنيا كانت تعاكسه في كل مراد وتجذبه إلى خلاف ما أراد، وما زال على حاله لا يصغي إلى من يريد أن ينشله من أوحاله، إلى أن قل ماله وبدا له ممن كان يتردد عليه إهماله، فاختار العزلة في أكثر أوقاته، والانفراد عن أحبابه وذوي التفاته، إلى أن شرف إلى الشام العارف الكبير والهمام الشهير، الشيخ محمد الفاسي المغربي المالكي الشاذلي، فأقبل عليه وتوجه بكليته إليه، وأخذ منه الطريقة الشاذلية، وحصل له منها نفحات رحمانية، وكنا نجتمع معه في أوقات كثيرة هي بأن تذكر بأنها من الأعمار جديرة، لأن تجليه كان جالباً للفرح مذهباً للترح، موجباً للسرور مخرجاً من الغم والكدور. وكان حسن المعاشرة جميل المذاكرة، لطيف العبارة ظريف الإشارة، كثير الابتسام عذب الكلام، ملاطفته تذهب البؤس عن كل عبوس. وكان له قلم عال سبوق سيال، وله تأليفات أدبية، ورسائل عن العيب أبية، خصوصاً وقد اشتغل بعد الطريق بمطالعة كلام السادة الصوفية، ذوي المعارف والأسرار الإلهية.
فمن مؤلفاته كتاب رسائل الأشواق في وسائل العشاق في ثلاثة مجلدات، وهو كتاب يشتمل على العبارات الرقيقة والقصائد الأنيقة، وأنواع الموشحات والمقاطيع العاليات، وكثير من فنون الشعر مما لا يوجد بغيره من كتب النظم والنثر، ويشتمل على حكم ومواعظ ونوادر ونكات،(1/1478)
وله شرح مناجاة سيدي العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي بلسان عال جميل، وله عدة دواوين شعرية، تدل على معارفه العلية، وله كتاب في التصوف سماه البحر الزاخر والروض الزاهر، ومن كلامه في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
سلوني فأحكام الهوى بعض حكمتي ... وأحكام آيات الغرام مزيتي
بدا لي به نور الحقيقة ظاهراً ... فشاهدت ذاتي تنجلي لبصيرتي
ومنها:
فمحبوب قلبي إن تأملت واحد ... أنست به للانفراد بوحدتي
مظاهر أسماء له قد تعددت ... ولا ثم إلا واحد في الحقيقة
فطوراً بليلى والرباب تغزلي ... وطوراً بزيد واللوى والثنية
فلم يبق شيء ما تعشقت حسنه ... وما ثم كون ما تراءى لمقلتي
إلى أن رأيت الكل بالكل فانياً ... وذاتي هي المقصود من كل صورة
وهي تقارب المائتي بيت كلها قد بلغت في الحسن مبلغاً عظيماً، ومن قوله في الفخر والحماسة:
عديني وامطلي مهما تشائي ... ففي التعليل تعليل لدائي
وتسويف الملاح إذا تمادى ... على المضنى ألذ من الشفاء
بعادي في الهوى عين اقترابي ... وغاية مقصدي وبه منائي
فما أحلى العذاب لكل صب ... إذا أمسى الذي يهواه نائي
له في كل وقت طيب وصل ... يجيء به التخيل والترائي
يشاهد من يحب بلا رقيب ... ولا واش عليه ولا مرائي(1/1479)
فلم أترك لقاها عن ملال ... ولا عن علة تركت لقائي
ولكنا نرى للعز أهلا ... وأهلا للمذلة والشقاء
رويدك أين تبلغ من لحاقي ... أمامك أيها العادي ورائي
سل الخطار والبتار عني ... وسل جود السحائب عن سخائي
ظمئت فما شربت الماء صرفا ... ولا أدليت دلوي في الدلاء
أأشرب والزلال يخاض فيه ... ومن نهر المجرة كان مائي
ولما أن سموت إلى الثريا ... أنفت بأن أسير على الثراء
فما رتب العلا إلا حظوظ ... مقسمة على أهل الولاء
وحسبك فاقتنع بالبعض منها ... ولا تلقي بنفسك للبلاء
وإياك التطلع نحو مجدي ... ولا تقس الغياهب بالضياء
فإني لست أقنع بالتهاني ... ولا يرضى بغايتها رضائي
وإني سوف أبتكر المعالي ... وأبلغ من نهايتها منائي
ولي نفس الملوك بجسم عبد ... تنزه أن يذل له ثرائي
ولكني أرى في قوم سود ... رضوا بالغيم عن زرق السماء
سأصبر صبر مرتاض كريم ... وأجعل كل ما أرجو ورائي
ومن قوله رحمه الله تعالى في النصائح والمواعظ
يا مهجتي مهلا إلى كم تتعبي ... وإلى متى بهوى الظبا تتعذبي
خلي معاناة الصبابة والهوى ... وعن المحبة فاذهبي لا تذهبي
إن الهوى فيه الهوان فقللي ... ذكر الغزالة والغزال الربرب
كم ذا تداري الكاشحين بحبهم ... وعلى الغضا وعن الهدى تتقلبي
وإلى متى هذا النحيب وذا البكا ... فلقد يشك من الجوى أن تعطبي
إن كنت لا تصغي لقولة ناصح ... فتقطعي بهواهم وتأربي
في مذهبي ترك الصبابة في الصبا ... شرع أدين بدينه في مذهبي
ودعي كؤوس الراح لا تعني بها ... وتهذبي إن كنت لم تتهذبي(1/1480)
إن الندامة في المدامة أودعت ... أن تقبلي نصحي وإلا جربي
ودعي المليح وقولهم يا حسنه ... لم يبق ذو لب به إلا سبي
إن لاح لاح البدر من أطواقه ... أو فاح أهدى طيبا من طيب
يزري بأغصان الأراك قوامه ... إن قام يخطر خطرة المتعجب
من شعره وجبينه غار الضيا ... حسداً له وانشق قلب الغيهب
ودعي هوى سلمى وزينب فالهوى ... ضرب من الهذيان يجهله الغبي
إن تبد قل للشمس قولة ناصح ... بالله يا شمس النهار تحجبي
هي كالغزالة إن بدت وتلفتت ... لكنها حجبت بقلب العقرب
لا يشجينك بارق متألق ... فلعله برق وليس بصيب
وتكلفي للجد في طلب العلا ... من جد فاز علا بأرفع منصب
يا صاح خذ قولي ودع ما غيره ... حتى تسمى بالأجل الأنجب
وله كثير في كل نوع من أنواع الشعر مذكور في ديوانه ومجاميعه، وفي آخر أمره ضاقت يده ولم يبق عنده من ثروته الواسعة شيء لا من دراهم ولا من دنانير ولا من عقارات، ومع ذلك تراه ضاحكاً راضياً كأنه ما أصابه شيء قط، وكنت كلما نصحته قبل ذلك يعتذر لي لأن مراد الله لا بد من وقوعه. وكان حضرة الأمير السيد عبد القادر الجزائري يصله كثيراً ويساعده، ولم يزل إلى أن توفي في نصف رجب الحرام الذي هو من شهور سنة اثنتين وتسعين ومائتين وألف، وتأسف الناس عليه، وكانت وفاته في حياة والده ودفن في تربة أسلافه، ومدته من العمر أربعون سنة.
الملا محمود بن غزائي الكودي السليماني الشافعي الأشعري
العالم الذي عد في أقرانه الأول، والبليغ الذي يفوق مختصر بيانه المطول، والإمام الذي هو الحسن المشهور، والهمام الذي هو بكل كمال(1/1481)
مذكور، قد استفاد وأفاد وأعاد فأجاد، فهو من أناس حمدوا سعياً، ومن غرر راقت بهم وجوه الدنيا، وهو من عيون أهل السليمانية الأكراد وساداتهم الأمجاد، الذين تحلوا بحلي الشرف، وأبرزوا في دروسهم الطرف، وأشار إليهم الفضل ببنانه وضم عليهم بأجفانه، فهو لا شك من أقمار تلك البلدة، ومن أبحرها بما ألقاه وأمده، وإن لم يشن الجزر مده، فلله فاضل كساه الفضل برده، ولطيف عباراته ألطف من الشمول، وعفيف على أوصافه يشرق القبول، وتقي سارت محاسنه، وعزت به مواطنه:
يا طالباً تحف للعلوم عليك ما ... يرويه محمود من الآثار
كم جوهر أبدى بحلقة درسه ... ترويه عنه عواطل الأفكار
عيناً لآثار النبي وجدته ... أو ما تراه كل يوم جار
عانى العلوم الرسمية طفلا، فقالت له أهلاً وسهلاً، وناشدته المحافل بالآثار الحميدة، فوضع في جيدها كل فريدة، وجلا فيها من العلوم كل خريدة، وكان قد نادته السعادة فأجابها وماء صباه غريض، وروض قوته بالأنس أريض، وأنشدها من بنات أفكاره ما هو السبر لعلو اعتباره:
يا علوماً وافيتها وشبابي ... ما نضاه عن كاهلي الملوان
لك طرفي مرأى وقلبي مرعى ... ما تسامى من ذينك النيران
فما زال يقيد بالجوهر الفريد، ويظهر كل كمال ويحض الناس على طريق الجمال، ويأمر بالتقوى والعبادة، والعفة والزهادة، إلى أن حال حين وفاته ودعته المنية لمماته، وذلك في عام ألف ومائتين واثني عشر من هجرة سيد البشر.(1/1482)
الشيخ محمود بن الشيخ محمد بن الشيخ حسن البيطار ابن أخي شقيقي الشيخ محمد إمام عالم عامل وهمام عابد كامل، حفظ القرآن في صغره، ثم دأب على أخذ الفنون إلى كبره، قرأ على جده والدي مدة، وعلى والده وقد بذل اجتهاده وجده، وتفقه على مذهب سيدنا أبي حنيفة النعمان.
وفي سنة ألف ومائتين وثمانين جلس في أمانة الفتوى في دمشق الشام، وقرأ على الإمام الفاضل الشيخ محمد الطنطاوي وعلى الشيخ محمد الخاني وحضر عندي مدة طويلة في الفقه والمعاني والبيان والنحو.
وكانت ولادته سنة ألف ومائتين وثلاث وخمسين تقريباً، وتوفي صباح الاثنين قبيل الفجر خامس عشر رجب عام ألف وثلاثمائة وستة عشر، ودفن في تربة الحصني في باب الله رحمه الله تعالى.
السلطان مراد الخامس بن السلطان عبد المجيد ابن السلطان محمود خان
تولى الملك سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف سابع شهر جمادى الأولى، وبيان ذلك أنه اجتمع يوم الاثنين ليلة الثلاثاء سادس جمادى الأولى من السنة المرقومة، حضرة الصدر الأعظم وشيخ الإسلام خير الله أفندي ومدحت باشا مأمور المجالس العالية وعموم الوكلاء، في الباب السر عسكري وعقدوا مجلساً مخصوصاً ووجهوا حضرة السر عسكر باشا إلى دائرة حضرة مولانا السلطان مراد خان فأبدى لعظمته قائلاً إنه بالاتفاق العمومي صار(1/1483)
خلع السلطان عبد العزيز خان استناداً على الفتوى الشريفة التي أعطيت من جانب المشيخة الإسلامية، وصورتها: إذا كان زيد الذي هو أمير المؤمنين مختل الشعور، ولا قسم له في الأمور السياسية، وقد صرف الأموال الأميرية على مصاريفه النفسانية، على نوع يفوق طاقة وتحمل الملك والملة، وأجرى إخلال وتشويش الأمور الدينية والدنيوية، وضر الملك والملة، وكان بقاؤه مضراً بحق الملك والملة، هل يلزم خلعه؟ الجواب: يلزم. كتبه الفقير حسن خير الله عفي عنه.
وحينئذ قد دعيت ذاتكم الهمايونية لسرير السلطنة العثمانية، فقام في الحال مستصحباً معه السر عسكر المومى إليه ورديف باشا رئيس دار الشورى العسكرية، وذهب إلى قرغولخانه طولمه بغجه، وأبقى هناك حضرة رديف باشا المشار إليه راكباً قايق السر عسكر إلى اسكلة سركه جي، ومنها شرف بحضوره الباب السر عسكري، فاستقبله حضرة الذوات المشار إليهم المنتظرين قدوم ذاته المحفوفة بالسعد والإقبال، وهكذا أجرى حضرة ذي الدولة والسياسة الشريف عبد المطلب أفندي والصدر الأعظم وشيخ الإسلام وعموم وكلاء السلطنة السنية والعلماء الفخام وأمراء العسكرية الكرام، أمر البيعة الجزيل الاحترام، وبعد أن تقدم الدعاء من طرف حضرة شيخ الإسلام والشريف عبد المطلب أفندي بتوفيق الحضرة السلطانية، أطلقت المدافع مائة طلق وطلقاً من كل من السفن الهمايونية، والمحلات الموجودة بها المدافع، وزينت الدوننما الهمايونية، والسفن(1/1484)
العثمانية عموماً برفع البيارق وكانت سناجق السفن الحربية السلطانية مكللة بالاسم السامي الهمايوني تموج بنسائم العظمة والشان على هام البشر والسرور، ونادى المنادي على رؤوس الأشهاد، بجلوس ذي السلطنة والإسعاد، فكل من سمع هذه المناداة من التبعة العثمانية بادر إلى الباب السر عسكري، وبمقتضى المساعدة السلطانية السنية لم يجر على أحد رسوم الأبعاد، إلى أن جرت البيعة العامة السلطانية للمترجم المرقوم، ففي الوقت ارتفعت الأصوات بالدعوات المجابات، من ذوي العلوم المجتمعين في الديوان خانه العسكرية، بالأصوات المرتفعة، فنهضت الذات السلطانية في الحال لمحل الدعاء بذاته، وتلا من جملة الحاضرين لفظة آمين ثم إنه نظر إلى العموم بعين البشر والسرور، وأبدى التسليمات المفرغة على الحاضرين أنواع التلطيف، ثم إنه بعد ذلك خرج من الدائرة التي حصلت بها البيعة، ومعه الصدر الأعظم والسر عسكر ومدحت باشا، وكان صدى أصوات العساكر وطلبة العلم وعموم الأهالي بقولهم فليعش سلطاننا سنين عديدة، ولا زال الأمر كذلك إلى أن ركب العربة، ومنذ قيامه من الباب السر عسكري إلى أن شرف بالوصول للسرايا، الهمايونية كانت الأهالي في الطريق تكثر التهاليل وتهتف فليعش سلطاننا كثيراً، وكان يحيي الجميع بالسلام.
ولما شرفت عظمته بالوصول إلى سرايا بشكطاش استقبلته الخدمة الخاصة الواقفة بموقع التعظيم هاتفة بالدعاء القديم الذي هو ما شاء الله، عش سلطاننا بدولتك كثيراً ثم نصب التخت العثماني في مكان الديوان، والموسيقى الهمايونية أخذت تصدح بلذيذ الألحان، وأتباع الحضرة السلطانية مصطفة بالترتيب والاتقان، فأجرى جميع الحاضرين من الوكلاء وغيرهم والأفندية والبطاركة(1/1485)
والحاخامات وغيرهم من سائر الملل المختلفة إيفاء البيعة وإعطاء المقام حقه، ثم إنه بعد أن صار جلوس السلطان مراد وشاع خبره لدى الخاص والعام، حصل التبليغ والإفادة من طرف حضرة رديف باشا المشار إليه المأمور المخصوص على العساكر الشاهانية، إلى حضرة السلطان عبد العزيز بمعرفة أفندية مكتب الحربية السلطاني، المأمورين من المساء بمحافظة ساحل بشكطاش الهمايونية، وبمعرفة حضرة آغا دار السعادة الشريفة دولتلو عنايتلو جوهر آغا المتصف بالحماية والحمية الملية والصلابة الدينية، قائلاً: أن الملة العثمانية المعظمة خلعتك من السلطنة وبايعت سلطاننا السلطان مراد خان، وصدرت الإرادة السنية بإقامتكم في سرايا طوب قبو، فبناء على ذلك توجه حضرة عبد العزيز أفندي الموما إليه إلى السرايا المذكورة، مع متعلقاته ومنسوباته بخمسة قوارب متفرقة، وبقي في السرايا المرقومة إلى أن توفي بعد أيام، كما هو مذكور في ترجمته.
ثم إن السلطان المترجم المرقوم وقع في شعوره خلل مسقط له عن أهلية الملك فاقتضى المقام خلعه، بعد استفتاء شريف من المشيخة الإسلامية، فكان الإفتاء بوجوب خلعه إبقاء لاستقامة الدولة وحفظ الملة وحقوقها، فبناء على ذلك خلع بعد جلوسه على عرش الملك ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وتولى مكانه حضرة السلطان الأفخم والخاقان الأعظم السلطان عبد الحميد خان، أدام الله دولته مدة الدوران، وكان خلع السلطان مراد يوم مبايعة السلطان عبد الحميد ثالث شهر شعبان سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف.(1/1486)
الشيخ محيي الدين بن محمد الدمشقي المعروف بالناياتي وبابن الدمشقي
الخطيب والمدرس والإمام في جامع القلعي في محلة سوق القطن، وكان لطيف الكلام حسن المعاملة، عليه سيما أهل الصلاح، دائباً على العلم والعمل. مات بدمشق خامس ذي القعدة الحرام سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف رحمه الله تعالى.
الشيخ محيي الدين بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن هديب الدين بن فرج الدين بن عضد الدين الدمشقي الشافعي الشهير بالعاني، ونسبته إلى عانة قرية من قرى بغداد دار السلام
ولد بدمشق الشام سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف، ونشأ في كنف والده وأخذ عنه وعن الشيخ سعيد الحلبي وعن الشيخ عبد الرحمن الكزبري وعن الشيخ عبد الرحمن الطيبي وعن الشيخ حامد العطار وعن الشيخ هاشم التاجي وعن غير هؤلاء من الفضلاء الكبار والعلماء الأخيار، واشتهر بين الناس بالصدق والصلاح والرفق والنجاح، والزهد والتقوى بالسر والنجوى، والتفكر الموصول والدعاء المقبول، والهمة العالية والطاعة السامية والكشف عن المغيبات، والإخبار بالصدق عما هو آت، وكان له قرناء يذكرون له من الشمائل ما لم يكن لكمل الأولياء، إلى أن استوى على عرش علاه وظن أنه لا أحد يساويه في حلاه، فصار يصدق لهم على أقوالهم، ويذكر لهم من ممدوح صفاته ما لم يكن خاطراً في بالهم، وكأنه لم يتنبه لما قيل من بديع الأقاويل:
لا تصاحب من الأنام لئيما ... ربما أفسد الطباع اللئيم(1/1487)
فالهواء البسيط في جمرة القي ... ظ سموم وفي الربيع نسيم
وابغ منهم مجانساً يوجب الض ... م فقد يصحب الكريم الكريم
واعتبر حال عالم الطير طرا ... كل جنس مع جنسه مضموم
فخضعوا إليه وخفضوا رؤوسهم، وأطاعوه وجعلوه رئيسهم، وشدوا في وسطهم الإزار، للإعانة والانتصار، وتوجه كل منهم إلى مكان، يمدحه فيه ويقول ليس في الإمكان، فعلا قدره وانتشر في الناس ذكره، إلى أن صار إذا عمل أكبر الكبائر يقول الناس هذه لا تعد من الصغائر، لأن الشيخ له أحوال، لا نعرف ما يقصد عند بعض الأفعال، فهو من أهل الكشف والشهود، ونحن من أهل الحجاب المسدول والممدود!! فحينئذ أطلق أقواله وأظهر أفعاله، وأتى بما لا يصدر مثله عن أهل الشقا فضلاً عن ذوي الطاعة والتقى، وما ضره إلا من كان يجلس حوله، ويستصوب له قوله وفعله:
لعمرك لا يغني الفتى طيب أصله ... وقد خالف الآباء في القول والفعل
فقد صح أن الخمر رجس محرم ... وما شك خلق أنه طيب الأصل
فسلك سبيل خلاف الصواب، معتمداً على شهرته من غير ارتياب:
ما كل من حسنت في الناس سمعته ... وحاز ذكراً جميلاً أدرك الأملا
فالإنسان كل الإنسان، هو الذي كل أعماله قد وزنت بميزان، فلا يعتمد على قول أي قائل زان أو شان، إلا أن وجده موافقاً للسنة والقرآن.
هذا وإني مرة قد دخلت إلى داره ومحل قراره، فما زال يذكر لي العلماء والسادة الفضلاء، إلى أن توصل إلى ذم الفاضل الأوحد، والعالم العامل المفرد، قطب الأولياء، وكعبة الأصفياء، سيدي الشيخ خالد شيخ الحضرة النقشبندي؛ فطعن في حقه وأكثر، فما وسعني إلا أن قلت الله أكبر؛ وفارقته وأنا مما صدر في غاية الهم والكدر، فلما رأى(1/1488)
مني ذلك حقد علي، وصار يتفقد فرصة يوجه بها سهام أذيته إلي.
وكانت وفاته بدمشق في الليلة الثانية والعشرين من رمضان المبارك ليلة الثلاثاء نصف الليل سنة تسعين ومائتين وألف، ودفن في مرج الدحداح بالذهبية، وكانت جنازته حافلة، وخلف ثلاثة أولاد من خلف مثلهم ما مات، نسأل الله العفو والعافية، والنعمة الكافية الوافية.
السيد محي الدين بن السيد مصطفى بن السيد محمد المغربي الجزائري المالكي
الشيخ العالم العامل، والفرد الأوحد الفاضل، بقية السلف الصالحين، وقدوة الأولياء العارفين، روح مجمع أهل الكمال، ودوح أهل المعارف والأحوال، وتاج الأتقياء، وعلم الأصفياء، وسراج الأولياء، ومربي المريدين والفقراء، غيث الأنام وغوث الإسلام، وبقية السلف وعمدة الخلف، محيي معالم الطريق بعد دروسها. ومظهر آيات التوحيد بعد أفول أقمارها وشموسها، خلاصة أهل العرفان والمتخلق بمقام الإحسان، فريد أهل التحقيق في المعارف، ووحيد أهل التدقيق في العوارف، من تفجرت ينابيع الحكم على لسانه، وفاضت عيون الحقائق من خلال جنانه، وانبثت أشعة أنواره في الكائنات، وانبعثت جيوش أسراره في الموجودات، وتوالت هباته وتواصلت بركاته، وسطت شموس معارفه وزكت عروس عوارفه، فهو الذي خطف بيد مواهبه قلوب السالكين، فعكف بها في مساجد المشاهد ورقا بأرواح المريدين، العفيف الحسيب والشريف النسيب. ينتهي نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم نسبه مسلسلاً في ذكر ترجمة ولده الأمير السيد عبد القادر فارجع إليها إن أردتها.(1/1489)
ولد المترجم المرقوم سنة تسعين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده وتفقه عليه، ثم رحل إلى مستفانم فأخذ عن علمائها، وحضر الكتب المطولة على فضلائها، وأجازوه بما تجوز لهم روايته، وحصلت لهم درايته، إلى أن صار مسموع الكلمة مهاباً مطاعاً، كثير الطاعة صادق اللهجة مطواعاً، ما نال أحد دعوته إلا رأى بركتها في نفسه وماله، ولا حصل امرؤ توجهه ورضاه إلا ورأى غاية الاستقامة في أحواله، ردد الاختلاف إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وكان رضي الله عنه مجاب الدعوة، عظيم الجاه رفيع السطوة، كم له من كرامة هي على علو مقامه أعظم علامة، منها ما جرى له مع حاكم وهران محمد بن عثمان، التركي الشهير ببوكابوس، وذلك أن أربعة من رؤساء الحشم يعرفون بأولاد بونقاب، قصدهم الحاكم المذكور أن يفتك بهم فنفروا من وهران، والتجأوا للحماية عند المترجم المذكور فوضعهم في بيت الأضياف، ولما علم الحاكم بهم أرسل إليهم رجلاً معروفاً بالمرسلي آغة الزمالة، ومحمد بن داوود نائب آغة الدوائر في أربعمائة فارس، فوصلوا إلى بلدته المعروفة بالقيطنة وأحاطوا بمنزل الأضياف، وفيه أولئك الرؤساء الأربعة، وكان الشيخ المترجم قد صلى الصبح في مسجده ورجع إلى داره، فسمع ضجيج الناس وأصوات البارود وصهيل الخيل، فخرج مسرعاً من بيته، فوجد العسكر محيطاً بهم في بيت الأضياف، فتقدم إلى الباب وقال اخرجوا إليهم، ولا تخافوا فإن كل واحد منكم بمائة من هؤلاء الظلمة، فامتثل الرؤساء أمره وخرجوا، وفي أيديهم السيوف، فوقع الرعب في قلوب أولئك الفجرة، وانكشفوا عن البيت، فركب كل من الأربعة على فرس عري ولحقوهم، فقتلوا ابن داوود والمرسلي أثخنوه بالجراحات، وتفرق العسكر شذر مذر، لا يلوي أحد منهم على الآخر، واستمروا على وجوههم إلى وهران، وأخبروا سيدهم، وفي الحين أصيب في عينيه، ولما عجز الأطباء عن معالجته وعلم أنه إنما أصيب بانتهاكه حرمة الشيخ المرقوم(1/1490)
وجرأته عليه، أرسل بعض خواصه إليه، يستعطفه ويستقيله من عثرته، ويستغفره من زلته، ويسأله العفو عنه والدعاء له، فدعا له وعفا عنه كما هو معلوم من حسن معاملته، ورقة طبيعته، فعافاه الله وشفاه، وأخبر ولد المترجم السيد عبد القادر أن والده المرقوم أخبره بعد هذه الواقعة أن هذا الحاكم مثل له في الرؤيا في صورة كبش فذبحه وسلخه، فكان الأمر كما قال، وذلك أن باشا الجزائر أمره بتجهيز الجيوش وسوقها إلى نواحي قسنطينة، وهناك يستكمل تعلقات القتال وينهض لقتال صاحب تونس، فلما خرج إلى هبره على مسافة مرحلتين من وهران، وتلاحقت الجموع، ورأى كثرتهم، سولت له نفسه نقض الطاعة لحكومة الجزائر، ودعته إلى الاستقلال، فجمع أعيان القبائل وأسر لهم ذلك، فأجابوه لمطلوبه ظاهراً، لاستثقالهم السفر من وطنهم إلى تونس، وأصبح راجعاً إلى وهران حاضرة ولايته، وأمر بقتل من بهما من الجند التركي فقتلوا، وبعث إلى تلمسان وأم عسكر بقتل من بهما من الجند، وأعلن بالدعاء لنفسه، فاتبعه الدوار والرمالة والغرابة ومن والاهم، وامتنع الحشم جميعاً، فطار الخبر إلى باشا الجزائر، فبعث إليه جيشاً فدخلوا وهران وقبضوا عليه وذبحوه وسلخوه وملؤا جلده قطناً وبعثوا به إلى الجزائر، فوضع على سورها فكان عبرة لمن اعتبر، وإخافة لمن نظر.
وله رضي الله عنه كرامات كثيرة ويد طولى هي بنوال المطلوب حقيقة وجديرة، حج رضي الله عنه ثلاث مرات، وكان في طريقه يجتمع بالعلماء والأفاضل والسادات الأماثل، فيفيدهم ويستفيد، وكان قاصراً نفسه على ما يفيد من العلم والتقوى لا من الطارف والتليد، ومر في آخر حجاته على بغداد، فزار جده وأخذ الطريق عن شيخ السجادة القادرية ونال أقصى المراد، ثم رجع إلى الوطن وقد أفرغ الله عليه حلة المنن، ولم يزل يعلو مقامه ويسمو احترامه، ويزكو علاه ويعم نداه، إلى أن دعاه داعي المنية للتوجه للمقامات العلية، يوم الأحد ثالث ربيع الأول سنة تسع وأربعين ومائتين وألف من الهجرة.(1/1491)
الشيخ محي الدين بن عبد العزيز الشافعي الدمشقي الشهير بالادلبي
كان فريداً ماهراً في جميع الفنون، قد قرت بفضله وكماله العيون وحسنت الظنون. ولد في دمشق الشام، ثم طلب العلم إلى أن صار من علمائها الأعلام، وبعد أن تكمل وحصل من الفضائل ما بها إلى كل رفعة توصل، ولي في الشام قضاء الشافعية، وكان ذا أخلاق حسنة وصفات سنية، نبيلاً نبيهاً تقياً فقيهاً، مواظباً على الإفادة ملازماً للتقوى والعبادة معروفاً بكل اتقان مقصوداً في الفنون العربية كعلم البديع والمعاني والبيان. توفي رحمه الله تعالى في اليوم الثامن عشر من المحرم سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف، عن نيف وسبعين سنة، ودفن في مقبرة باب الصغير.
السيد مرتضى الزبيدي بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق بن عبد الغفار بن تاج الدين بن حسين بن جمال الدين بن إبراهيم بن علاء الدين بن محمد بن أبي العز بن أبي الفرج بن محمد بن محمد بن محمد بن علي بن ناصر الدين بن إبراهيم بن القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن عيسى بن علي بن زين العابدين بن الحسين السبط
الإمام الفاضل والهمام الكامل، قال صاحب عجائب الآثار في ترجمة هذا السيد المعدود من الأخيار، هو علم الأعلام، والساحر اللاعب بالأفهام، الذي جاب في اللغة والحديث كل فج، وخاض من العلم كل لج، المذلل له سبل الكلام الشاهد له الورق والأقلام، ذو المعرفة والمعروف وهو العلم الموصوف، العمدة الفهامة والرحلة النسابة العلامة، الفقيه المحدث اللغوي النحوي الأصولي، الناظم الناثر.(1/1492)
ولد سنة خمس وأربعين ومائة وألف، كما سمعته من لفظه ورأيته بخطه، ونشأ ببلاده، وارتحل في طلب العلم، وحج مراراً، واجتمع بالشيخ عبد الله السندي، والشيخ عمر بن أحمد بن عقيل المكي، وعب السقاف، والمسند محمد بن علاء الدين المزجاجي، وسليمان بن يحيى، وابن الطيب، واجتمع بالسيد عبد الرحمن العيدروس بمكة، وبالشيخ عبد الله ميرغني الطائفي في سنة ثلاث وستين، ونزل بالطائف بعد ذهابه إلى اليمن ورجوعه في سنة ست وستين، فقرأ على الشيخ عبد الله في الفقه وكثيراً من مؤلفاته وأجازه، وقرأ على الشيخ عبد الرحمن العيدروس مختصر السعد، ولازمه ملازمة كلية وألبسه الخرقة وأجازه بمروياته ومسموعاته، قال وهو الذي شوقني إلى دخول مصر بما وصفه لي من علمائها وأمرائها وأدبائها وما فيها من المشاهد الكرام، فاشتاقت نفسي لرؤياها، وحضرت مع الركب، وكان الذي كان، وقرأ عليه طرفاً من الإحيا وأجازه بمروياته، ثم ورد إلى مصر في تاسع صفر سنة سبع وستين ومائة وألف، وسكن بخان الصاغة، وأول من عاشره وأخذ عنه السيد علي المقدسي الحنفي من علماء مصر، وحضر دروس أشياخ الوقت كالشيخ أحمد الملوي والجوهري والحفني والبليدي والصعيدي والمدابغي وغيرهم، وتلقى عنهم وأجازوه، وشهدوا بعلمه وفضله وجودة حفظه، واعتنى بشأنه إسماعيل كتخدا عزبان وأولاه بره، حتى راج أمره وتورنق حاله، واشتهر ذكره عند الخاص والعام، ولبس الملابس الفاخرة وركب الخيول المسومة، وسافر إلى الصعيد ثلاث مرات، واجتمع بأكابره وأعيانه وعلمائه، وأكرمه شيخ العرب همام، وإسماعيل أبو عبد الله، وأبو علي وأولاد نصير وأولاد وافي وهادوه وبروه، وكذلك ارتحل إلى الجهات البحرية مثل دمياط ورشيد والمنصورة وباقي البنادر العظيمة مراراً، حين كانت مزينة بأهلها عامرة بأكابرها، وأكرمه الجميع، واجتمع بأكابر النواحي وأرباب العلم والسلوك، وتلقى عنهم وأجازوه وأجازهم.(1/1493)
وصنف عدة رحلات في انتقالاته في البلاد القبلية والبحرية، تحتوي على لطائف ومحاورات ومدائح نظماً ونثراً، لو جمعت كانت مجلداً ضخماً، وكناه سيدنا السيد أبو الأنوار بن وفا بأبي الفيض، وذلك يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف، وذلك برحاب ساداتنا بني الوفا يوم زيارة المولد المعتاد، ثم تزوج وسكن بعطفة الغسال مع بقاء سكنة بوكالة الصاغة.
وشرع في شرح القاموس حتى أتمه في عدة سنين في نحو أربعة عشر مجلداً، وسماه تاج العروس، ولما أكمله أولم وليمة حافلة جمع فيها طلاب العلم وأشياخ الوقت بغيط المعدية، وذلك في سنة إحدى وثمانين ومائة وألف، وأطلعهم عليه واغتبطوا به وشهدوا بفضله وسعة إطلاعه ورسوخه في علم اللغة، وكتبوا عليه تقاريظهم نظماً ونثرا، فممن قرظ عليه شيخ الكل في عصره الشيخ علي الصعيدي، والشيخ أحمد الدردير، والسيد عبد الرحمن العيدروس، والشيخ محمد الأمير، والشيخ حسن الجداوي، والشيخ أحمد البيلي، والشيخ عطية الأجهوري، والشيخ عيسى البراوي، والشيخ محمد الزيات، والشيخ محمد عبادة، والشيخ محمد العوفي، والشيخ حسن الهواري، والشيخ أبو الأنور السادات، والشيخ علي القناوي، والشيخ علي خرائط، والشيخ عبد القادر بن خليل المدني، والشيخ محمد المكي، والسيد علي القدسي، والشيخ عبد الرحمن مفتي جرجا، والشيخ علي الشاوري، والشيخ محمد الخربتاوي، والشيخ عبد الرحمن المقري، والشيخ محمد سعيد البغدادي الشهير بالسويدي، وهو آخر من قرظ عليه، وكنت إذ ذاك حاضراً، وكتبه نظماً ارتجالا، وذلك في منتصف جمادى الثانية سنة أربع وتسعين ومائة وألف وهذا نصه:
شرح الشريف المرتضى القاموسا ... وأضاف ما قد فاته قاموسا
فقدت صحاح الجوهري وغيرها ... سحر المدائن حين ألقى موسى
إذ قد أبان الدر من صدف النهى ... في سلك جوهرة اللهى تأنيسا(1/1494)
وبنى أساساً فائقاً واختار في ... اتقانه مختاره تأسيسا
فأثار من مصباح مزهر نوره ... عين الغبي فأبصرته نفيسا
فهو الفريد فلا يثنى جمعه ... إذ لا يحاك كمثله تدليسا
فلسان نظمي عاجز عن مدحه ... فالله ينشر نثره تقديسا
ويديم مولاي الشريف بعصرنا ... في كل قطر للهداة رئيسا
وإذا توجه لي بلمحة نظرة ... إني سعيد لا أصير خسيسا
أهدي الصلاة مع السلام لجده ... هدياً جزيلاً لا يطاق مقيسا
والآل مع صحب وهذا المرتضى ... ومن ارتضى ومن اصطفاه أنيسا
وقد ذكرت بعض التقريظات في تراجم أصحابها، ومنها تقريظ الشيخ علي الشاوري الفرشوطي، أذكره لما فيه من تضمن رحلة المترجم إلى فرشوط ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين.
الحمد لله منطق البلغاء بأفصح البيان، ومودع لسان الفصيح حلاوة التبيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد ولد عدنان، وعلى آله وصحبه ما تعاقب الملوان، وبعد فإن للعلوم شعباً وطرائق، وهضاباً وشواهق، يتفرع من كل أصل منه فنون، ومن كل دوحة فروع وغصون، وإن من أجل العلوم معرفة لغات العرب، التي تكاد ترقص العقول عند سماعها من الطرب، وكان ممن كيل له ذلك بالكيل الوافر، وطلع في سمائها طلوع البدور السوافر، ومر في ميدانها طلق العنان، وشهد له بالفصاحة القلم واللسان، حلية أبناء العصر والأوان، ونتيجة آخر الزمان، العدل الثبت الثقة الرضى، مولانا السيد الشريف المرتضى، متعنا الله بوجوده، وأطال عمره بمنه وجوده، وقد من الله علينا وشرفنا بقدومه الصعيد، فكان فيه كالطالع السعيد، فحصل لنا به غاية الفرح، وفرت العين به واتسع الصدر وانشرح، وقد أطلعني على بعض شرحه على قاموس البلاغة فإذا هو شرح حافل، ولكل معنى كافل، وقد مدحه جمع من السادة العلماء الأعلام،(1/1495)
خصوصاً شيخنا وأستاذنا العلامة البطل الهمام، خاتمة المحققين بالاتفاق، أوحد الأئمة المجتهدين الحذاق، أستاذنا الشيخ علي الصعيدي العدوي، وناهيك به من شاهد، وكل ألف لا تعد بواحد، فهو مؤلف جدير بأن يثنى عليه، وحقيق بأن تشد الرحال إليه، كيف وهو صياغة نبراس البلاغة، وفارس البداعة والبراعة. الذي قلت فيه حين قدم فرشوط بلدتنا:
قد حل في فرشوطنا كل الرضى ... مذ جاءها الحبر النفيس المرتضى
أكرم به من طود فضل شامخ ... من نسل من نرجو همو يوم القضا
جاد الزمان بمثله فحسبته ... من أجل هذا قد يعود بمن مضى
عجباً لدهر قد يجود بمثله ... ورواؤه قدماً تولى وانقضى
أحيا فنون العلم بعد فنائها ... وأزال غيهبها بتحقيق أضا
لا سيما علم اللغات فإنه ... قد شيد الأس الذي منه نضا
أمست به فرشوط تفخر غيرها ... وتبلجت أقطارها حتى الغضا
لما تولى ذاهباً من عندنا ... فكأن في أحشائنا نار الغضا
وقد اجتمع السيد السند العظيم بأمير المنهل العذب الرحيق الذي قصد من كل فج عميق كهف الأنام، الليث الهمام، شيخ مشايخ العرب الشيخ همام لازالت همته هامية، ودواعيه إلى فعل الخير نامية، فأحله من التعظيم لمكانه الأقصى، متأدباً معه بآداب لا تعد ولا تحصى، وهو جدير بذلك:
فما كل مخضوب البنان بثينة ... ولا كل مسلوب الفؤاد جميل
أعاد الله علينا من بركاته وصالح دعواته، في خلواته وجلواته، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
قائل هذا النظم والنثر العبد الفقير، إلى مولاه الغني القدير، علي بن صالح بن موسى الشهير بالشاوري جنبه الله شرور نفسه، وجعل يومه خيراً من أمسه، والله ولي التوفيق انتهى.
وقال سيدي الجبرتي في ترجمته للمترجم المرقوم وكتب للمرحوم الوالد يسأله الإجازة والتقريظ بقوله:(1/1496)
أمولاي بحر العلم يا من سناؤه ... يفوق ضياء الشمس في الشرق والغرب
ويا وارث النعمان فقهاً وحكمة ... وزهداً له قد شاع في البعد والقرب
عبيدكم الظمآن قد جاء يرتجي ... ملاحظة منها يفوز قضا الأرب
ويسأل في هذا الكتاب إجازة ... بتقريظه حتى يفوق على الكتب
حباكم إله العرش منه كرامة ... وعيشاً هنيئاً في أمان بلا كرب
وقابلكم بالجبر يوم حسابه ... بحسن وجازاكم بفضل وبالقرب
وينصب في الآفاق أعلام علمه ... ويقرن بالتوفيق إخلاصه القلبي
وصلى إله العرش ربي على الرضا ... محمد المبعوث للعجم والعرب
واتبعه بالآل والصحب كلهم ... نجوم الهدى يحيا بذكرهم قلبي
ولما أنشأ محمد بيك أبو الذهب جامعه المعروف به بالقرب من الأزهر، وعمل فيه خزانة للكتب، واشترى جملة من الكتب ووضعها بها، أنهوا إليه شرح القاموس هذا، وعرفوه أنه إذا وضع بالخزانة كمل نظامها وانفردت بذلك دون غيرها، ورغبوه في ذلك، فطلبه وعوضه عنه مائة ألف درهم فضة، ووضعه فيها. ولم يزل المترجم بخدم العلم ويرقى في درج المعالي ويحرص على جمع الفنون، التي أغفلها المتأخرون، كعلم الأنساب والأسانيد وتخاريج الأحاديث، واتصال طرائق المحدثين المتأخرين بالمتقدمين، وألف في ذلك كتباً ورسائل ومنظومات وأراجيز جمة، ثم انتقل إلى منزل بسويقة اللالا، تجاه جامع محرم أفندي بالقرب من مسجد شمس الدين الحنفي، وذلك في أوائل سنة تسع وثمانين ومائة وألف، وكانت تلك الخطة إذ ذاك عامرة بالأكابر والأعيان، فأحدقوا به وتحبب إليهم واستأنسوا به وواسوه وهادوه، وهو يظهر لهم الغنى والتعفف ويعظهم، ويفيدهم بفوائد وتمائم ورقى، ويجيزهم بقراءة أوراد وأحزاب، فأقبلوا عليه من كل جهة وأتوا إلى زيارته من كل ناحية، ورغبوا في معاشرته لكونه غريباً وعلى غير صورة العلماء المصريين وشكلهم، ويعرف باللغة التركية والفارسية، بل وبعض لسان(1/1497)
الكرج، فانجذبت قلوبهم إليه وتناقلوا خبره وحديثه، ثم شرع في إملاء الحديث على طريق السلف في ذكر الأسانيد والرواة والمخرجين من حفظه على طرق مختلفة، وكل من قدم عليه يملي عليه الحديث المسلسل بالأولية، وهو حديث الرحمة برواته ومخرجيه، ويكتب له سنداً بذلك وإجازة وسماع الحاضرين فيعجبون من ذلك، ثم إن بعض علماء الأزهر ذهبوا إليه وطلبوا منه إجازة، فقال لهم لا بد من قراءة أوائل الكتب، واتفقوا على الاجتماع بجامع شيخون بالصليبة الاثنين والخميس تباعداً عن الناس، فشرعوا في صحيح البخاري بقراءة السيد حسين الشيخوني، واجتمع عليهم بعض أهل الخطة والشيخ موسى الشيخوني إمام المسجد وخازن الكتب، وهو رجل كبير معتبر عند أهل الخطة وغيرها، وتناقل في الناس سعي علماء الأزهر مثل الشيخ أحمد السجاعي والشيخ مصطفى الطائي والشيخ سليمان الأكراشي وغيرهم للأخذ عنه، فازداد شأنه وعظم قدره، واجتمع عليه أهل تلك النواحي وغيرها من العامة والأكابر والأعيان، والتمسوا منه تبيين المعاني، فانتقل من الرواية عن الدراية، وصار درساً عظيماً، فعند ذلك انقطع عن حضوره أكثر الأزهرية، وقد استغنى عنهم هو أيضاً، وصار يملي على الجماعة بعد قراءة شيء من الصحيح حديثاً من المسلسلات أو فضائل الأعمال، ويسرد رجال سنده ورواته من حفظه، ويتبعه بأبيات من الشعر كذلك، فيتعجبون من ذلك لكونهم لم يعهدوها فيما سبق في المدرسين المصريين، وافتتح درساً آخر في مسجد الحنفي وقرأ الشمائل في غير الأيام المعهودة بعد العصر، فازدادت شهرته، وأقبلت الناس من كل ناحية لسماعه ومشاهدة ذاته، لكونها على خلاف هيئة المصريين وزيهم. ودعاه كثير من الأعيان إلى بيوتهم وعملوا من أجله ولائم فاخرة، فيذهب إليهم مع خواص الطلبة والمقرئ والمستملي، وكاتب الأسماء فيقرأ لهم شيئاً من الأجزاء الحديثية، كثلاثيات البخاري أو الدارمي أو بعض المسلسلات بحضور الجماعة وصاحب المنزل وأصحابه وأحبابه وأولاده، وبناته ونسائه من خلف الستائر، وبين(1/1498)
أيديهم مجامر البخور بالعنبر والعود مدة القراءة، ثم يختمون ذلك بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على النسق المعتاد، ويكتب الكاتب أسماء الحاضرين والسامعين حتى النساء والصبيان والبنات واليوم والتاريخ، ويكتب الشيخ تحت ذلك: صحيح ذلك، وهذه كانت طريقة المحدثين في الزمن السابق كما رأيناه في الكتب القديمة.
يقول الحقير إني كنت مشاهداً وحاضراً في غالب هذه المجالس والدروس، ومجالس أخر خاصة بمنزله وبسكنه القديم بخان الصاغة، وبمنزلنا بالصنادقية وبولاق، وأماكن أخر كنا نذهب إليها للنزهة مثل غيض المعدية والأزبكية وغير ذلك، فكنا نشتغل غالب الأوقات بسرد الأجزاء الحديثية وغيرها، وهو كثير بثبوت المسموعات على النسخ، وفي أوراق كثيرة موجودة إلى الآن. وانجذب إليه بعض الأمراء الكبار مثل مصطفى بك الاسكندراني وأيوب بك الدفتردار، فسعوا إلى منزله، وترددوا لحضور مجالس دروسه، وواصلوه بالهدايا الجزيلة والغلال. واشترى الجواري وعمل الأطعمة للضيوف، وأكرم الواردين والوافدين من الآفاق البعيدة. وحضر عبد الرزاق أفندي الرئيس من الديار الرومية إلى مصر، وسمع به فحضر إليه والتمس منه الإجازة وقراءة مقامات الحريري، فكان يذهب إليه بعد فراغه من درس شيخون، ويطالع له ما تيسر من المقامات ويفهمه معانيها اللغوية. ولما حضر محمد باشا عزت الكبير رفع شأنه عنده وأصعده إليه وخلع عليه فروة سمور، ورتب له تعييناً من كلاره لكفايته من لحم وسمن وأرز وحطب وخبز، ورتب له علوفة جزيلة بدفتر الحرمين والسائرة وغلالاً من الأنبار، وأنهى إلى الدولة شأنه، فأتاه مرسوم بمرتب جزيل بالضربخانة، وقدره مائة وخمسون نصفاً فضة في كل يوم، وذلك في سنة إحدى وتسعين ومائة وألف، فعظم أمره وانتشر صيته. وطلب إلى الدولة في سنة أربع(1/1499)
وتسعين، فأجاب ثم امتنع، وترادفت عليه المراسلات من أكابر الدولة، وواصلوه بالهدايا والتحف والأمتعة الثمينة في صناديق. وطار ذكره في الآفاق، وكاتبه ملوك النواحي من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والبصرة والعراق، وملوك المغرب والسودان وفزان والجزائر والبلاد البعيدة، وكثرت عليه الوفود من كل ناحية، وترادفت عليه منهم الهدايا والصلات والأشياء الغريبة، وأرسلوا إليه من أغنام فزان وهي عجيبة الخلقة عظيمة الجثة يشبه رأسها رأس العجل، وأرسلها إلى أولاد السلطان عبد الحميد، فوقع لهم موقعا، وكذلك أرسلوا له من طيور الببغا، والجواري والعبيد والطواشية، فكان يرسل من طرائف الناحية إلى الناحية المستغرب ذلك عندها، ويأتيه في مقابلتها أضعافها، وأتاه من طرائف الهند وصنعاء اليمن وبلاد سرت وغيرها أشياء نفيسة، وماء الكاري والمربيات والعود والعنبر والعطر شاه بالأرطال، وصار له عند أهل المغرب شهرة عظيمة ومنزلة كبيرة واعتقاد زائد، وربما اعتقدوا فيه القطبانية العظمى، حتى أن أحدهم إذا ورد إلى مصر حاجاً ولم يزره ولم يصله بشيء لا يكون حجه كاملاً، فإذا ورد عليه أحدهم سأله عن اسمه ولقبه وبلده وخطته وصناعته وأولاده، وحفظ ذلك أو كتبه، ويستخبر من هذا عن ذاك بلطف ورقة، فإذا ورد عليه قادم من قابل سأله عن اسمه وبلده، فيقول له فلان من بلدة كذا، فلا يخلو إما أن يكون عرفه من غيره سابقاً أن عرف جاره أو قريبه، فيقول له فلان طيب فيقول نعم سيدي، ثم يسأله عن أخيه فلان وولده فلان وزوجته وابنته ويشير له باسم حارته وداره وما جاورها، فيقوم ذلك المغربي ويقعد ويقبل الأرض تارة ويسجد تارة، ويعتقد أن ذلك من باب الكشف الصريح، فتراهم في أيام طلوع الحج ونزوله مزدحمين على بابه من الصباح إلى الغروب، وكل من دخل منهم قدم بين يدي نجواه شيئاً ما، أو تمراً أو شمعاً على قدر فقره وغناه، وبعضهم يأتيه بمراسلات وصلات من أهل بلاده وعلمائها وأعيانها، ويلتمسون منه الأجوبة، فمن ظفر منهم(1/1500)
بقطعة ورقة ولو بمقدار الأنملة فكأنما ظفر بحسن الخاتمة، وحفظها معه كالتميمة، ويرى أنه قد قبل حجه، وإلا فقد باء بالخيبة والندامة، وتوجه عليه اللوم من أهل بلاده، ودامت حسرته إلى يوم ميعاده، وقس على ذلك ما لم يقل.
وشرع في شرح كتاب إحياء العلوم للغزالي وبيض منه أجزاء، وأرسل منها إلى الروم والشام والغرب ليشتهر مثل شرح القاموس، ويرغب في طلبه واستنساخه.
وماتت زوجته في سنة ست وتسعين فحزن عليها حزناً كثيراً، ودفنها عند المشهد المعروف بمشهد السيدة رقية، وعمل على قبرها مقاماً ومقصورة، وستوراً وفرشاً وقناديل، ولازم قبرها أياماً كثيرة، وتجتمع عنده الناس والقراء والمنشدون، ويعمل لهم الأطعمة والثريد والكسكسون والقهوة والشربات، واشترى مكاناً بجوار المقبرة المذكورة وعمره بيتاً صغيراً، وفرشه وأسكن به أمها، ويبيت به أحياناً، وقصده الشعراء بالمراثي فيقبل منهم ذلك ويجيزهم عليه، ورثاها هو بقصائد وجدتها بخطه بعد وفاته في أوراقه المدشتة، على طريقة شعر مجنون ليلى، منها قوله:
أعاذل من يرزأ كرزئي لا يزل ... كئيباً ويزهد بعده في العواقب
أصابت يد البين المشت شمائلي ... وحاقت نظامي عاديات النوائب
وكنت إذا ما زرت زبدا سحيرة ... أعود إلى رحلي بطين الحقائب
أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها ... من الخفرات البيض غير الكواعب
فتاة الندى والجود والحلم والحيا ... ولا يكشف الأخلاق غير التجارب
فديت لها، ما يستذم رداؤها ... عميدة قوم من كرام أطايب
عليها سلام الله في كل حالة ... ويصحبه الرضوان فوق المراتب
مدى الدهر ما ناحت حمامة أيكة ... بشجو يثير الحزن من كل نادب(1/1501)
وقوله أيضاً:
يقولون لا تبكي زبيدة واتئد ... وسل هموم النفس بالذكر والصبر
وتأتي لي الأشجان من كل وجهة ... بمختلف الأحزان بالهم والفكر
وهل لي تسل من فراق حبيبة ... لها الجدث الأعلى بيشكر من مصر
أبى الدمع إلا أن يعاهد أعيني ... بمحجرها والقدر يجري إلى القدر
فأما تروني لا تزال مدامعي ... لدى ذكرها تجري إلى آخر العمر
وقوله أيضاً:
خليلي ما للأنس أضحى مقطعاً ... وما لفؤادي لا يزال مروعا
أمن غير الدهر المشت وحادث ... ألمّ برحلي أم تذكرت مصرعا
وإلا فراق من أليفة مهجتي ... زبيدة ذات الحسن والفضل أجمعا
مضت فمضت عني بها كل لذة ... تقر بها عيناي فانقطعا معا
لقد شربت كأساً سنشرب كلنا ... كما شربت لم يجد عن ذاك مدفعا
وقوله أيضاً:
خليلي هل ذكرى الأحبة نافع ... فقد خانني الصبر الجميل العواقب
وهل لي عود في الحمى أم تراجع ... لوصل بتلك الآنسات الكواعب
لقد رحلت عني الحبيبة غدوة ... وسارت إلى بيت بأعلى السباسب
أقول وما يدري أناس غدوا بها ... إلى اللحد ماذا أدرجوا في السباسب
فأخرت عنها في المسير وليتني ... تقدمت لا ألوي على حزن نادب
وقوله أيضاً:
زبيدة شدت للرحيل مطيها ... غداة الثلاثا في غلائلها الخضر
وطافت بها الأملاك من كل وجهة ... ودق لها طبل السماء بلا نكر
تميس كما ماست عروس بدلها ... وتخطر تيها في البرانس والأزر
سأبكي عليها ما حييت وإن أمت ... ستبكي عظامي والأضالع في القبر
ولست بها مستبقياً فيض عبرة ... ولا طالباً بالصبر عاقبة الصبر!(1/1502)
وقوله أيضاً:
نعم الفتاة بها فجعت غدية ... وكذاك فعل حوادث الأيام
شدت مطايا البين ثم ترحلت ... وتمايلت أكوارها بسلام
رحلت لرحلتها غداة تجملت ... أحلامنا من قاعد وقيام
ما خلفت من بعدها في أهلها ... غير البكا والحزن والأيتام
يا لهف نفس حسن أخلاق لها ... جبلت عليه ووصلة الأرحام
وإطاعة للبعل ثم عناية ... صرفت لإطعام ولين كلام
تلك المكارم فابكها ما رنحت ... ريح الصبا سحراً غصون بشام
يا وارداً يوماً على قبر لها ... قف ثم راجع من شج بسلام
وقلن لها قد كنت فيما قد مضى ... تأتي له عند اللقا بمقام
واليوم مالك قد هجرت فهل لذا ... سبب فقولي يا ابنة الأعلام
وغير ذلك تركته خوفاً من الإطالة، وفي هذا القدر كفاية في هذا المقام.
ثم تزوج بعدها بأخرى وهي التي مات عنها وأحرزت ما جمعه من مال وغيره.
ولما بلغ ما لا مزيد عليه من الشهرة وبعد الصيت وعظم القدر والجاه عند الخاص والعام، وكثرت عليه الوفود من سائر الأقطار، وأقبلت عليه الدنيا بحذافيرها من كل ناحية، لزم داره واحتجب عن أصحابه الذين كان يلم بهم قبل ذلك إلا في النادر لغرض من الأغراض، وترك الدروس والإقراء واعتكف بداخل الحريم، وأغلق الباب ورد الهدايا التي تأتيه من أكابر المصريين ظاهرة. وأرسل إليه مرة أيوب بك الدفتردار مع نجله خمسين اردبا من البر، وأحمالاً من الأرز والسمن والعسل والزيت، وخمسمائة ريال نقود، وبقج كساوي أقمشة هندية وجوخاً وغير ذلك، فردها، وكان ذلك في رمضان، وكذلك مصطفى بك الاسكندراني وغيرهما، وحضرا إليه، فاحتجب عنهما ولم يخرج إليهما، ورجعا من غير أن يواجهاه.(1/1503)
ولما حضر حسن باشا على الصورة التي حضر فيها إلى مصر، لم يذهب إليه بل حضر هو لزيارته وخلع عليه فروة تليق به، وقدم له حصاناً معدوداً مرختاً بسرج، وعباءة قيمتها ألف دينار، أعد ذلك وهيأه قبل زيارته له، وكانت شفاعته عنده لا ترد، وإن أرسل إليه إرسالية في شيء تلقاها بالقبول والإجلال، وقبل الورقة قبل أن يقرأها ووضعها على رأسه ونفذ ما فيها في الحال.
وأرسل مرة إلى أحمد بك الجزار مكتوباً وذكر له فيه أنه المهدي المنتظر! وسيكون له شأن عظيم، فوقع عنده بموقع الصدق لميل النفوس إلى الأماني، ووضع ذلك المكتوب في حجابه المقلد به مع الإحراز والتمائم، فكان يسر بذلك إلى بعض من يرد عليه ممن يدعي المعارف في الجفور والزايرجات، ويعتقد صحته بلا شك، ومن قدم عليه من جهة مصر وسأله عن المترجم فإن أخبره وعرفه أنه اجتمع به وأخذ عنه وذكره بالمدح والثناء أحبه وأكرمه وأجزل صلته، وإن وقع منه خلاف ذلك قطب منه وأقصاه عنه وأبعده ومنع عنه بره، ولو كان من أهل الفضائل! واشتهر ذلك عنه عند من عرف ذلك منه بالفراسة، ولم يزل على حسن اعتقاده في المترجم حتى انقضى نحبهما.
واتفق أن مولاي محمداً سلطان المغرب رحمه الله تعالى وصله بصلات قبل انجماعه الأخير وتزهده وهو يقبلها ويقابلها بالحمد والثناء والدعاء، فأرسل له في سنة إحدى ومائتين صلة لها قدر، فردها، وتورع عن قبولها وضاعت، ولم ترجع إلى السلطان، وعلم السلطان من جوابه فأرسل إليه مكتوباً قرأته، وكان عندي ثم ضاع في الأوراق، ومضمونه العتاب والتوبيخ في رد الصلة، ويقول له إنك رددت الصلة التي أرسلناها إليك من بيت مال المسلمين، وليتك حيث تورعت عنها كنت فرقتها على الفقراء والمحتاجين، فيكون لنا ولك أجر ذلك، إلا أنك رددتها وضاعت، ويلومه أيضاً على(1/1504)
شرحه كتاب الإحياء ويقول له كان ينبغي أن تشغل وقتك بشيء نافع غير ذلك، ويذكر وجه لومه له في ذلك، وما قاله العلماء، وكلاماً مفحماً مختصراً مفيداً رحمه الله تعالى.
وللمترجم من المصنفات خلاف شرح القاموس وشرح الإحياء تأليفات كثيرة، منها كتاب الجواهر المنيفة في أصول أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه مما وافق فيه الأئمة الستة، وهو كتاب نفيس حافل، رتبه ترتيب كتب الحديث من تقديم ما روي عنه في الاعتقاديات، ثم في العمليات، على ترتيب كتب الفقه، والنفحة القدسية بواسطة البضعة العيدروسية، جمع فيه أسانيد العيدروس، وهي في نحو عشرة كراريس، والعقد الثمين في طرق الإلباس والتلقين، وحكمة الإشراق إلى كتاب الآفاق. وشرح الصدر في شرح أسماء أهل بدر في عشرين كراساً ألفها لعلي أفندي درويش، وألف باسمه أيضاً التفتيش في معنى لفظ درويش، ورسائل كثيرة جداً، منها رفع نقاب الخفا عمن انتمى إلى وفا وأبي الوفا، وبلغة الأريب في مصطلح آثار الحبيب، وإعلام الأعلام بمناسك حج بيت الله الحرام، وزهر الأكمام المنشق عن جيوب الإلهام بشرح صيغة سيدي عبد السلام، ورشفة المدام المختوم البكري من صفوة زلال صيغ القطب البكري، ورشف سلاف الرحيق في نسب حضرة الصديق، والقول المثبوت في تحقيق لفظ التابوت، وتنسيق قلائد المنن في تحقيق كلام الشاذلي أبي الحسن، ولقط اللآلي من الجوهر الغالي، وهي في أسانيد الأستاذ الحفني، وكتب له إجازته عليها في سنة سبع وستين، وذلك سنة قدومه إلى مصر، والنوافح المسكية على الفوائح(1/1505)
الكشكية، وجزء في حديث نعم الأدام الخل، وهدية الإخوان في شجرة الدخان، ومنح الفيوضات الوفية فيما في سورة الرحمن من أسرار الصفة الإلهية، وإتحاف سيد الحي بسلاسل بني طي، وبذل المجهود في تخريج حديث شيبتني هود، والمربي الكابلي فيمن روى عن الشمس البابلي، والمقاعد العندية في المشاهد النقشبندية، ورسالة في المناشي والصفين، وشرح على خطبة الشيخ محمد البحيري البرهاني على تفسير سورة يونس مستقل على لسان القوم، وشرح على حزب البر للشاذلي وتكملة على شرح حزب البكري للفاكهي من أوله، فكمله للشيخ أحمد البكري، ومقامة سماها إسعاف الأشراف، وأرجوزة في الفقه نظمها باسم الشيخ حسن بن عبد اللطيف الحسني المقدسي، وحديقة الصفا في والدي المصطفى، وقرظ عليها الشيخ حسن المدابغي، ورسالة في طبقات الحفاظ، ورسالة في تحقيق قول أبي الحسن الشاذلي وليس من الكرم، الخ وعقيلة الأتراب في سند الطريقة والأحزاب، صنفها للشيخ عبد الوهاب الشربيني، والتعليقة على مسلسلات ابن عقيلة، والمنح العلية في الطريقة النقشبندية، والانتصار لوالدي النبي المختار، وألفية السند، ومناقب أصحاب الحديث، وكشف اللثام عن آداب الإيمان والإسلام، ورفع الشكوى لعالم السر والنجوى، وترويح القلوب بذكر ملوك بني أيوب، ورفع الكلل عن العلل، ورسالة سماها قلنسوة التاج ألفها باسم الأستاذ العلامة الصالح الشيخ محمد بن بدير المقدسي، وذلك لما أكمل شرح القاموس المسمى بتاج العروس، فأرسل إليه كراريس من أوله حين كان بمصر، وذلك سنة اثنتين وثمانين ليطلع عليها شيخه الشيخ عطية الأجهوري ويكتب عليها تقريظاً ففعل ذلك، وكتب إليه يستجيزه، فكتب إليه أسانيده العالية في كراسة وسماها قلنسوة التاج، وأولها بعد البسملة الحمد لله الذي رفع(1/1506)
متن العلماء وشرح بالعلم صدورهم، وأعلا لهم سنداً وصحح الحسن من حديثهم فصار موصولاً غير مقطوع ولا متروك أبداً، وحمى قلوبهم عن ضعف اليقين في الدين، فلم تضطرب ولم تنكر الحق بل صارت لإفادته مقصداً. والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وآله أئمة الهدى، وصحبه نجوم الاهتدا، ما اتصل الحديث وتسلسل، وسلم من العلل، والشذوذ سرمدا. وبعد فهذه قلنسوة التاج، صنعت بأفخر ديباج، بل غنية المحتاج وبل صدى المزاج، وزهرة الابتهاج والقصر المشيد بالأبراج، والمصباح المغني عن أبي السراج، بل الدرع الموصوف بلآلي عوالي غوالي، أحاديث موصولة إلى صاحب الإسراء والمعراج، رصعت باسم الكوكب الوضاح المستنير بأضواء مصباح الفلاح، المتشح باردية أسرار التحقيق والمتزر بملاءة أنوار التوفيق، المنصف في جدله غير محاب لقريب والآتي من تقريره بالعجب العجيب، ذي المناقب التي لا يستوعبها البنان واللسان، ولا يبلغ أداء شكره، ولو أطلقت اللسان بالثناء عليه على ممر الزمان، صاحبنا الفاضل العلامة الجمال محمد بن بدير الشافعي المقدسي رحمه الله تعالى آمين.
إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيصير بدراً كاملا
أضاء الله بدر كماله، وحرس مجده بجلاله، وهذا أوان الشروع في المقصود بعون الملك المعبود وكتب في آخرها ما نصه:
أجزت له إبقاء ربي وحاطه ... بكل حديث حاز سمعي بإتقان
وفقه وتاريخ وشعر رويته ... وما سمعت أذني وقال لساني
على شرط أصحاب الحديث وضبطهم ... بريئاً عن التصحيف من غير نكران
كتبت له خطي واسمي محمد ... وبالمرتضى عرفت والله يرعاني
ولدت بعام ارخوا فك ختمه ... وبالله توفيقي وبالله تكلاني
وكتب معها جواب كتابه ما نصه: أمعاطف أغصان النقا تترنح، أم القلوب بميلانها إلى المحبوب تتروح، ورنات أوتار العيدان بأنات أهل(1/1507)
الغرام والشوق، أم هيجان البلابل بسجوع البلابل وتغريد ذات الطوق، أم دعوة روح القدس تهتف بميت فيقوم حيا، أم مقدم عيس حبيب أحيا تدانيه عشاق معاليه وحيا، ما هذه إلا صدى تشبيب نسيم بث الشوق وإهداء التحيات، كلا بل نفحات عبهر الثناء وإرسال تحف التسليمات إلى ممد ماء الحب من ميم مد بحره البسيط، والفيض للمجتدي من رشحات قاموس بره المحيط، من نثر لآليء القول البديع على مفارق مهارق الصباحة والملاحة، ونشر ملاءة الإحسان على غرة طلعة تاج عروس الفصاحة، مردي فارس البراعة في الميدان إذا اقتعدها سلهبا سبوحا، الممطر غارب النجابة والإتقان بجلالة قدر تخضع له من الفلك الأطلس برجا، هو الذي إذا قال أقال عثار الدهر، وقال تحت إفياء ظلال دوحة الفخر، وإذا رقم فصفحة الفلك بالزواهر، مرقومة، وإذا رسم فجبهة الأسد بايات الحرس موسومة، وشاهدي ما شاهدته في كتابه المنيف الواصل إلي، وخطابه الشريف الوارد علي، فعين الله على منشئ تلك الفصاحة سملت من الحصر، إلا وإن وردها الحضر أعيا البدو والحضر، وقد صدر إليه ما أشار على المحب في ختام خطابه، وعرج عليه هضماً لنفسه فلم يك إلا كالمسك يتنافس فيه وراد جنابه. ولو أن فيوضات العلوم والمعارف من غير حماكم لا تستماح، وممدات المنح والعوارف من غير حيكم لا تستباح، ولكن رأى الإطاعة في ذلك مغنما، وتحقق التباطؤ في مثل ذلك مغرماً، فأشرق أفق سعد القبول بمقياسه، وسعى قلم الإجازة في الخدمة على كراسه، وعطر بيان أسانيد العوالي فردوس الأسناد بأنفاسه، وهبت غالية نسائم كمائم اللطائف، وهبت بارقة غمائم المشارق والمراشف، وتمايلت أفنان الاتصال برماح علو الإسناد، وسقى قلم التحرير رياض الإجازة من جريال(1/1508)
الإمداد، فدونكها إجازة خاصة، على مدارج كمالاتك ناصة، كأنها عروس جليت بالتاج، وحليت بأفخر ديباج، ولولا مخافة طول العهد، والتماس السعد في الحث على إنجاز الوعد، بتنضد تاج الملفقات، لكانت مفلقات الكلم المتفرقات، بغيث ذكركم المنسجم مجلدات، فهي بطاقة تحمل في كل كلمة غريدة بان، وتنفث السحر في عقد البيان، فامتط غارب سنامها، واهتصر ثمرات نظامها، دمت لذروة المعالي متسنماً، ولأنفاس رياض السعادة متنسماً آمين.
أقول: والشيخ محمد بدير المذكور، هو الآن فريد عصره في الديار المقدسة، يبدي ويعيد ويدرس ويفيد، بارك الله فيه مدى الأيام، وامتع بوجوده الأنام آمين.
وللمترجم أشعار كثيرة جوهرية النفثات صحاح، وعرائس أبيات ذات وجوه صباح، منها قوله من قصيدة يمدح بها الأستاذ العلامة شمس الدين السيد محمد أبا الأنوار بن وفا أطال الله بقاه، ويذكر فيها نسبه الشريف منها:
مدحت أبا الأنوار أبغي بمدحه ... وفور حظوظي من جليل المآرب
نجيباً تسامى في المشارق نوره ... فلاحت بواديه لأهل المغارب
محمد الباني مشيد افتخاره ... بعز المساعي وابتذال المواهب
ربيب العلا المخضل سيب نواله ... سماء الندى المنهل صوب السحائب
كريم السجايا الغر واسطة العلا ... بسيم المحيا الطلق ليس بغاضب
حوى كل علم واحتوى كل حكمة ... ففات مرام المستمر الموارب
به ازدهت الدنيا بهاء وبهجة ... وزادت جمالاً من جميع الجوانب
مخايله تنبيك عما وراءها ... وأنواره تهديك سبل المطالب
له نسب يعلو بأكرم والد ... تبلج منه عن كريم المناسب
وهي طويلة ذكرها في خاتمة رفع نقاب الخفاء. ومن كلامه في مدح المشار إليه قوله:(1/1509)
زار عن غفلة من الرقباء ... في دجى الليل طيف حب نائي
يا لها زورة على غير وعد ... نسخت آيها ظلام النائي
بت منها منعماً في سرور ... ومحا نورها دجى الظلماء
وتجلى إشراقها بوصال ... مهديا للقلوب كل هناء
ويقول في مديحها:
عمدة ماجد مكنى أبا الأن ... وار رب الفخار نجل الوفاء
أشرف العالمين أصلاً وفصلاً ... مفرد العصر نخبة الأصفياء
ويقول فيها:
أشرقت في قلوبنا من سناه ... نيرات بهية الأضواء
هو روح الإله في كل مجلى ... هو تاج الجمال للعلياء
هو بدر البدور في كل أوج ... هو نجم الهدى وشمس الضحاء
هو باب المنى فتحاً ونصراً ... منه تمت مظاهر النعماء
هو رجائي وعدتي ونصيري ... واعتمادي في شدتي ورخائي
ومدحه صاحبنا يتيمة الدهر، وبقية نجباء العصر، الناظم الناثر السيد إسماعيل الوهبي الشهير بالخشاب، بهذه القصيدة الغراء اللامية وهي:
ذاك المحيا وذاك الفاحم الرجل ... با آبلبي وتلك الأعين النجل
وبي غزالاً إذا شمس الضحى أفلت ... أراه شمساً وجنح الليل منسدل
أغن أغيد وضاح الجبين له ... خد أسيل وطرف كله كحل
نشوان لم يحتسي صرفاً مشعشعة ... لكنه بالذي في ثغره ثمل
أقام في كبدي الوجد المضر به ... حتى تحلل فيما تسفح المقل
وفي الجوانح أذكى صده حرقاً ... تكاد من حرها الأحشاء تشتعل
حملت فيه الذي تعي الجبال به ... وما لقيس بما قاسيته قبل
كم بت فيه وأشواقي تؤرقني ... ودمع عيني على خدي ينهمل
وعاذل جاء يلحاني فقلت له ... دعني بمدحي إمام العصر أشتغل(1/1510)
محمد المرتضى الراقي ذرى شرف ... تلوح من دونه الجوزاء والحمل
السيد السند الثبت الموضح ما ... للعجز قد تركت إيضاحه الأول
صدر الشريعة مصباح البرية من ... يضيق عن وصفه التفصيل والجمل
أحيا معالم علم كنت أنشدها ... إنا محبوك فاسلم أيها الطلل
وقام في الله للإسلام منتصراً ... وكاد لولاه يصغي الحادث الجلل
أعيا أكف الكرام الحافظين له ... في رقم صالح قول أثره عمل
للخط أولا فللخطي راحته ... فما له عنهما إلا الندى شغل
ومنها:
ضرائب من معال لم يخص بها ... غلاه منها سواه حظه العطل
يا ابن الذي قد غدا جبريل خادمه ... وبشرت قومها قدما به الرسل
خذها إليك وإن كانت مقصرة ... حسبي علا أنها حبلي المادح الغزل
لا زلت مبلغ مثلي ما يؤمله ... وللمروع أمناً إن عرا وجل
فأجابه بقوله:
اعقد لآل أم نجوم ثواقب ... أم الروض فيه الورق جاءت تخاطب
وإلا غروس في ملاء محاسن ... لها الصون عن عين الحواسد حاجب
والانظام من حبيب ممجد ... أخي الفضل من دانت لديه الغوارب
وهي طويلة، وله أيضاً:
إذا ما هب سلطان المريسي ... وأبدى الجو وجهاً للعبوس
فزعت بمفرد الكافات يأتي ... بجمع حاصل هو كاف كيسي
به أصبحت أرفل في كساء ... به أمسيت في كن نفيس
به تجلى من السمراء كأسي ... إلي على يدي غزلان خيس
فارشف تارة منها وطورا ... من الثغر الشنيب بلا مقيس(1/1511)
وله في المعنى:
إذا ضم قطر الجو عنا ... وهبت رياح بالعشية بارده
قصرت على كاف الكتاب مطالعاً ... ومقتبساً منه فوائد شارده
وله أيضاً:
قد عد قوم في الشتاء لذائذا ... كافية تكفي لدى الأنواء
كالكيس والكانون والكن الذي ... يأوي له العاني وكأس طلاء
ثم الكتاب وسادس الكافات من ... شمس تضيء دنت وكاف كساء
ولدي أن الكيس يجمع كل ما ... ذكروا من الأفراد والأجزاء
وله في المعنى:
لكاف الكيس فضل مستمر ... يفوق به على الكافات طرا
إذا ظفرت به كفاك يوماً ... تسنى سائر الكافات قسرا
وله أيضاً في المعنى:
إذا هب سلطان المريسي غدوة ... وجلل آفاق السماء سحاب
وضاق لتحصيل الأماني مذاهب ... فنعم جليس الصالحين كتاب
وله أيضاً:
كاف الكياسة مع كيس إذا اجتمعا ... يوماً لمرء إلا في العصر سلطانا
بالكيس يصبح مقضياً حوائجه ... وبالكياسة يولي الكيس إحسانا
والكيس منفردا مضن بصاحبه ... والكيس منفرداً يوليه مجانا
وله في إجازة:
أجزت لمن حوى قصب الفخار ... وجلى في العلوم فلا مجاري
رواياتي جميعاً عن شيوخ ... ثقات أهل فضل واختبار
لهم بين الملا صيت ومجد ... وفخر واعتماد في اشتهار
ومنظومي ومنثوري جميعاً ... وإن لم أك أهلا لاعتبار(1/1512)
وحسن الظن بالاغضا كفيل ... ورعي العهد مع بعد المزار
فأنت المفرد العلم المنادي ... ومثلك من أصاخ إلى اعتذار
ولا تغفل محبك من دعاء ... بنيل القصد في تلك الديار
ويرجو المرتضى منكم قبولا ... عسى يعطى الرضى عند القرار
بجاه المصطفى خير البرايا ... إمام المرسلين المستجار
على عليائه أزكى سلام ... وصحب ما أضت شمس النهار
وله في أسماء أهل الكهف على الخلاف الوارد فيهم:
بتمليخ مكسلمين مشلين بعده ... دبرنوش مرنوش أشداء للكهف
وخذشادنوشا سادس الصحب ذاكرا ... كغشططيوش في رواية ذي العرف
نوانس سانينوس مع بطينوشهم ... مكرطونش تلك الروايات فاستوف
وكشفوطط كندسلططنوس هكذا ... روينا وارنوش على حسب الخلف
وبنيونس كشنيطط اربطانس ... ومرطوكش عند الأجلة في الصحف
وكلبهم قطمير سابع سبعة ... فخذ وتوسل يا أخا الكرب والرجف
ومن كلامه أيضاً:
توكل على مولاك واخش عقابه ... وداوم على التقوى وحفظ الجوارح
وقدم من البر الذي تستطيعه ... ومن عمل يرضاه مولاك صالح
وأقبل على فعل الجميل وبذله ... إلى أهله ما اسطعت غير مكالح
ولا تسمع الأقوال من كل جالب ... فلا بد من مثن عليك وقادح
ونظمه كثير، ونثره بحر غزير، وفضله شهير وذكره مستطير. وكنت كثيراً ما أجتلي وجه وداده، وأوقد نار الفكرة بقدح واري زناده، واستظل بدوحه المريع، واستمد من بحره السريع، وأسامره بما يذكرنا عهود الرقمتين، وأتنزه من صفات فضله وذاته في الربيعين، كما قيل:(1/1513)
وكانت بالعراق لنا ليال ... سرقناهن من ريب الزمان
جعلناهن تاريخ الليالي ... وعنوان المسرة والأماني
وبالجملة فإنه كان في جمع المعارف صدراً لكل ناد، حتى قوض الدهر منه رفيع العماد، وأذنت شمسه بالزوال، وغربت بعد ما طلعت من مشرق الإقبال، كما قيل:
وزهرة الدنيا وإن أينعت ... فإنها تسقى بماء الزوال
وقد نعاه الفضل والكرم، وناحت لفراقه حمائم الحرم؛ وأصيب بالطاعون في شهر شعبان، وذلك أنه صلى الجمعة في مسجد الكردي المواجه لداره، فطعن بعد ما فرغ من الصلاة، ودخل إلى البيت واعتقل لسانه تلك الليالي، وتوفي يوم الأحد، فأخفت زوجته وأقاربها موته حتى نقلوا الأشياء النفيسة والمال والذخائر، والأمتعة والكتب المكلفة، ثم أشاعوا موته يوم الاثنين، فحضر إسماعيل بك طبل الإسماعيلي، ورضوان كتخدا المجنون وادعى أن المتوفى أقامه وصيا مختاراً، وعثمان بك ناظراً بسبب أن زوج أخت الزوجة من أتباع المجنون، يقال له حسين آغا، فلما حضروا وصحبتهما مصطفى أفندي صادق، أخذوا ما أحبوه وانتقوه من المجلس الخارج، وخرجوا بجنازته وصلوا عليه، ودفن بقبر أعده لنفسه بجانب زوجته بالمشهد المعروف بالسيدة رقية، ولم يعلم بموته أهل الأزهر ذلك اليوم، لاشتغال الناس بأمر الطاعون، وبعد الخطة، ومن علم منهم وذهب لم يدرك الجنازة، ومات رضوان كتخدا في أثر ذلك، واشتغل عثمان بك بالإمارة لموت سيده أيضاً، وأهمل أمر تركته فأحرزت زوجته وأقاربها متروكاته، ونقلوا الأشياء الثمينة والنفيسة إلى دارهم، ونسي أمره شهوراً، حتى تغيرت الدولة وتملك الأمراء المصريون الذين كانوا بالجهة القبلية، وتزوجت زوجته برجل من الأجناد من أتباعهم،(1/1514)
فعند ذلك فتحوا التركة بوصايا الزوجة من طرف القاضي، خوفاً من ظهور وارث، وأظهروا ما انتقوه مما انتقوه من الثياب وبعض الأمتعة والكتب والدشتات، وباعوها بحضرة الجمع، فبلغت نيفاً ومائة ألف نصف فضة، فأخذ منها بيت المال شيئاً، وأحرز الباقي مع الأول، وكانت مخلفاته شيئاً كثيراً جداً، أخبرني المرحوم حسن الحريري وكان من خاصته وممن يسعى في خدمته ومهماته، أنه حضر إليه في يوم السبت وطلب الدخول لعيادته، فأدخلوه إليه، فوجده راقداً معتقل اللسان، وزوجته وأصهاره في كبكبة واجتهاد في إخراج ما في داخل الخبايا والصناديق إلى الليوان، ورأيت كوماً عظيماً من الأقمشة الهندية والمقصبات والكشيمري والفراء، من غير تفصيل نحو الحملين، وأشياء في ظروف وأكياس لا أعلم ما فيها، قال: ورأيت عدداً كثيراً من ساعات العب الثمينة مبدداً على بساط القاعة، وهي بغلافات بلادها، قال فجلست عند رأسه حصة وأمسكت يده، ففتح عينيه ونظر إلي وأشار كالمستفهم عما هم فيه، ثم غمض عينيه وذهب في غطوسه، فقمت عنه، قال: ورأيت في الفسحة التي أمام القاعة قدراً كثيراً من شمع العسل الكبير والصغير، والكافوري والمصنوع والخام، وغير ذلك مما لم أره ولم ألتفت إليه.
ولم يترك ابنا ولا ابنة، ولم يرثه أحد من الشعراء، وكان صفته ربعة نحيف البدن ذهبي اللون متناسب الأعضاء، معتدل اللحية قد خط الشيب في أكثرها، مترفهاً في ملبسه، ويعتم مثل أهل مكة عمامة منحرفة بشاش أبيض، ولها عذبة مرخية على قفاه، ولها حبكى وشراريب حرير طولها قريب من فتر، وطرفها الآخر داخل طي العمامة، وبعض أطرافه ظاهر، وكان لطيف الذات حسن الصفات، بشوشاً بسوماً، وقوراً محتشماً، مستحضراً للنوادي والمناسبات، ذكياً لوذعياً فطناً ألمعياً، روض فضله نضير، وما له في سعة الحفظ نظير.(1/1515)
وكانت وفاته رحمه الله تعالى في شهر شعبان المعظم سنة خمس ومائتين وألف، ودفن في جانب زوجته بالمشهد المعروف بالسيدة رقية في القبر الذي أعده لنفسه هناك كما تقدم جعل الله مثواه قصور الجنان، وضريحه مطاف وفود الرحمة والغفران، وعوضه جنة ونعمة وخيراً وأجراً، وعوض المسلمين عنه خيراً، وجمعنا جميعاً وإياه في مستقر رحمته آمين.
مريم بنت محمد بن طه العقاد الحلبية الشافعية
أم عمران المقرية المسندة الصالحة الكاملة العالمة العاملة، مولدها في حلب، سنة ست وخمسين ومائة وألف. قرأت القرآن العظيم وبعض المقدمات على والدها، وحفظت متون الفنون إلى أن بلغت مرادها، وكان جل انتفاعها على والدها، وأجازها جملة من المحدثين والعلماء الكاملين، منهم العلامة الجينيني وغيره من علماء عصرها. وقد اجتمع بها العلامة محمد خليل أفندي المرادي حينما كان في حلب عام ألف ومائتين وخمسة، وأثنى عليها وشهد بعلمها وفضلها، ولم أقف على تاريخ وفاتها رحمة الله عليها آمين.
الشيخ مراد بن الشيخ محمد بن الشيخ حسن الشطي الحنبلي
ولد سنة تسع وثمانين ومائتين وألف بدمشق، ونشأ بها في حجر والده، وقرأ لديه جملة صالحة من فن الفرائض والحساب وغيره، وقرأ على الشيخ طاهر بن صالح المغربي، وعلى الشيخ بدر الدين بن يوسف المغربي، وحضر مجالس حديثية عند الشيخ بكري بن الشيخ حامد العطار، واستجاز من غيرهم. وأقبل على تحصيل الفنون وضروب الآداب، وبرع في فن الهندسة(1/1516)
والخط على اختلاف ضروبه مع صلاح وعفاف وحياء، وكنت أشاهد منه لطفاً وكمالاً، وأدباً زائداً واحتفالاً، ومحاضرة حسنة وكمالات مستحسنة وكان له همة ونظر في معالي الأمور، وقد جمع مسودة في طبقات الحنابلة المتأخرين، وجمع منظومات قريبه الأديب الشيخ عبد السلام الشطي في ديوان، وغير ذلك من مجاميع بديعة. بيد أنه قطع عليه الطريق الأجل، وناداه عجلاً فقال أجل، وذلك في شهر ذي القعدة عام أربعة عشر وثلاثمائة وألف ودفن بتربة الذهبية من مرج الدحداح رحمه الله تعالى.
السلطان مصطفى خان بن السلطان عبد الحميد خان
ولد سنة ألف ومائة وثلاث وتسعين، وجلس على تخت الملك في الحادي والعشرين من ربيع الأول سنة ألف ومائتين واثنتين وعشرين فهابه الكبير والصغير والجليل والحقير، وحصل الخوف لجميع أهل الاستانة منه ووقع الرعب في قلوب الجميع، ثم أطلقت المدافع علامة على جلوس السلطان مصطفى ونودي في المنابر باسمه، وتقدم المفتي شيخ الإسلام وقائمقام موسى(1/1517)
باشا إلى الجموع التي كانت مجتمعة في فسحة آت ميدان، وأخبروهم أن السلطان مصطفى قد وعد بإبطال ما كان مهتماً به السلطان سليم من وضع النظام الجديد وبإرجاع العوائد القديمة، فلما سمع الجميع هذا الحديث تفرقوا، وبعد أن جلس السلطان مصطفى على تخت السلطنة سلم زمام الأحكام بيد القائمقام كوسج موسى باشا والي المفتى شيخ الإسلام عطا الله أفندي، ولما بلغت هذه الأخبار الصدر الأعظم جلبي مصطفى باشا وكان رئيس الجيوش التي خرجت لقتال الروسية كما تقدم، حزن لذلك وغضب غضباً شديداً هو ومن معه من العساكر، وكان من جملتهم مصطفى باشا البيرقدار، فعقدوا صلحاً مع الروسية، ورجعوا بالعساكر ليتداركوا هذا الأمر، وأرسلوا لعساكر الانكشارية يقولون لهم نحن قادمون لنجدتهم وإتمام رغبتهم ليطمئنوا بذلك، وما دخلوا القسطنطينية إلا بعد مشاق، وأراد البيرقدار مصطفى باشا إرجاع السلطان سليم والقبض على السلطان مصطفى، وطلب من الصدر الأعظم المساعدة على ذلك، فأنكر عليه ذلك مبيناً سوء عواقب الأمور، فغضب البيرقدار غضباً شديداً، وأمر بحبسه وبلغ الخبر السلطان مصطفى فأرسل أناساً يقتلون السلطان سليم، فدخلوا عليه وهو يصلي صلاة العصر، فلم يمهلوه إلى أن يتم الصلاة بل وثبوا عليه وطرحوه إلى الأرض، فنهض حالاً عليهم كالأسد وصرعهم، وكان قوياً جداً، ثم تغلبوا عليه وخنقوه حتى مات، ورجعوا به إلى السلطان مصطفى مسرعين وطرحوه ميتاً أمامه، وكان ذلك سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف، وعمر السلطان سليم ثمان وأربعون سنة ثم أرسل أناساً وأمرهم بخنق أخيه السلطان محمود، وكان البيرقدار قد هجم بجماعة مسرعين لإنقاذ السلطان سليم فوجدوه قد مات، فاهتموا بأمر السلطان محمود، وقال لهم البيرقدار عليكم بنجاة السلطان محمود لأنه هو الوارث الوحيد لتخت السلطنة الباقي من سلالة آل عثمان، فأخذت العساكر تطلب(1/1518)
السلطان مصطفى، وتبحث عن السلطان محمود، وإن السلطان محمود لما جاءه جنود السلطان مصطفى الذين يريدون قتله أراد الفرار فرشقه أحدهم بخنجر أصاب يده فهرب، وصعد على سطوح السرايا، فلما نظرته جماعة البيرقدار وضعوا له سلماً فنزل إلى صحن الدار، حيث كان البيرقدار، وعندما نظر إليه البيرقدار فرح فرحاً عظيماً وحمد الله تعالى على خلاصه من أخيه وصار يقبل قدميه، ثم دخل به القاعة وأجلسه على تخت السلطنة، وأرسل جنداً قبضوا على السلطان مصطفى وأمر بحبسه فلما تم جلوس السلطان محمود جعل مصطفى باشا البيرقدار صدراً أعظم، وسلمه زمام الأحكام، فأخذ يجتهد في أخذ الثأر من الذين قتلوا السلطان سليم، ثم شرع في تنظيم العسكر الجديد، وطلب اجتماع أهل الحل والعقد من رجال الدولة، فلما حضروا أخذ يبين لهم شدة الاضطرار لتعليم العساكر صناعة الحرب، وإنفاذ أوامر السلطان طالباً رأيهم في ذلك، فصادقوه مذعنين لأمره، وتعهدوا بالمساعدة في كل من يؤول لنجاح المملكة، وفي الحال أخذ الصدر الأعظم في وضع ترتيبات جديدة أوجبت الملام عليه من كثيرين، وأضمروا له السوء، وصاروا يطعنون فيه جهاراً ويدعونه بالكافر، وعلقوا أوراقاً، ولا زال الأمر في اضطراب إلى أن قتل السلطان مصطفى المترجم بإشارة من السلطان محمود، سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين رحمه الله تعالى. وفي ترجمة السلطان محمود زيادة تفصيل وبيان فليراجع هناك.
الشيخ مصطفى بن أحمد حسين بن أحمد بن عبد الرزاق الحلبي الولي المستغرق
المجذوب المشهور صاحب الأحوال الغريبة الباهرة، والكرامات البديعة العالية الظاهرة، كان كثير الإنشاد، من أقوال السادة الأمجاد، ومن(1/1519)
الموشحات الأنيقة، والمواليا الرقيقة، وله حافظة قوية، ونغمات لطيفة ندية، ما رآه إنسان إلا وأحبه، ورام دنوه وقربه، وكان يرد عليه من الناس مال كثير، فيدفعه في الحال لمستحقيه من مسكين وفقير، وكان معتقداً عند الخاص والعام، وكراماته مشهورة مشهودة للأنام. توفي بعد ألف ومائتين وخمسة في حلب، ودفن بها رحمه الله تعالى ونفعنا به.
الشيخ مصطفى بن محمد بن إبراهيم بن محمد الطرابلسي الحلبي المولد والمنشأ الحنفي
العالم الفاضل، والمتقن الكامل، المولى السيد الشريف، البليغ الأديب اللطيف، نخبة البلغاء، وكعبة طواف الفضلاء والرؤساء. ولد بحلب في شوال سنة ست وأربعين ومائة وألف، ونشأ بكنف والده الشمس محمد نقيب الأشراف ومفتي الحنفية بحلب، أحد العلماء والفقهاء المشهورين بعصره، وقرأ عليه الكثير من الكتب وانتفع به وسمع عليه الكثير وأخذ عنه، واشتغل على غيره بالأخذ والتحصيل وقرأ عليهم، كأبي السعادات طه بن مهنا الجبريني وأبي عبد الفتاح محمد بن الحسين بن مرعي السويدي البغدادي عام دخوله حلب حاجاً سنة سبع وخمسين ومائة وألف، وأبو عبد الله محمد بن علي الجمال الحلبي تلميذ والده فبرع وفاق، وانعقد على فضله الاتفاق، وحصل له الفضل الذي لا ينكر، والاتقان الذي لا يجحد بل ينشر ويذكر، وأقبل على الأدب ومطالعة كتب اللغة والعربية واشتغل بها حتى ضبط الكثير منها وحفظ غالبها، وجمع كتاباً في اللغة لم ينسج على منواله،(1/1520)
ولم يسبق إلى مثاله، جعله أبواباً وفصولاً وتفرغ لجمعه وتحريره عدة سنين، حتى جاء كتاباً وافياً مفيداً سهل المأخذ كثير الفائدة. وقدم دمشق ودخلها غير مرة، وسمع من أبي يحيى علاء الدين علي بن صادق الداغستاني، وسمع الكثير من العلماء واستفاد من فوائدهم، ثم ارتحل إلى حلب وامتحن لما قامت الأشراف وقوي جانبهم، وخرج من حلب واستقام مدة في مدينة صيدا وتلك النواحي، ثم دخل القسطنطينية، وكان قد مات والده في تلك الأيام واجتمع بعلمائها وأعيانها، وتقلبت به الأحوال بعد ذلك، واستقر آخر أمره في بلدته الشهباء إلى أن اخترمته المنية، سنة نيف وعشر ومائتين وألف ودفن هناك رحمة الله تعالى عليه.
الشيخ الملا مصطفى بن جلال الدين الكلعنبري النقشبندي الخالدي
العالم الفاضل الألمعي، والحبر الكامل المرشد اللوذعي، مرشد السالكين، ومفيد الواصلين، الخليفة لحضرة المولى الأستاذ، والحبر البحر الملاذ، حضرة مولانا خالد فخلفه عنه خلافة مطلقة وأذن له بالإرشاد، فأفاد بالشريعة والحقيقة حسب المراد، ولم يزل إلى أن توفي سنة ألف ومائتين و.
الشيخ مصطفى زين الدين الحمصي صاحب معارضات الشيخ هلال
لقد ترجمه الإمام الأديب، والهمام اللبيب، محمد خالد أفندي جلبي الحمصي بقوله: أديب فريد، وشاعر مجيد، كان رحمه الله أديباً عاقلاً فاضلاً، فطناً ذكياً ودوداً صالحاً ورعاً تقياً، ولد بحمص وبها نشأ، ولما(1/1521)
كبر وشب حفظ القرآن وتعلم الخط والحساب، ثم تعلق على العلوم فأخذ بقسم وافر من كل منها، وقرأ كثيراً من كتب الأدب والتواريخ، وطالع أكثر دواوين الشعراء وأقوال البلغاء، فحفظ منها في مدة يسيرة ما يعجز عن حفظه غيره في أعوام كثيرة، وكان مع ذلك قد منح حسن الصوت وجودة الحفظ، فتعلق على العلوم الموسيقية فبرع بها، وأحبه أعيان البلدة وأكابرها، فكان سمير العلماء ونديم الشعراء والبلغاء، ثم زادت شهرته وبعد صيته وتولع به الخاصة والعامة، فاعتنقه الشيخ الفاضل والمرشد الكامل، أبو النصر بن الولي العارف بالله الشيخ عمر اليافي، صاحب المنظومات الدرية والقدود البهية الموسومة في البكرية، فنزل عنده منزلة عظيمة، وحلت عليه أنظاره الكريمة، ثم رحل مع الشيخ المذكور وتخرج بصحبته، وصار منشد ذكره وحضرته، فسافر معه إلى الاستانة العلية، ونزلا عند عبد الله باشا أحد وزراء الدولة العثمانية، وذلك في زمن السلطان ساكن الجنان السلطان عبد العزيز بن السلطان محمود خان تغمدهما الله بالرحمة والرضوان، فحصل لهما الإقبال التام، ووجهت على الشيخ مصطفى رتبة روس إيبك بواسطة الباشا المذكور، وانتظمت له الأمور، وأحبه عبد الله باشا فحبسه عن المسير، ونال منه الخير الكثير، ثم سافر معه إلى المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام، وأقام عنده مدة طويلة بمزيد الإنعام، ورجع بعد ما طاف البلاد المصرية.
فرأى في تلك المدة بدور المنظومات الهلالية طالعة، وأنوارها(1/1522)
لامعة، والناس منها بين إعجاب وإطراب، وإطناب وإسهاب، فأخذ في معارضته، وشمر إلى مبارزته، ولكن تركه في واد وسلك في واد آخر، وعن تلك الخطة رجع والقدور، إلى غير ذلك مما ستقف على معانيه، وتتأمل رصانة مبانيه، من المنظومات الفائقة، والأدوار الرائقة، والكلام الذي فاق بسلاسته وعذوبته كل كلام في هذا الباب، وأعجز فحول الشعراء عن مضاهاته وحير منهم الألباب، حتى قال قائلهم ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا لشيء عجاب! ومن ثمة أوغر عليه صدر الهلالي حنقاً، وازداد تضجراً وقلقاً، تأسفاً على إهمال نظمه الذي فاق الدر المنثور، ونبذه خلف الظهور، وتوله الناس بما يعارضه به الشيخ المذكور، على أن الشيخ مصطفى لم يكن مقصوراً على النظم في المآكل، إنما كان يأتي بذلك على سبيل التفكه والمداعبة. وكان له نظم جيد رقيق، والذي يدعوه أيضاً لسلوك هذه الخطط واقتفاء تلك الرسوم، كثرة ولعه في حب المآكل واللحوم، فإنه كان رحمه الله تعالى أكولاً عظيماً، وقد قيل من أحب شيئاً أكثر من ذكره، وسوف نأتي على نبذ من مهمات أمره، مع ما فيه، فإنه كان رحمه الله مسامراً نديماً حافظاً، إذا جالسك يملأك نكات وأخبارا، وملحاً وآثارا.
توفي رحمه الله تعالى عام ألف وثلاثمائة وتسعة عشر إثر نزلة صدرية، لم تنجع فيها حيل المطببين، وله من العمر ما ينوف على السبعين، وكانت موتته على هيئة تشعر بحسن الختام، والفوز بدار السلام، وذلك حيث كان رحمه الله تعالى رحمة واسعة في نهاية مرضه وقد أصبح يوم الجمعة، حتى إذا كان قبيل الصلاة رأى في نفسه خفة وراحة فطلب ماء ليتوضأ معولاً على(1/1523)
النزول إلى الجامع، وكان قريباً لبيته، ولما أتي له بالماء توضأ محسناً للوضوء، وحيث أتم أمر بفرش مصلاه، وشرع في صلاة سنة الجمعة قبل المسير، فقبض قبل التشهد في السجود الأخير، ودفن في عصر ذلك اليوم، وكان له مشهد عظيم مشى في جنازته أكابر البلدة وأعيانها. وقد أرخ موته العلامة المحقق والحبر المدقق، نخبة الفضلاء الكرام وعمدة العلماء الأعلام، أتاسي زاده السيد خالد أفندي مفتي حمص الأسبق، قائلاً - وقد رقم على القبر:
هذا الضريح لمصطفى ... مداح خير المرسلين
من لابن زين الدين يع ... زى نسبة في العالمين
لبى المهيمن ساجداً ... لما رأى عين اليقين
العفو أرخ واقر ... ولنعم دار المتقين
ومن نظمه البديع الرقيق مطرزاً باسم رفيق:
رماني بسهم من لحاظ فواتك ... غزال له دانت أسود المعارك
فما البدر يحكيه ولا الغصن إن بدا ... أو اختال في ثوب البها في مسالك
يلذ لي التعذيب في حب من غدا ... وأصبح من دون البرية مالكي
فليت الكرى لما شواني بحبه ... أراقب زهر الليل ضمن الحيالك
ومن كلام الشيخ هلال موشح لازمه:
بالله يا باهي الشيم ... رفقاً بولهان
ما شاقه ذكر العلم ... لولاك والبان
أظهرت سري المكتتم ... ما بين دمعي والسقم
في لوحه خط القلم ... إن الهوى حكم حكم
دور
بدر منير أم ملك ... أم أنت إنسان
ما خاب راج أمّ لك ... بالقرب إحسان(1/1524)
كم من جهول أمّ لك ... نال الشقا مع من هلك
سبحان من قد كملك ... في كل حسن تم لك
دور
أهوى الجمال المطلقا ... أيان ما كان
إذ مذهبي أن أعشقا ... حوراً وولدان
أدهشتني عند اللقا ... يا بدر حسن مشرقا
يدري بذا من حققا ... إن القنا عين البقا
دور
وا لوعتي من علما ... غزلان نعمان
عن حبهم منع اللمى ... ظلماً وعدوان
يا تاركين المغرما ... في حبهم يبكي دما
سكران من حر الظما ... يبغي السراب الأوهما
دور
سكرى لدى محو الأثر ... للدن أدنان
حيث المعاني والصور ... راح وريحان
كالشمس في روض القمر ... تجري لأبهى مستقر
طور على طور انجبر ... من لن تراني قد ظهر
وقال المترجم في معارضته:
بالله يا شاوي اللحم ... قدم لجوعان
ما همه غير اللقم ... يملي لجسمان
أحييتني بعد العدم ... خاروف محشي محترم
ويا صديرا قد ألم ... كنافة تبري السقم
دور(1/1525)
رز دفين مأكلك ... أم لحم خرفان
ما جاع بطن لذّ لك ... بطول أزمان
سبحان من قد دعبلك ... يا ضلع محشي يا ملك
ما أسمنك ما أسمنك ... ما أدهنك ما أدهنك
دور
أكل المحاشي مطلقا ... شفاء أبدان
إذ مذهبي إن أشرقا ... سمناً وأدهان
قد هاش بطني مذلقا ... قطايفاً وقيمقا
بالله كسر فستقا ... وأحشي بها المفرقا
دور
ما آن أحظى بالكما ... بالله ما آن
علي بها أن أصدما ... مع لحمة الضان
لا سيما لا سيما ... رز لديه قدما
والسمن فيها عوما ... فابلع وكبر لقما
دور
قلبي على كشك الفقر ... لا زال ولهان
إذ تحته ذاك الزفر ... من كل ألوان
فاصرف أخي للنظر ... عن غير أكل مفتخر
ما اللفت عندي والجزر ... إلا غذاء للبقر
ومن كلام الشيخ هلال من الموشح
قلبي كووا عزا حووا ... وعلى العرش من الحسن استووا
دور
دار من تهوى ودع في كل دار ... مدع في الحب جهلا غير دار(1/1526)
فالهوى كأس على العشاق دار ... فيه من فازوا وفيه من هووا
دور
ليت شعري من لقلبي أمرضوا ... هم إلى الآن غضاب أم رضوا
غرضي هم أعرضوا أم أغرضوا ... بالتجني أم على قتلي نووا
دور
آه من نار جفاهم والصدود ... بعد جنات وقاهم بالعهود
يا ترى عيشي بهم يوماً يعود ... بعد ما أغصانه الخضر زووا
وقال المترجم معارضاً له:
لحماً شووا خبزاً طووا بيضاُ قلوا ... وعلى السمن القباوات استووا
دور
مذ رآني شيخنا المغشي جار ... راح للمحشي وبالكوسى استجار
أيها القطر انعقد مذ أنت جار ... لصدور للكنافات حووا
دور
أيها الأخوان للأكل انهضوا ... وذروا الجوع وعنه أعرضوا
وعلى الخاروف بالكف اقبضوا ... بأصابيع على الصحن هووا
دور
لحمة الضان شفاء للكبود ... ليس كالملفوف نفاخ الجلود
وكذا البيرق الزاكي الجدود ... من كرام الكرم عنه قد رووا
وللشيخ هلال موشح صبا
بدت لنا في كالع الإسعاد ... يمحو سناها الليل
شمس على غصن رطيب نادي ... تزهو بجر الذيل
أخا الأشجان ... دع الأحزان
وساقينا لنا قد آن ... منه الوفا بالكيل
ويا أغصان على كثبانأجيبوا داعي الألحانبالميل كل الميل(1/1527)
دور
لم أنس مسراها بلا ميعادي ... في غفلة الحراس
وقولها برقة الإنشاد ... بشراك زال الباس
عبير فاح هزاز صاحونادى قم بنا يا صاحللأنس والإيناس
ونجم لاح بشمس الراحوقد أهدت لنا الأفراحوللعذول الويل
دور
ريح الصبا من حي ذاك الوادي ... زر، ربة الأستار
بنت الخبا ذات الجمال البادي ... فضاحة الأقمار
فلو يا خال نظرت الخال ... وشعرا مد للخلخال
سلاسل الأقدارودرا حال بثغر حالفتاة طرفها بالحال
تردي غزاة الخيل
وللمترجم معارضاً له
الجسم لا يقوى بغير الزاد ... ولا يشد الحيل
ولحمة الخاروف لحم نادي ... والدهن منه سيل
أنا الزحان بالأسنانلكل الأكل يا إخوانللجوع مالي ميل
ولي مصران في جسماندواماً لم يزل ملآنفي يومه والليل
دور
خاروفنا المحشي عن الأكباد ... حقاً يزيل الباس
وقرعنا اليقطين ذو الإمداد ... طابت به الأنفاس
ودهن ساح بلحم راح ... يقيت الجسم والأرواح
بالرز والقلقاس ... وعطر فاح بالتفاح
وكفي لم يزل مساح ... للتمر عندي كيل
دور
باليبرق عج طيب الأجداد ... إن منك جوع ثار(1/1528)
وشيخنا المغشي مروي الصادي ... من سمنه المدرار
إذا ما انسال كسيل سال ... رحيق منه كالسلسال
تجلى به الأكدار ... ورز غال بسمن عال
عليه اللحم لما انهال ... يحكي ظلام الليل
وللشيخ هلال رحمه الله موشح
روح صب ولهان ... حور بين الولدان
والشادي يدعو الساقي ... يا سلطان الندمان
لاحت من خلف الأستار ... شمس تزري بالأقمار
لو حلت شهب الأزرار ... عن صدرها النوراني
ما هند لكن حسنى ... ذات الأوصاف الحسنى
ما أسنى منها الحسنى ... مقروناً بالإحسان
دور
قلت رفقاً بالمهجات ... قالت عن عجب هيهات
كم من جنات الوجنات ... أكباد في النيران
دور
من لي بالظبي الأغيد ... ذي القد الزاهي الأملد
ما أحلاه بعد الصد ... إذ حياني أحياني
دور
وحد مولى قد ولاه ... قلباً لم يبرح يهواه
بدر عوزت مجلاه ... بسم الله الرحمن
وللمترجم رحمه الله معارضاً له:
من لحم الزاهي الضان ... قدم محشيّ الخرفان
وأدر لي يا ساقي ... كأساً من الأدهان(1/1529)
دور
جاءتنا من بيت النار ... كبة تجلو الأكدار
والسمن منها مدرار ... يطفو فوق الصواني
دور
ما لذي الجوع المضنى ... غير ذي الدهن الأسنى
شيخنا المغشي يعنى ... في أول الألوان
دور
قلبي لتلك الفتات ... كم به قامت حسرات
فابعدوا صحن الكرات ... يا صحبي عن أعياني
دور
من لي وافى بعد الصد ... اليبرق الزاكي الجد
منه أكلي بلا عد ... لا يكفيني الألفان
دور
جل مولى قد أعطاه ... طولاً في أصل مبناه
قرع لو يحشى ناداه ... كفى أسرع القاني
وللشيخ هلال موشح:
ما أسعد الصبحية ... بالطلعة البدرية
والشمس منها تجري ... كواكب درية
دور
عن ذي الجمال السامي ... لم تلمني لوامي
لا والعذار اللامي ... والطرة السنية
دور
من لي به من أغيد ... ريم يصيد الأصيد
حلو التثني مفرد ... ذو قامة خطية(1/1530)
دور
وافى مدير الخمر ... والخد الزاهي الزهري
فانهض لشم العطر ... من وردة جورية
دور
إن لم تعدني عدني ... فالشوق داء مضني
يا يوسفي الحسن ... أحزاني يعقوبية
دور
للحان والألحان ... والراح والريحان
هي أخا الأشجان ... نسكر مع الجمعية
دور
إن كنت بالأفراح ... ماحي دجى الأتراح
فاشرب عجوز الراح ... من راحة الصبية
وقال المترجم من الموشح معارضاً:
عقولنا مسبية ... بالكبة الصينية
والسمن منها يجري ... سحائب سخية
دور
شوقي نما للبامي ... إذ غاصت بالألحام
والدهن منها طامي ... مشارب هنية
دور
سبحان من قد أوجد ... يبرقنا الزاكي الجد
على نعماه يحمد ... بكرة وعشية
دور
بصماء ضمن الصدر ... قد كللت بالقطر
حمرا سناها يزري ... بالأنجم الزربة(1/1531)
دور
قد لذ لي بالجبن ... قطائف لو تدني
عليها أمسى بطني ... ذا نعمة شجيه
دور
لموسم الخرفان ... ما زلت كالولهان
نعم به تلقاني ... ذا همة عليه
دور
أدر لي كاس الراح ... من دهنه السياح
فقد نفت أتراحي ... نفحاته العطريه
وللشيخ هلال موشح
بادر فنور الراح في الأقداح ... قد لاح كالأرواح بالأشباح
دور
فهي المداما كم برت أسقاما ... كفوا الملاما معشر النصاح
دور
فاشرب زلالا لا تخف إزلالا ... والكأس لالا سقط زند الراح
دور
كانت وجرمي قبل خلق الكرم ... بالشهب ترمي مارد الأتراح
دور
يسعى بها من للبرايا افتن ... إن ماس يطعن طعنة الأرماح
وقال المترجم
أدر كؤوس القطر بالأقداح ... فالصدر وافى وانجلت أتراحي
دور
بصما إذا ما القطر فيها عاما ... فلا ملاما شربه كالراح(1/1532)
جبن تلالا في حشاها جالا ... والسمن سالا منعش الأرواح
دور
لو كان قسمي صدرها بل رسمي ... لكان جسمي يزهو كالمصباح
دور
حيا وقد رن والحشا له حن ... ما السلوى ما المن كسمنه الفواح
وللشيخ هلال موشح:
نبه الندمان صاح ... إن داعي الأنس صاح
حيث من أيدي الملاح ... لاح نور الكاس لاح
سيما والغيم يسجم ... دمعه فوق البطاح
ورياض الزهر يبسم ... عن ثغور من أقاح
دور
كوكب الحسن أدارا ... في الدجى شمس النهار
طور خديه أنارا ... منه لي نور ونار
دور
يا كليم العشق كلم ... عاذلي ما العشق عار
فالهوى العذري يعلم ... أهله خلع العذار
وقال المترجم:
قدم الخرفان ناحي ... إن داعي البطن ناح
حيث من لحم الأضاحي ... راح هم الجوع راح
دور
سيما والدهن يصدم ... شربه يشفي الجراح
وكماج الخاص يؤدم ... مع قبوات ملاح(1/1533)
دور
منسف الرز أنارا ... بسناه الاعتكار
وعليه السمن دارا ... فانتشق شم البهار
دور
وعلى المحشي فدمدم ... صاح واخلع للعذار
وإلى الكبة قدم ... قد سبتنا باحمرار
وللهلالي مهنئاً بقدوم والي سوريا أحمد جودت باشا:
صادح الأفراح بالأفصاح صاح ... إذ محا الظلماء مصباح الصباح
ولأرباب التهاني والصفا ... فتح الفتاح أبواب النجاح
بقدوم النير الأعلا الذي ... منه سورية حياها الفلاح
وحماة الشام أضحت تنجلي ... كعروس ذات عقد ووشاح
بوزير الوزراء المجتبى ... آصف الهمة الشاكي السلاح
أحمد الشان العظيم الجد في ... جودة الكف لمن منه استماح
لسن من كأس لفظ مسكر ... بمعان هي للأراوح راح
علم العلم بصيت صوته ... ما على الصابي إليه من جناح
ببديع وبيان في صفا ... خمرة قد مزج السحر المباح
فهلموا يا ذوي الحزم فقد ... جاء أمر الجد وانزاح المزاح
ولسان البشر نادى أرخوا ... في حماة الشام بدر الحق لاح
وقال المترجم:
ساح دهن اللحم فوق النار ساح ... أي راح أي عطر حين فاح
وعن القوم المعازيم الأولى ... أولموا قد راح هم الجوع راح
بقدوم الكبش ذو القرنين من ... لفساد البطن لقياه صلاح
وبه السفرة صاحي أسفرت ... إذ من الإلية لاح النور لاح
بعظيم بارك كالزق في ... جوفه رز ولحم مستباح(1/1534)
أحمر الأجناب إذ بالسمن جا ... روا عليه لا ولم يخشوا جناح
كلما الأيدي أزالت قطعة ... فج منها نشأة تبري الرياح
ليت شعري من بهارات ذكت ... تلك أو من حيث مرعاه الشياح
نشأتي من كأس دهن منه لي ... قد سلا الساقي ولا من كاس راح
لو بأكلي أمزج القطعة من ... لية مع هبرة هلا مباح
لو رآه صاحب التقشيف و ... الزهد قال اليوم عنه لا براح
وللشيخ هلال:
ربح المتاجر لاكتساب معالي ... حسن الثناء على جميل خصال
للفضل أهل لا يقوم بغيرهم ... بيت سوى أهليه فيه خالي
يا خاطب العلياء جد فإنها ... حسناء ذات تمنع ودلال
فمن الورى ما هم حلا للمجد من ... شنف ومن عقد ومن خلخال
ما الليث إلا من حمى الغابات لا ... من يحتمي بعرينة ودحال
عقد به الخود المليحة جيدها ... حال وعقد بالمليحة حالي
بشرى لمحكمة التجارة والهنا ... ء لها بصارم عضبها الفصال
إلى آخر القصيدة كما هي مذكورة في ديوانه رحمه الله تعالى.
وللمترجم رحمه الله:
أكل المحاشي صنعتي وفعالي ... والرز لي فيه وسيع مجال
للأكل أهل لا يجاوز غيرهم ... أيديهم فيه كما الفصال
يا طابخ الضلع السمين أما ترى ... جوعي ومخمصتي وسيئة حالي
أنعم به ولك الثواب فإنه ... لا شك يكفيني أنا وعيالي
ما العشق إلا أن تهيم بكبة ... حمراء تهدا لا بذات حجال
والليث من صدم الموائد بل جثا ... متربعاً لا مبتغي لنزال
والقرن من بالكف يقبض رقبة ... الخاروف لا من يردي للأقيال(1/1535)
دعني ومن ألحان شاد مطرب ... طربي بوصف الأكل والأشكال
والعود أن تضرب به فيسؤني ... وعلى الطناجر أن نقرت حلالي
ما رنة القانون أبغي إنما ... أبغي لرنة صدرنا المتلالي
وكذاك قعقعة المعالق فوقه ... وكذا الصحون بصنعة الأكال
وتلذذي بتعدد الألوان مع ... سلطاتها وكذلك الأبقال
وتغزلي بسوى الكنافة لم يكن ... لا بالصبي وربة الخلخال
الشيخ مصطفى زين الدين أبو البركات بن محمد بن رحمة الله بن عبد المحسن بن جمال الدين الأيوبي الأنصاري نسبة إلى سيدنا أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه
هو الفاضل الإمام، والحبر الهمام، فقيه العصر، ويتيمة الدهر، عقد تاج الأفاضل والكمالات، ومن بنى فوق ذرى المجد غرفات، الإمام العلامة، والمدقق الفهامة، العابد الصالح والفالح الناجح، الحنفي الدمشقي الشهير بالرحمتي.
ولد بدمشق ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من محرم الحرام سنة خمس وثلاثين ومائة وألف ونشأ في حجر والده، وقرأ عليه وعلى فقيه عصره العلامة الشيخ صالح بن الشيخ إبراهيم الجينيني والعلامة الشيخ محمد التدمري وفريد الدهر محمد أفندي فولقسز وأجازه سيدي العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي وسيدي السيد مصطفى البكري الصديقي والشيخ محمد الغزي والشهاب أحمد المنيني والشيخ علي كزبر والشيخ عبد الكريم الشراباتي الحلبي والشيخ عبد الله البصروي الدمشقي وغيرهم من مشاهر العلماء الأعلام، وأفاضل السادات الكرام، فطلب وانتفع وأقرأ ونفع، وقدم لنفسه صالح العمل، وكان بالله حسن الأمل، كثير الذكر والعبادة، شديد الإقبال على الله. يألف الزهادة، وقرأ حديث الأولية(1/1536)
وأوائل الكتب الستة على العالم العلامة السيد عمر بن السيد أحمد بن السيد عقيل السقاف باعلوي، سبط العلامة عبد الله بن سالم البصري المكي، وكذلك على الشيخ عبد الرحمن الفتني والشيخ محمد بن الطيب المغربي والشيخ عبد الله السويدي. ورحل إلى مصر وأخذ عن علمائها منهم الشهاب الشيخ أحمد الملوي والشيخ حسن المدابغي والشيخ محمد بن سالم الحفني والشيخ محمد الدفري، وقد كان في جانب عظيم من الورع والرضى بالقليل وتهذيب النفس، وصار علم الشام وفقيهها، وانتفع به الخلق الكثير من أهلها. وكانت ترفع له الأسئلة فيجيب عنها نثراً ونظماً، وكان مولعاً بحب النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب بعياله من دمشق مع القافلة وجاور في المدينة المنورة سنة سبع وثمانين ومائة وألف، وكانت شهرته في قطر الحجاز بالقطب الشامي، وانتفع به أهل تلك البلاد، وأجاز لأهل عصره ومن أدرك جزأ من حياته بجميع مروياته، كما كتبه في إجازته للسيد محمد كمال الدين الغزي مفتي الشافعية بدمشق المسطرة بخطه، سنة ألف ومائتين وسنة واحدة، ومن قوله حين إجازته للسيد محمد شاكر العقاد:
ولست بأهل إن أجاز وإنما ... تعديت طوري والحجا غير عاذري
وجاريت دهراً لا مرد لحكمه ... قضى بارتقاء الدون مرقى الأكابر
ولقد ترجمه صاحب اللآلئ الثمينة فقال: علامة زخرت بحار علومه، وفهامة غزرت أنهار فهومه، فأزهار رياض علومه أخجلت شقائق النعمان، وجعبة أفكاره ملئت من درر فقه النعمان، له فيه اليد البيضاء، والراية الخضراء، برع بجد ساد فيه، وشاد قصور مغاني معانيه، وجلس في مجلس الإفادة والتدريس، وأبدع بكل تحرير نفيس، ولعمري إنه الجهبذ الذي لديه من المسائل كل ما ند على غيره أو فرّ، وعنده من سائر العلوم حظ أوفر، والفاضل الذي لسان الثناء عنه كليل، وكثير المديح فيه قليل، فمن نظمه الذي هو لمقدمات البيان نتيجة، ولوجوه الإحسان غرر بهيجة، قوله:(1/1537)
وقالوا سموم في المدينة محرق ... فقلت سمو بالمكارم مغدق
وقالوا بها حميًّ تذيب لحومنا ... فقلت حمىً عنا الجحيم تغلق
تذب لظى عنا وتكشف بأسنا ... محببة منا من الأم أشفق
وقالوا بها اللأوا فقلت هي الألى ... بصبر عليها بالشفاعة نطلق
وإن ضاقت الأحوال أو زاد سعرها ... فأنا لفي فضل الإله لأوثق
فندان، والله المهيمن كافل ... ونصبر والمولى يمن ويرزق
وإن أشكلت فينا أمور عظيمة ... فأنوار طه بالمواهب تشرق
فلا عجب تشتاقه النوق في الفلا ... تمد له أعناقها وهي تخفق
حبيب إله العرش موصل جوده ... وقاسم فيض الله إذ هو يطلق
فهل يشتكي ضيما منيخ ركابه ... بساحة بحر بالعطايا يدفق
عليه صلاة الله في كل لمحة ... وآل كرام أصلهم عنه ينطق
كذاك حماة الدين أصحابه ومن ... لآثارهم يقفو من الله يفرق
وله إذ ختم كتاب الشفاء، عند باب الوفود بروضة سيد الشفعاء:
كتاب جامع أشتات علم ... بأوصاف النبي هو الشفاء
فكم نور بدا منه فجلى ... ظلام الجهل وانكشف الغطاء
أفاض عياض فيه بحر فضل ... على ظمأ القلوب فزال داء
وكم يتلو علينا فيه آياً ... بنور ضيائها ملئ الفضاء
وكم أثر رواه لنا مبينا ... مناقب من سما وله ارتقاء
عليه صلاة ربي مع صلاة ... وتسليم به زاد العلاء
وجاد على عياض من نداه ... بوفر العفو يتلوه الرضاء
وعم بلطفه عبداً ضعيفاً ... بأبواب الوفود له التجاء
مع الأحباب والأصحاب طراً ... وقادهم إلى الحسنى ففاؤا
وكانت وفاته بعد العصر في خامس ذي الحجة الحرام سنة خمس ومائتين وألف، ودفن بمنزلة يقال لها السيل، فإنه ذهب إلى الطائف لزيارة سيدنا(1/1538)
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ثم قصد الحج الشريف فأدركته المنية في الطريق، ودفن هناك رحمه الله تعالى.
الشيخ مصطفى بن عبد الوهاب الصلاحي الدمشقي الحنفي الصالحي
العالم الأديب، والشاعر اللبيب: ولد في صالحية دمشق وتعلم حتى برع في العلوم منطوقها والمفهوم. ومات رحمه الله في ثالث ربيع الثاني سنة خمس وستين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة قاسيون.
الشيخ مصطفى بن محمود بن معروف بن عبد الله بن مصطفى الدمشقي الحنبلي
المعروف بابن شطي الصالح الورع الزاهد العابد، أحد علماء دمشق الشام وعظمائها السادة الأعلام. ولد بدمشق سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف(1/1539)
ونشأ بها وأخذ الفقه عن العلامة الشيخ مصطفى السيوطي الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق، وأخذ الحديث الشريف عن العلامة الشمس الشيخ محمد الكزبري، والعلامة الشهاب أحمد العطار، والعلوم العربية عن العلامة عبد القادر الميداني، والعلامة السيد محمد شاكر العقاد الشهير بمقدم سعد. مات رحمه الله تعالى ليلة الجمعة غرة رجب الحرام سنة تسع وستين ومائتين وألف، ودفن بسفح قاسيون قرب مغارة الجوعية.
الشيخ مصطفى الكردي الشافعي الدمشقي
الشيخ العالم الفاضل النبيه الورع الزاهد العفيف المتيقظ. ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين ومائة وألف، وأكب على العلوم وأخذ عن العلماء ذوي القدر المعلوم، ومن جملة من أخذ عنه وانتفع به غاية النفع والدي المرحوم وغيره من العلماء الأفاضل، والفضلاء الأكامل، مات بدمشق سنة تسع وثلاثين ومائتين وألف، ودفن في مرج الدحداح.
الشيخ مصطفى بن عبد الجليل بن أحمد بن عبد اللطيف بن محمد بن محمد بن أحمد بن محمد شمس الدين بن تقي الدين بن أبي بكر بن عبد الهادي الدمشقي الحنفي العمري
نسبة إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولد المترجم في دمشق ومنذ نشأ لاحت عليه لوائح الأحوال، إلى أن صار يعد من الأبدال، وكان لا يخبر بخبر إلا ووقع كما أفاد وأخبر، وكان لا يتقيد بالأحوال الظاهرية، وكان له في بعض الأيام تطورات قوية، ويتكلم بكثير من(1/1540)
الكلام لا يعلم له مرام، مات غرة ذي الحجة سنة خمس وستين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح.
الشيخ مصطفى بن سعد بن عبده الحنبلي المعروف بالسيوطي
مفتي الحنابلة بدمشق الشام، أوحد الفضلاء الأعلام، ولد في بلدة أسيوط من بلاد مصر في ربيع الأنور سنة أربع وستين ومائة وألف، ونشأ بها، ثم قدم دمشق بعد المائتين، واستوطنها واشتغل بها في العلم والطلب، وحاز على المرام والأرب، وأخذ عن جملة من أفاضلها الكرام وعلمائها الأعلام، وأخذ عن جملة من المصريين والمكيين، والروميين، والعراقيين، وله من التأليفات كتب عديدة، ورسائل في الحسن والاتقان فريدة، منها شرح كتاب الغاية بخمس مجلدات، أتى فيه بالعجب(1/1541)
العجاب، وبين فيه اختلاف الروايات والأقوال والمباحث تبييناً واضحاً، وفي سنة خمس عشرة ومائتين وألف، ولي إفتاء الحنابلة بدمشق الشام، وفي سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف ولي نظارة الجامع الشريف الأموي ومن جملة من أخذ عنه المترجم المرقوم الشيخ أحمد البعلي، ولد في ثامن رمضان سنة 1108 وتوفي سنة 1189، عن أبي المواهب الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق الشام، ولد في رجب سنة 1044 وعاش 82 سنة وتوفي سنة 1126، عن والده الشيخ عبد الباقي الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق الشام، ولد سنة 1005 وعاش 67 سنة وتوفي سنة 1073، عن الشيخ أحمد بن علي الوفائي الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق، ولد سنة 936 وعاش 99 سنة وتوفي سنة 960، عن القاضي برهان الدين إبراهيم بن عمر نجم الدين بن مفلح مفتي الحنابلة بدمشق، ولد سنة 903 في 14 ربيع الآخر وعاش 66 سنة وثلاثة أشهر وثمانية وعشرين يوماً وتوفي سنة 969، عن والده نجم الدين عمر بن إبراهيم بن مفلح الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق الشام، ولد سنة 848 وعاش 71 سنة وتوفي سنة 919، عن والده القاضي برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح الحنبلي مفتي الحنابلة، ولد سنة 749 وعاش 101 سنة وتوفي سنة 848، عن جده شرف الدين عبد الله بن محمد بن مفلح الحنبلي مفتي الحنابلة، ولد سنة 716 وعاش 57 سنة وتوفي سنة 763، عن الشهاب أحمد بن تيمية الحنبلي مفتي الحنابلة، ولد يوم الاثنين 10 ربيع الأول سنة 661 وعاش 67 سنة وثمانية أشهر وتوفي سنة 728، عن أبي الحسن علي بن أحمد الشهير بالفخر ابن البخاري الحنبلي مفتي الحنابلة، ولد سنة 595 وعاش 95 سنة وتوفي سنة 690، عن أبي علي(1/1542)
حنبل بن عبد الله الرصافي الحنبلي ولد سنة 514 وعاش 90 سنة وتوفي سنة 604، عن أبي القاسم هبة الله بن محمد الشيباني ولد سنة 431 وتوفي سنة 525، عن أبي علي الحسن بن علي بن الشيخ محمد التميمي المعروف بابن المذهب ولد سنة 355 وعاش 89 سنة وتوفي سنة 444، عن أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك بن شبيب بن عبد الله القطيعي، ولد سنة 274 وعاش 96 سنة وتوفي سنة 367، عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل ولد سنة 203 عاش 87 سنة وتوفي سنة 290، عن والده الإمام الخليل أحمد بن حنبل ولد سنة 164 وعاش 77 سنة وتوفي سنة 241، عن سفيان بن عيينة، ولد سنة 107 وتوفي سنة 198، عن عمرو بن دينار، ولد سنة 43 وعاش 80 سنة وتوفي سنة 123، عن ابن عباس، ولد قبل الهجرة وعاش 83 سنة وتوفي سنة 68، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل وعاش 63 سنة وتوفي يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول سنة 11 من الهجرة عن جبرائيل عن رب العزة.
وتوفي المترجم المرقوم أعلاه في دمشق الشام، ليلة الجمعة عند طلوع الفجر ثالث عشر ربيع الثاني سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة مرج الدحداح وقبره ظاهر معروف رحمه الله تعالى.
الشيخ مصطفى بن عبد الله بن محمود الكردي الأصل العبدلاني الشافعي الدمشقي الشهير بالكاتب
ولد بدمشق سنة خمس عشرة ومائة وألف، نشأ في حجر المجد والعز العالي، وتربى في مهد السعد والمعالي، أخذ عن والده المذكور، ولزم العلامتين الملا حسن بن موسى الباني والملا إلياس الكوراني،(1/1543)
وعن العلامة الشيخ عبد الغني النابلسي وسمع منه حديث الأولية، وأبو المعالي الغزي الشافعي العامري وابن كنان وأعطاه الطريقة الخلوتية، والشيخ إسماعيل العجلوني والشيخ أحمد المنيني، وحضر على الشيخ عبد الكريم الغزي الشافعي العامري، والعلامة محمد المرادي، مات بدمشق سنة اثنتين ومائتين وألف في ذي الحجة الحرام.
الشيخ مصطفى الخياط الشافعي الأشعري المصري
عالم زمانه وأوحد أوانه، قال الجبرتي: أدرك الطبقة الأولى من السادات العظام، والأفاضل الكرام. ولد سنة ثلاث عشرة ومائة وألف، ثم أقبل على العلم والعمل، وتجنب عن الإهمال والكسل، وأخذ عن رضوان أفندي، والشيخ محمد النشيلي، والكرتلي، والشيخ رمضان الخوانكي، والشيخ محمد الغمري، والشيخ حسن الجبرتي، ومهر في الحساب والتقويم وحل الأزياج والتحاويل والحل والتركيب، وتداخل التواريخ الخمسة؛ واستخراج بعضها من بعض، وتواقيعها وكبائسها وبسائطها ومواسمها ودلائل الأحكام والمناظرات، ومظنات الكسوف والخسوف، واستخراج أوقاتها ودقائقها، مع الضبط والتحرير وصحة الحدس وعدم الخطأ، وأقر له أشياخه ومعاصروه بالإتقان والمعرفة، وانفرد بعد أشياخه، ووفد عليه طلاب الفن وتلقوا عنه وأنجبوا، وأجلهم عصرينا وشيخنا العلامة المتقن الشيخ عثمان بن سالم الورداني وشهد به الشيخ حسن الجبرتي أنه فريد عصره في الحسابيات، وكان يستخرج في كل عام دستور السنة من مقومات السيارة ومواقع التواريخ وتواقيع القبط والمواسم والأهلة، ويعرب السنة الشمسية لنفع العامة. وله مؤلفات وتحريرات في هذه الفنون، منها جداول حل عقود مقومات القمر بطريق الدر اليتيم لابن المجدي،(1/1544)
وهو عبارة عن تسهيل ما صنفه العلامة رضوان أفندي في كتابه أسنى المواهب في عشرة كراريس، ولا زال يشتغل في صناعة الخياطة وتفصيل الثياب وهو جالس في زاويته، يكتب ويمارس مع الطلبة والصناع في وسط المكان، يفصلون الثياب ويخيطونها ويباشرهم أيضاً فيما يلزم مباشرته، إلى أن توفي سنة ثلاث ومائتين وألف في بيته جهة الرميلة وقد جاوز التسعين انتهى ملخصاً.
الشيخ مصطفى بن أحمد المعروف بالصاوي الشافعي الأزهري
العمدة الإمام، خاتمة العلماء الأعلام، ومسك ختام الجهابذة ذوي الأفهام، ومن افتخر به عصره على الأعصار، وصاح بلبل فصاحته في الأمصار، يتيمة الدهر وشامة وجه أهل العصر، العالم المحقق والنحرير المدقق، بديع الزمان والتاج المرصع على رؤوس الأقران، الناظم الناثر والفصيح الباهر. كان والده من أعيان التجار بمصر، وأصل مرباهم بالسويس بساحل القلزم، وصاوي نسبة إلى بلدة بشرقية بلبيس تسمى الصوة على غير القياس، وهي بلدة والده، ثم انتقل منها إلى السويس، وكان يبيع بها الماء.
وولد بها المترجم فارتحل به إلى مصر وسكن بحارة الحسينية مدة، وأتى بولده المترجم إلى الجامع الأزهر، واشتغل بالقراءة فحفظ القرآن والمتون، واشتغل بالعلم، وحضر دروس الأشياخ، ولازم الشيخ عيسى البراوي، وتخرج به ومهر، وأنجب وأقرأ الدروس، وشهد له الفضلاء. وكان لطيف الذات مليح الصفات، رقيق حواشي الطبع، مشاراً غليه في الإفراد والجمع، مهذب الأخلاق جميل الأعراق، اللطف حشو إهابه والفضل لا يلبس غير جلبابه،
لو مثل اللطيف جسما ... لكان للطف روحا(1/1545)
إذا نزل بناد ارتحلت الهموم، وارتضع من أخلاف أخلاقه نبت الكروم، تقاريره عذبة رائقة وتحاريره فائقة، ذهنه وقاد ونظمه مستجاد، فمن نظمه قوله:
أقبل الأنس يجتلي بسرور ... وتولى الحزن الذي نحن فيه
وتناءت همومنا بعد قرب ... وتناهت لذات ما نرتجيه
واجتمعنا بليلة هي تزري ... بالضحى إذ صحا وما قد يليه
ودت الشمس أن يكون لها مث ... ل ضيا حسنها فما نرتضيه
واجتلونا المدام أشهى مدام ... مع نديم يا حسن ما نجتليه
حيث كانت أكوابنا كنجوم ... كلما قد شربتها قلت إيه
واحتسينا كاساتها فطربنا ... بشذاها وراق ما نحتسيه
واجتنينا من نظم در حبيب ... نثره رائق كخمرة فيه
فرعى الله ليلة قد تقضت ... بالهنا والمنى وعز وتيه
وسقى الله عهدنا قطر سحب ... رائقات تجلو المرابع تيه
مذ صفا ودنا برغم حسود ... مع كيد العذول ذي التشويه
يا لها ليلة حكت جنة الخل ... د وفيها ما نفسنا تشتهيه
ليلة الأنس هل تعودي لصب ... صبة الوجد دائماً تعتريه
تجمعي شمله بأحمد من قد ... حمد الله فعل ما يصطفيه
هاك تجلى إليك خدود عروس ... ثوبها العز والبها ترتديه
وهي تتلو عليك يا خير مولى ... ليس مهري سوى الرضا فاعطنيه
وله أيضاً:
نزلنا بهذا القصر والنيل تحته ... فلله قصر قد تعاظم بالمد
مع العالم النحرير أكرم ماجد ... إمام همام جامع علم فرد
فأين ابن هاني من فصاحة نطقه ... وأين أويس لا يضاهيه في الزهد(1/1546)
تأمل فما أثر كعين مشاهد ... وأبصر فما قرب لديه كما البعد
وما هو إلا البحر لكنه حلا ... وما هو إلا البر بالدين والعهد
وأعني به شيخي البراوي من به ... تحلى زمان العز في الجيد بالعقد
ومنها:
أقول لمن رام الوصول لقدره ... تمنيت أمراً مستحيلاً بلا حد
فهذا مقام ليس يعطى لغيره ... وحاشاه أن يحصى بسرد ولا عد
فيا أيها الملتاذ إن رمت علمه ... تحدث عن البحر المحيط عن الجهد
ومن لي وقد قصرت في مدح سيدي ... ومعظم إسنادي وذي الحل والعقد
كذلك مولانا الشريف محمد ... هو العلوي الأصل قد فاز بالسعد
وينسب للمختار أشرف مرسل ... عليه صلاة الله طابت كما الند
وله:
لحاظك تزري بالحسام المهند ... وريقك لا يرويه غير المبرد
وطرفك ذا السفاك قد سفك الدما ... وقدك ذا السفاح في الصب معتدي
فيا وجهه كم قد هديت لحسنه ... ويا شعره كم قد أضليت مهتدي
ومالي لا أصبو بضوء جبينه ... وثغر شهي باللآلي منضد
ولام عذاريه تدور بخده ... كنمام آس مع بنفسجه الندي
وخضرة ريحان بعارضه الذي ... يعارض قلبي في هواه وأكبدي
يريك ربيعاً بالبهاء بنانه ... على ورد خديه الزهي المورد
أروم حياة وهو يطلب قتلني ... بسيف معد للقتال ومرصد
فيا حسن لولاك ما كان محسن ... فأحسن لمضنى ساهر الجفن مسهد
يبيت يعاني أعظم السقم دائما ... سلوا ليلة واستشهدوا الشهب تشهد
ويسند إرسال السحاب لدمعه ... مسلسل أحزان بوجد مجدد
يقول العذول ارجع فإني ناصح ... ورأيي لا يروى سوى عن مسدد
فقلت له دعني فرأيك فاسد ... وقولك بهتان بزور مفند(1/1547)
وله:
من لمضنى أحشاؤه تتلاهب ... ما الفضا مثلها ولا يتقارب
جفنه ساهر وحزن جفاه ... مستمر ودمعه يتساكب
يا خليليه من حوادث دهر ... حاربته فصار يدعى المحارب
لو رآه المتيمون لصاحوا ... ما لهذا بالصد أضحى يعاقب
فرعاه الإله من مستهام ... ما أراد الوصال إلا يراقب
وحبيب ممنع ذو جمال ... وطبيب لمهجة الصب ماطب
حسن محسن بذات وفعل ... كل حسن لذاته يتناسب
حيثما وجهه له حسنات ... إن جنى الذنب فهو ليس يحاسب
يا غزالاً رفقاً بصب كئيب ... قد نآه الزمان ممن يحابب
وخف الله من محبيك وارحم ... من تلظى وغير شكلك ماحب
ولما عمر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي داره التي بالصنادقية بالقرب من الأزهر، سنة إحدى وتسعين ومائة وألف، عمل المترجم أبياتاً وتاريخاً رقمت بطراز مجلس العقد الداخل وهي:
خليلي هذا الروض فاحت زهوره ... ولاح على الأكوان حقاً ظهوره
وزاد ثناءً عبّق الجو طيبه ... فمنك عبير المسك طاب عبوره
سما في سماء الكون فابتهج العلا ... برفعته وازداد سراً سروره
ألم تر أجسام الوجود تراقصت ... وجاء التهاني باسمات ثغوره
مكان على التقوى تأسس مجده ... ومن سور التوفيق والهدي سوره
وفردوس عدن فاح فوح نسميه ... وحفته ولدان النعيم وحوره
ومجلس أنس كل ما فيه مشرق ... ومقعد صدق قد تسامى حبوره
بناء يروق العين حسن جماله ... ورونقه يشفي الصدور صدوره
ومن مجد بانيه تزايد بهجة ... وقلد من در المعاني نحوره(1/1548)
عزيز بنى بيت المكارم فانثنت ... تغني به حمداً ومدحاً طيوره
وأحيا رسوم المجد والفخر والتقى ... وزانت بأعلام الكمال سطوره
فلا زال فيه الفضل تسمو شموسه ... وتنمو على كل البدور بدوره
ودام به سعد السعود مؤرخاً ... حمى العز بالمولى الجبرتي نوره
وله في صيوان:
وصيوان حوى غراً وفخرا ... عليه من البها حسن متمم
كروض الأنس فيه الورق غنت ... وبلبال السرور لها ترنم
على الإيوان يزهو بارتفاع ... ويهزو بالخيام وبالمخيم
فتحسبه وذا الإشراق فيه ... سماء الجود قد ظلت مكرم
يقول السعد في تاريخه بي ... على مجد الوزير العز خيم
ومن نثره ما كتبه تقريظاً على المؤلف الذي ألفه العلامة الشيخ محمد عبد اللطيف الطحلاوي، الذي ضاهى به عنوان الشرف للعلامة السيوطي، قوله: حمداً لمولى يضيق نطاق المنطق عن شكره، ويعجز لسان اللسن عن الإفصاح بذكره، يدني لب الموحد إلى فهم مقامات التوحيد، ويعرفه سبل التهجد والتحميد، ويسعده بنهاية الوصول، إلى مقاصد فهم الأصول. وصلاة وسلاماً على المحمود بأكمل ثناء، الممدوح بأجمل ضياء وسناء، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه، ما ألف كتاب، وكللت تيجان الربا بلآلئ السحاب، أما بعد فقد سرحت طرفي في رياض هذا التأليف الرائق، وفرحت بصري بالمشاهدة لمحاسن هذا التصنيف الفائق، واقتطفت بيدي ثمرات أوراقه، واستضأت بأنوار إشراقه، وحليت سمعي بدرر فوائده، وفكري بغرر عوائده، وعرضت على فهمي لآلئ جواهره، فلاحت لعيني بدور زواهره، فإذا هو عقد نظم من درر العلوم، وتحلت به غواني الفهوم، رشيق الألفاظ والمعاني، رقيق التراكيب والمباني،(1/1549)
لم ينسج ناسج على منواله، ولم يأت بليغ بمثاله، قد أفحم فصحاء الرجال، وألقت له البلغاء العصي والحبال، وأعجز الفصحاء كبيراً وصغيرا، فلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، يفوق بحسنه كل مؤلف، ويروق برونقه على كل مصنف، جمع فيه من العلوم أشرفها وأشرقها، ومن المعارف أرقها وأروقها، فهو مجموع جامع مانع، وروض يافع يانع، فلا شك أنه صنعة قادر، وصبغة لبيب ماهر، وكيف لا وهو العلامة الإمام الفهامة الهمام، المحقق الفاضل المدقق الكامل، جامع شمل المعارف حائز أنواع اللطائف، وحيد الكمالات اللدنية، وفريد المحاسن الخلقية والخلقية، مولانا الشيخ محمد عبد اللطيف الطحلاوي، قابل الله صنيعه بحسن القبول، وبلغه من خير الدارين كل مأمول، وأدام الكريم النفع بوجوده وأقام لديه جزيل إحسانه وجوده، الكامل كرت الليالي ومرت الأيام، وقطر غيث الغمام، والحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده، ومن نثره أيضاً هذه المراسلة: بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك يا من أجريت المقادير على وفق الإرادة، وجعلت المطالب سبباً للإفادة والاستفادة، ونشكرك على ما أوليتنا من سوابغ الإحسان، ومنحتنا من سوابق الفضل والامتنان، ونصلي ونسلم على نبيك سيد ولد عدنان، إلى آخره.
وأيضاً:
إن أحلى ما تحلت به تيجان الرسائل، وأعلى ما تجلت به مظاهر المقاصد والوسائل، وأبهى ما رقمه البنان، من بديع المعاني والبيان، وأشهر ما فاهت به الأقلام، وفاحت به نوافح مسك الختام، إهداء تسليم تفوح فوائح المسك من طيب نشره، وتلوح لوائح الإقبال من وجوه بشره،(1/1550)
وتبتسم ثغور الأماني من شمائل شموله، وتتنسم نسمات التهاني من إقباله وقبوله. وإسداء تحيات يعبق شذاها، ويشرف نورها وضياها، تفوق الشموس نوراً، وتروق الخواطر منها سرورا، نقدم ذلك ونهديه ونظهره ونبديه، لحضرة ذوي المهابة والفخار والعلو والاقتدار، الجامعين بين المتاجر والمفاخر، الحائزين لجمال الأول والآخر، القاطنين بخير البلاد، القائمين بمصالح العباد، مصابيح الدنيا وبهجتها، وكواكب البلاد وتحفتها، حماة حرم يجبى إليه الثمرات، وزينة محل تقضى به الحاجات، عين أعيان المكاسب والتجارة، وزين أبناء المطالب والإشارة، نعني بذلك فلاناً وفلانا، أسبغ الله عليهم سوابغ الإنعام، وأسبل عليهم حلل الجود والإكرام، وأصلح لهم الأحوال، وبلغهم الأماني والآمال، وبسط لهم الأرزاق، وحباهم بلطفه الخلاق. أما بعد بسط كف الرجاء، ومد سواعد القصد والالتجاء، بدعوات مقرونة بالإنابة، ليس لها حاجب عن أبواب الإجابة، فمما يعرض عليكم وينهى بعد السلام إليكم، أنه قد وصل إلينا رقيمكم المكنون المحتوي على الدر المصون، فشممنا منه نفحات مكية حرمية، ونسيمات سحرية بهية، فتعطرنا بطيب مسكها الأذفر، وتطيبنا بعبير عنبرها الأزهر. وذكرتم أنه بذلتم المجهود في طلب المقصود، إلى آخره.
وله غير ذلك كثير، وحاله وفضله شهير، ولم يزل يملي ويفيد ويقرر ويعيد، حتى قطفت يد الأجل نواره، وأطفأت رياح المنية أنواره. وذلك يوم الاثنين الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام سنة ست عشرة ومائتين وألف، ورثاه الشيخ إسماعيل الزرقاني بقوله:
تداولت الأيام بالعسر واليسر ... وتلك شؤون الحق في مطلق الدهر
فكيف أرى قلبي على فقد ألفه ... حزيناً ودمع العين من فيضه يجري
فقال لنا في سيد الخلق أسوة ... فقد دمعت عيناه حزناً كما تدري
وهذا الذي أمسى حليف ضريحه ... إلى فضله تصبو الأنام مدى العمر(1/1551)
إمام له فضل الرواية والحجا ... فمن نقله يملي ومن عقله يقري
قوى فهمه صارت بنور معيدها ... ترى من مبادي الحال عاقبة الأمر
عتبت على الأيام في نثر عقدها ... وقد غاب من أثنائه معدن الدر
فقالت ومالي ذاك حبر موفق ... أحب لقاء الله أسرع للأجر
تلقته أملاك النعيم تحفه ... وتنقله من ورد نهر إلى قصر
إلى أن يرى وجه العزيز مكانه ... ويبقى حميداً في الترقي مع البشر
بمقعد صدق صار عند مليكه ... فيا مصطفاه فزت مرتفع القدر
الشيخ مصطفى العقباوي المالكي الأزهري وهو منسوب لمنية عقبة
الأجل العلامة والفاضل الفهامة، نخبة الأنام وحسن الليالي والأيام، حضر إلى الأزهر صغيراً ولازم السيد حسن البقلي ثم الشيخ محمد العقاد المالكي ثم الشيخ محمداً عبادة العدوي ملازمة كلية، حتى مهر في العلوم المعقولات والمنقولات، وحضر دروس أشياخ العصر كالشيخ الدردير والشيخ محمد البيلي والشيخ الأمير وغيرهم. وتصدر لإلقاء الدروس وانتفع به الطلبة، واشتهر فضله، وكان إنساناً حسن الأخلاق مقبلاً على الإفادة والاستفادة، لا يتداخل إلا فيما يعنيه، ويأتيه من بلدته ما يكفيه، قانعاً متورعاً متواضعا. ومن مناقبه أنه كان يحب إفادة العوام، حتى أنه كان إذا ركب مع المكاري يعلمه عقائد التوحيد وفرائض الصلاة، إلى أن توفي يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة، سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف، ولم يخلف بعده مثله رحمه الله تعالى.
الشيخ مصطفى بن محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الصفوي القلعاوي الشافعي
الأستاذ العلامة والملاذ الفهامة، المهذب الفقيه والمحبب النبيه. ولد في شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين ومائة وألف، وتفقه على الشيخ الملوي(1/1552)
والسحيمي والحراوي والحفني، ولازم الشيخ أحمد العروسي وانتفع عليه، وأذن له في الفتيا عن لسانه، وجمع من تقريراته واقتطف من تحقيقاته، وألف وصنف، وكتب حاشية على ابن قاسم الغزي على أبي شجاع في الفقه، وحاشية على شرح المطول للسعد التفتازاني على التلخيص، وشرح شرح السمرقندي على الرسالة العضدية في علم الوضع، وله منظومة في آداب البحث وشرحها، ومنظومة لمتن التهذيب في المنطق وشرحها، وديوان شعر سماه: إتحاف الناظرين في مدح سيد المرسلين، وعدة من الرسائل في معضلات المسائل، وغير ذلك. ولم يزل على حالته الرضية وصنعته السنية، إلى أن تمرض أياماً، ثم توفي ليلة السبت السابع والعشرين من شهر رمضان سنة ثلاثين ومائتين وألف، وصلي عليه في الأزهر ودفن في زاوية الشيخ سراج الدين البلقيني.
الشيخ مصطفى بن حسين بن علي بن محمد بن حسين بن محمد بن عثمان الحلبي الحنفي الوفائي
أبو الصفا صفي الدين العالم العارف الصوفي الفاضل الدين الزاهد العابد، التقي البركة المسند الأديب، جمال المشايخ زينة المرشدين.
مولده في حلب سنة أربعين ومائة وألف في سادس محرم، وقرأ على(1/1553)
والده شيخ تكية الشيخ أبي بكر خارج حلب، وعلى الشيخ أبي التوفيق حسين شرف الدين وانتفع به وتأدب بآدابه وأخذ عنه، وسمع شعره وديوانه الذي جمعه من لفظه، وأخذ عنه آداب الطريق وسمع عنه الكثير من الفرائد والفنون، وأجازه وخلفه مكانه، وكان من المشايخ الأجلاء والعلماء المشهورين الفضلاء، وقرأ على غير والده، وأخذ على جماعة منهم أبو المحاسن يوسف بن الحسين بن يوسف الدمشقي الحسيني النقيب والمفتي بحلب، وأسمعه المسلسل بالأولية حديث الرحمة في التكية المذكورة في تربة الأستاذ الشيخ أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وهو أول حديث سمعه منه بشرطه، وقرأ عليه أوائل ثبته وأجاز له بالإجازة العامة وكتب له بخطه، وسمع عليه كتابه الذي ألفه بمناقب الشيخ، وترجمته، المسمى مورد أهل الصفا في ترجمة الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا، وسمع الأولية من أبي عبد الكريم بن أحمد الشراباتي وأبي محمد عبد الوهاب بن أحمد المصري الأزهري البشاري نزيل حلب، وأبي عبد الله علاء الدين بن محمد بن محمد الطيب المغربي الفاسي المالكي لما قدم حلب، وأبي الفتوح نور الدين علي بن مصطفى بن علي الدباغ الميقاتي الحلبي، وهو أول حديث سمعه منهم وأجازوه به وبجميع ما تجوز لهم روايته غير مرة. وأخذ الطريقة الشاذلية عن عبد الوهاب، والطريقة الوفائية عن والده، وبقية الطرائق عن شيوخه بأسانيدهم، وجل انتفاعه على والده وبه تخرج. ولما مات والده سنة ست وخمسين ومائة وألف جلس مكانه في التكية شيخاً، وقام مقامه ولازمه المريدون وأبناء الطريق، وأقبل عليه الناس، واستقام في التكية المذكورة شيخاً مبجلاً محترماً، وكان كثير الديانة وافر الحرمة، يلازم قراءة الأوراد السحرية والعشائية، وينفق ما يدخل عليه، وكان يميل في ملبسه ومأكله إلى الترفه، وحج ودخل دمشق، ولما دخل خليل أفندي المرادي حلب سنة خمس ومائتين وألف، أجتمع به(1/1554)
وأخذ عنه واستجازه، وسمع من لفظه حديث الرحمة المسلسل بالأولية، وهو أول حديث سمعه منه في المجلس الذي أجتمع به كما رأيت ذلك بخطه، وتوفي رحمه الله بعد ذلك بمدة قليلة.
الشيخ مصطفى المعروف لدى أهالي الشام بالدرويش مصطفى
العالم العامل، والكامل الفضائل، قد انفرد في عصره، وأجمع على تقدمه جميع أهل مصره، قد استوى على أوج المراتب العالية، واحتوى على أعلا الشمائل السامية، وكانت شيوخ دمشق الشام، تعترف له بالعلم والعمل ورفعة المقام، والزهد والورع والقناعة وعدم الطمع، ولم يزل يعلو مقامه ويزكو احترامه، إلى أن تم أجله وانقطع من الدنيا أمله، وذلك سنة ألف ومائتين وعشرين، ودفن بسفح قاسيون بين الأفاضل والصالحين، وقبره معروف يزوره ويتبرك به العلماء والأكابر، وإن كثيراً من أهل الشام، يقصده للزيارة وطلب المرام!!
السيد مصطفى بن خليل الدمشقي الحنفي الشهير بقزيها، أمين فتوى الشام
الإمام الذي فضائله أشهر من أن تذكر، وفرائده أجل من أن تحصى أو تحصر، اشتغل بطلب العلم وإتقان القرآن العزيز، من حين أن دخل في سن التمييز، وتفقه على العلماء والسادة الأعيان الفضلاء، كالشيخ سعيد(1/1555)
الحلبي، والسيد محمد عابدين، وأخذ الحديث على المرحوم الشيخ عبد الرحمن الكزبري وغيرهم، وأتقن الفنون غاية الإتقان، كالنحو والصرف والمعاني والبيان، وتبحر في المعقول والمنقول، والفروع والأصول، وولي أمانة فتوى دمشق الشام، في أيام مفتيها حسين أفندي المرادي المولى الهمام، وكانت وفاته في شهر ذي القعدة الحرام، سنة سبع وخمسين ومائتين وألف، ودفن في باب الصغير رحمه الله تعالى.
السيد مصطفى بن السيد محمد المغربي الجزائري المالكي
الفاضل الإمام والكامل الهمام، كعبة الأفاضل ومعدن الفضائل، من رفع الله به قدر المواعظ والزواجر، وأترع به حياض النواهي والأوامر، وعمر بمتين كمالاته القلوب وغمرها، وجمع الخواطر بحسين جمالاته وجبرها، وخشعت لمعالي عباراته الأسماع والأبصار، واطمأنت لعرفانه القلوب عن الأغيار، وعم إرشاده الآفاق، وانتشر ذكره في الأقطار وفاق. وفي سنة ست ومائتين وألف اختط قريته المعروفة بالقيطنة بوادي الحمام، ونشر بها الطريقة القادرية بعد أن طوي بساط ذكرها، وأحياها بعد أن اندرست معالم قدرها، فأخذها الناس عنه، وتلقوها بكمال القبول منه. ولم يزل على زهده وعبادته، وتقواه وطاعته إلى أن جاءه الأجل المحتوم، ونزل به القضاء المحتوم، فتوفي في برقات عند ماء يعرف هناك بعين غزالة، سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف، وقبره هناك ظاهر مشهور، عليه الجلالة، والوقار، ومناقبه معروفة مشهورة، وكثيرة مذكورة.
الشيخ مصطفى بن محمد الحلبي الأصل الدمشقي
الصوفي الشافعي الدسوقي طريقه
ولد بدمشق وأخذ عن علمائها الكرامة، وساداتها الجهابذة الأعلام، واشتغل بطريقة الصوفية ناهجاً منهج السادة الدسوقية، وكان له من(1/1556)
الكرامات وخوارق العادات، واقعات كثيرة، ومشاهدات شهيرة، ومنها أنه رؤي قبل موته بيوم يمشي على الماء ولم يبتل، ومنه إخباره بمجيء الدولة المصرية إلى الشام قبل أن يكون لأحد خبر في ذلك، توفي في قرية البويضة قرية من قرى دمشق الشام، غرة ربيع الثاني سنة خمسين ومائتين وألف، ودفن بها وقبره هناك معروف.
الشيخ مصطفى بن سليمان البرقاوي بن محمد مزهر
النابلسي البرقاوي مولداً الدمشقي إقامة
قدم دمشق سنة تسعين ومائة وألف وبها استقام، أخذ عن علمائها السادة الأعلام، منهم الشهاب أحمد العطار، والشيخ محمد الكزبري، والشيخ مصطفى السيوطي، وتولى قضاء الحنابلة مدة ثلاثين سنة، مات رحمه الله نهار الجمعة الساد عشر من ذي القعدة الحرام سنة خمسين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير.
الشيخ مصطفى المرحومي الشافعي المصري الأزهري
الإمام العالمة الرحلة الفهامة، المعمر المتقدم، ولد بمحلة المرحوم بالمنوفية وقرأ القرآن وحفظه وجوده، وحضر إلى مصر وحفظ المتون وتفقه على الأشياخ المتقدمين، كالدفري والمدابغي والشيخ علي قايتباي والملوي والحفني وغيرهم، ومهر في المعقول والمنقول، وأملى الدروس بالأزهر وجامع أزبك وانتفع به الناس، وكان يتردد إلى بيوت بعض الأعيان ويحبونه ويكرمونه ويستفيدون من فوائده ونوادره، وكان له حافظة واستحضار للمناسبات والأشعار واللطائف، لا يمل حديثه ومفاكهته، توفي رحمه الله تعالى سنة سبع ومائتين وألف.(1/1557)
الشيخ مصطفى بن صادق أفندي اللازجي الحنفي
الوحيد المكرم والنبيه المفخم، ولد سنة أربع وسبعين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده، وحفظ القرآن وبعض المتون في صغره، وحفظ البرجلي والشاهدي، ومهر في اللغة التركية، وتفقه على أبيه وقرأ عليه علم الصرف، وحضر على بعض الأشياخ، ولازم الشيخ محمد الفرماوي وأخذ عنه النحو وقرأ عليه مختصر السعد وغيره برواق الجبرت بالأزهر، ثم تصدر للإفادة والمطالعة لطلبة الأتراك المجاورين برواق الأروام، وليس له تاجاً وفراجة، وعمل له مجلس وعظ على كرسي بالجامع المؤيدي وذلك قبل نبات لحيته، وكان وسيماً جسيماً بهي الطلعة أبيض اللون رابي البدن، فاجتمع لسماع وعظه ومشاهدة ذاته كثير من الناس من أبناء العرب والأتراك والأمراء والأجناد، فيقرر لهم بالعربي والتركي بفصاحة وطلاقة لسان، وممن كان يحضره علي آغا مستحفظان، وهام فيه وأحبه وصار يتردد إليه كثيراً، ويذهب هو أيضاً إلى داره كثيراً كما قيل في المعنى:
بروحي واعظاً كالبدر حسنا ... بديع ملاحة ساجي اللواحظ
ولا عجب به إن همت وجداً ... فكم قد هام ذو وجد بواعظ
ووقع له بعد ذلك محن عظيمة، وهموم شديدة جسيمة، ثم أخذ همه في التلاشي حتى غار ما حياته، وانفلق عن الفتح باب قبره عند مماته، وهو مقتبل الشبيبة سنة سبع ومائتين وألف رحمه الله.
السيد مصطفي الدمنهوري الشافعي المصري الأزهري
العمدة الفاضل والتحرير الكامل، الفقيه العلامة، والهمام الفهامة، تفقه على أشياخ العصر وتمهر في المعقولات، ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي ملازمة كلية واشتهر بنسبته إليه، ولما ولي مشيخة الأزهر صار المترجم عنده هو صاحب الحل والعقد في القضايا والمهمات والمراسلات عند(1/1558)
الأكابر والأعيان، وكان عائلاً ذكياً، وفيه ملكة واستحضار جيد للفروع الفقهية، وكان يكتب على الفتاوي على لسان شيخه المذكور ويتحرى الصواب، وعبارته سلسة جيدة، وكان له شغف بكتب التاريخ وسير المتقدمين، واقتنى كتباً في ذلك مثل كتاب السلوك والخطط للمقريزي وأجزاء من تاريخ العيني والسخاوي وغير ذلك، ولم يزل حتى ركب يوماً بغلته وذهب لبعض أشغاله، فلما كان بخطة الموسكي قابله خيال فرنساوي يركض قليلاً على فرسه، فجفلت بغلة السيد مصطفى المذكورة وألقته من على ظهرها إلى الأرض، وصادف حافر فرس الفرنساوي إذنه فرض صماخه، فلم ينطق ولم يتحرك فرفعوه في تابوت إلى منزله، ومات من ليلته رحمه الله تعالى، سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف من الهجرة النبوية.
الشيخ مصطفى بن محيي الدين بن مصطفى نجا الشافعي الشاذلي
شاب نشأ عل كمال الطاعة، وعالم قد اعتزل عن الابتداع والإضاعة، فلا ريب أنه البحر الزاخر والحبر الباهي الباهر، شمس فضائله لم يصبها كسوف، وقمر معارفه لم تلمسه يد خسوف، إن نثر فما أزاهر الرياض غب المزن الهاطل، أو نظم فما جواهر العقود تحلت بها الأجياد العواطل.
ولد ليلة السابع والعشرين من رمضان المبارك سنة تسع وستين ومائتين وألف، وبعد سن التمييز أخذ في تعلم القرآن العزيز، ثم طلب العلم في بيروت البهية، على جماعة من العلماء ذوي مقامات سنية، فاجتهد في الطلب وجد في نوال الأرب، إلى أن فاق أمثاله ونال آماله، ثم توجه إلى مصر بقصد المجاورة في أزهرها الشريف فلم يتيسر له ذلك، بل عاد إلى وظنه بيروت وانكب على الطلب والتحصيل مع الجد والاجتهاد والتفرغ للعبادة(1/1559)
حسب المراد، ولم يزل على هذا الحال سالكاً مسلك الفضل والكمال، إلى أن توفي والده وذهب عنه مساعده، فاحتاج إلى تعاطي الأسباب، فتعاطى التجارة بالعطارة، وأخذ الطريقة الشاذلية عن المرشد الكامل والهمام الفاضل، الشيخ علي نور الدين بن يشرط المغربي التونسي، أدام الله وجوده وأغدق علينا وعليه إحسانه وجوده، فاشتغل بالطريق فوق العادة وبذل في الطاعة جده واجتهاده، ولازم الإخوان في مسائه وصباحه، وسلك مسالك نجحه وفلاحه، مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخدمه المريدين بالحظ الأوفر. وفي سنة أربع وثلاثمائة وألف أجازه إجازة عامة، وأذن له بتلقين الذكر وهو لهذا العهد يقيم الحضر في داره، وقد أخذ عنه كثيرون فأوضح لهم الطريقة وعلمهم كيفية السلوك إلى الحقيقة، ودعاهم إلى التمسك بالسنة والكتاب وعرفهم الفرق بين الخطأ والصواب، ومن نظمه يرد على من زعم أن التمسك بالحقيقة يغني عن اتباع الشريعة قوله:
عجباً لمن يعصي أوامر ربه ... ويقول لست بمذنب من عجبه
ويرى خلاف الشرع تحقيقاً ولا ... ينقاد جهلاً بالطريق لحزبه
ويقول إني مطلق من قيده ... فدع المقيد هائماً في حجبه
ويظن مع أهل الضلال بأنه ... عرف الهدى ودرى نهاية دربه
وبأنه ممن يحب الله قد ... فازوا وقد سلكوا مسالك قربه
هيهات هيهات المحب حقيقة ... والله لا يعصي أوامر حبه
والمهتدون العارفون بربهم ... لا يجهلون وليس فيهم ما به
فاترك مصاحبة الذي هو مثله ... تلقي الأمان من الزمان وحربه(1/1560)
واصحب إذا رمت الهدى من يقتدي ... بالمصطفى هادي الورى وبصحبه
فالأجرب المغرور تلتزم النهي ... عنه التجنب خيفة من خطبه
وأخو الفطانة ليس يسلك مسلكا ... حتى يميز سهله. من صعبه
وله أبيات لطيفة وقصائد طريقه، وموشحات حسنة وتوسلات مستحسنة، وقدود تقال على الأذكار، ألطف من نسمات الأسحار، وله شرح على الصلاة الجليلة الممزوجة المنسوبة إلى القطب الكبير، سيدي العارف بالله عبد السلام بن بشيش سماه كشف الأسرار، لتنوير الأفكار، وله منظومة سماها الاستغاثة السنية برجال أهل سلسلة الطريق الشاذلية العلية، وأولها قوله:
بك يستجير العبد من هفواته ... يا واحداً في ذاته وصفاته
حفظنا الله وإياه من الآثام، ورزقنا وإياه حسن الختام.
الشيخ معروف التكريتي العراقي الخالدي النقشبندي
صاحب السكر والمحو والجذب والصحو، والأحوال الغريبة والصفات العجيبة، كان فقيهاً عابداً ومرشداً زاهداً، بارعاً في العلوم دقيق النظر في المنطوق منها والمفهوم، وقد أخذ عن حضرة مولانا خالد، وتخلف عنه خلافة عامة، فاشتغل بالطريق والإرشاد، وسلك منهج الصواب والسداد، وكان حسن الأخلاق عالي المذاق، لطيف العبارة جميل الإشارة، ولم يزل يترقى على معراج الكمال إلى أن طلبته المنية لدار الجمال، وذلك سنة ألف ومائتين وخمسين تقريباً.(1/1561)
الشيخ منصور بن عمار بن كثير السلمي
الخراساني الصوفي الدمشقي
كان مسرفاً على نفسه ثم تاب، وكان سبب توبته أنه وجد في الطريق رقعة مكتوبة بسم الله الرحمن الرحيم، فلم يجد لها موضعاً يضعها فيه فأكلها فرأى في المنام قائلاً يقول له: قد فتح الله عليك باب الحكمة لاحترامك للرقعة، فقال من نومه نادماً على أفعاله تائباً من وقوعه في أوحاله، مقبلاً على مولاه معرضاً عما سواه، ففتح الله عليه أبواب القبول وسهل له أسباب الوصول، ومنحه من العلوم الإلهية والتجليات العرفانية، ما أثبت له الفضيلة وحقق له الشمائل الجميلة، وفضل الله واسع لا راد له ولا مانع، قال بعضهم: رأيت في المنام منصور بن عمار بعد موته وكان في أول أمره قد أسرف على نفسه، فقلت له ما فعل الله بك؟ قال أوقفني بي يديه وقال لي أنت الذي كنت تزهد الناس في الدنيا وترغبهم في الآخرة، فقلت قد كان ذلك وأنت يا رب أعلم، ولكن وعزتك وجلالك، ما جلست مجلساً إلا وبدأت بالثناء وثنيت بالصلاة والسلام على نبيك ورسولك، وثلثت بالنصيحة لعبادك، فقال الله تعالى صدق، ضعوا له كرسياً في سمائي يمجدني كما كان يمجدني في أرضي انتهى، وفضله معروف وكماله موصوف غني عن البيان، مات رحمه الله في دمشق ودفن بها سنة ألف ومائتين و....
الشيخ منصور بن مصطفى بن منصور بن صالح
ابن زين الدين السرميني الحلبي الحنفي
العالم المتقن الفاضل المحدث الأصولي الزاهد العابد التقي النقي، مولده سنة ست وثلاثين ومائة وألف بسرمين من أعمال حلب ونشأ بحلب، ودخلها صغيراً(1/1562)
وقرأ القرآن العظيم وبعض المقدمات من الفقه والعربية وغيرها على أبي محمد عبد الوهاب بن أحمد المصري نزيل حلب وأبي عبد الله محمد بن محمد التافلاني المغربي، وأخذ الطريقة القادرية عن أبي بكر تقي الدين بن أحمد القادري الحلبي، وارتحل إلى حماه، وقرأ بها على البدر حسن بن كديمة وأبي محمد عبد الله الحواط، ثم ارتحل إلى مصر واشتغل بالتحصيل والأخذ وقرأ على علمائها في غالب الفنون، منهم بو المكارم محمد نجم الدين بن سالم بن أحمد الحفناوي وجل انتفاعه به وعليه، وأخوه الجمال يوسف وأبو العباس أحمد بن عبد الفتاح الملوي وأبو محمد الحسن المدابغي والشهاب أحمد الجوهري وعفيف الدين عبد الله بن محمد الشبراوي ونور الدين علي العمروسي وأبو عبد الله محمد بن محمد البليدي المالكي وأبو الصفا خليل المالكي، وأبو محمد عبد الكريم الزيات وأبو داوود سليمان الزيات وأبو السخا عطية الله الأجهوري والسراج عمر الشنواني وأبو الحسن علي الصعيدي، وأبو الروج عيسى البراوي والشمس محمد الفارسكوري وأبو عبد الله العشماوي وغيرهم. وحج ولقي هناك عام حجه أبا الإرشاد مصطفى بن كمال الدين بن علي البكري الصديقي الدمشقي، وأخذ عنه الطرائق وغيرها وانتفع بدعواته ونفحاته وارتفع بأنظاره ولمحاته، وأخذ بالمدينة المنورة على أبي البقاء محمد حياه بن إبراهيم السندي، واستقام بمصر عدة سنين وتفرق وتنبل ودرس بها، وأقرأ بعض العلوم واشتهر أمره وراج حاله حتى شهد بفضله مشايخه، وبعدها دخل حلب، ومنها قدم إلى دمشق فرغب أهلها به وصال عادة مشايخ الطرق، ولزمه جماعة وأخذوا عنه، وأقبل عليه الناس واشتهر واستقام بدمشق بعياله نحو عشرين سنة، وفي أثناء المدة كان يأتي إلى حلب لزيارة أحبابه وأقاربه، رأيت بخط خليل أفندي المرادي صاحب التاريخ قال: وكان والدي اشترى المكان المبني تجاه باب جيرون بالجامع الأموي وجعله وقفاً على المترجم، ومن بعده على من يصير خليفة بعده من(1/1563)
المشايخ البكرية الخلوتية، وكان القاضي بالحكم سليمان بن أحمد الخطيب المحاسني الحنفي، وألف وهو بدمشق رسالة في البسملة سماها كشف الستور المسدلة عن أوجه أسرار البسملة، وجعلها باسم والدي وكتب له عليها، وشرح الأبيات الثلاثة التي مطلعها:
عليك بأرباب الصدور فمن غدا ... مضافاً لأرباب الصدور تصدرا
وسماه كشف اللثام والستور عن مخدارات أرباب الصدور، وفي سنة إحدى ومائتين وألف. اشترى دار بني الطيبي بحلب الكائنة بمحلة الفرافرة، وجعلها زاوية للأذكار والتوحيد بعد أن وقفها، وكان يقيم الذكر بها في الأسبوع مرة، ويقري ويفيد ويدرس ويختلي في كل عام أربعين يوماً، ومن جملة من أخذ عنه واستجاره خليل أفندي المرادي سنة ألف ومائتين وخمس، وانتفع به وبعلومه، وكان حسن المحاضرة قوي الحافظة نبوي الأخلاق لطيف المذاكرة، توفي سنة ألف ومائتين ونحو العشرة.
الشيخ موسى السرسي الشافعي الأزهري
العمدة العلامة والنحرير الفهامة، الأصولي الفقيه والمنطقي النحوي النبيه، أصله من سرس الليانة، بالمنوفية، وحضر إلى الأزهر ولازم الاستفادة وحضور الأشياخ من الطبقة الثانية، كالشيخ عطية الأجهوري والشيخ عيسى البراري والشيخ محمد الفرماوي، ومهر وأنجب في المعقولات والمنقولات، وأقرأ الدروس وأفاد الطلبة، ولازم الشيخ حسن الكفراوي مدة ورافقه في الإفتاء والقضايا، ثم لازم الشيخ أحمد العروسي وصار من خاصة ملازميه وتخلق بأخلاقه، وألزم أولاده بحضور دروسه المعقولية وغيرها دون غيره، لحسن إلقائه وجودة تفهيمه وتقريره، واشتهر ذكره وراش جناحه وراج أمره، بانتسابه للشيخ المذكور، واشترى أملاكاً واقتنى عقاراً بمصر وببلده سرس(1/1564)
ومنوف ومزارع وطواحين ومعاصر، وأقبلت عليه الدنيا إقبالاً كاملاً. وكان حلو المفاكهة حسن المعاشرة، عذب الكلام مهذب النفس جميل الأخلاق. ودوداً قليل الادعاء، محباً لإخوانه، مستحضراً للفروع الفقهية، وكان يكتب على غالب الفتاوي عن لسان الشيخ العروسي ويعتمده في التقول والأجوبة عن المسائل الغامضة والفروع المشكلة. ولم يزل مشتغلاً بشأنه حتى تمرض وتوفي يوم السبت أواخر جمادى الثانية سنة تسع عشرة ومائتين وألف.
الشيخ موسى البشبيشي الشافعي الأزهري
إما فقيه وهمام كامل نبيه، قد استوى في عصره على أوج السيادة، وانفرد في عصره بالانقطاع للإفادة، وكان فاضلاً علامة كاملاً فهامة، نحوياً منطقياً فرضياً، تقياً نقياً رضياً، نشأ في الجامع الأصغر من صغره، ولازم الأشياخ ومجالسهم إلى كبره، حتى شهد له كل إنسان أنه عين العلماء الأعيان، وأجاز كل من العلامة الصعيدي المصيلحي والدردير والشويهي والصبان، وغيرهم من السادات ذوي المعارف والإتقان، فمهر وأنجب بين العلماء، وصار معدوداً من القادة الفضلاء، ودرس في الفقه والمعقول، وأفاد في أنواع الفروع والأصول، وكان كثير الملازمة للعلامة العروسي الهمام، وقد أخذ عنه جل المراد والمرام، وكان مهذباً في نفسه متواضعاً مقتصداً في ملبسه ومأكله، عفيفاً قانعاً، لطيف المعاشرة والكلام، حسن السيرة بين الأنام، لا تمل مجالسته ولا تسأم مفاكهته، ولم يزل منقطعاً للعلم والإفادة مقبلاً على شأنه فوق العادة، إلى أن جذبته يد الأجل إلى الأماني والأمل، وذلك سنة ألف ومائتين وسنتين.(1/1565)
الشيخ موسى البندنيجي الخالدي النقشبندي
العالم العامل، والمرشد الكامل، نخبة الفضلاء. وزبدة النبلاء، نشأ من صغره على الطاعة والكمال وتقوى الله ذي الإكرام والجلال، إلى أن صار بين الناس آية، وخفق له بين العلماء أعظم راية، وكان ملازماً للتقوى والعبادة والورع والزهادة، وكان من خلفاء سيدنا ومولانا خالد قدس الله سره، فدار في البلاد وأرشد العباد، إلى أن أقبل على ربه على أحسن حال، مرتدياً برداء التقوى والجمال، وذلك بعد الألف والمائتين والأربعين.
الشيخ موسى الجبوري البغدادي النقشبندي الخالدي
الفقيه الصوفي الكامل والنبيه العالم العامل، والولي المرشد العارف بالله، والمقبل عليه والمعرض عما سوه، ذو الأنفاس والشمائل القدسية والبركات والنفحات الأنسية، فإنه كان ممن شهد بكماله الخاص والعام، وكان في الإرشاد وتدريس العلوم والوعظ إماماً وأي إمام، إذا جلس للتذكير تسابق الناس إليه وجلسوا حوله وبين يديه، فما تجد غير مطرق باك ومتواجد متباك، وصارخ ملء فيه، ومضطرب كأن الموت يوافيه، وليس السيان كالخبر ولا من غاب كمن حضر، كان قد أخذ أولاً عن عبيد الله الحيدري خليفة مولانا خالد، ثم بعد أن ذاق كؤوس العرفان، واستوى على سرير الكشف والوجدان، خلفه مولانا خالد خلافة مطلقة، وأذن له بالإرشاد في الجانب الغربي من مدينة بغداد، فأخذ عنه العلماء الأفاضل والسادة القادة الأماثل، وكان مشهوراً بكل كمال، معروفاً بفضائل الأحوال، ولم يزل يترقى في معاريج الفضائل، ويتقلب على فراش المعارف ناهلاً أعذب المناهل، إلى أن توفي في ذلك الحبر المكين سنة ألف ومائتين وست وأربعين.(1/1566)
الشيخ موسى بن المرحوم عمر بن عبد الفتاح
ابن محمد بن يحيى بن محمد بن عبد الجليل السباعي الحمصي عالم شاعر، وناظم ناثر، قد فاق في عصره أقرانه، مع زهد وتقوى وصيانة وديانة، فلذا كان ممن يعتمد عليه، ويشار في حل المشكلات والمعضلات إليه، على أنه من بيت قد تأسس على العلم والتقوى، وحسن العمل في السر والنجوى، فهو الحبر الذي فاق بصفاته الأوائل، والبحر المتموج بجواهر الفضائل، الجامع شمل الكمال بعد شتاته، والواضع في جسد المجد روح حياته، فلا ريب أنها تضحك ببكاء أقلامه الطروس، ويرى في صورة خطوطه حظوظ النفوس.
ولد في مدينة حمص سنة ألف ومائة وإحدى وتسعين، ونشأ بها إلى أن توفي والده، ذهب إلى مصر في نية طلب العلم في الجامع الأزهر والمقام الأنور، فقرأ على علمائها وطلب على فضلائها، ثم رجع إلى الشام وكمل طلبه على علمائها الأعلام، وفي سنة ألف ومائتين وخمس وخمسين سافر إلى بلده حمص، ومرض بداء البطن، وتوفي في تلك السنة ودفن في مقابر بني السباعي بالقرب من حضرة سيدي خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، ومن بديع نظامه وفصيح كلامه، معارضاً بانت سعاد يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
صدت سعاد وما للحال تحويل ... وليس لي في سواها قط مأمول
وكيف لا وفؤادي صار مرتعها ... ولم يرعني بها قال ولا قيل
لم أخش في حبها عذلاً لذي عذل ... ولا لواش وفيها القلب مكبول
فكم لحاني لاح في الهوى سفهاً ... فقلت اقصر فلي في ذاك تنويل
الله أكبر كم في الحب من بطل ... لقد علاه اكتئاب وهو مذبول(1/1567)
بمن غدت فتنة بين الورى وسمت ... والفرع منها بجنح الليل مسدول
أضحت فريدة حسن جل مبدعها ... إلى الملا ما بهذا القول تبديل
ترمي بلا قوس نبلاً من لواحظها ... تصطاد أسد الشرى والسيف مسلول
مليحة ما بدت يوماً لعاشقها ... إلا اعترى جسمه سقم وتنحيل
عذراء يقصر مدحي عن لطافتها ... هيهات هيهات تحصيها الأقاويل
مكحولة كحلت بالسحر ثم لها ... على العذارى بهذا الكحل تفضيل
حكت معاطفها السمر الرشاق وقد ... حازت جمالاً ومنها الطرف مكحول
رعبوبة من سناها النور مبتهج ... وما لها في الورى شكل وتمثيل
ما في المشارق تلقى مثل بهجتها ... تزري الغصون ومنها النور مدلول
تبسمت فشكى لي البرق قلت له ... يا أيها البرق إني عنك مشغول
يفوح من خالها المسك الشميم ومن ... بسامها عنبر بالراح معلول
تميل تختال من عجب على مرج ... من ضوء مبسهما ضاءت قناديل
والصدغ واويه الأسماء قد رقمت ... على الغواني لها في ذاك تطويل
وإن وجنتها شبه العقيق وقد ... سما على رأسها تاج وإكليل
لا في العقيق ولا في المشرقين لها ... مثل كما ثبتت فيها الأقاويل
تركية تركت جسمي بها شبحاً ... والقلب ذاب وكم بيني لها ميل
مكية الخال والتوشيم ذات سنا ... وعطرها أبدا بالمسك مجبول
يا ربة الثغر والنهدين رق إلى ... صب براه الجوى والدمع مهطول
مليكة الحسن رفقاً وارحمي دنفا ... له بكى في بحور الشعر تفعيل
وهبتك يا سعاد الروح فانتصفي ... من مغرم ضره في الحب تسويل
أنهي لخصرك ما لاقيت من سقم ... عسى برقته تنقى الأهاويل
تيهي بذا عجباً فالناس قد خضعت ... إلى حماك وفيك دمعهم لولو
ما دعد ما زينب ما هند ما جمل ... الحسن حسنك فيه القلب متبول
أنت المنى ثم سؤلي فانعمي كرما ... إلى الكئيب الذي في الحب مهزول(1/1568)
لبست حلة حسن يا سعاد وقد ... لبست ثوب الضنى والجسم منحول
إن لم تجودي لصب مسه قلق ... فلي بمدح رسول الله تأهيل
الفاتح الخاتم المفضال شافعنا ... خير النبيين من بالشرع مرسول
قد جاءنا بالهدى والفتح تم به ... عن الخلائق قد زالت أباطيل
طه الحبيب الذي نار الوجود به ... وجاءه من لدى مولاه تنزيل
نبي صدق بدين الحق قام وفي ... كفيه سيف لقمع الشرك مسلول
حتى غدا الكفر مخذولاً لسطوته ... ومس أعداءه ذل وتنكيل
يا صفوة الحق حقق ما أؤمله ... فباب جودك في الدارين مسؤول
وقل لصب غدا في الحب ذا سقم ... ادخل نعيماً به الإحسان مبذول
موسى السباعي له الآمال فيك إذا ... دنا الرحيل وعمته الأهاويل
صلى عليك الذي أعطاك منزلة ... علياء خادمها في الخلق جبريل
والآل والصحب من في الحرب كان لهم ... فتح ونصر وتأييد وتفضيل
وله قصائد كثيرة ومدائح شهيرة، توفي كما تقدم في حمص سنة ألف ومائتين وخمس وخمسين ودفن في مدفن بني السباعي بالقرب من سيدنا خالد ابن الوليد رضي الله عنه.
ناشد راشد باشا والي ولاية سورية الجليلة الوالي المعظم والكبير المكرم، ذو الشان الرفيع والمقام البديع، والصولة السامية والدولة النامية، تعين والياً على الشام وعلى جميع البلاد السورية ذات الاهتمام، وذلك بعد موت المرحوم أحمد حمدي باشا، غير ن سلفه كان ممدوحاً بتمام العفة، ولركون وعدم الميل إلى الخفة، ولذلك كان الجميع يثني عليه بكل ثناء رفيع. وأما دولة الوزير المترجم فكان عند العموم دون من تقدم، ولذلك في آخر مدته كثر الكلام في حق حضرته، فكتب أهل بيروت إلى الدولة العلية يسترحمون بطلب وال عليهم وانفصالهم عن ولاية الأحكام الدمشقية، وتفاقم أمر الطلب إلى أن كادوا يبلغون(1/1569)
الأرب، فتغيظ الوالي المترجم، إلى أن وقع بداء ذات الرئة ودام بهذا المرض خمسة وعشرين يوماً، فتسامع الخبر بين الناس أن الذات الشاهانية لم تسمح بقسم الولاية فتروح الوالي المذكور وكاد أن يبرأ من مرضه، فلما كان اليوم الخامس والعشرون من مرضه دخل عليه بعض خدمته وأخبره بقرار قسم الولاية، وتوجه وال مخصوص إلى بيروت وما يتبعها فعاوده المرض بشدة قوية، ولم يمض عليه ساعات حتى زارته المنية، وذلك يوم السبت المبارك التاسع عشر من شهر رجب الحرام سنة خمس وثلاثمائة وألف، ودفن في تربة العارف الله سيدي الشيخ محيي الدين العربي الكائنة في سفح قاسيون في جامع السليمية بجانب قبر العارف بالله السيد عبد القادر الجزائري، قدس الله سره، وعمره يزيد عن سبعين سنة، رحمة الله عليه وعلينا.
حرف النون
الشيخ ناصر بن عيسى بن ناصر الدين الإدلبي الشافعي
العالم العامل الفقيه، والكامل الفاضل النبيه، ولد في إدلب الصغرى سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف، وقرأ بها على أبي الثناء محمود بن حماد ومصطفى بن سمية وأبي عبد الرحمن بن علي الجوهري المفتي، وحضر دروس أبي مدين شعيب بن إسماعيل الكيالي وأخيه الزين عمر الكيالي، ودخل حلب واستوطنها، وقرأ بها على أبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري، ومصطفى بن عبد القادر الملقي وغيرهم، ودرس بجامع بانقوسا وجامع الحدادين وجامع المشاطية، ولزمه جماعة وأتقنوا عليه، ولازم القراءة والتدريس مع التقوى إلى أن انفرد في مصره وفاق فضله لدى أهل عصره، وفي سنة ألف ومائتين وخمس اجتمع به في حلب خليل أفندي المرادي مفتي دمشق وشهد بفضله وإتقانه في العلوم والفنون ولم أقف على تاريخ وفاته.(1/1570)
السيد نعمان أفندي أبو البركات خير الدين بن محمود
الألومي مفتي السادة الحنفية ببغداد دار السلام
عمدة الأفاضل الأكارم، ونخبة الأماثل ذوي المكارم، من تحلى بملابس العلم والأدب، وتولى عن كل ما اعتقاده يوجب اللوم والعطب، فهو العلم(1/1571)
الفاضل المفرد، والشهم الكامل الأوحد الأمجد، من ل كلامه على علو مقامه، ونظامه ونثره على سموه واحترامه.
ولد يوم الجمعة ثاني عشر شهر محرم الحرام سنة اثنتين وخمسين بعد المائتين والألف، وقد أرخ ولادته الشاعر المجيد، والناظم الوحيد، المنلا عبد الحميد:(1/1572)
بدا الكوكب الدري والقمر الذي ... محاسنه للشمس أضحت تسامت
فلا عجب إن فاح كالمسك عرفه ... فها هو من بيت النبوة نابت
له ثبت الحق الصريح من العلا ... وتاريخه: حق لنعمان ثابت
قرأ بعد تمييزه القرآن وأتقنه، ثم حفظ المتون المستحسنة، وحضر دروس العلماء الأعلام، ولازم الإقبال على الاستفادة ملازمة النجم للظلام، إلى أن ارتقى مقامه واستوى على عرش القبول كلامه، وسرت في الناس فضائله واشتهرت مناقبه وشمائله، وأجلسته معارفه على وجوه الأماني، وقصده الطالبون من قاص وداني، ومن أحسن ما جمعه وألفه، ووضعه في قالب التحرير وصنفه، كتابه المسمى بجلاء العينين في محاكمة الأحمدين، فإن كتاب جلا العين من الغين، وأزال عن محيا الحق الشك والرين، فهو القول الفصل العاري من الهذيان والهذل، ولعمري أن من دقق النظر فيه وجال في مناهج ظواهره وخوافيه، عرف أنه حكم وعدل، واعترف بأنه عن طريق الصواب ما عدل، ونصر قول السنة والكتاب، وماز القشر من اللباب، نفع الله العموم بعلومه ورفع راية منثوره ومنظومه، وقد صنف جملة صالحة من التصانيف وحرر زبراً نافعة من التآليف منها إكمال حاشية القطر لوالده، والشقائق، ورسالة في الفقه، وله نثر ونظم يزري باللؤلؤ النجم، وكتب في المواعظ دروساً مفيدة ومجالس عديدة حميدة، وله مجانسة الجليس، بالوعظ والتدريس:
بوعظ قد تلين له قلوب ... وزجر قد تلين به الصخور
تفرد في الفحول بقوارع وعظه ... وأذاب القلوب بزواجر لفظه:
إذا ما رقى للوعظ ذروة منبر ... لخطبته فالكل مصغ ومنصت
فصيح عن الشرع الإلهي ناطق ... وعن كل مذموم من القول صامت
وحينما ألف كتابه غالية المواعظ، ومصباح المتعظ وقبس الواعظ،(1/1573)
وذكر في أوله حضرة ذي الشوكة والسلطان، أمير المؤمنين المعظم عبد الحميد خان، وقد مدحه بهذه الأبيات البديعة، الدالة على ملكته الرفيعة:
بمولانا أمير المؤمنينا ... لقد سرت قلوب العالمينا
وفي ظل الإله هم أقاموا ... وظل الله يؤوي القائلينا
أنام الكل في ظل ظليل ... فكان لجمعهم كهفاً أمينا
وأصناف الرعية قد تراءت ... بأنواع المعارف عارفينا
مليك ليس يشبهه مليك ... فلا تطلب له ملكاً قرينا
ملاذ الخلق في الدنيا جميعاً ... وسيدنا إمام المسلمينا
عياذ الناس سلطان البرايا ... وخاقان الخلائق أجمعينا
خليفة ربنا قد صار حقاً ... فكان لتخته السامي مزينا
وقد أحيا مآثر لن تضاهي ... ومهد ملكه للساكنينا
وقد عمت أياديه البرايا ... وأدب في الفلاة المارقينا
أدام الله دولته علينا ... وأيدنا به دنيا ودينا
وأبقى ذاته العلياء فينا ... وأعطانا به فتحاً مبينا
وملكه أقاصي الأرض طرا ... شمائلها البعيدة واليمينا
وأبقى عبده المولى حميدا ... حميد العيش دهرا الداهرينا
وأيد جنده الباري بنصر ... وفتح كائن حيناً فحينا
ولم يزل على درج الكمال يترقى، وهو في كل يوم بالنسبة لما قبله أتقن وأتقى، إلى أن أشاعت المنية أخباره وأذاعت أنه سكن في الجنان داره، وذلك في شهر صفر عام ألف وثلاثمائة وسبعة عشر، وذلك في مدينة بغداد، دار السعادة والإسعاد، ودفن في مقبرة أبيه، رحمة الله علينا وعليه.(1/1574)
حرف الهاء
السيد هاشم بن السيد محمد بن السيد فائز بن السيد أحمد عز الدين بن السيد
إبراهيم الرفاعي قدس سره
الشيخ الكامل والإمام الفاضل، قد ترجمه صاحب تنوير الأبصار في طبقات السادة الرفاعية الأخيار، فقال: ولد السيد هاشم صاحب الترجمة بكويت البصرة وشب في حجر والده، وخلف والده بعد مماته في مشيخة الطريق العلية الرفاعية، وكان على جانب عظيم من الزهد والصلاح والتقوى، وله كرامات وخوارق كثيرة، ووالده كان من أكابر العارفين المعتقدين في الديار العراقية، ومرقده في كويت البصرة، مزار الخواص والعوام، والمترجم سار سيرته وسلك طريقته، وهو من بيت المجد والبركة، توفي رحمه الله عام اثنين وسبعين ومائتين وألف، وقبره في الكويت معروف يزار انتهى ملخصاً.
هاشم بن عبد الرحمن بن سعدي بن عبد الرحمن
بن يحيى ابن عبد الرحمن بن تاج الدين عبد الوهاب الحنفي الكناني البعلي الشهير بالناجي ولد بدمشق الشام ونشأ بها وكان من علمائها وفضلائها، وزهادها وعبادها وأعيانها وذوي شانها، أخذ عن المشايخ العظام والسادة الجهابذة الفخام وكانت له اليد العلية والشهرة السنية في فقه السادة الحنفية، وقد تخرج على يديه الكثير من ذوي الفضل الشهير، وولي أمانة الفتوى النعمانية بدمشق المحمية.(1/1575)
مات ثالث عشر رمضان المبارك سنة أربع وستين ومائتين وألف في مرض الهواء الأصفر. وكان له في قلوب الناس اعتقاد عظيم وجاه جسيم، وتولى أمانة فتوى الشام أيام مفتيها حسين أفندي المرادي، وكان مشهوراً بالعبادة والصلاح، وشيخ الطريقة الخلوتية في الديار الدمشقية، وكان ملازماً على إقامة الأذكار، إلى أن دعاه الله لدار كرامته في دار الكرامة والقرار.
هبة الله بن محمد بن يحيى
بن عبد الرحمن بن تاج الدين بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن موسى ابن عبده البعلي، مفتي بعلبك الدمشقي الشهير بالتاجي المولى الهمام فخر الأنام، وصدر العلماء الأعلام، الفقيه الشهير، والمحدث الكبير، فقيه مذهب النعمان ونبيه ذوي المعارف والشان.
ولد في دمشق في تاسع عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين ومائة وألف، ونشأ بها واشتغل في طلب العلوم على جماعة منهم سعد الدين العيني ولد سنة 1030 وتوفي سنة 1174 والسيد مصطفى الأيوبي ولد بدمشق سنة 1135 وتوفي بمكة سنة 1205 وعطية الأجهوري البصير المتوفي سنة 1191 والملوي المتوفي سنة 1181 وطه بن مهنا الجبريني الحلبي المتوفي سنة 1174 وأسعد بن عبد الرحمن المجلد سنة 1174 ومحمد حياة السندي المتوفي سنة 1160 وعبد الكريم بن أحمد الشرباتي علامة حلب المتوفي سنة 1176 وعمر الطحلاوي مفتي المالكية بمصر المتوفي سنة 1181 وصالح بن إبراهيم بن سليمان الجينيني المتوفي سنة 1170 والشهاب المنيني المتوفي سنة 1172 وأحمد ابن عبد المنعم الدمنهوري المتوفي سنة 1192 وأبو الفتح محمد بن محمد العجلوني الجعفري المتوفي سنة 1193 والشيخ علي السليمي الصالحي المتوفي سنة 1200 والسيد علي بالبدري شيخ القراءة بمصر المتو
في سنة 1190 وإبراهيم الحلبي(1/1576)
محشي الدر المختار المتوفي سنة 1190 وعلي الصعيدي المتوفي سنة 1189 وموسى المحاسني خطيب جامع بني أمية المتوفي سنة 1173 وأحمد الجوهري المتوفي سنة 1181 والجد الشمس محمد بن عبد الحي الداوودي المتوفي سنة 1168 والسيد الشريف محمد أبو السعود ابن العلامة اسكندر مفتي الحنفية في الديار المصرية المتوفي سنة 1172 وغيرهم ممن يطول ذكرهم، وقد أخذ عنه الجم الغفير والعدد الكثير.
ومات في عشرين من ذي القعدة الحرام سنة أربع وعشرين ومائتين وألف، وله مؤلفات كثيرة منها حاشيته على الأشباه والنظائر لابن نجيم.
ومن نظمه مهنئاً جناب الفاضل المحترم خليل أفندي المرادي بإفتاء دمشق الشام، ومؤرخاً ذلك، فقال:
سقياً لدهر كل هتان به ... جاء البشير موافياً بمرادي
هذي الأماني التي بلغتها ... رغماً على الأعداء والحساد
وافت عروساً في نحور عقدها ... نظم القلائد من ذري الأجداد
وتبسمت عن ثغر روض مسرة ... فلذا الصوادح غردت بسداد
وأتت ورائه صدر فضل قد سما ... حيث السماء وقبله القصاد
تسعى على هام السماك أبيةٍ ... منقادة للسيد المجواد
الشهم مولانا الهمام ومن له ... في كل علم يقتفيه أياد
من قد رقى رتب المعالي سيدا ... فكسا الفخار برود مجد وداد
وغذى لبان الفضل من زمن به ... غصن النبوة مثمر بجياد(1/1577)
در البلاغة من جواهر لفظه ... يزري بعقد فصاحة لإياد
منه استعار السحب فضل أنامل ... فسقي بها جوادي مدى الآباد
فهو الكريم بن الكريم بن الكريم هو الخليل هو السري مرادي
نجل السراة ومن هم كهف الأنا ... م وملجأ المحتاج والوراد
أعلام علم للورى وهدى وإر ... شاد وحلم سادة أمجاد
مولاي يا فرد الوجود فضائلا ... وشمائلا يا أوحد الآحاد
رحماك إني عن علاك مقصر ... فانعم بعفو منك لإبعاد
إذ لا يزيد الشمس كثرة مدحها ... والدر لا يلغو بنظم شاد
فاليكها بنت اغتراب خانها ... فكر تردى من صدا أبعاد
جاءت تهني للوحيد بمنصب الفتوى التي شرفت يبيت مراد
فلها الهنا ولها المنى ولها السنا ... بالعالم الصنديد خير عماد
لما غدا الإفتاء يبغي كفؤه ... أرخ له مفتي الشآم مرادي
قسما بلطف مالك لفؤادي ... وبما لوالده جميل أياد
إني لبست من السرور ملابساً ... أزهو بها في الجمع والأعياد
لا زلت ترفل في حبور مسرة ... تهني بك الفتيا مدى الآباد
الشيخ هداية الله الإربيلي الشافعي النقشبندي الخالدي
العالم الفاضل العامل، والمرشد الهمام الكامل، ذو الهمم العلية والعلوم الربانية، والشمائل العلية والفضائل السنية، والسيادة المذكورة والعبادة المشهورة. نشأ من أول زمنه في طاعة الله ولم يعول من صغره على غير طاعة مولاه، ثم سلك الطريقة العلية النقشبندية على يد الإمام والقطب الهمام، سيدي مولانا خالد شيخ الحضرة قدس الله سره، ثم إنه بعد(1/1578)
الكمال خلقه ذلك السيد المفضال، خلافة عامة، ولم يزل مجتهداً في العلم والطريق إلى أن اختار الآخرة على الأولى.
وكان الشيخ المترجم حين سلوكه من طلبة العلم، فقال له حضرة مولانا خالد بعد أن خلقه سيأتي عليك زمان تحتاج فيه إلى تدريس العلوم النقلية والعقلية، وإن لم تدرس فإنهم يخرجونك من وطنك، فأمره بقراءة الورقة الأولى من كل كتاب معد للتدريس، فقرأ ذلك على حضرة مولانا المذكور، ثم أجازه بجميع العلوم النقلية والعقلية وتدريس كتبها الدقيقة، وبعد وفاة حضرة مولانا خالد بمدة طويلة وزمان بعيد، ظهر سر هذه القضية وهو أن محمد باشا الكردي متصرف راوندز، استولى بطغيانه على أربيل ونواحيها، وكانت له محبة عظيمة بالعلم والعلماء، ولما تمكن في أربيل مدة طويلة، قال: إن كل من جلس في مسجد أو زاوية من أهل العلم ولم يدرس فليخرج من هذه البلدة لأني أريد العلم ولا حاجة لي بالطريقة، فشرع الشيخ هداية الله المشار إليه بتدريس العلوم منقولها ومعقولها على وجه التحقيق، بحيث انكب عليه أهل العلم للاستفادة وأنوه أفواجاً أفواجاً، لأنهم رأوا عنده من التحقيق والتدقيق ما لم يشاهدوه عند العلماء الراسخين في العلوم والتدريس فتعجب الناس من ذلك لأنه لم(1/1579)
يدرس مدة عمره ولم يقرأ من العلوم إلا شيئاً يسيراً جداً، وإنما كان اشتغاله بالإرشاد، فسمع الباشا المذكور وأتى إلى خدمته وطلب الدعاء منه والعفو عنه، وبقي الشيخ المشار إليه يرشد ويدرس إلى أن توفي في بغداد ودفن بجانب الشيخ يحيى المزوري سنة ألف ومائتين وزيادة على الخمسين رحمه الله.
الشيخ هداية الله بن هبة الله بن محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن تاج الدين
البعلي المعروف بمفتي بعلبك الدمشقي الحنفي
ولد بدمشق، وطلب بها وصرا من علمائها، واشتهر بالعلم والفضل والصلاح، والعبادة والتقوى والفلاح، توفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف.
حرف الواو
الشيخ وهبة المشهور بأبي العظام
كان من أهل الأحوال، وله كرامات شهيرة تدل على أنه من كمل الرجال، وهو مقصود للزيارة من كل مكان، ومعدود من أهل الكرامة والولاية والشان، وللناس به اعتقاد عظيم، يقصدونه لدى كل مهم وخطب جسيم. نقل أن السبب في تكنيته بأبي العظام، أنه انقطع في الأودية والجبال نحو سبعة أعوام، وهو حامل للعظام على الدوام، فلذا كني(1/1580)
بها بين الأنام، ثم بعدها رجع إلى حاله، ولبس أثواب بهائه وكماله، وانتفع الناس بأطواره، وسلموا له بديع أوطاره، ولو أرادنا أن نحصي ما له من الكرامات الكبار، لخرجنا عن منهج المقصود من الإيجاز والاختصار، توفي سنة اثنتين وأربعين بعد المائتين والألف، ودفن في قرية القسطل ذات الجمال واللطف التابعة لقضاء النبك، وقبره ظاهر مشهور وعليه قبة مجللة بالبهاء والنور، رحمة الله تعالى عليه ورضوانه، وجوده وبره وإحسانه.
حرف الياء
الشيخ ياسين النابلسي الحنفي فاضل إمام، وعالم عامل همام. ولد سنة ألف ومائتين، ونشأ على الجد في الطلب إلى أن بلغ المنى والأرب، ولازم النسك والعبادة وصار من ذوي القدر والسيادة، وذلك بعد أن قدم دمشق واستوطنها، وقرأ على فضلائها وعلمائها واجلائها، وكان له اليد العليا في العلوم من منطوق ومفهوم. مات بدمشق سنة ستين ومائتين وألف، ودفن بقاسيون قرب مغارة الجوعية رحمه الله تعالى.
الشيخ يحيى أفندي أبو النصر
بن الشيخ عبد الغني بن الشيخ أحمد بن محمد بن ناصر بن محمد السلاوي نسبة إلى مدينة سلا في المغرب كذا قرر في ترجمة جده الشيخ أحمد السلاوي
ولد في الديار المصرية، وبلغ مبلغاً من العلوم الأدبية، وأتقن صناعة الشعر وأحسنه، وكان يذكر عند مذاكرته في أنواع الأدب من كل شيء أحسنه، وفي سنة ثلاثمائة وألف شرف إلى الشام، وكنت اجتمع به في(1/1581)