الجزء الأول
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله وأسبحه عن كل ما لا يليق بكماله، وأقدسه عما يقصر عن رفيع جلاله وبديع جماله، وأستمنحه وهو المانح لكل مطلوب، وأستفتحه وهو الفاتح لمرتجي نعمه أبواب الغيوب، واشكره شكر عبد لم يشهد في الوجود سواه، وأذكره وهو الذاكر والمذكور لا إله إلا إياه، وأبرأ إليه من كل قوة وحول، وأستجديه وهو المجدي لكل حباء وطول، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنفرد بالبقاء، والمتباعد عما حكم به على عباده من الموت والفناء، وأصلي وأسلم مدى الليالي والأيام، أكمل صلاة لائقة وأتم سلام، على من أبدع مبدع الوجود إيجادَه على أعلى كمال، ونظم به عقد الدين بن الغواية والضلال، وهو النبي العربي الذي لم ينطق عن الهوى، ولا ضل من اتبعه عن المنهج الصواب ولا غوى، محمد المبعوث من صفوة العرب المستوين على عرش البلاغة، والمحتوين من بديع المعاني على ما لم يبلغ أحد بلاغه، فجاءهم بما ألجأهم إلى الإقرار بأنه قطب مدار الإنسان، وبحور فلك الفصاحة والبلاغة والمعاني والبيان، فتالله وبالله إنه لهو المفحم والمعجز، الذي أعيا الواصفين سواء المطنب منهم والموجز، لا برحت نوافح الصلوات تحيي مرقده الشريف كل أوان، ما لاح برق أو ناح ورق أو تعاقب الملوان، وأصل ذلك بطلب الرضوان لآله وأصحابه وعلماء أمته، الناهجين منهجه الأسنى، والمعتصمين بحبل شريعته وسنته، وأسأله تعالى أن يعم جميع تابعيه بوافر إحسانه، وأن ينعم عليهم بما يجذبهم لجوده(1/3)
ورضوانه، إنه هو المجيب لكل طالب وسائل، والقريب الذي من دعاه استمسك بأنفع الوسائل.
أما بعد فيقول العبد الفقير، والضعيف الحقير، المتبرىء من كل حول وقوة، والمتبوىء نفسه لخدمة ذوي الفضل والفتوة، الأسير الفاني، والكسير الجاني، المفتقر إلى عفو مولاه المحسان الغفار، عبد الرزاق ابن المرحوم حسن بن إبراهيم البيطار أصلح الله خلل حاله، ونشله بمنه وكرمه من نكبة أوحاله، أن أحلى ما يتحلى به جيد الإنسان، وأولى ما يتملى منه الأديب الولهان، علم يكتسي به ويكتسبه، وفضل يتزين به وينتخبه، وفائدة يبيض غابر عمره بتسويدها، وعائدة يصرف نقد أيامه ولياليه بتقييدها، ودرة ساقطة من معدن الإطلاق يلتقطها، أو قلادة من قريحته ينظمها خوف الشرود ويسبطها، أو سيرة لمن سبق يرقمها، أو رقيقة من بدائع البدائه يحررها ويرسمها:
من كل معنى ولفظ ... كخمرة في زجاجه
يسري النسيم إليه ... يبغي لديه علاجه
فإن الكامل هو الذي يشتغل بما يجله، لا بما يسقطه في أودية الهوان ويذله، وقد كنت معروفاً بجمع لآلي أخبار السادة والأعيان، مشغوفاً بالتقاط آثارهم المزرية بعقود الجمان، حتى رقمت من أخبارهم أوراقاً شتى، بيد أنني إذا أردت الوقوع على مراد منها لا أجتمع به حتى وحتى، فعن لي أن أجمعها في كتاب تعذب مطالعته، وتقرب على الطالب مراجعته، وأن أقصر الوطر، على ترجمة أعيان القرن الثالث عشر، لأن الأمين المحبي رحمه الله ترجم أهل القرن الحادي، كما أن القرن الثاني قد ترجمه المرادي، فأردت أن أتطفل عليهما بديوان يكون لكتابيهما ذيلاً، وإن كنت أعلم أني لست لذلك أهيلاً، ولكن من أغرب الغريب، وأعجب العجيب، هو أني رأيت أن بعض الناس قد ضنوا بتراجمهم أن تصاغ في قالب التحوير، كأنما يطلب منهم(1/4)
مترجمهم وافر الدراهم والدنانير، مع أني لا أقصد بذلك سوى إحياء أخبارهم، ونشر مطوي أوصافهم وجميل آثارهم، لأنهم وإن كانوا في زمانهم أشهر من نار على علم، إلا أنهم إذا لم تقيد أسماؤهم في دفاتر المآثر نثرتها الأيام في مطوي العدم:
إذا ما روى الإنسان أخبار من مضى ... فتحسبه قد عاش من أول الدهر
وتحسبه قد عاش آخر دهره ... إلى الحشر إن أبقى الجميل من الذكر
فقد عاش كل الدهر من عاش عالماً ... كريماً حليماً فاغتنم أطول العمر
فاقتصرت على ذكر من وصلت إليه، وطويت غالباً ذكر من لم أكن أعلم ما له وعليه، وحسب الطالب أن يقتصر على من وصلت إليه قوته وحوله، وأن يعلم أن ما لا يدرك كله لا يترك جله، ولم أزل أقدم في هذا العزم رجلاً وأؤخر أخرى، وأتردد في الإقدام والإحجام ولا أدري أيهما أحرى، إلى أن تذكرت ما قيل، من أن بديع الأقاويل، إن المرء ابن وقته وساعته، وكل ينفق على قدر وسعه واستطاعته، ومن كانت بضاعته مزجاة، فهو من الملام بمنجاة، وذيل العفو عليه مسبول، والكف عن زلله مرجو ومأمول، وقد قيل:
ألا ليقل من شاء ما شاء إنما ... يلام الفتى فيما استطاع من الأمر
فحققت ما كنت أردت، وأظهرت من الفكر ما أضمرت، وشرعت في كتابة هذا الكتاب، معتمداً في التسهيل على رب الأرباب، ووسمته وسميته، بعد ما أتممته وأنهيته: حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر والأمل ممن نظر فيه، ورأى ركاكة نثره وقوافيه، أن يرحم بحسن التأويل جامعه، وأن يصون عن استماع كلامه مسامعه، والأولى أن يلتمس له عذراً، ويسبل على ما بدا له منه ستراً، خصوصاً والفكرة غير مساعدة، وهي لمكايدة الدهر مكابدة، ومع إبداء ما ذكرت، وإظهار ما به(1/5)
اعتذرت، فإني كلفت نفسي الصغيرة شيئاً كبيراً، وأقحمتها في نفس الأمر أمراً عسيراً، محافظة على إحياء ذكر هؤلاء السادة الأفاضل، والقادة الحائزين لأعلا الشمائل والفضائل، وخوفاً من ضياعهم بلا خبر ولا خبر، مع أنه يحق لسيرتهم أن تتلى كما تتلى السور، ورأيت أن أرتبه على حروف المعجم لا على الأعوام، ليكون قريب المراجعة سهل المرام، والله أسأل أن يجعله خالصاً من شوائب الملام، وأن ينعم على جامعه ومطالعه والمسلمين بحسن الختام.
حرف الألف
الشيخ إبراهيم بن حسن بن محمد بن حسن بن إبراهيم البيطار:
الدمشقي الجد الماجد، والد سيدي الوالد، فاضل شافعي المذهب، عالم عامل طراز فضله بالعبادة مذهب، قد احتوى على مكارم الشمائل والأخلاق، واستوى على عرش اللطافة وفاق، له عزة نفس تود النجوم الثوابت نيل علاها، وعلو همة يتمنى البدر الوصول إلى حسن ثنائها وسناها، وكلام كلآلىء الصدف، وآداب كالروض الانف، ولا ريب أنه:
مورق عيدان العلا رطبها ... أبلج وجه العرف بسام
مع حكم أرق من نسيم السحر، وشيم لو أنها للنجم ما غاب ولا استتر، وأياد روائح غوادي، كنسيم الروض غب الغوادي، ولا ريب أنه من القوم الذين سعوا في مناهج التقوى، ونحوا نحو الصلاح في السر والنجوى، أخذ عن جملة من الأفاضل، وتلقى عن كثير من السادة الأماثل، وكان ملازماً لأستاذه الفاضل، وملاذه العالم العامل، قطب دائرة الأفاضل، والآتي في تحقيقاته ومعارفه بما لم تستطعه الأوائل، مولانا الشيخ محمد بن المرحوم العلامة الشيخ عبد الرحمن الكزبري فإنه لازمه على الدوام، وانتفع به فوق المرام، وكان من جملة خاصته وأحبابه، المتأدبين بجميل آدابه، حتى اشتهر بالصلاح والعلم والعبادة،(1/6)
وألفته القلوب فوق العادة، وكان ذا ثروة ومال من تجارته، غير أن اليد الجزارية قد أساءت في معاملته، فسلبته جل ما كان، وأخرته في الثروة عن الأقران، عامله الله بأعماله، وجازاه على ما كان من قبيح أفعاله، وكان أعلى الله علاه، وجعل الفردوس مقره ومثواه، ذا رأي صائب، وفكر ثاقب، لين الكلام، حسن المعاشرة، رفيع المقام، كثير المواصلة لأرحامه، مع حبائه لهم وإكرامه، ولد رضي الله عنه في منتصف رجب سنة ألف ومائة وإحدى وخمسين، ونشأ في حجر والده إلى أن حظي من القراءة والكتابة على التمام، وحصل له من التفنن في العلوم نصيب وافر واحترام، ولم يزل مكباً على دروس العلم والطاعة وتلاوة القرآن، إلى أن نشبت به أظفار المنية ففارق الدنيا من غير توان، وذلك في غرة ربيع الأول سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين، صب الله على قبره صبيب الرحمة في كل وقت وحين، وجمعنا به في دار الإحسان، تحت لواء محمد سيد ولد عدنان.
الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد الباجوري قدس الله سره:
وجعل أعلا الجنان مثواه ومقره، شيخ الوقت والأوان، المستوي في فضائله على عرش كيوان، فهو الذي بهر بإبداعه، وظهر على ذوي الكمال بسعة اطلاعه، وعطل العوالي بيراعه، ومد لتناول المعالي طويل باعه، وأطلع الكلام رائقا، وجاء به متناسقا، فهو العالم العامل، والجهبذ الكامل، الجامع بين شرفي العلم والتقوى، السالك سبيل ذلك(1/7)
في السر والنجوى، قد افتخرت به الفضائل، حتى قدمته على الأوائل، وكان لسان شمائله، يخطب على منبر فضائله:
غنيت بحلية حسنها ... عن لبس أصناف الحلي
وبدت بهيكلها البد ... يع تقول شاهد واجتلي
تجد المحاسن كلها ... قد جمعت في هيكلي
ولد رضي الله عنه سنة ألف ومائة وثمان وتسعين ببلدة بيجور، قرية من قرى مصر المحروسة من الغم والملحوظة بعين السرور، على مسيرة اثنتي عشرة ساعة من غير استعجال، بل بسير الوسط والاعتدال، ونشأ فيها في حجر والده وقرأ عليه القرآن المجيد، بغاية الإتقان والتجويد، ثم قدم إلى الجامع الأزهر، ذي القدر السامي الأظهر، سنة ألف ومائتين واثنتي عشرة هجرية، لأجل تحصيل الآداب والعلوم الشرعية، وسنه إذ ذاك أربع عشرة سنة تماماًن ومكث فيه حتى دخل الفرنساوي سنة ألف ومائتين وثلاثة عشر عاماً، فخرج وتوجه إلى الجيزه، واقام بها مدة وجيزه، ثم عاد سنة ألف ومائتين وست عشرة، إلى المكان الأنور، والجامع الأزهر، عام خروج الفرنساوي من القطر المصري كما أفاد ذلك بنفسه، أعلى الله تعالى في فراديس الجنان مقامات قدسه، فأخذ في الاشتغال بالتعليم والتحصيل، وقد أدرك الجهابذة الأفاضل ذوي القدر الجليل، كالشيخ محمد الأمير الكبير، صاحب المقام السامي الشهير، والشيخ عبد الله الشرقاوي، والسيد داود القلعاوي، ومن كان في عصرهم، وتلقى عنهم ما تيسر له من العلوم، إلى أن صار عمدة ذوي المنطوق والمفهوم، ولكن كان أكثر ملازمته وتلقيه، وأخذه للعلم الشريف الذي كان به ترقيه، عن الأستاذ الشيخ محمد الفضالي، والمرحوم الأستاذ الشيخ حسن القويسني ذي القدر العالي، ولازم الأول بالجد والاجتهاد، إلى أن توفي ورحل إلى دار الفضل والإسعاد، وفي مدة قريبة لاحت عليه لوائح النجابة، ولبى السعد نداه بالإقبال وأجابه، فدرس وألف التآليف(1/8)
العديدة، الجامعة المانعة المفيدة، في كل فن من توحيد وأصول، ومعقول ومنقول، منها حاشيته على متن الشمائل، وحاشيته على رسالة شيخه الفضالي في لا إله إلا الله، وحاشيته على الرسالة المسماة بكفاية العوام، فيما يجب عليهم من علم الكلام، لشيخه المذكور، وكتاب فتح القريب المجيد، شرح بداية المريد، للشيخ السباعي، وحاشيته على مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم للعلامة ابن حجر الهيثمي، وحاشية على مختصر السنوسي في فن الميزان، وحاشية على متن السلم للأخضري في فن الميزان أيضاً وحاشية على متن السمرقندية في فن البيان، وكتاب فتح الخبير اللطيف، شرح نظم الترصيف في فن التصريف، وحاشية على متن السنوسية في التوحيد، وحاشية على مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم للشيخ الدردير، وشرح على منظومة الشيخ العمريطي في النحو، وحاشية على البردة الشريفة، وحاشية على بانت سعاد، وحاشية على متن الجوهرة في التوحيد، وكتاب منح الفتاح، على ضوء الصباح، في أحكام النكاح، وحاشية على الشنشوري في فن الفرائض، وكتاب الدرر الحسان على فتح الرحمن، فيما يحصل به الإسلام والإيمان للزبيدي، ورسالة صغيرة في فن الكلام، وحاشية على شرح ابن قاسم لأبي شجاع في فقه مذهب الإمام الشافعي، قدس الله سره بمجلدين، وله مؤلفات أخر لم تكمل فلذا أضربنا عن ذكرها صفحاً. وكان ديدنه رحمه الله التعلم والاستفادة، والتعليم والإفادة، حتى صار له ذلك سجية وعادة، فكان عمره رضي الله عنه ما بين إفادة واستفادة، وكان لسانه دائماً رطباً بذكر الله، وتلاوة القرآن، وكان متميزاً بذلك على الأمثال والأقران، وله وله عظيم وحب جسيم لآل بيت النبي الكريم، ولذلك كان مواظباً على زياراتهم، ومتردداً على أبوبا حضراتهم، وبالجملة فإنه رضي الله عنه كان صارفاً زمنه في طاعة مولاه، وشاكراً له على ما أولاه، فمن جملة نعمه عليه الانتفاع بتآليفه في حياته في كل ناد، والسعي في طلبها من(1/9)
أقصى البلاد، والاجتهاد في تحصيلها من كل حاضر وباد، والاجتماع بها على كل مرام ومراد، وقد انتهت إليه رئاسة الجامع الأزهر، ومحفل الدين الأبهى الأبهر، وتقلدها في شهر شعبان سنة ثلاث وستين ومائتين وألف ولا غرو أنه ابن بجدتها، وأبو عذرتها، وفي أثناتها قرأ كتاب الفخر الرازي في تفسير القرآن، وحضره أفاضل الجامع الأزهر ذوي الملكة والإتقان، ولكنه لم يكمل بسبب ضعف اعتراه. وقد امتدحه مهنئاً حضرته حين آلت الرئاسة إليه حضرة المعروف بكل كمال، السيد محمد شهاب الدين فقال:
أترى الغمام بدره المنثور ... وشى رياض الورد والمنثور
أم ذي تباشير الصباح تنفست ... وجلت أشعتها دجى الديجور
كبلابل الأفراح أبدت طالعاً ... حظي الزمان بحظه الموفور
هو كوكب إيضاح بهجة ضوئه ... مغن عن المصباح والتنوير
رفعت لواء العز دولة مجده ... وسطت بصارم فضله المشهور
أكرم به حبراً هماماً رحلة ... تطوى القفار لعلمه المنشور
أبدى الطوالع في مطالع فخره ... ولدى المواقف سار بالتيسير
زفت حواشيه ورقت وازدهت ... بمحاسن التحبير والتحرير
هو بر إفضال وبحر فضائل ... صاف عدته شوائب التكدير
كررت مدح حلاه إذ هو سكر ... تقوى الحلاوة فيه بالتكرير
هو روض عرفان تجلى عن جنى ... دان وكم ليس بالمزرور
لا غرو إن طاب الزمان بطيبه ... وشذاه عم الكون بالتعطير
يا دهر أعط القوس باريها فقد ... أفرطت في التقديم والتأخير
هذا مجلي حلبة السبق الذي ... حاز الفخار بسعيه المشكور
هو سيد الأبان سعد أوانه ... فخر الزمان ميسر المعسور(1/10)
فرحت به الدنيا وأصبح وجهها ... فيه تلوح بشاشة المسرور
وزهت به العليا وقالت أرخوا ... أبهى إمام شيخٌ الباجوري
يا صاح حدث عن مآثره وقل ... قد صح نقل حديثي المأثور
طوبى لمن بمقام إبراهيم قد ... أدى فريضة حجه المبرور
وسعى وطاف بكعبة الطول الذي ... تمت شعائره بلا تقصير
فليهنه الإقبال وليقض الذي ... قد فات من مندوبه المنذور
وإليه أهدي بنت فكر تنجلي ... في خجلة من جفنها المكسور
غايات ما ترجوه فض ختامها ... حيث انتهت بتكامل التوقير
ثم إنه لما قربت وفاته، وكادت أن تتناهى حياته، نزل به مرض الحمام، ولازمه إلى أن استوفى من عمره التمام، توفي يوم الخميس ثامن وعشرين من ذي القعدة سنة ألف ومائتين وست وسبعين ودفن بتربة المجاورين.
الشيخ إبراهيم بن محمد بن دهمان الحلبي:
الشافعي القادري برهان الدين الفاضل الذي طوي على الفضل أديمه، والعالم العامل الذي انتشر به الكمال حديثه وقديمه، من أشرق في أوج الجمال طالع سعده، وارتقى على كاهل الكمال بنيان مجده، واسطة عقد الأفاضل، وكعبة طواف ذوي الفضائل والفواضل، الفقيه الورع الزاهد، والمحدث الصوفي العابد، ولد بدارة عزة قرية من أعمال حلب سنة خمس وخمسين ومائة وألف، ودخل أيام شبابه حلب، واجتمع بخاله الشيخ العارف أبي بكر بن أحمد الهلالي القادري وأخذ عنه الطريقة واعتنى بشأنه، ثم ارتحل إلى مصر سنة ثمان وسبعين ولازم الشيوخ في الأزهر وقرأ عليهم وحضر دروسهم وأكثر من الأخذ والاستفادة والسماع، فقرأ على أبي داود سليمان بن الجمل وهو أجل من انتفع به، والشيخ أحمد الفالوجي، وسيدي محمد بن علي الصباغ، وسيدي أبي عبد الله محمد الأمير، والشهاب أحمد بن محمد الدردير، وأبي الصلاح أحمد بن موسى العمروسي وأبي الحسن علي بن أحمد(1/11)
الصعيدي المالكي، وحسن بن غالبي الجداوي، ومحمد بن حسن السمنبودي المنير، وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن الحسن الجوهري، وصفي الدين محمد ابن أحمد البخاري وغيرهم، فأخذ عنهم ولازمهم وانتفع بهم، وأخذ الطريقة الخلوتية عن سيدي الشيخ محمود بن يزيد الكوراني الكردي الشافعي خليفة الأستاذ الحفناوي، وسمع على الكثير وانتفع واشتغل بالعلم والطريقة وتفوق ورأس على أقرانه، وتقدم عليهم بوافر فضله وحسن بيانه، ثم قدم إلى حلب سنة ثمان وتسعين ومائة وألف فدرس بها ولزمه الناس، وبعد مجيئه مات ابن خاله الشيخ أبو الضياء هلال بن أبي بكر الحلبي القادري في أواخر سنة ثلاث ومائتين وألف، فاستقر مكانه شيخاً في زاويتهم الكائنة بمحلة الجلرم بباب قنسرين، وأقام مجالس التوحيد والأذكار وأوقات المواعيد على العادة، ولزم أبناء الطريق واختلى الخلوات المتعددة، ومع ذلك كان لا ينفك عن الإقراء والتحديث والإفادة ونقل الشيخ الفاضل العلامة خليل أفندي المرادي في بعض تعليقاته أنه دخل حلب سنة خمس ومائتين والف فاجتمع بالمترجم المرقوم وسمع من فوائده وزاره في زاويته وسمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية. ومات رحمه الله بعد ذلك لا بكثير.
الشيخ إبراهيم بن الشيخ مصطفى السعدي الجباوي
بن الشيخ إبراهيم ابن السيد برهان الدين بن السيد مصطفى بن السيد سعد الدين الأصغر ابن السيد حسين بن السيد حسن بن السيد محمد بن السيد أبي بكر بن السيد علي الأكحل بن السيد سعد الدين الجباوي قدس الله سره:
ولد المترجم المرقوم في دمشق الشام في المحلة المعروفة بالميدان وذلك سنة ألف ومائتين وسبع عشرة ونشأ في حجر والده وحينما بلغ سن التمييز، تعلم القرآن العزيز، ثم اجتهد في طلب العلوم على والدي إلى أن صار له ملكة عظيمة، ومعرفة جسيمة، ثم أخذ الطريق، عن والده ذي المعرفة والتحقيق،(1/12)
ولم يزل يجتهد في السلوك والطاعة، ويحفظ أوقاته عن البطالة والإضاعة، إلى أن انتقل والده إلى الدار الآخرة العلية، فآلت إليه مشيخة السجادة السعدية، وكانت لا تليق إلا إليه، ولا تعول إلا عليه، فرفع منارها، وأقام أذكارها، وأدب طلابها، وأتقن بناها واعرابها، وشيد أركانها، ورفع عنوانها، وكان لي تردد إليه، واعتماد عليه، حيث إنه حميد السيرة، حسن السريرة، واسع الصدر، رفيع القدر، وفي سنة اثنتين وثمانين بعد المائتين والألف تزوجت بكريمته البرة التقية، والصالحة النقية، السيدة رقية، فرزقت منها أولاداً لم يبق لي منهم سوى الولد الصالح، والشهم الفالح، السيد محمد سعد الدين جعله الله من أهل العرفان، وفتح عليه فتوح السادة الأعيان، وحفظه من كل عيب، وصانه من كل شائبة وريب، ولم يزل المترجم ملازماً لعبادته، ناهجاً منهج سيادته وسعادته، إلى أن دعاه داعي المنية، إلى الدار الآخرة العلية، فلبى الداعي من غير تأخير، ومات فجأة وتعجل في المسير، وذلك أواخر رجب الفرد سنة اثنتين وثمانين ومايتين وألف ودفن بمدفن السادة السعدية في تربة باب الله وقبره ظاهر.
تتمة: طالما تطلبت ترجمة جده الشهم الهمام، والسيد العارف الإمام، مجمع الفضائل، وقطب الأفاضل، السيد سعد الدين الجباوي فلم أقف لها على خبر، ولم أقع لها على أثر، إلى أن رأيت روضة الناظرين، وخلاصة مناقب الصالحين، للإمام الكبير العلامة، والهمام النحرير الفهامة، العارف بالله الشيخ أحمد بن محمد الوتري قدس الله روحه، ونور مرقده وضريحه، فإنه قد ترجمها ترجمة لطيفة، مفصحة عن مرتبته المنيفة، فأحببت أن أذكرها بتمامها بدون زيادة ولا نقصان، لندرة وجودها في تراجم السادة(1/13)
الأعيان، فقال ما نصه: ومنهم العارف بالله، المستغرق في محبة مولاه الولي الجليل الشيخ سعد الدين أبو محمد الشيباني الجباوي قدس الله سره، ورضي الله عنه. كان في بدايته مولعاً في حب الكر والفر والفروسية وانتهى إلى قطع الطريق مع جماعة من أهل حوران، وكان جده الشيخ يونس الشيباني الكبير قدس الله روحه بدمشق يدعو الله إذا خلا مع ربه بإصلاح سعد الدين أو بقبضه إليه ففي ليلة من الليالي والشيخ سعد الدين مع رفقائه وإذا بأحد عشر فارساً على خيل بيض على طريقهم فكر عليهم سعد الدين بجماعته فلما قرب من الأول نظره شزراً وقال " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " فسقط الشيخ سعد الدين إلى الأرض مغشياً عليه، وجماعته أيضاً كل صعق وغشي عليهم أجمعين. ثم بعد برهة يسيرة أفاق فقال الفارس الأول: يا سعد الدين أنا نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الصحابة العشرة، وأعطاه من يده المباركة تينتين نفخ عليهما فأكلهما فانكشفت له العوالم وثبت في قلبه خوف الله تعالى فصار ببركته عليه الصلاة والسلام من العارفين، ثم إنه ترك ما كان عليه وانحدر إلى دمشق ولبس الخرقة من والده الشيخ مزيد الشيباني وانتشرت به الخرقة السعدية وعمر رواقاً في قرية جبا من أعمال دمشق وأرشد بها السالكين، وانتفع به أمة وظهر واشتهر وجرت على يديه الخوارق، أخذ الطريقة ولبس الخرقة من والده الشيخ مزيد الشيباني، وللشيخ مزيد طريقان في الخرقة، الأول عن أبيه الشيخ يونس الكبير الشيباني، وسيأتي ذكر سنده. والثاني عن الشيخ الإمام القطب الشريف السيد أحمد الكبير الرفاعي رضي الله عنه أخذ عنه الطريقة وتشرف ببيعته سنة خمس وخمسين وخمسماية، السنة التي مدت بها للسيد المشار إليه يد جده صلى الله عليه وسلم وقد نفخ في فمه وقال يا مزيد لك ما لنا وعليك ما علينا وأنت منا ولنا. وسند السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه في الخرقة شهير في محله، وأما سند الشيخ يونس الشيباني فإنه عن الشيخ أبي مدين عن الشيخ سعيد الأندلسي عن الشيخ أبي اركات(1/14)
لب عن الشيخ أبي البقاء عن الشيخ بكر تاج العارفين عن الشيخ أبي بكر الشهير بالمقبول الشيباني قدس الله سره عن الشيخ أبي القاسم الكركاني عن الشيخ أبي عثمان المغربي عن الشيخ أبي علي الكاظمي عن الشيخ علي الكاتب عن الشيخ العارف بالله أبي بكر الشبلي عن شيخ الطائفة العارف بالله جنيد البغدادي عن السري السقطي عن معروف الكرخي عن داود الطائي عن حبيب العجمي عن الشيخ الحسن البصري عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم. مات الشيخ سعد الدين رضي الله عنه سنة إحدى وعشرين وستماية ودفن في رواقه بجبا. ومرقده مشهور يزار ويتبرك به وله ذرية بدمشق وحوران معروفون كلهم على حال حسن وسيرة مرضية بارك الله بهم. انتهى كلام الروضة.
إبراهيم باشا بن محمد علي باشا خديوي مصر والقاهرة
غشوم ظالم، وظلوم غاشم، خليفة الحجاج في أفعاله، وناهج منهجه في أقواله وأحواله، محتو على الفساد، منطو على الإنكاد، مجبول على الغلظة والقساوة، مجعول من الفظاظة معدوم من اللطافة والطلاوة، ممتلىء منه البذا، متضلع من الأذى، لم يخلق الله تعالى في قلبه شيئاً من الرحمة فينتزع، ولم يودع الله لسانه لفظاً من الخير فيستمع، سفاك لدماء المسلمين، نباذ لطاعة أمير المؤمنين، كان يعتقد أن ذلك ليس أمراً ذميماً، ولا يهوله قوله تعالى: " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً ". فإن هذا المترجم لما اشتد أزره، وقوي أمره، تولى قيادة العساكر المصرية، وصارت له الإمرة الجندية، ثم بعد ذلك وجهه والده إلى الأراضي الشامية، ليضمها إلى الحكومة المصرية، فلم يزل يسير بعساكره، متقلداً لسيف طغيانه ومناكره، حتى حل حي عكة، وكان الوالي بها عبد الله باشا من طرف الدولة العثمانية(1/15)
فدكها دكة أي دكة، وسبب ذلك أن عبد الله باشا وقعت بينه وبين محمد علي باشا عداوة كلية، بسبب أنه خابره بتسليمه بلاد الشام فلم يجبه إلى هذه الأمنية، وكانت وقعة الشام مع سليم باشا آنفة الوقوع، والأفكار تحكم بأن الجزاء مقطوع به لا ممنوع، فلما سمع السلطان بعداوة عبد الله باشا مع محمد علي باشا أشفق من اتحاد الشام مع الخديوي المرقوم، فأرسل للعفو عن الشام أجل مرسوم، ووجه والياً يسمى علي باشا إلى الشام، لمداركة الأمر بغاية الاهتمام، فأرسل محمد علي باشا إلى السلطان شكاية على عبد الله باشا تطعن بعظيم شانه لعله يعزله ويجعله في مكانه، فيصل إلى مطلوبه، ويحصل من غير ضرر على مرغوبه، غير أن السلطان لم يجبه إلى مراده، ولم يوصله إلى ما تأمله في اجتهاده، فجمع إبراهيم باشا الجموع الكثيرة، وتغلب على غالب البلاد الشامية الشهيرة التي تحت ولاية عبد الله باشا كغزة والرملة والقدس والخليل ونابلس وبلاد الساحل، وحصن قلعة طرابلس وساعده أمير جبل الدروز الأمير بشير ورؤساء جبل نابلس، لكون عبد الله باشا في العام الماضي حاصر قلعة سينور وهدمها وحصل منه ضرر لأهل نابلس وكان ذلك من أسباب الغلاء الذي وقع في البلاد الشامية، فأرسل حضرة السلطان إلى والي مصر يأمره برفع عساكره عن عكا، فامتنع، فأمر السلطان بجمع العساكر العثمانية وأمر والي حلب بالتوجه إلى مساعدة عبد الله باشا، واستمر العسكر المصري يضارب عكة بحرب لم يسمع بمثله، وقد ورد كتاب من والي عكة إلى بعض أعيان دمشق يقول فيه: إن نارهم بالمدافع والقنابر لا تفتر دقيقة واحدة وإنهم يضربون اثنين وعشرين مدفعاً بفتيل واحد، وإنهم في سادس شوال اقتحموا على عكة ودخلوا من الجهات التي خربوها من السور فخرج إليهم عسكر عكة وضاربوهم بالسيوف ومن فوق السور بالمدافع والقنابر حتى أهلكوا غالب من اقتحم وامتلأ وجه الأرض من قتلاهم فانهزموا خائبين؛(1/16)
وبسبب هذه الفتنة تعطلت الأموال الأميرية المعينة على نابلس وطرابلس وتلك الجهات لأجل ركب الحاج الشريف، فورد الأمر السلطاني في خامس عشر شوال بأن لا يخرج الحاج في ذلك العام وأمر والي الشام بأن يتوافق مع أهل البلد ويحافظ الشام، وفي ثالث وعشرين من شوال سافرت الصرة وأعيان الحج الموظفون إلى الاستانة، وجاء في هذا الشهر عباس باشا بن محمد علي باشا إلى أرض البقاع العزيز وحصن بعض القلاع هناك ليقطع الطريق على العساكر العثمانية الواردة لقتالهم، وافترق أهل جبل الدروز وتلك النواحي فرقتين فالنصارى منهم تابعوا الأمير بشير المتوافق مع إبراهيم باشا، وخالفهم الدروز وأظهروا الإطاعة للسلطان، وفي ذي القعدة توجه عثمان باشا الذي ولاه السلطان على طرابلس الشام بكل همة وجمع هناك عساكر كثيرة وحاصر طرابلس، فوصل الخبر إلى إبراهيم باشا فتوجه من عكة بجمع من عساكره المحاصرين عكة إلى طرابلس، فلما سمع به عثمان باشا خرج من طرابلس الشام لاقتضاء المقام ذلك، وتفرقت جموعه، ثم بعد ايام توجه إبراهيم باشا إلى حمص فدخلها في حادي وعشرين من ذي القعدة بلا قتال، وكان في حماه جمع من العساكر العثمانية ومعهم ثلاثة من الباشوات القواد، فلما سمعوا بوصول العسكر المصري إلى حمص ساروا إليهم، فخرج إبراهيم باشا من حمص ولحقه بعض العساكر العثمانية خارج حمص عند البحيرة، فرشقهم بالمدافع فرجعوا
عند ذلك إلى حمص وأقاموا بها، ولم يعينوا عبد الله باشا، ولم يحصل منهم في هذه المدة سوى تثبيت البلاد، وتوجه إبراهيم باشا إلى بعلبك وجاءه المدد من العساكر والذخائر، وقام بإعانته أهل الجبل من النصارى والدروز وكان قبل ذلك قد قاتل بعض الدروز بعض النصارى، فرجع إليهم إبراهيم باشا وكسر شوكتهم فأطاعوه، وخرج حسين باشا سردار من الاستانة بعساكر عظيمة، وولاه حضرة السلطان على مصر وما يليها، وفي هذه المدة كلها يظهر محمد علي باشا الطاعة للسلطان(1/17)
ولم يصرح السلطان بخروجه عن الطاعة بل وقع التصريح بخروج إبراهيم باشا وعباس باشا طمعاً في رجوعهما عن هذا الأمر، فلما رأت الحضرة الشاهانية أن محمد علي باشا مصرٌ على قتال عكة أرسل إلى البلاد يعلن بأن محمد علي باشا معزول من المناصب، وأمر أهل البلاد بقتاله وورد الأمر إلى دمشق في نصف ذي الحجة بذلك وبتحصين البلد، فحينئذ اشتد حصار إبراهيم باشا لعكة لعلمه بقرب مجيء حسين باشا، فلما كانت ليلة الاثنين السابع والعشرين من ذي الحجة الحرام اقتحم العسكر على عكة ودخلوا إلى الأبراج على السلالم واستولوا عليها، وقبض على عبد الله باشا ووقع من القتل والنهب والسلب ما لا يحمد ولا يحصر، ولا يقال ولا يذكر، وذكر بعضهم أن جملة من قتل من عسكر إبراهيم باشا اثنا عشر ألفاً ومن عساكر عكة نحو خمسة آلاف، وكان ابتداء حصاره لها في سابع وعشرين من جمادى الثانية فكانت مدة الحصار ستة أشهر، ثم أرسل إبراهيم باشا عبد الله باشا من جهة البحر إلى الإسكندرية فلما علم محمد علي باشا بوصوله أرسل إليه يؤمنه ثم أرسل إليه أنواع الإكرام، وأحسن له المعاملة والإنعام، ووصله بالهدايا السنية، وأنزله منزلة علية، ثم وجهه إلى الاستانة المحمية، فغب وصوله وجهت عليه الدولة رئاسة الحرم الشريف في المدينة المحمدية، وكان عالماً مطيعاً صالحاً محباً لذوي العبادة والصلاح، وفي ثالث محرم الحرام سنة الف ومايتين وثمان وأربعين أرسل إبراهيم باشا إلى دمشق يطلب منهم أن يمكنوه من الدخول إليها فلم يرسلوا إليه جواباً، ثم طلب ثانياً فأرسلوا إليه أنا لا نمكنك من الدخول أصلاً، وفي ثامن المحرم جاء الخبر أن عسكره وصل إلى جسر بنات يعقوب فاستعد أهل دمشق لقتاله، واجتمع رؤساؤهم وتعاقدوا وتحالفوا على أنهم يد واحدة بعد ما كان بعضهم يميل إلى إبراهيم باشا خوفاً من انتقام الدولة من الشام بسبب قضية سليم باشا الآتية في ترجمته في حرف السين؛ وحصل لأهل البلد والقرى(1/18)
انزعاج شديد، وشرع أهل القرى والأطراف في نقل الأمتعة لداخل السور، وكتب وزير الشام إلى الباشوات الذين في حمص ومعهم وزير حلب أن يعينوا أهل الشام بعساكر من عندهم، وأرسل إبراهيم باشا إلى بعض أعيان دمشق كتاباً مؤرخاً في تاسع المحرم يهددهم فيه، وفي آخره أن بلاد عربستان قد ملكناها بسيفنا ولا يأخذها أحد منا ما دمنا في قيد الحياة. وفي رابع عشر المحرم وصل بعض جيوشه إلى قريب من قرية داريا قرية من قرى الشام بينهما نحو ثلاثة أميال، فخرج إلى لقائهم خلق كثير من أهل دمشق فقاتلوهم قتالاً يسيراً، ولم يقصد كل من رؤساء الفريقين إضرار الآخر، وقتل من كل فريق رجل أو رجلان، ثم رجع أهل الشام مظهرين الانكسار، ولم يبق من أهل الشام رجل خارج البلد، وبات أهل البلد تلك الليلة في كرب شديد وكل أهل محلة يحفظون محلتهم، وفي ليلة الخميس خامس عشر المحرم نصف الليل هرب علي باشا وزير الشام وعسكره والقاضي والمفتي المرادي والنقيب العجلاني ومحمد جوربجي الداراني، وجميع أبناء الترك الموظفين، وغالب وجوه الشام، وأصبحت البلدة نهار الخميس خالية من رؤسائها وأعيانها ولم يبق أحد ممن يعتمد عليه، فأرسل إبراهيم باشا إلى أحمد بيك الدالاتي ربيب يوسف باشا الكنج فأقام متسلماً في البلد، وأمر منادياً ينادي بالأمان، وفي ضحوة النهار دخل العسكر إلى السرايا والمرجة، ثم دخل إبراهيم باشا قبيل الظهر وطلب أن يتسلم القلعة من رئيسها علي آغا عرمان فأجابه بالامتثال وفتح الباب، فأدخل ذخيرته إليها وعسكره وقت العصر، وجاءه في ذلك النهار أمراء الدروز ومعهم خلق كثير من نصارى ودروز، وقد لطف المولى سبحانه وتعالى كما هي عادته برفع القتال وبالإذعان والتسليم من دون ضرب ولا طعن ولا سفك دماء، ثم كتب إلى الهاربين أن يرجعوا إلى أوطانهم
فالذين ذهبوا إلى حمص وهم الباشا والقاضي والداراني ورؤساء المغاربة والأكراد أبوا الرجوع واستقاموا مع بشاوات العساكر السلطانية، وأما الذين ذهبوا إلى القريتين وهم المفتي والنقيب ورشيد آغا وكيلا راميني فإنهم رجعوا إلى دمشق، ثم عزم إبراهيم باشا على قتال الذين في حمص فشرع في جمع الذخائر والعساكر، وورد إليه من مصر عسكر كثير من النظام والأعراب وغيرهم، واجتمع عند عباس باشا أيضاً في بعلبك جموع كثيرة، ثم خرج إبراهيم باشا من دمشق في ثالث صفر وأخرج معه رؤساء المحلات كالرهينة، وأقام مقامه أحمد بك الدالاتي ونصب القلالق في المحلات، ثم جاء الخبر يوم الثلاثاء في ثاني عشر صفر أنه حصل بينه وبين العسكر السلطاني في حمص قتال نهار السبت تاسع صفر، وأنه قتل منهم نحو خمسة آلاف وأسر نحو أربعة آلاف وفر باقي العسكر والباشوات وكانوا نحو ثلاثين ألفاً، وأخذ مدافعهم وذخائرهم وخيامهم وسائر موجوداتهم، وكان في قلعة حمص جماعة منهم فطلبوا منه الأمان فأمنهم وأنزلهم من القلعة وتسلمها منهم، وبعث إلى متسلم الشام بأن يعلن بالنصر فأمر أهلها بالزينة ثلاثة أيام ثم توجه نهار الثلاثاء ثاني عشر صفر إلى جهة حماه وهرب متسلمها، فأقام فيها متسلماً رشيد آغا الشملي ثم بلغه الخبر أن حسين باشا سردار وصل إلى حلب وأن الباشوات الهاربين من حمص ذهبوا إلى حلب أيضاً مع عساكرهم، فلحقهم إبراهيم باشا ونزل قبيل حلب بنحو أربع ساعات، فطلب حسين باشا من أهل حلب أن يخرجوا معه لقتال إبراهيم باشا فقالوا له نحن لا نقاتل معك ولا معه بل نحن رعية لمن غلب فإنا نخاف على أنفسنا وعيالنا، فخرج حسين باشا من حلب هارباً هو وبقية العساكر والباشوات وترك بعض العسكر الذي جاء به وذخائره، فخرج أعيان حلب إلى إبراهيم باشا يستقبلونه وينالون أمانه، فدخلها ليلة الثلاثاء تاسع عشر صفر بلا قتال أصلاً، ثم خرج منها يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر إلى أنطاكية وعينتاب واللاذقية، وورد الخبر نهار السبت سابع ربيع الأول أنه استولى على حصن اسكندرونة وعلى حصن بانياس وبيلان، وكان فيه حسين باشا وحصلت مقتلة عظيمة، ثم هرب حسين باشا ومن معه من الوزراء والعساكر الكثيرة، وقد شاع أنها مائة وخمسون ألفاً، وترك جميع مهماته ومدافعه وذخائره، ثم سار إبراهيم باشا بعد ذلك إلى أدنه وقد دخلها من غير قتال في غرة ربيع الثاني وأقام بها شهراً، ثم حاصر بركله ومن فيها من العساكر السلطانية ودخلها في غرة جمادى الأولى بعد قتال رشيد باشا، وفي آخر جمادى الثانية قدم إلى دمشق رشيد بك أميراً عليها من قبل محمد علي باشا، وفوض إليه النظر في أمر بلاد الساحل والقدس وغزة والشام وحلب، ثم جاء الخبر في خامس رجب أن إبراهيم باشا دخل إلى قونية وكان فيها أربعة عشر وزيراً، فلما سمعوا بوصوله هربوا ودخلها بلا حرب ولا قتال، وجاء الأمر إلى دمشق بالزينة وضرب المدافع ثلاثة أيام في كل يوم ستين مدفعاًن ثم جاء الخبر في آخر شعبان أن الوزير الأعظم جاء إلى قريب من قونية، فخرج إليه إبراهيم باشا وأسره وفرق جمعه وأسر من عساكره نحو سبعة آلاف، وأرسل إلى مركز سورية دمشق الشام بعمل الزينة ثلاثة أيام ليلاً ونهاراً مع ضرب المدافع وإظهار دواعي السرور والحبور، وقد نظم أمين أفندي الجندي الشاعر هذه القصيدة مادحاً إبراهيم باشا ومتعرضاً بها لهذه الوقائع التي تقدم ذكرها، وكان بنظمها كما قيل: مكره أخاك لا بطل. ذهبوا إلى حمص وهم الباشا والقاضي والداراني ورؤساء المغاربة والأكراد أبوا الرجوع واستقاموا مع بشاوات العساكر السلطانية،(1/19)
وأما الذين ذهبوا إلى القريتين وهم المفتي والنقيب ورشيد آغا وكيلا راميني فإنهم رجعوا إلى دمشق، ثم عزم إبراهيم باشا على قتال الذين في حمص فشرع في جمع الذخائر والعساكر، وورد إليه من مصر عسكر كثير من النظام والأعراب وغيرهم، واجتمع عند عباس باشا أيضاً في بعلبك جموع كثيرة، ثم خرج إبراهيم باشا من دمشق في ثالث صفر وأخرج معه رؤساء المحلات كالرهينة، وأقام مقامه أحمد بك الدالاتي ونصب القلالق في المحلات، ثم جاء الخبر يوم الثلاثاء في ثاني عشر صفر أنه حصل بينه وبين العسكر السلطاني في حمص قتال نهار السبت تاسع صفر، وأنه قتل منهم نحو خمسة آلاف وأسر نحو أربعة آلاف وفر باقي العسكر والباشوات وكانوا نحو ثلاثين ألفاً، وأخذ مدافعهم وذخائرهم وخيامهم وسائر موجوداتهم، وكان في قلعة حمص جماعة منهم فطلبوا منه الأمان فأمنهم وأنزلهم من القلعة وتسلمها منهم، وبعث إلى متسلم الشام بأن يعلن بالنصر فأمر أهلها بالزينة ثلاثة أيام ثم توجه نهار الثلاثاء ثاني عشر صفر إلى جهة حماه وهرب متسلمها، فأقام فيها متسلماً رشيد آغا الشملي ثم بلغه الخبر أن حسين باشا سردار وصل إلى حلب وأن الباشوات الهاربين من حمص ذهبوا إلى حلب أيضاً مع عساكرهم، فلحقهم إبراهيم باشا ونزل قبيل حلب بنحو أربع ساعات، فطلب حسين باشا من أهل حلب أن يخرجوا معه لقتال إبراهيم باشا فقالوا له نحن لا نقاتل معك ولا معه بل نحن رعية لمن غلب فإنا نخاف على أنفسنا وعيالنا، فخرج حسين باشا من حلب هارباً هو وبقية العساكر والباشوات وترك بعض العسكر الذي جاء به وذخائره، فخرج أعيان حلب إلى إبراهيم باشا يستقبلونه وينالون أمانه، فدخلها ليلة الثلاثاء تاسع عشر صفر بلا قتال أصلاً، ثم خرج منها يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر إلى أنطاكية وعينتاب واللاذقية، وورد الخبر نهار السبت سابع ربيع الأول أنه استولى على حصن اسكندرونة وعلى حصن بانياس وبيلان، وكان فيه حسين باشا وحصلت مقتلة عظيمة، ثم(1/20)
هرب حسين باشا ومن معه من الوزراء والعساكر الكثيرة، وقد شاع أنها مائة وخمسون ألفاً، وترك جميع مهماته ومدافعه وذخائره، ثم سار إبراهيم باشا بعد ذلك إلى أدنه وقد دخلها من غير قتال في غرة ربيع الثاني وأقام بها شهراً، ثم حاصر بركله ومن فيها من العساكر السلطانية ودخلها في غرة جمادى الأولى بعد قتال رشيد باشا، وفي آخر جمادى الثانية قدم إلى دمشق رشيد بك أميراً عليها من قبل محمد علي باشا، وفوض إليه النظر في أمر بلاد الساحل والقدس وغزة والشام وحلب، ثم جاء الخبر في خامس رجب أن إبراهيم باشا دخل إلى قونية وكان فيها أربعة عشر وزيراً، فلما سمعوا بوصوله هربوا ودخلها بلا حرب ولا قتال، وجاء الأمر إلى دمشق بالزينة وضرب المدافع ثلاثة أيام في كل يوم ستين مدفعاًن ثم جاء الخبر في آخر شعبان أن الوزير الأعظم جاء إلى قريب من قونية، فخرج إليه إبراهيم باشا وأسره وفرق جمعه وأسر من عساكره نحو سبعة آلاف، وأرسل إلى مركز سورية دمشق الشام بعمل الزينة ثلاثة أيام ليلاً ونهاراً مع ضرب المدافع وإظهار دواعي السرور والحبور، وقد نظم أمين أفندي الجندي الشاعر هذه القصيدة مادحاً إبراهيم باشا ومتعرضاً بها لهذه الوقائع التي تقدم ذكرها، وكان بنظمها كما قيل: مكره أخاك لا بطل.
نحن الأسود الكاسره ... نحن السيوف الباتره
من أرض مصر القاهره ... سرنا وقد نلنا المنا
بارودنا شراره ... تشوي الوجوه ناره
وعزمنا بتاره ... من العدا أمكننا
نحن بنو الحرب فلا ... نخشى غباراً إن علا
ولم نضق عند البلا ... صدراً إذا الموت دنا
بالروح جدنا كي نقيل ... لمصرنا الفخر الجميل
ونبتغي الفضل الجزيل ... فعلاً يعز الوطنا(1/21)
عاداتنا أخذ الرجال ... بالبيض والسمر العوال
ونارنا بالاشتعال ... لهيبها يبدي السنا
جهادنا لا ينكر ... في كل قطر يذكر
وسيفنا إذ يشهر ... للنصر يبدي معلنا
اما العلا تقديمها ... مستوجباً تعظيمها
الشاه إبراهيمها ... أدامه المولى لنا
أبو خليل في الحروب ... لا زال كشاف الكروب
وحين يدعى للركوب ... بالبيض يغزو والقنا
لما غزونا عكة ... بالطوب دكت دكتا
وللأعادي بكتا ... هجومنا واخذنا
صبحاً علونا سورها ... وقد هدمنا دورها
أما ترى قصورها ... قد حلها هدم البنا
فزنا بفتح الطائلي ... للقدس والسواحل
والشام يا ذا الكاملي ... والله قد أعزنا
ويوم حمص لو ترى ... على العداة ما جرى
وقد علا فوق الثرى ... صرعى يقاسون الضنا
هناك أضحوا هالكين ... وفي دماهم غارقين
وانحل عقد الظالمين ... وحل للباغي العنا
ولحماة مع حلب ... سرنا وجدينا الطلب
ولم نجد ممن هرب ... إلا طريحاً بالضنا
وعند بيلان سمت ... وقائع قد عظمت
وللبغاز اقتحمت ... فرساننا وأسدنا
لما بهم غنى الحمام ... خلوا المهمات الجسام
وكل ما تحوي الخيام ... غنيمة أضحت لنا(1/22)
في جفن حاز قد سما ... حر الوغى محتكما
وجيشهم قد هزما ... بالويل يشكو الوهنا
أمام قونه قد بدا ... حرب مبيد للعدا
وحل بالضد الردى ... لما استخفوا بطشنا
وقد أطلنا قهرهم ... لما أسرنا صدرهم
ومذ ولينا أمرهم ... بالذل مالوا نحونا
هذا وهذا كله ... عزيز مصر أصله
وليس يخفى فضله ... دوماً على أهل الثنا
فنسأل الله المعين ... بحرمة الهادي الأمين
يديمه للمسلمين ... مولى مغيثاً محسناً
ولما قرئت هذه المنظومة المزدوجة على إبراهيم باشا وأنشدت بين يديه أمر للشيخ أمين ناظمها بمائة دينار، فدفعت له في الحال، ثم إن إبراهيم باشا أراد أن يتجاوز حدوده، وأن يبلغ مراده ومقصوده، وذلك أنه في خامس شعبان صدر الأمر من والي الشام شريف بك بجمع أعيان البلدة وعلمائها ورؤسائها، وغب اجتماعهم أخرج كتابة من محمد علي باشا مضمونها أن السلطان محمود خرج عن طور أسلافه وأنه زاد في الظلم والبغي وأنه أمر بتغيير زي الناس وملبوسهم ومساواة النصارى مع المسلمين في الزي، وأن سبب ذلك سوء رأيه ولذلك تغلب عليه أعداؤه من الفرنج حتى ملكوا معظم بلاد الإسلام، وأنه لم يبق له عند الملوك احترام ولا اعتبار ولا عند رعيته، وأنه بسبب ذلك صارت المصلحة في عزله من السلطنة وتولية ابنه محله لأجل نظام الملك وإقامة أحكام الشريعة، لأنه لو بقي في السلطنة يزيد الضرر على المسلمين، وطلب إخراج فتوى بجواز ذلك وأن يكتب عليها المفتي وعلماء البلدة من جميع المذاهب، فكتبوا له ما أراد، وسايروا هذا الباغي الذي لربوع الطغيان شاد.(1/23)
إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً ... فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وأفتوه بأنه يجوز خلع الإمام، إذا جار ونهج منهج اللئام، ولزم من إبقاءه ضرر، ولم يلزم من خلعه فتنة هي أكبر وأضر، وأدهى وأمر، وادعى كذلك هذا الباغي على حضرة المرحوم السلطان محمود، أن الذي وقع من عماله في أيامه لم يسمع بمثله من اختلال نظام البلاد، وأحوال العباد، حتى خربت بلاد الروم والأناضول من أخذ رجالهم للحرب وسلب أموالهم واستيلاء الإفرنج عليهم، وكذا غيرها من البلاد، وما وضع من الأعشار والمكوس والمصادرات وزوال الأمن عن أهل المدن في بيوتهم فضلاً عن البراري، فاستولت الأعراب على القرى وعلى الأغلال وارتفعت الأسعار وانتهبت القوافل، وفي غرة رمضان أمر والي الشام وهو شريف بك بجمع المفتي والنقيب وغيرهما، فاجتمعوا عنده ليلة شهر رمضان، فقال: إن أفندينا محمد علي باشا كتب إلى البلاد من شهرين بأن من أراد الحج فليقدم إلى الشام، فما حضر إلا نادر من الأفراد فلذلك لم يخرج الحاج. ثم إن إبراهيم باشا لما ازداد في سموه وزاد في عتوه منعته الأجانب، وتعصبت الإنكليز إلى الدولة في الظاهر لتوطيد أركانها، وفي الباطن خشية من انتشار قوة إسلامية شابة ذات سلطة ومركزها مصر، فتخشى أن تمتد من هناك إلى الهند الذي هو روح قوة الإنكليز لاسيما إذا عاضدته إحدى الدول الأروباوية مثل فرانسا، فلذلك حاربته مع الدولة العثمانية التي هي إذ ذاك على تعب شديد من حرب الروسيا والثورات الداخلية واستقلال اليونان وغير ذلك فقهروا محمد علي باشا، ولكن لإتمام مقاصد الإنكليز لم تسمح للدولة بالاستيلاء التام على مصر لمراعاة المقاصد المشار إليها أيضاً، فكان الأوفق لها إبقاء مصر على شبه استقلال ليضعف كل من الجهتين، وبقي محمد علي باشا والياً على مصر على شروط معلومة في ترجمته، وجاء خبر الصلح على ذلك إلى الشام تاسع عشر ذي الحجة سنة ثمان وأربعين ومايتين وألف،(1/24)
وكان قد تمكن إبراهيم باشا من البلاد الشامية وقهر الناس واستباح الحرام، وفعل جميع الموبقات والآثام، فلم يبق شيء من القبائح في زمنه إلا وقد فعل بدون إنكار ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكان قد وضع بعد إحصاء أهل المدن والقرى في دفتر على كل فرد من البالغين منهم مالاً أقله خمسة عشر قرشاً وأكثره خمسماية قرش، تؤخذ منه في كل سنة، كما وضع ذلك من قبل على أهل مصر واستولى العسكر على أكثر المساجد والمدارس والتكايا، ومنعوا المصلين من دخولها وجعلوها لسكناهم ولدوابهم، وذلك سنة تسع وأربعين، فكان ذلك سبباً لضياع أوقافها وخرابها، وقدم العيسوية على المحمدية، وأذل أهل الشرف والعلم وذوي الاحترام، وأعز الأسافل والطغاة على الإسلام، ثم بعد رجوعه من البلاد الرومية، لا زال يدور في البلاد الشامية، حتى وصل في أواخر سنة تسع وأربعين إلى القدس الشريف في أيام الموسم، فوقعت هناك فتنة بين العيسوية تلف منها خلق كثير، وفي سنة ألف ومايتين وخمسين اشتغل بإدخال من وقع في أيديهم من الناس في العسكرية، فهرب الناس وتشتت أمرهم وكثر البكاء والنحيب وتوقفت الأشغال والمصالح، وطلب من جبل نابلس إجراء ذلك عليهم، فخرجوا عن الطاعة وحصروا إبراهيم باشا في القدس، واجتمع منهم خلق كثير ولا زالوا محاصرين له نحو شهرين، وكان رئيسهم الشيخ قاسم الأحمد، فلما ضاق به الحصار وأيقن بالهلاك والدمار أرسل إلى قاسم الأحمد كتابة تلطيف مصحوبة بمال جسيم، ووعده بالالتفات والتقديم، وأنه لا يأخذ منهم عسكراً ولا مالاً، وأنه يوسعهم نعمة ونوالاً، فرضي القاسم الأحمد لقلة عقله، وسوء رأيه وجهله، وفك عقدة الحصار والضيق، وتفرق الناس متمسكين بما جرى من العهود والمواثيق، فخرج إبراهيم باشا حتى وصل إلى يافا فوجد العساكر قد وصلت لنجدته، وتخليصه من نكبته، فنكص على عقبه في الحال، واشتغل بالقتل والنهب والحرق وسلب الأموال، فهرب(1/25)
قاسم الأحمد إلى الخليل، فلحقه إبراهيم باشا بعساكره واشتغل بالنهب والسلب والقتل حتى لم يبق منهم إلا القليل، ثم دار على الساحل، ففعل بأهله هذه الرذائل، ولم يزل يتتبع آثار قاسم الأحمد حتى قبض عليه، وقتله بدمشق هو والبرقاوي ونكث العهد الذي عهد به إليه، وأمر بجمع السلاح من سائر البلدان، التي تحت أمر هذا الشيطان، ولم يزل في ظلم وعناد، وقبح وفساد، وسفك وسلب، وقتل وضرب، إلى أن دخلت سنة ثلاث وخمسين هجرية، فطلب من جبل
الدروز الشرقي مائة وثمانين نفراً للعسكرية، فحضر مشايخ الدروز وطلبوا استبدال ذلك بالمال، فلم يرض إلا بإحضار الرجال، فأجابوه بأنهم يبادرون إلى الإحضار، من غير تأخير ولا اعتذار، وقصدهم التخلص من هذا الظالم؛ والعاتي الغاشم، فلما وصلوا إلى الأوطان، أزمعوا على عدم الطاعة والإذعان، وغب وصول الخبر، توجهت إليهم العساكر كالجراد إذا انتشر، وكان أمير الجيوش علي آغا البصيلي وهو كبير طائفة الهوارة والصعايدة ومعه عبد القادر آغا أبو جيب من أهل الشام من ميدان الحصى، فعقدوا هناك مع كبراء الدروز مجلساً للمشاورة في هذا الأمر، فامتنع الدروز من دفع الأنفار، وقالوا ندفع من المال ما يزيد عن البدلات، فقال البصيلي إني أرسل مراسلة أستشير بها أفندينا وعلى ذلك قر القرار، ففي تلك الليلة كبست الدروز العساكر، وأذاقتهم كؤوس المنية حتى لم يبق منهم إلا النادر، ومن جملة من قتل عبد القادر آغا أبو جيب، وكان المتسلم في جبل حوران والدروز، وآلت جميع أمتعة العساكر وآلات حروبها إلى الدروز، ولم يسلم من القتل سوى علي آغا البصيلي ومعه خمسة عشر نفراًن فوصل الخبر إلى إبراهيم باشا فصعب عليه الأمر، وصار بصره يتوقد كالجمر، وابتدر بجمع العساكر، واستعد فوق العادة من المهمات والذخائر، ووجههم للقتال، وأوصاهم بالاستئصال، فحين علم الدروز جمعوا جميع متاعهم ودخلوا اللجاه، ولا ريب أنه محل الأمن والنجاة، لأنها حصن حصين، وملجأ رصين، فغب وصول المعسكر قامت الحرب على ساق، وكان الفناء على العساكر الإبراهيمية قد ركب جواده وساق، وأول من قتل من رؤساء العساكر العظام، محمد باشا القائد العام، وتبعه يعقوب بك فقتلا اقبح قتلة، وامتد القتل إلى البقية من غير مهلة، فكانت الدروز على هذا الباغي سيف الانتقام والهوان، وبعد مدة تحرك للعصيان جبل الدروز الغربي تحت رئاسة الشيخ شبلي العريان، ولم تزل بعد ذلك يد الصغار تستطيل عليه، وتوجه جيوش التأخير إليه، وفي سنة خمس وخمسين توفي السلطان محمود، وتولى إمارة المؤمنين السلطان عبد المجيد خان، لا زالت دولتهم محفوظة إلى آخر الدوران، وفي تاريخه أمر إبراهيم باشا بأمر والده بقتل علي آغا بن محمد آغا خزنة كاتبي، وبعد مدة أمر السلطان عبد المجيد خان بخروج إبراهيم باشا بعساكره من الأرض الشامية، إلى الأقطار المصرية، فأجاب الأمر بالسمع والطاعة وجمع عساكره وذخائره ومتاعه، وفرق ذلك بالشام، على المساجد والجوامع وبيوت الأرامل والأيتام، ثم بعد شهرين من مجيء الأمر بخروجه خرج من باب الله بعساكره ونزل بسهل القدم، بعد أن جعل الشام وأهلها من كل نعمة في عدم، وذلك في اليوم السادس من ذي القعدة الحرام، سنة ست وخمسين ومايتين وألف من هجرة سيد الأنام، وكان يوم خروجه يوماً شديد الثلج والبرد، والهواء والشرد، وكان يحث عساكره على العجلة والسرعة، ومن تأخر ولو لتعب كان قبره موضعه، وأخذ معه جميع الحبوب والمواشي، من غير خوف ولا تحاشي، ولما وصل مصر امتدحه مهنئاً له الشاعر الأديب، والماهر الأريب، محمد شهاب الدين صاحب الديوان بقوله، وإن كان مدحه في غير محله: روز الشرقي مائة وثمانين نفراً للعسكرية، فحضر مشايخ الدروز وطلبوا استبدال ذلك بالمال، فلم يرض إلا بإحضار الرجال، فأجابوه بأنهم يبادرون إلى الإحضار، من غير تأخير ولا اعتذار، وقصدهم التخلص من هذا الظالم؛ والعاتي الغاشم، فلما وصلوا إلى الأوطان، أزمعوا على عدم الطاعة والإذعان، وغب وصول الخبر، توجهت إليهم العساكر كالجراد إذا انتشر، وكان أمير الجيوش علي آغا البصيلي وهو كبير طائفة الهوارة والصعايدة ومعه عبد القادر آغا أبو جيب من أهل الشام من ميدان الحصى، فعقدوا هناك مع كبراء الدروز مجلساً للمشاورة في هذا الأمر، فامتنع الدروز من دفع الأنفار، وقالوا ندفع من المال ما يزيد عن البدلات، فقال البصيلي إني أرسل مراسلة أستشير بها أفندينا وعلى ذلك قر القرار، ففي تلك الليلة كبست الدروز العساكر، وأذاقتهم كؤوس المنية حتى لم يبق منهم إلا النادر، ومن جملة من قتل عبد القادر آغا أبو جيب، وكان المتسلم في جبل حوران والدروز، وآلت جميع أمتعة العساكر وآلات حروبها إلى الدروز، ولم يسلم من القتل سوى علي آغا البصيلي ومعه خمسة عشر نفراًن فوصل الخبر إلى إبراهيم باشا فصعب عليه الأمر، وصار بصره يتوقد كالجمر، وابتدر بجمع العساكر، واستعد فوق العادة من المهمات والذخائر، ووجههم للقتال، وأوصاهم بالاستئصال، فحين علم الدروز جمعوا جميع متاعهم ودخلوا اللجاه، ولا ريب أنه محل(1/26)
الأمن والنجاة، لأنها حصن حصين، وملجأ رصين، فغب وصول المعسكر قامت الحرب على ساق، وكان الفناء على العساكر الإبراهيمية قد ركب جواده وساق، وأول من قتل من رؤساء العساكر العظام، محمد باشا القائد العام، وتبعه يعقوب بك فقتلا اقبح قتلة، وامتد القتل إلى البقية من غير مهلة، فكانت الدروز على هذا الباغي سيف الانتقام والهوان، وبعد مدة تحرك للعصيان جبل الدروز الغربي تحت رئاسة الشيخ شبلي العريان، ولم تزل بعد ذلك يد الصغار تستطيل عليه، وتوجه جيوش التأخير إليه، وفي سنة خمس وخمسين توفي السلطان محمود، وتولى إمارة المؤمنين السلطان عبد المجيد خان، لا زالت دولتهم محفوظة إلى آخر الدوران، وفي تاريخه أمر إبراهيم باشا بأمر والده بقتل علي آغا بن محمد آغا خزنة كاتبي، وبعد مدة أمر السلطان عبد المجيد خان بخروج إبراهيم باشا بعساكره من الأرض الشامية، إلى الأقطار المصرية، فأجاب الأمر بالسمع والطاعة وجمع عساكره وذخائره ومتاعه، وفرق ذلك بالشام، على المساجد والجوامع وبيوت الأرامل والأيتام، ثم بعد شهرين من مجيء الأمر بخروجه خرج من باب الله بعساكره ونزل بسهل القدم، بعد أن جعل الشام وأهلها من كل نعمة في عدم، وذلك في اليوم السادس من ذي القعدة الحرام، سنة ست وخمسين ومايتين وألف من هجرة سيد الأنام، وكان يوم خروجه يوماً شديد الثلج والبرد، والهواء والشرد، وكان يحث عساكره على العجلة والسرعة، ومن تأخر ولو لتعب كان قبره موضعه، وأخذ معه جميع الحبوب والمواشي، من غير خوف ولا تحاشي، ولما وصل مصر امتدحه مهنئاً له الشاعر الأديب، والماهر الأريب، محمد شهاب الدين صاحب الديوان بقوله، وإن كان مدحه في غير محله:
سمهري ينثني أم غصن بان ... أم قوام دونه صبري بان
صال بالعسال معسول اللما ... وتهادى هادماً ما أنا بان(1/27)
يا مليك الحسن رفقاً بشج ... كلما حاول كتم الشجو بان
مرج البحرين فيضاً دمعه ... إذ رأى جفنيه لا يلتقيان
جاء لما جار سلطان الهوى ... طالباً من عادل القد الأمان
رب ساق وهو قاس قلبه ... عطفه منذ أدار الكأس لان
أهيف إن ماس تيهاً ورنا ... رحت منه بين سيف وسنان
كسر القلب وما كان التقى ... فيه من حين هواه ساكنان
يا له ثاني عطف قد غدا ... واحداً في الحسن فرداً دون ثان
من رآه وهو يسعى بالطلا ... قال ما أسعد ذياك القران
هو بدر أشرقت أنواره ... وضياء البدر يبدو حيث كان
وهو شمس بسناها احتجبت ... لكليم الطرف قالت لن تران
فاسقنيها أيها الساقي على ... عارض الاس وثغر الأقحوان
في رياض رقصت أغصانها ... حيت غنتها من الطير قيان
حدق النرجس فيها عينه ... إذ رأى المنثور يومي بالبنان
إن بكى الطل على أفنانها ... بسم الزهر وعن در ابان
بينما الراووق يهمي دمعه ... في رباها قهقهت منه القنان
لمدير الكاس في أدواحها ... لم تلح شمس سوى شمس الدنان
يا نديمي قم وبادرها وطب ... هذه الجنة والحور الحسان
وأدر لي بنت كرم عتقت ... نورها الباهر يحكي البهرمان
زوجت بالماء بكراً فأتت ... إذ علاها بذراري من جمان
بالنهى قد فعلت كاساتها ... فعل إبراهيم سلطان الزمان
أسد الهيجاء ضرغام الوغى ... قاصم الأعداء من قاص ودان
فهو كالشمس سمت آفاقها ... وسناها كان في كل مكان
فرع أصل قد تسامى في العلا ... وعلا شأناً على رغم لشان
سره أن كان سر عسكره ... ورمى القرن فنادى يا رمان(1/28)
سطوات بأسها حامي الحمى ... واكف كم بها كف افتتان
كم له في السلم من مرحمة ... وكأين من حنو وحنان
يمم اليم ورد ما تشتهي ... وعلى المورد يا صاح الضمان
لم يكن في كل بحر لؤلؤ ... إنما اللؤلؤ في بحر عمان
حلمه الروض جناه يجتنى ... ويرجي العفو فيه كل جان
همم فوق السموات سمت ... ومعال دونهن الصعب هان
وحلى جلت وجلت غاية ... أيجارى من له سبق الرهان
يا عزيزاً لا يضاهى أبداً ... عزه يسكو العدا ثوب الهوان
كم حروب كشفت عن ساقها ... خاضها طرفك مطواع العنان
بجيوش شمرت عن ساعد ... ماله يوم نزال من توان
هاك مني بنت فكر تنجلي ... في حلي من بديع وبيان
وقد أعيذت بشهاب ثاقب ... صانها عن كل شيطان وجان
وبدت من خدرها قائلة ... إن وصلي للحبيب الآن آن
وبودي لو ألاقي حظوة ... منه تكسوني جلابيب امتنان
فدنوي منه غايات المنى ... وقبولي منتهى كل الأمان
وكانت وفاة المترجم المرقوم ختام ذي الحجة الحرام سنة أربع وستين ومائتين وألف من هجرة سيد الأنام، وكان ذلك في حياة والده لأن والده توفي أول ليلة من شهر رمضان المبارك سنة خمس وستين ومائتين وألف، ودفن في جامعه الذي أنشأه في قلعة الجبل.
الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد الله الحنبلي الدمشقي
كان عالماً بارعاً، وزاهداً عابداً ورعاًن فقيهاً في مذهب سيدنا الإمام أحمد بن حنبل، ولا ريب أنه ذو مقام كامل أكمل ولم أطلع له على(1/29)
شيء من الشعر، ولا من السجع والنثر، توفي رحمه الله سنة اثنتين وستين ومائتين وألف ودفن في مقبرة العارف بالله الشيخ رسلان، قدس الله سره وجعل الفردوس مقره.
الشيخ إبراهيم الزهيري الشافعي المصري
مفرد لأشتات العلوم جامع، وأديب ضوء أدبه لامع، تقنع بقناع الزهد والكفاف، وارتدى برداء الصون والعفاف، قد نبذ الدنيا وراء ظهره، ورضي منها بكفايته من غير زيادة مدى عمره، توفي رضي الله عنه سنة أربعين ومائتين وألف من الهجرة، ودفن في مقبرة باب الصغير رحمة الله عليه.
الشيخ إبراهيم السقا الشافعي المصري الأزهري
العالم العامل، والعلامة الفاضل، خاتمة الفقهاء الشافعية بالديارين الشامية والمصرية، فلا غرو أنه الشيخ الإمام، والأوحد الهمام، له همة في العلوم عالية، وكمالات سنية سامية، وطلاقة وجه وضي، وطلاوة خلق رضي، وسجايا تزدري بالرياض النواضر، ومزايا تحار فيها الأعين النواظر قد تأهل لمشيخة الإسلام في الأزهر بشهادة العلماء الأعلام، غير أن الحظ بعد موت العلامة الباجوري قدم غيره عليه، وجعل أمر مشيخة الأزهر إلى غيره لا إليه، وله مؤلفات عديدة، وتقريرات مفيدة، وكان خطيب الجامع الأزهر، والمكان الأنور، وله ديوان بديع يخطب(1/30)
فيه من إنشائه، يعرب عن فضله ورفعة قدره بين أمثاله وقرنائه، قد اجتمعت به في الأزهر سنة ثمانين ومائتين وألف فدعا لي وأجازني بما تجوز له روايته عن مشايخه، غير أني لم أجتمع به مرة ثانية، لأنه كان منحرف المزاج، ومشتغلاً في أغلب الأوقات بأخذ العلاج، وكان الأزهر الشريف فارغاً من الناس فلذلك كان خروجه إلى الجامع قليلاً، لأن الطلبة وأكثر العلماء كانوا في مولد السيد البدوي والدروس في الأزهر مرفوعة، وكان الناس يومئذ في كرب شديد وهم عظيم، بسبب وقوع الريح الأصفر عندهمن ومما كتبه المترجم المرقوم إلى السيد عبد الهادي بن السيد رضوان نجا الأبياري من مصر حينما كان المومى إليه مسافراً منها، وغائباً عنها فقال:
لقد كمل الرحمن وصفك بالعلا ... وما شين شيء من كمالك بالنقص
ومن جمع الآفاق في العين قادر ... على جمع أشتات الفضائل في شخص
حلت منا أحرف المحبة محل الزلال من الصادي، وفوضنا الأمر في تمتعنا قريباً بعودة العبد الجليل لربه الهادي، وقد أتحفنا من حضرة أمير الكلام بدر منثور، وأشرقت منه المودة في ليالي السطور، فسبحان من أودعك سراً أنت به العلم المغرد بين الملا، تحدث بأعذب منطق " ما ودعك ربك وما قلى ":
ويشهد الله وحسبي به ... أني إلى مجدك مشتاق
فلله مزاياك التي لا تبعث إلا على مزيد الاشتياق، ومكارمك التي قضت لك بالتفوق على الأقران بالاتفاق، ولقد شق علينا بعدك مشقة كبرى، وحرماننا من أنسك الذي يقوم مقام الراح للأرواح سكراً، وإني لا أعجب ممن جهل عظيم قدرك فعاداك، ونقل عنك ما لم تتفوه به قط فاك، فإنه حسد ومثلك من يحسد، والحسد لا تهمد ناره ولا تخمد، إنما أعجب من(1/31)
كونه ظلم نفسه وانطوى على البغي الشنيع، وإنه لا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة وإن الله لسميع، تحلى وتروج بالكذب والتمويه، وتخلى عن كل ما فيه على كرم النفس دلالة وتنويه، ولكن على جنابك حسن التفويض والتسليم لأمر مولاك، فلا بد إن شاء الله أن يريك بسرعة العود لمصر ما تقر به عيناك، وبالصبر تجتني ثمرات الآمال، والله تعالى يحسن لنا ولكم الحال والمال، آمين.
وله رحمه الله كتابات بديعة وإنشاآت رفيعة، ورسائل لا تبارى وعوارف في ميدان البلاغة والفصاحة لا تجارى، توفي رضي الله عنه سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين.
الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد درويش الشهير بالخلاصي الحلبي الأصل
الدمشقي المنشأ والموطن الحاذق الطبيب، والحكيم النجيب، قد انتهت إليه رئاسة الطب في عصره، وكان الخاص والعام معترفاً بعلومه وقدره، ينتهي أمر المشكلات في الطب إليه، ولا يعول في زمنه إلا عليه، وقد انفرد بمعرفة الداء من النبض والقارورة، وللناس عنه حكايات تدل على كماله معروفة مشهورة، وله مشاركة في بعض العلوم، وشعر في سلك اللطافة منظوم، وكان بمجرد القبض على النبض، ورؤية القارورة يعرف حقيقة الداء، ويعالجه بأحسن الدواء، فلا ريب أنه جالينوس الزمان، وبطليموس الوقت والأوان، توفي اليوم السادس من شهر شوال سنة خمس وخمسين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير بالقرب من مقام السيدة سكينة.
الشيخ إبراهيم أبو إسحق برهان الدين الدمشقي
القطب الشهير، والفرد الذي أطبق على ولايته الجم الغفير، صاحب الكشف والكرامات، والإخبارات عن المغيبات، كان بركة الديار(1/32)
الشامية، ومقصد الدعاء في المدينة الدمشقية، وكراماته ظاهرة، وواقعاته باهرة، وكان عفيفاً زاهداً، وصالحاً عابداً، ذا تقوى وإقبال على مولاه، واعتماد عليه في سره ونجواه، ولد رضي الله عنه سنة ... ومات رحمه الله بعد سنة المائتين والألف ودفن بالمغارة المعروفة بمغارة الشيخ إبراهيم في سفح جبل قاسيون في صالحية دمشق، يزار ويتبرك به، والمشهور أن الدعاء عند قبره مستجاب، ولأهل دمشق اعتقاد بزيارته ومحله بغاية الحسن والنزاهة لأنه مطل على سائر دمشق ونواحيها.
الشيخ إبراهيم بن محمد الزمزمي
المكي المولد والدار، العلي المنصب والمقدار، علامة الزمان، وفهامة الوقت والأوان، تصدى في أم القرى للإفتاء والتدريس، وكان يقري ويفيد، ويخفض جناحه للمستفيد، ويبذل كل علم نفيس، ويتكلم في سائر العلوم، ويجيد في بيان المنطوق والمفهوم،
صفاته في العلوم إن ذكرت ... يغار منها النسيب والغزل
تعرف من عينيه حقائقها ... كأنه بالعلوم مكتحل
فائدة لإذهاب الصداع
ومن فوائده التي أفاد بها سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف أن من حصل له صداع فقال ويده على رأسه لا إله إلا الله مائة وخمساً وستين مرة زال عنه الصداع والحكمة في ذلك أن هذا العدد موافق لعدد الصداع وعدد لا إله إلا الله، فاحرص عليها فإنها من عزيز الفوائد والمجربات العوائد، ومن قال بعد العطاس وبعد أن يحمد الله اللهم ارزقني مالاً يكفيني، وبيتاً طيباً واسعاً يؤويني، واحفظ علي ديني، واكفني شر ما يؤذيني، أعطاه الله ذلك بمحض فضله ومنه وكرمه. ولهذا المترجم شمائل(1/33)
تدل على علو مقامه، وسمو فضله واحترامه، ولم أقف على تاريخ وفاته رحمه الله تعالى.
الشيخ إبراهيم بن أحمد الزمزمي
الإمام العالم الفاضل، والهمام الكامل العامل، نادرة الزمان، ونخبة الوقت والأوان، وهو من أهل بيتٍ لهم فضل ومقام، ورفعة بين ذيو الفضائل واحترام، وإنه من العلماء الذين علمهم لا ينكر، وفضلهم في الأنام على الدوام يذكر، وله مؤلفات كثيرة، وأشعار غزيرة، إلا أنه لم يتيسر لي الوقوع على شيء منها مع أنني أكثرت من السؤال عنها، وكان له ميل إلى العمل بالدليل ولا يعول نحو التقليد ولا يميل، نظم متن الدرر البهية للبدر اليماني العلامة الشوكاني، في فقه الحديث. توفي رحمه الله بمدينة أبي عريش سنة ألف ومائتين وثلاث وستين.
الشيخ إبراهيم بن محمد بن الأمير الصنعاني اليمني ثم المكي
عالم الحجاز، في الحقيقة والمجاز، فاضل عصره وزمانه، وفريد أهل مصره في أوانه، ذو العلوم البديعة، والمعارف الرفيعة، والزهادة الحقية، والعبادة النقية، المتحلي بالفضائل، والمتخلي عن أنواع الرذائل، ولد سنة ألف ومائة وأربعين تقريباً ونشأ في العلم والصلاح، والتقوى والفلاح، واستفاد وأفاد، ونال من القبول أتم مراد. مات رضي الله عنه سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف ودفن في مقبرة المعلى.(1/34)
الشيخ إبراهيم بن إسماعيل بن الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي الحنفي
هو عالم زمانه، وجهبذ أوانه، ولد سنة ألف ومائة وثمان وثلاثين في شهر رجب ونشأ في حجر والده، وكان شهماً صالحاً، وإماماً في العلوم راجحاًن ورعاً زاهداًن ومتقشفاً عابداً، توفي في شعبان سنة ألف ومائتين واثنتين وعشرين ودفن في مقبرة أسلافه.
إبراهيم بن الشيخ محمد الدمشقي العمادي
من الأعيان الأفاضل، وذوي الشأن والفضائل، تولى إمامة محراب الحنفية، مع الخطبة في جامع بني أمية، وكان فاضلاً صالحاً، عابداً زاهداً ناجحاً، ناسكاً لطيفاً، لين الجانب عفيفاً، مات نهار الأحد في الحادي والعشرين من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين وألف.
الشيخ إبراهيم بن مصطفى أبو الصلاح الرحيباني ثم الحراني ثم الدمشقي الشافعي
الخطيب والمدرس والإمام بجامع الدقاق بميدان الحصى، ولد سنة أربعين ومائة وألف وبعد أن بلغ رشده وملك أشده، وقرأ في دمشق الشام، على بعض العلماء الأعلام، تشوقت نفسه إلى الانقطاع، ليكون له تمام الانتفاع، فسافر إلى الديار المصرية، ليجاور في البقعة الشريفة الأزهرية، فقرأ في الأزهر على السادة الكرام وأخذ عن العلماء الأفاضل الأعلام، وأجازوه بجميع ما تجوز لهم روايته، وتنسب إليهم درايته، منهم السيد أحمد بن عبد الفتاح بن يوسف بن عمر ابن مجير الدين الملوي الشافعي، والسيد محمد الصبان الشافعي، والعلامة محمد بن الأمير المالكي القاهري، والعلامة الشيخ سليمان الجمل، والعلامة(1/35)
الشيخ سليمان بن عمر بن محمد البجيري، والعلامة أحمد بن موسى بن داوود العروسي الأزهري، ومحمد ثعيلب بن سالم الفشني الشافعي الأزهري، والعلامة علي بن أحمد الصعيدي المالكي، وأحمد بن عبد المنعم بن صام الشافعي، وشيخ الدماشقة الأخيار، الشيخ أحمد بن عبيد الله بن عسكر الشافعي الشهير بالعطار، والشيخ محمد الكزبري، والشيخ حسين بن طعمة ابن محمد الشافعي البيتماني الأصل الدمشقي الميداني القادري، والشيخ أبي المواهب الحنبلي، والشيخ محمد الكاملي، والشيخ عثمان الشمعة، وغيرهم من العلماء العاملين والفضلاء الصالحين، وكان هذا المترجم من أهل العزلة والانفراد عن الناس متقشفاً متنبهاً لآخرته، وفي آخر عمره غلب عليه الجذب، مات رحمه الله يوم الجمعة وقت الزوال سادس عشر شوال سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الله قرب قبر والدي وقبر الشيخ تقي الدين الحصني رحمهم الله تعالى.
الشيخ إبراهيم بن عبد الله السويدي
ولد سنة ألف ومائة وست وأربعين وبلغ من العلم والعمل، فوق ما تعلق به الرجا والأمل، وصار من السادة الأفراد، والقادة العباد، وأخذ عن أبيه وعن غيره، وصار في زمانه ممن نهج مناهج الفضل في سيره، مات سنة ست ومائتين وألف.
الشيخ إبراهيم أبو عبد اللطيف بن أخت الشيخ أبي بكر الخلوتي الدرغراني ثم الدمشقي الخلوتي الحلبي الشافعي القادري
الإمام الفقيه، النبيه، النحوي اللغوي الصرفي الصوفي المحدث الكبير، والعالم الشهير، البركة القدوة الصالح العابد، المرشد الزاهد، الخاشع الناسك الأوحد المتفنن بقية السلف الصالح. ولد بدمشق سنة اثنتين وخمسين ومائة وألف، وأخذ عن العلامة عطية(1/36)
الأجهوري، والعلامة سليمان الجمل، والفاضل الشيخ محمد الصبان، والعلامة الشيخ محمد الجوهري، والعلامة أحمد الفالوجي، والعلامة الشيخ علي الصعيدي، والأوحد الشيخ محمد الأمير، والشيخ محمد عباده، والشيخ السوسي، والشيخ الدردير، والشيخ أحمد البيلي، والشيخ محمود الكردي، والشيخ محمد الحفني، والشيخ عبد الكريم السمان، وغيرهم. وأخذ عن العلامة الكزبري الكبير، والشيخ أسعد المنير البعلي، ثم الدمشقي، مات يوم السبت تاسع ربيع الأنور سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى.
السيد إبراهيم بن أحمد بن يوسف بن مصطفى بن محمد أمين الدين بن علي سعد الدين بن محمد أمين الدين الحسني الشافعي المعروف بقلفه الشهر
النجيب الذي أبدع فيما أبدى، وطرز من نسيج فكره للآداب والفضائل حللاً وبرداً، تأبى غير اكتساب المعارف همته، ولا تميل إلا لانتسابه إلى المعالي بغيته، وله فطنة قضت له بالحظ الأوفر الأوفى، وقريحة لم تستق إلا من المنهل العذب الأصفى، وقد اشتهر في زمانه اشتهار الشمس في رائعة النهار، وافتخر به مصره على باقي الأمصار، ومن جملة من ترجمه الإمام الجبرتي بقوله: الجناب الأوحد، والنجيب المفرد، والفصيح اللبيب، والنادرة الأريب، تفقه على شيخ والده السيد عبد الرحمن الشيخوني، إذ كان إمام والده وتدرج في معرفة الأقلام والكتابة، فلما توفي والده تولى مكانه أخوه الأكبر يوسف في كتابة قلم الشهر، فلما شاخ وكبر، سلمه إلى أخيه المترجم فسار فيه أحسن سير واقتنى كتباً نفيسة، وتمهر في غرائب الفنون، وأخذ طريق الشاذلية والأحزاب والأذكار على الشيخ محمد كشك، وكان يبره ويلاحظه بمراعاته، وانتسب إليه وحضر(1/37)
الصحيح وغيره على شيخنا السيد المرتضى الزبيدي، وسمع عليه كثيراً من الأجزاء الحديثية في منزله بالركبيين وبالأزبكية في مواسم النيل، وكان مهيباً وجيهاً ذا شهامة ومروءة وكرم مفرط، وتجملٍ فاخرٍ، عمله فوق ماسمته مهمته، سموحاً بالعطاء متوكلاًن توفي صبح يوم الأربعاء غاية شهر شعبان سنة اثنتين ومائتين وألف بعد أن تعال سبعة أيام، وجهز وصلي عليه بمصلى شيخون، ودفن على والده قرب السيدة نفيسة رضي الله عنها.
إبراهيم جلبي بن أحمد آغا البارودي الشافعي المصري
الفريد الذي أبدى المحاسن وأبدع، والوحيد الذي من سلسال حياض النباهة تضلع، واللبيب الذي سلك مسالك المعارف، والنجيب الذي ملك منها كل تليد وطارف، والكامل الذي انتقى أحسن الخصال، وترقى على درج الجد والاجتهاد إلى أن بلغ رتبة الكمال، وهو من رجال الجبرتي القائل فيه: الصنو الفريد، والعقد النضيد، الذكي النبيه، من ليس له في الفضل شبيه، ولد في مصر ونشأ في حجر والده إلى أن توفي والده المرقوم سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف فعانى المترجم تحصيل الفضائل، وطلب العلم ولازم حضور الدروس في الأزهر في كل يوم، وتقيد بحضور الفقه على السيد أحمد الطحطاوي والشيخ أحمد الخانيونسي، وفي المعقول على الشيخ محمد الحفني والشيخ علي الطحان، حتى أدرك من ذلك الحظ الأوفر، وصار له ملكة يقتدر بها على استحضار ما يحتاج إليه من المسائل النقلية والعقلية، وترونق بالفضائل، وتحلى بالفواضل، إلى أن اقتنصه في ليل شبابه صياد المنيه، وضرب سورٌ بينه وبين الأمنية، وذلك سنة خمس ومائتين وألف.(1/38)
الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمود الحريري الحنفي الأزهري مفتي السادات الحنفية بمصر
الماجد الذي ابتهجت به وجوه المعالي، وتبسمت له ثغور المكارم الباسمة باللآلىء، وقد ساعده وقته بالإقبال، وصدره في مصادر الرفعة والإجلال، فأبدى من خزانة فكره عقود الفضائل، وأنشأ من معدن قريحته فرائد الفواضل، واستوى على عرش الرفعة والكمال، واحتوى على ما يثبت له كل فضيلة وإجلال، كيف لا وهو مفتي الأنام، ومرجع الخاص والعام، وقد أحسن الجبرتي الهمام، قائلاً في ترجمة هذا الإمام: العلامة المفيد، والنحرير الفريد، والإمام الفقيه، والهمام النبيه، تفقه على والده الرفيع الشأن، وحضر في المعقولات على أشياخ الوقت كالبيلي والدردير والصبان، وأنجب وتمهر في العلوم العقلية والنقلية، وصارت فيه ملكة جيدة واستحضار للأصول والفروع الفقهية، ولما مات والده في رجب سنة ألف ومائتين وعشرين، تولى منصب والده في الإفتاء وإفادة المسلمين، وكان لها أهلاً مع التحري والمراجعة في المسائل، والعفة والصيانة والديانة والتباعد عن الرذائل، مواظباً على وظائفه ودروسه وما يثبت جميل المآثر، ملازماً لداره إلا عما دعته الضرورة إليه من المواساة وحضور المجالس مع الأكابر، وكان مبتلى بآخرته بضعف البصر، واعتراه داء الباسور فقاسى منه غاية الضرر، وانقطع بسببه عن الخروج من داره، ولم يزل ملازماً له حتى نزل بدار قراره، توفي رحمه الله يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف وصلي عليه في الأزهر، ودفن بمدرسة الشعبانية بحارة الدويداري ظاهر حارة كتامه المعروفة الآن بالعينية بالقرب من الجامع الأزهر رحمه الله تعالى.(1/39)
الشيخ إبراهيم البيسوني البجيرمي الشافعي الأزهري رحمه الله تعالى
الأوحد الذي علمه الله تأويل العلوم، والأمجد الذي ملكه من مختومه خزائن الفهوم، فأضحى في مصر المعارف، قائلاً في ظل وارف، مواظباً على الاعتكاف في محراب الإفادة، والطالبون قد لازموا حرم كعبته للاستفادة، كيف لا وهو العالم الذي يشار إليه بالبنان، والعامل الذي أذعنت لكماله الأفاضل والأعيان، والبحر العذب الطامي، والغيث الهاطل الهامي، ذو التآليف العديدة، والتصانيف المفيدة، ولد سنة ست وخمسين ومائة وألف تقريباً، ونشأ من أول عمره منشأ غريباً، فكان كل من رآه يعلم بالفراسة أنه سيكون له عز وجاه، وقد ترجمه الجبرتي المفضال رحمه الله فقال: علامة زمانه، وفهامة عصره وأوانه، الفاضل الفقيه، والكامل النبيه، هو ابن أخت الشيخ موسى البجيرمي الشيخ الصالح، والورع الزاهد الفالح حضر على الأشياخ المتقدمين، وهو في عداد الطبقة الأولى من المدرسين وكان متواضعاً لين الجانب ذا أنس وإيناس، وأفاد وانتفع به الطلبة بل غالب الناس، كان ملازماً للتقوى والعبادة، ومحالفاً للقناعة والزهادة، مستحضراً للفروع الفقهية، والمناسبات المعقولة والشواهد النحوية والشعرية، والمحاضرات الأدبية، والمفاكهات العذبة الندية، جيد الحافظة لا تمل مجالسته ولا تعل موانسته، ولم يزل على حالته وإفادته، وزهده وعفته وعبادته، حتى خطبته المنية، ودعته إلى منازلها العلية، توفي يوم السبت نصف المحرم الحرام سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف عن نحو خمس وسبعين سنة.
السيد الشيخ إبراهيم بن الشيخ صالح بن الشيخ عبد الرحمن ابن محمد بن عبد الرحمن الرشيد
الأستاذ المحقق الرباني، والملاذ المدقق الصمداني، المرشد الكامل المقصود(1/40)
والمستمد من معارفه ذوو الكشف والشهود، كاشف أستار الحقائق، وراشف كؤوس العرفان من بحر الدقائق، شيخ الطريقة الإدريسية، المستمدة من فيوضات الحقيقة الشاذلية. أصل آبائه وأجداده من البلاد السودانية، ولهم بها قدر ورفعة سنية، ولهم نسبة نبوية، وسلسلة علية، ولد المترجم في نصف شهر المحرم الحرام سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف، ومن صغره اشتغل بحفظ القرآن وتعلم الضروريات من العلم وما لا بد منه للإنسان، ومن بداءة أمره لوائح السعادة عليه لائحة، وروائح الطاعة منه نافحة فاتحة. تفقه على حضرة والده، في إقليمه وبلده، ثم أخذ الطريق من سيدي أحمد بن إدريس، واشتغل به متجنباً كل أمر خسيس، لاتباعه للطريق الذي هو أنفس نفيس، ثم بعد وفاة شيخه اتفق الجميع، بأنه لا يليق لغيره أن يجلس في مكان شيخه ذي المقام الرفيع، فرحل بعد ذلك إلى صعيد مصر سنة ثلاث وستين ومائتين وألف، فنشر بها الطريقة الأحمدية وأقبل عليه الناس من كل فج عميق، وحصل له كرامات ظاهرة، وخوارق باهرة، ثم سافر إلى السودان، ومعه جملة كبرى من المريدين والإخوان، ثم عاد إلى الصعيد ثانياً وأقام بها مدة، ثم سافر إلى الحرمين الشريفين، فاشتد الإنكار عليه، وتوجهت جيوش الملام إليه، ودام أمره على ذلك مدة من الزمان، وتجلد على تحمل الشدائد وصبر على الهوان، إلى أن لاحظته عين العناية؛ فعامله الجميع بالتعظيم والرعاية واشتهر اشتهار الشمس في رائعة النهار، وأقبل عليه الكبار والصغار، ثم لازم الرحاب المكية، والبلدة المشتملة على المسجد الحرام والشعائر الدينية، فما زال بها يقيم الأذكار، في الليل والنهار، ويرشد السالكين؛ للوصول إلى مقام التمكين، إلى أن تمكن منه المرض الداعي للرحيل،(1/41)
إلى جوار الملك الجليل؛ فأجاب طلبه من غير إمهال، وذلك في يوم الأحد بعد العصر تاسع شعبان سنة إحدى وتسعين ومائتين والف من هجرة سيد ذوي الكمال، وصلي عليه في المسجد الحرام، ودفن في تربة المعلا عليه رحمة الملك السلام، وبنى بعض المحبين مزاراً واسعاً عليه، وهو في أول المعلا على يمين الذاهب إليه.
وقد رثاه بعض مريديه بقصيدة أولها:
ذروني أبكي بعد شيخي ومرشدي ... لأحدث عهداً في بقية معهدي
وما شاقني برق بأبرق رامة ... ولا نغمات من حمام مغرد
بلى شاقني وجه الرشيد الذي به ... تشعشع نور الحق في كل مشهد
إذا ما رأت عيناك بهجة نوره ... رأت بدر تم في منازل أسعد
وإن لثمت يمناك يمناه فالتزم ... بركن سوى ركن من البيت أسود
سما بشعار الصالحين وهديهم ... وأعلى منار الدين بعد محمد
أمد علينا الله من بركاته ... وأوردنا من بره خير مورد
إذا ما ذكرت الأكرمين فإنه ... هو الكوثر الفياض والعارض الندي
ومهما مدحنا الصالحين فمدحه ... به نختم الذكر الجميل ونبتدي
الشيخ إبراهيم بن الشيخ السيد محمد الميدري البغدادي الشافعي
العالم الذي رقى معراج الفضائل، واستقى من بحر معارفه السادة الأفاضل، وجمع من الفنون ما تفرق عند غيره، وسار بسيرة ذوي السر المصون فلم يلحقه أحد من معاصريه في سيره، له اليد الطولى في المعقول والمنقول، والفكرة القادحة في معرفة الفروع والأصول، وليس من يجاريه في ميدان العلوم الرياضية، ولا من يباريه في الأبحاث الجدلية والعقلية، وله كتاب في المناظرة، قد فاق مزاولة أهل المحاضرة، شرح فيه نظم(1/42)
رسالة الولدية، وعند تمامه قد قرض له حضرة الجهبذ الذي هو بكل كمال حري، عبد الباقي أفندي العمري، فكتب عليه ما يشهد بفضل مؤلفه، وعلو فهم مصنفه، وقد أحببت أن أذكره بتمامه، وفاء بحق مقامه، وها هو ذا: لا نسلم لمن علمته نفسه غاية الكر ونهاية الإقدام، من أهل الخلاف بدار الخلافة مدينة السلام، ولو كان وهيهات أن يكون نفس عصام، معارضة ما برهن عليه هذا الغلام، الشارح لهذا النظم البديع الانتظام بالبرهان القاطع بالمدية الإسماعيلية، وشفرة الدلائل القطعية الخليلية، جادة الجدال ومادة الخصام، ومناقضة ما دون وبين فيه من آداب البحث في مناظرة أرباب النظراء الأعلام، بالتبيان الساطع بصحة نقله الاستقرائي المؤدي بعد الإلزام، للتضمن والالتزام، فيا له من شب شب من توقد نار قريحته الضرام، فأجج في كانون أفئدة ذوي المعارضة بالقلب فحمة الإفحام، وقدح زند فكرته بمرخ المشاخرة وعقار المكابرة، فأبرزت ناره ترمي بشرر كالقصر فقلنا يا نار كوني برداً وسلام، هذا وقد أوتي الرسالة الولدية قبل أن يدرك الحلم، بل قبل أن يبلغ الفطام، فيا لله دره لقد كاد أن يكيد أساطين الحكماء، والفلاسفة القدماء، بقوة احتجاجه ومنعة سلوك منهاجه، وشدة إحكامه لهذه الأحكام، كما كاد حضرة سميه إبراهيم، عليه الصلاة والتسليم، وفاء بالإقسام؛ أولئك الأصنام؛ وقد غادرهم ابن الأصفياء أفلاذاً، كما جعلهم أبو الأنبياء جذاذاً، وقال " بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون " بكلام، فأبوا الفتح لأبواب آداب البحث لذوي الملكة من الطلاب، طاب ثراه لقد ملأ الوطاب، واستوفى المرام، وإبراهيم الذي وفى بل زاد وأحسن في الإتمام، حيث تمطى للمناضلة، وامتطى غارب المجادلة؛ واقتحم هذا الاقتحام؛ كيف لا(1/43)
وقد صح له وثبت لسلفه العظام؛ القبول التام، لدى الخاص والعام، واقتسام الأموال من وقت سام؛ واقتحام الأهوال من وقت حام، على أنه الشبل الذي قد ترعرع في بحبوحة الغابة الحيدرية، ونشأ في أحضان البرأة الصفوية، فربض ربضة الضرغام، وتشعشع كالبدر التمام، وكبت الخصم الألد؛ بما منع وردع ودفع ورد؛ ونقض وأبرم، وقوض وهد؛ وفتق ورتق وحل وشد؛ أحزم حزام، وكتب ما أثبت به حقية مدعاه ببطلان دليل الغاصب، من مخلفات آبائه ذوي الأبوة، وأولي الفتوة، أشرف المناصب، كأنه اتخذ من أظفاره التي لم تقلم لمحابره الأقلام، فملأ الأقاليم السبع بزئيره؛ والجهات الست بهمهمته في الآجام، وأملى فأبلى سرائر سر تثبت الأقانيم الثلاث، من غير لثاث، ذلك اليراع بصريفه وصريره فأسمعت كلمات باريه الصم الدعاء للاستسلام، وغسلت ذئاب المعارضين عن الإقعاء بفناء أجمة هذا الباسل المقدام، وراغت ثعالب المناقضين عن جلسة القرفصاء بباب غاب هذا الغشمشم القمقام، فمتى شاء قال للسعد أو أشار للفخر على ساق العبودية، وقدم الرقية، بساحة أعتابنا الصفوية، الفسيحة المساحة، وباحة أبوابنا الحيدرية الغير مباحة، قم قام، وقانا الله تعالى وإياه هول المطلع ورزقنا وإياه حسن الختام، وكان المترجم على حالة صالحة، وسيلة راجحة، إلى أن خطبته المنية لدار السلام، سنة ألف ومائتين و ...
السيد إبراهيم فصيح بن السيد صبغة الله المشهور بحيدري زاده البغدادي
عالم عصره، وفريد مصره، ونخبة زمانه، وعمدة أهل وقته وأوانه، الحسيب العلوي، والنسيب النبوي، ذو المقام الفاخر، والاحترام الباهر، والصفات الحميدة، والشمائل المجيدة، والسيرة الحسنة، والسريرة المستحسنة،(1/44)
ولد سنة ... ونشأ في العلم والعبادة، والطاعة والزهادة إلى أن بلغ مبلغ الكمال، ونبغ في العلم وجال فيه كل مجال، وترقى وساد، واستفاد وأفاد، واشتهر بين الخاص والعام، واعتمد عليه العلماء الأعلام، وقد ألف كتاباً سماه المجد التالد في مناقب الشيخ خالد، فأجاد في تأليفه، وأفاد في ترصيفه، وأخذ الطريقة العلية، عن قادة النقشبندية، ذي القدر الباهي الباهر، والصدر الزاهي الزاهر، مولانا الشيخ خالد صاحب المقام التالد، والمجد الموروث عن جد ووالد، فلازم الذكر والتقوى، في السر والنجوى، وكان صاحب مجاهدة كلية ومشاهدة قلبية، وأحوال عجيبة، وأطوار غريبة، وأخلاق حسنة، وصفات مستحسنة، ومذاكرات أنيقة فيما يتعلق بالشريعة والحقيقة ولم يزل إلى أن آن ارتحاله، وحان انتقاله، سنة ألف وثلاثماية ونيف.
الشيخ إبراهيم العراقي البياري الشافعي الأشعري
كنز الفضائل وتحفة الأفاضل، من اشتهر علمه وفاق، وسما قدره في الآفاق، كيف لا وهو حلال المشكلات بفكره، ومعطر الدروس بنفثات صدره، ناشر برود التحرير، ومظهر شموس التحبير في التقرير،(1/45)
ومنهاج الإمداد، وإرشاد الإسعاد، تحفة المحتاج، وكعبة المنهاج، فهو الهمام الذي يشم أرج التدقيق من أنفاسه، والإمام الذي يشام برق التحقيق من أدلته وقياسه، وقد أفاد من الفوائد، ما هو على رسوخ قدمه في المعارف شاهد، ونظمه عثمان بن سند في كتابه أصفى الموارد فقال:
علم سما للعلم أعلى ذروة ... شمخت على الأعلام والأطواد
مغني اللبيب يفيد كل مطول ... تلخيصه في مجمع الإيراد
مفتاح إيضاح لمعنى مرتج ... مصباح مفتقر إلى الإمداد
من عابه في الدرس قال مقرراً ... يحيي الدروس بذهنه الوقاد
هو روضة لكن كمائم روضه ... لم يخلها يوماً من الأوراد
ذكر الربيع فقال يا أم اشكري ... مني ربيعاً للبويطي الهادي
فأنا الذي أحييت من يحيى الذي ... أبقى من الآثار بالأسناد
وجعلت للأحياء تدريسي شذى ... يسري إلى الأرواح والأكباد
كابدت أبحاثاً إذا أنصفتني ... أيقنت أني مسك هذا النادي
ولقد سلكت من البحوث سباسباً ... وملاجئاً أعيت على الرواد
ولم يزل المترجم ينتشر كماله، ويشتهر بين الأنام حاله، إلى أن خطبته المنية، ودعته إلى المقامات السنية، فرحل من هذه الدار إلى دار القرار وذلك في سنة ألف ومائتين ونيف وعشرين، عليه رحمة رب العالمين.
الشيخ إبراهيم بن المرحوم الحاج علي الأحدب الطرابلسي ثم البيروتي
العالم الذي طاول الثريا علمه، والناظم الذي سحر الألباب نثره ونظمه، والإمام الذي شاد ربوع الشعر والخطابة، والهمام الذي لزم الأدب جنابه ولثم أعتابه، والفصيح الذي بسقت في ناديه أدواح الفصاحة، والمليح الذي ما زل قدمه يوماً عن مناهج الفلاحة، تقدم في(1/46)
بيروت حتى صار إمام محرابها، وخطيب منبر معارفها وآدابها، ومنحة خزانة نبهائها، ونفحة ريحانة ألبائها، فلا ريب أنه مرجع السادة الأفاضل، ومجمع القادة ذوي المكارم والفضائل، ولد أعلى الله مقامه، وجعل الفردوس مسكنه ومقامه، في طرابلس الشام، ذات اللطف الباهر والثغر البسام، سنة ألف ومائتين وأربعين، من هجرة السيد الأمين، وإنه لعمري من عائلة عرفت بالتقى والصلاح، والعبادة والصيانة والنجاح، وبعد أن قرأ القرآن، وأتقن تجويده أي اتقان، سلك منهج العلم بهمة لا تعرف الملل، واجتهاد دل على أن فضله لابد وأن يستوي على عرش الأمل، فقرأ على جملة من الأفراد، والسادة القادة الأمجاد، منهم الشيخ عرابي أفندي الذي هو بكل كمال حري، والشيخ عبد الغني أفندي الرافعي العمري، ونال من الفضائل والعرفان، ما قدمه على الأمثال والأقران، ثم أخذ بالتدريس ونفع البرية، وبث ما فتح عليه به من المواهب اللدنية، ولقد زار دار السعادة العثمانية، ومقر الخلافة الإسلامية، أيام سلطنة ساكن فراديس الجنان، الإمام الأعظم والخليفة الأفخم السلطان عبد المجيد خان؛ فاجتمع بعظمائها، وانتفع بأكابر علمائها، وبعد عوده من دار السعادة، ورجوعه إلى ما كان عليه من الإفادة والاستفادة، استدعاه سعيد بك جنبلاط حاكم مقاطعة الشوفين وقتئذ إلى المختارة من جبل لبنان، واتخذه مستشاراً في الأمور الشرعية المستنبطة من السنة والقرآن، وذلك سنة ألف ومائتين وسبع وستين، ولم يزل بإعزاز وإكرام ومقام مكين، إلى أن بدأ الخلاف بين الدروز والنصارى في جبل لبنان، سنة ست وسبعين، فرحل إلى وطنه طرابلس في الوقت والأوان، وفي سنة سبع وسبعين طلب إلى بيروت وعين نائباً في المحكمة(1/47)
الشرعية، وحينما حضر النائب الموظف من الدار العلية، جعله باش كاتب في المحكمة المرقومة واستمر بهذه المأمورية، وكان مع ذلك مشتغلاً بنشر العلوم ونثر لآلىء الآداب، متمسكاً للقيام بواجبها بأعظم الأسباب، وفي سنة ألف ومائتين وتسع وثمانين زار القطر المصري واجتمع بعلمائه الأعلام وأمرائه وأعيانه الفخام، وكان رحمه الله إماماً في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، رفع الله مقامه وأسكنه أعلى فراديس الجنان، وكانت محاكم جبل لبنان تعتمد على فتاويه وقوله، لما عرفته من تدقيقه وصحة نقله، فكان لدى عروض المشكلات مرجعاً، وكل عويصات المسائل مقصداً ومطمعاً، وكان قليل الكلام بما لا يفيد، وبحراً زاخراً لكل مستميح مستزيد، مع طبع هني وأخلاق مرضية، وفكر صائب وأوصاف علية، وذهن متوقد وحاضرة جيدة، فكان ينظم ما ينوف عن سبعين بيتاً بجلسة واحدة بدون تكلف ولا طول مدة، وكثيراً ما تكون المبيضة عين المسودة، وبالإجمال إنه كان رحمه الله فرداً فريداً، وكاتباً بليغاً وشاعراً مجيداً، وقد تولى رياسة جريدة ثمرات الفنون، ثم أقام على تصحيحها المصون، وله فيها المقالات الأدبية، والفصول الحكمية والطرائف العربية، والنصائح العالية، والمواعظ السامية التي لو جمعت لبلغت عدة أسفار، واشتهر قدرها وطار، وعند تشكيل ولاية بيروت انتخب عضواً في مجلس معارفها، فزاد قدرها به لدى ناعتها وواصفها، وقد نسخ بخطه كتباً كثيرة، وألف مؤلفات عديدة شهيرة، ونال من الرتب العلمية، من ابتداء خارج يحسب الطريق إلى رتبة مدرس السليمانية، وهي من رتب كبار المدرسين، وفي سنة ألف ومائتين وثمان وثمانين، نال النيشان المجيدي من الرتبة الرابعة، وتفرس الناس فيه الأهلية للمراتب الجامعة، وفي سنة تسع وثمانين(1/48)
وجهت عليه بموجب براءة سلطانية خدمة الفراشة الشريفة في الحرم الحرام على ساكنه أفضل الصلاة وأتم السلام، ومن مؤلفاته رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه، فرائد اللآل في مجمع الأمثال وهو عبارة عن الأمثال التي جمعها الميداني وغيره نظمها بنحو ستة آلاف بيت وكتاب مهذب التهذيب في علم المنطق نظماً وعلق عليه شرحاًن ونظم مولدين شريفين مطولاً ومختصراً، وكتاب نفحة الأرواح على مراح الأرواح، في علم التصريف وكتاب كشف الأرب عن سر الأدب وديوان النفح
المسكي في الشعر البيروتي. وله ديوان آخر جمعه في بلده طرابلس الشام، وديوان آخر تضمن من القصائد والمقاطيع والرسائل البليغة ما ينوف عن خمسين كراسة وذلك لسنة ألف ومائتين وخمس وتسعين، وما نظمه بعد ذلك محفوظ في مسوداته. وله شرح فرائد اللآل في مجمع الأمثال، شرحه بمجلدين وكتاب إبداع الإبداء، لفتح أبواب البناء، في علم التصريف وكتاب نشوة الصهباء، في صناعة الإنشاء، وكتاب تفضيل اللؤلؤ والمرجان في فصول الحكم والبيان وكتاب فرائد الأطواق، في أجياد محاسن الأخلاق وهو مائة مقالة نثراً ونظماً جاري بها مقالات العلامة جار الله الزمخشري، وكتاب عقود المناظرة في بدائع المغايرة، وهو جزآن يحتويان على خمس وعشرين مغايرة أدبية في المناظرة بين السيف والقلم وما شاكل ذلك، وكتاب ذيل ثمرات الأوراق وكتاب الوسائل الأدبية في الرسائل الأحدبية وهي الرسائل التي كانت بين المترجم وبين عبد الهادي أفندي نجا الأبياري في مصر إلا أن جمعها كان للأبياري لا للمترجم، وله مقامات جعلها على لسان أبي عمر الدمشقي وأسند روايتها إلى أبي المحاسن حسان الطرابلسي وهي عبارة عن تسعين مقامة جاري في إبداعها العلامة الحريري وله كتاب كشف المعاني والبيان عن رسائل بديع الزمان وهو آخر مؤلفاته، وله رحمه الله من الروايات عشرون رواية وكانت وفاته رحمه الله في شعبان سنة ألف وثلاثماية وثمان. لمسكي في الشعر البيروتي. وله ديوان آخر جمعه في بلده طرابلس الشام، وديوان آخر تضمن من القصائد والمقاطيع والرسائل البليغة ما ينوف عن خمسين كراسة وذلك لسنة ألف ومائتين وخمس وتسعين، وما نظمه بعد ذلك محفوظ في مسوداته. وله شرح فرائد اللآل في مجمع الأمثال، شرحه بمجلدين وكتاب إبداع الإبداء، لفتح أبواب البناء، في علم التصريف وكتاب نشوة الصهباء، في صناعة الإنشاء، وكتاب تفضيل اللؤلؤ والمرجان في فصول الحكم والبيان وكتاب فرائد الأطواق، في أجياد محاسن الأخلاق وهو مائة مقالة نثراً ونظماً جاري بها مقالات العلامة جار الله الزمخشري، وكتاب عقود المناظرة في بدائع المغايرة، وهو جزآن يحتويان على خمس وعشرين مغايرة أدبية في المناظرة بين السيف والقلم وما شاكل ذلك، وكتاب ذيل ثمرات الأوراق وكتاب الوسائل الأدبية في الرسائل الأحدبية وهي الرسائل التي كانت بين المترجم وبين عبد الهادي أفندي نجا الأبياري في مصر إلا أن جمعها كان للأبياري لا للمترجم، وله مقامات جعلها على لسان أبي عمر الدمشقي وأسند روايتها إلى أبي المحاسن حسان الطرابلسي وهي عبارة عن تسعين مقامة جاري في إبداعها العلامة الحريري وله كتاب كشف المعاني والبيان عن رسائل بديع الزمان(1/49)
وهو آخر مؤلفاته، وله رحمه الله من الروايات عشرون رواية وكانت وفاته رحمه الله في شعبان سنة ألف وثلاثماية وثمان.
ومن قصائده الأنيقة، وأشعاره الرقيقة، قوله مادحاً حضرة السيد الأمير عبد القادر الجزائري الحسني قدس الله روحه، ونور مرقده وضريحه.
عقود ودادي نظمها ليس يفسخ ... وشرح غرامي محكم ليس ينسخ
نشأت بخمر الحب نشوان فهو لي ... إذا شئت ترب يا أبا الفضل أو أخ
أذل لمن أهوى وكم ذل عاشق ... أشم له أنف إلى المجد أشمخ
تمد خدود الغيد قلبي بنارها ... فمهما جرى دمعي فلا يتبوخ
ولم تكتحل عيني بميل من الكرى ... وكم بين من أهوى وبيني فرسخ
أروح قلبي بالمنى وهي قد قضت ... فهل بوفا بدري بها الروح تنفخ
يجر فؤادي للعنا هدب شادن ... ترض به الأحشاء منا وترضخ
وأبدى محياه لعيني نسخة ... بها راح ينسى كل حسن وينسخ
وأطلع حول الورد ريحان عارض ... به دون وردي جنة الخد برزخ
ويسكر دون الرشف خمر رضابه ... لما أنها بالنار للخد تطبخ
وبي زائر بالزور قد زار مضجعي ... سرى وجناح الليل أقتم افتخ
أطار الكرى من وكر جفني طيفه ... فأمسى به طير السهاد يفرخ
فرحت به أنشي المعاني وأنتشي ... بذكراه والأجفان بالدم تنضخ
رسخت بأوصاف الجميل وإنني ... بمدح ابن محي الدين ذي المجد أرسخ
فتى الفضل عبد القادر السيد الذي ... يجيب ندى من أمه وهو يصرخ
وذو النسب السامي الذي نشر طيبه ... هو المسك مع طول المدى ليس ينسخ
محط رحال المعدمين وقصدهم ... فنجب الرجا في باب علياه نوخ
تضم به العلياء طود مهابة ... بطلعته الغراء تسمو وتشمخ
إمام بأفق الشام للحق منشىء ... تلاشى به من كان في البطل يملخ(1/50)
من الغرب وافى الشرق فازدان بهجة ... وأمست به عين المنى تتنضخ
وحل به العز الذي ليس ينقضي ... فكان به مبدا المعالي يؤرخ
رسا فوق هام النجم سامي مقامه ... فأضحى له بالفضل مرسى ومرسخ
من القوم كل المجد يعزى لعزهم ... كرام لمن قد ضل بالسيف دوخوا
مناقبه تتلى بها سور الثنا ... وليس لها في محكم المجد منسخ
حمى الدين والدنيا بعز شهامة ... تضيق بها الأرض الفضا وهي سربخ
شمائل ما للمسك في الشم طيبها ... بأنفاسها برد الشمال مضمخ
له الكلم اللاتي بها السمع يزدهي ... وتعنو لها شم العلى وهي شمخ
لقد أنطقت بالحق من كان أخرسا ... وأسمع من سمع بها عاد أصلخ
أقل نداه دونه كل وابل ... فيرضى المرجى بالغنى حين يرضخ
عوادي الحيا تهمي حياء لطله ... وقد أغرقها أعين منه نضخ
فطوبى لأرض الشام إذ حل شامة ... بها فهي فوق النجم بالتيه تزمخ
درى بعض ما فيه من العلم والتقى ... وحسن الحجا من كان في العلم يرسخ
لقد سار مثل البدر في فلك العلا ... بطول دراري الأفق عزاً ويبذخ
وأرج أرجاء الممالك بالثنا ... فكل بطيب الفضل منه يضمخ
فلا ملك إلا وأصفاه وده ... وإن تجر ذكراه لديهم يبخبخوا
صفا باطناً لله مع حسن ظاهر ... به تمدح العلياء والمجد يمدخ
فما شأنه وهو النقي من الخنا ... مقالة ذي عرض به يتطلخ
فيا من به الدين ارتدى برد عزه ... فعاد بسامي فضله وهو أبلخ
تنبه شعري في معاليك للعلا ... وأمسى به صعب المعاني يدوخ
فأنشأت أبكاراً تجلت شموسها ... إذا كان يمسي الغير للشعر يسلخ
وأبدعت بالأفكار إنشاء صورة ... يشوه بها وجه المعادي ويمسخ
وأرسلتها مع رقة اللفظ صخرة ... بها هام من يشنا معاليك يشدخ(1/51)
يهون ابن هاني حين يتلى نظامها ... ويغدو على ما كان منه يوبخ
أتت وهي تشدو في معانيك بالوفا ... عقود ودادي نظمها ليس يفسخ
وقال رحمه الله
بحبة الخال قلبي صاده رشأ ... إذ ضمخت خده بالمسك تضميخا
أبان لي غرة من تحت طرته ... كانت لبدء غرامي فيه تاريخا
وقال رحمه الله
أسر القلب غزال فاتن ... سلب العشاق طيب الوسن
وجهه والطبع منه واسمه ... حسن في حسن في حسن
وقال رحمه الله وأحسن مقره ومثواه
ومهفهف دبت عقارب صدغه ... تحمي رياض شقائق النعمان
وعلى كثيب الردف يسعى أرقم ... من شعره قد حار فيه جناني
حاولت قربي من حماه فصدني ... وأباحني الخد الشهي القاني
فأجبته ما بي مخالفة لما ... قالوه في الأمثال منذ زمان
لا تقربن أبداً مواطن عقرب ... وافرش ونم بمواطن الثعبان
وقال طيب الله ثراه
أبصرت مروحة بكف مهفهف ... تطفي ببرد هوائها نار الجوى
قد كنت خلواً قبل ترويح بها ... نحوي فجاءتني بأسباب الهوى
وقال
بليت بقاسي القلب ما رق للذي ... يؤمل بعد البعد منه وصالا
ألان به دمعي الصفا سائلاً له ... وقد ماس عجباً بالدلال ومالان
وقال متغزلاً
يا غزالاً قد نسجت الغزلا ... بحلى جفن له قد عزلا
من منحت القرب حولاً كاملاً ... لست تبغي عن لقاه حولا(1/52)
عدم القوة من بعد النوى ... والجفا منك فلا حول ولا
ويح من يصبو لأحداق الظبا ... ويرى دوماً بها مشتغلا
أفتدي ألعس لا يمنحني ... من مجاني الثغر منه العسلا
قد شوى قلبي على نار الغضا ... إذ قلاه بالتجافي وسلا
جفنه والعطف في حرب الهوى ... قد نضا السيف وهز الأسلا
خاله المسكي حبات الحشا ... قد غدت للحسن منه خولا
مل من قربي إذ أترع لي ... في الهوى كأس صدود وملا
لا يرى التسهيل في وصل إذا ... جئت أبدي شرح حالي جملا
فصل المشتاق عنه حينما ... أحرق القلب بهجر وصلا
خبري بالخد والردف له ... ملأ السهل به والجبلا
عامل اللحظ بقلبي فاعل ... فهو مكسور بما قد فعلا
من ضمير الصبر قد فرغه ... حينما أظهر فيه عملا
إن أتاه الدمع يوماً سائلاً ... رده نهراً بما قد سألا
أفلا يسعدني بدري الذي ... نجم سعدي في هواه أفلا
وبواو العطف من صدغ له ... يجعل الوصل لهجر بدلا
يا خليلاً فاتحاً عذلي به ... إن تجد عيباً فسد الخللا
واطرح عذلي فمن أجفانه ... سبق السيف بعشقي العذلا
واعذر الصب الذي تيمه ... بعذار فاتن من عذلا
لام تعليل بدت في خده ... أثبتت للوجد فيه عللا
حجة العشق به واضحة ... للذي في الشعر يبدي جدلا
أيها الحاكم فيها حسنه ... جائراً وهو به قد عدلا
جانس الحسن بإحسان فما ... كان ملك الحسن إلا دولا
وأرى الدنيا كظل زائل ... لا يطيل المرء فيه أملا(1/53)
من أتى ينقل أخباراً بها ... للذي يأتي كما قد نقلا
والبقا الكامل وصف ثابت ... لإله ملكه قد كملا
وقال عفي عنه
من لي بعطار أراني شامة ... سوداء فوق الوجنة الحمراء
أمسى يبيع ويشتري أهل الهوى ... في سوقه بالحبة السوداء
وقال رحمه الله
يا ظبية في جفنها سحر به ... جنت دموع العين وهي دماء
الشمس أنت فليس من عجب إذا ... أمن ازديارك في الدجى الرقباء
وقال رحمه الله
إني أحمل أنفاس النسيم إلى ... حماكم نفحات نشرها عطر
ولا أحملها شوقي لعلمي ما ... فيها من الضعف إن وافى بها السحر
لكن بها من ثنائي روضة أنف ... بها تفتح من ذكراكم زهر
فإن سرت وعرفتم طيب نفحتها ... فثم نشر الثنا منكم له خبر
وذكركم من حديث النفس منية من ... ثناؤكم في لياليه له سمر
وقال عفي عنه
كلفت بفاتن عذب الثنايا ... فؤادي في محبته تعذب
جميع جوارحي تصبو إليه ... لذلك مدمعي فيه تصبب
وقال
نشرت برقعاً على ورد خد ... منع الصب في الهوى نيل مأرب
وهولي مبغض إذا رمت لثما ... إذ غدا قلبه لقلبي عقرب
وقال
هيفاء قد حجبت بشد عصابة ... عني الجبين وما رثت لنحيبي
فاعجب لمحجوب لها في حكمها ... قد ورثوه الحسن بالتعصيب(1/54)
وقال
ومهاة في جيدها شهب عقدٍ ... رمت أني من خدها أتقرب
فأجابت: لنيلك الشهب لمساً ... هو من لثم بدر خدي أقرب
وقال
عليك للنفس حق أن تطيب بها ... إذا سئمت لطول الجد باللعب
وأن تسرح طرفاً في الرياض لدى ... خل براحته ترتاح من تعب
وقال
زرد العذار حمى الورود فلم يكن ... للطرف أن يدنو من الوجنات
وإذا محب مد عيناً نحوها ... يبغي جناها كف باللامات
وقال
بعيني غزال البان هاروت ماكث ... فلا تعجبوا والجفن بالسحر نافث
عجول بقتل العاشقين إذا رنا ... وهيهات لحظ ينفث السحر رائث
لأسد الشرى غاب بأهداب جفنه ... لذاك لها في القلب أمسى مضابث
من الترك سام قد حمى برد ثغره ... فيا حسن حام قد سما فيه يافث
هلال جمال بالمثاني معوذ ... ودون سماع اللفظ منه المثالث
رشا لا يرى ثان لمفرد قده ... كما وجهه للبدر والشمس ثالث
به في الهوى قلبي الشقي جد جده ... على أنه بالهائم الصب عابث
يشق على العاني شقيق نجده ... لحبة قلبي خاله المسك وارث
رعيت قديم الورد غضا جناؤه ... ولا عارض فيه يعارض حادث
حريري جسم في المقامات قد حكى ... محاسن عنه تسلب اللب حارث
لعهدي أمسى ناكثاً بدلاله ... وأي مليحٍ لا يرى وهو ناكث
له قد صفا ودي ولا كان عاشق ... بماذق من يهوى وفي الحب غالث(1/55)
تنزهت عما ليس يرضي أخا العلا ... وما عاشق طابت سجاياه رافث
حليف صبابات اغوت في الهوى ... وليس سوى غيث من الدمع غائث
لقد حاول السلوان عنه مفندي ... وما ذو صبابات عن الحتف باحث
تحمل عبءً بالذي في الهوى نوى ... فأصبح ينوي وهو عاو ولاهث
دعوا من وشى عني يحدث بالذي ... يشاء فدمعي للصبابة نابث
ومن لي بأن استكتم الدمع صبوتي ... وعنها بتلوين المدامع بائث
زناد الأسى وارٍ لبعد معذبي ... كما زند أفراخي بلقياه غالث
عقدت يمين العهد يوم مددتها ... لتوديعه لا كان في الحب حانث
نهار أراني هوله يوم موقفي ... وجفني بقاني الدمع للخد مائث
دعينا لتوديع فلما تجمعت ... قلوب بها ناب النوائب ضابث
لبثنا بوادي الجزع في موقف النوى ... يبدد منا لؤلؤ الدمع لابث
وما فضل جمع جره لوعة الأسى ... وللشهد مر وهو للحتف باعث
لئن حل عهداً قد عقدناه ذو هوى ... فإني على عهد الأحبة ماكث
وقال موشحاً
في سما الأفراح بدر السعد لاح ... فاجل شمس الراح واترك قول لاح
قد وفى وصل الصفا فصل الربيع
شاكراً فضل الأيادي للربيع
وغدا يبدي مقامات البديع
عندليب في فروع الدمع صاح ... داعياً سكران حب غير صاح
وزهت بالحسن للورد خدود
قد حلا فيها لعشاق ورود
والحيا قد حاك للروض برود(1/56)
نسجها قد كان من غزل الرياح ... فلذا تكسو الفتى ثوب ارتياح
وبدا غصن عيون النرجس
بقدود في رياض السندس
كالعذارى برزت في الأطلس
وحلا مبتسماً ثغر الأقاح ... بثنايا الغادة الخود الرداح
وجلا الريحان آيات العذار
لرشا يحلو به خلع العذار
وانجلى عن جل ناري الجلنار
حين أبدى وجنة الغيد الصباح ... رمقتها أعين منا وقاح
حبذا العيش بأيام الصبا
وزمان فيه قلبي قد صبا
حيث تروي لي نسيمات الصبا
خبر الإسعاد عن ذات الوشاح ... من لها قلبي حماه مستباح
غادة تنشىء من غمز الجفون
كل عشق إن تقل كن فيكون
كم أفاضت من عيون بعيون
صافحت أهل التصابي بالصفاح ... وعليهم شرعت سمر الرماح
نشرت فرعاً غدا أصل الغرام
فوق جيد فكسا الصبح ظلام
وغدت ترسل للصب سهام
من جفون أثخنت قلبي جراح ... لا ترى في قتل مضناها جناح(1/57)
جعل الصب لعينيها النسيب
بمعادن دونها يعنو حبيب
وأتى يبدع أسلوباً عجيب
بلآل جوهريات صحاح ... لزفاف في سما الإقبال لاح
وهو طويل قد جعله تهنئة بزفاف لبعض أحبابه رحمه الله.
وقال أيضاً هذا الموشح الآتي داخلاً به على أعجاز نونية الوزير ابن زيدون التي كتب بها لولادة بنت المستكفي وقد كتب بها للقاضي الشريف
أجرى مآقينا بعد المحبينا ... وناب عن طيب لقيانا تجافينا
يا طيب أوقاتي ... بسفح نعمان
إذ نلت لذاتي ... بوصل نعمان
يدري كاساتي ... روحي وريحاني
فالآن لما بان يزرى غصون البان ... أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
يا جيرة البان ... جرتم ودمعي جار
هجرت أوطاني ... ولم أنل أوطار
والبعد أشجاني ... وطير أنسي طار
وما رقت أجفان، بعد الحمى والبان ... شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
أحبابنا عودوا ... لذلك الحب
كي يورق العود ... بالأنس والقرب
وباللقا عودوا ... مروع القلب
واسقوا غصون الود، بالعطف بعد الصد ... فنحن روض وأيديكم سواقينا
يا طالما أبدى ... لي المنى الخل
وأسعدت سعدي ... وأجملت جمل(1/58)
وراق لي وردي ... يوم اللقا الوصل
حيث الهنا واف، وظله ضاف ... ومورد اللهو صاف من تصافينا
أيام عيشي راق ... بقرب ذات الخال
وقرطها الخفاق ... يدنو من الخلخال
ولي بكشف الساق ... قد ساقت الآمال
فبعدها قد كاد، مما لنا قد كاد ... يقضي علينا الأسى لولا تآسينا
خود وفت وعدي ... باللطف والإيناس
وأسعدت جدي ... بعطفها المياس
وخدها الوردي ... ببوسه لاباس
أنعم به خداً، لصبه أهدى ... ورداً جناه الصبا غضا ونسرينا
قد زاد وسواسي ... بالحلي في الصدر
وهمت للكاس ... من ثغرها الدر
وليس لي آسي ... سواه من ضر
لذا رجا قلبي، من ورده العذب ... شرباً وإن كان يروينا فيظمينا
يا بانة الوادي ... هل عائد أنسي
وعهد إسعادي ... بالبدر والشمس
وأنجم النادي ... يسعون بالكاس
ومنية العشاق، أدار وهو الساق ... فينا الشمول وغنانا مغنينا
ذكرت أيامي ... بقرب ذي المجد
شريف السامي ... بدر العلا رشدي
مولى بإلهامي ... يعيد ما يبدي(1/59)
من أن وصفناه، بما مدحناه ... فحسبنا الوصف إيضاحاً وتبيينا
شهم لنا أولى ... عوائد البر
ولم يزل أولى ... بالحمد والشكر
وزادني طولى ... برفعة القدر
وأغصن المن، أدنى لمن يجني ... قطوفها فجنينا منه ماشينا
مع بعده وفى ... عهدي وأولاني
والود لي أصفى ... فضلاً ووالاني
وزادني عرفاً ... من بعد نكران
فإن يكن قد دان، قلبي لذا الإحسان ... فالحر من دان انصافاً كما دينا
مولى أياديه ... جيد العلى حلت
كما مساعيه ... عقد الأسى حلت
ومن يوافيه ... له المنى حلت
لقد خطرنا بما أسدى لنا كرماً ... في وشى نعمى سجناً ذيله حينا
حيث الصفا حيا ... بما نرجيه
وقد غدا حيا ... ميت الرجا فيه
وكم دعا هيا ... داعي أمانيه
لذاك قد نلنا منه بما منا ... منى ضروباً ولذات أفانينا
واشوقي البادي ... لطيب ناديه
إذ بالمنى نادي ... لمن يناديه
من بعد إبعادي ... عن ورد صافيه
بدلت بالبلوى عن جنة المأوى ... والكوثر العذب زقوماً وغسلينا
يا من على الشعرى ... به علا شعري
وبالوفا أجرى ... لطفاً بلا أجر
وللعلى أسرى ... بي مطلقاً أسري(1/60)
هيهات أن ننسى من بعدكم درساً ... بيض الأيادي التي ما زلت تولينا
أوقات شربي صاف ... من وردك الحالي
وبدر أنس طاف ... بكأس آمالي
وغاظ بالأتحاف ... مرآك عذالي
لذا دعوا جهراً بمهجة حرا ... بأن نغص وقال الدهر آمينا
فحالت الأحوال ... عن ذلك العهد
وقطعت آمال ... معذب الصد
وعز لمع الآل ... ظمآن للورد
وأوجه القصد عادت من البعد ... سودا وكانت بكم بيضا ليالينا
وقال من قصيدة
خطرت لأعطاف المحاسن ثانيه ... هيفاء للشمس المنيرة ثانيه
ورمت سهاماً عن قسي حواجب ... منعت مراميها بلوغ مراميه
وهوت معاطفها تميل مع الهوى ... واحر أحشائي بنار الهاويه
السيد الشيخ إبراهيم البرزنجي الكردي
بقية أبناء البتول، ونهاية القصد والسول، المحرر لمعاني المعقول، والمحبر لمباني المنقول، من صرف همته فيما تحمد عقباه، وعرف الحق فاتبعه واجتباه، وإن هذا المترجم يكفيه شرفاً أنه على نسق أبيه، وأن أباه معلوم بأنه سيد شريف عالم عامل فاضل نبيه، وأنهما من بيت العز والشرف، الذي ينحط لعلوه البدر وهو في الشرف، فلا ريب أنه توطد في وهاد الفخار، وغرد صادح فضله مهيمناً بما تحلى به من الفضل والمقدار، فحسبه أظهر من عمود الصبح نوراً، ونسبه أشهر من الشمس ظهوراً، وأهله أهل جود وكرم، وأصله ممن نسب إليهم سموا الهمم، كلهم ذوو فصاحة وبراعة وبلاغة وبداعة.(1/61)
من أناس سموا على ذروة النجم ... فخاراً بأحمد وعلي
ورثوا المصطفى فخاراً فهل من ... شرف مثل ما سموه علي
روى عنه من أبناء العصر الجم وكمل به فن المعقول والمنقول وتم، وما زال مهاباً معظماً موقراً مكرماً، مقصوداً لكل إشكال معدوداً من أعيان ذوي الكمال، في كل يوم يسمو مقامه، وينمو احترامه، إلى أن دعاه داعي السعود، إلى الإجابة لدار الخلود، وذلك سنة ألف ومائتين ونيف وثلاثين من هجرة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.
السيد إبراهيم مفتي البصرة بن السيد بدر الدين بن السيد مبارك ابن السيد صالح بن السيد رجب بن السيد شعبان بن السيد محمد درويش ابن السيد صالح بن السيد عبد الله بن السيد عبد الرحمن بن السيد حسن ابن السيد حسين بن السيد يوسف بن السيد رجب بن السيد القطب الجليل شمس الدين محمد سبط الحضرة الرفاعية رضي الله عنهم.
إن هذا المترجم من رجال تنوير الأبصار، في طبقات السادة الرفاعية الأخيار.
فقال في ترجمته، وإظهار منقبته: ولد بالبصرة ونشأ ببيت أبيه وسيده ومربيه، ورضع ثدي الكمال، وتلقى العلم عن فحول الرجال، وأتقن علوم الشريعة وعده أرباب العرفان من حسنان الزمان، لبس الخرقة الرفاعية من أبيه، السيد بدر الدين الرفاعي وانتشرت على يديه، أخذ عنه الأفاضل، وولي نقابة الأشراف بالبصرة برهة يسيرة ثم وجهت عليه خدمة الإفتاء بها وبقي مفتياً حتى مات بها. وقد كان معتقداً مبجلاً محترماً ذا شأن كبير، وقدر خطير، وله تصانيف وتآليف جليلة أشار إليها المرحوم شاعر العراق السيد عبد الغفار الأخرس في بعض قصائده التي امتدحه بها وقد أكثر من مدائحه، وأشار إلى ما أحسن الله(1/62)
إليه به من منائحه، منه ما قاله من قصيدة فيه لا زالت سحب الرحمة توافيه:
قريب من رسول الله يدعى ... بأزكى العالمين أباً وأما
نماه الأنجبون وكل قرم ... إلى خير الورى يعزى وينمى
تخلق من سنا نور مبين ... فكان الجوهر النبوي جسما
ومنها
تأمل في عظيم من قريش ... تجد أسد الشرى والبدر ثما
عليه من رسول الله نور ... به يمحو الظلام المدلهما
إذا الأمر المهم دها كفانا ... بدعوته لنا ما قد أهما
وله فيه من قصيدة أخرى
ولي في البصرة الفيحاء قوم ... أصول بهم على الخطب الجسيم
جرى من صدر إبراهيم فيها ... على الدنيا ينابيع العلوم
ومنها
إذا عدت قروم بني معد ... فأول من يعد من القروم
عماد الدين قام اليوم فينا ... بأمر الله والدين القويم
وفرع من رسول الله دلت ... أطايبه على طيب الأروم
ومنها
لقد كرمت له خيم وجلت ... وخيم الأكرمين أجل خيم
وهل في السادة الأنجاب إلا ... كريم قد تفرع من كريم
ومدايحه كثيرة ومناقبه شهيرة، وقد كان من أكابر القوم أهل الباطن والظاهر، ومن أشراف السادة الأحمدية الذين توارثوا مكارم أبي العلمين كابراً عن كابر، توفي المترجم المرقوم بعد الخمسين والمائتين والألف بالبصرة ودفن بها وقبره معروف. انتهى ولعمري إن فقده مصيبة عظيمة وداهية جسيمة فهو كما قيل:(1/63)
من بعده تلك الدروس تعطلت ... يبكي لها قلبي ويبكي المنبر
قد كان فخراً للأنام ومفتياً ... يفتي بحق الله هذا الأنور
فالصبر منا قد تمزق ثوبه ... من أين للصب المعنى يصبر
غدر الزمان بنا بإبراهيمنا ... هذي على كل المصائب تكبر
إبراهيم الداغستاني
كان من مشاهير العلماء، وأفاضل السادة الفضلاء، نشأ على العلم والتقوى، والإخلاص في السر وفي النجوى، والعبادة والصلاح، والسير على نهج الاستقامة والنجاح، ولم تزل الأيام تمنحه مطلوبه، وتحبوه مراده ومرغوبه، إلى أن أجلسته يد العناية، واقعدته سواعد الرعاية، على مرتبة التدريس في جامع السلطان محمد الفاتح ذي المقام النفيس، فكان يبذل مجهوده في إبداء اللطائف. ونشر العلوم والمعارف، ثم تولى القضاء في حلب والشام، ثم بعد ذلك تولى قضاء البيت الحرام، ولما طعن في السن وضعف بصره لزم داره، وجعل العبادة مراده ومداره، وفي شهر محرم سنة ألف ومائتين وتسع هجرية، وجهت إليه رتبة صدارة روم ايلي التي هي أعلى رتبة علمية، وفي ثمانية عشر جمادى الآخرة سنة ألف ومائتين وعشر توفي إلى رحمة الله، أعلى الله مقامه وأولاه مناه آمين.
السيد إبراهيم بن قاسم بن محمد بن محمد بن علي الحسني الرويدي المكنى بأبي الفتح
أديب كامل، قد اشتهر بين الأفاضل بالفضائل، وحسن بين الناس ذكره، وعلا مقامه وقدره، قال الإمام الجبرتي: ولد بمصر كما أخبر هو عن نفسه سنة سبع وعشرين ومائة وألف، وكان فريداً بالأدب والجمال والكمال والظرف واللطف، حفظ القرآن المجيد، وأتقنه على أتم تجويد، ومهر بحسن الكتابة والخط، حتى كاد أن يقال لا يوجد من يساويه في مصره قط، وكتب بخطه الفائق الحسن الخالي عن المماثل، كثيراً من المصاحف(1/64)
والأحزاب والأدعية والقطع والدلائل، وكان إنساناً حسناً يحفظ كثيراً من نوادر الأشعار، وغرائب الحكايات والأخبار، وعجائب المناسبات على أتم مطلوب، وروايتها على أحسن أسلوب مرغوب، والحاصل أنه كان فريداً، وفي كماله وحيداً، توفي سنة إحدى عشرة ومائتين وألف.
الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمود بن الشهاب أحمد العطار الدمشقي الشافعي
عالم جليل، وفاضل نبيل، شهير الذكر، كبير القدر، من بقية المشايخ الأقدمين، الناهجين على طراز كمل الصالحين، له محاضرة لطيفة، ومذاكرة ظريفة، وتواضع بين، وجانب لين، ولد بدمشق عام اثنين وثلاثين ومائتين وألف تقريباً ونشأ بها، وقرأ على مشاهير مشايخها، منهم عمه الشيخ حامد العطار والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ سعيد الحلبي والشيخ عبد الرحمن الطيبي والعلامة عمر أفندي الآمدي وملا بكر الكردي وغيرهم، وأخبرني رحمه الله أنه قرأ على والدي المرحوم الأربعين حديثاً النواوية دراية في مجالس متعددة واستجازه بما تجوز له روايته عن مشايخه فأجازه وكتب له بخطه، وكان ناسوته يشهد بكماله، ولا التفات لما نسبه غليه بعض حساده، وأعدائه وأضداده، وقد تصدر للإقراء والإفادة في جامع بني أمية، وعكف عليه من الطلبة كثيرون، وكان ينظم الشعر أحياناً، ويؤثر الإنزواء عن غير محافل الفضلاء، ولم يزل على حالة حسنة وصفة مستحسنة، إلى أن توفي سلخ شعبان سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف ودفن في مقبرة الدحداح رحمه الله تعالى.
السيد إبراهيم بن السيد محمد بن السيد عبد الله ابن الولي الكبير السيد أحمد الراوي الرفاعي
قد ترجمه أحمد عزت باشا بن محمود أفندي بن سليمان أفندي الفاروقي رحمه الله فقال: هو الشاب التقي النقي اللوذعي، ولد براوه بعد السبعين ومائتين(1/65)
وألف، ونشأ في حجر أبيه وتلقى عنه العلوم وتفقه في مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه ورحل لطلب العلم إلى الموصل وإلى بغداد، وأحرز سهماً من الكمال. إلى آخر ما ترجمه به وقد ذكر له قصيدة مدح بها الشهم الأوحد والقطب الغوث المفرد السيد أحمد الرفاعي قدس الله سره وأعلى قدره وجعل في الجنان مقره فقال:
يا أخا السير إن أردت وصالا ... ووصولاً إلى العلا واتصالا
بفسيح الوادي المقدس فاترك ... زمرة الحائرين واخلع نعالا
وتذلل واسلك طريق الرفاعي ... من كساه الرسول قالاً وحالا
ولديه الوفود كم قد أقالت ... عثرات وخففت أثقالا
وهو مأوى القفول في كل عصر ... كم جلا عن قلوبها أقفالا
وهو ليث الوغى وغيث البرايا ... منه تسقي قلوبها الآمالا
وهو السيل إن أردت علوماً ... وهو السيف إن أردت قتالا
وهو باب النبي لاثم يمنا ... هـ جهاراً وقد تجلى تعالى
حين أبدى محمد معجزات ... معجزات لأحمد إجلالا
كيف لا وهو شبله وكذا الآ ... باء تعلو إن أنجبت أشبالا
وكذا الآل بالفضائل تسمو ... هكذا هكذا وإلا فلا لا
يا ابن بنت الرسول يا ابن علي ... من بعزم صم القلوب أسالا
يوم بدر وخيبر وحنين ... وتبوك كم للضلال أزالا
يا رفيع المقام يابن الرفاعي ... طبت نهجاً وبهجة وجمالا
رضي الله عنك يا سيد القو ... م الذي جل هيبة وجلالا
يا حمى الأولياء يا مقتداهم ... يا مجير الجاني إذا الذنب صالا
جد لعان بنظرة وتلطف ... لعبيد ما عنكمو قط مالا
بحماكم قد لاذ راوي أحادي ... ث علاكم مفصلات طوالا
كم لكم من مآثر وصفات ... قد تجلت للناس سحراً حلالا(1/66)
لو أردنا إيرادها بمقال ... لرأينا تفصيلها إجمالا
آل طه لا زال في الكون منكم ... كل آن يرى الزمان رجالا
علماء أئمة أمراء ... أولياء وسادة أبطالا
شكر الله سيركم والمساعي ... ومقالاً وسيرة وفعالا
الشيخ إبراهيم أبو إسحاق بن عبد القادر الرياحي المغربي التونسي شيخ الإسلام وعمدة العلماء الأعلام بمدينة تونس
عالم الغرب ومفتيه، وشاعره المتقدم على المتنبي وابن النبيه، فهو علامة الدهر وفاضله، وفهامته الذي تعالت شمائله، قد شهد بفضله عدول السند وروى عن علمه كل عالم معتقد، ونشرت صحف نداه فطويت صحف حاتم طي، ورفعت رايات علاه فأذكرتنا بمعالي أبي، فلله ما أبدع بيانه، وأرفع قدره في الأنام وشأنه، وأعذب نظامه ونثره وأطرب سجعه وشعره، ومن جملة شعره قصيدته التي قدمها تهنئة لحضرة السلطان عبد الرحمن بن هشام حينما جلس على تخت السلطنة في فاس بوصية من عمه السلطان سليمان فقال:
نصر من الرحمن جل لعبده ... أيروم خلق نقض مبرم وعده
وعدت به الأقدار وهي نوافذ ... في الشاكرين له سوابغ رفده
فليبتسم ثغر الهنا مستبشراً ... فالوقت ينطق عن سعادة جده
إن يمض مولانا سليمان الرضي ... وعليه تبكي الباكيات لفقده
العلم والتقوى وكل فضيلة ... منشورة طويت به في لحده
فلقد أقام لنا أبا زيد هدى ... نوراً مبيناً يستضاء برشده
لو لم يكن كفؤاً لما أوصى به ... وبنوه ترفل في ملابس مجده
سعدت به الأيام ثم أراد أن ... تبقى السعادة للورى من بعده
أعظم به نصراً يدوم سروره ... للخافقين سرى تضوع زنده
أهدى إلى الأعداء أقتل غصة ... والأوليا متنعمون بشهده
فاستبشروا باليمن من مرضاته ... واستمطروا نيل المنى من وده(1/67)
ما هو إلا ابن الرسول وهل فتى ... في الناس يعدل عن مكارم جده
وتناسقت أسلافه كرماً كما ... راق النواظر لؤلؤ في عقده
لا غرو أن جمع المحاسن كلها ... منهم بإرث الجمع حق لفرده
لا يأفك الخراص حيث يقول قد ... ذهب الزمان بعمره وبزيده
فبسيف ما ننسخ يقد أديمه ... حتى ولو وفى العيان برده
فلكم وكم من آخر زمناً له ... فضل عظيم لا يحاط بسرده
يا أهل فاس والمغارب كلها ... والشرق من مصر لغاية حده
يهنيكم هذا الزمان فإن في ... أيامه للدين مطلع سعده
والعلم والتقوى وكل معظم ... عند الشريعة فهو بالغ قصده
النور أوقد منهم أتراهم ... يرضون إلا باستدامة وقده
الله يبقي نوره متوقداً ... يفنى الزمان ولا فناء لخلده
ويخص مولانا الأمير بنعمة ... لا تنقضي وعناية من عنده
ويديمه ظلاً ظليلاً كلما ... حمي الورى هرعوا لجنة برده
وحسام فتح كلما نهضت به ... عزماته فالنصر شاهد حده
وتمام بدر كلما اقتعد السرى ... لم يسر إلا في منازل سعده
وعليه تسليم تأرج نده ... لكنه في الفضل عادم نده
ثم الصلاة على النبي وآله ... والحمد في بدء الكلام وعوده
وللمترجم أشعار كثيرة وآثار غزيرة وتحقيقات شريفة وتدقيقات منيفة، ولم يزل يصعد على سلم السمو ويترقى على معراج العلو إلى أن دعاه داعي المنية إلى الآخرة العلية وذلك سنة ألف ومائتين وثلاث وستين.(1/68)
أبو المواهب بن حسين بن سليم بن سلامة الدجاني مفتي يافا
عالم قد زان علمه العمل، وناظم قرت بحسن نظمه المقل، حديثه أعذب من الماء الزلال، ونثره ألذ من الوصال بعد الدلال، قد قرأ في الجامع الأزهر إلى أن حصل له الحظ الأوفر، وأجازه شيوخه بما تجوز لهم روايته، وتنسب إليهم درايته، من حديث وتفسير وفقه وتوحيد وأصول، وغير ذلك من نحو وصرف ومعقول ومنقول، ثم بعد حصوله على غاية سؤله، رجع إلى بلده وأهله، ونزل في دار العالم الفاضل والمرشد الكامل بغية الأماني الشيخ أبي رباح الدجاني، ولما قصدت زيارة بيت المقدس سنة ألف ومائتين وتسعين نزلنا في دار الشيخ أبي رباح، واجتمعنا بالمترجم المذكور فأدخل علينا غاية البشر والانشراح، وكان يقرط آذاننا بلآلىء كلامه ودرر نثره ونظامه، وأسمعنا قصيدته التي مدح بها حضرة أبي رباح المومى إليه وهي هذه:
إلام بربة الخلخال صاح ... فؤادك في المحبة غير صاح
وتنثر عقد دمعك ذا انتظام ... أكان الطل أم زهر الأقاح
وتخلع في العذارى ثوب نسك ... أليس عليك في ذا من جناح
بروحي غادة رشفات فيها ... ودر حديثها نقلي وراحي
تميل بعادل الأعطاف تيهاً ... فتهزأ بالغصون وبالرماح
كست جسمي السقام وما كفاها ... إلى أن أوسعته من الجراح
بطيف خيالها ضنت فجادت ... كرائم أدمعي بعد الشحاح
رأت حل الوصال بها حراماً ... وسفك دم المحب من المباح
لأسمر قدها هزت وصالت ... ببيض لحاظها المرضي الصحاح
فدعني عاذلي واعذر محباً ... وحق الحب لا يصغي للاح
يخوض معارك الظلماء فرداً ... يسامر ساهر النجم اللياح
ومن عشق الصباح عليه هانت ... مراقبة النجوم إلى الصباح(1/69)
يميناً بالهوى العذري لعذري ... بها بين البرية ذو اتضاح
فقد كملت صفات الحسن فيها ... كما كملت صفات أبي رباح
إمام قد سما هام الثريا ... ونال من العلا أعلى القداح
إلى قصب المكارم حاز سبقاً ... وجارى الغيث في بذل السماح
وبحر نهل مورده فرات ... جرت بعبابه سفن النجاح
بروض المجد قد غرست يداه ... غصون الفضل بادية الصلاح
يراع يمينه في الخطب أمضى ... إذا ما خط من بيض الصفاح
وركن الملة البيضاء أعلى ... بنور هداه في كل النواحي
حمى بسنان همته حماها ... فليس حريمها بالمستباح
وليس لحاسد يبغي مداه ... بمعراج المكارم من طماح
لحي حله يمم لتحظى ... بما أملته حسب اقتراح
فيا لله من حي تسامى ... ينادي الوفد حي على الفلاح
فيا مولى المعارف كل مولى ... تراه لديك مخفوض الجناح
إليك الفكر قد أهدى عروساً ... سمت بنطاقها ذات الوشاح
لها المهر القبول وليت شعري ... أهل يرجى لذلك من نجاح
فمعذرة لمن أمسى غريباً ... يكاد يغص بالماء القراح
إذا ابتسمت بروق الشام يوماً ... فيملأ أرض مصر بالنواح
مقيم جسمه فيها ولكن ... له قلب بهاتيك البطاح
بقيت بأوج مجدك ما تغنت ... بروض الشكر أطيار امتداح
وله نظم كثير رقيق ونثر بكل مدح حقيق، وتأليفات لطيفة وتحقيقات شريفة، ومفاكهات حسنة وإدراكات مستحسنة، وبعد موت أخيه الكبير آل الإفتاء منه إليه وإنه لا يليق أن يكون مستنداً في استحقاقه إلا عليه، ولم يزل ذا سيرة حميدة وشهرة بديعة فريدة.(1/70)
الشيخ أبو رباح السيد عبد القادر الدجاني اليافي الدردير
عالم في علمه لا يجارى، وعامل في عمله لا يبارى، معروف بالفضل والكرم وموصوف بين الأكارم بالوصف الأتم، بيته لكل قاصد معروض وإطعام الوافدين وإكرامهم كأنه عليه مفروض، لا يرد وارداً ولا يمنع من الزائرين قاصداً، كأن أبا تمام قال بحقه هذه الأبيات العظام:
هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله
جواد إذا ما جئت للجود طالباً ... حباك بما تحوي عليه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله
مع عفة وديانة وعبادة وصيانة وصيام وقيام وطاعة على كمال الانتظام؛ وإذا رأيته رأيت شهماً ذا هيبة ووقار وهيئة حسنة قد جللتها الأنوار، تهابه النفوس قبل أن تعرفه وتصفه بالكمال قبل أن تستوصفه، فلا ريب أنه في زمنه فريد مصره بل فريد أوانه وعصره، وكل من عرفه أقر له بذلك واعترف، وعلمه أنه من خلاصة ذوي المجد والنسب والشرف، وقد جاور في أول أمره في الجامع الأزهر والمحل الأعلى الأنور، وأخذ عن السادة الأفاضل ذوي الشمائل والفضائل كالشيخ الباجوري والشيخ السقا والشيخ الأشموني والشيخ الخضري والشيخ عليش وغيرهم، وقد أخذ عن الشيخ حسين الدجاني مفتي يافا وعن الجسر شيخ سجادة الطريقة الصاوية. وله كرامات عجيبة وخوارق غريبة. وكنت زرته ونزلت في داره حينما توجهت لزيارة بيت المقدس، فرأيت رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا، ذا أوصاف علية وأخلاق نبوية، وكأن لسان حاله يخاطب من حل لديه: ليس للشيخ منة عليك بل منتك عليه، وفي يوم من الأيام بعد صلاة الفجر رأيته يريد الذهاب على خلاف عادته، فسألته عن ذلك فقال إني في(1/71)
هذه الليلة رأيت القطب عبد القادر الجيلاني فسلم علي ورحب بي، ثم قال استقبل ضيوفي فإنهم في الصباح يردون عليك من صبحه، فأنا خارج لاستقبالهم وانصرف ثم عند الزوال جاء الوابور ومعه جماعة من الهنديين القادرين فجاء بهم جميعاً إلى داره، وقال لي قد وصل بحمد الله ضيوف الأستاذ وكان يقوم بخدمتهم بنفسه ما وكلهم إلى أحد من خدمه، وكان يقدم لكل واحد منهم ما يشتهيه من طعام وشراب ودواء على حسب حاجتهم، وهذا أمر نادر لا يقدر عليه في الناس إلا السادة الأكابر، ومع ذلك هو مقصود للسؤال والجواب، وإقراء الطلاب، ولم يزل مقامه يعلو واحترامه يسمو، إلى أن دعاه داعي المنية، وذلك سنة ألف ومائتين ونيف وتسعين.
الشريف السيد الأستاذ أبو الهدى بن السيد حسن وادي بن السيد خزام ابن السيد علي الخزام بن السيد حسين برهان الدين الرفاعي الخالدي الصيادي
قطب مدار الفضائل، ومجمع أسنى الشمائل، مصباح ذوي العرفان، ومفتاح غيب كعبة الوجدان، الحسيب الذي علا حسبه ذروة العلا، والنسيب الذي اشتهر نسبه بين الملا، من سراة لهم السر الأعلى، وحماة لهم القدر الأجلى، وأفاضل استوى فضلهم على عرش الكمال، وأماثل قد طار ذكرهم في الآفاق وجال كل مجال، وطاول شرفهم الحمل والميزان، وحاول الترقي إلى ذروة اليمن والإيمان، وهو ممن تأثل مجده في بحبوحة ذلك الشرف، وتبوأ من السيادة أسنى الغرف، مرتوية أفياؤه بماء النبوة، متأرجة أرجاؤه بعبير الفتوة، مع مهارة في العلوم، ومحاضرة فاض فيضها من فضل سيبه الموسوم، وأخلاق تألق جمالها الوضاح، وأوصاف تأنق عبير روضها الفواح، وأدب تردى بالبراعة وتوشح، وشعر ترنح للقبول وترشح، وحسن تلاعب بأطراف الكلام، وتناسب فيما تنشره ألسنة الأقلام، وجمال ألبسه الكمال إهابه، وجلال لو رآه الغضنفر الكاسر في غابه هابه.(1/72)
فطن له علم يفيض ومنسب ... من ضرعه در النبوة يرشح
فرع زكا من دوحة الشرف التي ... من فوقها ورق السيادة تصدح
هذا ملخص نسخة السادات من ... يثني عليه كأنما هو يقدح
انظر جميع خصاله وفعاله ... فجميعها عبر لمن يتصفح
عجباً لقوم يكفرون بها ولو ... عقلوا وما عقلوا الصواب لسبحوا
يحق لعصره به الفخار، ولمصره أن يتيه به على سائر الأمصار، فهو إمام الكل في الكل، لو حاول اللسان حصر أوصافه لعجز وكل، كيف لا وهو إمام وابن إمام، وهمام وابن همام، وهلم جراً لا تقف عند حد، حتى تنتهي إلى أشرف جد، فليس في نسبه إلا ذ فضل وحلم، حتى تقف على باب مدينة العلم، وهذا فرع طابق أصله، ومتأخر ولكن فاق من قبله، طلع في جبهة الدهر غرة، فكان للعيون مسرة وقرة، وما قارن هلاله إبداره، حتى أحاطت به العلا داره، فلا غرو إن ألقت إليه الرياسة قيادها، وجعلت إليه السيادة استنادها، فأصبح ومرتبته العليا، وعبده الزمان وأمته الدنيا، ولله دره من عالم بهرت حجته، وبحر زخرت لجته، فقذف لؤلؤاً ودرا، وعم الأنام إحساناً وبرا، وناهيك به من ذي منطق فصل، وفضل قد تأثل في الزيادة والوصل، ولما ضاع أرج ذكره نشرا، وتهلل محيا الوجود بسناه بشرا، وانتشر صيته انتشار الصباح، وتعطرت بعبير ثناه الفيافي والبطاح، وعشقت أوصافه الأسماع، وأسرع إليه طلاب المعالي للأخذ والسماع، دعاه مولانا السلطان، الغازي عبد الحميد خان، إلى حضرته العالية الشريفة، واستبقاه في بحبوحة نعمته المنيفة، ونظر إليه بعين عنايته، وأسبل عليه ستر رعايته، فهناك امتد في الدنيا باعه، وعمرت بكمال الإقبال عليه رباعه، وقصده الغادي والرائح، وخدمته القرائح بالمدائح:
هذا الهمام ابن الهمام أبو الهدى ... كنز الندى نجل النبي المجتبى
هذا وحيد الدهر قطب أولي العلا ... شمس الملا شرقاً بدت أو مغربا(1/73)
ألف الندى ورأى السخاء فريضة ... فاعتاد بذل المال من زمن الصبا
إن تدن آمل بره ونواله ... لاقاك بالوجه البشوش ورحبا
ذا البحر إن يممته تظفر بما ... أملته جرب ترى صدق النبا
قد قر في عرش الكمال سموه ... فلذا تراه على البرية كوكبا
من آل بيت قد علت أركانه ... وله العلا قد قال أهلاً مرحبا
أبقاه ربي للأنام مدى المدى ... ما أشرقت شمس وما هبت صبا
هذا وإني بحمد الله قد اجتمعت بهذا المترجم الفريد، حينما تشرفت به دمشق الشام وكان قد قصدها على قدم السياحة والتجريد، مريداً بعد زيارة ساداتها زيارة أقربائه بني الصياد، فحصل لي بالاجتماع بحضرته غاية المنى والإسعاد، غير أن الحصة كانت قصيرة، وكانت المذاكرة بيننا يسيرة، فلم تحصل المعرفة المقتضية للتذكار، وعلى كل حال فإني أعدّها من النعم الكبار، وقد وعيت من بديع محاضرته ما أدهش، ورويت من أحاديث شعره ما أطرب وأنعش، وكان كثيراً ما ترد عليه أحوال، دالة على استشرافه على مقام الكمال، وإني لأرجو من واهب العطية، أن يمتع بصري برؤية حضرته على أحسن حال قبل حلول المنية، إنه كريم وهاب، إذا دعاه العبد أجاب، ثم إنني أيام رقمي لهذا التاريخ طلبت من حضرة المترجم ترجمته بالمراسلة، لتكون لكتابي حلية لطيفة ولذاتي من جملة المواصلة، فأرسل لي حفظه الله من تأليفاته الشريفة جملة ومنها كتابه المسمى بقلائد الزبرجد، على حكم مولانا الغوث(1/74)
الشريف الرفاعي أحمد، مذيلاً هذا الكتاب بترجمة هذا الأستاذ، والعمدة الشهم الملاذ، وهذه الترجمة من إنشاء العالم الفاضل، والجهبذ السميدع الكامل، السيد محمد بن السيد عمر الحريري الرفاعي شيخ السجادة الرفاعية، في مدينة حماة المحمية، فنقلتها بحروفها من غير تغيير ولا تبديل، كما هي مرقومة لتكون نسبتها إلى حضرة منشيها باقية ومعلومة، فقال بعد خطبة دخل بها على المرام، وقد حذفتها لاقتضاء المقام، هو العالم المحقق والفاضل المدقق، شيخ الطريقة، وكشاف كل حقيقة، فرع الزاوية الهاشمية، ويتيمة قلادة السادة الأحمدية، مجدد طريقة جده أبي العلمين، وناشر أعلام فضله في المغربين والمشرقين، المالك زمام الفضائل والمعالي في كل نادي، صاحب السماحة والسيادة السيد الشيخ محمد أبو الهدى أفندي ابن شيخ المقام العالي الصيادي، العارف الكبير، الهمام الشهير السيد الشيخ حسن وادي، بن السيد علي بن السيد خزام، بن السيد الشيخ علي الخزام، دفين حيش الولي المقدام، ابن الولي العارف العالم المرشد الكامل السيد الشيخ حسين برهان الدين، بن السيد عبد العلام، بن السيد عبد الله شهاب الدين المبارك الزبيدي البصري الرفاعي، بن السيد محمد الصوفي، ابن السيد محمد برهان، بن السيد حسن الغواص، بن السيد الحاج محمد شاه، بن السيد محمد خزام دفين الموصل، بن السيد نور الدين، بن السيد عبد الواحد، بن السيد محمود الأسمر، بن السيد حسين العراقي، ابن السيد إبراهيم العربي، بن السيد محمود، بن السيد عبد الرحمن شمس الدين ابن السيد عبد الله قاسم نجم الدين المبارك، بن السيد محمد خزام السليم، ابن السيد شمس الدين عبد الكريم، بن السيد صالح عبد الرزاق، بن السيد شمس الدين محمد، بن السيد صدر الدين علي، بن القطب الجواد السيد عز الدين أحمد الصياد، بن السيد ممهد الدولة والدين عبد الرحيم الرفاعي، بن الإمام ولي الرحمن السيد عثمان، بن السيد حسن، بن السيد(1/75)
عسله، بن السيد الحازم، بن السيد أحمد، بن السيد علي مكي، بن السيد رفاعه، ويقال له الحسن نزيل المغرب، بن السيد المهدي، بن السيد أبي القاسم محمد، بن السيد الحسن، بن السيد الحسين، بن السيد أحمد، بن السيد موسى الثاني، بن السيد إبراهيم المرتضى، بن الإمام موسى الكاظم، ابن الإمام جعفر الصادق، بن الإمام محمد الباقر، بن الإمام زين العابدين علي الأصغر السجاد، بن الإمام الهمام علم الإسلام عين أئمة الأعلام، سبط الرسول عليه الصلاة والسلام، الذي امتحن بأناع البلاء أمير المؤمنين مولانا أبي عبد الله الحسين الشهيد بكربلا، ابن إمام الأئمة وأمير نحل هذه الأمة سيد الأولياء، وقائد أزمة الأصفياء، أمير المؤمنين مولانا الإمام علي رزقه من زوجته فاطمة سيدة نساء العالمين بنت سيد المخلوقين عليه أفضل صلوات رب العالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ولد حفظه الله وحماه سنة ألف ومائتين وست وستين لثلاثة أيام خلت من شهر رمضان المبارك بشيخون من أعمال معرة النعمان، وقرأ القرآن وهو ابن سبع سنين، ثم شرع في الكتاب فمهر، وأخذ يتلقى العلوم العقلية والنقلية عن أفاضل الرجال الأعيان فأتقن وأحسن، ثم تشرف بلبس الخرقة والخلافة الرفاعية من يد والده المتقدم ذكره صاحب الأنفاس الزكية، وله إجازتان أيضاً بطريقتهم العلية الرفاعية الصيادية، الأولى من شيخه وابن عمه أحد مشاهير أولياء الله السيد الشيخ علي خير الله الرفاعي الصيادي شيخ المشايخ بحلب الشهباء، لبس منه الخرقة الرفاعية بإذن والده، وأقام عنده بحلب مدة ولا زال بعدها يتردد لزيارته في أغلب أوقاته، مستمداً فيوضات نفحاته، وصالح دعواته، حتى حاز بحمد الله منه على تمام رضاه، وآذنه بما لديه ففاز به محفوظاً بعناية الله، والثانية من حضرة شيخه الأجل الولي الأكمل، غوث زمانه وشيخ أهل عصره وأوانه، طاهر الأنفاس(1/76)
المستأنس بربه المستوحش من الناس، مولانا السيد الشيخ محمد بهاء الدين مهدي الشيوخي الصيادي الرواس، لبس منه الخرقة عام تشريفه بغداد دار السلام، وتمم السلوك على يديه، وأخذ عنه العلوم الشرعية والتصوفية، وحفظ جميع كلامه المنظوم بعد الوقوف على كنوز حقائقه الدرية، ورموز معاني دقائقه الخفية، ولما استوفى سلوكه في الطريقة، وملك زمام الكشف عن مضرات كل حقيقة، آذنه بالرجوع لوطنه ودياره لنشر الطريق المبارك وقال له يوم وداعه:
دخلت لحاننا فاشطح وغني ... فأنت وحقنا عنا تنوب
فعاد مصحوباً بالسلامة للديار الحلبية، وعمتها بسببه بركة الحضرة الرفاعية وبعد رجوعه ببرهة يسيرة، خطر دار السعادة مركز الخلافة الإسلامية، فنشر بها علم الطريقة العلية، وانتسب له أفاضل الناس، لعلمهم أن طريقه المبارك قام على أساس من العرفان والشرع وأي أساس، وعاد منها بنقابة أشراف جسر الشغور من أعمال حلب، فانعطفت له الأنظار والقلوب بحسن الطلب، ثم بعد برهة يسيرة ولي نقابة الأشراف بحلب الشهباء، وأقبل على تعظيمه واحترامه بها الفقهاء والفقراء، وفي هذه الأثناء لا زال يخطر اسلامبول المحروسة، ذات الأطلال المأنوسة، ويترقى في المراتب العلمية، ويعظم اشتهاره لدى رجال الدولة العلية، حتى بلغ أمره الخليفة المعظم ظل الله في العالم، وارث سرير خلافة سيد المخلوقين نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ناصر الشريعة الغراء، وناشر ألوية الطريقة السمحاء، خادم الحرمين الشريفين إمام المشرقين والمغربين، السلطان ابن السلطان السلطان الغازي عبد الحميد خان،(1/77)
ابن السلطان الغازي عبد المجيد خان، خلد الله خلافته بالتوفيق إلى آخر الدوران، آمين.
فأحضره لديه، وعطف بكليته عليه، وقلده مشيخة المشايخ في دار الخلافة العلية، وألحقه إلى رتبة قضاء العسكر التي هي منتهى المراتب العلمية، ومع كل هذا ما برح منعكفاً على خدمة الطريق الشريف، مشتغلاً بفضل الله بإعلاء منار الشرع العالي بالتصنيف والتأليف، حتى ألف الكتب الجليلة الكثيرة، والرسائل الظريفة الوفيرة، وقد حرر أكثرها الطبع، بأحسن شكل وأجمل وضع، وها هي بحمد الله بأيدي المسلمين ينتفع بها العوام والخواص من الموحدين، لأنها مشحونة بالأصل الديني المتين، محفوظة مصونة من شبه أرباب الغلو في الدين، مرفوعة القواعد على أساس الكتاب والسنة السنية، رافعة أعلام المجد والمفخرة لعامة الملة الإسلامية، ولخاصة الفرقة الزكية الرفاعية، منها كتاب ضوء الشمس في قوله صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس، وقلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر، وسلسلة الإسعاد في تاريخ بني الصياد، وداعي الرشاد إلى سبيل الاتحاد، وهداية الساعي في سلوك طريقة الغوث الرفاعي، ورسالة في التواتر والفجر المنير في ورد شيخ الأولياء السيد أحمد الرفاعي الكبير، وديوانه الفيض المحمدي والمدد الأحمدي، وكتاب الصراط المستقيم في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم، والحقيقة المحمدية في شأن سيد البرية، والمدد النبوي في بيان حكم العهد العلوي، وروح الحكمة فيما يجب من الأخلاق على هذه الأمة، والمدنية الإسلامية في الحكمة الشرعية، وتطبيق حكم الطريقة العلية على أحكام الشريعة النبوية، وسياحة القلم في الحكم، والواعظ المعرب عن حقيقة المسلم المتأدب، والسهم الصائب لكبد من آذى أبا طالب، وتاريخ الخلفا وراث النبي المصطفى، والكوكب الزاهر في مناقب الغوث عبد القادر، والعناية الربانية في ملخص الطريقة(1/78)
الرفاعية، وديوانه الثاني الجامع لأشتات درر غرر المعاني، وحضرة الإطلاق في مكارم الأخلاق، وقرة العين في مدح الإمام أبي العلمين، وطريق الصواب في الصلاة على النبي الأواب، وغير ذلك من المآثر التي سارت بها الركبان، وملأ شعاع فضلها النواحي والبلدان.
وقد امتدحه البلغاء وأثنى عليه فضلاء الشعراء لما من الله به عليه من الأخلاق، الشاهدة له بصحة النسب المحمدي وطهارة الأعراق، منها:
يا ساري البرق بل يا سائق السحب ... حي المنازل بين البان فالكثب
أنخ هناك مطايا الغيث مثقلة ... من كل منهمر بالقطر منسكب
وقف على الدار وسط الحي منتسباً ... لثغر ساكنها وافخر بذا النسب
قرب لها خبري يا برق محتسباً ... فذاك والله عندي أفضل القرب
واستعمل الرفق في التبليغ إن لها ... بقصتي طرباً ناهيك من طرب
ما الدار يا برق في المعنى سوى صدف ... ودرة الخدر فيها منتهى أربي
موهت بالدار والمعني ربتها ... كذكرنا الكأس والقصد ابنة العنب
فاذكر لها عجباً من أمر مدنفها ... دان على البعد لم يحضر ولم يغب
زفيره من أواز الوجد في صعد ... ودمعه من مجاري الخد في صبب
عدمت من عذلوني في الهوى سفهاً ... وحاربوني أو ناديت واحربي
ولو رأوا ما رأت عيني وكان لهم ... قلبي ولاموا لكان اللوم أجدر بي
لكن أخالهم خشباً مسندة ... وهل يؤثر داعي الحب بالخشب
عاشوا خليين من عشق يؤرقهم ... فطاب عيشهم وهماً ولم يطب
يا عاذلي خل عذلي مشفقاً فلقد ... أخطأت والله في عذلي ولم تصب
جسمي بدار اغترابي لا يفيق ولي ... قلب شجٍ عن دياري غير منقلب
يا لهف قلبي على تلك الديار ويا ... شوقي إليها ويا وجدي ويا وصبي
علمت أني إن لازمت تربتها ... لم أبرح الدهر في هم وفي ترب
فاخترت فرقتها لا عن كراهتها ... ولا غراماً بسير الأينق النجب(1/79)
لكنما الهمم العليا روت خبراً ... العز مرتبط بالوجد والخبب
فكان ذاك علينا موجباً سفراً ... لولا الأماني لم يندب ولم يجب
لم أنس ما وجدت بالبيد أينقنا ... من الوجى ونفاد الماء والعشب
والركب في سكرة هزته سورتها ... لا سكرة الراح لكن سكرة التعب
في مهمه طامس الأعلام مشتبه ... سهل خلي من الحصباء والحصب
يرى الدليل به حرباً لناظره ... لا يستغيث بغير الويل والحرب
والليل ملقٍ خياماً من غياهبه ... قامت بلا عمد فيها ولا طنب
حتى إذا احتبكت في الأرض ظلمته ... وأنجم الأفق في حجب من السحب
حرنا فلما هتفنا باسم سيدنا ... أبي الهدى ضاء نور السبعة الشهب
محمد خلف الصياد صفوته ... الهاشمي الرفاعي الفتى العربي
أبو السراج أخو النورين حيدرة ... أجل عصبة طه وابنه العصبي
الطاهر النسب ابن الطاهر النسب ... ابن الطاهر النسبين الطاهر النسب
هادي الخليقة مهدي الطريقة ... كشاف الحقيقة جالي ظلمة الريب
مجدد لربوع الفضل حين حكت ... نهى أعاديه من واه ومن خرب
أنى ومن كل علمٍ حزن ثاكلة ... فما استراح إلى أن قال واطربي
ذو فكرة فعلت بالمشكلات على ... جهابذ الدهر فعل النار بالحطب
آراؤه أنجم في الخطب مشرقة ... وعقله لرحى التدبير كالقطب
ترى بصيرته الأزمان حاضرة ... ما كان مقترباً أو غير مقترب
وتشهد الكرة الأرضية اجتمعت ... كأنها وضعت للهو واللعب
يا دولة اتخذت منه لها ولداً ... يهنيك خير أخ يهنيك خير أب
يهنيك ذو الحزم والتدبير والأدب ... المطبوع والنسب المرفوع والحسب
يهنيك مولى على الأعداء فكرته ... أشد من حملات الجحفل اللجب
عقل ينوب عن الكشف الجلي وندى ... لله ما فعلت جدواه بالنوب
أحرزت يا دولة الإسلام منه فتى ... ساد الورى وهو حاشاه الصغار صبي(1/80)
إن المقادير قد خطت يراعتها ... على محياه هذا سيد العرب
من معشر أرفع الأشياخ منزلة ... إمام طفلهم يجثو على الركب
صيد صناديد أشراف جهابذة ... نجب جحاجحة من سادة نجب
آل الرسول خيار الناس قاطبة ... خلاصة الخلق طراً نخبة النخب
لو نبأ الله بعد المصطفى أحداً ... لكان منهم لعمر الله ألف نبي
شرف وعظم ومجد ما استطعت ولا ... تطلب لبكر القوافي غير مطلبي
وإن حظيت بحبر من أئمتهم ... فامدحه محتسباً أو غير محتسب
وخص منهم فتى الفتيان سيدهم ... شيخ المشايخ كهل الفضل والأدب
أبا الهدى من إذا يممت ساحته ... أتاك معروفه عفواً بلا سبب
هذي الأقاليم فاطلب من يماثله ... فيها ندى واحتكم إن فزت بالطلب
شبه به البحر إن البحر يشبهه ... لكنه العذب مأمون من العطب
وانسب إليه جميع المكرمات ولا ... تنسب إليه ادخار المال والنشب
يرى رؤوس اليتامى إذ يقبلها ... أشهى له من خدود الخرد العرب
أما العفاة فلو شاهدت قربهم ... منه لحققتهم من أقرب النسب
أرضاه أن جيوش الحمد هاجمة ... عليه والمال من كفيه في هرب
للجمع بين الدجا والصبح في قرن ... أدنى من الجمع بين الحمد والذهب
شكراً لما نلته من صفو نعمته ... الحب والقرب والترتيب والرتب
كم كربة أثقلت ظهري ففرجها ... بهمة سميت فراجة الكرب
وكم أيادٍ له عندي مؤيدة ... لها دليلان من لحمي ومن عصبي
مدحته عاجزاً عن درك غايته ... مع انتخابي القوافي خير منتخب
وليس في العجز عن إدراكها عجب ... صفاته حصرتها من أعجب العجب
يجوز صدقي وكذبي في سواه وإن ... أمدحه يوماً فمعصوم من الكذب
أبا السراج وأنت المصقع اللسن ... الشهم البليغ إمام النظم والخطب
خذ مدحة من لباب الشعر لو تليت ... في منتهى الشرق كان الغرب في طرب(1/81)
أقسمت لهي على الأعداء لو فهموا ... أشد وقعاً من الهندية القضب
ودونك العيد فاستبشر بزورته ... أنالك الله فيه منتهى الأرب
ومنها:
إن شيخي أبا الهدى لحسام ... سله الله والرسول الإمام
فهو بالله واثق خصام ... رجل لا تريعه الأيام
وله عند كرها إقدام
طود حلم من الزلازل ما ارتج ... وصبور على البلا قط ما لج
ببيت عز كل الكمال له حج ... وإمام قامت به دولة المج
د بطور به تباهى الإمام
قرشي مهذب علوي ... هاشمي مقرب أريحي
علم مفرد تقي نقي ... ونسيب وسيد أحمدي
خالدي شهم كريم همام
مرشد العصر بالجلال توشح ... وعن الرشد والهداية أوضح
عارف عرب العلوم فأفصح ... كم له في الورى لعمرك من أح
وال فضل حارت بها الأفهام
ومعال فوق السهى ثابتات ... وجياد تحت النهى صافنات
كم أرتنا في السبق من آيات ... ولكم من مكارم بينات
شهدت في علوها الأيام
وأياد جزيلة وهبات ... تتوالى كأبحر زاخرات
وسمات عن أصله باسمات ... ولكم من عزائم صارمات
عقدها لا يحله الإبرام
ولكم من مآثر طيبات ... وصلات منه لنا واصلات
وفعال عن حكمة صادرات ... ولكم من مناقب باهرات
دون مرقى سنامها الأوهام(1/82)
ماجد حاز همة إن تزنها ... بعظيم الجبال ينحط عنها
كم فقير نال الغنى من لدنها ... ولكم من مواهب رد منها
عارض المزن وانقضى الانسجام
بهداه أحيا القلوب وأنعش ... وبساط المنى لراجيه يفرش
وهو في دولة إذا الخطب أدهش ... أسد من عصابة كللتها الش
هب في ضوئها وصح النظام
جل بين الأنام أمراً ونهياً ... وبفعل الخيرات أحسن سعيا
ألمعي به الفضائل تحيا ... وفتى من عشيرة عرش عليا
هم رفيع وعبدهم لا يضام
ضيفه يستقر في خير منزل ... وصروف الزمان عنه بمعزل
سيد ملجأ لكل مؤمل ... وكريم به تفاخر في سل
ك التدلي أهل كرام عظام
عارف قد أتى بأوثق حزم ... كان من بعضه علوم ابن حزم
ضيغم لم يزل بصحة جزم ... يقرع الحادث المبهم بعزم
حيدري في طيه إقدام
وهو ما زال للبرية غوثا ... من يديه يستمطر الجود غيثا
وذراع دعا الأعادي حوثا ... وتراه في حومة الحرب ليثا
بارزاً ما التوت له أقدام
لعروس الكمال أصبح بعلا ... ولها دون غيره كان أهلا
فيصل لا يزال قولاً وفعلا ... بالغاً من مراتب العز أعلى
رتبة في أساسها الأحكام(1/83)
ذكرها يطرب النفوس ويرقص ... فعليها يا دهر حافظ أو احرص
يا لها رتبة إلى خير مخلص ... نظمتها من الشريعة أيدي الص
دق واستحكمت بها الأحكام
صبح هدي عن الهداية أسفر ... وبه باطن المريد تنور
علم عيلم همام غضنفر ... كيف لا وهو صاحب القدم الفر
د الرفاعي أبو الهدى المقدام
كم بنشر العلوم أحسن صنعا ... وأفاد العموم خيراً ونفعا
هاشمي قد طاب أصلاً وفرعا ... من حسين بقية النسب العا
لي المباني وعضبه الصمصام
ذو يراع جواده ليس يسقط ... في مداه ولا بعشواء يخبط
وبما شاء لا يريد التوسط ... وارث المرتضى وقرة عين الط
هر والغوث إن عدا الأخصام
تاج هام العلا وجوهر نصل ... أحمدي نضته أشرف أهل
عين آل الصياد أطيب نسل ... شبل أهل العبا ذوآبة أصل
بعلاهم تشيد الإسلام
بحلى رفده العفاة تحلوا ... وبوجه السرور منه تملوا
حاتمي ما قال ليت ولا لو ... وابن آل فيهم أضاء سما الكو
ن بهدي وزاح عنه الظلام
كوكب في ذرى العلا يتوقد ... وعلى فضله الخناصر تعقد
وهو للسالكين أعظم فرقد ... وسليل الغوث الرفاعي من قد
رفعت عزة له الأعلام
لذ بأعتابه الشريفة وادخل ... لحماه وارو المحامد وانقل
وبأفعاله وأقواله قل ... أعظم الأولياء قدراً وشيخ ال
كل إن شد في الخطوب حزام(1/84)
من يساويه سؤدداً وفخاراً ... وعلواً ورفعة واقتدارا
أي غوث سواه كان نهاراً ... لائماً راحة الرسول جهارا
بعد عصر والأربعون قيام
فبروحي دون الورى أفديه ... من ولي بنى جدار بنيه
فهو في الأوليا وحق أبيه ... كنز سر تطلسم البأس فيه
وثوى في وحيده الضرغام
ما سواه يوم الشدائد يرجى ... بعد طه الرسول حصناً وملجا
كم وقعنا بالمهلكات فأنجى ... ولنا بابنه أبي الهدى للجا
هل ذاك الدليل والالزام
حجة القوم شيخهم في الأنام ... مرشد الوقت بهجة الأيام
قطبه الهاشمي شبل ضرام ... فرخه حافظ الوراثة حامي
ركنها أن تجز حماه اللئام
للمريدين في الحقيقة منجد ... ولهم في منازل القرب مسعد
ومن الكشف حين فاز بمقصد ... أخمرته من السراج سراج الد
ين كأس مدامه الإلهام
فتراءى في عالم النشر والطي ... فجر صدق يمحو الضلالة والغي
وتبدى في هيكل مفرد الزي ... وعليه من مجد سيدنا الصي
ياد درع طرازه الاحترام(1/85)
بشذا رشده الزمان تعطر ... فروى للأنام عنه وأخبر
وبدا ينجلي بأحسن مظهر ... وله نسبة حسينية الطر
ز جلاها شيخ العراق خزام
آل بيت مقدس قد كساهم ... خلع المجد ربهم واصطفاهم
وهداهم بفضله واجتباهم ... رضي الله عنهم وحباهم
صولة ينجلي عليها الدوام
ومقاماً من الكواكب أعلى ... واحتراماً بين الأنام وفضلا
وحماهم من كل ماساء فعلا ... وعليهم أزكى التحيات من الل
هـ تعالى مدى المدى والسلام
ومن نظم صاحب الترجمة الذي فاق نظم الدرر قصيدته التي تخلص بها لمدح جده النبي المفتخر وهي:
هل منقذ لأخي النوى مما به ... قطعته أيدي الحظ عن أحبابه
كالظل أضحى قائماً شبحاً بلا ... جرم يلجلج في رسيس ثيابه
ما فيه إلا الروح تخبر أنه ... حي ولا رسم بطي نقابه
كمد تلهب ناره ودموعه ... كالغيث لا ينفك وبل سحابه
فالوجد هد وجوده بزفيره ... والصد حارب قلبه بحرابه
يا للرجال لحائر أسبابه ... قطعت وأين الوصل من أسبابه
أوزاره قد أثقلته وعرقت ... أسفاره الآثام عن آرابه
وطغت عليه الحادثات وما له ... إلا الذي لاذ الورى بجنابه
محبوب رب العالمين نبيه ... ورسوله وأمين سر كتابه
سيف الرسالة صاحب الحكم الذي ... أحيا رسوم العدل فصل خطابه
مصباح فرقان المثاني من بدت ... حكم الكتاب تضيء في محرابه(1/86)
فلك المعاني الخافيات بمشهد ... ما الرسل إلا من نجوم قبابه
سير الهلال سرى بليل عروجه ... وسرت ملائكة العلا بركابه
وطوائف النور المضيء تحفه ... شرفاً له بذهابه وإيابه
حتى دنا بعد التدلي صاعداً ... بهبوطه السامي لبرج رحابه
فتمثل الأملاك بين يديه في ... مغناه يستسقون من ميزابه
والدين أشرق وجهه متهللاً ... في أفق وادي يثرب وشعابه
فلذاك رصع أرضه شهب السما ... والمسك غلغل في غبار ترابه
والبدر قلب وجهه متململاً ... يرجو القبول على أريكة بابه
لله ركن عز من ذاك الحمى ... أضحى أمين الوحي من حجابه
خضعت ملوك العالمين لمجده ... وتمثلوا رهباً لدى أعتابه
ومن انتمى لرفيع سدة جاهه ... لم يفترسه زمانه بمصابه
وعبيده مهما تدنس بالخطا ... هو في أمان الله يوم حسابه
وتحفه من ذيله نفحاته ... في هينات زمانه وصعابه
هو روح هذا الكون قرة عينه ... ومدار رمز سؤاله وجوابه
هو كنز علم الله صاحب أمره ... هو سيفه والكون نوع قرابه
هو مظهر السر الخفي عن السوى ... والمحضر المطوي في جلبابه
هو حجة الرسل الكرام أمامهم ... هو شيخهم بمشيبه وشبابه
ما الأولياء العارفون بربهم ... إلا الذين حسوا لذيذ شرابه(1/87)
ما الكون إلا نقطة هو أصلها ... أو طلسم هو شكل حرف صوابه
ما الحلم إلا ما إليه رجوعه ... والعلم إلا مذهب من دابه
والجود إلا نسمة من طبعه ... والمجد إلا من سنا آدابه
لمعت براهين الهدى بظهوره ... ودجى الضلال محاه نور شهابه
والحق أقبل والفتوح أمامه ... والغي ولى مدغماً بضبابه
أدعوه للكرب الملح وأين من ... عزماته ليث الثرى في غابه
فلكم حللت به وعزة قدره ... عقد الزمان ولان صلد صلابه
ولكم لجأت له بقلب خاشع ... فحماه بالإحسان من أتعابه
أنا عبده والعبد مهما زل عن ... طرق الرضا ساداته أولى به
صلى عليه الله ما لمع الضحى ... ولآله يهدي الثنا وصحابه
ومن نظم هذا الهمام في مدح سيد الأنام
اعجز المنقبض المنبسط ... بمعان شط منها الخطط
وبدا من جامع الشأنين في ... طالع الكونين طور وسط
وانجلى في الأفق البحت سنا ... صحف صفت عليها النقط
وبدوح الغيب قامت حكم ... صحة ما قام فيها الغلط
وبآيات المثاني جوهر ... بأكف الوهم لا يلتقط
فوقها منك حبيبي أسدلت ... حجب للحشر لا تنكشط
أنت سر الكل والكل له ... منك حبل عاصم مرتبط
حار في درك معانيك الورى ... والمدى المقصود عنهم شطط
شأنك السيار فيه درر ... لمعانيها البرايا سفط
جل من جلل مجلاك ضيا ... بحواشيه البها يختبط
جمع هذا الفرق فرق جمعه ... منه قد دل عليك النمط(1/88)
ومنه قوله يمدح سلطان الرجال وكعبة أهل الوجد والحال جده الإمام الرفاعي الكبير لا زال رمسه الأعطر مهبط مدد الخالق القدير.
قلب المحب بحبه مشغول ... وله عليه تلهف وعويل
لا زال يطويه الهيام على لظى ... وجد وينشره ضنى وذبول
يا لائمي واللوم ليس بنافع ... أيصد عن طلب الحبيب عذول
دع لوم أهل العشق واطرح عذلهم ... إن العذول بشأنه مخجول
ولقد تزيا بالغرام وأهله ... ذو ريبة في زيه مخذول
ردته بينة المحبة خاسئاً ... وشهود أحكام الغرام عدول
ذو الصدق في سوح المحبة ثابت ... وأخو الرياء من الظلال يميل
يلهو إذا خشع المحب وإنما ... مجلى الخشوع على الفؤاد دليل
متن الهوى تحت الضلوع وشرحه ... بشروط حال العارفين طويل
قد يدعي الحب الملح كواذب ... والعاشقون الصادقون قليل
ولكم تباكى المدعون وما بكوا ... ودموع أصحاب الولوع سيول
ولربما سكت المحب لفكرة ... فيمن يحب وعقله مذهول
يا من ولعت بهم وطبت لذكرهم ... رفقاً فقلبي للصدود عليل
لو زال رضوى وانتحى عن أرضه ... حاشاي عنكم يا كرام أحول
ما قلت أصحو من سلافة حبكم ... إلا اعتراني سكرة وخبول
لكم التحكم في القلوب ولم تزل ... تسري إليكم أنفس وعقول
قد حرت في تعريفكم لجلالكم ... لم أدر يال الحي كيف أقول
أيطول فهمي سر رفعة قدركم ... ومقامكم هام الفخار يطول
ولكم بصف العاشقين مشاهد ... غرر لها بين الورى وحجول
وغداة كل قبيلة بإمامها ... تدعى ويبدو المضمر المجهول
ويرى هناك الحق والدعوى ويظهر ... للعيان فضيلة وفضول
فأمامكم يا أهل أم عبيدة ... علم الرجال السيد المقبول(1/89)
شمس الحمى الغوث الرفاعي الذي ... في الفضل صح حديثه المنقول
سلطان أقطاب الرجال وشيخهم ... وشجاعهم حيث القلوب تزول
ذو السيرة النبوية العليا التي ... فيها انطوى المنقول والمعقول
شبل الحسين سليل أصحاب العبا ... سيف الرسول الصارم المسلول
كم مرة نصر الضعيف بنظرة ... وعلا وعز برمشتيه ذليل
غوث إذا لجأ الكسير لبابه ... طرف الزمان يراه وهو كليل
توراة عنوان الزبور نصوصه ... وبسره الفرقان والإنجيل
ناب النبي فعلمه من علمه ... وطريقه بطريقه موصول
ذو همة برهانها متواتر ... كالفجر لكن ما اعتراه أفول
وكفاه أن مد النبي يمينه ... لجنابه والحي فيه قفول
خرجت من القبر الشريف كأنها ... عضب من النور الجلي صقيل
سارت بها الركبان تنقل نصها ... مسكاً بأقطار الوجود يجول
هذا أبو العلمين ذو الكف الذي ... من راحه بحر الفيوض يسيل
أخذ الخضوع كشأن طه مذهباً ... فطريقه للمكرمات سبيل
إن قال عن دعوى قؤول شاطح ... سكراً فهذا بالخشوع فعول
لله خارقة بطي وجوده ... معها كثير الخارقات قليل
خشعت لديه الأولياء وكلهم ... سامي المهابة عارف وجليل
وكأنه دون الجميع لعقله ... طود من العلم الصحيح ثقيل
لا يستفز بوارد عن شأنه ... وبربه عن غيره مشغول
يجري له الإحسان بحر الامتنا ... ن وذيله من دمعه مبلول(1/90)
هذا هو الفحل المكين بطوره ... الله ما كل الرجال فحول
وقفت رجال الله تحت لوائه ... ونواله لصروفهم مبذول
وسرى على أثر الرسول وما له ... في السائرين مماثل وعديل
شيخ بتولي المقام وسيد ... حمل الضعاف ببابه محمول
مأوى صنوف العاجزين رحابه ... ما خاب في ذاك الرحاب نزيل
هو كعبة يحمي الطريح بركنها العالي ... ويأمن خائف ودخيل
نفحات فضل الله في ذاك الحمى ... فياضها متواصل وهطول
ولشيخ ذياك الرحاب عوارف ... حزب العفاة بمنحها مشمول
من لاذ فيه بصدق قلب خالص ... ما فاته المسؤول والمأمول
لا زال أصحاب القبول ببابه ... ولهم تدق من الفتوح طبول
فعليه لا برحت ميازيب السلا ... م تسح ما ذكر الخليل خليل
أو قام منه على سرير صفاته ... ملك عليه من الرضا اكليل
أو ثبت القلب الخفوق بحبه ... صبر من الود القديم جميل
ومنه قوله يمدح شيخه القطب الأعظم السيد محمد مهدي الصيادي الرفاعي الرواس قدس الله سره ونفعنا به آمين
لربي مني الشكر شيخي ومرشدي ... إمام الزمان الغوث قطب رحى المجد
غدا وحده ركن المعالي وإنني ... عرفت به ما بين أهل الحمى وحدي
ومن شعره في النسيب والغزل لا زال محط رحال أهل الأهل
تندب الأطلال روحي كلما ... هب في الأرجاء ريح السحر
ويفيض الدمع من عيني دماً ... ركب قوم سار سير القمر
واختباط البرق من نحو الحمى ... يخطف القلب لجيران التلال(1/91)
فعلام كل هذا ولما ... هاهم مروا كلمح البصر
يا رعى الله أويقات غضاض ... قنع البشر بها هام السرور
مع خلان مضت بين الرياض ... وبنا دنيا رحى الوصل تدور
راح هذا وكأن الدهر ما ... أغمض العين ولا نلنا الوصال
فاقض يا دهر بنا ما أنت قاض ... قد رضينا باختيار القدر
آه لو عادت ليالينا القدام دور ... لشفينا غلة تحت الضلوع
وروينا من أحاديث الغرام ... مرسلات من أساطير الدموع
ووصلنا في الهوى ما انصرما ... ورأينا ما تعاناه الخيال
لكن الأمر خيال والسلام ... خطرات من قبيل السمر
قسماً بالعهد والود القديم دور ... كل آن وجدهم عندي جديد
هم سروا والوجد في سري مقيم ... يفعل الله تعالى ما يريد
ما زهى الروض أو الودق همى ... غدوة غلا ومني الدمع سال
وعلى نهج الصراط المستقيم ... ثابت في الحب طول العمر
كلما العتم انجلى قلبي يطير دور ... وإلى أنوارهم آهي يطول
وإذا ما الشمس جدت بالمسير ... ذكرت نفسي لهم تلك القفول
وإذا موج الظلام التطما ... خلته من شعرهم بعض الحبال
وعلى كل قليل وكثير ... شكلهم منطبع في نظري
يا نسيم الصبح خذ قلبي لمن دور ... أقلقوه يوم بانوا بالفراق
وإذا ما عدت بالذكر الحسن ... هات ما عندك من طيب التلاق
وأعد روحاً بها البين رمى ... لجج الحين وألقاها وشال
وارحمنها فهي خنساء الحزن ... وافتقاد الإلف طبع البشر
ليت خلاني بذياك اللوى دور ... ذكروا خلاً لهم خلوه ليت
ذا حنين من تباريح النوى ... صار لا در النوى حيا كميت(1/92)
نظم الشعر لهم إذ نظما ... وطوى أحشاءه ضمن المقال
وعلى عرش الإشارات استوى ... فكره ثم أتى بالدرر
هذه يا حسرتي قصة من دور ... مسه الضر وأفناه الجزع
دنف مذ أزمع القوم وهن ... واصل الحزن وللحزن انقطع
كم يناجي الطيف فيهم كلما ... رام أن يبدي لهم قصة حال
قائلاً بالله يا طيف الوسن ... عطفوا أم قلبهم من حجر
وعبير فاح من تلك الخيام دور ... يوم زمت عيسهم قبل الصباح
أنا مفتون بهم حتى القيام ... ولهذا طال ندبي والصياح
أسأل البرق إذا ما اضطرما ... عنهم يا لهف قلبي والغزال
فعلى أرجائهم مسك الختام ... ينشر الدهر فتيت العنبر
وقال أطال بقاه وأعلى مرتقاه
أي غصين الياسيمن انتبه ... واتركن بالله ما أنت به
هزك الريح فقلدت لذا ... خصر ريم ما له من شبه
حدك القطع لهذا فاعتذر ... عل أن تدرأه بالشبه
وقال
لي بالأبيرق فتية خلفتهم ... وطرحت بين خيامهم أحشائي
منهم لظى ناري وماء مدامعي ... يا لوعتي من نارهم والماء
وقال
لي في العراق أحبة ملكتهم ... قلباً عليهم يوم بانوا ذابا
ذاق العذيب بقربهم لكنه ... لما أطالوا البعد ذاق عذابا
وقال
والذاريات من الدموع تلهفاً ... يوم النوى والمرسلات سيولا
ما كنت أعلم أن غزلان الحمى ... يصلتن من ريش الجفون نصولا(1/93)
وقال
أيها البرق الذي تلوى به ... قادحات من زناد الولع
ما رأيت العيس لما أزمعت ... وتوارت عن زوايا لعلع
عجباً تلويك أخبار اللوى ... لظبا روض النقا والأجرع
إنني المضنى الذي فارقتهم ... كيف يا بارق لو كنت معي
أنت حيناً تتلوى وأنا ... زفرتي ما عشت لم تنقطع
ومن لطائف شعره قوله
ألا فرج من حضرة الله محكم ... يؤيد إيماناً تحكم في السر
فيا نفحة البشرى من الله سرعة ... ويا غارة الجبار من حيث لا ندري
وهذه النبذة من ترجمة هذا الإمام مغنية عن الإكثار توفي رحمه الله تعالى في الآستانة في العشر الأول من شهر ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة وسبع وعشرين والحمد لله والصلاة على رسوله في البدء والختام.
الشيخ أبو السعود بن الشيخ محمد جلال بن الشيخ محمد أفندي المكنى بأبي المكارم بن السيد عبد المنعم بن السيد محمد أبي السرور البكري الصديقي المصري
بقية السلف الصالح، ونخبة الخلف الناجح، تولى خلافة السجادة البكرية في سنة سبع عشرة ومائتين وألف عندما عزل ابن عمه السيد خليل البكري، ولم تكن الخلافة في فرعهم، بل كانت في أولاد الشيخ أحمد بن عبد المنعم وآخرهم السيد خليل المذكور، فلما حضرت الدولة العثمانية إلى مصر واستقر في ولايتها محمد باشا خسرو، سعى في السيد خليل الكارهون له ورموه بالقبائح، ومنها تداخله في الفرنسيس وامتزاجه بهم، وعزلوه من نقابة الأشراف، وردت للسيد عمر مكرم، ولم يكتفوا بذلك(1/94)
بل ذكروا أنه لا يصلح لخلافة البكرية، فقال الباشا: وهل موجود في أولادهم خلافه، قالوا نعم وذكروا المترجم فيمن ذكروه، وأنه قد طعن في السن ولكنه فقير من المال، فقال الباشا الفقر لا ينفي النسب، وأمر له بفرس وسرج وعباءة كعادة مركوبهم، ولبس التاج والفرجية والفروة السمور خلعة من الباشا، وأنعم عليه بخمسة أكياس، وجعل له مرتباً معلوماً، فراج أمره واشتهر ذكره، وسار بسيرة حسنة مقرونة بكل كمال، وكانت تتحاكم لديه أرباب الطرائق فيقضي بينهم بلا ميل لأحد بل بما يظهر له من الحق والصواب، ولم يزل على حالته وطريقته مع خضوعه ولين جانبه وحكمه على نفسه إلى أن ضعفت قواه ولازمه المرض وأقعده في الفراش، فعند ذلك طلب سادات مشايخ الأزهر نزوله عن خلافته لولده السيد محمد الكامل الرشيد، فعرضوا القصة على الوالي فحولها لولده المرقوم في حياة والده وطلبه لذلك، وتوفي المترجم في أواخر شهر شوال سنة سبع وعشرين بعد المائتين والألف وصلي عليه في الأزهر ودفن في القرافة بمشهد أسلافه رضي الله عنهم أجمعين.
الشيخ أبو الفتح ابن الشيخ عبد الستار أفندي ابن الشيخ إبراهيم أفندي الأتاسي الحمصي
عالم مصره ونخبة أهل أوانه وعصره، ولد سنة ست عشرة بعد المائتين والألف، وأخذ العلوم عن والده المومى إليه، وكان جل اعتماده في الأخذ عليه، وكان رحمه الله له خلق جميل، وقلب عن الكمالات لا يزيغ ولا يميل، ولطافة مشهورة، وملاحظة لعواقب الأمور مأخوذة عنه ومأثوره، تولى منصب الإفتاء بحمص بعد عزل أخيه الأكبر الشيخ محمد سعيد أفندي وكان له وظيفة التدريس في جامع سيدنا خالد بن الوليد الصحابي الجليل، مع كونه غزير العلم جيد الفهم، يغلب عليه الصواب(1/95)
في السؤال والجواب، توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثمائة وألف ودفن في مقبرة حمص وقبره معلوم مشهور يزار ويتبرك به.
الشيخ أبو الفتح ابن الشيخ عبد القادر ابن الشيخ صالح الخطيب الشافعي الدمشقي
ولد بدمشق ونشأ بها وتخرج بأبيه وأقرأ في رسائل نحوية وفقهية في مدرسة الخياطين، وله حلقة تدريس بجامع بني أمية بين العشائين، وتولى خطابة الأحمدية، وإمامة مسجد برأس سوق الخياطين ومحافظة المكتبة بالمدرسة الظاهرية، وكان فقيراً قانعاً شرح الأجرومية والعوامل، واختصر بعض أجزاء من تاريخ ابن عساكر من النسخة الموجودة في المكتبة الظاهرية على تحريفها وكانت وفاته في تاسع المحرم سنة خمس عشرة وثلاثمائة وألف.
أبو عبد الله محمد بن إدريس وزير السلطان عبد الرحمن بن هشام سلطان فاس
وكانت توليته في ربيع الأول سنة ألف ومائتين وثمان وثلاثين الوزير الوحيد، والشاعر المجيد، والعالم الفاضل، والعامل الكامل، من انتهت إليه الفضائل، وانتظمت به عقود الشمائل، لقد أدى الوزارة وعالمها وكاملها، ومن نظمه مهنئاً السلطان عبد الرحمن حينما جلس على تخت السلطنة بفاس سنة ألف ومائتين وثمان وثلاثين كما تقدم:(1/96)
مولاي بشراك بالتأييد بشراكا ... قد أكمل الله بالتوفيق مسراكا
الفتح والنصر قد وافاك جيشهما ... والسعد واليمن قد حيا محياكا
الله ألبسك الإقبال تكرمة ... وبالتقى والنهى والعلم حلاكا
فراسة الملك المرحوم قد صدقت ... لما تفرس فيك حين ولاكا
أعدت للدين والدنيا جمالهما ... فأصبحا في حلى من حسن معناكا
وزادك الغيث غوثاً في سحائبه ... فجاد بالقطر قطراً فيه مأواكا
وله قصائد كثيرة، ومدائح شهيرة، ومناقب سنية، ومفاخر علية، ولم يزل على حاله بالغاً من الترقي جل آماله، إلى أن توفي هذا الوزير المذكور والفرد العلم المشهور سنة ألف ومائتين وأربع وستين رحمه الله تعالى.
أبو الأنوار شمس الدين محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن عارفين سبط بني الوفا، وخليفة السادات الحنفا، وشيخ سجادتها ومحط رحال سيادتها
الأستاذ الشهير، والجهبذ النحرير، والرئيس المفضل، والفريد المبجل، نادرة عصره، ووحيد دهره، من شهرته غنية عن مزيد الإفصاح، ومناقبه أظهر من أن يتعلق بها البيان والإيضاح، وأمه السيدة صفية بنت الأستاذ جمال الدين يوسف أبي الإرشاد بن وفاء.
ولد المترجم وتربى في حجر السيادة والصيانة، والحشمة والديانة، وقرأ القرآن، والتفت بجده واجتهاده لطلب العلم على ذوي الشان، وتلقى طريقة أسلافه وأورادهم وأحزابهم عن خاله الأستاذ شمس الدين محمد أبي الإشراق بن وفا، عن عمه الشيخ عبد الخالق، عن أبيه الشيخ يوسف أبي الإرشاد، عن والده أبي التخصيص عبد الوهاب، إلى آخر السند المنتهي إلى الأستاذ أبي الحسن الشاذلي، ولازم العلامة القدوة الشيخ موسى البجيرمي فحضر عليه عدة من الكتب في فنون متعددة، وهو أول أشياخه، ثم لازم الشيخ خليل المغربي،(1/97)
والشيخ أحمد الميجري الملوي شيخ الشيوخ في وقته، وأجازه بمروياته ومؤلفاته الإجازة العامة، وكذلك الشيخ أحمد الجوهري الشافعي إجازة عامة، وإجازة خاصة بطريقة المولى عبد الله الشريف، وحضر دروس الأستاذ الحفني، والشيخ عمر الطحلاوي المالكي، والشيخ مصطفى السندوبي الشافعي، والشيخ محمد الناري، والشيخ أحمد القوصي، وسمع المسلسل بالأولية من عالم أهل المغرب الشيخ محمد بن سودة التاودي الفاسي المالكي عند وروده مصر في سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف بقصد الحج، وكتب له إجازة بخطه مع سنده أيضاً، وإجازة بدلائل الخيرات وأحزاب الشاذلي، وكذلك تلقى الإجازة من الأستاذ المسلك عبد الوهاب بن عبد السلام العفيفي المرزوقي، وكذلك من إمام الحرم المكي الشيخ إبراهيم بن الرئيس محمد الزمزمي، وإجازة بالمسبعات وبما لأسلافه من الأحزاب، وكناه بأبي الفوز، وذلك في سنة تسع وسبعين ومائة وألف بمكة سنة حجة المترجم.
وتوفي يوم الأحد ثامن عشر ربيع الأول سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف وصلي عليه في الأزهر، ودفن بالقرافة في مشهد أسلافه في التربة التي أعدها لنفسه.
أبو السعود بن ضيف الله مراد
الشاب الأديب، والناجح الأريب، من صاغ من فرائد درره عقداًن وجدد للأدب بعد الاندراس عهداًن فهو الإمام الذي يقتدى في النظام به، والهمام الذي أثمرت رياض الجمال بآدابه، تتطاول له أعناق السرور حينما يمد لها سماط المنظوم والمنثور، ومن شعره البديع المتحلي بأنواع المعاني والبديع قصيدته وهي:
أبدور مشرقات أم غرر ... في ليال داجيات أم طرر
وغصون تنثني يا عجباً ... أم قوام ماس عجباً وخطر(1/98)
وعيون ناعسات دعج ... ترشق العشاق نبلاً أم وتر
وبروق أومضت في الأفق أم ... ثغر حبي افتر عن عقد درر
بدر حسن حرق القلب هوا ... هـ وقد قرح جفني بالسهر
سحر الألباب لما حسر الحجب ... عن حسن محياه سحر
أسر العشاق في عضب لوا ... حظه عمداً وجهراً ما أسر
صبت الروح إليه ولقد ... صبت الأجفان دمعاً كالمطر
أهيف إن بان يثني عطفه ... يزدري بالبان والقلب حجر
في اللمى والثغر والطرف لقد ... حل شهد ولآل وحور
قده مع وجنتيه ومحياه ... رمح وشقيق وقمر
بت ولهان به في خطر ... هائماً في حبه لما خطر
وهن العظم به واشتعل الرأس ... شيباً مذ تناءى وهجر
اسمح ابخل صد واصل منيتي ... وبما تهوى تحكم يغتفر
عاذلي مال عن الإنصاف مذ ... لام في عذل به عين الضرر
قال ذره قلت كلا إنني ... عبده أفعل دوماً ما أمر
وهو ريم يوسفي حسنه ... لو رأى البدر سناه لاستتر
وهي قصيدة طويلة، وله من الشعر قصائد جميلة.
الشيخ أبو السعود الشهير بالسباعي الدردير الحفني العدوي
مالك أعنة المحاسن وناهج طريقها، العارف بترصيعها وتنميقها، الناظم لعقودها، والراقم لبرودها، المجيد لإرهافها، والعالم بجلائها وزفافها، تصرف في فنون الإبداع كيف شاء، وأبلغ دلوه من الإجادة الرشاء، فطاب نشره، وطار في الأقطار ذكره، شمائله تتضاءل لها قطع الرياض، ويبادر به الظن إلى شريف الأغراض. قد التفت إلى طلب العلوم التفات المشغوف، وسقط على تطلبه سقوط المشوق الملهوف، إلى أن بلغ منه(1/99)
مبلغ الكمال، ونبغ به ونال منه أعلى منال، وحضر دروس شيوخ عصره، إلى أن صار مرجعاً في مصره، وأقبل الناس عليه من كل جانب، للاستفادة والحصول على الرغائب. توفي رحمه الله في حدود الألف والمائتين وسبع وثلاثين.
أبو السعود بن أحمد أفندي بن علي المعروف بالحسيبي الدمشقي
من ذوات الشام وكبرائها، وأفاخمها وعظمائها، له تولع بجمع نوادر الكتب النفيسة، وله مذاكرة لطيفة أنيسة، وإقبال على قاصديه جميل، ولطف بوارديه جزيل، وفي سنة ألف وثلاثماية وخمس عشرة توفي أحمد أفندي بن أمين أفندي منجك نقيب دمشق الشام، فكتب مفتي الشام محمد أفندي المنيني سلسلة موصلة للمترجم المرقوم للذات الطاهرة، وختمها له ذوات الشام وشيوخها، ثم أرسلت إلى النقابة في الدار العلية، وبعد مدة توجهت النقابة على المترجم المرقوم وقام بها بسيرة حيسنة، وصفات مستحسنة، مع عفة عالية وشهامة وافية، وبيت مفتوح، وطعام ممنوح وغنىً وافر، وجاء موروث كابراً عن كابر، أحسن الله إليه آمين.
الشيخ أبو النصر بن المرحوم الشيخ عبد القادر بن الشيخ صالح بن الشيخ عبد الرحيم الخطيب
طلب العلم على أبيه، وعلى غيره من كل عالم نبيه، إلى أن سما مقامه، وفشا في الناس احترامه، وقد انتقل بعياله إلى حرستا قرية تبعد عن الشام مقدار ساعتين، وسار بأهلها سيرة حسنة، يصلي بهم ويخطب لهم ويعظهم ويعلمهم ما يحتاجون إليه، ثم بعد ذلك أخذ الطريقة الشاذلية عن الشيخ علي اليشرطي المستقيم بعكه ثم ذهب إلى الآستانة المعمورة ودخل في سلك النيابات ولا زال ينتقل من مكان إلى مكان في النيابات إلى عام ألف وثلاثمائة وستة عشر.
حضر إلى الشام وصادف أنه بعد حضوره بمدة توفي في شهر رجب مفتي دمشق الشام محمد أفندي المنيني فتعرض لها المترجم، وكتب عرض(1/100)
فحضر وختم له كثير من الناس، وكذلك غيره تعرض لها ولكن صادف القدر، وتوجهت الإرادة الأزلية للشيخ صالح أفندي قطنا، فتوجه الإفتاء عليه من شيخ الإسلام جمال الدين أفندي. وعلى كل حال فهو شهم شجاع جميل المعاشرة، يغلب عليه الميل إلى الطاعة والمروءة والحماسة والتباعد عن الرذائل، ولم يشتهر عنه أنه في مدة نياباته ارتشى من أحد أحسن الله حالنا وحاله.
ثم في ثالث ربيع الثاني خطب يوم الجمعة في جامع بني أمية وقرأ فيه الدرس العام بعد العصر، وخرج إلى قرية تل منين لحضور عرس دعي إليه، وكان يوم السبت، وبعد صلاة العشاء أصابه وجع قلب ولم يمض عليه ساعة حتى مات، فأحضروه في الصباح إلى الشام وجهزوه وصلوا عليه في جامع بني أمية ثم دفنوه في مدفن أسلافه في مقبرة الدحداح، وذلك رابع ربيع الثاني سنة ألف وثلاثماية وأربع وعشرين.
الشيخ العلامة المتفنن الباحث المتقن أبو العباس المغربي المالكي
صاحب العلم الباهر، والفضل السامي الظاهر، والشهرة العامة، والشمائل الكاملة التامة، وهو من رجال الجبرتي، أخبر رضي الله عنه أن أصله من الصحراء من عمالة الجزائر، دخل مصر صغيراً فحضر دروس الشيخ علي الصعيدي وتفقه عليه ولازمه، ومهر في الآلات والفنون، وأذن له في التدريس فصار يقرىء الطلبة في رواقهم، وراج أمره لفصاحته وجودة حفظه، وتميز في الفضائل، وحج سنة اثنتين وثمانين ومائة(1/101)
وألف وجاور بالحرمين سنة واجتمع بالشيخ أبي الحسن السندي ولازمه في دروسه وباحثه، وعاد إلى مصر، وكان يحسن الثناء على المشار إليه واشتهر أمره وصارت له في الرواق كلمة، واحترمه علماء مذهبه لفضله وسلاطة لسانه، وبعد موت شيخه عظم أمره حتى أشير له بالمشيخة في الرواق، وتعصب له جماعة فلم يتم له الأمر، ونزل له السيد عمر أفندي الأسيوطي عن نظر الجوهرية، فقطع معاليم المستحقين، وكان حجاجاً سلط اللسان يتقى شره. توفي ليلة الأربعاء حادي عشرين شعبان سنة ألف ومائتين وسنتين غفر الله لنا وله، وجعل في دار النعيم مستقره.
الشيخ ابو بكر بن علي البطاح الأهدل
العلم الأمثل، والطود الأفضل، إمام المحققين، ونخبة المدققين، سراج افسلام، وكعبة الأئمة الأعلام، قد ساد بفنون العلوم، وتدقيق المنطوق والمفهوم، فهو غرة في جبين الدهر زاهرة، وشامة في صفحة العصر ظاهرة، يحق له أن يقال فيه، وأن يصفه الدهر بملء فيه.
وأرى الخلق مجمعين على فضلك ... من كل سيد ومسود
عرف العارفون فضلك بالعلم ... وقال الجهال بالتقليد
جد واجتهد في المعالي، إلى أن صار حسنة الأيام والليالي، أخذ العلوم من عدة مشايخ منهم السيد سليمان الأهدل، وتميز بالكمال في الملكات الثلاث ملكة الاستحصال، وملكة الحصول، وملكة الاستنباط، وكان عمدة في التفسير والحديث والفقه والتصوف والآلات والأصول. وخلاصة الكلام، إنه من السادة الأعلام، ومما كان ينشده:
إن رمت إدراك العلوم بسرعة ... فعليك بالنحو القويم ومنطق
هذا لميزان العقول مقوم ... والنحو تقويم اللسان المنطق
مات رحمه الله سنة ألف ومائتين ونيف.(1/102)
الشيخ الملا أبو بكر الكردي الشافعي الدمشقي
أحد العلماء الأعلام، المتقدمين في العلوم بدمشق الشام، كان مجاوراً في جامع الورد في سوق صاروجا، وكان ملازماً للإفادة العلمية، والآداب العملية، مع التقوى والعبادة، والعفة والزهادة، كثير السكوت عن فضول الكلام، لا يتكلم إلا في ذكر أو قرآن أو إقراء درس أو إفادة حكم من الأحكام، قرأ عليه الأجلاء من العلماء، والكثير من الفضلاء، وكان له مشاركة قوية، في العلوم العقلية والنقلية، وقد أخذ عن المرشد الكامل أوحد الزمان، وقطب العصر والأوان، مولانا خالد النقشبندي مجدد القرن الثالث عشر، وعن غيره ممن عرف بالفضل واشتهر، وله تأليفات كثيرة، ورسائل شهيرة، وله تفسير على القرآن المجيد اخترمته المنية قبل إتمامه، قد أجاد فيه وأفاد، واعتنى به فوق المراد، وكان معدوداً من ذوي النهاية، معروفاً بالكشوفات والولاية، وقد حضرت بعض مجالسه، واستفدت من بعض نفائسه، وكان كثيراً ما يذاكرني مع صغر سني في المسائل العلمية، والنوادر الأدبية، مات رضي الله عنه سنة تسع وستين ومائتين وألف، ودفن بتربة سوق صاروجا.
الشيخ أبو بكر الكردي الجزاري الدمشقي
العالم الإمام، والأوحد الهمام، نزيل دمشق الشام، أخذ العلوم عن أفاضلها، وارتفعت رتبته في المعارف بين ذوي فضائلها، حتى صار عمدة مقبولا، معروفاً في الكمال لا مجهولا، مرفوع المقام، يتبرك به الخاص والعام، مات يوم الإثنين عاشر ذي الحجة الحرام الذي هو من شهور سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف ودفن في الدحداح.(1/103)
أبو بكر باشا الطرابلسي والي مصر من طرف الدولة العثمانية وكانت ولايته من سنة إحدى عشرة ومائتين وألف
كان وزيراً عاقلاً إلا أنه لم تساعده يد الإقبال، ولم تلاحظه عين العناية في تسديد الأقوال والأفعال، وذلك لاستطالة المماليك على الأراضي المصرية، ونفوذ كلمتهم بها على كلمة الوزارة العثمانية، فكان ما كان من خروجه ودخول الأجانب، وتسلطها على بلاد مصر وإيقاعها في المعاطب، وبيان ذلك مع التفصيل، المقتضي عدم التطويل، قال في الفتوحات الإسلامية، المنسوبة للحضرة الأحمدية الدحلانية: كانت مصر قبل أن تتملكها الدولة العثمانية بيد ملوك الجراكسة، وكان لهم كثير من المماليك الذين هم أيضاً من الجراكسة ومن غيرهم من الترك، فلما تملكت الدولة العثمانية مصر لم تزل المماليك باقين وفي كل وقت يزدادون حتى بلغوا غاية الكثرة، وكان منهم أمراء ورؤساء، فصارت لهم عصبية قوية، فتغلبوا على الأملاك والأراضي والأطيان والمحصولات والخراجات والجمارك، وكانوا إذا جاء الباشا المتولي على مصر من الدولة العلية ينقادون له في الظاهر وفي الباطن هم متغلبون، فكانوا يبقونه إذا أرادوا ويعزلونه إذا أرادوا، ولا يصل إلى الدولة من محصولات مصر إلا القليل والباقي بأيديهم، وكان لهم رؤساء، وعلى الجميع أمير كبير تحت أمر الوزير المتولي من السلطنة صورة وظاهراً فقط، فلما تغلبوا هذا التغلب كثر منهم الظلم والعدوان على المسلمين وغيرهم من طوائف النصارى واليهود، فيتعدون كثيراً عليهم لاسيما على تجارهم، وكانت الدولة العلية مشتغلة عنهم بكثرة الحرب مع النصارى، فطمع الفرنسيس في تملك مصر وإبعاد هؤلاء المماليك المتغلبين، وأوهموا على المسلمين أنهم إنما يريدون تخليص مصر منهم وبقاء الحكم فيها للدولة العلية، فجهز الفرنسيس عليها جيوشه بالسر والكتمان من غير اطلاع(1/104)
أحد على ذلك وجاءوهم بغتة فتملكها على الوجه الآتي ذكره، وكان ذلك في شهر المحرم سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف، وكان الوزير المتولي على مصر من السلطنة العلية في تلك السنة هو المترجم المرقوم أبو بكر باشا الطرابلسي، وكانت ولايته من سنة إحدى عشرة ومائتين وألف، وكان للماليك المتغلبين على مصر أميران رئيسان على جميعهم وهما إبراهيم بك ومراد بك، كان تحت طوعهما جميع الصناجق والعساكر، فلما شاعت الأخبار بقدوم الفرنسيس للاستيلاء على مصر خرج الوزير المتولي من السلطنة العلية وهو أبو بكر باشا المتقدم ذكره من مصر وتوجه إلى غزة، ثم منها إلى دار السلطنة، وكان توجهه من مصر يوم السبت سابع شهر صفر من السنة المذكورة، وبقيت مصر بيد غبراهيم بك ومراد بك وصناجقهما والأمراء والعساكر التي تحت أيديهما، وكان أهل مصر عند خروج أبي بكر باشا من مصر وقبل خروجه بأيام يسمعون إشاعات عن مسير الفرنسيس إلى تملك مصر، ولم يقفوا على حقيقتها، فلما كان العشرون من المحرم من سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف وصلت مراكب الفرنسيس مشحونة بالعساكر وآلات الحرب، فتقاتل من كان فيها من العساكر مع أهل الاسكندرية، ولم يكن أهل الاسكندرية مستعدين لقتالهم فلم يقدروا على دفعهم، لاسيما وقد جاءوهم بغتة فقاتلوهم قليلاً ثم طلبوا الأمان منهم، فأمنوهم ودخلوا الاسكندرية وملكوها، فلما جاء الخبر إلى مصر أخذ إبراهيم بك ومراد بك بالاستعداد لهم، وأبرزا جيشاً من العسكر إلى موضع يقال له الجسر الأسود، وأخرجوا المدافع وآلات الحرب واضطربت الناس في مصر، وكثر الهرج والمرج، وتقطعت الطرق وارتفع السعر وكثر السراق، ثم جاءهم مكتوب من الفرنسيس فيه بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه، وبعد ذلك كلام كثير من جملته: إني(1/105)
أعبد الله وأحترم نبيه والقرآن العظيم وأنهم مسلمون يعنون أنفسهم مخلصون، وإثبات ذلك أنهم نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائماً يحث النصارى على محاربة أهل الإسلام، ثم قصدوا مدينة مالطة وطردوا منها الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة أهل الإسلام، وكل ذلك من الكلام الذي يوهمون به على أهل الإسلام أنهم موحدون لله تعالى، وأنهم يحبون أهل الإسلام ويحبون سلطانهم، وأنهم إنما جاءوا لنصرة سلطان الإسلام، وإبعاد المماليك المتغلبين على ممالكه، ودفع ظلمهم عن الرعية، ومن جملة ما في ذلك الكتاب خطاباً للمسلمين: وما جئتكم لإزالة دينكم، وإنما قدمت إليكم لأخلص حقكم من يد الظالمين الصناجق المماليك
الذين يتسلطون في البلاد المصرية، ويعاملون الملة الفرنساوية بالذل والصغار، ويظلمون تجارهم ويؤذونهم بأنواع الإيذاء والتعدي، ويأخذون أموالهم ويفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها مثله، فأما رب العالمين القادر على كل شيء فإنه قد حكم بانقضاء دولتهم، وإني أعبد الله سبحانه أكثر من المماليك، واحترم نبيه والقرآن العظيم، وقولوا لهم إن جميع الناس متساوون عند الله تعالى، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بأحسن ما فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة، ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم، ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعداً لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العلية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء منهم سيديرون الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها، وسابقاً كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك. يتسلطون في البلاد المصرية، ويعاملون الملة الفرنساوية بالذل والصغار، ويظلمون تجارهم ويؤذونهم بأنواع الإيذاء والتعدي، ويأخذون أموالهم ويفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها مثله، فأما رب العالمين القادر على كل شيء فإنه قد حكم بانقضاء دولتهم، وإني أعبد الله سبحانه أكثر من المماليك، واحترم نبيه والقرآن العظيم، وقولوا لهم إن جميع الناس متساوون عند الله تعالى، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بأحسن ما فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة، ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم، ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعداً لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العلية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء منهم سيديرون(1/106)
الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها، وسابقاً كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك.
أيها المشايخ والقضاة والأئمة وأعيان البلد، قولوا لأمتكم أن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون، ومع ذلك فالفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني، وأعداء أعدائه أدام الله ملكه، ومع ذلك إن المماليك امتنعوا من إطاعة السلطان غير ممتثلين لأمره فما أطاعوا أصلاً إلا لطمع أنفسهم، طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير، فيصلح حالهم وتعلو مراتبهم، طوبى أيضاً للذين يقعدون في مساكنهم غير ماثلين لأحد الفريقين المتحاربين، فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب، لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا، فلا يجدون بعد ذلك طريقاً إلى الخلاص ولا يبقى منهم أثر، وإن جميع القرى الواقعة في دائرة قريبة بثلاث ساعات عن المواضع التي يمر بها عسكر الفرنساوية، فواجب عليها أن ترسل للسر عسكر من عندها وكلاء كيما يعرف المشار إليه أنهم أطاعوا، وأنهم نصبوا علم الفرنساوية الذي هو أبيض وأكحل وأحمر، وأن كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تحرق بالنار، وأن كل قرية تطيع العسكر الفرنساوي أيضاً تنصب صناجق السلطان العثمان محبنا دام بقاؤه، والواجب على المشايخ والعلماء والقضاة والأئمة أنهم يلازمون وظائفهم، وعلى كل أحد من أهالي البلدان أن يبقى في مسكنه مطمئناً، وتكون الصلاة تامة في الجوامع على العادة، والمصريون بأجمعهم ينبغي أن يشكروا الله تعالى على انقضاء دولة المماليك قائلين بصوت عال أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله جلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك وأصلح حال الأمة المصرية، وعلى المشايخ في كل بلد يختموا حالاً على جميع الأرزاق والبيوت والأملاك التي للمماليك، وعليهم الاجتهاد التام أن لا يضيعوا أدنى شيء منها.(1/107)
وفي التاسع والعشرين من المحرم قدموا إلى مصر فاستقبلهم عسكر مصر عند الرحمانية وهزموا إلى الجيزة، والتقوا عند بشقيل وحصلت مقتلة عظيمة، وقدر الله أن المسلمين هزموا ففر مراد بك ومن معه إلى الصعيد، وفر إبراهيم بك ومن معه في البر الشرقي إلى الشام، وقيل لم يقع قتال كثير وإنما هي مناوشة من طلائع العسكر بحيث لم يقتل إلا القليل من الفريقين، وكانت مراكب في البحر لمراد بك فاحترقت بما فيها من الجبخانه والآلات الحربية، واحترق بها رئيس الطبجية، واحترق من فيها من المحاربين، فلما عاين ذلك مراد بك دخله الرعب وولى منهزماً، وترك الأثقال والمدافع التي في البر، وتبعته العساكر، وركب إبراهيم بك إلى ساحل بولاق طرف البر الشرقي، ورجع الناس منهزمين طالبين مصر، فاجتمع الباشا والعلماء ورؤوس الناس يتشاورون في هذا الحادث العظيم، فاتفق رأيهم على عمل متاريس من بولاق إلى شبرا، ويتولى افقامة ببولاق إبراهيم بك وكشافه ومماليكه، وقد كانت العلماء عند ابتداء هذا الحادث تجتمع بالأزهر كل يوم ويقرؤون البخاي وغيره من الدعوات، وكذلك مشايخ الطرائق وأتباعهم، وكذا أطفال المكاتب، ويذكرون الاسم اللطيف وغيره من الأسماء. ويوم الاثنين حضر مراد بك إلى بر امبابه وشرع في عمل متاريس هناك ممتدة إلى بشقيل، وتولى ذلك هو وصناجقه وأمراؤه، وكان معه في ذلك علي باشا الطرابلسي ونصوح باشا، وأحضروا المراكب الكبار والغلايين التي أنشأها بالجيزة وأوقفها على ساحل أمبابه، وشحنها بالعساكر والمدافع والمتاريس والخيالة والمشاة، ومع ذلك فقلوب الأمراء لم تطمئن بذلك، فإنهم من وصول الخبر الأول لهمم من الاسكندرية شرعوا في نقل أمتعتهم من البيوت الكبار المشهورة المعروفة، إلى البيوت الصغار التي لا يعرفها أحد، واستمروا طول الليالي ينقلون الأمتعة ويوزعونها عند معارفهم وثقاتهم، وأرسلوا البعض منها لبلاد الأرياف، وأخذوا أيضاً في تشهيل الأحمال واستحضار دواب للشيل(1/108)
وأسباب الارتحال، فلما رأى أهل البلد منهم ذلك داخلهم الخوف الكثير والفزع، واستعد الأغنياء وأهل المقدرة للهرب، ولولا أن الأمراء منعوهم من ذلك لما بقي بمصر منهم أحد، وفي يوم الثلاثاء نادوا بالنفير العام وخروج الناس للمتاريس، فأغلق الناس الدكاكين والأسواق، وخرج الجميع لبولاق، فكانت كل طائفة من طوائف أهل الصناعات يجمعون الدراهم من بعضهم وينصبون لهم خياماً ويجلسون في مكان خراب أو مسجد، ويرتبون أمرهم فيمن يصرف لهم ما يحتاجون غليه من الدراهم التي جمعوها، ويجعلون عليهم قيماً يباشر ذلك، وبعض الناس يتطوع على بعض في الإنفاق، ومن الناس من يجهز جماعة من المغاربة والشوام بالسلاح والأكل وغير ذلك، بحيث أن جميع الناس بذلوا وسعهم وفعلوا ما في قوتهم وطاقتهم، وسمحت نفوسهم بإنفاق أموالهم فلم يشح أحد في ذلك الوقت بشيء يملكه، ولكن لم يسعفهم الدهر، وخرجت الفقراء وأرباب الأشائر بالطبول والزمر والأعلام والكاسات، وهم يضجون ويصيحون بأذكار مختلفة، وصعد السيد عمر مكرم نقيب الأشراف إلى القلعة فأخرج بيرقاً كبيراً سمته العامة بيرق النبي صلى الله عليه وسلم، فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق وأمامه وحوله ألوف من العامة بالنبابيت والعصي يهللون ويكبرون ويكثرون من الصياح ومعهم الطبول والزمور، وغير ذلك وأما مصر فإنها صارت خالية الطرق لا تجد بها سوى النساء في البيوت، وضعفاء الرجال الذين لا يقدرون على الحركة، وغلا سعر البارود والرصاص جداً بحيث بيع الرطل البارود بستين نصفاً، والرصاص بتسعين نصفاً، وغلا جنس أنواع السلاح وقل وجوده، وخرج معظم الرعايا بالنبابيت والعصي والمسارق، وجلس مشايخ العلماء بزاوية علي بيك ببولاق يدعون ويبتهلون إلى الله تعالى بالنصر، وأقام غيرهم من الرعايا بالبيوت والزوايا والخيام. ومحصل الأمر أن جميع من بمصر من الرجال تحول إلى بولاق،(1/109)
وأقام بها من حين نصب إبراهيم بيك العرضي هناك إلى وقت الهزيمة، سوى القليل من الناس الذين لا يجدون لهم مكاناً ولا مأوى فيرجعون إلى بيوتهم يبيتون بها ثم يصبحون إلى بولاق، وأرسل إبراهيم بيك إلى العربان المجاورة لمصر ورسم لهم أن يكونوا من المقدمة بنواحي شبرا وما والاها، وكذلك اجتمع عند مراد بيك الكثير من عرب البحيرة والجيزة والصعيد والخبيرية والقبعان وأولاد علي
والقناوبة وغيرهم، وفي كل يوم يتزايد الجمع ويعظم الهول، ويضيق الحال بالفقراء الذين يحصلون أقواتهم يوماً فيوماً لتعطل الأسباب واجتماع الناس كلهم في صعيد واحد، وانقطعت الطرق وتعدى الناس بعضهم على بعض لعدم التفات الحكام واشتغالهم بما دهمهم، وكذلك العرب أغارت على الأطراف والنواحي، وقامت الأرياف على ساق يقتل بعضهم بعضاً وينهب بعضهم بعضاً، وصار قطر مصر من أوله إلى آخره في قتل ونهب وإخافة طريق وقيام شر وغارة على الأموال وإفساد المزارع وغير ذلك من أنواع الفساد الذي لا يحصى، وطلب أمراء مصر تجار الإفرنج الذين بمصر وحبوهم في القلعة، وفي بعض أماكن غير القلعة من بيوت الأمراء، وصاروا يفتشون في الإفرنج على الأسلحة وغيرها، وكذلك بيوت النصارى الشوام والأقباط والأروام والكنائس على الأسلحة، والعامة لا ترضى إلا أن يقتلوا النصارى واليهود فيمنعهم الحكام عنهم، ولولا ذلك المنع لقتلهم العامة وقت هذه الفتنة، ثم في كل يوم تكثر الإشاعة بقرب الفرنسيس إلى مصر، وتختلف الناس في الجهة التي يجيئون منها، فمنهم من يقول أنهم واصلون من البر الغربي، ومنهم من يقول من الشرقي، ومنهم من يقول بل يأتون من الجهتين، وليس لأحد من الأمراء همة أن يبعث جاسوساً أو طليعة تناوشهم القتال قبل قربهم ووصولهم إلى فناء مصر، بل كل من إبراهيم بيك ومراد بيك جمع عساكره ومكث في مكانه لا ينتقل عنه ينتظر ما يفعل بهم، وليس هناك قلعة ولا حصن ولا معقل، وهذا من سوء التدبير وإهمال أمر العدو. لقناوبة وغيرهم، وفي كل يوم يتزايد الجمع ويعظم الهول، ويضيق الحال بالفقراء الذين يحصلون أقواتهم يوماً فيوماً لتعطل الأسباب واجتماع الناس كلهم في صعيد واحد، وانقطعت الطرق وتعدى الناس بعضهم على بعض لعدم التفات الحكام واشتغالهم بما دهمهم، وكذلك العرب أغارت على الأطراف والنواحي، وقامت الأرياف على ساق يقتل بعضهم بعضاً وينهب بعضهم بعضاً، وصار قطر مصر من أوله إلى آخره في قتل ونهب وإخافة طريق وقيام شر وغارة على الأموال وإفساد المزارع وغير ذلك من أنواع الفساد الذي لا يحصى، وطلب أمراء مصر تجار الإفرنج الذين بمصر وحبوهم في القلعة، وفي بعض أماكن غير القلعة من بيوت الأمراء، وصاروا يفتشون في الإفرنج على الأسلحة وغيرها، وكذلك بيوت النصارى الشوام والأقباط والأروام والكنائس على الأسلحة، والعامة لا ترضى إلا أن يقتلوا النصارى واليهود فيمنعهم الحكام عنهم، ولولا ذلك المنع لقتلهم العامة وقت هذه الفتنة، ثم في كل يوم تكثر الإشاعة بقرب الفرنسيس إلى مصر، وتختلف الناس في الجهة التي يجيئون منها، فمنهم من يقول أنهم واصلون من البر الغربي، ومنهم من يقول من الشرقي، ومنهم من يقول بل يأتون من الجهتين، وليس لأحد من الأمراء همة أن يبعث جاسوساً أو طليعة تناوشهم القتال قبل قربهم ووصولهم إلى فناء مصر، بل كل من إبراهيم بيك ومراد بيك جمع عساكره ومكث في مكانه لا ينتقل عنه ينتظر ما يفعل بهم، وليس هناك قلعة ولا حصن ولا معقل، وهذا من سوء التدبير وإهمال أمر العدو.(1/110)
ولما كان يوم الجمعة سادس شهر صفر وصل الفرنسيس إلى الجسر الأسود، وأصبح يوم السبت فوصل أم دينار، فعندها اجتمع العالم العظيم من الجند والرعايا والفلاحين والمجاورة بلادهم، ولكن الأجناد متنافرة قلوبهم، منحلة عزائمهم، مختلفة آراؤهم، حريصون على حياتهم وتنعمهم ورفاهيتهم، مختالون في ريشهم مغترون بجمعهم، محتقرون شأن عدوهم، مرتبكون في رؤيتهم مغمورون في غفلتهم، وهذا كله من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم. وقد كان الظن بالفرنسيس أن يأتوا من البرين بل أشيع ذلك، فلم يأتوا إلا من البر الغربي، ولما كان وقت القيلولة ركب جماعة من العساكر التي بالبر الغربي، وتقدموا إلى ناحية بشقيل بلد مجاروة لأنبابه، فتلاقوا مع مقدمة الفرنسيس فكروا عليهم بالخيول، فضربهم الفرنسيس ببنادقهم المتتابعة الرمي وأبلى الفريقان، وقتل أيوب بيك الدفتر دار وكثير من كشاف محمد بيك الألفي ومماليكهم، تبعهم طابور من الإفرنج نحو الستة آلاف، وكان رئيسهم الكبير بونابارته لكنه لم يشهد الوقعة، بل حضر بعد الهزيمة، وكان بعيداً عن هؤلاء بكثير، ولما قرب طابور الفرنسيس من متاريس مراد بيك ترامى الفريقان بالمدافع، وكذلك العسكر المحاربون البحرية، وحضر عدة وافرة من عساكر الأرناؤوط من دمياط، وطلعوا إلى أنبابه وانضموا إلى المشاة وقاتلوا معهم في المتاريس، فلما عاين وسمع عسكر البر الشرقي في القتال ضج العامة والغوغاء من الرعية وأخلاط الناس بالصياح، ورفعوا الأصوات بقولهم يا رب يا لطيف، ويا رجال الله ونحو ذلك وكأنهم يقاتلون ويحاربون بصياحهم، فكان العقلاء من الناس يأمرونهم بترك ذلك، ويقولون لهم إن الرسول والصحابة والمجاهدين إنما كانوا يقاتلون بالسيف والحراب وضرب الرقاب، لا برفع الصوت والصراخ(1/111)
والنباح، فلا يستمعون ولا يرجعون عما هم فيه، ومن يقرأ ومن يسمع؟ وركب طائفة كبيرة من الأمراء والأجناد من العرضي الشرقي ومعهم إبراهيم بيك الوالي، وشرعوا في التعدية إلى البر الغربي في المراكب، فتزاحموا على المعادي لكون التعدية من محل واحد والمراكب قليلة جداً، فلم يصلوا إلى البر الآخر حتى وقعت الهزيمة على المحاربين، هذا والريح العاصفة قد اشتد هبوبها وأمواج البحر في قوة اضطرابها والرمال يعلو غبارها وتنسفها الريح في وجوه المصريين، فلا يقدر أحد أن يفتح عينيه مع شدة الغبار وكون الريح من ناحية العدو، وذلك من أعظم أسباب الهزيمة كما هو منصوص عليه.
ثم إن الطابور الذي تقدم لقتال مراد بك انقسم على تراتيب معلومة عندهم في الحرب وتقارب من المتاريس، بحيث صار محيطاً بالعسكر من خلفه وأمامه، ودق طبوله وأرسل بنادقه المتتابعة والمدافع ترمي، واشتد هبوب الريح وانعقد الغبار، وأظلمت الدنيا من دخان البارود وغبار الريح، وصمت الأسماع من توالي الضرب، بحيث خيل للناس أن الأرض تزلزت والسماء عليها سقطت، واستمر الحرب والقتال نحو ثلثي ساعة ثم كانت الهزيمة على العسكر الغربي، فغرق الكثير من الخيالة في البحر لإحاطة العدو بهم وظلام الدنيا، والبعض وقع أسيراً في يد الفرنسيس وملكوا المتاريس، وفر مراد بك ومن معه إلى الجيزة فصعد إلى قصره وقضى بعض أشغاله في نحو ربع ساعة، ثم ركب وذهب إلى الجهة القبلية، وبقيت القتلى والثياب والأمتعة والأسلحة والفرش ملقاة على الأرض ببر أنبابه، وألقى كثير نفسه في البحر، ولما انهزم العسكر الغربي تحول الفرنسيس بالمدافع والبنادق على البر الشرقي وضربوها وتحقق أهل البر الآخر الهزيمة، فقامت فيهم ضجة عظيمة، وركب في الحال إبراهيم بك والأمراء والعسكر والرعايا وتركوا جميع الأثقال والخيام كما هي لم يأخذوا منها شيئاً،(1/112)
فأما إبراهيم بك والأمراء فساروا إلى جهة العادلية، وأما الرعايا فهاجوا وماجوا ذاهبين جهة المدينة ودخلوها أفواجاً أفواجاً، وهم جميعاً في غاية الخوف والفزع وترقب الهلاك، وهم يضجون بالعويل والنحيب، ويبتهلون إلى الله تعالى من شر هذا اليوم الوصيب، والنساء يصرخن بأعلى أصواتهن من البيوت، وقد كان ذلك قبل الغروب، فلما استقر إبراهيم بيك بالعادلية أرسل يأخذ حريمه، وكذلك من معه من الأمراء، فأركبوا النساء على الخيول والبغال والحمير والجمال، والبعض ماش كالجواري والخدم، واستمر معظم الناس طول الليل خارجين من مصر، البعض بحريمه والبعض ينجو بنفسه ولا يسأل أحد عن أحد، بل كل واحد مشغول بنفسه عن أبيه وابنه، فخرج تلك الليلة معظم أهل مصر، البعض لبلاد الصعيد والبعض لجهة الشرق وهم الأكثر، وأقام بمصر كل مخاطر بنفسه لا يقدر على الحركة ممتثلاً للقضاء متوقعاً للمكروه، وذلك لعدم قدرته وقلة ذات يده وما ينفقه على حمل عياله وأطفاله ويصرفه عليهم في الغربة، فاستسلم للمقدور ولله عاقبة الأمور، والذي أزعج قلوب الناس بالأكثر أن في عشاء تلك الليلة شاع في الناس أن الافرنج عدوا إلى بولاق وأحرقوها، وكذلك الجيزة، وأن أولهم وصل إلى باب الحديد يحرقون ويقتلون ويفجرون بالنساء، وكان السبب في هذه الإشاعة أن بعض عسكر مراد بيك الذين كانوا في الغليون لمرسى أنبابة لما تحقق الكسرة أضرم النار في الغليون الذي هو فيه، وكذلك مراد بيك لما رحل من الجيزة أمر بانجرار الغليون الكبير من قبالة قصره ليصحبه معه إلى الجهة القبلية، فمشوا به قليلاً فوقف في الطين لقلة الماء وكان به عدة وافرة من آلات الحرب والجيخانه فأمر بحرقه أيضاً، فلما صعد لهيب النار من جهة الجيزة وبولاق ظنوا بل أيقنوا أنهم أحرقوا البلدين، فماجوا واضطربوا زيادة عما هم فيه من الفزع والروع والجزع، وخرج أعيان الناس وأفندية الوجاقات وأكابرهم ونقيب الأشراف(1/113)
وبعض المشايخ القادرين، فلما عاين العامة والرعية ذلك اشتد ضجرهم وخوفهم وتحركت عزائمهم للهرب واللحاق بهم، والحال أن الجميع لا يدرون أي جهة يسلكون وأي طريق يذهبون وأي محل يستقرون، فتلاحقوا وتسابقوا وخرجوا من كل حدب ينسلون، وبيع الحمار الأعرج والبغل الضعيف بأضعاف ثمنه، وخرج أكثرهم ماشياً أو حاملاً متاعه على رأسه وزوجته حاملة طفلها، ومن قدر على مركوب أركب زوجته أو ابنته ومشى هو على أقدامه، وخرج غالب النساء ماشيات حاسرات وأطفالهن على أكتافهن يبكين في ظلمة الليل، واستمروا على ذلك بطول ليلة الأحد وصبحها، وأخذ كل إنسان ما قدر على حمله من مال ومتاع، فلما خرجوا من باب البلد وتوسطوا الفلاة تلقتهم العربان والفلاحون، فأخذوا متاعهم ولباسهم وأحمالهم بحيث لم يتكروا لمن صادفوه ما يستر به عورته أو يسد جوعته، فكان ما أخذته العرب شيئاً كثيراً يفوق الحصر بحيث أن الأموال والذخائر التي خرجت من مصر في تلك الليلة أضعاف ما بقي فيها بلا شك، لأن معظم الأموال عند الأمراء والأعيان وحريمهم، وقد أخذوه صحبتهم، وغالب مساتير الناس وأهل المقدرة أخرجوا أيضاً ما عندهم، والذي
أقعده العجز وكان عنده ما يعجز عليه حمله من مال أو مصاغ أعطاه لجاره أو صديقه الراحل، ومثل ذلك أمانات وودائع الحجاج من المغاربة والمسافرين، فذهب ذلك جميعه، وربما قتلوا من قدروا على قتله أو دافع عن نفسه ومتاعه، وسلبوا ثياب النساء وفضحوهن وهتكوهن وفيهم الخوندات والأعيان، فمنهم من رجع عن قريب وهم الذين تأخروا في الخروج وبلغهم ما حصل للسابقين، ومنهم من جاز متكلاً على كثرته وعزوته وخفارته فسلم أو عطب، وكانت ليلة وصباحها في غاية الشناعة، جرى فيها ما لم يتفق مثله في مصر، ولا سمعنا بما شابه بعضه في تواريخ المتقدمين، قال الشاهد فما راء كمن سمع. أقعده العجز وكان عنده ما يعجز عليه حمله من مال أو مصاغ أعطاه لجاره أو صديقه الراحل، ومثل ذلك أمانات وودائع الحجاج من المغاربة والمسافرين، فذهب ذلك جميعه، وربما قتلوا من قدروا على قتله أو دافع عن نفسه ومتاعه، وسلبوا ثياب النساء وفضحوهن وهتكوهن وفيهم الخوندات والأعيان، فمنهم من رجع عن قريب وهم الذين تأخروا في الخروج وبلغهم ما حصل للسابقين، ومنهم من جاز متكلاً على كثرته وعزوته وخفارته فسلم أو عطب، وكانت ليلة وصباحها في غاية الشناعة، جرى فيها ما لم يتفق مثله في مصر، ولا سمعنا بما شابه بعضه في تواريخ المتقدمين، قال الشاهد فما راء كمن سمع.
ولما أصبح يوم الأحد المذكور(1/114)
والمقيمون لا يدرون ما يفعل بهم ومتوقعون حلول الفرنسيس ووقوع المكروه، ورجع الكثير من الفارين وهم في أسوأ حال من العري والفزع، فتبين أن الإفرنج لم يعدوا إلى البر الشرقي وإن الحريق كان في المواكب المتقدم ذكرها، فاجتمع في الأزهر بعض العلماء والمشايخ وتشاوروا فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مراسلة إلى الإفرنج وينتظروا ما يكون من جوابهم، ففعلوا ذلك، وأرسلوا صحبة شخص مغربي لا يعرف لغتهم وآخر صحبته، فغابا وعادا وأخبرا أنهما قابلا كبير القوم وأعطياه الرسالة فقرأها عليه ترجمانه ومضمونها الاستفهام عن قصدهم، فقال على لسان الترجمان: وأين عظاؤكم ومشايخكم لم تأخروا عن الحضور لدينا لنرتب لهم ما يكون فيه الراحة؟ وطمنهم وبش في وجوههم. فقالا: نريد أماناً منكم، فقال: قد أرسلنا لكم سابقاً، يعنون الكتاب المذكور فيما تقدم، فقالا: وأيضاً نريد أماناً لأجل اطمئنان الناس، فكتبوا لهم ورقة أخرى مضمونها أننا أرسلنا لكم في السابق كتاباً فيه الكفاية، وذكرنا لكم أننا ما حضرنا إلا بقصد إزالة المماليك الذين يستعملون الفرنساوية بالذل والاحتقار، وأخذ مال التجار ومال السلطان، ولما حضرنا إلى البر الغربي خرجوا إلينا فقابلناهم بما يستحقونه، وقتلنا بعضهم وأسرنا بعضهم ونحن في طلبهم حتى لم يبق منهم أحد بالقطر المصري، وأما العلماء والمشايخ وأصحاب المرتبات والرعية فيكونون مطمئنين وفي مساكنهم مرتاحين ونحو ذلك من الكلام، ثم قال لهم لابد أن المشايخ والشربجية يأتون إلينا لنرتب لهم ديواناً ننتخبه من سبعة أشخاص عقلاء يدبرون الأمور. ولما رجع الجواب بذلك اطمأن الناس، وركب الشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي وآخرون إلى الجيزة، فتلقاهم وضحك لهم، وقال أنتم المشايخ الكبار، فأعلموه أن المشايخ الكبار خافوا وهربوا، فقال لأي شيء يهربون اكتبوا لهم بالحضور ونعمل لكم ديواناً لأجل راحتكم وراحة الرعية وإجراء الشريعة(1/115)
فكتبوا لهم عدة مكاتيب بالحضور والأمان، ثم انفصلوا من معسكرهم بعد العشاء وحضروا إلى مصر، واطمأن برجوعهم الناس، وكانوا في وجل وخوف على غيابهم، وأصبحوا فأرسلوا الأمان إلى المشايخ، فحضر شيخ السادات والشيخ الشرقاوي والمشايخ ومن انضم إليهم من الناس الفارين من ناحية المطرية، وأما عمر أفندي نقيب الأشراف فإنه لم يطمئن ولم يحضر، وكذلك الروزنامجي والأفندية. وفي ذلك اليوم اجتمعت الجعيدية وأوباش الناس ونهبوا بيت إبراهيم بيك ومراد بيك وحرقوهما، ونهبوا أيضاً عدة بيوت من بيوت الأمراء وأخذوا ما فيها من فرش ونحاس وأمتعة وغير ذلك وباعوه بأبخس الأثمان. وفي يوم الثلاثاء دخلت الفرنساوية إلى مصر وسكن بونابارتة بيت محمد بيك الألفي بالأزبكية الذي أنشأه الأمير المذكور في السنة الماضية، وزخرفه وصرف عليه أموالاً عظيمة وفرشه بالفرش الفاخرة، وعند تمامه وسكناه حصلت هذه الحادثة، فما دخلوه بل تركوه بما فيه فكأنه إنما كان يبنيه لأمير الفرنسيس، وكذلك حصل في بيت حسن كاشف بالناصرية. ولما دخل كبيرهم وسكن بالأزبكية كما ذكر استمر غالبهم بالبر الآخر ولم يدخل المدينة إلا القليل منهم، ومشوا في الأسواق من غير سلاح ولا تعد، بل صاروا أيضاً يحاكون الناس ويشترون ما يحتاجون إليه بأغلى ثمن، فيأخذ أحدهم الدجاجة ويعطي صاحبها في ثمنها ريالاً فرانسي، ويأخذ البيضة بنصف فضة قياساً على أسعار بلادهم وأثمان بضائعهم فلما رأى منهم العامة ذلك أنسوا بهم واطمأنوا لهم، وخرجوا إليهم بالكعك وأنواع الفطير والخبز والبيض والدجاج وأنواع المأكولات، وغير ذلك مثل السكر والصابون والدخان واللبن، وصاروا يبيعون إليهم بما أحبوا من الأسعار، وفتح غالب السوقة الحوانيت والقهاوي، واطمأن الناس لذلك وهدأت الخواطر وطابت الأفكار، وغلب الأمان على الخوف وراج أمر البيع والشراء. وفي يوم الخميس(1/116)
ثالث عشر شهر صفر أرسلوا يطلبون المشايخ والوجاقلية عند قائم مقام سر عسكر، فلما حضروا تشاور معهم في تعيين عشرة أنفار من المشايخ للديوان وفصل الحكومات، فوقع الاتفاق على الشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ خليل البكري والشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي والشيخ محمد المهدي والشيخ موسى السرسي والشيخ مصطفى الدمنهوري والشيخ أحمد العريشي والشيخ يوسف الشبرخيتي والشيخ
محمد الدواخلي، وحضر ذلك المجلس أيضاً مصطفى كتخدا والقاضي، وقلدوا محمد آغا السلماني اغاة مستحفظات، وعلي آغا الشعراوي والي الشرط وحسن آغا أمين احتساب، وذلك بإشارة أرباب الديوان فإنهم كانوا ممتنعين من تقليد المناصب لجنس المماليك، فعرفوهم أن سوقة مصر لا يخافون إلا من الأتراك، ولا يحكمهم سواهم، وهؤلاء المذكورون من بقايا البيوت القديمة الذين لا يتجاسرون على الظلم كغيرهم، وقلدوا ذا الفقار كتخدا بيك كتخدا بونابارته، وسأل أربا الديوان المذكورين عما وقع من النهب للبيوت، فقالوا هذا فعل الجعيدية وأوباش الناس، فقال لأي شيء يفعلون ذلك وقد أوصيناكم بحفظ البيوت والختم عليها، فقالوا هذا أمر لا قدرة لنا على منعه، وإنما ذلك وظيفة الحكام، ثم أمروا بالنداء بالأمان وفتح الدكاكين والأسواق والمنع من النهب، فلم يسمعوا ولم ينتهوا واستمر غالب الأسواق والدكاكين معطلة، والناس غير مطمئنين. وفتح الفرنسيس بعض البيوت المغلقة التي للأمراء ودخلوها، وأخذوا منها أشياء وخرجوا منها وتركوها مفتوحة، فعندما يخرجون منها يدخلها طائفة الجعيدية يستأصلون ما فيها، ثم إن معسكرهم صارت تدخل المدينة شيئاً فشيئاً حتى امتلأت منها الطرقات، وسكنوا في البيوت ولم يشوشوا على الناس، ويأخذون المشتروات بزيادة عن ثمنها، وبعد أيام طلبوا سلفة خمسماية ألف ريال من التجار، فأخذوا في تحصيلها بعد مراجعتهم في تخفيفها فلم يفعلوا ونادوا بالأمان لنساء الأمراء، وأمروا كل من عندها شيء من متاع زوجها تأتي به، وصالحت زوجة مراد بيك عن نفسها وأتباعها من نساء الأمراء بماية وعشرين ألف ريال، واستخرجوا من الخبايا شيئاً كثيراً، ثم طلبوا من أهل الحرف والأسواق مبلغاً من المال يعجزون عنه، فاستغاثوا بالمشايخ فتشفعوا عندهم فلطفوها لهم. ولما جاء وقت مولد النبي صلى الله عليه وسلم أمروا بصنعه على المعتاد وأعطوا من عندهم إعانة على ذلك ثلاثمائة ريال، وصنعوا شنكاً ليلة المولد، وجاءت مراكب الإنكليز وحاربت مراكب الفرنسيس، وأحرقوا لهم مركباً كبيراً، واستمر أياماً ثم ذهبوا، وأما إبراهيم بك ومراد بيك فذهبوا إلى غزة ثم رجعوا إلى جهة الفيوم. وفي شهر ربيع الثاني طلبوا من الناس حجج أملاكهم وقيدوها عندهم، ووضعوا عليها قدراً معلوماً من الدراهم، وأمروا المشايخ أن يكتبوا للسلطان كتاباً مضمونه الثناء عليهم وحسن سيرتهم، وأنهم من المحبين للسلطان، وأنهم محترمون للقرآن والإسلام ففعلوا، وفي عاشر جمادى الأولى جمعوا الناس وقرروا على الأملاك أموالاً زيادة عما كان قبل ذلك، وهاج عامة الناس ونادوا بالجهاد، ووقع قتال قتل فيه خلق كثير، ثم صار النداء بالأمان، ثم تتبعوا كثيراً ممن كان قائماً في تلك الفتنة فقتلوه. وأما كيفية مجالسهم وبقية الترتيب في نظامات دولتهم فهو طويل لا حاجة لذكره، وكذا ما كان يجري من الحوادث. ولما جاءت أخبار دخول الفرنسيس مصر إلى الحجاز قام شيخ عالم مغربي بمكة يقال له محمد الجيلاني واستنفر الناس للجهاد، فاجتمع معه خلق كثير ووصلوا إلى الصعيد وقاتلوا من وجدوه من الفرنسيس، ولم يقدروا على استخلاص الأقطار المصرية منهم، فقاتلوا حتى قتل أكثرهم ورجع القليل منهم. د الدواخلي، وحضر ذلك المجلس أيضاً مصطفى كتخدا والقاضي، وقلدوا محمد آغا السلماني اغاة مستحفظات، وعلي آغا الشعراوي والي الشرط وحسن آغا أمين احتساب، وذلك بإشارة أرباب الديوان فإنهم كانوا ممتنعين من تقليد المناصب لجنس المماليك، فعرفوهم أن سوقة مصر لا يخافون إلا من الأتراك، ولا يحكمهم سواهم، وهؤلاء المذكورون من بقايا البيوت القديمة الذين لا يتجاسرون على الظلم كغيرهم، وقلدوا ذا الفقار كتخدا بيك كتخدا بونابارته، وسأل أربا الديوان المذكورين عما وقع من النهب للبيوت، فقالوا هذا فعل الجعيدية وأوباش الناس، فقال لأي شيء يفعلون ذلك وقد أوصيناكم بحفظ البيوت والختم عليها، فقالوا هذا أمر لا قدرة لنا على منعه، وإنما ذلك وظيفة الحكام، ثم أمروا بالنداء بالأمان وفتح الدكاكين والأسواق والمنع من النهب، فلم يسمعوا ولم ينتهوا واستمر غالب الأسواق والدكاكين معطلة، والناس غير مطمئنين. وفتح الفرنسيس بعض البيوت المغلقة التي للأمراء ودخلوها، وأخذوا منها أشياء وخرجوا منها وتركوها مفتوحة، فعندما يخرجون منها يدخلها طائفة الجعيدية يستأصلون ما فيها، ثم إن معسكرهم صارت تدخل المدينة شيئاً فشيئاً حتى امتلأت منها الطرقات، وسكنوا في البيوت ولم يشوشوا على الناس، ويأخذون المشتروات بزيادة عن ثمنها، وبعد أيام طلبوا سلفة خمسماية ألف ريال من التجار، فأخذوا في تحصيلها بعد مراجعتهم في تخفيفها فلم يفعلوا(1/117)
ونادوا بالأمان لنساء الأمراء، وأمروا كل من عندها شيء من متاع زوجها تأتي به، وصالحت زوجة مراد بيك عن نفسها وأتباعها من نساء الأمراء بماية وعشرين ألف ريال، واستخرجوا من الخبايا شيئاً كثيراً، ثم طلبوا من أهل الحرف والأسواق مبلغاً من المال يعجزون عنه، فاستغاثوا بالمشايخ فتشفعوا عندهم فلطفوها لهم. ولما جاء وقت مولد النبي صلى الله عليه وسلم أمروا بصنعه على المعتاد وأعطوا من عندهم إعانة على ذلك ثلاثمائة ريال، وصنعوا شنكاً ليلة المولد، وجاءت مراكب الإنكليز وحاربت مراكب الفرنسيس، وأحرقوا لهم مركباً كبيراً، واستمر أياماً ثم ذهبوا، وأما إبراهيم بك ومراد بيك فذهبوا إلى غزة ثم رجعوا إلى جهة الفيوم. وفي شهر ربيع الثاني طلبوا من الناس حجج أملاكهم وقيدوها عندهم، ووضعوا عليها قدراً معلوماً من الدراهم، وأمروا المشايخ أن يكتبوا للسلطان كتاباً مضمونه الثناء عليهم وحسن سيرتهم، وأنهم من المحبين للسلطان، وأنهم محترمون للقرآن والإسلام ففعلوا، وفي عاشر جمادى الأولى جمعوا الناس وقرروا على الأملاك أموالاً زيادة عما كان قبل ذلك، وهاج عامة الناس ونادوا بالجهاد، ووقع قتال قتل فيه خلق كثير، ثم صار النداء بالأمان، ثم تتبعوا كثيراً ممن كان قائماً في تلك الفتنة فقتلوه. وأما كيفية مجالسهم وبقية الترتيب في نظامات دولتهم فهو طويل لا حاجة لذكره، وكذا ما كان يجري من الحوادث. ولما جاءت أخبار دخول الفرنسيس مصر إلى الحجاز قام شيخ عالم مغربي بمكة يقال له محمد الجيلاني واستنفر الناس للجهاد، فاجتمع معه خلق كثير ووصلوا إلى الصعيد وقاتلوا من وجدوه من الفرنسيس، ولم يقدروا على استخلاص الأقطار المصرية منهم، فقاتلوا حتى قتل أكثرهم ورجع القليل منهم.
ثم جهز الفرنسيس جيشاً لمحاربة أحمد باشا الجزار في عكا، فملكوا كثيراً من قرى الشام وحاصروا أحمد باشا في عكا ثم عجزوا عن أخذها، فارتحلوا عنها. وأجروا ما يعتاده أهل مصر من مولد السيد أحمد البدوي وغيره على حسب المعتاد، وكذا إخراج المحمل والحج، وحصل بينهم(1/118)
وبين أهل الأرياف محاربات كثية حتى ملكوهم كلهم، وصاروا يتبعون الأمراء من المماليك ويقتلون من ظفروا به، وحضرت مراكب إلى السويس فيها أموال وبضائع للشريف غالب، فمسحوا عن عشورها وحصل بينه وبينهم مكاتبات ومهاداة بهدايا عندهم، ووضعوا الشيخ العريشي قاضياً للمسلمين يحكم بالشرع، وتوجه بانوبارته إلى بلاد الفرنسيس سنة أربع عشرة وجعل ساري عسكرهم نائباً عنه بمصر، ثم ترقى بونابارته حتى صار ملكاً على كافة الفرنسيس. وفي شهر رجب من سنة أربع عشرة جاء جيش من السلطان سليم يقوده يوسف باشا ومعه نصوح باشا جعلوه والياً على مصر، وهو الذي يقال له أيضاً ناصف باشا، وسار من جهة الشام حتى وصلوا إلى العريش، فاستعد الفرنسيس لقتالهم وخرج بجنوده إلى الصالحية، ثم توسط الإنكليز بالصلح على شروط كثيرة، منها أن الفرنسيس يتنحى عن الديار المصرية بعد ثلاثة أشهر، ففي تلك المدة صار الناس يحتقرونهم يسخرون بهم، ويقول بعضهم لبعض سنة مباركة ويوم سعيد بذهاب الكلاب الكفرة، كل ذلك بمشاهدة الفرنسيس وهم يحقدون ذلك عليهم، وكشف همج الناس نقاب الحياء معهم بالكلية، وتطاولوا عليهم بالسب واللعن والسخرية ولم يفكروا في عواقب الأمور، حتى إن فقهاء الأطفال كانوا يجمعون الأطفال ويمشون فرقاً وطوائف وهم يجهرون ويقولون كلاماً مقفى بأعلى أصواتهم يلعن النصارى وأعوانهم وأفراد رؤسائهم، كقولهم ينصر الله السلطان ويهلك فرط الرمان. ولم يملكوا لأنفسهم صبراً، حتى تنقضي الأيام المشروطة، على أن ذلك لم يثمر إلا الحقد والعداوة التي تأسست في قلوب الفرنسيس، وأخذ الفرنساوية في أهبة الرحيل، وشرعوا في بيع أمتعتهم وما فضل من سلاحهم ودوابهم، وسلموا غالب الثغور والقلاع كالصالحية وبلبيس ودمياط والسويس. ثم إن العثمانيين تدرجوا في دخول مصر وصار كل يوم يدخل منهم جماعة(1/119)
بعد جماعة، ووصل الوزير يوسف باشا إلى بلبيس والتقى بالأمراء المصريين وأخلى الفرنساوية قلعة الجبل وباقي القلاع التي أحدثوها ونزلوا منها، فلم يطلع إليها أحد من العثمانيين، وطلع كثير من العلماء والتجار للسلام على الوزير في مدينة بلبيس في رمضان، فقابلوه وقابلوا والي مصر نصوح باشا وخلع عليهم خلعاً وانصرفوا.
ثم في شهر شوال وقعت حادثة كانت سبباً للنقض، وذلك أن جماعة من عسكر العثمانيين تشاجروا مع جماعة من عسكر الفرنسيس فقتل بينهم شخص فرنساوي، فثار من ذلك فتنة، ثم قتلوا ستة أنفار كانوا سبب الفتنة فسكنت، لكن لم تطب نفوس الفرنسيس، ثم إن الفرنساوية طلبوا ثمانية أيام مهلة زيادة على المهلة السابقة لما قرب تمامها، فأعطوهم الثمانية أيام ونصبوا وجاق عسكرهم وخيامهم بساحل البحر متصلاً بأطراف مصر ممتداً إلى شبرا وترددوا إلى القلاع وهي لم يكن بها أحد، وشرعوا باجتهاد في رد الجبخانة والذخيرة وآلات الحرب والبارود والقلل والمدافع، واجتهدوا في ذلك ليلاً ونهاراً والناس يتعجبون من ذلك، وأشيع أن الوزير اتفق مع الانكليز على الإحاطة بالفرنساوية إذا صاروا بظاهر البحر، وكان الفرنساوية عندما تراسلوا وترددوا إلى جهة العرضي تفرسوا في عرضي العثمانيين وعسكرهم وأوضاعهم، وتحققوا حالهم فعلموا ضعفهم عن مقاومتهم، فلما حصل ما ذكر تأهبوا للمقاومة ونقض الصلح والمحاربة، وردوا آلاتهم إلى القلاع، فلما تمموا أمر ذلك وحصنوا الجهات وأبقوا من أبقوه بها من عساكرهم، خرجوا بأجمعهم إلى ظاهر المدينة جهة قبة النصر، وانتشروا في النواحي ولم يبق في المدينة إلا من كان داخل القلاع.
فلما كان اليوم الثالث والعشرون من شوال ركب السر عسكر الفرنساوي بعدده وعدده صباحاً ومال على العساكر المصرية من كل جانب(1/120)
فشتت شملهم وفرق جمعهم، ولم تزل العساكر المصرية فارة من عدوها حتى دخلت مصر، مع وقت العصر، ولما دخل نصوح باشا صار يقول للعامة اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم فعج الناس وهاجوا، وخرجوا من عقولهم وماجوا، ومروا مسرعين يقتلون من يصادفونه من نصارى القبط والشام وساروا إلى حارات النصارى يقتلون وينهبون ويأسرون فتحزبت النصارى ولا يزالون يتقاتلون إلى آخر النهار، وبات الناس في هذه الليلة خلف المتاريس، فلما أظلم الليل أطلق الفرنساوية المدافع والكرات على البلد من القلاع، ووقع الناس في هذه الليلة من الكرب والمشقة والخوف ما لا يوصف، وأحاط الفرنساويون بالبلد إحاطة السوار بالمعصم، وأكثروا من الرمي بالمدافع على البيوت من القلاع، وعدمت الأقوات، وانسدت عن الجلب الطرقات، وهلكت البهائم، وليس للناس من مجير ولا راحم، ثم هجموا في ليلة شاتية على البلد من كل ناحية، فقتلوا الرجال، وسبوا الحريم ونهبوا الأموال، وأحرقوا البلاد، وأذاقوا الناس كؤوس الإهانة فوق المراد، ووضعوا أيديهم على البيوت والحوانيت وسائر الأموال، وملكوا النساء والصبيان والرجال.
وفي أوائل ذي الحجة سنة خمس عشرة ومائتين وألف خرج العثمانيون من مصر، واستولى الفرنساويون على سائر آلاتهم ومدافعهم وعددهم وتم لهم أمر الاستيلاء على مصر، وأمنوا الناس، ثم إنه قرر على أهل مصر يدفعون عاجلاً تأديباً لهم زيادة على ما وقع منه عشرة آلاف ألف ألف فرنك، وسافر السر عكسر وأقام مكانه يعقوب القبطي يفعل بالمسلمين ما يشاء، ودارت العساكر للتحصيل، فباعت الناس أمتعتها الجليل منها(1/121)
والقليل، إلى أن انفقد المشتري ولو بأبخس الثمان، وذل في ذلك الوقت كل عزيز وهان، ولم يزل ذلك الظلم يتفاقم ويزكو ويتعاظم، والناس يتمنون المنية، في كل بكرة وعشية، إلى آخر شوال سنة خمس عشرة ومائتين وألف برز الأمر من مولانا السلطان سليم بالتجهيز إلى مصر براً وبحراً، فعساكر البر بمعية يوسف باشا وعساكر البحر بمعية الإنكليز، وفي أوائل ذي القعدة وردت مراكب الإنكليز إلى ثغر الإسكندرية، وجاءت الأخبار إلى الفرنساويين بأن يوسف باشا وعساكره وصلوا إلى العريش، ثم وقع الحرب بين الإنكليز والفرنساوي براً في الإسكندرية، وكانت الهزيمة على الفرنساويين، وقتل منهم كثير، ثم وقع قتال آخر بينهما فقتل من الفرنسيس خمسة عشر الفاً. وفي هذه السنة وقع في مصر طاعون مات فيه خلق كثير، وفي خامس المحرم عام ستة عشر ومائتين وألف تحصن الفرنساويون وأكثروا من نقل الماء والدقيق والأقوات إلى القلعة بمصر، وكذلك البارود والكبريت والقلل والقنابر وغير ذلك، ووضعوا المتاريس خارج البلد وحفروا الخنادق، وشاعت الأخبار بأن العثمانيين والإنكليز تقدموا وتملكوا رشيد ودمياط.
وفي ثالث صفر وقع الحرب بين العثمانيين والفرنساويين وكان النصر للعثمانيين، ثم انعقد الصلح على خروج الفرنسيس من مصر، وتسليمها للدولة العثمانية، فخرجوا في أواخر صفر، ودخل الوزير يوسف باشا مصر في التاسع والعشرين من شهر صفر بموكب حافل، وكانت مدة تملك الفرنساويين مصر ثلاث سنين وشهراً. وهذا مجمل ذلك ولو فصلناه لطال المسير على السالك.
الشيخ أبو بكر بن عمر بن عبد الواحد الحلبي الشافعي الفقيه المقرىء
أحد القراء والمشايخ بحلب ولد بها سنة أربع وخمسين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه على حيدر بن محمد المقري، وأخذ القراءات عن(1/122)
المتقن الكبير أبي محمد عمر بن شاهين، ومحمد بن مصطفى البصري الحلبي، وأتقن الحفظ والتجويد والترتيل ورغب فيه الناس، وقرأ الفقه على أبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري الشافعي الحلبي، ومصلح الدين مصطفى بن إبراهيم الحموي العلواني لما قدم حلب، وما زال معتنى به مقصوداً للتلقي عنه والأخذ منه، إلى أن توفي سنة ألف ومايتين وبضع عشرة رحمه الله تعالى.
الشيخ الملا أبو بكر البغدادي إمام حضرة شيخ الحضرة مولانا خالد قدس سره
العالم العامل، صاحب الآثار والشمائل، والمعارف والفضائل، والبراهين والدلائل، إمام حضرة العمدة الأستاذ، والصفو الملاذ، مولانا المجد التالد، سيدنا الشيخ خالد، قدس الله سره فإنه إمامه في الحضر والسفر، مع تجرده عن العوائق القاطعة الموقعة له في الخطر، المتحلي بمحاسن الأفعال، وجميل الأحوال، المتخلي عن كل ما يطعن في المقام، وينافي الاحترام، الفقيه العابد، والورع الزاهد، السياح في قفار التوحيد والتجريد، حافظ كلام الله تعالى المجيد، الصادح في المحراب بالسبع المثاني والكارع من كؤوس العرفان زلال الأماني، إذا سمعته حينما يجود القرآن في إقباله على المعبود، قلت هذا ملك أعطي مزماراً من مزامير آل داود، صاحب المقام الصفي الأنيس، ذو التسبيح والتقديس، قد لازم حضرة مرشد الزمان مولانا خالد واستجلب رضاه وفاز بأنظاره الإكسيرية وكان خليفة عنه في إعطاء الطريق، وإرشاد الناس إلى العهد الوثيق، ولم ينفك عنه إلى أن توفي في دمشق الشام، ودفن في جنب حضرة مولانا خالد في جبل قاسيون من جهة حارة الأكراد مع الشيخ إسماعيل والشيخ(1/123)
عبد الله الهراتي وصي الشيخ وكانت وفاة المترجم المرقوم سنة ألف ومائتين ونيف وخمسين رحمه الله تعالى.
السيد الكامل أبو بكر الصيادي الزيتاوي
بن السيد محمد بن السيد سليمان بن السيد محمد بن السيد علي بن السيد محمد بن السيد خير الله الثقاني بن السيد محمد بن السيد خير الله بن السيد أبي بكر بن السيد محمد بن السيد أبي بكر بن السيد محمد بن السيد أبي بكر بن السيد عبد السميع بن السيد المطيع بن السيد شريف بن السيد عبد السميع بن السيد شمس الدين أحمد الأصغر بن السيد القطب صدر الدين علي بن الغوث الأكبر السيد عز الدين أحمد الصياد سبط النفس النفيسة الرفاعية رضي الله عنهم.
قال صاحب تنوير الأبصار في طبقات السادة الرفاعية الأخيار: كان كآبائه بكفرزيتا، وكان من أهل العلم والكمال، وتزوج وأعقب السيد حسين، والسيد حسين أعقب السيد محمد الزيتاوي نزيل حماه الشيخ العابد الصالح الورع والمترجم، وذريته كلهم بحمد الله ذوو تقوى وعبادة، وصلاح وزهادة، توفي المترجم في حدود الأربعين ومايتين وألف.
السيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن محمد بن علي بن عبد الله بن عيدروس بن علي بن محمد بن شهاب الدين العلوي الحسيني الحضرموتي
إمام فاضل، وزاهد عابد عالم عامل، من بيت علت أركانه، وسما قدره وشأنه، ولد بحضرموت، ونشأ ببيت السيادة والأدب، وتربى بربوع الرفعة على مهاد الرتب، وقرأ العلم على أفاضل بلاده، وطاف الأقطار إلى أن قدم الحجاز، واجتمع بالأفاضل ذوي القدر والامتياز، وذهب إلى الهند واجتمع بعلمائها وأذعن له أفراد فضلائها، ثم ذهب إلى(1/124)
دار السعادة اسلانبول المحمية، وكان قدومه إليها سنة اثنتين وثلاثمائة وألف هجرية، فاجتمع بساداتها الأفاضل، وتحلى بها مما رامه من أنواع الفضائل، ثم رحل إلى مصر، ومنها إلى حضرموت؛ ولبيته في تلك الناحية شهرة جليلة، وله تآليف مفيدة، منها كتاب رشفة الصادي من بحر فضائل بني النبي الهادي، وله شعر عذب رشيق، يتنوع برياض أساليبه كل معنى أنيق، وكانت ولادته في حدود الخمسين والمائتين والألف تقريباً، أحياه الله الحياة الطيبة، وأحسن إليه بكل طاعة من جنابه الشريف مقربة، ومن نظمه مشطراً قصيدة الأستاذ ابن بنت الميلق الشاذلي مادحاً حضرة الغوث الرفاعي قدس سره، وهي قصيدة صوفية طويلة جداً، أولها:
من ذاق طعم شراب القوم يدريه ... ولم يروق رحيقاً غير صافيه
ومنها:
إن المريد مراد والمحب هو ... المبدو بالحب من ذي العرش هاديه
فهو المراد المهنى في الحقيقة والمحبوب ... فاستمل هذا من أماليه
إن كان يرضاك عبداً أنت تعبده ... ملاحظاً نفي تمثيل وتشبيه
وإن أقامك في حال فقف أدباً ... وإن دعاك مع التمكين تأتيه
فيفتح الباب إكراماً على عجل ... باب المواهب بشرى من يوافيه
تضحي وتمسي عزيزاً في ضيافته ... ويرفع الحجب كشفاً عن تنائيه
وثم تعرف ما قد كنت تجهله ... ويصطفيك لأمر لا ترجيه(1/125)
يوليك ما ليس يدري الفهم غايته ... ويعجز الحصر قد جلت معانيه
وترتوي من شراب الأنس صافية ... في مقعد الصدق والمحبوب ساقيه
من ذاقها لم يخف من بعدها ضرراً ... يا سعد من بات مملواً بصافيه
وصل يا رب ما غنت مطوقة ... يسلو الخلي بها والصب تشجيه
وما تمايلت الأغصان من طرب ... على النبي صلاة منك ترضيه
والآل والصحب والأتباع ما تليت ... من ذاق طعم شراب القوم يدريه
وله قصائد كثيرة وموشحات شهيرة أطال الله بقاءه وأعلى مرتقاه
السيد أبو الخير الخطيب بن المرحوم الشيخ عبد القادربن الشيخ صالح بن عبد الرحيم
فاضل لم يطلق في غير الفضائل لسانه، ولم يتخذ غير مأثور الشمائل عنوانه، حاز معالي الآداب بحسن الهمة، وترقى على درج الكمال إلى أن لحق العلماء الأئمة، وهو الثاني من أكبر إخوته، والمنتخب من بينهم من حين نشأته، وأنهم أربعة وكل منهم قد نشأ على العلم والكمال، والتحلي بالمعارف والتخلي من الأوحال، غير أن المترجم قد تقلد بأعلى الفرائد، وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد، تخرج على يديه الكثير من ذوي الطلب، ونالوا من بيانه بديع المرام والأرب، مع ورع وزهادة، وتقوى وعبادة، نشأ في حجر والده وعليه تكمل، وبه قد حاز على ما رجا وأمل، وكان مواظباً على تدريس العلوم، للخاص والعام، في جامع بني أمية في دمشق الشام، وكان يقرأ بعض دروسه في مدرسته أمام سوق الحرير، وكان هو الساعي بعمارتها وإرجاعها من المملوكية إلى التحرير، وكان له نوبة خطابة في جامع بني أمية المومى إليه، وهو قد سعى بها لنفسه إلى أن وجهت عليه، وكان محبوباً بين الناس، لم تسمع يوماً من يذكره بباس، توفي مساء الخميس(1/126)
ثالث ربيع الأول سنة ثمان وثلاثمائة وألف من هجرة النبي الأمين وقد ناهز من العمر نيفاً وستين، ودفن بجبانة الدحداح شمالي دمشق ختم الله لنا وله بخاتمة أهل السنة، وحشره في زمرة سيد المرسلين واسكنه الفردوس في الجنة.
أحمد باشا الجزار البشناقي والي عكا
ولد في بوسنة سنة خمس وثلاثين ومائة وألف، ولما بلغ من العمر ست عشرة سنة، خان أخاه بامرأته، فما أقبحه وما ألعنه، وذلك لما كان مطبوعاً عليه من فساد الطبيعة، ومخالفة الملة والشريعة، فاضطره الأمر إلى الهرب من بلاده إلى القسطنطينية، فقضى بها مدة بالذل والشقاء والفاقة القوية، فأوجبت عليه ضرورة الهوان والتنكيد، إلى أن باع نفسه لأحد تجار العبيد، فآل به الأمر إلى أن بيع بمصر، فدخل في سلك المماليك المصرية، وجعل الزمان يساعده على المرام والأمنية، فارتقى من منصب إلى أعلى، حتى صار والي البحرية في مصر السفلى، وتولى قيادة جيش محاربة العرب الخارجين على الدولة، فظفر بهم وغدر برؤسائهم وصال عليهم أي صولة، ومن ثم لقب بالجزار، عليه ما يستحقه من المنتقم الجبار، وكان قاتله الله مجبولاً على الفظاظة، والقسوة والغلاظة، قليل الرحمة عديم الإسلام، مطبوعاً(1/127)
على الفسوق والآثام، قد اتخذ هواه من دون الله هادياً ونصيرا، واستكبر في نفسه وعتا عتواً كبيراً، وكان سفاكاً للدماء، لا يتقيد بشرع بل كان يفعل ما يشاء، فأكرمه على قتل العرب حضرة علي بيك حاكم مصر، ولقبه بلقب بيك جزاء ذلك النصر، غير أنه بعد ذلك ساءت سيرته فركن إلى الفرار، ومكث في قسطنطينية أياماً ثم هرب إلى سورية بقصد الاستتار، فدخل دير القمر ملتجئاً إلى الأمير يوسف الشهابي الوالي حينئذ على جبل لبنان، سنة خمس وثمانين ومائة وألف من هجرة سيد ولد عدنان، فرحب به الأمير وأكرمه، وأبقاه عنده واحترمه، ثم بعد أيام أرسله إلى بيروت، وعامله معاملة الأكارم من ذوي البيوت، ورتب له شيئاً من الرسومات وافياً بالمرام، فأقام اياماً ثم سار إلى دمشق وخدم عند عثمان باشا والي الشام، وفي سنة سبع وثمانين ومائة وألف جعله الأمير يوسف متسلماً من قبله على بيروت وجعل معه طائفة من المغاربة، ثم إنها لم تطل المدة حتى خان ورام أن يبلغ مآربه، فصمم على مبارزة الأمير وشرع في ترميم الأسوار، وجعل يهيىء الميرة وآلات الحرب للحصار، ويمنع أهل البلاد من الدخول إلى المدينة، ولا يدع شيئاً يخرج منها بهمة مكينة، ثم لما دخل بيروت ثانية وفعل ما فعل، استغاث الأمير يوسف بحسن باشا وأخبره بما حصل، وكان قد سافر إلى قبرص قاصداً القسطنطينية، فعاد حسن باشا من قبرص بهمة قوية، وأخرج الجزار من بيروت، وهو مقهور ممقوت، ووعد الأمير أنه سيعزله وعاد إلى القسطنطينية، وسار الجزار بعسكره براً إلى صيدا وعساكره ستمائة من الشجعان اللاوندية، فأرسل الأمير النكدية يكمنون لهم في الطريق، ولما التقى العسكران قتل أصحاب الجزار أكثر النكدية وضيقوا عليهم أشد التضييق، وقبض على بعض أعيانهم، وجعل الموت نصب عيانهم، فجعل الأمير يعتذر للجزار، ويستشفع في إطلاق جماعته على مائة ألف قرش وتخليصهم من الدمار، ولما طلب الأمير المال(1/128)
من الجبل أبي الأمراء الدفع، فطلب الأمير من قائد عسكر الجزار أن يتلف أشجار بيروت وأن يستأصلها بالقطع، ففعل وقتل جماعة من رجالهم معتصماً بحبل الظلم والعدوان، ثم دهم الشويفات فرجع عنها بالخزي والخسران، ثم سار إلى صيدا ثم إلى بعلبك وعظم أمره في تلك الأقطار، وحيئذ خرجت بيروت من يد الأمير يوسف ودخلت في حكومة الجزار، فأمر الجزار قائده أن يضبط ما للأمير واللبنانيين في البقاع، عوضاً عما أتلفه من الرجال والأشجار والمتاع، فلما بلغ الأمير ذلك اصطلح مع أمراء الجبل وجمع عسكراً لمقاتلة الجزار المذكور، فانهزم في عدة مواقع وهو مكسور، ثم بعد ذلك وقع الصلح بين الأمير يوسف والجزار، فصار يساعده ويواده وهو عنده بمنزلة المستشار، ثم إن الجزار بعد أن أنعم عليه الأمير ظاهر العمر وقلده قيادة جيشه وعدده ومدده، جحد معروفه وخانه وقتله بيده، وحيث كان ظاهر العمر عدواً للدولة أنعمت على الجزار مكافأة على ذلك بولاية عكا وصيدا معاً، فبقي عليهما إلى حين أن أوقعته المنية في أودية المهالك، ثم بعد تلقيب السلطان له بالوزارة ولاه على دمشق زيادة على توليته، وذلك عام ألف ومائتين وثمانية عشر فزاد في الطغيان على عادته، من قتل الأنفس وسلب الأموال، حتى قتل من أعيان دمشق خلقاً كثيراً من ذوي الكمال، من أجلهم وأفضلهم السيد عبد الرحمن أفندي المرادي مفتي الحنفية وأسعد أفندي المحاسني مفتي الحنفية أيضاًن واصطنع للناس أنواع العذاب بآلات
اخترعها له طائفة من الأكراد، وأعانوه على ظلمه للعباد، حتى أكثروا في البلاد الفساد، وأقروه على دعواه أنه مجدد الوقت، بل باء هو وإياهم بالطرد والمقت، وكان رئيسهم رجلاً يدعي التصوف، ويقول إن الشيخ الأكبر في فتوحاته المكية أخبر عنه، وادعوا أن قتل الأنفس وسلب الأموال، وجميع ما يفعله ليس حراماً عليه بل حلال، هكذا شاع عنهم حتى أكفروا علماء العصر بإنكارهم عليهم، وألف بعض المتهورين ممن أضله الله على علم في ذلك كتاباً وادعى فيه أنه المجدد، وكان من أعوانه، وكان من جملة أعوانه أيضاً رجل اسمه عبد الوهاب، له اطلاع في بعض العلوم، أرسله إلى دمشق مع طائفة من المعذبين والعساكر وكان رئيسهم وإليه المشورة في أمورهم، فما زال يتغالى في قباحته، ويتعالى في مضرته وإساءته، ويتلذذ بقتل الرجال، وسلب الأموال، حتى كادت تخافه الأطفال، وترتج لسطوته الجبال، وكان قد اجتمع هذا الضال يوماً مع الفاضل العلامة السيد شاكر العقاد في دار المولى حمزة أفندي العجلاني مفتي السادة الحنفية، فشرع الخبيث يطنب في مدح الجزار، وأقسم بالله العظيم أنه ليس بظالم وأنه عادل وكرر ذلك مراراً. ثم أقسم أنه على الكتاب والسنة، ثم التفت مخاطباً السيد شاكر المرقوم وقال له يا شيخنا أما تقول أنه عادل؟ فحاوله الشيخ المرقوم رحمه الله تعالى وقال له إن له على الناس فضلاً عظيماً حيث دفع عنهم شر الفرنج لما حاصروه في عكا وبذل جهده في ذلك، فقال له لا أسألك عن هذا، فقال له أنا أقول أن ذنوبنا كثيرة والله تعالى أرسله إلينا لينتقم منا به. فعرض بذلك إلى أن الظالم ينتقم الله تعالى به ثم ينتقم منه. قال السيد شاكر رضي الله عنه وفهم الخبيث مني ذلك حتى رأيت شعر شاربيه كالمسلات واقفاً من شدة الغيظ، ثم قام الشيخ وانقضى المجلس على ذلك، فرحم الله تعالى روحه ونور مرقده وضريحه، ما أصلبه في دينه، حيث لم يور في كلامه بأنه عادل عن الحق ويرضيه بذلك الخوف ضرره، وقد كفاه الله تعالى شر هذا الخبيث. خترعها له طائفة من الأكراد، وأعانوه على ظلمه للعباد، حتى أكثروا في البلاد الفساد، وأقروه على دعواه أنه مجدد الوقت، بل باء هو وإياهم بالطرد والمقت، وكان رئيسهم رجلاً يدعي التصوف، ويقول إن الشيخ الأكبر في فتوحاته المكية أخبر عنه، وادعوا أن قتل الأنفس وسلب الأموال، وجميع ما يفعله ليس حراماً عليه بل حلال، هكذا شاع عنهم حتى أكفروا علماء العصر بإنكارهم عليهم،(1/129)
وألف بعض المتهورين ممن أضله الله على علم في ذلك كتاباً وادعى فيه أنه المجدد، وكان من أعوانه، وكان من جملة أعوانه أيضاً رجل اسمه عبد الوهاب، له اطلاع في بعض العلوم، أرسله إلى دمشق مع طائفة من المعذبين والعساكر وكان رئيسهم وإليه المشورة في أمورهم، فما زال يتغالى في قباحته، ويتعالى في مضرته وإساءته، ويتلذذ بقتل الرجال، وسلب الأموال، حتى كادت تخافه الأطفال، وترتج لسطوته الجبال، وكان قد اجتمع هذا الضال يوماً مع الفاضل العلامة السيد شاكر العقاد في دار المولى حمزة أفندي العجلاني مفتي السادة الحنفية، فشرع الخبيث يطنب في مدح الجزار، وأقسم بالله العظيم أنه ليس بظالم وأنه عادل وكرر ذلك مراراً. ثم أقسم أنه على الكتاب والسنة، ثم التفت مخاطباً السيد شاكر المرقوم وقال له يا شيخنا أما تقول أنه عادل؟ فحاوله الشيخ المرقوم رحمه الله تعالى وقال له إن له على الناس فضلاً عظيماً حيث دفع عنهم شر الفرنج لما حاصروه في عكا وبذل جهده في ذلك، فقال له لا أسألك عن هذا، فقال له أنا أقول أن ذنوبنا كثيرة والله تعالى أرسله إلينا لينتقم منا به. فعرض بذلك إلى أن الظالم ينتقم الله تعالى به ثم ينتقم منه. قال السيد شاكر رضي الله عنه وفهم الخبيث مني ذلك حتى رأيت شعر شاربيه كالمسلات واقفاً من شدة الغيظ، ثم قام الشيخ وانقضى المجلس على ذلك، فرحم الله تعالى روحه ونور مرقده وضريحه، ما أصلبه في دينه، حيث لم يور في كلامه بأنه عادل عن الحق ويرضيه بذلك الخوف ضرره، وقد كفاه الله تعالى شر هذا الخبيث.
ثم إنه لا زال هذا الضال يتغالى في الظلم في البلاد الشامية، إلى أن قدمت الناس على مجاورته الموت وشراب كؤوس المنية، فتحركت الدولة الفرنساوية على الإتيان إليها لإنقاذها من يد هذا الظالم المجبول على الضرر، وذلك عام ألف ومائتين وأربعة عشر، فحاصر عكا وضيق عليها المسالك،(1/130)
فالتمس الجزار من الأمير بشير الوالي حينئذ المساعدة، فاعتذر بأن الأهالي لا توافقه على ذلك. ثم قدمت مراكب الإنكليز لعكا لرد الفرنساويين، فلم تطل المدة حتى رجع بونابرت بعساكره، وصفا الوقت للجزار عمدة الظالمين، فاشتغل بتعذيب الناس وظلمهم بالقطع والقتل، والجدع والسمل، إلى غير ذلك من الأفعال الفظيعة، والأحوال الشنيعة، حتى صار جوره وعدوانه مثلاً سائراً، ولم يزل إلى أن هلك قبحه الله في عكا سنة ألف ومائتين وتسع عشرة ودفن بها في الجامع المنسوب غليه، وقد أرخه بعضهم بقوله:
هلك الجزار ولا عجب ... ومضى بالخزي وبالإثم
وبميتته الباري عنا ... أرخ قد كف يد الظم
وعند موت الجزار كان في سجنه إسماعيل باشا فأخرجه الشيخ طه الكردي الظالم وأجلسه عوضاً عن الجزار مدعياً بأن الجزار بايعه بالولاية قبل موته، وكتب إسماعيل باشا للولايات يبشرهم بولايته، أما نائب الجزار في دمشق فلم يقبل أن يعترف بإسماعيل باشا والياً، فكتب للأمير بشير يطلب منه محافظة الطرقات وأن يمده برأيه، فأجابه الأمير أني فعلت كل شيء قبل ورود رسالتك، وأما إسماعيل باشا فلا يكون لأن الدولة لم تجعله في هذا المنصب، وبعد برهة أتى إبراهيم باشا والياً على دمشق فسار مع عساكر الأمير بشير وقتل إسماعيل باشا والي عكا، ووضع عوضاً عنه سليمان باشا، فرجعت دمشق إيالة على حدتها وكان ذلك سنة ألف ومائتين وعشرين. وبعد موت أحمد باشا الجزار، تسلط الناس على عزوته، وذوي شوكته، فأذاقوهم كؤوس العذاب، وفتحوا عليهم للهون والذل كل باب، وقرؤوا كلام من الأمر منه وإليه، " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه "، خصوصاً وقد كانوا يعتقدون في الجزار وجماعته ما أخرجهم ظاهراً من الدين، وأدخلهم في عداد الطاغين المعتدين، فمال الناس عليهم ميلة الاستئصال،(1/131)
وأذاقوهم كؤوس العذاب والنكال، إلى أن أبادوهم أجمعين، وسيوقفهم الله بين يديه فالحمد لله رب العالمين.
الشيخ أحمد بن الشيخ محمد الدسوقي الأصل الدمشقي المنشأ والولادة الشافعي
كان رضي الله عنه في دمشق الشام. من أفراد ذوي الفضل التام، يعتمد في الصواب عليه، ويشار لدى تحقيق الجواب إليه، ومع ذلك كان عالماً عاملاًن وأديباً في السنة كاملاً، ذا شمائل حسنة، وفضائل مستحسنة، له دأب على العبادة، والقناعة والزهادة، ذا كمال وأدب، ومجد يدعوه للترقي على أوج الرتب، إذا حل بناد تهلل بالبشر والسرور، وتحلى بأنواع الجمال والحبور، وترنمت بوسيم شمائله أطياره، وتفتحت بنسيم خلقه أنواره، توفي رضي الله عنه بالمدينة المنورة، والبلدة المقدسة المطهرة، سنة سبع وأربعين ومائتين وألف ودفن في البقيع، تحت ظل السيد الشفيع، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه.
الشيخ أحمد بن السيد عبد الغني الأصبحي المشهور بكشوره الدمشقي الميداني الشافعي القادري
علم العلماء الأعلام، وتاج الفضلاء الفخام، عمدة الأفاضل، وبحر الفواضل والفضائل، علامة عصره، ونخبة أوانه وفريد دهره، صاحب الصفات العالية، والشمائل السامية، قرأ رحمه الله على والدي مدة حياته، ولم يزل دائباً على الطلب من تمييزه إلى مماته، وكان له مشاركة وإلمام في الفنون العربية، وقدم راسخة في العلوم الشرعية، رحل رضي(1/132)
الله عنه سنة ثلاث وستين ومائتين وألف إلى القدس الشريف بقصد الزيارة والعبادة، التي هي في ذلك المحل تضاعف فوق العادة، فتوفي هناك في سبعة وعشرين خلت من شهر رمضان في السنة المرقومة، وكان له هناك شهرة عالية موسومة، فأمر الوالي الذي كان هناك وهو الحاج حسن بيك ابن موسى باشا الشهير بالكحالة بتجهيزه، مع توقيره وتعظيمه وتمييزه، وكانت له جنازة حافلة، وأثنية عالية ممن شيعه وغيرهم هي بحسن حاله ضامنة وكافلة.
الشيخ أحمد بن الشيخ إسماعيل العجلوني بيبرس الدمشقي الشافعي
العالم النحرير، والشافعي الصغير، له آثار مرفوعة على أكف الثنا، وسيرة محمودة محمولة على هام المرام والمنى، أحيا دروس العلم بعد الاندراس، وفصل مجملها غب وقوعها في مهاوي الالتباس، واتخذ الفضل عنوانه، وقصر على رغائب السنة لسانه، وقد اقر له الخاص والعام، بأنه فرد الأفاضل الأعلام، وكنز الأرب وأسس مبناه، ومحط رحال العرفان والتقدم والجاه، تسامت في زمن شيوخه رتبتهن وعمت في قلوب الناس طراً محبته، برع في المعقول والمنقول، وتبحر في معرفة الفروع والأصول، وكانت له اليد العلية، ودرس في أول أمره في المدرسة الفتحية، في محلة القيمرية، ثم بعد وفاة الشيخ ياسين العجلوني إمام جامع منجك الكائن في ميدان الحصى تواقع عبد الغني آغا الشمري، على الشيخ المرقوم بأن يشرف إلى الميدان، وأن يجعلها محلاً لإقامة ذاته العلية الشأن، ويتعاطى وظائف الجامع المذكور وألح عليه، فأجابه بعد الاستخارة الواردة إلى ما دعاه إليه، وكان بينه وبين والدي محبة فوق المأمول، وكان كل منهما ملازماً للآخر ملازمة الصلة للموصول، ولم يكن لهما اجتماع إلا على المذاكرة والمطالعة من كل ما يفيد، من فقه(1/133)
وحديث وتفسير وتوحيد، ولهما في كل جمعة أوقات، يتذاكران بها بعض الفنون والآلات. ولم يزل في الجامع المذكور إلى أن دعاه داعي المنون، إلى الدار العالية والمقام المصون. توفي رضي الله عنه ليلة السبت قبيل أذان المغرب خامس عشر شهر شوال سنة سبع وأربعين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الله خلف ضريح الأستاذ العارف بالله تقي الدين الحصني، وكان لجنازته مشهد حافل، وجمع برفعة القدر والشأن كافل.
أحمد حمدي باشا الي ولاية سورية بن يحيى بك ابن الوزير ملك أحمد باشا
كان والده من الممتازين بين رجال أمير المؤمنين السلطان محمود العثماني، وأما جده فكان الوزير الأعظم عند السلطان الأعظم محمد المشهور بلقب أوجي. ولد في القسطنطينية في العشر الأخير من ذي الحجة عام ألف ومائتين واثنين وأربعين، وقرأ على بعض المشايخ ما يلزمه من العلوم الدينية والدنيوية كالصرف والنحو والمنطق والمعاني والبيان والعلوم الرياضية ولمعا من الحكمة الطبيعية، وأتقن فن الإنشاء علماً وعملاً، ونبغ في التركية والعربية والفارسية، ثم انتظم في سمط كتبة النظارة الداخلية في الباب العالي، ثم انتقل إلى ديوان كتاب الصدارة العظمى متمماً ما تعلمه على مشايخه من الإنشاء. وفي سنة ألف ومائتين وثلاث وستين للهجرة تفرس فيه رؤساء الكتبة النجابة فأعطيت له الرتبة الرابعة، ونقل إلى باب سر عسكر فكان مأمور الكتابة في شورى الأمور العسكرية، ثم رقي إلى الرتبة الثالثة وجعل معاوناً للكاتب الأول في الشورى المذكورة، ثم رقي إلى الرتبة الثانية في ديوان رئيس الجيوش السر عسكرية. وفي سنة الف ومائتين وخمس وسبعين رقي إلى رئاسة كتاب شورى العسكرية، وبعد قليل جعل عضواً في الشورى المذكورة فضلاً عن رئاسة الكتاب المنوه عنها ثم أنعم عليه المغفور له السلطان عبد المجيد بالرتبة المتمايزة، ثم الرتبة الأولى من الصنف الثاني، ثم(1/134)
الأولى من الصنف الأول، وأدار أعمال هذا المنصب سبع سنين، وأحسن إليه بالوسام المجيدي من الطبقة الثالثة. ولما كانت سنة ألف ومائتين وأربع وثمانين للهجرة فوضت إليه رئاسة وكالة دائرة الحقوق من ديوان الأحكام العدلية نحواً من شهرين، ثم صار من الوزراء وكلاء السلطنة بتوجيه نظارة الأوقاف عموماً إليه، وبعد ثمانية أشهر عين مستشاراً للسر عسكرية الجليلة مع ضم المخصصات لعهدته، وعلى أثر ذلك أحرز الوسام العثماني من الطبقة الثانية، وفي ربيع الآخر سنة ألف ومائتين وثمان وثمانين رقي إلى درجة الوزارة السامية وعين ناظراً للمالية، وبعد ذلك بمائة يوم أحيلت إليه ولاية آيدين على أثر التبديلات العظيمة التي طرأت على الوكلاء بعد وفاة المرحوم عالي باشا الوزير الأعظم، وفي أثناء ولايته هذه وقع بين روم أزمير وإسرائيلها نزاع أزعج العالم المتمدن وخيف من تغير السياسة العامة فتوفق بدرايته وعلو همته إلى تسكين جأش القوم، وقطع دابر المفسدين فلم يدع لتغييرها سبيلاً، فأحسن إليه السلطان عبد العزيز مكافأة بالوسام المجيدي من الرتبة الأولى، ونال من الدول الأجنبية وساماً من الرتبة الأولى. وسنة ألف ومائتين وتسع وثمانين وجهت إليه ولاية الطونة، فلبث بها أحد عشر شهراً يسدد أحكامها ويوطد دعائم العدل والأمن، ونال حينئذ من الدولة الروسية وسام القديسة حنة من الطبقة الأولى، وفي صفر سنة ألف ومائتين وتسعين تبوأ ثانية منصب نظارة ألمانيا، وأحسن إليه بالوسام العثماني الأول، وأحرز وسام مشير خرشيد الإيراني من الرتبة نفسها، وفي محرم سنة ألف ومائتين وإحدى وتسعين أنيطت به مرة ثانية ولاية آيدين فأدارها نحواً من أحد عشر شهراً، بسياسة جمعت بين الرضا العالي والمنفعة العامة، ثم وجتت إليه ولاية سورية في إحدى وعشرين ذي الحجة سنة ألف ومائتين وإحدى وتسعين، فقام بما يستغنى عن بيانه، ولكن انحراف صحته جعله يستقيل(1/135)
وذهب بقلوب الناس إلى قاعدة السلطنة، وصار فيها رئيساً للجنة القوائم، وبعد أقل من عشرين يوماً صار رئيساً للدائرة الملكية في شورى الدولة، وكان ذلك في ثلاثة وعشرين من شهر رجب سنة ألف ومائتين وثلاث وتسعين، ثم بعد ثلاثة عشر يوماً عين ناظراً للخزينة الخاصة، وبعد ستة عشر شهراً صار ناظراً للداخلية، وفي خمسة من المحرم سنة الف ومائتين وخمس وتسعين رقي إلى الصدارة العظمى، فبلغ ما بلغه جده المشار إليه، وفي ثاني صفر من السنة المذكورة عين مرة ثالثة والياً على آيدين، وبعد سنة أي في محرم سنة ألف ومائتين وست وتسعين وجهت غليه ولاية بغداد، ولكن بعد ثلاثة أيام صدرت إرادة سنية ببقائه في مركزه إجابة لالتماس الأهلين أجمع في ولاية آيدين، فأقام فيها ثلاثين شهراً ونال الوسام الألماني المعروف بالتاج من الصنف الأول، وفي شهر رمضان سنة الف ومائتين وسبعٍ وتسعين أنيطت به ثانية ولاية سورية، ومكافأة لخدمته المبرورة وآثاره المشكورة في هذه الولاية نال من عواطف الحضرة
الشاهانية الوسام العثماني مرصعاًن بعد أن أهداه امبراطور النمسا نيشان ليوبولد الأول، مما يثبت ما له من استقامة المسلك وحسن التدبير وصدق الخدمة. هانية الوسام العثماني مرصعاًن بعد أن أهداه امبراطور النمسا نيشان ليوبولد الأول، مما يثبت ما له من استقامة المسلك وحسن التدبير وصدق الخدمة.
والحاصل أنه منذ انتظامه في سلك كتبة الباب العالي حتى الآن أي منذ اثنتين وأربعين سنة لم يبق بلا منصب سوى ثلاثين يوماً على أثر استقالته المرة الأولى من ولاية سورية، وتسنى له مع اختلاف الأطوار، وتضارب الأوطار، وتقلب الأحوال وتغاير السياسات، أن يكتسب في جميع المناصب الخطيرة رضي الدولة وثقتها، وثنا الأمة ومحبتها، في عصر تعدد فيه السلاطين العظام، الذين كانوا بجملتهم يرمقونه بعين العناية والالتفاف جزاء لمآثره المشهورة وصداقته، وهو مع سكونه بعيد الهمة نبيل القصد عفيف معتدل الرأي خالي الغرض، يتغلب على المصاعب بالثبات والصبر(1/136)
والحلم، والاجتهاد في الإصلاح بالحمية والغيرة لنفع الوطن وتشييد عماده، وثناء أهل الدين عليه دليل أعماله الخطيرة، ومساعيه المشكورة، في سبيل عمران تلك الولاية وإنماء ثروتها وتوطيد راحتها، واستئصال اللصوص من أنحائها وضواحيها.
ولما كانت ولايته الحالية مشمولة بعناية خصوصية من لدن حضرة صاحب الشوكة والاقتدار مولانا السلطان عبد الحميد خان المعظم وكان حضرة المترجم المشار إليه منصباً على تنفيذ نواياه الخيرية، لإسعاد التبعة والرعية، جاء بآثار جليلة، وأعمال جميلة، أكثرت في الولاية السورية أسباب العمران والنجاح، وفي الولاية السورية عدد ليس بقليل ما برح سائباً في فيافي البدوية مغلولاً بأصفاد اليبوسة لسلب الراحة مكدراً لصفاء الأمن بالاعتداء على أبناء السبيل متعوداً التمرد مكابراً للإصلاح، وطالما كان هذا الفريق موضوعاً لاهتمام أسلاف أبهته من الولاة العظام، دون أن يترتب على ذلك الأثر المطلوب لأن بعضهم كان يأخذه بالعنف ويقابل خشونته بالقسوة والجفا فيعاقبه تارة بالضرب وطوراً بالتنكيل، وآونة بالحرب والتدمير، فكان يزداد تمادياً في البغي وتطاولاً في العتو، لأن ذلك كان عبارة عن مقابلة الخشونة بما يشاكلها، فكان أولئك القوم كالنقطة السوداء في صفحة محيا سورية البيضاء، وأما المترجم المومى إليه فأخذ يلين قسوتهم بالحلم والرفق والحكمة، داخلاً البيوت من أبوابها، فتسنى له المطلوب دون أن يريق قطرة من الدم أو يسلب لأحد مقدار ذرة، فإن السواد الأعظم منهم دخل ربقة الطاعة، وذاق حلاوة السكون والتمتع بتركات الوطن تحت ظلال الأمن والراحة، وأوشك أن يعرف فضل العلم فتمسك بأسبابه، وتعلق بأهدابه، فترى المدارس تنشأ في أعالي الجبال وأعماق الأودية لتثقيف العقول وتهذيب الأخلاق، والأراضي المهملة تصلح(1/137)
وتفلح بأيد لم تتعود إلا هز السيوف وتشريع العوامل، وطرقات تمهد وتسلك بعد أن كانت وعوراً لا يكاد يسمع منها سوى عويل المسلوبين وأنين الجرحى من أبناء السبيل، ومعاقل تبنى وتشاد لقيام قوات من الجند يتكفل وجودها بإرهاب العتاة وإخافتهم، وغل أيديهم عن السلب والنهب. ومن تأمل في حالة النصيرية ودروز حوران وأهلها وعرب البادية واللجاه من قبل، ورآها الآن، يرى الفرق بينهما، وأعظم التدابير التي تمت بهذه النتيجة الحسنة إنشاء المنازل العسكرية في جبل الدروز، ثلاثة حصون متينة أولها في قرية عرى، والثاني في المزرعة، والثالث على مقربة من بصر الحريري، ثم أنشأ حصناً آخر في حاصبيا، ومثله في قرية ضمير، وهي تبعد ست ساعات شرقاً عن دمشق، حيثما يأتي إليها أهل البادية للاستقاء منها وهذا خير رادع للبغاة أعداء الأمن، لأنه ما من عات متمرد إلا ويضطر إلى المرور بتلك البقعة، فإذا أتاها أوقعت عليه حامية الحصن ما يكفه عن طغيانه، وردته عن عدوانه، وبنى معقلاً عظيماً في منتصف جبال النصيرية، قرب قرية تعرف بدير شميل، لا تبعد عن مصياف نقطة قوة النصيرية ومنتدى جمهورهم أكثر من نصف فرسخ، فكان مجموع هذه المعاقل ستة، واحد منها كاف لثلاث فرق طوابير، وثلاثة يكفي كل منها لفرقة، واثنان لنصف فرقة، ومن الأبنية التي شادها دون أن يثفل على الخزينة السلطانية دائرة حكومة حاصبيا، وموقف حراس كبير في ضمير، وموقفان للحراسة في بيروت، ومحل لطابور العساكر، ودائرة في جبال النصيرية، ودائرة حكومة في مرج عيون، وأخرى في جنين، وغيرها في بانياس وفي النبطية وفي طرابلس وفي بيروت، ومدرستان للصبيان في حوران، ودائرة للعدلية في الشام. ومن آثاره النافعة إصلاح طريق عجلات من طرابلس إلى حماه، وتأليف شركة وطنية لإدارتها، ثم إكمال(1/138)
الطريق الواقعة بين الشتورا وبعلبك، وجعل العجلات تسير عليها دفعتين في الأسبوع، والسعي بتمهيد طريق حوران وقد مهد نصفها ويتم النصف الآخر بعد برهة وجيزة إن شاء الله، والحصول على امتياز لإنشاء طريق حديدية من عكا إلى جسر المجامع، واتخاذ التدابير لإيصالها بدمشق مارة بحوران، ومن المقرر أن هذا المشروع عبارة عن فتح باب لإخصاب أراضي سورية وإغزارها محصولاً. هذا المذكور بقطع النظر عن طرق كثيرة مهدت بمساعي دولته، دون أن تحمل الخزينة نفقاتها، ومنها مد الأسلاك البرقية إلى جميع الأقضية التي لم يكن فيها سلك برقي، كراشيا والقنيطرة والناصرة وطبرية وصفد وغيرها، وإنشاء كثير من المكاتب الابتدائية للذكور والإناث في دمشق وبيروت وطرابلس واللاذقية وحماه وحوران والبلقا وسائر أنحاء سورية وفلسطين، وإيجاد أموال مستقلة تضارع نفقاتها، وتشييد المدرسة الداخلية في بيروت على نسق المدارس العالية المنتظمة
في السلطنة، وتجديد دائرة للحكومة في بيروت، وأخرى في طرابلس كافية لمأموري الحكومة والمحاكم العدلية، وقد بنيت على الأصول الهندسية المختارة حديثاً في الممالك المتمدنة، هذا فضلاً عن عدة دوائر للحكومة، ومراكز للتلغراف أنشأها في كثير من الأقضية والنواحي، وعدد ليس بقليل من الجسور والمعابر أقامها على الأنهار الكبيرة خارج دمشق، وذلك دون أن تحمل الخزينة شيئاًن ولا يزال يبذل قصارى الجهد لاستحصال امتيازات بإنشاء المرافىء لدفع نوائب النو في بيروت وغيرها من الثغور، مثل عكا واللاذقية وطرابلس، وهو سائر على تأليف القلوب، وبث العدل واجتهاده ما استطاع بإزالة شائبتي الظلم والاستبداد، وتخويله كل فرد من أفراد الأمة حقه المشروع، إلى غير ذلك مما يضيق المقام دون تبيينه، وتم له ذلك أجمع في مدة لا تزيد عن ثلاث سنين، ولا زال يتوالى إحسانه، ويتواصل امتنانه، الذي من جملته فرش البلاط من السنانية إلى باب الله في دمشق المحمية، إلى أن جرعته المنية كأس الحمام، وفجعت به على الخصوص قطر الشام سنة ألف وثلاثمائة وثلاث في مدينة بيروت، ودفن بها في حي الباشورة، وقد أمرت الذات الشاهانية جلالة السلطان عبد الحميد خان، بتعمير زاوية لمدفنه يصرف عليها من مال السلطان المرقوم أربعة وستون الفاً صاغاً. في السلطنة، وتجديد دائرة للحكومة في بيروت، وأخرى في طرابلس كافية لمأموري الحكومة والمحاكم العدلية، وقد بنيت على الأصول الهندسية المختارة حديثاً في الممالك المتمدنة، هذا فضلاً عن عدة دوائر للحكومة، ومراكز للتلغراف أنشأها في كثير من الأقضية والنواحي، وعدد ليس بقليل من الجسور والمعابر أقامها على الأنهار الكبيرة خارج دمشق، وذلك دون أن تحمل الخزينة شيئاًن ولا يزال يبذل قصارى الجهد لاستحصال امتيازات بإنشاء المرافىء لدفع نوائب النو في بيروت وغيرها من الثغور، مثل عكا واللاذقية وطرابلس، وهو سائر على تأليف القلوب، وبث العدل واجتهاده ما استطاع بإزالة شائبتي الظلم والاستبداد، وتخويله كل فرد من أفراد الأمة حقه المشروع، إلى غير ذلك مما يضيق المقام دون تبيينه، وتم له ذلك أجمع في مدة لا تزيد عن ثلاث سنين، ولا زال يتوالى إحسانه، ويتواصل امتنانه،(1/139)
الذي من جملته فرش البلاط من السنانية إلى باب الله في دمشق المحمية، إلى أن جرعته المنية كأس الحمام، وفجعت به على الخصوص قطر الشام سنة ألف وثلاثمائة وثلاث في مدينة بيروت، ودفن بها في حي الباشورة، وقد أمرت الذات الشاهانية جلالة السلطان عبد الحميد خان، بتعمير زاوية لمدفنه يصرف عليها من مال السلطان المرقوم أربعة وستون الفاً صاغاً.
الشيخ أحمد بن حسن بن علي رحمه الله تعالى المعروف بالعرشي
العلامة الأديب النحوي، الأصولي الفقيه المناظر المعروف بالعرشي، قال صاحب التاج: نشأ في موطنه وقرأ وروى وحدث وبرع في الفنون كلها جملة وتفصيلاً، وكان يتوقد ذكاء وفطنة وشجاعة وسيادة وفخامة، طاف البلاد ولقي العلماء، وصحب المشايخ وأخذ عنهم العلوم، وألف في رد التقليد رسائل ومسائل باللسان العربي المبين، وأتى فيها بالعجب العجاب، وأفحم المقلدين وأدخل عليهم العجز من كل باب. جاهد في الله جهاداً، وارتحل في آخر عمره إلى الحرمين الشريفين فتوفي رحمه الله في الطريق في بلدة برودة من أضلاع كجرات، وقبره هناك، قال تعالى " ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " وقال النبي صلى الله عليه وسلم " موت الغربة شهادة " وكانت وفاته سنة ألف ومائتين وسبع وسبعين. له اليد الطولى في الشعر العربي والفارسي، وكان ينظم في ساعة قصيدة طويلة نحو مائة بيت فصيحة المبنى، بليغة المعنى، قل من يقدر على إنشاء مثلها في أسبوع بل في شهر كامل، كتب إلى علماء عصره، وأدباء مصره كتباً ورسائل لم يجمعها.(1/140)
ولقد كان والله عديم النظير، وفقيد المثيل في أقرانه وأمثاله، بارعاً متقناً في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، بل كان تاجاً على رأس الزمن، وكاسمه أحمد وحسن، لم يلتفت إلى كتب الفروع والرأي وأهلها قط، ولم يعمل في خاصة نفسه إلا بالدليل من الكتاب والسنة، وكان له همة سامية في ذلك، وحمية نامية فيما هنالك، رحمه الله رحمة واسعة.
أقول إن الاجتهاد ليس له زمن ينقضي بانقضائه بل الزمن كله زمن له على خلاف في ذلك، وإن هذه المسألة محلها كتب الأصول والفروع فلا حاجة لذكرها هنا، غير أن الاجتهاد له شروط لا يجوز بدونها فمن وصل إليها اجتهد، والله يعلم الصادق وغيره والله أعلم.
شيخ الإسلام أحمد عارف حكمت بك بن السيد إبراهيم عصمت بك بن إسماعيل رائف باشا الحسيني الحنفي.
بدر أشرقت به سماء عروج العلماء، وأضاءت به أفلاك بروج الفضلاء، رضع ثدي المعالي منذ كان طفلاً، وبرع في تحصيل الأمالي فكان في المكان الأرقى الأعلى، واشتهر بين أهل الفضل بأنه آية الإعجاز، وبهر في جمع العلوم فكان المشار إليه ببنان الحقيقة والمجاز، فهو الفرد الذي لا يبارى، ولا يلحق في ميدان التقدم ولا يجارى.
ولد في ليلة الأحد الخامس والعشرين من شهر محرم الحرام عام ألف ومائتين وواحد، وكانت يد الإسعاد تحوطه من كل ماكر وحاسد، وغب تمييزه قرأ القرآن واشتغل في الطلب على العلماء ذوي الإتقان، وفي سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة دخل التدريس، وفي غرة رمضان سنة ألف ومائتين وإحدى وثلاثين دخل في سلك موالي قضاء القدس، وفي سنة ألف ومائتين وست وثلاثين أحرز مولوية مصر القاهرة، وفي ألف ومائتين وتسع وثلاثين نال مولوية طيبة الطاهرة، وفي اثنتين وأربعين حاز باية(1/141)
استانبول، وفي خمس وأربعين تعين من جانب السلطنة السنية مأموراً لتحرير النفوس الروملي، وبعد رجوعه من المأمورية المذكورة أي في سنة ست وأربعين تشرف بمنصب نقابة السادة الكرام، ومن حين وفاة والده الماجد إلى مضي نحو خمس وعشرين سنة كانت إقامته في البيت المنتقل إليه من جده الأمجد مع كمال الاعتدال والراحة، وكان محله هذا مورداً لأصحاب الفضل، ومقصداً لذوي المروءة والعدل، وبعده انتقل لبيته الكائن بأسكدار الواقع بجدار حمام العتيق، فجعله محل انقطاعه وخلوته، فما لبث أن صار لقضاء حاجات الواردين على بحر حضرته، ومورداً لذوي الرشد والهدى، ومقصداً لطلاب الجود والندى، وفي رأس ألف ومائتين وتسع وأربعين أحرز رتبة باية الأناطولي، وفي خلال ألف ومائتين وخمسين استعفى من مسند النقابة الآنفة الذكر، وفي سنة اثنتين وخمسين وجهت لعهدته باية الروملي الجليلة، وفي سنة خمس وخمسين يعني أوائل عصر السلطان عبد المجيد خان أرسل لجانب الروملي بكمال الإعزاز والإكرام لأجل تفتيش أحوال البلاد والعباد مع مأمورية رئاسة مجلس أحكام العدلية، وبعد العود جعل عضواً لدائرة الشورى العسكرية، وقد أبرز من المساعي المشكورة ما يخلد له الذكر الجميل، والثناء الجليل، واشتغل بفصل المواد المهمة الجسيمة المتعلقة بالسلطنة السنية، فاجتهد بما قدمه على سواه، وقضى برفعته وارتقاه، إلى أن نال مسند مشيخة الإسلام العالي في يوم السبت الواقع في اثنين من شهر ذي الحجة عام ألف ومائتين واثنين وستين، وبعد أن استمر في هذا المسند لحل مشكلات المسائل سبع سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً جرى انفصاله يوم الثلاثاء الواقع في حادي وعشرين جمادى الآخرة سنة ألف ومائتين وسبعين، وبعدها سكن في بيت الشرف الذي تملكه من إحسان الذات الشاهانية بوقت مشيخته الكائن بحصار الروملي، واشتغل بالعبادات(1/142)
والطاعات، وتتبع الكتب والمجلات، في دائم الأوقات، وخصص الأوقاف الجسيمة من المسقفات والمستغلات، وبعدها أنشأ مكان مكتبة في المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام، ورتب لها حفظة وخدمة ووقف بها سائر كتبه المتجاوزة خمسة آلاف كتاب من الكتب النفيسة، وأرسلها إلى ذلك المكان، وبعد إكمال ذلك عزم هو أيضاً على أن يهاجر إلى خير البقاع، وفي نيته أن يختم بقية عمره بتلك البقعة المباركة نظراً لشدة محبته لخير الأنام، ورسول الملك السلام، عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، ولكن المرء يسعى والمنية تضحك حيث أن أنفاس الحياة المعدودة وصلت إلى النهاية فتوفي رحمه الله تعالى ليلة الأحد لست عشرة خلت من شهر شعبان المعظم سنة ألف ومائتين وخمس وسبعين ودفن في قبره المخصوص الكائن في أسكدار عند محل بئر نوح.
هذا وإن المترجم الكبير، والناقد البصير، قد حضر مجالس العلم، بالاستحقاق والفهم، على سادات عظام، وجهابذة قادة أعلام، من أجلهم الفرد الكامل، والعالم العامل، والقطب الشهير السيد محمد الأمير الكبير، وقد كانت له الشهرة الكافية، والمعارف الوافية.
وفي سنة ثلاث وستين حينما توجه والدي للدار العثمانية، والدعوة السامية السلطانية، في أيام أمير المؤمنين السلطان عبد المجيد، لختان ولديه السلطان مراد والسلطان عبد الحميد، قد كثر بين والدي وبين المترجم الوداد، ولم يكن لواحد منهما في غير مذاكرة الآخر مراد، وقد استجاز كل منهما صاحبه، وعامله لمعرفة قدره بالمعاملة الواجبة،(1/143)
وبالجملة والتفصيل، إن هذا المترجم كاد أن يقال ليس له مثيل، له ذهن يكشف الغامض الذي يخفى، وفكر لحل المشكلات أروق من الزلال وأصفى، يبصر الخفيات بفهمه، ويقصر فكها على خاطره ووهمه، فجاء بالنادر الذي أعجز، مع تبديل التطويل بالمختصر الموجز، ونظم عقود اللآلي في لبة القريض، ونثر درر المعالي على هام مادحيه فكانوا يفدون عليه وفود البحر الطويل العريض، وكان بعاصمة الروم سراً للإحسان وحاكياً جود زياد وشعر حسان، وقد نظم ونثر، ما يزدرى رقة بنسيم السحر، فمن ذلك قوله رحمه الله وجعل الجنة مأواه ومثواه.
إلهي قد فرضت صيام شهر ... علينا محسناً أوفى الجزاء
فنلنا فرحة في وقت فطر ... ونرجو مثلها عند اللقاء
وقال
إن الزمان يعادي من له شرف ... قواه عند أولي الأنظار برهان
فللشموس زوال حيثما ارتفعت ... وللبدور إذا يكملن نقصان
وقال
ألا أن أهنا العيش باكورة الصبا ... وإن الفتى في روضه يانع الغصن
وأصعبه ما جاور الشيب حينما ... حكى البدن المنفوش من ناعم العهن
ومن جملة توسلاته:
يا من إليه الملتجا ... فيما يخاف ويرتجى
أنت المجيب لكل من ... يدعوك في غسق الدجى
ولكم كشفت غياهباً ... من بعد ما انقطع الرجا
أنت المغيث لكل ملهوف ... حشاه تأججا
قد أقلق المهج الضعا ... ف أذى الزمان وأزعجا
يتلجلج النطق الفصيح ... لدى الرجاء تلجلجا(1/144)
ولقد أضاق علي من ... كل الجهات المخرجا
بين الجوانح والحشا ... حر الهموم تأججا
بحياة خيرتك الذي ... للخير أوضح منهجا
أزكى الصلاة مع السلا ... م عليه ما داعٍ نجا
ومنها:
إصبر إذا باب المنى ... سدت عليك يد الحرج
تمنح فتوح مهيمن ... فالصبر مفتاح الفرج
ومن جملة تقريظاته ما كتبه على الأحكام المرعية:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي وضع الأرض للأنام، فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام، والحب ذو العصف والريحان، فسبحانه من متفضل جزيل الإحسان، والصلاة والسلام على من طابت ببركته الثمار، واخضرت من بقية وضوئه الأشجار، وعلى آله وصحبه الذين أحيوا أموات قلوبنا بهواطل الروايات، فنلنا من مزارع فضائلهم حصائد الخيرات والبركات وبعد فإن خليفتنا الأعظم وسلطاننا الأفخم، ولي نعمة العالم، المتحمل أعباء الخلافة من نوع بني آدم، خاقان البرين والبحرين، خادم الحرمين الشريفين، ظل الله سبحانه في أرضه، مالك الربع المعمور في طوله وعرضه، المتخلق بخلق الراحمون يرحمهم الرحمن، المتمثل لقوله سبحانه " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " السلطان ابن السلطان ابن السلطان، السلطان عبد المجيد خان بن السلطان الغازي محمود خان(1/145)
ابن السلطان الغازي عبد الحميد خان، خلد الله ملكه، وجعل الدنيا بأسرها ملكه، ولا زالت أيام دولته كالشمس وضحاها، ولا برحت ليالي سلطنته كالقمر إذا تلاها، وعساكره منصورة في غدوها ومسراها، ومواهبه شاملة للبرية أقصاها وأدناها، ما تبرج ظهر الأرض رافلاً بالخلع الخضراء من وشي الربيع، وتبسمت ثغور الروض من محاسن الصنع البديع، لما اقتعد غارب سرير الخلافة، بسط بساط الإنصاف فائقاً أسلافه الكرام وأخلافه، وتيقظ في إزالة ظلم المظالم حتى إن أنام الأنام في أمان، وبهرت أيامه كالشامة في غرة وجه الزمان، وبالغ في الأمر وأمره مطاع، بقلع شقة الجور والاعتساف من البلاد والضياع، ومد على البرايا جناح الرأفة والشفقة، وعمهم بجزيل الإحسان والصدقة، فمن بدائع عواطفه البهية، وصنائع عوارفه السنية، صدور أمره الشريف بتوسيع الحقوق في الأراضي، وكان ذلك قاصراً في القانون الماضي، كما يطلع عليه من يطالع الصور المكللة المكملة، في بطون هذه المجلة المجلة المجملة، رحمة للضعفاء وفقراء رعيته، ورغبة للثواب الجزيل ومضاعفته، فأيد اللهم هذا السلطان الرحيم الحليم الأفخم، والملك الكريم السليم الأكرم، بالفتح المبين، والنصر على الأعداء والمشركين، بجاه سيد المرسلين، وخاتم النبيين، عليه وعلى آله وصحبه أفضل صلاة وأكمل تسليم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. كتبه الفقير، المستمنح آلاء ربه القدير، أحمد عارف حكمت بن إبراهيم عصمت الحسيني عوملا بعفو مولاهما الغني آمين.
الشيخ أحمد مسلم بن الشيخ عبد الرحمن الكزبري الشافعي الدمشقي
من أهل بيت قد عمر بالعلم ربوعه، وزين بالفضل أصوله وفروعه، ورفعت العبادة مقامه، ونشرت على هام السيادة أعلامه، ولقد زاد(1/146)
هذا البيت كمالاً وقدراً، وعلا منقبة وذكراً، ولا ريب أن هذا المترجم كان على طريقة آبائه الكرام، وأصوله السادة العلماء الأعلام، ولد سنة الف ومايتين وست وثلاثين، وحضر دروس والده وغيره من العلماء الأفاضل، وقرأ على والدي الشيخ حسن البيطار مدة في الحديث وغيره من الوسائل، واستجازه به وببقية العلوم فأجازه إجازة عامة، وكان له من والدي المحبة والرعاية التامة، حيث أنه تلميذه وابن أستاذه، ونجل شيخه وعمدته وملاذه، وكان للمترجم عز وجاه، وصولة قد رفعت بين الناس رتبته وعلاه، إلى أن صار مقصوداً في الحوائج، معدوداً للمهمات من أعظم المناهج، قد أحبه الولاة والحكام، ورفعوا قدره على كاهل الاحترام، وأقبل الناس من كل جانب عليه، حتى كادوا لا يجنحون إلا إليه، ولذلك كان جاهه لعلمه ساتراً، ولتقدمه على أضداده ناصراً، لأن دائرة اشتهاره كانت أوسع من دائرة علمه، ودائرة قاصديه وأنصاره قد زادت على دائرة فهمه، وبعد موت أخيه الشيخ عبد الله سنة خمس وستين ومائتين وألف جلس مكان أخيه تحت قبة النسر، لقراءة صحيح البخاري كل يوم بعد العصر، واستمرت فيه هذه العادة إلى الآن في شهر رجب وشعبان ورمضان. ذكر المحبي في خلال ترجمة الإمام المحاسني أحد مدرسي هذه البقعة أن هذا الدرس وظيفة حادثة بعد الخمسين وألف رتبها بهرام آغا كتخدا والدة السلطان إبراهيم؛ وبنى السوق الجديد والخان قرب باب الجابية لأجلها، وعين للمدرس ستين قرشاً وللمعيد ثلاثين، ولقارىء العشر عشرة قروش اه. اقول لعل هذا الخان هو الخان المسمى بالمرادانية، الذي خرقه الوزير مدحت باشا من جانبيه الشرقي(1/147)
والغربي وخرق أيضاً بجانبه حماماً يقال له حمام المرادنية، ووصلهما بالسوق الجديد الذي بناه إمام جامع السباهية، وأحكمه بأن يكون على خريطة متناسبة من باب الجابية إلى مأذنة الشحم، وهكذا إلى حارة النصارى، وذلك سنة سبع وتسعين ومائتين وألف. والآن تغيرت معالم الخان والحمام وانمحت آثارهما أصلاً لأنهما صارا دكاكين، ولم يبق من الخان إلا بابه، حتى إن الحادث الذي لا يعرفهما لا يظهر له إلا أنه سوق لا غير، والله أعلم.
ولا يتوهم أن ابتداء الدرس في هذا المحل من حين الوظيفة لأن الشمس الميداني الآتي ذكره درس قبل ترتيب الكنخدا بنيف وأربعين سنة كما سنذكره مفصلاً إن شاء الله تعالى. وقد اشتهر بين الخاص والعام أن وظيفة هذا الدرس مشروطة لأعلم علماء الشام.
ذكر أول من جلس للتحديث تحت قبة النسر بعد العصر في الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان(1/148)
أولهم هو العالم العلامة، والحبر الفهامة الشمس محمد الميداني أناله الله في جنته الأماني، قال المحبي في أثناء ترجمته: لما مات الشمس الداودي(1/152)
أي سنة ست وألف فقد الناس مجلسه للحديث فقامت الطلبة على الشمس الميداني بعقد مجلس في الحديث بعد موته بسنتين أو أكثر، فأقرأ في صحيح البخاري بعد صلاة العصر، واختار أن يكون جلوسه تحت قبة النسر، وكان الداودي يجلس تجاه المحراب الذي للشافعية بعد وفاة البدر الغزي واستمر الميداني إلى أن توفي بالقولنج في وقت الضحى يوم الاثنين ثالث عشر ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وألف وصلي عليه قبل صلاة العصر، ودفن بمقبرة باب الصغير عند قبر والده، ولما أنزل في قبره عمل المؤذنون ببدعته التي ابتدعها مدة سنوات بدمشق من إفادته إياهم أن الأذان عند دفن الميت سنة وهو قول ضعيف ذهب إليه بعض المتأخرين ورده ابن حجر في العباب وغيره فأذنوا على قبره اه. ومدة تدريسه على ما ذكر إما أربع أو خمس وعشرون سنة لا سبع وعشرون كما وهم.
ثم تولاه بعده العلامة الإمام، والحبر الهمام الشيخ نجم الدين محمد الغزي
واستمر إلى أن توفي يوم الأربعاء ثامن عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وألف عن ثلاث وثمانين سنة وعشرة أشهر وأربعة أيام، ودفن بمقبرة(1/153)
الشيخ رسلان رضي الله عنه، ومن غريب ما اتفق له في درسه تحت القبة أن الشمس الداودي كان وصل في قراءة البخاري إلى باب كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى لا يكف شعراً ولا ثوباً، ودرس بعده الشمس الميداني من ذلك الباب إلى باب مناقب عمار بن ياسر وتوفي، ودرس من بعده النجم الغزي إلى أن أكمله في ثلاث سنوات، ثم افتتحه وختمه وأعاد قراءته إلى أن وصل البكاء على الميت، وكانت مدة تدريسه سبعاً وعشرين سنة اه. والظاهر أن الكتخدا المقدم ذكره رتبة في مدة النجم كما يعلم مما سلف والله أعلم.
ثم تولاه بعده ولده الفاضل الكامل الشيخ سعودي الغزي
وابتدأ من محل انتهى إليه درس والده في صحيح البخاري، واستمر إلى(1/154)
أن توفي في أوسط ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وألف ودفن بمقبرة آبائه تربة الشيخ رسلان قدس الله سره العزيز، وكانت مدة قراءته عشر سنوات ثم طلب التدريس العالم الجليل الشيخ محمد الاسطواني من قاضي القضاة واجتمع هو والشيخ محمد تاج الدين المحاسني في مجلس القاضي وكان الآخر طالباً لها، فوقع بينهما مقاولة ومخاصمة وقيل إنهما تشاتما بألفاظ قبيحة.(1/155)
ثم وجهت البقعة للمحاسني
ومرض الاسطواني من يومه وبعد أسبوعين توفي قبل الظهر من يوم الأربعاء سادس وعشرين المحرم عام اثنين وسبعين وألف ودفن بمقبرة باب الفراديس، قال المحبي: ولم تطل مدة المحاسني أي لأنه درس شهراً واحداً ثم مات في غرة شعبان عشية الأربعاء عام اثنين وسبعين وألف ودفن بمقبرة باب الفراديس بالقرب من جده الأمير الحسن البوريني.(1/156)
ثم وجهت البقعة للأستاذ الكبير محمد بن يحيى الخباز البصير المعروف بالبطنيني
ودرس إلى أن توفي في سنة خمس وسبعين وألف، وكان مدة تدريسه ثلاث سنين.
ثم وجهت البقعة للإمام الجليل الحنفي الشيخ علاء الدين الحصفكي
ودرس مدة، ثم سعى بعض حساده في عزله، وأرسلوا في ذلك كتباً إلى جانب الدولة، فاستقر ذلك في عقول أصحاب الحل والعقد فعزل.(1/157)
ثم وجهت البقعة للشمس محمد بن محمد العيثاوي
قال المحبي: وبقي العلاء على هذا نحو سنة ثم سافر إلى الروم(1/158)
واجتمع بشيخ الإسلام يحيى المنقاري وشكا إليه حاله فأعاد عليه بقعة التحديث، وبقي إلى أن توفي يوم الإثنين عاشر شوال سنة ثمان وثمانين وألف عن ثلاث وستين سنة، ودفن بمقبرة باب الصغير، وأما العيثاوي فإنه توفي ليلة الخميس رابع يوم شهر ربيع الأول سنة ثمانين وألف بداء الاستسقاء ودفن بتربة باب الصغير اه وانظر هل أعيدت للحصفكي بعد وفاة العيثاوي أو قبله؟ والظاهر الأول، لأن المحبي لما ترجم العيثاوي قال وولي آخر أمره تدريس البخاري في الأشهر الثلاثة تحت قبة النسر بجامع بني أمية ثم ذكر وفاته ولم يذكر أنه عزل عن الدرس والله أعلم.
ثم وجهت البقعة عن الشيخ علاء الدين الحصفكي المفتي إلى العلامة المحقق والفهامة المدقق الشيخ يونس المصري
سنة تسع وثمانين فدرس بها إلى حين وفاته، وسافر في هذه المدة مرتين(1/159)
إلى الديار الرومية، وكان يونب عنه في غيبته في التدريس المرقوم الشمس محمد بن علي الكاملي وكانت وفاة الشيخ يونس في ذي الحجة سنة عشرين ومائة وألف، وكانت مدة تدريسه ثلاثاً وثلاثين سنة ما عدا سنتين درس بهما الكاملي، وأما الكاملي فإنه توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف كما في تاريخ المرادي.
ثم وجهت البقعة للعلامة الشهير الشيخ إسماعيل العجلوني
قال المرادي: وذلك أنه ارتحل إلى الروم سنة تسع عشرة ومائة(1/160)
وألف، فلما كان بها انحل تدريس البقعة عن شيخه الشيخ يونس المصري بموته فأخذه هو، وجاء به إلى دمشق، وكان والي دمشق إذ ذاك الوزير يوسف باشا القبطان عارضاً به إلى شيخه الشيخ محمد الكاملي شيخ الشيخ إسماعيل المذكور، وألزم القاضي بعرض على موجب عرضه، وأنه يعطي ما صرفه شيخه الشيخ أحمد الغزي مفتي الشافعية بن الشيخ عبد الكريم بن الشيخ سعودي المقدم ذكره للقاضي، وكان مراد الغزي أولاً التدريس، فحين وصول العرض إلى دار الخلافة قسطنطينية للدولة العلية، ما وجهوا التدريس لشيخه الكاملي، بل وجهوه للشيخ إسماعيل العجلوني، واستقام بهذا التدريس إلى أن مات، ومدة إقامته من سنة ابتداء إحدى وعشرين إلى أن مات إحدى وأربعون سنة، وكانت وفاته بدمشق في(1/161)
محرم الحرام افتتاح سنة اثنتين وستين ومائة وألف، ودفن بتربة الشيخ أرسلان رضي الله عنه. وغلط من قال إن مدة درسه ثلاث وأربعون سنة، وأما الشيخ أحمد الغزي فكانت وفاته في يوم الجمعة ثاني شعبان سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف.
ثم وجه تدريس البقعة للعلامة الشيخ صالح الجينيني الحنفي
فدرس إلى أن مات، وذلك يوم الأحد بعد العصر سادس عشر شهر ذي القعدة سنة سبعين ومائة وألف، ودفن في باب الصغير وكان مدة تدريسه تسع سنين.
ثم وجه تدريس البقعة للإمام الكبير والجهبذ الشهير الشهاب أحمد المنيني
واستمر إلى أن توفي يوم السبت تاسع عشر جمادى الثانية سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف، وكانت مدة تدريسه سنة واحدة.(1/162)
ثم وجه التدريس للعلامة والحبر الفهامة علي أفندي الداغستاني
فدرس إلى أن أصابه داء الفالج في صفر سنة ست وتسعين، فأناب(1/163)
الجهبذ النحرير الشمس محمد الكزبري فدرس بالنيابة عنه أربع سنوات، إلى أن توفي الداغستاني ليلة الخميس ثالث عشر ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائة وألف ودفن بسفح قاسيون.
ثم وجه التدريس إلى السيد محمد العطار
ولم يدرس بل أناب الشيخ الشمس الكزبري فبقي مدرساً إلى أن توفي السيد محمد العطار سنة تسع بعد المائتين وألف.
ثم تولاه العالم العلامة، والمحدث الفهامة، الشمس محمد الكزبري
من غير تعرض له واستمر إلى أن توفي سنة إحدى وعشرين ومائتين(1/164)
وألف ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، ودفن في باب الصغير، وكانت مدة تدريسه إحدى عشرة سنة.
ثم تولاه بعده ولده العالم العامل، والقدوة الكامل، ذو الوجه الأنوري الشيخ عبد الرحمن الكزبري(1/165)
فدرس إلى أن توفي في البلد الحرام ختام عام اثنين وستين ومائتين وألف وكانت مدة تدريسه اثنتين وأربعين سنة.
ثم تولاه بعده ولده العالم الفاضل، والنحرير الكامل، الشيخ عبد الله الكزبري
فدرس إلى أن توفي، سادس وعشرين شهر ربيع الثاني سنة خمس وستين ومائتين والف، وكانت مدة تدريسه سنتين.
ثم تولاه بعده أخوه العالم الجليل والفاضل النبيل الشيخ أحمد
المترجم المذكور، ذو المقام المشهور، فجلس مكان أخيه تحت قبة النسر في جامع بني أمية المصون، وابتدأ من محل ما وصل إليه أخوه من الصحيح الشريف ذي الشأن، وفي سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف وجهت عليه نقابة أشراف الشام، وفي سنة خمس وثمانين فصلت عنه ووجهت إلى أحمد أفندي بن(1/166)
المرحوم أمين أفندي منجك الصالح الهمام، وفي السنة المذكورة وجهت عليه مشيخة الصمادية القادرية الكائنة في محلة الشاغور، في قرب دار المترجم المذكور، ولم يزل مواظباً على الدروس والأذكار، مع تردد الناس إليه آناء الليل وأطراف النهار، إلى أن جذبته يد المنية، إلى الدار الباقية العلية، ليلة الحادي والعشرين من المحرم الحرام، سنة ألف ومائتين وتسع وتسعين وصلى عليه أكثر أهل دمشق الشام، في جامع بني أمية، ثم دفن في مقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى.
الشيخ أحمد بن محمد أبو الفتح بن محمد العجلوني الأزهري ابن خليل بن عبد الغني العجلوني الجعفري الشاذلي
العالم الشهير، والشهم اللوذعي الخطير، المولى المفضال، المتسربل برداء السيادة والكمال، صاحب الفضائل والأدب، والسامي بمعارفه ذروة الرتب، فلله دره من إمام، حاز كل مرتبة ومقام، تليت آيات أحاديثه في طروس ذوي الفضائل والإمداد، فسما في سماء السيادة والإرشاد. وقد أخذ عن الشيخ أحمد بن عبيد العطار، وعن الشيخ علي السليمي وعن الشيخ خليل الكاملي، وله تأليفات شهيرة، وكتابات كثيرة، تدل على فضله وعلمه، وغزير ذكائه وفهمه. وأخذ الطريقة الشاذلية عن والده، ولقد أقرأ وأفاد، وعظم قدره وساد، وكان حسن الشمائل، بديع الفضائل، بريء الذمة، عالي الهمة، جميل السيرة، صافي السريرة، ولد بدمشق سنة سبعين ومائة وألف ولم يزل مواظباً على الإفادة والاستفادة في العلوم، مع إتقان المنطوق منها والمفهوم، والعمل بالتقوى، في السر والنجوى، إلى أن جاءه الطلب، إلى الفوز بالأرب، فمات سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف ودفن في تربة باب الصغير، رحمة الله عليه.(1/167)
الشيخ أحمد أفندي بن سعيد بن حمزة بن علي الدمشقي الحنفي الحسيني الشهير بابن عجلان
نقيب السادة الأشراف في دمشق الشام وابن نقيبها، وأديب القادة ذوي الإنصاف وابن أديبها، فهو أحد صدور الشام، وقمر سماء أولي المجد والاحترام، وشمس أفق الكمال، وبدر فلك الجمال، إكليل الأدب الزاهر، وزهرة غصن الفضل الناضر، من سما في سماء المعارف والأدب، ورقي بمحاسن كمالاته أسنى الرتب، ولما توفي والده أحيلت نقابة الأشراف إليه، والقت الرئاسة زمامها لديه، وكان له في الكرم كف، لا تعرف القبض والكف، ولا زال يتقلب على فرش الهنا، محفوظاً من كل كرب وعنا، إلى أن وقعت حادثة النصارى نهار الاثنين سادس عشر ذي الحجة الحرام سنة ست وسبعين ومائتين وألف، فاختل أمر البلد، وأحس ذوو العقل بالشرور والنكد، فما مضى برهة أيام، إلا وقد حضر الوزير المعظم حضرة فؤاد باشا إلى الشام، مرخصاً بما يريد مما عز وهان، من غير مراجعة ولا استئذان، فبعد أيام جمع الأعيان والصدور، وقر قراره بنفي المترجم المذكور، ومعه الشيخ عبد الله الحلبي، وطاهر أفندي مفتي دمشق الشام، وعمر أفندي الغزي مفتي السادة الشافعية بدمشق، وأحمد أفندي الحسيني، وعبد الله بك بن العظم وولده علي بك، وعبد الله بك بن نصوح باشا، ومحمد بك العظمة، وهؤلاء هم أهل مجلس دمشق الشام وأعضاؤه، فنفاهم جميعاً إلى قبرص، ووضعوا جميعاً في قلعة الماغوصة، وكانت وفاة المترجم المذكور في شهر رمضان المبارك سنة سبع وسبعين ومائتين وألف ودفن هناك في تكة الأستاذ مراد ومات عقيماً، غريباً مظلوماً، وإن آل البيت أكثر الناس ابتلاء رضي الله عنه وأرضاه.
أحمد بن يوسف الشنواني المصري الشافعي المكنى بأبي العز
العالم المحسوب من أفراد علماء ذلك الزمان، والمنسوب لمن دامت مآثر(1/168)
ذكرهم وإن غابوا عن العيان، فلا ريب أن شمائله في جبهة الليالي غرة، وفضائله في جيد الأيام درة، مع ما له من حسن الخط وجودة الإنشاء، وجميل السيرة بين الأفاضل والعلماء، أخذ عن الشهابين الملوي والجوهري، وعن الشمس الحفني، والشيخ حسن المدابغي، ومحمد بن النعمان الطائي، وحضر على السيد مرتضى صحيح الإمام البخاري بطرفيه وصحيح الإمام مسلم بطرفيه وسنن أبي داود إلى نحو ثلثيه، وغالب الشمائل للترمذذي، وثلاثيات البخاري، وثلاثيات الدارمي، والحلية لأبي نعيم من أوله إلى مناقب العشرة، وأجزاء كثيرة بحدودها في ضمن إجازته بأسانيدها. قال الشيخ الجبرتي: كان نعم الرجل صحبة وديانة وحفظاً للنوادر من الأشعار والحكايات، فمن ذلك ما سمعته من لفظه، قال أنشدني رجل من المغاربة بمكة وقد نسيت اسمه، للتقي السبكي يمدح الإمام الغزالي وكتابه الإحياء:
لمحمد بن محمد بن محمد ... فضل على العلماء بالتمكين
أحيا علوم الدين بعد مماتها ... بكتابه إحيا علوم الدين
وأنشدني أيضاً للإمام الغزالي يمدح الإمام الشافعي رضي الله عنهما:
إن المذاهب خيرها وأجلها ... ما قاله الحبر الإمام الشافعي
فاخترت مذهبه وقلت بقوله ... ورجوته يوم القيامة شافعي
وأصيب المترجم في آخر عمره بكريمتيه عوضه الله عنهما الجنة ونعيمها. توفي سابع وعشرين من جمادى الأولى سنة سبع ومائتين وألف.
الشيخ أحمد بن محمد بن جاد الله بن محمد الختاني المالكي البرهاني
الإمام العلامة، والوجيه الفهامة، يعرف بأبي شوشة، قال العلامة الجبرتي: وله مقام يزار بأم ختان بالجيزة، نشأ في طلب العلم، وحضر(1/169)
أشياخ الوقت، ولازم السيد البليدي، وصار معيداً لدروسه بالأزهر والأشرفية، وانتفع بملازمته له انتفاعاً كلياًن وانتسب إليه وأجازه إجازة مطولة بخطه، ونوه بشأنه، فلما توفي شيخه المذكور تصدر لإقراء الحديث مكانه بالمشهد الحسيني، واجتمع عليه الناس وحضر من كان ملازماً لحضور شيخه من تجار المغاربة وغيرهم، واعتقدوا صلاحه، وتحبب إليهم وواسوه بالصلات والزكوات والنذور، وواظب الإقراء بالأزهر أيضاً، وزيارة مشاهد الأولياء وإحياء لياليها بقراءة القرآن والذكر، ويقوم دائماً من الثلث الأخير من الليل ويذهب إلى المشهد الحسيني ويصلي الصبح بغلس في جماعة، وزاد اعتقاد الناس فيه واتسعت دنياه مع المداومة على استجلابها وإمساكها، وبآخره اشترى داراً عظيمة بحارة كتامة، المعروفة الآن بالعينية بالقرب من الأزهر، وانتقل إليها وسكنها. وكان يخرج لزيارة قبور المجاورين في كل يوم جمعة قبل الشمس، فقصدته العرب قطاع الطريق، فأراد الهروب وكان جسيماً فسقط من على بغلته فانكسر زره وحمل إلى داره وعالج نفسه شهوراً، حتى عوفي قليلاً ولم يزل تعاوده الأمراض حتى توفي رحمه الله تعالى سنة سبع ومائتين وألف.
الشيخ أحمد بن سالم النفراوي المالكي المصري
الإمام المفضل، والهمام المبجل، نشأ في حجر والده في رفاهية، ونعمة وافية، ورياسة وكمال، ورفعة وجمال، حافظاً أوقاته بالاجتهاد في الطلب، متمسكاً للوصول إلى المعالي بأقوى سبب، إلى أن جاءته الأماني ملقية إليه مقاليدها، ومنيلة له طريقها وتليدها، ولما مات ولده المرقوم تعصب له الشيخ عبد الله الشبراوي حتى وجه عليه سائر وظائف والده وتعلقاته، وأجلسه للدرس في مكان أبيه وأمر جماعة أبيه بالحضور عليه، وكان الشيخ علي الصعيدي من أكبر طلبة أبيه فتطلع للجلوس في محله، وكان(1/170)
أهلاً لذلك فعارضه الشيخ الشبراوي وأقصاه، وصدر المترجم المذكور مع قلة بضاعته بالنسبة للشيخ علي المرقوم ولثغة في لسانه، فحقد الشيخ الصعيدي في نفسه عليه سنين، وكان المترجم ذا دهاء ومكر فتصدى للقضايا والدعاوى واتخذ له أعواناًن واشتهر ذكره، وعلا قدره، وعد من الكبار وترددت عليه الأمراء والأعيان. ولم يزل الصعيدي ينتهز فرصة لتأخير حاله، والقائه في أوحاله، إلى أن أمكنته الفرصة من ذلك، فألقاه في أودية المهالك، ولا زال قرين الذل والهوان، وزمانه يعاكسه فيما جل وهان، إلى أن توفي سنة سبع ومائتين وألف، نسأله تعالى الحفظ واللطف، إنه رؤوف رحيم، وقد ذكر الإمام الجبرتي بعض ذلك.
الشيخ أحمد بن موسى بن داود أبو الصلاح العروسي الشافعي المصري الأزهري
علامة العلوم والمعارف، وروضة الآداب الوريقة وظلها الوارف، جامع المزايا والمناقب، شهاب الفضل الثاقب، ولد سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف، وقدم الأزهر فسمع على الشيخ أحمد الملوي الصحيح بالمشهد الحسيني، وعلى الشيخ عبد الله الشبراوي الصحيح والبيضاوي والجلالين، وعلى السيد البليدي البيضاوي في الأشرفية، وعلى الشمس الحفني الصحيح مع شرحه للقسطلاني، ومختصر ابن أبي جمرة، والشمائل، وابن حجر على الأربعين، والجامع الصغير، وتفقه على كل من الشبراوي والعزيزي والحفني والشيخ علي قايتباي الأطفيحي والشيخ حسن المدابغي والشيخ سابق والشيخ عيسى البراوي والشيخ عطية الأجهوري، وتلقى بقية الفنون عن الشيخ علي الصعيدي لازمه السنين العديدة، وكان معيداً لدروسه، وسمع عليه الصحيح بجامع مرزة ببولاق، وسمع من الشيخ أبي طالب الشمائل لما ورد مصر متوجهاً إلى الروم، وحضر دروس الشيخ يوسف الحفني والشيخ إبراهيم الحلبي وإبراهيم بن محمد الدلجي،(1/171)
ولازم الشيخ حسن الجبرتي وأخذ عنه وقرأ عليه في الرياضيات والجبر والمقابلة وكتاب الرقايق للسبط وقوللي زاده على المجيب وكفاية القنوع والهداية وقاضي زاده وغير ذلك، وتلقن الذكر والطريقة عن السيد مصطفى البكري ولازمه كثيراً، واجتمع بعد ذلك على ولي عصره الشيخ أحمد العريان، فأحبه ولازمه واعتنى به الشيخ وزوجه إحدى بناته وبشره بأنه سيسود ويكون شيخ الجامع الأزهر، فظهر ذلك بعد وفاته بمدة لما توفي شيخنا الشيخ أحمد الدمنهوري، واختلفوا في تعيين الشيخ فوقعت الإشارة عليه، واجتمعوا بمقام الإمام الشافعي رضي الله عنه واختاروه لهذه الخطة العظيمة فكان كذلك، واستمر شيخ الجامع على الإدلاق، ورئيسهم بالاتفاق، يدرس ويعيد، ويملي ويفيد، وقال الجبرتي: وكان يرعى حق الصحبة القديمة والمحبة الأكيدة، وسمعت من فوائده كثيراً، ولازمت دروسه في المغني لابن هشام بتمامه، وشرح جمع الجوامع للجلال المحلي والمطول وعصام على السمرقندية وشرح رسالة الوضع وشرح الورقات وغير ذلك، وكان رقيق الطباع، مليح الأوضاع، لطيفاً مهذباً إذا تحدث نفث الدر، وإذا لقيته لقيت من لطفه ما ينعش ويسر، وقد مدحه شعراء عصره بقصائد طنانة.
ومن كلامه ما كتبه مقرظاً على رياض الصفا لشيخنا السيد العيدروس هذان البيتان:
أخي طالعن في رياض الصفا ... وكن وارداً في مياه الوفا
وقل يا إلهي سلم لنا ... وجيهاً حباه كمال اصطفا
وكتب على تنميق السفر له مضمناً ما نصه:
كتاب على السحر البيان قد انطوى ... وحكمة شعر منه تبدو فضائله
وتنسيق أسفار لحضرة سيد ... هو البحر علماً وافر العقل كامله(1/172)
إذا رمت أسرار البلاغة فهو في ... قصائده الحسنى التي لا تماثله
عرائس أفراح وعقد جمانها ... بمختصر المدح المطول قائله
وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه أوائله
وكتب على النفحة ما نصه:
نفحة المولى الوجيه العيدروس ... نشرها يحيا به موت النفوس
عطرها باهي وذاك عرفه ... ذكر الأرواح عهداً قد تنوسي
جمعت من غرر العرفان ما ... فاق أبهى درر العقد النفيس
وله أيضاً وقد كتب على تنميق الأسفار له:
ألاح ضوء المنى عن برق أسفار ... أم أشرق الكون من تنميق أسفار
أم اليواقيت قد جاءت منظمة ... في عقد در بدا في بعض أسفار؟
إني لأقسم بالرحمن مدحي عبده ... الذي سره بين الورى ساري
العيدروسي ذو الفضل الجليل وذو ... المجد العلي وسر الخالق الباري
إن الذي صاغه من نور تكرمة ... من جوهر عزلاً من نظم أشعار
وله أيضاً عليه:
أسر لائح ساري ... سرى في نوره الساري
ونور باهر باه ... به زند الهوى واري
وبدر سره زاه ... بدا في حسن أسفار
وعقد الجوهر المكنو ... ن أم تنميق أسفار
كتاب بل عباب فيه ... فلك للهوى جاري
ومن كلامه يمدح الأستاذ عبد الخالق بن وفا:
شموس لها أفق السعادة مطلع ... أبت في سوى برج السعادة تطلع
معارج فضل ليس يرقى سنامها ... سوى مفرد في عزه ليس يشفع
سما أفقها السامي أولو المجد والوفا ... وصد سواهم عن سناها وصدعوا(1/173)
كواكب هدي قد أضاء بنورهم ... سبيل لمن يبغي الرشاد ومهيع
هم السادة الأمجاد والقادة الألى ... بكل كمال جلببوا وتدرعوا
هم الشاربو راح التقرب والصفا ... وكأسهم الأصفى مدى الدهر مترع
وهي طويلة، ولم تزل كؤوس فضله على الطلبة مجلوة، حتى ورد موارد الموت فبدلت بالكدر صفوه، وأي صفاه لا يكدره الدهر، ولم يرشقه بسهام فصم العمر، فدعاه الله تعالى إلى الجنان، وتلقاه جيش الرحمة والرضوان، وذلك في حادي وعشرين من شعبان سنة ثمان ومائتين وألف ودفن بمدفن عمه الشيخ العريان، تغمدهما الله بالرحمة والرضوان. ومن تآليفه شرح على نظم التنوير، في إسقاط التدبير للشيخ الملوي، وحاشية علي الملوي على السمرقندية وغير ذلك. ورثاء الشيخ إسماعيل الخشاب بقوله:
تغير وجه الدهر وازور جانبه ... وجاءت بأشراط المعاد عجائبه
وكدر صفو العيش وقع خطوبه ... وقد كان ورداً صافيات مشاربه
فما لي لا أذري المدامع حسرة ... وافق سماء المجد تهوي كواكبه
وما لي لا أبكي على فقد ذاهب ... موصلة لله كانت مذاهبه
إمام هدى للهدى كان انتدابه ... فلا كان يوم فيه قامت نوادبه
أغرسني شمس الضحى دون وجهه ... وفوق مناط الفرقدين مراتبه
حليف ندى كالسيل سيب يمينه ... وكالبحر تجري للعفاة مواهبه
أخو ثقة بالله في كل موطن ... على أنه ما انفك خوفاً يراقبه
له عفو ذي حلم ورأي أخي نهى ... يضيء لدى محلولك الخطب ثاقبه
على نهج أهل الرشد عاش وقد مضى ... مطهرة أردانه وجلاببه
فمن ذا الذي ندعو لكل ملمة ... ونرجو إذا ما الأمر خيف عواقبه
ومن ذا لإيضاح المسائل بعده ... وحل عرى ما قبل أعيت مطالبه
لقد هد ركن الدين حادث فقده ... وشابت له من كل طفل ذوائبه(1/174)
وصدع أركان العلا وتقوضت ... لذاك عروش الغير ثم جوانبه
وغادر ضوء الصبح أسود حالكاً ... كأن الدجى ليست تزول غياهبه
ألم تر أن الأرض مادت بأهلها ... وإن الفرات العذب قد غص شاربه
سطت نوب الأيام بالعلم الذي ... تزال به عن كل شخص نوائبه
عجبت لهم أنى أقلوا سريره ... وقد ضم طوداً أي طود يقاربه
وكيف ثوى البحر الخضم بحفرة ... وضاق بجدواه الفضا وسباسبه
خليلي قوما فابكيا لمصابهبمتهل مع ليس ترقا سواكبه
لقد آد إذ أودى وأعقب مذ مضى ... أسى يجعل الأحشا جذاذاً تعاقبه
وأي شهاب ليس يخبو ضياؤه ... وأي حسام لا تفل مضاربه
وأي فتى أيدي المنية أفلتت ... وأي فتى وافته يوماً مآربه
وماذا عسى تبغي من الدهر بعدما ... أصمت وأصمت كل قلب مصائبه
يعز علينا أن نراه ببرزخ ... تمازج ترب الأرض فيه ترائبه
سقى قبره الغيث الملث وأمطرت ... عليه من الرضوان سحاً سحائبه
وحل بفردوس الجنان منعماً ... ولاقته فيه حوره وكواعبه
الشيخ أحمد شهاب الدين بن محمد بن عبد الوهاب السمنودي المحلي الشافعي
الإمام العلامة، والرحلة الفهامة، بقية المحققين، وعمدة المدققين، من بيت أهل العلم والصلاح، والرشد والفلاح، وأصلهم من سمنود. ولد هو بالمحلة وقدم الجامع الأزهر، وحضر على الشمس السجيني والعزيزي والملوي والشبراوي وتكمل في الفنون العربية، وتلقى عن السيد علي الضرير والشيخ محمد الغلاني الكشناوي مشاركاً للشيخ حسن الجبرتي وللشيخ إبراهيم الحلبي، وعاد إلى المحلة فدرس في الجامع الكبير مدة ثم أتى إلى مصر بأهله وعياله ومكث بها وأقرأ بالجامع الأزهر درساً وتردد إلى الأكابر والأمراء وأجلوه، وقرأ في المحمدية بعد موت الشنويهي(1/175)
في المنهج، وانضم إلى الشيخ أبي الأنوار السادات، ويأتي إليه في كل يوم، وكان إنساناً حسناً بهي الشكل لطيف الطباع، عليه رونق وجلالة، جميل المحادثة حسن الهيئة، توفي بعد أن تمرض دون شهر عن مائة وست عشرة سنة مع كونه كامل الحواس، إذا نهض نهض نهوض الشباب، وكانت وفاته سنة تسع ومائتين وألف ودفن ببستان المجاورين. وكان يتكتم مدة عمره كما نقل ذلك الجبرتي.
الشيخ أحمد بن يونس الحليفي الشافعي الأزهري المصري
الإمام العلامة، واللوذعي الفهامة، رئيس المحققين، وعمدة المدققين، النحوي المنطقي الجدلي الأصولي، قال العلامة الجبرتي: ولد المترجم سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف كما سمع من لفظه، وقرأ القرآن وحفظ المتون وحضر على كل من الشبراوي والحفني وأخيه الشيخ يوسف والسيد البليدي والشيخ محمد الدفري والدمنهوري وسالم النفراوي والطحلاوي والصعيدي، وسمع الحديث على الشهابين الملوي والجوهري، ودرس وأفاد بالجامع الأزهر، وتقلد وظيفة الإفتاء بالمحمدية عندما انحرف يوسف بك على الشيخ حسن الكفراوي، فاتخذ الشيخ أحمد أبا سلامة أميناً على فتاويه لجودة استحضاره في الفروع الفقهية، وله مؤلفات، منها حاشية على شرح شيخ الإسلام على متن السمرقندية في آداب البحث، وأخرى على شرح الملوي في الاستعارات، وأخرى على شرح المذكور على السلم في المنطق، وأخرى على شرح شيخ الإسلام على آداب البحث، وأخرى على شرح الشمسية في المنطق، وأخرى على متن الياسمينية في الجبر والمقابلة، وشرح على أسماء التراجم، ورسالة في قولهم واحد لا من قلة، وموجود لا من علة، ورسالة متعلقة بالأبحاث الخمسة التي ردها الشيخ الدمنهوري، ولازم الشيخ حسن الجبرتي مدة وتلقى عنه بعض العلوم الغريبة، وكملها بعد وفاته على تلميذه محمود أفندي اثنيشي، وكان جيد التقرير ويميل بطبعه(1/176)
لذوي الوسامة والوجوه الحسان من الأولاد والشبان، فإذا رجع من درسه خلع زي العلماء ولبس زي العامة وجلس بالأسواق، وخالط الرفاق، ويمشي كثيراً بين المغرب والعشاء بالتخفيفة. مات في أوائل رجب سنة تسع ومائتين وألف.
الشيخ أحمد بن أحمد السماليجي الشافعي الأحمدي المدرس بالمقام الأحمدي بطندتا
الفقيه العلامة الصالح الصوفي، قال الشيخ الجبرتي: ولد ببلدة سماليج بالمنوفية، وحفظ القرآن، ثم جاء إلى مصر وحضر على الشيخ عطية الأجهوري والشيخ عيسى البراوي والشيخ محمد الخشني والشيخ أحمد الدردير، ورجع إلى طندتا فاتخذها سكناً وأقام بها يقرىء دروساً ويفيد الطلبة ويفتي على مذهبه، ويقضي بين المتنازعين من البلاد، فراج أمره واشتهر ذكره بتلك النواحي، ووثقوا بفتياه. وقوله، وأتوه أفواجاً بمكانه المسمى بالصف فوق باب المسجد المواجه لبيت الخليفة، وتزوج بامرأة جميلة الصورة من بلد الفرعونية وولد له منها ولد سماه أحمد كأنما أفرغ في قالب الجمال، وأودع بعينيه السحر الحلال، فلما ترعرع حفظ القرآن، والمتون، وحضر على أبيه في الفقه والفنون، وكان نجيباً جيد الحافظة يحفظ كل شيء سمعه من مرة واحدة، ونظم الشعر من غير قراءة شيء في علم العروض.
أول ما رأيته في سنة تسع وثمانين ومائة وألف في أيام زيارة سيدي أحمد البدوي فحضر إلي وسلم علي وآنسني بحفظ ألفاظه، وجذبني بسحر ألحاظه، وطلب مني تمية فوعدته بإرسالها وأبطأت عليه فكتب إلي أبياتاً في ضمن مكتوب وهي:
يا أيها المولى الهما ... م ومن رقى رتب العلا(1/177)
يا مفرداً في عصره ... ومفضلاً بين الملا
يا يوسف العصر الذي ... عنه فوآدي ما سلا
يا عبد رحمن الورى ... يا ذا المحاسن والحلا
يا ابن الجبرتي الذي ... أعطيت ذكراً أجملا
مني إليك تحية ... ما حن مشتاق إلى
جمالك الفرد الذي ... به المعنى اشتغلا
أو لاح نجم في الدجى ... أو سار ركب في الفلا
هذا وقد واعدتني ... بتميمة تسمو على
حرز الأماني التي ... ما مثلها حرز حلا
فاسمح وجد يا سيدي ... وانعم بها وتفضلا
ولا تطع في صبك ... المضنى الشجي العذلا
وامنن برد جواً به ... فالجسم منه انتحلا
والطرف أمسى ساهراً ... والصبر عنه ارتحلا
والبعد قد أورثه ... سقماً فلا حول ولا
ولما بلغ، زوجه والده بزوجتين في سنة واحدة، ولم يزل يجتهد ويشتغل حتى مهر وأنجب ودرس لجماعة من الطلبة، وحضر إلى مصر مع والده مراراً. وفي أيام شبابه نشبت به أظفار المنية، وحالت بينه وبين الأمنية، وذلك في سنة ثلاث ومائتين وألف، وخلف ولداً صغيراً استأنس به جده المترجم، وصبر على فقد ابنه وترحم، وتوفي هو أيضاً سنة تسع ومائتين وألف رحمهم الله تعالى آمين.
الشيخ أحمد بن موسى بن أحمد بن محمد البيلي العدوي المالكي الأزهري
الإمام العمدة الفقيه، والهمام الصفوة النبيه، المتقن العلامة، المتفنن الفهامة، عين أعيان الفضلاء، ونخبة أفراد العلماء، ولد ببني عدي كما ذكره الإمام الجبرتي سنة إحدى وأربعين ومائة وألف وبها نشأ فقرأ القرآن، وقدم الجامع الأزهر ولازم الشيخ علي الصعيدي ملازمة كلية حتى مهر في العلوم، وبهر فضله في(1/178)
الخصوص والعموم، وكان له قريحة جيدة، وحافظة غريبة، يملي في تقريره خلاصة ما ذكر أرباب الحواشي، مع حسن سبك، والطلبة يكتبون ذلك بين يديه. وقد جمع من تقاريره على عدة كتب كان يقرؤها حتى صارت مجلدات، وانتفع بها الطلبة انتفاعاً عاماً؛ ودرس في حياة شيخه سنين عديدة، واشتهر بالفتوح، وكان الشيخ علي الصعيدي يأمر الطلبة بحضوره وملازمته، وكان فيه انصاف زائد وتؤدة ومروءة، وتوجه إلى الحق، ولديه أسرار ومعارف وفوائد وتمائم وعلم بتنزيل الأوفاق والوفق المثيني العددي وطرائق تنزيله بالتطويق والمربعات وغير ذلك، ولما توفي الشيخ أحمد الدردير ولي مشيخة رواق الصعايدة وله مؤلفات منها مسائل كل صلاة بطلت على الإمام، وغير ذلك.
ولم يزل على حالته وإفادته وملازمته دروسه ومحافظته على الجماعة حتى توفي سنة أربع عشرة ومائتين وألف ودفن في تربة المجاورين رحمه الله.
الشيخ أحمد بن إبراهيم الشرقاوي الشافعي الأزهري
العلامة الفاضل، والشيخ العمدة الكامل، قرأ على والده وتفقه وأنجب، ولم يزل ملازماً لدروسه حتى توفي والده فتصدر للتدريس في محله واجتمعت عليه طلبة أبيه وغيرهم، ولازم مكانه بالأزهر طول النهار يملي ويفيد ويفتي على مذهبه ويأتي إليه الفلاحون من جيرة بلادهم بقضاياهم وخصوماتهم وأنكحتهم فيقضي بينهم ويكتب لهم الفتاوي في الدعاوي التي يحتاجون فيها إلى المرافعة عند القاضي، وربما زجر المعاند منهم وضربه وشتمه، ويستمعون لقوله ويمثلون لأحكامه، وربما أتوه بهدايا ودراهم؛ واشتهر ذكره. وكان جسيماً عظيم اللحية فصيح اللسان ولم يزل على حالته حتى اتهم في فتنة الفرنسيس المتقدمة في ترجمة أبي بكر باشا الطرابلسي، ومات مع من قتل بيد الفرنساوية بالقلعة، ولم يعلم له قبر، وكان ذلك سنة أربع عشرة ومائتين وألف رحمه الله.(1/179)
الشيخ أحمد بن رمضان بن مسعود الطرابلسي المقرىء الأزهري المعروف بالشيخ شامل
العمدة الفاضل، والنبيه الكامل، والوجيه العالم العامل، حضر من بلده طرابلس الغرب إلى مصر في سنة إحدى وتسعين وجاور في الأزهر وكان فيه استعداد، وحضر دروس الشيخ أحمد الدردير والبيلي والشيخ أبي الحسن الغلقي وسمع على شيخنا السيد مرتضى المسلسل بالأولية وغير المسلسل أيضاً، وأخذ منه الإجازة في سنة اثنتين وتسعين، ولما مات الخواجا حسن البناني من تجار المغاربة، فتوصل إلى أن تزوج بزوجته بنت الغرباني وسكن بدارها الواسعة بالكعكيين، وتجمل بالملابس وتودد للناس بحسن المعاشرة ومكارم الأخلاق، وكان سموح النفس جداً دمث الطباع والأخلاق جميل العشرة، ولما عزل السيد عبد الرحمن السفاقسي الضرير من مشيخة رواقهم كان المترجم هو المتعين لذلك دون غيره، فتولى مشيخة الرواق بشهامة وكرم، ونوه بذكره وزادت شهرته. وكان وجيهاً طويل القامة بهي الطلعة بشوشاً، ولما تولى مشيخة الرواق امتدحه الشيخ حسن العطار بقصيدة أشار في مطلعها إشارة خفية لحالته مع المترجم المتولي والسيد عبد الرحمن المعزول، لصداقة بينه وبين المتولي بخلاف المعزول، وأول القصيدة:
انهض فقد ولت جيوش الظلام ... وأقبل الصبح سفير اللثام
وغنت الورق على أيكها ... تنبه الشرب لشرب المدام
والزهر أضحى في الربا باسماً ... لما بكت بالطل عين الغمام
والغصن قد ماس بأزهاره ... لما غدت كالدر في الانتظام
وعطر الروض مرور الصبا ... على الرياحين فأبرا السقام
كأنما الورد على غصنه ... تيجان ابريز على حسن هام
كأنما الغدران خلجان ... أغصان النقا والنهر مثل الجسام(1/180)
كأن منظوم الزراجين يا ... قوت غدا من نظمه في انسجام
كأنما الآس عذار على ... وجنته وقد علاها ضرام
كأنما الورقاء لما شدت ... تتلو علينا فضل هذا الإمام
ثم استمر في مدحه وهي طويلة مسطرة في ديوان الناظم المذكور يقول في آخرها.
بشراك مولانا على منصب ... كان له فيك مزيد الهيام
وافاك اقبال به دائماً ... وعشت مسعوداً بطول الدوام
فقد رأينا فيك ما نرتجي ... لا زلت فينا سالماً والسلام
ولما حصلت واقعة الفرنسيس خرج تلك الليلة مع الفارين وذهب إلى بيت المقدس وتوفي هناك سنة أربع عشرة ومائتين وألف.
السيد أحمد بن أحمد الشهير بالمحروقي الحريري
كان من صدور مصر وأعيانها وأمرائها وكانت له يد طولى وكلمة نافذة وشهرة وافية، وسطوة كافية، وكان رجلاً صالحاً نير الطلعة معروفاً بصدق اللهجة، وافر الأمانة، حسن الديانة، وكان والده ملازماً للدعاء له في صلاته، وسائر حركاته وسكناته، فاستجاب الله دعاءه فيه فتقدم على أقرانه، وانفرد في عصره وأوانه، فكان الحكام لا يشيرون إلا إليه، ولم يزل يعلو مكانه ويسمو مقامه إلى أن تعلقت به أظفار المنية سنة تسع عشرة ومائتين وألف.
السيد أحمد بن السيد زيني دحلان المكي مفتي الشافعية بمكة المحمية
فريد العصر والأوان، علي الهمة عظيم الشان، علم العلماء الأعلام، وملجأ السادة الكرام، عمدة الأفاضل، ونخبة ذوي الشمائل، من طار ذكره في الأقطار، واشتهر فضله وقدره في النواحي والأمصار، واعترف له ذوو الإجلال، بأنه قد استوى على ذروة الكمال، ولي إفتاء الشافعية،(1/181)
بمكة عاصمة البلاد الحجازية، فازداد حبه لدى الخاص والعام، وعظمته قلوب الأهالي والحكام، وكان لطيف المعاشرة، حسن المسايرة، سار في منهج العلم والأدب من صغره، واعتاد قطف ثمرات الرفعة من ابتداء عمره، وحضر دروس الأفاضل، إلى أن جلس معهم على مائدة الفضائل ثم لا زال يترقى مقامه، ويخضع له مطلوبه ومرامه، إلى أن انفرد في جلالته، وانجلبت القلوب على مهابته، وله كنايات حسنة، وتأليفات مستحسنة، من جملتها الفتوحات الإسلامية، بعد مضي الفتوحات النبوية، وهو كتاب مفيد، لكل طالب ومستفيد، ولما تم بدر إشراق جمعه وعم الأنام حسن طبعه، أرخه الهمام المحفوظ من حاسد وشاني، عبد الحميد ابن محمد فردوس المكي الأفغاني، فقال:
قف بي على تلك الربا ثم سل ... عن ربع سعدى والجناب الرحيب
وانشر حديث الوجد في حيهم ... كي يرحموا الصب المعنى الكثيب
واذكر لهم عهداً مضى بالهنا ... في غفلة الواشي وقرب الحبيب
واشرح لهم حال معنى بهم ... ما مال عنهم طرفة للرقيب
أحبابنا إن واصلوا أو نأوا ... لا حول لي عنهم ولا لي مجيب
حتى م هذا العذل يا عاذلي ... كم ذا يقاسي القلب عذل المريب
رفقاً بمن أضناه سقم الجوى ... والدمع فوق الخد يبدو صبيب
أضحى مقيماً بين أهل وصحب ... لم يداروه وغاب الطبيب
والنفع لم يحصل له سوى ... فيض كتاب نافع للأديب
حاوي المغازي والفتوحات قد ... فاق التواريخ بوضع عجيب
تأليف مولانا إمام الهدى ... الكامل الفرد الحسيب النسيب
أعني رئيس العلم في مكة ... مفتي الأنام اللوذعي الأريب
يا رب فاحفظه لنا دائماً ... مرتقياً في رغد عيش خصيب
فالطبع لما تم تاريخه ... نصر من الله وفتح قريب(1/182)
وكان رئيس علماء الحجاز، ومقدمهم في الحقيقة والمجاز، وكانت الإمارة الحجازية تنظر إليه بعين الرعاية، وتضمه إليها ضم العناية، ولم يزل مقامه يعلو، وقدره يسمو، إلى أن اختارته الآخرة، للمراتب الفاخرة، توفي رحمه الله تعالى في المحرم سنة أربع وثلاثمائة وألف ودفن في البلد الحرام، في مقبرة المعلى ذات المقام أعلى الله مقامه، وبلغه مرامه.
الشيخ أحمد بن عبد القادر بن أحمد بن محمد الاعزازي الحنفي المكتبي وكنيته أبو العباس
الفقيه البركة الصالح الفالح الناجح. مولده بعزاز قصبة قرب كليس سنة خمس وأربعين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه وجوده وتفقه على أبي محمد عبد الغني المفتي وعلى أبي عبد الله محمد المؤذن وأخذ عنهم، وقرأ على غيرهم واستقام بحلب مدة عمره، وكان يقرىء الأطفال القرآن العظيم مستقيماً على وظائف العبادة والطاعات قائماً بها، كثير الديانة والتقوى، واعتقده الناس وأحبوه، واشتهر صلاحه وورعه بين العموم، وأخذ عنه محمد خليل أفندي المرادي واستجازه. وما زال على تقواه واستقامته إلى أن توفي عام ألف ومائتين وخمسة عشر تقريباً.
الشيخ أحمد بن عبد الله بن منصور الحلبي البابلي الشافعي الأشعري
الفقيه الصوفي العالم العامل؛ الورع الزاهد العابد الفاضل الكامل، ولد سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف ونشأ في طلب العلم، وكان جيد القريحة سريع الفهم، أخذ الفضائل عن جملة من الأفاضل، منهم أبو محمد عبد القادر المخلي ومحمد بن حسين الزمار والبدر حسن السرميني والنور علي الآلتونجي وصالح بن رجب المواهبي وولده محمد وأبو الثناء محمود بن شعبان البزستاني وقاسم بن محمد البكرجي وأبو اليمن محمد(1/183)
العقاد وعلي بن إبراهيم العطار وأبو السعادات طه بن مهنا الجبريني وابن الطيب المغربي المالكي وقاسم بن محمد النجار وابو محمد عبد الكريم بن احمد الشراباتي ومصطفى بن عبد القادر الملقي ولازمه إحدى عشرة سنة وانتفع به. وسمع على الجميع وحضر مجالس التحديث والاستماع، ولازم دروسهم ووعظهم وأذكارهم وأحسن في معاملتهم وتباعد عن مخالفتهم إلى أن ألفته الطباع، وانعقد على فضله الإجماع، وكان حسن الأخلاق، متحملاً في أمور الناس من تلطيفهم وحسن معاشرتهم ما لا يطاق، مرضي الأفعال، كثير التودد مع البشر والكمال، وقد انتقل إلى قريته بابلي، فيزورونه مع قيامه بإكرامهم وتقديم ما يحتاجونه من واجب المعروف إليهم.
وما زال على حاله، مع ازدياد في كماله وجماله، ينتفع الناس بعلومه ودعائه، ويقصدونه لمشاورته في الحوادث وأخذ آرائه، إلى أن دعته المنية إلى الدار الأخروية فلبى وأجاب، متزوداً لآخرته من كل ما لذ وطاب، وذلك سنة ألف ومائتين ودون العشرين.
الشيخ أحمد بن الشيخ محمد بن الشيخ عبد الله الخاني الخالدي النقشبندي الحنفي الدمشقي
أحمد العلماء الأعلام، وأوحد الجهابذة الفخام، الفاضل التقي، والكامل النقي، مولده في دمشق سنة ألف ومائتين واثنتين وخمسين. نشأ في حجر والده المرقوم وقرأ القرآن وأتقنه، واجتهد في الطلب على والده، وكان يحضر معنا في غالب دروس شيخنا العلامة الشيخ محمد الطنطاوي، وطلب على أخيه الشيخ محمد أفندي فحضر الصحيحين وبعض كتب التصوف، وأخذ عن والده الطريق النقشي واشتغل به كثيراً حتى حصل له روحانية عظيمة، مع تواضع وحسن خلق ورقة طبع ومعاشرة لطيفة وجود وكرم. وكان شافعي المذهب، إلا أنه لما تولى القضاء في بعض الأمكنة للضرورة(1/184)
الداعية لذلك ألزمته ظروف الأحوال للانتقال لمذهب سيدنا الإمام أبي حنيفة النعمان قدس الله تعالى سره، وبقي مدة في النيابة تارة في بعض المحاكم الشرعية الدمشقية، وتارة في بعض البلاد وخارج الشام مع عفة وصيانة وديانة، وحكم بالحق، مع التروي والوقوف على حدود الشرع، مستنداً إلى النقل والتثبت في الأحكام، ثم ترك القضاء تعففاً وجنح إلى التكسب بالفلاحة والزراعة، ومالت نفسه إلى العزلة والتباعد عن الاختلاط إلا فيما فيه أمر شرعي كزيارة صديق وعيادة مريض وتشييع جنازة وإصلاح بين خصمين وحضور مجلس علم وأمثال ذلك، وله حسن هيئة ومحبة في قلوب الناس وهيبة وجاه وقبول كلام لإخلاصه وعدم غايته في شيء، غير أن الدنيا لم يكن بينها وبينه امتزاج فكانت تعاكسه كما هو عادتها مع كل من لا يصونها عن الصرف، فإنها تألف من يضن بها حتى على نفسه وهو على خلاف ذلك، فإنه يهوى الجود والكرم وإطعام الطعام، وبذل الموجود والإكرام، مع إظهار أن المنة لغيره عليه، ولذلك عاد إلى تولي النيابات عن إحتياج، وداء الاحتياج ليس له من علاج، فهو الداعي إلى تعاطي ما لا يراد، وليس للعبد خروج فيما قضى الله وأراد، وبالجملة فهو فرد نادر، ويحق له أن يذكر بأنواع المفاخر، أحسن الله إلينا وإليه، ومن بالإحسان علينا وعليه آمين.
توفي رحمه الله تعالى غب داء أعيا الأطباء يوم الأحد صباحاً في الخامس والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة ألف وثلاثمائة وسبع عشرة ودفن في مقبرة شيخ الحضرة في جبل قاسيون رحمه الله تعالى.
الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي حامد العدوي المالكي الأزهري الخلوتي الشهير بالدردير
العالم العلامة أوحد وقته في الفنون العقلية والنقلية، شيخ أهل(1/185)
الإسلام، وبركة الأنام، له كلمات حسنة العبارة، وبديعة الحقيقة والاستعارة، كأنما هي بواكير الأثمار، أو يانع الأزهار، تدل على أنه قطب الفضائل، وفرد الأفاضل، وهو من رجال تاريخ الإمام المؤرخ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي المسمى عجائب الآثار، في التراجم والأخبار، فقال في ترجمته، أسبغ الله علينا وعليهما سجال رحمته، ولد ببني عدي كما أخبر عن نفسه سنة سبع وعشرين ومائة وألف؛ وحفظ القرآن وجوده وحبب إليه طلب العلم فورد الجامع الأزهر وحضر دروس العلماء وسمع دروس الشيخ محمد الدفري، والحديث على كل من الشيخ أحمد الصباغ وشمس الدين الحفني وبه تخرج في طريق القوم، وتفقه على الشيخ علي الصعيدي ولازمه في جل دروسه حتى أنجب، وتلقن الذكر وطريق الخلوتية من الشيخ الحفني وصار من أكبر خلفائه كما تقدم، وأفتى في حياة شيوخه مع كمال الصيانة، والزهد والعفة والديانة، وحضر بعض دروس الشيخين الملوي والجوهري وغيرهما ولكن جل اعتماده وانتسابه على الشيخين الحفني والصعيدي، وكان سليم الباطن مهذب النفس كريم الأخلاق، وذكر لنا عن لقبه أن قبيلة من العرب نزلت ببلده وكبيرهم يدعى بهذا اللقب فولده جده عند ذلك فلقب بلقبه تفاؤلاً لشهرته، وله مؤلفات، منها شرح مختصر خليل أورد فيه خلاصة ما ذكره الأجهوري والزرقاني واقتصر فيه على الراجح من الأقوال، ومتن في فقه المذهب، سماء أقرب المسالك لمذهب مالك، ورسالة في متشابهات القرآن، ونظم الخريدة السنية في التوحيد وشرحها، وتحفة الإخوان في آداب أهل العرفان في التصوف، وله شرح على ورد الشيخ كريم الدين الخلوتي، وشرح مقدمة نظم التوحيد للسيد محمد كمال الدين البكري، ورسالة في المعاني والبيان، ورسالة أفرد فيها طريقة حفص، ورسالة في المولد الشريف، ورسالة في شرح قول الوفائية يا مولاي يا واحد يا مولاي يا دائم،(1/186)
يا علي يا حكم، وشرح على مسائل كل صلاة بطلت على الإمام والأصل للشيخ البيلي، وشرح على رسالة في التوحيد من كلام دمرداش، ورسالة في الاستعارات الثلاث، وشرح على آداب البحث، ورسالة في شرح صلاة السيد أحمد البدوي، وشرح على الشمائل لم يكمل، ورسالة في صلوات شريفة اسمها المورد البارق في الصلاة على أفضل الخلائق، والتوجه الأسنى بنظم الأسماء الحسنى، ومجموع ذكر فيه أسانيد الشيوخ، ورسالة جعلها شرحاً على رسالة قاضي مصر عبد الله أفندي المعروف بططر زاده في قوله تعالى " يوم يأتي بعض آيات ربك " الآية. وله غير ذلك، ومما سمعت من إنشاده:
من عاشر الأنام فليلتزم ... سماحة النفس وذكر اللجاج
وليحفظ المعوج من خلقهم ... أي طريق ليس فيها اعوجاج
ولما توفي الشيخ علي الصعيدي تعين المترجم شيخاً على المالكية، ومفتياً ناظراً على وقف الصعايدة، وشيخاً على طائفة الرواق، بل شيخاً على أهل مصر بأسرها في وقته حساً ومعنى، فإنه كان رحمه الله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصدع بالحق ولا تأخذه في الله لومة لائم، وله في السعي على الخير يد بيضاء.
تعلل أياماً ولزم الفراش مدة، حتى توفي في سادس شهر ربيع الأول من سنة إحدى ومائتين وألف وصلي عليه بالأزهر بمشهد عظيم حافل، ودفن بزاويته التي أنشأها بخط الكعكيين بجوار ضريح سيدي يحيى بن عقب، وعندما أسسها ارسل إلي وطلب مني أن أحرر له حائط المحراب على القبلة، فكان كذلك، وسبب إنشائه للزاوية أن مولاي محمد سلطان المغرب كان له صلات يرسلها لعلماء الأزهر، وخدمة الأضرحة، وأهل الحرمين في بعض السنين، وتكرر منه ذلك، فأرسل على عادته في سنة(1/187)
ثمان وتسعين مبلغاً، وللشيخ المترجم قدراً معيناً له صورة، وكان لمولاي محمد ولد تخلف بعد الحج وأقام بمصر مدة، حتى نفد ما عنده من النفقة، فلما وصلت تلك الصلة أراد أخذها ممن هي في يده، فامتنع عليه وشاع خبر ذلك في الناس وأرباب الصلات، وذهبوا إلى الشيخ بحصته فسأل عن قضية ابن السلطان فأخبروه عنها وعن قصده وأنه لم يتمكن من ذلك، فقال والله هذا لا يجوز وكيف أننا نتفكه في مال الرجل ونحن أجانب، وولده يتلظى من العدم؟ هو أولى مني وأحق، أعطوه قسمي فأعطاه ذلك، ولما رجع رسول أبيه أخبر السلطان والده بما فعل الشيخ الدردير فشكره على فعله وأثنى عليه واعتقد صلاحه، وأرسل له في ثاني عام عشرة أمثال الصلة المتقدمة مجازاة للحسنة، فقبلها الأستاذ وحج منها، ولما رجع من الحج بنى هذه الزاوية بما بقي ودفن بها رحمه الله ولم يخلف بعده مثله.
الشيخ أحمد بن أحمد بن محمد السحيمي الحفني القلعاوي المصري
الإمام العلامة، والفاضل الفهامة، صفوة النبلاء، ونتيجة الفضلاء، وكعبة الفقهاء، ونخبة الكرماء، من طلعت محاسنه طلوع النجوم الزواهر، وسعدت الأيام والليالي بآداب علومه المعجبة البواهر، فهو الوحيد في إلقاء رغائبه، والفريد بكثرة عجائبه وغرائبه، تستوعب محفوظاته المقروء والمسموع، وتجمع معلوماته ما هو في الحقيقة منتهى الجموع، لقد برع في جميع العلوم خصوصاً في التوحيد، فكان له فيه اليد الطولى والفهم السديد، وهو من رجال عجائب الآثار، في التراجم والأخبار، فترجمه بقوله، منبهاً على بعض فضله: تفقه على والده وعلى الشيخ أحمد الحماقي وحضر على الشيخ مصطفى الطائي الهداية وأنجب، ودرس في فقه المذهب، وحضر عليه أيضاً المعقول وعلى غيره إلى أن صار عمدة في الفروع والأصول، وسما قدره، ونما ذكره، كل ذلك مع الحشمة والديانة، ومكارم الأخلاق والصيانة، توفي سادس عشر شوال سنة ألف ومائتين وسنة، ودفن عند والده بباب الوزير.(1/188)
الشيخ أحمد بن عبد القادر بن بكري العجيلي الحجازي
عالم الحجاز، على الحقيقة لا المجاز، سارت الركبان بمحاسن ذكره، وطابت الأقطار بعبير نشره، لم يزل مجتهداً في نيل المعالي، وكم سهر في طلبها الليالي، حتى فاز من ذلك بالقدح المعلى، وتجمل بملابس الفنون وتكمل بالعمل المصون وتحلى، ولد قريباً من الألف ومائة وثلاثين وأخذ العلوم عن آبائه الكرام، وعن غيرهم من السادات العظام، ومن أجل مشايخه الشيخ عبد الخالق المزجاجي وقد أجازه بالإجازة العامة وألبسه خرقة الطريق، وأخذ أيضاً عن السيد إبراهيم بن محمد امير والسيد سليمان بن يحيى، وله مؤلفات كثيرة، هي بالقبول حقيقة وجديرة، خصوصاً في التصوف والتوحيد والقصائد الإلهية، والمعارف المتعلقة بالذات المحمدية ولقد شاع طيب شعره وذاع، وأطرب وشنف الأسماع، ومن قصائده القصيدة المشهورة المسماة بعقد الجواهر اللآل، في مدح الآل، وقد شرحها شرحاً عظيماً وقرظ عليه عدة من العلماء منهم السيد الجليل علي ابن محمد المكي شيخ الشيوخ في مكة المشرفة وذلك سنة ألف ومائتين وثلاث ولم يزل مثابراً على الترقي في العلوم، والتوقي في كل مذموم، إلى أن اختار الآخرة ونعمتها الباقية، على الدنيا ولذتها الفانية، وكان ذلك في شهر المحرم سنة ألف ومائتين وواحدة.
الشيخ أحمد بن حسن الموقوي الهندي
الشيخ الولي الكبير، والعالم المدقق النحرير، كان من العلماء العاملين والفضلاء السالكين، إلى طريق رب العالمين، لا يراه أحد متكلماً بمباح إلا لضرورة أو حاجة، وكان يغلب عليه الحال مع اللطف وعدم السماجة:
توجه للإله بلا التفات ... وأبقى الغير في شغل الخيال
وكان أليف المسجد حليف المنزل، وعن جميع الأنام بمعزل، ومن نظمه الشريف رحمه الله تعالى قوله:(1/189)
هل لي إليك وسيلة ... ألقى بها كشف الغطا
ما لي إليك وسيلة ... إلا نوالك والعطا
لما نظرت حقيقتي ... فإذا أنا عين الخطا
توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وسنة واحدة.
الشيخ أحمد بن ناصر الكبسي
كان من أئمة العلم والعمل، بعيداً عن التقصير والقصور والكسل، عالماً بما ينفعه متبعاً له، متباعداً عما يضره كاسياً ثوب الوله، ولد سنة ألف ومائتين وتسع، كان من أكبر تلامذة البدر العلامة الشوكاني. قال صاحب الديباج الخسرواني: قد أطلت في ترجمته في حدائق الزهر وتوفي رضي الله عنه سنة ألف ومائتين وإحدى وسبعين وفي هذه السنة كانت وفاة السيد العلامة عبد الله بن عبد الباري الأهدل في قرية مراوعة، وكان فيه إنصاف في المراجعة لا يتعصب ولا يكابر، وفيها وفاة القاضي عبد الرحمن بن محمد بمدينة زبيد ومولده سنة ألف ومائة واثنتي عشرة ببلد صمدا رحمهم الله تعالى.
الشيخ أحمد اللحام اليونسي المعروف بالعريشي الحنفي
الفقيه العلامة، والنحرير الفهامة، وهو من رجال عجائب الآثار، في التراجم والأخبار، فقال في ترجمته، منوها بفضله ورفعته: حضر من بلدته خان يونس في سنة ثمان وسبعين ومائة وألف وحضر أشياخ الوقت وأكب على حضور الدروس وأخذ المعقول على مثل الشيخ أحمد البيلي والشيخ محمد الجناحي والصبان والفرماوي وغيرهم، وتفقه على الشيخ عبد الرحمن العريشي ولازمه وبه تخرج وحضر على الشيخ الوالد في الدر المختار من أول كتاب البيوع إلى كتاب الإجارة بقراءته وذلك سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف، ولم يزل ملازماً للشيخ عبد الرحمن العريشي ملازمة(1/190)
كلية، وسافر صحبته إلى إسلامنبول في سنة تسعين لبعض المقتضيات، وقرأ هناك الشفاء والحكم بقراءة المترجم عليه، وعاد صحبته إلى مصر ولم يزل ملازماً له حتى حصل للعريشي ما حصل ودنت وفاته، فأوصى إليه بجميع كتبه، واستقر عوضه في مشيخة رواق الشوام، وقرأ الدروس في محله، وكان فصيحاً مستحضراً متضلعاً من المعقولات والمنقولات، وقصدته الناس في الإفتاء واعتمدوا أجوبته، وتداخل في القضايا والدعاوي واشتهر ذكره، واشترى داراً واسعة بسوق الزلط بحارة المقس خارج باب الشعرية، وتجمل بالملابس وركب البغال وصار له أتباع وخدم، وهرعت الناس والعامة والخاصة في دعاويهم وقضاياهم وشكاويهم إليه، وتقلد نيابة القضاء لبعض قضاة العساكر أشهراً.
ولما حضرت الفرنساوية إلى مصر وهرب القاضي الرومي بصحبة كتخدا الباشا كما تقدم تعين المترجم للقضاء بالمحكمة الكبيرة، وألبسه كلهبر ساري عسكر الفرنساوية خلعة مثمنة وركب بصحبته قائمقام في موكب إلى المحكمة وفوضوا إليه أمر النواب بالأقاليم، ولما قتل كلهبر انحرف عليه الفرنساوية لكون القاتل ظهر من رواق الشوام وعزلوه ثم تبينت براءته بعد ذلك، إلى أن رتبوا الديوان في آخر مدتهم، ورسم عبد الله جاك منو بأن يتخيروا عدة أشخاص كلهم لائقون للقضاء ومنهم المترجم ثم يعملوا قرعة، فعملوها كما أمرهم فلم تقم إلا على المترجم فتولاه أيضاً وخلعوا عليه وركب مثل الأول إلى المحكمة، واستمر بها إلى أن حضرت العثمانيون وقاضيهم فانفصل عن ذلك ولازم بيته مع مخالطة فصل الخصومات والحكومات والإفتاء، ثم قصد الحج في هذه السنة سنة ألف ومائتين وثماني عشرة فخرج مع الركب وتمرض في حال رجوعه وتوفي ودفن بنبط رحمه الله.(1/191)
الشيخ أحمد أفندي بن عمر بن أحمد الدمشقي الحنفي الشهير بالاسلامبولي
ولد بدمشق ونشأ بها، وكان من أعظم نبهائها وطلابها، وقرأ على فضلائها، إلى أن صار معدوداً من علمائها، فكان عالماً فاضلاً، صالحاً عابداً عاملاً، غير أنه كان فيه حدة وقساوة في الأمور وشدة، إذا قال قولاً يصعب رجوعه عنه، وإذا فهم أمراً يعسر الانتصاف منه، وله مؤلفات منها شرح الهداية، ومن جملة خيرياته التي تعاطاها بنفسه أنه لما توفي السلطان عبد المجيد خان سنة سبع وسبعين ومائتين وألف وتولى الخلافة بعده أخوه السلطان عبد العزيز ذهب المترجم إلى الآستانة دار الخلافة واستحصل على نيف وسبعين براءة لخطابة بقية الجوامع في دمشق التي لم يكن لها براءات وفرقها على الخطباء بدون أن يتكلف أحد لشيء من الدراهم. مات رحمه الله سنة ألف ومائتين ونيف وسبعين.
الشيخ أحمد بن محمد شمس الدين بن حسن بن يوسف الدمشقي الحنفي الخلوتي المعروف بالطباخ
الشيخ الصالح الزاهد العابد الصوفي الخلوتي المتأصل في الطريقة عن آبائه وأجداده الكرام، والسادة العظام، وكان شيخ الطريقة الخلوتية بعد والده. مات رحمه الله في الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف ودفن عند قبر والده في مرج الدحداح.
الشيخ أحمد المخللاتي الدمشقي الفرضي
أحد أقاربنا العظام، وأسلافنا السادة الكرام، لقد برع وفاق،(1/192)
وملأت شهرته في العوم الآفاق، وشهدت له السادة الأفاضل، وذوو الكمال والفضائل، بأنه الألمعي الوحيد بقوة إدراكه، والفريد المخصوص ببعض العلوم مع اشتراكه، بلسان أقطع من السيف إذا تجرد من القراب، وفكر إذا حكاه البحر في غوره وقع في الاضطراب، ولد بدمشق في جمادى الأولى سنة ست وسبعين ومائة وألف، وكان شيخ أهل زمانه، وإمام عصره وأوانه، قرأ على المشايخ إلى أن برع، وطلع بدره في أفق المعارف ولمع، وسار على صراط التقوى والعبادة، وتزود من الطاعة فوق العادة، وكان مع مشاركته في العلوم، وتحقيقه في طرفي المنطوق والمفهوم، قد انفرد في علمي الفرائض والحساب، وصار عمدة السادة الأنجاب، مات رحمه الله سنة سبع وأربعين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير.
الشيخ أحمد البقاعي الدمشقي الشافعي
أخذ عن سيدي الوالد وعن العلامة الشيخ عبد الرحمن الكزبري وعن الشيخ حامد العطار، واشتهر صيته وطار، وملأ النواحي والأقطار، وكان كثير الورع زاهداً في الدنيا مقبلاً على الآخرة، معتزلاً عن الناس راضياً بالقليل، ليس له كلام إلا بما يتعلق بالوعظ والترغيب في التقوى والعبادة، وكان كلامه خفيفاً على النفوس مقبولاً. توفي بدمشق سنة ثمان وستين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير.
الشيخ الإمام العالم الأديب أحمد بن علي اليافي
فاضل لا يبارى، وعالم في ميدان الفضائل لا يجارى، قد عكف من صغره على العلم والعمل، وحاز منهما على البغية والأمل، وله من النثر والنظام، ما تستعذب الأسماع تلاوته على مرور الليالي والأيام، ومن ذلك ما قدمه للتهنية لخليل أفندي المرادي حين ولي إفتاء دمشق الشام فقال رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. هذه مقامة يافوية، لمن حفه الله بكل فضل(1/193)
ومزية، حكى عبد الله بن مسلم فقال ما زلت مذ نيط علي الإزار، وبلغت خمسة أشبار، مقبلاً على الأعلام والعلوم، وراغباً في تحصيلها بالحدود والرسوم، راغباً عن الأعلام والرسوم، فسايرت العلماء، وسامرت الأدباء، حتى صار لي ذلك شنشنه، وذكرت به في جميع الألسنة، فبينما أنا راتع في تلك الرياض، ووارد عذب تلك الحياض، أجتني من تلك الأثمار، وأقطف من هاتيك الأزهار، إذ هتف بي هاتف، وأنا في خلال أشجارها طائف، فراعني كمال الارتياع، وقرع مني صماخ الأسماع، وقال لي أين أنت عما نقل من الإجماع، قلت يا ذا وعلى ماذا الإجماع، قال على وجوب معرفة الله، عز وتعالى عن الأشباه، وعلى معرفة صفات الإكرام والجمال، ومعرفة صفات التنزيه والجلال، فتأملت الهاتف بحقيقة النظر، فإذا هو علامة البشر، والعقل الحادي عشر، فقلت أرشدني إلى من يفهمني ذلك، ويخرجني من ربقة المهالك، فقال اقصد علامة الأنام، ومفتي الخاص والعام، القاطن بمحمية دمشق الشام، فلعمر الله إنه فاضل مجيد، يرشدك إلى معرفة التوحيد، ففوضت عنان السفر، ورحلت لأنظر حقيقة الأمر، فما زلت كأني تائه، أجوب الربا والمهامه، وأجد السير والسرى، وأتصفح وجوه البلاد والقرى، أسمع الثغام والبغام، وأقد ظهران النعام، حتى توسمت ربى مدينته، ولاحت لي أنوار طلعته، بعثت رائدي وسفيري، كما هو دأبي في مسيري ليتحقق لي الخبر، وأميط عني وعثاء السفر، فمكثت هنيهة، وأنا على أحسن هيئة، فحضر وقال أنا لك البشير، فقد استشرفت على العالم النحرير، هذا سيبويه النحو والرضي، وابن هاني في شعره وبيانه المضي، إلى أن قال: فلما رأيته تبسم، وكان قد تلثم، تأمله ناظرين وتوسمه خاطري، فإذا هو البحر الغطمطم الزخار، والحبر الذي لا يشق له غبار، سلالة الأطهار، ونتيجة الأخيار، غصن الدوحة النبوية، وفرع العترة الهاشمية، منجا كل صادي، وملجا كل حاضر وبادي، العلامة الفهامة، سيدي وأستاذي، وقدوتي(1/194)
وملاذي، محمد خليل المرادي، فقلت له يا مولى الخلق على العموم، عهدي بك في بلاد الروم، ولقد بلغنا المنى والمرام، لما رجعت لمحمية الشام. جزاك الله عن المسلمين جزيل المرام. وبلغك والمؤمنين حسن الختام. ثم ذكر هذه القصيدة:
بدا بدر شام بالمحيا أبي البشر ... لإعلاء أمر الله ذي الطي بالنشر
وكاد حنيف الدين يجنح للخفا ... بغيبة هذا البدر بالعجب والكبر
فأشرق في افق المرادي مؤيداً ... بتقرير أحكام من النقل والفكر
فهاك من الشطرين خدمة قاصر ... إليك بتاريخين من بعد ذا السطر
فأحيا حياء الأكرمين خليلنا ... بمنصب إفتاء وقد حاز للنصر
فلا زال والمجد المؤثل مجده ... لإعلاء دين الله بالنهي والأمر
ليهنك قد وافى المرادي دمشقنا ... بيوم منى إذ كان في جمعة النحر
فخير قدوم سر قلب أولي التقى ... وعمهم إذ طاب باليمن والشكر
أيا ابن الذين استأثروا صهوة العلا ... ودانت لهم أهل الفضائل بالقسر
سلالة آل البيت من نسل ماجد ... فمن ذا يباهي قدركم من ذوي القدر
لك العذر يا من لج في كنه وصفه ... ويا من تسامى الشام فيك على مصر
وشرق وغرب والجنوب وشمأل ... لعمرك فضل الكل فيك بلا فخر
فبالشمس والليل البهيم وبالضحى ... وبالبلد المأمون أقسم والفجر
وياسين والأحزاب فاطر مع سبا ... وبالكهف والإسرا والنحل والحجر
وبالنجم والأنعام رحمن واقعه ... وأولي حديد ثم خاتمة الحشر
بأنك هادينا إلى الله بالتقى ... وتنفيذ حكم الله رغم أولي النكر
وأنت الذي نرجوك فينا مجدداً ... لأحكام دين الله في غابر الدهر
أياديك بيض في الندى موسوية ... ولكنها تسعى على قدم الخضر
فلا زلت للوراد كعبة قصدهم ... تطوف وتسعى فيك بالبيض والصفر(1/195)
بجاه النبي المختار والآل ذي التقى ... عليهم صلاة الله ما غرد القمري
وما أحمد اليافي يهني مؤرخاً ... بدا بدر شام بالمحيا أبي البشر
توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف.
الشيخ أحمد ن محمد بن سلامة الشافعي الأزهري المعروف بأبي سلامة
الإمام العلامة، الثقة الهمام الفهامة، المحقق النحرير، الذي ليس له في فضله نظير، قال صاحب عجائب الآثار في التراجم والأخبار: اشتغل بالعلم وحضر العلوم النقلية والنحوية والمنطقية وتفقه على كثير من علماء الطبقة الأولى كالشيخ علي قايتباي والحفني والبراوي والملوي وغيرهم، وتبحر في الأصول والفروع وكان مستحضراً للفروع الفقهية والمسائل الغامضة في المذاهب الأربعة، ويغوص بذهنه وقياسه في الأصول الغريبة، ومطالعة كتب الأصول القديمة التي أهملها المتأخرون.
وكان الفضلاء يرجعون في ذلك إليه، ويعتمدون قوله، ويعولون في الدقائق عليه، إلا أن الدهر لم يصافه على عادته وعاش في خمول وضيق عيش وخشونة ملبس وفقد رفاهية بحيث أن من يراه لا يعرفه لرثاثة ثيابه كأنما الدهر يناديه على لسان شانيه ومعاديه:
ذو العلم يشقى في النعيم بعلمه ... وأخو الجهالة في الشقاء منعم
لو كنت أجهل ما علمت لسرني ... جهلي كما قد ساءني ما أعلم
كالصعو يرتع في الرياض وإنما ... حبس الهزار لأنه يتكلم
وكان مهذباً حسن المعاشرة، جميل الخلق والنادرة، مطبوعاً فيه الصلاح والتواضع. ونزل مؤقتاً في مسجد عبد الرحمن كتخدا الذي أنشأه تجاه باب الفتوح بمعلوم قدره ثمانية أنصاف يتعيش بها مع ما يرد عليه من بعض الفقهاء والعامة الذين يحتاجون إليه في مراجعة المسائل والفتاوى، فلما خرب المسجد المذكور في حادثة الفرنسيس وجهات أوقافه انقطع عليه ذلك المعلوم، وكان ذا عائلة، ومع ذلك لا يسأل شيئاً ولا يظهر فاقة. توفي يوم الأحد حادي عشر جمادى الآخرة سنة خمس عشرة ومائتين وألف عن خمس وسبعين سنة تقريباً رحمه الله تعالى.(1/196)
الشيخ أحمد الطظقلي الحنفي النقشبندي الخالدي نزيل حمص البهية
شيخ الطريقة، ومعدن السلوك والحقيقة، مرشد السالكين، ومربي المريدين، ذو الكمال والعرفان، والذوق والوجدان، من حاز على القبول التام، وشاع حسن حاله بين الخاص والعام، واشتهر بصدق الانكباب على العبادة والتقوى، والتمسك بالطريق الأقوى في السر والنجوى، أخذ الطريقة النقشبندية عن خاتمة الأفاضل، وصفوة ذوي الفضائل، الشيخ خالد شيخ الحضرة العثماني، أنالنا الله وإياه الآمال والأماني، وصحبه برحلته إلى بيت المقدس، وكان رحمه الله آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر كثير الصلاة والصيام والذكر في خلواته وجلواته، عالماً عاملاً زاهداً عابداً، وقد أذن له في إعطاء الطريق والإرشاد شيخه الشيخ محمد الحافظ الأورفلي أحد خلفاء الشيخ خالد المذكور أعلاه. ولد المترجم سنة خمس وتسعين بعد المائة والألف وتوفي سنة الأربع والثمانين بعد المائتين والألف رحمه الله تعالى ونفعنا جميعاً في الدنيا والآخرة آمين.
الشيخ أحمد بن علي بن محمد بن عبد الرحمن بن علاء الدين البرماوي الشافعي الذهبي الأزهري
الشيخ العلامة، والفاضل الفهامة، بقية العلماء، ونخبة الفضلاء، وزبدة الصالحين، وصفوة الأفراد الناجحين، محرر المذهب، ومقرر ما يؤلف ويرغب، ذو التصانيف المحبوبة، والتآليف المرغوبة، والآثار الحسنة، والشمائل المستحسنة، ولد ببلدة برما بالمنوفية سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف، ونشأ بها وحفظ القرآن والمتون على الشيخ المعاصري، ثم انتقل إلى مصر فجاور في المدرسة الشيخونية بالصليبة وتخرج في الحديث على الشيخ أحمد البرماوي وحضر دروس مشايخ الأزهر كالشيخ محمد فارس والشيخ علي قايتباي والشيخ الدفري والشيخ سليمان الزيات والشيخ الملوي والشيخ المدابغي والشيخ الغنيمي والشيخ محمد الحفني وأخيه الشيخ يوسف والشيخ عبد الكريم(1/197)
الزيات والشيخ عمر الطحلاوي والشيخ سالم النفراوي والشيخ عمر الشنواني والشيخ أحمد رزه والشيخ سليمان البسوسي والشيخ علي الصعيدي وأقرأ الدروس وأفاد الطلبة ولازم الإقراء.
وكان منجمعاً عن الناس قانعاً راضياً بما قسم له، لا يزاحم على الدنيا ولا يتداخل في أمورها، وأخبر ولده العلامة الفاضل الشيخ مصطفى أن والده المترجم ولد بصيراً فأصابه الجدري فطمس بصره في صغره فأخذه عم أبيه الشيخ صالح الذهبي ودعا له فقال في دعائه: اللهم كما أعميت بصره نور بصيرته فاستجاب الله دعاءه. وكان قوي الإدراك ويمشي وحده من غير قائد؛ ويركب من غير خادم، ويذهب في حوائجه المسافة البعيدة، ويأتي إلى الأزهر ولا يخطىء الطريق، ويتنحى عما عساه يصيبه من راكب أو جمل أو حمار مقبل عليه أو شيء معترض في طريقه، أقوى من ذي بصر، فكان يضرب به المثل في ذلك مع شدة التعجب كما قال القائل:
ما عمى العيون مثل عمى القلب ... فهذا هو العمى والبلاء
فعماء العيون تغميض عين ... وعماء القلوب فهو الشقاء
ولم يزل ملازماً على حالته من الانجماع والاشتغال بالعلم والعمل به وتلاوة القرآن وقيام الليل، فكان يقرأ كل ليلة نصف القرآن. إلى أن توفي يوم الثلاثاء حادي عشر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف وصلي عليه بجامع ابن طولون ودفن بجوار المشهد المعلوم بالسيدة سكينة رضي الله عنها بجانب الشيخ البرماوي.
أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن أحمد بن سالم ابن إدريس الشاري المالكي
المتقن البارع، والمقبل على الله والمسارع، وحيد دهره، وفريد عصره، ولد بعد الستين والمائة والألف ببلدة سناد أكبر بلاد الفنج والتكرور، وقرأ بها مقدمات العربية والفقه على جماعة من أهلها كأبي عبد الله محمد(1/198)
نوري صبر والشهاب أحمد بن عيسى الأنصاري وعبد الكريم الغلاني وأبي الحسن علي بقادي، ثم رحل إلى سواكن واستقام بها مدة، ثم انتقل منها إلى صنعاء اليمن واجتمع بالشيخ العلامة أبي محمد عبد الله الجوهري وقرأ عليه شرح السلم في المنطق والأربعين النووية وسمع منه وأجاز له بخطه، ثم ارتحل إلى مكة المكرمة وقرأ بها على أبي مروان عبد الملك بن عبد المنعم بن محمد تاج الدين القلعي مفتي الحنفية وأبي محمد عبد الغني بن سنبل مفتي الشافعية ومحب الله الهندي الحنفي وأبي محمد عبد اللطيف بن عبد الغفور المكي وأبي محمد عبد الرحمن الفاسي المغربي المعروف بالسمان المالكي وأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن التلمساني وغيرهم، واستقام بها ست سنوات، وسمع الكثير من الأحاديث والمسلسلات وأجازه مشايخه المذكورون بحظوظهم. ثم عزم على زيارة النبي الأكرم، والبقيع المعظم، بطيبة الطيبة، فدخلها ولازم الاشتغال بها والتحصيل، وقرأ على زين العابدين مصطفى بن محمد بن رحمة الله الدمشقي الحنفي الأيوبي الأنصاري وفخر الدين عثمان بن محمد المصري الشهير بالشامي وأبي إسحق إبراهيم بن عبد الله السندي وأبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله الفاسي نزيل المدينة المنورة، واستقام بها سنتين، وسمع أيضاً الكثير من الأشياخ وتوجه منها إلى مصر ولازم أبا عبد الله محمد بن الشهاب أحمد بن الحسن الجوهري وأبا الصلاح الشهاب أحمد بن موسى العروسي وأبا عبد الله محمد الأمير والنور علي الخياط ومحب الدين محمد المرتضى بن محمد الزبيدي وأجازوه وأباحوا له مروياتهم، ودخل قسطنطينية واجتمع بأكثر علمائها وقرأ على البعض منهم واستقام بها مدة وتكرر دخوله إليها، ودخل حلب في أوائل ذي القعدة سنة خمس ومائتين وألف وقرأ رسالة أبي حامد محمد بن محمد البديري الدمياطي المسماة بالجواهر الغوالي، في الأسانيد العوالي، على أبي جعفر منصور بن مصطفى بن منصور السرميني الحلبي وأجازه بها وبما تجوز له روايته بروايته لها، وقرأ بها على شيخه ومرشده أبي المكارم محمد(1/199)
نجم الدين بن سالم بن أحمد الحفناوي الشافعي المصري بسماعه لها وروايتها عن أبي حامد البديري، وحضر مجلس السيد محمد خليل أفندي المرادي بحلب، وسمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية، وهو أول حديث سمعه من لفظه بشرطه وأجازه به وبما تجوز له روايته عن شيوخه، وذلك سنة خمس ومائتين وألف ولم أقف على تاريخ موته رحمه الله.
الشيخ أحمد بن أسعد بن عبد القادر الحلبي الحنفي الشهير بالضحاك
العالم الفقيه، والإمام النبيه، الدين التقي والصالح النقي، مولده أواخر رمضان سنة اثنتين وثلاثين ومائة وألف. قرأ القرآن العظيم وحفظه وقرأ القراءات وحفظ الشاطبية وانتفع بشيخ القراء أبي عبد اللطيف محمد ابن مصطفى البصيري التلحاصدي الحلبي ولازمه مدة أربعين سنة وجل أخذه عنه، وقرأ بعض العلوم على البدر حسن بن شعبان السرميني ولازمه وحضر دروسه وسمع عليه، وقرأ على أبي عبد الفتاح محمد بن الحسين الزخار وسمع عليه صحيح الإمام البخاري بطرفيه وأجاز له مروياته وكتب له بخطه على مشيخته بعد أن قرأها عليه، وسمع على أبي عبد الله محمد بن أحمد عقيلة المكي مع والده وحضره في مجالس تسميعه وإلقائه الحديث لما قدم حلب عام أربعة وأربعين ومائة وألف، وأخذ الفقه عن أبي العدل قاسم بن محمد النجار وسمع عليه صحيح البخاري بطرفيه، ولما قدم حلب أبو عبد الله محمد بن محمد الطيب الفاسي المغربي المالكي سمع عليه البخاري وغيره من الكتب الصحاح والآثار، ورافقه لما حج تلك السنة سنة سبع وستين ومائة وألف من حلب إلى مكة، ودخل دمشق واجتمع بعلمائها، وبالشيخ أبي سليمان صالح بن إبراهيم بن سليمان الجينيني الحنفي، والشيخ أبي إسحق إبراهيم بن عباس شيخ القراء، وبالشيخ أبي البركات(1/200)
ديب بن خليل بن المعلا المقري، وأبي العباس أحمد بن إبراهيم الحلبي المقري نزيل دمشق وآخرين. وأخذ عن البعض، ولما قدم حلب سنة أربع وثمانين ومائة وألف غرس الدين خليل بن عبد القادر الكدك المدني نزل داره وعقد بها مجلس التحديث والسماع، وسمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية جماعة من العلماء، وأقرأ صحيح الإمام البخاري بطرفيه، وحضروه من الابتداء إلى الانتهاء وأجاز لهم روايته، ورواية ما تجوز له روايته، وأحال أسانيده وذكر شيوخه وكان من جملتهم صاحب الدار المترجم السراج أحمد الضحاك فإنه شابكه وصافحه وأسمعه حديث المصافحة والمشابكة ومسلسل سورة الصف والمسلسل بسورة الفاتحة وغيرهما من المسلسلات وأجاز له الباقي، وكتب له إجازة بخطه حافلة أطنب عليه بها وأسهب، وذكر البعض من أسانيده بها منها سماعه للأولية وأنه سمعه من جمع وهم من أبي سالم عبد الله بن سالم البصري المكي، ومنها روايته للقراءات وغيرها عن أبي عبد الله شمس الدين المصري نزيل المدينة المنورة عن أبي السماح أحمد البقري وأبي عبد الله محمد بن قاسم البقري الكبير وعن أبي عبد الله محمد القلعي عن أحمد البنا الدمياطي وأحمد الإسقاطي والأول معلوم، والثاني عن أبي النور الدمياطي عن سيف الدين الدمياطي عن سلطان بن أحمد المزاحي المصري. وأكب المترجم على قراءة القرآن العظيم والإقراء والإفادة والاستفادة، وكان صالحاً ديناً تقياً نقياً متعبداً قليل الاختلاط بالناس. وقد أخذ عنه وسمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية خليل أفندي المرادي مفتي دمشق كما رأيته بخطه سنة خمس ومائتين وألف ومات في حدود الألف ومائتين وعشرة.
السيد الشيخ أحمد الحياتي الحنفي الماتريدي قاضي بغداد دار السلام
العالم الذي تولى القضاء فأحسنه، وتطابقت على محبته القلوب وعلى الثناء عليه الألسنة، والفاضل الذي يفزع في حل المشكلات إليه، ويعتمد(1/201)
في التحسين والتصحيح عليه، والفاطمي الذي فطم النفس، والعلوي الذي هو في عصره الشمس، عمدة التدريس، وتحفة الأنيس، قال الشيخ عثمان سند لما أتى المترجم إلى بغداد قاضياً من اسلانبول: أحيا فيها علم المعقول والمنقول، ودرس الحديث في جامع العادلية، وأبان من التقارير اللائق بطلعته السنية، وحضر درسه أجلة من العلماء، وجملة من الفضلاء، وذلك في أواخر سنة ألف ومائتين وسبع وعشرين. وعند دخول الثامنة عزل فزاد منه الحنين وعاد إلى دار السلطنة إسلانبول، ليبلغ بالوصول إليها نهاية المسؤل، وكتب له الشيخ عثمان المرقوم رسالة معربة عن فضله فقال:
فاسألوا عنه غامضات المعاني ... هل لها غير ذهنه من كناس
واسألوا عنه كل فن غريب ... هل لإيضاح فكره من دماس
كاتب ضمن السطور شطوراً ... من قوافيه زينت بالجناس
ووجوه في حلقة الدرس أبدى ... مسفرات الصباح والنبراس
وبفن التدريس وشى كتاباً ... لحياة العلوم مثل الأساس
ذا بحوث قد أسفرت فأرتنا ... أوجه الحق دون مرط التباس
يا حياتي أنت لي كحياتي ... لست أسلوك أو تزول الرواسي
ما ترى في تنائف أبعدتني ... وحظوظ قضين لي بانعكاسي
أتراني أسلوك ابن أناس ... صوروا في عيون الدهر الأناسي
هاشميين أنجبتهم ظهور ... من بطون عودن طيب الغراس
يوردون الرقاق ترعش حتى ... يصدر وهن قائنات اللباس
ورماح قد أوردوها نجيعاً ... من كلى كل بهنس عباس
وقد مدحه بقصائد متعددة أرسلها من السليمانية إليه فلم تصله حيث إنه بعد عزله بقليل توجه إلى إسلانبول ولم يطل الأمر حتى جاء خبر موته وذلك سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين، وقد رثاه الشيخ عثمان المرقوم بقصيدة أولها:(1/202)
القلب والطرف خفاق ومنهمر ... لما هوى للثرى من برجه القمر
إلى أن قال:
مولاي أحمد ذو الفضل الذي ابتسمت ... به الليالي وصفى عرقه مضر
قاضي القضاة طويل الباع في حكم ... في ذهن أقرانه عن فهمها قصر
لما قضى قدموه للرضى وإلى ... حور كواعب عرب زانها الخفر
سقى ثراه من الرضوان سارية ... ما لاح للمرء في أيامه عبر
السيد أحمد الراوي بن السيد رجب بن السيد حسن بن السيد حسان بن السيد يحيى بن السيد حسون بن السيد محمد بن السيد علي بن السيد أحمد بن السيد نجم الدين بن السيد علي أبي الفتح بن السيد قطب الدين محمد بن السيد محي الدين إبراهيم بن السيد نجم الدين أحمد رضي الله عنه سبط الحضرة الجليلة الرفاعية
ترجمه السيد أبو الهدى أفندي في كتابه تنوير الأبصار في طبقات السادة الرفاعية الأخيار فقال: نشأ السيد أحمد المترجم براوة بلدة من أعمال بغداد، واشتهر وظهر وتربى بتربية والده ولبس عنه الخرقة، ووالده لبس الخرقة الرفاعية من السيد مهدي الرفاعي نقيب البصرة، ثم بعد وفاة والده التحق بخدمة الشيخ العارف الكبير القطب الأعظم السيد نور الدين حبيب الله الحديثي الرفاعي وسلك على يديه وانتفع بصحبته، وهو أحد أصحاب الإمام السيد حسين برهان الدين الصيادي آل خزام وقد أظهر الله شأن السيد أحمد، وأعلى قدره، وجرت على يديه الخوارق التي لا تعد ولا تحد، وانتشرت به الطريقة الرفاعية، مر ببلدة الكبيسة بالشرقية فشكا إليه أهلها قلة الماء العذب وإن ماء أرضهم كله مالح وأنهم في ضنك، فخرج بهم خارج البلدة وأمرهم أن يحفروا بمحل هناك، ونام وقال لا توقظوني حتى يظهر الماء ويجري إن شاء الله تعالى، فلما باشروا الحفر ما كان(1/203)
غير يسير حتى ظهر لهم الماء كالسيل أعذب ما يكون من الماء، ففرحوا به وما صبروا فأيقظوا السيد أحمد وذكروا له الحال، فقال بارك الله بكم لو صبرتم لجرى على وجه الأرض كما قلت لكم ولكن هذا قسم في الأزل، وهذا البئر المذكور باق إلى الآن في الكبيسة ولا نظير له بين مياه تلك الديار، ولو صرفنا عنان القلم لتعداد خوارق صاحب الترجمة لطال المجال، إذا مر منها مفخر جاء مفخر، بيته معمور، وذكر منشور، وشأنه مشهور، والولاية تتسلسل بذريته إلى آننا هذا انتهى.
توفي صاحب الترجمة سنة خمس وعشرين ومائتين وألف، ودفن بزاويته بعانة، وقبته مزار الخواص والعوام وذريته المباركة براوة وعانة وكلهم أعلام أفاضل وكراماتهم شهيرة وسيرتهم الحسنة في بلادهم وغيرها معروفة قدس الله أسرارهم أجمعين.
الشيخ أحمد بن الشيخ عبد الجواد بن الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ حسين بن الشيخ عطية بن الشيخ عبد الجواد القاياني يتصل نسبه بسيدنا أبي هريرة رضي الله عنه
دوحة فضل ثمرها يانع، وسماء مجد كوكب عنقها لامع، وحديقة جمال قد احتفت بالجداول، وحقيقة كمال قام لإثباتها واضحات الدلائل، من بمدحه تحلى أجياد الطروس العاطلة، وبنتائج فضله تدحض الحجج الباطلة، كيف لا وهو من صدور الأعيان الأعاظم، الحائزين قصب السبق بشهادة كل ناثر وناظم، ولد في الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة سبع وخمسين بعد المائتين والألف ونشأ في حجر والده إلى أن حفظ القرآن وبعض المتون، ثم أرسله والده إلى الأزهر للطلب وإتقان الفنون، وأوصى به تلميذ أبيه الشيخ خليفة السفطي فأنزله منزلة الولد وكان له في سائر أموره سنداً وأي سند، إلى أن علا ذكره وفاق، وانعقد على تقدمه(1/204)
الاتفاق، ولما توفي الشيخ خليفة السفطي وضع في مكانه شيخ رواق السادة الفشنية لما ناله من الكمال، وبلغ به مبلغ القادة من الرجال، وذلك في شهر محرم الحرام سنة ثلاث وتسعين بعد المائتين والألف، وذلك بعد أن أجازه شيخ الإسلام الشيخ مصطفى العروسي شيخ الأزهر، وأجازه بقية العلماء بما تجوز لهم روايته عن مشايخهم ذوي المقام الأبهر، وقد نظم رسالة اليونسي في البيان، وشرح منظومة الحميدي، وله منظومة في النحو على نسق منظومة الشبراوي وله رسائل كثيرة، وتقريرات شهيرة، ولما حصلت الوقعة العرابية، مع الدولة الإنكليزية، واستولى الإنكليز على مصر، ووقع بأعيانها وعلمائها كل ضيق وعسر، كان من جملة من انتفى منها المترجم وأخوه الشيخ محمد إلى بيروت ومدة نفيهما أربع سنوات، وفي سنة ثلاث وثلاثمائة وألف حضرا إلى الشام وزارهما الشاعر الأديب الشيخ محمد الهلالي فخاطبه المترجم في الحال، على طريق الارتجال بقوله:
في آخر الشهر جئنا ... دمشق ذات الجمال
فكان أمر عجيب ... وذاك رؤيا الهلال
وفي هذه السنة بعينها اجتمعت بهما في مدينة بيروت وانعقدت بيننا محبة عظيمة، ومودة جسيمة، وكان درسهما في الصباح يشهد لهما بعلو المقام، وسمو المعرفة، إلا أن الأخ الكبير الشيخ محمد كان يغلب عليه حال الطريق مع كماله في العلم، وأما المترجم فإنه يغلب عليه العلم وإن كان متمكناً في الطريق، وبالجملة فإنهما فرع شجرة زكية، وصفوة لسادة أهل رتبة علية، ما منهم إلا كامل وأكمل، وفاضل وأفضل، وللناس بهم اعتقاد كامل، فيجعلونهم لحل مشكلاتهم من أعظم الوسائل، توفي رحمه الله وأعلى في دار الرضواه مرتقاه، في شهر جمادى سنة الف وثلاثمائة وثمانية ودفن في بلد أبيه وجده في القايات؟(1/205)
الشيخ أحمد بن بكري البغال الشافعي الدمشقي
العالم الصالح، والعامل الناجح، والورع الزاهد، والناسك العابد، ولد بدمشق سنة ألف ومائتين وتسعين ونشأ بها وأخذ عن علمائها منهم المحدث الكبير الشيخ عبد الرحمن الكزبري ومنهم الشيخ صالح الفلاني والشيخ عبد الله الكردي وعن كثير من السادات الكرام والأكابر العظام، وقد أذن له شيخه الشيخ عبد الرحمن المذكور بالتدريس في جامع سنان باشا وأخذ فيه يفيد الخواص والعوام، إلى أن شرب كاس الحمام، في شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير قرب مقام الصحابي الجليل سيدنا بلال الحبشي رضي الله تعالى عنه.
السيد الشيخ الإمام أحمد بن إدريس المغربي الحسني نسباً الإدريسي
من ذرية الإمام إدريس بن عبد الله، قال العلامة السيد حسن بن أحمد البهكلي في الديباج الخسرواني: هو شيخنا إمام المفسرين، ومقدام المحدثين، جعل الكتاب والسنة إماميه، وجعلهما الدليل الذي لا يعتمد في عبادته إلا عليه، فليس له مذهب يقلده، أو منهج يقويه ويشيده، سوى السنة والكتاب، فيعمل بهما بلا شك ولا ارتياب، وكان يكافح أهل التقليد، بالملام والإنكار الشديد، ويعلن لهم بأن قصر الحق على هذه المذاهب المعروفة من البدع، وأن الجزم بتعذر الحكم من دليله لا مستند له، وأنه من باب تضييق الواسع لأن فضل الله غير مقصور على شخص دون شخص، والفهم الذي هو شرط التكليف قد منحه الله تعالى كل أحد ولو كان مختصاً به أحد دون أحد أو زمان دون زمان، لما قامت الحجة على العباد بكتاب الله العزيز والسنة البيضاء، وهذا لا يرتضيه أحد، وهذا الصنيع من كفران النعمة، وقد تكلم في هذه المسألة جماعة من أهل العلم وأفردها الشيخ صالح الفلاني بمؤلف، وأجاد في الكلام على هذه المسألة الإمام الحافظ(1/206)
محمد بن إبراهيم الوزير في عواصمه، نعم انحرف عنه علماء مكة لهذا السبب ولله در القائل:
ألا قل لمن بات لي حاسداً ... أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فعله ... لأنك لم ترض لي ما وهب
ومع هذا فهم إذا أشكلت عليهم مسألة دسوا إليه من يسأله فيجليها لهم؛ وقد نشر الله تعالى له من الصيت وحسن الذكر ما ملأ الآفاق، وما ضره حسدهم ولا تمالؤهم على غمط فضائله والاتفاق، على أنه طاهر السريرة صافي القلب من داء الحسد، والحقد وكان عند ملوك مكة هو العين الناظرة، منزولاً عندهم في أرفع المنازل، ملحوظاً بعين الإجلال في جميع المحافل، وفي آخر مدته خرج من مكة إلى اليمن وكان وصوله إلى زبيد سنة ألف ومائتين وثلاث وأربعين، وتلقاه شيخنا الحافظ السيد عبد الرحمن بن سليمان الأهدل وجعل نفسه له مقام التلميذ وأجله غاية الإجلال، ثم ترجح له المسير نحو الشام وأنشد لسان حالهم قول بعض الأنام:
أيها السائر عنا عجلا ... إنما سرت فما عنك خلف
إنما أنت سحاب هاطل ... حيثما صرفه الله انصرف
ليت شعري أي قوم أجدبوا ... فأغيثوا بك من بعد التلف
وكانت ولادة المترجم سنة عشر ومائتين وألف.
وقد ذكر صاحب النفس اليماني لصاحب الترجمة، ترجمة حافلة قد ذكرت حاصلها وهو: شيخنا السيد العلامة الإمام ذو المعارف الربانية، والمواهب الرحمانية، صفي الإسلام أحمد المغربي الحسيني، وفد إلى مدينة زبيد سنة ألف ومائتين وأربع وأربعين ناشراً فيها ما منحه الله من علوم أسرار الكتاب والسنة، وكاشفاً عن إشارتهما الباهرة، ولطائفهما الزاهرة، بعبارته الجلية المشرق عليها نور الاذن الرباني، واللائح عليها أثر القبول الرحماني، كما قال ابن عطا: من أذن له في التعبير، فهمت في مسامع الخلق عبارته،(1/207)
وجليت إليهم إشارته، ولقد أملى من تلك الدقائق والحقائق ما استنارت به قلوب سليمة، وتداوت من جراحات غفلاتها أفئدة أليمة، وازدحم الخاص والعام على الاستفادة من تلك العلوم، والاقتباس من نور مشكاة تلك الفهوم.
جميع العلم في القرآن لكن ... تقاصر عنه أفهام الرجال
وتلقى كل أحد من تلك المعاني واللطائف على قدر الاستعداد، وعلى ما قدره الله من مسوق فيض الإمداد.
على قدرك الصهباء تعطيك نشوة ... ولست على قدر السلاف تصاب
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في شرح منازل السائرين: القوم يسمون أخبارهم عن المعارف والمطلوب إشارة، لأن المعروف والمطلوب أجل من أن يفصح عنه بعبارة تطابقه وشأنه فوق ذلك، فالكامل إشارته إلى الغاية، ولا يكون ذلك إلا لمن فني عن اسمه وهواه وحظه، وبقي بربه، وكل أحد فإشارته بحسب معرفته وهمته، ومعارف القوم وهمهم تؤخذ بإشاراتهم انتهى وهذا السيد الجليل طريقته السالك بها والداعي إليها الإقبال بالكلية على تدبر معاني كتاب الله، وإطالة التفكر في استجلاب أسرار معانيه، ولقد ذكر لي أنه مكث عدة سنين لا شغل له إلا تلاوة كتاب الله والتعرض لنفحات أسرار علومه، ولطائف رقائقه وفهومه، حتى منح الله بما منح وفتح بما فتح، وهذه الطريقة هي التي أشار إليها الإمام ابن القيم في شرح منازل السائرين حيث قال ما نصه: والطريقة المختصرة القريبة السهلة الموصلة إلى الرفيق الأعلى التي لا يلحق سالكها خوف ولا عطب، ولا فيها آفة من آفات سائر الطرق البتة، وعليه من الله حارس وحافظ يحرسه ويحفظه ويحميه، ويدفع عنه كل أذى، هي أن تنقل قلبك من وطن الدنيا إلى وطن الآخرة، ثم وأنت بهذا الموطن لا تجعل له التفاتاً إلا إلى معاني القرآن واستجلائها وتدبرها(1/208)
وفهم ما يراد به وما نزل لأجله، وأخذ نصيبك وحظك من كل آية من آياته وتنزيلها على أدواء قلبك، ولا يعرف قدر هذه الطريقة إلا من عرف طرق الناس وغوائلها وقطاعها والله المستعان انتهى كلامه قال ونزل السيد المذكور على العبد الحقير، وكان نزوله كنزول العافية على السقيم والشفاء للجرح الأليم، والحمد لله على ذلك، ونسأله التوفيق لدوام الشكر على ما هنالك. ثم بدا له التوجه إلى جهة بندر المخا ثم جهة موزع، فلما وصل إلى تلك الجهات ازدحم عليه الخاص والعام وانتفعوا به في أمر دينهم انتفاعاً عظيماً، لأن السيد هديه في عباداته وعاداته الهدي النبوي لاسيما الصلاة فإنه نفع الله به يقيمها ويحسنها على الوجه التام، الذي وردت به الأحاديث الصحاح والحسان، عن معلم الشريعة صلى الله عليه وسلم، لا يلتزم في إقامتها ولا إقامة غيرها مذهباً من المذاهب، بل مذهبه ما صح به الحديث كما هي طريقة خلائق من العلماء الأعلام.
ومذهبي كل ما صح الحديث به ... ولا أبالي بلاح فيه أوزاري
وله كلام منظوم رائق عذب. ثم عاد بعد إقامته في تلك الجهات إلى زبيد، والعود كما يقال في المثل السائر أحمد، ولم تزل الأيام والليالي زاهرة رياضها بلطائف علومه، ورقائق فهومه، معمورة أوقاتها بعباداته، والأقلام تكتب من إملاء السيد من الفوائد العوائد، النوادر والشوارد، ما ملئت منه الدفاتر وفي هذه المدة وقعت إجازات منه لكل من طلب ذلك، بل إجاز أهل زبيد خصوصاً وأهل اليمن عموماً، كما وقع نظير ذلك للحافظ ابن حجر العسقلاني عند قدومه زبيد فإني رأيت بخط الفقيه(1/209)
الولي الكبير العلامة المحدث عبد النور بن عبد الواحد الهائلي ما نصه: رأيت بخط غير خط الإمام شهاب الدين بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: أجزت لأهل زبيد خصوصاً ولأهل اليمن كافة عموماً أن يرووا عني هذه الكتب صحيح البخاري وصحيح مسلم والجمع بين الصحيحين للحميدي، وكتاب السنن لأبي داوود، وكتاب السنن للحافظ النسائي وهو المختار من السنن الكبرى، وكتاب الجامع للإمام أبي عيسى الترمذي وكتاب العلل له أيضاً، وكتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس الأصبحي، وكتاب التجريد للقاضي عبد الرحمن البارزي بأسانيدي التي ذكرتها إجازة معين لمعين، وكذلك ما يصح عندهم من مر ويأتي من الأجزاء الحديثية والكتب المسندة، وما لي من قول ونظم ونثر على اختلاف جميع ذلك وتباين أنواعه وأجنايسه، إجازة تامة بشرطه المعتبر عند أهل الأثر، قاله وكتبه أحمد ابن علي بن محمد العسقلاني الشهير بابن حجر انتهى قال: وهو باق إلى هذا العام سنة ألف ومائتين وثمان وأربعين يذكر الله ويذكر بآلائه، ويملي من علوم السنة والكتاب ما يفيد ذوي العقول والألباب انتهى أقول: وقد توفي المترجم المرقوم نفعنا الله ببركاته وأعاد علينا وعلى المسلمين من صالح دعواته سنة ألف ومائتين وثلاث وخمسين هجرية.
الشريف السيد أحمد أسعد المدني الحسيني ابن السيد محمد أسعد ابن السيد أحمد الحنفي الماتريدي مفتي المدينة المنورة النبوية المحمدية
بدر كمال بدا من أفق النبوة والرسالة، وروض جمال غدا مثمراً يانع الفتوة والبسالة، وتاج فضل قد ارتفع علاه على هام النسب، ومنهاج سؤل قد ارتضع من لبان المجد والحسب، وكوكب علم قد ارتقى مداره على أوج العلو، ومطلب حلم قد انتقى ذروة الرفعة والسمو، وغصن شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وحصن نجاة ما طاف به طائف(1/210)
إلا وقد علا وسما، قد انتسب لأشرف ذات وألطف إنسان، واقترب ممن انتخب لأعلى ملة وأولى لسان:
فهو من دوحة العلا فرع عز ... ليس يحتاج مجتنيه لهز
قد تسامى انتسابه لنبي ... حار فيه الأنام حيرة عجز
فأما نسبة الشريف الأجل الأعلى، الذي هو من أعلى الأنساب المذكورة في الأنام وأولى، فهو السيد أحمد أسعد بن السيد محمد أسعد بن السيد أحمد أسعد بن السيد محمد أسعد بن السيد عبد الله أسعد بن السيد أسعد مفتي السادة الحنفية، في مدينة الذات النبوية، وهو أول من جلس في هذه العائلة على مهاد الإفتاء، وكان من أعلم العلماء وأفضل الفضلاء، وهو ابن السيد أبي بكر، ابن السيد عبد الرحمن، ابن السيد أحمد، ابن السيد أيوب، ابن السيد زين العابدين القيسراني، ابن السيد أحمد بن السيد محمد، ابن السيد عبد الرحمن، ابن السيد عبد الكبير، ابن السيد محمود، ابن السيد صدر الدين علي، ابن السيد هاشم الأحمدي، ابن السيد أبي السعود سعد، ابن السيد سلامة، ابن السيد أحمد عبيد، ابن السيد عبد الله المدني الإشبيلي، ابن السيد حازم الإشبيلي، ابن السيد أحمد، ابن السيد علي، ابن السيد الكبير رفاعة الحسن المكي ثم الإشبيلي، ابن السيد المهدي، ابن السيد أبي القاسم محمد، ابن السيد الحسن، ابن السيد الحسين، ابن السيد أحمد الأكبر، ابن السيد موسى الثاني، ابن الأمير إبراهيم المرتضى، ابن الإمام موسى الكاظم، ابن الإمام جعفر الصادق، ابن الإمام محمد الباقر، ابن الإمام زين العابدين علي، ابن الإمام الشهيد السعيد السبط سيدنا الحسين، ابن الإمام أمير المؤمنين صهر النبي الأمين، أسد الله الغالب، سيدنا علي بن أبي طالب من زوجته السيدة فاطمة البتول الطاهرة الزهراء، كريمة أشرف المرسلين وسيد الأنبياء، صلى الله تعالى وسلم عليه، وعلى آله وصحبه ومن ينتمي إليه.(1/211)
هذا وإن بحر الشعر قد صفا من أكداره وغينه، لكي يحمل هذا النسب الشريف على أجفانه وعينه، فنظمه نظم العقد الثمين، وتلاه علينا تلاوة الأمين الذي لا يمين.
فقال متوسلاً بهذه السلسلة الشريفة وقد أجاد، ووفى بالمرام والمراد:
من عودكم باللطف كان تعودي ... إن أستغيث بكم لنجح المقصد
وتعوذي بملاذ كعبة عزكم ... أجلو به خطب الزمان المعتدي
يا جيرة العلمين تهيامي بكم ... روحي وريحاني وجنة موردي
وحياتكم ما زال رق هواكم ... رقي وإن رغمت أنوف الحسد
لي في الفؤاد تشوف وتشوق ... نيرانه بسوى اللقا لم تبرد
وإذا ذكرتكم أميس ترنماً ... من ذكركم مثل الغصون الميد
قلبي المحير أمه ركب النوى ... بحصاره يال الحسين المنجد
فصبا بنجد والحجاز وبات من ... وجد مع العشاق صب ترصد
يا من بأوج العز قر قرارهم ... هل من جواب العطف للمستنجد
يا سادتي منوا بجبر متيم ... خلع السوى وفنى بذاك المشهد
يروي العقيق حيا عقيق جفونه ... حتى يرى منه لباس زمرد
ماذا على من هام في آل العبا ... أو من سبى شغفاً بآل محمد
لله نجب ما أعدت ثناءهم ... إلا ولذ لمهجتي أن ابتدي
يا آل طه من يزغ عن حبكم ... لا ذاق من طيب الهناء الأرغد
يا سادتي وسعادتي دنيا وفي ... دار المقر وعدتي في الموعد
أنتم كما صح الحديث أماننا ... وبفضلكم كم من صحيح مسند
قدستم بطهارة ونزاهة ... عن كل رجس بالكمال الأحمدي
فودادكم فرض على كل الملا ... وبذا أتى القرآن للمسترشد
ما إن رجا راج عواطف سركم ... إلا نجا وعن الحمى لم يردد(1/212)
انهلتم هذا الوجود بجودكم ... فبمدحكم حمداً يروح ويغتدي
أكرم بباب مدينة العلم الذي ... هو منبع العرفان صنو محمد
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى ... إلا علي قاهر المتمرد
صهر النبي خزينة النسب الذي ... في صلبه عقد الكمال المفرد
لله أصل هاشمي أزهرت ... منه فروع أثمرت بالسيد
عين الحياة ومجمع البحرين إذ ... من صدره بحر وبحر من يد
فرع الكرام الطاهرين أولي الرضى ... السيد المدعو بأحمد أسعد
وهو ابن مولانا محمد أسعد ... نجل الهني المفضال أحمد أسعد
وهو ابن مولانا محمد أسعد ... وهو ابن عبد الله أسعد من هدي
وهو ابن مولانا المكرم أسعد ... هامي اليدين فديته من أسعد
وهو ابن مولانا أبي بكر الذي ... للعبد للرحمن أبهى مولد
وهو ابن أحمد نجل أيوب الذي ... هو نجل زين العابدين السجد
القيسراني السليل لأحمد ... حياه نجلاً للهمام محمد
وهو ابن مولانا البهي عبد إلى الر ... حمان مصباح البيان المهتدي
وهو ابن مولانا الأجل المجتبى ... عبد الكبير الألمعي الأزهد
وهو ابن محمود لحسن شمائل ... نجل لصدر الدين قدوة مقتد
هذا علي وهو بضعة هاشم ... السيد الشهم النبيل الأحمدي
وهو ابن سعد من كني بأبي السعو ... د ابن النضير سلامة المتعبد
وهو ابن أحمد ذا عبيد زاهر ... نجل لعبد الله أبهى أمجد
لا غرو بالمدني والإشبيلي انتمى ... وهو ابن الإشبيلي الإمام الأوحد
ذا حازم وهو ابن أحمد من غدا ... بسوى عبادة ربه لم يجهد
وهو ابن مولانا علي نجل من ... دان الإله بطاعة وتهجد
نجل الكبير السيد الحسن الذي ... برفاعة يدعى لرفعة مجتد(1/213)
مكي أصل ثم إشبيلي غدا ... نجلاً إلى المهدي جميل تودد
وهو ابن مولانا أبي القاسم ... البحر الخضم اللوذعي محمد
نجل إلى الحسن الذي هو نجل من ... يدعى الحسين وذا سلالة أحمد
الأكبر المولود للثاني الذي ... يدعى بموسى ذي المقام الأجود
نجل الأمير المرتضى المدعو بإب ... راهيم أحظى من حظي بتأيد
وهو ابن موسى الكاظم الغيظ الذي ... قد ضم شمل الفضل بعد تبدد
وهو ابن جعفر صادق بوعده ... ذي العلم والعرفان والجود الندي
نجل الإمام الباقر الغوث الهمي ... السيد الأسد الكمي محمد
هذا ابن زين العابدين عليهم ... نجل الحسين السبط روح الأكبد
وهو ابن سيدنا الذي لكماله ... قد فاز بالزهراء بضعة أحمد
هو والد الحسنين صهر المصطفى ... أعلى عليٍ ساد أعظم سؤدد
أكرم به نسباً تألق عقده ... بالمصطفى لا بالحلي والعسجد
نظم البهاء فروعه بأصوله ... نظماً يريك حلاوة بتردد
كل من الأنساب مقطوع سوى ... نسب النبي فوصله لم ينفد
فالدهر منه متوج بمفاخر ... تزهو بحسن سنائها المتوقد
يا خاتم الرسل الكرام ومن سما ... بعروجه أسمى سماء الفرقد
يا عين أعيان الوجود ومن هو ... الأصل الممد لكل فرد موجد
هذا الفقير بباب جودك سائل ... يرجوك سائل جودك المتجدد
فانظر له نظر القبول تكرماً ... واعطف وجد واشمل وصل بتعهد
صلى عليك الله يا كنز الحيا ... أوفى صلاة مع صلات تسرمد
وحباك يا روح الكيان تحية ... من حضرة الإطلاق دون تقيد
والآل والأصحاب والأتباع ما ... فاحت بمسك ختامها للمنشد
واسر من تاريخ نسبة أحمد ... أنس يروح أريجه الندي الندي(1/214)
ولد في المدينة المشرفة المنورة، والبلدة التي هي بسور العناية مسورة، سنة ألف ومائتين وخمس وأربعين من هجرة جده سيد المرسلين، وفي ثاني سنة من ولادته رحل والده المرحوم لدار آخرته، ثم قام بتربيته أخوه الأوحد، وشقيقه الماهر الأمجد الشريف السيد أسعد، فأفرغ جهده في تأديبه، وحسن تربيته وتدريبه، فقرأ القرآن وأتقنه، ثم حفظه وجوده حتى أتم تجويده وأحسنه، فعندها أخذ في طلب العلم على السادة الأفاضل حتى صار معدوداً من ذوي الفضائل، منهم الشيخ يوسف الصاوي والشيخ عبد الغني الدمياطي والشيخ أحمد الطنطاوي والشيخ حبيب المغربي وغيرهم ممن رقى في العلم مقامه، وخفقت راياته وأعلامه، ولم يزل يترقى على معراج السمو، ويتدرج في الفضل على مدارج العلو، إلى أن تحلى من كل جميل بما هو أجمل، وتولى على خزانة الكمال والأكمل، وهو من آل بيت في المدينة أهل فضل وتقوى، وعلم وعبادة وفتوى، وقد دام فيهم إفتاء المدينة المنورة تسعين سنة، وهم على أكمل الصفات العالية والنعوت المستحسنة، وفي سنة أربع وثمانين تشرف بخدمة وكالة الفراشة عن مولانا أمير المؤمنين السلطان عبد العزيز خان أسكن الله روحه فراديس الجنان، وغب انتقاله إلى الآخرة، والدار الباقية الفاخرة، تشرف بوكالة الفراشة عن مولانا أمير المؤمنين السلطان عبد الحميد خان، أدام الله حياته على مدى الأزمان، وفي سنة تسع وتسعين وجه عليه باية استنبول، وبعد أيام قليلة أحسن إليه بباية أناطول، مع النيشان البرنجي المجيدي وبعده بالوسام البرنجي العثماني، ثم بنيشان الصداقة، ثم بباية قاضي عسكر روميلي التي هي نهاية المراتب، ولم يزل يسمو مقامه فوق الواجب، وقدره يتعالى، ونعيمه يتجدد ويتوالى، إلى أن حصل له في آخر أمره جذبة إلاهية، أذهلته عن إدراك أموره العادية، وفي سابع رمضان عام ألف وثلاثماية وأربعة عشر اخترمته المنية في الآستانة العلية رحمة الله عليه.(1/215)
الشيخ أحمد أفندي بن المرحوم الشيخ عقيل أفندي الزويتيني
مفتي حلب الشهباء وعالمها، وحامل لواء الشريعة بها وخادمها، قد صرف نقد عمره من صغره في العلم والعمل، وعكف على ما يرفع شريف قدره إلى أوج برج الحمل، ولم يزل يرضع لبان المعارف، ويتحلى بحلية العوارف، لدى كل عالم وعارف، إلى أن أضحى ببراعته برد البلاغة موشى، وبفصاحته ثوب النباغة مطرزاً ومغشى، فلا ريب أنه جنة ثمرات الفنون، ولا عيب فيه سوى أنه عن نسبة العيب إليه مصون، فيا له من جهبذ قد لبس سوار الفضائل في معصم الكمال، واقتبس من مشكاة الدلائل نور الوقوف على أصح الأقوال وأرجح الأفعال. ولد تقريباً من سنة ألف ومائتين وأربعين، ومن حين تمييزه جلس من حدائق الطلب على مهاد التمكن والتمكين، ولم يزل يفيد ويستفيد، ويزيد في الاجتهاد لكي يزداد مما يريد، إلى أن خطبه الإفتاء الشريف لهامته تاجاً، ولترقيه إلى سماء الفضائل معراجا، ولم ينقل عنه ميل عن جادة الصواب، ولا فعل يوجب له نسبة شك في كماله أو ارتياب، بل حالته الخوف من الله والتقوى، والاستقامة في السر والنجوى، إلى أن فارق دنياه، وأجاب دعوة من إليه دعاه، ليلة السبت من أواخر شعبان المكرم سنة ألف وثلاثمائة وست عشرة واحتفل بتشييعه الكبير والصغير، والغني والفقير، ودفنوه في مقبرة الصالحين أسكن الله روحه في عليين.
الشيخ أحمد أفندي بن الشيخ عبد الكريم أفندي الترمنيني الحلبي
عالم حلب وإمامها، وقدوتها في كل فضيلة وهمامها، بدر الهداية لكل رشاد وصلاح، وفجر العناية الموصلة لكل رفعة وفلاح، صاحب المكارم التي أشرق بدرها في سماء الإسعاد، والعزائم التي أبرق نورها فأرشد إلى نوال كل مراد، فلا ريب أنه البحر الذي لم يعرف الواردون ساحله،(1/216)
والحبر الذي جعل الكتاب والسنة وسائطه إلى الله ووسائله، دأب على تحصيل العلوم منذ كان طفلاً، واعتصم بحبل التقوى والعبادة قولاً وفعلا، وزهد في الدنيا فكانت تأباه ويأباها، وأقبل بجده واجتهاده على أعمال الآخرة إلى أن صارت تهواه ويهواها، واعتزل عن الناس وألف الانفراد، وواصل السهاد وطلق الرقاد، واعتكف في حجرته ليله ونهاره، وقصر على العمل والعلم أطواره وأوطاره، وكان إذا جلس في حجرته قفل بابه، وإذا أراد أحد منه مسألة وقف أمام شباك حجرته فإذا سأله أجابه، ثم رجع إلى ما كان عليه في الحال، واشتغل بما ينفعه من غير إمهال، وللناس به اعتقاد قد بلغ ذروة الكمال، واعتماد يتأملون به الوصول من المرغوب إلى نقطة الاعتدال، وقد رحل في أيام طلبه إلى مصر القاهرة، وجاور في أزهرها ذي المنقبة الفاخرة، وحضر دروس السادة الأفاضل، إلى أن صار معدوداً من الأوائل، ثم رجع إلى بلده بعد بلوغ آماله، ونجاح مقاصده وأعماله، ولم يزل مستقيماً على حالته، مستزيداً من طاعته وعبادته، إلى أن دعاه داعي الآخرة، إلى الجنة العالية الفاخرة، وذلك سنة ألف ومائتين ونيف وثمانين.
الشيخ أحمد أبو العباس شهاب الدين البربير الشامي البيروتي
سهم الأغراض والأماني، وكنانة البيان والمعاني، ذو الأدب الباهي الباهر، والأرب الزاهي الزاهر، والنفس الزكية والأخلاق المرضية، من تستعذب النفوس نثره، وتستطيب نطمه وشعره، فلا ريب أنه العمدة الإمام، والنخبة القطب الهمام، الذي ما رأى أحد مثله في مصر وشام، وكان مولده رحمه الله في ثغر دمياط سنة ستين ومائة وألف حيث كان والده بها يتعاطى التجارة، ولما بلغ رشده، وملك أشده، قرأ على أفاضرض العال
ل عصره العلوم النقلية، والعقلية، غب أن حفظ القرآن المجيد وجملة من(1/217)
الأحاديث النبوية، ونظم الشعر وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وحضر إلى بيروت وطنه الأصلي في سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف، ثم توجه إلى دمشق الشام، ثم عاد إلى بيروت، فأكرهه الأمير يوسف الشهابي على تولية القضاء بها، فقام بأعبائه، ثم استعفى منه لورعه وتقواه، ثم عاد إلى دمشق سنة خمس وتسعين ومائة وألف وسكن في الصالحية، وأقبل على الترقي بهمة قوية، إلى أن صار فرداً يشار إليه، وعمدة في المشكلات يعتمد عليه، وشهد له مشايخه بالفضل، وإنه لما يثنى عليه به مستحق وأهل، وقد أخذ عن العلامة الشيخ مصطفى الصلاحي، وشرح له شيخه المرقوم بديعيته المشهورة، وله كتب في كل فن ورسائل، هي لوصول مطالعها إلى المقصود طرق ووسائل، منها الشرح الجلي على بيتي الموصلي، ومنها كتاب في اقتباس آي القرآن، ومنها مؤلف باسم سليمان، وشرح قصيدة سيدي الشيخ محي الدين العربي، وله مقامة تشهد بعلاه، وتقضي لمطالعها بأن يعترف لمنشئها بأنه قد جمع ما تفرق من الفضل وحواه، وقد أحببت أن أثبتها في هذا المكان، لتكون للواقف على تلاوتها جالبة للسرور ومذهبة للأحزان، وليعلم الإنسان فضل منشئها وفضل ممدوحه عبد الرحمن أفندي العمادي المرادي العلامة الإمام، والفهامة الهمام، فأقول ذاكراً لها بتمامها، بنثرها ونظامها.
بسم الله الرحمن الرحيم
حمداً لمن خلق العناصر، وجعل لكل منها فضلاً تعقد عليه الخناصر، وصلاة وسلاماً على الجوهر الفرد الذي منه عرض العالم، ومن هو في(1/218)
الدارين سيد بني آدم. وعلى آله وصحبه. ومن تعلق بحبه. ما اكتحلت عيون الطروس بمراود الأقلام. وقلدت نحور الدروس بعقود ألفاظ العلماء الأعلام. وبعد فإن الفكر والخيال. دخلا بي إلى رياض ضاع زهرها فنم عليه النسيم ودار عليه الماء الزلال. أكلها دائم وظلها. كأنما قابلت مرآتها جنة النعيم فانطبع فيها مثالها وشكلها. فتلقتنا عوديات طيورها بالصدح. ومجامر كمائم ورودها بالنفح. وزهرها بثغر باسم ونهرها بقلب صافي. وأدواحها ببسط بساط البسط من ظلها الضافي. وقامت لنا الأشجار على سوقها. وسفرت لنا عرائس الورود على لثام غبوقها. وأدارت علينا سلاف طلها كؤوس الزهور. قبل أن ترشفه شمس البكور. وحيتنا راحة الراحة والسرور. بأصابع المنثور. وغنت لنا مطوقات شواديها على العيدان. وأعربت وهي عجماء بفنون تمايلت لها قدود الأفنان. حتى لو سمعها ركب العشاق. على النوى لنسي الحجاز والعراق. وتمنى الدخول لذلك البستان. ورقصت بين أيدينا جواري الماء. وظهرت مع وجود شمولنا وبدورنا نجوم النبات حتى ظنناها نجوم السماء. ولاح لنا عارض الغيث وشارب الآس فاذكر العيش السالف. وطاف النسيم بكعبة صفانا طواف القدوم فما كان ألطف ذلك الطائف. غير أننا كنا نسمع محاورة. ضمنها منافرة ومحاضرة. فسألنا الرياض عن جلية الأثر. فقالت سلوا النسيم فقد أصبح عند النسيم الخبر. فوجهنا وجه السؤال الوسيم. إلى قبلة النسيم. فتدلى وتدلل. وما ألطف النسيم إذا تعلل، ثم مر بنا مقبلاً ومقبلا، وكلما مر حلا، وقال يا أهل الفراسة والسياسة، والفتوة والمروءة والحماسة، إنها منافسة بين الماء والهواء أوجبها حب انفراد كل منهما عن صاحبه بالرياسة، فهل تنعمون بحضورهما لديكم، ومثولهما بين يديكم، ليعرض كل ماله من حسن الأوصاف، وتحكموا بينهما بالعدل والإنصاف، فقلنا لا نكره ذلك ولا نأباه، فهلم بهما إلينا(1/219)
لنرفع ما بينهما من الاشتباه، فشمس الحق لا يحجبها حجاب الباطل، وهيهات تكتم في الظلام مشاعل، فلم يزل الحق أبلج، والباطل لجلج، وحسبك قول خالق الخلائق، " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق "، فعند ذلك سرى النسيم إليهما مسرى النوم في الأجفان، والروح في الأبدان، والراح في الندمان، فأتى بهما وهو يتبسم ويتنسم ويتسنم، فحيا كل منهما وبيا وسلم، فقلنا: وأنتما حييتما ما عطس الفجر ودب الظلام، فإنكما أعظم دعائم الجماد والنبات والحيوان والإنسان، وأنتما الشقيقان اللذان لم يوجد لهما ثالث في عالم الإمكان، فهل ولج بينكما ذو نفاق، حتى صدر منكما هذا الشقاق، أو ذلك من دسائس النفس الأمارة، ووساوس تلك العدوة الغدارة الغرارة، التي لا تأمر إلا بالشر ولا تصبو إلا إلى الضر، كيف لا وهي عروس إبليس، ومصدر أفعال التدليس والتلبيس، أعدى العدى، وسبب الردى، قال لها الحق أقبلي فأدبرت، وأعرضت عن جانبه واستكبرت، حتى ألقاها في الجوع، وألجأها به إلى الذل والخضوع، فالشر في إهمالها، والخير في إعمالها وإذلالها، فمن أطاعها ندم، ومن عصاها سلم، ومن قهرها بالجهاد فهو بطل، ومن ملكها من مدينة جسمه خرب نظام إنسانيته وبطل، فالرأي للعاقل أن يحذر مكرهاً، ويخالف أمرها، لاسيما إن أمرته بقطع رحم القرابة والأرب، أو رحم الصحبة أو الحرفة التي كل منها لحمة كلحمة النسب. والمرء قليل بنفسه كثير بالإخوان، والرحم مشتقة من الرحمن، ولهذا يصل من وصلها، ويفصل من فصلها، وخير الناس من جنح إلى الصلح، ولم يداو جرحاً بجرح، كما قال الشاعر:(1/220)
داوي جوى بجري وليس بحازم ... من يستكف النار بالحلفاء
وقال آخر:
من يشف من داء بآخر مثله ... أشرت جوانحه من الأدواء
وقال آخر:
وما كنت إلا مثل قاطع كفه ... بكف له أخرى فأصبح أجذما
والجزم فيما قاله الشاعر:
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت أصابني سهمي
على أن الدنيا دار زوال، ومنزل ارتحال، ولا يليق بالعاقل أن ينافس فيما يزول، ويوجه وجه آماله ما للفناء يؤول، كما قيل:
منافسة الفتى فيما يزول ... على نقصان همته دليل
ومختار القليل أقل منه ... وكل فوائد الدنيا قليل
ولا يغتر الفتى بقول الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
بل يتأمل قول الآخر:
قلت للفرقدين والليل ملق ... سود أكنافه على الآفاق
ابقيا ما استطعتما فسيرمى ... بين شخصيكما بسهم فراق
ولقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من جار السوء في دار المقامة، إشارة إلى أن جار الدنيا يتحول عنك أو تتحول عنه، وإنه لا يليق الضجر منه ولا السآمة، ومن المعلوم أن الدنيا إن بقيت لها لم تبق لك، فطوبى لمن جعلها قنطرة لآخرته فمر بها على هذا القصد وسلك، وويل لمن اغتر بسكونها وهي تمر مع السكون كالظل مر السحاب، وظنها(1/221)
شراباً ولو اختبرها لم يجدها غير آل وسراب، ويا سعادة من أقصر، عندما أبصر، واعتبر لما اختبر، فالدهر أفصح مؤذن بالزوال، وأنصح مؤذن بالارتحال، فلما سمع الماء ما قلناه من الكلام، وتأمل ما فيه من منثور النثر وقلائد النظام، تموج وتأود، ورغا وأزبد، وجرى واضطرب، وعبس بعد القهقهة وقطب، وقال يا معشر الأكابر، أما بلغكم قول الشاعر:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً ... فلا رأي للمضطر إلا ركوبها
وقول الآخر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
وقول السفاح وهو أول من وطد الخلافة العباسية حين قتل بنو عمه بني أمية
نفلق هاماً من رجال أعزة ... علينا وإن كانوا أعق والأما
أما عرفتم أن الأخ المعاند، كالعضو الزائد، يشين الذات، ويمنع اللذات، فقطعه من الرشد، وإن آلم الجسد، هذا ولا يغر الهواء صفائي فكم تكدرت، ولا يثق بسلاستي فكم انعقدت واستحجرت، والذي جمعت في صفاتي الأضداد، كما قال الشاعر وأجاد:
أنا كالورد فيه راحة قوم ... ثم فيه لآخرين زكام
وحسبك ما قاله الشاعر: كالماء فيه الحياة والغرق، فإن زعم الهواء إن له علي فضيلة، فليعرضها على أسماعكم غير متعلل بعلة ولا متحيل بحيلة، فقلنا نعوذ بالله من اجتماع النفس والهوا، فمن رام منكما أن يتكلم فليجعل منبر الفخر له مستوى، فعند ذلك ثار الهواء وله غبار، وصعد منبر الفخار، وقال الحمد لله الذي رفع فلك الهواء، على عنصر التراب والماء، ونفخ في آدم من روحه وعلمه جميع الأسماء، أما بعد(1/222)
فمن عرفني فقد اكتفى، ومن جهلني فسأبدو له بعد الخفا، أنا الهواء الذي أؤلف بين السحاب، وأنقل ريح الأحباب، وأهب تارة بالرحمة وأخرى بالعذاب، نصر الله بي محمداً وصحبه الأمجاد، وأهلك الله بي قوم عاد، وأنا الذي تم بي ملك سليمان، وأجرى الماء في خدمتي بكل مكان، وسير بي الفلك في البحر كما تسير العيس في البطاح، وأطار بي في الجو كل ذات جناح، وأنا الذي ألعب بالطرر فوق الغرر، كما العب بلحى الجبابرة من البشر، وأنا الذي يضطرب مني الماء اضطراب الأنابيب في القناة والثعبان في الشعبان، وأنا الذي أميل قامات الأغصان، وأدني عارض الغيث وعذار الآس من خد الشقيق وشارب الريحان، إذا صفوت صفا العالم وكان له نضرة وزهو، وإذا تكدرت انكدرت النجوم وتكدر الجو، لا أتلون مثل الماء، المتلون بلون الإناء، لولاي لما عاش كل ذي نفس، ولولاي لما طلب الجو من بخار الأرض الخارج منها ما احتبس، ولولاي لما تكلم آدمي ولا صوت حيوان، ولا غرد طائر على غصن بان، ولولاي ما سمع قرآن ولا حديث، ولا عرف طيب المسموع والمشموم من الخبيث، فكيف يفاخر بي الماء الذي يشبه الله به الدنيا البغيضة، التي لا تعدل عنده جناح بعوضة، وأنا الذي أطير بلا جناح إلى جميع الجهات، وهو الذي يخر على وجهه ويمشي على بطنه كالحيات، وحسبي وحسبه هذا التفاوت العظيم " أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم "، وحسب الاء ذماً خلوه من الحرارة المشتقة منها الحرية، وكون الرطوبة فيه طبيعية غريزية، وأنا الذي سلم قلبي من القلب وإن كان من أحرف العلة، وهو الذي قلب الله قلبه، لتحركه وانفتاح ما قبله، وأنا الذي جعلني الله نشراً بين يدي رحمته، وجعل مني طوفاناً استأصل به ما تركه(1/223)
آدم من ذريته، هذا وما خصني الله به من المزايا يعجز عنه فم الدواة ولسان القلم وصدر الرقيم، وفوق كل ذي علم عليم، وأما أنت فحسبك عيباً قول بعض الأدباء، فلان كالقابض على الماء، وبالله قل لي أي فخر لمن يعز مفقوداً، ويهون موجوداً، ومن إذا طال مكثه، ظهر خبثه، وإذا سكن متنه، تحرك نتنه، ومن نبع من الصخور، ومر مذاقه في البحور، وشرق به شاربه، وغرق فيه مجاوره ومصاحبه، وعلت فوقه الجيف، وانحطت عنده اللآلىء في الصدف، وقد بان الصحيح من السقيم، والمنتج من العقيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. ثم انحدر من منبره، ووعينا ما سرده من مفخره، وقال للماء، هات يا أبا الدأماء، فعلا الماء بموجه، حتى صعد إلى ما انحط عنه الهواء من أوجه، ولولا الأرض تملكه لسال، لكنه تجلد وأقبل علينا وقال، الحمد لله الذي خلق كل شيء، وجعل من الماء كل شيء حي، أما بعد فقد سمعت جعجعة ووعوعة ظننتها صرير باب، أو طنين ذباب، باطل في صورة حق، وسراب إذا تأملته زال وانمحق، فاسمع أيها الهواء ما أتلوه من آيات فخري الشامل، وما أجلوه عليك من عقد فضلي الذي أنت منه عاطل، " وقل جاء الحق وزهق الباطل "، اعلم أولاً أن الدعوى قبيحة، وإن كانت صحيحة، كما قيل:
وما أعجبتني قط دعوى عريضة ... ولو قام في تصديقها ألف شاهد
فكيف إذا كانت بالزخارف مموهه، فهي أقبح من الخلقة المشوهة، ولعمري لا يروج الدرهم المغشوش، وإن أحكموا فيه أنواع النقوش، لاسيما إذا كان الناقد بصير، ولا ينبؤك مثل خبير، هذا وقد سردت(1/224)
ما زعمته فيك من الخصوصيات على سبيل المفاخرة والمباهاة، وأنا أقول ما من الله به علي على سبيل التحدث بنعمة الله، فأقول أنا مخلوق ولا فخر، وأنا لذة الدنيا والآخرة ويوم الحشر، وأنا الجوهر الشفاف، المشبه بالسيف إذا سل من الغلاف، وقد خلق الله مني جميع الجواهر حتى اللآليء في الأصداف، أحيي الأرض بعد مماتها، وأخرج منها للعالم جميع أقواتها، واكسو عرائس الرياض أنواع الحلل، وانثر عليها لآلىء الوبل والطل، حتى يضرب بها في الحسن المثل، كما قيل:
إن السماء إذا لم تبك مقلتها ... لم تضحك الأرض عن شيء من الزهر
وأنا الذي أقتل العجوز، وأذهب حرارة آب وتموز، وقد أفتاني الأفاضل، أن من دخل علي من باب المفاخرة أنه لا يجوز، فكيف ينكر فضلي من دب أو درج، وأنا البحر فرعي وفي المثل حدث ولا حرج، وأما أنت أيها الهواء فكم ذهبت فيك نصائح النصاح، كما قال ابن هرمة: وبعض القول يذهب في الرياح ولعمري أنه لا يفي قبولك بدبورك، ولا تقوم جنتك بسعيرك، ولطالما أهلكت أمماً بسمومك وزمهريرك، فكم تواتر عنك حديث تشمئز منه النفس وتمجه الأذن، وحسبك من العناد أنك تجري بما لا تشتهي السفن، وأنت المولع برقص الجواري كفعل الفساق، وأنت الذي تهيج التراب وتغري النار بالإحراق، كما قال فيك ابن الرومي:
لا تطفين جوى بيوم إنه ... كالريح يغري النار بالإحراق
ومن عيوبك أنك لا تسكن ولا يقر لك قرار، ولم تفهم الإشارة في قوله تعالى " وله ما سكن في الليل والنهار "، وقد ضربت للعرب بعدم استقامتك الأمثال، كما نقله عنهم أصحاب القصص فمن ذلك قولهم:
إن ابن آوى لشديد المقتنص ... وهو إذا ما صيد ريح في قفص(1/225)
وأما قولك لولاي لما عاش إنسان، ولا بقي على أرض حيوان، فجوابه لو شاء الله لعاش العالم بلا هواء، كما عاش عالم الماء في الماء، ولم لا قلت أن غالب هلاك كل ذي روح من الوباء، وأنه لولا الرطوبة التي اكتسبتها أنت مني بالمجاورة، لاحترقت أنت فضلاً عن العالم لمجاورتك لطبيعة النار الحارة، فعلم بهذا أن حرارتك عرضية، لا أنها فيك طبيعية، ولو شئت لافتخرت عليك بالحرارة التي تعرض لي من النار والارتماض، ولكن لا يليق بالعاقل أن يفتخر بالإعراض، لأن العرض لا يبقى زمانين، كما برهن على أنه لا ينتقل إلى مكانين، وما الافتخار بشيء سريع الزوال، أو بعرض ليس لطبيعة الشخص عليه انجبال، قال الشاعر:
واحق من نكسته ... بالذل من درجاته
من مجده من غيره ... وسفاله من ذاته
ولذلك قيل:
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وأما قولك إن طبيعتي الرطوبة فذلك أعظم فخري، لأن الرطوبة مادة الحياة التي في الأجسام تسري، إذ الحرارة بمنزلة النار في الأبدان، والرطوبة لها بمنزلة الأدهان، فإذا خلص الدهن انطفأ السراج، وزال ما فيه من النور الوهاج، وأما تعييرك لي بأني متلون، فالتلون صفة عارف الزمان، المتخلق بقوله تعالى " كل يوم هو في شأن "، وأما قولك قلبي قد انقلب، فالحمد لله الذي قلبه لأعلى الرتب، لأنه كان آخر الحروف فصار أولها، وكان مفضولها فصار أفضلها، إذ الألف تدل على الذات الأحدية، والباء تشير للحقيقة المحمدية، فكل الأحرف من الباء،(1/226)
والباء إذا فنيت صورتها، وتعينها ونقطتها، كانت عين الألف بلا مراء، وأما قولك إن في حرف علة، وإنني منسوب بوجوده في إلى الذلة، فلا يليق أن تعيبني في شيء أوجد الله فيك مثله، وهب أنك خلوت منه فهل تخلو من قول الأطباء فيك أنك أساس كل علة. وأما قولك إن الله شبه بي الدنيا فقد شبه فيك أفئدة الكفار، وجعل زمهريرك سعيراً في النار، فأنت المذموم مقصوراً وممدوداً، إن مددت كنت جباراً عنيداً، وإن قصرت كنت إلهاً معبوداً، وأنا الذي لا أتغير بالمد ولا بالجزر، وكيف يتغير من هو مادة البحر، وأما افتخارك برفعة المنازل، وعدك ذلك من أعظم الفضائل، فلا فضيلة للشخص بالمكان ولا بالزمان كما قال الشاعر الملسان:
ولو كان المكان له علو ... لطار الجيش وانحط القتام
وقال الطغرائي:
وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
هذا وأنشدك الله أينا كان عليه عرش الرحمن قبل خلق العالمين، وأينا الذي جعل منه كل شيء حي وذكره بذلك في كتابه المبين، وأينا الذي بعث فيه ابن عباس إلى ملك الروم في قارورة كان أرسلها إليه مع بعض الجنود، وطلب منه أن يضع له فيها كل شيء والشيء عندنا هو الموجود، أما كفاك شهادة الله لي بالطهورية في قوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهوراً، لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً "، أما بلغك شهادة الله ببركتي وحسبي بها فخراً في طول البلاد والعرض، حيث قال في كتابه العزيز: " وأنزلنا من السماء ماء مباركاً فأسكناه في(1/227)
الأرض "، أما رأيت ما حباني الله به من عظيم المنة، حيث جعلني الله نهراً من أنهار الجنة، أما علمت أن مني حوض من كان إذا مشى في الشمس تظله الغمامة، أما تيقنت أنني نبعت من بين أصابعه فكنت له معجزة كما أكون لوارثي مقامه الرفيع كرامة، أما عرفت أني أرفع الأحداث، وأطهر الأخباث، وأجلو النظر، وأكون للمؤمنين في الآخرة نوراً في محل التحجيل والغرر، أما رأيت الناس إذا غبت عنهم يتضرعون إلى الله بالصوم والصلاة والصدقة والدعاء، ويسألونه تعالى إرسالي من قبل السماء، واعلم أنني ما نلت هذا المقام الذي ارتفعت به على أبناء جنسي، إلا بانحطاطي الذي عيرتني به وتواضعي وهضم نفسي، وأنا لا أحب المعالي، وأنا سلم للمحل المنخفض، وحرب للمحل العالي، لا أتجاوز حد العبيد، ولا أنازع فيما أختص به من الصفات التي لا تغني ولا تبيد، بل أخشى دائماً بطشه، وأستحضر قوله تعالى: " إن بطش ربك لشديد "، فلذلك باعدني الله من النار، وجعلك حجاباً بيني وبينها أتقي بك ما تطاير منها من الشرار، وقد علم كل عالم أن فضائلي تجل عن الحصر، وأني سيد العناصر ولا فخر، أقول قولي هذا وأستغفر الله من لغو الكلام، وأسأله لي ولأحبابي حسن الختام. ثم نزل والتمس منا أن نحكم له بالفضل على الفور، وأن نجانب في حكمنا الميل والجور، فقلنا له بأن كلاً منكما أدلى إلى الفضل بحجة، وسلك من الدلائل العقلية والنقلية أوضح محجة، غير أن تكافؤ الأدلة، غدر منا الأفكار مضمحلة، وقد عجزت عن ترجيح فضلكما الأفكار، كما عجز القاضي الأفعى عن الحكم لأبناء نزار، وليس لهذه المعضلة، والحادثة(1/228)
العظيمة المشكلة، إلا الكبار لا الهمج الرعاع، كما قيل: إن الكبار أطب للأوجاع، قال بعضهم:
إن العظيم يحمل العظيما ... كما الجسيم يحمل الجسيما
ولعمري ليس لها غير إمام عصرنا، وعزة شامنا ومصرنا، المجتهد الذي قلد ببره أعناقنا تقليدا، وأخجل لطفه غض الزهر فلنستر بأكمامه حتى رأينا في خدوده توريدا، أعظم الموالي قدرا، وأعلاهم نجرا، وأرحبهم صدرا، وأكثرهم برا، وأنقذهم نهياً وأمرا، وأعد لهم نحيزة، وألينهم شنشنة وغيرزة، ذو اليدين، الذي كأنه ذو الخلال أو ذو النورين، من لو رآه ذو الجناحين لطار فضله، أو ذو البطين لمال لبذله، أو ذو الأذنين لروى أحاديث شمائله الملاح، أو ذو الهلالين لقال إنه الشمس وغرة الصباح، صاحب الطالع السعيد، الجاري سبب كفه على الصعيد جري السعيد، الجواد المذهب غلة الجواد، من برز في ميدان الفضل وأبرز، وحوى قصبات الرهان وأحرز، وزركش تاج المجد وطرز، المحسود، المحشود، رشيد الموالي وعين أمينها، وأبو عذرة المروءة وابن مدينها، والمتقلد من فرائد المحامد بثمينها، خلاصة العباد من العباد، وثمرة دوحة روض الحقائق من آل مراد، من فضله الجوهر الفرد عند كل منصف وعندي، جناب مولانا وسيدنا عين أعيان الموالي الكرام السيد عبد الرحمن أفندي، لا زال وهو البر بحر الجود، ونجم الهدى والسعود، موطىء العقب والأكناف، حامي الذمار والأطراف، منيفاً على آل عبد مناف، ملحوظاً بعين العناية والألطاف، فإنه عذيق الشام المرجب، وروضها المشذب المهذب، ومعشوقها المحبب، وروحها الذي بها قوامها، وسلكها الذي لا يتم إلا به نظامها، فكل من لم يثن إلى قصده العنان كان أشد ندماً من الكسعي، وأخسر صفقة من(1/229)
أبي غبشان، لأنه لا يصرف الهمة، لدني الهمة، ولا تبصر منه إلا رؤبا كالنجم في الدآدىء المدلهمة عنه الحجنة، أعظم هجنة، وخلف الوعد، خلق الوغد، وعدم الجود بالموجود، من سوء الظن بالمعبود، له توكل الطير، وعنده لا سرف في الخير، يحب المحاسنة، ويكره المخاشنة، ويحاشي مجلسه من المحاشنة، فيا له من جواد واسع المجسة، لا يرتاع من المحسة، ونجيب لا يقعقع له بالشنان ولا ينبه بطرق الحصى وهل ينبه اليقظان، وإن تأملت عزمه ولحظه، تحققت أنه أسد بيشة ولحظه فمن باراه فقد ماقس حوتا وصارع ضرعاماً، وقاوم بالهراوة عضباً حساماً، ونضح بقرنه المقطم، ورام أن يحكي بسرابه البحر الغطمطم، ولم يعلم أن بيت القدس، غير بين الغدس، وأن بقيع الغرقد، غير رقيع الفرقد، وأن شجر المرخ، غير شجر الورخ، وأن الزنبور(1/230)
غير البازي وإن شاركه في الخفق والطيران، وأن ورد السلم غير ورد البستان، ولله در من قال:
قد يبعد الشيء من شيء يشابهه ... إن السماء شبيه البحر في الزرق
ومن قال:
وقد يتقارب الوصفان جداً ... وموصوفاهما متباعدان
فإن يفق الأنام وذاك منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
كما قلت فيه:
لا غرو لابن المرادي ... وذاك شمس المواكب
إن فاق كل الموالي ... فالشمس بعض الكواكب
فهلم للوفود عليه، والمثول بين يديه، فهو الذي يستنبط المسائل ويرضى بفضله وبذله كل مسائل، وإن لم يكن غير مكارمه إليه وسائل. فلما سمع الماء والهواء بمعروف ذلك الحبيب السري، والإمام الهمام العبقري، تعشقاه على السماع، وطلبا منا المبادرة إلى جنابه ليبلغا منه حظ الاجتماع، فسرنا بهما إلى جنابه، حتى بلغنا فسيح رحابه، وكحلنا الجفون بإثمد أعتابه، فصادف دخولنا خروج كعبة ذاته من حرم الحرم فكأنما خرج الورد من الأكمام والليث من الأجم، فنهضنا له على الأقدام، وحيانا بألطف سلام، وتسلم سلم قصره الفريد، وأشار إلينا أن نتبعه في الصعود إلى ذلك القصر المشيد، فرأينا قصراً ينسب الخورنق للقصور، ويغمد غمدان كما تغمد في أجفانها الذكور، وما بالك(1/231)
بقصر شهدت فضلاء الأكياس، بأنه جمع محاسن الدنيا كما جمع صاحبه محاسن الناس، فكنا كما قال القاضي الفاضل:
فتمتعت آمالي بمولى هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر
ثم أمر لنا بالجلوس، هذا وعطف كل منا من الطرب ينوس، فأقبلت علينا ذات الدولة وبنت الوجاق، التي كلما مرت حلت، وكلما ثقلت خفت، على كل من رشف منها وذاق، السمراء المعشوقة، المقبولة مشروبة ومرثية ومنشوقة، بنت اليمن واليمن، ذات الجمال والحسن،
كسواد العيون تظهر للنا ... س سواداً وفي الحقيقة نور
التي أرخصت الغالية وكانت ندها، وملكت عنبر الطيب فأصبح يقول لا تدعني إلا يباعدها، وغارت بكر السلاف حتى اصفرت من غيرتها، وأصبحت عجوزاً شمطاء ما رآها راء إلا وقد طاب وجهه من قباحة صفرتها، وأين بنت الحرام من بنت الحلال، وأين جونة المسك من قوارير الأبوال، فأخذنا تلك البنية بالنية الصافية، وشربناها فقامت بها دعائم العافية، ولم نزل نرشف منها ذوب المسك ومحلول السبج، حتى جاءتنا قصبات السبق للسرور تنادي ما على من أحرز قصبات السبق وتاه من حرج، فيا لها قصبات تدهش الأبصار، كأنها أغصان بان في طرف كل غصن زهرة من جلنار، وقد اشتمل مجلسنا على كل نديم له صورة الدمية ونفحة الريحانة، ونشوة السلافة ولطافة الدرة اليتيمة والجمانة،(1/232)
أديب ألمعي، كأنه الأصمعي تراه الكامل في الأدب، والعمدة في كل مطلب، يأتيك من البديع بما يخجل ربيع الزهر وزهر الربيع، يثمر المسامرة ويحضر المحاضرة، ويتقن المحاورة، ويحسن المجاورة، يبادهك بما رق وراق، ويجلب لك الغصن من أزهار الأفكار وثمرات الأوراق، يجود على السمع بما يطلب القلب من الاقتراح، ويجلو عليك من راح ملحه ما يوجب لك الراحة والارتياح، كما قيل في أمثالهم:
لنا جلساء لا يمل حديثهم ... الباء مأمونون غيباً ومشهداً
إذا ما خلونا كان حسن حديثهم ... معيناً على نفي الهموم ومسعداً
يفيدوننا من علمهم علم من مضى ... وعقلاً وتهذيباً ورأياً مسدداً
ولا غيبة نخشى ولا سوء عشرة ... ولا نتقي منهم لساناً ولا يداً
وما زلنا نقتطف منهم زهور الآداب، ونخترف ثمار الألباب، وهم يمزجون جدهم بالمفاكهة والمداعبة والمباسطة، ويزهو كالعقد وصاحب المنزل لهم كالواسطة، ومجلسه يحتفل بالوافدين، ويغص بالواردين، وهو يخاطب كلاً على حسب قدره وعقله، ويتحف كل من له وطر بقضاء وطره، ولا يتعلل كغيره بشغله، حتى أقبل ملك الليل بسواده الأعظم، ونثر على الأفلاك جواهر النجوم التي كأنها العقد المنظم. هذا ونحن في فلك السعود، كواكبنا وسماؤنا دخان العنبر والعود، وقد أشرق بدر تلك المنازل بالنور والكمال، وأشرف علينا بجبين لطيف رأينا عليه الهلال، وشنف بدر منطقه منا الأسماع، حتى خيل لكل منا أنه جليس القعقاع، وما زلنا في ليلنا نجمع عقود السرور كأنها فذلك، ونتمتع بنعيم لو(1/233)
سئلنا عن أنفس أعمارنا فذلك، حتى نبذ الله الكرى في هامة منا وراس، فأسكرتنا سنة النوم والنعاس، وهجم علينا ملك الكرى، وقد كاد أن يشيب عارض الليل مما سال من دمع الشمع وجرى، وعند ذلك طوينا من المنادمة بساطها، وتفرقنا تطلب كل نفس منا راحتها وانبساطها، ثم اضطجعنا على الوساد للرقاد، وأعطينا الجفون حقها من الإغفاء بعد السهاد، ولم نزل في ضيافة المنام، تقربنا أياديه السرور في الأحلام، حتى لفظ الشرق من لهواته ياقوتة سهيل، ودب مشيب الفجر في عارض الليل، فنهضنا للصلاة، وجلس كل منا بعدها في مصلاه، حتى طلعت شمس صاحبنا الفائق، على الصاحب ابن عباد، فنفذ شعاعها من ظواهرنا إلى كل قلب منا وفؤاد، ثم دخلنا عليه وسلمنا ودعونا له بطول البقاء، فأجاب وأجاد وأجاز وتلقانا أحسن اللقاء، ثم جاءت القهوة التي طابت منظرا، ومخبراً وذوقاً وشما، ثم جيء بقصبات التبغ فارتضعنا منها كل ثدي يلذ دره ريحاً ولونه وطعما، فلما استوفينا أوفر حظ، وخلا مجلسنا من كل بارد ثقيل فظ، وشرب ذلك البحر المحيط بالفضل غليونه، وأراد أن يلقي علي لكوني من الساحل بعض درره الثمينة، بادرته بالدعاء، وعرضت عليه مفاخرة الماء والهواء، وسألته فصل الخطاب، والإنعام بالجواب، فالتفت عند ذلك للماء وأخيه، وقال: إن كلاً منكما محق فيما يدعيه، فما أشبهكما بالسماء بالفرقدين، وفي الأرض بالعينين، ففضلكما معجز، لا يكاد يميز أحدكما عن أخيه مميز. وقد نفع الله بكما العالم على تباين أنواعه وأشكاله. وقد ورد أن الخلق عيال الله وأن أحبهم إليه أنفعهم لعياله، فلا تشتغلا بالمفاخرة عن شكر هذه النعمة، واعلما أن حب الفخار أهبط إبليس إلى حضيض اللعنة من أوج شرف الرحمة، فلا تجعلاه لكما إماماً، فمن يفعل ذلك يلق أثاماً، واعلما أن الفخر في الدنيا بالمال، وفي الآخرة بالأعمال، وأحسن(1/234)
الافتخار الافتقار، وظهور الذل والانكسار، فقد قال من سال بين أصابعه الماء المنهمر، الفقر فخري وبه أفتخر، فمن كان عبداً لله كان له به الافتخار، لا من كان النفس أو الهوى أو الدرهم أو الدينار، فمن مناجاة علي كرم الله وجهه وزاده منه قرباً: سيدي كفانا شرفاً أن نكون لك عبيداً، وكفانا عزاً أن تكون لنا رباً، وللقاضي عياض
ومما زادني شرفاً وتيهاً ... وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي ... وأن صيرت أحمد لي نبيا
على أن مرآة الحق أرتني فضيلة تفضل بها أيها الماء أخاك الهواء، وحققت لي أنكما لستما في الفضل سواء، وهي أن الله خلق آدم من الماء وخلق منك إبليس، فاعترف لأخيك بالفضل عليك، ودع عنك زخارف التلبيس، فأكبر من الحق من قبله، وأصغر من الباطل من عمله، والتذلل للحق أقرب من التعزز بالباطل، وأعظم الزلات زلة العاقل، فعند ذلك عدل الهواء عن هوجه واعوجاجه، ومخاصمته وعلاجه، وأقبل يقبل ذيل الماء ويعتذر إليه، من استطالته عليه، وأقبل كل منهما على صاحب المنزل يؤدي بالدعاء له حقوقه، حيث سلك بكل منهما مجاز الطريقة والحقيقة، وسألاني أن أمدح جنابه عنهما بطريق النيابة ففتح الله لي من النظم بابه، فأنشأت أقول:
عارضت قوماً عن ودادك أعرضوا ... وتركتهم إن صرحوا أو أعرضوا
من كل ذي ملق له إن جئته ... نفس مذبذبة ورأس منغض
يلقاك منه عند أول رؤبة ... جسم صحيح فيه قلب ممرض
يحكي ثعالة وهو في روغانه ... والحية الرقطاء حين تنضنض(1/235)
قد طنب الأندال في ساحاته ... بل أطنبوا وبنو المكارم فوضوا
ويقيم منه على ودادك حجة ... ويظن جهلاً أنها لا تنقض
يا أيها الراجي لخلب برقه ... خذ بالأصول ودع عوارض تعرض
فلقد رجوت من التيوس حلوبة ... ومخضت ماء مثله لا يمخض
تالله لو أني فرغت لثلبهم ... بالفكر واستنهضت ما يستنهض
لسللت سيف الهجر حتى أنني ... لم يبق في كفي إلا المقبض
لكن أبى طبعي الطهور لأنه ... يوماً برجس صفاتهم يتمضمض
وشغلت من هجوي بمدحة سيد ... لمديحه يلغى المهم ويرفض
من بات للرحمن عبداً كله ... وسواه عبد في العبيد مبغض
نجم أدارته السعود على ذرى ... قطب تراه عن العلا لا يقرض
شيخ الحقائق بل مراد الهنا ... من خلقه الناهض المستنهض
فلأمدحن جنابه بجوارحي ... وجوانحي سخط الحواسد أو رضوا
وبظاهري وبباطني وبكل من ... بت شعرة وبكل عرق ينبض
فالمدح يكره للفتى في كل ذي ... بخل وأما في علاء فيفرض
فهو المحبب للقلوب وغيره ... أبداً وإن راق العيون مبغض
شهم إذا أبطأت عنه جاءني ... من فيض راحته نوال مفوض
من لم يرش بالجود منه جناحه ... كرماً فذاك إلى العلا لا ينهض
ما ساءني دهري بوجه أسود ... إلا بدا لي منه وجه أبيض
بر يريك خضم بحر زاخر ... فالحلم منه كالندى يتفضفض
إن ليم زاد على الملام كأنما ... هو بالملام على النوال يحرض
عجباً لقوم أبصروه شمسهم ... فتطاولوا لمناله وتعرضوا
ورأوه ملء صدورهم وعيونهم ... كالليث في صدر المجالس يربض
فتحوا لأقوال الوشاة عيونهم ... جهلاً وعن بادي المزايا غمضوا(1/236)
فليكفهم ذلاً وخزياً إنه ... بحر وإن هم في نداه خوضوا
ندب فأما عرضه فموقر ... أبداً وأما ماله فمعوض
لله فوض أمر دنياه وهل ... يلقى العنا عبد إليه مفوض
يا وابلاً كل الأنام رياضه ... فمذهب هذا وذاك مفضض
أصبحت نفعاً للأنام وبعضهم ... لأذى البرية والبري مقيض
فلغير ذاتك لا تتم فضيلة ... ولغير مدحك لا يشد المغرض
لا زلت في العز الذي لا ينقضي ... ومشيد المجد الذي لا ينقض
ما أحمد البربير عاش بمدحكم ... طرباً ومات به العدو المبغض
ثم رجعت بعد إنشادي من عالم الخيال إلى عالم الإحساس، فلم أر أحداً ممن رأيته من تلك الأنواع والأجناس، فعلمت أن الدنيا كلها خيال، وبرق خلب وآل، والناس كلهم نيام، وما يرونه في الدنيا أضغاث أحلام، فسألت الله أن ينبهني وأحبابي من نوم الغفلة قبل هجوم الحمام، وأن يمتعنا بوجهه الكريم في دار النعيم والسلام، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله على التمام.
وله تأليفات كثيرة، عديدة شهيرة، وله ديوان شعر، رفيع القدر، توفي بدمشق عقيماً ليلة الخميس لثماني عشرة ليلة من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائتين وألف ودفن بسفح قاسيون في مدفن بني الزكي في جوار الشيخ الأكبر.
ومن قوله أيضاً:
سلبت فؤادي بالبها حبشية ... أبهى من الدينار عند الرائي
إن غبت من وجدي أقول لصاحبي ... غلبت علي حرارة الصفراء(1/237)
وقال:
لنا طبيب جاهل ... تحكي القرود سحنته
إذا رأى قارورة لل ... مريض هز لحيته
وقال:
زرقة النيل في يدي من سباني ... بقوام يفوق سمر الرماح
مثل فيروزج السماء تبدى ... بسنا الفجر في عمود الصباح
وقال وقد أجاد:
ما لاح ريحان العذا ... ر وآسه من فوق ورده
بل ذاك مخضر السما ... ء يلوح في مرآة خده
الشيخ أحمد بن إسماعيل بن الشهاب أحمد المنيني بن علي ابن عمر بن صالح بن أحمد بن محد بن سليمان ابن إدريس بن إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم الطرابلسي الحنفي الدمشقي الشهير بالمنيني.
اللوذعي الإمام، والألمعي الهمام، المحقق الفاضل، والمدقق العالم العامل، ولد في النصف الثاني من جمادى الآخرة سنة ست وسبعين ومائة وألف، واشتغل في طلب العلوم، على فضلاء دمشق، حتى برع في منطوقها والمفهوم، ومن جملة من قرأ عليه، وحصل له مطلوبه لديه، الشيخ نجيب القلعي المعروف بأبي حنيفة الصغير، والشيخ محمد بن عمر المنيني، وغيرهم من السادات العظام، والفضلاء الكرام، وكان ذا همة علية، وسخاوة حاتمية، فصيح المقال، مستقيم الأحوال، قد تبسم في دمشق ثغر إقباله، وانقشع ديجور الإدبار عن مشرق سعده وإجلاله، وخطبته المناصب، وأجلسته على منصة المراتب، ولما توفي ابن عمه الشيخ محمد المنيني وانحلت عنه وظيفة التدريس تحت(1/238)
قبة النسر في جامع بني أمية في شهر رجب وشعبان ورمضان كل يوم جمعة بعد صلاة الجمعة، وجهت على صاحب الترجمة الأهلية لتلك الوظيفة، فباشرها بنفسه مرة واحدة، ثم وكل عنه علامة الزمان الشيخ سعيد الحلبي لعدم اقتداره على القيام بها من مرض أصابه في معدته منعه من ذلك. ولما مات الشيخ سعيد الحلبي جلس في مكانه الشيخ عبد الله بن الشيخ سعيد الحلبي المذكور، ولا زال قائماً بها إلى أن نفي الشيخ عبد الله المذكور إلى المغوصة سنة ألف ومائتين وثمان وسبعين، بسبب حادثة النصارى في الشام، فرجعت الوظيفة إلى ولد المترجم الشيخ محمد أفندي بن أحمد أفندي المنيني مفتي دمشق الشام، فقام بها في نفسه. مات صاحب الترجمة في الحادي والعشرين من شهر المحرم الحرام سنة ست وخمسين ومائتين وألف، ودفن في مرج الدحداح وقبره ظاهر معروف مشهور.
الشيخ أحمد بن عبيد الله بن عسكر بن أحمد الحمصي الأصل الدمشقي المولد الشافعي الشهير بالعطار
الإمام الصالح العابد، والهمام الجهبذ الزاهد، بقية السلف، ونخبة الخلف، بركة أهل الشام، وعمدة العلماء الأعلام، محدث العصر وفقيهه، وفطن الدهر ونبيهه، الذي شاع صيته في القرى والأمصار، واشتهر قدره كالشمس في رابعة النهار، إمام الشافعية في جامع بني أمية. ولد بدمشق سنة ألف ومائة وثمان وثلاثين، وقرأ القرآن، قراءة إتقان، وتجويد وإحسان، على مقري الديار الشامية الشريف السيد ديب بن خليل تلميذ سيدي أبي المواهب الحنبلي. وقرأه أيضاً وتلقاه بالأوجه السبعة إلى أثناء سورة الأحزاب على الشيخ العلامة علي بن أحمد الكزبري، وتفقه عليه وعلى الإمام السند الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني، والعلامة الشيخ عبد الرحمن الصناديقي، والمولى(1/239)
الإمام الملا عباس الكردي، والشيخ محمد الديري، والعلامة أحمد البعلي الحنبلي، والشيخ عواد الكردي، والشيخ محمد التدمري، والشيخ محمد سعيد الجعفري، والشيخ محمد بن سليمان الكردي، والعلامة التافلاني مفتي القدس، والعلامة جعفر البرزنجي المدني، والعلامة عبد الرحمن الطائفي المكي، والشيخ الجوهري والملوي والحفني، والشيخ عطية الأجهوري، والسيد مرتضى الزبيدي، والشيخ صالح الجينيني الحنفي، والعلامة الشهاب أحمد بن علي المنيني وغيرهم كالشيخ موسى المحاسني، وجعفر البرزنجي، والشيخ عبد الرحمن الكردي، وأبي المعالي الغزي، وعبد الله البصروي. فأدرك من العلوم حظا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظاً، إذا تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالنحل والملل لم تر أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من حاضرته. فاق في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه: كان يتكلم في التفسير فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويرتوون من بحر علمه العذب النير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، وقرأ بين العشاءين في الجامع الأموي كتباً عديدة، منها الجامع الصغير للأسيوطي والجامع الصحيح للإمام البخاري وإحياء العلوم للغزالي مرتين، وشرع في الثالثة، وقرأ الدر المنثور للسيوطي بعد(1/240)
الظهر في محراب الشافعية، وغير ذلك، ووجهت عليه وظيفة تدريس السليمانية، وقرأ فيها في صحيح البخاري، وكان مثابراً على أنواع الطاعات والعبادات، وأفعال البر والخيرات، وحج أربع مرات، وارتحل إلى بلاد الروم ومصر، وكان غالب جلوسه في الجامع الأموي، وقل ما رئي إلا وهو يدرس أو يقرأ القرآن أو يصلي أو يسبح، وكان أماراً بالمعروف نهاء عن المنكر، صواماً قواماً قضاء لحوائج الناس، ولما تغلب الفرنج على مصر ومشوا على الساحل ووصلوا إلى صفد وبلاد نابلس عام ألف ومائتين وأربعة عشر شمر عن ساق الاجتهاد، ودعا الناس إلى الجهاد، وحرضهم عليه وخرج مع عسكر من دمشق مجاهداً بنفسه وماله وأولاده حتى التقى الجمعان، وكان هو في الصفوف مقابلاً للعدو وهو يحرض الناس على القتال ويبين ما لهم من الثواب والأجر، ولم يزل على طاعته، وحسن عبادته، إلى أن توفي في اليوم التاسع من ربيع الآخر سنة ثماني عشرة ومائتين وألف وعاش ثمانين سنة ودفن في مرج الدحداح رحمه الله تعالى.
الشيخ أحمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن محمد بن زين الدين ابن عبد الكريم الدمشقي
الشافعي الشهير بالكزبري، الإمام الشهير، والهمام النحرير، ولد سنة ألف ومائة وثمانٍ وتسعين، ونشأ بها يتيماً، وكفله عمه شقيق والده العلامة الشيخ محمد الكزبري، وأخذ عنه وعن الشهاب أحمد العطار، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح.
أحمد أفندي بن علي الدمشقي الحنفي المعروف بالحسيبي
أحد أعيان الشام، وأوحد الأماجد الأشراف العظام، نبعة المفاخر، وعمدة الأكابر، ونخبة ذوي المآثر، وحاوي المجد والتقدم كابراً عن(1/241)
كابر، ولد بدمشق سنة ألف ومائتين وست ونشأ بها، وأخذ عن علمائها، ثم ترقى في المناصب، ورقي درج المراتب، إلى أن صار عضواً في مجلس شورى الشام، وكان مهابا، مطاعاً مجابا، وفي ثمان وسبعين ومائتين وألف قد نفي بسبب حادثة النصارى إلى قلعة الماغوصة مع من نفي من علماء الشام وأعيانها، وفي يوم ذهابهم اشتد كرب الناس، وقوي الهم والباس، ونادى لسان الحال بفصيح المقال:
خطب كما شاء الإله جليل ... ذهلت لديه بصائر وعقول
ومصيبة كسفت لها شمس الضحى ... وهفا ببدر المكرمات أفول
وكبا زناد المجد وانفصمت عرى ... العلياء واغتال الفضائل غول
وتنكرت سبل المعارف واغتدت ... غفلاً وأقفل ربعها المأهول
ومضت بشاشة كل شيء وانقضت ... فالوقت قبض والزمان عليل
وعلا ملاحات الوجوه سماجة ... وخفيف تلك الكائنات ثقيل
والروض غبر والمياه أواجن ... ومعاطف الأغصان ليس تميل
والشمع والألحان لا نور ولا ... طرب وليس على الشمول قبول
خطب ألم بكل قطر نعيه ... كادت له شم الجبال تزول
فعلى المعالي والعلوم كآبة ... وعلى الحقائق ذلة وخمول
والسالكون سطت عليهم حيرة ... وغوى لهم نهج وضل سبيل
والعارفون تنكرت أحوالهم ... فحجاب عين قلوبهم مسدول
ودنان خمر الحب قد ختمت وبا ... ب الحان مهجور الفنا مملول
ما كنت أعلم والحوادث جمة ... والناس فيهم عالم وجهول
إن الدجى لبس الحداد توقعاً ... لمصابه قدماً وذاك قليل
أو إن صوب المزن حين هما على ... عفر الثرى دمع عليه يسيل
أو إن صوت الرعد حنة فاقد ... فقد العلا فله عليه عويل
أو إن قلب الرعد يخفق روعة ... لسماع ناع دمعه مسبول(1/242)
ثم إنه بعد مدة رجع المترجم إلى الشام، وفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف توجه إلى الحجاز، فتوفي في الذهاب حين وصوله إلى المدائن في السنة المذكورة، ودفن عند القلعة وقبره ظاهر مشهور، وقد كتب على قبره ما نظمه له أمين أفندي الجندي مفتي دمشق الشام:
حل في ذا الضريح عبد تقي ... وحسيب من آل بيت محمد
عاش دهراً ومات قاصد حج ... فعلى الله أجره قد تأكد
هاتف الغيب قال بالبشر أرخ ... قدست روح ساكن الرمس أحمد
وكتب على الوجه الآخر من بلاطه القبر ما نظمه عبد المجيد أفندي الخاني:
أيا ركب الحجاز إذا نزلتم ... على ماء المدائن للورود
قفوا عند الطلول بنا قليلاً ... نحيي أهل هاتيك العهود
هنالك أحمد الشهم الحسيبي ... سليل المصطفى فخر الوجود
أهل ملبياً بالحج لكن ... أتته دعوة الرب الودود
فقال له البشير اليوم أرخ ... لعمرك قد كتبت مع الوفود
أحمد أفندي بن سليمان بن يوسف بن محمد بن شمس الدين محمد ابن يحيى بن أحمد الدمشقي الحنفي المشهور كأسلافه بالمالكي
المغربي الأصل، الدمشقي المولد صدر الشام، وعين أعيانها الفخام، ولد بدمشق سنة عشر ومائتين وألف، ونشأ في حجر والده، واشتغل في طلب العلم مدة ثم دخل في جملة الكتاب في محكمة الباب، ثم ولي بعض النيابات في بقية المحاكم الدمشقية، ثم ترقى وتولى نظارة أوقاف الشام، ونظارة النفوس وغير ذلك، ثم عين عضواً في مجلس شورى الشام الكبير، وتصدر به على غيره. وكان له عند الولاة القبول الزائد، ومهر في أمور المجلس وبرع، وكلما مرت عليه الأيام، يزداد في القدر والاحترام، وكثر ماله وازدادت أملاكه، ثم سنة حضور الوزير إبراهيم باشا المصري إلى(1/243)
الشام واستيلائه عليها صار مقبول الكلمة لديه، يعتمد في مهماته عليه، وقربه وأولاه، ومنحه التفاته وأعلى علاه، وكان المترجم صاحب مروءة يحب قضاء حوائج الناس وكان مرعي الحرمة مقبول الرجاء، يعرف كيف سلك سبيل مراده، توفي في اليوم الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف ودفن في الذهبية من مرج الدحداح.
شهاب الدين أحمد بن محمد نجيب الأيوبي الأنصاري الحنفي الدمشقي
هو للدهر حسنة تكفر ما جنى، وللزهر خميلة فيها طل وجنى، توقد في العلوم ذهنه، وتوحد في الآداب وانفرد بين الأنام حسنه، وعلا مقامه وارتفع، وأخذ عنه العام والخاص وبه انتفع، إلى أن طلع في سماء السيادة بدراً، وعرف الناس له جلالة وقدراً، ولد في سنة اثنتين وثلاثين ومائة وألف، وأخذ عن الشيخ إسماعيل العجلوني، والأستاذ الشيخ إسماعيل النابلسي، والشيخ محمد الغزي، والشيخ عبد الله البصروي، والفاضل محمد أفندي قولاقز، والعلامة الشهاب أحمد المنيني، والشيخ محمد الديري، والشيخ الداودي، والشيخ أسعد المجلد، والشيخ أبي المواهب الحنبلي، والشيخ عبد القادر التغلبي المجلد، والشيخ محمد التافلاتي مفتي القدس الشريف، والشيخ عبد الرحمن الكفرسوسي، والشيخ علي الكزبري، والشيخ سعيد الخليلي، والشيخ أحمد الحنبلي، والشيخ أحمد البقاعي، والشيخ موسى المحاسني خطيب جامع بني أمية، وعن حامد أفندي العمادي مفتي دمشق الشام، وعن الملا علي التركماني أمين الفتوى، والشيخ محمد التدمري، والشيخ صالح الجبينيني، وأعاد له الدرس، وغيرهم من السادات العظام والمشايخ الكرام. مات رحمه الله سنة أربع عشرة ومائتين وألف ودفن في تربة باب الصغير.(1/244)
أحمد بن محمد هلال بن أسعد الشيباني الدمشقي إمام الحنابلة في دمشق
فرد السادة الحنابلة في دمشق الشام، وأوحد العلماء العظام، الإمام المحقق، والهمام المدقق، أعجوبة الرفاق، ونادرة الوقت والأوان المتضلع في العلوم، والمترفع عن كل قبيح ومذموم، صاحب الاستحضار العجيب، والذكاء الغريب، والفضل الذي لا يملك عنانه، والذهن الذي لا يشق ميدانه، وهو أحد فضلاء دمشق وإمام الحديث بها وبدر سمائها المشرق على أفق مشارقها ومغاربها، ولد بدمشق سنة أربع وستين ومائة وألف، وتوفي ليلة الجمعة مع طلوع الفجر ثالث ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف، وهو عن الشيخ أحمد البعلي الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق، ولد سنة ثمان ومائة وألف وتوفي سنة تسع وثمانين ومائة وألف عن علامة الوجود أبي المواهب الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق ولد سنة أربع وأربعين وألف وتوفي سنة ست وعشرين ومائة وألف، عن والده إمام العلماء الشيخ عبد الباقي الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق. ولد سنة خمس وألف وتوفي سنة اثنتين وسبعين وألف، عن الشهاب أحمد بن علي الوفائي الحنبلي، ولد سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة، وتوفي سنة اثنتين وسبعين وألف، عن القاضي برهان الدين بن مفلح الحنبلي، ولد سنة ثلاث وتسعمائة، وتوفي سنة تسع وستين وتسعمائة، عن والده نجم الدين بن ملفح، ولد سنة ثمان وأربعين وثمانمائة، وتوفي سنة تسع عشرة وتسعمائة، عن جده القاضي برهان الدين صاحب الفروع، ولد سنة ست عشرة وسبعمائة، وتوفي سنة ثلاث وستين وسبعمائة عن ابن تيمية الحنبلي، ولد سنة إحدى وستين وستمائة، وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ودفن في مقبرة الصوفية في البرامكة.(1/245)
عن الفخر علي بن البخاري ولد سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وتوفي سنة تسعين وستمائة، عن حنبل بن عبد اله الرصافي، ولد سنة أربع عشرة وخمسمائة، وعاش تسعين سنة وتوفي سنة أربع وستمائة، عن أبي علي الحسن بن علي بن محمد التميمي المعروف بابن المذهب، ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وتوفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة، عن أحمد بن جعفر ابن حمدان بن مالك بن شبيب بن عبد الله القطيعي، ولد سنة أربع وسبعين ومائتين وتوفي سنة سبع وستين وثلاثمائة، عن عبد الله بن الإمام أحمد، ولد سنة ثلاث ومائتين وتوفي سنة تسعين ومائتين، عن الإمام الجليل أحمد بن حنبل، ولد سنة أربع وستين ومائة، وتوفي في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين، ودفن في بغداد دار السلام، عن سفيان ابن عيينة، ولد سنة سبع ومائة وتوفي سنة ثمان وتسعين ومائة، عن عمرو بن دينار، ولد سنة ثلاث وأربعين وتوفي سنة ثلاث وعشرين ومائة، عن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وتوفي سنة ست وثمانين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوفي المترجم المرقوم في ربيع الأول سنة أربع عشرة ومائتين وألف رحمه الله تعالى.
الشيخ أحمد بن الشيخ عبد الله بن الشيخ سعيد الحلبي ثم الدمشقي الحنفي
عالم صالح زاهد، وإمام فالح عابد، ولد سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف، وتربى في حجر والده وتفقه عليه وتفنن، وقرأ على غيره حتى برع وفاق وتمكن، ومن مشايخه الشيخ محمد الطنطاوي، والشيخ محمد الجوخدار، والشيخ محمد السكري، ووالدي المرحوم الشيخ حسن البيطار، وغيرهم من العلماء الأعلام، وكان جلوسه في حجرة والده في الرواق الشمالي من جامع بني أمية، يقرىء دروس العلم للطالبين من فنون متعددة،(1/246)
وكان محبوباً بين الناس مقصوداً في فصل الخصومات، عالي الهمة، حسن العبارة والمعاملة، شريف النفس. وقد ولي بعد فصل إسماعيل أفندي الغزي نظارة جامع بني أمية فانتفع به الجامع غاية النفع، وفي زمنه غير بلاط الجامع والبسيط الذي في منارة العروس بحساب ورسم شيخنا الشيخ محمد الطنطاوي على نسق بسيطة ابن الشاطر التي كانت في موضع البسيطة الآن، وكان تبديلها لاختلالها بمرور الزمان عليها، ولم يزل المترجم ينمو قدره ويحسن ذكره، ويتزايد نفع الجامع به، إلى أن قصد البيت الحرام للنسك في شهر ذي القعدة الحرام سنة أربع وثلاثمائة وألف، من طريق البحر، فغب إتمام حجه ونزوله إلى مكة تمرض وتوفي في مكة سابع عشر ذي الحجة الحرام من السنة المذكورة، ودفن في تربة المعلى بجوار قبر الشيخ عبد الرحمن الكزبري بعد أن صلى عليه في الحرم ألوف من الناس رحمه الله تعالى.
الحافظ أحمد أفندي مدرس السليمانية
عالم فاضل، وهمام كامل، قد ارتقى في العلوم، وفاق من فاق من ذوي المنطوق والمفهوم، وأخذ عن الأفاضل، إلى أن صار من ذوي الفضائل والفواضل، وكان عابداً ناسكاًن وزاهداً في الدنيا ولحطامها تاركاً، مواظباً على التقوى في السر والنجوى، قد أخذ عنه أهل عصره، واقر له بالفضل علماء مصره، ومن جملة من أخذ عنه داود باشا والي بغداد. ولم يزل على حاله، مرتدياً برداء كماله إلى أن خطبته المنية سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين رحمة الله تعالى عليه.(1/247)
الشيخ أحمد الأكربوزي النقشبندي الخالدي
العالم الفاضل العامل، والمرشد الناصح الكامل، ذو الأنفاس القدسية، والمعاني الأنسية، والبوارق اللامعة، واللوامع البارقة، طلب العلم من صباه، ولم يزل مواظباً عليه إلى أن بلغ أوج مرتقاه، ثم لازم خدمة حضرة مولانا خالد النقشبندي، فسلكه وأحسن تربيته، ثم خلفه خلافة مطلقة وأذن له بالإرشاد، وأقام في بغداد مدة طويلة، ثم رحل إلى بلاد الروم، وأقام في إزمير، وأحسن الإرشاد، وكانت له الهمة العلية، والأنفاس الأنسية، وله مقام التمكين، والوصول إلى عين اليقين، وكان من المقربين في خدمة حضرة الأستاذ، والعمدة الملاذ، ومن الفائزين بحسن أنظاره، وله كثير من المريدين والخلفاء. توفي سنة ألف ومائتين ونيف وخمسين.
السيد أحمد السركلوي البرزنجي النقشبندي الخالدي
الفاضل العابد، والمرشد الشريف الزاهد، الولي النبوي، كان من الأولياء الكاملين. نشأ من صغره في التقوى والعبادة، والعلم والزهادة، والاستفادة والإفادة، والإقبال على الله فوق العادة، ثم أخذ عن المرشد الكامل، والمسلك الفاضل حضرة مولانا خالد، فاجتهد في خدمته وبذل نفسه في طاعته، وتوجه بكليته لقبول تربيته، ثم لما حصلت الإشارة الربانية بتخليفه، خلفه خلافة مطلقة، وأذن له بالإرشاد، وكان من أكابر الخلفاء المقدمين المقربين. وله أحوال عجيبة. وكان حضرة الأستاذ مولانا خالد يعبر عنه بأخينا أحمد لما له عنده من الفضل والقدر والجلالة، وانتفع على يده جماعة كثيرون من الناس، وأقبل عليه المريدون من كل جانب، وكان يحصل لهم منه التأشيرات العجيبة، والمشاهدات الغريبة، والأحوال العالية، والأطوار السامية. توفي رحمه الله سنة ألف ومائتين وزيادة على الخمسين رحمه الله تعالى.(1/248)
الشيخ أحمد الخطيب الأربيلي النقشبندي الخالدي
عالم قد علا قدره، وإمام قد سما ذكره، خطيب قدر في منبر الكمال، بعد أن تحلى بأثواب الجمال، قد نفع الناس بعلومه، وأفادهم من تحرير منطوقه ومفهومه، ثم أخذ الطريقة النقشبندية، عن صاحب الرتبة العلية، مولانا خالد شيخ الحضرة، ثم بعد كماله جعله خليفة، فأرشد وأفاد، وتعدى نفعه إلى البلاد، وخدم الطريق بالصدق والجد والاجتهاد، وكان سلوكه سلوك الصواب والسداد. ولم يزل يسعى في أشرف مسعى إلى أن تم الأجل، وإلى مولاه ارتحل، سنة ألف ومائتين وزائد على الخمسين.
الشيخ أحمد الكاملي المغربي المراكي المالكي البصير
أبو العلا زمانه، وابن جلا عصره وأوانه، هو في ميدان البيان أوحد في بيانه، وكأنما حشر عالم الفصاحة بين فكره ولسانه، فلا ريب أنه إنسان طرف الأدب ومقلة مآقيه، وفارع هضبة الأرب وراقي مراقيه، زرت على المعارف أطواقه، وما اهتاجت إلا للعوارف أشواقه، وهو من لطف الطبع أرق من الصهباء في رونق الصبا، ما ذاق إنسان طعم مفاكهته إلا مال إليه وصبا، ذو مذاكرة يتسلى بها المهموم، ومحادثة يجعلها النديم عوض المشروب والمشموم، وشعر يشعر بأنه ابن النظم والنثر، ونثر يزدري بنثر اللآلي والدر، غير أنه مكفوف البصر، دميم الخلقة لا يحسن إليه النظر، أنقر الوجه كثير السمن، قصير القامة تارك للفريضة والسنن. حضر إلى الشام في سنة تسعين، ورؤيته تحكم بأنه لم يتجاوز من العمر الخمسة والثلاثين، فقصده للزيارة الصدور والأعيان، وكان لا يدخل عليه أحد قبل الاستئذان، وكان مظهراً للعظمة والإجلال، والانفراد بالأدب والعلم والمال، فكثرت في الناس شهرته، ودارت بين الأهلين سيرته، ونظر إليه العموم بعين الإجلال، واختلفت فيه آراء أولي الكمال، وتمنعت عنهم معرفة حقيقته، لعدم تمكنهم من الاجتماع به إلا بعد إرادته:(1/249)
ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فكان يكلم كل إنسان، بما كلمه به بأفصح بيان، فكل من ذاكره بفن من الفنون، يظن أنه فرد ذلك الفن المصون، وكان يحفظ من القصص والحديث، ما يوهم أنه لم يترك شيئاً من قديم وحديث، وكان كثيراً ما يتكلم بلسان العرفان، ويتمايل عند كلامه تمايل النشوان، ويذكر بديع عباراتهم، ورفيع إشاراتهم، فيخاله من له بهذا الفن بعض إلمام، أنه الشيخ الأكبر أو شيخ بسطام، وكنت أنا وبعض أحباب لي من الأدباء نجتمع به في غالب الأيام، ولم نقصده مرة إلا وقيل لنا ادخلوا بسلام، فيحدثنا ببديع الغرائب، وأعجب العجائب، وبما اتفق له في رحلته، من حين خروجه من بلدته، مما يدهش العقول، ولم يوقف له على تأييد منقول، فيقول بأنه رحل إلى الهند والصين، وبلاد الترك والعجم والممالك الأوربية، ومكث مدة سنين حتى تعلم ألسنة الجميع، ونظم في كل لسان ونثر من كل بديع، وكان يسرد لنا من قصائده بكل لسان لا نفهمه، ولا ندريه ولا نعلمه، ويحكي لنا ما اتفق له في هذه الممالك من غريب الخبر، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. غير أن لوائح المين عليه لائحة، ونوافح الوضع عليه نافحة، ثم إنه من أعجب العجاب، أنه له قوة وفصاحة تدعو السامع إلى الإصغاء له كالإصغاء إلى الصواب، وكلنا يقول عند الخروج أنه ليس له عن الباطل خروج.
لي حيلة فيمن ينم ... م وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة
لكنه بين العموم مستور، وحقيق أمره عند غيرنا ليس بمشهور، وكان يصرف من المال صرف الأعيان، وكل منا في معرفة ذلك مدهوش(1/250)
وحيران، ثم بعد أن ارتفع بيننا الحجاب، وصارت حالتنا معه حالة الإخوان والأحباب، جعل في بعض الأحيان يتحدث بالغلمان والشراب، ويتواجد لهم تواجداً موقعاً في الارتياب، فدلنا صريح مقاله، على حقيقة حاله، ولم نقدر على ترك مجالسته، لما عنده من ذكائه وحفظه وفصاحته، ثم إنه استخدم غلاماً يزري بالقمر، في ليلة أربعة عشر، فأكثر الناس عليه القيل والقال، وأخرجوه عن دائرة الاعتدال، وعرفوا ما أكنه وأسره، وسلبوه ما كان عنده من الفرح والمسرة، وأسمعوه ما كدر صفوه، وأخرجوه من دائرة المروءة والنخوة، وعلموا حاله، واستقذروا أوحاله، فلما عرف ذلك أخذ غلامه وسافر إلى سنوس، وهو من تزكية الناس له مأيوس، فغاب مدة طويلة ثم حضر، فلم يجد من الإقبال الذي كان له من أثر، فمكث مدة ثم ذهب بغلامه إلى الاسكندرية، فلم تمض مدة طويلة إلا وقد بلغنا عنه أخبار دنية، وهو أنه كان من أهالي الاسكندرية رجل يقال له الأحمدين، وقد اشتهر في التجارة والغنى اشتهار الفرقدين، فاجتمع بالمترجم المذكور، وسمع من كلامه المزدري بعقود النحور، من وعظ ورغائب، ودعوى وصول إلى أعلى المراتب، وكان الرجل من أهل الصلاح، والطاعة والنجاح، فتعلق به تعلق الأرواح بالأشباح، ولازمه ملازمة النور للمصباح، ولم يزل يسحره ببديع كلامه، ويعده بالوصول إلى مرغوبه ومرامه، وأنه سيرى سيد الأنام، في اليقظة لا في المنام، فيسأل له المطلوب، ويوصله لكل مرغوب، فصدق الرجل قوله، وأضاف إليه قوته وحوله، وانقاد إليه أشد الانقياد، وقدمه على الأهل والمال والأولاد، فلما عرف المترجم منه زيادة حبه، وأنه استولى على عرش لبه وقلبه، صار يقول له إن رسول الله صلى الله عليه يريد أن يريك ذاته الشريفة غير بعيد، ولكن يأمرك أن تعطيني من المال كذا وكذا لأعطيه لمن أريد، ولا زال يأخذ منه من المال، ويعده ببلوغ الآمال، إلى أن قال له إن قصدي(1/251)
أن أزور الشام وآتيك بعد مدة من الأيام، فكتب الرجل لبعض أحبابه أن يتلقوه بالإكرام ويبذلوا الهمة في إكرام جنابه، فكان يصرف من مال الأحمدين، والناس يستغربون ولا يعلمون هذا المال من أين، إلى أن ذهب هذه المرة إلى الاسكندرية، وصارت أكاذيبه على الأحمدين غير خفية، تعلق به تعلق الدائن بالمديون، وقال له لقد أخذت مالي بالأكاذيب والمجون، واشتكى عليه لحاكم البلد، فأحضره وسأله فانكسر ذلك وجحد، فأثبت ذلك عليه، وحجز على ثيابه ومتاعه، فلم يجد شيئاً من المال لديه، فلما عرف الحاكم بذلك. أضمر له الإيقاع في المهالك، فأعلم بذلك أمير مصر القاهرة، وأرسل إليه تفصيل هذه القضية الباهرة، فأمر بنفيه إلى فاس، ونفي غلامه إلى طنجة، بعد ذاك البهاء والبهجة، وبعد ذلك لم نقع لهما على خبر، ولم نقف لهم على نقل أثر، ومن كلامه وبديع نظامه:
قدس الله عالماً جئت منه ... وسقته سحائب الأنوار
طالما جبت فيه بين أملا ... ك كرام ضحاضح الأسرار
ثم أهبطك المليك كما أه ... بطني لمنازل الأغيار
ليتم مراده فله الحكم ... علينا سبحانه من باري
فاصبري وتجلدي واحمدي الل ... هولا تجزعي من الأكدار
واعلمي أن كلنا قاسا ما سو ... ف تقاسين من خطوب ضواري
في وعاء من التراب كثيف ... ذي ظلام مضيق من هار
كل ما نحن فيه يسهل لولا ... أن نار الحجاب ذات استعار
غيرت بهجتي فانطبخت الط ... ين فصار الجميع كالأحجار
وإلى الله أشتكي من حجاب ... عاقني عن مناهل الأبرار(1/252)
ومن كلامه:
يا كريم لقد فعلت كما تع ... لم كل صغيرة وكبيرة
عالماً أنها ذنوب وأني ... مستحق من العذاب سعيره
غير أن الكريم بشر قلبي ... بنعيم فلا عدمت بشيره
توفي حدود الألف والثلاثمائة.
الشيخ السيد أحمد بن السيد علي بن السيد محمد الشهير بالحلواني
هو الشيخ الإمام، والحبر الهمام، معتقد الخاص والعام، وشيخ القراء في دمشق الشام، ورأيت في ترجمته لبعض تلامذته ناقلاً عنه بأنه يتصل نسبه بالسيد سليمان السبسبي المنسوب لسيدنا العارف بالله السيد أحمد الرفاعي. ولد المترجم في دمشق سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين ونشأ في حجر والده، وغب تمييزه حفظ القرآن الشريف عن ظهر قلب من طريق حفص على الشيخ راضي، ثم أقبل على طلب العلم فأخذ في دمشق الشام، عن أفاضلها الكرام، وأكابرها السادة الأعلام، كالشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ محمد الكزبري، فإنه حضره في البخاري مراراً، وكذا في صحيح مسلم وسمع منه الأربعين العجلونية وكتب له بها إجازة بخطه وختمه، ومنهم الشيخ حامد العطار، فقد حضره أيضاً في الحديث وغيره ومنهم الشيخ سعيد الحلبي، فقد حضره في كتب النحو إلى أن قرأ المغني، ومنهم الشيخ عبد الرحمن الطيبي فقد حضره في عدة كتب من فقه سيدنا الإمام الشافعي، ومنهم الشيخ عبد اللطيف مفتي بيروت فقد حضر عليه جملة من الصرف والبيان، ثم في سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف ذهب إلى مكة المشرفة، فأخذ عن شيخ القراء بها الشيخ أحمد المصري المرزوقي(1/253)
البصير المكي الدار والوفاة، فقرأ عليه ختمة مجودة من طريق حفص، ثم حفظ عليه الشاطبية، وقرأ القراءات السبع من طريقها، ثم حفظ الدرة، وأتم القراءات العشر من طريق الشاطبية والدرة، ثم حفظ الطيبة لشيخ هذا الفن الشيخ محمد بن الجزري، وقرأ عليه ختمة من طريقها للقراء العشرة، ثم أجازه الشيخ بالقراءات العشر وما تجوز له روايته، وأقام هناك أربع سنوات، ثم رجع إلى وطنه دمشق الشام سنة سبع وخمسين، فأقبل الناس عليه بالقراءة جمعاً وغيره، واشتهر أمره، وارتفع ذكره، وعم نفعه الخاص والعام، وانفرد بهذا العلم في جميع الشام، ثم هاجر إلى مكة سنة خمس وستين بعد المائتين والألف، وأقام بها ثلاث عشرة سنة، مشتغلاً بالإفادة والتعليم، وانتفع به هناك خلق كثير ثم رجع إلى وطنه سنة سبع وسبعين بعد المائتين والألف، ولم يزل على ما كان عليه من إفادة الناس وتعليمهم، مع حسن المفاكهة وجميل المحاضرة وتأنيس الجليس بكل أمر نفيس، ويغلب عليه الخضوع والسكينة والخشوع وتلاوة القرآن، في غالب الأحيان، وله رسالة في التجويد سماه اللطائف البهية، وله نظم في بعض قواعد من فن القراءات. وبالجملة فهو فريد دهره، ووحيد عصره، أنجب تلامذة فضلاء، لهم في فن التجويد والقراءات اليد البيضاء، بعد أن كاد هذا الفن يعدم من الشام، فكثر القارئون في زمنه على أتم مرام، غير أنه كان يغلب عليه في بعض الأيام السوداء فلا يحب الاجتماع بالناس، وأما في وقت سروره فإنه خدن جليسٌ كأن خلق من إيناس، وقد حفظت عليه ولله الحمد شريف القرآن، ثم أخذت تجويده عنه بتمام الإتقان، توفي رحمه الله سنة ألف وثلاثمائة وسبع(1/254)
وتأسف عليه الخاص والعام، جمعنا الله وإياه في الفردوس بجاه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
أحمد عزت باشا الفاروقي بن محمود أفندي بن سليمان أفندي ابن أحمد أفندي بن علي أفندي المفتي الملقب بأبي الفضائل
ابن مراد أفندي بن الشيخ عثمان الخطيب بن الحاج علي بن الحاج قاسم وهو الذي ورد من الشام إلى الموصل في حدود سنة التسعمائة وسبعين وعمر بها الجامع الوجود اليوم المشهور بجامع العمرية وقبره وقبر ولده في قبة مخصوصة بهما، (وكان تاريخ الجامع لفظه خاشع) ، ابن علي بن الحسن بن الحسين بن أبي بكر بن موسى بن عمر بن عثمان بن حسين بن نبي ابن عبد القادر بن عبد الوهاب بن عبد الله بن منصور بن شمس الدين بن يحيى ابن يعقوب بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن محمود بن دياب بن يوسف بن سعيد بن ناصر الدين بن عبد الهادي بن عاصم بن عبد الله بن عاصم بن حضرة أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه وذلك حسبما هو مضبوط ومقيد في شجرة الأنساب الفاروقية. وأما والدته فينتهي نسبها الشريف إلى السادة الأعوجية الفخرية إلى حضرة قطب الأقطاب السيد أحمد الرفاعي الكبير رضي الله تعالى عنه.
أقول: إن هذا الأديب الفاضل، المتحلي بأنواع العلوم والفضائل، قد ذكر هذا النسب الشريف في كتابه المسمى بالعقود الجوهرية، في مدائح الحضرة الرفاعية، وتمم ترجمته فقال: وأما ولادتي فكانت في الموصل أواخر سنة الأربع والأربعين بعد المائتين والألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل التحية، ولما بلغت من العمر أربع سنين باشرت بقراءة القرآن الكريم، وسنة سبع من عمري ختمته، وحفظت طرفاً منه، ورويت(1/255)
قراءة حفص على أستاذي بالنحو المرحوم ملا عبد الرزاق أفندي الجبوري وفي سنة أربع وخمسين طلبني المرحوم عمي المشهور بالفضل العميم عبد الباقي أفندي الفاروقي، وكان إذ ذاك ساكناً في بغداد، وبقيت في خدمته مقدار ستة أشهر، بعد أن أكملت قراءة الأسيوطي على المرحوم ملا أسعد أفندي الموصلي مدرس جامع الآصفية، ثم عدت إلى الموصل فقرأت أصول الفقه وعلم الحساب وطرفاً من علم الوضع على العالم الفاضل المرحوم عبد الرحمن أفندي الكلاك، وجمعت جمع الصغير وجمع الكبير في القراءات السبع على مخدومه عبد اللطيف أفندي، وقرأت الإيساغوجي على العالم الزاهد والفاضل العابد المرحوم ملا محمد أمين أفندي بن ملا عبيده، وقرأت علم البديع وطرفاً من المعاني والبيان على رئيس العلماء المشهود له بالعلم والورع المرحوم عبد الله أفندي الفاروقي، ثم في أوائل سنة إحدى وستين طلبني من أبي ثانياً عمي المرحوم لأجل البقاء بخدمته، فتوجهت إلى بغداد، وكانت إذ ذاك غاصة بالفضلاء والعلماء والأدباء، فتخرجت عليه في فنون الشعر وعلم الأدب، وطرت بجناح فضله، واستسقيت من هطال وبله، وفي غضون ذلك قرأت على سبيل التبرك شرح الشمسية، وابن عقيل على خاتمة المفسرين وعلامة العلماء المحققين المرحوم أبي الثناء شهاب الدين السيد محمود أفندي الألوسي مفتي الزوراء ومرجع الفضلاء، وقرأت أيضاً كتاب تشريح الأفلاك على المرحوم الفاضل الشيخ أحمد أفندي السنة لي، وأتقنت اللغة الفارسية على مخدومه العالم الأكمل الشيخ طه أفندي، وبقيت في خدمة المرحوم العم ببغداد إلى السنة التاسعة والستين فانسلكت بخدمة الدولة العلية العثمانية متقلباً في البلاد وأولها شهر زور، ولا زلت من أفضال تلك الدولة أتنقل في أنواع مأمورياتها من داخلية وخارجية ورسومية ومالية، وارتقى إلى درجات رتبها بالتدريج، حتى(1/256)
أصعدني من حسن أنظاره أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين حضرة السلطان عبد الحميد خان أدامه الرحمن، إلى رتبة المير ميران، وها أنذا اليوم بالآستانة ضيف حضرته، ونزيل سدته، داعياً لحضرته بمزيد الدوام على مدى الأيام، انتهى كلامه. ومن نظمه الحسن وكلامه المستحسن قوله:
عنبر الليل وكافور الصباح ... أشغلاني باغتباق واصطباح
يا نديمي قم فقد هب النسيم
وبدا من عرفه مسك الشميم
وانبرت في الكاس نيران الكليم
فامزج الخمرة بالماء القراح ... واسقنيها بغدو ورواح
عاطنيها قبل نور الفلق
بغناء الورق بين الورق
كاحمرار الشمس عند الشفق
نسج المزج عليها بارتياح ... أدرع الدر ومفتر الأقاح
وغزال سامني بالملق
ويرى جسمي وأذكى حرقي
أهيف مذ سل سيف الحدق
قصرت عنه أنابيب الرماح ... بابلي اللحظ مهضوم الوشاح(1/257)
ذاب بالوجد فؤادي كلفا
حيث شاب الوصل منه بالجفا
كلما قلت جوى الحب انطفى
أمرض القلب بأجفان صحاح ... وسبى العقل بجد ومزاح
يا خليلي أنت نور المقل
جد بوصل منك لي يا أملي
كم أغنيك إذا ما لحت لي
مرحباً بالشمس من غير صباح ... زرتني والليل ممدود الجناح
هذه الخمرة من عصر قديم
تنعت الروح إلى العظم الرميم
تتهادى بين راحات النديم
لمريد عنده الصفو مباح ... فهي روح وهي ريحان وراح
خمرة الإرشاد من عهد الأزل
تنقذ الشارب من كل العلل
فهي مثل النوم ما بين المقل
تسري في الأفكار من غير جماح ... وتذود الهم من دون كفاح
زوجوا الماء على بنت الدنان
واستطابوا شربها قبل الأوان
فشذا تذكارها في كل حان
مثل نشر المسك في الأرجاء فاح ... حملته للورى كف الرياح
إنما الأقطاب في هذي الدنا
نقطة فيها نزيل المنحنى
والرفاعي بينهم بادي السنا
فهو بدر التم ليلاً حين لاح ... فيه للظلماء والغي افتضاح(1/258)
هو غوث للورى غيث الندى
معدن العرفان بل قطب الهدى
لست تلقى من سواه رشداً
لائق عرفانه بالامتداح ... زنده بالكون واري الاقتداح
خصه الله بعلم وعمل
فغدا يزهو به روض الأمل
وكساه بالسنا أسنى الحلل
وحباه فوق أثواب الصلاح ... رفعة المسند من دون اقتراح
حبه قد حل مني بالفؤاد
أينما كنت مقيماً في البلاد
فهو في حلم وعلم وسداد
ملأ الأقطار ذكراً والبطاح ... وعلى أعدائه شاكي السلاح
إنما أشباله بين الورى
معدن الفضل وآساد الشرى
فيهم غصن الهدى قد أثمرا
كل فرد منهمو بادي الفلاح ... كفه يقرع أبواب النجاح
هو باز في الورى قد حلقا
وعلا فوق المعالي وارتقى
فهو للقدح المعلى مذ رقى
نال أغنى الكل عن ضرب القداح ... ما علينا في ولاه من جناح
مدحه شرف حزب الشعرا
فزها المدح به بل نورا
وسماء النظم لما أقمرا
قد مدحناه بألفاظ فصاح ... ونعمنا باختتام وافتتاح
توفي رحمه الله سنة ألف وثلاثمائة ونيف.(1/259)
أحمد باشا الشمعة بن سليم بن علي بن عثمان بن محمد
طلعته البدر إلا أنه مشرق، ونفحته الروض إلا أنه مورق، وهو بمكان من النباهة مكين، ما نهج من الكلام منهجاً إلا وطلع له من جيش البلاغة كمين. ولد في دمشق الشام سنة ألف ومائتين وستين تقريباً من هجرة سيد الأنام، وتربى في حجر والده وما دخل في سن التمييز إلا وقد شمر لتحصيل المعالي عن ساعده، وقرأ من الفنون وأقبل على كتب الأدب، وعلا على معارج الوصول إلى كمال الرتب، واكتسى حلة اللطافة وارتدى كل جمال وظرافة، إلى أن صار يشار إليه بالانفراد، ويعتمد عليه في كل مراد، ويستشار في المهمات، ويستنهض لدفع الملمات، ووصل في الترقيات الشاهانية إلى رتبة بكلربكي التي هي من أقرب المراتب إلى الوزارة، ثم إلى رتبة بالا، وحصل له كمال القبول لدى الولاة والمشيرين وذوي الإمارة، هذا ومع وقاره الذي به يعرف وقدره المستوي على المقام الأشرف أطال الله بقاه.
أحمد باشا والي ومشير دمشق الشام
الوزير الكبير، والوالي المشير، من بهر بحسن تدبيره واهتمامه، وظهر في الناس ظهور البدر ليلة تمامه، ونهج أوج مناهج التقوى والعبادة، وكان على مرور أيامه من الكمال على زيادة، مع أدب باهر، ومذهب مستقيم طاهر، ونفس زكية، وفكرة علية، دخل دمشق سنة خمس وسبعين ومائتين وألف، وكان والياً على القطعة السورية، ومشيراً على الفرقة العسكرية، فكانت له السيرة الحسنة والأوصاف المستحسنة، وأخذ الطريقة الخلوتية، عن الشيخ المهدي المغربي القاطن في الخضيرية، فسلك سلوك أهل الوصول، وتمسك من السنة بالفروع والأصول، وذلك بعد(1/260)
أن كان لا يصرف عمره إلا بين ريحان وراح، وأخدان تسعى له بجلب المسرات والأفراح، وقد ركب في فعاله وأقواله هواه، وأعطى نفسه ما تحبه وتهواه، فأضرب عن جميع ما كان عليه صفحاً، ومحا بحسناته سيآته وازداد فلاحاً وربحاً، فصار لا يصرف نقد عمره في غير أنفس الأعمال، ولا يحرك لسانه إلا بذكر أو صلاة على سيد ذوي الكمال، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر بأحسن خطاب، أو حكم بحق على مرتكب خلاف الحق والصواب، ولم يزل يترقى أمره، ويعظم ويسمو قدره، إلى أن سلبته حلاوة الطاعة الإقبال على دنياه، وأفاضت عليه معرفة أن الإنسان هو الذي يعمل لما ينفعه في أخراه، فأهمل النظر في أمور السياسة، وتنبهت عيون ذوي الشقاوة والخساسة، ولم يزل يتفاقم هذا الحال، ويعظم أمر الجهال، إلى أن وقعت فتنة بين الدروز والنصارى في جبل لبنان واشتد بسببها الضرب والطعان، وعاثت طائفة الدروز وفسقوا، وانتظموا في سلك الطغيان واتسقوا، ومنعوا جفون أهل الذمة السنات، وأخذوا البنين والبنات من حجور الأمهات، وخربوا القرايا والبلدان، وسفكوا الدماء وحرقوا العمران، ونهبوا الأموال ومالوا عليهم كل الميل، وبادرت لمساعدتهم والغنيمة معهم دروز الجبل الشرقي تجري على خيولها جري السيل، ولم يروا في ذلك معارضاً ولا منازعاً، ولا مدافعاً ولا ممانعاً، والنصارى بين أيديهم كغنم الذبح، هم وأموالهم وأولادهم وبلادهم غنيمة وربح، ودام هذا الأمر واستقام، إلى ابتداء ذي الحجة الحرام، سنة ست وسبعين بعد الألف والمائتين، وقد هرب كثير من النصارى إلى الشام، ظانين أن الحكومة تحميهم من الدروز(1/261)
اللئام، فصارت الدروز تدخل إلى الشام بأنواع السلاح، ويخاطبون الأشقياء بقولهم كنا نظن بكم الفلاح، لقد أخلينا البر من النصارى، وأنتم عنهم كأنكم سكارى، فاذبحوهم ذبح الأغنام، وأذيقوهم كأس الحمام، واغنموا ما عندهم من الأموال والأمتعة الكلية، وأن الحكومة بذلك راضية مرضية، ولو لم يكن لها مراد بذلك، ما مكنتنا من إذاقتهم كؤوس المهالك، والوالي ساكت عن هذا الأمر كأنه لم يكن عنده خبر، حتى ظن أكثر القاصرين أن هذا الواقع عن أمر شاهاني صدر:
يمضي على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
وما زالت الأشقياء تتطاول أعناقها، وتتزايد لهذه الأفعال أشواقها، والدروز في كل وقت يجددون لهم همة، ويتواردون عليهم أمة بعد أمة، وقد قامت لديهم الأفراح، وزالت عنهم برفع القيد الهموم والأتراح:
أمور تضحك السفهاء منها ... ويخشى من عواقبها اللبيب
وصاروا يتكلمون بكلام، لا يليق إلا بالأشقياء اللئام، كقولهم حنا يقول لنخلة، إسماعيل الأطرش حرق زحلة، وأمثال ذلك خصوصاً مما يدل على التخويف والتهديد، وصارت الأولاد تقوله على طريقة الأناشيد، فذهب بعض النصارى إلى والي البلد، لينقذهم من هذا الهم والنكد، وكان ذلك يوم الاثنين من ذي الحجة الحرام، سنة ألف ومائتين وست وسبعين من هجرة سيد الأنام، فأمر الوالي بالقبض على(1/262)
بعض الأولاد، فمسكوا منهم جملة وقيدوهم بالحديد وأمروهم بالكنس والرش تأديباً لهم عن هذا الفساد، فقامت عصبة جاهلية في باب البريد من الجهال الطغام، ونادوا بأعلى صوتهم يا غيرة الله ويا دين الإسلام، وكان الوقت قبيل العصر من ذلك اليوم المرقوم، وتلاحقت الأشقياء إلى حارة النصارى كأنه لم يكن عليهم بعد ذلك عتب ولا أحد منهم على فعله مذموم، وأقبلت عليهم الدروز أفواجاً أفواجا، واشتغلوا بالحرق والقتل والسلب والنهب أفراداً وأزواجا، فأنشأت في الحال خطبة وخطبتها في جامع كريم الدين في الميدان بحرمة هذه الأفعال، وأنها موقعة لأربابها في أودية النكال، وأنهم محترمون لا يجوز لهم التعرض بحال، وأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ومن تعرض لهم بسوء فقد باء بالخزي والنكال، فانكف أهل الميدان عن سفك الدماء، واجتلبوا ما قدروا على اجتلابه من الرجال والنساء، لحمايتهم من الأشقياء.
لنصرة الحق قد قاموا بأسرهم ... وربهم باليد العليا لهم نصرا
صانوا الحريم مع الأطفال واحتسبوا ... على الغريم برب للورى فطرا
لما استقلوا بميدان الوغى كملا ... من كل قرم يفوق الليث لو زأرا
فالله بالمدد العلوي أيدهم ... من كل سوء ومن عاداهم خسرا
هم الكرام لهم في كل حادثة ... غوث الصريخ وبذل وافر وقرى
جزاهم الله خيراً عن جميع بني ... دمشق والأجر عند الله لن يترا
والوالي ما زال على إهماله، وسكوته وعدم سؤاله، غير أنه عين للمحافظة(1/263)
أربعة من الأعيان، اثنين من المدينة واثنين من الميدان، فقام من كان من الميدان حق الحماية، وقصر من عداهما في البداية والنهاية، غير أن سعادة الأمير المعظم، والكبير المفخم، حضرة الأمير السيد عبد القادر الجزائري قد بذل كامل همته في ذلك، وبذل أمواله ورجاله في خلاص من قدر عليه من المهالك، واستقامت النار تضطرم في حارة النصارى سبعة أيام، والناس فوضى كأنه لم يكن لهم إمام، فلما أحضروا من أحضروه من النصارى إلى الميدان، وقد امتلأت البيوت أخذنا نطوف عليهم نهنيهم بالسلامة ونطيب قلوبهم بالأمن والأمان، وكنا ما نرى منهم غير دمع سائل، وبصر جائل، وقلب واجف، ورجاء قليل وبال كاسف، وهذه تقول أين ولدي؟ وهذه تقول قد انفلق كبدي، وهذه تقول مالي، وهذه تقول كيف احتيالي؟ والرجال منهم حيارى وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، وقد ذهب عنهم البهاء والجمال، وأوقعهم المقدور في الضيق والنكال، فلم نستطع الصبر عن البكاء والنحيب، وكدنا مما رأينا أن نذهل عن نفوسنا ونغيب، فيا لها من مصيبة ما أعظمها، ونكبة ما أجسمها، قد أبكت ذوي الرحمة بدل الدمع دما، وكادت أن تثبت لهم بعد الإبصار العمى، ثم ذهبنا جملة كبرى من الميدان لعلنا نجد حياً نخلصه ونقيه، وننقذه من أيدي من يريد قتله ولا يبقيه، فلم نجد غير من أمضى عليه حد الحسام حكمه، وأنفذ فيه جور الأيام ظلمه، فمنهم من استولى القضاء المحتوم، ومنهم من قد بلغت الروح الحلقوم، وما ترى في محلتهم من مغيث سوى كلب عقور أو شقي خبيث، والأرض رويت من دمائهم، وتعطلت الأماكن من أسمائهم، وعاد صبح جمالهم عاتماً، وأقامت محلاتهم عليهم مآتماً، فخروا على الوجوه والأفواه، وصعقوا على الصدور والجباه، وغدوا صرعى تسفى عليهم الشمال والجنوب، بعد أن وقعوا في أسنة المكاره والخطوب، صرعى على وجه الأرض، معفرين(1/264)
كأنه يوم النشور والعرض، قد افترشوا التراب بدلاً من الأرائك الحسان، وتضرجوا بالدماء بعد التضمخ بالمسك والزعفران، وغدا مصرعهم من نجيعهم مشوباً بالحمرة والسواد، ولبست نساؤهم لأجلهم ثياب الحزن والحداد، وصارت لحومهم للوحوش ولائم، والطيور عليها ما بين هابط وحائم، والنار تلعب ألسنتها في تلك القصور، وقد جعلتها رماداً بعد زينتها بالولدان والحور:
النار في ضرم والدمع منهمل ... لعظم خطب له الأحزان تتصل
لا الدمع يطفىء نار الحزن من كبد ... ولا لحر لظاها ينشف البلل
مصيبة عظمت حتى لقد صدعت ... قلب اللبيب فأضحى وهو منذهل
ولما علم دروز الجبل الشرقي أن أهل الميدان، قد أدخلوا النصارى في حصن الأمان، ووضوهم في أماكنهم مع عيالهم، واجتلبوا لهم سرورهم بقدر الإمكان وراحة بالهم، تجمعوا وتحزبوا وتوجهوا إلى الشام، إلى أن وصلوا إلى أرض القدم بالكبرياء والعظمة والاحترام، ثم أرسلوا خبراً إلى الميدان إما أن تسلمونا النصارى لنذيقهم كؤوس المنية، ونبيدهم بالكلية، وإما أن ننشر بيننا راية القتال، ونطوي بساط السلم واستقامة الحال، فبرز أهل الميدان إليهم بروز الأسد، وقالوا لهم بلسان واحد ليس لكم على قتالنا من جلد، أظننتم أنكم تصلون إليهم، وتحكمون بما تريدون عليهم، إن ذلك أمر محال، إياكم أن تتوهموه بحال، إننا وحق من أحيا الأشباح بالأروح، لا نسمح لكم منهم بقلامة ظفر وليس لكم في مطلوبكم من نجاح، وكثر القيل والقال، وكانت البيداء قد امتلأت من الفرسان والأبطال، وتجمع الصفان، وتقابل الصنفان، وارتفع العجيج وعلا العجاج، وكثر الضجيج من كل الفجاج، وأشهر كل سلاحه، واعتقد أن في قتل عدوه فلاحه، وأن شرر الموت ينقدح من ألحاظه، ويفصح(1/265)
بصريح ألفاظه، فلما رأى الدروز ما كان، من المشاة والركبان من أهل الميدان، علاهم الوجل، وقد خاب منهم الأمل، وضاق بهم من الأرض فضاؤها، وتضعضعت من أركانهم أعضاؤها، فتنازلوا عن العناد إلى الوداد، وقالوا نحن العين وأنتم لها بمنزلة السواد، وليس لنا عنكم غنى، وأنتم لنا غاية المنى، ونزيلكم عندنا مصون، ومن كل ما يضره مأمون، والذي وقع منا كان هفوة مغفورة، وسقطة هي بعفوكم مستورة، فقابلوها بالسماحة والغفران، ونحن وإياكم أحباب وإخوان، ثم تفرقوا بعد الوداع، وانقاد كل منهما للسلم وأطاع، وتفضل الله وأنعم، وحسم مادة الشر وتكرم.(1/266)
ولا زال أهل الميدان في الليل والنهار، يحرسون النصارى من الأشقياء والأشرار، إلى السادس والعشرين من محرم الحرام، دخل الشام محمد معمر باشا ومعه أربعة آلاف جندي من عسكر النظام، وفي غرة محرم سن سبع وسبعين، دخل خالد باشا المصري للنظر في أمر هذه الخيانة، وكان قبل دخوله بيوم قد سافر أحمد باشا المذكور أولاً إلى بيروت متوجهاً إلى الآستانة، وفي حادي عشر المحرم الحرام، دخل ناظر الخارجية فؤاد باشا إلى الشام، مرخصاً من قبل الدولة وباقي الدول، مهما شاء أجرى ومهما أراد فعل، ومعه عوضاً عن أحمد باشا المترجم المذكور عبد الحليم باشا المشير المشهور، واجتمع بالشام من العساكر السابقة واللاحقة نحو ثلاثين ألفاً، ثم بعد ثلاثة أيام، أمر بعقد مجلس عام، وطلب فيه مأخوذات النصارى ومسلوباتهم، ومغصوباتهم ومنهوباتهم، وذلك يوم الخميس خامس عشر المحرم، وشدد غاية التشديد، وأكد أعظم تأكيد، ولما أصبح صباح الجمعة سادس عشر المحرم، وجد الناس أثمان الشام قد امتلأت من العساكر، وقد أغلقوا أبواب البلد ولم يعرف أحد ما الأمر إليه صائر، فدخل على الناس من الهم والكدر، ما هو عبرة لمن اعتبر، وهذا أول الامتحان على ما سلف من القباحة والعصيان، حمانا الله من شر الفساد والطغيان، ووقانا من حيف الزمان، ثم إن الحكومة أرسلت لكل ثمن مأموراً لتحصيل المسلوبات، وجمع المنهوبات، وقد حصل التنبيه بأن من عنده شيء فليأت به ولا يخفيه، فبادر الناس بالإحضار، وصار من عنده شيء كأنه قد اشتعلت به النار، ودخل على الناس من الوجل ما يستصغر عنده حضور الأجل، وصار بعض الناس يلقون ما عندهم في الطريق ليلاً للتستر والكتم، وذهب شعورهم لما اعتراهم من الخوف والوهم، وصاروا يقبضون على بعض الناس ويحبسونهم في التكية، ولا يعلمون ما يجري عليهم من البلية، واستدام جمع(1/267)
المسلوبات إلى ثاني وعشرين محرم، ثم صارت النصارى تتشكى للحكومة على بعض الناس، وتفاقم الأمر واشتد الالتباس، فهذا يقول هذا قتل ولدي، ويقول الآخر قتل والدي، ويقول الآخر أخذ مالي، ويقول الآخر تعرض لأطفالي، وزال الائتلاف وزاد الاختلاف، والعساكر تقبض على من يتهم سواء كان من الأصناف أو من الأشراف، حتى اجتمع في التكية نحو ثلاثة آلاف، ثم إنه في غرة صفر أعيد أحمد باشا السر عسكر من الآستانة إلى الشام، معزولاً من منصبه ومفوضاً أمره إلى فؤاد باشا يحكم عليه بما رام، فصار إلى الحبس صاغرا، وقد تحول إلى الذل بعد أن كان ناهياً آمرا، عضته أنياب الاعتقال، ورضته تلك النوب الثقال، وعوض بخشونة العيش من اللين، وكابد قسوة خطب لا تلين، تذكره عهد عيشه الرقيق، ومراحه بين النعمان والشقيق، وحن إلى سعد زرت عليه جيوبه، واستهدى نسيم عيش طاب له هيوبه، وتأسى بمن باتت له النوائب بمرصاد، ورمته بسهام ذات اقصاد، وضيم ليس له خلاص، وقد أعلمه الحال بأنه حان حينه ولات حين مناص، وعظمت عليه القضية، وأترعت له كؤوس المنية، واسودت بعد البياض أيامه، وقوضت من عراص الحياة خيامه، فوضع في الحبس كغيره، ولم يدر عاقبة أمره أينتهي إلى شره أم إلى خيره، وفي ثاني صفر يوم الأحد عمل فؤاد باشا مجلساً خصوصياً خفياً لم تمسه يد الإعلان، وقد اجتمع فيه العلماء والصدور والأعيان، لم يطلع أحد على ما حصل من المذاكرة فيه، ولا علموا بظواهره ولا خوافيه، غير أنهم علموا بأن فؤاد باشا قد قسم ذوي الجنايات إلى ثلاثة أقسام سالب ومهيج وقاتل مرتكب للإعدام، ولم يعلموا غير ذلك، والله أعلم بما هنالك، فلما أصبح الناس يوم الاثنين ثالث صفر وجدوا سبعين رجلاً قد صلبوا مفرقين في البلد، من أهل الشام الذين كان أكثرهم عليه في الوجاهة يعتمد، وفي خامس صفر تعاظم(1/268)
الشر، وتفاقم الضر وطم الغم، وانتشر وعم، حيث حبس عالم الشام وفاضل الأنام الشيخ عبد الله الحلبي في دار البلطجية، وعمر أفندي الغزي في التكية، ومفتي دمشق طاهر أفندي، وأحمد أفندي الحسيبي، وعبد الله بك العظم، وسعيد بك بن شمدين آغا، وعبد الهادي أفندي العمري وأحمد أفندي العجلاني نقيب الأشراف، وصالح آغا المهايني وغيرهم من الصدور، كل واحد بمحل بمفرده لا يدخل عليه أحد غير خدمة ولاة الأمور، وكانوا يستنطقونهم في كل يوم، لينظروا ماذا يترتب عليهم من اللوم، وفي سابع صفر أمر فؤاد باشا بتفريغ بعض البيوت لسكنى النصارى
المصابين، ففرغوا من بيوت القيمرية والقنوات وباب توما والسماكة والشاغور، وبعض بيوت باب المصلى بمقدار ما يكفيهم أجمعين. وفي تاسع صفر عادت العساكر إلى الأثمان طالبين من الناس أربع نمر، لإدخالها في العسكرية الشاهانية ذات القدر والخطر، فجمعوا من الناس عدة وافية، وفي خامس عشر صفر كتبوا على مشايخ الحارات سندات بتقديم الأنفار الباقية، وفي حادي وعشرين من صفر فرق على بعض الناس أوراق رسمية، إما بتقديم أولادهم للعسكرية أو بدفع بدل مائتي ليرة عثمانية، وشددوا عليهم في الطلب، وما نجا إلا القليل من العاجزين عن الدفع واستجاروا بالهرب، وفي ثاني وعشرين من شهر صفر حكم فؤاد باشا على أحمد باشا بالإعدام، وعلى جملة من أمراء عساكر النظام، فأخذوهم إلى القشلة القريبة من المولوية، وأعلموهم بما حصل من الأمر عليهم بالقتل فاستسلم أحمد باشا لهذه القضية، وكان صائماً وفي يده دلائل الخيرات فصلى ركعتين ثم سلم نفسه للممات، فعرضوا عليه الماء قبل إزهاق نفسه المطمئنة، فقال لا أفعل لا أفطر إلا في الجنة، فصفوهم وجعلوهم هدفاً للرصاص، وكانوا متأملين إن حسن اعتذارهم ينتج لهم الخلاص، فلا حول ولا قوة إلا بالله، لا راد لما حكم به وقضاه، وفي ثالث وعشرين من صفر فر فؤاد باشا(1/269)
إلى بيروت لمراد، وصحبته جملة من المحبوسين، فمنهم من نفاه ومنهم من أدخله للخدمة العسكرية ذات الإسعاد، وفي رابع ربيع الأول صلبوا اثني عشر رجلاً من دروز وإسلام، وفي سادس ربيع الأول قبضوا على أبي يوسف الكحال الدرزي من الحقلة ونفوه بعد أن حبسوه مدة أيام، وفي عاشر ربيع الأول قبضوا على سعيد بك جنبلاط في بيروت وصحبته بعض دروز الجبل الغربي، وفي ثاني وعشرين من ربيع الأول فرضوا على أهالي الشام خمسة آلاف فراش وخمسة آلاف لحاف وخمسة آلاف وسادة، وفي رابع وعشرين من ربيع الأول رجع فؤاد باشا إلى الشام، وفي سادس وعشرين منه أمر على ترجمانه إبراهيم بك كرامة بالحبس ثم نفاه بعد أن أذله الإذلال التام، وحينما انتقل النصارى إلى البيوت التي فرغها لهم ذلك الوزير الكبير، عين لكل فرد منهم خرجاً يكفيه من كبير وصغير، وسافر كثير من النصارى إلى بيروت واسكندرية، ليتسلوا عن مصيبتهم القوية، وفي غرة ربيع الثاني أنزلوا ورقة بدل العسكرية من مائتي عثمانية إلى مائة عثمانية، وفي رابع ربيع الثاني أحضروا علي بك العظم ومحمد صالح أفندي بن الشيخ عبد الله الحلبي ووضعوهما في الدائرة الحبسية، وفي خامس ربيع الثاني نهار السبت عند طلوع الشمس نفوا الذوات المرقومين جميعاً إلى الماغوصة ذات الغم الشديد، وفي ثاني يوم سافر فؤاد باشا وصحبته جميع العسكر الجديد، وفي يوم الثلاثاء من ربيع الثاني وضعوا في كل ثمن مجلساً مخصوصاً لجمع السلاح من أهل الشام، وبعد تمام جمعه نقلوه إلى القلعة ووضعوه تحت الحرس بكل اهتمام، وفي يوم الأحد ثالث عشر ربيع الثاني أخذوا محمد سعيد بك بن شمدين آغا الكردي وكيخية السر عسكر وهو أحمد باشا الشهيد وتفكجي باشي والشيخ عبد الرزاق القوادري وديوان أفندي وشيخ قرية دوما وغيرهم إلى بيروت تحت الحفظ، وفي سابع عشر ربيع الثاني انفصل معمر باشا والي الشام،(1/270)
وولى مكانه رشدي أفندي الشرواني مفتي مجلس فؤاد باشا قائمقام لا بالأصالة، وبهذا التاريخ حضر فرمان سامي من الدولة مضمونه أن فؤاد باشا مفوض الرأي في عرب ستان لا يحتاج إلى مخابرة الدولة، وفي حادي وعشرين من ربيع الثاني طرحت الحكومة المال القديم المكسور وقسطوه على ثلاث دفعات، في كل مدة ثلاثة أشهر قسط، وكل قسط بمقدار كامل الترابية، وفي خامس وعشرين من ربيع الثاني يوم الجمعة وجهت رتبة إفتاء دمشق الشام على محمد أمين أفندي الجندي، عوضاً عن طاهر أفندي المنفي إلى الماغوصة، وفي يوم السبت الحادي عشر من ربيع الثاني سافر والي الشام الأسبق معمر باشا إلى الآستانة لفصله من منصبه، وفي يوم سادس وعشرين من ربيع الثاني أغلق فؤاد باشا المحاكمة والتفتيش على التهمة، بحيث لو اشتك واحد من النصارى بأن فلاناً قتل ولدي أو والدي أو أخذ مالي لا يقبل منه، لأن القضية من وقتئذ انتقلت إلى البدل بالمال، وقد ألقى الباشا المرقوم خطابه على العموم بقوله قد عرف الناس أجمعون أن الحادثة المؤلمة التي حصلت في مدينة دمشق كانت جناية عظيمة مخالفة للشرع الشريف، وللقانون
المنيف، وقد أورثت تأثراً عميقاً وكدراً بليغاً في قلوب أهل الإسلام قاطبة. ولما كان منوطاً بذمة همة السلطنة السنية إيفاء مقتضيات عدالة الشريعة، فقد أجريت مجازاة الذين تحققت مشاركتهم في الجناية المذكورة على درجات مختلفة، وكما أن تلك الواقعة كانت من أخص الأشياء المستهجنة والمكروهة جداً لدى ذوي العرض من أهل دمشق وضواحيها، كذلك الذين أفلتوا من محال المجازاة الدنيوية سيعيشون بالخوف والرعدة تحت طائلة ترهيب الجزاء الذي جوزي به رفقاؤهم منتظرين المجازاة العادلة، من لدن الله العزيز ذي العدل والانتقام وإن في ذلك لعبرة مؤثرة للجميع، لأننا نرى واضحاً لوائح الأسف والندم ظاهرة عليهم. ولما كان أهالي المحلات الذين كانوا سبباً لهذه الواقعة قد نالوا جزاءهم بتحملهم أضرار الأهالي المصابين بواسطة الضريبة التي قر القرار الآن على تحصيلها منهم، وكان استحصال الأسباب التي من شأنها إيجاد الائتلاف المطلوب دوامه واستقراره بين عموم صنوف التبعة السلطانية من أهم الأمور وأقصى المرغوبات، فقد أغلق من الآن فصاعداً بالكلية باب المحاكمة والتفتيش على التهمة نظراً إلى الواقعة السابقة، بشرط أن تدوم باقية الأحكام الجزائية التي جرت حتى الآن، وبما أن هذا القرار هو أثر المرحمة السنية، والشفقة الملوكية، وبما أن التبعة السلطانية المصابين وإن كانوا مجروحي الأفئدة والقلوب، ما برحوا يظهرون خلو أفكارهم من التفتيش على الانتقام الشخصي، بناء على أن أولئك الذين أوصلوا لهم المضرة بأيدي التعدي قد استتروا، مستظلين فيما بين أهل العرض إخوتهم في الوطن، فيجب والحالة هذه على كل إنسان أن يثابر على وظائف ذمة التبعية والإنسانية بتمامها، مجتنباً ومتوقياً كل التوقي الحركات المخالفة للرضا العالي، وليعلم الجميع أنه من الآن فصاعداً كل من وقع منه أدنى معاملة رديئة وسوء قصد بحق غيره بأية صورة كانت جليلة أو حقيرة، فبحسب المنحة السنية المعطاة لنا من طرف الحضرة السلطانية، لا يحصل أدنى تأخر عن مجازاته القانونية، وبناء عليه أصدرنا هذا الإعلان لإصلاح أحوال سورية، ليحيط الناس به علماً انتهى.، وقد أورثت تأثراً عميقاً وكدراً بليغاً في قلوب أهل الإسلام قاطبة. ولما كان منوطاً بذمة همة السلطنة السنية إيفاء مقتضيات عدالة الشريعة، فقد أجريت مجازاة الذين تحققت مشاركتهم في الجناية المذكورة على درجات مختلفة، وكما أن تلك الواقعة كانت من أخص الأشياء المستهجنة والمكروهة جداً لدى ذوي العرض من أهل دمشق وضواحيها، كذلك الذين أفلتوا من محال المجازاة الدنيوية سيعيشون بالخوف والرعدة تحت طائلة ترهيب الجزاء الذي جوزي به رفقاؤهم منتظرين المجازاة العادلة، من لدن الله العزيز ذي العدل والانتقام وإن في ذلك لعبرة مؤثرة للجميع، لأننا نرى واضحاً لوائح الأسف والندم ظاهرة عليهم. ولما كان أهالي المحلات الذين كانوا سبباً لهذه الواقعة قد نالوا جزاءهم بتحملهم أضرار(1/271)
الأهالي المصابين بواسطة الضريبة التي قر القرار الآن على تحصيلها منهم، وكان استحصال الأسباب التي من شأنها إيجاد الائتلاف المطلوب دوامه واستقراره بين عموم صنوف التبعة السلطانية من أهم الأمور وأقصى المرغوبات، فقد أغلق من الآن فصاعداً بالكلية باب المحاكمة والتفتيش على التهمة نظراً إلى الواقعة السابقة، بشرط أن تدوم باقية الأحكام الجزائية التي جرت حتى الآن، وبما أن هذا القرار هو أثر المرحمة السنية، والشفقة الملوكية، وبما أن التبعة السلطانية المصابين وإن كانوا مجروحي الأفئدة والقلوب، ما برحوا يظهرون خلو أفكارهم من التفتيش على الانتقام الشخصي، بناء على أن أولئك الذين أوصلوا لهم المضرة بأيدي التعدي قد استتروا، مستظلين فيما بين أهل العرض إخوتهم في الوطن، فيجب والحالة هذه على كل إنسان أن يثابر على وظائف ذمة التبعية والإنسانية بتمامها، مجتنباً ومتوقياً كل التوقي الحركات المخالفة للرضا العالي، وليعلم الجميع أنه من الآن فصاعداً كل من وقع منه أدنى معاملة رديئة وسوء قصد بحق غيره بأية صورة كانت جليلة أو حقيرة، فبحسب المنحة السنية المعطاة لنا من طرف الحضرة السلطانية، لا يحصل أدنى تأخر عن مجازاته القانونية، وبناء عليه أصدرنا هذا الإعلان لإصلاح أحوال سورية، ليحيط الناس به علماً انتهى.
وفي يوم السبت ثامن عشر جمادى الأولى حضر إلى الشام معتمدون من طرف الدول الأجانب الأروباوية، لينظروا بما حصل على النصارى وبما حصل من المجازاة على الأشقياء ذوي التعدي، ثم إنه في هذا التاريخ أرسل فؤاد باشا إعلانات لسائر الأثمان ليقرأ على العموم، بحيث لا يجهله أحد، ونصها حرفياً: هو معلوم لدى الجميع أن الواقعة المؤلمة التي حصلت في دمشق لم يسبق لها مثال، ولا ذكر لها نظير في التواريخ القديمة ولا الحديثة، وهي مادة فاضحة منافية لأحكام الشريعة المحمدية(1/272)
العادلة، ومخالفة للإنسانية والمدنية، وبما أن الله سبحانه قد كلف عباده العدل والإحسان، وأمرهم أن يتجنبوا الجور والغدر، وبما أنه فرض على ذمة ولي الأمر إنفاذ الأوامر الإلهية على الدوام، فقد تعلقت الإرادة السنية بأن تجري على الفور المعاملات التي يقتضيها الحال في هذا الباب، فأصحاب الجنايات قد لقوا تأديبهم وتربيتهم جزاء لقبائحهم وذنوبهم التي ثبتت لدى التحقيق بالبراهين الكافية، والذين أفلتوا من المجازاة الدنيوية فإنهم ينتظرون بالندم عقاب الآخرة على ارتكاباتهم، ثم لا يخفى أنه من آثار تلك الواقعة، هو أن المظلومين المصابين هم محرومون أموالهم وبيوتهم وأشياءهم، وأن كثيراً من التبعية السلطانية لا محل لهم ولا مأوى يتعيشون من الإعانة المعطاة لهم من طرف الدولة العلية، ولما كان استحصال الأسباب لإصلاح أحوال هؤلاء المصابين ورفع اضطرابهم من أخص مرغوبات الدولة العلية كان يجب على أهالي دمشق وأهالي الإيالة قاطبة صرف الهمة والجهد في هذا الباب، لأجل تطهير وطنهم من هذه النقيصة التي عرضت له، وبناء عليه ينبغي أن يعطى هؤلاء المصابون المسيحيون مبلغاً كافياً من الدراهم لأجل تعمير بيوتهم وترميمها، ولأجل سد احتياجاتهم الضرورية، وتيسير لوازمهم، ومع أن أمر تحقيق متلفاتهم هو مباشر فيه الآن، ومعلوم أن إيفاء جميع تضميناتهم دفعة واحدة من الأهالي هو خارج عن دائرة الإمكان، وأن أمر تسوية ذلك من طرف الخزينة هو مما لا يساعد عليه الوقت ولا الحال، ومن ثم قد حصل القرار على طرح ضريبة فوق العادة على أهالي مدينة دمشق نفسها، وأهالي النواحي الأربع التي في جوارها، والقضاوات التابعة لها، وعلى طلب إعانة من بعض المحلات، وقد أعلنت صورة طرح ذلك وطريقة استيفائه في قرار مخصوص، فالدراهم المطلوبة الآن ضريبة فوق العادة، ربما(1/273)
ظهرت في أول الأمر كثيرة، إلا أنها تظهر لا محالة قليلة، إذا قيست بالجناية الواقعة، وحسبت القسامة الشرعية عن المقتولين الذين لا يعرف قاتلوهم، لأنه في دمشق لم يتلف المال فقط، بل أريق دماء كثيرين أيضاً كما لا يخفى، وبما أن أمر التعمير وتضمين الضرر الذي لحق بمسيحي دمشق هو من مقتضيات معدلة الشرع والقانون، تكون الدراهم التي تعطى لذلك إيقاء وظيفة وخدمة عائدة إلى المعدلة، وتكون المساعي التي تصرف وجوباً لإصلاح أحوال المصابين واسطة لتطهير ذلك القطر من وصمة الدم المظلوم الذي التطخ به، ووسيلة لزوال عارض الكساء الذي اعترى صنائعه وتجارتهن وبما أن باب الدعاوى والمحاكمات من جهة الوقوعات السابقة قد أضحى من الآن فصاعداً مغلقاً كما تبين في إعلان آخر، فمهما بذل طمعاً في استحصال كذا نتيجة لا يكون شيئاً كثيراً، وإذا كان ما طرح على كل إنسان مطابقاً لقاعدتي العدل والحقانية، لا ينبغي لأحد أن يستصعب أداء ما يلحقه من ذلك، بل يليق بكل إنسان أن يسمح بخسارة شيء من فخره وراحته بواسطة الحصة التي يؤديها حباً بدفع هكذا بلية، فإنه لا يخل برفعة واعتبار من كانت عادته ركوب جواد مسوم مثلاً إذا ركب برذوناً، ولا باعتبار من اعتاد تناول الأطعمة النفيسة المتفننة أن يقتات بالطعام البسيط، والإنسان العاقل يجب عليه أن ينظر إلى المصيبة التي أصيب بها جاره، ولا يلتفت منعكفاً على خسارته المالية، وليعلم أن تأدية ما توزع من هذه التضمينات في المدة المعينة هو فرض لابد منه، وعلى موجبه يكون إجراء العمل، ومن أظهر أدنى رخاوة أو تهاون في ذلك لا يمضي أدنى وقت عن إجراء تربيته وتأديبه، ولكي يكون ذلك معلوماً لدى الجميع قد نشر هذا الإعلان، لإصلاح أحوال سوريا فأعلموه واعتمدوه كل الاعتماد. انتهى، ثم إن فؤاد باشا(1/274)
تاسع جمادى الأولى عين في كل ثمن من أثمان دمشق مجلساً مؤلفاً من أعضاء ورئيس، لكي يطلبوا
أنفاراً ودواب لتعزيل حارة النصارى من التراب، لتيسير عمارتها وإعادتها، ونظير ذلك في القرى المجاورة لدمشق من مسافة عشرة أميال إلى سور البلد من النواحي الأربع، وأرسلوا كذلك مأموراً بأن يقطع الأخشاب اللائقة للعمارة، ويحضرها إلى محلة النصارى، وفي غرة جمادى الثانية حصل الأمر بعد الأنفس، وقد تمت دفاتره في غاية رمضان، فانتهى في مدة أربعة أشهر، وفي سابع عشر من جمادى الثانية أرسلوا جملة من العساكر إلى أربع قرايا حول الشام سكانها من الدروز، وهي صحنايا والأشرفية وجرمانة والدرخبية، فقبضوا منهم على نحو مائة شخص، وحرقوا جرمانه، ووضعوا الأشخاص في الحبس، وفي يوم الاثنين ثامن عشر جمادى الثانية دخل الشام واليها أمين باشا، وفي يوم الأربعاء ثاني رمضان توفي عمر أفندي الغزي في قلعة الماغوصة، وفي عشرين من رمضان وجهت النقابة إلى الشيخ أحمد الكزبري، وفي ختام رمضان توفي جناب أحمد أفندي النقيب في رودس، وفي عاشر شول فرض على الشام ألفان وثمانمائة كفية منضا بولاد للعساكر الشاهانية، وفي سادس وعشرين من شوال جمع فؤاد باشا جملة من أهل البلد وتلا عليهم ما قر قراره عليه من فرض أموال العمارة حارة النصارى، وأنه سينشر لها قانوناً مخصوصاً مفصلاً، وفي غاية شوال سافر فؤاد باشا ومعه حرمه إلى بيروت، وفي عشرين من ذي القعدة الحرام أرسل فؤاد باشا القانون الموعود بذكره وسماه قرار الضريبة، وإعانة فوق العادة المطروحة الآن على أهالي ولاية الشام، فأرسلوه إلى مجالس الأثمان ورؤساء النواحي ليعملوا بمقتضاه مع التشديد ببذل الهمة، وهذا القانون مؤلف من إحدى وعشرين مادة مفصلة، وأنا أذكرها لك مجمله، لطول تفصيلها المخرج لنا عن نهج الاختصار المطلوب. ونص مقدمته: بما أن أناساً كثيرين من التبعة السلطانية المسيحيين قد(1/275)
نهبت أموالهم واحترقت بيوتهم في خلال المصيبة التي ألمت بهم، في الوقعة المؤلمة المعلومة التي نشبت في دمشق، فكان من مقتضى المعدلة السنية النظر في تضمين أضرارهم، وإصلاح أحوالهم، فلهذا حصلت المبادرة لتخمين كمية هذه التضمينات وتعيينها، على وجه الحقانية، وسيظهر مقدارها، وكيفما كان لابد أن يتبين أن ذلك مبالغ جسيمة، وكما أن هذه الوقعة نشأت في البلدة المذكورة بالمشاركة مع القرى الواقعة بأطرافها، فكذلك أهالي بعض القضاوات كانوا مشتركين في الوقعة المرقومة، وفي الوقوعات التي حدثت في سائر جهات الولاية، ولهذا أضحى يلزمهم أيضاً أن يتحملوا جميع هذه التضمينات، التي لو أخذت بتمامها من دمشق ونواحيها والقضاوات التابعة لها لما كان شيئاً مغايراً للعدل، نظراً للجناية الواقعة، لكن بما أن هذا موجب لخراب الأهالي بالكلية الذي لا يمكن تجويزه، فالسلطنة السنية مع ما هي فيه من أنواع المصارف والمشكلات صارت مضطرة أن تعطي خزينتها الجليلة، من أصل هذه الدراهم، المقدار الخارج عن درجة تحمل الأهالي، وهكذا من كون تحصيل المبلغ المقتضى أخذه من الأهالي في دفعة واحدة موجبة لزيادة التضييق عليهم، رئي أن يتحصل منهم جانب في دفعة واحدة، والباقي يعطى من خزينة الدولة على شرط أن يتحصل فيما بعد من الأهالي بالتدريج، في الأوقات المناسبة المعتدلة، على أن تلك الدراهم التي ينبغي أخذها منهم دفعة واحدة تتحصل في أقرب وقت، لكي يعطى لكل من مصابي المسيحيين المتعيشين من الإعانة مقدار على الحساب من أصل تضميناتهم، ويحصل التشبث حالاً في مقدمة أسباب إصلاح أحوالهم وإعادتها، ويغلق مع هذا باب كبير دعاوي الجناية، ويستحصل أمر حسن الائتلاف المهم المطلوب دوامه بين الأهالي، وكما أن أهالي تلك المحلات المشتركين في هذه الوقوعات، والمتداخلين بها يجب عليهم أن يؤدوا إتاوة فوق العادة لأجل التضمينات، والسلطنة(1/276)
السنية قد اختارت من الفداية أنواعاً كثيرة في سبيل إصلاح هذه المصيبة ومحو آثارها، فهكذا يجب على سائر أهالي المملكة بحسب حميتهم المجبولين عليها أن يعطوا على غير معنى المجازاة، إعانة على مقدار درجة تحملهم لأجل دفع هذه البلية التي عرضت على وطنهم العمومي، وبما أن الملكية التي يقتضي إعطاؤها من طرف خزينة الدولة لأجل عموم التضمينات، والحصة التي يجب على الأهالي إيفاؤها مع المبالغ المقتضي أخذها بالتدريج، سوف تعرف مقاديرها في ختام تخمين التضمينات، فقد نفذ الحكم الفصل من لدن
مأمورية فوق العادة، المخصوصة لإصلاح أحوال سورية، محتوياً على تبيين مقدار ضريبة فوق العادة التي تخصصت الآن على أهالي المحلات المتداخلين في الوقوعات، مع المقدار الذي ينبغي أن يفرض على أهالي المحلات الغير المتداخلين بذلك، أن يعطوه على سبيل الإعانة دفعة واحدة. لعادة، المخصوصة لإصلاح أحوال سورية، محتوياً على تبيين مقدار ضريبة فوق العادة التي تخصصت الآن على أهالي المحلات المتداخلين في الوقوعات، مع المقدار الذي ينبغي أن يفرض على أهالي المحلات الغير المتداخلين بذلك، أن يعطوه على سبيل الإعانة دفعة واحدة.
المادة الأولى إن المبلغ الذي تعين أخذه دفعة واحدة من إيالة الشام، على حساب عموم تضمينات الوقوعات السابقة، بشرط أن يستثنى من ذلك الأهالي المسيحيون، وأولئك الأشخاص المعلومون الذين شوهدت منهم الخدمة في الوقوعات المذكورة، بلغ لدى الحساب تسعين ألف كيس، فمن ذلك مبلغ خمسة وثمانون ألفاً وسبعمائة وسبعة وستون كيساً ينبغي طرحها على المحلات المتداخلة في الوقوعات المعلومة، التي هي أولاً نفس مدينة دمشق، ثانياً قرى النواحي الأربع، ثالثاً قضاوات بعلبك والبقاع وحوران وجيدور وجبل الدروز الشرقي وحاصبيا وراشيا، ويكون تحصيلها منهم جزاءً نقدياً وضريبة فوق العادة، وأربعة آلاف ومائتين وثلاثة وثلاثون كيساً تتمة المبلغ، ينبغي تحصيلها على صورة الإعانة من قضاوات حمص وحماة وحصن الأكراد ومعرة النعمان وعجلون والقنيطرة وايكى قيولى.(1/277)
المادة الثانية محصلها تسهيل تأدية مبلغ التسعين ألف كيس بأن يحسب منها ثمن الأخشاب وأجرة إزالة التراب من حارة النصارى، وكيفية جمع الأموال، وهكذا بقية المواد إلى آخرها كلها متعلقة بالبيان والتفصيل والتخصيص بمقادير مخصوصة على المحلات القريبة والبعيدة مما لا حاجة إلى ذكره، بعد معرفة إجمال المقصود وبيانه مما ذكرته. فلما علم الناس هذا الحال ضاق أمرهم لذلك، وصاروا يبيعون متاعهم وأثاث بيوتهم في هذه المصيبة التي كانت سماً قاتلاً على النصارى والمسلمين، فكأنه انتقام على أمر عظيم أصاب الناس جميعاً صالحهم وطالحهم، نسأل الله العافية وأن يلهم الجميع صبراً، وأن يعوضهم خيراً وأجراً. ثم بعد تمام هذه الأحوال، وترتيبها على هذا المنوال، وجهت الصدارة العظمى لفؤاد باشا وطلب إلى دار السلطنة المحمية فخاطب أهل سورية عموماً وخصوصاً بهذا الإعلان، وهو قوله:
يا أهل سورية إنني سأفارقكم نظراً لتوجيه خدمة الصدارة علي من إحسان حضرة ولي نعمتنا مولانا السلطان المعظم، وبما أن الوقائع المؤلمة التي نشبت أظفارها في العام الماضي بهذه الجهات، وكانت موجبة لنفور أهل العرض قد زالت ولله الحمد آثارها الرديئة، بظل ظليل التوفيقات السلطانية، واستقرت راحة المملكة وأمنيتها، وحصل التشبث باستحصال الأسباب الموجبة إصلاح أحوال الأهالي المصابين، ترونني الآن راجعاً إلى دار السعادة مصحوباً بالتسلية الوحيدة، وهي أنني أشاهدكم إن شاء الله تعالى في وقت قريب بحالة سعيدة، تنسيكم الحالة التعيسة التي أصابتكم قبلاً، وبما أن المأمورية المحولة لعهدتي، هي بدون استثناء خدمة لحصول آثار النية السلطانية الشفوقة تماماً نحو كافة التبعة الملوكية، وحال اجتهادي بذلك سأعتني بالأخص في أشغال هذه الجهات، لكوني من بعد الآن أعتبر ذاتي سورياً قلبياً، وعلى وفاق الأمر الواجب الإذعان الملوكاني،(1/278)
قد أحيلت محافظة صيانة المملكة واستودع إصلاح تأمين أحوال الرعية لعهدة مشير المعسكر السوري السلطاني، حضرة صاحب الدولة عبد الحليم باشا، وصفات المشار إليه وغيرته واستقامته الثابتة، تمنح الكفالة اللازمة للجميع، وكافة المأمورين الكرام أيضاً هم ومن بدوائرهم من كونهم سيصرفون الإقدام التام بهذه الخصوصات، لا ريب بأن الجميع يكونون مستريحي البال في ظليل الاقتدار السلطاني، إذ لا يحصل أدنى نقصان في آثار المراحم الملوكية التي صرفت حتى الآن نحو الأهالي المصابين، فيجب في مقابلة ذلك أن جميع الأهالي تكون حركاتها موافقة لآثار أفكار الحضرة السلطانية الخيرية، ويكون كل صنف من التبعة متمسكاً بقاعدة الاتحاد وحب الوطن وخدمته، والقيام بإيفاء أوامر الدولة والوظائف السلطانية بالتمام، كما هو المأمول بحميتهم، وبما أن حضرة المشير المشار إليه مأذون بإجراء التأديبات السريعة الشديدة بحق الذين يتجاسرون سواء كان شخصاً أو جمعية على وقوع أدنى حركة مغايرة للرضى العالي، اقتضى إشهار هذا الإعلان من مقام الصدارة العظمى، ليحيط الجميع علماً بما فيه ويتجنبوا مخالفته انتهى.
ثم إنه بعد ذلك استقامت الأحوال، وأخذ الكرب الشديد يميل نحو الاضمحلال، وابتدأت المحبة تعود بين عموم أهل الوطن، وزالت عن الجميع تواترات المحن، وتألفت القلوب، وتنحت الكروب، وكاد أن يعود الوداد إلى أصله، واضربت الظواهر صفحاً عما كان ذلك الكرب والغم من أجله، إلى أن أعاد الله المحبة القديمة، والراحة العميمة، وحقت كلمة العذاب على أهل الشقاء، ودارت عليهم والعياذ بالله دوائر البلاء. فالحمد لله على راحة العباد، وعود المحبة بين العموم والوداد، وقد تم(1/279)
الكلام على هذه الحادثة بالاختصار الغير المخل، ولو أردت ذكرها بتفاصيلها وتفاريعها لأدى ذلك إلى الإسهاب الممل. والله أعلم.
الأمير أحمد أفندي الروزنامجي المعروف بالصفاتي الشافعي المصري
الجناب العالي، واللوذعي الغالي، قال الجبرتي في ترجمته: ذو الرياستين والمزيتين والفضيلتين، تقلد وظيفة الروزنامة بديوان مصر عندما كف بصر إسماعيل أفندي فكان لها أهلاً، وسار فيها سيراً حسناً، بشهامة وصرامة ورياسة، وكان يحفظ القرآن حفظاً جيداً، وحضر في الفقه والمعقول على أشياخ الوقت قبل ذلك، وكان يحفظ متن الألفية لابن مالك، ويعرف معانيها ويحفظ كثيراً من المتون، ويباحث ويناضل من غير إدعاء للمعرفة والعالمية، فتراه أميراً مع الأمراء، ورئيساً مع الرؤساء، وعالماً مع العلماء، وكاتباً مع الكتاب، توفي المترجم في عشرين من ربيع الثاني سنة اثنيتن ومائتين وألف.
الشيخ أحمد الشهير ببرغوث المالكي الأزهري
الورع العالم، والكامل الذي كاد أن يقال إنه من كل عيب سالم، ذو المناقب العديدة، والمآثر الحميدة، والفضائل الباهرة، والنفس الرشيدة الطاهرة، ولد بالبلدة المعروفة باليهودية بالبحيرة وتفقه على أشياخ العصر، ومهر في المعقول والمنقول، وأقرأ الدروس وانتفع به الطلبة واشتهر ذكره بينهمن وشهد الكل بفضله، وكان على حالة حسنة معتزلاً عن الناس، راضياً بما قسمه له مولاه، منكسر النفس متواضعاً ولم يتزي(1/280)
بزي الفقهاء، ولم يظهر بمظاهر العلماء، يمشي في حوائجه لنفسه، وتمرض بالزمانة مدة سنين يتعكز بعصاه، ولم يقطع درسه ولا اجتهاده، إلى أن توفي يوم الأربعاء خامس شهر صفر سنة أربع وعشرين ومائتين وألف ودفن بتربة المجاورين رحمه الله تعالى آمين.
السيد أحمد بن محمد بن إسماعيل من ذرية السيد محمد الدوقاطي الطهطاوي الحنفي
العالم المشهور، والفاضل الذي هو بكل فضيلة مذكور، كان والده رومياً، فحضر إلى أرض مصر متقلداً القضاء بطهطا، بلدة بالقرب من أسيوط بالصعيد الأدنى، فتزوج بامرأة شريفة، فولد له منها المترجم وأخوه السيد إسماعيل، ولم يزل مستوطناً بها إلى أن مات عن المذكورين وأخت لهما، فحضر المترجم إلى مصر سنة إحدى وثمانين ومائة وألف، وكان قد بدا نبات لحيته بعد ما حفظ القرآن ببلده، وقرأ شيئاً من النحو، فدخل الأزهر، ولازم الحضور في الفقه على الشيخ أحمد الحمامي والمقدسي والحريري والشيخ مصطفى الطائي والشيخ عبد الرحمن العريشي حضر عليه من أول كتاب الدر المختار إلى كتاب البيوع، وتمم حضوره على الشيخ حسن الجبرتي مع الجماعة، لتوجه الشيخ عبد الرحمن المذكور لدار السلطنة لبعض المقتضيات سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف فالتمس الجماعة تكملة الكتاب على الشيخ حسن المذكور، فأجابهم لذلك والمترجم معهم، وفي أثناء ذلك قرأ المترجم مع ولد الشيخ حسن على الشيخ عبد الرحمن نور الإيضاح، بعد انصراف الجماعة عن الدرس، وذلك لعلو السند، فإن الشيخ المذكور تلقاه عن ابن المؤلف، وهو عن جد الشيخ حسن عن المؤلف، ولم يزل المترجم يدأب في الاشتغال والطلب مع(1/281)
جودة ذهنه وخلو باله وتفرغه، وتلقى الحديث سماعاً وإجازة عن كل من الشيخ حسن الجداوي والشيخ محمد الأمير والشيخ عبد الحليم الفيومي، ثلاثتهم عن الشيخ علي العدوي عن الشيخ محمد عقيله بسنده المشهور، ولما مات الشيخ إبراهيم الحريري تعين المترجم لمشيخة الحنفية، فتقلدها على امتناع منه، فاستمر إلى أن أخرج السيد عمر مكرم من مصر منفياًن وكتبوا في شأنه إلى الدولة ونسبوا إليه ما لم يحصل منه، وطلبوا الشهادة من المترجم، فامتنع فعزلوه من المشيخة، وقلدوها الشيخ حسيناً المنصوري، فلما مات أعيدت إلى المترجم، وذلك في غرة صفر سنة ألف ومائتين وثلاثين، وفي هذه السنة بنى لنفسه مقبرة يدفن فيها بعد موته بجوار الشيخ أبي جعفر الطحاوي، بالقرافة، بجانب مقام الأستاذ المرقوم، وغب ذلك تمرض وتوفي ليلة الجمعة بعد الغروب خامس عشر شهر رجب سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف، وله من المآثر حاشية على الدر المختار شرح تنوير الأبصار في أربع مجلدات، جمع فيها المواد التي على الكتاب وضم إليها غيرها رحمه الله تعالى.
الخطيب أحمد البساطي المدني
هو من رجال اللآلىء، الثمينة، في أعيان شعراء المدينة، قال مؤلفها في ترجمته: جليل قدر نبتت في عراص مجده نبعات المحامد، وفسيح مفاخر لها الوصف الكريم حامد، ولطيف شمائل تزري بلطف الشمول، وظريف خصال تهب كنسيم القبول، ظهر في الأدب باعه، وحسن فيه انطباعه، وبدت له فيه مزايا، كمنت في زوايا خبايا، كم له من قصائد باللطائف معمورة، وأزاهر كلام بقطر البداعة ممطورة، تملأ المسامع سروراً وجذلاً، وتهدي إلى القلوب طرباً متصلاً، فمنه قوله مادحاً لي:
أهدي السلام لعزيز القدر ... من ساد بالفضل أهالي العصر(1/282)
أعني ابن عبد السلام من سما ... بالعلم أسمى رتبة في الفخر
سراجنا الفاضل ذا شمس الهنا ... باهي الحيا مخجلاً للبدر
مترجم الأعيان أهل طيبة ... في تحفة الدهر ونفح الزهر
شهماً أديباً راقياً أوج العلا ... ونظمه فاق عقود الدهر
ونثره اللؤلؤ ضاء نوره ... إذا بدا كلامه في السطر
يظهر سره ومعناه لمن ... ينظر في ألفاظه بالفكر
إذا تأملت ترى في نظمه ... قولاً بديعاً وكذا في النثر
له معان واستعارات كذا ... علم بيان باهر كالسحر
وقد أجابه صاحب اللآلىء الثمينة، في أعيان شعراء المدينة، وهو الفاضل العلامة عمر بن عبد السلام المدرس الداغستاني بقوله:
بدر الدجى بان لنا في الخمر ... أم وجه من رضا به كالخمر
وهذه لآلىء قد نظمت ... أم أنها أسنان ذاك الثغر
وما أرى هل هو ورد ناضر ... أم حسن خد بالحيا محمر
وهل فتور في الجفون قد بدا ... أو الخمار أو دبيب السحر
وهي قصيدة طويلة ومن لطائف المترجم أيضاً قوله:
القلب من ألم الفراق مفرط ... والروح مني اليوم كادت تظهر
والجسم ملتهب بنيران اللظى ... والدمع من عيني دماً يتقطر
أبكي على ما حل بي من فقدكم ... والقلب مني عنكم لا يصبر
تعس الفراق وفعله يا سادتي ... قد أحرم الأعيان فيكم تنظر
لو تبصروا حالي وما قاسيته ... أو تسمعوا من بالحقيقة يخبر
لبكيتم حزناً على ما حل بي ... هذا المقدر في الجبين مسطر
يا هل ترى الرحمن يجمع شملنا ... بعد الفراق وكسر قلبي يجبر
ومن نظمه أيضاً قوله:
ناديت خلي كي يشرف موضعي ... فأجابني فوراً بغير تمنع(1/283)
وافى بقد أهيف ولي انثنى ... شبه القنا من تحت ذاك المقنع
لما أتاني زائراً قبلته ... في ثغره الحالي فزاد تولعي
وله شرعت أقول أهلاً يا رشا ... آنست صبك يا غزال الأجرع
قد كان يوماً أزهراً بوصاله ... فهو الحبيب
يسمو على الحور الحسان بطلعة ... كالشمس تطلع في سماء البرقع
فلقده يزري الغصون إذا مشى ... بتمايل ورشاقة وتصنع
أودعته للواحد الأحد الذي ... أنشاه كالبدر المنير الأسطع
طعن القلوب بسهم قوس لحاظه ... طعناً قوياً نافذاً من أضلعي
ما شاهدت عيني مليحاً مثله ... رشقاً خفيف الروح ريماً أتلعي
هام الفؤاد به ومزق مهجتي ... هم الغرام صبابة بتوجعي
لما توجه رائحاً من منزلي ... ومضى لمنزله كظبي مسرع
أصبحت محزوناً لفقد جماله ... حيران في أمري أكفكف أدمعي
سر يا رسولي للذي سكن الحشا ... أخبره أني منكو بتلعلع
رح قل له ارحم يا معنى مغرماً ... مضنى سقيماً لا يضيق ولا يعي
أعد الزيارة سيدي فلعله ... يشفى بقربك من أليم المضجع
فعساه يسمح لي بوصل عاجل ... يحيي به قلب الحزين المولع
انتهى باختصار توفي المترجم في القرن الثالث عشر.
السيد أحمد باعلوي جمل الليل المدني
السيد المفضال، المتحلي بملابس الحسن والجمال، فلا ريب أنه غيث رياض الجود، وغوث الملتجىء المنجود، والحبر المسكي الأرج، فحدث عن البحر ولا حرج، قرأ في المدينة المنورة وأخذ عن علمائها، وحضر دروس أعيانها وفضلائها، ومن أجلتهم عملاً وعلماً، وأكملهم جاهاً وقدراً(1/284)
ومعرفة وفهماً، الكبير الفاضل، والخطير الكامل، محمد بن عبد الله المغربي السجلماسي الفاسي، والعلامة الشيخ عبد الله الجوهري، والشهاب أحمد الدردير، وتصدر في المدينة المنورة لإفادة العلوم الشرعية، والفنون العقلية والنقلية، وهو من رجال اللآلىء الثمينة في أعيان شعراء المدينة، لعمر بن عبد السلام المدرس الداغستاني، وقد ترجمه فقال: سيد شريف ذو قدر منيف، ومجد ظله وريف، وفخر غيثه وكيف، وفضل كالبدر سناء، والثريا علاء، ونبل وبديهة، وفكرة عن الخلل نزيهة، فمثله من يمدح ذكاؤه، ويرقش ثناؤه، فإنه الجامع أنواع المعالي، والقاطف أزهار أغصان العوالي، والمشتغل من ابتداء الشباب، بالاستفادة والاكتساب، حتى ملك من مسائل الفقه صعابها، وكشف له الجد عن عرائس مخبآته نقابها، فأصبح بسبب تحصيله، في سائر الفنون فريد جيله، ولكم أبدى من النثار عقائل أفكار، وفرائد بدائع ما لهن ثواني، أحسن من المثالث والمثاني، ومن سماع شوادي الغواني، برقيق الأغاني، كأنها الروض المريع، والزهر البديع، وله من النظم لمع أبهى من لوامع النجوم، وأزهى من الدر المنظوم، وأسلس من الرحيق المختوم، منها قوله:
هذا العقيق وذي ربا أزهاره ... فانشق عبير خزامه وعراره
وأنخ مطيك في حماه فإنه ... حمد السرى يهنيك طيب قراره(1/285)
فاخلع ردا الترحال صاح وحل من ... عزم السفار وثيق شد إزاره
وانزل بساحة ذا الكريم ومن يزف ... بنزيله فيداره في داره
غوث الوجود وغيثه وملاذه ... إن تبد من غاب الخطوب صواره
مولى الأنام الهاشمي المصطفى ... والمعقل الأحمى لحومة جاره
والعوذ من ظمأ الزحام إذا همى ... هول الجحيم وكر كرب أواره
فاسكب دموعك في ثرى أعتابه ... وامسح خدودك في ثرى آثاره
واقصده في كل المقاصد راجياً ... وحذار أن ترجو سواه حذاره
وإذا خشيت من الحوادث ريبها ... أو خفت بث صروفه وضراره
فاجنح لناديه الرحيب وناده ... واخلص دعاك وقل تجاه مزاره
يا من له الجاه العظيم وربه ... لاشك يسعد منتمٍ لجواره
يا من إله العرش جل جلاله ... خلق الوجود ليؤذنن بفخاره
إن الكرام ومنك كل نوالهم ... يرتاح فيضهم إلى استدراره
كم جيد سؤل قد أتاك معطلاً ... حلاه جودك من عقود بحاره
نرجو بجاهك من إلهك نظرة ... في موقف العقبى وزفرة ناره
ورضا يعم الكل سيب سحابه ... والبرء من مرضى الفؤاد وعاره
انتهى مات رحمه الله ثالث ربيع الأول سنة ست عشرة ومائتين وألف.(1/286)
الشيخ أحمد الجامي المدني
هو من رجال اللآلىء الثمينة، في أعيان شعراء المدينة، قال منشئها في ترجمته رحمه الله وأحسن مثواه: الشهاب الثاقب، المبدي من قمطر قريحته للكلام أطايب، فاضل ذو فكاهة أنست ابن هاني، ونكات ثمرها الجني للمقتطف داني، وفصاحة ألانت له عصي الكلام، وبلاغة طوعت له أبي النظام، فهو من العلم والأدب في الذروة العليا، ومن طلاقة اللسان في الرتبة الأولى، حلى من كلامه أجياد الأدب بتمائم، وطوقها من إحسانه بأطواق أبهى من أطواق الحمائم، فمن نظمه الذي هو كالتبر المسبوك، والزبرجد المحكوك، قوله من ابتداء قصيدة أرسلها من الروم:
ما لذ لي بعدكم يا عرب ذي سلم ... ربع ومن بعدكم جفني القريح دمي
وما جرى ذكر ذياك العقيق وما ... والاه إلا جرى مني عقيق دمي
ولا جرت نسمات من دياركم ... إلا أهاجت بقلبي لاعج الألم
أستودع الله أحباباً ألفت بهم ... حيا الحيا وسقا سفحاً بسلعهم
أبناء فضل وآداب وليس سوى ... رضيع ثدي العلا والحلم والحكم
لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم ... بالروح يفدونه والمال والحشم
يا ليت شعري هل الأقدار تسعفني ... يوماً وأحظى برؤياهم ووصلهم
لا در در الصفا لا ذر شارقه ... ولا همى برباه سافح الديم(1/287)
إن لم يكن معهم والشمل منتظم ... بقاع تلك البقاع الفيح والأكم
يا حادي العيس قم عني بواجبهم ... إذا نزلت بواديهم وربعهم
وقل لهم بعد إبلاغ التحية من ... مملوكهم وفدا أعتاب نعلهم
قربان قربانكم والمنحنى وقبا ... وجرفكم والنقا والبان والعلم
لهفي على نسمة من جزع عالية ... وظل ذاك الظليل البارد الشبم
لفي على أطفي بها لهبي ... من عين زرقائكم في الدورق الحرمي
مع ما حوته النخيل الباسقات وما ... من النعيم بذاك الجمع والنعم
لهفي على الروضة الفيحا ومنبرها ... ووقفة بمصلى سيد الأمم
لهفي على تلكم الآثار قاطبة ... وما حوته من الأوصاف والشيم
لهفي عليكم وناديكم وتربكمو ... وحادي الظعن والألحان والنغم
ما آن أن تنشلوا هذا الغريق أما ... آن التواصل يا جيران ذي سلم
ما آن باسادتي أن تشفقوا كرماً ... على الغريب الذي عنه الزمان عمي
الله في مهجة من فقدكم تلفت ... تداركوا رمقي يا ساكني أضم
فإنني مذ توارت شمس طلعتكم ... في الحجب أمسيت ذا لحم على وضم
وله وكتب بها على سفينة أشعار لصاحب اللآلىء الثمينة:
لما نظرت إلى سفينتك النفي ... سة يا سراج وذقت حلو جناها
ورأيت فيها كل معنى يشتهي ... والفكر في بلهاتها قد تاها
حوطت خردها الحسان بما أتى ... بتبارك الفرقان ثم بطه
لاسيما لما طلبت بفاقة ... ماء العذيب ولاح لي بلماها(1/288)
وجبرن خاطري الكسير وقلن لي ... لنولينك قبلة ترضاها
ثم انثنيت وقلت سبحان الذي ... في نيل مصر الحسن قد أجراها
لا زلت يا سحبان وائل عصرنا ... بك بين أبناء العلا نتباهى
وله مخمساً بيتي مجير الدين الخياط
قل للذي فتكت أسنة هدبه ... في قلب عاشقه ومهجة صبه
كم ذا تروع آمناً في سربه ... يا محرقاً بالنار خد محبه
مهلاً فإن مدامعي تطفيه
فبمن حباك سهام لحظ جارح ... لا توقدن النار بين جوانحي
فإذا أبيت وكنت غير مسامحي ... أحرق بها جسدي وكل جوارحي
واحذر على قلبي لإنك فيه
توفي المترجم بعد الألف والمائتين رحمه الله تعالى.
أحمد بن محمد الأنصاري اليمني الشرواني
إمام فضل قد استوى على كرة الفضائل، وهمام قول وفعل قد احتوى على نخبة الشمائل، وفريد علم قد تحلى بالمجد والمكارم، وحبر فهم قد اعترف له السادة الأكارم، طلع في أفق الكمال بدره، وسما في سماء الجمال قدره، له نباهة تود النجوم الثوابت نيل علاها، وطلعة محيا يتمنى البدر الوصول إلى سناها، وأوصاف قد ترقت إلى أوج الشرف، وكلمات كاللآلىء متجردة عن الصدف، نثره كأنه الزهر اليانع، ونظمه كأنه أقراط المسامع، فمن قوله مكاتباً الشيخ الأديب العلامة عبد الله بن عثمان بن جامع الحنبلي رحمهما الله تعالى:
أعندك ما عندي من الشوق والوجد ... وهل أنت باق في المحبة والعهد
كابد أشجاناً توقد نارها ... بقلبي المعنى من بعادك والصد(1/289)
وصدك عن مضناك داء دواؤه ... تدنيك من بعد القطيعة والبعد
فحتام تجفو من إليك اشتياقه ... تضاعف يا نجم المحاسن والسعد
وحقك لولا أن مأواك في الحشا ... لأحرقه الشوق المبرح بالوقد
وإني وإن أخفيت ما بي من الأسى ... عن الناس لا يخفاك يا منتهى القصد
أيخفى غرامي وارتماضي بذا الهوى ... عليك وأشعاري تبين ما عندي
فعطفاً لمن لا يستلذ بعيشه ... لبعدك وارحم من تضعضع للود
وها أنا ذاك اللوذعي ومن له ... مكارم أخلاق تفوق عن الحد
وعمدة أرباب البلاغة والحجا ... وواحد هذا العصر أكرم بذا الفرد
وقدوة أعيان الحديدة من زها ... به اليمن الميمون فخر بني المجد
فإني هجرت الذ عرفت مكانه ... الرفيع وعنه ملت يا عاذل العد
دع الصد واسلك في المودة والوفا ... سلوك ابن ذي النورين ذي الفضل والرشد
هو الشهم عبد الله نخبة قادة ... بهم عرف المعروف حجتنا المهدي
خلاصة أهل الجود لله دره ... فمن مثله في العلم والحلم والرفد
كريم إذا استمطرت يوماً أكفه ... همت باللهى من دون برق ولا رعد
عليه رضى الرحمن ما قال شيق ... أعندك ما عندي من الشوق والوجد
وقال مكاتباً السيد الفاضل والعالم العامل يوسف بن إبراهيم الأمير الكوكباني:
تذكرت من حالت عن الود والعهد ... ففاضت دموع العين شوقاً على خدي
خليلي مرا بالتي من بعادها ... أقضي الليالي بالتفكر والسهد
وقولا لها طال اجتنابك عن فتى ... غدا بك صبا لا يعيد ولا يبدي
فجودي بما يشفيه من ألم الهوى ... وينجو به من قادح الشوق والوجد(1/290)
عسى ترحمي الصب المعنى بزورة ... يفوز بها بعد القطيعة والبعد
رعى الله أياماً تقضت بقربها ... وليلات أفراح مضت في ربا نجد
بها كنت في روض الرفاهة مارحاً ... فولت وآلت لا تعود إلى عهدي
نعم هكذا الأيام تمضي وعودها ... محال فما لي لا أميل إلى الزهد
وحسبك يا قلبي حبيب موافق ... أمين وفي لا يخونك في الود
كمثل أخي المجد المؤثل يوسف ... أمير المعالي كوكب الفضل والرشد
شريف عفيف كامل ومهذب ... مناقبه جلت عن الحصر والحد
به أشرقت شمس المعارف والهدى ... على فلك العلياء مذ كان في المهد
جدير بأن يسمو على كل فاضل ... حري بذا المدح المنظم كالعقد
فلا زلت بالعلم المكرم هادياً ... لأهل التقى والفضل يا خير من يهدي
بحرمة خير الخلق طه وآله ... وأصحابه أهل المكارم والمجد
وقال مجاوباً عبد الله بن عثمان بن جامع أيضاً بقوله:
أيا من قد حوى كرم الطباع ... ومن هو للطائف خير واعي
وكنز جواهر الآداب حقاً ... وجامعها المفيد بلا نزاع
أتاني منك مرقوم عزيز ... بديع النظم يقصر عنه باعي
يذكرني به ما منه أضحى ... فؤادي في اشتعال والتياع
أتحسب يابن ذي النورين أني ... هممت بفرقة بعد اجتماع
فلا وعظيم جاهك لم يكن لي ... مرام في نوى أو في انقطاع
ولكني ابتليت بمعضلات ... غدا في حلها يجري يراعي
ومنها كنت مضطرباً لأني ... رأيت بها الفؤاد على ارتياع
فذلل لي المهيمن كل صعب ... بها والله راحم كل داعي
ولولاها أجل بني المعاني ... وأحمدهم لما كان اندفاعي
ومثلك لا يمل وأنت مغني اللبيب ... ومؤنسي في ذي البقاع
فظن بذي الوداد المحض خيراً ... ودم واسلم بعز وارتفاع(1/291)
وقال رحمه الله مادحاً العلامة المولوي إله داد الساكن في كلكته:
ذكر الحمى ومرابع الأخدان ... أجرى دموع مكابد الأحزان
وغدا به قلقاً شميط الدار لا ... ينفك من شوق إلى الأوطان
طوراً يئن وتارة يبكي على ... زمن الصبا الماضي على نعان
يهتز من طرب إذا ما غردت ... قمرية سحراً على الأغصان
وينوح شوقاً للذين فراقهم ... جلب الهموم لقلبه الولهان
ما واصلت في البعد عيناه الكرى ... إلا السهاد وأدمع الأشجان
روحي فداكم فاسمحوا يا سادتي ... بوصالكم للهائم الحيران
حتام هذا الهجر منكم والجفا ... وإلى متى أبكي بدمع قان
وحياتكم لولاكم ما شفني ... وجد ولا حل الهوى بجناني
بلغ نسيم الصبح إن جئت الحمى ... عني سلاماً عصبة الإيمان
واشرح لهم حال الكئيب وقل لهم ... منوا عليه بنظرة وتدان
أين المسيح لكي يعالج قلبه ... ذاك الكليم بصارم الهجران
ووصالكم هو في الحقيقة مرهم ... لفؤاده ومسرة للعاني
فعسى تلين قلوبهم لمتيم ... صرفته قسوتها عن الخلان
ويفوز بعد البعد من ألطافهم ... بدنوهم في أجمل الأحيان
مالي سواكم يا كرام وأنتم ... من كل خوف معقلي وأماني
أولاكم الرحمن عزاً مثلما ... أولى العلا للعالم الرباني
اللوذعي إله دادا المقتدى ... نجل الكرام ونخبة الأعيان
لقمان هذا الدهر أفلاطونه ... في كل علم فائق الأقران
بحر الفضائل والندى من فخره ... ضاهى السها قدراً عظيم الشان
ريحانة الآداب هذا طيبه ... يغنيك عن روح وعن ريحان(1/292)
قد حزت يا كنز العلوم جواهر المعقول ... والمنقول والقرآن
طوبى لشخص يقتني منك الهنا ... فليفخرن على ذوي العرفان
لولاك ما عرف البديع ولا بدت ... شمس المعاني في سماء بيان
جل الذي أولاك فضلاً شائعاً ... في هذه الأصقاع والبلدان
فاسلم وعش ما هز مضنى هائماً ... ذكر الحمى ومرابع الأخدان
وقال رحمه الله:
أخا اللوم لا يقضي بلومك لي أمر ... فدع لائمي ما عنه في مسمعي وقر
ودعني وما ألقى من الحب فالهوى ... أرى فيه عسراً يرتجي بعده اليسر
وإني وإن شحت سعاد بوصلها ... صبور ولي فيما أكابده أجر
فما الصب إلا من يعاني شدايد المحب ... ة لا من قال أسقمني الهجر
وما الحر إلا من يرى الكرب راحة ... إذا ما رمي بالذل أو خانه الدهر
تغربت عن قوم إذا ما ذكرتهم ... أسلت دموعاً لا يماثلها القطر
ولكنني أخفي الصبابة والأسى ... وأبدي ابتساماً حيث يجري لهم ذكر
وهم سادتي لا فرق الله جمعهم ... ومن نحوهم تعزى المكارم والفخر
متى تنطفي نار بقلبي من الجوى ... وترجع أيام بها يشرح الصدر
ألا لا أرى في البعد للعيش لذة ... وكيف يلذ العيش من شفه الفكر
رضيتم بهجري وارتماضي بحبكم ... وسركم ما منه مسني الضر
سلام عليكم ما رضيتم به هو ال ... مرام ومثلي لا يخون به الصبر
وإني لصبار على كل شدة ... رضاكم بها والصبر يتبعه النصر
وعهدكم عندي مصون وشيمتي الوف ... اء وحبي لا يخالطه العذر
على كل حال أنتم القصد والمنى ... وأنتم ملاذ العبد والغوث والذخر(1/293)
وله رحمه الله:
أراك صددت عن الصب ظلماً ... أيا عادل القد رفقاً ورحما
تركت فؤادي يذوب اشتياقاً ... وصيرتني أسهر الليل هما
أما منك لي رحمة والتفات ... فقد عيل صبري لما بي ألما
ولولاك ما سلسل الشوق دمعي ... ولا قلت في الحب نثراً ونظما
أيا عاذلي أقصر اللوم إني ... أراك ارتكبت بذا اللوم جرما
فما نال من لام في الحب مضنى ... كمثلي من رحمة الله قسما
وماذا دليلك في اللوم قل لي ... فإن الهوى مذهب لن يذما
أراك تبالغ في لوم صب ... أحاط بفن الهوى المحض علما
عدمتك إني راض بما قد ... براني فدعني إما وإما
خليلي ما لي وللدهر أضحى ... يروم انخفاضاً لقدري وهضما
ألم يدر أني شهاب المعالي ... لعمري منكر ذا القول أعمى
خليلي هل يسعد الدهر يوماً ... على ما به يهلك الضد غما
وإني لذاك الهزبر الجسور ... الهمام الذي قد سما الشمس عظما
فما للأعادي يرومون ذل ... العزيز المبجل جاهاً واسما
أغرهم مني الحلم تباً ... لآرائهم لم يكن ذاك حلما
ولكنه يا خليلي مني ... دهاء به رمت كشف المعمى
أنا ابن الكمال ورب الفخار ... فلا غرو إن فقت عرباً وعجما
مقامي جليل ومجدي أثيل ... وفرعي إلى محتد الجود ينمى
وله عفي عنه:
أيحسن منك هجر الصب ظلماً ... وإعراض يزيد القلب سقما
وفيك نثرت من دمعي جماناً ... بقرطاس الخدود فصار نظما(1/294)
أمحبوبي دع الهجران إني ... أكابد فيه آلاماً وهما
وجد بالوصل بعد الفصل يا من ... سلومت بحبه دعداً وسلمى
بطلعتك المضيئة خل هجري ... جعلت فداك موج الشوق طما
وفي قلبي من الأشواق نار ... فكيف خمود نار الشوق مهما
أعيذك بالمهيمن من عذابي ... ومن مقت بها قد حرت وهما
ترفق بي مليك الحسن وانظر ... بعين اللطف نحو العبد رحما
فقد زاد الغرام اللذ براني ... وقل الصبر مما بي ألما
أراك وأنت ذو خلق كريم ... جفوت فتى إلى الأنصار ينمى
أنا ابن محمد من فاق فخراً ... على الأقران بل عرباً وعجما
وها أنا ذا كسبت الفخر منه ... وفقت نظائري رأياً وفهما
وإني اليوم أشعر من زهير ... وفي الآداب أكثر منه علما
فدع ما قيل في اليمني جهلاً ... أينظر لمعة المصباح أعمى
وفي كلكتة جهلوا مقامي ... مجاهيل فهل حقرت إسما
أضاعوني ولكن لا أبالي ... بذي جهل ولا قد خفت مما
تنح عن العذول ضياء عيني ... فقربك منه يوجب فيك ذما(1/295)
وعجل بالوصال فإن وجدي ... تضاعف والجوى يزداد حدما
معاني ما تضمنه بياني ... لها شرح لطيف فاحتفظ ما
ودم في نعمة ونعيم عيش ... ومنزلة تضاهي الشمس عظما
وله غفر الله ذنوبه:
جفا من لست أذكره براني ... وهيج لي غراماً في جناني
وحال عن الوداد ولم أحل عن ... مودته وظلماً قد جفاني
أيحسن منك يا مولاي هجري ... بلا ذنب وتعلم ما أعاني
دع الإعراض وارحم حال صب ... لبانته الزيارة والتداني
ورشف رضاب ثغرك واعتناق ... أنال به المسرة والأماني
وحسبك ما بليت به فإني ... وعزك ذي المحاسن في هواني
أراك نسيتني وسلوت ودي ... وأوجبت التجافي عن مكاني
فأين العهد والود المصفى ... وذاك الوصل في ذاك الزمان
أعد نظراً إلي فإن قلبي ... لعمرك إن أطلت الهجر فاني
سألتك بالهوى العذري أن لا ... تضن بما يسر به جناني
فها وجدي تضاعف منه كربي ... وصيرني حديثاً في المغاني
جعلت فداك فاسمح بالتلاقي ... ولا تجعل جوابي لن تراني
وعش في نعمة وعلو جاه ... بطه الطهر والسبع المثاني
وله لطف الله به:
النفس كادت أن تذوب من الجوى ... فإلى متى هذا التفرق والنوى
يا متلفي بالبعد عنه وقاتلي ... بالصد رفقاً بي فقد آن التوى
عجل بوصل موصل لي صحة ... أشفي بها سقم الفؤاد من الهوى
وارحم فما للصب صبر ممرضي ... من بعد هذا اليوم يا نعم الدوا(1/296)
وله عفي عنه:
قلم الولاء جرى بنور سوادي ... لذوي الفخار السادة الأمجاد
فبدت به كلمات مقول شاعر ... يسمو بها شعراء كل بلاد
أهل الكسا ما رمت غير جنابكم ... وودادكم فارعوا عظيم ودادي
أهل الكسا ما حلت عن منهاجكم ... وبكم أنال الفوز يوم معادي
أهل الكسا إني أسير هواكم ... وبه وجاهكم حصول مرادي
أهل الكسا أنا لا أميل وحقكم ... عنكم بلوم ذوي قلى وفساد
أهل الكسا من لامني في حبكم ... يصلى غداً ناراً مع ابن زياد
هو ذاك من آذى النبي بسوء ما ... أبداه بغضاً في أبي السجاد
ومع الذين لهم فضائح جمة ... وقلوبهم ملئت من الأحقاد
أهل الكسا إني ابتليت بعصبة ... كرهت سماع حديثكم في نادي
وإذا ذكرت مناقباً ظهرت لكم ... في محفل أعزى إلى الإلحاد
أهل الكسا طوبى لمن والاكم ... يا سادتي تعساً لكل معادي
أهل الكسا زعم الروافض أنني ... منهم وأني تابع الأوغاد
كذبوا فما أنا سالك بطريقهم ... ومحبة الأصحاب عين رشاد
ومحبة الأصحاب لا تنفي الولا ... لكم ورافضها حليف عناد
أهل الكسا جحد النواصب فضلكم ... والفضل كالشمس المنيرة بادي
ومرامهم أني أوافقهم على ... لمز لهم جلت عن التعداد
إني أحول عن الصلاح وأبتغي ... طرق الفساد ومسلك الأضداد
والله لست براغب عما به ... يرضى الإله وسيد الأمجاد
وله لطف الله به:
إن أردت الفوز بالأمل ... لذ بطه سيد الرسل
وبقوم صاح ودهم ... جاء فيه النص وهو جلي(1/297)
أهل فضل خاب منكرهم ... دع ولاة الجهل والخطل
والتزم بالصحب من نصروا ... دين أصفى الأصفيا فسل
هم نجوم للهدى ولهم ... خير مدحٍ في الكتاب ملي
أفضل الأصحاب أولهم ... خدنه في الغار خير ولي
بعده الفاروق صاحبه ... من سما بالعلم والعمل
ثم ذو النورين ثالثهم ... جامع القرآن ثم علي
فارس الهيجا أبو حسن ... نجل عم المصطفى البطل
حبهم فرض وبغضهم ... موجب الإيقاع في الزلل
ضل من بالرفض ملتزماً ... داحضاً للحق بالجدل
كيف من ذم الصحاب يرى ... أنه في أقوم السبل
ذر حبيبي عصبة رفضت ... سنة المختار لا تمل
هم طغاة لا خلاق لهم ... قبحوا في سائر الملل
رب فارحم من نجا وحمى ... من شرور الغي والخبل
بالبشير الطهر سيدنا ... خير هادٍ خاتم الرسل
وله رحمه الله تعالى:
أثار هواك ناراً في فؤادي ... وحرك لي غراماً غير بادي
فها أنا يا صبيح الوجه مضنى ... وجفني قد جفا طيب الرقاد
وبي ما لا أطيق له اصطبارا ... من الشوق العظيم ومن ودادي
فجد بالله للصب المعنى ... بوصل منك فضلاً يا مرادي
وعجل بالجواب لمستهام ... ودم في لطف رزاق العباد
ذكر المترجم المرقوم في كتابه نفحة اليمن أنه كان سنة ألف ومائتين واثنتين وعشرين في الهند في كلكته ولم أقف على سنة وفاته رحمه الله تعالى.(1/298)
الشيخ أحمد سعيد بن الشاه أبي سعيد بن الشيخ صفي القدر ابن الشيخ عزيز القدر بن الشيخ محمد عيسى بن الشيخ معصوم بن الإمام الرباني مجدد الألف الثاني الشيخ أحمد الفاروقي السهرندي
درة إكليل الأولياء، وغرة جبين الأصفياء، وجامع فرقان المحامد، ومرشد المسامع إلى قبول المقاصد، فهو القائم بكل مطلوب، والرائم لكل مرغوب، والناهج نهج أصله، والمقتدى به بقوله وفعله، من تشرف العصر بوجوده، وابتسم ثغر الدهر لطالع سعوده، فكان من أكمل أهل الدلالة إلى مقاصد السعادة، ومن أرشد ذوي الارتقا إلى مراتب السيادة، فهو القطب المفرد، والعلم الأوحد.
ولد هذا الهمام الأكمل، في غرة ربيع الأول سنة سبع عشرة ومائتين وألف، وكان مرموقاً بعين العنياة واللطف، وكانت ولادته في بلدة ريبور، ذات الأمر المشهور، وتربى من أول يوم في مهد والده المعلوم، وارتضع منه ثدي المعارف والعلوم، وتخرج على يد العلامة الأوحد، والفهامة الأمجد، فهامة زمانه، وعلامة أوانه، المولوي فضل الإمام عليه رحمة الملك السلام، والعلامة الشيخ سراج الدين المفتي إمام المعقول والمنقول، وعمدة ذوي المعارف في القواعد والأصول، وعلى يد غيرهما من السادة الأفاضل، والقادة ذوي الفضائل، وتلقى فن الحديث الشريف، ذي القدر المصون المنيف، بفروعه وأصوله، ومعقوله ومنقوله، مع سماع الكتب الستة وغيرها، عن عمدة علماء تلك البلاد وذوي قدرها، من أجلهم مشايخ والده بروايتهم لها عن والدهم الشيخ ولي الله عن الشيخ العلامة، والبحر الفهامة، الشيخ أبي طاهر محمد المدني، عن والده عين الأفاضل، وكنز الفضائل، الشيخ إبراهيم الكردي، عن الشيخ علم الأعلام، ونخبة السادة العظام،(1/299)
أحمد القشاشي، عن الشيخ المشهور، من هو بكل فضيلة مذكور، أحمد الشناوي، عن شمس الدين وشيخ الإسلام والمسلمين، السيد الكبير، والشافعي الصغير، العلامة الإمام الهمام الرملي، بسنده المذكور في ثبته المشهور، ثم أخذ علم التصوف عن قطب الإرشاد، ومنهج الصواب والسداد، من ساد به عصره، وافتخر به على سائر الأمصار مصره، السيد الأستاذ والعمدة النخبة الملاذ، الشيخ عبد الله الدهلوي، قدس الله روحه، ونور مرقده وضريحه. وتلقن عن والده ذي الشمائل العلية، والفضائل السنية، الطريقة النقشبندية، وذلك في حضور المرشد الكامل الشيخ عبد الله الدهلوي المذكور، فالتفت إليه وألقى أكبر نظره العالي عليه، وجعل يقربه ويجلسه في حلقة الذكر منذ كان سنة عشر سنين، ويقول هو بمنزلة ولدي، ولم يزل يلحظه بأنفاسه الرحمانية، ويحفظه بهمته المحمدية، حتى بلغ مبلغ الكمال ونال درجة الفحول من الرجال، فأذن له بالإرشاد، وخلفه خلافة عامة وأثنى عليه وأدرجه في زمرة كبار أصحابه الأمجاد، فقال قدس الله سره في حقه: أحمد بن سعيد قد قارب والده بحفظ القرآن المجيد وتحصيل العلوم العقلية والنقلية وتحصيل النسبة المجددية العلية. وقال في شأنه: أبو سعيد أسعده الله، وأحمد سعيد جعله الله محموداً، ورؤوف أحمد رأف الله به، وبشارة الله بشره الله بقبوله سلم الله هؤلاء الأربعة الأكابر، المرتبطين بالمودة التي هي أحسن من ارتباط الغرابعة وبارك فيهم وجعلهم سبباً لترويج الطريقة وكثر أمثالهم. ثم لما أن دعا حضرة الشيخ عبد الله المذكور والد المترجم إلى دهلي أمر المترجم أن يخلفه مكانه في رامبور فلما توفي والده قدس الله سره قام مقام الحضرتين وأرشد الله به عدداً لا يحصى من الفريقين، لاسيما في اضلاع الهند وغزنين، وكل منهم حصل من حضرته بقدر استعداده، وله خلفاء كثيرة(1/300)
نفع الله بهم العباد، وأحيا ببركتهم أكثر البلاد، ولما ظهر في بلاد الهند ما ظهر من الفساد، خرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ومعه أخوه الشيخ عبد الغني والشيخ عبد المغني واستوطنوا المدينة المنورة، وذلك سنة أربع وسبعين ومائتين وألف واشتغل بالطريقة العلية كل الاشتغال، ونال أعلى مقامات القبول والإقبال، ثم توفي في تلك الأماكن الطيبة ثاني ربيع الأول عام سبعة وسبعين ومائتين وألف، ودفن في البقيع عند ضريح أمير المؤمنين سيدنا عثمان رضي الله عنه في مشهد عظيم كاد أنه لم يتخلف عنه أحد، وقد قيل في تاريخه عاش سعيداً مات شهيداً وممن أراخ وفاته العالم الجليل الإفادة الشيخ عبد الجليل برادة: فقال:
قضى قطب الأقطاب الشهير بأحمد ... سعيد إمام العلم والحلم والهدى
منار الطريق النقشبندية التي ... لها جده في الألف أضحى مجددا
ومذ حل في ذا القبر ناديت أرخوا ... سعيداً شهيداً في جنان مخلدا
وقال غيره:
هو البدر فاغبر وجه الوجود ... وأينع بالزهر روض اللحود
وقطب الهدى مذ قضى أرخوا ... لأحمد تهدى جنان الخلود
أحمد أبو العباس بن محمد التجاني المغربي شيخ الطريقة التجانية
لقد ترجمه سيدي محمد العربي العمري في كتابه المسمى ببغية المستفيد لشرح منية المريد فقال: وإن ممن أحله الله تعالى من المقامات أعالي ذراها، وحلاه من هذه الكرامات بواضح سناها، شيخنا وأستاذنا العارف الرباني والوارث المحقق الفرداني، والقطب الجامع الصمداني، أبا العباس مولانا أحمد بن مولانا محمد التجاني رضي الله عنه وأرضاه ومتعنا وسائر الأحبة برضاه، فلقد صار رضي الله عنه في ذلك كله العلم المفرد بين الأكابر(1/301)
واستحق النداء بالرفع في سائر الحضرات والمظاهر، وانتهت إليه دون العصابة رياسة هذا الشان، وخفقت عليه أمام الجماعة ألوية النصر في هذا الميدان، وأظهر من كنوز الشريعة المطهرة إبريزها الخالص، وأبرز من بحار الحقيقة خصائص الفرائد وفرائد الخصائص، وجاء في أساليب الدلالة على الله تعالى بما لم يسبق إليه، وأتى في مسالك التربية والترقية بما لم يعرج أحد عليه، لبلوغه رضي الله عنه أقصى درجات الكمال في الجمع بين العلم والحال والهمة والمقال، فأسست طريقته على تقوى من الله ورضوان، وشيدت من العلمين الظاهر والباطن على أقوم القواعد وأقوى الأركان، وأيدت من أنوار الهمة وأسرار العناية بأوضح دليل وبرهان، فعم النفع بها في سائر الأقطار وشاسع الأصقاع والبلدان، واختص وروده المحمدي اللفظ والترتيب، الأحمدي السر والتركيب، بتحقيق السير في مقامات الدين الثلاثة وسائر منازلها على الأسلوب الغريب والمنهج العجيب، كما يتبينه المنصف الذي كحلت عينه بإثمد الأنوار الإيمانية، بالوقوف عليه مبسوطاً في كتاب ميزاب الرحمة الربانية، ويتحققه السالك المحافظ على هذا العهد في السر والعلانية، من طريق الذوق التام بالمشاهدة العيانية، فلا جرم أن الله تعالى أحيا به مراسم السنة بعد اندثارها، وأوضح معالم الطريقة بعد خفاء آثارها، وأطلع به شمس الحقيقة بعد أفولها، واستتارها، ولله در العلامة المحقق شيخ مشايخ العلوم النقليات والعقليات المبرز على أهل زمانه في تحقيق الكليات منها والجزئيات، أبي زيد سيدي عبد الرحمن بن أحمد الشنجيطي المتوفى بفاس العليا في شوال سنة أربع وعشرين ومائتين وألف حيث قال فيما نسجه في مدح سيدنا رضي الله عنه على أبدع منوال وأعجب مثال:
أحيا طريقة أهل الله فهي به ... مؤلف شملها والكسر مجبور
شيخ المشايخ من في طي بردته ... جيب على النور والإسرار مزرور(1/302)
من داره جنة الفردوس وهو بها ... رضوان خازنها أذكارها الحور
يفيض من سلسبيل الذكر كوثرها ... فاشرب مفجرها فأنت مأجور
أوراده عن رسول الله قد رويت ... كذاك أفعاله والسر ماثور
فانقل فديتك في آثاره قدماً ... فإن فعلت فذاك النقل مدخور
واحرص بأن تنتمي يوماً لجانبه ... فحظ من ينتمي إليه موفور
أقول ولفظ التجاني بكسر المثناة مشددة وبالجيم المشددة أيضاً وقد تخفف كذا ضبطه بعضهم ولد المترجم رضي الله عنه عام خمسين ومائة وألف ومات رضي الله عنه عام ثلاثين ومائتين وألف فيكون قد عاش ثمانين سنة. وكانت وفاته صبيحة يوم الخميس السابع عشر من شوال بعد أن أدى فريضة الصبح على حالة الكمال ثم اضطجع على جنبه الأيمن رضي الله عنه، ودعا بماءٍ فشرب منه ثم عاد إلى اضطجاعه على حالته فطلعت روحه الكريمة من ساعته وصعدت إلى مقرها الأقدس، ولحقت بسربها من محضرها الأنفس، وحضر جنازته المباركة ما لا يكاد يحصى من علماء فاس وصلحائها وفضلائها وأعيانها وأمرائها، وصلى عليه إماماً علامتها الأوحد ومفتيها الماهر الخريت الأمجد، الفقيه النحرير المشهود له بالتحقيق والتحرير، أبو عبد الله سيدي محمد بن إبراهيم الدكالي نسبة إلى الإمام التونسي الشهير وازدحم الناس على حمل نعشه المبارك الميمون، وكسروه بإثر دفنه أعواداً صغاراً ادخروها للتبرك بما(1/303)
حمل فيه من السر والمصون! ودفن بزاويته التي بفاس وعلى قبره الشريف هيبة وجلالة وجمال وإيناس. رحمه الله تعالى.
الشيخ أحمد أبو العباس الطواش المغربي المالكي نزيل تازه
الولي الصالح والمرشد الناجح، عمدة الكمال ونخبة ذوي النوال، من خصه الله بالقبول، ونهج به مناهج أهل الوصول، وتسلك عليه الجم الغفير ومنهم الهمام الشيخ أحمد التجاني الشهير، فحصل به النفع العام، واشتهر اشتهار البدر بين الأنام، وقصده الناس من كل جانب، ولهج الناس بذكره في المشارق والمغارب، وكان ذا علم وعمل، لا يعرف في عبادته السآمة ولا الملل، بل في كل يوم يزداد سمواً ورفعة في المقامات وعلواًن وكانت وفاة هذا السيد بتازه ليلة الثامن عشر من جمادى الأولى سنة أربع ومائتين وألف، وقبره هناك ظاهر مشهور عليه هيبة وجلالة ونور.
السيد أحمد بن السيد محي الدين بن السيد مصطفى ابن السيد محمد المغربي الجزائري
همام تردد من شبيبته بين دراسة معارف وإفاضة عوارف، وإمام تروى من أيام تربيته بلطائف الطرائف وطرائف اللطائف، وكلف بالعلوم من صغره حتى صارت منهج لسانه، واعترف له المنطوق والمفهوم بأنه روضة بيانه، من أسرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ذات حسب ونسب وفضل وارتقاء، مع لسن وفصاحة وكرم نفس وسماحة، ونظم يزري بالدر النظيم، ونثر تسمو رقته على رقة النسيم، وإنشاءات أحلى من المن وأعذب،(1/304)
ومحاضرات أولى من صباح الصباح وأطرب، ولد في شعبان سنة ألف ومائتين وتسع وأربعين في إقليم الجزائر، ثم حفظ القرآن العظيم وجوده على أحد القراء الأكابر، ثم حفظ المتون من عدة علوم وفنون، ثم حضر دروس الأفاضل ذوي المعارف والفضائل، فقرأ ما كفاه من توحيد وفقه وحديث وتفسير، ثم اشتغل بعد ذلك في الإفادة مع التدقيق والتحرير وكانت لا ترضى نفسه المطمئنة أن يعرج في عباداته على غير الكتاب والسنة فهما إمامه في أحكامه، ورأس ماله في مجاوبته وكلامه، وله رسالة على قول الإمام علي العلم نقطة كثرها الجاهلون ورسالة في السماع سماها الجنى المستطاب، وهي في الرد على من ادعى أن سماع المعازف يحرك القلب لرب الأرباب، وله شرح على الأبيات التي أولها:
فأثبت في مستنقع الموت رجله
وله تاريخ جميل أرخ فيه إمارة أخيه الأمير عبد القادر على إقليم الجزائر، وله كتابات من نظم ونثر يصعب وضعها في قالب الحصر، توفي رحمه الله سنة ألف وثلاثمائة وعشرين في بيته في باب السريجة في دمشق الشام.
الشيخ أحمد الدمهوجي الأزهري الشافعي الأشعري
الفاضل الجهبذ الهمام، والعاقل العالم الإمام، من استوى على عرش العلوم، وثوى على مهاد المنطوق منها والمفهوم، فهو الفرد الكامل المستجمع لفرائد الفضائل، قد حضر دروس علماء عصره، وفاق حتى انفرد في مصره، وشهد له العموم بأنه بكمال الفضل موسوم، وأذن له شيوخه ذوو المقام المنيف بالتدريس والإفتاء والتأليف، وانتشر في الأقطار ذكره وسما في الأمصار قدره، ولم تزل سيرته حسنى إلى أن دعي إلى المحل الأسنى، وذلك في رمضان سنة ألف ومائتين وست وأربعين.(1/305)
الشيخ أحمد السباعي الأزهري المالكي الدردير
العلامة الوحيد والفهامة الفريد، عمدة الأكابر ونخبة الأفاضل كابراً عن كابر، قد حضر في الأزهر الشريف مجالس الأعاظم، وفاق في الأدب كل ناثر وناظم، واعترف له كل عارف بأنه مورد المعارف والعوارف، ولا ريب أنه جمع بين المعقول والمنقول، وبرع في تحقيق الفروع والأصول، وتمسك لدينه بالسبب الأقوى، وأحسن بالله ظنه في السر والنجوى، وأقبل الناس عليه أفواجاً، واتخذوه لوصولهم سبيلاً ومنهاجاً، واعترف الجل بل الكل له بكمال فضله، وسمو حسبه وأصله، ولما دعاه مولاه إليه لبى دعوته وأقبل عليه، وذلك في حدود سنة ألف ومائتين وأربعين.
أحمد بن محسن المكين الزبيدي
همام فضله مشهور، وإمام تجرد مقامه عن القصور، قد اشتهر بالفضل والعلم، وعرف بدقة الإدراك والفهم، وكان له يد في الأدب تسمو به أعلى الرتب، قال أحمد بن محمد الشهير بالشرواني في كتابه نفحة اليمن: دخلت زبيد عام أربع وعشرين بعد المائتين والألف من الهجرة النبوية، فحللت بدار الصاحب الأريب عبد الكريم بن الحسين العتمي، وأقمت عنده يوماً في منزله ثم خرجت بعد صلاة المغرب متوجهاً إلى الحديدة، فورد إلي كتاب بعد وصولي إليها بيومين من السيد المترجم أحمد بن محسن المكين الزبيدي، يتضمن عتاباً لعدولي عن الحلول بمنزله إلى منزل الشيخ عبد الكريم العتمي، فمن جملة ما ذكر في كتابه هذه الأبيات وهي مرقومة في ديوانه:
كيف لم ترضني لودك أهلا ... ولغيري رضيت أهلاً ونزلا
أجرى من أسير ودك ذنب ... موجب للعدول عني مهلا(1/306)
أم توخيت أن غيري أولى ... لقديم الوداد حاشا وكلا
كنت أرضى بأن تشرف قدري ... بعبور بقدر أهلاً وسهلا
فقليل منكم كثير ولكن ... فات ما فات وانقضى وتولى
فمن الفضل أن تعود وإن ... تجير ما كان يا أعز الأخلا
ومن لطائفه رحمه الله ما كتبه إلى القاضي العلامة محمد بن أحمد مشحم رحمه الله تعالى
مضى الدهر والشوق المبرح لم يزل ... يحث ولم أبلغ مناي ولا قصدي
ومرت دهور في لعل وفي عسى ... ولم تنتج الأقدار من ذاك ما يجدي
فهل حيلة للوصل يا غاية المنى ... تبلغ ما أهوى وتنجز لي وعدي
فإن تعلموا من ذاك شيئاً فأرشدوا ... فإني مستفت لعلمك مستهدي
عليكم سلام من أخي لوعة له ... إلى وجهك الوضاح شوق بلا حد
ودم في نعيم لا يشاب بنقمة ... وصار لك الدهر المعاند كالعبد
إسحاق بن يوسف اليماني
سيد إمام عصره وفريد قطره ومصره، لم يكن له في وقته مماثل ولا في فضائله معادل، فهو بغية المستفيد ورب الكمال الباهر والرأي السديد، قد شهد له الفضل بأنه خير أربابه، وأقر البلغاء بقصورهم عن درجة علمه وآدابه، نثره عزيز ونظمه أعز من الذهب الإبريز، فمن لطائفه وجميل طرائفه قوله:
جسدي واه ودمعي مرسل ... كاللآلي راوياً عن شنبك
أنت نصب العين مني دائماً ... لم تزل في لحظة عن منصبك
طمعي عيشي هيامي كلفي ... فيك في وصلك من أجلك بك
لو رأى يا ليل بدري لاختفى ... بدرك الباهي السنا في حجبك(1/307)
أو رأته الشمس في مطلعها ... لتوارت حسداً في مغربك
أو رأت أنجمك الزهر حلى ... جيده لاستترت في غيهبك
يا عذولي في الهوى لي مذهب ... فانفصل عني وخذ في مذهبك
وله رحمه الله تعالى
وقد نلت أنواع الشدائد كلها ... ومارست أهوال الخطوب الكوارب
وذقت حلاوات الزمان ومره ... وعلمني حكماً دوام التجارب
وأشرعت الأيام نحوي رماحها ... كأني عدو للزمان المحارب
وجربت كل النائبات فلم أجد ... أشد وأنكى من جفاء الأقارب
وإن كنت في سن الشباب فإنني ... أعلم أعلام الشيوخ الأشايب
فلم أر في أبناء آدم من له ... صفاء وداد خالصاً عن شوائب
وأبعد من ترجو المودة عنده ... قريبك فارج الود عند الأجانب
توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين ونيف وعشرين
الشيخ أسعد بن عبيد الله بن صبغة الله بن إبراهيم بن حيدر الحيدري الماوراني
العالم الذي ورث آباءه وأجداده، والفاضل الذي جدد الفضل وأعاده، والكامل الذي ملأ من الكمال قلبه وفؤاده، والمحقق الذي أعطى من كل بحث زمامه، والمدقق الذي لم يبق بحراً من التدقيق إلا وعامه، ولم يذر معضلاً إلا شفى بعقاقير فكره سقامه؛ علامة المنقول والمعقول، والحافظ الذي بعض محفوظاته المحصول، والمقرر الذي في تقريره نهاية السول، والأصولي الذي أبرز لباب الأبحاث، وجاد روضها بأنظاره وأغاث، والكشاف الذي أزاح عن وجوه المعاني النقاب، والفقيه الذي هو الإمداد والعباب، والمحدث الذي أحاديثه بالصحة تعاب، والمناظر(1/308)
الذي سند مقدماته السنة والكتاب، والبياني الذي هو دلائل الإعجاز والبديعي الذي أسكت البديع بالإيجاز. عني بالعلم إحياء لمآثر أسلافه، فاستخرج درره من شغاف أصدافه، روى عن والده وبه تخرج، واقتفى آثاره ولديها عرج، وكمل طلبه على أبيه واستحق التصدير والتنويه، وانتهت إليه الرياسة في العلوم وانفرد في علمي المنطوق والمفهوم، دعي في دار السلام الصدر، وسما إلى سؤدد وعلو قدر، وجاء إلى الشام ولقي أجلاءها الأعلام، ولم يزل في الشام إلى أن آن للحاج ارتحاله، ودعه من ذلك القطر أترابه وأمثاله، وسألوه إتحاف دعواته والإسعاف بفيض نفحاته، فسار والألطاف به حافة وطيور الأماني عليه رافة، وله إجازات من جم غفير ذوي علوم وإتقان وتحرير، من أجلهم شارح القاموس السيد مرتضى الزبيدي. وكانت وفاته رحمه الله تعالى بعد الألف والمائتين وثلاث وثلاثين كما ذكره عثمان أفندي سند.
الشيخ أسعد بن سعيد بن محمد المحاسني الحنفي الدمشقي مفتي دمشق الشام وخطيب جامعها المشهور بجامع الأموي المنسوب لبني أمية
المولى العالم المفضال، والأولى بنسبة السيادة والكمال، والمتردي برداء السيادة، والمتصدي لإفادة ذوي الاستفادة، والمتحلي بفضائل الأدب، والسامي بمعارفه إلى ذروة الرتب، حتى صار يشار بكل فضل إليه، ويعول بحل صعاب المشكلات عليه، ولد بدمشق الشام، ونشأ بها منشأ العلماء الأعلام، وتولى منصب الإفتاء بها مدة وفي جامعها خطيباً، وكان إماماً فاضلاً شهماً نجيباً، ثم تعلقت به أظفار المنية، فأوردت الدار الأخروية، سنة ألف ومائتين وثماني عشرة وكانت وفاته بعكة، لأن الحكومة نفته إلى عكة فمات بها رحمه الله تعالى.(1/309)
السيد أسعد صدر الدين البغدادي الحيدري مفتي الحنفية بدار السلام
حبر الأئمة الأفاضل، وبحر اغتراف الفضائل، إمداد الفتاح لكل طالب، ونور الإيضاح لكل راغب، ورد المحتار على الدر المختار، ولسان الحكام وعمدة الأخيار، وسلالة الحسب والنسب، وكنز أولي العرفان والأدب، أقبل بعد تمييزه على الكمال، إلى أن بلغ رشده من بغية الآمال، وأخذ عن سادات الأعيان وأعيان السادة، ونصب نفسه لمساعدة العباد والقيام بالعبادة، وأجازه شيوخه بما تجوز لهم روايته، وتنسب إليهم درايته، ثم خطبه إفتاء بغداد، فسلك فيه مسلك الحق والسداد، ونهج فيه منهج الإنصاف، لا منهج الغلط والاعتساف، ولم يوجد في زمنه من يساويه في علمه، ولا من يباريه في ذكائه وفهمه، مع زهد وعبادة، وإقبال على الإرشاد والإفادة، وكان في الفروع والأصول، والمعقول والمنقول، عمدة العلماء، ومرجع السادة الفضلاء، وكان يقصد لحل المشكلات، وفك المسائل المعضلات، ولا زال على استقامته وتقواه، إلى أن دعته المنية إلى مرجعه ومثواه، وذلك سنة ألف ومائتين و ...
السيد أسعد أفندي بن نسيب أفندي حمزة الدمشقي رحمه الله
ذو جاه ومقام، ورفعة بين الخاص والعام، نشأ على الترفه والترفع وكان يهوى مجالس النزاهة والخلاعة من غير تمنع، وحضر دروس الشيوخ مع الطلاب، وكان له في العلوم نصيب غير أنه برع في الفرائض وعلم الحساب، وكان رفيع المقام، نافذ الكلمة لدى الولاة والحكام، وكان ينتقل في مجالس الحكومة من مجلس إلى آخر عضواً من الأعضاء، وإن الناس(1/310)
تقصده لجلب نفعهم ودفع البلاء، ويقدمون له جانباً من الدراهم والدنانير. ليساعدهم فيقبلها على طريق الهدية من غير تأخير، ويساعد الإنسان مساعدة موصلة إلى مطلوبه وافية بمرامه ومرغوبه، وكان له مخالطة كثيرة مع الأهالي، مع عدم الترفع عما لا يليق بمقامه العالي، من حضوره محلات الاجتماع، للنزهة والسماع، فكان الناس يعيب عليه ذلك لشرفه وسيادته وهو لا يلتفت إلى تأنيب ولا إلى ملام تقديماً لجانب سروره على جلالته. ولما توفي أخوه محمود أفندي مفتي الشام، تحزب له الأعيان والوجوه في وضعه مكانه للإفتاء العام. ولم يقدر الله ذلك له بل كان لمحمد أفندي المنيني العالم الهمام، وحصل بينهما منافرة، ومقاطعة ومدابرة، بعد الاتصال التام ودامت المنافرة باطناً بينهما إلى أن مرض المترجم مدة جزئية وتوفي في شهر ذي القعدة الحرام سنة ألف وثلاثمائة وسبع ودفن في مرج الدحداح رحمه الله.
الشيخ أسعد بن عبد الرحيم بن أسعد بن إسحاق بن محمد بن علي الشافعي الدمشقي الشهير بالمنير
العالم الأوحد، والكامل المفرد، والهمام الفاضل، والإمام ذو الفضائل، ولد بدمشق سنة ست وسبعين ومائة وألف في ربيع الأول وكان أوحد أهل عصره، ومطمح نظر أهل مصره، في الفنون العقلية، والعلوم النقلية، مع مهابة وزهادة، وتقوى وعبادة، وتمسك بالسنة النبوية، والملة المحمدية، مات في الثاني عشر من رجب سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى.(1/311)
إسماعيل أفندي بن خليل بن علي بن عبد الله الشهير بالطهوري المصري الحنفي
النبيه الأريب، والفاضل النجيب، الناظم الناثر، والأديب اللبيب البارع الشاعر، قال العلامة الجبرتي كان إنساناً حسناً قانعاً بحاله، يتكسب بالكتابة وحسن الخط، وقد كان جوده وأتقنه علي أحمد أفندي الشكري وكتب بخطه الحسن كثيراً من الكتب والسبع المنجيات ودلائل الخيرات والمصاحف، وكان له حاصل يبيع به بن القهوة بوكالة البقل بقرب خان الخليلي، وله معرفة جيدة بعلم الموسيقى والألحان وضرب العود، وينظم الشعر وله مدائح وقصائد وموشحات، فمن ذلك قوله تهنئة للأمير حسن بك رضوان بقدومه إلى مصر من نفيه بالمحلة الكبرى قوله:
تهنا بعود الملك والجاه والنصر ... وبالفوز والعلياء والعز والفخر
ومس ميس تيه في ملابس عزة ... بعودك للأوطان منشرح الصدر
لئن ساء فعل الدهر قدماً فطالما ... أسر بأخرى من قبول ومن جبر
وأعطى بلا من وأخلف ما مضى ... وأسعف بالحسنى وأذهب للضر
لقد ضحكت مصر إذا ما حللتها ... وأضحت بها الأرجاء باسمة الثغر
وغنت بها الأطيار من فرح بها ... وقهقه قمريها على ساحة النهر
وغضت عيون النرجس الغض من حيا ... وضرج فيها الورد خداً من التبر
وجر نسيم الروض ذيلاً مبللاً ... نفاح عبير من شذاه الذي يسري
لك الله مولى لا نظير لمثله ... تعلمني أوصافه النظم كالدر
أمير على كل الأنام بأسرهم ... همام كريم مفرد الدهر والعصر
له عزمات في السماكين قدرها ... تسير بها الركبان في المهمه القفر
وشدة عزم زللت كل شامخ ... وأدنت له ما يشتهي صحة الفكر
وأصبحت الأيام من جود كفه ... مرنحة الأعطاف في الحلل الخضر(1/312)
لقد كنت أبكي قبل هذا فراقه ... كما بكت الخنساء يوماً على صخر
فلما أتى بين الأنام بشيره ... وأذهب من بشراه لي غلة الصدر
جعلت مرامي نعته ومديحه ... وكررته في النظم عندي وفي النثر
إليك عروساً بالبديع تتوجت ... وجاءتك تسعى في ملابسها الزهر
ممنعة إلا إليك فإنها ... أتت دون كل الناس بالحمد والشكر
فدم حسناً في منزل العز راقياً ... مدى العمر ما غنى على العود من قمري
فقد جاء تاريخاً بمدحك كاملاً ... هنيئاً بإقبال السرور من الدهر
وكان بعض أدباء مصر ألف مجموعاً في الألغاز فطلب من المترجم أن يقرظ عليه فكتب على حواشيه، ليصون طلعته من عاذله وواشيه:
لله درك من بليغ ماهر ... جمع المعاني في بديع كتابه
سحر العقول بلفظه وبلطفه ... وأبان في معناه عن أنسابه
كلم كنظم العقد يحسن تحته ... معناه حسن الماء تحت حبابه
أعددت للبلغاء تأليفاً غدا ... في فنه يسمو على أترابه
واراك نلت من الحجا حظاً غدا ... لا يستطاع وصوله من بابه
أوفت بك الهمم العلية منزلاً ... مستصعباً صعباً على خطابه
والله يرعى شرح كل فضيلة ... حتى يروجه على أربابه
ألبست عصرك من بيانك حلة ... فمشى اختيالاً في بها أثوابه
يا من له قلم جرى من ثغره الش ... هد الشهي سوى سواء لعابه
تربي على تلك المعاني أنها ... أشفت فؤاداً ذاب من أوصابه
عرفت بلاغتك العميدة عندما اس ... تذللت صعب القول من أهضابه
وظلمت لغزك إذ أبحت رياضه ... رجلاً تعطل من حلي آدابه
فلذا أجاب مقصراً عن شأوه ... إذ كان يعجز عن بلوغ ثوابه(1/313)
فأجاب ذلك الشاعر بقصيدة وأطال فيها ومطلعها
لله ثغر شفني برضابه ... كيما أفوز بنشق عرف رضابه
فكتب إليه المترجم ثانياً معرضاً له بقصيدته قوله:
هذا الأديب اللوذعي ترى به ... جمل الفضائل وهي من أترابه
وله المقال المستجاد بأسره ... وسواه نحثو وجهه بترابه
ولقد رشفت زلال معنى لفظه ... والغير يقنعه لموع سرابه
فاعجب له من شاعر متقادر ... سل المنام بلطفه وسرى به
أنسى البدائع من بديع نكاته ... فسمت بلاغته على أعرابه
وأتى بكل غريبة في نظمه ... منسوبة المعنى إلى أعرابه
لله أبيات أتت من نحوه ... أشفت فؤاداً ذاب من أوصابه
قد كان أفناه النوى وأباده ... مما يلاقي من مرارة صابه
وأتى بتجنيس يرق لطافة ... وروى المعالي وهي من ألقابه
فاعجب لسحر كلامه كيف اغتدى ... مستعذباً عندي لما ألقى به
يا من إذا عد الورى قلنا لهم ... لا نرتضي أنا نرى ألفاً به
كيف الفداء وقد طربت عشية ... من قربه لما بدا ألفى به
يا فاضلاً بعدت مرامي عزمه ... وغدا تغزله ببدء خطابه
وبدأته بالماهر الندب الذكي ... وأجابني ثغر شفى برضابه
إني أعيذك أن تعود لمثلها ... إذ ذاك خلق لست من أصحابه
وإذا أتتك من القريظ مقالة ... وأبيت عنها فلتكن من بابه
ولك الإله يديم حظاً شامخاً ... ما حن مشتاق إلى أحبابه
وله موشحة على وزن موشحة الأديب العلامة ابن خطيب داريا الأندلسي وهي:
ليت شعري يا أخلاء الهوى ... هل أرى بدري بحاني مؤنسي
أم أقاسي من زمان قد قسا ... ورى أحشاي سهماً عن قسي
دور(1/314)
يا سقى الله زماناً قد مضى ... في مغاني مصر في عيش خصيب
حيث بدري قد قضى لي ما قضى ... بالتداني إذ غفت عين الرقيب
شب من تذكارها نار الغضا ... في فؤادي وتلافاً في النحيب
واعترتني دهشة حين جرى ... من دموعي سابلاً في الغلس
وغدا قلبي كليماً مذ سرى ... بارق في نحو ذاك المكنس
دور
يا رياضاً حسنها زاه يشيق ... جاد في مثواك منهل السحاب
كم مضى لي فيك من معنى أنيق ... حين كان اللهو مزهي الجناب
هل ترى عيني محياك الشريق ... لابساً برد التهاني والشباب
وأرى بدري يناجيني على ... ذلك البسط الشهي السندس
وأحلي صبر دهري بالمنى ... من معان زاهيات الملبس
دور
قد شربنا الصد كأساً مترعاً ... حين صد الظبي عنا ونفر
غصن بان غصنه قد أينعا ... مثمر بالدل حيناً والخفر
وجهه الفتان أمسى مبدعاً ... كل معنى رائق يسبي الفكر
ينثني ما إن تبدى معجباً ... بالعيون الفاتكات النعس
ينهب الأرواح منا لاهياً ... لم يراقب في ضعاف الأنفس
دور
كيف لي صبر إذا اللاحي لحا ... في حبيب حسنه فاق الهلال
بدر تم مخجل شمس الضحى ... جؤذري اللحظ معشوق الدلال
ما سقى الصب هواه فصحا ... من غرام قد عراه وخبال(1/315)
يوسفي العصر معسول اللمى ... كاحل الطرف شهي اللعس
ترك الصب كليماً عندما ... جال في النفس مجال النفس
وقال سامحه الله:
هل العيش إلا في اكتساب مآثم ... أو العمر إلا في اقتناء محارم
أو الغنم إلا في ارتكاب كبيرة ... أو السكر إلا في ارتشاف مباسم
سقى الله أيام البطالة أدمعاً ... من العين تجري كالغيوث السواجم
زمان به كان السرور بخنصري ... ختاماً وكان الظبي فيه منادمي
إذ العيش طلق والرياض بواسم ... عن النور لكن من شفاه الكمائم
وسيري إلى تلك الدساكر سحرة ... وغنمي بها من طيبات مواسمي
وجر ذيول التيه في عرصاتها ... جهاراً وضمي للقدود النواعم
خليلي لو وافيتموا حق صحبتي ... لكنتم رفاقي بين تلك المعالم
فحيا الحيا دار الأحبة ما شدا ... على الدوح مطراب الأصائل هائم
لقد طال ما نازعت فيه زجاجة ... تضمنت الأفراح من عهد آدم
معتقة صاغ المزاج لرأسها ... أكاليل من در كدور دراهم
إذا ما جلاها مخطف الخصر في الدجى ... وغنى عليها مثل شدو الحمائم
أبحت طريفي في هواه وتالدي ... وصيرته مولى علي وحاكمي
وله مشطراً بيتي الشيخ محمد الكراني الشاعر وهما مع التشطير:
خبراني عن قهقهات القناني ... وابتهاج الربى بصوب الغمام
واهتزاز الغصون في الروض ليناً ... أنا منها في غاية الإيهام
أترى ضحكها لبسط الندامى ... أم سروراً لجمع شمل الكرام
أم خطاباً لبلبل الدوح غنى ... أم بكاء على فراق المدام(1/316)
وله مشطراً بيتين لبعض القدماء وهما مع التشطير:
بالله يا قبر هل زللت محاسنه ... أم كيف رونقه والحسن والحور
وحسن طرته ما شأن حالتها ... وهل تغير ذاك المنظر النضر
يا قبر لا أنت لا روض ولا فلك ... يشوقنا منك ما نرجو وننتظر
ولست في الحسن معشوقاً إلى أحد ... حتى تجمع فيك الغصن والقمر
وله غير ذلك كثير لا تحسن الإطالة به هنا للخروج عن المقصود، توفي المترجم سنة إحدى عشرة ومائتين وألف رحمه الله تعالى.
الشيخ إسماعيل بن أحمد البراوي الشافعي الأزهري
الأجل الأعظم، والعمدة الأفخم، ذو القدر الأعلى، والفضل الأجلى، وهو ابن أخي الشيخ عيسى البراوي الشهير الذكر. قرأ على والده وأخذ عنه وعن غيره من المشايخ المشهورين وكان جسوراً كثير الحركة له تردد على مجالس الكبراء والعظماء ولم يزل كذلك إلى أن توفي والده المرقوم الشيخ أحمد البراوي، فتصدر بعده في مكانه وساعده الحظ على نوال مراده وإعلاء شأنه، وكان قليل البضاعة، لاشتغاله أيام الطلب بأسباب الإضاعة، إلا أنه كانت تغلب عليه النباهة والذكاء والحذق واللسانة، والسلاطة والتداخل، والتفاخم والتعاظم، ولم يزل يتعالى في أموره، ويصعد على سلم ظهوره، ويحافظ على قدره واعتباره، وتعاظمه وافتخاره، وكأنه لم يلتفت إلى قول من قال، وأحسن في المقال:
من أخمل النفس أحياها وروحها ... ولم يبت طاوياً منها على ضجر
إن الرياح إذا اشتدت عواصفها ... فليس ترمي سوى العالي من الشجر
فلما دخل الفرنسيس مصر أدخلوه في عداد ذوي الفتنة فقتلوه مع من قتلوه من الشهداء سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف ولم يعلم له قبر نظير غيره من المقتولين، رحمهم الله أجمعين.(1/317)
إسماعيل بن يحيى بن حسن الصديق الصعدي ثم الذماري
قال في التاج: ولد سنة ألف ومائة وثلاثين وكان صدراً من الصدور عظيم الهمة شريف النفس كبير القدر نافذ الكلمة، له دنيا واسعة وأملاك جليلة، وكان محدثاً من المحدثين، ومجتهداً من المجتهدين، يعمل بالأدلة القرآنية، والأحاديث النبوية، مات رحمه الله تاسع صفر سنة ألف ومائتين وتسع.
السيد إسماعيل بن السيد حمزة بن السيد يحيى بن السيد حسن ابن السيد عبد الكريم
الشهير بابن حمزة، العالم الحسيب، والكامل النسيب، فخر العلماء، وصدر الفضلاء، أحد السادة الأعيان، ذوي الفضل والشان، من لاحت من بروج فضله شموس سعادته المشرقة، وصحت سماء عرفانه من سحاب الغيوم المطبقة، فلا غرو إن طلع مجده بدراً في غرة الصلاح، ونادى مؤذن إقباله حي على الفلاح، ولد بدمشق سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف واشتغل في طلب الفنون، على علماء عصره ذوي القدر المصون، ثم وجهت إليه أمانة الفتوى أيام حسين أفندي المرادي، وكان عارفاً بتخريج المسائل، مقبلاً بكليته على السائل، خوف الغلط في الجواب، والذهول في موافقة الصواب، مات في جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف، ودفن عند أسلافه في مرج الدحداح رحمه الله.
الشيخ إسماعيل بن أحمد بن علي المنيني الدمشقي الحنفي مفتي دمشق الشام
الشيخ الإمام، مفتي الأنام، عمدة الحكام، وقطب مدار الأحكام، نادرة العصر، ويتيمة الدهر، ولد بدمشق الشام ونشأ بها سنة تسع وثلاثين ومائة وألف، وأخذ عن الأفاضل منهم الشهاب المنيني وعلي أفندي الداغستاني(1/318)
والعلامة حسن البرزنجي والشيخ صالح الجينيني والشيخ عبد الرحمن الكفرسوسي، وفي سنة ثمان وثمانين ومائة وألف ولي وظيفة إفتاء دمشق الشام وكان قد ولي خطابة الجامع الأموي، مات سنة خمس عشرة ومائتين والف ودفن في مرج الدحداح.
السيد إسماعيل بن أسعد الشهير بالخشاب الأزهري
البليغ النجيب، والنبيه الفصيح الأديب، نادرة الزمان، وفرد الأوان، نشأ في حجر والده بيد أنه لم يمل قلبه إلى صنعته لأنه كان نجاراً، بل تولع في العلوم والمعارف فحفظ القرآن ثم جد بطلب العلم ولازم حضور السيد علي المقدسي وغيره من أفاضل الوقت، وأنجب في فقه الشافعية والمعقول وبقية العلوم، ثم تنزل في حرفة الشهادة في المحكمة الكبرى لضرورة المعاش، وتمسك بمطالعة الكتب الأدبية والتصوف والتاريخ، وتولع بذلك، وحفظ أشياء كثيرة من الأشعار والمراسلات وحكايات الصوفية، وما تكلموا فيه من الحقائق، حتى صار نادرة عصره في المحاورات والمحاضرات واستحضار المناسبات، ونظم الشعر الرائق، ونثر النثر الفائق، وصحب بسبب ما احتوى عليه من دماثة الأخلاق ولطف السجايا وكرم الشمائل وخفة الروح كثيراً من أرباب المظاهر، والرؤساء والأمراء والتجار، وتنافسوا في صحبته؛ وتفاخروا بمجالسته، وارتاحوا لمنادمته، وتنقلوا على طيب مفاكهته، وحسن مخاطبته، ولطف عباراته، ورقيق إشاراته، وكان الوقت إذ ذاك غاصاً بالأكابر، وذوي الفضائل والمفاخر، والناس في أرغد عيش، وأمن من المخاوف والطيش، وللمترجم قوة استحضار مؤنس، بحسب ما يقتضيه حال المجلس، فكان يجانس ويشاكل كل جليس بما يدخل عليه السرور في الخطاب، ويجذب عقله بلطف محادثته كما يفعل بالعقول الشراب، ولما وردت الفرنساوية إلى مصر تعلق بغلام من رؤساء كتابهم وكان(1/319)
بارع الجمال، حسن التيه والدلال، عالماً ببعض العلوم العربية، مائلاً إلى اكتساب النكات الأدبية، فصيح اللسان، مليح البيان، يحفظ كثيراً من الأشعار التي بها يتفاخر، فلهذا مال كل منهما للآخر، فعند ذلك قال المترجم الشعر الرائق، ونظم الغزل الفائق، فمما قاله فيه، من بديع نظمه وقوافيه، قوله رحمه الله تعالى:
ملكته الروح طوعاً ثم قلت له ... متى ازديارك لي أفديك من ملك
فقال لي وحميا الراح قد عقلت ... لسانه وهو يثني الجيد من ضحك
إذا غزا الفجر جيش الليل وانهزمت ... منه عساكر ذاك الأسود الحلك
فجاءني وجبين الصبح مشرقة ... عليه من شغف آثار معترك
في حلة من أديم الليل رصعها ... بمثل أنجمه في قبة الفلك
فخلت بدراً به ضاءت نجوم دجى ... في أسود من ظلام الليل محتبك
وافى وولى بعقل غير مختبل ... من الشراب وستر غير منهتك
وله في آخر يسمى ريج:
أدرها على زهر الكواكب والزهر ... وإشراق ضوء البدر في صفحة النهر
وهات على نغم المثاني فعاطني ... على خدك المحمر حمراء كالجمر
وموه لجين الكأس من ذهب الطلا ... وخضب بناني من سنى الراح بالتبر
وهاك عقوداً من لآلي حبابها ... فم الكأس عنها قد تبسم بالبشر
ومزق رداء الليل وامح بنورها ... دجاه وطف بالشمس فينا إلى الفجر
وأصل بنار الخد قلبي وأطفه ... ببرد ثناياك الشهية والثغر
أريج ذكي المسك أنفاسك التي ... أريج شذاها قد تبسم عن عطر
معنبرة يسري النسيم بطيبها ... فتغدو رياض الزهر طيبة النشر
وبي ذابل الأجفان كالبيض طرفه ... مكحلة أجفانه السود بالسحر
رشا فاتك الألحاظ عيناه غادرت ... فؤادي في دمعي دماً سائلاً يجري
طويل نجاد السيف ألمى محجب ... شقيق المها زاهي البها ناحل الخصر(1/320)
رقيق حواشي الطبع يغني حديثه ... عن اللؤلؤ المنظوم والنظم والنثر
يعير الرماح اللين عادل قده ... ويزري الدراري ضوء مبسمه الدر
وتحكيه أغصان الربا في تمايل ... فيرفل في أثواب أوراقها الخضر
وفوق سنى ذا الجبين غياهب ... من الشعر تبدو دونها طلعة البدر
ولما وقفنا للوداع عشية ... وأمسى بروحي يوم جد النوى يسري
تباكى لتوديع فأبدى شقائقاً ... مكللة من لؤلؤ الطل بالقطر
ولما نظم الشيخ حسن العطار موشحته التي يقول فيها شعراً:
أما فؤادي فعنك ما انتقلا ... فلم تخيرت في الهوى بدلا
فاعجب
يا معرضاً عن محبة الدنف ... ومغرماً بالجمال والصلف
ومن به زاد في الهوى شغفي ... أما كفى يا ظلوم ما حصلا
حتى جعلت الصدود ... والمللا مذهب
فتش فؤادي فليس فيه سوى ... شخصك أيها المليح ثوى
قد ضل قلبي لسكنه وغوى ... وهكذا من يحب معتدلا
لم يلق إلا تأسفاً ... وقلى مشرب
وهي طويلة مذكورة في ديوانه عارضه المترجم المذكور بقوله في معشوقه الذي ذكرناه:
يهتز كالغصن مال معتدلا ... أطلع بدراً عليه قد سدلا
غيهب
يزري بسمر الرماح إن خطرا ... ساحر جفن أمهجتي سحرا
علم عيني البكاء والسهرا ... فكيف أبيغ بحبه بدلا
وليس لي عنه جار ... أو عدلا مهرب
وضاح نور الجبين أبلجه ... أغيد عذب الرضاب أفلجه(1/321)
وجه غرامي عليه متجه ... فلست أصغي لعاذل عذلا
كلا وعنه فلا ... أحول ولا أرغب
وبقيتها في ديوانه، وقال فيه أيضاً وهو مما يعتني به:
أدرها على زهر الكواكب والزهر ... وإشراق نور البدر في صفحة النهر
إلى آخرها ولم يزل المترجم على حالته، ورقته ولطافته، مع ما كان عليه من كرم النفس والعفة والنزاهة والتولع بمعالي الأمور، والتكسب وكثرة الإنفاق والحزم في الأمور، إلى أن ابتلي بحصر البول مع الحرقة والتألم واستدام بها مدة طويلة حتى لزم الفراش أياماً. وتوفي في يوم السبت ثاني شهر ذي الحجة الحرام سنة ثلاثين ومائتين وألف، وصلي عليه بالأزهر في مشهد عظيم ودفن في الحسينية. وما أحسن ما قال القائل:
فلا سرور سوى نفع بعافية ... وحسن ختم وما يأتي من الشغب
وأمن نكر نكير القبر ثمة ما ... يكون بعد من الأهوال والتعب
حافظ إسماعيل بن محمد بن محمد القسطنطيني الحنفي الشهير بكاتب زاده
العالم الذي هو في سلك الأفراد منظوم، والفاضل الذي دار عليه فلك المنطوق والمفهوم، الإمام المحقق، والهمام المدقق، الألمعي الفقيه، واللوذعي النبيه، ولد سنة ألف ومائة وثلاثين في مدينة أماسية، فاجتهد بعد بلوغه في تحصيل العلوم الشرعية والعقلية، ثم انتقل إلى اسلامبول، وقد أخذ عن كثير من العلماء، والسادة الفضلاء، من أجلهم الشيخ محمد ابن حسن بن همات الحنفي الشامي مولداً الاسلامبولي موطناً والشيخ عمر بن أحمد باعلوي السقاف. ولي قضاء دمشق عام ألف ومائة وثمانية وتسعين، وكانت تغلب عليه الديانة، والزهادة والصيانة، ولم ير له نظير في قضاة زمانه، وعصره وأوانه، وأخذ عنه الكثير من أهل الشام الأمجاد، ومن(1/322)
أجلهم السيد شاكر العمري الشهير بالعقاد، ثم بعد الشام ولي قضاء المدينة المنورة، سنة ألف ومائتين وسنة، فارتحل إليها بالراحة والسرور، والفرح والحبور، إلى أن وصلها ولم يطل أمره حتى مرض وتوفي هناك سنة ألف ومائتين وسنة، وصلي عليه في الحرم الشريف، ودفن في البقيع رحمة الله تعالى علينا وعليه.
الشيخ إسماعيل أبو المواهب بن محمد بن صالح بن رجب بن يوسف الحلبي الحنفي الشهير بالمواهبي
العالم الفقيه الفاضل، المحدث الواعظ الأديب الكامل، حجة العلماء، وكعبة الفضلاء، وبقية السلف، ونخبة الخلف، ولد ثالث عشر ذي الحجة الحرام سنة ستين ومائة وألف ونشأ بكنف والده وقرأ عليه العلوم وانتفع به ولازمه، وسمع منه الأحاديث الكثيرة وتأدب بآدابه وأجاز له غير مرة، وقرأ بقية الفنون وأخذها ببحث وإتقان عن أبي محمد عبد الكريم ابن أحمد الشراباتي الحلبي الشافعي، وأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الطبرسي الحنفي وغيرهم، وانتفع بهم ولازمهم وأخذ عنهم وسمع عليهم واستجازهم فأجازوه إجازة عامة. ولما قدم حلب المحدث الكبير، والعالم الشهير، أبو عبد الله محمد بن محمد الطيب المغربي الفاسي المالكي نزيل المدينة المنورة، عقد مجلس حديث في الجامع الأموي بحلب، وسمع منه المترجم ولازمه وسمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية مع والده، وأجازه غير مرة، وسمع الحديث المذكور من أبي محمد عبد القادر بن خليل الكدك المدني لما قدم حلب وأجازه برواياته بعد أن قرأ عليه أوائل الكتب وبعض المسانيد، وسمع حديث الأولية أيضاً من أبي عبد الله الحسين بن علي بن عبد الله الشكور الطائفي المكي وأجازه بخطه، وكذلك الشهاب أحمد بن الحسن الخالدي الجوهري، وأحمد بن عبد الفتاح(1/323)
اللدي وغيرهم، ومهر ونبل وتفوق، وأخذ عن والده الطريقة القادرية، وجلس بعد موته على سجادة المشيخة وأقام الأذكار وأجاد في الإرشاد، وانتفع به الحاضر والباد، وكان يختلي في الصالحية كل سنة أربعين يوماً ومعه جماعة كثيرون. وكان كثير الإفادة والوعظ والتدريس في الجامع الأموي بحلب، مكان والده وجده على الكرسي الموضوع تجاه مقام سيدنا زكريا، وسمع منه الجم الغفير وحضره كثير من الناس، وأفاد واشتغل عليه الناس بالأخذ في داره، وأخذ عنه الطريق كثير من الناس من حلب وأطرافها وانتفعوا، وعلا قدره عند الحكام والأعيان، وأظهروا له الانقياد والإذعان، ونفذت كلمته، وقبلت شفاعته، وفاق فضله على أبيه وجده، وكان لطيفاً مهاباً لين العشرة حسن المذاكرة، قوي الحافظة في الآثار والسنن، وافر العبادة والتنقل والذكر، ومن جملة من أخذ عنه محمد خليل أفندي المرادي مفتي دمشق الشام، وأجازه إجازة عامة في حلب سنة ألف ومائتين وخمس، وفي سنتها خرج المترجم إلى الحجاز ورجع إلى بلده، ولم يزل على ما كان عليه من الدأب على العلم والعبادة والذكر والمذاكرة والإرشاد، إلى أن توفي خامس شهر رمضان سنة ثماني عشرة ومائتين وألف رحمه الله تعالى.
الشيخ إسماعيل بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن محمد بن محمد بن محمد الأريحاوي الشافعي الشهير بالعاري
أبو الفدا صلاح الدين الكاتب الصالح الدين، البركة الفقيه النبيه. ولد بأريحا ليلة الجمعة السابع والعشرين من ربيع الثاني سنة أربع وثلاثين ومائة وألف، وقرأ على والده وجده البرهان المشهور المفتي وانتفع بهما، وأخذ الخط عن جده، وقرأ على عواد بن حسين العبسي السرجاوي وسمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية وبقية مسلسلات ابن عقيلة المكي(1/324)
بروايته لهم عنه، وأجازوه الإجازة العامة، وأخذ الطريقة الرفاعية عن الشهاب أحمد بن إسماعيل القصيري الرفاعي، ودخل حلب وحضر بها دروس أبي الفتوح علي بن مصطفى الدباغ الميقاتي، وأبي عبد الفتاح محمد بن حسين وغيرهم وسمع عليهم، وأكثر من كتابة الكتب وكتب الكثير من المصاحف الشريفة والتفاسير وكتب الحديث والفقه وبقية الفنون، وكان سريع الكتابة حسن الضبط والخط أديباً صالحاً تقياً عابداً زاهداً من أحاسن الناس وخيارهم وصلحائهم، والملازمين على وتيرة السلف، والقائمين بأعباء العبادة من تهجد وذكر وصلاة وصيام، واجتناب ما يجب اجتنابه وفعل ما يجب فعله. راضياً بما يحصل له من غلال بعض أراضيه وثمرات أشجاره وزيتونه وأجرة كتابته التي يكتبها، وأفاد واستفاد واشتهر ذكره بالعلم والإرشاد، توفي سنة ألف ومائتين ودون العشرة.
الشيخ إسماعيل بن عبد الجواد بن أحمد الكيالي السرميني الأصل الحلبي الشافعي
العالم الفاضل الصوفي المتقن، الولي البركة الصالح التقي النقي المتفنن. ولد سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم ونشأ بكنف والده وتخرج به وعليه، واشتغل بالأخذ والتحصيل فقرأ على أبي اليمن محمد تاج الدين بن طه بن أحمد العقاد، وأبي العدل قاسم بن علي التونسي المالكي المغربي، وأبي عبد الله محمد بن محمد الأريحاوي وغيرهم. وحصل ونبل وفاق في مدة يسيرة على الكثير من العلماء حتى شهد له بالتقديم شيوخه، وأقر له بذلك الجم الغفير، وكان والده يثني عليه ويحبه ويقدمه على إخوته، وأخذ عنه وأجازه بمروياته. وبعد وفاته درس وشرع بالإفادة والتسليك وقام مقامه، حتى قدر الله تعالى أنه في سنة المائتين والألف حصل له جذبة فخلع ثيابه وصار يدور في الأسواق على هذه الحالة، ويتكلم بما(1/325)
لا يعني من الكلام، ومال إلى الخمول والذهول وتغيرت أحواله، ومع هذه الحالة شوهدت له كرامات كلية، وخوارق وأحوال وأخبارات غيبية، وكانت الناس تحترمه وتهابه وتخشى من بطشه، ويرجون دعواته، وينظرون إليه بعين المهابة والتعظيم، ويذكرون الله عند رؤيته كما هو علامة أهل الله الذين إذا رؤوا ذكر الله عند رؤيتهم. ولم يزل كذلك إلى أن توفي سنة ألف ومائتين ونيف وثلاثين ظناً.
الشيخ إسماعيل الشيرواني الخالدي النقشبندي
قال في المجد التالد: الولي النحرير العلامة، والبحر الفهامة، صاحب الأنفاس القدسية، والنفحات الأنسية، العارف بالله، والغارف من بحر نداه، أكب على العلم والعمل من صغره، ودأب على الإفادة في كبره، ثم لما عاد حضرة مولانا خالد إلى السليمانية من الهند، فإنه لازم خدمته، والتزم طاعته، وسلك على يديه طريق السداد، ثم خلفه خلافة مطلقة وأذن له بالإرشاد، ونشر العلوم، فانتفع به الناس طريقة وعلما، وله خوارق عجيبة وهو من أجل الأفاضل، وأفضل ذوي الفضائل، توفي سنة ألف ومائتين ونيف وخمسين.
الشيخ السيد إسماعيل البرزنجي الخالدي النقشبندي
العالم الفاضل، النسيب الشريف الفقيه العامل، الحافظ التقي الأديب، الحسيب اللبيب الأريب، نشأ في العلم والصلاح، ونهج منهاج الطاعة والنجاح، وكان من أخص جماعة حضرة مولانا خالد شيخ الحضرة، وكان يخدمه ويقرأ عليه، ويكتب له الكتب، لما كان له من جودة الخط، وكان حضرة الشيخ يحبه محبة عظيمة ولا يعبر عنه إلا بأخينا الشيخ إسماعيل.(1/326)
وكان هذا المترجم من العلوم الفقهية والعربية والأدبية على حظ عظيم، وكان مع حفظه للقرآن وبعض الكتب التوحيدية والفقهية حافظاً لمقامات الحريري، وله شعر ونثر رائق في العربية والفارسية، قرأ على مولانا خالد قدس سره منذ نشأ ولم يقرأ على غيره، وخلفه خلافة مطلقة، إلا أنه لم يسمع أنه أرشد أحداً، وكان كثير الأسفار لحج بيت الله الحرام، وزيارة خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، وإلى الشام لزيارة قبر حضرة شيخه مولانا خالد، وتوفي في بغداد وهو على زيادة ترقية وتوقيه، سنة ألف ومائتين ونيف وخمسين تقريباً.
الشيخ إسماعيل البصري النقشبندي الخالدي
خلاصة الأفاضل، وصفوة ذوي الشمائل، العالم العامل، والإمام المهذب الكامل، ذو السيادة والعبادة، والخضوع والزهادة، رحمة المريدين، وتحفة السالكين والمترددين، أخذ في العلم والعمل، ولم ينله ملل ولا كسل، وكان في الزهد والتقوى، في السر والنجوى، والتذلل والخضوع، والتواضع والخشوع، والجود والكرم، وتحريك الهمم، إلى الإقبال على بارىء أمشاج الأمم، في درجة عالية، ورتبة سامية، ثم تحلى بأخذ الطريق، عن سيد ذوي التدقيق، شيخ الحضرة مولانا خالد، ثم خلفه وأتحفه بالالتفات الزائد، فاشتهر في البلاد، وانتفع به العباد، وورد عليه الواردون من كل ناد، ولاحظته عين الإسعاد، ولم يزل ينمو أمره في الرفعة ويزداد، إلى أن تم أجله، وانقطع أمله، وذلك سنة الف ومائتين وفوق الأربعين.
الشيخ إسماعيل بن الشيخ عبد الغني بن طالب بن حماده ابن إبراهيم بن سليمان الميداني
حليف أدب وأرب، وأليف لطف وطرب، قد طالت في الفضل باعه، وشربت حب المعارف طباعه، فذهب في مجال التقدم عرضاً وطولاً،(1/327)
وأصبح في معالي الترقي وله اليد الطولى، وقد كانت ولادته في النصف الثاني من ذي الحجة الحرام الذي هو في سنة الألف والمائتين والأربع والخمسين، ونشأ في حجر والده نخبة المتقين، وبعد أن بلغ سن التمييز قرأ القرآن العزيز، ثم حضر على والده الفقه النعماني، إلى أن بلغ منه جل الأماني، وأخذ جملة من علوم الآلات عن شيخنا العلامة الفاضل، والفهامة الكامل، نادرة الزمان، وأوحد العصر والأوان، الشيخ محمد أفندي الطنطاوي، أعلى الله في درجات القرب مقامه، وأعطاه في حديقة الرضوان مرغوبه ومرامه، وحضر مجالس كثيرين من أهل الفضل، ممن يعتمد عليهم في القول والنقل، منهم بل أعلاهم وأعلمهم علم الأعلام، وعمدة الحكام، أخي وشقيقي الهمام، الشيخ محمد أفندي أمين فتوى الشام، وكثيراً ما كان يضمني وإياه مجلس المطالعة في كل علم رفيع، من تفسير وحديث وتوحيد وغير ذلك من معان وبديع، وكان ينقاد إلي، ويعتمد في حل المشكلات علي، وله جمال وصفا، ووداد ووفا، توفي في رمضان سنة اثنان وثلاثون وثلاثمائة وألف، أعلى الله في مدارج السيادة مرتقاه، وجعل الجنة مثواه ومأواه.
إسماعيل بن محمد بن مصطفى بن أمين سفر المدني
نجيب نشأ في بيت النجابة، ونبت في مغرس اللبابة، ومن كان أباه البحر الزاخر، فلا غرو أنه صدف در المفاخر، فإنه كامل عليه أنوار الكمال زاهرة، ودلائل الفضل منه ظاهرة، ليس إلا بالتحصيل اشتغاله، وإلى الاستفادة حركاته وانتقاله، فحسبه رفيع، وأدبه كالزهر المريع، وله ذهن تحمد آثاره، وفكر تمدح أشعاره، فمن محاسن كلماته، وغرر نظمه وأبياته، قوله باعثاً بهذه القصيدة لأهله من مصر المحروسة:
يصل الكتاب إليكم يا سادتي ... فتعطفوا بجوابه وتأهبوا
للعبد إسماعيل نجل محمد ... عبد ذليل عاجز متغرب(1/328)
قد صار يجري الدمع من أجفانه ... من حبكم إذ حبكم لا يذهب
من قلبه المضنى السقيم لبعدكم ... والبعد هام للأنام يهذب
أعني الرسول الهاشمي المصطفى ... من ربنا أدناه فهو محبب
وكذا ارتضاه الخلة ولغيرها ... فهو الحبيب الهاشمي الطيب
فقفوا جميعاً تحت باب أكرم ... وسلوه في كل الأمور وجربوا
وأقروا التحية والسلام عليه ما ... هب الجنوب لنا كذاك الأريب
وكذاك سيدنا أبو بكر العلى ... وسراجنا من للعين يهرب
ثم ابن عفان الحيي وحيدر ... من للوغى أضحى هناك يجرب
ولبضعة المختار سيدة النسا ... وبناته الأطهار
وكذاك حمزة عمه البطل الذي ... أضحى لكل الكافرين يؤدب
ولعمه العباس ثم صحابه ... في غرقد أضحى بهم يتطيب
أيضاً وزوجات النبي المصطفى ... والتابعين ومن إليهم ينسب
فسلوا جنابهم العلي مقامه ... يدعو الإله لعبدهم بل يطلبوا
عودا له في حسن أحسن حالة ... ووفاء دين صار منه يعذب
وفصاحة وبلاغة في قوله ... حتى يكون إذا تكلم يعجب
ودخوله في دار فردوس علت ... ورضاء رب حب هذا المطلب
وسلامة من حر نار جهنم ... نار العدا من حرها تتلهب
وسعادة الدارين ثم حياته ... في حالة يرضى بها ويقرب
ثم الصلاة مع السلام على الذي ... بضريحه مسك سحيق طيب
وكذاك كل الآل والأصحاب ما ... قد لاذ بالأعتاب عبد مذنب
الشيخ أمين بن محمد الجندي الحمصي الشافعي ابن خالد بن عبد الرزاق
الشاعر اللبيب، والماهر الأديب، والكامل الأريب، والفاضل النجيب،(1/329)
من اشتهر برقة المعاني كلامه الفائق، ورقى فوق ذروة الفصاحة حسن انسجامه الرائق، قد حضر دروس العلماء الدمشقيين، وشهدوا له بالفضل والقدر المكين، وابتهج به ذوو المعارف، وأقروا له بالفضائل والعوارف، وكان حسن النظم والنثر، قد فاق أهل زمانه بما ألقاه من بديع الشعر، وله المقطعات العجيبة المباني، التي لم يسبق لها مثيل في جزالة الألفاظ ولطافة المعاني، استعمل فيها الكلمات المألوفة في هذا الزمان، التي تطرب لسماعها القلوب والآذان، ولا بدع فناظمها هو العالم النحرير، والشاعر الشهير، لبيب عصره، وأديب قطره فضلاً عن مصره، منور الأفكار ببلاغته، ومزين الألفاظ ببراعته، قد خلع عليه الصفي صفاه، وتبعه المتنبي ورجع عن مدعاه، ولد بمدينة حمص الشهيرة، ونشأ بها في طلب العلوم، وتحقيق المنطوق والمفهوم، ثم صار يتردد إلى دمشق الشام، ويقرأ على علمائها الأعلام، وأخذ وتلقى وقرأ على قطب زمانه، ومرشد أقرانه، السيد الشيخ عمر اليافي، قدس الله سره الوافي، فحل عليه نظره التام، حتى قال له اذهب فأنت أشعر أهل الغرام، فصار الشعر فيه سجيه، والبلاغة له عطية، ينظم القصائد المفيدة، والقدود الفريدة، والموشحات النضيدة، والمقاطيع السديدة، والمواليات العديدة، فسارت الركبان بكلامه، وتزينت المجالس بنظامه، فيا له من ماهر ألبس الدهر أحسن أثوابه، وأنفق الدر الثمين على أقرانه وأحبابه، فصار مفرداً في نظامه، معدولاً إلى بديع كلامه.
وفي سنة ست وأربعين ومائتين وألف أتى إلى حمص عامل من قبل السلطان محمود خان، وما لبث أن وشى إليه بصاحب الترجمة بعض أعوانه أنه هجاه، وقال عليه ما لا يرضاه، فأمر بنفيه وإخراجه من حمص بحال الذل والقهر، وبلغ الشيخ أمين خبر هذا الأمر، ففر هارباً إلى مدينة حماه، وظن أنها تكون مكان حفظه وحماه، وعلم العامل بفراره، فأرسل في طلبه جماعة من أنصاره، فقبضوا عليه في الطريق، وأرسلوا الخبر إلى العامل،(1/330)
فأمر بأن يضيق عليه أشد التضييق، وأن يحبس في اسطبل الدواب، ويسد عليه الباب، وأن يعطى له في اليوم والليلة قرص شعير، وشربة ماء مع غاية التكدير، ففعلوا به ذلك، وأوردوه موارد المهالك، فاشتغل بنظم قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم ويتوسل به في خلاصه. ففي اليوم الرابع من حبسه دخل سليم بن باكير الدنادشة حمص قهراً، ومعه مايتا فارس فقتلوا العامل المرقوم شر قتلة، وخرج المترجم من الحبس وفرج الله عنه ببركة النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصيدة:
توسلت بالمختار أرجى الوسائل ... نبي لمثلي خير كاف وكافل
هو الرحمة العظمى هو النعمة التي ... غدا شكرها فرضاً على كل عاقل
هو المصطفى المقصود بالذات ظاهراً ... من الخلق فانظر هل ترى من مماثل
نجي إله العرش بل وحبيبه ... وخيرته من خير أزكى القبائل
شمائله تنبيك عن حسن خلقه ... فقل ما تشا في وصف تلك الشمائل
وأخلاقه فاه الكتاب بمدحها ... ولاسيما الإعراض عن كل جاهل
نبي هدى سن التواضع عن علا ... فحل من العليا بأعلى المنازل
تقي تردى الجود والحلم حلة ... تجسم فيها المجد بعد التكامل
وفي الحرب والمحراب نور جبينه ... يريك شعاع الشمس من غير حائل
له النسب الوضاح والسؤدد الذي ... تسامى على هام السهى بالتطاول
يقولون لي هلا ابتهجت بمدحه ... فإنك ذو فهم كفهم الأوائل
فقلت لهم هل بعد مدحة ربنا ... وخدمة جبريل مجال لقائل
وأين الثنا ممن رأى الله يقظة ... وقام يناجي ربه غير ذاهل
ولكنه بحر البحور تواصلت ... لأفضاله بالمدح كل الأفاضل
دعوتك يا الله مستشفعاً به ... فكن منجدي يا منتهى كل آمل
سألتك كشف الضر عني بجاهه ... وحاشاك أن لا تستجيب لسائل
إلهي قد اشتدت كروبي وليس لي ... سواك مغيث في الخطوب الغوائل(1/331)
إلهي تدارك ضعف حالي برحمة ... ولطف خفي عاجل غير آجل
وفي علتي حار الطبيب فكدت أن ... أجاوز حد اليأس من ذي العواضل
وبالسقم أعضائي اضمحلت جميعها ... فلم يبق مني مفصل غير ناحل
ومن فرط ما بي من نحول ولوعة ... بكت رحمة لي حسدي وعواذلي
فمن لا سير الذنب من ورطة البلا ... بفك قيود أو بقد سلاسل
كأني غريب بين قومي وما لهم ... شعور بأشعاري ولا في رسائلي
أنادي فلا ألقى مجيباً سوى الصدى ... فأحسب أن الحي ليس بآهل
وإني إذا ما رمت خلاً موافياً ... فقد رمت شيئاً عز عن كل نائل
وهل مشفق ألقاه أرحم من لظى ... حشائي ومن قاني دموعي الهوامل
ألا ليت شعري هل تفردت في الورى ... بكسب الخطايا وارتكاب الرذائل
ومن دون كل الخلق عولجت بالأسى ... قصاصاً وحسبي زلتي ونصائلي
فإن كان هذا بالذنوب وليس لي ... شفاء وجسمي داؤه غير ناصلي
فإني بطه مستغيث وراغب ... إلى الله فهو الغوث في كل هائل
وإخوانه الرسل الكرام جميعهم ... وباقي النبيين البدور الكوامل
وبالخلفاء الراشدين وآله ... وأصحابه الغر الثقات الأماثل
خصوصاً رفيق الغار ذي الرأي والحجى ... أبي بكر الصديق صدر المحافل
إمام فدى خير الأنام بنفسه ... وفي ماله ما كان قد بباخل
وفي درء تلك الفتنة اختص وحده ... ولولاه لارتدت جميع القبائل
كذاك أمير المؤمنين وعزهم ... أبو حفص الفاروق محيي النوافل
فتى أيد الإسلام فيه وأقمعت ... به البدعة السوداء رغماً لناكل
بعثمان ذي النورين من جمعت به ... بجمع كتاب الله كل الفضائل
ومن لزم المحراب طول حياته ... ومات شهيداً صابراً غير صائل
بقالع باب الخيبري الذي اغتدى ... لراية نصر الجيش أعظم حامل
علي أبي السبطين في صدرة الوغى ... مبيد العدى ليث الحروب المداحل(1/332)
بطلحتهم ثم الزبير وسعدهم ... كذاك سعيد من سما بالفضائل
بصدق أبي عوف بذي الهمة التي ... يدك لها في البأس صم الجنادل
يفاتح قطر الشام سيدنا أبي ... عبيدة كشاف الحروب العواضل
بحمزة بالعباس عمي نبينا ... بسبطيه بالزهراء عين الأماثل
بمن شهدوا بدراً وقد أثخنوا العدى ... ببيض حداد أو بسمر ذوابل
بسطوة سيف الله ذي البأس خالد ... فتى الحزم ماضي العزم زاكي الخصائل
أمير بني مخزوم الشهم من غدا ... ببر يمين المصطفى خير حافل
ومن ثم يوم الفتح سبعون سيداً ... سقاها كؤوس الحتف بين الجحافل
وعاد كأكباد البخاتي دم العدا ... على درعه لاسي فوق الكواهل
وما كان هذا منه إلا برؤية ... بأمر إلهي بعيد التناول
بسائر حفاظ الحديث بمن غدا ... بتفسيره للحبر أو لمقاتل
بأحمد بالنعمان ثم بمالك ... وبالشافعي بحر الندى والمسائل
وبالعلماء العاملين ذوي الهدى ... وأتباعه من كل حبر وفاضل
وبالأولياء العارفين وبازهم ... أبي صالح من قال ما في المناهل
بمن لزموا بر الشريعة فانجلى ... لهم بحر قدس الذات من غير ساحل
أجرني وأنقذني من الهم والعنا ... فغيرك مالي ملجأ في النوازل
وهذا ختام الصوم تصطنع الجدى ... به الأسخيا مع كل سام وسافل
وفي العيد عادات الكرام لقد جرت ... ببر اليتامى وافتقاد الأرامل
وها أنا محتاج فلا تك قاطعاً ... حبال رجائي منك يا خير واصل
فإنك أولى بالمكارم منهم ... وأجدر بالإحسان من كل باذل
فحاشا ظنوني أن ترد بخيبة ... وفي بابك المأمول حطت رواحلي
فإن كان في العمر انفساح فشافني ... من السقم وارحم يا رحيم تناحلي
وإن تك قد حانت وفاتي فآوني ... لدار نعيم عزها غير زائل(1/333)
وثبت على التوحيد قلبي ومن لي ... بخاتمة الإيمان من غير فاضل
وكن لي رحيماً في البلاء وفي البلا ... بدنيا وأخرى يا رجا كل سائل
ودم راضياً عني كذاك ومرضياً ... خصومي ويوم العرض لا تك خاذلي
فإني أرى الدنيا سراباً وأهلها ... أحاديث يرويها الزمان لناقل
وما الكون إلا كالهباء لناظر ... أو الحظ في مستبحر ذي جداول
وإني لراض بالقضا وبما تشا ... وعندي يقين أن لطفك شاملي
ولكنني أشكو البلالك لا القضا ... لأنك أنت الحق أعدل عادل
وللغير لا أشكو وإن سامني الردى ... وفصل فصال المنايا مفاصلي
وعن رتبة التسليم في كل حالة ... فؤادي وإن ناجاك ليس بنازل
وحبة قلبي في معانيك أنبتت ... بقدس سواد الليل سبع سنابل
تعرفت لي من قد ألست بزرعها ... فلم أسقها غير الدموع الهواطل
وبالكتم من بعد الحصاد درستها ... بلب خلا عن فكرة وتخايل
ولا برحت قوتي مع الفقر والغنى ... وقوت عيالي في الضحى والأصائل
ألا ما ألذ القرب بعد النوى وما ... أمر الجفا والهجر بعد التواصل
تبرأت من حولي إليك وقوتي ... ومن عملي والعلم ثم التفاضل
لتقطعني بالقرب عن كل قاطع ... وتشغلني في الحب عن كل شاغل
أشاع الورى عني عداتي وأظهروا ... الشماتة فيما بينهم بالتداول
وبالموت لم يشمت بمثلي تشفياً ... من الناس إلا كل باغ وباسل
أليس الوجود الحق ذاتي بلا مرا ... وهذي البرايا كلها محض باطل
فلا يحسب المغرور أني مضيع ... زماني سدىً ما بين هاز وهازل
فدع عصبة البهتان تفعل ما تشا ... فما الله عما يفعلون بغافل
فمن أين للخفاش أن يبصر الضيا ... وهل يألف الجعلان ورد الخمائل
ومني على روحي الصلاة مسلماً ... وأصحابه والآل مع كل كامل(1/334)
مدى الدهر ما الجندي أنشد قائلاً ... توسلت بالمختار أرجى الوسائل
وله أيضاً مخمساً
أرى قلبي بليلى زاد ميلاً ... وما جرت بربعي قط ذيلا
فقلت لبعلها إذ زار ليلاً ... بحقك هل ضممت إليك ليلى
قبيل الصبح أو قبلت فاها
فعني أن تسل فأنا فتاها ... تملك حبها قلبي فتاها
فقل لي هل دنت لك وجنتاها ... وهل رفت عليك ذؤابتاها
رفيف الأقحوانة في نداها
وقال أيضاً مخمسا
أفدي التي لو رآها الغصن مال لها ... شوقاً وإن قتلت صبا لحل لها
حورية لو رآها عابد للها ... مرت بحارس بستان فقال لها
سرقت رمانتي نهديك من شجري
قالت وقد بهتت من قوله خجلاً ... فتش قميصي لكي أن تذهب الوجلا
فهم أن يقبض النهدين ما مهلا ... فصاح من وجنتيها الجلنار على
قضيب قامتها لا بل هما ثمري
وقال أيضاً مخمسا
أهيم إذا أثنى الأنام بشكركم ... وأكتم أمري لا أبوح بسركم
أحبتنا من طيب نشأة خمركم ... إذا جن ليلي هام قلبي بذكركم
أنوح كما ناح الحمام المطوق
عسى ولعل الدهر يأتي بهم عسى ... أشاهدهم عند الصباح وفي المسا
وقلبي من فقد الأحبة قد قسا ... وفوقي سحاب يمطر الهم والأسى
وتحتي بحار بالجوى تتدفق
إذا ترب غيد فاح منها عبيرها ... وفيهن خود ليس يلفى نظيرها(1/335)
بأحشاء صب زاد فيها سعيرها ... سلوا أم عمرو كيف بات أسيرها
تفك الأسارى دونه وهو موثق
أسير سبته أعين وملاحة ... لمدمعه فوق الخدود سباحة
جريح له في كل عضو جراحة ... فلا هو مقتول ففي القتل راحة
ولا هو ممنون عليه فيطلق
وقال مشطراً
مازال يرشف من كأس الطلا قمر ... يبدو لنا من سحاب الشعر في غسق
أمنه في الثغر شمس الراح قد غربت ... حتى بدت شفتاه اللعس كالشفق
وقام يخطر والأرداف تقعده ... نشوان لم يبق فيه السكر من رمق
فقلت ذا ملك للشهب يحمل أم ... غزال أنس يحاكي البدر في الأفق
ضممته لعناق فانثنى خجلاً ... وفاح من خاله مسك لمنتشق
وعندما بالحيا صينت محاسنه ... وكللت وجنتاه الحمر بالعرق
أشار لي برموز من لواحظه ... منها عن القدح استغنيت بالحدق
وقال إنسانها لي وهو مبتسم ... إن العناق حرام قل في عنقي
وقال أيضاً مشطراً
يا ناقل المصباح لا تمرر على ... ربع به صبح المحاسن أسفرا
واحذر بأن تغشى أشعة نوره ... وجه الحبيب وقد تكحل بالكرى
أخشى خيال الهدب بجرح خده ... فيبث مسك الخال منه العنبرا
أو أن يدب لفيه نمل عذاره ... فيقوم من سنة الكرى متذعرا
وقال
يا در ثغر حبيبي ... دم بالعذيب مقيما
ويا جمال الثنايا ... كن بالعقيق رحيما
ولا تشق عليه ... فتتركنه هشيما
وكن له خير جار ... ألم يجدك يتيما(1/336)
وقال مشطراً
سألت أحبتي ما كان ذنبي ... وهل لي عندهم حدثت عيوب
وكررت السؤال لهم إلى أن ... أجابوني وأحشائي تذوب
إذا كان المحب قليل حظ ... ونجم السعد يعلوه الغروب
ومن يرمي الزمان لقوم سوء ... فما حسناته إلا ذنوب
وقال
يقول لي العذول وقد رآني ... كئيت الجسم منتحباً عليلا
أتسلو يا معنى قلت أسلو ... عن الدنيا ولكن عن علي لا
وقال
وحمام رأيت به غزالاً ... كبدر التم في غصن قويم
فقلت تعجبوا من صنع ربي ... رأيت الحور في وسط الجحيم
وقال في قصاب
يا واضع السكين بعد ذبيحه ... في فيه يسقيها رحيق لهاته
عدها على المذبوح ثاني مرة ... وأنا الضمين له برد حياته
وقال
مهفهف لو أماط السجف لاختلجت ... شمس الضحى وبضوء السحب تحتجب
كأنما أوجد الرحمن صورته ... من مغنطيس لها الأبصار تنجذب
وقال مخمساً
جبينك كالهلال أضا لدينا ... وجيدك كالصباح كسي لجينا
وخدك روضة منها رأينا ... نجوم الورد قد وردت علينا
ونحن من المدام على ورود
أرى الندمان تسفر عن بدور ... وتبرز كالعرائس من خدور
ونجم الكاس يطلع في سرور ... وشمس الراح تغرب في ثغور
وتشرق بعد ذلك بالخدود(1/337)
وساقينا رشا باهي المحيا ... إذا ما عاد ميتاً عاد حيا
فما أحلاه إذ بالكأس حيا ... فقد عقد الحباب على الحميا
فهل لك أن تكون من الشهود
وقال أيضاً مخمساً
ما للهموم أخا الصفاء وحزنها ... إلا ثلاث ويح من لم يجنها
صهباء تجلى كالعروس بدنها ... وبديعة تسبي العقول بحسنها
ومهفهف يزري الغصون بقده
خودخبت شمس النهار ببردها ... واستطلعت نجم السهى من نهدها
ومذ استفز الحب كامل وجدها ... غنت فأطربت الغلام بنشدها
ولنشدها لعب الغلام ببنده
أفدي التي لما استهام حبيبها ... في قبلة كالمسك يعبق طيبها
قالت له ادنو عساك تصيبها ... فدنا يقبلها فمر رقيبها
خافت عليه فأسرعت في رده
وغدت تقول له بحسن كناية ... لا صادفت عيناك عين عناية
من خوفها سوء اتهام زناية ... لطمت عوارضه بغير جناية
منها فأثر نقشها في خده
حتى إذا عطفت عليه بعطفها ... وأضاء وجه من مهند طرفها
مسحت مدامعه براحة لطفها ... فاخضر آس عذاره من كفها
واحمر باطن كفها من خده
وله قصائد كثيرة، وموشحات وقدود شهيرة، قد رقمت في عدة دفاتر، واشتهرت اشتهار البدر السافر وقد توفي في حمص سنة ست(1/338)
وخمسين ومائتين وألف ودفن في خارج المدينة قريباً من جامع سيف الله سيدنا خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه وقد أرخ وفاته الأديب الفاضل السيد عمر المعري بأبيات وبيت التاريخ:
دعيت لساحة الإحسان أرخ ... أمين الحب في عدن تقرر
الشيخ أمين مفتي الحلة الشافعي العراقي
خاتمة المحققين في عصره، ونادرة المدققين في مصره، طلب العلوم وهو شاب، والتف هو والكمال في برد والقذال ما شاب، بحث وحقق وناظر ودقق، وتولى إفتاء الحلة سنيناً، وسل من الحق على من حال عنه سيفاً سنيناً، ورق طبعاً وصلب ديناً، حسنت سيرته في إفتائه طمعاً في ثواب الله وإرضائه، وتولى تدريس المدرسة العلوية، فأقر عيون العلوم النقلية والعقلية، ولقي الإجلاء من علماء العراقين، وألف في النحو وغيره ما هو قرة عين، وتناهت إليه رياسة التدريس في بلده، مع زكاء عرقه وأصالة محتده، ولقد قال فيه الشيخ عثمان بن سند:
يا فاضلاً عشق النسيم طباعه ... والفضل لف عليه منه إهابه
كنت امرأً ألف العلوم وما نعي ... بمشيبه المبيض منه شبابه
صفت الشباب عن اقتراف جريمة ... كالسيف صين عن الفلول غرابه
وبالجملة فهو من الذين نزلوا من الإتقان مكاناً علياً، ومن الأتقياء الذين عاد بهم الفضل صبياً، والأسخياء الذين سقوا رياض الآمال بالمكارم والحاملين حوزة الدين بسيوف من السنة صوارم، والأئمة الذين صيروا الصمت حلية، ونزهوا المسامع عن غيبة وفرية، توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وثلاثين بعد المائتين والألف ولقد رثاه الشيخ عثمان سند بقوله:
سقى قبره للرحمة السحب الوطف ... فما هو إلا الكهف خر به كهف
فيا قلب لا تبرح من الرزء قد قضى ... هزبر هو الإكليل للمجد والطرف(1/339)
قضى غير أني ما قضيت من الأسى ... وأودى فأودى السؤدد العود والعرف
كريم الأيادي لا يغيب عطاؤه ... سقام المعادي لا يطاق له عسف
به أنشبت قوس المنايا سهامها ... وما هو إلا الشمس غيبها الكسف
وكيف وأنوار الأمين محمد ... وما هو عن توصيفها يقصر الوصف
علوماً له أبقى تلوح كأنها ... هي التاج للأيام والقلب والشنف
غدت تحف الرضوان تقدم روحه ... لينشق ريحان الجنان له الأنف
فيا قبره واريت أفضل وارد ... إليك بأعمال هي الخالص الصرف
نعوه فكان العلم أعظم نادب ... معارف منه زانها البحث والكشف
فإن غيبوه في الثرى لم تغب له ... فضائل تزهو من تلألئها الصحف
فيا دافنيه قد دفنتم مرزءاً ... له ترزأ الأموال في الكربة الكف
ويا نعشه أمسيت للبدر داره ... ولو أن نور الشمس من فوقك السجف
ويا حاملي نعش به القطب طالع ... لروح وريحان وحور به زفوا
فتى كان يحيي بالتلاوة ليله ... إذا جن ليل قال للطرف لا تقف
نعوه إلى التدريس فاحتقب الأسى ... وقال انقضى لما قضى معه الظرف
تسامى إلى التدريس والشيب ما بكى ... شباباً له التقوى عن الذائم الزعف
إذا سابق النظار يوماً لغاية ... من العلم لم يسبقه في حلبةٍ طرف
ولولا تعزينا بمن مات قبله ... لما كف عن نثر الدموع لنا طرف
وإن الليالي مودعات قسيها ... سهاماً لها الرامي النوائب والحنف
على أن في أبنائه الغر إذ قضى ... غناء إذا ما البحث عز له كشف
سقى قبره مزن الرضى أنه مضى ... وما كف عن بذل الجميل له كف
أمين أفندي بن حسين بن عمر المنجكي العجلاني الشافعي شيخ المشايخ في دمشق
كان رجلاً صالحاً شهماً تقياً نقياً حافظاً لكتاب الله كثير التلاوة، وله(1/340)
من الخشوع والتدبر والخضوع ما يشهد له بكمال الصلاح والفلاحة والنجاح، وكان قليل الاختلاط مع الناس، دائم الجلوس غالباً في جامع بني أمية ليس له بغير الطاعة والعبادة استئناس، وقد انتقلت إليه بعد موت والده مشيخة الحرف والصنائع وأهل الطرق. وكان شهماً مهاباً جميل الصورة لين الجانب حسن المعاشرة سامي القدر مقبولاً عند الناس. مات رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين ودفن في مدفنهم المعلوم.
الشيخ أمين بن الشيخ عبد الستار بن الشيخ إبراهيم الأتاسي الحمصي
عين الزمان ويمينه، لو حلف الدهر ليأتين بمثله حنثت يمينه، فهو خص كله كرم وجود، وما من فضل إلا لديه ثابت موجود، موارد معارفه سائغة، وملابس عوارفه سابغة، مع شيمة لو أنها في الماء للطافتها ما تغير، وهمة لو تمسكت بها يد النجم ما تغور، وأيادٍ روائح غوادي، كنسيم الروض غب الغوادي، ولد رحمه الله سنة السبع والعشرين بعد المائتين والألف، ونشأ في حجر والده، وقرأ عليه في المعقول والمنقول، إلى أن صار من خلاصة الفحول؛ وكان ذا شفعة ومروءة وهمة، وإسعاف للفقراء والمساكين. كثير البشاشة والإقبال على القاصدين والواردين. وبعد وفاة والده حضر إلى دمشق الشام، وأخذ عن السادة الأعلام، كالشيخ عبد الرحمن الكزبري، والشيخ سعيد الحلبي، والسيد محمد عابدين، والشيخ عبد اللطيف مفتي بيروت. ثم ذهب إلى وطنه الشهير، وتولى وظيفة التدريس بعد والده في الجامع النوري الكبير، في كل يوم جمعة بعد الصلاة، وفي شهر رمضان من ابتدائه إلى قرب منتهاه. ولم يزل على حالته السنية، إلى أن وافته المنية، غرة ذي القعدة الحرام سنة ثمان وثمانين بعد المائتين والألف من هجرته عليه الصلاة والسلام.(1/341)
الشيخ أمين أفندي بن المرحوم العلامة محمد سعيد أفندي الأسطواني الدمشقي
نخبة السادة الأكابر، وعمدة القادة ذوي المفاخر، من ورث المجد كابراً عن كابر، وتسلسل في العلم واغترف من تياره إلى أن قيل كم ترك الأول للآخر، فلا ريب أنه العالم الأوحد، والفاضل الهمام الأمجد، توفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف ودفن في مقبرة الدحداح بالقرب من ضريح أبي شامة.
الشيخ أمين بن عبد الغني بن محمد بن إبراهيم البيطار الحنفي الدمشقي إمام جامع السنانية في دمشق المحمية
العالم الزاهد، والفاضل الورع العابد، ذو الأخلاق العالية، والشمائل السامية، ولد سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف في جمادى الثانية ونشأ في حجر الكمال ناهجاً منهج السادة من الرجال، وقد حضر مجالس الشيوخ الأفاضل، وأخذ عنهم من العلوم ما أثبت له التحلي بالفضائل، منهم الهمام الذي هو بكل قدر حري، الإمام الشيخ عبد الرحمن الكزبري ومنهم علامة الأمصار، والدي الشيخ حسن البيطار، ومنهم الفاضل الشيخ عبد الله الكزبري، والشيخ سعيد الحلبي، وولده الشيخ عبد الله الحلبي، والعلامة الشيخ حامد العطار، والشيخ هاشم التاجي، والسيد مصطفى قزيها، والشيخ محمد الحلواني مفتي بيروت، والشيخ محمد سكر، والشيخ محمد تلو، والشيخ عبد اللطيف أفندي مفتي بيروت وحضر دروس مشايخ آخرين، وأخذ الطريقة النقشية على الشيخ محمد بن عبد الله الخاني مقدم هذه الطريقة في جامع السويقة، وأخذ الطريقة الرشيدية في مكة المكرمة على المرحوم الشيخ إبراهيم الرشيد وأخذ بالإجازة العامة عن كثير من المصريين حينما(1/342)
رجع من الحجاز إلى مصر من طريق مصر، ومن حين كماله وهو مشتغل بالعلوم الشرعية والالية، في داره وفي جامع السنانية، مع خضوع وكمال ولطف وجمال، وفي كل ليلة على الدوام يقرأ في كتب فقه أبي حنيفة الشهم الإمام، بين العشائين في جامع السنانية، ويحضره الجم الغفير من الناس ويعترفون له بكمال اللطف والإيناس، ولم يزل يترقى مقامه، ويسمو احترامه، إلى أن توفي سنة ألف وثلاثمائة وست وعشرين رحمه الله تعالى.
أمين أفندي بن محمد بن عبد الوهاب بن إسحق بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد الجندي المعري مفتي دمشق الشام رحمه الله تعالى
إمام أديب، وهمام أريب، وعالم فاضل، وملازم للقيام بالفضائل من بيت له تقوى وعبادة، وتقدم ورفعة وسيادة، وأصل ونسب، ووصل بأشرف حسب، وله همة قد استوت على محور العلو، ومروءة قد احتوت على مظهر السمو، وذكاء قد تعالى على ذكاء، ورأي لم ير أحسن منه راء، ومعاشرة أجمل من وضأة المحيا، وملاطفة ألذ من نشوة الحميا، وله نسبة شريفة للسيد العباس، عم السيد الأعظم سيد الناس، وقد نظم المترجم نسبه، وأوضح به أصله وحسبه، فقال:
الحمد لله القديم الأحد ... من غير والد له أو ولد
أوجد آدماً من التراب ... لحكمة تدرك بالألباب
ومنه حوا زوجه قد خلقا ... وبث منهما أناساً فرقا
وأرسل الرسل إليهم منهم ... فأفضل الناس حقيقة هم
وخير كل الأنبياء يا فتى ... والرسل من في ختمهم لقد أتى
محمد المختار أشرف الملا ... من كان خلقه عليهم أولا(1/343)
فهو رسول الأنبياء والرسل ... وبدره بين الأنام قد كمل
وشرعه قد نسخ الشرائعا ... وعم بعثة به المشارعا
أمته قد جاء خير أمة ... وقومه في الناس خير عترة
من آل إسماعيل أهل النسب ... طراز كل فدفد وسبسب
القرشي الهاشمي المكي ... محا بسيفه ظلام الشرك
فهو خلاصة الأنام طراً ... وسيد الآفاق براً بحراً
صلى عليه ربنا تعالى ... وعم صحبه بها والآلا
وبعد فالبحث عن الأنساب ... قال به جمع من الأنجاب
مستأنساً بقول طه الهادي ... في خير موقف وخير نادي
أنا النبي الهاشمي لا كذب ... أنا محمد بن عبد المطلب
وبعضهم قال بمنعه وذا ... من محكم التنزيل أيضاً أخذا
وكلهم جاء بما قد أوسعا ... وليس للإنسان إلا ما سعى
وحاصل الأمر بأن الرجلا ... يلزمه في ذاته أن يكملا
من غير أن يعتبر الأنسابا ... ومن رأى أفعاله أعابا
إذ الأنام كلهم من طين ... والشرف الأعظم حفظ الدين
وبعده فالعلم والآداب ... من غير أن يدخلها إعجاب
وإن يكن ذا نسب عريق ... فهو أجل ذلك الفريق
وقد يغطى الشخص بالمعارف ... نسبه في أكثر المواقف
والعلم حقاً فضله يزيد ... فذاك سلمان وذا يزيد
والغبن كل الغبن للإنسان ... خسارة العلوم والإيمان
فنسأل الله تمام النعمة ... ومنناً تشملنا ورحمة(1/344)
وقد أردت أن أعد نسبي ... للحفظ لا للفخر يا ذا الأدب
وإنني أحقر من أن أذكرا ... أو أن أكون في الورى موقرا
لكن بقدر طاقتي أقول ... والعفو من ذي همة مأمول
ونبتدي الآن بما قصدنا ... وما بذا الإرجاز قد أردنا
فأشرف الأنساب ما كان إلى ... خير النبيين الكرام أوصلا
وإنني بحمده تعالى ... بلقبي واسمي وجدت فالا
محمد اسمي الأمين لقبي ... كذا أتى محمد اسم أبي
ومولدي أرخ غلام مفلح ... في وقته حكاه حبر صالح
مسكننا معرة النعمان ... ومعدن السخاء والإيمان
ووالدي المذكور مفتيها ومن ... غدا على شرع النبي مؤتمن
كم نشر العلم بها وعلما ... وقام بالإصلاح لما سلما
إليه في محفلها يشار ... وهو بها للكل مستشار
ينصح للدين وللولاة ... وللرعايا سائر الأوقات
وكان بالصلاح غير متهم ... وفي جميع القطربدراً وعلم
مدرس في الدولة العلية ... خليفة للسادة الصوفية
يخدم سبعة من الطرائق ... في رتبة الإرشاد والحقائق
عليه جزؤ من فراشة الحرم ... وروضة المختار أشرف الأمم
والده كان إماماً صالحا ... خطيب قومه وفيهم فاصحا
يعرف بالعابد للوهاب ... أبوه إسحق بلا ارتياب
كذا أبوه عابد الرحمن ... وحسن أبوه بالإعلان
والده محمد الجندي ... وذكرنا الآن بذا محكي(1/345)
وهو ابن أحمد بن إبراهيما ... أبوه ياسين غدا كريما
قطب لقد شرف بكفالونا ... إذ كان في أرجائها مدفونا
بقرب إدلب وفيها قوم ... ما في انتسابهم إليه لوم
شهرتهم بالجوهري تعرف ... وهم بأثواب الصلاح شرفوا
همو بنو أعمامنا بلا خفا ... وكلنا غدا بذا معترفا
ثم أبو ياسين إبراهيم ... وهو ابن عبد الله يا فهيم
والده عبد الكريم الزيني ... أبوه أحمد شهاب الدين
يعرف بالمكي والسواح ... وهو الذي جاء لذي النواحي
ابن الأمير وهو عبد الله ... ابن الأمير يوسف ذي الجاه
والده عبد العزيز السامي ... وهو ابن منصور الأمير النامي
وهو أبو جعفر الخليفة ... منتصر بالله دون خيفة
ابن محمد الأمير الظاهر ... وهو ابن أحمد الأمير الناصر
ابن الأمير حسن الخليفة ... أبي محمد جمال الكوفة
ابن الأمير يوسف المستنجد ... بالله وهو ابن الفتى محمد
خليفة يقفو لأمر الله ... ابن الأمير أحمد المباهي
وهو ابن عبد الله والمقتدر ... لقبه وفضله لا يحصر
خليفة أبوه بالذخيرة ... محمد يعرف بين الخيرة
وهو ابن عبد الله أعني القائما ... لله بالأمر وكان راحما
ابن الأمير أحمد الخليفة ... شهرته بقادر معروفة
وهو ابن جعفر بن جعفر وذا ... أبوه أحمد وعنه أخذا
ابن الأمير طلحة بن جعفر ... ابن محمد سراج الأعصر
يعرف بالمعتصم الكرار ... والأسد الغضنفر المغوار
وهو ابن هارون الرشيد من غدا ... بنوره في الخافقين يهتدى
خليفة قام لهذا الدين ... بالنصر والتأييد والتمكين(1/346)
وهو ابن من لقب بالمهدي ... محمد ذي المشهد السني
وهو ابن عبد الله والمنصور ... لقبه وهو به مشهور
عمر بغداد كما قد أرخا ... أيامه كانت على الناس رخا
ابن محمد وذا بالكامل ... ملقب في سائر القبائل
ابن علي وهو ذو النفتات ... لقبه السجاد أيضاً آتي
وهو ابن عبد الله بحر الامة ... سراجها في كل مدلهمة
وهو ابن عم مصطفى العباس ... من كان شمساً في خلال الناس
وكان يستسقى به الغمام ... ولحماه يلجأ الأنام
ومدحه قد جاء في القرآن ... وكم حديث صح في ذا الشان
وهو من أصحاب العباء مره ... وكم تحامى المصطفى وسره
مسكه بيده الشريفه ... في ملأ صفاته منيفه
وقال هذا دون شك عمي ... صنو أبي وهو دمي ولحمي
فمن يواليه فقد والاني ... ومن يعاديه فقد عاداني
وحفظ حرمتي بحفظ حرمته ... وأشهد الله على مقالته
ولو أردت ذكر ما قد وردا ... في مدحه لطال ذلك المدى
لكنني اختصرت واختصاري ... لاشك فيه بلغة للقاري
ولنرجع الآن إلى ذكر النسب ... وعد هاتيك الجدود والعرب
وإن يكن ذلك أمر مشتهر ... لكن على السالك أن يقفو الأثر
فاسمع هديت سبل الرشاد ... ومن هنا أشرع بالمراد
فوالد العباس عبد المطلب ... وهو ابن هاشم إليه قد نسب
والده عبد مناف بن قصي ... ابن كلاب مرة له أبي
وهو ابن كعب بن لؤي يا فتى ... أبوه غالب بن فهر ثبتا
وقيل إن ذا قريش وعلى ... أصح الأقوال بنوه الأصلا
وهو ابن مالك أبوه النضر ... ابن كنانة كرام طهر(1/347)
ابن خزيمة الذي أبوه ... مدركة كذاك حرروه
والده الياس جده مضر ... ابن نزار بن معد الغرر
وهو ابن عدنان وهذا آخر ... ما صح في الأنساب وهو ظاهر
وبعده فاترك مقالاً زورا ... وكن على ما قلته مقصورا
وفي الحديث كذب النساب ... ما فوق عدنان وما أصابوا
لكنني أذكره استطرادا ... ليستفيد منه من أرادا
وليس مقطوعاً به لما سبق ... وإنما عليه جمع اتفق
وجاء في أكثره اختلاف ... وسرده في مثل ذا إنصاف
وإنني أذكر باختصار ... كيلا يطول فيمل القاري
أقول عدنان أبوه أد ... وأدد يتلوه إذ يعد
وأدد بن اليسع المحترم ... ابن الهميسع الكريم العلم
ابن سلامان بن بنت بن حمل ... وهو ابن قيذار بلا بسط جمل
وهو ابن إسماعيل نخبة العرب ... وقطب محراب المعالي والرتب
ابن الخليل وهو إبراهيم ... صلى عليه ربنا الرحيم
أبوه ناراح وقيل آزر ... كلاهما شخص ولا تغاير
وهو ابن نامو ربن ساروغ كما ... رأيته بخط بعض العلما
فرغو بن قالغ بن شالح ... ألحق به أرفخشذ في الراجح
وهو ابن سام بن نوح النبي ... وهو بن لامح كما في الكتب
ولامك ولمك أسماء ذا ... فإن تجد أحدها لا تنبذا
واسم أبيه متوشلح إلى ... أنوش أعني نجل شيث وصلا
وشيث ابن آدم أبي البشر ... وزوجه حوا كما قد اشتهر
وإن ذا أقرب ما رأيته ... وعن ذوي التاريخ قد رويته
فاحفظه غير جازم بصحته ... واقصر إذا سئلت عن تلاوته
وإنني أستغفر الله فلا ... يبعد أن في مقالي زللا(1/348)
ثم الصلاة والسلام الأبدي ... على النبي الهاشمي محمد
أفضل أهل الأرض والسماء ... وأشرف الجدود والآباء
وآله وصحبه الكرام ... والحمد في المبدأ والختام
فقد علم من النظم أن المترجم قد ولد في مدينة معرة النعمان سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين وتربى في حجر والده، ثم إنه في سنة مائتين وأربعين سافر مع والده إلى حمص، وأقام معه بها إلى سنة ثمان وأربعين، وكان قد حفظ تلك المدة في الإقبال على الطلب في فنون متعددة على والده وغيره، ثم عاد مع أبيه إلى الوطن، ولم يزل على طلبه وترقيه إلى عام ثلاثة وخمسين، فتقلد القضاء في المدينة المرقومة، وكان يظن أن ذلك يكون له منحة عظيمة، فكان له محنة وبلية جسيمة، فتعارك مع الأقران، وتخاصم مع نواب ذلك الزمان، وتعاقبت عليه الغوائل، فألقته في بحر عميق بلا ساحل، فلم يكن له ملجأ سوى صاحب الرسالة، وحاشاه أن يهمل أقاربه وآله، فخلصه الله من كروبه، وأوصله من خذلانهم إلى مطلوبه، ولذلك كان كثير التوسل بجنابه، دائم الصلاة عليه وعلى آله وأصحابه. وقد اجتمع بكثير من الأدباء، وعددٍ غزير من العلماء، من أكابر سادة عصره، الكائنين في مصره وفي غير مصره، كالعالم العلامة، والحبر البحر الفهامة، السيد الشيخ وفا أفندي الحلبي المتوفى في أواخر شهر ربيع الأول سنة ألف ومائتين وأربع وستين، وكالعالم الأديب الأريب الشيخ أمين أفندي الجدندي الشاعر الماهر المشهور، وغيرهما ممن طاب في الأنام ذكره، وطلع في أوج الرفعة بدره، وفي يوم السبت الثامن والعشرين من ذي الحجة الحرام، سنة إحدى وستين حضر إلى الشام، مطلوباً من واليها هو وأبوه لأمر سياسي اقتضى ذلك، وفي نصف صفر(1/349)
الخير سنة اثنتين وستين حضر فرمان مرسوم سلطاني بإقامتهما في الشام، وداما في هذه الغربة إلى غاية شهر المحرم الحرام، سنة ثلاث وستين ومائتين وألف فحضر الفرمان العالي بإطلاقهما بهمة محمد نامق باشا مشير الأوردي الهمايوني الخامس، فخرج مع أبيه من دمشق يوم الاثنين رابع وعشري صفر من السنة المرقومة، ودخلا إلى المعرة يوم الاثنين غرة شهر ربيع الأول، وتوجه على أبيه منصب الفتوى وعليه منصب القضاء، بعد عزلهما من هذين المنصبين من حين طلبهما إلى الشام، وفي سنة ألف ومائتين وأربع وستين رابع عشر شوال يوم الاثنين توفي والده، واسترحم عموم الأهالي بوضع المترجم مكانه مفتياً، وكان إذ ذاك شيخ الإسلام أحمد حكمت عارف بك فتوجه عليه الإفتاء من غير مهلة، ولم يزل مفتياً إلى أوائل المحرم سنة ست وستين، وفي هذا التاريخ حضر له رسالة من صاحب الدولة محمد أمين باشا مشير الأوردي الهمايوني الخامس الجيش السلطاني يأمر المترجم بحضوره إلى الشام، ليكون كاتب عربي الأوردي المرقوم، فبعد الاستعفاء المقابل بعدم القبول، حضر إلى الشام في غرة جمادى الأولى من السنة المرقومة، وحصل له جاه وقبول عند المشير المومأ إليه لما حاز عليه من الأوصاف المرغوبة، والألطاف المطلوبة، والمعارف الكاملة، والعوارف الشاملة، ولم يزل عنده معظما منظما، إلى أن توفي المشير المومأ إليه رحمه الله وذلك في اليوم الثالث عشر من شهر ذي القعدة الحرام الذي هو من شهور سنة ألف ومائتين وسبع وستين، ودفن في تربة الشيخ الأكبر في صالحية دمشق الشام ونظم المترجم له أبياتاً كتبت على بلاطة قبره وهي:
بشرى دواماً للمشير أمين ... نال المنى بجوار ذي التمكين
بحر العلوم العارف الغوث الذي ... هو قطب مركز عالم التكوين(1/350)
شمس أضاء الكون نور سنائها ... ويتيمة ما ثنيت بقرين
ختم الولاية للبداية وارث ... كنز على الأسرار غير ضنين
قد كان يعشقه المشير بطبعه ... عشقاً تخلص من ربا تلوين
والفضل يعرفه ذووه بلا مرا ... وكفى بهذا القدر من تحسين
والمرء يحشر مع محبيه أتى ... في سنة الهادي البشير أمين
ولذا أشرت إلى الضريح مؤرخاً ... هذا حبيب الشهم محيي الدين
وبقي في مصلحته وكتابته لدى كل مشير بعد موت المشير المرقوم إلى أن حضر عبد الكريم باشا في سنة ثلاث وسبعين ومكث مدة قليلة ثم عزل عن الأوردي الخامس وتوجه لعهدته ارد والأناطولي فاستصحبه معه بوظيفتي الكتخداية وكالة الشؤون الخاصة وكتابة ديوانه إلى مركز الارد والهمايوني الجيش السلطاني وهو بلدة الأرزنجان، فأقام هناك دون أربعة أشهر ثم توجه بالإذن إلى طرابزون ومنها في البحر الأسود إلى دار السلطنة العظمى وكان دخوله يوم عاشر المحرم سنة أربع وسبعين فأقام خمسة أشهر، ثم حضر إلى الشام إلى مصلحته الأولى وهي كتابة العربي في أردو وعرب ستان، ثم في سنة ست وسبعين في نصف شهر جمادى الأولى عاد لدار السعادة حيث أن الصدارة العظمى أحيلت لعهدة قبريسلي زاده محمد باشا لوعد كان وعده به، وبعد وصوله بأيام قلائل عزل الباشا المشار إليه، فأقام المترجم أربعة أشهر وعاد لمأموريته بدمشق، وكان المشير إذ ذاك في الشام أحمد باشا الشهيد. وفي أثناء تلك السنة حصلت وقعة النصارى في جبل لبنان ثم في الشام، فعينت الدولة لإصلاح سوريا حضرة ناظر الخارجية فؤاد باشا مأموراً مستقلاً فوق العادة، وعند حضوره إلى دمشق استخدم المترجم بمعيته ثم بإعضائية مجلس فوق العادة، وبعد ذلك انتخبه إلى فتوى الشام، وورد له المنشور العالي في نصف شهر جمادى الأولى سنة سبع وسبعين ومائتين وألف، ثم(1/351)
لما تولى ولاية الشام محمد راشد باشا وقع بينه وبين المترجم اغبرار، فأنهى الوالي المذكور بعزل المترجم من الإفتاء وإحالته لعهدة محمود أفندي الحمزاوي، فحضر له المنشور في نصف شهر رمضان المبارك سنة أربع وثمانين ومائتين وألف، وأقام المترجم المذكور في بيته إلى أن صدرت الإرادة السنية بتشكيل مجلس كبير في دار السعادة يكون مرجعاً لكافة المجالس الداخلية والخارجية، وسمي بشورى الدولة ورئيسه صاحب الدولة مدحت باشا، وقسم هذا المجلس إلى خمس دوائر العدلية والملكية والمالية والنافعة والمعارف، ولكل دائرة رئيس يسمى معاوناً للرئيس الأول وهو مدحت باشا المشار إليه، فوظفت الدولة العلية المترجم المذكور في شورى الدولة، فخرج من الشام في يوم الأحد خامس عشر ربيع الأول سنة خمس وثمانين ومائتين وألف وكانت عضويته في دائرة الملكية، ثم توجهت عليه باية مولوية مكة المكرمة مع النيشان الوسام المجيدي من الرتبة الثالثة، وذلك في السابع والعشرين من شوال المكرم سنة خمس وثمانين ومائتين وألف، وفي غرة ذي القعدة من السنة المذكورة توفي ولده محمد زكي افندي، فأخذ المترجم رخصة أنه يتوجه إلى الشام، ويبقى نحو أربعة أشهر لتنظيم أمر بيته، وكان ذلك في أوائل ربيع الأول سنة ست وثمانين، وبعد مضي المدة المذكورة توجه إلى الآستانة بجميع عياله، وفي رمضان سنة سبع وثمانين عصى على الدولة أمير جبل عسير المجاور لليمن المسمى محمد باشا بن عائض، وجمع كثيراً من قبائل العربان، وحاصر بلدة الحديدة التي هي مركز المتصرفية، وصدرت الإرادة السلطانية بسوق فرقة من العساكر النظامية من دار السعادة تحت رياسة رديف باشا الفريق، وتوجيه المترجم قوميسيراً مفوضاً وقاضياً مع الفرقة المرقومة، وقد حصل للمترجم تأخر بسبب مرض أصابه، ثم جاءت أخبار بظفر العساكر بالأمير المرقوم وإعدامه وتشتيت أعوانه وجنوده، وبسوء حال علي باشا شريف متصرف(1/352)
اليمن، فأمر الدولة العلية بإرسال مأمور لتحقيق أحوال الباشا المشار إليه وغيره، فانتخب مجلس الوكلاء المترجم لذلك، وصدرت الإرادة السلطانية بتوجيهه، وعين له خرج طريق خمسة وسبعون ألف قرش ما عدا المعاش، ثم ضم إلى ذلك مأمورية رياسة مجلس تشكيل ولاية اليمن، بمعاش عشرة آلاف قرش، فذهب إلى هناك في ذي القعدة سنة ألف ومائتين وسبع وثمانين، وبقي هناك مدة موفقاً محترماً، ثم إنه استعفى بعد مدة لعدم موافقة المحل لمزاجه وصحته، وحضر إلى الشام معدوداً من أفاضلها وذوي فضائلها، إلى أن دعته المنية، للمراتب العلية. وذلك في أواخر محرم الحرام الذي هو من شهور سنة ألف ومائتين وخمس وثمانين، ودفن في جبانة مرج الدحداح رحمه الله تعالى.
ومن قصائده التي هي في كعبة الحسن معلقة، وأشعاره التي تفوق على السلافة المعتقة، قوله مادحاً خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيدنا الإمام أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه:
إذا ما رماك الدهر بالبؤس والضر ... فكن مستجيراً بالإمام أبي بكر
خلاصة أصحاب النبي بلا مرا ... وأولاهم من بعده صاح بالأمر
وأفضل أهل الأرض بعد محمد ... وبعد النبيين الكرام بلا نكر
صديق صدوق في المحبة كيف لا ... وما افنك عنه في الحياة وفي القبر
ولم يتلعثم بالإجابة عند ما ... دعاه إلى الإسلام خير الورى الطهر
وأخبره عما رأى في منامه ... قديماً وما قصته كاهنة العصر(1/353)
فقال نعم والله إنك صادق ... وإنك أنت المصطفى من بني فهر
وأنت رسول الله للناس كلهم ... وخاتم كل الأنبياء إلى الحشر
وفي ليلة الإسرا بتصديقه به ... غدا أمة والناس في غفلة الكفر
وبالنفس والأموال جاد ولم يزل ... مطيعاً لما يقضيه كالولد البر
وفي الغار ثاني اثنين والله ثالث ... بنص كلام الله في محكم الذكر
بصحبته رب البرية شاهد ... وذلك عند الله من أعظم القدر
وفي يوم بدر في العريش رفيقه ... وحاجبه حرصاً عليه من الغدر
مساعيه في الإسلام جلت فلم تكن ... تقدر أو تحصى بعد ولا حصر
هزبر له في همة الدين نصرة ... وعزم شديد يجعل السر كالجهر
وفي مدحه كم من حديث مصحح ... رواه لنا حبر يحدث عن حبر
فمنها أبو بكر أياديه لم تزل ... علي وما كافأته آخر العمر
ولو كان بعدي مرسل لم يكن سوى ... أبي بكر الصديق في غاية الفخر
ويوم وفاة المصطفى حين أخطأت ... من الناس آراء لدى كل ذي فكر
فمن قائل لا تخبروا بوفاته ... مخافة أن يرتد قوم على الاثر
فما هو إلا أن دعا الناس مسرعاً ... وقام خطيباً بالمحامد والشكر
وقال ألا من كان يعبد أحمداً ... فقد مات إعلاماً لمن كان لا يدري
ومن كان منكم يعبد الله مخلصاً ... له الدين بالإيمان من عالم الذر
يحقق أن الله حي منزه ... عن الموت قيوم على كل ذي أمر
وقد قال في التنزيل أن محمداً ... رسول خلت من قبله الرسل في الدهر
ولما أتم الآية استرجع الورى ... كأنهم لم يسمعوها من الذكر
وقوى قلوب المؤمنين بوعظه ... وأذهب عنهم غصة الخوف والقهر
فبايعه أهل التكلم بعد ذا ... وخابت ظنون المشركين من المكر
وقام بتجهيز الرسول ودفنه ... فكم طفقت عين على فقده تجري
وأمضى غزاة باشر المصطفى بها ... فكانت بحمد الله فاتحة النصر(1/354)
وجاهد أهل البغي بالسيف عندما ... تعدوا إلى نقض الشريعة بالكبر
وأجرى له الباري عوائد فضله ... وأيده بالنصر والفتك والأسر
خلافته كانت على الناس رحمة ... وأحكامه أحلى من الشهد والقطر
وباغضه لاشك يقتل كافراً ... وإن صام أو صلى إلى البيت والحجر
فنساله سبحانه أن يعيذنا ... من الشك والإشراك والبغض والإصر
ويحشرنا في زمرة المصطفى غداً ... ويجعلنا من قومه السادة الغر
عليه صلاة الله ثم سلامه ... وسحب الرضا تنهل بالعز والبشر
على الآل والأصحاب ما أهدت الصبا ... إلينا أحاديث الأحبة إذ تسري
وما غربت شمس وما ذر شارق ... وما دامت الدنيا إلى آخر الدهر
وقال رحمه الله يمدح السلطان عبد المجيد خان بن المرحوم السلطان محمود خان العثماني ويذكر فيه أجلاء المصريين الذين هم تحت رياسة إبراهيم باشا بن محمد علي باشا من البلاد الشامية والساحلية وكان ذلك في شهر رمضان المبارك عام ستة وخمسين ومائتين وألف فقال
هجم السرور على الأنام مبسملاً ... والنصر جاء مكبراً ومهللا
ضحكت ثغور المسلمين وطالما ... بكت العيون دماً عبيطاً مشكلا
غارت ينابيع الفجور وفجرت ... أنهار عدل ورد مشربها حلا
وذيول أرجاء الممالك طهرت ... من لوث بغي الخارجين عن الولا
والله أيد دينه بخليفة ... نشر المراحم في البسيط على الملا
ملك به افتخر السرير وأخمدت ... بجلوسه فتن بها الكون امتلا(1/355)
من آل عثمان الأكارم من بنوا ... في المجد بيتاً لا يزال مؤثلا
قوم بهم قامت دعائم ديننا ... ولجيشهم فتح البلاد مسهلا
والأرض ميراث لهم من ربها ... نص عليهم في الكتاب تأولا
خلفوا بني العباس في إخلاصهم ... فغلا بهم قدر الشريعة بل علا
قاموا بأعباء الخلافة حسبما ... يرضى المهيمن مجملاً ومفصلا
لا غرو إذ هم من سلالة هاشم ... نسباً وأفعالاً فدع من سولا
فولاؤهم حفظ لأهل الأرض من ... خلف كما جاء الحديث مسلسلا
فالحمد لله الذي قد خصنا ... بخليفة منهم به الكرب انجلى
وهو الإمام الماجد الشهم الذي ... فاق الملوك مهابة وتفضلا
بحر إذا سعت العفاة لبابه ... وغضنفر تخشاه آساد الفلا
وسع الأنام مراحماً وبعدله ... أضحى الزمان مجملاً ومجللا
مولى رفيع القدر قد نسخت به ... آي الخلاف واثبتت آي الولا
سبحان من جعل التقى جلبابه ... والحلم والبأس الشديد له حلى
ذو همة بالحق عالية الذرا ... لو قابلت أعلى الجبال تزلزلا
نعم الإله به علينا جمة ... عن شكرها قصرت عبارات الملا
وصف الخلافة مذ تشرف باسمه ... عنا جلا خطباً جسيماً معضلا
عبد المجيد بمجده شهدت لنا ... أفعاله لا زال بدراً أكملا
لاشك يا مولاي أنت مؤيد ... والنصر فأل قد أتاك مهرولا
أنا قد خدمتك بالمديح مقدماً ... في مدة يخشى بها أن يقولا(1/356)
وأبحت نفسي في سبيلك حسبة ... لله لا أبغي بذلك معدلا
والآن قد آن المديح وإنني ... سأجيد مدحاً لن يتمثلا
فاقبل لعبدك مدحة جاءت على ... عجل ولا تقطع رجا من أملا
والحمد لله العظيم وشكره ... فرض علينا حيث أحيانا إلى
يا رب بالذات العلية ثم بالمختار ... أفضل من دعا وتوسلا
وبآله والصحب طرا سيما ... من قام منهم بالخلافة أولا
وبتاليبه وبالوصي وزوجه ... وابنيه ثم بني بنيه على الولا
بالتابعين وبالأئمة كلهم ... وبكل حبر في العلوم تغولا
بالقطب عبد القادر الأسد الذي ... عنت الرقاب له وحل المشكلا
وبكل قطب نال منك كرامة ... وكسوته بالقرب ثوباً مسدلا
بالأولياء جميعهم وبمن غدا ... وجه الزمان بنورهم متهللا
وبكل عبد قد أجبت دعاءه ... وبمن تجيب إذا دعيت به الملا
أيد أمير المؤمنين وحزبه ... وأدم له منك السعادة والعلا
وانصره نصراً يا قدير مؤزراً ... واجعل له فتح البلاد مسهلا
وأطل بقاه مدى الزمان وعمره ... لنرى منار الدين مرتفعاً على
ألهمه في حق العباد مراحماً ... واسلك به سبل التقى كي يعدلا
واقمع بسيف القهر كل معاند ... واهدم بناء المشركين وعجلا
واجبر بأنظار الخليفة كسرنا ... والطف بنا لطفاً عميماً مسبلا
ثم الصلاة مع السلام على الذي ... بمديحه جاء الكتاب مرتلا
والآل والأصحاب والأتباع ما ... وقف الحجيج معرفاً وتحللا
أو ما الأمين غدا يؤرخ مرجعاً ... هجم السرور على الأنام مبسملا(1/357)
وقال رحمه الله متغزلاً في واقعة حال ولكنه زاد ما لم يقع تونيقاً على عادة الشعراء، وهذه القصيدة ألطف ما قاله:
بدا وجهها في ظلمة الليل كالبدر ... ونم عليها عابق الطيب والعطر
وبشرنا بالوصل عند ابتسامها ... بريق ثناياها الشبيهة بالدر
نهضت إليها فانثنت بلطافة ... تقبلني والدمع من شوقها يجري
وقالت عسى عصر الصدود قد انقضى ... فقلت وقلبي بالغرام على جمر
فديتك ما للعتب يدخل بيننا ... فقد كان ما قد كان في سالف الدهر
فإن أويقات الوصال قصيرة ... فلا تشغليها بالتذكر والفكر
فإن كان قطع الود منك فإنني ... عفوت ومني إن يكن فاقبلي عذري
فما لذ للعشاق وصل ممحض ... من الصد والتعنيف والبعد والهجر
ألم تدر أن الدر عز لأنه ... على خطر من يبتغيه من البحر
وما ضرنا ما قد لقينا وأننا ... بلغنا ذرى الآمال في آخر الأمر
فهيا بنا نقضي من البسط حظنا ... ودع ما جرى في الكون من بعدها يجري
وعانقتها فانضم ثغري لجيدها ... وألصقت النهدين منها إلى صدري
وعاد لها طوقا ذراعي وتارة ... وشاحاً وآناً كالنطاق على الخصر
وظلنا ندير الراح اشرب سؤرها ... وتشرب سؤري ثم تجلس في حجري
ونقلي لماها والمثاني حديثها ... ومصباحنا عقد يضيء على النحر
نميل نشاوى كالقضيب يهزه ... نسيم ونحصو ثم نغرق بالسكر
أوسدها يمناي ثم تضمها ... يساري كما انضم الكمام على الزهر
إلى أن أراد الصبح أن يستفزنا ... وقامت جيوش الليل من غيظها تسري
أفاقت وقالت حان وقت افتراقنا ... ونم علينا للرقيب سنا الفجر
فقم نتزود للوداع فما عسى ... يعود لنا هذا التواصل في العمر
فما راعني إلا بكاها وقولها ... فراقك في قلبي أمر من الصبر(1/358)
فودعتها والدمع مني مسلسل ... على صفحات الخد كالوبل والقطر
وقلت بحقي يا مليكة مهجتي ... وبالغنج من عينيك والكحل والسحر
وبالخال والثغر المنضد واللما ... وعقد حباب فيه أبهى من الدر
بحق الدجا من شعرك الفاحم الذي ... به ضل رأيي واستقام به شعري
بفرقك ذي الإشراق والنور والبها ... وما قد تلا من آية الفتح والنصر
بألماس جيد ثم لين معاطف ... ومياس قد فاق عسالة السمر
بساعة أنس منك نلت بها المنى ... ودارت علينا أكؤس الراح والخمر
بعزك يا أخت الشموس وذلتي ... لديك غراماً تم بالشفع والوتر
دعي الهجر بعد الآن واستعملي الوفا ... وعودي بوصل واغنمي وافر الأجر
فقالت منائي قر عيناً فإنني ... بحبك في قيد المهانة والأسر
ولا برحت خدي لنعلك موطئاً ... إلى أن يليني رائد الموت للقبر
فودعتها بالضم ثم لثمتها ... ثلاثاً وسبعاً ثم عشراً على الاثر
وجرت رداها ثم سارت وأودعت ... فؤادي غراماً لا يقدر بالحصر
فيا ليلة ما مر في العمر مثلها ... ترى هل تعودي عن قريب ولا أدري
سلامي على ربع الأحبة كلما ... ترنم شاد حين هيجه قمري
وكتب مراسلاً بعض أحبابه
ولما بان من أهواه عني ... فقد تصبري وعدمت رشدي
وواصلت السهاد لفرط شوقي ... وأجريت الدموع لعظم وجدي
وعللت الفؤاد فقال دعني ... فما التعليل والتسويف مجدي
ومالي من دواء غير قربي ... لمن أهواه في فرح وسعد
وإن طال المطال عدمت روحي ... وعز عليك يا مولاي فقدي
وإن وافيتني من غير مطل ... غنمت الأجر واستبقيت ودي(1/359)
ومن نثره في خطبة ديوانه رحمه الله تعالى قوله: لما كان لكل إنسان عين من الشعر إن حركها فارت، وإن تركها غارت، وكنت قد حركت عين شعري، فبضت بقطرات قليلة، رجوت أن تكون لتذكاري فيما يأتي وسيلة، وإن كان الشعر ليس بمزية يحق بها الافتخار، فليس هو في حد ذاته منقصة توجب الاحتقار، حيث جاء بنص الكتاب مدح بعض الشعراء وذم البعض، وقد تدور عليه الأحكام الأربعة بحسب الإبرام والنقض، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مدح فأجاز، وأمر بهجو قوم هجوه بضرب من الأرجاز، فقال اهج بإحسان، نصرك الله يا حسان، وقد ورد في مدح الشعر والشعراء، من الأحاديث والأخبار ما يفوت درجة الاستقصاء، وقد قال بعضهم الشعر ديوان العرب وبه عرفت الأنساب. وقال سيدي عمر بن الوردي المعري رحمه الله تعالى:
انظم الشعر ولازم مذهبي ... فاطراح الرفد في الدنيا أقل
وكان في هذا الزمان قد كسد سوقه، ويبست عروقه، ونضب ماؤه، وسكن هواؤه، وانفقدت دواعيه، وخسر بائعه وشاريه، حتى حق لأهله أن يتمثلوا بقول ابن المعتز رحمه الله:
قالوا هجرت الشعر قلت ضرورة ... باب الدواعي والبواعث مغلق
خلت الديار فلا كريم يرتجى ... منه النوال ولا مليح يعشق
ومن العجائب أنه لا يشترى ... ومع الكساد يخان فيه ويسرق
هذا وإن الشعر لا يخلو من تشحيذ الأذهان، وترقيق الطباع وتسلية الأخدان، ولم يزل صاحبه منتصفاً من الزمان، مستعيناً على طوارق الحدثان، وكنت منذ ميزت، وجدت والدي حفظه الله تعالى أوحد هذا العصر، في صنعة القريض والشعر، لكنه غير مكثار منه لشغله بالفتوى(1/360)
والتعليم، إذ هو فيهما مرجع أهل الإقليم، فصرت في حالة التعلم أخبط في ذلك، وأقتحم تلك المفاوز والمسالك، إلى أن نظمت ما يقرأ في سن اثني عشر، وقفوت في ذلك من أهل هذه الصناعة الأثر، وإن كان شعري لا يحق له أن يكتب ولا أن يقرأ، لكني أردت أن يكون لي جمعه في هذه الوريقات فيما يأتي ذكرا، والمرجو من الناظر إليه من الإخوان والسادات، أن يغض طرفاً عما يجده فيه من الهفوات، وأن يصلح منه ما هو قابل للإصلاح، فالحر لا يزال صفاح، وإلا فمن أين للإنسان أن يستكمل جميع الأوصاف، وقد يتلافى المرء قصوره بالاعتراف، ورتبت ديواني هذا على مقدمة وأربعة أبواب، إلى آخر ما قال ديوان لطيف، يشهد لمنشئه بالمقام العالي المنيف.
ومن كلامه هذا الموشح الذي مدح به السيد الأعظم صلى الله عليه وسلم
شادن تاه على بدر السما ... وتحلى برداء سندس
وببيض اللحظ والسمر حمى ... خمر ريق في ثغير ألعس
دور
يا لقومي من مجيري من رشا ... مستطيل الحكم في أهل الغرام
لم يدع فيهم صحيحاً مذ نشا ... غير مطعون بخيزور القوام
وله الألباب حقاً والحشا ... عشقاً من قبل أن يخلق سام
ووجودي فيه أضحى عدماً ... مذ بأنواع الكمالات كسى
وغدا الخد شقيقاً عندما ... عندما سل سيوف النرجس
لذ لي خلع عذاري في هوى ... من سبا الألباب في سود الحدق
مسدلاً ليلاً طويلاً قد هوى ... وله الفرق تراءى كالفلق(1/361)
وعلى وجنته خالاً حوى ... أمن المسك له الباري خلق
بهرمان الخد حاذى عنما ... طاب هذا محتداً في مغرس
ما لعمري ذاك من طين وما ... هو نور جاءنا في ملبس
دور
إن قلبي لحبيبي قد صبا ... وعلى مائدة الحب طفل
لم أزل مستنشقاً ريح الصبا ... حيث من دار اللوالي قد وصل
أنا إن مت بحبي وصبا ... لم أحل عن عشقه مهما حصل
كيف أسلو من إلى العرش سما ... وتدلى للجناب الأقدس
في حديث صححته العلما ... ورواه مالك عن أنس
دور
عين أعيان البرايا والملا ... سيد الرسل ومصباح الهدى
من أقام الدين حتى أن علا ... وسقى السم من السيف العدى
وأتى بالحق مذ عنا جلا ... ظلمة الشك وأوثاق الردى
من عليه الضب حقاً سلما ... وله الظبي شكا فعل المسي
كم وكم أبرأ عيناً من عمى ... فاجتنب أفعال أهل الهجس
دور
أيها العاصي الذي قد غرقا ... في بحار الذنب أسرع مقبلا
وتيمم كعبة لن ترتقى ... وهزبراً أسداً لن يبسلا
خير من صام وصلى واتقى ... ورقى الذروة من عهد بلى
لم يفه قط بلا، لا، أو بما ... لفقير جاءه أو مفلس
من يوافيه يلاقي حرماً ... فيه أملاك السما كالحرس
دور(1/362)
يا رسولاً للبرايا بعثا ... رحمة أنعم بها من رحمة
كل مجد وكمال ورثا ... حسن الخلق عظيم الخلقة
طاب لي فيه مديحي والرثا ... تارة خنسا وكالنابغة
فتراني في هواه كلما ... قصر الركب حداهم جرسي
وإذا أنشدت بيتاً قيل ما ... وضع الرخ مكان الفرس
دور
لي ذنوب وخطايا حملها ... أنحل الجسم وأعيا البدنا
وفؤاد ليس من أهل النهى ... قط عن فعل المعاصي ما دنا
فإذا أبصر أوقات اللها ... من وراء الشام يأتي عدنا
وعن التقوى تراه نائماً ... مثل ميت في قرار الجدس
إن يقل لم ذا يقل كن كيفما ... شئت إلا الشرك لا تأت تسي
دور
وتمسك بجناب المصطفى ... أحمد الهادي رسول الواحد
سيد الكونين حقاً لا خفا ... ماجد من ماجد من ماجد
حسبي المختار جدي وكفى ... فهو باب الله كهف الشارد
شافع الأمة في يوم الظما ... حين يجثو آدم مع يونس
وتراه ضاحكاً مبتسما ... ما به من خيفة أو وجس
دور
وعليه الله صلى سرمدا ... مع سلام متناه أكمل
ما سرى الركب مجداً وحدا ... نحو سلع موجزاً بالرمل(1/363)
أو محب من غرام عربدا ... كنديم بمدام ثمل
وعلى آل وأصحاب نما ... فضلهم مثل شهاب القبس
في غدٍ يسقون كأساً ختما ... بختام المسك طيب الأنفس
وقال وقد اقترح عليه بعض الأعيان بحماة مدح خال ملاصق لشفة المحبوب:
من الزنج خال في رياض خدوده ... أقام زماناً في النعيم المكمل
رأى وردة فاقت فرام اغتيالها ... فصادفه وشي العذار المسلسل
فقيده في جانب الثغر حارساً ... فوا عجباً لص على الدر قد ولي
وفضله شهير ومن أراد معرفة بيانه فليبادر إلى مطالعة ديوانه.
أنيس أفندي قصاب حسن الدمشقي
عمدة النبلاء، ونخبة النخباء، ولد سنة تسع وثلاثين ومائتين وألف ونشأ في حجر والده بالنعمة والرفاهية، والراحة والنزهة السامية، وهو من بيت ذي ثروة وغنى، وشهرة موصلة لإدرا المنى، غير أن المترجم المرقوم، قد عاكسه الحظ المشؤوم، فحاربه أوانه وما صفا له زمانه،(1/364)
بل حالفه على العناد، وخالفه في كل مراد، فكان يخدم الحكومة السنية، في الأمور الجزئية، ومن قوله متوسلاً:
غافر الذنب وعلام الغيوب ... قابل التوب وستار العيوب
راحم الخلق وغوث المذنبين ... ارتجي من عفوه غفر الذنوب
ومن قوله مخمساً:
خذ نشأة الأفراح قبل ندامة ... والزم أويقات الصفا بسلامة
ودع العذول يطيل شرح ملامة ... جمرات همك فاطفها بمدامة
وادي العقيق بلونها موصوف
شمس محياها الهلال بلا خفا ... راح ثرياها مكللة الشفا
البدر ساقٍ والصباح على الوفا ... والكأس زمزم والمقام لنا صفا
والحب يسعى والحباب تطوف
وقال أيضاً
بخد قد حكى ورداً ودرا ... وفا خال بروضته تدرا
أقاد لأمرهه مهما تجرا ... ولو أمسى على تلفي مصرا
لقلت معذبي بالله زدني
وصل شغفي بهجرك بالتأني ... وللعذال فاحذر أن تؤني
ولا تسمع ندا ندبي وأني ... ولا تسمح بوصلك لي فإني
أغار عليك منك فكيف مني
وقال
ظبي أنس تم وصفا ... قام يجلو الراح لطفا
من بقايا اللثم رشفا ... صبها بالكأس صرفا
غلبت ضوء السراج
من سناها الحي نارا ... والشجى منها استنارا(1/365)
مذ رآها الحب حارا ... ظنها بالكأس نارا
فطفاها بالمزاج
وقال
قلوب العالمين صبت إليه ... وقلبي في الهوى رهن لديه
وإني من ألست به ولوع ... فيا عشاقه صلوا عليه
وقال
يا كثير الصد والهجران جد ... لقتيل في هواك اليوم جد
بدر تم سلب العقل وقد ... أسر القلب وللقلب وقد
ملك الروح عياناً وادعى ... بالذي أبقاه سقمي بالجسد
فتش القلب سوى حبي له ... في سويداه حبيبي ما وجد
إن تبدى ركع البدر له ... وإذا ماس له الغصن سجد
وحد الخال على وجنته ... ولنار الخد رغماً قد عبد
سبحت أملاك جفنيه رضا ... وهلال الفرق لله حمد
ثغره دراً وطيباً قد حوى ... واللمى ماء الحيا فيه ورد
جل من قد صور الحسن به ... وأذاب الجسم في مطل الوعد
بعده قد حرم الجفن الكرى ... وادعى لي آية الليل رصد
وله ديوان طويل عريض قد نظم فيه أنواع القريض. توفي رحمه الله وأحسن مثواه سنة ألف وثلاثمائة وثمان تقريباً.
الشيخ أنيس الحمصي الواعظ رئيس المؤذنين في جامع بني أمية
ولد بدمشق الشام، وقرأ على السادة الأجلاء الأعلام، كالشيخ سعيد الحلبي والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ عبد الرحمن الطيبي وغيرهم وكان تقياً نقياً صالحاً، زاهداً عابداً ناجحاًن كثير البكاء، والخشوع والتضرع في الدعاء، وكان كثيراً ما يقرأ من كتب الوعظ في جامع بني أمية في التركية والعربية. غير أنه كان يغلب عليه الخفة والطيش فلذلك لم يكن(1/366)
له ثبات على حالة واحدة، فلو مدح إنساناً في وقت بغاية المدح لم يكن وقت مذمته بعيداًن وربما يرتكب هذه الحالة في دروسه العامة فيمضي درسه بين مدح وذم ولم يزل على ذلك، إلى أن أوردته المنية مورد المهالك، توفي يوم ثالث وعشرين من شوال سنة ثمان وتسعين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير رحمه الله.(1/367)
حرف الباء
الشيخ بلبل أفندي بن عاشر أفندي الواعظ في جامع بني أمية في دمشق المحمية
عالم عامل، وزاهد فاضل، كثير البكاء والخشوع، كأنه على العبادة والتقوى مجبول ومطبوع، وكان له في الوعظ أسلوب حسن، وإلقاء مستحسن، تتأثر منه القلوب، تكاد من تأثرها أن تذوب. توفي رحمه الله سنة إحدى وستين ومائتين وألف في اليوم الخامس عشر من المحرم الحرام.
الشيخ بهرام بن أحمد العارفي القسطنطيني الأصل الحلبي المولد والمنشأ مقدم الحنفي
أحد الأعيان الكتاب في الدولة العثمانية، مولده خامس عشر ربيع الثاني سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف، وكان والده من وزراء الدولة والفضلاء المشهورين، وبعد أن قتل تقلبت بالمترجم الأحوال حتى استقر بدار السلطنة القسطنطينية، وتولى بعض المناصب التي تتعلق بأعيان الكتاب، وكان من نبلاء الكتاب وأدبائهم، وله حسن ترسل وإنشاء، ويحب العزلة والإنزواء، ولا يختلط بالناس إلا قليلاً، ولا يتردد إلى أحد من أعيان الدولة ولا من رؤسائها. توفي بعد الألف والمائتين.(1/368)
بنية بن قرينس الجربا الطائي من بني طي قوم حاتم الطائي
الجواد المشهور، والكريم الذي هو بأنواع الكرم مذكور، الذي يضرب به المثل، وكان لقاصده فوق ما يتعلق به الأمل، نقل الشيخ عثمان بن سند البصري بأن بنية بضم الموحدة وفتح النون وتشديد الياء التحتية وهاء التأنيث وهو من رجال العرب وكرمائها، وله كعمه فارس عند الوزير علي باشا أبهة عظيمة، وصدارة وتقديم. وأما شجاعته فكان يحاكي بها فارس النعامة، وأما كرمه فكان يحاكي به البحر الخضم، وأما منع الجار وحمايته من كل مكروه، ومساعدته على كل مطلوب، ورعاية جانبه بكل مرام، فهو في الذروة العليا منه والناس يحذون حذوه، كأنه قال فيه الشاعر، يصفه ببعض ما فيه من المفاخر:
لقد علمت نسوان همدان أنني ... لهن غداة الروع غير خذول
وأبذل في الهيجاء وجهي وإنني ... له في سوى الهيجاء غير بذول
وأما غض الطرف عن جاراته فكأنه فيه البنت العذراء من الحياء، وكان لسان حاله لدى كل داهية دهماء، أو واقعة عظيمة، ينشد قول السموأل بن عادياء:(1/369)
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل
تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل
وما قل من كانت بقاياه مثلنا ... شباب تسامى للعلا وكهول
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا يزال طويل
وإنا أناس لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا ضل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل
ونحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعد بخيل
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
إذا سيد منا خلا قام سيد ... قؤول بما قال الكرام فعول
وما خمدت نار لنا دون طارق ... ولا ذمنا في النازلين نزيل(1/370)
وأيامنا مشهورة في عدونا ... لها غرر مشهورة وحجول
وأسيافنا في كل شرق ومغرب ... بها من قراع الدارعين فلول
معودة أن لا تسل نصالها ... فتغمد حتى يستباح قتيل
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... فليس سواء عالم وجهول
فإنا بني الريان قطب لقومهم ... تدور رحاهم حولهم وتجول
ونسب هذا المترجم من أشراف قبيلة طي قبيلة حاتم بن عبد الله الطائي، وليعلم أن المترجم عبر من الجزيرة لغرب الفرات عندما تولى وزارة بغداد سعيد باشا، لما بين عمه فارس وآل عبيد الحميريين من الضغائن، لاسيما أميرهم قاسم بن محمد بن عبد الله بن شاوي الحميري، وكان سعيد باشا ولى زمام أموره إليه، فلأجل ما بينن فارس وقاسم المذكورين من الضغائن(1/371)
لم يستقر المترجم في الجزيرة، فنزل بعشيرته على خزاعة في تلك السنة ليكتال، وكان بين الدريعي العنزي الرويلي وبينه ضغائن، فاقتفى الدريعي أثر بنية ونزل قريباً منه، وأرسل إلى حمود بن ثامر، فاستنفره لأنه صديق الدريعي، فنفر بفرسان عشيرته لمساعدة الدريعي، وخرج عسكر الوزير سعيد باشا وكبيرهم قاسم بن شاوي، ومعه عفاريت عقيل النجديون، وهم من عسكر الوزير إذ ذاك، لمساعدة من يحارب بنية، فقامت الحرب على ساق، وبنية يكر على الفرسان كأنه الأسد، فبينما هو يطرد بفرسه إذ جاءته رصاصة كانت فيها منيته فحز رأسه وأتي به إلى وزير بغداد سعيد باشا بن سليمان باشا، وذلك سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف.
الشيخ بكري بن الشيخ حامد ابن الشيخ أحمد بن عبيد العطار الدمشقي
العالم العامل الذي أشرق ضوء شهابه، والفاضل الذي تقتطف البلاغة من إيجازه وأطنابه، والجهبذ الذي أوتي الحكمة وهو شاب، واختار له(1/372)
عرفانه سلوك منهج الصواب، فلا ريب أنه مظهر شموس التحبير في التقرير، وخزانة آداب التدقيق والتحرير، ومنهاج من أراد الوصول إلى المعالي، ومعراج من رام الحصول على فرائد اللآلي، حلال المشكلات بثاقب فكره، ومعطر دروس العلوم بنفثات صدره، كيف لا وهو الذي افاد من بدائع الفوائد، ما هو على رسوخ قدمه في بديع البيان شاهد، فلقد تفجرت ينابيع حكمه في كل واد، وأزهرت رياض تقريراته في كل فؤاد، لم يدع من الفنون فناً إلا دخل حصونه، وقرأ شروحه وحفظ متونه، وأما ديانته وعبادته فقد شهد له بها محرابه، وصيانته أقر له بها أترابه وأضرابه، فهو الفريد الآن في عوالي الشمائل، والوحيد لمن رام وقوعه على أنفع الوسائل. ولد سنة ألف ومائتين وخمسين تقريباً، ومن سن تمييزه امتاز على أمثاله، بحفظه وإدراكه وأقواله وأحاله، حفظ القرآن الشريف وهو غلام، وأقبل على طلب العلم بكل اهتمام، فقرأ على علماء عصره الأكابر، وأجازوه بما تجوز لهم روايته عن شيوخهم كابراً عن كابر ومن أجلهم سيدي الوالد، فقد قرأ عليه المترجم جزءاً في الحديث واستجازه، فأجابه لما طلبه منه وأجازه، ولزمه الطلبة للأخذ والاستفادة،(1/373)
ولم يكن له سوى الإفادة والعبادة، شغل ولا عادة، مع جمال سيرة، وحسن سريرة، ووفور قدر وسلامة صدر، وسماحة وكرم، وهمة في قضاء مصالح الخلق فاقت الهمم، وبشاشة وإظهار سرور، وغقبال على الناس بغاية الحبور، وفي يوم الاثنين سادس جمادى الثانية سنة سبع وثلاثمائة وألف، توفي ابن أخيه الشيخ سليم بن الشيخ ياسين بن الشيخ حامد العطار، وقد انحلت وظيفة تدريس التكية السليمانية التي وظفها السلطان سليمان خان، وهذه التكية هي المعروفة في المرجة، فلقد أمر هذا السلطان المومأ إليه أن يقرأ قارىءٌ درس وعظٍ في كل جمعة مرة واحدة، وله على كل درس ثلاثون بارة، وأن التكية التي بجانب السليمية ويقال لها السليمانية، قد شرط المرحوم السلطان سليمان أن واعظاً يعظ بها في كل جمعة ثلاثة أيام، وله عن كل يوم عشرة دراهم فضة، عبارة عن كل سنة أربعة آلاف قرش تقريباً، قد دام هذا الحال إلى أن وجه هذا الدرس على العالم المفضال جناب المرحوم الشيخ حامد العطار، فجعل الدرسين درساً واحداًن والمعاشين معاشاً واحداً، وجعل قراءة الدرس في السليمية، وقصره على سبعة دروس في رجب وشعبان في كل يوم خميس منهما، ونقله من الوعظ إلى صحيح البخاري الشريف، فحينما توفي الشيخ حامد المومأ إليه، كان ولده المترجم صغيراً فتولاها ابن أخيه الشيخ سليم، ولم يزل قائماً بها إلى(1/374)
حين وفاته، وكان قبل موته قد فرغها على أولاده، فادعاها بعد وفاته المترجم المومأ إليه، وادعاها أولاد الشيخ سليم ولكن لدعوى عدم كمال أهليتهم في العلم وجهت إلى ابن الشيخ سليم الشيخ أحمد الصغير الذي لم يبلغ الحلم، ووضعوا المترجم نائباً عنه إلى حين استعداده وقابليته للقراءة، وحيث أنهم فعلوا الآن كذلك، كان قياس الأمر أن يفعلوا حين توفي الشيخ حامد رحمه الله كذلك، بأن يوجهوها على المترجم المرقوم ويضعوا عنه نائباً إلى حين استعداده، ولكن الله يفعل ما يريد، هو المولى وما عداه عبيد، وفي رابع شوال سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وألف مرض المترجم المرقوم صباحاً ولم يزل يزداد مرضه في ذلك النهار، إلى أن توفي مساء.
وكان تشييع جنازته خامس شوال قبيل الظهر، ودفن في تربة الدحداح، وكانت جنازته غاصة بأهلها وتأسف عليه العموم لأنه لم يخلف نظيره رحمه الله تعالى.
الشيخ بدر الدين بن الشيخ يوسف بن عبد الرحمن ابن عبد الوهاب بن عبد الله بن عبد الملك بن عبد الغني المراكشي السبتي المالكي المغربي أصلاً الدمشقي مولداً
عالم إلا أنه عامل، وفاضل غير أنه كامل، قد اعتصم بحبل السنة والكتاب، وانتظم في سلك المتمسكين بأقوال الصحاب، واختار مذهب السلف الأعلى، ورأى سلوكه أروح لنفسه وأولى، لاتفاق الكل عليه بأنه أسلم، وحيث كان كذلك فهو أولى من غيره وأقوم، لا يخالف صحيح النص وإن خالفته نصوص المتون، وكيف يتبع الرأي ويترك قول الصادق المأمون، فلله دره من عالم عابد، ناسك متصف لا معاند، قد جمع الفصاحة في برود كلماته، والنباهة في مطاوي مبدعاته، إذا أخذ في إلقاء الأخبار(1/375)
وجدته بحراً عجاجا، وإن تكلم في أنواع العلوم أبدع تقريراً وإنتاجاً، كأنما الأحكام في صدره مرقومة، وعوارف المعارف في خياله مصورة وفي لسانة منظومة، وله حافظة تحصي له كل ما يسمع، وإدراك هو أخف من مر النسيم وأسرع.
يقرأ في كل يوم جمعة بعد الصلاة صحيح البخاري في جامع بني أمية، ويزدحم الناس على درسه ازدحام الطالبين على العطية، غير أنه يسرد ما علقه في ذهنه ولا سؤال من أحد ولا جواب، ومن رام إبداء إشكال فلا يجد لدخول حله من باب.
وله حجرة في مدرسة دار الحديث قريبة من مقام ابن أبي عصرون، لا تكاد تجدها في وقت خالية من درس في فن من الفنون، وهو لا ينفك في يومه عن صيامه، ولا في ليله عن قيامه، كثير الذكر قليل الكلام، دائم الصلاة على النبي عليه أفضل الصلاة وأتم السلام. وقد عينت له الدولة في كل شهر ألفاً ومائتي قرش صاغاً.(1/376)
الشيخ بكري بن عبد الغني بن أحمد البغال الدمشقي الشافعي
نشأ على الصلاح والتقوى، وتمسك من العبادة بالسبب الأقوى، وحفظ القرآن العظيم وجوده، ثم هداه الله لطلب العلم وأرشده. ولد في الشام سنة ألف ومائتين وخمسين تقريباً. وحضر غب كماله، وصلاح أمره وحاله، على شيوخ عصره، في بلدته ومصره، فحضر دروس الفاضل الشيخ قاسم الشهير بالحلاق، والشيخ محمد بن عبد الله الخاني، ثم أخذ الطريقة الخلوتية على المرشد الكامل الشيخ المهدي، واشتغل بالطريق مدة طويلة واعتزل الناس وقل كلامه، وبعد وفاة الشيخ المهدي صحب خليفته الشيخ المبارك، وأكثر من الصيام والقيام والخلوة في مدرسة التعديل،(1/377)
ثم بعد موت المبارك لازم دروس الشيخ الفاضل الشيخ محمد الطنطاوي، فما قرأنا على حضرة الشيخ كتاباً ولا فناً إلا وحضره معنا، ثم إنه ما مضى عليه مدة إلا وانتقل من حالته الجلالية، إلى حالته الجمالية، فصار فيه دعابة ومجون، وحالة لا تدخل تحت دائرة الظنون، مع لطافة تذهب الكدر والبؤس، وتضحك الجامد العبوس، وألفه الأكابر من الناس، وعده الكثير من الأكياس، لا يتقيد بجلالة ولا تعظيم، ولا يلوم من لا يعامله بالتوقير والتكريم، وكان موظفاً بإمامة جامع عز الدين وتدريسه وخطابته. وفي سنة ألف وثلاثمائة وعشر ذهب إلى الحجاز، وحضر إلى الشام مريضاً، ولم يزل تزداد آلامه، ويختل نظامه، إلى أن توفي سنة ألف وثلاثمائة وإحدى عشرة ودفن في تربة باب الصغير.
الشيخ بدر الدين محمود المرعشي الحنفي
أشرق بدره في العلوم واستنار، واشتهر صيته في العالم وطار، مع تقوى تثبت له حسن الطوية، وعبادة لا يقدر عليها إلا ذو همة في الدين قوية، وحضر مجالس السادة، ولازمهم إلى أن بلغ من العلم مراده. وكان له شهرة بمحامد الخصال، وفرائد الشمائل العوال، وكانت ولادته في الشام سنة ألف ومائة وخمس وسبعين، وظهرت عليه مخايل السعادة من صغره، ولم يزل ناهجاً منهج السيادة إلى كبره، وكان قدومه إلى الآخرة، والدار الفاخرة، سنة أربعين ومائتين وألف رحمه الله.
بهجت أفندي بن عبد الله أفندي الحلبي القاضي بدمشق الشام
أحد العلماء الأعلام، وأوحد القضاة المشهورين في الأحكام، ولد في حلب سنة ألف ومائتين وست وأربعين وسار به والده إلى الآستانة سنة(1/378)
سبع وأربعين، وكان والده أحد قضاة العساكر، فلما بلغ المترجم سن التمييز، قرأ القرآن الشريف وجوده وأتقنه، وأقبل على طلب العلم بهمة قوية. ثم في سنة ستين توجه بمعية والده إلى خربوط، فقرأ بها النحو والصرف والفقه، وأحسن اللغة الفارسية. وفي سنة ثلاث وسبعين توفي والده بمصر وهو متوجه إلى الحجاز، ودفن في جوار السيدة زينب، وذهب المترجم إلى حلب وتولى نقابة أشرافها. وفي سنة ثمانين رجع إلى الآستانة. وفي سنة إحدى وثمانين تعين قاضياً في كرسول، وفي اثنين وثمانين تعين قاضياً في طربزون، وفي ثلاث وثمانين تعين قاضياً في كوزلي حصار، وفي أربع وثمانين تعين قاضياً في مدينة بيروت. وبقي بها أربع سنين ونصف، وفي تسع وثمانين تعين قاضياً إلى طرابلس الغرب، وبقي بها سنتين ونصفاً، وفي سنة إحدى وتسعين تعين قاضياً إلى مدينة ازمير، وحيث لم يوافقه الهواء طلب نقله إلى محل آخر، فعين رئيس ديوان التمييز بولاية قسطموني، وبعد عشرة أشهر نقل إلى رئاسة ديوان التمييز في مدينة حلب، وفي سنة أربع وتسعين تعين قاضياً في ولاية حلب، وفي سنة ست وتسعين رجع إلى الآستانة، وفي رجب منها تعين مفتش عدلية بغداد، ثم بعد سنتين ونصف عزل، فرجع إلى الآستانة، ثم تعين مفتش عدلية طربزون، وبقي بها سنتين، ثم منها إلى مفتشية عدلية أزمير، وبقي بها نحواً من سنتين ثم ألغيت تلك الوظيفة فرجع إلى الآستانة، وبقي بها أربعة أشهر، ثم تولى قضاء جزائر بحر سفيد. وفي سنة ثلاثمائة وسبع تعين بقضاء الشام وبعد سنتين رحل إلى الآستانة ولم يمض قليلاً حتى اخترمته المنية ومات بها في حدود ألف وثلاثمائة وعشرة رحمه الله تعالى.(1/379)
الشيخ بهاء الدين بن أخي الشيخ عبد الغني ابن حسن بن إبراهيم البيطار الشافعي الصوفي
ألمعي مشهود له بقوة إدراكه، لوذعي سرى في مناهج العلوم مسير القمر في أفلاكه، له نثر كالروض تفتقت أزهاره، وشعر كالصبح تألقت أنواره، لقد أبدع من المعاني الغرائب، والألفاظ المزرية بدرر النحور والترائب، ورضع من در العلوم منذ كان وليداً، وحوى من أنواع الفنون طارفاً وتليداً.
ولد في خامس عشر ربيع الثاني سنة ألف ومائتين وخمس وستين. حفظ القرآن على والده وجوده، ثم قرأ على والده الشاطبية وشرحها لابن القاصح، وجملة من كتب النحو والصرف والمعاني والبيان والعروض والقوافي وغير ذلك من بقية الفنون. ثم قرأ في الفقه والتوحيد والتفسير والحديث ما أثبت له الفضل والكمال، وقرأ على الشيخ الفاضل الشيخ محمد الطنطاوي علم الجبر والمقابلة والحساب والميقات والفلك حتى برع، وقرأ على عمه الشيخ محمد البيطار جملة من كتب مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، وقرأ علي بعض رسائل الربع المجيب والمقنطر، وله مطالعة وفهم جيد في علم الرمل، ثم أخذ طريق الشاذلية عن الإمام المرشد الشيخ محمد الفاسي، فاشتغل في الطريق ومطالعة كتب السادة الصوفية كالفتوحات للشيخ الأكبر وغيرها حتى صار له ملكة عظيمة وكان إذا أشكل عليه شيء(1/380)
يراجع فيه حضرة المرشد الكامل والأستاذ الملاذ الفاضل، الأمير السيد(1/381)
عبد القادر الجزائري. وله من النظم والنثر، ما يزري بعقود اللؤلؤ والدر، ومن كلماته الرقيقة، التي هي الخمر الحلال على الحقيقة، مقامته التي أنشأها في المفاخرة بين الشمس والقمر، ولله درها من مقامة هي أرق من نسيم الصبا في السحر ونصها: حدثنا يسار بن حازم، عن فتح الله أبي المكارم، قال: رويت عن الورقاء بسندها عن العنقاء، قالت نشرت جناح الهمة، وطرت في فضاء الحكمة، ثم عرجت على الرفارف، إلى عالم اللطائف، فلم أزل أخترق حجاباً بعد حجاب، وأستفتح باباً بعد باب، إلى أن وصلت مواطىء الأنوار، وحصلت بمواطن الأسرار، فلما مرحت في مغانيها، وانشرحت بمعانيها، جلت بأعلى مجالي، في وجوه تلك المجالي، فرأيت في مرايا العجائب، ومزايا الغرائب، مجلساً من مجالس السمر، جمع الشمس والقمر، وهما متقابلان في النظر، في ليلة أربعة عشر، فألفت منهما الحديث والنظرة، ودلفت لتلك الحضرة، ثم بادرت بالتسليم، وحييت بالتعظيم، فقالا مرحباً وأهلاً فلقد صادف الغريب أهلاً، ثم أجلساني على موائد الفوائد، وآنساني بفرائد العوائد، ثم شرعا يتناجيان، وقد برعا بسحر البيان، فعاينت ما أخذ بمجامع قلبي، واستولى على عقلي ولبي، من طرائف ألفاظ، أسحر من الألحاظ، وظرائف معاني، هي نزهة كل معاني، فما أحلى ثمر تلك الفكاهة، وما أجلى ذاك السحر والنباهة، وما أرشق هاتيك الفقر، المزرية باللآلىء والدرر، وما آنق تلك الأسجاع، الممتزجة بالطباع والأسماع، لقد رقت وراقت، ودقت وفاقت:
كأن سامعها مذ مال من طرب ... بين الرياض وبين الكأس والوتر
ثم إنهما لم يزالا في منافثة أطيب من العناق للمشتاق، ومحادثة أطرب من الصبا والبياتي للعشاق. إلى أن جرت بهما سوابح المحاورة، وجرتهما سوانح المحاضرة، فألقتهما من مسالك تلك المسامرة، في مهاوي المهالك ومساوىء المفاخرة، فصعد القمر على المنبر الأزهر، وقال الحمد لله والله(1/382)
أكبر، هذا جمالي قد زهر، وجلالي قد بهر، لمن شاهد ونظر، وحقق واعتبر، أنا السر الأكبر، والكبريت الأحمر، ذو السناء الزاهي، والضياء الباهي، جليت في أحسن الصور، وانشققت لسيد البشر، وكان يناغيني في الصغر، ويناجيني كما في الخبر، فأنا سلطان الكواكب، وزينة المواكب، أزور غباً، لأزداد في القلوب حباً، فسبحان من حلاني بحلل النضار، وولاني ملك المجد والفخار، وهدى بي في ظلمات البر والبحر، فأنا سيد النيرات ولا فخر، ثم أنشأ وارتجل، وأنشد بغير وجل:
أنا قمر المحاسن والسناء ... ولي بين الملا أبهى لواء
فوجهي مشرق في الأرض يبدي ... من الأضوا صباحاً في المساء
أروق بطلعتي الأبصار أنسا ... وأبهج بالمسرة كل راء
يرى شبه الحبيب بي المعنى ... ويشكو ما عراه من العناء
وينتظر الملا مجلى طلوعي ... هلالاً بالمسرة والهناء
فإن لم يلمحوا مرأى هلالي ... تراهم شاخصين إلى السماء
فبي صوم الأنام بكل قطر ... كذاك العيد يبدو من لقائي
فالحمد لله الذي قدرني منازل، وصدرني في ميدان السباق وقدمني على كل منازل، وصورني بأكمل صورة وأجمل إنشاء، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ثم ختم إنشاء كلامه، بصلاته على النبي وسلامه. فلما سمعت الشمس نثره ونظامه، ووعت قوله وكلامه، زفرت زفرة القيظ، وكادت تتميز من الغيظ، فارتقت عرش اليراعة والجمال، وانتقت فرش البراعة والكمال، ثم قالت بعد أن تجلت ببرود السناء، وتحلت بعقود الحمد والثناء: أنا العروس الناضرة، والعين الناظرة، بي تحلو ثمار لواعب الأدواح، وتبدو محاسن الكواعب(1/383)
الملاح، ويأمن لعمري الخائف، طارق الليل الحائف، وتنسخ بي آية الليل الحالك، وتستنير المسالك لكل سالك، ويمتاز اليقين من الحدس، واليوم من الأمس، ولولاي لم تتحرر مواقيت الصلاة، ولم يتيسر نيل يواقيت الصلات، فتبارك الذي جعل في السماء بروجاً، وأجراني لمستقري بها نزولاً وعروجاً، وجعلني فيها سراجاً وهاجاً، وأوضح لي منها مسلكاً ومنهاجاً، وجل من رفعني مكاناً علياً، وحباني من فضله نوراً جلياً، وأسكنني أوسط الأفلاك، والوسط خير الأمور، ونظمني في سلك العالين من الأملاك، فسائر الأنوار علي تدور، وأحل بفلكي نبي الله إدريس، قطب الوجود في كل زمان، وغيره في هذا المقام النفيس، نائب عنه في هذا الشان، وأقسم بي وبضحاي، وفضلني وأكرم مثواي، فلي القطبية العظمى بين الأنوار، وبطلوعي وغروبي مناط الليل والنهار، ومن مشكاتي أشرق كل نور في العالمين " فتبارك الله أحسن الخالقين " ثم رنت القمر بعين محمرة، ووجنة مصفرة، وقالت عجيب للمملوك يجاري في مسراه الملوك، وللدرهم المصكوك، يباري الذهب المسبوك، أيها القمر القاضي بحدسه، المتغاضي عن معرفة نفسه، كأنك تقول لي بلسان الإشارة إياك أعني فاسمعي يا جارة:
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار
أما علمت أيها المتغالي في الحد، والمتعالي بما ليس في اليد، أن دعواك في النور محض مين وزور، حيث كنت ليلة الميلاد، مرتدياً برداء السواد، فلم أزل أربك بسنائي وليدا، وألبسك من ضيائي ثوباً جديدا، إلى أن اشتد ظهورك وامتد في الآفاق نورك، فإذا كان ليلة الرابعة عشرة من الشهر،(1/384)
أقابلك بكمالي فتكون كامل القدر، فعند ما تم لك مني السنا، جهلتني ولم تدر من أنا، أما علمت أن نورك مني وإلي، وحكمك في الإضاءة عائد علي، فكيف تفتخر علينا بنا، وتسوي في المقام بينك وبيننا، وأما زهوك بالانشقاق للسيد الحبيب، فليس بأعجب من ردى له بعد المغيب. ثم أنشدت بلسان صادع، وأرشدت ببيان بارع:
لي رتبة في العلا تسمو بها الرتب ... وأوج مجد له العلياء تنتسب
وآية الحسن بالإشراق تشهد لي ... بأن مني جميع النور يكتسب
إذا بزغت فلي ملك الضياء وإن ... أغب فعني ينوب البدر والشهب
لولاي لم يستقم للناس عيشهم ... ولا بدت لهم الأيام والحقب
ولا حلا ثمر ولا نما شجر ... ولا بدا قمر ولا همت سحب
عيني أنارت وجود الكون أجمعه ... ومن هداي اهتدى الإعجام والعرب
ومن ظلالي مواقيت الصلاة ومن ... غروبي الفطر للصوام يرتقب
فلي الكمال الذي حزت الفخار به ... وإن علاني من دوني فلا عجب
فلما سمع القمر ما هاله، قال لا دارت لي هالة، إن لم أبرز لك في ميدان السبق، وأبدي شرفي عليك لسائر الخلق، أما سمعت أيتها الشمس، قول بارىء الجن والإنس، " وللرجال عليهن درجة " فأنت بي في الفضل مندرجة: على أنك وسمت بالعين، وقد شاهدت بالعينين " وللذكر مثل حظ الأنثيين " وأعدل شاهد بسبقي لمن اعتبر، " لا الشمس ينبغي لها(1/385)
أن تدرك القمر " وأما ما تعاليت به علي، قائلة أن نورك مني وإلي فالفرع قد يشرف أباه، أحب ذلك أو أباه:
إنما الورد من الشوك وما ... يخرج النرجس إلا من بصل
فلا غرو أني القمر المنير، ذو الشأن الخطير، بسنائي تطيب القلوب، وعلى ضيائي يجتمع المحب والمحبوب، فالأفراح لا يتم سرورها إلا بحضرتي، والراح لا يكمل حبورها إلا لدى طلعتي، وكم من ذي جفن ساهر، وذهن حائر، وطرف جائل، ودمع سائل، وقلب ذائب، وكرب دائب، يبث لي شكواه، وينث لي بلواه، وكم من كلف يحن إلي، لما يرى من شبهي بالحبيب، ودنف يئن لدي كأني لدائه طبيب، فأنا الشقيق لأهل الحسن والجمال، والشفيق على من صبا عشقاً ومال، إن أنكر المحبوب وجد الحبيب، أجابه سل أخاك فإنه علي رقيب، وما أعذب ما قاله ابن سهل الهمام، في هذا المقام:
سل في الظلام أخاك البدر عن سهري ... تدري النجوم كما تدري الورى خبري
مع أني شريك ذوي السها دليلا، والهائم معهم بجمال سعدى وليلى، فأنا رئيس ديوان الصبابة، وأنيس من فوق له الهوى سهم الحب فأصابه.
فما شرب العشاق إلا بقيتي ... ولا وردوا في الحب إلا على وردي
خلا أني أقرب الكواكب إلى عالم الإنسان، وأعذبهم في تمام الحسن وكمال الإحسان، فلذا جمالي باد، لكل حاضر وباد، تقر الأعين برؤيتي، وتشتهي الأنفس شهود طلعتي، فغرتي طالع السعد والبشر، وسمائي موطن آدم أبي البشر، فلتكف الشمس عن مضاهاتي، ولتمسك عن مساجلتي ومباهاتي، ولتحاول غير هذه الشطة، قبل وقوعها معي في أعظم ورطة،(1/386)
ولتعترف بفضلي اعتراف من تنبه غب ماسها، وإن عادت العقرب عدنا لها، ثم شمر عن ساعده الأشد، وضرب بلسانه أرنبة أنفه وأنشد:
لي منهج في العلا قد عز مسلكه ... ولي الكمال الذي بالفضل أملكه
تمنت الشمس أن تدنو لمرتبتي ... ما كل ما يتمنى المرء يدركه
فعند ذلك التهبت الشمس غضباً، وقضت مما سمعته وشاهدته عجباً، وقالت تعاليت علي بالإفك، وتعاميت عن حطتك مذ كنت هلال الشك، وبغيت بغي من ضل وتزندق، وتفرزنت وما أنت إلا بيدق، أوما خجلت من هذا الصلف، مع ما في وجهك من الكلف، وهل أنت مني في القدر، إلا كقلامة الظفر، ومع ما فيك من المحو والنقصان، كمالك لا يفي بتمام الإيضاح والبيان، فأنت نال وأنا متلوة وآيتي مبصرة وآيتك ممحوة وكفاك أيها الخادع الغرار، إن اسمك مشتق من القمار، وأنك عون السارق، وهون العاشق الطارق، تحل أجرة المنزل راجل الدين، فتذل بذلك فاقد الورق والعين، ويلي نورك ثياب الكتان، ويؤول كمالك إلى النقصان، وليت شعري هل لك بظهوري ظهور، وهل محور الدرج والدقائق إلا علي يدور فالزم الخضوع والاستكانة، ولا تطاول من سماك مكاناً ومكانة، فما هلك امرؤ عرف قدره، ولا سلك صواباً من روج مكره وغدره، ولقد بانت حجتك، واستبانت محجتك، فلا تعد بعد(1/387)
إلى الحيف، فتكون كمن ضيع اللبن بالصيف والزم الأدب مع أهل الكمال، ولا تك ممن عرف الحق ومال، ثم إنها تاهت تيه نشوان، وفاهت بشبيه الجمان:
أنا قد لبست ببهجتي ... خلع الملاحة والطرف
وظهرت في أوج العلا ... ببديع حسني والظرف
حسب الهلال تكلفاً ... ما فيه من شين الكلف
وبأنه لو لم يقا ... بلني لغشاه السدف
وإذا تجلت طلعتي ... في ذاته منها انكشف
وإذا انحرفت لوجهتي ... في السير أظلم وانكسف
فكأنني وكأنه ... في شأو سبق ذي شرف
كالدرة البيضاء إذ ... باحالها قشر الصدف
فلما أمعن القمر في معانيها، وجال طرف فكره في مغانيها، وثب وثبة الأسد، ونعب نعبة الحرد والغضب، وقال أيتها اللافحة بنار الهاجرة، لأنت التاركة للإنصاف والهاجرة، تزدرينني بسواد الكلف، أو ما دريت أنه من دواعي الحب والكلف، فهل هو إلا كخال توج به الخد المورد، أو كنقطة عنبر صيغت على در منضد، أو عذار يقيم لعاشقيه الأعذار. أو إنسان عين يشير لناظريه بالإنذار، وكأنك لم تسمعي قول من قال، وأحسن فيما قال:(1/388)
أهلاً بفطر قد أنار هلاله ... ألآن فاغد على المدام وبكر
فكأنما هو زورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وأرق من هذا في التشبيه، وأدق وألطف في التنبيه، قول من أجاد:
يا ريم قومي الآن ويحك فانظري ... وجه الهلال وقد بدا في المشرق
كخليلة نظرت إلى خل لها ... فتنقبت خجلاً بكم أزرق
ومن هذا القبيل ما قيل:
قالوا التحى، فمحا محا ... سن وجهه نبت الشعر
الآن طاب وإنما ... ذاك النهار على السحر
لولا سواد في القمر ... والله ما حسن القمر
وأعدل شاهد لي بكمال القدر، تلألؤ وجهه صلى الله عليه وسلم تلألؤ القمر ليلة البدر، وكان إذا رآني يقابلني بجميل محياه، ويقول هلال خير ورشد إن شاء الله، فبركاتي مشهورة، والدعوات لدى ظهوري مأثورة، وحزبي هم السادة الأفراد، وصحبي هم القادة الأمجاد، يناجون معي في الأسحار، ويرجون سني النفحات بالذلة والانكسار، " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " وتنهل من عيونهم عيون المدامع، فلا ريب أنهم فازوا بالمشاهدة والوصال، وحازوا أحسن الشيم والخصال، ولي إليهم أياد وأي أياد، حينما يرصدونني للصوم والأعياد. هذا وإن شعاعك أيتها الشمس، يذهب بالسرور والأنس، ينشي الصداع، ويغشى الأسماع، وينفر الطباع، ويثير الداءات والأوجاع، فلا يبدو به انشراح، ولا تشدو به بلابل الأفراح، ومن الذي بشعاعك ترنم، وشدة الحر من فيح جهنم، وكيف لا وسيد الأنام، ظلله من حرك الغمام، وقد صح عن سيد ولد عدنان، طلوعك(1/389)
بين قرني شيطان، ففضلي عليك متعين واجب، والعين لا تعلو على الحاجب. فلما وعت الغزالة ما أبداه، ورعت منتهى كلامه ومبتداه، آلت برب المشارق والمغارب، لتجر عنه من كؤوس نقمتها أمر المشارب، ثم قالت إلى متى تتطاول في مذمتي، وحتى متى وأنت غرس نعمتي، فلأجعلنك أيها القمر عبرة لمن اعتبر، ألم أعدك وأنت في ضنا المحو والمحاق، وأعدك للوجود بعد الفنا والاحتراق، وأكسك بعد التجرد حلة البهاء، وأقلدك قلائد التورد والازدهاء، فنبذت شكري وراءك ظهرياً، وتركت بري نسياً منسياً، وجنحت إلى الغرة، واستكبرت استكبار أبي مرة، وقابلتني بكفران النعم، وجازيتني بالعدوان والنقم، فما أراني بعد إحساني الغامر، إلا كمجير عامر. ثم أعرضت عنه ابتذالا، وتمثلت وعينها تتقد اشتعالا
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافية هجاني
ثم نظرت إليه شزراً، وقالت لقد جئت شيئاً نكراً، أتظن أن أحداً بهجائي يعول عليك، أو ينظر دوني بالإقبال إليك، وهو يعلم أن ما فيك من النور ليس من صفاتك، وإنما هو من إشراق سنائي بمرآة ذاتك، وأن ما بدا منك فمعار مني إليك، وكل ناظر بعين الحقيقة فإلي لا إليك، فو الذي أثبتني بالبقا، ومحاك بالفنا، ما ظهر فيك أيها المغرور إلا أنا، فما رأى أحد منك سواي، ولا بدا فيك إلا معناي، ولله در العفيف، إذ أشار لهذا المعنى اللطيف، فقال:(1/390)
نظرت إليها والمليح يظنني ... نظرت إليه لا ومبسمها الألمى
ولكن أعارته التي الحسن وصفها ... صفات جمال فادعي ملكها ظلما
وأما إعابتك علي بطلوعي بين قرني شيطان، فهو في الحقيقة عائد لعبادي من ذوي الطغيان، وتظليل الغمام من حري سيد الخلق، فهو لما أودعته من نور جلال الحق، أو ما علمت أن لله سبعين حجاباً من نور وظلمة، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل أمة، فلي شرب من إشراق تجلي القهار، بشاهد قوله جل من قائل " لا تدركه الأبصار " فانظر لما ألقيته عليك بعين الفهم " ولا تقف ما ليس لك به علم " واطو من بيننا شقة الكلام، فإنها جالبة للطعن والكلام، وأبق للصلح موضعاً ومحلاً، وكف عني لسانك وإلا، فقد لاح الحق لذي عينين، وراح الباغي يخفي حنين، وإن عدت لزخارف عدوانك ومينك، فهذا فراق بيني وبينك.
قالت العنقاء: فلما رأيت احتداد الحجاج وامتداد اللجاج، وقد كاد كل منهما من الجدال، أن يتلو سورة القتال، قلت غب أن أحسنت لفظي، وأكثرت نصحي ووعظي، هل لكما في حكم، يفصل بينكم بآداب وحكم؟ فقالا: ومن هو الذي يلقى إليه القياد، في كشف هذا العنا والعناد، فأنبئينا أيتها الناصحة عنه، لنلتقط درر المعارف والبيان منه. فقلت: اللهم بلى، وهل يخفى ابن جلا، إنه لفارس السباق في كل ميدان، وغارس حدائق الآداب لكل قاص ودان، رسائله وسائل المنى لكل عارف، وفضائله جداول الهنا لكل غارف، وملحه قد عذبت حلاوة وانسجاماً، ومنحه ادارت من راحها قدحاً وجاما، كم ركعت(1/391)
البلغاء لجمال أبكاره الحسان، وسجدت الأدباء لكعبة أفكاره الباهرة كل إنسان، فإن أقر على الرق أنامله، أقر بالرق أدباء الأنام له، تضحك ثغور الأوراق طرباً من بكاء يراعه، وتسجع بلابل الأوراق عجباً من طيب لفظه وسماعه، فلو انتشق ريحانة لفظه ابن نباتة، لاستطاب في ربا البديع نباته، فأين النسيج الحريري من رفيع مقاماته، والغزل الجريري من ترصيع أبياته، فرياض عباراته حياض الشفا لغليل كل عليل، وغياض إشاراته مفاض الصفا وأنس الجليل، فلو امتزج النسيم بنفحة أنفاسه القدسية، لأغنى أهل الرموس عن نفخة النشور، ولو انبلج لأهل الجحيم نور طلعته الانسية، لعرفت في وجوههم نضرة النعيم والسرور، هذا وراحته بفيض نداها السائل، راحة لكل راج وسائل، فلعمري لقد دارت شموس الكمالات عليه، وسارت بدور السعادات إليه،
أفديه عبداً إلى الرزاق ذا شيم ... تألقت من سناها غرة الزمن
وسيداً من بني البيطار والده ... بدر الهدى حسن ناهيك من حسن
فأقبلا على بهيج بابه، وقبلا أريج أعتابه، ثم قدما لمقامه السعيد، مقامة التهنئة بالصوم والعيد، وغب ذلك تساجلاً لديه، وتناضلاً بين يديه، فهو حكم الحكم، ومنتهى الهمم، فعرجا في الحال، واندرجا بحماه العال.
فحينما رآهما حيا وبيا، وتهلل بالبشر منه باهي المحيا، وقال مرحباً وأهلاً بالنيرين، ومن هما لجسد الكون كالعينين. قالت العنقاء: فقلت ها أنتما بالمشهد المأنوس، ولا عطر بعد عروس، فلينضح كل منكما إناءه بما فيه، ولينصح نفسه بصدقها في ظاهر أمره وخافيه. فلما سردا لديه المقامة، وودا أن يقيم كلا منهما مقامه، قال: والذي ألبسكما من الجمال أبهاه،(1/392)
ومن الكمال أنهاه، ومن الحسن أولاه، أنكما لآيتان من آيات الله، ولأنتما للزمان روحه وجسده، ولعالم الإنسان عضده وسنده، وهل أنت أيها البدر من يوح، إلا كشقيق روح أو ابن بوح، فلم تختلفان وعليكما دار الملوان بحسبان، وما منكما إلا له مقام معلوم، وفضل في الأنام مرسوم، فلا تعودا إلى المشاحنة فإنها تشين النفاسة، ولا يخفى عليكما ما ينشأ عن حب الرئاسة.
قالت راوية الأثر: فلقد خاب القلوب ببلاغته وأسر، وأرضى كلاً منهما بما أمضى وأسر، فتهلل وجه كل منهما بالصلح، وتلا سورة النصر والفتح، وتمثل كل وقوفاً بين يديه، واستأذن بشكره والثناء عليه، فقال بسم الله ولا حرج، حيث تم المنى ووافى الفرج، فعند ذ لك ابتدرت الشمس، وأنشدت ما يقر العين والنفس:
حياك من فرد وحيد ... يا طلعة الحسن الفريد
يا سالياً قلبي العليل ... وسالباً لبي الشريد
لولا قوامك مائس ... ما شاقني غصن يميد
كلا ولولا راح ثغرك ... لم أهم في حسن غيد
لم أبد منك لطائفاً ... إلا حلالي إن أعيد
وهواك أقرب للحشا ... والروح من حبل الوريد
يا من لأوج صدوده ... قد أعجم الوصل الحميد
قلبي الحسين شهادة ... واللحظ منك غدا يزيد
أصبو بنجد والعرا ... ق إلى بياتك لو تريد
وأنوح نوح الأصفها ... ني كي ترق فلا يفيد
وحصار ركب نواك ير ... صدني جهاراً بالوعيد(1/393)
حجز القرار ولم تجب ... عد باللقا فالوعد عيد
ضربت بي الأمثال في العشاق من شوقي المزيد
وفني جميل تصبري ... لكن شوقي لا يبيد
حملتني بهواك ما ... بأقله شاب الوليد
قل لي فديتك هل حشا ... ك الصخر أم صلد الحديد
أو ما ترى من مقلتي ... دمعاً جرى البحر المديد
وتنهدي وتسهدي ... وتشتتي في كل بيد
ولقد لقيت من العوا ... ذل كل شيطان مريد
كفروا جمالك إذ أبوا ... إلا ضلالهم البعيد
فهم لفي لبس بأن ... هواك من خلق جديد
تباً لهم أو ليس منهم في الهوى رجل رشيد
يا ليت نار الصد تصلي كل جبار عنيد
أواه لو لي بالعوا ... ذل قوة الندب الجليد
لكفيتهم لكنني ... آوي إلى ركن شديد
مولاي أعني العبد للر ... زاق ذا الحسب المجيد
لي منه زاهر نسبة ... لكنني أدنى العبيد
لله مولى لذ لي ... في وصفه عذب النشيد(1/394)
كل الوجود على كما ... ل صفاته الحسنى شهيد
والدهر طوق من سجا ... ياه الفرائد عقد جيد
يا سامياً أوج العلا ... بالحذق والرأي السديد
عيد الصيام ببشره ... وافى حماك فلا يحيد
فاهنأ ودم في كل عيد ... في صفا العيش الرغيد
وإليك في حلل البها ... مزفوفة بكر القصيد
حلت سمواً من رفيع علاك في قصر مشيد
لم ترتجي إلا قبو ... لك يا ملاذ المستفيد
قد أرخت سد بالمنى ... يهنيك بالعيد النضيد
فلما فرغت الشمس من أبياتها، وسحرت بباهر آياتها، رفع القمر عقيرته، وأنشد قصيدته:
ما للمصاب من الجوى من راقي ... إلا التي زانت بحسن راقي
هيفا كجسمي خصرها، وبردفها ... شبه العذول هما جناس طباق
جمعت بفاتر لحظها ورضابها ... ضدين من سم ومن ترياق
سبحان من أبدى بروضة خدها ... ورداً يفوح بعنبر عباق
وأدار من كأس العقيق بثغرها ... راحاً جرت في اللؤلؤ البراق
عذبت حلاوة حسنها لكنها ... صداً أذاقتني أمر مذاق
هل لي مجير من سهام لحاظها ... هيهات ما لقتيلها من واق
ما كنت أحسب قبل وقعة عشقها ... إن المنايا الحمر في الأحداق
كيف النجاة من الهوى وشراكه ... والقلب مأسور رهين وثاق
يا آل ودي هل لكم في مغرم ... ضربت به الأمثال في الأشواق
يرثي له الصخر الأصم إذا بكى ... بمدامع الخنساء في الآفاق
يا غادة تشدو جهاراً بالنوى ... من أوجه لمحير العشاق
قلبي الحسيني الشهيد صبابة ... حجز البيات وقد صبا لوفاق(1/395)
رصد اللقاء فظل من ركب الجوى ... وحصاره يرثي بنجد عراق
عز القرار فهل جواب بالمنى ... إن الوفا من طاعة الخلاق
يا وجهها أنت الرشيد هداية ... فارحم فديتك جعفر الآماق
لا زلت مسروراً بملك ملاحة ... يحيي بحسنك ناظر المشتاق
ما حق قلبي وهو ببيت هواك أن ... يلفى لديك مقطعاً بفراق
آليت دهري لا التفت عن الهوى ... إلا لمدحي كامل الأخلاق
حبر إذا أبكى عيون مداده ... ضحكت ثغور الكتب والأوراق
ذو غرة لو يستجير البدر في ... أنوارها لم يخش جور محاق
وشمائل أضحت لجيد زماننا ... عقد الكمال وحلية الأطواق
ما دار من راح العلوم وصفوها ... كأس الهدى إلا وكان الساقي
كلا ولا في شأو فضل قد جرى ... في فكره إلا سما بسباق
طوفان نوح لو حكى إحسانه ... لم ينج إنسان من الإغراق
عمت مكارمه البسيطة وارتقت ... أوصافه مجداً لسبع طباق
لو رام إمساكاً وحاشا جوده ... لم تستطع يده سوى الإنفاق
لو لم يكن عبداً لرزاق الورى ... لدعوته بمقسم الأرزاق
سجدت لكعبة عزه هام العلا ... والسعد بين يديه في الإطراق
يا سيداً زان الزمان بشيمة ... ساد الأنام بها على الإطلاق
هذا هلال العيد أمك بالمنى ... ولأنت فينا عيد أنس باق
فاهنأ ودم شمس الهداية طالعاً ... بسما الكمال بلا مغيب تلاق
واستجل من فكري عروساً مهرها ... منك القبول فذا أجل صداق
قد زفها نظم البهاء مقلداً ... من در وصفك حلية الأعناق
وافى بها عيد السرور مؤرخاً ... بالبشر عيد دام والإشراق
قالت العنقاء: فهاج بي نسيم الغرام، وماج بي بحر الوجد والهيام، إن أنحو نحو هذا الأثر، وإن أتشبه بالشمس والقمر، لأن التشبه بالكرام(1/396)
فلاح، والتنبه للاقتداء بهم نجاح، فعززتهما بثالثة، وفية بالعهد لا ناكثة:
سلاه عن فؤادي هل سلاه ... وكيف وما جنى ذنباً سلاه
غزال زانه جيد وفاه ... شرود عجبه يأبى وفاه
أقمت على ثناه وليت شعري ... عن الخل الوفي ماذا ثناه
بثغر لماه ظل رباط قلبي ... لذا من لحظه الغازي رماه
عذابي في جواه يراه عذباً ... وسلبي في هواه غدا مناه
فيا تلك الشعور إلا شعور ... بمن في ليلكن نما ضناه
ويا ورد الخدود ألا ورود ... فأنت لذي الضنا أحلى جناه
ويا تلك الشفاه ألا شفاء ... لمن بسلافكن غدا شفاه
لقد طال البعاد ولا سلو ... ولا تغني الشجي الصب آه
ألا يا للهوى من لي عذير ... بمن في حسنه العشاق تاهوا
عراقي الطباع يبيح ظلماً ... دم الصب الحسيني في هواه
صبوت به جهاراً مذ بدا لي ... بأوج جماله وأضا سناه
وركب صدوده يبدي حصاراً ... فيحجرني ويرصد لي عناه
أنوح محيراً وأبوح وجداً ... بنوح الأصفهاني من نواه
وقد عز القرار فلا جواب ... سوى جفني تجاوبني دماه
فمن لي يا أهيل الود فيه ... بأن أفنى ويحييني بقاه
رضيت بحبه وصلاً وهجراً ... وطاب لي البيات على رضاه
كتمت غرامه حتى كأني ... من الكتمان لم أدريه ما هو
وأنكرت الهوى صوناً لأني ... أغار عليه يهواه سواه
يشخصه الهيام بكل ذاتي ... فلا أدري أراها أم أراه
فلو يدعى اسمه ألفى مجيباً ... لمن يدعوه من ولهي أنا هو
له ملك الفؤاد وكل عشق ... له منا دراه من دراه
تناهى في الجمال كما تناهى ... لبهجة عصرنا عز وجاه(1/397)
ملاذ عبد رزاق البرايا ... رعاه الله ما أبهى لقاه
رياض أكفه تزهو سماحاً ... بمنثور الندى الحالي جناه
تخال نزيله من حسن بر ... وتكريم أخاه أو أباه
يرق لدمعة الباكي انعطافاً ... ويرحم لوعة الشاكي جواه
وإن أنشا من الأفكار عقداً ... شهدت الحور زفت من حلاه
ألا يا كامل الأوصاف عذراً ... فقدرك عز أن أحصي ثناه
فلا زالت بك الأيام تسمو ... ووجهك مشرق بسنا ضياه
وذا عيد المنى فاهنأ وأرخ ... نضير العيد زاهي من حباه
فلما تليت على الأسماع عرائس القصائد الشكرية، وحليت بنفائس الأسجاع أوانس الفوائد الفكرية، تهلل وجهه سروراً، وتعلل بها طرباً وحبوراً، ثم قال: ما أطيب هذا النفس الأنفس، وما أطرب هذا السماع الأقدس، فلعمري ما المثالث والمثاني، بأعذب من هذه المعاني، ولا وصل الحبيب بلا رقيب، بأعجب من هذا التشبيب بذا النسيب، فليت شعري أهذ رقيق كلام، أم عتيق مدام، أم در ألفاظ، أم سحر ألحاظ، أم نثر بديع، أم نشر ربيع، أم بيان بنان، أم نظم جمان، فلا زالت الأفلاك بجمالكم ناضرة، ولا برحت ألحاظ الأحلاك بعيونكم ناظرة، ما افتر ثغر الدهر بسناكم باسما، واحمر خد الزهر لنداكم راسما، وما حمد شارع على التمام، وسعد بارع بحسن الختام.
أقول: هذا ما جئت به من بضاعتي المزجاة، لسيدي عزيز القدر والجاه، الوالد العطوف الروحاني، والعم الرؤوف الذي عمني بنداه ونحاني، وأرجوه غض الطرف عن هفوتي، ونظر اللطف لإصلاح كبوتي، ولولا وثوقي بهذا الامتنان، لم أحم حول هذا الشان، ومع هذا فليتني لزمت حدي من(1/398)
الضعف والقصور، ولم أتشوف بجدي لارتقاء هاتيك القصور، لجمود عين الفطنة القريحة، وخمود نار الروية والقريحة، على أن المطالب تغشي الأذهان، والجواذب تعشي مقلة السليم مما أهان، لاسيما ومقام سيدي أشهر من أن يذكر، والثناء عليه أزهر من أن ينشر، وليس قصدي إلا ترديد ذكراه طربا، وتعديد مزاياه عجبا، وإلا فرفيع مقامه غني عن المقامة، وربيع مقامه محط رحال ذوي الثناء والمقالة،
من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع
وبالجملة فشريف شمس نسبتي، أطمعني أن أكون بدري المقام، ولطيف عنقاء محبتي، دعاني لإنشائها مع التحية والسلام. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى تابعيه السادة الكرام، ما ناح الحمام، وفاح شذا مسك الختام.
أقول: إن هذه المقامة لا ريب أنها من بحر معارفه خليج، ومن رياض ألطافه شذرة ذات مقام بهيج، وإن له غيرها من النثر والنظم، ما يحسن التهليل والتكبير عند شروقه، ويشربه السمع فتدب نشوة الحميا في عروقه، فنثره لعمري عقود الجوهر، ونظمه نثر اللآلىء والدرر، وهو ممن لم يزل يصل في اجتهاده الليالي بالأيام، ويعتاض في ازدياده السهر من المنام، حتى بلغ مبلغاً يقصر عنه أمل المتطلع، وحل محلاً تنقطع دونه رغبة المتطمع، ونزل من القلوب بمنزلة الامتزاج بين الماء والراح، وأورد العيون الرياض والقرائح القراح، فللنواظر فيه مرتع، وللخواطر منه مستمتع.
وله الأيادي البيض، في بحر كل كمال طويل أو عريض، فكأن الله براه نوراً مصوراً، وأطلع غصن كماله غضاً منوراً:
رفيع كمال كلما زاد خاطري ... به أملاً زادت محاسنه حسنا
وكيف لا وهو فارس المجال، ورب الروية والارتجال، تؤخذ الفصاحة(1/399)
عن لفظه، وتروي فنون البلاغة عن حفظه، أبلغه الله المنى وأفرغ عليه حلة السرور والهنا.
السيد بهاء الدين مهدي الرواس بن السيد علي بن السيد نور الدين بن السيد أحمد بن السيد محمد بن السيد بدر الدين بن السيد علي الرديني بن السيد الكبير العارف بالله ولي الله الشيخ محمود الصوفي الصيادي الرفاعي قدس الله تعالى سره
العارف الذي تطابقت القلوب على محبته، واتفقت السرائر والضمائر على عرفانه وولايته، والعالم الذي يفزع في مهم المشكلات إليه، ويعتمد في الحصول إلى القرب والوصول عليه، قدوة الأنام، وصفوة السادة القادة الكرام: ذو الكرامات التي لا تعد، والخوارق التي لا تحصى ولا تحد، وقد ترجمه تلميذه العالم الذي انفرد في زمانه، والفاضل الذي أرشد أهل عصره وأوانه، قطب السادة الأحمدية، ونقطة مدار القادة الرفاعية، من اشتهر فضله بكل نادي، السيد أبو الهدى أفندي الرفاعي الصيادي، أطال الله بقاه، وأعلى في مدارج السيادة مرتقاه، في كتابه قلادة الجواهر، في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر، فقال ما نصه: ولد هذا الهمام، والأوحد الإمام، سنة عشرين ومائتين وألف، وتوفي في سنة سبع وثمانين ومائتين وألف، وقد بلغ رضي الله تعالى عنه من العمر سبعاً وستين سنة. وكانت ولادته في سوق الشيوخ بليدة صغيرة من أعمال البصرة سكنها والده رحمه الله، وأعلى علاه، بعد الطاعون الذي وقع في البصرة، وتوفي والده وبقي قدس سره يتيماً، ثم توفيت أمه وقد بلغ خمس عشرة سنة. وكان(1/400)
قد قرأ القرآن على رجل هناك يقال له ملا أحمد، وكان من الصالحين.
ففي خمس وثلاثين ومائتين وألف جذبه القدر إلى السياحة، فخرج طالباً بيت الله الحرام، وجاور بمكة سنة، ثم تشرف بزيارة جده عليه الصلاة والسلام، وجاور بالمدينة المنورة سنتين، وفيها اشتغل بطلب العلم على رجال الحرم النبوي، ثم ذهب إلى مصر ونزل في الجامع الأزهر، وبقي فيه ثلاث عشرة سنة، يتلقى العلوم الشرعية عن مشايخ الأزهر وفضلائه، حتى برع في كل فن وعلم، وهو على قدم التجرد والفقر والانكسار، ثم عاد سائحاً إلى العراق، فاجتمع بالشيخ العارف بالله ولي الله السيد عبد الله الراوي الرفاعي، فأخذ عنه الطريقة، ولزم خدمته والسلوك على يديه مدة، وأجازه قدس الله سره وأقامه خليفة عنه.
ثم طاف البلاد وذهب إلى الهند وخراسان والعجم والتركستان والكردستان، وجاب العراق والشام والقسطنطينية والأنادول والروملي، وعاد إلى الحجاز، وذهب إلى اليمن ونجد والبحرين وطاف البادية والحاضرة؛ واجتمع على أهل الأحوال الباطنة والظاهرة، وأكرمه الله بالولاية العظيمة، والمناقب الكريمة، والأخلاق الحميدة، والطباع الفريدة، والقطبية الكبرى، والمرتبة الزهرا، وقد تجرد بطبعه عن التصرف والظهور، والتزم الطريق المستور، وعد نفسه من أهل القبور، وكان كثيراً ما يعاود في سياحته إلى بغداد، وكان يتجر لدفع الضرورة والتخلص من الاحتياج، ببيع رؤوس الغنم المطبوخة، فإذا وجد منها ما يدفع الضرورة البشرية، ترك البيع إلى أن تنفذ دراهمه، فيعود إلى البيع، وكان لا يمكث في بلدة سبعة أشهر قط، وأكثر إقامته في البلاد تحت الثلاثة أشهر، وكان يلبس ثوباً أبيض وفوقه دراعة زرقاء وعبا قصيرة من دون أكمام، وحزامه من الصوف الأسود عملاً بالأثر الرفاعي، والسنة المحمدية، واختفاء عن ظاهر الشيخ. وكان(1/401)
قدس سره إمام الوقت وشيخ العصر علماً وعملاً وزهداً وأدبا، براهينه باهرة، وسريرته طاهرة، وقدمه متين، وعزمه مكين، وكشفه عجيب، وحاله غريب. من الله علي بالاجتماع عليه، والانتساب إليه، في بغداد دار السلام، في حضرة الباز الأشهب، والطراز المذهب، مولانا الشيخ عبد القادر الجيلي قدس سره ورضي الله عنه، وتبركت بخدمته، وتشرفت ببيعته، وتنورت بمشاهدته، وتعطرت بمشافهته، وأخذ ت عنه الطريقة، ولبست منه الخرقة، وتلقيت عنه بعض علوم الشريعة والحقيقة، فهو شيخي ومعيني، وأستاذي، وقرة عيني وملاذي، وعياذي ومحل اعتقادي، وواسطة استنادي، بلى والله، وهو الشيخ الجليل العارف بالله، المتردي برداء الخفاء المشغول بالله عن غيره، السائح العابد الزاهد صاحب المعارف والعوارف، والبركات واللطائف، والعلم الغزير، والقلب المنير، والسر الصادق، والمدد البارق، والحال العجيب، والشأن الغريب، والعلوم العظيمة، والهمم الكريمة، والآداب المقبولة، والكلمات المنقولة، ولنذكر من شعره العالي هذه القصيدة، وهي مما يدلك على مقامه الجليل، ومكانة مكانه النبيل، وها هي:
طف بوادي القدس من نادي تهامة ... وافرش الخدين في أطلال رامة
وانزل الفيحاء فيحا المنحنى ... حيثما أعلى الندى الطامي خيامه
ولك الله إذا وافيتها ... وأنخت الركب فيها بالسلامة
خذ سلاماً لأصيحاب الحمى ... من كئيب حرك الركب غرامه
واذكر السقم الذي أودى به ... علهم أن يرحموا يوماً سقامه
غلبته يوم بانوا شدة ... أوقعت فيه فما شد حزامه
وهو لا زال كما هم علموا ... ثابت الأقدام زين الاستقامة
هجرت أخلاقه حال امرىء ... جمل يوماً وفي الثاني نعامة
باعهم نفساً نأت عن غيرهم ... وعليهم حملت عبء الملامة
وإذا قالوا لها موتي جوى ... أنشدت للموت دحباً وكرامة(1/402)
يا أخا الركبان بالله التفت ... أن تعي من موثق الوجد كلامه
مس عني ترب ذياك الحمى ... وأجل في بابه وجهاً وهامة
باب رحب نزل الروح به ... وبه القرآن قد سل حسامه
موطن الإيمان والعلم الذي ... لمعت منه على الكون العلامة
حضرة الرحمة مضمار الهدى ... مهبط الوحي وميزاب الكرامة
مشهدكم شوهدت من ركنه ... دولة الغيب وأعلام الإمامة
كيف لا والمصطفى من هاشم ... فيه ثاو شرف الله مقامه
خير من مس بنعليه الثرى ... وأجل الخلق قدراً وشهامة
والنبي العربي المجتبى ... والذي ظهرا أظلته الغمامة
سل تراب الغار عما نسجت ... عنكبوت الغار ليلاً مذ أقامه
وسل الباب الذي شرفه ... كيف حامت حول ركنيه الحمامة
وسل الماء الذي من كفه ... فاض والجيش به نال مرامه
لا تسل عن معجزات ظهرت ... منه جلت وهي تبدو للقيامة
كان في الدين ربيعاً عمره ... صامه لله بالله وقامه
وهو نور أزلي طرزه ... صار في وجه وجود الكون شامة
جحفل الرسل الذي قدماً أتى ... زين الله بمجلاه ختامه
بابه للأنبيا باب الرجا ... وترى كل الورى يبغي استلامه
وهو ركن المجد مرفوع الذرا ... حصن علم الغيب مكنون الدعامة
طوي العالم في جبته ... وعلى العرش علت منه العمامة
لو دعا البحر لوافى سائغاً ... أو دعا المنقض من ميت اقامه
شرفت جبريل منه خدمة ... حولت فيه عن الدين لثامه
وبه الرحمن أعلى صولة الحق ... جهراً وبه شاد نظامه
مضمر من حضرة القرب بدا ... ما استطاع الطمس في الغيب اكتتامه
علة الخلق ومن هذا نرى ... أوجب الله على الخلق احترامه(1/403)
وعلى يافوخ إنسان العلى ... شيد الجبار بالعز مقامه
وله في مقعد الصدق ابتنى ... منزلاً صيره دار الإقامة
ذلك اللوح الإلهي الذي ... كتبت أيدي العمى فيه الرقامة
وهو قلب غرس الذكر به ... ما رأى حراسه آن منامه
سجد الأقمار عزاً لاسمه ... عل أن تحسب منه في القلامة
أينها من ذلك النور الذي ... عدل المولى من الوجه قوامه
فعليه الله صلى سرمداً ... وعلى آل حسوا منه مدامه
وعلى الأصحاب ما حاد حداً ... طف بوادي القدس من نادي تهامه
وله قدس الله سره متوسلاً بجده المصطفى صلى الله عليه وسلم:
يا من وطينة آدم في مائها ... مخمورة لك بالنبوة مظهر
أستر عظيم كبير ذنبي رحمة ... فنداك أعظم والعناية أكبر
وله في الفناء المحمدي
أصبحت عيناً في مقام نيابتي ... عمن فنيت به وغبت بمشهدي
ودعيت في الأكوان فرداً واحداً ... والحق أعدل شاهد بتفردي
وله في حضرة الحضور
لما حضرت على بساط شهودي ... أدركت ذوقاً كيف غاب وجودي
وفهمت من طور الحضور تحققي ... في مشهدي بعبادة المعبود
فهجرت ذرات الوجود لأنها ... تفنى وطبت بحضرة الموجود
وله في مقام الكرم والتحدث بالنعم
لما رفعت على برج الضحى علمي ... علت إلى منتهى قاب العلا هممي
وقام بي رونق العرفان واشتملت ... على رقائق أحكام النهى شيمي
فصح لي مشهدي في طور مرصده ... علماً وما زال بي في مذهبي قدمي
وصرت ضمن الخفا قطب الظهور ولي ... سهم التحدث بين القوم بالنعم
من لاذ بي بات مأمون الجناب على ... بساط تكرمة في حضرة الكرم(1/404)
وقال قدس الله روحه وقد ورد عليه وارد الكرم
ظهر السبع من بطين الغاب ... وبدا صائلاً بغير نقاب
وتجلى الهلال في بهرجان الميل يبدي ضياه للأحباب
هذه آية سماوية السر علت نشأة بطي الحجاب
فلك الغيب دار منها فلما ... تمم الدور مال للانحجاب
مظهر بارع بمعنى خفي ... ومقام مجمل بالثواب
فصبت لي بسدتيه الكراسي ... وكؤوسي تنورت بالشراب
ومقام افتخار دولة عزي ... ساد معنى ففاق فخر جنابي
دهشة أحمدية ذات مهيا ... ومحيا بدا لذي الألباب
فأنا القطب في دكيكين طبخي ... وأنا الغوث في رسيس ثيابي
وأنا الشيخ والرجال تلاميذي وعلمي فشا إلى الطلاب
وأنا الفرد في الزمان بشاني ... وأنا المرشد الشريف انتسابي
وأنا السيد المعلى جلالي ... سار جيش الشيوخ حول ركابي
وقفول العراق تمشي بظلي ... واستظل الزمان تحت قبابي
قلمي آمر وحكمي جاري ... أذعن الدهر طائعاً لكتابي
دولتي في الجنوب والغرب دارت ... وبأقصى الشرقين طول رحابي
وبمنهى السدين صولة بأسي ... وبمعلى الدورين سمر حرابي
دارت الطالبون حولي لأني ... كعبة للرجال والأقطاب
حرم طيب به يأمن الدا ... خل جهراً من شوبة الأتعاب
وطريقي باب الوصول إلى الله ... وفيضي يجري إلى الأنجاب
دولة لا تزال تنفث سراً ... بعد موتي والسر تحت ترابي
وخفائي لا شك عين ظهوري ... وبعيد التستير يفتح بابي
سترى لي في دورة الشام والشهباء نوراً يعلو بنور شهابي
وترى لي مظاهراً تتسامى ... وتسامى الشيوخ في كل باب(1/405)
وترى نوبتي تضج واسمي ... يتباهى بذكره نوابي
وترى الحال في زوية ذكري ... وترى المرتجين في أعتابي
إن ترم نفحتي عليك بسلكي ... فسلوكي المفتاح للأبواب
وطريقي نور التجلي وسيري ... عقدة الوصل من يد الوهاب
طف ببابي ولا تمل عن مداري ... وانح نحوي واسمع لذيذ خطابي
لا تمل نحو جاهل أشغلته ... عن علانا دنياه بالاكتساب
ذمك الجاهلون جهلاً فخاضوا ... فرأيناهم بسوء المآب
سلبوا الدين بعد ذاك وراحوا ... ومآل الرواح بالاعطاب
كم يقولون ما لهذا ضمير ... إنما فخره بلين الثياب
فسمعنا منهم وعنك أجبنا ... لا يضر السحاب نبح الكلاب
إن تكن عامراً مع الله خل ... شخص دنياك تحت طي الخراب
وقال لي قدس الله سره وقد كان يتفضل علي ببعض إشارات معنوية، وقد طرق خاطري هم عظيم لبعض أمور خطرت في سري فقطع حديثه الأول، ورمقني بعينه المباركة مبتسماً وقال فتح علي ببيتين خطاباً لك ثم أنشد:
إن باديك الذي أكننته ... هو باد ظاهر في خاطرك
أجل قلباً في حمانا إننا ... نحن قمنا بالذي في خاطرك
ولو أردنا بسط ما رأيناه من كراماته، وحفظناه من غرائب كلماته، لطال المطال، واتسع المجال، وإنا نرى بالذي ذكرناه لأرباب البصائر كفاية، نفعنا الله به وبإخوانه أهل العناية آمين.(1/406)
وقد تقدم أنه رضي الله عنه توفي ببغداد في الجانب الشرقي منها بمسجد دكاكين حبوب، وذلك سنة سبع وثمانين ومائتين وألف رضي الله عنه ونفعنا به في الدارين آمين.
الشيخ بدر الدين أبو النور عثمان بن سند النجدي الوائلي ثم البصري المالكي
هو السيد السند، والعلامة البطل الأوحد، خاتمة البلغاء، ونادرة النبغاء، من له في العلوم على اختلافها القدم الراسخ، ولا غرو فهو طود أعلامها الشامخ، كرع من نمير حياضها حتى ارتوى، وعرج إلى سماء المعالي وعلى عرش كمالها استوى:
مولى به كل الفضائل قد زهت ... وغدت تقاد إليه كالخدام
وفضله وعلو كماله لا يحتاج إلى تعريف، بل تنبىء ألسنة مؤلفاته الفائقة بحسن الترصيف والتوصيف. أخذ العلم ورواه عن مشايخ أجلاء، وجهابذة حكوا في السمو كواكب الجوزاء، منهم علامة العراق على الإطلاق، وفهامتها الموسوم بحسن الشمائل والأخلاق، الرحلة المرشد لكل فضيلة وهادي، الشيخ علي بن محمد السويدي البغدادي، ومنهم العلامة الأوحد، والجهبذ المفخم المفرد، المنلا محمد أسعد بن عبيد الله بن صبغة الله الحيدري الماوراني، مفتي الحنفية والشافعية، بدار السلام المحمية، ومنهم العلامة المفضال، زين أرباب المعارف والكمال، السيد زين العابدين جمل الليل المدني، فإنه لازمه حين ورد إلى بغداد والبصرة في دروس الحديث وغيرها، وأجازه بمروياته كلها، وحرر له إجازة لطيفة فيها بيت من نظمه وهو قوله:(1/407)
أنا الدخيل إذا عدت أصول علا ... فكيف أذكر إسناداً لدى ابن سند
وأخذ الطريقة الخالدية، وألف في ترجمة حضرة مولانا الشيخ خالد النقشبندي قدس سره المعيد المبدي، الكتاب الشهير الذي أمسى في البلاغة والفصاحة عديم المثل والنظير، وهو أصفى الموارد، من سلسال أحوال مولانا خالد. وأخذ عن غيرهم من علماء الحجاز والعراق، وغيرهما من الآفاق، وفي عام ألف ومائتين وسبعة عشر ولي مدرسة المفاسية، في البصرة المحمية، فصار بها شيخ المدرسين، ومرجع أهل الفضل والتمكين. وقد كان رحمه الله تعالى آية باهرة في النثر الفائق البديع، الذي يخجل الحريري والبديع، والنظم الرائق المريع، الذي يزري بعقود الجمان، في نحور الحسان، ولا بدع فهو حسان الزمان السائد على الجميع. وبالجملة فقد خصه الله تعالى من تراث العلم بأوفى قسم، وضرب له من المعارف والمعالي بأوفر قسم. وقد ألف عدة مؤلفات مفيدة هي في جبهة الدهر غرر، وفي سمط الفصاحة والبلاغة درر، فمما اطلعت عليه منها: كتاب هداية الحيران، وهو نظم عوامل الجرجاني، قال في أثناء خطبته:
هذا وإن النحو لما جلا ... مقامه بين الورى محلا
جعلت من قبل اعتمام العمة ... أعمل فيه يعملات الهمة
أسوم ذود الفكر في شعابه ... وأورد الأنظار في عبابه
وإذ قضى الله الكريم أني ... أهصر من غصونه وأجني
نظمت ما ينمى إلى الجرجاني ... عواملاً منثورة الجمان
وهي منظومة على هذا النسق العجب، وموشحة بأمثلة غزلية تكتب بماء الذهب، ومنها جيد العروض في القوافي والعروض قال فيه:
وسميته جيد العروض لكي أرى به جيد من رام العروض مجملا ومنها كتاب الصارم القرضاب في نحر من سب أكارم الصحاب(1/408)
وهو ديوان جليل رد فيه على دعبل بن علي الخزاعي الرافضي في عدة قصائد بديعة، ختمها بقصيدة ميمية ضمنها أنواع البديع، مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، ومنها مطالع السعود، بطيب أخبار الوالي داود وهو تاريخ جمع كثيراً من أخبار العراق وتراجم رجاله ووزرائه، خصوصاً وقد اشتمل على تفصيل أحوال عالم الوزراء ووزير العلماء، الوزير الشهير داود باشا والي بغداد سابقاً طاب ثراه، وقد بيض المترجم هذا التاريخ الجميل، بأمر هذا الوزير الجليل، سنة ألف ومائتين وأربعين، لما استدعاه إلى بغداد، فأكرمه وأجله، ورفع مقامه ومحله، وأمره بما تقدم، ليكون ذكر عدله وعلمه مخلداً بين الأمم، وقد اختصره الفاضل الهمام الشيخ أمين المدني وطبع مختصره في مدينة بومباي، ولو طبع الأصل لكان أكثر فائدة، وأجدر عائدة، غير أنه أراد الاقتصار على ذكر الوقائع التاريخية فقط والله تعالى أعلم. وفي سنة ألف ومائتين وخمس وعشرين أرسل المترجم بخطه كتاباً إلى العلامة المرحوم الشيخ غنام النجدي الزبيري، نزيل دمشق الشام، المتوفى بها سنة ألف ومائتين وسبع وثلاثين، ذكر فيه بعض ما له من التآليف والآثار، فذكر أن له شرحاً على نظمه للعوامل، وعلى منظومته التي نظمها في العروض، وأنه نظم الشافية في التصريف، ونظم مغني اللبيب على ترتيب عجيب، ينوف على خمسة آلاف بيت، ووشحه بأمثلة هي من بنات فكره، ونظم الورقات لإمام الحرمين، وشرحه، ونظم النخبة في المصطلح، ونظم في الحساب كتاباً وشرحه، ونظم القواعد وهو مشتمل على غزل الغزل المقل، وله نظم في الاستعارات، ومنظومة في مدح إمام أهل(1/409)
السنة سيدنا الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه، وذكر أيضاً أن له تاريخاً على نحو سلافة العصر سماه الغرر في وجوه القرن الثالث عشر وطلب منه إرسال ما تيسر له ترجمته من أجلاء دمشق، وله غير ذلك كثير، لأنه عاش بعد تاريخ ذلك الكتاب الذي أرسله للشيخ غنام المرقوم ما ينوف على عشرين سنة. ومن كلامه برد الله مضجعه:
لولاك يا ظبية الوعساء لم أرق ... دمعاً ولم أكحل العينين بالأرق
ولم أسر أكحل الظلما بيعملة ... كالميل جال بمسود من الحدق
أرمى بها كل فج لو تجشمه ... مع الرياح لما هبت من الغرق
إلى أن قال:
حتى إذا سال ريق الفجر من فمه ... على البسيطة واحمرت لمى الشفق
أشرت للركب أن صلوا فقد جعلت ... أيدي ذكا تسلخ الظلما عن الأفق
وهي طويلة الغزل مشتملة على وصف الليل وأنجمه ووصف الركاب وأنواع جمة.
وقد ذكر المترجم وأثنى عليه جم غفير من الأفاضل، منهم العلامة الشهير السيد محمد أمين عابدين، حيث قال في كتابه سل الحسام الهندي ما نصه: ومن أراد الزيادة على ذلك من أوصاف هذا الإمام، فليرجع إلى الكتاب الذي ألفه فيه الهمام، خاتمة البلغاء، ونادرة النبغاء، الأوحد السند، الشيخ عثمان بن سند، الذي سماه أصفى الموارد في ترجمة حضرة سيدنا خالد فإنه كتاب لم يحك ببنان البيان على منواله، ولم تنظر عين إلى مثاله، مما اشتمل عليه من الفقرات العجيبة، والقصائد الرائقة الغريبة، عارض فيه المقامات الحريرية، والأشعار الحسانية والجريرية. وذكره أيضاً وأثنى عليه خاتمة المفسرين العلامة شهاب الدين محمود أفندي الألوسي، في الفيض الوارد والعلامة السيد إبراهيم فصيح الحيدري(1/410)
في المجد التالد وكان حضرة مولانا خالد يصفه بحريري الزمان، وناهيك بهذه الشهادة من مثل هذا العارف الجليل الشان، وقد ترجمه أيضاً حضرة الفاضل المفرد، والمؤرخ الأوحد، أحمد بن محمد بن علي بن إبراهيم الأنصاري اليمني الشرواني، في حديقته فقال: القول فيه أنه طرفة الراغب، وبغية المستفيد الطالب، وجامع سور البيان، ومفسر آياتها بألطف تبيان، أفضل من أعرب عن فنون لسان العرب، وهو إذا نثر أعجب، وإذا نظم أطرب، فوالعصر، إنه لإمام هذا العصر، أخبرني بديع الزمان، شيخنا الشيخ عبد الله بن عثمان، أن هذا الفاضل الأديب، أبدع في نظمه مغني اللبيب وأبرز أسرار البدائع بتصانيفه المشتملة على اللطائف والروائع، متع الله بحياته ذوي الكمال، وجمعني به على أجمل حال، فمن شعره هذه الأبيات، وقد وجدتها بخطه في ظهر كتاب تضمن حاشية الشيخ العلامة ياسين على مختصر المطول، قال أنجحت آماله: وقلت على لسان محبوب طلب وصاله:
أيها الصب الأديب ... لا ترى وصل الحبيب
فالثريا لا ترى ... قبل تغيب الرقيب
قد زارني والليل يحكي فرعه ... ظبي الشذا أنا في النحول كخصره
فجنيت من وجناته ما أشتهي ... ورشفت من صبب بحمرة ثغره
فسكرت حتى مست مثل قوامه ... طرباً ولم أشعر عواقب وزره
ويطربني قوله
قلت لما قال لي خشف الفلا ... صف عذاري وقوامي واعجلا
يا عديم المثل قد كلفتني ... غير ما أقدر حتى قلت لا(1/411)
أي لا أقدر من الاكتفا ولا هي جوابه فاللام عذاره والألف قوامه. هذا ما وجدت من نظمه المباهي بأنواره البدور، والميسور لا يسقط بالمعسور. انتهى كلام الشرواني في ترجمة هذا الإمام.
والحاصل أن هذا الفرد الهمام قد اشتمل شعره على ما تستلذ به الأسماع، ونثره على ما تميل إليه الطباع، وتأليفاته على درر غالية الأثمان، وتصنيفاته على عقود لآليها مزرية بقلائد العقيان، قد انتخبها واختبأها لمن هو أهل، لا لمن غلب عليه دعوى العلم على جهل. فلا ريب أنه خزانة الفضائل، وتاج هامة الأفاخم الأفاضل، قد قضى له الفضل بأنه أحق به ممن سواه، واختاره فن البيان سنداً له فقدمه وأحسن مثواه. ولم يزل يترقى على درج العلم والعمل، ويحرر ما يخلد له الذكر الجميل بين الأمم، ويقبل على المتعلمين إقبال الوالد الشفوق بالولد البار، ويبث لهم ما ينفعهم في دنياهم وفي دار القرار، إلى أن دعاه الداعي إلى الديار الآخرة، والمنزلة الفائقة الفاخرة، فلبى الداعي من غير إمهال، معتمداً على فضل ذي العظمة والنوال. وذلك في سنة ألف ومائتين وخمسين من هجرة السيد الأمين.(1/412)
حرف التاء
الشيخ تقي الدين الدمشقي الشافعي من ذرية تقي الدين الحصني
ابن حسن بن مصطفى بن إسماعيل بن محب الدين بن شمس الدين بن زين الدين بن ضياء الدين بن زين الدين عميرة البوصلي البلقاوي، الشهير بتقي الدين الحصني، ابن زين الدين عمر، بن السيد نور الدين معلى، بن السيد نجاد الدين نجدة، بن السيد الشيخ الصالح زين الدين عبد المؤمن، ابن السيد حريز الدين، بن السيد الشيخ الصالح نور الدين معلى، بن السيد مؤتمن الدين مؤمن، بن السيد حريز الدين، حريز بن السيد سعد الدين سعيد، ابن السيد فخر الدين داود، بن السيد شرف الدين قاسم، بن السيد علاء الدين، بن السيد نور الدين علوي، بن السيد منسي فخر الدين ناسي، بن السيد جوهر الدين جوهر، بن السيد علاء الدين علي، بن السيد أبي القاسم ابن السيد سالم، بن السيد عبد الله، بن السيد زين الدين عمر، بن السيد شرف الدين موسى، بن السيد محيي الدين يحيى، بن السيد علاء الدين الأصغر، بن السيد محمد التقي الجواد، بن السيد الحسن العسكري، بن علي الرضي، بن موسى الكاظم، بن جعفر الصادق، بن محمد الباقر، بن علي زين العابدين، بن الحسين الشهيد بكربلا، بن علي بن أبي طالب، بعل البضعة الشريفة السيدة فاطمة الزهراء، بنت سيد العالمين، وختام الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.(1/413)
ولد المترجم بدمشق الشام، وأخذ عن السادة العلماء الأعلام، منهم العلامة السيد نجيب القلعي الدمشقي، والشيخ محمد الكزبري، وغيرهما من الشيوخ الدمشقيين، وكان صالحاً عابداً، محترماً نقياً زاهداً، نير الوجه حسن الأخلاق، بين اسمه ومعناه حسن الطباق، مات سنة عشرين ومائتين وألف ودفن في تربة باب الصغير رحمه الله.
توفيق باشا بن إسماعيل باشا بن محمد علي باشا الخديوي
غب أن عزلت الدولة العثمانية إسماعيل باشا ولت مكانه ولده المرقوم محمد توفيق باشا، فسافر إسماعيل باشا بحريمه وأبنائه إلى مملكة إيطاليا ونزل في نابلي بقصر لحكومة إيطاليا، وتصرف المترجم في سياسة مصر وحكومتها، وذلك سنة ألف ومائتين وست وتسعين، فغير وبدل، ونصب وعزل، فجعل رئيس الوزارة رياض باشا، وجعل من كل من فرانسا وانكلتيرة مراقباً مالياً يحضر مجلس الوزراء وله صوت فيه بحيث لا يكون ولا ينفذ إلا ما وافق عليه المراقبان، وقسمت مداخيل الحكومة على قسمين، أحدهما لفائض الديون، وقدر تلك الديون نحو ألفي مليون فرنك، ومقدار ما عين لفائضها واستهلاك أصلها نحو مائة وستين مليون فرنكاً سنوياًن والباقي من مداخيل الحكومة يدفع منه خراج الدولة العثمانية وبقية مصاريف الحكومة، وجرى التصرف للوزارة بدون مجلس نواب، مع وعد الخديوي عند ولايته بفتحه، وإجراء(1/414)
مقتضاه، إلى أن ظهر للوزارة أن تحدث قانوناً في ترتيب ترقي العسكر، كان من مقتضاه أن أبناء مصر العارفين بالكتابة والقراءة لا يتجاوزون رتبة رئيس الألف المسمى عند الناس بالبين باشي، والذي لا يعرف ذلك لا يستولي إلا رتبة عشرة أنفس، وهو المعروف بالأونباشي، وبقية المصالح العظيمة، والرتب الجسيمة، يتولاها الدخيلون في مصر كالترك والإفرنج فامتنع من الإمضاء على القانون في وزارة الحرب عدة من أمراء الألايات، متعللين بأن ذلك خلاف الإنصاف، فسجنهم وزير الحرب، فثارت العساكر وأخرجوهم من السجن، وأحاطوا بقصر الخديوي طالبين عزل وزير الحرب، فعزل وحصلت حينئذ طنطنة لاتحاد العساكر وإنصافهم وحياة المصريين، ونشأ فيهم حزب يسمى الحزب الوطني زعيمه في الكلام رجل يسمى عبد الله نديم، فصيح اللسان، عارف بطرق الكلام، وكثرت منه الخطب في المجامع والمواكب، ومن غيره أيضاً في الحث على الاتحاد، وأخذ الأشغال لأبناء الوطن، وكذلك الوظائف والخروج من وطأة الأجانب الذين اشتد احتقارهم للأهالي واستبدادهم عليهم بالمرتبات الباهظة، حتى صار يسمع دوي غليان الأهالي من كثرة توظيف الأجانب الذين بلغ عددهم نحو ألف ومائتي متوظف، يأخذون سنوياً نحو أحد عشر مليون فرنكاً، مع اقتدار الأهالي على الوفاء بتلك الوظائف، ونقصان مرتبهم عن ذلك بكثير، ثم بدا للوزارة لزوم التنقيص من عدد العساكر، فثار الجند وأحدقوا بقصر الخديوي متسلحين حتى بالمدافع، بعد أن أرسلوا إلى نواب الدول بالأمن عليهم وعلى رعاياهم، والإعلام بمقاصدهم وكان رئيس ذلك الاتحاد رجل من أهل مصر في رتبة أميرالاي، فصيح اللسان، ثبت الجنان، اسمه عرابي باشا فطلب هو ورؤساء الجيش الاجتماع بالخديوي، فلما تيقن الخديوي جد طلبهم بواسطة خطاب قنصل الانكليز معهم تلقاهم فأعلموه بأن مطلبهم هو عزل الوزارة وولاية(1/415)
رئاستها لشريف باشا وجمع مجلس النواب وإجراء قراره حقيقة، وأن تكون له الحرية اللازمة لمثله، وأنه لا يمس حقوق الأجانب، وتعهدات الحكومة معهم، فلم يسع الحال إلا لقبول جميع المطالب وإجرائها فعلاً، وازداد عرابي نفوذاً، وانطلقت الألسن بالحرية، فلما اجتمع مجلس النواب ألف قانونه الذي تبتنى عليه أحكامه، وكان من جملته أنه له الحق في الاطلاع على حساب الحكومة في الحال، وله الرأي فيه، مع أن ذلك من خواص مأمورية المراقبة الفرنساوية والانكليزية، فامتنعت وزارة شريف باشا من قبول ذلك، لما تعلم من تداخل الدولتين في الامتناع حتى يفضي إلى التداخل في السياسة، فأصر المجلس على طلبه، وأظهرت العساكر التعصب للمجلس، فاستعفى شريف باشا ووزراؤه ومن هنا خرجت الأعمال عن القصد الجميل لما يوقعها في الزوال، لأن العاقل ينظر لجميع مقتضيات الحال، ونسبة قوة الدول، فيتباعد عن موجبات الفساد، ولا تطلب النهايات في البدايات كما هو القاعدة الشهيرة القائلة من طلب الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، لكن سبق القدر فلم يتدبروا واستعجلوا فأصروا على طلبهم، ففوض الخديوي انتخاب الوزارة إلى المجلس مع أنه من حقوقه، تطييباً لخاطر الأهالي، فاستولى رئاسة الوزارة محمود سامي، واستولى وزارة الحرب عرابي باشا، وابتدأ من هنا أيضاً الاعتراض عليه من العقلاء في قبول الوزارة، لأن مقامه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يأبى قبوله الوزارة، لأن قبوله يوقعه في التهمة من أنه له غرض خاص في أمره بالمعروف ونهيه عن
المنكر، وهو ارتقاؤه إلى المناصب العالية، سيما بعد أن رقى من كان معه من رؤساء العساكر إلى رتبة اللواء وقبل هو من الخديوي بعد الإلحاح عليه فوافقت الوزارة رأي المجلس، وكانت إذ ذاك ألسن الأهالي بذية مطلقة بالقدح في الأروباويين، والتبجح بما هم عليه مما أسف عليه عقلاء المسلمين.، وهو ارتقاؤه إلى المناصب العالية، سيما بعد أن رقى من كان معه من رؤساء العساكر إلى رتبة اللواء وقبل هو من الخديوي بعد الإلحاح عليه فوافقت الوزارة رأي المجلس، وكانت إذ ذاك ألسن الأهالي بذية مطلقة بالقدح في الأروباويين، والتبجح بما هم عليه مما أسف عليه عقلاء المسلمين.(1/416)
يمضي على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
فهاجت صحف أوربا ضداً عليهم، وأشدهم الفرنساويون والإنكليزيون، حتى أبرقت وأرعدت دولتاهم متهددين بالحرب، طالبين نفي عرابي وبعضاً من رؤساء العسكر الذين راقوا إلى رتبة اللواء، وإرجاع وزارة شريف باشا ودحض مطلب مجلس النواب في التداخل في أمر المراقبة، فوقع اضطراب وهيجان ظهرت فيه دعوى على بعض من العساكر الجراكسة، بأنهم قصدوا قتل عرابي بإغراءات سرية منسوبة إلى طلعة باشا أحد علائق إسماعيل باشا فنفيت أولئك الجراكسة إلى الآستانة، وبقوا فيها تحت الحفظ مكرمين في أحد البناءات السلطانية، إلى أن رجعوا بعد الحرب الآتي ذكره، فلما أصرت الدولتان على ذلك، أعلن الخديوي بعزل الوزارة، فثارت الأهالي والعساكر وألزموا الخديوي بإرجاع عرابي إلى وزارته، وحضر إذ ذاك مرخص عثماني، وهو المشير درويش باشا ومعه عدة رجال لإقرار الراحة في مصر بالوجه السياسي، لأن الأهالي أيضاً أكثروا من التنويه بانتمائهم للدولة العثمانية، ووردت منها أفراد على الوجه الخصوصي من قبل لإراحة الأهالي، وكان الخلاف بين عرابي والخديوي عند قدوم درويش باشا مشتداً حتى ظهر الخبر بأن الاهالي قدموا عرض محضر بطلب عزل الخديوي عند قدوم درويش باشا بل تفاقم الطمع إلى إخراج الخديوية عن عائلة محمد علي أصلاً، وطلب أن تكون مصر مثل البلغار في امتيازاتها التي منها اختيار الوالي، وأن لا تتداخل فيهم الدولة العثمانية بشيء في إدارتهم، بل تحرشت صحفهم بأنها لو ترسل عساكر ضدهم فإنهم يقاتلونهم كما يقاتلون سائر الدول، وحينئذ أعلنت كل من فرانسا وإنكلتيرة بإبقاء الخديوي ونفوذه، وقطع دابر مضاده بالقوة الجبرية، غير أن فرانسا تطلب أن تكون قوتها وقوة الإنكليز هي الفعالة، ولا تسمح للدولة العثمانية بذلك، وإنكلتيره على(1/417)
ضدها، فتطلب مبادرة عساكر الدولة العثمانية لذلك، فرأت الدولة العثمانية أن فصل النازلة يتم بدون احتياج إلى قوة، وأرسلت درويش باشا ومن معه لذلك، وحصل من قدومه ما أغاظ كثيراً من الأروباويين لانقياد العساكر المصرية والأهالي للسلطان، وامتثال أمره وابتداء السكون والتوافق بالرضى بالحصول شيئاً فشيئاً، لكنه حدث في اسكندرية التي كانت إذ ذاك مرساها غاصة بأساطيل الدول الأروباوية، حادثة شنيعة وهي قتال بين المسلمين والنصارى السكان بسبب مشاجرة عادية، فطبل الأروبايون وزمروا حتى توجه الخديوي ودرويش باشا وعرابي إلى الإسكندرية لإقرار الراحة، واقر الدول جميعاً أن الواقعة عادية لا دخل لها في السياسة، غير أن أصل المسألة من إصرار الدولتين على مطلبهم، وامتناع أهالي مصر لا زال على ما كان، وفرانسا أشد إقداماً وتهديداً بإعلان الحرب، وطلبت انكلتيره عقد مؤتمر في الآستانة لما يجب من العمل، فامتنعت الدولة العثمانية من التداخل فيه لما لها من حتى السيادة وحدها على مصر، فرأت أن ذلك من باب تداخل الدول في داخليتها، لكنهم عقدوه ودخلت فيه الدولة العثمانية أخيراً، وبينما هو في التفاوض كانت العساكر المصرية تصلح في حصون الاسكندرية حيث أنها خربة ولا استعداد فيها، لأن الدولة العثمانية كانت حجرت على إسماعيل باشا تحصينها عندما أحكم حصن أبو قير جوار الاسكندرية، وحصون دمياط وغيرها لما سبقت الإشارة إليه في أخبار إسماعيل باشا، ولما رأت أساطيل الدولتين ذلك التحصين ادعوا أنه تهديد لهم، وطلبوا الإقلاع عنهن فأمرت الدولة العثمانية بالكف عن التحصين، وادعى المصريون الامتثال، وادعى رئيس أسطول الانكليز عدمه، وطلب دخول عساكره إلى الحصون فتفاقم الخلاف وأطلقت النيران من الأسطول الانكليزي على الاسكندرية فخربتها في نحو عشر ساعات،(1/418)
وتضررت بعض مدرعاته، وانحازت العساكر المصرية إلى مكان يسمى كفر الدوار، وجيشوا هناك، واستولت العساكر الانكليزية على الاسكندرية وبقي الخديوي فيها، وانكشف الغطاء على مخالفة العساكر للخديوي، وكان معه درويش باشا المذكور، فرجع إلى الآستانة وبقي مع الخديوي الكاتب الثاني للسلطان، واشتد إلحاح الانكليز على الدولة في إرسال العسكر، ولم ترسل الدولة إلى أن وقعت عدة محاربات برية، كان النصر فيها للمصريين، واستولت انكلتيره على برت سعيد وسائر خليج السويس، وكان أكبر المعسكرات المصرية في التل الكبير بين القاهرة والإسماعيلية، وتضايق الإنكليز في لزوم قوة كبيرة لهم لإتمام قصدهم
لأن فرانسا لما فتح مجلس نوابها لاستشارته في حرب مصر أنكر ذلك أشد الإنكار، فسحبت أسطولها وبقيت على الحياد، والدولة العثمانية وإن وافقت أخيراً على إرسال عسكرها لكن تشدد الإنكليز في جعله تحت أمرهم، وأن لا يتصرف إلا على نحو إشارتهم، وأن يخرج متى ما أمروه بالخروج ألزم تأخر إرساله، وكان تصرف العساكر المصرية بغاية الاحتراز من الأفعال البربرية، سوى ما صدر من أفراد من العربان والفلاحين في جهات قليلة، وبينما الأمر على ذلك وإذا بالدولة العثمانية نشرت إعلاناً حسب طلب انكلتيرة، بأن عرابي وكل من انحاز إلى حزبه عصاة، فلم يمض على ذلك بضعة أيام إلا وقد انحلت عرى التعصب المصري، ودخلت العساكر الانكليزية إلى القاهرة بدون أدنى حرب ولا معارضة، مع أن الجيش المصري ومن انضم إليه من العربان وغيرهم المتجاوزين المائة ألف والخمسين ألف محارب بأتم قوات الاستعداد، فتفرقوا جميعاً أيدي سبا في بضع ساعات، وسلم عرابي نفسه أسيراً إلى الانكليز، فرجع الخديوي إلى مصر وأقيم وكيل مدافع انكليزي عن رؤساء العساكر المصرية، وآل الأمر(1/419)
حسب إرادة انكلاتيره أن حكم بعقاب عرابي، لكن الخديوي عفا عنه لأنه لم يفعل شيئاً إلا عن وفاق من يتبع وأبقى له مرتباً للقيام بنفسه، ونفي هو وكبراء الرؤساء إلى جزيرة سيلان في الهند، وذاك هو التعليل الباطني، مع أن حزباً عظيماً من الانكليز يرون أن جناية أولئك العساكر سياسة توجب القتل، فلذلك حكم عليهم المجلس الحربي بالقتل لكن الخديوي عفا عنهم، وأبدل القتل بالنفي، ولم تزل العساكر الانكليزية مقيمة بمصر ورجالهم السياسيون هم مرجع الأمر والنهي والوزارة تحت رئاسة شريف باشا، وناظر الداخلية الذي له كمال النفوذ رياض باشا وانكلاتيرة بصدد ترتيب حالة جديدة للسيرة السياسية داخلية وخارجية لمصر، مع إعلانها بأن مصر تحت سيادة الدولة العثمانية على امتيازاتها المقررة بالفرامانات السلطانية، وأن التراتيب التي هي بصددها لا تمس شيئاً من حقوق الدولة، ولا معاهدات الدول الأجنبية، وتقلص نفوذ فرانسا في مصر ولم تزل غير مسلمة رسمياً لانكلاتيرة بمرادها، وللروسية ميل إلى معاضدة فرانسا، هذا ما وقع إلى الآن وهو المحرم سنة ألف وثلاثمائة. أن فرانسا لما فتح مجلس نوابها لاستشارته في حرب مصر أنكر ذلك أشد الإنكار، فسحبت أسطولها وبقيت على الحياد، والدولة العثمانية وإن وافقت أخيراً على إرسال عسكرها لكن تشدد الإنكليز في جعله تحت أمرهم، وأن لا يتصرف إلا على نحو إشارتهم، وأن يخرج متى ما أمروه بالخروج ألزم تأخر إرساله، وكان تصرف العساكر المصرية بغاية الاحتراز من الأفعال البربرية، سوى ما صدر من أفراد من العربان والفلاحين في جهات قليلة، وبينما الأمر على ذلك وإذا بالدولة العثمانية نشرت إعلاناً حسب طلب انكلتيرة، بأن عرابي وكل من انحاز إلى حزبه عصاة، فلم يمض على ذلك بضعة أيام إلا وقد انحلت عرى التعصب المصري، ودخلت العساكر الانكليزية إلى القاهرة بدون أدنى حرب ولا معارضة، مع أن الجيش المصري ومن انضم إليه من العربان وغيرهم المتجاوزين المائة ألف والخمسين ألف محارب بأتم قوات الاستعداد، فتفرقوا جميعاً أيدي سبا في بضع ساعات، وسلم عرابي نفسه أسيراً إلى الانكليز، فرجع الخديوي إلى مصر وأقيم وكيل مدافع انكليزي عن رؤساء العساكر المصرية، وآل الأمر حسب إرادة انكلاتيره أن حكم بعقاب عرابي، لكن الخديوي عفا عنه لأنه لم يفعل شيئاً إلا عن وفاق من يتبع وأبقى له مرتباً للقيام بنفسه، ونفي هو وكبراء الرؤساء إلى جزيرة سيلان في الهند، وذاك هو التعليل الباطني، مع أن حزباً عظيماً من الانكليز يرون أن جناية أولئك العساكر سياسة توجب القتل، فلذلك حكم عليهم المجلس الحربي بالقتل لكن الخديوي عفا عنهم، وأبدل القتل بالنفي، ولم تزل العساكر الانكليزية مقيمة بمصر ورجالهم السياسيون هم مرجع الأمر والنهي والوزارة تحت رئاسة شريف باشا، وناظر الداخلية الذي له كمال النفوذ رياض باشا وانكلاتيرة بصدد ترتيب حالة جديدة للسيرة السياسية داخلية وخارجية لمصر، مع إعلانها بأن مصر تحت سيادة الدولة العثمانية على امتيازاتها المقررة بالفرامانات السلطانية، وأن التراتيب التي هي بصددها لا تمس شيئاً من حقوق الدولة، ولا معاهدات الدول الأجنبية، وتقلص نفوذ فرانسا في مصر ولم تزل غير مسلمة رسمياً لانكلاتيرة بمرادها، وللروسية ميل إلى معاضدة فرانسا، هذا ما وقع إلى الآن وهو المحرم سنة ألف وثلاثمائة.
تذييل
اعلم أن مصر مملكة عثمانية لها امتيازات خاصة بينها الفرمان الصادر في ولاية الخديوي المترجم المرقوم وهو محمد توفيق باشا وهذا نصه: الدستور الأكرم المعظم، الخديوي الأفخم المحترم، نظام العالم، وناظم مناظم الأمم، مدبر أمور الجمهور بالفكر الثاقب، متمم مهام الأنام بالرأي الصائب، ممهد بنيان الدولة والإقبال، مشيد أركان(1/420)
السعادة والإجلال، مرتب مراتب الخلافة الكبرى، مكمل ناموس السلطنة العظمى، المحفوف بصنوف عواطف الملك الأعلى، خديوي مصر الحائز لرتبة الصدارة الجليلة فعلاً، والحامل لنيشاننا الهمايوني المرصع العثماني، ولنيشاننا المرصع المجيدي، وزيري سمير المعالي توفيق باشا أدام الله تعالى إجلاله، وضاعف بالتأييد اقتداره وإقباله، إنه لدى وصول توقيعنا الهمايوني الرفيع، يكون معلوماً لكم أنه بناء على انفصال إسماعيل باشا خديوي مصر، في اليوم السادس من شهر رجب سنة ألف ومائتين وست وتسعين، وحسن خدمتكم وصداقتكم واستقامتكم لذاتنا الشاهانية، ولمنافع دولتنا العلية، ولما هو معلوم لدينا بأن لكم وقوفاً ومعلومات تامة في خصوص الأحوال المصرية، وأنكم كفء لتسوية بعض الأحوال الغير المرضية التي ظهرت بمصر منذ مدة، ولإصلاحها، وجهنا إلى عهدتكم الخديوية المصرية المحدودة بالحدود القديمة المعلومة، مع الأراضي المنضمة إليها المعطاة إلى إدارة مصر، توفيقاً للقاعدة المتحدة بالفرمان العالي الصادر في ثلاثة عشر محرم سنة ألف ومائتين وثلاث وثمانين، المتضمن توجيه الخديوية المصرية إلى أكبر الأولاد، وحيث أنكم أكبر أولاد الباشا المشار إليه وجهت إلى عهدتكم الخديوية المصرية، ولما كان تزايد عمران الخديوية المصرية وسعادتها وتأمين راحة كافة أهاليها وسكانها رفاهيتهم هي من المواد المهمة لدينا ومن أجمل مرغوبنا ومطلوبنا، وقد ظهر أن بعض أحكام الفرمان العالي الشأن المبني على تسهيل هذه المقاصد الخيرية المبين فيه الامتيازات الحائزة لها الخديوية المصرية قديماً، نشأ منه الأحوال المشكلة الحاضرة المعلومة صار تثبيت المواد التي لا يلزم تعديلها من هذه الامتيازات وتأكيدها، وصار تبديل المواد المقتضى تبديلها وتعديلها وإصلاحها فما تقرر إجراؤه الآن هو المواد الآتية، وهي أن كافة واردات الخطة المذكورة يكون تحصيلها واستيفاؤها باسمنا الشاهاني، وحيث أن أهالي مصر أيضاً من(1/421)
تبعة دولتنا العلية، والخديوية المصرية ملزمة بإدارة أمور المملكة الملكية والمالية والعدلية، بشرط أن لا يقع في حقهم أدنى ظلم ولا تعد في وقت من الأوقات، فخديوي مصر يكون مأذوناً بوضع النظامات اللازمة للداخلية المتعلقة بهم وتأسيسها بصورة عادلة، وأيضاً يكون مأذوناً بعقد وتجديد المشارطات مع مأموري الدول الأجنبية في خصوص الكمرك والتجارة وكافة أمور المملكة الداخلية، لأجل ترقي الحرف والصنائع والتجارة وتوابعها، ولأجل تسوية المعاملات السائرة التي بين الحكومة والأجانب، أو الأهالي والأجانب، مع أمور ضابطة الأجانب بشرط عدم وقوع خلل في معاهدات دولتنا العلية السياسية، وفي حقوق متبوعية مصر إليها، وإنما قبل إعلان الخديوية المشارطات التي تعقد مع الأجانب بهذه الصورة يصير تقديمها إلى بابنا العالي، وأيضاً يكون حائزاً للتصرفات الكاملة في أمور المالية لكنه لا يكون مأذوناً بعقد استقراض من الآن فصاعداً بوجه من الوجوه، وإنما يكون مأذوناً بعقد استقراض بالاتفاق مع المداينين الحاضرين أو وكلائهم الذين يعينون رسمياًن وهذا الاستقراض يكون منحصراً في تسوية أحوال المالية الحاضرة ومخصوصاً بها، وحيث أن الامتيازات التي أعطيت إلى مصر هي جزء من حقوق دولتنا العلية الطبيعية التي خصت بها الخديوية وأودعت لديها، لا يجوز لأي سبب أو وسيلة ترك هذه الامتيازات جميعها أو بعضها أو ترك قطعة أرض من الأراضي المصرية إلى الغير مطلقاً، ويلزم تأدية مبلغ سبعمائة وخمسون ألف ليرة عثمانية الذي هو الويركو المقرر دفعه في كل سنة في أوانه كذلك جميع النقود التي تضرب في مصر تكون باسمنا الشاهاني، ولا يجوز جمع عساكر زيادة عن ثمانية عشر ألفاً، لأن هذا القدر كاف لمحافظة أمنية إيالة مصر الداخلية في وقت الصلح، وإنما حيث أن قوة مصر البرية والبحرية هي مرتبة من أجل دولتنا العلية يجوز أن يزاد مقدار عساكر(1/422)
بالصورة التي تستنسب حالة كون
دولتنا العلية محاربة وتكون رايات العساكر البحرية والبرية والعلامة المميزة لرتب ضباطهم كرايات عساكرنا الشاهانية ونياشينهم، ويباح لخديوي مصر أن يعطي الضباط البرية والبحرية رتباً إلى غاية رتبة أميرالاي، والملكية إلى الرتبة الثانية، ولا يرخص لخديوي مصر أن ينشىء سفناً مدرعة إلا بعد الإذن وحصول رخصة صريحة قطعية إليه من دولتنا العلية، ومن اللزوم وقاية كافة الشروط السالفة الذكر والاجتناب من وقوع حركة تخالفها، وحيث صدرت إرادتنا السنية بإجراء المواد السابق ذكرها فقد أصدرنا أمرنا هذا جليل القدر الموشح أعلاه بخطنا الهمايوني، وهو مرسل صحبة افتخار الأعالي والأعاظم، ومختار الأكابر والأفاخم، على فؤاد بك باشكاتب المابين الهمايوني، ومن أعاظم رجال دولتنا العلية الحائز والحامل للنياشين العثمانية والمجيدية ذات الشأن والشرف. حرر في تاسع عشر شعبان المعظم سنة ألف ومائتين وست وتسعين انتهت عبارة الفرمان. تنا العلية محاربة وتكون رايات العساكر البحرية والبرية والعلامة المميزة لرتب ضباطهم كرايات عساكرنا الشاهانية ونياشينهم، ويباح لخديوي مصر أن يعطي الضباط البرية والبحرية رتباً إلى غاية رتبة أميرالاي، والملكية إلى الرتبة الثانية، ولا يرخص لخديوي مصر أن ينشىء سفناً مدرعة إلا بعد الإذن وحصول رخصة صريحة قطعية إليه من دولتنا العلية، ومن اللزوم وقاية كافة الشروط السالفة الذكر والاجتناب من وقوع حركة تخالفها، وحيث صدرت إرادتنا السنية بإجراء المواد السابق ذكرها فقد أصدرنا أمرنا هذا جليل القدر الموشح أعلاه بخطنا الهمايوني، وهو مرسل صحبة افتخار الأعالي والأعاظم، ومختار الأكابر والأفاخم، على فؤاد بك باشكاتب المابين الهمايوني، ومن أعاظم رجال دولتنا العلية الحائز والحامل للنياشين العثمانية والمجيدية ذات الشأن والشرف. حرر في تاسع عشر شعبان المعظم سنة ألف ومائتين وست وتسعين انتهت عبارة الفرمان.
السيد تقي الدين بن عبد الله بن علي الحنبلي الدمشقي الشهير بأبي شعر وشعير
قطب المعارف والكمال، وشمس الحقائق والإجلال، الشيخ الناهج منهج الفضائل، والحائز معالي الشمائل، التقي الصالح، والمرشد الناصح، والحبر الزاهد، والورع العابد، شيخ مشايخ الطريقة الشاذلية في دمشق المحمية وكان له مكاشفات ظاهرة، وأخبار غيبية باهرة، وله تأليفات في كلام السادة الصوفية، وصلوات على الذات المحمدية، ومن جملة كلامه في التصوف رسالته في التوحيد على لسان القوم التي سماها عقيدة الغيب وكان بعد تأليفها إذا أراد أن يذكر شيئاً عن نفسه يقول كما قال صاحب عقيدة الغيب، وله كتاب في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم(1/423)
نحو أربع مجلدات بلسان غير مألفوف، وفيه أخبار عن أمور كثيرة مما سيقع، ومن ذلك تفصيل قضية حادثة العيسوية التي وقعت سنة سبع وسبعين، وفي آخر أمره حصل له جذب عظيم.
وبالجملة فإنه كان أعجوبة الزمان، ونادرة الوقت والأوان، ذا كرامات عظيمة، وخوارق عادات جسيمة، وكان رضي الله عنه يقول: من توقف في شيء من الفتوحات فليأت يوم السبت قبل طلوع الشمس إلى قبري وليقرأ كل إشكاله يكشف له عن معناه. توفي هذا الجهبذ الهمام سنة سبع ومائتين وألف ودفن في تربة باب الصغير، وقبره ظاهر مشهور.
تركي بن عبد الله بن سعود أمير نجد وناصر عقيدتها
كان رجلاً شهماً شجاعاً مقداماً صداماً، مشهوراً بمواقع الحروب، وكان له صولة وصيت وسمعة، وأيام مشهورة في العرب، ولما قويت شوكة نجد وتقدمت صولتها وجهت الدولة العلية إبراهيم باشا بن محمد علي باشا المصري لقتالهم وكسر شوكتهم، فقاتلهم قتالاً تشيب له الأطفال، وتغيب له عقول النساء والرجال، فأسر إبراهيم باشا عبد الله بن سعود وجميع أولاده، ونقلهم وعائلاتهم إلى مصر، وذلك سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين، غير أن المترجم قد انفلت من يد إبراهيم باشا وغاب عنه ولم يقع له بعد التفتيش على خبر، فتركه وتوجه بابن سعود وأولاده وعائلته إلى مصر، ولم يزل المترجم متنكراً يتنقل من قبيلة إلى قبيلة ومن قرية إلى قرية بحالة لا يعرفه بها إلا قليل من الناس، وعساكر المصريين تتطلبه من كل جانب، وتدور عليه لتوقعه في أشد المعاطب، إلى سنة ألف ومائتين وتسع وثلاثين، وكان قد فتر أمر التفتيش عليه، فاغتنم الفرصة وشد أزره وظهر للناس وعرفهم بنفسه وحرضهم على مساعدته، وتظاهر يتطلب إمارة آبائه وأجداده، وما برح يتقوى شيئاً فشيئاً والناس(1/424)
تساعده على مرامه، إلى أن صار عنده جم غفير، وعدد من الشجعان كثير، فملك نجداً وما حولها وجلس على مهاد الامارة النجدية، ولم يبق له معارض ولا منازع، وطرد عساكر المصريين، واستقر على عرش الراحة والتمكين، إن أمر فما لأمره من عاص، وإن نهى فما لمخالفه من خلاص، وبقي على مهاد هذه الإمارة عشر سنوات. وفي أثناء هذه المدة تخلص بعمل الحيلة ابنه فيصل، وفر من مصر هارباً، ولم يزل يقطع البراري والقفار، ويقاسي الشدائد الكبار، إلى أن وصل إلى أبيه المترجم، وأحسن الله له بالخلاص من الأسر وأنعم، ثم إن ابن أخت المترجم مشاري ثار على خاله المترجم، وأراد نزع الإمارة من يده، فعمل الوسائل، وقام قيام الأسد الصائل. وفي أثناء هذه المدة توجه ابن المترجم فيصل غازياً البحرين، فوجد مشاري أنه قد خلا له الجو، ولم يبق للمترجم من مانع يمنعه، فاغتنم الفرصة وقتله واستولى على الإمارة مكانه، وذلك سنة ألف ومائتين وتسع وأربعين، ولما بلغ فيصل بأن مشارياً قتل أباه حضر إليه من غير مهلة وقتله، وكانت إمارة قاتل المترجم أربعين يوماً وتأمر فيصل مكانه.
توفيق أفندي بن محمد أفندي أبي السعود بن سعدي أفندي الأيوبي نسبة إلى سيدنا الصحاب الجليل أبي أيوب خالد الأنصاري النجاري رضي الله تعالى عنه وعن ذريته
ذو التحقيقات الواضحة، والتدقيقات الراجحة، والإدراكات السامية، والاستنباطات النامية، والكمالات المعروفة، والآداب الموصوفة، ولد(1/425)
كآبائه في دمشق الشام، وتربى بين علمائها الأعلام، ونهج أولي المناهج، وعرج للترقي أعلى المعارج، إلى أن بلغ مبلغ الكمال، ونبغ في محاسن الأقوال والأفعال، وتحلى بحلية من سلف، واستبدل الدر الثمين بالصدف، واعتصم بحبل الكتاب والسنة، ورأى أن توفيقه لذلك أعظم منة. وله نظم كالدر المنظوم، ونثر يفوق نثر النجوم، ومن نظمه المستطاب، في مدح السيد أحمد الرفاعي قطب الأقطاب، قوله:
غيري مناه ظبية وغزال ... وهواه معسول اللمى مختال
ومناي كأس مدامة ما شابها ... مزج وشابت دونها الآمال
عيناً بها شرب الأولى وطئوا السها ... شرفاً ونالوا رفعة ما نالوا
عيناً بها انفجرت ينابع حكمة ... وغدا شفاء ماؤها السلسال
عيناً بها سر تنزه عزة ... عن أن تحيط بعشره الأقوال
بيد مباركة مقدسة لها ... مدت يد منها الكمال ينال
يد أحمد أعني الرفاعي الذي ... هو في البرية زينة وجمال
مدت لها يد أحمد خير الورى ... هذا هو التعظيم والإجلال
وبطي ذاك بشارة نبوية ... ما حازها الأقطاب والأبدال
إن الذين يبايعونك إنما ... قد بايعوه وحفهم إقبال(1/426)
وإشارة لكمو بإرث مقامه ... وبأن عثرة، لائذيك تقال
هو آخذ بيمينكم ويمينكم ... بيد المريد أبعد ذاك ضلال
ودعتموا فأجابكم وعليكمو ... رد السلام وحسبكم إبجال
وسلامه أمن لكم ولمن بوا ... ثق حبلكم علقت له آمال
ولذا دعاكم حين ناديتم وذا ... مجد أثيل ما له أمثال
صح انتسابكمو لحضرة قدسه ... بالمعنيين وانتفى الإشكال
يا صاحب العلمين يا قمر الدجى ... يا طاهر النسبين يا مفضال
يا سيداً للفرقتين وحائزاً ... للخلعتين علاك كيف يطال
ومجدد الدين الحنيفي بعد ما ... درست معالمه وكاد يزال
بالانكسار سموت أسنى منزل ... خضعت لعزة مجده الأقيال
وعنت وجوه أولي الوجاهة خشعاً ... لما علاهم من سناك جلال
توجت تاج كرامة ورفلت في ... حلل الصفا وثيابك الأسمال
ووقفت في باب المليك فأوقفت ... في بابك الأقطاب والأبدال
وبلغت من فلك الكمال سنامه ... فلك النجوم الشامخات نعال
وحللت ذرة هام أشرف رتبة ... وخلال مجدك ما لهن مثال
يا نجل صيد طاهرين أماجد ... بهم عن الأكوان زال وبال
آباء صدق لا يرام علاهمو ... وهمو لفخر الأنبيا أنجال
نص الكتاب أتى يخبر عنهمو ... بخصائل لم تحكهن خصال
فتحوا قلوباً سكرت ونواظراً ... عميت وأسماعاً لها أفعال
عنهم روينا المكرمات ومنهمو ... وعليهمو كل الأنام عيال(1/427)
وإليهمو الأرواح حنت حيث لو ... لاهم لما كانت لها أوصال
لا غرو يا ابن الأوصياء إذا غدت ... عن وصف ذاتك تقصر الأقوال
أوتيت فهماً في الكتاب وحكمة ... ومكانة بالسعي ليس تنال
ونطقت في مهد الطفولة منبئاً ... بعلاك قولاً ما به: أيقال؟
وعليك مائدة المواهب أنزلت ... فغدت تفصل ما به إجمال
فحكيت روح الله يا روح العلا ... وسناك نسخته وأنت مثال
والنار قد خمدت لذكرك واغتدى ... بكمو سلاماً حرها القتال
والشائل العجفاء درت عندما ... فازت بلثم يد نداها خال
ولنخلة الجرعا أشرت فأذعنت ... وسعت إليك يسوقها إرقال
وكذاك أسماكٌ ببصرة أبصرت ... ذاك البهاء فأقبلت تنثال
من مثل هذا الوارث النبوي من ... صبت عليه من العلوم سجال
أخلاق حضرة جده أخلاقه ... وكذا له أحواله الأحوال
وشعاره آدابه ودثاره ... آثاره وفعاله الأفعال
وطريقه أن تخلع الكونين مع ... أدب يزين بهاءه الإذلال
وطريقه صدق وفقر دائم ... وخلائق تزهو بها الأعمال
وطريقه جد بلا كسل فلا ... قيل لديه بنافع أو قال
أنى أحيط بوصف ذات قدست ... إذ ليس تقدر قدرها الأقوال
أعيت مناقبها الفصيح وأخرس ... المنطيق عنها واستحى القوال
لكن أردت بأن أفوز بخدمة ... لكمو ليخدمني بها الإقبال(1/428)
ولقد لجأت لكم بخير وسيلة ... بخؤولة ما شانها إشكال
يحلو مكررها بكم وقد انتهت ... للأكرمين ومن هم الأقيال
تنمى لأشرفهم بني النجار خلان النبي وهم له أخوال
وصلت بأحكمهم أبي أيوب من ... نزل النبي ببيته والآل
إن ابن أخت القوم إن يك منهم ... فكذاك في حكم القياس الخال
وأنا ابن أخت مثل ما أني لكم ... خال فلي بقرابتي إدلال
وعبيدكم حقاً ومولى القوم منهم جاءنا بصريح ذا الأنفال
حضرة صاحب السماحة والسيادة السيد توفيق أفندي البكري نقيب السادة الأشراف بمحروسة مصر
إمام اغترفت من بحر علمه علماء الأمصار، وهمام اعترفت بفضائله ذوو البصائر من الأفاضل والأبصار، أثمرت أغصان الأقلام بفرائد مآثره، وكشف له العرفان حجاب الستر عن محيا سرائره، له في كل فن مقام مشهور، وفي كل علم علم منشور، وله شعر منظوم نظم الكواكب(1/429)
في السحر، ونثر منثور نثر اللآلىء والدرر، فلا ريب أنه قلد جيد الدهر بعقود حلاه، وشيد ربوع المجد بنوامي فضله وعلاه، فهو الذي استوى على عرش الفنون، واحتوى على ما تلذ به الأسماع وتقر به العيون.
وفي عام ألف وثلاثمائة وخمسة عشر حينما قامت الحرب بين الدولة العلية واليونان، وكانت طليعة النصر تحت إمرة السلطان عبد الحميد خان، فهنأه المترجم بهذه القصيدة،، المقدمة لذاته السعيدة:
أما ويمين الله حلفة مقسم ... لقد قمت بالإسلام عن كل مسلم
فلولاك بعد الله أمست دياره ... بأيدي الأعادي مثل نهب مقسم
لقد سر هذا النصر قبراً بطيبة ... وبيتاً ثوى عند الحطيم وزمزم
فحيا أمير المؤمنين وملكه ... ثناء البرايا من فصيح وأعجم
إمام له في آل عثمان لحمة ... تبحبح منها في الذرى والمقدم
خليفة صدق يسبق الوعد جوده ... كما انهل قبل البرق ميزاب مرهم
يسوس الرعايا والبلاد بحكمة ... أقامت لدى نهج من الحق أقوم
ويقطع أقران الأمور بفيصل ... من الرأي يحكي منه ضربة مخذم
رمى الروم لما أن عتوا بكتيبة ... تميل بأعطاف الوشيج المقوم
وأعطاهموا سلماً فلما تألبوا ... لشر غدوا ما بين أنياب ضيغم
ومد لهم في الحم باعاً رحيبة ... فزادوا طماحاً في عتو وملأم
كذاك مرار النبت أن ما سقيته ... من العذب يزدد طعم صاب وعلقم
وزجوا جموعاً كالدبى في عديدها ... فألقاهموا في جوف دهياء صيلم
أسال فجاج الأرض بالجند يلتوي ... كأغدرة الوديان في كل مخرم(1/430)
يموج به الماذي في رونق الضحى ... كما ماج لج بين أرحاء عيلم
فمن كل صنديد ثبيت مشيع ... سبوق إلى الغايات أحوس مجذم
يرى أن في بذل النفوس صيانة ... النفوس وأن قد يحقن الدم بالدم
ومن كل ذيال كان هويه ... هوي شهاب أو عقاب محوم
ومن كل حصداء دلاص كأنها ... على عاتق الأجناد بردة أرقم
وبيض كلون الملح لكن متونها ... كنمل على نهر من الماء عوم
وسود جثي كالإكام دوافع ... بحمر كأشباه الصواعق رجم
وجأواء حرى كالوطيس أقامها ... عليهم فكانت كالفضاء المحتم
كأن النصال البيض وسط عجاجها ... شرار تعالى في دخان مخيم
يطير قشاري الحديد بأفقها ... بحبل وتين أو بكفٍ ومعصم
فلا شيء فيا غير ضرب مفلق ... لهام ورمي مثل تهطال مرزم(1/431)
وطعن دراك يسبق الحس للردى ... فليس وإن أفنى النفوس بمؤلم
أمال بلا ريسا عروش عداته ... وأشرق من فرسالة الأرض بالدم
كأن الأكام الأدم لما تصبغت ... به أنبتت نبتي شقيق وعندم
ويوم ملسطينو أقام نعيهم ... بشعواء تنفي حدة المتغشرم
فأصلاهمو ناراً فقوم درأهم ... كما قوم التثقيف معوج لهذم
فأمسوا حديثاً في الأنام وعبرة ... وبادوا كطسم في البلاد وجرهم
بيمن له قد أدرك النصر قائد ... رمى منه أكباد العداة بقشعم
وسوف يدين المشرقان لملكه ... ويتلى اسمه في كل واد ومعلم
ولا زال في علياء ثبت عمودها ... وأيامه ما بين عيد وموسم(1/432)
حرف الثاء
الشيخ ثعيلب بن سالم المصري الشهير بالفشني
إمام توحد في الفضائل، وهمام تفرد بين الأفاضل، سار بسيرة ذوي العرفان، واشتهر اشتهار عطارد وكيوان، ولد سنة ألف ومائة وخمسين، وأخذ عن العلامة العزيزي، والعلامة العشماوي، والعلامة الجوهري، وعن غيرهم من السادة الأعاظم، والقادة الأكارم، وانتفع وساد، ونفع وأجاد، ولم يزل على حال حسن، إلى أن دعي إلى نوال المنن. وذلك سنة ألف ومائتين وإحدى وأربعين رحمه الله تعالى.
ثويني بن عبد الله بن محمد بن مانع القرشي الهاشمي العلوي الشبيبي
تولى مشيخة المنتفق كما تولاها أبوه وجده، وكان أحد أجواد العرب المشهورين، وكان له في حكومته أيام تعد غرراً في جبهة الدهر، منها دبى كربى الموضع القريب من البصرة، وذلك أن كعباً غزا أخاه صقراً بجيش عرمرم، فصدمهم وكسرهم تجاهه، وكان هو الآمر الناهي في ذلك اليوم، إلى أن ملأ الفضاء بجثث القتلى من قبائل كعب الروافض، ومن ذلك اليوم وهم في ذل تحت المنتفق. ومن أيام المترجم الشاهدة له بالشجاعة والإقدام يوم ضجعة، والعوام تحرفه فتقول جضعة، وسببه أن عبد المحسن بن سياج لما اشتاقت نفسه لغزو بني خالد شيوخ الحسا، قصد المترجم ليساعده، وينجده على مرامه فساعده المترجم بما يقدر عليه من الرمح والسيف والمال والجسم والجاه، وشيخ بني خالد إذ ذاك سعدون(1/433)
ابن عرعر، أحد المشهورين بمحاسن الشيم، فلما تحقق مساعدة المترجم، أمر شجعانه أن يشنوا الغارات على عرب المترجم بعد أن أنذر المترجم وخوفه من قتاله وشجعانه، فلما رأى المترجم عازماً على القتال والمساعدة، وكان قد ذهب الصيف وجاء الشتاء، جهز كل منهما عساكره والتقيا في أرض بني خالد، ومضى على ذلك أيام وهم في جلاد وطعان، من الصباح إلى الليل، إلى أن امتطى الخيانة بعض قبائل سعدون، فهرب سعدون هو وأتباعه، وتولى المترجم على بيوتهم ومحلاتهم. ولا زال يترقى مقامه، وتحسن به أيامه، إلى أن نزل في بعض غزواته ماءً يسمى الشباك، فنصبت له هناك خيمة صغيرة وجماعته مشتغلون بمصالح نزولهم في ذلك المكان، فجاءه رجل من أعدائه يقال طعيس العبد، فطعنه بحربة كان بها انتهاء أجله، فانتبه جماعته لذلك، وقبضوا على طعيس وجرعوه كؤوس المنية، وألقوه جيفة للكلاب، ودفن المترجم في جزيرة العمائر، وذلك عام ألف ومائتين واثني عشر رحمه الله تعالى.(1/434)
حرف الجيم
الشيخ جمال الدين بن الشيخ محمد سعيد بن الشيخ قاسم المعروف بالحلاق
نبيل عذبت نفسه صفاء ووفاء، ونبيه ملئت شيمته سخاء واحتفاء، تفتحت كمائم رويته عن زهر المعاني، وتوشحت حدائق معارفه بحرز الأماني، مع أدب زرت على الكمال جيوبه، ولطف هبت بعرف الجمال صباه وجنوبه، ونظم قد انتثرت من فرائده عقود الدرر، ونثر قد انتظمت من فوائده الغرر، وقد لبس حلة الحياء فهي دثاره، وجلس على مرقاة الارتقاء التي هي شعاره، فلم تبرح روضة نباهته الزاهية يانعة الأزهار، وغيضة بلاغته الباهية منبت ثمرات الأفكار، وإنه منذ تنسك تمسك بأذيال السنة والكتاب، وعمل بآداب السنة المطهرة وسنة الآداب، فمذهبه مذهب السلف الصالح، ومسلكه مسلك الفريق الراجح. ولد في ثامن شهر جمادى الأولى سنة ألف ومائتين وثلاث وثمانين، من هجرة السيد الأمين. ثم بعد التمييز قرأ القرآن وجوده، وحضر دروس العلوم بهمة جيدة، ولم يزل مجافياً في طلبه اللذة وطيب الرقاد، إلى أن بلغ المقصود والمراد، فأجاز له الكثير من الأفاضل، وشهدوا له في خطوطهم بالفواضل والفضائل، فلعمري إنه ليكشف بذهنه الغامض الذي أحاط به الخفا، ويعرف رسم المشكل وإن كان قد عفا، ويبصر الخفيات بباصر فهمه، ويقصر حلها على إدراكه وعلمه. ومن نظمه قوله:
جزى الله عنا الكتب خيراً فإنها ... تنم أحاديث الحبيب بلفظه(1/435)
فموقعها أحلى من الماء الذي ... به ظمأ وقت الهجير وقيظه
وقال:
يا قلب صبراً على هجر الحبيب ولا ... تيأس من الوصل إن الله ذو فرج
لك التأسي بمن ذاق الهوى ولوى ... عنه الحبيب وقد أضناه وهو شجي
وقال:
فرق الجميل على برق الجبين علا ... وعنبر الخال عن بر الوصال خلا
مسكي شعر وتركي اللحاظ فكم ... ببارق الجيد منه البرق قد خجلا
ياقوت مبسمه يفتر عن درر ... لا عيب فيه سوى كون اللما عسلا
هيفاء قامته وطفاء مقلته ... حسناء طلعته كالبدر مكتملا
لو أن بدر الدجى وافاه مبتسماً ... لظل منكسفاً من حسنه وجلا
أو أن ريم الربى لاقاه ملتفتاً ... لسار مندهشاً من خصره ثملا
ذاك الفريد الذي ما مثله رشأ ... قد راش من لحظه سهماً به قتلا
مهفهف العطف زاهي الطرف أحوره ... كم جاد ظرفاً ولكن بالوفا بخلا
يا منية القلب ما للصب عنك غنى ... فإن عطفت فحظ العبد قد كملا
وقال:
زعم الناس بأني مذهبي يدعى الجمالي
وإليه حينما أفتي الورى أعزو مقالي
لا وعمر الحق إني ... سلفي الانتحال
مذهبي ما في كتاب الله ربي المتعالي
ثم ما صح من الأخبا ... ر لا قيل وقال
أقتفي الحق ولا ... أرضى بآراء الرجال
وأرى التقليد جهلاً ... وعمى في كل حال(1/436)
وقال:
أقول كما قال الأئمة قبلنا ... صحيح حديث المصطفى هو مذهبي
ألبس ثوب القيل والقال بالياً ... ولا أتحلى بالرداء المذهب
وقال:
زعموا بأن من اقتفى الآثارا ... أولى الذين تقدموا الإنكارا
كلا فأجر الاجتهاد لهم سوى ... متعصب يتأول الأخبارا
وكتب لي ملغزاً:
يا من لحل عويص المشكلات درى ... وبحر آدابه يروي لنا دررا
ما اسم له أحرف تسع بظاهرها ... وتلك عشر إذا حققتها نظرا
أضحى مسماه ذا شأن له شرف ... بأهله فغدا في الأرض مزدهرا
فتاجه علم في الأرض منتشر ... والثان تصحيفه بعض البلاد يرى
واثنان أوله فعل وقد أتيا ... لاسم الحكيم الذي في الحذق قد مهرا
ثلاثة أول منه أتت علماً ... للعود واسماً لضد الجور قد ظهرا
تصحيف ثالثه مع تلوه أتيا ... خلاف علم وفنا نفعه اشتهرا
وثالث منه يأتي مثل خامسه ... ورابع منه يحكي سابعاً ذكرا
وبعضه الظبي إن صحفته وإذا ... تركته فهو مما في الشتا كثرا
وختمه هين في قلبه عمل ... فجد بمعناه يا شهماً جلا الفكرا
فأجبته بقولي نظماً ثم نثراً:
يا ذا الجمال الذي في اللفط قد بهرا ... وزادنا من سنا إيناسه غررا
ألغزت فيما علا قدراً ومرتبة ... ورمت ما يزدري في حسنه القمرا
إن الذي رمته قد حاز أوله ... قرآننا يدر هذا من قرا ودرى
ذا أعجمي خلت عن مثله لغة الذين ... فاهوا بما أهل النهى سحرا
لكن من رام يدري حسن بهجته ... لابد من نية في ختم ما ذكرا(1/437)
أيها الخل الحبيب، والخدن الأديب الأريب، إن ما ألغزت فيه، وأردت إظهاره وبيان خوافيه، هو اسم لشيء علا، واشتهر قدره في الملا، ذي نهي وأمر، ومقام تهابه النفس في السر والجهر، وبهجة وزينة، وقوة متينة، ومنعة حصينة، أوله في القرآن في الجزء الأول، وآخره في السنة التي عليها المعول، ويطلق أوله وثانيه على رئيس معلوم، له بين ذويه تقدم في الدين والعلوم. وقد افرد الإله أوله اسماً في آخر كتاب، وإن كان من الأفعال ذات البناء لا الإعراب، وثالثه ورابعه يستعمل في صوت معروف، وإن كان بعضه في المجالس غير مألوف، وخامسه وسادسه قبيلة ومصدر يدل على الجوع، النافي للراحة والنوم والهجوع، وسابعه مع ثامنه بتوسط الأخير، يدل على النهي والزجر والتنفير، ومن اراد كشف استعاراته المكنية، فلابد له على المعتمد من نية، فبها يتم المطلوب، وينكشف المرام والمرغوب. انتهى.
وقال مادحاً مختار الصحاح:
لمختار الصحاح على الألبا ... عوارف حق أن ترعى وتشكر
وإن كان الصحاح له أياد ... فللمختار فضل ليس ينكر
وله أبيات كثيرة، وتعاليق فوائدها غزيرة، ورسائل لطيفة، وتحقيقات شريفة، أدام الله نفعه، وأحسن على الدوام صنعه. توفي رحمه الله تعالى مساء السبت الثالث والعشرين من جمادى الأولى عام ألف وثلاثمائة واثنين وثلاثين ودفن بباب الصغير.(1/438)
السيد جمال الدين بن السيد صفتر الأفغاني
قال تلميذه الشيخ محمد عبده المصري في ترجمة هذا الرجل الفاضل: الذي حملنا على ذكر شيء من سيرته ما رأيناه من تخالف الناس في أمره، وتباعد ما بينهم في معرفة حاله وتباين صوره في مخيلات اللاقفين لخبره، حتى كأنه حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه، أو قوة روحية قامت(1/439)
لكل نظر بشكل يشاكله، والرجل في صفاء جوهره، وزكاء مخبره، لم يصبه وهم الواهمين، ولم يمسسه حزر الخراصين. وإنا نذكر مجملاً من خبره، نرويه عن كمال الخبرة، وطول العشرة.
هو من بيت عظيم في بلاد الأفغان ينمي نسبه إلى السيد علي الترمذي المحدث المشهور، ويرتقي إلى سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وآل هذا البيت عشيرة وافرة العدد، وتقيم في خطة كنر من أعمال كابل، تبعد عنها مسيرة ثلاثة أيام، ولهذه العشيرة منزلة علية في قلوب الأفغانيين، يجلونها رعاية لحرمة نسبها الشريف، وكانت لها سيادة على جزء من الأراضي الأفغانية تستقل بالحكم فيه، وإنما سلب الإمارة من أيديها دوست محمد خان جد الأمير الحالي، وأمر بنقل أبي السيد جمال الدين وبعض أعمامه إلى مدينة كابل.
ولد المترجم المذكور السيد جمال الدين في قرية أسعد آباد من قرى كنرسنة أربع وخمسين ومائتين وألف، وانتقل بانتقال أبيه إلى مدينة كابل، وفي السنة الثامنة من عمره أجلس للتعلم، وعني والده بتربيته فأيد العناية به قوة في فطرته، وإشراق في قريحته، وذكاء في مدركته، فأخذ من بدايات العلوم، ولم يقف دون نهاياتها، تلقى علوماً جمة برع في جميعها فمنها العلوم العربية من نحو وصرف(1/440)
ومعان وبيان وكتابة وتاريخ عام وخاص، ومنها علوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه وكلام وتصوف، ومنها علوم عقلية من منطق وحكمة عملية رياضية من حساب وهندسة وجبر وهيئة أفلاك، ومنها نظريات الطب والتشريح، أخذ جميع تلك الفنون عن أساتذة ماهرين، على الطريقة المعروفة في تلك البلاد، وعلى ما في الكتب الإسلامية المشهورة، واستكمل الغاية من دروسه في الثامنة عشرة من سنه، ثم عرض له سفر إلى البلاد الهندية، فأقام بها سنة وبضعة أشهر، ينظر في بعض العلوم الرياضية على الطريقة الأوربية الجديدة، وأتى بعد ذلك إلى الأقطار الحجازية لأداء فريضة الحج وطالت مدة سفره إليها نحو سنة، وهو ينتقل من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر حتى وافى مكة المكرمة في سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف، فوقف على كثير من عادات الأمم التي مر بها في سياحته، واكتنه أخلاقهم، وأصاب من ذلك فوائد غزيرة، ثم رجع بعد أداء الفريضة إلى بلاده، ودخل في سلك رجال الحكومة على عهد الأمير دوست محمد خان، ولما زحف الأمير إلى هراة ليفتحها ويملكها على سلطان أحمد شاه صهره وابن عمه، سار السيد جمال الدين معه في جيشه، ولازمه مدة الحصار، إلى أن توفي الأمير وفتحت المدينة(1/441)
بعد معاناة الحصر زمناً طويلاً، وتقلد الإمارة ولي عهدها شير علي خان سنة ثمانين ومائتين وألف، وأشار عليه وزيره محمد رفيق خان أن يقبض على إخوته خصوصاً من هو أكبر سناً منه ويعتقلهم، فإن لم يفعل سعوا بالناس إلى الفتنة وألبوهم للفساد، طلباً للاستبداد بالإمارة، وكان في جيش هراة من أخوة الأمير ثلاثة محمد أعظم ومحمد أسلم ومحمد أمين، وهوى الشيخ جمال الدين كان مع محمد أعظم، فلما أحسوا بتدبير الأمير، ومشورة الوزير، أسرعوا إلى الفرار، وتفرقوا إلى الولايات كل منهم ذهب إلى ولايته التي كان يليها من قبل أبيه ليعتصم بمنعته فيها، وطاشت بهم الفتن، واشتعلت نيران الحروب الداخلية، وبعد مجالدات عنيفة عظم أمر محمد أعظم وابن أخيه عبد الرحمن الأمير الحالي، وتغلبا على عاصمة المملكة، وأنقذا محمد أفضل والد عبد الرحمن من سجن قزنة، وسمياه أميراً على أفغانستان، ثم أدركه الموت بعد سنة، وقام على الإمارة بعده شقيقه محمد أعظم خان، وارتفعت منزلة الشيخ جمال الدين عنده، فأحله محل الوزير الأول، وعظمت ثقته به، فكان يلجأ لرأيه في العظائم وما دونها، على خلاف ما تعوده أمراء تلك البلاد من الاستبداد المطلق وعدم التعويل على رجال حكومتهم، وكادت تخلص حكومة الأفغان لمحمد أعظم بتدبير السيد جمال الدين، لولا سوء ظن الأمير بالأغلب من ذوي قرابته حمله على تفويض مهمات من الأعمال إلى أبنائه الأحداث، وهم خلو من التجربة عراة من الحنكة، فساق الطيش أحدهم وكان حاكماً في قندهار على منازلة عمه شير علي في هراة، ولم يكن له من الملك سواها، وظن الفتى أنه يظفر فينال عند أبيه حظوة فيرفعه على سائر إخوانه، فلما تلاقى مع جيش عمه دفعته الجراءة على الانفراد عن جيشه في مائتي جندي، واخترق بها صفوف أعدائه فأوقع الرعب في قلوبهم، وكادوا ينهزمون لولا ما االتفت يعقوب خان قائد شير علي، فوجد ذلك الغر المتهور منقطعاً عن جيشه، فكر عليه وأخذه أسيراً،(1/442)
فتشتت جند قندهار، وقوي الأمل عند شير علي، فحمل على قندهار واستولى عليها، وعادت الحرب إلى شبابها، وعضد الإنكليز شير علي، وبذلوا لها قناطير من الذهب، ففرقها في الرؤساء والعاملين لمحمد أعظم، فبيعت أمانات ونقضت عهود، وجددت خيانات.
وبعد حروب هائلة تغلب شير علي وانهزم محمد أعظم، وابن أخيه عبد الرحمن، فذهب عبد الرحمن إلى بخارى، وعاد اليوم إلى بلاده وهو أميرها، وذهب محمد أعظم إلى بلاد إيران، ومات بعد أشهر في مدينة نيسابور، وبقي السيد جمال الدين في كابل لم يمسه الأمير بسوء، احتراماً لعشيرته وخوف انتقاض العامة عليه حمية لآل البيت النبوي، إلا أنه لم ينصرف عن الاحتيال للغدر به والانتقام منه بوجه يلتبس على الناس حقه بباطله، ولهذا رأى السيد جمال الدي خيراً له أن يفارق بلاد الأفغان، فاستأذن للحج فأذن له على شرط أن لا يمر ببلاد إيران، كيلا يلتقي فيها بمحمد أعظم، وكان لم يمت، فارتحل على طريق الهند سنة خمس وثمانين ومائتين وألف، بعد هزيمة محمد أعظم بثلاثة أشهر، ولما وصل إلى التخوم الهندية تلقته حكومة الهند بحفاوة في إجلال، إلا أنها لم تسمح له بطول الإقامة في بلادها، ولم تأذن للعلماء في الاجتماع عليه إلا على عين من رجالها، فلم يقم أكثر من شهر، ثم سيرته من سواحل الهند في أحد مراكبها على نفقتها إلى السويس، فجاء إلى مصر وأقام بها نحو أربعين يوماً، تردد فيها على الجامع الأزهر، وخالطه كثير من طلبة العلم السوريين، ومالوا إليه كل الميل، وسألوه أن يقرأ لهم شرح الإظهار، فقرأ لهم بعضاً منه في بيته، ثم تحول عن الحجاز عزمه، وتعجل بالسفر إلى الآستانة، فبعد أيام من وصولها أمكنه ملاقاة الصدر الأعظم عالي باشا، ونزل منه منزلة الكرامة، وعرف له الصدر فضله، وأقبل عليه بما لم يسبق لمثله، وهو مع ذلك بزيه الأفغاني قباء وكساء وعمامة عجراء، وحومت عليه لفضله قلوب الأمراء والوزراء، وعلا ذكره بينهم، وتناقلوا الثناء على(1/443)
علمه ودينه وأدبه، وهو غريب عن أزيائهم ولغتهم وعاداتهم، وبعد ستة أشهر سمي عضواً في مجلس المعارف، فأدى حق الاستقامة في آرائه، وأشار إلى طرق لتعميم المعارف لم يوافقه على الذهاب إليها رفقاؤه، ومن تلك الطرق ما أحفظ عليه قلب شيخ الإسلام لتلك الأوقات حسن فهمي أفندي، لأنها كانت تمس شيئاً من رزقه، فأرصد له العنت، حتى كان رمضان سنة سبع وثمانين ومائتين وألف، فرغب إليه مدير دار الفنون تحسين أفندي أن يلقي فيها خطاباً للحث على الصناعات، فاعتذر إليه بضعفه في اللغة التركية، فألح عليه تحسين أفندي، فأنشأ خطاباً طويلاً كتبه قبل إلقائه وعرضه على وزير المعارف، وكان صفوت باشا، وعلي شرواني زاده، وكان مشير الضابطية، وعلي دولتلو منيف باشا ناظر المعارف، وكان عضواً في مجلس المعارف، فاستحسنه كل مهم، وأطنب في مدحه، فلما كان اليوم المعين لاستماع الخطاب، تسارع الناس إلى دار الفنون، واحتفل له جم غفير من رجال أهل الحكومة وأعيان أهل العلم وأرباب المعارف، وحضر في الجمع معظم الوزراء، وصعد الشيخ جمال الدين على منبر الخطابة، وألقى ما كان أعده، وأرسل حسن أفندي فهمي أشعة نظره في تضاعيف الكلام ليصيب منه حجة للتمثيل به، وما كان يجدها لو طلب حقاً، ولكن كان الخطاب في تشبيه المعيشة الإنسانية ببدن حي، وأن كل صناعة بمنزلة عضو من ذلك البدن، تؤدي من المنفعة في المعيشة ما يؤديه العضو في البدن، فشبه الملك مثلاً بالمخ الذي هو مركز التدبير والإرادة، والحدادة بالعضد، والزراعة بالكبد، والملاحة بالرجلين، ومضى في سائر الصناعات والأعضاء حتى أتى على جميعها ببيان ضاف واف، ثم قال هذا ما يتألف منه جسم السعادة الإنسانية، ولا حياة لجسم إلا بروح، وروح هذا الجسم إما النبوة وإما الحكمة، ولكن يفرق بينهما بأن النبوة منحة إلهية لا تنالها يد الكاسب، يختص الله بها من يشاء من عباده، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.(1/444)
أما الحكمة فمما يكتسب بالفكر والنظر في المعلومات وبأن النبي معصوم من الخطأ، والحكيم يجوز عليه الخطأ بل يقع فيه، وأن أحكام النبوات آتية على ما في علم الله، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فالأخذ بها من فروض الإيمان، أما آراء الحكماء فليس على الذمم فرض اتباعها إلا من باب ما هو الأولى والأفضل، على شريطة أن لا تخالف الشرع الإلهي، هذا ما ذكره متعلقاً بالنبوة وهو منطبق على ما أجمع عليه علماء الشريعة الإسلامية، إلا أن حسن فهمي أفندي أقام من الحق باطلاً ليصيب غرضه من الانتقام، فأشاع أن الشيخ جمال الدين زعم أن النبوة صنعة، واحتج لتثبيت الإشاعة بأنه
ذكر النبوة في خطاب يتعلق بالصناعة، وهكذا تكون حجج طلاب العنت، ثم أوعز إلى الوعاظ في المساجد أن يذكروا ذلك محفوفاً بالتفنيد والتنديد، فاهتم السيد جمال الدين للمدافعة عن نفسه وإثبات براءته مما رمي به، ورأى أن ذلك لا يكون إلا بمحاكمة شيخ الإسلام، وكيف يكون ذلك، واشتد في طلب المحاكمة وأخذت منه الحدة مبلغها، وأكثرت الجرائد من القول في المسألة، فمنها نصراء للشيخ جمال الدين، ومنها أعوان لشيخ الإسلام، فأشار بعض أصحاب السيد عليه أن يلزم السكون ويغضي على الكريهة، وطول الزمان يتكفل باضمحلال الإشاعات وضعف أثرها، فلم يقبل ولج في طلب المخاصمة، فعظم الأمر، وآل إلى صدور أمر الصدارة إليه بالجلاء عن الآستانة بضعة أشهر حتى تسكن الخواطر ويهدأ الاضطراب، ثم يعود إن شاء، ففارق الآستانة مظلوماً في حقه مغلوباً لحدته، وحمله بعض من كان معه على التحول إلى مصر، فجاء إليها في أول المحرم سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف، هذا مجمل أمره في الآستانة، وما ذكره سليم العنجوري في شرح شعره المسمى سحر هاروت مما يخالف ذلك خلط من الباطل لا شائبة للحق فيه. ثم مال السيد جمال الدين إلى مصر على قصد التفرج بما يراه من مناظرها ومظاهرها، ولم تكن له عزيمة على(1/445)
الإقامة بها، حتى لاقى صاحب الدولة رياض باشا فاستمالته مساعيه إلى المقام، وأجرت عليه الحكومة وظيفة ألف قرش مصري كل شهر نزلاً أكرمته به لا في مقابلة عمل، واهتدى إليه بعد الإقامة كثير من طلبة العلم، واستوروا زنده فأورى، واستفاضوا بحره ففاض دراً، وحملوه على تدريس الكتب فقرأ من الكتب العالية في فنون الكلام الأعلى والحكمة النظرية طبيعية وعقلية، وفي علم الهيئة الفلكية وعلم التصوف وعلم أصول الفقه الإسلامي، وكانت مدرسته بيته من أول ما ابتدأ إلى آخر ما اختتم، ولم يذهب إلى الأزهر مدرساً ولا يوماً واحداً، نعم كان يذهب إليه زائراً، وأغلب ما كان يزوره يوم الجمعة. فعظم أمر الرجل في نفوس طلاب العلوم، واستجزلوا فوائد الأخذ عنه، وأعجبوا بدينه وأدبه، وانطلقت الألسن بالثناء عليه، وانتشر صيته في الديار المصرية ثم وجه عنايته لحل عقل الأوهام عن قوائم العقول، فنشطت لذلك ألباب، واستضاءت بصائر، وحمل تلامذته على العمل في الكتابة وإنشاء الفصول الأدبية والحكمية والدينية، فاشتغلوا على نظره وبرعوا، وتقدم فن الكتابة في مصر بسعيه، وكان أرباب القلم في الديار المصرية القادرون على الإجادة في المواضع المختلفة منحصرين في عدد قليل، وما كنا نعرف منهم إلا عبد الله باشا فكري وخيري باشا، ومحمد بك سد حمد علي ضعف فيه، ومصطفى باشا وهبي على اختصاص فيه، ومن عدا هؤلاء فإما ساجعون في المراسلات الخاصة، وإما مصنفون في بعض الفنون العربية والفقهية، وما شاكل ذلك. ومن عشر سنوات نرى كتبة في القطر المصري لا يشق غبارهم، ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن، شيوخ في الصناعة، وما منهم إلا من أخذ عنه أو عن أحد تلامذته أو قلد المتصلين به، ومنكر ذلك مكابر، وللحق مدابر، هذا ما حسده عليه أقوام واتخذوا سبيلاً للطعن عليه من قراءته بعض الكتب الفلسفية، أخذاً بقول جماعة من المتأخرين في تحريم النظر(1/446)
فيها، على أن القائلين بهذا القول لم يطلقوه، بل قيدوه بضعفاء العقول قصار النظر خشية على عقائدهم من الزيغ، أما الثابتون في إيمانهم فلهم النظر في علوم الأولين والآخرين، من موافقين لمذاهبهم أو مخالفين، فلا يزيدهم ذلك إلا بصيرة في دينهم، وقوة في يقينهم. ولنا في أئمة الملة الإسلامية ألف حجة تقوم على ما نقول، ولكن تمكن الحاسدون من نسبة ما أودعته كتب الفلاسفة إلى رأي هذا الرجل، وأذاعوا ذلك بين العامة، ثم أيدهم أخلاط من الناس من مذاهب مختلفة، كانوا يطرقون مجلسه فيسمعون ما لا يفهمون، ثم يحرفون في النقل عنه ولا يشعرون، غير أن هذا كله لم يؤثر في مقام الرجل من نفوس العقلاء العارفين بحاله، ولم يزل شأنه في ارتفاع، والقلوب عليه في اجتماع، إلى أن تولى خديوية مصر حضرة خديويها الحالي توفيق باشا، وكان السيد من المؤيدين لمقاصده، الناشرين لمحامده، إلا أن بعض المفسدين ومنهم مستر قيفيان قنصل انكلتزا الجنرال سعى فيه لدى الجناب الخديوي، ونقل المفسد عنه ما الله يعلم أنه بريء منه حتى غير قلب الخديوي عليه، فأصدر أمره بإخراجه من القطر
المصري هو وتابعه أبو تراب، ففارق مصر إلى البلاد الهندية سنة ست وتسعين ومائتين وألف، وأقام بحيدر أباد الدكن، وفيها كتب رسالته التي ألفها في إبطال مذهب الدهريين وبيان مفاسدهم، وإثبات أن الدين أساس المدينة، والكفر فساد العمران. ولما كانت الفتنة الأخيرة دعي من حيدر أباد إلى كلكته، وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها، حتى انقضى أمر مصر وانتهت الحرب الإنكليزية، ثم أبيح له الذهاب إلى أي بلد شاء، فاختار الذهاب إلى أوربا، وأول مدينة صعد إليها مدينة لوندرا، أقام بها أياماً قلائل ثم انتقل عنها إلى باريز، وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنوات. قال الشيخ محمد عبده: وافيناه في أثناء هذه المدة، ولما كلفته جميعة العروة الوثقى أن ينشىء جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة تحت لواء الخلافة الإسلامية، أيدها الله، سألني أن أقوم على تحريرها فأجبت، ونشر من الجريدة ثمانية عشر عدداً، وقد أخذت من قلوب الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً ما لم يأخذه قبلها وعظ واعظ ولا تنبيه منبه، وذلك لخلوص النية في تحريرها، وصحة المقصد في تحبيرها، ثم قامت الموانع دون الاستمرار في إصدارها حيث قفلت أبواب الهند عنها، واشتدت الحكومة الانكليزية في إعنات من تصل إليهم فيه، ثم بقي بعد ذلك مقيماً بأوربا أشهراً في باريز وأخرى في لندرا، إلى أوائل شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثمائة وألف، وفيه رجع إلى البلاد الإيرانية، وسيذهب منها إلى أفغانستان. مصري هو وتابعه أبو تراب، ففارق مصر إلى البلاد الهندية سنة ست وتسعين ومائتين وألف، وأقام بحيدر أباد الدكن، وفيها كتب رسالته التي ألفها في إبطال مذهب الدهريين وبيان مفاسدهم، وإثبات أن الدين أساس المدينة، والكفر فساد العمران. ولما كانت الفتنة الأخيرة دعي من حيدر أباد إلى كلكته، وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها، حتى انقضى أمر مصر وانتهت الحرب الإنكليزية، ثم أبيح له الذهاب إلى أي بلد شاء، فاختار الذهاب إلى أوربا، وأول مدينة صعد إليها مدينة لوندرا، أقام بها أياماً قلائل ثم انتقل عنها إلى باريز، وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنوات. قال الشيخ محمد عبده: وافيناه في أثناء هذه المدة، ولما كلفته جميعة العروة الوثقى أن ينشىء جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة تحت لواء الخلافة الإسلامية، أيدها الله، سألني أن أقوم على(1/447)
تحريرها فأجبت، ونشر من الجريدة ثمانية عشر عدداً، وقد أخذت من قلوب الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً ما لم يأخذه قبلها وعظ واعظ ولا تنبيه منبه، وذلك لخلوص النية في تحريرها، وصحة المقصد في تحبيرها، ثم قامت الموانع دون الاستمرار في إصدارها حيث قفلت أبواب الهند عنها، واشتدت الحكومة الانكليزية في إعنات من تصل إليهم فيه، ثم بقي بعد ذلك مقيماً بأوربا أشهراً في باريز وأخرى في لندرا، إلى أوائل شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثمائة وألف، وفيه رجع إلى البلاد الإيرانية، وسيذهب منها إلى أفغانستان.
أما مذهبه فحنيفي حنفي، وهو وإن لم يكن في عقيدته مقلداً لكنه لم يفارق السنة الصحيحة مع ميل إلى مذهب السادة الصوفية رضي الله عنهم، وله مثابرة شديدة على أداء الفرائض في مذهبه، وعرف بذلك بين معاشريه في مصر أيام إقامته بها، ولا يأتي من الأعمال إلا ما يحل في مذهب إمامه، فهو أشد من رأيت في المحافظة على أصول مذهبه وفروعه. أما حميته الدينية فهي مما لا يساويه فيها أحد، يكاد يلتهب غيرة على الدين وأهله. أما مقصده السياسي الذي وجه إليه أفكاره، وأخذ على نفسه السعي إليه مدة حياته، وكل ما أصابه من البلاء أصابه في سبيله، فهو إنهاض دولة إسلامية من ضعتها، وتنبيهها للقيام على شؤونها، حتى تلحق الأمة بالأمم العزيزة، والدولة بالدول القوية فيعود للإسلام شأنه، وللدين الحنيفي مجده، ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار المشرقية، وتقليص ظلها عن رؤوس الطوائف الإسلامية، وله في عداوة الإنكليز شؤون يطول بيانها. وأما منزلته من العلم وغزارة المعارف، فليس يسهل على القلم حدها إلا بنوع من الإشارة إليها، وله سلطة قوية على دقائق المعاني وتحديدها وإبرازها في صورها اللائقة بها، كأن كل معنى قد خلق(1/448)
له. وله قوة في حل المعضلات كأنه سلطان شديد البطش، فنظرة منه تفكك عقدها، ومهما ألقي إليه من موضوع، يدخل للبحث فيه كأنه صنع يديه، فيأتي على أطرافه، ويحيط بجميع أكنافه، ويكشف ستر الغموض عنه فيظهر المستور منه، وإذا تكلم في الفنون حكم فيها حكم الواضعين لها، ثم له في باب الشعريات قدرة على الاختراع، كأن ذهنه عالم الصنع والإبداع وله لسن في الجدل، وحذق في صناعة الحجة لا يلحقه فيها أحد، إلا أن يكون في الناس من لا نعرفه، وكفاك شاهداً على ذلك أنه ما خاصم أحداً إلا خصمه، ولا جادله عالم إلا ألزمه، وقد اعترف له الأروبيون بذلك، بعد ما أقر له الشرقيون. وبالجملة فإني لو قلت ما آتاه الله من قوة الذهن وسعة العقل ونفوذ البصيرة، هو من أقصى ما قدر لغير الأنبياء والمرسلين لكنت غير مبالغ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأما أخلاقه فسلامة القلب سائدة في صفاته، وله حلم عظيم يسع ما شاء الله أن يسع، إلى أن يدنو منه أحد ليس شرفه أو دينه، فينقلب الحلم إلى غضب تنقض منه الشهب، فبينما هو حليم أواب، إذا هو أسد وثاب، وهو كريم يبذل ما بيده، قوي الاعتماد على الله، لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر، عظيم الأمانة، سهل لمن لاينه، صعب على من خاشنه، طموح إلى مقصده السياسي الذي قدمناه، إذا لاحت له بارقة منه تعجل السير للوصول إليه، وكثيراً ما كان التعجل علة الحرمان، وهو قليل الحرص على الدنيا، بعيد من الغرور بزخارفها، ولوع بعظائم الأمور عزيف عن صغارها، شجاع مقدام لا يهاب الموت كأنه لا يعرفه، إلا أنه حديد المزاج وكثيراً ما هدمت الحدة ما رفعته الفطنة، إلا أنه صار اليوم في رسوخ الأطواد، وثبات الأفناد، فخور بنسبه إلى سيد المرسلين صلى الله(1/449)
عليه وسلم، لا يعد لنفسه مزية أرفع ولا عزاً أمنع من كونه سلالة ذلك البيت الطاهر، وبالجملة ففضله كعلمه، والكمال لله وحده.
وأما خلقه فهو يمثل لناظره عربياً محضاً من أهالي الحرمين، فكأنما قد حفظت له صورة آبائه الأولين من سكنة الحجاز حماه الله. ربعة في طوله وسط في بنيته، قمحي في لونه عصبي دموي في مزاجه، عظيم الرأس في اعتدال، عريض الجبهة في تناسب، واسع العينين عظيم الأحداق، ضخم الوجنات رحب الصدر، جليل في النظر، هش بش عند اللقاء، قد وفاه الله من كمال خلقه ما ينطبق على كمال خلقه، بقي علينا أن نذكر وصفاً لو سكتنا عنه سئلنا عن إغفاله، وهو أنه كان في مصر يتوسع في إتيان بعض المباحات كالجلوس في المنتزهات العامة، والأماكن المعدة لراحة المسافرين، وتفرج المحزونين، لكن مع غاية الحشمة وكمال الوقار، وكان مجلسه في تلك المواضع لا يخلو من الفوائد العلمية، فكان بعيداً من اللغو منزهاً من اللهو، وكان يوافيه فيها كثير من الأمراء وأرباب المقامات العالية وأهل العلم، وهذا الوصف ربما عده عليه بعض حاسديه، لكن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وأي غضاضة على المرء المؤمن في أن يفرج بعض همه بما أباح الله له.
هذا مجمل من أحوال السيد جمال الدين الأفغاني أتينا به دفعاً لما افتراه عليه الجاهلون، ولو سلكنا في تاريخه مسلك التفصيل، لأدى بنا إلى التطويل، والله عنده حسن الصواب، وإليه المرجع والمآب. ولم يزل يتقلب على فرش النعم إلى أن نشبت به أظفار النقم، فقاسى من الأمراض شدة، ومضى عليه وهو على حالته مدة، إلى أن استوفى منيته في خامس شوال عام ألف وثلاثمائة وأربعة عشر من هجرة سيد أهل الكمال، ودفن في الآستانة العلية في المقبرة المعروفة بمقبرة المشايخ، أسكنه الله الجنة، وأوسع له في دار الكرامة المنة.(1/450)
السيد جمال الدين بن المرحوم أحمد أفندي بن المرحوم يوسف أفندي المعروف بيوسف زاده
شيخ الإسلام والمسلمين، وصفوة العلماء المتقنين، منحة الدنيا وتحفة الدهر، ودوحة الفضائل التي لم تدخل تحت حصر، من طلعت ذاته الشريفة في سماء الكمال بدرا، وانتشرت صفاته المنيفة فعطرت الأرجاء براً وبحراً، وتشنفت المسامع بصنوف نعوته الدرية، وتشرفت البدائع والبدائه بانتسابها إلى براعته العلية.
هذا الذي قد فاز بالأماني ... وحاز قدراً ما له من ثان
كأنه في ناظر الزمان ... إنسان عين الحسن والإحسان
فلا ريب أنه كعبة المعالي، وحسنة محاسن الأيام والليالي، قد ولد هذا الفرد الكامل، والشهم الأوحد الجهبذ الفاضل، يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة أربع وستين بعد المائتين والألف، وعين العناية والرعاية تحوطه من إمام وخلف، وفم الدهر ينادي، بين صاد وغادي:
قرت عيون المجد والكمال ... بمن بدا في ذروة الكمال
طالعة سعد السعود وله ... حظ ثوى في هامة المعالي
بشرى لذا العصر به بشرى له ... يا فوزه ببغية الآمال
ولم يزل بحمد الله ينمو، ويترقى على مدارج السيادة والسعادة ويسمو، إلى أن بلغ في العلوم والآداب مبلغ الأفاضل، ونبغ بين الخصوص والعموم في الشمائل وحسن الفضائل، وخدمته المناصب الداعية لترقيه إلى أعلى الرتب، فكان لها هذا المترجم نهاية الأمل وغاية الأرب، وحينما أشرقت بالعاصمة الإسلامية شمس علمه وآدابه، وزها نورها بباهر مظهر جنابه، وأسفر من خدر الفضل محيا صباحه، وظهر لنا من غرته بادر فلاحه ونجاحه، ورشحته المعارف لأعلى المناصب، ووشحته بوشاح التحلي بأثواب النفائس والرغائب، أجلسه سيدنا أمير المؤمنين السلطان عبد الحميد خان، على مهاد شيخة الإسلام بكل احترام وشان، وذلك في اليوم التاسع والعشرين من شهر محرم الحرام سنة ألف وثلاثمائة وتسع. فلا ريب(1/451)
أنه أعطى القوس باريها، وقلد السهام من هو حاميها وراميها، وسلم الأمر لأهله، وفوضه لمن اعترف الكل بفضله، أحسن الله إليه وصانه؛ ورفع قدره في العالمين وأعلى شانه.
الشيخ جاعد بن خميس بن مبارك الخروصي العماني
إمام في المعارف كامل، وهمام في اللطائف والفضائل، قد ترجمه صاحب الحديقة، فقال في أوصافه الأنيقة: أشهد أنه العلم المفرد، والأجل ممن ركع وسجد، وهدى من ضل وأضل بعلومه وأرشد، فهو اليوم زعيم قومه، وكبيرهم الذي صغرت أقرانه لقصورهم عن المقابلة له في صلاته وصومه، تصانيفه دلائل الإعجاز، وتآليفه محشوة بمحاسن الحقيقة والمجاز. فمن لطائفه قوله:
خذ هاك يا ابن الأكرمين كتابا ... يحيي القلوب ويفتح الأبوابا
واظب على التعليم درساً بالعشا ... والليل، وافتح بالنهار كتابا
وإذا أتيت إلى المدارس لا تكن ... عند المعلم لاهياً لعابا
وكذاك طاعة والديك ففيهما ... بر تنال من الإله ثوابا
توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين ونيف وثلاثين.
السيد جعفر بن السيد إسماعيل بن السيد زين العابدين بن محمد البرزنجي
هو ممن رأس وعلا، ووكف جوده وحلا، وأعاد كاسد البدائع نافقاً، ومخالف الكمال بهديه موافقاً، ورث المجد عن سادة أكابر، لم يعرفوا إلا بالفضائل والمفاخر، والنسب الباهي الباهر، والحسب الزاهي(1/452)
الزاهر، أحد علماء الحجاز، العامرين لأرجاء الحقيقة والمجاز، المتسلسلين بالمعارف والفضائل، والمتجملين باللطائف وأعلى الشمائل. حضر دروس العلماء الأعلام، إلى أن حصل على المراد والمرام. وفي سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين، خرج والده من المدينة الشريفة فساقته المقادير إلى بلاد الكرد من سواد العراق، فاجتمع بواليها عبد الرحمن باشا وكان من أهل العلم والفضل، وله محبة في العلماء زائدة، فأحب السيد إسماعيل المذكور، وأكرمه وأبقاه عند مبجلاً، وزوجه ابنته عائشة، وهي والدة المترجم، فاستمر والد المترجم مقيماً بتلك الأرض خمساً وأربعين سنة، معظماً محترماً. وفي مدة غيبيته كانت فتوى الشافعية بالمدينة المنورة لدى أولاد عمه. وفي سنة تسع وستين ومائتين وألف عزم والد المترجم على التوجه إلى وطنه، فتوجه في شهر رجب من السنة المذكورة، ولما وصل إلى مصر من طريق الشام، ترك المترجم في الجامع الأزهر، فأخذ عن علمائها المشهورين، وتوجه والده إلى دار السلطنة وامتدح المرحوم السلطان عبد المجيد بقصيدة سنية، فقلده منصب إفتاء الشافعية بالمدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والتحية، ثم رجع إلى المدينة ودخلها في أوائل رجب سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف. وقد أرخ رجوعه حضرة الفاضل المحترم الشيخ عبد الجليل أفندي برادة بقصيدة غراء مطلعها:
الدهر أقبل بالمسرة يسعد ... ولنا بإنجاح المطالب ينجد
إلى أن قال:
ولطيبة قد عدت قلت مؤرخاً ... في بيت شعر بالمحاسن يفرد
قد عاد جاراً للرسول محمد ... نجل نما والعود منه أحمد
ثم بعد مدة نزل عن منصب الإفتاء لولده المترجم، فتقلدها سنة ألف ومائتين وثمان وسبعين قبل وفاة والده بنحو ثمانية أشهر، وجاء(1/453)
تصديق ذلك من دار السلطنة العلية، وتردد المترجم إلى دار السلطنة مراراً، وقلد قضاء صنعاء خمس سنين آخرها شوال سنة ألف وثلاثمائة واثنتين. ثم جاء إلى مكة بأهله، وبعد أداء المناسك رجع إلى المدينة. وله مؤلفات جليلة، ومناقب جميلة، تشهد له بسمو مقامه، ونمو احترامه، أحسن الله إلينا وإليه اه.
المرحوم السيد جعفر البيتي
نابغة الأدب، الآتي من غرائب المحاسن بكل عجب، يملأ مسامعه بجذل وطرب، ويحلي أعطاف إفهامه بوشاح در وذهب، استكان له عصا الأدب وأطاعه، إذ رأى إحسانه له وإبداعه، مقلداً جيد أبكاره المصون، بمنظوم در بيانه المكنون، همام ألقت إليه الفصاحة مقاليدها، وملكته البلاغة طارفها وتليدها، فتصرف فيها بفكره الرصيف، وصرفها على وفق مراده بأحسن تصريف، فعنده من نوادر التحف كل آبدة، ومقيدة في صحف أفكاره كل شاردة، إن تكلم لم يترك كلاماً لغيره، وإن سار في طرق الإفادة فلله حسن سيره، كيف لا وهو خاتمة أهل الأدب بلا ريب، والمجمع على نزاهة تحريراته من الخلل والعيب، وتفننه في فنون العلوم، أمر ذائع معلوم، سلمت له في طول يده فيها كل أقرانه، وأقرت له بالفضل جهابذة أهل زمانه، فكم له من قطع إنشاءٍ كأنها قطع الروض الأزهر، أو قطع الشهب العنبر، مرقشة بنتف الأمثال، والتحف التي ليس لها مثال،(1/454)
ومن لمع نظم أرفع من الدر قدراً، وأضوع من المسك نشراً، إن تأملتها تجدها للنكت معدناً، ولخرد البدائع مسكناً. فمن نظمه الرقيق، المحاكي للزلال الممزوج بالرحيق، قوله:
أبادني السقم لا عيني ولا أثري ... أظن ما عندكم علمي ولا خبري
ما عندكم قلقي ما عندكم حرقي ... ما عندكم أرقي ما عندكم سهري
ولا اطلعتم على صب تقلبه ... يد الصبابة بين الشوك والإبر
ولا رعيتم مراعاتي لودكم ... ولا ذكرتم عهودي مثل مدكري
أنا المشوق المعنى المستهام بكم ... حسبي جنوني بكم عزاً ومفتخري
والنار لا نار إلا ما حوت كبدي ... ويلاه من حر نيراني ومن شرري
يا نازلين حمى نجد ترابكم ... أعزه الله من عيني ومن نظري
لولاكم لم يكن في نجد لي أرب ... ولم يكن نجد من قصدي ولا وطري
ومن غرر قصائده الباهرة، المخجلة للأنجم الزاهرة قوله:
حمامك في الحمى يا صاح صاحا ... فحي على الصبوح وعم صباحا
عهودي بالطلا طالت وإني ... سئمت وحقك الماء القراحا
تقدم للشمول ولم شملي ... ومن أقداحنا أجل القداحا
تأمل في خيوط الفجر لاحت ... وأهمل عاذلي إن كان لاحا
وعاجلنا فياقوت الحميا ... إذا طلعت عليه الشمس ساحا
وقد قصت أيادي الحزن ريشي ... فأنبت بالمسرة لي جناحا
أرح روحي براحك يا نديمي ... وراوحني فإن الروح راحا
وليل الصحو أظلم فاقتدح لي ... لأجل السكر بالقدح اقتداحا
وقل لعويذلي دع لي فسادي ... فإني قد وهبت لك الصلاحا
أدرها من عصير ورود خد ... شقيقاً ضمنت ثغراً أقاحا(1/455)
يريك حبابها اثني عشر عيناً ... فتعلم مشرباً لك واصطباحا
يطوف بها علي اغن غان ... تربع في الضمائر واستراحا
رشا دلت مآثره عليه ... وحالي توضح الحال اتضاحا
جوارش ريقه أفواح قلبي ... ومنه اعتضت معجوناً نجاحا
بعيشك هل رأيت صنوف زهر ... على فرد من الأغصان لاحا
يصادر بالنهود عن التشكي ... فألتزم التمائم والوشاحا
ويعذل بالعيون وبالتثني ... فاعتنق الصوارم والرماحا
إذا طعن الفؤاد برمح قد ... رأيت دمي من العبرات ساحا
تنزه منه في بستان حسن ... ترى في صدره التفاح فاحا
ومزق لي فؤادك يا ابن ودي ... معي عشقاً ووجداً وافتضاحا
على خلع العذار كتبت عهدي ... وغي قد أبى إلا جماحا
فلا تعتب إذا ما طاش حلمي ... فقد أبصرت أردافاً رجاحا
وحبي شاهدت عيناي فيه ... صنوف الحسن أجمع والملاحا
حبيب مذ طرحت سلاح جهدي ... وصبري دونه حمل السلاحا
وجد لقتلتي بحديد طرف ... لأول نظرة كانت مزاحا
فيا لك نظرة ملئت نصالاً ... ومهجة عاشق ملأت جراحا
إذا غنى الحمام هوى تغنى ... ومهما ناح للأحزان ناحا
تساكرنا به نرجوه سكراً ... وذاك ألذ ممن قد تصاحى
ولا نوفيه حقاً في التصابي ... ومن ذا في الصبا يوفي الصباحا
وله من قصيدة عارض بها قصيدة فتح بن النحاس
رأى البق من كل الجهات فراعه ... فلا تنكروا تحكيكه والتياعه
ولا تسألوني كيف بت فإنني ... لقيت عذاباً لا أطيق دفاعه
نزلنا بمرسى ينبع البحر مرة ... على غير رأي ما علمنا طباعه
نقارع من جند البعوض كتائباً ... وفرسان ناموس عدمنا قراعه(1/456)
فلو عاينت عيناك ميدان ركضه ... رأيت جريء القلب فيه شجاعه
وجنداً من الفيران في البيت كمنا ... متى وجدوا خرقاً أحبوا اتساعه
وسرية قمل تنبري إثر سرية ... خفافاً إلى مص الدماء سراعه
ينازعها البرغوث لحماً فليته ... رضي بتلافي واكتفينا انتزاعه
فلو يجد الملسوع من عظم ما به ... من الصخر درعاً لاستخار ادراعه
فرب قميص كان شراً من العرى ... إذا ضمه الملتاع زاد التياعه
كأني وكيل للبراغيث قائم ... أقيت له أيتامه وجياعه
إذا شبع الملعون مج دماً على ... ثيابي فلا أحيا الإله شباعه
فما رشنا بالدم إلا لسانه ... ولم تر عيني مكره وخداعه
سلوا عن دمي سارى البعوض فإنني ... علمت يقيناً أنه قد أضاعه
فلله جلد صار بالحك أجرباً ... أخاف عليه يا فلان انقشاعه
فلا تعذلوا المسكين أن عيل صبره ... وأظهر من جور الزمان انفجاعه
فقد مارس الأهوال في أرض ينبع ... ووطأ فوق النائبات اضطجاعه
زرعت العنا فيه يميناً ويسرة ... وصيرت صبري والتأسي ذراعه
فأعدمني طول المقام تجلدي ... وكشف عن وجه اصطباري قناعه
إذا رنم الناموس حولي أعلني ... وصدع قلبي سجعه وابتداعه
وإن مص من لحمي وطار تبعته ... إلى فائت منه أرجي ارتجاعه
عدمت غناء مثل أنغام سجعه ... فما كان أشنى سجعه وابتداعه
ضعيف قوي لا يقر من الأذى ... وأضعف منه من يرجي اصطناعه
وكم نفذت في دفعة كل حيلة ... ولو كان بالحسنى طلبت اندفاعه
فيا لأصيحابي اقتلوني ومالكاً ... فقد مد نحوي مفسد البق باعه(1/457)
حجليلان بن عليان من قبيلة من تميم وهو بضم الحاء وفتح الجيم
رجل شديد جسور ذو دهاء ورأي، وكان صاحب بلدة بريدة وأميرها، ولما ارتحل إبراهيم باشا المصري من عنيزة حينما غزا الوهابين قصد بريدة فأظهر أميرها المترجم المرقوم الطاعة، وكان على خلاف عقيدة الوهابيين وإن كان لدهائه مظهراً أنه منهم لأمور سياسية دعته لذلك، وكان إذا رأى غريباً يقوم بلوازمه ومصالحه وحمايته وجميع ما يحتاج إليه، وكان ذا دين وصلاح وعبادة واستقامة وحسن سيرة وسريرة، وأوصاف جميلة يحمد عليها بين ذويه وأمثاله، توفي رحمه الله سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين في بريدة.
جودت باشا بن الحاج إسماعيل آغا ناظر العدلية العثمانية
الوزير الكبير، والمشير الخطير، عمدة الأعيان، ونخبة الأركان، وحبر المعارف، وبحر العوارف، ونصل الصواب، بفصل الخطاب، ولد في قصبة لوفجه من بلغاريا وكان أبوه المومأ إليه، ممن يعتمد بها عليه، لأنه(1/458)
حدقة إنسانهان وعين أعيانها، وركن مجلسها، وعائلته من أكرم العائلاة وأرأسها، وقد بذل المترجم همته، مذ نيطت عنه التمائم، بكسب المعالي ونيل المكارم، إلى أن صار للتلقي أهلاً، وللترقي مجلى، فجاء إلى الآستانة العلية، في أوائل سنة ألف ومائتين وخمس وخمسين هجرية، وكان ذلك في أواخر أيام السلطان محمود خان، فألف حاشية على الشافية لابن الحاجب وسماها غاية البيان فكانت حسب الواجب، وسلك مسالك العلوم العربية، وخاض بحار الفنون الأدبية، وأتقن من كل علم حقيقته ومجازه، وشهد له بالكمال شيوخه وكل منهم أذن له في التدريس وأجازه، ثم قرأ الفارسية وأتقنها، كما أنه حفظ اللغة العربية وأحسنها، وأما العلوم الرياضية والطبيعية وعلم المعقولات والسياسة، فلا ريب أن له فيها كمال التقدم والرئاسة، وفي سنة ألف ومائتين وإحدى وستين، وجهت إليه رتبة مدرس أول بين المدرسين، وتمم شرح ديوان الصاحب الجليل، الذي كان قد شرع في شرحه فهيم أفندي ومات قبل التكميل، وفي سنة ألف ومائتين وست وستين لما فيه من كمال الأهلية، صار عضواً في مجلس المعارف العمومية، وفي أيام المرحوم عباس باشا خديوي مصر، رافق فؤاد باشا في سفره إلى القاهرة ذات القدر، ثم بعد رجوعهما وجهت إليه عضوية مجلس المعارف الداخلية، الذي أنشىء في دار السعادة العلية، ويوم فتحه قدمت إلى الحضرة الشاهانية، نسخة من القواعد التركية، التي اشترك هو وفؤاد باشا في تأليفها، واتقانها وتهذيبها وترصيفها، ثم ألف الرسالة المسماة بمدخل القواعد، ثم اختصرها وأجاد بما أراد من الفوائد، وفي سنة ألف ومائتين وسبعين(1/459)
صدر قرار مجلس المعارف السنية، أن يؤلف تاريخاً محتوياً على وقائع الدولة العلية، فألف تاريخاً قد ارتاحت له النفوس واطمأنت، وهو عشر مجلدات بالتركية قد تم وطبع واشتهر بتاريخ جودت، وفي سنة إحدى وسبعين وجهت عليه مولوية غلطة فصار من الموالي، وبعدها بسنة وجهت عليه باية مكة المشرفة ثم عضوية مجلس النظامات العالي، وفي أثناء ذلك أحيلت إليه رئاسة المجلس المقام لتنظيم القانون المتعلق بالأراضي المشهور، وهو الذي رتب مجموع قوانين الدولة العلية في ابتداء الأمر المسماة بالدستور، ثم بعد رجوعه من مأمورية التفتيش مع قبرصلي زاده محمد باشا الصدر الأعظم، وجهت إليه مأمورية فوق العادة فسار إلى اشقودره وأزال ما كان بها من كدر ولمم، ثم وجهت إليه رئاسة القومسيون الذي أقامه فؤاد باشا في أيام صدارته ذات المعالي، لأجل ترويج الإجراءات المبنية على الإنهاءات التي كان المفتشون العثمانيون في أناطولي وروم ايلي يرسلونها إلى الباب العالي، ثم صار مفتشاً في بوسنة ووجهت إليه باية صدارة أناطولي، وبعد أن رجع من بوسنة وعاد، سار بمأمورية مخصوصة إلى جبل قوزان وقبودار وكاور طاغ وجبل الأكراد، لأجل أمور سياسية، من تعلقات الدولة العلية، وفي سنة إحدى وثمانين ذهب إلى الاسكندرونة للنظر في(1/460)
أحوالها، وإصلاح باديتها وجبالها، وفي ربيع السنة المذكورة وجهت إليه رتبة الوزارة السامية، وولاية حلب وكانت سيرته بها حسنة نامية، فأقام سنتين، ثم وجهت إليه رئاسة ديوان أحكام العدلية، وبعد سنتين تحولت إليه رئاسة جمعية العلماء لترتيب مجلة الأحكام المرعية، وبعد انفصاله اعتزل مدة عن الأشغال المهمات، ثم صار عضواً لشورى الدولة وعضواً في قومسيون مجلس الاصلاحات، ثم صار مأموراً في الولاية التي شكلت لترتيب ألوية بياس ومرعش وقوزان، ثم رجع إلى رئاسة قومسيون المجلة ذات الشان، ثم صار ناظر الأوقاف الهمايونية السلطانية، ثم وجهت إليه نظارة المعارف العمومية، ثم جعل معاون شورى الدولة العالية، ثم وجهت إليه ولاية ياينه ثم عاد لنظارة المعارف السامية، ثم وجهت إليه نظارة العدلية المنيفة، ثم وجهت إليه ولاية سورية الشريفة، ثم رجع الآستانة العلية، وتقلب في نظارات مختلفة سنية، ثم صار ناظر العدلية الجليلة مع حيازته على معالي الاقتراب، وفي رمضان عام ألف وثلاثمائة وسبعة انفصلت عنه لأمور خفية الأسباب، وبقي عضواً في المجلس الخاص، معدوداً من الأعيان والخواص، إلى
أن توفي في الآستانة عام ألف وثلاثمائة واثني عشر ودفن بها رحمه الله. توفي في الآستانة عام ألف وثلاثمائة واثني عشر ودفن بها رحمه الله.(1/461)
حرف الحاء
الشيخ حامد بن أحمد بن عبيد العطار الشافعي الأشعري الدمشقي
فاضل العلماء، وعالم الفضلاء، وإمام السادة الدمشقية، وهمام القادة العلمية، مرجع الخاص والعام، ومجمع الجهابذة الأعلام، شيخ الجميع في زمانه. ومقتدي العموم في وقته وأوانه، وصاحب الدرجة العالية، والمرتبة الرفيعة السامية، فهو من الممتطين مطايا المعالي، والمتحلين بحلل الهمم العوالي، ولد بدمشق سنة ست وثمانين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده وليس له غير الاستفادة من إلف، فكان من دأبه الطاعة والعبادة، والتقوى والزهادة، والجد في طلب العلوم، والاجتهاد في تحقيق المنطوق والمفهوم، وقد أخذ عن عدة مشايخ، ما منهم إلا وهو في العلم جبل راسخ، فمنهم والده الشهاب أحمد العطار، ومنهم الإمام الشيخ أحمد الرحمتي المشهور في الأقطار، ومنهم عالم الديار الشامية الشيخ محمد الكزبري، وغيرهم ممن هو بكل فضيلة حقيق وحري، إلى أن صار صدر الشريعة والدين، ناشراً بتحقيقه طي العلم بالكشف المبين، جامعاً لصحيح حديث الفضائل، آتياً بتدقيقه بما لم تستطعه الأوائل، فلعمري إنه لهو العلامة المحقق المفضال، والمحدث الناقد البصير المعروف بكل كمال، والجامع أشتات الفضائل، والمسارع لأضواء جميع الشمائل، من انعقد الإجماع على أنه فخر المحققين قديماً وحديثاً، وصدر المدققين فقهاً وتوحيداً وتفسيراً وحديثاً، وكان في علم الحقيقة أستاذاً، وفي إرشاد الطريقة ملاذاً، ولا شك أنه اشتهر في العلم أي اشتهار، وكان في عصره كالشمس في رابعة النهار، وكان يقرأ صحيح الإمام البخاري في تكية السلطان سليمان خان، كل صباح خميس من رجب وشعبان، فيجتمع في درسه الأعيان والعلماء، والأكابر والفضلاء، وكانت قراءته له بعد والده المرحوم الشيخ أحمدالعطار، المنتقل إليه بعد وفاة علي أفندي الداغستاني، الذي سار صيته في الأقطار وطار، المنتقل إليه بعد وفاة علي أفندي المرادي ذي القدر والشان، إلا أن علي أفندي المرقوم كان يقرأ الهداية في هذا المكان، في فقه الإمام الأعظم قدس الله سره، وأولاه(1/462)
لديه كل بشر ومسرة، وكان يقرأ بقية دروسه تارة في داره وتارة في جامع بني أمية، ولدروسه طلاوة وحلاوة وشهرة قوية، وفي سنة اثنتين وستين ومائتين وألف قصد حج بيت الله الحرام، وزيارة سيدنا محمد سيد الأنام، ولما وصل إلى قلعة القطرانة وهو راجع من البلاد الحجازية، ثم أجله ونشبت به أظفار المنية، ودفن بها وقبره ظاهر مشهور، جمعنا الله به في دار المسرة والحبور، آمين.
حجليلان بن عليان من قبيلة من تميم وهو بضم الحاء وفتح الجيم
الشيخ حسن بن إبراهيم بن حسن بن محمد بن حسن ابن إبراهيم بن عبد الله الشهير بالبيطار
الشافعي الأشعري النقشبندي الدمشقي ولادة وقراءة، الميداني إقامة ومدفناً، الوالد الأعظم، والسيد الأفخم والأكرم، والعالم النحرير، والمدقق الخبير، شافعي زمانه، وألمعي أوانه، الجامع بين العلوم العقلية والنقلية، والمقتدي بالكتاب العزيز والسنة المحمدية، بحر العلوم والمعارف، الشارب من أطيب مناهل العرفان واللطائف، الآخذ بعزائم العبادة، والجاعل التقوى إلى الآخرة زاده، الصوفي النقي الصالح، والزاهد التقي العابد الناجح، من أطبق الناس على فضله، واقتدى العموم بصدق قوله وفعله، إن نطق رأيت البيان متسرباً من لسانه، وأدركت من بيانه تمام عرفانه، حوى الكمالات وحازها، وتحقق حقائق العلوم ومجازها، فالفضل حشو ابراده، والنبل تلو إصداره وإيراده، مع نفس عذبت صفاء، وشيمة ملئت وفاء، ومذهب صفا صفاء التبر، وخلص من شوائب الخيلاء والكبر، وسعى لكل نجح، واستوى على ذروة التحصيل والربح، وأدبٍ(1/463)
زرت على صدر السنة جيوبه، وهبت بعرف النفس المطمئنة صباه وجنوبه.
ولد رضي الله تعالى عنه أثناء سنة ست ومائتين وألف، وشب في حجر والده، ويد العناية والرعاية تجذبه إلى أسنى مقاصده، وحينما بلغ سن التمييز وجهه والده لتعليم القرآن العزيز، عند الفاضل الكامل، والعالم العامل، الشيخ فتح الله أفندي فقرأ القرآن، ثم حفظه على تمام الإتقان، إلى أن صار يعتمد عليه فيه، ويطلب منه ما استتر من مشكلاته وخوافيه، وكان مواظباً على تلاوة آياته، في غالب أوقاته، وتفقه على علامة وقته الشيخ صالح الزجاج، والشيخ حسن العطار المصري الأزهري، والشيخ عبد الله الكردي، وغيرهم مما هو مذكور في ثبته، وقرأ كثيراً من العلوم الآلية والشرعية، على من تقدم وعلى سادة ذوي مقامات علية، وشهرة سنية، منهم علامة العلماء وفهامة القادة الفضلاء، الشيخ خالد الحضرة النقشبندي والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ حامد العطار والشيخ نجيب القلعي والشيخ عبد الرسول المكي والشيخ عمر المجتهد والشيخ عبد الغني السقطي وغيرهم من العلماء الأعلام، والفضائل الكرام، ولا زال يترقى في مدارج العلوم، حتى استوى على عرش المنطوق منها والمفهوم، ويشار بحل المشكلات إليه، ويعتمد في عويصات المسائل عليه، واعترف له مشايخه بالإجادة، وألزموه بالتدريس والإفادة.
ولما بلغ من العمر ثلاثين، طلبه أعيان أهل الميدان للقيام بوظائف الإمامة والخطبة والتدريس والتعليم في جامع كريم الدين، فتمنع جهده، وأظهر أن مطلوبهم ليس عنده، فاستعانوا عليه بشيوخه، واجتهدوا في طلبهم له لما يعلمون من تمكنه في العلم ورسوخه، فأجاب دعوة شيوخه في(1/464)
الحال، وقابل الأمر بالامتثال، وانتقل بعياله ومتاعه إلى الميدان، سنة ألف ومائتين وست وثلاثين وكان لهم به من الحظوة والسرور ما كان، فانقاد له الكبير والصغير، وأحبه الجليل والحقير، وقدموه على الملك والمال، والأهل والعيال، وكان هو لهم بمنزلة الوالد والشقيق، والرفيق الرفيق، يجل كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويعظهم بما ينفع، ويذب عنهم الأذى جهده ويدفع.
ومما وقع له من الأمور الغريبة، والحوادث النادرة العجيبة، أنه في سنة اثنتين وستين ومائتين وألف في رمضان، كان جالساً في حجرته قبيل الزوال يتدارس القرآن مع أحد أولاده، إذ جاءه رسول القاضي فقال له: إن القاضي يرومك فبادر لمراده، فقام ممتثلاً، وللإجابة مستعجلاً، فلما دخل عليه، نظر القاضي بعين المقت إليه، وقال له أنت الذي قد استملت الناس إليك، حتى صاروا لا يعتمدون في مصالحهم إلا عليك، وإن السلطان قد وجه حاكماً لمصالح العباد، وأنت قد حلت بيننا وبينها وهذا عدوان وفساد، وما زال يقرعه هو وأهل المحكمة، وينسبون إليه كل مفسدة ومظلمة، إلى أن أمر القاضي يحبسه في حبس الأشقياء الطغام، وقال له هذا جزاء من يتعرض لمصالح الحكام، ولم يصغ لقوله ولا لاعتذاره، بل كلما بالغ في تلطيفه بالغ في إنذاره، فاستدار حوله الأعوان، وأخذوه إلى الحبس وأسلموه للسجان، فدخل السجن وهو راض بالقدر، ليس في قلبه تغير ولا كدر، وجلس يتلو القرآن، وأهله وأولاده وعائلته ليس لهم خبر بهذا الطغيان، فما أذن العصر، إلا وقد شاع هذا الأمر، فقام الناس على ساق، وأظهروا حالة الخلاف والشقاق، ورعدت رعود الفتنة وسال سيلها، وانسحب على بهجة الأمن والركون ذيلها، وسدت الطرق من ورود الأفواج، حتى لم يبق لسالك من مسلك ولا لناهج من منهاج، وكل إنسان متقلد بأنواع السلاح، لا يصغي لعاذل ولا لاح، وكل من القاضي وأعوانه خال أنه بلغ مطلوبه، ونال من هذا الفاضل مرامه ومرغوبه، وأنه قد أدب فيه سواء، وجعله هدفاً لسهام من عداه، فلما صار الغروب توجه الناس لنصرة الدين أفواجاً، جاعلين ذلك لرضى مولاهم منهاجاً، فلما سمع القاضي بذلك، علم أنه أوقع نفسه بالمعاطب والمهالك، فندم حين(1/465)
لا ينفعه الندم، وفهم أن ما صنعه زلة قدم، فبادر للتوقع على السادات الأكابر، وهم يقولون له أنت متعنت مكابر، قد فتحت علينا للشر باباً أي باب، وسلكت سبيل الغي وأخطأت طريق الصواب، أظننت أنه بسبب فعلك هان، وأنه لا ينتطح له كبشان، فانظر ما وقع من سوء فعلك، والله يعلم ما يحصل لك وللناس من أجلك، فقال لقد أغراني أعواني، وألقوني في أودية ذلي وهواني، وقالوا لا تخش من تأديبه لأنه رجل حقير، لا يسأل عنه كبير ولا صغير، وإني الآن قد اعترفت بذنبي، وتبت إلى مولاي وربي، فأحضروه لأعتذر إليه، وأقبل رأسه ويديه، وها أنا ذا الآن لأمره مطيع، وعندكم في كف هذا الأمر وقيع، فعند ذلك اجتمع العلماء والأعيان، وتوجهوا وأمامهم نقيب الأشراف السيد أحمد أفندي العجلاني لإخراج المترجم من السجن بالعظمة والشان، فحينما دخلوا عليه، وقدموا جميل العبارات إليه، وطلبوا منه أن يعفو عن ظالمه، وأن يقابله بمراحمه، فقال أنا ما جرى لي ذلك إلا بذنب اقترفته، وإن كنت ما تذكرته ولا عرفته، ونسأل الله أن يعفو عنا، ويققبل صالح الأعمال منا، ثم ساروا جميعاً إلى دار النقيب، فحينما رآه القاضي بادره بالترحيب، وأبدى اعتذاره لديه، وعانقه وقبل يديه، ثم رجع إلى مكانه ومعه من الناس ألوف كثيرة، ولا زالوا يطلقون البارود بين يديه ويلعبون بالسيوف والسنان إلى أن وصلوا به إلى داره الشهيرة، ولم يمض بعد ذلك مدة أيام، إلا وأباد الله ذلك القاضي وأعوانه وأدار عليهم كؤوس الحمام.
ثم إنه في آخر شعبان سنة ثلاث وستين ومائتين وألف قد حضر من السلطان الغازي عبد المجيد، مرسوم سني يأمر فيه بدعوة الوالد المترجم والشيخ عبد الرحمن الطيبي إلى الآستانة ويؤكد غاية التأكيد، فأحضرهما حضرة الوالي صفوتي باشا بالتعظيم وأخبرهما بما كان، وأعلمهما بأن السفر قد تعين ثامن رمضان، فتوجها على نفقة الملك الجليل، بكل إكرام وتعظيم وتبجيل، إلى أن دخلا القسطنطينية، دار المملكة السنية، فنزل كل منهما في مكان، ولاحظتهما عين الرفعة والإحسان، وكانت مشيخة الإسلام إذ(1/466)
ذاك لحضرة من تصرف من حين شبيبته بدراسة المعارف، وإفاضة العوارف، وكلف بالعلم حتى صار ملهج لسانه، وروضة أجفانه، السيد أحمد عارف حكمت بيك، فكان لوالدي منه الالتفات الوافر، والميل المتكاثر، وكان يكثر بينهم البحث والحديث، خصوصاً فيما يتعلق بالتفسير والحديث، فلذلك كان مقدماً عنده على ما سواه، وملحوظاً بعين عنايته ورضاه، وكل منهما أخذ عن الآخر وأجازه، وأسمعه حديث الأولية وذكر معناه وحقيقته ومجازه، ثم قرأ كل منهما الفاتحة، ودعوا لهما وللمسلمين بالدعوات الصالحة، وقد مدح الأستاذ الأعظم، شيخ الإسلام والمسلمين الأكرم والدي بهذه الأبيات على الارتجال، من غير إمهال، وهي:
يا قلب أبشر بما ترجوه من منن ... فقد حظيت بشهم كامل فطن
حليف علم إمام سيد ثقة ... أخلاقه الشم قد جاءت على سنن
فقلت للقلب هذا ما تؤمله ... لقد بلغت المنى والأنس من حسن
فأجابه سيدي الوالد حفظه الله، وأحسن مثواه، بقوله:
شمس المعارف تغنينا عن السرج ... ومهج الفضل لا يخفى لمن يلج
وطالع السعد لا يعروه كاسفة ... وعارف الدهر محفوظ من العوج
شيخ الأنام الذي طابت مآثره ... بحر الكمالات ذو الأمواج واللجج
فرع النبوة وصف الحسن لابسه ... فنوره ظاهر في وجهه البهج
شهم همام وللمختار نسبته ... فيا لها نسبة تسمو لمبتهج
رب المعارف والأبحاث شاهدة ... بكونه عارفاً حقاً بلا حرج
طود من العلم والإحسان جمله ... حلم به قد سما الأسمى من الدرج
بشرى لنا معشر الإسلام أن لنا ... من فضله نظرة تدني من الفرج
يا مبتغي العلم لذ إن رمت ري صدى ... بمنهل بفنون العلم مبتهج
يا سائلي عن دليل الصدق في خبري ... شواهد الفضل لا تحتاج للحجج
فيمم الركب وانزل روض ساحته ... واشمم شذا طيبه الفياح بالأرج
فمنصب المجد فيه حاز غايته ... وقد سعى نحوه بالصدق واللهج(1/467)
وكوكب السعد مسعود بطلعته ... يلوح في ذورة الأفلاك بالبلج
ومن يقف بالحمى نودي بلغت مني ... هذا الغياث ففز بالبشر والفرج
فالله يحفظه من كل نازلة ... ممتعاً بسرور عنه لم يعج
ما نال كل المنى في مدحه حسن ... معطراً من ثناه نفحة المرج
ثم إنه بعد تمام رمضان، قامت دواعي الأفراح من كل زوجين اثنان، وذلك لختان جلالة السلطان مراد والسلطان عبد الحميد شبلي مولانا المعظم أمير المؤمنين السلطان عبد المجيد، وكان فراغ مواكب الختان، ذوات العظمة والشأن، نهار الجمعة حادي وعشرين من شوال، سنة ثلاث وستين ومائتين وألف من هجرة محمد شمس الكمال، وقد أنشد سيدي الوالد في تهنئة السلطان، ومؤرخاً ذلك الختان:
ظهر السرور وزالت الضراء ... وصفا الزمان ونجمه العلياء
وترنمت أطيار روضات الهنا ... بدوام عز لم يشبه فناء
وتراقصت أغصان هاتيك الربا ... حيث المغارس أرضها الفيحاء
وتدلت الزهر الكواكب فرحة ... وبدا الهناء ولم يصبه عناء
والناس طراً قد تزايد بشرهم ... وعلا الجميع بشارة حسناء
وعلى الرؤوس مشوا بأفخر حلة ... يا حبذا تلك الخطا الحسناء
وترى النجوم من البحور تصاعدت ... فكأنها للناظرين سماء
نغمات أنس بالتهاني أقبلت ... بترنم تسمو به الأرجاء
يا بهجة للعالمين بأسرهم ... حيث الأماكن زانها النجباء
بكواكب منها الخيام تزينت ... بشموس أفلاك هم الوزراء
وكذا الموالي للرحاب تواردوا ... والبشر فيهم قد علاه هناء
لما أنال الله بغيتنا بدا ... ملك الندى وعليه راق بهاء
فأراح أرواح الأنام ببشره ... وتروحت من نشره الأرجاء(1/468)
عبد المجيد ولم يزل متمجداً ... بين البرايا سيفه الإمضاء
جمع الجموع ليشرفوا بجنابه ... وحضور سنة من هداه سناء
إلى أن قال:
فأدام عزهما بمجد أبيهما ... وكساهما حللاً لهن بهاء
وأدام سعد كمالهم طول المدى ... وأدامهم ما دامت الزهراء
ثم بعد الختان تكرر له الاجتماع بحضرة ذي العظمة والشأن، مولانا السلطان عبد المجيد خان، وعرضت عليه الدولة العلية إجراء معاش جزيل، فقال لم يبق في العمر إلا قليل.
ومن النوادر اللطيفة، والوقائع الظريفة، أني اجتمعت سنة ثمانين ومائتين وألف في مدينة غزة، بمفتيها حضرة الإمام الفاضل، والعلامة الكامل، السيد محيي الدين أفندي الحسيني، فكان من جملة المذاكرة أن حكى لنا أنه بعد انفضاض موكب الختان شرف حضرة تميمي أفندي مفتي مصر القاهرة إلى بلد الخليل للزيارة، وكان طريقه على غزة، فنزل في دار محيي الدين أفندي المرقوم، فسأله عن سفره إلى الآستانة واجتماعه بالسلطان وعن موكب الختان، فحكى له إلى أن قال له: ولما دخلنا مجلس السلطان للاجتماع معه وكان المجلس في غاية الاتساع، فأخذ كل منا مجلسه والسلطان بعد لم يحضر، والحاضرون كل منهم لا يعرف الآخر، وكل منهم يظن أن الحاضرين على غير لغته، فضاق صدري لذلك ولم أدر ما أفعل، إلى أن رأيت إنساناً عليه الهيبة والوقار، قد نظر إلى الخادم وقال: أسقني ماء مع أنه لم يرد ذلك، ولكن أراد أن يفتح للحاضرين باب معرفة في بعضهم مع بعض فعرفه الحاضرون بأنه عربي، فقمت إليه وقعدت بجانبه، وتكلمت معه، وعرف كل من الحاضرين من يفهم عليه، وانضم إليه، واشتغل كل منهم بالمذاكرة مع من يأنس به ويفهم لغته، وكان أصل ذلك هذا الإنسان فاستسميته فقال أنا من الشام واسمي حسن البيطار وهو المترجم(1/469)
المذكور واستسماني، ونلنا بعضنا مع بعض في هذا المجلس وبعده غاية الأنس والتهاني، ووجدته عالماً فاضلاً، وشهماً كاملاً، ومدح وأطنب، وأطال وأسهب اه، ولم يزل هذا المترجم في الآستانة معظماً مبجلاً، مكرماً مفضلاً، إلى أن حصل لهم الإذن الشريف بالعود إلى الوطن، مقلدين قلائد الفضل والمنن، وكان يوم السفر من الآستانة يوماً مشهوداً، وموكباً للاجتماع مقصوداًن اجتمع فيه للوداع السادات والأكابر، وذوو المراتب والمفاخر، وكان يوم دخوله إلى الشام يوم اجتماع وسرور، وهناء وحبور، كاد أن يقال ما بقي في الشام إنسان، إلا وقد خرج لاستقبال هذا الحبر المصان، وكانت مدة سفره أربعة أشهر، لأنه بدأ السفر في ثامن رمضان سنة ألف ومائتين وثلاث وستين، وانتهى سفره ثامن محرم الحرام سنة أربع وستين.
وكان رضي الله عنه مواظباً على التهجد وصلاة الفجر في الوقت الأول، وبعد الصلاة له أوراد لا يبرح عنها في سفر ولا حضر، منها أوراد الصباح والمساء الواردة في السنة، فإنه كان يقرأها صباحاً ومساء، ومنها أنه يقرأ في كل يوم من القرآن جزءاً، فيختم في كل ثلاثين يوماً القرآن بتمامه، ومنها قراءة حزب الإمام النووي كل يوم، ومنها قراءة الدور الأعلى وصلاة بن مشيش وقراءة سورة الكهف ومريم وطه ويس والدخان والواقعة وتبارك الملك وعم يتساءلون وسبح اسم ربك الأعلى وإنا أنزلناه والإخلاص والمعوذتين والفاتحة، وله أوراد عقب كل صلاة، وأوراد يقرأها في بعض الأيام، ليس له ملازمة عليها، وكان كثير الزيارة لمشاهد السادات، حسن الخلق يغلب عليه الزهد والإعراض عن الدنيا، وكان إذا تصعب أمر بين الناس من حقوق وغيرها بمجرد حضوره وتكلمه فيه ينقضي أمره على أحسن حال، وذلك لصفاء نيته وحسن سريرته.(1/470)
وفي سنة سبع وستين ومائتين وألف توجهت معه إلى الحجاز، وكانت هذه المرة له المرة الثالثة، ورأيت منه في السفر ما يدل على سمو درجته، وكان له مع علماء الحجاز مذاكرات علمية، وأبحاث علمية، وأبحاث شريفة سنية، وكانوا يشهدون له بالفضل.
ولو أردت أن أذكر في هذه الكتابة ما حواه من الشمائل وما لديه، لأفضى الأمر إلى قصر هذا الكتاب عليه، ولكن ما لا يذكر كله، لا يترك كله. وفي ثاني وعشرين من شعبان سنة اثنتين وسبعين ومائتين وألف مرض في داء ذات الجنب، وفي ليلة رمضان سأل عن إثبات الشهر، فأخبرناه بإثباته فشرب في السحر ونوى، وأصبح يعالج سكرات الموت، فوضع له بعض عياله نقطة ماء في فمه، ففتح عينيه ومسح فمه، وأمرهن بالإشارة بعدم العود لمثل ذلك. ومات رضي الله عنه قبل الغروب بساعة ونصف، وكان آخر كلامه من الدنيا الذكر، وكان نزوله لرمسه مع قول المؤذن للمغرب الله أكبر، وقد حضر مشهد جنازته جمع عظيم، وعدد جسيم، وما ترى منهم إلا من دموعه ساكبة، وأحزانه متفاقمة دائبة، وأسفه متزايد، وزفيره متصاعد، وذلك كما تقدم في غرة رمضان سنة اثنتين وسبعين ومائتين وألف، ودفن رضي الله عنه في تربة باب الله بجانب قبر سيدنا تقي الدين الحصني من جهة الشمال، وقبره ظاهر مشهور يزار، ولقد رثاه حفيده ابن أخي الأديب الأريب الشيخ محمد بهاء الدين البيطار:
ما قر قلبي من نواك ولا سكن ... كلا ولا عمري أميل إلى سكن
غادرت لي مر الصبابة والأسى ... وسلبتني حلو المسرة والوسن
أسري وأبكي في المعاهد شاكياً ... وجدي فترثي لي الحمامة في الفنن
والوعتي ما للحمام بدافع ... حكم الذي علم السرائر والعلن
يا وحشة للشام مذ بان الذي ... فاق الأفاضل بالمعارف والفطن
بحر تفجر من عيون بنانه ... عذب البيان مسلسلاً من كل فن(1/471)
إن لم يكن أهلاً لكل فضيلة ... ولملتج إن لم يكن غوثاً فمن
لله طلعة وجهه إذ طابقت ... لاسم له فلذاك يدعى بالحسن
سار المنون به ليسعد رمسه ... بمطالع الأنوار من شمس الزمن
بالله يا نعش الحبيب تمهلا ... أو ما علمت البدر غيب في الكفن
قسماً بغر خصاله لفراقه ... حن المصلي بعده وشكا وأن
والصحف تندبه لفقد جواهر ... كانت بها من قبل غالية الثمن
والدهر قمص من برود مصابه ... ثوباً له حاكته ناسجة المحن
صبراً لئن ظعن الحبيب فذكره ... فينا بحسن الوصف دوماً قد قطن
لما دعته الحور تخطبه لها ... كفوا كريماً مال عن دار الحزن
وافاه شهر الصوم ليلة نزعه ... فنوى وأمسك صائماً وفق السنن
وبيومه عند الغروب مغيبه ... في اللحد يرجو رحمة من ذي المنن
حيا ضريحاً ضمه وسقى ثرا ... هـ العنبري النشر وسمي الهتن
وأصابه الإحسان ما صب صبا ... لنسيم نجد ذاكراً عهد الأغن
وحباه صفو الأنس ما عام اللقا ... تاريخه روض الجنان له الوطن
وكثير من الناس من رثاه، وذكر بعضاً من صفاته وحلاه، ويكفي ما قد ذكرناه، رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه. ولقد تشبهت بمن رثاه، ورثيته وإن كنت عاجزاً عن معرفة قدره وعلاه، فقلت، وعلى الله اعتمدت، وبحبله المتين اعتصمت.
غاب بدر العلوم تحت التراب ... وتوارت شمس العلا في الحجاب
ونعاه الناعون من كل فج ... مات قطب الشآم عالي الجناب(1/472)
قل لمغتر بالحياة تنبه ... لرحيل فالعمر لمع سراب
لو حياة دامت لصاحب قدر ... لاستدامت لصفوة الأحباب
إن في ذا للعالمين لذكرى ... يتحلى بها ذوو الألباب
خل خل الملام وارث لحالي ... قد دهاني ما لم يكن في حسابي
مات روحي ووالدي وعياذي ... وملاذي وسيدي ومهابي
منذ أضحت منه الربوع رسوماً ... كان لي الدمع العندمي شرابي
كان سيفاً من الشريعة حدا ... موقعاً أرباب الشقاء في تباب
فد قلبي إغماده في قراب ... من تراب فاعجب لذاك القراب
كان ذخراً لكل دان وقاص ... ومجيراً من أمه من عقاب
ما اعتمادي على الزمان وقد أو ... دى بمولى عليه جل احتسابي
لو يكف البلا بساعد جود ... كان يفدى بالأهل والأتراب
ليس يدري الأنام من فقدوه ... فقدوا من بكته عين السحاب
حسن الاسم والمسمى أبو المجد ... سلسيل العلوم والآداب
جبل هائل المهابة راسي ... بحر علم غدا وسيع الرحاب
كفه من هواطل السحب أوفى ... وحماه ملجا ومنجى المصاب
كعبة الطالبين نيل المعالي ... عرفات لكل داع مجاب
ذو صلاة مرضية وصيام ... وقيام بالذل والانتحاب
واعتكاف تقول حين تراه ... ذا لعمري داود في المحراب
حسن الخلق يوسفي جمال ... لسن النطق مقصد الأنجاب
قد زكا محتداً وطاب نجارا ... وعلا قدره على الأتراب
خان دهري وغاب مذ غاب صبري ... وسقاني النوى مرير الشراب
سلبته الأيام قهراً وكانت ... طوع يمناه في الأمور الصعاب
شق قوم عند الخطوب جيوباً ... قلت شقوا القلوب عند مصابي(1/473)
ما ظننا أيدي المنون ترقى ... لنوال الرفيع سامي الجناب
طود علم يسير فوق رقاب ... كيف تسعى الجبال فوق رقاب
غاب رشدي بفقد مولى نقي ... مستزيد من التقى أواب
يا هماماً حوى عظيم صفات ... وإماماً غدا نواك عذابي
مذ خلت من سناك زهر المعاني ... عاد وجه الأيام مثل الغراب
قد جفاني من بعد بعدك صبري ... ووفاني تحسري وانتحابي
ما رأى الناس قبل مثواك غماً ... غير يوم أعددته للذهاب
يوم هم يا ويحه واكئتاب ... وانتحاب وزفرة واضطراب
من لدرس العلوم بعد اندراس ... من لبث الفهوم للطلاب
شدت ركناً للمسلمين قوياً ... أوهنته طوارق الأحقاب
طالما ما خفت من فراقك حتى ... صاح بالبين طائر الاغتراب
لست أخشى مذ كنت حادث دهر ... صرت أخشى مذ غبت وقع الذباب
فتأمل موج البحور تجدها ... تلطم الخد في أكف الروابي
وشديد الرياح تسفي تراباً ... فوق هام ندباً على ذا العباب
قد فقدنا والله حصناً حصيناً ... وهماماً قطباً من الأقطاب
فعظيم على الفضائل أن تخفى ... وفي الناس طيب ذكراك راب
لست أسلو وأنت أصل وجودي ... وإلى فضلك الوسيع انتسابي
من يلمني إذا سمحت بروحي ... وعيالي وعصبتي وشبابي
رب صبراً والله إن فؤادي ... في عذاب وشدة والتهاب
حينما سار مسرعاً لقدوم ... بازدحام يحكي ازدحام الضباب
نادت الحور يا فريد مقام ... لك جئنا بالبشر والترحاب
خلت قبراً حللته مع أذان ... لغروب في شهر عتق الرقاب
ذاك قرب من محسن ذي جمال ... غافر الذننب للورى في الحساب
هذه رقدة بأوج جنان ... عند مولى الأرباب والأحباب(1/474)
أحسن الله عنك صبر المعالي ... وعزاء الأتراب والأصحاب
وسقى روضة أويت إليها ... هاطلاً من مراحم الوهاب
وصلاة مع السلام دواماً ... لنبي بر فسيح الرحاب
وصحاب والآل مع تابعيهم ... ما دهانا بالبين داعي المآب
الشيخ حسن المعروف بالموقع الدمشقي الفرضي
الفاضل الذي لا يبارى، والكامل الذي في ميدان السبق لا يجارى، والإمام الذي اتفق العموم على علمه وتقواه، والهمام الذي أخلص العبادة في سره ونجواه.
ولد في دمشق الشام، ثم حضر دروس السادة الأعلام، وقد انفرد بعلم الفرائض فكان عليه بها مدار الفتوى، وأحبه العموم لما جبل عليه من الديانة والصيانة والعلم والتقوى، ولم يزل مدار رئاستها، وإكليل هامتها، إلى أن دعاه داعي الإياب، إلى الجنة دار الثواب، وكان ذلك سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف. ودفن في مقبرة دمشق المعروفة بمرج الدحداح رحمه الله.
الشيخ حسن القوزاني الخطاط الخالدي النقشبندي العراقي رحمه الله
العالم الفائق في العلوم، والفاضل الكامل في المنطوق والمفهوم، مفيد الطالبين، ومرشد الراغبين، من أشرق بدر علاه في سماء الإقبال، ونظر إليه العموم بعين الرفعة والإجلال، واشتهر في نواحي العراق، اشتهار الشمس لدى الإشراق، وكان كثير الخشوع، غزير الدموع، ملازماً على العبادة، مع الفقر والزهادة، وقد تحلى بأخذ الطريق، عن صفوة التحقيق والتدقيق، العارف بالله مولانا خالد النقشبندي شيخ الحضرة، رضي الله عنه(1/475)
ورفع مقامه وقدره، ثم بعد أن رآه على كمال الاستعداد، أقامه خليفة في إعطاء الطريق وأذن له بالإرشاد، وما زال على أحسن حال، وأتم منوال، إلى أن اختار الدار الباقية، وترك هذه الدنيا الفانية، وذلك سنة ألف ومائتين ونيف وخمسين.
ملا حسن البزار
نقطة مدار الأدب، وكعبة طواف الأرب، والناهل من أعذب مناهل النظام، والآهل لأبدع النثر وألطف الكلام، طالما نظم ونثر، والفصاحة مقبلة عليه بوجهها الأغر، وقد أخذ من عقودها جواهر، وحلى بها جيد الأوراق والدفاتر، فمن تلك العقود البهية، والجواهر النفيسة السنية، قوله:
شجتني بذات البان ورق صوادح ... لهن بأعلى الربوتين هدير
تذكرن عيشاً بالحمى راق ظله ... فطابت عشيات بها وبكور
فنحن وما لي غيرهن على الأسى ... معين ولا لي غيرهن سمير
وبت ونار الشوق بين جوانحي ... تشب ودمع المقلتين غزير
خليلي ليس الحب ما تعرفانه ... ولا تحسبا أن الغرام يسير
وما هي إلا النار تسعر بالحشا ... لها كل آن لوعة وزفير
تحاربني الأشواق في معرك النوى ... ومالي عليها يا نديم نصير
فنومي وتسهيدي مقيم وراحل ... ودمعي وقلبي مطلق وأسير
نزلنا بسلع والأحبة باللوى ... وما بيننا غير النسيم سفير
تعللني منهم على البعد نفحة ... كما فاح من أردانهن عبير
وتعبث في لبي أحاديث ذكرهم ... كما عبثت بالشاربين خمور
هم أسعروا قلبي وقد سكنوا به ... ففيه لعمري جنة وسعير(1/476)
وله أيضاً:
ألا لامني الأصحاب يوم سويقة ... وهل عرف الأحباب فيمن غراميا
غرامي بسلع يا هذيم وحاجر ... وإن كنت عن تلك الأماكن نائيا
وما أنا إلا عاشق، كل عاشق ... فلابد أن يلقى عذولاً ولاحيا
وما الدهر في أهليه إلا محكم ... ينائي قريباً أو يقرب نائيا
ولما شجاني ليلة الخيف بارق ... بكيت فأمسى ضاحكاً لبكائيا
وبت وخضراء الجناح بذي الغضا ... مجاوبة بالسجع مني القوافيا
وكم رمت كتمان الهوى فوشى به ... لدى البين دمع ليس ينفك جاريا
هل البعد إلا أن علا وجد دارهم ... ومنعرج الجرعاء يا سعد داريا
أم الوجد إلا أن أذوب صبابة ... وتدمي دموعي ما بكيت المآقيا
على أننا كنا وما بيننا سوى ... أجارع نعمان وما كنت راضيا
ألفت الهوى طفلاً فشابت عوارضي ... لعشرين من عمري فأين شبابيا
وحاربني من قبل خلع تمائمي ... زماني فما للنائبات وما ليا
ولست أبالي بعد هذا أكان لي ... عدواً مبيناً أم خليلاً مصافيا
وله أيضاً:
هذا الغرام وهذا من أحب معي ... فكيف لو بان عني الحب أو بعدا
وجد تحمل منه قلب عاشقه ... ما لم يدع عنده صبراً ولا جلدا
هذا ولا ذنب للأشواق في كبدي ... عيناي قد جلبت لي الوجد والكمدا
لم أنس وقفتنا يوماً بكاظمة ... والقلب يعتاده وجد بمن وجدا
والشوق يجري دموعي في معاهدها ... والدمع يذكي من الأشواق ما خمدا
والورق تسعدني يوماً وأسعدها ... والقلب يذكر بالجرعاء ما عهدا
والخل يعذلني فيه فيعذرني ... لما يرى أن لوم العاشقين سدى(1/477)
الشيخ حسن بن عمر بن معروف بن عبد الله بن مصطفى الشطي
الدمشقي الحنبلي البغدادي الأصل الشيخ الإمام، والعمدة الهمام، صاحب السيرة الحسنة، والشمائل المستحسنة، والأوصاف الكاملة، والفضائل الشاملة، نشأ في معابد الطلب والاستفادة، وأكب بعده على الإحسان والإفادة وكانت ولادته في صفر سنة خمس ومائتين وألف وله في مذهب الإمام أحمد بن حنبل التآليف المفيدة النافعة، وله أيضاً في بقية العلوم الشريفة من توحيد وبيان وحساب ومساحة. وقد شرح الإظهار في النحو، وله مولد شريف، ومعراج منيف، وشرح على حزب الإمام النووي، ومجلس في ختم البخاري. وقد أخذ عن الشيخ محمد الكزبري وولده الشيخ عبد الرحمن والملا علي السويدي والشيخ مصطفى السيوطي وكثير من العلماء الأعلام، والجهابذة الفخام وله من النظم والنثر، ما يشهد له بالفضيلة والقدر، ومن نظامه قوله مادحاً قرية دوما وخطيبها الشيخ محمد:
عرجا بي على ربوع بدوما ... فسلامي لأهل دار السلام
وأنيخا ركبي بها كل يوم ... نرتعن في رياضها بالمرام
حفها الله بالهنا وحباها ... بأناس ذوي علا وكرام
سيما من غدا خطيب رباها ... صين من خطب هول يوم الزحام(1/478)
ومن قوله تخميساً:
أيا من حاز فضلاً فز بوصل ... ففيه الخير محفوفاً بشمل
وألق السمع ميموناً بقول ... حبا الله النبي مزيد فضل
على فضل وكان به رؤوفا
فدع أبويه من قول أباه ... أولو فضل علا تغنم حباه
فكم خير جنى حقاً لباه ... فأحيا أمه وكذا أباه
لإيمان به فضلاً منيفا
وإن تعجب فلا عجب كبير ... فقدر المصطفى قدماً جدير
وإياك الجمود فذا خطير ... فسلم فالقديم بذا قدير
وإن كان الحديث به ضعيفا
وقد صح عند بعض أهل الكشف حديث إحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك قال بعضهم:
أيقنت أن أبا النبي وأمه ... أحياهما الرب الكريم الباري
حتى له شهدا بفضل رسالة ... صدق فتلك كرامة المختار
هذا الحديث ومن يقول بضعفه ... فهو الضعيف عن الحقيقة عاري
وتوفي رضي الله عنه سنة ألف ومائتين وأربع وسبعين من الهجرة،(1/479)
ودفن في مقبرة قاسيون في سفح الجبل وقبره ظاهر معروف رحمه الله تعالى، وكتب على بلاطة قبره ما نظمه له علامة وقته السيد محمود أفندي حمزة مفتي دمشق الشام:
هل كوكب العلم استكن ... تحت الثرى غض الأديم
أم تخذ القبر وطن ... لما رأى أن لا نديم
يا فاضلاً في كل فن ... من بعده الفصل عقيم
كم ذا له فينا منن ... مازت لنا الفهم السقيم
قد ملأ الدنيا حزن ... بندبه هذا الكريم
هو أن يكن شطي السكن ... لكنه بحر عظيم
حررت لما أن سكن ... في ظل مولاه الرحيم
تاريخه الشطي حسن ... يقر في دار النعيم
الشيخ حسن بن غالب الجداوي المالكي الأزهري المصري
الإمام العلامة أحد المتصدرين، وأوحد العلماء المتبحرين، حلال المشكلات، وصاحب التحقيقات، السمح السهل، الذي هو لكل ثناء أهل، كأنما بينه وبين القلوب نسب، أو بينه وبين الحياة سبب، بمحاضرة أشهى من ريق المحبوب، ومحادثة أصفى من الزلال المطلوب، وبالجملة فما هو إلا فرد العصر والأوان، وهو من الدهر بمنزلة العين من الإنسان، وقد ترجمه الإمام الجبرتي فقال، عليه رحمة الملك المتعال: ولد بالجدية، في سنة ثمان وعشرين ومائة وألف وهي قرية قرب رشيد، وبها نشأ، وقدم الجامع الأزهر فتفقه على بلديه الشيخ شمس الدين محمد الجداوي، وعلى أفقه المالكية في عصره السيد محمد بن محمد السلموني، وحضر على الشيخ علي خضر العمروسي، وعلى السيد محمد البليدي، والشيخ علي الصعيدي، أخذ عنهم الفنون(1/480)
بالإتقان، ومهر فيها حتى عد من الأعيان، ودرس في حياة شيوخه وأفتى، وهو شيخ بهي الصورة، طاهر السرية، حسن السيرة، فصيح اللهجة شديد العارضة يفيد الناس بتقريره الفائق، ويحل المشكلات بذهنه الرائق، وحلقة درسه عليها الخفر، وما يلقيه كأنه نثار جواهر ودرر، وله مؤلفات وتقييدات وحواش وكان له وظيفة الخطابة بجامع مرزة جربجي ببولاق ووظيفة تدريس بالسنانية أيضاً، وينزل إلى بلدة الجديه في كل سنة مرة، ويقيم بها أياماً ويجتمع عليه أهل الناحية، ويهادونه ويفصلون على يديه قضاياهم ودعاويهم وأنكحتهم ومواريثهم، ويؤخرون وقائعهم الحادثة بطول السنة إلى حضوره، ولا يثقون إلا بقوله. ثم يرجع إلى مصر بما اجتمع لديه من الأرز والسمن والعسل والقمح وغير ذلك ما يكفي عياله إلى قابل، مع الحشمة والعفة. توفي بعد أن تعلل أشهراً في أواخر شهر ذي الحجة، سنة اثنتين ومائتين وألف، وجهز وصلي عليه بالأزهر بمشهد حافل، ودفن عند شيخه الشيخ محمد الجداوي في قبر أعده لنفسه رحمه الله تعالى.
الشيخ حسن الكفراوي الشافعي الأزهري
يتيمة الدهر. وعلامة القطر. الفاضل الكامل. والعالم العامل. قال الإمام الجبرتي: ولد ببلده كفر الشيخ حجازي بالقرب من المحلة الكبرى، فقرأ القرآن وحفظ المتون بالمحلة، ثم حضر إلى مصر، وحضر شيوخ الوقت مثل الشيخ أحمد السجاعي والشيخ عمر الطحلاوي والشيخ محمد الحفني والشيخ علي الصعيدي، ومهر في الفقه والمعقول، وتصدر(1/481)
ودرس وأفتى واشتهر ذكره، ولازم الأستاذ الحفني، وتداخل في القضايا والدعاوى وفصل الخصومات بين المتنازعين، وأقبل عليه الناس بالهدايا والجعالات، ونما أمره وراش جناحه، وتجمل بالملابس وركوب البغال، وأحدق به الأتباع، واشترى بيت الشيخ عمر الطحلاوي بحارة الشنواني بعد موت ابنه سيدي علي، فزادت شهرته ووفدت عليه الناس، وأطعم الطعام واستعمل مكارم الأخلاق، ثم تزوج ببنت المعلم درع الجزار بالحسينية وسكن إليها، فاجتمع عليه أهل تلك الناحية وأولوا النجدة والزعارة والشطارة، وصار لهم بهم نجدة ومنعة على من يخالفه أو يعانده، ولو من الحكام، وتردد إلى الأمير محمد بك أبي الذهب قبل استقلاله بالأمارة، وأحبه وحضر مجالس دروسه في شهر رمضان بالمشهد الحسيني. فلما استبد بالأمر ولم يزل يراعي له حق الصحبة ويقبل شفاعته في المهمات، ويدخل عليه من غير استئذان في أي وقت أراد، فزادت شهرته، ونفذت أحكامه وقضاياه، واتخذ سكناً على بركة جناق أيضاً، ولما بنى محمد بك جامعه كان هو المتعين فيه بوظيفة رئاسة التدريس والإفتاء ومشيخة الشافعية، وثالث ثلاثة المفتين الذين قررهم الأمير المذكور وقصر عليهم الإفتاء، وهم الشيخ أحمد الدردير المالكي والشيخ عبد الرحمن العريشي الحفني والمترجم، وفرض لهم أمكنة يجلسون فيها، أنشأها لهم بظاهر الميضأة بجوار التكية التي جعلها لطلبة الأتراك بالجامع المذكور، حصة من النهار في ضحوة كل يوم للإفتاء، بعد إلقائهم دروس الفقه، ورتب لهم ما يكفيهم، وشرط عليهم عدم قبول الرشا والجعالات، فاستمروا على ذلك أيام حياة الأمير.
واجتمع المترجم بالشيخ صادومة المشغوذ، ونوه بشأنه عند الأمراء والناس وأبرزه لهم في قالب الولاية، ويجعل شعوذته وسيمياه من قبي الخورق والكرامات، إلى أن اتضح أمره ليوسف بك فتحامل عليه وعلى(1/482)
قرينه الشيخ المترجم من أجله، ولم يتمكن من إيذائهما في حياة سيده، فلما مات سيده قبض على الشيخ صادومة وألقاه في بحر النيل، وعزل المترجم من وظيفة المحمدية والإفتاء، وقلد ذلك الشيخ أحمد بن يونس الخليفي، وانكسف باله وخمد مشعال ظهوره بين أقرانه إلا قليلاً، حتى هلك يوسف بك قبل تمام الحول، ونسيت القضية، وبطل أمر الوظيفة والتكية، وتراجع حاله لا كالأول. ووافاه الحمام بعد أن تمرض شهوراً وتعلل، وذلك في عشرين شعبان من السنة الثانية بعد المائتين والألف، وصلي عليه بالأزهر بمشهد حافل، ودفن بتربة المجاورين.
ومن مؤلفاته إعراب الآجرومية وهو مؤلف نافع مشهور بين الطلبة، وكان قوي البأس شديد المراس، عظيم الهمة والشكيمة، ثابت الجنان عند العظائم، يغلب على طبعه حب الرياسة، والحكم والسياسة، ويحب الحركة بالليل والنهار، ويمل السكون والقرار، وذلك مما يورث الخلل، ويوقع ف الزلل، فإن العلم إذا لم يقرن بالعمل، ويصاحبه الخوف والوجل، ويجمل بالتقوى ويزين بالعفاف، ويحلى باتباع الحق والإنصاف، أوقع صاحبه في الخذلان، وصيره مثلة بين الأقران، كما قال البدر الحجازي رحمه الله تعالى:
إذا بعبد أراد الله نائبة ... أعطاه ما شاء من علم بلا عمل
فعده لاصطياد المال مصيدة ... يعدو به عدو معدود من الهمل
مثل الحمار الذي الأسفار يحملها ... وما استفاد سوى الإجهاد والملل
يقول بالأمس عند القاضي كنت كذا ... عند الأمير وقد أبدى البشاشة لي
وقام لي وبقدري قام أطعمني ... حلوى وألبسني الحالي من الحلل
ومن مكاني والحكام طوع يدي ... وأين مثلي وما في الكون من مثلي
أجيد فقهاً وتفسيراً ومنطق مع ... علم الحديث وعلم النحو والجدل
وغيرها من علوم ليس من أحد ... يحاول البعض منها غير منخذل(1/483)
فصال إذ صار بالأشرار متصلاً ... على الأنام صيال الصارم الصقل
له يشار إذا ما سار وهو على ... ركوب بغل سمين في الدواب علي
يقال هذا فلان والصحاب به ... قد أحدقت ملأت كفيه بالقبل
يصيح إذ رام يقريهم بهمته ... صياح شخص عن المعقول في عقل
يقول ذا مذهبي أو ما فهمت وذا ... بالرد عندي أولى ليس ذا بجلي
كأنه في الورى قد صار مجتهداً ... كالشافعي وأبي ثور أو الذهلي
فتاه في تيه وادي العجب ليس له ... إلى هداه سبيل ما من السبل
وصار منجدلاً في المقت ميت هوى ... أثوابه كفناً عدت بلا جدل
فيا لداهية دهياء قد نزلت ... به وزل بها في هوة الزلل
أذ أعقبته عقاباً لا عقيب له ... وعلة ما علاها قط من علل
فحين حلت به حلت حلاه وما ... لمن يحاول عنه الحمل من حيل
فعنه فجا شنيعاً خذ بعيد ردى ... على متون جياد العزم وارتحل
إذ ذلك الشخص إبليس التعيس ومن ... له بإبليس يا للناس من قبل
إليك يا ملجأ الجاني لجا حسن ... هو للحجازي الذي قد جال في الوجل
من الدعاء الذي لا نفع فيه ومن ... فحش المقال وسوء الحال والمحل
وصل رب وسلم ما استنار ضحى ... على نبيك طه أفضل الرسل
والآل والصحب والأتباع من كملوا ... ما أوجد الله من عال ومستفل
اللهم الطف بنا ووفقنا وارحمنا وأحسن عاقبتنا وقنا واكفنا شر أنفسنا يا أرحم الراحمين، اللهم آمين.
الشيخ حسن بن إسماعيل بن حسين المغربي حفيد صاحب البدر التمام
كان بارعاً في جميع العلوم والمعارف شيخ مشايخ عصره، قال في البدر الطالع بعد بيان مناقبه: والحاصل أنه من العلماء الذين إذا رأيتهم ذكرت(1/484)
الله عز وجل، وكل شؤونه جارية على نمط السلف الصالح، وكان إذا سأله سائل أحاله في الجواب على أحد تلامذته، وإذا أشكل عليه شيء في الدرس أو فيما يتعلق بالعمل سأل عنه غير مبال، سواء كان المسؤول عنه خفياً أو جلياً، لأنه جبل على التواضع.
ومع هذا ففي تلامذته القاعدين بين يديه نحو عشرة مجتهدين، والبعض منهم يصنف إذ ذاك في أنواع العلوم، وهو لا يزداد إلا تواضعاً. وكان في كل علم غاية، وفي كل فن قد بلغ بالنسبة لأمثاله النهاية. مات رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وثمان.
الشيخ حسن بن خالد الحازمي العريشي
عالم كبير، وفاضل شهير، قال في التاج: ولد سنة ألف ومائة وسبعين وقد صار لمزيد ذكائه، وفرط وداده ووفائه، وحسن حفظه، وقوة إدراكه، من أفضل العلماء الأعلام، والسادة القادة الكرام، ثم لما استولى أهل نجد على بلاد أبي عريش ودخل الشريف حمود في طاعتهم، صار هذا عنده هو المرجوع إليه، والمعتمد في الأمور الشرعية عليه، وكاد حمود يطيعه، ويأتم به ولا يخالفه، ثم ارتفعت درجته حتى صار يقود الجيوش، ويتولى الحروب ويقيم الحدود مستقلاًن وحمل الناس على العمل بالسنة، ومنعهم من التدريس في فقه المذاهب بأسرها، فعظم ذلك على المقلدة. ولم يزل على هذه الطريقة حتى قتل في المعركة سنة ألف ومائتين وأربع وثلاثين.(1/485)
الشريف حسن أبو أحمد بن علي الحسيني البخاري القنوجي العالم العلامة
فرع من ذؤابة هاشم، ونبعة من وشيج تلك المكارم، من آل السيد جلال الدين البخاري، وهو من عصبة كلهم سادة مكرمون، لا يمس صحف مجدهم إلا المطهرون، من حدث البشرية، ودنس الهيولى الدنية، من كل من قضى للعلياء وطرها، وتلا آيات الكرامة وسورها، تعبق منهم أنفاس النبوة، وتجر لهم على وجه البسيطة أذيال الفتوة، ولم تمح محاسنهم من صحائف الليالي والأيام، ولا تثمر بمثلها أغصان اليراع والأقلام.
ولد رحمه الله سنة ألف ومائتين وعشر. ثم قرأ القرآن وتعلم الفنون الآلية وحصل الأدب وسافر إلى البلاد، ودار على المشايخ الأمجاد، من أجلهم أبناء الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي، وهم الشيخ عبد العزيز والشيخ رفيع الدين والشيخ عبد القادر رحمهم الله تعالى، وكان له محبة أكيدة مع الشيخ إسماعيل الشهيد، والشيخ عبد الحي المرحوم، وكانت بيعته على يد السيد العارف أحمد البريلوي، سافر معه إلى خراسان، وجاهد في الله باللسان والجنان والبيان، والصارم والسنان، ثم عاد إلى موطنه قنوج، وألقى به عصا التسيار، واشتغل بالتآليف والتذكير، وهدى الناس إلى هدى الله الجبار، وكان آية بينة من آيات الله في التقوى والعبادة والعمل، وتأثير الوعظ وقلة الأمل، وإيثار القناعة في المأكل والمشرب والملبس، ذا سطوة عظيمة، وهيبة فخيمة، يخافه الأمراء والعلماء، لسانه أمضى من السيف البتار، وسوطه على المبتدعين والمشركين يثير قتار الدمار. لم يزل مواظباً على الطاعات والعبادات، قائماً لله تعالى بالحجج البينات، عاملاً بالدليل، تاركاً للاقتدا بالغير، متباعداً عن التقليد متمسكاً(1/486)
بالسنة المطهرة في كل حقير وجليل، معتصماً بكتاب الله العزيز لا يبالي بعدو ولا خليل.
مات شاباً ولم يخلف شيئاً سوى الكتب التفسيرية والحديثية، وتأسف الناس على فقده فوق الوصف، ومنذ توفي ذهب رونق الإسلام، وعلو شعائر الدين من ذلك البلد، وكان قد نوى الهجرة من بلد الهند إلى الحرمين الشريفين، فاخترمته المنية، قبل بلوغ هذه الأمنية، وإنما الأعمال بالنيات، توفي سنة ألف ومائتين وثلاث وخمسين. وأرخه بعضهم بقوله مات بخير اه من التاج المكلل باختصار.
الشيخ حسن سكر الميداني الدمشقي
كان رجلاً من أهل الجذب، وكان لا يتناول من الدنيا شيئاً، وزعم الراوي عنه أنه اتفق له مراراً متعددة في مجالس متعددة أنه يشير بيده ثم يفتح كفه عن أنواع من الدراهم والدنانير ويأخذها الحاضرون منه وينظرون إليها، ثم يأخذها منهم، ويشير بيده ثم يفتح كفه فلا يجدون شيئاً. وله من خوارق العادات أمور كثيرة مشاهدة لكثير من الناس. وكان غالباً لا يلبس على بدنه إلا ما يستر به عورته، مات رحمه الله نهار الثلاثاء سابع شهر رمضان المبارك سنة تسعين ومائتين وألف، ودفن في تربة باب الصغير.(1/487)
الشيخ حسن السفرجلاني الشافعي الدمشقي الشاذلي
شيخ الطريقة الشاذلية بدمشق وإمام الحنفية، بجامع بني أمية، وكان مهاباً معظماًن ذا قدر واعتبار، فصيحاً ذا محاضرة، مات سنة عشرين ومائتين وألف، ودفن بباب الصغير.
الشيخ حسن الدنا بن الشيخ أديب الدنا
التائه الكبير، والمعتقد الشهير، المجذوب الغائب بمولاه، عما سواه، كان في أغلب أمره مكشوف العورة، مأخوذاً عن نفسه يتقدم تارة في مسيره ويرجع أخرى، وهو يفرك بيديه ويعض على أصابعه، ولا يتكلم أبداً، مات سادس عشر جمادى الأولى سنة ست وثمانين ومائتين وألف.
السيد حسن بن تقي الدين بن حسن بن مصطفى بن إسماعيل ابن محب الدين بن شمس الدين بن ضياء الدين حميدة ابن زين الدين البوصلي البلقاوي الشافعي الدمشقي الشهير بتقي الدين الحصني مفتي دمشق الشام
صدر الصدور، وزينة الأزمنة والدهور، قد فض عن فم أمانيه ختما، واستمال قلوب الحكام إليه حتما، وكان جسوراً فصيح المقال، مقدماً في زمانه على ذوي المهابة والإجلال، وتعرض لمنصب إفتاء دمشق الشام في أيام حسين أفندي المرادي، فعزلت الحكومة حسين أفندي المرقوم من الإفتاء ووجهته على المترجم المرقوم، فجعل لنفسه قدراً عظيماً، ورونقاً جسيماًن حتى أنه إذا أراد التوجه لمركز الحكومة لابد أن يمشي بركابه(1/488)
أربعون رجلاً من الشجعان، كلهم مقلدون بأنواع الأسلحة، وإذا وصل لمركز باب الحكومة يقوم لاستقباله متسلم البلد المعروف بتفنكجي باشي، ويمشي أمامه إلى أن يجلس في مكانه، ثم يتصدى لتعاطي الأمور، ومدار الحكم في القضايا عليه لا على غيره يدور، وبقي مفتياً ستة أشهر واياماً، ثم عزل عن الإفتاء وغيره. ولما بلغه ذلك اعتزل في داره إلى وفاته، وكان ذلك سنة أربع وستين ومائتين وألف ودفن في باب الصغير رحمه الله تعالى وتأسف كثير من الناس عليه لما لديه من الشهامة الهاشمية، والمآثر العربية، والنصرة لكل قاصد، والمساعدة لكل راسم رائد، عوضه الله الجنة، وأجزل له عنده المنة آمين.
الشيخ حسن بن محمد الشهير بالعطار الأزهري المصري مولدا المغربي محتدا
عظيم شأن لا عيب يضاف إليه، سوى أن أهل عصره قد دار أمرهم في علومهم عليه، فهو فرد المعارف والعوارف، وكعبة حرم اللطائف لكل طائف، به جمال محيا العلم قد ازدهى، وإليه كمال الفهم قد انتهى، فلله دره من همام قد ارتقى سماء الفضائل، وانتقى لنفسه أحسن الخصال والشمائل. ولقد انفرد في علم الأدب وأجاد فيما نظم ونثر، وأحاطت به الفنون إحاطة الهالة بالقمر، وكان مقره بالجامع الأزهر، والمقام الأنور. ولما استولى الفرنسيس على مصر، وجعل زمامها إليه بالقوة والقهر، وسام أهلها كل ضيم وبلية، وكاد أن يجرعهم كؤوس المنية، خرج المترجم فاراً بنفسه(1/489)
إلى دمياط، لما حصل في مصر من الشطط والشياط، وفي عام ألف ومائتين وسبعة عشر، توجه إلى بلاد الروم فاستقام بها مدة واستقر، وفي سنة خمس وعشرين توجه إلى الشام، فدخلها زوال يوم الجمعة ثاني شهر ربيع الأول شهر ولادة سيد الأنام، فتلقاه أهلها بما لاق، وعقدوا على تفوقه وتفرده بالفضائل كلمة الاتفاق، فتعلق به والدي تعلق اللازم بالملزوم، وحضر دروسه في أكثر العلوم والفنون، فكان لوالدي كالروح للجسد، وكان هو يقبل على والدي إقبال الوالد على الولد، لما يرى له من علو الهمة، وسهر الليالي المدلهمة، ولم يزل لمجالسه ملتزما، وفي سلك الملتقطين لدرر نفائسه منتظما، إلى أن خرج من الشام بعد الثلاثين، وكان قد استقام بها نحواً من خمس سنين، فرجع إلى مصر بعد هذه المدة، وكان قد زال عن مصر ما كان بها من شدة، وحينما عزم على السفر استجازه والدي فأجازه، وأنعم عليه بهذه الإجازة، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم.
إن أحسن ما يقدمه السائل في مقاصده، ويلتزمه في مصادره وموارده، حمد الله بأعظم محامده، وشكره على أيمن بره وعوائده، فهو الذي يجيب السائل إذا دعا، ويثيبه على ما إليه من الخير سعى، شرف هذه الأمة باتباع أشرف رسول وكتاب، فانجاب بصبح شريعته من دياجي الجهالات جلباب، ودخل الناس في دين الله افواجاً من كل باب، وقامت بنصره صحابته الأطهار، وأشياعه الأخيار، فباؤوا بحسن المثاب، وخير المآب، ولم تزل هذه الشريعة الغراء المحجة البيضاء واضحة البرهان، مشيدة الأركان، بوراثة العلماء، وجهابذة العظماء، على خدمتها قوامون، قليلاً من الليل ما يهجعون، للأحكام يستخرجونن وللدقائق الجسام يستنبطون، وكلما مضى سلف، أعقبه خلف، وهكذا حتى تقوم الساعة، وتنقضي الدنيا التي هي كساعة، فلله من خصيصة بهذه الأمة اختصت، وامتازت بها عن غيرها وجلت، فعليه من المولى سحب صلاة يتوالى مدرارها، ويتسامى تكرارها،(1/490)
وعلى آله وصحبه، وجنده وحزبه، ما لمع برق، وتدفق ودق، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فإن الشاب الفاضل، والأديب العالم العامل، الشيخ حسن بن الشيخ إبراهيم البيطار، قد حضر عندي حينما حضرت إلى الشام، جميع دروسي التي قرأتها على التمام، حضور تدقيق ودراية، غير أنه قد حضر تلاوة قليل من الأحاديث الشريفة على طريق الرواية، ثم استجازني بما تجوز لي روايته، وتستند إلي عن شيوخي الأعاظم درايته، فتمنعت قدر الإمكان، واعترفت بأني لست من أهل هذا الشأن، وعندما ألح علي استخرت الله وأجزته، وبمطلوبه ومرغوبه أسعفته، بما تجوز لي روايته وتنسب إلي درايته، عن أشياخي الذين اقتبست أنوارهم، واغتنمت أسرارهم، فهم ولله الحمد عدد كثير كل له قدر خطير، فمنهم العلامة الشيخ محمد الصبان، والفهامة الشيخ أحمد بن يونس، والشيخ عبد الرحمن المغربي، والشيخ محمد الشنواني، والشيخ عبد الله سويدان، وغير هؤلاء من السادة الشافعية، وأما من السادة المالكية: فالإمام الشيخ محمد الأمير، والشيخ محمد عرفه الدسوقي، والشيخ أحمد برغوث، والشيخ البيلي، وغيرهم. وقد يسر الله لي حين سياحتي في الديار الرومية والشامية والحجازية، فرأيت جهابذة فضلاء، وأساتذة نبلاء، قد تسنموا غارب الفضل، واجتنوا ثمار العقل، فأخذت عنهم بعضاً من العلوم، وربحت تجارتي بما استفدته من دقائق المنطوق والمفهوم، وكذلك قد أجزته بما لي من التآليف، التي انتهزت فيها من الدهر فرصة بعد طول تسويف، فهي جملة من الرسائل والحواشي والشروح، التي لا تخلو إذا نظرت بعين الانتقاد عن مطاعن وجروح، فليست مما يستحق أن ينشد في المجالس والمحافل، ويذكر في مجالس الأفاضل، ولكن سأذكر بعضها إزاحة لعلة التشوف، وتبريداً لغليل التطلع والتهلف، فمنها حاشية شرح قواعد الإعراب، وحاشية الأزهرية، وحاشية(1/491)
العصام على الوضعية، وحاشية شرح إيساغوجي، وحاشية النخبة، وحاشية السمرقندية، وحاشية السلم، وحاشيتان على ولدية المرعشي في آداب البحث، وشرح المنظومة الوضعية، وشرح المنظومة التي في آداب البحث، وشرح منظومة التشريح، وشرح نزهة الشيخ داود في الطب، وحاشية شرح أشكال التأسيس في علم الهندسة، وحاشية المغني، أسأل الله أن يتمها. ولنا رسائل عديدة في مسائل متفرقة من علم الحكمة، والكلام وغير ذلك. وقد أجزته بجميع ذلك بشرطه المعتبر، عند أهل النظر، سائلاً من الله أن يصلح أحوالنا، ويبلغنا آمالنا، وأرجوه أن لا ينساني من صالح الدعوات، في سائر الأوقات، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. كتبه بيده الفقير حسن بن محمد الشهير بالعطار، خادم العلم الشريف بالأزهر، عفا الله عنه بمنه.
انتهى كلام هذا المترجم رفع الله قدره، وجعل أعلى الجنة مقره. ثم إنه لم يزل يترقى مقامه وقدره، ويعظم بين الناس جاهه وفخره، والناس يقصدونه من كل جانب، لما اشتمل عليه من الفضائل والمناقب، إلى أن خطبته المنية، إلى الدار العلية، وذلك في حدود سنة ألف ومائتين وخمس وثلاثين.
الشيخ حسن بن سالم الهواري المالكي الأزهري المصري
روح مجمع أهل الكمال، ودوح أهل المعارف والكمال، المتوج بتاج الأتقياء، والمنتهج منهج الأصفياء، من تفجرت ينابيع العلوم على لسانه، وفاضت عيون الحقائق من جلال جنانه، وسطعت شموس معارفه، وزكت عروس عوارفه، وطابت في الناس سيرته، وحسنت سجاياه وسريرته، وهو من رجال الإمام العلامة الجبرتي فقال في ترجمته: قرأ على الشيخ(1/492)
الصعيدي ولازمه في دروسه العامة، وبعد وفاة شيخه ولي مشيخة رواق الصعايدة، وساس فيهم أحسن سياسة بشهامة زائدة، مع ملازمته للدروس، وتكلمه في طائفته مع الرئيس والمرؤوس، وكان فيه صلابة زائدة، وقوة جنان وشدة جرأة، واشترى خرابة بسوق القشاشين بالقرب من الأزهر، وعمرها داراً لسكنه، وتعدى حدوده وحاف على أماكن جيرانه، وهدم مكتب المدرسة السنانية، وكان مكتباً عظيماً ذا واجهتين وعامودين وأربع بوايك، وزاوية جداره من الحجر النحيب عجيبة الصنعة في البروز والإتقان، فهدمه وأدخله في بنائه من غير تحاش أو خشية لوم مخلوق أو خوف خالق، وأوقف أعوانه من الصعايدة المنتسبين للمجاورة وطلب العلم يسخرون من يمر بهم من حمير الترابين وجمال الأعيان المارين عليهم، فيستعملونها في نقل تراب الشيخ لأجل التبرك، إما قهراً أو محاباة، ويأخذ من مياسير الناس والسوقة دارهم على سبيل القرض الذي لا يرد، وكذلك المؤن، حتى تممها على هذه الصورة وسكن فيها، وأحدق به الجلاوزة من الطلبة يغدون ويروحون في الخصومات والدعاوى، ويأخذون الجعالات والرشوات من المحق والمبطل، ومن خالف عليهم ضربوه وأهانوه ولو عظيماً من غير مبالاة ولا حياء، ومن اشتد عليهم اجتمعوا عليه من كل فج حتى البوابين في الوكائل، وسكان الطباق وباعة النشوق، وينسب الكل إلى الأزهر، ومن عذلهم ولامهم كفروه ونسبوه إلى الظلم والتعدي والاستهزاء بأهل العلم والشريعة، وزاد الحال وصار كل من رؤساء الجماعة شيخاً على انفراده يجلس في ناحية ببعض الحوانيت يقضي(1/493)
ويأمر وينهى، وفحش الأمر إلى أن نادى عليهم حاكم الشرطة فانكفوا ومرض شيخهم بالتشنج شهوراً، وتوفي في السنة العاشرة بعد المائتين والألف رحمه الله تعالى.
السيد حسن وادي بن السيد علي بن السيد خزام بن السيد علي الخزام ابن السيد حسين برهان الدين الخالدي الرفاعي الصيادي
ترجمه ولده العمدة الفاضل، والنخبة الكامل، السيد محمد أفندي أبو الهدى أطال الله بقاه، وأعلى في مدارج السيادة مرتقاه، في كتابه المسمى بقلادة الجواهر، في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر، فقال: وأما السيد الجليل، والشيخ الفاضل الأصيل، شيخ العائلة الصيادية، وصاحب السجادة الرفاعية، مولانا الوالد الشيخ حسن وادي أفندي حفظه الله وأبقاه، وحرسه بعين الكرامة والعناية وحماه، آمين. ولد طول الله عمره في سنة خمس وأربعين ومائتين وألف قبل وفاة والده رحمه الله بسنتين؛ ونشأ بين أهله وأقاربه إلى أن بلغ عمره الثمانية عشر، فجذبته يد العناية بنفحة من نفحات الرحمن، فدلته إلى جناب شيخه الولي البركة الشيخ رجب الصيادي دفين كفر سجنا، فالتفت بكليته إليه، وأقبل بقلبه عليه، فأقامه خليفة عنه، فجلس على السجادة الرفاعية بزاويته المعمورة بتقوى الله المشهورة في قصبة خان شيخون الملحقة الآن بمعرة النعمان من أعمال حلب، واشتهر أمره، وسار في البلاد ذكره، وانتسب له خلق كثير من القبائل والقرى والمدنن وانتفع به جماعة كثيرة من الموحدين، وله مناقب مأثورة، وعنايات مشهورة، ومما من الله به عليه أن يقرأ على قطعة من السكر وإن لم يوجد فعلى أي شيء كان مما يصح أكله، ويطعمه للناس، فمن أكله لا يضره سم الحيات وغيرها من المسمات، ولا يؤثر فيه ضرر الكلب العقور وغيره من الحيوانات المضرة بإذن الله تعالى، وإذا قرأ على(1/494)
السكر أو غيره باسم رجل وحفظ السكر من أن يلمس بيد أحد في صرة، وكان الرجل المقروء باسمه في بغداد والسكر في الشام ولدغت الحية أو غيرها من المسمات، أو عض الكلب الأكلب ذلك الرجل وهو في بغداد، لا يضره أمرهم بإذن الله تعالى، وببركة الحضرة الرفاعية، وإذا سم رجل في بلدة وكان الشيخ صاحب الترجمة في بلدة أخرى، وتعذر حمل المسموم إليه، وجاء رسول المسموم وسمى نفسه باسم المسموم، فإن الشيخ المشار إليه يقرأ على قطعة من السكر أو غيرها من المأكولات كما تقدم ويطعمها لرسول المسموم الذي سمى نفسه باسمه، ويضربه بيده ضربة خفيفة، فإن المسموم بإذن الله يبرأ من البلدة الأخرى كما هو مشهور في البلاد الحلبية وغيرها عنه. ومن مناقبه الشريفة أيضاً أن الله تعالى قد من عليه ببركة اليد الكريمة، فإذا وضع يده على عليل أو من به وجع يشفيه الله على الغالب. وأما سخاؤه وكرم طبعه ففي نواحيهم أشهر من أن يذكر، وأما علو مظهره ومعونة الله له في أموره وتأييد ظهوره فهي أشهر من نار على علم، وما عانده في أمره بقصد خفض شأنه أحد ولا تعدى عليه وعلى أهله ومتبعيه المخلصين متعد، إلا وأخذ بإذن الله تعالى أو ذل وقهر وكل ذلك معروف مشهور، وكل ما حصل له من الفتوح والبركة سببه الأجل كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن كثير الصلوات، على سيد السادات، وهي ورده الأعظم، وطريقه الأقوم، وقد برزت عليه أنوارها، وظهرت آثارها. قصد لأخذ الطريقة العلية من أكثر الجهات والبلدان، وسارت بذكره الركبان، وانتسب إليه خلق لا يحصى عددهم، وزادت خلفاؤه عن المائة خليفة.
سكن حفظه الله حلب الشهباء، من سنين يسيرة، وعمر الزاوية الرفاعية فيها وكثر بأطرافها مريدوه وإخوانه، وعلت شهرته في حلب الشهباء ونواحيها، وحسن فيه اعتقاد الناس، ومدحه الفضلاء والبلغاء وأعيان الناس، ومن الجملة مدحه بالقصيدة الآتية الفاضل الكامل، سلالة الأماجد(1/495)
الأفاضل، السيد عبد القادر أفندي القدسي، أوحد أعيان حلب الشهباء، وابن المرحوم نقيبها المشهور تقي الدين أفندي القدسي، وهي كما هي درة يتيمة، وصحيفة كريمة:
إذا ضاقت بك الأيام فالجأ ... بحسن وسيلة لحمى الرسول
فإن حمى الرسول وحق ربي ... أمان كل آن للدخيل
وأقرب ما توسلت البرايا ... به للمصطفى آل البتول
هم الطهر الكرام بنو المعالي ... شموس الكون جيلاً بعد جيل
لهم جاه وعز مستفاض ... من المختار بالفيض الجزيل
هم الوراث للمختار طه ... هم أهل الرداء المستطيل
وودهم بأمر الحق فرض ... وهذا أجر مولانا الرسول
إذا أديت حق الود فيهم ... فأبشر بالسعادة والقبول
ودونك سيد السادات شيخي ... فلذ بجنابه العالي الجليل
هو الحسن الحسيني الخزامي ... خلاصة عترة العلم الطويل
له شرف الحضور حضور قلب ... مع المختار غياث النزيل
فتى بيت الرفاعي الغوث روح ... الطريق وفلة الشرف الأثيل
ضيا هذا الزمان أبو الموالي ... سليل الآل مولود الفحول
إمام القوم زبدة آل طه ... ملاذ الملتجى باب الوصول
همام من بني الكرار شهم ... يقابل ذا الإساءة بالجميل
أمير من بني الصياد فرد ... تذل له الرجال بكل قيل
علي القدر رحب الصدر مولى ... الأيادي صاحب الباع الطويل
فللمختار جدهم صلاة ... من الرحمن ترقى في نزول(1/496)
وأصحاب وأولاد كرام ... غياث الناس في اليوم المهول
مدى الأزمان ما وافى محب ... بحسن وسيلة لحمى الرسول
وهو الآن بحمد الله على قدم استقامته القديمة الأصلية على أحسن حال، معرض عن غير الله متوكل عليه مسلم له الحال، معتمد عليه تعالى في الأقوال والأفعال، ولم يزل يترقى إلى أن خطبته المنية للمكان الأرقى، وذلك عام ألف وثلاثمائة واثني عشر ودفن في حلب.
السيد حسن بن السيد محمد الصيادي الرفاعي ويعرف بخدام الصياد
ترجمه السيد أبو الهدى أفندي فقال: كان صاحب الترجمة شيخاً مباركاً صالحاً معمراً، أخذ الخلافة في الطريقة العلية الرفاعية آخر عمره من الشيخ الكامل العارف السيد الحاج أحمد أفندي بن السيد مصطفى الجندي ثم الصياد، شيخ الطريقة الرفاعية بمعرة النعمان، وبيتهم بيت كرم وصلاح، توفي المترجم بحدود سنة ألف ومائتين وخمس وسبعين ودفن بمقبرتهم بقرية كفر زيتا. انتهى ملخصاً.
الشيخ حسن جبينة بن أحمد آغا بن عبد القادر آغا جبينة
إمام صالح، وهمام في تقواه راجح، لطيف المنادمة، حسن المكالمة، أكب من صغره على طلب العلوم، واستفادة المنطوق والمفهوم، وحضر دروس العلامة الشيخ سليم العطار، والعلامة الشيخ أحمد الكزبري والشيخ أحمد البغال، والفاضل الشيخ قاسم الحلاق وغيرهم. وكان يغلب عليه السكون، والخضوع والتواضع والركون، وبعد انتقال المرحوم الشيخ(1/497)
قاسم الحلاق إلى جامع السنانية صار في مكانه إماماً ومدرساً وخطيباً في جامع حسان. وكان يغلب عليه الفقر، غلا أنه كان حسن الصبر، وفي آخر مدته مرض مرض الاستسقاء وطال أمره، إلى أن توفي سنة ألف وثلاثمائة وخمس وعمره نحو الخمسة والستين، ودفن رحمه الله تعالى في تربة باب الصغير.
حسن حسني بك بن حسين عارف بن حسن سهراب بن محمود بن مسيح بن عالي من مهاجرة الأتراك والأمراء في الروملي
ترجمه أحمد عزت باشا في كتابه العقود الجوهرية، في مدائح الحضرة الرفاعية، فقال: هو الفاضل الأديب الأريب حسن حسني بك، إلى أن قال: من مهاجرة الأتراك والأمراء في الروملي، هاجروا إليه منذ أكثر من ثلاثة قرون، وسكنوا طويران وكانوا من أمرائها، وتقلبوا في مناصب كثيرة، وجرثومتهم من العائلة البايندرية، وينسب المترجم إلى طويران، هاجر جده إلى مصر سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف. وولد هو سنة ست وستين ومائتين وألف في مصر، وتوفي والده وربي يتيماً في بيت نفسه، ونشأ نشأة أدبية. ولما بلغ الثالثة عشرة أكب على التحصيل من الأساتذة ليلاً ونهاراً، وصرف النظر عن الترقيات المادية إلى طلب العلوم والأدب، فقال الشعر العربي في الخامسة عشرة، ورزقه الله القبول، واشتهر بالشعر والإنشاء والتأليف، واشتغل بالحكمة الدينية، والأخلاق والفنون السياسية وغيرها. وفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف سافر إلى وطنه الأصلي، لاستخلاص أملاكه وأوقاف أسلافه، وساح البلاد، ثم عاد إلى مصر، وقدم من مصر لدار السعادة سنة ثلاثمائة وألف، وهو الآن بها.
أقول: وقد اجتمعت به فرأيته حسن الأخلاق، صاحب شهامة(1/498)
طبع، وفصاحة لسان، وجودة ذهن، وكمال اطلاع، وله آثار كثيرة، منها: ثمرات الحياة، ديوان شعر في مجلدين، وطوالع الأماني، ولواحق الثمرات، وشطحات القلم. وهذه كلها دواوين شعر، ومصابيح الفكر، في السير والنظر، وشمس المشرق في سماء المنطق، وهو مطبوع، ونور العين، رسالة زجلية، وقصة الوارث بن تارك، وإرشاد الخليل في فن الخليل، وعصمة الجماعة، في وجوب الطاعة. وحجة الكرام في علم الكلام، وعصمة الإسلام في فضل الإمام، ويوم الدهر في أحوال مصر، وسر القدر، ومنازه الأحباب في جنات الآداب، وكتاب الوطن، والنشر الزهري، في رسائل النسر الدهري، والإنصاف في حقوق الأشراف، وفلسفة الأخلاق، والتذكار في التوحيد، والبديع في البديع، والسيف القاطع، والنور الساطع، وارتياح الجنان، بأرواح الجنان، ورسالة التوحيد، ومطية الحقيقة، ومجمع الرسائل، ومعراج الأخلاف لمنهاج الأسلاف، وبهجة الكرام في محجة أهل الإسلام، وعدة رسائل باللغة التركية. ومؤلفاته كثيرة وقوة قلمه وذهنه شهيرة. وله نسبة كما قرر من جهة أمه للدوحة الحسينية، بدل على صحتها حسن أخلاقه المرضية، لا زال كريم الجناب، بهجة الأحباب، ومن نظمه:
أهوى الأماني وسعيي ليس يرضيها ... تدنو إلي وصرف الدهر يقصيها
كم ليلة بت أستجلي محاسنها ... وأنجم الأفق صرعى في مجاريها
تسعى إلي براح من غوايتها ... فاستقيها صبابات وأسقيها
روحين في جسد كنا توحدنا ... أهواؤنا وتمنينا مباديها
لا نعرف البعد حيث القرب يعصمنا ... ولا نخاف الليالي في عواديها
كأننا فرقدا أفق المسرة لا ... تهاب صدي ولا أخشى تجافيها
كم قلت والليل مسدول ستائره ... نعم الليالي التي جادت أياديها
كم همت في وجنة من ورد وجنتها ... والخال قد عم من طيب مجانيها(1/499)
حتى أضعت شعوري في مسلسلة ... من الشعور يروي الدور ساحيها
وهي طويلة؛ ومن نظمه:
هي الهمة العلياء والزمن النكد ... عدوان للأحرار إن أحجم الجد
يبيت فتى الفتيان رهن همومه ... وقد فاز من ليلاته السافل الوغد
ويصبح مقدام البهاليل أعزلاً ... ويمسي أنوف الأنف قد خانه السعد
فيا عجباً للدهر تعدو ذئابه ... وقد هزلت في عز أعياصها الأسد
ويا حرباً تسمو الشموس أهلة ... ويرتفع الوادي وينخفض الطود
ويا طرباً تمسي المواضي طريحة ... ويحمل في أعناق أبطالها الغمد
ومن نظمه يمدح العارف بالله السيد أحمد الرفاعي قدس الله تعالى سره فقال بعد أبيات كثيرة:
أستقبل الدهر أبكيه ويضحكني ... فلم يقلني ولم أطلبه ملتجئا
رفعت يا ابن الرفاعي عبء كلكله ... عن عاتقي فتوانى بعد ما جرؤا
شبل الحسين رفيع الجاه أحمد من ... يرجى إذا الخطب من ضوضائه امتلأ
آثاره بهرت أنواره ظهرت ... كتابه حجة برهانه برأ
أتى على فترة يدعو لواضحة ... صوابها قد محا الآثام والخطأ
جرى على سنن المختار مقتضباً ... نوراً جلا صيقل الأذهان إذ صدئا
وجاء بالفتح عن داعي الهدى فكبت ... أجراه من تخذوا آياته هزؤا
دعا إلى الله بالبرهان فاتضحت ... سبل الهدى فهدى برهانه الملأ
وقام عن جده حق القيام فيا ... نعم الإمام بعلم جهلنا درأ
رست قواعد علياه على جبل ... من التمكن يحمي كل من لجأ
تنزهت ذاته عن كل شائبة ... لما على سدرة الإيقان قد وطئا(1/500)
وقدس الله بالتقوى سرائره ... فمن أراد له شأواً طغى فنأى
وأكرم الله مثواه على قدر ... تنزلت آية تستتبع النبئا
كأن يوسف معناه أقام له ... في مقعد الصدق للألباب متكئا
أكرم بأحمد أشياخ اليقين لقد ... حمى اليقين فمن لم يقفه خسئا
شيخ عيال عليه كل ذي أثر ... بدا فأبدى طريقاً قيماً بدأ
بحر من العلم لا زالت جداوله ... تزيل عن وادي ساحاته الظمأ
هيهات يعرف أبطال الوجود له ... شأواً تعالى وشأناً عز ما فتئا
أنى يضاهى وطه مد راحته ... إليه والجمع من شم الأنوف رأى
كأنه آية من ربه سبقت ... فجسمت فهو من آياته نشأ
فقل لمن رام تفضيلاً وتكرمة ... الله أدرى بمن أولى وما درأ
عليه رضوان مولاه وما برحت ... علياه ذكراً يطيب الكون ما فقرئا
وقد توفي رحمه الله تعالى عام ألف وثلاثمائة وأربعة عشر.
ملا حسن أفندي الشهير بالبزار بن ملا حسين ابن ملا علي الموصلي
ترجمه صاحب العقود الجوهرية، في مدائح الحضرة الرفاعية، أحمد عزت باشا، فقال: هو الأديب الفاضل، والأريب الكامل، ولد في الموصل بمحلة حسان البكري يوم الثلاثاء عاشر شهر جمادى الأولى سنة إحدى وستين ومائتين وألف. وكان فطناً ذكياً، وشاباً لوذعياً، وبعد إكماله قراءة القرآن الكريم، باشر في قراءته العلوم على علامة وقته الشيخ صالح أفندي ابن المرحوم الحاجي طه الخطيب المشهور، ولما انتهى إلى المنطق، ترك ذلك، واشتغل بنظم الشعر مع كونه مشغولاً في صنعة البزارة ولا زال(1/501)
شعره يترقى ويروق، ويعلو على شعراء عصره ويفوق، فإن غزله ونسيبه أرق من نسيم الصبا، وأمداحه محصورة في مدح حضرة المصطفى، والأولياء والصلحاء. وديوان شعره طبعوه في حلب، تتداوله أيدي الفضلاء، وأكف البلغاء. ولما كنت في الموصل لا زال يزورني ويهدي إلى فكري لطيف إنشاده، وما كان يقطع زيارته على معتاده. ثم إنه أخذ الطريقة الرفاعية عن الشيخ حاجي سلطان، والطريقة النقشبندية من المرحوم الشيخ السيد محمد أفندي النوري. ولا زال يترقى حاله في الصلاح، وطريق النجاح، حتى استخفه الشطح، فكان طوراً تجذبه حبال الجذبة، وطوراً يعقله زمام العقل، وحالاته أصبحت ممتزجة بالقبض والبسط، والرفع والحط. ثم إنه فقد بصره، وبقي أغلب أحيانه يمشي بالأزقة ويرقد فيها ليلاً، ويجر في أوحالها ذيلاً، لكنه قبل وفاته كما قيل لي بأنه قد عاد إليه عقله، واصطلح فرضه ونفله، وإنه عند أغلب أهل جلدته، وأكابر بلدته، مظنة الولاية، مع ما ينضم إليها من الدراية، ومن نظمه:
قلبي إليكم بأيدي الشوق مجذوب ... والصبر عن قربكم للوجد مغلوب
لا أستفيق غراماً من محبتكم ... وهل يضيق من الأشواق مسلوب
يا قلب صبراً على هجر الأحبة لا ... تجزع لذاك فبعض الهجر تأديب
همو الأحبة إن صدوا وإن وصلوا ... بل كل ما صنع الأحباب محبوب
إني رضيت بما يرضونه وبهم ... والله يعذب للمشتاق تعذيب
فالروح والقلب بل كلي لهم هبة ... وكيف يرجع شيء وهو موهوب
لي فيهمو سيد طاب الوجود به ... فمنه في كل ناد يعبق الطيب
هو الرفاعي سامي الجد أحمد من ... قد لاذت العجم فيه والأعاريب
أكرم به سيداً طابت عناصره ... وكيف لا وهو للمختار منسوب
أنعم به منهلاً راقت موارده ... فكم صفا منه للأحباب مشروب
هذا الذي يفخر الفخر السني به ... هذا الذي هو للمطلوب مطلوب(1/502)
هذا الذي شرف الأشراف تم به ... هذا الذي هو للعلياء مخطوب
هذا الذي يسعد العبد الشقي به ... فكم وكم نال فيه الأمن مرغوب
غيث مغيث لمن فيه استغاث وكم ... نجا بهمته العلياء مكروب
وكم ذليل به قد عز جانبه ... وكم بعيد به أدناه تقريب
سر من الله في كل الوجود سرى ... منه إلى الخلق ترغيب وترهيب
شمس المعارف من إشراق حكمته ... للعارفين بدت منها أعاجيب
بني رفاعة سدتم رفعة وعلاً ... وذكركم في جباه الفخر مكتوب
تمت محامدكم في عز أحمدكم ... فمجدكم مثل في الكون مضروب
هو الإمام الذي ديوانه أبداً ... في الكائنات مدى الأيام منصوب
فرد به مفردات الفضل قد جمعت ... ندب بكل شديد الهول مندوب
روحي وراحي وريحاني مدائحه ... وحبه لفؤادي فيه تهذيب
يا أحمد الأولياء انظر إلي وقل ... لا تخش أنت علي اليوم محسوب
يا صاحب الهمة العلياء خذ بيدي ... إني وحقك للأعداء مغلوب
يشفى لديغ الأفاعي من عزائمكم ... وعبدكم بأفاعي البعد ملسوب
حاشا لمجدك أن ترضى ببعد فتى ... له إلى بابكم بالذل تأويب
يا عترة المصطفى أنتم أكارم لا ... يخيب فيكم لدى الآمال مطلوب
إن تقبلوني على عيبي فيا شرفي ... فليس لي غيركم قصد ومرغوب
فأنعموا بقبولي واملؤوا قدحي ... من راحكم فهو للأرواح مصحوب
صلى الإله على المختار جدكمو ... ما فاح في الكون من ذكراكم الطيب
والآل والصحب ما نادى محبكمو ... قلبي إليكم بأيدي الشوق مجذوب
توفي رحمه الله في شهر ربيع الأول من عام ألف وثلاثمائة وخمسة وما بقي في البلد كبير ولا ولد حتى شيع جنازته، رحمة الله عليه آمين.(1/503)
الشيخ حسن بن الشيخ علي بن قويدر الأزهري الخليلي
الأديب الناظم الناثر، ذو الفضائل والمآثر، من رقى أوج المعارف، وانتقى برج العوارف، وخاض بحور العلوم، ونزه صائب فكره في رياض المنطوق والمفهوم، فلا ريب أنه كامل المقاصد، جيد القصائد، شعره المنسجم السهل، يزري بشعر الأخطل وابن سهل، ونثره البليغ البديع، يحاكي مقامات الحريري والبديع، وهو ثقة فيما يؤخذ عنه من النقول، وحجة في علمي المعقول والمنقول، كثير المعارف والفنون، غزير اللطائف قليل المجون، لم يتخذ الشعر حرفة، ولا سكن من بيوته غرفة، بناء على أنه جل صناعته، أو أجل متاعه وبضاعته، وإنما دعاه إليه حب الأدب، ولواه إليه ما اشتمل عليه من طوية العرب، وكان رحمه الله، وأحسن مقره ومثواه، غاية في الزهد والديانة، آية في العفة والأمانة، كثير الود للإخوان، مهيباً بين الأحبة والأقران، لا تمل وإن طالت مجالسته، ولا تعل وإن زادت مفاكهته، لما كانت تشتمل على الفوائد، العائدة على محبيه بالصلات والعوائد، وكانت له صدقات وفية، مستورة عن الإظهار خفية. وقصارى الكلام، في هذا الفرد الهمام، إنه كان حسنة من حسنات عصره، وجوهرة يتيمة في جيد مصره.
ولد بمصر سنة ألف ومائتين وأربع، وتربى في حجر والده على الرحب والسعة، وإن أصوله من المغرب من ذرية ولي ذي مقام روحاني، يعرف بسيدي عبد الله الغزواني، وإن علامة من كان من ذرية هذا الولي المعروف بالهدى والصلاح، أنه إذا جاء لزيارته أحد يفتح له الباب من غير مفتاح، وإن بعض ذرية هذا الولي انتقل إلى مدينة سيدنا الخليل عليه صلاة المنان، وتناسل بالمدينة المذكورة واشتهرت تسمية نسله بالمغاربة، وهم معروفون بذلك هنالك إلى الآن، ثم إن والد المترجم انتقل إلى مصر القاهرة،(1/504)
وأقام بها وكان ذا تجارة وافرة، وبها رزق بصاحب الترجمة المذكورة، صاحب الشمائل المأثورة، فلما أن بلغ أشده، وجه عنان همته للطلب بكل إقبال وشدة، فقرأ على جملة من العلماء، والسادة الفضلاء، منهم العلامة الشيخ حسن الأبطح، والفهامة شيخ الأزهر الشيخ حسن العطار ذو الأرج الأفيح، والمرحوم الشيخ إبراهيم الباجوري شيخ الإسلام، والشيخ إبراهيم السقا عمدة الأنام، وغيرهم من مشايخ العصر، المتصدرين للإفادة في أزهر مصر، وكان شافعي المذهب، خلوتي الطريقة، قد أخذها عن الأستاذ معدن السلوك والحقيقة، العارف بالله تعالى صاحب الإمداد، السيد الشيخ أحمد الصاوي أبي الإرشاد. ومن تآليفه المفيدة، وتصانيفه العديدة، شرحه على منظومة شيخه الشيخ حسن العطار في علم النحو، وقد أجاد به أحسن إجادة ونحا ألطف نحو، وقد قال في شرحه عليها، موجهاً جميل مدحه إليها:
منظومة الفاضل العطار قد عبقت ... منها القلوب بريا نكهة عطرة
لو لم تكن روضة في النحو يانعة ... لما جنى الفكر منها هذه الثمرة
في ظلمة الجهل لو أبدت محاسنها ... والليل داج أرانا وجهها قمره
قالوا جواهر لفظ قلت لا عجب ... بحر البلاغة قد أهدى لنا درره
ثم قال: ومن شغفي بتلك العرائس الخواطر، حملتني بواعث الخواطر، على أن أكتب عليها شرحاً، وأبني على دعائمها صرحا، وأشد بنطاق البلاغة لها كشحا، فوقفت على أقدامي، متردداً في تأخري وإقدامي. إلى أن قال بعد كلام طويل، ليس له في البلاغة مثيل: فشددت نطاق العزم، وتقلدت بصارم الحزم، وقومت سنان يراعي، وبسطت(1/505)
في حومة هذا الميدان باعي، وإني لأرى التوفيق يقوم أمامي، والعناية تقود زمامي
وإذا العناية صادفت عبد الشرا ... نفذت على ساداته أحكامه
فاجتفيت من رياض العلوم الأثمار، واجتليت بنات الأفكار، وافتضضت من المعاني الأبكار، ورصدت من بين النجوم الأقمار، وأتيت بمؤلف يهزأ بقلائد النحور، ويعبث بألحاظ الحور، تتألف نجوم المعارف من مطالع أفلاكه، وتتناثر درر اللطائف من قلائد أسلاكه، جعلته تاجاً لتلك العروس، ونزهة لنفائس النفوس، ونمقته تنميقاً عجيبا، وسبكته سبكاً غريبا، وشحنت زورقه بالدرر، وأثقلت أغصانه بالثمر، وجعلت لشرح أبيات الغزل خواتم، كأنها في أصابع الدهر خواتم، بينت فيها معاني ألفاظه المنظومة اللغوية من كتب صحاح، كقاموس البلاغة والصحاح، وضمنتها سجعاً مأثورا، ودراً منظوماً منثوراً، ونوادر أدبية يرشفها السمع مداما، وتميل الأذاق السليمة إلى محاسنها غراما، لتكمل المناسبة بين الأصل وفرعه، ويحتلب الطالب در الأدب من ضرعه، ويكون ذلك ترويحاً للنفس وتنشيطاً للبدن، بالانتقال من فن إلى فنن.
تنقل فلذات الهوى بالتنقل ... ورد كل صاف لا تقف عند منهل
ولا تتبع قول امرىء القيس إنه ... ضليل ومن ذا يهتدي بمضلل
إلى آخر ما قال، وأجاد في المقال، وهذا الشرح في نحو ثلاثين كراساً قد أحكمه فرعاً وأساساً، ومنها شرح مزدوجته، وقد تناولته أيدي الضياع قبل انتقاله إلى مبيضته، وهو يزيد على مائة كراس، قد أودعها ما يزري باللؤلؤ والماس، ومنها رسالة الأغلال والسلاسل، في مجنون اسمه عاقل، ومنها زهر النبات، في الإنشاء والمراسلات، ومنها نيل الأرب في مثلثات العرب، الذي مدحه محمد أفندي فني بقوله:(1/506)
يا صاح إن رمت النشب ... ورغبت في أعلى الرتب
وأردت سفراً نافعاً ... من در ألفاظ العرب
فمثلثات قويدر ... هي كاسمها نيل الأرب
هي روضة مطلولة ... منها صبا الآداب صب
يا حسنها من حلية ... تزري بأطواق الذهب
أهدى لئالئها لنا ... بحر خضم في الأدب
أمثلثات قويدر ... سعداً لمن لك قد كتب
قد كاد فني أن يهيم ... بحسن طبعك من عجب
أبدى محاسنها لنا ... بالطبع في الشهر الأصب
الأسعد المولى الذي ... زبد الفنون قد انتخب
ذو الهمة العليا التي ... منها المعارف تكتسب
رحم الإله له أباً ... هو للفضائل خير أب
يا حبذا من عارف ... كل مآثره أحب
يا طالما عن قاصديه ... أزاح بأساء الكرب
وأراحهم مما ألم ... من المشقة والتعب
للحمد والشكر اجتنى ... ولموجب الذم اجتنب
وله غير هذه من التآليف، وجميل التصانيف. ومن أشعاره الفائقة، وأفكاره الرائقة، قصيدته التي مطلعها:
يا طالب النصح خذ مني محبرة ... تلقى إليها على الرغم المقاليد
عروسة من بنات الفكر قد كسيت ... ملاحة ولها في الخد توريد
كأنها وهي بالأمثال ناطقة ... طير لها في صميم القلب تغريد
احفظ لسانك من لغط ومن غلط ... كل البلاء بهذا العضو مرصود(1/507)
واحذر من الناس لا تركن إلى أحد ... فالخل في مثل هذا العصر مفقود
بواطن الناس في ذا الدهر قد فسدت ... فالشر طبع لهم والخير تقليد
هذا زمان لقد سادت أراذله ... قلنا لهم هذه أيامكم سودوا
وهي قصيدة طويلة، وله قصيدة ثانية، أرسلها إلى بعض الناس أولها:
يا من له خلق كنفحة عنبر ... بالله كف سهام لومك عن بري
وله أيضاً قصيدة قال في براعة استهلالها:
لو كان أمر فؤادي دائماً بيدي ... لما وضعت يدي اليمنى على كبدي
وله مزدودة جميلة متداولة مشهورة. وله غير ذلك من القصائد الطنانة، والمقاطيع الرنانة:
تلك آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
ومات ولم يدون شعره في ديوان، كما جرت بذلك عادة الشعراء من غابر الأزمان، ومع اشتغاله بالعلم ليلاً ونهاراً، كان يشتغل بالتجارة متعففاً عما في أيدي الناس سراً وجهاراً، ولم يزل في زيادة نعم مع كمال الاحترام، رفيع القدر بين الخاص والعام، حتى انتقل إلى دار السلام، في شهر رمضان سنة ألف ومائتين واثنتين وستين.
ومن العجائب أن محمود أفندي الساعاتي الشاعر المصري المشهور قبل وفاة المترجم بثلاث ليال، رأى في منامه أن الشيخ المترجم توفي، وكان ذلك في مرض موته فانتبه قائلاً:
رحمة الله على حسن قويدر ... فحسب هذه الجملة فكانت تاريخا
للسنة التي وقعت فيها الرؤيا. ثم توفي المترجم بعد ذلك بثلاث ليال، فكانت تاريخاً أيضاً لوفاته. ثم إن محمود أفندي المرقوم أشار إلى ذلك في قصيدته الطنانة، التي رثى بها المترجم المرقوم بقوله:
بكت عيون العلا وانحطت الرتب ... ومزقت شملها من حزنها الكتب(1/508)
ونكست رأسها الأقلام باكية ... على القراطيس لما ناحت الخطب
وكيف لا وسماء العلم كنت بها ... بدراً تماماً فحالت دونك الحجب
يا شمس فضل فدتك الشهب قاطبة ... إذ عنك لا أنجم تغني ولا شهب
لما أصابك لا قوس ولا وتر ... سهم المنية كاد الكون ينقلب
ما حيلة العبد والأقدار جارية ... العمر يوهب والأيام تنتهب
لو افتدتك المنايا عندما فتكت ... بخيرنا لفدتك العجم والعرب
سقى ضريخك غيث العفو منسجماً ... ولا ارتوت بعدك الأغصان والعذب
ولا استهلت عيون القطر باكية ... إلا عليك وإن حلت بك النوب
أمست لفقدك عين العلم سائلة ... ترجو الشفاء وأنى ينجح الطلب
بكت عليك السما والأرض واضطربت ... كأنما نالها من حزنها طرب
ما كنت أحسب قبل الموت أن لدى ... نصف النهار ضياء الشمس يحتجب
لو كان يدري فؤادي يوم نكبته ... كان الفداء وهذا بعض ما يجب
بالرغم مني حياتي بعد مصرعه ... سيان فرقة من أحببت والعطب
قل للذي يدعي من بعده أدباً ... هيهات والله مات العلم والأدب
قضى الذي كان يزهو سيف فكرته ... بشاردات المعاني حين يقتضب
لو كانت السمر من اقلامه اشتبكت ... على المنية ما اهتزت لها قضب
وافاه صرف القضا يسعى وفي يده ... كأس عليها المنايا والردى حبب
لا تطلبن من الأيام مشبهه ... عز الدواء وأنى يشتفى الوصب
فما تريك الليالي مثله أبداً ... قد ينقضي العمر والآمال ترتقب
حلم وعلم وجود في الوجود له ... فضل وفيض سحاب دونه السحب
ليث المنام الذي في صدقه غصص ... قد حال من دونه في اليقظة الكذب
وليث أحكام أحلامي التي نفذت ... قضت بحتف أناس حلمهم غضب
أين المنايا وأين الشامتون به ... والمظهرون نفاقاً أنهم نكبوا
إن الكآبة لا تخفي سرائرهم ... قد يعرفون بسيماهم وإن ندبوا(1/509)
إن يظهروا الجد من حزن فإنهم ... إذا خلوا بشياطين الهوى لعبوا
لا يشمتوا إن للأيام منقلباً ... عليهم والليالي أمنها رهب
ألم يروا كم أباد الدهر قبلهم ... من القرون وهم من بعدهم ذنب
آمالهم خيمت فيهم وما علموا ... إن المنايا لها في حيهم طنب
لكنهم قوم سوء طال عمرهم ... وقصروا في العلا هذا هو السبب
لو لم يكن خيهم والله يرحمه ... ما عاجلته المنايا وانقضى النحب
إنا فقدنا البقايا الصالحات به ... والصبر عز وجل الويل والحرب
من للقوافي التي كانت محجبة ... إذا بدت وهي بالأحزان تنتقب
لقد سبتها المراثي في مناقبه ... ودمعها في انسجام هامل سرب
كأن كهف المعالي لم يكن أبداً ... للناس عوذاً إذا ما حلت الكرب
لم يبق في الأرض شيء بعده حسن ... إلا خلال له تعزى وتنتسب
لما دعاه إلى الفردوس خالقه ... لباه شوقاً وكادت مهجتي تثب
طافت عليه بها الولدان حاملة ... من اللجين كؤوساً ملؤها ضرب
والحور مذ جاءها قالت مؤرخة ... بشرى فقد جاءنا المقصود والأرب
وقال فيه أيضاً وقد سئل رثاه:
قالوا قضى حسن المناقب فارثه ... فأجبتهم ومدامعي تتحدر
لا أستطيع رثاء من لمصابه ... أضحى لساني في فمي يتعثر
وكانت وفاة هذا الهمام العلي القدر في رمضان كما تقدم سنة ألف ومائتين واثنتين وستين بداء الصدر رحمة الله عليه.(1/510)
الشيخ حسن أفندي المعروف بالدرويش الموصلي
النجيب الأريب، واللبيب الأديب، أعجوبة الزمان، ونادرة الوقت والأوان، الذكي الألمعي، والسميدع اللوذعي، كان من أعجب العجائب في عصره، مميزاً شهيراً في مصره، طاف البلاد والنواحي، وجال في الممالك والضواحي، واطلع على عجائب المخلوقات، وعرف الكثير من الألسن واللغات، ويعتزي لكل قبيل، ويخالط كل جيل، فمرة ينتسب إلى فارس، وتارة إلى بني مكانس، ومرة ينتمي إلى هندستان وأخرى إلى أفغانستان، فكأنه المعني بما قيل، في غابر الأقاويل.
طوراً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن رأيت معدياً فعدناني
هذا مع فصاحة لسان، وقوة جأش وجنان، والمشاركة في كل فن من الرياضيات، وطول الباع في المحاضرة والأدبيات، حتى يظن السامع كل الظن، أنه منفرد في ذلك الفن، وليس الأمر كذلك، وإنما قوة الفهم والحفظ والقابلية سلكته هذه المسالك، فحاز على رتبة الترقي، من غير حاجة إلى الأخذ والتلقي، وساعده انقراض أهل الفنون، فكاد أن يتكلم بما لا يفهمه الحاضرون، ومع ذلك يحفظ اصطلاحات الفن وأوضاع أهله، ويبرزه في ألفاظه ينمقها ويرونقها تدل على عدم جهله، ويذكر أسماء كتب مؤلفة وأشياخاً يستند إليها، يقل الوصول والاطلاع عليها، ولمعرفته باللغات خالط كل ملة، فيظن من خالطه أنه منهم من غير علة ويحفظ كثيراً من الشبه العقلية، والعقائد والبراهين الفلسفية، مع إهماله الواجبات الشرعية، والفرائض الدينية القطعية، وربما قلد كلام الملحدين، وشكوك الخارجين المارقين، وكثيراً ما كان يزلق في بعض المجالس، فيطلق لسانه بغلطات من ذلك ووساوس، فلذلك طعن الناس عليه في(1/511)
الدين، وأدخلوه في فرقة الملحدين، وساءت فيه الظنون، وكثر عليه الطاعنون، وصرحوا بعد مماته بما كانوا يخفونه في حياته اتقاء لشره، وتباعداً من ضره، لأنه كان له تداخل عجيب في الأعيان، وذوي السلطان والشان، ومع ذوي الصولة، من كل دولة، ولم يزل يعلو ويسمو، ويعظم قدره وينمو، إلى أن أصابه مرض خفيف وكان له مجلس عظيم في قلعة مصر قد وضعته الدولة المصرية بها رئيساً على المتعلمين، فنزل من القلعة وافتصد وعاد، وعنده حنق على بعض المتعلمين فضربه بشدة فانحلت الرفادة وسال منه دم كثير فحم على أثر ذلك واستمر أياماً إلى أن توفي، ودفن في جامع السراج البلقيني بين السيارج، وعند ذلك زاد قول الشامتين وصرحوا بما كانوا يخفونه في حياته، فمنهم من يقول مات رئيس الملحدين، وآخر يقول انهدم ركن الزنادقة المارقين ونسبوا إليه أن عنده الذي ألفه ابن الراوندي لبعض اليهود، وسماه دافع القرآن، وأنه كان يقرأه ويعتقد به، وأخبروا بذلك رئيس الحكومة، فطلب كتبه فتصفحوها فلم يجدوا بها شيئاً من ذلك. وكانت وفاته يوم الخميس السابع والعشرين من جمادى الثانية سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف.
الشيخ حسن بن أحمد بن نعمة الله الحلبي الشافعي
الفقيه الفاضل، والعالم العامل، المقري الدين الناسك الصالح، أحد القراء المعروفين بجودة الحفظ والتلاوة والأداء الراجح. ولد في حلب سنة خمسين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه على عبد القادر المشاطي، وجمع القراءات السبع على طريق الشاطبية بالتلقين من شيخ القراء الشمس محمد بن مصطفى البصيري التلحاصدي، وأبي اليمن محمد بن طه العقاد، وأتقن وبرع وحفظ وسمع قصة من صحيح الإمام أبي عبد الله(1/512)
محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي على أبي السعادات طه بن مهنا الجبريني وسمع البعض من الصحيح المذكور وبعض كتب الحديث على أبي اليمن المذكور، وعلى الشيخ علاء الدين محمد بن محمد الطيب المغربي المالكي الفاسي نزيل المدينة المنورة لما قدم حلب، وعقد مجلس السماع والتحديث بالجامع الأموي، وأجازه بالإجازة العامة مع من حضر، وتفقه على أبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري الشافعي، وأبي زكريا يحيى بن محمد المسالخي، وقرأ العربية على الشهاب أحمد بن محمد المخملي، وأبي محمد عبد الوهاب بن أحمد الأزهري المصري، وغيرهم. وكان يستقيم غالب أوقاته في الجامع الأموي في حلب، يتلو القرآن العظيم دراسة وتعليماً مع الديانة والصلاح. توفي سنة ألف ومائتين ونيف وعشرين.
الشيخ حسن بن عبد الرحمن الكليسي الحنفي أبو محمد
العالم الفاضل المتقن الأصولي المنطقي المفسر، الزاهد الورع التقي النقي المستبصر، مولده بكليس سنة ثمان وستين ومائة وألف، وقرأ بها القرآن العظيم، وبعض المقدمات على الشيخ أبي بكر البستاني، ثم اشتغل بالتحصيل والأخذ، فقرأ على أبي عبد الله محمد المرعشي النحو والصرف، وعلى الشيخ مصطفى اكسيوركي رسالة في المنطق، وأخرى في الآداب، وعلى فخر الدين عثمان المفتي الشهيد شرح الشمسية ورسالة في الآداب، ثم ارتحل إلى عنتاب، وقرأ بها على المحقق أبي حفص عمر بن محمد العنتابي الأوشاري البعض من كتب المنطق والمعاني والبيان ومصطلح الحديث والفقه، وقرأ على أبي عبد الله محد الضعيفي العنتابي حصة من تفسير البيضاوي، وحصة من الصحيح للإمام البخاري، وملتقى الأبحر لإبراهيم الحلبي، وعلى أبي الثنا محمود المقرىء المفتي حرز الأماني وختم عليه القرآن العظيم للسبع على طريق الشاطبية. ثم ارتحل إلى توقات وقيصرية وبهنسة، واشتغل على الفحول من علماء تلك البلاد، كالبرهان إبراهيم التوقاني، وأبي عفان(1/513)
عثمان المفتي، والسراج عمر الخربوطي، وأبي عبد الله محمد بن الحسين الحجابي، وغيرهم. وقرأ الكتب المطولة في غالب العلوم والفنون، وقدم حلب وقرأ بها أكثر الصحيح للبخاري، وحصة من صحيح مسلم، ونخبة الفكر وحصة من تفسير القاضي البيضاوي، على أبي اليمن تاج الدين محمد بن طه بن محمد العقاد وسمع عليه وأجاز له، ودرس بحلب، وأقرأ واشتغل بالإفادة، ثم ولي تدريس المدرسة العثمانية ودرس بها، ولازمه جماعة. وكان من العلماء الأذكياء والفضلاء المشهورين، وقد اجتمع فيه بحلب سنة خمس ومائتين والف خليل أفندي المرادي مفتي دمشق الشام، وكل منهما قد أسمع الآخر من فوائده. ولم أقف على تاريخ موته ومحل دفنه.
السيد حسن بن أحمد بن أبي السعود محمد بن أحمد ابن محمد بن الحسن الحلبي الحنفي الشهير كأسلافه بالكواكبي الزهراوي الحسيني السيد الشريف بدر الدين
الفاضل الألمعي، والكامل اللوذعي، كعبة الأدباء، ونخبة العلماء، من اشتهر بالفضائل، وشهد له السادة الأفاضل.
مولده في ذي الحجة سنة ثلاث وستين ومائة وألف، ونشأ بكنف والده وقرأ ونبل، وأقبل على العلم حتى حصل، وكان له في الأدب والشعر(1/514)
اليد الطولى، وتولى منصب الإفتاء العام من طرف السلطان في مدينة حلب، وكان حسن الأخلاق كريم الطباع، وكان له تردد عظيم ومحبة صافية مع العالم الشريف خليل أفندي المرادي مفتي دمشق الشام حينما كان في حلب. ولما مرض المترجم المرقوم وعاده خليل أفندي وكان قد أشرف على الصحة أنشده من لفظه لنفسه وذلك سنة خمس ومائتين وألف قوله:
قد كنت مضنى عليلا ... وصار جسمي نحيلا
وليس لي من طبيب ... يبري لدائي غليلا
فأنعم الله مولى ... بين الأنام خليلا
من خير أصل وفرع ... مفضلاً وأصيلا
من آل بيت المرادي ... مشرفاً وجليلا
أنعم به من كريم ... قد حاز مجداً أثيلا
أباؤه الغر قوم ... أوفوا الكمال الجزيلا
فكم لهم من سجايا ... تولى العطاء النزيلا
كانوا ملاذاً وذخراً ... لمن غدا مستنيلا
وبيننا إنتساب ... جيلاً وجيلاً وجيلا
وجدهم قطب وقت ... أعني المراد الجليلا
وإنه شيخ جدي ... به يؤم السبيلا
ونجله كان شيخاً ... لوالدي مستميلا
وأنت يا خير نجل ... أرجوك اذناً وقيلا
تحيي مآثر قوم ... شادوا العماد الطويلا
لا زلت غوثاً وغيثاً ... وبالأيادي همولا
وأنشد لنفسه أيضاً:
يا خليلي ومنيتي ومرادي ... طيب الأصل يا رفيع العماد(1/515)
جامع الفضل والمحاسن طراً ... ذو بهاء وكامل في الوداد
حيث وافيت منزلي زال ما بي ... من عناء وطاب مني فؤادي
صانك الله من صروف الليالي ... وحماكم من أعين الحساد
لم تزل في سعادة وسرور ... ملجأ القاصدين من كل ناد
فكتب إليه خليل أفندي هذه الأبيات يمدحه ويثني على أسلافه، وأسمعه إياها من لفظه، وهي من لزوم ما لا يلزم:
مجد بني الزهراء والكواكبي ... يزاحم الجوزاء بالمناكب
ونسب علا لهم وغيرهم ... يفخر في بيت كما العناكب
لقد رقوا من العلا منازلاً ... تحسدها زواهر الكواكب
همو جمال الوقت لا زالوا به ... أعزة وزينة المواكب
حيا ربوعاً وحمى يضمهم ... من الحيا كل ملث ساكب
ومن نظمه أيضاً يمدح بني المرادي حين شرفوا إلى حلب:
حبذ حبذا تفاق الزمان ... بموافاة سادة العرفان
يا رعى الله يومنا حيث فيه ... شرفوا حيناً ونلنا الأماني
قادة شيدوا منار المعالي ... وعلاهم يعلو على كيوان
صفوة الشام بل هم الأنجم الزهر ... وأقمار ذروة الدوران
عن ثقات لقد سمعنا علاهم ... فعرفنا مصداقها بالعيان
هم مرادي وبغيتي ومرامي ... ثم قصوى بشائري وأماني
منهم سيد همام بهي ... كامل الذات غرة الأعيان
روح أنس ونزهة الدهر حقاً ... ذو صلاح وعابد الرحمن
خصه الله بالكمال مع اللطف ... وأولاه بالعلى والشأن
وكذا الفاضل الوقور علي ... من علا بالتقى وحذق البيان(1/516)
جوهر خالص ودر نضيد ... فاق إجلاله على الأقران
إن أجاد النظام نذكر قساً ... أو أفاد العلوم كالنعمان
وكذا المصطفى الشقيق المصفى ... بارع الذهن حائز الافتنان
من له في العلوم ذوق وتوق ... وترق بها وصدق اللسان
وكذا الكامل الأديب سمي ... حسن الذات من بني الأسطواني
لا يزالون في نعيم من العيش ... مقيم على مدى الأزمان
فأجابه مجد الدين المرادي
حبذا حبذا بلوغ الأماني ... وبشير وافى بعقد الجمان
جاءنا مخبراً بأي سرور ... وحبانا وعمنا بالتهاني
نحمد الله صح جسم المعالي ... بدر أفق العلوم بحر المعاني
وبه أصبح الزمان معافى ... من سقام الكدور والأحزان
يا لها نعمة تعم البرايا ... غمرتنا باللطف والإحسان
أيها السيد الهمام المفدى ... معدن الفضل روح هذا الزمان
حسن الذات والصفات المسمى ... حسناً والكتاب كالعنوان
يا ابن قوم تزينت بحلاهم ... حلب وازدهت على البلدان
طلعوا في العلا كواكب علم ... وهمى جودهم بكل مكان
جمع الله فضلهم فيك حتى ... حزت ما عنه كل كل لسان
وملكت القلوب باللطف يهوى ... لك كالبيت كل قاص ودان
وسحرت العقول بالنظم مما ... فيه من رقة وحسن بيان
يا له مفحماً ولله عقد ... منه وافى يروق حور الجنان
ما ظننا من قبله النجم ينصا ... غ حلياً وزينة للحسان
حفظ الله حاذقاً صاغ هذا الشعر ... فضلاً يهدى إلى الإخوان
وكفاه شر الحسود وأبقى ... جاهه شامخاً على كيوان(1/517)
بالغاً ما يروم والعيش صاف ... في نعيم وصحةٍ وأمان
مع أهلية والبنين خصوصاً ... وجميع الأحباب والخلان
ما حلا ذكره الجميل وغنت ... صادحات الحمام في الأفنان
وتوفي سنة ألف ومائتين ونيف وعشرين تقريباً رحمة الله تعالى عليه
الشيخ حسن بن عبد القادر بن مصطفى بن عبد القادر التادفي الشافعي
الشيخ أبو محمد الفقيه المقرىء، مولده بتادف سنة خمس وخمسين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه على أبي محمد عبد الرزاق المكتبي، وارتحل إلى حلب وتوطنها، وتفقه بأبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري وغيره، وكان صالحاً تقياً نقياً زاهداً عابداً ديناً كريماً، توفي رحمه الله سنة ألف ومائتين و....
الشيخ حسن الهابط
المجذوب لمولاه، والمنقطع عما سوى الله، صاحب الكرامات الظاهرة، والخوارق العجيبة الباهرة، ولد سنة ألف ومائتين وعشرين، ونشأ في حجر(1/518)
والده، وعلمه صنعة حياكة الحرير، ثم غلب عليه الجذب والسكوت وترك الحياكة، ولازم الساحة المعروفة، في ميدان الحصا بساحة الحمام، يعني حمام التوتة، وهذه الساحة قد دفن بها جملة من السادات المجاهدين، وبها قبورهم ظاهرة مشهورة مقصودة بالزيارة، غير أنه لم يعرف من أسماء أصحابها إلا الشيخ حرب والشيخ موسى، وكثير من الناس قد حفروا في تلك الساحة فوجدوا بعض المدفونين بها بحالهم، وعندهم بعض أسلحة من الطراز القديم، كالسيف والنشاب والدرقة، وإذا الإنسان مر بين قبورهم في ليل أو نهار يجد أنساً وروحانية وفرحاً وسرورا، نسأل الله تعالى أن يلهم أهل الحمام الذي في جوارهم صيانتهم واحترامهم من فرشي الزبل والأقذار التي يفرشونها بين قبورهم وعلى مدافنهم المدروسة فإن القبور تصان لا تبتذل وتهان، خصوصاً قبور السادة المجاهدين في سبيل الله، فإن من آذاهم وإن أمهل لا يهمل، نسأل الله الحماية، والحفظ والوقاية ثم نرجع إلى المترجم فإنه رضي الله تعالى عنه كان ملازماً للوقوف في هذه الساحة، ويتردد بها قليلاً ولا يخرج عنها، وكان في أيام الشتاء والبرد ينزل عليه المطر الغزير والثلج الذي ربما يرتفع على الأرض ذراعاًن ولا يتظلل ولا ينتقل، حتى أنه مرة كان واقفاً فنزل الثلج وكثر، فجلس على الأرض وجلل عليه الثلج حتى ستره بالكلية، فتفقده الناس فلم يجدوه، ففتشوا عليه فوجدوه مستوراً في الثلج، فحينما وجدوه وأزاحوا الثلج عنه خرج البخار من عنده، وكأن محله فيه نار، ولما نظروا إليه وجدوه ضاحكاً باسماً يتكلم بكلام لا يعرفونه ولا يفهمونه، لأنه كان يهمس في الكلام همسا، وكان لا يلبس على جسمه سوى قميص وبوظية من الصوف، وكان إذا أظهر المحبة إلى إنسان شمه بأنفه،(1/519)
وكان دائماً نظره إلى الأرض مطرقاً برأسه يدور في محله ويتردد، كأنه محتار مدهوش واقع في مهم عظيم. وفي سنة ثلاث وستين ومائتين وألف، حينما طلب السلطان عبد المجيد والدي ودعاه إلى ختان أولاده، فكانت المكاتيب من والدي إلينا متواصلة، إلى أن انقطعت عنا المكاتيب مدة طويلة، فصعب علينا الأمر، وانشغلت أفكارنا وكثرت التأويلات في هذا الأمر من الناس، فحصل عندنا جزع عظيم، فخرجت من دارنا إلى الجامع المعروف بجامع الدقاق في الميدان الذي هو في محل إقامتنا وصلاتنا وقراءتنا، وكان اليوم يوم خميس ونحن في غاية الضيق، فوجدت المترجم يتردد أمام حجرة والدي، ولم يكن له عادة في الانتقال من الساحة المتقدمة، فاستغربت الأمر كثيراً، وعرفت أنه ما كان ذلك إلا لحكمة، فتقدمت إليه وسألته، فقال بلسان فصيح يأتي الشيخ يوم الأحد، فقلت له وأي واحد؟ فقال يوم الأحد، فكررت عليه وهو لا يزيد عن ذلك، ففي ثاني يوم صباحاً ورد علينا المكتوب من بيروت بحضوره إليها، وكان وصوله إلينا يوم الأحد كما قال المترجم. وكان كثيراً ما تأتي إليه جملة من أكابر المجاذيب ليلاً، فيجلسون عنده ويتذاكرون معه، وإذا مر عليهم أحد سكتوا عن الكلام إلى أن يبعد عنهم، ورؤوسهم متدانية بعضها من بعض، خوفاً من أن يسمعهم أحد. وأما صغار المجاذيب فإنهم لا قدرة لهم على المرور من محلته، حتى لو جرهم أحد يتمنعون من مطانعته، ويظهرون الخوف والتباعد، ومع حالته رضي الله عنه وعدم كلامه كان جمالياً لا جلالياً، يأنس الإنسان به، وليس له حالة فظيعة ولا مسبة ولا كلام بشتمٍ ولا غيره، كما يحصل من بعض المجاذيب، بل كان يسكت عند كلام الناس ولا يجاوب أحداً إلا في بعض الأوقات، إذا كان السرور متجلياً عليه. ولم يزل على حاله إلى أن توفي عاشر ربيع الأول سنة ست وسبعين ومائتين وألف(1/520)
ودفن في جبانة باب الله.
السيد الشيخ حسن أفندي بن السيد سليم الدجاني الحنفي اليافي المتصل نسبه بالسيد المصطفى صلى الله عليه وسلم
العالم الأديب، والنحرير الأريب، والهمام الفاضل، والإمام العامل، حبر العلوم العقلية والنقلية، وبحر درر المنظوم والمنثور والمعارف السنية، المتفنن في اللغات الثلاث العربية والفارسية والتركية، والمعتمد عليه في أمانة الفتوى الشرعية.
ولد في مدينة يافا سنة ألف ومائتين وحدود الثلاثين، ونشأ في حجر والده وقرأ عليه بعض الفنون، ثم انتقل إلى الجامع الأزهر المصون، فحضر دروس السادة الأكابر، إلى أن صار يفتخر به الحاضر على الغابر، ثم عاد بعد التكمل، ونال في محله أرفع مقام جليل، إلى أن ولي بيافة المحروسة أمانة الفتوى ذات البها، وكانت لا تليق إلا له ولا يليق إلا لها. ولقد اجتمعت به عام توجهي إلى الرحاب القدسية، لزيارة الأماكن العلية، فقطعنا مدة إقامتنا في يافا في مذاكرات علمية، ومطارحات أدبية.
من كل معنى يكاد الميت يفهمه ... حساً ويعشقه القرطاس والقلم
فكنا تارة نتذاكر في أخبار من سلف، وتارة نتفاكه في بدائع الملح والطرف، وآونة نجول في معاني المسائل الشرعية، وآونة في معاني الأحاديث والآيات القرآنية، وسأل مني عن المعرفة في الربع المجيب والمقنطر، وأخبرني أنه قرأ المجيب لا المقنطر فطالعته معه أياماً ولم(1/521)
نقض من التكميل الوطر، لأنه قد ضاق الوقت ونحن على جناح السفر، غير أنه حصل عنده إلمام، يقتدر به على تحصيل المرام. وكان جسوراً حسن الأخلاق، حقيقاً باللطف والوفاق، جميل الذات كامل الصفات، عفيفاً زاهداً، ورعاً عابداً، متحرياً للصواب، في السؤال والجواب، محبوباً عند الناس، مجلسه لا يمل لما فيه من الملاطفة والإيناس، لين الجانب متواضعاً، متذللاً لمولاه خاضعاً، حسن الأوصاف، متواصل الأضياف، له شهرة حسنة، وآثار مستحسنة، وجاه عال رفيع، وقدر سام بديع، وجلالة في القلوب، وهيبة فوق المطلوب والمرغوب، وهيئة تشهد له بفضله وعلاه، وهمة سامية تفضي له بأنه زينة الكمال وحلاه، ولما توجه حضرة العالم الأفخم، والصدر الأبهى الأعظم، سيدي الإمام الأمير السيد عبد القادر بن السيد محي الدين الجزائري إلى بيت المقدس الشريف للزيارة مر في طريقه على مدينة يافا، ونزل في دار العالم العامل الشهير الشيخ حسين الدجاني، فقدم أخوه المترجم المرقوم لحضرة الأمير السيد عبد القادر هذه القصيدة وهي:
عهدنا بغرب مطلع البدر مشرقا ... وإنا نراه الآن قد لاح مشرقا
وللغرب أصل الفضل إذ هو مطلع ... وإن يك ذاك البدر في الشرق أشرقا
رعى الله بدراً قد سرى يحمد السرى ... إلى الحرم القدسي وهام تشوقا
فلله من يوم به وصل الهنا ... وجاد بشير الأنس بالوصل واللقا
وأشرقت الدنيا بطلعته التي ... بدت شمس حن نورها قد تألقا
بروحي أفدي من علقت بحبه ... وأضحى إليه اللب بالرهن موثقا
سما في سما العليا كمالاً وبهجة ... ولطفاً وظرفاً فوق عرش البها ارتقى
لطلعته تعزى المحامد مثلما ... لحضرة محي الدين حمدي تحققا
ومرآه عيد للتهاني كمقدم ... لمولاي عبد القادر السامي مرتقى
إمام محاريب الأفاضل جامع ... لكل كمال في الأنام تفرقا
همام بيوم الحرب أثنت حرابه ... عليه وفي المحراب أضحى موفقا(1/522)
طويل نجاد وافر الفضل كامل ... بسيط الندى قد فاق فهماً ومنطقا
وما هو إلا سيد وابن سيد ... له المحتد العالي من الدر منتقى
مليك إذا ما أم ساحة جوده ... أسير العنا في الحال من وأعتقا
حوى البأس والمعروف والمجد والذكا ... وحاز المعالي والمكارم والتقى
ولا عيب فيه غير أن عطاءه ... أبان لعجز الشكر لما تفتقا
سل الصارم الهندي عنه فإنه ... يحدث عن فضل به الضد صدقا
وليس لماضي عزمه من مضارع ... لعليائه الأمر انتهى وتعلقا
زهت جلق مذ رامها منزلاً له ... فزد من بروج البدر في العد جلقا
وأضحت دمشق مذ أناخ بسوحها ... كجنة خلد نشرها قد تعبقا
وكنا سمعنا من مآثر فضله ... فهمنا على حب السماع تعشقا
فكان عياناً فوق ما وصفوا لنا ... وشاهدت فرداً بالكمال تخلقا
وحاشاه أن أحصي بمدحي نعوته ... وهل يحص ودق في البرية أغدقا
وما الشعر من دأبي ولا أنا أهله ... وإن أك أحياناً به متعلقا
ولكن أياديه التي عم فضلها ... وحبي لآل المصطفى العروة الوثقى
دعاني إلى هذا القريض وإنني ... مقر بتقصير به أطلب العتقا
أمولاي محي الدين والسيد الذي ... على فضله الإجماع قام وأطبقا
هنيئاً هنيئاً بالقدوم الذي به ... لقد أقبل الإقبال واستدبر الشقا
ووافى الوفا يافا بكم وتشرفا ... وفاقت على الأمصار فخراً ورونقا
فبشراك يا بدر العلا بزيارة ... بها فتح تقريب لما كان مغلقا
ولا زلت في أوج السيادة راقياً ... ودام لك الإسعاد والعز والبقا
وهاك عروساً في مديحك قد حلت ... بحلي ثناكم جيدها قد تمنطقا
على خجل وافت تؤم رحابكم ... فمن عليها بالقبول تصدقا(1/523)
وصل وسلم يا إلهي تكرماً ... على المصطفى خير الخليقة مطلقا
وآل كرام ثم أصحاب هديه ... مدى الدهر ما غصن المسرة أورقا
وما حسن نجل الدجاني قد شدا ... وقال يهنى من كنجم السهى رقى
وأضحى بيمن بالقدوم مؤرخاً ... إلى المسجد الأقصى سرى يطلب التقى
ثم قدمها إليه فحظيت منه بالقبول، ونالت من الالتفات غاية المأمول، وكان حضرة الأمير يعظم المترجم ويظهر له الحب والوداد، لما كان منطوياً عليه من الأدب واللطف وحسن المذاكرة والمحاضرة وفصاحة اللسان وحسن الهيئة وجمال الخصال الممدوحة.
وفي منتصف شوال سنة ألف ومائتين وأربع وسبعين توجه مع أخيه المرحوم العلامة الشيخ حسين الدجاني مفتي يافا إلى الحجاز وقبل توجههما نظم أخوه قصيدة يطلب بها الإذن من حضرة النبي صلى الله عليه وسلم بالحج وأولها:
يا طائر البان خذ مني مراسلة ... لروضة قد حواها أشرف الرسل
وقد شطرها المترجم وذيلها ونص الذيل قوله:
يا كعبة الجود يا شمس الوجود ويا ... بدر الشهود على علياك متكلي
بالله خذ بيدي عطفاً ومن على ... عبد مشوق قليل الحول والحيل
فارحمه يا رحمة الدارين يا سندي ... وكن شفيعي يوم العرض من خجلي
أرجو الوصال فقد طال المدى ولقد ... قل اصطباري ووجدي غير منفصل
لناظم الأصل مفتي العصر جد وعلى ... أخيه وهو أبو الإقبال يا أملي
وله تشطير بيتي أخيه الموجودين في ترجمته بعد هذه الترجمة، وله أبيات كثيرة، وقصائد شهيرة، موجودة في ديوان شعره، المحتوي على(1/524)
نظمه وبعض من غرر نثره، وإذا أردت الإطالة فيما له من المناقب والآثار، والفضائل وجميل الأخبار، خرجت عن المطلوب من الاختصار، عليه رحمة العزيز الغفار، مات سنة ألف ومائتين ونيف وتسعين ودفن في مقبرة يافا وقبره ظاهر مشهور يزار ويتبرك بزيارته.
الشريف الحسن بن علي البدري العوضي
السيد الأفضل، والسند الأكمل، المقري بن المقري، والفهامة الذي بكل فن يدري، والبدر الذي أضاء في ليالي العرفان، والصدر الذي أوضح دقائق المشكلات بإتقان، فلله دره من فاضل أبرز درر اللطائف من كنوزها، وكامل كشف عن محيا الطرائف لثام رموزها، فأظهر الأنفس من نفيسها، وجنى ثمار حكمها من افنان غريسها، ولعمري إنه بذلك جدير وحقيق، كيف لا وهو الهمام الذي به كل مدح يليق. ربي في حجر والده المصون، وحفظ القرآن والمتون، وأتقن القراءات الأربع عشرة، وحضر أشياخ الوقت وأنجب، وقرأ الدروس ونظم الشعر وأطرب وأغرب، وشهد له الفضلاء، والسادة العلماء، وله ديوان مشهور بين الناس، قد امتدح فيه العلماء والأعيان الأكياس، وبينه وبين الصلاي وقاسم بن عطا الله مطارحات أدبية، ومذاكرات شعرية ونثرية، ومن مطارحات العالم العلامة، والجهبذ الفهامة، الشيخ محمد الأمير، ذي الفضل الشهير، للمترجم قوله:
حي الفقيه الشافعي وقل له ... ما ذلك الحكم الذي يستغرب
نجس عفواً عنه ولو خالطه ... نجس فإن العفو باق يصحب
وإذا طرا بدل النجاسة طاهر ... لا عفو يا أهل الذكاء تعجبوا
فأجابه المترجم بقوله:
حييت إذ حييتنا وسألتنا ... مستغرباً من حيث لا يستغرب(1/525)
العفو عن نجس عراه مثله ... من جنسه لا مطلقاً فاستوعبوا
والشيء ليس يصان عن أمثاله ... لكنه للأجنبي يجنب
وأراك قد أطلقت ما قد قيدوا ... وهو العجيب وفهم ذلك أعجب
ومن نظمه مؤرخاً لمولد السادات بني الوفا قوله:
قصدناكم فأتينا عليكم ... بأجمل مدحة وأجل صيغة
وشاهدنا الذي جددتموه ... فأرخنا موالدكم بليغه
وله في مدائح الأستاذ أبي الأنوار بن وفا قصائد طنانة وغير ذلك، وهو كثير مذكور في ديوانه. وله أيضاً تآليف وتقييدات وتحقيقات ورسائل في فنون شتى، ورسالة بليغة في قوله تعالى " أستكبرت أم كنت من العالين " وكان الباعث له على تأليفها مناقشة حصلت بينه وبين الشيخ أحمد يونس الخليفي في تفسير الآية بمجلس علي بك الدفتر دار، فظهر بها على الشيخ المذكور، وأجازه الأمير المذكور، بأن رتب له تدريساً بالمشهد الحسيني، ورتب له معلوماً بوقته، وقدر له كل يوم عشرة أنصاف فضة يستغلها من جانب الوقف في كل شهر، واستمر يقبضها حتى مات، في شعبان سنة أربع عشرة ومائتين وألف، ولم يخلف بعده مثله في معارفه وعوارفه.
السيد حسن حسني بن السيد محمد بن السيد إسماعيل ابن السيد محمد بن السيد درويش بن السيد عبد الله الأعرج الموصلي سكناً وموطناً وولادة المدني أصلاً ينتهي نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم القاضي العام بدمشق الشام
عالم الأوان ومصنفه، ومقرظ البيان ومشنفه، بتآليف كأنها(1/526)
الخرائد وتصانيف أبهى من القلائد، حلى بها من الزمان جيداً عاطلاً، وأرسل بها غمام الإحسان هاطلاً، ووضعها في فنون مختلفة وأنواع، وأقطعها ما شاء من إتقان وإبداع، واستوى من الأدب على أعلاه، وخاض لجوده حتى وصل إلى منتهاه، فلا غرو أنه قطب مدار العلوم، وفلك إشراق المنطوق والمفهوم، وإرشاد طريق الهدى، وميدان الحلم والندى، ولد سنة ألف ومائتين وثمان وأربعين ونشأ في حجر والده، وما زال من حين صباه مكباً على الطلب حتى أولاه من الفضل ما أولاه، دعاه منصب القضاء لهامهه تاجا، ورعاه لكل فضيلة سبيلاً ومنهاجا، وفي سنة ألف وثلاثمائة وأربع في محرم الحرام، زاد الشام فضلاً بتشريفه متقلداً بقلادة القضاء العام، فاعترف بفضله الأفاضل، وأقروا اتصافه بأنواع الفضائل.
وله من التآليف الحسنة، والتصانيف المستحسنة، شرح الرائية، في الحضرة الطائية، وشرح البرهان في المنطق، وله التفسير المسمى بفتح الرحمن بتفسير القرآن، كتب فيه مجلدين إلى سورة الأنعام، أحسن الله له البدء والختام، وله كتب أخر ورسائل، تدل على أنه من أجل ذوي الفضائل والفواضل، وحينما اطلعت على تفسيره، وأمعنت النظر والفكر في معاني تقريره، وجدته التفسير الوحيد، يحق له أن يكون من منظوم التفاسير بيت القصيد، وقد كتب عليه تقريظاً أئمة عظام، وسادات كرام، وكنت فهمت من تلويح مؤلفه، ومنمقه ومصنفه، أن أكون داخلاً في عدادهم وإن كنت أحقر إنسان محسوب من آحادهم، فامتثلت الأمر وكتبت، وعلى الله توكلت: بسم الله الرحمن الرحيم، حمداً لمن سرح عيون القلوب، في رياض رياحين الغيوب، وكشف عن محيا مخدرات معاني القرآن، حجاب الستر حتى برزت للشهود والعيان، فتجلت لها من مكنون الخيام عرائسها،(1/527)
وبرزت من مصون الخدر نفائسها، مطوقة الجيد بنظيم العقود، متحلية بلباس قديم الألفاظ الفارقة بين الشاهد والمشهود، وصلاة وسلاماً على المؤيد بمعجزات تتلى، على ممر الدهور لا تخلق ولا تبلى، فلم تصل إلى لمسها يد فكر عن التمسك بالحق حائدة، ولم يتطرق إليها سنان ألسنة لقبيح الطعن رائدة، بل حميت حديقتها بحصون القول المصون، " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " فتمنعت بجيوش صولة الإعجاز، عن رؤية جاهل لا يفرق بين الحقيقة والمجاز، وعلى آله الذين مهدوا منهاج البلاغة، وأصحابه الذين امتثلوا أوامره وصدقوا بلاغه، وعلى التابعين وأتباعهم الكرام، إلى قيام الساعة وحشر الأنام.
أما بعد فإن روض الكلام القديم لا تزال أفنانه تترنح بنسمات القبول، وثمرات أدواحه لا يعتري نضارتها مدى الدهر ذبول، وتلاوة آياته أشرف عبادة وأجل طاعة، وخدمته على كل حال لذوي العرفان أجل بضاعة، بيد أنه لا يتيسر لكل إنسان الدخول لحرم فهم آياته، ولا يرتقي معانيه لمعالي معانيه ومجالي مرآته، إلا بشرح يشرح القلب والخاطر، ويجلو غين الأغيار عن عيون البصائر، فلذلك شمر عن ساعد الجد والاجتهاد، وحسر ذيل العوائق عن الوصول إلى أوج المراد، حضرة المتحلي بحلية الفضائل، والمتخلي عما لا يعد من أكمل الشمائل، جمال العلوم والمعارف، المتفيء ظل ظليلها الوارف، من أشرقت بسنا علومه مطالع بروجه، واشتهر في الأقطار ارتقاؤه على مدارج عروجه، المولى الهمام، عمدة العلماء الأعلام، فخري زاده السيد حسن حسني أفندي قاضي الشام، بلغه الله في الدارين المراد والمرام، فكتب من التفسير إلى سورة الأنعام، وذكر ما يشهد له بأنه قد أولى الناس منه وإنعام، ولعمري قد رمى قلوب حساده بشرر كالقصر، ونشر(1/528)
أعلام فضله على هام علاه فهي تخفق بالنصر، كيف لا وقد كان استمداده من فيض فتح الرحمن، واستيفاؤه من بحر الوارد والإلهام والتنوير والوجدان، فلذا كان هذا التفسير في التحقيق بيت القصيد من ديوان التفاسير، يحسن صرف نقد العمر في اقتناء ما أودع فيه من أجل التحابير، ويحق له أن يذكر، ويثني عليه ويشكر، ولسان حاله يخاطب موافيه، وينادي علناً بملء فيه:
وأولاك الجميل بغير مطل ... وعن وجه الندى رفع الحجابا
وبل ثراك بالجدوى فحق ... عليك تصير التقريظ دابا
فلله تفسي جمع ما هو لطرف الدهر حور، ولجيد العصر عقد يزدرى بفرائد الدرر:
فتح الرحمن له تحنو ... مهج العلماء مدى الزمن
تفسير راق ورق وفا ... ق وجاء على أعلى سنن
إن كان فريداً لا عجب ... لا ينكر حسن عن حسن
لا زال مؤلفه يسدي ... من يممه أوفى المنن
أدام الله إشراق فجر مجده، وإبراق لوامع طوالع سعده، وأدام به نفع العباد، وحسم بقواطع حججه هام الأضداد والحساد، ما تلا الفاتحة إمام، وختم بالثناء والصلاة والسلام، وحرر خامس ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة وأربع، بقلم الفقير أحقر الورى عبد الرزاق بن حسن البيطار، عفا عنهما الملك الغفار اه. ثم إن المترجم المذكور له نظم بديع، ونثر رائق رفيع، وقد أسمعني حفظه الله جملة من قوله، منه:
وقائلة هل علاك الشيب من كبر ... أم من هموم توالت ما لها طب
أجبتها من بني الأوغاد ما حملت ... أكبادنا من كلام أسرع الشيب
ومنها في معرض التبريك لوصفي أفندي باشا كاتب شورى الدولة:
ومنحك نيشان المجيدي ثانيا ... دليل على مجد حوى الصدر أرفع(1/529)
فصدرك وصفي بالكمال مرصع ... علي لنيشان الفضائل موضع
ومنه في ذم وان، وقد مكث بها في منصب القضا:
سائلي عن بلد وليتها ... كيف كانت نسبة بين المضر
إن ترم شرحاً لوانٍ موجزاً ... دار جهل وفسوق وكفر
ومن جملة ما أسمعني حفظه الله من نظمه، وكان قد قدمه للحضرة السلطانية، قوله:
قلوص تخب البيد من أرض موصل ... إلى موصل الآمال يبغي هجوعها
وتسكن إن وافت بروجاً ترفعت ... بأبصار قصر شاد سمكاً يروعها
فيحلو بها مر الفيافي لراكب ... وثيق بمهطال يروي ربوعها
وتذهله النعماء عن حب موطن ... تصورها يهدي إليه بديعها
بقسطنطينة الدنيا وسرة أرضها ... يضيء له قصد السرى ولموعها
للثم أياد للخليفة أصبحت ... أياد على العافين يسدى صنيعها
وأعتاب سلطان سرادق ملكه ... يباهي بها سمك السماء ضلوعها
أمير لكل المسلمين ومالك ... رقاب الملا عقداً حباه رفيعها
حميد المزايا مجده بلغ السهى ... وشمس علاه أبهرتنا سطوعها
يبصر غاويها المحجة هديه ... ويشكر نعماه التقي مطيعها
بإشفاقه الأرحام توصل في الورى ... بأيد أياديها يروق مريعها
وننيران ظلم كاد يسطو لهيبها ... بعدل أراه الناس كان هجوعها
جنى الدهر أنواع الرزايا فأظلمت ... عن الملة البيضاء وبانت صدوعها
فقام لحل المعضلات بهمة ... يضاهي الجبال الراسيات منيعها
فدام له شكر الأنام لراحة ... براحته العليا أعيد زموعها(1/530)
فإنك ظل الله في الناس قائم ... على شرعة المختار تحيا فروعها
وأجنادك الفرسان في حومة الوغى ... أسود كأمثال الجبال جموعها
وأجدادك الغر الكرام بجدهم ... أضاءت بها البلدان حقاً شموعها
وقد أكثروا فتح البلاد وأعمروا ... فأعلامهم في الحرب فاقت لموعها
لهم خدمة للدين من عهد فاتح ... وقبلاً وبعداً غير خاف صنيعها
فلا برح السلطان فاتح وقته ... حميداً على رغم الأعادي جميعها
ولا زال للعلم الشريف مرغباً ... لأهليه بالإحسان يدنو شسيعها
ولا برح الدين المبين بوقته ... كشمس وفي برج القلوب طلوعها
ولا انفكت الرايات تخفق نصرة ... كخفق قلوب الكافرين تريعها
أتيتك ظل الله شارح نسخة ... لبرهان ميزان فهان منيعها
هدية محتاج لأعتاب حضرة ... بإخلاص نفس اطمأنت ضلوعها
أرجي به فيضاً تعوده الورى ... لأحظى بألطاف نداكم يذيعها
وغب تشريفه إلى دمشق، قدم إلى حضرته صالح أفندي المنير هذه الأبيات:
بشرى دمشق بعدل ... يسمو بمصدر حق
قاضي القضاة الشريف ... الحسن خلق وخلق
علامة العصر حاوي ... أزكى صلاح ورفق
مذ جاء أنشدت بيتاً ... مؤرخاً قول صدق
الشرع نادى هناء ... حسني بدا بدمشق
وقلت مرونقاً شعري بمدحه، ومنورقاً نظامي بمنثور أوراق دوحه:
مال بي للوجد قلبي حين مال ... أهيف قد شب في حجر الدلال
ونسيم الفجر يثني عطفه ... لجنوب ويمين وشمال
مفرد في الحسن إلا أنه ... من سنا صدغيه قد ضاء الهلال
حينما يبسم خلت المبسما ... قفل مرجان على كنز اللآل(1/531)
لو تراءى في الدياجي سافراً ... عن محيا قلت ذا بدر الكمال
صحت مذ أخفاه عني شعره ... كيف يخفى البدر في داجي الليال
ما صبا يوماً لصب مدنف ... قاده الوجد لسقم واعتدال
كم ليال بت أبكي عندما ... عندما أيقنت منه الاعتزال
كلما أشكو له فعل الجفا ... مستغيثاً بالوفا قال محال
وانثنى عني وولى معرضاً ... يتهادى بين تيه ودلال
ظن بالهجران سلواني له ... لا ومن سواه فرداً في الجمال
عاذلي دع عنك عذلي واسترح ... ليس يلويني عن الحب مقال
قد نأى قلبي ولبي في الهوى ... واصطباري ضل والهجران طال
فأتني حتى متى أشكو النوى ... عوض الهجران عطفاً بالوصال
ليت شعري ما كفاني في الهوى ... أن جسمي صار من غير خيال
قد رماه الهجر في ضنك الضنا ... واعتراه السقم حتى قيل زال
هل غرامي لملامي موجب ... واحتراقي فيك باقي لن يزال
من يلمني في هوى ريم رمى ... مهجتي ويلاه في أسوأ حال
هو عندي عادل مهما بدا ... منه من هجر وصد وملال
فاق كل الناس في الحسن كما ... فاق فضلاً حسنٌ قطب الكمال
شبل ممدوح الورى محمد ... من رقى أوج التقى في كل حال
يا له شبل على متن العلا ... قد علا خلقاً وخلقاً وجمال
بحر علم ما له من ساحل ... موجه يقذف دراً ولآل
طاهر من كل عيب سالم ... قد روى حلية أصحاب وآل
عنه أخبار المعاني حدثت ... أنه فرد الورى كنز النوال(1/532)
عادل عن نهج جور عادل ... صادق اللهجة محمود الخصال
حاكم بالحق لا يلويه عن ... صدعه بالحق مال أو مقال
كيف لا وهو ابن من ساد الملا ... منقذ الغاوين من غي الضلال
دام في عز إلى يوم اللقا ... كاسياً ثوب فخار وجمال
مات المترجم رحمه الله في الآستانة وكان مفتش الأوقات، في حدود الألف وثلاثمائة وستة عشر رحمه الله تعالى.
حسين أفندي بن علي أفندي المرادي مفتي دمشق الشام
عالم عامل، وإمام فاضل، ولد في دمشق سنة ألف ومائتين، وغب أن قرأ القرآن، وجوده على ذوي العرفان، أخذ عن عمه خليل أفندي، وعن السيد شاكر مقدم سعد، وعن غيرهم من علماء الشام، ذوي المناقب والشمائل والفضل التام، وقد تولى منصب الإفتاء عن استحقاق، ولم يزل إلى أن دعاه داعي الفراق إلى الرفاق، وكانت وفاته سنة ألف ومائتين وسبع وستين، ودفن في مدفن بني المرادي في دارهم في سوق صاروجا رحمه الله تعالى.
الشيخ حسين المعروف بابن الكاشف الدمياطي الرشيدي
العمدة النبيه، والفاضل الفقيه، تعلق بالعلم وانخلع من الأمرية والجندية، وحضر أشياخ زمانه، وعلماء وقته وأوانه، ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي،(1/533)
وانتقل من مذهب الحنفية إلى الشافعية لملازمته لهم في المعقول والمنقول، وتلقى عن السيد مرتضى أسانيد الحديث والمسلسلات، وحفظ القرآن في بداية أمره برشيد، وجوده على السيد صديق، وحفظ شيئاً من المتون قبل مجيئه إلى مصر، وأكب على الاشتغال في الأزهر، وتزيا بزي الفقهاء بلبس العمامة والفرجية، وتصدر ودرس في الفقه والمعقول وغيرهما.
ولما وصل محمد باشا إلى ولاية مصر اجتمع عليه عند قلعة أبي قير فجعله إماماً له يصلي خلفه الأوقات وحضر معه إلى مصر، ولم يزل مواظباً على وظيفته، وانتفع بنسبته إليه واقتنى حصصاً وإقطاعات، وتقلد قضايا مناصب البلاد العظيمة، ويأخذ ممن يتولى عليهم الجعالات والهدايا، وأخذ أيضاً نظر وقف الأزبك وغيره، ولم يزل تحت نظره بعد انفصال محمد باشا خسرو، واستمر المذكور على القراءة والإقراء، حتى توفي أواخر سنة تسع وعشرين ومائتين وألف.
الشيخ حسين بن حسن الكتاني بن علي المنصوري الحنفي الأزهري
الفاضل المفضل، والكامل المبجل، عمدة العلماء الأعلام، ونخبة الأساتذة الكرام، تفقه على خاله الشيخ مصطفى بن سليمان المنصوري والشيخ محمد الدلجي والشيخ أحمد الفارسي والشيخ عمر الديركي والشيخ محمد المصيلحي، وأقرأ في فقه المذهب دروساً في محل جده لأمه في الأزهر. ولما كانت حادثة السيد عمر مكرم النقيب، نفوه من مصر إلى دمياط وكتبوا فيه عرضاً للدولة، وامتنع السيد أحمد الطحطاوي من الشهادة عليه في أمر ادعوا عليه به وهو يتبرأ منه وينكره، كما تعصبوا عليه وعزلوه من مشيخة الحنفية وقلدوها المترجم، فلم يزل يخدمها حتى مرض. وتوفي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من المحرم سنة ثلاثين ومائتين وألف، وصلي عليه في الأزهر في جمعية عظيمة ودفن في تربة المجاورين رحمة الله علينا وعليه آمين.(1/534)
الشيخ حسين المعروف بالرسامة الحنفي الدمشقي
العالم الإمام، والحبر الهمام، أحد العلماء الأعلام، ولد بدمشق ونشأ بها على العلم والعمل، مع التقوى والعبادة والتواضع والخشوع والوجل، وكان مستقيم الأوطار، جميل الأطوار، عاملاً بالسنة، ذا نفس مطمئنة، مات بدمشق سنة أربعين ومائتين وألف ودفن بباب الصغير. وكان إمام أهل الفرائض.
الشيخ حسين بن حسين بن محمد الدمشقي الحنفي العطار الشهير بالمدرس
ولد في دمشق الشام في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف، وكان عالماً أستاذاً، وفاضلاً ملاذاً، تتقاطر مياه التقوى من وجهه ومحياه، ويشرق نور المصباح من مشكاة هداه، قد تردى بجلباب الذكاء والفهوم، وفتح له أوسع باب من حقائق العلوم، فهو العالم العامل الناجح، خاتمة السلف الصالح، الناهج منهج العلماء العاملين، والسالك في قويم طريق السادة المتقدمين، الورع الزاهد، والناسك العابد، والنحوي الفقيه، والمحدث اللغوي والمفسر النبيه، من يقتدى بآثاره، ويهتدى بأنواره، أخذ عن علامة الأقطار الشيخ عبد الرحمن الكزبري الكبير، وعن الشيخ محمد بن سليمان المدني، والعلامة إبراهيم الحلبي، والعلامة الجينيني، والعلامة علي بن محمد بن(1/535)
علي بن سليم الشافعي الشهير بالسليمي، وأجازوه جميعاً هم وغيرهم بما تجوز لهم روايته عن مشايخهم فأفاد واستفاد، وأخذ عنه كثير من العلماء السادة الأمجاد، وأجازهم كما أجازه من قبله، ورووا عنه الحديث وغيره. وعرفوا مقامه وفضله، وشهرته بكل منقبة كافية، وبكل كمال وافية، فللناس به فخر عظيم كبير، ولا ينبئك مثل خبير. مات رضي الله عنه غرة شعبان سنة عشرين ومائتين وألف، ودفن في جبانة باب الصغير رحمه الله تعالى.
حسين بن عمر بن إبراهيم بن حسين بن زين العابدين بن شمس الدين محمد بن كمال الدين بن شمس الدين بن كمال الدين محمد بن بدر الدين محمد بن تاج الدين بن أحمد الشهاب بن شرف الملك محمد بن علي بن محمد العجلاني بن الشريف علي بن الشريف محمد بن الشريف جعفر بن حسن الشجاع بن الشريف العباس بن الشريف حسن بن الشريف العباس ابن الشريف حسن بن الشريف حسين أبي الجن العجلاني المدفون بمحكمة الباب بدمشق الشام، بن الشريف علي بن الشريف محمد بن الشريف علي ابن إسماعيل الأعرج بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين ابن سيد الشهداء الحسين بن السيدة البتول فاطمة الزهراء ابنة سيد العالمين وصفوة الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
ولد هذا المترجم في دمشق ونشأ في الطاعة من صغره، ولم يزل يزداد منها إلى نهاية عمره، وطلب العلم على جملة من الأفاضل، إلى أن كان من ذوي الفضائل، وهذه السلسلة المذكورة هنا الدالة على شرفهم هي نظير الموجودة عندهم، غير أن بني عجلان عموماً ينكرون شرفهم وأنهم ليسوا من بني عجلان، وسمعت ذلك منهم في عدة مجالس، ويقولون إن(1/536)
هؤلاء الطائفة من سلالة الوزير منجك باشا، إلا أنهم تزوجوا من بني عجلان فحازوا على هذه النسبة، ويقولون بأن شرفهم من جهة النساء، وهذا لا ينكرونه، ونحن نقول بأنهم على كل حال لهم شرف عظيم، وفضل جسيم، حيث لهم نسبة إلى سيد الأمم، صلى الله عليه وسلم. توفي المترجم سنة.... ومائتين وألف ودفن في مدفنهم المشهور.
الشيخ حسين بن الشيخ سليم بن سلامة بن سليمان بن عوض بن داود بن سليمان بن السيد عبد الله بن السيد أحمد الدجاني بن السيد علاء الدين الشيخ علي بن السيد محمد بن السيد يوسف بن السيد حسن ابن السيد ياسين بن السيد بدر الدين بن السيد محمد بن السيد حسن ابن السيد ياسين بن السيد بدر الدين بن السيد محمد بن السيد يوسف ابن السيد بدر بن السيد يعقوب بن السيد مطر بن السيد غانم بن السيد محمد بن السيد زيد بن السيد علي بن السيد حسن بن السيد عوض الأكبر بن السيد زيد بن السيد علي بن السيد الحسن بن السيد عوض الأكبر بن السيد زيد بن السيد الحسين أمير المؤمنين ابن السيد أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة الزهراء رضي الله عنهم أجمعين.
وهو العالم العلامة، والحبر البحر الفهامة، تاج الأفاضل، ومنهاج ذوي الفضائل والفواضل، اشتهر فضله اشتهار البدر، وملأ ذكره البر والبحر.
ولد في مدينة يافا مدينة من مدن الشام على رأس الاثنين بعد الألف والمائتين، ونشأ في حجر والده الشيخ سليم الدجاني الشافعي وقرأ(1/537)
عليه النحو والصرف وعدة كتب من الفنون الأدبية، والعلوم الشرعية المحمدية. وأخذ عنه معظم الكتب المتداولة من فقه السادة الشافعية، حتى ترعرع وبرع، وشملته بركة والده وبه انتفع، ثم رحل بأمر والده إلى الجامع الأزهر، والمقام الباهر الأنور، سنة سبع وعشرين فأدرك الطبقة العالية من المشايخ، ممن لهم في علو الإسناد القدم الراسخ، كالأستاذ الفضالي، والعلامة الأمير، وشبله الأوحد، والشيخ حسن العطار، والشيخ محمد الدمنهوري، ذوي التدقيق والتحرير، والفاضل الكامل الشيخ أحمد الصاوي، والعارف بالله الشيخ عبد الله الشرقاوي، وحضر بعض كتب السادة الحنفية، على السيد أحمد الطحطاوي خاتمة المحققين في البلاد المصرية، وكان أكثر انتفاعه بالعالم الفاضل، والإمام الكامل، السابق في ميدان الفضل إذا جوري، الشيخ إبراهيم الشافعي الباجوري، وهو الحامل له على غالب مؤلفاته النافعة، التي هي بين الناس مستعملة وشائعة، فكان يوافقه لشدة عطفه من بين تلامذته عليه، وميله القلبي إليه، وغب أن حضر عليه شرح المنهج في فقه السادة الشافعية، حصلت له إشارة باطنية، بالحضور في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، على ضريحه سحائب الرحمة والرضوان، فاستشار بعض أشياخه الكرام فأذنوا له كوالده بقصد الإفتاء ونفع الأنام، وبقي إلى موته يتعبد على مذهب إمامه النفيس، عالم قريش محمد بن إدريس، ومن أشياخه في الفقه النعماني شيخ الحنفية، في الديار المصرية، ذو التحقيق الوافي، الشيخ منصور اليافي، وممن لازمهم وانتفع عليهم بالحضور، شيخنا القدوة المشهور، ذو السر الوهبي السيد محمد بن حسين الكتبي، مفتي السادة الحنفية ببيت الله الحرام، وبه كان انتقاله لدار السلام، وقد صنف بعض مؤلفات وهو في الجامع الأزهر، وبالجملة فعلو همته لا ينكر، وفضله أشهر من أن يذكر، ثم بعد أن أجازه شيوخه الأمجاد، بالإجازات العلية الإسناد، قدم لوطنه يافا المحروسة، وسر أبوه(1/538)
والأهالي برؤيته المأنوسة، وذلك في حدود عام خمسة وثلاثين، ولازم والده إلى أن توفي عام تسعة وثلاثين، وقد ناهز والده من العمر ثمانين فورث حال أبيه الغني فضله عن الإطراء والتنويه، ولا شك أن الولد سر أبيه، وواظب بعد والده على الإقراء والتدريس، وقرت به عين كل فاضل وجليس، فانتفع به كثير من الطلاب، وفاقوا ببركة أنفاسه على الأقران والأتراب، وولي وظيفة الفتوى بيافة المحمية، على مذهب السادة الحنفية، بمنشور من مقام المشيخة الكبرى في الدولة العثمانية، وذلك في حياة والده سنة ست وثلاثين، واستمر بخدمة الفتيا ما ينوف عن أربعين، متحلياً بالورع والتقوى، متحرياً الصواب وما عليه الفتوى، وكانت الأسئلة ترد إليه من أقصى البلاد، لما اشتهر عنه من العفة وسلوك منهج السداد، وكانت فتواه نافذة في الآفاق، وهو المرجع عند الاختلاف والشقاق، وكان منهلاً لكل قاصد ورائم، عاملاً بعلمه لا يخشى في الله لومة لائم، محباً للعلماء والأشراف، ولا يحب أن يأكل مرة إلا مع الأضياف، وكثيراً ما كان يترنم بما قيل، من بديع الأقاويل، مما يدل على حالته، وانفراده في جوده وسماحته.
لا مرحباً بالليل إن لم يأتني ... في طيه ضيف ملمٌ نازل
والصبح إن وافى فلا أهلاً به ... إن كان عندي فيه ضيف راحل
والحاصل أنه كان مطبوعاً على المعروف والخير، مجبولاً على المساعدة ودفع الضير، حسن الظن والاعتقاد، بكل حاضر وباد، كثير النصيحة والفوائد، جديراً بالعطايا والعوائد، عظيم الهيبة، كري الشيبة، مجلسه محفوظ من الهزل المخل والفحش والهذيان، لا تخلو أوقاته من الكتابة والإفادة والمراجعة والتحرير في كل آن، وكان متعلقاً بتعمير الجوامع والمساجد، وكان زاهداً في الدنيا معرضاً عما فيها من الحطام، قانعاً بما تيسر من اللباس والطعام، كثير التحمل، صادق التوكل، عريض الجاه بين الورى،(1/539)
مقبول الكلمة عند الحكام والأمرا، وطالما كان ينشد قول من قال، وأحسن في المقال:
ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا ... هم السلاطين والسادات والأمرا
وقد جمع الله له بين العلوم الباطنة والظاهرة، حتى كان في علم الشريعة والحقيقة آية باهرة، مقصوداً للزيارة والرواية عنه من البلاد، موروداً للبركة والدعاء والإمداد، وقد كان علامة المذهبين، مشتهر الفضيلة في الخافقين، أخذ الطريقة الخلوتية البكرية من العارف بالله ذي الإرشاد والتمكين، نجل المحقق الصوفي السيد مصطفى البكري الصديقي وهو السيد كمال الدين. وأخذ هذه الطريقة بعينها عن الفاضل المشهور في كل ناد السيد الشيخ أحمد الصاوي ابي الإرشاد، وتكمل على يد الأستاذ العلامة السيد الشيخ فتح الله المالكي خليفة الأستاذ الصاوي، حينما قدم ليافا عام مائتين وأربعين لزيارة البيت المقدس الذي هو لكل خير حاوي، فأذن له بالخلافة والإرشاد، كما أذن له شيخه أبو الإرشاد، وأخذ عنه الطريقة الدسوقية الإبراهيمية، وحرر له بخطه إجازة سنية، وأخذ الطريقة القادرية عن الشيخ العماوي الفالوجي الهمام، والأحمدية البدوية عن الشيخ صالح العلا ري السادة الكرام، والرفاعية عن صاحب المشرب الأنسي، الشيخ حسن الغزالي الرفاعي القدسي، والشاذلية عن والده السيد سليم الدجاني، ونال من الله الآمال والأماني، وكان له أطوار وأحوال، مع ثبات قدمه على نهج ذوي الكمال، فلم يمنعه ذلك عن دروسه وقراءته، ولا عن طاعته وتقواه وعبادته.
وكان في كل سنة يتوجه إلى القدس والخليل بقصد الزيارة، وله عدة قصائد في مدح السيد الخليل جعلها لنفسه أربح تجارة، وله قصائد عدة يمدح بها غيره من السادة الأخيار، قد جمعها في ديوانه المخصوص بالأشعار، وله بيتان كتبهما على باب سيدنا داود أبي سليمان، عليه وعلى إخوانه الصلاة والسلام والرضوان، وهما:(1/540)
إن باب الخليفة كعبة فضل ... لاح منه للعالمين ضياء
في الرحاب الشريف نيل العطايا ... من نحاه له المنى والعطاء
وكان يصحبه في الزيارة جمع من المريدين والأخيار، من أكابر أهل العلم والطريق وذوي الصناعة والتجار، كالأستاذ الفاضل الشيخ محمد الجسر الطرابلسي أبي الأحوال، والشيخ العارف الشيخ محمود الرافعي صاحب الكمال، والأستاذ الشيخ صالح اللاذقي الطويل، والأستاذ الكامل الشيخ محمد القاوقجي الشاذلي ابن خليل، وكثير من ذوي المقامات العالية، والمناقب الرفيعة السامية، وكلهم يتأدبون بين يديه، ويعولون في مهمات أمورهم عليه، وأما كشوفاته وكراماته، وأخباره الغيبية وصلاته، ومقاماته المرتقبة إلى ذروة الكمال، فلو أردنا بسطها لخرجنا عن الاختصار المطلوب إلى الإطالة في المقال، وله من بديع التآليف، وجميل التصانيف، عدة وافرة، نفعنا الله به وبعلومه في الدنيا والآخرة، وكان كثير التعلق بالذات المحمدية، وله عدة اشعار يمدح بها ذاته العلية. منها
قد عيل صبري وأيام الصبا ذهبت ... واليد صفر ودمع العين كالديم
ولي حنين سما في كل آونة ... لخير من جاء بالتبيان والحكم
وقد خشيت من الأيام تمنعني ... عن الوصول لباهي النور والشيم
يا رب سهل طريقي في زيارته ... من قبل أن تعتريني شدة الهرم
وله رحمه الله
يا نسمة هبت بطيب من قبا ... أنعشت حباً في الحجاز لقد صبا
سيري لطيبة خبري عن صبها ... ما زال يصبو للمعاهد والربا
وإذا دخلت لروضة قد طهرت ... قولي حسين لإذنكم مترقبا
قد شاب رأساً يا كرام ترحموا ... فعساه يقضي من حماكم مأربا(1/541)
وله أيضاً
إليك رسول الله وجهت وجهتي ... وأرسيت في تيار جودك مركبي
فمن لي رسول الله منك بنظرة ... أزاحم فيها الأصفياء بمنكبي
وله أيضاً
يا أهل طيبة هل لنا من زورة ... ومتى بقربي يا كرام تجودوا
قد طال هذا الانتظار ولمتي ... بيضاً وفي قلبي يهب وقود
وله أيضاً
ألا ليت شعري والأماني كثيرة ... أأبلغ ما أرجوه من سادة الحمى
وهل أنظرن أرض الحجاز وطيبه ... ومن زمزم يروى الفؤاد من الظما
وله هذان البيتان مع تشطيرهما لأخيه حسن أفندي:
أيا راكباً أما عرضت فبلغن ... ولوعي لخير الخلق في العرب والعجم
فذاك هو المعني وإن قلت نبئن ... شقيقة بدر التم ما بي من النحب
وأكثر حنيني في حماها لعلها ... تمن بإنقاذ المعنى من الكرب
فيا شرفي أن قيل سعداك قد غدت ... تجود بإبدال التباعد بالقرب
وله
رسول الله لاحظني فإني ... ضعفت جوانحاً وكبرت سنا
فلي أمل علا فيكم قوي ... ومن صغري فقد أحسنت ظنا
فقربني رسول الله فضلاً ... وعجل لا تطيل البعد عنا
فبالنظر الشريف العبد يرقى ... إلى مرجاه من سعدى ولبنى(1/542)
فلاحني فعيل الصبر مني ... عسى فيكم يقر العبد عينا
وله هذه القصيدة يمدح بها المصطفى صلى الله عليه وسلم:
أيا رحمة الدارين والسيد الذي ... لأمته حصن منيع ومعقل
فأنت حبيب الله أشرف كائن ... وأشرف أهل الكون عقلاً وأكمل
فلا خير إلا من جنابك يرتجي ... ولا فضل إلا عن علاك يسلسل
وأنت ملاذ العالمين بأسرهم ... رؤوف رحيم واصل متوكل
عليك مدار الأمر خير من التجى ... إليه وأسنى من به يتوسل
أغثني وأوصل من سعاد حبالنا ... وعجل بتقربي عليك المعول
ولاحظني في كل الشؤون فإنني ... بصنع جميل منكم متأمل
فعنكم أموري يا صفيي أنطتها ... فإنك أنت المنعم المتفضل
عليك صلاة الله ثم سلامه ... مدى الدهر ما قلب بذكر يعلل
وما ابن الدجاني المفتي زاد تشوقاً ... لدار بها خير النبيين منزل
وقال مشطراً بيتي سيدنا حسان في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم:
وأحسن منك لم تر قط عين ... ومجدك لا يواريه علاء(1/543)
ولا سمعت بمثلك أذن حي ... وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كل عيب ... وشيمتك الفتوة والسخاء
وصورك المصور محض خير ... كأنك قد خلقت كما تشاء
وكم له من قصائد وأبيات، أكثرها في الحكم والتوسلات، قد أفردت بديوان كبير، وهو في قطره معروف وشهير، ثم إنه في منتصف شوال سنة أربع وسبعين ومائتين وألف قاده الشوق والغرام، لحج بيت الله الحرام، فرأى المصطفى صلى الله عليه وسلم في المنام، وشكا إليه الفاقة فتعهد له بتيسير المرام، فعند ذلك شد إزار السفر، وتوجه معتمداً على بارىء البشر، وسار معه جملة من الأفاضل، وذوي الفضائل والفواضل، كأخيه السيد حسن الفاضل الهمام، وابن عمه السيد عبد القادر أبي رباح كعبة السادة الكرام، والسيد عبد اللطيف الرفاعي والسيد أحمد أبي الأنوار، وغيرهم من القادة الأخيار، وبعد قضاء الحج ناداه مولاه، واختاره لجواره واصطفاه، وكانت وفاته بمكة المكرمة في يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي الحجة الحرام سنة ألف ومائتين وأربع وسبعين، ودفن في المعلا ما بين آمنة الرضا وخديجة أم المؤمنين، بجوار العالم الدمشقي الشيخ عبد الرحمن الكزبري قدوة المحدثين، وكان مرضه ثلاثة أيام، عليه رحمة الملك السلام.
حسين أفندي بن أحمد الشهير والده بإمام حسن باشا الصدر الأعظم القاضي بدمشق
ولد بدار السلطنة السنية، وجد واجتهد في طلب العلوم الشرعية والأدبية، ونفح نشره، وعلا صيته وذكره، وكان متضلعاً في العلوم العقلية، مستحضراً للعلوم النقلية، كثير العبادة متواضعاً مهاباً متعففاً عن أموال الناس. قدم دمشق سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف في أول شعبان بوظيفة القضاء فتعاطى الأحكام، على أحسن ما يرام، وامتزج مع العلماء امتزاج(1/544)
الراح بالماء، ووجه عليه قضاء مكة المكرمة، وذلك أيام سلطنة الإمام الأعظم السلطان محمود، ولم يزل مثابراً على طاعته، مواظباً على مطالعته وعبادته، واقفاً على قدم التقوى، في السر والنجوى، إلى أن دعته المنية، إلى الدار الأخروية. فمات ثالث جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير قرب مقام الصحابي الجليل سيدنا بلال الحبشي رضي الله تعالى عنه.
الشيخ حسين الدمشقي المعروف بفشافش المجذوب المستغرق صاحب الكرامات
كان له كرامات كثيرة، وأخبار صادقة شهيرة، وكثيراً ما يتكلم بكلام لا يفهم الناس معناه في الوقت، وبعد مدة يقع كما أخبر فيفهمون حينئذ معنى كلامه، وكان يقف لدى باب البلطجية في دمشق، ويقول ضربنا الخبر من هنا فوصل إلى الآستانة، وضربناه من هنا فوصل إلى مصر، ويعدد محلات كثيرة، والناس لا يفهمون هذا المقال، ولا يخطر لهم معناه على بال، وبعد مدة جعلوا المحل الذي كان يقف عنده ويشير إليه محلاً للتلغراف فكان كما أخبر، وليست هذه أول كراماته. مات رحمه الله في دمشق الشام سنة ثمانين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير.
الشيخ حسين الدمشقي الحنفي الشهير بالأطرش أمين الفتوى بدمشق الشام
العلامة الفقيه، والفهامة المحقق النبيه، إمام أهل الفروع والأصول، الجامع بين طرفي المعقول والمنقول، الجهبذ الكامل، والهمام الفاضل، فريد عصره، ووحيد دهره، ولي أمانة فتوى دمشق الشام، أيام الحبر البحر(1/545)
العلامة الإمام، حسين أفندي المرادي ولا زال في أمانة الفتوى حتى توفي سنة ومائتين وألف ودفن بباب الصغير.
الحسين بن النور علي بن عبد الشكور الحنفي الطائفي
الإمام الذي غذي بلبان الفضل وليداً، وعد لبيد إذا قيس بفصاحته بليدا، من له في المعالي أرومة، وفي مغارس الفضل جرثومة، ولد بالطائف كما ذكره الإمام الجبرتي، وبها نشأ وتكمل في الفنون العرفانية، وتدرج في المواهب الإحسانية، وأحبه السيد عبد الله ميرغني وتعلق بأذياله، وشرب من صفو زلاله، فتاه وهام، وقطع ربقة الأوهام، وأخذ بالحرمين من عدة علماء كرام، وشارك في اللوم، ونافس في المنطوق والمفهوم، إلا أنه غلب عليه التصوف، وعرف منه ما فيه الكمال والتصرف، وكان بينه وبين الشيخ العيدروس مودة أكيدة، ومحبة عتيدة، ومحاورات ومذاكرات وملاطفات ومصافاة، وقد ورد مصر في سنة أربع وسبعين ومائة وألف وسكن ببيت الشيخ محسن على الخليج، وكان يأتيه السيد العيدروس والسيد مرتضى وغيرهم، فأعاد روض الأنس نضيرا، وماء المصافاة نميرا ودخل الشام وحلب، وبها أخذ عن جماعة من الأكابر، منهم السيد إسماعيل المواهبي فقد عده من شيوخه وأثنى عليه ودخل بلاد الروم، وحظي بما يروم، وعاد إلى الحرمين وقوض عن الأسفار الخيام، ثم قطن بالمدينة(1/546)
المنورة، وكتب إليه الشيخ السيد العيدروس وهو بالطائف يستدعيه لبستان يسمى الشريعة فقال:
أحسين كأس الأنس دائر ... ولنا الصفا واف ووافر
راقت لنا خمر الصفا ... فزماننا زاه وزاهر
أحسين روح مهجتي ... من راح قربك لي وبادر
أحسين سحباً في النوى ... عنكم لنظم الأنس ناثر
أحسين عين الما بكت ... شوقاً لك يا ذا المفاخر
هذي الأزاهر مزقت ... أكمامها فارع الأزاهر
هذي الغصون تضاربت ... من بعدكم فالروض خاضر
هذي الشريعة أنسها الس ... اري لكم بالقرب آمر
فاقرب ولا تشطح ببعد ... بواطن فالشرع ظاهر
هيا فلي شوق غدا ... مثلاً من الأمثال سائر
فأعاد المترجم الجواب، وقال:
ما أنس رنات المزاهر ... والروض بالأفراح زاهر
وسنى عقود علقت ... في جيد غيد والجآذر
والدر في، في من أحب ... منظماً فاق الجواهر
والوصل بعد القطع من ... سامى الربى سامى المفاخر
كلا ولا عطر العرو ... س كذا المحاظي في المجاظر
أشهى وأبهى من سنا ... نظم لطي الأنس ناشر
ألفاظه تحكي الشمو ... س ونورها باه وباهر
فيه المفصل مجمل ... يبدو لأرباب البصائر
أغنت عن التوضيح والتسهي ... ل هاتيك الأشاير
وكست براعته العبا ... رة بهجة والأمر ظاهر(1/547)
في طرسه طرر سمت ... حسناً على طرز الحرائر
تحكي العيون عيونه ... سيناته تحكي الضفائر
ألفاته تحكي القدو ... د رشاقة ولها تناظر
إلى أن قال:
آيات فخر بينا ... ت أولا وكذاك آخر
ويؤم أربا النها ... ية والنهى من كل كابر
يتلونه جملاً فيتلو ... من مفصله الأوامر
أعني الوجيه بن النبي ... هـ ابن النبيه بلا مناكر
المصطفى بن المصطفى بن ... المصطفى حامي العشائر
لا غرو في حوز له ... فخراً بحسن السمت فاخر
إذ جده شمس الشمو ... س العيدروس أبو المظاهر
ما إن له من ساحل ... وبذاك قد عقدت خناصر
أوصافها عنها البديع ... وإن يكن سحبان قاصر
وللسيد العيدروس قصيدة بائية أرسلها له وهي بليغة مطولة، وغير ذلك من مطارحات كثيرة، وللمترجم مؤلفات حسان، وكلها على ذوق أهل العرفان، منها المنظومة التي تعرف بالصلاتية عجيبة وشرحها مزجاً كأصلها على لسان القوم، ولما حج الشيخ التاودي بن سوده كتبها عنه ووصل بها المغرب ونوه بشأنها، حتى كتب منها عدة نسخ، ونوه بشأن صاحبها، حتى عين له سلطان المغرب بصرةٍ في كل سنة تصل إليه مع الركب، والناس في المترجم مختلفون، فمنهم من يصفه بالبركات والكمال وأولئك الذين رأوا كلامه، فبهرهم نظامه، ومنهم من يصفه بالحلول عن ربقة الانقياد، ويرميه بالحلول والإلحاد، وهو إن شاء الله تعالى مبرء مما نسب إليه، معتمد في الإرشاد والإمداد عليه، ولما اجتمع به العلامة محمد بن يعقوب بن الفاضل الشمشاري ونزل في منزله فكان أنيساً له في سائر أحواله، قال: اختبرته(1/548)
حق الاختبار، فلم أجد له غير لسان مثار، قال وبعد أشهر تبرم عن ملازمته وتباعد عن مجالسته واتخذ له حجرة في الحرم، وعزل نفسه عنه اعتزال النقي عن الحرم، وحكى عنه أشياء عجيبة، وأموراً غريبة وهو بها معذور، وكل منهما على قصده مثاب ومأجور، غير أنه لو تباعد عن الطعن فيه لكان أولى، ولو سلم له حاله لكان أعلى، وما كل إنسان يفهم المقصود من كلامهم، ولا كل امرىء يدرس سامي مرامهم، لأن لهم اصطلاحاً لا يدريه سوى أهله، فمن لم يعلمه فلا يلمهم بل يبكي على جهله، ولأهل الروم فيه اعتقاد جميل، ومواهبهم تصل إليه في كل قليل، مات رحمه الله تعالى سنة ست ومائتين وألف.
السيد حسين بن يحيى بن إبراهيم الدؤلي الذماري الحنفي الماتريدي
قال في البدر الطالع: ولد في سنة ألف ومائة وتسع وثلاثين وبيني وبينه من المودة ما لا يعبر عنه، وهو من جملة من رغبني في شرح المنتقى، فلما أعان الله على إتمامه، راسلني في الإرسال إليه بنسخة، ولما ألفت الرسالة التي سميتها إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي ونقلت إجماعهم من ثلاث عشرة طريقة، على عدم ذكر الصحابة بسب وما يقاربه، وقعت هذه الرسالة بأيدي جماعة من الروافض فجالوا وصالوا، وتعصبوا وتحزبوا، وأجابوا بأجوبة ليس فيها إلا محض السباب والمشاتمة، وكتبوا أبحاثاً نقلوها من كتب الإمامية وزاد الشر وعظمت الفتنة، وأعانهم علي جماعة ممن له صولة ودولة، وتعصب أهل العلم لها وعليها، وكل من له أدنى معرفة بعلم، يعلم أني لم أذكر فيها إلا مجرد الذب عن أعراض الصحابة الذين هم خير القرون؛ ثم قال: وإن المترجم ناشر للعلم في مدينته ذمار، مع تحمله لما يلاقيه من الجفاء الزائد من أهل بلده بسبب نشره لعلم الحديث بينهم، وميله إلى الإنصاف في بعض المسائل، مع مبالغته في التكتم(1/549)
وشدة احترازه. مات رحمه الله سنة ألف ومائتين وتسع وثلاثين من الهجرة، وكان عمره مائة سنة ولا زال مثابراً على العلم إلى انتهاء أجله.
الشيخ حسين بن علي مفتي السادة المالكية بمكة المكرمة حرسها الله
الإمام الصالح، والهمام الناجح، الناهل من مناهل الأفاضل، والكامل الذي شهد بكماله ذوو الفضائل، كان يغلب عليه التقوى والعبادة، والتقشف والزهادة، ولد والله أعلم في حدود الخمسين والمائة والألف، وأخذ عن المحدث الفقيه، والإمام الفاضل النبيه الشيخ محمد الورتلاني المغربي المالكي، وعن الشيخ محمد الغرياني التونسي، وأخذ أيضاً حين دخل دمشق الشام، عن مشايخها الأعيان الكرام، ومن أجلهم الشهاب أحمد العطار، ثم رحل إلى مكة المشرفة وتوفي بها لثلاث مضت من شهر محرم الحرام سنة ثماني عشرة ومائتين وألف، ودفن بمقبرة المعلى رحمه الله تعالى ورضي عنه.
الشيخ حسين السقطي بن عبد القادر الصالحي الدمشقي الشافعي
بقية السلف، وعمدة الخلف، المقتدى بأفعاله، والمعمول بأقواله، بركة الأنام، ونخبة العلماء الأعلام. ولد بصالحية دمشق سنة تسعين ومائة وألف، ونشأ بها وقرأ على أخيه العلامة الشيخ عبد الغني وعلى العلامة الشيخ محمد شاكر الشهير بمقدم سعد، ومات سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف ودفن عند أسلافه بمقبرتهم.(1/550)
الشيخ حسين بن إسماعيل بن الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي قدس سره
العالم الأستاذ، والكامل الملاذ، ولد رضي الله عنه سنة ألف ومائة وخمسين، وأخذ عن والده وعن العلامة الشيخ صالح الجينيني وعن الشهاب المنيني والشيخ أسعد المجلد والعلامة الحفني مات سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة ودفن في مقبرة بني النابلسي.
السيد حسين بن عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن أحمد ابن أحمد المنزلاوي الشافعي خطيب جامع المشهد الحسيني في مصر المحمية
العمدة العلامة، النبيه الفهامة، بضعة السلالة الهاشمية، وطراز العصابة المطلبية، حضر على الشيخ الملوي، والحفني والجوهري، والمدابغي والشيخ علي قايتباي والشيخ البيسوني، والشيخ خليل المغربي، وأخذ أيضاً عن سيدي محمد الجوهري الصغير، والشيخ عبد الله إمام مسجد الشعراني، والشيخ سعودي الساكن بسوق الخشب، وتضلع بالعلوم والمعارف وصار له ملكة وحافظة واقتدار تام واستحضار غريب، وينظم الشعر الجيد والنثر البليغ، وأنشأ الخطب البديعة، وغالب خطبه التي كان يخطب بها بالمشهد الحسيني من إنشائه على طريقة لم يسبق إليها، وانتمى إلى الشيخ أبي الأنوار السادات وشملته أنواره ومكارمه ويصلي به في بعض الأحيان ويخطب بزاويتهم أيام المواسم، ويأتي فيها بمدائح السادات ما تقتضيه المناسبات، وله منظومة بليغة في سلسلة السادة الوفائية سماها السيد حسن بن علي العوض بعقد الصفا في ذكر سلسلة ساداتنا بني الوفا، وذكرها في كتابه مناهل الصفا، يقول في أولها ما نصه:(1/551)
سماء بها الزهر الأزاهر تشرق ... بأنوارها قد نار غرب ومشرق
وزانت صفا مرآتها وهي حفها ... لمستمع قد جاء للسمع يسرق
إذا مد كف النحو نحو سمائها ... يكف بشهب للمعاند تحرق
فما هي إلا عرش كنز حقائق ... بها الحق مشهود لمن يتحقق
رياض معانيها بهن نوافح ... لأزهار أسرار بها الطيب ينشق
فكم أورقت فيها غصون وكم حلت ... بها ثمرات للمحقق ترزق
بلعلعها غنت فصاح بلابل ... فأعربت الألحان وألحان مطرق
رعى الله ما قد راق منها وما حلا ... وأعلى سماء برقها متألق
حمى الله مرقاها ومعراج قدسها ... بكوكبها السامي الذي ليس يلحق
إلى آخرها وهي طويلة، وله غير ذلك رحمه الله تعالى من النثر والنظام، وبديع التحيق وبليغ الكلام، مما يدل على رفعة قدره، وسمو مقامه وكمال بدره، توفي في منتصف شهر شعبان المبارك من السنة الثانية عشرة بعد المائتين والألف رحمه الله تعالى.
الشيخ حسين بن الشيخ أحمد الشهير بالكبيسي أمين فتوى دمشق الشام
العالم النحرير، والفاضل الشهم الشهير، ذو السيرة العالية، والمعارف السامية، والذهن المقصور على الصواب، والكلام الذي لا يتعدى فصل الخطاب، قد انفرد للفتوى بالأمانة، وورد مناهل التقوى بالصدق والصيانة، واشتهر فضله في الآفاق، وانعقد على كماله الاتفاق، وأذعنت لانفراده أفراد الرجال، وجال رفيع ذكره كل مجال، لم يزل للفتوى أجل أمين، لا يحيد عن الحق ولا يمين إلى أن دعته لحديقة القرب المنية، وخطبته الحور(1/552)
للدار العلية، وذلك سابع عشر رمضان عام ألف ومائتين واثنين وخمسين من هجرة سيد ولد عدنان، ودفن في مقبرة دمشق ذات الفلاح، المعروفة بالدحداح، رحمه الله تعالى.
قاضي القضاة السيد حسين أفندي خوجه زاده القاضي العام بدمشق الشام
حاكم صالح عابد، وإمام ورع فاضل زاهد، ناهج منهج الصواب والكمال، لا يلويه عن الحق جاه ولا مال، ولا تأخذه في الله لومة لائم، بل هو على ساق العبادة والتقوى قائم، كان أوصى أنه إذا مات يدفن في جورة في مقبرة باب الصغير، بقرب مقام سيدي الصحابي الجليل الشهير، بلال الحبشي رضي الله تعالى عنه، وأن يحوط على الجورة بتابوت من خشب. والذي دعاه إلى ذلك أنه سمع من بعض العلماء أن الأقرب أن سيدنا بلال الحبشي مدفون في هذه الجورة، وقيل في الجورة الثانية بالقرب منها، وملخص الكلام، في هذا المقام، أن أكثر العلماء يقولون بأن إحدى الجورتين بها مدفون الصحاب المذكور، والثانية بها مدفون سيدنا فضالة بن عبيد أمير المدينة في أيام التابعين رضي الله عنهم وعنه، وكان في كل من الجورتين محراب ظاهر، ولكن الآن لطول الأيام قد ارتفع التراب فيهما حتى تساويا مع أرض الجبانة، ورفع الناس بعد ذلك صورة القبور خوفاً من الاندراس. توفي المترجم المذكور في رابع عشر ذي القعدة سنة أربع وخمسين ومائتين وألف، ودفن في تربة باب الصغير في المحل الذي أوصى أن يدفن فيه، وقام الوصي بوصيته في عمل المقام على الجورة. رحمه الله تعالى.(1/553)
الشيخ حسين أبو عبد الله بن أبي بكر بن خالد بن عثمان الحلبي الشافعي الحسيني
الشريف الفقيه الصالح، والعفيف النبيه الفالح، والتقي الزاهد، والنقي العابد، مولده سنة ثلاثين ومائة وألف، قرأ القرآن الشريف على خال والده الشيخ أبي الضيا هلال بن أحمد القادري وحفظه على غيره، وتفقه وحفظ بعض المتون العلمية على جماعة، وسمع الكثير من كتب الحديث وغيره على جمع، منهم بدر الدين حسن بن شعبان السرميني، وأبو عبد الفتاح شمس الدين محمد بن الحسين الزنار، وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي، وأبو السعادات طه بن مهنا الجبريني، وفخر الدين عثمان بن عبد الرحمن العقيلي العمري، ومحمد علاء الدين بن محمد الطيب الفاسي المغربي المالكي لما قدم حلب، وعقد بها مجلس التحديث والسماع، وتاج الدين محمد بن طه العقاد وغيرهم، وأخذ الطريقة السعدية عن شهاب الدين أحمد السعدي الجباوي الدمشقي لما قدم دمشق ونزل عنده، وأخذ الطريقة القادرية وغيرها عن الشيخ تقي الدين أبي بكر أحمد الحلبي القادري، وأخذ عن الشيخ أبي الخير سعد بن عبد الله اليماني نزيل حلب وانتفع بهم، وأجاز له غالب مشايخه، وأقام الذكر والتوحيد على عادتهم، واعتقده الناس، وقد أخذ عنه العالم العلامة خليل أفندي المرادي واستجازه بجميع ما تجوز له روايته فأجازه إجازة عامة، وذلك حين رحلة خليل أفندي المرقوم إلى حلب سنة خمس ومائتين وألف كما رأيت ذلك بخط خليل أفندي، ومات المترجم بعد ذلك، ولم أقف على تعيين تاريخ موته رحمه الله تعالى.(1/554)
الشيخ حسين بن الشيخ محمد التدمري أصلاً الدمشقي وطناً الميداني إقامة الشافعي الإمام بجامع كريم الدين
عالم قد فاق أهل زمانه، وترقى في الكمال حتى عرف بالتقدم في أوانه، قد اعتصم بحبل الوفا، وتقدس عن الفظاظة والجفا، وتمسك بعرى التقوى والعبادة، وتحلى بحلية القناعة والزهادة، وطار في الناس فضله، واشتهر في الملأ العام قوله المحمود وفعله، حضر مجالس السادات، وأخذ عنهم أنواع العلوم الشرعية والآلات، ثم درس وأفاد، وانتفع به الكثير واستفاد، وكان مستقيماً في الميدان لتعليم الناس، وكان يتعاطى وظائف جامع كريم الدين من خطبة وصلاة وتدريس، فأحيا المكان بعد قرب الاندراس، وكان رقيق الكلام، حسن الاعتذار عمن يستوجب الملام، صادقاً في الاعتماد على مولاه، لا يشغله عنه ما سواه، فهو بقية السلف وزينة الخلف، توفي بعد خدمة الجامع المرقوم نحو أربعين سنة عن نحو ثمانين سنة، وذلك في سنة أربع عشرة ومائتين وألف من الهجرة، ودفن بتربة باب الله وقبره مشهور رضي الله عنه.
الشيخ حسين بن عبد الشكور المدني
العالم الكبير والأوحد الشهير، ولد سنة ألف ومائة، قال في النفس: وفد إلى مدينة زبيد داعياً لأهلها إلى حسن الوضوء والصلاة وتعريفهم طريق ذلك، ونظم في ذلك منظومة عظيمة أولها:
لك الحمد بدءاً منك يحسن والختما ... عليك وشكراً لا أطيق له كتما
وشرح هذه المنظومة شرحاً حافلا، وبأكثر المسائل كافلا، وجعل على الشرح حاشية عظيمة، وفائدتها وافية عميمة، لا ينقل فيها من كتاب،(1/555)
بل إنما كان يميل إلى الاجتهاد ويراه هو الصواب، وكان يشتهر بذي العلوم اللدنية، والفيوضات الإلهية، حتى قال بعضهم فيه:
لقد رأيت إماما ... أحار بالعلم لبي
فقلت من أي شيخ ... فقال من فيض ربي
وكان كثير البحث والمذاكرة، ملازماً لدعاية الخلق إلى ما ينفعهم في الآخرة، لا يوقر في ذلك كبيرا، ولا يترك صغيراً ولا حقيرا، ومن تشطيره:
من راقب الناس مات غما ... وحظه الويل والثبور
ومن تخلى عنهم تحلى ... وفاز باللذة الجسور
مات في زبيد سنة ألف ومائتين.
الشيخ حسين بن عبد اللطيف الدمشقي الشهير بالعمري
من أولاد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولد بدمشق الشام سنة اثنتين وستين ومائة وألف في شهر ربيع الأول وهو الإمام الكبير، والمؤرخ الشهير، أخذ عن مصطفى الأيوبي الأنصاري المعروف بالرحمتي وعن علي أفندي الداغستاني وعن الشهاب أحمد البعلي الدمشقي الخلوتي مفتي الحنابلة بدمشق وعن الشيخ محمد البخاري والشيخ مصطفى بن أسد اللقيمي وابن سليم الصالحي وغيرهم وله تاريخ سماه المواهب الإحسانية في تراجم العمرية، مات رحمه الله سنة ألف ومائتين.
حسين بن علي بن عبد الكريم الأنصاري المدني
هو من رجال اللآلىء الثمينة في أعيان شعراء المدينة، لعمر بن عبد السلام المدرس الداغستاني، فقال في ترجمته: ذو نجدة ومروة، ومجد وفتوة، سجعت بمحاسنه حمائم شمائله، ولمعت من سما مكارمه بوارق فضائله، فبهر بأخلاقه الرضية، واشتمل بما ألبسه رداء الثناء بين(1/556)
البرية، وله النظم الحسن المقاطع، والإبداع الذي أتقن به البدائع، منه قوله لما وقعت في المدينة الفيحاء، فتنة العام المؤرخة بهذه القصيدة الغراء، أنشدها متوجعاً باكياً ولحضرة الرسالة شاكياً:
أخي إذا ما جئت في سوح أحمدا ... تضرع له وامدد إلى نحوه اليدا
وناد وقل يا سيد الرسل نجدة ... تفرج عنا ما أقام وأقعدا
عسى نفحة منكم عسى لمحة بنا ... تحف عسى المولى يجيب لنا الندا
لقد طال هذا الكرب واشتد عسره ... وشتت جيش الصبر طراً وبددا
وكدر وجه الدهر بعد ابتهاجه ... ونغص عيش المؤمنين ونكدا
وأذهب راحات النفوس جميعها ... فلله ما ولى ولله ما بدا
ولم يبق إلا أن يذيب رسومنا ... وأما قلوباً قد أذاب وأكبدا
كأن كروب الدهر أجمع أمرها ... على حربنا فاستنفرت نحون العدا
هموم غموم ثم قلة راحة ... وحزن عظيم كلما رث جددا
ثلاثة أعوام نكابد همها ... وإن لم تدار كنا هلكنا فأنجدا
ومن قبلها قد كان قحط وشدة ... وأشجار ظلم أثمرت علة ودا
وكم جرعتنا كأس صبر وحنظل ... مرارتها أدنى المصائب والردى
فرادى ومثنى حيثما ثم سكرنا ... تركنا حيارى قط لا نعرف الهدى
فنسأل رب العرش تفريج كربنا ... بجاهك يا رب السماحة والندى
ومذ شق أقوام عصاهم وشمتوا ... عداهم وأضحى كل وغد مسودا
تهلل وجه الرفض بعد اغبراره ... وأصبح ذو رفض عزيزاً وسيدا
يجر ذيول التيه في أرض طابة ... وكم من لعين منهم السيف جردا
وسروا سروراً لم يسروا بمثله ... وغنى مغنيهم لذاك وغردا
وقد مر دهر لا يجرون ذيلهم ... ومن جر أمسى بالتراب موسدا
وما قصدهم إلا انتهاك محارم ... وتخريب دور المؤمنين أولي الهدى
وما منهم إلا لعين وملحد ... وجد مجوسي وابن تهودا(1/557)
حفاة عراة كالكلاب تنابحوا ... على فرعهم والأصل لعن تأبدا
فلو لم يكن هذا الشقاق لما جرى ... على مثلنا من مثلهم ذا ولا عدا
فيا سيد الكونين صار لنا ترى ... من الحزن والكرب الذي قد ترددا
ويا كهف من يلوي عناناً ببابه ... ويا خير من نودي سريعاً فأنجدا
تلاطم بحر الكرب واشتد موجه ... على أهل حق بالجوار تأكدا
عسى نظرة منكم تؤلف بينهم ... ليصبح سيف الدين في الكفر مغمدا
فصلى عليك الله ما لاح بارق ... وما لاح قمري الأراك وغردا
حسين بن أنصار إليك انتماؤه ... يرجي فكن عوناً لهم ثم مسعدا
ومع غاية الإحصاء قلت مؤرخاً ... لقد أشمتوا فينا أعادي وحسدا
انتهى توفي المترجم المرقوم بعد الألف والمائتين رحمه الله تعالى.
السيد حمزة بن السيد يحيى بن السيد حسن بن السيد عبد الكريم بن السيد محمد الحمزاوي الدمشقي الحنفي الحسيني
أحد العلماء الأعلام، نقيب السادة الأشراف بدمشق الشام، وإنسان عين الأعيان، ولسان ذوي الفضل والشأن. ولد بدمشق سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف، ونشأ على كمال التقوى والصيانة، والعلم والفهم والديانة، إلى أن اختارته الآخرة، لمراقيها الفاخرة. وذلك سنة سبع عشرة ومائتين وألف، ودفن بمرج الدحداح لدى أسلافه رحمهم الله تعالى.(1/558)
الشيخ حمزة بن علي الدمشقي الحنفي العجلاني نقيب الأشراف ومفتي دمشق الشام
الصدر المهاب، والرئيس العالي الجناب، والفاضل الهمام، والكامل الإمام، سلالة السادة ذوي الشرف والنسب، وصفوة خلاصة ذوي المجد والحسب، من فاقت شهرته، وعلت رتبته، واشتهر في الأنام اشتهار البدر لدى التمام، لازم مدة حياته العلم والعمل، واجتنب مناهج القصور والكسل، وصان عمره عن أن يصرفه فيما لا يعنيه، بل كان في كل كمال على طريقة جده وأبيه، إلى أن وافته المنية، داعية له إلى الجنة العلية، وذلك سنة تسع وعشرين ومائتين وألف ودفن في تربة أسلافه رحمة الله عليهم أجمعين.
الشريف حمود بن محمد الحسني صاحب أبي عريش
قال في البدر الطالع: ولد بعد سنة ألف ومائة وستين تقريباً، ثم استقل بولاية أبي عريش وسائر الولاية الراجعة إلى أبي عريش كصبيا وضمد والمخلاف السليماني، وكان متولياً لذلك من طريق مولانا الإمام المنصور رحمه الله تعالى. ثم حدث ما حدث من قيام صاحب نجد واستيلائه على البلاد التي بينه وبين بلاد أبي عربش، فأمر عبد الوهاب بن عامر العسيري المعروف بابن نقطة، بان يتقدم في جيشه على بلاد الشريف حمود، فتقدم في نحو عشرين ألفاً، والشريف حمود استقر في أبي عريش لقلة جيشه، فتقدم عليه أبو نقطة إلى أبي عريش، فدخلها في شهر رمضان عام ألف ومائتين وسبعة عشر، وقتل من الفريقين فوق الألف، ثم استسلم الشريف حمود ودخل في الدعوة النجدية، ثم خرج على البلاد الإمامية فاستولى على بندر اللحية، وعلى بندر الحديدة، وعلى زبيد، وما يرجع إلى هذه الولايات،(1/559)
واختط مدينة الزهراء، وصار ملكاً مستقلا. ثم أفسد ما بينه وبين النجدي، فأمر أبو نقطة المذكور من يغزوه، فالتقيا بأطراف البلاد، فقتل أبو نقطة وانهزم جيش الشريف حمود، وقتل منهم نحو ألفين، وكان جيشه من يام ومكيل وقبائل تهامة زهاء سبعة عشر ألفاً، وكان جيش ابن نقطة كما قيل نحو مائة ألف، لأنه أمده النجدي بجماعة من أمرائه كابن شكبان والمضائفي، ثم إن جيش صاحب نجد بعد قتل ابن نقطة وهزيمة الشريف تقدموا على أبي عريش، وجرت بينهم ملاحم كبيرة، وانحصر الشريف في أبي عريش، وشحن سائر بلاد أبي عريش بالمقاتلة، ثم رجع سائر الأمراء النجدية وبقي بقية من الجيش في بلاد أبي عريش، والحرب بينهم سجال، وكان هذا الحرب الذي قتل فيه أبو نقطة في سنة ألف ومائتين وأربع وعشرين. وفي سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين وقع الصلح بينه وبين مولانا الإمام المتوكل على الله. وحاصل الصلح أنه يثبت الشريف على ما قد صار تحت يده من البلاد، ثم بعد هذا انتقض الصلح بينه وبين الإمام المذكور ولم يزل الحرب ثائراً بينه وبين الإمام إلى سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين وهو مستمر على الانتماء إلى صاحب نجد. ثم مات سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين.
الشيخ حمود العمري بن سعيد بن محمد بن عمر بن عبد اللطيف الدمشقي الفاروقي
نشأ على منهج الكمال، مرتدياً برداء الحسن واللطافة والجمال، ممتزجاً مع العلماء كامتزاجه مع الأدباء، محمود السيرة، ممدوحاً بصفاء السريرة، وكانت وفاته نهار السبت الحادي عشر من شهر رمضان سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف ودفن في الدحداح.(1/560)
حيدر بن سليمان بن داود بن سليمان
أديب له في الأدب اليد الطولى، ومن التأليف في أنواع العلوم ما يشهد له بكمال المعرفة فروعاً وأصولا، ولقد ترجمه السيد حسن بن السيد هادي العاملي فقال:
البارع فلا يبلغ كنهه المادح وإن أطنب، والواصف وإن أسهبن لأنه قد استغرق جميع صفات الكمال، وفاز منها بأعلى القداح نصيباً حتى جل عن الأضراب والأمثال، وكيف تجد له من مثيل، وقد جاء في سائر نظمه بكل معنى جليل، يبهر السامعين، ويبهت المنشدين. وله من المصنفات في كتب الأدب كتابه المسمى بالعقد المفصل، في قبيلة المجد المؤثل، الذي دل على سعة باعه، وغزارة اطلاعه، وأما شرف نفسه فلا يحتاج لشهرته إلى بينة وبرهان، وأنى وقد امتلأ بذكره المشرقان والمغربان، وتحلى جيد الدهر بعقد مفخره، وأضاءت بسواد مفارق الأيام لوامع درره، ولقد كان مع قلة ذات يده يترفع عما يتصف به الشاعر، وألزم نفسه بالرثاء والمدح للنبي والأطايب من عترته وذويه كابراً بعد كابر، ومن جرى على مثالهم من العلماء، والسادات الفضلاء، فيا له من ماجد بلغ من السخاء حداً تضوع في الخافقين نشره، فطوى ذكر من قد سلف من أهل المكارم صيته وذكره، وكان في عباداته وأوراده وأذكاره، سواء في حضره وأسفاره. يجنب العين لذيذ النوم اللذيذ مناجاة ربه، مواظباً على التهجد يتنفس عن قلب أقلقه خوفه من الله كأن القيامة قامت إلى جنبه، مع ما لازمه من العلل الموهية لصفات قوته، وهو مع ذلك يتجدد نشاطه على العبادة كأنها بعض فطرته:
وإذا حلت الهداية قلباً ... نشطت للعبادة الأعضاء
إلى أن قال: وأما مولده الطاهر فإنه ولد ليلة النصف من شعبان(1/561)
من شهور سنة ستٍ وأربعين بعد الألف والمائتين هجرية، وتوفي وله من العمر تسع وخمسون سنة. وأما وفاته فإنه توفي عشية الأربعاء ليلة التاسعة من شهر ربيع الآخر من شهور السنة الرابعة بعد الثلاثمائة والألف هجرية. ومن نظمه رحمه الله تعالى وقد حرره في ضمن كتاب:
في فمي لم يزل لذكرك نشر ... طيب واختبر بذاك النسيما
وبمرآة فكري لم يزل شخصك ... نصب العينين مني مقيما
وعلى النحر من علاك ثنائي ... ليس ينفك عقده منظوما
لا تظن البعاد يحجب عني ... منك ذيالك المحب الكريما
أنت عندي بالذكر أحضر من ... قلبي بقلبي فكن بذاك عليما
لست أقوى لحمل عتبك يا من ... حملت فخره المعالي قديما
فائن من غرب عتبك اليوم عني ... فبه قد تركت قلبي كليا
ومن نظمه:
ظن العذول أدمعي تناثرت ... حمراً لعمري غره ما يبصره
وإنما يقدح زند الشوق في ... قلبي ومن عيني يطير شرره
حيدر الغازي الهندي سلطان الولاية التي يقال لها لكنهو
قال صاحب التاج المكلل: وقفنا على كتاب مشتمل على وصف حاله(1/562)
صنفه أحمد الشرواني الراحل إلى بلاد الهند، وتاريخ هذا الكتاب سنة ألف ومائتين وخمس وثلاثين، ذكر فيه أنه شاهد فيلاً ينوح على الحسين السبط رضي الله عنه في الشهر المحرم بشعر موزون وهذا مستبعد جداً، والظاهر أن الفيل يهمهم همهمة تحصل وزن الشعر، فإن كان صدور ذلك بلسان فصيح كنطق الإنسان، فما أظن الناطق من حنجرته إلا شيطان، وقد ينطق من الأصنام وهي جمادات، وهو ينطق من رؤوس من يدعي أنه قد صار له قرين من الشيطان كما هو معروف انتهى كلام صاحب التاج.
أقول إن الله المقدس في ذاتهن المنزه عن سمات النقص في صفاته، قد أودع في كل ذرة من مخلوقاته، من بديع صنعه ولطيف آياته، ومن الحكم والعبر، ما لا يدركه البصر، قال الله تعالى: " وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون " وقال تعالى: " سنريهم آياتنا في الآفاق " وقال الشاعر:
ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
وقال الله تعالى: " قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده " وقال في الهدهد: " فقال أحطت بما لم تحط به " ومثل هذا كثير، شائع شهير، خصوصاً في الأحاديث الشريفة، والآثار الصحيحة المنيفة، مما لا قدرة للإنسان على رده، ولا على إنكاره وإثبات ضده، من نطق الذيب والضب، والغزالة والحجر والمدر والشجر،(1/563)
وغير ذلك مما لا يكاد أن تحصى أفراده، ولا تحصر أعداده، وذكر في بعض التفاسير أن إخوة يوسف لما أتوا والدهم بقميص يوسف وهو ملطخ بالدم وأخبروه بأن الذئب أكل أخاهم يوسف، فقال لهم اخرجوا في طلب الذئب، وائتوني به وإلا دعوت الله عليكم فتهلكوا، فخرجوا في طلب الذئب حتى أخذوا ذئباً عظيماً هائلاً، واجتمعوا عليه حتى كتفوه ووضعوا الحبل في عنقه، وجعلوا يضربونه ويجذبونه، حتى أوقفوه بين يدي يعقوب عليه السلام، فقال لهم يعقوب كيف عرفتموه؟ قالوا لأنه كان كثيراً ما يتعرض لنا في غنمنا وما دخل غنمنا سواه، فدخل غنمنا وأكل أخانا، فقال يعقوب سبحان من لو شاء لأنطقك بحجتك، قال فنطق الذئب، وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يا نبي الله إني ذئب غريب، افتقدت ولداً لي فجئت في طلبه حتى بلغت نحو بلدك هذه، فأتى أولادك فضربوني، وقد اتهموني بذنب لم أفعله، والذي أنطقني بهذا إنك إن خليتني جئت إليك بكل ذئب في بلدك هذا، فيحلفون لك أنهم لم يأكلوا ولدك، وكيف يأكل الذئب ولد الأنبياء. فأمر يعقوب بتخليته اه ووقع مثل هذا كثيراً، فإن قبل لعل ذلك من معجزات الأنبياء، أقول ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، ومن المعلوم أن سيدنا الحسين رضي الله عنه من أكبر الأولياء، وأفضل الأصفياء، فلا حاجة لما ذكره التاج، بل تسليمه على ظاهره من أولى طريق وأحسن منهاج، ومن أبدع الغرائب، وألطف العجائب، ما ذكره الإمام الدميري قال:(1/564)
رأيت في المنتقى من انتخاب الحافظ السلفي، وفي آخر ورقة من عجائب المخلوقات عن محمد بن إسماعيل السعدي أنه قال: وجه إلي يحيى بن أكثم فتوجهت إليه، فلما دخلت عليه، إذا عن يمينه قمطر، فأجلسني وأمر(1/565)
أن يفتح، فإذا شيء خرج منه رأس كرأس إنسان، ومن أسفله إلى سرته على هيئة زاغ وفي صدره وظهره سلعتان، قال ففزعت منه ويحيى يضحك؛ فقلت له ما هذا أصلحك الله، فقال لي سل عنه منه، فقلت له ما أنت، فنهض وأنشد بلسان فصيح:
أنا الزاغ أبو عجوه ... أنا ابن الليث واللبوه
أحب الراح والريحا ... ن والقهوة والنشوة
فلا عدوى يدي تخشى ... ولا يحذر لي سطوه
ولي أشياء تستظر ... ف يوم العرس والدعوة
فمنها سلعة في الظهر ... لا تسترها الفروة
وأما السلعة الأخرى ... فلو كان لها عروة
لما شك جميع النا ... س فيها أنها ركوه
ثم صاح ومد صوته زاغ زاغ، وانطرح في القمطر، فقلت أعز الله القاضي وعاشق أيضاً، فقال هو ما ترى لا علم لي بأمره إلا أنه حمل إلى أمير المؤمنين مع كتاب مختوم فيه ذكر حاله، لم أقف عليه انتهى مات المترجم سنة ألف ومائتين. و....
السيد حيدر بن المرحوم ... الحلبي
الأديب الشاعر، والأريب الماهر، من أشرقت بالفضل أقماره وشموسه وتموج بالعلم عبابه وقاموسه، وطار ذكره في الفيافي، واشتهر قدره الوافر الوافي، فكم نظم ونثر فنفث السحر الحلال، وتلاعب برقائق الحكم فجرت لبلاغتها وبراعتها مجرى الأمثال، وضمنها ما تتزين به الطروس، وتميل له(1/566)
القلوب والنفوس، وقلدها من حلي البديع والمعاني، ما هو أبهى من ضم الخصور وعناق الغواني، فلله دره من همام تاه في ثوب البلاغة كمالاً، ودهش ألباب أولي الفصاحة لطفاً وجمالا، وكاد نظمه يكتب بماء القلوب على محيا المحبوب، فمن رفيع كلامه، وبديع نظامه، قوله من قصيدة يرثي بها الإمام الحسين روح الله روحه.
سبق الدمع حين قلت سقتها ... فتركت السما وقلت الدموع
فكأني في صحنها وهو قعب ... أحلب المزن والجفون ضروع
بت ليل التمام أنشد فيها ... هل لماض من الزمان رجوع
ودعت حولي الشجى ذات طوق ... مات منها على الغرام الهجوع
وسقتني بخمرتي مقلتيها ... ما عليه انحنين مني الضلوع
شاطرتني بزعمها الدار حزناً ... حيث أنت وقلبي الموجوع
يا طروباً بالقد والنهد دعني ... ما حنيني صبابة وولوع
لم يرعني نوى الخليط ولكن ... من جوى الطف راعني ما يروع
قد عذلت الجزوع وهو صبور ... وعذرت الصبور وهو جزوع
عجباً للعيون لم تغد بيضاً ... لمصاب تحمر فيه الدموع
أي يوم بشفرة البغي فيه ... عاد أنف الإسلام فيه جديع
واستقل الهدى على غارة البين ... وشدت للرشد فيه النسوع
يوم أرسى ثقل النبي على الحتف ... فحفت بالراسيات الصدوع
حيث صكت بألطف هاشم وجه ... الموت فالموت من لقاها مروع
وقفت موقفاً تضيفت الطير ... قراه فحوم ووقوع
بسيوف في الحرب صلت فللجوس ... سجود من حولها وركوع(1/567)
موقف لا البصير فيه بصير ... لاندهاش ولا السميع سميع
جلل الأفق فيه عارض نقع ... بسنا البيض فيه برق لموع
فلشمس النهار فيه مغيب ... ولشمس الحديد فيه طلوع
أينما طارت النفوس شعاعاً ... فلطير الردى عليها وقوع
قد تواصت بالصبر فيه رجال ... حفظت عترة النبي إذ أضيعوا
سكنت منهم النفوس جسوماً ... هي بأس حفائظ ودروع
سد فيهم ثغر المنية سهم ... لثنايا الثغر المخوف طلوع
وله الطرف حيث سار أنيس ... وله السيف حيث بات ضجيع
لم يقف موقفاً من الحزم إلا ... وبه سن غيره المقروع
كيف يلوي على الدنية جيداً ... لسوى الله ما لواه الخضوع
طمعت أن تسومه القوم ضيماً ... وأبى الله والحسام الصنيع
وبه يرجع الحفاظ لصدر ... ضاقت الأرض وهي فيه تضيع
فأبى أن يعيش إلا عزيزاً ... أو تجلى الكفاح وهو صريع
فتلقى الجموع فرداً ولكن ... كل عضو في الروع منه جموع
رمحه من بنانه وكأن من ... عزمه حد سيفه مطبوع
زوج السيف بالنفوس ولكن ... مهرها الموت والخضاب النجيع
بأبي كالئاً على الطف خدراً ... هو في حومة الحسام منيع
قطعوا بعده عراه ويا حبل ... وريد الإسلام أنت القطيع
وسروا في كرائم الوحي أسرى ... وعداك ابن أمها التقريع
لو تراها والعيس جثمها الحا ... دي من السير فوق ماتستطيع
ووراها العفاف يدعو ولكن ... بدم القلب دمعه مشفوع
يا ترى فوقها بقية وجد ... ملء أحشائها جوى وصدوع(1/568)
فترفق بها فما هي إلا ... ناظر دامع وقلب مروع
قوضي يا خيام عليا نزار ... فلقد قوض العماد الرفيع
واملئي العين يا أمية نوماً ... فحسين على التراب صريع
ودعي صكة الجباه لؤي ... ليس يجديك صكها والدموع
أفلطماً بالراحتين فهلا ... بدم الطعن والرماح شروع
وبكاء بالدمع حزناً فهلا ... بسيوف لا تتقيها الدروع
قللي الإقراع ملمومة الحيف ... فواهاً يا فهر أين القريع
وقال
يا دار جائلة الوشاح ... حيتك نافحة الرياح
وسقتك من ديم الحيا ... وطفاء ضاحكة النواحي
كم فيك قد نادمت من ... قمر يطوف بشمس راح
وخريدة تختال عن ... لدن وتبسم عن أقاح
نشوانة الأعطاف من ... خمر الصبا خود رداح
ملكت قلوب بني الغرا ... م بلاحظ سكران صاح
جهد العواذل في أن ... أسلو هوى الغيد الملاح
فمتى محب قد سلا ... هيفاء تسفر عن براح
ومن الذي قد كلف الطير ... ان مقصوص الجناح
هيهات أخطأ ظنهم ... أن يستلين لهم جماحي
وهي قصيدة طويلة يرثي بها الإمام الحسين الشهيد رضي الله عنه وله قصائد كثيرة كلها غرر. ولقد توفي المترجم رحمه الله تعالى عام ألف وثلاثمائة وستة وكان عمره نحواً من خمس وخمسين سنة.(1/569)
حرف الخاء
الشيخ خالد أبو البهاء ضياء الدين النقشبندي الدمشقي إقامة
إمام العصر، وغرة الشام ومصر، من قلد جيد الزمان بقلائد بره وإحسانه، وقيد السنة الثناء عن غير شكر نعمته وامتنانه، أعظم العلماء قدرا، وأعلاهم شهرة وذكرا، لو نطق لسان الليل لقال إنه البدر بلا مين، أو لسان النهار لقال بأنه الشمس التي تجلى نورها في المشرقين والمغربين، خلاصة العباد من العباد، وصفوة أهل الزهادة والإرشاد، سلطان ذوي العرفان، ودليل أهل الذوق والوجدان، كأن لسان زمانه يقول فيه بملء فيه:
يا من له في الناس ذكر سائر ... كالشمس يشرق نورها وتجول
ومواهب حضرية سيارة ... لا ينقضي سفر لها ورحيل
وخلائق كالروض رق نسيمه ... فسرى وذيل قميصه مبلول
وتلاوة يجلي الدجى أنوارها ... قد زانها الترتيب والترتيل
وإذا تهجد في الظلام حسبته ... من نور غرته له قنديل
ملأت لطائف بره أوقاته ... فزمانه عن غيره مشغول
هذا هو الشرف الذي لا يدعى ... هيهات ما كل الرجال فحول
أيامه كست الزمان محاسناً ... فكأنها غرر له وحجول
نفقت لديه سوق كل فضيلة ... والفضل في هذا الزمان فضول
فلعمري لقد شاد ربوع الطريقة وأقام أود متونها، وزاد في بيان مشكلات الشريعة وعانى رمد عيونها، ولقد ترجمه صوفي الزمان، ومرشد الأوان،(1/570)
خليفته المنسوب إليه، العلامة المرشد الشيخ محمد الخاني رحمة الله عليه، في كتابه البهجة السنية، في آداب الطريقة الخالدية، ناقلاً عن الحديقة، قال: اعلم أن شيخنا هو أبو البهاء ذو الجناحين، ضياء الدين حضرة مولانا الشيخ خالد الشهرزوري الأشعري عقيدة، الشافعي مذهبا، النقشبندي المجددي طريقة ومشربا، القادري السهروردي الكبروي الجشتي إجازة، ابن أحمد بن حسين العثماني نسباً، ينتهي نسبه إلى الولي الكامل بير ميكائيل صاحب الأصابع الست المشهور بين الأكراد بشش انكشت، يعني ست أصابع، لأن خلقة أصابعه كانت هكذا. وهذا الولي معروف الانتساب إلى الخليفة الثالث منبع الإحسان والحياء ذي النورين عثمان بن عفان الأموي القرشي رضي الله تعالى عنه.
العالم العلامة، والعلم الفهامة، مالك أزمة المنطوق والمفهوم، ذو اليد الطولى في العلوم، من صرف ونحو وفقه ومنطق ووضع وعروض ومناظرة وبلاغة وبديع وحكمة وكلام وأصول وحساب، وهندسة واصطرلاب، وهيئة وحديث وتصوف، العارف المسلك مربي المريدين، ومرشد السالكين، ومحط رجال الوافدين، وأمه ينتهي نسبها إلى الولي الكامل الفاطمي بير خضر المعروف النسب والحال بين الأكراد قدس سره.
ولد رضي الله عنه سنة ألف ومائة وتسعين تقريباً بقصبة قره داغ من أكبر سناجق بابان، وهي عن السليمانية نحو خمسة أميال تشتمل على مدارس، وتكتنفها الحدائق، وتنبع فيها عيون عذبة السلسال، ونشأ فيها وقرأ ببعض مدارسها القرآن، والمحرر للإمام الرافعي في فقه الشافعية، ومتن الزنجاني في الصرف وشيئاً من النحو، وبرع في النثر والنظم قبل بلوغ(1/571)
الحلم، مع تدريب لنفسه على الزهد والجوع والسهر والعفة التجريد والانقطاع على أقدم أهل الصفة. ثم رحل لطلب العلم إلى النواحي الشاسعة، وقرأ فيها كثيراً من العلوم النافعة، ورجع إلى نواحي وطنه، فقرأ فيها على العالم العامل، والنحرير الفاضل، ذي الأخلاق الحميدة، والمناقب السديدة، السيد الشيخ عبد الكريم البرزنجي رحمه الله تعالى، وعلى العالم المحقق الملا محمد صالح، وعلى العالم المحقق الملا إبراهيم البياري، والعالم المدقق السيد الشيخ عبد الرحيم البرزنجي أخي الشيخ عبد الكريم، والعالم الفاضل الشيخ عبد الله الخرباني. ثم رحل إلى نواحي كوى وحرير، وقرأ شرح الجلال على تهذيب المنطق بحواشيه على العالم الذكي، والنحرير الألمعي، الملا عبد الرحيم الزيادي المعروف بملا زاده. وأخذ في تلك النواحي غير ذلك عن غيره فعاد إلى قصبة كوى، للأخذ عن العالم العامل، الورع الكامل، ذي الفضل الجلي، الملا عبد الرحمن الجلي، رحمه الله تعالى، فصادفه مريضاً مرضه الذي توفي فيه. ورجع إلى السليمانية ثانياً فقرأ فيها وفي نواحيها الشمسية والمطول والحكمة والكلام وغير ذلك، وقدم بغداد وقرأ فيها مختصر المنتهى في الأصول، ورجع إلى محله المأهول، وحيث حل من المدارس، كان فيها الأتقى الأورع السابق في ميادين التحقيق كل فارس، لا يسأل عن مسئلة من العلوم الرسمية إلا ويجيب بأحسن جواب، ولا يمتحن بغويصة من تحفة ابن حجر أو تفسير البيضاوي إلا ويكشف عن وجوه خرائد الفوائد النقاب، وهو يستفيد ويفيد، ويقرر ويحرر فيجيد، إلى إنصاف وذكاء خارق، وقوة حافظة بذهن حاذق، ومهما دقق في درسه على ما يريد، يعز أساتذته عن إرضاء ذهنه القائل لسان حاله هل من مزيد، وطال ما ألقى السؤال، واستشكل الإشكال، فلم يكن المجيب إلا هو بأبدع منوال، هذا مع تصاغره لدى الأساتذة والأقران، وتجاهله عن كثير من المسائل مع العرفان، حتى أنه يقرأ من الكتب الصعبة ما لم يصل إذ ذاك إلى قراءته،(1/572)
بتحقيق يتحير فيه أهل مادته، فاشتهر خارق علمه، وطار إلى الأقطار صيت تقواه وذكائه وفهمه، إلى أن رغب بعض الأمراء في نصبه مدرساً قبل التكميل في إحدى المدارس، وأن يوظف له وظائف ويخصه بالنفائس، فلم يجبه إلى هذا المرام، زهداً فيما لديه من الحطام، قائلاً إني الآن لست من أهل هذا المقام، فرحل بعدها إلى سندج ونواحيها وقرأ فيها العلوم الحسابية والهندسية، والاصطرلابية والفلكية، على العالم المدقق جغميني عصره، وقوشجي مصره، من في إشارته شفاء كل داء، ونجاة كل عليل بالجهل سقيم، الشيخ محمد قسيم النندجي، وكمل عليه المادة، على العادة، فرجع إلى وطنه قاضي الأوطار، وصيته إلى أقصى الأقطار طار، فولي بعد الطاعون الواقع في السليمانية عام ألف ومائتين وثلاثة عشر تدريس مدرسة أجل أشياخه المتوفين بالطاعون المذكور السيد عبد الكريم البرزنجي، فشرع يدرس في العلوم، وينشر المنطوق منها والمفهوم، غير راكن إلى الدنيا ولا إلى أهلها، مقبلاً على الله تعالى متبتلاً إليه بأصناف العبادات فرضها ونفلها، لا يتردد إلى الحكام، ولا يحابي أحداً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ الأحكام، لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو نافذ الكلمة محمود السيرة يأخذ بالعزائمن حتى صار محسود صنفه، عزيزاً في وصفه، مع الصبر على الفقر والقناعة، واستغراق الأوقات بالإفادة والطاعة، إلى أن جذبه سنة ألف ومائتين وعشرين شوق الحج إلى بيت الله الحرام،(1/573)
وتوق زيارة روضة خير الأنام، عليه الصلاة والسلام، فتجرد عن العلائق، وخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله الصادق، فرحل هذه الرحلة الحجازية من طريق الموصل وديار بكر والرها وحلب والشام، واجتمع بعلمائها الأعلام، وصحب في الشام ذهاباً وإياباً العالم الهمام، شيخ القديم والحديث، ومدرس دار الحديث، الشيخ محمد الكزبري رحمه الله تعالى وسمع منه وأخذ عليه، فقربه وقر به عيناً وفاز بما لديه من
علو الإسناد، وإجازات المسلسلة الجليلة المفاد، وصحب تلميذه كذلك الأخص الأصفى الشيخ مصطفى الكردي متع الله الطلاب بطول حياته، فأجازه لشيخه بأشياء، منها الطريقة العلية القادرية، فخرج منها على جادة العزائم بأحسن قدم، يطعم ولا يطعم، فوصل المدينة المنورة، ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم بقصائد فارسية بليغة محررة، ومكث فيها قدر ما يمكث الحاج، وصار حمامة ذلك المسجد الوهاج، قال وكنت أفتش على أحد من الصالحين، لأتبرك ببعض نصائحه لعلي أعمل بها كل حين، فلقيت شيخاً يمنياً متربضا، عالماً عاملاً صاحب استقامة وارتضا، فاستنصحته استنصاح الجاهل المقصر، من العالم المستبصر، فنصحني بأمور، منها: لا تبادر بالإنكار في مكة على ما ترى ظاهره يخالف الشريعة، فلما وصلت إلى الحرم المكي الشريف وأنا مصمم على العمل بتلك النصيحة البديعة، بكرت يوم الجمعة إلى الحرم، لأكون كمن قدم بدنة من النعم، فجلست إلى الكعبة الشريفة أقرأ الدلائل، إذ رأيت رجلاً ذا لحية سوداء عليه زي العوام قد أسند ظهره إلى الشاذروان ووجهه إلي من غير حائل، فحدثتني نفسي أن هذا الرجل لا يتأدب مع الكعبة، ولم أظهر عتبه، فقال لي يا هذا ما عرفت أن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة فلماذا تعترض على استدباري الكعبة وتوجهي إليك، أما سمعت نصيحة من في المدينة وأكد عليك، فلم أشك في أنه من أكابر الأولياء، وقد تستر بأمثال هذه الأطوار عن الخلق، فانكببت على يديه وسألته العفو وأن يأمرني بدلالته على الحق، فقال لي فتوحك لا يكون في هذه الديار، وأشار بيده إلى الديار الهندية، وقال تأتيك إشارة من هناك فيكون فتوحك في هاتيك الأقطار، فأيست من تحصيل(1/574)
شيخ في الحرمين يرشدني إلى المرام، ورجعت بعد قضاء المناسك إلى الشام، انتهى. فاجتمع ثانياً بعلمائها، وحل في قلوبهم محل سويدائها، فأتى إلى وطنه بعد قضاء وطره بالبركات، وباشر تدريسه بزيادة على زهده الأول وعدة الحسنات الأول سيئات، مستقيماً على أحسن الأحوال، متشوقاً إلى مرشد يسلك عنده طريق فحول الرجال، إلى أن أتى السليمانية شخص هندي من مريدي شيخه الآتي وصفه، فاجتمع به وأظهر احتراقه واشتياقه لمرشد كامل يسعفه، فقال الهندي إن لي شيخاً كاملا، مرشداً عالماً عاملاً، عارفاً بمنازل السائرين إلى ملك الملوك، خبيراً بدقائق الإرشاد والسلوك، نقشبندي الطريقة، محمدي الأخلاق علماً في علم الحقيقة، فسر معي حتى نسعى إلى خدمته في جهان أباد، وقد سمعت إشارة بوصول مثلك هناك إلى المراد، فانتقش القول في قلبه، وأخذ بمجامع لبه، وعزم على المسير بالتجريد تاركاً منصب التدريس والوظائف، فرحل سنة ألف ومائتين وأربع وعشرين الرحلة الأخرى الهندية من طريق الري، يطوي بأيدي العيس بساط البيداء أسرع طي، فوصل طهران، وبعض بلاد إيران، والتقى مع مجتهدهم المتضلع بضبط المتون والشروح والحواشي، إسماعيل الكاشي، فجرى بينهما البحث الطويل، بمحضر من جمهور طلبة إسماعيل، فأفحمه إفحاماً أسكته، وأنطق طلبته، بأن ليس لنا من دليل، وقد أشار إلى هذه الواقعة في قصيدته العربية، متخلصاً لمدح شيخه الآتية أوصافه العذبية، ثم دخل بسطام وخرقان وسمنان ونيسابور، وزار إمام الطريق البحر الطامي، الشيخ أبا يزيد البسطامي، قدس سره، ومدحه بمنظومة فارسية، وزار في تلك البلاد، من الأولياء الأمجاد، حتى وصل طوس، وزار بها مشهد السيد الجليل المأنوس، نور حدقة البتول والمرتضى، الإمام علي الرضا، ومدحه بقصيدة غراء فارسية، أذعن لها الشعراء الطوسية ولظهور البدع فيها عجل الارتحال والقيام، إلى تربة شيخ مشايخ الجام، شيخ الإسلام، الشيخ أحمد النامقي الجامقي، فزاره ومدحه بمقطوعة فارسية بديعة فدخل بعدها بلدة هراة من بلاد الأفغان، واجتمع مع علمائها بالجامع(1/575)
فجاوره في ميدان الامتحان، فوجدوه بحراً لا ساحل له، وأقر كل منهم بالفضل له، فانثنى يحل لهم ما أشكل عليهم من المسائل بأبلغ مقال، ولما رحل عنهم ودعوه بمسير أميال، لما شاهدوه فيه من بديع الحال، فسار في مفاوز يضل فيها القطا، ويخفق قلب الأسد مخافة خوارج الأفغان المقتحمين مهالك السطا، حتى وصل قندهار وكابل، فاجتمع بجمع غفير من علماء البلد المذكور وامتحنوه بمسائل، من علم الكلام وغيره فرأوه فيها كالسيل الهائل، والغيث الهاطل، ثم رحل إلى بلد لاهور
فسار منها حتى وصل إلى قصبة فيها العالم النحرير، والولي الكبير، أخو شيخه في الطريقة والإنابة إلى مولاه، الشيخ المعمر المولى ثناء الله النقشبندي، فطلب منه الإمداد بالدعاء، قال فبت في تلك القصبة ليلة فرأيته في واقعة أنه قد جذبني من خدي بأسنانه المباركة يجرني إليه وأنا لا أنجر، فلما أصبحت ولقيته قال لي من غير أن أقص عليه الرؤيا سر على بركة الله تعالى إلى خدمة أخينا وسيدنا الشيخ عبد الله مشيراً إلى أن فتوحي سيكون عند الشيخ المقصود، وهناك تؤخذ المواثيق والعهود، وتنجز الوعود، فعرفت أنه قد أعمل همته الباطنية العلية ليجذبني إليه، فلم يتيسر لقوة جاذبة شيخي المحول فتحي عليه، فرحلت من تلك القصبة أقطع الأنجاد والوهاد، إلى أن وصلت دار السلطنة الهندية، وهي المعروفة بجهان أباد بمسير سنة كاملة، ولقد أدركتني نفحاته وإشاراته قبل وصول بنحو أربعين مرحلة، وهو أخبر قبل ذلك بعض خواص أصحابه بوفودي إلى أعتاب قبابه، وليلة دخوله على جهان أباد أنشأ قصيدته العربية الطنانة من بحر الكامل يذكر فيها وقائع السفر، ويتخلص لمدح شيخه قدس الله سره الأنور، ويستعطفه سائلاً من الله القبول، شاكراً له على الوصول، مطلعها: ار منها حتى وصل إلى قصبة فيها العالم النحرير، والولي الكبير، أخو شيخه في الطريقة والإنابة إلى مولاه، الشيخ المعمر المولى ثناء الله النقشبندي، فطلب منه الإمداد بالدعاء، قال فبت في تلك القصبة ليلة فرأيته في واقعة أنه قد جذبني من خدي بأسنانه المباركة يجرني إليه وأنا لا أنجر، فلما أصبحت ولقيته قال لي من غير أن أقص عليه الرؤيا سر على بركة الله تعالى إلى خدمة أخينا وسيدنا الشيخ عبد الله مشيراً إلى أن فتوحي سيكون عند الشيخ المقصود، وهناك تؤخذ المواثيق والعهود، وتنجز الوعود، فعرفت أنه قد أعمل همته الباطنية العلية ليجذبني إليه، فلم يتيسر لقوة جاذبة شيخي المحول فتحي عليه، فرحلت من تلك القصبة أقطع الأنجاد والوهاد، إلى أن وصلت دار السلطنة الهندية، وهي المعروفة بجهان أباد بمسير سنة كاملة، ولقد أدركتني نفحاته وإشاراته قبل وصول بنحو أربعين مرحلة، وهو أخبر قبل ذلك بعض خواص أصحابه بوفودي إلى أعتاب قبابه، وليلة دخوله على جهان أباد أنشأ قصيدته العربية الطنانة من بحر الكامل يذكر فيها وقائع السفر، ويتخلص لمدح شيخه قدس الله سره الأنور، ويستعطفه سائلاً من الله القبول، شاكراً له على الوصول، مطلعها:(1/576)
كملت مسافة كعبة الآمال ... حمداً لمن قد من بالإكمال
وأراح مركبي الطريح من السرى ... ومن اعتوار الحط والترحال
وأزاح عني قيد حب مواطني ... وعلاقة الأحباب والأموال
وهموم أمهتي وحسرة إخواتي ... وغموم عم أو خبال الخال
وتشاحن الأقران في رتب العلا ... وملامة الحساد والعذال
وأعاذني من فرقة أفاكة ... وأجارني من أمة جهال
أعني روافض أذربيجان الألى ... هم أشنع المخلوق في الأفعال
ومضلها الكاشي إسماعيل إذ ... قد حار لما شاب نار جدال
سحقاً له من مدع متزخرف ... بعدالة من منكر مضلال
وغلاة فرس في حديث مسند ... قد بشروا بإطاعة الدجال
وشرار أهل الطوس من سموا الرضا ... ونفوسهم سموا أحبة آل
وفساد قطاع الطريق بخيبر ... ومن المجوس وما لهم من وال
منعوا الأذان رعاية الإسلام إذ ... ضلوا وخاضوا أبحر الإضلال
ومنها متخلصا
وأنالني أعلى المآرب والمنى ... أعني وصال المرشد المفضال
من نور الآفاق بعد ظلامها ... وهدى الخلائق بعد طول ضلال
نجم الهدى بدر الدجى شمس النقى ... كنز الفيوض خزانة الأحوال
كالأرض حلماً والجبال تمكناً ... والشمس ضوءاً والسماء معالي
عين الشريعة معدن العرفان وال ... إحسان والإيقان والإفضال
قطب الطرائق قدوة الأوتاد بل ... غوث الخلائق رحلة الأبدال
شيخ الأنام وقبلة الإسلام صد ... ر للعظام ومرجع الإشكال
هاد إلى الأولى بهدي مختف ... داع إلى المولى بصوت عالي
محبوب رب العالمين من اهتدى ... بهداه نال السبق للأمثال
أخفاه رب العرش جل جلاله ... في قبة الإعزاز والإجلال(1/577)
ومنها يخاطب السالك
لكن بذا الوادي المقدس خالعاً ... نعلي هوى الكونين باستعجال
حجر مقامك بالمقام بلا صفا ... من طوف حضرة كعبة الآمال
ومنها
من شام لمعاً من بروق دياره ... بمشام روض الشام كيف يبالي
آنست من تلقاء مدين مصره ... ناراً تهيج البال بالبلبال
فهجرت أهلاً قائلاً لهم امكثوا ... أرجع إليكم غب الاستشعال
ونويت هجران الأحبة كلهم ... وركبت متن الأجرد الصهال
فطوى منازل في مسيرة منزل ... واهاً لجار سابح شملال
ومنها
سلب الهوى لبي فما في خاطري ... غير الحبيب وشوق طيف وصال
قد حان حين تشرفي بوصاله ... من لي بشكر عطية الإيصال
فكما قضيت إلهنا في أشهر ... طياً لبعد مسافة الأحوال
ووهبت إقداماً على طي الفلا ... ونزول غور وارتقاء جبال
ورزقتنا تقبيل عتبة قبلة ... فاز المقبل منه بالإقبال
فارزق إله العالمين بحقه ... أدباً يليق بذا الجناب العالي
وأمدنا بلقائه وبقائه ... وعطائه ونواله المتوالي
زدنا خصوراً في حضور قبابه ... أدم الورى بحماه تحت ظلال
ومنها
زد كل يوم في فؤادي وقعه ... ما دمت حياً في جميع الحال
وأمتن مرضياً لديه وراضياً ... عنه رضى يجدي مفاز مآل
فالحمد للفتاح أبواب العطا ... القادر المتقدس الفعال
ثم الصلاة على الرسول المجتبى ... خير الورى والصحب بعد الآل
وهي طويلة اكتفينا بذكر هذا القدر منها وفيه الكفاية، لطالب الدراية(1/578)
والرواية. وله غيرها من المقاطيع العربية، ومن الفارسية، قصائد ومقاطيع كثيرة أنسية، منها قصيدة غراء في مدح شيخه قدس سره أيضاً. وبعد وصوله تجرد ثانياً عما عنده من حوائج السفر، وأنفق ماله كله على المستحقين ممن حضر، فأخذ الطريقة العلية النقشبندية بعمومها وخصوصها، ومفهومها ومنصوصها، على شيخ مشايخ الديار الهندية، وارث المعارف والأسر المجددية، سباح بحار التوحيد، سياح قفار التجريد، قطب الطرائق، وغوث الخلائق، ومعدن الحقائق، ومنبع الحكم والإحسان والإيقان والرقائق، العالم النحرير الفاضل، والعلم الفرد المكمل الكامل، المتجرد عما سوى مولاه، حضرة الشيخ عبد الله الدهلوي قدس سره. واشتغل بخدمة الزاوية مع الذكر والمجاهدة، فلم يمض عليه نحو خمسة أشهر حتى صار من أهل الحضور والمشاهدة، وبشره شيخه ببشارات كشفية قد تحققت بالعيان، وحل منه محل إنسان العين من الإنسان، مع كثرة تصاغره بالخدم، وكسره لدواعي النفس بالرياضات الشاقة وتكليفها خطط العدم، فلم تكمل عليه السنة حتى صار الفرد الكامل العلم، والله يؤتي ملكه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ولا غرو فإن من السالكين من وصل في لحظة، ومنهم من وصل في ساعة، ومنهم من وصل في يوم، ومنهم من وصل في اسبوع، ومنهم من وصل في شهر، ومنهم من وصل في سنة، ومنهم من وصل في سنين، كما هو مذكور في كتاب منهاج العابدين. وشهد له شيخه عند أصحابه وفي مكاتيبه المرسولة إليه بخطه المبارك بالوصول إلى كمال الولاية، وإتمام السلوك العادي مع الرسوخ والدراية، والفناء والبقاء، الأتمين المعروفين عند الأولياء، وأجازه بالإرشاد، وخلفه الخلافة التامة في الطرائق الخمسة: النقشبندية والقادرية والسهروردية والكبروية والجشتية. وأجاز له جميع ما يجوز له روايته من حديث وتفسير وتصوف وأحزاب وأوراد، واجتمع بإشارة من شيخه قدس سره بالعالم الفاضل، المدرس الواعظ الصوفي الكامل،(1/579)
صاحب التآليف النفيسة في التفسير، ورد الروافض بأبلغ تحرير، الشيخ المعمر المولى عبد العزيز الحنفي النقشبندي ابن العالم العامل، المولى الكامل، ولي الله الحنفي النقشبندي رحمه الله تعالى. فأجاز له روايات الصحاح الستة وبعض الأحزاب، وكتب له إجازة لطيفة وصفه فيها بقوله: صاحب الهمة العلية في طلب الحق. ثم أرسله بعد ملازمته سنة بأمر مؤكد لم يمكنه التخلف عنه إلى هذه الأقطار والبلاد ليرشد المسترشدين، ويربي السالكين، بأتقن إرشاد وشيعه بنفسه نحو أربعة أميال، ليأتي أوطانه ممتثلاً للأمر الواجب الامتثال، سائراً في طريقه براً مدة وبحراً نحو خمسين يوماً، لم يطعم طعاماً فيه ولم يشرب الماء متغذياً متروياً بالعبادة والذكر والمشاهدة والزهادة، حتى خرج من بندر مسقط إلى نواحي شيراز ويزد وأصفهان، يعلن الحق أينما كان، وكم مرة تجمع بعض الروافض لضربه وقتله، بعد عجزهم عن أجوبة أدلة عقله ونقله، فهجم عليهم بسيفه البتار، فنكصوا على أعقابهم وولوا الأدبار، ثم أتى همدان وسنندج فوصل السليمانية عام ألف ومائتين وستة وعشرين باستقبال أعيان وطنه معززاً مكرما، فقدم في تلك السنة بإشارة من شيخه مدينة الزوراء، ليزور السادة الأولياء، فنزل في زاوية الغوث الأعظم، سيدنا الشيخ عبد القادر الجيلي قدس سره الأقوم، وابتدأ هناك بإرشاد الناس، على أحكم أساس، فمكث نحو خمسة أشهر ثم رجع إلى وطنه بشعار الصوفية الأكابر، مرشداً في علمي الباطن والظاهر، ولما اطردت سنة الله في الذين خلوا من قبل، أن يجعل حساداً لكل من تفرد بالفضل، وكلما كان الكمال والمحبوبية أسد، كان الإنكار والحسد أشد، هاج عليه بعض معاصريه ومواطنيه بالحسد والعداوة والبهتان، ووشوا عليه عند حاكم كردستان، بأشياء تنبو عن سماعها الآذان، وهو بريء من كلها بشهادة البداهة والعيان، فلم يقابل(1/580)
صنيعهم الشنيع، إلا بالدعاء لهم وحسن الصنيع، فلم تخب نارهم، وما زاد إلا شرهم وعوارهم.
وقد قيل:
كل العداوات قد ترجى إزالتها ... إلا عداوة من عاداك عن حسد
فخلاهم وشأنهم في السليمانية، ورحل إلى بغداد عام ألف ومائتين وثمانية وعشرين مرة ثانية، فألف الذي تولى كبر البهتان من المنكرين رسالة عاطلة من الصدق والصواب، ومهرها بمهور إخوانه المنكرين مشحونة بتضليل القطب المترجم وتكفيره ولم يخشوا مقت المنتقم الشديد العقاب، وأرسلها إلى والي بغداد سعيد باشا يحرضه على إهانته، وإخراجه من بغداد بسعايته، فبصره الله تعالى بدسائسهم الناشئة من الحسد والعناد، وأمر بعض العلماء بردها على وجه السداد، فانتدب له العالم النحرير، الدارج إلى رحمة الله القدير، محمد أمين أفندي مفتي الحلة سابقا، وكان مدرس المدرسة العلوية لاحقا، بتأليف رسالة طعن بأسنة أدلتها أعجازهم فولتهم الأدبار ثم لا ينصرون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، ومهرت بمهور علماء بغداد، وأرسلت إلى المنكرين فسلقتهم بألسنة حداد، فخبت نارهم، وانطمست آثارهم، ورجع بعد هذه الأمور إلى السليمانية، محفوفاً بالكمالات الإحسانية، وبالجملة انتفع به خلق كثيرون من الأكراد، وأهل كركوك واربل والموصل والعمادية وعينتاب وحلب والشام والمدينة المنورة ومكة المعظمة وبغداد، وهو كريم النفس حميد الأخلاق باذل الندى حامل الأذى حلو المفاكهة والمحاضرة، رقيق الحاشية والمسامرة، ثبت الجنان، بديع البيان، طلق اللسان، لا تأخذه في الله لومة لائم، يأخذ بالأحوط والعزائم، يتكفل الأرامل والأيتام، شديد الحرص على نفع الإسلام.
وله من المؤلفات شرح لطيف على مقامات الحريري لكنه لم يكمل، وشرح على حديث جبريل جمع فيه عقائد الإسلام إلا أنه باللغة الفارسية،(1/581)
وأكثر شعره فارسي، وله فيه ديوان نظم بديع، ونثر يفوق أزهار الربيع، وهو الآن أعني تاريخ عام ألف ومائتين وثلاثة وثلاثين يدرس العلوم، من حديث وأصول وتصوف ورسوم، ويحيي للأولياء الرسوم، ويداوي الكلوم، ويربي السالكين على أحسن حال، وأجمل منوال، وقد مدحه أدباء عصره من مريديه وغيرهم بقصائد فارسية وعربية، ورحل إليه كثير من الأقطار الشرقية والغربية، وبابه محط رحال الأفاضل، ومخيم أهل الحاجات والمسائل، لا يشغله الخلق عن الحق، ولا الجمع عن الفرق، لا زال ظله ممدوداً، ولواء ترويج الشريعة والطريقة بوجوده معقوداً، آمين.
إن الذي قلت بعض من مناقبه ... ما زدت إلا لعلي زدت نقصانا
انتهى. ثم قال صاحب الحديقة سيدي محمد بن سليمان في رسالته المرقومة: ولقد حبب إلي أن أثبت هنا قصيدة نظمتها سنة ألف ومائتين وإحدى وثلاثين في مدحه، مستندياً مستجيزاً من فيض فتحه، حتى تتخلد في الدفاتر، وتبقى من المآثر، وهي هذه برمتها.
تبدت لنا أعلام علم الهدى صدقا ... فصار لشمس الدين مغربنا شرقا
وأشرق منها كل ما كان آفلاً ... وأصبح نور السعد قد ملأ الأفقا
سقى الله من ماء المحبة وابلاً ... قلوباً به هامت فقل كيف لا تسقى
لقد زهدوا فيما سواه فأصبحت ... قلوبهم مملوءة للقا شوقا
لقد غرقوا في بحر حب إلههم ... فناهيك من بحر وناهيك من غرقى
إذا ما سرت للسر أسرار شوقهم ... لسيدهم زادوا لرتبته حرقا
قلوب سرت نحو الهدى بمعسكر ... فعادت سهام الحب ترشقها رشقا
وجاء من التوحيد جيش عرمرم ... فأفنى الذي أفنى وأبقى الذي أبقى
هم القوم لا يشقى جليسهم غداً ... وهل أحد يحظى بقربهم يشقى
أبا خالد ذلت لديك عصابة ... فوالاهم حباً وأدناهم وفقا(1/582)
لك الله يا شمساً أضاء بنورها ... من الدين ما قد كان أظلم وازرقا
سقيت قلوباً طالما شفها الظما ... فأمطرتها من ماء علم الهدى ودقا
فأحييت منها كل ما كان ميتاً ... ورقيت مها كل ما كان لا يرقى
وأخرجتها من كل جهل وظلمة ... فمهما دجا ليل ألحت له برقا
وأدخلتها حسن التوكل مخلصاً ... وأمسكتها للعز بالعروة الوثقى
شفيت بأنوار الغيوب قلوبنا ... فاسمك تنشق القلوب له شقا
وقد كان سلطان الهوى متمكناً ... فأوسعها ذلاً وعبدها رقا
فأعتقها من رقها بتلطف ... فجوزيت من خير منحت الورى عتقا
إذا استبقت بالعارفين خيولهم ... فخيلك بالتوحيد قد حازت السبقا
وإن ركبوا نحو المعارف مركباً ... ركبت إليها في بحار الهوى عشقا
سموت بنور الله عن كل ناظر ... فصرت ترى في الغيب ما لا ترى الزرقا
فأنت إمام العارفين ونورهم ... ومنطقهم مهما أردت بهم نطقا
فعطفاً على من لا يلوذ بغيركم ... بأن ترشقوه من ندى فيضكم رشقا
فأنتم كرام لا يضام نزيلكم ... بجاهكم لا تمنعوا الوصل والعتقا
عليك سلام الله ما ذر شارف ... وما صدحت شجواً لموكرها ورقا
وصل على المختار من آل هاشم ... كما جاء بالحق الذي أظهر الحقا
ومن خوارقه أن من جالسه ولازمه، وراعى الآداب ظاهراً وباطناً معه، انتفع من لحظه، واسترزق من رزقه المكنون في لفظه، من الأنوار والأسرار ووجد تأثير ذلك في الحال، وزهد قلبه عن حب الدنيا والجاه والمال، واستيقظ من نومه وأفاق متفكراً في المآل، وكاد أن يهجر الأهل والعيال، وهذه الخاصة لا توجد إلا عند الكمل من الرجال، فالحمد لله الذي شرفنا برؤيته، وأدخلنا في زمرته، وأسأل من رب العباد، أن يمن على المريدين بحصول المراد، إنه كريم رحيم جواد، ونعم(1/583)
ما قيل:
ومن بعد هذا ما تجل صفاته ... وما كتمه أحظى لدي وأجمل
ثم ارتحل قدس سره من بغداد إلى الشام بأهله وعياله واستوطن دمشق، واشترى داراً رفيعة بالمحلة المشهورة بالقنوات، ووقف بعضها مسجداً لله تعالى وأقام فيه صلاة الجماعة في الأوقات الخمسة، وعمر فيها كثيراً من المساجد الخربة، وأحيا فيها كثيراً من الجوامع المندرسة، وذلك عام ثمانية وثلاثين ومائتين وألف. ولم يزل متردياً برداء الجود والكرم، ناشراً للعلم والفضائل والحكم، وامتدحه جمع من شعرائها وأدبائها بقصائد لطيفة، ومقاطيع منيفة، فمنها ما مدحه بعضهم بها في عام قدومه دمشق، وذلك عام ألف ومائتين وثمانية وثلاثين:
يا ملاذاً قد حبانا بالنوال ... وبدا إرشاده يحكي الهلال
وسما بين البرايا عندما ... بالهدى جاء على نهج الكمال
مرشد القوم إمام كامل ... وإليه منهج الإرشاد آل
حبذا مولى به نلنا الهدى ... قد أدام النفع فيه ذو الجلال
فاح عرف الفتح لما جاءنا ... وعليه النور يعلوه الجمال
بل طبيب القوم في حال الهدى ... عارف بالله لا يثنيه حال
بحر علم من لدن رب العلى ... سار بالتحقيق أهل الاتصال
نوره يهدي إلى الحق فقل ... عنده ما شاء ربي المتعال
وبه الشام غدت باسمة ... إذ غدا عرفانه السحر الحلال
نقشبند العصر مناح الهدى ... مذ أتانا قلت مه يا للرجال
هذا من دانت له أهل الحمى ... في دمشق الشام أرباب النوال
زين عقد العارفين الفضلا ... شمس فضل ما له حقاً مثال
عين هذا الدهر نور واضح ... ليس يثنيه لإرشاد ملال
كنز فضل الهدي مصباح الورى ... ليس في مجلسه تلقى جدال
أشرقت بلدتنا فيه كما ... أشرقت شمس التهاني بالوصال(1/584)
جل أستاذاً تسامى رفعة ... ولي العرفان إذ نال المنال
أرفعي ألمعي ذو تقى ... جامع الشرع لنا حالاً وقال
كوكب العز بدا مبتسماً ... في دمشق الشام مذ فيها استطال
لذ شرباً ورده في حانه ... فابتغ الورد لديه لا تبال
فهو بحر مورداً طاب وكم ... من مريد مدحه السامي أطال
ثق به إن رمت أسنى منحة ... من إله في علاه متعال
فهو حبر جهبذ سادت به ... عصبة الذكر فحقق ما يقال
خمرة المجلى شفاء قد غدا ... فاحتسي يا طالباً صافي الزلال
وارتشف من خمره ثم اجتني ... ثمراً ينفى به الداء العضال
والزم السر بذكر ترتقي ... رتباً جلت كمالاً عن مثال
والتزم نور الهدى مرشدنا ... تلقى حقاً درسه مجلى جمال
سادتي لا تهجروني وارفقوا ... بفتىً علاه وجد وانتحال
ليس يرجو في الورى إلاكم ... لا ولا يبدي إلى الغير سؤال
فأسعفوه وأنجدوه كرماً ... فلكم في بابكم حطت رحال
واعذروني فقصوري ظاهر ... واصفحوا فالصفح من حسن الخصال
دمت للإرشاد ما قال امرؤ ... يا ملاذاً قد حبانا بالنوال
هذا ولو أردت أن أذكر عشر معشار ما مدح به ذلك الأستاذ، والقطب الأوحد الفرد الملاذ، لخرجت عن منهج السداد، وتحولت عن الإيجاز الذي هو المراد، وعلى كل فشهرته في العالم كافية، وسيرته المحمودة سنية وافية، وقد أخذ سيدي الوالد عنه، وحصل جل نفعه طريقة وعلماً منه، ولازمه إلى انتهاء أجله، وكان غاية مراده ومنتهى أمله، وكان للسيد المترجم به عناية قوية، ومحبة أبوية، ولما قرب ارتحاله رضي الله عنه من دار الفناء، إلى دار البقاء، وآن أوان إجابة روحه الزكية، لأمر ربها راضية مرضية، كأن الله تعالى كشف له عن ذلك، فأمر بحفر(1/585)
القبر المبارك، وعين مكانه في الصالحية خارج دمشق الشام، في تل تحت جبل قاسيون مقابل مقام الأربعين، فاستقاموا في حفره ثلاثة أيام، فبعد أن تم الحفر بيوم أو يومين ابتدأه المرض يوم الثلاثاء الحادي عشر من شهر ذي القعدة عام ألف ومائتين واثنين وأربعين. وتوفي ليلة الجمعة رابع عشره بالطاعون، فجمع الله له بين شهادات متعددة: الطاعون والجمعة والغربة وطلب العلم، ودفن في القبر الذي أمر بحفره. وقد بنى حضرة السلطان الأعظم والخاقان الأفخم السلطان عبد المجيد خان، رحمه الله رحمةً دائمة إلى آخر الزمان، على قبره الشريف بناء جميلاً مشتملاً على قبة على القبر الشريف ومسجداً وعدة مقاصير للمريدين المتجردين، ومطبخاً وبركة عظيمة للماء، وجميع ذلك في محله ظاهر معروف مشهور مقصود للزائرين والواردين. وقد رثاه الفاضل النبيل، جناب الشيخ إسماعيل بقوله:
ما للجبال الراسيات تميل ... ما للبدور يرى بهن أفول
ما للظلام يجر ذيل ردائه ... فوق الضياء فلم يقله مقيل
ومخدرات الحر تنثر لؤلؤاً ... من دمعها فوق الخدود يسيل
والورق أكثرت النواح مخضباً ... كف البطائح دمعها المهمول
والدهر ألبس أهله حلل العنا ... وعلا رياض الشام منه ذبول
والحزن قام على منابر حينا ... أبداً خطيباً لا يكاد يزول
والأرض ترجف والنوائب أدهمت ... والبين يهجم والخطوب تجول
هذا مصاب ليس يحدث مثله ... تالله كم دهشت لديه عقول
ماذا بدا في الكون يا أهل النهى ... هل مخبر عني الشكوك يزيل
هل كان يوم الصعقة الأولى هل ... دهم الورى بالصور إسرافيل
أم زلزلت تلك القيامة وانطوت ... حجب الحياة وعاجل التهويل
أفصح لنا عما بدا يا ذا الحجا ... فغدا لسان الحال منه يقول
قف وانتبه ما قد بدا فيما استوت ... فيه الخلائق عالم وجهول(1/586)
قد مات كهف العلم سلطان التقى ... حبر له المعقول والمنقول
سند السيادة والرياسة للورى ... قاصٍ ودانٍ فضله مأمول
صدر المجالس إن بدا فكأنه ... النعمان يروي عن عطا ويقول
بحر أفاض على الورى مدراره ... فروى العطاش زلاله المعسول
وتفجرت منه ينابيع حلا ... منها لوراد الهدى التعليل
بكت العيون على فراقك سيدي ... وبكاؤها لك بالدماء قليل
وافى ضياء الدين بدر زمانه ... قطب الوجود وللعلا إكليل
عند المليك الحق قد أضحى له ... في مقعد الصدق الأجل مقيل
هيهات إن جاد الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيل
يا خالداً في حضرة القدس التي ... كم طاح دون فنائها مقتول
أدناك ربك منزلاً ترقى به ... فلك الشهود وكم بذاك نزول
وأباح روحك حضرة قدسيةً ... عند المهيمن ما لها تبديل
وأناخ سحب الفضل تهطل دائماً ... بفناء رمسك لا تكاد تزول
ما قال إسماعيل يرثي سيداً ... ما للجبال الراسيات تميل
والمراثي في حقه كثيرة، وهي به حقيقة وجديرة، أضربنا عن ذكرها خوف التطويل، على أن كثرة المدح، وإطالة الشرح في حقه أمر قليل.
الشيخ خالد الجزيري النقشبندي الخالدي
إمام قد تحلى بعقود الكمال، وتولى على روض البهاء والجمال، حميد الخصال، الذي لمعت في سماء الإجلال بوارقها، وطلعت في آفاق الكمال شوارقها، إن ذكر الفضل فهو من ذويه، أو امتدت سواعد البذل سبقها بالعطاء لمستحقيه، توشح بالعلم والعرفان، وتصفح وجوه مخدرات الفضائل فتخير لنفسه الحسان، وبعد أن فاق بالعلم والعمل، وحاز من التقدم في الطاعة والعبادة على الأمل، أخذ عن الأستاذ العارف بالله، والمتباعد عما سواه، مولانا خالد شيخ الحضرة النقشية، وإمام المعارف والرياضات(1/587)
العلية، فسلك على يديه السلوك التام، إلى أن رآه حضرة الأستاذ بلغ المرام، أقامه عنه خليفةً في إعطاء الطريق، وأذن له بإنشاء الحضرة الشريفة مع كل مريد صدوق بالعهد الوثيق، فكان لعمري نور حدقة الفضلاء، ونور حديقة الكملاء، يشار إليه بالطاعة والعبادة، ويفتخر به التقوى والفضل والزهادة وكان في الاستقامة على جانب عظيم، وفي أمر السلوك على حال جسيم، إلى أن توفي سنة ألف ومائتين ونيف وأربعين.
خالد بك القاضي العام بدمشق الشام
أقسم بالقمر إذا اتسق، وحل في دارته آمناً من كدر السحب والشفق، لهو الإنسان في حدقة الزمان، واللسان الذي صين عن زلة في البيان، والكامل الذي نظمه الدهر في عقود حلاه، والفاضل الذي ارتقى على فلك الفضائل علاه. دخل الشام قاضياً في أواخر رجب المحرم سنة اربع وثلاثمائة وألف، فعامل الناس باللطف والإكرام، وصار له جلالة ومحبة في قلوب الخاص والعام، وسار في الناس بسيرة حسنة، وكانت جميع معاملاته مستحسنة، وكان مصوناً عن مد يده إلى شيء من المال، عفيفاً تقياً نقياً حسن الخصال، ولم يزل ينهج منهج الطاعة والعبادة، حتى دعته المنية إلى دار السعادة، فلبى الدعوة مطهراً من كل أموال الناس بالباطل تطهيراً، قد تواترت الشهادة له بأنه لم يأخذ من أحد قليلاً ولا كثيراً، وقد اجتمعت به غير مرة، فلم أجد ما يطعن بكماله مقدار ذرة، ولما مات ما وجد عنده ما يكفيه، لتجهيزه وتكفينه ودفنه بقبر يواريه، حتى جمع له بعض أحبابه مقداراً من الدراهم صرفوه عليه إلى أن واروه في ترابه. وكان ذلك يوم الثلاثاء عاشر محرم الحرام سنة خمس وثلاثمائة وألف، وكان عمره نحو سبعين سنة، ودفن في مقبرة باب الصغير في قبر والده رحمهما الله تعالى.(1/588)
السيد خزام بن السيد علي آل خزام بن السيد حسين برهان الدين الصيادي الرفاعي الخالدي
هو من رجال تنوير الأبصار، في طبقات السادة الرفاعية الأخيار فقال مؤلفه: ومنهم الشهم الهمام، بقية آل الرفاعي الأعلام، نزيل بني خالد بديار حماة الشام. ثم قال: قال الشيخ محمد أبو الوفا الرفاعي في مجموعته عند ذكر السيد علي الخزام: ترك ولداً له سماه الخزام كان عمره يوم وفاة أبيه اثنتي عشرة سنة. وقد نص صاحب قاموس العاشقين، على أنه هو وأصوله من ذرية سيدنا خالد سيف الله بن الوليد المخزومي القرشي الصحابي الجليل الأمير الشهير، دفين حمص، فاتح بلاد الشام، وصاحب الفتوحات الشهيرة التي لا تحصى في الإسلام، رضي الله عنه. نعم قال ابن الأثير بانقراض ذرية سيدنا خالد في كتابه أسد الغابة، ونقض كلامه في تاريخه الكامل، في غير موضع، وخالف كلامه في أسد الغابة جماعة من فحول أعلام العلماء، منهم النسابة العلامة الإمام السمعاني والشيخ عبد الغافر في تاريخيهما، والإمام السبكي في طبقات الشافعية، والبقاعي في تاريخه، وشيخ الإسلام السراج المخزومي في صحاح الأخبار، وغيرهم رحمهم الله، وأثبتوا كلهم الذرية الخالدية وترجموا جماعة من رجالها، وقال العلامة السويدي، وهو من رجال عصرنا، في سبائك الذهب، عند قوله بنو خالد بالشام ما ملخصه: إنهم يدعون النسب لسيدنا خالد بن الوليد.
والنسابون يقولون بانقراض ذريته وهم من بني عمه، ويكفيهم شرفاً أنهم من قريش: أقول: والأحاديث بفضل قريش لا تعد، وهي أشهر من أن ينبه عليها. أقام السيد خزام بقبيلة بني خالد، يضيف الوارد، ويغيث الشارد، وقد حماه الله من ارتكاب المآثم، ووهبه خلقاً جميلاً(1/589)
حسناً من أحسن أخلاق الأسخياء الأكارم، وقد اشتهر عند العموم أن أهل هذا البيت من قديم وحديث لا يشبعون وجيرانهم جياع، ولا يمنعون عن السائل شيئاً من مال أو زاد أو متاع، كل ذلك لوجه الله حباً في الله. نقل خال أبي الصالح الأصيل منصور العابدي أن المترجم سمع شيخاً في جامع المعرة يقول: من صلى أربعين سبتاً صلاة الصبح في مرقد سيدنا أويس القرني بالمعرة مخلصاً يرى الخضر عليه السلام، فكان يترك أهله كل يوم سبت ويجيء إلى المعرة يصلي الصبح في المقام، ويرجع، فعند تمام الأربعين رأى بعد خروجه من المقام رجلاً رث الهيئة أشعث أغبر يسيل من ريقه على لحيته، فأخذ قصبة الدخان من يده وعبث به فلم يتكدر منه، لأنه كان حليماً سليما، وبش في وجهه ولاطفه، ولكن لم يخطر له أنه الخضر، فلما لم يكلمه قال له: تريد أن أدعو لك؟ فقال إي والله يا سيدي، فقال الله يسترك أنت وذريتك ويعمر بيتك ويميتك على الإيمان الكامل. ومس بيديه على وجهه، فمس السيد خزام صاحب الترجمة بيديه على وجهه، فلما رفع يديه عن وجهه لم يجد الرجل، فعرف أنه الخضر وحمد الله وشكره، وكان يقول مفتخراً تحدثاً بنعمة الله. أنا ببركة دعاء الخضر عليه السلام بيتي معمور وذريتي مستورة، وأنا ميت على الإيمان الكامل إن شاء الله. مات المترجم سنة تسع ومائتين وألف ودفن في قرية حيش وراء قبة أبيه.(1/590)
الشيخ خليل بن عبد السلام بن محمد الكاملي الدمشقي الشافعي
ولد بدمشق سنة ست وأربعين ومائة وألف، ونشأ بها ولازم العلماء، وأخذ عن الفضلاء، وبرع في الفنون، وحاز على القدر المصون، وأخذ عنه الأفاضل. مات سنة ألف ومائتين وسبع، ودفن في مقبرة باب الصغير.
الشيخ خليل بن محمد خليل بن عمر بن سعيد الدمشقي الشافعي المعروف بالخشة
كان عالماً إماما، ومحدثاً هماما، وكان له قدر واعتبار، بين العلماء الأخيار، وكان بديع التقرير متين التحقيق، متحلياً بدقة النظر وكمال التدقيق، حلال المشكلات، مزيل المعضلات، ذا ذهن ثاقب وقريحة وقادة، وسرعة فهم ونظر مستقيم ومروءة فوق العادة. ولد بدمشق في اليوم الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف، ونشأ بها واشتغل في طلب العلم، وأخذ عن علمائها الأجلاء الفخام، منهم بل أجلهم السيد علي الداغستاني الحنفي، والعلامة الشيخ عبد الرحمن الكردي الشافعي، والعلامة الفهامة علي بن محمد السليمي، والعلامة البخاري، والشمس محمد الكزبري، والعلامة الشيخ أحمد العطار،(1/591)
والعلامة منصور الحلبي، والعلامة السيد مصطفى البكري الصديقي وغيرهم مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين وألف، ودفن في تربة الدحداح رحمه الله.
الشيخ خليل السعدي الجباوي الشافعي الدمشقي الميداني شيخ الطريقة السعدية
الأستاذ الصالح، المعتقد، البركة، القدوة، الورع، الزاهد، العابد، المقصود خصوصاً من بلاد الأناطول والروم، قطب الواردين، ومراد القاصدين، كان مواظباً على إقامة الأذكار في زاويتهم المعلومة في ميدان الحصى المشهورة بزاوية سعد الدين. وكان حاتم زمانه مهاباً نير الوجه، أخذ الطريق عن ابن عمه الشيخ الصالح أسعد بن محمد بن مصطفى، ولقنه الذكر وسلكه وأرشده، ثم أذن له في إعطاء الطريق لمن فيه أهلية للأخذ مات رحمه الله سنة أربع وستين ومائتين وألف، ودفن في مدفنهم المشهور في تربة باب الله.(1/592)
الشيخ خليل المدابغي الأزهري الشافعي
حبر الفضلاء، وبحر ورود العلماء، صاحب التحرير والتحقيق، والتحبير والتدقيق، عرف بالمدابغي لسكناه بحارة المدابغ، حضر دروس الأشياخ من الطبقة الأولى، وكان مفرداً في عصره معقولاً ومنقولا، واشتهر فضله مع فقره، واعتزل عن الناس تباعداً عما يطعن بكمال قدره، وكان متواضعاً زاهداً، متديناً عابداً، يكتسب من الكتابة، ولا يمشي إلى حاكم ولا يدخل بابه، ولا يتجمل بالملابس ولا يعرف أنه من العلماء الكرام، بل إذا مشى بين الناس يظن أنه من العوام. توفي يوم الاثنين ثامن عشر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف.
الشيخ خليل بن عبد الكريم بن خلاص الحلبي الشافعي الأشعري
الإمام أبو الصفا غرس الدين العالم الفقيه الورع المقرىء العلامة الفاضل. مولده في حدود الأربعين بعد المائة والألف، وقرأ القرآن العظيم، وحفظه على المقرىء أبي الحسن علي البانقدسي، وقرأ العربية على غرس الدين خليل الفتال، وقرأ على غيره بعض الفنون كأبي الحسن علي بن إبراهيم العطار، وأبي محمد عبد الوهاب بن أحمد المصري الأزهري، ونور الدين علي بن يحيى الالتونجي، والشهاب أحمد بن أحمد المصري نزيل حلب، وتفقه بأبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري الشافعي ولازمه مدة خمس وعشرين سنة. وقرأ وفهم وبرع وفاق وتنبل وانتفع به الكثير، وثقل سمعه في حدود التسعين ومائة وألف، بحيث لا يسمع إلا بعد مشقة عظيمة، وكان كثير التلاوة دائباً على التقوى والعبادة آناء الليل وأطراف النهار، وشهد بفضله مفتي الديار الدمشقية العلامة الإمام(1/593)
الهمام خليل أفندي المرادي حين اجتماعه به سنة خمس بعد المائتين والألف وكل قد أخذ عن الآخر. وتوفي المترجم عام ألف ومائتين واثني عشر رحمه الله تعالى.
الشيخ خليل التميمي الداري مفتي بلد سيدي إبراهيم الخليل
سيد مجده أثيل، ومنصبه جميل جليل، فاق أدباء عصره، وزكت به شهرة مصره، كيف لا وهو أحد أئمة عصابة العلم والسيادة، المتوج من المولى المنان بتاج العز والسعادة، ولد هذا الأستاذ والعمدة الملاذ، سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين. وفي سنة ألف ومائتين وثلاث وستين عندما توجه عمه الشيخ التميمي مفتي الديار المصرية وقتئذ إلى دار السعادة مدعواً من لدن ساكن الجنان السلطان عبد المجيد خان، لحضور ختان أنجاله العظام، كان المترجم مجاوراً بالجامع الأزهر، فصحب عمه المشار إليه إلى الآستانة وبأثناء وجوده فيها تقلد إفتاء مدينة الخليل، وكان رحمه الله تعالى على جانب عظيم من التقوى والصلاح وسعة العلم، وكانت تأتيه الفتاوى من المدن العظيمة فيجيب عنها، وانقطع في آخر حياته عن الأشغال ولازم بيته لا يخرج منه إلا لصلاة الجمعة. وقد اجتمعت به في الخليل سنة ألف ومائتين وتسع وثمانين حينما توجهت لزيارة الحرم الأقصى، فرأيت رجلاً فضله فوق شهرته، وأخلاقه الجميلة قد زادته رفعة إلى رفعته، مع عبادة وتقوى، وتمسك لدينه بالسبب الأقوى، وزهد وصيانة، وعفة وأمانة، وله نثر أرق من الصهبا، وألذ من نشوة الصبا، ومن نظامه أبياته التي سال بها من مفتي الشام محمود أفندي الحمزاوي عليه رحمة الملك السلام وهي:(1/594)
لك الحمد يا مولاي في النظم والنثر ... كذلك شكر ليس يحصر بالحصر
وأهدي صلاة يستمر ثوابها ... لأفضل خلق الرب من جاء بالنصر
وآل وصحب ما تسلسل عنهم ... أحاديث أحكام كما الأنجم الزهر
ومن بعدها أدعو بكل حميدة ... إلى السيد المفضال ذي المجد والفخر
إمام الهدى مفتي دمشق أخي التقى ... ومن قد دعي محمود حمزة في العصر
سيعرض هذا العبد بين يديكمو ... سؤالاً أجيبوا عنه بالنظم والشعر
وذلك أن المصطفى سيد الورى ... تفضل بالإقطاع للأرض للديري
وقد شاع هذا عند كل محدث ... بطرق لها في الكتب أصل بلا نكر
فمن جملة المروي ما قد رويته ... له ولأعقابٍ له مدة الدهر
فهل نستفيد الملك من ذي بأسرها ... أم الوقف أم أرصادها يا أخا البدر
فإن قلتم بالملك تجريد مثله ... وإن قلتم بالوقف أفصحه بالنثر
وإن قيل بالأرصاد ما العمل الذي ... تدوم عليه في بنيه وفي الأجر
أيمنع أعلى القوم منهم لا سفل ... أم العبد منهم يستوي هو بالحر
وهل ما ترى من أرضه مرصداً به ... على غير أولاد يخلص بالجبر
وهل يؤجر الأولاد أرضاً لغيرهم ... لينتفعوا فيها بشيء من الحكر
فقصوا لنا فيه الجواب ليشتفي ... بذاك عليل النفس من ربقة الأسر
وعدوا لهاتيك الأراضي برقمكم ... لأروي من الصافي الزلال من الصدر
فلا زال أهل العلم راجين نقلكم ... ولا زال سيب العلم من ذاتكم يجري
فقد قاله مفتي الخليل مصدراً ... لك الحمد يا مولاي في النظم والنثر
فأجابه مفتي الأنام، السيد محمود الحمزاوي الهمام:
لك الحمد يا مولاي في السر والجهر ... على نعم لم تحص بالعد والحصر
وأزكى صلاة مع سلام متمم ... على سيد الخلق المؤيد بالنصر
وآل وأصحاب نجوم ثواقب ... وأتباعهم حسناً إلى آخر العصر(1/595)
وبعد فإن المصطفى سيد الورى ... تفضل بالإقطاع قصداً إلى البر
فأقطع أقواماً تطول شروحهم ... تميم بن أوس منهم شائع الذكر
فأعطاه حبروناً وعينون سرمداً ... بأنباطها والسهل والطود والوعر
ومن قبل فتح الشام كان عطاؤه ... خصوصية للمصطفى طيب النشر
وما ذاك وقف يا خليلي عندنا ... ولا هو بالارصاد قطعاً بلا نكر
ولكنه ملك يباع ويشترى ... ويورث إن ماتوا ويؤخذ بالأجر
ويعطى لمن شاؤوا بقسم مقدر ... كنصف وثلث أو لخمسٍ أو العشر
وإني بحمد الله أرويه مسنداً ... بإسناد أثبات ثقات عن الحبر
إمام الورى يعقوب أي في خراجه ... حكى البيع والميراث فانظر يا ذخري
كذلك في إقطاع عثمان قد روي ... لسعد وعبد الله ذي المجد والفخر
بثلث وربع يعطيان قطيعة ... وعن أعمش هذا الحديث أخي الخبر
وفي التحفة المرضية الزين قد حكى ... إجازة إقطاع وناهيك من بحر
وقد قسم الزين القطيعة جيداً ... إلى اثنين تمليك الخراج إلى الغير
وأخرى لنفس الأرض إن كان مالكاً ... ولا شك أن المصطفى مالك الأمر
وإن ترم التفصيل فيما ذكرته ... فذاك في الإقطاعات للعالم المصري
كذلك في أشباهه والتحفة التي ... سردت لها قبلاً كذلك في الدر
وفي رد محتار أطال أمامه ... كتاب خراج للإمام أبي العذر
فهذا مع العجز الذي قد وجدته ... وضيق زماني يا سميري لو تدري
فكن عاذري وادع الإله فإنني ... أبيت وأضحى طامس الذهن والفكر
وأختم قولي بالصلاة مسلماً ... على سيدي الرسل الكرام ذوي القدر
وإن لهذا الإمام شمائل علية، وأخلاقاً ممدوحة نبوية، وقد أجازه الفاضل الباجوري، والكامل السقا، والشيخ عليش والشيخ التميمي مفتي الديار المصرية، وغيرهم من العلماء الأعلام والسادة القادة العظام، ولم(1/596)
يزل في بلده الخليل، ينشر لهم كل علم جليل، من معقول ومنقول، وفقه وحديث وفروع وأصول، مع غاية الاستقامة، وسلوك سبيل السلامة، أجزل الله أجره، وجعل الجنة مقره. توفي رحمه الله تعالى في أواخر رمضان عام ألف وثلاثمائة وسبعة عشر ودفن في مدفن أجداده رحمه الله تعالى.
داود باشا والي مدينة بغداد دار الخلافة العباسية
الإمام الألمعي، والهمام اللوذعي، حبر العلماء، وبحر اغتراف الفضلاء، ولد سنة ألف ومائة وثمان وثمانين، وهو من الكرج، ثم لما صار عمره إحدى عشرة سنة جلبه بعض النخاسين إلى بغداد، فاشتراه مصطفى بيك الربيعي ثم اشتراه منه سليمان باشا والي بغداد، فرباه وأحسن تربيته، وعلمه القرآن والكتابة وأنواع العلوم، إلى أن شهد له الخاص والعام، بأنه فاق في زمانه على العلماء الأعلام، وقد جود القرآن العظيم على شيخ القراء في بغداد محمد أمين أفندي الموصلي، ثم قرأ علم النحو والصرف على المنلا حسن بن محمد علي الزوزوجي، وقرأ المطول على المنلا محمد أسعد بن عبيد الله، وقرأ على الحافظ أحمد مدرس السليمانية علوماً جمة، منها علم التصوف والحقائق، وقرأ أيضاً المطول، وعلم آداب البحث والمناظرة وعلم البيان والمعاني، وشرح المواقف على المنلا أسعد بن عبيد الله بن صبغة الله مفتي الحنفية والشافعية في بغداد، وعليه تخرج في سائر العلوم، وعد من كمل الرجال أهل الكمالات الموصوفين بالدقة وعلو الفهم والمباحثة والمناظرة، وقرأ أيضاً على صبغة الله بن مصطفى الكردي، وأجازه المذكورون وغيرهم بالإجازة الخاصة والعامة. ومن جملة من أجازه أيضاً الإمام العالم العلامة السيد زين العابدين بن جمل الليل المدني، والإمام(1/597)
الفاضل الشيخ علي بن محمد السويدي البغدادي الشافعي، وغيرهم، وقد أخذ عن المترجم جماعة سادة، وجملة قادة، منهم السيد محمود البرزنجي قرأ عليه أنواع العلوم، وانتفع به إلى أن صار من أفاضل العلماء، وصفوة الفضلاء، المشار إليهم في العراق، ومحمد أفندي ابن النائب البغدادي وغيرهما ممن يطول ذكره.
وكان المترجم المذكور حسن الأخلاق جميل المحاضرة، كثير العطايا دائباً على البحث والمذاكرة في العلوم الشرعية والعقلية، ولما صار عمره سبعاً وعشرين سنة تولى الخازندارية لسليمان باشا والي بغداد. ولم يزل يترقى على درج الصعود، وتلحظه عين العناية بأنواع الحظ والسعود، إلى أن آلت ولاية بغداد إلى سعيد باشا بن سليمان باشا، وذلك سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف. وكان الأمير في ذلك الوقت على عرب المنتفق حمود بن ثامر بن سعدون بن محمد بن مانع الشبيبي، وكان من فرسان العرب وأذكيائهم ودهاتهم، وكان مكاراً، وله وقائع وأيام مشهودة أقر له فيها أخصامه وأضداده، وأمور غريبة يطول الكلام عليها، فلما تولى سعيد باشا صار أمره بيد حمود، حتى ما كأنه إلا طفل صغير تحت تصرف وصيه أو وليه، ولهذا أعطاه سعيد باشا ما في جنوب البصرة من القرى جميعها، وهو يقارب ثلث إيراد العراق فطار صيت بني المنتفق في البلاد، وأطاعهم الحاضر والباد، ونفذت أقوالهم، واتسعت أموالهم، وقصدهم الشعراء من جميع النواحي والأقطار، وأجازوهم بما يفوق جوائز ملوك الأمصار، إلى أن قصر مدح الناس عليهم، وصار لا يسمع بين الناس ثناء إلا وهو مصروف غليهم، ولم يزل حمود عند سعيد باشا في بغداد يرفع مكانه، ويشيد بنيانه، إلى أن تثبت في القلوب قدره، واعتدل بين الأهالي أمره، فعلا حمود إلى مقره، ولكن لا زال زمام سعيد باشا بيده من سره وجهره، فلا يفعل سعيد باشا شيئاً(1/598)
إلا بعد استئذانه، فازداد بنو المنتفق من الطغيان، وامتدت يدهم على الناس بالظلم والعدوان، فنقم الناس على الباشا المرقوم، وضاقت صدورهم من فعله المذموم، وفي سنة تسع وعشرين ومائتين وألف، جعل الباشا المرقوم حضرة المترجم كتخداه ورئيس عساكره، فنهض نهوض الأسد، وتهدد الأعراب والطغاة بما يوقعهم في النكد، ومن أقبهم خزاعة وزبيد وشمر وآل الضفير، فإنهم منعوا الخراج ونبهوا القرى وقطعوا السبيل حتى إن بعضهم حاصر كربلا مدفن سيدنا الحسين رضي الله تعالى عنه، وكان إذ ذاك في كلابلاء نحو الأربعين ألفاً من زوار العجم، ومعهم حرم شاه العجم، فلما بلغ الوالي إفساد العربان حول كربلاء، خاف أن يصيب الزوار ضرر فيرجع عليهم شاه العجم بالويل والثبور، وعظيم الأمور، وتلومهم الدولة على الإهمال، وعدم الاعتناء فيما يلزم من الأعمال، حتى آل الأمر إلى ذلك، وأدى إلى الوقوع في المخاطر والمهالك، فتوجه أمير العساكر المترجم المرقوم بعساكر وافرة، ونزل الحلة ووقع بينه وبين العصاة حروب قاهرة لهم وكاسرة، فركنوا إلى الفرار، وتشتتوا في القفار، فأرسل بعض عساكره إلى كربلا، لتأمين الزوار وحفظهم من بلاء أولئك الملا، ولم يزل محافظاً لهم إلى أن وصلوا إلى مأمنهم، واطمأنوا من وقوع شيء بهم، ثم توجه الكتخدا، داود باشا المرقوم بعساكره إلى خزاعة، فقابلوه جميعاً بالخضوع والطاعة، وفي أثناء الطريق عزل شيخ زبيد المختال، ووضع مكانه سفلح بن شلال، ثم أرسل وراء كثير من العربان، وعاقبهم على ما كان منهم من العدوان، وشن الغارة على أهاليهم، وغنم مواشيهم وصال على أدانيهم وأعاليهم، وسار إلى أن نزل بأرض الديوانية مقر العشيرة الروافض الخزاعية، فصار للمترجم شهرة في الآفاق، وعلا ذكره في الإقدام وفاق، ورأى الناس من عدالته وشهامته وشجاعته ومروءته ما لم يروه من ذي الأحكام المتقدمين على مدته، مع النصح للأمة وعدم(1/599)
الطمع فيما في أيدي الناس والعفة والصيانة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على التقوى والديانة، ولم يقبل من أحد رشوة ولا هدية ولا يسمع في عساكره وقوع شيء من ذلك بالكلية، بل كل واحد ممن يلوذ به عارف حده، وواقف عنده، ومع كثرة حروب المترجم المرقوم، لا يرى في وقت غير مشتغل بالمعارف والعلوم، مع تلامذته الملازمين له في السفر والحضر، والمتحلين من بحور لآلئه بعقود الدرر، وطلب بقية الأعراب منه الأمان، بعد أن أذاقهم من حروبه كؤوس الذل والهوان ولم يزل المترجم ساعياً لسعيد باشا بالتأييد والنجاح، والنصح والصلاح، مع الصدق والأمانة، والعفة والصيانة، وكان يعرف الوالي دائماً بدسائس ذوي الفساد، وينبهه على مرادهم من البغي والعناد، فداخلهم الحسد، ونصبوا للمترجم شرك النكد، وأرادوا إتلافه على كل حال، وشرعوا في إيقاعه في مهاوي النكال، وكان المترجم يتحمل ذلك لما
لوالد الوالي عليه من الحقوق المشهورة، ويقول " يريدون ليطفئوا نورا لله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ". لد الوالي عليه من الحقوق المشهورة، ويقول " يريدون ليطفئوا نورا لله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ".
ولما اشتد غيظ الأعداء والحساد، قالوا للوالي إن مراد داود قتلك والاستيلاء على بغداد، وأنت تعلم أن جميع العساكر في قبضته، والأهالي كلهم متفقون على محبته، وأتوا بمن شهد على ذلك عند الوزير، وقالوا إن داود باشا وعدنا على قتلك بمال كثير، ونحن لحبنا لك وخوفنا عليك، كشفنا لك عن هذا الأمر وأبديناه إليك. وعظموا الأمر لديه، وأكثروا من إقامة البراهين بين يديه، فدخل على الوالي رعب عظيم، وخوف جسيم، ثم إنه اتفق مع هؤلاء المنافقين بأنهم يرسلون خبراً من طرف الوالي للمترجم بالحضور لمذاكرة في قضية، فإذا حضر أذاقوه في الحال كؤوس المنية، فبلغ المترجم جميع ما اتفقوا عليه، وجنح فكرهم إليه، فلم ير المترجم أحسن من الفرار والتحصن في(1/600)
بعض الحصون، خوفاً من هذه المضار، فخرج من بغداد وقد تزايد كربه، قائلاً " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه " وكان معه من جماعته نحو المائتين، ولم يزل إلى أن وصل إلى كركوك من غير ضرر ولا شين. وهناك راسل الدولة العلية، وأخبرها بما كان من سعيد باشا من الأفعال الدنية، وتضييع حقوق الدولة، ومعالمة الأعداء بما يوجب لهم كل قدر وصولة، وكشف لها عن سوء سياسته، وعن عكس معرفته وفراسته، وعن تقليده أزمة الممالك المهمة لأعراب البادية، أهل النهب والسلب والظلم واليد العادية. وكان للمترجم عبارات عالية، وأساليب في الكتابة سامية، وكان له اليد الطولى في التركية والفارسية والعربية، وله النظم والنثر والكتابة في هذه اللغات كلها على أتم حالة سنية، وكانت تشهد له الأفاضل بأنه إمام همام كامل، فلما وصلت رسالته إلى الدولة العلية، تحيروا من فصاحتها وبلاغتها وما اشتملت عليه من الأمور السياسية، فعلموا أن الذي يكتب مثل هذه التحريرات، ويسطر مثل هذه التسطيرات، هو الأحق والأحرى بالإسعاف والإسعاد، بالتولية على ولاية بغداد، فما كان من الدولة العلية إلا أنها بادرت بإرسال الفرمان، العالي الشان، الواجب الإطاعة على كل إنسان، إلى داود باشا ذي القدر المصان، ومضمونه عزل سعيد باشا عن تولية بغداد، وتولية داود باشا بدله على تلك البلاد. فلما وصل الفرمان إليه قرأه علناً على رؤوس ذوي الطاعة والشقاق، ثم أرسل صورته إلى حمود بن ثامر لأنه هو المقيم المقعد في أرض العراق، وذلك لأجل أن يعلم أن سعيد باشا قد فاته المرام، وترتفع عنه برؤية صورة الفرمان الشكوك والأوهام، خصوصاً وهو أكبر أعداء المترجم وأكبر أسباب الفاسد والمكر الذي تقدم.
فلما وصلت صورة الفرمان إلى(1/601)
حمود بن ثامر، طرحها على الأرض وأهملها إهمال المستهزىء الساخر. فتعجب قومه من إهماله ونبذ الطاعة، ونصحوه بأن أمر السلطان لا يلقى في أودية الإضاعة، ومخالفة أوامر الدولة أمرها وخيم، وخطرها عظيم، وأن الأمر منوط بك فسعيد باشا لا ينظر إلا إليك، ولا يعول في قبوله وعدمه إلا عليك، والأولى أن تنصحه بالقبول والطاعة وعدم القتال، لأن خصمه رجل مطاع ولو قدم على العراق بمفرده لأطاعه النساء والرجال، خصوصاً وقد حوى من العقل وحسن السياسة ووفور الخديعة والدهاء نصيباً عظيما، ومن الشجاعة والقوة وثبات الجنان حظاً جسيماً، فما بالك لو جر معه عسكراً من الأكراد، وقدم بهم وبغيرهم إلى بغداد، فهل يعارضه من أحد، مع أن الأهالي جميعاً يحبونه محبة الوالد للولد، فلما أكثر على حمود أعمامه وإخوانه وأولاده النصائح، رجع إلى رأيهم، وقال قد اعترفت أنه رأي صالح، وأرسل إلى سعيد باشا ونصحه بالطاعة وترك القتال، والانقياد لأوامر الدولة العلية والامتثال، فأبى سعيد باشا قبول هذا الكلام، وصغى إلى قول من أشار عليه بالعناد والخصام، وما قصدهم بالحرب إلا النهب وأخذ الأموال، وتخريب البلاد وقتل الرجال، فلما رأى حمود مخالفة سعيد باشا له عرف أنه لا طاقة له على مبارزة داود وأن من حسن له أمر المخالفة فقد حسن له المذموم لا المحمود، ففر من منزله ورجع إلى وطنه ومقره، وترك سعيد باشا يتقلب على فرش ضره. وتوجه داود باشا من الكركوك إلى بغداد، ومعه نحو الألفين من الأكراد، فخافته العباد، وهابته البلاد، فلما قرب من الزوراء، وقع بين الأهالي ثورة عظيمة وغوغاء، ومرادهم إخراج سعيد باشا بالتي هي أحسن، فدخل سعيد باشا القلعة وبها تحصن، فأرسل أهال بغداد لداود باشا بالدخول، وأنه هو حاكمهم وراعيهم والمحاسب عنهم والمسؤول.(1/602)
فدخل بغداد بعد الظهر خامس ربيع الثاني سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف، ووفد عليه العلماء والفضلاء وهنأه الأدباء والشعراء، لأنه هو الذي كان يعرف مقامهم، وينشر بين الناس أعلامهم، ويكرمهم غاية الإكرام، ويعاملهم بالإحسان والإنعام، فلما استقر في مركز الحكومة، خمدت الشرور والفتن، ورجع إلى الصواب من كان افتتن، وأمنت الطرقات وذهبت المخوفات، وارتاح أهل الكمال، وتعب ذوو الغرور والوبال، لعلمهم أنه ظهر الذي يعاقب المجرمين، ويحسن إلى المحسنين، فرفع أهل الفضائل والعلوم، ونفذ أوامر الدولة حسب الأمر المرسوم. وبعد استيلاء المترجم المرقوم على بغداد، قتل سعيد باشا الوزير السالف، وكان قتله على مراد الوزير داود باشا المترجم وبإشارته. وذكر الشيخ عثمان بن سند البصري أن حضرة العارف بالله الشيخ خالد الحضرة النقشبندي المتقدم الترجمة في حرف الخاء، قد مر على بغداد سنة تسع وثلاثين ومائتين وألف في أيام ولاية المترجم، فبلغ المترجم أن الشيخ المرقوم عليه ديون، فأمر بوفائها وكانت ثلاثين ألف غازي محمودي كبير، وصرفها الوالي دفعة واحدة، وهذا أمر نادر قل ما يوجد له نظير، وغب سنة اثنتين وأربعين ومائتين وألف تمت سلطنته، وتناهت قوته، وأطاعه جميع أهالي العراق من حاضره وباديه وكرده وعجمه، وقد تاقت نفسه لأن يكون سلطاناً مستقلاً، وقد جلب الصنائع والصناع إلى بغداد من أهل أوربا، بل ومن سائر الأقطار، وأخذ في أسباب التمدن والعمران، وأمر بصنعة المدافع والبنادق على الطراز الجديد، وشكل جيوشاً عسكرية منظمة بتعليمات مخصوصة اخترعها لهم، إلى أن بلغت جيوشه أكثر من مائة ألف، وبهذه الجيوش والاستعداد طمع في أنه يستولي على جميع آسية الصغرى والكبرى، وكان دائماً مطمع أنظاره الاستيلاء على بلاد العجم، وقد داخلهم الرعب(1/603)
والخوف منه ومن جيوشه ومن تعليماتهم الغريبة الأشكال والأوضاع، ولكنه لم تساعده المقادير كما ساعدت محمد علي باشا على ولاية مصر، فإن داود باشا بينما هو في هذه الأبهة والسلطنة والاستقلال، والخروج عن طاعة الدولة العلية، إذ أرسل عليه السلطان محمود خان العثماني جيشاً نحو العشرين ألفاً، ورئيسهم علي باشا اللاظ، فلما قرب من بغداد ضحك داود باشا واستهزأ بهذا الجيش الضعيف الذي يريد أن يستولي على بغداد، فأخذه الغرور، فقال لو نرسل على هذا الجيش نساء بغداد لما يطيق مقاومتهن، إلا أن الوزير داود باشا لم يعلم ما هو مخبوء له في زوايا
القدر، مما هو عبرة لمن اعتبر. فبينما هو مشتغل في جيوشه لمحاربة علي باشا اللاظ وأمله أسر جميع الجيش ثم الاستيلاء على ما وراءه، إذ دهمه الوباء الطاعوني داخل بغداد الذي أفنى أكثر أهلها، حتى قيل إنه كان يموت في كل يوم أكثر من عشرة آلاف نفس من داخل بغداد. مما هو عبرة لمن اعتبر. فبينما هو مشتغل في جيوشه لمحاربة علي باشا اللاظ وأمله أسر جميع الجيش ثم الاستيلاء على ما وراءه، إذ دهمه الوباء الطاعوني داخل بغداد الذي أفنى أكثر أهلها، حتى قيل إنه كان يموت في كل يوم أكثر من عشرة آلاف نفس من داخل بغداد.
وأما جيش علي باشا اللاظ فإنه بتقدير الله تعالى لم يصبه شيء من ذلك الطاعون، وذلك تقدير العزيز العليم، وانقلب الفرح حزناً، واشتغل الصراخ في كل بيت من بيوت أهل بغداد إلا ما ندر. وقيل إن الذي مات بهذا الطاعون من أولاد داود باشا لصلبه أكثر من عشرة أولاد الذين يركبون الخيل، فانكسرت شوكته، وانحلت قوته، وداخله الهم، ولازمه الغم، وانحل عضده وانفل جيشه، البعض بالموت والبعض بالهرب والفرار، إلى البوادي والقفار، وذلك سنة ألف ومائتين وسبع وأربعين، فلما طلب علي باشا اللاظ، المحاربة معه لم يسعه إلا المصالحة، على أنه يسلم إلى علي باشا بغداد بما فيها، وداود باشا يرتحل إلى الآستانة ويستقيم بها، فسافر داود باشا إلى الآستانة واستقام بها إلى سنة ستين ومائتين وألف، وكان معظماً عند السلطان محمود، ثم عند ابنه السلطان عبد المجيد ورجال دولته لكبر سنه ولطول(1/604)
زمانه في الوزارة مع كمال عقله، ووفور رأيه، حتى إن كسوته الرسمية يوم العيد مكتوب على صدرها شيخ الوزراء بالطراز الملوكاني المذهب، لأن هذا كان لقبه خاصة، ثم إن السلطان عبد المجيد أرسله سنة ستين ومائتين وألف شيخاً على الحرم النبوي، فاشتغل هناك في العبادة، وتفرغ لها فوق العادة، وكان مرجع الخاص والعام، فيما يشكل على العلماء الأعلام، وقرأ بها للطلبة كثيراً من الكتب والفنون النادرة، وانتفع به العموم فيما يتعلق بدنياهم والآخرة. وفي سنة سبع وستين ومائتين وألف ذهبت مع والدي إلى الحجاز الشريف، فاجتمعت مع والدي به في المدينة الشريفة، وكان رجلاً كبيراً مهاباً عليه سيما الفضل والصلاح، وله خضوع وذل وسكينة وتواضع. وكان يمضي بينه وبين والدي الوقت الطويل في المذاكرة، وقد تبركت به وبدعواته. وفي ليلة عاشوراء حين قراءة المولد النبوي الشريف بين العشائين أمرني والدي بقراءة عشر من القرآن، وكان المسجد قد غص بأهله، وكان قد حضره كذلك المترجم المذكور، وكان جلوسه بجانب والدي في الجهة الشمالية من الحرم الشريف متوجهين إلى القبلة، فغب قراءة العشر وإتمام المولد قبلت يده، فدعا لي وبش في وجهي وأظهر لي الالتفات والمحبة، وكان قد أخبر أن مراده أن يفتح مدرسة بأمر الدولة في المدينة للإفادة والاستفادة في سائر العلوم والفنون، ولكن اخترمته المنية قبل تمكنه من ذلك في تلك السنة، وهي سنة سبع وستين ومائتين وألف، ودفن في البقيع الشريف تجاه قبة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأمر أن لا يبنى عليه تابوت ولا قبة اتباعاً للسنة، فجعلوا له شباكاً من الحديد حول قبره. ومن آثاره بالمدينة البستان المعروف بالداودية خارج المدينة، بقرب سيدنا محمد الزكي عند منهل العين الزرقاء. ولما أتم بناءه وغرسه أرخه شاعر العراق بالاتفاق الشيخ صالح التميمي بقصيدة، وجعل آخرها(1/605)
تاريخاً، وهو قوله: تاريخه غرسه فأعجب داود باشا وأعطاه جائزة ألف ريال، كانت هكذا سماحته وقد مدحه الشاعر اللبيب، والناثر الأديب السيد عبد الباقي العمري، بمدحية غريبة، وقصيدة عجيبة، ملتزماً بها لفظه الخال باختلاف معانيها فقال:
إلى الروم أصبو كلما أومض الخال ... فأسكب دمعاً دون تسكابه الخال
وعن مدح داود وطيب ثنائه ... فلا القد يثنيني ولا الخد والخال
مشير إلى العليا أشار فطأطأت ... وأصبح مندكاً لهيبته الخال
مناصبها انقادت لأعتاب بابه ... كما انقاد مرتاحاً إلى العطن الخال
وقد نالها إذ أوتي الحكم حكمة ... إلهية فصل الخطاب لها خال
مليك ملاك الأمر والنهي كله ... إليه انتهى والحكم في الأرض والخال
حكى نهر طالوت ببسطة علمه ... وفي فضله ذاك الفتى الماجد الخال
توسم عرافاً بسيماه دهره ... فخوله النعمى وما كذب الخال
وصدق فيه ما تخيله النهى ... وفيما سواه قل ما يصدق الخال
فيا لرجال من علاه تفرسوا ... أغر عليه من نسيج العلا خال
إذا اعتركت أراؤهم عرضت لهم ... كتائب رأي من نهاه لها خال
عصامي نفس سودته جدوده ... فلا الجد يجديه ولا العم والخال
له العلم خدن والكمال منادم ... وحسن السجايا والحجا الخل والخال
هو الصدر منه القلب كالصخر في الوغى ... إذا طاش في غلوائها الوكل الخال
ودهم الليالي إن تمادى جماحها ... فهمته الكبرى الشكيمة والخال(1/606)
توهم قوم أن يجاروه في العلا ... فلم يجدهم ذاك التفكر والخال
يشق على من لا يشق غباره ... رهان الذي عن شوطه عاقه الخال
عفا الله عنه قد عفت بعد بعده ... من البلدة الزورا المعالم والخال
وهيهات ما دار الرصافة بعده ... وما الكرخ إلا السبسب القفر والخال
ولكن بهذا العصر أمست كجنة ... بها تتباهى ربوة الشام والخال
ورضوانها اليوم النجيب مشيرها ... يحافظها مولى عليها هو الخال
عظيم وقالوا لو تراءى ليذبل ... تصاغر منحطاً وطاوله الخال
حماها حماه الله من كل ريبة ... تشين علاه فهو من ريبة خال
فلا زال كل منهما طود رفعة ... يلوح عليه مع تواضعه الخال
وإني وإن كنت الرديف نظامه ... لمسبوقة حسن الروي لها الخال
فذي معجزاتي ما أرى ابن كرامة ... يعارضها حتى يصاحبه الخال(1/607)
حرف الدال
الشيخ داود بن أحمد بن إسماعيل المعري ثم الحلبي الحنفي أبو سليمان سيف الدين الأكمه
العالم الذي تهلل به محيا العالم بهجة وسروراً، وتجمل به جيد الدهر فكان له فرحة وحبورا، ذو النجدة والمروة، والمجد والفتوة، من سجعت بمحاسنه حمائم شمائله، ولمعت من سماء مكارمه بوارق فضائله، فبهر الأنام بأخلاقه الرضية، واشتمل بما لبسه من الكمال على كل منقبة جلية، وله من محاسن الكلام ما تشربه أفواه المسامع، ومن بديع النثر والنظام ما يزري ببدائه البدائع. ولد هذا الهمام والجهبذ الإمام بمعرة النعمان، سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف، من هجرة سيد ولد عدنان، ثم بعد أن قرأ القرآن وأتمه، وجوده على القراء الأئمة، دخل مدينة حلب وأكب بها على التحصيل والطلب، وأخذ عن جماعة أفاضل، قد اشتهروا بالمناقب والفضائل. منهم العلامة عبد الرحمن بن مصطفى البكفالوني، وأبو الثناء محمود بن شعبان البزستاني، والنور علي بن أحمد الدابقي، ومحمد الحلبي بن علي الأنطاكي المفتي، وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم الطرابلوسي المفتي، والسيد حسن بن شعبان السرمينين وأبو عبد الله محمد بن محمد الأنطاكي، وأبو العدل قاسم بن محمد البكرجي، وغيرهم من العلاء الأعلام، والسادات العظام، وأجازوه بما تجوز لهم روايته، وتصح لهم درايته، ودخل دمشق الشام، وأخذ أيضاً عن علمائها الأعلام، وأجازوه(1/608)
أيضاً إجازة عامة لجميع العلوم، التي أخذوها عن سادتهم ذوي المقام المعلوم، وكانن ممن يشار إليه، ويعول بعويصات المسائل عليه، وممن اجتمع به في حلب، فرد الشام ومفتي الأنام خليل أفندي المرادي وذلك عام ألف ومائتين وخمسة، ولم تكن وفاته بعد ذلك بكثير، أعلى الله مقامه في فراديس الجنان، إنه المنعم الجواد المحسن المنان، وقيل إن هذه الأبيات من كلامه، وبديع نظامه:
ذو جمال همت في عشقته ... فتن العشاق عرباً وعجم
لاح بدر التم من طلعته ... وبدا البرق إذا الثغر ابتسم
بات يجلو الراح في راحته ... ويدير الكأس في جنح الظلم
غلب النوم على مقلته ... قلت والوجد بقلبي قد حكم
أيها الراقد في لذته ... نم هنيئاً إن عيني لم تنم
يا هلالاً قد سبى شمس الضحى ... كل ما فيك وعيينك حسن
صل محباً ما له من مسعف ... قد جفاه من تجافيك الوسن
يا مريض الجفن يا من لحظه ... سل سيفاً للمحبين وسن
جفنك النعسان من كسرته ... كم شجاع منه ولى وانهزم
أيها الراقد في لذته ... نم هنيئاً إن عيني لم تنم
وله رحمه الله:
ورد الخدود أرق من ... ورد الرياض وأنعم
هذا تنشقه الأنو ... ف وذاك يلثمه الفم
فإذا عدلت فأفضل ... الوردين ورد يلثم
هذا يشم ولا يضم ... وذا يضم ويشمم
وله أبيات كثيرة، وقصائد بديعة بالمدح جديرة.(1/609)
الشيخ داود البغدادي الموسوي بن المرحوم السيد سليمان البغدادي الشافعي النقشي الشهير بابن جرجيس
إمام قد طلع في سماء العلوم بدرا، وهمام قد برع في المنطوق والمفهوم وأحاط بهما خبرا، بجميل مديحه قد تحلت الطروس، وبجليل ذكره قد طربت النفوس، فلا ريب أنه صدر الأكابر والأعاظم، وكعبة طواف المكارم والأكارم، والأوحد الذي خيمت البراعة بناديه، والأمجد الذي لم يعرف غير الفضائل من زمن مباديه.
ولد في مدينة بغداد سنة ألف ومائتين وإحدى وثلاثين، ونشأ في حجر والده المعروف بالصيانة والعلم والدين، وبعد أن قرأ القرآن، وأتقنه كل الإتقان، قصر نفسه على العلم وطلبه، إلى أن فاز منه بمرغوبه وأربه، وكان كثير الاعتزال عن الناس، ليس له بغير العلم والعمل استئناس، مواظباً على الفروض والسنن، على أكمل حال وأتم سنن. وكان يقرىء الدروس لمن حضر، وهو ابن ثمانية عشر، ولم يزل على حاله، ناهجاً منهج كماله، إلى أن توفي والده فسافر إلى الحرمين الشريفين، ومكث بهما نحواً من عشر سنين، وقد أجازه بهما السادة العلماء، والقادة الفضلاء، ثم رجع إلى بغداد، فصرف نفيس عمره على إفادة العلوم وإرشاد العباد، ثم رجع إلى الحرمين بقصد الحج وزيارة سيد الأنام، وتوجه مع ركب الحاج إلى دمشق الشام، ومكث بها سنتين أو زيادة، ثم قصد وطنه وبلاده، ولم يحل في محل إلا وشغله العلم والعمل، وإفادة الطالبين من غير كسل. ثم بعد مكثه مدة من السنين، سافر إلى الحجاز ومعه ولده الكامل الشيخ بهاء الدين، ثم بعد أن أتم الحج وزار خير الأنام، توجه إلى مصر والقاهرة وجلس مدة من الأيام، ثم سار حتى(1/610)
وصل إلى الموصل فمكث بها أياما، وقد نال بجميع سياحته عزاً واحتراما، ثم رجع إلى وطنه بغداد، وقد ارتفع قدره بها وازداد، ولم يزل يفيد كل طالب، ويدعو الناس إلى الفضائل والرغائب، إلى أن دعاه مولاه، وأناله من جميله ما أولاه، وكان ذلك قبيل المغرب ليلة عيد الفطر آخر يوم من رمضان في سنة ألف ومائتين وتسع وتسعين، ودفن رحمه الله في جانب الكرخ مع مشايخه، وكان موته مصيبة عظيمة، ونكبة عامة جسيمة. وقد رثاه الهمام الفلاضل، نسل الأعيان الأفاضل، محمد أمين أفندي الجبوري، فقال:
قد فل غارب سيف الدين وانثلما ... وانهد ركن من الإسلام وانهدما
وطود علم جليل دك شامخه ... وشارق من عماد الفضل قد قصما
فاغرورقت أعين الإسلام باكية ... والدين حزناً على خديه قد لطما
به الحقيقة تمت وانتهت وبه ... علم الحديث كذاك الفقه قد ختما
سل العراق وأهل الشام عنه وسل ... أهل الحجاز كذاك الحل والحرما
وأهل نجد من الماحي تعصبها ... ومن إليه سواه ألقت السلما
ولا أخو جدل إلا وألقمه ... حجارة فدعاه لا يلوك فما
وكم له من تآليف منضدة ... كأنما الوحي في أقسامها انقسما
هي الصحاح التي يفتي بها أبداً ... وهي الأدلة إلزاماً وملتزما
بآخر الصوم قد نادى مؤرخه ... داود بالخلد وافى أرحم الرحما
وللأفاضل في حقه مراثي كثيرة، هي في قطره معروفة شهيرة، قد ذكر أكثرها ولده الفاضل العارف، في ترجمة والده المسماة باللطائف، وله رحمه الله من التآليف، ما يغني عن الترجمة والتعريف، ولولا خوف الإطالة والإسهاب، المخرج ذلك عن اصطلاحنا في هذا الكتاب، لأوسعت دائرة التحبير، في بعض مناقب هذا الشهم الكبير، ولكن الشمس في رابعة النهار، لا يحتاج عرفانها إلى خبر واستخبار، رحمه الله تعالى.(1/611)
حرف الذال
الشيخ ذيب الحلبوني مولداً الدمشقي إقامة ودفناً رحمه الله تعالى
صاحب الخوارق الباهرة، والأحوال الغريبة الظاهرة، والنوادر التي شاعت، والكرامات التي ذاعت، وكان قليل الكلام، كثير الغيبة والاصطلام، يتناول من الطعام قليلاً مما حضر، وإذا لم يجد طوى وصبر، وكان في أكثر أوقاته ملازماً لمدرسة الشميصاتية، الكائنة شمالي جامع(1/612)
بني أمية. ولد في قرية حلبون قرية من قرى دمشق الشام، تبعد عنها مقدار ست ساعات بالسير المعتدل، ونشأ بها، ثم في سنة خمسين ومائتين وألف، قدم دمشق واستوطنها، وكان مقصوداً للدعاء والتبرك، وكان يقصد للاستخارة والفأل الحسن، وحصل له في الشام شهرة عظيمة، وكان على استقامة حسنة لا يعتريها شائبة طعن، توفي بدمشق الشام سنة ست وثمانين ومائتين وألف ودفن في مقبرة مرج الدحداح.
الشيخ ذيب بن محمد بن ذيب بن قاسم الأريحاوي الشافعي الفرضي
قد اشتهر بالعلم والتقوى والصلاح، وكان من صغره يتوسمون فيه الخير والفلاح، فلا ريب أنه بقية من سلف، ونخبة من خلف. ولد في ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة وألف، وتخرج على عمه زوج والدته الشمس محمد بن إبراهيم العاري المفتي، وانتفع به ولازمه وسمع منه الكثير من فنون متعددة إلى أن مات شيخه رحمه الله، وبعده تولى المترجم منصب الإفتاء بأريحا، وتولى إمامة جامعها الكبير، وكان كثير التلقي، ولم يزل سالكاً في منهج الترقي، إلى أن خطبته المنية، إلى الدار الآخرة العلية. توفي بأريحا سنة ألف ومائتين وبضع وعشرين، رحمه الله تعالى.(1/613)
//بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى أله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
حرف الراء المهملة
راشد بن سعيد الرواحي من أذكياء أدباء البحرين وعمان
قد ترجمه أحمد بن محمد بن علي بن ابراهيم الأنصاري بقوله: روح جثمان الأدب، ونور عين الفضل والحسب، الشاعر المجيد، البليغ الوحيد، فمن لطائفه قوله:
إني لقيت من الهوى وفنونه ... أمراً عجيباً واقفاً في بالي
من ذات خال غضة ميادة ... تصمي قلوباً للورى بالخال
تصمي الليوث بلحظها إن أرسلت ... سهماً مصيباً من عيون غزال
وقوله:
إن ظني في سيدي لجميل ... ورجائي فيه عريض طويل
وإليه قد تبت من كل ذنب ... ومتابي إلى رضاه سبيل
وإليه فوضت كل أموري ... وهو نعم المولى ونعم الوكيل
وله في الأدب باع ما أطولها، ويراع لنظم عقود اللآلئ ما أجلها وأجملها، وفكرة ما أعلاها، وأحقها بالمديح وأولاها، توفي رحمه الله سنة ألف ومائتين ونيف وعشرين.(1/625)
الشيخ الفاضل راشد بن علي النعامي الحنبلي من آل جريس
عالم ناقد، متَّبع ماجد، ذو يد طولى في علم القرآن والحديث، مقتد بالسلف الصالح في كل أمر قديم وحديث، معتصم بالسنّة الصحيحة والقرآن، عامل بما فيهما مذعن لهما كمال الإذعان، وله في ذلك كتب ورسائل، دالة على أنه مجتهد بسائر الفروع والمسائل، وفقنا الله وإياه للصواب، وفتح لنا وله للوصول إلى ما يرضيه أحسن باب، إنه محسن كريم وهاب، توفي في أوائل القرن الثالث عشر.
الشيخ راغب بن الشيخ صالح بن سعيد الدمشقي الحنفي المعروف بالأسطواني
ولد سنة أربعين ومائتين وألف واشتغل من أول عمره في القراءة والعلم والتردد على المشايخ العظام، والأفاضل الكرام، وتولى نيابة المحكمة السنانية في دمشق الشام، ولم يزل مقبلاً على الطلب بجد واجتهاد إلى أن توفي في رابع ذي القعدة الحرام سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح في تربة الذهبية.
راغب أفندي بن سعيد أفندي بن حمزة بن علي الدمشقي الحنفي الشهير كأسلافه بابن عجلان
الحسني الأديب، النجيب اللبيب الأريب، عين الأعيان، وإنسان حدقة أهل الزمان، المولى الهمام، والماجد السامي المقام، ذو الشرف والحسب، والرفعة والنسب، وريحانة روض الكمال، وعرف طيب دوحة الإفضال، قد اشتغل بالعلم والعمل، ودأب حتى نال ما رجا واكتمل، وحضر على الشيخ سعيد الحلبي وغيره من الأعلام، ولم يزل مواظباً على الإستفادة إلى أن شرب كأس الحمام في رمضان سنة ثلاث وستين ومائتين وألف.(1/626)
السيد رجب بن السيد محمد بن السيد حمود بن السيد عثمان بن السيد محمد سلطان العجاج بن السيد حسين برهان الدين آل خزام الرفاعي الصيادي
ترجمه السيد أبو الهدى أفندي بن السيد حسن وادي فقال: الشيخ الجليل الواصل، والولي الأصيل الفاضل، رب الخوارق والفواضل، الذاهل الكامل، الواجد الماجد، العلي الحسب، الرفيع النسب. ولد بقرية كفر سجنا من أعمال معرة النعمان، ونشأ بها كأبيه وجده، ثم توفي أبوه ونشأ في كنف عمه، وبعد وفاة عمه حصلت إشارة معنوية للشيخ الكامل السيد أحمد أفندي الجندي ثم الصيادي، فقام من بلدته معرة النعمان إلى كفر سجنا لدار المترجم، وأجازه وخلفه ورأى من الكرامات ما يحير العقول، وقد ذكر بعضها السيد أبو الهدى المرمى إليه في تنوير الأبصار، كإبراء المقعد والمجنون والملووق، والإخبار ببعض المغيبات، والإنفاق مما لا يعلم له أصل ولا سبب، بل من كنز الغيب، وإقبال الخاص والعام عليه، وقال في آخرها: ولو أردنا تعداد كراماته الثابتة المتواترة لاحتجنا إلى مجلد كبير نشأ بقريته على البر والتقوى، وكان حليماً(1/627)
سليماً مبارك السريرة، طاهر العقيدة، متمسكاً كل التمسك بآثار السلف، محباً للمسلمين، وكان لا يفتر عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعن تلاوة الفاتحة. توفي سنة ثمانين ومائتين وألف ودفن بكفر سجناء. انتهى ملخصنا باختصار.
الشيخ رحمة الله بن محي الدين بن أحمد بن مصطفى بن اسماعيل أبن الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي
فخر الأعيان، ونخبة الزمان وكعبة الأوان، وصفوة ذوي القدر والشان. ولد بدمشق سنة خمس وعشرين ومائتين وألف، وقرأ على الأفاضل ذوي الفضائل والفواضل، وكانت عنده مكتبة عظيمة وقد احتوت على أكثر تأليفات جده العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي وتقدم في الجاه وعلا، وصار له شهرة حسنة بين ذوي العلا، وكان جميل المنظر حسن الذات يهابه من رآه، ويعترف بأنه من ذوي الفضل والجاه، وكان حافظاً للوداد، ولا ينسيه صديقه طول الزمان ولا النوى والبعاد، مات بدمشق في سادس وعشرين من صفر سنة ألف ومائتين وتسع وسبعين ودفن في مرج الدحداح وقبره ظاهر معروف.(1/628)
الشيخ رشيد القلعي الشهير بقمبازة بن الشيخ نجيب الحنفي الدمشقي
ولد بدمشق سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين وقرأ على والده إلى أن صار له يد في العلوم، وقرأ للطلبة في جامع بني أمية، وأخذ عن الشيوخ العظام، ثم غلب عليه نوع من البله والجذب، وكان له نوادر عجيبة، ووقائع غريبة، وإذا أردت أن أذكر نوادره فإنها كثيرة تخرجنا عن المطلوب من الاختصار، مات ثالث عشر شعبان سنة اثنتين وثلاثمائة وألف ودفن في باب الصغير.
الشيخ رضا أفندي بن إسماعيل بن عبد الغني بن محمد شريف الدمشقي الشافعي
الشهير بالغزي ولد بدمشق سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف ونشأ في حجر والده واشتغل في الطلب على علماء دمشق ومن أجلهم فقيه العصر وعالمه العلامة الشيخ سعيد الحلبي وعمر أفندي الغزي والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ عبد الرحمن الطيبي والشيخ حامد العطار، وبرع وفاق واشتهر في الآفاق، وتولى نظارة جامع بني أمية، فخدمه حق الخدمة، واشتغل في تعميره وبذل كامل الهمة، وكان مفرداً بالسعي في الصلح بين الناس. توفي سنة ست وثمانين ومائتين وألف ودفن بالحداح.(1/629)
الأمير رضوان الطويل المصري
قرأ على الشيخ عثمان الورداني وغيره، وكان له اليد الطولى في الحساب والفلك والميقات، فبرع وتقدم، وأنجب وحسب ورسم، وأشغل فكره بذلك ليلاً ونهاراً، ورسم الأرباع الصحيحة المتقنة الكبيرة والصغيرة والمزاول والمنحرفات وغير ذلك من الآلات المبتكرة، والرسميات الدقيقة، واتسع باعه في ذلك واشتهر ذكره، إلى أن قطفت يد الجل ثمرة حياته، وأطفأت رياح المنية أنوار ذاته، وذلك سنة خمس ومائتين وألف رحمه الله.
رفيق بك بن المرحوم محمود بك بن المرحوم خليل بك العظم
الهمام الذي يتناول المعالي بثاقب حزمه، ويصيب الأغراض بصائب سهمه، ذو الشمائل الناطقة بسمو فضله، والدلائل الدالة على علوه ونبله، من تناولت حديثه الألسن العادلة، وتناقلت نفيسه الأندية الحافلة، وهو من بيت لهم في الشام مجد معلوم، وقدر في سلك الرفعة منظوم، ولد في دمشق الشام سنة ألف ومائتين واثنتين وثمانين، وتربى في حجر والده إلى أن بلغ التاسعة من عمره وضعه في مدرسة من مدارس الروم لتعليم اللغتين العربية والفرنساوية بقواعدهما، وبعد سنة خرج منها لوفاة والده، وكفله شقيقه الأكبر خليل بك فأحسن تأديبه، إلا أنه لم(1/630)
يستطع حسن تعليمه لأنه كان ضابطاً في الجندية كثير التنقل من بلد إلى بلد، فوضعه في مكتب من مكاتب دمشق لتتميم قواعد اللغتين التركية والعربية، وحسن التكلم بهما، فمكث به نحو ثلاث سنين فأتقن بها التركية والعربية والكتابة، ثم إنه فتر عن التعلم إلى أن بلغ السنة الثامنة عشرة، وتحرك في نفسه حب التعلم ومال إلى الانكباب على المطالعة، خصوصاً في كتب الفلسفة والتاريخ، اقتداء بشقيقه الأكبر الذي كان شديد الميل إلى التاريخ والفلسفة وعنده كتب كثيرة منها، فلازم بعض الدروس العربية على بعض الأساتذة مدة قصيرة، وفي غضونها مال كل الميل إلى الشعر والأدب فدأب على مطاعة كتب الشعر، وحفظ من ومجالس العلماء. القصائد والمقاطيع مقداراً وافراً، ثم اشتغل في نظم الشعر قبل سن العشرين وكثر تردده على أهل الأدب وفي سنة ألف وثلاثمائة وواحدة أخذه المرحوم خالد عبد الله بك إلى مصر وكان ساكناً بها فترقى بها إلى درجة عالية، إلا أنه لكثرة المطالعة والسهر أصيب بمرض العصب بعد مرور سنة من إقامته في مصر، فاضطر إلى ترك المطالعة وسافر إلى الآستانة العلية، ثم إلى الشام لأجل تبديل الهواء، ولما عوفي بحمد الله من المرض هجر الشعر ونظمه، ومال إلى الإنشاء ومعاشرة العلماء، وأخصهم الأستاذ الكبير الشيخ طاهر المغربي الدمشقي، ثم عاد إلى مصر عام ألف وثلاثمائة وثلاثة، وحيث كان الحال يومئذ في مصر غير الحال الذي في سورية حصل فيه نباهة لما لم يكن يعهده من قبل، فألف رسالة سماها البيان لأسباب التمدن والعمران وعرضها على المرحوم الشيخ عبد الهادي الأبياري أحد كبار العلماء المصريين فرغبه في طبعها، ثم عرضها على العلامة المرحوم السيد محمد بيرم التونسي صاحب صفوة الاعتبار ونزيل مصر يومئذ فرغبه في طبعها أيضاً، على أنه بعد ذلك أدرك أن هذين الفاضلين ما رغباه بطبعها إلا تنشيطاً له لأنه في(1/631)
اعتقاد المترجم أن الرسالة ليس فيها شيء مما يهم من الفائدة والعلم. هذا ولم يزل مثابراً على المطالعة حتى آنس من نفسه قدرة على الكتابة في الجرائد، وأول ما كتب في جريدة الأهرام سنة ألف وثلاثمائة وعشر ثم في مجلة الهلال، ثم في جريدة المؤيد، وجريدة الموسوعات، والمنار، وغيرها من الجرائد والمجلات، وألف في أثناء ذلك رسالة كيفية انتشار الأديان عام ألف وثلاثمائة واثني عشر. وحاول في تلك السنة والتي قبلها تعلم اللغة الفرنساوية، لكن منعته منه الشواغل أكثر من ستة أشهر، فترك تعلمها مع غاية الأسف، وبعد ذلك لازم الإمام العلامة الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، فاستفاد من علمه الواسع وآرائه العالية فوائد عظيمة، أزالت عن بصيرته حجباً كثيفة، ورأى في نفسه ملكة قدرة التأليف، فألف كتاب الدروس الحكمية، ثم كتاب تنبيه الأفهام إلى مطالب الحياة الاجتماعية والإسلام ثم استفزه الولع بتاريخ الإسلام إلى وضع تاريخ جديد لمشاهير الإسلام من أهل الحرب والسياسة على غير النمط المعهود عند المسلمين، أي على أسلوب جديد يمثل رجال الإسلام في أجلى مثال وأظهره، بحيث يتناول في ذلك التاريخ كثيراً من أخبار دول الإسلام الاجتماعية والسياسية، وأفيض في البحث في فلسفة التاريخ الإسلامي على وجه يتضح به حال تاريخ الإسلام، فباشر ذلك التأليف على صعوبته عام ألف وثلاثمائة وتسعة عشر، وأتم منه الجزء الأول في سيرة أبي بكر ومن اشتهر في دولته في تلك السنة تأليفاً وطبعاً، ثم في أواخرها أتم الجزء الثاني في سيرة عمر بن الخطاب، ولشدة البحث والتنقيب في الكتب عاوده في أثناء تأليفه المرض القديم، فأتمه بكل مشقة، واستراح إلى سنة ألف وثلاثمائة وإحدى وعشرين، فكتب الجزء الثالث في سيرة المشهورين في دولة ابن الخطاب
وطبعه، وأنه لمشتغل في تتميمه راجياً من الله سبحانه التيسير فجزاه الله خير الجزاء على هذه الخدمة الإسلامية، والمأمول أن الله سبحانه، يهون عليه تأليف كتب كثيرة ينتفع بها الخاص والعام من جميع الأنام. وأنه الآن قد توطن في مصر وتأهل بها، ولم تزل أوقاته معمورة بالمطالعة والكتابة والتأليف والتصنيف، والعبادة الحسنة والأخلاق المستحسنة، والتمسك بالسنة والكتاب، والعمل بهما من غير تعصب ولا تأويل موقع في التباب، ولا يميل إلى العمل والقول بالتقليد، بل يقول أن العمل بالأصلين الشريفين هو لكل سعادة أقليد، وله من النظم البديع، والنثر المزري بزهر الربيع، مقدار عظيم، يشهد بأنه صاحب اليد الطولى والفكر الجسيم، فمن نظمه متغزلاً قوله: طبعه، وأنه لمشتغل في تتميمه راجياً من الله سبحانه التيسير فجزاه الله خير الجزاء على هذه الخدمة الإسلامية،(1/632)
والمأمول أن الله سبحانه، يهون عليه تأليف كتب كثيرة ينتفع بها الخاص والعام من جميع الأنام. وأنه الآن قد توطن في مصر وتأهل بها، ولم تزل أوقاته معمورة بالمطالعة والكتابة والتأليف والتصنيف، والعبادة الحسنة والأخلاق المستحسنة، والتمسك بالسنة والكتاب، والعمل بهما من غير تعصب ولا تأويل موقع في التباب، ولا يميل إلى العمل والقول بالتقليد، بل يقول أن العمل بالأصلين الشريفين هو لكل سعادة أقليد، وله من النظم البديع، والنثر المزري بزهر الربيع، مقدار عظيم، يشهد بأنه صاحب اليد الطولى والفكر الجسيم، فمن نظمه متغزلاً قوله:
سل سيفاً وصال فينا بأسمر ... من قوام ومقلة تتكسر
عربي قد أعربت عن فؤادي ... مقلتاه بما به قد تسعر
أن سقماً بمقلتيه تبدّى ... ليس سقماً بل ربما السكر أثر
يا بروحي أفديه ظبي غرير ... ناحل القد ناعس الطرف أحور
أن تهادى رأيت غصناً رطيباً ... يتثنى وإن رنا فهو جؤذر
رق معنى فكاد يرشف بالكأ ... س كخمرٍ بها النسيم تعطر
وتباهى على الهلال بحسن ... هو أبهى من الهلال وأبهر
لو رأت حسنه الشموس لولت ... بذيول من الحيا تتعثر
يا حياة القلوب جد بحياة ... لقتيل بحبك اليوم يشهر
وتدارك بقية من عليل ... كاد يخفى من السقام ويدثر
فتعطف على المتيم يوماً ... بوصالٍ أحيا به أو فأقبر
وامزج الدل بالترفق يا من ... بهواه أولو الصبابة تفخر
إن من يرحم المحب ويرفق ... بقتيل الهوى يثاب ويؤجر
وله أيضاً:
كفى بالهوى دمعاً يسيل ومهجة ... تذوب وأحشاء يمزقها الهجر
معذبتي جودي علي بنظرة ... يضم عظامي بعدها اللحد والقبر(1/633)
جزى الله من أضحيت فيه متيماً ... شجياً بمعناه الجميل أهيم
تعمد قتلي بالهوى دون أجنحة ... على أن فتال النفوس أثيم
رضيت بما يرضى لنفسي دائماً ... أخاف عليه الإثم وهو عظيم
وله:
أحبة قلبي والذي قاد للهوى ... فؤادي وأحشائي وقلبي المقطع
إذا جدتم بالوصل ذلك منة ... وإن رمتم قتلي فلا أتمنع
ومن كان مثلي صادق الود بالهوى ... صبوراً فلا والله لا يتوجع
الشيخ رشيد بن الشيخ طه بن الشيخ أحمد العطار
طلب العلم في صغره، وبذل في الإقبال على الترقي نقود عمره في جده وسهره، فقرأ على علماء عصره، الموجودين في بلدته ومصره، ومن أجلهم عمه المشهور في الأقطار، الشيخ حامد بن الشيخ أحمد العطار. وبعد وفاة عمه أقبل على طلب النيابة باجتهاده حتى كانت أكبر همه، فلم يزل يتولى النيابات، إلى أن مات، وكان جسوراً في الكلام، له في المحاضرة نوع إلمام، يحفظ كثيراً من النوادر، وواقعات الليالي العوادي الغوادر، فعقد وداده غير محلول، ودوام حديثه غير مملول، ويظهر العفاف عن الحرام، والانكفاف عن موجبات الآثام؛ والتباعد عن الرذائل، وأكل أموال الناس بالباطل، وإن كان المسموع، خلاف هذا الموضوع، والله أعلم بحقيقة الحال، يجازي بالجميل على الجميل، وبغيره على قبيح الأفعال.(1/634)
ثم أن المترجم المرقوم قد غلب عليه التشيع، والتضلع من غير تمنع ولا تورع، وكان عنده فيه كتاب موسوم بينبوع الينابيع، ملازم له ولأحكامه مطيع. توفي رحمه الله في جبل عجلون حينما كان نائباً، وذلك عام ألف وثلاثمائة وستة عشر ودفن هناك رحمه الله. وكانت وفاته عن نحو ثمانين سنة تقريباً.
السيدة رقية بنت المرحوم الشيخ ابراهيم بن الشيخ مصطفى السعدي
البرة التقية، الصالحة النقية، الزاهدة الصوامة، العابدة القوامة، المقبلة على صالح الأعمال، والمدبرة عن رذائل الأفعال والأقوال، وكان ذات سريرة صافية، ولطافة وافرة وافية، ولدت نحو ألف ومائتين وخمسين تقريباً، وتزوجت بصاحب التاريخ سنة ألف ومائتين وثمانين، ورزقت منه بأولاد لم يبق منهم سوى النجل الصالح السيد محمد سعدي أحسن الله حاله، وأنجح آماله، وكانت مواظبة على صيام رجب وشعبان، وعلى صيام الاثنين والخميس، وعلى صيام عشر محرم، وعشر ذي الحجة، مع المحافظة على فرائض صلواتها وسننها، إلى أن تمرضت بداء الإسهال، وماتت في يوم الجمعة الحادي والعشرين من صفر عام ألف وثلاثمائة وسبعة عشر.
الشيخ راغب بن المرحوم الشيخ عبد الغني السادات الدمشقي
إمام فقيه، وهمام نبيه، وفاضل نبيل، وكامل جليل، ولد سنة ألف ومائتين وخمسين تقريباً ومن حين صغره نشأ على التقوى، لأنها للوصول السبب الأقوى، وتعلم ما يرفع إلى المقام الأرفع، فتفقه على مذهب إمام الأئمة أبي حنيفة النعمان، ثم دأب على طلب التوحيد والحديث وتفسير القرآن،(1/635)
وكان له في بقية العلوم يد طائلة، وفكرة في مناهج الصواب جائلة، فقرأ على أفاضل مصره، إلى أن صار من ذوي الفضائل في عصره. وله رسائل شريفة. وتقريرات لطيفة، واستظهارات حسنة، وأفكار مستحسنة، ومن رسائله التي نهجت منهج الصواب، وسلكت مسلك السداد بلا ارتياب، الرسالة التي رد بها على رسالة خالد أفندي الأتاسي الحمصي، وبيان ذلك أنه اتفق بعض المتأخرين من علماء السادة الحنفية على أن المرأة إذا ادعت بعد الدخول على زوجها بمقدم صداقها فلا تسمع دعواها، ومضى على ذلك مدة طويلة ضاع بها حقوق كثيرة. ثم أنه لما تولى إفتاء الشام محمود أفندي الحمزاوي، وجد أن هذا الإفتاء خارج عن الأصول، ولم يساعده معقول ولا منقول، فألف رسالة حقية، مطابقة للقواعد الشرعية المرعية، وصار يفتي عن هذه الدعوى بالسماع، من غير تأخر ولا امتناع، فلم يقدر أحد على مراجعته، إلى انتهاء مدته، وبعد وفاته، رد عليه عالم الديار الحمصية خالد أفندي الأتاسي جانحاً لعدم سماع الدعوى، وإعادة الناس إلى الوقوع في تلك البلوى، مع أنها زور وبهتان، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا جاء بها سنة ولا كتاب، ولا وجدنا لها في أدلة الشرع من باب، فتصدى له هذا الفاضل المترجم، ورد عليه رداً يبطل ما به فاه متكلم، بالأدلة الواضحة، والبراهين الراجحة، ثم أنه بعد إتمامها، وتكميل أرقامها، وعرضها على بعض الناس، وكتابتهم عليها بأنها حق بلا التباس، أرسلها إلى العاصمة الإسلامية، لكي تعرض على المشيخة العلية فبعد عرضها ومطالعتها مطالعة تحقيق، حازت على توقيع التصديق، بان ما اشتملت عليه، هو الذي يصار في الحكم إليه، فأحق الله الحق وأبطل الباطل، وذهبت زخرفة المزخرفين بلا طائل.
هذا وإن المترجم المرقوم ذو أخلاق حميدة، وشمائل وحيدة، وكرم وكمال، وعفة وجمال، له في التجارة يد عالية، وهمة سامية،(1/636)
فلا يتناول من أحد قليلاً، ولا حقيراً ولا جليلاً، بل ينفق على بيته وعائلته، مما يكتسب من تجارته، مع قيامه بوظيفة الإفادة، وإقراء الدروس حسب العادة، ولم يزل بحمد الله يحل المشكلات بفكره، ويعطر الصدور بنفثات صدره، ويفوف برود التحرير، ويظهر شموس التحبير في التقرير، ويروي الطالبين من بحر علمه، ويشنف آذانهم بفرائد فهمه. فلا يزال يعلو مقامه، ويسمو جاهه واحترامه، ويمنح الله به ذوي الطلب، كل ما راموه من علم وفهم وعرفان وأدب. آمين.
حرف الزاي
السيد زاهد أفندي بن السيد محمد نجيب بن موسى الحسيني العمري الشهير بالالثي
أديب للبديع من القول منسوب، وأريب بألف من ذوي البدائع محسوب، وإن تكلم أزرى كلامه بعقود الجمان، أو تكمل قلت هذا ملك في صورة إنسان، تتستر الملاحة في غلائله، وتتقطر الرجاحة من شمائله، تمسح خلاله قذى العيون، فما تراه إلا وهي نقية الجفون، وطلعه كالروض صقلت يد الصبا ديباجة وجهه الوسيم، وتلقت النفوس قبوله تلقي النشوان برد النسيم، غرائب أحاديثه زاد النفوس وَقُرَطُ الأسماع، يتجاوز بها غاياتٍ لم تختلج في خواطر الأطماع، تفعل بالألباب فعل بنات الدنان، وما السحر لعمري إلا سحر ذلك البيان، فلله دره من همام وافر الحظ من البراعة، صائب اللحظ في نقوش البراعة، قد اكتسب الأدب بكده وجده، وانتهى من عالي الإرب إلى أقص حده، للمعاني الأبكار مخترع، ولبنات الأفكار مفترع، وله حسب طرَّزكُمّ الأحساب، ونسب تباهت بنسبته الأنساب، ألا وإن القلوب أجمع، قد جبلت على محبته، فلم يكن لها في سواه مطمع، فلذلك كان مقره من العين السواد، ومحله من القلب حبة الفؤاد.(1/637)
ولد في رجب الفرد، وكان الطالع طالع اليمن السعد، وذلك سنة ألف ومائتين وثمان وأربعين، من هجرة سيد الخلق النبي الأمين، ونشأ في حجر والده فلما بلغ سن التمييز، أرسل به إلى المؤدب لتعلم القرآن العزيز، ثم بعد أن أتمه وأتقن آدابه، أخذ في إتقان الخط والكتابة، ثم أكب على الطلب والتحصيل، فلازم الأساتذة ملازمة المدلول الدليل، إلى أن بلغ مطلوبه، وحصل مراده ومرغوبه، من كل علم رفيع، وفن بديع:
همام علا في الورى قدره ... إلى غاية جل أن توصفا
فتىً قد تأثل من دوحة ... سمت في سما المجد والاصطفا
وإن بيني وبينه من الوفاق، ما انعقد على إحكامه الاتفاق، ومن المخاطبات الرقيقة، والمراجعات الأنيقة، ما يزري بلطف النسيم، ويشغل الصب عن الوسيم، ولا يستغرب ما بيننا من كامل المحبة والوداد، لأن هذا الاتفاق موروث عن الآباء والأجداد، وإنه له نظم رقيق، ونثر بديع أنيق، وحافظة تميل إلى الصواب، ولافظة أعذب من عود الشيوخ إلى الشباب، وقد حضر شيوخ عصره، الكائنين في بلدته ومصره، كالشيخ هاشم البعلي، والشيخ عبد الله الحلبي، والشيخ محمد الطنطاوي، وتفقه في مذهب الإمام أبي حنيفة، وجلس في نيابة محاكم الشام الشرعية مدة طويلة، وجلس في محكمة الباب باشكاتب القسمة.
وفي عام ألف وثلاثمائة وأربعة عشر توجه إلى محروسة الآستانة ونزل عند الشهم المحترم أحمد عزت بك بن المرحوم هولو باشا، وكان وقتئذ الكاتب الثاني في المابين ومبلغ الإرادة السلطانية، فاجله واحترمه لصداقة قديمة بينهما، ومكث عنده نحواً من ستة أشهر على الرحب والسعة، واستحصل له في هذه المدة على معاش كل شهر عشر ليرات عثمانية،(1/638)
وعلى نيابة قضاء دوما. وغب حضوره إلى الشام ذهب إلى محل نيابته، وذلك في غرة جمادى الأولى سنة ألف وثلاثمائة وخمس عشرة، وكان في مدة نيابته حسن السيرة، ممدوح السريرة، لم يسمع عنه ميل إلى باطل، ولا تفرقة في الحق ما بين عالم وجاهل، ولا رشوة وإن جل قدرها، ولا تعصب لقضية وإن كان من الأعاظم أهلها، وكان يهوى قبل المرافعة إجراء المصالحة، وعدم المشاحنة والمشاححة، فإذا لم يتمكن بذل وسعه في مصادقة الحق ومجانبة الباطل، ولا يحكم إلا بعد النظر والتحري ومراجعة كتب الأفاضل، وعلى كل حال فمناقبه كثيرة، وبدائهه وبدائعه شهيرة، بأنواع المديح جديرة، ثم أنه بعد تمام نيابته في دوما جلس عضواً في مجلس استئناف الجزاء في العادلية، وفي أثنائها ذهب إلى الآستانة فوجهت عليه نيابة بعلبك، ولم يمض عليه بها مدة إلا ومرض فحضر إلى الشام ولم يزل مريضاً إلى أن اختارته المنية في شعبان سنة ألف وثلاثمائة وعشرين ودفن في تربة باب الصغير رحمه الله تعالى.
الشيخ زين العابدين بن جمل الليل المدني أبو عبد الرحمن بن السيد باحسن جمل الليل
المحدث الفقيه، والمتفنن النبيه، صاحب الشهرة العالية، والسيرة الحسنة النامية، والمآثر اللطيفة، والمحامد الشريفة، فخر العلاء، وصدر الفضلاء، ولد في المدينة المنورة ونشأ بها، وأخذ عن والده وتكمل على يديه، وألقت رئاسة العلوم في المدينة مفاتحها إليه، وقرأ على غير والده من الأفاضل، من جملتهم محمد بن سليمان، ودخل مصر، وزبيد للرواية عن كل فاضل مفيد، ولما دخل الوهابية الحرمين، فر، ودخل العراقين، فروى عنه أجلة علماء بغداد، رغبة منهم بعلو الإسناد، وقرأ صحيح البخاري،(1/639)
في مجمع حافل، فلم يدع مقالاُ لقائل أو ناقل، وكان له من الطاعة والتقوى والعبادة والزهد ما جعله معدوداً من الأوائل، مات رضي الله عنه سنة إحدى عشرة ومائتين وألف، ودفن في المدينة المنورة مدفن أسلافه، وله مؤلفات بديعة، وخدمة عالية لكتب الدين والشريعة، من جملة مؤلفاته كتاب في المشتهر والمفترق، وله مختصر المنهج لشيخ الإسلام القاضي زكريا الأنصاري الشافعي، وقد شرحه أيضاً شرحاً مفيداً، وله كتب كثيرة ورسائل شهيرة، نفعنا الله به آمين، وقد ترجمه صاحب اللآلئ الثمينة، في أعيان المدينة، فقال: ذو بديهة وروية، وسليقة مرضية، كأنها السحاب الرجاف، والغيث الوكاف، ارتدى من المكارم بحلل، وحظي من المحامد بجمل، فغرته كالهلال إضاءة وإشراقاً، ومحياه كالزهر بشاشة والزهر ائتلافاً، وكلامه كالعسجد طلاوة، والشهد حلاوة، والقطر جزالة، ترتشف الأسماع زلاله، وقد برع بنظم حسن المعاني، وبديع المباني، نظماً عليه رونق الفصاحة، وفرند الملاحة، يقطر كالمزن، بودق الحسن، كأنها الشفاه اللعس، أو تفتير العيون النعس، أو الخدود البضة، وقد ازدهرت بالورود الغضة، فمن ذلك النظم الزاهي الزاهر، والشعر الباهي الباهر، وقوله مجيباً بجواب، كأنه في كاس اللطافة حباب، وفي روض الحسن زهر مستطاب:
أغادة من خود حور الجنان ... تتيه إن ماست فتسبي الجَنان
أم بكر فكر من خدور النهى ... زفت بقينات بديع المعان
فاقت على أترابها مذ غدت ... فريدة الحسن رداحا حصان
أم راح ألفاظ حلا رشفها ... من كف ممشوق رطيب البنان
راقت ورقت فرقى هامها ... تاج حباب فاق حبّ الجمان(1/640)
ختامها مسك وممزوجة ... بشهد ريق من رحيق اللسان
فتارة يسقيك خمر اللما ... وتارة يعطيك بنت الدنان
حبابها مع لونها شاكلا ... وجنته مع در فيه المصان
قد أسرت عقل أهيل الحجا ... وأمسكت من كل لب عنان
أم أنجم لاحت بطرس أضا ... كبدر صيف مذ وفى واستبان
أم ذي عقود من لآل حلت ... قد صاغها الندب بديع الزمان
أم روضة غناء عنى على ... أفنانها طير الهنا والتهان
أم نسمة الروض سرت سحرة ... ففاح منها عرف روح الجنان
تحكي لنا باللطف أخلاق من ... حاز المعاني فرد هذا الأوان
الكامل الشهم سراج الهدى ... خدين فخر العلم رب البيان
أنواره مذ سطعت أخجلت ... زهر الربا وانكسف النيِّران
نجل ذوي الفضل الألى شيدوا ... بيوت عز دونها الفرقدان
شيخ أولي الحذق ربيب الذكا ... رضيع البان الفخار المصان
أبدى لنا من بحر إبداعه ... دراً نظيماً راق معنى وزان
نثراً ونظماً قد زهى لفظه ... لله ما أحسن هذا القران
كم منة قلدنيها وما ... في ساحة الفضل أرى لي مكان
لكنه من محض أفضاله ... يقلد الأجياد عقد امتنان
فيا رفيع القدر عفواً فما ... أحصي الثنا لو قلت طول الزمان
زففت لي مثرية قد حوت ... حر القوافي ورقيق المعان
ولست كفواً أن أرى عبدها ... إذ هي بلقيس الغواني الحسان
فهاك من خل قصيداً أتى ... شتيت نظم بسناك استعان
ودم سليما راقياً رافلاً ... في ثوب عز مائساً في أمان
ما ميل الأعطاف نشر الصبا ... وهيمنت ورق على غصن بان(1/641)
وهذه القصيدة جواب عن قصيدة العلامة عمر بن عبد السلام الداغستاني قرظ بها نظم قصيدة طويلة للمترجم وقصيدة الداغستاني المرقوم هي:
لله ما أحسن هذا الجمان ... قد أخجل الدار بحسن البيان
نظم بديع قد حلا لفظه ... ويسكر السمع كبنت الدنان
له قواف راق إبداعها ... كعقد أجياد الغواني الحسان
مسبوكة في قالب اللطف بل ... منظومة في سلك حسن المعان
كالأنجم الزهر بأفق البها ... بل أنه الزهر بوسط الجنان
بل درر أبرزها الحذق من ... أصداف أفكار بديع الزمان
الفاضل الجحجاح مولى الندا ... الكامل الندب الفضيل المصان
مولى سما في أفق المجد بل ... فاز من السعد بأعلى مكان
حسيب أصل بل نسيب علا ... تالله ما أشرف هذا القران
رب المعالي والسجايا التي ... يجز عن حصر حلاها اللسان
زين ذوي الفضل الذي خصه ... مولاه من إحسانه بامتنان
رفيع قدر منتقى ماجد ... ينزل عن عليائه الفرقدان
فاق على أقرانه رتبة ... وصار فيهم ذا فخار وشان
له ذكاء مثل نهر وقد ... أرخى له نظم القوافي العنان
يا أيها المولى الذي وصفه ... يضوع مثل المسك بالزعفران
أقبل بعذر من محب وفى ... نظماً حكى الطل على الأقحوان
أو حب مزن أو نسيم الصبا ... إذ هبَّ فارتاح إليه الجنان
ودم بعون اله في عزة ... ممتعاً في ظل دوح التهان
وله قصائد عديدة، وتأليفات وتقييدات مفيدة، وقد تقدم أنه توفي سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة في المدينة المنورة ودفن في مدفن أسلافه رضي الله عنه وعنهم أجمعين.(1/642)
زين العابدين بن محمد بن زين العابدين
رحمه الله تعالى، قد نظمه سلك عقود اللآلئ الثمينة، في أعيان شعراء المدينة، وترجمه جامعها فقال: خليفة سلفه علماً وفضلاً، وذكاءً ونبلاً، وارتفاعاً في سماء المجد وعلواً، وهمة في اكتساب الفضائل منحته سمواً، فهو فرع لحق في الفخار أصله، واتخذ عند محلِّ علاهم محله، بجد ساعده حظه وجده، وتهلل له مبتسماً بثغر القبول سعده، فوفود الإقبال مستكنة لديه، ومخايل العز لا تزال لائحة عليه، وأدبه الأزهر، أشهر من أن يذكر، فكم له من خطب أنشأها، وبلطائف البديع وشاها، أحسن من الحلل المطرزة رونقاً، وأبهج من سبيك العسجد إذا لاح مؤنقاً، تعشقها الخواطر، وتتنزه في حسنها الضمائر، وأما نظمه فهو الروض البديع، وقد وافاه زمن الربيع، فضحكت فيه أنواع الأزهار، المكللة بلآلي نثار الأمطار، والنسيم وافاها عليلاً، وجر عليها ذيلاً بليلاً، فمن ذلك قوله مجيباً صاحب اللآلي:
لاحت كبدر لاح تحت الحندس ... وسرت بقد بالغدائر مكتسي
وتبسمت عن عقد جوهر ثغرها ... وتنسمت عن طيب عرف أنفس
وجلت لنا من أوج أفق جبينها ... صبحاً تنفس عن دجى متعسعس
وبدا لنا في روض وجنة خدها ... فياح نبر خالها في الحرس
وغدت تذود عن الخدود لحاظها ... فحمت ورود حياض تلك الكنس
وبرت بصارم أنفها مهج الورى ... وبرت بماء رضابها للأنفس
وحقاق فيها فتحت عن لؤلؤ ... في سلك مرجان المباسم منتسي
لله مبسمها الشهي إذا غدا ... متبسماً كالصبح حين تنفس(1/643)
والجيد قد فضح الغزالة لفتة ... ما قرها تحكيه غير تهجس
والصدر متسع بكل فضيلة ... تكبو صوافن خصرها بتقعس
والكف أهطل من سحاب سخاوة ... والجسم أرطب من برود السندس
والخصر أوهن من قوام محبها ... والساق أصفى من زجاج الأكؤس
مذ ماس بان قوامها في كُثبه ... أزرى بزانة كل ليث ملبس
شبهت طلعة وجهها في حسنها ... بدراً بدا في أوج غصن أملس
لله زائر طيفها من زائر ... وافى يدير لي السلاف فأحتسي
وأبوح من سكري بسر قد سرى ... في سر سرى للسري الأكيس
شمس المعارف بدر كل فضيلة ... رب النهى الفهامة المتفرس
نجم العوارف روض كل لطافة ... حاوي التحائف بل وخير مدرس
أكرم به من فاضل متفنن ... جمع البراعة واليراعة والقسي
شهم يفوق على الغمام نواله ... ويروق للرائين منظره الوسي
فرع لا برك دوحة محمودة ... زرع نما في سوح زاكي المغرس
غطريف أهل المجد بل خطريفهم ... جحجاح قوم السعد بدر الأطلس
شحشاح فتيان للقريض سراجهم ... مصباح فتيات النثير الخُنَّس
لا زال للفضلاء يعذب مدحه ... ويطول شامخ فضله المتأسس
وعلى جميع ذويه يعلو قدره ... ويفيض نهر كماله المتبجس
ما عاهد الغيداق نافح روضة ... صبحاً فكللها بدر أنفس
أو ثغر زهر الروض يرشف بكرة ... ريق الغوادي الضاحكات النعَّس(1/644)
عن قوله
سلب العقول بتم حسن أنفس ... رشأ بسيف الجفن مردي الأنفس
رشقت لواحظه السهام بمهجتي ... أو ما ترى تلك الحواجب كالقِسي
ماست معاطفه فخلت قوامها ... غصناً يفوق على القنا والمدعس
وغدا بلا شك بخنجر أنفه ... يفري الحشايا صاح والقلب القسي
أحببْ به بدراً ربيع محاسن ... روض الجمال غدا بغير تلبس
سقيت بماء الحسن وردة خده ... واخضر شاربه كزئبر سندس
لو لم يكن جمع الزهور بهاؤه ... ما كنت تبصر عينه كالنرجس
كالأُقحوان ترى ثناياه إذا ... ما لاح مبتسماً بثغر ألعس
بل أنها تحكي لسمْط لآلئ ... تحت العقيق من الشفاه اللعس
فيه المعتق من شهي رضابه ... يا بخت صب من طلاه يحتسي
حاز التقابل في الجمال فوجهه ... صبح وذاك الشعر حالك حندس
كالماء والنيران دارة صدغه ... فاقتبس ورد باللحظ أو بتهجس
كالظبي خلقا والهزبر سطاوة ... باللحظ يفرس كل أحوس حلبس
لله ليلة جمعنا في السفح إذ ... نلنا المرام وبغية المتملس
مع ذلك النفار عن وصلي وقد ... أمسى يطارحنا بلفظ مونس
والليل قد ألقى سجوف ظلامه ... ونجومه ترنو كأعين حرس
فظللت أحسو خندريس وصاله ... حتى أضاء الصبح حين تنفس
كضياء مولينا أخي الفخر الذي ... بمطارف المجد المؤئل مكتسي
زين الأفاضل بل فريدة عقدهم ... بل در تيجان العلا والقونس
قرم غدت مثل الكواكب خيمه ... وغدا كمثل البدر فوق الأطلس(1/645)
السعد خادم فضله السامي وما ... أحجاه يخدم بالجواري الكنَّس
متبوِّئٍ من قمة العليا على ... فلك أشم من المعالي أقعس
روض لأصناف المحامد والثنا ... فرع عليِّ الأصل زاكي المغرس
مولى غدا يحسو بعزم علاه من ... خرس المعارف مفعمات الأكؤس
يا أيها المولى الهمي بيانه ... كالغيث حين تهمع وتبجس
انعشت قلبي من نظام فائق ... وجلوت عنه كل هم موئِس
كالزهرغب القطر كلله الندى ... أو كالحلي إذا بدا بتهسهس
فسعيت نحو إشارة فيه بدت ... كيما أنال بسعدكم لتأنس
فاقبل نميقة مشغل ما نمقت ... لكن بكم تزهو بأفخر ملبس
لا زلت ترفل في برود معزة ... سامي الرحاب مدى سجيس الأوجس
وله من أخرى:
فتكت بسيف الغنج مهجة صبها ... وبأسمري القد جسم محبها
وتدرعت حقاً بثوب جمالها ... فاستأثرت أسد الشراء بعضبها
برزت بميدان التفاخر طفلة ... فالقرم بدد من أسنة هدبها
وبدت بإيوان التغزل ظبية ... فتحجبت منها الشموس بحجبها
سفرت خمار الأنس عن ذاك السنا ... فتكورت شمس الدنا في غربها
كشفت عن الراحات قلت مشبهاً ... بدر الحوالك قد بدت من سحبها
وجلت لنا كأس المحبة والهنا ... وملته راحاً من معتق شربها
وشدت بألحان الرباب وزينب ... وبثينة العشاق نخبة سربها
فسكرت من ذاك المدام فلا أعي ... وطربت من ذكر الرباب وقربها(1/646)
وله من أخرى
أرى القلب مغرى وغرماً بالتغزل ... حليف جوى يصبو إلى كل عَيْطلِ
يسامر زهر الليل يشكو لها الذي ... يقاسيه في ذاك الجمال المكلل
وينشد عن ليلى ولبنى وزينب ... وينعم مع هند ويصبو لمنزل
فليلى سويد القلب حلت وغيرها ... رسوم وأسماء تزال بمعول
فشاهد سنا ليلى فضوء جبينها ... هلال يعيد الوجد بعد التنصل
وحاجبها قوس أراش لأسهم ... أصابت فؤاد الواله المتعلل
وأعينها حور حُمين بِبُتَّرٍ ... وهاروتها بالسحر قد صار مخبلي
ومسند جنح الجند مرسل أدمعي ... ومقطوع صبري في الهوى لم يوصل
زكافور خديها تنفس فجره ... بعنبر خيلان يفوح كمندل
ومبسمها الزهري أشرق نوره ... على شفق يبدو بذاك المقبل
ومرشفه راح ببابل صنعه ... فمن ذاق منه رشفة لم يعلل
وجيد لها يحكي الغزالة صوره ... وما قدرها تحكيه غير تخيل
وراحات أيديها كبدر دجنة ... وصدر كقرص الشمس في حين ينجلي
فدائي هواها والدواء وصالها ... وحالي لا يخفى على المتأمل
انتهى. إن هذا المترجم قد مات في القرن الثالث عشر ولم أقف على تعيين تاريخ موته رحمه الله.(1/647)
حرف السين المهملة
القاضي سالم بن محمد الدرمكي من علماء البحرين وعمان
أديب هو في وجه الزمان غرة، وأريب ليس للزمان منه سوى الجمال والمسرة، قد امتطى متن البديع والبيان، وركب ظهر البحرين وعمان، وقد ترجمه أحمد بن محمد الأنصاري فقال ما ملخصه: القول فيه أنه أشعر أهل مصره، وخاتمة بلغاء قطره، مَلَكَ أزمة البراعة واللسن، وظفر بكل معنى برائق حسن، اجتمعت به غير مرة لاستنشاق أرج أنفاسه، في خميلة أرض هي مسقط رأسه، فوجدته سالماً من الفظاظة كاسمه، متحلياً بحلية الفضل اللامع، نوره من محاسن نثره ونظمه، فمن لطائفه قوله م قصيدة أرسل بها إليَّ متشوقاً وأنا إذ ذاك باليمن الميمون:
فيا أبيض الأخلاق والوجه أنا مذ ... تناءيتَ أيامي غدت كلُها سودا
ولا زلت أن اتهمت يهوى تهامة ... فؤادي وإن أنجدت يوماً هوى نجدا
فمهما تسر يشفعك قلبي أينما ... توجهت لا تسعى إلى وجهة فردا(1/648)
وذكرك في قلبي يلذ وفي فمي ... كأني أحسو من تذكرك الشهدا
نأيت فعن جفني نأى بعدك الكرى ... فهل كنتما وكلتما للنوى وعدا
فيا أحمد المحمود طبعاً إلى متى ... بافعالك الحسنى تعلمني الحمدا
لقد ند عنك السوء يا ابن محمد ... ودمت كريماً لا تصيب له ندا
وقوله في ذكر المحبوب عند الشدة والكروب:
ولقد ذكرتك يا بثينة في السفر ... والفلك في البحر المحيط قد انكسر
والموج من طوفانه متلاطم ... والموت للأنياب منه قد كشر
والناس قد غرقوا معاً إلا أنا ... أرجو الحمام تجاه وجهي ما استتر
وبقيت في لوح غريق كله ... والماء لي كلي إلى رأسي غمر
ومكثت حيناً من طعام معدماً ... فيه وتذكاري يقوم به الذكر
ويعحبني قوله من قصيدة مدح بها السيد النبيل، محمد بن خلفان الوكيل، عليهما رحمة الملك الجليل:
نفسي فدى الإلف الذي صار بي ... براً وما عاينت منه جفا
شمائل راقت ورقت له ... فمنه ما أحلى وما ألطفا
كأنه في حسن أخلاقه ... لنجل خلفان الوكيل اقتفى
محمد مَن ما هفا قلبه ... لريبة قط وعنها هفا
لم يك بالمخلف عهداً ولا ... كل امرئ فوه يُرى مخلفا
يجود بالمال ويسطو فكم ... أمن من قوم وكم خوفا
وما أتاه مذنب تائباً ... يطلب منه العفو إلاَّ عفا
وما شدد الدهر على شيعة ... إلاَّ عليهم جوده خففا
وبالندى منه يوفيهم ... إذا رأى الدهر لهم طففا
إذا قضى أو جاد أو صال أو ... قال حكى في فعله المصطفى
يصلح ما اختل بتدبيره ... مارتقت دنياه إلاَّ رفا
توفي رحمه الله عام ألف ومائتين وبضعة عشر.(1/649)
الإمام الأمجد سعيد بن الإمام أحمد البوسعيدي من علماء عمان والبحرين
قال صاحب الحديقة: ماذا أقول فيمن تفرع من جرثومة السيادة، وترعرع في رياض الحبور والسعادة، وتتوج بتاج العز الزهر، وحظي في دهره بالعيان الأخضر، وتطاول نواله، واتسع في الفضل مجاله:
كانت الألسن عن أوصافه ... وغدا المدح به مفتخرا
فمن لطائفه، وبديع طرائفه، ما كتبه إلى أخيه الهمام سلطان ابن أحمد الإمام:
إذا شحت الخضراء بالوبل فالتمس ... تجد جود سلطان على الناس كالمطر
فإن عز مطلوبي فليس شماتة ... وإن حصل المطلوب فالفوز بالظفر
وقوله يرثي ولده السيد حمد رحمه الله تعالى:
وافى حمامك يا حبيبي بالعجل ... نار تلهب في ضميري تشتعل
يا من له شرف وفضل في الورى ... أمسى وحيداً مفرداً دون الأهل
الله أكبر من مصاب عمنا ... هماً وغماً لا يبيد ولا يفل
حمد حوى المجد الشريف تغيرت ... أيامه قد كان يضرب بالمثل
صبراً لأولاد الإمام ومن لهم ... من أخوة وأقارب فيما نزل
لا غرو هذا قد أتى خير الورى ... لم تمنع الأموال عنه ولا الدول
وقوله رحمه الله:
لهفي على زمن مضى ... ما ذقت أحلى منه شي
لما ذكرت عهوده ... جرت الدموع وقلت أي(1/650)
وله قصائد كثيرة، وأبيات شهيرة، وأوصاف ممدوحة، وشمائل مشروحة. رحمه الله تعالى.
الشيخ سعيد بن المرحوم محمد الغبرة
كان رجلاً يغلب عليه الصلاح، واقتفاء آثار ذوي النجاح، وطلب العلم في أول أمره إلى أن صار له ملكة وإلْمامٌ نوعاً ما، ولكنها لعدم كمال إقباله ما تَمَّا، واخذ الطريقة الصاوية الدرديرية، وكان يقيم الذكر في الجقمقية شمالي جامع بني أمية، وصار عنده جمعية كبرى، وحصل له قبول عند الناس إلى أن استحصل التولية على أوقاف المدرسة المرقومة، فأقبل على الدنيا بجده واجتهاده، ففتر أمره وتنزل قدره، وكان يقرأ درس وعظ بجامع بني أمية فكان يحضره الغرباء، وكان له جسارة في الأمور ودأب عظيم، وكان يخيل له أنه من كبار العلماء المدرسين وفي آخر أمره ذهب إلى عكة وأخذ طريق الشاذلية عن الشيخ علي اليشرطي، بعد ان كان منكراً على هذا الطريق وأهله. وقد توفي هذا المترجم في الحمام فجأة سنة ألف وثلاثمائة ونيف.(1/651)
السيد سعيد أفندي ابن الشهاب أحمد الأيوبي الأنصاري رئيس الكتاب بمحكمة الباب
كان شهماً أديباً، وكاملاً لبيباً، ذا سيرة جميلة، وسريرة جليلة، وشمائل حسنة، وفضائل مستحسنة.
ولد بدمشق الشام سنة أربعين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده، وقرأ القرآن وأتقنه، ثم حضر دروس الأفاضل الأعلام، إلى أن بلغ المأمول والمرام، وأحسن صنعة الكتابة، وكان ذا تؤدة في أموره لا يعرف حماقة ولا طيشاً، وتولى رئاسة الكتاب في محكمة الباب، وحصلت له شهرة عظيمة، وسيرة وافية جسيمة ولم يزل يتفوق مقامه، ويمازج القلوب احترامه، إلى أن دعاه الحمام إلى دار المقام، سنة ست وثلاثين ومائتين وألف ودفن في باب الصغير.
الشيخ محمد الشيرازي
هو من رجال الحديقة، بل هو فردها في المجاز والحقيقة، قال في ترجمته، لكي يبدي لنا شمس معرفته: سعيد الحظ والطالع، لا فرق بين وضاءة سعده وبهاء البدر الساطع، نبغ في جنة المعارف شيراز، فظفر من ظهوره كل طالب بلطائف الأدب، وفاز، له النظم الحسن والنثر الذي دل على أنه ذو بلاغة ولسن، ديوان شعره الفارسي بستان، وبيان نظامه العربي حديقة ورد وريحان، فمن ظريف نظمه قوله:
فاح نشر الحمى وهب النسيم ... وتراني من فرط وجدي أهيم
إن ليل الوصال صبح منير ... ونهار الفراق ليل بهيم
ووداع الحبيب خطَب جزيل ... وفراق الأنيس داء أليم
فتن العابدين صدرٌ وسيم ... آه لو كان فيه قلب رحيم
يا وحيد الجمال إني وحيد ... يا عديم المثال قلبي كليم(1/652)
سلوتي عنكم احتمال بعيد ... وافتضاحي بكم ضلال قديم
معشر اللائمين فيما جهلتم ... لو رأيتم جماله لم تلوموا
إن نار الهوى لدى كل صب ... مع ذكر الحبيب روض نعيم
كل من يدعي المحبة فيكم ... ثم يخشى الملام فهو مليم
وما أحلى قوله:
يا نديمي قم ونبه ... واسقني واسق الندامى
خلني أسهر ليلي ... ودع الناس نياما
اسقياني وهدير الرعد قد أبكى الغماما
في زمان سجع الطير على الغصن وحاما
وأوان كشف الور ... د عن الوجه اللثاما
أيها المصغي إلى الزهاد دع عنك الملاما
فز بها من قبل أن يجعلك الدهر عظاما
قل لمن عير أهل الحب بالجهل ولاما
لا عرفت الحب هيهات ولا ذقت الغراما
لا تلمني في غلام ... أودع القلب سقاما
فبداء الحب كم من ... سيد أضحى غلاما
انتهى. فهذا المترجم قد طار ذكره وفاق، وانعقد على انفراده في بلاده الاتفاق، قد قصده الطلاب من الأقطار، ونحاه الرغاب لما يعلمون لديه من بديع الأوطار. قد أخذ عن العلماء الأفاضل، إلى أن امتاز بالفضائل والفواضل، فدرس وأفاد، وجاد، وأجاد، وأظهر من المعارف التحقيقية ما لم يكن على بال، وبهر في فنونه التدقيقية من بحر ذهنه السيال:
فكأنما هو روضة ... تهتز في يوم مطير
أزهارها ككواكب ... قد زينت فلك الأثير
علامة لم يلق في ... هذا الزمان له نظير
إن جال في التفسير فالتفسير أعسره يسير(1/653)
أو قرر الأحكام من ... فقه تفقهها الكثير
وإن انتحى للنحو وضحه بتسهيل العسير
وإليه في فن البلا ... غة كل مسؤل يشير
وإذ تعانى الشعر قلت أذا الفرزدق أم جرير
والحاصل أنه فرد عصره، وزينة قطره ومصره. توفي رحمه الله تعالى في شيراز سنة ألف وزيادة عن المائتين.
السيد سعيد بن قاسم بن صالح بن اسماعيل بن أبي بكر القاسمي الشهير بالحلاق الدمشقي الشافعي
سلالة مجد أشرقت أنواره، ونفحت في رياض الأدب أنواره، فصيح ألبسه المولى حلة الكمال، وبليغ نسج القريض على أبدع منوال، فأخذ برقاب القوافي، وورد منها المنهل الصافي، فحاول رقيقه وجزله، وأجاد جده وأحكم هزله، بنظر نقاد، وخاطر وقاد، يقضي حق البيان، ويملك رق الحسن والإحسان، يترقرق به ما الطبع، ويرتفع له حجاب القلب والسمع، مع حسن المحاضرة، ولطف المذاكرة، فلا جرم قد طابق اسمه مسماه، وكاد أن ينطق بلفظه معناه، ولد في دمشق الشام، في أوائل المحرم الحرام، عام تسعة وخمسين ومائتين وألف، ونشأ في حجر والده بركة عصره، وفقيه قطره، فتأدب بفضائله وتهذيبه، وكساه من الفنون الرداء المذهب، فاقتفى واقتدى، وراح في الحلبة واغتدى، حتى نبل وشدا، وبلغ في المعارف الندى، ولما توفي والده عام أربعة وثمانين ومائتين وألف قام مقامه في إمامة جامع السنانية، وإحياء دروسه الليلية والنهارية، وله أخذ وسماع وتحصيل، عن غير والده الجليل، من أساتذة محققين، وأفاضل كاملين، منهم الشيخ(1/654)
محمد الطنطاوي والشيخ سليم العطار والشيخ محمد المنير والشيخ عمر العطار وغيرهم بواهم الله دار السلام. واجتمع بفضلاء الحرمين الشريفين وبيت المقدس الشريف عام زيارته لهما سنة إحدى وثلاثمائة وألف. وله إقبال عظيم على شانه، وانزواء شديد عن أكابر زمانه، والقلوب على مودته متطابقة، والألسن بالثناء عليه ناطقة، وله مصتفات أدبية، ومجموعات بهية، منها بدائع الغرف، في الصنائع والحرف، ومنها الثغر الباسم، في ترجمة والده الشيخ قاسم، ومنها سفينة الفرج، فيما هب ودب ودرج، ومنها ديوان شعر لطيف جمع فيه جملة من درره، وشذرة من محاسن غرره، وأكثر ن ابتكار النوادر، وتلطف في المجون بكل معنى بديع(1/655)
نادر، راضياً بعفو الطبع، وما يخف على السمع، فمن لؤلؤه الرطب، ورشح قلمه العذب، قوله مطلع قصيدة متغزلاً:
أما وعيون فاتكات فواتر ... فعلن كأفعال المواضي البواتر
وصبح جبين فوق بدر يزينه ... شقائق ورد بين ليل الغدائر
وعنبر خال حول ثغر مدامة ... حماه ورود الرشف سيف المحاجر
وبلور جيد إن تنازل ريقه ... يريك بريقاً من خلال الحناجر
ورقة خصر فوق طود كثيبة ... تميد بموج فوق بحر الجزائر
وخطيّ قدّ كم ترى عند هزه ... طريح غرام لا جريح خناجر
وهيكل جسم إن تراءى لناظر ... فما هو إلا قطعة من جواهر
بأن الهوى مني وإني من الهوى ... وإن هيولى العشق سار بسائري
ومن منظوماته الحماسية قوله من أبيات:
شموس الرضا دوما علينا بوازغ ... وآلاءُ ستر الله فينا سوابغ
وفي يدنا اليمنى غدا اليمن مغدقا ... بشعر وآداب فنحن النوابغ
لنا في العلا نفس تعز بربها ... وقلب بغير الفكر والشكر فارغ
وقال في مدح دمر:
يا صاح إن رمت المسير لمنزه ... فاقصد بسيرك نحو روضة دمر
فهواؤها محيي الجنان وأرضها ... مثل الجنان وماؤها كالكوثر
ومن لطائفه قوله:
ذهب الربيع بورده وبلينه ... وأتى الشتاء ببرده وبطينه
أما الفقير ففي الشتاء هلاكه ... من همه في فحمه وعجينه
وبسقف بيت عياله من دلفه ... وبرجفه من برده وأنينه(1/656)
وقال في باب التوكل:
كل من يبغي سوى المولى نقص ... واعتراه من ذوي الدنيا غصص
وإذا أمل منهم حاجة ... نغص المسؤول عنها ونكص
مكفهر الوجه لو أبصرته ... قلت من أين له داء البرص
وعلى السائل فرضا لو سخا ... مرة ألقاه في ذل القفص
فاترك العالم طرا ثم سل ... ملكاً يرغب أن تؤتى الرخص
منعماً براً كريماً رازقاً ... ليس يرضى عن عبيد قد حرص
عالماً أجمال أحوال الورى ... فهو ادرى في تفاصيل القصص
وقال لبعض الشؤون:
نظر الزمان إليَّ من طرف قذي ... يوماً فقلت منادياً من منقذي
فنظرت من كل الجهات فلم أجد ... خلاً يغيث فقلت غب تعوذي
بالأمس لا يحصون أحبابي فهل ... محقوا بريح أصفر مستحوذ
أم هل تواروا في قبور بيوتهم ... سحقاً لهم من ذلك الفعل البذي
أين المودة والإخاء والاصطفا ... بل أين مَنْ مِنْ خير ثدي قد غذي
صدق اللبيب الشاعر الفطن الذي ... قد قال هذا البيت بالمعنى الذي
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد القنفذ
ومن لطائفه قصيدتان نظمهما في عام تأخر برده عن وقته المعتاد صاغ الأولى في قالب السؤال من فصل الشتاء والثانية في جوابه واعتذاره المتضمن وعظ الموسرين ليتفقدوا أولي الفاقة. أما الأولى فهي قوله:
ما بال بردك ياشتاء تأخرا ... وبريق برقك خلب لن يمطرا
أقبلت يا فصل الشتاء ولم نجد ... من ماء مزنك قطرة بلت ثرى
فصل كأيام الحسوم يجيئنا ... فالآن في أبداننا ما أثرا(1/657)
ما هكذا قد كنت تأتي للورى ... فارحم جشا بلظى هواك تسعرا
وإذا سألتك أن أراك حقيقة ... فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى
أين الرياح العاصفات بفصله ... لا تبقي في الأشجار عرقاً أخضرا
أين الجليد مجمدّ الأرض الذي ... مثل الزجاج تخاله متصورا
أين الصقيع المقصم الظهر الذي ... ترك الفتى من رجفه متحيرا
أين الضباب المظلم الجو الذي ... بظلامه يحكي قتاماً أغبرا
أين اسوداد الجوِّ أين عبوسه ... أين الغمام وغمه ومتى سرى
أين الزيادة في المياه إذا أتت ... تحكي لنا في اللون طيناً أحمرا
بل أين برد الزمهرير ولسعه ... للوجه لكن يستخير المنخرا
أين الرعود المزعجات بصوتها ... كمدافع يضربن جواً أقفرا
فإذا رأيت رأيت برداً خاطفاً ... وإذا سمعت سمعت صوتاً منكرا
أسفي لثلجك يا شتاء فإنه ... قد كان يبني أذرعاً أو أكثرا
أسفي على البَرَد الكبير وطبّه ... مذ كان ينزل جامداً مستحجرا
أسفي علينا ما رأت أبداننا ... برداً به نلتذ في لبس الفرا
فإلى متى والصحو عمَّ سماءنا ... والشمس في إشراقها لن تسترا
وبيوتنا أبوابها مفتوحة ... فكأن حرَّ الصيف لن يتغيرا
وننام لا مزَّملين بثوبنا ... كلا ولا احتجنا لآن نتدثرا
وسقوفنا جفت وقد كانت لنا ... يبكي بدمع الدلف ماء أصفرا
أسفي على يبس الميازيب التي ... طول الشتاء تصب ماء أغبرا
أسفي على تلك البلاليع التي ... كانت تسد بما يحاكي الأبحرا
أسفي على تلك المناقل لم تذق ... في صفوة فحماً وجمراً أحمرا
أسفي على تلك البرادي وهي في ... أجداثها ملفوفة لن تنشرا(1/658)
أسفي على الأوحال في الطرقات إذ ... يبست وآن لها بأن تتخمرا
ومتى نرى الإنسان يمشي فوقها ... يغدو ويرجع خائضاً ومشمرا
ومزركشاً من طينها ومطرزا ... ومدبجاً من فرقه وإلى ورا
وبنعله قد شال من أوحالها ... أرطال طين كاد يحني الأظهرا
فلطالما قد قيل أيام الشتا ... زلق الحمار بوحلة فتفطرا
والناس يصطرخون هل من منقذ ... غرق الحمار بحمله وتكسرا
أسفي على الحمال لو أبصرته ... لرحمته لما بكى وتحسرا
فإلى متى لا تحمل العكاز بل ... لا يلبس القبقاب بل لا يشترى
ومتى نرى سطح السقوف مكلساً ... ومخمراً بالثلج أبيض نيرا
لو أنني جمعته وخزنته ... للصيف كنت عملت منه متجرا
فبمثل هذا الحال كان شتاؤنا ... أفلا يحق عليه أن نتقهرا
يا أجرد الكانون جئت معاكساً ... تدع الغصون ونحن ننبذ بالعرا
وكذا الأصم أخوه لا يبغي بأن ... ننطم في وسط البيوت ونقبرا
لو كان يسمع لا يضن ببرده ... لكن أصم فليس يسمع ما جرى
فعسى بآذار يجود بمالنا ... قد ضن فيه شتاؤنا إن أدبرا
وقال في القصيدة الثانية التي وقعت جواباً على لسان حاله فهي:
يا من تكلم في الشتاء بما درى ... ورأى بأن البرد فيه تأخرا
برد الشتاء لقد تحول عنكمو ... وأظنه قد ضل في إحدى القرى
جوبوا البلاد لعلكم تجدونه ... في قارة قد قرَّ فيها أو سرى
إن لم تروه بها فجدوا خلفه ... فلعله في حمص زار وزمهرا
أم في حماة أتى إليها يحتمي ... فعصى بعاصي نهرها وتسترا
أم راح نحو مدينة الشهباء أم ... رام الإقامة في ذرى أم القرى(1/659)
ليريحهم من حرها في برده ... ويزمل الأبدان منهم بالفرا
أم أمَّ نحو الروم وهي بلاده ... منها نشا وبها استقر بلا امترا
فهناك تلقون الشتاء وبرده ... يمشي بمسقط رأسه متبخترا
وترون ما تبغون من آفاته ... وزيادة مما يقص الأظهرا
فإذا سمعتم أنه في بلدة ... ورأيتموه جامحاً مستنفرا
قولوا له يا ابن الحلال إلى متى ... ما آن أن تأتي وتنظر ما جرى
بينا نطوف لعلنا نحظى به ... في بعض تلك المدن أو بعض القرى
وإذا به بين الجبال مخيم ... إذ لا أنيس له هناك من الورى
قلنا له: يا بارداً في طبعه ... لكن قطر نداك يحكي السكرا
أنت الذي عاهدتنا من أدم ... والعهد منك على المدى لن يخفرا
تأتي ألينا كي تغيث زروعنا ... في كل عام مرة أو أكثرا
والآن في ذا العام قد قاطعتنا ... وفررت عنا ما الذي منا جرى
أرأيت منا ما يسوءك فعله ... من كل ذنب سيئ لن يغفرا
أم بعضنا يجني عليك بذنبه ... فأخذت باقي البعض ظلماً وافترا
هذا وقد جئناك بعد مشقة ... فابدي الجواب ولا تكن مستعذرا
نهض الشتاء وقال كلا فاسمعوا ... نصحاً يقال لمن يريد تبصرا
لما منعتم مالكم فقراءكم ... وعراهمو من فقرهم ما قد عرا
وغنيكم متنعم بطعامه ... وشرابه ولباس أنواع الفرا
وفقيركم لا تنظرون لحاله ... وترونه في عيشه متكدرا
وترونه بالسوق في وقت المسا ... يبتاع زيتوناً وخبزاً أسمرا
يغدو حزيناً باكياً وغنيكم ... يغدو ويرجع ضاحكاً مستبشرا
ويطوف حول الفاكهاني في المسا ... أو حول بياع الكنائف للشرا(1/660)
وإن اشترى شيئاً غدا من بخله ... يخفيه تحت ثيابه متسترا
والمعدمون يبصبصون بأعين ... حول الغني ويرجعون القهقرى
وإذا الفقير أتاه يبكي كسرة ... أو جاء ضيفاً يبتغي منه القرى
ما كان إلا بالعصا إكرامه ... أو بالعطا أعطاه فلساً أحمرا
وكم تمنى الأغنياء بأن يروا ... في ساحة الفقراء ريحاً أصفرا
كي لا يروا أبداً فقيراً بل ولا ... يجدون مسكيناً وأشعث أغبرا
يا ويحهم ماذا يكون جوابهم ... في القبر حين يروا نكيراً منكرا
للأغنيا ويل من الفقرا غدا ... يوم القيامة إذ يرون المحشرا
إذ يقبضون عليهم في موقف ... منه الوليد يشيب من بين الورى
ويقول كل منهم يا ربنا ... خذ حقنا منهم فلن نتأخرا
يبقى الغني هناك لا مال له ... فيصير عما قد جنى متحسرا
فالآن أنتم يا ذوي الأموال إن ... واسيتموا الفقراء آتي ممطرا
وتزوركم رحمات رب لم يزل ... للمحسنين مساعداً وميسرا
وترون فصلي فصل خصب مقبل ... في كل خير بالرخاء مبشرا
ولتسمعن رعوده كمدافع ... ولتنظرن البرق فيه منورا
ولتبصرن هتون مزن سحابه ... فسيوله في الأرض تحكي الأبحرا
ولسوف ينزل ثلجه ببلادكم ... فهناك يبني أذرعاً أو أكثرا
ويروج سوق سويقكم في وقته ... فكلوا السويق مدبساً ومكسرا
وله من هذا الباب، ما تلذ به أولوا الألباب، مما يعترف له بحقه، ويعرف به مقدار سبقه، ثم أنه في ثاني وعشرين من شوال عام ألف وثلاثمائة وسبعة عشر بعد طلوع الشمس وكانت الساعة اثنتين من النهار صباحاً توفي المترجم فجأة وكان له مشهد عظيم، ومحفل جسيم، وكانت الصلاة عليه في جامع السنانية ودفن في مقبرة باب الصغير وراء قبر والده رحمه الله تعالى.(1/661)
الشيخ سعيد بن عبد الكريم الأنصاري المدني رحمه الله تعالى
هو من عقد اللآلئ الثمينة، في أعيان المدينة، فقال مؤلفه، ومجيده ومصنفه: فاضل أطلق في العلم لسانه، واتخذ الفضل عنوانه، وحاز الفضائل بحسن همة، وجعل الآداب لها تتمة، فأبدى نظماً هو الدر إلا أنه المنضود في النحور، والزهر إلا أنه الخضل الممطور، وهو أكبر إخوته، وكبير ثلته، فإنهم أربعة إخوة نشأوا من الحسب والمكارم في أعلى ربوة، ثلاثة منهم لهم في النظم يد، وواحد منهم لم يكن له فيه صدد، فمن نظم صاحب الترجمة البارع في كناية البيان وصريحه، قوله في مدح سيدنا عثمان بن عفان كتبها على تابوته في ضريحه:
لعثمان ذي النورين تفدى الجوانح ... وتسعى إليه العارفون الجحاجح
ألا كيف لا تسعى وقد حاز رفعة ... لها الشرف العالي مدى الدهر راجح
سليل ذوي المجد الرفيع مكانة ... به يتقى والحادثات فوادح
فإن كان مجد الصاحبين محققاً ... فمجد أبي عمرو له الفضل شارح
لقد بايع المختار عنه بنفسه ... مبايعة فيها الكماة كوالح
وجهز جيش المسلمين بماله ... وأوقف بئراً تنتحيها الموائح
وقد أنزلت فيه أمن هو قانت ... يقوم الدياجي والدموع سواقح
وبشر بالبلوى ففوض أمره ... فوافته بالدار الرزايا النواطح
وأضحى شهيداً في الجنان منعماً ... له الحور تجلى قد علته الوشايح
همام أمير المؤمنين قد استحت ... ملائكة الرحمن منه وصالح(1/662)
وأثنى عليه الهاشمي ببذله ... تليداً معّداً قد حبته المرابح
وزوجه بنتاً له ثم بعدها ... حباه بأخرى نشرها ثم فايح
وهاجر حباً مرتين فأخصبت ... سنون وسالت من نداه الأباطح
فيا ثالث الأصحاب أنت وسيلتي ... ويا جامع القرآن جودك مانح
وهاكم قريضاً فوق تابوتكم زهى ... على الروض فيه المطربات صوادح
وكالنور نوراً بل يزيد وضاءة ... وحسناً له بين الأنام مدايح
فمع غاية المجد المؤثل قد أتى ... لتاريخه شطر من الشعر واضح
يقولون زوار الضريح إذا أتوا ... أيا حسن تابوت له الله مانح
قد توفي في أوائل القرن الثالث عشر رحمه الله تعالى.
الشيخ سعدي بن محمد بن عمر بن عبد اللطيف بن محمد بن محمد بن أحمد بن شمس الدين بن تقي الدين بن أبي بكر ابن عبد الهادي الدمشقي الحنفي الفاروقي العمري
المتصل النسب بسيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثاني الخلفاء الراشدين، ولد المترجم في دمشق الشام ونشأ بها وقرأ على جل علمائها، وأجل فضلائها، ومن أجلهم العمدة العلامة، والنخبة الفهامة، الشيخ سعيد الحلبي، والسيد شاكر العقاد، وغيرهما من الأعيان الأمجاد، وولي أمانة الفتوى في دمشق الشام أيام مفتيها الأجل الهمام، السيد حسين أفندي المرادي، إلى أن توفي وتولى الإفتاء بعده ولده علي أفندي المرادي مدة أشهر وكان المترجم عنده، ثم بعد موت علي أفندي تولى الإفتاء طاهر أفندي وكان المترجم عنده، إلى أن فصل سنة ألف ومائتين وثمان وسبعين وتولى الإفتاء أمين أفندي الجندي فكان المترجم أمين الفتوى عنده، إلى أن توفي المترجم المرقوم في حدود سنة الألف والمائتين والثمانين.(1/663)
الشيخ سعدي بن الشيخ هاشم التاجي البعلي الدمشقي
من العلماء الأفراد والفقهاء السادة الأمجاد، كان حسن الأخلاق قد علا قدره وفاق، وكان محمود السيرة ممدوح السريرة، قد سافرت وإياه سنة تسع وسبعين إلى القدس فرأيت من حسن حاله، واتساع باله، ما يوجب له حسن الثناء والمدح ويذهب عنه كل طعن وقدح، مات رحمه الله تعالى خامس عشر ربيع الثاني سنة تسع وسبعين ومائتين وألف ودفن في تربة باب الصغير.
الشيخ سعدي بن مصطفى بن سعد بن عبده الدمشقي الحنبلي المعروف بالسيوطي
العام العامل الهمام، ومفتي الحنابلة بدمشق الشام، ولد بدمشق خامس عشر شهر المحرم الحرام سنة ست وتسعين ومائة وألف من هجرة سيد الأنام، وأخذ عن الشيخ محمد الكزبري، والشيخ شاكر مقدم سعد والشيخ غنام الحنبلي، وغيرهم من السادة العلماء والقادة الفضلاء، وبرع وفاق وطار ذكره في الآفاق، وكان عالماً عاملاً زاهداً فاضلاً، عابداً تقياً صالحاً نقياً، رفيع المقام بديع الاحترام، تولى نظارة جامع بني أمية بعد وفاة والده سنة ألف ومائتين وثلاث وأربعين، وإفتاء الحنابلة وكان فائقاً في العلوم من منطوق ومفهوم، ولاسيما في علمي الحساب والفرائض فإن له بهما المعرفة التامة. ولم يزل على كماله إلى أن جذبته يد المنية إلى الدار العلية، في ذي الحجة الحرام سنة ألف ومائتين وست وخمسين ودفن في الدحداح.(1/664)
سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود
قال في البدر الطالع: ولد تقريباً سنة ألف ومائة وستين في وطنه ووطن أهله القرية المعروفة بالدرعية من البلاد النجدية، وكان قائد جيوش أبيه عبد العزيز وكان جده محمد شيخاً لقريته التي هو فيها، فوصل إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب الداعي إلى التوحيد المنكِرُ على المعتقدين في الأموات فأجابه وقام بنصره، وما زال يجاهد من يخالفه، وكانت تلك البلاد قد غلبت عليها الأمور الجاهلية وصار الإسلام فيها غريباً. ثم مات محمد بن سعود وقد دخل في الدين بعض البلاد النجدية، وقام ولده عبد العزيز مقامه فافتتح جميع الديار النجدية، والبلاد العارضية والحسا والقطيف، وجاوزها إلى فتح كثير من البلاد الحجازية، ثم استولى على الطائف ومكة والمدينة وغالب جزيرة العرب، وغالب هذه الفتوح على يد والد سعود، قام ولده سعود المترجم المرقوم، فتكاثرت جنوده واتسعت فتوحاته، ووصلت جنوده إلى اليمن، فافتتحوا بلاد أبي عريش وما تصل بها، ثم تابعهم الشريف حمود بن محمد شريف أبي عريش وأمدوه بالجنود، ففتح البلاد التهامية كاللحية والحديدة وبيت الفقيه وزبيد، وما يتصل بهذه البلاد، وما زال الوافدون من سعود يفدون صنعاء إلى حضرة الإمام المنصور وولده المتوكل بمكاتيب(1/665)
إليهما بالدعوة إلى التوحيد وهدم القبور المشيدة والقباب المرتفعة ثم وقع الهدم للقباب والقبور المشيدة في صنعاء، وفي كثير من الأمكنة المجاورة لها وفي جهة ذمار وما يتصل بها، ثم خرج خليل باشا من مصر إلى مكة بعد إرساله بجنود افتتحوا مكة والمدينة والطائف وغلبوا عليها، وكان استيلاؤه على مكة والمدينة عام ألف ومائتين وثمانية وعشرين، وخروجه إلى مكة سنة ألف ومائتين وسبع وعشرين، والحرب مستمرة. ومات سعود سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين، وقام بالأمر ولده عبد الله بن سعود، وقد أفردت هذه الحوادث العظيمة بمصنف مستقل، ثم خرجت جيوش الدولة ومصر على عبد الله بن سعود ومن معه من الجند في قريته الدرعية، وطال الحصر وأخربت المدافع العثمانية كثيراً من الأبنية، وبعد هذا استسلم عبد الله بن سعود، وكان ذلك في سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين، وأدخلوه أسيراً إلى حضرة سلطان العرب والعجم حضرة أمير المؤمنين السلطان محمود والله أعلم ما انتهى إليه حاله. ثم خرج بعض الجنود العثمانية صحبة خليل باشا إلى تهامة اليمن التي كانت بيد الشريف حمود، وكان خروجهم بعد موته وقيام ولده أحمد بالأمر، مع معارضة الشريف حسن بن خالد الحازمي للشريف أحمد، فاستولت الجنود العثمانية على ما كان بيد الشريف أحمد بن حمود، واستسلم إلى أيديهم، وأحضروه إلى(1/666)
دار السلطنة العثمانية، وكان ذلك سنة ألف ومائتين وأربع وثلاثين. وأما الشريف حسن بن خالد الحازمي ففر بمن معه إلى بلاد عسير، وتحصن بمكان يقال له المناظر، فخرجت عليه الجنود العثمانية، ووقع بينهم حروب، آخرها قتل الشريف حسن بن خالد والأمر لله سبحانه اهـ.
الشيخ سعيد بن أسعد الدمشقي الشهير بالسفاريني النابلسي الحنبلي
كان إماماً عالماً عاملاً، وهماماً كاملاً فاضلاً، معتمداً عليه في مذهب الإمام الأوحد، العالم المجتهد الإمام أحمد، قدس الله سره، ورفع في الدارين قدره، وكان له صلاح ظاهر، ودأب على السنة باهر. مات رحمه الله في غرة رجب سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف ودفن في تربة الذهبية قرب قبر السيد عبد الباقي الحنبلي الأزهري.
الشيخ سعيد بن حسن بن أحمد الحلبي الأصل الدمشقي المنشأ الحنفي
شيخ المحدثين، وعمدة العلماء العاملين، وزبدة الفضلاء، ونخبة السادة الأتقياء، من شيد ربوع العلوم، وقيد شوارد المنطوق والمفهوم، فهو الحجة الراجحة، والمحجة الواضحة، والبحر المتلاطمة أمواج عرفانه، والحبر المتواترة براهين بيانه، أوحد أهل زمانه، ومفرد عصره وأوانه، المحقق الفقيه، والمدقق النبيه، شيخ الشيوخ وإمام ذوي الكمال والرسوخ. ولد بحلب سنة ثمان وثمانين ومائة وألف، ونشأ بها وقرأ على جملة من أفاضل علمائها، ثم في سنة سبع ومائتين وألف قدم دمشق الشام، واستوطن في حجرته بجانب مدرسة الكلاسة في جامع بني أمية، وتصدر للإفادة والتعليم، والإرشاد والتفهيم، وأخذ عن إسماعيل أفندي المواهبي،(1/667)
والسيد محمد نجيب بن أحمد القلعي، والشيخ محمد مكي القلعي الحلبي، والشيخ علي الشمعة، والشيخ محمد الكزبري، والشهاب العطار، والشيخ مصطفى الأيوبي الأنصاري الرحمتي الحنفي، والشيخ شاكر مقدم سعد والشيخ يوسف أفندي بن السيد حسين الحسيني الحنفي الدمشقي، والعلامة أبي الفدا إسماعيل بن محمد بن صالح بن محمد المواهبي الحلبي الحنفي القادري، ومحمد أفندي بن عثمان أفندي العقيلي، وقرأ صحيح الشهاب المنيني، وكان يقرأ في رمضان ستين ختمة، مات رضي الله عنه في دمشق في اليوم الثاني من شهر رمضان سنة تسع وخمسين ومائتين وألف ودفن في تربة الذهبية.
سعيد بن حمزة العجلاني نقيب دمشق الشام الحنفي الدمشقي
السيد الإمام، الفاضل الهمام، صدر الأفاضل، وبدر ذوي الفضائل، المحقق الأديب، والمدقق الأريب، والماهر النبيه، والبارع الفقيه، والورع العابد، والناسك الزاهد، ولد بدمشق ونشا في حجر والده وتربى على يديه، وتخرج عليه، وعلى أفاضل العلماء، وأماثل الفضلاء، ومن جملتهم السيد نجيب القلعي الحنفي. وقد نقل بعض الناس عن ولد الشيخ نجيب أنه مأمور من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجازته، ولي نقابة الأشراف بدمشق الشام مكان والده السيد حمزة سنة تسع وعشرين ومائتين وألف، وبعد هذه التولية بمدة قليلة عزل حسين أفندي المرادي من الإفتاء ونفي من دمشق ووضع في مكانه المترجم المرقوم، وبقي مفتياً خمسة أشهر،(1/668)
ثم أعيدت إلى حسين أفندي المرادي، وكان للمترجم قبول عند الناس ومحبة عظيمة لما حاز عليه من الصفات الحميدة، والأخلاق العالية الجليلة. مات رحمه الله تعالى سنة تسع وأربعين ومائتين وألف ودفن في دمشق في مدفنهم المشهور.
الشيخ سعيد الخالدي الدمشقي الشاذلي الترشيحي اليشرطي الشافعي
ولد سنة إحدى وعشرين بعد المائتين والألف ونشأ من أول عمره في العبادة، والطاعة والزهادة، وزيارة الأولياء والجلوس في مجالس العلماء، وقد أطلعني ولده على نسبه فأحببت ذكره حفظاً لسلسلته فهو أي المترجم سعيد بن شاكر بن سعيد بن سعد الله بن سعيد بن قاسم بن أحمد بن محمد بن محمود بن أحمد بن محمد بن علي بن أحمد بن محمد بن أحمد بن علي بن جابر بن علي بن علي بن أحمد بن محمد بن علي بن عبد العزيز بن محمد بن أحمد بن علي بن عبد الله بن سالم بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن علي بن جبران بن علي بن محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن جابر بن سالم بن سليمان ابن الصحابي الجليل سيدي خالد بن الوليد قدس الله سره، ورفع في الدارين قدره، وقد بدأ المترجم بتعلم ما لا بد منه، وما لا يستغني المكلف عنه، ثم التفت إلى التعلم، والاستفادة والتفهم، فلازم الشيخ العلامة وهو ملا أبو بكر الكردي مدة وكان من قبله قد حضر دروس والدي المرحوم الشيخ حسن البيطار مدة طويلة، وحضر دروس أخي الشيخ عبد الغني أفندي في تحفة ابن حجر الهيتمي، ودروس الشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ حامد العطار ثم الشيخ(1/669)
سليم العطار والشيخ إبراهيم العطار ثم لازم شيخنا الفاضل الشيخ محمد بن مصطفى الطنطاوي فقرأ عليه أنواعاً من العلوم وصار عنده ملكة عظيمة، وقوة جسيمة، وكان حسن العشرة، طيب النشرة، نطوقاً في الكلام جميل المقال، لا يمل حديثه وإن طال، ممدوح المجالسة لطيف المؤانسة.
له في الحكايات الأدبية حافظة قوية، وعلى حكاياته طلاوة وعذوبة وحلاوة، رقيق الحاشية لطافته في الناس فاشية، فقير الحال زاهد في الجاه والمال، له في العلوم همة تقتضي أن يصير من أفراد الأمة، مواظب على ديانته غير ناظر معها إلى راحته، آمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر، آخذ بالعظائم لا تأخذه في الله لومة لائم، جسور في الجواب لا يخاف ولا يهاب، لا يمشي إلى دعوة إو إلى أهل أو صاحب أو جليس إلا ومعه من الكتب عدة كراريس، لا يخلو مجلسه من نصيحة أو موعظة أو جواب أو سؤال، أو حكاية تكسو المجلس حلة الجمال، فاشتهر وفاق وانعقد على كمال لطفه وأدبه الاتفاق، وصار له قدر مديد خصوصاً وهو من ذرية سيدنا خالد بن الوليد، كأنما لسان حاله يقول لمريد الترقي للوصول:
من يطلب العز يتعب في مدارجه ... فالعز طود وأرض الذل ميدان
لولا المشقة ما فاق الورى بشر ... ولا سيما في الدنا بالمجد إنسان
ومن هذا المعنى قول من قال وأحسن في المقال:
لا تدرك العلياء دون مشقة ... كلا ولا الحسنى بلا تهذيب
فالعز في كلف الرجال ولم ينل ... عز بلا كلف ولا تعذيب
ولم يزل مستقيماً على حاله متخلصاً من أوحاله، إلى أن حضر إلى داريا خليفة من خلفاء الشيخ علي المغربي اليشرطي الشاذلي وكان قد أرسله من عكا، واسمه الشيخ أحمد البقاعي، فأخذ المترجم عنه الطريق،(1/670)
ثم بعد ذلك ذهب إلى زيارة الشيخ في عكا فحضر من عنده وقد انعكست حالته، وانقلبت إلى ضدها في الظاهر طاعته، وعلاه طيش وجنون، ومن المعلوم أن الجنون فنون، فذهب رونقه، وبان نورقه، واستثقل أمره وانخفض قدره، فترك الفقه والأصول والمعقول والمنقول، واستخف بالعلماء، وجحد فضيلة الفضلاء، وأنكر العلم والعمل، وعن كثير من التكليفات اعتزل، وقال هذه واجبة على المحجوبين لا على المحبوبين؟! وكان كثيراً ما يتكلم بالكلام، الذي لا يرتضيه من في قلبه ذرة من الإسلام، وصار لا يقول بواجب ولا مسنون، ويقول إن التمسك بذلك محض جنون، ومن دخل في الطريق وترقى في المقامات صارت ذاته عين الذات، وصفاته عين الصفات، وهل يجب على الله صلاة أو صيام بحال، وهل يقال في حقه عن شيء حرام أو حلال وأمثال ذلك كثير لا يرام، ولو أردنا أن نطيل به لخرجنا عما يقتضيه المقام. وقد وافقه على ذلك عدة أشخاص، قد خرجوا من الدين ولات حين مناص، فتجاهروا بالآثام، ولم يتقيدوا بحلال أو حرام مع أن شيخهم الأستاذ قد أنكر عليهم، ووجه أشد الملام إليهم، وكتب لهم ينهاهم عن ذلك، ويزجرهم عن هذه المسالك، وهم يؤولون كلامه، حتى صاروا فرقة ذات متانة وحمية، وفي يد كل واحد منهم عكاز، في أسفلها حربة يتوكؤون عليها في المجاز، وما زال يفاقم أمرهم، ويكثر(1/671)
جمعهم، إلى أن نفى الحاكم بسببهم أستاذهم إلى جزيرة قبرص، ناسباً القصور إليه، ومعه المترجم وجملة أنفار يعتمدون عليه.
وكان المترجم خطيباً في قرية كفرسوسيا وهي قرية من الشام تبعد قيد ميل، وكان منها معاشه، مع التعظيم والتبجيل، فحينما ذهب منفياً مع الشيخ وضعوا عنه وكيلاَ، ولم يسلكوا إلى الاستغناء عنه سبيلا، وكان الشيخ يقول لهم ما صدر علينا هذا التضييق، إلا من تكلمكم بما لا يليق، ثم بعد مدة طويلة عفت الحكومة عنهم على أنهم لا يعودون إلى أمثال هذه الرذيلة، ولا إلى الملابس البذيلة، فعاد المترجم إلى قريته، ومحل إقامته وخدمته، ورجع إلى حاله الأول وما يرجع عن زيغه ولا تحول، فأعرض عنه أهل البلد ونصبوا له شرك النكد، إلى أن فصلوه، ووضعوا مكانه تلميذه وبمصلحته وصلوه، فعاد المترجم بعياله إلى الشام، وتزايد أمره بما يقتضي الاعتراض والملام، إلا أنه قد ضاقت يده، وهبط قدره وسؤدده، وذهب جماله وسقط كماله، فذهب إلى داريا يقري الأولاد، ودنياه تعامله بعكس المراد، وذلك كله لاتباعه الباطل، وتمسكه بما ليس تحته سوى الشقاء من طائل، وكنت أنصحه بالرجوع إلى المطلوب، فيقول لي أنت عن الحقيقة محجوب، لو قطع رأسي وتفصلت أوصالي لا رجعت عن طريقي وحالي. فمرة كنت أمشي وإياه في الصحراء فرأى امرأة قروية قد لبست لباساً أحمر فقال لها يا حبيبي عملت نفسك امرأة ولَبِسْتَ اللباس الأحمر! ومرة رأى هراً فصرخ وقال له عملت نفسك هراً وتظن أني ما عرفتك. وكان يقول عن إبليس إنسان كامل. وأمثال هذا كثير، مما لا يقول به جليل ولا حقير، ويقول للائمين أنتم أهل الرسوم، المتمسكون بظاهر العلوم، ونحن الصوفية أهل الطريقة، والوجدان والحقيقة. وما علم أن ذلك من أكبر الغلط، ومن(1/672)
قال به فقد سلك مسلك الشطط، وهل تجدي من غير شريعة طريقة، أو تصلح بما لا تمسك له بالقرآن والسنة حقيقة. قال صاحب الأسفار في شرحه على رسالة الخلوة للشيخ الأكبر قدس الله سرهما: وصية يا أخي رحمك الله قد سافرت إلى أقصى البلاد، وعاشرت أصناف العباد، فما رأت عيني، ولا سمعت أذني، أشر ولا أقبح ولا أبعد عن جناب الله من طائفة تدعي أنها من كمل الصوفية وتنسب نفسها إلى الكمال، وتظهر بصورتهم، ومع هذا لا تؤمن بالله ورسله ولا باليوم الآخر ولا تتقيد بالتكاليف الشرعية، وتقرر أحوال الرسل وما جاءوا به بوجه لا يرتضيه من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، فكيف من وصل إلى مراتب أهل الكشف والعيان، ورأينا منهم جماعة كثيرة من أكابرهم في بلاد أذربيجان وشيروان وجيلان وخراسان لعن الله جميعهم فالله الله يا أخي لا تسكن في قرية فيها واحد من هذه الطائفة، لقوله تعالى " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " وإن لم يتيسر لك ذلك فاجهد أن لا تراهم ولا تجاورهم فكيف إن تعاشرهم وتخالطهم؟ وإن لم تفعل فما نصحت نفسك والله الهادي انتهى وما زال المترجم على حاله خائضاً في أوحاله، إلى أن تمرض وتوفي رابع عشر جمادى الأولى سنة ألف ومائتين وأربع وتسعين. ودفن في جوار سيدنا بلال الحبشي نسأل الله أن يكون رجع عما كان عليه وتاب إلى الله وآب إليه.(1/673)
سعيد بن عبد الله بن حسن بن مرعي بن ناصر الدين الدوري المعروف بالسويدي الشافعي البغدادي الأصل ثم الدمشقي
الشيخ العمدة الإمام، والفاضل النخبة الهمام، برمة الشام وكعبة طواف العلماء والأعلام، ومفيد الخاص والعام، وأوحد الأفاضل الكرام. ولد في بغداد سنة إحدى وأربعين ومائة وألف، ودأب على الطلب مدة ثم قدم دمشق واستوطنها وأخذ عن علمائها ومن جملة شيوخه والده المرقوم، والفاضل الشيخ عقيلة المكي، والشيخ صالح الجينيني، والعلامة الشيخ سالم البصري، والشيخ عمر بن أحمد السقاف، والشيخ البديري، والسيد مرتضى الزبيدي شارح القاموس والأحياء، وأبو الطيب المغربي المدني المالكي. وأجازوه جميعاً بالإجازة العامة بما تجوز لهم روايته عن شيوخهم، وأخذ عنه طلبة زمانه وأجازهم بالإجازة العامة، ولم يزل في ترق إلى أن مات رضي الله عنه سنة إحدى عشرة ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير.
السيد سليم بن علي بن موسى الدمشقي الحسيني الحنفي الشهير بابن مرتضى السيد الشريف
النجيب الأديب، واللطيف الذكي الريب، أحد الأعيان، وأوحد ذوي الشان، من أهل السلسلة النبوية والسلالة الأحمدية، تحلى بأحسن الشيم، وتوشح بجلباب السماحة والكرم. ولد في نيف وخمسين ومائتين وألف، وكان معاشراً لطيفاً، أديباً ظريفاً، صاحب نوادر جليلة، وطرائف جميلة، لطيف الطبع سليم الصدر، ذا رفعة وجلالة ومهابة وقدر، وكان عند الشيعة والرافضة مقدماً مهاباً معظماً يواصلونه في كل(1/674)
سنة على ما قيل، بنحو مائة ألف ويقولون هذا قليل. مات نهار الأحد ثامن شهر شعبان سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف ودفن عند قبور بني المرتضى في مقبرة باب الصغير قرب قبور الزوجات الطاهرات.
السيد سليم أفندي بن نسيب أفندي بن السيد حسين بن السيد يحيى حمزة
الشريف العابد، والعفيف الزاهد، المعروف بين الناس بالتقوى والديانة، والعفة والصيانة، وكان عالماً عاملاً، هماماً فاضلاً، كثير التباعد عن الناس، له بالعزلة راحة واستئناس، وكان في أكثر أوقاته معتكفاً في مشهد سيدنا الحسين في جامع بني أمية، وكان له بعض صنائع غريبة ودقائق عجيبة، يصرف منها على نفسه طلباً للحلال وبُعداً عن الحرام من الأموال. مات رحمه الله وأحسم مثواه، في خامس وعشرين من ذي القعدة الحرام سنة ألف وثلاثمائة وسنة واحدة، ودفن في مقبرة الدحداح قرب قبر والده.
السلطان سليم خان الثالث بن السلطان مصطفى بن السلطان أحمد الثالث
ولد سنة ألف ومائة وخمس وسبعين، وجلس على تخت الملك عام ألف ومائتين وثلاثة في ثاني عشر رجب، ففي الحال اخذ بتدبير الأحوال لينجو بصلاح الدولة من وبال النكال، فبعث بالجيوش لقتال روسيا والنمسا، وأخيراً تداخلت بروسيا وإنكلترا، فعقد الصلح مع النمسا(1/675)
ثم مع روسيا، فسر أهل العاصمة بالصلح، على أن أخبار سوريا ومصر لم تكن مرضية للدولة، وكان السلطان المشار إليه قد رأى مضرة الإنكشارية وتجاوزهم الحدود فرغب أن يلاشي وجاقهم ويقيم مكانهم عسكراً جديداً على الطريقة الإفرنجية، لأن الإنكشارية كانوا قد زعزعوا أركان السلطنة بعصيانهم وعدم انقيادهم، وكان قد نظم في العام الماضي بعض الفرق من النظام الجديد، فهاج الإنكشارية من ذلك، وأثاروا في القسطنطينية شغباً عظيماً يطول الكلام بذكره، واعتصبوا عصبة واحدة، وكان موافقاً لهم على منع النظام الجديد عطا الله أفندي شيخ الإسلام وقائمقام الصدر الأعظم، فقوي أمرهم به وقال لهم أنه لا يجوز أن تكون عساكر الإسلام مشبهة بالكفار، وحيث أحدثوا النظام الجديد كانوا متشبهين بالكفار، فقويت هذه الحجة في صدورهم وقالوا سيروا بنا لنلاشي النظام الجديد وننتقم من الوزراء الذي أفسدوا طهارة الإيمان بأفعالهم الشنيعة، وتحالفوا على ملاشاة وجاقات العساكر الإنكشارية، الذين هم عمدة مملكة الدولة العلية، وبعد هذا الحديث أخرجوا ورقة فيها أسماء بعض أشخاص من رجال الدولة يريدون قتلهم، أرسلها إليهم المفتي عطا الله أفندي، فأخذوا يتلونها ويسمون الأشخاص الذين يرون قتلهم، ثم ساروا يفتشون عليهم فوجدوا بعضاً منهم فقتلوهم، واختفى كثير منهم(1/676)
في بيوت النصارى واليهود، وقتلوا خلقاً كثيراً، واحضروا سبعة عشر رأساً من أعظم رجال الدولة، ودام الدم جارياً في القسطنطينية ثلاثة أيام، ثم صمموا على طلب السلطان سليم والقبض عليه ليخلعوه، وصاروا يقولون يا أيها السلطان المغشوش بهذه التعاليم أنسيت أنك أمير المؤمنين، وعوضاً عن اتكالك على الله القادر العظيم الذي يبدد بدقيقة واحدة الجيوش الكثيرة العدد وأردت أن تشبه الإسلام بالكفار وأغضبت الله فكيف يسوغ لك أن تكون أمير المؤمنين، ومحامياً عن الدين، فالعساكر المحافظة على كرسيك لم يعد لهم ثقة بك، والمملكة أضحت مضطربة فيجب عليك أن تلاحظ وتفضل على كل شيء الإيمان وسلامة الإسلام. وبعد كلام كثير صارت قراءة الفتوى التي مضمونها أن السلطان الذي يخالف القرآن الشريف هل يترك على تخت السلطنة الجواب كلا، ثم قال القارئ قد صار معلوماً عندكم أنه تحتم عزل السلطان فما قولكم الآن؟ هل تسلمون له يفعل ما يخل بالإسلام، فصرخت العساكر كلا ثم كلا لا نقبله سلطاناً علينا فليعزل، وصرخوا باسم السلطان مصطفى بن السلطان عبد الحميد وقالوا ليعش السلطان مصطفى، وأرسلوا المفتي إلى السلطان سليم ليتنازل عن السلطنة من دون مقاومة، فدخل عليه متذللاً منخفض الرأس قائلاً يا مولانا إني قد حضرت بين يديك برسالة محزنة أرجوك قبولها لتسكين الهيجان، وليس خافياً على مسامعكم الشريفة بأن العساكر الإنكشارية قد نادوا باسم السلطان مصطفى ابن عمك سلطاناً عليهم، فالآن لا سبيل إلى المقاومة فالتسليم لآمر الله أوفق من كل شيء، فلم تظهر على السلطان سليم كآبة من هذا الحديث، وقبل كلام المفتي ونزل عن السلطنة، وكان ذلك في إحدى وعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف، فمدة سلطنة المترجم ثمانية عشر عاماً وثمانية أشهر،(1/677)
وبينما كان ذاهباً يختلي في مكان منفرد عن السرايا التقى بالسلطان مصطفى قادماً ليجلس مكانه على تخت السلطنة، فقال له: يا أخي أهبطني الله من العرش العتيد لأن تجلس عليه أنت، لأنني أردت وضع تنظيمات لتقوية المملكة والدين، وإصلاح حال العساكر الذي جهلوا تعليمهم وتركوا قوانينهم، فهاجت عليَّ العساكر مع بعض رجال الدولة وأرسلوا يطلبون مني التنازل عن تخت السلطنة، ونادوا باسمك، وها أنا ماض بكل رضا أعيش منفرداً، وأما أنت فإنك سعيد أكثر مني، فأرغب إليك أن تسلك معهم بالحكمة اللازمة الحسنى؛ فلم يصغ السلطان مصطفى لكلام السلطان سليم، وأراد السلطان سليم أن يعانقه فلم يمكنه من معانقته، فلما وصل السلطان سليم إلى المكان الذي يريدون وضعه فيه وجد السلطان محموداً أخا السلطان مصطفى ماكثاً في ذلك الموضع، عليه آثار
الرقة والنباهة، وعندما شاهد السلطان سليم التقاه فقبل يده ذارفاً دموعاً غزيرة، فحرك السلطان سليم إلى البكا، وجلسا في ذلك الموضع وطال ما كانا يتحدثان دائماً بالأمور المشيدة أركان الدولة والدين وتمام القصة يأتي في مكانه. قة والنباهة، وعندما شاهد السلطان سليم التقاه فقبل يده ذارفاً دموعاً غزيرة، فحرك السلطان سليم إلى البكا، وجلسا في ذلك الموضع وطال ما كانا يتحدثان دائماً بالأمور المشيدة أركان الدولة والدين وتمام القصة يأتي في مكانه.(1/678)
توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين ودفن في تربة السلطان مصطفى.
الشيخ سليم بن نجيب صافي الحنفي الحمصي
عالم غير أنه عامل، وكامل غير انه فاضل، متواضع دائم الخضوع، متذلل كثير البكاء والخشوع، قد أمات نفسه بإحياء طاعته، وحفظ أوقاته بتقواه وعبادته، وجذب القلوب بحسن أفعاله، وملك الألباب بجميل أحواله وأقواله، فلا ريب أنه فرد مصره، بل أوحد أوانه وعصره. ولد سنة تسع وعشرين بعد المائتين والألف، ونشأ في طلب العلم الشريف ثم أقبل على الطاعة والتقوى، وذكر الله في السر والنجوى، وكان ورعاً عابداً، ناسكاً زاهداً، كثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يجلس في مجلس إلا وقد شغله بسيرة السادة الغرر، وكان لا يفتر عن ذكر الله بحال، ولا يسكت عن منكر ولو كان مرتكبه من ذوي السلطة والإجلال، وكان يدور على الأرامل والأيتام، فيقضي لهم حوائجهم حسب المرام، وكان له غاية الهمة، في قضاء المصالح والخدمة، وكان إذا جلس في مجلس لا يقوم حتى يجعل ختام مجلسه ذكر الله تعالى، وكان كثيراً ما يقول: الحمد لله الذي أنعم علينا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وتارة يبدل أنعم، بمًنَّ، وتارة أكرمنا برسوله محمد، ويأمر الناس بأن يواظبوا عليها. وقد اجتمعت به سنة ثمانين في مدينة حمص فرأيته فوق ما سمعت عنه، وشاهدت ما لم أكن أظنه منه، فلا ريب أنه فرد زمانه، ونادرة أوانه. ولم يزل ناهجاً منهج السلف الصالح، متمسكاً بالسبب القوي الراجح، متخلقاً بأخلاق ذوي الكمال، متحققا ً(1/679)
بآداب السادة من أعيان الرجال، إلى أن خطبته المنية، ونقلته للمقامات العلية، وذلك في اليوم الحادي والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام سنة سبع وتسعين من هجرة محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام.
الشيخ سليم بن الشيخ ياسين بن الشيخ حامد بن الشيخ أحمد بن الشيخ عبيد الله بن عبد الله بن عسكر بن أحمد الحمصي الأصل الدمشقي الشافعي الشهير بالعطار
إمام اقتدت به أئمة العلماء، واكتست من فضائله حلية ذات بهجة وسناء، ونطقت في مديحه ألسنة الأقلام على منابر الأنامل، وأعربت أفواه الدفاتر عما في ضميرها من أنه مجمع الفضائل، أثمرت أفنان اليراع في رياض فضائله، وأينعت أثمار كمالاته الأحمدية في حدائق فواضله، قد انعقد إجماع من جل وقل، على أنه مرجع الكل في الكل:
فالناس كلهم لسان واحد ... يتلو الثناء عليه والدنيا فم
فلعمري قد عجزت عن حد نباهته وطلاقته الأفكار، وطارت بأجنحة الثناء عليه بلابل الأقطار
كان بعد جده المرحوم الشيخ حامد العطار يقرأ البخاري الشريف يوم الخميس فقط صباحاً في رجب وشعبان، فتارة يقرأ سبعة دروس، وتارة ثمانية، وذلك في تكية المرحوم السلطان سليم الكائنة في المرج الأخضر، مع أن شرط السلطان سليم أنه يعظ واعظ في كل جمعة مرة واحدة، وله على كل درس ثلاثون بارة، وإن السليمانية التي بجانب التكية السليمية قد شرط السلطان سليمان أن واعظاً يعظ بها في كل جمعة ثلاثة أيام، وله عن كل يوم عشرة دراهم فضة، في كل سنة أربعة آلاف قرش(1/680)
تقريباً ثم إن المرحوم الشيخ حامد العطار ضم الدرسين واحداً والمعاشين معاشاً واحداً، وجعل قراءة الدرس في السليمية، وجعل في خصوص رجب وشعبان في كل يوم خميس صباحاً، ونقله من الوعظ إلى البخاري الشريف، مقابلة لدرس قبة النسر في جامع بني أمية، فإنه يقرأ تحتها البخاري الشريف في رجب وشعبان ورمضان، إلا أنه كل يوم بعد العصر، وكذلك يأخذ المدرس في السليمية زيادة على الدراهم المرقومة في كل سنة مائتين وثمانية وثمانين مداً من الحنطة. وبعد وفاة الشيخ حامد المرقوم قرأ في محله ولد ولده الشيخ سليم، وهو المترجم المرقوم، وكان عالماً فاضلاً فصيحاً نطوقاً جسوراً حفاظاً وجيهاً، ذا همة وإقدام، ولم يكن له ما يطعن في مقامه سوى أنه كان محباً لأخذ الدراهم وتناولها بدون تحر، وكان يتعاطى أكثر القضايا وينظر بها لمحل(1/681)
نفعه. وعلى كل حال كان عديم المثال، في العلم والفضل وبقية الخصال. توفي يوم الاثنين سادس جمادى الثانية سنة سبع وثلاثمائة وألف وعمره نحو الثمانين ودفن في مرج الدحداح.
سليم بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الكزبري الشافعي
مات والده سنة ألف ومائتين وتسع وتسعين، فأراد بعض الناس أن يكون ولده المترجم مكانه في تدريس صحيح الإمام البخاري بعد العصر في رجب وشعبان ورمضان تحت قبة النسر في جامع بني أمية، وإن كان عديم الأهلية، بل كان يقرأ في كتب المبتدئين، لكن أرادوا أنهم يجعلون له همة للطلب والتحصيل، وإنه في أول الأمر يقرأ الدرس رسماً لكيلا تخرج هذه الوظيفة من هذه العائلة، فكان بعض الناس في كل يوم يكتب له الدرس وبعض تقريرات عليه، ويضبطون له بالقلم خوفاً من التحريف، وصار يقرأ هذا الدرس في كل سنة على هذا المنوال، من غير اعتراض عليه ولا سؤال، ولم يزل كذلك إلى أن ظن نفسه أنه فاق، مع أنه ما تقدم عن حاله الأول ولا ارتدى برداء ما يليق بذوي الكمال ولا تحول، بل كان بتعاطى القضايا، التي يعدها أصوله من أعظم الرزايا، فنعم الآباء والجدود، ونعم ما كانوا عليه من الفضل المشهود، فلا ريب أن هذا المترجم، ذا الهيئة السامية والقدر المعظم، قد رمدت به عيون العلم والأدب، وتمنت العمى ولا تراه مستوياً على هذه الرتب. وحينما مات والده، وانتهى من فضل هذا البيت طارفه وتالده، وجلس المترجم تحت قبة النسر، أنشد لسان حال المحل حزناً من غير صبر:(1/682)
لعلك يا عذير علمت حالي ... فتعلم أي خطب قد لقيت
وإني إن بقيت بمثل ما بي ... فمن عجب الليالي أن بقيت
ومن العجيب أنها قد احترقت بعد مدة قليلة، وبقيت على انهدامها تبعاً للجامع مدة طويلة.
نسأل الله حسن الأحوال، بجاه سيدنا محمد والصحب والآل توفي هذا المترجم رحمه الله تعالى سنة أل5 وثلاثمائة وإحدى وثلاثين وجلس في مكانه ولده الشيخ محمد علي فتح الله علينا وعليه، ودفن هذا المترجم في تربة باب الصغير في مدفن آبائه الكرام.
الشيخ سليم بن الشيخ حسين النحلاوي المعروف بالطيبي
أمين فتوى السادة الشافعية، في دمشق الشام المحمية، ولد في دمشق ونشأ بها، وحضر دروس علمائها إلى أن بلغ المطلوب، وفاز بالمرغوب، وصار معدوداً من الأوائل، ومحسوباً من ذوي الفضائل، وكان حسن العبارة، دائباً على الترقي في المعارف ليله ونهاره، لطيف المحاضرة، رقيق المذاكرة، لا يُملُّ كلامه، ولا يعلُّ نثره، ولا نظامه، وله مؤلفات بهية، وآثار لطيفة زهية، منها الفيوضات الرحمانية، في أحكام الفرائض القرآنية. وكان زينة المجالس، وبمثله يتنافس المتنافس، ولم يزل رفيع المقام جليل الاحترام، إلى أن نظمته يد المنية، في سلك الراحلين إلى الدار العلية، وذلك في حدود الألف وثلاثمائة رحمه الله تعالى.(1/683)
الشيخ سليم بن محمد بن يوسف بن حسن بن يوسف سمارة
ذو علم وعبادة، وفضل وسيادة، واستقامة في الأمور، وصيانة عما يوجب القصور، كان رفيقي في طلب العلم، على سيدي الوالد، فقرأنا كتباً متعددة، من فنون لا من فن واحد، وبعد موت والدي سنة ألف ومائتين واثنتين وسبعين حضرنا دروس العالم الفاضل ذي المقام الرصين الشيخ محمد الطنطاوي الأوهري، الذي هو بكل فضل حري، فحضرنا جميع دروسه، بكل جدٍّ واجتهاد، ونلنا به كل مرام ومراد، ولم نزل نحضر دروسه خمس سنين، إلى أن حدثت حادثة النصارى في أواخر ذي الحجة سنة ألف ومائتين وسبع وسبعين، فانتقل الشيخ المومى إليه من الميدان إلى داخل البلد، لإقراء أولاد الأمير عبد القادر السيد السند، وجلس بمكانه بجامع سيدنا صهيب الشيخ العربي المغربي، وبعد موته جلس المترجم في مكانه في الجامع المرقوم إماماً وخطيباً ومدرساً، وتزوج ببنت شيخنا الطنطاوي المرقوم، ووجهت عليه نظارة جامع المصلى المشهور، فقام بخدمته كما هو في الشريعة مأمور، ثم صار إماماً في المحلة المرقومة، وكان يتعاطى مصالحها من عقد وصلح وغير ذلك من الأمور المعلومة. وفي سنة خمس وثمانين بعد المائتين والألف حينما جاء إلى الشام الشيخ محمد المغربي الفاسي الشاذلي، أخذ الطريقة عليه ولا زال يشتغل في السلوك، إلى أن ذهب شيخه إلى ملك الملوك، فذهب المترجم إلى الحجاز واستقام هناك عدة شهور في زاوية الأستاذ المرقوم،(1/684)
وحصل له الإذن من ولد الأستاذ المرقوم بأن يعطي الطريق لمن شاء ممن فيه أهلية للأخذ، وأن يقيم الأذكار على شرط الطريق المعروف عند أهله ولم يزل هذا المترجم في علم وعمل وطاعة وعبادة وصيانة وتقوى، يحب التودد إلى إخوانه، ويذهب إلى زيارتهم بقدر إمكانه، مع قيامه بوظيفة الإفادة، وإقامة الأذكار حسب العادة، وله تمسك بالسنن، وميل إلى العمل بها جميل حسن، وللناس به اعتقاد عظيم، ونظر إليه بعين التعظيم، غير أنه له أطوار، فربما يكون في غاية البسط فتجذبه في الحال إلى الأكدار، فيغلب عليه السكوت، ويظهر عليه أنه مقهور ممقوت، وهذه كثيراً ما تحصل لأهل الطريق، ويعتريهم به غاية الضيق، وعلى كل حال فالله هو المتصرف بعباده كيف يشاء، وهذا يجعله ممن أحسن وهذا ممن أساء، فهذا المترجم ممن يحق له أن يذكر، ويثنى عليه بين الناس بالجميل ويشكر، وفقنا الله وإياه لطاعته، وأحسن غلينا بجميل عنايته. توفي رحمه الله تعالى أثناء سنة ألف وثلاثمائة وإحدى وثلاثين ودفن في باب الصغير.
سليم أفندي بن أنيس أفندي بن قصاب حسن
أقسم بالشمس والقمر، ونسيم الصبا إذا سرى في السحر، لهو البليغ الذي فاق نظمه ونثره، وراق لدى الأسماع سجعه وشعره، له خلق أرق من النسيم وأعذب، وكلام ألذ من سماع العود وأطرب، وأوصاف كالروض إذا ثغْرُ أقاحه تفلَّج، ومائس غصنه بأنواع الزهر تاه وتبرج، وفصاحة ألانت له عصي الكلام، وبلاغة طوعت له أبيَّ النظام، فمن نظمه الزاهي الزاهر، وشعره الباهي الباهر، وقوله:(1/685)
أبى الله إلا أن أبيت معذباً ... وأن لا أرى غير المحبة مذهبا
بروحي غزالاً إن تمايل أو رنا ... فلا تذكروا الأغصان بعده والظبا
فإن اشتغالي بالذي هو يرتضي ... وفيه، فلا أما أبر ولا أبا
حملت الأسى حرصاً على وده وقد ... أضعت شبابي في هواه تسيبا
خلعت شعوري والتنسك والهدى ... وأصبحت في برد الضلال مجلببا
سهوت عن الدنيا وديني كأنما ... عليَّ إلهي ما أسن وأوجبا
أروح وأغدو بين قومي كأنني ... مسيئ ومِخْطاء، وما كنت مذنبا
ذليل ومالي بالوضيع وإنما ... غرامي دعاني أن أذل وأغلبا
وقوله:
يا بدر ما هذا التجني والقلى ... ما كان ظني فيك ترعى العذلا
أوليتهم حسن الوفاء وخنتني ... بقبيح هجر ليت ما كانوا ولا
أجهلت ودي فيواك صيانة ... الله أكبر ما أود وأجهلا
هل قد نسيت العهد أم أنقضته ... بالله فاذكر ما تقضى أوَّلا
مهلاً أبعد تعطف وتلطف ... مني تبلغ حاسدي ما أملا
وقوله:
كم ذا وكم هذا العذاب الأكبر ... وإلى متى هذا المنون الأحمر
يا قلب فارجع عن قريب وارتقب ... مولاك بي إن الطريق لمخطر
إذا لم تطع نصحي ضلالاً بالهوى ... ودّع حياتك فاللقاء المحشر
وقوله:
عاقب بما تبغي سوى الإعراض ... وافعل كما تختار إني راضي
واسمح ولا تسمع كلام مفَّوه ... بالسوء قد أفشي الجفا أمراضي
إني على العهد القديم محافظ ... ما خنت ودّاً قد زكا في الماضي
يا حبذا موتي بحبك إن تكن ... بالصد والهجر المحتم قاضي(1/686)
لو كان يدري حالة الولهان ... ما جار بالأعراض والهجران
ظبي سلا في حبه قلبي وما ... حدثت نفسي عنه بالسلوان
أمسي وأصبح في هواه كأنني ... سكران نشوان بخمر دنان
أواه من لوم العواذل إنه ... قد زادني ناراً على نيران
بالله بلغ يا صبا إن جزته ... أشواق صب بالمحبة فاني
حيران سهران الظلام متيم ... يرعى النجوم بناظر هتَّان
وله
ما الهوى إلا هوان واكتئاب ... واحتراق واشتياق واضطراب
نعمة قل إن تشا في نقمة ... أو بلاء أو نعيم في عذاب
ليس تعداد الليالي فائداً ... إنما قد زاد نيراني التهاب
إن نأى يا طول تسهيدي به ... أو دنا لم يشف قلبي الاقتراب
وقال في ذات مخصوصة مما ظاهره الهجاء، وباطنه المداعبة والمجون:
ما هام هذا الشيخ فينا وافتخر ... إلا على حب الطعام المفتخر
ظهرت مناقبه الحسان وداره ... عنا توارت ليس يدركها البصر
أمسى بداره المطعمين منعما ... وبداره يلقى عذاباً من سقر
إن هلَّ يوم العيد هللَّ فرحة ... وإذا أتى شهر الصيام نوى السفر
شيخ إذا ما مد يوماً باعه ... لم يبق شيئاً في الخوان ولا يذر
تلقى الصحون لديه ترجف خيفة ... فيجيبها أين المفر من القدر
أسنانه مثل المناجل ما ورا ... ء حصادها لقط يراه من اغترر
فالويل للقبوات من وثباته ... والسحق للحلواء منه إن حضر
كره الزحام على الطعام لذا غدا ... يبدي التعامي عنه في غض النظر(1/687)
تباً له بئس الأكول فإنه ... لو حل في دار النجاشي لافتقر
صادفته متحيراً والوقت في ... شهر الصيام فقلت ما هذا الخبر؟
فأجابني دعني فإن حماقتي ... قد أورثتني من تجنيها الكدر
أقسمت شهري لا أجيب لدعوة ... وظننت ظن الخير في صبري عذر
فمتى زمان النحس عني ينقضي ... وأرى ليالي المحق تظفر بالقمر
حتى أجيب لكل داع مسرعاً ... وأسير لو أن الطريق على خطر
وله:
خسف البدر وقد تم الأمر ... وبدا في خده داجي الشعر
ذهب الحسن الذي قد غره ... واسترحنا من دلال كان مر
وقال مؤرخاً:
لقد ولدت لك العرجاء مهراً ... فدع زوراً دعاء البضع عنكا
نعم لاحت علائم فيك منه ... وفيه بدت علائم أشبهتكا
وما هو منك عبد الله أرخ ... بلى لو جاء بغلاً كان منكا
وقال:
ما لهذا الحب آخر ... لا ولا للصب ناصر
ما احتيالي عز صبري ... والهوى أبدى السرائر
لست أخلو من حسود ... أو عذول دام غادر
إن سها عني رقيبي ... جاء يرنو ألف ناظر
أو نأى عني عذولي ... كان سقمي فيه حاجر
ليتني قبل الهوى لو ... أنني زرت المقابر(1/688)
ليت شعري اليوم هل لي ... بالهوى العذري عاذر
بأبي الظبي المفدى ... أكحل العينين ساحر
إن رنا باللحظ عجباً ... قلت يا هاروت حاذر
بدر حسن تم وصفا ... إن بدا أسبى الحرائر
حبه سلَّ شعوري ... يا ترى بالحال شاعر
حسنه جرد نسكي ... وهو بالإحسان غامر
عادل الأعطاف لكن ... لحظه بالفتك جائر
صرت من وجدي عليه ... مثلاً في الناس سائر
عاذلي فنَّد وأوَّل ... فعلى الباغي الدوائر
واتق الرحمن واحذر ... إن طرف الصب ساهر
وقال في نوع الاطراد:
أيها الراوي أحاديث الشجن ... بالهوى العذري خذ عن مؤتمن
عن سليم بن أنيس بن سليم ... بن حسان بن قصاب حسن
وقال مادحاً حضرة الشهم الأديب حسن أفندي بيهم
حبذا موردها بيروت من ... بلدة قد برعت في كل فن
أشرقت تزهو بأبهى فتية ... لم تجد فيهم فتى إلا حسن
وقال مجيباً عن هذا اللغز الوارد من جناب الأديب الفائق الشيخ محمد عجم الحمصي
قل للأجل الأمجد السامي المقام الأوحد
حييت من خل سليم القلب حلو المورد
ما اسم رباعي نصفه ... أراه فر من اليد
والنصف أفتن عاشقاً ... يحكيه ميد الأملد(1/689)
جزآن منه صيرا ... ني رق ظبي أغيد
بالبسط ثاني حرفه ... البر منه تجتدي
هو صالح ذو رفعة ... بالقطب دوماً يقتدي
هات الجواب بسرعة ... لتنال أسنى السؤدد
الجواب:
يا من سما بالسؤدد ... أسنى المقام الأمجد
أهديت لغزاً سامياً ... في نجم سعدك يقتدي
اسم رباعي حكى ... وجه الحبيب الأغيد
اسم وكم منه إلى ... فعل وحرف تهتدي
النصف فر ونصفه ... قدَّ يقدُّ تجلدي
أصبحت رقاً بالهوى ... مذ قر في قلبي الصدي
بالقلب درَّ شطره ... قف ما تبقى واشهد
تلقى بحذفك لامه ... فرقاً بدا كالفرقد
هذا الجواب فأرتجي ... إغضاء طرْفك سيدي
وقال:
ما بال قلبك قد غدا متقلباً ... أيُلام ولهان ولم يك مذنباً
ما كان عهدي في ودادك جفوة ... من غير داع بالمحبة أوجبا(1/690)
ولما نظم ديوانه المسمى بنشاة الصِّبا، ونسمة الصِّبا، وطبعه في خامس عشر شوال سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين، أرسل لي نسخة فأرسلت له تقريظاً على الديوان المذكور إلا أنه قد كان طبع فلم يمكن إلحاقه، وقد أرسل إليَّ هذه القصيدة:
أمن طرفه الوسنا أم ثغره الحالي ... دعاني الهوى نشوان أغفل عن حالي
أم الغمز في عينيه أوحى مراسلاً ... فؤادي بما أوحى فهيج بلبالي
غزال له قلب المحبين مرتع ... ولم بلف قلباً من محبته خالي
هو البدر إلا أن آية حسنه ... مرتلة لم يتلها بالسنا تالي
سلا القلب جوراً وهو فيه فليته ... رعى حق جارٍ لم يكن قطُّ بالسالي
له الله ما أحلى زماناً قضيته ... بلقيائه أُنساً على رغم عُذالي
ذوى بعده عود اصطبار يوعوده ... كعود صبا الأشياخ والهرم البالي
قطعت الرجا من وصله وأنخت في ... حمى عبد رزاق الورى ركب آمالي
هو العالم النحرير والعامل الذي ... تجرد للمولى عن الآل والمال
إمام لأفراد الفضائل جامع ... يؤم ذرى عليائه كل مفضال
إذا ماد في ميدان فن يراعه ... وجال بأفكار جلا كل إشكال
كساني بروداً من نسيج قريضه ... فبت على الأقران أسحب أذيالي
وقلدني من بحره عقد جوهر ... نظيماً ولكن لا يليق بأمثالي
وقابل حظي منه أسعد طالع ... فحققت وهما نجم نحسي بإقبال
فلا زال في جبر الكسير ملاطفاً ... مدى الدهر ما المشتاق حن لآطلال
ولد هذا الشهم الأديب، سنة ألف ومائتين وستين بوجه التقريب، ولم يزل بحمد الله على أحسن حال، وأهنأ عيش وأعلى كمال، كلامه لطيف ومقامه منيف وسيرته حسنه، وصفاته مستحسنة، أطال الله بقاه، وأعلى حظه ومرتقاه.(1/691)
الشيخ سليمان بن سلامة الشافعي الأشعري الميداني
العالم العابد، والناسك الزاهد، ولد سنة إحدى عشرة ومائتين وألف، وقرأ على الشيخ صالح الزجاج، والشيخ عبد الرحمن الكزبري، والشيخ عبد الله الكردي، وبقية الشيوخ الموجودين، ولم يزل كذلك إلى أن انتقل والدي الشيخ حسن إلى الميدان فاقتصر عليه، وحط رحله لديه، فقرأ من الفنون وأكثر، إلى أن قرأ التحفة الفقهية لأبن حجر، وحين وصولهم إلى باب العتق اخترمت والدي المنية. وكان المترجم المرقوم ذا هيبة علمية، ولطافة أدبية، وكان عليه وظيفة التدريس والإمامة والخطابة في جامع ساحة السخَّانة تابع الميدان. ولم يزل مواظباً على إفادته، مقبلاً على تقواه وعبادته، إلى أن توفي رحمه الله في ذي الحجة الحرام سنة ألف ومائتين وسبع سنين، ودفن في مقبرة باب الله، رضي الله عنه وأرضاه.
الشيخ سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الشافعي الأزهري المصري المعروف بالجمل
الفاضل العلامة، والرحلة الفهامة، المحدث الفقيه، والمتبحر النبيه، الصوفي الصالح، والمتعبد الناجح.
ولد بمنية عجيل كما ذكره الإمام الجبرتي، إحدى قرى الغربيه، وورد مصر ولازم الشيخ الحفني، فشملته بركته، وأخذ عنه طريق الخلوتية، ولقنه الأسماء، وأذن له واستخلفه وتفقه عليه وعلى غيره من فقهاء العصر، مثل الشيخ عطية الأجهوري ولازم دروسه كثيراً، واشتهر بالصلاح وعفة النفس، ونوه الشيخ الحفني بشأنه، وجعله إماماً وخطيباً بالمسجد الملاصق لمنزله على الخليج، ودرس بالأشرفية(1/692)
والمشهد الحسيني في الفقه والحديث والتفسير، وكثرت عليه الطلبة، وضَبَطْتُ من إملائه وتقريراته كثيراً. وقرأ المواهب والشمائل وصحيح البخاري وتفسير الجلالين بالمشهد الحسيني بين المغرب والعشاء، وحضره أكابر الطلبة، ولم يتزوج. وفي آخر أمره تقشف في ملبسه ولبس كساء صوف وعمامة صوف وطيلساناً كذلك، واشتهر بالزهد والصلاح، ويتردد كثيراً لزيارة المشايخ والأولياء. ولم يزل على حاله، حتى توفي حادي عشر ذي القعدة سنة أربع ومائتين وألف.
الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان بزاويتهم المعروفة بالشنواني
العمدة الشهير، والنخبة النحرير، تولى شيخاً على العميان بعد وفاة الشيخ الشبراوي، وسار فيهم بشهامة وصرامة وجبروت، وجمع بجاههم أموالاً عظيمة وعقارات، فكان يشتري غلال المستحقين المعطلة، ويخرج كشوفاتها وتحاويلها على الملتزمين، ويطالبهم بها كيلاً وعيناً، ومن عصى عليه أرسل إليه الجيوش الكثيرة من العميان، فلا يجد بداً من الدفع وإن كانت غلاله معطلة، صالحه بما أحب من الثمن. وله أعوان يرسلهم إلى الملتزمين بالجهة القبلية يأتون إليه بالسفن المشحونة بالغلال والمعاوضات من السمن والعسل والسكر والزيت وغير ذلك، ويبيعها في سني الغلا بأقصى القيمة، ويطحن منها على طواحينه دقيقاً ويبيع خلاصته، ويعجن نخالته خبز الفقراء العميان، يتقوتون به مع ما يجمعونه من السؤال في طوافهم آناء الليل وأطراف النهار بالأسواق والأزقة، وتغنيهم بالمدائح والخرافات، وقراءة القرآن بالبيوت ومساطب الشوارع، وغير ذلك، ومن مات منهم ورثه الشيخ المترجم المذكور، وأحرز لنفسه ما جمعه ذلك(1/693)
الميت، وفيهم من وجد له مال عظيم، ولا يجد لنفسه معارضاً في ذلك. واتفق أن الشيخ الحنفي نقم عليه في شيء فأرسل إليه من أحضره موثوقاً مكشوف الرأس مضروباً بالنعال على دماغه وقفاه من بيته إلى بيت الشيخ، ولما انقضت تلك السنون وأهلها صار المترجم من أعيان الصدور المشار إليهم في المجالس تخشى سطوته، وتسمع كلمته، ويقال قال الشيخ كذا، وأمر الشيخ بكذا، وصار يلبس الملابس الفاخرة والفراوي ويركب البغال وأتباعه محدقون به من كل جانب، وتزوج الكثير من النساء الجميلات الغنيات، واشترى السراري البيض والحبش السود، وكان يقرض الأكابر المقادير الكثيرة من الأموال ليكون له عليهم الفضل والمنة.
ولم يزل حتى حمله التفاخر في أيام الفرنسيس على المداخلة في الفتنة والرئاسة مع من ترأس، وقتل فيمن قتل في القلعة ولم يعلم له قبر، وكان ذلك في سنة أربع عشرة ومائتين وألف رحمه الله تعالى.
الشيخ سليمان بن محمد بن عمر البجيرمي الشافعي الأزهري المنتهي نسبه إلى الشيخ جمعة الزيدي المدفون ببجيرم نسبة إلى زيده بالقرب من منية ابن خصيم، وينتهي نسب الشيخ جمعة المذكور إلى سيدي محمد بن حنفية
هو العالم الفقيه، والمحدث النبيه، خاتمة المحققين، وعمدة المدققين، بقية السلف، ونخبة الخلف، وكعبة العلماء، ومرجع الفقهاء، من طار في الآفاق ذكره، ورقي على أوج الرفعة قدره، وتحلى بالفضائل، وتقدم على الأفاضل.
ولد ببجيرم قرية من الغربية سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف، وحضر إلى مصر صغيراً دون البلوغ، ورباه قريبه الشيخ موسى البجيرمي، فحفظ القرآن ولازم الشيخ المذكور حتى تأهل لطلب العلوم، وحضر على الشيخ العشماوي في الصحيحين وأبي داوود والترمذي(1/694)
والشفا والمواهب، وشرح المنهج لشيخ الإسلام، وشرحي المنهاج لكل من الرملي وابن حجر، وحضر دروس الشيخ الحفني، وأجازه الملوي والجوهري والمدابغي، وأخذ عن الديربي وغيره، وحضر أيضاً دروس الشيخ علي الصميدي، والسيد البليدي، وشارك كثيراً من الأشياخ كالشيخ عطية الأجهوري وغيره. وكان إنساناً حسناً حميد الأخلاق متجمعاً عن مخالطة الناس مقبلاً على شأنه، وقد انتفع به أناس كثيرون، وكف بصره في آخر عمره، ومن تآليفه: حاشيته على شرح المنهج أربع مجلدات، وأخرى على الخطيب وغير ذلك، وقبل وفاته سافر إلى مصطية بالقرب من بجيرم فتوفي بها ليلة الاثنين وقت السحر ثالث عشر رمضان سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف ودفن هناك رحمة الله تعالى عليه.
الشيخ سليمان الفيومي المالكي الأزهري
العمدة النحرير، والنبيل الشهير، كريم الأفعال، جميل الخصال، ولد بالفيوم، وحضر إلى مصر وحفظ القرآن، وجاور في الأزهر، وكان في أول عمره يمشي خلف حمار الشيخ الصعيدي وعليه دارعة صوف وشملة صفراء، ثم حضر دروسه ودروس الشيخ الدردير وغيرهما، واختلط مع المنشدين على الاذكار، وكان له صوت حسن مطرب، فيذهب إلى بيوت الأعيان في الليالي فينشد الأنشادات ويقرأ الأعشار من القرآن، فيعجب الحاضرون به ويكرمونه زيادة على غيره، واختلط ببعض الأعيان البرقوقية من ذرية السلطان برقوق، وهم نظارعلى أوقافه، فراج أمره، وكثرت معارفه بالأغوات الطواشية، وبهم توصل إلى نساء الأمراء والسعي في حوائجهن، وصار له قبول زائد عندهن وعند أزواجهن، وتجمل بالملابس وركب البغال. ولما مات الشيخ محمد العقاد(1/695)
تعين المترجم لمشيخة رواق الفيمة، وبنى له محمد بيك المعروف بالمبدول داراً عظيمة بحارة عابدين، وكانت تأتيه الهدايا من الأمراء وغيرهم، وتزوج ببنت عبد الله الرومي وتصرف في أوقاف أبيها، وكان مع قلة بضاعته في العلم مشاركاً بسبب التداخل في القضايا. وكان كريم النفس جداً يجود وما لديه قليل، مع حسن المعاشرة والبشاشة والتواضع والمواساة للكبير والصغير، والجليل والحقير، وطعامه مبذول للواردين فكل من دخل عليه لابد أن يقدم له طعاماً، ولا يرد طالباً بلا شيء ولو أنه يقترض، ويدفع فوق المأمول، وكان لا يتأخر عن مساعدة ذي حاجة أصلاً، مع كونه نافذ الكلمة، مقبول الشفاعة، ولا يقبل من أحد شيئاً مكافأة على فعله، فمالت إليه القلوب، ووفدت عليه الناس من كل جانب، وطارت شهرته في البلاد والأماكن، وكان إذا نَزَلَ عنده ذو حاجة فلا يخرج من داره حتى تقضى حاجته، فيودعه ويزوده ما يكفيه إلى وطنه.
ولما أخذ الفرنساويون مصر عام ثلاثة عشر، كانت داره ملجأ القاصدين ومنهل الواردين من الناس، لأنه كان عند الفرنساويين من المقدمين على غيره، ولم يزل في ازدياد إلى أن نزل به مرض فأبطل شقه، وعقد لسانه، ولم يزل حتى توفي ليلة الأحد الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وعشرين ومائتين وألف.(1/696)
حرف الشين
السيد شاكر بن علي بن سعد بن علي بن سالم العمري الحنفي الدمشقي
شيخ قد فاق في العلم والعمل، وحاز في التقوى والعبادة والحلم والكرم بغية الأمل، قد جمله الله تعالى بأحسن الشمائل، وتوجه بتاج الكمال والفضائل، وزينه بفرائد الفنون وعوائد العلوم، وأظهر له ينابيع المنطوق والمفهوم، فارتقى ذروة المعارف، وبزغت من مشارق أفكاره شموس اللطائف.
ولد في دمشق الشام، سنة ألف ومائة وسبع وخمسين في محرم الحرام، ثم التفت لطلب العلوم، حتى صار بيت القصيد ومرجع العموم. قرأ على الشيخ محمد الكزبري الشافعي، وعلى ولده الشيخ عبد الرحمن، وعلى المنلا علي التركماني، وعلي أفندي الداغستاني، وعلى الشيخ علي السليمي، وعلى الشيخ مصطفى الأيوبي، وعلى الشيخ إبراهيم الخلوتي، وعلى الشيخ(1/697)
محمد العجلوني، وعلى الشيخ احمد بن عبيد الله الحمصي، وعلى الشيخ إبراهيم الغزي الصايحاني، وعلى الشيخ مصطفى ابن أحمد بن محمد بن سلامة اللقيمي، والشيخ محمد بن أبي بكر الدمشقي، وغيرهم من الشاميين وغيرهم، وقد أجازوه جميعاً بما تجوز لهم روايته عن مشايخهم، وكانت له شهرة عظيمة، وبركة شاملة عميقة، فكان يعتمد عليه، ويشار إليه، ومن نظمه يمدح شيخه الإمام الفاضل السيد عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس
يا بني العيدروس أنتم ملاذي ... أنتم ملجأي بني العيدروس
فاعطفوا سادتي على عبد رق ... رق من صبوة وشوق رسيس
وقال أيضاً:
يا آل بيت العيدروس أنتم ... أهل الصفا وبكم تطيب لذائذي
عطفاً على من أزعجته كروبه ... فحماكم للمستجير العائذ
وقد مدحه تلميذه السيد محمد عابدين بقصيدة منها قوله:
لاانثني عن حبه وغرامه ... أبداً وإن كانت دموعي تغدق
إلا إلى مدحي لروض العلم مَنْ ... مِن عرفه كل الورى تستنشق
العالم العلامة الفرد الفريد اللوذعي الألمعي الحاذق
هو شاكر ولربه ذي الشكر شا ... كر دائماً دائماً عن شكره لا يزلق
إلى آخرها وهي طويلة وحينما قدمها لشيخه المرقوم أجابه بقوله:(1/698)
حبيب لقد أهدى إلي مدائحاً ... ألذ على قلبي وأشهى من الشهد
عقود جمان صاغها فكر بارع ... خبير بتنظيم الفرائد في العقد
أديب أريب ألمعي سميدع ... نبيل نبيه لوذعي عطر الند
فصن ذاته من حاسد ومعاند ... ويمم به سبل المسرة والجد
وحين رجا مني القبول تخضعاً ... تلقيتها بالشكر منه وبالحمد
ومن قوله رضي الله عنه قرب وفاته في آخر عمره:
قد آن يا خلي ويا بغيتي ... أرجع عن ميلي وعن صبوتي
واتقي رباً سريع الرضا ... ينعم بالعفو وبالتوبة
وكانت وفاته رضي الله عنه بعد العصر نهار الجمعة لأربع مضت من محرم الحرام سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف، ودفن بمقبرة الذهبية قرب قبر سيدي أيوب الخلوتي من جهة رأسه.
الشيخ شاكر بن خليل بن ناصر بن محمد المجذوب الرفاعي الميداني
كان رجلاً صالحاً متعبداً مشتغلاً بأوراد القطب الأوحد السيد أحمد الرفاعي قدس الله سره، وجعل أعلى الجنان مقره، وللناس به اعتقاد، وتأتي إليه النساء لأخذ التمائم بكل اعتقاد!! وقد عاش من العمر فوق الثمانين مع كل الاستقامة، إلى أن دعته المنية سنة ألف ومائتين وست وستين 10 ذي الحجة ودفن بباب الله.
شعبان بن عبد الله بن شعبان الانطاكي
أحد العلماء العظام، وأوحد العلماء الأعلام، المشهور بالتقوى والصلاح، والمذكور بالعبادة والفلاح، والزهد والكمال، والبشر والجمال.(1/699)
ولد بانطاكية عام اثنتين وعشرين ومائة وألف، وقرأ على علمائها حتى صار من فضلائها، وكان جل انتفاعه بقريبه السيد محمد أفندي بن علي أفندي المفتي ولا زال يترقى في العلوم إلى أن وليَّ وظيفة الإفتاء ببلده المذكورة، وكانت فضائله وشمائله مأثورة، فاشتهر أمره وعلا ذكره، وأحبه الناس لكماله وحسن أفعاله، وأطبق العموم على أنه للنظير معدوم، ولم يزل على حاله إلى أن دعته المنية إلى الدار العلية. فتوفي أوائل شعبان عام ألف ومائتين وثلاثة.(1/700)
حرف الصاد
الشيخ صادق أفندي الواعظ الحنفي
كان إماماً كاملاً، وعالماً عاملاً، متمسكاً بدينه، متمكناً بعقيدته ويقينه، لا يخشى سطوة أمير مكابر، ولا إمام جائر، صداعاً في قوله، معتمداً على الله في قوته وحوله، لا يميل مع نفسه إلى ملائم ولا تأخذه في الله لومة لائم، وفي سنة بضع وثمانين بعد المائتين والألف حضر لدار السلطنة العلية، وعاصمة الأمة الإسلامية، في أيام خلافة أعظم ملوك الإسلام، وسيد ملوك الأنام، السلطان عبد العزيز خان، عليه الرحمة والرضوان، وكان دخول المترجم أوائل رمضان، فكان يقرأ درس الوعظ في أيا صوفيا إلى اليوم السابع والعشرين، وقد جرت العادة أن السلطان في ذلك اليوم يدور على الدروس، فمتى أتى لدرس يختم المدرس الكلام، ويدعو للسلطان، فما زال السلطان يجري العادة ومعه وكلاء الدولة العظام، وشيخ المسلمين والإسلام، إلى أن وصل لدرس المترجم، فلم يجر العادة من الختم في الحال والدعاء، بل التفت إلى الوكلاء، وخاطبهم بما لا يليق خطابهم به من كونهم أدخلوا على السلطان الغرور، وأبطلوا الشريعة وارتكبوا سفاسف الأمور، ونكسوا أعلام الدين، وقدموا المخالفين على المؤمنين، وأطال الكلام، وتجاوز الحد في هذا المقام، والسلطان صاغ إليه، فحقد الوكلاء عليه، فبعد أن ختم ذهب، وقد أضمروا له كل عطب، ثم بعد ذلك اجتمعوا وذهبوا إلى السلطان، فدخلوا عليه بعد تقديم الاستئذان وتكلموا في حق المترجم بما غير قلب أمير المؤمنين عليه، وقالوا له قد(1/701)
فعل ما أوجب توجيه المضرة إليه، فلا بد من إعدامه، ليتأدب غيره عن التكلم بمثل كلامه، فقال أمير المؤمنين نعم ولكن لا بد من مرافعتكم معه في مجلس شيخ الإسلام، لئلا يقول الناس قتل ظلماً فَنَقَعَ بين العموم في الملام، فحينما أحس شيخ الإسلام، دخل على الملك خفية عن الوكلاء العظام، ولم يزل يتعطف للسلطان، ويسترحمه بالعفو عن هذا الإنسان، ويقول له إن قتلناه قيل بالعبارات الصريحة، إن السلطان قد قتله لبذله النصيحة، ولكن نفيه أولى، ورأي أمير المؤمنين أعظم وأعلى. فأمر السلطان بنفيه في الحال، فأرسل إلى عكا من غير امهال.
مطلب قصة محمد بهاء الله رئيس البابية
وكان ممن نفي من بلاد العجم قبله إلى عكا محمد بهاء الله رئيس البابية. والناس قد اختلفوا فيه على أنواع، فمنهم من يقول يَدَّعي بأنه المهدي، ومنهم من يقول أنه يدعي النبوة، ومنهم من يقول يدعي الألوهية، فألف المترجم رسالة في عقيدتهم غير وافية بالمقصود، غير أني أحببت ذكرها بعد تعريبها لأنه ألفها باللغة التركية وهي: كان مبدأ ظهور البابية في تاريخ سنة ألف ومائتين وخمس وستين وهو أنه ظهر رجل في شيراز سنة خمس وعشرين ومائتين وألف، واسمه علي بن محمد بن رضا الحسيني وهو رجل تاجر، فذهب إلى مكة لمصداق الأحاديث من أن المهدي يظهر من مكة، ووقف عند مقام إبراهيم يوم الجمعة والخطيب على المنبر وصاح بأعلى صوته أنه هو المهدي وأنه قد ظهر، فأخذه رفقاءه في الحال لمنزلهم ثم ساروا به إلى شيراز، وأخذ هناك يدعو الناس إليه سراً وجهراً، ويقول لهم أنه المهدي المنتظر، فما زال يتفاقم أمره، ويعظم ذكره، وتكثر جماعته، وتزداد دعوته إلى أن سجن في السجن، وكان قبل ذلك(1/702)
قد سجن مراراً وشاه العجم يطلقه، ولكنه في هذه المرة، قد تجسمت منه المضرة، وطغت عليه نفسه، فصار من اللازم إهانته وحبسه، وفي السنة السابعة من ظهوره، الكاسفة لبهاء وجوده ونوره، قتل بالرصاص وهو مصلوب، وعاملته الأيام بعكس المرغوب.
وفي هذه المدة التي مضت عليه في الحبس قد حرر ستة وتسعين مصحفاً، وتمكن بعد مشقة عظيمة من إرسالها إلى خارج السجن، ووصولها إلى اخوته وجماعته، ومن بعد قتله، وصل إلى أخويه بعض من كتبه فباشرا الدعوة بالنيابة عنه، إلا أن كل واحد منهما يدَّعيها لنفسه ويكذب الآخر، ثم تجاذفا في دعواهما فصار كل منهما يدَّعي النبوة عوضاً عن المهدية، وأخذا في تحرير الرسائل وإرسالها بدعوى النبوة العظمى، وطُلِبَ إلى النَّاسِ تصديقهما، وجالا في البلاد لدعوى العباد، فلما وصلا إلى مدينة ادرنة اشتد بينهما الخصام، وصار كل منهما حريصاً على قتل أخيه وإلقائه في حيز الإعدام، وكان فسادهما قد سرى على بعض الناس من غير مرا، فقبضت الحكومة عليهما، وحكمت بتوجيه النفي إليهما، فنفي أحدهما إلى قبرس، والثاني إلى عكا مؤبدين. وسبب دعوى هذين النبوة إنما كان من علي بن محمد بن رضا المومى إليه أعلاه الشيعي المذهب، فإنه لما كان في السجن ادعى سنة في ابتداء أمره أنه المهدي، ثم ادعى أربع سنين أنه نبي، ثم ادعى الألوهية وصورة دعواه على المنوال الآتي: وهو أنه في قديم الزمان كل نبِيٍّ عصرٍ لما تتم مدته تنتقل أمته الموجودون إلى النبي الآخر وهكذا إلى حضرة محمد صلى الله عليه وسلم الذي تختم مدته سنة ألف ومائتين وخمس عشرين فأخذ أمته وذهب إلى المحشر، وبعد ذلك جميع ملل الأرض تخصني حيث صرت نبياً لها، وبعد سنة ألف ومائتين وخمس وثلاثين يظهر نبي أفضل مني وبه تتم مدتي، وكلما جاء نبي يكون أكمل وأعظم ممن قبله، وهذا الحكم سار من الأول الذي لا أول له إلى الآخر الذي لا آخر له.(1/703)
وإن كتبه التي رأيناها يفهم من بعضها أنه المهدي ومن بعضها أنه نبي ومن بعضها أنه إله؛ وذلك مبني على الأصول والقواعد الشيعية، فانهم ليس لهم ثبات على حال واحد، بل هم متقلبون ويتلونون على أنواع شتى، وقواعد البابيين كذلك فليس لهم ثبات على حال واحد، وإن القرآن الذي يدعون أنه نزل عليهم عبارة عن مواعظ وأحكام قليلة متضاربة، غير أنها توصي كثيراً بتخريب الكعبة حيث قد جعلوا مكانها مسجده الذي في شيراز، فعندهم قد بطلت الكعبة الحجازية بالكعبة الشيرازية، ويوصي بأنه يلزم اشتراء البيوت التي حول مسجد شيراز وإدخالها في المسجد للتوسعة، ويقتضى بأن يجعل له خمسة وتسعون باباً، وأخبر في كتبه بوقوع أمور شتى إلى الآن لم يظهر منها شيء، وكذلك أخبر بانتشار أمته شرقاً وغرباً، وجعل السنة تسعة عشر شهراً كل شهر تسعة عشر يوماً، وتأمر كتبه بالصلاة في يوم وقت الظهر فقط، وأن التوجه يكون إلى مسجده الشيرازي وهذا كله بعد موته، وأما حال حياته فإنه اتخذ لنفسه قبلة خاصة به، وكان يأمر بالصلاة تارة ركعتين وتارة تسع عشرة ركعة، وكان يحكم بأن الهواء والتراب النقي الطاهر كل منهما مطهر من النجاسة من غير ضرورة، ولهذا لا يلزم الغسل من الجنابة ولا غسل الثوب والبدن من النجاسة لتطهير الهواء لهم، وإذا استعملوا الماء إنما يستعملونه بين المنكرين تقية، ويجوز عندهم نكاح الأخت وصوم رمضان تسعة عشر يوماً. وقد غير لهم نظام التركات، وإذا صلى أحدهم يقول بدل السلام الله أكبر. وبدل التحيات، وإذا أراد أحدهم السلام إن كان رجل قال الله أعظم وإن كان امرأة تقول الله أجل، وذلك كله مع أشياء أخر يطول استقصاؤها إنما هي مأخوذة عن أخيها الأول واتبعوه بعد موته على ذلك وداوموا عليه وأشاعوه في بغداد وأدرنة، إلى أن بدا(1/704)
بينهما البغضاء والشحناء بسبب الاختلاف في الديانة، وتسلط الأخ الكبر على قتل أتباع أخيه الصغر خفية، ولذلك فرقوا بينهما حين النفي فجعلوا الأصغر في قبرس والأكبر في عكا، ودعوى الصغر انه نبي وإن الآيات الإلهية دائماً تتنزل عليه ويحررها مصاحف ويرسل بها خفية إلى إيران، فيتلقونها بالقبول والإذعان. ومما أنزل عليه وحرره في مصاحفه: أيها الإيرانيون أخي الذي في عكا شيطان لا نبي، أنتم آمنوا بي إني أنا نبي ولا تؤمنوا له فيكون مأواكم النار؛ وأمثال ذلك مما ينفر عن أخيه ويرغب فيه، وما عدا ذلك مما هو مذكور في مصاحفه المنزلة عليه، فإنه اقتباس من القرآن وتقليد له. وأما التنزلات البغدادية عليه فإنها وصايا دالة على خزي أخيه الكبر، وكان يذكر في عباراته تارة اسم شيطان وتارة اسم سفيان وتارة أسم خنزير، ومراده بالأول أخوه، وبالثاني وزير شاه
العجم، وبالثالث الشاه نفسه. وتارة يعبر عن أخيه بكافر. وحيث أن الفتنة بينهما لا تهدأ في ليل ولا في نهار حصل للحكومة منهم قلق عظيم، وشغل فكر جسيم، وتحمل الأهالي منهم مضرة عظيمة، ومن جملة مضرتهم أن الكبير العكاوي أرسل خفية جلادين من اتباعه وهو سبعة أنفار بالسلاح التام إلى جملة من جماعة أخيه الصغر المنفيين إلى عكا فطرقوا عليهم الباب ففتحوا لهم فسارعوا الدخول فلم يجدوا وقتئذ غير ثلاثة أنفار، فلم يزالوا يضربونهم حتى أعدموهم، وكان محلهم قريباً من مركز الحكومة فكثر الصياح عليهم والضجيج، والعويل والعجيج، فهجمت العساكر عليهم بأمر الحكومة ووضعوهم في الحبس، ثم إن الأخ الأكبر وإن كان مدعياً النبوة إلا أنه من حين وصوله إلى عكا أسبل على نفسه حجاب التقية، وقد اطلع البعض على شيء من تحريراته فأفادت انه يقول إن النبوة الآن تابعة للنبوة الماضية، غير أنه لشدة حجابه وتقيته لم يظهر كمال حاله، لأنه لم يخرج من منزله أصلاً ولا يراه أحد إلا في يوم الحادثة التي قامت عليهم بسبب قتل جماعته بعض جماعة أخيه، فأنهم أخرجوه لدارة الحكومة جبراً، وبعد ذلك رجع إلى محله ولم يظهر لأحد قط. وهو كثير الاعتبار لنفسه يخاف على بخس اعتباره وقدره أشد الخوف، وعنده من التكبر مالا يحاط به، وله عدة زوجات، يحب الرفاهية والملابس الحسنة والمآكل النفيسة من الطيور وغيرها من الحيوانات والحلويات، وداره في عكا تساوي أكثر من ثلاثمائة ألف وعنده سبعة من الجلادين وأربعة نم الحواريين، وما عداهم أصحاب، فيذهبون كل يوم إلى داره ويصلون ركعتين يتوجهون بهما إليه بكمال الخضوع، وهو قائم رافع رأسه إلى السماء، وعند تمام الصلاة يعظهم حصة ثم يسجدون له كسجودهم عند الدخول ويتفرقون، ومقدار أمته عشرون من قومه وخمسة من أهالي عكا، واثنان نصارى، وذلك يدل على أنه يدَّعي الألوهية لا النبوة. العجم، وبالثالث الشاه نفسه. وتارة يعبر عن أخيه بكافر. وحيث أن الفتنة بينهما لا تهدأ في ليل ولا في نهار حصل للحكومة منهم قلق عظيم، وشغل فكر جسيم، وتحمل الأهالي منهم مضرة عظيمة، ومن جملة مضرتهم أن الكبير العكاوي أرسل خفية جلادين من اتباعه وهو سبعة أنفار بالسلاح التام إلى جملة من جماعة أخيه الصغر المنفيين إلى عكا فطرقوا عليهم الباب ففتحوا لهم فسارعوا الدخول فلم يجدوا وقتئذ غير ثلاثة أنفار، فلم يزالوا يضربونهم حتى أعدموهم، وكان محلهم قريباً من مركز الحكومة فكثر الصياح عليهم والضجيج، والعويل والعجيج، فهجمت العساكر عليهم بأمر الحكومة ووضعوهم في الحبس، ثم إن الأخ الأكبر وإن كان مدعياً النبوة إلا أنه من حين وصوله إلى عكا أسبل على نفسه حجاب التقية، وقد اطلع البعض على شيء من تحريراته فأفادت انه يقول إن النبوة الآن تابعة للنبوة الماضية، غير أنه لشدة حجابه وتقيته لم يظهر(1/705)
كمال حاله، لأنه لم يخرج من منزله أصلاً ولا يراه أحد إلا في يوم الحادثة التي قامت عليهم بسبب قتل جماعته بعض جماعة أخيه، فأنهم أخرجوه لدارة الحكومة جبراً، وبعد ذلك رجع إلى محله ولم يظهر لأحد قط. وهو كثير الاعتبار لنفسه يخاف على بخس اعتباره وقدره أشد الخوف، وعنده من التكبر مالا يحاط به، وله عدة زوجات، يحب الرفاهية والملابس الحسنة والمآكل النفيسة من الطيور وغيرها من الحيوانات والحلويات، وداره في عكا تساوي أكثر من ثلاثمائة ألف وعنده سبعة من الجلادين وأربعة نم الحواريين، وما عداهم أصحاب، فيذهبون كل يوم إلى داره ويصلون ركعتين يتوجهون بهما إليه بكمال الخضوع، وهو قائم رافع رأسه إلى السماء، وعند تمام الصلاة يعظهم حصة ثم يسجدون له كسجودهم عند الدخول ويتفرقون، ومقدار أمته عشرون من قومه وخمسة من أهالي عكا، واثنان نصارى، وذلك يدل على أنه يدَّعي الألوهية لا النبوة.
وهذا ملخص الرسالة مع حذف ما لا حاجة إليه مما لا ارتباط له بأمر الديانة والاعتقاد وقد كنت مررت على عكا بعد الألف والمائتين والتسعين فاجتمعت بوله عباس أفندي.(1/706)
وكان يتبرأ كثيراً من نسبة ذلك إلى والده، وكان يقول لي أن والدي يأكل ويشرب ويأتي النساء ويمرض ويتألم، ومن تعرض له هذه العوارض كيف يسوغ له أن يكون ألهاً؟ وهذه الدعوة افتراها عليه أخوه الأصغر وجماعته، إلا أن أكثر أهل عكا ممن اجتمعت بهم ينسبون له هذا الاعتقاد وقد أرسل والي الشام سفيراً من طرفه لاستكشاف حالهم حينما كنت هناك، فاستحصل مصحفاً منسوباً إليه مشتملاً على آيات ملفقة من القرآن. وقد رأيته ثم سألت عنه ولده المومى إليه، فقال وهذا أيضاً من جملة الافتراء علينا، وليت شعري من الذي رأى والدي وسمع منه ذلك، أو شاهد منه حالاً يقتضي دعوة النبوة أو الألوهية، كل ذلك من أكاذيب أعدائنا والافتراء علينا لا أصل له، والله يعلم ذلك لا تخفى عليه خافية في الوجود.
ثم إن المترجم استأذن من الباب العالي في التوجه إلى الحجاز، فجاءه الجواب بالإذن، وبعد توجهه وقضاء مناسكه بالتمام، تمرض أياماً وتوفي بالبلد الحرام، ودفن هناك في المعلى الشريف، وكان ذلك في ذي الحجة الحرام سنة ألف ومائتين وأربع وتسعين رحمه الله تعالى.(1/707)
الشيخ صادق بن عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن محمد بن محمد البخشي الحلبي الحنفي الخلوتي
صلاح الدين أبو النجا شيخ الإخلاصية بحلب، العالم الخَيِّر البركة الصالح الدين العمدة الإمام المرشد، مولده سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف ونشأ بكنف والده وأعمامه وأخذ عنهم وقرأ عليهم وانتفع بهم، وأكثر انتفاعه بعمه أبي الإخلاص حسن بن عبد الله البخشي، وقرأ على أبي عبد الفتاح محمد بن الحسين، وأبي السعادات طه بن مهنا بن يوسف الجبريني، وأبي العدل قاسم بن محمد النجار، وقرأ صحيح البخاري على أبي محمد عبد الكريم ابن أحمد بن محمد علوان الشراباتي.
ولما قدم حلب سنة أربع وأربعين ومائة وألف المسند الرحلة أبو عبد الله جمال الدين محمد بن أحمد عقيلة بن سعيد المكي، وزارهم في تكية الإخلاصية الكائنة بمحلة البياضة، سمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية، وحيث المصافحة والمشابكة، وأجاز له بمروياته، وأسمع عليه مسلسلاته، بقراءة والده وعمه، وأجاز لهم جميعاً بخطه على ظهر إثباته، وأجاز له الشهاب احمد بن محمد المخملي، وهو يروي عن عمه البرهان إبراهيم النجشي وغيره، وأبو محمد عبد الوهاب بن احمد الزهري وآخرون، وكتبوا لهم خطوطهم وسمع عليهم الكثير واخذ الطريقة الخلوتية وغيرها عن عمه ووالده، ولما مات سنة خمس وسبعين ومائة وألف صار شيخاً مكانه في تكيتهم الإخلاصية المعروفة بهم، ولم يعارضه عمه في المشيخة وارتضاه، وكان يحنو عليه ويحبه ورباه وأحسن تربيته، وانتفع به وبآدابه وسمع(1/708)
عليه ديوان شعره من لفظه، فأجازه بمروياته ومسموعاته، وكتب له بخطه بعد التلفظ مراراً، ولازم الاستقامة وتصدر الإرشاد والتسليك، واختلى كعادتهم ولازمه جماعتهم وأخذوا عنه، وكان يقيم الأذكار للتوحيد. وكان سخياً كريم الأخلاق حسن السريرة والسيرة كثير الديانة والخير من المشايخ الأخيار، رأيت بخط خليل أفندي المرادي يقول: ولما دخلت حلب المرة الثانية سنة خمس ومائتين وألف اجتمعت به غير مرة، وزارني وزرته وتردد إليَّ، وسمعت من لفظه وصافحني وشابكني كما أسمعه الأولية وصافحه وشابكه ابن عقيلة المكي، وأجاز لي بما تجوز له روايته لفظاً وكتابة على ظهر ثبت شيخه الشراباتي، ولم أقف على تاريخ موته.
الشيخ صالح بن حسين بن أحمد بن أبي بكر الحلبي الحنفي الشهير بالدادنجي كوالده
الفقيه الأصولي الكاتب البارع المتفوق الدَّيْن التقي الزاهد، مولده في إحدى الجمادين سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف، وقرأ على جماعة وأخذ عنهم وأكثر من الفقه أخذاً وقراءة. ومن جملة من أخذ عنهم والده المومى إليه، وأبو الثناء محمود بن شعبان البزستاني، وأبو الحسين علي بن إبراهيم العطار وأبو محمد عبد القادر بن بشير بن عبد الحق البشيري، وياسين الفرضي وأبو جعفر منصور بن علي الصواف، وعبد الوهاب بن أحمد المصري الأزهري، وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي، وأبو السعادات طه(1/709)
ابن مهنا الجبريني، وعبد الوهاب بن قورد العرَّاس، وأبو محمد عبد الرحمن بن مصطفى البكفالوني، وأبو عبد الله محمد بن محمد الطاهر التافلاتي المغربي، وأبو عبد الفتاح محمد بن الحسين الزمار، وآخرون، واعتنى بملازمتهم، وحضور مجالسهم، وأجازه الأكثر منهم بخطوطهم. وناب بالقضاء بحلب، وفي أريحا وإدلب وغيرها، وحفظ المسائل والفروع الفقهية، واعتنى أشد اعتناء بها، وكان شديد الحفظ لها قوي الاستحضار. وكانت الناس تراجعه في المسائل. وكان يلازم قراءة الأوراد والأذكار، كثير العبادة لطيف العشرة، وكان والده من مشاهير علماء حلب أصحاب الرفعة والشان، ولما صاهر المولى الرئيس صالح بن إبراهيم بن عبد الله الدادنجي أحد أعيان حلب، وتزوج بابنته أم العز خاتون، وانتمى غليه وسكن عنده، غلبت عليه نسبته وصار لا يعلم إلا بها بين الناس، وتارة كان يكتب في تحريراته الدادنجي وتارة الصالحي نسبة إلى مخدومه المذكور، وجاءه من ابنته أبو الحسين صالح صاحب الترجمة، فنسبته حينئذ صحيحة من جهة والدته دون والده وأقاربه المشهورين بهذه النسبة. واجتمع به في آخر أمره العالم الدمشقي خليل أفندي المرادي في حلب حين زارها عام ألف ومائتين وخمسة وأخذ عنه واستجازه وطلب دعاه. وكان يتردد عليه كثيراً ويتذاكر معه المسائل النادرة الفقهية كما رأيت ذلك بخطه. وتوفي عام ألف ومائتين ودون العشرة غالباً رحمه الله تعالى وذلك بعد أن مرض بداء الفالج.(1/710)
الشيخ صالح بن درويش التميمي
عالم غمام، وفاضل همام، قد شاع في العالم ذكره، وذاع في الأنام نشره، وسما فخاره، ونما وقاره، وافتخر به عصره، واشتهرت به مصره، قد فاق أقرانه في النظم والنثر، وزان اوانه في القوافي والشعر، وكان في كل علم آية، وفي كل فن قد وقف على الغاية، وله قصيدة همزية، يمدح فيها ابن عم سيد البرية، وقد خمسها له الشاعر المشهور، الذي هو في حرف العين مذكور، السيد عبد الباقي أفندي العمري الفاروقي الموصلي، وقد ذكرها في ديوانه الترياق الفاروقي مقدماً عليها هذه الترجمة وهي قوله: هذا التخميس المحكم التأسيس، الذي يسلي الجليس(1/711)
عن تعاطي بواطي الخندريس على القصيدة الهمزية، والخريدة ذات المزية، لإمام أئمة الأدب، ومالك أزمة لسان العرب، جناب وليي وحميمي الشيخ صالح التميمي، مادحاً بها حضرة أمير المؤمنين، وابن عم سيد المرسلين ويعسوب الموحدين، وأبي الغر الميامين، عليه وعليهم سلام الله إلى يوم الدين:
يا علياً به تباهى العلاء ... وتناهى في نعته الإطراء
ما لمجد شاءَوْتَ فيه انتهاء ... غاية المدح في علاك ابتداء
ليت شعري ما تصنع الشعراء
كنت للمجتبي بحرب وسلم ... وزراً قائماً بكل مهم
أنت صنو له بعلم وحكم ... يا أخا المصطفى وخير ابن عم
وأميرٍ إن عدت الأمراء
رتب نلتها بنسبة طه ... قصرت كل رتبة عن مداها
إن نظرنا الأنام من مبتداها ... ما نرى ما استطال إلا تناهى
ومعاليك ما لهن انتهاء
لدراريك في سما المجد ضوء ... وبحضن الدوار منهن خبء
يقتفي الختم من سواريك بدء ... فلك دائر إذا غاب جزء
من نواحيه أشرقت أجزاء
أو كشمس يغشى سناها الهباء ... من غبار تثيره الهيجاء
فيميط الهباء عنها الهواء ... أو كبدر ما يعتريه خفاء
من غمام إلا عراه انجلاء(1/712)
انت بحر لكنه غير آجن ... لقريش به حمى ومساكن
لك مد قبل التكون كائن ... يحذر البحر صولة الجزر لكن
غارة المد غارة شعواء
نلت فضلاً أبا تراب فأقصى ... كل فضل عم الوجود وخصا
وبيوم الحساب لا يستقصى ... ربما رمل عالج يوم يحصى
لم يضق في رماله الإحصاء
ولو أن الأقلام كل نبات ... ومياه البحار حبر دواة
ضقن عما أظهرت من خارقات ... وتضيق الأرقام عن معجزات
لك يا من إليه ردت ذكاء
منهجاً للهدى خلقت قديماً ... جئت تهدي عمياً وتشفي سقيما
فاتخذناك هادياً وحكيماً ... يا صراطاً إلى الهدى مستقيما
وبه جاء للصدور الشفاء
شدت في ذي الفقار للدين أصلاً ... فتسامى قدراً وعزَّ زجلا
وعلى ما أسست قولاً وفعلاً ... بني الدين فاستقام ولولا
ضرب ماضيك ما استقام البناء
أنت والحق دمتما بوفاق ... أنت يوم اللقا عن الحوض ساق
أنت ذاك الكرار يوم سباق ... أنت للحق سلم ما لراق
يتأتى بغيره الارتقاءُ
فيك خير الأنام أوتي سؤلاً ... مثل ما أوتي ابن عمران قبلا
يا أبا شُبَّر وقد صح نقلاً ... أنت هارون والكليم محلا
من نبيٍّ سمعت به الأنبياء(1/713)
قل تعالوا ندعو بمحكم ذكر ... لك فخر بها علا كل فخر
أنا ادري وجملة الخلق تدري ... أنت ثاني ذوي الكسا لعمري
أشرف الخلق من حواه الكساء
كنت في جيب الغيب معنى يصان ... حين لا أعصر ولا أحيان
أيقل الأسرار منك مكان ... ولقد كنت والسماء دخان
ما بها فرقد ولا جوزاء
بك ليل العماء بلالي ... فاستضاء الوجود من ظلمة الغي
درة كنت والجواهر لا شي ... في دجى بحر قدرة بين بردي
صدف فيه للوجود الضياء
نقطة فرغت وليس وعاء ... ملئت حكمة ولا إملاء
أنت باء لها العباء غطاء ... لا الخلا يوم ذاك فيها خلاء
فيسمي ولا الملاء ملاء
خبر جاءنا بذا مأثور ... وحديث مسلسل مشهور
عنعنته عن الصدور صدور ... قال زوراً من قال ذلك زور
وافترى من يقول ذاك افتراء
قصب السبق في مقام كريم ... حزتها من لدن حكيم عليم
أنت يا من سبقت في تقديم ... آية في القديم صنع قديم
قاهر قادر على ما يشاء
هل " أتى " في سواك ذكر حكيم ... لك في نص آية تعظيم(1/714)
أو لم يغن من له الجهل خيم ... نبأ والعظيم قال عظيم
ويل قوم لم يغنها الأنباء
خصك الله من لدنه بمفخر ... في مرايا العقول لا يتصور
كنت في غابة الهوية حيدر ... لم تكن في العموم من عالم الذر
وينهى عن العموم النهاء
إنما الناس إن نظرت معادن ... فرقها في تفاضل متباين
خلني من دفائن وضغائن ... معدن الناس كلها الأرض لكن
أنت من جوهر وهم حصباء
كم قضينا من نشر تلك المطاوي ... عجباً يوقع النهى في مهاوي
ولقد صح إذ سبرنا الفحاوي ... شبه الشكل ليس يقضي تساوي
إنما في الحقائق الاستواء
لم ينل نجم الأرض مهما تزيا ... مثل نجم السما مكاناً عليا
فاتحاد الألفاظ لم يغن شياً ... لا تفيد الثرى حروف الثريا
رفعة أو يعمه استعلاء
روضة أنت للعقول ودوح ... يجتني من طوباك رشد ونصح
ومتى هب من عبيرك نفح ... شمل الروح من نسيمك روح
حين من ربه أتاه النداء
طالما للأملاك كنت دليلاً ... ولناموسهم هديت سبيلا
يوم نادى رب السماء جبرئيلا ... قائلاً من أنا فروى قليلا
وهو لولاك فاته الاهتداء
لك شكل نتيجة للقضايا ... لك قلب للعالمين مرايا(1/715)
لك فعل حوى رفيع المزايا ... لك اسم رآه خير البرايا
مذ تدلى وضمه الإسراء
فوعاه بالحس حداً ورسماً ... حيث ساوى معناه منك مسمى
قبل عرض الأسماء اسماً فاسماً ... خط مع اسمه على العرش قدما
في زمان لم تعرض الأسماء
إثر هذا أبدى عوالم ملك ... فاطر الأرض والسماوات حبك
وأناط البروج فيها بسلك ... ثم لاح الصباح من غير شك
وبدا سرها وبان الخفاء
فقضاها مسبب الأسباب ... نوبة للأرحام والأصلاب
وجرى ما جرى بأم الكتاب ... وبرى الله آدماً من تراب
ثم كانت من آدم حواء
وللمترجم قصائد كثيرة، ومدائح شهيرة، قد تناولتها بالقبول يد الأكابر، وشهد لها بالفضل كل ناثر وشاعر. مات المترجم رحمه الله سنة ألف ومائتين وإحدى وستين.
الشيخ صالح اليافي أحد المجاورين في المدرسة الباذرائية الشافعي الخلوتي
كان إماماً بارعاً عابداً، وصالحاً تقياً زاهداً، قد اشتغل في الإرشاد وربى المريدين وأفاد، وكان مستمراً على هذه الحالة الحسنة، والمنقبة المستحسنة. وله تأليفات عديدة، وتقييدات مفيدة، منها مختصر التفسير ومنها الحكم في كلام القوم. وكان على طريق السادة الصوفية، والقادة الخلوتية. توفي سنة خمسين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح وقبره معروف.(1/716)
الشيخ صالح السيوطي الدشمقي الحنبلي مفتي الحنابلة في دمشق وابن مفتيها
ولد بدمشق ونشأ بها، وأخذ عن علمائها، إلى أن صار من الأعلام والفضلاء الكرام، وتولى نظارة جامع بني أمية. وكان ذا هيبة ووقار، محترماً مبجلاً معظماً بين الأخيار. مات رحمه الله في جمادى الأولى سنة سبع وأربعين ومائتين وألف، ودفن في مرج الدحداح عند أسلافه.
الشيخ صالح المعروف بابن شمس وهو صالح بن يوسف بن أحمد بن إبراهيم بن شمس الدمشقي الشافعي الأشعري
كان أحد الأفراد الفضلاء، وأوحد السادة الأمجاد النبلاء، له من التحقيق الحظ الأوفر، ومن التدقيق النصيب الذي لا يحصر، مع هيبة ووقار، ورفعة ذات اشتهار. أخذ عن العلماء الدمشقيين الأعلام، وحضر دروسهم إلى أن بلغ جل المرام، ثم أفاد بعد أن استفاد، وبلغ الطلبة به كل مراد. وهو من بيت مجد قديم، ليس فيهم قبيح ولا ذميم. مات في دمشق سنة سبع عشرة ومائتين وألف ودفن في مقبرة الشيخ ارسلان.
الشيخ صالح بن محمد بن خليل بن صالح بن خليل الدمشقي الشافعي الشهير بالقزاز
ولد بدمشق ونشأ بها، وكان عالماً عاملاً وفقيهاً فاضلاً، ورعاً زاهداً وناسكاً عابداً، من مشاهير العلماء وأفاضل الفضلاء.(1/717)
أروي مذهب الشافعي عن والدي عنه بسنده المتصل إلى صاحب المذهب، وهو من أجل شيوخ والدي. وقد أخذ عن كثيرين من أجلهم الشمس محمد الكزبري والشهاب أحمد العطار والسليمي الشيخ علي والشيخ أبي الفتح وغيرهم من الأجلاء. وكان كاتباً ذا خط جميل مع غاية السرعة، وكاد إذا رقم كتاباً كبيراً أن لا تجد فيه تحريفة من أوله إلى آخره توفي بدمشق سنة أربعين ومائتين وألف ودفن في باب الصغير قرب قبر سيدنا الصحابي الجليل أوس رضي الله عنه.
الشيخ صالح بن محمد بن عبد الرحمن السفرجلاني الشافعي الدمشقي شيخ الطريقة الشاذلية السفرجلانية
ولد بدمشق سنة ثمان وأربعين ومائة وألف، وعاش مائة وسبع سنين. وكان ذا دين وصلاح وتقوى ونجاح، وعبادة وفلاح وزهادة ورباح، مات رحمه الله سنة ألف ومائتين وخمس وخمسين.
الشيخ صالح بن يوسف الدمشقي الحنفي الشهير بالعش
الأخ الصالح والعابد الفالح، كان من إخواننا في الأخذ على القطب الشهير السيد محمد الفاسي المكي. واشتغل عليه في طريق الشاذلية وحصل له(1/718)
بذلك تنوير عظيم، وكان قبل ذلك قد أخذ على الشيخ محمد مهدي الطريقة الخلوتية. وكان من أهل العلم والصلاح لطيفاً جميلاً حسن المعاشرة، له معرفة بالموسيقى وتقسيم الأنغام، وله محفوظية لطيفة من كلام القوم. وكان محبوباً عند الناس، وكان فقيراً قنوعاً عفيفاً متواضعاً، كثير الزيارة لمشاهد الأنبياء والأولياء، كثير التردد إلى الاخوان. مات بدمشق في عشرين من شعبان سنة اثنتين وتسعين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير عند قبر سيدنا بلال بن رباح الحبشي.
الشيخ صالح عابدين بن السيد عبد العزيز السيد أحمد بن السيد عبد الرحيم بن السيد نجم الدين بن السيد محمد صلاح الدين الشهير بعابدين بن السيد نجم الدين بن السيد علي بن السيد محمد كمال بن السيد تقي الدين المدرس ابن السيد مصطفى الشهابي بن السيد حسين بن رحمة الله بن أحمد بن علي بن أحمد بن محمود بن أحمد بن عبد الله بن عز الدين عبد الله بن قاسم بن حسن بن إسماعيل بن حسين النتيف بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأعرج بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام زين العابدين بن الإمام الصحابي الجليل الحسين بن السيد البتول فاطمة الزهراء بنت حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ذريته ذوي القدر الأفخم.
ولد رحمه الله بدمشق ونشأ على الطاعة والعبادة، وكان من أهل التقوى والصلاح والزهادة، والكشف والشهود والدراية، وكثرة الذكر الموجبة لكمال العناية. وله مزايا كثيرة، وخوارق عادات شهيرة، وكان شغله في الدنيا التعلم والتعليم والتفهم والتفهيم، والإقبال على مولاه، والسعي في تحصيل رضاه، وكان قد بشر زوجة السيد عمر أخيه حين كانت حاملة بالمرحوم السيد محمد عابدين، وسماه بهذا الاسم وهو في بطن(1/719)
أمه. ولما وضعت المرقوم أمه صار يأخذه المترجم عمه ويضعه في حجره ويقول له أعطيتك عطية الأسياد في رأسك، وكان الأمر كذلك فإن سيرة المرحوم السيد محمد عابدين وما حصله من الشهرة والمنقبة والفضل لا تخفى على أحد. مات هذا المترجم رحمه الله تعالى سنة ثلاث ومائتين وألف ودفن بباب الصغير قرب مقام العلائي صاحب الدر.
الشيخ صالح بن سلطان بن محمد بن سلطان بن حسين الحلبي الشافعي
العالم الفاضل، البارع الكامل، النحوي المتقن واللبيب المتفنن، أحد العلماء الأجلاء، وأوحد الذوات الفضلاء، مولده بحلب سنة سبع وخمسين ومائة وألف، ونشأ في حجر جده لكثرة أسفار أبيه، وقرأ القرآن على الشمس محمد المصري في مكتب السخانة. وكان جده من تلامذة أبي عبد القادر محمد بن صالح المواهبي الملازمين له، فانتفع بآدابه ووعظه، وكان يحفظ الكثير من لفظه، ولما توفي جده المرقوم كان عمر المترجم أربع عشرة سنة، فكانت أمه تحثه على طلب العلم وتدعو له دائماً بالفتوح، ومهما دخل عليه شيء من المال يشتري به أوراقاً مخرمة من فنوف العلم من سق الجمعة ويطالع بها، وحفظ القرآن العظيم على شيخه النجم محمد الفتياني، وأخذ بعض العلوم عن الشيخ عبد الهادي المصري، والشيخ عبد القادر الديري، والشيخ أبي اليمن تاج الدين محمد بن طه العقاد، وعلى الشيخ عثمان بن عبد الرحمن العقيلي، وعلى أبي زكريا يحيى بن محمد المسالخي، وعلى الشيخ قاسم بن علي المغربي التونسي، وعلى أبي جعفر منصور بن مصطفى السرميني الحلبي، وعلى أبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المنيلي، وعلى الشيخ عبد الكريم الشراباتي، وعلى الشيخ محمد بن صالح المواهبي، وعلى الشيخ خليل بن عبد القادر المدني، وعلى أبي عبد الله(1/720)
محمد بن أحمد المكتبي، وأبي عبد الله محمد بن محمد الأريحاوي، وأبي محمد مصطفى بن أبي بكر الكوراني، ومصطفى بن عبد القادر الملقي، فاستفاد منهم وأفاد، وقام بوظيفة العلم والعمل فوق المراد. وقرأ على المذكورين النحو والصرف والمعاني والبيان، والمنطق والتوحيد والفقه وأصوله، والحديث وأصوله، والتفسير وبقية الفنون بكمال الإتقان، وأجازوه جميعاً بالإجازة العامة، وممن أجازه أبو الفيض محمد المرتضى به محمد الزبيدي اليمني نزيل مصر، والشهاب أحمد بن محمد الدردير المالكي، وأبو الصلاح أحمد بن موسى العيدروس اليمني، ومحمد كمال الدين بن مصطفى البكري الصديقي، وغيرهم واشتهر وفاق وملأت شهرته الآفاق. وكان ينظم الشعر قليلاً ومن نظمه:
الراحمون لمن في الأرض يرحمهم ... من في السماء كما قد جاء في الخبر
إن ترحموا ترحموا من ربكم ولكم ... جزيل حظ من المختار من مضر
ومن نظمه أيضاً:
بحمى رسول الله كن متمسكاً ... واعكف بساحة فضله ونواله
واطرح وساوسك التي لك أشغلت ... وادخل حماه واستتر بظلاله
فهو الذي لولاه ما خلق امرؤ ... والدهر لم يسمح لنا بمثاله
وهو الذي فيه العصور تباشرت ... وكذا القصور تزينت لوصاله
وهو الذي يهدي الأنام بهديه ... وبفعله وبحاله وبقاله
كشف الدجى بضيائه وجماله ... والى العلا سراً رقى بكماله
إن رمت تنجو ناده يا من أتى ... الذكر الحكيم بمدحه ودلاله
يا أفضل الرسل الكرام وغوثهم ... فاشفع لعبد تائه بضلاله(1/721)
إن الخطايا أثقلتني سيدي ... يا خير من يولي الغنى لعياله
وله من قصيدة:
رشأ غزا قلبي بسهم جفونه ... وسبى اصيحابي بسحر عيونه
وسطا بقد مزري سمر القنا ... وحمى حماه بفتكه وشؤونه
والليث يحمي شبله بزئيره ... أو ما ترى لا يمتطى لعرينه
وله قصائد قليلة لأنه كان لا يعتني بالشعر كثيراً لعدم فراغه من الإقراء والتدريس، والشعر يحتاج إلى إقبال كثير عليه. ولم يزل المترجم على حالة صالحة وهمة راجحة، إلى أن اختار الآخرة على الأولى، فأقبل على مولاه ناجياً لا مخذولاً، وذلك سنة ألف ومائتين وقبل العشرين.
الشيخ صالح الفلاني العمري المدني المربي المالكي بن محمد بن نوح بن عبد الله بن عمر بن موسى بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن أحمد بن عمر بن محمد بن محمد بن الحافظ عليم الأندلسي الشاطبي بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن القاسم بن خلف بن برهان بن إدريس بن عامر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر بن علي بن أبي بكر بن سالم بن عبد الله بن عمر بن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
ولد سنة ست وستين ومائة وألف ثم أقبل نحو الطلب وتمسك بأذيال الأدب، فهو عالم المدينة النبوية، وفاضل البقعة الحجازية، وعمدة الأفراد الأعيان، ونخبة الذين يشار إليه بالبنان، الجامع بين(1/722)
العلم والعمل، والنائل من الفضائل فوق ما يتعلق به الأمل، فهو الفاضل الذي إذا أعمل أسمر يراعه في بطون الكواغد، أرى جميل الآثار من فوائد العوائد وعوائد الفوائد، كيف لا وهو المتمكن من العلوم، والمتوطن لإبراز الصواب من خزانة المنطوق والمفهوم، فلا ريب أنه البديع بيانه، والرفيع القدر مقامه وشأنه، ومن تشير الأصابع لفضله، والألسن تعلن بأن الكمال لا ينكر على أهله. وقد أحسن في الأدب كل الإحسان، وأتى بما تضعه العيون مكان الإنسان، فلله فضله ودره حيث قلد جيد الآداب لؤلؤه الثمين ودره، وخلب الألباب سحره، وملك مجامع القلوب نظمه ونثره، فمن بديع نظامه، ورفيع كلامه، مخاطباً به العلامة السيد عمر المدرس المدني الداغستاني، معرضاً له بالإقبال على زاد الآخرة والإعراض عن عرض الإماني:
يا ويح مبتاع الضلالة بالهدى ... فلسوف يندم يوم يؤخذ بالنواصي
ما همه إلا لقاء كواعب ... عرب تميس كأنها القضي النواضر
للنقص في الدنيا يسوء وإنما ... حسناته عند الحسا هي النواقص
لم يدر أن لا بد يوماً أن يرى ... في آلة حدباء تندبه النوادب
فيكون وهو بحالة لم ينتفع ... ببكا البواكي بل ولا نوح النوائح
فدع التكاسل واستعد محاذراً ... بغت المنون وما ينوب من النوائب
واذكر إلهك بكرة وعشية ... واشكر له وصل الفرائض بالنوافل
واعبده واتقه ولا تكفر به ... وافعل أوامره ولا تأتي النواهي
واسأله لا تسأل سواه فإنه ... من فيض أبحر جوده ترجى النوائل
وارغب إليه وعذ به متوقعاً ... فرجاً إذا نزلت بساحتك النوازل
فأجابه المرسول إليه على أسلوبه
يا فاضلاً حاز العلوم وسيداً ... أبدى نظاماً حسنه راق النواظر(1/723)
نظماً بليغ اللفظ فيه الاكتفا ... حقاً لمن يبغي الغرائب والنوادر
كالروض في نسماته وبهائه ... منها تفوح لمن يقابلها النوافح
فيه الأزاهر من نصائحه لمن ... رام انتفاعاً من لطائفه النوافع
يحتاج قارئها البكاء لذنبه ... حتى ينوح منه تمتلئ النواحي
لله درك يا فصيحاً بالغاً ... أبدى بقوة فهمه الكلم النواصح
نسخت بدائعك اللطائف نظمنا ... لله ما أحلى بدائعك النواصع
وحويت ما لم تحوه الأدباء من ... لفظ تفوق بها على نسج النواسج
فلك الفصاحة والبلاغة كلها ... عضيت من عزوم عليها بالنواسج
لا زلت في روض السعادة راتعاً ... تجنى بسعدك منها الأثمار النواسق
أأخذ عن الشيخ محمد المسوني والشيخ محمد سعيد سفر وغيرهما. وأعلى أسانيده من طريق شيخه ابن سنه (بكسر السين وتشديد النون المفتوحة) المعمر مائة وخمسين سنة، عن الشريف محمد بن عبد الله عن محمد بن اركماش الحنفي عن الحافظ ابن حجر العسقلاني بأسانيده المشهورة. مات المترجم المرقوم في المدينة المنورة عام ثمانية عشر ومائتين وألف ودفن بها رحمه الله تعالى.
الشيخ صالح بن الشيخ محمد الدسوقي الأصل الدمشقي الولادة والمنشأ الشافعي
عالم فاضل، ونحرير عامل، له في الولاية القدم الراسخ، وفي أنواع العلوم المقام الشامخ، ساد على أهل زمانه، وفاق أجلاء عصره وأوانه،(1/724)
ومن غريب ما وقع في مدته، ونسب تداركه إلى حضرته، أنه كان له تلميذ يقال له الشيخ قاسم الحلاق، وكان من أنبه تلامذته على الإطلاق، وكان له حجرة في جامع السباهية في محلة الدرويشية، قد انقطع بها للعلم والعبادة، وطلب النجاح والسعادة، ثم أنه في ليلة معلومة، كان مدعواً بعد العشاء في أعزومة، وبعد نصف الليل قد حضر، وكانت الليلة ليلة أربعة عشر، فدخل الجامع وأغلق الباب، بعد أن ودع الرفقة والأحباب، فوضع بعض ثيابه في حجرته، ودخل الخلاء لقضاء حاجته، ثم خرج وجلس على حجر أمام البركة حصة من الزمان، لكي يأخذ حظه بشرب قليل من الدخان، وكان إشراق البدر في كمال، والوقت في غاية الاعتدال، وهو قد أفرغ عليه السرور والبسط والحبور، فلم يمض عليه حصة قلية، إلا وقد أقبلت نحو هرة جميلة، وصارت تتلمس بثيابه، وتدور حول جنابه، وهو يأنس بها وينظر إليها، ويلمس بيده عليها، حتى ارتقت على صدره وعضت أنفه، كأنها تريد قطعه وقطفه، فلطمها لطمة قوية، كادت تذيقها كؤوس المنية، فوثبت إلى طرف البركة وحملقت إليه، حتى خاف أن تسطو عليه، فبادر الذهاب، ودخل الحجرة وقفل الباب، ولونه قد انشحب وفؤاده قد اضطرب، وأعضاؤه ترتعد(1/725)
ارتعاد المحموم، كأنه دنا أجله المحتوم، فما مضى برهة، إلا سمع كلاماً من خارج الحجرة، فأصغى بسمعه لذلك، فسمع رجلاً يقول والله لأذيقنه غصص المهالك، أين هو لأذيقه النكال والجحيم، قالت هو في هذه الحجرة مقيم. فقام الشيخ وقد عدم الاقتدار، وأخذ يجمع متاع الحجرة باليمين واليسار، ويضع جميع ذلك وراء الباب، وجعل ذلك لمنع دخول من سمعه من أكبر الأسباب، فما رأى إلا يداً قد امتدت إلى داخل الحجرة وفتحت الأقفال، ودفعت جميع ما كان وراء الباب بغاية الاستعجال، ثم فتح الباب ودخل، وقال يا بنتي أهذا الذي حصل منه ما حصل، فقالت نعم يا مولاي، هذا الذي ضربني وأوهن قواي، فقال اصبري وانظري إليه، وتأملي ما يجري عليه. ثم أمر بجماعة فأحضروا بين يديه، فصار يضرب أعناقهم واحداً بعد واحد، وينظر إلى الشيخ ويلقي القتلى عليه، حتى امتلأت الحجرة ولم يبق بها مكان، قال لابنته: ما تريدين أن أفعل الآن؟ فاقترحي علي، واتركي الأمر إلي. فقالت: يا أبت يكفيه ما وقع الآن، وإن عاد باء بالنكال والخسران. ثم آب من حيث حضر، والشيخ قد غاب عن إدراكه وصار حاله عبرة لمن اعتبر، فلما علا النهار تفقدوه، فلم يقعوا عليه ولم يجدوه، فنظروا من خصاص الباب إليه، فوجدوه ملقى وإشارات الموت عليه، فاختلعوا الباب في الحال، بعد أن كسروا الأقفال، واحتملوا الشيخ إلى بيته وهو عن إدراكه ذهلان كأنه في بحران، فحضر عنده شيخه المترجم إلى بيته وهو عن إدراكه ذهلان كأنه في بحران، فحضر عنده شيخه المترجم ذو القدر المصون، وعلق عليه تميمة وقرأ عليه شيئاً من الكلام القديم ذي السر المكنون، فقام في الحال، كأنما نشط من عقال. وكانت تعاوده هذه البنت من بعيد وتقول له ارم الحجاب وإلا قتلتك من غير ارتياب، فيشكو لشيخه فيقول له إياك أن تسايرها في ذلك، فتوقعك في الشدائد(1/726)
والمهالك، وما دامت التميمة عليك، لا قدرة لها على الوصول إليك.
توفي رضي الله عنه سنة ست وأربعين ومائتين وألف في المدينة المنورة ودفن بمقبرة بقيع الغرقد (بالغين المعجمة) قال في المختار بقيع الغرقد مقبرة بالمدينة المنورة.
الشيخ صالح بن حيدر الكردي الأصل والشهرة الاشكتي الشافعي
إمام له في العلوم أطول باع، وهما قد اتفق الجل على فضله بلا نزاع، قد تفرد في زمنه بكمال التحقيق، وتوحد بصواب الفهم وسداد التدقيق.
ولد بدمشق الشام سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف ونشأ بها، وجد واجتهد في طلب العلوم، إلى أن برع في فني المنطوق والمفهوم، وكان إماماً في الحديث وأصوله، وحصل من علم التصوف والحقائق على مطلوبه ومأموله، وله في كل فن كمال المعرفة والإدراك، ولم يكن له عن الإفادة والاستفادة فكاك، وكان أحد أفاضل الشام الموصوفين، ومن أجل نبلائها وأجلائها المعروفين، إذا رآه الإنسان أجله وهابه، وأعلى قدره وأعظم جنابه، قد أخذ عن الشيخ أحمد العطار، وعن العلامة العلواني عمدة الأمصار، وعن الشيخ محمد العاني، والشيخ علي الداغستاني والشيخ محمود الكردي العمدة الفاضل، والشيخ عبد الرحمن الكردي(1/727)
ذي الأخلاق والشمائل، والشيخ علي كزبر والحفني والملوي والبراوي، وعن الفاضل الشيخ سالم الحفناوي، وأخذ الطريقة العلية النقشية عن الجليل المحترم المعظم الشهاب الأيوبي الرحمتي، وكان له في الطريق يد عليا، وهمة سامية كبرى، مات رحمه الله تعالى سنة ثماني عشرة ومائتين وألف، طيب الله ثراه آمين.
الشيخ صالح السقطي الدمشق الصالحي الشافعي بن الشيخ عبد الغني بن الشيخ عبد القادر السقطي
الأديب الكامل، والفقيه الفاضل، والبارع الأوحد، والهمام المفرد.
ولد بصالحية دمشق عام ألف ومائتين واثنتي عشر، وقرأ على والده وعلى والدي، وعلى العلامة الشيخ سعيد الحلبي، وعلى الشيخ أحمد بيبرس. وولي خطابة جامع الحنابلة بصالحية دمشق وخطابة السليمية، وتوفي سنة خمس وأربعين ومائتين وألف ودفن عند أسلافه بقاسيون.
الشيخ صالح الدمشقي الحنفي أمين فتوى دمشق الشام المعروف بابن أياس
فخر العلماء العاملين، وصدر الفقهاء والمحدثين، رحلة الطالبين، وخاتمة المحققين.
ولد بدمشق سنة تسع وسبعين ومائة، وأخذ عن السيد شاكر العقاد المعروف بمقدم سعد العمري، وعن العلامة الشيخ محمد الكزبري، وعن الشهاب المنيني، وولي خطابة جامع قلعة دمشق المنسوب لأبي(1/728)
الدرداء حينما كانت سكناً لبعض الدمشقيين، ثم انتقل من القلعة وسكن بمحلة الشاغور، وتصدر لإفادة الطالبين، وولي أمانة الفتوى بدمشق أيام مفتيها المولى أسعد أفندي البكري الصديقي، ولم تطل المدة حتى توفي في سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف، ودفن بسفح قاسيون قرب مقبرة بني السقطي رحمه الله تعالى.
الشيخ صالح بن سعيد بن أحمد الدمشقي الحنفي المعروف بالأسطواني
ولد بدمشق سنة عشر ومائتين وألف ونشأ بها، وقرأ على الأفاضل، وكان صالحاً لطيفاً متواضعاً لين الجانب حسن الأخلاق مواظباً على صلاة الجماعة لا يشغله عنها شاغل، وتولى خطابة الجامع الأموي فخطب مدة ثم فرغها على ولده راغب أفندي. مات صاحب الترجمة عاشر ربيع الآخر سنة ألف ومائتين وأربع وتسعين ودفن في مقبرة الذهبية في الدحداح.
الشيخ صالح بن المرحوم الشيخ أحمد بن المرحوم الشيخ سعيد المنير
الدمشقي الشافعي من طائفة ذات حسب ونسب وجاه عظيم وعلم وأدب، وكان المترجم من أحسنهم لطفاً، وأجملهم نباهة وظرفاً. قرأ(1/729)
على والده مدة مديدة، وأخذ عنه فنوناً عديدة، وقرأ على الشيخ سليم العطار، وغيره من السادة الأخيار، ثم قرأ على شيخنا الشيخ محمد الطنطاوي حتى فاق وظهر شأنه، ورجح في العلم ميزانه، وسما ذكره ونما قدره، وطلبته الطلبة من كل جانب، ومالت إليه أعناق الرغائب، وله درس جامع بين العشاءين في جامع بني أمية، في التفسير الشريف وما شاكه من المقاصد العلية، وكأنه مكانه الذي يجلس فيه للتدريس يناديه، رغماً عن أنس حاسده ومعاديه:
قلدت من المنظوم لا بخسا ... جيد الفضائل عقدا قط ما لبسا
وصغت منثوره تاجاً علا وغلا ... قدراً وسعراً ولا والله ما وكسا
هات الحديث عن السادات متصلا ... ثم اروه عالي الإسناد لا حبسا(1/730)
وتوجه مراراً إلى الدار العلية، والعاصمة الإسلامية، وفي المرة الأولى وجهت عليه باية أزمير المجردة، وفي المرة الثانية وجهت عليه باية ادرنه المجردة أيضاً، ثم إنه كان قد وقع بينه وبين أخيه شقيقه عارف أفندي مباغضة أوجبت مرافعة بينهما في الحكومة، فما زال يتفاقم الأمر بينهما إلى أن ذهب المترجم في المرة الأخيرة إلى الآستانة لأجل تتميم دعواه مع أخيه، فطلبته المنية، إلى السعادة الأبدية، وذلك سنة ألف وثلاثمائة وإحدى وعشرين ودفن في مقبرة الآستانة.
الشيخ صالح بن محمد سعيد بن حماد المدني الخطيب
الأديب الذي حاكى نظمه الدرر، واللبيب الذي لآلئ نثره كلها غرر، قد انفرد في فن المحاضرة، وانتهى إليه علم حسن المذاكرة، قد أخذ عن أفاضل الشيوخ وشيوخ الفضائل، وأذعن له الخاص والعام بأنه من السادة الأفاضل، وكان مثابراً على القراءة والإقراء، وأجازه شيوخ عصره ووصفوه بأوصاف الفضلاء البلغاء، وأذنوا له بالإفادة والتدريس، وبالإفتاء على مذهب سيدنا محمد بن إدريس، لما رأوا من تحقيقه وجودة فهمه وتدقيقه، وقد نظمه صاحب اللآلي الثمينة، في سلك تراجم أدباء المدينة، فقال فيه يصف حاله ويذكر أدبه وكماله: مبدي الكلمات الرائقة، التي هي بالحسن للقلوب شاثقة، والنظم النفيس، الذي ليس لجناسه جنيس، والنثر الذي يلمه بنان الأفهام في أطباق مجامع القلوب، وتشرب الأرواح طرباً منه راح معان في كأس الأبداع مصبوب، مع صدق لهجته ووضوح محجته، وانتشار فضل أأشرقت كمل بدوره، وذكاءه أناله من العلم عرائس خدوره، وحسن معاملات وأخلاق تشهد له بأنه الإمام الهمام الفيلق الغيداق. فمما أبدته خزائن أذهانه من جملة كلمه وعقيانه، مجيباً عن القصيدة التي مدحه بها عمر أفندي المدرس:(1/731)
تجلت لنا ذات السنا المتألق ... تميد بقد بالملاحة مشرق
بأبهى محيا زانه در مبسم ... تحيي بأشهى من حميا مروق
تتيه دلالاً في حلي وحلة ... وتزهو جمالاً قد حلا بترقرق
رشيقة شكل زينت بمحاسن ... بديعة حسن أتقنت بتأنق
ترق بظرف تسترق به النهى ... وترنو بطرف للقلوب مفوق
شمائلها سلاماً رق معنى لسامع ... وأبدت كلاماً دق معنى لذائق
فهمت بها لما فهمت خطابها ... وقابلتها مذ أقبلت بتشوق
وقبلتها حباً لها وقبلتها ... وأمهرتها روحي وجسمي وما بقي
ولم لا ومهديها السراج ضياؤنا ... أخو الفضل بل رب الكمال المحقق
مجيد لأفراد المناقب أجمعا ... مجيد إلى أعلى المراتب مرتقي
همام له الباع الطويل تفضلا ... يفيض به من بحره المتدفق
أديب أريب لا يجارى بحلبة البديع وفي الإبداع أبرع مفلق
فيا بارعاً وشى الطروس بنثره ... ونظم كما الدر النضيد المنسق
ومن سخرت أعلى المعاني له متى ... دعاها أجابته بغير تعوق
أتت بنت فكر منك تخطب خطة ... يضيق نطاق عن نداها ومنطقي
ولولا الحيا من وجه جاك سيدي ... مطلت بها فالمطل حيلة مملق
فدونكها خجلاء عطا فحلها ... بحلي قبول بالتفضل أليق
ودم وابق واسلم في هناء وغبطة ... برغم حسود لا يغيظك أحمق
ولم يزل هذا المترجم مستوياً على عرش أدبه، متصاعداً في ترقيه نحو بلوغ أربه، إلى أن قصد الدار الآخرة، وسكن غرفته السامية الفاخرة، وذلك في أوائل القرن الثالث عشر رحمه الله تعالى.(1/732)
الشيخ صالح بن أحمد بن موسى بن أبي القاسم المغربي المالكي الخلوتي الشهير بالسمعوني
العلم الفرد في العلوم والمعارف، والأوحد المقصد في بدائع اللطائف والطرائف، من اشتهر بالعبادة والطاعة، وعرفه الناس بالزهادة والقناعة. ولد في جزيرة وغليس من أعمال الجزائر الغربية سنة أربعين ومائتين وألف، ونشأ بها وأخذ عن علمائها الكرام، وجهابذتها الفخام، واستقام بها اثنتين وعشرين سنة وهو مجد في طلب العلوم الشرعية، ومجتهد في تحصيل العلوم النقلية والعقلية. ثم لما أخذت الدولة الفرنسية الجزائر، وتعطلت المساجد والمنابر والمنائر، هاجر المترجم إلى دمشق الشام، وذلك سنة أربع وستين ومائتين وألف من هجرة سيدة الأنام، فجعلها محل إقامته، وموطن راحته وكرامته. وأخذ عن علمائها العظام أنواع الفضائل، إلى أن صار معدوداً من الأفاضل. وله منظومة في فقه السادة المالكية، وقد كتب عليها حاشية جليلة جلية، وله شرح على رسالة في علم الميقات، قد جمع فيه ما نثرته يد الشتات، وله تاريخ على طريق الرمز والإيماء والإشارة، وصل فيه لقدوم محمد رشدي باشا الشرواني الوزير الأعظم الذي كان قد تولى الصدارة، وله فيه أسلوب عجيب، وطريق نادر غريب. وكان صالحاً تقياً وفالحاً تقياً، رفيع المقام وافر الاحترام، مقبلاً على الله مدبراً(1/733)
عما سواه، جميل المقال جليل الخلال، لم يزل على حاله، متخلياً من الدهر عن أوحاله، إلى أن خطبته دواعي المنية، إلى دار الآخرة العلية، وذلك لثلاث بقين من شهر جمادى الآخرة سنة خمس وثمانين ومائتين وألف، دفن في مقبرة باب الصغير، قرب قبر المرحوم العلامة الشيخ محمد الكزبري رحمه الله تعالى.
السيد صالح أفندي بن السيد عبد القادر أفندي بن السيد أحمد بن السيد حسن بن السيد مصطفى بن السيد عبد الرحمن بن السيد إسماعيل بن السيد محب الدين الحصني الحسيني
المعروف بابن تقي الدين، فهو الحسيب الذي لا ريب أنه من أشرف العناصر محسوب، والنسيب الذي هو إلى أعظم الأكابر منسوب، من سلسلة تسلسلت إلى أشرف إنسان، وارتقت إلى مكان قيل فيه ليس في الإمكان أبدع مما كان. قد ارتفع شرفه على كاهل الفخار، واستوى سؤدد مجده على ذروة المدار، فلله دره من أديب طاف حول كعبة لطفه ذوو الأدب، وأريب سعى بين مروة سنائه وصفا صفائه ذوو الأرب، قد أينع زهر كماله في حدائق الفضائل، وأشرق بدر جماله فاهتدى به أولو الوسائل.
ولد في دمشق الشام، دار آبائه وأجداده السادة الكرام، وذلك سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف، ونشأ في حجر والده المعروف بكل كمال ولطف، ثم بعد أن قرأ القرآن العظيم وجوده، صرف همته إلى الخط فنال منه أحسنه وأجوده، ثم حضر دروس العلماء، ولازم مجالس الفضلاء، فأتقن العلوم العربية، واجتهد في تحصيل العلوم الشرعية، إلى أن بلغ مناه،(1/734)
وحاز على ما تمناه، وأجازه علماء زمانه بالإجازة العامة، وكتبوا له ما يدل على كمالاته التامة، وتقدم لدى أهل زمانه، وتسامى مقامه بين أقرانه، ثم سار إلى الآستانة دار السلطنة العثمانية فاستقام بها مدة، ثم سار إلى الحجاز لقضاء الفريضة الإسلامية، وبعد أداء فريضة الحج الشريف بالتمام، توجه لزيارة جده المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام. ثم بعد مدة توجه إلى الدار الدمشقية، فاستقام بها مدة ثم رحل منها إلى الدار العلية، فجعلها مجل تجارته، وموطن إقامته، وفي سنة أربع وتسعين ومائتين وألف وجهت عليه نقابة القدس الشريف، وقد أناب من قام عنه بهذا المنصب المنيف، ودخل في سلك المناصب العلمية، إلى أن وصل إلى باية بروسه السنية، من البلاد الخمس الموصلة للحرمين، وعين السعادة ملاحظة له بما تقر به العين، ولم يزل ملازماً على الأدب والخضوع، والتذلل والعبادة والخشوع، وزيارة الصالحين وحب المساكين، ومساعدة ذوي المقاصد، والإكرام لكل قاصد. وله هيئة حسنة ومعاشرة مستحسنة، وتقوى وعبادة وقناعة وزهادة، وفي شهر ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة وسبع، وجهت عليه نقابة أشراف الشام، فمكث بها سنتين وفي الثالثة توجه إلى الحجاز الشريف والحرم السامي ذي القدر المنيف، وبعد أداء النسك والعبادة، دعاه إلى دار الآخرة داعي السعادة، فكانت وفاته في شهر ذي الحجة الحرام سنة ألف وثلاثمائة وعشر من هجرة سيد الأنام.(1/735)
الشيخ صبغة الله أفندي بن إبراهيم بن حيدر الحيدري مفتي الشافعية في بغداد
الحجة البالغة، والمحجة النابغة، والكعبة المحجوجة، والروضة المبلوجة، نقطة كرة العراق، " وفارس " ميدان جولان السباق، وعمدة الأحكام الشرعية، ونخبة السادة الشافعية.
ولد سنة ألف ومائة وإحدى وستين بماوران واسمه تاريخه، ونشأ في العلم والطاعة، وبرئ من الكسل والإضاعة، وأخذ عن مشايخ عصره، وأئمة مصره، مع الهمة والاجتهاد، إلى أن بلغ رتبة الترجيح والانتقاد، فأجازه الأفاضل، وشهدوا له بالفضائل، وعاملوه معاملة الشيوخ، ذوي القدم الثابت على ذروة الرسوخ، مع الزهد والورع، والبعد من المصانعة والطمع. كيف لا وهو ابن من رقى وعلا، وساد في جميع أطوار جميع الملا، علي ابن عم سيد الورى من تقدم في مقام القرب والناس ورا، فهذا هو الشرف الأعلى، والمجد الذي هو بكل مديح أولى، ثم انتقل من بلده ماوران إلى دار السلام بغدان، فاشتهر بها أمره، وعلا قدره وطار في الآفاق ذكره، وعرفت قدره الوزراء، والعلماء والفضلاء، وتولى إفتاء السادة الشافعية في مدينة العراق السنية، فكان للحق ناصراً، وللباطل حاسراً، وللمحق وزيرا، وللمبطل نذيرا. وكان ذا أخلاق حسنة، وصفات مستحسنة، وقد أخذ الطريقة النقشية العالية،(1/736)
عن قطب العرفان ذي المعارف السامية، مولانا الشيخ خالد، حباه الله من فضلة القدر الزائد، فأحسن في سيره، وتقدم من أرباب الطريق على غيره، ولم يزل مثابراً على العلم والعمل، إلى أن وافاه الأجل، سنة ألف ومائتين ونيف وعشرين.
الشيخ صديق بن علي المزجاجي الزبيدي الحنفي
ولد سنة ألف ومائة وتسع وخمسين تقريباً ثم أتقن كتب الحديث والفقه الحنفي وسافر للدرس والتدريس إلى " مخا " ثم رجع إلى " صنعا ".
قال صاحب البدر الطالع: ووصل إلي ولم أكن قد عرفته قبل ذلك ولا عرفني، وجرت بيني وبينه مذاكرات في عدة فنون، ثم خطر ببالي أن أطلب منه الإجازة فعند ذلك الخاطر طلبها مني، فكان ذلك من المكاشفة، فأجزت له وأجاز لي وكان إذ ذاك سنه فوق خمسين سنة، وعمري دون الثلاثين، ثم ما زال يتردد إلي وفي بعض المواقف بمحضر جماعة وقعت بيني وبينه مراجعة في مسائل، وأكثرت الاعتراض في مسائل من فقه الحنفية وأوردت الدليل، وهو يتمحل في الجواب لما يوافق الحنفية وينتصر لهم، فلما خلوت به قلت له أصدقني هل ما تبديه في المراجعة تعتقده اعتقاداً جازماً فإن مثلك في علمك بالسنة لا يظن به أنه يؤثر مذهبه الذي هو محض الرأي في بعض المسائل على ما يعلمه(1/737)
صحيحاً ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال لا أعتقد صحة ما يخالف الدليل وإن قال به من قال ولا أدين الله بما يقوله أبو حنيفة وأصحابه إذا خالف الحديث الصحيح، ولكن المرء يدافع عن مذهبه. مات في حدود ألف ومائتين وأربعين انتهى. ولله در أبي عبد الله محمد بن علي الصوري يذكر الحديث وأهله فقال وأحسن المقال:
قل لمن عاند الحديث وأضحى ... عائباً أهله ومن يدعيه
أبعلم تقول هذا أبن لي ... أم بجهل والجهل خلق السفيه
أيعاب الذين هم حفظوا الدين من الترهات والتمويه
وإلى قولهم وما قد رووه ... راجع كل عابد وفقيه
وهل لا يعاب على قوم تركوا الحديث والعمل بما فيه، وتمسكوا بأقواله تناقضه وتنافيه، قال بعض الأفاضل:
رفض السنة قوم فتنوا ... علموا الباطل وانقادوا إليه
ورجال لم يخونوا عهدهم ... صدقوا ما عاهدوا الله عليه
صديق خان أبو الطيب بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني القنوجي البخاري
فاضل حظة من المعرفة وافر، وكامل وجه أمانيه طلق سافر،(1/738)
ما زال من الرفعة في أعذبها شرعة، ومن الحظوة في أسوغها جرعة، له في الخلق والخلق من الرضوان روضان، وفي النثر والنظم من المرجان مرجان، فهو عقد نبلاء الأفاضل، وبيت قصيد ذوي الفضائل، من طار صيت علاه وحلاه في الأقطار، وتطاولت إليه الأبصار من الأمصار، فلا ريب أنه فرد العصر في كل فضيلة، وفهد ذوي القدر للوقوف على حقيقة كل مقصد ووسيلة، وقد ترجمه بعض السادة الأفاضل، فذكر بعض ماله من الفضائل، فقال: هو السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري، أبو الطيب صديق بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني القنوجي البخاري، المخاطب بالنواب عالي الجاه أمير الملك خان بهادر، أدامه الله تعالى بالعلا والتفاخر. من ذرية السبط الأصغر الشهيد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه.
وله في شهر جمادى الأولى في التاسع عشر منه يوم الأحد في سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف هجرية ببلدة قنوج المحمية، " بكسر القاف وفتح النون المشددة وسكون الواو على زنة سنور " وعليه من السيادة العليا والسعادة العظمى مخايل، ومن السؤدد والشرف براهين ودلائل. فربي في مهد الآداب والشمائل الجميلة، وتعلق من حال صباه بالخصال المرضية والخلال الجليلة، وكان من أجل ما أنعم الله به عليه أن صرفه برحمته الخاصة عن الاشتغال بمحدثات العلوم التي جدواها قليل، والخوض في مبتدعات الرسوم التي عدواها جليل، وقد أجزل له المنة، وكشف الله به عن الحقيقة الشرعية كل دجنة، ووفقه لتفسير كتابه العزيز وحبله المتين، ودراسة سنة نبيه المأمون الأمين، فاشتدت رغبته فيها وتطلعه إليها، واستئناسه بها وإدامة النظر في كتبها، واطلاعه على ثناياها،(1/739)
وتفحصه عن خباياها، حتى رزقه الله حظاً صالحاً ومقاماً في الأنام راجحاً ناجحاً، وهو ي ذلك أخذ بحجزة الأتباع، شديد التوقي من نواشط الرأي والابتداع " النواشيط: جمع ناشط وهو الثور الوحشي يخرج من أرض إلى أرض "، فنمي بذلك علمه، وتوفر من القبول سهمه، وجرى بالخير التام والثناء الحسن على ألسنه المتبعين اسمه:
نوابنا الصديق نابغة الزمن ... يطوى به الذكر الجميل وينشر
وكان أخذه هذا العلم الشريف وانتفاعه فيه عن أكابر ممن أدركهم من محدثي اليمن الميمون وعلماء الهند، ولما حصلت له الإجازة المعتبرة من مشايخ السنة، وأسود غابات الحديث شداد المنة، شمر عن ساق الجد والهمة، لجمع الأحكام التي نقطت بها أدلة الكتاب وحجج السنة، من غير تعصب لعالم من أهل العلم ومذهب من المذاهب، وألف في كل باب من أبواب الشريعة الحقة الصادقة المحمدية ما لم يؤلف مثله لهذا العهد الأخير، وانتفع به أجيال من الناس كثير، وسارت بمؤلفاتهه الركبان إلى أقطار الأرض هندها وشامها ويمنها، ومصرها ورومها، وحجازها وشرقها وغربها، وذلك من فضل الله تعالى، وكان فضل الله عليه كبيرا. ثم أن الله سبحانه وتعالى خوله من المال الكثير، ومن علي بالحكم الكبير، والأولاد السعداء والنسب الحميد، والحسب المزيد، ما يقصر عن كشفه لسان اليراع، ولو كشف عنه الغطاء ما ازداد الواقف عليه إلا يقيناً وإن أنكرته بعض الطباع، وهو الذي يقول لأخلاقه مقتدياً بأسلافه بفم الحال ولسان المقال: " اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور " " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار "(1/740)
وقد طعن الآن في عشر الخمسين من العمر المستعار، مع ما هو مبتلى به من سياسة الرياسة وفقد الأحبة والأنصار، وكثرة الأعداء الجاهلين بالقضايا والأقدار، والمرجو من رب العالمين، أن يجعله ممن قال فيهم " وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة من الصالحين " والحمد لله الذي جعله محسوداً لا حاسداً، وصابراً شاكراً ولم يجعله فظاً غليظ القلب معانداً، ولله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله.
وهذه أسماء كتبه المؤلفة على ترتيب حروف المعجم المطبوعة في مطبعة رياسة بهوبال المحمية، وغيرها من البلدان العظام، ويزيد الله في الخلق ما يشاء وهو المتفضل ذو الإنعام.
حرف الألف
أبجد العلوم، إتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء المحدثين بالفارسي، الاحتواء في مسئلة الاستواء، الإدراك في تخريج أحاديث در الأشراك، الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة، أربعون حديثاً في فضائل الحج والعمرة، إفادة الشيوخ في معرفة الناسخ والمنسوخ فارسي، الاكسير في أصول التفسير فارسي، إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة، الانتقاد الرجيح في شرح الاعتقاد الصحيح.
حرف الباء الموحدة بغية الرائد في شرح العقائد فارسي، البلغة في أصول اللغة، بلوغ السول من أقضية الرسول.
حرف التاء الفوقية تميمة الصبي في ترجمة الأربعين من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.(1/741)
حرف الثاء المثلثة ثمار التنكيت في شرح أبيات التثبيت فارسي.
حرف الجيم الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة.
حرف الحاء المهملة حجج الكرامة في آثار القيامة فارسي، الحرز المكنون من لفظ المعصوم المكنون، حصول المأمول في علم الأصول، الحطة في ذكر الصحاح الستة، حل الأسئلة المشكلة.
حرف الخاء المعجمة خبيئة الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان.
حرف الدال المهملة دليل الطالب إلى أشرف المطالب فارسي.
حرف الذال المعجمة ذخر المحتي في آداب المفتي حرف الراء المهملة رحلة الصديق إلى البيت العتيق. الروضة الندية شرح الدرر البهية. رياض الجنة في تراجم أهل السنة.
حرف الزاي حرف السين المهملة السحاب المركوم في بيان أنواع الفنون وأسماء العلوم، وهو القسم الثاني من هذا الكتاب. سلسلة العسجد في ذكر مشايخ السند فارسي.(1/742)
حرف الشين المعجمة شمع انجمس في ذكر شعراء الزمن فارسي.
حرف الصاد المهملة حرف الضاد المعجمة ضالة الناشر الكئيب في شرح النظم المسمى بتأسيس الغريب.
حرف الطاء المهملة حرف الظاء المعجمة ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي.
حرف العين المهملة العلم الخفاق في علم الاشتقاق. العبرة بما جاء في الغزو والشهادة والهجرة. عون الباري بحل أدلة البخاري أربع مجلدات.
حرف الغين المعجمة غصن البان المورق لمحسنات البيان. غنية القاري في ترجمة ثلاثيات البخاري.
حرف الفاء فتح البيان في مقاصد القرآن في أربع مجلدات. فتح المغيث بفقه الحديث. الفرع النامي من الأصل السامي فارسي.
حرف القاف قصد السبيل إلى ذم الكلام والتأويل. قضاء الرب في مسئلة النسب. قطف الثمر في عقائد أهل الأثر.
حرف الكاف كشف الالتباس عما وسوس به الخناس في الرد على الشيعة باللسان الهندي.(1/743)
حرف اللام لف القماط على تصحيح ما استعمله من الأغلاط. لقطة العجلان مما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان.
حرف الميم مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام. مراتع الغزلان في تذكار أدباء الزمان. مسك الختام شرح بلوغ المرام، باللسان الفارسي. منهج الوصول إلى اصطلاح أحاديث الرسول، باللسان الفارسي.
حرف النون نيل المرام في تفسير آيات الأحكام.
حرف الواو الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم المنثور منها والمنظوم، وهو القسم الأول من هذا الكتاب.
حرف الهاء هداية السائل إلى أدلة المسائل، بالفارسي.
حرف الياء يقظة أولي الاعتبار فيما ورد في ذكر النار وأصحاب النار. هذا ما وقع في الماضي وإلى الآن في الزيادة والتوجه إلى تصنيف كتب شتى. وفي الحقيقة أن مثله لا يكون في هذا الزمن، مع ما هو فيه من الامتحان، وقد آن أن نقبض جواد القلم عن الطراد في وصفه، فإن الكلام فيه بحر تيار وعباب زخار، وفيما ذكرنا كفاية لأولي الألباب، والله الموفق لإصابة الصواب.(1/744)
تتمة
إن هذا السيد المترجم، والأستاذ السند المعظم، توجه في شهر شعبان سنة خمس وثمانين ومائتين وألف إلى بيت الله، فقدم مكة المكرمة وجدد عهداً بالركن والحطيم، وتنسم من عرف عرفات وتمتع من أرج ذاك النسيم، ثم شد الرحال إلى زيارة السيد المصطفى قطب دائرة الكمال، فزار المرقد النبوي الأنور ثم مرقد الآل الأطر، وتمتع بزيارة من سلف، ممن لهم كمال الفضل والشرف، ثم عاد إلى محروسة بهوبال المحمية، فاستقبلته خلافة الهند السامية البهية، حيث أنه تزوج بوالية مملكتها وحامية حوزتها، المزرية طلعة كمالها بشرف الشمس والقمر، والمستوية حامية إمارتها على عرش الظفر، تاج الهند المكلل، وطراز المجد الرفيع الأول، نواب شاه جهان بيكم، أحسن الله إليها وتفضل وأنعم، وفسح في حياتها وبارك لها وعليها في أوقاتها.
فجلس هذا المترجم مجلس الخلافة في الأمور الدولية، وقام مقام السيدة المشار إليها في إنفاذ الأوامر السنية، وانتفع الناس بجوده وبذله، وعلمه وحكمه وفضله، وعاد إلى مملكته ماء الشبيبة بعد المشيب، وظهر غصنها الذابل في نضرة الرطيب، وغدا بردها البالي قشيبا، وأصبح جدبها الماحل خصيبا، وارتفعت بها قصور العلم بعدما كانت رسوماً عافية، واستبانت معالم الفضل بعد ما كانت إغفالاً خافية. وذلك لأنه كان ملياً بالعلوم، متضلعاً منها بالمنطوق والمفهوم، مجتهداً في إشاعتها، مجدداً لإذاعتها، مع كونه يرى ذاته الشريفة كآحاد المسلمين، ويتواضع مع كل واحد من الناس لله رب العالمين، ويتحاشى كماله عن الدنيا وزخارفها، ويتجافى بقلبه عن مراقيها ومعاطفها، وأحيا السنن الميتة في ذلك المكان، بالأدلة البيضاء من السنة والفرقان، فهو سيد علماء الهند في زمانه،(1/745)
وابن سيدهم الذي برع فضلاً في عصره وأوانه، فخضعت له النواصي، وشهد بكماله الداني والقاصي، ولم يزل يزيد علوم الشريعة بهاء ونضارة، ويفكك عقود أكمامها بأحسن عبارة وألطف إشارة، واشتد اشتغاله بها تصنيفاً وتأليفاً، وطالت يده البيضاء في بنيانها ترصيصاً وترصيفا، ولم يزل مقامه يسمو، وقدره يعلو وينمو، إلى أن دعاه الداعي لدار جزائه، ولحصوله على غاية مرامه ونهاية منائه، وذلك سنة ألف وثلاثمائة ونيف.(1/746)
حرف الطاء
السيد الشيخ طاهر بن محمد الأنباري
كان فاضلاً نبيهاً، وعالماً متفنناً فقيهاً، لازم السيد سليمان الأهدل، وقرأ عليه تفسير البيضاوي والبغوي وحصل له فتوح عظيم في سائر العلوم، وتخرج عليه عدة علماء محققين. ومن كلامه: اللبيب من إذا سبقه الناس بالعلم سبقهم بالعمل، وإذا سبقوه بالعمل سبقهم بالإخلاص لله عز وجل، وإذا سبقوه بالإخلاص سبقهم بالثبات على ذلك إلى الممات. وكمال الإنسان في ثلاثة أمور: علوم يعرفها، وأعمال يعمل بها، وأحوال تترتب على علومه وأعماله:
العلم ليس بكاف ربه شرفاً ... إن لم يكن عمل ما فيه تلبيس
لو كان بالعلم من دون التقى شرف ... لكان أفضل خلق الله إبليس
توفي رضي الله عنه سنة ألف ومائتين و ...
الشيخ طاهر بن سعيد المعروف بسنبل الدمشقي
من العلماء المعروفين، والأعيان المشهورين، ولد بدمشق سنة ألف ومائة وخمسين تقريباً، ونشأ بها وقرأ على أخيه الشيخ محمد وعلى والده وغيرهما، حتى برع وفاق واشتهر في الآفاق، وكان ناهجاً منهج الزهادة والتقوى والعبادة. مات رحمه الله عام ألف ومائتين وثمانية عشر.(1/747)
طاهر أفندي مفتي دمشق الشام بن عمر أفندي الخربوتلي الحنفي الدمشقي
ولد في خربوت سنة خمس عشرة ومائتين وألف، ثم قدم مع والده إلى دمشق وتوطن بها، وحضر مجلس العلم لدى أفاضلها وأعلام علمائها، كالشيخ شاكر مقدم سعد، والشيخ عبد الرحمن الكزبري، والشيخ سعيد الحلبي وغيرهم. وكان كوالده صالحاً عابداً زاهداً متقشفاً في الدنيا مقبلاً على الآخرة، وصار من المتقدمين في الفقه في مذهب أبي حنيفة، وكان أبوه قد وجهت عليه إمامة محراب الحنفية في جامع بني أمية، فانتقلت إليه بعد موت والده. ثم وجهت عليه أمانة فتوى دمشق الشام أيام مفتيها حسين أفندي المرادي، وبعد موت حسين أفندي وجهت رتبة إفتاء الشام على ولده علي أفندي المرادي، وبعد أشهر حضر علي أفندي لدى والدي وطلب منه أن يستعفي له من الإفتاء واعتذر بأنه رأى رؤيا أزعجته كثيراً، وقال له لا أخرج من دارك حتى تخلصني من منصب الإفتاء، ولم يمكن تنزيله عن هذا الخاطر، وكان الوالي في ذلك الوقت سعيد باشا صهر السلطان محمود وكان من الصالحين، وكان المشير علي الأوردي الهمايوني الخامس أمين باشا، وكان رئيس المجلس الكبير عثمان بك وكان صاحب الحل والعقد، وكل منهم كان له مع والدي غاية المحبة وكانوا في كل أيام يحضرون عند والدي، فلما لم يمكن مضي علي أفندي في منصب الإفتاء وأصر على ذلك مع شدة الهلع، تكلم والدي في أمره فقال له عثمان بيك لا بأس بذلك، لكن بشرط أن يكون الإفتاء لك، فقال له أنا أسعفي عن غير وأقبل لنفسي لا يمكن ذلك، فقال له هذا منصب علم وأمانة، ولا نجد الآن موافقاً من كل الوجوه في هذا(1/748)
القطر سواك، فقال له أنا أريد منصباً لا أعزل منه، فقال له أستحضر لك براءة من السلطان في توجيه الإفتاء عليك وعلى أولادك من بعدك، فقال له ما قصدت هذا، إنما قصدت أنه إذا أراد السلطان عزلي لا قدرة لأحد على إبقائي، وأنا عندي منصب لا يعزلني منه أحد وهو منصب العلم فلا أختار غيره عليه، على أني لا آمن على نفسي، وهذا منصب خطر، وإن عزمتم علي في ذلك يكون سبباً لقطع سبب الوصلة بيني وبينكم. فلما ظهر عليه التغير كثيراً، اضربوا صفحاً عن التكلم معه في هذا الخصوص، وتفرقوا ثم اجتمعوا بعد ذلك، وانعقد إجماعهم مع أهل البلد على وضع صاحب الترجمة، لأمانته وتخرجه في مسائل المذهب وخدمته لأمانة الفتوى مدة طويلة، وجلس لمسائل الناس في مدرسة الجقمقية شمالي جامع بني أمية، ثم بعد مدة قد انتقل إلى مكان آخر قد أعد للإفتاء، ولم يزل مفتياً إلى أن وقعت في الشام حادثة النصارى سنة سبع وسبعين ومائتين وألف، نفي مع من نفي من أعيان الشام وعلمائها إلى قلعة الماغوصة تابع جزيرة قبرص، واستقام بها مدة هو والشيخ عبد الله الحلبي، وأحمد أفندي الحسيبي، وعمر أفندي الغزي، وعبد الله بيك العظم، ومحمد بيك العظمة ومن معهم، واستقاموا بها مدة سنتين فصدرت الإرادة السنية بنقلهم إلى إزمير، واستقاموا بها ثلاث سنين، ثم طلبوا إلى دار الخلافة العلية، فرفع عنهم الحجر وصدر الأمر بإطلاقهم إلى أوطانهم، وأنعم على المترجم بقضاء مولوية ازمير مع نيابة بني غازي تابع طرابلس الغرب، فاستقام هناك سنتين، ثم عاد لدار الخلافة فوجهت عليه نيابة خربوت، فمكث بها سنتين ثم وجه عليه نيابة حماة مرتين، ثم قدم دمشق وبها استقام إلى أن توفي نائب محكمة الباب محمد أفندي الجوخدار سنة 1298، وجه والي ولاية سوريا أحمد حمدي باشا النيابة المذكورة على المترجم، وكان القاضي في ذلك الوقت عبد الله أفندي بن مصطفى أفندي حقي، وما زال نائباً في المحكمة المرقومة إلى أن توفي سنة ثلاثمائة وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى.(1/749)
الشيخ طاهر بن إبراهيم بن سعد بن عواد الحموي الشافعي البصير
شيخ القراء بحماة الحافظ الكبير والمقرئ الشهير، والفاضل الفقيه والكامل النبيه، مولده سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه على أبي عبد الله محمد بن علي الدمشقي من طريق حفص، وعلى أبي إسحق إبراهيم بن عباس بن علي الدمشقي، وحفظ الشاطبية والرائية وطيبة النشر وشروحها والجزرية، وقرأ التمهيد في التجويد، وابن القاصح شرح الشاطبية، والهمداني والنكت والدرة لابن الجزري، وابن المصنف شرح الطيبة وغيرها من الشروح والمتون، البعض مع الحفظ والبعض قراءة وسماعاً، واشتغل بتحصيل الفنون والعلوم، وقرأ على جماعة، وأخذ الفقه والعربية عن فرج الله الحموي وأبي الصدق يوسف الفقيه وأبي محمد عبد الله الحواط وشمس الدين محمد بن أحمد شهاب الدين الديري نزيل دمشق، وقرأ المنطق والمعاني والبيان والتوحيد على الإمام الكبير عليم الله بن عبد الرشيد اللاهوري الهندي نزيل دمشق، وأبي محمد أحمد بن عبيد الله العطار الدمشقي، وسمع الحديث وغالب كتب الصحاح على تاج الدين محمد بن طه العقاد الحلبي، ومحمد بن الناقلاتي المغربي، وأبي عبد الله محمد بن محمد الحكيم اللاذقي، وسراج الدين عمر بن إبراهيم إسماعيل الكيالي الأدلبي وأبي الحسن علي بن عبد الكريم الأرمنازي الشافعي وأجاز له غالب شيوخه ومهر وتفوق وأتقن وحفظ واستفاد وأفاد وشهد له شيوخه بالنبل والتفوق. وكان من مشاهير القراء بالديار الشامية وألف بالقراءات كتاباً سماه الفوائد. وكانت وفاته بعد الألف والمائتين وخمسة رحمه الله تعالى.(1/750)
الشيخ طاهر العقري الخالدي النقشبندي
العالم التقي والمرشد النقي، خلاصة الأكابر، ونخبة الأفاخر، نشأ بصحبة الأفاضل إلى أن صار من ذوي الفضائل، ثم أخذ الطريق ونهج مناهج أهل التحقيق، وأخذ عن المرشد الكامل الشيخ خالد شيخ الحضرة، وبعد اشتغاله مدة خلفه خلافة عامة حيث تأهل للخلافة، ولم يزل مشتغلاً في الإرشاد إلى أن استكمل الأجل الميعاد، وذلك سنة ألف ومائتين و ...
الشيخ طاهر بن إبراهيم بن حسن الكوراني ثم المدني
وهو من رجال أصفى الموارد، فهو ذو الوصف الحسن والفصاحة واللسن، فلا ريب أنه الجهبذ الذي علت به كلمة الإسناد، وزخر به العلم الحديثي وزاد، وأمد بإملائه الصدور بالإرشاد والإمداد، وصعد إلى ذروة منة لا ترتقى، وأبرز من أحواله المستصفى والمنتقى، وميز بنقده التام رجاله، وعاناه والشيب ما شاب قذاله، وقفا والده فيه حتى صارت به بيضا لياليه، كيف وقد أملى مجالس حديثية، تكاد تكون عسقلانية وإن كانت مدنية، واستمدت الأذهان من تقريره، ولباب تنقيح تدقيق تحريره، ما هو الروض وزهره.(1/751)
الشيخ ملا طه بن الشيخ يحيى البزري الكردي الشافعي الدمشقي
العالم العابد، والعامل الزاهد، ناسك زمانه وتقي أوانه، ولد في العامودية بلدة من بلاد الموصل سنة ألف ومائتين وخمسين، وبها أخذ عن والده وعن غيره من شيوخ الموصل وشيوخ العمادية والسليمانية، ونهج منهج السلف وفاق في التقوى والعلم بين الخلف، وفي سنة أربع وثمانين ومائتين وألف قدم دمشق وأقام في محلة الصالحية في حارة الأكراد، ولازم المدرسة الركنية، وكان لا يخرج منها إلا لصلاة العصر في جامع بني أمية كل يوم في الوقت الأول مع الجماعة، وقصد البيت الحرام للنسك مرتين من دمشق، وكان بيني وبينه محبة قوية ومذاكرات علمية، ومطارحات أدبية ومناصحات صوفية، ومفاكهة حسنة ومعاشرة مستحسنة. وكان تقياً زاهداً ورعاً خاشعاً متنبهاً متيقظاً قليل الكلام فيما لا فائدة به، وكان من أشراف طوائف الأكراد. توفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وثلاثمائة وألف، ودفن بسفح قاسيون قرب قبر ابن أخته الشيخ عبد الله الكردي قرب مغارة الجوعية من جهة الغرب.
الشيخ طه بن يحيى الكردي الشافعي
العالم المشهور بكل فضل مأثور، المتحلي بحلية الفضائل والمتخلي عن الاتصاف بشيء من الرذائل.
ولد سنة ألف ومائة وست ثلاثين، وأخذ عن السيد علي بن السيد مصطفى الحريري، وعن الشيخ طاهر بن سعيد سنبل، وترقى في بديع المعارف واتصف بأكمل الحسن واللطائف. مات سنة أربع عشرة ومائتين وألف.(1/752)
الشيخ طه بن الشهاب أحمد العطار الدمشقي الشافعي
ولد بدمشق وطلب بها مع الزهد والتقوى، والصلاح في السر والنجوى، وكان ملازماً للطريق والأذكار، وقراءة القرآن في الليل والنهار، متواضعاً عابداً سيداً ماجداً، قوالاً بالحق ملازماً للصدق، لين الجانب، له فكر في حل المشكلات ثاقب، قليل الاختلاط بين الناس، مشهوراً باللطف والإيناس، متحلياً بالورع، متخلياً عن الطمع، مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح.
الشيخ طه بن جمعة بن مصطفى بن جمعة بن سليمان الدسوقي الشافعي
الدين الصالح المعتقد الزاهد، الورع العابد، العالم العامل، مولده بدسوق في أسواط سنة تسع وستين ومائة وألف، وخرج من بطن أمه أكمه وتنقلت به الأحوال وخرج من بلاده إلى البلاد الشامية، وتنقل من مكان إلى مكان، حتى استقر في قرية كفر كرمين بناحية جبل سمعان من أعمال حلب، واختارها وأقام بها في غار هناك، تزوره الناس ويأتونه بالنذور والذبائح على عادتهم، ويعتقدونه ويتبركون بأنفاسه ودعواته، وحصل الشفا لكثير من المرضى والزمنى على يده بإذن الله تعالى. وكان ينتسب كما ذكر هو من لفظه إلى خيزرانة بنت الشيخ موسى أخي القطب إبراهيم الدسوقي. وبالجملة فقد كان من خيار عباد الله تعالى أهل الاستقامة، ومات رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين و ...(1/753)
الشيخ طه بن عبد الرسول بن أبي يزيد بن البرزنجي الشافعي الموسوي الحسيني
السيد الشريف أبو السعادة الفاضل الأديب النجيب أحد السادة الأشراف الأفاضل الأجلاء.
مولده ببرزنجه من أعمال شهرزور سنة ثمان وستين ومائة وألف، وقرأ على الأجلاء من علماء شهرزور منهم جلال الدين الكلعنبري، وأبو محمد عبد القادر الكوراني، وأولاد عمه معروف بن مصطفى البرزنجي، وعبد الكريم وعبد الرحيم ابنا أبي القاسم بن الحسن البرزنجي، وارتحل إلى بغداد وقرأ بها على أبي مهدي عيسى بن صبغة الله الحسين آبادي الماوراني، وعبد الرحمن بن فيض الله القادري نقيب الأشراف ببغداد، وأخذ عنه الطريقة القادرية، ثم دخل الموصل وقرأ بها على جرجيس الأربلي الموصلي وغيره، ثم حج وجاور في المدينة المنورة وسمع الكثير والكتب الستة في الحديث عن أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله الفاسي ثم المدني، ولازمه قدر ثلاث سنين وأجاز له بخطه، وقرأ عليه وانتفع به، ثم ارتحل إلى مصر وقرأ بها الكثير على محب الدين محمد المرتضى بن محمد الزبيدي اليمني، وأجاز له بخطه، ودخل قسطنطينية ودمشق وحلب وغيرها من البلاد، واجتمع بالعلماء والأدباء والرؤساء، وكان مستقيم الأطوار مواظباً على التقوى والعبادة آناء الليل وأطراف النهار. مات رحمه الله تعالى بعد الألف والمائتين وخمسة، ولم أقف على تعيين تاريخ موته.(1/754)
الشيخ طه بن محمد بن طه بن أحمد العقاد الحلبي الشافعي مفتي الشافعية بحلب
العالم الفاضل. والهمام الجهبذ الكامل. والتقي الصالح. والنقي الراجح. مولده سنة تسع وخمسين ومائة وألف، واشتغل بالأخذ والتحصيل في كنف والده وانتفع به وقرأ عليه الكثير من الكتب والفنون، ولازم الشيوخ وسمع عليهم وأكثر من التلقي، وله عدة مشايخ سادة أفاضل منهم أبو سليمان صالح بن إبراهيم الجينيني الدمشقي، وأبو يحيى علاء الدين بن علي بن صادق الدغستاني. ولم يزل يترقى في الأخذ والعلوم والمعارف، إلى أن خطبته المنية بعد الألف والمائتين وخمسة.
الشيخ السيد طه الكيلاني نسبا الشمزيني الهكاري الخالدي النقشبندي
كان رحمه الله تعالى عالماً عاملاً، زاهداً عابداً، ورعاً تقياً نقياً، حسيباً شريفاً من أولاد سيدنا عبد القادر الجيلاني، وكان كثير الوعظ والتذكير، يذكر الناس بالله ويعظهم ويرشدهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. وكان حسن الأخلاق طيب الأعراق، قد شغلته الطاعة عن البطالة والإضاعة، وقد أخذ الطريقة النقشية عن عمدة الزمان مولانا شيخ الحضرة خالد، ثم بعد الكمال ونوال المراد أقامه خليفة وأذن له في الإرشاد. توفي سنة ألف ومائتين و ...(1/755)
الشيخ طه شرف الدين أبو أحمد المقري بن أبي بكر بن رجب بن أبي بكر بن حسن الحلبي الحنفي
الفقيه الصالح الدين التقي الورع الزاهد، العالم العامل الإمام الهمام النقي العابد، أحد القراء والحفاظ بحلب، ولد بها سنة ست وثلاثين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم على والده، وأتقن حفظه على جماعة، منهم الزين عبد اللطيف المدني نزيل المدرسة الشرفية والجمال يوسف المصري وأبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المصري، وتلاه على الشمس البصري وأبي محمد عبد الكافي بن عبد الكريم الحلبي الإمام بالجامع الأموي، وقرأ الفقيه والنحو على أبي عبد الله محمد بن إبراهيم المداري، وقرأ على أبي عبد القادر محمد بن صالح بن رجب المواهبي، وحضره في كثير من الفنون، وسمع عليه غالب الكتب مع من حضر، كالدر المختار للحصكفي والدرر وشرح الجوهرة والأشموني وابن عقيل على الألفية والجامع الصغير للسيوطي وجميع صحيح الإمام البخاري والشفا للقاضي عياض وغيره، وأخذ عنه الطريقة القادرية، وبعد موته لازم ولده أبا المواهب إسماعيل المواهبي، وحضره وسمع عليه حصة من الفنون، وسمع أيضاً حصة من الجامع الصغير على أبي عبد القادر صالح بن عبد الرحمن البانقرسي، وسمع الكتاب المذكور أيضاً على أبي محمد عبد القادر بن بشر بن عبد الحق البشري، ولازم الأشياخ واحتفل بالسماع، وكان مواظباً على قراءة القرآن العظيم ويتدارس به مع القراء ولا يغفل عن التلاوة بحقها ليلاً ولا نهاراً، وكان جميل المجالسة حسن المعاشرة، لطيف الكلام، يحب المذاكرة في الأحكام، كثير المواعظ آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، معتزلاً عن الناس إلا لما يرجع عليه منه أمراً ديني من الاجتماعات المطلوبة، والمجالس المستحسنة المرغوبة. ولم يزل على نهجه المستقيم إلى أن استضافته المنية وطلبته للدرجات العالية، وذلك بعد الألف والمائتين رحمه الله تعالى.(1/756)
الشيخ الطيب بن الشيخ محمد المبارك الجزائري الدلسي المالكي
العالم الفاضل والهمام الكامل، عمدة زمانه ونخبة أقرانه.
ولد سنة ألف ومائتين وخمس وخمسين تقريباً ونشأ في حجر والده، فتعلم القرآن وجوده وحفظه وأتقنه، وأجاد الخط، وقرأ الفنون من العلوم على سادة أفاضل، منهم عمدة الأنام، وكعبة الإسلام، جهبذ الأفاضل، وينبوع الفضائل والفواضل، العارف بالله الأمير السيد عبد القادر الجزائري الحسني، فكنا نحضر وإياه مع من حضر كتاب الفتوحات المكية، وغيرها من كتاب السادة الصوفية، وقرأ على العالم اللوذعي، والسميدع الألمعي، شيخنا الشيخ محمد بن مصطفى الطنطاوي فنوناً متعددة، وقرأ على غيرهما من السادة المالكية، وأجازوه بالإجازة العامة. وله ذكاء وحفظ مع طلاقة لسان وطلاوة في الكلام، وحسن معاشرة ولين جانب، وخضوع ولطف وزهادة، وقناعة وجود وكرم نفس، ومهابة وقبول، وأفكار عالية وفهم جيد في كلام القوم. وفي عام اثنين وثمانين حينما شرف شيخنا الأستاذ السيد محمد الفاسي الشاذلي أخذ عنه الطريقة الشاذلية، وبعد اشتغاله مدة في الطريق أذن له في الإرشاد، وإعطاء الطريق، فأرشد وأحسن في إرشاده، وأعطى الطريق وأقام الأذكار في الليل والنهار، وأكثر من السياحة في خدمة الطريق، وانتفع منه البعيد والصاحب والرفيق، وعرف بين الناس واشتهر باللطف والإيناس.
وفي سنة ألف ومائتين وسبع وثمانين أرسله حضرة الأمير عبد القادر الجزائري مع حضرة شيخنا الطنطاوي إلى مدينة قونية لمقابلة الفتوحات المكية على خط مؤلفها العارف بالله الشيخ محي الدين العربي وقرأها مع الشيخ المذكور هناك مرتين مقابلة، وبعد مجيئهما قرأناها جميعاً على الأمير المرقوم مع التزامنا لإصلاح نسخنا على النسخة المقابلة على خط المؤلف. ومما نظمه وأسمعني إياه من لفظه:(1/757)
سلوي عن الأحباء حرمه الحب ... فإن هجروني فالعذاب بهم عذب
وهيهات يوماً أن أميل إلى السوى ... وكيف وقلبي مدنف بهم صب
فإن حدثوا أروي الحديث بسائري ... فنعم الشفا ذكر الأحبة والطب
فلله عيش قد تقضى بقربهم ... وكأس الهنا صاف ومغنى اللقا رحب
سقوني شراب الأنس صرفاً مقدساً ... عن المزج لما أن تمزقت الحجب
فقالت سليمى قر عيناً بما ترى ... وطب في الهوى نفساً فقد حصل القرب
ألم تدر أن الوصل أضحى مقامه ... عزيزاً رفيعاً لا تطاوله الشهب
حمانا منيع دونه الحتف يا فتى ... وإن الهوى مرقاه مستوعر صعب
فكم مغرم أضحى معنى ولم يفز ... بنظرة إسعاف بها يسكن القلب
تؤجج نار الوجد بين ضلوعه ... وأجفانه مثل الغمام لها سكب
يرى روحه تنحط قدراً بلمحة ... وإن عدها يوماً لعمري هو الذنب
فمن شاء أن يحيا ويحظى بنظرة ... فبي فليمت وجداً وإلا فلا يصبو
وله نظم له حلاوة وعليه طلاوة، وله شغف كثير بالسماع والنساء لو تيسر له لدخل في كل ليلة على كاعب عذراء. ويحب التجمل في الملبس وغيره، وهو ذو تودد وتحبب كثير السؤال عن إخوانه وأخلائه وأخدانه، يعاشرهم أحسن المعاشرة، ويلاطفهم أجمل الملاطفة. ولم يزل يفحل أمره ويعظم قدره، إلى أن توفي يوم الاثنين تاسع وعشرين كانون الثاني وسادس وعشرين من شعبان عام ألف وثلاثمائة وثلاثة عشر ودفن في سطح لمزن قرب الجبل رحمه الله تعالى.(1/758)
حرف الظاء
الشيخ ظبيان بن الشيخ يوسف بن الشيخ عبد العال بن الشيخ محمد حفيد ابن محمود المسمى براعي الغزالة المدفون بقربة جيرود " قرية من قرى دمشق الشام تبعد عنها مقدار سبع ساعات من جهة الشرق إلى شمال "
ولد بدمشق يوم الأربعاء سنة سبع عشرة ومائتين وألف، وأخذ الطريقة القادرية عن والده المذكور وعن الشيخ محمد علي أفندي الكيلاني القادري الحموي، وكان له أطوار غريبة وأحوال عجيبة، وكانت تأتي إليه النساء والرجال من كل جانب، فهذا يسأله عن تجارته، وهذا يسأله عن زوجته، وهذا يسأله عن سفرته، وهذا يسأله عن شركته، وكل واحدة من النساء تسأله عن مقصود مخصوص، وهو تارة يجيب بلسان مفهوم، وتارة يتكلم بمعنى غير مفهوم. وكان يرد عليه من المال شيء عظيم، ومن الهدايا شيء جسيم، ولا زال يعلو مقامه، ويعظم(1/759)
احترامه، وتقصده الوزراء والوجوه والكبراء، إلى أن توفي حادي عشر رجب سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف، ودفن في مدفنه الذي بناه لنفسه في آخر تربة باب الله رحمه الله تعالى.
الشيخ ظاهر باطن الدمشقي الصالحي
كان رجلاً شهماً ذا مروءة ظاهرة، وشهامة باهرة، وأحوال عجيبة، وأمور غريبة. وكان مشهوراً بالكرامات وخوارق العادات، مع لطافة وجمال، واستقامة تدل على حسن الحال، وهو من التغلبيين الذين لهم في الشام شهرة كبيرة، ومناقب هي بكل مدح جديرة. وكان هذا المترجم حسن المعاشرة، جميل المذاكرة، كثير الوداد، بعيداً عن المناكدة والعناد، وكان مقصوداً في تيسير الحوائج، مطلوباً في الدعاء لنوال النتائج، ليس له غلظة ولا فظاظة ولا قباحة في الكلام، ولا مسبة ولا شتم ولا ما يوجب الملام، مع أن طور الجذب يغلب عليه، والناس من كل فج تأتي إليه. مات في سنة ألف ومائتين ونيف وتسعين رحمه الله تعالى.
المرشد الكامل الشيخ ظافر بن محمد حسن بن حمزة ظافر المدني الشاذلي
منبع عين الحقيقة، ومجمع بحري الشريعة والطريقة، إنسان حدقة الفضائل، وترجمان عرفان السادة الأفاضل، وحديثة الهدي والكمال، ومعدن الجود والنوال، من أجمع ذوو التحقيق على علمه وولايته، واجتمع أهل التدقيق على كمال فهمه ودرايته، ورفع الدهر قدره فأجله، وعرف ضده فأهانه وأذله، وخدمته السيادة فكانت له عبداً، ولاحظته العناية(1/760)
فأفرغت في رعايته جهداً. ولم يزل يتنقل مقامه، ويترقى قدره ومقامه، إلى أن دعته الحضرة السلطانية، للإقامة بمدينة القسطنطينية، وبيان ذلك على طريق الإجمال لا على التفصيل، المؤدي إلى الخروج عن المقصود وارتكاب التطويل، إنني كتبت لحضرته وهو في الآستانة العلية، أن يرسل لي ترجمته السنية، فأجاب وما ضن ومن علي بها وما من، وأنبأني بأنه ولد في شعبان المبارك سنة أربع وأربعين ومائتين وألف، بمسراته من أعمال طرابلس التي دفن بها والده المجمع على كماله من غير خلف، فنشأ في حجر والده إلى أن شب، وكان له كمن طب لمن حب، ثم قال: فعلمني القرآن إلى أن أتقنته، ثم علمني من أنواع العلوم إلى أن ظننت أن ما تعلمته أحسنته، ثم أخذ يؤدبني بآداب السنة، إلى أن وجد نفسه الشريفة لإعطائي الطريق مطمئنة، فاستخار الله واستهداه، وغب أن حصل له الإذن بما يهواه، أخذ يدي بطريق المصافحة وتلا قوله تعالى " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم " إلى آخر الآية ثم تلا: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " الآية ثم لقنني لا إله إلا الله وقال لي اذكرها من غير قيد ولا عدة تتكاثر عليك الفيوضات، ويتقوى لك بفضل الله المدد. وكان رضي الله عنه يحبني محبة كاملة زائدة عما تقتضيه شفقة الأبوة، ولا زال يؤهلني لكل أمر ذي بال، ويمدني بهمته الجامعة لأنواع الكمال، ثم ألبسني الخرقة المباركة، وهي جبة صوف من لباس المغرب، وقد ثقل علي لبسها حتى صرت أختفي من الناس مدة، إلى أن حصل لي بهمته تمام الأنس بها، ولا زالت على ظهري ثلاث سنين، ثم أمرني أن أتلون في اللباس، ثم أتيته وطلبت منه أن يلقنني الاسم الخاص، فأمهلني أياماً إلى أن تحقق مني صدق طلبي له أخذ بيدي ولقنني إياه، وقال لي اذكره يفتح الله عليك عن قريب إن شاء الله، فكنت(1/761)
أذكره دائماً مستغرق الوقت فيه، وكلما خطر بقلبي شيء أبديته له، ولا زلت كثير الشكوى لديه، غزير التململ بين يديه، إلى أن قال لي مرة: ليس المطلوب بكثرة الأذكار والأوراد، إنما هو بنظرة الأستاذ بعين العناية والإمداد. وشكوت له مرة كثرة الوسواس والأفكار حالة الذكر، فقال لي رضي الله عنه لا بأس عليك لأنها ترد على كل ذاكر ولا تضره. وشكوت له مرة أخرى من الوهم، فقال لي هو باطل، واستشهد لي بقول القائل:
فأفنيتها حتى فنت وهي لم تكن ... ولكنني بالوهم كنت أطالع
ثم بعد ذلك أمرني رضي الله عنه بالسياحة إلى تونس، ثم بعد السياحة عدت إليه، فقال لي الآن صرت أخي ومريدي وابني، فأعطني حق ذلك وأنا كذلك أعطيك حق الأخوة بحيث لا أعمل شيئاً بغير استشارتك، فبكيت وبكى رضي الله عنه. وكنت في بعض الأيام جالساً عنده مع بعض خواص الإخوان، فأتاه إنسان برطبتين باكورة، فأخذهما وأطعمنيهما وقال لي انو ما شئت يحصل إن شاء الله تعالى، فبعد ذلك رأيته في منامي كأنه جالس رضي الله عنه بقرب منهل، ومعه جمع غفير من التلامذة، وأنا من جملتهم، فرأيت أخوتي يتزاحمون على الماء، فقال رضي الله تعالى عنه: أيكم يسقي أولادي، فأردت أن أسرع لمرادي، ثم قلت هذه مزية أوثر بها التلامذة، فما قام أحد، ثم كرر القول ثانياً وثالثاً، فقمت وسقيتهم واحداً واحداً حتى رووا، فقام رضي الله تعالى عنه ودخل بي إلى محل فيه خزانة ففتحها وأخذ منها علبة، وأخرج منها وعاء فيه حلوى بيضاء، فأخذ على إصبعه وقال لي افتح فاك فناولني ذلك، فما وجدت أحلى ولا ألذ منها، وما فضل على إصبعه مسحه على صدري، فخرجت لي منه رائحة عظيمة ما رأيت أطيب منها.(1/762)
ثم قيل إن حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المجلس، فطلعت، فلما انتهيت إلى المجلس وجدته نائماً وهو لابس رداء من صوف في غاية الحسن، فظهرت لي قدماه الشريفتان يعلوهما نور ساطع متصل بسقف المجلس، فقلت الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، فقال وعليك السلام، وجلس متربعاً، فرأيت بجنبي أحد الأحبة، فقال صلى الله عليه وسلم مرحباً بكم، ورفع جناحيه الكريمتين، وأشار لنا بالدخول تحت جناحه الأيمن، وضمني إلى جانبه فغشيني طيب روائحه، وأنعشني لطيف فوائحه صلى الله عليه وسلم، الحمد لله والشكر لله. ثم في الصباح أتيت الأستاذ رضي الله تعالى عنه وقصصت عليه ذلك، فقال لي هنيئاً لك واستوص بإخوتك خيراً فإنهم أمانة الله عندك انتهى.
ثم أنه بعد وفاة والده الأستاذ، ومرشده العمدة الملاذ، انتهت إليه رياسة الإرشاد، وطار صيته إلى أقصى البلاد، وانتفع به أهل المشرق والمغرب، ولسان العموم عن بعض فضائله يعرب. وفي سنة ثمان وستين توجه إلى الحجاز، ورجع إلى فزان وتونس سائحاً داعياً إلى الله، ثم في سنة ثلاث وثمانين توجه إلى الحجاز، ورجع إلى طرابلس الغرب، وفي سنة ثمان وثمانين عاد إلى الحجاز من طريق الآستانة العلية، وفي هذه المرة أخذ عنه الطريق حضرة السلطان الأعظم، والخاقان الأفخم، السلطان عبد الحميد خان، وذلك قبل أن يتولى أمر الملك، ثم توجه إلى طرابلس وتونس. وفي سنة إحدى وتسعين قبل خلع السلطان عبد العزيز بمدة يسير، ومن بعدها لم يأذن له السلطان عبد الحميد بالخروج من الآستانة لكثرة محبته له وأنسه بجماله واعتقاده بكماله، واجتماعه معه على الذكر والمذاكرة، وعلى المفاكهة الأدبية والمحاضرة، ولم يزل يعلو مقامه،(1/763)
ويسمو احترامه، ولا يزال إن شاء الله في رفعة عالية ونعمة نامية. وفي عام ألف وثلاثمائة وخمسة أنشأ له حضرة السلطان المذكور داراً عظيمة مع تكية للإخوان الشاذلية، وكان يكاتبني في بعض الأحيان، ويخاطبني مع رفعة مقامه خطاب الإخوان، بعبارات فائقة، ومعان رائقة، دالة على أنه بلغ ما أراد، من العلم والعرفان والإرشاد، ومرة جاوبته عن كتاب أرسله وجعلت له هذه القصيدة مع الجواب، وهي:
ما كنت أعرف ما الهوى لولاكا ... لا والذي أولى البها أولاكا
يا فاتني كف الجفا عن مغرم ... مضنى وعامل بالجميل فتاكا
أنا ذلك الخل الوفي بعهده ... هل خلت يا بدر الدجى انساكا
ما شئت فاصنع بي فما لي ملجأ ... إلا إليك لأنني مولاكا
واهاً لمن من طرف دخل البلا ... ء لجوفه من نظرة تلقاكا
من لي بأن ترضى بروحى والحشا ... وبمهجتي يا منيتي وأوراكا
لم يثنني عنك النحول ولا الضنى ... فبما ترى عني العذول ثناكا
قد ضاق بي رحب الفضا وقد انقضى ... عمري ولم أظفر بغير جفاكا
يا عاذلي كف الملام فإن لي ... قلباً يسوم من الهوان هلاكا
أو ما دريت بأنني فيه أرى ... عذباً عذابي لا أروم فكاكا
ذلي له عز واضلالي هدى ... وأرى الملام بحبه إشراكا
أسرفت في لومي ولا أصغي ولو ... كان الحبيب بصبه فتاكا
لو شمته والشعر منسدل على ... أردافه ما كنت تنكر ذاكا
أو لو بدا فجر الهدى من وجهه ... لسلا حشاك وضل فيه حجاكا
أو لو تثنى تائهاً بقوامه ... أزرى الغصون بميله وسباكا
سلم لنا واسلم فآية حسنه ... ما زاغ عنها مبصر إلاكا
يا لائمي كن راحمي فإلى متى ... أعلي من أهواه قد ولاكا
حتى سعيت بما سعيت به ولم ... تذر العناد ولم تراع أخاكا(1/764)
حسبي الوذ بسيد ساد الورى ... ورقى وخلف دونه الأفلاكا
حبر الهدى بحر الندى حصن الردى ... بشر ولكن أشبه الأملاكا
بدر السعادة في سماء سيادة ... فاقصده تحمد في الصباح سراكا
إن لاذ راجيه بكعبة عزه ... قالت له العليا جعلت فداكا
يمم حماه أن ترم فيض الندى ... تلقى جواداً بالمنى لباكا
يا صاحبي قم بي نؤم رحابه ... ودع السوى واغنم لديه رجاكا
هذا الهمام ابن الهمام أبو الندى ... يهدي السبيل ويرشد النساكا
هذا الإمام ابن المداني ظافر ... فاظفر به وعداه دعه وراكا
هذا هو القطب الرفيع مقامه ... حدث ولا حرج عليك بذاكا
لا عيب فيه سوى الكمال وإنه ... ذو راحة لم تعرف الإمساكا
يا سيداً ما زال طرفي يحسد السمع الذي أحياه ذكر حلاكا
أترى أفوز ببغيتي والدهر يسعدني وقبل منيتي ألقاكا
يهنيك جددت المآثر بعدما ... درست وحان هوانها لولاكا
ورعاك بالإقبال مولانا أمير المؤمنين وللصعود دعاكا
عبد الحميد مليكنا قطب الورى ... لا زال مبغضه يسوم هلاكا
عذراً لرق راق فيك مديحه ... لم يبغ غير شموله برضاكا
فاقبل فديتك من أسير عبودة ... عذراء تشدنا ببعض ثناكا
تمشي على استحيائها لقصورها ... قد أرخت طب ظافراً بمناكا
هذا وإن حضرة المترجم يحق له أن تفرد بشمائله الأسفار، ولولا الخروج عن المقصود لأطلت في ترجمته، ولكنه نظراً لأسلوب الكتاب لا بد من الاقتصار، حفظه الله على الدوام، وسهل له كل مرام، ثم أنه في سنة ألف وثلاثمائة وخمس عشرة تمرض ودعاه داعي السعود إلى جنة الخلود، ودفن في الآستانة رحمه الله تعالى.(1/765)
حرف العين
الملا عباس الكردي الكوسنجقي النقشبندي الخالدي
نهج مناهج الفضل منذ ماز الأخماس من الأسداس، وجنح إلى صدق القول وجميل الفعل والابتعاد عن الأرجاس، فتحلى بحلية التقوى والعبادة والزهد والورع، وتخلى عن الرذائل وإيثار الزائل والولع بالطمع، فكان زاهداً تقياً، عابداً نقياً، عالماً عاملاً ورعاً فاضلاً، يحب العزلة ما أمكن، ويهوى من الناس من هو له على العبادة أعون. ولما ارتوت نفسه من أجمل النفائس، وتجردت عما يوقع في المهلكات والدسائس، رام الدخول إلى حرم المعارف، والعدول إلى طريق القوم الموصل إلى لطائف العوارف، فأخذ الطريقة النقشية، عن بحر الفيوضات الربانية، والمجد التالد ذي الفضل الزائد، مولانا شيخ الحضرة الشيخ خالد. فسلك سلوك أهل الجد والاجتهاد، إلى أن حصل له ما أحب وأراد، فلما رأى فيه الأهلية لإعطاء الطريقة العلية، أذن له بالإذن العام أن يأذن لمن شاء ورام، بالشرط المعروف والعهد الموصوف، وقد دعته المنية إلى الدار العلية سنة ألف ومائتين ونيف وأربعين. رحمه الله تعالى.
السيد عارف أفندي بن المرحوم محمد أفندي بن عثمان أفندي الجابي الحنفي الدمشقي
أحد المشهورين الأكابر، ومن عليه يدور محور المفاخر، المديد الباع الفريد الانطباع، الذي ملك زمام المحاسن، وافتخرت به السادات الأحاسن،(1/766)
ورقى إلى ما أحبه، وتيقظ إلى ما نفعه وتنبه، فبدأ من أول أمره سابقاً، ولمن سلفه من الأفاضل لاحقاً، مع صون لسانه عن كل قبيح، وترديه بكل رداء مليح، واشتهاره بكل كمال، وانتشار ذكره باللطف والجمال، واتباعه لرغائب السنة، وانتباهه للشكر على كل نعمة ومنة، فله لعمري القدر المبرور، والفخر الذي لا تبليه الدهور.
ولد بدمشق الشام ونشأ بها في حجر والده الهمام، فرباه على الكمال والأدب، إلى أن بلغ به المنى والأرب. ثم ذهب في حياة والده إلى الآستانة العلية فمكث بها زمناً طويلاً، ونال من المراتب التي وجهت عليه قدراً جليلاً، وتولى رتبة قضاء بغداد، ثم بعد موت والده في الشام رجع إلى الشام وعاد، فأحبه الخاص والعام، وحصل له من الشهرة ما لا يرام، وفاقت معاملته، وراقت مجالسته ومنادمته، والتفتت إليه الوزراء والأعيان، وأنزلته الأكارم من العين مكان الإنسان. وله غيرة غريبة ومروءة عجيبة، وخصال نبوية وصفات مصطفوية، ومجلسه ليس فيه سوى الفوائد العلمية، والمذاكرات اللطيفة الأدبية، بلسان يتحاشى عن كل عيب، وكلام خال عن الملام والريب، يتمنى جليسه أن لا يفارقه، ويود أن يكون مدى الأيام مشاهده وموافقه، وكان من أعز الناس علي، وله التفات في جل أموره إلي، يقصدني في كل مدة، مظهراً غاية المحبة والمودة. وقرأ من الفنون عدة، باذلاً في طلبه اجتهاده وجده، إلى أن بلغ مطلوبه ونال مرغوبه. وفي ثالث يوم من جمادى الأولى قام في الصباح فصلى الفلجر، وقرأ أوراده وسأل من المولى المنان الثواب والأجر، وبعد الضحوة الكبرى حصل له نوع انحراف، إلا أنه قليل مأمول الانصراف، وبعد صلاة الظهر شرب كأس حمامه، وكان هذا اليوم من الدنيا آخر أيامه، وكان موته فجأة من غير مرض، بل دعاه داعي المنية في الحال فأسرع إلى إجابة الأمر المفترض، وذلك سنة أربع وثلاثمائة وألف، فتأسف له(1/767)
الخاص والعام، وبادروا تشييع جنازته بكل اهتمام، رغب تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، توجه العموم بالدعوات إليه، ثم شيع جنازته الأكابر والأعيان والأصاغر والولدان، وحينما شاهدت هذا الحال، تذكرت قول من قال:
صروف الليالي لا يدوم لها عهد ... وأيدي المنايا لا يطاق لها رد
تسالمنا سهواً وتسطو تعمداً ... فإسعافها عسف وإقصادها قصد
عجبت لمن يغتر فيها بجنة ... من العيش ما فيها سلام ولا برد
أفي كل يوم للنوائب غارة ... يشق عليها الجيب أو يلطم الخد
أرى كل مألوف يعجل فقده ... فما بال فقد الإلف ليس له فقد
مضى طاهر الأثواب والجسم والحشا ... له الشكر درع والعفاف له برد
وأبقى لنا من طيبه طيب ولده ... ينوب كما أبقى لنا ماءه الورد
فبالرغم مني أن يغيبك الثرى ... ويرجع مردوداً بخيبته الوفد
سأبكيك جهد المستطاع منظماً ... رثاك وهذا جهد من ماله جهد
لئن كنت قد أمسيت عنا مغيباً ... فقد ناب عنك الذكر والشكر والحمد
الشيخ عاشق المصري الخالدي النقشبندي
زبدة الأفاضل ونخبة الأمائل، عالم الزمان وفاضل الأوان، الصالح العامل والفالح الكامل، قد لازم حضرة مولاناة الشيخ خالد في دمشق الشام، وأدى حق الخدمة والسلوك على التمام، ثم خلفة وأذن له بالإرشاد، وهو آخر من تخلف ونال من الشيخ المراد، ولما مر الشيخ إبراهيم فصيح أفندي الحيدري في طريقه إلى الحجاز على مصر، اجتمع بالمترجم المرقوم، وذلك سنة ثمانين وألف ومائتين، وكان مستقيم الأطوار، حسن الأخلاق فصيح اللسان مشتغلاً بالطريق، متفرغاً للهداية والإرشاد، إلى أن اخترمته المنية سنة ألف ومائتين ونيف وثمانين.(1/768)
الشيخ عبد الباسط السنديوني الشافعي الأزهري المصري
هو جواد علم لا يكبو، وحسام فضل لا ينبو، قد سبق في ميدان التقدم أقرانه، واجتلى من سعد جده قرانه، وبذل فيما يعود نفعه الرغائب، وعمت فضائله الحاضر والغائب، لم يترك طريقاً من طرق الإسعاد إلا سلكه، ولا وجهاً من وجوه الاجتهاد إلا استدركه، وأرب على من سبقه من الكرماء الأوائل، وامتد صيت ثنائه في العشائر والقبائل.
قال الإمام الجبرتي: قد أجازه أكابر المحدثين، ولازم الشيخ محمد الدفري وبه تخرج في الفقه وغيره، وأنجب ودرس وأفاد وأفتى في حياة شيوخه، وكان حسن الإلقاء جيد الحافظة، يملي دروسه على ظهر قلبه، وحافظته عجيبة الاستحضار للفروع الفقهية والعقلية والنقلية، إلى أن قال: إنه كان قليل الورع عن بعض سفاسف الأمور، وبذلك قلت وجاهته بين نظرائه. توفي رحمه الله تعالى في أول جمادى الآخرة سنة إحدى ومائتين وألف وصلي عليه بالأزهر ودفن في تربة المجاورين.
الشيخ عبد الباقي أفندي الفاروقي بن سليمان العمري حفيد أبي الفضائل علي المفتى الحنفي الموصلي عفي عنه
إمام خاض بحور الأدب أتم خوض، وتفنن في إجادة الأرب تفنن الأزهار في سرحة الروض، وخلا عن الأكفاء، وتعالى بدره عن الخفاء، وقلد جيد عصره، ووشح خود مصره، بمنثور لآل ومنظوم عقود تتزين بها تيجان الجمال، وتتحلى بها أبيات الكمال، فإنه السابق الذي لا يلحق، واللاحق الذي شمس إشراقه لا تمحق، ذو الفكرة الصافية، والمعرفة التامة الوافية، والكمالات المشهورة المعروفة، واللطافات الموصوفة.(1/769)
ولقد أبدى من المحاسن وأبدع، وارتوى من حياض النباهة وتضلع، وسلك مسالك المعارف، وملك منها كل تليد وطارف، بعزم غير ذي كلال، وجد وجد به مكنون در الأفضال. وله الذهن الوقاد، والذكاء الذي أورده على الأدب أحسن إيراد، فمن نظمه الأنيق، وشعره الفائق الرقيق، قوله مادحاً سيدنا علي وأهل البيت ذوي المقام الجلي:
هذا الكتاب المنتقى والمجتبى ... في نعت آل البيت أصحاب العبا
بالقلم الأعلى بيمنى قدرة ... في لوح عزة بنور كتبا
لاح به فرق العلا متوجاً ... مرصعاً مكللاً مذهبا
وكمها مطرزاً مدبجاً ... وعقدها منقحاً مهذبا
فرق معناه وراق لفظه ... يحكى صفا الودق إذا ما انسكبا
ثنا إذا أنشدته له ثنى ال ... وجود عطفاً وتهادى طربا
وهي طويلة بديعة الكلام، رفيعة السبك والنظام. ومن شعره الجليل، حينما زار سيدنا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم قوله:
زر مقاماً معظماً واتل فيه ... بعض آي من معظم التنزيل
وادخل الباب حاسر الطرف حاف ... إنه باب حطة للدخيل
وأنخ للرجا به يعملات ... موقرات بحمل وزر ثقيل
وتذلل واخضع ولذ وتوسل ... وأقل منه تحت ظل ظليل
والثم الباب بالشفاه ورصع ... أرضع في فرائد التقبيل
وانثر الدمع من شؤون عيون ... مثل نثر الجمان من إكليل
وتبرد واقصد سبيل ارتواء ... فعلى ابن السبيل قصد السبيل
تجد النار تشبه الماء برداً ... وسلاماً يطفي غليل العليل
وعليه الآثار من منجنيق ... تتراءى للعين من بعد ميل
والمياه التي تسيل فيوضا ... وانبعاث النسيم من سلسبيل(1/770)
شهدت أنه المقام الذي قد ... كان قدماً به مقام الخليل
وبه مهده الذي قد تجلت ... فوقه هيبة المليك الجليل
فعليه من ربه صلوات ... وسلام نهديه في منديل
نسجته أيدي الملائك من رقة غزل التكبير والتهليل
ما تلا الفاروقي يا نار كوني ... بلسان التجويد والترتيل
وقال رحمه الله تعالى: قد كثر تهافت فراش مصاقع الفرقتين، على مصباح مشكوة كل بيت من هذين البيتين النيرين، على تشطيرهما وتخميسهما في نعت آل بيت سيد الثقلين، فأحببت الاقتداء بالجماعة، مع ما أنا عليه من قلة البضاعة، فشطرتهما مرة وخمستهما مرتين؛ فها هما يسطعان كالفرقدين:
يا آل من ملأ الجهات مفاخراً ... وأتى بكم للكائنات مظاهرا
وهم الذي لكم يعد نظائراً ... إن الوجود وإن تعدد ظاهرا
وحياتكم ما فيه إلا أنتم
أو ما درى إذ راح يعلن بالندا ... أن الذي هو غيركم رجع الصدى
فوجدكم سر الخليقة أحمدا ... أنتم حقيقة كل موجود بدا
وجميع ما في الكائنات توهم
وقال رحمه الله مشطراً لهما:
إن الوجود وإن تعدد ظاهراً ... ما فيه غيركم لمن يتوسم
أوصح في الإمكان ثم عالم ... وحياتكم ما فيه إلا أنتم
أنتم حقيقة كل موجود بدا ... من كنز كنت وفيه أنتم كنتم
فحقيقة الأعيان أنتم عينها ... وجميع ما في الكائنات توهم
وقال رحمه الله التخميس الثاني في نعت آل بيت من أنزلت عليه السبع المثاني:
يا آل طه في الكنوز ذخائراً ... كنتم وجئتم للبروز مظاهرا(1/771)
ما لي وذي حول يردد ناظراً ... إن الوجود وإن تعدد ظاهرا
وحياتكم ما فيه إلا أنتم
في الدار ديار سواكم ما اغتدى ... مع كثرة موهومة متفردا
فمن العماء لمن بنوركم اهتدى ... أنتم حقيقة كل موجود بدا
وجميع ما في الكائنات توهم
وقال رحمه الله تعالى:
سلت لحاظك مرهفاً ... بالجفن كان مغلفا
وسطا فجاوز حده ... في القتل حتى أسرفا
ما ضر لحظك لو تأنى م لحظة وتوقفا
عن فتكه في مهجة ... ذابت عليك تلهفا
يا من لثمت لثامه ... ورشفت منه المرشفا
بفم الخيال فلا ارتوى ... قلبي ولا وهجي انطفا
وقف التصور والتأمل ... للعقول استوقفا
عن درك معناك الذي ... بالفكر لن يتكيفا
وبلمع برق الثغر كا ... د البرق أن يتخطفا
أصبحت من ظمأي إلى ... تلك الشفاه على شفا
ببيان منطقك الذي ... جعل المعاني أحرفا
وأدار فيها من لما ... ك على الندامى قرقفا
حرف تحكم في الرؤو ... س وبالعقول تصرفا
قد مازج الأرواح حت ... ى فيه ذبن تلطفا
وبعارض باللام قد ... عرفته فتعرفا
بسوى أنامل فكرتي ... نمامه لن يقطفا
وبرمح قد ثقفت ... هـ فنونه فتثقفا(1/772)
من لينه أخشى إذا ... ما اهتز أن يتقصفا
وبواو صدغ ما على ... غير الخدود تعطفا
عطفاً على رمق امرئ ... غادرته رسماً عفا
لم يبق غير تسيسه ... وعلى النية أشرفا
رفقاً بقلب متيم ... عنه سواك قد انتفى
أشفى على خطط الهلا ... ك ومن وصالك ما اشتفى
وبليل هجرك ربما ... غفت النجوم وما غفا
أخفيت حبك برهة ... والآن قد برح الخفا
ونشرته نشر العبير ... وكان قبل ملففا
وتسامرت بين الحجو ... ن به القوافل والصفا
شغب العذول علي عندك بالسلو وأرجفا
فليكثر التعنيف من ... جهل الغرام فعنفا
لو كان يدري ما الهوى ... وهو الظلوم لأنصفا
يا أيها القمر الذي ... بغياهب الشعر اختفى
والبدر حاول أن يحا ... كي وجهه فتكلفا
لبس المحاسن واكتسى ... ثوب الجمال مفوفا
كن لي عليك مساعداً ... وعليك كن لي مسعفا
أو ما كفى ما قد جرى ... ما قد جرى أو كما كفى
وقال مبتكراً هذه الأبيات وهي من اختراعاته الغريبة:(1/773)
علينا أهلة هذي الشهور ... غدت تحصد العمر في منجل
وداست بيادر أيامه ... بنات لياليه بالأرجل
وقد نثرته مذاري الخطوب ... كنثر الحبوب من السنبل
وقد طحنته رحى النائبات ... دقيقاً فما احتاج للمنخل
وقد عجنته بماء الصدود ... أكف القطيعة في الموصل
وقد خبزته سليمى الهموم ... بمسجور تنورها المصطلي
وقد قورته رغيفاً رغيف ... فقلنا لأم الدواهي كلي
ومر الصباح كريح الصبا ... ومنه الشمائل كالشمأل
وطار إلى ما ورا الخافقين ... يرفرف في خافقي أجدل
وضاع الشباب فرحنا عليه ... ندور من الشيب في مشعل
وقد خضبته أكف الغموم ... خضاباً إلى الحشر لم ينصل
وكان السواد قراباً له ... فصار البياض شبا المنصل
بكينا على زمن مدبر ... كما الطفل يبكي على المطفل
ولا بد من بعد هذا البكاء ... سنبكي على الزمن المقبل
تشابه ذا اليوم مع أمسه ... فقسنا الأخير على الأول
وقال رحمه الله:
وقاض بجور ماله من مضارع ... على أنه بالعسف أقطع من ماض
قضى ومضى لكن إلى كل غاية ... من الخزي لا يحظى بها أبداً قاض
يقولون يقضي قلت لكن بباطل ... وقالوا يقص الحق قلت بمقراض
وقال رحمه الله تعالى:
كل يوم يجرد الدهر سيفاً ... نصله الصبح والمساء قرابه
يتراءى نجاده من شعاع ... وعمود الفجر المنير نصابه
والدراري في ظهره فقرات ... فالورى مثل ذي الفقار تهابه(1/774)