عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " يَا معشر النساء، تصدقنا وكثرن الاسْتِغْفَارَ،(3/422)
فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَأَخْبَرَنَا بِهِ عَالِيًا مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل الأَنْصَارِي بِدِمَشْقَ غَيْر مَرَّةٍ.
أَخْبَرَنَا القاسم بْن مُحَمَّد حَدَّثَنَا المؤيد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد الطوسي أَخْبَرَنَا الفراوي وقرأت على أبي المعافي مُحَمَّدُ بنَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الشَّيْبَانِيُّ - بِبَغْدَادَ - أَخْبَرَكُمْ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّطِيفِ الْبَزَّارُ - قراءة عَلَيْهِ، وأنت تسمع - قَالَ: أنشدنا الْقَاضِي أَبُو صَالِح فِي عقب مجلس أملاه عَلَيْهِ لنفسه:
أعبد اللَّه راجيا رحمة منه ... ولا تخش غَيْر رب السماء
مَا أتاك الرسول خذه، ودع ... مَا قَدْ نهى عَنْهُ، تحظ بالعلياء
واتق اللَّه مخلصا دائما تص ... بح من الأغنياء وَالْعُلَمَاء
عَبْد الرَّحْمَنِ بن نجم بن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد(3/423)
بْن عَلِي بْن أَحْمَد الأَنْصَارِي، الخزرجي السعدي، العبالي، الشيرازي(3/424)
الأصل، الدمشقي الفقيه الواعظ، ناصح الدين أَبُو الفرج بْن أَبِي العلاء بْن أَبِي البركات بْن أَبِي الفرج المعروف بابن الحنبلي: ولد نيلة الجمعة سابع عشر شوال سنة أربع وخمسين وخمسمائة بدمشق.
وسمع بها من والده، والقاضي أَبِي الفضل مُحَمَّد بْن الشهرزوري، وأبي الْحَسَن عَلِي بْن نجا الواعظ، وَأَحْمَد بْن الْحُسَيْن العراقي، وجماعة.
وشرع فِي الاشتغال، ورحل إِلَى البلاد، فأقام ببغداد مدة، وسمع بها من أَبِي شاكر السقلاطوني، وعبد الحق اليوسفي، ومسلم بْن ثابت الوكيل، وعيسى السدوشاني، وشهدة الكاتبة، وتجنى الوهبانية، ونعمة بنت القاضي أبي حازم بن الفراء وغيرهم، فمن دونهم فِي الطبقة، كلاحق بْن كاره، وابن الجوزي، وعبد المغيث الحربي.
وسمع بإصبهان من الحافظ أبي موسى المديتي. وهو آخر من سمع منه، لأنه سمع منه في مرض موته، ومن أبي العباس الترك.
وسمع بهمدان من أَبِي مُحَمَّد عَبْد الغني بْن الحافظ أَبِي العلاء وغيره. وسمع بمكة وغيرها.
وسمع(3/425)
بالموصل من الشيخ أَبِي أَحْمَد الحداد الزاهد شَيْئًا من تصانيفه.
ودخل بلادا كثيرة، واجتمع بفضلائها وصالحيها، وفاوضهم، وأخذ عَنْهُم وقدم مصر مرتين وأقام ببغداد مدة يشتغل عَلَى أَبِي الفتح بْن المنى. وقرأ عَلَى أَبِي البقاء العكبري " الفصيح " لثعلب من حفظه، وبعض " التصريف " لابن جني وأخذ عَن الكمال السنجاري، والبهجة الضرير، النحويين. واشتغل بالوعظ، وبرع فِيهِ. ووعظ من أوائل عمره، وحصل لَهُ القبول التام.(3/426)
وَقَدْ وعظ بكثير من البلاد الَّتِي دخلها، كمصر، وحلب، وأربل، والمدينة النبوية، وَبَيْت المقدس. وَكَانَ له حرمة عند الملوك والسلاطين، خصوصا ملوك الشام بَنِي أيوب. وقدم بغداد حاجا سنة اثنتي عشرة وستمائة. وأكرمه الخليفة الناصر. وأظنه وعظ بها هذه السنة، وحضر فتح بَيْت المقدس مَعَ السلطان صلاح الدين.
قَالَ: واجتمعت بالسلطان فِي القدس بَعْد الفتح بسنتين وسألني عَن مذهب الإمام أَحْمَد فِي الخضاب بالسواد؟ فَقُلْتُ: مكروه، وسألني عَنِ الكفار إِذَا استولوا عَلَى أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ. فذكرت المذهب فِي ذلك. فاعترضتي بَعْض الْفُقَهَاء الحاضرين، وجرى بيني وبينه مجادلة، فأكثر من الصياح، فصاح السلطان عَلَيْهِ: اسكت، صيحة مزعجة، فسكت وسكتنا لحظة، ثُمَّ قَالَ لي: تَمِّمْ كلامك فذكرت، ثُمَّ سكت. فحكى السلطان قَالَ؛ كَانَ المجبر الفقيه يتكلم مَعَ الجمال الحنفي، فكان الجمال يبقبق، والمجبر يحقق. ثُمَّ سألني بَعْد ذَلِكَ عَن مذهب أَحْمَد فِي الشبابة؟ ثُمَّ قَالَ: معكم غَيْر حَدِيث ابْن عُمَر؟ وبسطني فِي الْكَلام، حَتَّى ذكرت لَهُ حسن أصوات أهل أصبهان. وذكر الطوال من الصَّحَابَة. وَقَالَ كَانُوا(3/427)
يسمون " مقبلي " وتوقف. فَقُلْتُ: الطعن. فَقَالَ: الطعن. فكأن بَعْض الحاضرين نَفَس عليَّ سؤال السلطان لي، وإقباله عَلَى كلامي، فَقَالَ: من أربعة من الصَّحَابَة من نسل رأوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ: أَبُو بَكْر الصديق، وأبوه أَبُو قحافة، وعَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي بَكْر، ومحمد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي بَكْر. ثُمَّ قَالَ السلطان: هاتوا شَيْئًا، فمدوا لَهُ سماطا مختصرا جدا، بَعْد عشاء الآخرة بساعتين، فكلنا مَعَهُ. فَقَالَ لي بَعْض أَصْحَابه: هَذَا من أجلك، فَإِن لَهُ أَكْثَر من شَهْر مَا أكل بالنيل، ثُمَّ أخذ يثني عَلَى والدي، وَيَقُول: مَا أولد إلا بَعْد الأربعين. قَالَ: وَكَانَ عارفا بسيرة والدي.
ودرس الناصح بعدة مدارس، منها مدرسة جده شرف الإِسلام، ودرس بالمسمارية، مَعَ أَبِي المعالي أسعد بْن المنجي، ثُمَّ استقل بها وحده، وعزل ابْن المنجي ثُمَّ فِي سنة خمس وعشرين استقر بنو المنجي بالتدريس بها بحكم أَن نظرها لَهُمْ، ثُمَّ بنت لَهُ الصاحبة ربيعة خاتون مدرسة بالجبل وَهِيَ المعروفة بالصاحبية.(3/428)
فدرس بها سنة ثمان وعشرين.
وَكَانَ يوما مشهودا. وحضرت الواقفة من وراء ستر.
وانتهت إِلَيْهِ رئاسة المذهب بَعْد الشيخ موفق الدين. وَكَانَ يساميه فِي حياته.
قَالَ ناصح الدين: وكنت قدمت من أربل سنة وفاة الشيخ الموفق، فَقَالَ لي: قَدْ سررت بقدومك، مخافة أَن أموت وأنت غائب، فيقع وهن فِي المذهب، وخُلْفٌ بَيْنَ أَصْحَابنا.
وَقَدْ وقع مرات بَيْنَ الناصح والشيخ الموفق اخْتِلاف فِي فتوى فِي السماع المحدَث، أجاب فِيهَا الشيخ الموفق بإنكاره. فكتب الناصح بعده مَا مضمونه " الغناء كالشعر، فِيهِ مذموم وممدوح، فَمَا قصد بِهِ ترويح النفوس، وتفريج الهموم، وتفريغ القلوب لسماع موعظة، وتحريك لتذكرة: فلا بأس بِهِ. وَهُوَ حسن "، وذكر أحاديث فِي تغني جُوَيْرِيات الأنصار، وَفِي الغناء فِي الأعراس، وأحاديث فِي الحُداء " وَأَمَّا الشبابة: فَقَدْ سمعها جماعة ممن لا بحسن القدح فيهما من مشايخ الصرفية وأهل العلم، وامتنع من حضورها الأكثر. وَأَمَّا كونها أشد تحريما وَأَعْظَم إِنَّمَا من سائر الملاهي: فهذا قَوْل لا يوافق عَلَيْهِ. وكيف يجعل المختلف فِيهِ كالمتفق عَلَيْهِ. وكون النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(3/429)
سد أذنيه منها: مشترك الدلالة، لأنه لَمْ ينهِ ابْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَن سماعها " وأعجب من استدلال الفقيه الموفق لِذَلِكَ. قَوْله: " ولا يجب عَلَيْهِ سد أذنيه لغيرها من الملاهي " فيشعر ذَلِكَ بجواز سماع الملاهي. ثُمَّ قَدْ بالغ فِي تحريم ذَلِكَ، وضم فاعله إِلَى حكم الكفر بالله تَعَالَى، وأوهم بِمَا ذكر من الآيات: أَن هَذَا السماع يُخرج عَنِ الإِسْلام، وَهَذَا من الغلو، فكان غلوه فِي الجواب أشد خطرا من غلو المذكورين فِي السؤال، وَأَمَّا اجتماع الرجال والنساء فِي مجلس: فلم يذكر مْي السؤال. وَهُوَ محرم إِذَا كَانَ فِي غَيْر معروف، فَإِن كَانَ فِي صلاة جمعة أَوْ جَمَاعَة، أَوْ سماع موعظة، أَوِ التقاء فِي مجلس حكم: فذلك غَيْر منكر، وَهُوَ العادة الجارية فِي المواسم عِنْدَ هَذَا الفقيه المفتي وجماعته، ومجالس التذكير فِي سائر بلاد الإسلام ".
فلما عاد جوابه إِلَى الشيخ الموفق: كتب فِي ظهرها بخطه مَا مضمونه " كنت أتخيل
فِي الناصح: أَن يَكُون إماما بارعا، وأفرح بِهِ للمذهب؛ لما فضله اللَّه به من شردْ بيته، وإعراق نسبه فِي الإِمامة، وَمَا آتاه اللَّه تَعَالَى من بسط اللسان، وجراءة الجنان، وحدة الخاطر، وسرعة الجواب، وكثر الصواب. وظننت أَنَّهُ يَكُون فِي الفتوى مبرزا عَلَى أَبِيهِ وغيره، إِلَى أَن رأيت لَهُ فتاوى غيره فِيهَا أسد جوابا، وأكثر صوابا. وظننت أَنَّهُ ابتلي بِذَلِكَ لمحبته تخطئة النَّاس، واتباعه عيوبهم. ولا يبعد أَن يعاقب اللَّه العبد بجنس ذنبه - إِلَى أَن قَالَ: والناصح قَدْ شغل كثيرا من زمانه بالرد عَلَى النَّاس فِي تصانيفهم وكشف مَا استتر من خطاياهم ومحبة بيان سقطاتهم. ولا يبلغ(3/430)
العبد حقيقة الإِيمان حَتَّى يحب للناس ما يحب لنفسه، أفتراه يحب لنفسه بعد موته من ينتصب لكشف سقطاته، وعيب تصانيفه وإظهار أخطائه. وكما لا يحب ذَلِكَ لنفسه ينبغي أَن لا يحبه لغيره، سيما للأئمة المتقدمين، وَالْعُلَمَاء المبرزين. وَقَدْ أرانا اللَّه تَعَالَى آية فِي ذهابه عَنِ الصواب فِي أشياء تظهر لمن هُوَ دونه.
فمن ذَلِكَ: فِي فتياه هذه خطأ من وجوه كثيرة.
منها: أَنَّهُ إِنَّمَا أذن لَهُ بقرينة الحال فِي جواب السؤال، فعدوله إِلَى الرد عَلَى من قبله تصرف فِي الكتابة فِي ورقة غيره، بِمَا لَمْ يؤذن لَهُ فِيهِ. وَذَلِكَ حرام.
ومنها: أَن قرينة أحوالهم تَدُل عَلَى أنهم إِنَّمَا أذنوا فِي الجواب بِمَا يوافق المفتي قبله، فالكتابة بخلاف ذَلِكَ غَيْر مأذون فِيهَا، ولذلك أحوج إِلَى قطع ورقتهم، وذهاب فتياه منها.
ومنها: أنهم سألوا عَنِ السماع الجامع لهذه الخصال المذكورة، عَلَى وجه يتخذ دينا وقربة. فلم يجب عَن ذَلِكَ، وعدل إِلَى ذكر بَعْض الخصال المذكورة مفردة، عَلَى غَيْر الصفة المذكورة، وليس يلزم من الجواب عَن بَعْض شَيْء: الجواب عَن مجموعة، ولا من بيان حكمه عَلَى صفة: بيان حكمه عَلَى غيرها.
فناصح الدين سئل عَنِ السماع الجامع لهذه القبائح مُتخَذاً دينا وقربة، فأجاب: بأن رجلاً قد للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجارية قَدْ نَدَبَتْ أباها، وأشباه ذَلِكَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ جواب أصلا.(3/431)
ومنها: أَنَّهُ قسم الغناء إِلَى قسمين: ممدوح، ومذموم. ثُمَّ رقَّاه إِلَى رتبة المندوبات والعبادات. فجاوز فِيهِ حداء الشعر، وَلَمْ يقل ذلك سوى هذه الطائفة المسؤول عَنْهَا، الَّذِينَ سلكوا مسلك الجاهلية فِي جعله لَهُمْ صلاة ودينا، وحاشى ناصح الدين من اتباعهم.
ومنها: أن قسمته غير حاضرة، فَإِن ثَم قسما آخر، غَيْر ممدوح ولا مذموم، وَهُوَ المباح الَّذِي لَمْ يترجح أحد طرفيه عَلَى الآخر.
ومنها: أَنَّهُ شرع مستدلا عَلَى مدح الغناء بذكر الحداء، شروع من لا يفرق بَيْنَ الحُداء والغناء، ولا يفرق بَيْنَ قَوْل الشعر عَلَى أي صفة كَانَ. ومَنْ هذه حاله لا يصلح للفتيا؛ فَإِن المفتي ينبغي أَن يَكُون عالما باللسان، لسان العرب ولغتهم مِمَّا يفتي فِيهِ.
وظاهر حاله: أَنَّهُ لا يخفى عَلَيْهِ، لكن ضاقت عَلَيْهِ ممادح الغناء، فعدل إِلَى مَا يقاربه، كَمَا قيل: الأقرع يفتخر بجمة ابْن عمه، وابن الحمقاء يذكر خالته إِذَا عيب بأمه. لكنه إِن كَانَ بسعادته قَدْ علم بِذَلِكَ، ثُمَّ قصد التمويه على من استرشد، وتعمية من قصده وقلده: فَهُوَ حرام، وإن لَمْ يقصد ذَلِكَ، لكن كان عن غفلة منه: فَهُوَ نوع تغفل. وَذَلِكَ عجيب من مثله.
وَأَمَّا استدلاله بحَدِيث الجواري اللاتي نَدَبْنَ آباءَهنّ، فَمَا فِيهِ ذكر الغناء، فَإِن كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرخص لهنَ فِي ذَلِكَ، فليس لَهُ فِيهِ مَا يوجب المدح فِي حق عقلاء الرجال المتوسمين بالدين، والعبادة، كَمَا رَوَى " أَنَّهُ(3/432)
أرخص لعائشة فِي اللعب بالبنات " وَذَلِكَ لا يوجب مدح لعب الرجال العقلاء باللعب، واجتماعهم عَلَيْهِ، ومن رأى ذَلِكَ، فعلى سياق قَوْله، كُل مَا رخص فِيهِ للصبيان، والجويريات الصغار: فَهُوَ ممدوح فِي حق كُل أحد، كاللعب فِي الطرقات، وَلَمْ يكن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا غيره، ينكرون عَلَى الصبيان لعبهم، ولا فعالهم الَّتِي تستقبح من عْيرهم، مثل المصافعة، والمفاقسة بالبيض الأحمر، والعَدْو فِي الطرقات، وحمل بَعْضهم بَعْضًا، وأشياء، لو فعلها المميز البالغ، لردت شهادته، وسقطت عدالته.
فَإِن قَالُوا: نحن إِنَّمَا نحتج بسماع النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجويريات، فنحن نسمعه كَمَا سمعهن.
قلنا: أخطأتم فِي النظر، وجهلتم الفرق بَيْنَ فعل النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعلكم؛ فَإِن المنقول
عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السماع له، وأنتم تفعلون الاستماع؛ والسماع غَيْر الاستماع - إِلَى أَن قَالَ: وليس العجب من جاهل لا يفرق بَيْنَ الفعلين، ولكن من إمام نصب نَفْسه للفتيا، وعدَ أَنَّهُ هاد للمسلمين، ومرشدٌ لَهُمْ، وَهُوَ لا يفرق بَيْنَ هذين الأمرين، حَتَّى جعل يعجب من قولنا: " لا يجب سد الأذنين من الأصوات المحرمات "، وَقَالَ: " هَذَا يوهم إباحة الاستماع إِلَى الملاهي، وَمَا ظننت أَنَّهُ ينتهي إِلَى هذه الدرجة، بَل مَا ظننت أَن الجهال يخفى عَلَيْهِم هَذَا - فَإِذَا بِهِ قَدْ خفى عَلَى أحد المدرسين المفتين(3/433)
المتصدرين، حَتَّى عده عجبا، وأعجب مِمَّا عجب منه إمام مدرس مُفْتٍ، لا يفرق بَيْنَ السماع والاستماع، ولا بَيْنَ الغناء والحُداء، ولا بَيْنَ حكم الصغير والكبير!.
وَأَمَّا خبر عَائِشَة فِي زفاف المرأة، فَقَدْ تكلم فِيهِ الإِمام أَحْمَد، فلم يصححه، ثُمَّ لو صح: فليس فِيهِ ذكر الغناء، إِنَّمَا فِيهِ قَوْل الشعر، ولو ثبت أَنَّهُ غناء، فلا يلزم من الرخصة فِيهِ فِي العرس الَّذِي أمر فِيهِ بالدُّفِّ والصوت: الرخصة فِيهِ عَلَى الوجه الَّذِي يفعله هَؤُلاءِ.
ومن العجب: استدلال الفقيه عَلَى إباحة الشبابة. بأنه قَدْ سمعها من الصوفية، وَمَا من قبيحة من القبائح، ولا بدعة من البدع، إلا قَدْ سمعها مشايخ وشباب أَيْضًا، وَقَدْ علم الناصح أنواع الأدلة، فهل وجد فِيهَا فعل المشايخ من الصوفية. وإن كَانَ هَذَا دليلا فليضمه إِلَى أدلة الشرع المذكورة، ليكون دليلًا آخر، يغرب بِهِ عَلَى من قبله، ويكون هَذَا الدليل منسوبا إِلَيْهِ، معروفا بِهِ، ولكن لا ينسبه إِلَى مذهب أَحْمَد؛ فَإِن أَحْمَد وغيره من الأئمة بريئون من هَذَا ".
وللناصح رحمه اللَّه تَعَالَى تصانيف عدة، منها: كتاب " أسباب الْحَدِيث " فِي مجلدات عدة، وكتاب " الاستسعاد بمن لقيت من صالحي الْعِبَاد فِي البلاد "، وَقَدْ وقفت عَلَيْهِ بخطه، ونقلت منه فِي هَذَا الكتاب كثيرا، وكتاب " الأنجاد فِي الجهاد " صنفه بحلب، وَقَالَ: لما فرغت(3/434)
من تصنيفه، رأيت فِي المنام كأني جالس، وإذا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَر بي، وبيني وبينه قدر ذراع، فَقَالَ: سلام عليكم، فرددت السَّلام، فلما استيقظت استبشرت، وقلت: أريد السَّلام عَلَيْهِ عِنْدَ حجرته، شكرا له، قال: فحججت ذَلِكَ العام، قَالَ: وَكَانَ أَبُو اليمن الكندي، قَدْ أخذ عَلَى ابْن نباتة فِي خطبه كلمات من جهة اللغة، وَفِي قَوْله: " الحمد لِلَّهِ الَّذِي اختار البقاء لنفسه وارتضاه "، قَالَ: وكنت نظرت فِي خطب ابْن نباته، فأخذت عَلَيْهِ مواضع كثيرة من حيث المعاني، واعتذرت عَنْهُ فِي قَوْله: " واختار البقاء(3/435)
لنفسه " وحملته عَلَى محمل يصح، ثُمَّ قرأت هَذَا الكتاب عَلَى الكندي بحضرة جماعة، فتعْير وجهه، وصار يَقُول فِي بَعْض المواضع: مَا أراد هَذَا فأقول: يسمع سيدنا الشيخ تمام الفصل، فَإِن أراد كَذَا، فباطل بكذا، قَالَ: وَكَانَ مجلسا مشهودا.
وَقَالَ الحافظ الذهبي فِي تاريخه: للناصح خطب ومقامات، وكتاب " تاريخ الوعاظ " وأشياء فِي الوعظ، قَالَ: وَكَانَ حلو الْكَلام، جيد الإيراد، شهما مهيبا، صارما. وَكَانَ رئيس المذهب فِي زمانه بدمشق.
وَقَالَ ابْن النجار: كَانَ فقيها، فاضلا، أديبا، حسن الأخلاق.
وَقَالَ أَبُو شامة: كَانَ واعظا، متواضعا متفننا، لَهُ تصانيف، وَلَهُ بنيت المدرسة الَّتِي بالجبل للحنابلة، يَعْنِي مدرسة الصاحبية.
قَالَ المنذري: قدم - يَعْنِي الناصح - مصر مرتين، ووعظ بها وحدث. وحصل لَهُ بها قبول، وحدث بدمشق، وبغداد وغيرهما، ووعظ ودرس. وَكَانَ فاضلا، وَلَهُ مصنفات، وهو من بَيْت الْحَدِيث والفقه، وحدث هو(3/436)
وأبوه وجده، وجد أَبِيهِ وجد جده. لقيته بدمشق، وسمعت منه.
قُلْت: سمع منه خَالِد النابلسي، وابن النجار الحافظ. وكتب عَنْهُ عَبْد الصمد بْن أَبِي الجيش ببغداد أناشيد. وسمع منه بدمشق خلق كثير. وخرج لَهُ الزكي البرزالي، وَرَوَى عَنْهُ.
توفى يَوْم السبت ثالث المحرم سنة أربع وثلاثين وستمائة بدمشق. ودفن من يومه بتربتهم بسفح قاسيون. رحمه الله تعالى.
أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَعْلِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعِزِّ بْنِ شَرَفٍ الأَنْصَارِيُّ أَخْبَرَنَا نَاصِرُ الدِّينِ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَجْمٍ الأَنْصَارِيُّ أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمَدِينِيُّ - بِأَصْبَهَانَ - أَخْبَرَنَا يحيى بن عبد الوهاب بن مَنْدَهْ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بن ربدة أَخْبَرَنَا الطَّبَرَانِيُّ.
ح - قَالَ الْمَدِينِيُّ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَدَّادُ أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ الْحَسَنِ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكَجِّيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ " أَنَّ الرَّبِيعَ بِنْتَ النَّضْرِ(3/437)
لَطَمَتْ جَارِيَةً، فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَهَا، فَعَرَضُوا عَلَيْهِمُ الأَرْشَ، فَأَبَوْا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ. فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُكْسَرُ سِنَّ الرَّبِيعِ؟ لا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لا تُكْسَرُ سِنَّهَا. فَقَالَ: يَا أَنَسُ، كتابَ اللَّهِ القصاصَ. فَعَفَا الْقَوْمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأبرَّه ".
أَخْبَرَنَا عَالِيًا أَبُو الْفَتْحِ الْمِصْرِيُّ - بِهَا - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ الْحَرَّانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرِ بْن الْمَغْطُوسِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْغَنَائِمِ بْن الْمُهْتَدِي أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاق الْبَرْمَكِيُّ الْفَقِيهُ أَخْبَرَنَا الْكَجِّيُّ فَذَكَرَهُ.
حمد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن بركة بْن أَحْمَد بْن صدَيق بْن صروف،(3/438)
الحراني الفقيه، أَبُو عَبْد اللَّهِ. ويلقب موفق الدين.
ولد سنة ثلاث - أو أربع - وخمسين وخمسمائة بحران.
وسمع بها من أَبِي ياسر عَبْد الْوَهَّاب بْن أَبِي حية، وأبي الفتح بْن أَبِي الوفاء الفقيه.
ورحل إِلَى بغداد فسمع بها من الحق اليوسفي، وابن شاتيل، وعبد المغيث الحربي، وشافع بْن صَالِح الجيلي وغيرهم.
وتفقه ببغداد عَلَى ابْن المنى، وأبي البقاء العكبري، وابن الجوزي، ولازمه وأخذ عَنْهُ كثيرا. ثُمَّ رجع إِلَى حران. وأعاد بالمدرسة بها مدة. وحدث بحران ودمشق.
سمع منه بحران المنذري، والأبرقوهي، وابن حمدان، وَقَالَ: كَانَ شيخنا صالحا من قوم صالحين.
وتوفى فِي سادس عشر صفر سنة أربع وثلاثين وستمائة بدمشق. ودفن بسفح جبل قاسيون رحمه اللَّه.
قَالَ ابْن نقطة والمنذري: و " صُديف " بضم الصاد وفتح الدال الخفيفة المهملتين. زاد المنذري: و " صروف " بفتح الصاد المهملة وتشديد الراء المهملة وضمها، وبعدها واو ساكنة وفاء.(3/439)
أَحْمَد بْن أكمل بْن أَحْمَد بْن مَسْعُود بْن عَبْد الْوَاحِد بْن مطر بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد الهاشمي الْعَبَّاسِي، البغدادي، الخطيب المعدل، أَبُو الْعَبَّاس بْن أَحْمَد بْن أَبِي الْعَبَّاس: ولد فِي ربيع الأول سنة سبعين وخمسمائة.
وسمع من أَبِي الفتح بْن شاتيل، وأبي العلاء مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن عقيل، ووفاء بْن أسعد، وعبد الغني بْن أَبِي العلاء الهمداني وتفقه فِي المذهب.
وَكَانَ لَهُ فضل وتمييز. وولى خطابة جامع السلطان. ونظر ديوان التركات. ثُمَّ صرف عَنِ الخطابة، ورتب ناظرا فيما يتعلق بالحرمين الشريفين، ثُمَّ صرف. وبقي عَلَى نظره بديوان التركات مدة خلافة الناصر إِلَى أَن ولى الظاهر، فصرفه.
وذكر ابْن القادسي فِي تاريخه: أَن الفقيه الإمام أبا بكر بن الحلاوي سأل من الخليفة الناصر الإجازة لجماعة من الحنابلة. فبرز مرسوم الخليفة بإجابته إِلَى سؤاله، مَا عدا ابْن الخياط فَإِنَّهُ يسعى بالناس، وليس من أهل الخير، وَمَا أشبه هَذَا(3/440)
الْكَلام.
قَالَ: وابن الخياط: هُوَ الَّذِي يزعم أَنَّهُ الْعَبَّاسِي الشاهد، وَهُوَ عامل عَلَى التركات الحشرية. سمع منه ابْن الساعي وغيره.
وتوفى فِي ثامن ربيع الأَوَّل سنة أربع وثلاثين وستمائة. ودفن عِنْدَ أَبِيهِ بمقبرة الإمام أَحْمَد. وَقَدْ حدث هُوَ وأبوه وجده وعمه أفضل.
عَبْد القادر بْن عَبْد القاهر بْن عَبْد المنعم بْن مُحَمَّد بْن حمد بْن سلامة بْن أَبِي الفهم الحراني، الفقيه، الزاهد، ناصح الدين، أَبُو الفرج، شيخ حران ومفتيها، ابْن أَبِي مُحَمَّد بْن أَبِي الفرج: ولد فِي رجب سنة أربع وستين وخمسمائة(3/441)
بحران.
وسمع بها من أَبِي حفص بْن طبرزد، وغيره. وسمع بدمشق من أَبِي عَبْد اللَّهِ بْن صدقة الحراني، وَيَحْيَى بْن محمود الثقفي وعَبْد الرَّحْمَنِ بْن الخرقي، والخشوعي وغيرهم.
وسمع ببغداد من يَحْيَى بْن بوش، وابن كليب، وابن الجوزي، وغيرهم.
وقرأ بنفسه الكثير عَلَى الحافظ عَبْد القادر الرهاوي وغيره. وأجاز لَهُ ابْن شاتيل، ونصر اللَّه القزاز، وطائفة.
وأخذ العلم بحران عَن أَبِي الفتح بْن عبدوس وغيره. ورأيت قراءته للروضة على مصنفها الشيخ الموفق. وأقرأ وحدث.
قَالَ المنذري: لقيته فِي الدفعة الثَّانِيَة بحران، وسمعت منه.
وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن حمدان: قرأت عليه " الخرقي " و " الهداية " وَبَعْض " العمدة " وسمعت عَلَيْهِ أشياء كثيرة منها " جامع المسانيد " لابن الجوزي. وَكَانَ قليل الْكَلام فيما لا يعنيه، وكثير الديانة والتحرز فيما يعنيه، شريف النفس مهيبا، معروفا بالفتوى في مذهب أحمد، وصنف منسكا وسطا جيدا، وكتاب " المذهب المنضد في مذهب أحمد " ضاع منه في طريق مكة، وحفظ لا الروضة و " الهداية " وغيرهما.
قلت: " الروضة " هذه هي الفقهية لا الأصولية.
قَالَ: وذكر لي أَنَّهُ يكرر أَكْثَر الليالي عَلَى أَكْثَر الهداية. وَكَانَ مقيما بمسجده بحران سنين كثيرة وَلَمْ يتزوج. وطلب للقضاء فأبى. ودرس(3/442)
فِي آخر عمره بحضوري عنده فِي مدرسة بَنِي العطار الَّتِي عمرت لأجله. فلما نهبت حران سنة ثَلاث وثلاثين عوقب فِي مسجده، حَتَّى أخذت وديعة كانت عنده مَعَ مَا أخذ لَهُ.
وتوفى بَعْد ذَلِكَ بقليل. حدث وأجاز لأبي نصر الشيرازي المزي.
قَالَ المنذري: توفى فِي الحادي عشر من شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وستمائة بحران. رحمه اللَّه تَعَالَى.
وَقَدْ سبق فِي ترجمة الشيخ موفق الدين المقدسي تراجعهما فِي مسألة في الوكالة.
وَقَدْ تنازع هُوَ والشيخ مجد الدين ابْن تيمية فِي مسألة أُخْرَى، وَهِيَ مَا إِذَا استأجر دارا، فدخل أول مدة الإجارة، وطالب المستأجر المؤجر بتسليم العين المؤجرة بَعْد دخول المدة، فَقَالَ المؤجر: لا أسلمها إلا فِي غد، فلم يصبر المستأجر، وأشهد عَلَيْهِ بفسخ العقد لِذَلِكَ.
فأفتى الناصح: أَن المستأجر يثبت لَهُ خيار الفسخ بمجرد امتناع المؤجر من التسليم، وتسقط الأجرة من ذمته.
وأفتى الشيخ مجد الدين بأنه لا يصح فسخه، حَتَّى تمضي مدة يتمكن المؤجر من التحويل فِيهَا؛ لأن التسليم يجب على ما جرت به العادة، كالتسليم فِي البيع، وأنكر أَن يَكُون فِي المذهب فِيهَا نقل خاص.
فكتب الناصح ورقة، وتمسك من كَلام الأَصْحَاب بعمومات باردة. وعضدها بمباحث جامدة، وَمَا أفتى بِهِ أَبُو البركات أفقه، ويشهد لَهُ: مَا ذكره الأَصْحَاب فِي تسليم الأعيان المبيعة وَفِي تسليم المرأة(3/443)
فِي النكاح، لكن قَدْ يفرق بينهما بأن مضي جزء من أوقات مدة الإجارة لا يتلافى. فَإِن المعقود عَلَيْهِ فِيهَا: هُوَ منَافِع الزمن المعين. فلا يتسامح بتفويت شَيْء منه، بخلاف العقد عَلَى العين، أَوْ عَلَى منَافِعها المطلقة.
وَقَدْ يجاب عَن هَذَا الفرق: بأن تفويت المنَافِع المملوكة المستحق حاصل فِي مدة التأخير فِي الصور كلها، فلا فرق.
وَقَدْ أخذ عَنِ الناصح: ابْن أَبِي الفهم بْن تميم. ونقل عَنْهُ فِي مختصره فوائد عديدة، وإذا قَالَ " قَالَ شيخنا أَبُو الفرج " فإياه يَعْنِي. وَقَدْ توهم بعض النَّاس أَنَّهُ يَعْنِي أبا الفرج الشيرازي. وَهِيَ هفوة عظيمة لتقدم زمن الشيرازي.
يُوسُف بْن أَحْمَد بن علي بن الحسين بن الْحَسَن البغدادي، الحلاوي الفقيه، أَبُو المظفر بْن الخلال: سمع من أَبِي الفتح بْن شاتيل. وحدث. وتفقه فِي المذهب. وَكَانَ فقيها صالحا فاضلا، مقرئا متدينا، حسن الطريقة.
توفى ليلة العشرين من شَهْر ربيع الأَوَّل سنة أربع وثلاثين وستمائة. ودفن بباب أبرز. وَقَدْ بلغ الستين، أَوْ جاوزها. رحمه اللَّه.
أجاز لابن الشيرازي.(3/444)
إِسْحَاق بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن غانم العلثي، الزاهد القدوة، أَبُو الفضل، ويقال: أَبُو مُحَمَّد ابن عم طلحة بن المظفر: الني سبق ذكوه. سمع من أَبِي الفتح بْن شاتيل وقرأ بنمْسة عَلَى ابْن كليب وابن الأخضر. وَكَانَ قدوة صالحا زاهدا، فقيها عالما، أمَاراً بالمعروف، نهاء عَنِ المنكر، لا يخاف أحداً إلا اللَّه، ولا تأخذه فِي اللَّه لومة لائم. أنكر عَلَى الخليفة الناصر فمن دونه وواجه الخليفة الناصر وصدعه بالحق.
قَالَ ناصح الدين بْن الحنبلي - وقرأته بخطه - هُوَ اليوم شيخ العراق، والقائم بالإنكار عَلَى الْفُقَهَاء والفقراء وغيرهم فيما ترخصوا فِيهِ.
وَقَالَ المنذري: قيل: إنه لَمْ يكن فِي زمانه أَكْثَر إنكارا للمنكر منه، وحبس عَلَى ذَلِكَ مدة.
قُلْت: وَلَهُ رسائل كثيرة إلى الأعيان بالإِنكار عَلَيْهِم والنصح لَهُمْ. ورأيت بخطه كتابا أرسله الى الخليفة ببغداد. وأرسل أيضًا إِلَى الشيخ عَلِي بْن إدريس الزاهد - صاحب الشيخ عَبْد القادر - رسالة طويلة، تتضمن(3/445)
إنكار الرقص والسماع والمبالغة فِي ذَلِكَ.
وَلَهُ فِي معنى ذَلِكَ عدة رسائل إِلَى غَيْر واحد.
وأرسل رسالة طويلة إِلَى الشيخ أَبِي الفرج بْن الجوزي بالإنكار عَلَيْهِ فيما يقع فِي كلامه من الميل إِلَى أهل التأويل يَقُول فِيهَا:
من عبيد اللَّه إِسْحَاق بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن غانم العلثي، إِلَى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الجوزي، حمانا اللَّه وإياه من الاستكبار عَن قبول النصائح، ووفقنا وإياه لإتباع السلف الصالح، وبصرنا بالستة السنية، ولا حرمنا الاهتداء باللفظات النبوية، وأعاذنا من الابتداع من الشريعة المحمدية. فلا حاجة إِلَى ذَلِكَ. فَقَدْ تركنا عَلَى بيضاء نقية، وأكمل اللَّه لنا الدين، وأغنانا عَن آراء المتنطعين، ففي كتاب اللَّه وسنة رسوله مقنع لكل من رغب أَوْ رهب، ورزقنا اللَّه الاعتقاد السليم، ولا حرمنا التوفيق، فَإِذَا حرمه العبد لَمْ ينفع التعليم. وعرفنا أقدار نفوسنا، وهدانا الصراط المستقيم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وَفَوْقَ كُل في علم عليم. وبعد حمد اللَّه سبحانه، والصلاة عَلَى رسوله: فلا يخفى أن لا الدين النصيحة، خصوصا للمولى الكريم، والرب الرحيم. فكم قَدْ زل قلم، وعثر قدم، وزلق متكلم، ولا يحيطون بِهِ علما. قَالَ: عز من قائل " 22: 8 "، " ومِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْم وَلا هُدىً وَلا كتابٍ مُنير ".
وأنت يا عَبْد الرَّحْمَنِ، فَمَا يزال يبلغ عنك ويسمع منك، ويشاهد(3/446)
فِي كتبك المسموعة عليك، تذكر كثيرا مِمَّن كَانَ قبلك من الْعُلَمَاء بالخطأ، اعتقادا منك: أنك تصدع بالحق من غير محاباة، ولا بد من الجريان فِي ميدان النصح: إِمَّا لتنتفع إِن هداك اللَّه، وإما لتركيب حجة اللَّه عليك. ويحذر النَّاس قولك الفاسد، ولا يغرك كثرة إطلاعك عَلَى العلوم. فرب مبلَّغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه لا فقه لَهُ، ورب بحر كَدر ونهر صاف، فلستَ بأعلمِ من الرسول، حيث قَالَ لَهُ الإمام عُمَر: " أتصلي عَلَى ابْن أَبِي؟ أنزل الْقُرْآن " وَلا تصلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهمْ " ولو كَانَ لا ينكر من قل علمه عَلَى من كثر علمه إِذَا لتعطل الأمر بالمعروف، وصرنا كبني إسرائيل حيث قَالَ تَعَالَى: " كانوُا لاَ يَتَنَاهُوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ". " المائدة: 134 "، بَل ينكر المفضول عَلَى الفاضل وينكر الفاجر عَلَى الولي، عَلَى تقدير معرفة الولي. وإلا فابن التنقا ليطلب وابن السمندل، ليجلب - إِلَى أَن قال: واعلم أَنَّهُ قَدْ كثر النكير عليك من الْعُلَمَاء والفضلاء، والأخيار فِي الآفاق بمقالتك الفاسدة فِي الصفات. وَقَدْ أبانوا وَهاءَ مقالتك، وحكوا عنك أنك أبيت النصيحة، فعندك من الأقوال الَّتِي لا تليق بالسنة مَا يضيق الوقت عَن ذكرها، فذُكر(3/447)
عنك: أنك ذكرت فِي الملائكة المقربين، الكرام الكاتبين، فصلا زعمت أَنَّهُ مواعظ، وَهُوَ تشقيق وتفهيق، وتكلف بشع، خلا أحاديث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلام السلف الصالح الَّذِي لا يخالف سنة، فعمدت وجعلتها مناظرة معهم. فمن أذن لَك فِي ذَلِكَ. وَهُمْ مستغفرون للذين آمنوا، ولا يستكبرون عَن عبادة اللَّه. وَقَدْ قرن شهادته بشهادتهم قبل أولى العلم وَمَا عَلَيْنَا كَانَ الآدمي أفضل مِنْهُم أم لا، فتلك مسالة أُخْرَى.
فشرعت تقول: إِذَا ثارت نار الحسد فمن يطفيها؟ وَفِي الغيبة مَا فِيهَا، مَعَ كَلام غث.
أليس منا فُلان؟ ومنا فُلان؟ ومنا الأنبياء والأولياء من فعل هَذَا من السلف قبلك؟ ولو قَالَ لَك قائل من الملائكة: أليس منكم فرعون وهامان؟ أليس منكم من ادعى الربوبية؟ فعمن أخذت هذه الأقوال المحدثة، والعبارات المزوقة، الَّتِي لا طائل تحتها وَقَدْ شغلت بها النَّاس عَنِ الاشتغال بالعلم النَافِع أحدُهم قَدْ أنسى الْقُرْآن وَهُوَ يعيد فضل الملائكة ومناظرتهم، ويتكلم بِهِ فِي الآَفاق.
فأين الوعظ والتذكير من هذه الأقوال الشنيعة البشعة.
ثُمَّ تعرضت لصفات الخالق تَعَالَى، كأنها صدرت لا من صدر سكن فِيهِ احتشام العلي العظيم، ولا أملاها قلب مليء بالهيبة والتعظيم، بَل من واقعات النفوس البهرجية الزيوف. وزعمت أَن طائفة من أهل السنة والأخيار تلقوها وَمَا فهموا. وحاشاهم من ذَلِكَ. بَل كفوا عَنِ الثرثرة والتشدق، لا عجزا - بحمد اللَّه - عَنِ الجدال والخصام، ولا جهلا بطرق الْكَلام. وإنما(3/448)
أمسكوا عَنِ الخوض فِي ذَلِكَ عَن علم ودراية، لا عَن جهل وعماية.
والعجب مِمَّن ينتحل مذهب السلف، ولا يرى الخوض فِي الْكَلام. ثُمَّ يقدم عَلَى تفسير مَا لَمْ يره أولا، وَيَقُول: إِذَا قلنا كَذَا أدى إِلَى كَذَا، ويقيس مَا ثبت من صفات الخالق عَلَى مَا لَمْ يثبت عنده. فهذا الَّذِي نهيتُ عَنْهُ. وكيف تنقص عهدك وقولك بقول فُلان وفلان من المتأخرين؟ فلا تشمت بنا المبتدعة فيقولون: تنسبوننا إِلَى البدع وأنتم أكثر بدعاً منا، أفلا تنظرون إِلَى قَوْل من اعتقدتم سلامة عقده، وتثبتون معرفته وفضله. كيف أقول ما لم يقل، فكيف يَجُوز أَن تتبع المتكلمين فِي آرائهم، وتخوض مَعَ الخائضين فيما خاضوا فِيهِ، ثُمَّ تنكر عَلَيْهِم. هَذَا من العجب العجيب. ولو أَن مخلوقا وصف مخلوقا مثله بصفات من غَيْر رؤية ولا خبر صادق. لكان كاذبا فِي إخباره. فكيف تصفون اللَّه سبحانه بشيء مَا وقفتم عَلَى صحته، بَل بالظنون والواقعات، وتنفون الصفات الَّتِي رضيها لنفسه، وأخبر بها رسوله بنقل الثقات الأثبات، يحتمل، ويحتمل.
ثُمَّ لك في الكتاب الني أسميته " الكشف لمشكل الصحيحين " مقالات عجيبة، تارة تحكيها عَنِ الخطابي وغيره من المتأخرين، أطلع هَؤُلاءِ عَلَى الغيب. وأنتم تَقُولُونَ: لا يَجُوز التقليد فِي هَذَا، ثُمَّ ذكره فُلان، ذكره ابْن عقيل، فنريد الدليل من الذاكر أَيْضًا، فَهُوَ مجرد دعوى، وليس الْكَلام فِي اللَّه وصفاته بالهين ليلقى إِلَى مجاري الظنون - إِلَى أَن قَالَ: إِذَا أردت: كَانَ ابْن عقيل العالم، وإذا أردت: صار لا يفهم، أوهيت مقالته لما أردت.(3/449)
ثُمَّ قَالَ: وذكرت الْكَلام المحدث عَلَى الْحَدِيث، ثُمَّ قُلْت: والذي يقع لي. فبهذا تقدم عَلَى اللَّه، وتقول: قَالَ علماؤنا، والذي يقع لي. تتكلمون فِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بواقعاتكم تخبرون عَن صفاته. ثُمَّ مَا كفاك حَتَّى قُلْت: هَذَا من تحريف بَعْض الرواة. تحكما من غَيْر دليل. وَمَا رويت عَن ثقة آخر أَنَّهُ قَالَ: قَدْ غيره الراوي فلا ينبغي بالرواة العدولِ: أنهم حرفوا، ولو جوزتم لَهُم الرواية بالمعنى، فَهُمْ أقرب إِلَى الإصابة منكم. وأهل البدع إِذَا كلما رويتم حَدِيثا ينفرون منه، يقولون: يحتمل أَنَّهُ من تغيير بَعْض الرواة. فَإِذَا كَانَ المذكور فِي الصحيح المنقول من تحريف بَعْض الرواة، فقولكم ورأيكم فِي هَذَا يحتمل أَنَّهُ من رأى بَعْض الغواة.
وتقول: قَد انزعج الخطابي لهذه الألفاظ. فَمَا الَّذِي أزعجه دُونَ غيره؟ ونراك تبني شَيْئًا ثُمَّ تنقضه، وتقول: قَدْ قَالَ فُلان وفلان، وتنسب ذَلِكَ إِلَى إمامنا أَحْمَد - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - ومذهبه معروف فِي السكوت عَن مثل هَذَا، ولا يفسره، بل صحح الحديث، ومن من تأويله.
وكثير مِمَّن أخذ عنك العلم إِذَا رجع إِلَى بيته علم بِمَا فِي عَيبته من العيب، وذم مقالتك وأبطلها. وَقَدْ سمعنا عنك ذَلِكَ من أعيان أَصْحَابك المحبوبين عندك، الَّذِينَ مدحتهم بالعلم، ولا غرض لَهُمْ فيك، بَل أدوا النصيحة إِلَى عباد اللَّه، ولك القول وضده منصوران. وكل ذَلِكَ بناء عَلَى الواقعات والخواطر.
وتدعي أَن الأَصْحَاب خلطوا فِي الصفات، فَقَدْ قبحت أَكْثَر مِنْهُم، وَمَا وسعتك السنة. فاتق اللَّه سبحانه. ولا تتكلم فِيهِ برأيك فهذا خبر غيب، لا يسمع إلا من الرسول المعصوم، فَقَدْ نصبتم حربا للأحاديث الصحيحة. وَالَّذِينَ نقلوها نقلوا شرائع الإِسْلام.(3/450)
ثُمَّ لَك قصيدة مسموعة عليك فِي سائر الآفاق، اعتقدها قوم، وماتوا بخلاف اعتقادك الآن فيما يبلغ عنك، وسمع منك منها:
ولو رأيت النار هبت، فعدت ... تحرق أهل البغي والعناد
وكلما ألقى فِيهَا حطمت ... وأهلكته، وَهِيَ فِي ازدياد
فيضع الجبار فِيهَا قدما ... جلت عَنِ التشبيه بالأجساد
فتنزوي من هيبته، وتمتلي ... فلو سمعت صوتها ينادي
حسبي حسبي، قَدْ كفاني مَا أرى ... من هيبة أذهبت اشتداد
فاحذر مقال مبتدع فِي قَوْله ... يروم تأويلا بكل واعي
فكيف هذه الأقوال: وَمَا معناها؟ فإنا نخاف أَن تحدث لنا قولا ثالثا، فيذهب الاعتقاد الأَوَّل باطلا. لَقَدْ آذيت عباد اللَّه وأضللتهم، وصار شغلك نقل الأقوال فحسب، وابن عقيل سامحه اللَّه، قَدْ حكى عَنْهُ: أَنَّهُ تاب بمحضر من علماء وقته من مثل هذه الأقوال، بمدينة السَّلام - عمرها اللَّه بالإسلام والسنة - فَهُوَ بريء - عَلَى هَذَا التقدير - مِمَّا يوجد بخطه، أَوْ ينسب إِلَيْهِ، من التأويلات، والأقوال المخالفة للكتاب والسنة.
وأنا وافدة النَّاس وَالْعُلَمَاء والحفاظ إليك، فإما أَن تنتهي عَن هذه المقالات، وتتوب التوبة النصوح، كَمَا تاب غيرك، وإلا كشفوا لِلنَّاسِ(3/451)
أمرك، وسيروا ذَلِكَ فِي البلاد وبينوا وجه الأقوال الغثة، وَهَذَا أمر تُشُوِر فِيهِ، وقضى بليل، وَالأَرْض لا تخلو من قائم لله ججة، والجرح لا شك مقدم عَلَى التعديل، والله عَلَى مَا نقول وكيل، وقد أعفر من أنذر.
وإذا تأولت الصفات عَلَى اللغة، وسوغته لنفسك، وأبيت النصيحة، فليس هُوَ مذهب الإمام الكبير أَحْمَد بْن حنبل قدس اللَّه روحه، فلا يمكنك الانتساب إِلَيْهِ بِهَذَا، فاختر لنفسك مذهبا، إِن مكنت من ذَلِكَ، وَمَا زال أَصْحَابنا يجهرون بصريح الحق فِي كُل وقت ولو ضُربوا بالسيوف، لا يخافون فِي اللَّه لومة لائم، ولا يبالون بشناعة مشنع، ولا كذب كاذب، وَلَهُمْ من الاسم العذب الهني، وتركهم الدنيا وإعراضهم عَنْهَا اشتغالا بالآخرة: مَا هُوَ معلوم معروف.
ولقد سودت وجوهنا بمقالتك الفاسدة، وانفرادك بنفسك، كأنك جبار من الجبابرة، ولا كرامة لَك ولا نعمى، ولا نمكنك من الجهر بمخالفة السنة، ولو استقبل من الرأي مَا استدبر: لَمْ يحك عنك كَلام فِي السهل، ولا فِي الجبل، ولكن قدر اللَّه، وَمَا شاء فعل، بيننا وبينك كتاب اللَّه وسنة رسوله، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " فإنْ تَنَازَعْتُم فِي شَيْءً فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول "(3/452)
وَلَمْ يقل: إِلَى ابْن الجوزي.
وترى كُل من أنكر عليك نسبته إِلَى الجهل، ففضل اللَّه أُوتيته وحدك؟ وإذا جَهَّلت النَّاس فمن يشهد لَك أنك عالم؟ ومن أجهل منك، حيث لا تصغي إِلَى نصيحة ناصح؟ وتقول: من كَانَ فُلان، ومن كَانَ فُلان. من الأئمة الَّذِينَ وصل العلم إليك عَنْهُم، من أَنْتَ إِذَا؟ فلقد استراح من خاف مقام ربه، وأحجم عَنِ الخوض فيما لا يعلم، لئلا يندم.
فانتبه يا مسكين قبل الممات، وحَسِّن القول والعمل، فَقَدْ قرب الأجل، لِلَّهِ الأمر من قبل ومن بَعْد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وللشيخ إِسْحَاق أجزاء مجموعهْ، وأربعينيات حَدِيثية، وغير ذَلِكَ، وحدث وسمع منه جَمَاعَة.
وذكر ابْن الدواليبي: أَنَّهُ سمع منه.
وتوفى فِي شَهْر ربيع الأَوَّل، سنة أربع وثلاثين وستمائة، أظنه بالعلث. رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
هبة اللَّه بْن الْحَسَن بْن أَحْمَد البغدادي، المقرئ، أَبُو القاسم المعروف بالأشقر: قرأ الْقُرْآن عَلَى أَبِي بَكْر مُحَمَّد بْن خَالِد الرزاز وغيره.(3/453)
قَالَ ابْن الساعي: كَانَ شيخا فاضلا، حسن التلاوة للقرآن، مجيدا لأدائه عالما بوجوه القراءات وطرقها، وتعليلها وإعرابها، يشار إِلَيْهِ بمعرفة علوم الْقُرْآن، بصيرا بالنحو واللغة والعربية.
سمع شَيْئًا من الْحَدِيث، وَكَانَ يؤم بالخليفة الظاهر، ورتبه إماما بباب بحر فِي صلاة التراويح، وأذن لِلنَّاسِ فِي الدخول للصلاة، وأم بمسجد ابْن حمدي وغيره، ورتبه الظاهر مشرفا عَلَى ديوان التركات.
وقرأ عَلَيْهِ الخليفة الظاهر، والوزير ابْن الناقد، فلما ولي الظاهر الخلافة، أكرمه وأجله، وأعطاه بغلة أَبِيهِ الناصر، فركبها. ولما ولي ابْن الناقد الوزارة: دَخَلَ عَلَيْهِ فنهض لَهُ، وأجلسه إِلى جانبه، وَقَالَ: هَذَا شيخي، قرأت الْقُرْآن عَلَيْهِ.
وَكَانَ يدخل إِلَى المستنصر، فيقرئه الْقُرْآن، وَكَانَ لا يقبل الأَرْض إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ، فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: لا ينبغي ذَلِكَ إلا لِلَّهِ تَعَالَى، فحجب عَنِ الدخول إِلَيْهِ. وَكَانَ يَقُول: قرأ عليَّ الْقُرْآن أرباب الدنيا والآخرة: إِسْحَاق(3/454)
العلثي، والشيخ عُثْمَان القصر، وأمثالهما، والخليفة، والوزير، وصاحب المخزن. وَكَانَ لأم الخليفة الناصر فِيهِ عقيدة، فمرض فجاءته تعوده. وحدث عَنِ الأسعد العبرتي النحوي بأبيات.
سمع منه ابْن النجار، وابن الساعي وغيرهما.
وأجاز لعبد الصمد بْن أَبِي الجيش.
وتوفى فِي صفر سنة أربع وثلاثين وستمائة، وَقَدْ قارب الثمانين، رحمه اللَّه تعالى.
محمد بن أحمد بن عمر بن الحسين بن خلف البغدادي القطيعي(3/455)
الأزجي، المؤرخ، أَبُو الْحَسَن بْن أَبِي الْعَبَّاس. وَقَدْ سبق ذكر أَبِيهِ: ولد فِي رجب سنة ست وأربعين وخمسمائة.
وبكَّر بِهِ والده، وأسمعه من أَبِي الْحَسَن بْن الخل الفقيه، وأبي العباس أحمد بن محمد بْن عَبْد الْعَزِيز المكي، وأبي بَكْر بْن الزاغوني، ونصر بْن نصر العكبري وسلمان بْن حامد الشحام، وتفرد فِي وقته بالرواية عَن هَؤُلاءِ. وأسمعه أَيْضًا من أَبِي الوقت صحيح الْبُخَارِي، وَهُوَ آخر من حدث بِهِ ببغداد كاملا عَنْهُ سماعا، ومن جَمَاعَة آخرين. ثُمَّ طلب هُوَ بنفسه، وسمع من جَمَاعَة بَعْد هَؤُلاءِ، وقرأ عَلَى الشيوخ، وكتب بخطه.
ورحل، وسمع بالموصل من خطيبها أبي الفضل وغيره، وأقام بها مدة.
وسمع بدمشق من مُحَمَّد بن حموْة بْن أَبِي الصقر، وأبي المعالي بْن صابر وغيرهما. وسمع بحران من حامد بْن أَبِي الحجر وغيره.
ثُمَّ رجع إِلَى بغداد، ولازم أبا الفرج بن الجوزي مدة، وأخذ عَنْهُ، وقرأ عَلَيْهِ كثيرا من تصانيفه ومروياته، وجمع تاريخا فِي نَحْو خمسة أسفار، ذيَّل بِهِ عَلَى تاريخ أَبِي سَعْد بْن السمعاني سماه " درة الإِكليل فِي تتمة التذييل " رأيت أكثره بخطه، وَقَدْ نقلت منه فِي هَذَا الكتاب كثيرا، وفيه فوائد جمة، مَعَ أوهام وأغلاط.
وَقَدْ بالغ ابْن النجار فِي الحط عَلَى تاريخه هَذَا، مَعَ(3/456)
أَنَّهُ أخذه عَنْهُ استفادة منه، ونقل منه فِي تاريخه أشياء كثيرة، بَل نقله كله، وَقَالَ: لَمْ يكن محققا فيما ينقله ويقوله. وكان لَحُنَة، قليل المعرفة بأسماء الرجال.
وَكَانَ قَد استنابه يُوسُف بْن الجوزي فِي الحسبة بباب الأزج، وسوق العجم، وَمَا والاهما، سِوَى الحريم. فأقام عَلَى ذَلِكَ مدة يسيرة ثُمَّ عزل.
وشهد عِنْدَ القضاة مدة، واستخدم فِي عدة خدم المخزن وغيره. ونظر فِي المارستان التفشي، ثُمَّ عزل عَنِ الشهادة، وأسن وانقطع فِي منزله إِلَى حِينَ وفاته. وَكَانَ يخضب بالسواد، ثُمَّ ترك الخضاب قبل موته بمدة.
قُلْت: وَقَدْ ذكر فِي تاريخه: أَنَّهُ قرأ شَيْئًا من المذهب عَلَى الْقَاضِي أَبِي يعلى بْن الْقَاضِي أَبِي خازم وحضر درسه، وأنه تكلم فِي بَعْض مسائل الخلاف مَعَ الْفُقَهَاء.
قال: وحملني والحي إِلَى أَبِي النجيب السهروردي بجامع المدينة فِي يَوْم جمعة، وأنا طَفْل فاستدل أَبُو النجيب فِي مسألة بيع الرطب بالتمر، وذكرت عَلَى دليله عدة أسئلة علمني والدي إياها قبل ذَلِكَ. فلما أنهيت الْكَلام خلع قميصه بالجامع فألبسني إياه: وَقَالَ: هذه خرقة التصوف، وأجاز لي، وكتب بخطه بِذَلِكَ.
ولما عُمَر المستنصر مدرسته المعروفة بِهِ: جعل القطيعي شيخ دار الْحَدِيث بها، وَكَانَ ابْن النجار بها(3/457)
مفيدا للطلبة. وَهَذَا من جملة الأسباب الَّتِي أوجبت تحامله عَلَيْهِ. وَقَدْ وصفه غَيْر واحد من الحفاظ وغيرهم بالحافظ.
وأثنى عُمَر بْن الحاجب عَلَى تاريخه، فَقَالَ: وقفت عَلَى تراجم من بعضه، فرأيته قَدْ أحكمها، واستوفى فِي كلى ترجمة مَا لَمْ يعمله أحد فِي زمانه، يدل عَلَى حفظه وإتقانه، ومعرفته بِهَذَا الشأن.
وحدث بالكثير ببغداد والموصل. وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَة كثيرون، مِنْهُم الشيخ تقي الدين الواسطي، والفاروتي، والأبرقوهي، والقرافي.
قَالَ ابْن النجار: توفي ليلة السبت لأربع خلون من ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين وستمائة. وصلى عَلَيْهِ من الغد بعدة مواضع. ودفن بباب حرب. رحمه اللَّه تَعَالَى.
قُرِئَ عَلَى جَدِّي أَبِي أَحْمَدَ رَجَبِ بْنِ الْحَسَنِ غَيْرَ مَرَّةٍ بِبَغْدَادَ - وَأَنَا حَاضِرٌ - فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ: أَخْبَرَكُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَزَّارُ - سنة ست وثمانين وستمائة - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أحمد بن عمر القطيعي.
وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الأَنْصَارِيُّ - بِدِمَشْقَ - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الزَّجَّاجِ أَخْبَرَنَا الْقَطِيعِيُّ.
وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْحَمَوِيِّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ(3/458)
بلبَانَ أَخْبَرَنَا الْقَطِيعِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الوقت عبد الأول بن عيسى أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَن الداودي أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ السَّرْخَسِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عبد الله الفر بري حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مقعده عن النَّارِ ".
وأنشد لنفسه فِي تاريخه:
أهديت قلبي إليكم خذوه ... وقتلى حرام، فلا تقربوه
وها هُوَ ذا عندكم واقف ... يروم الوصال، فلا تحرموه
وَأَيْضًا كتب بها إِلَى أَبِي المظفر بْن مهاجر فقيه الموصل:
فِي كُل يَوْم نقلة ورحيل ... وشوق لقلبي مزعج ومزيل؟
يَعِز عَلَيْنَا أَن يعز وصولنا ... إِلَى بلد فِيهِ الحبيب نزيل.
مكي بْن عُمَر بْن نعمة بْن يُوسُف بْن عساكر بْن عسكر بْن شبيب بْن صَالِح، الروَبتي المقدسي الأصل، المصري الفقيه الزاهد،(3/459)
أَبُو الخير بْن أَبِي حفص: ولد فِي شَهْر رمضان سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بمصر.
وسمع من والده أَبِي حفص، ومن أَبِي مُحَمَّد بْن بري النحوي، وأبي الفتح محمود بْن أَحْمَد الصابوني، وأبي إِبْرَاهِيم القاسم بْن إِبْرَاهِيم المقدسي، وهبة البوصيري، وأبي عَبْد اللَّهِ الأرتاحي، وجماعة كثيرة من أهل البلد والقادمين عَلَيْهَا.
وسمع بمكة من أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْن الهروي الحنبلي، وأبي الْحَسَن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَحْمَد بْن أَبِي تمام الدباس، وأبي زَكَرِيَّا يَحْيَى بْن عُمَر بْن بهليقا، ويونس بن يحمى الهاشمي. وتفقه فِي المذهب بمصر.
قَالَ المنذري: اشتهر بمعرفة المذهب، وجمع مجاميع فِي الفقه وغيره، وانتفع بِهِ جَمَاعَة. وحدث، وأمَّ بالمسجد المعروف بِهِ بدرب البقالين بمصر، سمعت منه. وَكَانَ يبني ويأكل من كسب يده.
قُلْت: وَهُوَ الَّذِي جمع سيرة الحافظ عَبْد الغني، كَمَا ذكره الضياء فِي ترجمته.
وتوفي فِي العشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وستمائة بمصر. ودفن من الغد إِلَى جانب والده بشفير الخندق، بسفح المقطم. رحمه الله تعالى.
و" الروبتي " بضم الراي المهملة وسكون الواو بعدها باء موحدة(3/460)
مفتوحة مخففة وتاء تأنيث. وَكَانَ يذكر أَنَّهُ منسوبا إِلَى " روبة " ويذكر نسبا متصلا بِهِ وَيَقُول: هُوَ صحابي.
قَالَ المنذري: ولست أعرف " روبة " هَذَا، ولا رأيت من ذكره. وَكَانَ بَعْض شيوخنا يَقُول: إِن " روبة " بلد بالشام. والله عَزَّ وَجَلَّ أعلم.
وَقَدْ تقدم ذكر أخيه أَبِي الطاهر إِسْمَاعِيل الأديب، وأبوهما أَبُو حفص.
عُمَر المعروف بابن البناء: كَانَ رجلًا صالحا مقرئا. أقرأ الْقُرْآن سنين كثيرة بمصر. وَكَانَ صابرا عَلَى تعليم الطلبة ليلا ونهارا، مَعَ علو سنه. وحدث عَن أَبِي الفتح الكروخي.
وتوفي فِي ثامن شوال سنة أربع وثمانين وخمسمائة بمصر رحمه اللَّه تَعَالَى.
عبد اللَّهِ بْن إِسْمَاعِيل بْن عَلِي بْن الْحُسَيْن البغدادي، الأزجي،(3/461)
الواعظ شمس الدين، أَبُو طالب بْن أَبِي مُحَمَّد، المعروف والده بالفخر، غلام ابْن المنى: وَقَدْ سبق ذكره. سمع أَبُو طالب هَذَا من ابْن كليب وغيره. وتفقه فِي المذهب، واشتغل بالوعظ ووعظ ببغداد ومصر، وحدث. وَلَهُ نظم.
قَالَ المنذري: سمعت منه شَيْئًا من شعره.(3/462)
وتوفى فِي ثاني عشرين شعبان سنة أربع وثلاثين وستمائة ببغداد. وَهُوَ فِي سن الكهولة.
عَبْد الْعَزِيز بْن عَبْد الْمَلِك بْن عُثْمَان المقدسي، الفقيه، عز الدين أَبُو مُحَمَّد:(3/463)
سمع من أسعد بْن سَعِيد بْن روح، وعمر بْن طبرزد، وغيرهما. وتفقه فِي المذهب، ودرس بمدرسه الشيح أَبِي عُمَر مدة. وحدث.
توفى فِي حادي عشر ذي القعدة سنة أربع وثلاثين وستمائة.
عَبْد الكريم بْن أَبِي عَبْد اللَّهِ بْن مُسْلِم بْن أَبِي الْحَسَن بْن أَبِي الجواد، الفارسي الزاهد، أَبُو بَكْر. واسم أَبِيهِ: المبارك ابْن أَخِي الْحَسَن بْن مُسْلِم(3/465)
الزاهد المتقدم ذكره: ولد سنه ثلاث وستين وخمسمائة بالفارسية، قوية عَلَى نهر عيسى.(3/466)
وقرأ القرآن وسمع الحديث من أَبِي الفتح البرداني، وابن بوش، وغيرهما. وتفقه فِي المذهب. وحدث.
سمع منه ابْن النجار، وعبد الصمد بْن أَبِي الجيش وغيرهما. ووصفاه بالصلاح والديانة.
قَالَ ابْن النجار: كَانَ شيخا صالحا، ورعا متدينا، منقطعا عَنِ النَّاس فِي قريته يقصده النَّاس لزيارته والتبرك بِهِ، وحوله جَمَاعَة من الفقراء، ويضيف من يمر بِهِ.
وتوفى يَوْم الخميس لتسع خلون من صفر سنة خمس وثلاثين وستمائة. ودفن من يومه عِنْدَ عمه بالفارسية رحمه اللَّه تَعَالَى.
عُثْمَان بْن نصر بْن مَنْصُور بْن هلال البغدادي، المسعودي، الفقيه الواعظ، أَبُو الفتوح. ويقال: أَبُو الفرج. ويقال: أَبُو عَمْرو، ويلقب ضياء الدين المعروف بابن الوتار: ولد سنة خمسين وخمسمائة تقريبا.
وسمع من أَبِي الفتح بْن المنى، وعيسى الروشابي وعبد اللَّه بْن(3/467)
عَبْد الرزاق السلمي ومسلم بْن ثابت الوكيل، وشهدة الكاتبة، وخديجة النهروانية وغيرهم.
وتفقه عَلَى أَبِي الفتح بْن المنى، ووعظ، وشهد عند قَاضِي القضاة أَبِي صَالِح نصر بْن عَبْد الرزاق. ودرس وأفتى وَكَانَ فقيها فاضلا، إماما عالما، حسن الأخلاق.
وحدث، وأجاز للمنذري، وعبد الصمد بْن أَبِي الجيش، ولسليمان بْن حمزة، وأبي بَكْر بْن عَبْد الدايم، والقاسم بْن مظفر بْن عساكر، وَأَحْمَد بْن أَبِي طالب الحجار.
وتوفى فِي سابع عشرين جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وستمائة. ودفن بباب حرب، وَقَدْ ناهز السبعين.
والمسعودي نسبة إِلَى " المسعودة "(3/468)
محلة شرقي بغداد من نواحي المأمونية.
تقى الدين بْن طرخان بْن أَبِي الْحَسَن السلمي، الدمشقي الصالحي(3/469)
الحنبلي.
ولد بالجبل سنة إحدى وستين وخمسمائة.
وسمع من أَبِي المعالي بْن صابر، وَيَحْيَى السلفي، وابن صدقة وغيرهم.
وسمع بمكة والمدينة واليمن، وحدث.
وتوفي فِي تاسع محرم سنة سبع وثلاثين وستمائة بالجبل رحمه اللَّه.(3/470)
عَبْد الْعَزِيز بْن دلف بْن أَبِي طالب بْن دلف بْن أَبِي القاسم البغدادي(3/471)
المقرئ، الناسخ الخازن، أَبُو مُحَمَّد. ويقال: أَبُو الفضل. ويلقب عفيف الدين. ولد سنة إحدى - أَوِ اثنتين - وخمسين وخمسمائة.
وقرأ الْقُرْآن بالروايات الكثيرة عَلَى أَبِي الْحَارِث أَحْمَد بْن سَعِيد العكبري العسكري وأبي جمر بْن القاصين وأبي الْحَسَن البطائحي، وصاحبه. وقرأ عَلَيْهِ كثيرا، وعلى جَمَاعَة آخرين.
وسمع الْحَدِيث من أَبِي عَلَى الرحبي، والأسعد بْن يلدرك، ولاحق إبن كاره وشهدة، وخديجة النهروانية، وابن شاتيل، والقزاز، وابن كليب. وقرأ بنفسه الكثير عَلَى من بعدهم، وسمع النَّاس بقراءته، وكتب الكثير بخطه الْحَسَن لنفسه وللناس توريقا.
وولي نظر خزانة الكتب بمسجد الشريف الزيدي، ثُمَّ خزانة كتب التربة السلجوقية، ثُمَّ صرف عَنْهَا، ثُمَّ أعيد إِلَيْهَا.
وشهد عِنْدَ الزنجاني فِي ولايته زمن الناصر. وَكَانَ الخليفة الناصر لما أذن لولده الظاهر برواية مسند الإِمام أَحْمَد عَنْهُ(3/472)
بالإجازة. وأذن لأربعة نفر من الحنابلة بالدخول إِلَيْهِ للسماع: كَانَ عبد العزيز هذا مشهم، فحصل لَهُ بِهِ أَنَس. فلما أفضت إِلَيْهِ الخلافة ولاه النظر فِي ديوان التركات الحشرية، فسار فيها أحست سيرة، وردت تركات كثيرة عَلَى الناس قَد استُولى عَلَيْهَا بمساعدة الخليفة الظاهر عَلَى ذَلِكَ.
ومن جملة ذَلِكَ: تركة رجل من همدان مَات ببغداد، فتصرف ديوان التركات فِي ميراثه، بناء عَلَى أَنَّهُ لا وارث لَهُ، ثُمَّ بَعْد سنة أثبت ابْن عمه نسبه واستحقاقه للتركة عِنْدَ الحاكم. فأنهى الحال الشيخ عَبْد الْعَزِيز فِي ولايته إِلَى الظاهر، فتقدم بتسليم التركة إليه بموجب الشرع، وأن لا يراجع فيما هذا سبيله، مع ثبوته شرعاً. وكانت التركة ألوفاً من العين، ولقي الشيخ عَبْد الْعَزِيز عَلَى هَذَا مديدة. ثُمَّ سأل أَن يقيم برباط الحريم منقطعا بِهِ إِلَى العبادة، وأن يَكُون ولده الأصغر عُمَر عوضه فِي ديوان التركات. فأجيب إِلَى ذَلِكَ. ورتب الشيخ شيخا بالرباط المذكور، فأقام بِهِ إِلَى حِينَ وفاته. ورتب ولده فِي الديوان فسار بسيرة أَبِيهِ فِيهِ.
قرأت بخط الناصح ابْن الحنبلي: الشيخ عَبْد الْعَزِيز إمام فِي القراءة، وَفِي علم الْحَدِيث. سمع الكثير، وكتب بخطه الكثير، وَهُوَ يصوم الدهر. لقيته ببغداد فِي المرتين.
وَقَالَ ابْن النجار: كَانَ كثير العبادة، دائم الصوم والصلاة، وقراءة الْقُرْآن منذ كَانَ شابا، وإلى حِينَ وفاته. وَكَانَ مسارعا إِلَى قضاء حوائج النَّاس، والسعي بنفسه إِلَى دور الأكابر فِي الشفاعات، وفك العناة، وإطلاق(3/473)
المعتقلين، ودفع المؤن والتنقيل من جهة العمال، يفعل ذَلِكَ مَعَ القريب والبعيد والغريب بصدر منشرح، وقلب طيب. وَكَانَ محبا لإِيصال الخير إِلَى النَّاس، ودفع الضرر عَنْهُم، كثير الصدقة والمعروف، والمواساة بماله حال فقره وقلة ذَات يده، وبعد يساره وسعة ذَات يده. وَكَانَ عَلَى قانون واحد فِي ملبسه لَمْ يغيره، وَفِي أخلاقه وتواضعه لِلنَّاسِ. كتبت عَنْهُ.
وَكَانَ ثقة صدوقا نبيلا غزير الفضل، أَحْسَن النَّاس تلاوة للقرآن، وأطيبهم نغمة وَكَذَلِكَ فِي قراءة الْحَدِيث.
وَقَالَ ابْن الساعي: كَانَ شيخاً صالحا عابدا، مشكور السيرة، محمود الطريقة، لَمْ يزل مواظبا عَلَى الخير والعبادة والتلاوة. وَكَانَ يسرد الصوم، ويديم القيام بالليل، قل أَن تمضي عَلَيْهِ ليلة إلا وختم فِيهَا الْقُرْآن فِي الصلاة. وَكَانَ لَهُ حرمة عِنْدَ الدولة، خصوصا عِنْدَ المستنصر. وَكَانَ لا يمل من الشفاعة، وقضاء حوائج النَّاس، حَتَّى لو قيل: إنه لَمْ يبق ببغداد من غني ولا فَقِير إلا قضاه حاجة: لكان حقاً: وفوض إليه المستضر أمر خزانة الكتب بمدرسته.
وقرأ عَلَيْهِ القراءات عَبْد الصمد بْن أَبِي الجيش، وسمع منه الْحَدِيث. وكتب عَنْهُ ابْن النجار، وابن الحاجب.
وَقَالَ ابْن نقطة: كَانَ ثقة صالحا.(3/474)
وَقَالَ الضياء أيضًا: كَانَ خيراٌ دينا، لَهُ مروءة، من أهل الْقُرْآن.
قَالَ ابْن النجار: توفي ليلة الاثنين السادس والعشرين من صفر سنة سبع وثلاثين وستمائة. وحمل ليلا إِلَى تربة معروف الكرخي. فدفن إِلَى جانبه، تَحْتَ القبة، من غَيْر أَن يعلم بِهِ أحد.
وَقَالَ عَبْد الصمد: توفي ليلة الاثنين العشرين من صفر وَقَالَ غيره: ليلة تاسع عشر.
ورثاه غَيْر واحد، مِنْهُم الأسعد بْن إِبْرَاهِيم الكاتب بقصيدة، أولها:
مَا قضى الحزن بالمدامع دينا ... حِينَ حاز المصاب رزءا وحينا
عدم الدين من فتى دلف قلبا ... وسمعا للمكرمات وعينا
أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْن الْحَسَن بْن طَلْحَة بْن حسان، البصري(3/475)
الأصل، البغدادي المضري، الفقيه المحدث، المعدل، أَبُو بَكْر. وَقَدْ يكنى أبا عَبْد اللَّهِ أيضًا. ويلقب أمين الدين.
ولد سنة ثَلاث وسبعين وخمسمائة تقديرا.
وطلب الْحَدِيث قبل التسعين(3/476)
وخمسمائة، فسمع الكثير من ابْن كليب. وذاكر بْن كامل، وَيَحْيَى بْن بوش، وأبي الفرج بْن الجوزي، وابن المغطوش، وابن سكينة، وابن الأخضر، وخلق كثير من هذه الطبقة، وجد واجتهد فِي الطلب. وكتب بخطه كثيرا. وتفقه فِي المذهب وتكلم فِي مسائل الخلاف وحصل طرفاَ صالحا من الأدب، وصحب محيي الدين بْن الجوزي، واختص بِهِ، وصار حاجبا لَهُ أَيَّام حسبته. وسافر مَعَهُ لما نفذ فِي الرسائل إِلَى الشام ومصر وبلاد الروم وبلاد فارس. وشهد عِنْدَ ابْن اللمعاني.
وَلَهُ مجموعات وتخاريج فِي الْحَدِيث، وجمع الأحاديث السباعيات والثمانيات الَّتِي وقعت لَهُ، ومعجما لشيوخه. وحدث بقطعة من مسموعاته ببغداد وغيرها. ذكر ذلك ابن النجار، وقال: سمعت منه. وَهُوَ فاضل عالم ثقة، صدوق متدين أمين نزه، حسن الطريقة، جميل السيرة، طاهر السريرة، سليم الجانب، مسارع إِلَى فعل الخير، محبوب إِلَى النَّاس. ثم روى عنه حديثا عن ابن بوش.
وقال المننري: قدم مصر، وحدث بها. سمعت منه حديثاً واحداً بظاهر السويداء.
قرأته عَلَيْهِ من حفظي.
وأخبرني أَبُو الرَّبِيع عَلِي بن عبد الصمد البغذادي - سماعاٌ بها - أخبرني أَبُو أَحْمَد عبد الصمد بن أحمد بن أَبِي الجيش، قَالَ: أخرج شيخنا الفقيه الإمام العدل أمين الدين أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْن طَلْحَة لنفسه أربعين(3/477)
حَدِيثا، وقرأتها عَلَيْهِ.
وسمع منه ببغداد مَنْصُور بْن سليم الإسكندري الحافظ وغيره. وأجاز للبهاء القاسم بْن مظفر بْن عساكر.
وتوفي ليلة الأحد ثالث شَهْر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وستمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه اللَّه تَعَالَى.
يُوسُف بْن عَبْد المنعم بْن نعمه بْن سلطان بْن سرور بْن رافع بْن حسن(3/478)
بْن جَعْفَر، المقدسي النابلسي، الفقيه المحدث، أَبُو عَبْد اللَّهِ، ويلقب تقي الدين.
ولد سنة ست وثمانين وخمسمائة - تقديراً - بيت المقدس.
وسمع بدمشق من عُمَر بْن طبرزد، وأبي اليُمْن الكندي، وأبي القاسم بْن الحرستاني، وست الكتبة بنت ابْن الطراح، وجماعة آخرين، وتفقه.(3/479)
قَالَ المنذري: ترافقنا فِي السماع كثيرا. وولي الإِمامة بالجامع الغربي بمدينة نابلس. وحدث. وَهُوَ ابْن عم الحافظ عَبْد الغني المقدسي. وَكَانَ عَلَى طريقة حسنة. توفى في عاشر في القعدة سنة ثمان وثلاثين وستمائة بمدينة نابلس.
عَبْد الغني بْن مُحَمَّد بْن القاسم بْن مُحَمَّد ابن تيمية الحراني،(3/480)
خطيب حران، وابن خطيبها، سَيْف الدين أَبُو مُحَمَّد، ابْن الشيخ فخر الدين أَبِي عَبْد اللَّهِ: وقد سبق ذكر والده. ولد فِي ثاني صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بحران.
وسمع بها من والده، وعبد القادر الرهاوي، وعبد الْوَهَّاب بْن أَبِي حبة، وحماد الحراني، وغيرهم. وأخذ العلم بها عَن والده.
ورحل إلى بغداد سنة ثلاث وستمائة، فسمع بها من عَبْد الْوَهَّاب ابن سكينة وضياء بْن الخريف، وعمر بن طبرزد، وعبد المحزيز بْن منينا، وعبد الْوَاحِد بْن سلطان، وَيَحْيَى بْن الْحُسَيْن الأوابي، وأبي الفرج مُحَمَّد بْن هبة اللَّه الوكيل، وعبد الرزاق بْن عَبْد القادر الحافظ، ومسمار بْن الفويش، وسعيد بْن مُحَمَّد بْن عطاف، وَأَحْمَد بْن الْحَسَن العاقولي، وغيرهم.
وطلب، وقرأ بنفسه، وأخذ الفقه عن الفخر إِسْمَاعِيل غلام ابْن المنى وغيره.
ورجع إِلَى حران، وقام مقام أَبِيهِ فِي وظائفه بَعْد وفاته، وَكَانَ يخطب ويعظ ويدرس، ويلقي التفسير فِي الجامع عَلَى كرسي.
قَالَ ابْن حمدان: الشيخ الإِمام العالم الفاضل، سَيْف الدين قام مقام والده فِي التفسير والفتوى، والوعظ والخطابة. وَكَانَ خطيبا فصيحا، رئيسا ثابتا، رزين العقل. وَلَهُ تصنيف " الزائد عَلَى تفسير الوالد " ولا إهداء القرب إلى ساكني الترب لما.
قَالَ: وَلَمْ أسمع منه، ولا قرأت عَلَيْهِ شَيْئًا. وسمعت(3/482)
بقراءته عَلَى والده كثيرا.
وَقَالَ المنذري: لقيته بحران وغيرها، وعلقت عنه بنهر الجوز بالقرب من شاطئ الفرات شَيْئًا. وأجاز للقاضي أَبِي الفضل سُلَيْمَان بْن حمزة المقدسي.
وتوفى فِي سابع عشر المحرم سنة تسع وثلاثين وستمائة بحران.
أَحْمَد بْن محفوظ بْن مهيا بْن شكر بْن الصابوني، الوصافي البغدادي الفقيه المحدث، أَبُو العباس: سمع الكثير، وعني بالسماع، وكتب الطباق بخطه، وَهُوَ حسن.
وتفقه عَلَى الْقَاضِي أَبِي صَالِح نصر بْن عَبْد الرزاق. وَكَانَ خيرا صالحا متعبدا من خيار الطلبة.
توفي يَوْم الأحد تاسع عشرين صفر سنة تسع وثلاثين وستمائة، ودفن لمقمرة معروف الكرخي. رحمهما اللَّه تَعَالَى.
سُلَيْمَان بْن إِبْرَاهِيم بْن هبة اللَّه بْن رحمة الأسعردي، المحدث(3/483)
الخطيب، أَبُو الرَّبِيع: ولد سنة سبع وستين وخمسمائة بإسعرد.
ورحل، وسمع بدمشق من الخشوعي، وابن طبرزد، وجماعة كثيرة، وبمصر من إِسْمَاعِيل بْن ياسين، وهبة اللَّه البوصيري، وأبي عَبْد اللَّهِ الأرتاحي، وخلق كثير.
وبالإسكندرية من أَبِي القاسم عَبْد الرَّحْمَنِ بن علاس. وانقطع إِلَى الحافظ عَبْد الغني المقدسي مدة، وتخرج بِهِ، وسمع منه الكثير، وكتب بخطه كثيرا. وَكَانَ كثير الإفادة حسن السيرة.
وسئل عَنْهُ الحافظ الضياء. فَقَالَ: خير دين ثقة، وأقام ببيت لهيا،(3/484)
وتولى الخطابة والإمامة بجامعه، ويقال: إنهم كَانُوا يؤذونه، فيكشطون الدال من الأسعردي، ويعجمون السين فيصير الأشعري، فيغضب لِذَلِكَ.
قَالَ المنذري: اجتمعت بِهِ، وَلَمْ يتفق لي السماع منه، وأفادنا إجازة وجماعة من شيوخ المصريين وغيرهم. شكر اللَّه سعيه وجزاه خيرا.
وتوفي فِي ثاني عشرين ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وستمائة ببيت لهيا، رحمه اللَّه تَعَالَى، و " رحمة " اسم أم جده، وبها عرف جده.
إِسْمَاعِيل بْن ظفر بْن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم بْن مفرح بْن مَنْصُور بْن ثعلب بْن عتيبة بْن ثابت بْن بكار بْن عَبْد اللَّهِ بْن شرف بْن مَالِك بْن المنذر بْن النعمان بْن المنذر المنذري، النابلسي الأصل، الدمشقي المولد،(3/485)
المحدث أَبُو الطاهر: ولد سنة أربع وسبعين وخمسمائة بدمشق.
وارتحل فِي طلب الْحَدِيث إِلَى الأَمْصَار، فسمع بمكة من ابْن الحصري. وبمصر من البوصيري، والأرتاحي، والحافظ عَبْد الغني، وجماعة.
وببغداد من ابن كليب، والمبارك بن المغطوش، وابن الجوزي، وابن الأخضر وجماعة.
وبإصبهان من أبي المكارم اللبان، وأبي عبد الله الكراني، وأبي جعفر الصيدلاني، وجماعة.
وبخراسان من مَنْصُور بْن عَبْد المنعم الفراوي، والمؤيد الطوسي، وزينب الشعرية؛ وجماعة.
وبنيسابور من أَبِي سَعْد الصفار، ومنصور الفراوي، والمؤيد الطوسي.
وسمع بحران من الحافظ عَبْد القادر الرهاوي، وانقطع إِلَيْهِ مدة، وكتب الكثير بخطه، وحدث بالكثير.
قَالَ المنذري: سمعته بحران ودمشق.
وكتب عَنْهُ ابْن النجار ببغداد، وَقَالَ: كَانَ شيخا صالحا.
وَقَالَ عُمَر بْن الحاجب: كان عبداً صاحاً، صاحب كرامات، ذا مروءة مَعَ فقر مدقع، سهل العاربة، وصحيح الأصول، وحدث.
وروى عنه الحفاظ: الضياء، والمنذري، والبرزالي، والقاضي سُلَيْمَان بْن حمزة.(3/486)
توفي رحمه اللَّه فِي رابع شوال سنة تسع وثلاثين وستمائة، بسفح قاسيون، ودفن من يومه.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْحَمَوِيِّ - بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَحْفُوظٍ الأَزْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الطَّاهِرِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ ظَفْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ الْكَرَّانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّيْرَفِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ محمد بن عبد الله بن شَاذَانَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ فُورَكٍ الْقَبَّابُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُطَهَّرُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ الْحَجَّاجِ الطَّائِيُّ حَدَّثَنَا عَلْقَمَةُ بْنُ أَبِي حمزة الضَّبْعِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَكِلُ طَهورَهُ(3/487)
وَلا صَدَقَتَهُ الَّتِي يَتَصَدَّقُ بِهَا إِلَى أَحَدٍ، يَكُونُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلاهَا بِنَفْسِهِ ".
عُمَر بْن أسعد بْن المنجا بْن بركان بْن المؤمل، التنوخي المقرئ،(3/490)
الحراني المولد الدمشقي الدار. الْقَاضِي شمس الدين أَبُو الفتوح، وأبو الْخَطَّاب ابْن الْقَاضِي وجيه الدين أَبُو المعالي: وَقَدْ سبق ذكر والده. ولد بحران، إذْ أبوه قاضيها فِي الدولة النورية - سنة سبع وخمسين وخمسمائة، ونشأ بها وتفقه عَلَى والده، وسمع من عَبْد الْوَهَّاب بْن أَبِي حبة.
وقدم دمشق، وسمع بها من القاضيين: أَبِي سَعْد بْن أَبِي عصرون، وأبي الفضل بْن الشهرزوري، وأبي عَبْد اللَّهِ بْن صدقة، وأبي المعالي بْن صابر.
ورحل إِلَى العراق وخراسان.
وسمع ببغداد من ابْن بوش.(3/491)
وابن سكينة، واشتغل عَلَى أَبِي القاسم محمود بْن المبارك المعروف بالمجبر الشَّافِعِي، فِي علم الخلاف والنظر وأفتى ودرس. وَكَانَ عارفا بالقضاء بصيرا بالشروط والحكومات والمسائل الغامضات، صدرا نبيلا.
وولي الْقَضَاء بحران قديما، ثُمَّ انتقل إِلَى دمشق، واستوطنها، ودرس بها بالمسمارية.
وتولى خدما ديوانية فِي الدول المعظمية. وحدث.
رَوَى عَنْهُ الحافظ أَبُو عَبْد اللَّهِ البرزالي، ومجد الدين بن العديم، ولسعد الخير النابلس، والحسن بْن الخلال، ووزيرة ابنته. وَهِيَ خاتمة من رَوَى عَنْهُ بالسماع.
وأجاز لابن الشيرازي، ورأيت نسخة " المستوعب ". وَقَدْ قرأها عُمَر بْن المنجا عَلَى والده قراءة بحث. وعليها حواش علقها عَنْهُ بخطه.
منها: أَنَّهُ ذكر عَن والده أَنَّهُ قَالَ: مراد الأصحاب بقولهم: يؤجل العنبن سنة: السنة الشمسية، لا الهلالية، لأن الشَّمْس تجمع الفصول الأربع، تختلف فِيهَا الفصول، وتتغير فِيهَا الأمزجة، فيحصل فِيهَا مقصود الاختبار، دُونَ الهلالية. وَهَذَا غريب.
ولعمر مصنف فِي المذهب سماه " المعتمد والمعول " فِي مجلد.
توفي فِي سابع عشر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وستمائة. ودفن بسفح قاسيون رحمه الله. كَذَا قَالَ أَبُو شامة. وَقَالَ الشريف: فِي ثامن عشر.
وتوفي بعده فِي مستهل ذي الحجة من السنة: أخوه عز الدين(3/492)
أَبُو الفتح، وأبو عَمْرو: -
عُثْمَان بْن أسعد، وَكَانَ فقيها فاضلا معدلاً. عرس بالمسمارية عَن أخيه نيابة. وَكَانَ تاجرا ذا مال وثروة: سمع ببغداد من ابْن بوش، وابن سكينة، وبمصر من البوصيري، ويوسف بْن الطفيل، وحدث.
سمع منه ابْن الحاجب الحافظ، وابن الحلوانية، وولداه: وجيه الدين مُحَمَّد، وزين الدين المنجا، والحسن بْن الخلال، وأجاز لسليمان بْن حمزة الْقَاضِي.
وَكَانَ مولده فِي محرم سنة سبع وستين وخمسمائة.(3/493)
وَفِي جمادى الآخرة من السنة توفي: -
أَبُو الوفا عَبْد الْمَلِك بن عبد الحق بن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن الحنبلي. ودفن بالجبل أيضًا.
وَكَانَ مولده سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
سمع بالإسكندرية من السلفي، وبمكة من المبارك بْن الطباخ، وبدمشق من أَبِي الْحُسَيْن بْن الموازيني، وحدث.
وَفِي سابع عشر شعبان من السنة توفي الأمير: -
أَبُو مَنْصُور مهلهل(3/494)
ابْن الأمير مجد الْمَلِك أَبِي الضياء بحران بن يوسف بن عبد الله بْن رافع بْن يَزِيد بْن أَبِي الْحَسَن بْن عَلِي بْن سلامة بْن طارق بْن ثعلب بْن طارق بْن سَعِيد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن حسان بْن ثابت الحساني، الجيتي، النابلسي الأصل، المصري الحنبلي: ودفن بسفح المقطم. سمع من إِسْمَاعِيل بْن ياسين، والبوصيري، والأرتاحي، وأبي الْحَسَن بْن نجا والحافظ عَبْد الغني، ولازمه كثيرا، وخلق كثير. وكتب بخطه وقرأ بلفظه وحدث.
قَالَ المنذري: سمعت منه، وسألته عَن مولده؟ فذكر ما يدلي تقديرا: أَنَّهُ سنة سبع وستين وخمسمائة بمصر.
وَفِي العشرين من شعبان من هذه السنة توفي: -
أَبُو مُحَمَّد عَبْد الحق بْن خلف بْن عَبْد الحق الدمشقي الحنبلي. ويلقب بالضياء:(3/495)
سمع الكثير بدمشق من أَبِي المعالي بْن صابر، وأبي الفهم بْن أَبِي العجائز، وابن صدقة، ويحيى الثقفي، والجزوي وخلق، وبحران من ابْن أَبِي الوفاء. وحدث.
وَكَانَ مشهورا بالخير والصلاح. وعجز فِي آخر عمره عَنِ التصرف. رحمه اللَّه.(3/496)
إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن الأزهري بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد الصريفيني، الفقيه، المحدث، الحافظ أَبُو إِسْحَاق. ويلقب تقي الدين. نزيل دمشق.
ولد ليلة حادي عشر محرم سنة اثنتين - وقيل سنة إحدى - وثمانين وخمسمائة بصريفين من قرى بغداد.
وقرأ الْقُرْآن عَلَى والده، وعلى أَبِي الفضل عوض الصريفيني.
ودخل بغداد. وسمع بهما من ابْن الأخضر، وابن طبرزد، وحنبل وطبقتهم.
ورحل إِلَى الأقطار. وسمع بأصبهان من عَلِي بْن مَنْصُور الثقفي، وبنيسابور من المؤيد الطوسي، وبمرْوَ من عَبْد الرحيم بْن السمعاني، وبهراة؛ من أَبِي روح الهروي، وببوشَنْج من سهيل بْن مُحَمَّد البوشنجي.
وسمع بالكرخ، والدينور، ونهاوند،(3/497)
وتستر، وطبيس.
وسمع بالموصل من عَبْد المحسن الطوسي، وبدمشق من الكندي، وابن الحرستاني، وببيت المقدس من الأوقي، وببلد الخليل من الدربندي.
وسمع بحران من الرهاوي الحافظ، وصحبه وتخرج بِهِ، وسمع ببلدان أُخر.
وتفقه ببغداد عَلَى الشيخ أَبِي مُحَمَّد عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَد البوازيحي. وَقَدْ سبق ذكره. وجالس أبا البقاء العكبري.
وقرأ الأدب عَلَى هبة اللَّه بْن عُمَر الدودي الكواز من أَصْحَاب الْحَسَن بْن عبدة النحوي.
قَالَ عُمَر بْن الحاجب الحافظ: كان أحد حفاظ الحديث، وأوعية العلم، إماما فاضلا دينا صدوقا خيرا، ثبتا ثقة حجة، واسع الرواية، ذا سمت ووقار وعفاف، حسن السيرة. جميل الظاهر، سخي النفس مَعَ القلة، كثير الرغبة فِي فعل الخيرات. سافر الكثير، واغترب، وجال فِي الآفاق من العراق، وخراسان، والجزيرة والشام. وكتب الكثير، وأقرأ وأفاد، كثير التواضع، سليم الباطن. وَكَانَ يرجع إِلَى ثقة وزهد وورع.
وَكَانَ شيخا لدار حَدِيث مَنْبَجِ، ثُمَّ تركها. واستوطن مدينة حلب،(3/498)
وولي بها دار الْحَدِيث الَّتِي للصاحب ابْن شداد. وَكَانَ يحدث بها ويتكلم عَلَى الأحاديث وفقهها ومعانيها.
سألت ابْن عَبْد الْوَاحِد - يَعْنِي الحافظ الضياء - عَنْهُ؟ فَقَالَ: إمام حافظ ثقة، أمين دين، حسن الصحبة. وَلَهُ معرفة بالفقه.
وسألت البرزالي عَنْهُ. فَقَالَ: حافظ دين ثقة. انتهى.
ونقل الذهبي عَنِ المنذري: وَلَمْ أجد فِي الوفيات ذكر الصريفيني بالكلية وأنه قَالَ عَنْهُ: كَانَ ثقة حافظا صالحا. لَهُ جموع حسنة لَمْ يتمها. ولكن هَذَا قاله الشريف الحسيني فِي ذيله عَلَى كتاب المنذري.(3/499)
وزاد: كتب يخطه كثيرا. وَكَانَ من العارفين بِهَذَا الشأن.
وقال أبو شامة: كَانَ عالما بالحَدِيث. دينا متواضعا.
وقرأت بخط ناصح الدين بن الحنبلي سبب ولاية الصريفيني دار الْحَدِيث بحلب، قَالَ: كَانَ الْقَاضِي بهاء الدين بْن شداد لَهُ غلو فِي إعلاء مذهب الشَّافِعِي. فرأى فِي منامه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فسألته: أي المذاهب خير؟ ثُمَّ كتم جواب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الناصح: الظاهر أَنَّهُ أشار إِلَى مذهب أَحْمَد؛ لأن تعصبه عَلَى مذهب أَبِي حَنِيفَة مَا تغير، وماد إِلَى الحنابلة، وأجلس التقي إِبْرَاهِيم الحافظ الصريفيني فِي دار الْحَدِيث، وقال: ندمت إذ سميتها بالشَّافِعِية.
قَالَ: ولو كَانَ الجواب " مذهب الشافعي " لأظهره؛ لأنه كَانَ داعية إِلَيْهِ، مبالغا فِي تعظيمه، وإظهاره عِنْدَ الملوك، والملوك عَلَى مذهبه.
وَقَدْ وقفت عَلَى جزء صَغِير للحافظ الصريفيني استدركه، عَلَى الحافظ ضياء الدين فِي الجزء الَّذِي استدركه فِيهِ عَلَى الحافظ أَبِي القاسم بْن عساكر، فِي كتاب " ذكر المشايخ النبل " فاعتذر الصريفيني عَنِ ابْن عساكر، واستدرك(3/500)
عَلَى الضياء أسماء فاتت ابْن عساكر لَمْ يستدركها. وَقَدْ نبه الحافظ أَبُو الْحَجَّاج المزي عَلَى أوهام كثيرة فِيهَا للصريفيني، بَل بَيْنَ أَن غالب مَا استدركه وَهُمْ منه.
قَالَ أَبُو شامة: توفي الحافظ الصريفيني فِي خامس عشر جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وستمائة. وحضرت الصلاة عَلَيْهِ بجامع دمشق، وشيعته إِلَى مصلَّى بَاب الفراديس. ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تَعَالَى.
عَلِي بْن الأنجب بْن مَا شاء اللَّه بْن الْحُسَيْن بن عبد الله بن عبيد اللَّه العلوي، الحسيني، البغدادي، المأموني، الفقيه المقرئ الجصاص، أَبُو الْحَسَن: ولد أوائل سنة ست وستين وخمسمائة.
قرأ القراَن عَلَى ابْن الباقلاني الواسطي بها. وسمع الْحَدِيث من ابْن شاتيل، وشهدة، وابن بوش. وابن كليب وغيرهم.(3/501)
وتفقه على أبي الفتح بن المنى، وتكلم في مسائل الخلاف. وناظر. وحدث.
وَرَوَى عَنْهُ ابْن النجار، وأجاز لسليمان بْن حمزة، وأبي نصر بْن الشيرازي، والقاسم بْن عساكر.
وتوفى فِي سادس عشر جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وستمائة.
مُحَمَّد بْن يُوسُف بْن سَعِيد بْن مسافر بْن جميل، البغدادي، الأزجي الأديب، أَبُو عَبْد اللَّهِ بل أَبِي مُحَمَّد: ولد فِي سابع شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة.
وسمع(3/502)
بإفادة والده المحدث، وأبي مُحَمَّد بْن أَبِي العلا مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن عقيل، وأبي الفتح بْن شاتيل! ونصر اللَّه القزاز، وابن كليب، وأبي الغنائم عَبْد الرَّحْمَنِ بْن جامع بْن غنيم الفقيه.
وَكَانَ لديه فضل وأدب. وَلَهُ تصانيف. وحدث.
وسمع منه المحب المقدسي، وعلي بْن أَحْمَد بْن عَبْد الدايم.
وتوفي فِي ثالث رجب سنة اثنتين وأربعين وستمائة ببغداد. وأبوه سمع الكثير من ابْن البطي وطبقته، وعني بالطلب. وقرأ بنفسه. وكتب بخطه إِلَى حِينَ وفاته. وحدث وتوفي.
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد الغني بْن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي،(3/503)
الفقيه الزاهد، محي اللبن، أَبُو سُلَيْمَان ابْن الحافظ أَبِي مُحَمَّد: ولد سنة ثَلاث - أَوْ أربع - وثمانين وخمسمائة فِي شوال.
وسمع بدمشق من الخشوعي وغيره. ورحل. وسمع بمصر من البوصيري والأرتاحي، وإسماعيل بْن ياسين، وغيرهما.
وسمع ببغداد من ابْن الجوزي وطبقته.
وتفقه عَلَى الشيخ الموفق حَتَّى برع فِي الفقه. وَكَانَ يؤم مَعَهُ فِي جامع بَنِي أمية بمحراب الحنابلة. وأفتى ودرس الفقه.
وَكَانَ إماما عالما، فاضلًا ورعا، حسن السمت دائم البشر، كريم النفس، مشتغلا بنفسه، وبإلقاء الدروس المفيدة عَلَى أَصْحَابه، وطلبته.
وسئل عَنْهُ الحافظ الضياء؟ فَقَالَ: فاضل خير دين، كثير التلاوة.
وَقَالَ أَبُو شامة: كَانَ من أئمة الحنابلة رحمه اللَّه تَعَالَى. وَكَانَ من الصالحين وحدث. وَرَوَى عَنْهُ ابْن النجار.
وتوفي فِي تاسع عشري صفر سنة ثلاث وأربعين وستمائة. ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تَعَالَى.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الأَنْصَارِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ أَخْبَرَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ بْنُ الْحَافِظِ.
وَأَخْبَرَنَاهُ عَالِيًا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ - بِمِصْرَ - أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلاقٍ. قَالا: أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبُوصِيرِيُّ أَخْبَرَنَا(3/504)
مُرْشِدُ بْنُ يَحْيَى الْمَدِينِيُّ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَمْضَةَ أَخْبَرَنَا حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَنَانِيُّ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى الطبيب حدثنا يحى بن عبد الله بن بكر حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ يَحْيَى الْمَعَافِرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبلي سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي عَلَى رؤوس الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلا - وَذَكَرَ حَدِيثَ الْبِطَاقَةِ بِطُولِهِ ".
أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الغني بْن عَبْد الْوَاحِد بْن عَلِي بْن سرور،(3/505)
المقدسي، الفقيه الِإمام، تقي الدين، أَبُو الْعَبَّاس بْن الحافظ عز الدين أَبِي الفتح ابْن الحافظ الكبير أَبِي مُحَمَّد: ولد فِي صفر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة.
وسمع بدمشق من أَبِي طاهر الخشوعي، وحنبل الرصافي، وعمر بْن طبرزد والكندي، وغيرهم.
ورحل فِي طلب الْحَدِيث. وسمع بأصبهان من أسعد بْن روح، والمؤيد بْن الإخوة، وعفيفة الفارقانية، وخلق. وببغداد من سُلَيْمَان بْن الموصلي، وغيره.
وقرأ الْحَدِيث بنفسه كثيرا، وإلى آخر عمره.
وتفقه عَلَى الشيخ موفق الدين، وَهُوَ جده لأمه، حَتَّى برع. ويقال: إنه حفظ كتاب " الكافي " لَهُ، وببغداد عَلَى الفخر إِسْمَاعِيل. وانتهت إِلَيْهِ مشيخة المذهب بالجبل.
قَالَ أَبُو شامة. كَانَ من أئمة الحنابلة.
وَقَالَ الشريف الحسيني: كان أحد المشائخ المشهورين بالفقه والحَدِيث.
وَقَالَ ابْن الحاجب: سألت عَنْهُ الحافظ ابْن عَبْد الْوَاحِد. فَقَالَ: حصل مَا لَمْ يحصله غيره، وحدث. وَرَوَى عنه سليمان بن حمزة الماضي، ومحمد بْن مشرف وغيرهما، وأجاز لابن الشيرازي.(3/506)
توفى فِي ثامن عشر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة. ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.
عبد الله بن محمد بْن أَبِي مُحَمَّد بْن الْوَلِيد البغدادي، الحريمي،(3/507)
الحافظ المحدث، أَبُو مَنْصُور بْن أَبِي الفضل: أحد من عني بالحَدِيث.
سمع الكثير ببغداد من خلق، مِنْهُم: الحافظ أَبُو مُحَمَّد بن الأخضر، وعبد العزيز ابن منينا، ورحل. وسمع بحران من الحافظ عَبْد القادر الرهاوي، وغيره. وبحلب من الشريف أَبِي هاشم الافتخار وغيره. وبدمشق من أَبِي اليمن الكندي فِي جَمَاعَة.
قَالَ ابْن نقطة: سمع بالشام، وبلاد الجزيرة. وقرأ الكثير. وله معرفة حسنة.
قال لي أَبُو بَكْر تميم بْن البندنيجي وغيره: إِن اسمه الَّذِي سمي بِهِ " جُزيرة " تصغير جزرة بالجيم والزاي.
وَقَالَ الشريف أَبُو الْعَبَّاس الحسيني: كَانَ حافظا مفيدا. أسمع النَّاس الكثير بقراءته.
وَكَانَ مشهورا بسرعة القراءة وجودتها، وجمع وحدث.
قُلْت: وأجاز لسليمان بْن حمزة الحاكم، وأبي بَكْر بْن أَحْمَد بْن عَبْد الدائم، وعيسى المطعم، وغيرهم منَ المتأخرين.
وَلَهُ تخاريج كثيرة، وفوائد وأجزاء. وَلَهُ رسالة إِلَى السامري صاحب المستوعب، ينكر عَلَيْهِ فِيهَا(3/508)
تأويله بَعْض الصفات، وقوله: " إِن أخبار الآحاد لا تثبت بها الصفات ". ورأيت لأبي البقاء العكبري مصنفا فِي الرد عَلَيْهِ فِي إثبات الحركة لِلَّهِ، وأنه نسب ذَلِكَ إِلَى أَحْمَد، ولكن الروايات عَن أَحْمَد بِذَلِكَ ضعيفة.
وذكر ابْن الساعي وغيره: أَن المستنصر بالله لما بنى مدرسته المعروفة رتب بدار لحديث بها شيخين، يشتغلان بعلم الْحَدِيث.
أحدهما: أَبُو مَنْصُور بْن الْوَلِيد الحنبلي هَذَا، والآخر: أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن النجار الشَّافِعِي، صاحب التاريخ.
توفى فِي ثالث جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمائة ببغداد. ودفن خلف بشر لحافي بمقبرة باب حرب. رحمه الله تَعَالَى.
محاسن بْن عَبْد الْمَلِك بْن عَلِي بْن نجا التنوخي الحموي، ثم الصالحي لفقيه، الإمام ضياء الدين، أَبُو إِبْرَاهِيم: سمع بدمشق من الخشوعي. وتفقه على الشيخ الموفق الدين حَتَّى برع وأفتى.
وَكَانَ فقيها، عارفا بالمذهب، قليل التعصب، زاهدا، مَا نافس فِي منصب قط ولا دنيا، ولا أكل من وقف، بَل كَانَ يتقوت من شكارة تزرع لَهُ بحوران. وَمَا آذى مسلما قط، ولا دَخَلَ حماما، ولا تنعم فِي(3/509)
ملبس ولا مأكل، ولا زاد عَلَى ثوب وعمامة فِي طول عمره. وَكَانَ عَلَى خير كثير. قل من يماثله فِي عبادته واجتهاده وسلوك طريقته رحمه اللَّه.
قرأ عَلَيْهِ جَمَاعَة، وحدث.
وتوفي ليلة الرابع من جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة بجبل قاسيون. ودفن به.
وممن قرأ عَلَيْهِ: صاحب " المبهم " عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي بَكْر الحربي كتيلة، وَقَالَ: ذكر لي: أَن من أَكْثَر من تحريك إصبعه المسبحة فِي تشهده، كَانَ ذَلِكَ عبثا يبطل صلاته. قَالَ: وقول من قَالَ من أَصْحَابنا: " يشير بها مرارا "، يغني عِنْدَ الشهادتين فَقَط.
عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن قدامة المقدسي الأصل، الصالحي(3/510)
الخطيب، شرف الدين أَبُو مُحَمَّد، وأبو بَكْر ابْن الشيخ أَبِي عُمَر: ولد فِي أواخر رمضان سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بدمشق.
وسمع بها من يَحْيَى بْن محمود الثقفي، وأبي عَبْد اللَّهِ بْن صدقة، وعَبْد الرَّحْمَنِ بن الخرقي، والجنزوري، وغيرهم.
وسمع ببغداد من أَبِي الفرج بْن الجوزي، وابن المعطوش، وابن سكينة، وطبقتهم.
وبمصر من البوصيري، والأرتاحي، وفاطمة بنت سَعْد الخير، وغيرهم.
وتفقه عَلَى والده، وعمه الشيخ موفق الدين. وحدث.
وخرج لَهُ الحافظ الضياء جزءا عَن جَمَاعَة من شيوخه.
وخطب بجامع الجبل مدة. وَكَانَ شيخا حسنا يشار إِلَيْهِ بالعلم والدين، والورع، والزهد، وحسن الطريقة، وقلة الْكَلام.
قَالَ الحافظ الضياء عَنْهُ: كَانَ فقيها فاضلا دينا ثقة. وكتب عَنْهُ مَعَ تقدمه.
توفي ليلة الثَّانِي والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة بسفح قاسيون. ودفن بِهِ رحمه اللَّه تَعَالَى.
وَفِي هَذَا الشهر أَيْضًا: توفي: -
صلاح الدين أَبُو عيسى موسى بْن مُحَمَّد(3/511)
بْن خلف بْن راجح، المقدسي: كان إماماً عالماً فاضلاً واهداً.
سمع يُوسُف بْن معالي الكناني، ومحمد بْن عَبْد المنعم، والخشوعي.
وَكَانَ مولده فِي صفر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة.
وأجاز لابن الشيرازي. وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهُ فيما سبق مرثية فِي الشيخ موفق الدين المقدسي. وذكر أخوه الْقَاضِي نجم الدين أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن خلف الشَّافِعِي قَالَ: رأيت النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صورة أَخِي موسى. قَالَ: فكان أثر ذَلِكَ أَن تحول إِلَى حالة عظيمة فِي الخير، والزهد. وترك الدنيا رحمه اللَّه تَعَالَى.
نصر بْن أَبِي السعود بْن مظفر بْن الخضر بْن بطة اليعقوبي الضرير(3/512)
الفقيه، تاج الدين، أَبُو القاسم من أهل يعقوبا. وَفِي كثير من طباق السماع: ينسب إِلَى عكبرا. وَفِي بَعْض الطباق: سبط أَبِي عَبْد اللَّهِ بْن بطة. وَهَذَا يدل عَلَى أَنَّهُ من ولد بَعْض بناته.
قَالَ ابْن نقطة: وَكَانَ يسمى نَفْسه عليا فِي أول مَا سمع. ثُمَّ ترك ذَلِكَ.
دَخَلَ بغداد فِي صباه. فقرأ الْقُرْآن عَلَى أَبِي مُحَمَّد الْحَسَن بْن عَلِي بْن عبيدة. وسمع بها الْحَدِيث الكثير من المبارك بْن زريق القزاز، وأبي الفتح بْن شاتيل، وعمر بْن أَبِي بَكْر التبان، وابن كليب، وعَبْد الرَّحْمَنِ بْن جامع بْن غنيمة، وابن الجوزي، وابن الأخضر وغيرهم.
وتفقه في المذهب، وبرع، وأفتى، وناظر، وأعاد بالمدرسة القادرية. وَرَوَى " مختصر الخرقى "، عَن أَبِي مُحَمَّد عَبْد الخالق بْن عَبْد الْوَهَّاب الصابوني عَنِ ابْن كادش عَن أَبِي عَلِي المباركي عَنِ ابْن سمعون عَنْهُ.(3/513)
قَالَ ابْن نقطة: حدث. وَكَانَ معيدا للفقهاء، وَلَهُ شعر أنشدني منه أبياتا، وأخذ عَنْهُ ابْن النجار - وَلَمْ يذكره فِي تاريخه - وأبو المعالي الأبرقوهي.
وأجاز لعبد الصمد بْن أَبِي الجيش، وسليمان بْن حمزة الْقَاضِي، وأبي بَكْر بْن عَبْد الدائم وَأَحْمَد الحجاز.
توفي فِي ليلة الثَّانِي والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثَلاث وأربعين وسبعمائة ببغداد. ودفن فِي بَاب حرب رحمه الله تعالى.
محمد بن عَبْد الْوَاحِد بْن أَحْمَد بْن عبد الرحمن نجن إِسْمَاعِيل بْن مَنْصُور(3/514)
السعدي، المقدسي، الصالحي، الحافظ الكبير، ضياء الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي أَحْمَد: محدث عصره، ووحيد دهره. وشهرته تغني عَنِ الإطناب فِي ذكره، والاشتهار فِي أمره. وند في خامس جمادى الآخرة سنة تسع وستين وخمسمائة. كَذَا وجد بخطه.
وَقَالَ ابْن النجار: سألته عَن مولده؟ فَقَالَ: فِي جمادى الأولى(3/515)
من السنة.
وسمع بدمشق من أَبِي المجد البانياسي، والخضر بْن هبة الله بن طاووس، وَأَحْمَد بْن الموازيني، وغيرهم.
وسمع بمصر من البوصيري، وفاطمة بنت سَعْد الخير، وجماعة.
وسمع ببغداد الكثير من ابْن الجوزي، وابن المعطوش، وابن سكينة، وابن الأخضر، وطبقتهم.
وسمع من أَبِي جَعْفَر الصيدلاني، وطبقته بأصبهان، ومن عَبْد الباقي بْن عُثْمَان بهمدان، ومن المؤيد الطوسي، وطبقته بنيسابور، ومن أَبِي روح بهراة، ومن أَبِي المظفر بْن السمعاني بمْروَ.
ورحل مرتين إِلَى أصبهان، وسمع بها مَا لا يوصف كثرة. وكتب بخطه الكثير من الكتب الكبار وغيرها، ويقال: إنه كتب عَن أزيد من خمسمائة شيخ، وحصل أصولًا كثيرة، وأقام بهراة، ومَرْو مدة، وَلَهُ إجازة من السلفي، وشُهدة.
قَالَ ابْن النجار: كُتب عَنْهُ ببغداد ونيسابور، ودمشق. وَهُوَ حافظ، متقن ثبت ثقة، صدوق نبيل حجة، عالم بالحَدِيث وأحوال الرجال. لَهُ مجموعات وتخريجات، وَهُوَ ورع تقي زاهد، عابد، محتاط فِي أكل الحلال، مجاهد فِي سبيل اللَّه. ولعمري مَا رأت عيناي مثله، فِي نزاهته وعفته، وحسن طريقته، فِي طلب العلم.
وَقَالَ عُمَر بْن الحاجب: شيخنا أَبُو عَبْد اللَّهِ شيخ وقته، ونسيج وحده، علما وحفظا، وثقة ودينا، من الْعُلَمَاء الربانيين، وَهُوَ أكبر من أَن يدل عَلَيْهِ مثلي. كَانَ شديد التحري فِي الرواية، مجتهدا فِي العبادة، كثير(3/516)
الذكر، منقطعا عَنِ النَّاس، متواضعا فِي ذَات اللَّه، سهل العارية. رأيت جَمَاعَة من المحدثين ذكروه فأطنبوا فِي حقه، ومدحوه بالحفظ والزهد.
سألت الزكي البرزالي عَنْهُ؟ فَقَالَ: ثقة جبل، حافظ دين.
وَقَالَ ابْن النجار - وذكر بَعْض كلامه المتقدم.
وَقَالَ الشرف بْن النابلسي: مَا رأيت مثل شيخنا الضياء.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الصريفيني: كَانَ الحافظ الزاهد العابد ضياء الدين المقدسي رفيقي فِي السفر، وصاحبي فِي الحضر، وشاهدت من كثرة فوائدة وكثرة حَدِيثه وتبحره فِيهِ.
ونقل الذهبي عَنِ الحافظ المزي: أَنَّهُ كَانَ يَقُول: الضياء أعلم بالحَدِيث والرجال من الحافظ عَبْد الغني، وَلَمْ يكن فِي وقته مثله.
وَقَالَ الذهبي: الإمام العالم، الحافظ الحجة، محدث الشام، وشيخ السنة ضياء الدين، صنف، وصحح ولين، وجرح وعَدَّل، وَكَانَ المرجوع إِلَيْهِ فِي هَذَا الشأن. وَقَالَ الشريف أَبُو الْعَبَّاس الحسيني: حدث بالكثير مدة. وخَرج تخاريج كثيرة مفيدة، وصنف تصانيف حسنة. وَكَانَ أحد أئمة هَذَا الشأن، عارفا بالرجال وأحوالهم، والحَدِيث وصحيحه وسقيمه، ورعا متدينا طارحا للتكلف.
وَقَالَ الذهبي أَيْضًا: بنى مدرسة عَلَى بَاب الجامع المظفري بسفح(3/517)
قاسيون. وأعانه عَلَيْهَا بَعْض أهل الخير، ووقف عَلَيْهَا كتبه وأجزاءه.
وَقَالَ غيره: بناها للمحدثين والغرباء الواردين، مَعَ الفقر والقلة، وَكَانَ يبني منها جانبا ويصبر إِلَى أَن يجتمع مَعَهُ مَا يبني بِهِ، ويعمل فِيهَا بنفسه، وَلَمْ يقبل من أحد فِيهَا شَيْئًا تورعا. وَكَانَ ملازما لجبل الصالحية قبل أَن يدخل البلد، أَوْ يحدث بِهِ، ومناقبه أَكْثَر من أَن تحصر، وإنما أشرت إِلَى نبذة منها.
ذكر تصانيفه
كتاب " الأَحْكَام " يعوز قليلًا فِي نَحْو عشرين جزءا فِي ثَلاث مجلدات، كتاب " الأحاديث المختارة " وَهِيَ الأحاديث التي يصلح أن يحتج بها سِوَى مَا فِي الصحيحين، خرجها من مسموعاته، كتب(3/518)
منها تسعين جزءاً وَلَمْ تكمل. قَالَ بَعْض الأئمة: هِيَ خير من صحيح الحاكم، كتاب " فضائل الأعمال " أربعة أجزاء، كتاب " فضائل الشام " ثلاثة أجزاء، كتاب " مناقب أَصْحَاب الْحَدِيث " أربعة أجزاء " صفة الْجَنَّة " ثلاثة أجزاء " صفة النار " جزأن، " أفراد الصحيح " جزء، و " غرائبه " تسعة أجزاء " ذم المسكر " جزء، " الموبقات " أجزاء كثيرة " كَلام الأموات " جزء " شفاء العليل " جزء " الهجرة إِلَى أرض الحبشة " جزء " قصة موسى عَلَيْهِ السَّلام " جزء " فضائل الْقُرْآن " جزء " الرواة عَنِ الْبُخَارِي " جزء " دلائل النبوة "، " الإلهيات " ثلاثة أجزاء، " فضائل الجهاد "، جزء، " النهي عَن سب الأَصْحَاب " جزء، " الحكايات المستطرفات(3/519)
" أجزاء كثيرة، فِيهَا أحاديث مخرجة، كتاب " سبب هجرة المقادسة إِلَى دمشق، وكرامات مشايخهم " نَحْو عشرة أجزاء، وأفرد لأكابرهم من الْعُلَمَاء، لكل واحد سيرة فِي أجزاء كثيرة " أطراف الموضوعات " لابن الجوزي فِي جزأين " تحريم الغيبة " جزء " الموقف والاقتصاص " جزء " الاستدراك " عَلَى الحافظ عَبْد الغني، فِي عزوه " أحاديث فِي درر الأثر " جزء " الاستدراك، عَلَى المشايخ النبل " لابن عساكر جزء، كتاب " الإرشاد إِلَى بيان مَا أشكل من المرسل فِي الإسناد " جزء كبير، فِيهِ فوائد جليلة " الموافقات " جزء " طُرق حَدِيث الحوض النبوي " جزء " أحاديث الحرف والصوت " جزء " الأمر باتباع السنن واجتناب البدع " جزء كتاب " مسند فضالة بْن عبيد " جزء، كتاب "(3/520)
الأمراض والكفارات والطب والرقيات ".
رَوَى عَنْهُ ابْن نقطة فِي استدراكه، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْوَاحِد الجيلي بالجبل، ظاهر دمشق، وابن النجار فِي تاريخه، والبرزالي وعمر بْن الحاجب، وابن أخيه الفخر بْن الْبُخَارِي، والقاضي تقي الدين سُلَيْمَان، وابن الفراء، والنجم الشقراوي، وإسماعيل بْن الخباز، والحسن بْن الخلال، والدشتي، وأبو بَكْر بْن عَبْد الدايم. وعيسى المطعم، وخلق كثير.
توفى فِي يَوْم الاثنين ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة بسفح قاسيون. ودفن بِهِ رحمه اللَّه تَعَالَى.
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عُمَر بْن بركات بْن شُحانَة الحراني المحدث(3/521)
الحافظ المكثر، سراج الدين، أَبُو مُحَمَّد، أحد من عُني بعلم الْحَدِيث.
سمع بحران من الحافظ عَبْد القادر الرهاوي، وبدمشق من ابْن الحرستاني، وابن ملاعب وغيرهما. وبحلب من الافتخار الهاشمي، وبالموصل من مسمار بْن العويس، وبمصر من جَمَاعَة من أَصْحَاب ابْن رفاعة، والسلفي.
ودخل بغداد سنة تسع عشرة وستمائة. فسمع بها من أَصْحَاب الأرموي وطبقتهم. وكتب بخطه الكثير، وحصل.
قَالَ ابْن نقطة: هُوَ شاب ثقة، حسن المذاكرة.
وَقَالَ الشريف أَبُو الْعَبَّاس: حصل كثيرا. وكتب بخطه. وَكَانَ أحد المشهورين بالطلب والتحصيل. وتوفي قبل بلوغ أمنيته.
وَقَالَ غيره: كَانَ مِمَّن لَهُ الرحلة الواسعة فِي الطلب. سمع من الجم الغفير. وسكن آخر عمره " ميافارقين ". وصار صاحب ثروة بَعْد الفقر.
وَقَالَ ابْن حمدان الفقيه: كَانَ يحفظ كثيرا من الأحاديث وغيرها. وسمع الكثير. سمعت بقراءته كثيرا. وَلَمْ أسمع منه شيئاً. وكانت له بنت عمياء تحفظ كثيرا، إِذَا سئلت عَن بَاب من العلم من الكتب الستة: ذكرت أكثره. وكانت فِي ذَلِكَ أعجوبة، لَمْ يبلغ أَبُو مُحَمَّد رحمه اللَّه أوان الرواية. وَقَدْ أجاز لسليمان بْن حمزة الْقَاضِي، ولأبي نصر بْن الشيرازي.(3/523)
وتوفي فِي جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة بميافارقين. رحمه الله و " شحانة " بضم الشين وفتح الحاء المهملة الخفيفة. وبعد الألف نون.
أَحْمَد بْن عيسىَ بْن عَبْد اللَّهِ بن أحمد بن محمد بن قدامة، المقدسي الصالحي، المحدث الحافظ، سَيْف الدين أَبُو الْعَبَّاس بْن مجد الدين أَبِي المجد ابْن شيخ الإِسْلام، موفق الدين أَبِي محمد: ولد سنة خمس وستمائة(3/524)
بالجبل.
وسمع من جده الكثير، ومن أبي اليمن ا! كند!، وأبي القاسم بْن الحرستاني. وَدَاوُد بْن ملاعب، وَأَحْمَد بْن عَبْد الله التهطان. وطبتشهم.
ورحل، وسمع ببغداد من أَبِي الفتح بْن عَبْد السَّلام، وعلي بْن بورندان، وأبي عَلِي بْن الجواليقي، وخلق من الأَصْحَاب: ابْن ناصر، وأبي الوقت. وكتب بخطه الكثير. وخرج وألَف.
قَالَ الحسيني: خَرَّج وحدث. وَكَانَ حسن التخريج فاضلا.
وَقَالَ الذهبي: كتب العالي والنازل. وجمع وصنف. وَكَانَ ثقة حافظا، ذكيا متيقظا، مليح الخط، عارفا بِهَذَا الشأن، عاملًا بالأثر، صاحب عبادة. وَكَانَ تام المروءة، أمارا بالمعروف، قوالًا بالحق. ولو طال عمره لساد أهل زمانه علما وعملًا. ومحاسنه جمة.
وألف مجلدا كبيرا فِي الرد عَلَى الحافظ مُحَمَّد بْن طاهر المقدسي لإِباحته للسماع. وَفِي أماكن من كتاب ابْن طاهر فِي " صفوة أهل التصوف ".(3/525)
واختصرت هَذَا الكتاب عَلَى مقدار الربع. وانتفعت كثيرا بتعاليق الحافظ سَيْف الدين. انتهى.
وَلَهُ أيضًا مصنف فِي الاعتقاد، فِيهِ آثار كثيرة وفوائد. وَلَهُ كتاب " الأزهر " فِي ذكر آل جَعْفَر بْن أَبِي طالب وفضائلهم.
وحدث وَرَوَى عَنْهُ أَحْمَد بْن مُحَمَّد الدشتي.
وتوفى فِي مستهل شعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائة بسفح قاسيون. ودفن بِهِ رحمه اللَّه تَعَالَى. وَلَهُ ثمان وثلاثون سنة.
يَحْيَى بْن عَلِي بْن عَلِي بْن عنان الغنوي البغدادي، الفقيه،(3/526)
الفرضي أَبُو بَكْر، المعروف بابن البقال. ويلقب عباد الدين: ولد سنة إحدى وسبعين وخمسمائة تقريبا.
وطلب العلم فِي صباه. وسمع الكثير من أَبِي الفتح بن شاتيل، وأبي الفرج كليب، وابن الجوزي وغيرهم. وتفقه فِي المذهب. وقرأ الفرائض والحساب وتصرف الأعمال السلطانية. وَكَانَ صدوقا، حسن السيرة.
حدث. وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَة. سمع منه عَبْد الصمد بْن(3/527)
أَبِي الجيش، وأجاز لسليمان بْن حمزة الْقَاضِي، وأبي بَكْر بْن عَبْد الدايم،(3/528)
وعيسى المطعم وغيرهم.
وتوفي يَوْم الأحد سلخ رمضان سنة ثَلاث وأربعين وستمائة. ودفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب.
مُحَمَّد بْن محمود بْن عَبْد المنعم البغدادي المرابتي، نزيل دمشق،(3/533)
الفقيه الإمام، تقي الدين، أَبُو عَبْد اللَّهِ: أحد فضلاء الْفُقَهَاء، صحب ببغداد أبا البقاء العكبري وأخذ عَنْهُ. ثُمَّ قدم دمشق، وصاحب الشيخ موفق الدين. وتفقه عَلَيْهِ، وبرع وأفتى.
قَالَ أَبُو شامة: كَانَ عالما فاضلًا ذا فنون. ولي بِهِ صحبة قديمة. وبعده لم يبقَ مذهب أَحْمَد مثله بدمشق.
توفي فِي الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين(3/534)
وستمائة بدمشق ودفن بسفح قاسيون. رحمة اللَّه تَعَالَى.
قرأت بخط ابْن الصيرفي الفقيه: أنشدني الشيخ تقي الدين المراتبي لغيره:
أيحسن أَن أظما وأحواض بركم ... عِذاب، ومن وُزَادها أنا معدود.
يعوم بها غيري، ويروي، وإنني ... عَلَى ظمأ منها مُذاذ ومطرود
عَلَى بْن إِبْرَاهِيم بن علي بن محمد المبارك بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بكروس بْن سَيْف التميمي الدينوي. الفقيه، أَبُو الحسن بن أبي مُحَمَّد بْن أَبِي الْحَسَن: وَقَدْ سبق ذكر أَبِيهِ وجده.(3/535)
ولد فِي تاسع عشر رمضان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
وأسمعه والده الكثير فِي صغره من ابْن بوش، وابن كليب، وتفقه، وحدث.
وَرَوَى عَنْهُ مُحَمَّد بْن أَحْمَد القزاز. وأجاز لسليمان بْن حمزة الحاكم.
وتوفي ليلة سادس عشر رجب سنة خمس وأربعين وستمائة.
أَحْمَد بْن سلامة بْن أَحْمَد بْن سُلَيْمَان النجار، الحراني، المحدث الزاهد،(3/536)
الصالح القدوة، أبو الْعَبَّاس: سمع الكثير من ابق كليب. وكتب بخطه الأجزاء، والطباق. وصحب الحافظ عَبْد الغني المقدسي، والحافظ عَبْد القادر الرهاوي، والشيخ موفق الدين المقدسي. وسمع مِنْهُم. وحدث. وسمع منه جماعة.
قال ابْن حمدان: سمعت عَلَيْهِ كثيرا. وكافي من دعاة أهل السنة وولاتهم، مشهورا بالزهد، والورع والصلاح.
توفي في سنة ست وأربعين وستمائة بحران. رحمه اللَّه تَعَالَى.
إِبْرَاهِيم بْن محمود بْن سالم بْن مهدي بْن الْحُسَيْن، البغدادي(3/538)
الأزجي المقرئ المحدث، المعروف بابن الخير. وَهُوَ لقب لأبيه محمود بْن مُحَمَّد بْن الثناء: ولد في سلخ في الحجة سنة ثلاث وستين وخمسمائة.
وقرأ القرآن بالروايات على جماعة من الشيوخ. وسمع فِي صباه بإفادة والده الكثير من أَبِي الحسين عبد الحق بن عبد الخالق، وأبي عَلِي الْحَسَن عَلِي بْن شيرويه الخباز، وشهدة(3/539)
الكاتبة، وخديجة بنت أَحْمَد النهرواني، وغيرهم.
وأجاز لَهُ أَبُو الفتح بْن البطي. وعني بالحَدِيث. وَكَانَ لَهُ بِهِ معرفة. وقرأ الْقُرْآن، وحدث بالكثير مدة. وَكَانَ أحد المشايخ المشهورين بالصلاح، وعلو الإسناد، دائم البشر، مشتغلا بنفسه، ملازما لمسجده، حسن الأخلاق.
قَالَ ابْن نقطة: سماعه صحيح. وَهُوَ شيخ مكثر. رَوَى عَنْهُ خلق كثير منهم: ابن الحلوانية، وابن العديم، والدمياطي، وبالإِجازة: جَمَاعَة آخرهم موتا: زينب بنت أَحْمَد بْن عَبْد الرحيم المقدسي.
وتوفي آخر يَوْم الثلاثاء سابع عشر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وستمائة. ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وكان والده شيخا صالحاَ ضريرا. حدث عَنِ ابْن ناصر وغيره.(3/540)
توفي فِي صفر سنة ثَلاث وستمائة.
يُوسُف بْن خليل بْن قراجا بْن عَبْد اللَّهِ الدمشقي، الأدمي، المحدث، الحافظ، ذو الرحلة الواسعة، شمس الدين أَبُو الْحَجَّاج: ولد سنة خمس وخمسين وخمسمائة بدمشق.
وتشاغل بالكسب إِلَى الثلاثين من عمره - ثُمَّ طلب الْحَدِيث، وتخرج بالحافظ عَبْد الغني، واستفرغ فِيهِ وسعه. وكتب مَا لا يوصف بخطة المليح المتقن. ورحل إِلَى الأقطار.(3/541)
سمع بدمشق من الحافظ عَبْد الغني، وابن أَبِي عصرون، وابن الموازيني، وَيَحْيَى الثقفي، وابن صدقة الحراني، والخشوعي، والجتروي، والكندي.
وسمع ببغداد من ابْن كليب، وابن يُونُس، وذاكر بْن كامل، وأبي مَنْصُور بْن عَبْد السَّلام، وخلق من أَصْحَاب ابْن الحصين، وطبقته.
ودخل أصبهان. وسمع بها من ابْن مَسْعُود الحمال، والرازاني، واللبان، والكراني، الصيدلاني، وعبد الرحيم الكاغلي، وأبي جَعْفَر الطرسوسي، وجماعة من أَصْحَاب أَبِي عَلِي بْن الحداد. ثُمَّ عاد إِلَى دمشق.
ورحل إِلَى مصر. فسمع بها من البوصيري، وإسماعيل بْن ياسين وغيرهما.
وَكَانَ إماما حافظا ثقة ثبتا عالما، واسع الرواية، جميل السيرة، متسع الرحلة. تفرد فِي وقته بأشياء كثيرة عَنِ الأصبهانيين.
وخرج. وجمع لنفسه معجما(3/542)
عن أزيد من خمسمائة شيخ، وثمانيات وعوالي، وفوائد غَيْر ذَلِكَ: واستوطن فِي آخر عمره حلب، وتصدر بجامعها، وصار حافظا، والمشار إِلَيْهِ بعلم الْحَدِيث بها.
حدث بالكثير من قبل الستمائة، وإلى آخر عمره - وحدث عَنْهُ البرزالي. وَمَاتَ قبله باثنتي عشر سنة. وسمع منه الحفاظ القدماء، كابن الأنماطي، وابن الدبيثي، وابن نقطة، وابن النجار، والصريفيني، وعمر بْن الحاجب. وَقَالَ: هُوَ أحد الرحالين أوحدهم فضلًا،(3/543)
وأوسعهم رحلة. نقل بخطه المليح ما لا يدخل تحت الحصر، وَهُوَ طيب الأخلاق، مرضي السيرة والطريقة، ثقة متقن حافظ.
وسئل عنه الحافظ الضياء؟ فَقَالَ: حافظ مفيد، صحيح الأصول. سمع وحصل الكثير، صاحب رحلة وتطواف.
وسئل الصريفيني عَنْهُ؟ فَقَالَ: حافظ ثقة، عالم بِمَا يقرأ عَلَيْهِ. لا يكاد يفوته اسم رجل.
قَالَ الذهبي: هُوَ يدخل فِي شروط الصحيح. وَقَدْ تفرد بشيء كثير بحران وأصبهان.
رَوَى عَنْهُ الدمياطي، وابن الظاهري، والقرافي، والدمشقي، والسَيْف الآمدي. وخلق. وآخر من رَوَى عَنْهُ إجازة: زينب بنت الكمال.
توفي سحر يَوْم الجمعة منتصف - وقيل عاشر - جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وستمائة بحلب. ودفن بظاهرها، رحمه اللَّه تَعَالَى.
مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي السعادات الدباس، الفقيه الإمام، أَبُو عبد الله بن أَبِي بَكْر البغدادي، أحد أعيان فقهاء بغداد وفضلائهم:(3/544)
سمع الْحَدِيث من ابْن شاتيل، وابن زريق البرداني، وابن كليب. وقرأ بنفسه الكثير عَلَى أَصْحَاب ابن الحصين، وأَبِي بَكْرٍ الأنصاري. ودرس الفقه عَلَى إِسْمَاعِيل بْن الْحُسَيْن، صاحب أَبِي الفتح بْن المنى.
وقرأ علم الخلاف والأصول والجدل على التوقاني، وبرع في ذلك وتقدم على أقرانه. وتكلم وهو شاب في مجالس الأئمة. واستحسنوا كلامه. وشهد عند قاضي القضاة أبي صالح. وولي الإعادة والإمامة بالحنابلة بالمستنصرية، ونظر المارستان.
قال ابن الساعي: قرأت عَلَيْهِ مقدمة فِي أصول الفقه. وَكَانَ صدوقا نبيلا، ورعا متدينا، حسن الطريقة، جميل السيرة، محمود الأفعال عابدا، كثير التلاوة للقرآن، محبا للعلم ونشره، صابرا عَلَى تعليمه. لَمْ يزل عَلَى قانون واحد، لَمْ تعرف لَهُ صبوة من صباه إِلَى آخر عمره، يزور الصالحين، ويشتغل بالعلم، لطيفا كيسا، حسن المفاكهة، يعرب كلامه، ويفخم عبارته. قَل أَن يغشى أحدا، مقبلًا عَلَى مَا هُوَ بصدده. وَكَانَ لا ينسب أحدا من الأعيان مِمَّن ينسب إِلَى النبوة، كابن الدامغاني، وابن الجوزي، وابن الجبير، وابن اللمغاني - بَل يَقُول: تكلمت عِنْدَ الدامغاني واجتمعت بابن الجوزي، وناظرت الحبير، وعرض عَلَى اللمغاني.
رَوَى عَنْهُ ابْن النجار فِي تاريخه، ووصفه بنحو مَا وصفه ابْن الساعي.(3/545)
توفى فِي حادي عشرين شعبان سنة ثمان وأربعين وستمائة.
ودفن بباب حرب. وَقَدْ ناهز الثمانين. رحمه اللَّه تَعَالَى.
ومر ليلة بسوق المدرسة النظامية ليصلي العشاء الآخرة بالمستنصرية إماما فخطف إِنْسَان بقياره فِي الظلماء وعدا. فَقَالَ لَهُ الشيخ: عَلَى رسلك،(3/546)
وهبتك. قل: قبلت. وفشى خبره بِذَلِكَ. فلما أصبح أُرسل إِلَيْهِ عدة بقايير، قيل: أحد عشر. فلم يقبل منها إلا واحدا تنزها. وَهَذَا مشهور بَيْنَ علماء بغداد عَنْهُ.
عَبْد اللطيف بْن علي بن النفيس بن نوراندان بْن الحسام البغدادي، المحدث المعدل، أَبُو محمد بن أبي الحسن بْن أَبِي المفاخر بْن أَبِي مَنْصُور، ويلقب نور الدين: ولد فِي صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة.
وسمع من أَبِيهِ أَبِي الْحَسَن، وأبي مُحَمَّد جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن أموسان، وعبد الْعَزِيز بْن منينا. وأجاز لَهُ ذاكر بْن كامل.
وعني بِهَذَا الشأن. وقرأ الكثير عَلَى عُمَر بْن كرم. ومن(3/547)
بعده. وكتب الكثير بخطه.
قَالَ الذهبي فِي تاريخه عَنْهُ: الحافظ المفيد. كتب الكثير، وأفاد. وسمع منه الحافظ الدمياطي. وذكره فِي معجمه، وأجاز لسليمان بْن(3/548)
حمزة، وأبي بَكْر بْن عَبْد الدائم، وعيسى المطعم، وغيرهم. وشهد عِنْدَ محمود الزنجاني.
ثُمَّ إنه امتحن لقرائته شَيْئًا من أحاديث الصفات بجامع القصر. فسعى بِهِ بَعْض المتجهمة، وحبس مديدة. وأسقطت عدالته. ثُمَّ أفرج عَنْهُ، وأعاد عدالته ابْن مقبل. ثُمَّ أسقطت، ثُمَّ أعاد عدالته قَاضِي القضاة أَبُو صَالِح. فباشر ديوان الوكالة إِلَى آخر عمره.
توفي بكرة السبت ثالث عشرين ربيع الآخر - وقيل: ثامن عشرين - سنة سبع وأربعين وستمائة. وصلى عَلَيْهِ بمسجده فِي المأمونية. ودفن بباب حرب.
وَكَانَ لَهُ جمع عظيم، وشد تابوته بالحبال. وأكثر العوام الصياح فِي الجنازة: هذه غايات الصالحين.
قَالَ ابْن الساعي: وَلَمْ أرَ مِمَّن كَانَ عَلَى قاعدته فُعل فِي جنازته مثل ذَلِكَ. فَإِنَّهُ كَانَ كهلًا يتصرف فِي أعمال السلطان، ويركب الْخَيْل، ويحلى فرسه بالفضة عَلَى عادة أعيان المتصرفين.
قُلْت: حصل لَهُ ذَلِكَ ببركة السنة. قَالَ الإِمام أَحْمَد: بيننا وبينهم الجنائز.
محمد بن مقبل بن فتيان بْن مطر بْن المني النهرواني، البغدادي،(3/549)
الفقيه المعدل، أَبُو المظفر، وأبو عَبْد اللَّهِ. ويلقب سَيْف الدين، وَهُوَ ابْن أَخِي الِأمام أَبِي الفتح، شيخ المذهب: وُلِدَ فِي خَامِسِ رَجَبٍ سَنَةِ سبع - وقيل: تسع - وستين وخمسمائة.
وقرأ بالروايات عَلَى ابْن الباقلاني بواسط. وسمع من الأسعد بْن يلدرك الجبريلي، وعبد الحق اليوسفي، وشهدة الكاتبة، وأبي الغنايم عَبْد الرَّحْمَنِ بْن جامع بْن النبأ، وأبي الفوارس الشاعر المعروف بِحَيْصَ بَيْصَ، وغيرهم.
وتفقه عَلَى عمه ناصح الإِسْلام أَبِي الفتح. وحصل طرفا جيدا من الفقه. وناظر فِي المسائل الخلافية وأفتى، وولي الإِعادة للحنابلة بالمستنصرية. وشهد(3/550)
عِنْدَ القضاة، وولي كتابة دار التشريفات.
وَكَانَ فقيها فاضلا، حسن المناظرة، متدينا مشكور الطريقة، كثير التلاوة للقرآن الكريم. وحدث. وأثنى عَلَيْهِ ابْن نقطة.
رَوَى عَنْهُ ابْن النجار، وابن الساعي، وعمر بْن الحاجب، وبالإِجازة جَمَاعَة، آخرهم: زينب بنت الكمال المقدسية.(3/551)
توفي فِي سابع جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وستمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى.
محمد بْن سَعْد بْن عَبْد اللَّهِ بْن سَعْد بْن هبة اللَّه بْن مفلح بْن نمير(3/552)
الأَنْصَارِي، المقدسي الأصل، الدمشقي، الكاتب الأديب: ولد سنة إحدى وسبعين وخمسمائة.
سمع من يَحْيَى الثقفي، وابن صدقة الحراني، وعَبْد الرَّحْمَنِ بْن الخرقي، والجيزي، وَأَحْمَد بْن الموازيني، والخشوعي. وأجاز لَهُ ابْن شاتيل، والقزاز، والحافظ أَبُو موسى، والسلفي، وأبو الْعَبَّاس الترك.
وَكَانَ شيخا فاضلا، وأديبا حسن النظم والنثر،(3/553)
من المعروفين بالفضل والأدب والكتابة والدين والصلاح ونظم القريض، وحسن الخط وحسن الخصال، ولطف المقال وطال عمره. ووزر للملك الصالح إِسْمَاعِيل مدة.
حدث بدمشق وحلب. كتب عَنْهُ ابْن الحاجب، فَقَالَ: سألت الحافظ بْن عَبْد الْوَاحِد عَنْهُ؟ فَقَالَ: عالم دين. رَوَى عنه جماعة، منهم ابنه يحمى بْن مُحَمَّد بْن سَعْد، وسليمان بْن حمزة، والدمياطي. قاله ابْن شاكر.
وتوفى فِي ثاني شوال سنة خمسين وستمائة بسفح قاسيون. ودفن من الغد.
وتوفى أخوه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد فِي نصف ذي القعدة من السنة.(3/554)
رَوَى عَن الخشوعي وابن طبرزد.
عَلِي بْن عَبْد الرَّحْمَنِ البغدادي، البابصري الفقيه، أَبُو الْحَسَن بْن أَبِي الفرج. ويلقب موفق الدين: سمع مَعَ أَبِيهِ من أَبِي الْعَبَّاس أَحْمَد بْن أَبِي الفتح بْن صرما، وأبي بَكْر زَيْد بْن يَحْيَى بْن هبة اللَّه البيع؛ وتفقه فِي المذهب. وَكَانَ معيدا لطائفة الحنابلة بالمدرسة المستنصرية.(3/556)
توفي فِي شعبان سنة إحدى وخمسين وستمائة. ودفن بباب حرب.
ذكره الشريف عز الدين الحسيني الحافظ. وأظنه ابْن البردوي الواعظ المتقدم ذكره.(3/557)
عَبْد السَّلام بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي القاسم بْن عَبْد اللَّهِ الخضر بْن(4/1)
محمد بن علي ابن تيمية الحراني الفقيه، الإمام الْمُقْرِي المحدث المفسر، الأصولي النحوي، مجد الدين أَبُو البركات. شيخ الإِسْلام وفقيه الوقت، وأحد الأعلام، ابْن أَخِي الشيخ فخر الدين مُحَمَّد بْن أَبِي القاسم السابق ذكره: ولد سنة تسعين وخمسمائة - تقريبا - بحران.
وحفظ بها الْقُرْآن. وسمع من عمه الخطيب فخر الدين، والحافظ عَبْد القادر الرهاوي، وحنبل الرصافي.
ثُمَّ ارتحل إِلَى بغداد سنة ثلاث وستمائة، مَعَ ابْن عمه سَيْف الدين عَبْد الغني المتقدم ذكره أَيْضًا. فسمع بها من عَبْد الْوَهَّاب ابن سكينة، والحافظ بْن الأخضر، وابن طبرزد، وضياء بْن الخريف، ويوسف بْن مبارك الخفاف، وعبد الْعَزِيز بْن منينا، وأحمد بن الْحَسَن العاقولي، وعبد المولى بْن أَبِي تمام بْن باد وغيرهم. فأقام ببغداد ست سنين. يشتغل فِي الفقه والخلاف والعربية وغير ذَلِكَ.
ثُمَّ رجع إِلَى حران واشتغل بها عَلَى عمه الخطيب فخر الدين.
ثُمَّ رجع إِلَى بغداد سنة بضع عشرة، فازداد بها من العلوم.
قرأ ببغداد القراءات بكتاب " المبهج " لسبط الخياط علي(4/2)
بْن عَبْد الْوَاحِد بْن سلطان. وتفقه بها عَلَى أَبِي بَكْر بْن غنيمة الحلاوي، والفخر إِسْمَاعِيل، وأتقن العربية والحساب والجبر والمقابلة والفرائض عَلَى أَبِي البقاء العكبري، حَتَّى قرأ عَلَيْهِ كتاب " الفخري " فِي الجبر والمقابلة. وبرع فِي هذه العلوم وغيرها.
قَالَ الحافظ الذهبي: حَدَّثَنِي شيخنا - يَعْنِي أبا الْعَبَّاس ابْن تيمية شيخ الإِسْلام حفيد الشيخ مجد الدين هَذَا - أَن جده رُبِّي يتيما، وأنه سافر مَعَ ابْن عمه إِلَى العراق ليخدمه وبشتغل مَعَهُ وَهُوَ ابْن ثَلاث عشرة سنة، فكان يبيت عنده، فيسمعه يكرر عَلِي مسائل الخلاف، فيحفظ المسألة، فَقَالَ الفخر إِسْمَاعِيل: إيش حفظ هذا الثُنين - يَعْنِي الصغير - فبدر، وَقَالَ: حفظت يا سيدي الدرس، وعرضه فِي الحال، فبهت فِيهِ الفخر، وَقَالَ لابن عمه: هَذَا يجيء منه شَيْء، فعرضه عَلَى الاشتغال، قَالَ: فشيخُه فِي الخلاف: الفخر إِسْمَاعِيل، وعرض عَلَيْهِ مصنفه " جنة الناظر " وكتب لَهُ عَلَيْهِ سنة! ست وستمائة " وعرض عَلِي الفقيه الإِمام العالم(4/3)
أوحد الفضلاء " أَوْ نَحْو هذه العبارة وَأُخْرَى نحوها، وَهُوَ ابْن ستة عشر عاما.
قَالَ الذهبي: قَالَ لي شيخنا أَبُو الْعَبَّاس: كَانَ الشيخ جمال الدين بْن مَالِك يَقُول: ألين للشيخ المجد الفقه كَمَا أُلين لداود الحديد.
قَالَ: وبلغنا أَن الشيخ المجد لما حج من بغداد فِي آخر عمره، واجتمع بِهِ الصاحب العلامة، محيي الدين بْن الجوزي، فانبهر لَهُ، وَقَالَ: هَذَا الرجل مَا عندنا ببغداد مثله، فلما رجع من الحج التمسوا منه أَن يقيم ببغداد، فامتنع، واعتل بالأهل والوطن.
قَالَ: وَكَانَ حجه سنة إحدى وخمسين.
وفيها حج الشيخ شمس الدين بْن أَبِي عُمَر، وَلَمْ يتفق اجتماعهما.
قَالَ: وَكَانَ الشيخ نجم الدين بْنُ حمدان مصنف " الرعاية " يَقُول: كنت أطالع عَلَى درس الشيخ المجد، وَمَا أبقي ممكنا، فَإِذَا حضرت الدرس أتى الشيخ بأشياء كثيرة لا أعرفها.
وَقَالَ ابْن حمدان، فِي تراجم شيوخ حران: صحبته فِي المدرسة النورية بَعْد قدومي من دمشق. وَلَمْ أسمع منه شَيْئًا، وَلَمْ أقرأ عَلَيْهِ. وسمعت بقراءته عَلَى ابْن عمه كثيرا. ولي التدريس والتفسير بَعْد ابْن عمه. وَكَانَ رجلًا فاضلًا فِي مذهبه وغيره وجرى لي مَعَهُ مباحث كثيرة، ومناظرات عديدة فِي حياة ابْن عمه وبعده.
قُلْت: وجدت لابن حمدان سماعا عَلَيْهِ.
وَقَالَ الحافظ عز الدين الشريف: حدث بالحجاز، والعراق، والشام،(4/4)
وبلده حران، وصنف ودرس. وَكَانَ من أعيان العلماء، وكابر الفضلاء ببلده. وبيته مشهور بالعلم والدين والحَدِيث.
قَالَ الذهبي: قَالَ شيخنا: كَانَ جدنا عجبا فِي حفظ الأحاديث وسردها بلا كلفة، وحفظ مذاهب النَّاس.
وَقَالَ الذهبي أيضًا: حكى البرهان المراغي: أَنَّهُ اجتمع بالشيخ المجد، فأورد نكتة عَلَيْهِ، فَقَالَ المجد: الجواب عَنْهَا من ستين وجها، الأَوَّل كَذَا، وَالثَّانِي كَذَا، وسردها إِلَى أخرها، ثُمَّ قَالَ للبرهان: قَدْ رضينا منك بإعادة الأجوبة، فخضع وانبهر.
قَالَ الذهبي الحافظ: كَانَ الشيخ مجد الدين معدوم النظير فِي زمانه، رأسا فِي الفقه وأصوله، بارعا فِي الْحَدِيث ومعانيه، لَهُ اليد الطولى فِي معرفة الْقُرْآن والتفسير، وصنف التصانيف، واشتهر اسمه، وبَعُدَ صيته. وَكَانَ فرد زمانه فِي معرفة المذهب، مفرط الذكاء، متين الديانة، كبير الشأن.
قَالَ شيخنا أبو عب اللَّهِ بْن القيم: حَدَّثَنِي أَخُو شيخنا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد الحليم ابن تيمية - قُلْت: وَقَدْ أجازني عَبْد الرَّحْمَنِ هَذَا عَن أَبِيهِ - قَالَ: كَانَ الجد إِذَا دَخَلَ الخلاء يَقُول لي: اقرأ فِي هَذَا الكتاب، وارفع صوتك حَتَّى أسمع.
قُلْت: يشير بِذَلِكَ إِلَى قوة حرصه عَلَى العلم وحصوله، وحفظه لأوقاته.
وللصرصري من قصيدته اللامية فِي مدح الإمام أَحْمَد وأَصْحَابه:(4/5)
وإن لنا فِي وقتنا وفتوره ... لإخوان صدق بغية المتوصل
يذبون عَن دين الهدى ذب ناصر ... شديد القوى، لَمْ يستكينوا لمبطل
فمنهم بحران: الفقيه النبيه ذو ... الفوائد والتصنيف فِي المذهب الجلي
هُوَ المجد ذو التقوى ابْن تيمية الرضى أَبُو البركات العالم الحجة الملي
محرره فِي الفقه حرر فقهنا ... وأحكم بالأحكام علم المبجل
جزاهم خيرا ربهم عَن نيبهم ... وسنته، آلوا بِهِ خير موئل
ذكر تصانيفه
" أطراف أحاديث التفسير " رتبها على السور معزوة " أرجوزة " فِي علم القراءات " الأَحْكَام الكبرى " فِي عدة مجلدات " المنتقي من أحاديث الأَحْكَام " وَهُوَ الكتاب المشهور، انتقاه من الأَحْكَام الكبرى. ويقال: إِن الْقَاضِي بهاء الدين بْن شداد هُوَ الَّذِي طلب منه ذَلِكَ بحلب " المحرر " فِي الفقه " منتهى الغاية فِي شرح الهداية " بيض منه أربع مجلدات كبار إِلَى أوائل الحج، والباقي لَمْ يبيضه " مسودة " فِي أصول الفقه مجلد. وزاد فِيهَا ولده، ثُمَّ حفيده أَبُو الْعَبَّاس " مسودة " فِي العربية عَلَى نمط المسودة فِي الأصول.
قرأ عَلَى الشيخ مجد الدين القراءات جَمَاعَة. وأخذ الفقه عِنْدَ ولده شهاب الدين عَبْد الحليم، وابن تميم صاحب " المختصر " وغيرهما. وسمع منه خلق.
رَوَى عَنْهُ ابنه شهاب الدين أَبُو الْعَبَّاس، والحافظ عَبْد المؤمن الدمياطي، والأمين بْن شقير الحراني، وأبو إِسْحَاق بْن الظاهري الحافظ،(4/6)
ومحمد بْن أَحْمَد القزاز، وَأَحْمَد الدشتي، ومحمد بْن زناطر، والعفيف إِسْحَاق الآمدي، والشيخ نور الدين البصري مدرس المستنصرية، وأبو عَبْد اللَّهِ بْن الدواليبي.
وأجاز لتقي الدين سُلَيْمَان بْن حمزة الحاكم، ولزينب بنت الكمال، وَأَحْمَد بْن عَلِي الجزري. وهما خاتمة من رَوَى عَنْهُ. وَقَدْ أجاز لي.
وتوفي يَوْم عيد الفطر بَعْد صلاة الجمعة من سنة اثنتين وخمسين وستمائة بحران. ودفن بظاهرها رحمه اللَّه عَلَيْهِ.
وتوفيت ابنة عمه زوجته بدرة بنت فخر الدين ابْن تيمية قبله بيوم واحد.
هكذا أرخ سنة وفاته الحافظ الشريف عز الدين، وابن الساعي، والذهبي وغيرهم.
وقرأت بخط حفيده أَبِي الْعَبَّاس - مِمَّا كتبه فِي صباه - حَدَّثَنَا والدي أَن أباه أبا البركات توفي بَعْد العصر من يَوْم الجمعة يَوْم عيد الفطر سنة ثلاث وخمسين وستمائة. ودفن بكرة السبت.
وصلَى عَلَيْهِ أَبُو الفرج عَبْد القاهر بْن أَبِي مُحَمَّد عَبْد الغني بْن أَبِي عَبْد اللَّهِ ابْن تيمية، غلبهم عَلَى الصلاة عَلَيْهِ، وَلَمْ يبقَ في البد من لَمْ يشهد جنازته إلا معذور. وَكَانَ(4/7)
الخلق كثير جدا. ودفن بمقبرة الجبانة من مقابر حران. رحمه اللَّه.
ذكر بَعْض فوائده الغريبة وفتاويه
ذكر الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه: أَن جده كَانَ أحيانا يفتي: أَن الطلاق الثلاث المجموعة إِنَّمَا تقع واحدة فَقَط، وأنه كَانَ يفتي بِذَلِكَ سرا.
وذكر عَنْهُ: أَنَّهُ لَمَّا حج فِي آخر عمره كَانَ يفتي بأن المحرم لَهُ لبس السرموزة ونحوها من الجمجم، وألحق المقطوعة، وإن كان واجداً للنعل. وَهُوَ وجه حكاه الْقَاضِي فِي شرح المذهب.
وحكى أَبُو الْعَبَّاس حفيده عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يقول: إذا حلف بالتزامات - كالكفر واليمين بالحج والصيام، ونحو ذَلِكَ من الالتزامات، وكانت يمينه غموسا - أَنَّهُ يلزمه مَا حلف عَلَيْهِ.
وذكر صاحب المبهم - الشيخ عَبْد اللَّهِ كتيلة - أَنَّهُ حج سنة إحدى وخمسين وستمائة. قَالَ: فسألت شيخنا - يَعْنِي الشيخ مجد الدين - بمكة عَلَى ابْن السبيل إذا كان يقدر القرض، يَجُوز أَن يأخذ من الزكاة. فَقَالَ: يلزمه أَن يقترض إِن قدر عَلَى ذَلِكَ، ولا يَجُوز لَهُ الأخذ، ولا تبرأ ذمة من يعطيه إِذَا علم بقدرته عَلَى الاقتراض.(4/8)
قَالَ: وسألت عَن ذَلِكَ شيخنا عبد الرحمن ابن أَخِي الشيخ - يَعْنِي ابْن أَبِي عُمَر بمنى؟ فَقَالَ: نعم يَجُوز لَهُ الأخذ من الزكاة؛ لأن كَلام اللَّه تَعَالَى عَلَى إطلاقه، وَلَمْ يشترط أَصْحَابنا عدم قدرته عَلَى الاقتراض. قَالَ: ولأن ذمته تشتغل من قبل من لَهُ الدين. وَفِي ذَلِكَ ضرر يتعب قلبه، ويشتت همه، وحرصه عَلَى براءة ذمته، وخوفه أَن يموت وَلَمْ يكن عَلَى يقين من قضاء دينه قبل موته. انتهى.
حسن بْن أَحْمَد بْن أَبِي الْحَسَن بْن دويرة البصري، المقرئ الزاهد أَبُو عَلِي، شيخ الحنابلة بالبصرة، ورئيسهم ومدرسهم: اشتغل عَلَيْهِ أمم، وختم عليه أزيد من ألف إِنْسَان. وَكَانَ صالحا زاهدا ورعا.
وحدث بجامع الترمذي بإجازته من الحافظ أَبِي مُحَمَّد بْن الأخضر، فسمعه منه الشيخ نور الدين عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عُمَر البصري مدرس المستنصرية. وَهُوَ أحد تلامذته، وعليه ختم الْقُرْآن، وحفظ " الخرقي " عنده بمدرسته بالبصرة.
وتوفي الشيخ أَبُو عَلِي اثنتين وخمسين وستمائة بالبصرة.
وولي بعده التدريس بمدرسته تلميذه الشيخ نور الدين المذكور، وخلع عَلَيْهِ ببغداد فِي تاسع عشر جمادى الآخرة من السنة المذكورة.(4/9)
وتوفي ابْن أَخِي الشيخ أَبِي عَلِي، واسمه: -
عَبْد المحسن بْن مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَسَن بْن دويرة البصري المقرئ أَبُو مُحَمَّد -: ببغداد يَوْم الثلاثاء منتصف ذي الحجة سنة تسع وأربعين وستمائة. ودفن من الغد بباب حرب. وحدث بالإجازة عَن ابْن منينا، وابن الأخضر أيضًا. وسمع منه الحافظ الدمياطي.
وللشيخ أَبِي عَلِي الْحَسَن ولد يسمى: -
الْحَسَن أَيْضًا. ويكنى أبا مُحَمَّد.(4/10)
ويلقب جمال الدين: سمع ببغداد متأخرا سنة إحدى وخمسين من أَبِي مَنْصُور بْن الهبي التاجر. وكان من بيتهم علماء وصالحون من أَصْحَابنا، حَتَّى رأيت مِنْهُم فِي صباي رجلًا ببغداد. وَكَانَ معيدا بالمستنصرية. يقال لَهُ: أَبُو حفص عُمَر بْن دويرة.(4/11)
أَبُو بَكْر بْن يُوسُف بْن أَبِي بَكْر بْن أَبِي الفرج بْن يُوسُف بْن هلال(4/12)
بْن يُوسُف الحراني، المقرئ، الفقيه المحدث، المعروف بابن الزراد. ويلقب ناصح الدين: ولد سنة أربع عشرة وستمائة - تقديرا - بحران.
وقرأ الْقُرْآن الكريم بالروايات. وسمع الْحَدِيث بدمشق عَلَى أَبِي عَمْرو بْن الصلاح الحافظ، وجماعة من أَصْحَاب ابْن عساكر، وَيَحْيَى الثقفي، وغيرهما.(4/15)
وسمع بحلب من الحافظ يُوسُف بْن خليل وجماعة، وتفقه فِي المذهب. وكتب الكثير بخطه. وَكَانَ فاضلًا متدينا. واخترمته المنية وَلَمْ يحدث مِمَّا حصل إلا بيسير.
توفي فِي سنة ثَلاث وخمسين وستمائة بحلب. رحمه اللَّه. وذكره الحافظ عز الدين الحسيني.
مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن الْحُسَيْن الموصلي، المقرئ، الفقيه الأديب، شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ. ويعرف بشعلة: قرأ الْقُرْآن عَلَى أَبِي الْحَسَن عَلِي بْن عَبْد الْعَزِيز الأربلي وغيره. وتفقه. وقرِأ العربية، وبرع فِي الأدب وَالْقُرْآن، وصنف تصانيف كثيرة، ونظم الشعر الْحَسَن.
قَالَ الحافظ الذهبي: كَانَ شابا فاضلا. ومقرئا محققا، ذا ذكاء مفرط، وفهم ثاقب. ومعرفة تامة بالعربية واللغة، وشعره فِي غاية الجودة. نظم فِي(4/16)
الفقه وَفِي التاريخ وغيره. ونظم كتاب " السمعة فِي القراءات السبعة " وَكَانَ - مَعَ فرط ذكائه - صالحا زاهداً متواضعاً. كان شيختا التقي المقصاتي يصف شمائله وفضله، ويثني عَلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ حضر بحوثه. وسمع أبا الْحَسَن شيخه يَقُول: كَانَ أَبُو عَبْد اللَّهِ نائما إِلَى جانبي فاستيقظ، وَقَالَ لي: رأيت الساعة رَسُول اللِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فطلبت منه العلم، فأطعمني تمرات. قَالَ أبو الحسن: من ذَلِكَ الوقت فتح اللَّه عَلَيْهِ، وتكلم.
قُلْت: لَهُ تصانيف كثيرة، أكثرها فِي القراءات " شرح الشاطبية " ونظم " عقود ابْن جني " فِي العربية سماه " العنقود " ونظم " اخْتِلاف عدد(4/17)
الآي برموز الْجُمَل " وَلَهُ نظم العبادات من " الخرقي " وَلَهُ كتاب " الناسخ والمنسوخ " فِي الْقُرْآن. وكلامه فِيهِ يدل عَلَى تحقيقه وعلمه، وَلَهُ كتاب " فضائل الأئمة الأربعة " ومن نظمه قَوْله:
دع عنك ذكر فلانة وفلان ... واجنب لما يلهى عَنِ الرحمن
واعلم بأن الْمَوْت يَأْتِي بغتة ... وجميع مَا فَوْقَ البسيطة فان
فإلى مَتَى تلهوا وقلبك غافل ... عَن ذكر يَوْم الحشر والميزان؟
أتراك لَمْ تك سامعا مَا قَدْ أتى ... فِي النص للآيات وَالْقُرْآن.
فأنظر بعين الاعتبار، ولا تكن ... ذا غفلة عَن طاعة الديان
واقصد لمذهب أَحْمَد بْن مُحَمَّد ... أعنى ابْن حنبل الفتى الشيباني
فَهُوَ الإِمام مقيم دين المصطفى ... من بَعْد درس معالم الإيمان
أحيا الهدى وأقام فِي إحيائه ... متجردا للضرب، غَيْر جبان
تعلوه أسياط الأعادي، وَهُوَ لا ... ينفك عَن حق إِلَى بهتان
وَيَقُول عِنْدَ الضرب: لست بتابع يا ويحكم، لكم بلا برهان
ماذا أقول غدا لربي إذ أنا ... وافقتكم فِي الزور والبهتان.
وعدلت عَن قَوْل النَّبِي وصحبه ... وجميع من تبعوه بالإِحسان(4/18)
أترون أني خائف من ضربكم ... لا، والإِله الْوَاحِد المنان
كن حنبليا مَا حييت فإنني ... أوصيك خير وصية الإخوان
ولقد نصحتك إِن قبلت، فأحمد ... زين الثقات وسيد الفتيان
من ذا أقام كَمَا أقام إمامنا ... متجردا من غَيْر مَا أعوان
مستعذبا للمر من نصر الهدى ... متجرعا لغضاضة السلطان
وسلا بمهجته وبايع ربه ... أَن لا يطيع أئمة العدوان
وأقام تَحْتَ الضرب، حَتَّى إنه ... دحض الضلال وفتنة الفتان
وأتى برمح الحق يطعن فِي العدى ... أهل الضلال وشيعة السلطان
ماذا لقي مَا قَدْ لقيه من الأذى ... فِي ربه من ساكن البلدان
فعلى ابْن حنبل السَّلام وصحبه ... مَا ناحت الورقاء فِي الأغصان
إني لأرجو أَن أفوز بحبه ... وأنال فِي بعثي رضى الرحمن
حمدا لربي إذ هداني دينه ... وعلى شريعة أَحْمَد أنشأني
واختار مذهب أَحْمَد لي مذهبا ... ومن الهوى والغي قَدْ أنجاني
من ذا يقوم من الْعِبَاد بشكر مَا ... أولاه سيده من الإحسان.
قَالَ الذهبي: توفى فِي صفر سنة ست وخمسين وستمائة بالموصل. وَلَهُ ثَلاث وثلاثون سنة. رحمه اللَّه تَعَالَى.
وقرأت عَلَى بَعْض شيوخنا ببغداد: أَنَّهُ توفى سنة خمسين. والله أعلم.(4/19)
يُوسُف بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد اللَّهِ بْن حماد بْن الجوزي، القرشي التَّيْمِي، البكري، البغدادي، الفقيه الأصولي، الواعظ(4/20)
الصاحب الشهير، محي الدين، أَبُو مُحَمَّد، وأبو المحاسن، ابْن الشيخ جمال الدين أَبِي الفرج المتقدم ذكره، أستاذ دار الخلافة المستعصمية.
ولد فِي ليلة سابع عشر ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة ببغداد.
وسمع بها من أَبِيهِ، ويحمى بن بوش، وذاكر بْن كامل، وابن كليب، وأبي مَنْصُور عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن عَبْد السَّلام، وابن المغطوش، وأبي الْحَسَن بْن مُحَمَّد بْن يعيش. وقرأ الْقُرْآن بالروايات العشر عَلَى ابْن الباقلاني بواسط، وَقَدْ جاوز العشر سنين من عمره، ولبس الخرقة من الشيخ ضياء الدين عَبْد الْوَهَّاب ابن سكينة.
واشتغل بالفقه والخلاف والأصول، وبرع فِي ذَلِكَ. وَكَانَ أمهر فِيهِ من أَبِيهِ ووعظ فِي صغره عَلَى قاعدة أَبِيهِ، وعلا أمره وعظم شأنه، وولي الولايات الجليلة.(4/21)
قَالَ ابْن الساعي: شهد عِنْدَ ابن الدامغاني سنة أربع وستمائة. ثم ولي الحسبة بجانبي بغداد، والنظر فِي الوقوف العامة، ووقوف جامع السلطان، ثُمَّ عزل عَنِ الحسبة، ثُمّ الوقوف سنة تسع، فانقطع فِي داره يعظ، ويفتي ويدرس، ثُمَّ أعيد إِلَى الحسبة سنة خمس عشرة، واستمر مدة ولاية المناصر. ثم أقره ابنه الظاهر.
قال: وَهُوَ من الْعُلَمَاء الأفاضل، والكبراء الأماثل، أحد أعلام العلم، ومشاهير الفضل. ظهرت عَلَيْهِ آثار العناية الإلهية، منذ كَانَ طفلًا. فعنى بِهِ والده. وأسمعه الْحَدِيث، ودربه من صغره فِي الوعظ، وبورك لَهُ فِي ذَلِكَ. وصار لَهُ قبول تام، وبانت عَلَيْهِ آثار السعادة.
وتوفى والده وعمره إذ ذاك سبع عشرة سنة، فكفلته الجهة والدة الإمام الناصر وتقدمت لَهُ بالجلوس للوعظ عَلَى عادة والده عِنْدَ تربتها، بَعْد أَن خلعت عَلَيْهِ. فتكلم بِمَا بهر بِهِ الحاضرين، وَلَمْ يزل فِي تَرقّ من حاله، وغلُوٌ من شأنه يذكر الدروس فقها ويواصل الجلوس وعظا عِنْدَ التربة المذكورة، وبباب بدر. وَكَانَ يورد من نظمه كُل أسبوع قصيدة فِي مدح الخليفة، فحظي عنده، وولاه مَا تقدم، وأذن لَهُ فِي الدخول إِلَى ولي عهده. ثُمَّ أوصى الناصر عِنْدَ موته أَن يغسله.
وَقَالَ أَيْضًا: كَانَ كامل الفضائل، معدوم الرذائل، أمر الناصر بقبول " شهادته وقلد الحسبة بجانبي بغداد، وَلَهُ ثَلاث وعشرون سنة، وكتب لَهُ الناصر عَلَى رأس توقيعه بالحسبة: حُسْن السمت، ولزوم الصمت: أكسباك يا يُوسُف، مَعَ حداثة سنك - مَا لَمْ(4/22)
يترق إِلَيْهِ هِمَمُ أمثالك. فدُمْ عَلَى مَا أَنْتَ بصدده. ومَن بورك لَهُ فِي بشيء فليلزمه. والسلام.
ثُمَّ روسل بِهِ إِلَى ملوك الأطراف، فاكتسب مالا كثيرا، وأنشأ مدرسة بدمشق، ووقف عَلَيْهَا وقوفا متوفرة الحاصل. وأنشأ ببغداد بمحلة الحلبة مدرسة لَمْ تتم، وبمحلة الحربية دار قرآن ومدفنا. ثُمَّ ولى التدريس بالمستنصرية. ثُمَّ ولي أستاذ دارية(4/23)
الدار، فلم يزر كَذَلِكَ إِلَى أَن قتل صبرا شهيدا بسَيْف الكفار عِنْدَ دخول هولاكو ملك التتار إِلَى بغداد، فقتل الخليفة المستعصم بالله وأكثر أولاده، وقتل مَعَهُ أعيان الدولة والأمراء وشيخ الشيوخ وأكابر الْعُلَمَاء. وقتل أستاذ الدار محيي الدين وأولاده الثلاثة، وَذَلِكَ فِي صفر سنة ست وخمسين وستمائة بظاهر سور كلوذا، رحمة اللَّه عَلَيْهِم.
كَانَ المستنصر لَهُ شباك على إيوان الحنابلة يسمع الدرس مِنْهُم دُونَ غيرهم وأثره باق.
قَالَ الشريف عز الدين: كَانَ أحد صدور الإِسْلام، وفضلائهم وأكابرهم، وأجلائهم من بيت الرواية والدراية.
وحدث ببغداد وبمصر، وغيرهما من البلاد.
وذكره الدبيثي فِي تاريخه - وَقَدْ مَات قبله بمدة - وَقَالَ: فاضل عالم، فقيه عَلَى مذهب أَحْمَد. لَهُ معرفة بالوعظ. وجلس للوعظ بَعْد وفاة أَبِيهِ، ودرس وناظر؛ وتولى الحسبة بجانبي بغداد، والنظر فِي الوقف العام.
وَقَالَ الحافظ الذهبي: كَانَ إماماً كبيراً، وصدراً معظما، عارفا بالمذهب كثير المحفوظ، ذا سمت ووقار. درس، وأفتى وصنف. وَأَمَّا رياسته وعقله: فينقل بالتواتر، حَتَّى أَن الْمَلِك الكامل - مَعَ عظم سلطانه - قَالَ: كَانَ أحد يعوزه زيادة عقل " محيي الدين بْن الجوزي. فَإِنَّهُ يعوزه نقص عقل.
ويحكى عَنْهُ فِي هَذَا عجائب، منها: أَنَّهُ مر فِي سويقة بَاب البريد والناس بَيْنَ يديه،(4/24)
وَهُوَ راكب البغلة، فسقط حانوت، فضج النَّاس وصاحوا، وسقطت خشبة، فأصابت كفل بغلته، فلم يلتفت، ولا تغير عَن هيئته.
وحكى عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يناظر، ولا يحرك لَهُ جارحة.
وكانت خاتمة سعادته الشهادة. رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قَالَ الشيخ عَبْد الصمد بْن أَبِي الجيش: بلغني عَنِ الشيخ مُحَمَّد بْن سكران الزاهد المشهور، أَنَّهُ قَالَ: رأيت أستاذ الدار ابْن الجوزي فِي النوم، فَقُلْتُ له: ما فعل الله بك؟ قَالَ: كفرت ذنوبنا سيوفُهم رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَلَهُ تصانيف عدة، منها " معادن الأبريز، فِي تفسير الكتاب الْعَزِيز " ومنها " المذهب الأحمد فِي مذهب أَحْمَد "، ومنها " الإيضاح فِي الجدل ".
وسمع منه خلق ببغداد، ودمشق، ومصر.
وَرَوَى عَنْهُ عبد الصمد بن أبي الجيش، والحافظ أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد(4/25)
بْن الكسار، والدمياطي، وابن الظاهري، وأبو الفضل عَبْد الرزاق بْن الفوطي، وبالإجازة خلق، آخرهم: زينب بنت الكمال المقدسي.
ومن نظمه: ما أنشدني عنه ابن الساير، وأنبأتناه زينب بنت أَحْمَد عَنْهُ:
صب لَهُ من حيا آماقه غرق ... وَفِي حشاشته من وجده حرق
فأعجب لضدين فِي حال قَد اجتمعا ... غريق دمع بنار الوجد يحترق
لَمْ أَنَس عيشا على سلع ولعلها ... والبان مفترق وجدا ومعتنق
ونفحة الشيخ تأتينا معنبرة ... وعرفها بمعاني المنحنى عبق
والقلب طير، لَهُ الأشواق أجنحة ... إِلَى الحبيب، رياح الحب تخترق
قل للحمى بالربى واعن الحلول بها ... مَا ضرهم بجريح القلب لو رفقوا
وَقَدْ بقي رمق منه، فَإِن هجروا ... مضى كما مر أمس ذَلِكَ الرمق
وَلَهُ قصيدة طويلة مدح فِيهَا النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أولها:
قَدْ زلزلت أرض الهوى زلزالها ... وَقَالَ سلطان الغرام: مَا لَهَا؟
وَأَمَّا أولاده الثلاثة الَّذِينَ قتلوا مَعَهُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُم فأحدهم: الشيخ.
جمال الدِّينِ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَكَانَ فاضلًا بارعا.(4/26)
درس بالمستنصرية لما ولي أبوه الأستاذ دارية، وولي حسبة بغداد أيضًا.(4/27)
وَكَانَ يعظ مكان أَبِيهِ وجده بباب بدر وغيره. ويقال: إِن لَهُ تصانيف.(4/28)
وقتل وَقَدْ جاوز الخمسين سنة. رحمه اللَّه تَعَالَى، لأن مولده كان سنة ست وستمائة.
وَقَدْ سمع من عَبْد الْعَزِيز بْن منينا، وَأَحْمَد بْن صرما، وغيرهما.
وترسل بِهِ عَنِ الديوان إِلَى مصر. وَكَانَ رئيسا معظما.
وحدث ببغداد ومصر. وخرج لَهُ الرشيد العطار بمصر جزءا. وحدث.
سمع منه عبيد الأسعردي، وسمع منه الشرف الميمومي، وأجاز لأبي عبد الله أَحْمَد الحراني، وسليمان بْن حمزة الْقَاضِي، وَلَهُ نظم حسن، وَلَهُ ديوان، حدث ببغداد. ومن شعره:
فضل النبيين الرسول مُحَمَّد ... شرفا يَزِيد، وزادهم تعظيما
يكفيه أَن اللَّه جل جلاله ... آوى، فَقَالَ: " أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا "
در يتيم فِي الفخار، وإنما ... خير اللآلئ مَا يَكُون يتيما(4/29)
ولقد سما الرسل الكرام فكلهم ... قَدْ سلموا لجلاله تسليما
والله شد صلَّى عَلَيْهِ كرامة ... صلوا عَلَيْهِ وسلموا تسليما
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: -
شرف الدين عَبْد اللَّهِ: ولي الحسبة أَيْضًا، ثُمَّ تزهد ودرس بالبشيرية، وولي ولايات ديوانية.
وَكَانَ المستعصم بعثه بخطه إِلَى هولاكو، وعاد إِلَى بغداد، ثُمَّ قتل مَعَ أَبِيهِ عِنْدَ وصول هولاكو. والثالث: -
تاج الدين عَبْد الكريم: ولي الحسبة أيضًا لما تركها أخوه، ودرس بالمدرسة الشاطبية، وقتل وَلَمْ يبلغ عشرين سنة،(4/30)
رحمة اللَّه عَلَيْهِم أجمعين.
يَحْيَى بْن يُوسُف بْن يَحْيَى بْن مَنْصُور بْن المعمر بْن عَبْد السلام(4/31)
الأنصاري الصرصري، الرْريراني، الضرير الفقيه، الأديب اللغوي الشاعر الزاهد جمال الدين، أَبُو زَكَرِيَّا، شاعر العصر، وصاحب الديوان السائر فِي النَّاس فِي مدح النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ حسان وقته: ولد فِي سنة ثمان وثماني وخمسمائة.
وقرأ الْقُرْآن بالروايات عَلَى أَصْحَاب ابْن عساكر البطايحي، وسمع الْحَدِيث من الشيخ عَلَى بْن إدريس اليعقوبي الزاهد، صاحب الشيخ عَبْد القادر،(4/32)
وصحبه وسلك بِهِ، ولبس منه الخرقة. وأجاز لَهُ الشيخ عَبْد المغيث الحربي وغيره، وحفظ الفقه واللغة. ويقال: إنه كَانَ يحفظ " صحاح الجوهري " بكماله.
وَكَانَ يتوقد ذكاء، ونظمه فِي الغاية، ويقال: إِن مدائحه فِي النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبلغ عشرين مجلدا.
وَقَدْ نظم فِي الفقه " مختصر الخرقي " ونظم " زوائد الكافي " عَلَى الخرقي، ونظم فِي العربية، وَفِي فنون شتى.
وَكَانَ(4/33)
صالحا قدوة، عظيم الاجتهاد، كثير التلاوة، عفيفا صبورا قنوعا، محبا لطريقة الفقراء ومخالطتهم. وَكَانَ يحضر معهم السماع، ويرخص فِي ذَلِكَ. وَكَانَ شديدا فِي السنة، منحرفا عَلَى المخالفين لَهَا. وشعره مملوء بذكر أصول السنة، ومدح أهلها، وذع مخالفيها. وَلَهُ قصيدة طويلة لامية في مدح الإِمام أحمد وأصحابه. وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضهَا مفرقا فِي تراجم بَعْض الأَصْحَاب الَّذِينَ ذكرهم فِيهَا.(4/34)
وَكَانَ قَدْ رأى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي منامه وبشره بالموت عَلَى السنة، ونظم فِي ذَلِكَ قصيدة طويلة معروفة. وَقَدْ حدث.(4/35)
وسمع منه الحافظ الدمياطي، وذكره فِي معجمه، وعلي بْن حصين(4/36)
الفخري. وأجاز للقاضي سُلَيْمَان بْن حمزة، وَأَحْمَد بْن عَلِي الجزري، وزينب بنت الكمال.
ولما دَخَلَ هولاكو وجنده الكفار إِلَى بغداد كان الشيخ يحمى بها. فلما دخلوا عَلَيْهِ قاتلهم. ويقال: إنه قتل مِنْهُم بعكازه. ثُمَّ قتلوه شهيدا رَضِيَ اللَّه عنه سنة ست وخمسين وستمائة برباط الشيخ عَلَى الخباز بالعقبة، وحمل إِلَى صرصر فدفن بها. وزرت قبره بها حِينَ توجهنا إِلَى الحجاز سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
وممن قتل فِي تلك السنة ببغداد من أَصْحَابنا الصالحين: الشيخ الزاهد العابد أَبُو الْحَسَن: -
عَلِي بْن سُلَيْمَان بْن أَبِي العز الخباز: وَكَانَ زاهدا صالحا؛ كبير القدر قدوة. لَهُ أتباع ومريدون. وَلَهُ زاوية ببغداد،(4/37)
وأحوال وكرامات.
قَالَ الذهبي: كَانَ شيخنا الدباهي يصفه ويعظمه. وَكَانَ قَدْ سمع من الشيخ عَلِي بْن أَبِي بَكْر بْن إدريس اليعقوبي الزاهد أَيْضًا. وحدث عَنْهُ.
وسمع منه الدمياطي، وحدث عَنْهُ فِي معجمه، وَقَالَ: قتل شهيدا فِي وقعه التَتَر فِي محرم سنة ست وخمسين وستمائة. ويقال: إنه ألقي عَلَى بَاب زاويته عَلَى مزبلة ثلاثة أَيَّام، حَتَّى أكلت الكلاب من لحمه، وأنه كَانَ قَدْ أخبر عَن نَفْسه بِذَلِكَ فِي حياته رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.(4/38)
وَكَانَ المستنصر بالله يزوره، ويرسل الشيخ مُحَمَّد الركاب دار يأتيه من خبزه فيستشفي بِهِ، وعمر بْن البعلا التاجر فِي رباطه ولازمه.
عبد الرحمن بن رزين بْن عَبْد الْعَزِيز بْن نصر بْن عبيد بْن عَلِي بْن أَبِي الجيش الغساني، الحواري الحواراني، ثُمَّ الدمشقي، الفقيه سَيْف الدين أَبُو الفرج: سمع بدمشق من أبي العباس أحمد بن سلامة النجار الحراني، وببغداد من أَبِي المظفر مُحَمَّد بْن مقبل بْن المنى. وَكَانَ فقيها فاضلا.
صنف تصانيف، منها: كتاب " التهذيب " فِي اختصار " المغني " فِي مجلدين. وسمي فِيهِ الشيخ موفق الدين شيخنا، ولعله اشتغل عَلَيْهِ. ومنها " اختصار الهداية " واختصم أيضًا، وَلَهُ تعليقة. فِي الخلاف مختصرة. وتصانيفه غَيْر محررة.
وَكَانَ يصاحب أستاذ الدار ابْن الجوزي ويلازمه، وتوكل لَهُ فِي بناء مدرسة بدمشق، ثُمَّ ذهب إِلَى بغداد لأجل رفع حسابها إِلَيْهِ. وكان بها سنة مست وخمسين. فقتل شهيدا بسَيْف التتار. رحمه اللَّه تَعَالَى.(4/39)
عَبْد القاهر بْن مُحَمَّد بْن علي بن عبد الله بن عَبْد الْعَزِيز الفوطي(4/40)
البغدادي الأديب، موفق الدين أَبُو مُحَمَّد.
قَالَ ابْن الساعي: كَانَ إماما ثقة، أديبا فاضلًا، حافظاَ للقرآن، قيما بعلم العربية واللغة والنجوم، كاتبا شاعرا صاحب أمثال. وَكَانَ فقيرا ذا عيال. وَلَمْ يوافق نَفْسه عَلَى خيانة. ولي كتابة ديوان العرض.
قتل صبرا فِي الواقعة ببغداد سنة ست وخمسين وستمائة، وَقَدْ بلغ ستين سنة. رحمه اللَّه تَعَالَى.
سمعت أبا الْعَبَّاس أحمد بن علي بن عبد القاهر بْن الفوطي - ببغداد - سنة ثمان وأربعين، أَوْ سنة تسع يَقُول - وكتبه لنا بخطه - لما توفي العلامة أبو الفضائل الْحَسَن بْن مُحَمَّد الصنعاني اللغوي ببغداد رضي الله عنه: أوصى أَن يحمل إِلَى مَكَّة ليدفن بها. فلما حمل عمل جدي موفق الدين عَبْد القاهر بْن الفوطي فِيهِ ارتجالا وَكَانَ مِمَّن قرأ عَلَيْهِ الأدب:
أقول، والشمل فِي ذيل النأي عثرا ... يَوْم الوداع، ودمع العين قَدْ كثرا
أبا الفضائل قَدْ زودتني أسفا ... أضعاف مَا زدت قدري فِي الورى أثرا
قَدْ كنت تودع سمعي الدر منتظما ... فخذه من جفن عيني اليوم منتثرا(4/44)
هكذا أنبأنا بها شيخنا منقطعة. فَإِنَّهُ لَمْ يدرك جده.
مُحَمَّد بْن نصر بْن عَبْد الرزاق بن عبد القادر بن أبي صالح، الجيلي البغدادي، الفقيه الزاهد، محيي الدين أَبُو نصر. قاضي القضاة، عماد الدين أَبُو صَالِح: وَقَدْ سبق ذكر آبائه. سمع من والده، ومن الْحُسَيْن بْن عَلِي المرتضى العلوي، وأبي إِسْحَاق يُوسُف بْن أَبِي حامد مُحَمَّد بْن أَبِي(4/45)
الفضل الأرموي، وعبد العظيم بْن عَبْد اللطيف بْن أَبِي نصر الأَصْبَهَانِي، وابن المشتري، وغيرهم.
وطلب بنفسه، وقرأ وتفقه. وَكَانَ عالما ورعا زاهدا، يدرس بمدرسة جده، ويلازم الاشتغال بالعلم إلى أَن توفي.
ولما ولي أبوه قضاء القضاة: ولاه الْقَضَاء والحكم بدار الخلافة. فجلس فِي مجلس الحكم مجلسا واحدا وحكم، ثُمَّ عزل نَفْسه ونهض إِلَى مدرستهم بباب الأزج. ونم يعد إِلَى ذَلِكَ تنزها عَنِ الْقَضَاء وتورعا.
وحدث: وسمع منه الحافظ الدمياطي، وذكره فِي معجمه. وذكر ابْن الدواليبي: أَنَّهُ سمع عَلَيْهِ.
توفي ليلة الاثنين ثاني عشر شوال سنة ست وخمسين وستمائة ببغداد. ودفن إِلَى جنب جده الشيخ عَبْد القادر بمدرسته رحمه اللَّه. وكانت وفاته بَعْد انقضاء الواقعة.
وَقَدْ رَوَى الدمياطي أيضًا فِي المعجم عَن أخيه يَحْيَى بْن نصر بْن عَبْد الرزاق الفقيه الواعظ عَن أَحْمَد بْن صرما، وَلَمْ يذكر وفاته.(4/46)
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد المنعم بْن نعمة بْن سلطان بْن سرور بْن رافع(4/47)
بْن حسن بْن جَعْفَر، المقدسي النابلسي، الفقيه المحدث، جمال الدين أبو الفرج: و! د يَوْم عاشوراء سنة أربع وتسعين وخمسمائة.
وسمع بالقدس من أَبِي عَبْد الله بق البناء، وحدث بنابلس.
قَالَ الشريف عز الدين: كَانَ لَهُ سعة، وفيه فضل.
توفي فِي ذي القعدة سنة ست، وخمسين وستمائة بنابلس. رحمه اللَّه تَعَالَى.
أنبأني البرزالي - ونقلته من خطه - قَالَ: أنبأني الإِمام العالم جمال الدين عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد المنعم بْن نعمة، وأنشدني لنفسه:
يا طالبا علم خير العلم مجتهدا ... علم الْحَدِيث تحوز اليمن والرشدا
مَا فِي العلوم لَهُ مثل يماثله ... فاطلبه مقتصدا، تسعد بِهِ أبدا
فالفقه يبنى عَلَيْهِ، حيث كَانَ إذ ... الأَحْكَام مأخذها منه إِذَا وجدا
وكيف لا؟ وَهُوَ لولاه لما اتضحت ... سبل الرشاد، ولا بان الزمان هدى(4/48)
وأهله خير أهل العلم قاطبة ... فكن محبا لَهُمْ كيما تفوز غدا
ترى سواهم إِذَا جاء الْحَدِيث لما ... قالوه متبعا مَا تبسطن يدا
أَوْ كَانَ متنا تراهم راجعين إِلَى ... أقوالهم، وكذا إِن أسندوا سندا
لولاهم زاد قوم فِي الشريعة مَا ... شاءوا، ولكن حماها كونهم أسدا
هل يستوي من نأى عَن أرضه طلبا ... لَهَا، وآخر عَن تحصيلها قعدا؟
شتان بَيْنَ امرئٍ ثاوٍ بموطنه ... وبين من كَانَ عَن أوطانه بعدا
ومن ضرورة تفضيل الْحَدِيث عَلَى ... سواه: أَن لا يرى شبها لَهُمْ أحدا
شانيهم لا لقيت الدهر محمدة ... ولا وُقيت مصاباٌ لا ولا فندا
وَفِي ذي الحجة من هذه السنة توفي من أَصْحَابنا خطيب مردا الفقيه المسند الْمُعَمَّرُ: -
أَبُو عَبْدِ اللِّه مُحَمَّدُ بْن إِسْمَاعِيل بْن أَحْمَد بْن أَبِي الفتح(4/49)
المقدسي عَن تسعين سنة: حدث عَن يَحْيَى الثقفي، وابن صدقة الحراني، والبوصيري، وإسماعيل بْن ياسين. وَلَهُ مشيخة، وحدث بالكثير.
وأبو المعالي وأبو اليمن سَعْد، ويسمى: -
مُحَمَّد بْن عَبْد الْوَهَّاب(4/51)
بْن عَبْد الكافي بْن عَبْد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد الحنبلي: الواعظ ببلبيس. ودفن بها، سمع من يَحْيَى الثقفي. وأجاز لَهُ أَبُو موسى المديني، وأبو الْعَبَّاس الترك، وغيرها. وخرج لَهُ أَبُو حامد بْن الصبوني مشيخة. وحدث. وَكَانَ مولده سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بدمشق.
إِبْرَاهِيم بْن محاسن بْن عَبْد الْمَلِك بْن عَلِي بْن نجا، التنوخي الحموي(4/57)
ثُمَّ الدمشقي، الأديب الكاتب، نجم الدين أَبُو إِسْحَاق، وأبو طاهر بْن الشيخ ضياء الدين: وَقَدْ سبق ذكر أَبِيهِ. سمع من ابنِ طبرزد، والكندي، وأبي الفتوح البكري، وحدث.
وَكَانَ أديبا. وَلَهُ نظم حسن.
توفي فِي العشر الأواخر من المحرم سنة سجع وخمسين وستمائة بتل ناشر من أعمال حلب. ودفن بِهِ. رحمه اللَّه تَعَالَى.
وَفِي نصف صفر من هذه السنة توفي الشيخ: -
مجد الدين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن عَلِي بْن أَبِي غالب الأربلي النحوي الحنبلي، المعدل بدمشق: سمع بأربل من مُحَمَّد بْن هبة اللَّه بْن الكرم الصوفي، وسكن دمشق. وحدث بها، واشتغل مدة فِي العربية بالجامع.
قرأ عَلَيْهِ جَمَاعَة من الأَصْحَاب وغيرهم، مِنْهُم الفخر البعلبكي، والتاج الفزاري وابن الفركاح.
وَفِي تاسع عشر رمضان من هذه السنة: توفي الرئيس صدر الدين: -(4/58)
أبو الفتح أسعد بْن عُثْمَان بْن أسعد بْن المنجا. التنوخي الدمشقي: واقف المدرسة الصدرية بدمشق. ودفن بها. وَقَدْ سبق ذكر أَبِيهِ وجده.(4/59)
ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة بدمشق، وسمع بها من حنبل، وابن طبرزد. وحدث. وَكَانَ أحد المعدلين ذوي الأَمْوَال والثروة والصدقات.(4/60)
وولي نظر الجامع مدة. وثمر له أموالاً كثيرة، واستجد فِي ولايته أمورا.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أبي بمر مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن أَحْمَد بن عبد الرحمن(4/61)
بْن إِسْمَاعِيل بْن مَنْصُور بْن عَبْد الرَّحْمَنِ، الأَنْصَارِي السعدي، المقدسي ثُمَّ الصالحي، المحدث الرحال الحافظ، محب الدين أَبُو مُحَمَّد، مفيد الجبل: سمع بدمشق من الشيخ الموفق، وابن البني، وابن الزبيدي، وخلق.
ورحل إِلى بغداد. وسمع بها من عَبْد اللطيف بْن القبيطي، وعلي بْن أَبِي الفخار، وعبد الْمَلِك بْن قينا، وفضل اللَّه الجبلي، وإبراهيم بْن الخير، وأبي المظفر بْن المنى، وخلق من هذه الطبقة، وعني بالحَدِيث أتم عناية وأكثر السماع والكتابة، وحدث.(4/62)
توفي فِي ثاني عشرين جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وستمائة. وَلَهُ أربعون سنة. رحمه اللَّه تعالى.
محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أَبِي الرجال أَحْمَد بْن(4/63)
عَلِي اليونيني البعلبكي، الشيخ الفقيه المحدث الحافظ، الزاهد العارف الرباني، تقي الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي الْحُسَيْن: أحد الأعلام وشيوخ الإسلام. ولد في سادس رجب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بيونين من قرى بعلبك.
ونشأ يتيما بدمشق، فأقعدته أمه فِي صنعة النشاب، ثُمَّ(4/64)
حفظ الْقُرْآن.
وسمع الْحَدِيث من أَبِي طاهر الخشوعي، وأبي التمام القلانسي، وحنبل المكبر، وأبي اليمن الكندي، والحافظ عَبْد الغني وغيرهم. وتفقه بالشيخ موفق الدين.
وأخذ الْحَدِيث عنَ الحافظ عَبْد الغني، والعربية عَن أَبِي اليمن الكندي وبرع فِي الخط المنسوب، ولبس خرقة التصوف من الشيخ عَبْد اللَّهِ البطايحي صاحب الشيخ عَبْد القادر. ولزم خدمة الشيخ عَبْد اللَّهِ اليونيني الزاهد، صاحب الأحوال والكرامات الَّذِي يقال له: أسد الشام، وانتفع به.
وكان الشيخ عبد الله - هذا - يثني على الشيخ الفقيه ويقدمه، ويقتدي به في الفتاوى.
وكذلك كان شيخه الحافظ عبد الغني يثني عليه. وبرع في الحديث وحفظ فيه الكتب الكبار حفظا متقنا " كالجمع بين الصحيحين " للحميدي " وصحيح مسلم ".
قال ولده قطب الدين موسى صاحب التاريخ: حفظ والدي " الجمع بَيْنَ الصحيحين "، وأكثر " المسند ". يَعْنِي مسند الإمام أَحْمَد. وحفظ " صحيح مُسْلِم " فِي أربعة أشهر. وحفظ سورة الأنعام فِي يَوْم واحد، وحفظ ثَلاث مقامات من الحريرية فِي بَعْض يَوْم.
وذكره عُمَر بْن الحاجب الحافظ، فأطنب فِي وصفه وأسهب، وَقَالَ:(4/65)
اشتغل بالفقه والحَدِيث، إِلَى أَن صار إماما حافظا - إِلَى أَن قَالَ: وَلَمْ يرَ فِي زمانه مثل نَفْسه فِي كماله وبراعته، وجمع بَيْنَ علمي الشريعة والحقيقة.
وكان حسن الخلْق والخُلق، نَفَّاعاً للخلق، مطرحا للتكلف. من جملة محفوظة " الجمع بَيْنَ الصحيحين " وحدثني أَنَّهُ حفظ " صحيح مُسْلِم " جميعه، وكرر عَلَيْهِ فِي أربعة أشهر.
وَكَانَ يكرر عَلَى أَكْثَر. " مسند " أَحْمَد من حفظه. وأنه كَانَ يحفظ فِي الجلسة الواحدة مَا يَزِيد عَلَى سبعين حَدِيثا.
وَقَالَ الحافظ عز الدين الحسيني: هُوَ أحد المشايخ المشهورين، الجامعين بَيْنَ العلم والدين. وَكَانَ حفظ كثيراً من الْحَدِيث النبوي، مشهورا بِذَلِكَ. انتهى.
وَكَانَ حريصا عَلَى سماع الْحَدِيث وقراءته، مَعَ علو سنه، وعظم شأنه. وَكَانَ أهل بعلبك يَسْمَعُونَ بقراءته عَلَى المشايخ الواردين عَلَيْهِم، كالقزويني، وبهاء الدين المقدسي، وابن رواحة الحموي، وغيرهم.
وَكَانَ ذا أحوال وكرامات، وأوراد وعبادات. لا يخل بها، ولا يؤخرها عَن وقتها لورود أحد عَلَيْهِ، ولو كَانَ من الملوك. وَكَانَ لا يرى إظهار المحرامات، ويقول: كما أوجب اللَّه عَلَى الأنبياء إظهار المعجزات أوجب عَلَى الأولياء إخفاء الكرامات، ويروى عَنِ الشيخ عُثْمَان شيخ دير ناعس - وَكَانَ من أهل الأحوال - قَالَ: قَطَبَ الشيخ الفقيه ثمان عشرة(4/66)
سنة.
وَكَانَ لَهُ - رحمه اللَّه - منزلة عالية عِنْدَ الملوك، ويحترمونه احتراماً زائداً، حَتَّى كَانَ مرة بقلعة دمشق فِي سماع الْبُخَارِي، عِنْدَ الْمَلِك الأشرف. فقام الشيخ الفقيه مرة يتوضأ. فقام السلطان ونفض تخفيفته لما فرغ الشيخ من الوضوء، وقدمها إِلَيْهِ ليتنشف بها، أَوْ ليطأ عَلَيْهَا برجله، وحلف أَنَّهَا طاهرة. وأنه لا بد أَن يفعل ذَلِكَ.
قَالَ الحافظ الذهبي: حَدَّثَنِي بِذَلِكَ شيخنا أَبُو الْحُسَيْن بْن اليونيني، أَوِ ابْن الشيخ الفقيه. قَالَ الحافظ: والشك مني.
قَالَ: وسار الْمَلِك الأشرف إِلَى بعلبك مرة، فبدأ قبل كُل شَيْء، فأتى دار الشيخ الفقيه، ونزل فدق الباب، فقيل: من ذا؟ قَالَ: موسى.
قَالَ: ولما قدم الْمَلِك الكامل عَلَى أخيه الأشرف جعل الأشرف يذكر للكامل محاسن الشيخ الفقيه. فَقَالَ: أشتهي أَن أراه. فأرسل إِلَيْهِ إِلَى بعلبك بطاقة فاستحضره، فوصل إِلَى دمشق. فنزل الكامل إِلَيْهِ، وتحادثا بدار السعادة، وتذاكرا شَيْئًا من العلم.
فذكروا مسألة القتل بالمثقل، وجرى ذكر حَدِيث " الجارية الَّتِي قتلها(4/67)
اليهودي، فرض رأسها بَيْنَ حجرين، فأمر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتله "، فَقَالَ الْمَلِك الكامل: إنه لَمْ يعترف. فَقَالَ الشيخ الفقيه: فِي صحيح مُسْلِم " فاعترف " فَقَالَ الكامل: أنا اختصرت صحيح مُسْلِم، وَلَمْ أجد هَذَا فِيهِ. فَقَالَ: بلى، فأرسل الكامل، فأحضر اختصاره لمسلم فِي خمس مجلدات. فأخذ الكامل مجلدا، والأشرف آخر، وعماد الدين بْن موسك آخر. وأخذ الشيخ الفقيه مجلدا، فأول مَا فتحه: وجد الْحَدِيث، كَمَا قَالَ، فتعجب الكامل من سرعة استحضاره، وسرعة كشفه. وأراد أَن يأخذه مَعَهُ إِلَى الديار المصرية. فأرسله الأشرف سريعا إِلَى بعلبك. فَقَالَ للكامل: إنه لا يؤثر ببعلبك شَيْئًا. فأرسل الكامل إِلَيْهِ ذهبا كثيرا.
وَقَالَ ولده قطب الدين موسى: كان واللي يقبل بر الملوك، ويقو!: أنا لي فِي بَيْت المال أكثر من هذا، ولا يقبل من الأمراء ولا الوزراء شَيْئًا،(4/68)
إلا أَن يَكُون هدية مأكول ونحوه. ويرسل إليهم شيئاً من ذَلِكَ، فيقبلونه عَلَى سبيل التبرك والاستشفاء.
وذكر أَنَّهُ أثرى وكثر ماله، وأن الأشرف كتب لَهُ كتابا بقرية يُونين. فأعطاه لمحيي الدين بْن الجوزي ليأخذ عَلَيْهِ خط الخليفة. فلما شعر الشيخ بِذَلِكَ أخذ الكتاب ومزقه. وَقَالَ: أنا فِي غنية عَن ذلك.
قال: وكان والدي لا يقبل شَيْئًا من الصدقة. ويزعم أنه من فرية جَعْفَر الصادق بْن مُحَمَّد بْن عَلِي بْن الْحُسَيْن بْن عَلِي رضي الله عنهم.
قال: وكان قبل ذَلِكَ فقيرا لا مال لَهُ.
وَكَانَ للشيخ عَبْد اللَّهِ زوجة لَهَا ابنة جميلة. فكان الشيخ عَبْد اللَّهِ يَقُول لَهَا: زوجيها من الشيخ مُحَمَّد، فتقول لَهُ: إنه فَقِير، وأنا أحب أَن تكون ابنتي سعيدة. فَيَقُول: كأني أراه وإياها فِي دار، وفيها بركة، وَلَهُ رزق كثير، والملوك يترددون إِلَى زيارته. فزوجتها منه. فكان الأمر كَذَلِكَ. وكانت أول زوجاته. وكانت الملوك كلهم يحترمونه ويعظمونه. بنو العادل وغيرهم. وَكَذَلِكَ مشايخ الْعُلَمَاء، كابن الصلاح، وابن عَبْد السَّلام، وابن الحاجب، والحصري. والقضاة، كابن سناء الدولة، وابن الجوزي، وغيرهم.
وَكَانَ النَّاس ينتفعون بعلومه وفنونه، ويتلقون عَنْهُ الطريق الحسنة.
وَكَانَ عظيم الهيبة، منور الشيبة، مليح الصورة، ضخما، حسن السمت والوقار.
وَكَانَ(4/69)
يلبس قَبَعاً صوفه إِلَى الخارج، عَلَى طريقة شيخه الشيخ عَبْد الله. وكان كثير الافتداء بِهِ، والطاعة لَهُ.
حكى مرة: أَنَّهُ كَانَ قَدْ عزم عَلَى الرحلة إِلَى حران، قَالَ: وَكَانَ قَدْ بلغني أَن بها رجلًا يعرف علم الفرائض جيدا. فلما كانت الليلة الَّتِي أريد فِي صبحتها أَن أسافر: جاءتني رسالة الشيخ عَبْد اللَّهِ اليونيني. فعزم عَلَى إِلَى القدس الشريف. فكأني كرهت ذَلِكَ، وفتحت المصحف، فطلع قوله تعالى: " اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وهم مهتدون " " يسَ: 21 "، فال: فخرجت مَعَهُ إِلَى القدس. فوجدت ذَلِكَ الحراني بالقدس. فأخذت عَنْهُ علم الفرائض، حَتَّى خيل إلي أني قَدْ صرت أبرع منه فِيهِ.
وَقَدْ وقع بَيْنَ الشيخ وبين أَبِي شامة الشَّافِعِي منازعة فِي الْكَلام عَلَى(4/70)
حَدِيث الإسراء.
وصنف كُل منهما فِي ذَلِكَ شَيْئًا. وحدث الشيخ بالكثير.
وَرَوَى عَنْهُ ابناه: أَبُو الْحُسَيْن الحافظ، والقطب المؤرخ، وأبو عبد الله بن الفتح، وإبراهيم بْن حاتم البعلي الزاهد، ومحمد بْن المحب، وأبو عَبْد اللَّهِ بْن الزراد وإبراهيم بْن القُرشِية البعلي، خاتمة أَصْحَابه بالسماع. وبالإِجازة:(4/71)
زينب بنت الكمال، وغيرها.
وتوفي ليلة تاسع عشر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة ببعلبك. ودفن عِنْدَ شيخه عَبْد اللَّهِ اليونيني رحمة اللَّه عليهما.
حسن بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الغني بْن عَبْد الْوَاحِد بْن عَلِي بْن سرور المقدسي، الصالحي الفقيه، شرف الدين، أَوْ مُحَمَّد بْن الحافظ أَبِي موسى(4/73)
بْن الحافظ أَبِي مُحَمَّد: ولد سنة خمس وستمائة. وسمع الكثير من أَبِي اليُمْن الكندي، وجماعة بعده.
وتفقه عَلَى الشيخ الموفق، وبرع وأفتى، وعرس بالجوزية مدة.
قَالَ أَبُو شامة: كَانَ رجلًا خيرا.
توفي ليلة ثامن المحرم سنة تسع وخمسين وستمائة بدمشق. ودفن بالجبل.
وَفِي رابع عشر رجب من السنة: توفي الشيخ الصالح أَبُو الْعَبَّاس: -
أَحْمَد بْن أَبِي الثناء حامد بْن أَحْمَد بْن حمد بْن حامد بْن مفرح بْن غياث الأَنْصَارِي الأرتاحي، المصري المقرئ الحنبلي، بمصر. ودفن بسفح المقطم: ولد سنة أربع وسبعين وخمسمائة.
وقرأ بالروايات عَلَى والده. وسمع ممن جده لأمه أَبِي عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن أَحْمَد الأرتاحي، والبوصيري، وإسماعيل بْن ياسين، وأبي الْحَسَن بْن نجا، والحافظ عَبْد الغني ولازمه. وأكثر عَنْهُ. وكتب عَنْهُ بَعْض تصانيفه. وتصدر بالجامع العتيق. وأقرأ القرآن وانتفع بِهِ جَمَاعَة. وَكَانَ خيرا صالحا.(4/74)
وأبوه: -
أَبُو الثناء قرأ: بالروايات عَلَى أَبِي الجود وغيره. وسمع بمصر من أَبِي عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن البرمكي، وبمكة من المبارك بْن الطباخ. وتصدر للإقراء بالجامع العتيق وغيره. وحدث وأفاد، وانتفع بِهِ جَمَاعَة.
قرأ عَلَيْهِ بالسبع: الحافظ المنذري وغيره. وَكَانَ حسن الأداء والصوت ذا مروءة وتفقد لإِخوانه.
توفي فِي صفر سنة اثني عشرة وستمائة بمصر.
وَكَانَ مولده سنة(4/75)
ثلاث وخمسين وخمسمائة.
عَبْد الرزاق بْن رزق اللَّه بْن أَبِي بَكْر بْن خلف بْن أَبِي الهيجاء الرسعني،(4/77)
الفقيه المحدث المفسر، عز الدين، أَبُو مُحَمَّد: ولد سنة تسع وثمانين وخمسمائة برأس عين الخابور.
وسمع الْحَدِيث ببلده من أَبِي المجد القزويني، وغيره، وببغداد من عَبْد الْعَزِيز بْن منينا، والداهري، وعمر بْن كرم، وغيرهم.
وبدمشق من أَبِي اليمن الكندي، وابن الحرستاني، والخضر بْن كامل، والشيخ موفق الدين، وأبي الفتوح بْن الجلاجلي، وغيرهم.
وبحلب(4/80)
من الافتخار الهاشمي، وببلدان أُخر. وعني بالحَدِيث وطلب، وقرأ بنفسه. وذكره الذهبي فِي طبقات الحفاظ.
وتفقه عَلَى الشيخ موفق الدين، وحفظ كتابه " المقنع " فِي الفقه، وصحب الشيخ العماد، وطائفة من أهل الدين والعلم والصلاح.
وقرأ العربية والأدب، وتفنن فِي العلوم. وولي مشيخة دار الْحَدِيث بالموصل.
وكانت لَهُ حرمة وافرة عِنْدَ بدر الدين صاحب الموصل، وغيره من ملوك الجزيرة. وصنف تفسيرا حسنا فِي أربع مجلدات ضخمة سماه " رموز الكنوز " وفيه فوائد حسنة.
ويروي فِيهِ الأحاديث بإسناده. وصنف كتاب " مصرع الْحُسَيْن " ألزمه بتصنيفه صاحب الموصل. فكتب فِيهِ مَا صح من القتل دُونَ غيره. وَكَانَ لما قدم بغداد أنعم عَلَيْهِ المستنصر، وصنف هَذَا التفسير ببلده. وأرسله إِلَيْهِ. وَهُوَ فِي ثمان مجلدات، وقف المدرسة البشيرية ببغداد.
وَكَانَ فاضلًا فِي فنون من العلم والأدب، ذا فصاحة وحسن عبارة. وَلَهُ فِي تفسيره مناقشات مَعَ الزمخشري وغيره فِي العربية وغيرها.
وَكَانَ متمسكا بالسنة والآثار، ويصدع بالسنة عِنْدَ المخالفين من الرافضة وغيرهم.
وَلَهُ نظم حسن. ومن نظمه: القصيدة ا! نونية المشهورة فِي الفرق بَيْنَ الظاء والضاد.
وذكر شيخنا بالإجازة الإمام صفي الدين عبد المؤمن بن عَبْد الحق(4/81)
فِي مشيخته: أَن لَهُ تصانيف غَيْر تفسيره المشهور: فِي التفسير، والفقه، والعروض، وغير ذَلِكَ.
وحدث. وسمع منه جَمَاعَة. وقدم دمشق رسولًا. فقرأ عَلَيْهِ أَبُو حامد مُحَمَّد بْن الصابوني جزءا.
وَرَوَى عَنْهُ ابنه أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن عَبْد الرزاق، والدمياطي الحافظ فِي معجمه، وغير واحد. وبالإِجازة: أَبُو المعالي الأبرقوهي، وأبو الْحَسَن بْن البندنيجي الصوفي، وزينب بنت الكمال.
روى عَنْهُ العلامة أَبُو الفتح بْن دقيق العيد، وأخوه، وأبوه.
قَالَ الحافظ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الكريم الحلبي فِي تاريخ مصر لَهُ: نقلت من خط الحافظ اليغموري - يَعْنِي يُوسُف بْن أَحْمَد بْن محمود الدمشقي - أنشدنا شمس الدين أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُف بْن أَبِي بَكْر الجزري، أنشدني ابْن(4/82)
دقيق العيد بقوص، أنشدني عز الدين عَبْد الرزاق الرسعني لنفسه:
وكنت أظن فِي مصر بحارا ... إِذَا مَا جئتها أجد الورودا
فَمَا ألفيتها إلا سرابا ... فحينئذ تيممت الصعيدا
قَالَ شيخنا صفي الدين عَبْد المؤمن: توفي بسنجار فِي رجب بخط أَبِي العلاء الفرضي.
وَقَالَ ابْن الفوطي: فِي السابع والعشرين من ذي الحجة سنة ستين وستمائة.
وذكر الذهبي وغيره: أَنَّهُ توفي ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة. وقيل: فِي ثامن عشر ربيع الآخر منها بسنجار.
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سالم بْن يَحْيَى بْن خميس بن يحمى بْن هبة اللَّه بْن(4/83)
مواهب الأَنْصَارِي الأنباري، ثُمَّ الدمشقي، الفقيه جمال الدين، أَبُو مُحَمَّد، وأبو القاسم: سمع من أَبِي اليمن الكندي، وأبي القاسم بْن الحرستاني، وَدَاوُد بْن ملاعب، وعبد الجليل بْن مندويه، والحافظ عَبْد القادر الرهاوي.
وتفقه عَلَى الشيخ موفق الدين، وبرع وأفتى، وحدث. وسمع منه جَمَاعَة. وَكَانَ يسكن بالمنارة الغربية من جامع دمشق.
قَالَ أَبُو شامة: وَكَانَ يصلي فِي الجامع بالمتأخرين صلاة الصبح، فيطيل بهم إطالة مفرطة، خارجا عَنِ المعتاد بكثير إِلَى أَن تكاد تطلع الشَّمْس وَهُوَ فِي تطويله، لا يتركه كُل يَوْم. رحمة اللَّه.
توفي ليلة سلخ ربيع الآخر سنة إحدى وستين وستمائة. ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تَعَالَى.
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الغني بْن عَبْد الْوَاحِد بْن عَلِي بْن(4/84)
سرور المقدسي، المحدث الفاضل، عز الدين، أَبُو مُحَمَّد وأبو القاسم وأبو الفرج، ابْن الحافظ عز الدين أَبِي الفتح، ابْن الحافظ الكبير أَبِي مُحَمَّد.
ولد فِي ربيع الآخر سنة اثنين وستمائة. وحضر عَلَى أَبِي حفص بْن طبرزد. وسمع من الكندي وطبقته.
وارتحل إلى بغداد. فسمع من الفتح بْن عَبْد السَّلام وطائفة. ثُمَّ إِلَى مصر. وكتب الكثير وعني بالحَدِيث.(4/85)
وَكَانَ يفهم ويذاكر، وتفقه عَلَى الشيخ الموفق وَكَانَ فاضلًا صالحا ثقة، انتفع بِهِ جَمَاعَة. وحدث.
توفي فِي نصف ذي الحجة سنة إحدى وستين وستمائة. ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تَعَالَى عَلَيْهِ.
أَبُو القاسم بْن يُوسُف بْن أَبِي القاسم بْن عَبْد السَّلام، الأموي، الحواري الصوفي، الزاهد المشهور: صاحب الزاوية بحواري. كَانَ خيرا صالحا، لَهُ أتباع وأَصْحَاب ومريدون فِي كثير من قرايا حوران فِي الجبيل والثبنية. ولا يحضرون سماعا بالدف.
توفي ببلده حواري سنة ثلاث وستين وستمائة فِي آخر السنة. وصلى عَلَيْهِ يَوْم عيد النحر ببيت المقدس صلاة الغائب. وصلَّى عَلَيْهِ بدمشق تاسع عشر ذي الحجة. رحمه اللَّه تَعَالَى.
وقام مقامه بعده: ولده الشيخ عَبْد اللَّهِ. فكان عنده تفقه وزهادة.(4/87)
وَلَهُ أَصْحَاب. وَكَانَ مقصودا يزار ببلده. وعمر حَتَّى بلغ التسعين من عمره. خرج لتوديع بَعْض أهله إِلَى ناحية الكرك من جهة الحجاز. فأدركه أجله هناك فِي أول ذي القعدة سنة ثلاثين وسبعمائة. رحمه اللَّه تَعَالَى.
إِبْرَاهِيم بْن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ المقدسي،(4/91)
الصالح الزاهد، الخطيب عز الدين أَبُو إِسْحَاق، ابْن الخطيب شرف الدين أبي محمد، ابن الشيحْ أبي عمر: ولد فِي رمضان سنة ست وستمائة.
وسمع من الشيخ موفق الدين، والشيخ العماد، وأبي اليمن الكندي، وأبي القاسم بْن الحرستاني، وخلق. وأجاز له القاسم الصفار وجماعة.
وَكَانَ إماما فِي العلم والعمل، بصيرا بالمذهب، صالحا عابدا مخلصا، صاحب أحوال وكرامات، وآمراً بالمعروف، وقوالاً بالحق. وَقَدْ جمع المحدث أَبُو الفداء ابْن الخباز سيرته فِي مجلد.
وحدث. وسمع منه جَمَاعَة، وحدثنا من أَصْحَابه: أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ(4/92)
الحريري عَنْهُ حضورا. وَهُوَ آخر أَصْحَابه.
توفي فِي ليلة تاسع عشر ربيع الأَوَّل سنة ست وستين وستمائة. ودفن من الغد بسفح قاسيون. رحمه اللَّه.
وَهُوَ والد الإِمامين: عز الدين الفرائضي.(4/93)
وعز الدين مُحَمَّد خطيب الجامع المظفري. رحمهم اللَّه تَعَالَى.
مظفر بْن عَبْد الكريم بْن نجم بن عبد الوهاب بن عبد الْوَاحِد بْن الحنبلي، تاج الدين، أَبُو مَنْصُور: ولد فِي سابع عشر ربيع الأَوَّل سنة تسع وثمانين وخمسمائة بدمشق.
وسمع بها من أَبِي طاهو الخشوعي، وعمر بق طبرزد، وحنبل، وغيرهم.
وتفقه وأفتى. ودرس بمدرسة جده شرف الإِسْلام مدة. وَكَانَ عارفا بالمذهب. وحدث بدمشق ومصر.(4/94)
وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَة مِنْهُم: الحافظ الدمياطي.
توفي قي ثالث صفر سنة شع وستين وستمائة فجأة بدمشق. ودفن بسفح قاسيون رحمه اللَّه.(4/95)
أَحْمَد بْن عَبْد الدايم بْن نعمة بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بن إبراهيم بن أحمد بن بَكْر، المقدسي الصالحي، الكاتب المحدث المعمر، الخطيب(4/96)
زين الدين أَبُو الْعَبَّاس: ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة بفندق الشيوخ محن أرض نابلس.
وسمع الكثير بدمشق، ومن يَحْيَى الثقفي، وأبي عَبْد اللَّهِ بْن صدقة، وأبي الْحَسَن بْن الموازيني، وعَبْد الرَّحْمَنِ الخرقي، وإسماعيل الجنزوي، وغيرهم.
وانفرد فِي الدنيا بالرواية عَنْهُم.
ودخل بغداد. وسمع بها من أَبِي الفرج بْن كليب، والمبارك بْن المعطوش، وأبي الفرج بْن الجوزي، وأبي الفتح بْن المندآي، وعبد اللَّه بْن أَبِي المجد، وعبد الوهاب ابن سكينة، وغيرهم.
وسمع بحران من خطيبها الشيخ فخر الدين، وأجاز لَهُ خطيب الموصل أَبُو الفضل، وعبد المنعم الفراوي؛ وابن شاتيل، والقزاز. وتفرد بالرواية عَنْهُم أَيْضًا.
وقرأ بنفسه، وعني بالحَدِيث. وتفقه عَلَى الشيخ موفق الدين. وخرج لنفسه مشيخة(4/97)
عَن شيوخه، وجمع تاريخا لنفسه. وَكَانَ فاضلاَ متنبها. وَلَهُ نظم.
ولي الخطابة بكفر بطنا بضع عشرة سنة.
وَكَانَ يكتب خطا حسنا، ويكتب سريعا. فكتب مَا لا يوصف كثرة من الكتب الكبار، والأجزاء المنثورة لنفسه وبالأجرة، حَتَّى كَانَ يكتب فِي اليوم إِذَا تفرغ تسعة كراريس أَوْ أَكْثَر، ويكتب مَعَ اشتغاله بمصالحه الكراسين والثلاثة. وكتب " الخرقي " فِي ليلة واحدة وكتب " تاريخ(4/98)
الشام " لابن عساكر مرتين و " المغني " للشيخ موفق الدين مرات. وذكر: أَنَّهُ كتب بيده ألفي مجلدة، وأنه لازم الكتابة أزيد من خمسين سنة.
وَكَانَ حسن الخَلْق والخُلُق، متواضعا دينا. وحدث بالكثير بضعا وخمسين سنة. وانتهى إِلَيْهِ علو الإسناد، وكانت الرحلة إِلَيْهِ من أقطار البلاد.
وخرج لَهُ ابْن الظاهري مشيخة، وابن الخباز أُخْرَى.
سمع منه الحفاظ المقدسيون، كالحافظ ضياء الدين، والزكي البرزالي، والسَيْف بْن المجد، وعمر بْن الحاجب.
روى عنه الأئمة الكار، والحفاظ المتقدمون والمتأخرون، مِنْهُم: الشيخ محيي الدين النووي، والشيخ شمس الدين بْن أَبِي عُمَر، والشيخ تقي الدين بْن دقيق العيد، والشيخ تقي الدين ابْن تيمية، وخلق كثير. أخرهم:(4/99)
شيخنا الشيخ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل بْن الخباز، حضر عَلَيْهِ أجزاء. وآخر من روى عنه بالإجازة: أَحْمَد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ الحريري.
وتوفي يَوْم الاثنين سابع - كَذَا قاله الشريف - وقيل: تاسع رجب سنة ثمان وستين وستمائة. ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
ورأى رجل ليلة موته فِي المنام: كأن النَّاس فِي الجامع، وإذا ضجة. فسأل عَنْهَا؟ فقيل لَهُ: مَات هذه الليلة مَالِك بْن أَنَس، قَالَ: فلما أصبحت جئت إِلَى الجامع، وأنا مفكر، وإذا إِنْسَان ينادي: رحم اللَّه من حضر جنازة الشيخ زين الدين بْن عَبْد الدايم. رحمه اللَّه.
يُوسُف بْن عَلِي بْن أَحْمَد بْن البقال البغدادي الصوفي، عفيف(4/100)
الدين أَبُو الْحَجَّاج، شيخ رباط المرزبانية. كَانَ صالحا عالما، ورعا زاهدا. لَهُ تصانيف فِي السلوك. منها كتاب " سلوك الخواص ": وحكى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كنت بمصر زمن واقعة بغداد. فبلغني أمرها. فأنكرته بقلبي، وقلت: يا رب كَيْفَ هَذَا وفيهم الأطفال ومن لا ذنب لَهُ؟ فرأيت فِي المنام رجلًا، وَفِي يده كتاب. فأخذته فَإِذَا فِيهِ:(4/101)
دع الاعتراض فَمَا الأمر لَك ... ولا الحكم فِي حركات الفلك
ولا تسأل اللَّه عَن فعله ... فمن خاض لجة بحر هلك
أجاز لشيخنا عَلِي بْن عَبْد الصمد البغدادي.
ونقلت من خطه: أَنَّهُ توفى ليلة الخميس سادس المحرم سنة ثمان وستين وستمائة وصلٌى عَلَيْهِ بجامع الحريم. ودفن بمقبرة الإمام أحمد.
وذكر غيره: أَنَّهُ توفى سنة ست وستين. والله أعلم.
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سُلَيْمَان بْن سَعِيد بْن سُلَيْمَان، البغدادي الأصل(4/103)
الحراني المولد. الفقيه، جمال الدين أَبُو مُحَمَّد. ويعرف بالبغدادي؛ ولد فِي أحد الربيعين سنة خمس وثمانين وخمسمائة بحران.
وسمع من عَبْد القادر الحافظ، وحنبل، وابن طبرزد، وغيرهم.
وتفقه بالشيخ الموفق، وبرع، وأفتى، وانتفع بِهِ جَمَاعَة. وحدث.
وَرَوَى عَنْهُ طائفة. حَدَّثَنَا عَنْهُ ابْن الخباز. وَكَانَ إماما بحلقة الحنابلة بالجامع.
قَالَ الشيخ عز الدين: كَانَ موصوفا بالفضل والدين، فقيها حسنا مشهورا. ولي منه إجازة.
توفي فِي رابع عشر شعبان سنة سبعين وستمائة(4/104)
بدمشق رحمه اللَّه تَعَالَى. ودفن بسفح قاسيون.
مُحَمَّد بْن عَبْد المنعم بْن عمار بْن هامل بْن موهوب الحراني،(4/106)
المحدث الرحال، شمس الدين، أَبُو عَبْد اللَّهِ، نزيل دمشق: ولد بحران سنة ثلاث وستمائة.
وسمع ببغداد من القطيعي، وابن روزبة، والداهري، وعمر بْن كرم، ونصر بْن عَبْد الرازق الْقَاضِي، وابن القبيطي، والمهذب بْن فهيدة.
وبدمشق من الْقَاضِي أَبِي نصر بْن الشيرازي، ومكرم بْن أَبِي الصقر، والحسين بْن الزبيدي، وابن اللتي، وابن صباح وغيرهم. وبالإسكندرية من الصفراوي، وَجَعْفَر الهمداني، وابن راح.
وبالقاهرة من مرتضى بْن العفيف، والعلم بْن الصابوني، وغيرهم.
قال الشريف عز الدين: كتب بخطه، وطلب بنفسه. وكان أحد المعروفين بالطلب والإِفادة. وحدث. ولي منه إجازة.
قَالَ الذهبي: عني بالحَدِيث عناية كلية، وكتب الكثير. وتعب وحصل، وأسمع الْحَدِيث. وتألف النَّاس عَلَى روايته. وفيه دين وحسن عشرة، ولديه(4/107)
فضيلة، ومذاكرة جيدة.
أقام بدمشق، ووقف كتبه وأجزاءه بالضيائية.
وَقَالَ البرزالي: كَانَ فاضلًا، كثير الديانة والتحري، أحد المعروفين بالطلب والإفادة.
وقرأت بخط الدمياطي فِي حقه: الإمام الحافظ.
وسمع منه جَمَاعَة من الأكابر، كأبي الْحُسَيْن بْن اليونيني، والحافظ الدمياطي، وإسماعيل بْن الخباز، وابن أَبِي الفتح، وأبي الْحَسَن بْن العطار، وحدثنا عَنْهُ مُحَمَّد بْن الخباز.
وتوفي ليلة الأربعاء ثامن شَهْر رمضان سنة إحدى وسبعين وستمائة بالمارستان الصغير بدمشق. ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه اللَّه تَعَالَى.
وَفِي حادي عشر شوال من السنة توفي الشيخ فخر الدين أَبُو الفرج: -
عَبْد القاهر بْن أَبِي مُحَمَّد عَبْد الغني بْن الشيخ فخر الدين مُحَمَّد بْن أَبِي القاسم(4/108)
ابْن تيمية بدمشق: ودفن من الغد بمقابر الصوفية. وَكَانَ مولده: سنة اثنتي عشرة وستمائة بحران.
وسمع من جده وابن اللتي. وحدث بدمشق. وخطب بجامع حران.
عَلِي بْن مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن أَبِي سَعْد بْن وضاح الشهراياني، ثُمَّ(4/109)
البغدادي، الفقيه المحدث، الزاهد الكاتب، كمال الدين أَبُو الْحَسَن بْن أَبِي بَكْر: ولد فِي رجب سنة إحدى وتسعين وخمسمائة - وقيل: سنة تسعين - بشهرايان، وسمع بها " صحيح مُسْلِم " من أَحْمَد بن محمد بن محمد بن نجم المروزي، قَالَ: قدم عَلَيْنَا حاجا، وَهُوَ ابْن أَخِي الَّذِي رَوَى عَنْهُ ابْن الجوزي " صحيح مُسْلِم " وكانا قَدْ سمعاه من الفراوي.(4/110)
قدم بغداد، وسمع بها من أَبِي الْحَسَن: القطيعي، وابن روزبة صحيح الْبُخَارِي " عَن أَبِي الوقت، وعن عُمَر بْن كرم " جامع الترمذي " ومن عَبْد اللطيف بْن القطيعي " سنن الدارقطني " وسمع من الْقَاضِي أَبِي صَالِح، وأبي حفص السهروردي، وإبراهيم الكاشغري، وغيرهم.
وسمع من الشيخ العارف عَلِي بْن إدريس اليعقوبي، ولبس منه الخرقة، وانتفع بِهِ، وسمع بأربل وغيرها.
وعني بالحَدِيث، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه الْحَسَن. وسمع الكتب الكبار.
واشتغل بالعلم ببغداد، وتفقه وبرع فِي العربية، وشارك فِي فنون من العلم، وصحب الصالحين، وَكَانَ صديقا للشيخ يَحْيَى الصرصري.
قَالَ شيخنا بالإجازة، الإمام صفي الدين عَبْد المؤمن بْن عَبْد الحق: كَانَ شيخا صالحا، منور الوجه، كيسا طيب الأخلاق، سمح النفس، صحب(4/111)
المشايخ والصالحين. وَكَانَ عالما بالفقه، والفرائض، والأحاديث، ورتب عقب الواقعة مدرسا بالمدرسة المجاهدية، واستمر بها إِلَى أَن مَات.
وَهُوَ أحد المكثرين فِي الرواية، فَإِنَّهُ سمع الكثير من الكتب الكبار والأجزاء، بقراءته وقراءة غيره، وخرج وصنف مصنفات.
ومن مصنفاته: كتاب " الدليل الواضح، فِي اقتفاء نهج السلف الصالح "، وكتاب " الرد عَلَى أهل الإِلحاد " وغير ذَلِكَ.
وَلَهُ أجازات من جَمَاعَة كثيرين، مِنْهُم من دمشق: الشيخ موفق الدين بْن قدامة، وأبي مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن الصلاح وغيرهما.
قُلْت: وَلَهُ أجزاء فِي مدح الْعُلَمَاء وذم الأغنياء، والفرق بَيْنَ أحوال الصالحين وأحوال الإباحية، أكلة الدنيا بالدين، سمعه منه أَبُو الْحَسَن عَلِي بْن مُحَمَّد البندنيجي نزيل دمشق.
وله جزء في أن الإيمان يَزِيد وينقص، كتبه جوابا عَن سؤال فيمن حلف بالطلاق عَلَى نفي ذَلِكَ، فأفتى بوقوع(4/112)
طلاقه، وبسط الْكَلام عَلَى المسألة، وذلك في زمن المستعصم، ولْد أوذي بسبب ذَلِكَ، هُوَ والمحدث عَبْد الْعَزِيز القحيطي، من بغداد، فَإِنَّهُ وافق عَلَى هَذَا الجواب. وأخرج الشيخ من المدرسة الَّتِي كَانَ مقيما بها، وأُخرج القحيطي من بغداد، وبذلك تحقق قوة إيمانهما، وكونهما إِن شاء اللَّه من خلفاء الرسل فِي وقتهما.
وحدث الشيخ بالكثير، وسمع منه خلق، وَرَوَى عَنْهُ ابْن حصين(4/113)
الفخري، والحافظ الدمياطي فِي معجمه، وأبو الْحَسَن البندنيجي، وإبراهيم الجعبري المقرئ، وأبو الثناء الدقوقي، وَأَحْمَد بْن عَبْد السَّلام بْن عكبر، وعلي بْن عَبْد الصمد، وأبو عبد الله محمد بن عبد الْعَزِيز بْن المؤذن الوراق، وَرَوَى عَنْهُ " صحيح الْبُخَارِي " وسمعت عَلَيْهِ حضورا فِي الرابعة منه كتاب النكاح بكماله.
وتوفي رحمه اللَّه، ليلة الجمعة ثالث صفر، سنة اثنتين وسبعين وستمائة.
كَذَا ذكره غَيْر واحد من أهل بغداد من شيوخنا وغيرهم. وَهُوَ أصح مِمَّا قاله الذهبي: إنه سنة إحدى وسبعين. وأبعد من ذَلِكَ: مَا قَالَ(4/114)
الدمياطي: إنه توفى سنة ثَلاث، أَوْ أربع، وَهَذَا قاله بالظن والتقريب لبعد البلاد، وعدم من يراجعه فِي تحقيق ذَلِكَ.
قَالَ شيخنا صفى الدين: وكانت جنازته إحدى الجنائز المشهورة، اجتمع لَهَا عالم لا يحصى، وغلقت الأسواق يومئذ، وشد تابوته بالحبال. وحمله الناس على أيديهم، وصلى عليه بالمحال البرانية. ودفن بحضرة الإِمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، مقابل رجليه.
علي بن عثمان بن عبد القادر بن محمد بن يوسف بن الوجوهي البغدادي المقرئ، الصوفي الزاهد، شمس الدين أبو الحسن، أحد أعيان أهل بغداد في زمنه: ولد في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.
وقرأ بالروايات على(4/115)
الفخر الموصلي، صاحب ابْن سعدون القرطبي، وسمع الْحَدِيث من ابْن روزبة، والسهرورلي وغيرهما. وَكَانَ بصيرا بالقرآن، متحققا بالأداء، دينا خيرا صالحا، وعين خازنا بدار الوزير زمن الخليفة، ثقة بدينه، وشهد فِي ذَلِكَ العهد. وَكَانَ شيخ رباط ابْن الأثير.
وَلَهُ كتاب " بلغة المستفيد فِي القراءات العشر " قرأه عَلَيْهِ ابْن خيرون، وقرأ عَلَيْهِ بالسبع: إِبْرَاهِيم الجعبري، وَقَالَ: امتنع من كتابة الإجازة لي لحضوري سماعات الفقراء، وَكَانَ ينكر ذَلِكَ.
وَرَوَى عَنْهُ ابْن خروف الموصلي، وشيوخنا بالإجازة: نجيب الدين عَلِي بْن مُحَمَّد الرفاعي، وعلي بْن عَبْد الصمد، ومحمد بْن مُحَمَّد بْن الكوفي الهاشمي الواعظ وغيرهم.
وتوفي فِي ثالث جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين وستمائة، ببغداد، ودفن بمقبرة بَاب حرب.
أنبأني غَيْر واحد عَنِ الظهير بْن الكازروني، قَالَ: حكى لي الشيخ رشيد الدين بْن أَبِي القاسم: أَن العدل محب الدين مصدق حدثه، قَالَ: رأيت ابْن الوجوهي بَعْد موته، فَقُلْتُ: مَا فعل اللَّه بك؟ فَقَالَ: نزلا عَلِي، وأجلساني وسألاني، فَقُلْتُ: ألمثلِ ابْن الوجوهي يقال ذَلِكَ؟ فأضجعاني ومضيا. رحمه اللَّه.(4/116)
وَفِي سابع عشر شوال سنة اثنتين وسبعين أَيْضًا: توفى الشيخ: -
سَيْف الدين بْن الناصح عَبْد الرَّحْمَنِ بْن نجم الحنبلي:(4/117)
وَكَانَ مولده سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وقيل: سنة تسعين. وَهُوَ آخر من حدث بالسماع عَنِ الخشوعي.
وسمع من حنبل، وابن طبرزد، والكندي، وغيرهم بدمشق، والموصل، وبغداد، وحدث بمصر ودمشق.
وسمع منه العلامة تاج الدين الفزاري، وأخوه الخطيب شرف الدين، والحافظ الدمياطي، وذكره فِي معجمه، وابن العطار، وابن أَبِي الفتح، والشهاب محمود كاتب السر، وغيرهم.
وحدثنا عَنْهُ ابنه شمس الدين يُوسُف مدرس(4/121)
الصاحبية بجزء ابْن زبر الصغير، كَانَ حضره عَلَى أَبِيهِ، ومحمد بْن الخباز، وَأَحْمَد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ الحريري.
عَلِي بْن أَبِي غالب بن علي بن كيلان، البغدادي، الأزجي القطيعي، الفرضي المعدل، موفق الدين أَبُو الْحَسَن: ولد فِي ذي الحجة، سنة ثلاث وستمائة، وسمع من ابْن المنى وغيره، وأجاز لَهُ غَيْر واحد.
وتفقه. وقرأ الفرائض، وشهد عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الفضل بْن اللمعاني. وَكَانَ من أعيان العدول. وَكَانَ خيرا، كثير التلاوة.
حدث وأجاز لشيخنا صفي الدين بْن عَبْد المؤمن بْن عَبْد الحق، وعلي بْن عَبْد الصمد.(4/122)
وتوفي يَوْم السبت ثالث شوال سنة أربع وسبعين وستمائة، ودفن بقبر الإِمام أَحْمَد.
عُثْمَان بن موسى بن عبد الله الطائي الأربلي، ثُمَّ الآمدي، الفقيه الزاهد، إمام حطيم الحنابلة بالحرم الشريف تجاه الكعبة: كَانَ شيخا جليلا، إماما عالما، فاضلا، زاهدا عابدا ورعا، ربانيا متألها، منعكفا عَلَى العبادة والخير، والاشتغال بالله تَعَالَى فِي جميع أوقاته، أقام بمكة نَحْو خمسين سنة.
ذكره القطب اليونيني، وَقَالَ: كنت أود رؤيته، وأتشوق إِلَى ذَلِكَ، فاتفق أني حججت سنة ثَلاث وسبعين وزرته، وتمليْت برؤيته، وحصل لي نصيب وافر من إقباله ودعائه. وقدرت وفاته إِلَى رحمة اللَّه تَعَالَى عقيب ذَلِكَ.
وَقَالَ الذهبي: سمع بمكة من يعقوب الكحال، ويعقوب سمع من ابْن شاتيل وخطيب الموصل.
وسمع عُثْمَان أيضًا من مُحَمَّد بْن أَبِي(4/123)
البركات بْن حمد.
وَرَوَى عَنْهُ شيخنا الدمياطي، وابن العطار فِي معجميهما. وكتب إلينا بمروياته.
توفي ضحى يَوْم الخميس ثاني عشرين محرم سنة أربع وسبعين وستمائة بمكة رحمه اللَّه تَعَالَى. ويقال: إِن الدعاء يستجاب عِنْدَ قبره.
وخلفه فِي إمامة الحنابلة بمكة والده:
الإمام جمال الدين مُحَمَّد: وَكَانَ إماما عالما دينا. وَلَهُ رحلة(4/124)
إِلَى بغداد، أدرك فِيهَا عَبْد الصمد بْن أَبِي الجيش وغيره: وحدث. وروى عنه جماعة من شيوخنا المكيين.
وتوفى سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة.
مُحَمَّد بْن عَبْد الْوَهَّاب بْن مَنْصُور الحراني، الفقيه، الأصولي المناظر الْقَاضِي شمس الدين، أَبُو عَبْد اللَّهِ: ولد بحران فِي حدود العشر والستمائة. وتفقه بها عَلَى الشيخ مجد الدين(4/126)
ابْن تيمية. ولازمه، حَتَّى برع فِي الفقه. وَكَانَ يستدل بَيْنَ يديه بحران.
وقرأ الأصول والخلاف عَلَى الْقَاضِي نجم الدين بْن المقدسي الشَّافِعِي الَّذِي كَانَ أولا حنبليا، فانتقل. وأقام مدة بدمشق يشتغل فِي الأصول والعربية عَلَى علم الدين قاسم الكوفي.
ثُمَّ سافر إِلَى الديار المصرية.(4/127)
وأقام بها مدة يحضر عروس الشيخ عز الدين بن عبد السَّلام. وولي الْقَضَاء ببعض أعمال الديار المصرية نيابة عَن قَاضِي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز لفضيلته، وإن كَانَ عَلَى غَيْر مذهبه. وَهُوَ أول حنبلي حكم بالديار المصرية فِي هَذَا الوقت.
ثُمَّ لما ولي الشيخ شمس الدين بْن العماد قضاء القضاة الحنابلة استنابه عدة. ثُمَّ ترك ذَلِكَ، ورجع إِلَى دمشق. وأقام بها مدة سنين إِلَى حِينَ وفاته، يدرس الفقه بحلقة لَهُ فِي الجامع. ويكتب خطه فِي الفتاوى. وباشر الإعادة بالمدرسة الجوزية بدمشق قبل سفره إِلَى الديار المصرية، وبعد رجوعه. وباشر الإمامة بها أَيْضًا.
ثُمّ أمّ بمحراب الحنابلة بالجامع. ذكر ذَلِكَ قطب الدين اليونيني.
وَقَالَ: كَانَ فقيها إماما عالما، عارفا بعلم الأصول والخلاف، حسن العبارة، طويل النفس فِي البحث، كثير التحقيق، حسن المجالسة والمذاكرة. ويتكلم فِي الحقيقة.(4/128)
وَهُوَ غزير الدمعة، رقيق القلب جدا، وافر الديانة، كثير العبادة. صحب الفقراء مدة. وَلَهُ فيهم حسن ظن.
وَكَانَ عنده معرفة بالأدب. وَلَهُ يد(4/129)
جيدة فِي النظم. أنشدني لَهُ صاحبنا تقي الدين بْن عَبْد اللَّهِ بْن تمام:
طار قلبي يَوْم ساروا فرقا ... وسواء فاض دمعي أَوْ رقا
حار فِي سقمي من بعدهم ... كُل من فِي الحي داوى أَوْ رقى
بعدهم لا طَلَّ وادي المنحنى ... وكذا بانُ الحمى لا أورقا
وابتلي بالفالج قبل موته مدة أربعة أشهر. وبطل شقه الأيسر، وثقل لسانه بحيث لا يفهم من كلامه إلا اليسير. قرأ عَلَيْهِ جَمَاعَة الأصول والفروع.
وتوفي ليلة الجمعة بين العشائين لست خلون من جمادى الأولى سنة خمس وسبعين وستمائة بدمشق. وصلى عَلَيْهِ بالجامع. ودفن بمقابر الباب الصغير. ونيف عَلَى الستين من العمر رحمه اللَّه تَعَالَى.
ورأيت فِي الفتاوى المنسوبة إِلَى الشيخ تاج الدين الفزاري: واقعة(4/130)
وقعت، وَهِيَ وقف وقفه رجل، وثبت عَلَى حاكم: أَنَّهُ وقفه فِي صحة بدنه وعقله. ثُمَّ قامت بينة أَنَّهُ كَانَ حينئذ مريضا مرض الْمَوْت المخوف. فأفتى النووي: أَنَّهُ تقدم بينة المرض، ويعتبر الوقف من الثلث. ووافقه عَلَى ذَلِكَ ابْن الصيرفي، وابن عَبْد الْوَهَّاب الحنبليان. وخالف الفزاري، وَقَالَ: تقدم بينة الصحة. قَالَ: لأن من أصلهم أَن البينة الَّتِي تشهد بِمَا يقتضيه الظاهر تقدم، ولهذا تقدم عندهم بينة الداخل والأصل. والغالب عَلَى النَّاس: الصحة. فتقدم البينة الموافقة لَهُ.
وعرض عَلَى الشيخ تاج الدين الفزاري أيضًا فتاوى جَمَاعَة فِي حادثة تعارضت فِيهَا بينتان بالسفه والرشد، حال تصرف مَا: أَنَّهُ تقدم بينة السفة. فخطأهم فِي ذَلِكَ. وَقَالَ: هَذَا عندي غلط.
وذكر فِي موضع آخر: أَن الشيخ شمس الدين بْن أَبِي عُمَر أفتى فِي هذه المسألة بتقديم بينة الرشد عَلَى بينة استمرار الحجر.
ورأيت فتيا بخط مُحَمَّد بْن عَبْد الْوَهَّاب الحراني فِي وقف بأيدي أقوام من مدة سنين من غَيْر كتاب بأيديهم. فادعاه آخرون، وأظهروا كتابا منقطع الإثبات بوقفه عَلَيْهِم: أَنَّهُ لا ينزع من يد الأولين بمجرد هذا الكتاب. ووافقه جَمَاعَة من الشَّافِعِية والحنفية وغيرهم.
مُحَمَّد بْن تميم الحراني الفقيه، أَبُو عَبْد اللَّهِ، صاحب " المختصر "(4/131)
فِي الفقه، المشهور: وصل فِيهِ إِلَى أثناء الزكاة. وَهُوَ يدل عَلَى علم صاحبه، وفقه نَفْسه، وجودة فهمه:
وتفقه عَلَى الشيخ مجد الدين ابْن تيمية، وعلى أَبِي الفرج بْن أَبِي الفهم.
وبلغني أَن ابْن حمدان ذكر عَنْهُ: أَنَّهُ سافر - أظنه إِلَى ناصر الدين البيضاوي - ليشتغل عَلَيْهِ. فأدركه أجله هناك شابا. وَلَمْ أقف عَلَى تاريخ وفاته.(4/134)
عبد الصمد بن أحمد بن عَبْد القادر بْن أَبِي الْحُسَيْن بْن أَبِي الجيش بْن عَبْد اللَّهِ البغدادي القطفتي، المقرئ المحدث، النحوي اللغوي. الخطيب الواعظ الزاهد، شيخ بغداد وخطيبها، مجد الدين أَبُو أَحْمَد، وأبو الخير، ابْن أَبِي الْعَبَّاس. سبط الشيخ أَبِي زَيْد الحموي الزاهد، أبوه:(4/135)
ولد عَبْد الصمد فِي محرم سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة ببغداد.
وقرأ الْقُرْآن بالروايات عَلَى الفخر الموصلي، وعبد الْعَزِيز بْن الناقد، وعبد الْعَزِيز بْن دلف، والحسين بْن الزبيدي، وغيرهم.
وعني بالقراءات. وسمع كثيرا من كتبها. وسمع الْحَدِيث من ترك بْن مُحَمَّد الحلاج صاحب أَبِي البدر الكرخي، وعبد السَّلام بْن البردغولي، وأبي القاسم بْن أَبِي الجود، صاحبي ابْن الطلاية، وعبد السَّلام الداهري، وعبد الْعَزِيز بْن الناقد، وإسماعيل بْن حمدي، وأبي نصر بْن النرسي، والحسن والحسين ابني المبارك الزبيدي، والحسين بْن أَبِي بَكْر الخياري، وثابت بْن مشرف، وعبد اللطيف بْن القبيطي، والنفيس بْن حقني الزعيمي، وعبد اللطيف بْن يُوسُف البغدادي وأبي حفص السهروردي، وابن الخازن، وابن رُزوبة، وابن بهروز، وسعد بْن مُحَمَّد بْن ياسين، والمهذب بْن قنيدة، وابن اللتي، وَأَحْمَد بْن يعقوب المارستاني، وابن الدبيثي الحافظ، وأبي صالح نصر بن عبد الرزاق، وغيرهم.
وسمع شَيْئًا عَلَى سُلَيْمَان بْن مُحَمَّد بْن عَلِي الموصلي، وأخيه أَبِي الْحَسَن عَلِي.
وسمع(4/136)
كثيرا من الكتب الكبار والأجزاء. وقرأ بنفسه كثيرا عَلَى الشيوخ المتأخرين.
وجمع أسماء شيوخه بالسماع والإجازة. فكانوا فوق خمسمائة وخمسين شيخا. فبعضهم بالإجازة العامة، وكثير مِنْهُم بالإِجازة الخاصة من غَيْر سماع.
وذكر فِيهِ: أَنَّهُ سمع جامع الترمذي عَلَى أَبِي الفتح أَحْمَد بْن عَلِي الفربري بسماعه من الكرخي، وَهَذَا من أجود مَا عنده. والعجب أَنَّهُ خرج فِي بَعْض تصانيفه حَدِيثا من الترمذي عَن أكمل بْن مظفر الْعَبَّاسِي بإجازة من الكرخي، وعن أَبِي المعالي بْن شافع عَنِ ابْن كليب.
وأجاز لَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ، وعبد الْعَزِيز بْن منينا، وأبو القاسم بْن الحرستاني، وأبو اليمن الكندي، والشيخ موفق الدين المقدسي، وغيرهم.
وأخذ العربية والأدب عَن أَبِي البقاء العكبري، قَالَ: قرأت عَلَيْهِ من حفظي كتاب " اللمع " لابن جني،، " والتصريف المملوكي "، و " الفصيح " لثعلب. وأكثر كتاب " الإيضاح " لأبي عَلِي الفارسي. وسمعت عَلَيْهِ المفضليات.
وَقَالَ الجعبري: قرأ - يَعْنِي عَبْد الصمد - كتاب سيبويه، والإيضاح، والتكملة، واللمع، عَلَى الكندي. كَذَا قَالَ. وَهُوَ غَيْر صحيح. ولعله أراد أَن يَقُول: العكبري. وقرأ طرفا من الفقه. وانتهت إِلَيْهِ مشيخة القراءات والحَدِيث. وَلَهُ ديوان(4/137)
خطب فِي سبع مجلدات عَلَى الحروف. وولي فِي زمن المستنصر مشيخة الْمَسْجِد الَّذِي بناه المستنصر، وجعله دار قرآن وحَدِيث، ويعرف بمسجد قمرية.
ثُمَّ ولي فِي زمن المستعصم مشيخة رباط سوسيان. وبعد الواقعة: ولي خزن الديوان والخطابة بالجامع الأكبر، جامع القصر.
وصار عين شيوخ زمانه، والمشار إِلَيْهِ فِي وقته، مَعَ الدين والصلاح، والزهد والورم، والتقشف والتعفف، والصبر والتجمل.
قَالَ الحافظ الذهبي: قرأت بخط السَيْف بْن المجد قَالَ: كنت ببغداد، فبنى المستنصر مسجدا وزخرفه، وجعل بِهِ من يقرأ ويسمع. فاستدعى الوزير جَمَاعَة من القراء، وَكَانَ مِنْهُم صاحبنا عَبْد الصمد بْن أحمد. فقال له: تنتقل إِلَى مذهب الشَّافِعِي، فامتنع، فَقَالَ: أليس مذهب الشَّافِعِي حسنا؟ قَالَ: بلى، ولكن مذهبي مَا علمت بِهِ عيبا أتركه لأجله. فبلغ الخليفة ذَلِكَ، فأعجبه قَوْله. وَقَالَ: هُوَ يَكُون إمامه دونهم. وعرض عَلَيْهِ العدالة فأباها.
قَالَ الذهبي: سمعت أبا بَكْر المقصاتي يَقُول: طلب مني شيخنا عَبْد الصمد مقصا، فعملته وأتيته بِهِ. فَمَا أخذه حَتَّى أعطاني فَوْقَ قيمته.
وذكره شيخنا(4/138)
صفي الدين عبد المؤمن بن عَبْد الحق فِي مشيخته، فَقَالَ: هُوَ شيخ بغداد كلها. إِلَيْهِ انتهت رياسة القراءات والحَدِيث بها. كَانَ من الْعُلَمَاء العاملين، والأئمة الموصوفين بالعلم والفضل والزهد. وصنف الخطب الَّتِي انفرد بفنها وأسلوبها، وَمَا فِيهَا من الصنعة والفصاحة. وجمع منها شَيْئًا كثيرا. ذهب فِي واقعة بغداد مَعَ كتب لَهُ أُخْرَى بخطه وأصوله، حَتَّى كَانَ يَقُول: فِي قلبي حسرتان: ولدي وكتبي. فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ ولد اسمه أَحْمَد - وَبِهِ يكنى - صَالِح فاضل حسن السمت. خلفه بمسجد قمرية، لما رتب هُوَ شيخا برباط سوسيان فِي زمن المستعصم. وَكَانَ حسن الصوت حسن القراءة. وعدم فِي الواقعة. وبقي يتأسف عَلَيْهِ وعلى كتبه.
قَالَ الذهبي: قرأ عَلَيْهِ الشيخ إِبْرَاهِيم الرقي الزاهد، والتقي أَبِي بَكْر الجزبور المقصاتي، وأبو عَبْد اللَّهِ بْن خروف، وأبو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن موسى الموصليان، وجماعة - وَكَانَ إماما محققا، بصيرا بالقراءات وعللها وغريبها، صالحا زاهدا، كبير القدر، بعيد الصيت.(4/139)
قُلْت: وحدث بالكثير، وسمع منه خلائق.
وحكى عَنْهُ الحافظ بْن النجار فِي تاريخه، وَكَانَ شيوخ بغداد يقرأون عَلَيْهِ كتب الْحَدِيث، وسمع النَّاس بقراءتهم، كالشيخ كمال الدين بْن وضاح، مَعَ علو شأنه، وكبر سنه - وَقَدْ توفي قبله - والشيخ عبد الرحيم بن الزجاح، وَأَحْمَد بْن الكسار الحافظ. وَرَوَى عَنْهُ خلق كثير من الأعيان، مِنْهُم: ابْن وضاح المذكور، والدمياطي الحافظ فِي معجمه، والشيخ إِبْرَاهِيم الرقي الزاهد، والمحدثان أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن عَلِي القلانسي، وأبو الثناء محمود بن علي الدلْوقي، والإمام صفي الدين عَبْد المؤمن بْن عَبْد الحق، وابنه أَبُو الرَّبِيعُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، وأكثر عَن أَبِيهِ. وَقَدْ سمعت منه فِي الخامسة جزءا(4/140)
فِيهِ أربعون حَدِيثا، أخرجها أبوه لنفسه بسماعه من أَبِيهِ، وحصل في سماع العشرة الأخيرة بعد عَن مجلس القراءة، فلا أدري، أسمعتها أم لا؟.
وحضرت أيضًا كتاب النكاح من صحيح الْبُخَارِي عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْن عَبْد الْعَزِيز المؤذن بسماعه للكتاب، حضورا عَلَى الشيخ عَبْد الصمد.
وتوفي ضحوة يَوْم الخميس سابع عشر ربيع الأَوَّل سنة ست وسبعين وستمائة وأخرج من يومه، وصلى عَلَيْهِ بجامع ابْن بهليقا وعدة مواضع، وأغلق البلد يَوْمَئِذٍ. وازدحم الخلق عَلَى حمله. ودفن بحضرة الإمام أَحْمَد إِلَى جانب ابْن القاعوس الزاهد. وَكَانَ يوما مشهودا. رحمه اللَّه تَعَالَى، ورثاه جَمَاعَة من الشعراء.
أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ أَحْمَدَ الْبَغْدَادِيُّ - بِهَا - أَنْبَأَنَا أَبِي أَنْبَأَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ أَنْبَأَنَا أَكْمَلُ بْنُ مُظَفَّرٍ الْعَبَّاسِيُّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْجَصَّاصُ، وَشَرَفُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَالِصِيُّ، وَعَبْدُ السَّلامِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدَّاهِرِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ بَهْرُوزَ، قَالُوا: أَنْبَأَنَا أَبُو الْوَقْتِ ثَنَاءُ أَبُو الْحَسَنِ الدَّاوُدِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَمَّوَيْهِ أَنْبَأَنَا أَبُو عِمْرَانَ السَّمَرْقَنْدِيُّ حَدَّثَنَا الدَّارِمِيُّ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا(4/141)
حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا صلَّى فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ - أَوْ رَبُّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ - وَإِذَا بَزَقَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، أَوْ يَقُولُ هَكَذَا، وَبَزَقَ فِي ثوبه، وذلك بَعْضَهُ بِبَعْضٍ ".
مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بن عبد الواحد بن علي بْن سرور المقدسي، نزيل مصر، قَاضِي القضاة، شيخ الشيوخ، شمس الدين، أَبُو بَكْر وأبو عَبْد اللَّهِ، ابْن العماد، وَقَدْ سبق ذكر أَبِيهِ.(4/142)
ولد فِي يَوْم السبت رابع عشر صفر - وقيل: الأحد - سنة ثلاث وستمائة بدمشق. وحضر بها عَلَى ابْن طبرزد.
وسمع من الكندي، وابن الجرستاني، وابن ملاعب، والشيخ موفق الدين. وتفقه عَلَيْهِ، ثُمَّ رحل إِلَى بغداد، وأقام بها مدة.
وسمع بها من أبي الفتح بن عبد السلام، والداهري، والسهروري، وجماعة وتفقه بها، وتفنن فِي علوم شتى. وتزوج بها. وولد لَهُ.
ثُمَّ انتقل إِلَى مصر، وسكنها إِلَى أَن مَات بها. وعظم شأنه بها. وصار شيخ المذهب علما وصلاحا، وديانة ورياسة. وانتفع بِهِ النَّاس. وولي بها مشيخة خانقاه سَعِيد السعدا، وتدريس المدرسة الصالحية. وولي قضاء القضاة مدة. ثُمَّ عزل منه. واعتقل مدة. ثُمَّ أطلق، فأقام بمنزله يدرس بالصالحية ويفتي، ويقرئ العلم إلى أن لوفي.
قَالَ عبيد الأسعردي الحافظ: كَانَ مشهورا بمكارم الأخلاق، وحسن الطريقة، والمناقب المرضية تفقه بدمشق، وبغداد. وأفتى ودرس، وولي قضاء القضاة بالديار المصري!. وَكَانَ شيخ الشيوخ بها.
قَالَ البرزالي فِي تاريخه: كَانَ حسن السمت وضيء الوجه، ونيَر الشيبة. لَهُ معرفة بالفقه والأصول. وَكَانَ كثير البر والصلة والصدقة، كثير(4/143)
التواضع والتودد، وَكَانَ مدرسا بالمدرسة الصالحية بالقاهرة، ثُمَّ ولي الْقَضَاء، ثُمَّ عزل وحبس مدة بسبب ودائع أكره عَلَى أخذها، أخذت من بيته سنة سبعين، واعتقل سنتين ثُمَّ أفرج عَنْهُ. ولزم بيته يدرس ويفتي ويقرئ ويتعبد، إِلَى أَن مَات، رحمه اللَّه تَعَالَى.
وَقَالَ الذهبي: استوطن مصر بَعْد الأربعين، ورأس بها فِي مذهب أَحْمَد. وصار شيخ الإقليم فيء الأيام الظاهرية، وَكَانَ إماما محققا، كثير الفضائل، صالحا خيرا، حسن السيرة، مليح الشكل، كثير النفع والمحاسن.
وقال! القطب اليرنيني: كَانَ من أَحْسَن المشايخ صورة، مَعَ الفضائل الكثيرة التامة، والديانة المفرطة، والكرم وسعة الصدر، وأظنه جعفري النَّسب، وَهُوَ أول من درس بالمدرسة الصالحية للحنابلة. وأول من ولي قضاء القضاة مِنْهُم بالديار المصرية. وتولى مشيخة خانقاه سَعِيد السعداء بالقاهرة مدة. وَكَانَ كامل الأدوات، سيدا صدرا من صدور الإِسْلام وأئمتهم، متبحرا فِي العلوم، مَعَ الزهد الخارج عَنِ الحد، واحتقار الدنيا، وعدم الالتفات إِلَيْهَا. وَكَانَ الصاحب بهاء الدين - يَعْنِي ابْن جنا - يتحامل(4/144)
عَلَيْهِ، ويغري الْمَلِك الظاهر بِهِ؛ لما عنده من الأهلية لكل شَيْء من أمور الدنيا والآخرة. وَهُوَ لا يلتفت إِلَيْهِ، ولا يخضع لَهُ.
حدث بالكثير. وسمع منه الكبار، مِنْهُم: الدمياطي، والحارثي، وعبيد(4/145)
الأسعردي، والشريف أَبُو القاسم الحسيني الحافظ، وعبد الكريم الحلبي.
توفي يَوْم السبت ثاني عشر محرم سنة ست وسبعين وستمائة بالقاهرة. ودفن من الغد بالقرافة، عِنْدَ عمه الحافظ عَبْد الغني. وَكَانَ الجمع متوفرا. رحمه اللَّه تَعَالَى.(4/148)
يَحْيَى بْن أَبِي مَنْصُور بْن أَبِي الفتح بْن رافع بْن عَلِي بْن إِبْرَاهِيم الحراني، الفقيه المحدث المعمر، جمال الدين، أَبُو زَكَرِيَّا بْن الصيرفي. ويعرف بابن الجيشي أيضًا، نزيل دمشق: ولد سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة بحران.
وسمع بها من الحافظ عَبْد القادر الرهاوي، والخطيب فخر الدين وغيرهما.
وَكَانَ قَدْ سمع من حماد الحراني. ولكن لَمْ يظهر سماعه منه.
ورحل إِلَى بغداد سنة سبع وستمائة. فسمع(4/149)
من ابْن طبرزد، وابن الأخضر، وأحمد بن الدبيقي، وعبد الْعَزِيز بْن منينا، وعلي بْن مُحَمَّد بالموصل. وثابت بْن مشرف، وأبي البقاء العكبري، ومحمد بْن عَلِي القبيطي، وغيرهم.
وسمع بدمشق من أَبِي اليمن الكندي، وابن ملاعب، وابن الحستاني، والشيخ موفق الدين، وغيرهم.
وسمع بالموصل من جَمَاعَة. وقرأ بنفسه. وكتب بخطه الأجزاء والطباق.
وأخذ الفقه بدمشق عَنِ الشيخ موفق الدين، وببغداد عَن أَبِي بَكْر بْن غنيمة بْن الحلاوي، وأبي البقاء العكبري، والفخر إِسْمَاعِيل، وغيرهم.
وأخذ العربية عَن أَبِي البقاء. وقرأ عليه جميع كتابه لا التبيان فِي إعراب القراَن " وأقام ببغداد مدة فِي رحلته الثَّانِيَة إِلَيْهَا. وتزوج بها. وولد لَهُ. وكتب الكثير بخطه من الفوائد والنكت، وجمع وصنف، وعلق فوائد وغرائب حسنة. وأفتى وناظر ودرس. وجالس بحران الشيخ مجد الدين وفقه. وَكَانَ ذا عبادة وديانة.
قَالَ البرزالي فِي تاريخه: كَانَ من الشيوخ وَالْفُقَهَاء المتعبدين والمعتبرين فِي مذهبه، كثير الديانة والتعبد. وأشغل النَّاس وأفاد، وانتفع بِهِ.
وَقَالَ الذهبي: برع فِي المذهب، ودرس وناظر، وتخرج بِهِ الأَصْحَاب. وَكَانَ لطيف القدر جدا، ضخم العلم والْعمل، صاحب تعبد وأوراد وتهجد.
قرأت بخط الشيخ شمس الدين بْن الفخر: كَانَ إماما كبيراً مفتيا. أفتى ببغداد، وحران، ودمشق. وَلَهُ مناقب جمة.(4/150)
منها: قيام الليل فِي معظم عمره. كَانَ يقوم فِي وقت والله يعجز الشباب عَن ملازمته، وَهُوَ جوف الليل. يجتهد فِي إسرار ذَلِكَ، وسائر عمل التقرب.
ومنها: سخاء النفس، وحسن الصحبة، والتعصب فِي حق صاحبه بلحائه واجتهاده وتضرعه، ومساعدته بجاهه وحرمته.
ومنها التعصب فِي السنة والمغالاة فِيهَا، وقمع أهل البدع، ومجانبتهم ومنابذتهم.
ومنها: قَوْل الحق، وإنكار المنكر عَلَى من كَانَ، لَمْ يكن عنده من المداهنة والمراءاة شيء أصلاً، يقول الحق، يصدع بِهِ.
لقي الكبار: كالسامري، مصنف المستوعب، والشيخ أَبِي البقاء، والشيخ الموفق.
وَكَانَ حسن المناظرة والمحاضرة، حلو العبارة، عالي الإسناد، لَهُ مختصران، ومجاميع حسنة.
قَالَ الذهبي: كَانَ لَهُ حلقة بجامع دمشق. وتخرج به جماعة. وروى الكثير. حدث بجامع الترمذي، وبمعالم السنن للخطابي، وأشياء كثيرة.
قُلْت: لَهُ تصانيف عدة، منها: كتاب " نوادر المذهب " فِيهَا قواعد عربية. وكتاب " دعائم الإِسْلام فِي وجوب الدعاء للإمام " كتبه للمستنصر، و " انتهاز الفرص فيمن أفتى بالأخص " جزء، جزء فِي " عقوبات الجرائم " كتبه للافتخار الحراني وإلى دمشق. وَكَانَ بِهِ اختصاص. وَكَانَ لَهُ صالحا عادلا. وَلَهُ جزء فِي " آداب الدعاء ".(4/151)
وسمع منه الحافظ الدمياطي، وذكره فِي معجمه، والحافظ الحارثي. وأظنه أخذ عَنْهُ العلم أَيْضًا، والشيخ عَلِي الموصلي، وابن أَبِي الفتح البعلي، والقاضي سُلَيْمَان بْن حمزة، والشيخ تقي الدين ابْن تيمية، وأبو الْحَسَن بْن العطار وخلق. وحدثنا عَنْهُ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل بْن الخباز. وَكَانَ قَدْ عُمَر وتغير من الهرم قبل موته بعامين أَوْ أَكْثَر. فحجبه ولده.
ذكره الذهبي. وَرَوَى عَنْهُ بالإجازة.
وتوفي عشية الجمعة رابع صفر سنة ثمان وسبعين وستمائة بدمشق. ودفن يَوْم السبت بمقبرة بَاب الفراديس. رحمه اللَّه تَعَالَى.
قَالَ اليونيني: كانت لَهُ جنازة مشهودة جداً.(4/152)
إسحاق بن إبراهيم بن يحيى الشفراوي، الْقَاضِي، صفي الدين، أَبُو مُحَمَّد:(4/153)
ولد بشقرا من ضياع زُرا - المعروفة بزرع - سنة خمس وستمائة.
وسمع(4/154)
من موسى بْن عَبْد القادر، والشيخ موفق الدين، وَأَحْمَد بْن طاوس، وابن الزبيدي، وجماعة.
وتفقه. وحدث. وولي الحكم بزرع نيابة عَنِ الشيخ شمس الدين بْن أَبِي عُمَر.
وَكَانَ فقيها فاضلًا، حسن الأخلاق.
قَالَ الذهبي: كَانَ رجلًا خيرا فقيها، حفظة للنوادر والأخبار. ولي قضاء زرع مدة.
وأعاد بمدرستها.
توفي يَوْم السبت تاسع عشر ذي الحجة سنة ثمان وسبعين وستمائة. ودفن بسفح قاسيون. رحمه الله تَعَالَى.
عَبْد اللَّهِ بْن إِبْرَاهِيم بْن محمود بْن رفيعا الجزري، المقرئ الفرضي، نزيل الموصل. وأبو مُحَمَّد. ويلقب ضياء الدين: قرأ بالسبع عَلَى عَلِي بْن مفلح البغدادي نزيل الموصل. وأخذ الحروف عَن أَبِي عَمْرو بْن الحاجب، وأبي عبد الله الفاسي، والسديد عيسى بن أبي الحزم. وسمع الْحَدِيث من جَمَاعَة.
وصنف تصانيف فِي القراءات. ونظم فِي القراءات وغيرها، وَفِي الفرائض قصيدة معروفة لامية، وَكَانَ شيخ القراء بالموصل. قرأ عَلَيْهِ ابْن خروف الموصلي الحنبلي، وأكثر عَنْهُ، وسمع منه " الأَحْكَام " للشيخ مجد الدين(4/155)
ابْن تيمية عَنْهُ. وأجاز لشيخنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ أبي الجيش غَيْر مرة.
وتوفي فِي سادس جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وستمائة بالموصل رحمه اللَّه.
عَبْد الساتر بْن عَبْد الحميد بْن مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر بْن ماضي المقدسي الفقيه، تقي الدين، أَبُو مُحَمَّد: سمع من موسى بْن عَبْد القادر، وابن الزبيدي: والشيخ موفق الدين وغيرهم.
وتفقه عَلِي التقي بْن العز، ومهر فِي المذهب، وعني بالسنة. وجمع فِيهَا. وناظر الخصوم وكفَّرَهم. وَكَانَ صاحب جرأة، وتحرق عَلَى الأشعرية، فرموه بالتجسيم.
قَالَ الذهبي: ورأيت لَهُ مصنفا فِي الصفات. فلم أرَ بِهِ بأسا. قَالَ: وَكَانَ منابذا للحنابلة. وفيه شراسة أخلاق، مَعَ صلاح ودين يابس.(4/156)
توفي فِي ثامن شعبان سنة تسع وسبعين وستمائة عن نيف وسبعين سنة رحمه اللَّه.
قُلْت: حَدَّثَنَا عَنْهُ ابْن الخباز، وعن إِسْحَاق بْن الشقراوي المتقدم ذكره.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الأَنْصَارِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ السَّاتِرِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالا: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الزُّبَيْدِيِّ أَنْبَأَنَا أَبُو الْوَقْتِ أَنْبَأَنَا الداودي أخبرتا الْحَمَوِيُّ أَخْبَرَنَا الْفَرَبْرِيُّ حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيد بْن أَبِي عبيد عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: " كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ إِذَا تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ.
وَفِي حادي عشرين رمضان سنة تسع وسبعين أيضًا: توفي الفقيه شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ: -
مُحَمَّد بْن دَاوُد بْن إلياس البعلي الحنبلي، ودفن بظاهر(4/157)
بعلبك: ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.
وسمع من الشيخ موفق الدين، وابن المنى، وطائفة، وخدم الشيخ الفقيه اليونيني مدة.
قَالَ القطب ابْن اليونيني: سمع من حنبل، والكندي، وابن الزبيدي، ورحل إِلَى البلاد للسماع، وخدم والدي مدة، وقرأ عَلَيْهِ الْقُرْآن، واشتغل عَلَيْهِ، وحفظ " المقنع " وعرف الفرائض.
وَكَانَ ذا ديانة وافرة، وصدق، وأمانة، وتحز فِي شهاداته وأقواله، وحدث بمسموعاته.(4/158)
عَبْد الجبار بْن عَبْد الخالق بْن مُحَمَّد بْن أَبِي نصر بن عبد الله بن(4/162)
عَبْد الباقي بْن عكبر الزاهد بْن عَبْد الخالق بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي بْن أَحْمَد بْن مَنْصُور بْن سالم بْن تميم بْن أَبِي نصر بْن عَبْد اللَّهِ بْن سالم بْن عبد الله بن عمر بن الْخَطَّاب. هكذا رأيت نسبه، وفيه نظر، والله أعلم، البغدادي، العَكبريّ، الفقيه المفسر الأصولي، الواعظ، جلال الدين أَبُو مُحَمَّد: ولد سنة تسع عشرة وستمائة ببغداد.
ونسبه الذهبي فِي المشتبه: عَبْد الجبار بْن عَبْد الخالق بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْبَاقِي بن عكبر بن مهلهل بْن عكبر العكبري، - بفتح العين - البغدادي، شيخ الحنابلة، وشيخ الوعاظ فِي زمانه، صنف التفسير وكتاب " إيقاظ الوعاظ " وكتاب " المقدمة فِي أصول الفقه ".
وسمع من ابْن اللتي، والقاضي أَبِي صَالِح الجيلي، وَأَحْمَد بْن يعقوب المارستاني، ومحمد بْن أَبِي السهل الواسطي، وَأَحْمَد بْن عُمَر القادسي، وغيرهم.
واشتغل بالفقه والأصول، والتفسير، والوعظ، وبرع(4/163)
فِي ذَلِكَ، وَلَهُ النظم والنثر، والتصانيف الكثيرة، منها: تفسير الْقُرْآن فِي ثمان مجلدات، ودرس بالمستنصرية.
قَالَ شيخنا بالإِجازة صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق، فِي حقه: شيخ الوعاظ ببغداد، ومتقدمهم. وَكَانَ فِي صباه خياطا، واشتغل بالطب مدة، ثم رتب فقيهاً بالمستنصرية، واشتغل بالفقه والتفسير، وطالع. وَكَانَ يجلس للوعظ بمجلس القاعوس بدرس الحب، ثُمَّ اختير فِي أواخر زمن الخليفة للوعظ بباب بدر، تَحْتَ منظرة الخليفة وَلَمْ يزل عَلَى ذَلِكَ إِلَى واقعة بغداد، واستؤسر فاشتراه بدر الدين صاحب الموصل؛ فحمله إِلَى الموصل فوعظ بها، ثم حَدَّرد إِلَى بغداد، فرتب مدرسا للحنابلة بالمدرسة المستنصرية، وَلَمْ يزل يعقد مجلس(4/164)
الوعظ فِي الجمعات بجامع الخليفة إِلَى أَن توفي، وَلَهُ تفسير الكتاب الكريم، ومسائل خلاف، وأربعون حَدِيثا تكلم عَلَيْهَا، وَلَهُ مسموعات ومجازات.
قُلْت: سمع منه جَمَاعَة، منهم: نسيبه نصير الدين أحصد بْن عَبْد السَّلام بْن عكبر.
وَرَوَى عَنْهُ بالإِجازة جَمَاعَة من شيوخنا، مِنْهُم: صفي الدين عَبْد المؤمن المذكور فِي مشيخته. وَقَالَ: توفي يَوْم الإِثنين سابع عشرين شعبان سنة إحدى وثمانين وستمائة؛ ودفن فِي دويرة لَهُ مجاور مَسْجِد ابْن بورنداز. وَكَانَ يوما مشهودا، رحمه اللَّه تَعَالَى.
عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر بْن أَبِي البدر مُحَمَّد، الحربي البغدادي الفقيه(4/165)
الفقير الزاهد القدوة، بقية شيوخ العراق: ويعرف بكتيلة، ووجدت فِي طبقته: سماع أَبِيهِ أَبِي بَكْر بْن أَبِي البدر من درة بنت الحلاوي. وأنه يعرف بكتيلة: ولد الشيخ عَبْد اللَّهِ سنة خمس وستمائة.
وسمع الْحَدِيث بدمشق من الحافظ الضياء المقدسي، وسليمان الأسعردي، وأجاز لَهُ الشيخ موفق الدين. وتفقه فِي المذهب ببغداد عَلَى الْقَاضِي أَبِي صَالِح. وارتحل.
وتفقه بحران عَلَى الشيخ مجد الدين ابْن تيمية، وابن تميم صاحب " المختصر " وبدمشق عَلَى الشيخ موفق الدين بْن أَبِي عُمَر، وغيره. وبمصر عَلَى أَبِي عَبْد اللَّهِ بْن حمدان، ونقل عَنْهُم فوائد، وشرح كتاب " الخرقى " وسماه " المهم " وَلَهُ تصانيف أخر منها: مجلد فِي أصول الدين، سماه " العدة للشدة " وله مصنف في السماع.
وحدث وسمع منه عَبْد الرزاق بْن القوطي، وغيره.(4/166)
وَكَانَ قدوة زاهدا عابدا ذا أحوال وكرامات. وَكَانَ أرباب الدولة وغيرهم يعظمونه ويحترمونه، وَلَهُ أتباع وأصحاب، وصحب الشيخ أحمد المنذز وغيره من الصالحين، وحكى عَنْهُ أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن الدباهي الزاهد.
قَالَ الذهبي: حَدَّثَنَا ابْن الدباهي عَنِ الشيخ: أَنَّهُ - مَعَ جلالته - كان في رض الأوقات يترنم ويغني لنفسه، وأنه كَانَ فِيهِ كيس وظرف وبشاشة، وَقَالَ: سمعته يَقُول: كنت عَلَى سطح ببغداد يَوْم عرفة، وأنا مستلق عَلَى ظهري، قَالَ: فَمَا شعرت إلا وأنا واقف بعرفة مَعَ الركب سويعة، ثُمَّ لَمْ أشعر إلا وأنا عَلَى حالتي الأولى مستلق، قَالَ: فلما قدم الركب جاءني إِنْسَان صارخا، فَقَالَ: يا سيدي، أنا قَدْ حلفت بالطلاق: أني رأيتك بعرفة العام، وَقَالَ لي واحد وجماعة: أَنْتَ واهم، الشيخ مَا حج فِي هَذَا العام، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: امضِ، لَمْ يقع عليك طلاق.(4/167)
توفى رحمه اللَّه يَوْم الجمعة منتصف رمضان سنة إحدى وثمانين(4/168)
وستمائة ببغداد، رحمه اللَّه، وَهُوَ فِي عشر الثمانين.
يُوسُف بْن جامع بْن أَبِي البركات البغدادي القفصي الضرير، المقرئ، النحوي الفرضي، جمال الدين، أَبُو إِسْحَاق: ولد سابع رجب سنة ست وستمائة بالقفص، من قرى دجيل، من أعمال بغداد. وقرأ الْقُرْآن بالروايات عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْن سالم صاحب البطائحي، وعلي بْن الْحُسَيْن اليوسفي، صاحب أَبِي طالب العكبري، وغيرهم.
وسمع الْحَدِيث من عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز بْن الناقد، وأخته تاج(4/169)
النِّسَاء عجيبة، وأجاز لَهُ عَبْد الْعَزِيز بْن منينا، وريحان بْن تيكان، وأبو منصور بن عبيدة، والشرف الخالصي، وعبد اللطيف بْن القبيطي، وزكريا العلثي، وطائفة.
وسمع فِي العربية والقراءة والفرائض، وغير ذَلِكَ. وانتفع النَّاس بِهِ فِي هذه العلوم. وصنف فِيهَا التصانيف.
قَالَ شيخنا بالإِجازة صفي الدين عَبْد المؤمن فِي مشيخته: شيخ عالم بالقراءة والعربية من مشايخ القراء. وصنف لْي القراءات وغيرها. وَلَهُ قصيدة فِي التجويد وشروحه. وشرحِ كتاب " التلقين "، لأبي البقاء العكبري فِي النحو. وَلَهُ مصنفات غَيْر ذَلِكَ.
قَالَ إِبْرَاهِيم الجعبري: جَمَّاعة لعلوم الْقُرْآن. قرأت عَلَيْهِ " المصباح " فِي القراءات. ورواة التذكرة. ووقف ابْن الأنباري، و " اللباب " عَن مؤلفه أَبِي البقاء.
ثُمَّ رحل إِلَى الشام، فقرأ عَلَى العلم المايوقي شرح "(4/170)
المفضل " و " الخرولية " و " الشاطبية " وصنف " الشافعي " فِي العشرة، وأرجوزة وغيرهما.
وَقَالَ أَبُو العلاء الفرضي فِي معجمه: كَان شيخا فقيها عالما، إماما فاضلًا، مقرئا. عارفا بروايات السبعة والشواذ وعللها، جامعا للعلوم، وَلَهُ فِي ذَلِكَ تصانيف كثيرة.
وَقَالَ الشريف عز الدين الحافظ: متفنن، لَهُ معرفة باللغة العربية، ووجوه القراءات، وطرق القراء. وَلَهُ فِي ذَلِكَ تصانيف تَدُل عَلَى فضله.
وَقَالَ الذهبي فِي تاريخه: كَانَ مقرئ بغداد، عارفا باللغة والنحو، بصيرا بعلل القراءات، متصديا لإِقرائها، ودخل دمشق ومصر، وسمع من شيوخها.
وَقَالَ فِي الطبقات: كَانَ عارفا باللغة والنحو، جم الفضائل،(4/171)
وَكَانَ لا يتقدمه أحد فِي زمانه فِي الإِقراء. أخذ عَنْهُ عَلِي بْن أَحْمَد بْن موسى الجزري.
وسمع منه أَبُو العلاء الفرضي؟ وأحمد بن القلانسي.
وحدثني البرازلي: أَنَّهُ قدم دمشق فِي الكهولة، وقرأ ختمة السبعة فِي نَحْو ثمانية أَيَّام عَلَى العلَم القاسم بْن أَحْمَد، وإنما قصد اتصال طريق التيسير لَهُ، وإلا فشيوخه أَسْنَدَ العلَم.
قُلْت: أجاز لغير واحد من شيوخنا، كالعلم البرزالي، وعبد المؤمن بْن عَبْد الحق وعلي بْن عَبْد الصمد.
وتوفي يَوْم الجمعة تاسع عشرين - أَوْ يَوْم السبت سلخ صفر - سنة اثنين وثمانين وستمائة ببغداد، وصلَّى عَلَيْهِ يَوْم السبت، ودفن بباب حرب رحمه الله تَعَالَى.
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن قدامة المقدسي، الجماعيلي(4/172)
الأصل العمادي، الفقيه الإمام، الزاهد الخطيب، قَاضِي القضاة، شيخ الإِسْلام، شمس الدين، أَبُو مُحَمَّد، وأبو الفرج، ابْن الشيخ أَبِي عُمَر: ولد فِي المحرم سنة سبع وتسعين وخمسمائة بالدير بسفح قاسيون.
وسمع من أَبِيهِ، وعمه الشيخ موفق الدين، وبإفادتهما من عُمَر بْن طبرزد، وحنبل، وأبي اليمن الكندي، وأبي القاسم بْن الحرستاني، وابن ملاعب، وجماعة. أوجز لَهُ الصيدلاني، وابن الجوزي، وجماعة ثُمَّ سمع نَفْسه من أَصْحَاب السلفي. وقرأ النَّاس عَلَى ابْن الزبيدي، وابن اللتي وجماعة. وعني بالحَدِيث وكتب بخطه الأجزاء والطباق.
وتفقه عَلَى عمه شيخ الإِسلام موفق الدين. وعرض عَلَيْهِ كتاب " المقنع " وشرحه عَلَيْهِ. وأذن لَهُ فِي إقرائه، وإصلاح مَا يرى أَنَّهُ يحتاج إِلَى إصلاح فِيهِ. ثُمَّ شرحه بعده فِي عشر مجلدات. واستمد فِيهِ من " المغنى " لعمه.
وأخذ(4/174)
الأصول عَنِ السَيْف الآمدي. ودرس وأفتى. وأقرأ العلم زمانا طويلًا وانتفع بِهِ النَّاس، وانتهت إِلَيْهِ رياسة المذهب فِي عصره، بَل رياسة العلم فِي زمانه.
وَكَانَ معظما عِنْدَ الخاص والعام، عظيم الهيبة لدى الملوك وغيرهم، كثير الفضائل والمحاسن، متين الديانة والورع.
وَقَدْ جمع المحدث إِسْمَاعِيل بْن الخباز ترجمته وأخباره فِي مائة وخمسين جزءا، وبالغ، وبقي كلما أثنى عَلَيْهِ بنعت من الفقه، أَوِ الزهد، أَوِ التواضع: سرد مَا ورد فِي ذَلِكَ بأسانيده الطويلة الثقيلة، ثُمَّ تحول إِلَى ذكر شيوخه، فترجمهم، ثُمَّ إِلَى ذكر الإمام أَحْمَد، فأورد سيرته ومحنته كلها، كَمَا أوردها ابْن الجوزي، ثُمَّ أورد السيرة النبوية، لكونه من أمة النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الحافظ الذهبي: وَمَا رأيت سيرة عالم أطول منها أبدا، وَقَالَ الذهبي فِي معجم شيوخه، فِي ترجمة الشيخ شمس الدين:(4/175)
شيخ الحنابلة، بَل شيخ الإِسلام، وفقيه الشام، وقدوة الْعِبَاد، وفريد وقته. من اجتمعت الألسن عَلَى مدحه والثناء عليه. حدث نحواً من ستين سنة. وكتب عَنْهُ أَبُو الفتح بْن الحاجب.
وَقَالَ: سألت عَنْهُ الحافظ مُحَمَّد بْن عَبْد الْوَاحِد - يَعْنِي الضياء - فَقَالَ: إمام عالم، خبر دين.
قَالَ الذهبي: وَكَانَ الشيخ محيي الدين - يَعْنِي النووي - يَقُول: هَذَا أجل شيوخي.
وأول مَا ولي: مشيخة دار الْحَدِيث سنة خمس وستين. حدث عَنْهُ بها فِي حياته.
قُلْت: وَرَوَى عَنْهُ الشيخ محيي الدين فِي كتاب الرخصة فِي القيام " لَهُ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا الشيخ الإمام العالم المتفق عَلَى إمامته وفضله وجلالته: الفقيه أَبُو مُحَمَّد عَبْد الرَّحْمَنِ ابْن الشيخ الإِمام العالم، العامل الزاهد أَبِي عُمَر المقدسي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قَالَ الذهبي: وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا الشيخ زين الدين أَحْمَد بْن عَبْد الدائم، وَهُوَ أكبر منه وأسند. وذكره فِي تاريخه الكبير. وأطال ترجمته. وذكر فضائله وعبادته وأوراده، وكرمه ونفعه العام، وأنه حج ثَلاث مرات. فكان آخرها: قَدْ رأى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام يطلبه، فحج ذَلِكَ العام. وحضر الفتوحات، وأنه كَانَ رقيق القلب، سريع الدمعة، كريم النفس، كثير الذكر لِلَّهِ، والقيام بالليل، محافظا عَلَى صلاة الضحى. ويصلِّي بَيْنَ العشاءين مَا تيسر، ويؤثر بِمَا يؤتيه من صلة الملوك وغيرهم. وَكَانَ متواضعا عِنْدَ العامة، مترفعا عِنْدَ الملوك. وَكَانَ مجلسه عامرا بالفقهاء والمحدثين وأهل الدين. وأوقع اللَّه(4/176)
محبته فِي قلوب الخلق. وَلَمْ يكن فِي زمانه من يصلَّي أَحْسَن منه، ولا أتم خشوعا. وكان كثير الدعاء والابتهال، لا سيما فِي الأماكن المرجو فِيهَا الإِجابة، وبعد قراءة آيات الحرس بالجامع بَعْد العشاء، كثير الاهتمام بأمور النَّاس، لا يكاد يعلم بمريض إلا افتقده، ولا مَات أحد من أهل الجبل إلا شيعه.
وذكر فخر الدين البعلبكي: أَنَّهُ منذ عرفه مَا رآه غضب، وعرفه نَحْو خمسين سنة.
وَقَدْ ولي الْقَضَاء مدة تزيد عَلَى اثني عشرة سنة، عَلَى كره منه. وَلَمْ يتناول معلوما ثُمَّ
عزل نَفْسه فِي آخر عمره. وبقي قضاء الحنابلة شاغرا مدة، حَتَّى ولي ولده نجم الدين فِي آخر حياة الشيخ. وَكَانَ الشيخ نزل فِي ولايته للحكم عَلَى بهيمة إِلَى البلد.
وَقَدْ ذكر أَبُو شامة فِي ذيله: ولاية الشيخ سنة أربع وستين؟ قَالَ: جاء(4/177)
من مصر ثلاثة عهود بقضاء القضاة لثلاثة عن القضاة: ابْن عَطَاء، والزواوي، وابن أَبِي عُمَر. فلم يقبل المالكي والحنبلي، وقبل الحنفي. ثُمَّ ورد الأمر بإلزامها بِذَلِكَ، وقيل: إِن لم يقبلاها وإلا لا يؤخذ ما بأيديهما من الأوقات، ففعلا، وامتنعَا من أخذ جامكية، وَقَالا: نحن فِي كفاية، فأعفيا منها.
وذكر الذهبي عَن أَبِي إِسْحَاق اللوزي المالكي - وَكَانَ شيخ المالكية، ومن أهل العلم والدين والحَدِيث - أَنَّهُ قَالَ: كَانَ شيخنا شيخ الإِسلام شمس الدين قدوة الأنام، حسنت! الأيام، مِمَّن تفتخر بِهِ دمشق عَلَى سائر البلدان، بَل يزهو بِهِ عصره عَلَى متقدم العصور والأزمان، لما جمع اللَّه لَهُ من المناقب والفضائل الَّتِي أوجبت للأواخر الافتخار عَلَى الأوائل.
منها: التواضع، مَعَ عظمته فِي الصدور، وترك التنازع فيما يفضي إِلَى(4/178)
التشاجر والنفور، والاقتصاد فِي كُل مَا يتعاطاه من جميع الأمور، لا عجرفة فِي كلامه ولا تقعر، ولا تعظم فِي مشيته ولا تبختر، ولا شطط فِي ملبسه ولا تكثر، ومع هَذَا فكانت لَهُ صدور المجالس والمحافل، وإلى قَوْله المنتهى فِي الفصل بن العشائر والقبائل، مَعَ مَا أمده اللَّه عَلَيْهِ من سعة العلم، وفطره عَلَيْهِ من الرأفة والحلم. وَكَانَ لا يوفر جانبه عمن قصده، قريبا كَانَ أَوْ أجنبيا. ولا يدخر شفاعته عمن اعتمده، مسلما كَانَ أَوْ ذميا. ينتاب بابه الأمراء والملوك. فيساوي فِي إقباله عَلَيْهِم بَيْنَ المالك والملوك.
ولي الشيخ قضاء القضاة فِي جمادى الأولى سنة أربع وستين عَلَى كره منه. وَكَانَ الشيخ رحمه اللَّه رحمة عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ولولاه لراحت أملاك النَّاس لما تعوض إِلَيْهَا السلطان. فقام فِيهَا قيام الْمُؤْمِنيِنَ وأثبتها لَهُمْ. وعاداه جَمَاعَة الحكام، وعملوا فِي حقه المجهود. وتحدثوا فِيهِ بِمَا لا يليق. ونصره اللَّه عَلَيْهِم بحسن نيته. ويكفيه هَذَا عِنْدَ اللَّه.
وَقَالَ البرزالي فِي تاريخه: كَانَ الشيخ شيخ الوقت، وبركة العصر. ولي الحكم والخطابة، والمشيخة والتدريس مدة طويلة، ومراده خطابة(4/179)
الجبل ومشيخة دار الْحَدِيث الأشرفية بِهِ.
وَقَالَ اليونيني فِي تاريخه: شيخ الإِسلام، علما وزهدا وورعا، وديانة وأمانة، كبير القدر، جم الفضائل. انتهت إِلَيْهِ الرياسة فِي الفقه عَلَى مذهب الإِمام أَحْمَد، وشرح كتاب " المقنع " لعمه الشيخ موفق الدين، وإن كَانَ معظم الشج مأخوذ من كَلام عمه. وَكَانَ لَهُ اليد الطولى فِي معرفة الْحَدِيث، والأصول والنحو وغير ذَلِكَ من العلوم الشرعية، مَعَ العبادة الكثيرة، والتواضع واللطف بكرم الأخلاق، ولين الجانب، والإِحسان إِلَى القريب والبعيد، والاحتمال. وولي قضاء القضاة مكرها. وباشر ذَلِكَ مدة. ثُمَّ عزل نَفْسه، وامتنع من الحكم، وبقي متوفرا عَلَى العبادة والتدريس، وإشغال الطلبة والتصنيف. وَكَانَ أوحد زمانه فِي تعدد الفضائل، والتفرد بالمحامد، وَلَمْ يكن لَهُ نظير فِي خُلقه ورياضته. وَمَا هُوَ عَلَيْهِ، وانتفع بِهِ خلق كثير. وَكَانَ عَلَى قدم السلف الصالح فِي معظم أحواله.
اشتغل عَلَى الشيخ شمس الدين رحمه اللَّه خلق كثير.
وممن أخذ عَنْهُ العلم: الشيخ تقي الدين ابْن تيمية، والشيخ مجد الدين إِسْمَاعِيل بْن مُحَمَّد الحراني، وَكَانَ يَقُول: مَا رأيت بعيني مثله.
وحدث بالكثير. وخرج لَهُ أَبُو الْحَسَن بْن اللبان مشيخة فِي أحد عشر جزءا. وأخرج لَهُ الحافظ الحارثي أُخْرَى. وحدث بهما.(4/180)
وروى عنه خلق كثير من الأئمة والحفاظ، مِنْهُم: الشيخ تقي الدين ابْن تيمية، وأبو مُحَمَّد الحارثي، وأبو الْحَسَن بْن العطار، والمزي، والبرزالي.
وحدثنا عَنْهُ جَمَاعَة، مِنْهُم: دَاوُد بْن العطار، والمزي، والبرزالي.
وحدثنا عَنْهُ جَمَاعَة، مِنْهُم: دَاوُد بْن العطار أَخُو أَبِي الْحَسَن، وأبو عَبْد اللَّهِ بْن الخباز، وَأَحْمَد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ الحريري، وغيرهم.
وتوفي ليلة الثلاثاء سلخ ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين وستمائة، ودفن من الغد عِنْدَ والده بسفح قاسيون. وكانت جنازته مشهودة، حضرها أمم لا يحصون ويقال: إنه لَمْ يسمع بمثلها من دهر طويل.
قَالَ الذهبي: ورأيت وفاة الشيخ شمس الدين بْن أَبِي عُمَر بخط شيخنا شيخ الإِسلام تقي الدين ابْن تيميهْ. ممن ذَلِكَ: توفي شيخنا الإِمام، سيد أهل الإِسلام فِي زمانه، وقطب فلك الأنام فِي أوانه، وحيد الزمان حقا حقا، وفريد العصر صدقا صدقا، الجامع لأنواع المحاسن، والمعافي البريء عَن جميع النقائص والمساوئ، القارن بَيْنَ خلتي العلم والحلم، والحسب والنسب، والعقل والفضل، والخَلق والخُلق، ذي الأخلاق الزكية، والأعمال المرضية، مَعَ سلامة الصدر والطبع، واللطف والرفق، وحسن النية، وطيب الطوية، حَتَّى إِن كَانَ المتعنت ليطلب له عيبا فيعوزه - إِلَى أَن قَالَ - وبكت(4/181)
عَلَيْهِ العيون بأسرها، وعم مصابه جميع الطوائف، وسائر الفرق. فأي دمع مَا انسجم، وأي أصل مَا جُذم، وأي ركن مَا هدم، وأي فضل مَا عدم؟! يا لَهُ من خطب مَا أعظمه، وأجل مَا أقدره، ومصاب مَا أقحمه؟ وأكبر ذكره.
وبالجملة: فَقَدْ كَانَ الشيخ أوحد العصر فِي أنواع الفضائل، بَل هَذَا حكم مُسْلِم من جميع الطوائف. وَكَانَ مصابه أجل من أَن تحيط بِهِ العبارة، فرحمه اللَّه ورضي عَنْهُ، وأسكنه بحبوحة جنته، ونفعنا بمحبته. إنه جواد كريم. انتهى.
وَقَدْ رثاه نَحْو ثلاثين شاعرا، مِنْهُم الشهاب محمود، وَكَانَ من تلامذته، فَقَالَ:(4/182)
مَا للوجود، وَقَدْ علاه ظلام؟ ... أعراه خطب أم عداه مرام؟.
أم قَدْ أصيب بشمسه فقدا وَقَدْ ... لبست عَلَيْهِ حدادها الأيام
لَمْ أدر: هل نبذ الظلام نجومه؟ ... أم حل لِذَلِكَ الأثير نظام؟
أترى درى صرف الردى لما رمى ... أَن المصاب بسهمه الإِسلام؟
أَوْ أَنَّهُ مَا خص بالسهم الَّذِي ... أصمى بِهِ دُونَ العراق الشام(4/183)
سهم تقصد واحدا فغدا وفى ... كُل القلوب لوقعه آلام
مَا خلت أَن يد المنون لَهَا عَلَى ... شمس المعارف والهدى إقدام
من كَانَ يستسقى بغرة وجهه ... إِن عاد وجه الغيث وَهُوَ جهام
وتنير للساري أَسِرَّةُ فضله ... فكأنما هِيَ للهدى أعلام
كانت تطيب لنا الحياة بأنسه ... وبقربه فعلى الحياة سلام
كانت ليالينا بنور بقائهِ ... فينا تضيء كأنها أَيَّام
من للعلوم؟ وَقَدْ علت وغلت بِهِ ... أضحت تسامى بعده وتسام
من للحَدِيث؟ وَكَانَ حافظ سربه ... من أَن يضم إِلَى الصحاح سقام
وَلَهُ إِذَا ذكر العلوم مراتب ... تسمو فتقصر دونها الأوهام
يروى فيروِي كُل ذي ظمأ لَهُ ... يحمي الْحَدِيث تعلق وهيام
من للقضايا المشكلات إِذَا نبت ... عَنْهَا العقول وحارت الأفهام.
هل للفتاوى من إِذَا وافى بها ... قضى الْقَضَاء وجفت الأقلام؟
من للمنابر وَهُوَ فارسها الَّذِي ... تحيي القلوب بِهِ وهن رمام.
وَلَهُ إِذَا أَمَّ الدروس مواقف ... مشهودة مَا نالهن إِمام
ولديه فِي علم الْكَلام جواهر ... غرر يحير بحسنها النظام
من للزمان؟ وَكَانَ طول حياته ... لليل يحيي والهجير يصام
وذوو الحوائج مَا أتوه لحادث ... إلا ونالوا عنده مَا راموا
وَهِيَ طويلة. ومما أفتى بِهِ الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، ونقلته من خطه(4/184)
فِي رجل استأجر أرض قرية فِي زمن الأمن، ثُمَّ وقع فِيهَا الخوف من الإفرنج، وتعذر عَلَيْهِ زرع أَكْثَر أراضيها بسبب الخوف: أَنَّهُ يَجُوز لَهُ الفسخ بِذَلِكَ. ووافقه عَبْد الرَّحْمَنِ بْن إِسْمَاعِيل الشَّافِعِي وَهُوَ أَبُو شامة، وَكَذَلِكَ عَلَى الشَّافِعِي، ولا أعرف من هُوَ.
وأفتى أَيْضًا فِي وقف عَلَى جَمَاعَة مقربين فِي قرية، حصل لَهُمْ حاصل من فعل القرية، فطلبوا أَن يأخذوا مَا استحقوه عَنِ الماضي - وَهُوَ سنة خمس مثلًا - فهل يصرف يهم الناظر بحساب سنة خمس الهلالية، أَوْ بحساب سنة المغل. مَعَ أَنَّهُ قَدْ نزل بَعْد هَؤُلاءِ متقدمين جَمَاعَة، وشاركوهم فِي حساب سنة المغل، فَإِن أخذ أولئك عَلَى حساب السنة هلالية لَمْ يبقَ للمتأخرين إلا شَيْء يسير.
أجاب هُوَ، وأبو شامة، وابن رزين الشَّافِعِي، وسليمان الحنفي: لا يحسب إلا بسنة المغل دُونَ الهلالية.
عَبْد الحليم بْن عَبْد السَّلام بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي القاسم بْن مُحَمَّد بن(4/185)
الخضر بن تيمية الحراني، نزيل دمشق، الشيخ شهاب الدين أَبُو المحاسن، وأبو أَحْمَد بْن الشيخ مجد الدين أبي البركات، وقد سبق ذكر أَبِيهِ، وَهُوَ والد شيخ الإِسلام تقي الدين أَبِي الْعَبَّاس: ولد سنة سبع وعشرين وستمائة بحران.
وسمع من والده وغيره. ورحل فِي صغره إِلَى حلب، وسمع بها من ابْن اللتي وابن رواحه، ويوسف بْن خليل، ويعيش النحوي. وقرأ العلم عَلَى والده، وتفنن فِي الفضائل.
قَالَ الذهبي: قرأ المذهب حَتَّى أتقنه عَلَى والده، ودرس وأفتى وصنف، وصار شيخ البلد بعد أَبِيهِ، وخطيبه وحاكمه، وَكَانَ إماما محققا لما ينقله، كثير الفوائد، جيد المشاركة فِي العلوم، لَهُ يد طولي فِي الفرائض، والحساب(4/186)
والهيئة، وَكَانَ دينا متواضعا، حسن الأخلاق جوادا، من حسنات العصر، تفقه عَلَيْهِ ولداه: أَبُو الْعَبَّاس، وأبو مُحَمَّد، وحدثنا عَنْهُ عَلَى المنبر ولده، وكال! قدومه إِلَى دمشق بأهله وأقاربه مهاجرا سنة سبع وستين.
قَالَ: وَكَانَ الشيخ شهاب الدين من أنجم الهدى. وإنما اختفى بَيْنَ نور القمر وضوء الشَّمْس، يشير إِلَى أَبِيهِ وابنه، فَإِن فضائله وعلومه انغمرت بَيْنَ فضائلهما وعلومهما.
وَقَالَ البرزالي: كَانَ من أعيان الحنابلة، عنده فضائل وفنون. وباشر بدمشق مشيخة دار الْحَدِيث السكرية بالقضاعيين، وبها كَانَ يسكن.(4/187)
وَكَانَ لَهُ كرسي بالجامع يتكلم عَلَيْهِ أَيَّام الجمع من حفظه، ولما توفي خلفه فِيهَا ولده أَبُو الْعَبَّاس.
وَلَهُ تعاليق وفوائد، وصنف فِي علوم عديدة.
توفي رحمه اللَّه ليلة الأحد، سلخ في الحجة سنة اثنتين وثمانين وستمائة، ودفن بدمشق من الغد بسفح قاسيون.
مظفر بْن أَبِي بَكْر بن مظفر بن علي الجوسقي، ثُمَّ البغدادي،(4/189)
الفقيه الأصولي النظار، تقي الدين أَبُو الميامن. ويعرف بالحاج: ولد فِي مستهل رجب سنة ثَلاث عشرة وستمائة.
وسمع من أَبِي الفضل مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن الْحَسَن السباك.
وتفقه وبرع فِي المذهب والخلاف والأصول، وناظر وأفتى، وعرس بالمدرسة البشيرية لطائفة الحنابلة. وَكَانَ من أعيان الْفُقَهَاء وأئمة المذهب.
قال عبد الرزاف بْن الفوطي: سمعت شيخنا الإِمام أبا حامد مُحَمَّد بْن المطرزي - لما قدم من بغداد إِلَى مراغة، وَقَدْ سئل عمن بقي ببغداد من الأئمة. - فَقَالَ: لَمْ أعرف بها فاضلًا فقيها عالما بالأصول والفروع، غَيْر تقي الدين الجوسقي. قَالَ: وكفاك شهادة مثل هَذَا الكامل لِهَذَا الفاضل.
وحدث. وسمع منه القلانسي، والفرضي. وأجاز لشيخنا عَلِي بْن عَبْد الصمد.
وتوفي فِي آخر نهار السبت رابع عشرين ربيع الأَوَّل سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
وصلى عَلَيْهِ من الغد بالبشيرية. ودفن بحضرة قبر الإِمام أَحْمَد إِلَى جانب الشيخ عَبْد الصمد. رحمهم اللَّه تَعَالَى.
مُحَمَّد بْن عَبْد الولي بْن جبارة بْن عَبْد الولي المقدسي، الفقيه(4/190)
تقي الدين: سمع بدمشق من أَبِي القاسم بْن صصري وغيره، وببغداد(4/191)
من أَبِي الْحَسَن القطيعي وطبقته. وَكَانَ فاضلًا متقنا صالحا. وَهُوَ والد الشيخ شهاب الدين أَحْمَد بْن جبارة الآتي ذكره إِن شاء اللَّه تَعَالَى.
توفي فِي ذي الحجة سنة ثلاث وثمانين وستمائة بسفح قاسيون. ودفن بِهِ رحمه الله تعالى.
عبيد الله بن مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عبيد الله بن أحمد بن محمد بْن قدامة المقدسي، الفقيه شمس الدين:(4/192)
ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة.
وسمع من كريمة القرشية، وغيرها. وتفقه وبرع فِي المذهب، وأفتى ودرس.
قَالَ اليونيني فِي تاريخه: كَانَ من الفضلاء، الصلحاء الأخيار. سمع الكثير، وكتب بخطه. وشرع فِي تأليف كتاب فِي الْحَدِيث مرتبا عَلَى أبواب الفقه، ولو تم لكان نافعاٌ.
ورأى بَعْض الصلحاء فِي جبل الصالحية النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، وَقَدْ جاء إِلَى الجبل فقال لَهُ الرائي: يا رَسُول اللَّه، فيم جئت إِلَى هنا؟ فَقَالَ: جئنا نقبس عبيد اللَّه من نورنا. وَكَانَ شيخنا شمس الدين عَبْد الرَّحْمَنِ - يَعْنِي ابْن أَبِي عُمَر - يحبه كثيرا، ويفضله عَلَى سائر أهله. وَكَانَ أهلًا لِذَلِكَ. ولقد كَانَ من حسنات المقادسة، كثير الكرم والخدمة والتواضع، والسعي في فضاء حوائج الإِخوان والأَصْحَاب.
توفي يَوْم الاثنين ثامن عشر شعبان سنة أربع وثمانين وستمائة، بقرية جُماعيل، من عمل نابلس، ودفن بها. رحمه اللَّه تَعَالَى.
وَفِي جمادى الأولى من السنة المذكورة توفي:
إِسْمَاعِيل بْن إِبْرَاهِيم بْن عَلِي الفراء الصالحي بالصفح: وَكَانَ صالحا، زاهدا(4/193)
ورعا، ذا كرامات ظاهرة، وأخلاق طاهرة، ومعاملات باطنة. صحب الشيخ الفقيه اليونيني.
وَكَانَ يقال: إنه يعرف الاسم الأعظم، رحمه اللَّه تَعَالَى.
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عُمَر بْن أَبِي القاسم بْن عَلِي بْن عُثْمَان البصري، الفقيه الضرير، الإمام نور الدين أَبُو طالب، نزيل بغداد: ولد يَوْم الاثنين ثاني عشر ربيع الأَوَّل سنة أربع وعشرين وستمائة بناحية عبدليان، من قرى البصرة.
وحفظ الْقُرْآن بالبصرة سنة إحدى وثلاثين عَلَى الشيخ حسن بْن دويرة المذكور.
وقدم بغداد. وسكن بمدرسة أَبِي حَكِيم، وحفظ بها كتاب " الهداية " لأبي الْخَطَّاب، وجعل فقيها بالمستنصرية، ولازم الاشتغال حَتَّى أذن لَهُ فِي الفتوى سنة ثمان وأربعين.
وسمع ببغداد من أَبِي بَكْر(4/194)
الخازن، ومحمد بْن عَلِي بْن أَبِي السهل، والصاحب أَبِي مُحَمَّد بْن الجوزي، وغيرهم.
وسمع من الشيخ مجد الدين ابْن تيمية أحكامه، وكتابه " المحرر " فِي الفقه. وَكَانَ بارعا فِي الفقه. وَلَهُ معرفة فِي الْحَدِيث والتفسير.
ولما توفى شيخه ابْن دويره بالبصرة ولي التدريس بمدرسة شيخه، وخلع عَلَيْهِ ببغداد خلعة، وألبس الطرحة السوداء فِي خلافة المستعصم سنة اثنين وخمسين.
وذكر ابْن الساعي: أَنَّهُ لَمْ يلبس الطرحة أعمى بَعْد أَبِي طالب بْن الحنبلي سِوَى الشيخ نور الدين هَذَا. ثُمَّ بَعْد واقعة بغداد: طلب إِلَيْهَا ليولي تدريس الحنابلة بالمستنصرية، فلم يتفق. وتقدم الشيخ جلال الدين بْن عكبر - الَّذِي سبق ذكره - فرتب الشيخ نور الدين مدرسا بالبشيرية. فلما توفي ابْن عكبر المذكور نقل إِلَى تدريس المستنصرية فِي شوال سنة إحدى وثمانين.
وله تصانيف عديدة، منها: كتاب " جامع العلو فِي تفسير كتاب اللَّه الحي القيوم " كتاب " الحاوي " فِي الفقه، فِي مجلدين " الكافي، فِي شرح الخرقي(4/195)
" " الواضح "، فِي شرح الخرقي، " الشَّافِعِي " فِي المذهب " مشكل كتاب الشهادات " طريقه فِي الخلاف يحتوي عَلَى عشرين مسألة.
تفقه عَلَيْهِ جَمَاعَة، منهم: الإِمام صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق، وسمع منه. وكان يكتب عنه في الفتاوى، ثم أذن له فكتب عن نفسه، وقال عنه: كان شيخنا من العلماء المجتهدين، والفقهاء المنفردين.
وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَة من شيوخنا بالإِجازة. وكانت لَهُ فطنة عظيمة، وبادرة عجيبة.
أنبأني مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الخالدي - وَكَانَ ملازما للشيخ نور الدين حَتَّى زوجه الشيخ ابنته - قَالَ: عقد مرة مجلس بالمستنصرية للمظالم، وحضر فِيهِ الأعيان، فاتفق جلوس الشيخ إِلَى جانب بهاء الدين بْن الفخر(4/196)
عيسى، كاتب ديوان الإنشاء، وتكلم الْجَمَاعَة. فبرز الشيخ نور الدين(4/197)
عَلَيْهِم بالبحث، ورجع إِلَى قَوْله، فَقَالَ لَهُ ابْن الفخر عيسى: من أين الشيخ؟ قَالَ: من البصرة. قَالَ: والمذهب؟ قَالَ: حنبلي. قَالَ: عجبا! بصري، حنبلي؟ فَقَالَ الشيخ: هنا أعجب من هَذَا: كردي رافضي. فخجل ابْن الفخر عيسى وسكت. وَكَانَ كردياَ رافضيا. والرفض فِي الأكراد معدوم أَوْ نادر.
توفي الشيخ نور الدين ليلة السبت ليلة عيد الفطر سنة أربع وثمانين وستمائة. ودفن فِي دكة القبور بَيْنَ يدي قبر الإِمام أَحْمَد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
ومن فوائده: أَنَّهُ اختار: أَن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وإن كَانَ قليلًا، وفاقا للإِمام.
وأن الترتيب يجب فِي التيمم إِذَا تيمم بضربتين، ولا يجب إِذَا تيمم بواحدة. وأن الريق يطهر أفواه الحيوانات والولدان. وأن بَنِي هاشم يَجُوز لَهُمْ أخذ الزكاة إِذَا منعوا حقهم من الخمس.
وحكى فِي جواز التيمم لصلاة العيد إِذَا خيف فواتها روايتين.(4/198)
عَبْد الرحيم بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن فارس بْن راضي بْن الزجاج(4/199)
العلثي، ثُمَّ البغدادي، الفقيه، المحدث الزاهد الأثري، عفيف الدين أَبُو مُحَمَّد، أَحْد مشايخ العراق: ولد فِي ربيع الأَوَّل سنة اثنتي عشرة وستمائة بالمأمونية ببغداد.
وسمع من عَبْد السَّلام بْن يُوسُف العبرتي، من أَصْحَاب ابْن ناصر، والفتح بْن عَبْد السَّلام، وَأَحْمَد بْن صرما، وعلي بْن بورنداز، والقطيعي، وابن روزبة وابن اللتي، والكاشغري، وابن الخازن، ونصر بْن عَبْد الرزاق الْقَاضِي، وابن القبيطي، وابن السباك، والمبارك بْن بيبا، وَأَحْمَد بْن الشاذلي، وغيرهم.
وسمع بماردين من النشتبري، وأجاز لَهُ من دمشق أَبُو القاسم بْن الحرستاني والافتخار الهاشمي وجماعة، وعني بالحَدِيث أتم عناية، وقرأ بنفسه الكثير، والعالي والنازل، وسمع النَّاس بقراءته، وكتب بخطه الكثير.
قَالَ أَبُو العلاء الفرضي: كَانَ شيخنا عالما، فقيها محدثا، مكثرا(4/200)
مفيدا، زاهدا عابدا، من بَيْت الْحَدِيث، تابعا للسنة، شديدا عَلَى المبتدعة، ملازماَ لقراءة الْقُرْآن والعبادة.
وَقَالَ محب الدين مُحَمَّد بْن عُمَر خطيب غرناطة - وَقَدْ سمع منه(4/201)
- فقيه، نحوي، لغوي، مفتَ، وأثنى عَلَيْهِ كثيرا.
قَالَ شيخنا - بالإجازة - صفي الدين عَبْد المؤمن: كَانَ شيخا جليلًا، عالما، عارفا من أجل شيوخ الْحَدِيث، ملتزما بالسنة، زاهدا ذا فضل وورع، وأدب وعلم.
وَقَالَ البرزالي عَنْهُ: محدث بغداد فِي وقته؛ موصوف باتباع السنة ونصرها، والذَّب عَنْهَا.
قَالَ الذهبي: وَلَهُ أتباع وأَصْحَاب، يقومون فِي الأمر بالمعروف والنهي عَنِ المنكر، حدث بالكثير ببغداد وبدمشق.
سمع منه بدمشق الكبار، كالشيخ عَلِي بْن النفيس الموصلي، ومحمود الأرموي، والمزي، والبرزالي، والشيخ تقي الدين ابْن تيمية، وغيرهم.
وببغداد خلق، مِنْهُم: إِبْرَاهِيم الجعبري، والفرضي، وابن الغوطي، وشيخنا عَلِي بْن عَبْد الصمد.
حَدَّثَنَا عَنْهُ ببغداد العفيف مُحَمَّد بْن السابق. شيخ المستنصرية. وبدمشق مُحَمَّد بْن الخباز.(4/202)
وتوفي بطريق مَكَّة الشامي، بذات عرق - عِنْدَ عوده من الحج - يَوْم الجمعة وقت الصلاة سابع عشر المحرم سنة خمس وثمانين وستمائة.
وحكى عَنْهُ: أَنَّهُ لما مر على الوالي المذكور متوجها إِلَى مَكَّة - شرفها اللَّه تَعَالَى - من دمشق رأى قبور جَمَاعَة مَاتُوا هناك من قبل، فقرأ واستغفر لَهُمْ، وَقَالَ: طوبى لمن دفن معكم، فْوفي لما عاد، ودفن معهم، رحمه اللَّه تَعَالَى.
خليل بْن أَبِي بَكْر بْن صديق المراغي، المقرئ الفقيه، الأصولي(4/203)
الْقَاضِي، صفي الدين أَبُو الصفاء، نزيل مصر: ولد بمراغة سنة بضع وتسعين وخمسمائة.
وقدم دمشق وَلَهُ نَحْو عشرين سنة، فقرأ بها الْقُرْآن بالعشرة عَلَى ابْن تاسونة. وَهُوَ آخر من(4/204)
بقي من أَصْحَابه.
وسمع بها من ابْن الحرستاني بَعْض مشيخته، وَلَمْ يظهر ذَلِكَ.
وسمع من أَبِي الفتوح البكري، وابن ملاعب، والعطار، والشيخ موفق الدين، وموسى بْن عَبْد القادر، والشيخ العماد، وابن أَبِي لقمة، وابن البني والقزويني، وابن صصري، والزبيدي، وابن الصباح، وغيرهم.
وتفقه عَلَى الشيخ موفق الدين، وبرع وأفتى.
وقرأ أصول الفقه عَلَى السَيْف الآمدي ولازمه، وأقام بدمشق مدة، ثُمَّ توجه إِلَى الديار المصرية، فأقام بها إِلَى أَن مَات، وناب فِي الْقَضَاء بالقاهرة، فحمدت طرائقه، وشكرت خلائقه.
قَالَ الذهبي: كَانَ مجموع الفضائل، كثير المناقب، متين الديانة، عارفا بالقرآن بَعْض المعرفة، صحيح الأخذ، بصير بالمذهب، عالما بالخلاف والطب.
قرأ عَلَيْهِ بالروايات: بدر الدين بْن الجوهري، وأبو بَكْر الجعبري، وجماعة من البصريين.
وسمع منه ابْن الظاهري، وابنه أَبُو عُمَر، والقاضي أَبُو مُحَمَّد الحارثي، والحافظ المزي، وأبو حيان، والحافظ عَبْد الكريم بْن منير، وخلق سواهم.
وخرج لَهُ الحارثي مشيخة، سمعها(4/205)
منه أَبُو الْحَسَن مُحَمَّد بْن نباتة.
وَقَالَ اليونيني: كَانَ فاضلًا، عارفا بالمذهب.
توفي يَوْم السبت سابع عشر ذي القعدة سنة خمس وثمانين وستمائة بالقاهرة. ودفن من الغد بمقابر بَاب النصر. رحمه اللَّه تَعَالَى.
وَفِي رجب من هذه السنة توفي الشيخ: -
موفق الدين أَبُو الحسن علي بن الحسين بن يُوسُف بْن الصياد المقرئ الفقيه الحنبلي، المعدل ببغداد، ببعض أعمالها، وَكَانَ أحد المعيدين بالمستنصرية.
حدث عن(4/206)
ابْن اللتي، وأجاز لجماعة من شيوخنا، وأبو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن سنان بْن تغلب، المؤدب الصالحي(4/207)
الكاتب، أحد المسندين فِي صفر بقاسيون.
رَوَى عَن حنبل، وابن طبرزد، والكندي، والطبقة، وله نظم جيد، وَكَذَلِكَ كَانَ أبوه.
وَفِي آخر السنة توفي: -
أَبُو الفضل مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن عَلِي بْن الزيات(4/208)
البابصري البغدادي الواعظ، أحد شيوخ بغداد المسندين:(4/209)
حدث عَن ابْن صرما، والمبارك بْن أَبِي الجود، والفتح بْن عَبْد السَّلام، وغيرهم.
وسمع منه خلق كثير، مِنْهُم الفرضي.
قَالَ: وَكَانَ عالما زاهدا، عارفا، ثقة عدلًا، مسندا، من بَيْت الْحَدِيث والزهد. وعظ فِي شبابه، ثُمَّ ترك.
وَفِي جمادى الأولى من السنة توشي: -
القاضي جلال الدين أَبُو إِسْحَاق(4/210)
إِسْمَاعِيل بْن جمعة بْن عَبْد الرزاق قاضي سامرَّا: وَكَانَ فاضلًا أديبا، لَهُ نظم حسن.
سمع من الشيخ جمال الدين عَبْد الرَّحْمَنِ بْن طَلْحَة بْن غانم العلثي " فضائل القدس " لابن الجوزي بسماعه منه، وأجاز لغير واحد من أشياخنا.
أَحْمَد بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي،(4/217)
الصالحي الفقيه، الزاهد الفرضي، شرف الدين أَبُو الْعَبَّاس: ولد فِي رابع عشر المحرم سنة أربع عشرة وستمائة.
وسمع من الشيخ موفق الدين - وَهُوَ جده لأمه، وعم أَبِيهِ - ومن البهاء عَبْد الرَّحْمَنِ وابن أَبِي لقمة، ومن ابْن اللتي، وابن صصري، والحسين بْن الزبيدي. وحضر علم موسى بْن عَبْد القادر. وأجاز لَهُ ابْن الحرستاني، وجماعة. وتفقه عَلَى التقي ابْن العز.
وَكَانَ شيخا صالحا، زاهدا عابدا، ذا عفة وقناعة باليسير. وَلَهُ معرفة بالفرائض والجبر والمقابلة. وَلَهُ حلقة بالجامع المظفري، يشتغل بها احتسابا بغير معلوم، وانتفع بِهِ جَمَاعَة. حدث. رَوَى عَنْهُ جَمَاعَة.(4/218)
توفي ليلة الثلاثاء خامس المحرم سنة سبع وثمانين وستمائة. ودفن من الغد عِنْدَ جده الشيخ موفق الدين بالروضة بالجبل. رحمه اللَّه تَعَالَى.
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن يُوسُف بْن مُحَمَّد بْن نصر البعلي، الفقيه المحدث الزاهد، فخر الدين أَبُو مُحَمَّد:(4/221)
ولد سنة إحدى عشرة وستمائة ببعلبك.
وقرأ الْقُرْآن عَلَى خاله صدر الدين عَبْد الرحيم بْن نصر قاضي بعلبك.
وسمع الْحَدِيث من أَبِي المجد القزويني، والبهاء المقدسي، وابن اللتي؛ والناصح بْن الحنبلي، ومكرم بْن أَبِي الصقر، وغيرهم.
وتفقه عَلَى تقي الدين أَحْمَد بْن العزواني سُلَيْمَان بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الحافظ، وشمس الدين عُمَر بْن المنجا. وحفظ " علوم الْحَدِيث " وعرضه من حفظه عَلَى مؤلفه الحافظ تقي الدين بْن الصلاح. وقرأ الأصول وشيئا من الخلاف عَلَى السَيْف الآمدي، والقاضي نجم الدين بْن راجح اللذين انتقلا إِلَى مذهب الشَّافِعِي.
وقرأ النحو عَلَى أَبِي عَمْرو بْن الحاجب، ثُمَّ عَلَى مجد الدين بْن الأربلي الحنبلي. وصحب الشيخ الفقيه اليونيني، وإبراهيم البطائحي، والنووي، وغيرهم.
وَكَانَ الشيخ الفقيه يحبه، ويقدمه عَلَى أولاده، حَتَّى جعله إماما لمسجد الحنابلة إِلَى أَن انتقل إِلَى دمشق. ودرس بدمشق بالجوزية نيابة عَنِ الْقَاضِي نجم الدين ابْن الشيخ شمس الدين بْن أَبِي عُمَر، وبالصدرية والمسمارية نيابة عَن بَنِي المنجا. وباشر حلقة الجامع. وولي مشيخة الْحَدِيث بمشهد عروة، وبدار الْحَدِيث النورية وبالصدرية. وتخرج بِهِ(4/222)
جَمَاعَة من الْفُقَهَاء.
وَكَانَ دائم البشر، يحب الخمول ويؤثره، ويلازم قيام الليل من الثلث الآخر، ويتلو بَيْنَ العشاءين، ويصوم الأيام البيض، وستا من شوال، وعشر ذي الحجة والمحرم. ولا يخل بِذَلِكَ. ذكر ذَلِكَ كله ولده الشيخ عز الدين.
قَالَ: ولقد أخبر بأشياء، فوقعت كَمَا قَالَ لخلائق. وَذَلِكَ مشهور عِنْدَ من يعرفه. ولقد قال فِي صحته وعافيته: أنا أعيش عُمَر الإِمام أَحْمَد، لكن شتان مَا بيني وبينه، فكان كَمَا قَالَ. وَقَالَ لي: يا بَنِي، تنزهت عَنِ الأوقاف، إذ كَانَ يمكنني. وَكَانَ لي شَيْء، فلما احتجت تناولت منها.
وَقَالَ ابْن اليونيني: كَانَ رجلًا صالحا زاهدا، فاضلًا عابدًا، وَهُوَ من أَصْحَاب والدي، اشتغل عَلَيْهِ، وقدمه يصلَّي بِهِ فِي مَسْجِد الحنابلة، رافقته فِي طريق مَكَّة، فرأيته قليل المثل فِي ديانته وتعبده، وحسن أوصافه، وَكَانَ من خيار الشيوخ علما وعملاَ، وصلاحًا وتواضعا، وسلامة صدر،(4/223)
وحسن سمت، وصفاء قلب، وتلاوة قراَن وذكر. وَكَانَ أحد عباد اللَّه الصالحين، ثُمَّ ذكر نحوًا مِمَّا قَالَ ولده، وَقَالَ: حدث بالكثير. وسمع منه جماعة من الأئمة والحفاظ.
وَقَالَ البرزالي: كَانَ من خيار الْمُسْلِمِينَ، وكبار الصالحين.
توفي ليلة الأربعاء سابع رجب سنة ثمان وثمانين وستمائة بدمشق. ودفن من الغد بالقرب من قبر الشيخ موفق الدين بروضة الجبل. رحمه اللَّه تَعَالَى.
مُحَمَّد بْن عَبْد الرحيم بْن عَبْد الْوَاحِد بْن أَحْمَد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ(4/224)
السعدي المقدسي، الصالحي، المحدث، الزاهد القدوة، شمس الدين، أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن الكمال وَهُوَ ابْن أَخِي الحافظ الضياء: ولد فِي ليلة الخميس حاثي عشر في الحجة سنة سبع وستمائة بقاسيون. وحضر عَلَى ابْن الحرستاني، والكندي.
وسمع من ابْن ملاعب، وابن أَبِي لقمة، والشيخ موفق الدين، وابن البني، والقزويني، وموسى بْن عَبْد القادر، وابن صباح، وابن الزبيدي، وابن اللتي، وخلق كثير.
وقيل: إنه سمع ببغداد من المهذب ابْن منده، وتحقق ذَلِكَ. ولازم عمه الحافظ الضياء، وتخرج بِهِ. وكتب الكثير بخطه. وخرج وانتخب، وقرأ عَلَى الشيوخ، وفي بالحَدِيث، وتمم تصنيف " الأَحْكَام " الَّذِي جمعه عمه الحافظ ضياء الدين وخرج غَيْر ذَلِكَ من الأجزاء والتخاريج، منها كتاب " فضل العيدين ".
وَكَانَ يدرس الفقه بمدرسة عمه الشيخ ضياء الدين، وشيخ الْحَدِيث أيضًا بها وبدار(4/225)
الْحَدِيث الأشرفية بالسفح، وَكَانَ للطلبة عَلَيْهِ مواعيد يعلمهم فِيهَا قراءة الْحَدِيث ويفيدهم، ويرد عَلَيْهِم الغلط. انتفع بِهِ جَمَاعَة.
قَالَ الذهبي: كَانَ إماما فقيهًا، محدثًا زاهدًا عابدًا، كثير الخير، لَهُ قدم راسخ فِي التقوى، ووقع فِي النفوس.
وَقَالَ اليونيني: كَانَ صالحا زاهدا عابدا، متقللًا من الدنيا. وعنده فضيلة.
وَكَانَ من سادات الشيوخ علما وعملًا، وصلاحا وعبادة.
وحكى لي عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يحضر مكانا فِي جبل الصالحية لبعض شأنه، فوجد جرة مملوءة دنانير، وكانت زوجته مَعَهُ تعينه فِي الحفر، فاسترجع وطم المكان كَمَا كَانَ أولاً، وقال! زوجته: هذه فتنة، ولعل لَهَا مستحقين لا نعرفهم، وعاهدها عَلَى أَنَّهَا لا تشعر بِذَلِكَ أحدا، ولا تتعرض إِلَيْهِ. وكانت صالحة مثله، فتركا ذَلِكَ تورعا مَعَ فقرهما وحاجتهما. وَهَذَا غاية الورع والزهد. رحمهما اللَّه تَعَالَى.
حدث رحمه اللَّه بالكثير نحوا من أربعين سنة. وسمع منه خلق كثير. وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَة من الأكابر.
وحدثنا عَنْهُ جَمَاعَة، مِنْهُم: ابْن الخباز، وعبد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن قيم الضيائية، وَأَحْمَد الحريري، وأبو الفضل بْن الحموي، وعمر بْن عُثْمَان بْن سالم المقدسي.
وتوفي بَعْد عشاء الآخرة من ليلة الثلاثاء تاسع جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين وستمائة بمنزله بمدرسة عمه أَبِي عُمَر بالجبل. ودفن من الغد(4/226)
عِنْدَ الشيخ موفق الدين بالروضة. رحمه الله تعالى.
أحمد بن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَحْمَد بْن محمد بن أحمد بن محمد بْن قدامة(4/231)
المقدسي، الصالحي، قَاضِي القضاة، شيخ الِإسلام، شمس الدين أَبِي مُحَمَّد، ابْن الشيخ أَبِي عُمَر، وَقَدْ سبق ذكر أَبِيهِ وجده: ولد فِي شعبان سنة إحدى وخمسين وستمائة.
وسمع الْحَدِيث وَلَمْ يبلغ أوان الرواية. وتفقه عَلَى والده. وولي الْقَضَاء فِي حياة والده بإشارته.
قَالَ البرزالي: كَانَ خطيب الجبل، وقاضي القضاة، ومدرس أَكْثَر المدارس وشيخ الحنابلة، وَكَانَ فقيها فاضلا، سريع الحفظ، جيد الفهم، كثير المكارم شهما شجاعا، ولي الْقَضَاء وَلَمْ يبلغ ثلاثين سنة، فقام بِهِ أتم قيام.
وَقَالَ اليونيني: كانت لَهُ الخطابة بالجامع المظفري، والإِمامة بحلقة الحنابلة بجامع دمشق، ونظر أوقاف الحنابلة. وَكَانَ مشكور السيرة فِي ولايته، وعنده معرفة بالأحكام، وفقه نفيس، وفضيلة ومشاركة فِي كثير من العلوم من غَيْر استقلال، وَكَانَ يركب الْخَيْل، ويلبس السلاح، ويحضر الغزوات. وحج مرارا.(4/232)
وَقَالَ غيره: ودرس بدار الْحَدِيث الأشرفيه بالسفح، وشهد فتح طرابلس مَعَ السلطان الْمَلِك الْمَنْصُور. وَكَانَ شابا مليحا مهيبا، تام الشكل يديناً، لَيْسَ لَهُ من اللحية إلا شعيرات يسيرة، وَكَانَ مليح السيرة، ذكيا مليح الدروس، لَهُ قدرة عَلَى الحفظ، ومشاركة جيدة فِي العلوم، وَلَهُ شعر جيد، فمنه:
آيات كتب الغرام أدرسها ... وعَبرتي لا أطيق أحبسها
لبس ثوب الضنى عَلَى جسدي ... وحلة الصبر لست ألبسها
وشادن مَا رمى بمقلته ... إلا سبى العالمين نرجسها
فوجهه جنة مزخرفة ... لكن بنبل الجفون يحرسها
وريقه خمرة معتقة ... دارت عَلَيْنَا من فِيهِ أكؤسها
يا قمرا أصبحت ملاحته ... لا يعتريها عيب يدنسها
صِل هائما إن جرت مدامعه ... تلحقهما زفرة تيبسها
توفي يَوْم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وستمائة، بمنزله بقاسيون وصلَّى عَلَيْهِ ضحوة يَوْم الأربعاء خارج جامع الجبل، وحضره نائب السلطنة والأمراء والقضاة والأعيان، ودفن عند أبيه وجلى، رحمهما اللَّه تَعَالَى وَكَانَ عمره ثمانية وثلاثين سنة.(4/233)
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَحْمَد بْن عَبْد الْمَلِك بْن عُثْمَان بْن عبد الله بن سعد بن مفلح بْن هبة اللَّه بْن نمير المقدسي، ثُمَّ الصالحي، المحدث الزاهد، شمس الدين أَبُو الفرج بْن الزين: ولد فِي ذي القعدة سنة ست وستمائة بقاسيون.
وسمع بدمشق من الكندي، وابن الحرستاني، وابن مندويه، حضورا وسماعا من ابْن البناء، وابن الجلاجلي، وابن ملاعب، والشيخ موفق الدين، وجماعة.
وببغداد من الفتح بْن عَبْد السَّلام، والداهري، والعلثي، والسهروردي، والحسن بْن الجواليقي، وابن بورانداز، وغيرهم.
وسمع بحلب وحران والموصل،(4/234)
وعني بالسماع. وكتب بخطه، وأثبت لنفسه وَلَهُ إجازة من أسعد بْن روح، وعائشة بنت الفاخر، وزاهر الثقفي، وغيرهم.
قَالَ الذهبي: كَانَ فقيها زاهدا، ثقة نبيلًا.
وَقَالَ أَيْضًا: كَانَ من أولى العلم والعمل، والصدق والورع. وحدث بالكثير وأكثر عَنْهُ ابْن نفيس، والمزي، والبرزالي، وحدثني عَنْهُ جَمَاعَة.
وتوفي يوم الاثنين تاسع عشرين ذي القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة، بالسفح، ودفن من يومه بالقرب من قبر الشيخ أَبِي عُمَر، رحمه اللَّه.
وَفِي هذه السنة - أعني سنة تسع وثمانين - توفي من أَصْحَابنا:(4/235)
الشيخ شمس الدين أَبُو الفضائل: -
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ رزق اللَّه الرسعني: وَقَدْ سبق ذكر أَبِيهِ. وَكَانَ ابنه هَذَا فقيها شاعرا، أديبا معدلًا.
حدث عَن ابْن روزبة، وابن القبيطي، وغيرهم.
وذكر أبوه فِي تفسيره غَيْر مرة: أَنَّهُ كَانَ يسأله عَن غوامض فِي التفسير، ويتكلم فِيهِ بكلام جيد.
غرق بنهر الشريعة من الغور فِي جمادى الآخرة من هذه السنة.
وَكَانَ أحد الشهود بدمشق،(4/236)
ويؤم بمسجد الرماحين. ومن شعره:
ولو أَن إِنْسَانا يبلغ لوعتي ... ووجدي وأشجاني إِلَى ذَلِكَ الرشا
لأسكنته عيني، وَلَمْ أرضها لَهُ ... ولولا لهيب القلب أسكنته الحشا
وَلَهُ:
أآيس من بر، وجودك واصل ... إِلَى كُل مخلوق، وأنت كريم؟
وأجزع من ذنب، وعفوك شامل ... لكل الورى طرا، وأنت رحيم؟
وأجهد فِي تدبير حالي جهالة ... وأنت بتدبير الأنام حَكِيم؟
وأشكو إِلَى نعماك ذلي وحاجتي ... وأنت بحالي يا عزيز عليم؟
وتوفي فِي هذه السنة أيضًا: -
شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن(4/237)
عون الدين يَحْيَى بْن شمس الدين عَلِي بْن عز الدين مُحَمَّد بْن الوزير عون الدين يَحْيَى بْن هبيرة: نزيل بلبيس، بها، وَكَانَ ناظرا عَلَى ديوانها: حدث عَن الداهري، ونصر بْن عَبْد الرزاق. وابن اللتي.
سمع منه الحارثي، والمزي، والقطب عَبْد الكريم، والبرزالي، والفرضي، وغيرهم. وَكَانَ فاضلًا. وَلَهُ شعر حسن.(4/240)
علي بن أحمد بن عَبْد الْوَاحِد بْن أَحْمَد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ السعدي، المقدسي الصالحي، الفقيه المحدث المعمر، سند الوقت، فخر الدين(4/241)
أَبُو الْحَسَن، ابْن الشيخ شمس الدين الْبُخَارِي، وَقَدْ سبق ذكر أَبِيهِ، وعمه الحافظ الضياء. ولد فِي آخر سنة خمس وسبعين وخمسمائة، أو أول سنة ست وسبعين.
سمع بدمشق من ابْن طبرزد، وحنبل، وأبي المحاسن بْن كامل، وأبي اليمن الكندي، وابن الحرستاني، وابن الدنف، والخضر بْن كامل، وابن ملاعب، وهبة اللَّه بْن طاوس، وأبي الفضل بْن سيدهم، وأبي المعالي بْن المنجا، وأخيه عَبْد الْوَهَّاب، والشيخ موفق الدين، وأخيه أَبِي عُمَر، وغيرهم.
وسمع بالقدس: من أَبِي عَلِي الأوقي، وبمصر: من أَبِي البركات بْن الحباب، وأبي عَبْد اللَّهِ بْن الرداد، وبالإِسكندرية: من جَعْفَر الهمداني، وظافر بْن سحم، وابن رواح، وبحلب من ابْن خليل الحافظ، وبحمص: من أَبِيهِ الشَّمْس الْبُخَارِي الفقيه، وببغداد: من عَبْد السَّلام الداهري، وعمر بْن كرم. وتفرد بالرواية عَن جَمَاعَة منهمْ، وقرأ بنفسه.
وسمع كثيرا من الكتب الكبار والأجزاء. واستجاز لَهُ عمه الحافظ الضياء من خلق، مِنْهُم:(4/242)
أَبُو المكارم اللبان، وأبو جَعْفَر الصيدلاني، والكراني، وعفيفة الفارقانية، وأبو سَعْد الصفار، وأسعد الْعِجْلِي، وعبد الْوَاحِد الصيدلاني، وأبو طاهر الخشوعي، وأبو الفرج بْن الجوزي، والمبارك بْن المعطوش، وهبة اللَّه بْن السبط وغيرهم. وتفرد فِي الدنيا بالرواية العالية.
وتفقه عَلَى الشيخ موفق الدين، وقرأ عَلَيْهِ المقنع، وأذن لَهُ فِي إقرائه، وقرأ مقدمة فِي النحو، وصار محدث الإِسلام وراويته، رَوَى الْحَدِيث فَوْقَ ستين سنة وسمع منه الأئمة الحفاظ المتقدمون، وَقَدْ مَاتُوا قبله بدهر، وخرج لَهُ عمه الحافظ ضياء الدين جزءا من عواليه، وحدث كثيرا، سمعنا من أَصْحَابه.
وذكر عُمَر بْن الحاجب فِي معجم شيوخه، فَقَالَ: تفقه عَلَى والده، وعلى الشيخ موفق الدين، قَالَ: وَهُوَ فاضل، كريم النفس، كيس الأخلاق، حسن الوجه، قاضٍ للحاجة، كثير التعصبِ، محمود السيرة، سألت عمه الشيخ ضياء الدين عَنْهُ. فأثنى عَلَيْهِ، ووصفه بالخلق الجميل، والمروءة التامة.
وَقَالَ الفرضي فِي معجمه: كَانَ شيخا عالما فقيها، زاهدا عابدا، مسندا مكثرا، وقورا، صبورا عَلَى قراءة الْحَدِيث، مكرما للطلبة، ملازما لبيته، مواظبا عَلَى العبادة، ألحق الأحفاد بالأجداد، وحدث نحواً من ستين سنة، وتفرد بالرواية عَن شيوخ كثيرة.(4/243)
وقال الشيخ تاج الدين الفراوي فِي تاريخه: انتهت إِلَيْهِ الرياسة فِي الرواية، وقصده المحدثون من الأقطار.
وَقَالَ الحافظ البرزالي: كَانَ يحفظ كثيرا من الأحاديث وألفاظها المشكلة، وكثيرا من الحكايات والنوادر، ويرد عَلَى من يقرأ عَلَيْهِ مواضع، يدل رده عَلَى فضل ومطالعة ومعرفة، سألت ابْن عَبْد القوي عَنْهُ؟ وعن ابْن(4/244)
عَبْد الدائم؟ فرجح فضيلته عَلَى فضيلة ابْن عَبْد الدائم.
وَقَالَ الذهبي: كَانَ فقيها عارفا بالمذهب، فصيحا، صادق اللهجة. يرد عَلَى الطلبة، مَعَ الورع والتقوى، والسكينة والجلالة.
وَقَالَ أيضًا: كَانَ فقيها إمامًا فاضلًا، أديبا زاهدا صالحا خَيِّراً، عدلًا مأمونا، وَقَالَ: سألت المزي عَنْهُ؟ فَقَالَ: أحد المشايخ الأكابر، والأعيان الأماثل، من بَيْت العلم والحَدِيث، قَالَ: ولا يعلم أَن أحدا حصل له من الحظوة في الرواية فِي هذه الأزمان مثل مَا حصل لَهُ.
قَالَ شيخنا ابْن تيمية: ينشرح صدري إِذَا أدخلت ابْن الْبُخَارِي بيني وبين رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث.
وَكَانَ الشيخ فخر الدين فِي أول أمره يتعاطى السفر للتجارة، فلما أسَن لزم بيته متوفرا عَلَى العبادة والرواية، وَلَمْ يتدنس من الأوقاف بشيء، بلى هُوَ وقف عَلَى مدرسة عمه الحافظ ضياء الدين من ماله، حدث من بعد العشرين والستمائة، وسمع منه الحفاظ والمتقدمون عُمَر بْن الحاجب - وَمَاتَ سنة ثلاثين وستمائة - والحافظ زكي الدب. المنذري، والرشيد العطار، حافظ الديار المصرية، وتكاثر عَلَيْهِ الطلبة من نحو الخمسين والستمائة، وازدحموا بَعْد الثمانين، حَتَّى كَانَ يَكُون لَهُمْ فِي اليوم الْوَاحِد(4/245)
عَلَيْهِ ثلاثة مواعيد.
وحدث ببلاد كثيرة، بدمشق، ومصر، وبغداد، والموصل، وتدمر، والرحبة، والحَدِيثة، وزرع.
وحدث بالغزوات أَيَّام الْمَلِك الظاهر، وخرج لَهُ أَبُو القاسم عَلِي بْن بلبان مشيخة حدث بها، سمعناها من أَبِي عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن الخباز عَنْهُ.
وَفِي آخر عمره: خرج لَهُ الحافظ بْن الظاهري مشيخة بمصر، وأرسلها مَعَ البريد ففودي لَهَا بدمشق، وفوَهَ بذكرها المحدثون وَالْفُقَهَاء، وسارعوا إِلَى سماعها، وجمع لَهَا(4/246)
صبيان كثير، وانتدب لقراءتها الشيخ شرف الدين الفزاري، فقرأها فِي ثلاثة مجالس، اجتمع لَهَا فِي المجلس الأخير: ألف نفر أَوْ أَكْثَر، وَلَمْ يعهد فِي هذه الأزمان مثل ذَلِكَ، ثُمَّ حدث بها مرارا عديدة. ورحل إِلَيْهِ الحفاظ والطلبة " من الأقطار. وتكاثرت عَلَيْهِ الإِجازات من أطراف البلاد، ولزمه المحدثون.
قَالَ الذهبي: لا يدري مَا قرأه عَلَيْهِ الموصلي والمزي من الكتب والأجزاء. فأما البرزالي، فَقَالَ: سمعت منه بقراءتي عَلَيْهِ وقراءة غيري ثلاثة وعشرين مجلداً، وأكثر من خمسمائة جزء.
وممن سمع منه من الحفاظ والأكابر: الدمياطي، وابن دقيق العيد، والحارث، والقاضي! ي الدين سُلَيْمَان بْن حمزة، والشيخ شمس الدين بْن الكمال - قرأ عَلَيْهِ عدة أجزاء، وَمَاتَ قبله - والشيخ تقي الدين ابْن تيمية، وابن جَمَاعَة. ورحل إِلَيْهِ أَبُو انفتح بْن سيد النَّاس. فوجده مَات قبل وصوله بيومين، فتألم لِذَلِكَ.(4/247)
قَالَ الذهبي: وَهُوَ آخر من كَانَ فِي الدنيا بينه وبين النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمانية رجال ثقات. قُلْت: يريد بالسماع المتصل.
قَالَ: وإن كَانَ للدنيا بقاء فليتأخرن أَصْحَابه إِن شاء اللَّه تَعَالَى إِلَى بَعْد السبعين وسبعمائة - يريد لكثرتهم - وكذا وقع. فإنا نحن الآن بَعْد السبعين. ومن رأى أَصْحَابه جَمَاعَة أحياء وآخر من مَات مِنْهُم. صلاح الدين مُحَمَّد بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بر كبد اللَّهِ بْن الشيخ أَبِي عُمَر المقدسي، أقام بمدرسة جده أَبِي عُمَر.
توفي فِي شوال سنة ثمانين وسبعمائة، وَلَهُ نظم جيد فمنه، أي لابن الْبُخَارِي:
تكررت السنون عَلِي حتى ... بليت وصرت من ساقط المتاع
وقل النفع عندي، غَيْر أني ... أعلل للرواية والسماع
فَإِن بك خالصا فله جزاء ... وإن يك مانعا فإلى ضياع
وَلَهُ رحمه اللَّه تَعَالَى:
إليك اعتذاري من صلاتي قاعدا ... وعجزي عَن سعي إِلَى الجمعات
وتركي، صلاة الفرض فِي كُل مَسْجِد ... تجمع فِيهِ النَّاس للصلوات
فيا رب لا تمقت صلاتي، ونجني ... من النار، واصفح لي عَنِ الهفوات(4/248)
وَلَهُ أيضًا رحمه اللَّه تَعَالَى:
أتتك مقدمات الْمَوْت تسعى ... وقلبك غافل عَنْهَا وساهي
فجد، فَقَدْ دنت منك المنايا ... ودع عنك التشاغل بالملاهي
فلا تأمن لمكر اللَّه، واحذر ... وكن متقاصرا عِنْدَ التناهي
فكم مِمَّن يساق إِلَى جحيم ... صحائفه مسودة كَمَا هِيَ
وليس كمن يساق إِلَى نعيم ... وجنات مزخرفة زواهي
فلا تظنن بربك ظن سوء ... فحسن الظن جد غَيْر واهي
وَلَهُ:
أتاك الْمَوْت يا ولد الْبُخَارِي ... فقدم صالحا، واسمح وداري
وأيقن أَن يَوْم البعث يَأْتِي ... فيؤخذ بالصغار وبالكبار
كأنك فَوْقَ نعشك مستقر ... وتحملك الرجال إِلَى الصحاري
وتنزل مفردا فِي قعر لحد ... ويحثي الترب فوقك بالمداري
فلا، والله، مَا ينفعك شَيْء ... تخلف من متاع أَوْ عقار
بلى إِن كنت تتركه حبيسا ... عَلَى الفقراء أطراف النهار
لعل اللَّه أَن يعفو ويغفر ... لما أسلفت يا ولد الْبُخَارِي
سمعنا الكثير من خلق من أَصْحَابه.
وتوفي - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - ضحى يَوْم الأربعاء ثاني شَهْر ربيع الآخر سنة تسب وستمائة. وصلى عَلَيْهِ وقت الظهر بالجامع المظفري.(4/249)
ودفن عِنْدَ والده بسفح قاسيون. وكانت لَهُ جنازة مشهودة. شهدها القضاة والأمراء والأعيان وخلق كثير. رحمه اللَّه تَعَالَى.(4/250)
إبراهيم بن عبد الرحمن بن أحمد بن المعري، المعري البعلي، الفقيه(4/251)
الزاهد العابد، زكي الدين أَبُو إِسْحَاق؛ حضر عَلَى الشيخ موفق الدين. وسمع من البهاء عَبْد الرَّحْمَنِ وغيره. وتفقه وحفظ " المقنع ". وَكَانَ صالحا، عالما عابداَ، زاهدا ورعا. اجتمعت الألسن عَلَى مدحه والثناء عَلَيْهِ. ذكره ابْن اليونيني.
وَقَالَ الذهبي: كَانَ من أعْبَد البشر.
توفي ليلة السبت سابع شوال سنة إحدى وتسعين وستمائة ببعلبك. وصلَى عَلَيْهِ من الغد. ودفن بمقابر بَاب بطحا، وَلَهُ إحدى وثمانون سنة. رحمه اللَّه تَعَالَى.(4/252)
إِبْرَاهِيم بْن عَلِي بْن أَحْمَد بْن فضل، الواسطي الصالحي، الفقيه(4/254)
الزاهد العابد، شيخ الإِسْلام، بركة الشام، قطب الوقت، تقي الدين أَبُو إِسْحَاق، ولد سنة اثنتين وستمائة.
وسمع بدمشق من ابْن الحرستاني، وابن البناء، وابن ملاعب، وابن الجلاجلي، والشمس العطار السلمي، وموسى بْن عَبْد القادر، والشيخ موفق الدين وابن أَبِي لقمة، وجماعة آخرين. ورحل فِي طلب الْحَدِيث والعلم.
وسمع ببغداد من الشيخ أَبِي الفتح بْن عَبْد السَّلام، وابن الجواليقي، والداهري، وعمر بْن كرم، وعلي بْن نورنداز، والسهروردي، وأبي مَنْصُور بْن عفيجة، وأبي نصر النرسي،(4/255)
وابن الزبيدي، وخلق.
وسمع من عَبْد الرَّحْمَنِ بْن علوان بحلب، ومن أَحْمَد بْن سلامة النجار بحران، ومحمود بْن أَبِي العز بْن الشطيطي بالموصل، وغيرهم.
وسمع كثيرا من الكتب الكبار والأجزاء. وعني بالحديث. وقرأ بنفسه وَلَهُ إجازة من جَمَاعَة من الأصبهانيين والبغداديين، كأسعد بْن روح، وعائشة بنت مَعْمَر، وزاهر الثقفي، وابن طبرزد، وابن سكينة، وابن الأخضر، وغيرهم.
وتفقه فِي المذهب، وأفتى، ودرس بالمدرسة الصاحبية بقاسيون نحوا من عشرين سنة، وبمدرسة الشيخ أَبِي عُمَر. وولي فِي آخر عمره مشيخة دار الْحَدِيث الظاهرية. وحدث بها مدة. وَكَانَ من خير خلق اللَّه علما وعملًا.
قَالَ الذهبي: قرأت بخط العلامة كمال الدين بْن الزملكاني فِي(4/256)
حقه: كان كبير القمر، لَهُ وقع فِي القلوب وجلاله، ملازم للتعبد ليلاَ ونهارا، قائم بِمَا يعجز عَنْهُ غيره، مبالغ فِي إنكار المنكر. بائع نَفْسه فِيهِ، لا يبالي عَلَى من أنكر. يعود المرضى، ويشيع الجنائز، ويعظم الشعائر والحرمات. وعنده علم جيد. وفقه حسن. وَكَانَ داعية إِلَى عقيدة أهل السنة والسلف الصالح، مثابرا عَلَى السعي فِي هداية من يرى فِيهِ زيغا عَنْهَا. وكانت جنازته مشهودة. إِلَى آخر كلامه.
وَقَالَ البرزالي: تفرد بعلو الإِسناد، وكثرة الرواية والعبادة، وَلَمْ يخلق مثله.
قُلْت: حدث بالكثير. وَرَوَى عَنْهُ خلق كثير. وحدثنا عَنْهُ جَمَاعَة من أَصْحَابه.(4/257)
توفي فِي آخر نهار يَوْم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وستمائة. وصلَّى عَلَيْهِ بكرة السبت. ودفن بتربة الشيخ موفق الدين. وكانت جنازته مشهودة بكثرة الخلق. وحضرها القضاة والأمراء والصاحب بْن السلعوس والأعيان. رحمه اللَّه تَعَالَى.
أَحْمَد بْن حمدان بْن شبيب بْن حمدان بْن شبيب بْن حمدان بْن محمود(4/266)
بْن شبيب بْن غياث بْن سابق بْن وثاب النمري الحراني، الفقيه الأصولي، الْقَاضِي نجم الدين، أَبُو عبد الله بن أبي الثناء، نزيل القاهرة، وصاحب التصانيف: ولد سنة ثلاث وستمائة بحران.
وسمع الكثير بحران من الحافظ عَبْد القادر الرهاوي. وَهُوَ آخر من رَوَى عَنْهُ، ومن الخطيب أَبِي عَبْد اللَّهِ ابْن تيمية، وابن روزبة، وغيرهم.
وسمع بحلب من الحافظ ابْن خليل، وغيره، وبدمشق: من ابْن غسان، وابن صباح، وبالقدس: من الأوتي، وغيرهم. وطلب بنفسه، وقرأ عَلَى الشيوخ.
وتفقه عَلَى الناصحين الحرانيين: ابْن أبىِ الفهم، وابن جميع. وأخذ عَنِ الخطيب فخر الدين، وجالس ابْن عمه الشيخ مجد الدين، وبحث مَعَهُ كثيرا، وبرع فِي الفقه، وانتهت إِلَيْهِ معرفة المذهب، ودقائقه وغوامضه.
وَكَانَ عارفا بالأصلين والخلاف والأدب. وصنف تصانيف كثيرة.
منها " الرعاية الصغرى " فِي الفقه، و " الرعاية الكبرى " وفيها نُقُول كثيرة جدا، لكنها غَيْر محررة،(4/267)
وكتابي " الوافي " فِي أصول الفقه، ومقدمة أصول الدين، وقصيدة طويلة فِي السنة، وكتاب " صفة المفتي والمستفتي ".
وولي نيابة الْقَضَاء(4/268)
بالقاهرة. وأظنه ولي فضاء المحلة أيضًا.
وتفقه بِهِ وتخرج عَلَيْهِ جَمَاعَة، وحدث بالكثير. وعمر وأسن وأضر.
وَرَوَى عَنْهُ الدمياطي، والحارثي، وابنه، والمزي، وأبو الفتح اليعمري، والبرزالي، وغيرهم. وحدثنا عَنْهُ مُحَمَّد بْن أَبِي القاسم الفارقي الشاهد بالقاهرة.
وتوفي يَوْم الخميس سادس صفر سنة خمس وتسعين وستمائة بالقاهرة.
وتوفي أخوه: -
تقي الدين شبيب، الأديب البارع، الشاعر المفلق،(4/269)
الطبيب الكحال - فِي ربيع الآخر من السنة أَيْضًا. وَهُوَ فِي عشر الثمانين.
سمع من ابْن روزبة، وطائفة، وَقَدْ عارض " بانت سعاد " بقصيدة عظيمة يَقُول فِيهَا:(4/270)
مجد كبا الوهم عَن إدراك غايته ... ورد عقل البرايا، وَهُوَ معقول
طوبى لطيبة، بَل طوبى لكل فتى ... لَهُ بطيب ثراها الجعد تقبيل
المنجا بْن عُثْمَان بْن أسعد بْن المنجا بْن بركات بْن المؤمل التنوخي، المعري الأصل، الدمشقي، الفقيه الأصولي، المفسر النحوي، زين الدين(4/271)
أَبُو البركات بْن عز الدين أَبِي عُمَر بْن الْقَاضِي وجيه الدين أَبِي المعالي: وَقَدْ سبق ذكر أبيه وجده، ولد في عاشر ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وستمائة!.
وحضر عَلَى أَبِي الْحَسَن بْن المقير، وَجَعْفَر الهمداني، وسالم بْن صصرى.
وسمع من السخاوي، وابن مسلمة، والقرطبي، وجماعة، وتفقه عَلَى أَصْحَاب جده، وأَصْحَاب الشيخ موفق الدين، وقرأ الأصول عَلَى كمال الدين التفليسي، وغيره.
وقرأ النحو عَلَى ابْن مَالِك، وبرع فِي ذَلِكَ كله، ودرس وأفتى، وناظر وصنف، وانتهت إِلَيْهِ رئاسة المذهب بالشام فِي وقته.
ومن تصانيفه " شرح المقنع " فِي أربع مجلدات " وتفسير الْقُرْآن الكريم " وَهُوَ كبير، لكنه لَمْ يبيضه، وألقاه جميعه دروساً، وشرع في " شرح المحمول " وَلَمْ يكمله. واختصر نصفه. وَلَهُ تعاليق كثيرة، ومسودات فِي الفقه والأصول وغير ذَلِكَ لَمْ تبيض.
وَكَانَ لَهُ فِي الجامع حلقة للاشتغال والفتوى نَحْو ثلاثين سنة، متبرعا(4/272)
لا يتناول عَلَى ذَلِكَ معلوما. وكانت لَهُ أوراد صالحة من صلاة وذكر، وَلَهُ إيثار كثير وبر، يفطر عنده الفقراء فِي بَعْض الليالي، وَفِي شَهْر رمضان كله. وَكَانَ حسن الأخلاق.
ذكر ذَلِكَ بمعناه الذهبي، وَقَالَ: كَانَ معروفا بالذكاء، وصحة الذهن، وجودة المناظرة، وطول النفس فِي البحث.
وَقَالَ البرزالي: كَانَ عالما بفنون شتى: من الفقه، والأصلين، والنحو. له يد فِي التفسير. وانتهت إِلَيْهِ رئاسة مذهبه، وَلَهُ مصنف فِي " أصول الفقه " وشرح المقنع فِي الفقه، وتعاليق فِي التفسير. واجتمع لَهُ العلم والدين، والمال والجاه وحسن الهيئة. وَكَانَ صحيح الذهن، جيد المناظرة صبورا فِيهَا. وَلَهُ بر وصدقة. وَكَانَ ملازما للإقراء بجامع دمشق من غَيْر معلوم.
وسئل الشيخ جمال الدين بْن مَالِك أَن يشرح ألْفيته فِي النحو. فَقَالَ: ابْن المنجا يشرحها لكم.
قُلْت: درس الشيخ زين الدين بالحنبلية والصدرية. وأخذ عَنْهُ الفقه الشيخ تقي الدين ابْن تيمية، والشيخ شمس الدين بْن الفخر البعلي، والشيخ تقي الزريراني.
وحدث. وسمع منه ابْن العطار، والمزي، والبرزالي.(4/273)
وحدثنا عَنْهُ أَبُو الفضل بْن الحموي وغيره.
وتوفي يَوْم الخميس رابع شعبان سنة خمس وتسعين وستمائة بدمشق. وتوفيت زوجته أم مُحَمَّد ست البهاء بنت الصدر الخُجندي ليلة الجمعة خامس الشهر، وصفَى عليهما معا عقيب صلاة الجمعة بجامع دمشق، ودفنا بتربة بَيْت المنجا بسفح قاسيون. رحمهما اللَّه تَعَالَى.
الْحَسَن بْن عَبْد اللَّهِ بن محمد بن أحمد بن مُحَمَّد بْن قدامة المقدسي(4/274)
الصالحي، قَاضِي القضاة، شرف الدين، أَبُو الفضل بْن الخطيب شرف الدين بْن أَبِي بَكْر ابْن الشيخ أَبِي عُمَر: وَقَدْ سبق ذكر أبيه وجده. ولد في شوال سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
وسمع من ابْن القميرة، ولكن لَمْ يظهر سماعه منه فِي حياته، ومن المرسي بْن مسلمة، وغيرهم. وقرأ بنفسه عَلَى الكَفَرْطابي. وتفقه وبرع فِي المذهب. وشارك فِي الفضائل. وولي الْقَضَاء بَعْد نجم الدين أحمد ابن الشيخ شمس الدين. واستمر إِلَى حِينَ وفاته.(4/275)
قَالَ البرزالي: كَانَ قاضيا بالشام عَلَى مذهب الإِمام أَحْمَد، ومدرسا بدار الْحَدِيث الأشرفية بسفح قاسيون، ومدرسة جده. وَكَانَ مليح الشكل، حسن المناظرة، كثير المحفوظ، عنده فقه ونحو ولغة. روى لنا عن ابْن مسلمة.
وَقَالَ الذهبي: كَانَ من أئمة المذهب، بقي فِي الْقَضَاء ست سنين.
وَمَاتَ فِي ليلة الخميس ثاني عشر شوال سنة خمس وتسعين وستمائة، ودفن ضحى يَوْم الخميس بمقبرة جده بسفح قاسيون، وحضر جنازته نائب السلطنة، والقضاة والأكابر، وعمل عزاؤه بكرة الجمع بالجامع المظفري. وحضره خلق كثير ذكره البرزالي. وَهُوَ والد الشيخ شرف الدين أَبِي الْعَبَّاس أَحْمَد، المعروف بابن قَاضِي الجبل.(4/276)
عَبْد السَّلام بْن مُحَمَّد بْن مرزوع بْن أَحْمَد بْن عزاز المصري(4/281)
البصري، الفقيه، المحدث الحافظ، نزيل المدينة النبوية، عفيف الدين أَبُو مُحَمَّد: ولد فِي شوال سنة خمس وعشرين وستمائة بالبصرة.
ورحل إِلَى بغداد، وسمع بها من ابْن قميرة، وإبراهيم الزغبي، وعلى بْن معالي الرصافي، والمبارك الخواص، وعلي بْن الخيمي، وفضل اللَّه الجيلي. وعني بالأثر وقرأ بنفسه.
وتفقه عَلَى الشيخ كمال الدين بْن وضاح. وقرأ عَلَيْهِ " المحرر "، فِي الفقه. ثُمَّ انتقل إِلَى المدينة، واستوطنها نحوا من خمسين سنة، إِلَى أَن مَات بها. وحج منها أربعين حجة عَلَى الولاء، ودرس بها الفقه بالمدرسة(4/284)
الشهابية للحنابلة، والشَّافِعِية.
وحدث بالكثير بالحجاز، وببغداد، وبمصر، ودمشق.
وسمع منه جَمَاعَة من شيوخنا ببغداد، وبالحجاز: عَلِي بْن جَابِر الهاشمي، وعتيق العمري، والقاضي أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن مُسْلِم، وبدمشق: البرزاليِ، وابن الخباز شيخنا وغيره، وبالقاهرة الحارثي، وجماعة.
ذكره الفرضي فِي معجم شيوخه، فَقَالَ: إمام فاضل، عالم فقيه، زاهد عابد، عارف بفنون العلم والأدب.
وَقَالَ البرزالي: شيخ عالم، متدين، عارف بفن الأدب. جاور بالمدينة مدة طويلة، ودرس بها، وأفتى عَلَى مذهب الإِمام أَحْمَد.
وَقَالَ أيضًا: الشيخ الإِمام الحافظ، اليد القدوة، عفيف الدين. كَانَ رجلًا فاضلًا؛ عاقلًا خيرا، حسن الهيئة. سمع وحدث. وذكر: أَنَّهُ سمع منه بدمشق والمدينة النبوية، وبرابغ، وخليص.
قَالَ: وتوفي بالمدينة يَوْم الثلاثاء بَعْد الصبح، سابع عشرين صدر سنة ست وتسعين وستمائة. ودفن من يومه بالبقيع وقيل: أَنَّهُ مَات فِي ثالث عشرين صفر، وصفَى عَلَيْهِ بجامع دمشق صلاة الغائب فِي شَهْر رمضان.
وَفِي صفر أيضًا من هذه السنة: توفي قَاضِي القضاة بالديار المصرية: -
عز الدين أَبُو حفص عُمَر بْن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي(4/285)
بالقاهرة. ودفن بتربة الحافظ عَبْد الغني، وَلَهُ ست وستون سنة: حضر عَلَى ابْن اللتي. وسمع من جَعْفَر الهمداني، وابن رواح ودرس، وأفتى وَكَانَ محمود القضايا، مشكور السيرة، متثبتا فِي الأَحْكَام، مليح الشكل.
قرأت(4/286)
بخط الذهبي: إمام، جامع للفضائل، محمود القضايا، متثبت. كَانَ ابْن جَمَاعَة يعتمد عَلَى إثباتاته، وسمع منه الذهبي بالقاهرة.
وَفِي ذي الحجة من السنة: توفي الفقيه الزاهد القدوة: -
شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن حازم بْن حامد بْن حسن المقدسي بنابلس،(4/287)
فِي رجوعه من زيارة الْمَسْجِد الأقصى، وَهُوَ فِي عشر الثمانين: وَكَانَ كثير الذكر، حسن السمت، فقيها فاضلًا، عابدا.
سمع من ابن صصري، والناس بْن الحنبلي، وابن الزبيدي، وابن غسان، والضياء الحافظ، وأكثر عَنْهُ، حدث بالكثير. رحمه اللَّه تَعَالَى.
أحمد بن عبد الرحمن بن عَبْد المنعم بْن نعمه، المقدسي،(4/288)
النابلسي العابد الفقيه المحدث، شهاب الدين أَبُو الْعَبَّاس، ابْن الشيخ جمال الدين: وَقَدْ سبق ذكر أَبِيهِ. ولد ليلة الثلاثاء ثالث عشر شعبان سنة ثمان وعشرين وستمائة بنابلس.
وسمع بها من عمه تقي الدين يُوسُف، ومن الصاحب محي الدين بْن الجوزي وحضر فِي الرابعة عَلَى سُلَيْمَان الأسعردي، وسمع من ابْن الحميري، وابن رواح، والساوي، وسبط السلفي وغيرهم.
ورحل إِلَى مصر، ودمشق، والإسكندرية. وقرأ بنفسه عَلَى القوصي، وأجاز لَهُ محمود بْن منده، ومحمد بْن عَبْد الْوَاحِد المديني والسهروردي، وابن روزبة. وتفقه فِي المذهب، وبرع فِي معرفة تعبير الرؤيا، وانفرد بِذَلِكَ بحيث لَمْ يشارك فِيهِ، وَلَمْ يدرك شأوه. وَكَانَ الناس يتحيرون هذه إِذَا عبر الرؤيا، لما يخبر الرائي بأمور جرت لَهُ وربما أخبره باسمه وبلده ومنزله، ويكون من بلد ناء. وَلَهُ فِي ذَلِكَ حكايات كثيرة غريبة مشهورة، وَهِيَ من أعجب العجب.(4/289)
وَكَانَ جَمَاعَة من الْعُلَمَاء يقولون: إِن لَهُ رِئيّاً من الجن، وَكَانَ - مَعَ ذَلِكَ - كثير العبادة والأوراد والصلاة. لكن يقال: إنه كَانَ يتعبد عَلَى وجوه غَيْر مشروكة، كالصلاة فِي وقت النهي.
وذكر عَنْهُ بَعْض أقاربه: أَنَّهُ رأى عنده شَيْئًا من آثار الجن.
وَقَدْ رأيت لأبي الْعَبَّاس القرافي المالكي صاحب " القواعد " كلاما حسنا فِي التعبير، فرأيت أَن أذكره ههنا.
قَالَ: أعلم أَن تفسير المنامات قد اتسعت تقييداته، وتشبعت تخصيصاته، وتنوعت تفريعاته بحيث صار لا يقدر الإِنْسَان يعتمد عَلَى مجرد المنقولات لكثرة التخصيصات بأحوال الرائين، بخلاف تفسير الْقُرْآن الكريم، والتحدث فِي الفقه، والكتاب والسنة، وغير ذَلِكَ من العلوم. فَإِن ضوابطها محصورة، أَوْ قريبة من الحصر. وعلم المنامات منتشر انتشارا شديدا، لا يدخل تَحْتَ ضبط. لا جرم إِن احتاج الناظر فِيهِ - مَعَ ضوابطه وقوانينه - إِلَى قوة من قوى النفس المعينة عَلَى الفراسة والإطلاع عَلَى المغيبات، بحيث إذا توجه الحزر إِلَى شَيْء لا يكاد يخطئ، بسبب مَا يخلفه اللَّه تَعَالَى فِي تلك النفس من القوة المعينة عَلَى تقريب الغيب أَوْ تحقيقه. فمن النَّاس من هُوَ كَذَلِكَ. وَقَدْ يَكُون ذَلِكَ عاما فيَ جميع الأنواع.(4/290)
وَقَدْ يهبه اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ باعتبار المنامات فَقَط، أَوْ بحسب علم الرمل فَقَط، فلا يفتح لَهُ صحة القول والنطق فِي غيره. ومن لَيْسَ لَهُ قوة نفس فِي هَذَا النوع صالحة فِي ذَلِكَ لعلم تعبير الرؤيا لا يكاد يصيب إلا عَلَى النذور، فلا ينبغي لَهُ التوجه لعلم التعبير. ومن كانت لَهُ قوة نفس هُوَ الَّذِي ينتفع بتعبيره. وَقَدْ رأيت من لَهُ قوة نفس مَعَ القواعد. فكان يتحدث بالعجائب والغرائب فِي المنام اللطيف، ويخرج هذه الأشياء الكثيرة، والأحوال المتباينة، ويخبر فيه سن الماضيات والحاضرات والمستقبلات، وينتهي فِي المنام اليسير إِلَى نَحْو مائة من الأَحْكَام بالعجائب والغرائب، حَتَّى يَقُول من لا يعلم أحوال قوى النفوس: إِن هَذَا من الجان والمكاشفة، وليس كَمَا قَالَ، بل هو قوة نقس، تجد بسببها تلك الأحوال عِنْدَ توجهه للمنام. ورأيت أنا جَمَاعَة من هَذَا النوع واختبرتهم انتهى كلامه.
وأظنه يشير إِلَى الشيخ شهاب الدين المذكور، فَإِنَّهُ كَانَ معاصره. وَلَهُ مصنف فِي هَذَا العلم، سماه " النور المنير ".
قَالَ الذهبي:! ن إماما فاضلًا. وَلَهُ مصنف نفيس فِي الأَحْكَام. وأقام مدة بالقاهرة، ومدة بدمشق. وبها مَات. وولي بها مدة شهور مشيخة دار الْحَدِيث الأشرفية بسفح قاسيون؟ وأسمع بها الْحَدِيث، ثُمَّ صرف عَنْهَا. وذكر مدة لقضاء الحنابلة.
وحدث بدمشق ومصر وغيرها.
وسمع منه خلق من الحفاظ وغيرهم، كالمزي، والبرزالي، والذهبي(4/291)
وشيخنا ابْن القيم. وحدثنا عَنْهُ غَيْر واحد.
توفي يَوْم الأحد تاسع وعشرين ذي القعدة سنة سبع وتسعين وستمائة بدمشق، ودفن من يومه بمقابر بَاب الصغير بتربة ابْن أَبِي الطيب. وكانت جنازته حافلة. وخرج نائب السلطنة للصلاة عَلَيْهِ والقضاة والأكابر. رحمه اللَّه تَعَالَى.
عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي القاسم بْن عُثْمَان بْن عَبْد الْوَهَّاب البابصري الفقيه الأديب الصوفي، عز الدين أَبُو مُحَمَّد: نزيل دمشق. ولد فِي صفر سنة أربع وثلاثين وستمائة ببغداد.
وسمع بها من أَبِي الفضل يَحْيَى بْن مُحَمَّد بْن الأجل مشيخة الباقرجي سماعه من ذاكر(4/292)
بْن كامل، وَلَمْ يظهر هَذَا إلا بَعْد موته.
وسمع أيضًا من إِبْرَاهِيم بْن أَبِي المفاخر الخياط، وبدمشق من الصيرفي بْن الفقيه، وغيره. وأجاز لَهُ عَبْد الصمد بْن أَبِي الجيش، والداعي الرشيدي.
قَالَ الذهبي: سكن دمشق، وأقام بالخانقاه. وَكَانَ فقيها عالما صالحا.
وَقَالَ فِي تاريخه: كَانَ عارفا بالفقه، بصيرا بالأدب والشعر وأيام النَّاس، ضعف بصره. وطلب من الْجَمَاعَة أَن يسمعوا منه شَيْئًا لتناله بركة الْحَدِيث.
وَقَالَ البرزالي فِي معجمه: كَانَ لَهُ نظم جيد، ومعرفة بالتاريخ، وكتب لنفسه استجازات منظومة. وأجابه جَمَاعَة من الشيوخ نظما، مِنْهُم: ابْن وضاح، وأبو اليمن بْن عساكر. وَكَانَ فقيها فاضلًا، من أعيان الحنابلة،! م انقطع في آخر عمره بالخانقاه الشميساطية. وبها مات.
وقال غيره: سمع منه صديقه شمس الدين بْن الفخر البعلي، والبرزالي، والذهبي، وغيرهم.(4/293)
وتوفي يوم الأحد سابع عشر شوال سنة سبع وتسعين وستمائة. ودفن من الغد ضحى بمقابر الصوفية. رحمه اللَّه تَعَالَى.
أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الأَنْجَبِ بْنِ الكسار، الواسطي الأصل، البغدادي المحدث الحافظ، صدر الدين أَبُو عَبْد الله: وُلد سنة ست وعشرين وستمائة.
وسمع ببغداد من ابْن القطيعي، وابن اللتي، وابن القبيطي، وابن قميرة، وغيرهم. وكثر عن المتأخرين بعدهم.
وسمع بواسطة من الشريف الداعي الرشيدي، وقِرأ كثيرا من الكتب والأجزاء، وعني بالحَدِيث، وكانت لَهُ معرفة حسنة بِهِ.
قَالَ شيخنا بالإجازة صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق: تفرد فِي زمانه بمعرفة الْحَدِيث وأسماء الرواة، وكتب بخطه كثيرا، وحصل أصولًا(4/298)
كثيرة، وَكَانَ ضنينا بالفوائد، سمعت عَلَيْهِ كتاب " الفرج بَعْد الشدة " لابن أَبِي الدنيا، عَنِ ابْن قميرة، بقراءة أَبِي العلاء الفرضي.
وَقَالَ الذهبي: قَالَ لنا الفرضي: كان فقيهاً محدثاً حافظا، لَهُ معرفة بشيء من الشيوخ والعلل وغير ذَلِكَ.
وَقَالَ الذهبي: وبلغني أَنَّهُ تكلم فِيهِ، وَهُوَ متماسك، وَلَهُ عمل كثير فِي الْحَدِيث، وشهرة بطلبه.
قُلْت: كَانَ قارئا بدار الْحَدِيث المستنصرية، أَوْ معيدا بها. وَكَانَ حافظا، ذا معرفة بالحَدِيث وفقهه ومعانيه.
وبلغني: أن رجلاً من أهالي " سَامِرّا " أُشكل عَلَيْهِ الجمع بَيْنَ حَدِيثين، وهما قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من هَمَّ بسيئة فلم يعملها: كتبت لَهُ حسنة " وقوله فِي الَّذِي رأى ذا المال الَّذِي ينفقه فِي المعاصي "(4/299)
لو أَن لي مثل مَا لفلان لفعلت مثل مَا فعل. فَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هما فِي الوِزْرِ سواء "، فقدم بغداد، فلم يجبه أحد بجواب شافٍ، حَتَّى دل عَلَى ابْن الكسار، فَقَالَ لَهُ عَلَى الفور مَا معناه: إِن المعْفو عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ الهَمُّ المجرد. فأما إِذَا أقترن بِهِ القول أَوِ العمل: لَمْ يكن معفوا عَنْهُ. وذكر قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن اللَّه تجاوز لأمتي مَا حدثت بها أنفسها، مَا لَمْ تكلم بِهِ، أَوْ تعمل ".
وَكَانَ رحمه اللَّه زريَ اللباس، وسخ الثياب، عَلَى نَحْو طريقة أَبِي مُحَمَّد بْن الخشاب النحوي، كَمَا سبق ذكره. وَكَانَ بَعْض الشيوخ الأكابر يتكلم فِيهِ، وينسبه إِلَى التهاون فِي الصلاة. وَكَانَ الدقوقي يَقُول: إنهم كَانُوا يحسدونه؛ لأنه كَانَ يبرز عَلَيْهِم فِي الْكَلام فِي المجالس. والله أعلم بحقيقة أمره.
سمع منه خلق كثير من شيوخنا وغيرهم. وحدثنا عَنْهُ مُحَمَّد بْن عَبْد الرزاق بْن الفوطي ببغداد. وَقَدْ سبقت الرواية عَنْهُ فِي ترجمة ابْن هبيرة الوزير.
وتوفي فِي رجب سنة ثمان وتسعين وستمائة. ودفن بمقبرة باب(4/300)
حرب رحمه اللَّه تَعَالَى.
وَفِي هذه السنة توفي الفقيه: -
كمال الدين أَبُو غالب هبة اللَّه بْن أَبِي القاسم عَلِي بْن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَد السامري الأصل، البغدادي، الأزجي ببغداد: وَقَدْ سبق ذكر جده. ولد سنة ست عشرة وستمائة.
وسمع من محاسن. الحراني، وابن(4/301)
القبيطي. وحدث.
وسمع منه ابْن شامة، والفرضي، وَقَالَ فِي معجمه: كَانَ شيخا عالما، فقيهاَ، زاهدا عابدا، جليلا ثقة، من بَيْت العلم والحَدِيث.
وَفِي ذي الحجة من هذه السنة أيضًا: توفي الفقيه الزاهد القدوة عماد الدين أَبُو مُحَمَّد: -
عَبْد الحافظ بْن بدران بْن شبل بْن طرخان، المقدسي، النابلسي بها:
ودفن بزاويته بطور عسكر، وله نحو تسمعين سنة.(4/302)
سمع من الشيخ الموفق، والبهاء، وموسى بْن عَبْد القادر، وأبي المعالي بْن طاوس. وأجاز لَهُ ابن الحرشاني، وابن ملاعب.
قَالَ الذهبي: إمام فقيه عابد، بَنِي بنابلس مدرسة وطهارة. وَكَانَ مواظبا عَلَى التلاوة والانقطاع. فال: ورحلت إِلَيْهِ.(4/303)
قُلْت: حَدَّثَنَا عَنْهُ جَمَاعَة من أَصْحَابه بدمشق ونابلس. وقرأت " سنن ابْن ماجه " بدمشق عَلَى الشيخ جمال الدين يُوسُف بْن عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد النابلسي الفقيه الفرضي بسماعه منه.
مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن يُوسُف بْن محمد، البعلي، الدمشقي الفقيه، المناظر المتفنن، شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ ابْن الشيخ فخر الدين(4/305)
أبي محمد: وقد سبق ذكر أَبِيهِ. ولد فِي أواخر سنة أربع وأربعين وستمائة.
وسمع الكثير من خطيب مردا، وشيخ شيوخ حماة، وابن عَبْد الدايم، والفقيه اليونيني، وغيرهم. وتفقه، فبرع، وأفتى وناظر، وحفظ عمة كتب، ودرس بالمسمارية، وحلقة بالجامع، وَكَانَ موصوفا بالذكاء المفرط، والتقدم فِي الفقه وأصوله،(4/306)
والعربية، والحَدِيث، وغير ذَلِكَ، قاله الذهبي.
وَقَالَ أيضًا عَنْهُ: طلب الْحَدِيث، وقرأ وعلق، وَلَمْ يتفرغ لَهُ، كَانَ مشغولا بأصول المذهب وفروعه، حضرت بحوشه مع شيختا ابْن تيمية، ولي منه إجازة. انتهى.
وبلغني: إنه كَانَ يحفظ " الكافي " فِي الفقه.
قَالَ البرزالي: كَانَ من فضلاء الحنابلة فِي الفقه، والأصول، والنحو، والحَدِيث، والأدب، وَلَهُ ذهن جيد وبحث فصيح، ودرس وأعاد، وأفتى، وَرَوَى الْحَدِيث.
توفي ليلة الأحد بَيْنَ العشاءين تاسع رمضان سمْة تسع وتسعين وستمائة بدمشق، وصلى عَلَيْهِ من الغد بالجامع الأموي وقت الظهر، ودفن بمقابر بَاب توما، قبل مقبرة الشيخ رسلان، وحضر جنازته جمع كثير، رحمه اللَّه تَعَالَى.
مُحَمَّد بْن عَبْد القوي بْن بدران بْن عَبْد اللَّهِ المقدسي، المرداوي،(4/307)
الفقيه المحدث النحوي، شمس الدين أَبُو عبد الله: ولد سنة ثلاث وستمائة بمردا.
وسمع الْحَدِيث من خطيب مردا، وعثمان بْن خطيب القرافة، وابن عَبْد الهادي، وإبراهيم بْن خليل، وغيرهم. وطلب وقرأ بنفسه. وتفقه عَلَى الشيخ شمس الدين بْن أَبِي عُمَر وغيرَه، وبرع فِي العربية واللغة، واشتغل ودرس، وأفتى وصنف.
قَالَ الذهبي: كَانَ حسن الديانة، دمث الأخلاَق، كثير الإفادة، مطرحا للتكلف. ولي تدريس الصاحبية مدة. وَكَانَ يحضر دار الْحَدِيث، ويشتغل بها، وبالجبل. وَلَهُ حكايات ونوادر. وَكَانَ من محاسن الشيوخ. قَالَ: وجلست عنده، وسمعت كلامه، ولي منه إجازة.(4/308)
قُلْت: درس بالمدرسة الصاحبية بَعْد ابْن الواسطي. وتخرج بِهِ جَمَاعَة من الفضلاء.
وممن قرأ عَلَيْهِ العربية: الشيخ تقي الدين ابْن تيمية. وَلَهُ تصانيف، منها في الففه " القصيدة " الطويلة الدالية، وكتاب " مجمع البحرين " لَمْ يتمه، وكتاب " الفروق " وعمل طبقات للأَصْحَاب. وحدث. رَوَى عَنْهُ إِسْمَاعِيل بْن الخباز فِي مشيخته.
وتوفي فِي ثاني عشر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وستمائة، ودفن بسفح قاسيون. رحمه الله تعالى.
عبد الله بن عبد الولي بْن جبارة بْن عَبْد الولي المقدسي، ثُمَّ(4/309)
الصالحي، تقي الدين أَبُو مُحَمَّد: قاله الذهبي: إمام مفت، مدرس صَالِح، عارف بالمذهب، متبحر فِي الفرائض، والجبر والمقابلة، كبير السن.
توفي فِي العشر الأوسط من ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وستمائة بجبل قاسيون.
رحمه اللَّه تَعَالَى.
وممن عدم فِي هذه السنة من أَصْحَابنا: الفقيه سَيْف الدين: -(4/310)
أَبُو بَكْر بْن الشهاب أَبِي الْعَبَّاس أَحْمَد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد المنعم النابلسي: لما انجفل من التتار بأهله عِنْدَ دخولهم الشام. وكان مولد سنة سبعين وستمائة أَوْ بعدها.
رَوَى عَنْهُ الذهبي فِي معجمه، وَقَالَ: كَانَ فقيها، مناظرا صالحا، يتوسوس فِي الماء.
سمع بمصر من جَمَاعَة، وتفقه على ابن حمدان.
وسمع بدمشق بعد الثمانين. وسمع معنا كثيراً. وكان مطبوعاً.
وَقَالَ أيضًا عَنْهُ: كتب الطباق، ودار عَلَى الشيوخ. وَكَانَ عارفا بالمذهب، مناظرا ذكيا، حسن المذاكر.(4/311)
وقتل فِيهَا الشيخ: -
أَبُو الْحَسَن عَلِي بْن الشيخ شمس الدين بْن(4/312)
عبد الرحمن بن أبي عمر المقدسي، قتله التتر عَلَى مرحلتين من البيرة.
قَالَ البرزالي: كَانَ رجلًا حسنًا، درس بحلقة الحنابلة، بجامع دمشق، وبمدرسة الشيخ أَبِي عمر، وأَتمَ بالجامع المظفري، وقتل مَعَهُ جَمَاعَة من الحنابلة - رحمهم اللَّه تَعَالَى.
وكان ببغداد في حدود السبعمائة جَمَاعَة لا أتحقق وفاتهم، فمنهم:
دَاوُد بْن عَبْد اللَّهِ بْن كوشيار الحنبلي الفقيه، المناظر الأصولي،(4/323)
شرف الدين أَبُو أَحْمَد: كَانَ فقيها بارعا، عارفا بالفقه والأصلين، درس ببغداد بالمدرسة المستعصمية ثُمَّ درس المستنصرية بَعْد وفاة الشيخ نور الدين البصري المتقدم ذكره، وصنف فِي أصول الفقه كتابا سماه " الحاوي " وَفِي أصول الدين كتابا سماه " تحرير الدلائل ".
وتوفي - فيما يغلب عَلَى ظني - بَعْد التسعين وستمائة، رحمه اللَّه. وَمِنْهُم: -
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سُلَيْمَان بْن عَبْد الْعَزِيز المجلخ الحربي،(4/324)
الضرير، الفقيه، مفيد الدين أَبُو مُحَمَّد، معيد الحنابلة بالمستنصرية: سمع من الشيخ مجد الدين ابْن تيمية، وغيره من المتأخرين، وَرَوَى كتاب " الخرقي " عَن فضل اللَّه بْن عَبْد الرزاق الجيلي.
وَكَانَ من أكابر الشيوخ وأعيانهم، عالما بالفقه والحَدِيث. والعربية، قرأ عَلَيْهِ الفقه جَمَاعَة، وسمع منه ابْن الدقوقي، وجماعة من شيوخنا. وبقي إلى قريب السبعمائة.
وبلغني: أنه توفي سنة سبعمائة. رحمه اللَّه.
وفيات المائة الثامنة
من سنة 701 إِلَى سنة 751
عَلِي بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ(4/329)
بْن مُحَمَّد اليونيني البعلي، الفقيه المحدث الزاهد شرف الدين أَبُو الْحُسَيْن، ابْن الشيخ الفقيه أَبِي عَبْد اللَّهِ المتقدم ذكره: ولد فِي حادي عشر رجب سنة إحدى وعشرين وستمائة ببعلبك.
وحضر بها عدة أجزاء عَلَى البهاء عَبْد الرَّحْمَنِ المقدسي. وسمع بها من عَبْد الْوَاحِد بن أبي المضاو الأربلي، وابن رواحة، ووالده الشيخ الفقيه، وغيرهم.
وتردد إِلَى دمشق. وسمع بها من ابْن الزبيدي، وابن اللتي، وابن الصلاح وَجَعْفَر الهمداني، ومكرم بْن أَبِي الصقر، وابن الشيرازي، وغيرهم.
وارتحل بَعْد الأربعين إِلَى مصر لطلب العلم والحَدِيث. فسمع بها من ابْن الجميزي، وابن رواح، والساري، وغيرهم. ولازم الحافظ عَبْد العظيم المنذري، وتخرج بِهِ، وعني بعلم الْحَدِيث. وارتحل إِلَى مصر خمس مرات. واستنسخ " صحيح الْبُخَارِي " واعتنى بأمره كثيرا.
قَالَ الذهبي: حَدَّثَنِي أَنَّهُ فِي سنة واحدة قابله، وأسمعه إحدى عشر مرة. وقرأ بنفسه. وكتب بخطه كثيرا. وتفقه. وأفتى ودرس، وعني باللغة،(4/330)
وحصل أطرافا من العلوم.
وَقَالَ البرزالي: كَانَ شيخا جليلًا، حسن الوجه. بهيَّ المنظر. لَهُ سمت حسن، وعليه سكينة. ولديه فضل كثير. يحفظ كثيراَ من الأحاديث بلفظها، ويفهم معانيها، ويعرف كثيرا من اللغة. وَكَانَ فصيح العبارة، حسن الْكَلام وَكَانَ لَهُ قبول من النَّاس. وَهُوَ كثير التودد إليهم، قاضٍ للحقوق.(4/331)
وَقَالَ الذهبي: كَانَ إماما محدثا، متقنا مفيدا، فقيها مفتيا، خبيرا باللغة والغريب؛ غزير الفوائد، كثير التحري فيما يورده، مُكْرَماً بَيْنَ الملوك والأئمة، مهيبا كثير التواضع حسن البشر، حلو المجالسة، يعطي كُل في فضيلة حقه.
وَقَالَ أيضًا: كَانَ ذا عناية بالغريب، والأسماء وضبطها، مديما للمطالعة، كثير المحاسن، منور الشيبة، عظيم الهيبة.
وَقَالَ فِي آخر طبقات الحفاظ: انتفعت بِهِ، وتخرجت بِهِ. وَكَانَ عارفا بقوانين الرواية، حسن الدراية، جيد المشاركة فِي الألفاظ والرجال، صاحب رحلة وأصول وكتب وأجزاء ومحاسن.
حدث بالكثير. وسمع منه خلق من الحفاظ والأئمة. وأكثر عَنْهُ البرزالي والذهبي بدمشق وبعلبك. وسمعنا من جَمَاعَة من أَصْحَابه. وَقَدْ خرج لَهُ ابْن أَبِي الفتح البعلي النحوي مشيخة فِي ثلاثة عشر جزءا، والحافظ الذهبي عوالي. وحدث بالجميع.
وتوفي يَوْم الخميس حادي عشر رمضان سنة إحدى وسبعمائة ببعلبك. ودفن من يومه بباب سطحا. وصلَّى عَلَيْهِ يَوْم الجمعة بجامع دمشق صلاة الغائب، وأسف النَّاس عَلَيْهِ.
وَكَانَ موته بشهادة رحمه اللَّه، فَإِنَّهُ دَخَلَ إِلَيْهِ - يَوْم الجمعة خامس رمضان وَهُوَ في خزانة الكتب بمسجد الحنابلة - شخص، فضربه بعصي عَلَى رأسه مرات وجرحه فِي رأسه بسكين، فاتقى بيده، فجرحه فِيهَا، وأمسك الضارب، وضرب ضربا عظيما، وحبس وأظهر الاختلال. وحمل الشيخ فِي داره، وأقبل عَلَى أَصْحَابه يحدثهم،(4/332)
وينشدهم عَلَى عادته، وأتم صيامه يومه. ثُمَّ حصل لَهُ بَعْد ذَلِكَ حمى، واشتد مرضه حَتَّى توفي يَوْم الخميس المذكور فِي الساعة الثامنة منه. وغبطه النَّاس بموته شهيدا فِي رمضان ليلة الجمعة عقب رجوعه من دمشق، وإفادته النَّاس، وإسماعه الْحَدِيث رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَمَاتَ قبله فِي شعبان من السنة المذكورة: الشيخ وجيه الدين، صدر الرؤساء، أَبُو المعالي: -
مُحَمَّد بْن عُثْمَان بْن أسعد بْن المنجا التنوخي، أَخُو الشيخ زين الدين بْن المنجا بْن عُثْمَان المتقدم ذكره: وَكَانَ مولده سنة ثلاثين وستمائة.
حضر عَلَى ابْن اللتي، ومكرم، وابن المقير. وسمع من جَعْفَر(4/333)
الهمداني، والسخاوي، وجماعة.
وَكَانَ شيخا عالما فاضلًا، كثير المعروف والصدقات، والبر والتواضع للفقراء، موسعا عَلَيْهِ فِي الدنيا، وَلَهُ هيبة وسطوة، وجلالة وحرمة وافرة، عنده عبادة وخشوع، وَبَنِي بدمشق دار قرآن معروفة بِهِ.
ودرس فِي أول عمره بالمسمارية والصدرية، ثُمَّ تركهما لولده، وَمَاتَ فِي حياته، وولي نظر الجامع، وأحسن فِيهِ السيرة. وحدث، وروى عنه جماعة.
رفي شعبان أيضًا من السنة توفي ببعلبك: الفقيه المقرئ المحدث أمين الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ: -
مُحَمَّد بْن عَبْد الولي بْن أَبِي مُحَمَّد بْن(4/334)
حولان، البعلي، التاجر: وَكَانَ مولده سنة أربع وأربعين وستمائة.
سمع من الشيخ الفقيه، ومن ابْن عَبْد الدايم، وجماعة. وقرأ ونظر في علوم الحديث.
وقال الذهبي: سمعت منه ببعلبك والمدينة، وتبوك. وَكَانَ من خيار النَّاس وعلمائهم، وألف كتابا سماه " العدة القوية فِي اللغة التركية " جوده، وذكره في معجمه.
وقال: كَانَ مقرئا فقيها، محدثا متقنا، صالحا عدلًا، ملازما. للتحصيل، كُل يثني عَلَيْهِ ببلده.
عَلِي بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد المنعم بْن نعمة بْن سلطان بْن سرور(4/338)
بْن رافع بْن حسن بْن جَعْفَر، المقدسي النابلسي، الفقيه، الإمام فخر الدين أَبُو الْحَسَن، ابْن الشيخ جمال الدين المتقدم ذكره: ولد سنة ثلاثين وستمائة بنابلس.
وسمع من ابْن الجميزي، وابن رواج بمصر، ومن سبط السلفي بالإِسكندرية، ومن خطيب مردا، ومحيي الدين بْن الجوزي لما قدم إِلَى الشام رسولًا. وتفقه بالمذهب، وأفتى. وَكَانَ مفتي الأَرْض المقدسة.
قَالَ البرزالي: كَانَ شيخا صالحا عالما، كثير التواضع، محسنا إِلَى النَّاس أقام يفتي بنابلس مدة أربعين سنة.
قَالَ الذهبي: كَانَ عارفا بالمذهب، ثقة صالحا ورعا، وذكر: أَنَّهُ سمع منه بنابلس.
توفي ليلة الأحد مستهل المحرم سنة اثنتين وسبعمائة بمدينة نابلس. ودفن من الغد عِنْدَ والده بمقبرة الزاهرية. واجتمع خلق كثير فِي جنازته، وحضر أهل القرى من البر. رحمه اللَّه.
موسى بْن إِبْرَاهِيم بْن يَحْيَى بْن علوان بْن مُحَمَّد الأزدي، الشقراوي،(4/340)
الصالحي، الفقيه المحدث، النحوي العدل، نجم الدين أَبُو إِبْرَاهِيم: ولد فِي رمضان سنة أربع وعشرين وستمائة.
وسمع من أَبِيهِ والحافظين: إِسْمَاعِيل بْن ظفر، والضياء المقدسي، وخطيب مردا، ويوسف سبط ابن الجوزي. وقرأ الكثير عَلَى ابْن عَبْد الدايم، ومن بعده، كابن أبي عُمَر، وطبقته. وعني بالحَدِيث. وقرأ بنفسه عَلَى الحافظ الضياء ومن بعده. وكتب بخطه مَا لا يوصف.
وتفقه وأفتى، وقرأ العربية واللغة والأدب، وولي مشيخة دار الْحَدِيث العالمية بالسفح، ودار الْحَدِيث المعزية بالشرف الأعلى.
قرأت بخط(4/341)
الذهبي: كَانَ فقيها، إماما مفتيا. له معرفة بالحديث واللغة والعربية، كثير المحفوظ والنوادر.
وَقَالَ غيره: كَانَ ذا حظ من الأدب والنظم، ينقل كثيرا من اللغة، وعنده جملة من التاريخ، حسن المجالسة، مفيد المذاكرة. حدث وَرَوَى عَنْهُ الذهبي وجماعة.
توفي يَوْم الاِثنين مستهل جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعمائة. ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه اللَّه.
إِبْرَاهِيم بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن معالي بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الكريم(4/344)
الرقي، الزاهد العالم، القدوة الرباني، أَبُو إِسْحَاق: ولد سنة سبع وأربعين وستمائة - تقريباً - بالرقة.
وقرأ ببغداد بالروايات العشر عَلَى يُوسُف بْن جامع القفصي المقدم ذكره. وسمع بها الْحَدِيث بَعْد الستين من الشيخ عَبْد الصمد بْن أَبِي الجيش، وصحبه.
قَالَ الذهبي: وعني بتفسير الْقُرْآن، وبالفقه، وتقدم فِي علم الطب، وشارك فِي علوم الإِسلام، فبرع فِي التذكير. وَلَهُ المواعظ المحركة إِلَى اللَّه، والنظم العذب، والعناية بالآثار النبوية، والتصانيف النَافِعة، وحسن التربية، مَعَ الزهد والقناعة باليسير فِي المطعم والملبس.
وَقَالَ أيضًا: كَانَ إماماً زاهداً، عارفاً قدوة، سيد أهل زمانه. لَهُ التصانيف الكثيرة فِي الوعظ والطريق إلى الله تعالى " منها " أحاسن المحاسن " فِي الوعظ. اختصره من صفوة الصفوة. قاله فِي " كشف الظنون "، والآثار والخطب. وَلَهُ النظم الرائق، يستحق أَن(4/345)
تطوى إِلَى لقياه مراحل. وَكَانَ كلمة إجماع. وَكَانَ ربما حضر السماع، وتواجد. وَلَهُ اعتقاد فِي سُلَيْمَان الكلاب - يَعْنِي رجلاَ كَانَ يخالط الكلاب، ولا يصلي - وَكَانَ يغلط فِيهِ، وَلَهُ يد طولى فِي علوم كثيرة، ولقد كتب شيخنا كمال الدين - يَعْنِي ابْن الزملكاني - فِي شأنه وبالغ، وأحسن ترجمته.
وَقَالَ البرزالي: كَانَ رجلًا صالحا، عالما، كثير الخير، قاصدا للنفع، كبير القدر، زاهدا فِي الدنيا، صابرا عَلَى مرِّ العيش، عظيم السكون، ملازما للخشوع والانقطاع، قائما بعياله. وَكَانَ عارفا بالتفسير والحَدِيث والفقه والأصلين، وغير ذَلِكَ. ورزقه اللَّه حسن العبارة، وسرعة الجواب. وَلَهُ خطب حسنة، وأشعار فِي الزهد، ومواعظ ومجموعات.
قُلْت: صنف كثيرا فِي الرقائق والمواعظ. واختصر جملة من كتب الزهد، وصنف تفسيرا للقرآن، ولا أعلم هل كمله أم لا؟. وحدث.
سمع منه البرازلي، والذهبي، وغيرهما. وَكَانَ يسكن بأهله فِي أسفل المأذنة الشرقية بالجامع.
وهناك: توفي ليلة الجمعة خامس عشر محرم سنة ثلاث وسبعمائة. وصلَّى عَلَيْهِ عقب الجمعة بالجامع، وحمل عَلَى الأعناق(4/346)
والرؤوس إِلَى سفح قاسيون، فدفن بتربة الشيخ أَبِي عُمَر. وتأسف المسلمون عَلَيْهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
إِسْمَاعِيل بْن إِبْرَاهِيم بْن سالم بْن ركاب بْن سَعْد بْن ركاب بْن سَعْد بْن كامل بن عبد الله بن عمر بْن عَبْد الباري بْن عبيد بْن عَبْد الباقي - وقيل: باقي بْن وفاء.
ويقال: فايد - بْن عُبَادَة بْن الْوَلِيد بْن عُبَادَة بْن الصامت الأَنْصَارِي، العبادي، الصالحي، المحدث المكثر المؤدب، نجم الدين أَبُو الفداء: ولد سنة تسع وعشرين وستمائة.
وسمع من الحافظ ضياء الدين، وعبد الحق بْن خلف، وعبد اللَّهِ بْن الشيخ أَبِي عُمَر، والمرسي، ثُمَّ طلب بنفسه، وجد واجتهد من سنة أربع وخمسين، وإلى أَن مَات.
وسمع وكتب مَا لا يوصف كثرة من الرقائق وغيرها. وخرج لنفسه مشيخة فِي مائة جزء عَن أَكْثَر من(4/347)
ألفي شيخ؛ فَإِنَّهُ كتب العالي والنازل، وعمن دب ودرج؛ وخرج سيرة لابن أَبِي عُمَر فِي مائة وخمسين جزءا. وخرج أجزاء كثيرة لنفسه من أَصْحَاب ابْن كليب، والخشوعي، وابن الجوزي، وحنبل، وابن طبرزد، وممن بعدهم. وبالغ حَتَّى كتب عمن دونه أَكْثَر من ستمائة جزء. وحدث بها أَيَّام الجمع عَلَى كرسيه بالجامع، وخرج أحاديث كثيرة فِي الملاحم والفتن، وخرج لابن عَبْد الدايم مشيخة، ولغيره من الشيوخ. وَلَمْ يكن بالمتقن فيما يجمعه، وخطه رديء سقيم. وَكَانَ متوددا، حسن الأخلاق(4/348)
متواضعا، وحصل كتبا وأصولًا جيدة.
سمع منه حلق من الحفاظ وغيرهم، كالمزي، والذهبي، وحدثنا عَنْهُ ولده مسند وقته أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد، وغير واحد.
توفي في يوم الثلاثاء حادي عشر صفر سنة ثلاث وسبعمائة بدمشق. ودفن من الغد بسفح قاسيون. رحمة اللَّه تَعَالَى.
عَلِي بْن مَسْعُود بْن نفيس بْن عَبْد اللَّهِ الموصلي، ثُمَّ الحلبي، الصوفي المحدث، الحافظ الزاهد أَبُو الْحَسَن: نزيل دمشق. ولد سنة أربع(4/351)
وثلاثين وستمائة. وسمع بحلب من ابْن رواحة، وإبراهيم بْن خليل. وذكر أَنَّهُ سمع بها من يُوسُف بْن خليل الحافظ، لكنه لَمْ يظفر بذلك.
وسمع بمصر من الكمال الضرير، والرشيد العطار، وغيرهما من أَصْحَاب البوصيري، وابن ياسين وبدمشق: من ابْن عَبْد الدائم، والكرماني، وجماعة من أَصْحَاب الخشوعي، وأكثر من أَصْحَاب حنبل، وابن طبرزد، وطبقتهما. وقرأ كتباً مطولة مراراً.
وعني بالحَدِيث عناية تامة. وكانت قراءته مفسرة حسنة. وحصل الأصول. وَكَانَ يجوع ويشتري الأجزاء، ويتعفف ويقنع بكسرة فيسوء خلُقه، مَعَ التقوى والصلاح. وَكَانَ فقيها عَلَى مذهب أَحْمَد، ينقل منه، ووقف كتبه وأجزاءه.
وحدث. وسمع منه الذهبي، وجماعة.
وتوفي فِي صفر سنة أربع وسبعمائة بالمارستان الصغير بدمشق، وحمل إِلَى سفح قاسيون، فدفن به مقابر زاوية ابْن قوام، وشيعه الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وجماعة. رحمه اللَّه تَعَالَى.
مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل بْن أَبِي سَعْد بْن عَلِي بْن الْمَنْصُور بْن مُحَمَّد(4/352)
بْن الْحُسَيْن الشيباني، الآمدي، ثُمَّ المصري، الكبير الأديب، شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ، ابْن الصاحب الكبير شرف الدين بْن أَبِي الفداء بْن البني: ولد بمصر بكرة الأحد ثالث عشر المحرم سنة سبع وثمانين وستمائة.
وسمع بمصر: من ابْن الجميزي، وابن المقير، وبدمشق: من جَمَاعَة. وبماردين: من عَبْد الخالق النشتري. ونشأ بماردين. وَكَانَ والده الصاحب شرف الدين من الْعُلَمَاء الفضلاء، جمع تاريخاً لمدينة " آمد " وَلَهُ نظم ونثر، وسمع الْحَدِيث ورواه. وَكَانَ محدثا فاضلًا، متقنا.
توفي سنة ثلاث وسبعين وستمائة.
وَكَانَ وزيرا للملك السعيد الأرتقي، صاحب ماردين، وصار ابنه شمس الدين هَذَا مَعَ ابْن الْمَلِك المظفر بْن السعيد نائبا لمملكته، ومدبرا للدولة، إِلَى أَن ذهب رسولاً من عند أمير أَحْمَد ملك التتر إِلَى الْمَلِك الْمَنْصُور قلاوون صاحب مصر، فحبسه ست سنين، حَتَّى ولي ابنه الملك الأشرف، فأخرجه وأنعم(4/353)
عليه، وولاه نيابته بدار العدل. فباشرها مدة.
وَكَانَ عالما فاضلًا أديبا منشئا، ذا معرفة بالحَدِيث والتاريخ، والسِّيَرِ والنحو واللغة، وافر العقل مليح العبارة، حسن الخط والنظم والنثر. جميل الهيئة. لَهُ خبرة تامة بسير الملوك والمتقدمين ودولهم، لا تمل مجالسته.
قَالَ الإِمام صفي الدين ين عبد المؤمن بن عبد الحق: سمعته يتكلم عَلَى الْحَدِيث بعلم ومعرفة بالأسانيد، وَكَانَ يحفظ فوائد حسنة من الْحَدِيث واللغة والنحو.
وذكر الذهبي: أَنَّهُ نسب إِلَى نقص فِي دينه، والله أعلم.
حدث. وسمع منه جَمَاعَة، مِنْهُم: الشيخ تقي الدين ابْن تيمية، والمزي، والبرزالي، والذهبي، وصفي الدين عَبْد المؤمن المذكور.
وتوفي بمصر ليلة الثلاثاء ثامن جمادى الآخرة سنة أربع وسبعمائة. ودفن بالقرافة، وَكَانَ سبب موته: ألْه سقط من فرس، فكسرت أعضاؤه، وبقي أياما ثُمَّ مَات رحمه اللَّه تَعَالَى وسامحه.
أَحْمَد بْن علي بن عبد الله بن أبي البدر القلانسي الباجسري ثُمَّ(4/354)
البغدادي جمال الدين أَبُو بَكْر محدث بغداد ومفيدها:(4/355)
ولد فِي جمادى الآخرة سنة أربعين وستمائة.
وعني بالحَدِيث. وسمع الكثير من حدود الستين، وإلى حِينَ وفاته. وسمع من ابْن أَبِي الدينة، والشيخ عَبْد الصمد. وابن ورخز، والطبقة. وقرأ الكثير بنفسه، وكتب بخفه، وخطه جيد متقن، وخرج لغير واحد من الشيوخ. - الظاهر: أَنَّهُ كَانَ قارئ الْحَدِيث بالمستنصرية.
وسمعت بَعْض شيوخنا القدماء ببغداد، يحكي أنه ولي حسية بغداد، وحدث بالقليل.
سمع منه بَعْض شيوخنا، وغيرهم. وأجاز لجماعة، مِنْهُم: الحافظ الذهبي.
وتوفي فِي رجب سنة أربع وسبعمائة، ودفن بباب حرب، رحمه الله تَعَالَى.
مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن أَبِي القاسم البغدادي المقرئ،(4/361)
المحدث الصوفي الكاتب، رشيد الدين أَبُو عبد الله بن أبي القاسم: ولد ليلة الثلاثاء ثالث عشر ذي القعدة سنة ثَلاث وعشرين وستمائة.
وسمع الكثير من ابْن روزبة، والسهروردي، وابن الخازن، وابن بهروز. وابن اللتي، والحسن بْن مرتضى العلوي، وعمر بْن كرم، وغيرهم.
وعني بالحديث. وسمع الكتب الكبار والأجزاء، وكتب بخطه الأجزاء والطباق، وكثيرا من الكتب المطولة، وخطه فِي غاية الْحَسَن. وخرج لنفسه سباعيات ضعيفة من طريق " خراش " ونحوه، وَكَانَ عالما صالحا من محاسن البغداديين وأعيانهم، ذا لطف وسهولة، وحسن أخلاق، ومن(4/362)
أجلاء العدول. ولي مشيخة رباط الأرجوانية بدرب راخي ببغداد، ومشيخة دار الْحَدِيث المستنصرية، ولبس خرقة التصوف من السهروردي، وحدث بالكثير.
وسمع منه خلق من أهل بغداد والرحالين، وانتهى إِلَيْهِ علو الإِسناد، سمعنا من جَمَاعَة من أَصْحَابه ببغداد ودمشق.
وتوفي فِي تاسع جمادى الآخرة سنة سبع وسبعمائة، ودفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب رحمه الله تعالى.
علي بْن عَبْد الحميد بْن مُحَمَّد بن أحمد بن محمد بن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ(4/363)
أحمد بن بكير الفنيدقي الفقيه، نور الدين أَبُو الْحَسَن: ولد سنة ست - أَوْ خمس - وثلاثين وستمائة.
وسمع من أبي عبد الله بْن سَعْد المقدسي، وجده لأمه خطيب مردا، وعبد الحميد بْن عَبْد الهادي، وبمصر من الرشيد العطار، وجماعة. وتفقه وبرع، وأفتى، وكتب بخطه كتبا كثيرة، ودرس مَعَ دين وتواضع وصدق، وسكن بنابلس مدة، ثُمَّ قدم دمشق. وأضر بآخره.
وسمع منه الذهبي، وَرَوَى عَنْهُ فِي معجمه.(4/364)
وتوفي بجبل نابلس فِي رجب سنة سبع وسبعمائة، رحمه الله تعالى.
محمد بن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن شامة بْن كوكب بْن العز - أَوِ ابْن أَبِي العز - بْن حميد الطائي، السنتبسي السوادي الحكمي - و " حَكَمه " بالفتح قرية من قرى السواد - المحدث الحافظ، الزاهد العابد، شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ: ولد في رجب سنة اثنتين وستين وستمائة.
وحضر بدمشق عَلَى(4/367)
ابْن عَبْد الدايم. وسمع من عبد الوهاب المقدسي. وطلب بمسه، وسمع من أَحْمَد بْن أَبِي الخير، وابن أَبِي عُمَر، وإبراهيم بْن الدرجي، وَيَحْيَى بْن الصيرفي الفقيه، وابن الْبُخَارِي، وخلق من هذه الطبقة.
ورحل سنة ثَلاث وثمانين إِلَى مصر. وسمع بها من العز الحراني، وابن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، وابن الأنماطي، وابن القسطلاني، وغيرهم.
وسمع بالإسكندرية من ابْن طرخان، وجماعة.
ورحل إلى بغداد. وسمع بها من أَبِي الفضل بْن الزيات، وعَبْد الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّطِيفِ الْبَزَّازُ، وابن المالحاني، والرشيد بْن أَبِي القاسم، وابن الطبال، وغيرهم.
وسمع بأصبهان، والبصرة، وحلب، وواسط،. وعني بِهَذَا الفن، وحصل الأصول، وكتب العالي والنازل، وخرج لنفسه.
قَالَ الحافظ عَبْد الكريم الحلبي: كَانَ إماما عالما، فاضلًا حسن القراءة، فصيحا ضابطا متقنا، كتب الكثير بخطه وطاف البلاد. وقرأ الكثير. وسمع من صغره إِلَى حِينَ وفاته.
وَقَالَ البرزالي: سافر إِلَى حلب مرتين للسماع. وعلت همته،(4/368)
فسافر إِلَى العراق. ودخل أصبهان وغيرها من البلاد. وَكَانَ ثقة، ولديه فضل وقراءة حسنة فصيحة، صحيحة معربة، وخالط الفقراء. وصارت لَهُ أوراد كثيرة، وكثرة تلاوة. واستوطن ديار مصر، وتزوج وولد لَهُ بها، وصارت لَهُ بها حظوة وشهرة بالحَدِيث وقراءته.
وَكَانَ يسكن مصر، ويتردد إِلَى القاهرة لوظائفه ومواعيده. وَكَانَ ملازما للتلاوة فِي مشيه، مواظبا عَلَى قيام الليل، كثير القراءة للحَدِيث والكتابة والنسخ، معمور الأوقات بالطاعات، ونسخ " الصحيحين " بخطه، وقابلهما وقرأهما، وبيعا فِي تركته بألف درهم رغبة فِيهِ، وَفِي تصحيحه، واعتقادا فِي فضيلته وديانته.
وَقَالَ الذهبي فِي معجمه: أحد الرحالين والحفاظ والمكثرين. دَخَلَ إِلَى أصبهان، طمعا أَن يجد بها رواة، فلم يلقَ شيوخا ولا طلَبة فرجع. وكتب بخطه كتبا كبارا، وسمعها مرارا. وَكَانَ ثقة، صحيح النقل، عارفا بالأسماء، من أهل الدين والعبادة، مفيدا للطلبة بمصر. وَكَانَ كثير التلاوة والصلاة، عَلَى طريقة السلف فِي لبسه وتواضعه، وترك التكلف.
ووصفه فِي موضع آخر بالفضيلة. والفصاحة وسرعة القراءة.
وحدث. وسمع منه البرزالي، والذهبي وعبد الكريم الحلبي؛ وذكروه فِي معاجمهم، وابن المهندس، وغيرهم.
توفي فِي آخر نهار الثلاثاء رابع عشري في القعدة سنة ثمان وسبعمائة بمصر. وصلى عَلَيْهِ من الغد بجامع عَمْرو بْن العاص، ودفن بالقرافة بالقرب من الشَّافِعِي. رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.(4/371)
مُحَمَّد بْن أَبِي الفتح بْن أَبِي المفضل البعلي، الفقيه المحدث، النحوي اللغوي. شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ: ولد سنة خمس وأربعين وستمائة. قاله الذهبي. وَقَالَ غيره: فِي أول سنة أربع وأربعين ببعلبك.
وسمع بها من الفقيه مُحَمَّد اليونيني. وبدمشق: من إِبْرَاهِيم بْن خليل، ومحمد بْن عَبْد الهادي، وابن عَبْد الدايم، وعمر الكرماني، وابن مهير البغدادي صاحب ابْن بوش، وجماعة من أَصْحَاب الخشوعي، وابن طبرزد. وطبقته.
وعني بالحَدِيث. وطلب وقرأ بنفسه. وكتب بخطه، وتفقه على ابن أبيب عُمَر وغيره، حَتَّى برع وأفتى. وقرأ العربيِة واللغة عَلَى ابْن مَالِك، ولازمه حَتَّى برع فِي ذَلِكَ.
وصنف تصانيف. منها: كتاب " شرح الجرجانية "(4/372)
في مجلدتين و " شرح الألفية " لابن مَالِك، وكتاب " المطلع عَلَى أبواب المقنع " فِي شرح غريب ألفاظه ولغاته، وابتدأ فِي " شرح الرعاية " فِي الفقه، لابن حمدان. وَلَهُ تعاليق كثيرة فِي الفقه والنحو، وتخاريج كثيرة فِي الْحَدِيث، يَرْوِي فِيهَا الْحَدِيث بأسانيده. وتكلم عَلَى المتون من جهة الإعراب والفقه، وغير ذَلِكَ وخرج لغيره أَيْضًا.
وأمّ بمحراب الحنابلة بجامع دمشق مدة طويلة،(4/373)
ودرس بِهِ بحلقة الصالح بْن صاحب حمص. ودرس بالصدرية، فأظنه درس الْحَدِيث بها، وأعاد بمدرسة الحنبلية وغيرها من المدارس. ودرس بالحنبلية وقتا. وأفتى زمنا طويلًا. وتصدى للاشتغال، وتخرج بِهِ جَمَاعَة، وانتفعوا بِهِ.
قَالَ الذهبي: كَانَ إماما فِي المذهب، والعربية والحَدِيث، غزير الفوائد متقناً. صنف كتباً كثيرة مفيدة. وَكَانَ ثقة صالحا، متواضعا عَلَى طريقة السلف، مطرح للتكلف فِي أموره، حسن البشر، حَدَّثَنَا بدمشق وبعلبك وطرابلس.
وتوفي بالقاهرة فِي ثامن عشر المحرم سنة تسع وسبعمائة. وَذَلِكَ بَعْد دخوله إياها بدون شَهْر. وَكَانَ زار القدس. وسار إِلَى مصر ليُسْمع ابنه، ويطلب لَهُ مدرسة، أَوْ زيادة رزق.
وذكر فِي تاريخه: أَنَّهُ توفي ليلة السبت وقت العشاء بالمدرسة المنصورية بمارستانها. ودفن عِنْدَ الحافظ عَبْد الغني بالقرافة. وحصل التأسف عَلَيْهِ رحمه اللَّه.
وَفِي ليلة الجمعة رابع عشر ربيع الأَوَّل من السنة: توفي قَاضِي قضاة الحنابلة بالديار المصرية الشيخ:
شرف الدين عَبْد الغني بْن يَحْيَى بْن مُحَمَّد بْن(4/374)
قَاضِي حران عَبْد اللَّهِ بْن نصر بن أَبِي بَكْر الحراني: ودفن من بكرة الغد بالقرافة، وكان مولد فِي رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة.
رَوَى جزء ابْن عرفة عَن شيخ الشيوخ الأَنْصَارِي. سمع منه الطلبة. وولي نظر الخزانة السلطانية مدة. ثُمَّ أضيف إِلَيْهِ الْقَضَاء، وتدريس الصالحية. وَكَانَ مشكور السيرة، كثير المكارم، حسن الخلق والخلق، مزجي البضاعة من العلم.(4/375)
أحمد بْن حسن بْن عَبْد اللَّهِ بن عبد الفني بن عبد الواحد بن علي(4/377)
بْن سرور المقدسي، ثُمَّ الصالحي، الفقيه، قَاضِي القضاة، شهاب الدين أبو العباس ابن الشيخ شرف الدين بْن الحافظ أَبِي موسى بْن الحافظ الكبير أَبِي مُحَمَّد: وَقَدْ تقدم ذكر آبائه.
ولد فِي ثاني عشر صفر سنة ست وخمسين وستمائة بسفح قاسيون.
وسمح(4/379)
من ابْن عَبْد الدايم وغيره. وتفقه وبرع، ودرس وأفتى، وعرس بالمدرسة الصاحبية، وبحلقة الحنابلة بالجامع، وأم بمحراب الحنابلة بالجامع أيضًا. وولي الْقَضَاء بالشام نَحْو ثلاثة أشهر سنة تسع وسبعمائة فِي دولة المظفر الششنكير. ثُمَّ عزل لما عاد الْمَلِك الناصر إِلَى الْملك. وأعيد الْقَاضِي تقي الدين سُلَيْمَان.
قَالَ البرزالي: كَانَ رجلاَ جيدا من أعيان الحنابلة وفضلائهم. وَكَانَ فقيها، حسن العبارة. وقرأ الْحَدِيث، وَرَوَى لنا عَنِ ابْن عَبْد الدايم.
وتوفي يَوْم الأربعاء تاسع عشرين ربيع الأَوَّل سنة عشر وسبعمائة. ودفن من الغد بتربة الشيخ أَبِي عُمَر بسفح قاسيون. رحمه اللَّه تَعَالَى.
أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مَسْعُود بْن عُمَر الواسطي الحزامي، الزاهد القدوة العارف، عماد الدين أَبُو الْعَبَّاس، ابْن شيخ الحزاميين:(4/380)
ولد في حاثي عشر - أَوْ ثاني عشر - ذي الحجة سنة سبع وخمسين وستمائة بشرقي واسط.
وَكَانَ أبوه شيخ الطائفة الأحمدية. ونشأ الشيخ عماد الدين بينهم، وألهمه اللَّه من صغره طلب الحق ومحبته، والنفور عَنِ البدع وأهلها، فاجتمع بالفقهاء بواسط كالشيخ عز الدين الفاروتي وغيره. وقرأ شَيْئًا من الفقه عَلَى مذهب الشَّافِعِي. ثُمَّ دَخَلَ بغداد، وصحب بها طوائف من الْفُقَهَاء، وحج واجتمع بمكة بجماعة مِنْهُم. وأقام بالقاهرة مدة ببعض خوانقها، وخالط طوائف الْفُقَهَاء، وَلَمْ يسكن قلبه إِلَى شَيْء من الطوائف المحدثة. واجتمع بالإِسكندرية بالطائفة الشاذلية، فوجد عندهم مَا يطلبه من لوايح المعرفة، والمحبة والسلوك، فأخذ ذَلِكَ عَنْهُم، وانتفع بهم، واقتفى طريقتهم وهديهم.
ثُمَّ قدم دمشق، فرأى الشيخ تقي الدين ابْن تيمية وصاحبه، فدله عَلَى مطالعة السيرة النبوية، فأقبل عَلَى سيرة ابْن إِسْحَاق تهذيب ابْن هِشَام، فلخصها واختصرها، وأقبل عَلَى مطالعة كتب الْحَدِيث والسنة والآثار، وتخلى من جميع طرائقه وأحواله،(4/381)
وأذواقه وسلوكه، واقتفى آثار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهديه، وطرائقه المأثورة عَنْهُ فِي كتب السنن والآثار، واعتنى بأمر السنة أصولًا وفروعا، وشرع فِي الرد على طوائف المبتدعة الذين خالطهم وعرفهم من الاتحادية وغيرهم، وبين عوراتهم، وكشف أستارهم، وانتقل إِلَى مذهب الإمام أَحْمَد. وبلغني: أَنَّهُ كَانَ يقرأ فِي " الكافي " عَلَى الشيخ مجد الدين الحراني الآتي ذكره إن شاء الله تَعَالَى. واختصره فِي مجلد سماه " البلغة " وألف تآليف كثيرة فِي الطريقة النبوية، والسلوك الآثري والفقر المحمدي؛ وَهِيَ من أنفع كتب الصوفية للمريدين، انتفع بها خلق من متصوفة أهل الْحَدِيث ومتعبديها.
وَكَانَ الشيخ تقي الدين ابْن تيمية يعظمه ويجله، وَيَقُول عَنْهُ: هُوَ جنيد وقته. وكتب إِلَيْهِ كتابا من مصر أوله " إِلَى شيخنا الإِمام العارف القدوة السالك ".
قَالَ البرزالي عَنْهُ فِي معجمه: رجل صَالِح عارف، صاحب نسك وعبادة، وانقطاع وعزوف عَنِ الدنيا. وَلَهُ كَلام متين فِي التصوف الصحيح. وَهُوَ داعية(4/382)
إِلَى طريق اللَّه تَعَالَى، وقلمه أبسط من عبارته. واختصر السيرة النبوية. وَكَانَ يتقوت من النسخ، ولا يكتب إلا مقدار مَا يدفع بِهِ الضرورة. وَكَانَ محبا لأهل الْحَدِيث، معظما لَهُمْ. وأوقاته محفوظة.
وَقَالَ الذهبي: كَانَ سيدا عارفا كبير الشأن، منقطعا إِلَى اللَّه تَعَالَى. وَكَانَ ينسخ بالأجرة ويتقوت، ولا يكاد يقبل من أحد شَيْئًا إلا فِي النادر. صنف أجزاء عديدة فِي السلوك والسير إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَفِي الرد عَلَى الاتحادية والمبتدعة. وَكَانَ داعية إِلَى السنة، ومذهبه السلف الصالح في الصفات، يُمِزها كَمَا جاءت، وَقَد انتفع بِهِ جَمَاعَة صحبوه، ولا أعلم خلف بدمشق محْي طريقته مثله.
قُلْت: ومن تصانيفه " شرح منازل السائرين " وَلَمْ يتمه، وَلَهُ نظم حسن فِي السلوك.
كتب عَنْهُ الذهبي والبرزالي، وسمع منه جَمَاعَة من شيوخنا وغيرهم، وَكَانَ لَهُ مشاركة جيدة فِي العلوم، وعبارة حسنة قوية، وفهم جيد، وخط حسن فِي غاية الْحَسَن. وَكَانَ معمور الأوقات بالأوراد والعبادات، والتصنيف، والمطالعة، والذكر والفكر، مصروف العناية إِلَى المراقبة والمحبة، والأنس بالله، وقطع الشواغل والعوائق عَنْهُ، حثيث السير إِلَى وادي الفناء بالله، والبقاء بِهِ، كثير اللهج بالأذواق والتجليات، والأنوار القلبية، منزويا(4/383)
عَنِ النَّاس، لا يجتمع إلا بمن يحبه، ويحصل له باجتماعه بِهِ منفعة دينية.
وَلَمْ يزل عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَن توفي آخر نهار السبت سادس عشر ربيع الآخر سنة إحدى عشر وسبعمائة. بالمارستان الصغير بدمشق، وصُلِّي عَلَيْهِ من الغد بالجامع. ودفن بسفح قاسيون، قبالة زاوية السيوفي، رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن أَبِي نصر بْن الدباهي البغدادي، الزاهد شمس الدين، أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي الْعَبَّاس: ولد سنة ست - أَوْ سبع - وثلاثين وستمائة ببغداد.
وصحب الشيخ يَحْيَى الصرصري، وَكَانَ خال والدته، والشيخ عَبْد اللَّهِ كتيلة مدة، وسافر مَعَهُ، وأجاز لَهُ التستري من ماردين، وجاور بمكة عشر سنين، ودخل(4/384)
الروم، والجزيرة، ومصر، والشام، ثُمَّ استوطن دمشق، وتوفي بها.
قَالَ الشيخ كمال الدين بْن الزملكاني عَنْهُ: شيخ صَالِح، عارف زاهد، كثير الرغبة فِي العلم وأهله، والحرص عَلَى الخير، والاجتهاد فِي العبادة، تخلى عَنِ الدنيا، وخرج عَنْهَا، ولازم العبادة، والعمل الدائم والجد، واستغرق أوقاته فِي الخير، وَكَانَ لديه فضل. وعنده مشاركات جيدة فِي علوم. وَلَهُ عبارة حسنة فيما يكتبه، وطلب الفوائد الدينية. متقشف ورع، صلب فِي الدين، مجانب لمن يخشى عَلَى دينه منه، محب للصالحين وأهل الخير، منقطع عَنِ النَّاس مهيب. يقوم الليل ويكثر الصوم، ويطيل الصلاة بخشوع وإخبات واستغراق، ويتلو القرآن العظيم، لا يرى خاليا من أفعال الخير وأعمال البر، ويتصدق فِي السر، وينصح الإِخوان، ويسعى فِي مصالحهم، ويحسن القيام عَلَى عياله، ويلازم الجماعات عْي الجامع، ولا يغشى السلاطين ولا الولاة، ولا أهل الدنيا، إلا عِنْدَ ضرورة دينية. وَكَانَ يخشن مأكله وملبسه، ويحب طريق السلف الصالح، وإذا رآه إِنْسَان عرف الجد فِي وجهه، يقوم فيما يظهر لَهُ من الحق، ويأمر بِمَا يمكنه من المعروف، وينهى عما يقمر عَلَى النهي عَنْهُ من المنكر، وَلَمْ يزل كَذَلِكَ حَتَّى توفي.(4/385)
قَالَ البرزالي: أحد المشايخ العارفين الصالحين، وَلَهُ كَلام حسن. وجمع وتأليف، وَهُوَ حسن الجملة، عديم التكلف، وافر الإخلاص، متبع للسنة، حسن المشاركة فِي العلم، سيد من السادات.
وَقَالَ الذهبي: كَانَ إماما فقيه النفس، عارفا بمعاملات القلوب، صحب خلقا من المشايخ، وأخذ عَنْهُم أخلاق الْقَوْم وطريقهم، وَكَانَ حسن المجالسة، متبعا للسنة، محذرا من البدعة، كثير الطلب، ترك أباه ونعمته وتجرد، ودخل الروم، والجزيرة، والشام، ومصر، والحجاز، يصحب بقايا الصوفية، ويقتفي آثارهم، وحفظ كثيرا عَنْهُم وعن مشايخ الطريق، وأنفق كثيرا من الأَمْوَال من ميراثه عَلَى الفقراء.
وقرأ الفقه فِي شبيبته عَلَى مذهب أَحْمَد، وجاور بالحرمين بضع عشرة سنة، وتأهَّلَ وولد لَهُ، فلما لمعت لَهُ أنوار شيخنا - يَعْنِي: ابْن تيمية - وظفر بأضعاف تطلبه: ارتحل إِلَى دمشق بأهله، واستوطنها.
علقت عَنْهُ: أشياء، وسمعت من تأليفه خطبة بليغة، وصحبته بضع عشرة سنة، وسمعت منه جزءا لإجازته من التشتبري.
قُلْت: سمع منه البرزالي، والذهبي، وذكراه فِي معجميهما.
قَالَ الذهبي: ابتلي بضيق النَفَس سبعة أشهر، ثُمَّ بالاستسقاء.
وانتقل إِلَى رحمة اللَّه يَوْم الخميس رابع عشر شَهْر ربيع الآخر، سنة إحدى عشر وسبعمائة. ودفن بقاسيون قبل الشيخ عماد الدين الواسطي بيومين. وأنشدني بَعْضهم:(4/386)
الدهر ساومني عمري، فَقُلْتُ لَهُ ... لا بعت عمري بالدنيا وَمَا فِيهَا
ثُمَّ اشتراه تفاريقا بلا ثمن ... تبَّت يدا صفقة قَدْ خاب شاريها
وذكر البرزالي: أَنَّهُ توفي آخر نهار الخميس المذكور عِنْدَ الغروب، وصلى عَلَيْهِ ضحى نهار الجمعة بالجامع، ودفن غربي تربة الشيخ أَبِي عُمَر، رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
مَسْعُود بْن أَحْمَد بْن مَسْعُود بْن زَيْد بْن عياش الحارثي البغدادي، ثُمَّ المصري الفقيه، المحدث الحافظ، قَاضِي القضاة سَعْد الدين أَبُو مُحَمَّد، وأبو عَبْد الرَّحْمَنِ: ولد سنة اثنين - أو ثلاث - وخمسين وستمائة.
وسمع بمصر من الرضى بْن البرهان، والنجيب الحراني، وابن علاف، وجماعة من(4/387)
أَصْحَاب البوصيري وطبقته. وبالإِسكندرية: من عُثْمَان بْن عوف، وابن الفرات، وبدمشق: من أَحْمَد بْن أَبِي الخير. وأبي زَكَرِيَّا بْن الصيرفي. وخلق من هذه الطبقة.
وعني بالحَدِيث. وقرأ بنفسه، وكتب بخطه الكثير. وخرج لجماعة من الشيوخ معاجم. مِنْهُم: الشيخ شمس الدين بْن أَبِي عُمَر، والأبرقوهي وغيرهما.
وتفقه على ابن أنجي عُمَر وغيره. وبرع وأفتى.
وصنف، شرح بَعْض سنن أَبِي دَاوُد. وخرج لنفسه آمالي. وتكلم فِيهَا عَلَى الْحَدِيث ورجاله. وعلى التراحم. فأحسن وشفي. وشرح قطعة من كتاب " المقنع " فِي الفقه من العارية إِلَى آخر الوصايا، وكلامه فِي الْحَدِيث أجود من كلامه فِي الفقه؛ فَإِنَّهُ كَانَ أجود فنونه.
وَكَانَ يكتب خطا حسنا حلوا متقنا. وخطه معروف، وحج غَيْر مرة. ودرس بعدة أماكن، كالمنصورية، جامع الحاكم، وولي الْقَضَاء(4/388)
سنتين ونصفاً. وكان سُنياً أثرتاً، متمسكا بالحَدِيث.
قَالَ الذهبي فِي معجمه: كَانَ فقيها مناظرا مفتيا، عالما بالحَدِيث وفنونه، حسن الْكَلام عَلَيْهِ وعلى الأسماء، ذا حظ من عربية وأصول. خرج لغير واحد، وأقرأ المذهب ودرس، ورأس الحنابلة.
وَرَوَى عَنْهُ إِسْمَاعِيل بْن الخباز - وَهُوَ أسن منه - وأبو الْحَجَّاج المزي، وأبو مُحَمَّد البرزالي.
وذكره الذهبي أيضاً في طبقات الحفاظ، وَقَالَ: كَانَ عارفا بمذهبه ثقة، متقنا صيتا، مليح الشكل. فصيح العبارة. وافر التجمل، كبير القدر. وَرَوَى عَنْهُ حَدِيث من جزء ابْن عرفة.
وَقَالَ فِي المعجم المختصر: كَانَ عارفا بمذهبه، بصيرا بكثير من الْحَدِيث وعلله ورجاله. مليح التخريج، من كبار أهل الفن.(4/389)
قُلْت: حدث بالكثير، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَة من شيوخنا، وغيرهم.
وتوفي فِي سحر يَوْم الأربعاء رابع عشر في الحجة سنة إحدى(4/390)
عشرة وسبعمائة بالقاهرة، ودفن من يومه بالقرافة، رحمه اللَّه.
والحارثي: نسبة إِلَى " الحارثية لما قرية من قرى بغداد غربيها، كَانَ أبوه منها، وَكَانَ تاجرا بخط حنش. ولد الشيخ بقرية قريبة من مقبرة معروف الكرخي غربي بغداد.
سُلَيْمَان بْن حمزة بْن أَحْمَد بْن عُمَر بْن محمد بن أحمد بن محمد بْن(4/398)
قدامة المقدسي. ثُمَّ الصالحي. قَاضِي القضاة، تقي الدين أَبُو الفضل: ولد فِي منتصف رجب، سنة ثمان وعشرين وستمائة.
وحضر عَلَى ابْن الزبيدي صحيح الْبُخَارِي، وعلى الفخر الأربلي، وابن المقير وجماعة. وسمع من ابْن اللتي، وَجَعْفَر الهمداني، وكريمة القرشية، وابن الجميزي، وإسماعيل بْن ظفر، والحافظ ضياء الدين، وابن قميرة، وغيرهم. وأكثر عن الحافظ ضياء الدين، حَتَّى قَالَ: سمعت منه نَحْو ألف جزء.
وقرأ بنفسه عَلَى ابْن عَبْد الدايم وغيره كثيرا من الكتب الكبار والأجزاء، وأجاز لَهُ خلق من(4/399)
البغداديين: كالسهروردي والقطيعي، وابن روزبة، وعمر بْن كرم، وإسماعيل بْن باتكين، وَزَكَرِيَّا العلثي، والأنجب الحمامي.
ومن المصريين: كابن العماد، وعيسى بْن عَبْد الْعَزِيز، وابن باقا.
ومن الأصبهانيين: كمحمد بْن عَبْد الْوَاحِد المديني، ومحمد بْن. زهير شعرانة، وثابت بْن مُحَمَّد الخجندي، ومحمود بْن منده، وطائفة وجماعة من الشاميين وغيرهم.
ولازم الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وأخذ عَنْهُ الفقه والفرائض، وغير ذَلِكَ.
قَالَ البرزالي: شيوخه بالسماع نَحْو مائة شيخ، وبالإجازة: أَكْثَر من سبعمائة، وخرجت لَهُ المشيخات، والعوالي والمصافحات، والموافقات، ولم يزنا يقرأ عَلَيْهِ إلى قبيل وفاته بيوم.
قَالَ: وَكَانَ شيخا جليلًا.(4/400)
فقيها كبيرا، بهي المنظر، وضيء الشيبة، حسن الشكل، مواظبا عَلَى حضور الجماعات، وعلى قيام الليل والتلاوة والصيام، لَهُ أوراد وعبادة. وَكَانَ عارفا بالفقه، خصوصا كتاب " المقنع " قرأه وأقرأه مرات كثيرة. وَكَانَ لَهُ حلقة بالجامع المظفري. وقرأ عَلَيْهِ جَمَاعَة، ودرس " الكافي " جميعه. وَكَانَ يذكر الدرس ذكرا حسنا متقنا، ويحفظه من ثَلاث مرات ونحوها. وَكَانَ قوي النفس، لين الجانب، حسن الخلق، متوددا إِلَى النَّاس، حريصا عَلَى قضاء الحوائج، وعلى النصر المتعدي.
وحدث بثلاثيات الْبُخَارِي سنة ست وخمسين وستمائة، وحدث بجميع الصحيح سنة ستين، وولي الْقَضَاء سنة خمس وتسعين.
قَالَ الذهبي: كَانَ فقيها إماما محدثا، أفتى نيفا وخمسين سنة،(4/401)
ودرس بالجوزية وغيرها. وبرع فِي المذهب، وتخرج بِهِ الْفُقَهَاء، وَرَوَى الكثير، وتفرد فِي زمانه، وَكَانَ كيسا متواضعا، حسن الأخلاق، وافر الجلالة، ذا تعبد وتهجد وإيثار.
وَقَالَ أيضًا: كَانَ صاحب ليل ومعروف، ولين كلمة، وجبر للأرملة والضعيف، وَلَمْ يخلف مثله.
وَقَالَ أيضًا: ولكنه يجري فِي أحكامه مَا اللَّه بِهِ أعلم. والآفة من سبطه. والله المستعان. ولولا دخوله فِي الْقَضَاء لعُدَّ من الْعُلَمَاء العاملين. وَهُوَ مَعَ هَذَا مُسْلِم، ذو حظ من عبادة، وتواضع ولين وفتوة.
قلت: وسمعت شيخنا الحافظ أبا سَعِيد العلائي ببيت المقدس يَقُول: رحمه اللَّه شيخنا الْقَاضِي " تقي الدين سُلَيْمَان، سمعته يَقُول: لَمْ أصل الفريضة قط منفردا إلا مرتين، وكأني لَمْ أصلهما قط.
حدث بالكثير. وسمع منه الأبيوردي، وذكره فِي معجمه - وتوفي(4/402)
قبله بدهر - وابن الخباز - وتوفي قبله بمدة - وحدث عَنْهُ من بَعْد الستين. وسمع منه أئمة وحفاظ، وَرَوَى عَنْهُ خلق كثير. حَدَّثَنَا عَنْهُ جَمَاعَة كثيرة من أَصْحَابه.
وتوفي ليلة الاثنين حادي عشر ذي القعدة سنة خمس عشرة وسبعمائة بمنزله بالدير فجأة. وَكَانَ قَدْ حكم يَوْم الأحد بالمدينة. وطلع إِلَى الجبل إِلَى آخر النهار، فعرض لَهُ تغير يسير، وتوضأ للمغرب، وَمَاتَ عقب الصلاة،(4/403)
ودفن من الغد بتربة جده الشيخ أَبِي عُمَر، وحضره خلق كثير رحمه اللَّه تَعَالَى.
سُلَيْمَان بْن عَبْد القوي بْن عَبْد الكريم بْن سَعِيد، الطوفي الصرصري ثُمَّ البغدادي، الفقيه الأصولي، المتفنن، نجم الدين أَبُو الرَّبِيع: ولد سنة بضع وسبعين وسبعمائة بقرية " طوفى " من أعمال " صرصر " وحفظ بها " مختصر الخرقي " فِي الفقه، و " اللمع " فِي النحو لابن جني. وتردد إِلَى صرصر. وقرأ الفقه بها عَلَى الشيخ زين الدين عَلِي بْن مُحَمَّد الصرصري الحنبلي النحوي، ويعرف بابن البوقي. وَكَانَ فاضلًا صالحا.
ثُمَّ دَخَلَ بغداد سنة إحدى وتسعين فحفظ المحرر فِي الفقه، وبحثه عَلَى الشيخ(4/404)
تقي الدين الزيرراتي.
وقرأ العربية والتصريف عَلَى أَبِي عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن الموصلي، والأصول عَلَى النصر الفاروقي وغيره. وقرأ الفرائض وشيئا من المنطق، وجالس فضلاء بغداد فِي أنواع الفنون، وعلق عَنْهُم.
وسمع الْحَدِيث من الرشيد بْن أَبِي القاسم، وإسماعيل بْن الطبال، والمفيد عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سُلَيْمَان الحراني، والمحدث أَبِي بكر القلانسي وغيرهم.
ثُمَّ سافر إِلَى دمشق سنة أربع وسبعمائة، فسمع بها الْحَدِيث من الْقَاضِي تقي الدين سلمان بْن حمزة وغيره. ولقي الشيخ تقي الدين ابْن تيمية، والمزي والشيخ مجد الدين الحراني، وجالسهم. وقرأ عَلَى ابْن أَبِي الفتح البعلي بَعْض ألفيه ابْن مَالِك.
ثُمَّ سافر إِلَى ديار مصر سنة خمس وسبعمائة، فسمع بها من الحافظ عَبْد المؤمن بْن خلف، والقاضي سَعْد الدين(4/405)
الحارثي. وقرأ على أبي حيان النحوي، مختصره لكتاب سيبويه، وجالسه.
ثُمَّ سافر إِلَى الصعيد، ولقي بها جَمَاعَة، وحج، وجاور بالحرمين الشريفين، وسمع بها. وقرأ بنفسه كثيرا من الكتب والأجزاء، وأقام بالقاهرة مدة، وولي بها الإِعادة بالمدرستين: المنصورية، والناصرية، فِي ولاية الحارثي.
وصنف تصانيف كثيرة. ويقال: إِن لَهُ بقوص خزانة كتب من تصانيفه فَإِنَّهُ أقام بها مدة.
ومن تصانيفه " بغية السائل فِي أمهات المسائل " فِي أصول الدين، وقصيدة فِي العقيدة وشرحها، " مختصر الروضة "(4/406)
فِي أصول الفقه، وشرحه فِي ثَلاث مجلدات، " مختصر الحاصل " فِي أصول الفقه، " القواعد الكبرى " و " القواعد الصغرى "، " الإكسير فِي قواعد التفسير " " الرياض النواضر فِي الأشباه والنظائر "، " بغية الواصل إِلَى معرفة الفواصل " مصنف فِي الجدل، وآخر صَغِير، " درء القول القبيح فِي التحسين والتقبيح "، " مختصر المحصول "، " دفع التعارض عما يوهم التناقض " فِي الكتاب والسنة، " معراج الوصول إِلَى علم الأصول " فِي أصول الفقه، " الرسالة العلوية فِي القواعد العربية "، " غفلة المجتاز فِي علم الحقيقة والمجاز "، " الباهر فِي أحكام الباطن والظاهر "، " رد عَلَى الاتحادية "، " مختصر المعالين " جزئين(4/407)
فِيهِ: أَن الفاتحة متضمنة لجميع الْقُرْآن. " الذريعة إِلَى معرفة أسرار الشريعة "، " الرحيق السلسل فِي الأدب المسلسل "، " تحفة أهل الأدب فِي معرفة لسان العرب "، " الانتصارات الإِسلامية فِي دفع شبه النصرانية "، " تعاليق " عَلَى الرد عَلَى جَمَاعَة من النصارى " تعاليق " عَلَى الأناجيل وتناقضها، شرح نصف " مختصر الخرقي " فِي الفقه، " مقدمة فِي علم الفرائض "، " شرح مختصر التبريزي "، " شرح مقامات الحريري " مجلدين، " موائد الحيس فِي شعر امرئ القيس "، " شرح أربعين النووي ". واختصر كثيرا من كتب الأصول، ومن كتب الْحَدِيث أَيْضًا، ولكن لَمْ يكن لَهُ فِيهِ يد. ففي كلامه تخبيط كثير.(4/408)
وَلَهُ نظم كثير رائق، وقصائد فِي مدح النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقصيدة طويلة فِي مدح الإِمام أَحْمَد. وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ كله شيعيا منحرفا فِي الاعتقاد عَنِ السنة، حَتَّى إنه قَالَ فِي نَفْسه:
حنبلي رافضي أشعري ... هذه أحد العبر
ووجد لَهُ فِي الرفض قصائد، وَهُوَ يلوح فِي كثير من تصانيفه، حَتَّى إنه(4/409)
صنف كتابا سماه " العذاب الواصب عَلَى أرواح النواصب ".
ومن دسائسه الخبيثة:(4/410)
أَنَّهُ قَالَ فِي شرح الأربعين للنووي: اعلم أَن من أسباب الخلاف الواقع بَيْنَ الْعُلَمَاء: تعارض الروايات والنصوص، وَبَعْض النَّاس يزعم أَن السبب فِي ذَلِكَ: عُمَر بْن الْخَطَّاب، وَذَلِكَ أَن الصَّحَابَة استأذنوه فِي تدوين السنة من ذَلِكَ الزمان، فمنعهم من ذَلِكَ وَقَالَ: لا أكتب مَعَ الْقُرْآن غيره، مَعَ علمه أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اكتبوا لأبي شاه خطبة الوداع "، وقال: " قيدوا العلم بالكتابة ". قَالُوا: فلو ترك الصَّحَابَة يدون كُل واحد مِنْهُم مَا رَوَى عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لانضبطت السنة، وَلَمْ يبقَ بَيْنَ آخر الأمة وبين النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُل حَدِيث إلا الصحابي الَّذِي دُونَ روايته، لأن تلك الدواوين كانت تتواتر عَنْهُم إلينا، كَمَا تواتر الْبُخَارِي ومسلم ونحوهما.
فانظر إِلَى هَذَا الْكَلام الخبيث المتضمن: أَن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هُوَ الَّذِي أضل الأمة، قصداً مهْ وتعمدا. ولقد كذب فِي ذَلِكَ وفجر.
ثُمَّ إِن تدوين السنة أَكْثَر مَا يفيد صحتها: وتواترها. وَقَدْ صحت بحمد اللَّه تَعَالَى، وحصل العلم بكثير من الأحاديث الصحيحة المتفق عَلَيْهَا - أَوْ أكثرها - لأهل الْحَدِيث العارفين بِهِ من طرق كثيرة، دُونَ من أعمى اللَّه بصيرته، لاشتغاله عَنْهَا بشبه أهل البدع والضلال. والاخْتِلاف لَمْ يقع لعدم تواترها، بَل وقع من تفاوت فَهُمْ معانيها. وَهَذَا موجود، سواء دونت وتواترت أم لا. وَفِي كلامه إشارة إِلَى أَن حقها اختلط بباطلها، وَلَمْ يتميز. وَهَذَا جهل عظيم.(4/411)
وَقَدْ كَانَ الطوفي أقام بالمدينة النبوية مدة يصحب الرافضة: السكاكيني المعتزلي ويجتمعان عَلَى ضلالتهما، وَقَدْ هتكه اللَّه، وعجل(4/413)
الانتقام منه بالديار المصرية.
قَالَ تاج الدين أحمد بن مكتوبم القيسي فِي حق الطوفي: قدم عَلَيْنَا - يَعْنِي الديار المصرية - فِي زيِّ أهل الفقر، وأقام عَلَى ذَلِكَ مدة، ثُمَّ تقدم عِنْدَ الحنابلة، وتولى الإِعادة فِي بَعْض مدارسهم، وصار لَهُ ذكر بينهم. وَكَانَ يشارك فِي علوم، ويرجع إِلَى ذكاء وتحقيق، وسكون نفس، إلا أَنَّهُ كَانَ قليل النقل والحفظ، وخصوصا للنحو عَلَى مشاركة فِيهِ، واشتهر عَنْهُ الرفض، والوقوع فِي أَبِي بَكْر وابنته عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَفِي غيرهما من جملة الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُم، وظهر لَهُ فِي هَذَا المعنى أشعار بخطه، نقلها عَنْهُ بَعْض من كَانَ يصحبه ويظهر موافقة لَهُ، منها قَوْله فِي قصيدة:
كم بَيْنَ من شك فِي خلافته ... وبين من قيل: إنه اللَّه
فرفع أمر ذلك إلى قاضي قضاة الحنابلة سَعْد الدين الحارثي، وقامت عَلَيْهِ بِذَلِكَ البينة، فتقدم إِلَى بَعْض نوابه بضربه وتعزيزه وإشهاره، وطيف بِهِ، ونودي عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وصرف عَن جميع مَا كَانَ بيده من المدارس، وحبس أياما، ثُمَّ أطلق. فخرج من حينه مسافرا، فبلغ إِلَى " قوص " من صعيد(4/414)
مصر، وأقام بها مدة، ثُمَّ حج سنة أربع عشرة. وجاور سنة خمس عشرة. ثُمَّ حج، ثُمَّ نزل إِلَى الشام إِلَى الأَرْض المقدسة، فأدركه الأجل فِي بلد الخليل عَلَيْهِ السَّلام فِي شَهْر رجب سنة ست عشرة وسبعمائة.
قُلْت: وَقَدْ ذكره بَعْض شيوخنا عمق حدثه عَن آخر: أَنَّهُ أظهر لَهُ التوبة وَهُوَ محبوس. وَهَذَا من تقيته ونفاقه؛ فَإِنَّهُ فِي آخر عمره لما جاور بالمدينة كَانَ يجتمع هُوَ والسكاكيني شيخ الرافضة، ويصحبه. ونظم فِي ذَلِكَ مَا يتضمن السب لأبي بَكْر الصديق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَقَدْ ذكر ذَلِكَ عَنْهُ شيخنا المطريَ، حافظ المدينة ومؤرخها. وَكَانَ قَدْ صحبه بالمدينة، وَكَانَ الطوفي بَعْد سجنه قَدْ نفي إِلَى الشام، فلم يمكنه الدخول إِلَيْهَا؛(4/415)
لأنه كَانَ قَدْ هجا أهلها وسبهم، فخشي مِنْهُم، فسار إِلَى دمياط، فأقام بها مدة، ثُمَّ توجه إِلَى الصعيد.
أَبُو القاسم بْن مُحَمَّد بْن خَالِد بْن إِبْرَاهِيم، الحراني، الفقيه التاجر، بدر الدين، أَخُو الشيخ تقي الدين ابْن تيمية لأمه: ولد سنة خمسين - وستمائة تقريباً - ولد سنة إحدى وخمسين - بحران.
وسمع بدمشق من ابْن عَبْد الدايم، وابن أَبِي اليسر، وابن الصيرفي، وات أبي كمر، وغيرهم. وتفقه، ولازم الاشتغال عَلَى شيوخ المذهب مدة وأفتى، وأمَّ بالمدرسة الجوزية، بمسجد الرماحين، ودرس بالمدرسة الحنبلية نيابة عَن أخيه الشيخ تقي الدين مدة.
قَالَ البرزالي: كَانَ فقيها مباركا، كثير الخير، قليل الشر، حسن(4/421)
الخلق، منقطعا عَنِ النَّاس. وَكَانَ يتجر وتكسب، وخلف لأولاده تركة، وَرَوَى جزء ابْن عرفة مرات عديدة.
وَقَالَ الذهبي: كَانَ فقيها عالما إماما بالجوزية. وَلَهُ رأس مال يتجر فِيهِ. وَكَانَ قَدْ تفقه عَلَى أَبِي زَكَرِيَّا بْن الصيرفي، وابن المنجا؛ وغيرهما بدمشق. سمعنا منه جزء ابْن عرفة غَيْر مرة، ودرس بالحنبلية ثمانية أعوام. وَكَانَ خيرا متواضعا.
قَالَ البرزالي: وتوفي يَوْم الأربعاء ثامن جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبعمائة. ودفن من يومه بمقابر الصوفية عِنْدَ والدته، وحضر جمع كثير. رحمه الله تعالى.(4/425)
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ تمام بْن حسان المكي الصالحي، الأديب الزاهد، تقي الدين أَبُو مُحَمَّد: ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة.
سمع الْحَدِيث من ابْن قميرة، والمرسي، وإبراهيم بْن خليل، والبلداني؛ وخطيب مردا. وجماعة.
وقرأ النحو والأدب عَلَى الشيخ جمال الدين بْن مَالِك وعلى والده بدر الدين، وصحبه ولازمه مدة، وأقام بالحجاز مدة. واجتمع بالشيخ تقي الدين الحوراني الزاهد وغيره، وسافر إِلَى الديار المصرية، وأقام بها مدة. وَلَهُ نظم كثير حسن رائق.(4/426)
قَالَ البرزالي: كَانَ شيخا فاضلًا، بارعا فِي الأدب، حسن الصحبة، مليح المحاضرة، صحب الفقراء والفضلاء وتخلق بالأخلاق الجميلة، وخرج لَهُ فخر الدين ابْن البعلبكي مشيخة قرأتها عَلَيْهِ وكتبنا عَنْهُ من نظمه وَكَانَ زاهدا متقللا من الدنيا، نم يكن لَهُ أثاث ولا طاسة ولا فراش، ولا سراج ولا زبدية، بَل كَانَ بيته خاليا من ذَلِكَ كله. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أخوه الشيخ محمد.
وقال لي الْقَاضِي شهاب الدين محمود الكاتب: صحبته أَكْثَر من خمسين سنة. وأثنى عَلَيْهِ ثناء جميلًا، وعظمه وبَجقَه، ووصفه بالزهد(4/427)
والفراغ من الدنيا، وذكر نَحْو ذكر أخوه.
توفي ليلة السبت ثالث ربيع الآخر سنة ثمان عشرة وسبعمائة، ودفن من الغد بمقابر المرداويين بالقرب من تربة الشيخ أَبِي عُمَر. رحمه اللَّه تَعَالَى.
أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس المقدسي. أنشدنا عَبْد اللَّهِ بْن تمام لنفسه:
أُشاهد من محاسنكم منارا ... يكاد البدر يشبهه شقيقا
وأصحب من جمالكم خيالًا ... فأنَّى سرت يرشدني الطريقا
أرى لْجم الزمان بكم سعيدا ... ومعنى حسنكم معنى دقيقا
وبدر التَم يزهى من سناكم ... وشمس جمالكم برزت شروقا
وروض عبير أرضكم نهارا ... جرى ذهب الأصيل بِهِ خلوق
حَدِيثي والغرام بكم قديم ... وشوقي يزعج القلب المشوقا
وأنفاسي بعثت بها إليكم ... سلوا عَنْهَا النسيم أَوِ البروقا
ولي صدق المودة فِي حماكم ... سقى اللَّه الحمى، ورعى الصديقا
وأنشدنا أَيْضًا عَنِ ابن تمام! نفسه:
أكرر فيكم أبدا حَدِيثي ... فيحلوا، والحديث بكم شجون(4/428)
وأنظمه عقودا من دموعي ... فتنثره المحاجر والجفون
وأبتكر المعاني فِي هواكم ... وفيكم كُل قافية تهون
وأعتنق النسيم، لأن فِيهِ ... شمائل من معاطفكم تبين
وأسأل عنكم النكباء سرا ... وسر هواكم عندي مصون
وكم لي فِي محبتكم غرام؟ ... وكم لي فِي الغرام بكم فنون؟
وَفِي ثالث ذي القعدة سنة ثمان عشرة أيضًا: توفي الفقيه الفاضل: -
برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم ابن الشيخ عماد الدين عَبْد الحافظ بْن أَبِي مُحَمَّد عَبْد الحميد بن محمد بن أَبِي بَكْرٍ، قَاضِي القدس الحنبلي. ودفن بتربة الشيخ موفق الدين. وَكَانَ من أبناء السبعين: حضر عَلَى خطيب مردا بنابلس. وأقام بدمشق. وتفقه بها وسمع. وكتب بخطه كثيرا.
وَكَانَ عدلًا وفقيها فِي المدارس، من أهل الدين والعفاف والفضيلة. وَكَانَ كثير السكوت، قليل الْكَلام. وَلَهُ قصيدة حسنة ربي بها الشيخ شمس الدين(4/429)
بْن أَبِي عُمَر. ذكر ذَلِكَ البرزالي.
وَقَالَ الذهبي: كَانَ فقيها إماما، عارفا بالفقه والعربية: وفيه دين وتواضع وصلاح.
قَالَ: وسمعت منه قصيدته الَّتِي رثى بها الشيخ شمس الدين، ثُمَّ رَوَى عَنْهُ حَدِيثا.
مُحَمَّد بْن عُمَر بْن عَبْد المحمود بْن زباطر الحراني، الفقيه الزاهد، شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ: نزيل دمشق. ولد سنة أربع وثلاثين وستمائة بحران.
وسمع بها من عيسى الخياط، والشيخ مجد الدين ابْن تيمية.
وسمع بدمشق من إِبْرَاهِيم بْن خلْيل، ومحمد بْن عَبْد الهادي، والبلداني، وابن عَبْد الدايم، وخطيب مرادا. وعني بسماع الحديث إلى آخر عمره. وَكَانَ يَرُد عَلَى القارئ وقت القراءة أشياء مفيدة، ولديه فقه وفضائل، وأم بمسجد الوزير ظاهر دمشق.(4/430)
قَالَ الذهبي: كَانَ فقيها زاهدا ناسكا، سلفي الجملة، عارفا(4/431)
بمذهب الإمام أَحْمَد. وحدث، سمع منه جَمَاعَة، مِنْهُم: الذهبي، وصفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق. وسافر سنة إحدى عشرة إِلَى مصر لزيارة الشيخ تقي الدين ابْن تيمية، فأسر من سبخة بردويل، وبقي مدة فِي الأسر.
ويقال: إِن الفرنج لما رأوا ديانته وأمانته واجتهاده أكرموه واحترموه؛ وبقي عندهم مدة، وانقطع خبره قبل العشرين؛ ويقال: إِن وفاته كانت بقبرص سنة ثمان عشرة وسبعمائة. رحمه الله تعالى.
أحمد بن حامد المعروف بابن عصية، البغدادي، الْقَاضِي: جمال الدين:(4/438)
قَالَ الطوفي: حضرت درسه. وَكَانَ بارعا فِي الفقه والتفسير والفرائض. وَأَمَّا معرفة الْقَضَاء والأحكام: فكان أوحد عصره فِي ذَلِكَ.
قُلْت: كان ذا هيبة، وحسر شيبة. ولي الْقَضَاء بالجانب الشرقي ببغداد، ودرس للحنابلة بالبشيرية، ثُمَّ عزل، ونالته محنة، ثُمَّ أعيد إِلَى التدريس سنة ثَلاث عشرة. وأظنه توفي فِي حدود العشرين وسبعمائة. رحمه اللَّه تَعَالَى.
عَبْد الرزاق بن أحمد بن محمد بن أَحْمَد بْن عُمَر بْن أَبِي المعالي(4/447)
مُحَمَّد بْن محمود بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن أَبِي المعالي الفضل بْن الْعَبَّاس بْن(4/448)
عَبْد اللَّهِ بْن معن بْن زائدة الشيباني، المروزي الأصل؛ البغدادي الإخباري، المؤرخ الكاتب الأديب، كمال الدين أَبُو الفضل بْن الصابوني، ويعرف بابن الفوطي، وَهُوَ جد أَبِيهِ لأمه.
ولد فِي سابع عشر المحرم سنة اثنتين وأربعين وستمائة بدار الخلافة من بغداد.
وسمع بها من الصاحب محي الدين بْن الجوزي، ثُمَّ أسر فِي وقعه بغداد، وخلصه النصير الطوسي الفيلسوف وزير الملاحدة، فلازمه، وأخذ عَنْهُ علوم الأوائل، وبرع فِي الفلسفة وغيرها، وأمره بكتابة الزيج وغيره من علم النجوم، واشتغل عَلَى غيره فِي اللغة والأدب، حَتَّى برع ومهر فِي التاريخ والشعر وأيام النَّاس، وأقام بمراغة مدة، وولي بها خزن كتب الرصد بضع عشرة سنة، وظفر بها بكتب نفيسة، وحصل من التواريخ ما لا مزيد عَلَيْهِ.
وسمع بها من المبارك بْن المستعصم بالله سنة ست وستين، ثُمَّ عاد إِلَى بغداد، وولي خزن كتب المستنصرية، فبقي عَلَيْهَا إِلَى أَن مَات. ويقال: إنه لَيْسَ بالبلاد أَكْثَر من كتب هاتين الخزانتين اللتين باشرهما.
وسمع ببغداد الكثير من مُحَمَّد بْن أَبِي الرينية وطبقته. وعنى بالحَدِيث. وقرأ وكتب الكثير بخطه المليح، وصنف فِي الأخبار(4/449)
والتاريخ والأنساب شَيْئًا كثيرا. ذكره الذهبي في طبقات الحفاظ، وَقَالَ: لَهُ النظم والنثر، والباع الأطول في ترصيع تراجم الناس، وله ذكاء مفرط، وخط منسوب رشيق، وفضائل كثيرة.
سمع الكثير، وعني بهذا الشأن، وجمع وأفاد، فلعل الحديث أَن يُكَفِّر بِهِ عَنْهُ، وكتب من التواريخ مَا لا يوصف. ومصنفاته وَقرَ بعير.
عمل تاريخا كبيرا لَمْ يبيضه، ثُمَّ عمل آخر دونه فِي خمسين مجلدا، سماه " مجمع الآداب في محجم الأسماء عَلَى معجم الألقاب " وألف كتاب " درر الأصداف فِي غرر الأوصاف " وَهُوَ كبير جدًا، وذكر: أَنَّهُ جمعه من ألف مصنف من التواريخ والدواوين، الأنساب والمجاميع، عشرون مجلدا، بيض منها خمسة، وكتاب " المؤتلف والمختلف " رتبه مجدولًا. وَلَهُ كتاب " التاريخ عَلَى الحوادث " وكتاب " حوادث المائة السابعة "، وإلى أَن مَات، وكتاب نظم " الدرر الناصعة فِي شعراء المائة السابعة " فِي عدة مجلدات.
وذكر الذهبي أيضًا فِي " المعجم المختصر ": أَن ابْن الفوطي خرج(4/450)
معجماً لشيوخه، وبلغوا نحو خمسمائة شيخ بالسماع والإِجازة.
وذكر غيره: أَنَّهُ جمع الوفيات من سنة ستمائة، سماه " الحوادث الجامعة، والتجارات النَافِعة، الواقعة فِي المائة السابعة " وَهَذَا هُوَ الَّذِي أشار إِلَيْهِ الذهبي.
قَالَ: وذيل عَلَى تاريخ ابْن الساعي شيخه نحواً من ثمانين(4/451)
مجلدة، عمله للصاحب عَطَاء الْمَلِك. وَلَهُ " تلقيحَ الإفهام فِي تنقيح الأوهام " وَلَهُ وفيات آخر، وأشياء كثيرة فِي الأنساب وغيرها، ونظم كثير حسن، وخصه فِي غاية الْحَسَن. وَقَدْ تكلم فِي عقيدته وَفِي عدالته.
وسمعت من بَعْض شيوخنا ببغداد شَيْئًا من ذَلِكَ. وَقَدْ ذكر الذهبي طرفا من ذَلِكَ، وأنه كَانَ يترخص فِي إثبات مَا يرصعه، ويبالغ فِي تقريظ المغول وأعوانهم.
قَالَ: وَهُوَ فِي الجملة إخباري علامة، مَا هُوَ بدون أَبِي الفرج الأَصْبَهَانِي. وَكَانَ ظريفا متواضعا، حسن الأخلاق، فالله يسامحه.
وقلت: حدث. سمع منه جَمَاعَة.
رَوَى لنا عَنْهُ ولده أَبُو المعالي مُحَمَّد، وغيره ببغداد. وَقَدْ سمع منه محمود بْن خليفة، وغيره من أهل الشام.
وأصابه فالج فِي آخر عمره فَوْقَ سبعة أشهر. ثُمَّ توفي فِي آخر نهار الإِثنين غرة المحرم - وقيل: ثالث المحرم، وقيل: فِي ثاني عشرة - سنة(4/452)
ثلاث وعشرين وسبعمائة ببغداد. ودفن بالشونيزية. سامحه اللَّه تَعَالَى.
مُحَمَّد بْن سَعْد بْن عَبْد الأحد بْن سَعْد اللَّه بْن عَبْد القاهر بْن عَبْد الأحد بْن عُمَر بْن نجيح الحراني، ثُمَّ الدمشقي؛ الفقيه الإمام، شرف الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن سَعْد الدين: سمع من الفخر بْن الْبُخَارِي وغيره. وطلب الْحَدِيث. وقرأ بنفسه. وتفقه وأفتى. وصحب الشيخ تقي الدين ابْن تيمية، ولازمه. وَكَانَ صحيح الذهن، جيد المشاركة فِي العلوم، من خيار النَّاس وعقلائهم وعلمائهم.
توفي فِي ذي الحجة سنة ثَلاث وعشرين وسبعمائة بواديَ بَنِي سالم فِي رجوعه من الحج، وحمل إِلَى المدينة النبوية عَلَى أعناق الرجال.(4/453)
ودفن بالبقيع. وَكَانَ كهلًا رحمه اللَّه تَعَالَى.
وَفِي يَوْم الثلاثاء عاشر جمادى الأولى سنة ثَلاث وعشرين أيضًا: توفي الشيخ الإمام الفقيه شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ، -
مُحَمَّد بْن محمود الجيلي.(4/454)
نزيل بغداد، المدرس للحنابلة بالبشيرية بها:
وَكَانَ فقيها فاضلًا. لَهُ مصنف فِي الفقه، سماه " الكفاية " لَمْ يتمه. وذكر فِيهِ: أَن أَحْمَد نص عَلَى أَن من وصى بقضاء الصلاة المفروضة عَنْهُ نفذت وصيته.
مُحَمَّد بْن عُثْمَان بْن يُوسُف بْن مُحَمَّد بْن الحداد الآمدي، ثُمَّ المصري الخطيب، الإمام، الصدر الرئيس، الفقيه، بدر الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ، خطيب دمشق وحلب: سمع الْحَدِيث. وتفقه بالديار المصرية، وحفظ " المحرر " وشرحه على ابن حمدان، ولازمه مدة من السنين حَتَّى قرأه عَلَيْهِ، وبرع فِي الفقه. وَكَانَ ابْن حمدان يشكره، ويثني عَلَيْهِ كثيرا، ثُمَّ اشتغل بالكتابة،(4/455)
واتصل بالأمير قَراسُنْقُر المنصوري بحلب، فولاه نظر الأوقاف، وخطابة جامع حلب.
ثُمَّ لما صار قراسنقر نائبا بدمشق ولاه خطابة جامعها فِي آخر ذي القعدة سنة تسع وسبعمائة، وصرف عَنْهُ جلال الدين القزويني، فاستمر يباشر الخطابة والإِمامة بالجامع إِلَى ثاني عشر محرم سنة عشر، فأعيد القزويني بمرسوم السلطان وولي ابْن الحداد حينئذ نظر إلى المارستان، ثُمَّ ولي حسبة دمشق، ونظر الجامع، واستمر فِي نظره إِلَى حِينَ وفاته، وعين لقضاء الحنابلة فِي وقت.
توفي ليلة الأربعاء سابع جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبعمائة. ودفن بمقبرة الباب الصغير. رحمه اللَّه تَعَالَى.
مُحَمَّد بْن المنجا بْن عُثْمَان بْن أسعد بْن المنجا التنوخي،(4/456)
الدمشقي، الشيخ شرف الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ، ابْن الشيخ زين الدين أَبِي البركات: وَقَدْ سبق ذكر آبائه. ولد سنة خمس وسبعين وستمائة.
وأسمعه والده الكثير من المسلم بْن علان، وابن أَبِي عُمَر، وجماعة من طبقتهما، وسمع " المسند " والكتب الكبار. وتفقه وأفتى، ودرس بالمسمارية. وكان من خواص أصحاب(4/458)
الشيخ تقي الدين ابْن تيمية، وملازميه حضرا وسفرا ومشهور بالديانة والتقوى، ذا خصال جميلة، وعلم وشجاعة.
رَوَى عَنْهُ الذهبي فِي معجمه. وَقَالَ: كَانَ فقيها إماما، حسن الفهم صالحا متواضعا، كيس الجملة.
توفي إِلَى رضوان اللَّه تَعَالَى فِي رابع شوال سنة أربع وعشرين وسبعمائة وشيعه الخلق الكثير.. ودفن بسفح قاسيون. رحمه اللَّه.
محمود بْن سُلَيْمَان بْن فهد الحلبي، ثُمَّ الدمشقي، شهاب الدين أَبُو الثناء، كاتب السر، وعلامة الأدب:(4/459)
ولد سنة أربع وأربعين وستمائة بحلب، وانتقل مَعَ والده إِلَى دمشق سنة أربع وخمسين.
وسمع بها من الرضى بْن البرهان، وابن عَبْد الدايم، وَيَحْيَى بْن الناصح بْن الحنبلي وغيرهم - وتعلم الخط المنسوب، ونسخ بالأجرة بخطه الأنيق كثيرا.
واشتغل بالفقه عَلَى الشيخ شمس الدين بن أبي عمر. وأخذ العربية عَنِ الشيخ جمال الدين بْن مَالِك، وتأدب بالمجد بْن الظهير وغيره. وفتح لَهُ فِي النظم والنثر، ثُمَّ ترقت حاله، واحتيج إِلَيْهِ، وطلب إِلَى الديار المصرية، واشتهر اسمه، وبَعُد صيته، وصار المشاء إِلَيْهِ فِي هَذَا الشأن فِي الديار الشامية والمصرية. وَكَانَ يكتب التقاليد الكبار بلا مسودة.
وَلَهُ تصانيف فِي الإنشاء وغيره، ودون الفضلاء نظمه ونثره. ويقال:(4/460)
إنه لَمْ يكن بَعْد الْقَاضِي الفاضل مثله، وَلَهُ من الخصائص مَا لَيْسَ للفاضل من كثرة القصائد المطولة الحسنة الأنيقة، وبقي فِي ديوان الإِنشاء نحوا من خمسين سنة بدمشق ومصر، وولي كتابة السر بدمشق نحوا من ثمان سنين قبل وفاته.
وحدث. وروى عنه الذهبي في معجمه، وَقَالَ: كَانَ دينا متعبدا، مؤثرا للانقطاع والسكون، حسن المحاورة، كثير الفضائل.
توفي ليلة السبت ثاني عشرين شعبان سنة خمس وعشرين وسبعمائة بدمشق بداره، وَهِيَ دار الْقَاضِي الفاضل بالقرب من بَاب الناطفانيين.(4/461)
وشيعه أعيان الدولة. وحضر الصلاة عَلَيْهِ بسوق الْخَيْل نائب السلطنة، ودفن بتربته الَّتِي أنشأها بالقرب من اليغمورية. رحمه اللَّه تَعَالَى.
يُوسُف بْن عَبْد المحمود بْن عَبْد السَّلام بْن البتي البغدادي، المقرئ الفقيه، الأديب النحوي، المتفنن جمال الدين: قرأ بالروايات، وسمع الحديث من محمد بن حلاوة، وعلي بْن حصين، وعبد الرزاق بْن الفوطي، وغيرهم.
وقرأ بنفسه عَلَى ابْن الطبال. وأخذ عَنِ الشيخ عز الدين عبد العزيز(4/463)
بْن جَمَاعَة بْن القواس الموصلي شارح ألفية ابْن معطي: الأدب والعربية والمنطق، وغير ذَلِكَ، واستفاد فِي الفقه من الشيخ تقي الدين بْن الزريراني. ويقال: إنه قرأ عَلَيْهِ. وَكَانَ معيدا عنده بالمستنصرية.
وَقَالَ الطوفي: استفدت منه كثيراً. وكان نحوي العراق ومقرئه، عالما بالقرآن والعربية والأدب. وَلَهُ حظ من الفقه والأصول والفرائض والمنطق.
قُلْت: ودرس للحنابلة بالبشيرية غربي بغداد، ونالته فِي آخر عمره محنة، واعتقل بسبب موافقته الشيخ تقي الدين ابْن تيمية فِي مسألة الزيارة. وكاتبه عَلَيْهَا مَعَ جَمَاعَة من علماء بغداد، وتخرج بِهِ جَمَاعَة، وأقرأ العلم مدة، ولا يعرف أَنَّهُ حدث.
وتوفي فِي حادي عشر شوال سنة ست وعشرين وسبعمائة. ودفن بمقبرة الإِمام أحمد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَكَانَ كهلًا. رحمه اللَّه تَعَالَى.
وَفِي هَذَا الشهر ليلة الخميس ثالث عشرة توفي المؤرخ: -
قطب الدين(4/464)
موسى ابْن الشيخ الفقيه أَبِي عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن أَبِي الْحُسَيْن اليونيني ببعلبك: ودفن عِنْدَ أخيه بباب سطحا. وَكَانَ مولده فِي ثامن صفر سنة أربعين وستمائة بدمشق.
وسمع من أَبِيهِ، وبدمشق من ابْن عَبْد الدايم، وعبد الْعَزِيز شيخ شيوخ حماة، وبمصر من الرشيد العطار، وإسماعيل بْن صارم، وجماعة. وأجاز لَهُ ابْن رواج، والتشتبري.(4/465)
قَالَ الذهبي: كَانَ عالما فاضلًا، مليح المحاضرة، كريم النفس، معظما جليلًا. حَدَّثَنَا بدمشق وبعلبك، وجمع تاريخاَ حسنا، ذيل بِهِ عَلَى " مرآة الزمان " واختصر " المرآة ".
قَالَ: وانتفعت بتاريخه، ونقلت منه فوائد جمة. وَقَدْ حسنت فِي آخر عمره حالته، وأكثر من العزلة والعبادة وَكَانَ مقتصدا فِي لباسه وزيِّه، صدوقا فِي نَفْسه، مليح الشيبة، كثير الهيبة، وافر الحرمة. رحمه الله تعالى.
محمد بن مُسْلِم بْن مَالِك بْن مزروع بْن جَعْفَر الزيني الصالحي،(4/466)
الفقيه الصالح الزاهد، قَاضِي القضاة، شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ: ولد سنة اثنتين وستين وسْتمائة.
وتوفي أبوه سنة ثمان وستين - وَكَانَ من الصالحين - فنشأ يتيما فقيرا. وَكَانَ قَدْ حضر عَلَى ابْن عَبْد الدايم،(4/467)
وعمر الكرماني. ثُمَّ سمع من ابن البخاري وطبقته، وكثر عَنِ ابْن الكمال. وقرأ بنفسه، وكتب بخطه، وعني بالحَدِيث، وتفقه وبرع وأفتى، وبرع فِي العربية، وتصدى للأَشغال والإفادة، واشتهر اسمه، مَعَ الديانة والورع، والزهد والاقتناع باليسير.
ثُمَّ بَعْد موت الْقَاضِي تقي الدين سليمان: وود تقليده للقضاء فِي صفر سنة ست عشرة عوضه. فتوقف فِي القبول. ثُمَّ استخار اللَّه وقبل،(4/468)
بعد أَن شرط أَن لا يلبس خلعة حرير، ولا يركب فِي المواكب، ولا يقتني مركوبا. فأجيب إِلَى ذَلِكَ.
ولما لبس الخلعة بدار السعادة: خرج بها ماشيا إِلَى الجامع، ومعه الصاحب وجماعة من الأعيان مشاة فقرئ تقليده، ثُمَّ خلعها، وتوجه إِلَى الصالحية.
قَالَ الذهبي فِي معجمه المختصر برع فِي المذهب والعربية. وأقرأ النَّاس مدة. عَلَى ورع وعفاف. ومحاسن جمة. ثُمَّ ولي الْقَضَاء بَعْد تمنع، وشكِر وحُمِد. وَلَمْ يغير زيه ولا اقتنى دابة، ولا أخذ مدرسة. واجتهد فِي الخير وَفِي عمارة أوقاف الحنابلة.
وَكَانَ من قضاة العدل، مصمما عَلَى الحق، لا يخاف فِي اللَّه لومة لائم. وَهُوَ الَّذِي حكم على ابن تيمية بمنعه من الفتيا بمسائل الطلاق وغيرها مِمَّا يخالف المذهب.(4/469)
وَقَدْ حدث. وسمع منه جَمَاعَة. وخرج لَهُ المحدثون تخاريج عدة. وحج ثَلاث مرات. ثُمَّ حج رابعة فتمرض فِي طريقة بَعْد رحيلهم من(4/470)
العُلى. فورد الْمَدِينَة النبوية يَوْم الإِثنين ثالث عشري ذي القعدة(4/471)
سنة ست وعشرين وسبعمائة وَهُوَ ضعيف، فصلى فِي الْمَسْجِد ثُمَّ سلم عْلى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ بالأشواق إِلَى ذَلِكَ فِي مرضه. ثُمَّ مَات عشية ذَلِكَ اليوم.
وقيل: من أواخر الليلة المقبلة. وصلَّى عَلَيْهِ بالروضة. ودفن بالبقيع شرقي قبر عقيل رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وتأسف أهل الخير لفقده. رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن أبي القاسم بن أبي العشرين الوراق. الموصلي.(4/474)
المقرئ الفقيه. المحدث النحوي. شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ، ويعرف بابن خروف: ولد فِي حدود الأربعين وستمائة بالموصل، أَوْ قبلها.
وقرأ بِهَا الْقُرْآن عَلَى عَبْد اللَّهِ بْن إِبْرَاهِيم الجزدي الزاهد. وَقَدْ تقدم ذكره. وقصد الإِمام أبا عَبْد اللَّهِ شعلة، ليقرأ عَلَيْهِ، فوجده مريضا مرض الْمَوْت. ثُمَّ رحل ابْن خروف إِلَى بغداد بَعْد الستين، وقرأ بِهَا القراءات بكتب كثيرة فِي السبع والعشر، عَلَى الشيخ عبد الصمد بن أبي الجيش، ولازمه مدة طويلة. وقرأ القراءات أَيْضًا عَلَى أَبِي الْحَسَن بْن الوجوهي. وسمع الْحَدِيث منهما، ومن ابْن وضاح.
وذكر البرزالي: أَنَّهُ عرض عَلَيْهِ " المقنع " فِي الفقه للشيخ موفق الدين.
وذكر الذهبي: أَنَّهُ حفظ " الخرقي " وعني بالحَدِيث، وقرأ بالموصل عَلَى أَبِي الْعَبَّاس الكواسي المفسر كتابه " التلخيص " فِي التفسير. وقرأ بِهَا عَلَى(4/475)
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُود بْن عُمَر العجمي " جامع الترمذي " بسماعه من أَبِي الفتح الغزنوي. وقرأ عَلَيْهِ أَيْضًا " معالم التنزيل " للغوي، بسماعه من ابْن أَبِي المجد القزويني.
ونظر فِي العربية، وشارك فِي الفضائل، وَلَهُ نظم حسن. تصدى للأشغال والإقراء فِي بلده مدة. وقرأ عَلَيْهِ جَمَاعَة.
وقدم الشام سنة سبع عشرة، وولي بِهَا مشيخة الإِقراء بالتربة الأشرفية بَعْد المجد اليونيني. وحدث بِهَا.
وسمع منه الذهبي، والبرزالي، وذكره فِي معجمه، وَقَالَ: كَانَ شيخا صالحا، متوددا إِلَى النَّاس، حسن المحاضرة، طيب المجالسة. مكرما عِنْدَ كُل أحد؛ لحسن خلقه، وشيخوخته وفضله. ونزل بالحلبية بالجامع.
وسمع منه أيضاَ أبو حيان. في عبد الكريم الحلبي. وذكره فِي معجمه. وأظنه ذهب إِلَى الديار المصرية أَيْضًا.
ورجع إِلَى بلده. وبها توفي فِي(4/476)
ثامن جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبعمائة. ودفن بمقبرة المعافي بْن عمران رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الحليم بْن عَبْد السَّلام بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي القاسم(4/477)
بن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني، ثُمَّ الدمشقي، الفقيه الإِمَام، الزاهد، العابد القدوة المتفنن، شرف الدين أَبُو مُحَمَّد، أَخُو الشيخ تقي الدين: ولد فِي حادي عشر محرم سنة ست وستين وستمائة بحران.
وقدم مَعَ أهله إِلَى دمشق رضيعا، فحضر بِهَا عَلَى ابْن أَبِي اليسر، وغيره. ثُمَّ سمع من ابْن علان، وابن الصيرفي، وَأَحْمَد بْن أَبِي الخير، ومن ابن أبي عمرة(4/478)
والقاسم الأربلي، وحلق من هذه الطبقة.
وسمع " المسند " و " الصحيحين " وكتب السنن. وتفقه فِي المذهب حَتَّى برع وأفتى. وبرع أَيْضًا فِي الفرائض والحساب، وعلم الهيئة، وَفِي الأصلين والعربية. وَلَهُ مشاركة قوية فِي الْحَدِيث. ودرس بالحنبلية مدة.
وَكَانَ صاحب صدق وإخلاص، قانعا باليسير شريف النفس، شجاعا مقداما، مجاهدا زاهدا، عابدا ورعا، يخرج من بيته ليلا، ويأوي إليه ليلا، ولا يجلس في مكان معين، بحيث يقصد فيه، لكنه يأوي إلى المساجد المهجورة خارج البلد، فيختلي فيها للصلاة والذكر. وكان كثير العبادة والتأله، والمراقبة والخوف من الله تعالى، ذا كرامات وكشوف.
ومما اشتهر عنه: أَنَّهُ كثير الصدقات، والإِيثار بالذهب والفضة فِي حضره وسفره، مَعَ فقره وقلة ذَات يده. وَكَانَ رفيقه فِي المحمل فِي الحج يفتش رحله فلا يجد فِيهِ شَيْئًا، ثُمَّ يراه يتصدق بذهب كثير جدا. وَهَذَا أمر مشهور معروف عَنْهُ. وحج مرات متعددة.
وَكَانَ لَهُ يد طولى فِي معرفة تراجم السلف ووفياتهم، وهْي التواريخ المتقدمة والمتأخرة. وحبس مَعَ أخيه بالديار المصرية مدة. وَقَد استدعي غير مرة وحده المناظرة، فناظر، وأفحم الخصوم.(4/479)
وسئل عَنْهُ الشيخ كمال الدين بْن الزملكاني؟ فَقَالَ: هُوَ بارع فِي فنون عديدة من الفقه، والنحو والأصول، ملازم لأنواع الخير، وتعليم العلم، حسن العبارة، قوي فِي دينه، جيد التفقه، مستحضر لمذهبه، مليح البحث، صحيح الذهن، قوي الفهم رحمه اللَّه تَعَالَى.
وذكره الذهبي فِي " المعجم المختصر " فَقَالَ: كَانَ بصيرا بكثير من علل الْحَدِيث ورجاله، فصيح العبارة، عالما بالعربية، نقالًا للفقه، كثير المطالعة لفنون العلم، حلو المذاكرة، مَعَ الدين والتقوى، وإيثار الانقطاع، وترك التكلف والقناعة باليسير، والنصح للمسلمين رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وذكره أَيْضًا فِي معجم شيوخه، فَقَالَ: كَانَ إماما بارعا، فقيها(4/482)
عارفا بالمذهب وأصوله، وأصول الديانات، عارفا بدقائق العربية، وبالفرائض والحساب والهيئة المحفوظ، لَهُ مشاركة جيدة فِي الْحَدِيث، ومشاهير الأئمة والحوادث، ويعرف قطعة كثيرة من السيرة. وَكَانَ متقنا للمناظرة وقواعدها. والخلاف. وَكَانَ حلو المحاضرة متواضعا، كثير العبادة والخير، ذا حظ من صدق وإخلاص وتوجه وعرفان، وانقطاع بالكلية عَنِ النَّاس، قانعا بيسير اللباس.
توفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبعمائة بدمشق. وصلَّى عَلَيْهِ الظهر بالجامع، وحمل إِلَى بَاب القلعة فصلَّى عَلَيْهِ هناك مرة أُخْرَى. وصلى عَلَيْهِ أخوه الشيخ تقي الدين، وزين الدين عَبْد الرَّحْمَنِ، وهما محبوسان بالقلعة، وخلق معهما من داخل القلعة. وَكَانَ التكبير يبلغهم، وكثر البكاء تلك الساعة. فكان وقتا مشهودا. ثُمَّ صلى عَلَيْهِ مرة ثالثة ورابعة، وحمل عَلَى الرؤوس والأَصَابِع إِلَى مقابر الصوفية، فدفن بِهَا. وحضر جنازته جمع كثير، وعالم عظيم، وكثر الثناء والتأسف عَلَيْهِ. رحمه اللَّه.(4/483)
مُحَمَّد بْن عَبْد المحسن بْن أَبِي الْحَسَن بْن عَبْد الغفار بْن الخراط،(4/484)
البغدادي، القطيعي، الأزجي، المحدث، الواعظ، عفيف الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ، ويعرف بابن الدواليبي: قرأت بخطه: مولدي فِي آخر سنة أربع وثلاثين وستمائة. وَكَانَ قَد اختلف قَوْله فِي ذَلِكَ.
فنقل البرزالي عَنْهُ: أَن مولده فِي ربيع الأَوَّل فِي سنة ثمان وثلاثين فِي ثالث عشرة - أَوْ رابع عشرة - عَلَى الشك منه.
وذكر غيره عَنْهُ: أَن مولده سنة تسع وثلاثين.
وسمع من عَبْد الْمَلِك بْن قيبا، وإبراهيم بْن الخير، والأعز بْن العليق، ومحمد بْن مقبل بْن المنى، وَيَحْيَى بْن قميرة، وأخيه أَحْمَد، وعلي بْن معالي الرصافي، وعبد اللَّه بْن عَلِي النعال.
وسمع من أَحْمَد الباذنيني " صحيح مُسْلِم " ومن الشيخ مجد الدين ابْن تيمية(4/485)
أحكامه، ونصف المحرر، ومن الصاحب أَبِي المظفر بْن الجوزي، وعجيبة بنت الباقداري، وغيرهم. وأجاز لَهُ جَمَاعَة كثيرون.
وسمع " المسند " من جَمَاعَة، ووعظ مدة طويلة، وشارك فِي العلوم، وعمَّر وصار مسند أهل العراق فِي وقته.
وحدث بالكثير: وَكَانَ قَدْ سمع كثيرا من الكتب العوالي عَلَى شيوخه القدماء، ولكن لَمْ يظفر أهل بغداد بِذَلِكَ. وإنما اشتهر عندهم سماعه للمسند، و " صحيح مُسْلِم " وَقَدْ شاركه فِي سماعهما بمثل إسناده خلق كثير، حَتَّى أشركنا مِنْهُم جَمَاعَة. وسمعنا الكتابين عَلَى مثله.
سمع منه الفرضي، وذكره فِي معجمه، مَعَ تقدم وفاته، فَقَالَ: كَانَ شيخا عالما، فقيها فاضلاً، واعظاً زاهدا، عابدا ثقة دينا. وقدم دمشق حاجا.
وسمع منه جَمَاعَة، مِنْهُم: البرزالي. وذكره فِي معجمه، فَقَالَ: شيخ فاضل فِي الوعظ، تكلم عَلَى النَّاس مدة طويلة، وحفظ " الخرقي " في الفقه، و " اللمع " لابن جني، وحج مرات، وَهُوَ من أهل الصلاح، كثير القناعة والتعفف، مِمَّن يأمر بالمعروف وينهي عَنِ المنكر، وحرمته وافرة، ومكانته معروفة. قدم عَلَيْنَا حاجا سنة ثمان وتسعين، ونزل ظاهر البلد، فخرجنا إِلَيْهِ، وسمعنا منه، وجلس للوعظ بجامع دمشق فِي أواخر رمضان من هذه السنة. وحضرنا مجلسه، وسمعنا تذكيره. وتفرد فِي زمانه، وولي مشيخة المستنصرية، وَهُوَ قادري.(4/486)
كَانَ أبوه من أَصْحَاب الشيخ أَبِي صَالِح نصر بْن عَبْد الرزاق.
وذكره الذهبي فِي معجمه، وَقَالَ: كَانَ عالما واعظا، حسن المحاضرة، صحبناه في طريق الحج. حدث ببغداد، ودمشق، والمدينة، والعلا.
وذكره شيخنا بالإجازة صفي الدين عَبْد المؤمن بْن عَبْد الحق فِي معجمه، فَقَالَ: شيخ جليل، كثير المسموعات، سكن برباط ابْن الغزال بالقطيعة، من بَاب الأزج، ولازم الوعظ بِهِ مدة طويلة، ووعظ بجامع الخليفة. ورتب مسمعا بدار الْحَدِيث المستنصرية بَعْد وفاة ابْن حصين سنة ثمان عشرة.
قلت: سمع منه خلق كثير من شيوخنا وغيرهم، كأبي حفص القزويني، ومحمود بْن خليفة، وابن الفصيح الكوفي؛ ووالدي، وعمر الزار. وَكَانَ ينظم الشعر.
توفي يَوْم الخميس رابع عشرين من جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
وشيعه خلق كثير، ودفن بمقابر الشهداء من بَاب حرب. رحمه اللَّه.
قَالَ لي: وعظت زمن المستعصم. وأنشدني لنفسه - كَانَ وَكَانَ -(4/487)
عِنْدَ سماعي منه " صحيح مُسْلِم ":
ترى ربيع التواصل يقدم وتفنى شقوتي ... ويقبل الصيف وجيشو عَلَى الشتاء مَنْصُور
وأبصر مجيمر هجري عَلَى المزابل مكسرة ... وَبَيْت كانون حزني أرجع أزَّيّ مهجور
وأخلع بنفسج صبري عَلَى عواذل سلوتي ... وياسمين انتظاري وري العدى منثور
أحمد بن محمد بن عبد الولي بْن جبارة المقدسي المقرئ،(4/488)
الفقيه الأصولي النحوي، شهاب الدين، أَبُو الْعَبَّاس ابْن الشيخ تقي الدين أَبِي عَبْد اللَّهِ: وَقَدْ سبق ذكر والده. ولد سنة سبع - أو ثمان - وأربعين وستمائة.
وَقَالَ البرزالي: سنة تسع وأربعين. أظنه بقاسيون.
وسمع من خطيب مردا حضورا، ومن ابْن عَبْد الدايم، وجماعة.
وارتحل إِلَى مصر بَعْد الثمانين - كَذَا فِي الطبقات - وَفِي التاريخ: سنة ثَلاث وسبعين، فقرأ بِهَا القراءات عَلَى الشيخ حسن الراشدي، وصحبه إِلَى أَن مَات، وقرأ الأصول على شهاب الدين القرافي المالكي، والعربية على بهاء الدين بن النحاس، وبرع في ذلك، وتفقه في المذهب، لعله على ابنِ حمدان.
وقدم دمشق بعد التسعين، فأقرأ بها القراءات، ثم تحول إلى حلب، فأَقرأ بها أيضا، ثم استوطن بيت المقدس، وتَصَدَّر لإِقراء القرآن، والعربية، وصنف شرحا كبيرا للشاطبية، وشرحا آخر للرائية في الرسم. وشرحا لألفية ابن معطي، ولا أدري(4/489)
أكمله أم لا؟ وصنف تفسيرا وأشياء فِي القراءات.
قَالَ الذهبي فِي طبقات القراء: هُوَ صَالِح متعفف، خشن العيش، جم الفضائل، ماهر بالفن، قَلَّ من رأيت بَعْد رفيقه مجد الدين - يَعْنِي التونسي - مثله، وذكره فِي معجم شيوخه، فَقَالَ: كَانَ إماما مقرئا بارعا، فقيها متقنا، نحويا، نشأ إِلَى اليوم فِي صلاح وزهد ودين. سمعت منه مجلس البطاقة، وانتهت. إِلَيْهِ مشيخة بَيْت المقدس.(4/490)
وذكره البرزالي فِي تاريخه، وذكر: أَنَّهُ حج وجاور بمكة، قَالَ: وَكَانَ رجلًا صالحا، مباركا عفيفا منقطعاً، يعد لمحي الْعُلَمَاء الصالحين الأخيار، قرأت عَلَيْهِ بدمشق والقدس، عدة أجزاء.
وتوفي بالقدس سحر يَوْم الأحد رابع رجب سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. ودفن في اليوم المذكور بمقبرة ماملا، وصلى عَلَيْهِ بجامع دمشق صلاة الغائب، فِي سادس عشر الشهر.
وذكر الذهبي: أَنَّهُ مَات فجأة، رحمه اللَّه تَعَالَى.
أَحْمَد بْن عَبْد الحليم بْن عَبْد السَّلام بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي القاسم بْن الخضر(4/491)
بن محمد ابن تيمية الحراني، ثُمَّ الدمشقي، الإِمَام الفقيه، المجتهد المحدث، الحافظ المفسر، الأصولي الزاهد. تقي الدين أَبُو الْعَبَّاس، شيخ الإِسْلام وعلم الأعلام، وشهرته تغني عن الإطناب فعب ذكره، والإسهاب فِي أمره.
ولد يَوْم الاثنين عاشر ربيع الأَوَّل سنة إحدى وستين وستمائة بحران.
وقدم بِهِ والده وبإخوته إِلَى دمشق، عِنْدَ استيلاء التتر عَلَى البلاد، سنة سبع وستين وستمائة.
فسمع الشيخ بِهَا من ابْن عَبْد الدايم، وابن أَبِي اليسر، وابن عَبْد، والمجد بْن عساكر، وَيَحْيَى بْن الصيرفي الفقيه، وَأَحْمَد بْن أَبِي الخير الحداد، والقاسم الأربلي، والشيخ شمس الدين بْن أَبِي عُمَر، والمسلم بْن علان، وإبراهيم بن الحرجي، وخلق كثير.(4/493)
وعني بالحَدِيث. وسمع " المسند " مرات، والكتب الستة، ومُعجم الطبراني الكبير، وَمَا لا يحصى من الكتب والأجزاء. وقرأ بنفسه، وكتب بخطه جملة من الأجزاء، وأقبل عَلَى العلوم فِي صغره. فأخذ الفقه والأصول. عَن والده، وعن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، والشيخ زين الدين بْن المنجا. وبرع فِي ذَلِكَ، وناظر. وقرأ فِي العربية أياما عَلَى سُلَيْمَان بْن عَبْد القوي، ثُمَّ أخذ كتاب سيبويه، فتأمله ففهمه. وأقبل عَلَى تفسير الْقُرْآن الكريم، فبرز فِيهِ، وأحكم أصول الفقه، والفرائض، والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذَلِكَ من العلوم، ونظر فِي علم الْكَلام والفلسفة، وبرز فِي ذَلِكَ عَلَى أهله، ورد عَلَى رؤسائهم وأكابرهم، ومهر فِي هذه الفضائل، وتأهل للفتوى والتدريس، وَلَهُ دُونَ العشرين سنة، وأفتى من قبل العشرين أيضًا، وأمده اللَّه بكثرة الكَتْب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم،(4/494)
وبُطء النسيان، حَتَّى قَالَ غَيْر واحد: إنه لَمْ يكن يحفظ شَيْئًا فينساه.
ثُمَّ توفي والده الشيخ شهاب الدين، المتقدم ذكره، وَكَانَ لَهُ حينئذ إحدى وعشرين سنة. فقام بوظائفه بعده. فدرس بدار الْحَدِيث السكرية فِي أول سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
وحضر عنده قَاضِي القضاة بهاء الدين بْن الزكي. والشيخ تاج الدين الفزاري، وزير الدين بْن المرجل. والشيخ زين الدين بْن المنجا، وجماعة، وذكر درساً عظيماً فيم البسملة. وَهُوَ مشهور بَيْنَ النَّاس، وعظمه الْجَمَاعَة الحاضرون، وأثنوا عَلَيْهِ ثناء كثيرا.
قَالَ الذهبي: وَكَانَ الشيخ تاج الدين الفزاري، يبالغ فِي تعظيمه الشيخ تقي الدين، بحيث إنه علق بخطه درسه بالسكرية.
ثُمَّ جلس عقب ذَلِكَ مكان والده بالجامع عَلَى منبر أَيَّام الجمع، لتفسير الْقُرْآن العظيم، وشرع من أول الْقُرْآن. فكان يورد من حفظه فِي المجلس نَحْو كراسين أَوْ أَكْثَر، وبقي يفسر في سورة نوح، عدة سنين أَيَّام الجمع.
وَفِي سنة تسعين: ذكر عَلَى الكرسي يَوْم جمعة شَيْئًا من الصفات، فقام بَعْض المخالفين، وسعوا فِي منعه من الجلوس، فلم يمكنهم ذَلِكَ.(4/495)
وَقَالَ قَاضِي القضاة شهاب الدين الخوي: أنا عَلَى اعتقاد الشيخ تقي الدين، فعوتب فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: لأن ذهنه صحيح، ومواده كثيرة. فَهُوَ لا يَقُول إلا الصحيح.
وقال الشيخ شرى الدين المقدسي: أنا أرجو بركته ودعاءه، وَهُوَ صاحبي، وَأَخِي. ذكر ذَلِكَ البرزالي فِي تاريخه.
وشرع الشيخ فِي الجمع والتصنيف، من دُونَ العشرين، وَلَمْ يزل فِي علو وازدياد من العلم والقدر إِلَى آخر عمره.
قَالَ الذهبي فِي معجم شيوخه: أَحْمَد بْن عَبْد الحليم - وساق نسبه - الحراني، ثُمَّ الدمشقي، الحنبلي أَبُو الْعَبَّاس، تقي الدين، شيخنا وشيخ الإِسلام، وفريد لعصر علما ومعرفة، وشجاعة وذكاء، وتنويرا إلهيا، وكرما ونصحا للأمة، وأمرا بالمعروف ونهياً عَنِ المنكر. سمع الْحَدِيث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب وخرج، ونظر فِي الرجال والطبقات، وحصل مَا لَمْ يحصله غيره. برع فِي تفسير الْقُرْآن، وغاص فِي دقيق معانيه(4/496)
بطبع سيال، وخاطر إِلَى مواقع الإِشكال ميال، واستنبط منه أشياء لَمْ يسبق إِلَيْهَا. وبرع فِي الْحَدِيث وحفظه، فقلَّ من يحفظ مَا يحفظه من الْحَدِيث، معزوا إِلَى أصوله وصحابته، مَعَ شدة استحضاره له وقت إقامة لدليل. وفاق النَّاس فِي معرفة الفقه، واخْتِلاف المذاهب، وفتاوى الصَّحَابَة والتابعين، بحيث إنه إِذَا أفتى لَمْ يلتزم بمذهب، بَل يقوم بِمَا دليله عنده. وأتقن العربية أصولًا وفروعا، وتعليلًا واخْتِلافًا. ونظر فِي العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، وَرَدَّ عَلَيْهِم، وَنبَّه عَلَى خطئهم، وحذر مِنْهُم ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأُوذي فِي ذَات اللَّه من المخالفين، وأُخيف فِي نصر السنة المحضة، حَتَّى أعلى اللَّه مناره، وجمع قلوب أهل التقوى عَلَى محبته والدعاء لَهُ، وَكَبَتَ أعداءه، وهدى بِهِ رجالًا من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء عَلَى الانقياد له غالباً، وعلى طاعته، أحيى بِهِ الشام، بَل والإسلام، بَعْد أَن كاد ينثلم بتثبيت أولى الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي فِي خيلائهم، فظُنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشْرَأَب النفاق وأبدى صفحته. ومحاسنه كثيرة، وَهُوَ أكبر من أَن ينبه عَلَى سيرته مثلي، فلو حلفت بَيْنَ الركن والمقام، لحلفت: إني مَا رأيت بعيني مثله، وأنه مَا رأى مثل نَفْسه.
وَقَدْ قرأت بخط الشيخ العلامة شيخنا كمال الدين بْن الزملكاني،(4/497)
مَا كتبه سنة بضع وتسعين تَحْتَ اسم " ابْن تيمية " كَانَ إِذَا سئل عَن فن من العلم ظن الرائي والسامع: أَنَّهُ لا يعرف غير ذاك الفن، وحكم أَن أحدًا لا يعرفه مثله. وَكَانَ الْفُقَهَاء من سائر الطوائف إِذَا جالسوه استفادوا منه فِي مذهبهم أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع منه، ولا تكلم فِي علم من العلوم - سواء كَانَ من علوم الشرع أَوْ غيرها - إلا فاق فِيهِ أهله، واجتمعت فِيهِ شروط الاجتهاد عَلَى وجهها.
وَقَالَ الذهبي فِي معجمه المختصر: كَانَ إماما متبحرا فِي علوم الديانة، صحيح الذهن، سريع الإِدراك، سيال الفهم، كثير المحاسن، موصوفا بفرط الشجاعة والكرم، فارغا عَن شهوات المأكل والملبس والجماع، لا لذة لَهُ فِي غَيْر نشر العلم وتدوينه والعمل بمقتضاه.
قُلْت: وقد عرض عليه قضاء القضاة قبل التسعين، ومشيخة الشيوخ، فلم يقبل شَيْئًا من ذَلِكَ. قرأت ذَلِكَ بخطه.
قَالَ الذهبي: ذكره أَبُو الفتح اليعمري الحافظ - يَعْنِي ابْن سيد النَّاس -(4/498)
فِي جواب سؤالات أَبِي الْعَبَّاس بْن الدمياطي الحافظ، فَقَالَ: ألْفَيتُه ممن أدرك عن العلوم حظا. وكاد يستوعب السنن والآثار حفظا، إِن تكلم فِي التفسير فَهُوَ حامل رايته. وإن أفتى فِي الفقه فَهُوَ مدرك غايته، أَوْ ذاكر بالحَدِيث فَهُوَ صاحب علمه، ذو روايته، أَوْ حاضر بالنحل والملل لَمْ يرَ أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته. برز فِي كُل فن عَلَى أبناء جنسه، وَلَمْ تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نَفْسه.
وَقَدْ كتب الذهبي فِي تاريخه الكبير للشيخ ترجمه مطولة، وَقَالَ فِيهَا: وَلَهُ خبرة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم، وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الْحَدِيث، وبالعالي والنازل والصحيح والسقيم، مع حفظه لمتولْه، التي انفرد يه، فلا يبلغ أحد من العصر رتبته يقاربه، وَهُوَ عجيب فِي استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى فِي عزوه إِلَى الكتب الستة، والمسند، بحيث يصدق عَلَيْهِ أَن يقال: كُل حَدِيث لا يعرفه ابْن تيمية فليس بحَدِيث.(4/500)
وَقَالَ: ولما كَانَ معتقلًا بالإِسكندرية: التمس منه صاحب سبتة أَن يجيز لأولاده، فكتب لَهُمْ فِي ذلك نحواً من ستمائة سطر، منها سبعة أحاديث بأسانيدها، والكلام عَلَى صحتها ومعانيها، وبحث وعمل مَا إِذَا نظر فِيهِ المحدث خضع لَهُ من صناعة الْحَدِيث. وذكر أسانيده فِي عدة كتب. ونبَّه على العوالي. عمك ذَلِكَ كله من حفظه، من غَيْر أَن يَكُون عنده ثَبَت أَوْ من يراجعه.
ولقد كَانَ عجيبا فِي معرفة علم الْحَدِيث. فأما حفظه متون الصحاح وغالب متون السنن والمسند: فَمَا رأيت من يُدانيه فِي ذَلِكَ أصلًا.
قَالَ: وَأَمَّا التفسير فمسلم إِلَيْهِ. وَلَهُ من استحضار الآيات من الْقُرْآن - وقت إقامة الدليل بِهَا عَلَى المسألة - قوة عجيبة. وإذا رآه المقرئ تحيز فِيهِ. ولفرط إمامته فِي التفسير، وعظم إطلاعه. يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين. ويُوهي أقوالاً عديدة. وينصر قولًا واحدا، موافقا لما دل عَلَيْهِ الْقُرْآن والحَدِيث. ويكتب فِي اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أَوْ من الرد عَلَى الفلاسفة والأوائلَ: نحوا من أربعة كراريس أَوْ أزيد.
قُلْت: وَقَدْ كتب " الحموية " فِي قعدة واحدة. وَهِيَ أزيد من ذَلِكَ. وكتب فِي بَعْض الأحيان فِي اليوم مَا يبيض منه مجلد.
وَكَانَ رحمه اللَّه فريد دهره فِي فَهُم الْقُرْآن. ومعرفة حقائق الإيمان. وَلَهُ يد طولى فِي الْكَلام عَلَى المعارف والأحوال. والتمييز بَيْنَ صحيح(4/501)
ذَلِكَ وسقيمه. ومعوجه وقويمه.
وَقَدْ كتب ابْن الزملكاني بخطه عَلَى كتاب " إبطال التحليل " للشيخ ترجمة الكتاب واسم الشيخ. وترجم لَهُ ترجمة عظيمة. وأثنى عَلَيْهِ ثناء عظيما.
وكتب أيضًا تَحْتَ ذَلِكَ:
ماذا يَقُول الواصفون لَهُ ... وصفاته جلَّتْ عَنِ الحصر
هُوَ حجة لِلَّهِ قاهرة ... هُوَ بيننا أعجوبة الدهر
هو آية للخلق ظاهرة ... أنوارها أربت عَلَى الفجر
وللشيخ أثير الدين أَبِي حيان الأندلسي النحوي - لما دَخَلَ الشيخ مصر واجتمع بِهِ - ويقال: إِن أبا حيان لَمْ يقل أبياتا خيرا منها ولا أفحل:
لما رأينا تقي الدين لاح لنا ... داعٍ إِلَى اللَّه فردا. ماله وزر
عَلَى محياه من سيما الأولى صحبوا ... خير البرية نورٌ دونه القمر
حَبْر تسربل منه دهره حِبَراً ... بحر تقاذفُ من أمواجه الدرر
قام ابْن تيمية فِي نصر شرعتنا ... مقام سيد تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضر(4/502)
فأظهر الدين إذْ أثاره درست ... وأخمد الشرك إذ طارت لَهُ شرر
يا من تحدث عَن علم الكتاب أصِخْ ... هَذَا الإِمام الذي قد كان ينتظر
وحكى الذهبي عَنِ الشيخ: أَن الشيخ تقي الدين بْن دقيق العيد قَالَ لَهُ - عِنْدَ اجتماعه بِهِ وسماعه لكلامه -: مَا كنت أظن أَن اللَّه بقي يخلق مثلك.
ومما وجد في كتاب كتبه العلامة قَاضِي القضاة أَبُو الْحَسَن السبكي إلى الحافظ عَبْد اللَّهِ الذهبي فِي أمر الشيخ تقي الدين المذكور: أما قَوْل سيدي فِي الشيخ فالمملوك يتحقق كبر قدره. وزخارة بحره. وتوسعه فِي العلوم الشرعية والعقلية. وفرط ذكائه واجتهاده. وبلوغه فِي كُل من ذَلِكَ المبلغ الَّذِي يتجاوز الوصف. والمملوك يقول دائما. وقدره فِي نفسي أكبر من ذَلِكَ وأجل. مَعَ مَا جمعه اللَّه لَهُ من الزهادة والورع والديانة. ونصرة الحق. والقيام فِيهِ لا لغرض سواه. وجريه عَلَى سنن السلف. وأخذه من ذَلِكَ بالمأخذ الأوفى. وغرابة مثله فِي هَذَا الزَّمَان. بَل من أزمان.
وَكَانَ الحافظ أَبُو الْحَجَّاج المزي: يبالغ فِي تعظيم الشيخ والثناء عَلَيْهِ، حَتَّى كَانَ يَقُول: لم يُر مثله منذ أربعمائة سنة.
وبلغني من طريق صحيح عَنِ ابْن الزملكاني: أَنَّهُ سئل عَنِ الشيخ؟ فَقَالَ: لَمْ يُرَ من خمسمائة سنة، أو أربعمائة سنة - الشك من الناقل. وغالب ظنه: أَنَّهُ قَالَ: من خمسمائة أحفظ منه.(4/503)
وَكَذَلِكَ كَانَ أخوه الشيخ شرف الدين يبالغ فِي تعظيمه جدا، وَكَذَلِكَ المِشايخ العارفون، كالقدوة أَبِي عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن قوام. ويحكى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُول: مَا أسلمت معارفنا إلا عَلَى يد ابْن تيمية.
والشيخ عماد الدين الواسطي كَانَ يعظمه جدًا، وتتلمذ لَهُ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ أسن منه. وَكَانَ يَقُول: قَدْ شارف مقام الأئمة الكبار، ويناسب قيامه في بعض الأمور الصديقيين.
وكتب رسالة إِلَى خواص أَصْحَاب الشيخ يوصيهم بتعظيمه واحترامه، ويعرفهم حقوقه، ويذكر فِيهَا: أَنَّهُ طاف أعيان بلاد الإِسلام، وَلَمْ يرَ فِيهَا مثل الشيخ علما وعملًا وحالًا وخلقا واتباعا، وكرما وحلما فِي حق نَفْسه، وقياما فِي حق اللَّه تَعَالَى، عِنْدَ انتهاك حرماته. وأقسم عَلَى ذَلِكَ بالله ثَلاث مرات.
ثُمَّ قَالَ: أصدق النَّاس عقدا، وأصحهم(4/504)
علما وعزما، وأنفذهم وأعلاهم فِي انتصار الحق وقيامه، وأسخاهم كفا، وأكملهم اتباعا لنبيه مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مَا رأينا قي عصرنا هَذَا من تستجلى النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هَذَا الرجل، بحيث يشهد القلب الصحيح: أَن هَذَا هُوَ الاتباع حقيقة.
ولكن كَانَ هُوَ وجماعة من خواص أَصْحَابه رُبَّمَا أنكروا من الشيخ كلامه فِي بَعْض الأئمة الأكابر الأعيان، أَوْ فِي أهل التخلي والانقطاع ونحو ذَلِكَ.
وَكَانَ الشيخ رحمه اللَّه لا يقصد بِذَلِكَ إلا الخير، والانتصار للحق إِن شاء اللَّه تَعَالَى.
وطوائف من أئمة أهل الحديث وحفاظهم وفقهائهم: كَانُوا يحبون الشيخ ويعظمونه، وَلَمْ يكونوا يحبون لَهُ التوغل مَعَ أهل الْكَلام ولا الفلاسفة، كَمَا هُوَ طريق أئمة أهل الْحَدِيث المتقدمين، كالشَّافِعِي وَأَحْمَد وإسحاق وأبي عبيد ونحوهم، وكذلك كثير هن الْعُلَمَاء من الْفُقَهَاء والمحدثين والصالحين كرهوا لَهُ التفرد ببعض شذوذ المسائل الَّتِي أنكرها السلف عَلَى من شذ بِهَا، حَتَّى إِن بَعْض قضاة العدل من أَصْحَابنا منعه من الإفتاء ببعض ذَلِكَ.(4/505)
قَالَ الذهبي: وغالب حطه عَلَى الفضلاء والمتزهدة فبحق، وَفِي بعضه هُوَ مجتهد، ومذهبه توسعة العذر للخلق، ولا يكفر أحداً إلا بَعْد قيام الحجة عَلَيْهِ.
قَالَ: ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لَهَا ببراهين ومقدمات، وأمور لَمْ يسبق إِلَيْهَا، وأطلق عبارات أحجم عَنْهَا الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هُوَ عَلَيْهَا، حَتَّى قام عَلَيْهِ خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عَلَيْهِ، وبدعوه وناظروه وكابروه، وَهُوَ ثابت لا يداهن ولا يحابي، بَل يَقُول الحق المرَّ الَّذِي أدَّاه إِلَيْهِ اجتهاده، وحدة ذهنه، وسعة دائرته في السفن والأقوال، مَعَ مَا اشتهر عَنْهُ من الورع، وكمال الفكر، وسرعة الإدراك، والخوف من اللَّه، والتعظيم لحرمات اللَّه.
فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قَدْ رموه عَن قوس واحدة، فينجيه اللَّه، فَإِنَّهُ دائم الابتهال، كثير الاستغاثة، والاستعانة بِهِ، قوي التوكل، ثابت الجأش، لَهُ أوراد وأذكار يُدْمنها بكيفية وجمعية. وَلَهُ من الطرف الآخر محبون من الْعُلَمَاء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه؛ لأنه منتصب لنفعهم ليلًا ونهارًا، بلسانه وقلمه.(4/506)
وَأَمَّا شجاعته: فبها تضرب الأمثال، وببَعْضهَا يتشبه أكابر الأبطال. ولقد أقامه اللَّه تَعَالَى فِي نوبة قازان. والنقي أعباء الأمر بنفسه. وقام وقعد وطلع، ودخل وخرج، واجتمع بالملك - يَعْنِي قازان - مرتين، وبقَطْلوشاه، وبُولاي. وكان قيجق يتعجب من إقدامه وجراءته عَلَى المغول.
وَلَهُ حدة قوية تعتريه فِي البحث، حَتَّى كَأَنَّهُ ليث حرِب. وَهُوَ أكبر من أَن ينبه مثلي عَلَى نعوته. وفيه قلة مداراة، وعدم تؤدة غالبا، والله يغفر لَهُ. وَلَهُ إقدام وشهامة، وقوة نفس توقعه فِي أمور صعبة، فيدفع اللَّه عَنْهُ.(4/507)
وَلَهُ نظم قليل وسط. وَلَمْ يتزوج، ولا تسري، ولا لَهُ من المعلوم إلا(4/508)
شَيْء قليل وأخوه يقوم بمصالحه، ولا يطلب مِنْهُم غذاء ولا عشاء فِي غالب الوقت.
وَمَا رأيت فِي العالم أكرم منه، ولا أفرغ منه عَنِ الدينار والمرهم، لا يذكره، ولا أظنه يدور فِي ذهنه. وفيه مروءة، وقيام مَعَ أَصْحَابه، وسعي فِي مصالحهم. وهو فقير مال لَهُ. وملبوسه كآحاد الْفُقَهَاء: فَرَّجِيَّه، ودِلْق، وعمامة تكون قيمة ثلاثين درهما ومداس ضعيف الثمن. وشعره مقصوص.
وَهُوَ رَبْع القامة، بعيد مَا بَيْنَ المنكبين، كأن عينيه لسانان ناطقان، ويصلي(4/509)
بالناس صلاة لا تكون أطول من ركوعها وسجود. وربما قام لمن يجيء من سفر أَوْ غاب عَنْهُ، وإذا جاء فربما يقومون لَهُ، الكل عنده سواء، كَأَنَّهُ فارغ من هذه الرسوم، وَلَمْ ينحنِ لأحد قط، وإنما يسلم ويصافح ويبتسم. وَقَدْ يعظم جليسه مرة، ويهينه فِي المحاورة مرات.
قُلْت: وَقَدْ سافر الشيخ مرة عَلَى البريد إِلَى الديار المصرية يستنفر السلطان عِنْدَ مجيء التتر سنة من السنين، وتلا عَلَيْهِم آيات الجهاد، وَقَالَ: إِن تخليتم عن الشام ونصرة أهله، والذبِّ عَنْهُم، فَإِن اللَّه تَعَالَى يقيم لهمِ من ينصرهم غيركم، ويستبدل بكم سواكم. وتلا قَوْله تَعَالَى: " وَإنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِل قَوْمًا غيرَكْم ثُمَ لاَ يكُونُوا أمْثَالَكم " " محمد: 38 " وقوله تَعَالَى: " إِلا تَنْفرُوا يُعَذِّبْكم عَذَاباً ألِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيرَكم وَلاَ تَضُروهُ " " التوبة: 120 ".
وبلغ ذَلِكَ الشيخ تقي الدين بْن دقيق العيد - وَكَانَ هُوَ الْقَاضِي حينئذ - فاستحسن ذَلِكَ، وأعجبه هَذَا الاستنباط، وتعجب من مواجهة الشيخ للسلطان بمثل هَذَا الْكَلام.
وَأَمَّا مِحَنُ الشيخ: فكثيرة، وشرحها يطول جدا.
وَقَد اعتقله مرة بَعْض نواب السلطان بالشام قليلًا، بسبب قيامه عَلَى نصراني سب الرسول(4/510)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واعتقل مَعَهُ الشيخ زين الدين الفاروقي، ثُمَّ أطلقهما مكرمين.
ولما صنف المسألة " الحموية " فِي الصفات: شنع بها جماعة، ونودي عليها الأسواق عَلَى قصبة، وأن لا يستفتي من جهة بَعْض القَضاة الحنفية. ثُمَّ انتصر للشيخ بَعْض الولاة، وَلَمْ يكن فِي البلد حينئذ نائب، وضُرب المنادي وَبَعْض من مَعَهُ، وسكن الأمر.
ثُمَّ امتحن سنة خمس وسبعمائة بالسؤال عَن معتقده بأمر السلطان. فجمع نائبة القضاة وَالْعُلَمَاء بالقصر، وأحضر الشيخ، وسأله عَن ذَلِكَ؟ فبعث الشيخ من أحضر داره " العقيدة الواسطية " فقرءوها فِي ثَلاث مجالس، وحاقَقُوه، وبحثوا مَعَهُ، ووقع الاتفاق. بَعْد ذَلِكَ عَلَى أَن هذه عقيدة سُنية سلفية، فمنهم من قَالَ ذَلِكَ طوعا، وَمِنْهُم من قاله كرها.
وورد بَعْد ذَلِكَ كتاب من السلطان فِيهِ: إِنَّمَا قصدنا براءة ساحة الشيخ، وتبين لنا أَنَّهُ عَلَى عقيدة السلف.
ثُمَّ إِن المصريين دبروا الحيلة فِي أمر الشيخ، ورأوا أَنَّهُ لا يمكن البحث مَعَهُ، ولكن يعقد لَهُ مجلس، ويدَعى عَلَيْهِ، وتقام عَلَيْهِ الشهادات. وَكَانَ القائمون فِي ذَلِكَ مِنْهُم: بيبرس الجاشنكير، الَّذِي تسلطن بَعْد ذَلِكَ، ونصر المنبجي وابن مخلوف قَاضِي المالكية، فطُلب الشيخ عَلَى البريد إِلَى القاهرة، وعُقد لَهُ ثاني يَوْم وصوله - وَهُوَ ثاني عشرين رمضان سنة خمس وسبعمائة - مجلس بالقلعة، وادعِي(4/511)
عَلَيْهِ عِنْدَ ابْن مخلوف قَاضِي المالكية، أَنَّهُ يَقُول: إِن اللَّه تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وأنه عَلَى العرش بذاته، وأنه يشار إِلَيْهِ بالإِشارة الحسية.
وَقَالَ المدعي: أطلب تعزيره على ذلك، العزيز البليغ - يشير إِلَى القتل عَلَى مذهب مَالِك - فَقَالَ الْقَاضِي: مَا تقول يا فقيه؟ فحمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ، فقيل لَهُ: أسرع مَا جئت لتخطب، فَقَالَ: أأُمنع من الثناء عَلَى اللَّه تَعَالَى؟ فقال القاضي: أجب، فقد حمدت اللَّه تَعَالَى. فسكت الشيخ، فَقَالَ: أجب. فَقَالَ الشيخ لَهُ: من هو الحاكم في؟ فأشاروا: القاضي هو الحاكم، فقال الشيخ لابن مخلوف: أنت خصمي، كيف تحكم فِي؟. وغضب، ومراده: إني وإياك متنازعان فِي هذه المسائل، فكيف يحكم أحد الخصمين عَلَى الآخر عيها. فأقيم الشيخ ومعه أخواه، ثُمَّ رد الشيخ، وَقَالَ: رضيت أَن تحكم فيَ، فلم يمكَّن من الجلوس، ويقال: إن أخاه الشيخ شرف الدين ابتهل، ودعا اللَّه عَلَيْهِم فِي حال خروجهم، فمنعه الشيخ، وَقَالَ لَهُ: بَل قل: اللَّهُمَّ هب لَهُمْ نورا يهتدون بِهِ إِلَى الحق.
ثُمَّ حبسوا فِي بُرْج أياما، ونقلوا إِلَى الجب ليلة عيد الفطر، ثُمَّ بعث كتاب سلطاني إِلَى الشام بالحط عَلَى الشيخ، والزم النَّاس - خصوصا أهل مذهبه - بالرجوع عَن عقيدته، والتهديد بالعزل والحبس، ونودي بِذَلِكَ فِي الجامع والأسواق. ثُمَّ قرئ الكتاب بسدَّة الجامع بَعْد الجمعة، وحصل أذى كثير للحنابلة بالقاهرة، وحبس بَعْضهم، وأخذ خطوط(4/512)
بَعْضهم بالرجوع. وَكَانَ قاضيهم الحراني قليل العلم.
ثُمَّ فِي سلخ رمضان سنة ست: أحصْر سلار - نائب السلطان بمصر - القضاة وَالْفُقَهَاء، وتكلم فِي إخراج الشيخ، فاتفقوا عَلَى أَنَّهُ يشترط عَلَيْهِ أمور، ويلزم بالرجوع عن بَعْض العقيدة، فأرسلوا إِلَيْهِ من يحضره، وليتكلموا مَعَهُ فِي ذَلِكَ، فلم يجب إِلَى الحضور، وتكرر الرسول إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ ست مرات، وصمم عَلَى عدم الحضور، فطال عَلَيْهِم المجلس، فانصرفوا من غَيْر شَيْء.
ثُمَّ فِي آخر هذه السنة وصل كتاب إِلَى نائب السلطنة بدمشق من الشيخ، فأخبر بِذَلِكَ جَمَاعَة مِمَّن حضر مجلسه، وأثنى عَلَيْهِ: وَقَالَ: مَا رأيت مثله، ولا أشجع منه. وذكر هُوَ عَلَيْهِ فِي السجن: من التوجه إِلَى اللَّه تَعَالَى، وأنه لا يقبل شَيْئًا من الكسوة السلطانية ولا من الأدرار السلطاني، ولا تدنس بشيء من ذَلِكَ.
ثُمَّ فِي ربيع الأَوَّل من سنة سبع وسبعمائة دَخَلَ مهنا بْن عيسى أمِير العرب(4/513)
إِلَى مصر، وحضر بنفسه إِلَى السجن، وأخرج الشيخ منه، بَعْد أَن استأذن فِي ذَلِكَ، وعقد للشيخ مجالس حضرها أكابر الْفُقَهَاء، وانفصلت عَلَى خير.
وذكر الذهبي والبرزالي وغيرهما: أَن الشيخ كتب لَهُمْ بخطه مجملًا من القول وألفاظا فِيهَا بَعْض مَا فِيهَا، لما خاف وهدد بالقتل، ثُمَّ أطلق وامتنع من المجيء إِلَى دمشق. وأقام بالقاهرة يقرىء العلم، ويتكلم(4/514)
فِي الجوامع والمجالس العامة، ويجتمع عَلَيْهِ خلق.
ثُمَّ فِي شوال من السنة المذكورة: اجتمع جَمَاعَة كثيرة من الصوفية، وشكواه الشيخ إِلَى الحاكم الشَّافِعِي، وعقد لَهُ مجلس لكلامه من ابْن عربي وغيره، وادعى عَلَيْهِ ابْن عَطَاء بأشياء، وَلَمْ يثبت منها شَيْئًا، لكنه اعترف أَنَّهُ قَالَ: لا يستغاث بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، استغاثة بمعنى العبادة، ولكن يتوسل بِهِ، فبعض الحاضرين قَالَ: لَيْسَ فِي هَذَا شَيْء.
ورأى الحاكم ابْن جَمَاعَة: أَن هَذَا إساءة أدب، وعنفه عَلَى ذَلِكَ، فحضرت رسالة إِلَى الْقَاضِي: أَن يعمل مَعَهُ مَا تقتضيه الشريعة فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْقَاضِي: قَدْ قُلْت لَهُ مَا يقال لمثله.
ثُمَّ إِن الدولة خيروه بَيْنَ أشياء، وَهِيَ الإِقامة بدمشق، أَوْ بالإسكندرية، بشروط، أَوِ الحبس، فاختار الحبس. فدخل عَلَيْهِ أَصْحَابه فِي السفر إِلَى دمشق، ملزما مَا شرط عَلَيْهِ فأجابهم، فاركبوه خيل البريد، ثُمَّ ردوه فِي الغد، وحضر عِنْدَ الْقَاضِي بحضور جَمَاعَة من الْفُقَهَاء، فَقَالَ لَهُ بَعْضهم: مَا ترضى الدولة إلا بالحبس. فَقَالَ الْقَاضِي: وفيه مصلحة لَهُ واستناب التونسي المالكي وأذن لَهُ أَن يحكم عَلَيْهِ بالحبس، فامتنع، وَقَالَ: مَا ثبت عَلَيْهِ شَيْء، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي، فتحير، فَقَالَ الشيخ: أنا(4/515)
أمضي إِلَى الحبس وأتبع مَا تقتضيه المصلحة، فَقَالَ الزواوي المذكور: فيكون فِي موضع يصلح لمثله، فقيل لَهُ: مَا ترضى الدولة إلا بمسمى الحبس، فأرسل إِلَى حبس الْقَاضِي وأجلس فِي الموضع الَّذِي أجلس فِيهِ الْقَاضِي تقي الدين ابْن بنت الأعز لما حبس، وأذن أَن يَكُون عنده من يخدمه. وَكَانَ جَمِيع ذَلِكَ بإشارة نصر المنبجي.
واستمر الشيخ فِي الحبس يستفتى ويقصده النَّاس، ويزورونه، وتأتيه الفتاوى المشكلة من الأمراء وأعيان النَّاس.
وَكَانَ أَصْحَابه يدخلون عَلَيْهِ أولا سرا، ثُمَّ شرعوا يتظاهرون بالدخول عليه، فأخرجوه فِي سلطنة الششنكير الملقب بالمظفر، إِلَى الإِسكندرية عَلَى البريد، وحبس فِيهَا فِي برج حسن مضيء متسع، يدخل عَلَيْهِ من شاء، ويمنع هُوَ من شاء، ويخرج إِلَى الحمام إِذَا شاء، وَكَانَ قَدْ أخرج وحده، وأرجف الأعداء بقتله وتفريقه غَيْر مرة، فضاقت بذلك صدور محبيه بالشام وغيره، وكثر الدعاء لَهُ. وبقي فِي الإِسكندرية مدة سلطنة المظفر.
فلما عاد الْمَلِك الناصر إِلَى السلطنة وتمكن، وأهلك المظفر، وحمل شيخه نصر المنبجي، واشتدت موجدة السلطان عَلَى القضاة لمداخلتهم المظفر، وعزل بَعْضهم: بادر بإحضار الشيخ إِلَى القاهرة مكرما فِي شوال سنة تسع وسبعمائة، وأكرمه السلطان إكراماَ زائدا، وقام إِلَيْهِ، وتلقاه فِي مجلس حفل، فِيهِ قضاة المصريين والشاميين، وَالْفُقَهَاء وأعيان الدولة. وزاد فِي إكرامه عَلَيْهِم، وبقي يُساره ويستشيره سويعة،(4/516)
وأثنى عَلَيْهِ بحضورهم ثناء كثيرا، وأصلح بينه وبينهم. ويقال: إنه شاوره فِي أمرهم بِهِ فِي حق القضاة، فصرفه عَن ذَلِكَ، وأثنى عَلَيْهِم، وأن ابْن مخلوف كَانَ يَقُول: مَا رأينا أفتى من ابْن تيمية، سعينا فِي دمه. فلما قدر عَلَيْنَا عفا عنا.
واجتمع بالسلطان مرة ثانية بَعْد أشهر، وسكن الشيخ بالقاهرة، والناس يترددون إِلَيْهِ، والأمراء والجند، وطائفة من الْفُقَهَاء، وَمِنْهُم من يعتذر إِلَيْهِ ويتنصل مِمَّا وقع.
قَالَ الذهبي: وَفِي شعبان سنة إحدى عشرة: وصل النبأ: أَن الفقيه البكري - أحد المبغضين للشيخ - استفرد بالشيخ بمصر، ووثب عَلَيْهِ، ونتش بأطواقه، وَقَالَ: أحضر معي إِلَى الشرع، فلي عليك دعوى، فلما تكاثر النَّاس انملص، فطلب من جهة الدولة، فهرب واختفى.
وذكر غيره: أَنَّهُ ثار بسبب ذَلِكَ فتنة، وأراد جَمَاعَة الانتصار من البكري فلم يمكنهم الشيخ من ذَلِكَ.
واتفق بَعْد مدة: أَن البكري هُم السلطان بقتله، ثُمَّ رسم بقطع لسانه، لكثرة فضوله وجراءته، ثُمَّ شفع فِيهِ، فنفي إِلَى الصعيد، ومنع من الفتوى بالكلام فِي العلم. وَكَانَ الشيخ فِي هذه المدة يقرىء العلم، ويجلس لِلنَّاسِ فِي مجالس عامة.
قدم إِلَى الشام هُوَ وإخوته سنة اثنتي عشرة بنية الجهاد، لما قدم السلطان لكشف التتر عَنِ الشام. فخرج مَعَ الجيش،(4/517)
وفارقهم من عسقلان، وزار الْبَيْت المقدس.
ثُمَّ دَخَلَ دمشق بَعْد غيبته عَنْهَا فَوْقَ سبع سنين، ومعه أخواه وجماعة من أَصْحَابه، وخرج خلق كثير لتلقيه، وسُرَّ النَّاس بمقدمه، واستمر عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أولًا، من إقراء العلم، وتدريسه بمدرسة السكرية، والحنبلية، وإفتاء النَّاس ونفعهم.
ثُمَّ فِي سنة ثمان عشرة: ورد كتاب من السلطان بمنعه من الفتوى فِي مسألة الحلف بالطلاق بالتكفير، وعقد لَهُ مجلس بدار السعادة، ومنع من ذَلِكَ، ونودي بِهِ فِي البلد.
ثُمَّ في سنة عشرة عقد لَهُ مجلس أَيْضًا كالمجلس الأول، وقرئ كتاب السلطان بمنعه من ذَلِكَ، وعوتب عَلَى فتياه بَعْد المنع، وانفصل المجلس عَلَى تكيد المنع.
ثُمَّ بَعْد مدة عقد لَهُ مجلس ثالث بسبب ذَلِكَ، وعوتب وحبس بالقلعة. ثُمَّ حبس لأجل ذَلِكَ مرة أُخْرَى. ومنع بسبب من الفتيا مطلقة، فأقام مدة يفتي بلسانه، وَيَقُول: لا يسعني كتم العلم.
وَفِي آخر الأمر: دبروا عَلَيْهِ الحيلة فِي مسألة المنع من السفر إِلَى قبور الأنبياء والصالحين، وألزموه من ذَلِكَ التنقص بالأنبياء، وَذَلِكَ كفر، وأفتى بِذَلِكَ طائفة من أهل الأهواء، وَهُمْ ثمانية عشر نفسا، رأسهم القاضي الإِخناني المالكي وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه، فحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهرا. وبها مَات رحمه اللَّه تَعَالَى.
وَقَدْ بَيْنَ رحمه اللَّه: أَن مَا حكم عَلَيْهِ بِهِ باطل بإجماع الْمُسْلِمِينَ من وجوه كثيرة جدا، وأفتى جَمَاعَة بأنه يخطئ فِي ذَلِكَ خطأ المجتهدين(4/518)
المغفور لَهُمْ، ووافقه جَمَاعَة من علماء بغداد، وغيرهم. وَكَذَلِكَ ابنا أَبِي الْوَلِيد شيخ المالكية بدمشق أفتيا: أَنَّهُ لا وجه للاعتراض عَلَيْهِ فيما قاله أصلًا، وأنه نقل خلاف الْعُلَمَاء فِي المسألة، ورجح أحد القولين فِيهَا.
وبقي مدة فِي القلعة يكتب العلم ويصنفه، ويرسل إِلَى أَصْحَابه الرسائل، ويذكر مَا فتح اللَّه بِهِ عَلَيْهِ فِي هذه المرة من العلوم العظيمة، والأحوال الجسيمة.
وَقَالَ: قَدْ فتح اللَّه عَلِي فِي هذا الحصن فِي هذه المرة من معاني الْقُرْآن، ومن أصول العلم بأشياء، كَانَ كثير من الْعُلَمَاء يتمنونها، وندمت عَلَى تضييع أَكْثَر أوقاتي فِي غَيْر معاني الْقُرْآن، ثُمَّ إنه منع من الكتابة، وَلَمْ يترك عنده دواة ولا قلم ولا ورق، فأقبل عَلَى التلاوة والتهجد والمناجاة والذكر.
قَالَ شيخنا أَبُو عبد الله بن القيم: سمعت شيخنا شيخ الإِسْلام ابْن تيمية قدس اللَّه روحه، ونور ضريحه، يَقُول: إِن فِي الدنيا جنة من لَمْ يدخلها لَمْ يدخل جنة الآخرة. قَالَ: وَقَالَ لي مرة: مَا يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني فِي صدري، أين رحت فَهِيَ معي، لا تفارقني، أنا حبسي خلوة. وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان فِي حبسه فِي القلعة يَقُول: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبا مَا عدل عندي شكر هذه النعمة أَوْ قَالَ: مَا جزيتهم على ما نسبوا فِيهِ من الخير - ونحو هَذَا.
وكان يقول في سجوده، وَهُوَ محبوس: اللَّهُمَّ أعني عَلَى ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، مَا شاء اللَّه.
وَقَالَ مرة: المحبوس من حبس قلبه عَن(4/519)
ربه، والمأسور من أسره هواه.
ولما دَخَلَ إِلَى القلعة، وصار داخل سورها نظر إِلَيْهِ وَقَالَ: " فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ، بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ " " الحديد: 13 ".
قَالَ شيخنا: وعلم اللَّه مَا رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط، مَعَ ما كَانَ فِيهِ من الحبس والتهديد والإرجاف، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أطيب النَّاس عيشا، وأشرحهم صدرا، وأقواهم قلبا، وأسرهم نفسا، تلوح نضرة النعيم عَلَى وجهه وكنا إِذَا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأَرْض: أتيناه، فَمَا هُوَ إلا أَن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذَلِكَ كله، وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لِقائه، وفتح لَهُمْ أبوابها فِي دار العمل، فأتاهم من رَوحها ونسيمها وطيبها مَا استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها.
وَأَمَّا تصانيفه رحمه اللَّه: فَهِيَ أشهر من أَن تذكر، وأعرف من أَن تنكر. سارت مسير الشَّمْس فِي الأقطار، وامتلأت بِهَا البلاد والأمصار. قَدْ جاوزت حد الكثرة، فلا يمكن أحد حصرها، ولا يتسع هَذَا المكان لعد المعروف منها، ولا ذكرها.
ولنذكر نبذه من أسماء أعيان المصنفات الكبار: كتاب " الإيمان "(4/520)
مجلد، كتاب " الاستقامة " مجلدان " جواب الاعتراضات المصرية عَلَى الفتاوى الحموية " أربع مجلدات، كتاب " تلبيس الجهمية فِي تأسيس بدعهم الكلامية "، فِي ست مجلدات كبار، كتاب " المحنة المصرية " مجلدان " المسائل الإسكندرانية " مجلد " الفتاوى المصرية " سبع مجلدات.
وكل هذه التصانيف ما عدا كتاب " الإيمان " كتبه وَهُوَ بمصر فِي مدة سبع(4/521)
سنين صنفها فِي السجن. وكتب معها أَكْثَر من مائة لَفَّة ورق أَيْضًا، كتاب " درء تعارض العقل والنقل " أربع مجلدات كبار. والجواب عما أورده للشيخ كمال الدين بْن الشريشي عَلَى هَذَا الكتاب، نَحْو مجلد كتاب " منهاج السنة النبوية فِي نقض كَلام الشيعة والقدرية " أربع مجلدات " الجواب الصحيح لما بدل دين المسيح " مجلدان " شرح أول المحصل للرازي " مجلد " شرح بضعة عشر مسألة من الأربعين للرازي " مجلدان " الرد عَلَى المنطق " مجلد كبير " الرد عَلَى البكري فِي مسألة الاستغاثة " مجلد " الرد عَلَى أهل كسروان الروافض " مجلدان " الصفدية "، " جواب من قَالَ: إِن معجزات الأنبياء قوى نفسانية " مجلد " الهلاونية " مجلد " شرح عقيدة الأصبهاني " جلد " شرح العمدة " للشيخ موفق الدين. كتب منه نَحْو أربع مجلدات " تعليقة عَلَى المحرر فِي(4/522)
الفقه لجده عدة مجلدات " الصارم المسلول عَلَى شاتم الرسول " مجلد، " بيان الدليل عَلَى بطلان التحليل " مجلد " اقتضاء الصراط المستقيم فِي مخالفة أَصْحَاب الجحيم " مجلد " التحرير فِي مسألة حفير " مجلد فِي مسألة من القسمة، كتبها اعتراضا عَلَى الخوي فِي حادثة حكم فِيهَا " الرد الكبير عَلَى من اعترض عَلَيْهِ فِي مسألة الحلف بالطلاق " ثَلاث مجلدات، كتاب " تحقيق الفرقان بَيْنَ التطليق وإلأيمان " لما مجلد كبير " الرد عَلَى الأخنائي فِي مسألة الزيارة " مجلد. وَأَمَّا القواعد المتوسطة والصغار وأجوبة الفتاوى: فلا يمكن الإِحاطة بِهَا، لكثرتها وانتشارها وتفرقها. ومن أشهرها " الفرقان بَيْنَ أولياء الرحمن وأولياء الشَّيْطَان " مجلد لطيف " الفرقان بَيْنَ الحق والبطلان " مجلد لطيف " الفرقان بَيْنَ الطلاق والأيمان " مجلد لطيف " السياسة الشرعية فِي إصلاح الراعي والرعية " مجلد لطيف " رفع الملام عَنِ الأئمة الأعلام " مجلد لطيف.
ذكر نبذة من مفرداته وغرائبه
اختار ارتفاع الْحَدِيث بالمياه المتعصرة، كماء الورد ونحوه،(4/523)
واختار جواز المسح عَلَى النعلين، والقدمين، وكل مَا يحتاج فِي نزعه من الرجل إِلَى معالجة باليد أَوْ بالرجل الأخر، فَإِنَّهُ يَجُوز عنده المسح عَلَيْهِ مَعَ القدمين.
واختار أَن المسح عَلَى الخفين لا يتوقف مَعَ الحاجة، كالمسافر عَلَى البريد ونحوه، وفعل ذَلِكَ فِي ذهابه إِلَى الديار المصرية عَلَى خيل البريد ويتوقف مَعَ إمكان النزع وتيسره.
واختار جواز المسح عَلَى اللفائف ونحوها.
واختار جواز التيمم لخشية فوات الوقت لْي حق عْير المعذور، كمن أخر الصلاة عمدا حَتَّى تضايق وقتها. وكذا من خشي فوات الجمعة والعيدين وَهُوَ محدث. فأما من استيقظ أَوْ ذكر فِي آخر وقت الصلاة: فَإِنَّهُ يتطهر بالماء ويصلي، لأن الوقت متسع فِي حقه.
واختار أَن المرأة إِذَا لَمْ يمكنها الاغتسال فِي الْبَيْت، أَوْ شق عَلَيْهَا النزول إِلَى الحمام وتكرره: أَنَّهَا تتيمم وتصلَّي.
واختار أَن لا حدَ لأقلِّ الحيض ولا لأكثره، ولا لأقل الطهر بَيْنَ الحيضتين، ولا لسن الإياس من الحيض. وأن ذَلِكَ راجع إِلَى مَا تعرفه كُل امْرَأَة من نفسها.
واختار أَن تارك الصلاة عمدا: لا يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء. ولا يشرع لَهُ. بَل يكثر مز النوافل، وألن القصر يَجُوز فِي وقت السفر وطويله، وأن سجود التلاوة لا يشترط لَهُ طهارة.(4/524)
ذكر وفاته
مكث الشيخ فِي القلعة من شعبان سنة لمست وعشرين إِلَى ذي القعدة سنة ثمان وعشرين، ثُمَّ مرض بضعة وعشرين يوما، وَلَمْ يعلم أَكْثَر النَّاس بمرضه، وَلَمْ يفجأهم إلا موته.
وكانت وفاته فِي سحر ليلة الاثنين عشري ذي القعدة، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
وذكر مؤذن القلعة عَلَى منارة الجامع، وتكلم بِهِ الحرس عَلَى الأبراج، فتسامع النَّاس بِذَلِكَ، وبعضهم أعلم بِهِ فِي منامه، وأصبح النَّاس، واجتمعوا حول القلعة حَتَّى أهل الغوطة والمرج، وَلَمْ يطبخ أهل الأسواق شَيْئًا، ولا فتحوا كثيرا من الدكاكين الَّتِي من شأنها أَن تفتح أول النهار. وفتح بَاب القلعة.
وَكَانَ نائب السلطنة غائبا عَنِ البلد، فجاء الصاحب إِلَى نائب القلعة، فعزاه بِهِ وجلس عنده، واجتمع عِنْدَ الشيخ فِي القلعة خلق كثير من أَصْحَابه، يبكون ويثنون، وأخبرهم أخوه زين الدين عَبْد الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ ختم هُوَ والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة، وشرعا فِي الحادية والثمانين، فانتهيا إِلَى قَوْله تَعَالَى: " إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ " " القمر: 54. 55 ".
فشرع حينئذ الشيخان الصالحان: عَبْد اللَّهِ بْن المحب الصالحي، والزرعي الضرير -(4/525)
وَكَانَ الشيخ يحب قراءتهما - فابتداء من سورة الرحمن حَتَّى ختما الْقُرْآن. وخرج الرجال، ودخل النِّسَاء من أقارب الشيخ، فشاهدوه ثُمَّ خرجوا، واقتصروا عَلَى من يغسله، ويساعد عَلَى تغسيله، وكانوا جَمَاعَة من أكابر الصالحين وأهل العلم، كالمزي وغيره، وَلَمْ يفرغ من غسله حَتَّى امتلأت القلعة بالرجال وَمَا حولها إِلَى الجامع، فصلَى عَلَيْهِ بدركات القلعة: الزاهد القدوة مُحَمَّد بْن تمام. وضج النَّاس حينئذ بالبكاء والثناء، وبالدعاء والترحم.
وأخرج الشيخ إِلَى جامع دمشق فِي الساعة الرابعة أَوْ نحوها. وَكَانَ قَد امتلأ الجامع وصحنه، والكلاسة، وباب البريد، وباب الساعات إِلَى الميادين والفوارة. وَكَانَ الجمع أَعْظَم من جمع الجمعة، ووضع الشيخ فِي موضع الجنائز، مِمَّا يلي المقصورة، والجند يحفظون الجنازة من الزحام، وجلس النَّاس عَلَى غَيْر صفوف. بَل مرصوصين، لا يتمكن أحد من الجلوس والسجود إلا بكلفة. وكثر النَّاس كثرة لا توصف.
فلما أذن المؤذن الظهر أقيمت الصلاة عَلَى السدة، بخلاف العادة، وصلوا الظهر، ثُمَّ صلوا عَلَى الشيخ، وَكَانَ الإِمام نائب الخطابة علاء الدين بْن الخراط لغيبة الفزويني بالديار المصرية.(4/526)
ثُمَّ ساروا بِهِ، والناس فِي بكاء ودعاء وثناء، وتهليل وتأسف، والنساء فَوْقَ الأسطحة من هناك إِلَى المقبرة يدعين ويبكين أيضًا. وكان يوماً مشهوداً، لم يعهد بدمشق مثله، وَلَمْ يتخلف من أهل البلد وحواضره إلا القليل من الضعفاء والمخدرات وصرخ صارخ: هكذا تكون جنائز أئمة أهل السنة. فبكا النَّاس بكاء كثيرا عِنْدَ ذَلِكَ.
وأخرج من بَاب البريد، واشتد الزحام، وألقى الناس على نعشه مناديل وعمائمهم، وصار النعش على الرؤوس، يتقدم تارة، ويتأخر أُخْرَى. وخرج الناس أبواب الجامع كلها وَهِيَ مزدحمة. ثُمَّ من أبواب الْمَدِينَة كلها، لكن كَانَ المعظم من بَاب الفرج، ومنه خرجت الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية، وعظم الأمر بسوق الْخَيْل.
وتقدم فِي الصلاة عَلَيْهِ هناك: أخوه زين الدين عَبْد الرَّحْمَنِ.
ودفن وقت العصر أَوْ قبلها بيسير إِلَى جانب أخيه شرف الدين عَبْد اللَّهِ بمقابر الصوفية، وحُزر الرجال: بستين ألفٍ وأكثر، إِلَى مائتي ألف، والنساء بخمسة عشر ألف، وظهر بِذَلِكَ قَوْل الإِمام أَحْمَد " بيننا وبين أهل البدع يَوْم الجنائز ".
وختم لَهُ ختمات كثيرة بالصالحية والمدينة، وتردد النَّاس إِلَى زيارة قبره أياما كثيرة، ليلًا ونهارا، ورئيت لَهُ منامات كثيرة صالحة. ورثاه خلق كثير من العلماء والشعراء بقص كثيرة من بلدان شتى،(4/527)
وأقطار متباعدة، وتأسف المسلمون لفقده. رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ورحمه وغفر لَهُ.
وصلى عَلَيْهِ صلاة الغائب فِي غالب بلاد الإِسلام القريبة والبعيدة، حَتَّى فِي اليمن والصين. وأخبر المسافرون: أَنَّهُ نودي بأقصى الصين للصلاة عَلَيْهِ يَوْم جمعة " الصلاة عَلَى ترجمان الْقُرْآن ".
وَقَدْ أفرد الحافظ أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الهادي لَهُ ترجمة فِي مجلدة،(4/528)
وكذلك أَبُو حفص عمر بن علي البزار البغدادي فِي كراريس، وإنما ذكرناها هنا عَلَى وجه الاقتصار مَا يليق بتراجم هَذَا الكتاب.
وَقَدْ حدث الشيخ كثيرا. وسمع منه خلق من الحفاظ والأئمة من الْحَدِيث، ومن تصانيفه، وخرج ابْن الواني أربعين حَدِيثا حدث بِهَا.
أَحْمَد بْن يَحْيَى بْن مُحَمَّد بْن بدر الجزري، ثُمَّ الصالحي، المقرئ(4/529)
الفقيه، شهاب الدين أَبُو الْعَبَّاس: ولد في حدود السبعين وستمائة.
وقرأ بالروايات عَلَى الشيخ جمال الدين البدوي.
وسمع من جَمَاعَة من أَصْحَاب ابْن طبرزد، والكندي، ولزم المجد التونسي مدة. وأخذ عَنْهُ علم القراءات حَتَّى مهر فِيهَا، وأقبل عَلَى الفقه، وصحب القاضي ابن مُسْلِم مدة، وانتفع بِهِ.
وَكَانَ من خيار النَّاس دينا وعقلًا، وتعففاً ومروءة وحياءاً. أقرأ الْقُرْآن وحدث.
وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة رحمه الله تعالى.
إسماعيل بن مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل بْن الفراء الحراني، ثُمَّ الدمشقي،(4/532)
الفقيه الإِمَام الزاهد، مجد الدين أَبُو الفداء، شيخ المذهب: ولد سنة خمس - أَوْ ست - وأربعين وستمائة بحران.
وقدم دمشق مَعَ أهله سنة إحدى وسبعين، وسمع بِهَا الكثير من ابْن أَبِي عُمَر، وابن الصيرفي، والكمال عَبْد الرحيم، وابن الْبُخَارِي، والقاسم الأربلي، وأبي حامد بْن الصابوني، وأبي بَكْر العامري، وغيرهم.
وطلب بنفسه، وسمع المسند، والكتب الكبار. وتفقه بالشيخ شمس الدين بْن أَبِي عُمَر وغيره، ولازمه حَتَّى برع فِي الفقه، وَلَهُ معرفة بالحَدِيث والأصول. وغير ذَلِكَ. وكتب بخطه الكثير، وتصدى للاشتغال والفتوى مدة طويلة. وانتفع بِهِ خلق كثير، مَعَ الديانة والتقوى، وضبط اللسان، والورع فِي المنطق وغيره، وإطراح التكلف فِي الملبس وغيره.
قَالَ الطوفي: وَكَانَ من أصلح خلق اللَّه وأدينهم، كأن عَلَى رأسه الطير. وَكَانَ عالما بالفقه والحَدِيث، وأصول الفقه، والفرائض، والجبر والمقابلة.
وَقَالَ الذهبي: كَانَ شيخ الحنابلة. وَكَانَ حافظا لأحاديث الأَحْكَام. طلب مدة.
وَقَالَ غيره: وَكَانَ كثير النقل، لَهُ خبرة تامة بالمذهب، يقرئ " المقنع " و " الكافي " ويعرفهما، وكتب بخطه " المغني " و " الكافي "، وغيرهما. ويقال:(4/533)
إنه أقرأ " المقنع " مائة مرة.
وَكَانَ شيخا صالحا ملازما للتعليم والاشتغال، وجواب الطلبة، بنقل صحيح محقق.
وَكَانَ يفتي، ويتحرى كثيرا. وَكَانَ عديم التكلف، ويحمل حاجته بنفسه، وليس لَهُ كَلام فِي غير العلم، ولا يخالط أحداً، وأوقاته محفوظة.
وَقَالَ: مَا وقع فِي قلبي الترفع عَلَى أحد من النَّاس، فإني خبير بنفسي، ولست أعرف أحوال النَّاس.
وَكَانَ يلازم وظائفه، ويحافظ عَلَيْهَا، لا ينقطع يَوْم بطالة ولا غيرها، بحيث ذكر عَنْهُ: إنه كَانَ يتصدى يَوْم العيد، فَإِن حضر أحد اقرأه.
وأكثر الْفُقَهَاء الَّذِينَ تنبهوا قرأوا عَلَيْهِ، ثُمَّ إِن جَمَاعَة مِنْهُم درسوا فِي المدارس، وَهُوَ معيد عندهم، يلازم الحضور ويكرمهم. ويخاطبهم بالمشيخة. رحمه اللَّه.
قُلْت: وَكَانَ سريع الدمعة.
وسمعت بَعْض شيوخنا يذكر عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ لا يذكر النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي درسه إلا ودموعه جارية، ولا سيما إِن ذكر شَيْئًا من الرقائق، أَوْ أحاديث الوعيد. ونحو ذَلِكَ.
وَقَدْ قرأ عَلَيْهِ عامة أكابر شيوخنا ومن قبلهم، حَتَّى الشيخ تقي الدين بْن الزريراني شيخ العراق. وحدث، فسمع منه جَمَاعَة، مِنْهُم: الذهبي، وغيره.
وتوفى ليلة الأحد تاسع جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وسبعمائة بالمدرسة الجوزية. ودفن بمقابر الباب الصغير. رحمه اللَّه تَعَالَى.
وَقَدْ رأيت جزءا فِيهِ مسألتين - قيل: إنهما من كلامه - إحداهما: فِي طلاق الغضبان، وأنه لا يقع. وَالثَّانِي: فِي مسألة الظفر، ونصر جواز الأخذ(4/534)
مطلقا، والظاهر من حاله وورعه وشدة تمسكه بمذهبه: يشهد بعدم صحة ذَلِكَ عَنْهُ. والله أعلم.
مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّد الخطائري، البغدادي، الأزجي،(4/535)
الفقيه الفرضي، الكاتب شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ: تفقه عَلَى الشيخ تقي الدين الزريراني، وبرع فِي الفقه والفرائض، وَكَانَ فاضلًا ذكيا.
قدم دمشق، وتنقل فِي الخدم، وصار ناظرا عَلَى المساجد.
توفي بقباقب: إِمَّا سنة تسع عشرة، وإما سنة عشرين وسبعمائة. رحمه الله تعالى.(4/536)
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْر بْن إِسْمَاعِيل بْن أَبِي البركات بْن مكي بْن أَحْمَد الزريراتي، ثُمَّ البغدادي، الِإمام فقيه العراق، ومفتي الآفاق، تقي الدين أَبُو بَكْر: ولد فِي جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وستمائة.
وحفظ القراَن(5/1)
وَلَهُ سبع سنين. وسمع الْحَدِيث من إِسْمَاعِيل بْن الطبال، ومحمد بْن ناصر بْن حلاوة، وأبي عنان الطيبي، وست الملوك فاطمة بنت أَبِي البدر، وغيرهم.
وتفقه ببغداد عَلَى جَمَاعَة، مِنْهُم: الشيخ مفيد الدين الحربي، وغيره.
ثُمَّ ارتحل إِلَى دمشق، فقرأ المذهب عَلَى الشيخ زين الدين بْن المنجا، والشيخ مجد الدين الحراني، ثُمَّ عاد إِلَى بلده، وبرع فِي الفقه وأصوله، ومعرفة المذهب والخلاف، والفرائض ومتعلقاتها.
وَكَانَ عارفا بأصول الدين، ومعرفة المذهب والخلاف، وبالحَدِيث، وبأسماء الرجال والتواريخ، وباللغة العربية وغير ذَلِكَ، وانتهت إِلَيْهِ معرفة الفقه بالعراق.
ومن محفوظاته فِي المذهب: كتاب " الخرقي " و " الهداية " لأبي الْخَطَّاب. وذكر أَنَّهُ طالع " المغنى " للشيخ موفق الدين ثلاثا وعشرين مرة. وَكَانَ يستحضر كثيرا منه، أَوْ أكثره، وعلق عَلَيْهِ حواشي، وفوائد. وشرع فِي شرح " المحرر " فكتب من أوله قطعة، وولي الْقَضَاء، ودرس بالبشيرية ثُمَّ بالمستنصرية، واستمر فِيهَا إِلَى حِينَ وفاته.
وَكَانَ يورد دروسا مطولة فصيحة منقحة. وَلَهُ اليد الطولى فِي المناظرة والبحث، وكثرة النقل، ومعرفة مذاهب النَّاس. وانتهت إِلَيْهِ رياسة العلم ببغداد من غَيْر مدافع.(5/2)
وأقر له الموافق والمخالف. وَكَانَ الْفُقَهَاء من سائر الطوائف يجتمعون بِهِ، يستفيدون منه فِي مذاهبهم، ويتأدبون مَعَهُ، ويرجعون إِلَى قَوْله ونقله لمذاهبهم، ويردهم عَن فتاويهم، فيذعنون لَهُ، ويرجعون إِلَى مَا يقوله، ويعترفون لَهُ بإفادتهم فِي مذاهبهم، حَتَّى ابْن المطهر شيخ الشيعة: كَانَ الشيخ تقي الدين يبين لَهُ خطأه فِي نقله لمذهب الشيعة فيذعن لَهُ. وَقَالَ لَهُ مرة بَعْض أئمة الشَّافِعِية - وَقَدْ بحث مَعَهُ - أَنْتَ اليوم شيخ الطوائف ببغداد.
وَقَالَ العلامة الشيخ شمس الدين البرزبي والد الشيخ شمس الدين مدرس المستنصرية: مَا درس أحد بالمستنصرية منذ فتحت إِلَى الآن أفقه منه.
ويوم وفاته قَالَ الشيخ شهاب الدين عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عسكر شيخ(5/3)
المالكية: لَمْ يبقَ ببغداد من يراجع فِي علوم الدين مثله.
قرأ عَلَيْهِ جَمَاعَة من الْفُقَهَاء، وتخرج بِهِ أئمة، وأجاز لجماعة، وَمَا أظنه حدث.
وَكَانَ فِي مبدأ أمره متزهدا قبل دخوله فِي الْقَضَاء. وَكَانَ ذا جلالة ومهابة، وحسن شكل ولباس وهيئة، وذكاء مفرط، ولطف وكيس ومروءة، وتلطف بالطلبة، وعفة وصيانة فِي حكمه. وركبه دين فِي اَخر عمره.
توفي ليلة الجمعة ثاني عشرين جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وسبعمائة. وصلى عَلَيْهِ من الغد بالمستنصرية. وحضره خلق كثير. وَكَانَ يوما مشهودا، وكثر البكاء والتأسف والترحم عَلَيْهِ. ودفن بمقبرة الإِمام أَحْمَد، قريبا من الْقَاضِي أَبِي يعلى رحمهم اللَّه تَعَالَى.
ولجماعة من أهل بغداد فِيهِ مدائح ومراث كثيرة، مِنْهُم الشيخ تقي الدين الدقوقي محدث بغداد. فمن قَوْله فِيهِ من مرثية لَهُ:
خدين التقى، مذ كَانَ طفلًا ويافعا ... تسامت بِهِ تقواه عَن كُل مأثم
لَقَدْ كَانَ شيخا فِي الْحَدِيث بقية ... من السلف الماضين أهل التقدم(5/6)
فلما مضى مَات الْحَدِيث بموته ... فأكرم بِهِ، أكرم بِهِ، ثُمَّ كرم
لَقَدْ مَات محمودا سعيدا، وَلَمْ نجد ... لَهُ خلفا، فاتبع مقالي وسلم
هنيئا لَهُ من حاكم متثبت ... غزير النفس، سهل لعافية مكرم
فتى صيغ من فقه، بَل الفقه صوغه ... حَفي بإيضاح الدلائل قيم
عليم بمنسوخ الْحَدِيث وفقهه ... وناسخه، بحر من العلم مفعم
لَقَدْ عظمت فِي الْمُسْلِمِينَ رزية ... غداة نعي الناعون أورع مُسْلِم
فمن ذا الَّذِي يؤتَى فيسأل بعده؟ ... ومن ذا ترى يجلو دحى كُل مبهم؟
فقدناه شيخاً عالماً، ذا نزاهة ... حيياً سخياً، ذا أيادٍ وأنعم
وها سُدَةُ التدريس من بعده وها ... مشيد علاها الشامخ المتسنم
وجاور بَعْد الْمَوْت قبر ابْن حنبل ... إمام، إِلَيْهِ الزهد ينمى وينتمي
وَمَا خاب من أمسى مجاور قبره ... فحط رحال الشوق ثَمً، وخَيم
وَهِيَ طويلة.
ومن فتاوى الشيخ تقي الدين الزريراتي المعروفة: أَن من أغْرَى ظالما بأخذ مال إِنْسَان، ودله عَلَيْهِ: فإنه يلزمه الضمان بِذَلِكَ.
ومن المعيدين عند بالمستنصرية:
جمال الدين الفيلوى: خطيب جامع الْمَنْصُور كَانَ ينافسه فِي(5/7)
التدريس، وَكَانَ طويل الروح عَلَى المشتغلين. اشتغل عَلَيْهِ جمال الدين الدارقزي خطيبها، وإمام الضيائية(5/8)
بدمشق المقرئ للسبيع.
توفي بدمشق في جمادى الأولى سنة إحدى وستين وسبعمائة، رحمه اللَّه من الكيلانيين وغيرهم - والشيخ.
حمزة الضرير: إمام التعبير. كَانَ يحفظ الْقُرْآن. يقرأ السورة من أخرها إِلَى أولها ذكيا. ولازمه مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ المقرئ، ومحمد بْن دَاوُد(5/9)
وإبراهيم الكاتب،(5/10)
والشيخ عَلَى بْن سوكة الْقَطَّان الزاهد الحيري، وحموه الصالح مُحَمَّد الحضايري. أخرج بَعْد مدة ودفن بمقبرة أَحْمَد. وكفنه باقٍ وَهُوَ طري. وَكَانَ هُوَ بنفسه يصحب مُحَمَّد بْن القيمة بباب الأزج. وانتفع بِهِ.
ومن خواصه الشيخ أحمد بن عبد الرحمن السقامُرَبي الطائفة،(5/11)
والشيخ أَحْمَد بْن مُحَمَّد التماسكي المعيد، صنف كتابا فِي الفقه وعرضه عَلَيْهِ، وولده مُحَمَّد الفرضي، وشيخنا شهاب الدين أَحْمَد بْن مُحَمَّد الشيرجي الزاهد، أعاد(5/12)
بعده بالمستنصرية، عِنْدَ شمس الدين مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان النهرماري المدرس بالمستنصرية إِلَى الآن - توفي سنة أربع وستين.
والقاضي جمال الدين عَبْد الصمد بْن خليل الخضري: المدرس(5/14)
بالبشيرية محدث بغداد. وَكَانَ يحدث بمسجد يانس، يَقُول تفسير الرسعني من حافظه، ويحضره الخلق، مِنْهُم المدرسون والأكابر. وَلَهُ ديوان شعر حسن الخطابة والوعظ. وَقَدْ مدح الزريراتي بقصائد، ورثاه ورثى ابْن تيمية أيضًا.
توفي سنة خمس وستين فِي رمضان(5/15)
وولي بعده الْحَدِيث بمسجد يانس: -
نور الدين مُحَمَّد بْن محمود المحدث الفقيه: المعيد المقرئ. كَانَ شيخنا الدقوقي يقدمه عَلَى المحيي بْن الكواز، وغيره من أَصْحَابه، وَيَقُول: هُوَ أحفظ الْجَمَاعَة، وأضبط. وسمع وأفتى. وخرج وقرأ عَلَى شيخنا ابْن مؤمن وتميز.(5/16)
وتوفي سنة ست وستين وسبعمائة.
وكلهم دفن بمقبرة الإِمَام أَحْمَد رحمهم اللَّه أجمعين، ورضي عنا وَعَنْهُم، وَجَمِيع إخواننا.
إِسْحَاق بْن أبي بكر بن الدسبي بْن أطس التركي، ثُمَّ الْمِصْرِي، الفقيه المحدث، الأديب الشاعر، نجم الدين أَبُو الفضل: ولد سنة سبعين وخمسمائة.
وسمع بمصر من الأبرقوهي.
ورحل. وسمع بالإِسكندرية من القرافي. وبدمشق: من ابْن حفص بْن القواس، وإسماعيل بْن الفراء، وبحلب: من سنقر الزيني. وتفقه، وَقَالَ الشعر الْحَسَن.
وسمع منه الحافظ الذهبي بحلب، ثُمَّ دَخَلَ العراق بَعْد السبعمائة وتنقل في البلاد، وسكن أذربيجان، وَلَمْ تكن سيرته هناك مشكورة، وبقي إلى بعد العشرين وسبعمائة، وَلَمْ يتحقق سنة وفاته.
وَلَهُ قصيدة حسنة(5/17)
طويلة فِي مدح الشيخ تقي الدين ابْن تيمية، منها:
يعنفني فِي بغيتي رتبة العلى ... جهول أراه راكبا غَيْر مركبي
لَهُ همة دُونَ الحضيض محلها ... ولي همة تسمو عَلَى كُل كوكب
فلو كَانَ ذا جهل بسيط عذرته ... ولكن يدلي بجهل مركب
يَقُول: علام اخترت مذهب أَحْمَد؟ ... فَقُلْتُ لَهُ: إذ كَانَ أحمدَ مذهب
وهل فِي ابْن شيبان مقال القائل ... وهل فِيهِ من طعن لصاحب مضرب؟
أليس الَّذِي قَدْ طار فِي الأَرْض ذكره ... وطبقهما مَا بَيْنَ شرق ومغرب؟
ثُمَّ ذكر محنته - إِلَى أَن قَالَ:
وأَصْحَابه أهل الهدى لا يضرهم ... عَلَى دينهم طعن امرئ جاهل غبي(5/18)
هُم الظاهرون القائمون بدينهم ... إِلَى الحشر، لم يغلبهما ذو تغلب
لنا مِنْهُم فِي كل عصر أئمة ... هداة إِلَى العليا، مصابيح مرقب
وَقَدْ علم الرحمن أَن زماننا ... تشعب فِيهِ الرأي أي تشعب
فجاء بحبر عالم من سَراتهم ... كسبع متين بَعْد هجرة يثرب
يقيم قناة الدين بَعْد اعوجاجها ... وينقذها من قبضة المتعصب
فذاك فتى تيمية خير سيد ... نجيب أتانا من سلامة منجب
عليم بأدواء النفوس، يسوسها ... بحكمته، فعل الطبيب المجرب
بعيد عن الفحشاء والبغي والأذى ... قريب إلى أهل التقى، ذو تحبب
يرى نصْرةَ الإِسلام أكرم مغنم ... وإظهار دين اللَّه أربح مكسب
وكم قَدْ غدا بالفعل والقول مبطلا ... ضلالة كذاب، ورأى مكذب
وَلَمْ يلقَ من أعداه غَيْر منافق ... وآخر عَن نهج السبيل منكب
وَهِيَ طويلة. ومنها:
وليس لَهُ فِي الزهد والعلم مشبه ... سِوَى الْحَسَن البصري وابن الْمُسَيِّب
ومدح فِي أخرها شرف الدين عَبْد اللَّهِ أَخَا الشيخ.(5/19)
محمد برت سُلَيْمَان بْن حمزة بْن أَحْمَد بْن عُمَر بْن أَبِي عُمَر المقدسي،(5/23)
ثُمَّ الصالحي، قَاضِي القضاة، عز الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ، ابْن قَاضِي القضاة تقي الدين بْن أَبِي الفضل: ولد فِي عشرين ربيع الآخر سنة خمس وستين وستمائة.
وسمع من الشيخ شمس الدين بْن أَبِي عُمَر، والفخر، وأبي بَكْر الهروي، وغيرهم. وأجاز لَهُ ابْن عَبْد الدايم، وغيره.
ثُمَّ اشتغل وقرأ الفقه عَلَى أَبِيهِ وغيره. وناب عن والده فِي الحكم، وترك لَهُ والده تدريس الجوزية، فدرس بِهَا فِي(5/24)
حياته، وكتب فِي الفتوى، ودرس بعد موت والده بدار الْحَدِيث الأشرفية بالسفح.
ثُمَّ ولى الْقَضَاء مستقلا بَعْد موت ابْن مُسْلِم. وَكَانَ ذا فضل وعقل، وحسن خلق، وتودد، وقضاء لحوائح النَّاس، وتهجد من الليل وتلاوة، وحج ست مرات.
وتوفي فِي تاسع صفر سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة. ودفن بتربة(5/25)
جده الشيخ أَبِي عُمَر. وحضره خلق كثير. رحمه اللَّه تَعَالَى.
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن سلطان بْن مُحَمَّد بْن عَلِي القرامزي، الفقيه العابد أَبُو مُحَمَّد، وأبو الفرج: ولد سنة أربع وأربعين وستمائة تقريبا.
وقرأ بالروايات. وسمع من ابْن عَبْد الدايم، وإسماعيل بْن أَبِي اليسر وجماعة. وتفقه فِي المذهب، ثُمَّ تزهد، وأقبل عَلَى العبادة والطاعة، وملازمة الجامع، وكثرة الصلوات بِهِ. واشتهر بِذَلِكَ. وصار لَهُ قبول وعظمة عِنْدَ الأكابر.
وَقَدْ غمزه الذهبي بأنه نال بِذَلِكَ سعادة دنيوية، وتمتع بالدنيا وشهواتها الَّتِي لا تناسب الزاهدين.(5/28)
قَالَ: وسمعت منه، " اقتضاء العلم " للخطيب. وَكَانَ قوي النفس لا يقوم لأحد. وَلَهُ محبون. ومن حسناته أَنَّهُ كَانَ من اللعانين للاتحادية.
توفي مستهل المحرم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة ببستانه بأرض جوير وصلَّى عَلَيْهِ بجامع جراح. ودفن بمقبرة الباب الصغير. رحمه اللَّه تَعَالَى.
عَبْد القادر بن محمد بن إبراهبم المقريزي، البعلي، المحدث(5/29)
الفقيه، محي الدين أَبُو مُحَمَّد: ولد فِي حدود سنة سبع وسبعن وستمائة.
وسمع بدمشق من عُمَر بْن القواس وطائفة. وبمصر من أَبِي الحسن بن القسم وسبط زيادة، وغيرهما. وعني بالحَدِيث. وقرِأ وكتب بخطه كثيرا وخرج، وتفقه.
قَالَ الذهبي: لَهُ مشاركة فِي علوم الإِسلام، ومشيخة الْحَدِيث بالبهائبة، وغير ذَلِكَ. علقت عَنْهُ فوائد. وسمع منه جَمَاعَة.
توفي ليل الإِثنين ثامن عشرين ربيع الأول سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة. ودفن بمقبرة الصوفية بالقرب من قبر الشيخ تقي الدين رحمه الله تَعَالَى.
الْحُسَيْن بْن يُوسُف بْن مُحَمَّد بْن أَبِي السري الدجيلي، ثم البغذادي،(5/30)
الفقيه، المقرئ الفرضي، النحوي الأديب، سراج الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ: ولد سنة أربع وستين وستمائة. وحفظ الْقُرْآن فِي صباه. ويقال: إنه تلقن(5/31)
سورة البقرة فِي مجلسين، والحواميم فِي سبعة أَيَّام.
وسمع الْحَدِيث ببغداد من إِسْمَاعِيل بْن الطبال، ومفيد الدين الحربي الضرير وابن الدواليبي، وغيرهم.
وبدمشق من أَبِي الفتح البعلي، والمزي الحافظ، وغيرهما. وله إجازة من الكمال الزار، وعبد الحميد بْن الزجاج، وجماعة من القدماء، وحفظ كتبً فِي العلوم، منها " المقنع " فِي الفقه و " الشاطبية "، و " الألفيتان " في النحو، و " مقامات الحريري " و " عروض ابن الحاجب " و " الدريدية " ومقدمة فِي الحساب. وقرأ الأصلين، وعني بالعربية واللغة، وعلوم الأدب.
وتفقه على الزيريراتي. وَكَانَ فِي مبدأَ أمره: يسلك طريق الزهد، والتقشف البليغ، والعبادة الكثيرة، ثُمَّ فتحت عَلَيْهِ الدنيا. وَكَانَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ أوراد ونوافل. وصنف كتاب " الوجيز " فِي الفقه، وعرضه عَلَى شيخه الزريراتي، فما كتب لَهُ عَلَيْهِ.
ألفيته كتابا وجيزا كَمَا وسمه، جامعا لمسائل كثيرة، وفوائد غزيرة قل أَن يجتمع مثلها من أمثاله، أَوْ يهيأ لمصنف أَن ينسخ عَلَى منواله.
وصنف كتابا فِي أصول الدين، وكتاب " نزهة الناظرين، وتنبيه الغفلين " وَلَهُ قصيدة لامية فِي الفرائض.(5/32)
وَكَانَ خيرا فاضلًا، متمسكا بالسنة، كثير الذكاء، حسن الشكل، دمث الأخلاق، متواضعا. اشتغل عَلَيْهِ جَمَاعَة، وانتفعوا بِهِ فِي الفقه وَفِي الفرائض، مِنْهُم: يُوسُف بْن مُحَمَّد السرمري، والشرف بْن سلوم قَاضِي حري. وحدث.
وتوفي ليلة السبت سادس ربيع الأَوَّل سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة. ودفن بالشهيل، قرية من أعمال دجيل. رحمه اللَّه تَعَالَى.
عَبْد اللَّهِ بْن حسن بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الغني بْن عَبْد الْوَاحِد المقدسي،(5/33)
الصالحي، الفقيه المحدث، قَاضِي القضاة، شرف الدين أَبُو مُحَمَّد بْن شهاب الدين أَبِي مُحَمَّد بْن الحافظ أَبِي موسى بْن الحافظ الكبير أَبِي مُحَمَّد: ولد فِي رمضان سنة ست وأربعين وستمائة.
وسمع من مكي بْن علان، ومحمد بْن عَبْد الهادي، والبلداني، وخطيب مردا وإبراهيم بن خليل وغيرهم. وأجاز لَهُ جَمَاعَة. وطلب بنفسه. وقرأ عَلَى ابْن عَبْد الدائم وغيره.
وتفقه، وأفتى، وناب فِي الحكم عَن أخيه، ثُمّ عَنِ ابْن مُسْلِم مدة ولايتهما.
ثُمَّ ولي الْقَضَاء فِي آخر عمره مستقلًا فَوْقَ سنة، ودرس بالصاحبية، وتولى، مشيخة الْحَدِيث بالصدرية والعالمية، ثُمَّ بدار الْحَدِيث الأشرفية. وَكَانَ فقيها عالما خيرا صالحا، منفردا بنفسه، ذا فضيلة(5/34)
جيدة، حسن القراءة، حميد السيرة فِي الْقَضَاء، فعمر وتفرد وحدث. وسمع منه الذهبي، وخلق.
توفي فجأة - وَهُوَ يتوضأ للمغرب - آخر نهار الأربعاء مستهل جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة بمنزله بالدير. وَكَانَ قَدْ حكم ذَلِكَ اليوم بالمدينة، ثُمَّ توجه آخر النهار إِلَى السفح. ودفن من الغد بتربة الشيخ أَبِي عُمَر. وحضره جمع كثير. رحمه اللَّه تَعَالَى.
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن إبراهيم بن عبد الله بن أَبِي عُمَر مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن قدامة، المقدسي، الفرضي، الزاهد القدوة، عز الدين أَبُو الفرج ابْن الشيخ عز الدين أَبِي إِسْحَاق ابْن الخطيب شرف الدين، أَبِي بَكْر، ابْن القدوة الكبير أبو عمرة ولد فِي تاسع عشر جمادى الأولى سنة ست وخمسين وستمائة.
وسمع من ابْن عَبْد الدائم، وغيره. وحج صحبة الشيخ شمس الدين بْن أَبِي(5/35)
عُمَر وكمل عَلَيْهِ قراءة كتاب " المقنع " بالمدينة النبوية. وحج بَعْد ذَلِكَ مرات. وَكَانَ ذا معرفة تامة بالفرائض ومتعلقاتها.
حدث. وسمع منه الذهبي، وذكره فِي معجمه. وَقَالَ: كَانَ فقيها عالما، متواضعا صالحا، عَلَى طريقة السلف. وَكَانَ عارفا بمذهب أَحْمَد. لَهُ فَهُمْ ومعرفة تامة بالفرائض. وفيه تودد وانطباع، وعدم تكلف.
وَقَالَ غيره: كَانَ رجلًا صالحا، بشوش الوجه، كثير الخير، مواظبا عَلَى أفعال البر. أخذ عَنْهُ الفرائض جَمَاعَة، وانتفعوا بِهِ.
توفي فِي ثامن شَهْر رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة. ودفن بتربة الشيخ أَبِي عُمَر بسمْح قاسيون. رحمه اللَّه تَعَالَى.
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن يُوسُف بْن مُحَمَّد بْن(5/36)
نصر البعلي، ثُمَّ الدمشقي، الفقيه المحدث، فخر الدين أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن الشيخ شمس الدين أَبِي عَبْد اللَّهِ، ابْن الإِمَام فخر الدين أَبِي مُحَمَّد: وَقَدْ سبق ذكر أَبِيهِ وجده. ولد يَوْم الخميس رابع عشرين ربيع الآخر سنة خمس وثمانين وستمائة.
وسمع من ابْن الْبُخَارِي فِي الخامسة، ومن الشيخ تقي الدين الواسطي، وعمر بْن القواس. وعني بالحَدِيث. وارتحل فِيهِ مرات، وكتب العالي والنازل(5/37)
من سنة خمس وسبعمائة، وهلم جرا. وخرج لغير واحد من الشيوخ. وأفاد وتفقه، وأفتى فِي آخر عمره، وولي مشيخة الصدرية والإِعادة بالمسمارية، وجمع عدة تأليف، وفسر بَعْض الْقُرْآن الكريم.
وحدث، وسمع منه الذهبي، وجماعة.
وكان فقيهاً محدث، كثير الاشتغال بالعلم، عفيفا دينا، حج مرات، وأقام بمكة شهرا، وَكَانَ مواظبا عَلَى قراءة جزءين من الْقُرْآن فِي الصلاة فِي كُل ليلة. وَلَهُ مواعيد كثيرة لقراءة الْحَدِيث، والرقائق عَلَى النَّاس، وجمع في ذَلِكَ مجموعات حسنة، منها كتاب " الثمر الرائق المجتبى من الحقائق " وانتفع بمجالسه النَّاس.
وتوفي يَوْم الخميس تاسع عشر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وصلَّى عَلَيْهِ بالجامع، وحضر جنازته جمع كثير، وحمل عَلَى الرقاب،(5/38)
ودفن بمقبرة الصوفية، وَلَمْ يعقب رحمه اللَّه تَعَالَى.
وأخبرني بَعْض أقاربه - وَكَانَ يخدمه فِي مرضه الني توفى فِيهِ - قالَ: آخر مَا سمعت عِنْدَ موته، أَن قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كَانَ آخر قَوْله لا إله إلا اللَّه " ثُمَّ مَات.
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مَسْعُود بْن أَحْمَد بْن مَسْعُود بْن زَيْد الحارثي،(5/39)
ثُمَّ الْمِصْرِي، الفقيه المناظر الأصولي، شمس الدين أَبُو الفرج، ابْن الحافظ قَاضِي القضاة سَعْد الدين المتقدم ذكره: ولد سنة إحدى وسبعين وستمائة.
وسمع بقراءة والده الكثير بالديار المصرية من العز الحراني، ومن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، وشامية بنت البكري، وغيرهم.
وبدمشق من ابْن الْبُخَارِي، وابن المنجا وجماعة. وسمع بالإسكندرية من القرافي. وقدم دمشق مرة ثانية بنفسه. فسمع من عُمَر بْن القواس وغيره.
وعنى بالسماع والطلب، وتفقه فِي المذهب حَتَّى برع، وأفتى وناظر، وأخذ الأصول عَنِ ابْن دقيق العيد، والعربية عَنِ ابْن النحاس، وناب عَن والده وغيره فِي الحكم، ودرس بالمنصورية، وجامع ابْن طولون وغيرهما، وتصدى للاشتغال.
وَكَانَ شيخ المذهب بالديار المصرية. وَلَهُ مشاركة فِي التفسير والحَدِيث، ويذكر لقضاء مصر والشام، مَعَ الديانة والورع والجلالة، يعد من الْعُلَمَاء العاملين.
وحدت، وسمع منه جَمَاعَة.
وتوفي يَوْم الجمعة سادس عشر ذي الحجة سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة بالمدرسة الصالحية بالقاهرة. ودفن إِلَى جانب والده بالقرافة، رحمهما اللَّه تعالى.(5/40)
ومما رأيت في فتاويه: أَن صلاة التراويح، قبل صلاة العشاء، لا تصح وأنها بدعة ينهى عَنْهَا، ووافقه عَلَى ذَلِكَ ابْن جَمَاعَة قَاضِي الشَّافِعِية، وغيره من المالكية، وَقَدْ صرح بِهَذَا الْقَاضِي أَبُو يعلى. مِمَّا قرأته بخطه عَلَى طهر جزء من خلافه. قَالَ الْقَاضِي: ولكن يَجُوز تقديمها عَلَى الوتر، لأنها من قيام الليل، فتجوز قبل الوتر وبعده.(5/43)
محمود بْن عَلِي بْن محمود بْن مقبل بْن سُلَيْمَان بْن دَاوُد الدقوقي،(5/44)
ثُمَّ البغدادي، المحدث الحافظ الواعظ، تقي الدين أبو الثناء: ولى ت فِي بكرة الاثنين سادس عشرين جمادى الأولى سنة ثَلاث وستين وستمائة.
وسمع الكثير بإفادة والده، ومن عبد الصمد بن أبي الجيش، وعلي بْن وضاح وابن الساعي، وعبد اللَّه بْن بلدجي، وعبد الجبار بْن عكبر، وعبد الرحيم بن الزجاج، ومحمد بن الدنية، وأبي الْحَسَن بْن الوجوهي، ومحمد بْن أَحْمَد بْن معضاد، وعبد الله بْن ورخز، وخلق وأجاز لَهُ جَمَاعَة كثيرة من أهل الشام والعراق.
ثُمَّ طلب بنفسه وقرأ ما لا يوصف كثرة عَلَى(5/45)
الشيوخ بَعْد هذه الطبقة. قريبا من خمسين سنة، وَكَانَ قارئ الحديث بدار المستنصرية مدة. ثُمَّ ولي المشيخة بِهَا بَعْد وفاة الدواليبي المتقدم ذكره.
وَكَانَ يقرأ الْحَدِيث فِي دار الْحَدِيث الَّتِي كانت تعرف بمسجد يانس، ويجتمع عنده خلق كثير، يبلغون عدة آلاف، ويعظ بِهَا وبغيرها. وانتهى إِلَيْهِ علم الْحَدِيث والوعظ ببغداد، وَلَمْ يكن بِهَا فِي وقته أَحْسَن قراءة للحَدِيث منه، ولا معرفة بلغاته وضبطه، وَلَهُ اليد الطولى فِي النظم والنثر، وإنشاء الخطب والمواعظ.
كتب بخطه الكثير من الفقه والحَدِيث، وَلَهُ مشاركة فِي الفقه، وحفظ " الخرقي " فِي صغره، وَكَانَ لطيفا، حلو النادرة، مليح الفكاهة، ذا حرمة وجلالة وهيبة، ومنزلة عند الأكابر، وجمع عدة أربعينيات فِي معارف مختلفة، وَلَهُ كتاب " مطالع الأنوار، فِي الأحبار والآثار الخالية عَنِ السند والتكرار "، وكتاب " الكواكب الحرية، في المناقب العلوية " وذكر: أَنَّهُ جمع تاريخا وَلَمْ يوجد. ويقال: إنه جمع كتابا فِي الأسماء المبهمة فِي الْحَدِيث، وَلَمْ يوجد أيضًا، وَلَهُ شعر كثير، لو جمع لجاء منه ديوان. تخرج به جماعة(5/46)
في علم الْحَدِيث، وانتفعوا بِهِ.
وسمع منه خلق، وحدث عنه طائفة.
توفى يَوْم الاثنين بَعْد العصر، عشري المحرم سنة ثَلاث وثلاثين وسبعمائة، وصلي عليه من الغد بجامع القصر، ثُمَّ بالمستنصرية وغيرها، وشيعه(5/47)
خلق كثير من القضاة وَالْعُلَمَاء والأعيان وغيرهم، وكثر البكاء والثناء عَلَيْهِ، ودفن بمقبرة الإِمام أَحْمَد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. ورثاه غَيْر واحد. رحمه اللَّه تَعَالَى.
أنشدني والدي قَالَ: أنشدنا أَبُو الثناء الدقوقي لنفسه:
جاهد بنفسك فِي الفضائل تغنم ... وخُض المهالك فِي المحبة تسلم
وذَرِ التعلل بالمنى، فَهِيَ العنا ... واطرح سلاحك فِي الهوى واستسلم
من لَمْ يذق فِي حبنا طعم الفنا ... لَمْ يلفنا نكفيه ثقل المغرم
خاطر بنفسك فِي هوانا واسترح ... إِن شئت تحظى بالمحل الأعظم
مَرِّغْ خدودك فِي ثرى أعتابنا ... لتفوز بالحسنى وفيض الأنعم
لا يَصْدِفَنَّك صادفٌ عَن مطلب ... فالعز مقرون بحد المخذم(5/49)
من ذا الَّذِي ألفى بساحل جودنا ... فشكى الظما، أَوْ خاف فوت الموسم
نحن الَّذِينَ إِذَا أتانا سائل ... نوليه إحسانا وفضل تكرم
نعفو عَنِ الجاني، ونقبل عذره ... ونقبل عَثْرَةَ تائِبٍ متندم
ونقول فِي الأسحار: " هل من سائل ... مستغفر " لينال طيب المغنم.
لا يلهينك شاغل عَن وصلنا ... وانهض عَلَى قدم الرجاء وقدم
وَهِيَ طويلة. مدح فِيهَا النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه رَضِيَ اللَّه عَنْهُم.
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن محمود بْن عبيد البعلي، الفقيه الزاهد العارف، زين الدين أَبُو الفرج: ولد سنة خمس وسبعين وستمائة.
وسمع الْحَدِيث. وتفقه عَلَى الشيخ تقي الدين وغيره. وبرع وأفتى. وَكَانَ إماما، عارفا بالفقه وغوامضه، والأصول والحَدِيث، والعربية والتصوف، زاهدا عابدا، ورعا متألها ربانيا. صحب الشيخ عماد الدين الواسطي، وتخرج بِهِ فِي السلوك.
ويذكر لَهُ أحوال وكرامات. ويقال: إنه كَانَ يطلع عَلَى ليلة القدر كُل(5/50)
سنة وَقَدْ نالته مرة محنة بسبب حال حصل لَهُ، اطلع عَلَيْهِ بَعْض أَصْحَابه، فأشاع ذَلِكَ عَنْهُ، وأظهر بِهِ خطة. فعقد لَهُ مجلس بدار السعادة بدمشق سنة ثمان عشرة، حضره القضاة وَالْفُقَهَاء، وأحضروا خطة بأنه: رأى الحق سبحانه وتعالى، وشاهد الملكوت الأعلى، ورأى الفردوس، ورفع إِلَى فَوْقَ العرش، وسمع الْخَطَّاب، وقيل لَهُ: قَدْ وهبتك حال الشيخ عَبْد القادر، وأن اللَّه تَعَالَى أخذ شَيْئًا كالرداء من عَبْد القادر، فوضعه عَلَيْهِ، وأنه سقاه ثلاثة أشربة مختلفة الألوان، وأنه قعد بَيْنَ يدي اللَّه تَعَالَى مَعَ مُحَمَّد وإبراهيم وموسى وعيسى والخضر عَلَيْهِم السَّلام، وقيل لَهُ: هَذَا مكان مَا يجاوزه ولي قط. وقيل لَهُ: إنك تبقى قطبا عشرين سنة.
وذكر أشياء أخر. فاعترف أَنَّهُ خطه. فأنكر ذَلِكَ عَلَيْهِ، فبادر، وجدد إسلامه، وحكم الحاكم بحقن دمه، وأمر بتأديبه. وحبس أياما.
ثُمَّ أخرج ومنع من الفتوى وعقود الأنكحة، ثُمَّ بان لَهُ غلطه، وأن هَذَا لَمْ يكن لَهُ وجود فِي الخارج، وإنما هِيَ أخيلة وشواهد وأنوار قلبية، لا أمور خارجية وشيخه الواسطي مَعَ سائر أئمة الطريق أهل الاستقامة، وصوفية أهل الْحَدِيث يقررون ذَلِكَ، ويحذرون من الغلط فِيهِ، كَمَا زل فِي ذَلِكَ طوائف من أكابر الصوفية.
وَكَانَ أَكْثَر إقامة الشيخ زين الدين بدمشق، يعيد بالمدارس،(5/51)
ويتصدى للاشتغال والإِفادة، وإقراء الْحَدِيث والفقه وأصوله، وانتفع بِهِ جَمَاعَة، وتحْرجوا بِهِ، مِنْهُم: الإِمَام العلامة عز الدين حمزة ابْن شيخ السلامية وغيره.
وسافر مرة إِلَى حماة، واجتمع بقاضيها الشيخ شرف الدين بْن البارزي. وَكَانَ إماما متقنا، ذا قدم راسخ فِي السلوك. فبلغني عَنِ ابْن البارزي: أَنَّهُ كَانَ بَعْد ذَلِكَ يثني عَلَى الشيخ رين الدين ثناء كثيرا، ويذكر أَنَّهُ لَمْ يرَ مثله، هَذَا أَوْ نحوه.
وصنف كتابا فِي الأَحْكَام على أبواب " المقنع " سماه " المطلع "، وشرح قطعة من أول " المقنع " وجمع " زوائد المحرر عَلَى المقنع "، وَلَهُ كَلام فِي التصوف وحدث بشيء من مصنفاته.
توفي فِي منتصف صفر سنة أربع وثلاثين وسبعمائة ببعلبك، وشيعه عامة أهل البلد، وحمل على الرؤوس. ودفن بمقبرة بَاب سطحان. رحمه اللَّه تَعَالَى.(5/52)
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن حسين بْن يَحْيَى بْن عُمَر بْن النجمي المصري القبابي، و " قباب "، قرية من قرى أشموم الرمان بالصعيد - نزيل حماة. الفقيه الزاهد العابد القدوة، نجم الدين أَبُو عُمَر: كَانَ رجلًا صالحا، زاهدا(5/53)
عابدا، عالما قدوة، عارفا فقيها، ذا فضيلة ومعرفة. وَلَهُ اشتغال بالمذهب. أقام بحماة مدة فِي زاوية يزار بِهَا. وَكَانَ معظما عِنْدَ الخاص والعام، وأئمة وقته يثنون عَلَيْهِ، كالشيخ تقي الدين ابْن تيمية وغيره. وَكَانَ أمارا بالمعروف، نهاءا عَنِ المنكر، من الْعُلَمَاء الربانيين، وبقايا السلف الصالحين. وَلَهُ كَلام حسن يؤثر عَنْهُ.
توفي فِي آخر نهار الاثنين رابع عشر رجب سنة أربع وثلاثين وسبعمائة. بحماة. وكانت جنازته مشهودة عظيمة جداً، وحمل على الرؤوس. ودفن شمالي البلد، وتأسف النَّاس عَلَيْهِ. رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وتوفى ولده: -
سراج الدين عُمَر بالقدس. وَكَانَ جامعا بَيْنَ العلم(5/54)
والعمل واشتغل وانتفع بابن تيمية، وَلَمْ أرَ عَلَى طريقه فِي الصلاح مثله رحمه اللَّه تَعَالَى.
مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن محمود بْن قاسم بْن البزرتي، البغدادي، الفقيه الأصولي، الأديب النحوي، شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ، ابْن الِإمام أَبُو الفضائل: قرأ الفقه عَلَى الشيخ تقي الدين بْن الزريراتي. وَكَانَ إماما عالما، متقنا بارعا فِي الفقه والأصلين، والأدب والتفسير، وغير ذَلِكَ.(5/58)
وَلَهُ نظم حسن، وخط مليح، ودرس بالمستنصرية بعد سيخه الزريراتي. وَكَانَ من فضلاء أهل بغداد.
توفي أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن البزرتي فِي سنة خمس وثلاثين وسبعمائة ببغداد.
وَكَذَلِكَ كَانَ والده أَبُو الفضل إماما عالما، مفتيا صالحا!.
وتوفي فِي جمادى الأولى من السنة أيضاَ:
نصير الدين أَحْمَد بْن عَبْد السَّلام بْن تميم بْن أَبِي نصر بْن عَبْد الباقي بْن عكبر البغدادي: المعمر ببغداد، عَن خمس وتسعين سنة. ودفن بباب حرب، سمع الكثير من عَبْد الصمد بْن أَبِي الجيش، وابن وضاح، وابن أَبِي الدنية وابن الدباب وطبقتهم.
وحدث. سمع منه خلق، وتفقه. وأعاد بالمدرسة البشيرية للحنابلة، وأضر فِي آخر عمره، وانقطع فِي بيته رحمه اللَّه تَعَالَى.
وذكر: أَنَّهُ من أولاد عكبر الني تاب هُوَ وأَصْحَابه من قطع الطريق، لرؤيته عصفورا ينقل رطبا من نخلة حامل إِلَى أُخْرَى حائل، فصعد فنظر، فَإِذَا هُوَ بحية عمياء، والعصفور يأتيها برزقها، فتاب هُوَ وأَصْحَابه. وذكره(5/59)
ابْن الجوزي فِي " صفوة الصفوة " فنسبت بَنِي عكبر إِلَيْهِ. والله أعلم.
وَكَانَ يحط عَلَى عَبْد الصمد بْن أَبِي الجيش، وَيَقُول: أنا أقدم(5/60)
منه، فكيف يقدم عَلِي فِي مشيخة الْحَدِيث بالمستنصرية. وَلَمْ يبقَ فِي سني أحد ببغداد.
عَبْد الله بن أحمد بن عبد اللَّهِ بْن أَحْمَد بْن أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ(5/66)
إِبْرَاهِيم بْن أَحْمَد بْن عَبْد الرحمن بن إسماعيل بن منصور، السعدي الصالحي، المقدسي الأصل، المحدث الصالح، القدوة الزاهد، محب الدين أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي الْعَبَّاس بْن المحب: وَقَدْ سبق ذكر جده. ولد يَوْم الأحد ثاني عشر المحرم سنة اثنتين وثمانين وستمائة بقاسيون.
وأسمعه والده من الفخر بْن الْبُخَارِي، وابن الكمال، وزينب بنت مكي وجماعة. ثُمَّ طلب بنفسه، وسمع من عُمَر بْن القواس، وأبي الفهم بْن عساكر، ويوسف الفسولي، وخلق من بعدهم. وذكر كثرة شيوخه الَّذِينَ أخذ عنهم نحواً من ألف شيخ. وقرأ بنفسه الكثير، وعني بِهَذَا الشأن. وكتب بخطه الكثير، والعالي والنازل. وخرج التخاريج لجماعة من الشيوخ، وانتقى وأفاد.(5/67)
وَقَالَ الذهبي: كَانَ فصيح القراءة، جهوري الصوت، منطلق اللسان بالآثار، سريع القراءة، طيب الصوت بالقرآن، صالحا خائفا من اللَّه صادقا، انتفع الناس بتذكيره وبمواعيده.
وذكره أَيْضًا فِي " معجم " شيوخه، وَقَالَ: كَانَ شابا صالحا، فِي سمعه ثقل مَا. وَقَدْ حدث كثيرا. وسمع منه جَمَاعَة.
وتوفي يَوْم الاثنين سابع ربيع الأَوَّل سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. وكانت جنازته مشهودة شيعه الخلق الكثير، وكثر الثناء والتأسف عَلَيْهِ.
ودفن بالقرب من الشيخ موفق الدين بسفح قاسيون رحمه اللَّه تَعَالَى.
وَكَانَ والده: -
أَبُو الْعَبَّاس من كبار الصالحين الأتقياء الأخفياء:(5/68)
حدث عَن إِبْرَاهِيم بْن خليل وابن عَبْد الدايم، وجماعة. سمع منه الذهبي وجماعة، وَقَالَ: سألت عنه والده؟ قَالَ: مَا أعلم عَلَيْهِ شَيْئًا يشينه فِي دينه.
قَالَ الذهبي: مَا هُوَ عندي بدون شيخنا مُحَمَّد بْن تمام. وذكره فِي " المعجم المختصر " فَقَالَ: الإِمام الزاهد الصالح. بقية السلف الأخيار.
ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة.
وعنى بطلب الْحَدِيث. وكتب وأفتى، ونسخ لنفسه وللناس. وَكَانَ بهي الشيبة، كثير الوقار والسكينة، ذا حظ من عبادة وتأله وتواضع، وحسن هدى، واتباع للأثر، وانقباض عَنِ النَّاس، وانتقيت لَهُ جزءا. وهو شيخ الحديث بالضيائية.
حدث بالكثير. وروى عنه ابن الخباز، وطائفة.
وتوفي فِي ذي الحجة سنة ثلاثين وسبعمائة. رحمه الله تعالى.
عبد الله بن محمد بن يوسف بن عَبْد المنعم بْن نعمه المقدسي، النابلسي،(5/69)
الفقيه الزاهد القدوة، شمس الدين، أَبُو مُحَمَّد بْن العفيف، ابْن الشيخ تقي الدين: وَقَدْ سبق ذكر جده شيخ نابلس. ولد سنة تسع وأربعين وستمائة.
وحضر عَلَى خطيب مردا. وسمع من عم أَبِيهِ جمال الدين عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد المنعم. وأجاز لَهُ سبط السلفي. وتفقه وأفتى، وأمَ بمسجد الحنابلة بنابلس نحوا من سبعين سنة.
وَكَانَ كثير العبادة، حسن الشكل والصوت، عَلَيْهِ البهاء والوقار. حدث. وسمع منه طائفة.
توفي يَوْم الخميس ثاني عشرين ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين وسبعمائة بنابلس، ودفن بِهَا، وتأسف النَّاس عَلَيْهِ. رحمه اللَّه تَعَالَى.
وتوفي قبله فِي ربيع الأَوَّل من السنة بنابلس أيضًا: الإِمام المفتي.
عماد الدين أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عَبْد المنعم بْن نعمه.(5/70)
عبد المؤمن بن عبد الحق بن عبد الله بن علي بْن مَسْعُود القطيعي الأصل، البغدادي، الفقيه، الِإمام الفْرضي المتقن، صفي الدين أَبُو الفضائل، ابْن الخطيب كمال الدين أَبِي مُحَمَّد: كَانَ والده خطيبا بجامع ابْن عَبْد المطلب ببغداد احتسابا. وَكَانَ جده يعرف بابن شمائل.(5/77)
ولد الشيخ صفي الدين فِي سابع عشري جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وستمائة ببغداد.
وسمع بِهَا الْحَدِيث من عبد الصمد بن أبي الجيش، وأبي الفضل بْن الدباب، والكمال البزار، وابن الكسار. وغيرهم.
وسمع بدمشق: من الشرف أَحْمَد بْن هبة اللَّه بْن عساكر، وست الأهل بنت علوان، وجماعة، وبمكة من الفخر التوريزي. وأجاز لَهُ ابْن الْبُخَارِي، وَأَحْمَد بْن شيبان، وزينب بنت مكي، وابن وضاح، وخلق من أهل الشام ومصر والعراق.
وتفقه عَلِي أَبِي طَالِب عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عُمَر البصري المتقدم ذكره، ولازمه حَتَّى برع وأفتى، ومهر فِي علم الفرائض والحساب، والجبر والمقابلة والهندسة والمساحة، ونحو ذَلِكَ.
واشتغل فِي أول عمره - بَعْد الفقه - بالكتابة والأعمال الديوانية مدة، ثُمَّ ترك ذَلِكَ، وأقبل عَلَى العلم، ولازمه مدة مطالعة وكتابة، وتصنيفا وتدريسا، واشتغالا وإفتاء، إِلَى حِينَ وفاته.
وكتب الكثير بخطه الْحَسَن المليح الحلو. وَكَانَ ذا ذهن حاد، وذكاء وفطنة. وعنده خميرة جيدة من أول عمره فِي العلم، فأقبل آخرا عَلَى(5/78)
التصنيف، فصنف فِي علوم كثيرة. منها: مَا لَمْ يكن سبق لَهُ فِيهَا اشتغال. وصنف فِي الفقه والأصلين، والجدل والحساب، والفرائض والوصايا، وَفِي التاريخ والحَدِيث، والطب، وغير ذَلِكَ. واختصر كتبا كثيرة.
فمن تصانيفه " شرح المحرر "، فِي الفقه ست مجلدات، " شرح العمدة " فِي الفقه مجلدان " إدراك الغاية فِي اختصار الهداية " فِي الفقه مجلد لطيف، وشرحه فِي أربع(5/79)
مجلدات " شرح المسائل الحسابية " من " الرعاية الكبرى "، لابن حمدان، مجلد لطيف " تلخيص المنقح فِي الجدل "، " تحقيق الأمل، فِي علمي الأصول والجدل "، " تسهيل الوصول إِلَى علم الأصول "، " قواعد الأصول ومعاقد الفصول " و " اللامع المغيث في علم المواريث " و " أسرار المواريث "، جزء، تكلم فِيهِ عَلَى حكم الإرث ومصالحه، واختصر " تاريخ الطبري " فِي أربع مجلدات، واختصر " الرد عَلَى الرافضي " للشيخ تقي الدين ابْن تيمية فِي مجلدين لطيفين، واختصر " معجم البلدان " لياقوت الحموي وغير ذَلِكَ.(5/80)
وعني بالحَدِيث، فنسخ واستنسخ كثيرا من أجزائه، وخرج لنفسه(5/81)
معجما لشيوخه بالسماع والإِجازة عَن نحو ثلاثمائة شيخ، وأكثرهم بالإِجازة، وتكلم فِيهِ عَلَى أحوالهم ووفياتهم، واستعان فِي معرفة أحوال الشاميين بالذهبي والبرزالي، وحدث بِهِ، وبكثير من مسموعاته، وغيرها بالإِجازة.
سمع منه خلق كثيرون. وأجاز لي مَا يَجُوز لَهُ روايته غير مرة، وعرس بالمدرسة البشيرية للحنابلة.
وَكَانَ إماما فاضلًا، ذا مروءة، وأخلاق حسنة، وحسن هيئة وشكل، عظيم الحرمة، شريف النفس، متفرداً فِي بيته، لا يغشى الأكابر ولا يخالطهم، ولا يزاحمهم فِي المناصب، بَل الأكابر يترددون إِلَيْهِ، وَقَدْ نهى أَصْحَابه عَنِ السعي لَهُ فِي تدريس المستنصرية، وَلَمْ يتعرض لَهَا، مَعَ تمكنه من ذَلِكَ، ولما حبس الْجَمَاعَة الَّذِينَ كتبوا عَلَى مسألة الزيارة، موافقة للشيخ تقي الدين لَمْ يتعرض لَهُ، هيبة لَهُ واحتراما، وحبس سائرهم وأوذوا.
وَلَهُ شعر كثير جيد، لعله ديوان تمام، وتفرد فِي وقته ببغداد، فِي علم الفرائض، والحساب، حَتَّى يقال: إِن الزريراتي كَانَ يراجعه فِي ذَلِكَ، ويستفيد منه.
ونقل بَعْضهم عَنِ الْقَاضِي برهان الدين الزرعي، أَنَّهُ(5/82)
كَانَ يَقُول: هُوَ إمامنا فِي علم الفرائض، والجبر والقابلة، وأنه كَانَ يثني عَلَيْهِ وَيَقُول: لو أمكنني الرحلة إِلَيْهِ لرحلت إِلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ رأى الشيخ تقي الدين ابْن تيمية بدمشق، واجتمع مَعَهُ. ولما صنف " شرح المحرر " أرسل إِلَى الشيخ تقي الدين يسأله عَن مسائل فِيهِ وَقَدْ ذكر عَنْهُ فِي شرحه شَيْئًا من ذَلِكَ، فِي مسائل " ميراث المعتق بعضه " وَلَمْ يدرك مَا قاله الشيخ عَلَى وجهه.
وَلَهُ رحمه اللَّه: أوهام كثيرة فِي تصانيفه، حَتَّى فِي الفرائض، من حيث توجيه المسائل وتعليلها، رحمه اللَّه تَعَالَى وسامحه. فلقد كَانَ من محاسن زمانه فِي بلده.
توفي إِلَى رحمة اللَّه تَعَالَى ليلة الجمعة عاشر صفر، سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، وصلى عَلَيْهِ من الغد، وحمل عَلَى الأيدي والرؤوس، وَدُفِنَ بمقبرة الإِمام أَحْمَد بباب حرب، وكانت جنازته مشهودة، رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى.
أنشدني الإِمام صفي الدين عَبْد المؤمن بْن عَبْد الحق، فِي كتابه لنفسه:
لا تَرْجُ غَيْر اللَّه سبحانه ... واقطع عُرَى الآمال من خلقه
لا تَطْلُبَنَ الفضل من غيره ... واضنن بماء الوجه واسْتَبْقِهِ
فالرزق مقسوم، وَمَا لامرِئ ... سِوَى الَّذِي قدرَ من رزقه
والفقر خير للفتى من غنى ... يَكُون طول الدهر فِي رقه(5/83)
وأنشدني لنفسه فِي كتابه:
يا رب، أَنْتَ رجائي ... وفيك أحسنت ظني
يا رب، فاغفر ذنوبي ... وعافني، واعف عني(5/84)
وأعاد بعده بالبشيرية: -
النضر بْن عكبر.
وبعده:
شمس الدين بْن رمضان المرتب، الفقيه الأصولي:(5/85)
اختصر المذهب من المغنى. وتطاول زمن الزريراتي لتدريس المستنصرية، واشتغل عَلَيْهِ جَمَاعَة فِي الأصول والفروع، وَلَهُ شعر أكثره هجو للتراقفي وغيره، حَتَّى قَالَ فِي نَفْسه:
تلامذة المرتب كُل فَدْم ... بعيد الذهن، لا فضل لديه
لَقَدْ صدق الَّذِي قَدْ قَالَ قدما ... شبيه الشيء منجذب إِلَيْهِ
وَقَالَ لي طرافة أمل بغداد نفسي.
مولده سنة ست وستين وستمائة.(5/86)
ومن أَصْحَاب صفي الدين: -
عَبْد اللَّهِ بْن علام السامري: حفظ " المحرر " وقرأ عَلَيْهِ شرحه تصنيفه. وَكَانَ ذكيا. وتوفي بدمشق بالطاعون.
وَكَذَلِكَ مِنْهُم: -
عَبْد الْعَزِيز بْن هاشولا: حفظ كتابة فِي الفقه والأصول، ووعظ ببغداد فِي الثوالث، ونظم الشعر، وَكَانَ حسنا.
توفي بالطاعون ببغداد.
وابن النباس: كَانَ آية فِي الحفظ، غاص فِي البحر وَلَمْ يعلم لَهُ خبر.(5/87)
قرأت عَلَيْهِ " مختصر الخرقي " من حفظي، وسمعت عَلَيْهِ أجزاء كثيرة من مصنفاته وصحبته إِلَى الممات، ورأى عِنْدَ وفاته طيورا بيضاء نازلة. رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى.
عُبَادَة بْن عَبْد الغني بْن مَنْصُور بْن مَنْصُور بْن عُبَادَة الحراني، ثُمَّ(5/89)
الدمشقي، الفقيه المفتي، الشروطي، المؤذن، زين الدين، أَبُو مُحَمَّد وأبو سَعِيد: ولد فِي رجب سنة إحدى وسبعين وستمائة.
وسمع من القاسم الأربلي، وأبي الفضل بْن عساكر، وجماعة. وطلب الْحَدِيث، وكتب الأجزاء.
وتفقه عَلَى الشيخ زين الدين بْن المنجا، ثُمَّ عَلَى الشيخ تقي الدين ابن تيميمة.
قَالَ الذهبي: تقدم فِي الفقه، وناظر وتميز، عنده " صحيح مُسْلِم " عَنِ القاسم الأربلي. وذكره فِي معجم شيوخه. وَقَالَ: كَانَ فقيها عالما، جيد الفهم، يفهم شَيْئًا من العربية والأصول. وَكَانَ صالحا دينا، ذا حظ من تهجد، وإيثار وتواضع، اصطحبنا مدة، ونعم والله الصاحب هُوَ. كَانَ يسع الْجَمَاعَة بالخدمة والإِفضال والحلم. خرجت لَهُ جزءا. وحدث بصحيح مُسْلِم. انتهى.
وَكَانَ يلي العقود والفسوخ، ويكثر الكتابة فِي الفتاوى، ثُمَّ منع من الفسوخ فِي آخر عمره، سمع منه جَمَاعَة.(5/90)
وتوفي فِي شوالَ سنة تسع وثلاثين وسبعمائة. وَدُفِنَ بمقبرة الباب الصغير، وشيعه خلق من القضاة وَالْعُلَمَاء وغيرهم، وحسن الثناء عَلَيْهِ رحمة اللَّه.
وَكَانَ أَبُوهُ: -
شرف الدين عَبْد الغني: فقيهاً أديباً، على لاَ مؤذنا أيضًا.(5/91)
أذن زمانا بجامع دمشق، وحدث عَن عيسى الخياط، والشيخ مجد الدين ابْن تيمية. سمع منهما بحران.
وتوفي فِي ربيع الآخر سنة خمس وسبعمائة رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى.
ومما أفتى بِهِ عُبَادَة - ورأيته بخطه - فِي أوقاف وقفها جَمَاعَة عَلَى جهة واحدة من جهات البر. فَإِذَا خرب أحدها، وليس لَهُ مَا يعمر بِهِ: أَنَّهُ يَجُوز لمباشر الأوقاف: أَن يعمره من الوقف الآخر. ووافقته طائفة من الحنفية.
مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن تمام بْن حسان التلي، ثُمَّ الصالحي، القدوة الزاهد أَبُو عَبْد اللَّهِ:(5/99)
ولد سنة إحدى وخمسين وستمائة.
وسمع من أَبِي حفص عُمَر بْن عوة الجزري صاحب البوصيري. وَهُوَ آخر من حدث عَنْهُ، ومن أَبِي طَالِب بْن السروري، وابن عَبْد الدائم وجماعة. وصحب الشيخ شمس الدين بْن الكمال، وغيره من الْعُلَمَاء والصلحاء.
وَكَانَ صالحا تقيا، من خيار عباد اللَّه، يقتات من عمل يده. وَكَانَ عظيم الحرمة، مقبول الكلمة عِنْدَ الملوك. وولاة الأمور، يرجع إِلَى قَوْله ورأيه، أمارا بالمعروف، نهاءًا عَنِ المنكر.
ذكره الذهبي فِي معجم شيوخه، وَقَالَ: كَانَ مشارا إِلَيْهِ فِي الوقت بالإخلاص وسلامة الصدر، والتقوى والزهد، والتواضع التام، والبشاشة، مَا أعلم فِيهِ شيئاً يشينه لْي دينه أصلًا.
قُلْت: حدث بالكثير، وسمع منه خلق. وأجاز لي مَا يَجُوز لَهُ روايته بخط يده.
توفي ثالث عشر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. ودفن بسفح قاسيون، رحمه الله تَعَالَى.(5/100)
إِبْرَاهِيم بْن أَحْمَد بْن هلال الزرعي، ثُمَّ الدمشقي، الفقيه الأصولي المناظر الفرضي، الْقَاضِي برهان الدين أَبُو إِسْحَاق: سمع بدمشق من عُمَر بْن القواس، وأبي الفضل بْن عساكر، وأبي الْحُسَيْن اليونيني، وتفقه وأفتر، قديما، ودرس وناظر.
وولي نيابة الحكم عَنِ الْقَاضِي عز الدين بين الْقَاضِي تقي الدين سُلَيْمَان، ثُمَّ عَنِ الْقَاضِي علاء الدين بْن المنجا.
ودرس بالحنبلية(5/101)
من حِينَ سجن الشيخ تقي الدين بالقلعة في المرة الني توفي فِيهَا، فساء ذَلِكَ أَصْحَاب الشيخ ومحبيه، وشق ذَلِكَ عَلَيْهِم كثيرا، واستمر بِهَا إِلَى حِينَ وفاته.
وَكَانَ بارعا فِي أصول الفقه، وفي القرائض والحساب، عارفا بالمناظرة. وإليه المنتهى فِي التحري، وجودة الخط وصحة الذهن، وسرعة الإدراك، وقوة المناظرة، وجودة التقرير، وحسن الخلق، لكنه كَانَ قليل الاستحضار لنقل المذهب. وَكَانَ فضلاء وقته يعظمونه، ويثنون عَلَيْهِ. وَكَانَ قَاضِي القضاة أَبُو الْحَسَن السبكي يسميه: فقيه الشام. وَكَانَ فِيهِ لعب، وعليه فِي دينه مأخذ، سامحه اللَّه.
تفقه عَلَيْهِ جَمَاعَة وتخرجوا بِهِ فِي الفقه وأصوله. وحدث. وَلَمْ يصنف كتابا معروفا.
توفي وقت صلاة الجمعة سادس عشر رجب سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. وَدُفِنَ بمقبرة الباب الصغير.(5/102)
شافع بْن عُمَر بْن إِسْمَاعِيل الجيلي، الفقيه الأصولي، ركن الدين: نزيل بغداد، سمع الْحَدِيث ببغداد عَلَى إِسْمَاعِيل بْن الطبال، وابن الدواليبي وغيرهما.
وتفقه عَلَى الشيخ تقي الدين الزريراتي، وصاهره عَلَى ابنته، وأعاد عنده بالمستنصرية، وَكَانَ رئيسا فاضلًا نبيلًا، عارفا بالفقه والأصول، وبالطب، ومراعيا لقوانينه فِي مأكله ومشربه. وعرش بالمدرسة المجاهدية وأقرأ الفقه مدة.
قرأ عَلَيْهِ جَمَاعَة، مِنْهُم: والدي. وَلَهُ تصنيف فِي مناقب أرباب المذاهب الأربعة، سماه " زبدة الأخبار فِي مناقب الأئمة الأربعة الأخيار ".
وَكَانَ فقيها فاضلًا، لكنه قاصر العبارة، فِي لسانه عجمة.
توفي يوم الجمعة ثائي عشر شوال سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وَدُفِنَ بدهليز تربة الإِمَام أَحْمَد، رضي الله كنه.(5/103)
عَبْد الرحيم بْن عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر بْن إِسْمَاعِيل الزريراتي البغدادي، الفقيه، الإمام شرف الدين أَبُو مُحَمَّد، ابْن شيخ العراق تقي الدين أَبِي بَكْر المتقدم ذكره: وولد ببغداد، ونشأ بِهَا وقرأ الْقُرْآن، وحفظ " المحرر " وَسَمِعَ الْحَدِيث واشتغل.
ثُمَّ رحل إِلَى دمشق، سَمِعَ بِهَا من زينب بنت الكمال، وجماعة من أَصْحَاب ابْن عَبْد الدائم، وخطيب مردا، وطبقتهما.
وارتحل إِلَى مصر، وَسَمِعَ بِهَا من مسندها يَحْيَى بْن الْمِصْرِي وغيره، ولقي بِهَا(5/104)
أبا حيان وغيره.
وأقام بدمشق مدة، يقرأ فِي المحرر عَلَى الْقَاضِي برهان الدين الزرعي، ثُمَّ رجع إلى بغداد بفصْائل، ودرس بِهَا بالمدرسة البشيرية للحنابلة بَعْد وفاة الشيخ صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق. ثُمَّ درس بالمجاهدية بَعْد موت صهره شافع المذكور قبله، وَلَمْ تطل بِهَا مدته. وحضرت درسه وأنا إذْ ذاك صَغِير لا أحقه جيدا.
وناب فِي الْقَضَاء ببغداد، واشتهرت فضائله، وخطه فِي غاية الْحَسَن، وَقَد اختصر " فروق السامري " وزاد عَلَيْهَا فوائد واستدراكات من كَلام أَبِيهِ وغيره واختصر " طبقات الأصحاب " للقاضي أبي الْحُسَيْن، وذيل عَلَيْهَا، وتطلبتها فلم أجدها. واختصر " المطلع "(5/105)
لابن أَبِي الفتح، وغير ذَلِكَ.
توفي يَوْم الثلاثاء ثاني عشر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. وَدُفِنَ عِنْدَ والده بمقبرة الإِمام أَحْمَد. وَلَهُ من العمر نَحْو الثلاثين سنة. رحمه اللَّه.
مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عَبْد الهادي بْن عَبْد الحميد بْن عَبْد الهادي(5/115)
بْن يُوسُف بْن مُحَمَّد بْن قدامة المقدسي، الجماعيلي الأصل، ثُمَّ الصالحي، ثُمَّ المقرئ الفقيه المحدث، الحافظ الناقد، النحوي المتفنن، شمس الدين أَبُو عبد الله بن العماد أَبِي الْعَبَّاس: ولد فِي رجب سنة أربع وسبعمائة.
وقرأ بالروايات، وَسَمِعَ الكثير من الْقَاضِي أَبِي الفضل سُلَيْمَان بْن حمزة، وأبي بَكْر بْن عَبْد الدايم، وعيسى المطعم، والحجار، وزينب بنت الكمال، وخلق كثير.
وعنى بالحَدِيث وفنونه، ومعرفة الرجال والعلل. وبرع في ذلك. وتفقه في المذهب وأفتى. وقرأ الأصلين والعربية، وبرع فِيهَا. ولازم الشيخ تقي الدين ابْن تيمية مدة. وقرأ عَلَيْهِ قطعة من الأربعين فِي أصول الدين للرازي.
قرأ الفقه عَلَى الشيخ مجد الدين الحراني، ولازم أبا الْحَجَّاج المزي الحافظ، حَتَّى برع عَلَيْهِ فِي الرجال، وأخذ عَنِ الذهبي وغيره.
وَقَدْ ذكره الذهبي فِي طبقات الحفاظ، قَالَ: ولد سنة خمس - أَوْ ست - وسبعمائة.
واعتنى بالرجال والعلل، وبرع وجمع، وتصدى للإفادة والاشتغال فِي القراءة والحَدِيث، والفقه والأصلين، والنحو. وَلَهُ توسع فِي(5/116)
العلوم وذهن سيال.
وذكره فِي معجمه المختص، وَقَالَ: عنى بفنون الْحَدِيث، ومعرفة رجاله، وذهنه مليح، وَلَهُ عدة محفوظات وتأليف، وتعاليق مفيدة. كتب عني، واستفدت منه.
قَالَ: وَقَدْ سمعت منه حَدِيثا يوم عرسه بالصدرية.
ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنَا المزي إجازة أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد الَلَّه السروجي أَخْبَرَنَا ابْن عَبْد الهادي - " فذكر حَدِيثا هَذَا لفظه: درس ابْن عَبْد الهادي بالصدرية "، درس الْحَدِيث وبغيرها بالسفح. وكتب بخطه الْحَسَن المتقن الكثير. وصنف تصانيف كثيرة بَعْضهَا كلمات، وبَعْضهَا لَمْ يكمله، لهجوم المنية عَلَيْهِ فِي سن الأربعين.
فمن تصانيفه " تنقيح التحقيق فِي أحاديث التعليق " لابن الجوزي مجلدان " الأَحْكَام الكبرى " المرتبة عَلَى أحكام الحافظ الضياء، كمل منها سبع مجلدات " الرد عَلَى أَبِي بَكْر الخطيب الحافظ فِي مسألة الجهر بالبسملة "(5/117)
مجلد " المحرر فِي الأَحْكَام " مجلد " فصل النزاع بَيْنَ الخصوم فِي الْكَلام عَلَى أحاديث: " أفطر الحاجم والمحجوم " مجلد لطيف الْكَلام عَلَى أحاديث مس الذكر جزء كبير " الْكَلام عَلَى أحاديث: " البحر هُوَ الطهور ماؤه " جزء كبير " الْكَلام عَلَى أحاديث القلتين " جزء " الْكَلام عَلَى حَدِيث معاذ فِي الحكم بالرأي " جزء كبير، الْكَلام عَلَى حَدِيث " أَصْحَابي كالنجوم " جزء، الْكَلام عَلَى حَدِيث أَبِي سُفْيَان " ثَلاث أعطينهن يا رَسُول الَلَّه " والرد عَلَى ابْن حزم فِي قَوْله: إنه موضوع. كتاب " العمدة " فِي الحفاظ، كمل منه مجلدان " تعليقة فِي الثقات " كمل منه مجلدان، الْكَلام عَلَى أحاديث " مختصر ابْن الحاجب " مختصر ومطول، الْكَلام عَلَى أحاديث كثيرة فِيهَا ضعف من " المستدرك " للحاكم، أحاديث الصلاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جزء منتقى من " مختصر المختصر " لابن خزيمة، ومناقشته عَلَى أحاديث أخرجها فِيهِ، فِيهَا مقال، مجلد، الْكَلام عَلَى " أحاديث الزيارة " جزء، مصنف فِي الزيارة مجلد،(5/118)
الْكَلام عَلَى أحاديث " محلل السباق " جزء، جزء فِي " مسافة القصر " جزء فِي قَوْله تَعَالَى: " لَمَسْجِدٌ أسس على التقوى " الآية. " التوبة: 108 "، جزء فِي أحاديث " الجمع بَيْنَ الصلاتين فِي الحضر "، " الإعلام فِي ذكر مشايخ الأئمة الأعلام "، أَصْحَاب الكتب الستة. عدة أجزاء، الْكَلام عَلَى حَدِيث " الطواف بالبيت صلاة "، " جزء كبير فِي مولد النَّبِي صَلَّى الَلَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تعليقة عَلَى " سنن البيهقي الكبرى " كمل منها مجلدان، جزء كبير فِي " المعجزات والكرامات " جزء فِي " تحريم الربا " جزء فِي " تملك الأب من مال ولده ما شاء " جزء فِي " العقيقة " جزء فِي " الأكل من الثمار الَّتِي لا حائط عَلَيْهَا "، " الرد عَلَى ألْكيا الهِرَّاسي " جزء كبير، قي ترجمة الشيخ تقي الدين ابْن تيمية " مجلد " منتقى من تهذيب الكمال للمزي كمل منه خمسة أجزاء " إقامة البرهان(5/119)
عَلَى عدم وجوب صوم يَوْم الثلاثين من شعبان " جزء، جزء فِي " فضائل الْحَسَن البصري " رَضِيَ الَلَّه عَنْهُ " جزء فِي حجب الأم بالإخوة، وأنها تحجب بدون ثلاثة " جزء " فِي الصبر " جزء " فِي فضائل الشام " " صلاة التراويح " جزء كبير، الْكَلام عَلَى أحاديث " لبس الخفين للحرم " جزء كبير، جزء فِي " صفة الْجَنَّة " جزء فِي " المراسيل " جزء فِي مسألة " الجد والأخوة "، " منتخب من مسند الإِمام أَحْمَد " مجلدان " منتخب من سنن البيهقي " مجلد " منتخب من سنن أَبِي دَاوُد " مجلد لطيف " تعليقه عَلَى التسهيل فِي النحو، كمل منها مجلدان، جزء فِي الْكَلام عَلَى حَدِيث " أَفرَضَكم زَيْد " أحاديث " حياة الأنبياء فِي قبورهم " جزء تعليقة، عَلَى " العلل "، لابن أَبِي حاتم، كمل منها مجلدان. تعليقة عَلَى " الأَحْكَام " لأبي البركات ابْن تيمية لَمْ تكمل " منتقى من علل الدارقطني "، مجلد، جزء فِي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " شرح لألفية ابن مَالِك " جزء. مَا أخذ عَلَى تصانيف أَبِي عَبْد الَلَّه الذهبي الحافظ شيخه عدة أجزاء. حواشي عَلَى كتاب " الإلمام " جزء فِي الرد عَلَى أَبِي حيان النحوي فيما رعه(5/120)
عَلَى ابْن مَالِك وأخطأ فِيهِ، جزء فِي " اجتماع الضميرين " جزء " فِي تحقيق الهمز والإِبدال فِي القراءات " وَلَهُ رد عَلَى ابْن طاهر، وابن دحية، وغيرهما، وتعاليق كثيرة فِي الفقه وأصوله، والحَدِيث، ومنتخبات كثيرة فِي أنواع العلم.(5/121)
وحدث بشيء من مسموعاته. وَسَمِعَ منه غَيْر واحد، وَقَدْ سمعت من أَبِيهِ، فَإِنَّهُ عاش بعده نَحْو عشر سنين.
توفي الحافظ أَبُو عَبْد الَلَّه فِي عاشر جمادى الأَوَّل سنة أربع وأربعين وسبعمائة وَدُفِنَ بسفح قاسيون، وشيعه خلق كثير، وتأسفوا عَلَيْهِ، ورئيت لَهُ منامات حسنة. رَحِمَهُ الَلَّه تَعَالَى.
محمود بْن عَلِي بْن عَبْد الولي بْن خولان البعلي، الفقيه الفرضي،(5/123)
بهاء الدين أَبُو الثناء: ولد في حدود السبعمائة.
وَسَمِعَ الْحَدِيث من جَمَاعَة وقرأ عَلَى الحافظ الذهبي عدة أجزاء. وتفقه على الشيخ في الدين الحراني، ولازم الشيخ تقي الدين ابْن تيمية، وبرع فِي الفرائض والوصايا، جبر والمقابلة.
وَكَانَ قيما بنقل المذهب، واستحضار أَكْثَر المسائل، فقيها مفتياَ، خيرا دينا. وَلَهُ معرفة بالنحو. وخطه حسن. وكتب كثيرا. وَكَانَ متواضعاً متودداً، ملازماً للأشغال، محصاً عَلَى إفادة الطلبة، بارا بِهِمْ، محسناً إليهم. تقه بِهِ جَمَاعَة، وانتفعوا بِهِ، وبرع منهم توفي فِي رجب سنة أربع وأربعين وسبعمائة ببعلبك رَحِمَهُ الَلَّه تَعَالَى.
وحدثني بَعْض أَصْحَابه: أَنَّهُ رآه فِي النوم بَعْد وفاته فَقَالَ لَهُ: أين أنت؟ قال: لي أَيَّام هبطت إِلَى الفردوس. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: فأين كنت(5/126)
قبلها؟ قال: لْي الضيافة.
أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عَبْد الغني العلاني، الحراني، ثُمَّ(5/127)
الدمشقي، الفقيه شهاب الدين أَبُو العباس: ولد سنة اثنتين وسبعمائة.
وَسَمِعَ من ابْن الموازيني، والدشتي، والقاضي سُلَيْمَان بْن حمزة، وجماعة. وطلب بنفسه، وَسَمِعَ الكثير، وكتب الأجزاء. وتفقه. وقرأ أصول الفقه، وناظر. وهو الذي بيض " مسودة الأصول " لابن تيمية، ورتبها، وبيض من " شرح الهداية " أيضا.(5/130)
ذكره الذهبي في المعجم المختص، وقال: من أعيان مذهبه، فِيهِ دين وتقوى ومعرفة بالفقه. أخذ عني ومعي، وقرأ عليَّ " سير النبلاء ".
توفي في جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين وسبعمائة بدمشق. ودفن بمقبرة الباب الصغير. رحمه اللَّه.
مُحَمَّد بْن أَحْمَد بن محمد بن عثمان بن أسعد بْن المنجا التنوخي، الدمشقي، الفقيه المفْتي، المدرس المحتسب، عز الدين أَبُو عبد الله بن وجيه الدين: ولد ما سنة ثمان وثمانين وستمائة.
حضر عَلَى الفخر ابْن الْبُخَارِي، وزينب بنت مكي وغيرهما. وحدث.
كَانَ ذكيا مخالطا(5/131)
للشافعية، جماعا للكتب.
وولي حسبة دمشق. ونظر الجامع. ودرس فِي أماكن. وَكَانَ صدرا رئيسا كثير الحشمة والمروءة، حسن الشكل،(5/132)
محبا لأهل العلم.
وتوفي فِي جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبعمائة. وَهُوَ والد فاطمة أم الْحَسَن.
عبد القادر بن محمد بن أحمد بن الحسين اليونيني، محي الدين ابْن الحافظ شرف الدين ابْن الفقيه أَبِي عَبْد الَلَّه اليونيني: ولد سنة ثمانين وستمائة.
وتوفي سنة سبع وأربعين وسبعمائة. رحمه الله تعالى.
سُلَيْمَان بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَلِي بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن يَحْيَى بْن أَبِي نوح الشيباني، النهرماري،(5/137)
ثُمَّ البغدادي، الفقيه الِإمام الْقَاضِي، نجم الدين، أَبُو المحامد الرافقي: قدم بغداد. وَسَمِعَ بِهَا. وأجاز لَهُ الكمال البزار، والرشيد بْن أَبِي القاسم، وغيرهما.
وتفقه عَلَى الشيخ تقي الدين الزريراتي، حَتَّى برع وأفتى، وأعاد عنده بالمستنصرية، ثُمَّ درس بالمستنصرية للحنابلة بَعْد موت ابن البرزي المتقدم ذكره.
وناب فِي الْقَضَاء وحدث. وسمع منه جَمَاعَة.
وتوفى فِي جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وصلَّى عَلَيْهِ بجامع قصر الخلافة، وحضرت الصلاة عَلَيْهِ. وَدُفِنَ بمقبرة الإِمام أحمد بباب حرب.
محمد بن إبراهيم بن عبد الله بْن الشيخ أَبِي عُمَر مُحَمَّد بن أحمد بن(5/138)
مُحَمَّد بْن قدامة المقدسي، الخطيب الصالح، العالم القدوة، عز الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ ابْن الشيخ العز: ولد فِي رجب سنة ثلاث وستين وستمائة.
وسمع من ابْن عَبْد الدايم، والكرماني حضورا، وَسَمِعَ الكثير من أَبِي عُمَر وطبقته، وتفقه قديما بعم أَبِيهِ الشيخ شمس الدين بْن أَبِي عُمَر، ودرس بمدرسة جدهم الشيخ أَبِي عُمَر، وبالضيائية. وخطب بالجامع المظفري(5/139)
دهرا.
وَكَانَ من الصالحين الأخيار المتفق عليهم، وعَفر. وحدث بالكثير، وخرَجوا لَهُ مشيخة فِي أربعة أجزاء. سَمِعَ منه خلق، وأجاز لي مروياته.
ذكره الذهبي فِي معجم شيوخه، فَقَالَ: كَانَ فقيها عالما، صالحا خيرا،(5/140)
متواضعا، عَلَى طريقة سلفه.
توفي يَوْم الإِثنين عشرين رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. ودفن بتربة جده الشيخ أَبِي عُمَر. رَحِمَهُ الَلَّه تَعَالَى.
مُحَمَّد بن أحمد بن عبد الله بن أبي الفرج بن أبي الْحَسَن بْن سرايا بْن الْوَلِيد الحراني. نزيل مصر، الفقيه الْقَاضِي، بدر الدين أَبُو عَبْد اللِّه، ويعرف بابن الحبال: ولد بَعْد السبعين وستمائة تقريبا.
وَسَمِعَ من العز الحراني، وابن خطيب المزة، والشيخ نجم الدين بْن حمدان، وغيرهم. وتفقه وبرع، وأفتى،(5/141)
وأعاد بعدة مدارص، وناب فِي الحكم بظاهر القاهرة.
وصنف تصانيف عديدة، منها: " شرح الخرقي " وَهُوَ مختصر جدا، وكتاب " الفنون ".
وحدث، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَة، مِنْهُم: ابْن رافع، وَكَانَ حسن المناظرة، لين الجانب، لطيف الذات، ذا ذهن ثاقب.
توفي فِي تاسع عشر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
عُمَر بْن سَعْد الَلَّه بْن عَبْد الأحد الحراني، ثُمَّ الدمشقي، الفقيه(5/142)
الفرضي، الْقَاضِي، زين الدين أَبُو حفص بْن سَعْد الدين بْن نجيح، أَخُو شرف الدين مُحَمَّد السابق ذكره: ولد سنة خمس وثمانين وستمائة.
وحضر عَلَى أَبِي الْحَسَن بْن الْبُخَارِي. وَسَمِعَ من يُوسُف الغسولي. وغيره، وَسَمِعَ بالقاهرة وغيرها.
ودخل بغداد، وأقام بِهَا ثلاثة أَيَّام. وتفقه وبرع فِي الفقه والفرائض، ولازم الشيخ تقي الدين وغيره. وكتب بخطه الكثير من كتب المذهب.
وولي نيابة الحكم عَنِ ابْن المنجا. وَكَانَ خيرا دينا، حسن الأخلاق، متواضعا، بشوش الوجه، فقيها فرضيا فاضلًا منبتا، سديدا فِي الأقضية والأحكام.
وحدثني الإِمَام العلامة عز الدين حمزة بْن شيخ السلامية عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ لَهُ: لَمْ أقضِ قضية إلا وَقَدْ أعددت لَهَا الجواب بَيْنَ يدي الَلَّه تَعَالَى. وَقَدْ خرجوا لَهُ جزءا عَن شيوخه. وحدث بِهِ وبغيره.
ذكره الذهبي فِي المختصر، وَقَالَ: عالم ذكي، خير وقور، متواضع،(5/143)
بصير بالفقه والعربية. سَمِعَ الكثير، وولى مشيخة الضيائية، فألقى دروسا محررة. وتخرج بابن تيمية وغيره. وناب فِي الحكم.
توفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة مطعونا شهيدا. رَحِمَهُ الَلَّه تَعَالَى.
الحسين بن بمران بْن دَاوُد البابَصري، البغدادي، الخطيب الفقيه، المحدث النحوي، الأديب، صفي الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ(5/144)
: ولد فِي آخر نهار عرفة سنة اثني عشرة وسبعمائة.
وَسَمِعَ الْحَدِيث - متأخرا - من جَمَاعَة من شيوخنا وغيرهم. وعنى بالحَدِيث، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه الكثير، وتفقه، وبرع فِي العربية والأدب، ونظم الشعر الْحَسَن.
وصنف فِي علوم الْحَدِيث وغيرها، واختصر " الإكمال " لابن ماكولا، وعلمه فِي حياته، وقرأ عَلَيْهِ بعضه، وسمعت بقراءته، " صحيح الْبُخَارِي " عَلَى الشيخ جمال الدين مسافر بْن إِبْرَاهِيم الخالدي، بسماعه من الرشيد بْن أَبِي القاسم.
وولى إفادة المحدثين بدار الْحَدِيث المستنصرية، فكان يقرئ بِهَا علوم الْحَدِيث وغيرها، وحضرت مجالسه كثيرا. وَكَانَ لَهُ مشاركة حسنة فِي علوم الْحَدِيث والتواريخ مَعَ براعة فِي الأدب والعربية، والصيانة والديانة.(5/145)
توفي يَوْم الجمعة سابع عشر رمضان سنة تسع وأربعين وسبعمائة مطعونا شهيدا. وَدُفِنَ بمقبرة بَاب حرب. رَحِمَهُ الَلَّه تَعَالَى.
عُمَر بْن عَلِي بْن موسى بْن الخليل البغدادي، الأزجي، البزار، الفقيه المحدث، سراج الدين أَبُو حفص: ولد سنة ثمان وثمانين وستمائة تقريبا.
وَسَمِعَ من إِسْمَاعِيل بْن الطبال، وعلىِ بْن أَبِي القاسم أَخُو الرشيد وابن الدواليبي، وجماعة. وعنى بالحَدِيث، وقرأ الكثير، ورحل إِلَى دمشق. وقرأ بِهَا صحيح الْبُخَارِي عَلَى الحجار بالحنبلية وحضر(5/146)
قراءته الشيخ تقي الدين ابْن تيمية وخلق كثير، وجالس الشيخ تقي الدين وأخذ عَنْهُ، وتلا ببغداد ختمة لأبي عُمَر، وعلى شيخنا عَبْد الَلَّه بْن عَبْد المؤمن الواسطي، وقرأ عَلَيْهِ بَعْض تصانيفه فِي القراءات. وحج مرارا، وأعاد بالمستنصرية.
وولي إمامة جامع الخليفة ببغداد مدة يسيرة، ثُمَّ أقام بدمشق مدة، أَوْ أمَّ بِهَا بالضيائية. وَكَانَ حسن القراءة للقرآن والحَدِيث، ذا عبادة وتهجد، وصنف كثيرا فِي الْحَدِيث وعلومه، وَفِي الفقه والرقائق.
وقدم فِي آخر عمره إِلَى بغداد، فأقام بِهَا يسيرا، ثُمَّ توجه إِلَى الحج سنة تسع وأربعين، وحججت أنا تلك السنة أَيْضًا مَعَ والدي، فقرأت عَلَى شيخنا أَبِي حفص عُمَر ثلاثيات الْبُخَارِي بالحلة اليزيدية.(5/147)
ثُمَّ توفي رحمه الَلَّه قبل وصوله إِلَى مَكَّة، بمنزلة حاجر، صبيحة يَوْم الثلاثاء حادي عشرين ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبعمائة، ويقال: إنه كَانَ نوى الإحرام، وَذَلِكَ قبل الوصول إِلَى الميقات.
وَدُفِنَ بتلك المنزلة، ومعه نَحْو من خمسين نفسا بالطاعون. رحمهم الَلَّه تَعَالَى.
وَفِي هذه المدة. توفى بدمشق المحدث الكبير المؤرخ الحافظ: -
أَبُو الخير سَعِيد بْن عَبْد الَلَّه الذهبي، الحريري، مولى الصدر صلاح الدين(5/148)
عبد الرحمن بن عُمَر الحريري: وَكَانَ مولده - تقديرا - سنة اثني عشرة وسبعمائة.
سَمِعَ ببغداد من الدقوقي، وخلق، وبدمشق من زينب بنت الكمال، وأمم وبالقاهرة والإِسكندرية وبلدان شتى.
وعنى بالحَدِيث، وأكثر من السماع والشيوخ، وخر وجمع تراجم كثيرة لأعيان أهل بعْداد، وخرج الكثير، وكتب بخطه الرديء كثيرا.
وَقَالَ الذهبي: لَهُ رحلة. وعمل جيد، وهمة فِي التاريخ، وتكثير المشايخ، والأجزاء وَهُوَ ذكي، صحيح الذهن، عارف بالرجال حافظ.(5/149)
أحمد بن علي بن محمد البابصري، البغدادي، الفقيه الفرضي،(5/159)
الأديب، جمال الدين أَبُو الْعَبَّاس: ولد سنة سبع وسبعمائة تقريبا.
وَسَمِعَ الْحَدِيث متأخرا عَلَى شيوخنا، كالشيخ صفي الدين بْن عَبْد الحق، وعلي بْن عَبْد الصمد، وغيرهما.
وتفقه عَلَى الشيخ صفي الدين، ولازمه وعلى غيره، وبرع فِي الفقه والفرائض والحساب. وقرأ الأصول، والعربية، والعروض، والأدب، ونظم الشعر الْحَسَن، وكتب بخطه الْحَسَن كثيرا، وأعاد بالمستنصرية. واشتهر بالأشغال والفتيا، ومعرفة المذهب، وأثنى عَلَيْهِ فضلاء الطوائف. ودرس بالمدرسة المتعصمية للحنابلة.
وَكَانَ صالحا دينا متواضعا، حسن الأخلاق، مطرحا للتكلف، حضرت دروسه وأشغاله غَيْر مرة. وسمعت بقراءته الْحَدِيث.
وتوفى فِي طاعون سنة خمسين وسبعمائة ببغداد بَعْد رجوعه من الحج، وصلَّى عَلَيْهِ وعلى جَمَاعَة من أعيان بغداد بدمشق صلاة الغائب رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وممن اشتغل عَلَيْهِ - أعني البابصري - وانتفع بِهِ: الْقَاضِي: -
جمال الدين الأنباري: الشهيد، الإِمام فِي الترسل والنظم، لَهُ نظم في مسائل في الفوائض(5/160)
بحثته عَلَيْهَا. ولازمه مدة، والشرف بْن سلوم قَاضِي حربي، وعلى الأواني الفرضي قَاضِي أوانا، والشيخ سعد الحصيني، وخلق، وبينه وبين قَاضِي القضاة شرف(5/161)
الدين مراسلات بأشعار حسنة، وَكَذَلِكَ المرداوي راسله أيضًا فِي مدة حكمه. رحمهم الَلَّه تَعَالَى: وانتفع بِهِ أيضًا الشيخ: -
شمس الدين محمد ابن الشيخ أحمد ال! سقاء مربى الطائفة: ودرس بالمجاهدية، واشتغل عَلَى صفي الدين، وَحَفَّظه " مختصر الهداية " له، وكتب شرحه - وعنى بِهِ الْقَاضِي جمال الدين الأنباري - وعلا ببغداد قدره، واشتغل عَلَيْهِ جَمَاعَة، مِنْهُم: الْقَاضِي شمس الدين ببغداد الآن، محمد البرفطي، بَعْد الأنباري، ودرس بالبشيرية بَعْد(5/162)
ابْن الحصري، والقاضي سَعْد، والحصيني، ونصر الَلَّه المحدث، وغيرهما.
وَأَمَّا الْقَاضِي: جمال الدين عُمَر بْن إدريس الأنباري: فَإِنَّهُ نصر المذهب وأقام السنة، وقمع البدعة ببغداد، وأزال المنكرات، وارتفع حَتَّى لَمْ يكن فِي المذهب أجمل منه في زمانه، ثم وزر لكبير بَعْض الرافضة فظفروا بِهِ، وعاقبوه مدة، فصبر. ثُمَّ إِن أعداءه أهلكهم الَلَّه تَعَالَى عاجلًا بَعْد استشهاده، وفرح أهل بغداد بهلاكهم، ودنك عقيب مولّده في سنة خمس وستين وسبعمائة.
ثُمَّ دفن بمقبرة الإِمَام أَحْمَد عِنْدَ المدرسة الَّتِي عمرها بِهَا. وعمل لَهُ الختمات، ورثى، وتردد أهل بغداد إِلَى المقبرة(5/163)
مدة، وانتقم من أعدائه سريعا. رَحِمَهُ الَلَّه تَعَالَى.
وَقَدْ جمعت بينه(5/164)
وبين قَاضِي قضاة مصر الموفق، وابن جَمَاعَة، بمنى يَوْم القَرَ عام ثلاث وستين. وستمائة.
وَفِي شعبان من هذه السنة: توفي قَاضِي القضاة:
علاء الدين أبو الحسن علي ابن الشيخ زين الدين المنجا(5/165)
عُثْمَان بْن أسعد بْن المنجا التنوخي: بدمشق، وَدُفِنَ بسفح قاسيون.(5/166)
وَكَانَ مولده فِي شعبان سنة ثلاث وسبعين وستمائة.
وَسَمِعَ الكثير من ابْن الْبُخَارِي، وَأَحْمَد بْن شيبان، وخلق. وولي الْقَضَاء من سنة اثنتين وثلاثين بَعْد وفاة ابْن الحافظ.
وحدث بالكثير، قرأت عَلَيْهِ جزءا فِيهِ الأحاديث(5/167)
الَّتِي رواها مُسْلِم فِي صحيحه عَنِ الإِمام أَحْمَد بسماعه الصحيح من أَبِي عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن عَبْد السَّلام بْن أَبِي عصرون، بإجازته من المؤيد.(5/169)
مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر بْن أيوب بْن سَعْد بْن جريز الزرعي، ثُمَّ الدمشقي(5/170)
الفقيه الأصولي، المفسر النحوي، العارف، شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن قيم الجوزية، شيخنا. ولد سنة إحدى وتسعين وستمائة.
وَسَمِعَ من الشهاب النابلسي العابر، والقاضي تقي الدين سُلَيْمَان، وفاطمة بنت جوهر، وعيسى المطعم، وأبي بَكْر بْن عَبْد الدايم، وجماعة.
وتفقه فِي المذهب، وبرع وأفتى، ولازم الشيخ تقي الدين وأخذ عَنْهُ. وتفنن فِي علوم الإِسلام. وَكَانَ عارفا بالتفسير لا يجارى فِيهِ، وبأصول الدين، وإليه فيهما المنتهى. والحَدِيث ومعانيه وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق فِي ذَلِكَ، وبالفقه وأصوله وبالعربية، وَلَهُ فِيهَا اليد الطولى،(5/171)
وتعلم الْكَلام والنحو وغير ذَلِكَ، وكان عالما بعلم السلوك، وكلام أهل التصوف، وإشاراتهم، ودقائقهم. لَهُ فِي كُل فن من هذه الفنون اليد الطولى.
قَالَ الذهبي فِي المختصر: عني بالحَدِيث ومتونه، وَبَعْض رجاله. وَكَانَ يشتغل فِي الفقه، ويجيد تقريره وتدريسه، وَفِي الأصلين. وَقَدْ حبس مدة، لإِنكاره شد الرحال إِلَى قبر الْخَيْل، وتصدى للأشغال، وإقراء العلم ونشره.
قُلْت: وَكَانَ رحمه الَلَّه ذا عبادة وتهجد، وطول صلاة إِلَى(5/172)
الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشفف بالمحبة، والإِنابة والاستغفار، والافتقار إِلَى الَلَّه، والانكسار لَهُ، والإطراح بَيْنَ يديه عَلَى عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله فِي ذَلِكَ، ولا رأيت أوسع منه علما، ولا أعرف بمعاني الْقُرْآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هُوَ المعصوم، ولكن لَمْ أرَ فِي معناه مثله. وقد امتحن وأوفي مرات، وحبس مَعَ الشيخ تقي الدين فِي المرة الأخيرة بالقلعة، منفردا عَنْهُ، وَلَمْ يفرج عَنْهُ إلا بَعْد موت الشيخ.
وَكَانَ فِي مدة حبسه مشتغلا بتلاوة القراَن بالتدبر والتفكر، ففتح عَلَيْهِ من ذَلِكَ خير كثير، وحصل لَهُ جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذَلِكَ عَلَى الْكَلام فِي علوم أهل المعارف، والدخول فِي غوامضهم، وتصانيفه ممتلئة بِذَلِكَ، وحج مرات كثيرة، وجاور بمكة. وَكَانَ أهل مَكَّة يذكرون عَنْهُ من شدة العبادة، وكثرة الطواف أمرا يتعجب منه. ولازمت مجالسه قبل موته أزيد من سنة، وسمعت عَلَيْهِ " قصيدته النونية الطويلة " فِي السنة، وأشياء من تصانيفه، وغيرها.
وأخذ عَنْهُ العلم خلق كثير من حياة شيخه وإلى أَن مَات، وانتفعوا(5/173)
بِهِ، وَكَانَ الفضلاء يعظمونه، ويتتلمذون لَهُ، كابن عَبْد الهادي وغيره.
وَقَالَ الْقَاضِي برهان الدين الزرعي عَنْهُ: مَا تَحْتَ أديم السماء أوسع علما منه.
ودرس بالصدرية. وأمَّ بالجوزية مدة طويلة. وكتب بخطه ما لا يوصف كثرة.
وصنف تصانيف كثيرة جدا فِي أنواع العلم. وَكَانَ شديد المحبة للعلم، وكتابته ومطالعته وتصنيفه، واقتناء الكتب، واقتنى من الكتب مَا لَمْ يحصل لغيره.
فمن تصانيفه: كتاب " تهذيب سنن أَبِي دَاوُد " وإيضاح مشكلاته، والكلام(5/174)
عَلَى مَا فِيهِ من الأحاديث المعلولة مجلد، كتاب " سفر الهجرتين وباب السعادتين " مجلد ضخم، كتاب " مراحل السائرين بَيْنَ منازل " إياكَ نَعْبُدُ وإياكَ نَسْتَعِين " مجلدان، وَهُوَ شرح " منازل السائرين " لشيخ الإِسلام الأَنْصَارِي، كتاب جليل القمر، كتاب " عقد محكم الأحباء، بَيْنَ الكلم الطيب والعمل الصالح المرفوع إلى رب السماء " مجلد ضخم، كتاب " شرح أسماء الكتاب الْعَزِيز " مجلد، كتاب " زاد المسافرين إِلَى منازل السعداء فِي هدى خاتم الأنبياء " مجلد، كتاب " زاد المعاد فِي هدى خير الْعِبَاد " أربع مجلدات، وَهُوَ كتاب عظيم جدا، كتاب " جلاء الأفهام فِي ذكر الصلاة والسلام عَلَى خير الأنام " وبيان أحاديثها وعللها مجلد، كتاب " بيان الدليل عَلَى استغناء المسابقة عَنِ التحليل " مجلد، كتاب " نقد المنقول والمحك المميز بَيْنَ المردود والمقبول " مجلد، كتاب " إعلام الموقعين عَن رب العالمين " ثَلاث مجلدات، كتاب " بدائع الفوائد " مجلدان " الشافية الكافية فِي الانتصار للفرقة الناجية " وَهِيَ " القصيدة النونية فِي السنة " مجلدان، كتاب " الصواعق المنزلة عَلَى الجهمية والمعطلة لما فِي مجلدات، كتاب " حادي الأرواح إِلَى بلاد الأفراح " وَهُوَ كتاب " صفة الْجَنَّة " مجلد، كتاب " نزهة المشتاقين وروضة المحبين " مجلد، كتاب " الداء والدواء " مجلد، كتاب " تحفة الودود فِي أحكام المولود " مجلد لطيف، كتاب " مفتاح دار السعادة " مجلد ضخم، كتاب " اجتماع الجيوش الإسلامية عَلَى غزو الفرقة الجهمية " مجلد، كتاب " مصائد الشَّيْطَان " مجلد، كتاب " الفرق الحكمية " مجلد " رفع اليدين فِي الصلاة " مجلد. كتاب " نكاح المحرم " مجلد " تفضيل مَكَّة عَلَى الْمَدِينَة " مجلد " فضل الْعُلَمَاء " مجلد " عدة الصابرين " مجلد كتاب " الكبائر " مجلد " حكم تارك الصلاة "(5/175)
مجلد، كتاب " نور المؤمن وحياته " مجلد، كتاب " حكم إغمام هلال رمضان "، " التحرير فيما يحل، ويحرم من لباس الحرير "، " جوابات عابدي الصلبان، وأن مَا هُمْ عَلَيْهِ دين الشَّيْطَان "، " بطلان الكيمياء من أربعين وجها " مجلد " الفرق بَيْنَ الخلة والمحبة، ومناظرة الخليل لقومه " مجلد " الكلم الطيب والعمل الصالح " مجلد لطيف " الفتح القدسي "، " التحفة المكية " كتاب " أمثال الْقُرْآن " " شرح الأسماء الحسنى "، " أيمان الْقُرْآن "، " المسائل الطرابلسية " ثَلاث مجلدات " الصراط المستقيم فِي أحكام أهل الجحيم " مجلدان، كتاب " الطاعون " مجلد لطيف.
توفى رحمه الَلَّه وقت عشاء الآخرة ليلة الخميس ثالث عشرين رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. وصلَّى عليه من الغد بالجامع عقيب الظهر، ثُمَّ بجامع جراح. وَدُفِنَ بمقبرة الباب الصغير، وشيعه خلق كثير، ورئيت لَهُ منامات كثيرة حسنة رَضِيَ الَلَّه عَنْهُ.
وَكَانَ قَدْ رأى قبل موته بمدة الشيخ تقي الدين رحمه الَلَّه فِي النوم، وسأله عَن منزلته؟ فأشار إِلَى علوها فَوْقَ بَعْض الأكابر. ثُمَّ قَالَ لَهُ: وأنت كدت تلحق بنا، ولكن أَنْتَ الآن فِي طبقة ابْن خزيمة رحمه الَلَّه.(5/176)
وقرئ على شيخنا الإِمَام العلامة أَبِي عَبْد الَلَّه مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر بْن أيوب - وأنا أسمع - هذه القصيدة من نظمه فِي أول كتابه " صفة الْجَنَّة ":
وَمَا ذاك إلا غيرة أَن ينالها ... سِوَى كفؤها، والرب بالخلق أعلم
وإن حجبت عنا بكل كريهة ... وحفت بِمَا يؤذي النفوس ويؤلم
فللَّه مَا فِي حشوها من مسرة ... وأصناف لذات بِهَا يتنعم
وللَّه ذاك العيش بَيْنَ خيامها ... وروضاتها والثغر فِي الروض يبسم
وللَّه واديها الَّذِي هو موعد الم ... زيد لوفد الحب لو كنت مهم
بذيالك الوادي يهيم صبابة ... محب يرى أَن الصبابة مَغْنَم
وللَّه أفراح المحبين عندما ... يخاطبهم من فوقهم ويسلم
وللَّه أبصار ترى الَلَّه جهرة ... فلا الضيم يغشاها، ولا هِيَ تسأم
فيا نظرة أهدت إِلَى الوجه نضرة ... أمن بعدها يسلو المحب المتيم
وللَّه كم من خِيرة إِن تبسمت ... أضاء لَهَا نور من الفجر أَعْظَم
فيا لذة الأبصار إذ هِيَ أقبلت ... ويا لذة الأسماع حِينَ تكلم
ويا خجلة الغصن الرطيب إِذَا انثنت ... ويا خجلة البحرين حِينَ تبسم
فَإِن كنت ذا قلب عليل بحبها ... فلم يبقَ إلا وصلها لَك مرهم
وذكر أبياتا، ثم قال:
فيا خاطب الحسناء، إِن كنت باغيا ... فهذا زمان المهر فَهُوَ المقدم
وكن مبغضا للخائنات لحبها ... فتحظى بها بينهن وتنعم
وكن أيِّما مِمَّن سواها، فإنها ... لمثلك فِي جنات عدن تأيَّم(5/177)
وصم يومك الأدنى لعلك فِي غد ... تفوز بعيد الفطر والناس صوم
وأقدم، ولا تقنع بعيش منغص ... فَمَا فاز باللذات من لَيْسَ يقدم
وإن ضاقت الدنيا عليك بأسرها ... وَلَمْ يك فِيهَا منزل لَك يعلم
فحي عَلَى جنات عدن، فإنها ... منازلك الأولى، وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو، فهل ترى ... نعود إِلَى أوطاننا ونسلم؟
وَقَدْ زعموا أَن الغريب إِذَا نأى ... وشطت به أوطانه فهو مُغدم
وأي اغتراب فَوْقَ غربتنا الَّتِي ... لَهَا أضحت الأعداء فينا تحكم؟
وحي عَلَى السوق الَّذِي فِيهِ يلتقي ... المحبوب، ذاك السوق للقوم معلم
فَمَا شئت خذ منه بلا ثمن لَهُ ... فَقَدْ أسلف التجار فِيهِ وأسلموا
وحي عَلَى يَوْم المزيد الَّذِي بِهِ ... زيارة رب العرش، فاليوم موسم
وحي على واد هنالك أفيح ... وتربته من أذفَرِ المسك أَعْظَم
منابر من نور هناك وفضة ... ومن خالص العقيان لا تنفصم
وكُثبان مسك قَدْ جعلن مقاعدا ... لمن دُونَ أَصْحَاب المنابر يعلم
فبيناهم فِي عيشهم وسرورهم ... وأرزاقهم تجري عَلَيْهِم وتقسم
إِذَا هُمْ بنور ساطع أشرقت لَهُ ... بأقطارها الجنات لا يتوهم
تجلى لَهُمْ رب السموات جهرة ... فيضحك فَوْقَ العرش ثُمَّ يكلم
سلام عليكم، يَسْمَعُونَ جميعهم ... بآذانهبم تسليمه إذْ يُسَلّم
يَقُول: سلوني مَا اشتهيتم، فَكُل مَا ... تريدون عندي، إنني أنا أرحم
فَقَالُوا جميعا: نحن نسألك الرضا ... فأنت الَّذِي تولى الجميل وترحم(5/178)
فيعطيهم هَذَا ويشهد جمعهم ... عَلَيْهِ، تعالى الله، فالله كرم
فيا بائعا هَذَا ببخس معجل ... كأنك لا تدري، بلى، فسوف تعلم
فَإِن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري، فالمصيبة أعظم.(5/179)
أَحْمَد بْن الْحَسَن بْن عَبْد الله ابن الشيخ أَبِي عُمَر قَاضِي القضاة، أَبُو الْعَبَّاس، أَحْد الأعلام: كَانَ من أهل البراعة والفهم، والرياسة فِي العلم، متقنا عالما بالحَدِيث وعلله، والنحو والفقه، والأصلين، والمنطق، وغير ذَلِكَ.
وَكَانَ لَهُ باع طويل فِي التفسير، لا يمكن وصفه، كان له في الأصول والفروع القدم العالي، وفي شرف الدين والدنيا المحل السامي، وله معرفة بالعلوم الأدبية والفنون القديمة الأولية، وكيف لا؟ وَهُوَ تلميذ ابْن تيمية، وَقَدْ قرأ عَلَيْهِ، واشتغل كثيرا، وقرأ عَلَيْهِ مصنفات فِي علوم شتى، منها: " المحصل "، للفخر الرازي، ولقد قَالَ لي مرة: كنت فِي حال الشبوبية ما أتغدى إلا بَعْد عشاء الآخرة، للاشتغال بالعلم، وَقَالَ لي مرة: كم تقول إني أحفظ بَيْت شعر؟ فَقُلْتُ: عشرة آلاف. فَقَالَ: بَل ضعفها، وشرع يعدد قصائد للعرب، وكان إذا سرد الحديث يتعجب الإِنسان، وَكَانَ آية فِي حفظ سرد مذاهب الْعُلَمَاء.
ومن نظمه:
ولقد جهدت بأن أصاحب أشقرا ... فخذلت فِي جهدي لِهَذَا المطلب
تنبو الطباع عَنِ اللئيم كَمَا نبت ... عَن كُل سم فِي الأنام مجرب
فاحذر شناطا فِي الرجال وأشقرا ... مَعَ كويسح، أَوْ أعرج، أَوْ أحدب
أَوْ غائر الصدغين، خارج جبهة ... أَوْ أَزْرَقاً بدراج، غَيْر محبب
هَذَا مقالي خبرة بحقيقة ... حقت، وإن خالفت ذاك فجرب
نظم قَوْل الشَّافِعِي فِي هَؤُلاءِ الْجَمَاعَة.
وَلَهُ مصنفات، منها " الفائق " فِي الفقه، مجلد كبير، وكتاب فِي " أصول الفقه " مجلد كبير، لَمْ يتمه، وصل فِيهِ إلى أوائل القياس، و " الرد عَلَى ألكيا الهراسي " كتب فِيهِ مجلدين، وشرح من " المنتقى " للشيخ مجد الدين، قطعة فِي أوله، سماه " قطر الغمام فِي شرح أحاديث الأحكام " و " تنقيح الأبحاث فِي رفع التيمم للأحداث " مجلد صغير، و " مسألة المناقلة " مجلد صَغِير، وَلَهُ مجاميع كثيرة، فِيهَا فنون شتى.
والحمد لِلَّهِ أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا.
وصلى الَلَّه عَلَى خير خلقه مُحَمَّد، وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيراٌ، إلى يوم الدين.
تم ذيل الطبقات ويليه ملحق فيه تراجم الحنابلة الذين ذكرهم السيوطي في " بغية الوعاء ".(5/180)