وقال الشبلي: من الخفيف
كلما قلت قد دنا حلّ قيدي ... قدّموني وأوثقوا المسمارا
وقال لأصحابه ذات يوم: ألست عندكم مجنوناً وأنتم أصحاء؟ زاد الله في جنوني، وزاد في صحتكم. ثم قال: من البسيط
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... ما لذّة العيش إلا للمجانين
وقال أيضاً: من الخفيف
بي جنون الهوى وما بي جنون ... وجنون الهوى جنون الجنون
قال أبو نصر الهروي: كان الشبلي يقول: إنما يحفظ هذا الجانب بي يعني من الديالمة فمات هو يوم الجمعة، وعبرت الديالمة إلى الجانب الشرقي يوم السبت. مات هو وعلي بن عيسى في يوم واحد.
قال منصور بن عبد الله: دخل قوم على الشبلي في مرضه الذي مات فيه، فقالوا: كيف نجدك يا أبا بكر؟ فقال:
إن سلطان حبه ... قال لا أقبل الرّشا
فسلوه ت فديته ... لم بقلبي تحرشا
وسأل جعفر بن نصير بكران الدينوري وكان يخدم الشبلي: ما الذي رأيت منه؟ فقال: قال لي: علي درهم مظلمة، وتصدقت عن صاحبه بألوف، فما على قلبي(28/194)
شغل أعظم منه. ثم قال: وضئني للصلاة، ففعلت، فنسيت تخليل لحيته، وقد أمسك على لسانه، فقبض على يدي، وأدخلها في لحيته، ثم مات. فبكى جعفر وقال: ما تقولون في رجل لم يفته في آخر عمره أدب من آداب الشريعة؟ وفي رواية: ما يمكن أن يقال في رجل لم يذهب عليه تخليل لحيته في الوضوء في وقت نزع روحه.
وقيل: دخل عليه قوم من أصحابه وهو في الموت، فقالوا: قل لا إله إلا الله. فأنشا يقول: من المديد
إنّ بيتاً أنت ساكنه ... غير محتاجٍ إلى السّرج
وجهك المأمول حجتنا ... يوم يأتي الناس بالحجج
لا أتاح الله لي فرجاً ... يوم أدعو منك بالفرج
وقال بكير صاحب الشبلي: وجد الشبلي في يوم الجمعة آخر ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة خفة من وجع كان به، فقال: تنشط نمشي إلى الجامع؟ قلت: نعم. فاتكأ عل يدي حتى انتهيت إلى الوراقين من الجانب الشرقي، فتلقانا رجل جاء من الرصافة، فقال بكير؟ قلت: لبيك، قال: غداً يكون لي مع هذا الشيخ شأن. ثم مضينا، وصلينا، ثم عدنا. فتناول شيئاً من الغداء، فلما كان الليل مات رحمه الله فقيل: في درب السقائين رجل شيخ صالح يغسل الموتى. قال: فدلوني عليه في سحر ذلك اليوم. فنقرت الباب نقراً خفياً، فقلت: سلام عليكم، فقال: مات الشبلي؟ قلت: نعم، فخرج إلي، فإذا به الشيخ، فقلت: لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا الله، تعجباً. ثم قلت: لي الشبلي أمس لما التقينا بك في الوراقين: غداً يكون لي مع هذا الشيخ شأن. بحق معبودك، من أين لك أن الشبلي قد مات؟ قال: يا أبله، فمن أين للشبلي أنه يكون له معي شأن من الشأن اليوم؟!(28/195)
وكان موت الشبلي يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين ت وقيل: سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، ودفن في الخيزرانية.
أبو بكر الوراق الصوفي
من الطوافين. صحب أبا سعيد الخراز، وكان معه على ساحل بحر صيدا في حكاية تقدمت.
أبو بكر الجصاص البصري الصوفي
سكن دمشق، وكان له كتاب يكتب فيه عمله حسنه وسيئه.
أبو بكر الدمشقي
من أهل الأدب. سكن بغداد.
حكى عنه علي بن هارون بن علي بن يحيى المنجم.
أبو بكر بن العطار الداراني
قرأت بخط عبد الوهاب بن جعفر: يوم السبت لاثنتي عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة مات أبو بكر الداراني المعروف بابن العطار المتعبد في المسجد الجامع بدمشق. مات بداريا، وأخرجت جنازته بداريا من الغد ضحى نهار بعد أن نودي له في جامع دمشق، وخرج جماعة من الناس من الأشراف والشيوخ والتجار، وغيرهم فشهدوا جنازته بداريا بلاس.(28/196)
أبو بكر القلانسي
قرأت بخط عبد الوهاب الميداني: في يوم الأحد سلخ شهر رمضان يعني سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة مات أبو بكر المعروف بالقلانسي الذي كان مقيماً بسطرا. وكان رجلاً مستوراً. وأخرجت جنازته في يوم الاثنين إلى باب شرقي، وشهد جنازته جماعة من الناس.
أبو بكر بن الفريابي
أحد الصالحين.
قال عبد الوهاب: مات لإحدى عشرة خلت من رجب سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، فأخرجت جنازته إلى باب توما العصر، وكان له مشهد عظيم. عفا الله عنا وعنه.
أبو بكر الواسطي الصوفي
قرأت بخط غيث بن علي: حدثت أن أبا بكر الواسطي توفي بدمشق بعد مضيه من عندنا في ذي القعدة سنة خمس وسبعين وأربعمائة، وأقام بدار الحجارة نحواً من يومين لم يعلم به.
ذكر هو لي رحمه الله أنه سمع من القاضي أبي عمر الهاشمي، وعلي بن بشران، وهلال الحفار، وطبقتهم. ولم يصحبه شيء من سماعه، وكان يذكر أنه شيء كثير، وما أظنه حدث. وكان يظهر لي أنه قد نيف على السبعين.(28/197)
أبو بكر السمرقندي الفقيه الحنفي المعروف بالظهير
قدم دمشق، وأقام بها مدة، وعقد له مجلس التدريس في الخزانة الشرقية بالشام من جامع دمشق التي جعلت مسجداً. ثم فوض إليه التدريس بمسجد خاتون إلى أن مات بدمشق في شوال سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة.(28/198)
كنى النساء على حرف الباء
أم البراء بنت صفوان بن هلال
من النسوة الشواعر الفصيحات.
عن سعيد بن حذاقة قال: دخلت أم البراء بنت صفوان بن هلال على معاوية وعليها ثلاث دروع قد كارت على رأسها كوراً، فسلمت وجلست، فقال لها: كيف أنت يا بنت صفوان؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: كيف حالك؟ قالت: ضعفت بعد قوة، وكسلت بعد نشاط. قال: شتان بين يومك ويوم تقولين: من الكامل
يا زيد دونك صارماً ذا رونق ... عضب المهزة ليس بالخوّار
أسرج جوادك مسرعاً ومشمّراً ... للحرب لس مولّياً لفرار
يا ليتني أصبحت ليس بعورةٍ ... فأذبّ عنه عساكر الفجّار
قالت: يا أمير المؤمنين عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه، قال؛ هيهات! أما والله لو عاد لعدت، ولكنه اخترم قبلك، فكيف أبياتك فيه حين قتل؟ قالت: نسيتها. قال: هو والله حين تقولين: من الكامل
يا للرجال لعظم أمر مصيبةٍ ... جلّت فليس مصابها بالزائل
فالشمس كاسفة لفقد أميرنا ... خير البرية والإمام العادل(28/199)
يا خير من ركب المطي ومن مشى ... فوق التراب بحافي أو ناعل
حاشا النبي لقد هدمت قواءنا ... فالحق أصبح خاضعاً للباطل
قاتلك الله! والله ما كان حسان يحسن هذا. ألك حاجة؟ قالت: أما الآن فلا. وقامت، فعثرت بثوبها، فقالت: تعس شانئ علي. فقال لها معاوية: يا أم البراء، زعمت ألا! قالت: هو والله ما تعلم.
وخرجت، فبعث إليها بمال.
أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس
زوج الوليد بن عبد الملك وابنة عمه.
وكانت دارها بدمشق بقرب طاحونة الثقفيين المعروفة اليوم بطاحونة القلعة. وكانت لها دار أخرى خراج باب الفراديس على يسرة المار إلى المقبرة.
عن ابن أبي عبلة قال: سمعت أم البنين تقول: أف للبخل، لو كان ثوباً ما لبسته، ولو كان طريقاً ما سلكته.
وعن ابن أبي عبلة قال: دخلت على أم البنين وهي تعالج قدراً لها، فقلت: ما هذا؟ فقالت: شيء اشتهاه أمير المؤمنين، فأنا أعالجه.
أم البنين بنت عبد الملك بن مروان، وأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز.
قال الحافظ: كذا قال: وهو وهم، وإنما أم البنين بنت عبد العزيز أخت عمر.(28/200)
قال يحيى بن منصور: دخلت عزة كثير على أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز فقالت لها: ما سبب قول كثير:
قضى كلّ ذي دينٍ علمت غريمه ... وعزّة ممطول معنّى غريمها
قالت: كنت وعدته قبلة، فتحرجت منها، فقالت أم البنين: أنجزيها، وعلي إثمها. قال: فندمت أم البنين على قولها هذا، فأعتقت لكلمتها هذه سبعين رقبة.
قال الزبير بن بكار في تسمية ولد عبد العزيز: وأم البنين بنت عبد العزيز ولدت للوليد بن عبد الملك. وأخواها لأمها: سهيل وجعفر ابنا خارجة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن العوام. وأمهم ليلى بنت سهيل بن حنظلة بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب.
وعن أبي نصر بن ماكولا قال: وأما أم البنين أوله باء معجمة بواحدة وبعدها نون مكسورة خفيفة فهي: أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، أخت عمر بن عبد العزيز.(28/201)
حرف التاء
أبو تجراة الكندي
وفد على معاوية بن أبي سفيان في أمر سعد بن طلحة بن أبي طلحة العبدري مع شيبة بن عثمان الحجبي. له ذكر.
عن حسن بن زيد أنه قال يوماً: قاتل الله ابن هشام ما كان أجرأه على الله، دخلت عليه مع أبي في هذه الدار يعني دار مروان وقد أره هشام أن يفرض للناس، فدخل عليه ابن لعبد الله بن جحش المجدع في الله، فانتسب له، وسأله الفريضة، فلم يبه بشيء، ولو كان أحد يرفع إلى السماء كان ينبغي له أن يرفع. ثم دخل عليه ابن أبي تجراة، وهم أهل بيت من كندة رفعوا بمكة، فقال: ابن أبي تجراة صاحب عمل عمارة بن الوليد في سفره الذي يقول فيه: من الطويل
تزوّج أبا تجراة من يك أهله ... بمكة يرحل وهو للظلّ آلف
فقال له: لتعلمن أن مودة أبي فائد قد نفعتك اليوم. ففرض له، ولأهل بيته.
أبو تميمة مولى بني مروان الأموي
حكى عن عمر بن عبد العزيز، فقال: أين منزلك؟ قال: بالعراق، قال: أوما علمت أو بلغك أنه لا ينزله أحد إلا سيق إليه قطعة من البلاء.(28/202)
أبو توبة المصري
روى عنه محمد بن أبي حميد، ووفد على عمر بن عبد العزيز. وقال: كنت عند عمر بن عبد العزيز ونحن بالإسكندرية حين استخلف. قال: فجمعني، وجمع فقهاء فقال: لا يبقين أحد منكم إلا أعلمني ما سمع في الخمر.
فذكر حديث تحريم الخمر.
قال الحافظ أبو القاسم: لا أعرف أن عمر بن عبد العزيز دخل الإسكندرية بعدما استخلف، وأبو توبة هذا لم أجد له ذكراً في كتاب من الكتب المشهورة، ومحمد بن أبي حميد سيء الحفظ. والله أعلم.
حرف الثاء
أبو الثريا الكردي
ولي إمرة دمشق مستهل ربيع الأول سنة أربع وستين وثلاثمائة من قبل أبي محمود المغربي أمير الشام في أيام الملقب بالعزيز، فوليها مدة يسيرة ثم عزل بأبي الفتوح جيش بن الصمصامة ولايته الثانية.
أبو ثعلبة الخشنيّ
اختلف في اسمه اختلافاً كثيراً على ما سنورده. وكان من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن أبي ثعلبة الخشني: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن كل ذي ناب من السباع.
قال عبد الجبار بن محمد بن مهنى: ذكر أبي ثعلبة الخشني، واسمه جرثوم بن ناشر. والدليل على نزوله داريا ومقامه(28/203)
بها حديث ابن جابر، عن عمير بن هانئ العنسي حيث يقول: كنا بدرايا في المسجد، ومعنا أبو ثعلبة الخشني صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع من روى عنه من أهل داريا.
وقد قيل: إن أبا ثعلبة كان يسكن بقرية البلاط، وإن من ولده بها قوماً إلى هذا اليوم. وأرى أن ولده انتقلوا من داريا فسكنوا البلاط؛ لأن حديث ابن جابر عن عمير بن هانئ مشهور ومعروف عند أهل العلم. والله أعلم.
قال سليمان بن عبد الرحمن: سألت بعض ولد أبي ثعلبة الخشني عن اسم أبي ثعلبة فقال: لاشر بن جرثوم.
وعن سعيد بن عبد العزيز: اسم أبي ثعلبة جرثوم، وقيل: جرهم.
وسئل هشام بن عمار عن اسمه فقال: يقولون: جرثوم بن عمرو، وكذلك قال أحمد بن حنبل، وقال: وقالوا: جرهم بن ناشم وفي رواية: لاشم.
قال ابن زنجويه: بغلني أن اسم أبي ثعلبة جرهم بن ناشم.
ومثل هذه الرواية وردت عن أحمد بن حنبل.
وفي نسخة بخط أبي عمر بن حيويه كتبها عن ابن السماك: باسم بالباء والسين.
وقال خليفة بن خياط: وابن البرقي: أبو ثعلبة الخشني اسمه ألا شق بن جرهم. ويقال: اسمه جرثومة بن ناشج. ويقال: اسمه جرهم.(28/204)
قال محمد بن سعد: أبو ثعلبة الخشني، وخشين من قضاعة، واسم أبي ثعلبة جرهم بن ناشم.
وعن أبي مسهر الدمشقي أنه قال: اسمه جرثومة بن عبد الكريم.
ذكره البرديجي في الطبقة الأولى من الأسماء المفردة وسماه جرثومة.
قال بقية بن الوليد: اسم أبي ثعلبة الخشني لاشومة بن جرثومة.
قال أبو عيسى الترمذي: أبو ثعلبة اسمه جرثوم، ويقال: جرهم، ويقال: ناشب.
ومثله من طريق النسائي وزاد: جرثوم بن ناشم.
قال أبو بكر بن عيسى: وبلغني أن أبا ثعلبة أقدم إسلاماً من أبي هريرة، ولم يقاتل مع علي، ولا مع معاوية. ومات في أول إمرة معاوية.
عن حميد المزني قال: إن أول صلاة صلاها المسلمون يعني بحمص في كنيسة يحنا، صلى بهم أبو ثعلبة الخشني.
قال عبد الغني بن سعيد: وأما ناشر بالنون في أوله والراء المهملة في آخره فهو: ناشر والد أبي ثعلبة الخشني، جرثوم. وقيل: ناشب.(28/205)
قال الواقدي: وممن نزل الشام: أبو ثعلبة. اسمه جرهم بن ناشم. وخشينة حي من قضاعة. مات سنة خمس وسبعين.
قال مسلم بن الحجاج: أبو ثعلبة جرهم بن ناشم الخشني، ويقال: جرثوم. له صحبة. وقال الدارمي: لاس بن حمير.
نا خليفة بن خياط قال: ومن خشين وهو وائل بن النمر بن ثعلب بن حلوان بن إلحاف بن قضاعة أبو ثعلبة الخشني. من ساكني الشام.
قال أبو بكر بن البرقي: وكان ممن بايع تحت الشجرة.
قال أبو نعيم الحافظ: لاشر بن حمير، ويقال: لاشومة بن جرثوم، ويقال: ناشب بن عمرو، وقيل: لاشن بن جلهم، وقيل: عرنوق بن ناشم وقيل: ناشر وقيل: جرثمة بن ناشب، وقيل: جرهم بن ناشم، وقيل: جرثوم، أبو ثعلبة الخشني.
قال ابن ماكولا: أما خشين بضم الخاء المعجمة وفتح الشين المعجمة فهو: خشين بن النمر بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة. وإليه ينسب أبو ثعلبة الخشني صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بايع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيعة الرضوان، وضرب له بسهمه يوم(28/206)
حنين، وأرسله إلى قومه فأسلموا. وأخوه عمرو بن جرهم أسلم على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهما من ولد لبوان بن مر بن خشين.
قال أبو ثعلبة الخشني: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لي: نويئبة. فقلت: يا رسول الله، نويئبة خير أو نويئبة شر؟ قال: بل نويئبة خير، لا تأكلوا الحمار الأهلي، ولا ذا ناب من السبع.
نا أحمد بن يحيى ثعلب: قال في الحديث: نويئبة خير ونويئبة شر أي نائبة، تصغير.
عن محجن بن وهب قال: قدم أبو ثعلبة الخشني على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يجهز إلى خيبر، فأسلم، وخرج معه فشهد خيبر، ثم قدم بعد ذلك سبعة نفر من خشين، فنزلوا على أبي ثعلبة، فأسلموا، وبايعوا، ورجعوا إلى قومهم.
عن أبي ثعلبة قال: قلت: يا رسول الله، مات لي ولدان في الإسلام، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله بفضل رحمته إياهما الجنة، فلقيني أبو هريرة فقال لي: أنت الذي قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الولدين ما قال؟ قال: قلت له: نعم. قال: لأن يكون قالها لي أحب إلي مما أغلقت عليه حمص وفلسطين.
وعن أبي ثعلبة قال: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: يا رسول الله، اكتب لي بأرض كذا وكذا لأرض(28/207)
بالشام لم يظهر عليها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينئذ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا؟! فقال أبو ثعلبة: والذي نفسي بيده لتظهرن عليها. قال: فكتب له بها.
قال: فقلت: يا رسول الله، إنا بأرض صيد، فماذا يحل لنا من ذلك، وما يحرم علينا؟ قال نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أرسلت كلبك المعلم أو المكلب، شك الراوي وذكرت اسم الله، فأخذ، أو قتل فكل، وإذا أرسلت كلبك الذي ليس بمعلم فما أدركت ذكاته فكل، وما لم تدرك ذكاته فلا تأكل، وما رد سهمك فكل. قال: قلت: يا رسول الله، إنا بأرض أهلها أهل الكتاب، وإنا نحتاج إلى قدورهم وآنيتهم، قال: فلا تقربوها ما وجدتم بداً، فإذا لم تجدوا بداً فاغسلوها بالماء، ثم اطبخوا وأشربوا. قال: ونهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن لحم الحمار الأهلي، وعن كل سبع ذي ناب. قال: فزعموا أنهم لما ظهروا على الشام أخرج كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعطي ما فيه.
عن أبي ثعلبة الخشني قال: كان أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل يتناجيان بينهما بحديث، فقلت لهما: ما حفظتما وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في! قال: وكان أوصاهما بي قالا: ما أردنا أن ننتجي بشيء دونك، إنما ذكرنا حديثاً حدثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فجعلا يتذاكرانه، قالا: إنه بدأ هذا الأمر نبوةً ورحمةً، ثم كائن خلافةً ورحمةً، ثم كائن ملكاً عضوضاً، ثم كائن عتواً وجبرية وفساداً في الأمة؛ فيستحلون الحرير والخمر وفي رواية: الخمور والفروج والفساد في الأمة وفي رواية: وفساداً في الأرض ينصرون على ذلك، ويرزقون أيداً حتى يلقوا الله وفي رواية: ثم كانت في المواضع الثلاثة.
عن إسماعيل بن عبيد الله قال:
بينا أبو ثعلبة الخشني وكعب جالسين ذات يوم إذ قال أبو ثعلبة: يا أبا إسحاق، ما من عبد تفرغ لعبادة الله إلا كفاه الله مؤونة الدنيا. قال: أشيء سمعته من(28/208)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم شيء تراه؟ قال: بل شيء أراه. قال: فإن في كتاب الله المنزل: من جمع همومه هماً واحداً، فجعله في طاعة الله كفاه الله ما همه، وضمن السماوات والأرض رزقه، فكان رزقه على الله، وعمله لنفسه، ومن فرق همومه، فجعل في كل واد هماً لم يبال الله في أيها هلك. ثم تحدثا ساعةً، فمر رجل يختال بين بردين، فقال أبو ثعلبة: يا أبا إسحاق، بئس الثوب ثوب الخيلاء. فقال: أشيء سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم شيء تراه؟ قال: بل شيء أراه. قال: فإن في كتاب الله المنزل: من لبس ثوب خيلاء لم ينظر الله إليه حتى يضعه عنه، وإن كان يحبه.
قال ناشرة بن سمي: ما رأينا أصدق حديثاً من أبي ثعلبة الخشني، لقد صدقنا حديثه في الفتنة الأولى فتنة علي. وكان أبو ثعلبة لا يأتي عليه ليلة إلا خرج ينظر إلى السماء، فينظر كيف هي، ثم يرجع، فيسجد.
قال أبو زرعة: غزا أبو ثعلبة الخشني القسطنطينية مع يزيد بن معاوية سنة خمس وخمسين.
عن الوليد بن مسلم أن أبا ثعلبة الخشني كان يقول: إني لأرجو ألا يخنقني الله كما يخنقكم. فبينما هو في صرحة داره إذ نادى: يا عبد الرحمن وقد قتل عبد الرحمن جاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما أحس بالموت أتى مسجد بيته، فخر ساجداً، فمات وهو ساجد.
وعن أبي الزاهرية أن ابنة أبي ثعلبة رأت أن أباها قد مات، فاستيقظت فزعةً، فنادت أمها: أين(28/209)
أبي؟ قالت: في مصلاه، فنادته، فلم يجبها، فأنبهته، فوجدته ساجداً، فحركته، فوقع لحينه ميتاً.
مات أبو ثعلبة الخشني بالشام سنة خمس وسبعين.(28/210)
حرف الجيم
أبو الجرح الغساني
قال أبو الجراح: كانت أمي من ذلك السبي يومئذ يعني يوم أغار خالد بن الوليد على غسان بمرج راهط يوم قضمهم قبل افتتاحهم دمشق. قال: فلما رأت هدى المسلمين وصلاحهم وحسن صلاتهم، وما هم فيه وقع الإسلام في قلبها، فأعجبها ما رأت منهم، فأسلمت، فكانت مع المسلمين. ثم إن أبي طلبها في السبي، فوجدها، فجاء إلى المسلمين، فقال لهم: يا أهل الإسلام، إني امرؤ مسلم، وقد جئتكم مسلماً، وهذه امرأتي قد أصبتها، فإن رأيتم أن تصلوني بها، وتحفظوا حقي، وتردوا علي أهلي فعلتم.
قال: وقد كانت امرأته أسلمت، وحسن إسلامها، فقال لها المسلمون: ما تقولين في زوجك، فقد جاء يطلبك، وهو مسلم؟ فقالت: إن كان مسلماً رجعت إليه، وإن لم يكن مسلماً فلا حاجة لي فيه، ولست براجعة إليه. فلما عرفت إسلامه طابت نفسها بالرجوع، فدفعوها إليه.
أبو الجعد السائح
بلغ في سياحته جبل لبنان من أعمال دمشق.
قال أبو الجعد السائح: رأيت رجلاً حسن الوجه كأنه الشن البالي بجبال لبنان، وعليه خرقة، وما معه(28/211)
شيء، ولا عليه غير تلك الخرقة، فسمعته يقول: مجزوء الخفيف
شدّة الشّوق والهوى ... تركاني كما ترى
أبو جعفر الصاحي
عن محمد بن شعيب قال: كان معنا رجل يقرأ في حلقة المساكين، فقال لنا يوماً: ألا أحدثكم برؤيا رأيتها؟ قلنا: وما هي؟ قال: رأيت كأن طائراً وقع على جانب القبة، ثم مثل لي أنه صار رجلاً، فقال: فلان قدري، وفلان كذا، وأبو جعفر الصاحي نعم الرجل، وابن عمرو خير من يمشي على الأرض، وأنت يا فلان ميت غداً.
فلما أصبحنا قلت: أرعاه ببصري. فقمت بعدما طلعت الشمس فإذا هو جالس في الصحن يتفلى، فقال لي: اسبق تأخذ السرير قبل أن تسبق إليه! قال: ثم انصرفت إلى البيت مستخفياً. فلما كان قبل الظهر ذكرت فقلت: أيش لو ذهبت حتى أنظر مصداق رؤيا هذا الرجل؟ فرحت إلى المسجد، فلقيت من يخبرني أنه قد مات.
كذا في هذه الرواية. ورواها أحمد بن أنس بن مالك عن عباس، فقال بدل أبي جعفر الصاحي: أبو جفص عثمان بن أبي العاتكة، وهو الصواب. وهذه الرواية تصحيف، تصحف أبو حفص بأبي جعفر، وتصحف القاص بالصاحي. والله أعلم.
أبو جعفر الخراساني الشافعي
كان بدمشق.
حكى عن الأصمعي قال: دخلت المقابر فإذا أنا بامرأة تبكي ابناً لها وهي تقول: من الكامل(28/212)
لمّا نشا ورجوته ذخري ... وظننت أن يقوى به ظهري
ويكون من أعمامه خلفاً ... ويشدّ بعد تأطّرٍ أزري
رشقته عن قوسٍ بلا وترٍ ... سهم المنون بمنزلٍ قفر
ما زلت حتّى ذقت لوعتها ... وأمرّ منها لوعة الصّبر
قال: ورأيت أخرى تبكي ابنها وتقول: من الكامل
قد كنت آمله وأرجو نفعه ... وأعيذه بالله من حسد العدى
وأزال أرقيه وأنفث حوله ... حتى تغطّي الصباح أستار الدّجى
حذر العيون عليه إلاّ أنّه ... لا ينفع الحذر التمائم والرّقى
أبنيّ قد أبليتني قبل البلى ... قدماً وقد أنسيتني ما قد مضى
أمّا الفراق فقد شربت بكأسه ... فمتى يكون حبيب نفسي الملتقى
أبو جعفر ابن بنت أبي سعيد الثعلبي
حكى عن عبيد بن صرد أخي ضرار بن صرد أنه سمع رجلاً من ولد الربيع من خيثم يقول: كتب الربيع بن خيثم إلى أخ له: أما بعد، فرم جهازك، وافرغ من زادك، وكن وصي نفسك، ولا تجعل الناس أوصياءك، ولا تجعل الدنيا من أكبر همك؛ فإنه لا عوض من تقوى الله، ولا خلف من الله.
وروى عن حاجب بن أبي علقمة العطاردي قال: سمعت أبي يقول: قال مطرف بن عبد الله بن الشخير لابن أخيه: يا بن أخي، إذا كانت لك حاجة إلي فاكتب بها إلي في رقعة؛ فإني أصون وجهك عن ذل السؤال.(28/213)
أبو جعفر بن ماهان الرازي
روى عن هشام بن عمار، نا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي قال: سمعت بلال بن سعد السكوني يقول: إن المؤمن ليقول قولاً، فلا يدعه الله وقوله حتى ينظر في عمله، فإن كان عمله موافقاً لقوله لم يدعه حتى ينظر ما نوى به، فإن سلمت له النية فبالأحرى أن يسلم له سائر ذلك. إن المؤمن ليقول قولاً يوافق قوله عمله، وإن المنافق ليقول بما نعلم، ويفعل بما ننكر.
أبو جعفر الحداد الصوفي
سافر، ودخل دمشق. وهو من أقران الجنيد بن محمد، ورويم بن يزيد، لقي أبا تراب النخشبي.
عن أبي جعفر الحداد قال: كنت أختلف إلى الصوفية وأنا حدث، فلما كان ذلت يوم تبعني رجل يتعرض لي، فدفعته عن نفسي جهدي وطاقتي، فلازمني، حيثما مضيت وجئت وذهبت يتبعني. وخشيت أن يقطعني عن صحبة الفقراء ومجالستهم. وضاق بذلك صدري فخرجت يوماً إلى البرية، فتبعني، لا أكلمه، وهو لا يكلمني، كلما مشيت مشى، وإذا جلست جلس. فلما كان بعد ثلاثة أيام لا نأكل ولا نشرب، وجئنا إلى بئر طويل، فقلت له: لئن أنت أعفيتني منك، وانصرفت عني وإلا طرحت نفسي في هذا البئر! فلم يصدقني أني أفعل ذلك. فسكت، وجلس ناحيةً، فرميت نفسي في البئر، فوقعت على صخرة في وسط البئر، فجلست عليها، وبقي الرجل يصيح في الصحراء، وقد جعل التراب على رأسه، ويجيء كل ساعة يطلع في البئر. ثم هام على وجهه. فبقيت في البئر ثلاثة أيام على حالتي. فلما كان اليوم الرابع إذا حية عظيمة قد خرجت من ثقب في البئر، ودارت(28/214)
حول البئر على رأس الماء، فقلت في نفسي: قد أمرت في بأمر، مرحباً بحكم الله. فلما بلغت إلى عندي قاءت، فرمت شيئاً أصفر، كأنه صفرة البيض على وجه الماء. ومرت الحية، ورجعت في الثقب، فقلت: هذا، ما أشك، هو رزقي، فمسسته، وإذا فيه لين، فأخذته، وتذوقته، وإذا طعمه طيب، فأكلته، فوجدت فيه شبعاً. فلما كان اليوم الثاني إذا بالحية قد خرجت من الثقب، ودارت في البئر على رأس الماء حتى بلغت إلى عندي، فقاء مثل ذلك، فأخذته، وأكلته. فأقمت على هذا ثلاثة أيام، فكأني أنست بالموضع، وغمني فوات الصلوات. فخرجت الحية يوم الرابع، وانسابت في الحائط حتى صار رأسها عند رأس البئر، وذنبها في آخر البئر، وذنبها في آخر البئر، فثبتت رأسها، فوقع لي أنها تقول: تمسك بي، فتعلقت بها، وإذا هي قد رفعتني إلى رأس البئر.
وخرجت، ودخلت إلى البصرة، وجئت إلى الفقراء، فحدثتهم، فدعوا لي دعاء رأيت بركته، ثم صرت إلى أهلي، فحدثتهم بقصتي.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: أبو جعفر الحداد الكبير، بغدادي، من أقران الجنيد، ورويم، وكان أستاذ أبي جعفر الحداد الصغير.
قال أبو جعفر الحداد:
أشرف علي أبو تراب يوماً وأنا جالس على بركة في البادية، فيها ماء، ولي ستة عشر يوماً لم آكل، ولم أشرب من البركة، وأنا جالس. فقال لي: ما جلوسك؟ قلت: أنا بين العلم واليقين، أنظر من يغلب فأكون معه، فقال: سيكون لك شأن من الشأن.
وقال: مكثت بضع عشرة سنة أعتقد التوكل، وأنا أعمل في السوق، وآخذ كل(28/215)
يوم أجرتي، ولا أنتفع منها بشربة ماء، ولا بدخلة حمام. وكنت أجيء بأجرتي إلى الفقراء في الشونيزي، وأكون على حالي.
قال أبو عمر الأنماطي: مكث أبو جعفر الحداد عشرين سنة يكتسب كل يوم ديناراً يتصدق به أو قال: ينفقه على الفقراء، وهو أشد الناس اجتهاداً، ويخرج بين العشاءين، فيتصدق من الأبواب، ولا يفطر إلا في وقت ما أحل الله عليه الميتة. وكان من رؤساء المتصوفة.
قال محمد بن الهيثم: قال لي أبو جعفر الحداد: كنت أحب أن أدري كيف تجري أسباب الرزق على الخلق، فدخلت البادية بعض السنين على التوكل، فبقيت سبعة عشر يوماً لم آكل فيها شيئاً، فضعفت عن المشي، فبقيت أياماً أخر لم أذق فيها شيئاً حتى سقطت على وجهي، وغشي علي، وغلب علي القمل، شيء ما رأيت مثله، ولا سمعت به. فبينا أنا كذلك إذ مر بي ركب، فرأوني على تلك الحال، فنزل أحدهم عن راحلته، فحلق رأسي ولحيتي، وشق علي ثوبي، وتركني في الرمضاء وسار. فمر بي ركب آخر، فحملوني إلى حيهم، وأنا مغلوب، وطرحوني ناحيةً، فجاءتني امرأة، وحلبت على رأسي، وصبت اللبن في حلقي، ففتحت عيني قليلاً، فقلت لهم: أقرب المواضع منكم أين؟ قالوا: جبل الشراة.
قال أبو جعفر: وحين سقطت كنت قد قبضت على حصاة، وجهدوا في البادية أن يفتحوا يدي فلم يطيقوا، وإذا هي حصاة كلما هممت برميها لم أجد إلى رميها سبيلاً، فدخلت بيت(28/216)
المقدس، واجتمع حولي الصوفية والحصاة في يدي أقلبها، فأخذها مني بعض الفقراء، وضرب بها الأرض، فتفتت، وخرج منها دودة صغيرة، ثم ضرب يده إلى ورقة فأخذها ووضعها على رأس الدودة، فلم تزل تسير حتى قورت الورقة وأنا أنظر إليها، فقلت: نعم يا سيدي، لم تطلعني على سبب مجاري الأرزاق إلا بعد حلق رأسي ولحيتي! قال محمد بن الهيثم: قلت لأبي جعفر الحداد: الناس يقولون: إنك أقمت في البادية سبعين يوماً ما أكلت فيها، ولا شربت، فحدثني؛ فقال: أنا معتمد التوكل، وأرى رزقي يجري على أيدي الناس. وكنت أريد أن يجيء به الجن أو الوحش، أو يخرج من الأرض، أو ينزل من السماء؛ فاعتقدت أني أدخل البادية، فإذا رأيت سواداً عدلت عنه. فأقمت أربعين يوماً ما أكلت، ولا شربت حتى ضعفت، فجئت إلى مصنع، فأخذت ماء، فغسلت وجهي ورجلي، واسترحت، ثم وجدت نصف دبة كان فيها قطران، قد مر عليها الحر والسيول، وقد استربت، فقمت، وأخذتها، وتركتها في حجري، ودققتها بين حجرين حتى صارت مثل السويق، فاستففتها، وشربت عليها الماء، فرجعت نفسي، فقمت، وطلبت السواد، فلما أشرفت عليهم ذبحوا وخبزوا، فأكلت واسترحت. ولم أزل أعدل إلى البوادي حتى أتيت مكة، وأقبل شعر رأسي ولحيتي يتناثر حتى دخلت مكة وأنا أقرع بغير لحة، وجلست في موضع، وأقبل الصوفية يذهبون ويجيئون، وينكرون، وبعضهم يقول: هو أبو جعفر، وبعضهم يقول: لا، حتى جاءني واحد منهم، فقال لي: أنت أبو جعفر الحداد؟ فقلت: نعم، فمضى وحشر علي الصوفية، وجلسوا حولي. فقال بعضهم، يا أبا جعفر، التوكل ما هو؟ فقلت: أيما أحب إليك؛ أصفه لك علماً، أو تراه حقيقة؟ فقال: أراه حقيقة، فقلت: حفل الرؤوس واللحى!(28/217)
قال أبو جعفر الحداد: إذا رأيت ضر الفقير في ثوبه فلا ترج خيره.
وقال أبو جعفر الحداد: كنت بمكة، فطال شعري، ولم يكن معي قطعة آخذ بها شعري، فتقدمت إلى مزين توسمت فيه الخير، وقلت: تأخذ شعري لله؟ قال: نعم وكرامة. وكان بين يديه رجل من أبناء، فصرفه، وأجلسني، وحلق شعري، ثم دفع إلي قرطاساً فيه دراهم، وقال: استعن بها على حوائجك. فأخذتها، واعتقدت أني أدفع إليه أول شيء يفتح علي. قال: فدخلت المسجد، فاستقبلني بعض إخواني، وقال: خذ صرة أنفذها بعض إخوانك من البصرة فيها ثلاثمائة دينار. قال: فأخذت الصرة، وحملتها إلى المزين، وقلت: هذه ثلاثمائة دينار تصرفها في بعض أمورك، فقال لي: ألا تستحي يا شيخ؟ تقول لي: احلق شعري لله، ثم آخذ عنه شيئاً. انصرف عافاك الله! قال أبو جعفر الحداد:
جئت الثعلبية وهي خراب، ولي سبعة أيام لم آكل، فدخلت القبة. وجاء قوم قراء يبكون، اصابهم جهد، وطرحوا أنفسهم على باب القبة، فجاء أعرابي على راحلة، وصب تمراً بين أيديهم، فاستقبلوا الأكل، ولم يقولوا لي شيئاً، ولم يرني الأعرابي. فلما كان بعد ساعة، فإذا الأعرابي جاء وقال لهم: معكم غيركم؟ فقالوا: نعم، هذا الرجل داخل القبة. قال: فدخل الأعرابي، وقال: أيش أنت؟ لم لم تتكلم؟ مضيت، فعارضني أن قد خلفت إنساناً لم تطعمه، ولم يمكني أن أمضي، وطولت علي الطريق، لأني رجعت عن أميال. وصب بين يدي التمر الكثير، ومضى. فدعوتهم، فأكلوا، وأكلت.
أبو الجعيد
شهد اليرموك.(28/218)
عن أبي الجعيد أنه أشار على المسلمين ببيات الروم، فقبلوا ذلك منه، فبعثوا معه خيلاً عظيمة، وأمروا أهل العسكر بإيقاد النيران. قال: فانطلق بهم أبو الجعيد على مدقة الطريق، وجسر الطريق حتى واقع عسكرهم، فقاتلوهم ملياً، فلما نشب القتال انحاز بهم في ظلمة الليل على الطريق التي أقبل عليها، والجسر. وتنادت الروم: إن العرب قد انهزمت، فخرجت الروم تراكض تؤم النيران، فتوقص منهم في وادي اليرموك أكثر من ثمانين ألفاً لا يعلم الآخر ما لقي الأول.
أبو جلتا البهراني
حمصي فارس. شهد حرب سليمان بن هشام بن عبد الملك لما وجهه يزيد بن الوليد لقتال عسكر أهل حمص الذين توجهوا إلى دمشق لطلب دم الوليد. وقتل أبو جلتا في ذلك الموكن بالسليمانية من قرى دمشق، بقرب عذرا.
أبو الجلد التميمي
عن أبي الجلدى التميمي قال: دخلت على عبد الملك بن مروان في الخصراء، وبين يديه كانون من فضة يوقد فيه بالعود الألنجوج. فقلت: زادك الله في النعمة عندي يا أمير المؤمنين، قال: أعجبك ما ترى يا أبا الجلد؟ قلت: إي والله يا أمي المؤمنين، فتمم الله ذلك برضوانه والجنة، قال: فلا يعجبك، هذا ابن هند ملك الناس أربعين سنة، عشرين سنة أميراً، وعشرين سنة خليفة، ذاك قبره!(28/219)
أبو جميع بن عمر بن الوليد
ابن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي كان من أجواد بني أمية.
قال الزبير بن بكار: ومن ولد عمر بن الوليد أبو جميع بن عمر بن الوليد. كان جواداً ممدحاً. يقول إبراهيم بن علي بن هرمة يمدحه: من البسيط
من مبلغٌ عمراً عني بعسكره ... وقد يبلّغ عن ذي الحاجة الخبر
أن قد أتى بامرئ ضخمٍ دسيعته ... أبي جميع، وأحياء بها عمر
هل يفعل المرء إلاّ فعل والده ... أنّى تيّمم، والعيدان تعتصر
أبو جميل القدريّ
من الصدر الأول. أمر أبو إدريس الخولاني بترك مجالسته عن أبي إدريس الخولاني أنه قال: لأن أسمع في ناحية المسجد بنار تحرق أحب إلي من أن أسمع ببدعة ليس لها مغير. ألا إن أبا جميل لا يؤمن بالقدر فلا تجالسوه.
فانتقل من دمشق إلى حمص.(28/220)
أبو جندل بن سهيل
سأل بلالاً عن المسح على الخفين بدمشق، فقال بلال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسح على الخفين والخمار عن مكحول قال: كان الحارث بن معاوية الكندي، وأبو جندل بن سهيل يتوضآن عند مطهرة باب البريد، فذكرا المسح على الخفين، فمر بهما بلال مؤذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألاه عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: امسحوا على الخفين والخمار.
وفي رواية أخرى: امسحوا على النصيف والموق قال أبو القاسم: أبو جندل بن سهيل اسمه عبد الله بن سهيل قتل يوم اليمامة، وأبو جندل هذا سأل بلالاً بدمشق في خلافة عمر، وهو غيره.
عن نافع قال: لما قدم على عمر كتاب أبي عبيدة في ضرار وأبي جندل كتب إلى أبي عبيدة في ذلك، وأمره أن يدعوهم على رؤوس الناس، فيسألهم: أحلال الخمر أم حرام؟ فإن قالوا: حرام(28/221)
فاجلدوهم ثمانين جلدة، واستتيبوهم، وإن قالوا: حلال فاضرب أعناقهم. فدعاهم، فسألهم، فقالوا: بل حرام، فجلدهم، فاستحيوا، فلزموا البيوت، ووسوس أبو جندل.
وكتب أبو عبيدة إلى عمر: إن أبا جندل قد وسوس إلا أن يأتيه الله عز وجل على يديك بفرج، فاكت إليه، وذكره. فكتب إليه:
من عمر إلى أبي جندل: " إنَّ اللهَ لا يغفِرُ أَنْ يُشْرَكَ به، ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلك لمَنْ يَشاءُ "، فتب، وارفع رأسك، وابرز، ولا تقنط؛ فإنه يقول: " يا عِباديَ الذينَ أَسْرَفُوا على أنفسِهم لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمةِ الله، إنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنوبَ جميعاً إنه هُوَ الغفورُ الرحيمُ ". فلما قرأه عليه أبو عبيدة تطلق، وأسفر عنه. وكتب إلى الآخرين بمثل ذلك. فبرزوا. وكتب إلى الناس: عليكم أنفسكم، من استوجب الغير فغيروا عليه. ولا تعيروا أحداً فيفشوا فيكم البلاء.
قالوا: وجاشت الروم: دعونا نغزهم، فإن قضى الله تعالى بالشهادة فذاك، وإلا عمدت للذي تريد. فاستشهد ضراب بن الأزور في قوم، وبقي الآخرون فحدوا.
أبو الجنوب المؤذن المؤدب
مؤذن الضحاك بن قيس.
عن عمر بن مهاجر: أن أبا الجنوب مؤذن الضحاك بن قيس كان معلم كتاب، فجاءه، فسلم عليه ثم قال: والله إني لأحبك أيها الأمير لله تعالى، فقال له الضحاك بن قيس: وأنا والله أبغضك لله تعالى. قال: ولم؟ قال: إنك ترتشي في التعليم، وتبغي في التأذين.(28/222)
أبو الجهم بن كنانة الكلبي
من خاصة الحجاج بن يوسف. وفد على عبد الملك بن مروان برأس قطري بن الفجاءة الخارجي لما قتل بطبرستان، وولي عمالة الري، ثم وفد مرة أخرى على الوليد بن عبد الملك مع آل الحجاج بن يوسف بعد موته قيماً عليهم، وحافظاً لهم.
أبو الجلاس العبدي
كانت له قطيعة بدمشق. وكان في عقله شيء.
عن عطية بن قيس قال: خرج أبو الدرداء، حتى إذا خرج، أتى الدرج، رفع يديه وأصحابه. قال: فعاب الناس ذلك عليه، وأبو الجلاس. قال: فقال أبو الدرداء: أن تعيبوا علينا أن نرفع أيدينا في الدنيا خير من أن تسلك في الأغلال يوم القيامة.
قال أبو الدرداء: إنا لنعرف خياركم من شراركم. فذهب أبو الجلاس إلى معاوية، فقال: هذا أبو الدرداء يزعم أنه يعلم الغيب، يزعم أنه يعرف خيارنا من شرارنا. فبعث إليه معاوية فقال: يا أبا الدرداء، ما هذا الذي يقول أبو الجلاس؟ زعم أنك تعلم الغيب؛ أنك تعلم خيارنا من شرارنا! فقال أبو الدرداء: نعم، خيراكم الذين إذا ذكرنا أعانونا، وإذا نسينا ذكرونا. وشراركم الذين إذا لم يعينونا، وإذا نسينا لم يذكرونا، والذين يتخذون مجالس الذكر هجراً، ولا يأتون الصلاة إلا دبراً.
قال: فقال معاوية لأبي الجلاس: خذها إليك حكمة غير جلاسية.
حرف الحاء
أبو حارثة
أظنه ابن عراك بن خالد بن يزيد بن صالح بن صبيح المري.(28/223)
قال ابن عراك: مات خالد بعد سعيد بن عبد العزيز بنحو من سنة، وهو ابن تسع وثمانين سنة. يكنى أبا هاشم.
أبو الحارث الصوفي
حدث عن أبي الحسن علي بن خشاف، عن الجنيد قال: قال لي سري السقطي: وقفت على راهب، فناديته، فأشرف علي، فقلت: منذ كم أنت في هذه الصومعة؟ قال منذ ثلاثين سنة. قال: فقلت: فأيش ورثك الله؟ قال: فقال لي: هل رأيت وزيراً قط أخرج سر خليفته؟ قال أبو عبد الرحمن السلمي: أبو الحارث الدمشقي. صحب الزقاق الكبير. كان من السائحين.
أبو حازم الأسدي الخناصري
حكى عن عمر بن عبد العزيز، ووفد عليه إلى دمشق. قال: قدمت دمشق في خلافة عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة، والناس رائحون إلى الجمعة فقلت: إن أنا صرت إلى الموضع الذي أريد نزوله فاتتني الصلاة، ولكن أبدأ بالصلاة، فصرت إلى باب المسجد، فإذا أمير المؤمنين على الأعواد يخطب الناس، فلما بصر بي عرفني، فناداني: يا أبا حازم إلي مقبلاً. فلما أن سمع الناس نداء أمير المؤمنين بي أوسعوا لي، فدنوت من المحراب، فلما أن نزل أمير المؤمنين فصلى بالناس، التفت إلي فقال: يا أبا حازم، متى قدمت بلدنا؟ قلت: الساعة، وبعيري معقول بباب المسجد، فلما أن تكلم عرفته، فقلت: أنت عمر بن عبد العزيز؟! قال: نعم، قلت له: تالله لقد كنت عندنا بالأمس بخناصرة أميراً لعبد الملك بن مروان، فكان وجهك وضيئاً، وثوبك(28/224)
نقياً، ومركبك وطيئاً، وطعتامك شهياً، وحرسك شديداً، فما الذي غيرك وأنت أمير المؤمنين؟! قال لي: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن بين أيديكم عقبة كؤوداً لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول.
وفي رواية: إن بين أيديكم عقبة كؤوداً مضرسة لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول. قال: فبكى بكاء طويلاً ثم قال لي: يا أبا حازم، ألا ينبغي لي أن أضمر نفسي لتلك العقبة؟ فعسى أن أنجو منها يومئذ، وما أظن أني مع هذا البلاء الذي ابتليت به من أمور الناس بناج! ثم رقد، ثم تكلم الناس، فقلت: أقلوا الكلام، فما فعل به ما ترون إلا سهر الليل. ثم تصبب عرقاً في نوم الله أعلم كيف، ثم بكى حتى علا نحيبه، ثم تبسم، فسبقت الناس إلى كلامه، فقلت: يا أمير المؤمنين، رأيت منك عجباً، إنك لما رقدت تصببت عرقاً حتى ابتل ما حولك، ثم بكيت حتى علا نحيبك، ثم تبسمت. فقال لي: وقد رأيت ذلك؟ قلت: نعم، من كان حولك من الناس رآه. فقال لي: يا أبا حازم، إني لما وضعت رأسي فرقدت رأيت كأن القيامة قد قامت، واجتمع الخلق، فقيل: إنهم عشرون ومائة صف ملء الأفق، أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك ثمانون " مُهْطِعين إلى الدّّاعِ "، ينتظرون متى يدعون إلى الحساب إذ نودي: أين عبد الله بن عثمان أبو بكر الصديق؟ فأجاب، فأخذته الملائكة، فأوقفوه أمام ربه، فحوسب، ثم نجا، فأخذ به ذات اليمين. ثم نودي بعمر، فقربته الملائكة، فأوقفوه أمام ربه، فحوسب، ثم نجا، ثم أمر به وبصاحبه إلى الجنة. ثم نودي بعثمان، فحوسب، ثم أمر به إلى الجنة. فلما قرب الأمر مني أسقط في يدي. ثم جعل يؤتى بقوم لا أدري ما حالهم، ثم نودي: أين عمر بن(28/225)
عبد العزيز؟ فتصببت عرقاً. ثم سئلت عن الفتيل والنقير والقطمير، وعن كل قضية قضيت بها. ثم غفر لي. فمررت بجيفة ملقاة، فقلت للملائكة: من هذا؟ قالوا: إنك إن كلمته كلمك. فوكزته برجلي، فرفع رأسه إلي، وفتح عينيه. فقلت له: من أنت؟ فقال لي: من أنت؟ فقلت: أنا عمر بن عبد العزيز، قال: ما فعل الله بك؟ فقلت: تفضل علي، وفعل بي ما فعل بالخلفاء الأربعة الذين غفر لهم، وأما الباقون فلا أدري ما فعل بهم، فقال لي: هنيئاً لك ما صرت إليه، قلت: من أنت؟ قال: أنا الحجاج، قدمت على الله، فوجدته شديد العقاب، فقتلني بكل قتيل قتلته، وها أنا ذا موقوف بين يدي الله أنتظر ما ينتظر الموحدون من ربهم؛ إما في جنة وإما إلى نار.
قال أبو حازم: فعاهدت الله تعالى بعد رؤيا عمر بن عبد العزيز ألا أقطع على أحد بالنار ممن يموت يقول: لا إله إلا الله.
أبو حديرة ويقال أبو حديرج
ويقال: أبو حدير الجذامي ويقال: الأجذمي، ويقال: اللخمي. ثم من بني جذيم بن لخم أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شهد خطبة عمر بالجابية.
عن يزيد بن أبي حبيب: أن عبد العزيز بن مروان سأل عمن شهد خطبة عمر هذه، فأخبروه بسفيان بن وهب، فأرسل إليه، فأتاه، فقال: أشهدت خطبة عمر بالجابية؟ فقال: نعم شهدتها. قال: قال عمر: قد اجتمعت هذه الموال، فأنا قاسمها على من أفاءها الله عليه إلا هذين الحيين من لخم وجذام. فقام أبو حديرة الجذامي، فقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين والعدل. فقال عمر: العدل أردت، والله؛ أجعل أقواماً أنهكوا الظهر، وشدوا الغرض، وساحوا في(28/226)
البلاد مثل قوم مقيمين في بلادهم؟ فلو أن الهجرة كانت بصنعاء ما هاجر من لخم وجذام أحد! فقال أبو حديرة: إن الله وضعنا في بلاده بحيث شاء، ثم ساق إلينا الهجرة، فأسلمنا، وقاتلنا، ونصرنا، فذلك الذي يقطع بحظنا! فقال عمر: لكم حظكم مع المسلمين.
عن يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير حدثه: أن عبد العزيز بن مروان قال لكريب بن أبرهة: أحضرت عمر بن الخطاب بالجابية؟ قال: لا، قال: فمن يحدثنا عنها؟ قال كريب: إن بعثت إلى سفيان بن وهب الخولاني حدثك عنها. فأرسل إليه، فقال: حدثني عن خطبة عمر بن الخطاب يوم الجابية.
قال سفيان: إنه لما اجتمع الفيء أرسل أمراء الأجناد إلى عمر بن الخطاب أن يقدم بنفسه، فقدم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن هذا المال نقسمه على من أفاء الله عليه بالعدل إلا هذين الحيين من لخم وجذام، فلا حق لهم فيه. فقام إليه أبو حديرة الأجذمي، فقال: ننشدك الله يا عمر في العدل! فقال عمر: العدل أريد: أنا أجعل أقواماً أنفقوا في الظهر، وشدوا الغرض، وساحوا في البلاد مثل قوم مقيمين في بلادهم؟ ولو أن الهجرة كانت بصنعاء أو عدن ما هاجر إليها من لخم وجذام أحد! فقام أبو حديرة، فقال: إن الله وضعنا من بلاده حيث شاء، وساق إلينا الهجرة في بلانا، فقبلناها، ونصرناها، أفذلك يقطع حقنا يا عمر؟ قال: لكم حقكم مع المسلمين. ثم قسم، فكان للرجل نصف دينار. فإذا كانت معه امرأته أعطاه ديناراً. ثم دعا ابن قاطوراء صاحب الأرض، فقال: أخبرني ما يكفي الرجل من القوت في الشهر، وفي اليوم. فأتي بالمدي والقسط، فقال: يكفيه هذان المديان في الشهر، وقسط زيت، وقسط خل.(28/227)
فأمر عمر بمديين من قمح، فطحنا، ثم عجنا، ثم خبزا، ثم أدمهما بقسطين من زيت، ثم أجلس عليهما ثلاثين رجلاً، فكان كفاك شبعهم. ثم أخذ عمر المديين بيمينه، والقسط بيساره، ثم قال: الله لا أحل لأحد أن ينقصهما بعدي، اللهم فمن نقصهما فانقص من عمره.
فغضب عبد العزيز وقال: إنك شيخ قد خرفت! ثم قال عمر بن الخطاب: هل من شراب؟ فقال: عندنا العسل لا يسيغ، وعندنا شراب نشربه من العنب. فدعا به عمر، فأتي به، وهو مثل الطلاء، طلاء الإبل، فأدخل عمر فيه اصبعه، ثم قال: ما أرى بهذا بأساً.
أبو حرب اليماني المبرقع
الذي زعم أنه السفياني. خرج على السلطان بفلسطين، ودعا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ثم قتل بناحية دمشق.
قال أبو جعفر الطبري: ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين. كان فيها من الأحداث: خروج أبي حرب المبرقع اليماني بفلسطين، وخلافه على السلطان.
ذكر لي بعض أصحابي ممن ذكر أنه خبر أمره أن سبب خروجه على السلطان كان لأن بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب عنها، وفيها إما زوجته، وإما أخته. فمانعته عن ذلك، فضربها بسوط معه، فاتقته بذراعها، فأصاب السوط ذراعها، فأثر فيها. فلما رجع أبو حرب إلى منزله بكت، وشكت إليه ما فعل بها، وأرته الأثر الذي بذراعها من ضربه. فأخذ أبو حرب سيف ومشى إلى الجندي وهو غار، فضربه حتى قتله، ثم هرب، وألبس وجهه برقعاً كيلا يعرف، فصار إلى جبل من جبال الأردن. وطلبه السلطان فلم يعرف له خبراً.(28/228)
فكان أبو حرب يظهر بالنهار، فيقعد على الجبل الذي أوى إليه مبرقعاً، فيراه الرائي، فيأتيه، فيذكره، ويحرضه على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويذكر السلطان وما يأتي إلى الناس، ويعيبه. فما زال ذلك دأبه حتى استجاب له قوم من حراثي أهل تلك الناحية، وأهل القرى. وكان يزعم أنه أموي. فقال الذين استجابوا له: هذا السفياني. فلما كثرت غاشيته وتباعه من هذه الطبقة من الناس دعا أهل البيوتات من تلك الناحية، فاستجاب له منهم جماعة من رؤساء اليمانية منهم رجل يقال له: ابن بيهس، وكان مطاعاً في أهل اليمن، ورجلان آخران من أهل دمشق. فاتصل الخبر بالمعتصم، وهو عليل علته التي مات فيها، فوجه إليه رجاء بن أيوب الحضاري في زهاء ألف رجل من الجند. فلما صار إلى رجاء إليه وجده في عالم من الناس فذكر الذي أخبر بقصته أنه كان في زهاء مائة ألف فكره رجاء مواقعته، وعسكر بحذائه، حتى إذا كان أول عمارة الناس الأرضين وحراثتهم انصرف من كان من الحراثين مع أبي حرب إلى حراثته، وأرباب الأرضين إلى أراضيهم، وبقي أبو حرب في نفر في زهاء ألف أو ألفين ناجزه رجاء الحرب، فالتقى العسكران، عسكر رجاء وعسكر المبرقع، فلما التقوا تأمل رجاء عسكر المبرقع، فقال لأصحابه: ما أرى في عسكره رجلاً له فروسية غيره، وإنه سيظهر لأصحابه من نفسه بعض ما عنده من الرجلة، فلا تعجلوا عليه. قال: فكان الأمر كما قال رجاء، فما لبث المبرقع أن حمل على عسكر رجاء، فقال رجاء لأصحابه: أفرجوا له. فأفرجوا له حتى جاوزهم، ثم كر راجعاً إلى عسكره نفسه. ثم أمهل رجاء، وقال لأصحابه: إنه سيحمل عليكم مرة أخرى، فأفرجوا له، فإذا أراد أن يرجع فحولوا بينه وبين ذلك، وخذوه. ففعل المبرقع ذلك؛ حمل على أصحاب رجاء، فأفرجوا له حتى جاوزهم، ثم كر راجعاً، فأحاطوا به، وأخذوه، وأنزلوه عن دابته.
قال: وقد كان قدم على رجاء حين كان ترك معاجلة المبرقع من قبل المعتصم(28/229)
مستحث، فأخذ الرسول فقيده إلى أن كان من أمره وأمر أبي حرب ما كان مما ذكرنا فأطلقه.
فلما قدم رجاء بأبي حرب على المعتصم عذله المعتصم على ما فعل برسوله، فقال له رجاء: يا أمير المؤمنين، وجهتني في ألف إلى مائة ألف، فكرهت أن أعاجله فأهلك ويهلك من معي، ولا نغني شيئاً، فتملهت حتى خف من معه، ووجدت فرصة، ورأيت لحربه وربه وجهاً فناهضته وقد خف من معه، وهو في ضعف ونحن في قوة، وقد جئتك بالرجل أسيراً.
وفي رواية أخرى أنه خرج سنة ست وعشرين ومائة، وأنه خرج بفلسطين أو بالرملة.
أبو حرة الحجازي
وفد على عبد الملك بن مروان، فأمر له بمائتي درهم، فكلمه بن الزبير فيه، فزادة مائة.
أبو حريش الكناني
من أهل دمشق.
روى عن مكحول الدمشقي قال: شهدت مع أنس بن مالك جنازة بالبصرة، فرجعت معه إلى منزله، فأتى فراشاً له، فاضطجع عليه، ثم أخذ رائطة مصرية فغطى بها وجهه، ثم بكى، قال مكحول: فقلت: ما يبكيك يا أبا النضر؟! فوالله إنك لخادم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنك لبخير، وإن في بيتك لطعاماً وشراباً؟ قال: ما على هذا أبكي، أبكي على هذه الأمة، أخاف(28/230)
عليها الشرك، والشهوة الخفية. قال مكحول: لا يجعل الله في هذه الأمة شركاً، قال: فقال أنس: وأنا من الأخرى أخوف. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من ركب فرسه، ثم استعرض أمتي يقتلهم بسيفه خرج من الإسلام، وأما الأخرى فانطلاق الرجل إلى جاره يخالفه في أهله.
عن أبي الحريش الكناني قال:
كنا في سنة خمس وثلاثين ومائة، وعبد الله بن علي يومئذ بدابق على صائفة الناس، ومعه من أهل الشام وغيرهم نحو من مائة ألف قال أبو الحريش: أظنه عام عمورية قلنا: وما ذاك يا أبا الحريش؟ قال: غزونا الصائفة مع عثمان بن حيان في خلافة يزيد بن عبد الملك حتى نزلنا على عمورية، وأقام عليها ستة وثلاثين منجنيقاً، وجد في حصارها، وقتالهم. إذ خرج رجل منا من كنانة، من أهل فلسطين إلى البراز في دير الحبيش الذي دونها، فكلمه الحبيش، وقال له في ذلك قولاً أتانا به عنه، فذهبنا به إلى عثمان بن حيان، فأخبره بمقالته، فركب معه حتى وقف على الحبيش، وأمر صاحبنا أن يكلمه، فتقدم، فكلمه، فقال: إني قد أخبرت أميرنا بمقالتك، وها هو ذا قد أحب أن يسمعه منك. قال الحبيش: أجل، هو كما قلت لك، لا تقدرون على فتحها حتى يكون الذي يبعثكم رجلاً من أهل بيت نبيكم، وحتى يكون فيكم قوم شعورهم شعور النساء، ولباسهم لبالس الرهبان، فيومئذ يفتحونها. فوالله، لكأني أنظر إليهم يدخلونها من هذا الباب، ويخرجون من ذاك.
قال أبو الحريش: فعاد عثمان إلى منزله، وأمر بتحريق المجانيق، وأمر منادياً ينادي: يا أيها الناس، أصبحوا على ظهر مغيرين إلى داخل أرض الروم. ففعل الناس، فمضى، ثم قفل بنا.
قال ابن ماكولا: حريش: بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وبالشين المعجمة.(28/231)
أبو حسان بن حسان البسري
أخو أبي عبيد محمد بن حسان.
حكى عن أخيه قال: قال لي أخي أبو عبيد البسري يوماً: يا أبا حسان، ما غمي، ولا أسفي إلا أن يجعلني ممن يعفا وفي رواية: ممن عفا عنه غداً. فقلت: يا أخي، الخلق على العفو تذابحوا، فقال: أجل، ولكن أيش يصبح لشيخ مثلي يوقف غداً بين يدي الله جل اسمه فيقال له: شيخ سوء كنت لي، اذهب، فقد عفونا عنك. أملي في الله جل اسمه أن يهب لي كل من اجتنى.
وجاء ابن أبي حسان عبيد الله إليه، فقال: إني خرجت بجرة فيها سمن، فوقعت، فانكسرت، فذهب رأس مالي. فقال له: يا بني، اجعل رأس مالك رأس مال أبيك؛ فوالله ما لأبيك رأس مال في الدنيا والآخرة إلا الله عز وجل.
أبو الحسن بن جعفر المتوكل
ابن محمد المعتصم بن هارون الرشيد ابن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي قدم مع أبيه المتوكل دمشق سنة ثلاث وأربعين ومائتين. وكان يعرف بابن فريدة. مات سنة اثنتين وسبعين ومائتين.
أبو الحسن
بعض إخوان أبي الميمون بن راشد.
حكى عنه أبو الميمون قال: أنشدني أبو عبد الله الأعرابي: من الوافر
إذا ضيّع أوّل كلّ أمرٍ ... أبت أعجازه إلاّ التواء(28/232)
وإن أتبعت رأيك رأي وغدٍ ... ضعيفٍ كان رأيكما سواء
أبو الحسن الأعرابي الصوفي
صاحب سياحة ورباط، صبور على الفقر، والشدائد. اجتاز بجبل لبنان من أعمال دمشق.
أبو الحسن الأطرابلسي
روى عن أحمد بن الفرج، نابقية، عن إبراهيم بن أدهم: إن الحكمة لتكون في جوف المنافق، فما تزال تجلجل في جوفه حتى يخرجها، فيتلقها المؤمن، فيعمل بها.
أبو الحسن المعاني
من أهل معان من البلقاء. أحد شيوخ الصوفية. له معاملات وكرامات.
قال إبراهيم بن شيبان: خرجت مع أبي عبد الله المغربي على طريق تبوك، فلما أشرفنا على معان وكان له بمعان شيخ يقال له: أبو الحسن المعاني ينزل عليه، وما كنت رأيته قبل ذلك، وسمعت باسمه فوقع في خاطري: إذا دخلت إلى معان قلت له يصلح لنا عدساً بخلن فالتفت إلي الشيخ، فقال لي: احفظ خاطرك، فقلت له: ليس إلا خيراً. فأخذ الركوة من يدي. فجعلت أتقلب على الرمضاء وأقول: لا أعود، فلما رضي عني رد الركوة إلي، فلما دخلنا إلى معان قال لي الشيخ أبو الحسن: وما رآني قط قد عاد خاطرك على الجماعة، كل ما عندنا عدس بخل!(28/233)
أبو الحسن الدمشقي
حكى عمن حدثه قال: كان لنا شيخ قد صحبناه نتأدب به. فكنا معه، فاشتد بنا الجوع، فشكونا إليه ما نجده من شدة الجوع، فقال: ويعرض لكم الجوع؟ ثم قال: أما إنكم لا تصحبوني بعدها. ثم أخذ إزاراً، فتباعد عنا، ونحن ننظر إليه، فجعل يسفي فيه الرمل. ثم جمع طرفيه، وحمله على كتفه، وجاءنا به، فوضعه بين أيدينا، ثم قال: كلوا، فإذا هو خبز حار، فأكلنا، ومضينا، وما قدرنا نصحبه بعدها.
أبو الحسن الدويدة
شاعر مشهور. حج، واجتاز بدمشق في طريقه. وقيل اسمه علي بن أحمد بن محمد. ومن شعره: من البسيط
ستور بيتك ذيل الأمن منك وقد ... علقتها مستجيراً أيّها الباري
وما أظنّك لمّا أن علقت بها ... خوفاً من النار تدنيني من النار
وها أنا جار بيتٍ قلت أنت لنا: ... حجّوا إليه، وقد أوصيت بالجار
وولد له ولد على كبر، فقال: من الوافر
رزقتك يا محمد بعد يأس ... وقد شابت من الرأس القرون
فبعضي ضاحكٌ طرباً وبعضي ... من الإشفاق مكتئبٌ حزين
مخافة أن ترّوعك الليالي ... بفقدي، أو تعاجلك المنون
وله في أبي اليسر شاكر بن زيد بن عبد الواحد بن سليمان: من الرمل
يا أبا اليسر غدا اليس ... ر بكفّيك دفاقا
فقت في السبق إلى السّؤ ... دد والمجد البراقا(28/234)
بالذي زادك ما زا ... د أعاديك احتراقا
لا تقل إن لم أكن ذا ... حاجةٍ لا نتلاقى
إنّما أدعوك للأم ... ر إذا اشتدّ وضاقا
وله: من السريع
يا سيدي خذ خبري جملةً ... وارث له مثلي له يرثى
مجتمع لي باجتماعي مع ال ... قلة ما يتركني خنثى
خبز شعيرٍ والثمانون وال ... عجور والرائب والقثا
فهذه الأشياء لو جمّعت ... لآدمٍ لم يدن من أنثى
وله:
أبا الحسن استمع قولي وبادر ... إلى ما تشتهيه فدتك نفسي
وكن مستشفعاً بأبي عليٍّ ... إلى ندمائنا ليتمّ أنسي
فعندي عجّة تقلى بلوزٍ ... كلون التّبر من عشرٍ وخمس
أجادت في صناعتها عجوز ... لها في القلي حسٌّ أيّ حسّ
ولم أر قبل رؤيتها عجوزاً ... تصوغ من الكواكب عين شمس
فدونكم إلي فإن يوماً ... أراكم حولها هو يوم عرسي(28/235)
ذكر من اسمه أبو الحسين
أبو الحسين بن أحمد بن الطيب
النصيبي الفقيه المعروف بالحكاك خرج من دمشق إلى مصر في صفر سنة خمس وسبعين وثلاثمائة مستصرخاً إلى الملقب بالعزيز، ومستحثاً له بإخراج عسكر إلى الشام بسبب العدو، أنه قد نزل على حلب.
أبو الحسين بن بنان المصري الصوفي
صفةً وطريقةً.
صحب أبا سعيد الخراز، وعمرو بن عثمان المكي، وأبا بكر محمد بن الحسن الزقاق.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: أبو الحسين بن بنان. من أهل مصر. كان يبيع شقاق الصوف، وكان يجالس القوم ويخالطهم، فلما دخل أبو سعيد الخراز مصر ذكر له أمر أبي الحسين بن بنان، فقعد أبو سعيد على حانوته، فسأله أبو الحسين عن الضنة، فقال: ضنتك ألحن أو ضنة بك؟ فأنفق أبو الحسين جميع ماله على الفقراء، ولم يأخذ أبو سعيد من ماله شيئاً، ولم يأكل له لقمة، وقال: إن أكلت له لقمة لا يفلح أبداً.
قال: وحكي لي عن محمد بن علي الكناني قال: ما أعلم أن أحداً خرج من الدنيا وليس في قلبه من الدنيا شيء إلا أبا الحسين بن بنان.(28/236)
وادعى في أبي الحسين بن بنان: عمرو المكي، وأبو سعيد الخراز، والزقاق، كلهم قالوا: إنه صاحبه، وبه تخرج، من فضله، وحسن سيرته.
وسمعت الحسن بن أحمد يقول: سمعت بعض أصحابنا يقول: سمعت ابن بنان يقول: تشهى علي أبو سعيد الخراز كبولاً، فحملت إليه ستين عدلاً قنباً، وقلت: إلى أن أحمل إليك آلته.
قال أبو القاسم القشيري: ومنهم أبو الحسين بن بنان، ينتمي إلى أبي سعيد الخراز. من كبار مشايخ الصوفية.
قال ابن بنان: كل صوفي كان هم الرزق قائماً في قلبه فلزوم العمل أقرب له، وعلامة سكون القلب إلى الله تعالى أن يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يده.
وفي رواية: أن يكون قوياً عند زوال الدنيا وإدبارها عنه، وفقده إياها، ويكون بما في يد الله عز وجل أقوى وأوثق منه بما في يده.
وقال: اجتنبوا دناءة الأخلاق كما تجتنبوا الحرام.
وقال: اتفقت مع السجزي في السفر من طرابلس، فسرنا أياماً لم نأكل شيئاً، فرأيت قرعاً مطروحاً، فأخذت آكله، فالتفت إلي الشيخ، ولم يقل شيئاً، فرميت به، وعلمت أنه كره، ثم فتح علينا خمسة دنانير، فدخلنا قرية، فقلت: يشتري لنا شيئاً لا محالة، فمر ولم يفعل. ثم قال: لعلك تقول: نمشي جياعاً ولم يشتر لنا شيئاً هوذا نوافي اليهودية قرية على الطريق وثم رجل صاحب عيال إذا دخلناها يشتغل بنا، فأدفعه إليه لينفق علينا، وعلى عياله، فوصلنا إليها، ودفع الدنانير إلى الرجل،(28/237)
ولا نفقة؛ فلما خرجنا قال لي: إلى أين؟ فقلت: أسير معك، فقال: لا، إنك تخونني في قرعة وتصحبني، لا تفعل. وأبى أن أصحبه.
وقال السلمي: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: سمعت أبا علي بن الكاتب يقول: كان ابن بنان يتواجد، وكان أبو سعيد الخراز يصفق له.
قال السلمي: ثم وجد ابن بنان في آخر عمره مطروحاً على تل في التيه، وهو يجود بنفسه ويقول: اربع، فهذا مربع الأحباب قلت: وقال السلمي في كتاب طبقات أئمة الصوفية: ومنهم أبو الحسين بن بنان، وهو من جلة مشايخ مصر. صحب أبا سعيد الخراز، وإليه ينتمي. مات في التيه قال أبو عثمان: كان أبو الحسين يقول: الناس يعطشون في البراري، وأنا عطشان، وأنا على شط النيل.
وقال: لا يعظم أقدار الأولياء إلا من كان عظيم القدر عند الله.
أبو الحسين بن حريش
قاضي دمشق خلافةً لأبي عبد الله الحسين بن أبي زرعة محمد بن عثمان بن زرعة إلى أن مات ابن أبي زرعة.(28/238)
أبو الحسين بن عمرو بن محمد
السلمي الداراني مات سنة ثمانين وأربعمائة، وكانت له يد في علوم شتى. ومات أبوه سنة ستين وأربعمائة.
أبو الحسين الرائق المعري الشاعر
قدم دمشق. وله فيها شعر سبق ذكره في أول الكتاب، يقول فيه من قصيدة: من الخفيف
أبباب البريد أذكر وجدي ... أم بباب الجنان أم جيرون
يقول فيها وهي في مدح أميرها ينجوتكين:
عزماتٌ كأنّما خلقت من ... عزمات الأمير ينجوتكين
يا أمير الجيوش شاعرك الرا ... ئق ربّ المثقفّ الموزون
وله: من السريع
وفي لي الدهر بموعودي ... وتابع النعمى بتجديد
يا عمري زد في المدى فسحةً ... ويا ليالٍ ذهبت عودي
وفيها:
لمّا أثيرت من دمشق إلى ... وردٍ من الإنعام مورود
لاذ بها سكّان جيرون عن ... وجدٍ وصبرٍ غير موجود
وكان دمع القوم يجلى به ... سواد تلك الدّرج السّود
وودّعت من ودّعت واغتدت ... تنصاع من بيدٍ إلى بيد
تزاحم الثلج بمن حلقه ... يوقد ناراً بهوى الغيد(28/239)
أبو حفص الدمشقي
كان بمصر.
وأظن أن أبا حفص هذا عمر الدمشقي الذي روى عنه المصريون، والله أعلم.
وحديثه عن مكحول: أن رجلاً قال لأبي أمامة الباهلي: الرجل استودعني الوديعة، أو يكون لي عليه دين يجحدني فيستودعني، أو يكون له عندي الشيء، أفأجحده؟ قال: لا، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أبو حفص الدمشقي هذا مجهول، ومكحول لم يسمع عن أبي أمامة شيئاً. قاله الدارقطني.
أبو حفص الدمشقي
وأظنه هو عمرو بن أبي سلمة.(28/240)
أبو الحكم بن أبي الأبيض العبسي
كان من أصحاب هشام بن عبد الملك، وبعثه خطيباً إلى مصر حين قتل زيد بن علي.
أبو حلحة الفزاري
من أهل دمشق. شاعر له ذكر.
أبو حلحلة بن الرداد الشاعر
من أهل دمشق.
حكى عن أبي تمام الطائي الشاعر.
وذكر عن أبي بكر بن النائحة: أن أبا تمام الطائي وافى دمشق، وجاء إلى باب أبي حلحلة فاستأذن عليه، فقال أبو حلحلة لغلامه: سله من هو؟ فقال: قل له: إذا صعدت إليك عرفتك. فأذن له، فصعد، وعليه ثوب كردواني. قال: فقلت له: من أخونا؟ فقال أبو تمام: وما جئت هذا البلد يعني دمشق إلا ملتمساً لقاءك. فقلت: أحب أن تنشدني شيئاً، فقال: من الطويل
شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي ... ومحّت كما محّت وشائع من برد(28/241)
إلى آخرها. فاستحسنها. قلت: مالي أرى عليك أثر خلة، وقد جئت من مصر؟ قال: أصبت في طريقي. فقلت: قل في الأمير مالك بن طوق شعراً وكان يتقلد دمشق فقال قصيدته التي يقول فيها: من البسيط
سلّم على الجزع من سلمى بذي سلم ... عليه وسمٌ من الأيام والقدم
وعنيت بوصوله إلى مالك بن طوق، فاستحسن شعره، وأمر له بمائتي دينار، وتختين ثياباً، وبغلة. فقلت لأبي تمام يمدح الكروس وتبوك، فإنهما شيخا دمشق. فمدحهما بقصيدة أولها: من الكامل
ضحك الزمان وكان غير ضحوك ... بكروّس حلف النّدى وتبوك
فأمر له كل واحد منهما بمائة دينار، وحسنت حاله. واجتذبه نوح بن عمرو بن حوي السكسكي إليه، فامتدحه أبو تمام بقصيدته التي يقول فيها: من الكامل
يوم الفراق لقد خلقت طويلا ... لم تبق لي جلداً ولا معقولا
لا تدعون نوح بن عمروٍ دعوةً ... في الخطب إلاّ أن يكون جليلا
قال: فبره نوح بن عمرو، وأكرم مثواه. ثم خرج من دمشق.(28/242)
أبو حلخان الصوفي
دمشقي، ويقال: حلبي.
قال السلمي: أبو حلخان الحلبي. دخل دمشق. يحكى عنه في الشواهد والأرواح مناكير، إن صح عنه ذلك فما هو من القوم في شيء. وكان اسمه عليا، وكنيته أبا الحسن. وأبو حلخان لقب. وأصله من فارس، ودخل بغداد بعد رجوعه من الشام، ونزل الرميلة، ولم يكن مذهبه إن صح ما يحكى عنه في قدم الأرواح مذهب الصوفية، ولكنه كان ينتمي إليهم، ويقعد معهم.
سمعت الحسن بن أحمد يقول: سمعت العباس يقول: رأيت أبا حلخان الحلبي راكعاً بين يدي شخص من أول الليل إلى آخره يبكي بين يديه.
وذكر القشيري بسنده قال: سمع ابن حلخان الدمشقي طوافاً ينادي: يا سعتر بري، فسقط مغشياً عليه، فلما أفاق سئل، فقال: حسبته يقول: أشنع تر بري.
أبو حمزة الخراساني الصوفي
من مشايخ الصوفية المعروفين. ينسب في بعض الروايات إلى دمشق، فيحتمل أن يكون سكنها، وإلا فهو من أهل خراسان، وهو معاصر الجنيد.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: أبو حمزة الخراساني من أقران الجنيد وأقدم منه. كان يجالس الفقراء، وأظن أن أصله جرجرائي. وقيل: كان بنيسابور من أهل محلة ملقباذ، وسكنه ينسب إليه بعد.(28/243)
قال القشيري: هو من أقران الجنيد، والخراز، وأبي تراب النخشبي. وكان ورعاً ديناً.
وقال السلمي في الطبقات: صحب مشايخ بغداد، وسافر مع أبي تراب النخشبي، وأبي سعيد الخراز. وهو من أفتى المشايخ وأورعهم.
قال أبو حمزة: من استشعر ذكر الموت حبب إليه كل باق، وبغض إليه كل فان.
وقال: العارف يدافع عيشه يوماً بيوم، ويأخذ عيشه يوماً ليوم.
وقال له رجل: أوصني، فقال: هيئ زادك للسفر الذي بين يديك، فكأني بك وأنت في جملة الراحلين، وهيئ لنفسك منزلاً تنزل فيه إذا نزل أهل الصفوة منازلهم، لئلا تبقى متحسراً.
وقال: انظر رسل البلايا، وسهام المنايا.
وسئل عن الإخلاص، فقال: الخالص من الأعمال ما لا يحب أن يحمد عليه إلا الله عز وجل وقال: كنت قد بقيت محرماً في عباء أسافر كل سنة ألف فرسخ، تطلع علي الشمس وتغرب، كلما أحللت أحرمت.(28/244)
وقال: حججت سنة من السنين، فبينا أنا أمشي في الطريق وقعت في بئر، فنازعتني نفسي أن أستغيث، فقلت: لا والله لا أستغيث. فما استممت هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان، فقال أحدهما للآخر: تعال حتى نسد رأس هذا البئر في هذا الطريق. فأتوا بقصب وبارية، فهممت أن أصيح، فقلت في نفسي: أصيح على من هو أقرب إلي منهما. فسكت حتى طووا رأس البئر، فإذا بشيء قد جاء وكشف رأس البئر وما عليها، ودلى رجليه في البئر كأنه يقول في مهمهة له: تعلق بي، من حيث كنت أفهم همهمته، فتعلقت به، فأخرجني من البئر، فنظرت إليه، فإذا هو سبع، وإذا هاتف يهتف بي وهو يقول: يا أبا حمزة، أليس ذا أحسن، نجيناك بالتلف من التلف، فمشيت وأنا أقول: من الطويل
نهاني حيائي منك أن أكشف الهوى ... وأغنيتني بالفهم منك عن الكشف
تلطفت في أمري فأبديت شاهدي ... إلى غائبي واللّطف يدرك باللطف
تراءيت لي بالغيب حتّى كأنّما ... تبشّرني بالغيب أنّك في الكفّ
أراك وبي من هيبةٍ لك وحشةٌ ... فتؤنسني باللطف منك وبالعطف
وتحيي محبّاً أنت في الحبّ حتفه ... وذا عجبٌ كون الحياة مع الحتف
وقيل: إن صاحب هذه الحكاية أبو حمزة البغدادي، وقيل: الدمشقي. والله أعلم.
قال أبو محمد الرصافي: خرج أبو حمزة، فسمع قائلاً يقول: من الكامل
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحبّ إلا للحبيب الأوّل
قال: فسقط مغشياً عليه.(28/245)
قال القشيري: توفي أبو حمزة سنة تسعين ومائتين.
قال أبو حمزة الخراساني: من نصح نفسه كرمت عليه، ومن تشاغل عن نصيحتها هانت عليه.
وقال: الأنس ضيق الصدر في معاشرة الخلق.
وقال: العارف يخاف زوال ما أعطي، والخائف يخاف نزول ما وعد.
وقال: خف سطوة العدل، وارج رقة الفضل، ولا تأمن مكره وإن أنزلك الجنان، ففي الجنة وقع لأبيك آدم ما وقع، وقد يقطع بقوم فيها. فقال: " كُلُوا وأشْرَبُوا هَنِيئاً بما أَسْلَفْتُم في الأيَّامِ الْخَالِيةِ "، فشغلهم عنه بالأكل والشرب، ولا مكر فوق هذا، ولا حسرة أعظم منه.
وقال: من خصه الله منه بنظرة شفقة فإن تلك النظرة تنزله منازل أهل السعادة، وتزينه بالصدق ظاهراً وباطناً.
وقال: الصوفي من صفا من كل درن، فلا يبقى فيه وسخ المخالفة بحال.
أبو حملة
والد علي بن أبي حملة الدمشقي. أدرك معاوية.
ذكره أبو زرعة في الطبقة الثالثة، وكذلك ابن سميع، وقال: هو مولى لقريش لأبي هاشم بن عتبة.(28/246)
كنى النساء على الحاء
أم حبيب بنت فلان القرشية
أدركت عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهدت اليرموك. لها ذكر.
قال أبو حذيفة البخاري: قالوا: وشد طرف من الروم على عمرو بن العاص، فانكشف هو وأصحابه حتى دخلوا أول العسكر، وهم في ذلك يقاتلون ويشدون، ولم ينهزموا هزيمة ولوا فيها الظهر.
قالوا: فنزلت النساء من التل بعمدهن، يضربن وجوه الرجال. ونادت الناس ابنة ابن العاص، وقالت: قبح الله رجلاً يفر عن حليلته، وقبح الله رجلاً يفر عن كريمته.
قالوا: وسمع نسوة من نساء المسلمين يقلن: فلستم ببعولتنا إن لم تمنعونا. قال: فتراد المسلمون، وزحف عمرو وأصحابه حتى عادوا إلى قريب من موقفهم.
ذكر أبو مخنف هذه القصة وقال: سمعت أم حبيب بنت العاص.
أم حبيب بنت أبي هاشم بن عتبة
ابن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية العبشمية زوج يزيد بن معاوية.
كتبت إلى النعمان بن بشير تسأله عن قصة زيد بن خارجة الأنصاري الذي تكلم بعد موته، فكتب إليها بذلك. وكانت تكنى أم عبد الله بابنها عبد الله.(28/247)
أم حرام بنت ملحان
واسمه مالك، ويقال: ملحان بن مالك بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج الأنصارية زوج عبادة بن الصامت، وخالة أنس بن مالك. لها صحبة، وخرجت مع زوجها عبادة غازية إلى الشام. وقدمت دمشق.
عن أنس بن مالك، عن خالته أم حرام بنت ملحان أنها قالت: نام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً قريباً مني ثم استيقظ، فتبسم. فقلت: يا رسول الله، ما أضحكك؟ قال: ناس من أمتي عرضوا علي يركبون ظهر هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة، قالت: فادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم نام الثانية ففعل مثلها، فقالت مثل قولها، وجاوبها مثل جوابه الأول. قالت: فادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين. قال: فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيةً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية بن أبي سفيان. فلما انصرفوا من غزاتهم قافلين، فنزلوا الشام، فقربت إليها دابة لتركبها، فصرعتها، فماتت رحمها الله.
قال خليفة بن خياط: أم حرام بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن النجار، وهي امرأة عبادة بن الصامت. أمها مليكة بنت مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار.
وذكر ابن سعد مثلما تقدم عن خليفة، وذكر تمام نسب عبادة، وقال: فولدت له محمداً، ثم خلف عليها عمرو بن قيس بن زيد بن سواد بن مالك بن(28/248)
غنم بن مالك بن النجار، فولدت له: قيساً، وعبد الله. وأسلمت أم حرام، وبايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال أبو نعيم الحافظ:
أم حرام بنت ملحان الأنصارية خالة أنس بن مالك، كانت تحت عبادة بن الصامت، وخرجت معه في بعض غزوات البحر، وماتت بالشام، وقبرت بقبرس، وقصتها بغلتها، فماتت. وأهل الشام يستسقون بها، يقولون: قبر المرأة الصالحة.
قيل: اسمها الرميصاء، وقيل: الغميصاء أيضاً.
وعن ثابت قال: قال أنس: دخل علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما هو إلا أنا وأمي، وأم حرام خالتي، فقال: قوموا فلأصل بكم في غير وقت صلاة، قال: فصلى بنا صلاةً قال رجل من القوم لثابت: أين جعل أنساً؟ قال: جعله عن يمينه قال: ثم دعا لنا أهل البيت بكل خير من خير الدنيا والآخرة.
عن قتير حاجب معاوية، قال: كان أبو ذر يغلظ لمعاوية. قال: فأرسل إلى عبادة بن الصامت، وإلى أبي الدرداء، وإلى عمرو بن العاص، وإلى أم حرام، فأجلسهم، وقال: كلموه.
فذكر حكاية.
عن أبي نصر بن ماكولا قال: أما حرام بحاء مهملة وراء أم حرام بنت ملحان خالة أنس بن مالك.(28/249)
قال أبو سليمان محمد بن عبد الله بن زبر: سنة سبع وعشرين قيل فيها توفيت أم حرام بنة ملحان بقبرس، سقطت عن دابتها فماتت.
أم الحكم بنت أبي سفيان صخر
ابن حرب ابن أمية بن عبد شمس أخت أم حبيبة لأبيها، وأخت معاوية لأبيه وأمه، أمهما هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
أدركت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت ممن أسلم يوم الفتح، وبايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحكت عن أخيها.
قال الزهري: دخلت على عروة بن الزبير وهو يكتب إلى هنيدة صاحب الوليد بن عبد الملك، وكان سأله عن قول الله عز وجل: " يا أيُّها الذينَ آمنوا إذا جاءكم المؤمناتُ مهاجراتٍ فامْتَحِنُوهُنّ "، فكتب إليه: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صالح قريشاً يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاء بغير إذن ولي، فكان يرد الرجال. فلما هاجر النساء أبى الله ذلك، أن يردهن إذا امتحن بمحنة الإسلام، فزعمت أنها جاءت راغبةً فيه، وأمره أن يرد صدقاتهن إليهم، إذا حبسوا عنهم، وأن يردوا عليهم مثل الذي يرد عليهم إن فعلوا، فقال: " واسألوا ما أنفقتم ". وصبحها أخواها من الغد، فطلباها، فأبى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يردها إليهما، فرجعا إلى مكة، فأخبرا قريشاً، فلم يبعثوا في ذلك أحداً، ورضوا بأن يحبس النساء، " وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم. وإن فاتكم(28/250)
شيءٌ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا "، قال، إن فات أحداً منهم أهله إلى الكفار، فإن أتتكم امرأة منهم فأصبتم غنيمةً أو فيئاً فعوضوهم مما أصبتم صداق المرأة التي أتتكم.
فأما المؤمنون فأقروا بحكم الله، وأبى المشركون أن يقروا بذلك، وأن ما فات للمشركين على المسلمين من صداق من هاجر من أزواج المشركين " فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثلما أنفقوا " من مال المشركين في أيديكم. ولسنا نعلم امرأة من المسلمين فاتت زوجها بلحوق بالمشركين بعد إيمانها، ولكنه حكم الله، حكم الله به لأمر إن كان، والله عليم حكيم " ولا تمسكوا بعِصَم الكوافر " يعني من غير أهل الكتاب فطلق عمر بن الخطاب مليكة بنت أبي أمية، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وطلق عمر أيضاً بنت جرول الخزاعية، فتزوجها أبو جهم بن حذيفة، وطلق عياض بن غنم الفهري أم الحكم بنت أبي سفيان يومئذ، فتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي، فولدت له: عبد الرحمن بن أم الحكم.
عن عبد الرحمن بن أم الحكم، حدثتني أمي أم الحكم أنها كانت عند معاوية حين أغمي عليه، فأفاق، فأراد أن يريهم، فقال: من الوافر
وهل من خالدٍ إمّا هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار
وقال ابن سعد في تسمية النساء المسلمات: أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية، وأمها هند بنت عتبة بن ربيعة، تزوجها عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب.(28/251)
وقال أبو زرعة فيمن حدث بالشام من النساء: أم الحكم بنت أبي سفيان.
وذكرها في الإخوة والأخوات من ولد أبي سفيان.
وذكرها ابن سميع في الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام.
أم حكيم بنت الحارث بن هشام
ابن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومية أمها فاطمة بنت الوليد بن المغيرة بن عبد الله. أخت خالد. وهي تنسب لها قنطرة أم حكيم بمرج الصفر.
لها صحبة من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستأمنته لبعلها عكرمة بن أبي جهل، وخرجت معه إلى الشام غازية، فقتل عنها، فتزوجها خالد بن سعيد، وكانت يوم أحد مع زوجها قبل أن يسلما.
عن عروة بن الزبير قال: كانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام عند عكرمة بن أبي جهل، وكانت فاختة بنت الوليد بن المغيرة عند صفوان بن أمية، فأسلمتا جميعاً، فأتت أم حكيم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستأمنته لعكرمة فآمنه.
وزادت رواية أخرى: فاستأذنته في طلبه، فأذن لها، فخرجت في طلبه، وخرج معها عبد لها رومي، فأرادها عن نفسها، فلم تزل تعده وتقربه حتى قدمت على ناس من عك، فاستعانتهم عليه، فأوثقوه لها، ثم انطلقت حتى جاءت به إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما رآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وثب فرحاً وما عليه رداء حتى بايعه.(28/252)
وعن الزهري قال: إن نساءً من المسلمات أسلمن قبل أزواجهن، ثم أسلم أزواجهن بعدهن، فلم يفرق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهم، منهن: أم حكيم بنت الوليد بن المغيرة. وكانت تحت عكرمة بن أبي جهل.
قال الزبير: وأم عبد الرحمن بن الحارث وأخته أم حكيم بنت الحارث فاطمة بنت الوليد بن المغيرة. وليس للحارث بن هشام ولد إلا من عبد الرحمن، ومن أم حكيم. كانت تحت عكرمة بن أبي جهل فقتل عنها يوم اليرموك شهيداً، فخلف عليها خالد بن سعيد بن العاص، فقتل عنها يوم مرج الصفر شهيداً، فتزوجها عمر بن الخطاب، فولدت له فاطمة بنت عمر، فتزوج فاطمة عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، فولدت له عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد.
قال ابن سعد في تسمية النساء المسلمات المبايعات: أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
وقال محمد بن سعد: أنا محمد بن عمر، حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه قال: شهد خالد بن سعيد فتح أجنادين، وفحل، ومرج الصفر. وكانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل فقتل عنها بأجنادين، فاعتدت عنه أربعة أشهر وعشراً، وكان يزيد بن أبي سفيان يخطبها، وكان خالد بن سعيد يرسل إليها في عدتها يتعرض للخطبة، فحطت إلى خالد بن سعيد، فتزوجها على أربعمائة دينار، فلما نزل المسلمون مرج الصفر أراد خالد أن يعرس بأم حكيم، فجعلت تقول: لو أخرت الدخول حتى يقض الله هذه الجموع. فقال خالد: إن نفسي تحدثني أني أصاب في جموعهم،(28/253)
قالت: فدونك. فأعرس بها عند القنطرة التي بالصفر. فبها سميت قنطرة أم حكيم. وأولم عليها في صح مدخله، فدعا أصحابه على طعام، فما فرغوا من الطعام حتى صفت الروم صفوفها صفوفاً خلف صفوف، وبرز رجل منهم معلم يدعو إلى البراز، فبرز إليه أبو جندل بن سهيل بن عمرو العامري، فنهاه أبو عبيدة، فبرز حبيب بن مسلمة، فقتله حبيب ورجع إلى موضعه. وبرز خالد بن سعيد، فقالت، فقتل. وشدت أم حكيم بنت الحارث عليها ثيابها وعدت، وإن عليها لردع الخلوق في وجهها، فاقتتلوا أشد القتال على النهر، فصبر الفريقان جميعاً، وأخذت السيوف بعضها بعضاً، فلا يرمى بسهم، ولا يطعن برمح، ولا يرمى بحجر، ولا يسمع إلا وقع السيوف على الحديد، وهام الرجال وأبدانهم. وقتلت أم حكيم يومئذ سبعة بعمود الفسطاط الذي بات فيه خالد بن سعيد معرساً بها.
وكانت وقعة مرج الصفر في المحرم سنة أربع عشرة في خلافة عمر بن الخطاب.
وعن ابن مسهر أن عمر بن الخطاب تزوجها بعد خالد بن سعيد.
قال أبو حذيفة: وكان أمر اليرموك أن الروم لما صافت سار هرقل إلى الروم حتى نزل أنطاكية ومعه المستعربة: لخم، وجذام، وبلقين، وبلي، وعاملة، وتلك القبائل من قضاعة، ومعه من أهل أرمينية اثنا عشر ألفاً، فلما نزل أنطاكية بعث القيقلان خصياً له فسار بمائة ألف، وسار في أهل أرمينية حبرجة، وسار في قبائل قضاعة جبلة بن الأيهم الغساني وسائرهم من الروم، وعلى جماعة الناس القيقلان الخصي، وسار المسلمون وهم أربعة وعشرون ألفاً عليهم أبو عبيدة بن الجراح، فالتقوا باليرموك في سنة خمس عشرة، فاقتتل الناس قتالاً شديداً، فقاتل نساء بالسيوف حتى دخل العسكر منهن أم حكيم بنت الحارث بن هشام.(28/254)
أم حكيم بنت يحيى
ويقال: بنت يوسف بن يحيى بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وأمها زينب بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومية.
امرأة شاعرة. تزوجها عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، فطلقها، ثم تزوجها هشام بن عبد الملك، فولدت له يزيد بن هشام.
وإلى أم حكيم هذه ينسب سوق أم حكيم، وقصر أم حكيم الذي عند مرج الصفر.
قال الزبير بن بكار: وولد يحيى بن الحكم أبا بكر بن يحيى، وأم حكيم، تزوجها عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، ثم تزوج عليها بنتاً لأبي بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر، فحظيت بنت أبي بكر عنده، وأحبها، فطلق عنها أم حكيم، فتزوجها هشام بن عبد الملك. فلما مات عبد العزيز بن الوليد تزوج هشام بن عبد الملك امرأته الأخرى بنت أبي بكر، فجمع بين امرأتيه جميعاً: أم حكيم وبنت أبي بكر، ثم طلق بنت أبي بكر عن أم حكيم، وقال لأم حكيم: أرضيتك، أقدتك منها، طلقتها عنك كما طلقك عبد العزيز عنها.
فولدت أم حكيم لهشام: مسلمة، ومحمداً، ويزيد، وأم يحيى، وأم هشام، وأم أبي بكر. وأم حكيم بنة يحيى أمها زينب بنت عبد الرحمن بن الحارث الموصولة.
وقال الوليد بن يزيد: من الخفيف
علّلاني بعاتقات الكروم ... وبكأسٍ ككأس أمّ حكيم
إنها تشرب الرّساطون صرفاً ... في إناءٍ من الزّجاج عظيم(28/255)
ومما يروى من شعر أم حكيم: من الطويل
ألا فاسقياني من شرابكما الوردي ... وإن كنت قد انفدت فاسترهنا بردي
سواري ودملوجي وما ملكت يدي ... مباحٌ لكم نهبٌ، فلا تقطعوا وردي
وعن ابن دأب قال: دخل هشام بن عبد الملك على أم حكيم وهي مفكرة، فقال لها: في أي شيء أنت مفكرة يا أم حكيم؟ قالت: خير يا أمير المؤمنين، قال: أقسمت عليك لتخبرني، قالت: في قول جميل: من الطويل
فما مكفهرٌ في رحى مرجحنّةٍ ... ولا ما أسرّت في معادنها النحل
بأحلى من القول الذي قلت بعدما ... تمكن من حيزوم ناقتي الرّحل
فليت شعري ما كانت قالت له حتى استحلاه ووصفه؟! لقد كنت أحب أن أعلم. فضحك هشام، ثم قال: هذا شيء أحب عمك يعني أباه أن يعلمه، وسأل عنه من سمع الشعر من جميل، فلم يعلمه، فقالت: إذا استأثر الله بشيء فاله عنه.(28/256)
حرف الخاء
أبو خالد الحرسي
من حرس عبد الملك بن مروان.
أبو خالد القصاع
حكى عن الحسن بن يحيى الخشني قال: سمعت الحسن وسئل: ما علامته في أوليائه؟ قال: توفيقهم في دار الدنيا للأعمال التي يرضى بها عنهم.
أبو خداش بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب
ابن هاشم القرشي الهاشمي بن ابن عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أبو خراسان بن تميم الفارسي
أخو الليث بن تميم.
ولي غازية البحر في خلافة الوليد وسليمان ابني عبد الملك. وكان يكون ببيروت وطرابلس من ساحل دمشق. وأثر في جهاد الروم آثاراً حسنةً.(28/257)
حدث الليث بن تميم الفارسي: أن سفن المسلمين بالشام كانت متفرقةً في ساحل الشام، فكانت طائفة منها باللاذقية بساحل حمص، وعليها سفيان الفارسي، وطائفة منها بأطرابلس ساحل دمشق أو قال: ببيروت وعليها أخي أبو خراسان الفارسي. وكان أيما رجل في كماله وبأسه قال سليمان بن أبي كريمة: ما رأيت مثله من رجال فارس فلم يزل الأمر كذلك حتى ولي الأمر عمر بن هبيرة، فعزل سفيان الفارسي أبا خراسان، وصاحب عكا عما كانوا يلون من ذلك، حملهم معه في مركبه لئلا يكون لهم الذكر دونه، وولى عليها رجالاً غيرهم.
قال الوليد: وأخبرني الليث: أن ولاة غازية البحر في زمان الوليد بن عبد الملك: سحيم، وأبو خراسان، وسفيان؛ فكان سفيان الفارسي على سفن حمص بمدينة اللاذقية، وأبو خراسان على سفن دمشق بمدينة طرابلس، وسفن الأردن وفلسطين بعكا. فلما ولي سليمان بن عبد الملك ولى على جماعة سفن المسلمين من أهل الشام ومصر وإفريقية ألف سفينة عمر بن هبيرة الفزاري، فعزل عمر بن هبيرة هؤلاء النفر عن ولايتهم، وولى على ذلك غيرهم من رجال العرب.
أبو الخير الأقطع التيناتي
وتينات من نواحي المصيصة، نسب إليها لأنه أقام بها، وأصله من المغرب. وقيل: إن اسمه حماد بن عبد الله. وكان أسود من العباد المشهورين، والزهاد المذكورين.
صحب أبا عبد الله الجلاء. وسكن جبل لبنان أيضاً من نواحي دمشق، ودخل أطرابلس. حكى عنه أبو القاسم بكر بن محمد، وأبو علي الأهوازي، وغيرهما.
قال أبو عبد الرحمن السلمي:
أبو الخير التيناتي. سكن جبل لبنان، وتينات على أميال من المصيصة، وأقام بها،(28/258)
وكان يعرف بأبي الخير الأقطع. وله آيات وكرامات. وكان ينسج الخوص بإحدى يديه لا يدري كيف ينسجه، وكان تأوي إليه السباع، ويأنسون به. لم تزل ثغور الشام محفوظةً أيام حياته إلى أن مضى لسبيله. رحمه الله.
كان أبو الخير أصله من المغرب، وله كرامات وآيات يطول شرحها.
وقال في كتاب الطبقات: ومنهم: أبو الخير الأقطع، وكان أوحد في طريقته في التوكل، كان يأنس إليه السباع والهوام، وكان حاد الفراسة، مات سنة نيف وأربعين وثلاثمائة.
قال أبو الخير: دخلت مدينة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا بفاقة، فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذواقاً، فتقدمت إلى القبر، وسلمت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقلت: أنا ضيفك الليلة يا رسول الله، وتنحيت، ونمت خلف المنبر، فرأيت في المنام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وعلي بن أبي طالب بين يديه. فحركني علي، وقال لي: قم، قد جاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فقمت إليه، وقبلت بين عينيه، فدفع إلي رغيفاً، فأكلت نصفه، فانتبهت، فإذا في يدي نصف رغيف.
وقال أبو الخير: لن يصفو قلبك إلا بتصحيح النية لله تعالى، ولن يصفو بدنك إلا بخدمة أولياء الله تعالى.
وقال أبو الخير: ما بلغ أحد إلى حالة شريفة إلا بملازمة الموافقة، ومعانقة الأدب، وأداء الفرائض، وصحبة الصالحين، وخدمة الفقراء الصادقين.(28/259)
وقال: حرام على قلب مأسور بحب الدنيا أن يسبح في روح الغيوب.
وقال: القلوب ظروف، فقلب مملوء إيماناً، فعلامته الشفقة على جميع المسلمين، والاهتمام بما يهمهم، ومعاونتهم على ما يعود صلاحه إليهم. وقلب مملوء نفاقاً، فعلامته الحقد، والغل، والغش، والحسد.
وقال: الدعوى رعونة لا يحتمل القلب إمساكها، فيلقيها إلى اللسان، فينطق بها ألسنة المقى، ولا يعرف الأعمى ما يبصره البصير من محاسنه وقبائحه.
قال أبو القاسم القشيري: ومنهم أبو الخير الأقطع. مغربي الأصل. سكن تينات، وله كرامات، وفراسة حادة. كان كبير الشأن.
قال أبو الحسين القيرواني: زرت أبا الخير التيناتي، فلما ودعته خرج معي إلى باب المسجد، فقال: يا أبا الحسين، أنا أعلم أنك لا تحمل معك معلوماً، ولكن احمل هاتين التفاحتين، فأخذتهما، ووضعتهما في جيبي وسرت. فلم يفتح لي بشيء ثلاثة أيام، فأخرجت واحدةً منهما، فأكلتها، ثم أردت أن أخرج الثانية فإذا هما في جيبي، فكنت آكل منهما، وتعودان، إلى باب الموصل؛ فقلت في نفسي: إنهما تفسدان علي حال توكلي إذا صارتا معلوماً لي، فأخرجتهما من جيبي بمرة، فنظرت، فإذا فقير ملفوف في عباءة يقول: أشتهي تفاحة، فناولتهما إياه، فلما عبرت وقع لي أن الشيخ إنما بعث بهما إليه، وكنت في رفقة في الطريق، فانصرفت إلى الفقير، فلم أجده.
قال أبو نعيم الأصبهاني: سمعت غير واحد ممن لقي أبا الخير يقول: إن سبب قطع يده أنه كان عاهد الله ألا(28/260)
يتناول بشهوة نفسه شيئاً مشتهى، فرأى يوماً بجبل لكام شجرة زعرور، فاستحسنها، فقطع منها غصناً، فتناول منها شيئاً من الزعرور، فذكر عهده، فتركه. ثم كان يقول: قطعت غصناً فقطع مني عضو.
قال أبو ذر الهروي: سمعت عيسى بن أبي الخير التيناتي بمصر وكان رجلاً صالحاً وقلت له: لم كان أبوك أقطع؟ قال: ذكر لي أنه كان عبداً أسود. قال: فضاق صدري في الملك، فدعوت الله، فأعتقت، فكنت أجيء إلى الإسكندرية، فأحتطب، وأتقوت بثمنه، وكنت أدخل المسجد أقف على الحلق، وأعلم أنهم لا يعلموني شيئاً، لأني عبد أسود، فكنت أقف عليهم، فيسهل الله على لسانهم ما كنت أريد أن أسأل عنه، فأحفظه، وأستعمل ذلك.
ذكرت مرةً حكاية يحيى بن زكريا وما عملوا به، فقلت في نفسي: إن الله ابتلاني بشيء في بدني صبرت. ثم خرجت إلى الثغر بطرسوس، وكنت آكل المباحات، ومعي حجفة وسيف. وكنت أغزو العدو مع الناس، فآواني الليل إلى غار هناك، فقلت في نفسي: إني أزاحم الطير في أكل المباحات، فنويت ألا مررت بعد ذلك بشجرة، فقطعت منها شيئاً، فلما أردت ذكرت، فرميته، ثم دخلت المغارة بالليل، فإذا هناك قطعوا الطريق، ودخلوا إلى الغار قبلي ولم أعلم، فلما دخلت إلى هناك، فإذا نحن بصاحب الشرطة يطلبهم، فدخل الغار، فأخذهم، وأخذني معهم، فقدموا جميعاً، فقطعوا. فلما قدمت قال اللصوص: لم يكن هذا الأسود معنا، وكان أهل الثغر يعرفونني، فغطى الله عنهم حتى قطعوا يدي، فلما مدوا رجلي قلت: يا رب، هذه يدي قطعت لعقد عقدته، فما بالي رجل؟؟! فكأنه كشف عنهم، وعرفوني، وقالوا: هذا أبو الخير! واغتموا. فلما أرادوا أن يغمسوا يدي في الزيت امتنعت، وخرجت، ودخلت الغار، وبت ليلة عظيمة، فأخذني النوم، فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم، فقلت: يا(28/261)
رسول الله، فعلوا بي وفعلوا، فأخذ يدي المقطوعة، فقبلها، فأصبحت ولا أجد ألم الجرح، وقد عوفيت.
وقال ابن جهضم: حدثني بكر بن محمد قال: كنت عند الشيخ أبي الخير بالتينات، فبسط محادثته لي إلى أن هجمت عليه، فسألته عن سبب قطع يده، وما كان منه، فقال: يد جنت فقطعت. فظننت أنه كانت له صبوة في حداثته في قطع طريق أو نحوه مما أوجب ذلك، فأمسكت. ثم اجتمعت معه بعد ذلك بسنين مع جماعة من الشيوخ، فتذاكروا مواهب الله لأوليائه، وأكثروا كرامات الله لهم، إلى أن ذكروا طي المسافات، فتبرم الشيخ بذلك، فقال: لم يقولون: فلان مشى إلى مكة في ليلة، وفلان مشى في يوم؟ أنا أعرف عبداً من عبيد الله حبشياً كان جالساً في جامع أطرابلس، ورأسه في جيب مرقعته، فخطر له طيبة الحرم، فقال في سره: يا ليتني كنت بالحرم، ثم أمسك عن الكلام.
فتغامز الجماعة، وأجمعوا على أنه ذلك الرجل.
وقال أبو القاسم بكر بن محمد: كنت عند أبي الخير التيناتي وجماعة اجتمعوا على أن يسألوه عن سبب قطع يده، فقال: يد جنت، فقطعت. فقيل: قد سمعنا منك هذا مراراً كثيرةً، أخبرنا كيف سببه؟ فقال: نعم.
أنتم تعلمون أني من أهل المغرب، فوقعت في مطالبة السفر، فسرت حتى بلغت إسكندرية، فأقمت بها اثنتي عشرة سنةً، ثم سرت منها إلى أن صرت بين شطا ودمياط، فأقمت أيضاً اثنتي عشرة سنةً. فقيل له: مكانك، إلى ها هنا انتهينا، الإسكندرية بلد عامر، أمكن أن تقيم بها، بين شطا ودمياط لا زرع ولا ضرع، أي شيء كان قوتك اثنتي عشرة سنةً؟ فقال: نعم، كان في الناس خير في ذلك الزمان، وكان يخرج من مصر خلق(28/262)
كثير يرابطون بدمياط، وكنت قد بنيت كوخاً على شط الخليج، فكنت أجيء من الليل إلى تحت السور، فإذا أفطر المرابطون نفضوا سفرهم خارج السور، فأزاحم الكلاب على قمامة السفر، فآخذ كفايتي، فكان هذا قوتي في الصيف. فقالوا: ففي الشتاء؟ قال: نعم، كان ينبت حول الكوخ من هذا البردي الجافي، فيخصب في الشتاء، فأقلعه، فما كان منه في التراب يخرج غضاً أبيض، فآكله، وأرمي بالأخضر الجافي. فكان هذا قوتي إلى أن نوديت في سري: يا أبا الخير، تزعم أنك لا تزاحم الخلق في أقواتهم، وتشير إلى التوكل، وأنت في وسط المعلوم جالس؟ فقلت: إلهي وسيدي ومولاي، وعزتك لا مددت يدي إلى شيء مما تنبت الأرض حتى تكون أنت الموصلي إلى رزقي من حيث لا أكون أنا أتولى فيه. فأقمت اثني عشر يوماً أصلي الفرض وأتنفل، ثم عجزت عن النافلة، فأقمت اثني عشر يوماً أصلي الفرض لا غير، ثم عجزت عن القيام، فأقمت اثني عشر يوماً أصلي جالساً، ثم عجزت عن الجلوس، فرأيت إن طرحت نفسي ذهب فرضي. فلجأت إلى الله بسري، وقلت: إلهي وسيدي ومولاي افترضت علي فرضاً تسألني عنه، وضمنت لي رزقاً فتفضل علي برزقي، ولا تؤاخذني بما اعتقدته معك، فوعزتك لأجتهدن ألا أخالف عقدي الذي عقدته معك. فإذا بين يدي رغيفان وربما قال: قرصان بينهما شيء ولم يذكر الشيء فكنت آخذه على دوار وقتي من الليل إلى الليل. ثم طولبت بالمسير إلى الثغر، فسرت حتى دخلت مصر، وكان ذلك يوم جمعة، فوجدت في صحن الجامع قاصاً يقص على الناس، وحوله حلقة، فوقفت بينهم أسمع ما يقول فذكر قصة زكريا والمنشار، وما كان من خطاب الله له حين هرب منهم، فنادته الشجرة: إلي يا زكريا، فانفرجت له، فدخلها، ثم أطبقت عليه، ولحقه العدو، فتعلق بطرف عبائه، وناداهم: إلي، فهذا زكريا! ثم أخرج لهم حيلة المنشار، فنشرت الشجرة حتى بلغ المنشار رأس زكريا، فأن منه أنةً، أوحى الله تعالى: يا زكريا، لئن(28/263)
صعدت منك إلي أنة ثانية لأمحونك من ديوان النبوة. فعض زكريا على الصير حتى قطع بشطرين فقلت في نفسي: لقد كان زكريا صابراً، إلهي وسيدي ومولاي لئن ابتليتني لأصبرن. ثم سرت حتى دخلت أنطاكية، فرآني بعض إخواني، وعلم أني أريد الثغر، فدفع إلي سيفاً وترساً وحربةً للسبيل، فدخلت الثغر، وكنت حينئذ أحتشم من الله أن أرى وراء سور خيفة العدو، فجعلت مقامي بالنهار في غابة أكون فيها، وأخرج باللي إلى شط البحر، فأغرز الحربة على الساحل، وأشد الترس إليها محراباً، وأتقلد سيفي، وأصلي إلى الغداة، فإذا صليت الصبح غدوت إلى الغابة، فكنت فيها نهاري أجمع. فبدرت في بعض الأيام، فبصرت بشجرة بطم قد بلغ بعضه أخضر، وبعضه أحمر، قد وقع عليه الندى، وهو يبرق، فاستحسنته، وأنسيت عقدي مع الله، وقسمي به أني لا أمد يدي إلى شيء مما تنبت الأرض، فرددت يدي إلى الشجرة، فقطعت منها عنقوداً، وجعلت بعضه في فمي ألوكه، فذكرت العقد، فرميت ما في يدي، وبزقت ما في فمي، وقلت: حلت المحنة، ورميت الترس والحربة، وجلست موضعي يدي على رأسي. فما استقر جلوسي حتى دار بي فرسان، وقالوا لي: قم. فساقوني إلى أن أخرجوني إلى الساحل، فلما قدمت إلى الأمير، وكان رجلاً تركياً، قال لي: أيش أنت ويلك؟ قلت: عبد من عبيد الله، فقال للسودان: تعرفونه؟ قالوا: لا، قال: بلى، هو رئيسكم، وإنما تفدونه بنفوسكم، لأقطعن أيديكم وأرجلكم. فقدموهم، فلم يزل يقدم رجلاً رجلاً يقطع أيديهم حتى انتهى إلي آخرهم، فقال لي: تقدم، مد يدك، فمددتها، فقطعت، ثم قال لي: مد رجلك، فمددتها، فرفعت سري إلى السماء وقلت: إلهي وسيدي ومولاي، يدي جنت، رجلي أيش عملت؟! فإذا بفارس قد أقبل وقف على الحلقة، ورمى نفسه إلى الأرض، وصاح: أيش تعملون، تريدون أن تنطبق الخضراء على الغبراء؟ هذا رجل صالح يعرف بأبي الخير المناجي وكنت حينئذ أعرف بالمناجي فرمى الأمير نفسه عن فرسه، وأخذ يدي
المقطوعة من الأرض يقبلها، وتعلق بي يقبل صدري، ويشهق، ويبكي، ويقول: ما علمت، سألتك بالله اجعلني في حل. فقلت: جعلتك في حل من أول ما قطعتها، هذه يد جنت فقطعت. ة من الأرض يقبلها، وتعلق بي يقبل صدري، ويشهق، ويبكي، ويقول: ما علمت، سألتك بالله اجعلني في حل. فقلت: جعلتك في حل من أول ما قطعتها، هذه يد جنت فقطعت.(28/264)
وقال أبو الخير: جاورت بمكة سنة من السنين، ومر علي بها شدائد، وهمت نفسي بالسؤال، فهتف بي هاتف: أما يستحي الوجه الذي تسجد لي به أن تبذله لغير؟! فجلست.
وقال أبو الخير: من أنس بالله لم يستوحش من شيء.
قال أبو سعد إسماعيل بن علي الواعظ: سمعت جماعة من مشايخنا: أن يوماً صلوا خلف أبي الخير الأقطع، فلما سلم قال رجل: لحن الشيخ. ففي نصف الليل خرج إلى البراز، فرأى أسداً والشيخ يطعمه، فغشي على الرجل، فقال الشيخ: منهم من يكون لحنه في قلبه، ومنهم من يكون يلحن بلسانه.
قال السلمي: سمعت جدي إسماعيل بن نجيد يقول: دخل على أبي الخير الأقطع بعض البغداديين، وقعدوا يتكلمون بين يديه، وضاق صدره، فخرج، فلما خرج جاء السبع، ودخل البيت، فسكتوا، وانضم بعضهم إلى بعض، وتغيرت ألوانهم، فدخل عليهم أبو الخير وقال: يا سادتي، أين تلك الدعاوى؟ قال أبو القاسم القشيري: وأبو الخير التيناتي مشهور بالكرامات. حكي عن إبراهيم الرقي أنه قال: قصدته مسلماً، فصلى صلاة المغرب، فلم يقرأ الفاتحة مستوياً، فقلت في نفسي: ضاعت سفرتي. فلما سلمت خرجت للطهارة، فقصدني السبع، فعدت إليه فقلت: أن الأسد قصدني، فخرج، وصاح على الأسد. وقال: ألم أقل لك لا تتعرض لضيفاني؟ فتنحى. وتطهرت، فلما رجعت قال: اشتغلتم بتقويم الظاهر فخفتم الأسد، واشتغلنا بتقويم القلب فخافنا الأسد.
قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ: بكرت يوماً إلى أبي عثمان المغربي، فقعدت معه إلى أن أذنوا لصلاة الظهر، ثم قلت:(28/265)
آذيت الشيخ. قال: ثم أقبل علي فقال: أنا لا أعرف الناس، قد كان رجل بمكة يحمل إلي الطعام ثلاث سنين وأنا لا أعرف اسمه، ولكن أجدني قد أنست إليك، فاعلم أن طريق السالكين أحكم من طريق أهل الروايات؛ هذا الأسود الذي كان بالشام يعني أبا الخير الأقطع خرج إليه إبراهيم بن المولد من العراق، فوصل إليه عند المساء، فنزل، وتطهر، وصلى معه صلاة العتمة، فازدرى به لقراءته، ففطن أبو الخير لذلك، فلما جن عليه الليل أخذ إبراهيم ركوته، وذهب يجدد وضوءاً، فبينا هو على ذلك إذ جاء سبع، فوقف عليه، فترك إبراهيم ركوته وعدا إلى المسجد، فأدركه أبو الخير، فقال: مالك؟ قال: سبع! فخرج أبو الخير، وأخذ بأذن السبع. وقال: يا أبا الحارث، ألم أقل لك لا تؤذ الناس! وأخذ ركوة إبراهيم وردها إليه.
قال أبو القاسم بكر بن محمد: ورد على أبي الخير رجل فقيه من العراق، فلما وجبت صلاة العشاء خرج إلى المسجد وضيفه معه، فتقدم الشيخ، فصلى بهم، وكان في لسانه عجمة الحبش، فلما فرغ من الصلاة قام الفقيه فأعاد صلاته التي صلاها خلفه، فلما كان من غد قدم الشيخ ضيفه فقال: تقدم، صل بنا الصبح، فإنك تحقق القراءة أكثر مني، فتقدم الرجل، وصلى بالشيخ والجماعة، ثم خرج الرجل بين الآجام، فإذا به يصرخ، فخرج الشيخ فدخل الأجمة، فإذا بالرجل ملقىً على ظهره، والسبع على صدره، فتقدم الشيخ إلى السبع، فأخذ أذنه وقال: ويحك تخيف ضيفي!؟ ونحاه عن صدره، فأقام الرجل مغشياً عليه ساعةً، وحمل إلى المسجد، فلما أفاق قال له الشيخ: يا هذا، لو حققت يقينك كما حققت قراءتك لكنت أحد رجال الله، ففطن الرجل وقال: أيها الشيخ التوبة، فقال: يا هذا، لا يعرج إلى السماء إلا كما نزل منها محققاً، ولي اجتهادك، فصوب يقينك كما صوبت قراءتك، ارفع سوء الظن عن عباد الله. فقال: سمعاً لك وطاعةً.
قال أبو ذر الهروي: سألت عيسى بن أبي الخير:
كيف كان حديث السبع معك؟ قال: كان أبي يخرج خارج الحصن، وعنده آجام كثيرة، وسباع، وكان أبي يضرب السبع ويقول: لا تؤذ أصحابي. فلما كان ذات يوم(28/266)
قال: ادخل القرية فأتني بعيش، فتركت ما أمرني واشتغلت ألعب مع الصبيان بجفنة العشاء، فغضب علي، فقال: لأحملنك وأبيتنك في الأجمة، فأخذني تحت إبطه وحملني إلى أجمة بعيدة لا أهتدي للطريق منها، ورماني هناك ورجع، فلم أزل أبكي وأصيح، ثم أخذني النوم، فانتبهت قريب السحر، فإذا أنا بالسبع إلى جنبي، وأبي قائم يصلي، فلما فرغ قال له: قم فإن رزقك على الساحل. فقام السبع ومضى، ثم نمت، فلما أصبحت انتبهت وأبي قد ذهب، فخرجت من الأجمة، وعرفت الطريق، وجئت إلى أبي.
قال أبو الحسن بن زيد: ما كنا ندخل على أبي الخير وفي قلبنا سؤال إلا تكلم علينا من ذلك الموضع من غير أن نسأله.
قال حمزة بن عبد الله العلوي: دخلت على أبي الخير التيناتي، وكنت اعتقدت في نفسي أن أسلم عليه وأخرج ولا آكل عنده طعاماً. فلما خرجت من عنده ومشيت إذا به خلفي، وقد حمل طبقاً عليه طعام، فقال: يا فتى، كل هذا فقد خرجت الساعة من اعتقادك.
قال أبو الحسن علي بن محمود الزوزني الصوفي: كان أبو الخير التيناتي صاحب مشاهدة، وكان يسميني: غلام الله، وكنت أنبسط إليه. فقلت: يا سيدي، بأيش وصلت إلى هذه الحال؟ فقال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم، فقبل صدري، فأنا أرى من خلفي كما أرى من قدامي.
قال: وسمعت العراقي يحكي: إني كنت ماضياً إلى التينات أزور الشيخ، فالتقيت بإنسان بغدادي، فقال لي: إلى أين تمضي؟ فقلت: إلى التينات أزور الشيخ، فقال: إن نقم بزيارة إليه الساعة، ندخل عليه ويقدم لنا الخبز واللبن، وأنا لا أتمكن من أكله فإني صفراوي. فدخلنا على الشيخ،(28/267)
فقام ودخل إلى بيته، وجاء على يده قصعة فيها لبن وخبز، وقال: كل أنت هذا، وفي يده الأخرى رمان حلو وحامض، فتركه بين يدي البغدادي، فقال: كل أنت هذا، ثم قال لي: من أين صحبت هذا فإنه بدعي؟ وما كنت سمعت منه شيئاً. فلما كان بعد عشر سنين رأيته بتنيس وهو تاجر، وإذا به معتزلي محض.
قال عبد العزيز البحراني وكان يمشي حافياً في أسفاره قال: خرجت من البصرة حافياً ونعلي بيدي، إذا وصلت إلى بلد تحظيت فيهما، وإذا خرجت حملتهما بيدي إلى أن دخلت الثغر، فلما عدت من الغزو، وأردت الخروج من الثغر أحببت أن ألقى أبا الخير التيناتي، فعدلت إلى التينات، فسألت صبياً على باب الزقاق: كيف الطريق إلى مسجد الشيخ؟ فقال: ما أكثركم! قد آذيتم هذا الشيخ الزمن، كم تأكلون خبز هذا الضعيف؟ فوقع في قلبي من قوله، فاعتقدت ألا آكل طعاماً ما دمت بتينات. وأتيته، فبت عنده ليلتين ما قدم لي شيئاً، ولا عرض علي شيئاً. فلما خرجت، وصرت بين الزيتون إذا به يصيح خلفي: قف. فالتفت، فإذا به، فقلت: انا أرجع إليك، فاستقبلته، فدفع إلي ثلاثة أرغفة ملطوخة بلبن، وقال لي: كل هذه فقد خرجت من عقدك، ثم قال: أما سمعت قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الضيف إذا نزل نزل برزقه؟ فقلت: بلى، قال: فلم شغلت قلبي بقول صبي؟ فاعتذرت إليه، وسرت.
وقال أبو الحسن العراقي: قدم أبو الخير تنيس، فقال لي: قم نصعد السور نكبر، فصعدت معه، ثم قلت في نفسي ونحن على السور: هذا عبد أسود قد نال ما هو فيه، فالتفت إلي وقال: " يَعْلَمُ ما في أنفسِكُمْ فاحْذَرُوه "، فلما سمعت ذلك فزعت، وغشي علي، فمر وتركني، فلما أفقت جعلت أذم نفسي، وأستغفر مما جرى في نفسي، فجاءني، فقال: " وهو الذي يقبلُ التوبةَ عَنْ عِبادِهِ ". فقمت معه.(28/268)
قال أبو ذر الهروي: وسمعت عيسى بن أبي الخير، سمعت أبي يقول: الآن يدخل رجل عليه ثياب ذكرها فلما كان بعد ساعة قال أبي: بين يديه ظلمة نعوذ بالله. فلما دخل سلم عليه أبي وقال: من أين أتيت؟ قال: من الجبل الفلاني، قال: وما تعمل هناك؟ قال: أتزهد وأتعبد، قال: وأيش هذه الظلمة بين يديك؟ فقال الرجل: ليس إلا خير. فسكت، ثم رفع رأسه فقال: أعوذ بالله! أرى في عنقك رأساً، ما هذا؟ فبكى الرجل، ولطم نفسه، وقال: اعلم أني بليت في شبابي بقتل، وقد تبت من ذلك من سنين، فما الحيلة؟ قال: ارجع إلى الجبل، وأخلص النية لله، فلعله يقبل توبتك.
وقال أبو الخير: كنت واقفاً أركع، فإذا أنا بإبليس اللعين قد جاء في صورة حية عظيمة، فتطوق بين يدي سجودي، فنفضته وقلت: يا لعين، لولا أنك نجس لسجدت على ظهرك.
وقال: كنت بأطرابلس الشام بعد عشاء الآخرة، وقد مضى من الليل وقت، فذكرت الحرم وطيبة، فاشتد شوقي إليه، فقلت: أيش أعمل الساعة؟ فسجدت، ورفعت رأسي، فإذا أنا في المسجد الحرام.
قال بكر بن محمد: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله ويعرف بابن أم راغب قال: دخلت على الشيخ أبي الخير التيناتي في مسجده، فإذا هو مع شخص يحدثه، فقال لي: يا إبراهيم، اخرج ورد الباب، فخرجت، وجلست بالباب طويلاً، وكانت بي حاجة إليه، فقلت في نفسي: إن كانا في سر فقد فرغا. ففتحت الباب، ودخلت، وإذا به جالس وحده، فقلت: حبيبي، أين الرجل الذي كان معك، فإنه لم يخرج؟ فقال: يا بني، هو لا يخرج من الباب، فقلت: من هو؟ قال: هو الخضر، فبكيت، فقال: لم تبكي؟ قلت: لو عرفته لسألته الدعاء. ثم مضت مديدة، ففتح على الشيخ نقود تركية، فقال: يا بني، لو حملت إلى الأذنة فبعته، وابتعت به حوائج ذكرها. فانحدرت، فاشتريت الحوائج، وحملتها في كساء على ظهري، فلقيت رجلاً في الطريق، فسلم علي،(28/269)
وقد بقي إلى التينات ستة أميال، فقال: يا أخي قد تعبت، فناولني أحمل عنك، فناولته، فحملها، وجعل يحادثني بأخبار الصالحين حتى بلغنا التينات، فدفعها، وودعني، وقال: تقرأ على الشيخ مني السلام، فقلت: حبيبي، أقول من؟ قال: هو يعرف. فلما دخلت على الشيخ قال لي: يا إبراهيم، ما استحييت، حملته ستة أميال؟ ما حسدتك، وحسدتني على كلامه إياي؟ فبكيت، وقلت: هو هو؟ قال: هو هو ولا حيلة، تبكي إذا لم تلقه، وتبكي إذا لقيته! قال أبو ذر: سمعت عيسى يقول: كان خيثمة بن سليمان يبعث كل سنة لي شيئاً. فلما كان بعض السنين بعث لي ذلك مع رجل، فإذا بين الدراهم التي بتينات وبين الذي معه صرف، فباع ما معه بدراهم تينات، وأخذ الزيادة لنفسه، ثم جاء إلي، وأعطاني، فخرج أبو الخير إلى طرابلس من يومه، فإذا بخيثمة قد خرج إلى الصحراء لبعض شأنه، فلما رآه عرفه. وترجل له. وقبل رأسه، وقال له: ما الذي أقدمك؟ فقال: كنت تبعث لنا في كل سنة بشيء طيب، وهذا ليس بطيب، والذنب للرسول، ولكن لا تعاقبه، ولا تستعمله أبداً. وترك تلك الدراهم عنده ورجع، فرجع الرسول بعد أيام قال خيثمة: وكنت كتبت اليوم الذي رأيت فيه أبا الخير فقال: قدمت تينات وسلمت إليه ما أمرتني في يوم كذا وكذا. قال: وهو اليوم الذي جاءني أبو الخير، وبين تينات وبين طرابلس مسيرة أيام فوق العشرة، ولكن مر، فليس تصلح لخدمتي.
قال أبو الخير: من أحب أن يطلع الناس على عمله فهو مراء، ومن أحب ألا يطلع الناس على حاله فهو مدع كذاب.
قال أبو القاسم بكر بن محمد المنذري: سألني أبو حفص عمر بن عبد الله الأسواني عن أبي الخير التيناتي فقلت: قد نحل جسمه، فقال: قربت وفاته، قلت: من أين قلت؟ قال: ما هو بمريد فتنحله الرياضة، ولا بخائف تذيبه الهموم، وما هو إلا يصفيه حتى يقبضه إليه. قال: فوصل الخبر بعد مديدة بوفاته رحمه الله.(28/270)
قال أبو القاسم: وسمعت أبا الخير التيناتي يقول: بعثت إلى الثغور، فبكيت، فقيل لي: هي محروسة ما عشت، وفلان، وفلان، وفلان طائفة من الأخيار ما بقي منهم غيري، كلهم ماتوا.
قال السلمي: سمعت أبا الأزهر يقول: عاش أبو الخير التيناتي مائة وعشرين سنة، ومات سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، أو قريباً منه.(28/271)
كنى النساء ممن ابتداء أسمائهن على الخاء
أم خالد بنت عتبة بن ربيعة
ابن عبد شمس بن عبد مناف خالة معاوية بن أبي سفيان.
ذكر دارها أبو الحسين الرازي في كتاب الدوران.
أم الخيار
زوج رياح بن عبيدة.
حكى عنها ابنها موسى بن رياح قال: حدثتني أمي أم الخيار قالت:
كنت عند فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر بن عبد العزيز أحدثها، فإذا عمر بن عبد العزيز قد دخل علينا، فأتى كوز الحب، فأخذه، فاغترف، فتوضأ. ثم أقبل. فقالت له فاطمة: يا أمير المؤمنين، هذه أم الخيار، فقال: يا أم الخيار شغلنا عنك، ومضى. قالت: فقلت لها: لولا أن أحبسك الليلة عن أمير المؤمنين لبت عندك. قالت: أما إذ قلت هذا، فلا تبرحي الليلة حتى تري. فلما صلى العتمة دخل، وأدخل معه كتاب العامة، قالت: ودعا بالشمع، فلم يزل في كتابه وحسابه حتى ذهب نحو من ثلث الليل، قالت: ثم أمر بالكتاب فأقيموا، ورفع الشمع، ثم دعا بكتابه كتاب الخاصة، ودعا بسراج، فجعل يحاسبهم حتى مضى ثلث الليل الأوسط، ثم قام إلى مصلاه فصلى حتى أصبح.(28/272)
أم الخير بنت الحريش بن سراقة
البارقية الكوفية قدمت على معاوية، وحاورها محاورة تدل على فصاحتها وجزالتها.
عن الشعبي قال: كتب معاوية بن أبي سفيان إلى واليه بالكوفة أن أوفد علي أم الخير بنت الحريش بن سراقة البارقية برحلة محمودة الصحبة، غير مذمومة العاقبة، واعلم أني مجازيك بقولها فيك بالخير خيراً، وبالشر شراً.
فلما ورد الكتاب عليه ركب إليها، فأقرأها إياه. قالت: أما أنا فغير راغبة عن طاعة، ولا معتلة بكذب، ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور تلجلج مني بمجرى النفس، يغلي بها صدري غلي المرجل بحب البلس يوقد بجزل السمر.
فلما قدمت على معاوية أنزلها بيتاً مع الحرم ثلاثة أيام، ثم أذن لها في اليوم الرابع وعنده جلساؤه، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، قال: وعليك السلام، وبالرغم منك دعوتني بهذا الاسم، قالت: مه يا هذا، فإن بديهة السلطان مدحضة لما يحب علمه، فقال: صدقت، كيف حالك، وكيف رأيت مسيرك؟ قالت: لم أزل في عافية وسلامة حتى أدتني إلى ملك جزل، ذي عطا، بذل، فإنا في عيش أنيق، وعند ملك رفيق. فقال معاوية: بحسن نيتي والله ظفرت بكم، وأعنت عليكم. قالت: مه يا هذا، والله لك من دحض المقال ما تردى عاقبته. قال: ليس لهذا أردناك، قالت: إنما أجري في ميدانك، إذا أجريت شيئاً أجريته؛ فسل عما بدا لك. قال: كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر؟ قالت: لم أكن والله رويته قبل، ولا رويته بعد، وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة، فإن شئت أحدثت لك مقالاً غير ذلك، قال: لا أشاء، ثم التفت إلى بعض أصحابه فقال: أيكم يحفظ كلام أم الخير؟ فقال رجل من القوم: أنا أحفظه يا أمير(28/273)
المؤمنين كحفظي لسورة الحمد، قال: فهاته، قال: نعم، كأني بها يا أمير المؤمنين في ذلك اليوم وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول:
" يا أيها الناسُ اتقوا ربَّكم إنّ زَلْزَلةَ الساعةِ شيءٌ عظيم ". إن الله قد أوضح الحق، وأبان الدليل، ونور السبيل، ورفع العلم، فلم يدعكم في عمياء مبهمة، ولا شعواء مدلهمة، فإلى أين تريدون رحمكم الله؟ أفراراً عن أمير المؤمنين، أم رغبةً عن الإسلام، أم ارتداداً عن الحق؟! أما سمعتم الله يقول: " ولَنَبْلُوَنّكُمْ حتّى نَعْلَمَ المجاهدين منكم والصابرين، ونبلوَ أخبارَكُم ". ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنه قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرغبة، وبيدك اللهم أزمة القلوب، فاجمع اللهم الكلمة على التقوى، وألف القلوب على الهدى، وأردد الحق إلى أهله، هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل، إنها أحن بدرية، وضغائن أحدية، وأحقاد جاهلية، وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بثارات بني عبد شمس. ثم قالت: " قاتِلُوا أَئِمّةَ الكُفْرِ إنّهم لا أَيْمان لهم لعلّهم ينتهون ". صبراً معاشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربكن، وثبات من دينكم، فكأني بكم غداً قد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة. لا تدري ما يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا البصيرة بالعمى و" عمّا قَليلٍ ليُصْبِحُنّ نادمين "، حين تحل بهم الندامة، فيطلبون الإقالة، " ولاتَ حينَ مناص ". إنه والله من ضل عن الحق وقع في الباطل، ومن لم يسكن الجنة نزل النار. أيها الناس، إن الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها، واستطالوا مدة الآخرة فسعوا لها. والله أيها الناس لولا أن يبطل الحق، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان لما اختاروا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه. إلى(28/274)
أين تريدون حرمكم الله أيها الناس عن ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وزوج ابنته، وأبي ابنيه، خلق من طينته، وتفرع من نبعته، وخصه بسره، وجعله باب مدينته، وأعلم بحبه المسلمين، وأبان ببغضه المنافقين، فلم يزل كذلك حتى أيده الله بمعونته، يمضي على سنن استقامة، لا يفرح لراحة اللذات بها، وهو مفلق الهام، مكسر الأصنام، صلى والناس مشركون، وأطاع والناس مرتابون، فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وهزم الله به الأحزاب، وقتل أهل حنين، وفرق جمع هوازن. فيالها من وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقاً، وردةً وشقاقاً. قد اجتهدت في القول، وبالغت في النصيحة، وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله.
فقال معاوية: والله يا أم الخير ما أردت بهذا القول إلا قتلي، ولو قتلتك ما حرجت في ذلك، فقالت: والله ما يسوؤني أن يجري الله قتلي على يدي من يسعدني الله بشقائه؟! قال: هيهات يا كثيرة الفضول.(28/275)
حرف الذال
أبو ذر الغفاري
صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختلف في اسمه اختلافاً كبيراً، والأظهر أنه جندب بن جنادة. وهو من أعيان الصحابة. قديم الإسلام. أسلم بمكة قبل الهجرة، ورجع إلى بلاد قومه، ولم يشهد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدراً.
وشهد فتح بيت المقدس، والجابية مع عمر بن الخطاب، وقدم دمشق، ورآه بها الأحنف بن قيس، وقيل: ببيت المقدس، وقيل: بحمص.
وذكر أبو بكر البلاذري قال: بنى معاوية الخضراء بدمشق، فقال له أبو ذر: إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف. فسكت معاوية.
قال خالد بن حيان: كان أبو ذر وأبو الدرداء في مظلتين من شعر بدمشق.
وقال الأحنف بن قيس: دخلت مسجد دمشق فإذا رجل يكثر الركوع والسجود، قلت: لا أخرج حتى أنظر أعلى شفع يدري هذا ينصرف أم على وتر، فلما فرغ قلت: يا أبا عبد الله أعلى شفع تدري انصرفت أم على وتر؟ فقال: إلا أدر فإن الله يدري؛ إني سمعت خليلي أبا القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بكى، ثم قال: سمعت خليلي أبا القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما من عبد يسجد لله سجدةً(28/276)
إلا رفعه الله بها درجةً وحظ عنه بها خطيئة، قلت: من أنت، رحمك الله؟ قال: أنا أبو ذر. قال الأحنف: فتقاصرت إلي نفسي مما وقع في نفسي عليه.
قال أبو زرعة: وممن نزل الشام من مصر أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، نزل بيت المقدس يوم ارتحله عثمان إلى المدينة.
قال ابن سعد في الطبقة الثانية:
وأبو ذر، واسمه جندب بن جنادة وساق نسبه إلى غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار.
قال: وكان خامساً في الإسلام، ولكنه رجع إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى قدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك، وتوفي لأربع سنين بقيت من خلافة عثمان، وصلى عليه عبد الله بن مسعود بالربذة زاد غيره: سنة اثنتين وثلاثين.
ووقع في طبقات ابن سميع أنه بدري، وهو وهم؛ فإن أبا ذر لم يشهد بدراً.
وقال البخاري: هاجر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حجازي. ومات بالربذة في زمن عثمان.
قال أبو أحمد الحاكم: أبو ذر جندب بن جنادة ويقال: برير بن جندب، ويقال: برير بن جنادة، ويقال: جندب بن عبد الله، ويقال: جندب بن السكن. والمشهور: جندب بن جنادة الحجازي. له صحبة. وأمه: رملة بنت الوقيعة، من بني غفار أيضاً.
قال ابن يونس: شهد فتح مصر، واختط بها.(28/277)
قال ابن منده: ويقال: إن اسم أبي ذر جنادة بن السكن.
قال أبو نعيم: اختلف في اسمه ونسبه، وكان يتعبد قبل مبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاث سنين، يقوم بالليل مصلياً، حتى إذا كان آخر الليل سقط كأنه خرقة، ثم أسلم بمكة في أول الدعوة، وهو رابع الإسلام، وهو أول من حيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحية الإسلام، وبايع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ألا تأخذه في الله لومة لائم، ثم كان يشبه بعيسى بن مريم عبادةً ونسكاً، لم يتلوث بشيء من فضول الدنيا حتى فارقها. ثبت على العهد الذي بايع عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التخلي عن فضول الدنيا، والتبرئ منها؛ كان يرى إقبالها محنةً وهواناً، وإدبارها نعمةً وامتناناً. حافظ على وصية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له في محبة المساكين ومجالستهم، ومباينة المكثرين في مفارقتهم. كان يخدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا فرغ منه أوى إلى مسجده، واستوطنه. سيد من آثر العزلة والوحدة، وأول من تكلم في علم الفناء والبقاء. كان وعاءً ملئ علماً فربط عليه.
كان رجلاً آدم طويلاً أبيض الرأس واللحية، توفي بالربذة، فولي غسله وتكفينه والصلاة عليه عبد الله بن مسعود في نفر كان منهم حجر بن الأدبر، سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بها. وكان يؤاخي سلمان الفارسي. لم تقل الغبراء، ولم تظل الخضراء على ذي لهجة أصدق منه.
عن رجل من بني عامر قال: كنت كافراً فهداني الله إلا الإسلام، وكنت أعزب عن الماء، ومعي أهلي، فتصيبني الجنابة، فوقع ذلك في نفسي، وقد نعت لي أبو ذر، فحججت، فدخلت مسجد منىً، فعرفته، فالتفت، فإذا شيخ معروق آدم عليه قطري.(28/278)
وقال الأحنف بن قيس: قدمت المدينة، فدخلت مسجدها، فبينما أنا أصلي إذ دخل رجل آدم طوال أبيض الرأس واللحية محلوق، يشبه بعضه بعضاً. قال: فخرج، فاتبعته، فقلت: من هذا؟ قالوا: أبو ذر.
وفي صحيح مسلم: حدثنا هداب بن خالد الأزدي وقال محمد بن سعد: أخبرنا هاشم بن القاسم الكناني أبو النضر قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة، أخبرنا حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا، فنزلنا على خال لنا، فأكرمنا خالنا، وأحسن إلينا، فحسدنا قومه، فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس. فجاء خالنا، فنثا علينا الذي قيل له، فقلت: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لك فيما بعد. فقربنا صرمتنا، فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا بثوبه فجعل يبكي. فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن، فخير أنيساً، فأتى أنيس بصرمتنا ومثلها معها.
قال: وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاث سنين، قلت: لمن؟ قال: لله، قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي، أصلي عشاءً حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس. فقال أنيس: إن لي حاجةً(28/279)
بمكة، فاكفني. فانطلق أنيس حتى أتى مكة، فراث علي، ثم جاء، فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلاً بمكة على دينك، يزعم أن الله أرسله. قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر وكان أنيس أحد الشعراء قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد يعدو أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون.
قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر زاد في رواية أخرى: قال: نعم، وكن على حذر من أهل مكة، فإنهم قد شنفوا له، وتجهموا.
قال: فأتيت مكة، فتضعفت رجلاً منهم، فقلت: أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ فأشار إلي، فقال: هذا الصابئ، فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشياً علي، فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم، فغسلت عني الدماء، وشربت من مائها، ولقد لبثت يا بن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم، ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع.
قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان إذ ضرب الله على أسمختهم، فما يطوف بالبيت أحد منهم غير امرأتين، فأتتا علي وهما يدعوان إسافاً ونائلة، فقلت: هن مثل الخشبة غير أني لا أكني فانطلقتا تولولان، وتقولان: لو كان ها هنا أحد من(28/280)
أنفارنا! فاستقبلهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وهما هابطتان، قال: مالكما؟ قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها، قال: ما قال لكما؟ قالتا: إنه قال لنا كلمةً تملأ الفم. وجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى استلم الحجر، وطاف بالبيت هو وصاحبه، ثم صلى، فلما قضى صلاته كنت أول من حياه بتحية الإسلام، فقال: وعليك ورحمة الله، ممن أنت؟ قلت: من غفار، فأهوى بيده، فوضع أصابعه على جبهته، فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار، فذهبت آخذ بيده، فقد عني صاحبه، وكان أعلم به مني، فرفع رأسه ثم قال: متى كنت ها هنا؟ قلت: منذ ثلاثين بين ليلة ويم، قال: فمن كان يطعمك؟ قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، فما وجدت على كبدي سخفة جوع. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنها مباركة، إنها طعام طعم. فقال أبو بكر: يا رسول الله، ائذن لي في إطعامه الليلة، فانطلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وانطلقت معهما، ففتح أبو بكر باباً، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، فكان ذلك أول طعام أكلته بها، ثم غبرت ما غبرت، ثم أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل، لا أراها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك، عسى الله أن ينفعهم بك، ويأجرك فيهم.
فأتيت أنيساً، فقال: ما صنعت؟ فقلت: صنعت أني أسلمت، وصدقت، قال: ما لي رغبة عن دينك، فإني قد أسلمت وصدقت. فأتينا أمنا، فقالت: ما لي رغبة عن دينكما، فإني قد أسلمت، وصدقت. فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفاراً، فأسلم نصفهم قبل أن يقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة فقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فأسلم نصفهم الباقي. وجاءت أسلم، فقالوا: يا رسول الله، إخوتنا، نسلم على الذي أسلموا عليه، فأسلموا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله.(28/281)
رواه ابن عون، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: صليت قبل أن يبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسنتين، قلت: أين كنت توجه؟ قال: حيث وجهني الله، كنت أصلي حتى إذا كان نصف الليل سقطت كأني خرقة فذكر الحديث نحو ما مضى إلى أن قال: فانطلق أخي أنيس، فأتى مكة، فلما قدم قال: أتيت رجلاً تسميه الناس الصابئ، هو أشبه الناس بك.
قال أبو ذر:
فأتيت مكة، فرأيت، رجلاً هو أضعف القوم في عيني، فقلت: أين الرجل الذي تسميه الناس الصابئ؟ فرفع صوته علي، وقال: صابئ، صابئ. فرماني الناس حتى كأني نصب أحمر، فاختبأت بين الكعبة وبين أستارها، فكنت فيها خمس عشرة من بين يوم وليلة فذكر الحديث في اجتماعه بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو ما مضى، وقال: قال صاحبه: يا رسول الله، أتحفني بضيافته الليلة.
رواه مسلم في الصحيح مختصراً، ثم قال: وحدثني إبراهيم بن محمد بن عرعرة، ومحمد بن حاتم قالا: أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا المثنى بن سعيد، عن أبي جمرة، عن ابن عباس قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني.
فانطلق الأخ حتى قدم مكة، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني فيما أردت. فتزود وحمل شنةً له، فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو لا يعرفه،(28/282)
وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه يعني الليل، فاضطجع، فرآه علي، فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، فظل ذلك اليوم ولا يرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به علي، فقال: أما أنى للرجل أن يعلم منزله!؟ فأقامه، فذهب به معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالثة فعل مثل ذلك، فأقامه علي معه، ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت. ففعل، فأخبره، فقال: إنه حق، وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك منه قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي. ففعل. فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بني ظهرانيهم.
فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكب عليه، فقال: ويلكم! ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام عليهم؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، وثاروا إليه فضربوه، فأكب عليه العباس فأنقذه.
وقال أبو قتيبة سلم بن قتيبة: حدثنا المثنى بن سعيد القصير، حدثني أبو جمرة قال: قال ابن عباس: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قلنا: بلى، قال: قال: كنت رجلاً من غفار، فبلغنا أن رجلاً قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: أنطلق إلى هذا الرجل فكلمه، وائتني بخبره. فانطلق، فلقيه ثم رجع، فقلت: ما عندك؟ قال: والله لقد رأيته رجلاً يأمر(28/283)
بالخير، وينهى عن الشر، فقلت: لم تشفني من الخبر. فأخذت جراباً وعصا ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد. فمر علي فقال: كأن الرجل غريب؟ قلت: نعم، قال: فانطلق إلى المنزل، فانطلقت معه، لا يسألني عن شيء، ولا أخبره. فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء، فمر بي علي فقال: ما آن للرجل أن يعود؟ قلت: لا، قال: ما أمرك، وما أقدمك هذه البلدة؟ قلت: إن كتمته علي أخبرتك، قال: فإني أفعل. قلت: بلغنا أنه قد خرج رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه، فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه.
قال: أما إنك قد رشدت لأمرك، هذا وجهي إليه فاتبعني، فادخل حيث أدخل، فإني إن رأيت أحداً أخافه عليك قمت إلى الحائط. وامض أنت. قال: فمضى، ومضيت معه حتى دخل، ودخلت معه على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: يا رسول الله، اعرض علي الإسلام، فعرضه علي، فأسلمت مكاني، فقال لي: يا أبا ذر، أكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل. قلت: والذي بعثك بالحق لأصرخن ما بين أظهركم. فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ، فقاموا، فضربت لأموت، وأدركني العباس، فأكب علي ثم قال: ويحكم! تقتلون رجلاً من غفار، ومتجركم، وممركم على غفار؟ فأقلعوا عني، فلما أصبحت الغد رجعت، فقلت ما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فضربوني، وأدركني العباس، فأكب علي.
قال: فكان هذا أول إسلام أبي ذر.
عن خفاف بن إيماء بن رحضة قال: كان أبو ذر رجلاً يصيب الطريق، وكان شجاعاً ينفرد وحده بقطع الطريق،(28/284)
ويغير على الصرم في عماية الصبح على ظهر فرسه، أو على قدميه كأنه السبع، فيطرق الحي، ويأخذ ما أخذ. ثم إن الله قذف في قلبه الإسلام، وسمع بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يومئذ بمكة يدعو مختفياً، فأقبل يسأل عنه، حتى أتاه في منزله وقبل ذلك ما قد طلب من يوصله إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يجد أحداً فانتهى إلى الباب، فاستأذن، فدخل، وعنده أبو بكر، وقد أسلم قبل ذلك بيوم أو يومين، وهو يقول: يا رسول الله، والله لا نستسر بالإسلام، ولنظهرنه، فلا يرد عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً، فقلت: يا محمد، إلام تدعو؟ قال: إلى الله وحده لا شريك له، وخلع الأوثان، وتشهد أني رسول الله. قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله. ثم قال أبو ذر: يا رسول الله، إني منصرف إلى أهلي، وناظر متى يؤمر بالقتال فألحق بك، فإني أرى قومك عليك جميعاً. فقال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أصبت، فانصرف. فكان يكون بأسفل ثنية غزال، فكان يعترض لعيرات قريش، فيقتطعها، فيقول: لا أرد إليكم منها شيئاً حتى تشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن فعلوا رد عليهم ما أخذ منهم، وإن أبوا لم يرد عليهم شيئاً. فكان على ذلك حتى هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومضى بدر وأحد، ثم قدم، فأقام بالمدينة مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن أبي ذر قال: كنت رابع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة، وأنا الرابع، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: سلام عليك يا نبي الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: من أنت؟ قلت: أنا جندب رجل من بني غفار، قال: فرأيتها في وجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث ارتدع، كأنه ود أني كنت من قبيلة أرفع من قبيلتي. قال: وكنت من قبيلة فيها رقةً، كانوا يسرقون الحاج بمحاجن لهم.(28/285)
قال جبير بن نفير: كان أبو ذر، وعمرو بن عبسة، كل واحد منهم يقول: أنا ربع الإسلام. وقال: وكان أبو ذر يقول: لقد رأيتني ربع الإسلام، لم يسلم قبلي إلا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وبلال.
وعن موسى بن عقبة، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن أبي ذر قال: كنت في الإسلام خامساً.
قال الواقدي: قالوا: وعبأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه، وصفهم صفوفاً يعني يوم حنين ووضع الرايات والألوية في أهلها، وسمى حامليها. قال: وكان في بني غفار راية يحملها أبو ذر.
قال: وكان أبو ذر يقول: أبطأت في غزوة تبوك من أجل بعيري، كان نضواً أعجف، فقلت: أعلفه أياماً، ثم ألحق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فعلفته أياماً، ثم خرجت، فلما كنت بذي المروة أذم بي، وتلومت عليه يوماً فلم أر به حركة. فأخذت متاعي، فحملته على ظهري، ثم خرجت أتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماشياً في حر شديد، وقد تقطع الناس فلا أرى أحداً يلحقه من المسلمين، وطلعت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصف النهار، وقد بلغ مني العطش، فنظر ناظر من الطريق، فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: كن أبا ذر، فلما تأملني القوم قالوا: يا رسول الله، هذا أبو ذر، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى دنوت منه، فقال:(28/286)
مرحباً بأبي ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، فقال: ما خلفك يا أبا ذر؟ فأخبره خبر بعيره، ثم قال: إن كنت لمن أعز أهلي علي تخلفاً، لقد غفر الله لك يا أبا ذر بكل خطوة ذنباً إلى أن بلغتني، ووضع متاعه عن ظهره، ثم استسقى، فأتي بإناء من ماء فشربه.
وعن غضيف بن الحارث، عن أبي الدرداء قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويتفقده إذا غاب.
وعن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: قال أبو ذر: وكان أكثر أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له سؤالاً.
فذكر حديثاً.
وعن حاطب قال: قال أبو ذر: ما ترك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً مما صبه جبريل وميكائيل في صدره إلا قد صبه في صدري، ولا تركت شيئاً مما صبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صدري إلا صببته في صدر مالك بن ضمرة.
وقال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وهو يذكرنا منه علماً.
وقال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كل شيء حتى عن مسح الحصا، فقال: واحدة.
قال: أوصاني حبي بخمس: أرحم المساكين وأجالسهم، وأنظر إلى من تحتي ولا(28/287)
أنظر إلى من فوقي، وأن أصل الرحم وإن أدبرت، وأن أقول الحق وإن كان مراً، وأن أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
قال عمر مولى غفرة: ما أعلم بقي فينا من الخمس إلا هذه؛ قولنا: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وعن عون بن مالك، عن أبي ذر أنه جلس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا أبا ذر هل صليت الضحى؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين، فقام فصلى، ثم جلس، فقال: يا أبا ذر، تعوذ بالله من شياطين الإنس، قلت: يا رسول الله، هل للإنس شياطين؟ قال: نعم يا أبا ذر، ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: ما هو؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وعن عبيد بن عمير، عن أبي ذر قال: دخلت المسجد فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا أبا ذر ألا أوصيك بوصايا إن أنت حفظتها نفعك الله بها؟ قلت: بلى بأبي أنت وأمي، قال: جاور القبور تذكر بها وعيد الآخرة، وزرها بالنهار، ولا تزرها بالليل، واغسل الموتى؛ فإن في معالجة جسد خاو عظةً، وشيع الجنائز؛ فإن ذلك يحرك القلب ويحزنه، وأعلم أن أهل الحزن في أمن الله، وجالس أهل البلاء والمساكين، وكل معهم، ومع خادمك لعل الله يرفعك يوم القيامة، والبس الخشن الصفيق من الثياب تذللاً لله عز وجل وتواضعاً لعل الفخر والبطر لا يجدان فيك مساغاً، وتزين أحياناً في عبادة الله بزينة حسنة تعففاً وتكرماً، فإن ذلك لا يضرك إن شاء الله وعسى أن يحدث لله شكراً.
وسئل أبو ذر: هل كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيني قط(28/288)
إلا صافحني، ولقد جئت مرةً، فقيل لي: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلبك، فجئت، فاعتنقني، فكان ذلك أجود وأجود.
وقال: أرسل إلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي توفي فيه، فأتيته، فوجدته نائماً، فأكببت عليه، فرفع يده فالتزمني.
سئل علي بن أبي طالب عن أبي ذر، فقال: علم العلم ثم أوكى فربط عليه ربطاً شديداً.
وقال أيضاً: أبو ذر وعاء ملئ علماً ثم أوكى عليه فلم يخرج منه شيء، حتى قبض.
وقال أيضاً: وعى علماً عجز فيه وكان شحيحاً حريصاً؛ شحيحاً على دينه، حريصاً على العلم، وكان يكثر السؤال، فيعطى ويمنع، أما إنه قد ملئ له في وعائه حتى امتلأ.
فلم يدروا ما يريد بقوله: وعى علماً عجز فيه؛ أعجز عن كشفه، أم عما عنده من العلم، أم عن طلب ما طلب من العلم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: كان أبو ذر جالساً إلى جنب أبي بن كعب يوم الجمعة، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، فتلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيةً لم يكن أبو ذر سمعها، فقال أبو ذر لأبي: متى أنزلت هذه الآية؟ فلم يكلمه، فلما أقيمت الصلاة قال له أبو ذر: ما منعك أن تكلمني حين سألتك؟ فقال أبي: إنه ليس لك من جمعتك إلا ما لغوت. فانطلق أبو ذر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره، فقال: صدق أبي، فقال أبو ذر: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال(28/289)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم اغفر لأبي ذر وتب عليه.
وعن أبي أمامة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفع إلى أبي ذر غلاماً، فقال: يا أبا ذر، أطعمه مما تأكل، واكسه مما تلبس، فلم يكن عنده غير ثوب واحد، فجعله نصفين، فراح إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما شأن ثوبك يا أبا ذر؟ فقال: إن الفتى الذي دفعته إلي أمرتني أن أطعمه مما آكل، وأكسوه مما ألبس، وإنه لم يكن معي إلا هذا الثوب فناصفته. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحسن إليه يا أبا ذر، فانطلق أبو ذر فأعتقه، فسأله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما فعل فتاك؟ قال: ليس لي فتى، قد أعتقته، قال: أجرك الله يا أبا ذر.
قال عبد الله بن مليل: سمعت علياً يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه لم يكن قبلي نبي إلا قد أعطاه الله سبعة رفقاء وزراء، وإني أعطيت أربعة عشر، فذكرهم، وفيهم أبو ذر.
وعن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمرت بحب أربعة من أصحابي، وأخبرني الله أنه يحبهم: علي، وأبو ذر، وسلمان، والمقداد.
وعن علي، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو بن العاص قالوا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر زاد علي: طلب شيئاً من الزهد عجز عنه الناس.
وعن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، من سره(28/290)
أن ينظر إلى تواضع وفي رواية: إلى زهد عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر.
وعن مالك بن مرثد، عن أبيه قال: قال أبو ذر: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما تقل الغبراء، ولا تظل الخضراء من ذي لهجة أصدق، ولا أوفى من أبي ذر، شبه عيسى بن مريم. قال: فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله، أفنعرف ذلك له؟ قال: نعم فاعرفوه له.
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فإذا أردتم أن تنظروا إلى أشبه الناس بعيسى بن مريم هديا وبراً ونسكا فعليكم بأبي ذر.
وعن ابن مسعود قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أبا ذر ليباري عيسى بن مريم في عبادته. من سره أن ينظر إلى شبه عيسى بن مريم خلقاً وخلقاً فلينظر إلى أبي ذر.
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من نبي إلا له نظير في أمتي: أبو بكر نظير إبراهيم، وعمر نظير موسى، وعثمان نظير هارون، وعلي نظيري. ومن سره أن ينظر إلى عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر الغفاري.
عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرحم أمتي أبو بكر الصديق، وأحسنهم خلقاً أبو عبيدة بن الجراح، وأصدقهم لهجةً أبو ذر، وأشدهم في الحق عمر، وأقضاهم علي.
عن أبي ذر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا ذر، إني رأيت أني وزنت بأربعين أنت فيهم، فوزنتهم.(28/291)
عن أبي ذر قال: والله ما كذبت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أخذت إلا عنه، أو عن كتاب الله عز وجل.
وقال: والله إني لعلى العهد الذي فارقت عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما غيرت، ولا بدلت.
عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب قال لعبد الله بن مسعود، وأبي الدرداء، وأبي ذر: ما هذا الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب.
وقال أبو ذر: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كيف أنت عند ولاة يستأثرون عليك؟ قلت: قلت: والذي بعثك بالحق، أضع سيفي على عاتقي وأضرب حتى ألحقك. قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ اصبر حتى تلحقني وفي رواية: تنقاد لهم حيث قادوك، وتنساق لهم حيث ساقوك حتى تلقاني وأنت على ذلك، وفي رواية: إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج منها وضرب بيده نحو الشام ولا أرى أمراءك إلا يحولون بينك وبين ذلك قلت: فآخذ سيفي، وأضرب به من حال بيني وبين أمرك؟ قال: لا، ولكن تسمع وتطيع ولو لعبد حبشي. فلما بلغ البناء سلعاً خرج من المدينة حتى أتى الشام، فتكاب الناس عليه، فكتب معاوية إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة فأرسل إلى أبي ذر. فكتب إليه عثمان يأمره بالقدوم عليه، فقال: سمعاً وطاعة. فلما قدم على عثمان قال له: ها هنا عندي. قال: الدنيا لا حاجة لي فيها، قال: تأتي الربذة، قال: إن أذنت لي. فلما قدم الربذة حضرت الصلاة، قيل له: تقدم يا أبا ذر، فقال: من على هذا الماء؟ قالوا: هذا، فإذا عبد حبشي. قال أبو ذر: الله أكبر، أمرت أن أسمع وأطيع ولو لعبد حبشي، فأنت عبد حبشي. فتقدم، فصلى خلفه أبو ذر.(28/292)
وقال أبو ذر: كنت أخدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم آتي المسجد إذا أنا فرغت من عملي فاضطجع فيه. فأتاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا مضطج فيه، فضبني برجله، فاستويت جالساً، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف تصنع إذا أخرجت منها؟ قلت: ألحق بأرض الشام، قال: كيف تصنع إذا أخرجت منها؟ قلت: آخذ سيفي، فأضرب به من يخرجني، قال: فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده على منكبي ثم قال: غفراً أبا ذر، غفراً أبا ذر، بل تنقاد معهم حيث قادوك، وتنساق معهم حيث ساقوك ولو لعبد أسود. قال: فلما نفيت إلى الربذة أقمت الصلاة، فتقدمهم رجل أسود كان فيها على بعض الصدقة، فلما رآني أخذ يرجع ليقدمني، فقلت: كما أنت أنقاد لأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا ذر، أنت رجل صالح، وسيصيبك بعدي بلاء، قلت: في الله؟ قال: في الله قلت: مرحباً بأمر الله.
وقال أبو ذر: أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا نغلب على أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونعلم الناس السنن.
قال عبد الله بن أبي قيس: خرجنا مع غضيف بن الحارث نريد بيت المقدس، فأتينا أبا الدرداء، فسلمنا عليه، فقال أبو الدرداء: الق أبا ذر، فقل: يقول لك أبو الدرداء: اتق الله، وخف الناس، فقال أبو ذر: اللهم غفراً، إن كنا قد سمعنا فقد سمع، وإن كنا قد رأينا فقد رأى، أو ما علم أني بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ألا تأخذني في الله(28/293)
لومة لائم.
عن أبي اليمان، وأبي المثنى أن أبا ذر قال: بايعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمساً، وواثقني سبعاً، وأشهد الله علي تسعاً ألا أخاف في الله لومة لائم. ثم قال أبو المثنى: قال أبو ذر: فدعاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هل لك إلى بيعة ولك الجنة؟ قلت: نعم، وبسطت يدي، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يشترط علي: أن لا تسأل الناس شيئاً، قلت: نعم، قال: ولا سوطك إن سقط منك حتى تنزل إليه فتأخذه.
عن أبي اليمان قال: لما قفل الناس عام غزوة قبرس وعليهم معاوية، ومعه أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين كانوا بالشام، فخرج إلى الكنيسة التي إلى جانب أنطرسوس التي يقال لها كنيسة معاوية، وبمقامه عندها دعيت كنيسة معاوية، فقام في الناس قبل أن يتفرقوا إلى أجنادهم، فقال: إنا قاسموا غنائمكم على ثلاثة أسهم: سهم للسفن فإنها مراكبكم، وسهم للقبط، فإنكم لم يكن لكم حيلة إلا بهم، وسهم لكم. فقام أبو ذر، فقال: كلا والله لا نقسم سهامنا على ذلك، أتقسم للسفن وهي مما أفاء الله علينا؟ وتقسم للقبط وإنما هم خولنا؟ والله ما أبالي من قال أو ترك، لقد بايعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمساً، وأوثقني سبعاً، وأشهد الله علي سبعاً: ألا تأخذني في الله لومة لائم.
فقال معاوية: تقسم الغنائم جميعاً على المسلمين.
قال بشر بن بكر: حدثنا الأوزاعي: حدثني أبو كثير، حدثني أبي قال:
أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل، فوقف عليه، فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فرفع رأسه إليه ثم قال: أرقيب أنت علي؟! لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار بيده إلى(28/294)
قفاه ثم ظننت أن أنفذ كلمةً سمعتها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها.
وفي رواية: أن رجلاً أتى أبا ذر فقال: إن المصدقين يعني جباة الصدقة إزدادوا علينا، فنغيب عنهم بقدر ما ازدادوا علينا؟ قال: لا، قف مالك عليهم فقل: ما كان لكم من حق فخذوه، وما كان باطلاً فذروه، فما تعدوا عليك جعل في ميزانك يوم القيامة.
وعلى رأسه فتىً من قريش، فقال: أما نهاك أمير المؤمنين عن الفتوى؟ فذكر ما سبق.
وعن ثعلبة بن الحكم، عن علي قال: لم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر، ولا نفسي؛ ثم ضرب بيده على صدره.
عن أبي الطفيل، عن ابن أخي أبي ذر قال: أخبرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لن يسلط أحد على قتلي، ولن يفتنونني عن ديني. وأخبرني أني أسلمت فرداً، وأموت فرداً، وأبعث يوم القيامة فرداً.
قال الأحنف بن قيس: أتيت المدينة، ثم أتيت الشام، فجمعت، فإذا أنا برجل لا ينتهي إلى سارية إلا فر أهلها، يصلي ويخف صلاته. فجلست إليه، قال: قم عني لا أغرك بشر، فقلت: كيف تغرني بشر؟ قال: إن هذا يعني معاوية نادى مناديه أن لا يجالسني أحد.
وفي رواية: كنت جالساً في حلقة بمسجد المدينة، فأقبل رجل لا تراه حلقة إلا فروا حتى انتهى إلى الحلقة التي كنت فيها، ففروا، وثبت، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا أبو ذر صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قلت: فما يفر الناس منك؟ قال: إني أنهاهم عن(28/295)
الكنوز، قلت: فإن أعطيتنا قد بلغت وارتفعت، أفتخاف علينا منها؟ قال: أما اليوم فلا، ولكن يوشك أن يكون أثمان دينكم، فإذا كان أثمان دينكم فدعوهم وإياها.
وقال: قدمت المدينة، فبينما أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم، فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليهم في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتجلجل.
قال: فوضع القوم رؤوسهم، فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً، فأدبر، فتبعته حتى جلس إلى سارية، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم، فقال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئاً، إن خليلي أبا القاسم دعاني، فقال: يا أبا ذر، فأجبته، فقال: ترى أحداً، فنظرت ما علي من الشمس، وأنا أظنه يبعث بي في حاجة له، فقلت: أراه، فقال: ما يسرني أن لي مثله ذهباً أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير، ثم هؤلاء يجمعون الدنيا، لا يعقلون شيئاً! فقلت: مالك ولإخوانك قريش، لا تعتريهم، وتصيب منهم؟ قال: لا وربك ما أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين حتى ألحق بالله ورسوله.
قال مالك بن أوس بن الحدثان: قدم أبو ذر من الشام، فدخل المسجد وأنا جالس، فسلم علينا، وأتى سارية، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم قرأ: ألهاكم التكاثر حتى ختمها، واجتمع الناس عليه، فقالوا له: يا أبا ذر، حدثنا ما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لهم: سمعت حبيبي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البر صدقته، من(28/296)
جمع ديناراً أو درهماً، أو تبراً، أو فضة لا يعده لغريم، ولا للنفقة في سبيل الله كوي به. قلت: يا أبا ذر، انظر ما تخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن هذه الأموال قد فشت. فقال: من أنت يا بن أخي؟ فانتسبت له، قال: قد عرفت نسبك الأكبر، ما تقرأ " والذين يكنِزُون الذهبَ والفضةَ ولا ينفقونَها في سبيلِ الله "؟ وفي رواية: قدم أبو ذر من الشام وأنا جالس مع عثمان بن عفان في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء أبو ذر فسلم عليه، فقال عثمان: كيف أنت يا أبا ذر؟ قال: بخير، فكيف أنت؟ ثم ولى وهو يقول: " ألهاكُمُ التكاثرُ حتى زُرْتُم المقابر "، ورفع صوته وكان صلب الصوت حتى ارتج المسجد بقراءة السورة كلها، حتى مالت القراءة إلى سارية من سواري المسجد. فصلى ركعتين فتجوز فيهما، فاحتوشه الناس وقالوا: حدثنا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجلست قبالة وجهه.
فذكر نحو ما تقدم.
قال عبيد الله بن شميط: سمعت أبي يقول: بلغنا أن أبا ذر كان يقول وهو في مجلس معاوية: لقد عرفنا خياركم من شراركم، ولنحن أعرف بكم من البياطرة بالخيل. فقال رجل: يا أبا ذر، أتعلم الغيب؟ فقال معاوية: دعوا الشيخ فالشيخ أعلم منكم، من خيارنا يا أبا ذر؟ قال: خياركم أزهدكم في الدنيا، وأرغبكم في الآخرة، وشراركم أرغبكم في الدنيا وأزهدكم في الآخرة.
حدثنا عبد الله بن الصامت قال: دخلت مع أبي ذر في رهط من غفار على عثمان من الباب الذي لا يدخل عليه منه، فتخوفنا عثمان عليه، فانتهى إليه، فسلم عليه وقال: أحسبتني منهم يا أمير المؤمنين؟ والله ما أنا منهم، ولا أدركهم، لو أمرتني أن آخذ بعرقوتي قتب لأخذت بهما حتى أموت. ثم استأذنه إلى الربذة، فقال: نعم نأذن لك.(28/297)
عن عبد الله بن الصامت ابن أخي أبي ذر قال: دخلت مع أبي ذر على عثمان، فلما دخل إليه حسر عن رأسه وقال: والله ما أنا منهم يا أمير المؤمنين يريد الخوارج قال ابن شوذب: سيماهم التسبيت يعني الحلق فقال له عثمان: صدقت يا أبا ذر، إنما أرسلت إليك لتجاورنا بالمدينة، قال: لا حاجة لي في ذلك، ائذن لي إلى الربذة، قال: نعم، ونأمر لك بنعم من نعم الصدقة تغدو عليك وتروح، قال: لا حاجة لي في ذلك، تكفي أبا ذر صريمته. فلما خرج من عنده قال: دونكم معاشر قريش دنياكم فاخذموها، ودعونا وربنا.
حدثني غزوان أبو حاتم قال: بينا أبو ذر عند باب عثمان ليؤذن له إذ مر به رجل من قريش، فقال: يا أبا ذر، ما يجلسك ها هنا؟ قال: يأبى هؤلاء أن يأذنوا لنا. فدخل الرجل، فقال: يا أمير المؤمنين، ما بال أبي ذر على الباب لا يؤذن له؟ فأمر فأذن له، فجاء حتى جلس ناحية القوم وميراث عبد الرحمن يقسم، فقال عثمان لكعب: يا أبا إسحاق، أرأيت المال إذا أدي زكاته هل يخشى على صاحبه فيه تبعة؟ فقال: لا، فقام أبو ذر ومعه عصاً، فضرب بها بين أذني كعب، ثم قال: يا بن اليهودية، أنت تزعم أنه ليس عليه حق في ماله إذا أدى الزكاة، والله تعالى يقول: " ويُؤْثِرون على أنفسهم " الآية، " ويُطْعِمون الطعامَ على حُبّه "، و" في أموالِهِمْ حَقُّ معلوم للسائل والمْحُروم "، فجعل يذكر نحو هذا(28/298)
من القرآن. فقال عثمان للقرشي: إنما نكره أن نأذن لأبي ذر من أجل ما ترى! عن ابن عباس قال: كان أبو ذر يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابية، فكان يحب الوحدة والخلوة. فدخل على عثمان وعنده كعب الأحبار، فقال عثمان: ألا ترضون من الناس بكف الأذى حتى يبذلوا المعروف، وقد ينبغي للمؤدي الزكاة ألا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان، ويصل القرابات. فقال كعب: من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه، فرفع أبو ذر محجنةً، فضربه، فشجه، فاستوهبه عثمان، فوهبه له، وقال: يا أبا ذر، اتق الله، واكفف يدك ولسانك. وقد كان قال له: يا بن اليهودية، ما أنت وما ها هنا؟! والله لتسمعن مني أو لا أدخل عليك، والله لا يسمع أحد من اليهود إلا فتنوه.
قال زيد بن وهب: حدثني أبو ذر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا بلغ البناء سلعاً فارتحل إلى الشام. فلما بلغ البناء سلعاً قدمت الشام، وكنت بها، فتلوت هذه الآية " والذين يكِنُزون الذَّهبَ والفِضّةَ "، فقال معاوية: هذه للكفار، فقلت: هي لأهل الإسلام. فكتب إلى عثمان: إن هذا يفسد، فكتب إلي عثمان، فقدمت المدينة، فأجفل الناس ينتظرونني، كأنهم لم يروني قط، فقال لي عثمان: لو ارتحلت إلى الربذة؟ قال: فارتحلنا إلى الربذة.
وفي رواية: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر، فقلت: ما أنزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: " والذين يكنزون الذهبَ والفضةَ "، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، وقلت: نزلت فينا وفيهم. فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب يشكوني إلى عثمان، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمت المدينة، فكثر الناس علي كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكر ذلك لعثمان، فقال:(28/299)
إن شئت تنحيت، فكنت قريباً. قال: فذلك أنزلني هذا المنزل، ولو أمر علي حبشي لسمعت وأطعت.
قال موسى بن عبيدة: أخبرني ابن نفيع، عن ابن عباس قال:
استأذن أبو ذر على عثمان وأنا عنده، فتغافلوا عنه ساعةً، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا أبو ذر بالباب يستأذنك، فقال: ائذن له إن شئت، إنه يؤذينا ويبرح بنا، قال: فأذنت له، فجلس على سرير مرمول من هذه البحرية، فرجف به السرير، وكان عظيماً طويلاً، فقال له عثمان: أما إنك الزاعم أنك خير من أبي بكر وعمر؟ قال: ما قلت: قال عثمان: إني أنزع عليك بالبينة، قال: والله ما أدري ما بينتك، وما تأتي به؟ وقد علمت ما قلت، قال: فكيف قلت إذاً؟ قال: قلت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن أحبكم إلي وأقربكم مني الذي يلحق بي على العهد الذي عاهدته عليه، وكلكم قد أصاب من الدنيا، وأنا على ما عاهدني عليه، وعلى الله تمام النعمة. وسأله عن أشياء، فأخبره بالذي يعلمه، فأمره أن يرتحل إلى الشام فيلحق بمعاوية، فكان يحدث بالشام، فاستهوى قلوب الرجال، فكان معاوية ينكر بعض شأن رعيته، وكان يقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم، ولا تبر، ولا فضة إلا شيء ينفقه في سبيل الله، أو يعده لغريم. وإن معاوية بعث إليه بألف دينار في جنح الليل فأنفقها، فلما صلى معاوية الصبح دعا رسوله الذي أرسله إليه فقال: اذهب إلى أبي ذر فقل: أنقذ جسدي من عذاب معاوية أنقذك الله من النار، فإني أخطأت بك. قال: يا بني، قل له: يقول لك أبو ذر: والله ما أصبح عندنا منه دينار، ولكن أنظرنا ثلاثاً حتى نجمع لك دنانيرك. فلما رأى معاوية أن قوله صدق فعله كتب إلى عثمان: أما بعد، فإن كان لك بالشام حاجة أو بأهله فابعث إلى أبي ذر، فإنه قد أوغل صدور الناس. فكتب إليه عثمان: أقدم علي. فقدم عليه المدينة.(28/300)
قال شداد بن أوس: كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه الشدة، ثم يخرج إلى قومه يسلم عليهم، ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرخص فيه بعد فلم يسمعه أبو ذر، فتعلق أبو ذر بالأمر الشديد.
قال عبد بن سيدان السلمي: تناجى أبو ذر وعثمان حتى ارتفعت أصواتهما، ثم انصرف أبو ذر مبتسماً، فقال الناس: مالك ولأمير المؤمنين؟ قال: سامع مطيع، ولو أمرني أن آتي صنعاء أو عدن ثم استطعت أن أفعل لفعلت. وأمره عثمان أن يخرج إلى الربذة وفي رواية: لو أن عثمان أمرني أن أمشي على رأسي لمشيت، وفي رواية: لو أمرني ألا أجلس ما جلست ما حملتني رجلاي ولو كنت على بعير يعني موثقاً ما أطلقت نفسي حتى يكون هذا الذي يطلقني.
وفي رواية: لما قدم أبو ذر على عثمان من الشام قال: يا أمير المؤمنين، أتحسب أني من قوم والله ما أنا منهم، ولا أدركتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ولا يرجعون إليه حتى يرجع السهم على فوقه، سيماهم التحليق. والله لو أمرتني أن أقوم ما قعدت ما ملكتني رجلاي ولو أوثقتني بعرقوتي قتب ما حللته حتى تكون أنت الذي تحلني.
عن شيخين من بني ثعلبة: رجل وامرأته قالا: نزلنا الربذة، فمر بنا شيخ أشعث أبيض الرأس واللحية، فقالوا: هذا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستأذناه أن نغسل رأسه، فأذن لنا، واستأنس بنا، فبينا نحن كذلك(28/301)
إذ أتاه نفر من أهل العراق، حسبته قال: من أهل الكوفة، فقالوا: يا أبا ذر، فعل بك هذا الرجل وفعل، فهل أنت ناصب له رايةً، فنكملك برجال ما شئت؟ فقال: يا أهل الإسلام، لا تعرضوا علي ذاكم، ولا تذلوا السلطان؛ فإنه من أذل السلطان فلا توبة له، والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة وأطول جبل لسمعت، وأطعت، وصبرت، واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي، ولو سيرني ما بين الأفق إلى الأفق أو قال: ما بين الشرق والغرب لسمعت، وأطعت، وصبرت، واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي، ولو ردني إلى منزلي لسمعت، وأطعت، وصبرت، واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي.
عن عبد الرحمن بن غنم قال: كنت عند أبي الدرداء إذ جاءه رجل من أهل المدينة، فسأله فقال: إني تركت أبا ذر يسير إلى الربذة، فقال أبو الدرداء: إنا لله وإنا إليه راجعون! لو أن أبا ذر قطعني عضواً عضواً ما هجته مما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول فيه.
قال الحافظ أبو القاسم رحمه الله: ولم يسير عثمان أبا ذر، لكنه خرج هو إلى الربذة لما تخوف من الفتنة التي حذره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما خرج عقيب ما جرى بينه وبين أمير المؤمنين عثمان ظن أنه هو الذي أخرجه.
ثم أسند عن عبد الله بن الصامت قال: قالت أم ذر: والله ما سير عثمان أبا ذر ولكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج منها، فلما بلغ البناء سلعاً وجاوز خرج أبو ذر إلى الشام.
وذكر الحديث في رجوعه، ثم خروجه إلى الربذة، وموته بها.(28/302)
قال أبو ذر: إني لأقربكم مجلساً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم القيامة. وقال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن أقربكم مني مجلساً يوم القيامة من خرج من الدنيا بهيئة ما تركته فيها، وإنه والله ما منكم أحد إلا قد تشبث منها بشيء.
قال مالك بن دينار: قال أبو ذر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي بعثك بالحق لا لقيتك إلا على الذي فارقتك عليه.
عن أبي ذر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يكون في جهنم عقبة كؤود لا يقطعها إلا المخفون، قلت: أمن المخفين أنا يا رسول الله؟ قال: عندك طعام يوم؟ قلت: نعم، قال: أعندك طعام غد؟ قلت: نعم، قال: أعندك طعام بعد غد؟ قلت: لا، قال: لو كان عندك طعام ثلاثة أيام لكنت من المثقلين.
وقال أبو ذر: كان قوتي على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل جمعة صاعاً فلست بزائد عليه حتى ألقاه.
قال إبراهيم التيمي: دخل شباب من قريش على أبي ذر فقالوا له: فضحتنا بالدنيا، وأغضبوه، فقال: مالي وللدنيا، وإنما يكفيني صاع من طعام في كل جمعة، وشربة من ماء في كل يوم.
قال المعرور بن سويد: نزلنا الربذة، فإذا رجل عليه برد، وعلى غلامه برد مثله، فقلنا له، لو أخذت(28/303)
برد غلامك هذا فضممته إلى بردك هذا فلبسته كانا حلةً، واشتريت لغلامك برداً غيره؟ قال: إني سأحدثكم عن ذلك: كان بيني وبين صاحب لي كلام، وكانت أمه أعجميةً، فنلت منها، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعذره مني، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا ذر، ساببت فلاناً؟ فقلت: نعم، قال: فذكرت أمه؟ فقلت: من ساب الرجال ذكر أبوه وأمه، فقال لي: إنك امرؤ فيك جاهلية، قلت: على حال ساعتي من الكبر؟ قال: على حال ساعتك من الكبر؛ إنهم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه، وليلبسه من لباسه، ولا يكلفه ما يغلبه.
عن سليمان بن يسار قال: قال أبو ذر حدثان إسلامه لابن عمه: يا بن الأمة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما ذهبت عنك أعرابيتك بعد.
عن عطاء بن أبي مروان، عن أبي ذر أنه رآه في نمرة مؤتزراً بها، قائماً يصلي، فقلت: يا أبا ذر، مالك ثوب غير هذه النمرة؟ قال: لو كان لي رأيته علي، قلت: رأيت عليك منذ أيام ثوبين، فقال: يا بن أخي، أعطيتهما من هو أحوج مني إليهما، قلت: والله إنك لمحتاج إليهما، قال: اللهم غفراً، إنك لمعظم للدنيا، ألست ترى علي هذه البردة؟ ولي أخرى للمسجد، ولي أعنز نحلبها، ولي أحمرة نحمل عليها ميرتنا، وعندنا من يخدمنا ويكفينا مهنة طعامنا، فأي نعمة أفضل مما نحن فيه؟(28/304)
قال عبد الله بن خراش: رأيت أبا ذر بالربذة في ظلة له سوداء، وتحته امرأة له سحماء، وهو جالس على قطعة جوالق، فقيل له: يا أبا ذر، إنك امرؤ ما يبقى لك ولد، فقال: الحمد لله الذي يأخذهم في الفناء، ويدخرهم في دار البقاء، قالوا: يا أبا ذر، لو اتخذت امرأةً غير هذه؟ قال: لأن أتزوج امرأة تضعني أحب إلي من امرأة ترفعني، قالوا له: لو اتخذت بساطاً ألين من هذا؟ قال: اللهم غفراً، خذ مما خولت ما بدا لك.
عن رجل من بني سليم قال:
جاورت أبا ذر بالربذة وله فيها قطيع إبل، له فيها راع ضعيف، فقلت: يا أبا ذر، ألا أكون لك صاحباً أكف راعيكم، وأقتبس بعض ما لعل الله ينفعني به. فقال له أبو ذر: إن صاحبي من أطاعني، فما كنت لي مطيعاً فأنت لي صاحب، وإلا فلست لي بصاحب. قلت: وما الذي تسألني الطاعة فيه؟ قال: لا أدعوك لشيء من مالي إلا توخيت أفضله. قال: فلبثت معه ما شاء الله، فذكر له في أهل الماء حاجة، فقال: ائتني ببعير من الإبل، فتصفحت الإبل، فإذا أفضلها فحلها ذلول، فهممت بأخذه، فذكرت حاجتهم إليه، فتركته وأخذت ناقةً ليس في الإبل بعد الفحل أفضل منها، فجئت بها، فحانت منه نظرة، فرآني، فقال: يا أخا بني سليم، جنبني، يا أخا بني سليم أجتنبني، فلما فهمتها خليت الناقة ثم رجعت إلى الإبل، فأخذت الفحل، فجئت به، فقال لجلسائه: من رجلان يحتسبان عملهما؟ فقال رجلان: نحن، فقال: إما لا فأنيخاه، ثم اعقلاه، ثم انحراه، ثم عدوا بيوت الماء، فجزئوا لحمه على عددهم، واجعلوا بيت أبي ذر بيتاً مما تفعلون.
فلما فرقوا اللحم دعاني، فقال: ما أدري حفظت وصيتي فظهرت بها، أم نسيت فأعذرك؟ قلت: ما نسيت وصيتك، ولكن لما تصفحت الإبل وجدت أفضلها فحلها، فهممت بأخذه، ثم ذكرت حاجتكم إليه فتركته. قال: ما تركته إلا لحاجتي إليه؟ قلت:(28/305)
ما تركته إلا لذلك. قال: أفلا أخبرك بيوم حاجتي إليه؟ يوم أوضع في حفرتي، فذلك يوم حاجتي. إن في المال ثلاثة شركاء: القدر لا يستأمرك أن يذهب بخيرها أو بشرها، والوارث، ينتظر متى يوضع رأسك فيستفيئها وأنت ذميم، وأنت الثالث، فإن استطعت ألا تكون أعجز الثلاثة فلا تكن؛ مع أن الله تعالى قال: " لَنْ تنالوا البِرَّ حتّى تُنْفِقُوا ممّا تُحِبُّون "، وإن هذا الجمل كان مما أحب من مالي فأحببت أن أقدمه لنفسي.
عن سعيد بن أبي الحسن أن أبا ذر كان عطاؤه أربعة آلاف، فكان إذا أخذ عطاءه دعا خادمه فسأله عما يكفيه للسنة فاشتراه، ثم اشترى فلوساً بما بقي، وقال: إنه ليس من وعاء ذهب ولا فضة يوكى عليه إلا هو يتلظى على صاحبه.
عن رجل من أهل الشام أنه دخل على أبي ذر وهو يوقد تحت قدر له من حطب قد أصابه مطر، ودموعه تسيل، فقالت له امرأة له: كان لك عن هذا مندوحة، فلو شئت كفيت، فقال أبو ذر: فهذا عيشي، فإن رضيت وإلا فتحت كنف الله. قال: فكأنما ألقمها حجراً؛ حتى إذا أنضج ما في القدر جاء بصحفة، فكسر فيها خبزاً له غليظاً، ثم جاء بالذي كان في القدر، فكبه عليه، ثم جاء به، وقال لي: ادن، فأكلنا جميعاً، ثم أمر جاريته أن تسقينا، فسقتنا مذقةً من لبن معزاة، فقلت: أبا ذر، لو اتخذت في بيتك عيشاً؟ فقال: أتريد لي حساباً أكثر من هذا؟ أليس هذا مثالاً نرقد عليه، وعباءة نبسطها، وكساءً(28/306)
نلبسه، وبرمة نطبخ فيها، وصحفة نأكل فيها، وبطة فيها زيت، وغرارة فيها دقيق؟ قلت: فإن عطاءك أربعمائة دينار، وأنت في شرف من العطاء فأين يذهب عطاؤك؟ فقال: لي في هذه القرية وأشار إلى قرية بالشام ثلاثون فرساً، فإذا خرج عطائي اشتريت لها علفاً، وأرزاقاً لمن يقوم عليها، ونفقة لأهلي، فإن بقي منها شيء اشتريت به فلوساً، فجعلته عند نبطي ها هنا، فإن احتاج أهلي إلى لحم أخذوا منه، وإن احتاجوا إلى شيء أخذوا منه، ثم أحمل عليها في سبيل الله. وليس عند آل أبي ذر دينار، ولا درهم.
قال ميمون بن مهران: لما احتضر أبو ذر قال لامرأته: أين تلك النفقة؟ فجاءت بثلاثة عشر درهماً، فأمر بها فوضعت مواضعها، ثم قال: إن كانت محرقتي ما بين عانتي إلى ذقني.
عن محمد بن المنذر قال: بعث حبيب بن مسلمة إلى أبي ذر وهو بالشام ثلاثمائة دينار، وقال: استعن بها على حاجتك، فقال أبو ذر: ارجع بها إليه، فما أحد أغنى بالله منا، لنا ظل نتوارى به، وثلة من غنم تروح علينا، ومولاة لنا تصدقت علينا بخدمتها، ثم إني لأتخوف الفضل.
وعن ابن سيرين قال: بلغ رجلاً كان بالشام من قريش أن أبا ذر به عوز، فبعث إليه ثلاثمائة دينار فقال: ما وجد عبداً لله هو أهون عليه مني؟ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من سأل وله أربعون فقد ألحف، ولآل أبي ذر أربعون درهماً، وأربعون شاةً، وماهنان يعني خادمين.(28/307)
عن أبي شعبة قال:
مر قوم بأبي ذر بالربذة، فعرضوا عليه النفقة، فقال أبو ذر: عندنا أعنز نحلبها، وأحمرة ننتقل عليها، ومحررة تخدمنا، وفضل عباءة إني لأخاف الحساب فيها.
وفي رواية: وفضل عباءة عن كسوتنا، وإني لأخاف أن أحاسب الفضل.
عن يحيى قال: كان لأبي ذر ثلاثون فرساً يحمل عليها، فكان يحمل على خمسة عشر منها يغزى عليها، ويصلح آلة بقيتها، فإذا رجعت أخذها فأصلح آلتها، وحمل على الأخرى.
عن جسر بن الحسن قال: كان عطاء أبي ذر أربعة آلاف، فكان يشتري عشرين فرساً فيرتبطها بحمص، فكان يحمل على عشر عاماً، وعشر عاماً.
قال إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى: حدثني أبي، عن جدي قال: خرج أبو الدرداء إلى السوق يشتري قميصاً، فلقي أبا ذر، فقال: أين تريد يا أبا الدرداء؟ قال: أريد أن أشتري قميصاً، قال: وبكم؟ قال: بعشرة دراهم. فوضع أبو ذر يده على رأسه ثم قال: ألا إن أبا الدرداء من المسرفين. قال: فالتمست مكاناً أتوارى فيه، فلم أقدر، فقلت: يا أبا ذر، لا تفعل، مر معي، فاكسني أنت، قال: وتفعل؟ قلت: نعم. فأتى السوق، فاشترى قميصاً بأربعة دراهم. قال: فانصرفت حتى إذا كنت بين منزلي والسوق لقيت رجلاً لا يكاد يواري سوأته، فقلت له: اتق الله ووار سوأتك! فقال: ما أجد ما أواري به سوأتي، فألقيت إليه الثوب، ثم انصرفت إلى السوق، فاشتريت قميصاً بأربعة دراهم، ثم انصرفت إلى منزلي، فإذا خادمة على الطريق تبكي، قد اندق إناؤها، فقلت: ما يبكيك؟ فقالت: اندق إنائي، وأبطأت على أهلي. فذهبت(28/308)
معها إلى السوق، فاشتريت لها سمناً بدرهم، وإناء بدرهم. فقالت: يا شيخ، أما إذ فعلت ما فعلت فامش معي إلى أهلي، فإني قد أبطأت، وأنا أخاف أن يضربوني، قال: فمشيت معها إلى مواليها فدعوت، فخرج لي مولاها، فقال: ما عناك يا أبا الدرداء؟ فقلت: خادمكم أبطأت عنكم، وأشفقت أن تضربوها، فسألتني أن آتيكم لتكفوا عنها. قال: فأنا أشهدك أنها حرة لوجه الله لممشاك معها.
قال أبو الدرداء: فقلت: أبو ذر أرشد مني، كساني قميصاً، وكسا مسكيناً قميصاً، وأعتق رقبةً بعشرة دراهم.
قال ثابت البناني: بنى أبو الدرداء مسكناً تدرأ بظله، فمر عليه أبو ذر، فقال: ما هذا؟ تعمر داراً أمر الله بخرابها؟! لأن أكون رأيتك تتمرغ في عذرة أحب إلي من أن أكون رأيتك فيها! فلما فرغ أبو الدرداء من بنائه قال: إني قائل على بنائي هذا شيئاً:
بنيت داراً ولست عامرها ... لقد علمت إذ بنيت أين داري
قال ابن سعد: يسنده إلى ابن بريدة، قال: لما قدم أبو موسى الأشعري لقي أبا ذر، فجعل أبو موسى يلزمه، وكان الأشعري رجلاً خفيف اللحم، قصيراً، وكان أبو ذر اسود كث الشعر، فجعل الأشعري يلزمه ويقول أبو ذر: إليك عني، ويقول الأشعري: مرحباً بأخي، ويدفعه أبو ذر ويقول: لست بأخيك، إنما كنت أخاك قبل أن تستعمل.
قال: ثم لقي أبا هريرة، فالتزمه، وقال: مرحباً بأخي، فقال له أبو ذر: إليك عني، هل كنت عملت لهؤلاء؟ قال: نعم. قال: قد تطاولت في البناء، واتخذت زرعاً وماشيةً؟ قال: لا، قال: أنت أخي، أنت أخي.(28/309)
قال سفيان الثوري: قال أبو ذر: لك في مالك شريكان أيهما جاء أخذ ولم يؤامرك: الحدثان والقدر، كلاهما يمر على الغث والسمين، والورثة ينتظرون متى تموت فيأخذون ما تحت يدك. وأنت تقدم لنفسك؛ فإن استطعت ألا تكون أخس الثلاثة نصيباً فافعل.
قال جعفر بن سليمان: دخل رجل على أبي ذر، فجعل يقلب بصره في بيته. فقال له: يا أبا ذر، أين متاعك؟ وفي رواية: ما أرى في بيتك متاعاً، ولا غير ذلك من الأثاث فقال: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا. قال: إنه لا بد لك من متاع ما دمت ها هنا، فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه.
وعن ابن جدعان، عمن سمع أبا ذر في مسجد المدينة يقول لرجل: بم تخوفني؟ فوالله للفقر أحب إلي من الغنى، ولبطن الأرض أحب إلي من ظهرها.
وقال أبو ذر: أحب الإسلام وأهله، وأحب الفقراء، وأحب الغريب من كل قلبك. وادخل في هموم الدنيا واخرج منها بالصبر، ولا يأمن رجل أن يكون على خير فيرجع إلى شر، فيموت بشر، ولا ييأس رجل أن يكون على شر، فيرجع إلى خير، فيموت بخير، وليردك عن الناس ما تعرف من نفسك.
وقال: يا أيها الناس، إني بكم ناصح، إني عليكم شفيق، صلوا في ظلمة الليل لوحشة القبر، وصوموا في الدنيا لحر يوم النشور، وتصدقوا مخافة يوم عسير لعظائم الأمور.(28/310)
وقال: وددت أني شجرة تعضد، وددت أني لم أخلق.
قال المدائني: قال عمر بن الخطاب لأبي ذر: يا أبا ذر، من أنعم الناس بالاً؟ قال: برئ في الثواب، قد أمن من العقاب فبشر بالثواب. قال: صدقت يا أبا ذر.
وأسند ابن أبي الدنيا عن بعضهم قال: جاء غلام لأبي ذر وقد كسر رجل شاة له، فقال له أبو ذر: من كسر رجل هذه الشاة؟ قال: أنا، قال: ولم؟ قال: لأغيظك، لتضربني، فتأثم. فقال أبو ذر: لأغيظن من حرضك على غيظي! فأعتقه.
قالت أم طلق: دخلت على أبي ذر فرأيته شعثاً شاحباً بيده صوف، قد جعل عودين وهو يغزل به ذلك الصوف، فنظرت يمنةً ويسرة فلم أر في بيته شيئاً، فناولته شيئاً من دقيق وسويق، فجعله في طرف ثوبه، فقال: أما ثوابك فعلى الله.
وفي رواية: رأيته شعثاً شحباً، وفي يده صوف منفوش وعودان، قد وضع أحدهما على الآخر، وهو يغزل ذلك الصوف.
قال عيسى بن عميلة الفزاري: أخبرني من رأى أبا ذر يحلب غنيمةً له، فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه، ولقد رأيته ليلة حلب حتى ما بقي في ضروع غنمه شيء إلا مصره، وقرب إليهم تمراً وهو يسير، ثم تعذر إليهم، وقال: لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا لجئنا به. قال: وما رأيته ذاق تلك الليلة شيئاً.(28/311)
قال أبو ذر: أن تملي خيراً فيكتب لك خير من السكوت، والسكوت خير من أن تملي شراً، والجليس الصالح خير من الوحدة، والوحدة خير من جليس السوء.
وفي رواية رفع ذلك إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال أبو الأسود الدؤلي: قد رأيت أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما رأيت بأبي ذر شبيهاً.
قال ابن سعد: قال محمد بن إسحاق: آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أبي ذر وبين المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة، وهو المعنق ليموت، وقال: لم تكن المؤاخاة إلا قبل بدر، فلما نزلت آية المواريث انقطعت المؤاخاة، وأبو ذر حين أسلم رجع إلى بلاد قومه فأقام بها حتى مضت بدر وأحد والخندق، ثم قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة بعد ذلك.
عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال: كنت ردف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو على حمار وعليه بردعة أو قطيفة.
عن أبي ذر أنه قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم.
وفي حديث آخر أن أبا ذر سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإمرة، فقال: إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، فأدى الذي عليه فيها.
عن غالب بن عبد الرحمن قال: لقيت رجلاً قال: كنت أصلي مع أبي ذر في بيت المقدس، فكان إذا دخل خلع(28/312)
خفيه، فإذا بزق، أو تنخع تنخع عليهما. قال: ولو جمع ما في بيته لكان رداء هذا الرجل أفضل من جميع ما في بيته.
عن أبي عثمان النهدي قال: رأيت أبا ذر يميد على راحلته، وهو مستقبل مطلع الشمس، فظننته نائماً، فدنوت منه، فقلت: أنائم أنت يا أبا ذر؟ فقال: لا بل كنت أصلي.
عن بريدة بن سفيان ومحمد بن كعب القرظي قالا: لما صار أبو ذر إلى الربذة وأصابه قدره لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه فأوصاهما أن اغسلاني، وكفناني، وضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمر بكم قولوا له: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعينونا على دفنه. فلما مات فعلا به ذلك، ثم وضعاه على قارعة الطريق، فأقبل عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق عماراً، فلم يرعهم إلا بجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل أن تطأها، فقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعينونا على دفنه، فاستهل عبد الله يبكي، وقال: صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، فنزل هو وأصحابه فواروه.
عن محمد بن كعب
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل له عام تبوك: تخلف أبو ذر، وهو في الطريق، فطلع، فقال: يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده. قال: فلما حضرت أبا ذر الوفاة، وذلك في ذي الحجة سنة ثمان من إمارة عثمان، قال لابنته: استشرفي يا بنية هل ترين أحداً؟ قالت: لا، قال: فما جاءت ساعتي بعد، ثم أمرها،(28/313)
فذبحت شاةً، ثم قصبتها. ثم قال لها: إذا جاءك الذين يدفنونني فقولي لهم: إن أبا ذر يقسم عليكم ألا تركبوا حتى تأكلوا. فلما نضجت قدرها قال لها: انظري هل ترين أحداً؟ قالت: نعم، هؤلاء ركب مقبلون، قال: استقبلي بي الكعبة، ففعلت، وقال: بسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله. ثم خرجت ابنته، فتلقتهم، وقالت: رحمكم الله، اشهدوا أبا ذر! قالوا: وأين هو؟ فأشارت لهم إليه، وقد مات، فادفنوه، فقالوا: نعم، ونعمة عين، لقد أكرمنا الله بذلك. وإذا ركب من أهل الكوفة فيهم عبد الله بن مسعود، فمالوا إليه، وابن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يموت وحده، ويبعث وحده. فغسلوه، وكفنوه، وصلوا عليه، ودفنوه. فلما أرادوا أن يرتحلوا قالت لهم ابنته: إن أبا ذر يقرؤ عليكم السلام، وأقسم ألا تركبوا حتى تأكلوا. ففعلوا. وحملوهم حتى قدموا بهم مكة، ونعوه إلى عثمان، فضم ابنته إلى عياله وقال: يرحم الله أبا ذر.
عن دري قال: خرجنا حجاجاً مع ابن مسعود ونحن أربعة عشر راكباً فسماهم، وفيهم: علقمة، والأسود وذلك سنة إحدى وعشرين، وفي رواية: أربعاً وعشرين حتى أتينا على الربذة، فإذا امرأة قد تلقتنا، فقالت: اشهدوا أبا ذر. فغسلناه، وكفناه؛ فإذا خباؤه منضوح بمسك، فقلنا للمرأة: ما هذا؟ قالت: كانت مسكة، فلما حضر قال: إن الميت يحضره شهود يجدون الريح، ولا يأكلون، فذوفي تلك المسكة بماء، ثم رشي بها الخباء، وأقريهم ريحها، واطبخي هذا اللحم، فإنه سيشهدني قوم صالحون يلون دفني، فاقريهم. فلما دفناه دعتنا إلى الطعام، فأكلنا، وأردنا احتمالها، فقال ابن مسعود: أمير المؤمنين منا(28/314)
قريب، فنستأمره، فقدمنا مكة، وأخبرناه الخبر، فقال: رحم الله أبا ذر، وغفر له نزوله بالربذة. فلما صدر خرج، فأخذ طريق الربذة، وضم عياله إلى عياله، وتوجه نحو المدينة، وتوجهنا نحو العراق.
وعن إبراهيم بن الأشتر، عن أبيه، عن أم ذر قالت: لما حضر أبا ذر الوفاة بكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: وما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض، ولا يدان لي بتغييبك، وليس معنا ثوب يسعك كفناً، ولا لك. فقال: لا تبك، وأبشري، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لنفر أنا منهم: ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية وجماعة، وإني أنا الذي أموت بالفلاة، والله ما كذبت، ولا كذبت، فأبصري الطريق. فقلت: أنى وقد ذهب الحاج، وتقطعت الطرق؟!؟ فقال: انظري. قالت: فكنت أشتد إلى الكثيب، فأقوم عليه، ثم أرجع إليه فأمرضه. فبينما أنا كذلك إذا أنا برجال على رواحلهم كأنهم الرخم، فألحت بثوبي، فأسرعوا، ووضعوا السياط في نحورها يستبقون إلي، فقالوا: مالك يا أمة الله؟ فقلت: امرؤ من المسلمين، تكفنونه، يموت، فقالوا: ومن هو؟ قلت: أبو ذر، قالوا: صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قلت: نعم. ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه، فسلموا عليه، فرحب بهم، وقال: أبشروا، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يموت بين امرأين من المسلمين ولدان أو ثلاثة، فيصبران ويحتسبا، فيريان النار أبداً. وسمعته يقول لنفر أنا فيهم: ليموتن رجل منك بفلاة من الأرض، فتشهده عصابة من المسلمين وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد هلك في قرية وجماعة، وإني أنا الذي أموت بفلاة، والله ما كذبت ولا كذبت. وقال: أنشدكم الله، لا يكفني منكم رجل كان أميراً أو عريفاً، أو(28/315)
بريداً، أو نقيباً. فكفنه أنصاري في ردائه وثوبين عنده من غزل أمه، ودفنه النفر الذين معه، منهم: حجر بن الأدبر، ومالك الأشتر، في نفر كلهم يماني.
قال المدائني: مات أبو ذر بالربذة، وصلى عليه ابن مسعود سنة اثنتين وثلاثين، وقدم ابن مسعود المدينة، فأقام عشرة أيام، ثم مات بعد عاشره.
زاد غيره فيمن مات هذه السنة: معاذ بن عمرو بن الجموح، وأبا الدرداء، وكعب الأحبار.
أبو ذر البعلبكي
قال الخطيب: هو مجهول.
أبو الذكر
حكى عنه أبو علي محمد بن هارون بن شعيب قال: أنشدنا أبو الذكر الشامي وفي نسخة الدمشقي: مجزوء الكامل
وسئمت كلّ مآربي ... فكأنّ أحسنها خبيث
إلاّ الحديث فإنّه ... مثل اسمه أبداً حديث
أبو الذيال
من ولد بلال بن سعد(28/316)
حرف الراء
أبو راشد الحبراني
اسمه أخضر بن حوط ويقال: النعمان بن بشير.
من أهل حمص ويقال: إنه دمشقي.
عن أبي راشد الحبراني، عن عبادة بن الصامت: أنه قام فينا عند كنيسة معاوية، فحدث أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: من عبد الله لا يشرك به شيئاً، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وسمع وأطاع أدخله الله من أي أبواب الجنة شاء ولها ثمانية أبواب، قال: ومن عبد الله لا يشرك به شيئاً، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وسمع، وعصى فإن الله من أمره بالخيار، إن شاء رحمه، وإن شاء عذبه.
كنيسة معاوية إلى جانب أنطرطوس نسبت إليه لأنه كان ينزل بها.
عن أبي راشد الحبراني قال: أتيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت له: حدثنا مما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فألقى إلي صحيفةً، فقال: هذا ما كتب لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فنظرت، فإذا فيها: إن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله، علمني ما أقول إذا أصبحت، وإذا أمسيت، فقال: يا أبا بكر، قل اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيث والشهادة، لا إله إلا أنت رب كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقرف على نفسي سوءاً، أو أجره إلى مسلم.(28/317)
وقال: أخذ بيدي أبو أمامة قال: أخذ بيدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: يا أبا أمامة، إن من المؤمنين من يلين له قلبي.
وقال: ركبت البحر عام قبرس مع ثلاثة عشر رجلاً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم: عبادة بن الصامت، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو ذر الغفاري، وأبو الدرداء، وفضالة بن عبيد، وعمير بن سعد، ومعاوية وهو الأمير.
قال أحمد بن عبد الله العجلي: أبو راشد الحبراني: شامي، تابعي، ثقة، لم يكن بدمشق في زمانه أفضل منه.
قال ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل الشام: أبو راشد الحبراني. من حمير. كان يصفر لحيته.
أبو الربيع الدمشقي
إن لم يكن سليمان بن عتبة فهو آخر.
أبو رجاء بن أخي أبي إدريس الخولاني.
عن أبي رجاء، عن أبي إدريس عمه: أنه كان بدمشق قاعداً في يوم بارد، فأراد أن يخلع خفيه فيتوضأ، فمر به بلال مؤذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا بلال، كيف كان نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضأ؟ قال: يمسح على الخفين والخمار، فقال: الحمد لله. وترك خفيه، ولم يخلعهما.(28/318)
وقال البرقاني: سألت الدارقطني، عن حديث زهير، عن حميد، عن أبي رجاء، عن عمه أبي إدريس، عن بلال في المسح فقال: تفرد فيه زهير بزيادة أبي رجاء، فقلت: يخرج هذا الحديث في الصحيح؟ فقال: نعم.
أبو الرضا الصياد العابد
حكى عن قاسم الجوعي قال: سمعت قاسم الجوعي يقول: العيش في ثلاثة أشياء: أولها الاستغناء عن الناس، العدو منهم والصديق، والثانية صحة البدن، والثالثة الأمن من الدين.
أبو الرضا بن النحاس الحلبي
شاعر قدم دمشق مرات.
قال أبو عبد الله بن الملحي: هو ابن أخت أبي نصر الوزير، العالم المفيد الكاتب الشاعر المجيد. وكان أبو الرضا وصل إلى دمشق عند القبض على خاله، لأخذ خاله، فاجتمعت به، وأنشدني لخاله: من الكامل
يا قلب أنت أذت لي في هجره ... وزعمت أنّك قاصرٌ عن ذكره
وضمنت إنجادي عليه بسلوةٍ ... لا أتّقي فيها عواقب غدره
ورجعت تطلبه وأنت أضعته ... هيهات فات الحزم فارط أمره
فاستحسنت هذه الأبيات حتى غنى بها القيان، وهام بها الشيوخ والشبان. فعمل أبو الرضا: من الكامل
يا طرف أنت طرحتني في حبّه ... وزعمت قلبك في هواه كقلبه
حتّى إذا لفحتك نيران الجوى ... فحرمت ما أمّلته من قربه(28/319)
أنشأت تذكر ما جنيت وقلت: خذ ... قلبي المعنّى في هواه بذنبه
ذق مرّ ما استحسنته وجنيته ... لا ينكر المغرور صرعة عجبه
واغرق بدمعك في البكاء فربما ... قتل المتيّم نفسه من كربه
قال ابن الملحي: وكتب إلي يوماً: من البسيط
يا من إذا ما البليغ الحبر جاذبه ... حبل الفصاحة منسوبٌ إلى النّوك
وابن الألى غمر الأحرار فضلهم ... حتى لقد أصبحوا مثل المماليك
ما زلت تدأب في العلياء تعمرها ... مجاهداً في طريق غير مسلوك
دعوتنا دعوةً بالأمس معجزةً ... فثنّ، لا تجعلنها بيضة الدّيك
أبو روح شيخ صالح
قال أحمد بن إبراهيم بن ملاس: قد رأيت أبا روح وذكر أنه كان يشبه بالأوزاعي فذكر أن أباه بلغ مائة سنة وست سنين، وأنه ذكر أنه كان بناحية عبادان من أرض البصرة، وأن المراكب كانت إذا شحنت للغزو لم يؤذن لها في المضي حتى يدخلها، فيدعو فيها بالبركة والسلامة.
فذكر عن أبيه أنه صلى مع الناس صلاة العيد بالبصرة، فلما انصرف الناس ذكر الزحام والدواب، فقعد على دابته، فخف الناس، فما علم إلا بفارس قد أقبل على فرس كميت عليه قباء أبيض، فسلم عليه وقال: هل مر بك إنسان؟ قال: لا، قال: فما علم إلا بآخر قد جاء في مثل هيأته على فرس، وعليه قباء أبيض، فقال أحدهما لصاحبه: انظر من صح عمله فأجز عليه، فأخرج من قبائه كتاباً فجعل يجيز على واحد واحد.(28/320)
أبو روق الدمشقي
أحد المجاهيل.
حدث عن محمد بن غالب بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سبعة في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله: رجل ذكر الله ففاضت عيناه، ورجل يحب عبداً لا يحبه إلا لله، ورجل قلبه معلق بالمساجد من شدة حبه إياها، ورجل يعطي الصدقة بيمينه فيكاد يخفيها عن شماله، وإمام مقسط في رعيته، وامرأة ذات جمال عرضت نفسها على رجل فتركها لخوف من الله، ورجل كان في سرية، فلقيهم العدو، وانكشفوا فحمى أدبارهم حتى نجا ونجوا.
أبو رويحة الخثعمي
قيل اسمه عبد الله بن عبد الرحمن، ويقال: ربيعة بن السكن.
آخى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين بلال بن رباح. وقدم الشام مع بلال، ثم سكن فلسطين.
روى عنه عبد الجبار بن عبد الله الخثعمي أنه قال: قدمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعقد لي رايةً بيضاء، وقال لي: يا أبا رويحة، اذهب إلى قومك، فناد فيهم: من دخل تحت راية أبي رويحة فهو آمن، ففعلت.
قال ابن سميع في الطبقة الأولى: أبو رويحة الفزعي، من خثعم.
وذكره موسى بن سهل فيمن نزل فلسطين من الصحابة.(28/321)
قال محمد بن إسحاق لما دون عمر الديوان بالشام كان بلال قد خرج إلى الشام، فأقام بها مجاهداً، فقال عمر لبلال: إلى من تجعل ديوانك؟ قال: مع أبي رويحة، لا أفارقه أبداً، للأخوة التي كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقد بيني وبينه، فضمه إليه، وضم ديوان الحبشة إلى خثعم لمكان بلال منهم، فهم مع خثعم إلى هذا اليوم بالشام.
قال البغوي: لم يسند أبو رويحة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً.
أم الربيع
جدة سعيد بن عيسى.
ذكرها ابن سميع في الطبقة الثانية.(28/322)
حرف الزاي
أبو زائد الدمشقي
حكى عن جعفر بن زياد الشامي قال: هوي رجل منا جاريةً سوداء، فلامه أهله، فقال: من الوافر
يكون الخال في خدٍّ قبيحٍ ... فيكسوه الملاحة والجمالا
فكيف يلام إنسان على من ... يراه كلّه في العين خالا؟!
أبو الزبير الدمشقي
حكى عن أبيه قال: نفق فرس لرجل مع الفضل بن العباس في رفقته، فأعطاه فرساً كان يحبب إليه، فعاتبه بعض المنتصحين إليه. فقال له: أبخيلي تتنصح إلي؟ إنه كفى لؤماً أن يمنع الفضل، وتترك المواساة. والله ما رأيت الله حمد في كتابه إلا المؤثرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
أبو زرعة بن عمرو بن جرير
ابن عبد الله البجلي اختلف في اسمه. فقيل: عمرو بن عمرو، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: هرم بن عمرو، وقيل: عبد الله.(28/323)
روى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حببان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
وروى عن أبي هريرة قال:
كان سرول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كبر سكت بين التكبير والقراءة، فقلت: بأبي أنت وأمي، رأيت سكتتك بين التكبير والقراءة، فأخبرني ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد.
وفد على معاوية مع جده جرير، وقال: ما وفد جرير قط إلا وفدت معه، ولا دخل على معاوية إلا دخلت معه، ولا دخلنا عليه قط إلا ذكر قتل حجر، ثم يخرج أبو هريرة فيحدثه ويحدثنا.
فحدثنا أن رب العزة عز وجل نادى محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن رحمتي سبقت غضبي، ثم أنزلت هذه الآية في سورة موسى وفرعون: " وما كنتَ بجانب الطور إذ نادَيْنا "، الآية.
قال ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل الكوفة من الفقهاء بعد أصحاب علي وعبد الله: أبو زرعة بن عمرو بن جرير.
عن محمد بن عمر قال: كان لجرير ابن يقال له عمرو، وبه كان يكنى، هلك في إمارة عثمان، فولد عمرو(28/324)
ابناً سماه جريراً باسم أبيه، وغلب عليه أبو زرعة. رأى علياً، وكان انقطاعه إلى أبي هريرة، وسمع من جده أحاديث، وكان بين ذلك.
وسئل يحيى بن معين عنه فقال: ثقة.
وقال ابن خراش: هو كوفي صدوق ثقة.
قال عمارة بن القعقاع: قال إبراهيم النخعي له: إذا حدثتني فحدثني عن أبي زرعة، فإنه حدثني بحديث، ثم سألته بعد ذلك بسنتين فما أخرم منه حرفاً.
قال أبو غياث النخعي، جد حفص بن غياث: رأيت أبا زرعة بايع رجلاً فخيره بعدما وقع البيع ثلاث مرات، فسمعت أبا زرعة يقول: سمعنا أبا هريرة يقول: هذا البيع على تراض.
أبو زرعة اللخمي
من وجوه عسكر مسلمة بن عبد الملك الذي توجه به من دمشق لحصار القسطنطينية، وأرسله مسلمة مع البطال إلى ليون متملك الروم: أين ما كنت عاهدت الله عليه من النصيحة لنا وإدخالنا إياها؟ فقال: لئن ظن مسلمة أني أبيع ملك الروم بالوفاء له لبئس ما ظن، ولقد رأيت أن أفي له بما يستقيم، أصنع له طعاماً، وحماماً، فيدخل هو ومن أحب من أصحابه الحمام، ويصيب الطعام، ثم ينصرف راشداً.
فقال: إن هذا لغير كائن، وإنا لنقول: إن الله قد احاط بكم، ولسنا نبرح دون صغار الجزية، أو يدخلناها الله عنوةً.
فقال: إن دون ذلك لصغاراً وقتالاً شديداً، وكم عسى أن تصبروا؟ فقالوا نصبر.(28/325)
ولا بد لطعامك الذي عددت فيه أن يعفن. فقال: أوما ترى كيف دبرته؟ لم أدخله بيتاً ولا هرياً مخافةً عليه، فأما هذه السنة فنطحن ما طحنا، ونأكل ما أكلنا، ويفسد منه ما فسد. وإذا كان قابل أمرت به فطحن من آخره، فنأكل منه ما أكلنا، ويفسد منه ما فسد، وإذا كان العام الثالث أمرنا به فخبز خبز القرابين، فأكلناه حتى نأتي على آخره؛ فهذا إلى ثلاث سنين، ما قد كان أمر يحول بينكم وبين ما تريدون، ودعا بغدائه، فغداهم من كل الألوان، وآتاهم من كل الطرائف، ثم أقبل عليهم، فقال: نحن فيما تقولون من الحصار والأزل نأكل مما ترون، فادعوا بما شئتم، وتشهوا علينا. فقال البطال: أمر يسير عليك، خفيف مؤنته تدعو لنا به. قال: ما هو؟ قال: كف من تراب من خلف الخندق. فقطب وغضب، وأمر بهم فأخرجوا، وأتوا مسلمة بمقالته.
أبو زرعة الدمشقي الصوفي
صحب القاسم بن عثمان الجوعي.
قال السلمي: هو من فتيان مشايخ الشام، كان يرجع إلى علم ودراية.
فرق السلمي بينه وبين الجنبي الآتي ذكره، وهما واحد، قاله الحافظ.
أبو زرعة الجنبي
صحب أبا عبيد البسري، والقاسم الجوعي.
وهو القائل لأبي عبيد البسري: يا أستاذ، أنا أحبك شديد المحبة، لو أمر بك ربك إلى النار، وأمر بي إلى الجنة لافتديتك بنفسي.(28/326)
وقد تقدم ذلك في ترجمة أبي عبيد محمد بن حسان البسري.
قال أبو زرعة الجنبي: مكرت بي امرأة قالت: ألا تدخل الدار فتعود مريضاً؟ وفي رواية: ادخل، فشل معي هذا الزبيل فلما دخلت أغلقت الباب، ولم أر أحداً، فعلمت قصدها، فقلت: اللهم سودها، فاسودت، فتحيرت، وفتحت الباب، فخرجت، وقلت: اللهم ردها إلى حالها، فرجعت إلى ما كانت.
أبو زكار الزاهد
من أهل حوران.
ذكره أبو أحمد عبد الله بن بكر الطبراني في كتاب: أخبار الأولياء، وذكر أنه كان من أفاضل القوم، وأحسنهم إشارةً، وله حالة مع الله جليلة، رفيعة، ظاهرة البركات.
قال أحمد الهلالي، قال لي ولد أبي زكار: أقام أبي خمس عشرة سنة لازماً البيت، وكنا إذا قلنا له: قد فرغنا من الزرع، أو من الحصاد، أو من الدرس، أو نريد سفراً يقول: يا بني، لا تخبروني بشيء من أموركم، فتشغلوا قلبي.
وحدث أبو بكر الهلالي، عن بعض شيوخه قال: كان أبو زكار بدمشق، فوافاه قوم من أهل قريته، فشكوا إليه شدة العطش في نفوسهم، وبهائمهم، فدعا لهم عند العصر، وعادوا إلى قريتهم، فقيل لهم: في ساعة الدعاء على ما حدثوهم ثارت سحابة، فمطروا مطراً عظيماً، امتلأت منه الجباب والأودية.(28/327)
قال الهلالي: قال لي ولد أبي زكار: لما حضرت أبي الوفاة قال لنا: إذا أنا مت فلا تعترضوا على الخراساني في أمري. فلما توفي أقبل رجل خراساني، فقرع الباب بعكاز معه، ودخل فتولى جميع أمره، وبات عندنا تلك الليلة، فأحضرنا له الطعام، وفيه خلاط، فأكل منه، ثم قدمنا له دجاجة، فقال: لا آكل إلا من لون واحد، فلم يضع يده في غير الخلاط حتى فرغ من طعامه. فودعته بكرةً، فقال لي: كيف حالك؟ فقلت له: إنني فقير، فقال: أيش تقول في البيضاء، وبراق، والمرجانية، هذه ثلاث ضياع نفيسة إن قيل لك خذها ودع شهادة أن لا إله إلا الله كنت تفعل؟ فقلت: سبحن الله! فقال: أما يستحي من له خير من البيضاء، وبراق، والمرجانية أن يشكو الفقر؟! وودعني ومضى.
أبو الزهراء القشيري
ممن أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد فتح دمشق، وولي صلح أهل البثنية وحوران من قبل يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر. وأصيبت رجل أخي أبي الزهراء بدمشق يوم دمشق.
ذكر ذلك كله سيف.
قال: وقال أبو الزهراء القشيري في حد عمر من شرب الخمر بالشام: من الطويل
ألم تر أنّ الدّهر يعثر بالفتى ... وليس على صرف المنون بقادر
صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي ... ولست عن الصّهباء يوماً بصابر
رماها أمير المؤمنين بحتفها ... فخلاّنها يبكون حول المعاصر(28/328)
ذكر من اسمه أبو زياد
أبو زياد مولى آل دراج الجمحي
عن أبي زياد مولى آل دراج: ما رأيت فنسيت فإني لم أنس أن أبا بكر الصديق كان إذا قام إلى الصلاة قام هدلاً، وأخذ بكفه اليمنى على ذراعه اليسرى لازقاً بالكوع.
قال أبو زرعة: هو من أهل دمشق، داره بها. حدثني بذلك دحيم. ممن رأى أبا بكر. وذكر محمود بن سميع أن ابن دراج فلسطيني.
أبو زياد أو أبو ثابت أو ثابت
عن ثابت، أو عن أبي ثابت أن رجلاً دخل مسجد دمشق، فقال: اللهم آنس وحشتي، وارحم غربتي، وارزقني جليساً صالحاً. فسمعه أبو الدرداء، فقال: لئن كنت صادقاً فلأنا أسعد بما قلت منك؛ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " فمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِه "، قال: الظالم يؤخذ منه في مقامه ذلك، فذلك الهم والحزن، " ومِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ " قال: يحاسب حساباً يسيراً، " ومِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْراتِ "، قال: الذين يدخلون الجنة بغير حساب.(28/329)
وقال الأشجعي يعني عن سفيان عن الأعمش، عن أبي زياد.
دخلت مسجد دمشق.
أبو زياد الدمشقي
حدث عن أبي سلام ممطور الحبشي، عن أبي الدرداء أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: تعلموا القرآن. فوالذي نفسي بيده إن الشيطان ليخرج من البيت يقرأ فيه سورة البقرة.
أبو زياد من أهل جبيل
ساحل دمشق.
أبو زيد الأسدي ويقال الأزدي
رجل فصيح. وفد على سليمان بن عبد الملك.
عن عيسى بن يزيد بن دأب:
أن أبا زيد الأزدي دخل على سليمان بن عبد الملك، وهو قاعد على دكان مبلط بالرخام الأحمر، مفروش بالديباج المطبوع الأخضر، في وسط بستان ملتف قد أثمر، ونار كل شق من الدكان ميدان ينبت الربيع، وعلى رأسه وصفاء كل واحدة منهن من صاحبتها أقمر وأزهر، وقد أشرقت الشمس، فنضرت لحسنها الخضرة، وتضاعفت الزهرة، وتغنت الأطيار، فتجاوبت، وهبت الرياح على الأشجار فتمايلت، بين أنهار فيه قد شققت، ومياه فيها قد دفقت. فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فرفع رأسه، وكان مطرقاً، فقال: أبا زيد، انصات في هذا اليوم، مرحباً، فقلت:(28/330)
يا أمير المؤمنين، وقد قامت القيامة، فقال: على أهل المحبة سراً، والمراسلة خفياً، قد أكلوا النعيم، فمشمشوه، وأبسطوا التفكير فقاربوه، وفتقوا أكمام الطيب فمازجوه. ثم أطرق ملياً، ثم رفع رأسه، فقال: أبا زيد، ما يطيب في يومنا هذا؟ فقلت: قهوة حمراء، في زجاجة بيضاء، تناولنيها مقدودة هيفاء، كوماء كحلاء، أشربها من يدها، وأمسح فمي بفمها.
فأطرق عند ذلك ملياً تتحادر من عينيه عبرات متواليات بلا شهيق، فلما رأى الوصفاء ذلك تنحوا عنه، فقال: أبا زيد، حللت بيوم فيه انقضاء أجلك، وتصرم عمرك، لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك؟ أو لأضربن عنقك، فقد أبديت مني مكتوماً بوصفك، وأعلنت مني مستوراً بنعتك. فقلت: الأمان يا أمير المؤمنين، قال: لك ذلك فقل. فقلت: يا أمير المؤمنين، بينا أنا ذات يوم قاعد بباب سعيد بن عبد الملك إذا أنا بجارية قد خرجت من باب القصر تريد رحبته كالغزال الفالت من شبكة الصائد، وعليها ثوب سكب إسكندراني، يرى منه نور بدنها، وطي عكنها، ونقش تكتها، وتدوير سرتها. في رجلها نعل قد أشرق بياض قدمها على حمرة نعلها، تفرد ذؤابةً تضرب الحقو، وعينان مملوءتان سحراً، الغالب عليهما الفتور، بينهما أنف أقنى، كأنه قصبة در، فوقه حاجبان قد قوسا على محاجر عينيها، وطرة كالحمم على متن جبينها، وصدغان قد تعقربا، نونان على صحن خدها، وقفا كالعناقيد على سلتها. شغلني عن صفة فمها ذهاب عقلي، كأنه فم غلام قد تبرق شاربه، وهي تلون كلامها وتقول: عباد الله، ما الدواء لما لا يشتكى؟ والعلاج لما لا يسمى؟ دام الحجاب، وأبطأ الكتاب، والنفس محتبس، والروح مختلس، والنفس واهية، والأذن واعية. سلم الله على قوم عاشوا تجلداً، وماتوا كمداً.
فقلت: سماوية أم أرضية، أم جنية، أم إنسية؟ فقد انتهى جمال خلقك، وكمال عقلك، وحسن منطقك. فسترت وجهها بكمها، وقالت: اعذر أيها القاعد، فما أشد الوحشة بلا مساعد، والمقاساة لخصم معاند. غلب القضاء، وقل العزاء، وبرح الخفاء،(28/331)
والله شاهد على ما ترى، ورقيب على ما يخفى. ثم ولت مدبرةً. فوالله يا أمير المؤمنين ما أستحلي طيباً إلا غصصت به، ولا أرى حسناً إلا سمج في عيني لتشكيها.
فقال سليمان: كاد الجهل أن يستفزني، والصبا أن يعاودني بسحر ما رأيت، وحسن ما سمعت. أبا زيد، أتدري من تلك؟ هي الزلفاء، باعها أمير المؤمنين من أخيه بألف ألف درهم، وهي عائقة لمن باعها، وأمير المؤمنين عاشق لها. والله لا مات من يموت إلا بحسرتها، ولا يفارق الدنيا إلا بغصتها.
قم أبا زيد، واكتم المفاوضة. يا غلام، نعله. وأمر بإخراجه.
أبو زيد الدمشقي
حكى عن عمر بن عبد العزيز قال: لما ثقل عمر بن عبد العزيز دعي له طبيب، فلما نظر إليه قال: أرى الرجل قد سقي السم، ولا آمن عليه الموت. فرفع عمر بصره فقال: ولا تأمن الموت أيضاً على من لم يسق السم! قال الطبيب: هل حسست بذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قد عرفت حين وقع في بطني، قال: فتعالج يا أمير المؤمنين، فإني أخاف أن تذهب نفسك، قال: ربي خير مذهوب إليه؛ والله لو علمت أن شفائي عند شحمة أذني ما رفعت يدي إلى أذني فتناولته، اللهم خر لعمر في لقائك. قال: فلم يلبث إلا أياماً حتى مات رحمه الله.
أبو زيد الأعمى
وفد على هشام بن عبد الملك، وشهد وفاته.(28/332)
حرف السين
أبو الساكن
من أهل دمشق. له ذكر.
قال أبو مسهر: حدثنا هشام بن يحيى بن يحيى قال:
كان في مسجد دمشق رجل في عقله شيء يقال له: أبو الساكن، فمر على يحيى بن يحيى، فقال له: أنت ذو ميسرة، فمر لي بدرهمين، قال: كيف أصبحت؟ قال: بخير، قال: فلم تريد الدرهمين؟ قال: ويلي على عقلك! من أجل درهميك أقول لك إني بشر.
أبو سباع
روى عنه يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك أنه قال: اشتريت ناقةً من دار واثلة بن الأسقع، فلما خرجت أدركنا واثلة وهو يجر رداءه قال: يا عبد الله، اشتريت؟ قلت: نعم، قال: هل بين لك ما فيها؟ فإن بخفها نقباً. فذكر الحديث: من باع شيئاً فلا يحل له حتى يبين ما فيه، ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا أن يبينه.(28/333)
أبو سبرة النخعي
كوفي. سمع عمر حين كان بالشام.
حدث عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: يا رسول الله، ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل؟ فأذن لي في قتالهم، وأمرني، فلما خرجت من عنده سأل عني، فقال: ما فعل الغطيفي؟ فأخبر أني قد سرت، فأرسل في أثري، فردني، فأتيته وهو في نفر من أصحابه، فقال: ادع القوم، فمن أسلم فاقبل منه، ومن لم يسلم فلا تعجل حتى نحدث إليك. قال: وأنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل: يا رسول الله، وما سبأ، أرض أو امرأة؟ قال: ليس بأرض، ولا امرأة، ولكنه رجل من اليمن ولد عشرةً من العرب، فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا: فلخم، وجذام، وعاملة، وغسان. وأما الذين تيامنوا: فكندة، والأشعريون، وخثعم، وبجيلة، ومذحج وأنمار.
عن أبي سبرة النخعي.
أنه شهد عمر بن الخطاب حيث قدم الشام، فأتي بطعام، فأكل منه خبزاً ولحماً، ثم أتي بثوب كتان ليمسح يديه، فقال: إن هذا ثوب رجل من المسلمين! ثم غسل يديه، وصلى، ولم يتوضأ.
أبو سعد بن أبي فضالة الأنصاري
قيل إنه غير أبي سعد الزرقي عامر بن مسعود.
روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(28/334)
وقدم الشام، وشهد الفتوح بها.
وقال: اصطحبت أنا وسهيل بن عمرو إلى الشام حين ندب أبو بكر البعوث، فقال لي سهيل: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: مقام أحدكم في سبيل الله ساعةً خير له من عمله في أهله عمره. فأنا مقيم في سبيل الله حتى أموت، لا أرجع إلى مكة أبداً.
قال خليفة بن خياط: ومن الأنصار، ممن لم يحفظ لنا نسبه إلى أقصى آبائه: أبو سعد بن أبي فضالة. روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا جمع الله الأولين والآخرين.
قال ابن سعد في الطبقة الثانية: أبو سعد بن أبي فضالة. قال محمد بن عمر: أراه من الأنصار، وكانت له صحبة. روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث.
قال: وسئل علي بن المديني عن زياد بن ميناء، روى عن أبي سعد بن أبي فضالة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله أغنى الشركاء عن الشرك، فقال: إسناده صالح يقبله القلب، ورب إسناد ينكره القلب.
أبو سعد الحمصي
حدث عن أبي هريرة، وحكى عن واثلة بن الأسقع، ورآه بدمشق.
قال: سمعت أبا هريرة يقول:(28/335)
دعاء حفظته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أدعه: اللهم اجعلني أكثر ذكرك، وأعظم شكرك، واتبع نصيحتك، وأحفظ وصيتك.
عن أبي سعد قال: رأيت واثلة بن الأسقع يصلي في مسجد دمشق، فبزق تحت قدمه اليسرى على البواري، ثم عركها برجله، فقلت: تبزق في المسجد وأنت من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: هكذا رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل.(28/336)
ذكر من اسمه أبو سعيد
أبو سعيد المعيطي
مولاهم. كان ممن غزا مع مسلمة بن عبد الملك القسطنطينية.
روى عنه الوليد بن مسلم أن الناس أصابهم في حصار القسطنطينية شدة في عيشهم، وكان أهل القوة منهم يقوتون أنفسهم بخزيرة، وبقيتهم فيما لا يصفه واصف من أكل نوافق الدواب وأشباه ذلك، حتى إن قوماً أكلوا ميتاً لهم.
أبو سعيد بن حبيب بن المهلب
ابن أبي صفرة الأزدي ولي إمرة الأردن في خلافة السفاح.
قال أبو الخطاب الأزدي: لما وجه أبو العباس أبا جعفر إلى خراسان في أخذ البيعة على أبي مسلم بمرو دخل عليه أبو جعفر، فقام إليه أبو مسلم، فاعتنقه، وأقعده على الفراش، فالتفت إلي فقال: من هذا؟ قال: ابن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة. قال: نعم، أهل بيت شرف وعز وطاعة. قال: وخرج أبو جعفر.
وصرت بعد ذلك إلى العراق، فلما وقفت على أبي جعفر قال لي: يا أبا سعيد، أتذكر فعل العبد السوء بي، وسوء جواره؟! ثم تمثل: من الطويل
رويداً بذي الإجرام، إنّ ذنوبه ... ستوردده عمّا قليلٍ بمعطب(28/337)
أبو سعيد بن محمد
قدم دمشق من ناحية الفسطاط
أبو سعيد البجلي
من أهل دمشق.
روى عن علي بن عروة، عمن حدثه أن عمار بن ياسر صلى بقوم، فاستخفوا صلاته، فقال: والله ما انصرفت حتى دعوت بدعاء كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو ويقول: إنه لم يدعه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا عبد صالح إلا كرم بدعائه: اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضى، والفضل في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وبرد العيش بعد الموت، وأسألك النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
أبو سعيد الصوفي
حكى عن أبي عمر الدمشقي الصوفي. قال: سمعت أبا عمر الدمشقي يقول: من غلب عليه إحسان الصانع يستحسن صنعته.(28/338)
ذكر من اسمه أبو سفيان
أبو سفيان بن أبي بكر بن يزيد
ابن معاوية بن أبي سفيان القرشي الأموي من ساكني صهبا من إقليم باناس. له ذكر في كتاب أحمد بن حميد بن أبي العجائز.
وأمه أم أبان بنت خالد بن عمرو بن عثمان بن عفان. قاله الأبيوردي.
أبو سفيان بن خالد بن يزيد
ابن معاوية بن أبي سفيان الأموي أمه أم ولد. ذكره أبو المظفر النسابة وغيره.
أبو سفيان بن عبد الله الأموي
ابن أبي سفيان ابن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي من أهل سميس من إقليم بيت الأبيات من الغوطة.
ذكره أحمد بن حميد في تسمية من كان بدمشق وغوطتها من بني أمية.
أبو سفيان بن عبد الله بن يزيد
ابن معاوية ابن أبي سفيان الأموي جد المذكور آنفاً. أمه أم عثمان بنت سعيد بن العاص.(28/339)
أبو سفيان بن عتبة بن ربيعة القرشي
روى عنه حريز بن عثمان قال: دخلت على معاوية وهو يحبو على أربعة، وصبي على ظهره، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من كان له صبي فليتصابى له.
لم أجد ذكره إلا من هذا الوجه.
أبو سفيان بن عتبة الأعور
ابن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي ذكره أبو المظفر النسابة.
أبو سفيان بن يزيد بن عبد الملك
ابن مروان الأموي أمه أم ولد. له ذكر.
أبو سفيان بن يزيد بن معاوية
ابن أبي سفيان الأموي أمه أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة. وهي أم أخويه: خالد ومعاوية.
أبو سفيان القيني
من حرس عمر بن عبد العزيز. حكى عن عمر.
روى عنه عثمان بن حصين بن عبيدة بن علاق فقال: حدثنا أبو سفيان القيني قال: كنت في حرس عمر بن عبد العزيز، فكان على كل رجل منا موكل به إذا أبطأ عمر(28/340)
آذنه، فأبطأ في يوم جمعة، فقال لي المؤذن: آذنه. فدخلت، فوجدته يعتم على مرآة، فقلت: إن المؤذن قد استبطأك، قال: نعم، حبستني هذه العمامة، أصلح خروقاً فيها وأداريها.
قال: وكان عمر رجلاً مقروراً، فقال لغلامه في الشتاء: سخن لي الماء أتوضأ به. فأقام بذلك مدة، ثم قال له عمر: إني لا أدعوك بالماء إلا وجدته عندك سخناً، فأنى ذلك؟ فقال: يطبخ للعامة من الحرس وغيرهم، فيفضل الجمر، فأجعله عليه، ثم أطمره لك. قال: فكم لذلك؟ احتط وزد، قال: شهران.
قال: فأمر بنفقة، فجعلت في بيت المال لموضع ما انتفع به من ذلك الجمر.
حرف السين
أبو سلمة الصنعاني
أظنه من صنعاء دمشق.
حدث عن كعب، وأظنه لم يلقه.
روى عنه إسماعيل بن عياش أن كعباً كان يقول: قلة المنطق حكم عظيم، فعليكم بالصمت، فإنه زعة حسنة، وقلة وزر، وخفة من الذنوب.
أبو سلمى راعي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يقال: إن اسمه حريث. خدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو سلام ممطور الحبشي: حدثني أبو سلمى راعي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
بخ، بخ لخمس! ما أثقلهن في الميزان، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله،(28/341)
والله أكبر، والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم فيحتسبه.
عن أبي سلام قال: كنا قعوداً في مسجد حمص، إذ مر رجل، فقالوا: هذا خدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فنهضت، فسألته، فقلت: حدثنا بما سمعت من سرول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يتداوله الرجال فيما بينكما، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما من عبد مسلم يقول ثلاث مرات حين يمسي أو يصبح: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً إلا كان حقاً على الله أن يرضيه يوم القيامة.
قال محمود بن سميع في الطبقة الأولى: وأبو سلمى راعي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حمصي.
أبو سليمان الحرستاني
ويقال: الخراساني روى عنه مطر بن العلاء الفزاري قال: وكان والدي مع أنس بن مالك بنيسابور إذ كان عليها والياً أميراً، فتوفي والدي، وجعل وصيته إلى أنس بن مالك، وقد احتلمت، فدفع إلي ما ترك أبي، فسمعته يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قال حين يصح وحين يمسي أربع مرات: اللهم إني أشهدك، وأشهد ملائكتك، وحملة عرشك، وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك أربعاً غدوةً وأربعاً عشية ثم مات دخل الجنة.
أبو سليمان القرشي العامري البسري
من ولد بسر بن أبي أرطاة.
حدث عن غير واحد من كبراء أهل بيته أن راية بسر بن أبي أرطاة كانت بيضاء مربعة قدر ذراع في ذراع، محفوفة بسواد، مضافة إلى رمحها، إذا نظرت إليها قلت: هذه كوة سوداء.(28/342)
أبو سليمان العنسي
من أصحاب الأوزاعي. ويغلب على ظني أنه أبو سليمان الداراني، فإن كان هو فاسمه عبد الرحمن بن أحمد بن عطية.
أبو سهل ويقال أبو سهيل الأسود
مولى مروان بن الحكم وحاجبه. كان يأذن عليه.
أبو سيار
ولاه عمر بن عبد العزيز بعض جباية الصدقات.
قال: ولاني عمر بن عبد العزيز صدقةً، فقلت: إلى من أدفعها يا أمير المؤمنين؟ قال: إلى من مد يده إليها، فإن كان غنياً عنها فأحوجه الله إليها، وإن كان محتاجاً إليها فأغناه الله عنها.
أم سعيد بنت سعيد بن عثمان
ابن عفان ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموية لها ذكر.
قال أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي: أنا عمر بن شبة، أخبرني الطائي قال: قال القاسم بن معن: كانت أم سعيد بنت سعيد بن عثمان بن عفان عند هشام بن عبد الملك، ثم طلقها، فندم على طلاقها، فتزوجها العباس بن الوليد بن عبد الملك، ثم طلقها، وندم على(28/343)
طلاقها، فتزوجها عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فدس إليها العباس أشعب بأبيات قالها، وقال له: إن أنشدتها إياها فلك ألف دينار.
قال: فأتاها، فأنشدها، فقالت له: دسك العباس، وجعل لك ألف دينار، فأخبره عني ولك ألف دينار. ثم قالت: وما قال؟ فقال: قال: من الوافر
أسعدة هل إليك لنا سبيلٌ ... ولا حتّى القيامة من تلاق
فقالت: إن شاء الله، فقال:
بلى ولعلّ دارك أن تواتي ... بموتٍ من حليلك أو فراك
قالت: بفيك الحجر، قال:
فأرجع شامتاً وتقرّ عيني ... ويجمع شملنا بعد انشقاق
قالت: بل يشمت بك إن شاء الله.
أم سعيد
جدة الوزير ابن مسافر الجرشي.
روى عنها الوزير ابن مسافر.
ذكرها ابن سميع في الطبقة الثانية.(28/344)
أم سعيد
أمة شاعرة حجازية. اشتراها الوليد بن يزيد وحملت إليه.
قال يحيى بن عروة بن الزبير: كتب الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان إلى عامل المدينة: أشخص إلي معبداً والأحوص وأمرهما أن يسيرا سيراً رفيقاً، وإذا مرا على موضع يستطيبانه أقاما فيه حتى يقدما علي مسرورين جذلين.
فسارا على ما وصف حتى صارا إلى قف معان بالبلقاء، وعليه قصر لبعض بني أمية، فجلسا في روضة خضراء عند واد أفيح، بإزاء القصر، فخرجت جارية من القصر بيدها جرة، فملأتها من الغدير، ثم صعدت وتغنت بشعر الأحوص، ثم طربت وكسرت الجرة. فدعاها الأحوص، فسألها عن شأنها، فقالت: كنت لآل الوحيد بمكة، فاشتراني هذا القرشي، فآثرني على جميع الناس، وأكرمني غاية الإكرام حتى قدم بي على امرأته، وهي ابنة عمه، فأنكرت ما رأت من خصوصيته إياي، وحلفت ألا ترضى إلا أن يدخلني في جملة الخوادم، ويلزمني أن أستقي كل يوم ثلاث جرار من هذا الغدير. ثم أنشأت تقول: من الخفيف
إن تروني الغداة أسعى بجرٍّ ... أستقي الماء عند هذا الغدير
فلقد عشت في رخاء من العي ... ش وفي كل نعمةٍ وسرور
فأنشأ الأحوص يقول: من الخفيف
إنّ زين الغدير من كسر الجر ... ر وغنّى غناء فحلٍ مجيد
قلت من أنت يا ظريفة قالت ... كنت فيما مضى لآل الوحيد
ثم قد صرت بعد ملك قريشٍ ... في بني عامرٍ لآل الوليد
فغنائي لمعبدٍ ونشيدي ... لفتى الناس الأحوص الصّنديد(28/345)
فتضاحكت ثم قلت أنا الأح ... وص والشيخ معبدٌ فأعيدي
فأعادت وأحسنت ثم ولّت ... تتثنّى فقلت أمّ سعيد
يعجز المال عن شراك ولكن ... أنت في ذمّة الإمام الوليد
فلما قدم على الوليد بن يزيد كان أول شعر غناه معبد شعر الأحوص. فقال له الوليد: من قال هذا الشعر؟ ومتى صغت اللحن فيه؟ فحدثه حديث الجارية، فوجه، فاشتريت له بأرفع ثمن.
/(28/346)
أم سلمة بنت يعقوب بن سلمة ابن عبد الله بن الوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، القرشية المخزومية كانت تحت عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، ثم خلف عليها مسلمة بن هشام بن عبد الملك، ثم تزوجها أبو العباس السفاح.
لما وجه الوليد بن يزيد بن العباس بن الوليد لإحصاء ما في خزائن هشام، أمره ألا يعرض لمسلمة بن هشام؛ لأنه كان يكف أباه عن الوليد، وكان مسلمة يشرب، فلما قدم العباس كتبت إليه أم سلمة: إن مسلمة ما يفيق من الشراب، ولا يهتم بشيء مما فيه إخوته، ولا لموت أبيه. فلما راح مسلمة إلى العباس قال له: يا مسلمة، كان أبوك يرشحك للخلافة، ونحن نرجوك لغير ما بلغني عنك! وأنبه وعاتبه على الشراب، فأنكر مسلمة ذلك، وقال: من أخبرك بهذا؟ قال: كتبت إلي أم سلمة. فطلقها في ذلك المجلس، فخرجت إلى فلسطين، وبها كانت تنزل، فتزوجها أبو العباس السفاح هناك.
لما خرجت مع جواريها وحشمها متبدية نحو الشراة، فبينا هي جالسة ذات يوم، مر بها أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وهو يومئذ عزب، فأرسلت إليه مولاةً لها تعرض عليه أن يتزوجها، فأبلغته الجارية السلام، وأدت إليه الرسالة. فقال: أبلغيها السلام وأخبريها برغبتي فيها، وقولي لها: لو كان عندي من المال ما أرضاه لك فعلت. فقالت لها: قولي له: هذه سبع مئة دينار أبعث بها إليك وكان لها(29/5)
مال عظيم، وجوهر وحشم كثير فأتته المرأة، فعرضت ذلك عليه فأنعم لها، فدفعت إليه المال، فخطبها من أخيها، فزوجها إياه، فأرسل إليها بصداقها خمس مئة دينار، وأهدى إليها مئتين دينار، ودخل عليها.
دخل خالد بن صفوان التميمي على أبي العباس، وليس عنده أحد، فقال: يا أمير المؤمنين، ما زلت مذ قلدك الله الخلافة، أطلب أن أصير إلى مثل هذا الموقف في الخلوة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإمساك الباب حتى أفرغ فعل. فأمر بذلك. فقال: يا أمير المؤمنين، إني فكرت في أمرك، وأجلت الفكر فيك، فلم أر أحداً له مثل ما قلدك أقل اتساعاً بالاستمتاع بالنساء منك، ولا أضيق فيهن عيشاً، إنك ملكت نفسك امرأة من نساء العالمين، واقتصرت عليها، فإن مرضت مرضت، وإن غابت غبت، وإن عركت عركت، وحرمت نفسك من التلذذ باستطراف الجواري، وبمعرفة اختلاف أحوالهن، والتلذذ بما يشتهى منهن. إن منهن الطويلة التي تشتهى لحسنها، والبيضاء التي تحب لروعتها، والسمراء اللعساء، والصفراء العجزاء، ومولدات المدينة والطائف واليمامة، ذوات الألسن العذبة، والجواب الحاضر، وبنات سائر الملوك، وما يشتهى من نظافتهن، وحسن أنسهن. وأطنب في صفات ضروب الجواري، وشوقه إليهن. فلما فرغ خالد قال: ويحك، ما سلك مسامعي كلام قط أحسن من هذا، أعده علي. فأعاد خالد كلامه بأحسن مما ابتدأه. فقال له: انصرف. وبقي أبو العباس متفكراً يقسم أمره، فبينا هو يفكر إذ دخلت عليه أم سلمة وكان أبو العباس حلف ألا يتخذ عليها ووفى لها فلما رأته مفكراً متغيراً قالت له: هل حدث أمر تكرهه، أو أتاك خبر ارتعت له؟ قال: لا، والحمد لله. ولم تزل تستخبره حتى أخبرها بمقالة خالد. قالت: فما قلت لابن الفاعلة؟!(29/6)
فقال لها: ينصحني وتشتمينه! فخرجت إلى مواليها من البخارية فأمرتهم بضرب خالد. قال خالد: فخرجت مسروراً بما ألقيت إلى أمير المؤمنين، ولم أشك في الصلة، فأنا واقف مع الصحابة وقد أقبلت البخارية تسأل عني، فحققت الجائزة والصلة فقلت: ها أنذا. فاستبق إلي أحدهم بخشبة، فلما أهوى إلي، غمزت برذوني، ولحقني، فضرب كفله، وتعادى إلي الباقون، وأسرع برذوني ففتهم، واستخفيت في منزلي أياماً، ووقع لي أني أتيت من قبل أم سلمة. فطلبني أبو العباس فلم يجدني، فهجموا علي وقالوا: أجب أمير المؤمنين. فسبق إلي قلبي أنه الموت، وقلت: لم أر دم شيخ أضيع! فركبت إليه وأذن لي. فقال: لم أرك. فأصبته خالياً فرجع إلي عقلي، ونظرت في المجلس، وبيت عليه ستور رقاق. فقال: يا خالد، لم أرك. فقلت: كنت عليلاً. قال: إنك وصفت لي في آخر دخلة دخلتها من أمور النساء والجواري ما لم أسمع أحسن منه فأعده علي. قال: وسمعت حساً خلف الستر فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمتك أن العرب إنما اشتقت اسم الضرتين من الضر، وأن أحداً لم يكن عنده من النساء أكثر من واحدة إلا كان في ضر وتنغيص. قال له أبو العباس: لم يكن هذا في الحديث! قال: بلى يا أمير المؤمنين. قال: فأنسيت إذاً، فأتمم الحديث! قال: وأخبرتك أن الثلاث من النساء كأثافي القدر يغلي عليهن. قال: برئت من قرابتي من رسول الله إن كنت سمعت هذا في حديثك. قال: وأخبرتك أن الأربع من النساء شر مجموع لصاحبه، يشيبنه ويهرمنه ويحقرنه. قال: لا والله. قلت: بلى والله. قال: أفتكذبني؟! قلت: أفتقتلني؟! نعم يا أمير المؤمنين، وأخبرتك أن أبكار الإماء رجال إلا أنهن ليست لهن خصي. قال خالد: فسمعت ضحكاً من خلف الستر. قلت: نعم، وأخبرتك أن عندك ريحانة قريش، وأنك تطمح بعينيك إلى النساء والجواري. فقيل لي من وراء الستر: صدقت والله يا عماه، بهذا حدثته، ولكنه غير حديثك، ونطق عن لسانك. فقال أبو العباس: مالك قاتلك الله؟ قال: وانسللت. فبعثت إلي أم سلمة بعشرة آلاف درهم، وبرذون وتخت.(29/7)
أم سنان بنت خيثمة بن خرشة المذحجية
من أهل المدينة، شاعرة، وفدت على معاوية متظلمة من عامله على المدينة. حبس مروان بن الحكم غلاماً من بني ليث في جناية جناها بالمدينة، فأتته جدة الغلام أم أبيه، وهي أم سنان بنت خيثمة، فكلمته فيه، فزبرها وأغلظ لها، فخرجت إلى معاوية، فقال: يا بنة خيثمة، ما أقدمك أرضي وعهدتك تشنئين قربي وتحضين علي عدوي؟ قالت: يا أمير المؤمنين. إن لبني عبد مناف أخلاقاً ظاهرة، وأعلاماً ظاهرة لا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم، ولا يتعقبون بعد عفو، وإن أولى الناس باتباع سنن آبائه لأنت. قال: صدقت، نحن كذلك، فكيف قولك: من الكامل
عزب الرقاد فمقلتي ما ترقد ... والليل يصدر بالهموم ويورد
يا آل مذحج لا مقام فشمروا ... إن العدو لآل أحمد يقصد
هذا علي كالهلال تحفه ... وسط السماء من الكواكب أسعد
خير الخلائف وابن عم محمدٍ ... وكفى بذلك في العدو تهدد
ما زال مذ عرف الحروب مظفراً ... والنضر فوق لوائه ما يفقد
قالت: قد كان يا أمير المؤمنين ذلك، وإنا لنطمع بك خلفاً. قال رجل من جلسائه: كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة: من الكامل
إما هلكت أبا الحسين فلم تزل ... بالحق تعرف هادياً مهديا
فاذهب عليك صلاة ربك ما دعت ... فوق الغصون حمامة قمريا
قد كنت بعد محمد خلفاً لنا ... أوصى إليك بنا فكنت وفيا(29/8)
فاليوم لا خلف نؤمل بعده ... هيهات نمدح بعده إنسيا
قالت: يا أمير المؤمنين، لسان نطق، وقول صدق، ولئن تحقق فيك ما ظننا، فحظك أوفر، والله ما أورثك الشناءة في قلوب المسلمين إلا هؤلاء، فادحض مقالتهم وأبعد منزلتهم، فإنك إن فعلت ازددت بذلك من الله قرباً، ومن المسلمين حباً، قال: إنك لتقولين ذلك؟! قالت: سبحان الله! والله ما مثلك مدح بباطل، ولا اعتذر إليه بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا، كان والله علي أحب إلينا منك إذ كان حياً، وأنت أحب إلينا من غيرك إذ أنت باقٍ. قال: ممن؟ قالت: من مروان بن الحكم وسعيد بن العاص. قال: وبم استحققت ذلك عليهما؟ قالت: بحسن حلمك وكرم عفوك. قال: وإنهما ليطمعان في ذلك؟ قالت: هما والله لك من الرأي على مثل ما كنت عليه لعثمان. قال: والله لقد قاربت، فما حاجتك؟ قالت: إن مروان بن الحكم تبنك بالمدينة تبنك من لا يريد البراح منها، لا يحكم بعدل، ولا يقضي بسنة، يتبع عثرات المسلمين، ويكشف عورات المؤمنين، حبس ابن ابني، فأتيته فقال كيت وكيت، فألقمته أخشن من الحجر، وألعقته أمر من الصاب والصبر، ثم رجعت إلى نفسي بالائمة، وأتيتك يا أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظراً، وعليه معدياً. قال: صدقت، لا أسألك عن ذنبه، ولا أسألك القيام بحجته، اكتبوا لها بإخراجه. قالت: يا أمير المؤمنين، وأنى لي بالرجعة وقد نفد زادي، وكلت راحلتي. فأمر لها براحلة موطأة، وخمسة آلاف درهم.(29/9)
حرف الشين المعجمة
أبو شبيب
أحد الصلحاء من غوطة دمشق. حدث عمر وأبو محمد المعيوفي رحمهما الله أنهما حضرا أبا شبيب رحمه الله وكان ولياً من أولياء الله فقال لهما: نفسي تطالبني منذ ثلاثين سنة بشيء من الفريك، فلما كان في هذا اليوم أطعمتها إياه. فقلنا له: نحب أن تطعمنا منه. قال: قوموا إلى تلك القلنسوة ففيها شيء منه. قال: فقمت إلى القلنسوة فجئت بها وفيها شيء من بزر الخبيز قد فركه ونقاه. قالا: فأكلنا، فما علمنا أنا طعمنا شيئاً قط ألذ منه، كأنه قد جمع فيه طعم كل شيء طيب. قال أبو شبيب: كنا عند أبي موسى الساوي فمر له كلام حسن، فقال في آخره: أستغفر الله، إن كنا صادقين فإنا حمقى، وإن كنا كاذبين فإنا هلكى.
أبو شعيب الحضرمي ويقال أبو الأشعث
حدث عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا تغوط أحدكم فليستنج بثلاثة أحجار، فإن ذلك كافيه ". قال المصنف: أظنه شهد الجابية مع عمر.
قال عمر بن الخطاب لكعب في فتح القدس: أين ترى أن أصلي؟ فقال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، فكانت القدس(29/10)
كلها بين يديك يعني المسجد الحرام فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به فتقدم إلى القبلة فصلى، ثم جاء فبسط رداءه فكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس. حدث أبو شعيب
أن عمر بن الخطاب كان بالجابية، فقدم خالد بن الوليد إلى بيت المقدس، فقالوا: ما اسمك؟ قال: خالد بن الوليد. قالوا: ما اسم صاحبك؟ قال: عمر بن الخطاب. قالوا: انعته لنا. فنعته. قالوا: أما أنت فلست تفتحها، ولكن عمر، فإنا نجد في الكتاب كل مدينة تفتح قبل الأخرى، وكل رجل يفتحها نعته، وإنا نجد في الكتاب أن قيسارية تفتح قبل بيت المقدس فاذهبوا فافتحوها، ثم تعالوا بصاحبكم. فكتب خالد إلى عمر بذلك، فشاور الناس. فقال: إنهم أصحاب كتاب، وعندهم علم، فما ترون؟ فذهبوا إلى قيسارية ففتحوها، وجاؤوا إلى بيت المقدس فصالحهم، فدخل عليهم وعليه قميصان سنبلاويان؛ فصلى عند كنيسة مريم، ثم بزق في أحد قميصيه. فقيل له: ابزق فيها، فإنه يشرك فيها بالله، فقال: إن كان يشرك فيها بالله، فإنه يذكر الله فيها كثيراً. ثم قال: لقد كان عمر غنياً أن يصلي عند وادي جهنم.(29/11)
أبو شمر بن أبرهة بن الصباح
أخو كريب بن أبرهة روي أن عبد الله بن سعد غزا الأساودة سنة إحدى وثلاثين، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فأصيبت يومئذٍ عين معاوية بن حديج، وأبي شمر بن أبرهة وحيويل بن ناشرة الكنعي، فسموا رماة الحدق، فهادنهم عبد الله بن سعد إذ لم يطقهم. فقال الشاعر من الرجز:
لم تر عيني مثل يوم دمقله ... والخيل تعدو بالدروع مثقلة
خرج ابن أبي حذيفة من مصر، واستخلف، وخرج معه قتلة عثمان بأعيانهم، فقذفهم معاوية في سجن له، فكسروا السجن وخرجوا، وأبى أبو شمر أن يخرج من السجن وقال: لا أكون دخلته أسيراً وأخرج منه آبقاً، فأقام في السجن. وجعل معاوية جعلاً لمن يأتيه برؤوسهم، فقتل ابن حذيفة وأصحابه. وقيل: إن أبا شمر قتل مع معاوية بصفين
أبو شيبان العبسي
ويقال: مولى بسر بن أرطاة. والد إبراهيم بن أبي شيبان قال أبو شيبان: دخلت على معاوية وعنده عسان من لبن اللقاح. فقال: اشرب من أيهما شئت: أما هذا فمخيض وأما هذا فبعسل، أما الذي بالعسل فيه كنا نستمشي إذ كنا بالحجاز.(29/12)
أبو شيبة الخدري صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
غزا القسطنطينية مع يزيد بن معاوية. حدث أبو شيبة قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ". زاد في رواية: " مخلصاً ". وفي أخرى: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ". حدث مشرس عن أبيه قال: بينا نحن وقوف على القسطنطينية إذ هتف أبو شيبة، فقال: يا أيها الناس، فأقبلت إليه ومعي ناس كثير، فإذا نحن برجل متقنع على دابته، وهو يقول: يا أيها الناس، من كان يعرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو شيبة الخدري؛ صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً وجبت له الجنة "، فاعملوا ولا تتكلوا. ومات فدفناه مكانه.
أبو شيبة من أصحاب عمر بن عبد العزيز
قال أبو شيبة: إني لمع عمر بن عبد العزيز في دير سمعان في مجلس يرى منه الطريق، فتبين لي(29/13)
الغضب في وجهه، فأمسكت عن حديثه حتى صعد إلينا كاتبه الليث بن أبي رقية. فقال: يا ليث، يحضر معك رجل من المسلمين، وأنت ترفع دابتك لا تقف عليه تسأله عن حاجته؟ قال: ما فعلته في عسكرك إلا مرة، وما عجلت إلا إليك مخافة أن تسألني عن شيء من أمر المسلمين. قال: لئن عدت لم تصحبني.(29/14)
حرف الصاد المهملة
أبو صالح الأشعري
حدث عن أبي أمامة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الحمى كير من جهنم، ما أصاب المؤمن منها كان حظه من النار ". وحدث أبو صالح عن أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه عاد مريضاً، ومعه أبو هريرة، من وعك كان به زاد في روايةٍ فقبض على يده، فوضع يده على جبهته وكان يرى ذلك من تمام عيادة المريض فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبشر، إن الله يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار ". وعن إسماعيل بن عبيد الله قال: مرضت فعادني أبو صالح الأشعري، فحدثني عن كعب الأحبار قال: الحمى كير من النار يبعثها الله على عبده المؤمن في الدنيا، فتكون حظه من نار جهنم. قال أبو صالح: أتيت بيت المقدس، فلقيت أبا ريحانة. فذكرت الحجاج فصليت عليه. فقال لي: هلكت أبا صالح ثلاثاً إني لأجد في بعض ما أنزل من الكتب، الأبتر، القصير؛ قصيره صاحب العراقين، مبدل السنة غير السنة، والملة غير الملة، يلعنه أهل السماء وأهل الأرض، ويل له وويل لمن أحبه.(29/15)
أبو صالح المتعبد الدمشقي
الذي ينتسب إليه المسجد خارج الباب الشرقي. قال أبو صالح: كنت أدور في جبل اللكام أطلب الزهاد، فرأيت رجلاً عليه مرقعة جالساً على حجر، مطرقاً إلى الأرض. فقلت له: يا شيخ، ما تصنع ها هنا؟ قال: أنظر وأرعى. فقلت له: ما أرى بين يديك إلا الحجارة، فما الذي تنظر وترعى؟ قال: فتغير لونه، ثم نظر إلي مغاضباً وقال: أنظر خواطر قلبي، وأرعى أوامر ربي، وبحق الذي أظهرك علي إلا جزت عني. فقلت له: كلمني بشيء أنتفع به حتى أمضي. فقال: من لزم الباب أثبت في الخدم، ومن أكثر ذكر الذنوب أكثر الندم، ومن استغنى بالله أمن العدم. ثم تركني ومضى. وقال أبو صالح: الدنيا حرام على القلوب، حلال على النفوس، لأن كل شيء يحل لك أن تنظر إليه بعين رأسك، فيحرم عليك أن تنظر إليه بعين قلبك. وقال: البدن لباس القلب والقلب لباس الفؤاد، والفؤاد لباس الضمير، والضمير لباس السر، والسر لباس المعرفة. قال أبو صالح: أقمت ستة أيام أو سبعة لم آكل ولم أشرب، ولحقني عطش عظيم، فخرجت إلى النهر الذي من وراء المسجد، وقعدت أنظر إلى الماء، فخطر بقلبي قوله عز وجل " وكان عرشه على الماء "، فذهب ما بي من العطش، انصرفت، فأقمت تمام عشرة أيام.(29/16)
قال أبو صالح مفلح بن عبد الله: أقمت أربعين يوماً ما شربت، فلما مضى أربعون يوماً أخذ بيدي الشيخ أبو بكر محمد بن سيد بن حمدويه، وحملني إلى بيته، فأخرج لي ماء، وقال: اشرب، فشربت، فحكت امرأته أنه قال لها: اشربي فضلة رجل له أربعون يوماً ما شرب ماءً. قال أبو صالح: وما اطلع أحد على تركي لشرب الماء أحد إلا الله. جاء رجل إلى أبي صالح فقبل رأسه وقال: كان لي كيس فيه أربع مئة درهم ففقدته، ولم يفتح لي دكان. فقال: توضأ وصل ركعتين، فإن الله يرد عليك الكيس، فتوضأ، ودخل المسجد إلى الموضع الذي رسمه له الشيخ، فصلى ركعة، فلما قام إلى الثانية قطع الصلاة، ومضى يعدو. فقال الشيخ: قد رد عليه الكيس إلا أنه ما أتم الصلاة. فغاب ساعة ورجع، فجاء إلى الشيخ فقبل رأسه وقال: إلى الله، وإليك المعذرة، وذكرت أني كنت طمرته في زنبيل الملح، وكنت قبل أن أجيك أخرجت زنبيل الملح على باب الدكان، فخشيت أن يجيء إنسان فيأخذه. فقال له الشيخ: امض، فتمم الصلاة. توفي أبو صالح سنة ثلاثين وثلاث مئة.
أبو صفوان بن علقمة الرعيني
أحد الزهاد.
قال أبو صفوان: شهدت عمرو بن عبيد ويونس بن عبيد يتناظران في المسجد الحرام في قول الله عز(29/17)
وجل " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " فقالا: قالت عائشة رضي الله عنها: كل روعة تمر بقلب ابن آدم، يخوف من شيء لا يحل به، فهو كفارة لكل ذنب هم به فلم يفعله. قال أبو سليمان الداراني لأبي صفوان: أي شيء أول حدود الزهد؟ فقال أبو صفوان: استصغار الدنيا. فقال له أبو سليمان: إذا كان هذا أوله، فأي شيء يكون أوسطه، وأي شيء يكون آخره؟ قال له أبو صفوان: إن زهد في شيء من الدنيا ثم تمنعه بعد نفسه. فإذا بلغ الغاية استصغر الدنيا. ونقل عن جماعة: أن أول الزهد إخراج قدرها من القلب، وآخره خروج قدرها حتى لا يقوم لها في القلب قدر، ولا يخطر بباله رغبة فيها، ولا زهد فيها، لأن الرغبة والزهد لا يكونان إلا فيما قام قدره في القلب. قال ابن أبي الحواري: قلت لأبي صفوان: أيهما أحب إليك: يجوع ويجلس يتفكر، أو يأكل ويقوم يصلي؟ قال: يأكل ويقوم يصلي ويتفكر في صلاته أحب إلي. قال: فحدثت به مروان، فأعجبه. وحدثت به أبا سليمان فقال: صدق أبو صفوان، التفكير في الصلاة خير منه في غير صلاة، لأنه في الصلاة عملان، وهو في غير الصلاة عمل، وعملان أفضل من عمل واحد. فحدثت به بشر بن السري، فأخذ حصاة من المسجد الحرام بمنزلة القمح فقال: لئن أنال من الجوع الذي وصفت مثل هذه أحب إلي من طواف الطائفين، وصلاة المصلين، وحج الحاجين، وغزو الغازين. قال ابن أبي الحواري: قلت لأبي صفوان: الدنيا التي ذمها الله في القرآن ينبغي للعاقل أن يتجنبها. قال:(29/18)
كلما عملت في الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أصبت منها تريد به الآخرة فليس منها. فحدثت بها مروان فقال: الفقه على ما قال أبو صفوان.
قال ابن أبي الحواري: قلت لأبي صفوان: إن نفسي تنازعني الصمت. قال: إن كنت صادقاً فتكلم فيما يعنيك، ودع ما لا يعنيك.(29/19)
حرف الطاء المهملة
أبو طالب عبد مناف
وقيل شيبة بن عبد المطلب، شيبة الحمل بن هاشم، واسمه عمرو بن عبد مناف بن قصي عم سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قيل: إنه أسلم. قال المصنف: ولا يصح إسلامه.
قدم بصري مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحكى عنه. روى علي قال: سمعت أبا طالب يقول: حدثني محمد بن أخي وكان والله صدوقاً قال: قلت له: بما بعثت يا محمد؟ قال: بصلة الأرحام، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. وقال أبو طالب: حدثني محمد أن الله أمره بصلة الأرحام، وأن نعبد الله وحده، ولا نعبد معه أحداً، ومحمد عندي الصدوق الأمين. قال أبو طالب: كنت بذي المجاز مع ابن أخي يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأدركني العطش، فشكوت إليه(29/20)
فقلت: يا ابن أخي قد عطشت، وما قلت له ذلك وأنا أرى عنده شيئاً إلا الجزع قال: فثنى وركه ثم نزل فقال: يا عم، أعطشت؟ قال: قلت: نعم. قال: فأهوى بعقبه إلى الأرض، فإذا أنا بالماء، فقال: اشرب يا عم. قال: فشربت. وفي آخر قال: أرويت يا عم؟ قلت: نعم. وكان سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجر عمه أبي طالب بعد جده عبد المطلب، وإلى أبي طالب أوصى عبد المطلب برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال أبو طالب حين توجه إلى بصرى: من الطويل
بكى طرباً لما رآنا محمد ... كأن لا يراني راجعاً لمعاد
فبت يجافيني تهلل دمعه ... وقربته من مضجعي ووسادي
فقلت له قرب قعودك وارتحل ... ولا تخش مني جفوة ببلادي
وخل زمان العيس وارتحلن بنا ... على عزمة من أمرنا ورشاد
ورح رائحاً في الراشدين مشيعاً ... لذي رحمٍ في القوم غير معاد
فرحنا مع العير التي راح ركبها ... يؤمون من غوري أرض إياد
وحتى رأوا أخبار كل مدينة ... سجوداً له من عصبة وفراد
فما رجعوا حتى رأوا من محمد ... أحاديث تجلو غم كل فؤاد
زبيراً وتماماً وقد كلن شاهداً ... دريساً وهموا كلهم بفساد
فقال لهم قولاً بحيراً وأيقنوا ... له بعد تكذيب وطول تعاد(29/21)
كما قال للرهط الذين تهودوا ... وجاهدهم في الله كل جهاد
فقال ولم يملك له النصح: رده ... فإن له أرصاد كل مضاد
فإني أخاف الحاسدين وإنه ... أخو الكتب مكتوب بكل مداد
قالوا: ولم يكن أحد يسود في الجاهلية إلا بمال إلا أبو طالب، وعتبة بن ربيعة. وقيل لتأبط شراً: أخبرنا عن أشراف العرب فقال: أفعل، سيد قريش ذو مالها، وإنما يسود في قريش ذو المال بالفعال. قال عمر بن الخطاب: إذا كان هذا المال في قريش فاض، وإذا كان في غيرها غاض. وكانت بيده السقاية، ثم أسلمها إلى العباس بن عبد المطلب، وكان نديمه مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس. وكان مسافر قد حبن، فخرج ليتداوى بالحيرة، فمات بهبالة. فقال أبو طالب يرثيه: من الخفيف
ليت شعري مسافر ابن أبي عم ... رو، وليت يقولها المحزون
كيف كانت مذاقة الموت إذ ... مت، وماذا بعد الممات يكون؟
رحل الركب قافلين إلينا ... وخليلي في مرمس مدفون
بورك الميت الغريب كما بو ... رك نضر الريحان والزيتون
ميت رزء على هبالة قد حا ... لت فياف من دونه وحزون
مدره يدفع الخصوم بأيدٍ ... وبوجه يزينه العرنين
كم خليل وصاحب وابن عمٍ ... وحميم قفت عليه المنون
فتعزيت بالجلادة والصب ... ر، وإني بصاحبي لضنين(29/22)
كل من كان بالأباطح والجل ... س عليه من شيبه توشين
أصبحوا بعده كدابغة اله ... ناء منها معين وعطين
ولما هلك مسافر نادم أبو طالب عمرو بن عبد بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤي. ولذلك قال عمرو بن عبد لعلي بن أبي طالب يوم الخندق حين دعاه إلى البراز: إن أباك كان لي صديقاً. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بعثت ولي أربع عمومة، فأما العباس فيكنى بأبي الفضل، ولولده الفضل إلى يوم القيامة، وأما حمزة فيكنى بأبي يعلى، فأعلى الله قدره في الدنيا والآخرة، وأما عبد العزى فيكنى بأبي لهب، فأدخله الله النار وألهبها عليه، وأما عبد مناف فيكنى بأبي طالب، فله ولولده المطاولة والرفعة إلى يوم القيامة. وعن حبة العرني قال: رأيت علياً ضحك على المنبر ضحكاً لم أره ضحك ضحكاً أكثر منه، حتى بدت نواجذه، ثم قال: ذكرت قول أبي طالب، ظهر علينا أبو طالب، وأنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن ببطن نخلة زاد في رواية: نصلي فقال: ماذا تصنعان يا بن أخي؟ فدعاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإسلام. فقال: ما بالذي تصنعان بأس، أو بالذي تقولان بأس، ولكن والله لا تعلوني استي أبداً. فضحك تعجباً بقول أبيه، ثم قال: اللهم لا أعرف أن عبداً لك من هذه الأمة عبدك قبلي غير نبيك، لقد صليت قبل أن يصلي الناس سبعاً. وكان أبو طالب بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفيقاً شفيقاً، يمنعه من مشركي قريش. جاؤوه ذات صباح بعمارة بن الوليد، فقالوا له: قد عرفت حال عمارة بن الوليد في قريش،(29/23)
ونحن ندفعه إليك مكان محمد، وادفعه إلينا. فقال: ما أنصفتموني، أعطيكم ابن أخي تقتلونه، وتعطوني ابن أخيكم أغذوه لكم؟! وهو الذي يقول: من الطويل
عجبت لحلمٍ يا بن شيبة حادث ... وأحلام أقوامٍ لديك سخاف
يقولون شايع من أراد محمداً ... بسوء، وقم في أمره بخلاف
أضاميم: إما حاسد ذو خيانة ... وإما قريب منك غير مصاف
فلا تركبن الدهر منك ظلامة ... وأنت امرؤ من خير عبد مناف
فإن له قربى إليك وسيلة ... وليس بذي حلف ولا بمضاف
ولكنه من هاشم في صميمها ... إلى أبحر فوق البحور طواف
فإن غضبت فيه قريش فقل لها ... بني عمنا ما قومكم بضعاف
فما قومكم بالقوم يغشون ظلمهم ... وما نحن فيما ساءكم بخفاف
وقال أبو طالب: من الطويل
كذبتم وبيت الله نبزى محمداً ... ولما نطا عن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم نحوكم غير عزلٍ ... يبيض حديث عهدها بالصياقل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى، عصمة للأرامل
جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك قد آذانا في نادينا ومسجدنا، فانهه عنا، فقال: يا عقيل، انطلق فأتني بمحمد. فانطلقت إليه، فاستخرجته من كبسٍ أو قال: حفش يقول: بيت صغير فجاء به في الظهيرة، في شدة الحر، فجعل يطلب(29/24)
الفيء يمشي فيه من شدة الحر، فلما أتاهم قال أبو طالب: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم. فحلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببصره إلى السماء فقال: أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم، قال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة. فقال أبو طالب: والله ما كذبنا ابن أخي، فارجعوا وفي رواية ما كذبت ابن أخي قط.
قالوا: وازداد البلاء من قبل قريش على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فائتمروا بينهم أن يكلموا أبا طالب في ابن أخيه، فإن فعل، وإلا تعاقدوا على عقد ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم حتى يدفعوه إليهم، فكتبوا في صحيفتهم عهداً بينهم ألا يناكحوا من بني عبد المطلب، ولا يبايعوهم، ولا يجالسواهم، ولا يكلموهم حتى يدفعوا إليهم محمداً، فيقتلونه. فمشوا إلى أبي طالب، وقد كتبوا كتابهم: قالوا: يا بن عبد المطلب، أنت أفضل قريش اليوم حلماً، وأكبرهم سناً، وأعظمهم شرفاً، وقد رأيت صنع ابن أخيك، والسفهاء الذين معه، الصباة المخلطين لأمرهم، إن قومك قد نفروا إلى أمر فيه صلاح قومك، وصلاحهم لك صلاح إن فعلت، وإن أبيت فقد أبلغوا إليك في العذر، وفيه هلاكك وهلاك أهل بيتك، لا يعدوكم ذلك إلى أحد غيركم، قد كتب قومك كتاباً فيه الذي تكرهون إن أبيتم أن تدفعوا إليهم حاجتهم. قال: وما حاجتكم فيما قبلي؟ قالوا: حاجتنا أن تدفع إلينا هذا الصابئ الذي فرق كلمتنا، وأفسد جماعتنا، وقطع أرحامنا، فنقتله، ونعطيك ديته. قال: لا تطيب بذلك نفسي أن أرى قاتل ابن أخي يمشي بمكة وقد أكلت ديته. قالوا: فإنا ندفعه إلى بعض العرب فيكون هو يقتله، وندفع إليك ديته، ونعطيك أي أبنائنا شئت، فيكون لك ولداً مكان هذا الصابئ. فقال لهم: ما أنصفتموني، تقتلون ابني وأغذو أولادكم؟ أولا تعلمون أن الناقة إذا فقدت ولدها لم تحن إلى غيره؟ ولكن أمر هو أجمع لكم مما أراكم تخوضون فيه، تجمعون شباب قريش، من كان منهم بسن محمد، فتقتلونهم جميعاً، وتقتلون معهم محمداً، قالوا: لا لعمر أبيك، لا لا نقتل أبناءنا وإخواننا من أجل هذا(29/25)
الصابئ، ولكن سنقتله سراً أو علانية، فائتمر لذلك أمرك. فعند ذلك قال: من الطويل
كذبتم وبيت الله نترك محمداً ... ولما نضارب دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض نهضاً في نحوركم القنا ... كنهض الروايا في طريق حلاحل
وحتى نرى ذا الدرع يركب ردعه ... من الطعن مشي الأنكب المتحامل
في قولٍ كثيرٍ يقول لهم. فلما سمعت بذلك قريش، عرفوا منه الجد، يئسوا منه، وأظهروا لبني عبد المطلب العداوة، واللفظ القبيح، والشتم، وأقسموا ليقتلنه سراً أو علانية. فلما عرف أبو طالب أن القوم قاتلوا ابن أخيه إن استطاعوا، خافهم وتتابعت معهم القبائل كلها، فلما رأى ذلك أبو طالب، جمع رهطه، فانطلق بهم، فقاموا بين الأستار والكعبة، فدعوا الله على ظلمة قومهم في قطيعتهم أرحامهم، وانتهاكهم محارمهم، وتناولهم سفك دمائهم، فقال أبو طالب:
إن أبى قومنا إلا البغي علينا، فعجل نصرنا، وحل بينهم وبين الذي يريدون من قتل ابن أخي. ثم أقبل إلى جمع قريش، وهم ينظرون إليه وإلى أصحابه. فقال لهم: إنا قد دعونا رب هذا البيت على القاطع، المنتهك المحارم، والله، لتنتهن عن الذي تريدون، أو لينزلن الله بكم في قطيعتنا بعض الذي تكرهون. قال: فأجابوه أن يا بن عبد المطلب، لا صلح بيننا وبينكم أبداً، ولا رحم، إلا على قتل الصابئ السفيه. ثم عمد فدخل الشعب بابن أخيه وبني أبيه، ومن اتبعهم من بين مؤمنٍ دخل لنصر الله ونصر رسوله، ومن بين مشركٍ يحمي أنفاً، فدخلوا شعبهم، وهو شعب أبي طالب، ناحية مكة. ودعا على قومه في شعره.(29/26)
قال: هشام بن عمرو العامري؛ الذي قام في نقض الصحيفة التي كتب مشركو قريش على بني هاشم في نفر قاموا معهم، منهم: مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وأبو البختري بن هاشم بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة. تبرؤوا من الصحيفة. وفي ذلك يقول أبو طالب: من الطويل
جزى الله رهطاً من لؤي تتابعوا ... على ملأ يهدي لحزمٍ ويرشد
قعوداً لدى جنب الحطيم كأنهم ... مقاولة، بل هم أعز وأمجد
هم رجعوا سهل بن بيضاء راضياً ... فسر أبو بكر بها ومحمد
ألم يأتكم أن الصحيفة مزقت ... وأن كل ما لم يرضه الله مفسد
أعان عليها كل صقر كأنه ... شهاب بكفي قابسٍ يتوقد
جريءٍ على جل الأمور كأنه ... إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد
وكان سهل بن بيضاء الفهري الذي مشى إليهم في ذلك حتى اجتمعوا عليه. قالوا: وقال أبو جهل، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، والعاص بن سعيد، وأمية بن خلف: يا معشر قريش، إن هذا الأمر يزداد، وإن أبا طالب ذو رأي وشرف وسن، وهو على دينكم، وهو اليوم مدنف، فامشوا إليه، فأعطوه السواء يأخذ لكم وعليكم في ابن أخيه، فإنكم إن خلوتم بعمر بن الخطاب، وحمزة بن عبد المطلب، وقد خالفا دينكم تكون الحرب بينكم وبين قومكم. فجاؤوا أبا طالب فقالوا: أنت سيدنا، وأنصفنا في أنفسنا، وقد رأيت هؤلاء السفهاء مع ابن أخيك من تركهم آلهتنا، وطعنهم في ديننا، وقد(29/27)
فرق بيننا، وأكفر آلهتنا، وسب آباءنا، فأرسل إلى ابن أخيك، فأنت بيننا عدل. فأرسل أبو طالب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتاه، فقال له: هؤلاء قومك وذوو أسنانهم، وأهل الشرف منهم، وهم يعطونك السواء فلا تمل عليهم كل الميل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قولوا أسمع قولكم. فقال أبو جهل بن هشام: ترفضنا من ذكرك، ولا تكن منا ولا من آلهتنا في شيء، وندعك وربك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أعطيتكم ما سألتم، أمعطي أنتم كلمة واحدة لكم فيها خير، تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم؟ فقال أبو جهل وهو مستهزئ: نعم، لله أبوك لكلمة نعطيها وعشرة أمثالها فقال: قولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فنفروا من كلامه، وخرجوا مفارقين له. وقالوا: " امشوا، واصبروا على آلهتكم، إن هذا لشيء يراد، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، إن هذا إلا اختلاق إلى قوله بل لما يذوقوا عذاب ". فكان ممشاهم إلى أبي طالب لما لقوا من عمر وسمعوا منه. وعن ابن عباس في قوله عز وجل " وهم ينهون عنه وينأون عنه " قال: نزلت في أبي طالب، كان ينهى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤذى، وينأى ويجفوا عما جاء به " وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون " يعني أبا طالب.
ولما حضرت أبا طالب الوفاة قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليك بأخوالك بني النجار، فإنهم أمنع الناس لما في بيوتهم. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرس، وكان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه، حتى نزلت عليه هذه الآية " والله يعصمك من الناس " فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه فقال: يا عماه، إن الله قد عصمني من الجن والأنس.(29/28)
وعن أنس بن مالك قال: مرض أبو طالب، فعاده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا بن أخي، ادع لي ربك الذي تعبده أن يعافيني. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم اشف عمي. فقام أبو طالب كأنما نشط من عقال، فقال: يا بن أخي، إن ربك الذي تعبده ليعطيك. قال: وأنت يا عماه، إن أطعت الله ليعطيك. وعنه قال: لما مرض أبو طالب مرضه الذي مات فيه، أرسل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادع ربك أن يشفيني، فإن ربك ليعطيك، وابعث إلي بقطاف من قطاف الجنة. فأرسل إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنت يا عم، إن أطعت الله أطاعك. وعن عبد الله بن عمر، قال: جاء أبو بكر بأبي قحافة يقوده إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيخاً أعمى يوم الفتح، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا تركت الشيخ حتى نأتيه؟ قال: أردت يا رسول الله أن يأجره الله، أما والذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحاً بإسلام أبي طالب مني بإسلام أبي، ألتمس بذلك قرة عينك. قال: صدقت. ولما اشتكى أبو طالب شكواه التي قبض فيها، قالت له قريش: يا أبا طالب، أرسل إلى ابن أخيك، فيرسل إليك من هذه الجنة التي ذكر شيئاً يكون لك شفاء. فخرج الرسول حتى وجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر جالساً معه، فقال: يا محمد، إن عمك يقول لك: يا بن أخي، إني كبير ضعيف سقيم، فأرسل إلي من جنتك هذه التي تذكر من طعامها وشرابها شيئاً يكون لي فيه شفاء. فقال أبو بكر: إن الله حرمهما على الكافرين. فرجع إليهم الرسول، فأخبرهم، فحملوا أنفسهم عليه حتى أرسل رسولاً من عنده، فوجده الرسول في مجلسه، فقال له مثل ذلك. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله حرمهما على الكافرين، طعامها وشرابها. ثم قام في إثر الرسول حتى دخل معه بيت أبي طالب فوجده مملوءاً رجالاً. فقال: خلوا بيني وبين عمي. قالوا: ما نحن بفاعلين، ما أنت بأحق به منا، إن كانت لك قرابة فلنا قرابة مثل قرابتك. فجلس إليه، فقال: يا عم، جزيت عني خيراً، كفلتني صغيراً وحطتني كبيراً، جزيت عني خيراً، يا عم، أعني على نفسك بكلمة واحدة أشفع لك(29/29)
بها عند الله يوم القيامة. قال: وما هي يا بن أخي؟ قال: قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له. قال: إنك لي ناصح، والله لولا أن نعير بها فيقال خرع عمك من الموت لأقررت بها عينك. فصاح القوم: يا أبا طالب، أنت رأس الحنيفية، ملة الأشياخ. فقال: لا تحدث بيننا قريش أن عمك جزع عند الموت. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا أزال أستغفر لك ربي حتى يردني. فاستغفر له بعد ما مات، فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا، ولذوي قرابتنا؟ قد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستغفر لعمه. فاستغفروا للمشركين حتى نزلت " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ". وفي حديث فقالوا: قد استغفر إبراهيم لأبيه، فنزلت: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه " قال: لما مات على كفره تبين أنه عدو الله. قالوا: قال أبو طالب:
يا بن أخي، والله لولا رهبة أن تقول قريش دهرني الجزع، فيكون سبة عليك وعلى بني أبيك لفعلت الذي تقول، وأقررت عينك بها، لما أرى من شكرك، ووجدك بي ونصيحتك لي. ثم إن أبا طالب دعا بني عبد المطلب فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد، وما اتبعتم أمره، فاتبعوه وأعينوه ترشدوا. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتأمرهم بها وتدعها لنفسك؟ فقال أبو طالب: أما إنك لو سألتني الكلمة وأنا صحيح لتابعتك على الذي تقول، ولكني أكره أن أجزع عند الموت، فترى قريش أنني أخذتها جزعاً، ورددتها في صحتي. وقيل: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى تكذيبهم بالحق قال: لقد دعوت قومي إلى أمر ما اشتططت في القول. فقال عمه: أجل لم تشتط. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذلك، وأعجبه قول عمه: يا عم، لك علي كرامة، ويدك عندي حسنة، ولست أجد اليوم(29/30)
ما أجزيك به، غير أني أسألك كلمة تحل لي بها الشفاعة عند ربي، أن تقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تصيب بها الكرامة عند الممات، فقد حيل بينك وبين الدنيا، وتنزل بكلمتك هذه الشرف الأعلى في الآخرة الحديث، وزاد في آخره فأنزل الله عز وجل " أنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ". وعن العباس بن عبد المطلب قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، قال له نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عم، قل كلمة واحدة أشفع لك بها يوم القيامة، لا إله إلا الله. فقال: لولا أن تكون عليك وعلى بني أبيك عبد الله غضاضة لأقررت بعينيك، ولو سألتني هذه في الحياة لفعلت. قال: وعنده جميلة ابنة حرب، حمالة الحطب، وهي تقول له: يا أبا طالب، مت على دين الأشياخ قال: فلما خفت صوته، فلم يبق منه شيء: قال: حرك شفتيه، فقال العباس: فأصغيت إليه، فقال قولاً خفياً: لا إله إلا الله. فقال العباس للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بن أخي قد والله قال أخي الذي سألته. فقال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لم أسمعه. وعن المسيب قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، دخل عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية فقال: أي عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. قال أبو جهل وعبد اله بن أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ".(29/31)
وعن علي قال: لما توفي أبو طالب أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: إن عمك الشيخ قد مات. قال: اذهب فواره، ولا تحدث من أمره شيئاً حتى تأتيني. فواريته ثم أتيته. فقال: اذهب فاغتسل، ولا تحدث شيئاً حتى تأتيني. فاغتسلت ثم أتيته، فدعا لي بدعوات ما يسرني بهن حمر النعم وسودها. قالوا: وكان علياً إذا غسل ميتاً اغتسل. وفي رواية أخرى: إن عمك الشيخ الضال قد مات. وفي رواية: الكافر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذهب فواره. فقلت: والله لا أواريه. قال: فمن يواريه إن لم تواره؟ فانطلق فواره، فقلت له: والله، لا أواريه. فقال: فمن يواريه إن لم تواره؟ فانطلق فواره، ثم لا تحدث شيئاً حتى تأتيني الحديث ثم إنه قال: دعا لي بدعوات ما أحب لي بهن ما على الأرض من شيء. وعن ابن عباس قال: عارض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جنازة أبي طالب فقال: وصلتك رحم، جزاك الله خيراً يا عم. وعن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن لأبي طالب عندي رحماً سأبلها ببلاها.
وعن العباس أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما ترجو لأبي طالب؟ قال: كل الخير أرجو من ربي. وعن علي قال: أخبرت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموت أبي طالب فبكى، ثم قال: اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه. ففعلت، وجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستغفر له أياماً، ولا يخرج من بيته، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " قال علي: وأمرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاغتسلت.(29/32)
قال الحسن: لما مات أبو طالب، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن إبراهيم ليستغفر لأبيه وهو مشرك، وأنا أستغفر لعمي حتى أبلغ، فأنزل الله عز وجل " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى " يعني به أبا طالب، فاشتد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال الله عز وجل لنبيه: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه " يعني حين قال " سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا " " فلما تبين له أنه عدو الله " يعني مات على الشرك " تبرأ منه " " إن إبراهيم لحليم أواه منيب " يعني بالحليم: السيد. والأواه: الدعاء إلى الله. والمنيب: المستغفر. ذهب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلي بن أبي طالب إلى قبر أبي طالب ليستغفرا له، فأنزل الله عز وجل: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى " فاشتد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موت أبي طالب على الكفر، فأنزل الله على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنك لا تهدي من أحببت " يعني به: أبا طالب " ولكن الله يهدي من يشاء " يعني به العباس بن عبد المطلب. وكان العباس أحب عمومة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أبي طالب إليه، لأنه كان يتيماً في حجره. ولما مات أبو طالب عرض لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سفيه من سفهاء قريش، فألقى عليه تراباً، فرجع إلى بيته، فأتته امرأة من بناته، تمسح عن وجهه التراب وتبكي. قال: فجعل يقول: أي بنية، لا تبكين، فإن الله مانع أباك. ويقول ما بين ذلك: ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب.(29/33)
وعن أبي هريرة قال: لما مات أبو طالب ضرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ما أسرع ما وجدت فقدك يا عم. وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما زالت قريش كافة عني وفي رواية كاعةً عني حتى توفي أبو طالب. كاعة جمع كائع: وهو الجبان. يريد أنه كان يحوط النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويذب عنه، وكانت قريش تكيع وتجبن عن أذاه. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب، وأخٍ لي كان في الجاهلية. وعن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله ما أغنيت عن عمك، فقد كان يحوطك، ويغضب لك؟ قال: هو في ضحضاحٍ من النار، ولولا أنا كان في الدرك الأسفل من النار. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر عنده أبو طالب فقال: تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار، يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه.
وفي حديث: كان يحوطك وينفعك فهل تنفعه؟ قال: نعم، وجدته في غمرات النار، فأخرجته إلى ضحضاح. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، في رجليه نعلان من نارٍ يغلي منهما دماغه.(29/34)
وفي حديث: وسئل عن خديجة لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن. قال: أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب. وفي حديث: فقيل: إن فيها لضحضاحاً وغمراً. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعم، إن أدنى أهل النار منزلة لمن يحذى له منها نعلان من نار يغلي من وهجهما دماغه، حتى يسيل على قوائمه. وقيل: إنه ينادي. يرى أنه لا يعذب أحد عذابه من شدة ما هو فيه. وقال علي يرثي أباه أبا طالب: من الطويل
أرقت لنوح آخر الليل غردا ... لشيخي ينعى والرئيس المسددا
أبا طالب مأوى الصعاليك ذا الندى ... وذا الحلم لا جلفاً ولم يك قعددا
أخا الهلك خلى ثلمةً سيدها ... بنو هاشم أو تستباح وتضهدا
فأمست قريش يفرحون لفقده ... ولست أرى حياً لشيء مخلدا
أرادت أموراً زينتها حلومهم ... ستوردهم يوماً من الغي موردا
يرجون تكذيب النبي وقتله ... وأن يفتروا بهتاً عليه ويجحدا
كذبتم وبيت الله حتى نذيقكم ... صدور العوالي والصفيح المهندا
ويبدو منا منظر ذو كريهةٍ ... إذا ما تسربلنا الحديد المسردا
فإما تبيدونا وإما نبيدكم ... وإما تروا سلم العشيرة أرشدا
وإلا فإن الحي دون محمد ... بنو هاشم خير البرية محتدا
فإن له منكم من الله ناصراً ... ولست بلاقٍ صاحب الله أوحدا
نبي أتى من كل وحي بخطةٍ ... فسماه ربي في الكتاب محمدا
أغر كنور البدر صورة وجهه ... جلا الغيم عنه ضوؤه فتعددا(29/35)
أمين على ما استودع الله قلبه ... وإن قال قولاً كان فيه مسددا
توفي أبو طالب في نصف شوال في السنة العاشرة من حين تنبي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يومئذٍ ابن بضع وثمانين سنة. وتوفيت خديجة بعده بشهر وخمسة أيام، وهي يومئذٍ بنت خمس وستين سنة. فاجتمعت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصيبتان: موت خديجة، وموت أبي طالب عمه. وقيل: إن خديجة توفيت قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة.
أبو طالب الجعفري الفقيه
قال أبو طالب: جرى بين رجل من قريش، ورجل من الأنصار ملاحاة. فقال له القرشي: أتكلمني وأنا رجل من قريش؟ فقال له الأنصاري: من أي قريش؟ ممن أوينا ونصرنا أو ممن حاربنا فقتلنا أو ممن أسرنا فمننا؟ قال أبو طالب: فذهبت لأكلم الأنصاري، فقال أبي: اسكت، اتركهم ينتصرون لأنفسهم. قال أبو طالب الجعفري: إنه مما كان يتمثل به زيد بن علي في حربه: من السريع
منخرق الخفين يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حدادا
شرده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حر الجلاد
قد كان في الموت له راحة ... والموت ختم في رقاب العباد(29/36)
جرى بين أبي طالب الجعفري، وبين علي بن الجهم وحشة ثم أرسل أبو طالب يعتذر إليه، فكتب إليه علي: من الخفيف
لم تذقني حلاوة الإنصاف ... وتعسفتني أشد اعتساف
وتركت الوفاء جهلاً بما في ... هـ وأسرفت غاية الإسراف
غير أني إذا رجعت إلى ح ... ق بني هاشم بن عبد مناف
لم أجد لي إلى التشفي سبيلا ... بقواف ولا بغير قواف
لي نفس تأبى الدنية والأش ... راف لا تعتدي على الأشراف
ولأبي طالب الجعفري: من مجزوء الكلام
إني أهابك أن أقو ... ل ولست أئتمن الرسولا
فإذا هدت فطن الرسو ... ل ورنح السكر العقولا
فانظر إلى نظري إلي ... ك فإن في نظري دليلا
وابسط لسانك إن رأي ... ت إلى مؤانستي سبيلا
إني أعيذك أن تكو ... ن علي ممتنعاً بخيلا
أجمل فديتك في جوا ... بك إذ ظننت بك الجميلا
ألهيتني بك عن سوا ... ك وصرت لي أملاً وسولا(29/37)
أبو طالب الدمشقي
قال أبو طالب: كتب رجل إلى ابن له: إنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك فاجعل في الطلب، واستطب المكسب، فإنه رب طلب قد جر إلى حرب، فأكرم نفسك عن دنيا دنية، وشهوة ردية فإنك لا تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا، ولا تأمن من خدع الشيطان أن تقول: متى أرى ما أكره؟ نزغت فإنه هكذا هلك من كان قبلك.
أبو طاهر الدمشقي
حدث عن هشام بن عمار بسنده إلى النبي صلى اله عليه وسلم قال: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يوم عيد، فكبر أربعاً وأربعاً، ثم انصرف، أقبل بوجهه، وقبض إبهاميه، وأشار بأصابعه، وقال: لا تنسوا كتكبير الجنائز.
أبو طعمة
مولى عمر بن عبد العزيز. حدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنودي: الصلاة جامعة. فركع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين في سجدتين، ثم قام، فركع ركعتين في السجدتين، ثم جلي عن الشمس. وكانت عائشة تقول: ما سجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجوداً، ولا ركع ركوعاً أطول منه. وعن أبي طعمة قال: أتينا ابن عمر بالمدينة، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما تقول في شرب الطلاء الحلو الحلال الطيب؟ قال: اشرب، واسقني، فولى الرجل. فقال ابن عمر لرجل: أدركه، فسله، فإن قال: أحله لنا، فرده. فأدركه،(29/38)
فرده، فقال: ما قلت؟ قال: كذا وكذا، فقال: وهل يقدر ابن عمر أن يحرم الحلو الحلال الطيب؟ أشهد أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لعن الله الخمر، وبائعها ومبتاعها، وساقيها، وشاربها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها. وحدث أبو طعمة عن ابن عمر قال: قال رسول اله صلى لله عليه وسلم: " لعنت الخمر على عشرة وجوه، لعنت الخمر بعينها وشاربها وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وأكل ثمنها.(29/39)
حرف الظاء المعجمة
أبو ظبية السلفي الكلاعي الحمصي
حدث عن أبي أمامة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: المقة من الله، والصيت في السماء، فإذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إن ربكم يحب فلاناً فأحبوه. فيحبه أهل السماء، وينزل له القبول في الأرض. وفي حديث: فينزل الله المقة على أهل الأرض وعن شهر بن حوشب عن أبي أمامة الباهلي قال: قلت: يا أبا أمامة، حديث بلغني عنك تحدث به عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوضوء. قال أبو أمامة: لو لم أسمعه من نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو ستاً أو سبعاً، لم أحدث به. قال شهر: فقلنا له: كيف سمعته؟ فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من مسامعه وبصره، ويديه، ورجليه. فقال أبو ظبية الحمصي ووجدته عند أبي أمامة: وأنا سمعت عمرو بن عبسة يحدث بذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقول: ما من عبد يبيت على طهر، فيذكر الله، ثم يتعار من الليل، فيدعو الله إلا أعطاه الله ما سأل من أمر الدنيا والآخرة.(29/40)
وعن أبي ظبية قال: خطبنا عمر بن الخطاب بالجابية في يوم الجمعة فقرأ " إذا السماء انشقت " ونزل عن المنبر. فسجد وسجد الناس معه. ظبية: بظاء معجمة، وباء موحدة، وياء باثنتين من تحتها.(29/41)
حرف العين المهملة
أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى
ابن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي، ختن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ابنته زينب قيل: اسمه لقيط. وقيل: القاسم. وقيل: مهشم. وقيل: ياسر. أمه هالة بنت خويلد، أخت خديجة، زوج سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. زوجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب، ابنته، وهي أكبر بنات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فولدت له علياً وأمامة. فتوفي علي بن أبي العاص وهو غلام. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أردفه ناقته عام الفتح. وقالت فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي حين حضرتها الوفاة: تزوج بنت أختي أمامة بنت أبي العاص. فتزوجها علي بن أبي طالب. فمكثت عنده ثلاثين سنة، ولم تلد له شيئاً وكانت عقيماً ثم تزوجها بعد علي المغيرة بن نوفل بن الحارث. وأبو العاص الذي بدأ فيه الجوار في ركب من قريش الذين أخذهم أبو جندل بن سهيل، وأبو بصير، وهو عتبة بن أسيد وأصحابه، فأتى بهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسرى وبأموالهم، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن زينب بنت رسول الله قد أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع في ماله ومتاعه. فأدى إليهم كل شيء كان لهم. حتى إن الرجل ليأتي بالعقال من متاعهم.(29/42)
وكانت زينب بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استأذنت أبا العاص وهو بمكة أن تخرج إلى المدينة. فأذن لها، ثم خرج إلى الشام، فخرجت بعده إلى المدينة، فأنفر بها هبار بن الأسود فكسر ضلعاً من أضلاعها، وأدركها أبو سفيان وأصحابه فردوها إلى بيتها، فلقيتها هند بنت عتبة فقالت لها:
عمل أبي خير من عملك وعمل زوجك. ثم بعث لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسامة بن زيد، ورجلين من المهاجرين فواعدوها، وخرجت إليهم تحت الليل، فأقدموها على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعها ابنها علي وابنتها أمامة. ثم قدم أبو العاص مكة من سفره، فأراد أن يخرج إلى امرأته وولده، فأخذته قريش وقالوا: هلم بنا ننكحك بنت سعيد بن العاص. فتزوجها أبو العاص فولدت له امرأة يقال لها أمية، فتزوجت محمد بن عبد الرحمن بن عوف، فهي أم القاسم بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف. فما مكث أبو العاص بن الربيع مع بنت سعيد بن العاص حتى لحق بزينب بنت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبولده بالمدينة قبيل الفتح بيسير. فلما قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن، فاستخلفه علي على اليمن عام حجة الوداع. فحج عامه. وكان أبو العاص مع علي في البيت يوم بويع أبو بكر. وتوفيت زينب بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي عند أبي العاص. وكان أبو العاص بن الربيع أخاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مصافياً له. وكان يقال لأبي العاص: الأمين، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر غشيان أبي العاص في منزل أمه هالة بنت خويلد. وأسلم أبو العاص قبل فتح مكة. وكان يسمى جرو البطحاء يعني أنه متلد بها. أسلم(29/43)
قبل الحديبية بخمسة أشهر، ثم رجع إلى مكة، ولم يشهد مع سيدنا محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً. وقيل: جيء به مربوطاً بقيد، فسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه أن يطلقوه. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما ذممنا صهر أبي العاص. ويقال: قدم مهاجراً إلى المدينة بعدما أسلم بمكة، فرجع إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنته زينب بالنكاح الأول. ويقال: ردها عليه بمهر جديد، ونكاح جديد.
وأثنى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: إنه حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي.
وأردف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنها علياً يوم فتح مكة، وحمل أمامة في صلاته.
وخرج أبو العاص في بعض أسفاره إلى الشام فقال: من البسيط
ذكرت زينب لما وردت أرما ... فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاها الله صالحةً ... وكل بعل سيثني بالذي علما
إرم: هي دمشق. وعن الزهري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " استوصوا بالأسرى خيراً ". فقال أبو العاص بن الربيع: كنت مع رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً كنا إذا تعشينا أو تغدينا، آثروني بالخبز، وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل، والتمر زادهم. حتى إن الرجل لتقع في يده الكسرة فيدفعها إلي. وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك، ويزيد: وكانوا يحملوننا ويمشون. ولما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فداء أبي العاص بن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة من جزع ظفار كانت لخديجة، وأدخلتها بها(29/44)
على أبي العاص حين بنى عليها. فلما رآها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرفها ورق لها، وذكر خديجة، ورحم عليها وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا إليها متاعها، فعلتم. فقالوا: نعم يا رسول الله. فأطلقوا أبا العاص، وردوا إلى زينب متاعها. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخذ عليه أو وعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخلي زينب إليه. قال ابن إسحاق: وكان فيما شرط عليه في إطلاقه إياه، ولم يظهر ذلك منه، ولا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعلم ما هو، إلى أن خرج أبو العاص إلى مكة، وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد بن حارثة، ورجلاً من الأنصار. فقال: كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتياني بها. وذلك بعد بدر بشهر. وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالاً وأمانة وتجارةً. وكانت خديجة خالته، فقالت خديجة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زوجه. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يخالفها، وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي، فزوجه. فلما أكرم الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنبوته، آمنت به خديجة وبناته. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد زوج عتبة بن أبي لهب رقية أو أم كلثوم، فلما بادى قريشاً بأمر الله قالوا: إنكم قد فرغتم محمداً من بناته، فردوهن عليه، فاشغلوه بهن. فمشوا إلى أبي العاص فقالوا: فارق صاحبتك ونحن نزوجك أي امرأة شئت من قريش. فقال: لا، ها الله، لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش. ثم مشوا إلى الفاسق عتبة بن أبي لهب فقالوا: طلق ابنة محمد، ونحن نزوجك أي امرأة شئت من قريش. فقال: إن زوجتموني بنت أبان بن سعيد بن العاص، أو بنت سعيد بن العاص، فارقتها. فزوجوه بنت سعيد بن العاص، ففارقها ولم يكن دخل بها، وأخرجها الله من يديه كرامة لها، وهواناً عليه، وخلف عليها عثمان بن عفان. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحل بمكة ولا يحرم مغلوباً وكان الإسلام قد فرق بين زينب وبين أبي العاص حين أسلمت، إلا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يقدر على أن يفرق بينهما.(29/45)
قالوا: وكان الذي قدم في فداء أبي العاص أخوه عمرو بن الربيع، وكان الذي أسره عبد الله بن جبير بن النعمان، أخو خوات بن جبير الأنصاري. خرج أبو العاص بن الربيع تاجراً إلى الشام وكان رجلاً مأموناً وكانت معه بضائع لقريش، فأقبل قافلاً، فلقيته سرية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستاقوا عيره وأفلت، وقدموا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أصابوا، فقسمه بينهم، وأتى أبو العاص فدخل على زينب فاستجار بها، فسألها أن تطلب له من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رد ماله عليه، وما كان معه من أموال الناس. فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السرية فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالاً ولغيره مما كان معه، وهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فإن رأيتم أن تردوا عليه فافعلوا، وإن كرهتم فأنتم وحقكم. فقالوا: بل نرد عليه يا رسول الله. فردوا عليه ما أصابوا، حتى إن الرجل ليأتي بالشنة، والرجل بالإداوة، والرجل بالحبل، فما تركوا قليلاً أصابوه ولا كثيراً إلا ردوه عليه. ثم قدم مكة، فأدى إلى الناس ما كان معهم من بضائعهم، حتى إذا فرغ قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم معي مال لم أرده عليه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيراً، قد وجدناك وفياً كريماً. فقال: أما والله ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلا تخوف أن تظنوا بي أني إنما أسلمت لأذهب بأموالكم، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. قالوا في حديث: وأتي بأبي العاص من طريق الشام مربوطاً في قد، فقامت إليه
زينب، فحلته، وكانت معه بضائع للناس، فقيل له: أسلم يكن لك ما معك، وتأخذ هذه الأموال، فإنها أموال المشركين. فقال: لبئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي. فكفلت عنه امرأته أن يرجع فيؤدي إلى كل ذي حق حقه، ويرجع فيسلم. ففعل، وما فرق بينهما. وقيل: إن أبا العاص لما قدم من الشام، ومعه أموال وتجارات قال أصحاب(29/46)
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو استقبلنا هذا الكافر فقتلناه، وأخذنا ماله. فبلغ ذلك زينب بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي امرأته، فأمنته، فاستقبله أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عزلاً. فقالوا: يا أبا العاص، هل لك أن تسلم على ما في يديك من هذه الأموال، فتسود قريشاً، وتكون أكثرهم مالاً؟ قال: ما كنت لأستقبل الإسلام بغدرة، فأتى مكة فدفع إلى كل ذي حق حقه، وأسلم، وهاجر إلى المدينة، فأقاما على نكاحهما. وقيل: إن أبا العاص لما استجار بزينب، خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الصبح، فلما كبر في الصلاة صرخت زينب: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص. فلما سلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلاته قال: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا نعم؛ قال: أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء مما كان حتى سمعت منه ما سمعتم، إنه يجير على الناس أدناهم. ثم دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على زينب فقال: أي بنية، أكرمي مثواه، ولا يقربنك فإنك لا تحلين له ولا يحل لك. وقيل: إن زينب قالت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أبا العاص إن قرب فابن عم، وإن بعد فأبو ولد، وإني قد أجرته. فأجاره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن عباس: رد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب ابنته على أبي العاص على النكاح الأول بعد ست سنين. وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سألت ربي عز وجل أن لا أتزوج إلى أحد من أمتي، ولا يتزوج إلي أحد من أمتي، إلا كان معي في الجنة، فأعطاني ذلك. وعن أبي أوفى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زينب، فحلته، وكانت معه بضائع للناس، فقيل له: أسلم يكن لك ما معك، وتأخذ هذه الأموال، فإنها أموال المشركين. فقال: لبئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي. فكفلت عنه امرأته أن يرجع فيؤدي إلى كل ذي حق حقه، ويرجع فيسلم. ففعل، وما فرق بينهما. وقيل: إن أبا العاص لما قدم من الشام، ومعه أموال وتجارات قال أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو استقبلنا هذا الكافر فقتلناه، وأخذنا ماله. فبلغ ذلك زينب بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي امرأته، فأمنته، فاستقبله أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عزلاً. فقالوا: يا أبا العاص، هل لك أن تسلم على ما في يديك من هذه الأموال، فتسود قريشاً، وتكون أكثرهم مالاً؟ قال: ما كنت لأستقبل الإسلام بغدرة، فأتى مكة فدفع إلى كل ذي حق حقه، وأسلم، وهاجر إلى المدينة، فأقاما على نكاحهما. وقيل: إن أبا العاص لما استجار بزينب، خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الصبح، فلما كبر في الصلاة صرخت زينب: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص. فلما سلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلاته قال: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا نعم؛ قال: أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء مما كان حتى سمعت منه ما سمعتم، إنه يجير على الناس أدناهم. ثم دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على زينب فقال: أي بنية، أكرمي مثواه، ولا يقربنك فإنك لا تحلين له ولا يحل لك. وقيل: إن زينب قالت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أبا العاص إن قرب فابن عم، وإن بعد فأبو ولد، وإني قد أجرته. فأجاره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن عباس: رد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب ابنته على أبي العاص على النكاح الأول بعد ست سنين. وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سألت ربي عز وجل أن لا أتزوج إلى أحد من أمتي، ولا يتزوج إلي أحد من أمتي، إلا كان معي في الجنة، فأعطاني ذلك. وعن أبي أوفى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من تزوجت إليه أو تزوج إلي فحرمه على النار أو قال أدخله الجنة. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري.(29/47)
توفي أبو العاص في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة في خلافة أبي بكر الصديق، وأوصى إلى الزبير بن العوام. وقيل: توفي سنة ثلاث عشرة.
أبو العالية
قال أبو العالية: سهرت مع عمر بن عبد العزيز ليلة فقلت: يا أمير المؤمنين ما يبقي منك تعب النهار وسهر الليل؟ قال: لا تفعل، فإن لقاء الرجال للرجال تلقيح لألبابها.
أبو عامر
حدث ببيروت عن أبي الدرداء أن رجلاً يقال له حرملة أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: الإيمان ها هنا، وأشار إلى لسانه، والنفاق ها هنا، وأشار إلى قلبه، ولا أذكر الله إلا قليلاً. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم اجعل له لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً، وارزقه حبي وحب من يحبني، وصير أمره إلى خير. قال: يا رسول الله، إنه كان لي صاحب من المنافقين، وكنت رأساً فيهم، أفلا آتيك بهم؟ قال: من أتانا استغفرنا له، ومن أصر على ذنبه فالله أولى به، ولا تخرقن على أحد ستراً.
أبو عامر الرحبي الحمصي
قال أبو عامر: جلست في حلقة بدمشق فيها واثلة بن الأسقع، صاحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوقعوا في علي يشتمونه ويتنقصونه، حتى إذا افترقت الحلقة جعلت أتوقع في علي، فقال لي واثلة: أرأيت علياً؟ قلت: لا، قال: لم تقع فيه؟ قلت لأني سمعت هؤلاء يقعون فيه. قال: أفلا أخبرك عن علي؟ قال: أتيت منزله فقرعت الباب، فاستجابت لي فاطمة ابنة رسول(29/48)
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: من ذا؟ قلت: واثلة. قالت: وما حاجتك؟ قلت: أردت أبا الحسن. قالت: ارقب؛ الساعة يأتيك. فقعدت. فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متكئاً على علي، فسلمنا فلما دخلا الدار دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاطمة بمرط فأدخل رأسه تحته، وأدخل رأس فاطمة ورأس علي ورأس الحسن والحسين تحته، ثم قال: اللهم هؤلاء أهلي ثلاثاً ثم قال: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " فقلت وأنا من خارج: وأنا من أهلك؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وأنت من أهلي. والله ما أرجو غيرها.
أبو عامر المكي
إن لم يكن محمد بن عبيد الله بن أبي صالح، فهو غيره. قال أبو عامر المكي: لقيت غيلان بدمشق مع نفر من قريش فسألوني أن أكلمه. فقلت: اجعل لي عهد الله وميثاقه أن لا تغضب ولا تجحد، ولا تكتم. فقال: ذلك لك. فقلت: نشدتك الله، هل في السموات أو في الأرض شيء قط من خير أو شر لم يشأه الله ولم يعلمه حتى كان؟ قال غيلان: اللهم لا، قلت: فعلم الله بالعباد أكان قبل أو أعمالهم؟ فقال غيلان: بل علمه كان قبل أعمالهم. قلت: فمن أين كان علمه بهم؟ من دار كانوا فيها قبله، جبلهم في تلك الدار غيره، وأخبره الذي جبلهم في الدار عنهم أم من دار جبلهم هو فيها، وخلق لهم القلوب التي يهوون بها المعاصي؟ قال غيلان: بل من دار جبلهم هو فيها، وخلق لهم القلوب التي يهوون بها المعاصي. قلت: فهل كان يجب أن يطيعه جميع خلقه؟ قال غيلان: نعم. قلت: انظر ما تقول. قال: هل معها غيرها؟ قلت: نعم. قلت: فهل كان إبليس يحب أن يعصي الله جميع خلقه؟ قال: فلما عرف الذي أردت؛ سكت فلم يرد علي شيئاً. ثم قال: يا أبا عامر؛ هل لهؤلاء الكلمات من أصل؟ قلت: نعم، أجيك بهن من كتاب الله عز وجل، إن الله خلق جميع خلقه من أربعة أشياء، لم يخلق شيئين من شيء(29/49)
واحد، فجعل الطاعة في اثنين وجعل المعصية في اثنين، فاللذان فيهما الطاعة هي فيهما إلى يوم القيامة، واللذان فيهما المعصية هي فيهما إلى يوم القيامة، إن الله خلق الملائكة من نور، وخلق الجان من نار، وخلق البهائم من ماء، وخلق آدم من طين، فجعل الطاعة في الملائكة والبهائم، وجعل المعصية في الجن والإنس. قال غيلان: صدقت.
أبو عابد السلمي
كان يسكن خارج باب الصغير. قال: مات جار لنا نصراني، فأخذوا في غسله، فبينما هم يغسلونه إذ استوى جالساً فقال: علي بالمسلمين. قال: فأتى الصريخ فجئناه، فإذا به جالس. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم مات، فولينا غسله وكفنه والصلاة عليه.
أبو عائشة
مولى مروان بن الحكم. حدث أبو عائشة أن سعيد بن العاص دعا أبا موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان فسألهما: كيف كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى: كان يكبر أربعاً كتكبيره على الجنائز. وصدقه حذيفة. فقال أبو موسى: وكذلك كنت أكبر لأهل البصرة إذ كنت عليهم أميراً.(29/50)
أبو العباس
إن لم يكن الوليد بن مسلم فلا أدري من هو حدث سنة تسعين ومئة عن إبراهيم بن يحيى عن أبان عن عكرمة مولى بن عباس قال: كنت أنا وعطاء بن أبي رباح وطاوس على مائدة ابن عباس. فوقعت جرادة على المائدة فقال محمد بن علي بن أبي طالب: أخبرني أبي، علي بن أبي طالب أن هذه النقط السود التي في جناح الجرادة كتاب بالسريانية: إني أنا الله، إله العالمين قاصم الجبارين خلقت الجراد، وجعلته جنداً من جنودي، أهلك به من أشاء من عبادي.
أبو العباس البيروتي
روى عن عقبة بن علقمة بسنده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم. وحدث عنه بسنده إلى جابر بن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في الدفعتين ثنتيهما كافاً راحلته يقول لمن خلفه: السكينة السكينة.
أبو العباس الحنفي:
قدم دمشق. حدث بسنده إلى الأصمعي قال: دخلت على العتابي وقد كان المأمون أنزله المخرم فوجدته على بند بلا متكأ وبين يديه كلب رابض، وإناء فيه شراب، وهو يشرب شربة ويلعق الكلب أخرى، فقلت(29/51)
له: رحمك الله، أنت في سنك وعملك ومحلك من أمير المؤمنين تنادم كلباً؟! فقال: دعني منك، إن هذا خلف من قرناء السوء، وهو مع هذا يصبر على قليلي وكثيري، ويحفظني في مغيبي ومشهدي، ويرفع أذاه وأذى غيره قال: فوصفه بصفة حتى تمنى أنه كلب. ثم أنشد فيه شعراً: من الخفيف
ونديم كان مهجة النف ... س تخيرته على حالتيه
عنده الحلم في المجالس والطا ... عة أكرم به لدى خلتيه
وهو دان إذا دنوت وإن غب ... ت رعاني مكانتي حافظيه
إن تناولت عرضه أو تقرب ... ت فسيان ذا وهذا لديه
أقمر أزرق كأن سراجي ... ن يضيئان في سنا مقلتيه
يشرب الكأس إن أمرت وإلا ... لم يكلح بسقطة عطفيه
مطرق تارة وأخرى يراعي ... نبوةً للعدو عن جانبيه
إن تغيبته أشاح وإلا ... لم يزل ملهياً لها مسمعيه
وإذا قمت للصلاة أو الحا ... جة لم أجل عن مدى نابيه
فهو خل وصاحب ونديم ... وهو دانٍ إذا دنوت إليه
أبو العباس الوراق الدمشقي
حدث عن الجنيد قال: سمعت محمد بن أبي الورد يقول: في ارتفاع الغفلة ارتفاع العبودية، ثم الغفلة غفلتان: غفلة رحمة، وغفلة نقمة. فأما التي هي رحمة، فلو كشف الغطاء، وشهد القوم العظمة، ما انقطعوا عن العبودية، ومراعاة السر. وأما التي هي نقمة، فهي الغفلة التي تشغل العبد عن طاعة الله بمعصيته.(29/52)
وحدث أبو العباس عن ابن الجلاء قال: مات أبي فجعلناه على المغتسل، فكشفنا عن وجهه فإذا هو يضحك، وهو ميت. قال: والتبس على الناس أمره، فقالوا: هو حي. فجاءوا بالطيب، وغطينا وجهه، وقلنا خذ مجسه. فأخذ مجسه، فقال: هذا ميت. فكشفنا عن وجهه فرآه الطبيب ضاحكاً، فقال: لا والله ما أدري ميت أو حي!! فكلما جاء إنسان يغسله يهابه، ولا يقدر على غسله. فقام إلينا الفضل بن الحسين وكان من كبار العارفين فغسله وصلى عليه ودفنه.
أبو عبد الله الأشعري
من أهل دمشق. حدث أبو صالح الأشعري أن أبا عبد الله الأشعري حدثه: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبصر رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده فقال: لو مات هذا على ما هو عليه لمات على غير ملة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتموا الركوع والسجود، فإن مثل الذي يصلي، ولا يتم ركوعه ولا سجوده، مثل الجائع لا يأكل إلا التمرة والتمرتين، لا تغنيان عنه شيئاً. قال أبو صالح: فلقيت أبا عبد الله بعد ذلك فقلت: من حدثك بهذا أنه سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: حدثني به أمراء الأجناد: خالد بن الوليد، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص أنهم سمعوه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أبو عبد الله الدمشقي
حدث عن أكثم بن الجون الخزاعي ثم الكعبي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أكثم بن الجون! اغز مع غير قومك يحسن خلقك، وتكرم على رفقائك. يا أكثم بن الجون! خير الرفقاء أربعة، وخير الطلائع أربعون، وخير السرايا أربع مئة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يؤتى اثنا عشر ألفاً من قلة. يا أكثم بن الجون لا ترافق إلا مئتين.(29/53)
أبو عبد الله حرسي
كان لعمر بن عبد العزيز. حدث عن عمر بن عبد العزيز قال: حدثني حرسي معاوية أنه قدم على معاوية بطريق من الروم، يعرض عليه جزية الروم عن كل من بأرض الروم من كبير أو صغير جزية دينارين دينلرين، إلا عن رجلين: الملك وابنه، فإنه لا ينبغي للملك وابنه أن يجزيا. فقال معاوية وهو في كنيسة من كنائس دمشق: لو صببتم لي دنانير جزية حتى تملؤوا هذه الكنيسة، ولا يجزى الملك وابنه؛ ما قبلتها منكم. قال الرومي: لا تماكرني، فإنه لا يماكر أحد مكراً إلا ومعه كذب. فقال معاوية: أراك تمازحني! قال الرومي: إنك اضطررتني إلى ذلك، وغزوتني في البر والبحر، والصيف والشتاء. أما والله يا معاوية لا تغلبونا لا بعدد ولا عدة، ولوددت أن الله جمع بيننا وبينكم في مرج، ثم خلى بيننا، ورفع عنا وعنكم النصر حتى ترى. قال معاوية: ما له، قاتله الله؟ إنه ليعرف أن النصر من عند الله!!
أبو عبد الله مولى لعمر
ابن عبد العزيز حدث عن أبي بردة بن أبي موسى أنه حدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممها، ثم يدعى بعيسى، فيذكره الله نعمته عليه، فيقر بها. فيقول " يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك " الآية ثم يقول " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله "؟ فينكر أن يكون قال ذلك. فيؤتى بالنصارى فيسألون، فيقولون: نعم هو أمرنا بذلك. قال: فيطول شعر عيسى حتى يأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده فيجاثيهم بين يدي(29/54)
الله مقدار ألف عام، حتى يرفع عليهم الحجة، ويرفع لهم الصليب، وينطلق بهم إلى النار.
أبو عبد الله أو أبو عبيد الله الجزري
كان من أعوان عمر بن عبد العزيز. حكى عنه قال: بعث إلي عمر بن عبد العزيز، فدفع إلي مالاً أقسمه بالرقة، وكتب إلى وابصة كتاباً يبعث معي بشرط يكفون الناس عني وقال: لا تقسم بينهم إلا على شاطئ نهر جار، فإني أخاف أن يعطشوا. قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إنك تبعثني إلى قوم لا أعرفهم، وفيهم غني وفقير. فقال: يا هذا، من مد يده إليك فأعطه.
قال المصنف: الظاهر أن هذا خطأ، فإن وابصة لم يتأخر موته إلى خلافة عمر بن عبد العزيز.
أبو عبد الله الدمشقي
قال: أتى رجل الشعبي فقال: دلني على ما أسألك. قال: سل. قال: دلني على طعام حلال آكله، لا يسألني الله عنه يوم القيامة، فيحبسني في الحبس الطويل، ودلني على لباس حلال، أصلي فيه لا يكون لله علي فيه تبعة. فاسترجع الشعبي، وتفكر ساعة، ثم قال للرجل: هذه مسألة ما سألني عنها أحد قبلك، تريد أن تعمل بما سألت؟ قال: ليس ذا عليك، أجب عما سألتك عنه، ولا تحبسني. فقال الشعبي: انطلق إلى ساحل البحر، فاطلب جزيرة تنبت فيها الحلفاء، فانسج منها جبة والبسها، وصم وصل، فإذا جعت فانطلق إلى ساحل البحر، فتصيد سمكة(29/55)
بيدك، ولا تصدها بشبكة، فكلها ولا تشوها، فإذا قدمت على الله لم يكن لله عليك فيها تبعة يسألك عنها، فما ألزمك من ذلك فخذ به الشعبي. فانطلق الرجل. وهرب الشعبي من الحجاج، فأخذ يدور في البلاد، فبينا هو بساحل البحر بعد اثنتي عشرة سنة رأى ذلك الرجل عليه مدرعة من حصر، وسمكة موضوعة في الشمس. فقال له الشعبي: أتعرفني؟ قال: نعم. قال: من أنا؟ قال: أنت الذي ترشد الناس، وتضل نفسك. قال: فبكى الشعبي.
أبو عبد الله الدمشقي
قال أبو عبد الله: قال عيسى بن مريم عليه السلام: الدهر ثلاثة أيام: أمس خلت عظته، واليوم الذي أنت فيه لك، وغداً لا تدري ما يكون. قال: وكان يقول: طوبى لمن كان قيله تذكراً، وصمته تفكراً، ونظره عبراً.
أبو عبد الله الدمشقي
قال إبراهيم بن أدهم: من دعا لمن ظلمه فرق الشيطان من ظله، ومن أحسن لمن أساء إليه، فبه تقوم الأرض، ومن كان ذا عز وتواضع فقد علم عظمة الله. وفي حديث: فقد عظم عظمة الله.
أبو عبد الله بن عبد الله
ابن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الهاشمي كان بأرض البلقاء، وكان عابداً مجتهداً، زاهداً ليست له زوجة ولا ولد ولا مملوك. وأمه امرأة من تميم، فكان ينسب إلى بني تميم. فسعي به إلى إبراهيم بن صالح وهو على(29/56)
الشام للمهدي فرفع إليه، فشده في الحديد، ووجه به إلى المهدي، فلما وقف بين يديه، قال له:
من بني تميم؟ قال: نعم. قال: أين تسكن؟ قال: البلقاء. قال: أين منها؟ قال: الربة قال: ما لك وللربة؟ فما هي سهلة الموطئ، ولا طيبة المشتى. قال: إن كانت كذلك فإنها كما قال زهير: من الطويل
على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
قال: والله، لقد مجتهم بخير وماجوك بشر. فقال: لا أحب أن أكافئ بالإساءة إلا إحساناً. قال: فما معاشك؟ قال: من الطويل
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
قال: قد أمرت لك بعشرة آلاف. قال: تكون في موضعها إلى أن أحتاج إليها. قال له عمر بن بزيع: إني لأحسبك ممن يسعى في الأرض فساداً. قال: على من يسعى بالفساد في الأرض لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فقال المهدي لعمر: إياك يعني. ثم أطلقه، فأقام بالربة حتى هلك.
أبو عبد الله الراهبي
من أهل الراهب، محلة كانت خارج دمشق قبلي مصلى العيد. أحد الزهاد. سمع يقول: ما أخلص عبد قط إلا أحب أن يكون في جب لا يعرف. ومن أدخل فضلاً من الطعام، أخرج فضولاً من الكلام.(29/57)
أبو عبد الله البصري
قال أبو الحسن بن أبي رجاء: سألت أبا عبد الله البصري الذي كان ينزل مسجد مقرى. قال: قلت: مسألة؟ قال: سل. قلت: متى يخرج حب الدنيا من قلب العبد؟ قال: إذا ترك خدمة أهلها.
أبو عبد الله الفيحي أو الفتحي
قال: سمعت أحمد بن عاصم الأنطاكي يقول: تكلمت بشيء من الحكمة بين يدي هذا العمود الحجر، فقطر هذا العمود دماءً وقال: خرجنا أيام البصري إلى دير مران، ومعنا جماعة، منهم رجل في كمه محبرة، فتكلم رجل منا بشيء من الحكمة فصاحت المحبرة في كم الرجل صياحاً عالياً، وانفلقت.
أبو عبد الله البرزي
كان من برزة، من الغوطة، وكان يصوم الاثنين والخميس، وكان أعور، وبلغ سنه ثمانين سنة أو جاوزها. قال أبو سليمان بن زبر: يا أبا عبد الله، أي شيء كان سبب ذهاب عينك؟ فقال: أمر عجيب معجز. فقلت: حدثني به، فامتنع شهوراً، وأنا أسأله، إلى أن حدثني قال: جاءني إلى برزة، إلى بيتي رجلان من الحواة فدفعا إلي ثمن غرارة قمح، فاشتريت لهما، وطحنت، وقالا لي: اعجن لنا كل يوم ربع دقيق، وأنفق علينا كل يوم خمسة دراهم في لحم وشيءٍ حلو، ودفعا إلي خمسين(29/58)
درهماً، ووهبا لي خمسين درهماً، وأقاما عندي جمعة، ثم قالا لي: في قرية برزة واد؟ فقلت: نعم. فأريتهما إياه بالنهار، فوقفا عليه، ثم خرجا إليه نصف الليل، وأنا معهما، ونزلا إلى قعره، ومشيا فيه نحو نصفه. وكان معهما دابة محملة، فحطا عنها، وأخرجا خمس مجامر، وأوقدا فيها ناراً، وجعلا في الخمس مجامر بخوراً كثيراً، حتى عجعج الوادي بالدخان، وأقبلا يعزمان، والحيات تقبل إليهما من كل مكان، فلا يعرضان لحية منها، إلى أن جاءت إليهما حية نحو ذراع، أو أطول قليلاً، وعيناها توقدان مثل الدينار، فلما رأياها فرحا واستبشرا وسرا سروراً عظيماً وقالا: من أجل هذه الحية جئنا من خراسان نسير نحو سنة فالحمد لله الذي لم يخيب سفرنا ونفقتنا. ثم قبضا الحية، وكسرا المجامر، وأخذا ميلاً فأدخلاه في عين الحية، واكتحلا به، فلما رأيتهما فعلا ذلك، قلت لهما: اكحلاني كما اكتحلتما. فقالا لي: ما يصلح لك. قلت: لا بد من ذلك. قالا: يا هذا، ما لك فائدة فيه. قلت: والله ما أزايلكما أو تكحلاني منها. فقالا: يا هذا، إنا قد مالحناك، ووجب حقك علينا، وقد أنفقنا في منزلك، وأعطيناك خمسين درهماً، وما نشتهي أن يقع بيننا وبينك شر وخصومة فيما لا فائدة لك فيه. فقلت: لئن لم تكحلاني لأصرخن بالوادي حتى يخرج فيأخذ كل ما معكما وينهبكما. فلما لم يريا لهما مني مخلصاً قالا: فنكحل عينك الواحدة. فرضيت، فكحلا عيني اليمنى، فحين وقع ذلك في عيني؛ نظرت إلى الأرض تحتي مثل المرآة، أنظر ما تحتها كما توري المرآة ثم قالا لي: سر معنا قليلاً. فسرت حتى بعدنا عن القرية، فكتفاني وأدخل أحدهما يده في عيني فقلعها، ورمى بها، وتركاني مكتفاً، ومضيا، فلم أزل مكتفاً إلى الصبح، حتى جاءني نفر من الناس فحلوني. فهذا ما كان من خبر عيني.(29/59)
أبو عبد رب
ويقال أبو عبد رب العزة، ويقال: أبو عبد ربه عبد الجبار ويقال: قسطنطين، ويقال: عبد الرحمن بن عبد الله، ويقال: ابن أبي عبد الله مولى ابن غيلان الثقفي، ويقال: مولى بني عذرة، الزاهد حدث عن معاوية أنه قال على المنبر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة، وإنما مثل عمل أحدكم كمثل الوعاء، إذا طاب أعلاه طاب أسفله، وإذا خبث أعلاه خبث أسفله. وفي حديث: إنما الأعمال بخواتيمها، كالوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله، وإذا خبث أعلاه خبث أسفله. كان أبو عبد رب يشتري الرقاب فيعتقها، فاشترى يوماً عجوزاً رومية فأعتقها، فقالت له: إيه، لا أدري أين آوي؟! فبعث بها إلى منزله، فلما انصرف من المسجد أتى بالعشاء فدعاها، وأكل، ثم راطنوها فإذا هي أمه، فسألها الإسلام فأبت. فكان يبلغ من برها ما يبلغ، فأتى يوماً بعد العصر، يوم الجمعة، فأخبر أنها أسلمت، فخر ساجداً حتى غربت الشمس. قال أبو عبد رب لمكحول: يا أبا عبد الله، تحب الجنة؟ قال: ومن لا يحب الجنة؟ قال: فأحب الموت، فإنك لن تدخل الجنة حتى تموت.
قال أبو عبد رب الزاهد: لو أن بردى سالت ذهباً وفضة ما أتيتها لآخذ منها شيئاً، ولو قيل لي من احتضن هذا العمود مات، لقمت إليه واحتضنته. وفي رواية زاد: شوقاً إلى الله وإلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال سعيد بن عبد العزيز: ونحن نعلم أنه صادق.(29/60)
كان أبو عبد رب من أكثر أهل دمشق مالاً، فخرج إلى أذربيجان في تجارة له، فأمسى إلى جانب نهر ومرعى، فنزل به، قال: فسمعت صوتاً في ناحية من المرج يكثر حمد الله، فاتبعته، فرأيت رجلاً ملفوفاً في حصير، فسلمت عليه، وقلت: من أنت؟ قال: رجل من المسلمين. قلت: فما حالك هذه؟ قال: نعمة يجب علي حمد الله عليها. قلت: وكيف، وإنما أنت في حصير؟! قال: ومالي لا أحمد الله أن خلقني فأحسن خلقي، وجعل مولدي ومنشئي في الإسلام، وألبسني العافية في أركاني، وستر عني ما أكره، فمن أعظم نعمة ممن أمسى في مثل ما أنا فيه؟ قلت: إن رأيت أن تقوم معي إلى المنزل، فإنا نزول على النهر ها هنا. قال: ولم؟ قلت: لتصيب من الطعام، ونعطيك ما يغنيك عن لبس الحصير. قال: ما لي فيه حاجة، وإن لي في العشب كفاية وغنى قال: فأردته على أن يتبعني فأبى. قال أبو عبد رب: فانصرفت. وقد تقاصرت إلي نفسي ومقتها أن لم أخلف بدمشق رجلاً في الغنى يكاثرني، وأني ألتمس الزيادة في ذلك؟! اللهم، إني أتوب إليك من سوء ما أنا فيه. قال: فبت، ولا يعلم أعواني بالذي أجمعت عليه، فلما كان السحر رحلوا كنحو رحيلهم فيما مضى، وقدموا دابتي فصرفتها إلى دمشق، وقلت: ما أنا بصادق التوبة إن أنا مضيت إلى منزلي. فسألني القوم فأخبرتهم، وعاتبوني على المضي فأبيت. فلما قدم تصدق بصامت ماله، وجهز في سبيل الله.
قال ابن جابر: فحدثني بعض إخواني قال: ما كست رجلاً في ثمن عباءة بدانق، أعطيته ستة وهو يسأل سبعة. فلما أكثرت قال لي: ممن أنت؟ قلت من دمشق. قال: تشبه شيخاً وقف علي بالأمس، يقال له أبو عبد رب، اشترى مني سبع مائة كساء بسبعة سبعة، فما سألني أن أضع له درهماً، وبعث أعواني يحملونها له، فما زال يفرقها بين الفقراء، فما وصل إلى منزله إلا بكساء. قالوا: وتصدق بكل ماله إلا داراً له بدمشق.(29/61)
قال ابن جابر: فوافيته يوماً، فسلمت عليه، فقال: يا طويل، إني أريد أن أستشيرك. قلت: اذكر. قال: خرجت من مالي، ولم يبق إلا داري هذه، وأعطيت بها كذا وكذا ألفاً، فما ترى؟ قلت: ما أدري ما بقي من عمرك، وأخاف أن تحتاج إلى الناس، وفي غلتها قوام لمعيشتك، وتسكن في طائفة منها، فتسترك وتغنيك عن منازل الناس. قال: وإن هذا لرأيك؟ قلت: نعم. قال: أصابك المثل. قلت: ما هو؟ قال: لا يخطئك من طويل حمق، أو قرحة في رجله، أفبالفقر تخوفني؟ فباعها بمال عظيم، وفرقه. فكان ذلك مع موته. فما وجدنا من ثمنها إلا قدر ثمن الكفن. مات أبو عبد رب في خلافة هشام بن عبد الملك، قبل قتل الجراح بن عبد الله.
أبو عبد الرحمن
روى عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله عز وجل " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " قال: على البر والتقوى والتواضع وذلة النفس.
أبو عبد الرحمن شيخ من أهل دمشق
من خيار المسلمين. قال: ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدينة دمشق فقال: هي فسطاط المؤمنين، وإليها ينحاز الأجناد الأربعة، ليقتسمن أفنيتها اقتسام اللحم.(29/62)
أبو عبد الرحمن الهمذاني
من أهل جبيل روى عن أبي عبيدة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قرأ " قل هو الله أحد " في يوم مئة مرة، كتب عمله يومئذ عمل نبي، وكتب له بكل ثلاث منها عدل قراءة القرآن، وبني له بكل عشر منها برج في الجنة والبرج قصر وكتب له بكل حرف منها عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات في الجنة. وهي محضرة للملائكة، منفرة للشيطان، وهي صفة الله ومعرفته.
أبو عبد الرحمن الأزدي
ويقال له: الأسدي قال أبو عبد الرحمن: كنت أدور على حائط بيروت، فمررت برجل مدلي الرجلين في البحر وهو يكبر، فاتكأت على شرافة إلى جنبه، فقلت: يا شاب، مالك جالساً وحدك؟ قال: يا فتى، لا تقل إلا حقاً، ما كنت قط وحدي مذ ولدتني أمي، إن معي ربي حيثما كنت، ومعي ملكان يحفظان علي، وشيطان ما يفارقني، فإذا عرضت لي حاجة إلى ربي سألته إياها بقلبي، ولم أسأله بلساني، فجاءني بها.(29/63)
أبو عبد الرحمن الأسدي
أظنه الأزدي المذكور قبله. قال: كنت آخذ بيد سعيد بن عبد العزيز كل اثنين وكل خميس، نأتي المقابر، فقلت له: يا عم، ماهذا البكاء الذي يعرض لك في الصلاة، وأي شيء هذا؟ قال: وما سؤالك عن هذا يا بن أخي؟ قلت: لعل الله أن ينفعني. فقال لي: ما قمت في صلاة قط إلا مثلت لي جهنم.
أبو عبد الرحيم الدمشقي
حدث عن مكحول، قال: بينا سليمان بن داود على بساط من شعر، وأصحابه حوله، إذا مرت الريح فاستقبلته، وصارت الإنس والجن أمامه، والطير تظله، وإذا حراث يحرث على جانب الطريق. فقال الحراث: لو أن سليمان بن داود عندي؛ كلمته بثلاث كلمات. فأوحى الله إلى سليمان أن ائت الحراث. فركب على فرس له، وأتاه، وقال: يا حراث، أنا سليمان فقل ما أردت أن تقول. قال: وما علمك أني أردت أن أقول؟ قال: الله أعلمني. قال: أشهد له بذلك. قال: إني رأيتك فيما أنت فيه فقلت: والله، ما سليمان في لذة لذها أمس ولا نعيم نعمه؛ وأنا في تعب تعبته أمس وفي نصب نصبته إلا سواء. لا سليمان يجد لذة ما مضى، ولا أنا أجد تعب ما مضى. قال: وأخرى قلتها. قال: وما هي؟ قلت: سليمان يموت وأنا أموت. قال: صدقت. قال: يا سليمان، لكني قلت كلمة طابت بها نفسي، قلت: سليمان يسأل غداً عما أعطي وأنا لا أسأل. قال: فخر سليمان ساجداً عن فرسه يبكي وهو يقول: يا رب، لولا أنك جواد لا تبخل؛ لسألتك أن تنزع مني ما أعطيتني. فأوحى الله إليه: يا سليمان، ارفع رأسك، فإني لم أنعم على عبد لي نعمة، فتكون تلك النعمة رضى، فأحاسبه عليها.(29/64)
أبو عبيد بن أبي عمرو
حاجب سليمان بن عبد الملك، ومولاه. اختلف في اسمه. حدث عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من سبح دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد ثلاثا ًوثلاثين، وكبر ثلاثاً وثلاثين، وختم المئة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر. وفي رواية: ولو كانت أكثر من زبد البحر.
أبو عثمان بن سنة الخزاعي
روى عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه، وهو بمكة:
من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجن فليفعل. فلم يحضر منهم أحد غيري. قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطاً، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام، فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب، ذاهبين، حتى بقي منهم رهط، وفرغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الفجر، فانطلق فتبرز، ثم أتاني؛ فقال: ما فعل الرهط؟ قلت: هم أولئك يا رسول الله. فأعطاهم روثاً وعظماً زاداً، ثم نهى أن يستطيب أحد بعظم أو روث. وروى ابن سنة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن العلم بدأ غريباً، وسيعود كما بدأ. هذا مرسل. كان أبو عثمان بن سنة قد لحق بعلي بن أبي طالب في الذين خرجوا إليه من أهل الشام، فكان يخصهم بمجلسه في حديثه دون أهل العراق. قال: فجاءنا يوماً وهو يحدثنا فقال: أتدرون فيمن نزلت هذه الآية التي قال الله جل ثناؤه فيها: " إن شر الدواب عند(29/65)
الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون " إلى قوله: " لعلهم يذكرون " ثم قال: إن هذه الآية في فلان وأصحابٍ له.
أبو عثمان الأوقص
دمشقي. حدث عن الأزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تزالون تقاتلون الكفار، حتى تقاتلوا قوماً صغار الأعين، ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة. وعن أبي عثمان الدمشقي قال: أوحى الله إلى موسى بن عمران: يا موسى فبوجهي حلفت لا تدركني الأبصار، وأنا أدرك الأبصار، وأعلم أعمال العباد بالليل والنهار، ما آمنت بي خليقة إلا توكلت علي توكلها على الوالد الرحيم، بل هي بي أوثق، وبما عندي أطمع، فأعرف ما أقول لك أو دع، إني لك ناصح، وعليك مشفق، يا موسى! ضع الكلام مني إليك موضع الكلام من الوالدة الرحيمة، وكن لأمري مطيعاً، وأطلعني من نفسك على الرضا، ليكون أرضى لي عندك، ولا تطع كل مداهن غرور، واعلم بأن الدنيا دار تعز للظالمين.
أبو عثمان
حدث أبو عثمان عن شيخ يسمى عطية كان قد بلغ مئة سنة قال: رأيت ابن الزبير على جذع مصلوباً، وامرأة تحمل في محفة، حتى صارت إليه، فقال الناس: هذه(29/66)
أمه. فرأيتها مسفرة الوجه مبتسمة، فجاء الحجاج فأحدره لها، وقال: يا أسم، إني وإياه استبقنا إلى هذا الجذع، فسبقني هو إليه.
53 - أبو عثمان النصيبي من أهل التصوف، قدم دمشق في سياحة. قال أبو إسحاق إبراهيم: كنت مجاوراً بمكة، فوقف علي أبو عثمان النصيبي فقال: يا فقير، أيما أحب إليك، أرفقك أو أحكي إليك حكاية؟ فقلت: بل حكاية. قال: كنت سائراً ببلاد دمشق، وعلي خرقتان: واحدة في وسطي، وأخرى على كتفي، فانتهيت إلى دير مران، والثلج يسقط مثل الورق، فاطلع إلي راهب من غرفة، وقد لويت عن باب الدير، فقال: بحق من خرجت من أجله إلا عدلت إلى الدير. فرجعت، فاستقبلني وأخذ بيدي، وصعدنا إلى غرفة حسنة الآلة، فأقمت عنده ثلاثاً في حسن عشرة، واستحسنته فقلت: يا راهب، أراك عاقلاً، فكيف أقمت على النصرانية؟ فقال: قد قرأت المسطور يعني القرآن ولو قضي شيء لكان. وهمت بالمسير، فرام وقوفي. فقلت: قال نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الضيف ثلاثة، فما زاد فهو صدقة. فقال: صدق نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن من الضيف على صاحب البيت؟ فقلت: أراك أديباً، أسألك عن شيء؟ فقال: قل. قلت: ما صفة المحبة؟ فقال: المحبة لا صفة لها، ولكن إن أردت أن أصف لك شيئاً من أدب المحبة؟ فقلت: قل. قال: أدناه أن لا تزيد بالبر، ولا تنقص بالجفاء. ونهضت فقام معي، ونزلنا إلى صحن الدير، وإذا باب مردود فقال: ادفعه. فدفعته، فإذا إنسان حسن الخلق في عنقه سلسلة مشدودة إلى السقف تمنعه من الجلوس، فقلت: ما هذا؟ فقال: كلمه. فقلت: ما اسمك يا فتى؟ قال: عبد المسيح. فقلت: ما وقوفك ها هنا؟ فقال: عبد المسيح. فقلت: وما تؤلمك هذه السلسلة؟ فقال: عبد المسيح. فقلت للراهب: ما هذا؟ فقال: هذا العيان، وذاك الخبر. أو كما قال.(29/67)
أبو عذبة
أظنه عمرو بن سليم الحضرمي. ويقال: هو الحارث بن معاوية الحمصي. قال أبو عذبة الحمصي: قدمت على عمر بن الخطاب رابع أربعة من الشام، ونحن حجاج، فبينا نحن عنده أتاه آت من بلاد العراق، وأخبره أنهم قد حصبوا إمامهم، وقد كان عمر عوضهم به مكان إمام كان قبله، فحصبوه. فخرج إلى الصلاة مغضباً، فسها في صلاته، ثم أقبل على الناس، فقال: من ها هنا من أهل الشام؟ فقمت أنا وأصحابي. فقال: يا أهل الشام، تجهزوا لأهل العراق، فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ، ثم قال: اللهم إنهم قد لبسوا علي فلبس عليهم، وعجل لهم الغلام الثقفي، يحكم فيهم بحكم الجاهلية، ولا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم. وعن أبي عذبة قال: أوشك بالرجل أن يأتي قبر حميمه فيتمعك عليه فيقول: يا ليتني كنت مكانك، فقد نجوت. قيل: عم ذلك؟ فقال: تدعون إلى ناحية عدو، فبينا أنتم كذلك إذ دعيتم من كل ناحية إلى عدو، فلا تدرون أي عدوكم تبغون، فيومئذ يكون ذلك. عذبة: بعين مفتوحة، وذال معجمة، وباء موحدة.(29/68)
أبو العذراء
حدث أبو العذراء، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أحلو الله يغفر لكم ". أي أسلموا لله يغفر لكم.
أبو العريان المخزومي
كان أبو العريان بباب معاوية بعد دعوة زياد بأيام، فأقبل زياد ليدخل على معاوية، فلما رآه الناس تحسسوا له. فقال أبو العريان وكان مكفوف البصر: من هذا؟ قالوا زياد بن أبي سفيان. فقال أبو العريان: ومتى كان زياد ابن أبي سفيان؟! ما أعرف له ابناً يقال له زياد، أما والله، لرب وضيع قد رفعه الله. ونمي الكلام إلى معاوية فقال لزياد: اقطع عنك لسان أعمى بني مخزوم. فبعث إليه زياد بمال فقال: وصل الله ابن عمي، وجزاه خيراً. فمر به زياد في الغد وهو يتكلم، وتحسحس له الناس، فقال: من هذا؟ قالوا: زياد. قال: أما والله قد عرفت حزم أبي سفيان في منطقه. ونمى الحديث إلى معاوية، فكتب إليه: من البسيط
ما لبثتك الدنانير التي رشيت ... أن لونتك أبا العريان ألوانا
أمسى زياد أصيلاً في أرومته ... وما عرفت له الحق الذي كانا
لله در زياد لو تجعلها ... كانت له دون ما يخشاه قربانا
فكتب إليه أبو العريان: من البسيط
أما زياد فلم أظلمه نسبته ... وما أردت بما حاولت بهتانا(29/69)
أبو عفير الدؤلي
شاعر. كان عند عبد الملك بن مروان، فدخل أبو الأسود الدؤلي وكان أحول، دميماً قبيح المنظر فقال له عبد الملك يمازحه: يا أبا الأسود، لو علقت عليك عوذة تدفع عنك العين، فقال: إن لك جواباً يا أمير المؤمنين، وأنشد: من البسيط
أفنى الجديد الذي جاريت جدته ... كر الجديدين من آت ومنطق
لم يتركا لي في طول اختلافهما ... شيئاً أخاف عليه لذعة الحريق
ولئن كانت أبلتني السنون، وأسرعت إلي المنون، لما أبليت ذلك إلا في موضعه، وكنت يوم كنت فيه إلى الآنسات البيض أشهى منك إليهن في يومك هذا؛ على عجبك بنفسك، وإني اليوم لكما قال امرؤ القيس: من البسيط
أراهن لا يحببن من قل ماله ... ولا من رأين الشيب فيه قوسا
ولقد كنت كما قال: من الطويل
يرعن إلى صوتي إذا ما سمعنه ... كما ترعوي عيظ إلى صوت أعيسا
فقال له عبد الملك: قاتلك الله من شيخ ما أعظم همتك! عيظ: جمع عيظاء، الناقة الطويلة العنق. والأعيس: فحل أبيض تعلوه الشقرة.(29/70)
أبو عقيل المبتلي
أحد الصالحين قال أبو عقيل: مبتدأ وراثة العابدين الفكر، ثم ورثوا من الفكر العبر، ثم ورثوا من العبر الصبر، ثم ورثوا من الصبر العمل، ثم ورثوا من العمل الانتفاع، وجاءتهم الجوائز من رب العالمين بعد ما ألفت قيام الليل.
أبو علقمة بن أبي كبير الأسلمي
قال أبو علقمة: لما خلص الأمر إلى عبد الملك بن مروان، بعث إلي فقال: هل أخبرك كعب الأحبار فإنه كان يخصك، ويسر إليك لمن هذا الأمر بعدي؟ فقلت: سمعته يقول: تكون الأعماق على يد الواحد والعشرين خليفة من بعدك.
أبو علقمة النميري المضحك
انقطع إلى أبي علقمة غلام يخدمه، فأراد أبو علقمة البكور في حوائجه، فقال له: يا غلام، أصقعت العتاريف؟ فقال له الغلام: زقفيلم. قال أبو علقمة: وما زقفيلم؟ قال:
وما العتاريف؟ قال: الديوك. قال: ما صاح منها شيء بعد. جاء أبو علقمة الأعرابي إلى الحجام، فقال له: تحجمني؟ قال: نعم. قال: اشدد قضم المحاجم، وازنج ولا تربج، أجعل طعنك وخزاً، ومصك حفزاً، ولا تكرهن أبياً،(29/71)
ولا تردن أتياً. فقال الحجام، قد أتى علي خمسون سنة لم أقاتل في الهرب. يعني: في الحرب. أتى أبو علقمة أبا زلازل الحذاء فقال: يا حذاء احذ لي هذا النعل. فقال: وكيف تريد أن أحذوها لك؟ قال: خصر نطاقها، وغضف معقبها، وأقب مقدمها، وعرج ونية الذؤابة بخزم دون بلوغ الرصاف وأنحل مخازمها، وأوشك في العمل. فقام أبو زلازل فتأبط متاعه، فقال أبو علقمة: إلى أين؟ قال: إلى ابن القرية ليفسر لي كلامك.
أبو علقمة أو أبو علي البيروتي
قال أبو علي البيروتي: شارط إبراهيم رجلاً على شيء يعمل في الأرض، فعمل أياماً، وأتاه صاحب الأرض فقال: أفسدت علي أرضي. قال إبراهيم: ما أفسدت عليك أكثر أم كرائي؟ قال: الكراء. قال: فأطرح لك من الكراء بقدر(29/72)
ما أفسدت عليك. فقال الرجل: نعم. فولى إبراهيم، فقيل للرجل: هذا إبراهيم بن أدهم فأتاه فقال: خذ كراءك وافياً، وأجعلك في حل مما أفسدت أرضي. فقال إبراهيم: لا حاجة لي في الكراء، المسلمون عند شروطهم. قال أبو علي البيروتي: أهديت إلى إبراهيم هدية، فلم يكن عنده شيء يكافئه، فنزع فروة فجعلها في الطبق وبعث بها إليه.
أبو علي بن أبي التائب
قال أبو علي أنشدني سليم بن منصور بن عمار: من مجزوء الرمل
أذكر الموت ولا تن ... س حلول القبر وحدك
ورجوع القوم لما ... ألصقوا بالترب خدك
أنت في لحدك إذ لا ... بد أن تسكن لحدك
فأطع إن شئت أو فاع ... ص إذا ما شئت جهدك
لك عند الله ذي العز ... م كما لله عندك
أبو علي بن أبي السمراء الأطرابلسي
الضرير، الشاعر. قال أحمد بن عمرو الرومي: أنشدت أبا علي بن أبي السمراء شعراً فقال: قد عارضته، وأنشد من المنسرح
عجبت من عصبة نمت وسمت ... باسم التقى والنهى وهم جهله
وساوس النفس علمهم ولهم ... مقالة في الحلول مفتعله
تصوف القوم كي يبلغهم ... لباسهم ما تبلغ المسله(29/73)
لو أن ما هم عليه عن رغة ... ما جعل القوم زيهم مثله
لقد تأتى لهم بزيهمو ... من الورى ما تعاطى القتله
إذا تأملتهم رأيتهمو ... نوكى كسالى أذلة أكله
أبو علي بن أبي موسى المعدل
قال أبو علي: كنت بمصر فقال بعض أصحابنا: يا أبا علي ها هنا حكاية عجيبة، قم حتى تسمعها من أحمد بن طاهر القزاز. فجئنا إليه، وسألوه أن يحكي لي حكاية أبي شعيب المقفع فقال: هذا سوقي، أيش أذكر له؟ فقيل له: احكها له، فقال: نعم، كان لنا بمصر بيت ضيافة، فجاءنا فقير يكنى بأبي سليمان، فقال: الضيافة. فأقام عندنا سبعة أيام، أكل فيها ثلاث أكلات، كل ثلاثة أيام أكلة، فسمته المقام عندنا فأبى وقال: أريد الثغر. فسألته أن لا يقطع أخباره عني، فغاب اثنتي عشرة سنة، وقدم، فقلت له: لم لم تكتب إلي؟ فقال: لم أبلغ الثغر، كنت في الرملة، فرأيت فيها شيخاً يقال له أبو شعيب؛ مبتلى، فخدمته سنة، فوقع لي أن أسأله، عن سبب بلائه، فدنوت منه، فابتدأني وقال: وما سؤالك عما لا يعنيك؟ فصبرت سنة أخرى وتقدمت إليه لأسأله، فقال لي في الثالثة: ولا بد لك؟ فقلت: إن رأيت. قال: نعم، بينا أنا أصلي بالليل في محرابي، حتى بدا لي من المحراب نور شعشعاني كاد أن يخطف بصري. فقلت: اخسأ يا ملعون، فإن ربي أجل وأعز من أن يبرز للخلق. ثم صبرت برهة، فبدا لي نور فقلت مثل ذلك، ثم بدا في الثالثة نور أشد مما بدا، فقلت: إخسأ يا ملعون. فلو برزت السماوات والأرضون والعرش والكرسي كان ربي أجل وأعز من أن يبرز للخلق. قال: ثم سمعت نداءً ملكياً من المحراب: يا أبا شعيب. قلت: لبيك، لبيك، لبيك، فقال: تحب أن أقبضك في وقتك هذا، ونجازيك على ما مضى لك؟ أو نبتليك ببلاء نرفعك به في عليين. فسكت سكتة ثم قال:
بلاؤك، بلاؤك، بلاؤك. فسقطت عيني ويدي ورجلي. قال: فمكثت أخدمه اثنتي عشرة سنة. فقال لي يوماً، وكأن عينيه سكرجتان: ترى ما أرى؟ قلت: لا. قال: فتسمع ما أسمع؟ قلت: لا. قال: ادن مني. فدنوت منه، فسمعت أعضاءه تخاطب بعضها بعضاً(29/74)
يقول العضو لما يليه: ابرز منه. حتى برزت أعضاؤه كلها بين يديه صبة واحدة تسبح الله تعالى، وتقدمنا. فلولا أنه قد مات ماحدثتكم به.
أبو علي القيسراني
أحد الصلحاء كان مقيماً بأكواخ بانياس، قال ابن طبينة: اشتقت إلى أبي علي القيسراني. وكان صديقاً لي، ولي مدة ما زرته، وكان بالأكواخ فقلت: أزوره وأتبرك به، وآخذ له معي شيئاً أتحفه به فوقع في نفسي رطب فأخذت له سلاً، وسرت إليه، فلما وصلت قرعت الباب فقال: فلان. فعجبت من ذلك، وقلت: نعم. فقال: جئت لي معك الرطب؟ قلت: نعم. قال: ادخل. فلما سلمت عليه وقبلت بين عينيه، قلت: أعلمني هذه القصة، كيف هيه؟ فقال: عرض في نفسي شهوة الرطب من سنين عدة واستحييت من الله أن أسأل في ذلك أو ينطق به لساني فرأيت البارحة في منامي هاتفاً يقول: غداً يجيئك الرطب على يد فلان ولم لا تسألنا فيه؟ فانتبهت وصليت ركعتين ثم عدت إلى مضجعي، فرأيت ذلك ثانياً فانتبهت وصليت صلاة الغداة، فلما كان وقتي هذا؛ لم يقرع الباب أحد غيرك. وأمرنا أن ينكت على الأرض فأكلت معه منه، وأقمت عنده ثلاثاً.
أبو عمارة الصوري
من شعره من الخفيف
يا ثقيلاٌ لو كان في حسناتي ... وجميع الأنام في سيئاتي
لا ستقل الذنوب بل كسر ال ... ميزان من ثقله على الكفات(29/75)
أبو عمران الطبري
أحد شيوخ الصوفية. قال أبو عمران: سمعت أبا عبد الله بن الجلاء يقول: سمعت ذا النون بن إبراهيم الإخميمي يقول: أفضل الأعمال أربعة: الحلم عند الغضب، والسخاوة في القلة، والورع في الخلوة، وصدق القول عند من تخافه أو ترجوه. سأل بعض الفقراء أبا عمران فقال: فقير عقد على نفسه عقداً ثم يستقبله العلم بما هو أولى؟ قال: لا يرجع في عقده. قال الله تعالى: " فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ". قال السلمي: توفي سنة أربع وعشرين وثلاث مئة.
أبو عمر شيخ ببيروت
حدث عن أبي الدرداء أن رجلاً يقال له حرملة أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: الإيمان ها هنا. وأشار بيده إلى لسانه، والنفاق ها هنا. وأشار بيده إلى قلبه، ولا نذكر الله إلا قليلاً. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم، اجعل لسانه ذاكراً، وقلبه شاكراً، وارزقه حبي وحب من يحبني، وصير أمره إلى خير. فقال: يا رسول الله، إنه كان لي أصحاب من المنافقين، وكنت رأساً فيهم، أفلا أنبئك بهم؟ قال: من أتانا استغفرنا له، ومن أصر على ذنبه فالله أولى به، ولا تخرقن على أحد ستراً. وحدث عن معاذ بن جبل قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب؛ فيتهافت، يقرؤونه لايجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، أن قصروا قالوا: سنبلغ، وإن أساءوا قالوا: سيغفر لنا؛ إنا لا نشرك بالله شيئاً.(29/76)
أبو عمر الدمشقي
حدث عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، كم كان المرسلون؟ قال: كانوا ثلاث مئة وخمسة عشر؛ جماً غفيراً. قال: قلت: يا رسول الله آدم نبي كان؟ قال: نعم، نبياً مكلماً. قال: قلت: يا نبي الله، أي ما أنزل عليك أعظم؟ قال: " الله لا إله إلا هو الحي القيوم ". وفي آخر بسنده عن أبي ذر قال: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في المسجد، فجلست، فقال: يا أبا ذر، هل صليت؟ قلت: لا. قال: قم فصل. قال: فقمت فصليت، ثم جلست، قال: يا أبا ذر، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن قال: قلت: يا رسول الله، وللإنس شياطين؟ قال: نعم. قلت: يا رسول الله، الصلاة؟ قال: خير موضوع، من شاء أقل ومن شاء أكثر. قال: قلت: يا رسول الله، فالصوم؟ قال: فرض مجزئ، وعند الله مزيد. قلت: يا رسول الله، فالصدقة؟ قال: أضعاف مضاعفة. قلت: يا رسول الله، فأيها أفضل؟ قال: جهد من مقل أو سر إلى فقير. قلت: يا رسول الله، أي الأنبياء كان أول؟ قال: آدم عليه السلام. قلت: ونبي كان؟ قال: نعم، نبي مكلم الحديث.
أبو عمر الدمشقي
قال: بلغني رجلاً أتى أبا ذر وهو بالربدة فقال: أنت أبو ذر؟ قال: نعم. قال: أنت جندب بن السكن؟ قال: نعم. قال: أنت تسب عثمان؟ قال: رحم الله عثمان، لا تقل في عثمان إلا خيراً. قال: أما والله ما طردك ولا نفاك إلا ولك خربات وبدعات وعورات. قال: فنظر إليه أبو ذر فقال: يا هذا، إن بيني وبين الجنة عقيبة،(29/77)
فإن أنا جزتها فوالله ما أبالي بقولك، وإن هو قصر بي دونها، فأنا أهل لما هو أشد مما قلت لي.
أبو عمر الدمشقي
أحد مشايخ الصوفية. كان يقول بالشواهد والصفات، وهذا مذهب لأهل الشام، ربما تكلموا بأشياء تدق في مسائل الأرواح وغيرها. قال: وهذا مكذوب على أبي عمر، لأنه أحد مشايخهم العالمين، وقد رد على الحلولية وأصحاب الشواهد والصفات مقالاتهم، وكان عالماً بعلوم الحقائق، ورد على من تكلم في قدم الأرواح والشواهد. قال أبو الفضل العباس: كان أبو عمر الصوفي يبايت أصحابنا وهو حدث على السماع، فلما كان في بعض الليالي اضطرب وخنق نفسه وأزبد ومات. فجلسنا حوله لا نعلم ما نعمل من أمره، فقال بعضنا لبعض: قطعوه إرباً إرباً ويخرج بكل قطعة منه رجل يرمي به في نهر. ثم تنفس وجلس، فقلنا له: ما شأنك؟ فقال: التوبة، إني كنت أحضر معكم وأستهزىء بما يجري من أصحابنا من الوجد، فلما قام أصحابنا الليلة، جرى في قلبي ذلك الإستهزاء، فإذا بأسود بشيع الخلقة، ومعه حربة من نار فأهوى إلي بها وقال: أتهزأ بأولياء الله؟ ثم لا أدري ما كان مني حتى الساعة، فأنا تائب إلى الله مما سلف. وهذا كان مبدأ حديث أبي عمر، ثم علا حتى صار أحد أئمة القوم.
سئل أبو عمر الدمشقي: أي الخلق أعجز؟ قال: من عجز عن سياسة نفسه. قلت: أي الخلق أقوى؟ قال: من قوي على مخالفة هواه. قلت: أي الخلق أعقل؟ قال: من ترك المكونات وأقبل على مكونها. وقال أبو عمر لرجل يوصيه في سفر يريد أن يخرج إليه: يا أخي، لا تصحب غير الله، فإنه الذي يكفيك المهمات، ويشكرك على الحسنات، ويستر عليك السيئات ولا يفارقك في خطوة من الخطوات.(29/78)
قال أبو عمر الدمشقي: سئل أبو عمر عن الزهد فقال: أن يزهد فيما له مخافة أن يهوى ما ليس له. كان أبو عمر يقول في قوله عز وجل للملائكة " اسجدوا لآدم ": قال: أراد به امتحانهم وأن يعريهم من شواهد أحوالهم وأفعالهم. وقال أبو عمر: الخائف من يخاف من نفسه أكثر مما يخاف من الشيطان. قال أبو عمر: كما فرض الله على الأنبياء إظهار الآيات والمعجزات ليؤمنوا بها، كذلك فرض على الأولياء كتمان الكرامات حتى لا يفتنوا بها. توفي أبو عمر سنة عشرين وثلاث مئة. وقيل: سنة أربع وعشرين، وقيل: سنة عشر وثلاث مئة.
أبو عمرو
ويقال: اسمه زرعة السيباني، الشامي الفلسطيني والد أبي زرعة يحيى بن أبي عمرو حدث عن عقبة بن عامر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل ". وحدث عن عقبة أنه مر برجل هيئته هيئة رجل مسلم. فسلم، فرد عليه عقبة: وعليك ورحمة الله وبركاته، فقال له الغلام: أتدري على من رددت؟ فقال: أليس برجل مسلم؟ فقالوا: لا، ولكنه نصراني. فقام عقبة فتبعه حتى أدركه، فقال: إن رحمة الله وبركاته على المؤمنين، لكن أطال الله حياتك وأكثر مالك.(29/79)
أبو عمرو الدمشقي
قال أبو عمر بن عبد العزيز عن جند له شيء، فكتب إليهم " الله لا إله إلا هو، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثاً ".
أبو عمرو بن العلاء
ابن عمار بن العريان، واسمه عمرو بن عبد الله بن الحصين البصري أحد الأئمة السبعة من القراء اختلف في اسمه، فقيل: زبان بزاي بعدها باء مشددة وقيل: يحيى، وقيل: العريان، وقيل: جبر، وقيل: اسمه وكنيته. حدث عن ابن سيرين بن عبيدة عن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يخرج قوم فيهم رجل مودن اليد أو مثدون اليد أو مخدج اليد، ولولا أن تبطروا لأنبأتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال عبيدة: قلت لعلي: أنت سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال:
إي ورب الكعبة، إي ورب الكعبة، إي ورب الكعبة. وحدث عن أنس عن أبي بكر الصديق أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت له خرقة ينشف بها بعد الوضوء. قال أبو عمرو بن العلاء: خرجت مع جرير بن الخطفي إلى الشام فلما كنا ببعض(29/80)
الطريق قال لي: يا أبا عمرو، أنشدني شعراً لأخي بني مليح فأنشدته: من الطويل
وأذيتني حتى إذا ما استبيتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح
تراخين عني حين لا لي مذهب ... وغادرن ما غادرن بين الجوانح
فقال: يا أبا عمرو، لولا أن النخير لا يحسن بشيخ مثلي؛ نخرت نخرةً يسمعها هشام على سريره. مر أبو عمرو بن العلاء بمجلس قوم فقال رجل من القوم: ليت شعري، أعربي القوم أم مولى؟ وهو على بغلة له. فقال: النسب في مازن، والولاء للعنبر، وقال: عدس للبغلة، ومضى. قصد حمزة الزيات أبا عمرو بن العلاء إلى البصرة ليقرأ عليه، فأواه الليل بين قريتين، فإذا هاتف يهتف: أما وجد هذا موضعاً يأوي إليه هذا الموضع، سد؛ لأوذينه الليلة. قال: فأدرت حولي دارة، وقعدت في وسطها، وقرأت سورة الأنعام، فإذا بهاتف يهتف يقول: قد قرأ سورة الأنعام فاحرسه بقية ليلته. فوصل إلى البصرة، ودخل مسجد أبي عمرو بن العلاء فتغامز رجلان كانا في المسجد، فقال أحدهما: يشبه أن يكون حائكاً؛ وذلك أنه كان في خلقه دمامة، ولم يكن بالنظيف. وقال الآخر: إن كان حائكاً؛ فسيقرأ سورة يوسف. وسمع حمزة كلامهما، وخرج أبو عمرو بن العلاء فجلس في مجلسه، وجثا حمزة بين يديه، فابتدأ سورة يوسف، وكان لا يقرئ إلا عشراً عشراً، فلما قرأ عشراً منها ذهب حمزة ليقوم، فأومأ إليه أن زد، فقرأ عشراً آخر وأمسك، فأومأ إليه بيده أن زد. قال: فختمها وقام يجر كساءه وغطى به رأسه، وتعقل عند باب المسجد، ومضى راجعاً إلى الكوفة. فقال أبو عمرو لرجل عنده: الحق هذا الرجل وقل له: سألتك بالله أنت حمزة الزيات؟ فلحقه فقال له: أنت حمزة الزيات؟ قال: نعم. وانصرف إلى الكوفة. وكان أبو عمرو بن العلاء أعلم الناس بالقرآن والعربية، والعرب وأيامها، والشعر وأيام(29/81)
الناس، وكانت دفاتره ملء بيت إلى السقف ثم تنسك فأحرقها، وقال فيه الفرزدق: من البسيط
ما زلت أفتح أبواباً وأغلقها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
وكان قدوة في العلم باللغة، إمام الناس في العربية، متمسكاً بالآثار، لا يكاد يخالف في اختياره ما جاء عن الأئمة قبله، متواضعاً في علمه، ولم يزل العلماء في زمانه تعرف له تقدمه، وتقر له بفضله، وتأتم في القراءة بمذاهبه، وكان حسن الاختيار، سهل القراءة، غير متكلف، يؤثر التخفيف ما وجد إليه السبيل. قال سفيان بن عيينة: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فقلت: يا رسول الله، قد اختلفت علي القراءات. فبقراءة من تأمرني أن أقرأ؟ قال: اقرأ بقراءة أبي عمرو بن العلاء. قال شجاع بن أبي نصر: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فعرضت عليه أشياء من قراءة أبي عمرو فما رد علي إلا حرفين.
قال الأصمعي: جمعنا بين أبي عمرو بن العلاء وبين محمد بن مسعر الفدكي. قال أبو عمرو: ما تقول؟ قال: أقول: أن الله وعد وعداً، وأوعد إيعاداً، فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده. فقال أبو عمرو: إنك رجل أعجم، لا أقول أعجم اللسان ولكن أعجم القلب. إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤماً وعن الإيعاد كرماً. وأنشد: من الطويل
وإني إن أوعدته أو وعدته ... ليكذب إيعادي ويصدق موعدي
وروي مثل ذلك بينه وبين عمرو بن عبيد، وأنه كان تكلم في الوعيد سنة. فقال(29/82)
أبو عمرو: إنك لألكن الفهم إذ صيرت الوعيد في أعظم شيء مثله في أصغر شيء. فاعلم أن النهي عن الصغير والكبير ليسا سواء، وإنما نهى الله عنهما لتتم حجته على خلقه، ولئلا يعدل عن أمره وطاعته، ووراء وعيده عفوه ووسيع كرمه، وأنشد: من الطويل
ولا يرهب ابن العم مني صولة ... ولا أختتي من صولة المتهدد
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف ميعادي ومنجز موعدي
فقال له عمرو: صدقت، إن العرب تمتدح الوفاء بالوعد دون الإيعاد، وقد تمتدح بالوفاء بهما، ألم تسمع قول الشاعر؟ من المنسرح
إن أبا خالد لمجتمع الر ... م أي شريف الأفعال والبيت
لا يخلف الوعد والوعيد ولا ... يبيت من ثأره على فوت
قال عمرو: قد وافق هذا قول الله عز وجل " ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا " الآية، فقال له أبو عمرو: قد وافق الأول إخبار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والحديث يفسر القرآن. قال الأصمعي: قلت لأبي عمرو بن العلاء: " وباركنا عليه " في موضع، " وبركنا عليه " في موضع آخر، أتعرف هذا؟ فقال: ما أعرف إلا ما نسمع من المشايخ الأولين.
قال: وقال أبو عمرو: ما نحن فيمن مضى إلا كبقلٍ في أصول نخل طوال.(29/83)
وقال الأصمعي: قال أبو عمرو: لو أني كلما أخطأت رمي في حجري بجوزة، امتلأ حجري جوزاً.
مر أبو عمر بن العلاء بالبصرة، فإذا أعدال مطروحة مكتوب عليها: لأبو فلان. فقال: يا رب، يلحنون ويرزقون؟! لما قدم الأعمش وحدث بهذا الحديث: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخولنا بالموعظة في الأيام. فقال له أبو عمرو: إنما هي يتخوننا بالموعظة. فقال الأعمش: وما يدريك؟ فقال: لو شئت لأعلمتك أن الله لم يعلمك من هذا كبير شيء. قال الأصمعي: قد ظلمه أبو عمرو، يقال يتخولنا ويتخوننا جميعاً، فمن قال: يتخولنا، يقول يستصلحنا. يقال: رجل خائل مالٍ، ومن قال: يتخوننا: قال: يتعهدنا. وأنشد لذي الرمة: من البسيط
لا ينعش الطرف إلا ما تخونه ... داعٍ يناديه باسم الماء مبغوم
وقال أبو بكر بن دريد: التخول والتخون: واحد. قال أبو عمرو بن العلاء: سمعت أعرابياً ينشد، وكنت خرجت إلى ظاهر البصرة متفرجاً مما نالني من طلب الحجاج لي، واستخفائي منه: من الخفيف
يا قليل العزاء في الأهوال ... وكثير الهموم والأوجال
صبر النفس عند كل ملم ... إن في الصبر حيلة المحتال
لا تضيقن في الأمور فقد تك ... شف لأواؤها بغير احتيال
ربما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال
قد يصاب الجبان في آخر الص ... ف وينجو مقارع الأبطال(29/84)
فقلت: ما وراءك يا أعرابي؟ فقال: مات الحجاج. فلم أدر بأيهما أفرح، بموت الحجاج أو بقوله فرجة بفتح الفاء لأني كنت أطلب شاهداً لاختياري القراءة في سورة البقرة " إلا من اغترف غرفة ". قال الأصمعي: كان نقش خاتم أب عمرو بن العلاء من الطويل
وإن أمرأً دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور
فسألته عن ذلك فقال: كنت في ضيعتي نصف النهار أدور فيها، فسمعت قائلاً يقول هذا البيت، فنظرت فلم أجد أحداً، فكتبته على خاتمي. وفي رواية: قلت: إنسي أم جني؟ فقال: بل جني.
وفي رواية: فما أجابني، فنقشته على خاتمي. قال أبو عمرو بن العلاء: امتحنت خصال الإنسان فوجدت أشرفها صدق اللسان. قال الأصمعي: قال لي أبو عمرو بن العلاء: يا عبد الملك، كن من الكريم على حذر إذا أهنته، ومن اللئيم إذا أكرمته، ومن العاقل إذا أحرجته، ومن الأحمق إذا مازحته، ومن الفاجر إذا عاشرته، وليس من الأدب أن تجيب من لا يسألك، أو تسأل من لا يجيبك، أو تحدث من لا ينصت لك. وكأن البحتري أخذ هذا المعنى فقال: من الكامل:
وسألت من لا يستجيب فكنت في اس ... تخباره كمجيب من لا يسأل
سأل رجل أبا عمرو بن العلاء حاجة فوعده بها، ثم إن الحاجة تعذرت على أبي عمرو، فلقيه الرجل بعد ذلك فقال له: يا أبا عمرو، وعدتني وعداً فلم تنجزه. فقال أبو عمرو: فمن أولى بالغم؟ قال: أنا. قال: لا، بل أنا. قال الرجل: وكيف ذلك؟ قال: لأني(29/85)
وعدتك وعداً، فأبت بفرح الوعد، وأبت أنا بهم الإنجاز، فبت ليلتك فرحاً مسروراً، وبت ليلتي مفكراً مهموماً، ثم عاق القدر عن بلوغ الإرادة، فلقيتني مدلاً، ولقيتك محتشماً. قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: ما ضاق مجلس بي متحابين. وقال: إني لأحب أن أرى أهل ودي كل يوم مرتين. مرض أبو عمرو بن العلاء مرضة، فأتاه أصحابه إلا رجلاً منهم، ثم جاءه بعد ذلك، فقال: إني أريد أن أسامرك الليلة. فقال: أنت معافى وأنا مبتلي، والعافية لا تدعوك أن تسهر، والبلاء لا يدعني أنام، والله أسال أن يسوق إلي أهل العافية والشكر، وإلى أهل البلاء الأجر. قال الأصمعي:
كان لأبي عمرو بن العلاء من غلته كل يوم فلسان: يشتري بفلس ريحاناً، وكوزاً جديداً بفلس، فيشرب فيه يومه، وإذا أمسى تصدق به، ويشم الريحان يومه، فإذا أمسى قال للجارية: جففيه ودقيه في الأشنان. كان ثقيل يجلس إلى أبي عمرو يستثقله، فكان إذا طلع دخل وتركه، وكتب إليه يستعطفه، فكتب إليه أبو عمرو: من الخفيف
أنت يا صاحب الكتاب ثقيل ... وقليل من الثقيل كثير
قال أبو عمرو بن العلاء: الطلاق الثلاث البت لازم له إن كانت العرب قالت أجود من هذه الأربعة أبيات: من الكامل
كن للمكاره بالعزاء مقلعاً ... فلقل يوم لا ترى ما تكره
فلربما استتر الفتى فتنافست ... فيه العيون وإنه لمموه
ولربما خزن الكريم لسانه ... حذر الجواب وإنه لمفوه
ولربما ابتسم الكريم من الأذى ... وفؤاده من حره يتأوه(29/86)
ومما أنشده لأبي عمرو بن العلاء: من المتقارب.
دع الهم بالرزق يا غافلاً ... فربك منه لنا قد فرغ
فمالك منه إذا ما افتكرت ... بعقل صحيح سوى ما مضغ
وجاز التراقي بلا مانع ... وفاتك بالجوف لما بلغ
فدع ذكر دنيا تبدت لنا ... كسم الشجاع إذا ما لدغ
فإني خلوت بذكري لها ... وخالفت إبليس لما نزغ
فألفيتها مثل ماء الإناء ... وكلب العشيرة فيه يلغ
فخليتها عن قلىً كلها ... وعللت نفسي بأخذ البلغ
وأنشدوا لأبي عمرو بن العلاء: من الكامل
أبني إن من الرجال بهيمةً ... في صورة الرجل السميع المبصر
فطن بكل مصيبة في ماله ... فإذا يصاب بدينه لم يغفر
قال أبو سعيد الرازي: قدم علينا أبو عمرو بن العلاء الكوفة على محمد بن سليمان، فكنت أجالسه، فذكر يوماً أهل البصرة فقدمهم على أهل الكوفة فجعلت أرد عليه، وأقدم أهل الكوفة. فقال أبو عمرو: لكم حذلقة النبط وصلفها، ولنا دهاء فارس وأحلامها. فأردت أن أقول له: ولكم حدة الخوز ونزقها، فاستحييت منه. فقال لي ابن ثروان مولى قريش: لوددت أنك قلتها له، وأني غرمت ألف درهم. توفي أبو عمرو بن العلاء سنة أربع وخمسين ومئة. وقيل: سنة سبع وخمسين ومئة. قالوا: وهو ابن ست وثمانين. قال وكيع بن الجراح: قرأت على قبر أبي عمرو بن العلاء بالكوفة: هذا قبر أبي عمرو بن العلاء، مولى بني حنيفة.(29/87)
أبو عمرو شيخ قدم دمشق
إن لم يكن يوسف بن يعقوب بن الأخوين، فهو غيره. حدث عن سعيد بن يحيى الأموي بسنده إلى معاوية بن إسحاق قال: رأيت سعيد بن جبير عند الميضأة في الغلس، وهو ثقيل اللسان، فقلت: ما لي أراك ثقيل اللسان؟ قال: ختمت القرآن البارحة مرتين ونصفاً.
أبو عنبة الخولاني
أسلم في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يره، وقيل: إنه سمع منه، وصلى إلى القبلتين، وقيل: إن اسمه عبد الله بن عنبة، وقيل: عمارة. حدث أبو عنبة وهو من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ممن صلى القبلتين كلتيهما، وأكل الدم في الجاهلية قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يزال الله يغرس في هذا الدين بغرس يستعملهم في طاعته. وعن أبي عنبة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أراد الله بعبد خيراً عسله. قيل: وما عسله؟ قال: يفتح له عملاً صالحاً قبل موته ثم يقبضه عليه. وعن أبي عنبة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله إذا أراد بعبد خيراً ابتلاه، فإذا ابتلاه اقتناه. قالوا: يا رسول الله وما اقتناه؟ قال: لم يترك له مالاً ولا ولداً.(29/88)
وعن أبي عنبة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا تحرجوا أمتي ثلاثاً اللهم؛ من أمر أمتي بما لم تأمرني به. فإنهم منه في حل. وعن أبي عنبة قال: حضرت عمر بالجابية قرأ " إذا السماء انشقت " على المنبر، فسجد وسجد الناس. وفي رواية: فنزل، فسجد. قال أبو عنبة: لقد أكلت الدم في الجاهلية، وتعلمت القرآن كله، لم يبق علي منه إلا آية لم أجد أحداً يقرئنيها. وقال أبو عنبة: لقد رأيتني وقد أرسلت شعري لأجزه لصنم لنا، فأخر الله ذلك حتى جزرته في الإسلام.
دخل أبو عنبة المسجد وهو أعمى يقوده غلام له فقال له: إياك أن تخطى بي رقاب الناس، أجلسني في أدنى المسجد. وعن أبي عنبة قال: رب كلمة خير من إعطاء مال.
وعن أبي عنبة قال: إن لله آنيةً في أرضه، وآنيته في أرضه قلوب عباده الصالحين، فأحبها إليه أرحمها وألينها. كان أبو عنبة يوماً في مجلس خولان في المسجد جالساً، فخرج عبد الله بن عبد الملك هارباً من الطاعون. فسأل عنه فقالوا: خرج يتزحزح هارباً من الطاعون. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما كنت أرى أني أبقى حتى أسمع بمثل هذا، أفلا أخبركم عن خلال كان عليها إخوانكم؟ أولها: لقاء الله، كان أحب إليهم من الشهد. والثانية: لم يكونوا يخافون عدواً قلوا أو كثروا. والثالثة: لم يكونوا يخافون عوزاً من الدنيا، كانوا واثقين بالله أن يرزقهم. والرابعة: إن نزل بهم الطاعون لم يبرحوا حتى يقضي الله فيهم ما قضى.
مات أبو عنبة سنة ثماني عشرة ومئة.(29/89)
أبو عنبة الأموي مولاهم
قال أبو عنبة: قلت لعمر بن عبد العزيز: أنا من مواليكم، وإن علينا بالعراق امرأ سوء. فقال لي: وما يسكنك العراق؟ لقد بلغني أن أحداً لا يسكن العراق إلا قيض له فريق من البلاء.
وفي حديث أنه قال له: أين منزلك؟ قال: بالعراق. قال: أو ما بلغك أنه لا ينزله أحد إلا سيق إليه قطعة من الداء؟
أبو العلاء
إن لم يكن برد بن سنان، فهو غيره. حدث عن محمد بن حجادة عن بن زيد بن حصين عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما بعث الله نبياً قط إلا وفي أمته قدرية ومرجئة يشوشون عليه أمر أمته. ألا وإن الله قد لعن القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً. وحدث عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هلاك أمتي بالعصبية والقدرية، والرواية من غير تثبت.
أبو العلاء بن العين زربي
شاعر محسن. قال أبو الحسن علي بن مسهر الموصلي: جاءني أبو العلاء بن العين زربي بدمشق سنة نيف وسبعين وأربع مئة بادياً حزيناً، فسألته عن حاله فقال: إني عملت في المنام أشعاراً كثيرة، لما اهتد بها في اليقظة، فما حفظت منها شيئاً، وقد رأيت ملك الموت عليه السلام في هذه الليلة الماضية، وهو يقول لي: أنا ضيفك. فعملت في المنام هذين البيتين وحفظتهما: من الطويل(29/90)
قضى الله أن أقضي ويقضي منيتي ... ولم أقض في الدنيا مناي ومنيتي
فالله ضيف زارني فقريته ... حياتي فولى ظاعناً حين ولت
ثم خرج عني، فوصلني خبره بعد يومين أو ثلاثة أنه مات، إلى رحمة الله.
أبو عياش الدمشقي
حدث عن زجلة مولاة عاتكة عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: الإيمان إيمانان: إيمان شهادة، وإيمان أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
أبو عيسى الدمشقي
إن لم يكن موسى بن عيسى القرشي الذي تقدم في حرف الميم؛ فهو غيره. حدث عن محمد بن شهاب الزهري قال: مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجل يتوضأ، وهو يفرغ الماء في وضوئه إفراغاً. فقال: لا تسرف. فقال: يا رسول الله، وفي الوضوء إسراف؟! قال: نعم، في كل شيء إسراف.
ابن عمار
مؤذن مسجد زرا. قال: وجدت في السفر الرابع من التوراة أن الله عز وجل يقول: أنا الله الذي لا إله إلا أنا، عيني كل شيء، أرى أثر النمل في الصفا، وأرى وقع الطير في الهواء، وأعلم ما في القلب والكلى، وأعطي العبد على ما نوى.(29/91)
ابن أبي العمياء
ويقال: أبو العمياء حدث عن أبيه قال: وفدت إلى معاوية، فنسبني فانتسبت له، فعرفني فقال: إن المعرفة نسب من الأنساب، ارفع حوائجك، قبح الله معرفة لا تنفع.
عم يعلى بن عطاء العامري
قال: كنت مع عبد الله بن عمرو حين بعثه يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن الزبير. قال: فسمعت عبد الله بن عمرو يقول لابن الزبير: تعلم أني أجد في الكتاب أنك ستعنى وتعنى، وتدعى الخليفة، ولست بخليفة، وإني أجد الخليفة يزيد بن معاوية.
عم إبراهيم بن أبي شيبان العنسي
قال: إذا أدرت الرب في القدح فعلق صفرته في القدح فهو الحلال.
العيشي أو العنسي
صاحب إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قدم دمشق مع المأمون. قال: قل المال بدمشق عند المأمون حتى ضاق، وشكا ذلك إلى أبي إسحاق المعتصم، فقال له: يا أمير المؤمنين، كأنك بالمال قد وافاك بعد جمعة. وكان قد حمل إليه ثلاثون ألف ألف درهم من خراج ما كان يتولاه، فلما ورد عليه ذلك المال، قال المأمون ليحيى بن أكثم: اخرج بنا ننظر إلى هذا المال. قال: فخرجا حتى أصحرا، ووقفا ينظرانه وكان قد هيئ بأحسن هيئة، وحليت أباعره، وألبست الأحلاس الموشاة والجلال المصبغة، وقلدت العهن وجعلت البدر بالحرير الصيني الملون، وأبدت رؤوسها. قال: فنظر المأمون إلى(29/92)
شيء حسن فاستكثر ذلك، وعظم في عينيه، واستشرفه الناس ينظرون إليه، ويتعجبون منه. فقال المأمون ليحيى بن أكثم: يا أبا محمد، ينصرف أصحابنا هؤلاء الذين نراهم الساعة خائبين إلى منازلهم وننصرف بهذه الأموال قد ملكناها دونهم؟ إنا إذاً للئام. ثم دعا محمد بن يزداد فقال: وقع لآل فلان بألف ألف ورجله في الركاب ولآل فلان بمثلها، ولآل فلان بمثلها، فما زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف ورجله في الركاب ثم قال: ادفع الباقي إلى المعلى لعطاء جندنا. قال العيشي: فخرجت حتى قمت نصب عينيه، فلم أرد طرفي عنه إلا بلحظتي ألا يراني بتلك الحال. فقال: يا أبا محمد، وقع لهذا بخمسين ألفاً من الستة الآلاف ألفٍ الباقية، لا يختلس ناظري، فلم يأت علي ليلتان حتى أخذت المال.(29/93)
أسماء النساء على حرف العين في الكنى
أم عاصم
قيل: إن اسمها ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، القرشية العدوية، أم عمر بن عبد العزيز. حدثت عن أبيها عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم الإدام الخل. حدث سالم الأفطس أن عمر بن عبد العزيز رمحته دابة، وهو غلام بدمشق، فضمته أم عاصم أمه إليها، وجعلت تمسح الدم عن وجهه، ودخل أبوه عليها على تلك الحال، فأقبلت عليه تعذله وتلومه وتقول: ضيعت ابني، ولم تضم إليه خادماً ولا حاضناً يحفظه من مثل هذا! فقال: اسكتي يا أم عاصم، فطوباك إن كان أشج بني أمية.
لما أراد عبد العزيز بن مروان أن يتزوج أم عمر بن عبد العزيز قال لقيمة: اجمع لي أربع مئة دينار من طيب مالي، فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح. فتزوج أم عمر بن عبد العزيز. لما ماتت رقية بنت عمر بن الخطاب عند إبراهيم بن نعيم بن عبد الله، انصرف به عاصم إلى منزله، فأخرج إليه ابنتيه حفصة وأم عاصم، فقال له: اختر أيهما شئت فإنا لا نحب أن ينقطع صهرك. قال إبراهيم: لم يخف علي أن أم عاصم أجمل المرأتين، فتجاوزت عنها وقلت: يصيب بها أبوها رغبة من بعض الملوك؛ لما رأيت من جمالها، وتزوجت حفصة. فتزوج عبد العزيز بن مروان أم عاصم؛ فولدت له عمر بن(29/94)
عبد العزيز، وإخوة له؛ ثم هلكت عنده، وهلك إبراهيم بن نعيم عن حفصة بنت عاصم، فتزوجها عبد العزيز بن مروان بعد مهلك أم عاصم، وحملت إليه بمصر. وكان بأيلة إنسان به خبل يقال له: شرشرين، فلما مرت به أم عاصم، تعرض لها، فأعطته وأحسنت إليه؛ ثم مرت به بعدها حفصة بنت عاصم، فتعرض لها، فلم ترفع به رأساً، فسئل: أين حفصة من أم عاصم؟ فقال: ليست حفصة من رجال أم عاصم. مر عمر بعجوز تبيع لبناً معها في سوق الليل. فقال لها: يا عجوز، لا تغشي المسلمين وزوار بيت الله عز وجل، ولا تشوبي اللبن بالماء. فقالت: نعم يا أمير المؤمنين. ثم مر بعد ذلك، فقال: يا عجوز، ألم أتقدم إليك أن لا تشوبي لبنك بالماء؟ فقالت: والله ما فعلت. فتكلمت ابنة لها من داخل الخباء، فقالت: يا أمة، أغشاً وكذباً جمعت على نفسك؟! فسمعهما عمر، فهم بمعاقبة العجوز، فتركها لكلام ابنتها، ثم التفت إلى بنيه فقال: أيكم يتزوج هذه، فلعل الله أن يخرج منها نسمة طيبة مثلها. فقال عاصم بن عمر:
أنا أتزوجها يا أمير المؤمنين. فتزوجها؛ فولدت له أم عاصم، فتزوج أم عاصم عبد العزيز بن مروان؛ فولدت له عمر بن عبد العزيز. وقيل: أن عمر بينا وهو يعس بالمدينة أعيا، فاتكأ على جدار، فإذا امرأه تقول لابنتها: قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء. فقالت: يا أمتاه، وما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم؟ قالت: وما كان من عزمته؟ قالت: نادى مناديه: لا يشاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنتاه، قومي فامذقيه. فإنك في موضع لا يراك عمر ولا منادي عمر. فقالت الصبية: ما كنت أطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء. وعمر يسمع كل ذلك فقال: يا أسلم علم الباب، واعرف الموضع. ومضى في عسه. فلما أصبح قال: يا أسلم، امض إلى ذلك الموضع فانظر من القائلة والمقول لها، وهل لهم من بعل. فإذا أيم لا بعل لها، وإذا تيك أمها، ليس لهم رجل. فأخبر عمر، فجمع ولده، وقال: فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه؟ ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء؛ ما سبقه منكم أحد إلى هذه الجارية. فزوجها من عاصم الحديث.(29/95)
وقيل: كان عمر بمنى فعطش، فانتهى إلى عجوز، فاستسقاها ماء، فقالت: ما عندنا. فقال: لبن. فقالت: ما عندنا. فبدرت جارية فقالت لها: أتكذبين وما تستحين؟! ثم قالت لعمر: هذا السقاء يه لبن. فسأل عمر عن الجارية، فإذا أبوها ثقفي. فزوجها من عاصم، فولدت أم عاصم، فتزوجها عبد العزيز، فولدت له عمر بن عبد العزيز.
وقيل: إنها قالت لأمها لما أمرتها بالمذق، لا أكون ممن يعصي عمر. فقال عمر لابنه عاصم: اذهب إلى موضع كذا وكذا، وانظر جارية كذا وكذا وصفها له فإن كان لها زوج، فبارك الله لزوجها، وإن لم يكن لها زوج فتزوجها، فإني أرجو أن يخرج الله منها سليلة تسود العرب. فذهب وسأل وتزوجها. بكى عمر بن عبد العزيز، وهو صغير قد جمع القرآن، فأرسلت إليه أمه، فقالت: ما يبكيك؟ قال: ذكر الموت. فبكت أمه من ذلك. لما ورد عمر بن عبد العزيز مظالم أهل بيته، وأخذهم بالحق قال مولى لآل مروان، بربري: وأنتم أيضاً تزوجوا بنات عمر بن الخطاب.
أم عبد الله بنت أبي هاشم
ابن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، الأموية. بنت خال معاوية. كتبت إلى النعمان بن بشير تسأله غماً ألقي على لسان زيد بن خارجة بعد موته. فكتب إليها: بسم الله الرحمن الرحيم.
من النعمان بن بشير إلى أم عبد الله ابنة أبي هاشم: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. فإنك كتبت إلي لأكتب إليك بشأن زيد بن خارجة: وإنه كان من شأنه أنه أخذه وجع في حلقه وهو يومئذٍ من أصح أهل المدينة فتوفي، فأضجعناه لظهره، وغشيناه بردين وكساء. فأتاني آتٍ وأنا أسبح بعد المغرب، فقال: إن زيداً قد تكلم بعد وفاته، فانصرفت إليه مسرعاً، وقد حضره قوم من الأنصار وهو يقول،(29/96)
أو يقال على لسانه: الأوسط أجلد القوم، الذي كان لا يبالي في الله لومة لائم، كان لا يأمر الناس أن يأكل قويهم ضعيفهم، عبد الله أمير المؤمنين، صدق صدق، كان ذلك في الكتاب الأول. ثم قال: عثمان أمير المؤمنين، وهو يعافي الناس من ذنوب كثيرة، خلت اثنتان وبقي أربع، ثم اختلف الناس وأكل بعضهم بعضاً، فلا نظام وأبيحت الأحماء، ثم ارعوى المؤمنون فقالوا: كتاب الله وقدره. أيها الناس، أقبلوا على أميركم واسمعوا وأطيعوا، فمن تولى فلا يعهدن دماً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. الله أكبر، هذه الجنة، وهذه النار، ويقول النبيون والصديقون: سلام عليك. يا عبد الله بن رواحة، هل أحسست لي خارجة لأبيه وسعداً للذين قتلا يوم أحد، كأنها " كلا إنها لظى، نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى، وجمع فأوعى " ثم خفت صوته، فسألت الرهط عما سبقني من كلامه قالوا: سمعناه يقول: أنصتوا، أنصتوا، فنظر بعضنا إلى بعض فإذا الصوت من تحت الثياب، فكشفنا عن وجهه فقال: هذا أحمد رسول الله، سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. ثم قال: أبو بكر الصديق الأمين، خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان ضعيفاً في جسمه قوياً في أمر الله، صدق، صدق، وكان في الكتاب الأول.
أم عمر
وقيل: أم عمرو بنت مروان بن الحكم لما ولي عمر بن عبد العزيز منع قرابته ما كان يجري عليهم، وأخذ منهم القطائع التي كانت في أيديهم، فشكوه إلى عمته أم عمر، فدخلت عليه فقالت: إن قرابتك شكوك، ويزعمون أنك أخذت منهم خير غيرك. قال:
ما منعتهم حقاً أو شيئاً كان لهم، ولا أخذت منهم حقاً أو شيئاً كان لهم. فقالت: إني رأيتهم يتكلمون، وإني أخاف أن يهيجوا عليك يوماً عصيباً. فقال: كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره.(29/97)
قال: فدعا بدينار وجنب ومجمرة، فألقى ذلك الدينار حتى إذا احمر تناوله بشيء، فألقاه على الجنب، فنش وقتر، فقال: أي عمة، أما تأوين لابن أخيك من مثل هذا؟ فخرجت على قرابته فقالت: تزوجون آل عمر، فإذا نزع الشبه جزعتم؟! اصبروا له. وقيل: إن التي كلمته عمته فاطمة، فلا أدري، هل تكنى أم عمر أم هما جميعاً كلمتاه؟.
أم عمرو زوج يزيد بن عبد الملك
قال عمرو بن دينار: كنت مع سالم بن عبد الله بين مكة والمدينة، فسمع صوت جرس، فقال: ما هذا؟ فقلت: هذا أم عمرو امرأة يزيد بن عبد الملك. فقال: اذهب إليها فأقرها السلام وأخبرها أن أبي أخبرني عن أبيه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واعد جبريل موعداً، فأبطأ عليه جبريل، فقال: ما حبسك يا جبريل؟ فقال: إنا لا نقرب مكاناً فيه جرس ولا صورة. فقل لها فلتقطعه أو تجشه. فأتيتها، فأخبرتها فقطعته أو جشته قالت: قل له إن عندنا وسائد فيها تصاوير، فكيف نصنع بها؟ فأتيته فأخبرته بذلك، فنظر هنيهة فقال: كانوا لا يرون بما يوطأ بأساً.(29/98)
حرف الغين المعجمة
أبو الغريز صاحب أبي عبيد
محمد بن حسان البسري الزاهد قال أبو الغريز: كنت أنا وهو، يعني أبا عبيد، في بلاد الروم، وكنا قد صافنا العدو، فوقع فرس أبي عبيد للموت، فجعلت أتقلى من عدو يواجهنا، وفرس يموت، وهو قائم يصلي، فلما التفت من صلاته قلت: في مثل هذا الموضع تصلي؟! فقال: ما أجد في قلبي شيئاً. ثم نهض الفرس فركب أبو عبيد، فقلت: لا أسأله بعدها عن شيء.
أبو غسان الثقفي
من أهل العراق. قدم دمشق. قال: كنت في دمشق في أصحاب اللؤلؤ فقالوا لي: رأينا ابن عمك في هذا الموضع يوسف بن عمر مقتولاً، في مذاكيره حبل وهو يجر، ثم رأينا بعد ذلك يزيد بن خالد، في مذاكيره حبل يجرره الهبرية في هذا الموضع.
ابن غنيم البعلبكي
حدث عم هشام بن الغاز بسنده إلى أبي عبيدة بن الجراح قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يزال هذا الأمر معتدلاً قائماً بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية. غنيم: بغين معجمة مضمومة، ونون مفتوحة.(29/99)
الغاضري المضحك المدني
قال محمد بن إدريس الشافعي: أكل الغاضري عند يزيد بن الوليد فالوذجاً فقال له يزيد: لا تكثر منه، فإنه يقتلك فقال: منزلي والله يا أمير المؤمنين عند زقاق الجنائز، ما رأيت جنازة أحد قط قتله الفالوذج. قال ثابت بن إبراهيم: مررت بالغاضري يوماً وهو يأكل رطباً، فقال: إن أردت ادن فكل: فقلت: لا أشتهيه، فقال: يا أخي، ادن فكل، فإنه لا يمنعني أن أقسم عليه إلا أن علي يميناً أن لا أقسم على أنصاري أبداً في طعام. قلت: ولم؟ قال: مر بي رجل منهم وأنا آكل رطباً فقلت: اجلس كل. فأكل ثلاث رطبات، فأقسمت عليه ليأكلن، فأبر يميني بخمس مئة رطبة. قدم سفيان الثوري المدينة فسمع الغاضري يتكلم ببعض ما يضحك منه الناس فقال: يا شيخ، أما علمت أن لله يوماً يحشر فيه المبطلون؟ قال: فلم تزل تعترف في الغاضري حتى لقي الله عز وجل.(29/100)
حرف الفاء
أبو فاطمة
قيل: اسمه أنيس الأزدي، ثم الدوسي، ثم الليثي. وقيل: الضمري. له صحبة. قال أبو فاطمة:
كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أيسركم أن تصحوا ولا تسقموا؟ فابتدرناها. فقال: أتحبون أن تكونوا كالحمر الضالة، وما تحبون أن تكونوا أصحاب بلاء وأصحاب كفارات؟ إن العبد ليكون له المنزلة عند الله ما يبلغها بشيء من عمله، حتى يبتليه ببلاء، فيبلغه تلك المنزلة. وعن أبي فاطمة قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أردت أن تلقاني فأكثر من السجود. وفي رواية: إن أردت أن ترافقني فاستكثر من السجود بعدي. وعن أبي فاطمة قال: قلت: يا رسول الله، أخبرنا بعمل نستقيم عليه ونعمله. قال: عليك بالهجرة، فإنه لا مثل لها. قلت: يا رسول الله، أخبرنا بعمل نستقيم عليه ونعمله قال: عليك بالجهاد، فإنه لا مثل له. قلت: يا رسول الله، أخبرنا بعمل نستقيم عليه ونعمله. قال: عليك بالصوم، فإنه لا مثل له. قلت: يا رسول الله، أخبرنا بعمل نستقيم به ونعمله. قال: عليك بالسجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة، وحط بها عنك خطيئة. وكان أبو فاطمة قد اسودت جبهته وركبتاه من كثرة السجود.(29/101)
وعن أبي فاطمة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أكثروا من السجود، فإنه ليس أحد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة.
أبو فالج الأنماري
أدرك سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يلقه، وأسلم بعده. قال شرحبيل بن مسلم الخولاني: رأيت خمسة نفر قد صحبوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واثنين قد أكلا الدم في الجاهلية ولم يصحبا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقصون شواربهم، ويعفون لحاهم ويصفرونها: أبو أمامة الباهلي، وعبد الله بن بسر المازني، وعتبة بن عبد السلمي، والمقدام بن معدي كرب، والحجاج بن عامر الثمالي. وأما اللذان لم يصحبا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأبو عنبة الخولاني وأبو فالج الأنماري. قال أبو فالج: قدمت حمص أول ما فتحت، فعرفت أرواحها وغيومها، فإذا رأيت هذه الريح الشرقية قد دامت، والسحاب شامياً، فهيهات هيهات ما أبعد غيثها، وإذا رأيت الريح الغربية قد تحركت، ورأيت السحاب مستغدقاً فأبشر بالغيث.
أبو الفرات
مولى صفية أم المؤمنين. حدث عن عبد الله بن مسعود قال: في القرآن آيتان ما قرأهما عبد مسلم عند ذنب إلا غفر له. فسمع بذلك رجلان من أهل البصرة فأتياه فقال: ائتيا أبي بن كعب، فإني لم أسمع من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهما شيئاً إلا سمعه أبي، فأتيا أبياً فقال: اقرأا القرآن فإنكما ستجدانها. فقرأا حتى بلغا آل عمران " والذين إذا(29/102)
فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " الآية " ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيما ". الآية فقالا: قد وجدناهما. فقال أبي: وأين؟ فقالا: في النساء وآل عمران. فقال أبي: ها هما.
أبو فروة السائح
قال أبو فروة: بينا أنا سائح في بعض الجبال، إذ سمعت صدى جبل، فاتبعت الصوت فإذا بهاتف يهتف، يقول: يا من آنسني بذكره، وأوحشني من خلقه، وكان لي عند مسرتي، ارحم اليوم عبرتي، وهب لي من معرفتك ما أزداد به تقرباً إليك يا عظيم الصنيعة إلى أوليائه، اجعلني اليوم من أوليائك المتقين. قال: ثم سمعت صرخة ولا أرى أحداً. فأقبلت نحوها، فإذا أنا بشيخ ساقط مغشياً عليه، ثم لم أزل عنده حتى أفاق، فقال: من أنت؟ فقلت: رجل من بني آدم. قال: إليك عني، فمنكم هربت إلى ربي. وانطلق وتركني. فقلت: رحمك الله، دلني على الطريق. فقال: ها هنا. وأومأ بيده إلى السماء. وذكر في حف القاف: أبو قرة. قال: ويقال أبو فروة، وذكر مثل ذلك.
أبو الفضل الموسوس
كان من أبناء النعم، وذوي الفضل، خولط في عقله. قال أبو الفرج الببغاء: كنت طول مقامي بدمشق آنس بمن يطرقني من ذوي الأقدار، ففي بعض الأيام تذاكرنا أخبار عقلاء المجانين، وفي الجماعة فتى من أولاد الكتاب، فقال لي: معنا في البلد فتى في مشاهدة حاله ما يلهيني عما نحن فيه، وهو في البيمارستان. فقلت له ما خبره؟ فقال: كان صبياً ونشأ مع جارية كانت لأخته كاملة الحسن والأدب، فألفها وألفته، فلما كبرا حجبتها عنه فمرضا جميعاً، فلما انكشف أمرهما(29/103)
وهبتها له أخته، فاستأنفا عمراً جديداً، واقتصر كل منهما على صاحبه لا يعتاض بغير ما هو فيه بمسرة، ولا يزالا على ذلك. فلما كان في بعض الليالي خليا على عادتهما للأنس، فعرض للجارية خلط أدى إلى استفراغ وفواق وضيق نفس، فتلفت. فهجم على قلب الفتى ما سلب عقله، فمنع من دفنها ظناً بحدوث غشي إلى أن ظهرت أمارات الموت، فأكره على دفنها، فامتنع من الغذاء وواصل الأنس بقربها، واختلط فكره إلى أن صار يثب بمن يدنو إليه، ويسرع إلى إفساد ما يتمكن منه، وتجاوز ذلك حد ضبطه بغلمانه ومن في داره، فنقل إلى البيمارستان ليبتعد عن قبرها وعن مشاهدة الأمكنة التي كان يجتمع بها فيها، ولم يقدر على ذلك إلا بعد تقييده، فحصل هنالك مخدوماً بماله وغلمانه، وربما ثاب، فعاد إلى إفهام من يخاطبه، فما يخلو من أبيات تكتب أو حديث يستفاد منه قال: فقلت: بادر بنا إليه. فلما صرنا في الصحن، وقعت عيني على فتىً في نهاية حسن الوجه، ونظافة الثوب والآلة. فسلمت عليه فرد أحسن رد، فلما جلست تبسم وقال: الذي قصدت له علم باطن المشاهدة لا ظاهرها، قلت: هو ذاك. قال: كثر علي سؤال من يسألني عن ذلك، وتكلف الجواب فاقتصرت على أبيات جعلتها نائبة عن العرض، فسألته إنشادها، فأنشأ يقول: من السريع
من منصفي من جور أزماني ... إذ وضح الحق ببرهاني
كنت جليل القدر في أسرتي ... معظماً ما بين إخواني
أصلح بالتحصيل والعقل ما ... يفسده الإهمال من شأني
فصرت مجنوناً لأن الردى ... أفنى مسراتي بأحزاني
أوحش من نور عيوني التي ... أغرت بفيض الدمع أجفاني
آنس ما كنت بها أوحشت ... أوطانها من أنس أوطاني
أحرز نفسي مستبداً بها ... دوني وأبقى لي جثماني
ففي فمي غضب وفي عنقي ال ... غل وفي رجلي قيدان(29/104)
فانظر إلى حالي، ولا تأمن الد ... هر وإن جاد بإحسان
فإنها الدنيا التي ما صفا ... سرورها قط لإنسان
ثم كشف لي عن قيده لأراه، وتنفس، وتتابعت دموعه، فتبعته باكياً، فلما رأى قلقي احتبس دمعه واسترجع شهيقه، وأنشأ يقول: من مخلع البسيط
ما لي داء سوى الفراق ... أما كفى الدهر ما ألاقي
ما علموا حين قيدوني ... إني من الهم في وثاق
ثم قال: قد آسيت بالعبرة، وشركت في الروعة والحسرة، وعرفت من ذلم موضع رعايتك، وأنا أسألك التوصل إلى تنفيس كربي بأن تسأل المتولي للمداواة إعفائي مما يلزمني شربه بما عنده أنه دوائي، ولا يعلم أي مريض أشف وعليل شغف، فإني أقاسي من ذلك ما أتمنى معه الموت. فضمنت أن أفعل له ذلك، وقلت للكاتب: يجب أن يميز هذا الرجل فيما يتداوى به. فسأل الطب عن أرفه الأدوية، فأشار جميعهم بمواصلة دهن البنفسج على رأسه، وإصلاح أغذيته، والاستكثار من الروائح الطيبة. ورتبت ذلك، ورجعت إليه وعرفته. فدعا لي وسألني المواصلة، فنهضت. فلما كان بعد أيام عرفني الكاتب بموته، فصرت إلى قبره وزرته.
أبو الفضل بن خيران
من شعره: من البسيط
أمر بالقمر الغربي مطلعه ... فيعتريني إذا أبصرته زمع
وكم هممت بترك الاجتياز له ... فلم يدعني جنون العشق والطمع
أشكو إلى الله قلباً عز مطلبه ... ما إن له عن سوى الغايات مرتدع
أبو الفضل الأصبهاني المتطبب
له شعر حسن، فمن شعره في الشيخ أبي القاسم علي بن محمد الشميصاتي عند وفاته: من مجزوء الكامل(29/105)
لا فخر يا أهل الشآ ... م لكم على أهل العراق
دفنت مفاخركم مع ال ... حاوي لكم قصب السباق
لا تدعوا بقيا الفخا ... ر فما الشميصاتي باقي
الفرخ من موالي بني أمية
لما أراد جعفر المتوكل الخروج من الشام إلى العراق أحب أن يجعل طريقه على البرية لينظر إلى آثار بني أمية، ومصانعهم وكان في طريقه دير يعرف بدير حنينة فلما عزم على ذلك اتصل خبره ببعض موالي بني أمية. فقال: لأنغصت عليه نزهته بأبيات أحبرها، ثم تقدم إلى الدير، فجعل لصاحب الدير جعلاً على أن يدعه يكتب في صدر الهيكل أبياتاً فأذن له، فكتب: من الطويل
أيا منزلاً بالدير أصبح ثاوياً ... تلاعب فيه شمأل ودبور
كأنك لم تقطنك بيض نواعم ... ولم تتبختر في فنائك حور
وأبناء أملاكي غياشم سادة ... صغيرهم عند الأنام كبير
إذا نزعوا تيجانهم فضراغم ... وإن لبسوا تيجانهم فبدور
على أنهم يوم اللقاء قساور ... ولكنهم عند النوال بحور
وكم يصبح الصهريج والناس حوله ... عليه فساطيط لهم وخدور
وحولك رايات لهم وعساكر ... وخيل لها بعد الصهيل نخير
ليالي هشام بالرصافة قاطناً ... وفيك ابنه يا دير وهو أمير(29/106)
إن الملك غض والخلافة لبنة ... وأنت خصيب والزمان طرير
وروضك مرتاض وبيعك بائع ... ودهر بني مروان فيك قصير
بمسلمة الميمون وهو الذي له ... تكاد قلوب المشركين تطير
بلى فسقيت الغيث صوباً مباكراً ... إليك به بعد الرواح بكور
تذكرت قومي فيكم فبكيتهم ... وإن سخياً بالبكا لجدير
فعزيت نفسي وهي نفس لها إذا ... جرى ذكر قومي أنة وزفير
رويدك إن اليوم معقبه غداً ... وأن صروف الدائرات تدور
لعل زماناً جار يوماً عليهم ... لهم بالذي تهوى النفوس يحور
فيفرح مرثاد ويأمن خائف ... ويطلق من كل الوثاق أسير
فلما قرأه المتوكل قال: ما كتب هذا إلا رجل من بني أمية، يريد أن ينغص علي ما أنا فيه، فمن أتاني به فله ديته، فأتي به، وإذا هو رجل من بني أمية من دمشق، يعرف بالفرخ، فأمر المتوكل بقتله، وقال: بما قدمت يداك، وما الله بظلام العبيد. وزاد في آخره: أن المتوكل بكى بكاءً شديداً لما قرأها، وأمر بهدم الموضع، فهدم الحائط.(29/107)
حرف القاف
أبو القاسم
بعض مشيخة دمشق حدث عن بلال بن سعد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من لم يخجل كبيرنا، ويرق لصغيرنا، ويرحم ذا الرحم منا، فلسنا منه وليس منا.
أبو القاسم الواسطي
أحد الصلحاء قال أبو القاسم: كنت مجاوراً يبيت المقدس في المسجد، فلما كان أول ليلة من رمضان أمر السلطان بقطع صلاة التراويح، فنفرت أنا وعبد الله الخادم، وصحنا:
واإسلاماه، وامحمداه. فأخذني أعوان السلطان، ولم يأخذوا عبد الله الخادم، وطرحني في الحبس، وكتب في إلى مصر، فورد بأن أضرب بالسوط، ويقطع لساني. ففعل بي ذلك وخليت. فكنت آوي في مسجد عمر رضي الله عنه في المئذنة، فبعد أسبوع رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فتفل في فمي فانتبهت ببرد ريق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد زال عني ألم القطع والضرب، فقمت، وتطهرت للصلاة، وصليت ركعتين، وعدت إلى المئذنة فأذنت: الصلاة خير من النوم، فأخذني الأعوان وردوني إلى الحبس، وقيدت وحبست، وكتب إلى السلطان في سببي ثانية، فورد الكتاب: يقطع لسانه رجل ذمي، ويضرب خمس مئة سوط، ويصلب بالحياة أو يموت على الخشبة. ففعل بي ذلك، فرأيت لساني على بلاط سوق الحذائين مثل الرئة. وكان شتاء شديد وجليد فصلبت في سوق الحذائين، فما كان يمر بي أعظم من وقع الجليد على آثار الضرب، فأقمت ثلاثة أيام فهدأ أنيني، وعهدي بالحذائين يقولون: نعرف الوالي أن الرجل مات، ونحن نخشى أن ينفجر في السوق فلا يقدر أحد يعبر، فلعله يخرجه فيصلبه برا البلد.(29/108)
فمضى جماعة إلى الوالي، وكان الوالي جيش بن صمصامة فقال: احملوه على نعش، واتركوه على باب داود يحمله من أراد من أصحابه، ويكفنه ويصلي عليه. قال: فألقوني على باب داود، وعنهم أني ميت، فقوم يجوزون بي فيلعنونني وأنا أسمع، وقوم يترحمون علي، إلى العشاء الآخرة، فلما كان بعد العشاء جاءني أربعة أنفس فحملوني على نعش مثل السرقة، ومضوا بي إلى دار رجل صالح من أهل القدس، من أهل القدس، من أهل القرآن والستر كي يغسلوني، ويكفنوني، ويصلوا علي، فلما صرت في الدار أشرت إليهم، فلما رأوا في الحياة حمدوا الله تعالى. فكان يصلح لي الحريرة بدهن اللوز والسكر البياض أسبوعاً، وأنا على حالة قد يئست من نفسي، وكل صالح في البلد يجيء إلي ويفتقدني، فلما كان بعد ذلك رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام والعشرة معه، فالتفت إلى رجل على يمينه فقال: يا أبا بكر، ما ترى قد جرى على صاحبك؟ فقال: يا رسول الله، فما أصنع به؟ قال: اتفل في فيه. فتفل أبو بكر الصديق في في، ومسح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ظهري، فزال ما كنت أجده، وانتبهت ببرد ريق أبي بكر رضي الله عنه. فناديت الرجل الذي أنا في بيته، فقام إلي، ولم يكن سمع مني كلمة منذ دخلت إلى داره. فقال: ما حالك؟ فأخبرته خبري وسألته ماء أتطهر به، فأسخن لي ماء فتطهرت طهور الآخرة، وجاءني بثياب ونفقة، وقال: هذه فتوح من إخوانك، فلبست وتطيبت. فقال لي الرجل: الله، الله في، لا يعلم أحد أنك كنت عندي فأهلك. فقلت له: لا بأس عليك. وجئت إلى منارة مسجد عمر رضي الله عنه، وأذنت الغداة: الصلاة خير من النوم، وقلت قصيدة في أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله، فما تمت إلا والعبيد أحدقوا بالمنارة، وأخذوني إلى الوالي، وأراد أن يستنطقني، ولم يكن رآني قبلها ولا رأيته، فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من واسط العراق. فقال لي: يا هذا، إني عبد مملوك، وأخاف من أصحاب الأخبار أن يكتبوا بأمرك فأومر بقتلك فأخلد بك في النار، فأقل ما يجب لي عليك أن لا تقيم في بلدي ساعة واحدة. فقلت: تسمح لي ببياض هذا اليوم؟ فقال: افعل. فجئت إلى الصخرة، وأقمت بها بقية يومي، وصليت العتمة، وجاء الإخوان مودعين لي، وجاء من أحداث البلد نحو سبعين ومعهم بهيمة وسلاح نشاب، وخرجت معهم، وأتيت واسط، وأنا كل سنة أحج وأسأل عن القدس، لعله تزول دولتهم، فأرجع إلى القدس، لعلي أموت فيه.(29/109)
أبو القاسم بن أبي يعلى
الشريف الهاشمي قام بدمشق ومعه جماعة من أحداث دمشق وغوطتها، وقطع دعوة المصريين، ولبس السواد، ودعا للمطيع في سنة تسع وخمسين وثلاث مئة.
أبو القاسم بن رزيق البغدادي
قال أبو القاسم: سمعت الشبلي ينشد: من البسيط
كادت سرائر سري أن تشير بما ... أوليتني من سرور لا أسميه
فصاح بالسر سر منك نرقبه ... كيف السرور يسر دون مبديه
فظل يلحظني سري لألحظه ... والحق يلحظني أن لا أراعيه
وأقبل الحق يفني اللحظ عن صفتي ... وأقبل اللحظ يفنيني وأفنيه
أبو قتادة بن ربعي
يقال اسمه الحارث بن ربعي. ويقال: نعمان بن عوف بن ربعي، وهو ابن بلدمة بن خناس الأنصاري روى أبو قتادة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني، وعليكم بالسكينة. أم أبي قتادة: كبشة بنت مطهر بن حرام بن سواد بن غنم. وقيل: كبشة بنت عباد بن مطهر. وشهد أبو قتادة أحداً والخندق وما بعد ذلك من المشاهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(29/110)
حدث قيس بن سلمة عن أبيه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة بن الأكوع. وأبو قتادة فارس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن أبي قتادة قال: خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشية قال: إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم، وتأتون الماء غداً. قال أبو قتادة: وانطلق لا يلوي أحد على أحد في مسيرهم، فإني أسير إلى جنب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ابهار الليل إذ نعس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمال عن راحلته. ثم سرنا حتى إذا تهور الليل مال ميلة أخرى فدعمته من غير أن أوقظه، فاعتدل على راحلته، ثم سرنا حتى إذا كان من السحر مال ميلة هي أشد من الميلتين، حتى كاد أن ينجفل، فدعمته، فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة. قال: متى كان هذا مسيرك مني؟ قلت: هذا مسيري منك منذ الليل. قال: حفظك الله بما حفظت به نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قال: أترانا نخفى على الناس؟ هل ترى من أحد؟ قلت: هذا راكب، هذا آخر قال: فاجتمعنا فكنا سبعة، فاعتزل عن الطريق، ثم وضع رأسه ثم قال: احفظوا علينا صلاتنا. فكان أول من انتبه والشمس في ظهره، فقمنا فزعين، فجعل بعضنا يهمس بعضاً: ما صنعنا في تفريطنا في صلاتنا؟ فقال: ما هذا الذي تهمسون؟ قلنا: يا رسول الله، لتفريطنا في صلاتنا. فقال: أما لكم في أسوة؟ التفريط ليس في النوم، التفريط لمن لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت أخرى، فإذا فعل ذلك فليصلها إذا انتبه لها، ثم ليصلها الغد لوقتها. ثم نزل، ثم دعا بميضأة كانت عندي، فتوضأ وضوءاً دون وضوء، ثم قال: يا أبا قتادة، احفظ ميضأتنا هذه فسيكون لها نبأ، ثم صلى ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم صلى صلاة الفجر كما كان يصلي، ثم قال: اركبوا. فركبنا، فانتهينا إلى الناس حين تعالى النهار، أو حين حميت الشمس، وهم يقولون: يا رسول الله، هلكنا عطشاً. قال: لا هلاك عليكم. ثم نزل ثم قال:(29/111)
أطلقوا لي غمري، فأطلق له. ثم دعا بالميضأة التي كانت عندي، فجعل يصب علي وأسقيهم، فلما رأى القوم ما في الميضأة تكابوا عليها فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحسنوا الملأ كلكم سيروى. فجعل يصب علي فأسقيهم، حتى ما في القوم أحد إلا شرب، غيري وغير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال: اشرب يا أبا قتادة. فقلت: يا رسول الله، أشرب قبل أن تشرب؟! قال: إن ساقي القوم آخرهم. فشربت وشرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال عبد الله بن رباح: إني لفي مسجد الجامع أحدث هذا الحديث إذ قال عمران بن حصين: انظر أيها الفتى كيف تحدث، فإني كنت أحد الركب تلك الليلة؟ قال: فأنتم أعلم بحديثكم، فحدث القوم. فحدثتهم، فقال: لقد شهدت تلك الليلة، ما شعرت أن أحداً حفظه كما حفظته. وعن أبي قتادة أنه قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني جيد السلاح، وجيد القلب وفرسي قوي، فأرسلني يا نبي الله يمنة ويسرة. فقال: إني أشفق عليك يا أبا قتادة. قال: ثم وقع في عينه سهم فأخرجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتفل في عينه. وعن محمد بن سيرين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل إلى أبي قتادة فقيل: يترجل. ثم أرسل إليه، فقيل: يترجل. ثم أرسل إليه، فقيل: يترجل. فقال: احلقوا رأسه، فجاء فقال: يا رسول الله، دعني هذه المرة، فوالله لأعتبنك. فكان أول ما لقي قتل مسعدة رأس المشركين. قال زيد بن أسلم: إن أبا قتادة قال حين توجه إلى اللقاح: من الرجز(29/112)
ألا عليك الخيل إن ألمت ... إن لم أدافعها فجزوا لمتي
قال أبو قتادة: إني لأغسل رأسي، قد غسلت أحد شقيه، إذ سمعت فرسي جروة تصهل وتبحث بحافرها، فقلت: هذه حرب قد حضرت. فقمت ولم أغسل شق رأسي الآخر، فركبت وعلي بردة لي، فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصيح: الفزع، الفزع. قال: وأدرك المقداد بن عمرو، فسايرته ساعة، ثم تقدمه فرسي، وكانت أجود من فرسه، وقد أخبرني المقداد وكان سبقني بقتل مسعدة محرزاً، يعني ابن نضلة. قال أبو قتادة للمقداد: أبا معبد، أنا أموت أو أقتل قاتل محرز. فضرب فرسه فلحقهم أبو قتادة، ووقف له مسعدة، وحمل عليه أبو قتادة بالقناة، فدق صلبه، ويقول: خذها وأنا الخزرجي، ووقع مسعدة ميتاً، ونزل أبو قتادة فسجاه ببردته، وجنب فرسه معه، وخرج يحضر في إثر المقداد حتى تلاحق الناس. قال أبو قتادة:
فلما مر الناس نظروا إلى بردة أبي قتادة عرفوها، فقالوا: هذا أبو قتادة قتيل! واسترجع أحدهم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا، ولكنه قتيل أبي قتادة، وجعل عليه بردة ليعرفوا أنه قتله، فخلوا بين أبي قتادة وبين قتيله وسلبه وفرسه، فأخذه كله. وكان سعد بن زيد يعني الأشهلي قد أخذ سلبه، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا والله، أبو قتادة قتله، ادفعه إليه. قال أبو قتادة: لما أدركني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ ونظر إلي قال: اللهم، بارك له في شعره وبشره. وقال: أفلح وجهك. فقلت: ووجهك يا رسول الله. قال: قتلت مسعدة؟ قلت: نعم. قال: فما هذا الذي بوجهك؟ قلت: سهم رميت به يا رسول الله. قال: فادن مني. فدنوت منه، فبصق عليه. فما ضرب عليه قط ولا قاح. فمات أبو قتادة وهو ابن سبعين، وكأنه ابن خمس عشرة سنة. قال: وأعطاني يومئذٍ فرس مسعدة وسلاحه وقال: بارك الله لك فيه.(29/113)
وعن أبي قتادة قال: خرجت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة حنين، فلما التقينا جعل رجل من المشركين يفعل بالمين ويذر، ثم وجد غمزاً في بطنه، فخرج من الصف، فخرجت في إثره، فبدرني وفي يده سيفه وترسه، وفي يدي سيفي وترسي، فأقبل علي بوجهه فقال: أما ترى ما أصنع بأصحابك منذ اليوم؟ ارجع. فأقبلت إليه وما أكلمه، فأقبل إلي يرمي بزبد كزبد البعير، فلما دنا مني حمل علي ضربتين: ضربة اتقيتها بترسي، فعض ترسي على سيفه، وضربته ضربة على حبل عاتقه، فجافته، فلما وجد طعم الموت خلى سيفه، ثم ضمني إليه، فوالذي أكرم محمداً بما أكرمه به لولا أن نفسه عجلت؛ لظننت أن نفسي تخرج قبل نفسه. قال: ثم رجعت إلى موضعي فقاتلت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى هزمهم الله. قال: ثم جمعت الأسلاب، فكان الرجل عليه سلب كامل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من عرف سلباً فليقم فليأخذه قال: فهممت بالقيام ثم ثبت. قال: فعلت ذلك مرة أو مرتين فرمقني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا أبا قتادة، ما لي أراك تهم بالقيام ثم تجلس؟ فقلت: لا شيء يا رسول الله. قال: أشهد لتخبرني. قلت: يا رسول الله، إن رجلاً من المشركين كان يفعل في المسلمين ويذر، فخرج من الصف، وخرجت فقتلته، وكان عليه سلب كامل؛ فلم أره يا رسول الله. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أخذ سلب قتيل أبي قتادة؟ فقال رجل من الصحابة: أنا يا رسول الله، فأرضه عني. قال: فسكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يقل شيئاً. فقام عمر بن الخطاب، فقال: لا والله، لا يقوم أسد من أسد الله عز وجل يقاتل في الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويكون غيره أسعد بسلب قتيله. فقام الرجل فجاء به، فقال: هو ذا يا رسول الله. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خذه يا أبا قتادة. قال أبو قتادة: فأخذته، فبعته بسبع أواق من ذهب، فاشتريت مخرفاً في بني سلمة، فكان أول مال اعتقدته في الإسلام من نائل. بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا قتادة ومعه خمسة عشر رجلاً إلى غطفان، وأمره أن يشن عليهم الغارة. فسار الليل، وكمن النهار، فهجم على حاضرٍ منهم عظيم، فأحاط به،(29/114)
فصرخ رجل منهم: يا خضرة! وقاتل منهم رجال، فقتلوا من أشرف لهم واستاقوا النعم، فكانت الإبل مئتي بعير، والغنم ألفي شاة، وسبوا سبياً كثيراً، وجمعوا الغنائم، فأخرجوا الخمس فعزلوه، وقسموا ما بقي على أهل السرية، فأصاب كل رجل اثني عشر بعيراً، فعدل البعير بعشر من الغنم، وصارت في سهم أبي قتادة جارية وضيئة، فاستوهبها منه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوهبها له، فوهبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لمحمية بن جزء، وغابوا في هذه السرية خمس عشرة ليلة. ولما هم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بغزو أهل مكة، بعث أبا قتادة في ثمانية نفر سرية إلى بطن إضم، وهي فيما بين ذي خشب وذي المروة، وبينها وبين المدينة ثلاثة برد، ليظن ظان أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار، وكان في السرية محلم بن جثامة الليثي، فمر عامر بن الأضبط الأشجعي، فسلم بتحية الإسلام، فأمسك عنه القوم، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله وسلبه بعيره ومتاعه، ووطب لبن كان معه، فلما لحقوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ نزل فيهم القرآن: " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام
لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة " إلى آخر الآية. فمضوا ولم يلقوا جمعاً. فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي خشب، فبلغهم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد توجه إلى مكة فأخذوا على يين حتى لقوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسقيا. ت مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة " إلى آخر الآية. فمضوا ولم يلقوا جمعاً. فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي خشب، فبلغهم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد توجه إلى مكة فأخذوا على يين حتى لقوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسقيا.
قال أبو سعيد الخدري: أخبرني من هو خير مني أبو قتادة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعمار بن ياسر: تقتلك الفئة الباغية. كان أبو قتادة له على رجلٍ دين، فكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه، فجاء ذات(29/115)
يوم، وثم صبي، فسأل عنه فقال: نعم، هو في البيت يأكل خزيرة، فناداه: يا فلان، اخرج إلي فإني قد أخبرت أنك ها هنا. فخرج إليه، فقال: ما يغيبك عني؟ فقال: إني معسر، وليس عندي شيء. قال: آلله، إنك معسر؟ قال: نعم. قال: فبكى أبو قتادة وقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من ترك لغريمه أو محا عن غريمه كان في ظل العرش يوم القيامة. وعن أسيد عن أبيه قال: قلت لأبي قتادة: مالك لا تحدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يحدث عنه الناس؟ فقال أبو قتادة: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من كذب علي فليسهل لجنبه مضجعاً من النار. وجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ذلك ويمسح الأرض بيده. وفي حديث غيره: إني أخشى أن يزل لساني بشيء لم يقله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إني سمعته يقول: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. بعث عمر بن الخطاب أبا قتادة فقتل ملك فارس بيده. قال: وعليه منطقة ثمنها خمسة عشر ألف درهم. قال: فنفلها إياه عمر. لما قدم معاوية المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري فقال: تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار، فما منعكم أن تلقوني؟ قالوا: لم يكن لنا دواب. قال معاوية: فأين النواضح؟ فقال أبو قتادة: عقرناها في طلب أبيك يوم بدر. ثم قال أبو قتادة: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لنا: سترون بعدي أثرة. فقال معاوية: فما أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر حتى نلقاه. قال: فاصبروا حتى تلقوه. فقال عبد الرحمن بن حسان حين بلغه ذلك: من الوافر(29/116)
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... أمير المؤمنين ثنا كلام
فإنا صابرون ومنظروكم ... إلى يوم التغابن والخصام
دخل أبو قتادة على معاوية وعنده عبد الله بن مسعدة بن حكمة بن مالك بن حذيفة بن بدر الفزاري، فجلس، فوقع رداء أبي قتادة على ظهر عبد الله فنفضه نفضاً شديداً. فقال أبو قتادة: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: بخ، هذا عبد الله بن مسعدة بن حكمة. قال: نعم، أنا والله دفعت جفر أبي هذا في بطنه يوم أغار على سرح المدينة. أرسل مروان إلى أبي قتادة، وهو على المدينة، أن اغد معي حتى تريني مواقف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. فانطلق مع مروان حتى قضى حاجته. توفي أبو قتادة سنة ثمانٍ وثلاثين في خلافة علي، وصلى عليه علي، وكبر عليه سبعاً. وقيل: توفي بالمدينة سنة خمسٍ وخمسين، وقبره ببني سلمة معروف ليس فيه خلاف. وقيل: توفي سنة أربع وخمسين، وهو ابن سبعين سنة.
أبو قنان
هو طلحة بن أبي قنان العبدري. ويقال: صالح بن أبي قنان حدث عن معاوية أنه قال: يا أهل قردا، ويا أهل خولان، الجمعة، الجمعة، فإنا إنما نحسبها لئلا تفوتكم. وقال عمرو: لتحضروها.(29/117)
قال أبو قنان: كان فضالة بن عبيد يقوم في الناس يوم الجمعة يعظهم قبل خروج معاوية، فإذا خرج جلس فضالة؛ فيخطب معاوية ويصلي.
أبو قيس الدمشقي
حدث عن عبادة بن نسي، عن أبي مريم، عن ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من حافظ على الأذان سنة أوجب الجنة. وحدث عن عبادة بن أبيه أنه رأى أبا الدرداء صلى على مسح.
أبو قيصر
مولى عبد الملك بن مروان اشترى أبو قيصر جارية فوطئها، ثم وجد بها بخرة فأراد ردها، فقال له عمر بن عبد العزيز: يا أبا قيصر، إنما التلوم قبل الغشيان.
أبو قاسم بن عثمان الجوعي
حدث عن أبيه عن أبي سليمان الداراني، عن الربيع بن صبيح قال: رأيت الحسن وطاوس ومجاهداً في المسجد الحرام في حلقة، وإذا دينار وسط الحلقة؛ ما منهم أحد أخذه ولا أمر بأخذه، كلهم قام عن الحلقة وتركه.(29/118)
حرف الكاف
أبو كبشة السلولي
قال حسان بن عطية: أقبل أبو كبشة السلولي ونحن في المسجد الحرام فقام إليه مكحول وابن أبي زكريا، وأبو مخرمة. فقال: سمعت عبد بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. وحدث عن عبد الله بن عمرو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أربعون حسنة أعلاهن منحة العنز، لا يعمل العبد بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة. وحدث عن سهل بن الحنظلية قال: صلينا العصر مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسيره إلى حنين، وأمر الناس فنزلوا وعسكروا، وأقبل فارس فقال: يا رسول الله، خرجت بين أيديكم حتى أشرفت على جبل كذا وكذا، فإذا بهوازن على بكرة أبيها، بظعنها ونعمها وشائها، فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله عز وجل. قدم أبو كبشة دمشق في ولاية عبد الملك، فقال له عبد الله بن عامر: ما أقدمك؟ لعلك قدمت تسأل أمير المؤمنين شيئاً. وأنا أسأل أحداً شيئاً بعد الذي حدثني سهل بن(29/119)
الحنظلية؟! قال عبد الله بن عامر: وما الذي حدثك؟ قال: سمعته يقول: قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عيينة بن بدر والأقرع بن حابس فسألاه. فدعا معاوية فأمره بشيء لا أدري ما هو. فانطلق معاوية في الصحيفتين، فألقى إلى عيينة بن بدر إحداهما، وكان أحلم الرجلين، فربطها في يد عمامته، وألقى الأخرى إلى الأقرع بن حابس فقال لمعاوية: ما فيها؟ فقال: فيها الذي أمرت به. قال: بئس وافد قومي إن أنا أتيتهم بصحيفة أحملها لا أعلم ما فيها كصحيفة المتلمس. قال: ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقبل على رجل يحدثه، فلما سمع مقالته أخذ الصحيفة ففضها، فإذا فيها الذي أمر به، فألقاها ثم قام وتبعته حتى مر بباب المسجد، فإذا بعير مناخ، فقال: أين صاحب البعير؟ فابتغي فلم يوجد، فقال: اتقوا الله في هذه البهائم، اركبوها صحاحاً وكلوها سماناً، ثم تبعته حتى دخل منزله، فقال كالمتسخط أنفاً: إنه من يسأل الناس عن ظهر الغنى، فإنما يستكثر من جمر جهنم. فقلت: يا رسول الله، وما ظهر الغنى؟ قال: أن تعلم أن عند أهلك ما يغديهم أو يعشيهم. قال: فأنا أسأل أحداً شيئاً بعد هذا؟!
أبو كثير المحاربي
حدث عن خرشة بن الحارث المحاربي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إنها ستكون بعدي فتن النائم فيها خير من اليقظان، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، فمن أتت عليه فليأخذ سيفه، ثم ليمش إلى صفاة فليضربها به حتى ينكسر، ثم ليضطجع بها حتى تجلى عما انجلت عليه.
أبو كرب العراقي
حدث عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أن نفراً من أهل دمشق، فيهم رجل كنيته أبو كرب، كان أصاب دماً بالعراق فاستفتى جماعة من الفقهاء، فاجتمع قولهم أنهم لا يعرفون(29/120)
وجهاً إذا لم يعرف ولي الدم إلا أن يجاهد في سبيل الله حتى يقتل في سبيل الله. فلم يزل يغزو ويطلب القتل في الله حتى خرج مسلمة بن عبد الملك لحصار القسطنطينية، فخرج حتى إذا كان بعض الطريق خرج خارج منهم ليأتي بعنب فإذا بقبة ذهب عليها جلال أخضر حرير، وإذا فيها حوراء كان يخبر عما رأى من حسنها فقالت: إلي، فأنا زوجتك، وأنت قادم علينا يوم كذا، ومعك فلان وفلان. وسمت أولئك النفر. فانصرف الرجل ولم يأت بعنب أخبرهم بما رأى، فكتب وصيته وكتبوا. وكان مع شراحيل بن عبيدة وأصحابه، فكان من مصيبتهم ما كان، ثم أمر بانصراف الناس إلى المرج الذي رجعت إليهم فيه برجان فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل هؤلاء النفر جميعاً، فيهم
أبو كرب. وأرسلت برجان النار على ذلك المرج وعلى قتلى المسلمين، فحرقت ما حرقت، وانتهت إلى أبي كرب وأصحابه، فأطافت بهم، ولم تأكل النار منهم أحداً.
أبو كرب
قال: كنت في القوم الذين دخلوا يريدون قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك. قال: وكنت فيمن نهب خزائنه بدمشق، فدخلت إلى خزانة لهم فرأيت فيها سفطاً مرفوعاً، فأخذته، قلت: في هذا غناي. قال: فركبت فرسي، وجعلته بين يدي، وخرجت من باب توما، فعدلت عن يميني، وفتحت قفله فإذا أنا بحريرة في داخلها رأس مكتوب على بطاقة فيها: هذا رأس الحسين بن علي. فقلت: ما لكم لا غفر الله لكم. فحفرت له بسيفي حتى واريته.(29/121)
أسماء النساء على حرف الكاف
أم كلثوم بنت عبد الله
ابن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف زوج يزيد بن معاوية.
كان معاوية قد وجه ابنه يزيد بغزو الروم، فأقام بدير سمعان، ووجه الجنود، وتلك غزوة الطوانة فأصابهم الوباء، فقال يزيد بن معاوية: من البسيط
أهون علي بما لاقت جموعهم ... يوم الطوانة من حمى ومن موم
إذا اتكأت على الأنماط مرتفقاً ... بدير سمعان عندي أم كلثوم
فبلغ معاوية ما قال، فقال: أقسم بالله لتلحقن بهم حتى يصيبك ما أصابهم. فألحقه بهم.
تزوج الأسوار عبد الله بن يزيد بن معاوية أم عثمان بنت سعيد بن العاص، فولدت له أبا سفيان وأبا عتبة. وهي أم سعيد، ورملة ابني خالد بن عمرو بن(29/122)
عثمان، فقيل لسعيد بن خالد: اخطب أمه. فأتى أمه أم كلثوم ابنة عبد الله بن عامر يخطبها، وهي بادية بظهر ذنبة، عليها قبة نمور، اشترت غشاءها بألف دينار، فأتاها وهو غلام يرعد، فقال: أحب أن تزوجيني نفسك، وهي يومئذ كبيرة قد قيدت فاها بالذهب، فقالت: مرحباً يا بن أخي، لو كنت متزوجة أحداً من قريش لتزوجتك، إن أمك امرأة شابة، وأنا عجوز، وإن هذا شيء لا يصنعه نساء قريش أبداً، قيل لك: تزوج أمه كما تزوج أمك! انطلق يا بن أخي.(29/123)
حرف اللام
أبو لبيد الأشعري
ابن عم شهر بن حوشب، أدرك الصحابة، وكان ورعاً. حدث مطرف بن مالك قال: شهدت فتح تستر مع الأشعري فأصبنا قبر دانيال بالسوس، وكانوا إذا استقوا استخرجوه فاستسقوا به، وكان فيما وجدوا فيه ريطة فيها كتاب. فذكر خبر رجل نصراني يسمى نعيماً وهب الريطة إلا الكتاب، ثم في إسلامه، ثم في قراءة ذلك الكتاب حتى أتى على ذلك المكان " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " فأسلم منهم يومئذٍ اثنان وأربعون حبراً، وذلك في خلافة معاوية ففرض لهم معاوية وأعطاهم.
وحدث أبو تميمة أن عمر كتب إلى الأشعري: أن اغسله بالسدر وماء الريحان، وأن تصلي عليه، فإنه نبي دعا ربه ألا يواريه إلا المسلمون. حدث معاوية بن قرة قال: تذاكرنا الكتاب إلى ما صار، فمر علينا شهر بن حوشب فدعوناه، فقال: على الخبير سقطتم، إن الكتاب كان عند كعب فلما احتضر قال: ألا رجل أئتمنه على أمانة يؤديها؟ قال شهر: قال ابن عم لي يكنى أبا لبيد: أنا. فدفع إليه الكتاب فقال: اذهب، فإذا بلغت موضع كذا وكذا فادفنه فيه. يريد البحر. فذكر الحديث في خلاف الرجل، وعلم كعب أنه لم يفعل، ثم إنه فعل،(29/124)
فانفرج الماء، فقذفه فيه، ورجع إلى كعب فعلم أنه صدق، فقال: إنها التوراة كما أنزلها الله.
أبو لبيد كاتب أبي زرعة
قال لبيد كاتب محمد بن عثمان القاضي: كانت لشريح القاضي جارية، وكان يحب أن يطأها ولا يمكنه من امرأته، فواعدها يوماً، فدخلت معه البيت، وفطنت امرأته، فأقبلت إليه، فلما أحس بها وثب فلبس قباء الجارية ولبست الجارية قميصه، وجلس كأنه يشبر البساط، فقالت له امرأته: يا عدو الله، ما هذا؟ قال: أشبر هذا البساط، زعمت الملعونة أن عرضه أكثر من طوله. قالت: فكيف صار قباها عليك، وقميصك عليها؟ قال: من هذا أعجب أنا أيضاً.
أبو لهب
وهو لقب، واسمه: عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم وكنيته: أبو عتبه، وأبو معتب، القرشي الهاشمي عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال هبار بن الأسود: كان أبو لهب وابنه عتبة تجهزا إلى الشام، وتجهزت معهما، فقال ابنه عتبة: والله، لأنطلقن إلى محمد فلأوذينه في ربه سبحانه فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد، هو يكفر بالذي " دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى " فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم، سلط عليه كلباً من كلابك. قال: يا بني، والله ما آمن عليك دعاءه. فسرنا حتى نزلنا(29/125)
الشراة وهي مأسدة، فنزلنا إلى صومعة راهب، فقال الراهب: يا معشر العرب، ما أنزلكم هذه البلاد؟ فإنما يسرح الأسد فيها كما يسرح الغنم فقال لنا أبو لهب: إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي. فقلنا: أجل يا أبا لهب. فقال: إن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة، وافرشوا لابني عليها، ثم افرشوا حولها. ففعلنا، فجمعنا المتاع ثم فرشنا له عليه، وفرشنا حوله، فبتنا، وأبو لهب معنا أسفل. وبات هو فوق المتاع، فجاء الأسد فشم وجوهنا فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب وثبة فإذا هو فوق المتاع، ثم هزمه هزمة ففسخ رأسه. فقال أبو لهب: قد عرفت أنه لا ينفلت من دعوة محمد. وكناه عبد المطلب أبا لهب من حسنه، لأنه كان يتلهب من حسنه. وله يقول أبو طالب يحرضه على نصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنعه، ويعاتبه على خذلانه: من الطويل
إن امرأ أبو عتيبة عمه ... لفي معزل من أن يسام المظالما
أقول له وأين منه نصيحتي ... أبا معتب ثبت سوادك قائما
فكناه بأبي عتيبة، وأبي معتب.
وأم أبي لهب لبنى بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر بن حبشية بن سلول. اصطرع أبو طالب وأبو لهب، فصرع أبو لهب أبا طالب، وجلس على صدره، فمد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذؤابة أبي لهب، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ غلام. فقال له أبو لهب: أنا عمك، وهو عمك، فلم أعنته علي؟! فقال: لأنه أحب إلي منك. فمن يومئذٍ عادى أبو لهب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واختبأ له هذا الكلام في نفسه. وكان أبو لهب شديد المعاداة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(29/126)
وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: لما نزلت هذه الآية: " وأنذر عشيرتك الأقربين، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عرفت أني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره، فصمت عليها، فجاءني جبريل فقال: يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك. قال علي: فدعاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا علي، إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فعرفت أني إن بادأتهم بذلك، رأيت منهم ما أكره، فصمت عن ذلك حتى جاءني جبريل فقال: يا محمد إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك، فاصنع لنا يا علي رجل شاة على صاع من طعام، وأعد لنا عس لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب. ففعلت، فاجتمعوا له وهم يومئذ أربعون رجلاً؛ يزيدون أو ينقصون، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب الكافر الخبيث فقدمت إليهم تلك الجفنة، فأخذ منها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حذية فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها وقال: كلوا بسم الله. فأكل القوم حتى نهلوا عنه، وما يرى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل ليأكل مثلها. ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اسقهم يا علي. فجئت بذلك القعب، فشربوا حتى نهلوا جميعاً، وأيم الله، إن كان الرجل منهم ليشرب مثله. فلما أراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لهدما سحركم صاحبكم! فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما كان الغد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا علي، عد لنا مثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب، فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما قد سمعت قبل أن أكلم القوم. ففعلت، ثم جمعتهم له، فصنع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما صنع بالأمس، فأكلوا حتى نهلوا عنه، ثم سقيتهم فشربوا من ذلك القعب حتى نهلوا عنه، وأيم الله، إن الرجل منهم ليأكل مثلها،(29/127)
ويشرب مثله، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بني عبد المطلب، والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني جئتكم بأمر الدنيا والآخرة. فكان ما أخفى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره واستسر به إلى أن أمر بإظهاره ثلاث سنين من مبعثه.
وقال ابن عباس: صعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم الصفا فقال: يا صباحاه. فاجتمعت إليه قريش فقالوا له: ما لك؟ قال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم، أما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى، قال: فإني نذير لكم، بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟! فأنزل الله تعالى: " تبت يدا أبي لهب وتب " إلى آخر السورة. وفي رواية عنه أيضاً: قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا آل غالب، يا لؤي، يا آل مرة، يا آل كلاب، يا آل قصي، يا آل عبد مناف، إني لا أملك لكم من الله منفعة ولا من الدنيا نصيباً إلا أن تقولوا لا إله إلا الله. فقال أبو لهب: تباً لك، لهذا دعوتنا؟ فأنزل الله تعالى: " تبت يدا أبي لهب وتب ". وفي قراءة عبد الله " وقد تب " فالأول: دعاء، والثاني: خبر. كما تقول: أهلكه الله وقد أهلكه. ويقال: خسرت يداه بترك الإيمان وخسر هو. و" حمالة الحطب " كانت تنم بين الناس، فذلك حملها الحطب. يقول: تحرش بين الناس، وتوقد بينهم العداوة. و" في جيدها حبل من مسد "، هي السلسلة التي في(29/128)
النار، ويقال: من مسد: هو ليف المقل. وقد يقال لما كان من أوبار الإبل من الحبال مسد. قال الشاعر: من الرجز
ومسدٍ أمر من أيانق
وقيل: المسد: ما فتل وأحكم من أي شيء كان. والمعنى: أن السلسلة التي في عنقها فتلت من الحديد فتلاً محكماً. ويقال: المسد: العصا التي تكون في البكرة. ويقال: المسد قلادة لها من ودع. و" تبت يدا أبي لهبٍ " معناها: خسرت يدا أبي لهب، وتب: أي خسر. وما في التفسير أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا عمومته، وقدم إليهم صحفة فيها طعام، فقالوا: أحدنا وحده يأكل الشاة، وإنما قدم إلينا هذه الصحفة! فأكلوا منها جميعاً، ولم ينقص منها إلا شيء يسير. فقالوا: ما لنا عندك إن اتبعناك؟ قال: لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم، وإنما تتفاضلون في الدين. فقال أبو لهب: تباً لك، ألهذا دعوتنا؟! فأنزل الله عز وجل: " تبت يدا أبي لهب وتب ".
وجاء في التفسير أن امرأته أم جميل، وكانت تمشي بالنميمة. قال الشاعر: من الطويل
من البيض لم تصطد على ظهر لأمةٍ ... ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب
أي النميمة. وقيل: إنها كانت تحمل شوك العضاة، فتطرحه في طريق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.(29/129)
وقيل في الحبل المسد: إنه سلسلة طولها أربعون ذراعاً يعني بها أنها تسلسل في النار في سلسلة طولها سبعون ذراعاً. قال طارق المحاربي: إني بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول: يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. وإذا رجل خلفه يرميه؛ قد أدمى ساقيه وعرقوبيه، ويقول: أيها الناس، إنه كذاب فلا تصدقوه. فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا محمد يزعم أنه نبي، وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب. زاد في رواية في صفة أبي لهب: أحول ذو غديرتين، تقد وجنتاه. وكان ابن كثير يقرأ " أبي لهب "، ساكنة الهاء، ونسبه أنه لغة، كالنهر والنهر، واتفقوا في الثانية على الفتح لوفاق الفواصل. وما أنذره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنار، قال أبو لهب: إن كان ما يقوله حقاً فإني أفتدي بمالي وولدي. فقال الله عز وجل:
" ما أغنى عنه ماله وما كسب " أي: ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من ماله " وما كسب "، يعني ولده، لأن ولده من كسبه. ثم أوعده الله بالنار فقال: " سيصلى ناراً ذات لهب " يعني ناراً تلتهب عليه. وفي حديث آخر عن طارق بمعناه، قال: فلما أسلم الناس وهاجروا خرجنا من الربذة نريد المدينة نمتار من تمرها، فلما دنونا من حيطانها ونخلها، قلنا: لو نزلنا فلبسنا ثياباً غير هذه، إذا رجل في طمرين له، فسلم وقال: من أين أقبل القوم؟ قلنا: من الربذة. قال: وأين تريدون؟ قلنا: نريد هذه المدينة. قال: ما حاجتكم فيها؟ قالوا: نمتار من تمرها. قال: ومعنا ظعينة لنا، ومعنا جمل أحمر مخطوم. فقال: أتبيعون جملكم هذا؟ قالوا: نعم بكذا وكذا صاعاً من(29/130)
تمر. قال: فما استوضعنا مما قلنا شيئاً. فأخذ بخطام الجمل، فانطلق، فلما توارى عنا بحيطان المدينة ونخلها. قلنا: ما صنعنا؟ ما بعنا جملنا مما نعرف، ولا أخذنا له ثمناً؟! قال: تقول المرأة التي معنا: والله لقد رأيت رجلاً كأن وجهه شقة القمر ليلة البدر، أنا ضامنة لثمن جملكم. وزاد في آخر: ولقد رأيت وجه رجلٍ لا يغدر بكم. إذ أقبل رجل فقال: أنا رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا تمركم، واشبعوا واكتالوا واستوفوا. فأكلنا حتى شبعنا واكتلنا واستوفينا. ثم دخلنا المدينة فدخلنا المسجد، فإذا هو قائم على المنبر يخطب الناس، فأدركنا من خطبته وهو يقول: تصدقوا فإن الصدقة خير لكم، اليد العليا خير من السفلى. زاد في رواية: وابدأ بمن تعول؛ أمك وأباك وأختك وأخاك، وأدناك أدناك. إذا أقبل رجل في نفر من بني يربوع أو قال: رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، لنا في هؤلاء دماً في الجاهلية، فخذ لنا بثأرنا. فقال: إن أماً لا تجني على ولد ثلاث مرات.
قال ابن إسحاق: وفر أبو سلمى بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم إلى أبي طالب ليمنعه، وكان خاله، فمنعه، فجاءت بنو مخزوم لتأخذه، فمنعه، فقالوا: يا أبا طالب، منعت منا ابن أخيك، أتمنع منا ابن أخينا؟ فقال أبو طالب: أمنع ابن أختي مما أمنع منه ابن أخي. فقال أبو لهب ولم يتكلم بكلام خير قط ليس يومئذ: صدق أبو طالب، لا يسلمه إليكم. فطمع فيه أبو طالب حين سمع منه ما سمع، ورجا نصره والقيام معه فقال شعراً يستجلبه بذلك: من الطويل
إن امرأ أبو عتيبة عمه ... لفي روضة من أن يسام المظالما(29/131)
أقول له وأين منه نصيحتي ... أبا معتب ثبت سوادك قائما
ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة ... تسب بها إما هبطت المواسما
وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى ... أخا الحرب يعطي الضيم إلا مسالما
وول سبيل العجز غيرك منهم ... فإنك لم تخلق على العجز لازما
ثم أقبل أبو طالب على أبي لهب حين ظاهر عليه قومه ونصب لعداوة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع من نصب له. وكان أبو لهب للخزاعية. وكان أبو طالب وعبد الله أبو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والزبير لفاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران، فغمزه أبو طالب بأم له يقال لها: سماحيج قد شبب بها بعد ذلك حسان بن ثابت حين قاذف قريشاً. فقال أبو طالب وأغلظ له في القول: من الكامل
مستعرض الأقوام يخبرهم ... غدري وما إن جئت من غدري
فاجعل فلانة وابنها غرضاً ... لكرائم الأكفاء والصهر
واسمع بوادر من حديث صادق ... يهوين مثل جنادل الصخر
إن بنو أم الزبير وفحلها ... حملت بنا للطيب والطهر
فحرمت منا صاحباً ومؤازراً ... وأخاً على السراء والضر
وعن أبي رافع قال: كنا آل عباس قد دخلنا في الإسلام، وكنا نستخفي بإسلامنا، وكنت غلاماً للعباس أنحت الأقداح، فلما سارت قريش إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر وكنا نستخفي يوم بدر جعلنا نتوقع الأخبار، فقدم علينا الحيسمان الخزاعي بالخبر، فوجدنا في أنفسنا قوة، وسرنا ما جاءنا من الخبر من ظهور رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإني لجالس في صفتي زمزم أنحت(29/132)
أقداحاً لي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، وبلغنا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ أقبل الخبيث أبو لهب بشر يجر رجليه، قد كبته الله وأخزاه لما جاءه من الخبر حتى جلس على طنب الحجرة، فقال الناس: هذا أبو سفيان بن حرب قد قدم. فاجتمع عليه الناس، فقال: أبو لهب: هلم إلي يا بن أخي، فعندك لعمري الخبر. فجاء حتى جلس بين يديه، فقال له: يا بن أخي خبرني خبر الناس. قال: نعم، والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يضعون السلاح فينا حيث شاءوا، ووالله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق لا والله ما تليق شيئاً يقول: ما تبقي شيئاً قال: فرفعت طنب الحجرة فقلت: تلك والله الملائكة. فرفع أبو لهب يده، فضرب وجهي ضربة منكرة، وثاورته وكنت رجلاً ضعيفاً فاحتملني فضرب بي الأرض، وبرك على صدري يضربني، وتقوم أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فتأخذه، وتقول: استضعفته أن غاب عنه سيده، وتضربه بالعمود على رأسه، فيفلقه شجة منكرة. وقام يجر رجليه ذليلاً، ورماه الله بالعدسة، فوالله ما مكث إلا سبعاً حتى مات، ولقد تركه ابناه في بيته ثلاثاً ما يدفنانه حتى أنتن، وكانت قريش تتقي هذه القرحة كما تتقي الطاعون، حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان، إن أباكما في بيته قد أنتن؛ لا تدفنانه؟! فقالا: إنا نخشى عدوى هذه القرحة. فقال: انطلقا، فأنا أعينكما عليه. فوالله ما غسلوه إلا قذفاً بالماء من بعيد؛ ما يدنون منه، ثم إنهم احتملوه إلى أعلى مكة، فأسندوه إلى جدار، ثم رضموا عليه.
وعن عائشة أنها كانت لا تمر على مكان أبي لهب هذا إلا استترت بثوبها حتى تجوزه.
وفي حديث عروة في الرضاع، قال عروة: وثويبة مولاة أبي لهب، كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله في النوم بشر حيبة فقال له: ماذا لقيت؟ فقال أبو لهب: لم(29/133)
ألق بعدكم رخاءً غير أني سقيت في هذه ما؛ بعتاقي ثويبة. وأشار إلى النقيرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع. وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قرأ " تبت " أرجو أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة. مرت درة ابنة أبي لهب برجل فقال: هذه ابنة عدو الله أبي لهب. فأقبلت عليه، فقالت: ذكر الله أبي لنباهته وشرفه، وترك أباك لجهالته. ثم ذكرت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما سمعت. فخطب الناس فقال: لا يؤذين مسلم بكافر. وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما نزلت " تب يدا أبي لهب وتب " أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب، ولها ولولة، وفي يدها فهر، وهي تقول: مذمماً أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس في المسجد، ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك. قال رسول الله عليه وسلم: إنها لن تراني. وقرأ قرآناً فاعتصم به كما قال. وقرأ " وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً " فوقفت على أبي بكر، ولم تر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقالت: يا أبا بكر، إني أخبرت أن صاحبك هجاني. فقال: لا، ورب هذا البيت ما هجاك. فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها. وقيل: إن أم جميل دخلت على أبي بكر، وعنده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا بن أبي(29/134)
قحافة، ما شأن صاحبك ينشد من الشعر؟ فقال: ما صاحبي بشاعر، وما يدري ما الشعر. فقالت: أليس قد قال: " في جيدها حبل من مسد " فما يدريه ما في جيدي؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل لها: ترين عندي أحداً؟ فإنها لن تراني. قال: جعل بيني وبينها حجاب. فسألها أبو بكر، فقالت: أتهزأ بي يا بن أبي قحافة؟ والله ما أرى عندك أحداً. وفي حديث بمعناه أنها قالت لأبي بكر: أنت عندي مصدق. وانصرفت. قلت: يا رسول الله: لم ترك؟ قال:
لا، لم يزل ملك يسترني منها بجناحه. توفي أبو لهب سنة اثنتين من الهجرة بعد وقعة بدر بسبع ليال، ودفن بمكة، وهو ابن سبعين سنة. قال أبو الحسين عاصم بن الحسن العاصمي: من الطويل
عليك بتقوى الله في كل حالة ... ولا تترك التقوى اتكالاً على النسب
فقد رفع الإسلام سلمان فارس ... وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب
ابن لؤلؤ الكاتب
من دمشق، من شعره: من المديد
غرر لكنهم غدر ... إن قرنت الخبر بالخبر
بقر لكننا لهم ... في امتثال الأمر كالبقر
يشربون الصفو من زمن ... لا يهنى فيه بالكدر(29/135)
حرف الميم
أبو محمد الأنصار
له صحبة، ويقال شهد بدراً. ويقال اسمه: قيس بن عباية بن عبيد بن الحارث بن عبيد الخولاني، حليف بني حارثة بن الحارث، من الأوس. حدث مولى لرويفع بن ثابت أن رجلاً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشترى جارية بربرية بمئتي دينار، فبعث بها إلى أبي محمد البدري من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان بدرياً، فوهب له الجارية البربرية، فلما جاءته قال: هذه من المجوس التي نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها، وعن الذين أشركوا. قال: فحدثت هذا الحديث رجلاً، فحدثني أن يحيى بن سعيد حدث أن ابن عم له مات بالمغرب، وكان بدرياً. حدث المخدجي، رجل من أهل الشام، كان قد لزم عبادة بن الصامت حتى أنزله منزلة العبد سيده، وكان يسافر معه إذا سافر، ويخرج معه إذا خرج، ويدخل معه إذا دخل، ليس يفرق بينهما إلا أن يدخل عبادة إلى أهله، قال المخدجي: فجئت يوماً مجلس عبادة، فلم أجده، ووجدت أبا محمد من بني النجار، من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد خلفه، فالناس يسألونه، فكان فيما سألوه عنه الوتر: أواجب هو مثل المكتوبة؟ قال: نعم، فأنكرتها في نفسي، ثم قلت، حتى أسأل عبادة عنها لا أنساها. فذهبت إلى بيته فقالوا لي: أخذ على الساحل آنفاً فعقبت على إثره حتى جئته، فقلت له: إن أبا محمد جلس آنفاً في مجلسك. فسألوه عن الوتر أواجب هو مثل المكتوبة؟ قال: نعم. فقال عبادة: كذب أبو محمد، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: خمس صلوات كتبها الله على عباده، من جاء بها لم يتركها ولم يضيعها استخفافاً بحقها؛ كان له عند الله عهد ألا يعذبه، ومن لم يأته بهن لم يكن له عند الله عهد. إن شاء عذبه، وإن شاء رحمه.(29/136)
وفي رواية: كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة. وفي حديث: بهن الجنة. قال عبد ربه: والوتر سنة أمر بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصلاها المسلمون، لا ينبغي تركها. قوله: الوتر حق: أي واجب. يقال: حق الأمر؛ أي وجب. وقوله: كذب أبو محمد: لم يذهب به إلى الكذب الذي هو الانحراف عن الصدق، والتعمد للزور، وإنما أراد أمه زل في الرأي وأخطأ في الفتوى؛ وذلك أن حقيقة الكذب إنما تقع في الإخبار، ولم يكن أبو محمد في هذا مخبراً عن غيره، وإنما كان مفتياً عن رأيه، وقد نزه الله عز وجل أقدار الصحابة رضي الله عنهم عن الكذب وشهد لهم في محكم كتابه العزيز بالصدق والعدالة فقال: " والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم " ولأبي محمد هذا صحبة، وهو من الأنصار من بني النجار، واسمه: مسعود بن زيد بن سبيع. قال: وقد يجري الكذب مجرى الخطأ في كلامهم، ويوضع موضع الخلف، كقولهم: كذب سمعي، كذب بصري. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل الذي وصف له العسل: صدق الله، وكذب بطن أخيك. ونظير هذا قول عمران بن حصين لسمرة بن جندب، قال سمرة في المغمى عليه: يصلي مع كل صلاةٍ صلاةً حتى يقضيها. فقال له عمران بن حصين: كذبت، ولكنه يصليها معاً؛ يريد أخطأت. ومن ذلك حديث البراء بن عازب. قال: حدث البراء بن عازب وهو غير كذوب قال: كنا خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة، فإذا قال: سمع الله لمن حمده. لم يحن منا رجل ظهره للسجود حتى يضع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبينه على الأرض. قوله: غير كذوب: أي غير مظنون به الخطأ، أو غير مجرب عليه الغلط في الرواية. يصفه بالحفظ والإتقان.(29/137)
وقيل: اسم أبي محمد مسعود بن أوس. شهد بدراً وأحداً والخندق، والمشاهد كلها مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتوفي في خلافة عمر بن الخطاب، وليس له عقب. وشهد فتح مصر.
أبو محمد الكلبي
حدث عن مكحول أن أبا الدرداء قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف أنت يا عويمر إذا قيل لك يوم القيامة، أعلمت أم جهلت؟ فإن قلت: علمت. قيل لك: فماذا عملت فيما علمت؟ وإن قلت: جهلت. قيل لك: فما كان عذرك فيما جهلت؟ ألا تعلمت؟
أبو محمد الدمشقي
إن لم يكن الكلبي فهو غيره. حدث عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني عن مؤذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله، وتكفيراً للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد.
أبو محمد الكلاعي
حدث عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أهديت له هدية، وعند قوم، فهم شركاؤه فيها.
أبو محمد القرشي
قال: سألت الأوزاعي، فقلت: يا أبا عمرو، هذا جيش عبد الله بن علي قد جاء، فنبيعهم علفاً؟ قال: لا، ولا إبرة.(29/138)
أبو محمد القرشي الدمشقي
من ولد الحارث بن عبد المطلب. حدث عن إبراهيم بن أبي عبلة وكانت له ناحية من عمر بن عبد العزيز قال: كان عطاء الخراساني يتكلم بعد الصلاة في بيت المقدس فتكلم رجل من المؤدبين، فقال رجل: من هذا؟ قال: أنا يا أبا المقدام. قال: اسكت. قال: ولم؟ قال: إنا نكره أن نسمع الخير من غير أهله.
أبو محمد الطرابلسي
حدث عن أبي معمر، عن الحسن قال: همة العلماء الرعاية، وهمة السفهاء الرواية.
أبو محمد الأنصاري
قال: قرأت على حجر ببيت المقدس: رأس الغنى القنوع، ورأس الفقر الخضوع. وقال: قرأت على حجر بدمشق: كلم من شئت فأنت نظيره، واستغن عمن شئت، فأنت أميره، واخضع لمن شئت، فأنت أسيره. قال: وقرأت على حجر عند جب: كل من أحوجك الدهر إليه فتعرضت له، هنت عليه.(29/139)
أبو محمد بن العباس
العطار الدمشقي حدث عن خالد بن يزيد بسنده، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: نعم السحور التمر، ونعم الإدام الخل، ورحم الله المتسحرين.
أبو محمد المعيوفي
قال علي بن محمد المعيوفي: كان عبد العزيز المطرز صاحب قلب طيب، لا يقدر أن يسمع شيئاً إلا وجد وجداً عظيماً تعود بركته على الحاضرين معه. وكان شيخنا أبو محمد المعيوفي أيضاً صاحب قلب لا تسل عنه، وفي حضور واجتماع. فكانا إذا اجتمعا، فإنما هو يوم سرور ومناحة.
أبو محمد بن فضالة الفقيه
حدث عن المسيب بن واضح بسنده إلى أنس بن مالك قال: كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناقة، يقال لها العضباء، فكانت لا تسبق. فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين. قالوا: أسبقت العضباء يا رسول الله؟ قال: إن حقاً على الله أن لا يرفع في الدنيا شيئاً إلا وضعه.
أبو محمد بن الصفر
ابن السري، الخراساني، الختلي حدث سنة خمس عشرة وثلاث مئة بدمشق عن عمار بن الحسين بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رحم الله عبداً أصلح من لسانه.(29/140)
أبو محمد الغزنوي الفقيه
أنشد لابن الرومي: من الوافر
رأيت الدهر يجرح ثم يأسو ... يعوض أو يسلي أو ينسي
أبت نفسي الهلاع لفقد شيء ... كفى رزءاً لنفسي فقد نفسي
وهو مأخوذ من قوله: من الطويل
ومن عجب الدنيا بأن صروفها ... إذا سر منها جانب ساء جانب
ولا تكتحل عيناك منها بعبرة ... على ذاهب منها فإنك ذاهب
أبو مالك الأشعري
له صحبة. واختلف في اسمه، فقيل: كعب بن عاصم وهو أظهر وقيل: عامر بن الحارث بن هانئ بن كلثوم. وقيل: الحارث بن الحارث، وقيل: عمرو. وقيل: عبيد، وهو وهم. حدث أبو مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع، في أوسط أيام الأضحى: أليس هذا اليوم حرام؟ قالوا: بلى. قال: فإن حرمة ما بينكم إلى يوم القيامة كحرمة هذا اليوم. ثم قال: ألا أنبئكم من المسلم؟ من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأنبئكم من المؤمن؟ من أمنه المؤمنون على أنفسهم ودمائهم، وأنبئكم من المهاجر؟ من هجر السيئات، وهي ما حرم الله، المؤمن حرام على المؤمن كحرمة هذا اليوم، لحمه حرام عليه أن يأكله، ويغتابه بالغيب، وعرضه عليه حرام أن يخرقه، ووجهه حرام عليه أن يلطمه، وحرام عليه أن يدفعه دفعة تعنيه. قام ربيعة الجرشي في الناس فقال: يا أيها الناس، إن الله قد أحل كثيراً طيباً، وحرم قليلاً خبيثاً، فما يؤمن أحدكم أن يقع في معصية من معاصي الله، فيمسخه الله قرداً أو خنزيراً. فقال رجل من(29/141)
ناحية الناس: والله ليكونن ذلك. قال: فتطاولت فإذا هو عبد الرحمن بن غنم الأشعري. فلما فرغ ربيعة قمت إليه، فإذا ربيعة قد بدرني إليه، فأخذ بيده فانتحاه فجلست قريباً منهما، فأخذا ينظران إلي المرة بعد المرة، فعلمت أن مجلسي قد ثقل عليهما، فقمت فأتيت أهلي، فما قرتني نفسي حتى رجعت إلى المسجد، وإني لأتبوأ منه مجلساً أنظر إلى أبوابه كلها، فإذا أنا به، فقمت إليه، فقلت: قد هجرت الرواح؟ قال: أجل، علمت أن المسجد ليس فيه أهله، فأحببت أن أعمره حتى يجيء أهله. فقلت: رحمك الله، يمين حلفت عليها اليوم إذ قال ربيعة: ما يؤمن أحدكم أن يقع في معصية من معاصي الله، فيمسخه الله قرداً أو خنزيراً. فحلف لا يستثني ليكونن ذلك قال حدثني أبو عامر أو أبو مالك، والله يمين أخرى وما كذبني أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم فيأتيهم آتٍ لحاجته فيقولون ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله، ويضع العلم عليهم، ويمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة. وعن أبي مالك الأشعري، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليشربن أناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، وتضرب على رؤوسهم المعازف، ويخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير.
حدث هشام بن الغاز، عن أبيه، عن جده قال: قال يوماً لأهل دمشق: يا أهل دمشق، والله ليكونن فيكم الخسف والمسخ والقذف. قالوا: وما يدريك يا ربيعة؟ قال: هذا أبو مالك فسلوه. قال: وكان ينزل عليه فراح به إلى المسجد. فقالوا له: ما يقول ربيعة، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: في أمتي الخسف والقذف. قال: قلنا: فيم يا رسول الله؟ قال: باتخاذهم القينات وشربهم الخمور.(29/142)
وحدث كعب بن عاصم، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليس من البر الصيام في السفر. وعامر بن الحارث قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفينة. وعن حبيب بن عبيد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اللهم، صل على عبيد أبي مالك الأشعري، واجعله فوق كثير من الناس. جمع أبو مالك الأشعري قومه فقال: يا معشر الأشعريين، اجتمعوا واجمعوا نساءكم وأبناءكم، أعلمكم صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي صلى بالمدينة بنا. فاجتمعوا وجمعوا نساءهم وأبناءهم، فتوضأ فأراهم كيف يتوضأ، فأخفى الوضوء إلى أماكنه، حتى لما أن فاء الفيء وانكسر الظل قام فأذن وصف الرجال في أدنى الصف، وصف الولدان خلفهم، وصف النساء خلف الولدان، ثم أقام الصلاة فتقدم، ورفع يديه وكبر، فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة يسرهما، ثم كبر فركع. فقال: سبحان الله وبحمده ثلاث مرات ثم قال: سمع الله لمن حمده. ثم استوى قائماً، ثم كبر وخر ساجداً، ثم كبر فرفع رأسه، ثم كبر فسجد، ثم كبر فانتهض قائماً، فكان يكبر في أول ركعة ست تكبيرات، وكبر حين قام إلى الركعة الثالثة، فلما قضى صلاته أقدم إلى القوم بوجهه فقال:
احفظوا تكبيري، وتعلموا ركوعي وسجودي، فإنها صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي كان يصلي بنا هذه الساعة من النهار. ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قضى صلاته، أقبل إلى القوم بوجهه فقال: أيها الناس، اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله عز وجل فجاء رجل من الأعراب من قاصية الناس فألوى بيده إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ناس من الناس، ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله عز وجل؟! انعتهم لنا حلهم لنا شكلهم(29/143)
فتروح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسؤال الأعرابي. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هم ناس من أفناء الناس، ونوازع القبائل، لم تتصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نوراً، وثيابهم نوراً، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، هم أولياء الله، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. قال كعب بن عاصم الأشعري: ابتعت قمحاً أبيض ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي، فأتيت به أهلي، فقالوا: تركت القمح الأسمر الجيد وابتعت هذا؟ والله لقد أنكحني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياك وإنك لعيي اللسان، دميم الجسم، ضعيف البطش. فصنعت منه خبزة، فأردت أن أدعو عليها أصحابي الأشعريين، أصحاب الصفة. فقلت: أتجشأ من الشبع وأصحابي جياع؟! فأتت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشكو زوجها وقالت: انزعني من حيث وضعتني. وأرسل إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجمع بينهما، فحدثه حديثها. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لم تنقمي منه شيئاً غير هذا؟! قالت: لا. قال: فلعلك تريدين أن تخلعي فتكوني كجيفة الحمار، أو تبغين ذا جمة فينانة، على كل جانب من قصته شيطان قاعد؟ ألا ترضين أني أنكحتك رجلاً من نفر ما تطلع الشمس على نفر خير منهم؟ قالت: رضيت. فقامت المرأة حتى قبلت رأس زوجها، فقالت: لا أفارق زوجي أبداً. وعن أبي مالك: أنه قدم هو وأصحابه في سفر، ومعه فرس أبلق، فلما أرسلوا وجدوا إبلاً كثيرة من إبل المشركين فأخذوها، فأمرهم أبو مالك أن ينحروا منها بعيراً فيستعينوا به، ثم مضى على قدميه حتى قدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره بسفره وأصحابه، والإبل التي أصابوا، ثم رجع إلى أصحابه. فقال الذين عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعطنا يا رسول الله من هذه الإبل. فقال: اذهبوا إلى أبي مالك. فلما أتوه، قسمها أخماساً، خمساً بعث به إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخذ ثلث الباقي بعد الخمس، فقسمه بين أصحابه، والثلثين الباقيين بين(29/144)
المسلمين، فقسم بينهم، فجاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: ما رأينا مثلما صنع أبو مالك بهذا المغنم! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو كنت أنا ما صنعت إلا كما صنع. وعن شريح بن عبيد الحضرمي أن أبا مالك الحضرمي لما حضرته الوفاة قال: يا سامع الأشعريين ليبلغ الشاهد منكم الغائب، أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: حلوة الدنيا مرة الآخرة، ومرة الدنيا حلوة الآخرة. توفي أبو مالك في زمن عمر بن الخطاب. وطعن معاذ وأبو عبيدة وشرحبيل بن حسنة، وأبو مالك في يوم واحد.
أبو مخرمة السعدي
من أهل دمشق كان عبد الله بن أبي زكريا، وأبو مخرمة، وغيرهم من التابعين يغزون عليهم تبابين إلى الركبتين تحت السراويلات مخافة السلب، ويكرهون لبس التبان الذي لا يستر شيئاً إلا العورة، وكان أبو مخرمة لا يغير شيبه. قال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ومعنا مكحول: أن رجلاً مر بكرم بأرض الروم، فقال لغلامه: أعطني مخلاتي حتى آتيهم من هذا العنب. فأخذها، ثم دفع فرسه. فبينما هو في الكرم إذا هو بامرأة على مثل سرير لم ينظر إلى مثلها قط. فلما رآها صد عنها بوجهه، فقالت: لا تصد عني، فإني زوجتك، وامض أمامك فسترى ما هو أفضل مني. فمضى، فإذا هو بأخرى مثلها فقالت له مثل ذلك. وأظنه أبا مخرمة. قال عطاء بن قرة: كنا مع أبي مخرمة فما عدا أن جاءنا من ذلك العنب، فوضعه ودعا بقرطاس ودواة(29/145)
وكتب وصيته فلما رآه أبو كريب كتب وصيته، ثم قام مقاتل الليثي فكتب وصيته، ثم قام عمار بن أيوب فكتب وصيته، ثم قام عوف اللخمي فكتب وصيته، ثم لقينا برجان فما بقي من هؤلاء الخمسة أحد إلا قتل. قال: ولم نكتب نحن وصايانا فلم نقتل.
قال سعيد: لا نعلم أحداً رأى الحور العين عياناً، إلا في المنام، إلا ما كان من أبي مخرمة، فإنه دخل كرماً لبعض حاجاته فرأى الحور عياناً في قبتها، وعلى سريرها، فلما رآها صرف وجهه عنها فقالت: إلي يا أبا مخرمة، فإني أنا زوجتك، وهذه زوجة فلان، وهذه زوجة فلان، فانصرف إلى أصحابه فأخبرهم، فكتبوا وصاياهم، ولم يكتب أحد وصيته إلا استشهد.
قال سليمان بن حبيب: بينا أنا أطوف في سوق حمص، إذا أنا بعبد الله بن أبي زكريا، وأبي مخرمة وكان يتيماً في حجر أبي الدرداء قال: قلت: أين تريدان؟ قالا: نريد أبا أمامة. قلت: أفلا أنطلق معكما؟ قالا: بلى، إن شئت. فأتينا أبا أمامة، فدخلنا، فتحدث، ثم ذكر الكذب فعظم منه ما لم أسمع أحداً عظم منه ما عظم يومئذ أبو أمامة، ثم قال: إن الله يأمركم أن تنفقوا في سبيله، وجعل لكم الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة؛ أضعاف كثير، وقال: " وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه " ثم إنكم تبخلون على الله، أما والله، لقد فتحت الفتوح بأسياف ما حليتها الذهب والفضة ولكن حليتها الآنك والحديد. وفي حديث عن سليمان بن موسى قال: بينا أنا في سوق حمص في بعض ما كنت أعرو إذا أنا بعبد الله بن أبي زكريا وأبي مخرمة، قلت: أين تريدان؟ قالا: نريد أن نأتي أبا أمامة الحديث.(29/146)
أبو مدرك
أظنه عبد الله بن مدرك حدث عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج؛ مر علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً ونحن نتحدث فقال: ما تحدثون؟ قلنا: نتحدث عنك يا رسول الله قال: تحدثوا، وليتبوأ من كذب علي مقعده من جهنم. قال: ومضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحاجته، وقد نكص القوم وأمسكوا عن الحديث، وهمهم ما سمعوا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال: ما شأنكم لا تحدثون؟ قالوا: الذي سمعنا منك يا رسول الله. قال: إني لم أرد ذلك، إنما أردت من تعمد ذلك. قال: فتحدثنا. وحدث عن عروة بن الزبير، عن أمه أسماء ابنة أبي بكر أنها قالت: ذبحنا فرساً، فأكلنا منه نحن أهل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أبو مذكور الخولاني
قال أبو معيد: جاورنا شيخ من خولان كان ذا عبادة وعلم يكنى: أبا مذكور. قال: أخذ بيدي يوماً فوقف بي على طريق المزة الآخذ إلى باب دمشق، فقال: أراني أبو إدريس عائذ الله الخولاني هذا الموضع كما أريتك. فقال: يتداعى الناس بدمشق بدعوى جاهلية، تقطع فيها الأرحام، وتركب فيها الآثام، ويضاع فيها الإسلام، كأنكم بالخيل تعدو بردى في هذا النقب، لايرعون لله جلالة، ولا يخافون معاداً. قال أبو معيد فقلت للرجل: هل لذلك وقت؟ قال: نعم، أعدد خمسة ولاة من بني العباس.(29/147)
قال أبو العباس: كان هذا أمارات فتنة أبي العميطر، وهو الذي خرج بالمزة في أيام الخامس من بني العباس محمد بن زبيدة. قالوا: هذا وهم، وإنما هي فتنة أبي الهيذام.
أبو مرجى القرشي مولاهم الموقري
من أهل الموقر: حصن بالبلقاء من ناحية دمشق. حدث عن عبد الواحد بن قيس قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بن آدم، لك ما نويت، وعليك ما اكتسبت، وأنت مع من أحببت، ومن مات بطريق كان من أهل ذلك الطريق.
وفي حديث مثله: يا ابن آدم، لك ما قدمت، وعليك ما اكتسبت الحديث.
أبو مرحوم العطار
أحد الصالحين. قال يحيى بن جابر: خرجت أنا وخالد بن معدان وأبو الزاهرية، وأبو مرحوم العطار، نريد بيت المقدس فنزلنا منزلاً بفلسطين، فقال لنا رجل: إن هذه الأرض مسبعة فلا تنزلوها، فنزلنا وبيتنا فيها، فجاء السبع، فقام إليه خالد بقوسه، فقال له أبو مرحوم: أبوالقوس تقوم إليه يا خالد؟ فمشى إليه أبو مرحوم في قميصه حتى دنا منه، فقال له: أنت كلب من كلاب الله، ونحن عباد الله، جئنا نصلي في بيت المقدس، فلا تؤذ منا أحداً إلا أن يكون لك في أحدنا رزق. قال: وكأنما يكلم رجلاً، فانصرف السبع عنا مولياً، ونحن ننظر إليه.(29/148)
أبو مرحوم المكي
قدم من مكة على الأوزاعي ليسمع منه، فأهدى إليه طرائف من طرائف مكة. فقال له الأوزاعي: إن شئت قبلت منك، ولم تسمع مني حرفاً، وإن شئت فضم هديتك واسمع.
أبو مريم الأزدي
قدم أبو مريم على معاوية، فقال له معاوية: ما أقدمك؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما رأيت موقفك جئت أخبرك. سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من ولاه الله من أمر الناس شيئاً فاحتجب عن حاجتهم وخلتهم وفاقتهم، احتجب الله يوم القيامة عن حاجته وخلته وفاقته. وقيل: إنه دخل على معاوية، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من ولي من أمر الناس شيئاً، فأغلق بابه دون المسكين أو المظلوم أو ذي الحاجة، أغلق الله دونه أبواب رحمته عند حاجته وفقره أفقر ما يكون إليه.
أقبل رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال له أبو مريم، غازياً، حتى بلغ الحفير واستأذن على معاوية بدمشق حين مر بها، فلم يجد أحداً يأذن له، فلما بلغ الحفير ذكر حديثاً سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرجع حتى أتى باب معاوية، فقال لبعض من عليه: أما منكم أحد رشيد يقول لأمير المؤمنين ها هنا أخوك أبو مريم؟ فقال معاوية: ويحكم! وحبستموه؟ ائذنوا له. فلما دخل عليه قال: مرحباً، ها هنا ها هنا يا أبا مريم. ثم قال: إني لم أجئك طالب حاجة، ولكني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من اغلق بابه دون ذوي الفقر والحاجة، أغلق الله عن فقره وحاجته باب السماء. فأكب معاوية يبكي، ثم قال: رد حديثك يا أبا مريم. فرده، ثم قال معاوية: ادعوا لي سعداً وكان حاجبه فدعي، فقال: يا أبا مريم، حدثه أنت كما سمعت. فحدثه أبو مريم. فقال معاوية لسعد: اللهم، إني أخلع هذا من عنقي، وأجعله في عنقك، من جاء يستأذن علي، فأذن له، يقضي الله على لساني ما قضى.(29/149)
أبو مريم مولى سلامة
شهد فتح إيلياء مع عمر بن الخطاب، فسار من الجابية فاصلاً حتى يقدم إيلياء، ثم مضى حتى يدخل المسجد، ثم مضى نحو محراب داود، ونحن معه، فدخلها، ثم قرأ سجدة ص، فسجد وسجدنا معه.
أبو مريم خادم مسجد دمشق
حدث عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أظنه قال: إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله إنما سخرها لتبلغوا بلداً لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، فجعل لكم الأرض، وعليها فاقضوا حوائجكم. وحدث عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نهى أن يبال في الماء الدائم، ثم يتوضأ منه. وحدث عن أبي هريرة أنه قال: إن الملائكة يكونون يوم الجمعة على أبواب المساجد.
أبو مسلم الجليلي
ويقال: الجلولي والأول: أصح. من جبل الجليل. وكان من أهل الكتاب وكان معلم كعب الأحبار، وأدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يسلم، وأسلم في عهد معاوية. وقيل: في عهد عمر. وقيل: في عهد أبي بكر. قال أبو قلابة: إن أبا مسلم الجليلي أسلم على عهد معاوية، فأتاه أبو مسلم الخولاني فقال: ما منعك أن تسلم على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، حتى أسلمت الآن؟ فقال: إني وجدت في التوراة أن هذه الأمة ثلاثة أصناف، صنف يدخلون الجنة بغير حساب، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً، وصنف يصيبهم شيء ثم يدخلون الجنة،(29/150)
فأردت أن أكون من الأولين، فإن لم أكن منهم كنت من الذين يحاسبون حساباً يسيراً، فإن لم أكن منهم كنت من الذين يصيبهم شيء ثم يدخلون الجنة.
وفي حديثٍ آخر أنه أسلم في زمن عمر، وأنه قال في الصنف الثالث: وصنف يوقفون، فيؤخذ بهم ما شاء الله، ثم يدركهم عفو الله وتجاوزه، فنظرت فإذا الصنف الأول قد فاتني، وأرجو أن أكون في الصنف الثاني، وأرجو أن لا يخطئني الثالث. فهذا الذي حملني على الإسلام.
كان لأبي مسلم الخولاني جار يهودي، يكنى أبا مسلم، فكان يمر به فيقول: أبا مسلم، أسلم تسلم. فيقول: إن لي ديناً خيراً من دينك. فمر به ذات يوم، وهو قائم يصلي، فلما انصرف، قال له: يا أبا مسلم، ألم أكن أدعوك إلى هذا الدين فتأبى علي؟ قال: بلى، ولكن قرأت في التوراة غير المبدلة أن هذه الأمة تأتي يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً، ويبقى صنف أوزارهم على ظهورهم كأمثال الجبال، فيقول الله لملائكته: يا ملائكتي، من هؤلاء؟ فتقول: هؤلاء عبادك، كانوا يشهدون أن لا إله إلا أنت. قال: فيقول تبارك وتعالى: خذوا أوزارهم وضعوها على المشركين. فيدخلون الجنة. كان أبو مسلم الجليلي يكنى أبا السموأل، فكناه أبو بكر أبا مسلم.
دخل أبو مسلم الجليلي على معاوية. فقال: اضمن لي خصلة، أضمن لك ألا يظهر على أمتك عدو، امنعهم من الزرع فإنه مكتوب أن الرعب مع الزرع. دخل أبو مسلم الجليلي على معاوية قبل أن يستخلف فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقال القوم: أيها الأمير. فأعادها. فقال معاوية: دعوا الشيخ، فإنه أعلم بما يريد. فقال: اعلم أنه ليس من راعي رعية إلا وصاحبها سائله عنها، فإن هنأ جرباها، وجبر كسراها، ورد أولاها على أخراها، ورعاها في أنف الكلأ، وسقاها صفو الماء، وفاه أجره، وإن لم يفعل لم يعطه أجره، وعاقبه.(29/151)
لقي أبو مسلم الخولاني أبا مسلم الجليلي، فقال الجليلي: كيف منزلك من قومك؟ قال: إنهم ليعرفون حقي، ويعرفون شرفي. فقال الجليلي: ما هكذا تقول التوراة. فقال الخولاني: وكيف تقول التوراة؟ قال: تقول: إن أشد الناس بغضاً للمرء الصالح قومه، ومن هو بين أظهرهم. وإن أشد الناس له حباً أبعد الناس منه. فقال أبو مسلم الخولاني: صدقت التوراة، وكذب أبو مسلم. ثم قال الخولاني للجليلي: ما أدنى ما يدخل به الرجل الجنة؟ فقال الجليلي: أجد في كتاب الله العتيق أن رجلاً أتى السوق، فاشترى قميصاً سنبلانياً بخمسة دراهم فلبسه فحمد الله وجبت له الجنة، ورجل أتى أهله وهو جائع فقرب له خبز وزيت فأكل فحمد الله وجبت له الجنة، ورجل أتى السوق فاشترى دابة فركبها فحمد الله وجبت له الجنة.
أبو مسلم العبدي
حدث أنه رأى سلمان الفارسي، ورأى رجلاً يريد أن ينزع خفية للضوء، فأمره سلمان أن يمسح على خفيه وناصيته وعمامته، وقال سلمان: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسح على الخفين والخمار.
أبو مسلم الثعلبي
قال: انطلقت إلى بيت المقدس، فأتيته، ثم رجعت، حتى إذا كنت بدمشق على رأس ميلين، أدركني رجل، فسألته: من أين جئت؟ فقال: من بيت المقدس. فقلت: هل لقيت أبا أمامة؟ قال: نعم. قلت: فما حدثك؟ قال: حدثني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما على الأرض من مسلم يتوضأ، فيحسن الوضوء لصلاة مفروضة، إلا غفر له في ذلك اليوم ما مشت إليه رجلاه، أو قبضت عليه يداه، أو نظرت إليه عيناه، واستمعت إليه أذناه، ونطق به لسانه، وحدثته به نفسه. قال: قلت له: أنت سمعت هذا من(29/152)
أبي أمامة؟ قال: نعم. قال: قلت: دمشق علي حرام إن دخلتها حتى أرجع إلى أبي أمامة فرجعت إليه فوجدته في صحن المسجد، قاعداً يتفلى فيأخذ الدواب فيدفنها في الحصى قال: قلت: يا أبا أمامة، إني لقيت رجلاً فحدثني أنك حدثته أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما على الأرض من مسلم يتوضأ، فيسبغ الوضوء لصلاة مفروضة، إلا غفر له في ذلك اليوم، ما مشت إليه رجلاه، أو قبضت عليه يداه، أو نظرت إليه عيناه، واستمعت إليه أذناه، ونطق به لسانه، وحدثته به نفسه. قال: فحلف بالله الذي لا إله إلا هو، لقد سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أبو مشجعة بن ربعي الجهني
عم مسلمة بن عبد الله. شهد خطبة عمر بالجابية.
قال أبو مشجعة: عدنا مع عثمان بن عفان مريضاً، فسمعته يقول: خاض في رحمة الله، فإذا جلس عند مريض، غمرته الرحمة. قال: قلنا له: أشيء سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: بل سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وحدث أبو مشجعة عن أبي الدرداء قال: ما دعي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى لحم إلا أجاب، ولا أهدي له إلا قبله. حدث أبو مشجعة عن أبي زميل الجهني، قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى الصبح قال، وهو ثانٍ رجليه: سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله، إن الله كان تواباً. سبعين مرة ثم يقول: سبعين، بسبع مئة، لا خير فيمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبع مئة، ثم يقول ذلك مرتين، ثم يستقبل الناس بوجهه وكان تعجبه الرؤيا، ثم يقول: هل رأى أحد منكم شيئاً؟ قال ابن زمل: فقلت: أنا يا نبي الله. قال: خير تلقاه، وشر توقاه، وخير لنا، وشر على أعدائنا، والحمد لله رب(29/153)
العالمين، اقصص. فقلت: رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لاحب، والناس على الجادة منطلقين، فبينما هم كذلك إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله، يرف رفيفاً يقطر ماؤه، فيه من أنواع الكلأ. قال: فكأني بالرعلة الأولى حين أشفوا على المرج كبروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فلم يظلموه يميناً ولا شمالاً. قال: فكأني أنظر إليهم منطلقين، ثم جاءت الرعلة الثانية، وهم أكثر منهم أضعافاً، فلما أشفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث ومضوا على ذلك. قال: ثم قدم عظم الناس فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا: هذا حين المنزل. كأني أنظر إليهم يميلون يميناً وشمالاً. فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج فإذا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات، وأنت في أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل آدم شتل أقنى، إذا هو تكلم يسمو فيفرع الرجال طولاً، وإذا عن يسارك رجل ربعة تار أحمر كثير خيلان الوجه، كأنما حمم شعره بالماء، إذا هو تكلم أصغيتم له إكراماً له. وإذا أمامكم رجل شيخ أشبه الناس بك خلقاً ووجهاً، كلكم تؤمونه تريدونه. وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف فإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعتها. قال: فانتقع لون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساعة ثم سري عنه فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللاحب، فذاك ما حملتكم عليه من الهدى، وأنتم عليه.(29/154)
وأما المرج الذي رأيت فالدنيا وغضارة عيشها، مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها ولم تتعلق منا، ولم نردها، ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدنا، وهم أكثر منا أضعافاً، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث، ونجوا على ذلك. ثم جاء عظم الناس فمالوا في المرج يميناً وشمالاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأما أنت فمضيت على طريق صالحة، فلن تزال عليها حتى تلقاني. وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات، وأنا في أعلاها درجة، فالدنيا سبعة آلاف سنة، أنا في آخرها ألفاً.
وأما الرجل الذي رأيت على يميني الآدم الشتل فذاك موسى عليه السلام، إذا تكلم يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه. والذي رأيت عن يساري التار الربعة، الكثير خيلان الوجه، كأنما حمم شعره بالماء، فذاك عيسى بن مريم نكرمه إكرام الله إياه. وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقاً ووجهاً، فذاك أبونا إبراهيم، كلنا نؤمه ونقتدي به. وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أتبعها، فهي الساعة، علينا تقوم، لا نبي بعدي، ولا أمة بعد أمتي. قال: فما سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجيء الرجل فيحدثه بها متبرعاً.
الطريق الرحب: الواسع. واللاحب: الطريق المنقاد الذي لا ينقطع. يرف رفيفاً: يقال ذلك للشيء إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة حتى يكاد يهتز. والرعلة: يقال للقطعة من الفرسان رعلة، ولجماعة الخيل: رعيل. وأشفوا على المرج: أشرفوا، ولا يكاد يقال: أشفى، إلا على الشر، وكذلك هو على شفى، أكثر ما يستعمل في الشر، وأكبوا رواحلهم: هكذا ورد، وإنما هو كبوا رواحلهم. وكببت الإناء: قلبته، وكبه الله لوجهه(29/155)
بغير ألف وأكببته أنا على عملي، ومعنى كبوا رواحلهم: ألزموها الطريق. وكببت الجزور: عقرته. وقوله المرتع: يقال: رتعت الإبل إذا رعت، وأرتع الرجل: إذا خلى الركاب ترعى، ومنه قوله " يرتع ويلعب " والمدنيون يقرؤون " يرتع " بكسر العين، أي: يحفظ بعضنا بعضاً. ومنهم الآخذ الضغث، الضغث: الحزمة تجمعها من الخلاء ومن العيدان، أراد أن الفرقة الثانية نالت من الدنيا، وأن الأولى لم تنل شيئاً. لزموا الطريق فلم يظلموه، أي: يعدلوا عنه، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه. وقوله: قالوا: هذا حين المنزل: يريد أنهم ركنوا إلى ما في المرج من الرعي، وأوطنوه، وتخلفوا عن الفرقتين المتقدمتين. وقوله: يكاد يفرع الرجال: أي يطولهم. وقوله: فانتقع لون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي تغير. يقال: امتقع وانتقع. والجيدة: امتقع. وقوله: ثم سري عنه: أي كشف ذلك عنه. قال أبو مشجعة: لما قدم عمر بن الخطاب الجابية لفرض الخراج، وذلك بعد وقعة اليرموك، قال: فشهدته دعا بكرسي من كراسي الكنيسة، فقام عليه، فقال: إن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام فينا فقال: أيها الناس، إن خياركم أصحابي، ألا ثم الذين يلونهم ألا ثم يظهر الكذب، ويكثر الحلف، حتى يحلف الرجل وإن لم يستحلف، ويشهد وإن لم يستشهد، ألا فمن أراد بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة، يد ربكم على الجماعة، ألا وإن الشيطان ذئب بني آدم، فهو مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، ألا لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له إلا كان الشيطان ثالثهما، ألا من ساءته سيئاته وسرته حسناته فهو مؤمن، قمت فيكم بقد ما قام به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فينا.
ثم ارتحل حتى نزل أذرعات. وقد ولى على الشام يزيد بن أبي سفيان. فدعا بغدائه، فلما فرغ من الثريد وضعت بين يديه قطعة أخرى، فصاح وقال: ما هذا؟(29/156)
فأرسل يزيد إلى معاوية، وكان صاحب أمره. فقال معاوية: ما الذي أنكرت يا أمير المؤمنين؟ قال: ما بالي توضع بين يدي قصعة، ثم ترفع وتوضع أخرى؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنك هبطت أرضاً كثيرة الأطعمة، فخفت عليك وخامتها، فأشر إلى أيها شئت حتى ألزمكه فأشار إلى الثريد. فقال قسطنطين لمعاوية: خادماً خرجت منها. فلما فرغ من غذائه قام قسطنطين وهو صاحب بصرى بينيديه فقال: يا أمير المؤمنين، إن أبا عبيدة قد فرض علي الخراج، فاكتب لي به. فأنكر عمر ذلك. قال: وما فرض عليك؟ قال: فرض علي أربعة دراهم وعباءة على كل جلجلة يعني الجماجم فقال عمر لأبي عبيدة: ما يقول هذا؟ قال: كذب، ولكني كنت صالحته على ما ذكر ليستمتع به المسلمون في شتائهم هذا، ثم تقدم أنت فتكون الذي يفرض عليهم الخراج. فقال له عمر: أبو عبيدة أصدق عندنا منك. فقال قسطنطين: صدق أبو عبيدة وكذبت أنا. قال: فويحك، ما أردت بمقالتك؟ قال: أردت أن أخدعك، ولكن افرض علي يا أمير المؤمنين أنت علينا الآن. فجاثاه الفتى مجاثاة الخصم عامة النهار. ففرض على الغني ثمانية وأربعين درهماً، وعلى الوسط أربعة وعشرين، وعلى المفلس المدقع اثني عشر، وشرط عليهم عمر أن يشاطرهم منازلهم، وينزل فيها المسلمون، وعلى ألا يضربوا بناقوس، ولا يرفعوا صليباً إلا في جوف كنيسة، وعلى ألا يحدثوا إلا ما في أيديهم، وعلى ألا يقروا خنزيراً بين أظهر المسلمين، وعلى أن يقروا ضيفهم يوماً وليلة، وعلى أن يحملوا راجلهم من رستاق إلى رستاق، وعلى أن يناصحوهم ولا يغشوهم، وعلى ألا يمالئوا عليهم عدواً. فمن وفى لنا وفينا له ومنعناه مما نمنع منه نساءنا وأبناءنا، ومن انتهك شيئاً من ذلك، استحللنا بذلك سفك دمه وسباء أهله وماله. فقال له قسطنطين: يا أمير المؤمنين، اكتب لي كتاباً. قال: نعم. ثم ذكر عمر فقال: أستثني عليك معرة الجيش فقال له النبطي: لك ثنياك وقبح الله من أقالك. فلما فرغ، قال له قسطنطين: يا أمير المؤمنين، قم في الناس فأعلمهم كتابك، ليتناهوا عن ظلمنا، والفساد علينا. فقام عمر فخطب خطبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما بلغ: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. قال النبطي: إن الله لا يضل أحداً. فقال عمر: ما يقول؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، شيئاً تكلم به. فعاد عمر في الخطبة،(29/157)
ثم أعاد النبطي المقالة، فقال: أخبروني ما يقول؟ قالوا: إنه يقول: إن الله لا يضل أحداً. فقال عمر: والذي نفسي بيده، لئن عدت لأضربن الذي فيه عيناك. ومضى عمر في خطبته، فلما فرغ، قام قسطنطين فقال: يا أمير المؤمنين. لي إليك حاجة، فاقضها لي، فإن لي عليك حقاً. قال:
وما حقك علينا؟ قال: إني أول من أقر لك بالصغار. قال: وما حاجتك؟ إن كان لك فيها منفعة فعلنا. قال: تغدى عندي أنت وأصحابك، قال: ويحك، إن ذلك يضرك. قال: ولكنها مكرمة وشرف أناله. قال: فانطق حتى نأتيك. قال: فانطلق، فهياً في كنيسة بصرى ونجدها وهيأ فيها الأطعمة، وقباب الخبيص وكانوناً عليه المجمر. فلما جاء عمر وأصحابه نزلوا في بعض البيادر، ثم خرج يمشي، وتبعه الناس، والنبطي بين يديه، ثم بدا لعمر فقال: لا يتبعني أحد. ومضى هو والنبطي، فلما دخل الكنيسة إذا هو بالستور والبسط وقباب الخبيص والمجمر. فقال عمر للنبطي: ويلك، لو نظر من خلفي إلى ما ها هنا لفسدت علي قلوبهم، اهتك ما أرى. قال: يا أمير المؤمنين، إني أحب أن ينظروا إلى نعمة الله تعالى علي. قال: إن أردت أن نأكل طعامك فاصنع ما آمرك. فهتك الستور، ونزع البسط، واخرج عنه المجمر. ثم قال: اخرج إلى رحالنا، فأتني بأنطاع، فأخذها عمر فبسطها في الكنيسة، ثم عمد إلى ذلك الخبيص وما كان هيأ، فعكس بعضه على بعض وقال له: أعندك شيء آخر؟ قال: نعم، عندنا بقل وشواء قال: ائتني به قال: فأخذه فخلط الشواء بالخبيص بعضه على بعض، وجعل يحمل بين يديه ويجعله على الأنطاع. فقال النبطي: يا أمير المؤمنين، إن هذا الطعام لا يؤكل هكذا! فقال عمر: ويل لك ولأصحابك إذا جاء من يحسن يأكل هذا. ثم قال: ادع الناس. فجاءوا، فجثوا على ركبهم فأقبلوا يأكلون، فربما وقعت اللقمة من الخبيص في فم الرجل فيقول: إن هذا طعام ما رأيناه. فيقول عمر: ويلك، أما تسمع؟ كيف لو رأيت ما رأيت. فلما فرغوا، قال النبطي لمعاوية: إن الأحبار والرهبان قد اجتمعوا، وهم يريدون أن ينظروا إلى أمير المؤمنين، وإنما عليه أخلاق وسخة، فهل لك أن تخدعه حتى ينزعها ويلبس ثياباً، حتى يقضي جمعته؟ فقال له معاوية: أما أنا فلا أدخل(29/158)
في هذا بعد إذ نجوت منه أمس. فقال له النبطي: يا أمير المؤمنين، ثيابك قد اتسخت، فإن رأيت أن تعطيناها حتى نغسلها ونرمها قال: نعم. فغسل الثياب وتركها في الماء، ثم هيأ له قميصاً مروياً ورداءً قصباً. فلما حضرت الجمعة قال له عمر ائتني بثيابي. فقال له: يا أمير المؤمنين، ما جفت، ونحن نعيرك ثوبين حتى تقضي جمعتك. فقال: أرني. فلما نظر إلى القميص قال: ويحك!! كأنما رفي هذا رفواً. اغربهما عني، وائتني بثيابي. فجاء بها تقطر، فجعل يتناولها، وجعل النبطي يأخذ بطرف الثوب، وعمر بالطرف الآخر، ويعصرها، ثم دعا بكرسي من كراسي الكنيسة فقام عليه يخطب الناس، ويمسح ثيابه ويمددها قال: فسأله: أي شيء كانت ثيابه؟ قال: غزل كتان. قال: فجاءت الرهبان فقاموا وراء الناس، وعليهم البرانس تبرق بريقاً، ومعهم العصي فيها تفاح الفضة، ومعهم المواكب. فلما نظروا إلى هيئته قالوا: أنتم الرهبان؟! لا والله، ولكن هذه الرهبانية، ما أنتم عنده إلا ملوك.
ثم ارتحل عمر إلى دمشق، فشاطرهم منازلهم وكنائسهم، وجعل يأخذ الحيز القبلي من الكنيسة لمسجد المسلمين، لأنها أنظف وأطهر، وجعل يأخذ هو بطرف الحبل، ويأخذ النبطي بطرف الحبل، حتى شاطرهم منازلهم. قال: فربما أن خف فأخذ الحبل منه فأعقبه. ففرغ عمر من دمشق وحمص، وبعث أبا عبيدة إلى قنسرين وحلب ومنبج، ففعل بها كما فعل عمر، ورجع عمر من حمص إلى المدينة. ولما نزل أبو عبيدة منبج بعث عياض بن غنم في عشرين فارساً، فأتى الرها وقد اجتمع بها أهل الجزيرة من الأنباط، فأتاها ابن غنم، فوقف عند بابها الشرقي على فرس أحمر محذوف قال من سمع عياضاً وهو يدعوهم إلى الإسلام: فأبوا عليه، فعرض عليهم الجزية، فأقروا وقد عرفوا شرط عمر بن الخطاب على أهل الشام فقالوا: نقر، على أن(29/159)
نشترط، قال: نعم، فاشترطوا كنائسهم التي في أيديهم على أن يؤدوا خراجها وما لجأ إليها من طائر وصلمهم التي في كنيستهم الصلم: الخشبة التي يزعمون أن عيسى بن مريم صلب عليها، لم يقل صلبهم وسور مدينتهم. قال عياض: فإني أشترط أنا أيضاً. فاشترط عليهم أن يشاطرهم منازلهم وينزل فيها المسلمون، وعلى أن يحدثوا كنيسة إلا ما في أيديهم، وعلى ألا يرفعوا صليباً، ولا يضربوا بناقوس إلا في جوف كنيسة، وأن يقروا ضيف المسلمين يوماً وليلة، وعلى أن يحملوا راجل المسلمين من رستاق إلى رستاق، وعلى ألا يقروا خنزيراً بين ظهراني المسلمين، وعلى أن يناصحوا المسلمين فلا يغشوهم ولا يمالئوا عليهم عدواً، فمن وفى لنا وفينا له ومنعناه مما نمنع منه نساءنا وأبناءنا، ومن انتهك شيئاً من ذلك، استحللنا سفك دمه، وسباء أهله وماله. فقالوا: اكتب بيننا وبينك كتاباً، فتورك عياض على فرسه. فلما فرغ قالوا: اشهد لنا، فكتب: شهد الله وملائكته، وكفى بالله شهيداً. ودفع الكتاب إليهم. فدخل في شرطهم جميع أهل الجزيرة. وأما الأرض ففيء للمسلمين، وأنتم عمالهم فيها. في هذا الخبر أن عمر بن الخطاب جعل أهل الجزية طبقات، ففرض على أغنيائهم مقداراً من الجزية، وعلى المتوسط منهم مقداراً متوسطاً، بين ما فرض على أعلاهم طبقة، وما جعله على أدونهم في الوجد منزلة. وظهر ذلك من فعله، واستفاض في الصحابة، فلو ينكر أحد منهم ولا خالف، ثم تلاه في ذلك أئمة العلم في الأمصار. وكان الشافعي يرى أن لا يتجاوز في قدر الجزية ديناراً وعدله.
أبو المصبح المقرائي الأوزاعي
قال أبو مصبح الحمصي: بينا نحن نسير بأرض الروم في صائفة عليها مالك بن عبد الله الخثعمي، إذ مر مالك بجابر بن عبد الله وهو يمشي يقود بغلاً له، فقال له مالك: أي أبا عبد الله، اركب فقد حملك الله. فقال جابر: أصلح دابتي، واستغني عن قومي، وسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار. فأعجب مالكاً قوله، حتى إذا كان(29/160)
حيث يسمعه الصوت ناداه بأعلى صوته: أي أبا عبد الله، اركب فقد حملك الله. فعرف جابر الذي أراد، فأجابه فرفع صوته فقال: أصلح دابتي، وأستغني عن قومي، وسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من اغبرت قدماه في سبيل الله، حرمه الله على النار. فتواثب الناس عن دوابهم، فما رأينا يوماً أكثر ماشياً منه. وحدث أبو مصبح، عن شرحبيل بن الشمط، عن عبادة بن الصامت قال: دخلنا على عبد الله بن رواحة نعوده، فأغمي عليه، فقلنا: يرحمك الله، إن كنا لنرجم لك الشهادة، وإن كنت لتحب أن تموت على غير هذا. فدخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن نذكر هذا. فقال: ففيم تعدون الشهادة؟ فأرم القوم، وتحرك عبد الله بن رواحة فقال: ألا تجيبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ثم أجابه هو فقال: نعد الشهادة القتل في سبيل الله. قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، القتل شهادة، والبطن شهادة، والطاعون شهادة، والغرق شهادة، والنفساء يقتلها ولدها جمعاً شهادة. المقراء: قرية بدمشق. والنهراء: سكة بالفسطاط.
أبو مصعب مولى بني يزيد
قال أبو مصعب: كنت أرى واثلة بن الأسقع يتغدى ويتعشى بفناء داره، ويدعوا الناس إلى طعامه.
أبو معاوية الأسود الزاهد
مولى بني أمية. قال القاسم بن عثمان الدمشقي: قلت ليمان بن أبي معاوية الأسود العابد:
رأيت إبراهيم بن أدهم؟ فضحك وقال: وأكبر من إبراهيم بن أدهم. قلت: من؟ قال: سفيان(29/161)
الثوري، ثم قال: سمعت أخي سفيان الثوري يقول: ما كان الله لينعم على عبد في الدنيا فيفضحه في الآخرة، وحق على المنعم أن يتم على من أنعم عليه. قال يحيى بن يحيى: إن كان أحد قد بقي من الأبدال فحسين الجعفي منهم، وأبو معاوية الأسود. قال يحيى بن معين: رأيت أبا معاوية الأسود وهو يلتقط الخرق من المزابل ويغسلها ويلفقها ويلبسها فقيل له: يا أبا معاوية، إنك تكسى خيراً من هذا. فقال: ما ضرهم ما أصابهم في الدنيا إذا جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة. وقال: كان أبو معاوية يخرج فيلتقط أسفل جزرة أو شيئاً مطروحاً، لقمة أو عدداً، فيجمع من هذا ثم يطبخه فيأكله. وكان رجل صدق، وكان يقول: ما ضرهم ما أصابهم في الدنيا إذا جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة. ثم قال يحيى بن معين: صدق والله، ما ضر رجلاً أتقى الله على ما أصبح وأمسى من أمر الدنيا، وما الدنيا إلا كحلم. لقد حججت وأنا ابن أربع وعشرين سنة. خرجت راجلاً من بغداد إلى مكة، هذا منذ خمسين سنة، كأنما كان أمس. أغلظ رجل لأبي معاوية بالكلام وهو لا يعرفه فقال له أبو معاوية: أستغفر الله من ذنبٍ سلطك به علي. كان أبو معاوية ذهب بصرة، فإذا أراد أن يقرأ نشر المصحف فيرد الله عليه بصره، فإذا أطبق المصحف ذهب بصره. قال أبو الزاهرية: قدمت طرطوس، فدخلت على أبي معاوية الأسود وهو مكفوف البصر، وفي منزله مصحف معلق. فقلت: رحمك الله، مصحف وأنت لا تبصر؟ قال: تكتم علي يا أخي حتى أموت؟ قلت: نعم. قال: إني إذا أردت أن أقرأ فتح بصري. قال أحمد بن أبي الحوري: قلت لأبي معاوية الأسود: ما أعظم النعمة علينا في التوحيد، نسأل الله ألا يسلبناه. قال: يحق على المنعم أن يتم على من أنعم عليه.(29/162)
وقال أبو معاوية: الله أكرم من أن ينعم بنعمة إلا أتمها، أو يستعمل بعمل إلا قبله.
وقال أبو معاوية: بادر قبل نزول ما تحاذر، وقدم صالح الأعمال، ودع عنك كثرة الأشغال، لا تهتم بأرزاق من تخلف، فليست أرزاقهم تكلف. جاء قوم إلى أبي معاوية، قالوا: ادع الله لنا. قال: اللهم، ارحمني بهم، ولا تحرمهم بي. قال أبو معاوية: من كانت الدنيا أكبر همه، طال غداً في القيامة غمه؛ من خاف الوعيد لهي في الدنيا عما يريد؛ من خاف ما بين يديه، ضاق ذرعه بما في يديه؛ إن كنت يا أبا معاوية تريد لنفسك الجزيل فلا تنم بالليل ولا تقيل؛ وطن نفسك للمقال إذا وقفت غداً للسؤال. قال أبو معاوية: إن لكل شيء نتاجاً، ونتاج العمل الصالح الحزن، المحزون بأمر الله في علو من الله. قال أبو معاوية: إذا قال الرفيق للرفيق: أين قصعتي؟ فليس برفيق. خرج أبو معاوية الأسود من الشام إلى مكة، إلى فضيل بن عياض يعزيه بابنه علي، ولم يخرج لحج ولا عمرة.
أبو المعطل
مولى بني كلاب. أدرك معاوية وحكى عنه. قال: مر بنا أبو معاوية ونحن في المكتب يعود درة في نحوٍ من عشرة، فقال لنا المعلم: ما سلمتم على أمير المؤمنين، إذا رجع فسلموا عليه. فلما رجع قمنا إليه فقلنا: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. قال: اللهم بارك في ذراري أهل الإسلام. اللهم بارك في ذراري أهل الإسلام.(29/163)
أبو معين الرازي
اسمه الحسين بن الحسن، ويقال: محمد بن الحسين. أحد الحفاظ.
حدث عن عبد الرحمن بن عبد الملك الحزامي بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو كان المؤمن في جحر ضب لقيض الله له فيه من يؤذيه. قال أبو معين: أردت الحجامة يوم السبت، فقلت للغلام: ادع لي الحجام. فلما ولى الغلام ذكرت خبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من احتجم يوم السبت فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه. فدعوت الغلام، ثم تفكرت فقلت: هذا حديث في إسناده بعض الضعف، فقلت للغلام: ادع لي الحجام. فدعاه فاحتجمت، فأصابني البرص، فنذرت لله نذراً لئن أذهب الله ما بي من البرص لم أتهاون في خبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحيحاً أو سقيماً. فأذهب الله عني ذلك البرص.
أبو المغيرة الصوفي الدمشقي
قال: رأيت ثمامة بن حنظلة الصوفي وقد نظر إلى غلام، فتنفس نفساً كادت نفسه أن تخرج. فقلت له في ذلك. فقال: إني نظرت إلى وجه رددت فيه طرفي، وأجلت فيه فكري، فلم أر امرأ يمكن واصف أن يجده، ولا ممثل أن يصوره، ثم مثلته لقلبي وقد أقام في قبره ثلاثاً، فكادت نفسي تذهل، وعقلي يذهب.
أبو منبه
إن لم يكن عمر بن منبه. ويقال: ابن مزيد السعدي، فهو غيره. قال: قال عمر بن عبد العزيز: إن الحجاج لما بنى واسط إنما بناها إضراراً بالمصرين. يعني: الكوفة والبصرة. قال: وقد أردت أن أهدم مسجدها، وأرد كل قوم إلى وطنهم.(29/164)
فقلت: يا أمير المؤمنين، إن بها قوماً ولدوا بها لا يعرفون غيرها، ومسجد جماعة يقرأ فيه القرآن. فسكت.
أبو منهال الخارجي
شاعر وفد على عبد الملك بن مروان. وقال لعبد الملك: من الطويل
فأبلغ أمير المؤمنين رسالةً ... وذو النصح لو يدعى إليه قريب
فلا صلح ما دامت منابر أرضنا ... يقوم عليها من ثقيف خطيب
فإنك إن ترض بكر بن وائل ... يكن لك يوم بالعراق عصيب
فإن يك منكم كان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب
فمنا حصين والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
فطلبه عبد الملك، فهرب، فلحق بأمية بن عبد الله فأمنه ووفد معه إلى عبد الملك، وطلب فيه فأمنه وخلى سبيله.
أبو منيب الجرشي الأحدب
بضم الجيم، وفتح الراء، وكسر الشين المعجمة. حدث عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم. وحدث عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي أبو القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاث أحافظ عليهن: سبحة الضحى لا أدعها في(29/165)
حضر ولا سفر، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولا أنام إلا على وتر، استكمل بذلك الدهر.
أبو المهاجر الدمشقي
روى عن أبي ذر الغفاري قال: سمعت خليلي أبا القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: كما لا تجتني من الشوك العنب، لا تنزل الفجار منازل الأبرار، وهما طريقان فأيها أخذتم أدتكم إليه.
أبو المهاصر
من حرس عمر ين عبد العزيز. قال: كنت رسول عمر بن عبد العزيز إلى عماله، فبعثني بعض عماله، فلما أقبلت نظر إلي وتمثل: من الطويل
أخا سفر جواب أرضٍ تقاذفت ... به فلوات؛ فهو أشعث أغبر
ما ورائك؟ قلت: خيراً يا أمير المؤمنين. فسألني عن الأسعار فأخبرته، وسألني عن القاضي والوالي فأخبرته، ثم أخرجت جراب مسك بعث به إليه معي، فلما وجد ريحه أمسك أنفه، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن له وزناً فليس ريحه من وزنه شيئاً. فقال: إنما ينتفع منه بريحه، فأكره أن أجد ريحه.
2159 - ابن أبي محجن الثقفي دخل ابن أب محجن على معاوية. فقال معاوية: أبوك الذي يقول: من الطويل
إذا مت فادفني إلى أصل كرمةٍ ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
فقال: لو شئت ذكرت أحسن من هذا من شعره. قال: ما هو؟ قال: قوله من البسيط(29/166)
لا تسأل القوم: ما مالي وما حسبني ... وسائل القوم: ما حزمني وما خلقي
القوم أعلم أني من سراتهم ... إذا تطيش يد الرعديدة الفرق
قد أركب الهول مسدولاً عساكره ... وأكتم السر فيه ضربة العنق
أعطي السنان غداة الروع حصته ... وعامل الرمح أرويه من العلق
ابن مقبل
شاعر، شهد صفين مع معاوية، وكان يمدح أهل الشام، ويحث على الطلب بدم عثمان، ويعرض بعلي رضي الله عنهما، وكان النجاشي في عسكر علي، فمن قول ابن مقبل للنجاشي: من الطويل
ولو شهدت أم النجاشي ضربنا ... بصفين فدتنا بكل مكان
ولو كنت وجه الخنفساء شهدتنا ... حملت قناة غير ذات سنان
فأجابه النجاشي: من الطويل
وما دفنت قتلى سليم وعامرٍ ... بصفين حتى حكم الحكمان
ونجى ابن حرب سابح ذو علالة ... أجش هزيم والرماح دواني
إذا قلت أطراف الرماح ينشنه ... مرته به الساقان والقدمان(29/167)
أسماء النساء على حرف الميم
أم محمد بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب
كانت زوج يزيد بن معاوية. خطب يزيد بن معاوية بنت عبد الله بن جعفر ذي الجناحين إلى أبيها، فزوجه، فلما أهديت إليه من المدينة إلى الشام خرج فتلقاها، وأنشأ يقول: من الطويل
جاءت بها دهم البغال وشهبها ... مسترة في جوف قر مستر
مقابلة بين النبي محمد ... وبين علي والجواد بن جعفر
منافية غراء جادت بودها ... لعبد مناف أغر مشهر
فلما بلغت أبياته عبد الله بن جعفر قال: ما أراه ينسي نفسه في كل حال.
أم مروان بنت مروان بن محمد بن مروان بن الحكم
كانت مع أبيها لما خرج من دمشق هارباً إلى مصر، فلما قتل أبوها ألقي رأسه في حجرها، ثم خرجت إلى المغرب مع أخويها عبد الله وعبيد الله، ولقيت ما لقياه من الشدائد، ورجعت إلى العراق وسكنت الحيرة. وقيل: بل أتي بها إلى أبي العباس، فحبست ثم أطلقت. وكانت صابرة على المشي والعطش كصبر الرجال.(29/168)
أم مسكين بنت عمر بن عاصم بن عمر بن الخطاب
امرأة يزيد بن معاوية. تزوج يزيد بن معاوية أم مسكين، فغارت امرأته أم هاشم، وقعدت تبكي، فقال يزيد: من الرجز
مالك أم هاشم تبكين ... باعت على بيعك أم مسكين
ميمونة من نسوة ميامين ... زارتك من يثرب في حوارين
في منزل كنت به تكونين
أم مسلم الخولانية
زوج أبي مسلم الخولاني، وزوج عمرو بن عبد الخولاني بعد أبي مسلم. سئلت: أي الرجلين أفضل؟ قالت: أما أبو مسلم فإنه لم يكن يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه. وأما عمرو بن عبد فإنه كان ينار عليه في محرابه، حتى إني كنت أختدم على ضوء نوره من غير مصباح.
قالت أم مسلم لأبي مسلم: قد حضر الشتاء، وليس لنا كسوة ولا طعام ولا إدام ولا حذاء ولا حطب. قالت: تخبره بحاجتك وجهدنا. قال: ويحك! إني لأستحي أن أطلب حاجتنا إلى غير الله عز وجل. فلما أكثرت عليه قال: ويحك! جهزيني. قال: ثم عمد إلى المسجد فقال: إلهي، إن أم مسلم بعثتني إلى معاوية، وأنا إنما خرجت إليك، وأنت تعرف حاجتي. ومكث يومه ذلك في المسجد، فلما صلى الناس العشاء الآخرة، وخلا له المسجد جثا على ركبتيه ثم قال: اللهم، قد تعرف حالي فيما بيني وبينك، وقد سمعت مقالة أم مسلم(29/169)
وقد بعثتني إلى معاوية، وأنت تعرف أي شيء طلبت وقالت، وخزائن الدنيا كلها بيدك، وإنما معاوية خلق من خلقك، وقد أعطيته ما أعطيته، وإنما أسألك من خيرك الكثير اليسير، فاكس إلهي صبياني قمصاً وخفافاً وفراء، واكس زوجتي قميصين ودرعاً وخماراً وعجل لنا الساعة براً وعدساً وزيتاً وحطباً، وارزقني برنساً خفيفاً دفيئاً أصلي لك فيه، وارزقني فرساً حصاناً وساعاً جواداً طاهر الخلق، إن طلبت العدو عليه أدركته، وإن طلبوني لم يدركوني، وعجل ذلك لي الساعة، فإن خزائنك لا تنفذ، وخيرك لا ينقص، وأنت بي عالم، قد تعلم أنك أحب إلي من سواك، فإن تعطني هذا الساعة حمدتك عليه كثيراً، وإن تمنعنيه فلك الحمد كثيراً. قال: ورجل من آل معاوية في المسجد يسمع مقالته، فخرج يشتد حتى دخل على معاوية فقال:
يا أمير المؤمنين، عجباً سمعته آنفاً في المسجد، رجل يناجي ربه كما يناجي الإنسان الإنسان، يسأله في دعائه قمصاً وفراء وخفافاً وبراً وعدساً وزيتاً وحطباً وفرساً حصاناً وبرنساً خفيفاً فهل سمعت بعجب مثل هذا؟ قال: ويحك، وهل تدري من هذا؟ هذا أبو مسلم، أليس قد أحصيت ما قال؟ قال: بلى، قال: فأضعفوا له كل ما سأل، وعجلوا به الساعة إلى منزله ولا يصبحن إلا وهذا الشيء في منزله، من كل شيء اثنان. فحمل هذا كله إلا الفرس، فإنه لم يصب في مربط معاوية إلا فرس واحد على ما وصف، فلما قدمت هذه الأشياء على أم مسلم أقبلت تحسن الثناء على معاوية، وتقول: لم أزل أعاتب الشيخ في إتيانه فيأبى علي. فلما صلى أبو مسلم الغداة انصرف وهو واثق بربه. فلما أتى البيت أصابه مملوءاً سواداً، فقالت له أم مسلم: ألا ترى ما أهدى إليك أمير المؤمنين؟ قال: ويح البعداء، لقد كفرت النعمة، ولم تشكري الرازق. والله ما أتيت لمعاوية داراً، ولا كلمت له حاجباً ولا رفعت إليه حاجة، وما هذا إلا قسم من الله أهداه إلينا، فلله الحمد كثيراً كثيراً. قال أبو مسلم: يا أم مسلم، سوي رحلك، فإنه ليس على جسر جهنم معبر.(29/170)
حرف النون
أبو نصر بن أبي الفرج
ابن أبي الفتح ويقال أبو نصر بن أبي الفتح كشاجم محمد بن محمود بن الحسين ابن السندي بن شاهك، الكاتب الشاعر له في وصف كتاب: من مجزوء البسيط
وصاحب مؤنس إذا حضرا ... جالسني بالملوك والكبرا
جسم موات تحيا النفوس به ... يجل معنىً وإن دنا نظرا
ملكت منه كنزاً غنيت به ... فما أبالي ما قل أو كثرا
وإن أطفل به فيا لك من ... مستحسن منظراً ومختبرا
أعجب به جامعاً وإن جعلت ... عليه كف الجليس لاستترا
ومن شعره: من الخفيف
غبط الناس بالكتابة قوماً ... حرموا حظهم بحسن الكتابة
وإذا أخطأ الكتابة حظ ... سقطت تاؤه فصارت كآبة(29/171)
أبو نصر البرمكي
شاعر محسن قال يصف الناعورة، وأجاد: من الكامل
وكريمة غذت الرياض بدرها ... فغدت تنوب على الغمام الهامع
تصل الدؤوب بليلها ونهارها ... فإذا انتهت أبدت لجاجة راجع
بلباس محزون وأدمع مدنف ... ومسير مشتاق وأنة جازع
فكأنها فلك يدور وعلوه ... يرمي القرار بكل نجم طالع
وله في حمام: من الخفيف
عدتي للمهم من أوطاري ... والتذاذي في خلوتي وسراري
مجلس تؤنس النفوس به الوح ... شة إلا من صاحب مختار
شامخات قبابه كسماءٍ ... طالعتنا أقمارها بنهار
هو حمامنا التي نحن فيها ... جمعت من بدائع الأفكار
ألفوها من كل ضد ينافي ... ضده واتفقنا للإضطرار
راحة من وجود كرب وستر ... في انتهاك وجنة في نار
ابن ناصح
قال الأوزاعي: أتاني شعيب بن إسحاق، وابن أبي مالك وابن علاق وابن ناصح فقالوا: قد أخذنا عن أبي حنيفة شيئاً فانظر إليه، فلم يبرح بي وبهم حتى أريتهم فيما جاءوني به أنه قد أحل لهم الخروج على الأئمة.(29/172)
ابن نمر
إما أن يكون ابناً لعبد الرحمن بن نمر اليحسبي، أو يكون محمد بن عبد الرحمن بن نمران، فسقط منه الألف والنون. حدث عن الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله، قال: جعل رجل على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلاماً له لم يكن له مال غيره حراً من بعده، فأخذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العبد فباعه ثم أعطاه صاحبه، ثم قال: أنت إلى ثمنه أحوج، والله عنه أغنى.(29/173)
حرف الواو
أبو واثلة الهذلي
حدث شهر بن حوشب الأشعري، عن رابه؛ رجل من قومه كان خلف على أمه بعد أبيه، كان شهد طاعون عمواس قال: لما اشتعل الوجع فذكر حديثاً فيه: فلما مات يعني معاذاً استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام فينا خطيباً، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع، فإنما يشتعل اشتعال النار، فتجبلوا منه في الجبال. فقال له أبو واثلة الهذلي: كذبت والله؛ لقد صحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنت شر من حماري هذا! قال:
والله ما أرد عليك ما تقول، وأيم الله، لا نقيم عليه. ثم خرج وخرج الناس، وتفرقوا عنه، ورفعه الله عنهم.
أبو واقد الحارث بن عوف
ويقال: عوف بن الحارث، ويقال: الحارث بن مالك بن أسيد بن جابر بن عبد مناة، الليثي. له صحبة. قال أبو واقد: بينا نحن جلوس مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حلقة إذ جاء ثلاثة نفر، فأما رجل فوجد فرجة في الحلقة فجلس، وأما رجل فجلس خلف الحلقة، وأما رجل فانطلق. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا أحدثكم عن خبر هؤلاء الثلاثة؟ أما هذا الذي جلس في الحلقة فرجل أوى وفي حديث: آوى إلى الله. فآواه الله، وأما الذي جلس خلف الحلقة، فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الذي أعرض، فأعرض الله عنه.(29/174)
وعن أبي واقد قال: قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، والناس يجبون أسنام الإبل ويقطعون أليات الغنم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما قطع من البهيمة وهي حية، فهو ميتة. وعن أبي واقد أنه شهد اليرموك قال: رأيت الرجل من العدو يسقط فيموت. فقلت في نفسي: لو أني أضرب أحدهم بطرف ردائي ظننت أنه سيموت. وفي حديث بمعناه: فقالت أسماء بنت أبي بكر للزبير: يا أبا عبد الله، والله إن كان الرجل من العدو ليمر يسعى فتصيب قدمه عروة أطناب خبائي فيسقط على وجهه ميتاً ما أصابه السلاح. وعن أبي واقد الليث قال: إني لمع عمر بالجابية إذ جاءه رجل فقال: عبدي زنا بامرأتي، وهي هذه تعترف، قال أبو واقد: فأرسلني عمر إليها في نفر معي فقال: سل امرأة هذا عما قال. فانطلقت، فإذا جارية حديثة السن قد لبست ثيابها قاعدة على فنائها فقلت لها: إن زوجك جاء أمير المؤمنين فأخبره أنك زنيت بعبده، فأرسلنا أمير المؤمنين نسألك عن ذلك. قال أبو واقد: إن كنت لم تفعلي فلا بأس عليك. فصمتت ساعة، فقلت: اللهم، أفرج فاها عما شئت اليوم أبو واقد القائل فقالت: والله لا أجمع فاحشة وكذباً، ثم قالت: صدق. فأمر بها عمر فرجمت. وشهد أبو واقد بدراً مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبقي بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زماناً، وخرج إلى مكة وجاور بها سنة، ومات بها. فدفن في مقبرة المهاجرين وإنما سميت مقبرة المهاجرين لأنه دفن فيها من كان هاجر إلى المدينة. حج أو جاور. وقيل: لم يشهد بدراً. والصحيح أنه أسلم عام الفتح، لأنه شهد على نفسه أنه كان مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحنين: ونحن حديثو عهد بكفر.(29/175)
وقد روي عنه أنه قال: إني لأتبع يوم بدر رجلاً من المشركين لأضربه فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أن غيري قد قتله. قالوا: وعبأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه وصفهم صفوفاً يوم حنين. ووضع الرايات والألوية في أهلها فسمى حامليها فقال: ومع بني صخرة وليث بن سعد راية يحملها أبو واقد الليثي الحارث بن مالك.
وعن أبي واقد قال: تابعنا الأعمال فلم نجد شيئاً أبلغ في طلب الآخرة من الزهد في الدنيا.
وعن أبي واقد قال: ما وجدنا شيئاً أعود على أخلاق الإيمان من الزهادة. وتوفي أبو واقد سنة ثمان وستين وهو ابن خمس وستين سنة. وقيل: سبعون. وقيل: خمس وثمانون. وقيل: توفي سنة خمس وستين.
أبو الوزير بن النعمان
ابن المنذر الغساني حدث عن أبيه، عن مكحول بسنده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمتي على خمس طبقات، وأنا ومن معي إلى أربعين سنة أهل نبوة وهدى، والطبقة الثانية إلى ثمانين سنة أهل بر وتقى، والطبقة الثالثة إلى عشرين ومئة سنة أهل تواصل وتراحم، والطبقة الرابعة إلى ستين ومئة أهل تقاطع وتدابر، والطبقة الخامسة إلى مئتي سنة أهل هرج، فالهرب أهل هرج فالهرب.(29/176)
أبو الوليد
رفيق بن إبراهيم بن أدهم. قال أبو الوليد: كان إبراهيم بن أدهم وأصحابه يمنعون أنفسهم أربعاً: لذاذة الماء، والحذاء، والحمامات، ولا يجعلون في الملح إبزارات.
ابن وبرة الكلبي
حدث عبد الرحمن بن أزهر، قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتى بسكران، فأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كان عنده أن يضربوه بما في أيديهم، وحثى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه التراب. فلما كان أبو بكر أتى بسكران. فتوخى الذي كان من ضربهم يومئذ، فضرب أربعين.
فروى ابن وبرة قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، فأتيته وهو في المسجد معه عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي، وطلحة، والزبير، متكئون معه في المسجد فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك، وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر، وتحاقروا العقوبة. فقال عمر: هم هؤلاء عندك، فسلهم فقال علي: نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون. فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال. فكان عمر إذا أتي بالرجل القوي المنهمك في الشراب جلده ثمانين، وإذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة جلده أربعين، ثم جلد عثمان أيضاً ثمانين وأربعين.(29/177)
حرف الهاء
أبو هاشم
قيل اسمه خالد، ويقال: شيبة، ويقال: هاشم ويقال: عتبة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
عن أبي هريرة أنه أقبل حتى نزل بدمشق على آل أبي كلثم الدوسي، ثم أتى المسجد، فجلس في غربيه، فتذاكروا الصلاة الوسطى فقال: اختلفنا فيها كما اختلفتم ونحن بفناء بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفينا الرجل الصالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فقال: أنا أعلم لكم ذلك. فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان جرياً عليه فاستأذن، فدخل عليه، ثم خرج، فأخبرنا أنها صلاة العصر. قال سمرة بن سهم: دخلت على أبي هاشم بن عتبة وهو طعين، فدخل عليه معاوية يعوده فبكى. فقال معاوية: ما يبكيك، أوجع يشئزك أم على الدنيا؟ فقد ذهب صفوها. فقال: على كل لا، ولكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد إلي عهداً وددت أني اتبعته. قال: لعلك أن تدرك أموالاً تقسم بين أقوام، وإنما يكفيك من جمع المال خادم ومركب في سبيل الله. فوجدت فجمعت. أسلم أبو هاشم يوم فتح مكة، وخرج إلى الشام فنزلها إلى أن مات بها. وكان ينزل دمشق وكانت ذهبت عينه يوم اليرموك.(29/178)
وكان له شارب يعقده خلف قفاه. قال حسان: فقلت: ما بال شاربك وقد جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحفاء الشوارب ما جاء؟ فقال: إني كنت أخذت شاربي، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر يده علي فقال: متى أخذت شاربك؟ قلت الساعة. قال: فلا تأخذه حتى تلقاني. فتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن ألقاه، فلن آخذه حتى ألقاه. ولما حضرته الوفاة جعل يبكي، فقال له أصحابه: ما يبكيك يا أبا هاشم وأنت تلحق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبإخوانك؟ فقال لهم: ما ذاك أبكاني، ولكنه أبكاني هول المطلع.
أبو هريرة الدوسي
صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اختلف في اسمه اختلافاً كثيراً. كان اسمه في الجاهلية عبد شمس بن صخر، وكنيته أبو الأسود. فسماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله، وكناه بأبي هريرة. وقيل: سمي في الإسلام عبد الرحمن. وإنما كني بأبي هريرة لأنه كان يرعى غنماً لأبيه فوجد أولاد هرة. قال: فجعلتها في كمي، فلما أرحت عليه غنمه سمع أصوات هر في صفتي فقال: ما هذا يا عبد شمس؟ فقلت: أولاد هر وجدتها. قال: فأنت أبو هريرة. فلزمتني. وكان وسيطاً في دوس، حيث يحب أن يكون منهم. وقيل: إنه لما أسلم سمي عبد الله بن عامر بن عبد البشر، والبشر: صنم كان بأرضهم. ويقال: كان اسمه عبد نهم، وعبد غنم، ويقال: سكين ويقال: جرثوم. ويقال: عبد العزى، وقيل: سكين بن وذمة، قيل ابن مل. وقيل: ابن هانئ، وفيه اختلاف. شهد اليرموك، وقدم دمشق في خلافة معاوية، وحدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة ولا اللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئاً، ولا يفطن بمكانه فيعطى.(29/179)
وحدث أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال الله عز وجل: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي. والصوم جنة، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى الله، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وحدث أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل. وعن أبي هريرة أنه قال في بيت أم الدرداء: ثلاث هن كفر: النياحة، وشق الجيب، والطعن في النسب. وكان أبو هريرة قاضياً بالمدينة. وقيل: كان اسمه سعد بن الحارث. وقيل: كان اسمه عبد ياليل، وقيل: برير بن عشرقة، وقيل: عبد تيم. وكان ينزل ذا الحليفة، وله دار بالمدينة تصدق بها على مواليه، فباعوها بعد ذلك من عمر بن بزيع. وكان سعد بن صفيح خال أبي هريرة من أشد أهل زمانه، فكان لا يأخذ أحداً من قريش إلا قتله بأبي أزيهر الدوسي. وكان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وألزمهم له. وروى عنه: ابن عباس وأنس بن مالك وابن عمر وواثلة بن الأسقع في ثمان مئة رجل أو أكثر من أهل العلم، من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. صحبه على شبع بطنه، فكان يده مع يده، يدور معه حيثما دار، إلى أن مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان من أحفظ الصحابة لأخبار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآثاره. دعا له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يحببه إلى المؤمنين من عباده.(29/180)
كان إسلامه بين الحديبية وخيبر. قدم المدينة مهاجراً وأسلم والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر، فشهد فتح خيبر ولم يسهم له، سكن الصفة، ولم يشتغل بالصفق في الأسواق، ولا بغرس الودي، وقطع الأعذاق. لزم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث سنين، مختاراً العدم، وكان يشهد إذا غابوا، ويتحفظ إذا نسوا بسط نمرته للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أفرغ فيها من حديثه فجمعها إلى صدره. فصار للعلوم واعياً، ومن الهموم خالياً. كان من الذاكرين لله كثيراً. قال محمد بن قيس: كان أبو هريرة يقول: لا تكنوني أبا هريرة، كناني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا هر. قال: ثكلتك أمك أبا هر. والذكر خير من الأنثى. قال ابن خثيم لعبد الرحمن: صف لي أبا هريرة فقال: رجل آدم، بعيد ما بين المنكبين، ذو ضفيرتين، أفرق الثنيتين. قال قرة بن خالد: قلت لمحمد بن سيرين: أكان أبو هريرة مخشوشناً؟ قال: لا، بل كان ليناً. قلت: فما كان ثوبه؟ قال: كان أبيض. قلت: هل كان يخضب؟ قال: نعم، نحو ما ترى. وأهوى محمد بيده إلى لحيته وهو حمراء. قلت: فما كان لباسه؟ قال: نحو ما ترى. قال: وعلى محمد ثوبان ممشقان من كتان. قال: وتمخط يوماً فقال: بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان؟! وعن أبي العالية قال: لما أيلم أبو هريرة قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ممن أنت؟ قال: من دوس. فوضع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده على جبينه ثم نفضها وقال: ما كنت أرى من دوس أحداً فيه خير. وعن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستخلف سباع بن عرفطة على المدينة. قال أبو هريرة:(29/181)
وقدمت المدينة مهاجراً، فصليت الصبح وراء سباع، فقرأ في السجدة الأولى سورة مريم، وفي الآخرة " ويل للمطففين " فقال أبو هريرة: فقلت: ويل لأبي فل؛ لرجل كان بأرض الأزد، وكان له مكيالان: مكيال يكتال به لنفسه، ومكيال يبخس به الناس. قال قيس: أتينا أبا هريرة نسلم عليه. فقلنا له: حدثنا ما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول، قال: صحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث سنين، فما كانت سنوات قط أعقل منهن ولا أحب إلي أن أعي ما يقول فيهن الحديث. وعن أبي هريرة قال: لقد رأيتني وأنا أصرع بين القبر والمنبر حتى يقول الناس: مجنون، وما بي جنون، إن هو إلا الجوع. وعن أبي هريرة قال: كنت في الصفة يعني من أصحاب الصفة فبعث إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتمر عجوة. فكنا نقرن التمرتين من الجوع. فكان أحدنا إذا قرن يقول لصاحبه:
إني قد قرنت فاقرنوا. وعن أبي هريرة قال: كان أهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال، ووالله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر بي أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، وما أسأله إلا ليستتبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر عمر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما أسأله إلا ليستتبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر أبو القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتبسم حين رآني وقال: أبا هر! فقلت: لبيك يا رسول الله، فقال: الحق. ومضى فاتبعته، ودخل منزله، فاستأذنت فأذن لي، فوجد لبناً في قدح. فقال: من أين هذا اللبن لكم؟ فقيل: أهداه لنا فلان. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله. قال: الحق إلى أهل(29/182)
الصفة فادعهم لي وهم أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم فأصاب منها وأشركهم فيها فساءني ذلك وقلت: هذا القدح بين أهل الصفة، وأنا رسوله إليهم، فسيأمرني أن لأدور به عليهم، فما عسى أن يصيبني منه، وقد كنت أرجو أن أصيب منه ما يغنيني؟! ولم يكن بد من طاعة الله وطاعة رسوله، فأتيتهم فدعوتهم، فلما دخلوا عليه، فأخذوا مجالسهم قال: أبا هر، خذ القدح فأعطهم، فأخذت القدح، فجعلت أناوله الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرده، فأناوله الآخر حتى انتهيت به إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد روي القوم كلهم فأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القدح، فوضعه على يده، ثم رفع رأسه إلي فتبسم وقال: أبا هر. فقلت: لبيك يا رسول الله. فقال: اقعد واشرب. فشربت. ثم قال: اشرب فشربت ثم قال: اشرب. فلم أزل أشرب، ويقول: اشرب، حتى قلت: والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكاً. فأخذ القدح، فحمد الله وسمى وشرب. وعن أبي هريرة قال: كنت من أصحاب الصفة، فظللت صائماً، فأمسيت وأنا أشتكي بطني، فانطلقت لأقضي حاجتي، فجئت وقد أكل الطعام وكان أغنياء قريش يبعثون بالطعام إلى أهل الصفة فقلت: إلى من؟ فقلت: إلى عمر بن الخطاب، فأتيته وهو يسبح بعد الصلاة، فانتظرته، فلما انصرف دنوت منه فقلت: أقرئني وما أريد إلا الطعام قال: فأقرأني آيات من سورة آل عمران، فلما بلغ أهله دخل وتركني على الباب، فأبطأ. فقلت: ينزع ثيابه، ثم يأمر لي بطعام، فلم أر شيئاً، فلما طال علي قمت فمشيت، فاستقبلني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكلمني فقال: يا أبا هر، إن خلوف فيك شديد. فقلت: أجل يا رسول الله، لقد ظللت صائماً وما أفطرت بعد، وما أجد ما أفطر عليه. قال: فانطلق. فانطلقت معه، حتى أتى بيته، فدعا جارية له سوداء فقال: ائتنا بتلك القصعة، فأتتنا بقصعة فيها وضر من طعام أراه شعيراً قد أكل فبقي في جوانبها بعضه وهو يسير. فسميت وجعلت أتتبعه، فأكلت حتى شبعت.(29/183)
قال أبو هريرة: خرجت يوماً من بيتي إلى المسجد لم يخرجني إلا الجوع، فوجدت نفراً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا أبا هريرة، ما أخرجك هذه الساعة؟ فقلت: ما أخرجني إلا الجوع. فقالوا: ونحن والله ما أخرجنا إلا الجوع، فقمنا فدخلنا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما جاء بكم هذه الساعة؟ فقلنا: يا رسول الله، جاء بنا الجوع. قال: فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطبق فيه تمر، فأعطى كل رجل منا تمرتين فقال: كلوا هاتين التمرتين، واشربوا عليهما من الماء، فإنهما سيجزيانكم يومكم هذا. فأكلت، وجعلت تمرة في حجري، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا هريرة، لم رفعت هذه التمرة؟ فقلت: رفعتها لأمي. فقال: كلها، فإنا سنعطيك لها تمرتين، فأكلتها، فأعطاني لها تمرتين.
قال أبو هريرة: أصابني جهد شديد، فلقيت عمر بن الخطاب، فاستقرأته آية من كتاب الله عز وجل فدخل داره وقنحها علي، قال: فمشيت غير بعيد، فخررت لوجهي من الجهد، فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم على رأسي فقال: يا أبا هريرة. فقلت: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: فأخذ بيدي فأقامني وعرف الذي بي، فانطلق بي إلى رحله، فأمر لي بعس من لبن، فشربت منه، ثم قال: عد يا أبا هريرة، فعدت، فشربت منه، ثم قال: عد يا أبا هريرة. فعدت فشربت حتى استوى بطني فصار كالقدح. قال: ورأيت عمر فذكرت له الذي كان من أمري. فقلت له: ولى الله من كان أحق به منك يا عمر، والله لقد استقرأتك الآيات، ولأنا أقرأ لها منك. قال عمر: والله لأن أكون قد أدخلتك أحب إلي من أن تكون لي حمر النعم.
حدث أبو هريرة أنه أتى عليه ثلاثة أيام ولياليهن صائماً لا يقدر على شيء فانصرفت وراء أبي بكر، فسألني: كيف أنت يا أبا هريرة؟ فانصرفت وعلمت أنه ليس عنده شيء. قال: ثم انصرفت وراء عمر عشاءً فسألني: كيف أنت يا أبا هريرة؟ فانصرفت وعلمت أنه(29/184)
ليس عنده شيء. ثم انصرفت وراء علي عشاء بعد المغرب وقال: أدلك يا أبا هريرة. فقال: فأي فرح فرحت قال: فقال علي: يا بنت رسول الله اطوي بطنك الليلة، فإن عندنا ضيفاً. قال: فجاء بخبزتين مثل هاتين، وأشار بيده روح من أطراف الأصابع إلى نصف الكف. قال: وقام علي إلى المصباح كأنه يصلحه فأطفأه، وحركا أفواههما وليس يأكلان شيئاً. قال: فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هل من شيء؟ قال: فخرج من تحت فخذها مزوداً مثل تيه وقال بكفه هذا من أطراف أصابعه إلى أصل الكف، وفيه كف من سويق وخمس تمرات فأكلتهن ولم يقعن مني موقعاً. قال أبو كثير: حدثني أبو هريرة وقال: والله ما خلق الله مؤمناً يسمع بي ولا يراني إلا أحبني. قلت: وما أعلمك بذلك يا أبا هريرة؟ قال: إن أمي كانت امرأة مشركة، وإني كنت أدعوها إلى الإسلام، وكانت تأبى علي، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أكره، فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فكانت تأبى علي، وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم اهد أم أبي هريرة. فخرجت أعدو لأبشرها بدعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أتيت الباب إذا هو مجاف وسمعت خضخضة الماء، وسمعت خشف رجل يعني وقعها فقالت: يا أبا هريرة كما أنت، ثم فتحت الباب وقد لبست درعها وعجلت عن مارها. فقالت: إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. فرجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن. فقلت: يا رسول الله، أبشر فقد استجاب الله دعاءك فقد هدى أم أبي هريرة. فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم، حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم(29/185)
إليهما. فما خلق الله من مؤمن يسمع بي ولا يراني أو يرى أمي إلا وهو يحبني. وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنما محمد بشر، أغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهداً لن تخلفنيه، فأيما رجل من المسلمين آذيته أو شتمته أو جلدته، فاجعلها له قربة تقربه بها عندك يوم القيامة. قال أبو هريرة: لقد رفع علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً الدرة ليضربني بها، لأن يكون ضربني بها أحب إلي من حمر النعم، ذلك بأني أرجو أن أكون مؤمناً وأن تستجاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوته. حدث رجل من الطفاوة قال: نزلت على أبي هريرة قال: ولم أدرك من صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً أشد تشميراً، ولا أقوم على ضيف منه، فبينا أنا عنده وهو على سريرٍ له، وأسفل منه جارية سوداء، ومعه كيس فيه حصى أو نوى يقول: سبحان الله، سبحان الله. حتى إذا أنفد ما في الكيس ألقاه إليها فجمعته فجعلته في الكيس ثم دفعته إليه فقال لي: ألا أحدثك عني وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قلت: بلى قال: فإني بينما أنا أوعك في مسجد المدينة إذ دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد فقال: من أحس الفتى الدوسي؟ من أحس الفتى الدوسي؟ فقال: له قائل:
هو ذاك، يوعك في جانب المسجد حيث ترى يا رسول الله. فجاء، فوضع يده علي وقال لي معروفاً. فقمت، وانطلق حتى قام في مقامه الذي يصلي فيه، ومعه يومئذٍ صفان من رجال، فأقبل عليهم فقال: إن نساني الشيطان شيئاً من صلاتي، فليسبح القوم، وليصفق النساء، فصلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم ينس من صلاته شيئاً. فلما سلم أقبل عليهم بوجهه فقال: مجالسكم، هل فيكم الرجل إذا أتى أهله أغلق بابه وأرخى ستره، ثم يخرج فيحدث فيقول: فعلت بأهلي كذا، وفعلت بأهلي كذا؟ فسكتوا، فأقبل على النساء(29/186)
فقال: هل منكن من تحدث؟ فجثت فتاة كعاب على إحدى ركبتيها، وتطاولت ليراها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويسمع كلامها، فقالت: إي والله، إنهم ليتحدثون، وإنهن ليتحدثن. قال: فهل تدرون ما مثل من فعل ذلك؟ إن مثل من فعل ذلك مثل شيطان وشيطانة لقي أحدهما صاحبه بالسكة، فقضى حاجته منها والناس ينظرون إليه. ثم قال: ألا لا يفضين رجل إلى رجل، ولا امرأة إلى امرأة، إلا إلى ولد أو والد. قال: وذكر ثالثة فنسيتها. ألا إن طيب الرجال ما وجد ريحه ولم يظهر لونه، ألا إن طيب النساء ما ظهر لونه ولم يوجد ريحه. وعن أبي هريرة قال: بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع العلاء بن الحضرمي، فأوصاه بي خيراً، فلما فصلنا قال لي: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أوصاني بك خيراً، فانظر ماذا تحب؟ قال: قلت: تجعلني أؤذن لك، ولا تسبقني بآمين. قال: فأعطاه ذلك. وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟ فقلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله. قال: فنزع نمرة على ظهري فبسطها بيني وبينه حتى كأني أنظر إلى القمل يدب عليها فحدثني، حتى إذا استوعبت حديثه قال: اجمعها، فصرها إليك. فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدثني. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من رجل تعلم كلمة أو كلمتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً مما فرض الله ورسوله، فيتعلمهن ويعلمهن إلا دخل الجنة. قال أبو هريرة: فما نسيت حديثاً بعد إذ سمعتهن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي حديث بمعناه: وبسطت ثوبي، وجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدث حتى انقضى حديثه، فضممت ثوبي إلى صدري. قال: فإني لأرجو أن أكون لم أنس حديثاً سمعته منه.(29/187)
وعن أبي هريرة قال: إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل حديث أبي هريرة؟! وإن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان يشغل إخواني من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرأ مسكيناً من مساكين الصفة، ألزم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما في بطني، فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون. وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث يحدثه يوماً: إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي جميع مقالتي، ثم يجمع إليه ثوبه إلى وعى ما أقول. فبسطت نمرة علي حتى إذا قضى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك من شيء.
وعن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، إني أسمع منك أحاديث كثيرة فأنساها. قال: ابسط رداءك. فبسطته فغرف يديه فيه، فما نسيت بعد. وفي حديث بمعناه: وإنه حدثنا يوماً فقال: من يبسط ثوبه حتى أقضي مقالتي ثم قبضه إليه، لم ينس شيئاً مما سمعه مني أبداً. ففعلت، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئاً سمعته منه. وعن عطاء أنه سمع أبا هريرة، والناس يسألونه يقول: لولا آية أنزلت في سورة البقرة ما أخبرت من شيء، لولا آية قال: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ". جاء رجل زيد بن ثابت فسأله عن شيء فقال: عليك بأبي هريرة. قال:
بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن ندعو الله ونذكر ربنا فجلس إلينا فسكتنا فقال: عودوا للذي كنتم فيه. قال: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤمن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك(29/188)
ما سأل صاحباي هذان، وأسألك علماً لا ينسى، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمين. فقلنا: يا رسول الله، ونحن نسأل الله علماً لا ينسى. فقال: سبقكما الغلام الدوسي. وعن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: لقد ظننت يا أبا هريرة، لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه. قال أبي بن كعب: كان أبو هريرة جريئاً على أن يسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أشياء لا يسأله عنها غيره. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا هريرة، كن ورعاً تكن من أعبد الناس، وكن قنعاً تكن من أغنى الناس، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً، وإياك وكثرة الضحك فإن ذلك يقسي القلب يا أبا هريرة. جاء أبو هريرة فسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعوده في شكواه، فأذن له، فدخل عليه فسلم وهو قائم، فوجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متسانداً إلى صدر علي، وقد مال علي بيده على صدره، ضامه إليه، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسط رجليه فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادن يا أبا هريرة. فدنا، ثم قال: ادن. فدنا حتى مس أطراف أصابع أبي هريرة أطراف أصابع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قال له: اجلس يا أبا هريرة، فجلس. فقال له: ادن مني طرف ثوبك. فمد أبو هريرة ثوبه. فأمسكه بيده ففتحه وأدناه من وجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أوصيك يا أبا هريرة، خصال لا تدعهن ما بقيت قال: نعم، أوصني بما شئت. قال له: عليك بالغسل يوم الجمعة، والبكور إليها، ولا تلغ ولا تله. أوصيك بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإنه صيام الدهر، وأوصيك بركعتي الفجر، لا تدعهما وإن صليت الليل كله، فإن فيهما الرغائب قالها ثلاثاً ضم إليك ثوبك. فضم ثوبه إلى صدره.(29/189)
فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي أسر هذا أم أعلنه؟ قال: بل أعلنه يا أبا هريرة. قال ثلاثاً. وعن أبي هريرة أنه قال: حفظت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاءين، فأما أحدهما فبثثته في الناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. وفي حديث آخر: ثلاث جرب حديث، أخرجت منها رابين، ولو أخرجت الثالث خرجتم علي بالحجارة. قال أبو هريرة: لو حدثت الناس بما أعلم لرموني بالخزق: وقالوا: مجنون. الخزق: بالزاي والقاف. وعن محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم أنه قعد في مجلس فيه أبو هريرة، وفيه مشيخة من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثير: بضعة عشر رجلاً، فجعل أبو هريرة يحدثهم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديث فلا يعرفه بعضهم ثم يتراجعون فيه، فيعرفه بعضهم. ثم يحدثهم الحديث فلا يعرفه بعضهم ثم يعرفه، حتى فعل ذلك مراراً. قال: فعرفت يومئذٍ أن أبا هريرة أحفظ الناس عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن أبي صالح قال: أبو هريرة لم يكن بأفضلهم، ولكنه كان رجلاً حافظاً.
كان أبو هريرة يقول: رب كيسٍ عند أبي هريرة لم يفتحه. يعني من العلم. وعن سعيد بن أبي الحسن قال: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر حديثاً من أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن مروان زمن هو على المدينة أراد أن يكتب حديثه كله، فأبى وقال: ارو كما روينا، فلما أبى عليه تغفله وأقعد له كاتباً لقناً ثقفاً، ودعاه، فجعل أبو هريرة يحدثه، ويكتب الكاتب حتى استفرغ حديثه أجمع، ثم قال مروان: تعلم أنا قد كتبنا(29/190)
حديثك أجمع؟ قال: وقد فعلت!! قال: نعم. قال: فاقرؤوه علي. فقرؤوه، فقال أبو هريرة:
أما إنكم قد حفظتم، وإن تطعني تمحه. قال: فمحاه. قال أبو الزعيزعة؛ كاتب مروان بن الحكم: إن مروان دعا أبا هريرة فأقعده خلف السرير، فجعل يسأله وجعلت أكتب، حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به فأقعده من وراء حجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخر. وفي آخر بمعناه: فما غير حرفاً عن حرف. قال الشافعي رحمه الله: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره. وعن مكحول قال: تواعد الناس ليلة من الليالي قبة من قباب معاوية، فاجتمعوا فيها، فقام فيهم أبو هريرة يحدثهم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أصبح. جاء أبو هريرة إلى كعب يسأل عنه وكعب في القوم فقال كعب: ما تريد منه؟ فقال: أما وإني لا أعرف أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكون أحفظ لحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مني. فقال كعب: أما إنك لم تجد طالب شيء إلا سيشبع منه يوماً من الدهر إلا طالب علم أو طالب دنيا. فقال: أنت كعب؟ فقال: نعم. فقال: لمثل هذا جئتك. وعن أبي هريرة قال: ما من أحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب. وقال أبو هريرة: إن أبا هريرة لا يكتم ولا يكتب. حدث عبيد الله بن أبي جعفر عن زوج أمه أنه قال لأبي هريرة: كيف حديث كنت حدثتنيه في كذا وكذا؟ قال أبو هريرة: ما أذكر أني حدثتك هذا، فانطلق إلى البيت، فإني لا أحدث حديثاً إلا هو عندي مكتوب. فانطلقت معه، فأخرج صحيفة صغيرة فيها ذلك الحديث وحده.(29/191)
قال: وجه الجمع بين هذه الحكاية والتي قبلها، أن أبا هريرة كان لا يكتب في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتكل على حفظه، لما خصه به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بسط ردائه كما تقدم. ثم كتب بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان حفظه عنه، ولولا أنه كان مكتوباً عنده لم يمكنه تقديره بوعاءين وثلاث جرب كما تقدم. أتى أبو هريرة كعباً، فجعل يحدثه ويسائله. فقال كعب: ما رأيت أحداً لم يقرأ التوراة أعلم بما في التوراة من أبي هريرة. وعن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو لألحقنك بأرض دوس! وقال لكعب: لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة. وكان أبو هريرة يقول: إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر أو عند عمر لشج رأسي. وقال أبو هريرة: ما كنا نستطيع أن نقول قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قبض عمر. قال أبو سلمة: فسألته بم؟ قال: كنا نخاف السياط. وأومأ بيده إلى ظهره. وعن أبي هريرة قال: اتهمني عمر بن الخطاب قال: إنك تحدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم تسمع منه. هل كنت معنا يوم كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دار فلان؟ قال أبو هريرة: نعم، قد علمت لأي شيء تسألني، لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يومئذٍ: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. فقال عمر: حدث الآن عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما شئت. وعن سعيد المقبري قال: يقول الناس أكثر أبو هريرة، فلقيت رجلاً فقلت له: بأي سورة قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البارحة في العتمة؟ فقال: لا أدري. فقلت: ألم تشهدها؟ قال: بلى. قلت: ولكني أدري. قال أبو هريرة: قرأ بسورة كذا وكذا.(29/192)
كان أبو هريرة إذا مر بالسوق قال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو هريرة. أيها الناس، إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. فدعوا أبا هريرة يتبوأ مقعده من النار إن هو كذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الشعبي: حدث أبو هريرة، فرد عليه سعد، فتواثبا حتى قامت الحجزة، وأرتجت الأبواب بينهما. وعن نافع قال: قيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: من تبع جنازة فله قيراط من الأجر. فقال ابن عمر: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.
وعن ابن عمر أنه مر بأبي هريرة وهو يحدث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيراطان، القيراط أعظم من أحد. فقال له ابن عمر: أبا هر، انظر ما تحدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق به إلى عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين، أنشدك الله، أسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيراطان؟ فقالت: اللهم نعم. فقال أبو هريرة: إنه لم يكن يشغلني عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غرس الودي، ولا صفق بالأسواق، إني إنما كنت أطلب من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمة يعلمنيها أو أكلة يطعمنيها. فقال له ابن عمر: أنت يا أبا هر كنت ألزمنا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعلمنا بحديثه. وعن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من امسك كلباً إلا كلباً ضارباً أو كلب ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراط. فقيل له: إن أبا هريرة يقول: أو كلب زرع، قال: إن أبا هريرة رجل زراع.(29/193)
قول ابن عمر هذا لم يرد به التهمة لأبي هريرة، وإنما أراد أن أبا هريرة حفظ ذلك لأنه كان صاحب زرع، وصاحب الحاجة أحفظ لها من غيره، ولم يخرج ابن عمر هذا مخرج الطعن على أبي هريرة، ولا ظن به التزيد في الرواية لحاجته كانت إلى حراسة الزرع، ولم يذكره إلا تصديقاً لقول أبي هريرة وتحقيقاً له. والدليل على صحة ذلك فتيا ابن عمر بإباحة اقتناء كلب الزرع بعد ما بلغه خبر أبي هريرة. وأتى ابن عمر فرأى كلباً فقال: لمن هذا الكلب؟ فقيل: لامرأتين. قال: لضرع أو لزرع؟ قال: ليس لشيء منهما. قال: مرهما فليقتلاه.
وقد روى عبد الله بن معقل، وسفيان بن أبي زهير عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إباحة اقتناء كلب الزرع كما رواه أبو هريرة. كان ابن عمر إذا سمع أبا هريرة يتكلم قال: إنا نعرف ما يقول أبو هريرة، ولكننا نجبن ويجترئ. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع عن يمينه. فقال له مروان بن الحكم: أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع؟! قال: لا، فبلغ ذلك ابن عمر فقال: أكثر أبو هريرة. فقيل لابن عمر: هل تنكر مما يقول شيئاً؟ قال: لا، ولكنه اجترأ وجبنا. فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: ما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا. وعن علقمة قال: كنا عند عائشة فدخل أبو هريرة فقالت: أنت الذي يحدث أن امرأة عذبت في هرة، ربطتها فلم تطعمها ولم تسقها؟ فقال: سمعته منه يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقالت: هل تدري ما كانت المرأة؟ إن المرأة مع ذلك كانت كافرة، وإن المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه في هرة، فإذا حدثت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانظر كيف تحدث. وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً خير له من أن يمتلئ شعراً.(29/194)
قالت عائشة: لم يحفظ الحديث، إنما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً خير من أن يمتلئ شعراً هجيت به. قال نافع: كنت مع ابن عمر في جنازة أبي هريرة وهو يمشي أمامها، ويكثر الترحم عليه، ويقول: كان ممن يحفظ حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المسلمين. وعن عمرو قال: قال لي طاوس: امش حتى نجالس الناس. قال: فنجلس إلى رجل يقال له بشير بن كعب العدوي فقال طاوس: رأيت هذا يجلس إلى ابن عباس فيحدث، فقال ابن عباس: كأني أسمع حديث أبي هريرة. قال: لعل ابن عباس إنما شبه حديث بشير بحديث أبي هريرة في الإكثار. وقد روى ابن عباس وطاوس عن أبي هريرة، ولو كان عندهما متهماً لم يرويا عنه. وعن عروة بن الزبير أن عائشة قالت: ألا يعجبك أبو هريرة؟ جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يسمعني ذلك، وكنت أسبح فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يسرد الحديث كسردكم. وعن أبي حسان أن رجلين من بني عامر دخلا على عائشة فقالا لها: إن أبا هريرة يقول: إن الطيرة في الدار والمرأة والفرس. فغضبت من ذلك غضباً شديداً، وطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض فقالت:
كذب والذي أنزل الفرقان على أبي القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قاله. إنما قال: كان أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك. قال الإمام أبو بكر: يشبه أن تكون أم المؤمنين رضي الله عنها إنما أرادت بقولها كذب؛ إن كان(29/195)
قال ما حكيتما عنه. وقد قال العامريان على أبي هريرة الباطل، لم يقل أبو هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الطيرة فيما ذكرا، بل الأخبار متواترة عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا عدوى ولا طيرة. والعامريان لا ندري من هما، ومن المحال أن يحتج برواية رجلين مجهولين، فنرد أخبار قوم ثقات حفاظ إلا أن يكون العامريان حكيا عن أبي هريرة أنه قال: الطيرة في المرأة والفرس والدار على ما تأولت الخبر في إيقاع اسم الطير على الفأل، كخبر سعد بن أبي وقاص، فلم يفهم العامريان عنه ما أراد بذكر الطيرة، ولم يعلما أنه أراد بالطير الفأل، فحكيا عنه لفظة أو همت الخطأ على من سمع اللفظة، ولم يعلم معناها. أو تكون حكاية العامريين عن أبي هريرة رويت عل ما ذكرت في كتاب النكاح إخباراً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن الشؤم في ثلاث، على إضمار شيء وحذف كلمة، لا على إثبات الشؤم في هذه الثلاث. وعن عائشة أنها قالت لأبي هريرة: إنك تحدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشياء ما سمعتها منه. فقال لها مجيباً: إنه كان يشغلك عن تلك الأحاديث المرآة والمكحلة. دخل أبو هريرة على عائشة فقالت له: أكثرت الحديث يا أبا هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: والله يا أمتاه ما كانت تشغلني عنه المكحلة ولا المرآة ولا الدهن وفي رواية والخضاب. فقالت: لعله.
أتى رجل من قريش أبا هريرة في حلة يتبختر فيها فقال: يا أبا هريرة، إنك تكثر الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئاً؟ قال: والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب " ليبيننه للناس ولا يكتمونه " ما حدثتكم بشيء. سمعنا أبا القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن رجلاً ممن كان قبلكم بينا هو يتبختر في حلة إذ خسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة. فوالله ما أدري لعله كان من قومك أو من رهطك. قال أبو يعلى: أنا أشك.(29/196)
قال أبو الوليد بن رباح: سمعت أبا هريرة يقول لمروان: والله ما أنت والٍ، وإن الوالي لغيرك فدعه يعني: حين أرادوا أن يدفن الحسن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكنك تدخل فيما لا يعنيك، إنما تريد بهذه إرضاء من هو غائب عنك يعني معاوية. قال: فأقبل عليه مروان مغضباً فقال له: يا أبا هريرة، إن الناس قد قالوا: أكثر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديث، وإنما قدم قبل وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيسير. فقال أبو هريرة: قدمت ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر سنة سبع، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات، وأقمت معه حتى توفي، أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه، وأنا يومئذ مقل، وأصلي خلفه، وأغزو وأحج معه؛ فكنت أعلم الناس بحديثه، قد والله سبقني قوم بصحبته والهجرة من قريش والأنصار، فكانوا يعرفون لزومي له فيسألوني عن حديثه، منهم: عمر بن الخطاب وهدي عمر هدي عمر ومنهم عثمان وعلي والزبير وطلحة، ولا والله ما يخفي علي كل حديث كان بالمدينة، وكل من أحب الله ورسوله، وكل من كانت له عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزلة، وكل صاحب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان أبو بكر صاحبه في الغار، وغيره قد أخرجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة أن يساكنه، فليسألني أبو عبد الملك عن هذا وأشباهه فإنه يجد عندي منه علماً كثيراً جماً. قال: فوالله إن زال مروان يقصر عنه عن هذا الوجه بعد ذلك ويتقيه ويخاف جوابه، ويحب على ذلك أن ينال من أبي هريرة ولا يكون منه بسبب، يفرق من أن يبلغ أبا هريرة وأن مروان كان من هذا بسبب فيعود له بمثل هذا، فكف عنه. قال عروة بن الزبير: قال لي أبي الزبير بن العوام: أدنني من هذا اليماني، يعني أبا هريرة، فإنه يكثر الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأدنيته منه، فجعل أبو هريرة يحدث، فجعل الزبير يقول: صدق كذب، صدق كذب. قال: قلت: يا أبه، ما قولك صدق كذب؟ قال: يا بني، إما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا أشك ولكن منها ما وضعه على مواضعه، ومنها ما لم يضعه على مواضعه.(29/197)
قال أبو الشعثاء: قدمت المدينة فإذا أبو أيوب يحدث عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فقلت له: تحدث عن أبي هريرة وقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! قال: إنه قد سمع، وأحدث عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إلي. قال بسر بن سعيد: كان يقوم فينا أبو هريرة فيقول: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول كذا وكذا، سمعت كعباً يقول كذا. فعمد الناس إلى ما روى عن كعب فجعلوه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعض ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعلوه عن كعب فمن ثم أنفي حديث أبي هريرة. قال ابن لهيعة: هو من الناس ليس من أبي هريرة. قال إبراهيم النخعي: ما كانوا يأخذون من حديث أبي هريرة إلا ما كان من حديث جنة أو نار. وقال إبراهيم: ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة. وقال شعبة: كان أبو هريرة يدلس. قالوا: وقول إبراهيم النخعي هذا غير مقبول منه.
قال عمر بن حبيب: حضرت مجلس هارون الرشيد، فجرت مسألة، فتنازعها الحضور وعلت أصواتهم، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدفع بعضهم الحديث، وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائل منهم: لا يصح هذا الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن أبا هريرة متهم فيما يرويه وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم، فقلت أنا: الحديث صحيح عن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب، فقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل لي: صاحب البريد بالباب، فدخل(29/198)
فقال: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنط وتكفن. فقلت: اللهم، إنك تعلم إني دفعت عن صاحب نبيك، وأجللت نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يطغى على أصحابه، فسلمني منه. فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب حاسر عن ذراعيه، بيده السيف وبين يديه النطع. فلما بصر بي قال: يا عمر، ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلته وجادلت عليه، فيه إزراء على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى ما جاء به، إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود، كله مردود وغير مقبول. فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله. وأمر له بعشرة آلاف درهم. قال أبو هريرة: إني لأجزئ الليل ثلاثة أجزاء: جزءاً للقرآن، وجزءاً أنام، وجزءاً أتذكر فيه حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان أبو هريرة يصلي ثلث الليل وامرأته ثلثاً وابنته ثلثاً. قال أبو عثمان النهدي: تضيفت أبا هريرة سبعاً. فكان هو وامرأته وخادمه يتعقبون الليل أثلاثاً، يصلي هذا ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا ثم يوقظ هذا. قال: قلت: يا أبا هريرة، كيف تصوم؟ قال: أما أنا فأصوم من أول الشهر ثلاثاً، فإن حدث بي حدث كان لي أجر شهري. وكان أبو هريرة يصوم الاثنين والخميس، وقال: إنهما يومان ترفع فيهما الأعمال. وكان أبو هريرة يسبح كل يوم باثنتي عشرة ألف تسبيحة. يقول: أسبح بقدر ديتي. وكان لأبي هريرة صيحتان في كل يوم، أول النهار فيقول: ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار. فإذا كان العشي قال: ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار. فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله من النار.(29/199)
وعن أبي هريرة قال: لا تغبطن فاجراً بنعمته، فإن من ورائه طالباً حثيثاً طلبه " جهنم كلما خبت زدناها سعيرا ".
قال أبو يزيد المدني: قام أبو هريرة على منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقاماً دون مقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعتبة ثم قال: الحمد لله الذي هدى أبا هريرة للإسلام، الحمد لله الذي علم أبا هريرة القرآن، الحمد لله الذي من على أبي هريرة بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الحمد لله الذي أطعمني الخمير وألبسني الحبير الحمد لله الذي زوجني ابنة غزوان بعدما كنت أجيراً لها بطعام بطني وعقبة رجلي، أرحلتني فأرحلتها كما أرحلتني.
وعن أبي هريرة أنه صلى بالناس يوماً، فلما سلم رفع صوته فقال: الحمد لله الذي جعل الدين قواماً، وجعل أبا هريرة إماماً بعد أن كان أجيراً لابنة غزوان على شبع بطنه وحمولة رجله.
وعن أبي هريرة أنه كان يقول: نشأت يتيماً وهاجرت مسكيناً، وكنت أجيراً لابن عفان وابنة غزوان وهي بسرة بنت غزوان على طعام بطني وعقبة رجلي، أحطب لهم إذا نزلوا، وأحدو بهم إذا ساروا. فالحمد لله الذي جعل الدين قواماً وأبا هريرة إماماً. وعن مضارب بن حزن قال: بينما أنا أسير تحت الليل إذا رجل يكبر، فألحقته بعيراً، فقلت: من هذا؟ قال:
أبو هريرة. قلت: ما هذا التكبير؟ قال: شكر. قلت: على ماذا؟ قال: إني كنت أجيراً لبسرة بنت غزوان، فكنت إذا ركب القوم سقت بهم وإذا نزلوا خدمتهم، وإذا أتيت على مكان سهل نزلت، ثم قالت: والله لا أبرح هذا المكان حتى تجعل لي عصيدة. قال: فزوجنيها الله بعد، فأنا أركب إذا ركب القوم، وأخدم إذا نزلوا، وإذا أتيت على نحو من مكانها نزلت فقلت: لا أبرح هذا المكان حتى يعصد لي عصيدة.(29/200)
زاد في آخر عن أبي مصعب الجهني: قلت: يا أبا هريرة، هل سمعت من خليلك أبي القاسم شيئاً؟ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا عدوى ولا هامة، وخير الطير الفأل، والعين. قال إمام مسجد سعد: قدم أبو هريرة الكوفة، فصلى الظهر والعصر واجتمع عليه الناس. فذكر قرباً منه. يعني أنه كان قريباً منه، فسكت ولم يتكلم، ثم قال: إن الله وملائكته يصلون على أبي هريرة الدوسي. فتغامز القوم فقالوا: إن هذا ليزكي نفسه. ثم قال: وعلى كل مسلم ما دام في مصلاه ما لم يحدث حدثاً بلسانه أو بطنه.
وعن أبي سلمة قال: قال أبو هريرة وأبو ذر: باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعاً، وباب نعلمه عملنا به أو لم نعمل به أحب إلينا من مئة ركعة تطوعاً. وقالا: سمعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إذا جاء طالب العلم الموت وهو على هذه الحال مات وهو شهيد. جاء رجل إلى أبي ذر فقال: يا أبا ذر، إني أريد أن أتعلم العلم، وأخاف أن أضيعه. فقال له: تعلم العلم، فإنك إن مت عالماً خير لك من أن تموت جاهلاً. ثم جاء إلى أبي الدرداء فقال له: يا أبا الدرداء، إني أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه. فقال له: تعلم العلم، فإنك إن توسد العلم خير من أن توسد الجهل. ثم جاء إلى أبي هريرة فقال: يا أبا هريرة، إني أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه، فقال له أبو هريرة: تعلم العلم، فإنك لن تجد له إضاعة أشد من تركه. زاد عن آخر مثله عن أبي الدرداء: إن الناس يبعثون من قبورهم على ما ماتوا عليه، فيبعث العالم عالماً، والجاهل جاهلاً.(29/201)
قال الحسن: كان أبو هريرة من أحسن القوم كلاماً. حدث رجل قال: أتيت على أبي هريرة وهو ساجد يقول: اللهم لا أزنين، اللهم لا أسرقن، اللهم لا أنافقن، اللهم لا أرتدن، فسكت عنه حتى فرغ وقلت: يا أبا هريرة، أوتخاف هذا وأنت من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: أمنت محرف القلوب؟! وما أدرى الرجل إذا أصبح على ما يمسي عليه، وإن أمسى على ما يصبح عليه؟! ثم قال: أمنت محرف القلوب؟! كان أبو هريرة يقول في آخر عمره: اللهم، إني أعوذ بك أن أزني أو أعمل بكبيرة في الإسلام. يقول بعض أصحابه: يا أبا هريرة، ومثلك يقول هذا وتخافه، وقد بلغت من السن ما بلغت وانقطعت عنك الشهوات، وقد شافهت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبايعته وأخذت عنه؟! قال: ويحكم، وما يؤمنني وإبليس حي؟! كان أبو هريرة إذا غدا من منزله لبس ثيابه ثم وقف على أمه فقال: السلام عليك يا أمتاه ورحمة الله وبركاته، وجزاك الله عني خيراً كما ربيتني صغيراً. فترد عليه: وأنت، فجزاك الله عني خيراً كما بررتني كبيرة. ثم يخرج، فإذا رجع قال مثل ذلك. ولم يحج أبو هريرة حتى ماتت أمه. لقيت أبا هريرة ابنة له فقالت: إن الجواري يعيرنني يقلن: إن أباك لا يحليك بالذهب. فقال: قولي لهن: إن أبي لا يحليني الذهب، يخشى علي حر اللهب. قال أبو هريرة: لما قدمت من البحرين قال عمر: يا عدو الله وعدو الإسلام، خنت مال الله. قال: لست بعدو الله ولا عدو الإسلام، ولكني عدو من عاداهما، ولم أخن مال الله، ولكنها أثمان خيل لي تناتجت عندي، وسهمان لي اجتمعت. قال: فكرر ذلك علي ثلاث مرات. فكل ذلك أرد عليه.(29/202)
زاد في رواية: فنظروا فوجدوه كما قال، فأغرمني اثني عشر ألف درهم قال: فقمت في صلاة الغداة فقلت: اللهم اغفر لأمير المؤمنين. فأرادني بعد ذلك على العمل فقلت: لا أعمل لك. قال:
أوليس يوسف كان خيراً منك وقد سأل العمل؟ قلت: إن يوسف نبي وابن نبي وأنا ابن أميمة وإني أخاف ثلاثاً واثنتين. قال: ألا تقول خمساً؟ قلت: لا، أخاف أن أقول بغير حكم، وأقضي بغير علم، وأن يضرب ظهري، ويشتم عرضي، ويؤخذ مالي. كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة. فيركب حماراً قد شد عليه برذعة. وفي رأسه خلبة من ليف فيسير فيلقى الرجل فيقول: الطريق! قد جاء الأمير. وربما أتى الصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الأعراب فلا يشعرون بشيء حتى يلقي نفسه بينهم، ويضرب برجليه، فيفزع الصبيان، فيفرون. قال أبو رافع: وربما دعاني إلى عشائه بالليل فيقول: دع العراق للأمير. فأنظر فإذا هو ثريدة بزيت.
قال ثعلبة بن أبي مالك: أقبل أبو هريرة في السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان فقال: أوسع الطريق للأمير يا بن أبي مالك. فقلت: أصلحك الله، يكفي هذا! فقال: أوسع الطريق للأمير والحزمة عليه. دث أبو الزعيزعة، كاتب مروان، قال: بعث مروان إلى أبي هريرة بمئة دينار. فلما كان الغد أرسل إليه فقال: إنه ليس إليك بعثت، وإنما غلطت. فقال: ما عندي منها شيء، وإذا خرج عطائي فاقبضوها. قال: وإنما أراد مروان أن يعلم أينفقها أم يحبسها. كان أبو هريرة يسب مروان، فإذا أعطاه سكت. قال أبو هريرة: ما من أحد من الناس يهدي إلي بهدية إلا قبلتها، فأما المسألة فإني لم أكن أسأل.(29/203)
قال أبو هريرة: درهم يكون من هذا وكأنه يمسح العرق عن جبينه أتصدق به، أحب إلي من مئة ألف ومئة ألف ومئة ألف من مال فلان. قال أبو الأسود: بنى رجل داراً بالمدينة فلما فرغ منها مر أبو هريرة عليها وهو واقف على باب داره فقال: قف يا أبا هريرة، ما أكتب على باب داري؟ قال وأعرابي قائم قال أبو هريرة: اكتب عليها: ابن للخراب، ولد للثكل، واجمع للوارث. فقال الأعرابي: بئس ما قلت يا شيخ. فقال صاحب الدار: ويحك، هذا أبو هريرة صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لما بنى مروان بن الحكم داره قال للبناء: انظر ما يملي عليك أبو هريرة، فاكتبه في وجه الدار. فجاء أبو هريرة فقال: اكتب: تبنون شديداً، وتأملون بعيداً، والأجل قريب. فقال البناء: والله لا أكتب هذا. فقال أبو هريرة، والله لا أزيدك ولا مروان على هذا. وقيل: إنه قال: اكتب، تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تبلغون. والله لا أزيدك.
سئل أبو هريرة عن المروءة فقال: ثبوته في مجلسه، والغداء والعشاء بأفنية البيوت، واستصلاح المال، ومعونة الإخوان، والذب عنهم. كان أبو هريرة من حسن خلقه يؤاكل الصبيان. قال عمر بن أبي الصهباء: مررت بأبي هريرة وهو مستلقٍ واضع ثوبه تحت رأسه، وإحدى رجليه على الأخرى، وهو يتغنى غناء الرهبان: من مجزوء الكامل
لما رأيتك لي محباً ... وإلي حين أغيب صبا
أعرضت لا لملالةٍ ... حدثت ولا استحدثت ذنبا
إلا لقول نبينا ... زوروا عن الأيام غبا
ولقوله من زار غب ... اً منكم يزداد حبا(29/204)
جاء رجل إلى أبي هريرة فقال: إني أصبحت صائماً فأكلت. قال: ذلك طعام أطعمكه الله. قال: وقال: واقعت أهلي. قال: ابن أخي، أنت لم تعود الصيام. وفي حديث آخر مثله: إلا أنه تردد في عدة بيوت. فقال له في آخرها: إنك لم تعود الصيام. كانت لأبي هريرة امرأة، فبقيت زماناً لا تشتكي، فأراد أبو هريرة أن يطلقها، ثم أنها اشتكت. فقال أبو هريرة: منعتنا هذه طلاقها بشكواها. كان رجل يؤذي أبا هريرة بلسانه، فقيل له: مات فلان. فقال: ليس في الموت شماتة، لو أخبرتموني أنه أمر على إمارة، أصاب مالاً، ولد له ولد. وعن أبي هريرة أنه كان إذا سمع أحداً يسأل: من هذه الجنازة؟ قال: هذا عبد الله دعاه فأجابه، أو أمته دعاها فأجابته، والله يعرفه، وأهله يفقدونه، والناس ينكرونه. أغدوا فإنا رائحون، أو روحوا فإنا غادون. زاد في آخر بمعناه: موعظة بليغة، وغفلة سريعة، تذهب الأول وتبقي الآخر لا عقل له. قال عبيد بن باب: كنت أصب على أبي هريرة من إداوة وهو يتوضأ، فمر به رجل فقال:
أين تريد؟ قال: السوق. فقال: إن استطعت أن تشتري الموت من قبل أن ترجع فافعل. ثم قال أبو هريرة: لقد خفت الله مما أستعجل القدر. قال أبو هريرة: إذا رأيتم ستاً فإن كانت نفس أحدكم في يده فليرسلها، فلذلك أتمنى الموت، أخاف أن تدركني إذاً؛ إمرة السفهاء، وبيع الحكم، وتهون بالدم، وقطعت الأرحام، وكثرت الجلاوزة، ونشأ نشو يتخذون القرآن مزامير.(29/205)
قال أبو سلمة: دخلت على أبي هريرة وهو وجع شديد الوجع، فاحتضنته فقلت: اللهم، اشف أبا هريرة. فقال: اللهم، لا ترجعها قالها مرتين ثم قال: إن استطعت أن تموت فمت، والله الذي نفس أبي هريرة بيده، ليأتين على الناس زمان يكون الموت أحب إلى أحدكم من الذهبة الحمراء، وليأتين على الناس زمان يمر الرجل على قبر أخيه المسلم فيتمنى أنه صاحبه.
وكان أبو هريرة يقول: تشبثوا بصدغي معاوية، اللهم، لا تدركني سنة ستين، وتوفي فيها أو قبلها. وعن أبي هريرة أنه قال حين حضره الموت: لا تضربوا علي فسطاطاً ولا تجعلوا معي مجمراً، وأسرعوا بي، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إذا وضع الرجل الصالح على سريره قال: أسرعوا بي، أسرعوا بي مرتين وإذا وضع الرجل السوء على سريره قال: يا ويله، أين تذهبون بي؟ قال محمد بن عمرو: سمعت أبا هريرة وجئته في مرضه أعوده وهو يقول: قد قلت لأهلي إذا أنا مت فلا تعمموني ولا تقمصوني، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعمم ولم يقمص. وفي حديث: إذا مت فلا تنوحوا علي، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينح عليه الحديث.
بكى أبو هريرة في مرضه، فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي على بعد سفري وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود مهبطه على جنة ونار، فلا أدري أيتهما يؤخذ بي. دخل مروان على أبي هريرة في شكواه الذي مات فيه، فقال: شفاك الله يا أبا هريرة. فقال أبو هريرة: اللهم، إني أحب لقاءك فأحب لقائي، فما بلغ مروان أصحاب القطا حتى مات.
وفي حديث آخر قال: اللهم اشفه، اللهم عافه، اللهم ارفعه. قال: فأفاق ورفع(29/206)
يديه حتى رئي بياض إبطيه، شاهراً بيديه إلى الله، ثم قال: اللهم، اشدد وأجد على نفس أبي هريرة قال: فخرجنا من عنده فما فاتنا الصوت حتى سمعنا الصائحة عليه.
توفي
أبو هريرة سنة تسع وخمسين في آخر خلافة معاوية، وله ثمانٍ وسبعون سنة.
وقيل: توفي سنة سبع وخمسين في، وفيها ماتت عائشة قبل معاوية بسنتين. وقيل: توفي أبو هريرة وعائشة سنة ثمانٍ وخمسين. وصلى عليه الوليد بن عتبة. كتب الوليد بن عتبة إلى معاوية يخبره بموت أبي هريرة. فكتب إليه: انظر من ترك، فادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم وأحسن جوارهم، وأولهم معروفاً، فإنه كان ممن نصر عثمان وكان معه في الدار، فرحمة الله عليه.
أبو هريرة
إمام مسجد عرفة. قال: قدم عبد الله بن صالح الحدث، فخرجت أسلم عليه، فلم أر طعاماً من حار وبارد أكثر من طعامه. فقلت له: أيها الأمير، العدس يرق القلب ويحدر الدمعة، قال: فأمر طباخه أن يصلح لنا العدس، فلما مر يوم واثنان قلت للطباخ: أين ألوانك تلك الطيبة؟ قال: هذا عملك، حدثت الأمير في العدس حديثاً فأخذ به. قال: فقمت فدخلت إليه فقلت: أصلح الله الأمير، الحديث الذي حدثتك في العدس إسناده ضعيف. قال: فضحك، ودعا الطباخ فقال: أعد لهم الطعام.
أبو همام الشعباني
قال أبو همام: حدثني رجل من خعثم قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، فوقف ذات(29/207)
ليلة، واجتمع إليه أصحابه، فقال: إن الله أعطاني الليلة الكنزين: كنز فارس والروم، وأيدني بالملوك ملوك حمير الأحمرين، ولا ملك إلا الله، تأتون تأخذون من مال الله، وتقاتلون في سبيل الله قالها ثلاثاً
أبو هنيدة
أحد الغزاة، كان شهد فتح نهاوند. قال: غزونا مع بعض بني أمية، فأقمنا على عمورية أياماً قال: فخرجت يوماً في بعض حاجتي، فإذا أنا براهب قد صوت بي من صومعته: يا عبد الله. قال: قلت: ما تريد يا عدو الله؟ قال: ما أنصفت، أقول لك يا عبد الله، وتقول لي يا عدو الله؟! إني كذلك وأنت كذلك. قال: ما مقامكم على هذه؟ قال: قلت: أرجو أن نفتحها. قال: أخبرني عن خليفتكم، هو من أهل بيت نبيكم؟ إذا قيل ابن فلان كان منهم؟ قلت: لا. قال:
ليس يفتح هذه المدينة إلا رجل من أهل نبيكم. كأني بهم يدخلون من هذا الباب، ويخرجون من الباب الآخر، لباسهم مثل هذا. وأخرج من صدره فإذا عليه مدرعة سوداء. قال: فانصرفت إلى صاحبي، فأخبرته، فركب إليه حتى سمع الكلام منه، ثم رجع فأمر بالرحيل.(29/208)
أسماء النساء على حرف الهاء
أم هارون الخراسانية
من النسوة المتعبدات. كانت أستاذة أبيسليمان الداراني. قال أحمد بن أبي الحواري: صليت الغداة وجلست أذكر الله قبل طلوع الشمس، فدخل أبو سليمان الداراني، فوقف بقاسم الجوعي، فسلم عليه، وأشار إليه أن يقوم، فقام معه. فمر بي فسلم علي، وأشار إلي فقمت أنا وقاسم نمشي وراءه حتى انحدر من الدرج إلى أن أتى داراً فدخل ودخلنا معه، ففتح باب بيت ثم دخل فسلم، ودخل قاسم معه وجلست أنا على يمنة الباب، فلم نر شيئاً في البيت من ظلمته، فجلسنا ساعة، وتأملت امرأة عليها جبة صوف وخمار صوف، في يدها سبحة، فلما دخل ضوء الشمس من كوة البيت، ردت علينا السلام. فقال لها أبو سليمان: يا أم هارون، كيف أصبحت؟ قالت: كيف أصبح من قلبه في يد غيره يقول به كذا وكذا؟ وأشارت بيدها. فقال لها أبو سليمان: يا أم هارون، ما تقولين في الرجل يحب لقاء الله؟ فقالت: ويحك، ذاك رجل ثقلت عليه الطاعة وأحب الراحة منها. قال لها: فإنه أحب البقاء في الدنيا. فقالت: بخٍ بخٍ، ذاك رجل أحب الطاعة، وأحب أن يبقى لها وتبقى له، ثم سلم، وخرجنا. فقلت له: يا أبا سليمان، من هذه؟ قال: هذه أم هارون الخراسانية، أستاذتي. قال القاسم الجوعي: قلت لأم هارون: ترين أحداً يشتغل بالخوف من النيران عن الشوق إلى الجمال بالزهادة؟ فخرت مغشياً عليها حتى انكشفت مقنعتها، ثم أفاقت فتغطت وبقيت منقبضة مصفرة حتى خرجنا.(29/209)
قال عبد الرحيم بن علي الأنصاري المؤذن: اتفقنا مشايخ من دمشق، فينا أحمد بن أبي الحواري وقاسم الجوعي وجماعة مشايخ، فمضينا ليلة الجمعة نبيت عند أبي سليمان الداراني، فخرجنا نريد داريا فلما بلغنا مزابل قينية إذ بأبي سليمان مقبل من داريا على حمار وهو منكس رأسه. فوقفنا ومعنا أم هارون الخراسانية وتلميذها أبو الفقر، فوقف في وسطنا. فقلنا: سلام عليك فقال: وعليكم، أين تريدون؟ قلنا: إليك أردنا. فلوى رأس حماره يريد أن يرجع، فأخذنا برأس دابته وقلنا: هذا باب الجابية، لا ندعك تمر، الحمد لله الذي جاء بك. فوقف وأحطنا به خلقاً، ثم نظر إلى أم هارون فصاح: يا قاسم، من هذه المرأة؟ فقال: امرأة خراسانية تعرف بأم هارون. فسكت ثم التفت فصاح: يا أحمد، قل لها: أتحبين الموت؟ فقالت: لا. فأطرق ساعة ثم قال: قل لها: ولم تكره لقاء الله عز وجل؟ فأطرقت ساعة ثم قالت: يا أبا سليمان، لو عاديت آدمياً لكرهت لقاءه، فكيف أريد لقاء الله وأنا عاصية له؟! فصاح أبو سليمان صيحة ووقع عن حماره. وأقبل يتمرغ في الأرض، ووقع أحمد مغشياً عليه وجماعة من المشايخ. ثم أفاق أبو سليمان فقال: يا أم هارون، إيش قلت؟ فأعادت عليه. فما زلنا وقوفاً حتى كادت الشمس أن تغيب. فحملناه على حماره ومسكناه حتى أدخلناه المدينة.(29/210)
حرف الياء
أبو يحيى الموصلي
قال أبو يحيى: أرسل إلي عبد العزيز بن مروان فقال: انظر هل ترى في ولدي خليفة؟ قال: نعم، هذا لعمر فلما استخلف بعث إليه فقال: أما تقول إن فينا مهدياً، فهل تراني ذلك المهدي؟ قال: لا، ولكنك رجل صالح. قال: الحمد لله الذي جعلني صالحاً.
أبو يزيد المكي
المعروف بالغريض كان الغريض عند النسوة من قريش من العبلات: الثريا وأختها أم عثمان. وكان أولاً خياطاً، وكان ظريفاً حلو اللسان، حسن الجزم، فدفعنه إلى ابن سريج ليعلمه الغناء فقبله. فلما رأى ابن سريج حذقه وحسن خلقه ووجهه وظرف لسانه وحلاوة منطقه خاف أن يبرز عليه، فنحاه عن خدمته فقلن له مواليه: هل لك أن تنوح بالمرائي؟ ففعل. فكان من أشجى الناس نوحاً، وكان يدخل المآتم، وتضرب دونه الحجب، ثم ينوح فيفتن كل من سمعه. فنهته الجن عن ذلك فانتهى، ورجع إلى الغناء، فصار غناؤه شجياً كذلك النوح. قال بعضهم: رأينا الغريض بين عمودي سرير مولاته الثريا ومعه نسوة يسعدنه وهو ينوح عليها. من الوافر(29/211)
ألا يا عين مالك تدمعينا ... أمن جزع بكيت فتعذرينا
أم أنت مصابة تبكين شجواً ... وشجوك مثله أبكى العيونا
قال: فرأيت النساء، وقد ألهبت فيهن النيران، وجميع من مع الجنازة من الرجال والنساء.
قال الزبيري: حججنا، فلما كنا بجمع سمعنا أحسن غناء، فعدل الحاج كلهم إليه، فإذا هو الغريض، فسألوه أن يغني صوتاً فأجابهم، فوقف حيث يسمع ولا يرى يغني بشعر عمر بن أبي ربيعة: من الخفيف
أيها الرائح المجد ابتكارا ... قد قضى من تهامة الأوطارا
ليت ذا الدهر كان حتماً علينا ... كل عامين حجة واعتمارا
فما سمع السامعون أحسن من ذلك. وكانت الجن تقدمت إليه مراراً ألا ينوح. وقالوا: قد هربت بسكاننا عن الحرم وأخرجتهم منه. ثم تقدموا إليه ونهوه ألا يتغنى بهذا الشعر. وقالوا: قد ذهب بعقول النساء، وهو شعر عبد الله بن نمير النميري من الطويل:
وما أنس م الأشياء لا أنس شادناً ... بمكة مكحولاً أسيلاً مدامعه
وشهد جنازة لبعض أهله، فقيل له: تغن، فقال: هو ابن زانية إن فعل. فقالت بعض موالياته: أنت والله كذلك. فقال: وكذلك أنا؟ قلن: نعم. قال: أنتن أعلم وأعرف بي. وكان قد أمسك عن الصوت لما نهته الجن، فلما أغضبوه موالياته، غنى: من الطويل
وما أنس م الأشياء لا أنس شادناً ... بمكة مكحولاً أسيلاً مدامعه
تشرب لون الرازقي بياضه ... ومن زعفران خالط المسك رادعه
قال: فلويت عنقه ونحن ننظر إليه، فمات في ذلك المجلس.(29/212)
أبو يزيد القاضي
قال: سمعت سليمان بن حبيب يقول: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أهل المدائن الحبساء في سبيل الله فلا تغلوا عليهم الأسعار، ولا تحتكروا عليهم.
وفي حديث: ولا تحتكروا عليهم طعامهم.
أبو يعقوب التميمي
حدث عن هشام بن عمار بسنده إلى أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يعود مريضاً إلا بعد ثلاث.
أبو يعقوب الدمشقي
حدث عن إسحاق بن سيار عن سويد بن سعيد قال: كان رجل بسر من رأى رأى يحيى بن أكثم في النوم. قال: فقلت له: ماذا فعل الله بك؟ قال: أقامني بين يديه وقال: يا شيخ السوء! فقلت له: ما هكذا أبلغت عنك. قال: وكيف أبلغت عني؟ فقلت: هذا محمد بن عبد الله الأنصاري ذكر عن حميد عن أنس عن نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنك أنك قلت: ما من امرئٍ يشيب شيبة في الإسلام فأدخله النار إلا أن يشرك معي غيري. فقال: صدق محمد، صدق أنس، صدق حميد، صدق الأنصاري. انطلقوا بعبدي إلى الجنة.
أبو يعقوب الدمشقي
قال: سألت إبراهيم بن المولد عن مسامرة المحبين. فقال: ظنون وأماني، فإذا تحققت المسامرة قتلت. ثم أنشد للعباس بن الأحنف: من الوافر
خيالك حين أرقد نصب عيني ... إلى وقت انتباهي لا يزول
وليس يزورني صلة ولكن ... حديث النفس عنه هو الوصول(29/213)
أبو يعيش
كان رجل من أهل العراق يعادي أهل الشام فذكر لعمر بن عبد العزيز، فأرسل إليه فأتاه فقال: أنت أبو يعيش الذي ذكرت لي حاجتك؟ فسكت. فقال: حاجتك؟ قال: قد علمت يا أمير المؤمنين ما يقال في المسألة. قال: إلي ليست مسألة، إنما أنا خازن وقاسم. قال: عطائي أتقوى به على جهادي وأستغني به عن أصحابي قال: قد فرض الله لك، فسل. قال: علي ثماني بنات ما بين بنت إلى بنت أخ. قال: قد فرض الله لهن، فسل. قال: وعلي من الدين كذا وكذا. قال: فأمر له بخادم ونفقة.
أبو يوسف حاجب معاوية
قال: إنه قال لمعاوية: إن ها هنا قوماً يتحلقون بعد الضحى يذكرون الله عز وجل. قال:
فإذا رأيتهم فأخبرني بهم. قال: فجاءه فأخبره. فخرج معاوية يجر رداءه عجلاً في مشيته. ثم وقف عليهم فقال: لا روع عليكم، أما إني لم ألو أن أتشبه لكم برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرعة مشيتي وجر ردائي، إني صنعت نحواً مما صنع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إن الله ليباهي بكم الملائكة. قال أبو يوسف: بينما أنا يوماً على باب الخضراء، وقد ارتفع معاوية للقائلة، وافترق عنه الناس، إذا برجل أناخ بعيره وقال: استأذن لي على أمير المؤمنين. فقلت: إنه ليس عليه الساعة إذن. فقال: ما بد من الدخول. فلم يزل مني كلمة ومنه كلمة حتى محكني، وارتفعت أصواتنا، فسمعنا معاوية فبعث إلي فقال: ما هذا؟ فأعلمته بالقصة. فقال معاوية: صفه لي. فوصفته. فقال: هذا فلان جاء يتظلم من عاملنا فلان. أدخله. فدخل، فإذا هو، فقال له معاوية: بيني وبينك رجل. قال: نعم. فاتفقوا على فضالة بن عبيد. فقال معاوية: يا أبا يوسف، ادع لنا فضالة. فذهبت إليه وقلت له: أجب أمير المؤمنين. قال: لماذا؟ فأخبرته فقال: قل له: قال لك فضالة: في بيته يؤتى الحكم يا معاوية. فانطلقت إليه فأخبرته فقال: صدق. فقام معاوية وذلك(29/214)
الرجل، فخرج الرجل يمشي ومعاوية يمشي معه آخذ بخطام ناقته. فقال لي معاوية: تقدم يا أبا يوسف فأخبره أنا قد جئنا. فتقدمت فأخبرته، فألقى لهما وسادة وبين يديه بالعرض فدخلا عليه فقال له فضالة: اجلس أنت وخصمك. فجلسا بين يديه، فقضى على معاوية وقال: انته يا معاوية، فإنك ظالم.
أبو يوسف
مولى عبد الملك بن مروان. قال أبو يوسف الحاجب: إن عبد الله بن عمر كتب إلى عبد الملك بن مروان فبدأ بنفسه، فغضبوا عليه قال: قلت: هكذا كان يكتب إلى معاوية، فرفضوا.
أبو يونس الدمشقي
قال: رأيت المقداد بن الأسود يحدث الناس يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إذا بات الضيف محروماً فحق على المسلمين نصرته حتى يأخذوا له قراه من ماله وزرعه أو زرعه وضرعه.(29/215)
أسماء النساء على حرف الياء
أم يزيد
والدة أبي الزرقاء عبد الملك بن محمد الصنعاني. حدثت أم يزيد أن أمية ذات الذنب وكان لها ذنب مخلوق في عجزها فنخسها مروان المرتعش، فضرطت، فخاصمته إلى نمير بن أوس الأشعري، فقضى لها عليه بأربعين درهماً وعباءة.(29/216)
ذكر المجهولين من الرجال
رجل من بني مرة بن عوف
يقال: مرة بن رباب، ويقال ابن ذبيان كان في غزوة مؤتة فقيل له: إن الناس يقولون: إن خالداً انهزم من المشركين. فقال: لا والله ما كان ذلك، لما قتل ابن أبي رواحة نظرت إلى اللواء قد سقط، واختلط المسلمون والمشركون، فنظرت إلى اللواء في يد خالد منهزماً اتبعناه فكانت الهزيمة. قال: وكأني أنظر إلى جعفر حين لحمته الحرب، عقر فرساً له شقراء ثم قاتل حتى قتل.
رجل من أمداد حمير
قال عوف بن مالك الأشجعي: خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، فرافقني مددي من أهل اليمن وفي حديث آخر: رجل من أمداد حمير ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزوراً، فسأله المددي طائفة من جلده، فأعطاه إياه، فاتخذ كهيئة الدرق، وفيهم رجل على فرس له أشقر، وعليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يفرق بالمسلمين، وقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله، فحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله على المسلمين بعث خالد بن الوليد فأخذ(29/217)
من السلب. قال عوف: فأتيته، فقلت: يا خالد، أما علمت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته قال عوف: فقلت: لتردنه أو لأعرفنكها عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فأبى أن يرده عليه. قال عوف: فاجتمعنا، فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا خالد ما صنعت؟ قال: يا رسول الله، استكثرته. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رد عليه ما أخذت منه. فقلت: دونك يا خالد، ألم أقل لك؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما ذلك؟ فأخبرته، فغضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: يا خالد، لا ترد عليه، هل أنتم تاركو لي أمرائي، لكم صفوة أمرهم، وعليهم كذره.
رجل شهد يوم مؤتة
لما كان يوم مؤتة برز رجل كافر من قضاعة، يشتم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبرز إليه رجل من المسلمين فقال: يا هذا، أنا فلان بن فلان وأمي فلانة وأنا من بني فلان فسبني وسب والدي وسب عشيرتي، واكفف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكأنما أغراه. فقال المسلم: لتنتهين أو لأرجلنك بسيفي. فلم ينته. فشد عليه المسلم بسيفه فضربه، وضربه القضاعي فقتله. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عجبت لرجل نصر الله ورسوله بالغيب وألفى ربه متكئاً فجلس له. قال: فأسلم ذلك القاتل، فكان يسمى الرجيل. قال: هذا منقطع، ومعناه إن صح أن الله تبارك وتقدس، تلقاه بالإكرام كما يفعل من قدم عليه من يجله ويكرمه، تعالى عن صفات الأجسام.(29/218)
رجل من بني أسد
قنسريني، له صحبة، وفد إلى معاوية. حدث خالد بن معدان قال: وفد المقدام بن معدي كرب، وعمرو بن الأسود، ورجل من بني الأسد من قنسرين من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على معاوية، فقال معاوية للمقدام: أما علمت أن الحسن بن علي توفي؟ قال: فاسترجع المقدام. فقال له معاوية: أتراها مصيبة؟ قال: ولم لا أراها مصيبة وقد وضعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجره فقال: هذا مني وحسين من علي؟ فقال للأسدي: ما تقول أنت؟ قال: جمرة أطفأها الله. فقال المقدام: أما أنا فلا أبرح اليوم حتى أغيظك وأسمعك ما تكره، ثم قال: إن أنا صدقت فصدقني، وإن أنا كذبت فكذبني. فقال: أفعل. فقال: أنشدك الله، هل سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن لبس الذهب؟ قال: نعم. قال: وأنشدك الله، هل تعلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن لبس الحرير؟ قال: نعم. قال: أنشدك الله، هل تعلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن جلود السباع والركوب عليها؟ قال: نعم. قال: فوالله، لقد رأيت هذا كله في بيتك يا معاوية. فقال معاوية: قد عرفت أني لن أنجو منك اليوم. قال خالد: وأمر له معاوية بمال ولم يأمر لصاحبه، وفرض لابنه قال: ففرقها المقدام على أصحابه، ولم يعط الأسدي شيئاً مما أخذ، فبلغ ذلك معاوية، فقال: أما المقدام فرجل كريم بسط يديه، وأما الأسدي فرجل حسن الإمساك لنفسه.
رجل من غسان
له وفادة على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قدم قوم من غسان على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان سنة عشر المدينة، وهم ثلاثة، قالوا: فنزلنا دار رملة بنت الحارث، فإذا وفود العرب كلهم مصدقون بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلنا فيما بيننا: أترانا شر من يرى العرب؟ ثم أتينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلمنا وصدقنا وشهدنا أن(29/219)
ما جاء به حق ولا ندري أيتبعنا قومنا أم لا، فأجازهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجوائز وانصرفوا راجعين. فقدموا على قومهم فلم يستجيبوا لهم، فكتموا إسلامهم حتى مات منهم رجلان مسلمان، وأدرك واحد منهم عمر بن الخطاب عام اليرموك، فلقي أبا عبيدة فخبره بإسلامه، فكان يكرمه.
رجل له صحبة
قال عبد الواحد القرشي: لما أتي يزيد بن معاوية برأس الحسين بن علي عليهما السلام، تناوله بقضيب، فكشف عن ثناياه، فوالله ما البرد بأبيض من ثناياه ثم قال: من الطويل
يفلقن هاماً من رجال أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فقال له رجل عنده: يا هذا، ارفع قضيبك، فوالله لقد رأيت شفتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مكانه يقبله، فرفعه متذمراً عليه، فغضب.
رجل من خثعم
له صحبة. قال رجل من أهل الشام يقال له عمار: أدربنا عاماً، فقلنا وفينا شيخ من خثعم، فذكر الحجاج، فوقع فيه وشتمه، فقلت له: ولم تشتمه وهو يقاتل أهل العراق في طاعة أمير المؤمنين؟! فقال: إنه هو الذي أكفرهم. ثم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يكون في هذه الأمة خمس فتن، فقد مضت أربع وبقيت واحدة وهي الصيلم، وهي فيكم يا أهل الشام، فإن أدركتها فإن استطعت أن تكون حجراً فكنه، ولا تكن مع واحد من الفريقين، وإلا فاتخذ نفقاً في الأرض. قلت: أنت سمعت هذا من رسول(29/220)
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم. قلت: يرحمك الله، أفلا كنت أعلمتني أنك رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أسائلك.
رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال القاسم بن مخيمرة: أتيت مسجد دمشق، فإذا فيه ناس جلوس يتحدثون، وإذا فيهم شيخ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجلست إليهم، فتحدثنا حديثاً حسناً، ثم تفرقنا، فلما أصبحت من الغد قلت: لآتين جلسائي فأجلس معهم. قال: فلما أتيت المسجد إذا فيه الشيخ جالس وحده، فأتيته فقعدت طويلاً لا يحدثني ولا أحدثه فقلت له: ألا تحدثني؟ فإني والله لأحبك وأحب حديثك. قال: آلله؟ قلت: آلله. قال: فإنه من تحاب في الله فإنه في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله. ثم قال: يا بني أو يا بن أخي، إذا أصبحت فقل لا إله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات فإنهن يكتبن عشر حسنات، ويمحين عشر سيئات ويكن عدل أربع نسمات من بني إسماعيل، ويكن حارساً لك من الشيطان إلى أن تمسي، فإذا أمسيت فقلهن يكن لك ذلك حتى تصبح.
رجل له صحبة
قال عبد الجبار الخولاني: قدم علينا رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دمشق، فرأى ما فيه الناس يعني من الدنيا فقال: وما يغني عنهم، أليس من ورائهم الفلق؟ قيل: وما الفلق؟ قال: جب في النار، إذا فتح هر منه أهل النار.(29/221)
رجل رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وبقي إلى خلافة عمر بن عبد العزيز. جاء عمر رجل فقال: يا أمير المؤمنين، ها هنا رجل قد رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقام عمر وقام معه جماعة قال: أنت رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم قال: فهل سمعت منه شيئاً أو رأيته يصنع شيئاً؟ قال: لا، إلا أني رأيته عليه كركرة من الناس، ورجل يسأله عن الرؤيا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: للرؤيا شبه المرأة خير، والبعير حزن، واللبن فطرة، والخضرة الجنة، والسفينة نجاة.
رجل من مزينة
كانت عنده قطيفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو قطيفة من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما استخلف عمر بن عبد العزيز أرسل إليه، فأتى بها في أديم فجعل يمسح بها وجهه.
ورجل شهد اليرموك
قال رجل لأبي عبيدة يوم اليرموك: إني قد أجمعت علي أمري أن أشد عليهم، فهل توصوني إلى نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء؟ فقال: تقرئه السلام وتخبره أنا قد وجدنا ما وعد الله ورسوله حقاً.
رجل من أهل اليمن
أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شهد اليرموك، فأصيبت يده. كان عمر بن الخطاب يغدي الناس يوماً، فرأى رجلاً يأكل بشماله فقال له: كل(29/222)
بيمينك. فلم يجبه، فأعاد عليه فقال: هي يا أمير المؤمنين مشغولة. فلما فرغ من طعامه دعا به فقال: ما شغل يدك اليمنى؟ فأخرجها، فإذا هي مقطوعة فقال: ما هذا؟ فقال: أصيبت يدي يوم اليرموك. قال: فمن يوضئك؟ قال: أتوضأ بشمالي، ويعين الله. قال: فأين تريد؟ قال: اليمن، إلى أم لي لم أرها مذ كذا وكذا سنة قال: أوبر أيضاً! فأمر له بخادم وخمسة أباعير من الصدقة وأوقرها له.
رجل من دمشق
ركب أبو الدرداء إلى المدينة في نفر من أهل دمشق، ومعهم المصحف الذي جاء به أهل دمشق ليعرضوه على أبي بن كعب وزيد بن ثابت وعلي وأهل المدينة، فقرؤوا على عمر بن الخطاب، فلما قرؤوا هذه الآية " إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية " ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام. فقال عمر: من أقرأكم؟ قالوا: أبي بن كعب. فقال لرجل من أهل المدينة: ادع لي أبي بن كعب. وقال للرجل الدمشقي: انطلق معه. فذهبا، فوجدا أبي بن كعب عند منزله يهنأ بعيراً له بيده، فسلما. ثم قال له المديني: أجب أمير المؤمنين عمر. فقال أبي: ولم دعاني أمير المؤمنين؟ فأخبره بالذي كان. فقال أبي للدمشقي: ما كنتم تنتهون معشر الركيب أو يسترقني منكم شر. ثم جاء إلى عمر وهو مشمر، والقطران على يديه، فلما أتى عمر قال لهم: اقرؤوا. فقرؤوا: ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام فقال أبي: أنا أقرأتهم. فقال عمر لزيد: اقرأ يا زيد. فقرأ زيد قراءة العامة فقال عمر: اللهم لا أعرف إلا هذا. فقال أبي: والله يا عمر، إنك لتعلم أني كنت أحضر وتغيبون، وأدعي وتحجبون، وتصنع بي! والله لأن أحببت لألزمن بيتي فلا أحدث أحداً بشيء.(29/223)
رجل من الأزد
من ثمالة. حدث أنه رأى عمر بن الخطاب بالجابية سجد في " إذا السماء انشقت "
شيخ حكى عن عمر بن الخطاب
أتى عبد الملك بن مروان في خالة وعمة. فقام شيخ فقال: شهدت عمر بن الخطاب أعطى الخالة الثلث، والعمة الثلثين قال: فهم أن يكتب. ثم قال: أين زيد عن هذا؟!
قاضي دمشق
في خلافة عمر. قال عمر بن الخطاب لرجل قاض: من أنت؟ قال: أنا قاضي دمشق. قال: كيف تقضي؟ قال: أقضي بكتاب الله. قال: فإذا جاء ما ليس في كتاب الله؟ قال: أقضي بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فإذا جاء ما ليس في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: أجتهد رأيي وأؤامر جلسائي. فقال عمر: أحسنت، وقال له: إذا جلست فقل: اللهم، إني أسألك أن أقضي بعلم، وأن أفتي بحكم، وأسألك العدل في الغضب والرضا. قال: فسار ما شاء الله أن يسير، ثم رجع إلى عمر. قال: ما رجعك؟ قال: رأيت فيما يرى النائم أن الشمس والقمر يقتتلان مع كل واحد منهما جنود من الكواكب. قال: مع أيهما كنت؟ قال: مع القمر. قال عمر: نعوذ بالله " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة " والله لا تلي لي عملاً أبداً. قال: فيزعمون أن ذلك الرجل قتل مع معاوية بصفين.(29/224)
رجل من دمشق
حج مع عمر، واستفتاه. عن أبي المليح أنه كتب إلى أبي عبيدة بن عبد الله بن عتبة يسأله عن النعامة يصيبها المحرم وعن الحمار، وعن بيض النعام وعن الجرادة. فكتب إليه: في النعامة بدنة، وفي الحمار بدنة. قال: وكان عبد الله بن مسعود يقول في بيض النعام: في كل بيضة صوم يوم أو إطعام مسكين. وأصاب رجل من أهل دمشق ثلاث جرادات وهو محرم، فأعطى عن كل جرادة درهماً. فذكر ذلك لعمر بن الخطاب فقال: إنكم كثيرة دراهمكم يا أهل دمشق، ولتمرة أحب إلي من خمسين جرادة، وقبضة طعام كانت جازية عنك.
عامل لعمر بن الخطاب
على أذرعات، من البلقاء. قال: قدم علينا عمر بن الخطاب، وعليه قميص من كرابيس أعطانيه، فقال: اغسله وارقعه. قال: فغسلته ورقعته، ثم قطعت عليه قميصاً قبطياً فأتيته بهما، فقلت: هذا قميصك، وهذا قميص قطعته عليه لتلبسه، فمسه فوجده ليناً، فقال: لا حاجة لنا فيه، هذا أنشف للعرق منه.
رجل من بني أسد
حدث أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي، عن رجل من قومه قال: غزونا مع عمر بن الخطاب الشام، فنزلنا منزلاً، فجاء دهقان يستدل على عمر حتى أتاه، فلما أتاه الدهقان، سجد حين رأى عمر. فقال عمر: ما هذا السجود؟! قال: هكذا نفعل بعظمائنا. فقال عمر: اسجد للذي خلقك. قال: يا أمير المؤمنين، إني صنعت لك(29/225)
طعاماً لتأتيني. فقال عمر: لعل في بيتك شيئاً من زخرف العجم؟ قال: نعم. قال: لا حاجة لي في بيتك، ولكن ابعث إلي بلون واحد من طعام، ولا تزيدن عليه. وانطلق، فبعث إليه بطعام، فأكل منه عمر، فاستقبله الناس في ثياب الحرير والديباج. فقال: هذا لباس أهل الشرك، بئس ما استقبلتموني به، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا تلبسوا الديباج ولا الحرير، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، فإنها لكم في الآخرة، ولهم في الدنيا، ثم أمر بطلاء فصنع له شيء ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فشربه فوافقه، فقال: إني قد أمرت بشراب من العنب فطبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، وخفت أن تقولوا أمر به عمر؛ فتشربون غيره، وإني لا آمركم إلا بمثل هذا.
رجل من الأشعريين
كان زوج أم شهر بن حوشب. حدث شهر بن حوشب عن رابه، رجل من قومه كان خلف على أمه بعد أبيه، كان شهد طاعون عمواس قال: لما اشتعل الوجع قام أبو عبيدة بن الجراح خطيباً فقال: يا أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له منه حظه، قال: فطعن، فمات. واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيباً بعده، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، إن معاذاً يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظه. فطعن ابنه عبد الرحمن، فمات ثم قام فدعا ربه لنفسه، فطعن في راحته، فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقبل ظهر كفه، ثم يقول: ما أحب أن لي فيك شيئاً من مال الدنيا. فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام فينا خطيباً، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتجبلوا منه في الجبال. فقال له أبو واثلة الهذلي: كذبت والله، لقد صحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنت شر من حماري هذا!! قال: والله ما أرد عليك ما تقول، وأيم الله(29/226)
لا نقيم عليه. ثم خرج وخرج الناس، وتفرقوا عنه، ورفعه الله عز وجل عنهم، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو، فوالله ما كرهه.
رجل من بني تميم
قال: كنا عند باب معاوية، وفينا أبو ذر، فقال أبو ذر: إني صائم. فلما دخلنا على معاوية، ووضعت الموائد جعل أبو ذر يأكل، وجعلت أنظر إليه، فقال: ما شأنك يا أحمر، أتريد أن تشغلني عن طعامي؟ فقال: ألم تزعم على الباب أنك صائم؟ فقال أبو ذر: بلى. ثم قال: قرأت " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها "، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر، صوم الدهر، ويذهب بمغلة الصدر. قلت: ما مغلة الصدر؟ قال: رجس الشيطان، وقد صمت ثلاثة أيام من كل شهر، فأنا صائم الدهر كله.
رجل من أهل دمشق
قال: أتيت أبا ذر وهو في جبل الخمر لأسأله، فرأيته وهو مكب على نويرة هو وامرأته يعالجها في يوم رشاش وقد سالت دموعه على لحيته، فلما غشيته ثارت امرأته فدخلت خباءها، وأرخت عليها سترها. فقلت: يا أبا ذر، لو أنك اشتريت خادماً يكف المؤنة عنك وعن أهلك. فقالت امرأته: قد والله قلت له. فقال أبو ذر: اللهم غفراً، أنا أبو ذر وهذا عيشي، فإن تصبري فأنا من قد عرفت، وإلا فتحت كنف الله. فقلت: يا أبا ذر، أنا رجل ليس لي فضل، وإنما هو عطائي منه فضل يدرك عطائي الآخر، وقد بقي منه شيء، أفتتخوف علي إن أدركني أجلي، وعندي منه شيء؟ فقال: والذي نفسي بيده، لو أدركك أجلك، وعندك منه فضل خر بصيصة لكويت به. قلت: يا أبا ذر، أنت في(29/227)
أربع مئة، فأين يذهب عطاؤك؟ قال: ترى هذه القرية، فإن لي فيها ثلاثين فرساً أحمل على خمسة عشر في كل عام أو قال: غزوة فإذا رجعت، أعقبتها بالأخرى، ثم نظرت إلى ما يصلحها من أعلافها وأجلتها، وأجرائها، وكلما نفق منها فرس أبدلت مكانه فرساً، ثم نظرت إلى قوتي وقوت أهلي فحبسته وتصدقت بالفضل.
رجلان من أهل دمشق
تنازعا، فعاثا، فاستطال أحدهما على الآخر، فعاث المستطال عليه، ثم قام فلقيه أبو الدرداء، فقال: شعرت أنك قد نصرت على صاحبك. قال: بماذا يا أبا الدرداء؟ قال: كثر ماله وولده، ومن يكثر ماله وولده تكثر شياطينه.
رجل سأل أبا الدرداء
وهو مريض، فقال: يا أبا الدرداء، إنك قد أصبحت على جناح فراق الدنيا، فمرني بأمر ينفعني الله به، وأذكرك به. فقال: إنك من أمة معافاة، فأقم الصلاة، وأد زكاة مالٍ إن كان لك، وصم رمضان، واجتنب الفواحش، ثم أبشر. فأعاد الرجل على أبي الدرداء، فقال له مثل ذلك. قال شعبة: أحسبه ثلاث مرات، ورد عليه ثلاث مرات.
رجل رحل إلى أبي الدرداء
كان فتى، زوجته أمه ابنة عمه، فعلق منها معلقاً ثم قالت له: طلقها. فقال: لا أستطيع، علقت مني معلقاً ما أستطيع طلاقها. فقالت: طعامك وشرابك علي حرام حتى تطلقها. فخرج إلى أبي الدرداء بالشام، فذكر له شأنه، فقال: ما أنا الذي آمرك أن تعق والدتك ولا آمرك أن تطلق امرأتك. فأعاد عليه فقال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فاحفظه، وإن شئت فضيعه. قال: فرجع وقد طلقها.(29/228)
رجل من أصحاب أبي الدرداء
قال: حدثنا أبو الدرداء، قال: عهد إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أخوف ما أخاف على أمتي أئمة مضلون.
رجل نخعي من أهل الكوفة
قال: شهدت أبا الدرداء حين حضره الموت، قال: إني محدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم أكن لأحدثكم به حتى أعلم أني ميت، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وعد نفسك من الموتى، واتق دعوات المظلوم، فإنها مستجابات، ومن استطاع منكم أن يشهد العشاء الآخرة وصلاة الغداة في جماعة فليفعل، ولو حبواً.
رجل سمع أبا الدرداء ومعاوية
زار عبد الرحمن بن غنم أبا الدرداء بحمص، فمكث عنده ليالي، فأمر بحماره فأوكف له. فقال أبو الدرداء: لا أراني إلا مشيعك. فأمر بحماره فأسرج؛ فسارا جميعاً على حماريهما، فلقيا رجلاً شهد الجمعة بالأمس عند معاوية في الجابية، فعرفهما الرجل ولم يعرفاه، فأخبرهما خبر الناس، ثم إن الرجل قال: وخبر آخر كرهت أن أخبركما، أراكما تكرهانه، فقال أبو الدرداء: فلعل أبا ذر توفي؟ قال: نعم والله، فاسترجع أبو الدرداء وصاحبه قريباً من عشر مرات. ثم قال أبو الدرداء: " فارتقبهم واصطبر " كما قيل لأصحاب الناقة، اللهم، إن كذبوا أبا ذر فإني لا أكذبه، وإن اتهموه فإني لا أتهمه، وإن استغشوه فإني لا أستغشه، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأتمنه حين كان لا يأتمن أحداً، ويسر إليه(29/229)
حين لا يسر إلى أحد، أما الذي نفس أبي الدرداء لو أن أبا ذر قطع يميني ما أبغضته بعد الذي سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر.
رجل مر بأبي الدرداء
وهو يغرس غرساً بدمشق فقال له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! قال: لا تعجل علي، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من غرس غرساً لم يأكل منه آدمي، ولا خلق من خلق الله، إلا كان له صدقة.
مولى لأبي الدرداء
قال: سمعت أبا الدرداء وهو يوصي حبيب بن مسلمة فقال: إياك ودعوة المظلوم، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن العبد إذا ظلم فلم ينتصر، ولم يكن له من ينصره، فرفع طرفه إلى السماء، فدعا الله فلباه، فقال: لبيك، وإن الله يلبيه ويقول: يا عبدي أنا أنتصر لك عاجلاً وآجلاً.
رجل من الأنصار
دق رجل من يش سن رجل من الأنصار، فاستعدى معاوية، فقال الأنصاري لمعاوية: إن هذا دق سني، فقال معاوية: كلاً، إنا سنرضيك. قال: وألح الآخر على معاوية، أكب عليه حتى أبرمه، فقال له: شأنك بصاحبك. وأبو الدرداء جالس عند معاوية، فقال: أبو الدرداء: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما من رجل يصاب بشيء من جسده، فيتصدق به إلا رفعه الله عز وجل درجة، وحط عنه بها خطيئة. قال الأنصاري لأبي الدرداء: أنت سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، سمعته أذناي ووعاه قلبي. فقال الأنصاري: فإني أدعه لله عز وجل. فقال معاوية: لا جرم واله لا تخيب. فأمر له بمال.(29/230)
رجل
قال: دخلت مسجد دمشق ولم أوافق فيه أحداً، فصليت ركعتين ثم قلت: اللهم آمن وحدتي، وآنس وحشتي وفي آخر وارحم غربتي، وآنسني بجليس صالح تنفعني به. إذ دخل رجل فصلى ركعتين ثم جلس إلي، فإذا هو رجل له هيئة، فأخبرته بدعوتي فقال: والله يا بن أخي لئن كنت صادقاً لأنا أسر بدعوتك منك، وإن كنت ذلك الرجل الذي سألت لأحدثنك حديثاً ما حدثته أحداً قبلك، ولا أحدث به أحداً بعدك، عسى الله أن ينفعك به. سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقرأ: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا " الآية. قال: فأما السابق فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً، ثم يدخله الله الجنة برحمته، وأما الظالم لنفسه فأولئك الذين يوقفون يوم القيامة موقفاً كريهاً، حتى ينال منهم، ثم يطلقهم الله برحمته، فهم الذين قالوا: " الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " الآية. قال: فهو حزن ذلك اليوم وذلك الموقف. قال الرجل: فقلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا أبو الدرداء. وفي آخر بمعناه: ويجيء الظالم، فيحبس حتى يصيبه كظ العذاب، وسوء الحساب، ثم يدخل الجنة.
رجل من دمشق
حدث عن عوف بن مالك، عن أبي ذر أنه جلس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو جلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد فقال له: يا أبا ذر، هل صليت الضحى أو الضحاء؟ قال: لا. قال: قم فصّل ركعتين. فقام، فصلى ثم جلس. فقال له: يا أبا ذر، نعوذ بالله من شياطين الإنس. قال: قلت: يا رسول الله، هل للإنس شياطين؟! قال: نعم. قال: يا أبا ذر، ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قال: قلت: نعم. قال: قلت: ما هو؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. قال: قلت: يا رسول الله، فالصلاة؟ قال: خير موضوع، فمن شاء استقل، ومن شاء استكثر. قال: فالصوم؟ قال: فرض مجزئ. قال: فالصدقة؟ قال: أضعاف مضاعفة،(29/231)
وعند الله المزيد. قال: قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل أو أسر إلى فقير. قال: قلت: فأيما أنزل آية عليك أعظم؟ قال: " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " حتى فرغ من الآية. قال: قلت: كم المرسلون؟ قال: ثلاث مئة وخمسة عشر جماً غفيراً. قال: قلت: فآدم كان نبياً؟ قال: نعم مكلماً. قال: ثم؟ قال: أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصل علي. صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
رجل حدث عن عائشة
قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين، فأهدي لنا طعام فأكلنا منه. قالت عائشة: فدخل علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبدرتني حفصة وكانت ابنة أبيها فقالت: يا رسول الله، أصبحت أنا وعائشة صائمتين، فأهدي لنا طعام، فأكلنا منه. قالت: فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: صوما يوماً مكانه.
شيوخ من بني عنس
حدثوا أنهم لما كانوا بصفين، أتوا جبل الجودي ينظرون إلى موضع السفينة منه. قال: فبينا نحن ننظر إلى آثارها، وما بقي من حديدها، إذا نحن بأبي هريرة ينظر إلى ما نظرنا إليه منها، فسلمنا عليه، فرد السلام. فقلنا له: أخبرنا عن هذه الفتنة التي نحن فيها. فقال: أما إنكم ستنصرون فيها على عدوكم، ثم سكت وسكتنا. فقال: ما لكم لا تسألوني؟ فقلنا: أخبرنا. فقال: أما إنها ستكون بعدها فتن ما هذه عندها إلا كالماء بالعسل تترككم وأنتم قليل نادمون، ولتنزلن فارس أرضها، يضطرب نشابها بين لعلع وبارق ولتنزلن الروم أرضها آمنة يضطرب نشابها، ولتخرجنكم من الشام كفراً كفراً(29/232)
إلى سنبك من الأرض يقال له حسمى جذام
رجل من دمشق
قال إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنه قدم على معاوية في خلافته؛ فدخلت المقصورة فجلست، فقال لي رجل: من أنت يا فتى؟ قلت: أنا إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. قال: يرحم الله أباك، أخبرني فلان لرجل سماه أنه قال: لألحقن بأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلأحدثن بهم عهداً ولأكلمنهم. فقدمت المدينة في خلافة عثمان بن عفان، فلقيتهم إلا عبد الرحمن بن عوف، أخبرت أنه بأرض له بالجرف، فركبت إليه، فإذا هو واضع رداءه، يحول الماء بمسحاة في يده، فلما رآني استحيا مني وألقى المسحاة، وأخذ رداءه، فسلمت عليه وقلت له: جئتك لأمر وقد رأيت أعجب منه، هل جاءكم إلا ما جاءنا، وهل علمتم إلا ما قد علمناه؟ فقال عبد الرحمن: لم يأتنا إلا ما قد جاءكم، ولم نعلم إلا ما قد علمتم. قال: قلت: فما لنا نزهد في الدنيا وترغبون، ونخف في الجهاد وتتثاقلون، وأنتم سلفنا وخيارنا وأصحاب نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال عبد الرحمن: لم يأتنا إلا ما قد جاءكم، ولم نعلم إلا ما قد علمتم، ولكنا بلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم نصبر.
رجل من دمشق
حدث عن عبد الله بن عمر أنه: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: من قال هذه الكلمات دعا بهن، فرج الله همه، وأذهب حزنه، وأطال سروره. أن يقول: اللهم، إني عبدك وابن عبدك، وابن أمتك وفي قبضتك، ناصيتي في يدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاءك، أسألك بأحب أسمائك إليك، وباسمك الذي سميت به(29/233)
نفسك، وبكل اسمٍ أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن نور صدري، وربيع قلبي، وجلاء حزني، وذهاب همي.
شيخ من دمشق
حدث عن أبي أمامة الباهلي قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل في الصلاة من الليل كبر ثلاثاً، وسبح ثلاثاً، وهلل ثلاثاً، ثم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه وشركه.
رجل من أهل دمشق
قال أبو غالب، صاحب أبي أمامة: كنت بدمشق، ورجل ينشد المال، ورجل من التجار معي فقال: لقد ذهب لي مال ما مثله يرد. قلت: على ذلك لو أتيناه فسألناه. فأتيناه فسألناه فقال: قد وجدت مالاً وهو في المنزل. فذهب بنا إلى منزله، فلما نظر التاجر إلى خرجه قال: مالي. فدفعه إليه فقال صاحب المال: خذ منه ما شئت. قال: لا أرزؤك منه شيئاً، وما عندي عشاء ليلة، ولقد كنت من مالي في غناء. قال: فإذا هو قد لف الخرج بشريط وطرحه على حجارة البيت، وكان المال أربعين ألف دينار. قال أبو غالب: فقلت للتاجر: كيف كان أمر مالك؟ قال: أتيت باب الفرما فخشيت من العشارين، فوضعت الخرج على حمار، وخليت سبيله، فانطلق الحمار فلم أجده.
رجل رحبي من الرحبة
حدث أنه قعد في حلقة بدمشق فيها واثلة بن الأسقع الليثي فحدث القوم، فلما أرادوا أن يتفرقوا أخذوا في عيب علي حتى وصل ذلك إلى ذلك الرجل، وكان آخر من أراد(29/234)
القيام، فتناوله واثلة بثوبه فأقعده. فقال له: أتعرف علياً، هل رأيته؟ قال: لا. قال: أفلا أحدثك عن علي؟ قال: بلى. قال: أتيت علياً أطلبه في منزله فلم أصبه، فاستجابت لي فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: من تريد؟ قلت: أبا حسن. قالت: الساعة يأتيك من هذه الناحية. قال: فجاء علي والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معه، يتوكأ عليه، فدخل على فاطمة وحسن وحسين، ثم دعا بمرط فغشاهم به ثم قال: اللهم، هؤلاء أهلي ثم قال: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهركم تطهيراً " قال: قلت: يا رسول الله، وأنا فاجعلني من أهلك. قال: وأنت. قال: فوالله ما عندي شيء أرجى عندي منها.
رجل من حجور
حدث عن أنس بن مالك قال: سمعت أنس بن مالك يقول وسأله الوليد بن عبد الملك بدير المران: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الإيمان إلى هذين الحيين، لخمٍ وجذامٍ، وإن الكفر والجفاء في هذين الحيين: ربيعة ومضر. قال الوليد: قد سمعت هذا، فحدثني غيره، فصمت أنس.
شيخ كبير من أهل دمشق
كان في عصر الصحابة. قال حبان بن زيد: نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان والياً على حمص قبل الأفسون إلى الجراجمة،(29/235)
فلقيت شيخاً كبيراً من أهل دمشق على رحالة قد سقط حاجباه على عينيه فيمن أغاث فسلمت عليه وقلت: يا عم، لقد أعذر الله إليك، فرفع حاجبيه فقال: يا بن أخي، إن الله استنفرنا خفافاً وثقالاً، إنه من يحبه الله يبتليه ثم يعيذه فيقتنيه، إنما يبتلي الله من عباده من صبر وشكر وذكر، ولم يعبد إلا الله.
حرسي لمعاوية
قال: عرضت على معاوية خيل، فقال لرجل من الأنصار يقال له ابن الحنظلية: يا بن الحنظلية، ماذا سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في الخيل؟ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وصاحبها معان عليها، والمنفق عليها كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها.
شاب من قريش
قال الأصمعي: خرجت ابنة لمعاوية صبية، وجماعة من قريش جلوس. فقال شاب من قريش: ما أكبر عجيزتها! فدخلت إلى معاوية تبكي. فقال: ما يبكيك؟ قالت: سفل بي أحد القوم الذين بالباب. فخرج عليهم معاوية وهو مغضب فقال: أيكم سفل بالصبية؟ فسكت القوم. فأعادها. فقال الشاب: أنا مازحتها يا أمير المؤمنين. فقال معاوية: أما والله لقد رأيت أمك وهي تضرب بصحنها فتؤذي جليسها وما نظرت نفسها، وإني لأعلم قريش بقريش. فقال له الرجل: مهلاً فوالله إني لأعلم قريش بقريش. فقال معاوية: واحدة بواحدة، ولكم جوائزكم.
رجل من أهل البادية
وفد على معاوية، كانت امرأته قالت له هي وبناته: لو أتيت أمير المؤمنين فسألته وأخبرته بما لك، لعل الله يرزقك منه شيئاً. فقال: ليس بيدي شيء. فباعوا متاعاً لهم، وتجهز إلى معاوية، فدخل عليه وقد نصب في الطريق، فرأى جماعة الناس(29/236)
على معاوية، فلم يقدر على كلامه، فدار خلفه فقعد خلف السرير بين وسادتين، فجعل يخفق برأسه لما لقي من العناء في طريقه. فقال ابن بريدة: والشيخ إذا كان قاعداً كان أكثر لنومه، فنام، وتفرق الناس عن معاوية لما أمسوا، وخرج للمغرب، ثم رجع فتعشى وخرج لصلاة العشاء، والشيخ نائم لا يعلم، حتى ذهب هوي من الليل. فدخل معاوية إلى أهله فانتبه الشيخ لما أصابه برد الليل، فإذا هو بالسرج وليس في البيت غيره، فقام فخرج إلى الدار، فإذا الأبواب مغلقة، فاسترجع وقال: إنا لله، جئت أطلب الخير فالآن أوخذ بظن أني جئت أغتال أمير المؤمنين. فطلب مكاناً يختبئ فيه إلى أن يصبح فلم يجد، فدخل تحت سرير معاوية فلما ذهب هوي من الليل إذا معاوية أقبل، شيخ ضخم البطن، متوشح بملحفة حمراء، حتى قعد على السرير، والشيخ ينظر وهو يسترجع في نفسه: الآن أقتل. ثم قال معاوية: يا غلام، انطلق إلى ابنة قرظة فادعها، فجاءت تمشي ومعها جواري يسترنها حتى صعدت على السرير معه، فطرب للجواري، فكلمها معاوية ساعة ثم قال: عزمت عليك إلا نزلت فمشيت، ورمى عنها ثيابها، وبقيت في درع رقيق من قز يستبين منه جميع جسدها. فمشت فقال: أقبلي. فأقبلت. ثم قال: أدبري. فأدبرت. والشيخ ينظر، ثم أقبلت، فإذا هي ببريق عين الشيخ من تحت السرير. فصاحت وقالت: افتضحت. وقعدت وتقنعت بيديها. فقام معاوية إليها، وقال: ما لك؟ فقالت: رجل تحت السرير. فأدخل معاوية يده، فأخذ برأسه، فإذا شعرات، فجعل لا يقدر أن يقبض على شعره، فلما علم أنه شيخ كبير تركه ولبست ابنة قرظة ثيابها وانطلقت إلى بيتها، وخرج الشيخ إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين لينفعني عندك الصدق. قال: هيه، فقص عليه القصة. فقال: لا بأس عليك، وجعل معاوية يضحك ويسأله فإذا أعرابي منكر لا يسأله عن شيء إلا أخبره. فلما أصبح دعا معاوية خصياً له وقال: خذ بيد الشيخ إلى ابنة قرظة فقل لها: هذا الشيخ الذي تخلاك(29/237)
البارحة، وللخلوة نحلة، فأعطيه نحلته. فأخبرها فقالت للأعرابي: ما قصتك؟ فقص عليها القصة، فأعطته وأوقرت راحلته ثياباً وغير ذلك وقالت له: لا تقيمن في هذه البلاد، فإن رآك أحد بها نكلت بك، وخافت أن يقيم، فكلما ذكره معاوية دعاه وذكر له ما كان. ثم قال لغلام: انطلق فاحمله على الراحلة وما معه، ثم انخس به حتى تخرجه من هذه الأرض. فانطلق الأعرابي وقد أصاب حاجته.
مولى لشقيق أو ابن شقيق
من أهل البصرة. كان بين شقيق بن عبد الله وبين عبد الله بن شقيق حس فأخذ له زياد ساجاً بثلاثين ألف درهم، فبعث شقيق غلاماً إلى معاوية وقال: إن أتيتني منه بكتاب فأنت حر. فبلغ ذلك زياداً، فأخذ بالرصد، فقطع النهر بالسباحة، وأتى معاوية، فأخذ منه كتاباً إلى زياد برد ذلك المال، وكان زياد بالكوفة، وخليفته سمرة بن جندب على البصرة، فلما قدم على زياد كتب له إلى سمرة فقال: أصلحك الله عتقت مرتين، ولم أعتق. قال: وكيف ذلك؟ قال: اعتقني يا مولاي، وأعتقني أمير المؤمنين، وأقدم على سمرة فيقتلني. قال: أما والله إن كنت لأرجو أن أشتفي منك. قال: فكتب إلى سمرة. فلما قدم إلى زياد خيره شقيق أو ابن شقيق بين ثلاثين ألفاً وبين آنية من الفضة، فاختار الآنية. قال: فقدم تجار من دارين فباعهم إياها بالعشرة ثلاثة عشر، ثم لقي أبا بكرة فقال: ألم تر كيف غبنتهم؟ قال: وكيف؟ فذكر ذلك له. قال: أقسمت لتردنها. فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن مثل هذا.(29/238)
شيخ كان يشبه برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كان معاوية يقوم لشيخ في منزله إذا دخل عليه، فقيل له: أتقوم لهذا الشيخ، وأنت أمير المؤمنين؟! قال: نعم، لأني رأيت فيه مشابهاً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنا أقوم لذلك لا له. قال: وهذا الرجل هو كابس بن ربيعة، وهو في حرف الكاف.
رجل قاص
من أهل الأردن. قال أبو عبيد الله: كنا مع معاوية بالجابية، وكان يخرج إليها إبان العشب، وفينا رجل يقص علينا من أهل الأردن، إذ قام رجل من ناحية الناس فقال: ألا أخبركم بكلم يهتز لها عرش الرحمن وشجر الجنة؟ قلنا: بلى. قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. يهتز لها عرش الرحمن وشجر الجنة. ثم قال في إثر ذلك: سبحان الله وبحمده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي الكبير، أعوذ بوجه الله الكريم من عذابه الأليم.
رجل من تيم الله بن ثعلبة
أوفد زياد إلى معاوية وفداً من أهل البصرة، فيهم رجل من بني تيم الله بن ثعلبة من بكر بن وائل، فلما دخلوا على معاوية قام التيمي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن السامع المطيع لا حجة عليه، وإن السامع العاصي لا حجة عليه، وإن الله إذا أراد بقوم خيراً ولي أمرهم علماؤهم، وقضى بينهم فقهاؤهم، وجعل الأموال في سمحائهم، وإذا أراد بقوم سوءاً، ولي أمرهم سفهاؤهم، وقضى في الأحكام جهلاؤهم، وجعل الأموال في بخلائهم. فاحفظ معاوية. ثم دعا له على رؤوس الناس بعطية جزيلة. فقال: خذها يا أخا بني تيم، أبخيل لنا؟ فقال: سبحان الله، إذا لم تكن بخيلاً فأخاف أن تكون(29/239)
مبذراً، أو لكل الناس أعطيت كما أعطيتني؟ قال: لا، ولا يمكن هذا. فقال التيمي: فاجعل نصيبي في هذا الفيء أكثر من نصيب رجل من المسلمين. ففرق معاوية في ذلك الوفد مالاً عظيماً، وأمرهم بالشخوص إلى بلدهم، وكتب إلى زياد: لا تزال توجه إلي الرجل بعد الرجل فيقف بين يدي مؤنباً، أولى لك، فلما قرأ زياد الكتاب قال: علي نذر لأصلبن التيمي على أربع جذوع. ثم جعل ينتظر قدومه يوماً يوماً، ويعد له المراحل حتى انتهى التيمي إلى بعض المنازل، فمات به. وبلغ زياداً موته، فبعث إلى ابن أخ له من أهل البصرة فقال: عمك الحروري يؤنب أمير المؤمنين؟ فقال التميمي: أيها الأمير ما استأمرتني فيه حين أردت توجيهه، ولا ضمنت لك سقطة إن جاءت على لسانه، ولقد انتخبه بعلمك واخترته برأيك، فإن جاءتك فلا عليك بل على نفسه، وبعد، فمهما كنت صانعاً به أيها الأمير لو ظفرت به، أهو أكثر من أن تقتله؟ فقد قتله الله وكفاك أمره. فقال زياد: يا سلم، انطلق به فاحبسه الليلة حتى ينكل به غداً على رؤوس الناس. فدفعه سلم إلى غلام له فقال: امض به إلى الحبس. فمضى به الغلام، فلما كانوا في بعض الطريق أفلته الفتى وفر هارباً وأنشأ يقول: من الطويل
وأيقنت أني إن لبثت ساعة ... على باب سلم سار جسمي إلى قبري
جميعاً وشتى مدرجاً في عباءة ... فرأسي بعيد وهو أقرب من شبر
وجاء البخاريون يبتدرونني ... عيون لهم خرز توقد كالجمر
عكوف على الأبواب من يؤمروا به ... فليس براء أهله آخر الدهر
عشية يدعوهم دويد ومن يجب ... دويداً فقد لاقى العظيم من الأمر
ولله أيام أتين ثلاثة ... غلبن علينا القوم من كل ذي صبر
تحدر فيهن المنايا تحدراً ... كأن دماء القوم من راحهم تجري
وكان زياد تواعد الناس بالقتل في ثلاثة أيام، فقتل منهم خلقاً كثيراً، ودويد هذا رجل كان من البخاريين على عذاب زياد.(29/240)
رجل من كلب
قتل رجل من الشام امرأته، فأخذه والدها فرفعوه إلى معاوية فلم يدر ما يقول فيها، فأرسل أعرابياً من كلب إلى علي فأخبره خبرها فقال: إن شاء أهل المرأة أدوا إلى الرجل ديته ثم قتلوه، وإن أحبوا أخذوا من القاتل نصف الدية، وإنما هما امرأتان برجل.
رجل شاعر من كلب
أجرى معاوية الخيل فيها وفرس يقال له سالم، فقال معاوية: من الوافر
رأيت لسالم خيراً وشراً ... فلا أدري لأيهما يصير
فقال رجل من كلب من البادية، وكان له فرس في الحلبة يقال له المستنير: ائذن لي يا أمير المؤمنين أجبك، وأعطني الأمان. قال: فعلت. فقال الأعرابي:
تصير إلى التي أشفقت منها ... إذا ما قيل جاء المستنير
فجاء فرس الأعرابي سابقاً. فقال له معاوية: يا أعرابي، لقد جئت بفأل له شأن. فأعطاه سبقه أربعة آلاف درهم.
رجل من المعمرين
من أهل نجران. قدم على معاوية رجل من نجران، يقولون: له يوم قدم عليه مئتا سنة. فسأله عن الدنيا فقال: سنيات بلاء، وسنيات رخاء، يوم فيوم، وليلة فليلة، يولد مولود، ويهلك هالك، فلولا المولد باد الخلق، ولولا الهالك ضاقت الدنيا بمن فيها، فقال له: سل. فقال: عمر مضى فترده وأجل حضر فتدفعه. قال: لا أملك ذلك، قال: لا حاجة لي إليك ثم قال: من البسيط(29/241)
استرزق الله خيراً وارضين به ... فبينما العسر إذا دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذ صار رمساً تعفيه الأعاصير
كأنه لم يكن إلا لتذكرة ... والدهر أهلكنا منه الدهارير
رجل شاب من غسان
قال الشعبي: كان أول من سمر من الخلفاء، واتخذ له أقوام معاوية، وكان ملك الروم في زمانه فوق بن مورق بن هرقل بن قيصر بن فوق بن مورق بن الأصفر، وكان معاوية يقول: ما أردت في الشام شيئاً قط إلا ظننت أنه معي، وكان ملك الروم يقول مثل ذلك. فسمر معاوية ليلة ثم أوى إلى فراشه فأرق فامتنع منه النوم فأراده فلو يستطعه حتى أسحر، فسمع أصوات النواقيس فآذته، فلم يزل يتململ حتى أصبح، فلما صلى الفجر وجلس أمر منادياً فنادى: من يبيعني نفسه؟ فقال شاب من غسان: أنا يا أمير المؤمنين. قال: بكم؟ قال: ثلاث ديات: دية لي، ودية أخلفها لأهلي، ودية أشتري لهم بها ضيعة. فأعطاه أربعة آلاف دينار، ثم قال: قد أجلتك ثلاثاً فتهيأ وافرغ من حوائجك ثم ائتني. ففعل، فإذا كتاب بين يدي معاوية إلى ملك الروم فقال: انطلق بهذا إلى ملك الروم، فتدخل عليه وهو جالس على سريره وبطارقته حوله وتاجه على رأسه، فإذا عاينته فضع كتابك وأدخل أصبعيك في أذنيك، فأذن وقل: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، حتى تفرغ. فخرج الغساني حتى دخل عليه، وتاجه على رأسه، وبطارقته عنده، فوضع الكتاب ورفع صوته بالأذان، فانتضوا سيوفهم وأقبلوا نحوه، فوثب عن سريره يخصر حتى حال بينهم وبينه. قال: فاستدبرني واستقبلهم ثم قال: أف لكم، كنت أظنه يقاس برأيكم فإذا رأيكم قد عجز عنكم، ارجعوا، فما رجعوا إلا بعد شر، فلما رجعوا إلى مجالسهم قال: أتدرون ما قصة هذا؟ قالوا: لا. قال: تجدون معاوية أرق فسمع أصوات النواقيس فآذته، وقد علم أن النصارى بالشام لهم أنصاف منازل(29/242)
المسلمين، وأنصاف مساجدهم، وقد عاهدهم على ذلك من هو أفضل منه من أهل دينه، فلم يستطع نقضه فقال: من يبيعني نفسه، فتجدون هذا البائس انتدب لذلك، ولم يأخذ لنفسه ثمنها؟ فوجهه وأمره بما سمعتم لتستحلوا قتله ويستحل هو بذلك قتل من بالشام من النصارى، وهدم كنائسهم. قال الغساني: والله ما علمت ما أراد معاوية إلا تلك الساعة. قالوا: أيها الملك، ما تصنع به؟ قال: نحسن جائزته، ونرد جواب كتبه، فما أتت على معاوية إلا ثمانية وأربعون ليلة حتى عاد الغساني، فلما رآه معاوية قال: أفلت وانحص الذنب. قال: يا أمير المؤمنين، عرضتني للقتل. قال: أما والذي لا إله إلا هو، لو قتلك ما تركت فيما بين العريش إلى الفرات نصرانياً إلا قتلته، ولا كنيسة إلا هدمتها، ولكن اللعين كان أوفى بالذمة.
رجل لقب أم عمار
خطب معاوية وهو خليفة فقال في خطبته، ولم يتم البيت لأنه كان على المنبر: من الطويل
إذ الناس ناس والزمان بغرة
وأعاده ولم يتم البيت، فظن بعض العامة أنه أشكل عليه البيت، وأنه يريد من يتممه له. فقام وقال:
وإذ أم عمار صديق مساعف
فقال له: اسكت يا أم عمار، ما أردنا هذا منك. قال: فبقي عليه لقباً، فكان إذا مر بالصبيان صاحوا: يا أم عمار يا أم عمار، حتى رمي بالآجر.(29/243)
أعرابي
جرت له محاورة مع معاوية، وحلم عنه. خطب معاوية يوماً فقال: إن عاملاً لي بمكان كذا كتب إلي يذكر أن بني قشير كان منهم إليه أمر، لهممت أن أجد من كان منهم في البر فأحمله في البحر في السفن، ثم أحرقها عليهم فلا أبقي منهم أحداً. فقام إليه أعرابي، عليه عباءة يرفعها من جانب، وتسقط من آخر فقال: يا معاوية، أما والله لو أردت ذلك لجاءك مئة ألف أمرد على مئة ألف أجرد فجعلوا صدرك ترسة لرماحهم فقال: اسكت أيها الغراب الأبقع. قال:
إن الغراب الأبقع يحجل إلى الرخمة البيضاء فينقر رأسها، ويستخرج دماغها، فيأكله. فأعرض عنه معاوية وأخذ في خطبته، فقال له عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، ما هذه الاستكانة؟! أما رأيت ما قال لك؟! قال: يا أبا عبد الله، لنخلين بينهم وبين ألسنتهم ما خلوا بينا وبين ملكنا.
رجل من كنانة
له محاورة مع معاوية. خطب معاوية بن أبي سفيان فقال: أيها الناس، إن أمير المؤمنين عثمان ولاني بعض ما ولاه الله عليه، فوالله ما خنت، ثم وليت الأمر فيما بيني وبين الله عز وجل، فهل ترون خللاً؟ فوثب رجل من كنانة أو من بكر بن وائل فقال: نعم يا معاوية خللاً كخلل المنخل. فقال: اقعد أقعد الله رجليك. كأني بك وقد ارتبطت عشرة أعنزٍ في مثل حافر عير معهن تيس تحتلبهن قال:(29/244)
والله، إن قلت ذلك، إن ثم لحسباً غير ذميم، والله ما قتلت نفساً حراماً ولا أكلت مالاً حراماً. قال: وأنى لك أن تقتل نفساً حراماً أو تأكل مالاً حراماً، أنت أذل وأخزى من ذلك، اسكت، دق الله فاك. قال: لا بل أذهب حيث لا أرى شخصك ولا أسمع صوتك. قال: أبعد وأبعد. قال: لئن طرت بك لأطيرن بك طيرة بعيداً وقوعها. قال الأعرابي: فهل إلا إلى الله ثم تقع يا معاوية، وأنا أستغفر الله.
رجل لقي الخضر عليه السلام
خرج رجل إلى معاوية، فلقي الخضر فقال له: لعلك تريد هذا الرجل؟ قال: نعم. قال: فإذا أردت الدخول عليه فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم اجعل بدو يومي هذا صلاحاً، وأوسطه فلاحاً، وآخره نجاحاً، وأسألك باسمك الأحد الكبير المتعال: ثم سل حاجتك.
فدخل الرجل على معاوية، ونسي أن يصنع ما أمره به، فلم يلتفت إليه معاوية، فلما كان بعد صنع الذي أمر به. فقال معاوية: سحرتني والذي نفسي بيده، لقد جئتني وما أريد أن أعطيك شيئاً. فأخبره بالذي قيل له. فأعطاه وأحسن إليه.
رجل أقام بباب معاوية
وطال مقامه ثم أذن له فقال: يا أمير المؤمنين، انقطعت إليك بالأمل، واحتملت جفوتك بالصبر، وليس لمقرب أن يأمن ولا لمباعد أن يأنس، وكل صائر إلى حظه من رزق الله عز وجل. فقال معاوية: هذا كلام له ما بعده، فأمر بعهده له إلى فلسطين. فقال الرجل: من الوافر
دخلت على معاوية بن حرب ... وكنت وقد يئست من الدخول
وما أدركت ما أملت حتى ... حللت محلة الرجل الذليل(29/245)
وأغضيت العيون على قذاها ... ولم أنظر إلى قال وقيل
رجل من كلب
دخل على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي في بيت مال المسلمين حقاً ولي رحم. فقال: أما ذكرت فيما لك في بيت مال المسلمين فقد عرفناه، وأما رحمك فما هي؟ قال: إن أم إلياس بن مضر كانت امرأة من كلب. فقال معاوية: وأبيك، لقد متت برحم بعيدة. وعنده ابن عباس، فقال: لا تقل ذلك يا أمير المؤمنين، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الله ليعذب على قطيعة الرحم التي تلقاك إلى ثلاثين أباً، فقال له: الله عليك، لقد سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: الله علي، لقد سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: سل حاجتك. قال: مئة ألف أشتري بها داراً. قال: هي لك. قال: مئة ألف أقضي بها تجاراً. قال: هي لك. قال: مئة ألف أشتري بها عقاراً. قال: هي لك. قال ابن الأعرابي: يا أبه، أبرمت أمير المؤمنين. قال: فنتف رأسه بيده ثم قال: اسكت، إنما أمير المؤمنين كما قال خال بني جبار: من الوافر
نميل على جوانبه كأنا ... إذا ملنا نميل على أبينا
نقلبه لنخبر حالتيه ... فنخبر منهما كرماً ولينا
رجل من همدان شاعر
كان لمعاوية فرس يقال له البشير قد سبق عليه سوابق أهل الشام، فقيدت إليه في خلافة عثمان أفراس العرب في حلبة استعد لها معاوية، وقدم رجل من مدد همدان، فرأى الناس يحفلون نحو الحلبة. فقال لهم: ما هذا؟ فأخبر فبادر إلى معاوية بفرس يقال له المستطير، قدم راكباً عليه من اليمن فقال: أيها الأمير، قدمت الساعة من(29/246)
شبام على فرسي هذا، وهو يعجبني، فسمعت بهذه الحلبة فأسرعت به. فقال له معاوية: فرسك مخبل وليس بمخبل، وهو بعد نضي وجي. فقال أنشدك الله يا بن الكرام. فأمر بفرسه فختم وأنفذ مع الخيل إلى المقوس وقعد معاوية يتشوف لها ثم أنشأ يقول: من الوافر
أخاف على البشير وأتقيه ... فما أدري إلى ماذا يحور
فقال الهمذاني: أتأذن لي في الجواب؟ قال: هات. فقال: من الوافر
يحور إلى التي أرجو سناها ... إذا ما قيل هذا المستطير
فضحك معاوية وصاح الناس: الخيل. الخيل، وطلع المستطير فرس الهمذاني.
وكان معاوية جعل لمن سبق البشير أربعين أوقية من ذهب وفريضة في الشرف، وفرائض لعشرة رجال من قرابته أو عشيرته. فشاطر معاوية الهمذاني في فريضته ووفر عليه السبق، وفرائض عشرة من أهل بيته فقال الهمذاني: من الوافر
ألا ليت الرياح إذا استطرت ... تبشر أهلنا كنفي شبام
بأن المستطير أهل يهوي ... أمام الخيل في جمع السنام
ولم يسكن وجاه بعد شهر ... وعشر سنين محتفر الظلام
فأبت بسبقه وعلوت حداً ... على شرف الفرائض في الكرام
فبعث إليه معاوية، فاشترى منه المستطير بألف دينار، فسبق عليه العرب أيامه كلها.(29/247)
رجل استسقى به معاوية
خرج معاوية يستسقي فجعل يقول: قم يا فلان، قم يا فلان. فقيل له: إن في قرية كذا رجلاً مجاب الدعوة. فأرسل إليه فأتى على حماره وهو مسمط إداوةً له لئلا تأتي عليه حالة إلا وهو فيها متوضئ. فقال له معاوية: أردنا أن تستسقي لنا. فاستعفاه فلم يعفه، فأتى إداوته فأحدث وضوءاً وصلى ركعتين، واستسقى وعزم على ربه فقال: ارفعوا أيديكم. فما فرق بينهم إلا المطر حيث يصلي حتى جرى الماء من تحته. فأتاه أهل قريته فاحتملوه. فقال: اللهم، إن معاوية أقامني مقام سمعة ورياء، فاقبضني إليك. فقبض قبل الجمعة.
رجل من ولد خلف الجمحي
كان مع معاوية بصفين، وكان فارس أهلها، والذي رد الأشتر عن معاوية بعدما غشيه.
دخل على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، إنا تركنا الحق عياناً، وعلي بن أبي طالب يدعو إليه في المهاجرين والأنصار، وبايعناك على ما قد علمت، ثم طاعنت عنك أشد أهل العراق بعد ما غشيك حتى إذا نلت ما رجوت وأمنت ما خفت، جعلت الدهر أربعة أيام: يوماً لسعيد بن العاص، ويوماً لمروان بن الحكم، ويوماً لعمرو بن العاص، ويوماً للمغيرة بن شعبة، وصرنا لا في عير ولا في نفير، ثم خرج من عنده وهو يقول: من الطويل
أظن قريشاً باعثي الحرب مرة ... عليك ابن هند أو تجر الدواهيا
أيوم لمروان ويوم لصهره ... سعيد ويوم للمغير معاويا؟
ويوم لعمرو والحوادث جمة ... وقد بلغت منا النفوس التراقيا(29/248)
أتنسى بلائي يوم صفين والقنا ... رواء وكانت قبل ذاك صواديا
أو الأشتر النخعي في مرجحنة ... يمانية يدعو ربيساً يمانيا
وطاعنت عنك الخيل حتى تبددت ... بداد بنات الماء أبصرن بازيا
تركنا علياً في صحاب محمد ... وكان إلى خير الطريقة داعيا
فلما استقام الأمر من بعده ميله ... وزحزح ما تخشى ونلت الأمانيا
دعوت الألى كانوا لملكك آفة ... وخلت مقامي حية وأفاعيا
فبعث إليه معاوية، وعنده وجوه قريش فقال: يا بن أخي، إني مثلت بين تركي إياك وبين معاتبتك، فوجدت معاتبتك أبقى لك، وأيم الله، ما أخاف عليك نفسي ولكني أخاف عليك من بعدي، فإني رأيتك رحب الذراعين بمساءة عمل شديد التقحم عليه، فلتضق به ذرعك، ولتقل علي تقحمك، فإنك لست كلما شئت تجد من يحمل سفهك. فخرج الفتى من عنده وقد استحيا وارتدع. وأنشأ معاوية يقول: من الطويل
أيا من عذيري من لؤي بن غالب ... فنخشى كلباً كاشر الناب عاويا
فما لي ذنب في لؤي بن غالب ... سوى أنني دافعت عنها الدواهيا
وأني لبست الجود والحلم فيهم ... وأن من رماهم بالأذى قد رمانيا
فأصبحت ما ينفك صاحب سوءة ... يقوم بها بين السماطين لاهيا
فإن أنا جازيت السفيه بذنبه ... فمنها يميني أفردت من شماليا
وإن أنا لم أجز السفيه بذنبه ... لوى رأسه وازداد غياً تماديا
فوليتهم أذني وكانت سجيتي ... ليالي لم أملك ولو كنت واليا
فكم قائل إما هلكت لقومه ... وقائلة لا تبعدن معاويا
وإني لكم عود ذلول موقر ... يقل الألى ينهاهم ما نها مانهانيا
ألم أعف عن أهل الذنوب وأعطهم ... عطية من لايحسب المال فانيا
ثم دعا بالفتى فعقد له على بعض كور الشام.(29/249)
رجل
كان معاوية، فقال له ليلة: ألا أخبرك عن زوجتي؟ قال: بلى. قال: ولدت إحداهما غلاماً، والأخرى جارية، فخرجت أم الغلام ترقصه وتقول: من الرجز
يا ليته قد راح في الغزي ... على جواد مشرف علي
فآب بالمغنم والسبي ... فألحق الفقير بالغني
فرددت ذلك حتى أغضبت أم الجارية، فخرجت بابنتها تر قصها وتقول: من الرجز
وما علي أن تكوني جاريه ... تمشط رأسي وتكون الفاليه
وترفع الفاضل من ردائيه ... حتى إذا ما بلغت ثمانية
زوجتها عتبة أو معاويه ... أصهار صدق ومهور غاليه
فضحك معاوية وقال: وأبيها، إن عتبة ومعاوية عنها لمشغولان. وأمر لها بأربعة آلاف.
رجل من بني عذرة
أذن معاوية للناس يوماً فدخل فيهم فتى من بني عذرة، فوقف بين السماطين وقال: من الطويل
معاوي يا ذا الفضل والحلم والعقل ... وذا البر والإحسان والجود والبذل
أتيتك لما ضاق في الأرض مذهبي ... وأنكرت مما قد أصبت به عقلي
ففرج كلأك الله عني فإنني ... لقيت الذي لم يلقه أحد قبلي
وخذ لي هداك الله حقي من الذي ... رماني بسهم كان أهونه قتلي
وكنت أرجي عدله إذ أتيته ... فأكثر تردادي مع الحبس والكبل
فطلقتها من جهد ما قد أصابني ... فهذا أمير المؤمنين من العدل(29/250)
فقال معاوية: ما خطبك؟ فقال: تزوجت ابنة عم لي، وكانت لي صرمة من إبل وشويهات فأنفقت ذلك عليها، فلما أصابتني نائبة الزمان رغب عني أبوها، وكانت جارية فيها الحياء والكرم فكرهت مخالفة أبيها، فأتيت عاملك ابن أم الحكم فذكرت ذلك له، وبلغه جمالها، فأعطى أباها عشرة آلاف درهم، فتزوجها وأخذني فحبسني وضيق علي، فلما أصابني مس الحديد وألم العذاب طلقتها، وقد أتيتك يا أمير المؤمنين وأنت غياث المحروب، وسند المسلوب، فهل من فرج؟ ثم بكى وقال في بكائه: من المجتث
وفي القلب مني نار ... والنار فيها شنار
وفي فؤادي جمر ... والجمر فيه شرار
والجسم مني نحيل ... واللون فيه اصفرار
والعين تبكي بشجو ... فدمعها مدرار
والحب داء عسير ... فيه الطبيب يحار
حملت منه عظيماً ... فما عليه اصطبار
فليس ليلي ليلاً ... ولا نهاري نهار
فرق له معاوية، وكتب له إلى ابن أم الحكم كتاباً عظيماً، وكتب في آخره: من البسيط
ركبت أمراً عظيماً لست أعرفه ... أستغفر الله من جور امرئ زاني
قد كنت تشبه صوفياً له كتب ... من الفرائض أو آيات فرقان
حتى أتاني الفتى العذري منتحباً ... يشكو إلي بحق غير بهتان
أعطي الإله عهوداً لا أخيس بها ... أولا قربت من دين وإيمان
إن أنت راجعتني فيما كتبت به ... لأجعلنك لحماً بين عقبان
طلق سعاد وفارقها بمجتمع ... أشهد على ذاك نصراً وابن ظبيان
فما سمعت كما بلغت من عجب ... ولا فعالك حقاً فعل إنسان
فلما ورد كتاب معاوية على ابن أم الحكم، تنفس الصعداء وقال: وددت أن أمير(29/251)
المؤمنين خلى بيني وبينها سنة ثم عرضني على السيف، وجعل يؤامر نفسه في طلاقها فلا يقدر، فلما أزعجه الوفد طلقها. ثم قال: يا سعاد اخرجي، فخرجت شكلة غنجة ذات هيئة وجمال، فلما رآها الوفد قالوا: ما تصلح هذه إلا لأمير المؤمنين لا لأعرابي. وكتب جواب كتابه: من البسيط
لا تحنثن أمير المؤمنين فقد ... أوفى بعهدك في رفق وإحسان
وما ركبت حراماً حين أعجبني ... فكيف سميت باسم الخائن الزاني
وسوف تأتيك شمس لا خفاء بها ... أبهى البرية من إنس ومن جان
حوراء يقصر عنها الوصف إن وصفت ... أقول ذلك في سري وإعلاني
فلما ورد الكتاب على معاوية قال: إن كانت أعطيت حسن النغمة مع هذه الصفة فهي أكمل البرية، فاستنطقها فإذا هي أحسن الناس كلاماً، وأكملهم شكلاً ودلاً. فقال: يا أعرابي، هل من سلو عنها بأفضل الرغبة؟ قال: نعم، إذا فرقت بين رأسي وجسدي. ثم أنشأ الأعرابي يقول: من البسيط
لا تجعلني والأمثال تضرب لي ... كالمستغيث من الرمضاء بالنار
اردد سعاد على حيران مكتئب ... يمسي ويصبح في هم وتذكار
قد شفه قلق ما مثله قلق ... وأسعر القلب منه أي إسعار
والله والله لا أنسى محبتها ... حتى أغيب في رمس وأحجار
كيف السلو وقد هام الفؤاد بها ... وأصبح القلب عنها غير صبار
فغضب معاوية غضباً شديداً، ثم قال لها: اختاري إن شئت أنا، وإن شئت ابن أم الحكم، وإن شئت الأعرابي. فأنشأت سعاد تقول: من الرجز
هذا، وإن أصبح في أطمار ... وكان في نقص من اليسار
أكبر عندي من أبي وجاري ... وصاحب الدرهم والدينار
أخشى إذا غدرت حر النار(29/252)
فقال معاوية: خذها لا بارك الله لك فيها، فأنشأ الأعرابي يقول: من الرجز
خلوا الطري للأعرابي ... ألم ترقوا ويحكم لما بي
فضحك معاوية، وأمر له بعشرة آلاف درهم وناقة ووطاء، وأمر بها فأدخلت في بعض قصوره حتى انقضت عدتها من ابن أم الحكم، ودفعها للأعرابي.
شاعر
يقال له النجاشي، ويقال: هو أبو المهلهل الصدائي كان معاوية يغزي أهل اليمن دون غيرهم، فاجتمعوا بعكة، فقام رجل فقال: من الطويل
ألا أيها الناس الذين تجمعوا ... بعكا، أناس أنتم أم أباعر
أتترك قيس ترتعي في بلادها ... ونحن نسامي البحر، والبحر زاخر
فوالله ما أدري وإني لسائل ... أهمدان تحمي ضيمها أم يحارب
أم الشرف الأعلى من أولاد حمير ... بنو مالك إن تستمر المرائر
أأوصى أبوهم بينهم أن تواصلوا ... وأوصى أبوكم بينكم أن تدابروا
فجمع معاوية الناس على غزو البحر، وأعذر إليهم، فقال: ما أغزيكم دون قيس، إن معكم فيهم لكنانة وخندف، وإني أتيمن بكم وأعرف طاعتكم، وقيس فيهم خلاف ونكد في غزو البحر.
شاعر من كلب
كان في زمان معاوية، أو يزيد بن معاوية.(29/253)
قال حين رجعت قضاعة عن الانتساب إلى معد بن عدنان وانتسب إلى قحطان، ينكر رجوعهم عن المعدية: من الوافر
أزنيتم عجوزكم وكانت ... عجوزاً لا يحل لها إزار
عجوزاً لو تلمسها يمان ... للاقى مثلما لاقى يسار
يسار هذا: غلام يعرف بيسار الكواعب، كان غلام امرأة من العرب، فراودها عن نفسها فقالت: أنظر في ذلك، ثم عاودها وألح عليها، فدعت بموسى فجدعت أنفه، فضربت العرب المثل به.
شاعر من طيئ
وفد على يزيد بن معاوية فقال: أتيتك سائلاً في حمالة تحملتها عن قومي، وأنا من فرسانهم، فارددني لك شاكراً. فقال يزيد: اشدد فرسك بحزامه، واشج فاه بلجامه ثم ارم به سواد الليل في عرض الجبل، حتى يقضي الله عنك غرمك أو يحمد نجمك. فقال الرجل: والله لقد خفت هذا منك ولكني رجوت لين قلبك. وكان الرجل طويل القامة، مختلف الخلق، فأنشأ يزيد: من البسيط
يا أيها الأعقف المدلي بحجته ... لا حرمة تبتغي عندي ولا نسبا
شد الحزام على حيزوم محتنك ... ذي حارك ولبانٍ يملأ اللببا
واعص العواذل وارم الليل عن عرض ... بذي سبيب يقاسي ليله خببا(29/254)
أقب لم ينقب البيطار سرته ... ولم يدجه ولم يغمز له عصبا
حتى تصادف مالاً أو يقال فتى ... لاقى التي تشعب الفتيان فانشعبا
فقال الطائي: من البسيط
يا أيها الملك المحروم سائله ... لا تقطع اليوم من سؤالك السببا
قد كنت آمل سجلاً من سجالكم ... فاليوم لا فضة أرجو ولا ذهبا
فاستفتح القول شد السرج معترضاً ... جور الفلاة بطرف يمعج الخببا
لو كان والدك الماضي حللت به ... رد الجميل وجلى عني الكربا
إن الحريب إذا ما رد مطعمه ... بخل الخليفة يوماً رده حربا
فتذمم يزيد وأمر له بعشرة آلاف درهم، وكان يقول بعد ذلك: وددت أني فديت ما كان من قولي حتى تصادف مالاً بما يثقل علي لأني أعلم كم من فتى فارس كريم سيهلكه هذا البيت ويحمله على طباعه عند ضيق المعيشة. قال الرحبي: وقد صدق. وقيل: إن ذلك جرى مع.... فقال عبد الملك: ردوه، فإني أحسبه قد عزم على شر. فطلب فلم يوجد، ولم يلبث عبد الملك أن خرج خارجي أسعر الأرض شراً، وألزمه غرماً ثقيلاً، وكتب إليه: يا أمير المؤمنين، أنا الذي أمرتني، فقبلت قولك. فكتب إليه أمانة، فقدم عليه، وكان من أعراب.
رجل من همدان
من بني وادعة، من أهل الأردن. كان في الجيش الذي وجهه يزيد بن معاوية من البلقاء لقتال أهل المدينة.(29/255)
قال: كنا مع مسلم بن عقبة مقدمه المدينة، فدخلنا حائطاً بذي المروة، فإذا شاب حسن الوجه والهيئة قائم يصلي، فطفنا في الحائط ساعة وفرغ من صلاته فقال لي: يا عبد الله، أمن هذا الجيش أنت؟ قلت: نعم. قال: أترمون ابن الزبير؟ قلت: نعم قال: ما أحب أن لي ما على ظهر الأرض كله وأني سرت إليه، وما على ظهر الأرض اليوم أحد خير منه. قال: فإذا هو عبد الملك بن مروان، فابتلي به حتى قتله في المسجد الحرام.
حرسي لمعاوية
قال: قدم على معاوية بطريق من الروم يعرض عليه جزية الروم عن كل من بأرض الروم من صغير وكبير، جزية دينارين دينارين إلا عن رجلين: الملك وابنه، فإنه لا ينبغي للملك وابنه أن يجزيا. فقال معاوية وهو في كنيسة من كنائس دمشق: لو صببتم لي دنانير جزية حتى تملؤوا هذه الكنيسة لا يجزي الملك وابنه ما قبلتها منكم. فقال الرومي: لا تماكرني، فإنه لا يماكرني أحد مكراً إلا ومعه كذب. فقال معاوية: أراك تمازحني! فقال الرومي: إنك اضطررتني إلى ذلك، غزوتني في البر والبحر والصيف والشتاء، أما والله يا معاوية ما تغلبونا بعدد ولا عدة، ولوددت أن الله جمع بيننا وبينكم في مرج ثم خلى بيننا وبينكم، ورفع عنا وعنكم النصر حتى ترى. قال معاوية: ما له قاتله الله؟ إنه ليعرف أن النصر من عند الله.
مولى ليزيد بن معاوية
حدث عن عائذ الله رجل من أهل الشام عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، أي الأنبياء كان أول؟ قال: آدم. قلت: يا نبي الله، ونبياً كان؟ قال: نعم، جبل الله تربته، ونفخ فيه من روحه، وخلقه بيده، وكلمه قبلاً(29/256)
رجل من اليمامة
كان باليمامة رجلان أبناء عم، فكثر مالهما فوقع بينهما ما يقع بين الناس، فرحل أحدهما عن صاحبه، قال: فإني ليلة قد ضجرت برعي الإبل والغنم إذ أخذت بيد صبي لي، وعلوت الجبل، فإنا كذلك إذ أقبل السيل، فجعل مالي يمر بي ولا أملك منه شيئاً حتى رأيت ناقة لي قد علق خطامها بشجرة فقلت: لو نزلت إلى هذه فأخذتها لعلي أنجو عليها أنا وابني هذا. فنزلت فأخذت الخطام وجذبها السيل، فرجع علي غصن الشجرة فذهب بإحدى عيني، وأفلت الخطام من يدي، فذهبت الناقة، ورجعت إلى الصبي فوجدته قد أكله الذئب، فأصبحت لا أملك شيئاً فقلت: لو ذهبت إلى ابن عمي لعله يعطيني شيئاً. فمضيت إليه فقال لي: قد بلغني ما أصابك، والله ما أحب أنه أخطاك. فكان ذلك أشد علي مما أصابني. فقلت: أمضي إلى الشام فأطلب. فدخلت دمشق والناس يتحدثون أن عبد الملك بن مروان أصيب بابنٍ له فاشتد جزعه عليه. فأتيت الحاجب فقلت: إني أحدث أمير المؤمنين بحديث يعزيه عن مصيبته هذه. فاستأذن له، فدخل فحدثه فقال: قد عزيتني بمصيبتك عن مصيبتي. وأمر له بمال. قال: فعدت وتراجعت حالي.
شيخ كلبي
قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول: لولا أن أمير المؤمنين مروان أخبرني أن هو الذي قتل طلحة، ما تركت من ولد طلحة أحداً إلا قتلته بعثمان بن عفان.(29/257)
أعرابي من كلب
كان عبد الملك بن مروان قد ولى صدقات كلب رجلاً من بني أمية، وكانت الروم قد نزعته، وكان أشقر عصباً فدخل أعرابي جلف جاف على عبد الملك في خفة الناس فقال: يا إنسان، إنك مدبر مربوب قال: أجل، فما تشاء. قال: أحتجبت بهذه المدرة، ووليت خطابنا أصهب عصباً كالقرعوس، طمطمانياً أطوماً كأن وجهه جهوة قرد قد قشر بصرها، وكأن فاه سرم أتان قد قاشها عير فهي ترمز، إن كشرت بسر وإن خاطبت نهر، وإن بالغت زبر فلا الكلام مدفوع ولا القول مسموع، ولا الحق متبوع ولا الجور مردوع، ولنا مقام فيه ينص الخصام، وتزحف الأقدام، وينتصف المظلوم، وينعش المهضوم، ها إن ملكك هناك زائل، وعزك حائل، وناصرك خاذل، والحاكم عليك عادل. فاكبأن عبد الملك، وتضاءلت أقطاره، وترادفت عبراته في صدره. ثم قال: لله أبوك، أي ظلم نالك منا حتى أجاءك إلى هذا المقال. قال: ساعيك في السماوة، نهاره لهو، ورأيه لغو، وغضبه سطو، يجمع المناقط، يحتجن المشايط، ويستنجد العمارط. فأمر عبد الملك بصرف العامل.
نفسر ذلك: العصب: الصمم. والقرعوش: والد البختية وهو لا ينجب(29/258)
ولا ينفع. والطمطماني: الأعجم. والأطموم: الذي لا يفهم ولا يفهم؛ أخذ من جلد الأطوم: وهي دابة صليبة الجلد. وقيل: هي السلحفاة. وجهوة قرد: دبره وما ولاه، وكذلك هو لكل ذي أربع، وربما استعمل في الناس. وقشر بصرها: البصر: قشرة على كل شيء. وقاشها: أي نزا عليها. والترمز: التحرك. والمشايط: الواحد: مشياط، وهو الذي يسرع إليه السمن. والمناقط: المتفرقة، ونقط هذا: أي فرقه. والعمارط: واحدها عمروط: وهو الذي لا يرى شيئاً إلا اختلسه، وهو اللص، والواني الوغد. وأكبان: دخل بعضه في بعض. وتضاءلت: أي تصاغرت. والأقطار: النواحي. وأجاءك: أي اضطرك.
رجل من ولد عثمان بن عفان
وفد على عبد الملك بن مروان، فقال له: يا أمير المؤمنين، رأيت في يومي هذا عجباً. كنت في الصيد، فبينا أنا بقفرة من الأرض إذ رأيت شخصاً سقط حاجباه على عينيه، يتوكأ على عنزة معه. فقلت له: من الشيخ؟ فقال: امض لشأنك ودع السؤال عما لا أرب لك في علمه. فازددت لما قال ذعراً، فقلت له: أتروي من شعر العرب شيئاً؟ قال: نعم، وأقول كما قالوا؛ قلت: نحو ماذا؟ فأنشدني: من البسيط
أقول والنجم قد مالت أواخره ... إلى المغيب تبين نظرة حار
ألمحة من سنا برق رأى بصري ... أم وجه نعمٍ بدا لي أم سنا نار
بل وجه نعم بدا والليل معتكر ... فلاح من بين أثواب وأستار
قال: وكنت يا أمير المؤمنين أعرف الشعر لهادر صاحب نابغة بني ذبيان فقلت: سبقك أخو ذبيان إلى هذا. فضحك ثم قال: بلفظي كان ينطق، أنا هادر بن ماهر. ثم اعتمد على عنق فرسي وقال: ذكرتني صباي. قلت: هذا الشعر من أربعمائة سنة. ثم أنشد: من المتقارب(29/259)
وصلت القيان بعهد المسيح ... فأظهرن هجراً بقول قبيح
وذاك لأني حنيت العصا ... وأبدى الزمان لصحبي كلوحي
فمن لي بوجه ولا ليس لي ... بدا لا بوجه صبيح مليح
ثم نظرت. فإذا الأرض منه بلقع. قال عبد الملك: لقد رأيت عجباً.
قضاعي
وفد على عبد الملك ناس من قضاعة. فقال رجل منهم: من الكامل
والله ما ندري إذا ما فاتنا ... طلب إليك من الذي نتطلب
ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد ... أحداً سواك إلى المكارم ينسب
فاصبر لعاداتنا التي عودتنا ... أولا، فارشدنا إلى من نذهب
فأمر له بألف دينار. ثم وفد عليه فقال: من الطويل
وربي الذي يأتي من الخير إنه ... إذا فعل المعروف زاد وتمما
وليس كبانٍ حين تم بناؤه ... تتبعه بالنقض حتى تهدما
فأعطاه ألفي دينار. ثم وفد عليه فقال: من الطويل
إذا استعزروا كانوا معازير بالندى ... يكورن بالمعروف عوداً على بدء
فقال: أحسنت. وأعطاه أربعة آلاف دينار.(29/260)
أعرابي وفد على عبد الملك بن مروان
فسلم عليه، ثم قال: مرت بنا سنون ثلاثة: أما إحداها فأكلت المواشي، وأما الثانية فأنضلت اللحم، وأما الثالثة فخلصت إلى العظم، وعندك مال، فإن يكن لله فأعط عباد الله، وإن يكن لك فتصدق علينا، إن الله يجزي المتصدقين. قال: فأعطاه عشرة آلاف درهم، ثم قال: لو كان الناس يحسنون أن يسألوا هكذا ما حرمنا أحداً.
أعرابي دخل على عبد الملك
فقال عبد الملك: يا أعرابي، تمنه. فقال: العافية يا أمير المؤمنين. فقال: ثم ماذا؟ قال: ثم رزق في دعة ليس لأحد علي فيه منة إلا الله ولا لله علي فيه تبعة. قال: ثم ماذا؟ قال: الخمول، فإني رأيت السوء إلى ذي النباهة سريعاً.
رجل من بني عذرة
صنع عبد الملك بن مروان طعاماً فأكثر وأطاب، ودعا إليه الناس فأكلوا فقال بعضهم: ما أطيب هذا الطعام، ما رأى أحد أكثر منه ولا أطيب، فقال أعرابي من ناحية القوم: أما أكثر فلا، وأما أطيب فقد أكلت أطيب منه. فطفقوا يضحكون من قوله. فأشار إليه عبد الملك، فأدني منه فقال: ما أنت بمحق فيما تقول إلا أن تخبرني بما تبين به صدقك. فقال: نعم يا أمير المؤمنين، بينا أنا بهجر في تراب أحمر في أقصى حجر إذ توفي أبي، وترك كلاً وعيالاً وكان له نخل، وكان فيه نخلة لم ينظر الناظرون إلى مثلها، كأن ثمرها أخفاف الرباع لم ير قط أغلظ لحاءً ولا أصغر نوى، ولا أحلى حلاوة منها، وكانت تطرقها أتان وحشية قد ألفتها، تأوي بالليل تحتها، فكانت تثبت رجليها في أصلها، وترفع يديها وتقطع بفيها، فلا تترك بها إلا النبذ والمتفرق، فعظمني ذلك ووقع مني كل موقع، فانطلقت بقوسي وأسهمي، وأنا أظن أني أرجع من ساعتي، فمكثت يوماً وليلة(29/261)
لا أراها، حتى إذا كان السحر أقبلت فتهيأت لها فرشقتها، فأصبتها وأجهزت عليها، ثم عمدت إلى سرتها فاحتززتها، ثم عمدت إلى حطب جزل فجمعته إلى رصف وعمدت إلى زندي فقدحت، وأضرمت النار في ذلك الحطب، وألقيت سرتها فيها، وأدركني النوم فلم يوقظني إلا حر الشمس في ظهري، فانطلقت إليها وكشفتها، وألقيت ما عليها من قذى ورماد، ثم قلبت مثل الملاءة البيضاء، فألقيت عليها من رطب تلك النخلة المجزعة والمنصفة فسمعت لها أطيطاً كتداعي عامر وغطفان. ثم أقبلت أتناول الشحمة واللحمة فأضعها بين التمرتين، وأهوي بها إلى فمي فبم أحلف أني ما أكلت طعاماً قط مثله؟ فقال له عبد الملك: لقد أكلت طيباً، فممن أنت؟ قال: أنا رجل جانبتني عنعنة تميم وكشكشة ربيعة، وحوشي أهل اليمن وإن كنت منهم. قال: فمن أيهم أنت؟ قال: من أخوالك من عذرة. قال: أولئك فصحاء الناس، فهل لك علم بالشعر؟ قال: سلني عما بدا لك. قال: أي بيت أمدح؟ قال: قول جرير: من الوافر
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
قال: وجرير في القوم. فرفع رأسه وتطاول لها. قال: فأي بيت أفخر؟ قال: قول جرير: من الوافر
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضاب
فتحرك جرير. ثم قال: أي بيت أهجى؟ قال: قول جرير: من الوافر(29/262)
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
قال: فاستشرف لها جرير. قال: فأي بيت أغزل؟ قال: قول جرير: من البسيط
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
قال: فاهتز جرير وطرب. ثم قال: أي شيء قالته العرب أحسن تشبيهاً؟ قال: قول جرير: من الطويل
سرى نحوهم ليل كأن نجومه ... قناديل فيهن الذبال المفتل
فقال جرير: جائزتي يا أمير المؤمنين للعذري. فقال عبد الملك: وله مثلها من بيت المال، ولك جائزتك يا جرير لا ننقص منها شيئاً. وكانت جائزة جرير أربعة آلاف درهم وتوابعها من الجلان والكسوة. فخرج العذري بثمانية ألف درهم ورزمة ثياب.
رجل فصيح
قال الزهري: دخل رجل على عبد الملك فقال له: كم عطاؤك؟ قال: مئتي درهم. قال: في كم ديوانك؟ قال: عشرون ديناراً. قال: أما علمت أني قد أمرت أن لا يتكلم أحد إلا بإعراب؟ قال:
ما علمت ذلك يا أمير المؤمنين. قال: فمن العرب أنت أم من الموالي؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن تكن العربية آباءً فلست منها، وإن تكن لساناً فإني منها. قال: صدقت، قال الله عز وجل " بلسان عربي مبين " فقام الرجل. فقال عبد الملك: يا زهري، ما ناظرني أحد بمناظرة إلا علوته فيها خلا هذا الرجل.(29/263)
رجل
دخل على عبد الملك بن مروان وهو يتغدى فقال: هلم إلى الغداء. فقال: ما في فضل. فقال عبد الملك: ما أقبح بالرجل أن يأكل حتى لا يكون به فضل. فقال: يا أمير المؤمنين، عندي مستزاد ولكني أكره أن أصير إلى الحالة التي استقبح أمير المؤمنين.
رجل أعرابي
دخل على عبد الملك بن مروان وهو يأكل الفالوذج فقال: يا بن عم، ادن فكل من هذا الفالوذج، فإنه يزيد في الدماغ. قال: لو كان كما يقول أمير المؤمنين كان رأسه مثل رأس البغل.
رجل
وعظ عبد الملك بن مروان. قال له عبد الملك: تكلم. قال: بم أتكلم وقد علمت أن كل كلام يتكلم به المتكلم عليه إلا ما كان لله؟ فبكى عبد الملك ثم قال: لم يزل الناس يتوعظون ويتواصون. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إن للناس في القيامة جولة، لا ينجو من غصص مرارتها ومعاينة الردى فيها إلا من أرضى الله بسخط نفسه. فبكى عبد الملك وقال: لا جرم، لأجعلن هذه الكلمات مثالاً نصب عيني ما عشت.
رجل
من شعراء البادية عشق ابنة عمه وأمل أن يتزوجها، فأصابتهم حطمة أفسدت المال وغيرت الحال، في خلافة عبد الملك بن مروان فارتحل أهلها إلى بعض مدائن الشام وكثر خطاب الجارية، وبذل لها الرغائب، فبلغ ذلك الأعرابي، فأقبل على(29/264)
قعود له، وأغذ السير، فعطب قعوده، فلم يبق معه إلا حلسه وقتبه، فأتاهم فذكر قرابة وشرفاً فقالوا: المال أحب إلينا للحال التي نحن عليها. قال: أي قوم، أما إذا أبيتم فأجلوني شهراً أو شهرين، فإن جئتكم بما تحبون وإلا فأنتم من وراء ما تريدون. وأتى باب عبد الملك فأقام ببابه شهراً لا يصل إليه، ثم أذن له فدخل وهو يقول: من البسيط
ماذا يقول أمير المؤمنين لمن ... أدلى إليك بلا قربى ولا نسب
مدله عقله من حب جارية ... موصوفة بكمال الدل والأدب
خطبتها إذ رأيت الناس قد لهجوا ... لذكرها، والهوى يدعو إلى العطب
فقلت لي حسب عال ولي شرف ... قالوا الدراهم خير من ذوي الحسب
قالوا نريد ألوفاً منك أربعة ... ولست أملك غير الحلس والقتب
فالنفس تعجب لما رمت خطبتها ... مني، وتضحك إفلاسي من العجب
لو كنت أملك مالاً أو أحيط به ... أعطيتهم ألف قنطار من الذهب
فامنن علي أمير المؤمنين بها ... واجمع بها شمل هذا البائس العزب
فما وراءك بعد الله مطلب ... أنت الرجاء ومنهى غاية الطلب
فأمر له عبد الملك بعشرة آلاف درهم، وما يصلح للوليمة. زاد في أخرى مثلها: ورجع إلى الشيخ فتزوج ابنته.(29/265)
275 - رجل من غسان دخل على عبد الملك بن مروان فكلمه في حوائج قضاها له، فقال: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في تقبيل يدك؟ فقال: مه، أما علمت أنها من العرب مذلة، وهي من العجم خدعة؟
رجل من العراق
نصب عبد الملك موائد يطعم الناس، فجلس رجل من العراق على بعض الموائد، فنظر إليه خادم عبد الملك فأنكره، فقال له: أعراقي؟ قال: نعم. قال: فجاسوس؟ قال: كلا، دعني أتهنأ بزاد أمير المؤمنين. ثم إن عبد الملك وقف على تلك المائدة فقال: من القائل: من الوافر
إذا الأرط توسد أبرديه ... خدود جوازئ بالرمل عين
وما معناه؟ ومن أجاب فيه أجزناه، والخادم يسمع. فقال العراقي للخادم: تحب أن أشرح لك من قائله؟ وفيما قاله؟ قال: نعم. قال: يقول عدي بن زيد في الخمر. فقال الخادم: يا أمير المؤمنين، أنا أجيبك. قال: قل. قال: يقول عدي بن زيد في الخمر. فتبسم عبد الملك. فقال له الخادم: أخطأت أم أصبت؟ قال: بل أخطأت. قال: يا أمير المؤمنين، هذا العراقي لقننيه. فقال عبد الملك: أنت لقنت هذا الخادم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فخطأ لقتنته أم الصواب؟ قال: بل الخطأ قال: ولم؟ قال: لأني كنت متحرماً بمائدتك، فوقف علي فقال: أعراقي أنت؟ قلت: نعم. قال: أنت جاسوس فقلت: دعني لا تنغصني بزاد أمير المؤمنين. قال: فكيف الصواب؟ قال: يقوله شماخ بن ضرار الثعلبي في بقر الوحش، وقد تجزأت بالخضير عن الماء. قال: صدقت. فأجازه، ثم قال: سل حاجتك؟ قال: تنحي هذا عن بابك فإن فيه مشينة.(29/266)
رجل قدم على الحجاج بفتح سمرقند
فوجهه إلى الشام. قال: قدمتها فدخلت مسجدها فجلست وإلى جانبي شيخ ضرير، فسألته عن شيء من أمر الشام، قال: إنك لغريب؟ فقلت: أجل. قال: من أي بلد أنت؟ قلت: من خراسان. قال: ما أقدمك؟ فأخبرته. فقال: والذي بعث محمداً بالحق ما افتتحتموها إلا غدراً، وأنكم يا أهل خراسان الذين تسلبون بني أمية ملكهم وتنقضون دمشق حجراً حجراً. قال: أظن الضرير يونس بن ميسرة بن حلبس.
رجل مدح سليمان بن عبد الملك
وأخذ في تقريظه. فقال له سليمان: على رسلك، فإني لا أحب التزكية في المشاهدة، ومديح اللقاء. فقال رجل: إني لست أمدحك، ولكني أحمد الله على النعمة فيك. فقال سليمان: بلغت بالمديح مناط الإحسان.
شيخ من دمشق
دخل سليمان بن عبد الملك المسجد فرآه فقال: يا شيخ، أيسرك أن تموت؟ قال: لا والله. قال: ولم وقد بلغت من السن ما أرى؟ قال: ذهب الشباب وشره، وجاء الكبر وخبره، فإذا قعدت ذكرت الله، وإذا قمت حمدت الله، فأحب أن تدوم لي هاتان الحالتان.
أعرابي دخل على سليمان بن عبد الملك
فقال له: يا أمير المؤمنين، إني مكلمك بكلام فاحتمله إن كرهته، فإن من ورائه ما تحب إن قبلته، وإن كرهت أوله. قال سليمان: إنا لنجود بسعة الاحتمال على ما لا نرجو نصيحته ولا نأمن غشه، وأنت الناصح حبباً والمأمون غيباً.(29/267)
قال: يا أمير المؤمنين، أما إذا أمنت بادرة غضبك فأطلق لساني بما خرست به الألسن عن عظتك، تأدية لحق الله وحق رعايته وفي رواية وحق إمامتك.
يا أمير المؤمنين إنه قد تكنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة، سلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لن يألوا للأمانة تضييعاً، والأمة عسفاً، وللقرى خسفاً، وأنت مسؤول عما اجترحوا، وليسوا بمسؤولين لما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره. فقال له سليمان: أما أنت يا أعرابي فقد نصحت، وأرجو الله أن يعين على ما تقلدنا وفي رواية فقال له: أما أنت فقد سللت لسانك، فهو أقطع من سيفك. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين: لك لا عليك.
رجل ظلمه وكلاء رجل من بني أمية
له منزلة عند ملوكهم، في مال له بالحجاز، فخاصم الرجل الوكلاء إلى الوالي فمال عليه لهم. فقال: لا أرضى إلا بوالي مكة والمدينة، فصاروا إليه فكتب الأموي إلى الوالي الذي ارتفعوا إليه، فمال عليه لهم، فقال الرجل: لا أرضى إلا بأمير المؤمنين. فخرج إلى سليمان بن عبد الملك، فلم يلق بدمشق أحداً من جلساء سليمان، ولا عظيماً من عظماء دمشق إلا مال إلى الأموي عليه. فطلب الوصول إلى سليمان، فتعذر عليه ذلك، فدل على خادم خصي أنه لا يوصله إلى سليمان غيره، ولا يوصله حتى يرغبه. فقال:
أجعل له مئتي دينار على أن يوصلني إليه خالياً. فاجتمعوا، وقرر له ذلك، إن قضيت حاجته أو لم تقض. فأمر الخادم الرجل بلزوم الباب، فلزمه. فدعا سليمان الخصي يوماً، وأمره أن يأتيه بوضوء، فأتاه به، فبينا الخادم يصب على سليمان إذ ملأ سليمان يده فضرب به وجه الخادم، فعرف الخادم منه طيب نفس فقال: أما هذا فتحسنه، وأما أن تعطيني أو تدع من يعطيني فلا. فقال سليمان: هل منعت من أحداً؟ قال: هذا رجل ببابك، وقد جعل لي مئتي دينار على أن يكلمك(29/268)
في حالة له خالياً، قضيت الحاجة أم لم تقض. فقال له سليمان: هاته. فجاء به، وقام سليمان يصلي، ثم قعد يخطر بأصبعه ويدعو. فقال الرجل حين نظر إلى سليمان في تلك الحال: أواه، أواه، أخطأت موضع حاجتي. ورجع خارجاً، وانصرف سليمان. فقال للخصي: أين صاحبك؟ فطلبه فوجده خرج وقال: ادفعوا الدنانير للخادم فإنه وفى بما ضمن. فطلبه الخادم فلم يجده، فرجع إلى سليمان فأخبره. فقال سليمان للخادم: بساطي عليك محرم أو تجيئني بهذا الرجل. فخرج الخادم وثقاته فتفرقوا في طلبه حتى ظفروا به يقود راحلته خارجاً من باب من أبواب دمشق، فقال له الخادم: ارجع إلى أمير المؤمنين فقد طلبك. فقال: لا حاجة لي به، وقد أمرت أن تدفع إليك الدنانير. فقال له الخصي: لا بد من الرجوع إلى أمير المؤمنين. فرده على كره منه إلى سليمان فقال له سليمان: ألم أخبر أنك جعلت لهذا مئتي دينار على أن يدخلك إلي؟ فقال الرجل: قد كان ذلك. قال سليمان: أفلم أرك؟ قال: بلى. قال: فما أخرجك؟ والله إن لك لخبراً. قال: أجل، خبر ضخم العنق، إن فلاناً ظلمني في أرض بالحجاز لي، فاستعديت عليه الوالي على ناحيتنا، فمال علي له، فلم أرض بذلك، واستعديت عليه الوالي الأكبر، فمال علي، فلم أرض بذلك، وقدمت إليك فلم أجد أحداً إلا يميل له علي، فجعلت لخادمك هذا الذي جعلت له على أن يوصلني إليك، فلما أوصلني إليك رأيتك تخطر بأصبعك إلى السماء تطلب من الله حاجتك وتضرع إليه، فعقلت بفعلك موضع حاجتي، وعلمت أني أخطأت في طلبها، ولم آتها من الموضع الذي ينبغي، فرجعت أطلبها من الموضع الذي تطلب أنت حاجتك. فبكى سليمان ثم قال: إن الذي طلبت إليه حاجتك قد قضاها، وكتب إلى الأموي بكل ما أحب، وأمره برد ما يدعي عليه، وأعطاه أيضاً ما يصلح به ضيعته وذلك بعد ما وصله سليمان وكساه، وأمر له بفرائض.
رجل أجابه سليمان
وطلبه ليقتله فهرب، فجعلت رسله تختلف إلى منزله يطلبونه، فلم يظفر به، وجعل الرجل لا يأتي بلدة إلا قيل له: كنت تطلب ها هنا. فلما طال عليه(29/269)
الأمر، وخشي ألا يفلت قال: ما أجد شيئاً خيراً من أن أذهب إلى بلاد ليس فيها له مملكة. فأقبل إلى أهله فطرقهم ليلاً فدق الباب. فقالت المرأة: من هذا؟ قال: افتحي، أنا فلان. قالت: ويحك، وما جاء بك؟ فوالله ما نأمن ولا يأمن جيراننا، ولكن الحين جاء بك. ففتحت له، وأسرجت سريعاً، ونبهت له عياله وجاءته بعشاء فتعشى، وأرادها على نفسها، فلم تمتنع عليه فواقعها وقالت: يا جارية، ضعي لمولاك في المتوضأ سراجاً، وصبي له ماء، واذهبي إلى فلان وفلان: أربعة من جيرانها، ولا يعلم الرجل. فأتت أبوابهم فطرقتها، فقالوا ما لكم، أطرقكم الليلة أحد؟ قالت: لا. قالوا: فلأي شيء بعثتك؟ قالت: ما لي علم. فدق هذا على هذا، وأتوها، ودخلوا البيت فقام إليهم، واعتنقهم، وقالوا: ما جاء بك؟ فإنا ما نأمن منازلنا، ولكن الحين جاء بك. فقال:
يا قوم، لم آت بلدة إلا وجدتني أطلب فيها، فرأيت أن أدخل بلدة ليس له عليها مملكة، وجئت لأوصي هذه المرأة وصية الموت، لأني إن دخلت بلاداً غير بلاد الإسلام لم أقدر أن أخرج منها، فأوصيت إلها، وأشهدكم على ذلك. ثم ودعهم، وقاموا يخرجون. فقالوا: أيتها المرأة لأي شيء بعثت إلينا؟ فقالت: أليس تعرفون الرجل أنه زوجي؟ قالوا: بلى. قالت: فإنه قد كان منه الليلة ما يكون من الرجل إلى أهله، فاشهدوا على هذه الليلة، فإنه لا أدري ما يكون ها هنا وأشارت إلى بطنها فيقول الناس: من أين جاءت بهذا وزوجها غائب؟ فخرج القوم وهم يقولون: ما رأينا كاليوم امرأة أحسن عقلاً، ولا أقرب مذهباً. وودعوه، وخرج الرجل، ترفعه أرض وتضعه أخرى حتى ظن أنه قد خرج من مملكته. فبينا هو في صحراء ليس فيها شجر ولا ماء، إذا هو برجل يصلي. فقال: فخفته وقلت: هذا يطلبني، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: ما معه راحلة ولا دابة. فقصدت نحوه، فلما صرت بين كتفيه ركع ثم سجد ثم التفت إلي فقال: لعل هذا الطاغي أخافك؟ قلت: أجل، رحمك الله. قال: فما يمنعك من السبع؟ قلت: وما(29/270)
السبع يرحمك الله؟! قال: قل سبحان الله الواحد الذي ليس غيره إله، سبحان القديم الذي لا بادئ له، سبحان الدائم الذي لا نفاذ له، سبحان الدائم الذي كل يوم هو في شأن، سبحان الذي يحيي ويميت، سبحان الذي خلق ما يرى وما لا يرى، سبحان الذي علم كل شيء بغير علم. قال: قلها. فقلتها، وحفظتها، فألقى الله في قلبي الأمن، ورجعت من الطريق الذي جئت منه، فلم أر الرجل، وقصدت أهلي فقلت: لآتين باب سليمان بن عبد الملك، فأتيت بابه فإذا هو يوم إذنه للناس، فدخلت وهو قاعد على فرشه، فما عدا أن رآني، فاستوى على فرشه ثم أدناني حتى قعدت معه على الفراش، ثم قال: سحرتني؟ وساحر أيضاً مع ما بلغني عنك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، ما أنا بساحر ولا سحرتك. قال: فكيف؟ فما ظننت أن يتم ملكي إلا بقتلك، فلما رأيتك لم أستقر حتى دعوتك فأقعدتك على فرشي وهو يضرب بيده على فخذه ثم قال: اصدقني. فأخبرته بقصتي وخوفي، وأمري كله. فقال سليمان: الخضر والله علمكها، اكتبوا له أمانه، وأحسنوا جائزته، واحملوه إلى أهله.
رجل أرسل إليه عمر بن عبد العزيز
فقال: كيف الحديث الذي حدثتني عن الصنابحي؟ فقال: أخبرني الصنابحي أنه لقي عمرو بن عبسة فقال: هل من حديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا زيادة فيه ولا نقصان؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار، ومن رمى بسهم في سبيل الله بلغ أو قصر كان عدل رقبة، ومن شاب شيبة في سبيل الله كان له نوراً يوم القيامة.
شيخ ضرير من الجزيرة
من ملازمي المسجد. لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة خرج مما كان في يده القطائع، وكان في يده(29/271)
المكندس وجبل الورس باليمن وفدك وقطائع اليمامة، فخرج من ذلك كله ورده إلى المسلمين إلا أنه ترك عيناً بالسويداء كانت تأتيه غلتها كل سنة مئة وخمسين ديناراً، وأقل وأكثر، فذكر له يوماً مزاحم أن له نفقة أهله قد فنيت. فقال: حتى تأتي غلتنا، فقدم قيمه بغلته وبجراب صيحاني، وبجراب تمر عجوة، فنثره بين يديه، وسمع أهله بذلك، فأرسلوا ابناً له صغيراً فحفن له من التمر، فانصرف ولم ينشب أن سمعنا بكاءه، ويضرب، ثم أقبل يؤم الدنانير فقال: أمسكوا يديه. ورفع يديه فقال: اللهم، بغضها إليه كما حببتها إلى موسى بن نصير، ثم قال: خلوه. فكأنما يرى به عقارب. ثم قال: انظروا الشيخ الجزري المكفوف الذي يغدو إلى المسجد بالأسحار فخذوا له ثمن قائد لا كبير فيقهره ولا صغير فيضعف عنه. ففعلوا. ثم قال لمزاحم: شأنك بما بقي فأنفقه على أهلك.
رجل من بني مروان بن الحكم
قال عمر بن عبد العزيز لآذنه: لا يدخلن علي اليوم إلا مرواني، فلما اجتمعوا عنده، حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنكم يا بني مروان قد أعطيتم في الدنيا حظاً وشرفاً وأموالاً، إني لأحسب شطر مال هذه الأمة أو ثلثه في أيديكم، فردوا ما في أيديكم من هذا المال. فسكتوا. قال: ألا تجيبوني؟ فسكتوا. قال: ألا تجيبوني؟ فتكلم رجل من القوم قال: لا والله لا يكون ذلك أبداً حتى يحال بين رؤوسنا وأجسادنا، والله لا نكفر آباءنا ولا نفقر أبناءنا. قال عمر: أما والله لولا أن تستعينوا علي بمن أطلب هذا الحق له لأضرعت خدودكم، قوموا عني.(29/272)
مؤذن عمر بن عبد العزيز
حدث عن مسلم بن يسار عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا غضبت أخذ بأنفها وقال: يا عويش، قولي اللهم رب النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اغفر ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن.
رجل وفد على عمر بن عبد العزيز
قال: أتاني آت في منامي فقال لي: إذا قام أشج بني مروان فانطلق فبايعه فإنه إمام عدل. فجعلت أسأل كلما قام خليفة حتى قام عمر بن عبد العزيز، فأتاني ثلاث مرات في المنام، فلما كان آخر ذلك زبرني وأودعني، فرحلت إليه، فلما قدمت لقيته فحدثته الحديث فقال: ما اسمك؟ ومن أين أنت؟ وأين منزلك؟ قلت: بخراسان. قال: ومن أمير المكان الذي أنت به؟ ومن ديقك هناك ومن عدوك؟ فألطف المسألة، ثم حبسني أربعة أشهر. فشكوت إلى مزاحم، مولى عمر بن عبد العزيز فقال: إنه قد كتب فيك. قال: فدعاني بعد أربعة أشهر فقال: إني كتبت فيك فجاءني ما أسر به من قبل صديقك وعدوك، فبايعني على السمع والطاعة والعدل، فإذا تركت ذلك فليس لي عليك بيعة، فبايعته. قال: ألك حاجة؟ فقلت: لا. أنا غني في المال، إنما أتيتك لهذا. فودعته ومضيت. فقلت بيني وبين نفسي وهو يراني، وذكرت بعد أهلي وطول المسير إليهم فقلت: لو حملني على البريد. فالتفت، فرآني، فدعاني فقال: ألك حاجة؟ فقلت: نعم، شيء إن لم يثقل عليك؛ ذكرت بعد أهلي، وطول المسير فقلت: لو حملني على البريد. فقال: ما ذلك لك، ولا لنا. قال: فمكث هنية ثم قال: هل لك أن تعمل لنا عملاً وأحملك؟ فقلت: نعم. قال: لا تأت على عامل لنا إلا نظرت في سيرته، فإن كانت حسنة لم تكتب بها، وإن كانت قبيحة كتبت به. قال مزاحم: فما زال كتاب منه يجيئنا في عامل فنعزله حتى قدم خراسان.(29/273)
رجل من بني أسد
حرسي لعمر بن عبد العزيز قال: ما رأيت عمر قتل أسيراً قط إلا واحداً من الترك جيء بأسرى من الترك فأمر بهم أن يسترقوا، فقال رجل ممن جاء بهم: يا أمير المؤمنين، لو رأيت هذا لأحدهم وهو يفتك في المسلمين لكثر بكاؤك عليهم. فقال عمر: فدونك فاقتله. فقتله.
رجل من حرس عمر بن عبد العزيز
قال: خرج علينا عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة، فقمنا. فقال: إذا رأيتموني فلا تقوموا، ولكن توسعوا. ثم قال: أيعرف أحدكم فلان؟ فقلنا: كلنا نعرفه. قال: فليقم أحدثكم سناً، فقام أحدثنا سناً، فدعاه له، فجاء الرجل وقد تهيأ وشد عليه ثيابه. فقال عمر: إنا بعثناك في أمر عجلة من أمور المسلمين، فلا يحملك استعجالنا لك على أن تخرج حتى تصلي الجمعة، فإن اليوم الجمعة، وإذا حضرت الصلاة، فصلها لوقتها، فإنك لا محالة أن تصليها، وإن الله ذكر قوماً فقال: " أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً " ولم تكن إضاعتهم إياها أن تركوها، ولو تركوها لسماهم بتركها كفاراً.
شيخ حرسي لعمر بن عبد العزيز
قال: رأيت عمر حين ولي وبه من حسن اللون، وجودة الثياب والبزة، ثم دخلت عليه بعد وقد ولي فإذا هو قد احترق واسود، ولصق جلده بعظمه حتى ليس بين الجلد(29/274)
والعظم لحم، وعبيه قلنسوة بيضاء قد اجتمع قطنها، تعلم أنها قد غسلت، وعليه سحق إنبجانية قد خرج سداها وهو على شاذكونة قد لصقت بالأرض، تحت الشاذكونة عباءة قطوانية من مشاقة الصوف، فأعطاني مالاً أتصدق به بالرقة فقال: لا تقسمه إلا على نهر جار. فقلت له: يأتيني من لا أعرف، فمن أعطي؟ قال: من مد يده إليك.
حرسي لعمر بن عبد العزيز
دخل رسول لبعض الولاة على عمر بن عبد العزيز، ومعه حرسي لعمر، فجعل الرسول إذا كلم عمر كلمة زجره الحرسي وانتهره، حتى فرغ من قراءة كتابه فقال: كن قريباً. ثم دخل رسول آخر ومعه ذلك الحرسي، فكلم عمر، لا يندهه ولا يمنعه، حتى فرغ من قراءة كتابه فقال: كن قريباً، ثم أرسل عمر إلى رسول الأول فقال له: أرأيت الحرسي الذي كان دخل معك، هل تعرفه؟ قال: لا. قال: إن الله قد أفطنني لمنعه إياك من الكلام فنفعك ذلك ولم يضرك، فارفع إلي حاجتك. فلم يسأله شيئاً إلا أعطاه إياه، ثم أرسل إلى الرسول الثاني فقال: هل بينك وبين الحرسي الذي دخل معك معرفة؟ قال: نعم، هو صديقي وجاري. قال: أما أنه قد حاباك، وجهد أن ينفعك فألقي في روعي لا تصيب مني شيئاً، فلولا أن تكون مني مراغمة في منع رزق، لم تصب مني شيئاً، وسآمر لك بمعروف. ثم أرسل إلى الحرسي فقال: ويلك، وليت أمر رجلين بين يدي فلم تعدل بينهما، فكيف الأمر على ما ابتليت به؟ فاختر مني أحد أمرين: إما أن تأذن لي قألقبك لقباً، وإما أن أمحوك من الحرس. قال: بل تعفيني. قال: لا. قال: فإني أختار أن تلقبني. فسماه الجانف، فكان إذا رآه يقول: ادعوا لي الجانف، فيقول: يا أمير المؤمنين! فيقول: ما سببت، هو شرطي عليك. فلم يزل كذلك حتى مات.(29/275)
رجل من حرس عمر بن عبد العزيز
قال: بينما عمر يسير على بغلته بخناصرة إذ جاء رجل متزر ببرد، متعصب بآخر حتى أخذ بلجام بغلته، ما ينهنهه أحد فقال: من البسيط
تدعون حران مظلوماً ليأتيكم ... فقد أتاكم لعند الدار مظلوم
فقال: ممن أنت؟ قال: من حضرموت. قال: ما ظلامتك؟ قال: أرضي، وأرض آبائي أخذها الوليد وسليمان فأكلاها. فنزل عمر عن دابته يتكئ حتى جلس بالأرض. فقال: من يعلم ذلك؟ قال: أهل البلد قاطبة. قال: يكفيني من ذلك شاهدا عدل. اكتبوا له إلى بلاده، إن أقام شاهدي عدل على أرضه وأرض آبائه وأجداده، فادفعوها إليه، فحسب الوليد وسليمان ما أكلا من غلتها. فلما ولى الرجل قال: هل هلكت لك من راحلة، أو أخلق لك من ثوب، أو نفد لك من زاد، أو تخرق لك من حذاء؟ فحسب ذلك، فبلغ اثنتين وثلاثين ديناراً أو ثلاثة وثلاثين ديناراً. فأتى بها من بيت المال، فكأني أنظر إليها تعد في يده.
رجل ممن كان في جيش مسلمة
ابن عبد الملك في غزوة القسطنطينية. وفد على عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين إن بلائي كذا، ومن أمري كذا. فالتفت إلى بعض جلسائه فقال: أما يريد هؤلاء أن يسبقوا لآخرتهم شيئاً؟!
رجل من العلماء
قدم على عمر بن عبد العزيز. فقال: الصامت على علم كالمتكلم على علم. فقال عمر:(29/276)
إني لأرجو أن يكون المتكلم على علم أفضلهما يوم القيامة حالاً وذلك أن منفعته للناس، وهذا صمته لنفسه. قال: يا أمير المؤمنين، وكيف بفتنة المنطق؟ فبكى عمر بكاء شديداً.
خصي لعمر بن عبد العزيز
حدث أن عمر لم يغتسل بداره قط إلا بمئزر.
مولى لعمر بن عبد العزيز
حدث عن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " يوم يكشف عن ساق " قال: عن نور عظيم، يخرون له سجداً.
رجل سمع عمر بن عبد العزيز
وهو خليفة في يوم فطر على المنبر يقول: إن شعار هذا اليوم التحميد والتكبير والتكبير والتمجيد. ثم كبر مراراً، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، ثم يشهد للخطبة، ثم يفصل بين التشهد والتكبير.
أعرابي دخل على عمر
فقال: رجل من أهل البادية، ساقته الحاجة، وانتهت به الفاقة، والله سائلك عن مقامي هذا. فقال عمر: ما سمعت كلمات أبلغ من قائل، ولا أبلغ لمقول منها.
شيخ حد في الشراب
قال عمر بن عبد العزيز: لأجلدن في الشراب كما فعل جدي عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. ثم أمر صاحب عسسه وضم إليه صاحب خبره، وقال لهما: من وجدتماه سكران(29/277)
فأتياني به. فطافا ليلتهما حتى انتهيا إلى بعض الأسواق، فإذا هما بشيخ حسن الشيبة، بهي المنظر، عليه ثياب حسنة، متلوث في أثوابه سكران وهو يتغنى: من الطويل
سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني لغنت
فحركاه بأرجلهما وقالا له:
يا شيخ، ما تستحي بهذه الشيبة الحسنة من مثل هذه الحال؟ فقال: ارفقا بي، فإن لي إخواناً أحداث الأسنان شربت عندهم ليلتي هذه، فلما عمل الشراب في أخرجوني، فإن رأيتما أن تعفوا عني فافعلا فقال صاحب العسس لصاحب الخبر: اكتم علي أمره حتى أطلقه. قال: قد فعلت. قال: انصرف يا شيخ ولا تعد. فقال: نعم، وأنا تائب، فلما كان في الليلة الثانية وجدا الشيخ على حاله وهو يتغنى: مجزوء الخفيف
إنما هيج البلا ... حين عض السفرجلا
فرماني وقال لي ... كن بعيني مبتلى
ولقد قام لحظه ... لي على القلب بالقلى
فحركاه بأرجلهما وقالا له: يا شيخ، أين التوبة منك؟ فقال: ارفقا بي واعلما أن إخواني الذين ذكرتهم لكما البارحة حلفوا لي في يومهم هذا أنه متى عمل الشراب لا يخرجوني، فعمل فيهم وفي فخرجت وهم لا يعلمون، فإن رأيتما أن تزيدا في العفو فافعلا. فقال صاحب العسس لصاحب الخبر: اكتم علي أمره حتى أطلقه. قال: قد فعلت. قال: انصرف. فلما طافا في الليلة الثالثة وجداه على حاله يتغنى: من الخفيف
ارض عني فطالما قد سخطتا ... أنت ما زلت جافياً مذ عرفتا
أنت ما زلت جافياً لا وصولاً ... بل بهذا فدتك نفسي ألفتا
ما كذا يفعل الكرام بنو النا ... س بأحبابهم فلم كنت أنتا
فحركاه بأرجلهما وقالا: هذه الثالثة ولا عفو. قال: أخطأتما، فإني رويت بسندي إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من شرب الخمر لم تقبل صلاته أربعين ليلة، فإن تاب تاب الله عليه. فإن شربها الثانية لم تقبل له صلاة أربعين ليلة فإن تاب تاب الله(29/278)
عليه فإن شربها الثالثة لم تقبل صلاته أربعين ليلة، فإن تاب تاب الله عليه فإن شربها الرابعة لم تقبل صلاته أربعين ليلة، ثم تاب لم يتب الله عليه، وكان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال. قيل: وما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار في النار.
قال: فعفو من الثالثة واجب، ومن الرابعة غير واجب. فقال صاحب العسس لصاحب الخبر: اكتم علي أمره حتى أطلقه. قال: قد فعلت. قال: انصرف. فلما كان في الليلة الرابعة وجداه على حاله يتغنى: من البسيط
قد كنت أبكي وما حنت لهم لإبل ... فما أقول إذا ما حمل الثقل
كأنني بك نضو لا حراك به ... تدعى وأنت عن الداعين في شغل
فقلبوك بأيديهم هناك وقد ... سارت بأجمالك المهرية الذلل
حتى إذا استيأسوا من أن تجيبهم ... غطوا عليك وقالوا قد قضى الرجل
هذه الرابعة ولا عفو. قال: لست أسألكما عفواً بعدها، فافعلا ما بدا لكما، فحملاه فأوقفاه بحضرة عمر بن عبد العزيز، وقصا عليه قصته من أولها إلى آخرها، فأمر عمر رضي الله عنه باستنكاهه فوجد منه رائحة، فحبسه حتى أفاق، فلما كان في الغد أقام عليه الحد، فجلده ثمانين جلدة. فلما فرغ قال له عمر: أنصف يا شيخ من نفسك ولا تعد. قال: يا أمير المؤمنين، قد ظلمتني لأنني عبد، وحددتني حد الأحرار. فاغتم عمر. فقال: أخطأت علينا وعلى نفسك، أفلا أخبرتنا أنك عبد فنحدك حد العبيد؟ فلما رأى اهتمام عمر به رد عليه وقال: لا يسوءك الله يا أمير المؤمنين، ليكن لي بقية هذا الحد سلفاً عندك، لعلي أرفع إليك مرة أخرى. فضحك عمر حتى استلقى على مسنده، وكان قليل الضحك، وقال لصاحب عسسه وصاحب خبره: إذا رأيتما مثل هذا الشيخ في هيئته وعلمه وفهمه وأدبه فاحملا على أمره الشبهة، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ادرؤوا الحدود بالشبهة.(29/279)
شاب
دخل قوم على عمر بن عبد العزيز يعودونه في مرضه، وإذا فيهم شاب داثر ناحل الجسم فقال له عمر: ما الذي بلغ بك ما أرى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أمراض وأسقام. قال: سألتك بالله إلا صدقتني. فقال: يا أمير المؤمنين، ذقت حلاوة الدنيا فوجدتها مرة، فصغر في عيني زهرتها وحلاوتها، واستوى عندي حجرها وذهبها، وكأني أنظر إلى عرش ربي، والناس يساقون إلى الجنة والنار، فأظمأت لذلك نهاري، وأسهرت ليلي، وقليل حقير كل ما أنا فيه في جنب ثواب الله وعقابه.
فتى من الأنصار
دخل على عمر بن عبد العزيز شيخ جليل فقال: يا أمير المؤمنين، إني دخلت مصر مع مروان، وغزوت دير الجماجم، وغزوة كذا وغزوة كذا، فتأمر لي بشيء؟ فقال: اجلس أيها الشيخ. قال: ويثور عند الشيخ يكلمه غلام من الأنصار فقال: يا أمير المؤمنين، أنا فلان بن فلان، أبي ممن شهد العقبة وبدراً وأحداً. وذكر مغازي فقال عمر: أين الشيخ؟ فقال: ها هو ذا. فقال: هذه المكارم، لا ما يعده الشيخ منذ اليوم: من البسيط
تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ ... شيباً بماء فصارا بعد أبوالا
قال: هذا الأنصاري هو رجل من ولد قتادة بن النعمان، كما روي أنه وفد على عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: من الرجل؟ قال: من الطويل
أنا ابن الذي سالت على أحد عينه ... فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فعادت كما كانت لأول عهدها ... فيا حسن ما عيني ويا طيب ما يد(29/280)
قال عمر بن عبد العزيز: من البسيط
تلك المكارم لا قعبان من لبن البيت
شاب من الكوفة
كان لفاطمة ابنة عبد الملك، زوجة عمر بن عبد العزيز جارية ذات جمال فائق، وكان عمر معجباً بها قبل أن تفضي إليه الخلافة، فطلبها منها، وحرص، فأبت عليه، وغارت من ذلك، وبقيت في نفس عمر. فلما استخلف أمرت فاطمة فأصلحت الجارية وحليت، وكانت حديثاً في حسنها وجمالها، ثم قالت فاطمة: يا أمير المؤمنين، كنت معجباً بجاريتي فلانة وكنت سألتنيها ومنعتكها، وقد طابت نفسي لك بها، فدونكها. فاستبانت الفرح في وجهه وقال: ابعثي بها إلي. ففعلت، فأعجب بها وقال لها: ألقي ثوبك، فلما همت أن تفعل قال لها: على رسلك، أخبريني لمن كنت؟ ومن أين أبت لفاطمة؟ قالت: كان الحجاج أغرم عاملاً من أهل الكوفة مالاً، وكنت في رقيق ذلك العامل، فاستصفاني عنه مع رقيق له وأموال، فبعث بي إلى عبد الملك وأنا يومئذٍ صبية، فوهبني عبد الملك لابنته فاطمة. قال: وما فعل العامل؟ قالت: هلك. قال: فترك ولداً؟ قالت: بلى. قال: وما حالهم؟ قالت: سيئة. قال: شدي عليك ثوبك. ثم كتب إلى عبد الحميد، عامله، أن سرح إلي فلان بن فلان على البريد. فلما قدم، قال: ارفع إلي جميع ما أغرم الحجاج أباك. فلم يرفع إليه شيئاً إلا دفعه إليه، ثم دفع الجارية إليه، فلما أخذ بيدها، قال: إياك وإياها، فإنك حديث السن، ولعل أباك أن يكون قد وطأها. فقال الغلام: يا أمير المؤمنين، هي لك. قال: لا حاجة لي فيها. قال: فابتعها مني. قال: لست إذن ممن ينهى النفس عن الهوى. فمضى بها الفتى، فقالت الجارية: أين موجدتك بي يا أمير المؤمنين؟ قال: إنها لعلى حالها، ولقد ازدادت. فلم تزل الجارية في نفس عمر حتى مات، رحمه الله.(29/281)
رجل من مزينة
كانت عند قطيفة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما استخلف عمر بن عبد العزيز أرسل إليه فأتى بها في أديم أحمر، فجعل يمسح بها وجهه.
شاب من أهل العراق
وفد وفد على عمر بن عبد العزيز وفيهم شاب، فتكلم الشاب، فنظر إليه عمر فحدد النظر، ثم قال: الكبر، الكبر. قال الشاب: يا أمير المؤمنين، ليس بالكبر ولا بالصغر، ولو كان بالكبر لقد كان في الناس من هو أكبر منك. قال: صدقت، فتكلم. قال: ما جئناك لرغبة ولا لرهبة. فنظر إليه عمر أيضاً فقال: أما الرغبة فقد أتتنا في منازلنا، وأما الرهبة فقد أمنا جورك، ولكنا وفد الشكر. فسري عن عمر وقال: يا فتى، أرى لك عقلاً، فعظني. قال: إن قوماً اغتروا بالله فيك فأثنوا عليك مما ليس فيك، فلا يغررك اغترارهم بالله فيك مع ما تعرفه من نفسك. فبكى عمر حتى سقط. وفي آخر بمعناه: فقال له: عظني فقال: إن من الناس ناساً غرهم الأمل، وأفسدهم ثناء الناس عليهم، فلا يغرنك من اغتر بالله فيك، فمدحك بما علم الله خلافه؛ وما قال رجل في رجل شيئاً إذا رضي إلا وهو يقول فيه على حسب ذلك إذا سخط. فتهلل وجه عمر وقال: من الطويل
تعلم فليس المرء يولد عالماً ... وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفت عليه المحافل(29/282)
رجل أنصاري
قال إسماعيل بن أبي حكيم: لما مات سليمان بن عبد الملك انطلقت أنا ومزاحم إلى نفقة كانت لعمر بن عبد العزيز في رحله فغيبناها، ثم أقبلت أريد المسجد، فلقيني رجل فقال: هذا صاحبك يخطب الناس. فقلت: خليفة؟ قال: خليفة. فانتهيت إليه وهو على المنبر، فكان أول ما سمعته يقول: يا أيها الناس، إني والله ما سألتها الله في سر ولا علانية قط، فمن كره منكم فأمره إليه. فقال رجل من الأنصار: يا أمير المؤمنين، ذلك والله أسرع فيما تكره، ابسط يدك فلنبايعك. فكان أول من بايعه الأنصاري هذا. ومشى عمر في جنازة سليمان، فلما فرغ من دفنه أتى بمراكب الخلفاء فلم يركب شيئاً منها، وقال: بغلتي؟ فركض إنسان إلى العسكر، وقعد عمر حتى جيء ببغلته، فركبها ورجع. وقد كان سليمان أمر أهل مملكته أن يقودوا الخيل بسبق بينهم، فمات قبل أن يجري الحلبة، فأبى عمر أن يجريها، فقيل له: يا أمير المؤمنين، تكلف الناس مؤونات كبيرة، وقادوها من بلاد بعيدة، وفي ذلك غيظ للعدو، ولم يزالوا حتى أجرى الحلبة، وأعطى السابقين ولم يخيب المسبوقين، بل أعطاهم دون ذلك، وكان الناس لقوا جهداً من القسطنطينية من الجوع فأقفل الناس، وبعث إليهم بالطعام.
رجل من البصرة
وفد لأهل البصرة على عمر بن عبد العزيز، فلما أتاه قال له: ما بك؟ قال: يا أمير المؤمنين، أتيتك مستجيراً. قال: لماذا؟ قال: كبير بالعذبة، قال: وأين العذبة؟ قال: على منزلتين من البصرة. قال: فقد أخفرتك، على أن أول وارد ابن سبيل قال: ثم دنت الجمعة، فقربت من المنبر فلما صعده، حمد الله وأثنى عليه ثم قال:(29/283)
يا أيها الناس، إنكم ميتون، ثم إنكم مبعوثون، ثم إنكم محاسبون، فلئن كنتم صدقتم لقد قصرتم، ولئن كنتم كذبتم لقد هلكتم. يا أيها الناس، إن من يكون له رزق بحضيض الأرض أو بنبوة جبل يأتيه، فأجملوا في الطلب. ثم نزل.
رجل من عمال الحجاج
استعمله عمر بن عبد العزيز، وبلغه أنه كان عاملاً للحجاج فعزله، فجاءه يعتذر إليه، ويقلل ما عمل، فقال له عمر: حسبك من صحبة شر وشؤم يوماً أو بعض يوم.
أعرابي من كلب
قال الأصمعي: أراد عمر بن عبد العزيز أن يمنع الحلبة، فقيل له: سوق من أسواق العرب. قال: فتركها أربأ بها. فلما أرسلت الخيل أقبل أعرابي على فرس وهو يقول: من الرجز
غاية مجد رفعت فمن لها ... نحن احتويناها وكنا أهلها
لو تسفل الطير لجئنا قبلها فعثرت فرسه، فسقط، وتقدمه رجل من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه بفرسه. فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين، قد رأيت ما جرى. قال: قد رأيت، سبقني وإياك رجل كان أبوه سباقاً إلى الخير، رحمة الله عليه.(29/284)
رجل
قال في أثناء حديثه: إن أهل حمص رفعوا قصة إلى عمر بن عبد العزيز: إن مدينتنا قد خرب حصنها. فوقع في قصتهم إلى الأمير: ابنها بالعدل، ونق طرقاتها من الأذى.
رجل
وفد على عمر بن عبد العزيز. صلى عمر ذات يوم، فلما ذهب ليدخل، هتف به هاتف: يا أمير المؤمنين. فأقبل عليه مذعوراً فقال: ما شأنك؟ أتعذر عليك حجابي أو قال: آذني؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، ولكني قدمت الساعة، وجئتك مبادراً قال: مبادراً ماذا؟ قال: أن تسبقني بنفسك. قال: ولم؟ قال: لأني رأيت الخير سريع الذهاب. فجلس عمر وقال: حاجتك؟ فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، اذكر لمقامي هذا مقاماً لا يشغل الله عنك فيه كثرة من تخاصم إليه من الخلائق يوم تلقاه بلا ثقة من العمل، ولا براءة من الذنب. قال: فاستبكى أو قال: بكى ثم قال: حاجتك؟ فأخبره بحاجته.
رجل من أهل المدينة
حدث عن أبيه أنه قدم مع محمد بن كعب القرظي على عمر بن عبد العزيز. فكان فيما ذاكرنا به أن قال لمحمد: يا أبا حمزة، ما ضر أخاك بسر بن سعيد التقلل والانقطاع الذي كان فيه. ثم بكى بكاءً شديداً حتى قلت: الآن يسقط. ثم قال: أما والله، لئن كان بسر صبر على القلة والعبادة، لقد صبر على معرفة وعلم بما صبر عليه.(29/285)
أعرابي
جاء إلى عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين، جاءت بي الحاجة، وانتهت الغاية، والله سائلك عما أقول. فقال له عمر: أعد علي ما قلت. فأعاد عليه، فنكس عمر رأسه، وأرسل عينيه حتى ابتلت الأرض بدموعه، ثم قال له: ما عيالك؟ قال: أنا وثلاث بنات لي. ففرض له في ثلاث مئة، وفرض لبناته لكل واحدة مئة درهم، وأعطاه مئة درهم. قال: هذه لك، وإذا خرج عطاء المسلمين أخذت معهم.
أعرابي شاعر
سرق سرقة في خلافة عمر بن عبد العزيز، فأمر عمر بقطع يده، فقال: يا أمير المؤمنين، اسمع مقالي، ثم افعل ما ترى. فقال له: قل، فأنشأ يقول: من الطويل
يميني أمير المؤمنين أعيذها ... بعفوك أن تلقى نكالاً يشينها
ولا خير في الدنيا ولا في نعيمها ... إذا ما شمال فارقتها يمينها
ولو أن أهلي يعلمون لسيرت ... إليك المطايا عينها وقطينها
فقال: يا أعرابي، هذا حد من حدود الله، وتركه ذنب. فقال: يا أمير المؤمنين، اجعل هذا من الذنوب التي تستغفر الله منها. فأمر بتخليته.
رجل من أهل اليمامة
أتى عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد بلغت غايتي، والله سائلك عن مقامي هذا. قال: قل. قال: عاملك باليمامة غصبني حقي، واعتدى علي في إبلي. قال: فإن الله قد عزل عنك العامل، ورد عليك ظلامتك. يا غلام، اكتب إليه. فخرج الأعرابي وهو يقول: من الرجز
يا أيها المظلوم في بلاده ... ائت الأمير عمراً فناده(29/286)
خليفة الله على عباده ... لم يؤثر الدنيا على معاده
قد أشبه الفاروق من أجداده
شاعر
رثى عمر بن عبد العزيز. لما شكى عمر شكواه الذي هلك فيه قال: اشتروا من الراهب موضع قبري. فاشتري منه موضع قبره بستة دنانير، فقام الشاعر يرثيه: من البسيط
قد غادر القوم في اللحد الذي لحدوا ... بدير سمعان جريان الموازين
أقول لما نعى لي ناعياً عمراً ... لا يبعدن قضاء العدل والدين
بعض آل المهلب
قال يزيد بن عبد الملك لبعض ولد المهلب حين أتى بهم أسرى: كيف رأيتم الله صنع بكم؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، قوم زرعتهم الطاعة وحصدتهم المعصية.
شاعر
مات خليفة ليزيد بن عبد الملك فقال: هل ترك من خلف؟ قالوا: ترك ابناً له. فأدخل عليه فقال: يا بني، إلى من أوصى بك أبوك؟ فأطرق ساعة حتى ظن يزيد أنه قد أفحم، ثم رفع رأسه وقال: من الخفيف
إن مثلي يوصي الرجال إليه ... ليس مثلي يوصي به الآباء
إنني والذي يحج له النا ... س ومن دون بيته البيداء(29/287)
لملي بما يؤمل في المر ... ء وإن كان في أخيك فتاء
فأمر له يزيد بأرزاق أبيه.
شيخ من ثقيف
من أهل الحجاز، وفد على الوليد بن يزيد وهو ولي عهد في خلافة هشام. قال طريح بن إسماعيل الثقفي: كنت عند الوليد، فدعا بالشطرنج فأخذت معه فيها، فدخل الآذن فقال: بالباب
رجل من أخوالك له نبل وهيئة يستأذن، فقال: أما هذا الوقت فلا، فإني مقبل على ما ترى. فقلت له: سبحان الله! يأتيك رجل من أخوالك مسلماً فتحجبه؟ قال: كيف بنا ونحن على هذه الحال؟ فقلت: ترفع الشطرنج، وتأذن له. فقال: ذاك لما اتجهت عليك! فقلت: يغطى بمنديل وتنحرف، ويدخل لحظة وينصرف. ففعل، وأذن له. فدخل رجل جسيم معتم على قلنسوة مشرفة، مشمراً ثيابه في زي الفقهاء، بين عينيه سجادة فسلم، وجلس، وقال: أيها الأمير، خرجت من المدينة أريد عسقلان للرباط بها، فأحببت أن أؤدي حق القرابة والرحم. فقال له الوليد: يا خال، كيف حفظك لمغازي أهل بلدك، لعلك تفيدنا منها أحرفاً. قال: ما أحفظ منها شيئاً. قال: فكيف علمك بالسنة ونظرك في الفرائض؟ قال: ما نظرت في شيء من ذلك. قال: فكيف روايتك لشعر قومك، وغيرهم من الشعراء؟ قال: ما أروي منه شيئاً. قال: فكيف علمك بأيام العرب، وأخبارها؟ قال: قد أغفل خالك ذلك. قال: فعسى أن يكون همك مصروفاً إلى معنى آخر من مفاكهات أهل المدينة ومزاحاتهم؟ قال: خالك يربأ بنفسه عن ذلك. قال الوليد: يا غلام، ارفع المنديل. العب يا طريح، فليس معنا أحد.
رجل
أتى هشام بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عبد الملك أقطع جدي قطيعةً، فأقرها الوليد وسليمان، حتى إذا استخلف عمر رحم الله عمر نزعها. قال: إن فيك(29/288)
لعجباً، إنك تذكر من أقطع جدك، ومن أقرها في يده، فلا ترحم عليه، وتذكر من نزعها فترحم عليه؟ قم، فإنا قد أمضينا ما صنع عمر، رحم الله عمر.
أعرابي
وفد على هشام بن عبد الملك يتظلم من بعض عماله فقال: إن فلاناً ممن رفعت خسيسته، وأثبت ركنه، وأعليت ذكره، وأمرته بنشر محاسنك، فطواها، وإظهار مكارمك، فأخفاها، وعمد إلى أمورك في رعيتك فتعداها، استخفافاً بالحرمة، وقلة شكر النعمة، قد أخرب البلاد، وأضاع الأجناد، وأظهر الفساد، وأخرج الناس من سعة العدل إلى ضيق الجور، حتى باعوا الطارف والتلاد، وهموا ببيع النسل والأولاد. فقال هشام: يا أعرابي، أحقاً ما تقول؟ قال: نعم، والذي بلغك أعلى مراتب الشرف، والله لو كان على سويقة من أسواق البحرين ما أجزأها، مع أنه يخلط ذلك بلؤم الحسب وذفر النسب وسوء الأدب.
رجل من جلساء هشام
ابن عبد الملك. قال العتبي: كان عند خالد بن عبد الله ذات ليلة فقهاء من أهل الكوفة، فيهم أبو حمزة الثمالي. قال خالد: حدثني حديثاً كحديث عشيق ليس فيه فحش. فقال أبو حمزة: زعموا أنه ذكر عند هشام بن عبد الملك غدر النساء وسرعة تزويجهن فقال هشام: يبلغني من ذلك العجب. فقال بعض جلسائه: أنا أحدثك عما بلغني. كان رجل يقال له غسان بن جهضم بن العذافر، كانت تحته ابنة عم له يقال لها أم عقبة بنت عمرو بن الأبجر، وكان لها محباً، وهي له كذلك، فلما حضره الموت، وظن أنه مفارق الدنيا قال ثلاثة أبيات، ثم قال: يا أم عقبة، اسمعي ما أقول، وأجيبيني بحق، فقد تاقت نفسي إلى مسألتك عن نفسك بعد ما تواريني التراب. فقالت: قل، فوالله لا أجيبك بكذب، ولأجعلنه آخر حظك مني. فقال وهو يبكي بكاء يمنعه من الكلام: من الخفيف(29/289)
أخبريني ماذا تريدين بعدي ... والذي تضمرين يا أم عقبه
تحفظيني من بعد موتي لما قد ... كان مني من حسن خلق وصحبه
أم تريدين ذا جمال ومال ... وأنا في التراب في سجن غربه
فأجابته ببكاء وانتحاب: من الخفيف
قد سمعنا الذي تقول وما قد ... خفته يا غسان من أم عقبه
أنا من أحفظ النساء وأرعاه ... لما قد أوليت من حسن صحبه
سوف أبكيك ما حييت بشجو ... ومراث أقولها وبندبه
فلما قالت ذلك طابت نفسه، وفي النفس ما فيها فقال: من الخفيف
أنا والله واثق بك لكن ... ربما خفت منك غدر النساء
بعد موت الأزواج يا خير من عو ... شر فارعي حقي بحسن الوفاء
إنني قد رجوت أن تحفظي العه ... د فكوني إن مت عند الرجاء
ثم مات، فلم تلبث بعده إلا قليلاً، وخطبت من كل جانب، ورغب فيها الأزواج لاجتماع الخصال الفاصلة فيها، من العقل والجمال والعفاف والحسب، فأجابتهم: من الطويل
سأحفظ غساناً على بعد داره ... وأرعاه حتى نلتقي يوم نحشر
وإني لفي شغل عن الناس كلهم ... فكفوا، فما مثلي بمن مات يغدر
سأبكي عليه ما حييت بعبرة ... تجول على الخدين مني فتكثر
فأيس الناس من إجابتها، ومرت بها الأيام فنسيت عهده وقالت: من مات فات. فأجابت بعض خطابها، فتزوجها، فلما دخلت عليه جاءها غسان في النوم فقال: من الطويل
غدرت ولم ترعي لبعلك حرمة ... ولم تعرفي حقاً ولم تحفظي عهدا
ولم تصبري حولاً حفاظا لصاحب ... حلفت له يوماً ولم تنجزي وعدا(29/290)
غدرت به لما ثوى في ضريحه ... كذلك ينسى كل من يسكن اللحدا
فانتبهت مرتاعة، مستحيية منه، كأنه بات معها في البيت، وأنكر ذلك من حضرها من نسائها، فقلن: ما دهاك؟ فقالت: ما ترك غسان لي في الحياة إرباً، ولا بعده رغبة في سرور، أتاني في منامي الساعة فأنشدني كذا وكذا. وهي تبكي بدمع غزير، فلما سمعن منها، أخذن في حديث آخر لتنسى ما هي فيه، فتغافلتهن، ثم قامت فلم يدركنها حتى ذبحت نفسها حياء مما كادت تركب بعده من الغدر به. فقالت امرأة منهن: بلغنا أن امرأة أتاها زوجها في المنام فلامها وأنبها في مثل هذا، فأما القتل فما سمعنا به، وكانت قائلة هذا صاحبة شعر ورجز فقالت: من المجتث
ماذا صنعت وماذا ... لقيت من غسان
قتلت نفسك حزناً ... يا خيرة النسوان
وفيت من بعد ما قد ... هممت بالعصيان
إن الوفاء من الل ... هـ لم يزل بمكان
فلما بلغ زوجها، ويقال له المقدام بن حبيش وكان أعجب بها فقال: ما كان لي مستمتع بعد غسان، وقال: هكذا فليكن النساء في الوفاء، وقل من يحفظ ميتاً، وإنما هي أيام قلائل حتى ينسى وعنه يسلى فقال هشام: صدق وبر، لجاد ما أدركه عقله، وحسن عزاؤه حين فاتته طلبته، وأحسنت المرأة ووفت، وأحسن الرجل وصبر.
شيخ من الشام
كان في صحابة هشام بن عبد الملك. سأله أبو جعفر المنصور عن تدبير هشام في بعض حروبه للخوارج، فوصف الشيخ له فقال: فعل رحمه الله كذا، وصنع رحمه الله كذا، قال له المنصور: قم، عليك لعنة الله، تطأ بساطي، وتترحم على عدوي؟ فقام وهو يقول: إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلا غاسلي. فقال له المنصور: ارجع يا شيخ. فرجع فقال: أشهد أنك نهيض(29/291)
حر، وغراس شريف، عد إلى حديثك. فعاد الشيخ في حديثه. فلما فرغ دعا له بمال فأخذه وقال: يا أمير المؤمنين، ما بي حاجة إليه، ولقد مات من كنت في ذكره، فما أحوجني إلى وقوف في باب أحد بعده، ولولا جلالة أمير المؤمنين وإيثار طاعته ما لبست لأحد بعده ثوباً. فقال له المنصور: مت إذا شئت، لله أنت، فلو لم يكن لقومك غيرك كنت قد أبقيت لهم مجداً مخلداً، وذكراً باقياً. وقيل: إن الربيع هو الذي قال له: كم تترحم على عدو أمير المؤمنين!! فقال له الرجل: مجلس أمير المؤمنين أحق المجالس بشكر المحسن، ومجازاة المجمل. فقال له المنصور: أحسنت بارك الله عليك، وبحسن المكافأة تستحق الصنائع وتزكو العوارف. ثم أدخله في خاصته.
رجل من أصحاب هشام
قال الزهري: لقد تكلم اليوم رجل عند أمير المؤمنين، ما سمعت كلاماً أحسن منه. قال له: يا أمير المؤمنين، اسمع مني أربع كلمات فيهن صلاح دينك وملكك وآخرتك ودنياك. قال: ما هن؟ قال: لا تعدن أحداً عدة وأنت لا تريد إنجازها، ولا يغرنك مرتقى سهل إذا كان المنحدر وعراً، واعلم أن للأعمال آخراً فاحذر العواقب، وأن الدهر تارات فكن على حذر.
رجل علوي
كان فصيح اللسان، بليغاً، استأذن على هشام بن عبد الملك فأذن له، وهو في موضع مشرف، وأمر أن يعجل به ليقطعه ذلك عن بلاغته، فلما دخل على هشام سلم. فقال: إيها تكلم. قال: حتى يذهب عني بهر الدرجة، وبهجة الخلافة.(29/292)
أعرابي من بني أسد
دخل على هشام بن عبد الملك فسلم ثم قال: يا أمير المؤمنين، أتت علينا سنون ثلاث ذهبت بالأموال، ونحتت القلوب، وأما الأولى فأذابت الشحم، وأما الثانية فنخصت اللحم، وأما الثالثة فهاضت العظم، وفي يديك فضول أموال، فإن تك لله فبثها في عباد الله، وإن تك لهم، ففيم تحبسها عنهم؟ وإن تك لك فتصدق علينا، إن الله يجزي المتصدقين، فأمر له بعشرة آلاف درهم. فقال: والله لا أقبلها، لبئس وافد القوم أنا إذاً إن ذهبت إلى قومي غنياً وهم فقراء. فكتب هشام إلى خالد بن عبد الله القسري يحمل إلى البادية ما يكتفون به. وقيل: إن الأعرابي قال وقد أمر له هشام بمال، وقسم بين الناس مالاً فقال: أكل المسلمين له مثل هذا؟ قال: لا يقوم بذلك بيت المال. قال: فلا حاجة لي فيما آخذ من بيت مال المسلمين، ولا يأخذه غيري. فمضى وتركه.
رجل
بلغ هشام بن عبد الملك عنه كلام فأتى به فتكلم بحجته فقال هشام: أو تتكلم أيضاً؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل يقول: " يوم تأتي كل نفسٍ تجادل عن نفسها " أفنجادل الله جدالاً ولا تكلم أنت كلاماً؟! قال: تكلم بما أحببت.
شيخ راجز
من بني والبة من بني أسد. قال محمد بن حرب الهلالي: خرجت أريد مكة، فنزلت بحي من بني أسد، ثم من بني(29/293)
والبة، فإذا أنا بشيخ كبير السن، حسن اللباس، فسألته عن سنه، فقال: خلفت مئة وعشرين سنة. فسألته عن طعمه. فقال: ما أزيد على الصبوح والغبوق شيئاً. فسألته عن الباه فقال: أيهات، وفدت على هشام وهو في رصافته، فسألني عن طعمي، فقلت: الصبوح والغبوق، وسألني عن الباه، فقلت: إن لي لثلاث نسوة، بت عند إحداهن ليلة، وأصبحت غادياً إلى الأخرى وفي رأسي أثر الغسل، فقالت: امط عني، أفرغت ما في صلبك. فقلت: لأوفينك ما وفيتها. فلاعبتها وتوركتها، فلما أردت الإنزال أخرجته وأمسكته، فنزا الماء حتى حاذى رأسها، فقلت: أيكون هذا ممن أفرغ ما في صلبه؟ ثم تناولت عشر حصيات، فكلما صرت إلى الفراغ ناولتها حصاة، حتى أتيت على العشر، فسألتها: كم في يدك؟ فقالت تسع. فقلت: لا، بل عشر. فقالت: لا أحسب لك ما لم تصل إلي. فضحك هشام حتى استلقى على فراشه. ثم إني سألته: كيف أنت اليوم؟ فقال: إني لأظل اليومين والثلاثة، وما في الثاني طائل ثم ضرب بيده فخذه. وقال: من الرجز
قد كبرت بعد شبابٍ سني ... وأضعف الأزلم مني ركني
والدهر يبلي جده ويغني ... وأعرضت أم عيالي عني
إذ عز عندي ما تريد مني ... وقالت الحسناء يوماً ذرني
ولم ترد ذرني ولكن نكني ... لكنها عن ذاك كانت تكني
رجل من ولد خباب
وفد على هشام بن عبد الملك. خرج رجل من ولد سعيد بن العاص، ورجل من ولد أبي معيط(29/294)
يريدان هشام بن عبد الملك، فلحقهم رجل من ولد خباب بن الأرت، فقيل للسعيدي: أين تنزل؟ قال: على آل أبي أحيحة. وقيل للمعيطي: أين تنزل؟ قال: على آل أبي معيط. وقيل للخبابي: أين تنزل؟ قال: لا أدري، لكني أنزل على ربي. فقعد على باب هشام، وجاءت هدايا من عند ابن الحبحاب؛ عامل مصر، فأدخلت على هشام، فأخذ الخبابي رزمة ودخل، فلما صار بين يدي هشام، انتسب له، فما أمسى حتى كتب ثلاث صحائف إلى عامل المدينة؛ صحيفة بجائزته، وصحيفة بقطيعته، وصحيفة بأرزاقه. وبقي السعيدي والمعيطي يغدوان ويروحان.
مولى لمسلمة بن عبد الملك
قال: حدثني مسلمة قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز بعد صلاة الفجر في بيت كان يخلو فيه بعد الفجر، فجاءته جارية بطبق فيه تمر صيحاني وكان يعجبه التمر فرفع بكفيه منه فقال: يا مسلمة، أترى لو أن رجلاً أكل هذا، ثم شرب عليه ماء، والماء على التمر طيب، أكان مجزئه إلى الليل؟ قلت: لا أدري. قال: فرفع أكثر منه، فقال: فهذا؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان كافيه دون هذا حتى ما يبالي ألا يذوق طعاماً غيره. قال: فعلام يدخل النار؟! قال مسلمة: فما وقعت مني موعظة وما وقعت مني هذه.
شاعر
من قريش. كانت للوليد بن يزيد جارية، يقال لها: صدوف، فغاضبها، ثم لم يطعه قلبه، فجعل يتسبب بصلحها، فدخل عليه رجل قرشي من أهل المدينة، فكلمه في حاجة وقد عرف خبره، فبرم به، فأنشده: من الكامل(29/295)
أعتبت أن عتبت عليك صدوف ... وعتاب مثلك مثلها تشريف
لا تقعدن تلوم نفسك دائباً ... فيها وأنت بحبها مشغوف
إن القطيعة لا يقوم بمثلها ... إلا القوي ومن يحب ضعيف
الحب أملك بالفتى من نفسه ... والذل فيه مسلك مألوف
قال: فضحك، وجعل ذلك سبباً لصلحها، وقضى حوائج القرشي كلها.
شاعر
قال الفضل بن الوضاح، صاحب قصر الوضاح: خرجت مع المنصور إلى مروان بن محمد، فصحبنا في الطريق رجل ضرير كان عنده أدب ومعرفة فاستجلاه المنصور وقال له: من تقصد؟ قال: أمير المؤمنين مروان. قال: في أي شيء؟ قال: في شعر أمتدحه به. قال: أنشدنيه. فأنشده: من الخفيف
ليت شعري أفاح رائحة المس ... ك وما إن إخال بالخفيف أنسي
حين غابت بنو أمية عنه ... والبهاليل من بني عبد شمس
خطباء على المنابر فرسا ... ن عليها وقالة غير خرس
لا يعابون صامتين وإن قا ... لوا أصابوا ولم يقولوا بلبس
بحلوم إذا الحلوم استخفت ... ووجوه مثل الدنانير ملس
قال المنصور: فما أتمها حتى ظننت أن العمى قد أخذني من حسدي بني أمية عليها.
ثم حج المنصور سنة ثلاث وأربعين ومئة وهو خليفة، وكان قد نوى أن يمشي حتكاً وروداً، فإنه ليمشي إذ بصر بالضرير فأتي به فقال: ما صنع بك مروان؟ قال: أغناني فلا أسأل بعده أحداً شيئاً. قال: ما أعطاك؟ قال: أعطاني أربعة آلاف دينار، وعشرة(29/296)
غلمان، وعشر جوار، وحملني على عشر من الدواب، وأوقر لي خمسة أبغل خرثياً ثم تنفس الصعداء، وأنشأ يقول: من الكامل
آمت نساء بني أمية منهم ... وبناتهم بمضيعةٍ أيتام
نامت خدودهم وأسقط نجمهم ... والنجم يسقط والخدود تنام
خلت المنابر والأسرة منهم ... فعليهم حتى الممات سلام
فقال له أبو جعفر المنصور: أما تعرفني؟ قال: ما أنكرك من سوء، من أنت؟ قال: أنا أمير المؤمنين المنصور. فأخذ الضرير أفكل يعني الرعدة وقال: يا أمير المؤمنين، إن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها. قال: صدقت، خلوا عنه، ثم تتبعته نفسه بعد فطلبه، فكأن البيداء بادت به.
رجل من ولد أبي سفيان
به وضح ومرض. ذكر لعبد الله بن علي بن العباس أنه قال: أنا السفياني الذي يذهب ملك بني العباس على يده. فطلبه عبد الله فتوارى، فأمر عبد الله بإخراج نساء أبي سفيان والتماسه فيهن، فلما هتك الحرم، وافى باب عبد الله بن علي على بغل ومعه ابناه على فرسين. فقال للحاجب: عبد الله هذا جالس؟ ولم يقل الأمير. قال: لا. قال: أفتأذن في الجلوس إليك؟ قال: نعم. فنزل ونزل ولداه، فجلسوا مع الحاجب. فرأى الحاجب أحسن خلق الله حديثاً، وأحلامهم كلاماً، فغلب على قلبه، ثم عرف الحاجب جلوس عبد الله، فدخل إليه، فذكره له، ثم خرج إليه. قال: يقول: ما اسمك؟ قال: قل له رجل يأتيك بما تحب. فخرج فقال: فتشه وأدخله. فدخل، فقال له: ما لمن دلك على فلان وذكر اسمه من الجائزة؟ قال: حكمه. قال: فأنا فلان، وهذان ابناي، فما دعاك إلى أن برزت أسوق بنات عمك يراهن أنباط الشام في طلبي؟ قال عبد الله: أتدري ما قال شاعرنا؟ قال: لا. قال: فإنه يقول: من الخفيف(29/297)
جرد السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا
قال: شاعركم قال لكم ما تحبون، أفتدري ما قال شاعرنا؟ قال: لا. قال: إنه يقول: من البسيط
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا
وأنا أعلم إن حكمت بما لا تهواه أنك لا تجيز حكمي، فتركتك. قال: اقتلوه. قال: فإن كنت فاعلاً فابني قبلي، فقتلا ثم قتل من بعدهما، رحمهم الله.
شيخ من كتاب بني أمية
قال عبد الله بن سوار: كنت غلاماً أكتب بين يدي يحيى بن خالد، فدخل عليه شيخ ضخم، جميل الهيئة فأعظمه يحيى وحادثه، وقال له: ما بالكم كنتم تكتبون الكتب إلى عمالكم في أموركم فلا تطيلون، وإنما الكتاب بقدر الفضل من كتبنا، ونحن نطيل إطالة لا يمكننا غير ذلك؟ فقال: اعفني. فأبى إلا أن يجيبه. فقال: وأنت غير ساخط؟ قال: نعم. قال: إن بني أمية كانت لا تكتب في الباطل أنه حق، ولا في الحق أنه باطل، ولا تعقب أمراً قد نفذ بخلافة أمر فلا يحتاجون إلى الإطالة والتلبيس وطلب المعاذير، وإنكم تكتبون في الحق أنه باطل، والباطل أنه حق. ثم تعقبون ذلك بخلافه، فلا بد لكم من الإطالة. فسئل عن الشيخ فقال: كاتب من كتاب بني أمية القدماء، من أهل الشام.
رجل من دمشق
جلس كعب الأحبار يوماً يقص بدمشق، فلما فرغ قال: إنا نريد أن ندعو، فمن كان منكم يؤمن بالله وكان قاطعاً إلا قام عنا، فقام فتى من القوم، فولى إلى عمةٍ له كان بينه(29/298)
وبينها محرم فصالحها. فقالت: ما بدا لك؟ قال: سمعت كعباً يقول كذا وكذا، وقال كعب: إن الأعمال تعرض كل يوم خميس واثنين إلا عمل قاطع يتجلجل بين السماء والأرض.
رجل من محارب
سمع من كعب يقول: يلتقون بعمق عكا فيقتتلون، ثم يتهايبون وينحازون، ثم يقتتلون ثم يتهايبون حتى ينتهوا إلى عمق إنطاكية فيقيمون به لا ينهزم هؤلاء ولا هؤلاء، ويبعث المسلمون فيستمدون إلى عدن أبين، ويبعث الروم إلى من يمدهم من رومية.
رجل حكى عن كعب الأحبار
قال الشعبي: لما قدمت الشام نزلت بعبد العزيز بن مروان، فبينا أنا في المسجد دخل شيخ قصير أحمر أصلع فأشربوا له فقالوا: هذا علام العلماء. فجعل يجلس في الحلق، ويتنقل فيها، فقلت: اللهم جئ به. فجاء فجلس في الحلقة التي أنا فيها، فقال: حدثنا ذو الكتابين أن السماء على منكب ملك. قلت: أكذبك كتاب الله. فكادوا أن يثوروا إلي أو ثاروا إلي وقالوا: ما تريد إلى ضيف أمير المؤمنين؟ قال: فترادوا ثم قال: حدثنا ذو الكتابين أن صوراً بالمشرق وصوراً بالمغرب، فينفخ في أحدهما فيموت الناس، وينفخ في الآخر فيحيون. فقلت: أكذبك كتاب الله. فكادوا أن يثوروا أو ثاروا ثم ترادوا وقالوا: ما تريد إلى ضيف أمير المؤمنين؟ فقال: فترادؤا ثم قال: حدثنا ذو الكتابين أن صوراً بالمشرق وصوراً بالمغرب، فينفخ في أحدهما فيموت الناس، وينفخ في الآخر فيحيون. فقلت: أكذبك كتاب الله، فكادوا أن يثوروا - أثوثاروا - ما تعجبون من أن أكذب من أكذبه الله؟ زعم هذا أن السماء على منكب ملك، والله تعالى يقول: " ورفع السموات بغير عمدٍ ترونها " وزعم أن صوراً بالمشرق وصوراً بالمغرب ينفخ في أحدهما فيموت الناس، وينفخ(29/299)
في الآخر فيحيون، والله تعالى يقول: " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى " إنما هو واحد. فقال لي: ممن أنت؟ فأخبرته. فقال: إما إن ذا الكتابين حدثنا أن نساءكم سيسبين فيؤتى بهن حتى يوقفن على الدرج، ويكشف عن سوقهن. فقلت: إني أرجو أن تكون الآخرة مثل الأوليين.
رجل
قال ربيعة بن يزيد: قعدت إلى الشعبي في خلافة عبد الملك، فحدث رجل من الصحابة أو من التابعين حدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اعبدوا ربكم ولا تشركوا به شيئاً، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأطيعوا الأمراء، فإن كان خيراً فلكم، وإن كان شراً فهو عليهم، وأنتم منه براء. فقال الشعبي: كذبت.
مولى لبني نمران
قال: رأيت مقعداً بتبوك فسألته عن إقعاده فقال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، فمررت بين يديه فقال: قطع صلاتنا قطع الله أثره. قال: فأقعدت. قال: وكان على أتان أو على حمار.
شيخ من السكاسك
حدث عن عمرو بن قيس قال: ولاني عمر الصائفة وأوصاني بتقوى الله، وبالمسلمين خيراً، وقال: إن رابطت حصناً فلا تقم عليه إلا يوماً وليلة، فإن طمعت فيه وإلا فارتحل، فإن أرادوك على ما في يديك(29/300)
من أساراهم رجلاً برجل فافده، فإن أبوا فرجل برجلين، فإن أبوا فرجل بثلاثة، فإن أبوا فأعطهم جميع ما في يدك برجل من المسلمين.
رجل من دمشق
حدث عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الله بن عمرو قال: من قرأ القرآن فكأنما استدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه، ومن قرأ القرآن فرأى أن أحداً من الخلق أعطي أفضل مما أعطي فقد حقر ما عظم الله، وعظم ما حقر الله، وليس ينبغي لحامل القرآن أن يجهل فيمن يجهل، ولا يجد فيمن يجد، ولكن يعفو ويصفح لحق القرآن.
شيخ من دمشق
حدث عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: العلم فريضة على كل مسلم.
شيخ من دمشق
قال: طلقت امرأة لي كان وجهها ذرباً وجسدها رحباً، فدخل علي سارق بالليل، وثيابي عند رأسي، فذهب إلى المشجب فلم يجد شيئاً، فلما رأى ذلك بسط كساءه، ثم دخل إلى خابية الدقيق، فجذبت الكساء فجعلته تحت رأسي، ثم خرج بالدقيق، فصبه في الأرض، وطلب طرفي الكساء، ثم جعل يجمعه، فلم يجد الكساء، فخرج. فقلت له:(29/301)
أغلق الباب، لا يخرج القط. قال: من حسن صنيعك بي. قلت: ليس هذا وقت عتاب. قال: فبعت الكساء بخمسة دراهم.
شيخ من دمشق
كان فيمن غزا مع مروان بن محمد الخزر. قال: فسحنا في بلادهم نسبي من أدركناه، ولم نلحق لهم جمعاً، فشكوت إلى بيطار العسكر سعالاً بفرسي، فأمر لي بورق القصباء الأخضر، فذهبت أنظر، فإذا بغيضة من قصب بيننا وبينها أربعة أميال، فخرجت إلى الغيضة، فبينا أنا آخذ من الورق إذا أنا بين رؤوس القصب ببريق الأسنة خلف القصب، فقمت على سرجي لأتمكن من النظر فإذا بحرة سوداء من القنا، فعدوت على فرسي وأخبرت مروان، فدعا بعض هضائلة أرمينية فأخبرهم. فقالوا: هذا فلان الطرخان، عامل هذه البلاد، وأساورته عشرة آلاف، نحن نرى أن ضعف رأيه، ونظره لنفسه دعاه إلى أن كمن في هذه الغيضة، ليشد على ساقة العسكر. فأمر مروان قائداً من قواده ليخرج في أصحابه، فنودي في العسكر: من أراد الأجر والغنيمة فليلحق بفلان. فسار إليهم، فوقف على باب مدخل الغيضة، وأتوا بالنيران والنفط، فألقي في الغيضة، وهاجت الريح بالنار، ودخل المسلمون بالسيوف، وأهلكهم الله جميعاً حريقاً وقتلاً وأسراً، وأسرنا طرخانهم أسيراً، فضربت عنقه، ونفذ برأسه ورؤوس من أصحابه إلى هشام.(29/302)
شيخ من دمشق
حدث عن موسى بن وردان وخرج إلى نفير إلى الإسكندرية فقال له أصحابه: هذا يوم الإسكندرية. قال: لا، إنما يوم الإسكندرية إذا رأيت أهل مصر قد خافوا من مسير النوبة إليهم، ورأيت أهل الفسطاط قد ضربوا عليهم الخندق، وجعلوا حرساً فيما بينهم وبين أرض النوبة. قال موسى بن وردان: وذلك أن صاحب الروم يكتب إلى صاحب النوبة وهو على النصرانية يستفزه، فيعده ذلك ويواعده وقتاً، فيعجل الروم بالخروج إلى الإسكندرية، ويبطئ النوبة عن الخروج، فإذا كان ذلك سار المسلمون إلى الإسكندرية، فيقاتلون بها، فينصرهم الله، ثم يرجعون، ويخرج عليهم النوبة.
شيخ من البلقاء
قال: لما التقوا بين مؤتة وعمقة تقدم زيد يسوي الصفوف فجاءه سهم غرب فقتله، وأخذ الراية جعفر.
شيخ
كان في عسكر الجراح بن عبد الله الحاكمي حين قاتل الترك. قال: لما قتل الجراح استعصينا، وجردنا سيوفنا، فأوجعنا في القوم، فقال لهم الطاغية: إنكم لن تصلوا إلى قتلهم حتى يقتلوا أضعافكم، فأفرجوا لهم، ثم اتبعوهم في الشجر. قال: فلحقت بالجبل، فإذا بقربه انجلى أهلها، فلقيت بيتاً فدخلته، فإذا فيه أثر نار وحطب، فأوقدت وجلست وبي جهد شديد، فلم ألبث حتى سمعت صهيل الخيل،(29/303)
وإذا بخيل الترك، فدخلت وأطفأت النار، وأقبل رجل فتتبع النار حتى وجدها، وظن أن في البيت أقواماً، فجعل يأخذ في زاوية، وآخذ في أخرى، ثم سل سيفه فقلت: لئن خرجت لأقطعن. فاستأسرت له، فأخذ بناصيتي وأجلسني عند النار، وأشار إلي أن أوقد، فأوقدت، ونظرني فعرفت الرقة قال: وبي جهد. فأتاني بكسر فأكلت، ثم ضربوا طبولهم، فأسرج وركب وأردفني خلفه، وتركهم حتى ساروا، وسار بي قدر أربعة أميال، ثم وقف وأشار إلي، فنزلت، وأشار إلي؛ اذهب كيف شئت. قال: فبينا نحن عند الحرسي وهو يقتل الأسارى إذ نظرت إليه فعرفته، فقلت له: أتعرفني؟ قال: نعم. فتقدمت إلى الحرسي فقصصت عليه أمري، فدعاه وكلمه الترجمان، فأخبره بمثل خبري. فقال: قد حقنا لك دمه، وبعثني وبعث به إلى هشام، فأخبره الخبر، ففرض له في قبيلي، فكان في عدادي.
شيخ من موالي بني فزارة
ثم لعمر بن هبيرة. حدث عن عمر بن هبيرة. قال: كنا قد بلغنا من حصارهم ما بلغنا، وكان بنا من الأزل والمرض نحواً مما بهم وأشد، وكنت نازلاً بجماعة سفن على ساحلهم مما يلي عسكر المسلمين، في مركبي، فيه مبيتي الآن، أركب إلى مسلمة فأشهد أموره، فإذا لم أركب خرجت في برد النهار إلى مجلس على تل مشرف على مراكبي وعلى عسكر المسلمين ويخرج إلي أمراء أجنادي، وأهل الهيئة منهم، فكان ذلك التل تلك الساعات لنا مجلساً، فبينا أنا ذات غداة عليه في جماعة، إذا بقارب خرج من ميناء القسطنطينية، وفيه رجال من الروم عليهم الديباج يقصد إلينا فقلت: يا رسول الطاغية إلي في أمر يكلمني به، فإن أتى في مجلسنا أشرف على رثاثة سفننا وسوء حالنا، سره ذلك وازداد قوة علينا، فقمت إلى مركبي فجلست وجلس معي أمراء أجنادي وأهل الهيئة، وأمرت أهل السفن أن يواروا ما قدروا عليه من سوء حالهم. فلما دنوا(29/304)
نادونا بالأمان، وأقبل رسول الطاغية في أصحابه وهيئته، وصعد إلي فسلم، وأذنت له فجلس وجلسوا ثم قال: إنا بعثنا لأمر فنذكره لكم، ورأيت منكم شيئاً عرفت به سوء حالكم، وإنك أردت بقيامك عن التل ومجلسك الذي كنت فيه ألا آتيك فيه، فأشرف على رثاثة سفنكم وسوء حالكم، ثم تهيأت لي بما أرى مما ليس خلفه قوة، ولقد صرتم من حالكم إلى أسوأ مما نحن فيه، إن الملك يقرأ عليكم السلام ويقول: إنه كان من نزولكم علينا، وإقامتكم إلى هذا اليوم ما قد علمتم، وبلغ منا ومنكم، وما أنتم فيه أشد، وقد عرضت على مسلمة فدية صلح على كل إنسان بالقسطنطينية من رجل وامرأة وصبي ديناراً ديناراً على أن ترحلوا إلى بلادكم، فإن شئتم اقتسمتم هذه الدنانير بينكم مغنماً وإن شئتم ذهبتم بها إلى خليفتكم، فأدخله بيت ماله فصنع ما أراد. فأبى ذلك مسلمة علينا وسخطه، وزعم ألا يبرح دون أن نؤدي الجزية عن صغار، أو يدخله عنوة، والصغار الجزية ما لا تطيب به أنفسنا أبداً، وأنت من خليفتك ومن مسلمة، ومن علية العرب بالمنزلة التي أنت بها في الشرف والأمانة، فانظر فيما عرضته على مسلمة، فإن رأيته رأياً أشرت به عليه ورددته إليه. قال عمر بن هبيرة: أصاب مسلمة، وذلك ما أمرنا الله به ولا أخالفه فيه، وأنا عونه عليه حتى يحكم الله بيننا وبينكم. فصلب على وجهه، وانصرف مغضباً.
شيخ من دمشق
حدث عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا الأمر في قريش يليه برهم ببرهم، وفاجرهم بفاجرهم حتى يدفعوه إلى عيسى بن مريم.(29/305)
شيخ من أهل دمشق
سمع عطاء الخراساني يرويه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يأتونكم في ثمانين غاية، تحت كل غاية إثنا عشر ألفاً، الروم فيهم كالمخيلة غير أنهم الرؤوس والقادة.
شيخ
من قدماء الجند ممن كان يلزم الجهاد. حدث أن أهل الشام كانوا إذا غزوا الصوائف ينزلون أجناداً كما كان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ساروا إلى الشام ينزلون أرباعاً، وكما كان بنو إسرائيل تنزل مع موسى عليه الصلاة والسلام وبعده أسباطاً. قال: وبين كل جند فرجة وطريق ومجال للخيل.
شيخ من الجند
أخبر عن أميرهم في غزاتهم أرض الروم أنه كان إذا وقف على الدرب قافلاً قال: الحمد لله الذي لم يجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجانا برحمته من القوم الكافرين.
شيخ من أهل دومة الجندل
حدث أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب لأكيدر هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى(29/306)
الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها: إن لنا الضاحية من الضحل والبور والمعامي، وأغفال الأرض، والحلقة والسلاح، والحافر، والحصن، ولكم الضامنة من النخل، والمعين من المعمور بعد الخمس، لا تعدل سارحتكم، ولا تعد فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات، ولا يؤخذ منكم إلا عشر البتات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك العهد والميثاق، ولكم بذلك الصدق والوفاء، شهد الله ومن حضر من المسلمين.
الضحل: الذي فيه الماء القليل. والبور: ما ليس فيه زرع. والمعامي: ما ليست له حدود معلومة، والأغفال: مثله. ولا تعد فاردتكم: يعني ما لم تبلغ الأربعين. والحافر: الخيل. والمعين: الماء الظاهر. وقيل: الجاري. والضامنة من النخل: التي قد نبتت عروقها في الأرض، ولا يحظر عليكم النبات: لا تمنعون أن تزرعوه. ولا تعدل سارحتكم: لا تنحى عن الرعي. والنبات: النخل القديم الذي قد ضرب عروقه في الأرض ونبت. وكانت دومة وأيلة وتيماء خافوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أسلمت العرب.
شيخ من دمشق
كان ديدباناً يجلس على المنارة، فنظر ذات ليلة رؤيا هالته، كأنه نصب على ظهر قبة المسجد رمح فيه كتاب بين، ونصب فوق الرمح رمح فيه كتاب بين، ونصب فوق الرمح رمح وفيه كتاب بين، فإذا في الأول: إن المجرمين في سقر. وفي الثاني: طوبى لمن ابتلي فصبر. وفي الثالث: الملك لله من شاء نصر. فتاب ذلك الرجل توبة لم يكن يعرف بدمشق مثله.(29/307)
شيخ من أهل دمشق
قال: كان يقال: إن دعتك نفسك يوماً إلى صحبة الرجال فلا تصحب إلا لمن صحبته زانك، وإن حملته مؤونة مانك، وإن رأى منك ثلمة سدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن سألته أعطاك، وإن تعففت عنه ابتداك، وإن عاتبك لم يحرمك، وإن تباعدت عنه لم يرفضك.
شيخ من دمشق
حدث عن رجل من بني أمية قال: استعمل عمر بن عبد العزيز رجلاً على الصدقة يقال له زريق، أحمر كريه المنظر فرجع إلى عمر، ولم يأته بشيء، فقال عمر: أين ما بعثناك فيه؟ قال: أخذته من حيث أمرتني، وجعلته حيث أمرتني. فقال عمر: " ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً ".
شيخ من أهل دمشق
حدث عن الهذيل بن عمرو بسنده إلى علي بن أبي طالب قال: من ابتلي بزمانةٍ في جسده تمنعه من العمل كانت كفارة لذنوبه، وعمله فضلاً.(29/308)
شيخ
حدث عن الأوزاعي أنه أقبل حتى نزل بأخ له، فحضر العشاء ووضع المائدة، ويد الأوزاعي تتناول، فقال الرجل: تعذرنا يا أبا عمرو، جئتنا في وقت ضيق. فرد يده في كمه، وأبى. فقال الرجل: والله ما اتخذت بعدك مالاً إلا المورث الذي تعرف، ما ذنبي؟ قال: لم أكن لأصيب طعاماً قل شكر الله عليه، أو كفرت نعمة الله عليه.
رجل من أهل العلم
قال: جاء كتاب من الخليفة إلى محمد بن إبراهيم، وكان على الموسم: ابعث إلي سفيان الثوري فقال له: يا أبا عبد الله، هذا كتاب أمير المؤمنين. قال: فمه؟ قال: كتب إلينا أن نبعث بك إليه. قال: السمع والطاعة. فقال للرسول: هذا سفيان بن سعيد وها هو يجيء معك، وأنت أعلم. فخرج سفيان إلى الرسول وعليه إزاران متزر بأحدهما، والآخر على كتفه. فلما بلغ الباب، قال للرسول: أعلم الأمير. فرجع معه. قال: رحمك الله، من ها هنا إلى العراق بغير نفقة؟ قال: يا أبا عبد الله، وتريد نفقة؟ قال: نعم. قال: يا غلام، هات كيساً. فجاء بكيس فيه ألف دينار قال: يا أبا عبد الله، إن أردت زدناك. قال: لا، في هذا بلاغ. فأخذ الكيس وخرج، فلما كان في بعض الطريق والرسول يذهب به إلى دار البريد مروا بخربة، فلف سفيان الكيس في إزاره، ووضعه على باب الخربة، وقال للرسول: أبصر هذا حتى أبول، ودخل فأقام الرسول ما شاء الله، فلما لم يره حمل الإزار ودخل فلم ير شيئاً، فحمل الإزار ومضى إلى محمد بن إبراهيم، فلما رآه ضحك. قال: ويلك مالك؟ قال: خدعني وقص عليه القصة فقال له: ويلك، ولم تركته؟ قال: لم أظن أنه يذهب عريان، ويدع الكيس. قال: ثكلتك أمك، إني أحسب لو كان جميع ما يملكه تركه.(29/309)
رجل
من أهل دمشق. قال المهدي لطازاد الرومي: أخبرني ببعض ما رأيت. قال: كنت يوماً أسير على شاطئ نهر لا ينقطع إلا من موضع فيه صعوبة، فإذا أنا برجل يصلي، فخفف من صلاته. فقلت له: كأنك أضللت أصحابك، فإن أحببت أرشدتك للطريق. فقال كالمنتهر: امض لشأنك. فقلت له: كأني أراك معجباً بنفسك، فهل لك في البراز؟ قال: نعم. ووثب على فرسٍ له أنثى، ثم أوثبها النهر فإذا هو معي، ثم تجاولنا فلم أقدر عليه لثقافته، ثم قلت له: هل لك في المصارعة؟ فقال: ذاك إليك. فألقينا السلاح، فلما تجرد ازدريته لنحافته وقلت:
أنا محتمله بأهون أمر أو قاتله، أو ذاهب به أسيراً، وآخذ فرسه وسلاحه، ثم اتحدنا، فلم أصل منه إلى شيء، واعتقلني فإذا أنا تحته، ثم تناول سكيناً من خفه ليذبحني بها. فقلت له: هل لك إلى خير مما تريد بي، أن تعتقني فأكون مولاك، ولا أدع حفظك في كل مسلم أقدر عليه. فقال لي: ومن أنت؟ قلت: طازاد. فنهض عني وضربني برجله استخفافاً، ثم مال إلى النهر فغسل وجهه، ولبس سلاحه، وركب فرسه، وجاز النهر إلى الموضع الذي كان فيه. فقلت له: إني صرت مولاك فتبسم لي وأخبرني بموضعك ومنزلك. فأخبرني، وكتبته بطرف سكيني على صفة سرجي وكان طازاد رجلاً أيداً يأخذ الكبشين فيعلقهما بيده حتى يتناطحا ثم قلت له: إن من أصحابي عدة أمامك فأبقهم. فقال: امض لشأنك. ثم عرض له ناس من أصحابي فحمل عليهم، فقتل منهم أربعة، ثم أدركتهم فمنعت من بقي منهم من قتاله، وأمرت رجلاً من أصحابي أن يدخل عسكر المسلمين فيحرص على أن يسرق فرسه، ويأتيني بها. فدخل عسكرهم مستأمناً، فأقام أياماً لا يقدر على سرقتها، وذلك أنه كان يركبها نهاراً ويسرجها ليلاً، ويضع لجامها على قربوسه، ومخلاتها في رأسها ويصف قدميه حتى يصبح. فقال المهدي: بئس ما كافأته يا طازاد! فكتب المهدي إلى عامل دمشق في إقدام الرجل(29/310)
عليه، فقدم، ولا علم لطازاد بأمره، فأمر المهدي بعرض الجند والرجل فيهم. فقال طازاد: يا أمير المؤمنين، ما أشبه هذا بالرجل الذي وصفت لك، فدعاه المهدي، فسأله طازاد أن يدنو منه. فأذن له، فقبل رجليه، وأذكره بلاءه عنده، فأراد المهدي صلته فلم يقبلها، وصرفه إلى بلاده.
رجلان سائحان في جبل البنان
خرج رجل يبتغي من فضل الله، فصحب رجلاً في الطريق فسأله عن مخرجه، فقال له خبره، فقال له الرجل: أخرجني الذي أخرجك. فانطلق بنا نلتمس الله من فضله. فخرجا في جبل لبنان يقصدان بيت المقدس، فأتيا بعض المنازل، فنزلا في قصر خرب، فانطلق أحدهما ليأتي بطعام. قال المتخلف منهما في الرحل: ألهيت نفسي، وجعلت أنظر بناء ذلك القصر وهيئته، وخرابه، واذكر سفري وتركي عيالي، فإذا بلوح من رخام تجاهي فيه مكتوب: من الكامل
لما رأيتك جالساً مستقبلي ... أيقنت أنك للهموم قرين
فارقص بها وتعر من أثوابها ... إن كان عندك بالقضاء يقين
فالهم سيماه مشيب شامل ... ويكون مثوى الضر حيث يكون
هون عليك وكن بربك واثقاً ... فأخو التوكل شأنه التهوين
طرح الأذى عن نفسه في رزقه ... لما تيقن أنه مضمون
فجعلت أقرأهن وأتدبرهن إذ جاء صاحبي فقلت: ألا أعجبك؟ قال: بلى. قلت: أنظر ما على هذا اللوح. فنظر ونظرت، فلم ير لوحاً ولا شيئاً. فجعلت أطوف في القصر وأتتبع ما فيه فلم أر شيئاً.(29/311)
رجل عابد
بأذرعات خرج أبو معاوية الأسود إلى عابد بأذرعات. قال: فأقمت عليه ثلاثة أيام لا يكلمني، فقلت: اللهم وفقه لكلامي. فأقبل علي وقال: يا أسود، من أين قدمت؟ من الحج أو من العمرة؟ أو نفدت نفقتك؟ قلت: ما جئت من حج ولا من عمرة، ولا نفدت نفقتي. قال: فما جاء بك؟ قلت: جئت لعلي أسمع منك كلمة أنتفع بها. فقال لي: يا أسود، أنت بمطربليطا النصراني أوثق منك بالله عز وجل. قلت: معاذ الله. فقال: الساعة تقر، أخبرني لو أن مطربليطا النصراني قال لك: اجعل غداءك وعشاءك عندي، أكنت واثقاً به؟ قلت: نعم. قال: فالله قد ضمن لك الغداء والعشاء، فهل ألقيت هم ذلك عنك؟ قلت: حسبي.
شيخ متعبد
قال ذو النون: رأيت شيخاً مجنوناً بدمشق مصفاراً، بيده ركوة وعكازة، وقد كتب على جيبه من ورائه: من السريع
حتى متى يا شيخ لا تستحي ... يراك مولاك مع الغافلين
ما تستحي منه وما ترعوي ... غطى خطاياك عن العالمين
مشاك بين الناس في ستره ... وأنت معكوف مع الفاسقين
وعلى كمه الأيمن مكتوب: من الوافر
عجبت لمن ينام وذو المعالي ... ينادي يا عباد أنا البذول
وهل يجد الخلائق مثل ربي ... وكل فعاله حسن جميل
وعلى كمه الأيسر مكتوب: مجزوء الرمل(29/312)
إن لله عباداً ... كشفوا فيه القناعا
هل رأيتم خادماً عا ... مل مولاه فضاعا
سوف أرويكم حديثاً ... قد سمعناه سماعا
من دنا من ربه شب ... راً دنا منه ذراعا
رجل من شرعب
من أهل جوسية من أعمال حمص، كان يواظب على حضور الجمعة بدمشق وشرعب قبيله من قبائل اليمن كان له بغل، وكان يدلج على بغله من جوسية وهي قريته من حمص يوم الجمعة، فيصلي الجمعة في مسجد دمشق، ثم يروح فيبيت في أهله، وكان الناس يعجبون منه، ثم إن بغله ذاك نفق، فنظروا جنبيه فإذا ليس له أضلاع إنما هو صفحتان عظماً مصمتاً.
رجل كان يصحب ابن جوصاء
حدث عن نفسه، أو عن شيخ حدثه أنه كان يرابط بالساحل في صخرة موسى، فبينا هو على السور ينظر إلى البحر، فرأى غراباً قد انحط على سمكة مطروحة على الشط، فأدخل في عين السمكة مخلابه ثم اكتحل به. فتعجبت من ذلك، وانحدرت إلى السمكة، وأخذت ميلاً فاكتحلت من عينها، فرأيت أشياء لم أكن أراها قبل ذلك، ورأيت عجائب، فبينا أنا يوماً في جنازة، وإذا رجل يضحك في وجوه الناس ويتلهى، فاغتظت منه، ولحقته عند انصراف الجنازة، فقلت: يا عبد الله، قف. فالتفت إلي فقال: مالك؟ فقلت: ما تستحي من الله؟ الناس في الجنازة وأنت تضحك وتتلهى في وجوه الناس؟ فقال: أنت تراني؟ فقلت: نعم، وقد رأيتك تضحك في وجوه الناس. فقال: يا هذا، أنا الأمل، بعثني الله في هذه الصورة، أضحك في وجوه الناس، وما هو ضحك، وإنما أسليهم(29/313)
وأبسط أملهم ليرجعوا إلى ما كانوا عليه حتى لا تخرب الدنيا، ولولا ذلك ما عمرت الدنيا. ثم غاب عني.
رجل صالح
من أهل دمشق. قال معروف: رأيت رجلاً في البادية شاباً، حسن الوجه، له ذؤابتان حسنتان، وعلى رأسه رداء قصب، وعليه قميص كتان، وفي رجله نعل طاق. فتعجبت منه في مثل ذلك المكان، ومن زيه. فقلت: السلام عليكم ورحمة الله. فرد علي. فقلت: الفتى من أين؟ قال: من دمشق. قلت: متى خرجت منها. قال: ضحوة النهار وبينه وبين المكان مراحل كثيرة فقلت: وأين المقصد؟ قال: مكة إن شاء الله. فعلمت أنه محمول، وقلت لنفسي: لو علم أنه يساق إلى الموت سوقاً لرفق بنفسه. فودعته، ومضى. فبعد ثلاث سنين أنا جالس في منزلي أتفكر في أمره، إذ دق الباب، فإذا بصاحبي، فسلمت عليه، وأدخلته المنزل، فرأيته منقطعاً ذاهباً، حافياً حاسراً، فقلت: أيش الخبر؟ فقال: يا أستاذ، لم تخبرني بما يفعل بمعامليه. قلت: فأخبرني ببعض خبرك. قال: نعم، لاطفني حتى أدخلني الشبكة، ثم ضربني ورماني، فمرة يلاطفني، ومرة يهينني، ومرة يجيعني، ويطعمني أخرى، فليته أوقفني على بعض أسرار أوليائه، ثم يفعل بي ما شاء. وبكى بكاء شديداً. قال معروف: فأبكاني. فقلت: فحدثني ببعض ما جرى عليك مذ فارقتني. فقال: هيهات أن أبديه، وهو يريد أن أخفيه، ولكن بدياً ما فعل بي في طريقي إليك. فقلت: ما فعل بك؟ قال: جوعني ثلاثين يوماً، ثم جئت إلى قرية فيها مقثاة قد نبذ عنها المدود والفاسد وطرح، فقعدت آكل منه، فبصر بي صاحب المقثاة، فأقبل إلي بسوط يضرب ظهري وبطني، ويقول: يا لص، ما خرب مقثاتي غيرك، منذ كم أنا أرصدك حتى وقعت عليك. فبينا هو يضربني، أقبل فارس نحوه مسرعاً، وأفلت(29/314)
السوط في رأسه وقال: تعمد إلى ولي من أولياء الله تضربه وتهينه وتقول له: يا لص. فأخذ صاحب المقثاة بيدي إلى بيته، وما أبقى من الكرامة شيئاً إلا عمله، واستحلني فبينا أنا عنده لص إذ صرت ولياً. وجعل صاحب المقثاة مقثاته لله ولأصحاب معروف. فقلت له: صف لي معروفاً. فوصف لي الصفة فعرفتك بما كنت شاهدته من صفتك، فما استتم كلامه إلا وصاحب المقثاة قد جاء، وكان موسراً، فأخرج جميع ماله ودنياه وأنفقه على الفقراء، وصحب الشاب سنة وحجا، فماتا بالربدة.
رجل من أهل دمشق
قال: قال إبراهيم بن أدهم: أعربنا في الكلام فما نلحن، ولحنا في الأعمال فما نعرب.
شيخ كان بكناكر من دمشق
قال: قال موسى: سافروا وأملوا في أسفاركم البركة، فإني سافرت، وما أؤمل كل ما أتاني.
شاب صالح
كان ضيفاً للقاسم الجوعي. قال قاسم: وقف على غلام فسلم فرددت فقال: يا معلم الخير، كنت مع فلان بأنطاكية، فلما حضرته الوفاة قلت: أرشدني إلى من أكون معه. فقال: عليك بقاسم الجوعي فقلت: أوسعوا له. فلم يزل حتى صلينا العشاء الآخرة، فجاء معي البيت. فقلت للمرأة: قومي إلى البيت الذي بجانب الدار، فاطرحي فيه حصيراً، واجعلي فيه سراجاً، وكوز ماء وطعاماً فقد جاءنا ضيف ففعلت ذلك. فأقام عندي شهرين أقل أو أكثر(29/315)
فنسيت المرأة ليلة أن تؤدي إليه سراجاً وطعاماً حتى مضى من الليل ما مضى، فأويت إلى فراشي، وأطفأت المرأة السراج، وجاءت لتأوي إلى فراشها، فذكرت أنها لم تؤد إلى الغلام طعاماً ولا سراجاً فوثبت مسرعة فقدحت وأسرجت وأخذت طعاماً وسراجاً، ومضت إلى الغلام فوجدته مستقبلاً القبلة قائماً، وقنديلاً يسرج، فمسحت عينيها، وأحدّت النظر، فإذا الغلام قائم، والقنديل يسرج، فرجعت إلى قاسم فأنبهته وأخبرته وقالت: قم حتى أريك. قال: فلبست ثوبي ومضيت معها. فقالت: إن هذا الفتى أنسيت أن أودي إليه طعاماً وسراجاً إلى هذا الوقت، وجئت فرأيته على هذه الحالة. فقلت لها: سألتك بحق كذا وكذا الذي كنت تخصيني به خصي به هذا الغلام، متى كنت أؤمل أن أرى مثل هذا؟! وهذا ولي من أولياء الله. فلما أصبحنا خرجت أنا والغلام إلى المسجد، فلم نزل حتى صلينا العشاء الآخرة، ثم نهض ونهضت، وأحببت الاعتذار إليه وأعذر المرأة وشرحت له الحال، فقال: يا قاسم، عليك السلام. فقلت له: إلى أين تريد الساعة، ولا أحد يذهب ولا يجيء. وتضرعت إليه ليبيت تلك الليلة فأجابني إلى ذلك. فقمت إلى مزود عندي فجعلت فيه فتيتاً وركوة وعشرة دراهم. وأصبحنا، فغدوت وغدا الغلام معي إلى المسجد، فلما صلينا الغداة نهض الغلام ونهضت معه، فمضينا حتى صرنا إلى الموطأة، فقلت: إلى أين تومي؟ فقال: إلى بيت المقدس، وقال: ارجع من هاهنا فقلت: خذ هذا الفتيت تشربه في الطريق، وهذه الركوة تتوضأ فيها للصلاة، وهذه العشرة دراهم ما كان عندي غيرها، ولكن يرزق الله. فقال: يا قاسم، ما لي فيها حاجة. فأقبلت أطلب إليه وأتملقه، فبعد حين أخذ الركوة، فقال: هذه أتوضأ فيها للصلاة وأذكرك بها. فقلت: فخذ هذا الفتيت وهذه الدراهم. فأدخل يده في كمه، فأخرج كفه مملوءة دنانير. ثم قال لي: يا قاسم، من كان هذا معه أيش يعمل بدراهمك؟ فأقبلت أنظر إلى الدنانير في كمه، ثم رمى بها إلى الأرض، فنطرت إلى الموضع الذي رماه والتفت فلم أر الغلام.(29/316)
صديق للقاسم الجوعي
حدث أبو عبيد أن أول حجة حجها قدم إلى دمشق، فلقى قاسم بن عثمان الجوعي، فأعلمه أنه نوى الحج فقال: إذا أردت الخروج فائتني حتى أوصى بك بعض إخواني من العراق لتصحبه في طريقك، فلما قرب وقت الحج جاء قاسم ومعه جريب فيه رطل سويق وخمسة دنانير، فقال له قاسم: ما هذا؟ قال: شيء زودته. فقدم
رجل من العراق، فسلم عليه قاسم ووصاه بأبي عبيد وخرجا. قال أبو عبيد: فلما صرنا في بعض الطريق قال لي: ما هذا معك؟ فأخبرته. فقال: ضعه هاهنا، فوضعته ومضيت معه، فكنا إذا احتجنا إلى الطعام وجدناه، حتى قدمنا مكة، فلما قضينا الحج، قال لي في يوم الزيارة: إني غداً عند العصر أموت، فكفني في عباءتي هذه، وادفني. فقلت: صحبتك من الشام إلى هاهنا فلم أسألك عن اسمك، فعرفني. فقال: لا تحتاج إلى هذا، ولكن إذا صرت إلى بيت المقدس فادخل الصخرة تر شيخاً جالساً عن يمينك فهو يسلم عليك ويعرفك من أنا. قال: فلما صرت إلى بيت المقدس وجدت الشيخ، فسلم علي وعزاني برفيقي، وقال: إنه كان أحد السبعة، وإنه لما قبضه الله جعلك بدله وقال: أنا أبو العباس الخضر. قال: فكان ذلك أول شيخ رأيته.
رجل متصوف
قال: رأيت على صخرة منقوراً ببيروت: من السريع
خذها فقد أسمعك الصوت ... بادر وإلا فهو الفوت
وانهج بما شئت وعش آمناً ... آخر هذا كله الموت
رجل
له فضل، مستجاب الدعاء. قال أبو الحارث الأولاسي: ذكر لي عن رجل بدمشق فضل، ومعه إجابة، فصرت إليه(29/317)
فقال لي: قم بنا نصير إلى الساحل، فمضينا، فنحن في الطريق إذا امرأة تصرخ في غابة، وإذا معها شرطي، قد صحر حمارها، وهو يراودها عن نفسها، فصرخت، فصاح به ال
رجل مرتين أو ثلاثاً، فتهاون بكلامه ولم ينته. قال أبو الحارث: فرأيته يحرك شفتيه فإذا الشرطي يغيب في الأرض، وأنا أنظر إليه، فسقطنا جميعاً، فما أفقت إلا بعد مدة، فقمت وأنا أقول: لا إله إلا الله. فقال الرجل: لا إله إلا الله. فمضيت وقلت: ليس أصحبك بعد هذا. فقال: إيه. ورأيته مثل النادم على فعله، وبقي كأنه مستعتب من فعله.
رجل صالح
كان بجبل لبنان، تطوى له الأرض من يومه إلى بيت المقدس. قال أبو الحارث الأولاسي: فصرت إليه، فإذا هو رجل قد التبس سلامه. فسألته: من أين المطعم؟ فدعا بظبية كانت قريباً منه في الجبل، فجاء بها إلى صخرة فيها نقرة، فحلبها عليها، وسقاني من اللبن.
رجل
كان بدمشق له بغل يكريه من دمشق إلى تل الزبداني، ويحمل عليه الناس، فذكر أنه أكرى بغلة مرة من رجل يحمل عليه متاعاً له، فلما صار خارج الدرب، لقيه رجل وسأله أن يحمله على رأس الحمل بأجرته، قال: فرغبت في الكراء وحملته ولزمت المحجة فلما صرنا ببعض الطريق قال لي: هل لك أن تأخذ بنا هذا الطريق فإنه مختصر ونحن عند مفرق طريقين، فقلت له: أنا لا أخبر هذا الطريق ولا أعرفه. فقال: أنا أعرفه، وقد سلكته مراراً كثيرة. قال: فأخذت الطريق، فأشرفت على موضع وعر وحش وواد عظيم هائل، واستوحشت ونظرت يمنة ويسرة فلا أرى(29/318)
أحداً فبينا أنا كذلك إذ قال لي: أمسك برأس البغل حتى أنزل. فقلت له: أيش تنزل في هذا الموضع؟ مر بنا نلحق البلد بوقت فقال: خذ ويلك رأس البغل حتى أنزل، وقد أشرفت على واد عظيم، تخايل لي أن فيه أقواماً موتى. فأمسكت برأس البغل حتى نزل، ثم أخرج سكيناً عظيماً، وقصدني ليقتلني، فعدوت من بين يديه وقلت: يا هذا، خذ البغل وما عليه. فقال: هذا هو لي، وإنما أريد قتلك. فخوفته بالله، وتضرعت إليه، وبكيت، وحذرته من الله، فأبى وقال: لا بد من قتلك. فاستسلمت في يده، وقلت: دعني أصلي ركعتين، ثم افعل ما بدا لك. فقال: افعل ولا تطول. فكبرت، وأرتج علي القراءة، فلم أذكر من القرآن حرفاً، وأنا واقف متحير وهو جالس يقول: افرغ. فأجرى الله على لساني بعد وقت فقرأت " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء " فإذا أنا بفارس قد أقبل من نحو الوادي، وبيده حربة، فرمى بها ال
رجل فخر صريعاً. فتعلقت بالفارس وقلت: بالله، من أنت؟ فقال: أنا رسول " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء " قال: فأخذت البغل والحمل، ورجعت إلى دمشق سالماً.
رجل
حدث أنه قرأ على قبر بدمشق: نعم المسكن لمن أحسن.
شاعر
من أهل نجد، كان بأذرعات. من شعره: من الطويل
ألا أيها البرق الذي بات يرتقي ... ويجلو دجى الظلماء ذكرتني نجدا
وهيجتني من أذرعات وما أرى ... بنجد على ذي حاجة طرب بعدا
ألم تر أن الليل يقصر طوله ... بنجد وتزداد الرياح به بردا(29/319)
رجل من أصحاب الحديث
أنشد: من الكامل
كم من أخ لك لم يلده أبوكا ... وأخ أبوه أبوك قد يجفوكا
كم إخوة لك لم يلدك أبوهم ... وكأنما آباؤهم ولدوكا
لو رمت حملهم على مكروهة ... تخشى الحتوف بها لما خذلوكا
وأقارب لو عاينوك منوطاً ... بنياط قلبك ثم ما نصروكا
فالناس ما استغنيت كنت أخاً لهم ... فإذا افتقرت إليهم رفضوكا
شاعر من دمشق
ومن شعره: من الكامل
ودعوتني فأكلت عندك لقمة ... وشربت شرب من استتم خروفا
وسألتني في إثر ذلك دعوة ... ذهبت بمالي تالداً وطريفا
فجعلت أفكر فيك باقي ليلتي ... ما كنت تفعل لو أكلت رغيفا
رجل من أصحاب الحديث
أنشد: من الكامل
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزن بعضهم ... بعضاً ليسكت معور عن معور
صديق لأبي القاسم بن أبي العقب
أنشده: من البسيط
كم المقام وكم تعتافك العلل ... ما ضاقت الأرض في الدنيا ولا السبل(29/320)
إن كنت تزعم أرض الله واسعة ... فيها لغيرك مرتاد ومرتحل
فارحل فإن بلاد الله ما خلقت ... إلا ليسكن منها السهل والجبل
الله عودني الحسنى فما برحت ... عندي له نعم تترى وتتصل
إن ضاق بي بلد أبدلته عوضاً ... وإن نبا منزل بي كان لي بدل
وإن تغير لي عن وده رجل ... أصفى المودة لي من بعده رجل
لم يقطع الله لي من صاحب أملاً ... إلا تجدد لي من صاحب أمل
لا تبتذل أبداً وجهك في طمع ... فما لوجهك ماء حين يبتذل
رجل من أهل بيروت
قرأ على سور صور مكتوباً: من الوافر
دع الدنيا فإني لا أراها ... لمن يرضى بها دار بدار
ودارك إنما اللذات فيها ... معلقة بأيامٍ قصار
شاعر من المادرائيين
حدث أبو الفرج عبد الواحد المخزومي قال: تأخرت بدمشق عن سيف الدولة مكرهاً، وقد سار في بعض وقائعه، فانقطعت إلى أبي بكر علي بن صالح الروذباري لتقدمه في الرياسة، وفضله، فأحسن إلي، وتوفرت على قصد المتنزهات المطروقة تسلياً وتعللاً، فقصدت دير مران، واستصحبت بعض من كنت آنس به، فنزلناه، وكنت اخترت من رهابنته من توسمت فيه رقة الطبع، وسجاحة الأخلاق، فانصرفت بي نظرة إلى بعض(29/321)
الرهبان، فوجدته مترقباً لنظري، فغمزني وأومأ إلي، فأنكرت ذلك، ونهضت عجلاً، فأخرج إلي رقعة مختومة، ففضضتها فإذا فيها بأحسن خط وأوضحه: بسم الله الرحمن الرحيم، لم أزل فيما تؤديه هذه المخاطبة إلى مولاي بين حزم يحث على الانقباض عنك، وحسن ظن يحض على التجاوز عن نفيس الحظ منك، إلى أن استنزلني الرغبة على حكم الثقة بك من غير خبرة، فرفعت بيني وبينك سجف الحشمة، فأطعت بالانبساط أوامر الأنسة، وانتهزت في التوصل إلى مودتك فائت الفرصة، والمستماح منك زورة أرتجع ما اغتصبته الأيام من المسرة، مهنأة بالانفراد إلا من غلامك. من الطويل
وما ذاك عن خلق يضيق بطارق ... ولكن لأخذي باجتناب العوائق
فإن صادف ما خطبته منك تقبلاً فمنه غفل الدهر عنها، وفارق مذهبه بما أهداه إلي منها، وإن جرى على رسمه في المضايقة فيما أوثره من قربك، فذمام المروءة يلزمك رد هذه الرقعة وسترها وتناسيها واطراح ذكرها. وتلو هذا الخطاب أبيات: من مجزوء البسيط
هل لك في صاحب تناسى بال ... غربة أخلاقه وبالأدب
أوحشه القرب فاستراح إلى ... قربك مستنصراً على النوب
فإن تقبلت ما حباك به ... لم تشن الظن فيك بالكذب
وإن أبى الدهر دون بغيتنا ... فكن كمن لم نقل ولم تجب
فورد علي ما حيرني، وتحصل لي في الجملة أن أغلب الأوصاف على صاحبها الكتابة، وقلت للراهب: من هذا؟ وكيف السبيل إليه؟ فقال: أما ذكر حاله فإليه إذا اجتمعنا، وأما السبيل إلى لقائه فسهل إن شئته. قلت: دلني. قال: تتصيد عذراً تفارق أصحابك، وإذا حصلت بظاهر الدير عدلت بك إلى باب خفي تدخل منه. فرددت الرقعة وقلت: ادفعها إليه ليتأكد أنسه بي وسكونه إلي، وعرفه أن التوفر على التحيل في المصير إليه أولى من التشاغل بإصدار جواب أو قطع وقت بمكاتبة. وعدت إلى أصحابي بغير النشاط الذي ذهبت به، فأنكروا ذلك، واعتذرت لهم بشيء عرض لي، واستدعيت ما أركبه، وأمرت(29/322)
من يخدمني بالتوفر على خدمتهم، وقد كنا على المبيت، فاجتمعوا على تعجل الانصراف، وخرجت من الدير ومعي مملوك كنت آنس به، وتلقاني الراهب فعدل بي إلى طريق وأدخلني الدير من باب غامض، وصار بي إلى قلاية، فقرع بابها بحركات مختلفات كالعلامة، فابتدرنا منه غلام، كأن الشمس تشرق من غرته، والليل في أصداغه وطرته، وبغلالة تتم على ما تستره، فبهر عقلي، واستوقف نظري، ثم أجفل كالظبي المذعور، وتلوته والراهب إلى صحن القلاية، فإذا بيت مفروش مبسوط، فوثب إلينا منه فتى مقتبل الشبيبة، طاهر النبل، حسن الصورة متزي من اللباس بزي غلامه، فلقيني حافياً يعثر في سراويله، واعتنقني وقال: إنما استخدمت هذا الغلام في تلقيك لأجعل ما لعلك استحسنته من وجهه قبالة ما ترد عليه من قبح وجهي؛ فاستظرفت اختصاره الطريق إلى بسطي، وارتجاله النادرة على نفسه حرصاً في تأنيسي، وأفاض في شكري على المسارعة إليه، وأنا أواصله بالتعبد له، والاعتداد بتفضله. وقال: أنت مكدود بمن كان معك والتمتع بمحادثتك لا يتم إلا بالتوصل إلى راحتك. فاستلقيت يسيراً، ثم نهضت، فخدمت في حالتي النوم واليقظة الخدمة التي ألفتها في دور أكابر الملوك. وأحضرنا خادم له طبقاً يضم ما يتخذ للعشاء. فقال لي: الأكل مني يا سيدي للجوع، ومنك للممالحة والمساعدة. فنلنا شيئاً، وأقبل الليل، وجاءنا الراهب من الأشربة بما أخبرناه. ولم يزل يناهبني نوادر الأخبار، وملح الأشعار، ويخلط ذلك من المزاح بأطرفه، ومن التودد بألطفه إلى أن توسطنا الشرب، فالتفت إلى غلامه فقال: ما مترف، إن مولاك ما ادخر عنا السرور بحضوره، وما يجب أن ندخر ممكناً في مسرته. فامتقع وجه الغلام حياء وخفراً، فأقسم عليه بحياته وأنا لا أعلم ما يريد، فمضى وجاء بطنبور، وجلس وغنى: من المجتث
يا مالكي وهو ملكي ... وسالبي ثوب نسكي
نزه يقين الهوى في ... ك عن تعرض شك
لولاك ما زلت أبكي ... إلى الصباح وأبكي
فنظر إلى الغلام وتبسم، فعلمت أن الشعر له، وكدت أطير طرباً، فاستدعيت(29/323)
كيزاً، فأحضرنا الخادم عدة قطع من فاخر البلور وجيد الحكم، فشربت وشرب، ثم قال: أنا أحب ترفيهك، ولا أقطعك عما أنت متوفر عليه، فقد عرفت الاسم والنسب والصناعة، وقد كنت أوثر أن نسم ليلتنا بشيء يكون لذكرها معلماً. فكتبت ارتجالاً: من المجتث
وليلة أوسعتني ... حسناً ولهواً وأنسا
ما زلت ألثم بدراً ... بها وأشرب شمسا
إذ أطلع الدير سعداً ... لم يبق مذ لاح نحسا
فصار للروح روحاً ... مني وللنفس نفسا
فطرب على قولي: ألثم بدراً وأشرب شمساً، وعلى قولي: للروح روحاً، وللنفس نفساُ. وجذب غلامه فقبله، وقال: ما جهلت ما يجب لسيدي من التوقير، وإنما اعتمدت تصديقك فيما ذكرته، فبحياتي إلا فعلت ذلك بغلامك، فاتبعت إيثاره خوفاً من احتشامه، وأخذ الأبيات، وجعل يرددها، وكتب إجازة لها: من المجتث
ولم أكن لغريمي ... والله أبذل فلسا
لو ارتضى لي خصمي ... بدير مران حبسا
فقلت: إذا ما كان أحد يؤدي حقاً ولا باطلاً. وعرفت أنه مستتر من دين. وقال لي: قد خرج لك أكثر الحديث، فإن عذرت وإلا ذكرت الحال لتعرفها على صورتها، فتبينت ما يؤثره من كتمان نفسه، فقلت له: يا سيدي كل ما لا يتعرف بك نكرة، وقد أغنت المشاهدة من الاعتذار. وجعل يشرب وينخب علي من غير إكراه ولا حث إلى أن رأيت الشراب قد أخذ منه. وأكب على مجاذبة غلامه، فأظهرت النوم، ففرش لي إلى جانب فراشه، وقام يتفقد أمري بنفسه، فقلت: إن لي مذهباً في تقريب غلامي مني، واعتمدت بذلك تسهيل ما يختاره من غلامه، فتبسم، وقال لي بسكره: جمع الله لك المسرة كما جمعها لي بك. وأظهرت النوم، وعاد يجاوب غلامه بأعذب الألفاظ، وأحلى معاتبة، ويخلط ذلك بمواعيد تدل على سعة حال وانبساط يد، وغلامه يقبل يده ورجله وفمه، وغلب علي النوم إلى أن أيقظني هواء السحر، فانتبهت وهما متعانقان، فأردت توديعه، وحاذرت إزعاجه، فخرجت ولقيني الخادم يريد إنباهه، فأقسمت عليه ألا يفعل، وركبت منصرفاً، ومحدثاً نفسي بالعودة إليه، ومتوهماً أن ما كنت فيه مناماً لطيبه، واعترضتني(29/324)
أشغال أدت إلى اللحاق بسيف الدولة، فسرت متحسراً على ما فاتني من معرفة حقيقة خبره، ولم أزل متلهفاً على ما سلبته من فراقه، ولم أحصل على حقيقة خبر يطمعني في لقائه إلى أن عاد سيف الدولة إلى دمشق، فما بدأت بشيء قبل المصير إلى الدير، وطلبت الراهب، وسألته عن خبره، فقال: أما الآن فنعم، هذا فتى من المادرائيين، عظيم النعمة، جليل القدر، كان ضمن من السلطان بمصر ضياعاً بمال عظيم، فخاش به ضمانه وأشرف على الخروج من نعمته، فاستتر، واشتد البحث عنه، فخرج مختفياً إلى هذا البلد بزي تاجر، واستتر عند بعض إخوانه ممن أعرفه، فإني يوماً عنده إذ ظهر لي وقال لصديقه: إني أريد الانتقال إلى هذا الراهب إن كان علي مأموناً، فذكر له صديقه مذهبي، وأظهرت المسرة بما رغب فيه من الأنس بي، وأنا لا أعرفه، غير أن صديقي أمرني بخدمته، وأكد علي تأكيداً عرفت منه جلالة قدره، وحصل في قلايتي يواصل الصوم، فبعد أيام جاءنا رسول صديقنا ومعه الغلام والخادم وقد لحقا به بسفاتج وعليهما ثياب رثة، فلما نظر إلى الغلام قال: يا راهب، جاء الفطر مع إقبال العيد. ووثب إليه فاعتنقه، وقبل بين عينيه ويبكي، وأنفذ رقعة منه إلى صديق له، فحمل إلينا ألفي دينار، فدفع إليه منها ثلاث مئة دينار وقال له: ابتع لنا ما نستخدمه في هذه الضيقة. فابتاع آلة وفرشاً، ولم يزل مكباً على ما رأيت إلى أن ورد عليه غلمانه بالبغال والآلات الحسنة، وكتب أهله باجتماعهم على الإخشيد، وتعريفهم حاله، في بعده عن وطنه لضيق يده عما يطالب به، والتوقيع بحطيطة المال عنه، وبعوده إلى بلده بالكتب، فلما عمل على المسير قال لغلامه: سلم ما بقي من نفقتك إلى الراهب يصرفه في مصالح الدير إلى أن نواصل تفقده من مستقرنا. وسار وما له حسرة غيرك، ولا يشرب إلا على ما يغنيه الغلام من شعرك، وهو بمصر على أفضل حال، ما يخل بتفقدي. فتعجلت بعض السلوة بما عرفته من حقيقة خبره، وأقمت يومي عند الراهب، وانصرفت.(29/325)
رجل
أنشد هذا الشعر: من الوافر
وجدت أخص إخواني عدوي ... إذا ما الدهر أحوجني إليه
سلمت من العدو وما دهاني ... سوى من كان معتمدي عليه
رجل
أنشد هذا الشعر: من المديد
مالك لا تفعل الجميل وقد ... صورك الله أحسن الصور
ليس جمال الفتى بنافعه ... إلا بنشر الجميل في البشر
شاعر
كتب إلى أبي الحسن بن الران الواعظ: من المتقارب
عجبت ومثلي لا يعجب ... طربت ومثلي لا يطرب
لليل يكر على فجره ... وعمري بينهما يذهب
وما تبت لله من زلة ... فأين من الله لي مهرب
ولا خفت سطوته إذ خلوت ... بأقبح شيء له أركب
فوا حزني ثم واحسرتي ... على مكسب شر ما يكسب
ويا لهف نفسي على توبة ... تقرب مني الذي اطلب
وكيف السبيل إلى ما طلبت ... وأنت خبير بما يطلب
وقل لي يا طربي تارة ... ويا عجبي ما الذي يعجب
وإني لفي شغل عنهما ... بأمر عظيم هو الأغلب
فلله درك من واعظ ... يرغب فيما له يرغب(29/326)
فأجابه الشيخ أبو الحسن بن الران الواعظ: من المتقارب
عجبت لذي اللب إعجابه ... وأسباب غفلته أعجب
فإن كنت أبصرت قصد الطريق ... يقيناً وصح لك المطلب
فخذ في مسيرك ذات اليمين ... تفوز وتحظى بما تطلب
وأكثر من الزاد قبل المعاد ... لعلك تنجو ولا تعطب
فما الخير للمرء في لذة ... تبيد وأيامه تذهب
نهار يمر وليل يكر ... ويومان بينهما تسلب
وعما قليل يكون الحريص ... في القبر رهناً بما يكسب
ويطلب من ذنبه مهرباً ... وهيهات عز به المهرب
وأصبح في قعر مرموسه ... توعر من دونها المطلب
وليس بها ضوء شمس يبين ... ولا ضوء بدر ولا كوكب
فيا عجباً من فتى لاعب ... وأيدي المنون به تلعب
ويضحك من عبر سنه ... وعين الزمان له تندب
ويبعده العيش في كل يوم ... وأسباب منيته تقرب
ويغفل عن مر أيامه ... وصرف الزمان له يلعب
ويفرح للشمس إذ أشرقت ... وشمس بشاشته تغرب
رجل
أشد لأبي العتاهية: من مجزوء الكامل
ما للمقابر لا تجي ... ب إذا دعاهن الكئيب
حفر مسقفة علي ... هن الجنادل والكثيب
فيهن ولدان وأط ... فال وشبان وشيب
كم من خليل لم تكن ... نفسي لفرقته تطيب(29/327)
غادرته في بعضهن ... مجدلاً وهو الحبيب
ولهوت عنه وإنما ... عهدي برؤيته قريب
شاعر
من دمشق. قال فيما جرى بدمشق سنة إحدى عشرة وأربع مئة عند فتنة ولي العهد عبد الرحيم بن إلياس: من الطويل
تقضي أوان الضرب والطعن والحرب ... وجاء أوان الوزن والصفع والضرب
وأضحت دمشق في مصاب وأهلها ... لهم خبر قد شاع في الشرق والغرب
حريق وجوع دائم وبلية ... وخوف فقد حق البكاء مع الندب
كأن دمشقاً حين تنظر أهلها ... وقد حشروا حشر القيامة للكتب
فلو كان من يجني يقاد بذنبه ... لكنا براء من قياد ومن ذنب
فوا أسفي أن المدينة أحرقت ... وطاف عليها طائف السخط من ربي
وأضحت تلالاً قد تمحت رسومها ... كبعض ديار الكفر بالخسف والقلب
وأحرقت الأبواب من كل جانب ... فأصبحت بعد الأنس ينكرها قلبي
إلى أين أسعى من دمشق وأرضها ... بها جنة الفردوس للأكل والشرب
وجامعها إحدى العجائب في الورى ... له الخبر المنعوت في سائر الكتب
إليكم جميع المسلمين نعيتها ... وإن كنت قد أقصرت في نعتها خطبي
رجل
أنشد لبعضهم: من الخفيف
قد سجنا نفوسنا في البيوت ... وقنعنا من دهرنا بالقوت
ورضينا من الصديق إذا ما ... ناب خطب يعيننا بالسكوت
أي الدفع، والمصادرة والضرائب.(29/328)
ذكر المجهولات من النساء
بنت أبي عباية
كان بدمشق رجل يكنى أبا عباية، فمر ببشر بن مروان وهو جالس على درج دمشق وهو أمير عليها وبين يديه رجل يضرب بالسياط، فقال له: اتق الله يا بشر! فأمر به فجرد، وضرب بين يديه سبعة عشر سوطاً، فمات، فرثته ابنته فقالت: من الوافر
وراح أبو عباية نحو بشر ... فحمله بمصرعه الذهاب
وعلى أن قال ربك فاحذرنه ... فعند الله يا بشر الثواب
فعز لقوله ودعا رجالاً ... يقضون الأمور وهم غضاب
فأهوى بالسياط فجردوه ... فيا لك مستغيثاً لا يجاب
بنت عبد الله بن زيد
ابن عبد ربه بن ثعلبة بن زيد بن الحارث بن الخزرج
دخلت على عمر بن عبد العزيز فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا بنت عبد الله بن زيد، شهد بدراً، وقتل يوم أحد فقال: من البسيط
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
سليني ما شئت. فسألته، فأعطاها ما سألت.(29/329)
بنت عدي بن زيد
المعروف بابن الرقاع، العاملي، شاعرة. قال الأصمعي: اجتمع ناس من الشعراء، فأتوا باب ابن الرقاع يطلبونه، فخرجت بنية له فقالت: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أباك لنخزيه ونفضحه. فنظرت إليهم هنية، ثم قالت: من الطويل
تجمعتم من كل أفق وبلدةٍ ... على واحد لا زلتم قرن واحد
أم محمد بن سليمان بن أبي الدرداء
حدثت عن جدتها أم الدرداء قالت: قالوا: يا رسول الله، هل يضر الغبط؟ قال: نعم، كما يضر الشجرة الخبط. قال هشام: الغبط: النعم
أم مسلمة بن عبد الله الجهني
حدثت عن أبي الدرداء قالت: ذكرنا الشؤم عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعني فقال: إن شيئاً لا يشوم شيئاً، فإن كان الشؤم في شيء ففي المرأة والدار والفرس.(29/330)
أم يزيد بن أبي مريم
مولاة سهل بن الحنظلية. حدثت عن سهل بن الحنظلية الأنصاري وكان لا يولد له، وفي أخرى: وكان عقيماً لا يولد له فقال: لئن ولد لي ولو سقط فأحتسبه أحب إلي من أن تكون لي الدنيا جميعاً. قال: وسهل بن الحنظلية ممن بايع تحت الشجرة.
أخت عبد الله بن عامر
ابن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف خاصمت أخاها إلى معاوية، فأراد معاوية الركوب، فقال له عبد الله بن عامر: إني أخاف عليك هذه المرأة أن تؤذيك في طريقك. فلما ركب عارضته وأخذت بلجام بغلته وقالت: يا أمير المؤمنين: أعدني على شبيه البغل الذي لم يشبه أباه ولا أمه. فقال لها الضحاك بن قيس الفهري: اسكتي يا عدوة الله. قالت: يا أمير المؤمنين، من هذا؟ قال: هذا الضحاك بن قيس الفهري. قالت: هذا الذي يقول الشاعر في أبيه: من الطويل
قصير القميص فاحش عند بيته ... وشر قريش في قريش مركبا
فقال لها مروان: اسكتي يا عدوة الله. قالت له: يا بن الزرقاء، أما والله لو كانت أمك قرشية لحميت لي. فتطأطأ معاوية على بغلته وقال: هات حاجتك، والله لا كنت اليوم رابعاً.(29/331)
امرأة لها صحبة
ويقال إنها امرأة حذيفة. حدثت قالت: نام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت: تضحك مني يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن من قوم من أمتي يخرجون غزاة في البحر، مثلهم مثل الملوك على الأسرة. قالت: ثم نام ثم استيقظ أيضاً يضحك، فقالت: تضحك مني يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن من قوم من أمتي يخرجون غزاة في البحر فيرجعون قليلة غنائمهم، مغفوراً لهم، قالت: ادع الله لي أن يجعلني منهم، فدعا لها.
قال عطاء بن يسار: فرأيتها في غزاة غزاها المنذر بن الزبير إلى أرض الروم، وهي معنا، فماتت بأرض الروم. قالوا: كانت أم حرام من الفوج الأول الذين غزوا قبرس في خلافة عثمان، وهذه من الفوج الآخر، وإنما غزا المنذر القسطنطينية مع يزيد بن معاوية في أيام أبيه.
امرأة من بني مرة
قالت: كأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة، ونزل عن فرس له شقراء فعرقبها، ثم مضى فقاتل حتى قتل.
امرأة أدركت الصحابة
كان معاوية قد قال لكعب: إن سألك أهل العراق عن شيء فلا تحدثهم. قال: فرأى امرأة شافة عند درج المسجد بدمشق. فقال: لصاحبة بني إسرائيل كانت أحسن عزاء(29/332)
وأفضل جزاء من هذه، فقالوا: حدثنا عنها، ما كان من أمرها؟ قال: إني نهيت عن ذلك. قال: فقالوا: إنا لم نسألك عن شيء، وإنما هذا شيء جئت به أنت. قال: فحدثهم قال: كان في بني إسرائيل قاض عدل، كانت له امرأة، وكان له منها ابنان، وكانت تسفر بيته وتهيئ له طعامه، فإذا فرغ دخل مع أصحابه فأطعمهم. قال: فتردى ابناه ذات يوم في بئر، فأخرجتهما وقد ماتا. قال: فأدخلتهما المخدع، ثم سجتهما بثوب، فلما دخل طعم هو وأصحابه، ثم تطيبت له، فأصاب منها، ثم قال: أين ابناي؟ فقالت: في المخدع. قال: فدخل فأخذ بيد أحدهما، قال: قم يا بني. فقام، ثم أخذ بيد الآخر فقال: قم يا بني، فلما خرج قالت له امرأته: أي امرأة أنا عندك؟ قال: ما أعلم امرأة تكون أفضل منك. قالت: فإنهما كانا ماتا. قال: هي شكيمة شكمتها بصبرك.
نسوة متعبدات
كن يصحبن أم الدرداء. قال يونس بن حلبس: كنا نحضر أم الدرداء، ويحضرها نساء متعبدات يقمن الليل كله، حتى إن أقدامهن انتفخت من القيام. وكانت أم الدرداء تؤتى بألوان الطعام، فكلما جيئت بقصعتين صبتها على الأخرى وتقول: صبوا البركة بعضها على بعض.
امرأة مخزومية ويقال زهرية
لما سير ابن الزبير بني أمية إلى الشام كانت فيهم امرأة من بني مخزوم ناكح في بني أمية، فمرت بسوق الصفارين بدمشق، فسمعت رجلاً ينشد شعر أبي قطيفة: من الطويل(29/333)
ألا ليت شعري هل تغير بعدنا ... جنوب المصلى أو كعهدي القرائن؟
وهل آدر بين العقيق عوامر ... من الحلي، أم هل بالمدينة ساكن
إذا برقت نحو الحجاز سحابة ... دعا الشوق منها برقها المتيامن
وما أزعجتنا رغبة عن بلادنا ... ولكنه ما قدر الله كائن
فشهقت شهقة وخرجت ميتة.
امرأة يزيد بن سنان
شاعرة. ضرب عبد الملك بن مروان بعثاً إلى اليمن، فأقاموا سنتين حتى إذا كان ذات ليلة وهو بدمشق، قال: لأعسن الليلة مدينة دمشق، ولأسمعن الناس ما يقولون في البعث الذي أغزيت فيه رجالهم، وأغرمت فيه أموالهم، فبينا هو في بعض أزقتها إذا هو بصوت امرأة قائمة تصلي، فتسمع إليها، فلما انصرفت إلى مضجعها قالت: اللهم، يا غليظ الحجب، ويا منزل الكتب، ويا معطي الرغب، ويا مؤوي العزب، ويا مسير النجب، أسألك أن تؤدي غائبي، فتكشف به همي، وتصفي به لذتي، وتقر به عيني، وأسألك أن تحكم بيني وبين عبد الملك بن مروان الذي فعل بنا هذا، فقد صير الرجل نازحاً، والمرأة متقلقلة على فراشها، ثم أنشدت تقول: من الطويل
تطاول هذا الليل فالعين تدمع ... وأرقني حزن فقلبي موجع
فبت أقاسي الليل أرعى نجومه ... وبات فؤادي عانياً يتقرع
إذا غاب منها كوكب في مغيبه ... لمحت بعيني آخر حين يطلع
إذا ما تذكرت الذي كان بيننا ... وجدت فؤادي للهوى يتقطع
وكل حبيب ذاكر لحبيبه ... يرجي لقاه كل يوم ويطمع(29/334)
فذا العرش فرج ما ترى من صبابتي ... فأنت الذي يرعى أموري ويسمع
دعوتك في السراء والضر دعوة ... على علة بين الشراسيف تلذع
فقال عبد الملك لحاجبه: تعرف هذا المنزل؟ قال: نعم، هذا منزل يزيد بن سنان. قال: فما المرأة منه؟ قال: زوجته. فلما أصبح سأل: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ قالوا: ستة أشهر. قال: فأمر أن لا يمكث العسكر أكثر من ستة أشهر.
جارية لسليمان بن عبد الملك
شاعرة. قال سليمان بن عبد الملك يوماً والشعراء عنده: قد قلت نصف بيت فأجيزوه. قالوا: ما هو؟ فقال: من الطويل
نروح إذا راحوا ونغدو إذا غدوا
فلم يصنعوا شيئاً، فدخل على جارية له، فأخبرها، فقالت: كيف قلت؟ فأنشدها، فقالت: وعما قليل لا نروح ولا نغدو
أم ولد لعمر بن عبد العزيز
قالت: سألني عمر دهناً، فأتيته به وبمشط من عظام الفيل، فرده، وقال: هذه ميتة. قلت: وما جعله ميتة؟ قال: ويحك، من ذبح الفيل!!
أم ولد لعمر بن عبد العزبز
أيضاً. قال عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: دخلت علي أمي ومعي أخي يزيد بن(29/335)
عمر، فرأت فينا سروراً، فقالت: يا بني، ما يسركما من خلافة أبيكما؟ فوالله لا تريان سروراً في خلافته أبداً. قلنا: ولم ذلك؟ قالت: دخل علي حين صلى العشاء بالناس، وهو يبكي. قالت: فما دنا من فراش ولا ثنى له جنباً، وما زال يبكي قائماً وراكعاً وساجداً حتى خرج من عندي لصلاة الصبح.
حاضنة لعمر بن عبد العزيز
قالت: قال لي عمر بن عبد العزيز: إذا أنا مت فلا تجعلوا على كفني حناطاً. قال عاصم: شهدت عمر بن عبد العزيز قال لأمة: أراك ستلين حناطي، فلا تجعلي فيه مسكاً.
امرأة من الكوفة
كان لها زوج، ولها أربع بنات، فمات صاحبها وترك البنات ليس لهن مال، ولا عندهن جمال، فقيل لها: عليك بعمر بن عبد العزيز، لعله أن يلحقهن بالعطاء. قالت: فشخصت إليه، فحدثته حديثي، فقال: أدخلوها على فاطمة. فدخلت على فاطمة فما رأيت عليها خزاً ولا قزاً، ولا هروياً ولا قوهياً، فبينا أنا كذلك إذا رجل يغرف ماء من جب. فقلت لفاطمة: هذا رجل فاستتري! فقالت: هذا أمير المؤمنين. فدنا. قال: ردي علي قصتك. ففعلت، فألحقهن، وأعطاني عشرين ديناراً، فقال: استنفقي هذه. وكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن، عامله على الكوفة. فلما دخلت الكوفة قيل: مات عمر بن عبد العزيز. وقيل: لو أتيته بالكتاب عسى الله أن يسخره. قالت: فأتيته، فدفعت الكتاب إليه، فقال: رحم الله أمير المؤمنين. قرأه وبكى وبكى من حوله. ثم قال: فكيف أصنع؟ قلت: والله خرجت وهو حي، وإن هذا لكتابه. فأثبتهن في العطاء.(29/336)
أم ولد لهشام بن عبد الملك
شاعرة. بصرت بأولادها فرأتهم على غاية البهاء، وكانت شاعرة أديبة، فأنشأت تقول: من الرجز
إذا خلطنا ماءنا بمائهم ... جاؤوك كالياقوت في صفائهم
وحمدوا في فعلهم ورأيهم ... ونسبوا بعد إلى آبائهم
فهذه الصفوة من أنبائهم
امرأة متعبدة
قال ذو النون المصري: كنت بجبل لبنان أتعبد، فبينا أنا يومئذ جالس أبكي إذا براهبة عليها المسوح، فأقبلت، فجعلت تبكي معي، ثم انصرفت، ومر الدهر زماناً وقد نزلت عن الجبل، فأنا جالس عند بعض إخواني من البزازين إذ أقبلت الراهبة بعينها، فوقفت علي فقالت: أيا شيخ، برئت قرحتك؟ فأبكتني، فما انتفعت بنفسي زماناً.
امرأة متعبدة
قال أحمد بن أبي الحواري: بينا أنا ذات يوم جالس بالشام في قبة ليس عليها باب إلا كساء مسبل، إذا أنا بامرأة تدق علي الحائط، فقلت: من هذا؟ فقالت: امرأة ضالة، دلني على الطريق رحمك الله. فقلت: عن أي الطريقين تسألين؟ فبكت ثم قالت: عن طريق النجاة. فقلت: هيهات هيهات! لا يقطع ذاك الطريق إلا بالسير الحثيث في الجد وتصحيح المعاملة، وحذف العلائق الشاغلة من أمر الدنيا والآخرة. فبكت، ثم قالت: أما علائق الدنيا ففهمتها، فما علائق الآخرة؟ فقلت: لو وافيت القيامة بعمل سبعين نبياً لم يكن لك إلا ما كتب لك في اللوح المحفوظ، وإن لجهنم زفرة يوم القيامة لو كان معك عمل سبعين نبياً ما كان بد من أن(29/337)
ترديها. قال: فصرخت صرخة، ثم قالت: سبحان من صان عليك جوارحك فلم تقطع، وسبحان من أمسك عليك قلبك فلم يتصدع. ثم سقطت مغشياً عليها.
قال ابن أبي الحواري: كانت عندنا جارية من المتعبدات، فقلنا: اخرجي فانظري ما قصة هذه المرأة. فخرجت، فإذا هي قد فارقت الدنيا، وإذا في جيبها رقعة فيها مكتوب: كفنوني في أثوابي، فإن يك لي عند ربي خير فسيبدلني ما هو خير منها، وإن يك غير ذلك فبعداً لنفسي وسحقاً.
قال ابن أبي الحواري: وإذا قوم قد أحاطوا بالجارية، فقلت لبعضهم: ما قصة هذه الجارية؟ فقالوا: هذه جارية كان يظهر بها شيء نظن أنها مصابة بعقلها، وكان الذي بها يمنعها من المطعم والمشرب وكانت تشكو إلينا وجعاً بجوفها، فكنا نعرض عليها الأطباء، فكانت تقول: أريد متطبباً أشكو إليه بعض ما أجد من دائي عسى أن يكون عنده شفائي.
امرأة متعبدة
قال أبو علي الحسن بن حبيب الإمام: كان في باب الجابية امرأة من المتعبدات فلما جاء ابن رائق وأحرق البلد، كان الحريق في بيتها يعمل وهي قائمة تصلي. فجاء إليها زوجها فقال: قد أكربتيني بصلاتك هذه، إن كان ولا بد فادعي عليهم. فقالت: يا هذا، كيف يجوز لي أن أدعو على قوم ألحقوني بدرجة الفقراء؟!
عجوز
حكى عنها أبو علي الحسن بن حبيب بن عبد الملك الحصائري قال: لقيتني عجوز على رأس زقاق عطاف، فقالت: يا شيخ، أنشد فيك وفي عصاك بيتين من الشعر؟ فقال: نعم. فقالت: من البسيط(29/338)
ما زلت أرقب حبل الدهر منتظراً ... حتى بليت وحبل الدهر ممدود
أقدم العود قدامي وأتبعه ... وكنت أمشي ولا يمشي بي العود
شاعرة من كلب
تزوجها خالد بن يزيد بن معاوية، وحملها إلى دمشق. قيل: إن خالداً خرج حاجاً، فلما رجع إذا هو بشيخ على ماء لكلب أورد إبله، ومعه ابنة له، كأنها ظبية عيطاء تعينه على سقي الإبل، من أتم النساء ما بين قرن إلى قدم، وهي في بردتين لها، قد اتزرت بواحدة، وتدرعت الأخرى. فرأى شيئاً لم ير مثله، فقال لمولى له: انطلق إلى هذا الأعرابي فاخطب علي ابنته، وأعطه ما سأل. فتزوج إياها على مئة من الإبل، وأهديت إليه في البردتين كما رآها، فلم يزدد إلا سروراً، فكانت تسامره، وتنشده أشعار قومها وتفتخر، فلما أغاظته قال: أنسيت البردتين؟ فأعرضت عنه طويلاً، ثم أنشأت تقول: من الطويل
أخالد مهلاً لا يعير بالفقر ... فكم من فتى نذل الخليقة ذي وفر
وآخر محمود الخليقة معوزٍ ... من المال لا يزري به لازم الفقر
ومن ذات بعل في حلي مظاهر ... وترفل في بز العراق وفي العطر
مذممة الأخلاق والغدر همة ... وإن مزجت منها البشاشة بالبشر
حصان لها خلق ودل مبتل ... هضيم الحشا حوراء آلفة الخدر
فلما قدم الشام تلقله عبد الملك بن مروان، فسأله عن سفره فأخبره، وحدثه بحديث الأعرابية وبردتيها، فانصرف عبد الملك إلى نسائه فحدثهن بذلك فقلن: يا أمير المؤمنين أن لو بعثت إلينا ببردتيها حتى ننظر إليهما. فسرح رسولاً، فلما أتى خالداً الرسول قالت: ما كنت لأفعل حتى أوجه إليه بأبيات، فإن استحسن أن ينظر إليهما فهو أعلم. فسرحت إليه: من الكامل(29/339)
يا ابن الذوائب من أمية والذي ... أفضت إليه خلافة الجبار
فيم استفزك خالد بحديثه ... حتى هممت بأن ترى أطماري
مهلاً أمير المؤمنين فما الذي ... أحببت من ذاكم علي بعار
فلئن رأيت سحيق شملي بالياً ... إني لمن قوم ذوي أخطار
صبر على ريب الزمان أعزة ... لا يخفرون بذمة وجوار
غلب إذا حمي الوطيس وجدتهم ... صبراً لدى الهيجا بني أحرار
فاترك مقالة خالد وحديثه ... واحفظ مقالة معشر أخيار
فوجه إليها عبد الملك بألف دينار، وقال: إنما أردنا استخراج هذا الشعر منك.
امرأة شاعرة
كان رجل من أهل الشام مع الحجاج، وكان يحضر طعامه، فكتب إلى أهله يخبرهم بما هو فيه من الخصب وأنه قد سمن، فكتبت إليه امرأته: من الطويل
أتهدي لي القرطاس والخبز حاجتي ... وأنت على باب الأمير بطين
إذا غبت لم تذكر صديقاً وإن تقم ... فأنت على ما في يديك صنين
وأنت ككلب السوء في جوع أهله ... فيهزل أهل البيت وهو سمين
امرأة عنسية
شاعرة، من أهل داريا. قتل لها ابن اسمه عمرو بداريا في حرب أبي الهيذام، فقالت ترثيه، وقد قتلته قيس يوم داريا: من الخفيف
عين بالدمع فاستهلي لعمرو ... بدموع غزيرة الهملان
قتلته قيس فقرت بقتلى ... قيس عيلان مني العينان(29/340)
قتلوه مثل الهلال جواداً ... بالعطايا، يبر بالإخوان
قتلوه مثل القناة طريراً ... مائد الأصل، طيب الأردان
وبعمرو فجعت، لهفي عليه ... أبداً أو ألف في الأكفان
فقدته عنس الكرام وخولا ... ن، ومن مثل عنس أو خولان
ليت شعري فذاك أكبر همي ... هل يقدني الزمان من عيلان
عامراً عامراً فلا يغلبنكم ... عامر الغي يا بني قحطان
إن يفتكم يكن معاير فيكم ... فاضحات للشيب والولدان
البسوا الحلي والمجاسد يا قو ... م إذن واجلسوا مع النسوان
امرأة شاعرة
من نصارى بصرى قال المازني: نزلت بدير بصرى فرأيت في رهبانه فصاحة، وهم عرب منتصرة، وهم أفصح من رأيت، فقلت: ما فيكم شاعر؟ فقالوا: ما فينا إلا امرأة كبيرة السن. فقلت: جيئوني بها، فجاءت، واستنشدتها فأنشدتني لنفسها: من الطويل
أيا رفقة من دير بصرى تحملت ... تؤم الحمى حييت من رفقة رشدا
إذا ما بلغتم سالمين فبلغوا ... تحية من قد ظن ألا يرى نجدا
وقولوا: تركنا العامري مكبلاً ... لكل هوىً من حبه مضمراً وجدا
فيا ليت شعري هل أرى جانب الحمى ... وقد أنبتت أجراعه أثلاً صعدا
وهل أردن الدهر ماءً وتلعةً ... كأن الصبا تجلو على متنه بردا(29/341)
أخت رابعة
زوج أحمد بن أبي الحواري. حدثت رابعة وكانت من متعبدات النساء قالت: دخلت على أخت لي عاتق تقرأ في المصحف، فقالت لي: يا أختي بلغني أن زوجك قد تزوج عليك. قلت: كان ذلك. قالت: لقد بلغني عنه عقل، فكيف رضي مع عقله بشغل قلبه عن الله بامرأتين؟ أما بلغك تفسير هذه الآية " إلا من أتى الله بقلب سليم "؟ قلت: لا. قالت: بلى، القلب السليم الذي يلقى الله وليس فيه غيره. قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت به أبا سليمان فقال لي: يا أحمد، لي ثلاثون سنة مذ قدمت الشام ما سمعت بحديث أرفع من هذا. والله أعلم قال عبد الله محمد بن المكرم: هذا آخر مختصر تاريخ الشام، وحكاية أخت رابعة كانت قبل هذه الترجمة بعدة أسماء، وإنما أخرتها رجاء بركة قوله تعالى " إلا من أتى الله بقلب سليم " والله تعالى لا يجعل في قلوبنا غيره، ولا يحرمنا خيره، وأن يرزقنا القدوم عليه بقلب سليم، إنه هو الرؤوف الحكيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
نجز الجزء التاسع والعشرون من مختصر تاريخ دمشق وهو آخر الكتاب علقه وما قبله عبد الله بن محمد بن المكرم بن أبي الحسن بن أحمد الأنصاري الكاتب عفا الله عنه وفرغ منه في الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وست مئة الحمد لله رب العالمين كما هو أهله، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل.(29/342)