كان يرى رأي الخوارج: انظروا إلى هذا الشيخ، ونال منه، إنه ترك الصلاة وانطلق إلى دابته.
فلما أقبل أبو برزة قضى صلاته، فقال: إني غزوت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع غزوات وأنا شيخ كبير، ولو أن دابتي ذهبت إلى مألفها شق ذلك علي، فصنعت ما رأيت.
فقلنا للرجل: ما أرى الله إلا مخزيك، شتمت رجلاً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو برزة: كانت العرب تقول: من أكل الخبز سمن، قال: فلما فتحنا خيبر أجضناهم عن خبزة لهم، فقعدت عليها، فأكلت منها حتى شبعت، فجعلت أنظر في عطفي هل سمنت.
وفي رواية: فجعل أحدنا يأكل منه الكسرة ثم يمس عطفه هل سمن؟! قال أبو برزة: لما كان حين صالح الحسن بن علي معاوية قام خطباء، كلهم لا ألون أن ينتقص علياً ويثلبه، فقال عمرو لمعاوية: مر أبا برزة فليخطب، فقال معاوية: قم يا أبا برزة فاخطب؛ فقلت: إني لا أتكلف الخطب، فقال: لتقومن، فقمت: فحمدت الله، وذكرت ما من الله به من الإسلام، وما خص به محمداً عليه السلام، ثم قلت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إني لأرجو أن تبلغ شفاعتي حتى حاء وحكماً ".
وكان نبينا أتقانا لربه، وأوصلنا لرحمه، ثم نزلت.
دخل أبو برزة على عبيد الله بن زياد، فلما رآه عبيد الله " قال ": إن محدثكم(26/153)
هذا لدحداح، ففهمها الشيخ، فقال: ما كنت أحسب أني أبقى في قوم يعيرونني بصحبة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له عبيد الله: إن صحبة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زين غير شين، ثم قال: إنما بعثت إليك لأسألك عن الحوض، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر فيه شيئاً؟ قال أبو برزة: نعم، لا مرة ولا ثنتين، ولا ثلاثاً ولا أربعاً، ولا خمساً، فمن كذب به فلا سقاه الله منه، ثم خرج مغضباً.
حدث عوف عن أبي المنهال قال: لما كان من خروج ابن زياد، ووثب مروان بالشام وابن الزبير بمكة، ووثب الذين يدعون القراء بالبصرة غم أبي غماً شديداً، وكان يثني على أبيه خيراً، قال لي: انطلق إلى هذا الرجل الذي من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبي برزة الأسلمي، فانطلقت معه حتى دخلنا عليه في داره وإذا هو في ظل غلولة من قصب في يوم شديد الحر.
قال: فجلسنا إليه، فكان أول شيء تكلم به قال:
إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطاً على أحياء قريش، وإنكم معين العرب، كنتم على الحال الذي قد علمتم من جهالتكم من القلة والذلة والضلالة، وإن الله نعشكم بالإسلام ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بلغ بكم ما ترون، وإن هذه الدنيا هي التي أفسدت بينكم، وإن ذاك الذي بالشام، والله، ما يقاتل إلا على الدنيا، وإن ذلك الذي بمكة، والله، ما يقاتل إلا على الدنيا، وإن الذين حولكم الذين تدعونهم قراءكم، والله، ما يقاتلون إلا على الدنيا.
قال: فلما لم يدع أحداً قال له أبي: فما تأمر إذاً؟ قال: لا أرى خير الناس اليوم إلا عصابة مكيدة، خماص البطون من أموال الناس، خفاف الظهور من دمائهم.
فقال له أبي: حدثنا كيف يصلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المكتوبة؟ قال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، قال: وكان(26/154)
يصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية. قال: ونسيت ما قال في المغرب. قال: وكان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المئة.
قال ثابت البناني: كان عائذ بن عمرو يلبس الخز ويركب الخيل، وكان أبو برزة لا يلبس الخز، ولا يركب الخيل، ويلبس ثوبين ممصرين.
وفي رواية: إنه كان يلبس الصوف، فأراد رجل أن يشي بينهما، فأتى عائذ بن عمرو، فقال: ألم تر إلى أبي برزة يرغب عن لبسك وهيئتك، وتحول لا يلبس الخز ولا يركب الخيل؟ فقال عائذ: يرحم الله أبا برزة، ومن فينا مثل أبي برزة؟ ثم أتى أبا برزة، فقال: ألم تر إلى عائذ يرغب عن هيئتك وتحول يركب الخيل ويلبس الخز؟ فقال: يرحم الله عائذاً، ومن فينا مثل عائذ.
وكان لأبي برزة جفنة من ثريد غدوة، وجفنة عشية للأرامل واليتامى والمساكين.
قال عبد الله بن موله القشيري: كنت بالأهواز إذ مر بي شيخ ضخم على بغلة وهو يقول: اللهم ذهب قرني من هذه الأمة فألحقني بهم. فألحقته دابتي فقلت: وأنا رحمك الله، قال: وصاحبي هذا إن أراد ذلك. ثم قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" خير أمتي قرني ثم الذي يلونهم ". قال: ولا أدري أذكر الثالث أم لا، " ثم يخلف(26/155)
قوم يظهر فيهم السمن، يهريقون الشهادة ولا يسألونها " فإذا أبو برزة الأسلمي.
كان أبو برزة يحدث: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر على قبر وصاحبه يعذب، فأخذ جريدة فغرسها في القبر، وقال: " عسى أن يرفه عنه ما دامت رطبة ".
فكان أبو برزة يوصي: إذا مت فضعوا في قبري معي جريدتين، فمات في مفازة بين كرمان وقومس.
فقالوا: كان يوصينا أن نضع في قبره جريدتين، وهذا موضع لا نصيبهما فيه.
فبينما هم كذلك طلع عليهم ركب من قبل سجستان، فأصابوا معهم سعفاً، فأخذوا منه جريدتين، فوضعوهما معه في قبره.
نضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة
ابن عبد مناف بن عبد لدار بن قصي بن كلاب أبو الحارث القرشي العبدري ويقال: النضر، والأصح أن النضر أخوه، وقتل النضر كافراً، وكان نضير من المهاجرين المؤلفة قلوبهم.
وكان النضير من أحلم الناس، وكان يقول: الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام، ومن علينا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، وقتل عليه الإخوة وبنو العم، لم(26/156)
يكن بطن من قريش أعدى لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منا مضرة، فكنت أوضع مع قريش في كل وجهة حتى كان عام الفتح، ثم خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى حنين فخرجت مع قومي من قريش، وهم على دينهم بعد، ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نعين عليه، فلم يمكنا ذلك، فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه، إن شعرت إلا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلقاني كفة كفة فقال: النضير؟ قلت: لبيك، قال: هذا خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه.
فأقبلت إليه سريعاً فقال: قد أنى لك أن تبصر ما أنت فيه موضع، قلت: قد أرى أنه لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم زده ثباتاً.
قال النضير: فوالذي بعثه بالحث، لكأن قلبي حجر ثباتاً في الدين وبصيرة في الحق، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحمد لله الذي هداك، فقال النضير: فوالله ما أنعم الله على أحد نعمة أفضل مما أنعم به علي حيث لم أمت على ما مات عليه قومي.
ثم انصرف إلى منزله ونحن معه، فلما دخل رجعت إلى منزلي، فما شعرت إلا برجل من بني الديل يقول: يا أبا الحارث؟ قلت: ما تشاء؟ قال: قد أمر لك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمئة بعير فآخذني منها فإني على دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال النضير: فأردت ألا آخذها، وقلت: ما هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا تألفاً لي،(26/157)
ما أريد أرتشي على الإسلام، ثم قلت: والله ما طلبتها، ولا سألتها، وهي عطية من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقبضتها، فأعطيت الديلي منها عشراً.
ثم خرجت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجلست معه في مجلسه، وسألته عن فرض الصلوات ومواقيتها، وعن شرائع الإسلام، ثم قلت: أي رسول الله بأبي أنت وأمي، لأنت أحب إلي من نفسي، فأرشدني أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: " الجهاد في سبيل الله والنفقة فيه ".
كان النضر قبل يوم بدر كافراً، قتله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بالصفراء صبراً بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهاجر النضير إلى المدينة، وقتل يوم اليرموك شهيداً سنة خمس عشرة في خلافة عمر بن الخطاب.
قال الهيثم بن عدي: هاجر النضير إلى الحبشة، ثم قدم إلى مكة فارتد، ثم صحح الإسلام يوم الفتح أو بعده، واستشهد باليرموك.
نضير ويقال نصير ويقال بصير
مولى خالد بن يزيد بن معاوية، وقيل: مولى معاوية، وهو أظهر حدث: أن أبا ذر لما نزل الربذة أتاه رجال من قبائل شتى، فقالوا: يا(26/158)
أبا ذر، إنا قد رأينا مكانك الذي خرجت إليه، ورأينا الذي أتى إليك، فاعقد رايتك يكلمك رجال ما شئت، فقال أبو ذر: مهلاً، يا أهل الشام، مهلاً، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنه سيكون بعدي سلطان فأعزوه، فإنه من أراد ذله ثغر ثغرة في الإسلام، وليست له توبة حتى يعيدها كما كانت، وليس بفاعل ".
قيل: نضير بنون مفتوحة، وضاد معجمة مكسورة، ومنهم من يقول: نصير، ومنهم من يقول: بصير بالصاد المهملة.
النعمان بن برزج اليماني
ممن أدرك سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يلقه. ووفد على معاوية وعلى عبد الملك.
قال النعمان: صلى أبان بن سعيد بن العاص حين قدم اليمن بالناس صلاة خفيفة، ثم خطب، فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد وضع كل دم في الجاهلية، فمن أحدث في الإسلام حدثاً أخذناه به.
وذكر أبو نعيم: أن النعمان أدرك الجاهلية، ولا نعرف له إسلاماً.
عاش النعمان ثلاثين ومئة سنة، ثلاثين في الجاهلية ومئة في الإسلام.(26/159)
النعمان بن بشير بن سعد ثعلبة
ابن خلاس بن زيد بن مالك الأغر ابن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج أبو عبد الله، ويقال: أبو محمد الأنصاري صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبوه بشير ممن شهد بدراً.
وكان النعمان بن بشير منقطعاً إلى معاوية، وولاه الكوفة، وولي قضاء دمشق.
قال الشعبي: سمعت النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووالله لا أسمع أحداً بعده يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الحلال بين وإن الحرام بين، وإن بين ذلك أموراً مشتبهات "، وربما قال: مشتبهة، " وسأضرب لكم في ذلك مثلاً: إن الله حمى حمى وإن حمى الله ما حرم، وإنه من يرع حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى "، وربما قال: من يخالط الريبة يوشك أن يخسر.
وأم النعمان عمرة بنت رواحة بن ثعلبة أخت عبد الله بن رواحة.
وولد النعمان بن بشير بعد قدوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة في الهجرة بأربعة عشر شهراً، هذا قول أهل المدينة، وأهل الكوفة يروون عنه رواية كثيرة تدل على أنه أكبر سناً من ذلك، وهو أول مولود ولد بعد الهجرة من الأنصار.
توفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وله ثمان سنين وسبعة أشهر.
وخلاس: بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام.
وشهد بشير العقبة وبدراً وأحداً والمشاهد.(26/160)
قال النعمان:
لما ولدت أتت بي أمي عمرة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحنكني بتمرة فتلمظت منها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الأنصار وحبها التمر ".
وقيل: إن أمه أتت به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم سابعه وعليه شعر البطن، فأبى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبرك عليه، وقال: احلقوا عنه شعر البطن، فحلق رأسه ثم برك عليه وقال: عقوا عنه بشاة.
وعن عاصم بن عمر بن قتادة: أن عمرة جاءت تحمل ابنها النعمان في ليفه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا بتمرة فمضغها، ثم حنكه بها، فقالت: يا رسول الله، ادع له أن يكثر ماله وولده، فقال: " أو ما ترضين أن يعيش كما عاش خاله؟ عاش حميداً، وقتل شهيداً، ودخل الجنة ".
وقيل: إن بشير بن سعد جاء بالنعمان بن بشير إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، ادع لابني هذا، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما ترضى أن يبلغ ما بلغت؟ ثم يأتي الشام فيقتله منافق من أهل الشام ".
وعن النعمان بن بشير: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث نعمان بقطفين، واحد له، والآخر لأمه عمرة، فلقي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرة فقال: أتاك النعمان بقطف من عنب؟ فقالت: لا، فأخذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأذنه وقال: يا قال سماك بن حرب: استعمل النعمان بن بشير على الكوفة، فكان من أخطب من سمعت من أهل الدنيا يتكلم.(26/161)
ولما عزل النعمان بن بشير عن الكوفة وولاه معاوية حمص، وفد عليه أعشى همدن، قال: ما أقدمك أبا المصبح؟ قال: جئت لتصلني، وتحفظ قرابتي، وتقضي ديني.
فأطرق النعمان، ثم رفع رأسه، ثم قال: والله ما من شيء، ثم قال: هه، كأنه ذكر شيئاً، فقام، فصعد المنبر فقال: يا أهل حمص - وهم يومئذ في الديوان عشرون ألفاً - هذا ابن عم لكم من أهل القرآن والشرف، قدم عليكم يسترفدكم، فما ترون فيه؟ قالوا: أصلح الله الأمير، احتكم له، فأبى عليهم، قالوا: فإنا قد حكما له على أنفسنا من كل رجل في العطاء بدينارين دينارين، فعجلها له من بيت المال، فعجل له أربعين ألف دينار، فقبضها، ثم أنشأ يقول: " من الطويل "
فلم أر للحاجات عند انكماشها ... كنعمان أعني ذا الندى ابن بشير
إذا قال أوفى بالمقال ولم يكن ... كمدل إلى الأقوام حبل غرور
متى أكفر النعمان لا أك شاكراً ... وما خير من لا يقتدي بشكور
ولما عزل النعمان بن بشير عن الكوفة وولاه معاوية حمص، وفد عليه أعشى همدان، قال: ما أقدمك أبا المصبح؟ قال: جئت لتصلني، وتحفظ قرابتي، وتقضي ديني.
فأطرق النعمان، ثم رفع رأسه، ثم قال: والله ما من شيء، ثم قال: هه، كأنه ذكر شيئاً، فقام، فصعد المنبر فقال: يا أهل حمص - وهم يومئذ في الديوان عشرون ألفاً - هذا ابن عم لكم من أهل القرآن والشرف، قدم عليكم يسترفدكم، فما ترون فيه؟ قالوا: أصلح الله الأمير، احتكم له، فأبى عليهم، قالوا: فإنا قد حكمنا له على أنفسنا من كل رجل في العطاء بدينارين دينارين، فعجلها له من بيت المال، فعجل له أربعين ألف دينار، فقبضها، ثم أنشأ يقول: " من الطويل "
فلم أر للحاجات عند انكماشها ... كنعمان أعني ذا الندى ابن بشير
إذا قال أوفى بالمقال ولم يكن ... كمدل إلى الأقوام حبل غرور
متى أكفر النعمان لا أك شاكراً ... وما خير من لا يقتدي بشكور
وعن النعمان قال وهو على المنبر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن للشيطان مصالي وفخوخاً، وإن من مصاليه وفخوخه البطر بنعم الله، والفخر بعطاء الله، والكبر على عباد الله، واتباع الهوى في غير ذات الله ".
وعن النعمان قال: الهلكة كل الهلكة أن تعمل بالسيئات في أزمان البلاء.
وعن جبير بن نضير: أنه أتي بيت المقدس يريد الصلاة فيه، فجلس إلى رجل قد اجتمع الناس عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: رجل من أهل حمص، قال: كيف وجدتم إمارة النعمان بن بشير؟ فذكرت خيراً.
قال: إذا أتيته فاقره مني السلام، وقل له: إن فضالة بن عبيد يقول لك: قوله لك، وقولك له، فقلت: ما أدري ما هذا! قال: إني سأبينه لك:(26/162)
لقيته بالمدينة وهو مغبر بالجهاد، فقلت: أين تريد؟ فقال: إني ابتعت نفسي من الله أن أجاهد وأهاجر إلى الشام، ولا أزال فيها حتى يدركني الموت، فقلت له: لقد أفلحت إذاً، ولكني أرى فيك غير هذا، فقال: ما رأيك في؟ فقلت: كأني بك أتيت الشام، أتيت معاوية فانتسبت إليه، فقلت: أنا النعمان بن بشير بن سعد أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة، فتقول له أقاويل وتحدثه بالخرافات، فيستعملك على مدينة، إما أن تهلكهم وإما أن يهلكوك.
كان كعب يقول: ليؤمرن على جند حمص أمير أشهل العينين طويل الأرنبة، كث اللحية، حلو اللسان، مر القلب، فليصيبنه بقارعة، فذكروا النعمان بن بشير.
لما قتل الضحاك بن قيس بمرج راهط في سنة أربع وستين في خلافة مروان بن الحكم أراد النعمان بن بشير أن يهرب من حمص، وكان عاملاً عليها، فحالف ودعا لابن الزبير فغلبه أهل حمص واحتزوا رأسه، فقالت امرأته الكلبية: ألقوا رأسه في حجري فأنا أحق به.
وكانت قبله عند معاوية بن أبي سفيان، فقال لامرأته ميسون أم يزيد: اذهبي فانظري إليها، فأتتها، فنظرت، ثم رجعت، فقالت: ما رأيت مثلها، وقد رأيت خالاً تحت سرتها ليوضعن رأس زوجها تحت في حجرها، فطلقها معاوية، فتزوجها حبيب بن مسلمة، ثم طلقها، فتزوجها النعمان بن بشيرن فلما قتل وضعوا رأسه في حجرها.
قالوا: ولما خرج النعمان هارباً من حمص اتبعه خالد بن خلي الكلاعي فقتله، فقالت حميدة بنت النعمان ترثي أباها: " من مجزوء الكامل "
ليت ابن مزنة وابنه ... كانوا لقتلك واقيه
وبني أمية كلهم ... لم تبق منهم باقيه
جاء البريد بقتله ... يا للكلاب العاويه
يستفتحون برأسه ... دارت عليهم ثانيه(26/163)
فلأبكين مسرة ... ولأبكين علانيه
ولأبكينك ما حييت ... مع السباع العاديه
قتل النعمان بن بشير سنة أربع وستين، وقيل: سنة خمس وستين، وقيل: سنة ست وستين.
النعمان بن جميل بن أحمد
ابن فضالة بن الصقر بن فضالة بن سالم بن جميل أبو قابوس اللخمي حدث عن عم أبيه أبي الحسن بن فضالة بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من ستر أخاه المسلم ستره الله يوم القيامة، ومن أقال أخاه عثرته أقاله الله يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
النعمان بن أبي شمر
أبو صالح البرشمي قال النعمان بن شمر: سمعت معاوية على هذا المنبر يقول: أعدوا للبلاء صبراً، فوالله إن بقي من الدنيا إلا بلاء وفتنة.
النعمان بن المنذر
أبو الوزير الغساني من أهل دمشق حدث عن مكحول بسنده إلى أم حبيبة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع ركعات بعد الظهر حرم على جهنم.(26/164)
وحدث عن سليمان بن موسى قال: سألت نافعاً عن قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي بن أبي طالب فقال: أخبرني علي: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن لباس القسي وهو المضلع، وعن التختم بالذهب، وعن لباس المعصفر، وعن القراءة في الركوع والسجود من الصلاة المكتوبة، فأما الصلاة التطوع فلا جناح، والركوع حتى تضع يديك على ركبتيك، والسجود حتى تضع جبهتك على الأرض.
وحدث عن عطاء بن أبي رباح قال: قلت لعائشة أم المؤمنين هل رخص للنساء في الصلاة على الدواب؟ فقالت: ما رخص لهن في ذلك في هزل ولا جد.
وقيل: في شدة ولا في رخاء.
توفي النعمان بن المنذر سنة اثنتين وثلاثين ومئة، وكان قدرياً.
وقال أبو زرعة: كان ثقة.
النعمان بن وداع بن عبد الله
ابن محمد بن عبد الله بن سليمان أبو عدي التنوخي المعري من شعره: " من السريع "
سبح لله وآلائه ... ما في السماوات وفي الأرض
لا يفقهون الناس تسبيحه ... بل بعضه يفقه عن بعض
ومن شعره: " من الكامل "(26/165)
بليت يدي وكتابها ... يبلى ولكن بعد حين
وكذاك يهلك كل شي ... ء غير رب العالمين
ومن شعره: " من السريع "
عبدك يا ذا العرش فالطف به ... يا خير من أبلى ومن عافى
من فقراء قد غنوا عفة ... لا يسألون الناس إلحافا
خاف فلا يرجوك إلا امرؤ ... أمنه عدلك إذ خافا
ومن شعره: " من السريع "
ما أحسن التوبة إن عجلت ... من تائب والغصن غض وريق
فقل لمن قد طاح في غيه ... لا بد للسكران مما يفيق
يتوب إما كبراً أو تقى ... فاربح هداك الله أقرب الطريق
نعمان الزاهد
من أهل قرية الحميريين.
قال نعمان: وسمعت أحمد بن عاصم يقول: قلت بيتاً من الشعر جمعت فيه الخير والشر كله، قلت: ما هو؟ فأنشدني: " من البسيط "
لا تغضبن ولا تطمع وكن ورعاً ... واحفظ لسانك واترك فضل ما اشتبها
قال: وسمعت أحمد عاصم يقول: من لم ينتهز عند إمكان الفرصة عض على الندم عند فوات الإمكان، ولا إمكان كسلامة الأبدان في الأيام الخالية، فمن أحب أن يكون في الدنيا حكيماً مؤدباً، وفي(26/166)
الآخرة ملكاً متوجباً فليقبل مني ثلاث خلال: ينفي عن قلبه سلطان الطمع بالإياس، ويميت من قلبه سورة الغضب بالتواضع له، والثالثة رأس كل خير، هي في ابتدائه ووسطه وتمامه، يؤثر دلالة العقل والعلم على جلب الهوى، يقع به الحق حيث وقع.
نعمة بن هبة الله بن محمد
أبو الخير الجاسمي، الفقيه من قرية جاسم.
حدث نعمة: أن شيخاً من أهل قرية كفر عاقب من عمل طبرية، كان عمره زائداً على المئة من أهل الخير، له مدة سنين محتجب عن الناس، خال بعبادة الله عز وجل، حدثه أنه لما خرج داعي طبرية، لعنه الله، يلزم الناس بالاتصال، ذكر هذا الشيخ فيمن ذكر، وهرب جماعة من أهل القرية، ولم يكن في الشيخ نهضة للهرب، فبات مهموماً من ذلك، وموعده أن يجيئه الداعي من غد، وقد خاف من ذلك.
فلما كان في الليل رأى في النوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين يديه عليه بن أبي طالب، يطرف بين يديه، وفي يديه قضيب أظنه لوزاً، وعليه جفنان.
قال: فتقدمت إليه لأقبل يده، وأنا أعلم أنه علي بن أبي طالب، فمنعني، وقال: ابدأ بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى يمينه ويساره الحسن والحسين عليهما السلام، ومن ورائه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فجئت لأقبل بين عينيه، فأمال خده إلي، فقبلته وأنا أبكي ثم تبسم حتى رأيت ثنيته المكسورة، ثم شكوت إليه، وقلت: يا رسول الله، ما ترى قد دفع الناس إليه، وما في ما أهرب، وما أبرح؟ فقال: ما عليك مخافة.(26/167)
ثم أعدت عليه القول، فقال: لا تخف، ثم أعدت القول، وقلت: ما أطمئن، فقال لعلي عليه السلام: اكتب له أماناً.
فأخذ خرقة وعوداً، وكتب رقعة أمان، ودفعه إلي، فقبلته، ثم التفت إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال: ألا تنظران ما الناس فيه بسببكما؟ ثم قال: ألا أدلكم على شر البقاع؟ قالوا: نعم، فقال: هذه المدينة - وأشار ناحية بانياس - ولولا رجل في جوارها لأقلب سفلها على علوها.
وانتبهت، فلما كان من الغد قيل للداعي بسببي، فقال: دعوه فلا حاجة لنا فيه.
نعمة بن الوابشي الطبراني
رجل من أهل طبرية، خفيف الروح، حسن الشخص، لا يتسلط عليه شيء من النقص، يحفظ الأشعار والأخبار القديمة والحديثة.
أنشد لرجل من بلده: " من المنسرح "
عاتبت فيما مضى سطيلة وال ... عتب قبيح بين الأخلاء
قلت له لم فعلت بابن أبي ال ... خرجين فعلاً يكنى بفحشاء
فقال والله ما فعلت به ... وإنه سيدي ومولائي
وإنما كان ثم عربدة ... قد كسروا في غضونها بائي
أعارني سيدي خريطته ... خبأت فيها بالليل شربائي(26/168)
نعيمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن
سواد بن مالك بن غنم، أبو عمرو شهد بدراً مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قدم بصرى مع أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
حدثت أم سلمة: أن أبا بكر خرج تاجراً إلى بصرى، ومعه نعيمان وسويبط، بن حرملة، وكلاهما بدري، وكان سويبط على الزاد، فقال: أطعمني، فقال: لا، يأتي أبو بكر، وكان نعيمان رجلاً مزاحاً مضحاكاً، فقال: لأغيظنك.
فذهب إلى ناس جلبوا ظهراً، فقال: ابتاعوا مني غلاماً عربياً فارهاً وهو ذو لسان، ولعله يقول: أنا حر، فإن كنتم تاركيه لذلك، فدعونين لا تفسدوا علي غلامي، فقالوا: بل نبتاعه منك بعشر قلائص، فأقبل بها يسوقها، وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال: دونكم هو هذا.
فجاء القوم فقالوا: قد اشتريناك، قال سويبط: هو كاذب، أنا رجل حر، فقالوا: قد أخبرنا خبرك، فطرحوا الحبل في رقبته، فذهبوا به.
فجاء أبو بكر، فأخبر، فذهب هو وأصحاب له، فزدوا القلائص وأخذوه، فضحك منه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه حولاً.
وأم نعيمان، فكيهة بن بني النجار، ولا عقب لها، وقيل: فاطمة بنت عمرو بن عطية بن خنساء بن بني مازن بن النجار.
وهو نعيمان تصغير نعمان، وشهد نعيمان العقبة الآخرة مع السبعين من الأنصار، وشهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(26/169)
قال عقبة بن الحارث: أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنعيمان وقد شرب الخمر، وفي رواية: وهو سكران، فأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من في البيت، فضربوه بالأيدي والجريد والنعال، قال؛ وكنت فيمن ضربه.
قال زيد بن أسلم: أتي بالنعيمان أو ابن النعيمان إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجلده، ثم أتي به فجلده قال: مراراً أربعاً أو خمساً، يعني في شرب النبيذ، فقال رجل: اللهم العنه، ما أكثر ما يشرب! وأكثر ما يجلد! فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله.
وفي حديث آخر بمعناه عن مروان بن قيس: ثم أتي به الرابعة وعمر عنده، فقال عمر: ما تنتظر به يا نبي الله؟ هي الرابعة، اضرب عنقه، فقال رجل عند ذلك: لقد رأيته يوم بدر يقاتل قتالاً شديداً. وقال آخر: لقد رأيت له يوم بدر موقفاً حسناً، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف وقد شهد بدراً؟ قال ربيعة بن عثمان: دخل أعرابي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنعيمان: لو عقرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا إلى اللحم، وغرم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فعقرها النعيمان، فخرج الأعرابي، فرأى راحلته، فصاح: واعقراه يا محمد.
فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من فعل هذا؟ قالوا: النعيمان، فاتبعه يسأله عنه حتى وجده في دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وقد حفرت لها خنادق، وعليها جريد، فدخل النعيمان في بعضها، فمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل عنه، فأشار إليه رجل، ورفع صوته: ما رأيته يا رسول الله وأشار بإصبعه حيث هو. قال: فأخرجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أسقط على وجهه السعف، وتغير وجهه، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: الذين دلوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني.(26/170)
قال: فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسح عن وجهه ويضحك، ثم غرمها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأعرابي.
وكان نعيمان الأنصاري يدور في أسواق المدينة، فإذا دخل السوق طرفة من طرب أو فاكهة أو غير ذلك اشتراه، فأهداه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان فقيراً، فإذا كان من آخر النهار راح إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه صاحب الحق، فيقول؛ يا نبي الله، أعط هذا حقه من ثمن كذا وكذا، فيقول له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو ما أهديته إلينا يا نعيمان؟ فيقول: والذي بعثك بالحق، ما معي قليل ولا كثير، ولقد رأيته فلم تطب نفسي أن أجوزه وأدعه، أو يشتريه أحد فيأكله قبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: فيضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويأمر بدفع حق الرجل إليه.
كان مخرمو بن نوفل بن أهيب الزهري بالمدينة، وهو شيخ كبير أعمى، وكان قد بلغ مئة وخمس عشرة سنة، فقام يوماً في المسجد يريد أن يبول، فصاح به الناس، فأتاه نعيمان فتنحى به ناحية من المسجد، ثم قال: اجلس ههنا، فأجلسه يبول، فلما أجلسه وبال، ذهب وتركه، فصاح به الناس، فلما فرغ قال: من جاء بي، ويحكم إلى هذا الموضع؟ قالوا: نعيمان بن عمرو، قال: فعل الله به وفعل، أما إن لله علي إن ظفرت به أن أضربه بعصاتي هذه ضربة تبلغ منه ما بلغت.
فمكث ما شاء الله حتى نسي ذلك مخرمة، ثم أتاه يوماً وعثمان قائم يصلي في ناحية من المسجد، وكان عثمان إذا صلى لا يلتفت، فقال له: هل لك في نعيمان؟ قال: نعم، أين هو؟ دلني عليه، فأتى به حتى أوقفه على عثمان، فقال: دونك هذا هو، فجمع مخرمة يديه بعصاه فضرب عثمان فشجه.
فقيل له: إنما ضربت أمير المؤمنين عثمان، فاجتمع بنو زهرة في ذلك، فقال عثمان: دعوا نعيمان، لعن الله نعيمان.
توفي نعيمان في خلافة معاوية، ولم يعقب.(26/171)
نعيم بن حماد بن معاوية
ابن الحارث بن همام بن مسلمة بن مالك أبو عبد الله الخزاعي المروزي الأعور المعروف بالفارض صاحب ابن المبارك حدث عن ابن المبارك بسنده إلى أنس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا جاء شهر رمضان قال للناس: قد جاءكم مظهر شهر رمضان، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغل فيه الشياطين، يعد المؤمن فيه القوة للصوم والصلاة، وهو نقمة للفاجر يغتنم فيه غفلات الناس، من حرم خيره فقد حرم.
وحدث عن عيسى بن يونس بسنده إلى عوف بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، وتزيد أمتي عليها فرقة، ليس فيها فرقة أضر على أمتي من قوم يقيسون الدين برأيهم، فيحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله.
وفي حديث قال: ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، شر فرقة منها قوم يقيسون الدين بالرأي، فيحلون به الحرام، ويحرمون به الحلال.
وفي حديث عوف بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يكون في آخر الزمان قوم يحلون الحرام، ويحرمون الحلال، ويقيسون الأمور برأيهم.
نزل نعيم بن حماد مصر، وأشخص منها في خلافة أبي إسحاق " المعتصم " بن هارون، فسئل عن القرآن، فأبى أن يجيب فيه بشيء مما أرادوه عليه، فحبس بسامراء(26/172)
حتى مات في السجن في سنة ثمان وعشرين ومئتين، وقيل: سنة سبع وعشرين، وأوصى أن يدفن في قيوده، وقال: إني مخاصم.
أثنى عليه قوم، وضعفه قوم.
قال أبو زرعة: عرضت على عبد الرحمن بن إبراهيم حديث نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم يسنده النواس بن سمعان عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماوات منه رجفة، أو قال: رعدة شديدة.
فقال: لا أصل له.
وحدث عن ابن وهب بسنده إلى أم الطفيل: أنها سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر أنه رأى ربه في المنام في أحسن صورة، شاباً موقراً رجلاه في حصير عليه نعلان من ذهب، على وجهه فراش من ذهب.
وكان يحيى بن معين يهجن نعيم بن حماد في هذا الحديث حديث أم الطفيل في الرؤية، ويقول: ما كان ينبغي له أن يحدث مثل هذا الحديث.
وحدث نعيم بن حماد عن عبد الله بن المبارك بسنده إلى جبير بن مطعم: أنه سمع عمرو بن العاص يقول: لا تنقضي الدنيا حتى يملكها رجل من قحطان.
فقال معاوية: ما هذا الحديث؟! سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا يزال هذا الأمر في قريش لا يناوئهم فيه أحد إلا أكبه الله على وجهه ".
قال نعيم بن حماد: من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه ورسوله فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه.
قال نعيم بن حماد: أنا كنت جهمياً، ولذلك عرفت كلامهم، فلما طلبت الحديث عرفت أن أمرهم يرجع إلى التعطيل.(26/173)
قال نعيم بن حماد: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم، فقال لي: أنت الذي تقطع حديثي؟ قال: قلت: يا رسول الله إنه يبلغنا عنك الحديث فيه ذكر الصلاة وذكر الصيام وذكر الزكاة، فيجعل ذا في ذا، وذا في ذا، قال: فنعم إذاً.
قال أحمد أظنه ابن حنبل قال لي نعيم: وضعت ثلاثة كتب على الجهمية، اكتبها. قلت: لا، قال: لم؟ قلت: أخاف أن يقع في قلبي منها شيء، قال: تركها والله خير لك، قلت: فلم تدعوني إلى شيء تركه أحب إلي؟ فأبيت أن أكتبها.
ولما حمل نعيم بن حماد المحنة كبل بالحديد، وحبس، فاجتمع القوم يقولون: من يناظره؟ فاتفقوا على ابن عوف، وكان متكلمهم.
فأتاه ابن عوف وأصحابه إلى السجن، فأخرج نعيم، فقال له ابن عوف: أقول أو تقول؟ قال: أقول. قال: قل. قال: أخبرني عن هذه المقالة التي دعوتم الناس إليها، هو رأيك؟ قال: نعم، قال: ورأي الخليفة؟ قال: نعم، قال: فإن رجع الخليفة ترجع أنت عنها؟ قال: نعم، قال: قم، فإنك بلا دين، دينك دين الملك فتفرقوا عنه، وأقبل أصحابه عليه، فقالوا: فضحتنا، قطعك بكلمة واحدة.
ولما مات في الحبس ممتنعاً من القول بخلق القرآن جر بأقياده، فألقي في حفرته، ولم يكفن، ولم يصل عليه، فعل ذلك به صاحب ابن أبي دؤاد.
نعيم بن سلامة السبائي
ويقال: الشيباني. ويقال: الغساني. ويقال: الحميري مولاهم، الأردني كان على خاتم سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز.
حدث عن رجل من بني سليم، وكانت له صحبة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا فرغ من طعامه قال: اللهم لك الحمد أطعمت وسقيت، وأشبعت وأرويت، فلك الحمد غير مكفور، ولا مودع، ولا مستغنى عنك.(26/174)
قال نعيم بن سلامة: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فوجدته يأكل ثوماً مسلوقاً بملح وزيت.
وفي رواية: وهو يأكل ثوماً مسلوقاً، وقد صب عليه زيتاً ودقه. وكان ابن عمر يؤتى بالحسو فيه الثوم فينحي الثوم بالملعقة ويحسو الحسو.
وعن نعيم بن سلامة: أنه كان يقول في الحثو على الميت في الأولى: بسم الله، وفي الثانية: الملك، وفي الثالثة: لا شريك له.
نعيم بن عبد الله بن أسد بن عبد بن عوف بن
عبيد بن عويج القرشي، وهو نعيم النحام له صحبة من سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قديم الإسلام قدم دمشق قبل فتحها مع النفر الذين أرسلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى ملك الروم، وخرج إلى الشام بعد ذلك مجاهداً، فقتل يوم أجنادين، ويقال: اليرموك.
قال نعيم بن النحام: نودي بالصبح في يوم بارد وأنا في مرط امرأتي، فقلت: ليت المنادي قال من قعد فلا حرج عليه، فإذا منادي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في آخر أذانه: من قعد فلا حرج عليه.
وفي رواية: سمعت مؤذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة باردة وأنا في لحافي، فتمنيت أن يقول: صلوا في(26/175)
رحالكم، فلما بلغ (حي على الفلاح) قالوا: صلوا في رحالكم، ثم سألت عنها فإذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمره بذلك.
وأم نعيم فاختة بنت أبي حرب بن عبد شمس، وأسلم نعيم بعد ثمانية وثلاثين إنساناً، وكان هو التاسع والثلاثين من المسلمين، أسلم بمكة قبل عمر بن الخطاب.
وقيل له: النحام لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " دخلت الجنة، فسمعت نحمة من نعيم فيها، وهي السعلة، وما يكون في آخر النحنحة الممدودة آخرها.
وكان نعيم أقام بمكة قبل الفتح، لأنه كان ممن ينفق على أرامل بني عدي وأيتامهم، فقال له قومه حين أراد الخروج إلى الهجرة وتشبثوا به: أقم ودن بأي دين شئت.
فذكروا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له حين قدم عليه: قومك يا نعيم كانوا لك خيراً من قومي لي، قال: بل قومك خير يا رسول الله، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن قومي أخرجوني، وأقرك قومك، فقال نعيم: يا رسول الله قومك أخرجوك إلى الهجرة، وقومي حبسوني عنها.
وكان بيت بني عدي بن كعب في الجاهلية بيت بني عويج حتى تحول في بني رزاح لعمر وزيد ابني الخطاب وسعيد بن زيد.
قال عبد الرحمن بن نمير: كان عمر بن الخطاب يأتي الشفاء، فإذا رأته قالت: هذا عمر، إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع، وهو الباسل حقاً، ما زالت بنو عبيد تعلونا ظهراً حتى جاءنا الله بك.
قال نمير: وكان نعيم النحام وأبوه من قبله يحملون يتامى بني عدي ويمونونهم.(26/176)
أسلم نعيم قبل هجرة الحبشة، وكان يكتم إسلامه، وأقام بمكة، وقدم مهاجراً سنة ست، ومعه أربعون من أهله، فاعتنقه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبله.
وكان هاجر عام الحديبية، وشهد ما بعدها من المشاهد، واستشهد بأجنادين سنة خمس عشرة، وقيل: سنة ثلاث عشرة، وقيل: يوم مؤتة، وقيل: سنة أربع عشرة.
وقيل: هو النحام بضم النون، وتخفيف الحاء، وأصحاب الحديث يقولونه: بفتح النون وتشديد الحاء.
وقيل: إنه أسلم بعد عشرة، واسمه الذي يعرف به نعيم، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماه صالحاً.
قال عبد الله بن عمر لعمر بن الخطاب:
اخطب علي ابنة صالح، قال: إن له يتامى، ولم يكن ليؤثرنا عليهم؛ فانطلق عبد الله إلى عمه زيد بن الخطاب ليخطب عليه.
فانطلق به إلى صالح: فقال: إن عبد الله بن عمر أرسلني إليك يخطب ابنتك، فقال: لي يتامى، ولم أكن لأترب لحمي وأرفع لحمكم، فإني أشهدك أني قد أنكحتها فلاناً.
وكان هوى أمها إلى عبد الله بن عمر، فأتت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا نبي الله خطب عبد الله ابنتي، فأنكحها أبوها يتيماً في حجره، ولم يؤامرها؛ فأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى صالح فقال: أنكحت ابنتك ولم تؤامرها؟ قال: نعم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أشيروا على النساء في أنفسهن، أشيروا على النساء، وهي بكر، فقال صالح: إنما فعلت هذا لما أصدقها ابن عمر، فقال: فإن لها في مالي مثلما أعطاها.
كان نعيم النحام يقوت بني عدي بن كعب شهراً شهراً لفقرائهم.(26/177)
نعيم بن هبار ويقال ابن هدار
ويقال: ابن همار، ويقال: ابن خمار، ويقال: ابن حمار الغطفاني صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو من غطفان جذام.
قال ابن هبار: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم لا تعجز من أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره ".
وفي آخر: قال ربكم: أتعجز يا بن آدم أن تصلي أربع ركعات من أول النهار أكفك بها آخر يومك.
وحدث نعيم عن بلال أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " امسحوا على الخمار والخفين ".
وعن نعيم بن همار قال: قيل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الشهداء أفضل؟ قال: الذين لا يفلتون وجوههم في الصف حتى يقتلوا، أولئك في الغرف العلا.
نفير بن مالك بن عامر
ويقال: ابن يحامر، ويقال: نفير بن جبير أبو جبير، ويقال: أبو حمير الكندي الحضرمي وفد على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد فتح دمشق.(26/178)
حدث جبير بن نفير: أن أباه قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوضوء، قال: توضأ. فبدأ بفيه، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تبدأ بفيك، فإن الكافر يبدأ بفيه. ثم دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوضوء، فغسل يديه حتى نقاهما، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً، ثم غسل يده اليسرى إلى المرفق ثلاثاً، ثم تمضمض واستنثر، ثم مسح رأسه، وغسل رجليه.
وحدث: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر الدجال، فقال: " إن يخرج وأنا فيكم فأنا محتجكم منه، وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، ألا وإنه مطموس العين كأنها عين عبد العزى بن قطن الخزاعي، ألا وإني رأيته خرج خلة بين الشام والعراق، فغاب يميناً، وغاب شمالاً، يا عباد الله اثبتوا "، ثلاثاً، قيل: يا رسول الله ما لبثه في الأرض؟ قال: " أربعون يوماً، يوم منها كسنة، ويوم كجمعة، وسائرها كأيامكم هذه ". قالوا: يا رسول الله، فكيف نصنع بالصلاة يومئذ؟ صلاة يوم أو نقدر؟ قال: " بل تقدرون ".
وكان أبو جبير قدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلمه الوضوء. وهو الذي قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالكندية يعني ابنة الجون.(26/179)
نفيع بن الحارث ويقال ابن مسروح
أبو بكرة الثقفي ويقال: إن اسم أبي بكرة مسروح مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أهل الطائف، أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حصار الطائف فأعتقه، وسكن البصرة، ووفد على معاوية.
حدث أبو بكرة قال: جئت ونبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راكع قد حفزني النفس، فركعت دون الصف، ثم مشيت إلى الصف، فلما قضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاته قال: أيكم ركع دون الصف؟ فقلت: أنا، فقال: زادك الله حرصاً، ولا تعد.
كان ولد أبي بكرة يقولون: نفيع بن الحارث الثقفي، وكان أبو بكرة ينكر ذلك، وقال لابنته حين حضرته الوفاة: اندبيني ابن مسروح الحبشي.
وكان رجلاً صالحاً ورعاً، ومات أبو بكرة والحسن بن علي في سنة واحدة، ومات الحسن بن علي سنة تسع وأربعين، وقيل: مات بعد الحسن بن علي سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين، وقيل: مات في ولاية زياد بن أبي سفيان بالبصرة، وكان أخاه لأمه، واسمها سمية.
وكان أبو بكرة عبداً بالطائف، فلما حاصر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الطائف قال: أيما حر نزل إلينا فهو آمن، وأيما عبد نزل إليها فهو حر، فنزل إليه عدة من عبيد أهل الطائف فيهم أبو بكرة، فأعتقهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان أبو بكرة تدلى إليهم في بكرة فكنوه أبا بكرة، فكان يقول: أنا مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(26/180)
وكان أبو بكرة مسروح عبداً للحارث بن كلدة.
قال أبو عثمان النهدي: سمعت سعد بن مالك وأبا بكرة يقولان: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ".
قال: وكان سعد بن مالك أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان أبو بكرة أول من تسور على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وفد ثقيف.
قال عبد الرحمن بن أبي بكرة: أتيت عبد الله بن عمرو في بيته، فقال لي: من أنت؟ قلت: عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: من أبو بكرة؟ قلت: أما تذكر الرجل الذي وثب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سور الطائف؟ قال: بلى، فرحب بي.
حدثني رجل من ثقيف قال: سألنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثاً، فلم يرخص لنا، فقلنا: إن أرضنا أرض باردة، فسألنا أن يرخص لنا في الطهور، فلم يرخص لنا، وسألناه أن يرخص لنا في الدباء، فلم يرخص لنا فيه ساعة، وسألناه أن يرد إلينا أبا بكرة، فأبى، وقال: " هو طليق الله وطليق رسوله "، وكان أبو بكرة خرج إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين حاصر الطائف فأسلم.
أرادت ثقيف أن تدعي أبا بكرة، فقال: أنا مسروح مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان أبو بكرة لا يعرف أبوه، فإذا عيره أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، قال: فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ".(26/181)
وعن عبد الرحمن بن جوشن: في قوله عز وجل: " ادعوهم لآبائهم " هو أقسط عند الله " فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين " قال: قال أبو بكرة: أنا من إخوانكم ممن لا أب له.
قال عبد العزيز بن أبي بكرة: إن أبا بكرة تزوج امرأة من بني غدانة، وإنها هلكت، فحملها إلى المقابر، فحال إخوته بينها وبين الصلاة عليها، فقال لهم: لا تفعلوا فإني أحق بالصلاة منكم، قالوا: صدق صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلى عليها، ثم إنه دخل القبر، فدفعوه دفعاً عنيفاً، فوقع، فغشي عليه، فحملوه إلى أهله، فصرخ عليه يومئذ عشرون من ابن وبنت، قال عبد العزيز: وأنا يومئذ من أصغرهم. فأفاق إفاقة، فقال لهم: لا تصرخوا علي، فوالله ما من نفس تخرج أحب إلي من نفس أبي بكرة، ففزع القوم، فقالوا له: لم يا أبانا؟ قال: إني أخشى أن أدرك زماناً لا أستطيع أن آمر بمعروف، ولا أنهى عن منكر، وما خير يومئذ.
قال الحكم الأعرج: جلب رجل خشباً من السند أو الهند، فطلبه زياد أو ابن زياد منه، فأبى أن يبيعه، فغصبه إياه، فبنى صفة مسجد البصرة، فلم يصل أبو بكرة فيها حتى قلعت.
وعن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب جلد أبا بكرة ونافع بن الحارث وشبل بن معبد، فاستتاب نافعاً وشبل بن معبد، فتابا، فقبل شهادتهما، واستتاب أبا بكرة، فأبى وأقام، فلم يقبل شهادته، وكان أفضل القوم.
وكان أبو بكرة إذا أتاه الرجل يشهده، قال: أشهد غيري، فإن المسلمين قد فسقوني. وهذا إن صح فلأنه امتنع من أن يتوب من قذفه، وأقام عليه، ولو كان تاب منه لما ألزموه اسم الفسق.(26/182)
وحدث سعد بن إبراهيم قال: يزعم أهل العراق أن القاذف لا يجلد حداً شديداً، أشهد أن أبي أخبري أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أمرت بشاة حين جلد أبو بكرة فسلخت، فلبس مسكها، فهل كان ذلك إلا من ضرب شديد؟ سأل عبيد الله بن زياد أبا بكرة: ما أعظم المصيبة؟ قال: مصيبة الرجل في دينه، قال: ليس عن هذا أسألك، قال: فموت الأب قاصمة الظهر، وموت الولد صدع في الفؤاد، وموت الأخ قص الجناح، وموت المرأة حزن ساعة.
وعن الحسن قال:
مر بي أنس بن مالك وقد بعثه زياد إلى أبي بكرة يعاتبه، فانطلقت معه، فدخلنا إلى الشيخ وهو مريض، فأبلغه عنه، فقال: إنه يقول: ألم أستعمل عبيد الله بن زياد على فارس؟ ألم أستعمل زواداً على دار الرزق؟ ألم أستعمل عبد الرحمن على الديوان وبيت المال؟ فقال أبو بكرة: هل زاد على أن أدخلهم النار؟ فقال أنس: إني لا أعلمه إلا مجتهداً، فقال الشيخ: أقعدوني، إني لا أعلمه إلا مجتهداً، وأهل حروراء قد اجتهدوا فأصابوا أم أخطؤوا، قال أنس: فرجعنا مخصومين.
لما اشتكى أبو بكرة عرض عليه بنوه أن يأتوه بطبيب، فأبى، فلما نزل به الموت، فعرف الموت من نفسه، وعرفوه منه، قال: أين طبيبكم، ليردها إن كان صادقاً، فقالوا: وما يغني الآن، قال: وقبل الآن، فجاءت ابنته أمة الله، فلما رأت ما به بكت، فقال: أي بنية، لا تبكي، قالت: يا أبه، فإذا لم أبك عليك فعلى من أبكي؟ فقال: لا تبكي، فوالذي نفسي بيده، ما على الأرض أحب إلي من أن تكون قد خرجت، من نفسي هذه، ولا نفس هذا الذباب الطائر، فأقبل على حرمان يعني ابن أبان وهو عند رأسه، فقال: ألا أخبرك مم ذلك؟ قال: حسبت والله أنه يوشك أن يجيء أمر يحول بيني وبين الإسلام.(26/183)
ثم جاء أنس بن مالك فقعد بين يديه، وأخذ بيده، وقال: إن ابن أمك زياد أرسلني إليك يقرئك السلام، وقد بلغه الذي نزل بك من قضاء الله، فأحب أن يحدث بك عهداً، ويسلم عليك، ويفارقك عن رضى.
فقال: أمبلغه عني؟ قال: نعم، قال: فإني أحرج عليه أن يدخل لي بيتاً، ويحضر لي جنازة، قال: لم يرحمك الله وقد كان لك معظماً، ولبيتك واصلاً؟ قال في ذلك غضبه عليه، قال: ففي خاصة نفسك ما علمته إلا مجتهداً، قال؛ فأجلسوني، فأجلس، فقال: نشدتك الله لما حدثتني عن أهل النهر، أكانوا مجتهدين؟ قال: نعم قال: فأصابوا أم أخطؤوا؟ قال: هو ذلك. قال: أضجعوني.
فرجع أنس إلى زياد، فأبلغه، فركب مكانه متوجهاً إلى الكوفة، فتوفي وهو بالجلحاء، فقدم بنوه أبا برزة، فصلى عليه، " وقيل: إنه أوصى أن يصلي عليه أبو برزة ".
وعن الحسن قال: لما حضرت أبا بكرة الوفاة قال: اكتبوا وصيتي: فكتب الكاتب: هذا ما أوصى به نفيع الحبشي مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يشهد أن الله ربه، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيه، وأن الإسلام دينه، وأن الكعبة قبلته، وأنه يرجو من الله ما يرجوه المعترفون بتوحيده، المقرون بربوبيته، الموقنون بوعده ووعيده، الخائفون لعذابه، المشفقون من عقابه، المؤملون لرحمته، إنه أرحم الراحمين.(26/184)
نفيع أبو إسماعيل العبسي
جد والد إسماعيل بن عبد الرحمن بن عبيد بن نفيع.
كان معاوية أغزى عبد الرحمن بن أم الحكم أرض الروم، فكان فيها، ووفد ابن هرقل خصياً له، يريد معاوية على الصلح، على أن يجعل له ضواحي أرض الروم، على أن يكف الجنود، ولا يغزيهم، فأجابه معاوية إلى ذلك، فأرسل معه اثني عشر رجلاً من حرسه، نفيع أبو إسماعيل أحدهم.
فانطلقوا مع الخصي حتى أتوا عبد الرحمن بكتاب معاوية برأيه، فخلى سبيل من كان معه من السبي، ونفذ رسل معاوية إلى ابن هرقل.
فلما دخلوا عليه وقرأ كتابه جعل ينفخ، ويقول: اضطر معاوية، أرسلت إليه، لا رجل ولا امرأة، أنا أعطيه ضواحي الروم بخدعة، أنا أعطيه ضواحي الروم؟! وقتل تسعة من الرسل، واستبقى نفيعاً وابنه فحبسهم في سجنه.
وبلغ معاوية الخبر، فأمر عبد الرحمن بالمقام بأرض الروم.
نمران بن عتبة الذماري
دمشقي.
قال نمران بن عتبة: دخلنا على أم الدرداء ونحن أيام صغار، فمسحت رؤوسنا، وقالت: أبشروا بني، فإني أرجو أن تكونوا في شفاعة أبيكم، فإني سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(26/185)
يشفع " الشهيد " في سبعين من أهل بيته.
النمر بن قطبة
حدث الأحنف بن قيس: وكان وافداً لأهل البصرة على معاوية وقد دخل النمر بن قطبة، وعلى النمر عباءة قطوانية، وعلى الأحنف مدرعة وشملة، فاقتحمتها عين معاوية. فقال النمر: يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها، فقال: اجلس، ثم أقبل على الأحنف، فقال: ثم مه؟
فقال الأحنف: يا أمير المؤمنين أهل البصرة عدد يسير، وعظم كسير، مع تتابع من المحول واتصال من الذحول، فالغني قد أطرق، والمقل قد أملق، وبلغ منه المخنق، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر الكسير، ويسهل العسير ويصفح عن الذحول، ويداوي من المحول، ويكشف البلاء لتزول الأواء، ألا وإن للسيد نعماً فلا تخص، ومن يدعو الجفلى، ولا يدعو النقرى، إن أحسن إليه شكر، وإن أسيء إليه غفر، ثم يكون من وراء ذلك لرعيته عماداً يرفع عنهم الملمات ويكشف عنهم المعضلات.
فقال له معاوية: ههنا يا أبا بحر، وتلا هذه الآية: " ولتعرفنهم في لحن القول ".(26/186)
الجفلى: الدعوة العامة، والنقرى: الدعوة الخاصة.
النمر بن محمد بن النمر بن عبد السلام
أبو الحارث الحميري الحمصي الخطيب حدث أبو الحارث بالجامع سنة ثمان وثلاثين وأربع مئة عن أبي علي الحسن بن عبيد الله بن سعيد الحمصي بسنده إلى أم أيمن مولاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصي بعض أهله، قال: لا تشرك بالله شيئاً وإن قطعت وحرقت، ولا تعق والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمداً، فإنه من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله، وإياك وشرب الخمر، فإنه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصية، فإن المعصية تحل سخط الله، وإياك والفرار من الزحف، وإذا أصاب الناس موتان وأنت فيهم فاثبت، ولا تنازع ذا الأمر أمره، وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عصاك عنهم أدباً، أخفهم في الله عز وجل.
نمير بن أوس الأشعري
قاضي دمشق حدث عن أبي الدرداء: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمه ثلاثاً قال: أمرني ألا أنام إلا على وتر، وأمرني بصيام ثلاثة أيام من الشهر، وأمرني بأربع سجدات بعد ارتفاع الشمس للضحا، ثم فسرهن لي فقال: إن العبد تقبض روحه في منامه، فلا يدري أترد إليه أم لا، فيكون قد قضى فترة خير له، ومن صام ثلاثاً من الشهر فقد صام الدهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، ويصبح العبد وعلى كل سلامى منه زكاة، قلت: يا رسول الله بأبي أنت، وما السلامى؟ قال: رأس كل عظم من جسده، فإذا صلى ركعتين بأربع سجدات، فقد أدى ما على جسده من زكاة.(26/187)
وحدث نمير بن أوس أن معاوية كان يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.
وحدث نمير بن أوس عن أم الدرداء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان.
استأجر رجل لعابين، فلعبوا له ثلاثة أيام بسبعة دراهم، فمطلهم الأجر، فأتوا نمير بن أوس، فاستعدوه عليه، فقال: إنا لا نقضي في لعب الشياطين شيئاً.
قال العلاء بن الحارث: مر بي نمير بن أوس قاضي دمشق، فقال لي: يا غلام، ما كان محكول يقول في اليمين مع الشاهد الواحد؟ فقلت: كان يراه ويفتي به، فقال نمير: لكني أنا لست أراه ولا أقضي به.
قال سليمان بن حبيب: سألني نمير بن أوس وهو صاحب أذربيجان عن مجوسي تزوج ابنته وأرطأ، وتوفي الرجل فأخبرته أنها ترثه بالقرابة، ولا ترثه بالنكاح.
قال نمير: الآداب من الآباء، والصلاح من الله عز وجل.
قال نمير بن أوس الأشعري: يا معشر الأشعريين، إياكم والدور والمزارع، فإنها توشك ألا تلاومكم وعليكم بالخيل وطول الرماح والطعن والشعر، فإنها تزول معكم حيث زلتم.
توفي نمير بن أوس سنة إحدى عشرة، وقيل: سنة إحدى وعشرين، وقيل: سنة اثنتين وعشرين ومئة.(26/188)
نمير بن الوليد بن نمير بن أوس الأشعري
حدث عن أبيه عن جده عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم أمتعنا بالإسلام وبالخير، فولا الخير ما صلينا ولا صمنا ولا حججنا ولا غزونا.
وحدث عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدعاء جند من أجناد الله مجند يرد القضاء بعد أن يبرم.
نوح بن حبيب
أبو محمد القومسي البذشي من قرية من قرى بسطام.
حدث عن عبد المجيد بن عبد العزيز بسنده إلى أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إنما الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
وحدث عن سليمان بن داود العسقلاني بسنده إلى أنس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر إلى أحد فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه.
كان نوح بن حبيب ثقة، صاحب سنة وجماعة لا يخضب، مات سنة اثنتين وأربعين ومئتين.(26/189)
نوح بن عمرو بن حوي بن عمرو بن نافع
ويقال: مانع بن محصن، ويقال: محصن بن حبيب أبو عبد الله السكسكي حدث عن بقية بن الوليد بسنده إلى أبي أمامة الباهلي قال: نزل جبريل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بتبوك، فقال: يا محمد، احضر جنازة معاوية بن معاوية المري، قال: فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهبط جبريل في سبعين ألف من الملائكة، فوضع جناحه الأيمن على الجبال فتواضعت، ووضع جناحه الأيسر على الأرض فتواضعت حتى نظروا إلى مكة والمدينة، فصلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجبريل والملائكة، فلما قضى صلاته قال: يا جبريل بم أدرك معاوية بن معاوية هذه المنزل من الله عز وجل؟ قال: بقراءته " قل هو الله أحد " قائماً وقاعداً وراكباً وماشياً.
كان نوح بن عمرو ينشد: " من الكامل "
دع ما يريبك وانتقل ... عنه إلى ما لا يريبك
فليأتينك أين كن ... ت موفراً منه نصيبك
حوي: بحاء مهملة مضمومة، وآخره ياء مشددة، هو نوح بن عمرو بن حوي، توفي بعد سنة اثنتين وخمسين ومئتين.
نوح بن لمك بن متوشلخ
ابن إدريس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بن برد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال: إن قبره بالبقاع، ويقال: بمكة.
وبرد: هو البارد، وهو زمانه عملت الأصنام، ورجع من رجع عن الإسلام.(26/190)
وسمي نوح نوحاً لطول ما ناح على نفسه، وقيل: ناح على قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى الله، فإذا كفروا بكى وناح عليهم.
وفي كتب الأوائل: أن دمشق كانت دار نوح عليه السلام ومنشأ سفينته من خشب لبنان، وأنه ركب سفينته من عين الجر التي في البقاع، وهو بطن - يعني وادياً - بين جبل لبنان وجبل سنير - وأن الموضع الذي فار منه التنور بالماء خلف حائط الحصن الداخل من مدينة دمشق من ناحية جيرون على طريق باب الفراديس.
قالوا: ولما كبر آدم، ورق عظمه، قال: يا رب، إلى متى أكد وأشقى؟ قال: يا آدم، حتى يولد لك ابن مجنون، فولد له نوح بعد عشرة أبطن، وهو يومئذ ابن ألف سنة إلا ستين عاماً، وقيل: أربعين عاماً، وكان اسم نوح السكن، وإنما سمي السكن لأن الناس بعد آدم سكنوا إليه، فهو أبوهم.
وكان بين آدم ونوح عشرة آباء، وبين إبراهيم ونوح عشرة آباء، وقيل: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام.
قال نوف الشامي: خمسة من الأنبياء من العرب: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونوح وهود وصالح وشعيب صلوات الله عليهم.
وعن أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أول نبي أرسل نوح.
واختلف فيه، فقال قوم: كانت نبوته وعمره من يوم ميلاده إلى أن مات ألف سنة إلا خمسين عاماً، وكان بعث في الألف الثاني.(26/191)
وقيل: إن آدم لم يمت حتى ولد نوح في آخر الألف الأول من أيام الدنيا، لأن الله عز وجل وضع الدنيا على سبعة أيام، كل يوم مقدار ألف سنة من أيام الدنيا، فتلك سبعة آلاف سنة.
وعاش آدم ألف سنة إلا أربعين عاماً، فمات قبل أن تمضي الألف الأولى، وبعث نوح في الألف الثاني وهو ابن أربع مئة وثمانين سنة، فبعث وقد ذهب من الألف الثاني أربع مئة سنة وأربعون سنة، فلبث في قومه كما قال الله عز وجل: " ألف سنة إلا خمسين عاماً "، فتلك ألف سنة وثلاث مئة سنة وتسعون سنة منذ ولد إلى أن أغرق الله الدنيا، وعاش بعد ذلك تسعين سنة لتمام ألف وأربع مئة وثمانين سنة، فكان موته في الألف الثالث بعد أربع مئة سنة وأربعين سنة من الألف الثالث.
وكان قد فشت في قومه المعاصي، وكثرت الجبابرة، وعتوا عتواً كبيراً، وكان نوح يدعوهم ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، وكان صبوراً حليماً.
ولم يلق أحد من الأنبياء أشد مما لقي نوح، فكانوا يدخلون عليه فيخنقونه حتى يترك قعيداً، ويضرب في المجالس ويطرد، وكان لا يدع على ما يصنع به أن يدعوهم ويقول: يا رب، اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
وكان لا يزيدهم ذلك إلا فراراً منه، حتى إنه يكلم الرجل فيلف رأسه بثوبه، ويجعل أصابه في أذنيه لكيلا يسمع شيئاً من كلامه، فذلك قول الله عز وجل: " جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم " يقول: نفضوا ثم قاموا من المجلس، فأسرعوا المشي، وقالوا: امضوا، فإنه كذاب.
واشتد عليه البلاء، وكان ينتظر القرن بعد القرن، والجيل بعد الجيل، فلا يأتي إلا وهو أخبث من الأول، وأعتى من الأول.(26/192)
ويقول الرجل منهم: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا قبل آبائنا، فلم يزل هكذا مجنوناً.
وكان الرجل منهم إذا أوصى عند الوفاة يقول لأولاده: احذروا هذا المجنون؛ فإنه قد حدثني آبائي أن هلاك على الناس على يدي هذا، فكانوا كذلك يتوارثون الوصية بينهم حتى إن الرجل يحمل ولده على عاتقه، ثم يقف به عليه، فيقول: يا بني، إن عشت ومت أنا فاحذر هذا الشيخ؛ فإنه مجنون، ويكون هلاك الناس على يديه.
فلما طال ذلك بهم وبه، قالوا: يا نوح، ما نراك جئتنا بشيء نعرفه، فما كثرة دعائك " إلا " بالذي يزيدنا منك بعداً وفراراً، وما أنت إلا مجنون أو مسحور.
فلما طال ذلك بهم وبه، " قالوا: يا نوح، قد جادلتنا، فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا "، فإنا لن نؤمن بك و" إن كنت من الصادقين ".
" قال: إنما يأتيكم به الله إن شاء " وما يحلم ربي عنكم إلا أنكم لستم عنه بمعجزين يعني لا تسبقونه إذا أرادكم، " ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم، هو ربكم وإليه ترجعون ".
وعن ابن عباس قال: كان للمك يوم ولد نوحاً اثنان وثمانون سنة، ولم يكن أحد في ذلك الزمان ينتهي عن منكر، فبعث الله نوحاً إليهم وهو ابن أربع مئة وثمانين سنة، فدعاهم في نبوته مئة وعشرين سنة.
ثم أمر بصنعة السفينة، فصنعها وركبها، وهو ابن ست مئة سنة، وغرق من غرق، ثم مكث بعد السفينة ثلاث مئة وخمسين سنة.(26/193)
فولد نوح ساماً، وفي ولده بياض وأدمة، وحاماً وفي ولده سواد وبياض قليل، ويافث وفيهم الشقرة والحمرة، وكنعنا وهو الذي غرق، والعرب تسميه ياماً، وذلك قول العرب: إنما هام عمنا يام. وأم هؤلاء واحدة.
وبجبل نوذ نجر نوح السفينة، ومن ثم يبدأ الطوفان.
فركب نوح السفينة، معه بنوه هؤلاء، وكنائنه نساء بنيه هؤلاء، وثلاثة وسبعون من بني شيث، ممن آمن به، فكانوا ثمانين في السفينة، وحمل معه " من كل زوجين اثنين ".
وكان طول السفينة ثلاث مئة ذراع، بذراع جد أبي نوح، وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، وخرج منها من الماء ستة اذرع، وكانت مطبقة، وجعل لها ثلاثة أبواب، بعضها أسفل من بعض.
فأرسل الله المطر أربعين ليلة وأربعين يوماً، فأقبلت الوحش حين أصابها المطر، والدواب والطير كلها إلى نوح، وسخرت له، فحمل فيها كما أمره الله من كل زوجين اثنين، وحمل معه جسد آدم فجعله حاجزاً بين النساء والرجال، فركبوا فيها لعشر ليال مضين من رجب، وخرجوا منها يوم عاشوراء من المحرم، فلذلك صام من صام يوم عاشوراء.
وخرج الماء مثل ذلك نصفين، فذلك قوله عز وجل: " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر " يقول: منصب، " وفجرنا الأرض عيوناً " يقول: شققنا الأرض " فالتقى الماء على أمر قد قدر " فصار الماء نصفين، نصف من السماء، ونصف من الأرض، وارتفع الماء على طول جبل في الأرض خمس عشرة ذراعاً.(26/194)
فسارت بهم السفينة، فطافت بهم الأرض كلها في ستة أشهر لا تستقر على شيء حتى أتت الحرم، فلم تدخله، ودار بالحرم أسبوعاً، ورفع البيت الذي بناه آدم، رفع من الغرق، وهو البيت المعمور والحجر الأسود على أبي قبيس فلما دارت بالحرم ذهبت في الأرض تسير بهم حتى انتهت إلى الجودي، وهو جبل بالحصنين من أرض الموصل، فاستقرت بعد ستة أشهر لتمام السنة، وقيل بعد الستة الأشهر: " بعداً للقوم الظالمين ".
فلما استوت على الجودي قيل: " يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي " يقول: احبسي ماءك " وغيض الماء " تسقته الأرض، فصار ما نزل من السماء هذه البحور التي ترون في الأرض.
قال:
فآخر ماء بقي في الأرض من الطوفان ماء بحسمى بقي في الأرض أربعين سنة بعد الطوفان. ثم جف، فهبط نوح إلى قرية، فبنى كل رجل منهم بيتاً فسميت سوق الثمانين.
فغرق بنو قابيل كلهم. وما بين نوح وآدم من الأنبياء كانوا على الإسلام.
ودعا نوح على الأسد تقلى عليه الحمى، وللحمامة بالأنس، وللغراب بشقاء المعيشة.
قال: وتزوج نوح امرأً من بني قابيل، فولدت له غلاماً، فسماه بوناطن، فولدت بمدينة بالمشرق يقال لها: تلقون شمساً.(26/195)
فلما ضاقت بهم سوق ثمانين تحولها إلى بال فبنوها. وهي بين الفرات والصراة، وكانت اثني عشر فرسخاً في اثني عشر فرسخاً، وكان بابها موضع دوران الماء فوق جسر الكوفة يسرة إذا غربت.
فكثروا بها حتى بلغوا مئة ألف، وهم على الإسلام.
ولما خرج نوح من السفينة دفن آدم ببيت المقدس، ومات نوح عليه السلام.
قالوا: وكان نوح يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته، يرون أنه قد مات، ثم يخرج فيدعوهم حتى إذا أيس من إيمان قومه جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصاً، فقال: يا بني، انظر هذا الشيخ لا يغرنك، قال: يا أبه، أمكني من العصا، فأخذ العصا، ثم قال: ضعني في الأرض، فوضعه فمشى إليه بالعصا، فضربه فشجه شجة موضحة، وسالت الدماء.
قال نوح: رب قد ترى ما يفعل بي عبادك، فإن يكن في عبادك حاجة فاهدهم، وإن يكن غير ذلك فصيرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين، فأوحى الله إليه، وأيأسه من إيمان قومه، وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن، قال: يا نوح، " أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون " يعني لا تحزن عليهم. " واصنع الفلك بأعيننا " قال: يا رب، وما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجري على وجه الماء فأعرق أهل معصيتي، وأطهر أرضي منهم. قال: يا رب، وأين الماء؟ قال: يا نوح، إني على ما أشاء قدير، قال: يا رب، وأين الخشب؟ قال: اغرس الشجر.(26/196)
قال: فغرس الساج عشرين سنة، وكف عن الدعاء، وكفوا عن الاستهزاء، وكانوا يسخرون منه.
فلما أدرك الشجر، فقطعها وجففها وأنقها، فقال: يا رب، كيف أتخذ هذا البيت؟ قال: اجعله على ثلاث صور؛ رأسه كعرف الديك، وجؤجؤه كجؤجؤ الطير، وذنبه كذنب الديك، واجعلها مطبقة واجعل لها أبواباً في جنبها، وشدها بدسر، يعني مسامير الحديد.
وبعث الله جبريل، فعلمه صنعة السفينة، فكان جبريل الراني ونوح النجار، فيا له من ران ويا له من نجار، فكانوا يمرون به، ويسخرون به، ويقولون: ألا ترون إلى هذا المجنون؟! يتخذ بيتاً يسير به على الماء! وأين الماء! ويضحكون به، وذلك قوله: " وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه " فأوحى الله إليه أن عجل صنعة السفينة، فقد اشتد غضبي على من عصاني.
فانطلق فاستأجر نجارين يعملون معه، وسام ويافث وحام معه ينحتون السفينة، فجعل السفينة ست مئة ذراع طولها، وستين ذراعاً في الأرض، وعرضها ثلاث مئة ذراع وثلاثون، وطولها في السماء ثلاثة وثلاثون ذراعاً، وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه، ولم يكن في الأرض قار، ففجر الله له عين القار حيث ينحت السفينة، يغلي غلياناً حتى طلاه.
فلما فرغ منها جعل له ثلاثة أبواب في جنبها، وأطبقها، فحمل فيها السباع والدواب، فألقى الله على الأسد الحمى، وشغله بنفسه عن الدواب ألا يتحرك، وجعل الوحش والطير في الباب الثاني ثم أطبق عليها، وجعل ولد آدم أربعين رجلاً(26/197)
وأربعين امرأً في الباب الأعلى، ثم أطبق عليهما، وجعل الدرة معه في الباب الأعلى لضعفها لئلا تطأها الدواب.
وقال: يا رب، ما علامة ما بيني وبين الماء؟ قال: إذا فار التنور.
قالوا: وفار الماء من التنور بأرض الجزيرة من عين وردة، وركب نوح من رأس العين بالجزيرة.
وقيل: إنه فار بالكوفة في مسجد الكوفة فيما يلي أبواب كندة.
وقيل: إن الله أعقم رجالهم قبل الطوفان بأربعين يوماً، وأعقم نساءهم فلم يتوالدوا أربعين عاماً منذ يوم دعا نوح حتى أدرك الصغير فبلغ الحنث، وصارت لله عليهم الحجة، ثم أرسل السماء عليهم بالطوفان.
وقيل: إنه عمل السفينة في ثلاث سنين، ولما حمل في السفينة من كل زوجين اثنين قال: يا رب، كيف بالأسد والأسدة، والفيل والفيلة؟ فقال له ربه: سألقي عليهم الحمى، إنها ثقيلة.
ودعا ابنه، فأبى عليه، فلما فرغ من كل شيء يدخله السفينة طبق السفينة الأخرى عليهم، ولولا ذاك لم يبق في السفينة شيء إلا هدر لشدة وقع الماء حين يأتي من السماء، قال الله تعالى: " فتحنا أبواب السماء بماء منهمر ".(26/198)
قال: فكان قدر كل قطرة مثل ما يجري من فم القربة، فلم يبق على ظهر الأرض شيء إلا هلك يومئذ إلا ما في السفينة، ولم يدخل الحرم منه شيء.
وعن ابن عباس: في قوله: " فخانتاهما " قال: أما إنه ليس بالزنا؛ كانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون، وكانت امرأة لوط تدل على الضيف فتلك خيانتاهما.
قال كعب لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني عن أول شجرى نبتت على الأرض، قال عبد الله: الساج، وهي التي عمل منها نوح السفينة، فقال كعب: صدقت، أنت أعلم الناس.
ولما نبع الماء من حول سفينة نوح عليه السلام، خرج رجل من تلك الأمة إلى فرعون من فراعنتهم، فقال: إن هذا الذي يزعمون أنه مجنون أتاكم بما كان يعدكم، فجاء يسير في موكبه وجماعة من أصحابه حتى وقف من نوح عن بعيد، فقال: يا نوح، ما تقول؟ قال: أقول: قد أتاكم ما كنتم توعدون، قال: ما علامة ذلك؟ قال: اعطف برأس برذونك، فعطف برذونه، فنبع الماء من تحت قوائمه، فخرج يركض إلى الجبل هارباً من الماء.
قالوا: وفار الماء من التنور من دار نوح من تنور يختبز فيه لبيته، وكان نوح يتوقع ذلك إذ جاءته ابنته، فقالت: يا أبه، قد فار الماء من التنور، فآمن بنوح النجارون إلا نجاراً واحداً، فقال له: أعطني أجري، قال: أعطيك أجرك على أن تركب معنا.
قال: أيها المجنون، أعطني أجري، فإن وداً وسواع ويغوث ويعوق ونسراً سينجوني مما يريد بك إلاهك، فأخذ نوح فضة من أصحاب السفينة، فدفعها إليه، وقال: ستعلم أينا المجنون إذا حل العذاب غداً.(26/199)
فأوحى الله عز وجل إليه أن " احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول "، وكان ممن سبق عليه القول امرأته والقة وكنعنان ابنه، فقال: يارب، هؤلاء حملتهم، فكيف بالوحوش والبهائم والسباع والطير؟ قال: فأنا أحشرهم عليك، فبعث جبريل فحشرهم، فجعل يضرب يديه على الزوجين، فتقع يده اليمنى على الذكر، واليسرى على الأنثى، فيدخله السفينة حتى أدخل فيه عدة ما أمره الله.
فلما جمعهم في السفينة رأت البهائم والوحش والسباع العذاب، فجعلت تلحس قدم نوح وتقول: احملنا معك، فيقول: إنما أمرت: " من كل زوجين اثنين ".
ولما فار الماء من التنور، والمرأة تختبز، واحتملت المرأة ولدها، ومعها ولد لها صغير، فخرجت إلى الدار، فإذا الدر قد امتلأت ماء، فدخلت البيت فإذا مثل ذلك.
وحملت صبيها، فكلما بلغ منها رفعت صبيها عن ذلك الموضع. حتى وضعت صبيها على رأسها، فلما جاوز الماء منها قامتها رمت بولدها من تحتها، ثم قامت عليه، فأقسم الله عند ذلك ألا يعذب العامة بالغرق.
وفي رواية أخرى: فلما بلغ الماء رفعته إلى ركبتيها، فلما بلغه الماء رفعته إلى حقوها، فلما بلغه الماء رفعته إلى صدرها، فلما بلغه الماء رفعته إلى رأسها، فلما بلغها الماء قالت به هكذا، ورفع الراوي يده فوق رأسه، فقال الله: لو كنت راحماً منهم أحداً لرحمتها للصبي.
قال الزهري: بعث الله ريحاً، فحمل إليه من كل زوجين اثنين من الطير والسباع والوحش والبهائم، قالوا: واستعصت عليه الماعزة أن يدخلها السفينة، فدفعها في ذنبها، فمن ثم(26/200)
انكسر ذنبها فصار معقوقفاً، وبدا حياؤها، ومضت النعجة حتى دخلت، فمسح على ذنبها، فستر حياءها.
وعن مجاهد قال: مر نوح بالأسد، فضربه برجله، فخمشه الأسد، فبات ساهماً، فشكا نوح ذلك إلى الله، فأوحى الله إليه: أني لا أحب الظلم.
زاد في رواية: أنت بدأته.
وفي حديث: أن الأسد لما حمل في السفينة جاع، فزأر زأرة خاف أهل السفينة أن يأكلهم، فشكوه إلى نوح، فشكاه نوح إلى الله تعالى، فألقى الله عليه الحمى، وكان نوح يمر به بعد ذلك فيركله برجله، ويقول له: أزبىً بانت بشرىً؟. قال: فيقول له الأسد: لا زبى.
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قال حين يمسي: صلى الله على نوح وعلى نوح السلام، لم تلدغه عقرب تلك الليلة.
قال خالد:
لما حمل نوح في السفينة ما حمل، جاءت العقرب تحجل، فقالت: يا نبي الله، أدخلني معك، قال: لا، أنت تلدغين الناس وتؤذينهم، قالت: لا، احملني معك، فلك الله على ألا ألدغ من يصلي عليك الليلة.
ولما ركب نوح السفينة، وأوحى الله إلى الأرض أن أخرجي ماءك، فأخرجت بغير كيل غضباً لله، فنزل من السماء بغير كيل، فذلك قوله: " إنا لما طغى الماء " على(26/201)
الخزان، فأخرجت الأرض عيونها، وانفجر حيال كل عين من السماء مثعباً.
وعاينت الشياطين العذاب، فطارت بين السماء والأرض، وجاء إبليس حين حشر الله على نوح البهائم، فأخذ بذنب الحمار فلم يدخل الحمار السفينة، فدفعه نوح، فقال: ادخل ولو كان معك الشيطان، فدخل فرأى نوح إبليس في السفينة، فقال: ويحك من أدخلك؟ قال: أنت أدخلتني، وبإذنك دخلت إذ قلت: ادخل ولو كان معك الشيطان، فدخلت، قال: اخرج، فقال: إني منظور، فأمره أن يقعد على خيزران السفينة.
وغرق كنعان ابنه، ووضع جسد آدم بين الرجال والنساء، فإن آدم كان أوصى ولده أن يحملوا جسده في فلك نوح، فتوارث ولده الوصية حتى حملها نوح.
وقال الله لنوح: " اركبوا فيها باسم الله مجراها " حين يجري الماء " ومرساها " حين يرسو الماء.
وأعطى الله نوحاً خرزتين في السفينة.
ولما ركب نوح السفينة، وحمل فيها من كل زوجين اثنين، كما أمر، فرأى في السفينة شيخاً لم يعرفه، فقال له نوح: " ما أدخلك؟ قال: دخلت لأصيب قلوب أصحابك، فتكون قلوبهم معي، وأبدانهم معك، قال نوح: " اخرج منها يا عدو الله فإنك رجيم، " وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين "، فقال إبليس: خمس أهلك بهن الناس، وسأحدثك منهن بثلاث، ولا أحدثك بالثنتين، فأوحى الله إلى نوح أنه لا حاجة بك إلى الثلاث، مره يحدثك بالثنتين، قال: فهما أهلك للناس، وهما لا يكذبان، هما(26/202)
اللتان لا يخلفاني: الحسد، وبالحسد لعنت، وجعلت شيطاناً رجيماً، والحرص، أتيح آدم الجنة كلها، فأصبت حاجتي منه بالحرص.
قالوا: إن نوحاً قال لإبليس: ويلك، قد غرق أهل الأرض من أجلك، قد أهلكتهم.
قال له إبليس: فما أصنع؟ قال: تتوب، قال: فسل ربك هل لي من توبة؟ فدعا نوح ربه، فأوحى الله إليه أن توبته أن يسجد لقبر آدم، قال: قد جعلت لك توبة، قال: وما هي؟ قال: تسجد لقبر آدم، قال: تركته حياً وأسجد له ميتاً؟!.
وعن ابن عباس: أن إبليس لما سرق حبلة العنب، وطلبها نوح، فلم يقدر عليها، قال لولده: التمسوا، فقال جبريل: ذهب بها إبليس، وإنا قد بعثنا إليه لتؤتى بها، وهو شريكك، فقاسمه، وأحسن مقاسمته.
فجاء به الملك ومعه الحبلة، فقال له: يا إبليس بئس ما صنعت! إنك سرقت حبلة العنب، وحملتك فما كافأتني، قال: ما أنت حملتني، ولكن الله أنظرني، قال: إن لي في هذه شركة، قال: لك الثلث، ولي الثلثان، قال: ما أنصفتني.
قال له جبريل: رده وأحسن مشاركته، قال: له النصف، فقال: رده، إنك تأكله غضاً وعنباً ويابساً وحلواً وحامضاً، وتشربه عصيراً.
قال: فلي الثلث وله الثلثان، فرضي.
وزاد في آخر: فما كان فوق الثلث فلإبليس.(26/203)
وعن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كان حمل نوح معه في السفينة من جميع الشجر، وكانت العجوة من الجنة مع نوح في السفينة ".
قالوا: وحمل في السفينة من كل زوجين اثنين، وحمل من الهدهد زوجين، وجعل أم الهدهد فضلاً على زوجين، فماتت في السفينة قبل أن تظهر الأرض، فحملها الهدهد، وطاف بها الدنيا ليصيب لها مكاناً ليدفنها فيه، فلم يجد طيناً ولا تراباً، فرحمه ربه، فحفر لها في قفاه قبراً، فدفنها فيه، فذلك الريش الناتئ في قفا الهدهد موضع القبر، فلذلك نتأ أقفية الهداهد.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أنزل الله سفيةً من الريح إلا بمكيال، ولا قطرة من الماء إلا بمثقال، إلا يوم نوح وعاد، فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان، فلم يكن لهم عليه سبيل "، ثم قرأ: " إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية "، " وإن الريح يوم عاد عتت على الخزان "، ثم تلا: " عاتية ".
وعن ابن عباس قال: لولا ماء الأرض استقبل ماء السماء فرد شدته لخرق الأرض ماء السماء حتى يتركها كهيئة الغربال، فلا ينتفع بها، ولكن صنعه كيف شاء وما شاء عز وجل.
وسئل ابن عباس: كيف كانوا يعرفون مواقيت الصلاة في السفينة؟ قال: أعطى الله نوحاً خرزتين، إحداهما: بياضها كبياض النهار، والأخرى سوادها كسواد الليل، فإذا أمسوا غلب سواد هذه بياض هذه، وإذا أصبحوا غلب بياض هذه سواد(26/204)
هذه على قدر الساعات الاثنتي عشرة؛ فأول من قدر الساعات الاثنتي عشرة ما لا يزيد بعضها على بعض نوح في السفينة ليعرف بها مواقيت الصلاة.
فسارت السفينة من مكة حتى أخذت إلى اليمن، فبلغت الحبشة، ورجعت إلى جدة، وأخذت على الروم، وجازت الروم، ورجعت على جبال أرض المقدسة، وأوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام أنها تستوي على رأس جبل، فعلمت الجبال بذلك، فتطلعت، وأخرجت أصولها من الأرض، وجعل جودي يتواضع لله عز وجل. فجاوزت السفينة الجبال كلها إلى الجودي، فاستوت ورست، فذلك قوله عز وجل: " واستوت على الجودي "، فشكت الجبال إلى الله، فقالت: يا رب، تطلعنا وأخرجنا أصولنا من الأرض لسفينة نوح، وخنس جودي، فاستوت عليه، فقال الله عز وجل: إني كذلك، من تواضع لي رفعته، ومن ترفع لي وضعته.
ويقال: إن الجودي من جبال الجنة، وقال الله: " يا أرض ابلعي ماءك " بلغة الحبشة، فابتلعت، " ويا سماء أقلعي " أي أمسكي بلغة الحبشة، فابتلعت الأرض ماءها، وارتفع ماء السماء حتى بلغ أعنان السماء رجاء أن يعود إلى مكانه، فأوحى الله تعالى إليه: أن ارجع، فإنك رجس وغضب، فرجع الماء لملح وخم وتردد، فأصاب الناس منه الأذى أو البلاء، فأرسل الله الريح، فجمعها في مواضع، فصار زعاقاً مالحاً لا ينتفع به.
وتطلع نوح فإذا الشمس قد طلعت، وبدا له البذ من السماء، وكان ذلك آية ما بينه وبين ربه عز وجل أمان الغرق.
والبذ: القوس الذي يسمونه قوس قزح، ونهي أن يقال: قوس قزح، لأن قزح شيطان، وهو قوس الله.(26/205)
وزعموا أنه كان عليه وتر وسهم قبل ذلك في السماء، فلما جعله الله أماناً لأهل الأرض من الغرق نزع الله الوتر والسهم.
فقال نوح عند ذلك: رب إنك وعدتني أن تنجيني مع أهلي وغرقت ابني و" إن ابني من أهلي وإن وعدتك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال: يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ".
يقول: ليس من أهل دينك، إن عمله كان غير صالح، و" إني أعظك أن تكون من الجاهلين " إلى الآية قال: " هبط بسلام منا ".
فبعث نوح من يأتيه بخبر الأرض، فجاء الطير الأهلي، فقال: أنا، فأخذها وختم جناحها فقال: أنت مختومة بخاتمي لا تطيرين أبداً، تنتفع بك ذريتي، فبعث الغراب، فأصاب جيفة؛ فوقع عليها، فاحتبس، فلعنه، وقال له قولاً شديداً، فمن ثم يقتل في الحرم.
وبعث الحمامة، وهي القمري، فذهبت، فلم تجد في الأرض قراراً، فوقعت على شجرة بأرض سبأ، فحملت ورقة زيتون، فرجعت إلى نوح، فعلم أنها لم تستمكن من الأرض.
ثم بعثها بعد أيام، فخرجت حتى وقعت بوادي الحرم، فإذا الماء قد نضب، وأول ما نضب موضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء فخضبت رجليها، ثم جاءت إلى نوح، فقالت: البشرى، لتستمكن الأرض، وبشراي منك أن تهب لي الطوق في عنقي والخضاب في رجلي، وأسكن الحرم، فمسح يده على عنقها، وطوقها، ووهب لها الحمرة في رجليها، ودعا لها، وأسكنها بالحرم، وبارك عليها، فقال: بارك الله فيك وفي سبيلك، وجعلك(26/206)
محببة أنيسة، فمن ثم أشغف بها الناس، ودعا لنسلها، فقال: جعل الله في نسلك شفاء للمريض، وتحفة للصحيح.
ثم خرج فنزل قردى وبازبدى بأرض الموصل، وهي قرية الثمانين، لأنه نزل في ثمانين، فوقع فيهم الوباء، فماتوا إلا نوحاً وساماً وحاماً ويافث ونساءهم، ستة وسابعهم نوح، وطبقت الدنيا منهم، فذلك قوله عز وجل: " وجعلنا ذريته هم الباقين ".
قالوا: وركب نوح السفينة أول يوم من رجب، وقال لمن معه من الجن والإنس: صوموا هذا اليوم، فإن من صامه منكم بعدت عليه النار مسيرة سنة، ومن صام منكم سبعة أيام أغلقت عنه أبواب النار السبعة، ومن صام منكم ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية، ومن صام منكم عشرة أيام قال الله له: سل تعطه، ومن صام منكم خمسة عشر يوماً قال الله تعالى له: استأنف العمل، فقد غفر لك ما مضى، ومن زاد زاده الله.
فصام نوح في السفينة رجب وشعبان ورمضان وشوال وذا القعدة وذا الحجة وعشراً من المحرم، فأرست السفينة يوم العاشوراء، فقال نوح لمن معه من الجن والإنس: صوموا هذا اليوم الذي تاب الله فيه على آدم وحواء.
قال: وهو اليوم الذي تاب الله فيه على قوم يونس، ورفع عنهم العذاب، وهو اليوم الذي فرق الله فيه البحر لبني إسرائيل، فنجى الله فيه موسى ومن معه، وغرق فرعون وآل فرعون، وهو اليوم الذي ولد فيه عيسى بن مريم.
قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، وقوله: " إنه ليس من لأهلك " قال: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك.(26/207)
وقال: إن سفينة نوح كانت مطبقة، وتناسل الفأر فيها، فجعلوا يقرضون الخشب، وإذا هم بين العذرة، فمسح نوح وجه الأسد، فعطس، فخرج من منخريه خنزيران، فذهب الأذى من السفينة، فأقبلا عليه يأكلانه.
وقيل: إنه مسح يده اليمنى على ذنب الفيل الذكر، واليسرى على ذنب الفيل الأنثى، فسقط منهما خنزيران، من الذكر الذكر، ومن الأنثى الأنثى، وأتيا على عذرة السفينة.
ومن ثم اقتنى أهل الموصل والسواد الخنازير.
ولما خرج نوح من السفينة كثرت الأنهار، وغرس الشجر، وفقد حبلة العنب، فقال لولده: إني لم أكتب في كتابي هذا شيئاً إلا وقد حملته في السفينة، ولا أرى حبلة العنب.
قال مجاهد: في قوله عز وجل: " وغيض الماء " قال: نقص الماء، " وقضي الأمر " قال: هلك قوم نوح، " واستوت على الجودي " قال: جبل بالجزيرة.
وقيل: إنهم كانوا في السفينة مئة وخمسين يوماً، وإن الله تعالى وجه السفينة إلى مكة، فدارت بالبيت أربعين يوماً، ثم وجهها الله تعالى إلى الجودي، فاستقرت عليه.
قالوا: ولما هبط نوح إلى أسفل الجودي، وابتنى قرية وسماها ثمانين، فأصبحوا ذات يوم(26/208)
وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، أحدها اللسان العربي، فكان لا يفقه بعضهم كلام بعض، وكان نوح يعبر عنهم.
قال محمد بن كعب القرظي: في قوله عز وجل: " يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك " " وليس في الأرض أحد إلا نوح وأصحاب السفينة، فما بقي ظاهر من ذلك إلى يوم القيامة، لا مؤمن ولا مؤمنة، إلا دخل في السلام والبركات "، ولا بقي كافر ولا كافرة إلى يوم القيامة إلا دخل في ذلك المتاع والعذاب الأليم.
قال أبو أمامة: لم يتحسر أحد من الخلائق كحسرة آدم ونوح، فأما حسرة آدم فحين أخرج من الجنة، وأما حسرة نوح فحين دعا على قومه، فلم يبق شيء إلا غرق إلا ما كان معه في السفينة، فلما رأى الله حسرته أوحى إليه: يا نوح، لا تتحسر، فإن دعوتك وافقت قدري.
ولما هبط نوح من السفينة قال الله: يا نوح، هل تعلم ما صنعت وما صنعت بك؟ وفيم استجيب لك؟ ومن أهلكت من أعدائي؟ وكيف أهلكتهم؟ يا نوح، إني خلقت خلقي لعبادتي، وأمرتهم بطاعتي، فعصوني، وعبدوا غيري، واستأثروا بمعصيتي على طاعتي حتى استوجبوا غضبي، فعذبت بمعصية العاصين من لم يعصني، وأهلكت بهلاك الخاطئين جميع خلقي، فمن مثلي؟ ومن يقدر مثل قدرتي؟ وإني أقسمت بعزتي اليوم، وأي شيء مثلي؟ ومن أوفى بعهده مني؟ إني لا أعذب بالغرق العامة بعد هذا، ولا أعذب بمعصية العاصين بعدها جميع خلقي، ولكن أجعل الدنيا دولاً بين عبادي، ثم أجزيهم يوم يجمعون عندي، وإني جعلت قوسي أماناً لعبادي وبلادي وموثقاً بيني وبين خلقي يأمنون به إلى يوم القيامة من الغرق.(26/209)
وكانت القوس فيها سهم ووتر، فلما فرغ الله من هذا القول إلى نوح نزع السهم والوتر من القوس وجعلها أماناً لعباده وبلاده من الغرق.
ولما نضب الماء، ونبت الشجر، وخرج أهل السفينة، وتفرقوا في أعمالهم، جاء إبليس إلى نوح، فقال له: إن لك عندي يداً عظيمة، فسلني عما شئت، واستنصحني، فوالله لا أخونك ولا أغشك ولا أكذبك، فتأثم نوح بكلامه ومسائله، فأوحى الله إليه: أن كلمه وسله، فإني سأنطقه بحجة عليه، وموعظة لك.
قال نوح: أي عدو الله، أخبرني أي أخلاق بني آدم أعون لك ولجنودك على ضلالتهم وهلاكهم؟ قال له إبليس: نعم الخبير سألت، إنا إذا وجدنا ابن آدم شحيحاً حريصاً حسوداً جباراً عجولاً تلقفناه تلقف الأكرة، فإذا اجتمعت لنا فيه هذه الأخلاق سميناه فينا شيطاناً مريداً، لأن هذه الأخلاق رؤوس أخلاق الشياطين، وسأخبرك عن هذه الأخلاق بما نعرف: ألم تعلم أن الله أسكن أباك آدم الجنة، ثم فوضها إليه بجميع ما فيها، وحرم عليه فيها شجرة واحدة، فحمله الحرص على أن تناولها، فخرج بالحرص من جميع الجنة؟
أو لم تعلم أن قابيل بن آدم شح بأخته رغبةً عن سنة أبيه، فحمله الشح بها على أن قتل أخاه، فصيره الشح إلى القتل، والعقوق إلى النار؟ أو لم تعلم أنه هلك من هلك من قومك بالتكبر والتجبر عليك، فصاروا بذلك إلى النار؟ أو لم تعلم أن العجلة والحدة حملك على أن دعوت الله على ابنك، فغيرت دعوتك ألوان ولدك وأولاد ولدك من بعده، وورثتهم الذل والهلكة إلى يوم القيامة، ولم يكن ذنبه إليك بقدر ذلك؛ أن ضحك مما ضحك منه؟(26/210)
قال له نوح: أخبرني ما اليد العظيمة التي زعمت أني اصطنعتها إليك؟ فوالله، إني لأبغضك وأبغض مسرتك وموافقتك ورضاك واصطناع الأيدي عندك.
قال له إبليس - لعنه الله -: سأخبرك عن تلك اليد، إنك دعوت على جميع أهل الأرض، فألحقتهم دعوتك في ساعة واحدة بالنار، وفرغتني فصرت فارغاً مترفهاً، ولولا دعوتك لشغلت فيهم دهراً طويلاً، فأنا أعد ذلك منك يداً.
قال له نوح: أفلا تتعظ بهم؟ قال له إبليس: فأين ما سبق في علم الله؟ وكان من شأن دعوة نوح على ابنه أن نوحاً لما هبط من السفينة، وعمر الأرض، فنام ذات يوم، فبدت عورته، فنظر إليه حام ابنه، فضحك، فلم يغر عليه يافث، ورأى ذلك سام فزبره وغطى عورة أبيه، فلما استيقظ أخبره بذلك.
فدعا نوح حاماً، فقال: يا بني غير الله ماء صلبك، فلا تلد إلا السودان، ودعا يافث فقال: يا بني، جعل الله ذريتك عبيداً لولد سام، وقال لسام: يا بني، جعل الله منك الأنبياء والمرسلين والصالحين والملوك.
فولد لحام الهند والسند والحبش والزنج والزط والنوبة وفزان وجميع السواحل للسودان.
وولد ليافث الترك والصين وبربر وما وراءه، والصقالبة ويأجوج ومأجوج ومنسك وثارس ومارس وما وراءه وجابرسا وجابلقا.
وولد لسام العرب والروم، وإنما سمي الشام لأن ساماً نزلها، وسمي بلقاء لأن بالق نزلها.(26/211)
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: يا رب، نعم. فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته، قال: فيشهدون أن قد أبلغ، " ويكون الرسول عليكم شهيداً " " فتلا قوله: " وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ".
قال: والوسط العدل.
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أكرم ذا سن في الإسلام كأنه قد أكرم نوحاً، ومن أكرم نوحاً في قومه فقد أكرم الله عز وجل ".
وعن أبي هريرة قال: خير بني آدم - وفي رواية: سيد بني آدم - نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخيرهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذكر ميمون بن مهران الأنبياء صلى الله عليهم وسلم فقال: منهم من له عزم، ومنهم من لا عزم له.
وذكر: أولو العزم من الأنبياء خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلم.
قال وهب بن منبه: كان نوح أجمل أهل زمانه، وكان يلبس المرقع.
قال: وأصابتهم مجاعة في السفينة، فكان نوح إذا تجلى لهم بوجهه شبعوا.(26/212)
وعن عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن نوحاً لم يقم عن خلاء قط إلا قال: الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى منفعته في جسدي، وأخرج عني أذاه ".
وكان نوح إذا أكل قال: الحمد لله، وإذا شرب قال: الحمد لله، وإذا لبس قال: الحمد لله، وإذا ركب قال: الحمد لله، فسماه الله عبداً شكوراً.
وعن مجاهد: في قول الله عز وجل: " ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً ". قال: لم يأكل شيئاً قط إلا حمد الله، ولم يشرب شراباً قط إلا حمد الله، ولم يمش مشياً قط إلا حمد الله، ولم يبطش بشيء قط إلا حمد الله فأثنى الله عليه، إنه كان عبداً شكوراً.
وقال قتادة: في قوله: " إنه كان عبداً شكوراً " كان إذا لبس ثوباً قال: باسم الله، وإذا أخلقه قال: الحمد لله.
وقيل: إنما سمي عبداً شكوراً لأنه كان يقول: الحمد لله الذي كساني، ولو شاء أعراني، والحمد لله الذي أطعمني، ولو شاء أجاعني، حتى في إحداثه يقول إذ قضى حاجة: الحمد لله الذي أخرج عني أذاه، ولو شاء حبسه.
قال جبريل لنوح: يا أطول الأنبياء عمراً وأفضلهم شكراً، كيف رأيت الدنيا وبهجتها؟ قال: كدار لها بابان، أدخلت من الأول، وأخرجت من الآخر.
وعن ابن عباس قال:
لما حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بوادي عسفان، فقال: يا أبا بكر، أي وادٍ هذا:(26/213)
قال: وادي عسفان. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد مر به هود وصالح ونوح على بكرات حمر خطمها الليف، أزرهم العباء، وأرديتهم النمار، يلبون يحجون البيت العتيق ".
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صام نوح الدهر إلا يوم الفطر والأضحى، وصام داود نصف الدهر، وصام أبونا إبراهيم ثلاثة أيام من كل شهر، صام الدهر وأفطر الدهر ". وقوله عز وجل: " وجعلنا ذريته هم الباقين " قال: سام وحام ويافث. وسام أبو العرب وفارس والروم وأهل الشام وأهل مصر. وأما يافث فأبو الخزر ويأجوج ومأجوج. وأما حام فأبو هذه الجلدة السوداء.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ولد لنوح ثلاثة: سام وحام ويافث. فولد سام العرب وفارس والروم، والخير فيهم. وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة، ولا خير فيهم. وولد حام القبط والبربر، ولا خير فيهم ".
وفي رواية: وولد حام بربر والقبط والسودان، ولم يقل فيهم شيئاً.
قالوا: وولد سام كل حسن الضفيرة حسن الشعر. وولد حام كل أسود جعد قطط. وولد يافث كل عظيم الوجه صغير العينين.
ودعا نوح على حام أن يسود الله زرعه، ولا يعدو شعر بنيه آذانهم، وحيثما لقي ولده ولد سام استعبدوهم.(26/214)
وعن ابن عباس: في قول الله عز وجل: " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى "، قال: كانت فيما بين نوح وإدريس ألف سنة، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر الجبل، وكان رجال الجبل صباحاً، وفي النساء دمامة، وكانت نساء السهل صباحاً، وفي الرجال دمامة. وإن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل في صورة غلام " فآجر نفسه منه، فكان يخدمه، فاتخذ إبليس شيئاً من مثل الذي يزمر فيه الرعاء " فجاء فيه بصوت لم يسمع الناس مثله فبلغ ذلك من حوله، فانتابوه يسمعون إليه واتخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة فيتبرج النساء للرجال، قال: ويتزين الرجال لهن، وإن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم وهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن؛ فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك، فتحولوا إليهم ونزلوا معهن؛ فظهرت الفاحشة فيهن، فذلك قول الله عز وجل: " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ".قال ابن عباس: بعث نوح بعد أربعين سنة، وعاش في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا.
قالوا: وأقام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً في بيت من شعر، فيقال: يا نبي الله، ابن بيتاً فيقول: أموت اليوم، أموت غداً.
قالوا: واتخذ بيتاً من جص، وقيل: من قصب، فقيل له: لو بنيت بيتاً، فقال: هذا لمن يموت كثير.(26/215)
قال وهب بن منبه: مرت بنوح خمس مئة سنة لم يقرب النساء وجلاً من الموت.
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لما بعث الله نوحاً إلى قومه وهو ابن خمسين ومئتي سنة، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وبقي بعد الطوفان خمسين ومئتي سنة. فلما أتاه ملك الموت قال: يا نوح، يا كبيرالأنبياء، ويا طويل العمر، ويا مجاب الدعوة، كيف رأيت الدنيا؟ قال: مثل رجل بني له بيت، له بابان، فدخل من واحد وخرج من الآخر ".
وقيل: دخل من أحدهما وجلس هنية ثم خرج من الباب الآخر.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحاً قال لابنه: يا بني، إني آمرك بأمرين، وأنهاك عن أمرين: أن تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، فإن السماء والأرض لو جعلتا في كفة، وجعلت في كفة وزنتهما، ولو جعلتا حلقة فضمتهما. وآمرك أن تقول: سبحانه الله وبحمده، فإنها صلاة الخلق وتسبيح الخلق، وبها يرزق الخلق. قال الله عز وجل: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده ". وأنهاك عن الشرك بالله، فإنه من أشرك بالله حرم عليه الجنة، وأنهاك عن الكبر، فإن أحداً لن يدخل الجنة وفي قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ".
قال معاذ بن جبل:
يا رسول الله، الكبر الثياب نلبسها أو الدابة أو الراحلة يركبها أحدنا، أو الطعام يجمع عليه أصحابه؟ قال: " لا، ولكن الكبر بسفه الحق وبغنص المؤمن. وسأنبئكم بالمخرج من ذلك: باعتقال الشاة، وركوب الحمار، ولبس الصوف، مجالسة فقراء المؤمنين، وأن يأكل أحدكم مع عياله ".(26/216)
وفي حديث آخر مثله: وأما اللتان أوصيك بهما، فإني رأيت الله وصالح خلقه يستبشرون بهما، ورأيتهما يكثران الولوج على الله، وذكر ما تقدم في التهليل والتسبيح. وزاد: إن استطعت ألا يزال لسانك رطباً بهما فافعل.
وأما اللتان أنهاك عنهما: فإني رأيت الله وصالح خلقه ينادون بهما، ورأيتهما لا يلجان على الله، وذكر الشرك والكبر.
جاء رجل من الأعراب إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه جبة سيجان مزررة بالذهب، فقام على رأس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن صاحبكم هذا يرفع كل راع ابن راع، ويضع كل فارس ابن فارس، قال: فأخذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمجامع حبته، وقال: اجلس، فإني أرى عليك ثياب من لا عقل له، فما بعث الله نبياً قبلي إلا وقد رعى، قال: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم، على القراريط وأنصاف القراريط.
ثم قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن نبي الله نوحاً لما حضرته الوفاة قال لابنه: إني موصيك بوصية وقاصها عليك، آمرك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين: شهادة أن لا إله إلا الله، فإن السماوات والأرض لو كان حلقة مبهمة لقصمتهن، وسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء - وفي رواية: صلاح كل شيء - وبها يرزق كل شيء، وأنهاك عن الشرك والكبر ".
قال: فقيل: يا رسول الله هذا الشرك قد عرفناه، فما الكبر؟ هو أن يكون لأحدنا نعلان حسنان يلبسهما؟ قال: لا، أو حلة حسنة يلبسها؟ قال: لا، أو دابة فارهة(26/217)
يركبها؟ قال: لا، أو يكون للرجل أصحاب فيجمعهم إليه، وذكر الطعام؟ قال: لا. قيل: فما الكبر؟ قال: " من سفه الحق وغمص الناس ".
فإن استطعت أن تلقى الله ليس في قلبك مثقال حبة من خردل من شرك ولا كبر فافعل.
وعن عبد الرحمن بن سابط قال: إن قبر نوح وهود وشعيب وصالح بين زمزم وبين الركن والمقام.
قال ابن إسحاق: وعمر نوح فيما يزعم أهل التوراة بعد أن هبط من الفلك ثلاث مئة وثمانين وأربعين سنة، فكان جميع عمره ألف سنة إلا خمسين عاماً، ثم قبضه الله، صلى الله على نبينا وعليه وسلم.
نوح بن نصر بن محمد
ابن أحمد بن عمرو بن الفضل بن العباس بن الحارث أبو عصمة الفرغاني حدث أبة عصمة الفرغاني وهو يبكي بسنده عن مشايخه، كل شيخ وهو يبكي، إلى عبد الله بن عمر أو ابن عمرو وهو يبكي قال: حدثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يبكي حدثني جبريل وهو يبكي قال: يا محمد لن تصعد الملائكة من الأرض إلى الله بأفضل من بكاء العبيد ونوحهم على أنفسهم بالأسحار.
وحدث أبو عصمة ببغداد سنة سبع عشرة وأربع مئة بسنده إلى الفضل بن دكين قال: اجتمع أصحاب الحديث على باب الأعمش فلم يخرج إليهم، فتقدم منهم ثلاثة، فقالوا: لنغضبه حتى يخرج، فصاحوا: يا سليمان الأعمش، يا سليمان الأعمش، فخرج مغضباً وهو يقول: يا فعلة، يا فعلة، فقالوا: يا أبا محمد الحسن العينين، قال الله تعالى: " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون " فضحك وجلس وحدثهم.(26/218)
نوفل بن الفرات بن مسلم
ويقال: ابن سالم، ويقال: نوفل بن أبي الفرات أبو الجراح العقيلي مولى بني عقيل الجزري الرقي قدم على عمر بن عبد العزيز مع أبيه.
حدث عن القاسم بن محمد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أتى بعض بني جعفر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أرسل من يشتري لي نعلاً وخاتماً وليكن فصه عقيقاً فإنه من تختم بالعقيق لم يقض له إلا بالذي هو أسعد.
نوفل بن مساحق بن عبد الله
ابن مخرمة بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود أبو سعيد ويقال: أبو مساحق القرشي العامري كان من أشراف قريش من أهل المدينة.
حدث عن أم سلمة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الرحم شجنة آخذه بحجزة الرحمن تناشده حقها، فيقول: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك، ومن وصلك فقد وصلني، ومن قطعك فقد قطعني؟ ".
وحدث عن سعيد بن زيد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
" من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق، وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن، فمن قطعها حرم الله عليه الجنة ".(26/219)
وحدث نوفل قال: انتحى عمر بن الخطاب وعثمان بن حنيف في المسجد والناس مختلطون بهما لا يسمع نجواهما معهما أحد، فلم يزالا يتجاولان في الرأي حتى أغضب عثمان بن حنيف عمر في بعض ما يكلمه به، فقبض عمر من حصباء المسجد قبضة، فحصب بها وجه عثمان، فشجه الحصى بجبهته آثاراً من شجاج، فلما رأى عمر كثرة انسياب الدم على لحيته قال: امسح عنك الدم، فعرف عثمان أن عمر قد ندم على ما فرط منه، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يهولنك الذي أصبت مني، فوالله، إني لأنتهك ممن وليتني أمره من رعيتك التي استرعاك الله أكثر مما فعلت بي، فأعجب بها عمر من رأيه وحلمه، فازداد في عينه خيراً.
كان نوفل بن مساحق من أشراف قريش، وكانت له ناحية من الوليد بن عبد الملك بن مروان، وكان الوليد يعجبه الحمام ويتخذ له، فأدخل نوفل بن مساحق عليه وهو عند الحمام، فقال له الوليد: إني خصصتك هذا المدخل لأنسي بك، فقال: يا أمير المؤمنين ما خصصتني ولكنك خسستني، إنما هذه عورة، وليس مثلي يدخل على مثل هذا. فسيره إلى المدينة، وغضب عليه.
وكان يلي المساعي فأخذه بعض الأمراء بالحساب فقال: أين الغنم؟ فقال: أكلناها بالجر، قال: فأين الإبل؟ قال: حملنا عليها الرحال.
وكان لا يرفع إلى الأمراء من المساعي شيئاً، يقسمها ويطعمها.
وكان ابنه سعد بن نوفل من بعده يسعى أيضاً على الصدقات.
قتل نوفل بن مساحق يوم الحرة ومعقل بن يسار ومحمد بن أبي جهم العدوي صبراً جميعاً، وهذا وهم، وإنما توفي في زمن عبد الملك في أوله.
نوف بن فضالة
أبو يزيد، ويقال: أبو رشيد ويقال: أبو عمرو ويقال: أبو رشدين الحميري البكالي ابن امرأة كعب الأحبار قال شرحبيل بن المسمط: حدث نوف قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من شاب شيبةً في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة ".(26/220)
وأخذ شرحبيل بلحيته فقال: هذا السواد أمر الدهر.
المعروف حديث شرحبيل عن عمرو بن عنبسة، ولا يعرف لنوف صحبة.
وحدث نوف عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ستكون هجرة بعد هجرة، يجتاز أهل الأرض إلى مهاجراتهم، ويبقى فيها شرار أهلها لتطهر الأرض وتقذرهم نفس الله، فيبعث الله عليهم ناراً، يحشرهم مع القردة والخنازير، تقيل معهم إذا قالوا، وتروح معهم إذا راحوا، وتأكل من تخلف، وينشر أقوام بالمشرق، كلما نشأ قرن قطع قرن خرج في عراصهم الدجال ".
وعن عوف البكالي قال: بايت علي بن أبي طالب، فكان يكثر الخروج والنظر إلى السماء، فقال لي: أنائم أنت يا نوف، قلت: لا، بل رامق، أرمقك بعيني يا أمير المؤمنين، فقال علي: يا نوف، فطوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة، أولئك الذين اتخذوا أرض الله بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، واتخذوا القرآن شعاراً، والدعاء دثاراً،(26/221)
قرضوا الدنيا قرضاً قرضاً على منهاج المسيح، فإن الله أوحى إلى عبده المسيح عليه السلام أن قل لبني إسرائيل ألا يدخلوا بيتاً من بيوتي إلا بقلوب طاهرة وأبصار خاشعة، وأيد نقية، وأخبرهم أني لا أقبل لأحد منهم دعوة، ولأحد من خلقي قبلة مظلمة.
يا نوف، لا تكونن شرطياً ولا عريفاً ولا عشاراً، فإن داود خرج ذات ليلة فقال: إن هذه ساعة لا يدعو الله فيها أحد إلا استجاب له إلا أن يكون عشاراً أو عريفاً أو صاحب كوبة أو صاحب عرطبة.(26/222)
وفي حديث آخر بمعناه عن نوف قال: استضفت علي بن أبي طالب في خلافته فثنى لي وسادة، وجعل يصلي مثنى حتى إذا كان في السحر قال لي: يا نوف أنائم أنت؟.
وقال في آخره: إن داود قام في هذه الساعة في بني إسرائيل، فقال: إن الله يهبط في كل سحر إلى سماء الدنيا، فيغفر لكل مستغفر يستغفره إلا صاحب كوبة أو عرطبة أو مشاحن، يا نوف الكوبة الطبل، والعرطبة العود، والمشاحن: الذي يريد قتل أخيه.
وعن علي أنه قال لنوف الشامي مولاه وهو بعلية على سطح:
يا نوف، أنائم أم نبهان؟ قال: نبهان أرمقك يا أمير المؤمنين، قال: تدري من شيعتي؟ قال: قال: لا والله، قال: فإن شيعتي إن شهدوا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن خطبوا لم يزوجوا، وإن مرضوا لم يعادوا. شيعتي من لم يهر هرير الكلب، ولم يطمع طمع الغراب، ولم يسأل الناس وإن مات جوعاً، إن رأى مؤمناً أكرمه، وإن رأى فاسقاً هجره، شيعتي الذين هم الذين في قبورهم يتزاورون، وفي أموالهم يتواسون، وفي الله تعالى يتباذلون.
يا نوف، ذرها وذرها، حوائجهم خفيفة، أنفسهم عفيفة، قلوبهم محزونة، اختلفت بهم البلدان، ولم تختلف قلوبهم.
قال: قلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، فأين أطلب هؤلاء؟ قال لي: في أطراف الأرض، هؤلاء - والله - يا نوف شيعتي، يجيء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم القيامة، وهو آخذ بحجزة ربه، وأنا آخذ بحجزته، وأهل بيتي آخذون بحجزتي، وشيعتي آخذون بحجزنا، فإلى أين يا نوف؟ إلى الجنة ورب الكعبة ثلاثاً.
يا نوف، أما الليل فصافون أقدامهم، مفترشون جباههم، تجري دموعهم على خدودهم، يناجون في فكاك رقابهم. وأما النهار فحلماء نجباء كرام أبرار أتقياء.
يا نوف، بشر الزاهدين، نعم ساعة الزاهدين، أما إنها ساعة لا يسأل الله فيها عبد شيئاً إلا أعطاه ما لم يكن خاسراً أو عاشراً أو ساحراً أو ضارب كوبة أو ضارب عرطبة.
يا نوف، شيعتي الذين اتخذوا الأرض بساطاً، والماء طيباً والقرآن شعاراً قرضوا الدنيا قرضاً قرضاً على منهاج المسبح عيسى بن مريم عليه السلام.
كان نوف البكالي إماماً لأهل دمشق، فكان إذا أقبل على الناس بوجهه قال: من لا يحبكم لا أحبه الله، ومن لا يرحمكم فلا رحمه الله.
مر نوف بقرية فنادى: أيتها القرية من أخربك؟ فيقول هو، يرد على نفسه: أخربني مخرب القرى، فينادي: أيتها القرية أيتها القرية أين أهلك؟ فيقول: ذهبوا وبقيت أعمالهم.
قال ابن أبي عتبة الكندي: كنا نختلف إلى نوف البكالي، إذ أتاه رجل فقال: يا أبا يزيد، رأيت لك رؤيا كأنك تسوق جيشاً، ومعك رمح طويل، في سنانه شمعة تضيء للناس.
فقال نوف: لئن صدقت رؤياك لأستشهدهن. فلم يكن إلا أن خرجت البعوث مع محمد بن مروان على الصائفة، فلما حضر خروجه ذهبت أودعه، فلما وضع رجله في الركاب قال: اللهم أرمل المرأة وأيتم الولد وأكرم نوفاً بالشهادة.
فغزوا، فلما انصرفوا فكانوا بقباقب خرج العدو على السرح، فكان أول من ركب فشد عليهم، فقتل رجلاً ثم رجلاً، ثم قتل.
فقال بعض من معه: فانتهينا إليه وقد اختلط دمه بدم فرسه قتيلين.
نهار بن توسعة بن أبي عينان
ويقال: نهار بن توسعة بن تميم بن عرفجة بن عمرو بن حنتم التيمي أحد بني تيم اللات بن ثعلبة شاعر فارس من أهل خراسان، وذكر الحافظ الحاكم أنه العبدي، وردوا عليه هذا القول، لأن من يكون عبدياً لا يكون تيمياً، ومن يكون مدنياً لا يكون خراسانياً.(26/223)
حدث نهار العبدي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يسأل العبد يوم القيامة، حتى يسأله: ما منعك إن رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن عبداً حجته قال: يا رب، رجوتك وخفت الناس ".
ونهار بن توسعة هو القائل ليزيد بن المهلب ويعني قتيبة بن مسلم: من البسيط
كانت خراسان داراً إذ يزيد بها ... وكل باب من الخيرات مفتوح
فاستبدلت قتباً جعداً أنامله ... كأنما وجهه بالخل منضوح
ولما انصرف الترك إلى بلادهم بعث الجنيد سيف بن وصاف العجلي من سمرقند إلى هشام، فجبن عن المسير، وخاف الطريق، فاستعفاه فأعفاه، وبعث نهار بن توسعة وزميل بن سويد المري، وكتب إلى هشام، فدعا هشام نهار بن توسعة فسأله عن الخبر، فأخبره بما شهد، فقال نهار: من الطويل
لعمرك ما حابيتني إذ بعثتني ... ولكنما عرضتني للمتالف
دعوت لها قوماً فهابوا ركوبها ... وكنت أمراً ركابة للمخاوف
وأيقنت إن لم يدفع الله أنني ... طعام سباع أو لطير عوائف
قريني عراك، وهو أهون هالك ... عليك وقد زملته بصحائف
فإني وإن آثرت منه قرابة ... لأعظم حظاً في حباء الخلائف
على عهد عثمان وفدنا وقبله ... وكنا أولي مجد تليد وطارف
وكان عراك معهم في الوفد، وهو ابن عم الجنيد.
بينا المهلب بن أبي صفرة بخراسان في مجلسه وعنده الأزد بجماعتهم إذ أقبل نهار بن(26/224)
توسعة التميمي، فقال المهلب: يا معشر الأزد، هل تدروه من الذي يقول: من الطويل
جزى الله فتيان العتيك وإن نأت ... بي الدار عنهم خير ما كان جازيا
هم خلطوني بالنفوس وأكرموا ال ... ثواية لما حم ما كان آتيا
متاعهم فوضى فضاً في رحالهم ... ولا يحسنون الشر إلا تباديا
كأن دنانيراً على قسماتهم ... إذا الموت في الأقوام كان التحاشيا
قالوا: لا ندري من يقوله، قال المهلب: يقوله هذا المقبل، فقام كل رجل منهم إلى غلامه وركوبه بسرجه ولجامه، فدفعه إلى نهار، فأحصي ما أخذه يومئذ مئة وصيف ومئة برذون.
دعا قتيبة نهار بن توسعة حين صالح السغد، فقال: يا نهار أين قولك؟ من الطويل
ألا ذهب المعروف والعز والغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلب
أقاما بمرو الروذرهن ضريحه ... وقد غيبا عن كل شرق ومغرب
أتعرف هذا يا نهار؟ قال: هذا حسن، وأنا الذي أقول: من الطويل
وما كان مذ كنا ولا كان قبلنا ... ولا هو فيما بعدنا كابن مسلم(26/225)
أعم لأهل الترك قبلاً بسيفه ... وأكثر فينا مقسماً بعد مقسم
ومن شعر نهار: من الطويل
عتبت على سلم فلما فقدته ... وجربت أقواماً بكيت على سلم
وكان نهار مداحاً للمهلب وبنيه، ولما عزل يزيد وولي قتيبة قال نهار: من البسيط
فاستبدلت قتباً جعداً أنامله
ثم مدح قتيبة فقال: من الطويل
أتيت خراسان ابن عمرو وأهلها ... عزيز وحرب بينهم تتحرق
فما زلت بالحلم الرضي وبالنهى ... وبالرفق حتى يخرجوا لك زردق
فمرنا أبا حفص بما شئت إننا ... إلى كل ما تهوى نخب ونعنق
وأنت لنا راع ونحن رعية ... وكفاك بالإحسان فينا تدفق
ينال الذي يرجوك ما كان راجياً ... لديك ويخشاك الألد المطرق
ويأمن منك الجور ما كان سامعاً ... وتأسر أعداءً مراراً وتطلق
وترجو بذاك الله لا شيء غيره ... وأنت لمن عاداك بالويل تطرق
فلا تأخذنا يا قتيب بما مضى ... من الجهل إن الحر يعفو ويعتق
فقال: أحسنت، مقبول منك، ورضي عنه.
نهيك بن صريم
ويقال: ابن صريم، السكوني ويقال: اليشكري له صحبة.(26/226)
حدث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لتقاتلن المشركين حتى يقاتل بقيتكم المشركين على نهر الأردن، أنتم شرقيه وهم غربيه، ما أدري أين الأردن يومئذ من الأرض ".
وعنه في معناه عن سول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليقاتلن بقيتكم الدجال على نهر الأردن، أنتم شرقي النهر وهم غربيه ".
نهيك بن عمرو القيسي البصري
قال نهيك: وفدنا إلى يزيد بن معاوية وقد ضرب له رواق في البرية، فإذا مناديه: أين وفد أهل البصرة، قد أمر لكم أمير المؤمنين بكذا، وأمر لكم بكذا، ثم خرج الثانية فقال: أين وفد أهل البصرة؟ قد أمر لكم أمير المؤمنين بكذا وأمر لكم بكذا، ثم زاد الثالثة بمثل ذلك، فقال بعضنا لبعض: ما نظنه إلا قاعداً يشرب، فجاءت ريح، فطارت بطرف الرواق، فإذا هو يقرأ في المصحف.
نهيك بن بريم الأوزاعي
حدث عن مغيث بن سمي قال: كان ابن الزبير يسفر بصلاة الغداة، فغلس بها ذات يوم، فالتفت إلى عبد الله بن عمر، فقلت: ما هذه الصلاة؟ فقال: هذه صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر، فلما قتل عمر أسفر بها عثمان.
وحدث عنه قال: كان للزبير بن العوام ألف مملوك يؤدي إليه الخراج فلا يدخل بيته من خراجهم شيئاً.(26/227)
أسماء النساء على حرف النون
نائلة بنت عمارة الكلبية
زوج معاوية بن أبي سفيان
لما تزوج معاوية نائلة قال لميسون: انطلقي فانظري إلى ابنة عمك، فنظرت إليها، فقال: كيف رأيتها؟ فقالت: جميلة كاملة، وكلن رأيت تحت سرتها خالاً، ليوضعن رأس زوجها في حجرها، فطلقها معاوية، فتزوجها حبيب بن مسلمة الفهري، ثم خلف عليها لعد حبيب النعمان لن بشير الأنصاري، فقتل ووضع رأسه في حجرها.
نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص
ابن عمرو، ويقال: عفير بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم زوج عثمان بن عفان رضي الله عنه قدمت على معاوية بعد قتل عثمان، فخطبها، فأبت أن تنكحه.
قالت نائلة: لما حصر عثمان ظل اليوم الذي كان قبل قتله بيوم صائماً، فلما كان عند إفطاره سألهم الماء العذب، فأبوا عليه، وقالوا: دونك الركي - وركي في الدار: التي يلقى فيها النتن - قالت: فلم يفطر. فأتيت جارات لنا على أجاجير متواصلة، وذلك في(26/228)
السحر، فسألتهم الماء العذب، فأعطوني كوزاً من ماء، فأتيته فقلت: هذا ماء عذب أتيتك به، قالت: فنظر، فإذا الفجر طلع، فقال: إني أصبحت صائماً.
فقلت: من أين، ولم أر أحداً أتاك بطعام ولا شراب؟! فقال: إني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطلع علي من هذا السقف ومعه دلو من ماء، فقال: اشرب، يا عثمان، فشربت حتى رويت، ثم قال: ازدد، فشربت حتى ثملت أو نهلت. ثم قال: إن القوم سيبكرون عليك، فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا، فدخلوا عليه من يومه فقتلوه.
وضب أخو نائلة هو الذي حملها إلى عثمان، وكان ضب مسلماً، وكان أبوها نصرانياً، فأمر ابنه ضباً بذلك، وفي ذلك تقول نائلة لأخيها ضب: من الطويل
أحقاً تراه اليوم يا ضب أنني ... مرافقة نحو المدينة أركبا
لقد كان فتيان حصن بن ضمضمٍ ... وجدك ما يغني الخباء المحجبا
وكل اسم في العرب فرافصة فهو مضموم الفاء إلا الفرافصة بن الأحوص، فإنه بفتح الفاء الأولى.
وكان سعيد بن العاص تزوج أخت نائلة بنت الفرافصة، وهو أمير على الكوفة، فبلغ ذلك عثمان بن عفان، فكتب إليه: بلغني أنك تزوجت امرأة فأخبرني عن حسبها وجمالها.
فكتب إليه: إن كان لها أخت فزوجنيها.
فدعا الفرافصة فقال له: زوج أمير المؤمنين، فقال الفرافصة لابنه ضب -(26/229)
وكان مسلماً، والفرافصة نصراني -: زوج أختك أمير المؤمنين، فزوجه نائلة، وحملها إليه.
فلما دخلت على عثمان وضع القلنسوة عن رأسه، وبدا الصلع، فقال: لا يغمنك ما ترين، فإن من ورائه ما تحبين، قالت له: أما ما ذكرت من صلعك فإني من نسوة أحب أزواجهن إليهن السادة الصلع.
ثم قال لها: إما أن تتحولي إلي أو أتحول إليك، قالت: ما قطعت من جنبات السماوة أبعد مما بيني وبينك.
فتحولت إليه، فكانت من أحظى نسائه عنده.
قالوا: وتزوجها وهي نصرانية على نسائه، ثم أسلمت على يديه.
ولما قتل عثمان قالت نائلة فيه: من الطويل
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
ومالي لا أبكي وأبكي قرابتي ... وقد غيبت عني فضول أبي عمرو
قال: وكانت كلب كلهم يومئذٍ نصارى.
قال عثمان: فدخلت إلى جارية مثل الخلفة، فقلت: سلام عليك، قالت: وعليك السلام ورحمة الله، ونساء كلب ذلك الزمان لا يكلمن أزواجهن سنة، أو كما قال، ثم قالت: أين(26/230)
أنت من شيخ أثرم هرم؟ فقالت: إني من قوم يحبون الكهولة، فسررت بذلك.
قالوا: لما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا انكساره، ثار قتيرة وسودان بن حمران السكونيان والغافقي، فضربه الغافقي بجريدة معه، وضرب المصحف برجله، واستدار المصحف وانتشر، فاستقر بين يديه، وسالت عليه الدماء، وجاء سودان بن حمران ليضربه، فأكبت عليه نائلة، واتقت السيف بيدها، فتعمدها ونفح أصابعها، فأطن أصابع يدها، وولت، فغمز أوراكها، وقال: إنها لكيدة العكيزة، وتضرب عثمان فقتله.
وقد دخل مع القوم غلمة لعثمان لينصروه، وقد كان عثمان أعتق من كف منهم، فلما رأى سودان قد ضربه أهوى إليه فضرب عنقه، ووثب قتيرة على الغلام فقتله.
وانتهبوا ما في البيت، وأخرجوا من فيه، ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى.
فلما خرجوا إلى الدار وثب غلام لعثمان آخر على قتيرة فضربه، فقتله.
ودار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى تناولوا ما على النساء، وأخذ رجل ملاءة نائلة، اسمه كلثوم من تجيب، فتنحت نائلة، فقال: ويح أمك من عكيزة، ما آثمك، وبصر به غلام آخر لعثمان، فقتله.
نظرت نائلة امرأة عثمان في المرآة، فأعجبها ثغرها، فأخذت فهراً فكسرت(26/231)
ثناياها، وقالت: والله، لا يجليكن أحد بعد عثمان، ثم خطبها معاوية، فأبت عليه، وأنشدت: من الطويل
أبى الله إلا أن تكوني غريبة ... بيثرب لا تلقين أماً ولا أبا
وقيل: إنها خطبها قوم من قريش، فدعت بمرآة، فنظرت فيها، وكانت من أحسن الناس ثغراً، فأخذت فهراً فدقت به أسنانها، فسال الدم على صدرها، فبكى جواريها، وقلن لها: ما صنعت بنفسك؟ قالت: إني رأيت الحزن يبلى كما يبلى الثوب، وإني خفت أن يبلى حزني على عثمان، فيطلع مني رجل على ما اطلع عليه عثمان، وذلك ما لا يكون أبداً.
وخرجت نائلة ليلة دفن عثمان ومعها السراج، وقد شقت جيبها، وهي تصيح: واعثماناه، واأمير المؤمنيناه، فقال لها جبير بن مطعم: أطفئي السراج فقد ترين من بالباب، فأطفأت السراج.
وانتهوا إلى البقيع، فصلى عليه جبير وخلفه حكيم بن حزام وأبو جهم ونيار بن مكرم، ونائلة، وأم البنين بنت عيينة بن حصن امرأته، ونزل في حفرته نيار وأبو جهم وجبير، وكان حكيم والمرأتان يدلونه على الرجال حتى قبر وبني عليه، وغموا قبره، وتفرقوا.
حدث بعض مشايخ بني راسب قال: كنت أطوف بالبيت فإذا رجل أعمى يطوف بالبيت وهو يقول: اللهم اغفر لي، وما أراك تفعل. فقلت: أما تتقي الله؟ قال: إن لي شأناً، آليت أنا وصاحب لي لئن قتل عثمان لنلطمن حر وجهه، فدخلنا عليه ورأسه في حجر امرأته نائلة، فقال لها صاحبي: اكشفي وجهه، قالت: لم؟ قال: ألطم حر وجهه، فقالت: أما ترضى ما قال فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال فيه: كذا، وقال فيه: كذا. قال: فاستحيا صاحبي، فرجع.
فقلت لها: اكشفي عن وجهه، قال: فذهبت تعدد علي، فلطمت وجهه، فقالت: مالك؟! يبس الله يدك، وأعمى بصرك، ولا غفر لك ذنبك.(26/232)
قال: فوالله ما خرجت للباب حتى يبست يدي وعمي بصري، وما أرى الله يغفر لي ذنبي.
وفي حديث آخر بمعناه: فقالت امرأته: أشل الله يمينك، وصلى وجهك النار، فقد شلت يميني، وأنا أخاف.
نوار جارية الوليد بن يزيد بن عبد الملك
كانت حظيةً عنده، وهي التي أمرها أن تصلي بالناس وقد سكر، وجاءه المؤذن، فآذنه بالصلاة وحلف أن تفعل، فخرجت متلثمة عليها بعض ثيابه، فصلت بالناس ورجعت. وكان لها صنعة صالحة.
أسماء الرجال على(26/233)
حرف الواو
وابصة بن معبد بن عتبة
ابن الحارث بن مالك بن الحارث بن بشير أبو سالم، ويقال: أبو الشعثاء الأسدي له صحبة.
حدث وابصة قال: صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده، فقال له: ألا أخذت بيد رجل فأقمته إلى جنبك أو دخلت في الصف؟ قم فأعد صلاتك.
وفي رواية عنه قال: صلى رجل خلف الصف وحده، ولم يتم الصف، فرآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمره أن يعيد الصلاة.
وورد أيضاً: أنه رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده، فأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعيد الصلاة.
وعن وابصة قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن رجل صلى خلف الصفوف وحده، قال: يعيد الصلاة.
حدث وابصة قال: بينا أنا في دار لي بالكوفة قاصية، وأمير المصر يومئذ عبد الله بن مسعود خليفة أمير، والخليفة عثمان، إذ رجل في بحر الظهيرة يستأذن على باب الدار الأقصى، فإذا عبد الله بن مسعود، فقلت: ما جاء بك في هذه الظهيرة؟ قال: اللهم، ألا إن(26/234)
النهار طال علي، فذكرت من أتحدث إليه، فذكرتك، فجرى بيني وبينه الحديث حتى أنشأ يحدثني عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن فتنةً مظلمة أو مطلمة جائية، المضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الراكب، والراكب فيها خير من المجري "، قلت: متى ذاك يا بن مسعود؟ فقال: تلك أيام الهرج حين لا يأمن الرجل جليسه، قلت: ما تأمرني إن أدركني ذلك الزمان؟ قال: تكف لسانك، وتكون حلساً من أحلاس بيتك.
قال: فلما قتل عثمان طار قلبي مطاراً، فركبت حتى أتيت دمشق، فلقيت خريم بن فاتك الأسدي، فحدثني أو قال: فحدثت بحديث عبد الله بن مسعود فقال لي خريم: الله الذي لا إله إلا هو، لأنت سمعت من عبد الله؟ قلت: الله الذي لا إله إلا هو، لأنا سمعته من عبد الله، قال: فحلف لي خريم لسمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما هو حدثك عبد الله.
قال: فكنت على خريم أجرأ مني على عبد الله، فاستحلفته ثلاثاً بالله الذي لا إله إلا هو، لسمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما حدثنيه عبد الله.
وفي حديث آخر بمعناه: قلت: بم تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: " كف يدك ونفسك، وادخل دارك "، قلت: يا رسول الله أرأيت إن دخل علي داري؟ قال: " ادخل بيتك "، قلت: أرأيت إن دخل علي بيتي؟ قال: " ادخل مسجدك، فقل هكذا، وقبض بيمينه على الكوع، وقل: ربي الله، حتى تموت ".(26/235)
قدم عشرة رهط من بني أسد، فيهم وابصة بن معبد الأسدي على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسلموا في سنة تسع.
وعن وابصة قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أريد ألا أدع شيئاً من البر والإثم إلا سألته عنه، فجعلت أتخطى الناس، فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: دعوني أدنو منه، فإنه من أحب الناس إلي أن أدنو منه، فقال: ادن يا وابصة، ادن يا وابصة، فدنوت حتى مست ركبتي ركبته، فقال: يا وابصة، أخبرك بما جئت تسألني، جئت تسألني عن البر والإثم، قلت: نعم، قال: فجمع أصابعه، وجعل ينكت بها في صدري، وقال: " يا وابصة، استفت قلبك، استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك ".
وفي رواية عنه: " البر ما انشرح له صدرك ".
ال هلال بن يساف: قدمت الرقة، فقال بعض أصحابي: هل لك في رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقلت: غنيمة، فدفعنا إلى وابصة بن معبد فقلت لصاحبي أو لأصحابي: نبدأ فننظر إلى دله، فإذا عليه قلنسوة لاطية ذات أذنين وبرنس خز أغبر، وإذا هو قائم يصلي، يعتمد على عصاً في صلاته.
فقلنا له بعد أن سلمنا عليه: ما دعاك إلى العصا؟ قال: حدثتني أم قيس بنت نحصن أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أسن وحمل اللحم اتخذ عموداً في مصلاه يعتمد عليه.
قال أبو رشد الأزدي: كنت آتي وابصة بن معبد، وقلما أتيته إلا أصبت المصحف موضوعاً بين يديه، ثم إن(26/236)
كان ليبكي حتى أرى دموعه قد بلت الورق، فقلت له: هل سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شيء؟ فقال: يا أبا راشد وهل تركت شيئاً إلا وقد سألت عنه حتى عن وسخ الأظفار، قال: فقلت: فماذا قال لك؟ قال: ما رابك فألقه، وما كان سوى ذلك فدعه.
واثلة بن الأسقع بن عبد العزى بن عبد ياليل
أبو الخطاب، ويقال: أبو الأسقع، ويقال: أبو شداد ويقال: أبو قرصافة الليثي صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أهل الصفة.
شهد فتح دمشق، وسكنها إلى أن توفي بها.
حدث وائلة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم ".
قال واثلة: لما نزل خالد بن الوليد مرج الصفر ركبت فرسي حتى انتهيت إلى باب الجابية، فخرجت خيل عظيمة، فأمهلتها حتى إذا كانت بيني وبين دير ابن أبي أوفى حملت عليهم من خلفهم، وكررت، فظنوا أنهم قد أحيط بمدينتهم، فانصرفوا راجعين، وشددت على عظيمهم، فدعسته بالرمح، فوقع، فضربت يدي إلى برذونه، فأخذت بلجامه، فركضت. فلما رأوني وحدي أقبلوا علي، فالتفت فإذا رجل قد بدر بين أيديهم، فرميت بالعنان على قربوس السرج، ثم عطفت عليه، فدعسته بالرمح، فقتلته، ثم عدت إلى البرذون، فاتبعوني، ثم كتلك حتى واليت بين ثلاثة، فلما رأوا ما أصنع انطلقوا راجعين.(26/237)
وأتيت الصفر، ثم أتيت خالد بن الوليد، فذكرت له ما صنعت، وعنده عظيم الروم قد خرج إليه يلتمس منه الأمان لأهل المدينة، فقال له خالد: هل علمت أن الله قتل فلاناً؟ يعني خليفته، فقال بالرومية: مثانوس، يعني: معاذ الله.
فأقبل واثلة إليه بالبرذون، فلما رآه عظيم الروم عرفه، فقال: أتبيع السرج؟ قال: نعم، قال: لك عشرة آلاف، فقال خالد لواثلة: بعه، فقال واثلة لخالد: بعه أنت أيها الأمير، فباعه وسلم لي سلبه كله، ولم يأخذ منه شيئاً.
وفي آخر بمعناه: أتيت البيت، فربطت البرذون، ونزعت عنه سرجه، ثم أتيت خالداً. وفيه: أنه باعه البرذون وسرجه بعشرة آلاف.
فلما جئت إلى منزلي إذا النساء قد أتين امرأتي فقلن لها: احذينا مما أصاب زوجك، قالت: هذا السرج، دونكن إياه. فجعلن يقلعن الفصوص بأسنانهن، فقلت: ما صنعتن؟ الخرزة خير من إحداكن.
فلما أتيت بالبرذون والسرج قال: إنما أغليت لمكان السرج، فأما إذ ذهبت فصوصه فلا حاجة لي به، فسلم خالد السلب كله لي.
وعن واثلة قال: لما أسلمت أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلمت على يديه، فقال لي: " اذهب فاحلق عنك شعر الكفر واغتسل بماء وسدر ".
قالوا: وأقبل واثلة بن الأسقع، وكان ينزل ناحية المدينة حتى أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلى الصبح معه، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى الصبح انصرف فتصفح وجوه أصحابه ينظر إليهم، فلما دنا من واثلة أنكره، فقال: من أنت؟ فأخبره، فقال: ما جاء بك؟ قال:(26/238)
أبايع، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: على ما أحببت وكرهت؟ قال واثلة: نعم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فيما أطقت؟ فقال واثلة: نعم. فبايعه.
وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ يجهز إلى تبوك.
فخرج الرجل إلى أهله، فلقي أباه الأسقع، فلما رأى حاله قال: قد فعلتها؟ قال واثلة: نعم، قال أبوه: والله، لا أكلمك أبداً.
فأتى عمه وهو مول ظهره إلى الشمس، فسلم عليه فقال: قد فعلتها؟ قال: نعم، ولامه لائمة أيسر من لائمة أبيه، وقال: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر.
فسمعت أخت واثلة كلامه، فخرجت إليه، فسلمت عليه بتحية الإسلام، قال واثلة: أنى لك هذا يا أخية؟ قالت: سمعت كلامك وكلام عمك. وكان واثلة ذكر الإسلام، ووصفه لعمه، فأعجب أخته الإسلام، فأسلمت، فقال واثلة: لقد أراد الله بك يا أخية خيراً، جهزي أخاك جهاز غادٍ؛ فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جناح السفر.
فأعطته مداً من دقيق، فعجن الدقيق في الدلو، وأعطته تمراً، فأخذه، فأقبل إلى المدينة، فوجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تحمل إلى تبوك، وبقي غرات من الناس، وهم على الشخوص، وإنما رحل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل ذلك بيومين، فجعل ينادي بسوق قينقاع: من يحملني وله سهمي؟ قال: وكنت رجلاً لا رحلة بي، فدعاني كعب بن عجرة، فقال: أنا أحملك عقبةً بالليل، ويدك أسوة يدي، ولي سهمك، قال واثلة: نعم.
فقال واثلة بعد ذلك: جزاه الله خيراً، لقد كان يحملني عقبتي ويزيدني، وآكل معه، ويرفع لي حتى إذا بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالد بن الوليد إلى أكيدر الكندي بدومة الجندل، خرج كعب بن عجرة في جيش خالد، وخرجت معه، فأصبنا فيئاً كثيراً، فقسمه خالد بيننا، فأصابني ست قلائص، فأقبلت أسوقها حتى جئت بها إلى جن كعب بن عجرة، فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك، فاقسمها.(26/239)
فخرج إلي وهو يبتسم ويقول: بارك الله لك فيها، ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئاً.
وفي رواية: ما حملتك إلا لله.
قال واثلة بن الأسقع: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جالس في نفر من أصحابه يحدثهم، فجلست وسط الحلقة، فقال بعضهم: يا واثلة، قم عن هذا المجلس، فإنا قد نهينا عنه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعوا واثلة، فإني أعلم ما الذي أخرجه من منزله، قلت: يا رسول الله، وما الذي أخرجني؟ قال: خرجت من منزلك تسأل عن اليقين والشك، قلت: والذي بعثك بالحق، ما أخرجني غيره.
قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن البر ما استقر في الصدر واطمأن إليه القلب، والشك ما لم يستقر في الصدر ولم يطمئن إليه القلب، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وإن أفتاك المفتون ".
وعن واثلة قال:
رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمسجد الخيف، فقال لي أصحابه: إليك يا واثلة، أي تنح عن وجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعوه، فإنما جاء يسأل. قال: فدنوت، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لتفتنا عن أمر نأخذه عنك من بعدك، قال: لتفتك نفسك، قال: وكيف لي بذلك؟ قال: " تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وإن أفتاك المفتون "، قلت: وكيف لي بعلم ذلك؟ قال: " تضع يدك على فؤادك، فإن القلب يسكن للحلال ولا يسكن للحرام، وإن الورع المسلم يدع الصغير مخافة أن يقع في الكبير "، قلت: - بأبي أنت وأمي - ما العصبية؟ قال: " الذي يعين قومه على الظلم ". قلت: فمن الحريص: قال: " الذي يطلب المكسبة من غير حلها ". قلت: فمن الورع؟ قال: " الذي يقف عند الشبهة ". قلت: فمن المؤمن؟ قال: " من أمنه الناس على أموالهم ودمائهم ".(26/240)
قلت: فمن المسلم؟ قال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده ". قلت: فأي الجهاد أفضل؟ قال: " كلمة حكم عند إمام جائر ".
وعن واثلة بن الأسقع قال: كنا أصحاب الصفة، وما منا رجل له ثوب تام، ولقد اتخذ العرق في جلودنا طرقاً من الغبار، إذ أقبل علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم فقال: " ليبشر فقراء المهاجرين، ليبشر فقراء المهاجرين "، إذ جاء رجل عليه شارة حسنة ما أدري من رأيت رجلاً أمثل في عيني منه، فقرأ على نبي الله السلام، فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتكلم بكلام إلا غلبته نفسه أن يأتي بكلام يعلو به كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أدبر قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله لا يحب هذا وضربه، يلوون ألسنتهم للناس لي البقرة لسانها بالرعي، كذلك يلوي الله ألسنتهم ووجوههم في جهنم ".
قال واثلة بن الأسقع: جئت أريد علياً فلم أجده، فقالت فاطمة: انطلق إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوه، فاجلس، قال: فجاء مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدخلا، ودخلت معهما، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسناً وحسيناً، فأجلس كل واحد منهما على فخذه، وأدنى فاطمة من حجره وزوجها، ثم لف عليهم ثوبه وأنا منتبذ، فقال: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ".
" اللهم هؤلاء أهلي، اللهم أهلي أحق ".
قال واثلة: قلت: يا رسول الله، وأنا من أهلك، قال: وأنت من أهلي. قال: واثلة: إنها لمن أرجى ما أرجو.(26/241)
قال يونس بن ميسرة: قلت لواثلة بن الأسقع أيام الطاعون الجارف: كيف أنت؟ قال: بخير يا بن أخي. قلت: جعلك الله بخير، قال: أما إني فعل الله ذلك بي، لقد هداني لدينه، واجتباني إلى رسوله.
قال مكحول: دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع، فقلنا: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس فيه وهم، ولا تزيد ولا نسيان، فقال: هل قرأتم من القرآن الليلة شيئاً؟ قال: فقلنا: نعم، قال: فهل زدتم واواً أو ألفاً أو مثلها؟ قال: فقلنا: ما نحن له بحافظين جداً، إنا لنزيد الواو والألف وننقص، قال: فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألون حفظه وأنتم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عسى ألا نكون سمعناها منه إلا مرة واحدة، حسبكم إذا جئناكم بالحديث على معناه.
وفي حديث آخر بمعناه: إنا كنا قد أمسكنا عن الأحاديث على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى سمعناه يقول: " إنه لا بأس بالحديث قدمت فيه أو أخرت إذا أصبت معناه ".
توفي واثلة بن الأسقع سنة ثلاث وثمانين وهو ابن مئة وخمس سنين.
وقيل: توفي سنة خمس وثمانين وهو ابن ثمان وتسعين سنة، اغتيل ما بين حمص ودمشق، وكان آخر من مات من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدمشق.
وكان آخرهم موتاً بمكة عبد الله بن عمر.
وكان آخرهم موتاً بالمدينة جابر بن عبد الله.
وكان آخرهم موتاً بمصر سهل بن سعد بن ساعدة.(26/242)
وكان آخرهم موتاً بالكوفة عبد الله بن أبي أوفى.
وكان آخرهم موتاً بالبصرة أنس بن مالك.
وكان آخر من مات بحمص عبد الله بن بسر.
واثلة بن الحسن
أبو الفياض الأنصاري العرقي من أهل عرقة من نواحي دمشق.
حدث عن كثير بن عبيد الحذاء بسنده إلى معاذ بن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
" من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه خيره الله من الحور العين يوم القيامة، ومن أ ... عبداً وضع الله على رأسه تاج الملك يوم القيامة.
واثلة بن الخطاب القرشي العدوي
له صحبة.
حدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: دخل رجل المسجد ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس عنده، فلما رآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزحزح له، فقال: يا رسول الله، إن في المكان سعة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن للمسلم على المسلم من الحق إذا رآه أن يتزحزح له ".(26/243)
واثلة بن الخطاب بن واثلة بن الأسقع
ويقال: ابن الخطاب ابن بنت واثلة بن الأسقع حدث عن أبيه عن جده واثلة بن الأسقع قال: حضر رمضان ونحن في أهل الصفة، فصمنا، فكنا إذا أفطرنا أتى كل رجل منا رجل من أهل السعة، فأخذه فانطلق به فعشاه، فأتت علينا ليلة لم يأتنا أحد، وأصبحنا صياماً، ثم أتت علينا القابلة فلم يأتنا أحد: فانطلقنا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرناه بالذي كان من أمرنا، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه يسألها: هل عندها شيء؟ فما بقيت امرأة منهن إلا أرسلت بقسم ما فيها ما يأكل ذو كبد، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجتمعوا، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " اللهم إنا نسألك من فضلك ورحمتك، فإنهما بيدك لا يملكهما أحد غيرك " فلم يكن إلا ومستأذن يستأذن، فإذا شاة مصلية ورغيف، فأمر بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوضعت بين أيدينا، فأكلنا حتى شبعنا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنا سألنا الله من فضله ورحمته، فهذا فضله وقد ذخر لنا عنده رحمته ".
وادع بن ذوللة الكلبي
شاعر فارس، شهد يوم المرج مع مروان بن الحكم، ووفد على الحجاج بن يوسف، وكانت عينه أصيبت يوم المرج، فقال له الحجاج: ما الشجاعة؟ قال: غرائز يجعلها الله في الناس، قد تجد الرجل شجاعاً لا رأي له، فتلك الشجاعة الضارة لصاحبها، لأنها تقدم به في حال لا إقدام، وتحجم به في وقت لا إحجام، فيهلك ويهلك، وقد تكون الشجاعة نافعة لصاحبها إذا أقدمت به في حين الإقدام وأحجمت به في حين الإحجام، والله لقد رأيتني يوم مرج راهط وإن همام بن قبيصة النميري لواقف وقد انقض عنه أصحابه، وإنه من شجاعته لواقف لا يدري ما يصنع، ولو فر لكان الفرار يمكنه، ولكن حمي أنفاً، فحمل علي وحملت عليه، فبادرته بضربة على عاتقه(26/244)
فأذريته عن دابته، ثم نزلت إليه أحتز رأسه فتفل في وجهي، ثم قال: من الطويل
ألا يا بن ذات النوف أجهز على امرئ ... يرى الموت خيراً من فرار وأكرما
ولا تتركني بالخساسة إنني ... أكر إذا ما النكس مثلك أحجما
فأخذت رأسه، فأتيت به مروان، وقلت: هذا رأس همام بن قبيصة، قال: لأنت قتلته؟ قلت نعم، قال: فهل أعانك عليه أحد؟ قلت: نعم، الله وفراغ مدته، فقال: هو والله كما قال الشاعر: من الطويل
وفارس هيجا لا يقام لبأسه ... له صولةً تزور عنها الفوارس
وشدة ليث يرهب الأسد وقعها ... وتذعر منها العاويات العساعس
جريء على الإقدام ليس بناكل ... ولا يزدهيه الأحوسي المقامس
واصل بن أبي جميل
أبو بكر السلاماني من أهل جبل الخليل عليه السلام.
حدث عن مجاهد عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكره أكل سبع من الشاة: المثانة، والمرارة، والغدة، والأنثيين، والذكر، والحياء، والدم. وكان أكره الشاة إليه ذنبها.(26/245)
وحدث عن مجاهد قال: وجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ريحاً، فقال: " ليقم صاحب الريح فليتوضأ "، فاستحيا الرجل أن يقوم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليقم صاحب هذه الريح فليتوضأ "، فاستحيا الرجل أن يقوم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليقم صاحب هذه الريح فليتوضأ فإن الله لا يستحي من الحق "، فقال العباس: يا رسول الله أفلا نقوم كلنا نتوضأ، قال: " قوموا كلكم فتوضؤوا ".
وحدث واصل عن مجاهد وعطاء وطاوس والحسن: في الرجل يبيع الطعام مجازفة وهو لا يعلم كليه ولا يعلمه، فكرهوه.
لما هرب الأوزاعي من عبد الله بن علي كان مختبئاً عنده، قال الأوزاعي ما تهنيت قط بضيافة أحد ما تهنيت بضيافتي عنده، كان خبأني في هري العدس، فإذا كان العشاء جاءت الجارية، فأخذت من العدس، فطبخت، ثم جاءتني به، فكان لا يتكلف لي، فتهنيت بضيافته.
واصل بن عبد الله السلامي
أظنه من دمشق.
حدث عمن حدثه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أول ما يذهب من هذا الدين الأمانة، وآخر ما يبقى منه الصلاة، وسيصلي من لا خير فيه، وما استجاز قوم بينهم الربا إلا استوجبوا حرب الله ورسوله، ولا ظهرت فيهم المعازف والغناء إلا صمت قلوبهم، ولا ركبوا الزهو والبهاء إلا عميت أبصارهم، ولا تكبروا إلا حرموا نفع الرجاء، ولا أكلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا نكست قلوبهم حتى لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً ".(26/246)
واصل
من أهل دمشق، إن لم يكن من تقدم فهو غيره.
حدث واصل قال: أسر غلام من بني بطارقة الروم جميل، ووقع إلى الخليفة في زمن بني أمية، فسماه بشيراً، وكتب وقرأ القرآن وروى الشعر وطلب الأحاديث وحج.
فلما بلغ واجتمع وسوس إليه الشيطان وذكره النصرانية، فارتد وهرب، فأتى ملك الطاغية، فسأله عن حاله وما كان فيه، وما الذي دعاه إلى دخول النصرانية، فأخبره برغبته فيه، فعظم في عين الملك، فرأسه وصيره بطريقاً من بطارقته.
وكان من قضاء الله أنه أسر ثلاثون نفراً مسلمون، فدخلوا على بشير، وساءلهم رجلاً عن دينهم.
وكان منهم شيخ من دمشق اسمه واصل، فساءله بشير، فأبى الشيخ أن يرد عليه شيئاً، فقال بشير: مالك لا تجيبني؟ قال: لا أجيبك اليوم بشيء. قال بشير: فإني مسائلك غداً.
فلما كان الغد بعث بشير فأقبل إليه الشيخ، فقال بشير: الحمد لله الذي كان قبل أن يكون شيء، وخلق سبع سماوات طباقاً بلا عون كان معه من خلقه، ثم دحا سبع أرضين طباقاً بلا عون كان معه من خلقه، فعجب لكم معاشر العرب حين تقولون: " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون "! فسكت الشيخ: فقال له بشير، مالك لا تجيبني؟ قال: كيف أجيبك وأنا أسير في يديك؟ إن أجبتك بما تهوى أسخطت علي ربي، وهلكت في ديني، وإن أجبتك بما لا تهوى خفت على نفسي، فأعطني عهد الله وميثاقه وما أخذ الله على النبيين، وما أخذ(26/247)
النبيون على الأمم أنك لا تغدر بي ولا تمحل بي ولا تبغي بي باغية سوء، وأنك إذا سمعت الحق تنقاد له، فأعطاه بشير عهد الله.
فقال الشيخ: أما ما وصفت من صفة الله فقد أحسنت الصفة، وما لم يبلغ علمك، ولم يستحكم عليه رأيك أكثر، والله أعظم وأكبر مما وصفت، ولا يصف الواصفون صفته.
وأما ما ذكرت من هذين الرجلين فقد أسأت الصفة، ألم يكونا يأكلان الطعام ويشربان، ويبولان ويتغوطان، وينامان ويستيقظان، ويفرحان ويحزنان؟ قال: بشير: بلى. قال الشيخ: فلم فرقت بينهما؟ قال بشير: لأن عيسى بن مريم كان له روحان اثنتان في جسد واحد، روح يعلم بها الغيوب وما في قعر البحار وما ينجاب من ورق الأشجار، وروح يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى.
قال الشيخ: فهل كانت القوية تعرف موضع الضعيفة منهما؟ قال بشير: قاتلك الله ماذا تريد أن تقول إن قلت: إنها لا تعلم؟ وماذا تريد أن تقول: إن قلت: إنها تعلم؟ قال الشيخ: إن قلت: إنها تعلم، قلت: فما تعني قوتها حين لا تطرد هذه الآفات عنها؟ وإن قلت: إنها لا تعلم، قلت: فكيف تعلم الغيوب، ولا تعلم موضع روح معها في جسد واحد؟ فسكت بشير.
فقال الشيخ: أسألك بالله هل عبدتم الصليب مثلاً لعيسى بن مريم أنه صلب؟ قال: نعم. قال الشيخ: فبرضاً كان منه أم بسخط؟ قال بشير: هذه أخت تلك، ماذا تريد أن تقول: إن قلت: برضاً منه؟ وماذا تريد أن تقول: إن قلت: بسخط؟ قال الشيخ: إن قلت: برضاً منه قلت: لقد قلتم قولاً عظيماً، فلم تلام اليهود إذا أعطوا ما سألوا وأرادوا؟ وإن قلت: بسخط، قلت فلم تعبد ما لا يمنع نفسه؟ ثم قال الشيخ لبشير: نشدتك بالله، هل كان عيسى يأكل الطعام ويشرب ويصوم(26/248)
ويصلي، ويبول ويتغوط، وينام ويستيقظ، ويفرح ويحزن؟ قال: نعم.
قال الشيخ: لمن كان يصوم ويصلي؟ قال: لله عز وجل.
ثم قال بشير: والضار النافع، ما ينبغي لمثلك أن يعيش في النصرانية، أراك رجلاً قد تعلمت الكلام، وأنا رجل صاحب سيف، ولكن غداً نأتيك بمن يخزيك الله على يديه.
فلما كان من الغد أحضر بشير الشيخ وعنده قس عظيم اللحية، فقال له بشير: إن هذا رجل من العرب له حلم وعقل وأصل في العرب، وقد أحب الدخول في ديننا، فكلمه حتى تنصره.
فسجد القس لبشير، فقال: قديماً أتيت إلى الخير، وهذا أفضل ما أتيت إلي، ثم أقبل القس على الشيخ فقال: غداً أغطسك في المعمودية، غطسة تخرج منها كيوم ولدتك أمك، قال الشيخ: وما هذه المعمودية؟ قال: ماء مقدس، قال الشيخ: من قدسه؟ قال: قدسته أنا والأساقفة قبلي، قال الشيخ: فهل يقدس الماء من لا يقدس نفسه؟ فسكت القس، ثم قال: إني لم أقدسه أنا، قال الشيخ: فكيف كانت القصة؟ قال: إنما كانت سنة من عيسى بن مريم، قال الشيخ: فكيف كان الأمر؟ قال القس: إن يحيى بن زكريا أغطس عيسى بن مريم بالأردن غطسة، ومسح برأسه، ودعا له بالبركة.
قال الشيخ: واحتاج عيسى إلى يحيى يمسح رأسه، ويدعو له بالبركة؟ فاعبدوا يحيى، خير لكم من عيسى.
فسكت القس، واستلقى بشير على فراشه، وأدخل كمه في فيه، وجعل يضحك، وقال للقس، أخزاك الله، دعوتك لتنصره، فإذا أنت قد أسلمت.
وبلغ أمر الشيخ الملك، فبعث إليه، فقال: ما هذا الأمر الذي بلغني عنك، وتنقص ديني؟ قال الشيخ: إن لي ديناً كنت ساكتاً عنه، فلما سئلت عنه لم أجد بداً من الذب عنه.(26/249)
قال الملك: فهل في يديك حجج؟ قال الشيخ: نعم، ادع لي من شئت يحاججني، فإن كان الحق في يدي فلم تلمني عن الذب عن الحق، وإن كان الحق في يديك رجعت إلى الحق.
فدعا الملك بعظيم النصرانية، فلما دخل عليه سجد له الملك ومن عنده.
قال الشيخ: أيها الملك ما هذا؟ قال: هو رأس النصرانية، ومن تأخذ النصارى دينها عنه.
قال الشيخ: فهل له من ولد؟ أم هل له من امرأة؟ أم هل له عقب؟ قال الملك: أخزاك الله، هو أزكى وأطهر من أن يتدنس بالنساء، هو أزكى وأطهر من أن ينسب إليه ولد، هو أزكى وأطهر من أن يتدنس بالحيض.
قال الشيخ: فأنتم تكرهون لآدمي يكون فيه ما يكون في بني آدم من الغائط والبول، والنوم والسهر، وبأحدكم من ذكر النساء، وتزعمون أن رب العالمين سكن في ظلمة البطن وضيق الرحم، ودنس بالحيض!! قال القس: هذا شيطان من شياطين العرب رمى به البحر إليكم، فأخرجوه من حيث جاء.
فأقبل الشيخ على القس فقال: عبدتم عيسى بن مريم أنه لا أب له، فهذا آدم لا أب له ولا أم، خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، فضموا آدم مع عيسى حتى يكون لكم إلهين اثنين، وإن كنتم عبدتموه لإحياء الموتى فهذا حزقيل في التوراة والإنجيل مرَّ بميت، فدعا الله عز وجل فأحياه حتى كلمه، فضموه معهما حتى يكون لكم ثلاثة.
وإن كنتم عبدتموه أنه أراكم العجب، فهذا يوشع قاتل قومه حتى غربت الشمس، فقال: ارجعي بإذن الله، فرجعت اثني عشر برجاً، فضموا يوشع معهم، يكون لكم أربعة.(26/250)
وإن كنتم عبدتموه لأنه عرج به إلى السماء، فمع كل نفس ملكان بالليل وملكان بالنهار يعرجون إلى السماء، ما لو ذهبنا نعدهم لالتبس علينا عقولنا، واختلط علينا ذهننا، وما ازددنا في ديننا إلا تحيراً.
ثم قال: أيها القس، أخبرني عن رجل حل به الموت، الموت أهون عليه أم القتل؟ قال القس: القتل، قال: فلم لم يقتل - يعني مريم - لم يقتلها؟ فما برّ أمه من عذبها بنزع النفس.
قال القس: اذهبوا به إلى الكنيسة العظمى، فإنه لا يدخلها أحد إلا تنصر.
قال الملك: اذهبوا به.
قال الشيخ: ماذا يراد بي، يذهب بي، فلا حجة علي تغصب حجتي؟ قال الملك: لن يضرك، إنما هو بيت من بيوت ربك يذكر الله فيه.
قال الشيخ: إن كان هكذا فلا بأس به.
فذهبوا به، فلما دخل الكنيسة وضع أصبعيه في أذنيه، ورفع صوته بالأذان، فجزعوا لذلك جزعاً شديداً، وصرخوا وأثنوه، وجاؤوا به الملك.
فقال: أيها الملك أين ذهبوا بي؟ قال: ذهبوا بك إلى بيت من بيوت الله لتذكر فيه ربك. قال: فقد دخلت وذكرت فيه ربي بلساني، وعظمته بقلبي، فإن كان كلما ذكر الله في كنائسكم يصغر دينكم فزادكم الله صغاراً.
قال الملك: صدق، ولا سبيل لكم عليه.
قالوا: أبها الملك، لا نرضى حتى نقتله.
قال الشيخ: إن قتلتموني وبلغ ذلك ملكنا وضع يده في قتل القسيسين والأساقفة، وخرب الكنائس، وكسر الصلبان ومنع النواقيس، قال: يفعل؟ قال: نعم، فلا تشكوا، ففكر في ذلك. فتركوه.(26/251)
فقال الشيخ: ما عاب أهل الكتاب على أهل الأوثان؟ قال: بما عبدوا ما عملوه بأيديهم، قال: فهذا أنتم تعبدون ما عملتم بأيديكم، هذا الذي في كنائسكم، فإن كان في الإنجيل فلا كلام لنا فيه، وإن لم يكن في الإنجيل فلا تشبه دينك بدين أهل الأوثان.
قال الملك: صدق، هل تجدون في الإنجيل؟ قال القس: لا، قال: فلم تشبه ديني بدين أهل الأوثان؟.
قال: فأمر بنقض الكنائس، فجعلوا ينقضونها ويبكون؟.
قال القس: إن هذا شيطان من شياطين العرب رمى به البحر إليكم، فوكلوا به رجالاً وأخرجوه من حيث جاء، ولا تقطر من دمه قطرة في بلادكم، فيفسد عليكم دينكم.
فأخرجوه إلى بلاد دمشق، ووضع الملك يده في قتل القسيسين والأساقفة والبطارقة حتى هربوا إلى الشام لأنه لم يجدوا أحداً يحاجه.
وائل بن حجر بن سعد بن مسروق
ابن وائل بن ضمعج بن وائل بن ربيعة بن وائل، وفي نسبه خلاف أبو هنيد ويقال: أبو هنيدة الحضرمي له صحبة، وقدم دمشق على معاوية.
قال وائل بن حجر: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع ركبتيه قبل يديه، ويرفع يديه قبل ركبتيه.
وحدث وائل قال: صليت خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذ يقرأ: " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " قال آمين فجهر بها.
وحجر: بالحاء المضمومة الجيم الساكنة، قال: ويجوز ضمها في اللغة.(26/252)
ولما وفد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنزله وأصعده معه على منبره، وأقطعه القطائع، وكتب له عهداً، وقال: هذا وائل بن حجر سيد الأقيال، جاءكم حباً لله ولرسوله. وقربه وأدناه، وبسط رداءه، وأجلسه عليه.
وورد المدائن في صحبة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين خرج إلى صفين، وكان على راية حضرموت يومئذ.
وقيل: بقاف مفتوحة، اسم للملك من ملوك حمير.
وفي رواية أخرى: أنه لما وفد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسح وجهه، ودعا له، ورفله على قومه. ثم خطب الناس، فقال: أيها الناس، هذا وائل بن حجر أتاكم من حاضرموت، ومد بها صوته، راغباً في الإسلام، ثم قال لمعاوية: انطلق به، فأنزله منزلاً بالحرة.
قال معاوية: فانطلقت به، وقد أحرقت رجلي الرمضاء، فقلت: أردفني، قال: لست من أرداف الملوك، قلت: فأعطني نعليك أتوقى بهما من الحر، قال: لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك، وإن شئت قصرت عليك ناقتي، فسرت في ظلها.
قال معاوية: وأنبأت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله، فقال: إن فيه لعبية من عبية الجاهلية، فلما أراد الانصراف كتب له كتاباً.
قال سويد بن حنظلة: خرجنا نريد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج قوم أن يحلفوا وحلفت أنه أخي، فخلى عنه، فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له، فقال: أنت أبرهم وأصدقهم، وصدقت، المسلم أخو المسلم.(26/253)
قال وائل: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان لي من وجهه ما لا أحب أن لي به من وجه رجل من بادية العرب، صليت خلفه، فكان يرفع يديه كلما كبر ووضع بين السجدتين، وسلم عن يمينه وعن شماله.
وفي رواية أخرى: لما وفد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خطب الناس، وقال: ارفقوا به، فإنه حديث عهد بالملك، فقال: إن أهلي غلبوني على الذي لي، فقال: أنا أعطيك وأعطيك ضعفه.
قال وائل: بلغنا ظهور رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا في ملكٍ عظيم وطاعة، فرفضته وأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنة الله علي، فنهضت راغباً في الله وفي رسوله وفي دينه حتى قدمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فلقيني رجال من أصحابه فبل أن ألقاه، فبشروني بما بشرهم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي رواية: فقالوا لي: قد بشرنا بك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبل أن تقدم علينا بثلاثة أيام، قالوا: قال لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا وائل بن حجر قد أتاكم من أرض بعيدة، من حضرموت طائعاً غير مكره، راغباً في الله وفي رسوله، بقية أبناء الملوك.
وقال في الحديث:
إنه طلع المنبر، وأصعدني معه، فقمت دونه، وقال في قوله، فقلت له: يا رسول الله قد من الله علي حين أتاني نبؤك بإتيانك رغبة في الله وفي دينك، قال: صدقت. ثم قال: اللهم بارك في وائل وفي ولده، وفي ولد ولده.
ثم نزل وأنزلني معه، فدفع إلي ثلاثة كتب، وأقطعني أرضاً، أمرني أن أنزلها، وذكر حديثه مع معاوية.
قال وائل: فنظرت في كتبي، فإذا الكتاب فيه:(26/254)
بسم الله إلى المهاجر بن أبو أمية، إن وائل بن حجر يستسعى ويترفل على الأقوال حيث كانوا من حضرموت.
وكتاب آخر لي ولأهل بيتي بحضرموت، فيه: بسم الله من محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المهاجر بن أبو أمية، لأبناء معشر وأبناء ضمعج أقوال شنوءة بما كان لهم فيها من ملك وعمران ومزاهر وعرمان وملح ومحجر، وما كان لهم من مال أثرناه بأرض اليمن، وما كان لهم من مال أثرناه بأبغث، وما كان لهم من مال بحضرموت، مني الذمة والجوار، الله جار لهم، والمؤمنون على ذلك أنصار إن كانا صادقين، يعني إن كان وائل وقومه صادقين.
قوله: " ابن أبو أمية " تركه على حاله لاشتهاره، كما قيل: علي بن أبي طالب.
محجر: قرية، وقيل: المحجن، ومحاجن النخل: حضائر تتخذ حولها، والاحتجار: الاحتصار للشيء، والمحجر: الحديقة، والمحاجر: الحدائق.
والعرمان: المزارع، والعرنة أيضاً: الكديس، وهو حصيد الزرع إذا دق قبل أن يذرى.
والمزاهر: الرياض لأنها تجمع أصناف الزهر والنبات.
يستسعى: أي يتولى أمر الصدقات. ويترفل: أي يترأس.(26/255)
وكتاب آخر إلي وإلى قومي فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى وائل بن حجر والأقوال العباهلة من حضرموت بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، من الصدقة التيمة، ولصاحبها التيعة، لاجلب ولاجنب ولاشغار ولا وراط في الإسلام، لكل عشرة من السرايا ما تحمل القراب من التمر. من أجبى فقد أربى، وكل مسكرٍ حرام.
الأقوال: يريد الملوك واحدهم قيل والعباهلة مثلها، والتيمة: الزائدة، وقيل: الأكولة، وهي الشاة التي تذبح لتؤكل، ونالتيعة: الأربعون من الشاء، والشغار: أن ينكح الرجل أخته أو أبنته، وينكحه الآخر أخته أو ابنته، فهن تذران الصداق، كانوا في الجاهلية يصنعون ذلك، والإجباء: بيع الحرث قبل صلاحه.
وفي رواية أخرى: بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة: على التيعة شاة، والتيمة لصاحبها، وفي السيوب الخمس، لاخلاط ولا وراط ولا شناق، ولا شغار، ومن أجبى فقد أربى، والعون لسرايا المسلمين، وكل مسكرٍ حرام.(26/256)
قوله: تحمل القراب من التمر، الرواية هكذا بالباء، ولا موضع لها، إنما القراب قراب السيف. قال: وأراه القراف بالفاء، جمع قرف، وتجمع على قروف، وهي أوعية من جلود تحمل فيها الزاد للأسفار. والمعنى: إن عليهم أن يزودوا السرية إذا مرت بهم، لكل عشرة منهم ما يحمل في مزود.
السيوب: الركاز، والوراط: الخديعة، والشناق: مادون الدية، والشناق في الشاء ماجاوز الأربعين إلى ما تصير فيه الصدقة، وكل ما أخذ فيه الشاء من صدقة الإبل فذلك الشنق، فإذا صارت ابنة مخاض ارتفع الشنق وصارت فريضة.
وائل بن رياب بن حذيفة
ابن مهشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي السهمي أدرك سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأمه أم وائل بنت معمر بن جندب الجميحة.
شهد الفتح بالشام، وهو أخو معمر بن رياب، ورياب بكسر الراء وبعدها ياء بثنتين من تحتها.
كان رياب بن حذيفة تزوج أم وائل بنت معمر الجمحية، فولدت له ثلاثة أولاد، فتوفيت أمهم، فورثها بنوها رباعها وولاء مواليها، فخرج بهم عمرو بن العاص معه إلى الشام، فماتوا في طاعون عمواس، فورثهم عمرو مكان عصبتهم.
فلما رجع عمرو جاء بنو معمر يخاصمونه في ولاء أختهم إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: أقضي بينكم بما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سمعته يقول: ما أحرز الولد أو الوالد فهو لعصبته من كان.(26/257)
قال: فقضى عمر لعمرو رباعها وولاء مواليها، وكتب له بذلك كتاباً فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وآخر، حتى إذا استخلف عبد الملك بن مروان توفي مولى لهم، وترك ألفي دينارٍ، فخاصموه إلى هشام بن إسماعيل.
قال: فدفعنا إلى عبد الملك بن مروان، فأتيناه بكتاب عمر، فقال: إن كنت لأرى أن هذا من القضاء الذي لا يشك فيه، وما كنت أرى أن أمر المدينة بلغ هذا؛ أن تشكو في هذا القضاء، قال: فقضى لنا به، فلم يزل فيه بعده.
وثيق بن أحمد بن عثمان
أبو محمد السلمي الكفربطناني حدث عن علي بن يعقوب بن أبي العقب بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " (من قضى دين والديه بعد موتهما وأوفى نذرهما ولم يستسب لهما فقد برهما، وإن كان عاقاً بهما، ومن لم يقض دينهما ولم يوف نذرهما واستسب لهما فقد عقهما، وإن كان بهما باراً في حياتهما ".
توفي وثيق سنة اثنتين وأربع مئة.
وجيه بن عبد الله بن مسعر
أبو المقدم التنوخي المعري شاعر، فمن شعره: من الوافر
أراني والثفالة في نفادٍ ... على سفرٍ وليس لدي زاد(26/258)
وقد بان الشباب الغض مني ... وجاء الشيب ليس له ارتداد
إذا ما الزرع أخلع واستبانت ... سنابله فقد قرب الحصاد
توفي أبو المقدم سنة ثلاث وخمس مئة أو أربع وخمس مئة.
وحشي بن حرب
أبو دسمة الحبشي مولى جبير بن مطعم النوفلي ويقال: كان عبداً لابنة الحارث بن عامر بن نوفل وحشي قاتل حمزة عم سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أسلم على عهد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخرج مع خالد بن الوليد إلى اليمامة، وقدم معه الشام، وشهد اليرموك، والظاهر أنه شهد فتح دمشق.
حدث وحشي بن حرب بن وحشي عن أبيه عن جده: أن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: يا رسول الله، إنا نأكل ولا نشبع، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تأكلون وأنتم متفرقون، قال: فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله على أوله واحمدوه على آخره يبارك لكم فيه ".
كان وحشي أسود من سودان مكة عبداً، ولم يبلغنا أنه شهد بدراً مع المشركين، ولكنه خرج معهم إلى أحد، فقالت له ابنة الحارث بن نوفل بن عامر: إن أبي قتل يوم بدر، فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حر؛ إن قتلت محمداً أو حمزة أو علي بن أبي طالب.
ولما فتحت حمص نزلها، ووقع في الخمر يشربها. ولبس المعصفر المصقول، فكان أول من ضرب في الخمر بالشام، وأول من ليس المعصفرات في الشام.
ومات بحمص في بركة خمر.(26/259)
وحدث وجشي بن حرب بن وحشي عن أبيه عن جده قال: كان معاوية ردف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما يليني منك؟ قال: بطني، قال: اللهم املأه علماً وحلماً.
قال: في إسناده نظر.
ويقال: إنه قتل مسيلمة الكذاب يوم اليمامة، وجاهد أهل الردة.
قيل: إنه رمى مسيلمة الكذاب هو والأنصاري، فقتل مسيلمة من ضربتيهما.
قال ابن عباس: أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل وحشي مع النفر، ولم يكن المسلمون على أحدٍ أحرص منهم على وحشي؛ فهرب وحشي إلى الطائف، فلم يزل به مقيماً حتى قدم في وفد الطائف على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخل عليه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فقال: وحشي؟! قال: نعم، قال: اجلس، حدثني كيف قتلت حمزة، فأخبره. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غيب عني وجهك.
قال: فكنت إذا رأيته تواريت عنه حتى خرج الناس إلى مسيلمة، فدفعت إلى مسيلمة فزرقته بالحربة، وضربه رجل من الأنصار، فربك أعلم أينا قتله.
قال جعفر بن عمرو بن أمية: خرجت أنا وعبيد الله بن عدي بن الخيار غازيين الصائفة في زمن معاوية، فلما قفلنا مررنا بحمص، وبها وحشي، فقال عبيد الله بن عدي: هل لك أن نأتي وحشياً ونسأله عن قتل حمزة، كيف كان؟ فقلت: نعم، إن شئت.
فسألنا عنه، فقال لنا قائل: إنكما ستجدانه بفناء داره على طنفسة، وهو رجل غلبت عليه الخمر، فإن تجداه صاحياً تجدا رجلاً غريباً وتجدا منه الذي تريدان أن تسألا عنه، وإن تجداه قد ثمل منها فانصرفا عنه.(26/260)
فوافيناه شيخاً كثير السواد، رأسه مثل الثغام بفناء داره على طنفسة صاحياً. فرفع رأسه إلى عبيد الله بن عدي، فقال عبيد الله بن عدي بن الخيار: أنت؟ قال: نعم، قال: أما والله ما رأيتك منذ ناولتك أمك السعدية التي أرضعتك بذي طوى، وهي على بعيرها، إلى اليوم، فلما رأيتك عرفتك.
فجلسنا إليه، وقلنا: أتيناك نسألك عن حديث قتلك حمزة، فقال: أنا سأحدثكم بما حدثت به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كنت بمكة لجبير بن مطعم، وكان طعمة بن عدي عمه قتل يوم بدر، فقال: إن قتلت حمزة عم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنت حر، وكانت لي حربة أقذف بها قلماً أجلتها إلا قتلت.
فخرجت مع الناس يوم أحد وإنما حاجتي قتل حمزة، فلما التقى الناس أخذت حربتي، وخرجت أنظر حمزة، وهو في عرض الناس مثل الجمل الأورق، يهذ الناس بسيفه هذاً، فدنا مني إلا أنه تستر مني بأصل شجرة أو صخرة، إذ بدر من الناس فلان بن عبد العزى، وفي حديث: سباع بن عبد العزى، فلما رآه حمزة قال: هلم يا بن مقطعة البظور، فضربه، فوالله لكأنما أخطأ رأسه.
زاد في رواية: ما رأيت شيئاً أسرع من سقوط رأسه. وكانت أمه ختانة بمكة.
وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت بين كتفيه حتى خرجت من بين ثدييه، فتركته واستأخرت عنه حتى مات، رحمه الله، ثم قمت إليه حتى انتزعتها منه.
ثم أتيت العسكر فقعدت فيه، فلم يكن لي حاجة بغيره، وإنما قتلته لأعتق، فلما(26/261)
قدمنا مكة عتقت، وأقمت بها حتى فتحت مكة، ثم هربت إلى الطائف.
فلما خرج وفد ثقيف إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضاقت علي الأرض بما رحبت، فقلت: ألحق باليمن أو بالشام، فوالله إني في غم ذلك إذ قال لي قائل: ويحك! الحق بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوالله ما يقتل أحداً دخل في دينه، وتشهد بشهادته.
فخرجت حتى قدمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فلم يرعه إلا أني قائم على رأسه، أشهد بشهادة الحق، فلما رآني قال: وحشي؟! قلت: نعم، قال: اجلس فحدثني كيف كان قتلك حمزة، فجلست بين يديه، فحدثته كما حدثتكم، ثم قال: ويحك يا وحشي! غيب عني وجهك فلا أراك؛ فكنت أتنكب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى توفي.
فلما سار المسبمون إلى مسيلمة خرجت معهم بحربتي، فلما التقى المسلمون وبنو حنيفة نظرت إلى مسيلمة، ووالله ما أعرفه، وبيده سيفه، ورجل آخر من الأنصار يريده من ناحية أخرى، وكلانا يتهيأ له، حتى إذا أمكنتني منه الفرصة دفعت إليه حربتي، فوقعت فيه وسيف الأنصاري يضربه، فربك أعلم أينا قتله، فإن كنت قتلته فقد قتلت خير البرية بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقتلت شر الناس.
قال عبد الله بن عمر، وشهد اليمامة: سمعت رجلاً يصيح، يقول قتله العبد الأسود، يعني مسيلمة.
وعن وحشي قال: لما أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قتل حمزة تفل في وجهي ثلاث تفلات، ثم قال: لا ترني وجهك.
قال ابن عباس: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى وحشي قاتل حمزة يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه: يا محمد كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك وزنى " يلقى أثاماً، يضاعف له(26/262)
العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً " وأنا قد صنعت ذلك؟ فهل تجد لي من رخصة؟ فأنزل الله تعالى: " إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفوراً رحيماً ".
فقال وحشي: يا محمد، هذا شرط شديد: إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً، فلعلي لا أقدر على هذا؛ فأنزل الله عز وجل: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ".
فقال وحشي: يا محمد، أرى بعد مشيئة، فلا أدري يغفر لي أم لا، فهل غير هذا؟ فأنزل الله عز وجل: " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ".
قال: وحشي هذا، فجاء وأسلم، فقال الناس: يا رسول الله، إذا أصبنا ما أصاب وحشي؟ قال: هي للمسلمين عامة.
وعن ابن عباس قال: جاء وحشي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد جئتك مستجيراً بك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد كنت أحب أن أراك على خير جوار، فأما إذا كنت مستجيراً فأنت في جواري حتى أسمع كلام الله. قال: فإني أشركت بالله العظيم، وقتلت النفس التي حرم الله، فهل تقبل من مثلي توبة؟
فصمت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يجبه حتى نزل عليه القرآن: " والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق " إلى قوله: " يبدل الله(26/263)
سيئاتهم حسنات ". فقرأها عليه؛ فقال: أرى شرطاً، فلعلي لا أعمل صالحاً، أنا في جوارك حتى تسمع كلام الله، فنزلت: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء "، فدعاه فقرأها عليه، فقال وحشي: فلعلي ممن لا يشاء، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله، قال: فنزلت: " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " الآية، فقال وحشي: الآن لا أرى شرطاً، فتشهد وأسلم.
وقال وحشي: إنه وفد على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في اثنين وسبعين رجلاً من الحبشة، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قودني عليهم، وعقد لي راية صفراء، ذراعين في ذراعين، وفيها هلال أبيض وعذبتان سوداوان، وبينهما عذبة بيضاء، وجعل لي شعارنا: كل خير، وكان منهم ذو مخبر وذو مهدم وذو مناحب وذو دجن، فقال لهم: انتسبوا، فقال ذو مهدم: من الطويل
على عهد ذي القرنين كانت سيوفنا ... صوارم يفلقن الحديد المذكرا
وهود أبونا سيد الناس كلهم ... وفي زمن الأحقاب عزاً ومفخرا
فمن كان يعمى على أبيه فإننا ... وجدنا أبانا العدملي المشهرا
وعن وحشي: أن أبا بكر عقد لخالد بن الوليد على قتال أهل الردة، فقال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، سيف من سيوف الله، سله الله على الكفار والمنافقين ".(26/264)
ثم قال أبو بكر: يا وحشي اخرج معه فقاتل في سبيل الله كما قاتلت لتصد عن سبيل الله، فخرجت معه.
فقاتلنا كفرة العرب حتى رجعوا، ثم جاءنا كتاب أبي بكر بالمسير إلى مسيلمة الكذاب وكفار بني حنيفة؛ فمضينا لذلك، فلقيناهم، فقاتلوا قتالاً شديداً، فهزمونا ثلاث مرات، ثم ثبت الله أقدامنا في الرابعة، وصبرنا لوقع السيوف واختلافها على رؤوسنا حتى رأيت شهب النار تخرج من خلالها، وسمعت لها أصواتاً كأصوات الأجراس، ونصرنا الله وهزم بني حنيفة، وقتل الله مسيلمة، فلقد ضربت يومئذ بسيفي حتى غري قائمه في كفي من دمائهم، وكتبوا بفتح الله ونصره إلى أبي بكر.
وصرخ يومئذ صارخ بقتل مسيلمة يقول: قتله العبد الأسود، فقلنا: قتله الله.
وقال يومئذ: إنكم يا معشر المسلمين تقولون: إني قتلت حمزة، فإن أك قد قتلت خير الناس، فقد قتلت شر الناس، فهذه بهذه.
وقوله تعالى: " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم " نزلت في قاتل حمزة.
وقال وحشي: لما فتحنا اليرموك مع أبي عبيدة بن الجراح بقيت مغارة للروم فيها عدة من فرسانهم وغير ذلك لا يستطاع فتحها، فقالوا: من لها؟ فقلت: أنا لها، هل من درع؟ فأتوني بدرع فلبستها على درعي، ثم قلت: هل من درع أخرى؟ فأتوني بدرع أيضاً، فلبستها كهيئة السراويل، وشددتها علي شداً جيداً، وأخذت سيفي بيدي، وأخذت حبلاً، ووضعته في وسطي، وأمرتهم أن يدلوني في المغارة.
فقالوا: يا أبا حرب، قد كبرت سنك، وما إن تجشم ذا. فقلت له: ما رحمت نفسي منذ صاحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدلوني، فقتلت فرسانها وأحرقت من كان فيها،(26/265)
ولقد كنت أسمع سيفي في رؤوسهم كالفأس في الحطب الجزل، ولقد غريت يدي على سيفي من الدم، وما أخرجته من يدي حتى أنقعته بالماء الساخن.
قال: ولما قدمنا حمص مع أبي عبيدة بن الجراح برز إلي بطريق من بطارقة الروم على باب الرستن، فقتلته، ولبست ثوبه، وركبت دابته، ودخلت السوق حتى أتيت باب يهود، فضربت سلسلته بسيفي فقطعتها، فدخل الناس، فنزلت دار أصطفيس، وأنزلت أصحابي حولي.
وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كتب إلي كتاباً كتب: من محمد رسول الله إلى وحشي الحبشي.
وعن عمر بن الخطاب قال: ما زالت لوحشي في نفسي حتى أخذ قد شرب الخمر بالشام، فجلد الحد، فحططت عطاءه إلى ثلاث مئة.
وكان فرض له عمر ألفين.
وحشي بن حرب بن وحشي بن حرب
ابن ابن المذكور آنفاً.
حدث وحشي بن حرب بن وحشي عن أبيه عن جده قال:
شكا رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لعلك تتقدم من هو أسن منك، قال: نعم، يا رسول الله، قال: فلا تفعل، قال: فترك ذلك، فأذهب الله عنه الفاقة.
وحدث عن أبيه عن جده قال: كنت عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالساً، فمر رجل، فقال رجل: يا رسول الله، إني أحب هذا في الله، قال: أعلمته ذلك؟ فقال: لا، قال: قم فأعلمه.(26/266)
وراد أبو الورد
كاتب المغيرة ومولاه قال وراد: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة أن اكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فكتب إليه المغيرة: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول عند انصرافه من الصلاة: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ".
وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال، وعن منع وهات، وعقوق الأمهات وعن وأد البنات.
وراد بن جهير بن عبد الرزاق
ابن أبي الغارات بن منصور أبو صادق الجذامي النفاثي حدث عن أبي الحسن علي بن القاسم بن الحسن البجاد بسنده إلى علي والزبير قالا: سمعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " خير أمتي بعدي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ".
وردان أبو عبيد ويقال أبو عثمان
مولى عمرو بن العاص السهمي من سبي أصبهان، قدم دمشق في أيام معاوية.
كان عمرو بن العاص ذات يوم عند معاوية، ومعه وردان مولاه، فقال لعمرو: ما بقي من لذتك، يا أبا عبد الله؟ فقال: محادثة أخي صدق مأمون على الأسرار.(26/267)
فأقبل على وردان، فقال: وأنت يا أبا عثمان، ما بقي من لذتك؟ قال: النظر في وجه كريم أصابته نكبة فاصطنعت إليه فيها يداً حسنة.
فقال معاوية: أنا أولى بذلك منك، فقال: أنت يا أمير المؤمنين، أقدر عليه مني، وأولى به من سبق إليه.
شاعر: من الطويل
وما هذه الأيام إلا معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزود
فإنك لا تدري بأية بلدة ... تموت ولا ما يحدث الله في غد
ووردان من تابعي أهل مصر، وبه سميت السوق التي بمصر سوق وردان.
وكان ثقة، وكان رومياً. يقال: إنه من روم أرمينية، أو من روم الشام، أو من روم أطرابلس الغرب.
وقتل بالبرلس سنة ثلاث وخمسين، قتله الروم. وعقبه بمصر.
قال جويرية بن أسماء: قال عمرو بن العاص لوردان يوم صفين: تدري ما مثلي ومثلك مثل الأبيقر إن تقدم عقر، وإن تأخر نحر، لئن تأخرت لأضربن عنقك، قال: جيئوني بقيد، فوضعه في رجليه، قال: أما والله يا عبد الله لأردنك حياض الموت.
وحضر وردان يوم صفين مع عمرو، فكان عمرو يرتجز: من الرجز
هل يغنين وردان عني قنبراً ... أو يغنين ابن خديج مسعرا
يريد قنبر مولى علي بن أبي طالب عليه السلام، ويريد مسعر بن فدكي صاحب الخوارج.(26/268)
وكان وردان والياً على خراج مصر من قبل معاوية بعد موت عمرو.
وكان وردان من عمرو بن العاص بمنزلة صاحب الشرط من الأمير، كان لا يعمل شيئاً حتى يشاوره، وكان داهياً فهماً.
كتب معاوية إلى وردان أن زد على القبط قيراطاً قيراطاً على كل إنسان.
فكتب إليه وردان: كيف أزيد عليهم، وفي عهدهم ألا يزاد عليهم، يرى بذلك لأن مصر كانت عنده عنوة، فلهذا استجاز الزيادة عليهم، وكانت عند وردان صلحاً، فكره الزيادة، فلهذا اختلفا.
روى عن مسلم بن محارب قال: قال معاوية: إن عمرو بن العاص احتجز دوننا خراج مصر فعزله، واستعمل أبا الأعور السلمي، فبلغ عمرو الخبر، فدعا وردان مولاه، فقال: ويحك، يا أبا عثمان! عزلنا معاوية أمير المؤمنين، قال: فمن استعمل؟ قال: أبا الأعور السلمي، فهل عندك من حيلة؟ قال: نعم، اصنع له طعاماً، ولا تنظر له في كتاب حتى يأكل، ودعنا نعمل ما نريد.
فلما قدم عليه أبو الأعور، وأخرج كتاب معاوية بتسليم العمل إليه، قال له عمرو: وما نصنع بكتاب؟ لو جئتنا برسالة لقبلنا ذلك منك، دع الكتاب وكل.
قال: انظر في الكتاب، قال: ما أنا بناظر حتى تأكل، فوضعه إلى جانبه، وجعل يأكل، فاستدار له وردان، فأخذ الكتاب والعهد.
فلما فرغ أبو الأعور من غذائه طلب الكتاب، فلم ير شيئاً، فقال: أين كتابي؟ فقال له عمرو: أليس إنما جئتنا زائراً لنحسن إليك ونكرمك ونبرك؟ قال: استعملني أمير المؤمنين وعزلك، قال: مهلاً، لا يظهرن هذا منك، إنه قبيح، نحن نصلك ونحسن جائزتك، فرضي بالجائزة.
وبلغ معاوية الخبر، فاستضحك، وأمر عمراً على مصر.(26/269)
وعن ابن لهيعة قال: قال الملامس بن خزيمة الحضرمي لمعاوية: يا أمير المؤمنين، إن هذا - يريد ربيعة بن حبيش الصدقي - قاتل عثمان وقرين الشيطان، وختن وردان. وكان ربيعة قد زوج ابنته من وردان. فقال معاوية: يا ربيعة، أزوجت وردان ابنتك؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين، زوجت فداناً أخضر وديناراً أصفر. فقال معاوية: أف لك، أعبد عمرو؟ كان وردان بالإسكندرية، وعليها علقمة بن يزيد الغطيفي، وبالإسكندرية راهب نحو كنيسة الدقيق، وكان وردان يأتيه ويحدثه، فجاءه يوماً، فقال له الراهب: لا تمر بك ثلاثة أيام حتى تقتل. فانصرف وردان، فجلس على مجلس الصدف، فحدثهم بما قال الراهب. فلم يلبث إلا يسيراً حتى أتاهم الصارخ أن الروم قد نزلوا البرلس. فاستنفر علقمة الناس إليهم، فولى عليهم وردان، فنفر بهم إلى البرلس، فوجد الروم بها، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فاستشهد وردان ومن معه وأبو رقية اللخمي، وكان على الخراج، وعائذ بن ثعلبة البلوي، وكان على الخيل.
قالوا: وكان بين يدي وردان شمعة لما خرج ليلاً، فانطفأت، فتطير بذلك.
قالوا: وكان عائذ قد أمر بالمعديات فرفعت إلى البر، فقال له وردان: اردد المعديات تجز فيها من أتاك من الثغور والفسطاط. فقال له: هذا رأي العبيد، بل نرفعها ونقاتل، فيكون الفتح لنا والذكر، فلا تجبن، قال: أنا أجبن؟ ستعلم من يجبن.
فاقتتلوا، وأقبل المدد، فوقفوا في العدوة لا يقدرون على المجاز، والمسلمون والروم يقتتلون، فقتل عائذ ووردان، وارتث سويد بن ملة في جمع من المسلمين، وانصرف الروم.(26/270)
وردان بن صالح بن كثير
وقيل: وردان بن كثير بن صالح بن سعد أبو عطية حدث عن سليمان بن عبد الرحمن بسنده إلى عائشة قالت: أمرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأدخلت امرأة على زوجها، ولم يعطها من صداقها شيئاً.
ورقة بن نوفل بن أسد
ابن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي كان ممن رغب عن عبادة الأوثان، وسأل عن الدين الحنيف.
وقدم البلقاء مع زيد بن عمرو بن نفيل.
وقيل: إنه أسلم والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقطع بإسلامه، والصحيح أن ورقة توفي أول ما تبدى جبريل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
روى ابن عباس أن ورقة قال: قلت: يا محمد كيف يأتيك الذي يأتيك، يعني جبريل؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يأتيني من السماء جناحاه من لؤلؤ، وباطن قدميه أخضر.
وكان ورقة قرأ الكتب، وكانت خديجة بن خويلد - رضوان الله عليها - تسأله عن أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول لها: ما أراه إلا نبي هذه الأمة الذي بشر به موسى وعيسى عليهما السلام.
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تسبوا ورقة فإني أريته في ثياب بيض.
وقيل: إن ورقة أنصاري، وقيل ديلي، والصحيح أنه أسدي.
روي: أن خديجة انطلقت بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها،(26/271)
وكان تنصر في الجاهلية، ويكتب الكتاب العربي، فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك، قال ورقة: يا بن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبر ما رأى، فقال ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً أكون فيها حياً حين يخرجك قومك.
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مخرجي هم؟ قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. ثم توفي ورقة.
وكان زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل ذهبا نحو الشام يلتمسان الدين، فأتيا على راهب، فسألاه، فقال: إن الذي تطلبان لم يجئ بعد، وهذا زمانه، وإن نبي هذا الدين يخرج من قبل تيماء.
فرجعا، فقال ورقة: أما أنا فأقيم على نصرانيتي حتى يبعث هذا النبي، وقال زيد بن عمرو: أما أنا فأعبد رب هذا البيت حتى يبعث النبي.
وكان زيد يأتي على بلال وهو يعذب في الله، فيقول: يا بلال، أحد أحد، والذي نفسي بيده، لئن قتلت لأتخذنك حناناً، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يبعث زيد أمة وحده، وكان زيد يأتي على الصبية وقد وئدت، فيستخرجها، فيسترضع لها حتى تشب.
قال أبو ميسرة: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لخديجة: إني إذا خلوت وحدي سمعت نداءً، فقد حسبت أن يكون هذا أمراً، فقالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم وتصدق الحديث. فلما دخل أبو بكر وليس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم، ذكرت خديجة حديثه له، وقالت: يا عتيق، اذهب مع محمد إلى ورقة. فلما دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(26/272)
أخذ أبو بكر بيده، فقال: انطلق بنا إلى ورقة، فقال: ومن أخبرك؟ فقال خديجة.
فانطلقنا إليه، فقصا عليه، فقال: إذا خلوت وحدي سمعت نداءً خلفي: يا محمد يا محمد، فأنطلق هارباً في الأرض. فقال: لا تفعل إذا أتاك، فاثبت حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني فأخبرني.
فلما خلا ناداه: يا محمد، قل: بسم الله الرحمن الرحيم: " الحمد لله رب العالمين " حتى بلغ " ولا الضالين "، وقل: لا إله إلا الله.
فأتى ورقة، فذكر ذلك له، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك.
فلما توفي ورقة قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير، لأنه آمن بي وصدقني، يعني ورقة.
قال ابن عباس: ثم استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة من قبل حراء، فوضع يده على رأسه وفؤاده وبين كتفيه، وقال: لا تخف، جبريل جبريل، فأجلسه معه على مجلس كريم جميل معجب، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك فيه من الياقوت واللؤلؤ، فبشره برسالة الله ربه حتى اطمأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: اقرأ، قال: كيف أقرأ؟ قال: " اقرأ بسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم ".(26/273)
فقبل الرسول رسالات ربه، وسأله أن يخفيها، واتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي نزل به جبريل من عند رب العرش العظيم.
فلما قضي إليه الذي أمر به انصرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منقلباً إلى أهله، لا يأتي على حجر ولا شجر إلا سلمت عليه: سلام عليك يا رسول الله. فرجع إلى بيته، وهو موقن، قد فاز فوزاً عظيماً، فلما دخل على امرأته خديجة، قال: يا خديجة أرأيت ما كنت أراه في المنام، وأحدثك به فإنه قد استعلن لي، وإنه جبريل أرسله ربه، وأخبرها بالذي قال له وبالذي رأى وسمع، فقالت: أبشر، فوالله، لا يفعل الله بك إلا خيراً أبداً، اقبل الذي أتاك من الله فإنه حق، وأبشر رسول الله حقاً.
ثم انطلقت إلى غلام لعتبة بن ربيعة يقال له: عداس، نصراني من أهل نينوى، فقالت: يا عداس، أذكرك الله إلا حدثتني هل عندك من جبريل علم؟ فلما ذكرت جبريل قال: قدوس قدوس ربنا، وما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل أوثان؟ قالت: أحب أن تحدثني بعلمك عنه. قال عداس: فإنه أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى.
فرجعت خديجة فأتت عمها ورقة بن نوفل، وكان ورقة قد كره عبادة الأوثان هو وزيد بن عمرو بن نفيل. وكان زيد قد حرم كل شيء حرمه الله من الدم والذبيحة على النصب وأبواب الظلم في الجاهلية، وتنصر ورقة، وقال لزيد قائم من الرهبان: إنك تلتمس ديناً ليس يوجد في الأرض اليوم، قال زيد: أي دين هو هذا الذي تزعم أنه غير موجود؟ قال دين الله دين إبراهيم.
قال زيد: يا ورقة، أنا على دين إبراهيم، وأنا ساجد نحو هذه البنية التي بنى إبراهيم، فسجد نحو الكعبة في الجاهلية. ثم توفي زيد، وبقي ورقة بعد.
وتعمدت خديجة إلى ورقة حين رجعت من عند عداس، فأخبرته ببعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبقول عداس، فقال لها ورقة: والله، يا بنت أخي، ما أدري لعل صاحبك هو الرسول الذي ينتظر أهل الكتاب، الذي يجدونه مكتوباً عندهم، وأقسم بالله لئن كان(26/274)
هو، ثم أظهر دعاءه، وأنا حي، لأبلين الله من نفسي في طاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحسن مؤازرته، فمات ورقة على نصرانيته.
وكانت خديجة قد ذكرت لورقة ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب يعني بحيرى، وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه، فقال ورقة: إن كان هذا حقاً يا خديجة، إن محمداً لنبي هذه الأمة، قد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر، هذا زمانه، فجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول: حتى متى؟ وأنشد في ذلك شعراً، منها: من الطويل
أتبكر أم أنت العشية رائح ... وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح
لفرقة قوم لا أحب فراقهم ... كأنك عنهم بعد يومين نازح
وأخبار صدق خبرت عن محمد ... يخبرها عنه إذا غاب ناصح
فتاك الذي وجهت يا خير حرة ... بغور وبالنجدين حيث الصحاصح
إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت ... وهن من الأحمال قعص ذوابح
يخبرنا عن كل حبر بعلمه ... وللحق أبواب لهن مفاتح
بأن ابن عبد الله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح
وظني به أن سوف يبعث صادقاً ... كما أرسل العبدان هود وصالح
وموسى وإبراهيم حتى يرى له ... بهاء ومنشور من الذكر واضح
ويتبعه حيا لؤي جماعةً ... شبابهم والأشيبون الجحاجح
فإن أبق حتى يدرك الناس دهره ... فإني به مستبشر الود فارح
وإلا فإني يا خديجة فاعلمي ... عن أرضك في الأرض الفسيحة سائح
ومما قال ورقة بن نوفل أيضاً: من الطويل(26/275)
وإن يك حقاً يا خديجة فاعلمي ... حديثك إيانا فأحمد مرسل
وجبريل يأتيه وميكال معهما ... من الله وحي يشرح الصدر منزل
ومما قال في ذلك أيضاً: من البسيط
يا للرجال لصرف الدهر والقدر ... وما لشيء قضاه الله من غير
حتى خديجة تدعوني لأخبرها ... وما لها بخفي الغيب من خبر
جاءت لتسألني عنه لأخبرها ... أمراً أراه سيأتي الناس من أخر
فخبرتني بأمر قد سمعت به ... فيما مضى من قديم الدهر والعصر
بأن أحمد يأتيه فيخبره ... جبريل أنك مبعوث إلى البشر
فقلت عل الذي ترجين ينجره ... له الإله فرجي الخير وانتظري
وأرسليه إلينا كي نسائله ... عن أمره ما يرى في النوم والسهر
فقال حين أتانا منطقاً عجباً ... يقف منه أعالي الجلد والشعر
إني رأيت أمين الله واجهني ... في صورة أكملت من أعظم الصور
ثم استمر فكاد الخوف يذعرني ... مما يسلم ما حولي من الشجر
فقلت ظني وما أدري أيصدقني ... أن سوف يبعث يتلو منزل السور
وسوف أبليك إن أعلنت دعوتهم ... من الجهاد بلا من ولا كدر
ومن حديث آخر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجاور في حراء من كل سنة، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية. والتحنث: التبرر، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين. فإذا قضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعاً، أو ما شاء الله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته، ورحم العباد به جاءه جبريل بأمر الله قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(26/276)
فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال اقرأ، فقلت: ما أقرأ؟ ما أقول؟ " فضمني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أقرأ؟ ما أقول؟ ما أقول ذلك إلا ابتدأ منه أن يعود لمثل ما صنع "، فقال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " إلى " ما لم يعلم " فقرأتها كلها، ثم انتهى وانصرف عني وهببت من نومي كأنما كتبت في قلبي كتاباً، قال: ولم يك من خلق الله شيء أبغض إلي من شاعر أو مجنون، كنت لا أطيق أن أنظر إليهما، قال: قلت: إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون، لاتحدثن عني قريش بهذا أبداً، لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي فلأقتلنها، فلأستريحن.
قال: فخرجت أريد ذلك حتى كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل، فرفعت رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه حتى شغلني ذلك عما أردت، فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف أمامي، ولا أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا مكة، ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك؛ ثم انصرف عني، وانصرفت راجعاً حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها. فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت؟ فقلت لها: إن الأبعد لشاعر أو مجنون، فقالت أعيذك بالله يا أبا القاسم، ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منك من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك، وما ذاك يا بن عم؟ لعلك رأيت شيئاً.
قال: قلت لها: نعم، ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا بن عم، واثبت فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.(26/277)
ثم قامت، فجمعت عليها ثيابها، وأتت ورقة بن نوفل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال ورقة: قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده، لئن صدقتني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت.
فرجعت خديجة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبرته بما قال ورقة، فسهل ذلك عنه بعض ما هو فيه.
فلما مضى حواره وانصرف، صنع كما كان يصنع، وبدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة، فقال: يا بن أخي، أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه، ولئن أدركت ذلك لأنصرن الله نصراً يعلمه، ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه، ثم انصرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى منزله، وقد زاده ذلك من ورقة ثباتاً، وخفف عنه بعض ما كان فيه من الغم.
ومن حديث: أن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً على رأس خمس سنين من بناء الكعبة.
فكان أول شيء اختصه الله به من النبوة والكرامة رؤيا كان يراها، فقص ذلك على زوجته خديجة، فقالت له: أبشر، فوالله، لا يفعل الله بك إلا خيراً.
فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ترك كثيراً مما كانت عليه قريش تفعل بآلهتهم، وتنزه عنه.
فبينما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما بلغنا، والله أعلم - ذات يوم في حراء، كان خرج إليه فاراً كراهية أن يفعل بآلهتهم كما كانوا يفعلون، وقد خرجت قريش لتعظيم بعض آلهتهم، فبينما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حراء يتمشى إذ نزل عليه جبريل، فدنا منه، فخاغه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخافة شديدة، فوضع جبريل يده على صدره وبين كتفيه، فقال: اللهم احطط وزره، واشرح صدره، وطهر قلبه، يا محمد، أبشر، فإنك نبي هذه الأمة، اقرأ، قال له نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو خائف يرتعد: ما قرأت كتاباً قط، ولا أحسنه، وما أكتب، وما أقرأ، فأخذه(26/278)
جبريل، فغته غتاً شديداً، فقال: اقرأ، فقال نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أرى شيئاً أقرؤه، وما أقرأ وما أكتب، فقال له جبريل - وأجلسه على بساط كهيئة الدرنوك -: " اقرأ باسم ربك " إلى " ما لم يعلم " لا تخف يا محمد، فإنك رسول الله، ثم انصرف.
وأقبل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ همه، فقال: كيف أصنع؟ وكيف أقول لقومي، ثم قام، وهو خائف.
فأتاه جبريل من أمامه في صورة نفسه، فأبصر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمراً عظيماً ملأ صدره، فقال له جبريل: لا تخف يا محمد، جبريل، جبريل رسول الله إلى أنبيائه ورسله، فأيقن بكرامة الله، فإنك رسول الله، ثم انصرف جبريل.
وأقبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجعاً، فلما انتهى إلى خديجة أبصرت ما بوجهه من تغير لونه، فأفزعها ذلك، فجعلت - رضي الله عنها - تمسح عن وجهه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقول: يا بن عبد الله، لقد أصابك اليوم أمر أفزعك، يا بن عبد الله، لعله كبعض ما كنت ترى وتسمع قبل اليوم.
وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سمع الصوت مراراً، وأبصر الضوء، وسمع البشرى، فإذا سمع بذلك بأرض الفلاة أقبل مذعوراً، فقص ذلك على خديجة.
فلما رأت خديجة أنه لا يحير إليها شيئاً أشفقت، فقالت: يا بن عبد الله، مالك لا تكلم؟ قال: يا خديجة أرأيت الذي كنت أخبرتك أني أرى في المنام، والصوت الذي كنت أسمع في البقظة، والصوت الذي كنت أهال منه؟ فإنه جبريل قد استعلن لي، وكلمني، وأقرأني كلاماً فزعت منه، ثم عاد إلي فبشرني، وأخبرني أنني نبي هذه الأمة، وأقبلت راجعاً، فمررت على شجر وحجارة وهن يسجدن لي، فقلن: السلام عليك يا رسول الله.(26/279)
فقالت خديجة: أبشر، فوالله لقد كنت أعلم أن الله لن يفعل بك إلا خيراً، وأشهد أنك نبي هذه الأمة الذي تنتظره اليهود، قد أخبرني به قبل أن أتزوجك ناصح غلامي وبحيرى الراهب، وأمراني أن أتزوجك منذ أكثر من عشرين سنة.
فلم تزل عن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى طعم، وضحك، ثم خرجت إلى الراهب، وكان قريباً من مكة، فلما دنت منه، وعرفها قال لها: ما بالك يا سيدة نساء قريش؟ وكذلك كانت تسمى، فقالت: أقبلت إليك لتخبرني عن جبريل.
قال الراهب: سبحان الله ربنا القدوس، ما بال جبريل تذكرينه يا سيدة نساء قريش في هذه الفلاة التي إنما يعبد أهلها الأوثان؟ قالت: أنشدك بنصرانيتك ومسيحك لتخبرني عنه بعلمك فيه.
قال لها الراهب: يا سيدة نساء قريش، ذلك أمين الله ورسوله إلى أنبيائه ورسله الذي يرسله إليهم، وهو صاحب الرسل وصاحب موسى وعيسى بن مريم.
قازدادت يقيناً، وعرفت أن الله قد أهدى لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الكرامة.
ثم أقبلت حتى أتت عبداً لعتبة بن ربيعة نصرانياً من أهل نينوى، يقال له عداس، قالت له: أذكرك الله يا عداس إلا حدثني عن جبريل بما تجد عندك في الكتب.
فقال لها عداس: قدوس ربنا، وما شأن جبريل تذكرينه ياسيدة نساء قريش بهذه الفلاة التي إنما يعبد أهلها الأوثان؟ قالت: أنشدك الله بنصرانيتك إلا حدثتني عنه بعلمك.
قال: قد ذكرتني بعظيم، فإن جبريل عبد الله ورسوله وأمينه الذي يبعثه إلى الرسل، وهو صاحب المرسلين كلهم، وهو الذي كان مع موسى بين يدي فرعون، وكان معه حين فلق البحر، وكان معه إذ كلمه ربه بطور سيناء، وكان معه في كل موطن من تلك المواطن كلها، وهو صاحب عيسى بن مريم الذي أيده به.(26/280)
ثم قامت من عنده فأتت عماً لها شيخاً، يقال له ورقة بن نوفل نصرانياً، فقالت له: أذكرك الله يا بن عم، والرحم بيني وبينك، لما حدثتني عن جبريل ما هو.
قال: قدوس ربنا الأعلى، مهلاً ياخديجة، لاتذكري جبريل، ولست من أهل ذكره.
قالت: أذكرك الله يا بن عم، لما حدثتني عنه، فإني أرجو أن أكون قد كنت من أهل ذكره.
قال: ما أنا بمخبرك عنه لما حدثتني ما أذكرك، فإنك في بلد لا يذكر فيه، ولا يدرون ما هو.
قلت: فلا عليك إن ذكرتك لتكتمن علي، والصدق لي عماً أسألك عنه؟ فقال: نعم.
قالت: فإن ابن عبد الله ذكر لي وهو صادق، أحلف بالله ما كذب ولا كذب أنه نزل عليه جبريل بحراء، وأنه أخبره أنه رسول هذه الأمة، وأقرأه آياتٍ أرسل الله بها إليه.
فذعر ورقة وقال: إن كان جبريل قد استقرت قدماه اليوم على الأرض، لقد نزل على خير أهل الأرض، وما نزل إلا إلى نبي، وهو صاحب الأنبياء.
قال: فأرسلني إلي ابن عبد الله أسأله وأسمع من قوله وأحدثه، فإني أخاف أن يكون غير جبريل، فإن بعض الشياطين يتشبه بغير صورته ليضل به بني آدم ويفسدهم حتى يصير الرجل بعد العقل مدلهاً مجنوناً، وأنا خائف على صاحبك أن يكون كذلك.
فقامت وهي واثقة بالله ألا يفعل بصاحبها إلا خيراً، فرجعت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد نزل جبريل، فأنبأه بما تكلم به ورقة ومن تخيف الشياطين، فأنزل الله عز وجل: " ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون " إلى " بأيكم المفتون ": المجنون.(26/281)
وقد كانت قريش إذا سمعوا بشأن محمد بما ذكر لهم الراهب وعداس قالوا: فلعله مجنون، وخاضوا في ذلك، فوافق ذلك قول ورقة بن نوفل، ففي ذلك أنزل الله عز وجل: " فستبصر ويبصرون بأيكم الفتون ".
فلما رجعت خديجة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرته بالذي ذكر ورقة.
فقال لها نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كلا والذي اختصني بالنبوة ما بي جنون، وإنه لجبريل أتاني، فأخبرني بالذي خاضت فيه قريش وبقول ورقة، فأقرأ نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خديجة هذه الآيات.
فقالت: الحمد لله كثيراً، قد زادني هذا يقيناً مع ما كنت فيه من اليقين، ثم قالت له: أحب أن تلقى ورقة، فتخبره بهذه الآيات لعل الله يقبل بقلبه، فإنه رجل قد أعطي علماً، وهو يقرأ الكتب.
فأتاه، فلما أبصره ورقة رأى له هيبة وكمالاً لم يكن يراه قبل ذلك.
فقال له ورقة: يا بن أخي، حدثني: ما رأيت؟ وما قيل لك؟ فإني أرى لك هيبة لم أكن أراها، ولا أراك إلا صادقاً، فحدثني عن الذي أتاك، في نور أتاك أو في ظلمة؟ وصف لي صفته، فإنه نعت لي، ولن يخفى علي، أهو هو أو غيره، إن شاء الله.
فأخبره نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصفة جبريل، وبما رأى من هيبة.
فقال له ورقة: أشهد أن هذا جبريل، فحدثني ما قال لك؟ فأخبره كيف وضع يده على صدره وبين كتفيه؛ فازداد ورقة يقيناً، وأقرأ عليه الآيات التي أقرأه جبريل، وقرأ: " ن والقلم ".
فقال له ورقة: أشهد أن هذا كلام الله، فهل أمرك بشيء تبلغه قومك؟ فقال له: لا.(26/282)
فقال له ورقة: أمرك أمر نبوة، فإن أدرك زمانك أتبعك، أما والذي نفس ورقة بيده إن أعلنت ودعوت وأنا حي لأبلين لله في نصرتك من الصدق وحسن المودة، فأبشر يا بن عبد المطلب بما بشرك الله به.
وفشا قول ورقة في قريش، فشق ذلك على قريش، وألقى الشيطان في قلوبهم أن قول هذا الرجل فساد لأمركم، وهلاك لدينكم، فكيف ترضونه وهو من فقرائكم وأصغركم؟ واحتبس جبريل على نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك ما شاء الله.
فقالت قريش: ما نرى محمداً أحدث شيئاً بعد، ولو كان من الله لتتابع الحديث كما بلغنا أنه كان يفعل من كان قبله، فقد ودعه الذي كان يأتيه وقلاه.
فأتاه جبريل عند ذلك، فقال: إن الله أنزل عليك يا محمد: " والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى " ففرغ من السورة كلها ومن " ألم نشرح لك صدرك "، فذكره نعمته عليه، ثم انصرف جبريل.
وعن جابر قال: قيل: يا رسول الله، ورقة بن نوفل كان يستقبل الكعبة في الجاهلية ويقول: إلهي إله زيد، وديني دين زيد، ثم يسجد. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد رأيته على نهر في بطنان الجنة، عليه حلة من سندس، ورأيت خديجة على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب، لاسخب فيه ولانصب.
وعن جابر قال: سئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أبي طالب، هل نفعته نبوتك؟ نعم، أخرجته من غمرة جهنم إلى ضحضاح منها.(26/283)
وسئل عن خديجة أنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن، فقال: أبصرتها في الجنة في بيت من قصب، لا صخب فيه، ولا نصب.
وسئل عن ورقة بن نوفل، فقال: أبصرته في بطنان الجنة، عليه السندس.
وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل، فقال: يبعث أمةً وحده بيني وبين عيسى.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تسبوا ورقة بن نوفل، فإني رأيت له جنة أو جنتين.
وعن عائشة: أن خديجة سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ورقة بن نوفل، فقال: قد رأيته في المنام، فرأيت عليه ثياب بياضٍ، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه بياض.
قال عروة: كان بلال لجارية من بني جمح بن عمرو، وكانوا يعذبونه برمضاء مكة، يلصقون ظهره بالرمضاء ليشرك بالله، فيقول: أحد، أحد، فيمر عليه ورقة بن نوفل، وهو على ذلك، فيقول: أحد، أحد، والله لئن قتلتموه لأتخذنه حناناً، كأنه يقول: لأتمسحن به، وقال ورقة في ذلك: من البسيط
لقد نصحت لأقوامٍ وقلت لهم ... أنا النذير فلا يغرركم أحد
لا تعبدون إلهاً غير خالقكم ... فإن دعوكم فقولوا بيننا حدد
سبحان ذي العرش سبحاناً يعادله ... رب البرية فرد واحد صمد(26/284)
سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به ... وقبل سبحه الجودي والجمد
مسخرٌ كل من تحت السماء له ... لا ينبغي أن يساوي ملكه أحد
لاشيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودي المال والولد
لم تغن عن هرمزٍ يوماً خزائنه ... والخلد قد حاولت عادٌ فما خلدوا
ولا سليمان إذ دان الشعوب له ... الإنس والجن تجري بينها البرد
وعن يحيى بن صيفي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
من زلفت إليه يد فإن عليه من الحق ما يجزى بها، فإن لم يفعل فليظهر الثناء، فإن لم يفعل فقد كفر النعمة، أما سمعت قول ورقة بن نوفل: من الكامل
ارفع ضعيفك لا يحل بك ضعفه ... يوماً فتدركه العواقب قد نما
يجزيك أو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت: قال زيد بن عمرو: من الوافر
عزلت الجن والجنان عني ... كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا العزى أدين ولا ابنتيها ... ولا أطمي بني طسمٍ أدير(26/285)
ولا غنماً أدين وكان رباً ... لنا في الدهر إذ حلمي صغير
أرباً واحداً أم ألف ربٍّ ... أدين إذا تقسمت الأمور
ألم تعلم بأن الله أفنى ... رجالاً كان شأنهم الفجور
وأبقى آخرين ببر قومٍ ... فيربو منهم الطفل الصغير
وبينا المرء يعثر ثاب يوماً ... كما يتروح الغصن المطير
فقال ورقة بن نوفل لزيد بن عمرو: من الطويل
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنوراً من النار حامياً
بدينك رباً ليس ربٌ كمثله ... وتركك جنان الجبال كما هيا
أقول إذا جاوزت أرضاً مخوفةً ... حنانيك لا تظهر علي الأعاديا
حنانيك إن الجن كانت رجاءهم ... وأنت إلهي ربنا ورجائيا
أدين لربٍّ يستجيب ولا أرى ... أدين لمن لا يسمع الدهر داعياً
أقول إذا صليت في كل بيعةٍ ... تباركت قد أكثرت باسمك داعيا
يقول: خلقت خلقاً كثيراً يدعون باسمك.
وريزة بن محمد بن وريزة
أبو هاشم الغساني الحمصي قدم دمشق.
حدث عن مؤمل بن يهاب بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن فاطمة أحصنت فرجها، فحرم الله ذريتها على النار.(26/286)
أنشد وريزة لمحمد بن بكير من المنسرح
يا ساعة القبر أين زواري ... إذا تفردت بين أحجاري
يهجر ذكري ويحتمى وطني ... وتنقضي مدتي وآثاري
يا سفر الموت أنت مرتقبٌ ... إليك أقضي وجوه أسفاري
توفي وريزة بدمشق سنة إحدى وستين ومئتين.
وزير بن صبيح
أبو روح الثقفي من دمشق.
حدث عن يونس بن حلبس عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فرغ الله إلى كل عبد من خمس: من رزقه وأجله وعمله وأثره ومضجعه ".
وبه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في قول الله عز وجل: " كل يومٍ هو في شأن "، قال: " من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين ".
وصبيح: بفتح الصاد وكسر الباء.(26/287)
وزبر بن القاسم بن وزير
أبو القاسم السلمي الجبيلي من أهل جبيل.
حدث بجبيل عن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي بسنده إلى ركب المصري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " طوبى لمن تواضع من غير منقصة، وذل في نفسه من غير مسكنة، وأنفق مالاً جمعه من غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن ذل في نفسه، وطاب كسبه، وصلحت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله ".
وزير بن محمد بن الحكم
أبو العباس حدث عن عمار بن مطر العنبري بسنده إلى أبي هريرة قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قال: سمع الله لمن حمده، في الركعة الآخرة في صلاة الغداة قال: " اللهم أنج المستضعفين من عبادك، اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعباس بن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين مثل سني يوسف، اللهم العن فلاناً وفلاناً - بأسمائهم - فأنزل الله تبارك وتعالى: " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ".
توفي وزير بن محمد سنة خمس وستين ومئتين.(26/288)
وزير بن مسافر الجرشي
دمشقي.
أخبر عن جدته أم أبيه أنها سمعت أبا الدرداء يقول: تدفن في حواشي قبور المسلمين فإن ولدها لباقٍ وحسابها على الله عز وجل.
قال أبو بكر:
هذه النصرانية تموت حبلى من المسلم، ويجعل وجهها إلى دبر القبلة لأن الولد في بطن أمه يكون وجهه إلى ظهر أمه.
وصيف بن عبد الله
أبو علي الرومي الحافظ الأشروسي حدث عن أبي يعقوب بن إسحاق بن العنبر بسنده إلى ابن عباس: أن رجلاً أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن آتي البيت فأقبل أسفل الأسكفة، فقال: " قبل قدمي أمك فقد وفيت بنذرك ".
وحدث عن أبي عبد الله أحمد بن محمد بن زياد بسنده إلى عائشة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن من الشعر حكمة ".
وحدث عن سليمان بن سيف الحراني بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، قولوا: الثبات الثبات ولا قوة إلا بالله ".
وحدث عن أبي بسر داود بن سليمان بسنده إلى أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بينه وبين النار بذلك اليوم سبعين خريفاً ".(26/289)
وضاح بن خيثمة
قيل: إنه أحد أصحاب عمر بن عبد العزيز.
قال وضاح: أمرني عمر بن عبد العزيز بإخراج من في السجن، فأخرجتهم إلا يزيد بن أبي مسلم، فنذر دمي، قال: فإني بإفريقية، قيل لي: قدم يزيد بن أبي مسلم، فهربت منه، فأرسل في طلبي، فأخذت، فأتي بي، فقال لي: وضاح، فكيف وضاح؟ قال: أما والله لطالما سألت الله أن يمكنني منك، قلت: وأنا والله لطالما استعذت بالله من شرك، قال: فوالله ما أعاذك، والله لأقتلنك ثم والله لأقتلنك، والله لو سابقني ملك الموت إلى قبض روحك لسبقته، السيف والنطع! قال: فجيء بالنطع، فأقعدت فيه، وكتفت، وقام قائم على رأسي بسيف مشهور، وأقيمت الصلاة، فخرج إلى الصلاة، فلما خر ساجداً أخذته سيوف الجند، فقتل، وجاءني رجل فقطع كتافي بسيفه، وقال: انطلق.
الوضين بن عطاء بن كنانة بن عبد الله بن مصدع
أبو كنانة الخزاعي، ويقال: أبو عبد الله أصله من بانياس، وسكن قرية كفر سوسية.
حدث عن سالم عن أبيه: أنه كان يفصل بين الشفع والوتر بتسليمة، ويخبر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل ذلك.
وفي رواية: أنه كان يفصل بين شفعه ووتره من صلاة الليل بتسليمة، ويخبر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل ذلك بتسليمة.(26/290)
وحدث عن محفوظ بن علقمة الحضرمي بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إنما العين وكاء السه، فمن نام فليتوضأ ".
وحدث عن يزيد بن مرثد عن أبي رهم اسمه أحزاب قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما اصطيد صيد في بر ولا بحر إلا بتضييعه التسبيح ".
الوضين دمشقي توفي سنة سبع وأربعين ومئة، وقيل: سنة تسع وأربعين، وقيل: سنة نيف وخمسين.
قال الوضين بن عطاء: استزارني أبو جعفر، وكانت بيني وبينه حالة قبل الخلافة، فصرت إلى مدينة السلام، فخلونا يوماً، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما مالك؟ قلت: الذي تعرف يا أمير المؤمنين، قال: وما عيالك؟ قلت: ثلاث بنات والمرأة وخادم لهم، فقال لي: أربع في بيتك؟ قلت: نعم، قال: فوالله لردد ذلك حتى ظننت أنه سيمونني، ثم رفع رأسه، فقال: أنت أيسر العرب، أربعة مغازل تدور في بيتك.
وكان الوضين يرى القدر.
وثقه قوم وضعفه آخرون.
وقاص بن ربيعة
أبو رشدين العبسي من دمشق، وقيل: من حمص.(26/291)
حدث وقاص أن المستورد حدثهم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن اكتسى برجل مسلم ثوباً فإن الله يكسوه مثله من نار جهنم، ومن قام برجل مسلم مقام رياء وسمعة فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة ".
حدث بقية عن محمد بن زياد قال: قعد وقاص بن ربيعة ورجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سماه، قال بقية: فتركت أن أسميه لأنها غيبة، فذكر النساء، قال وقاص بن ربيعة: إن امرأتي لمن أجمل النساء، وإني لأمكث الشهر والشهرين والثلاثة لا أقربها، ولأن أكون في بيت مع أسد يهارني وأهاره أحب إلي من أن تكون مكانها مرأة شابة ليس بيني وبينها محرم قال صاحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لكني لا أقول ذلك، قال: فابتلي بيتيمة كانت في حجره، ثم تزوجها بعد.
وكيع بن الجراح بن مليح
ابن عدي بن فرس بن جمحة. وفي نسبه اختلاف
أبو سفيان الرؤاسي الكوفي قدم دمشق.
حدث وكيع عن جعفر بن برقان بسنده إلى أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لقد هممت أن آمر بالصلاة، ثم آمر فتيتي، فيجمعوا حزم الحطب، ثم أحرق على أقوام لا يشهدون الصلاة ".
وحدث وكيع عن سعد بن أوس بسنده إلى شكل قال: قلت: يا رسول الله، علمني دعاء أنتفع به، قال: قل: " اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وبصري وقلبي ومنيي ".
وكان وكيع تقةً مأموناً عالياً رفيعاً كثير الحديث، حجة.(26/292)
ولد وكيع سنة تسع وعشرين، وقيل: سنة ثمان وعشرين ومئة.
قال وكيع: أتيت الأعمش، فقلت: حدثني، فقال لي: ما اسمك؟ فقلت: وكيع، قال: اسم نبيل ما أحسب إلا ستكون أديباً، أين تنزل من الكوفة؟ فقلت: في بني رؤاس، فقال: أين من منزل الجراح بن مليح؟ قلت: ذاك أبي، وكان على بيت المال، فقال: اذهب فجئني بعطائي وتعال حتى أحدثك بخمسة أحاديث.
فجئت أبي فأخبرته، فقال: خذ نصف العطاء، واذهب به، فإذا حدثك بالخمسة فخذ النصف الآخر، واذهب به حتى تكون عشرة.
قال: فأتيته بنصف عطائه فأخذه، فوضعه في كفه، ثم سكت، فقلت: حدثني، قال: اكتب، فأملى علي حديثين، قال: قلت: وعدتني خمسة، قال: فأين الدراهم كلها؟ أحسب أن أباك أمرك بهذا، ولم يعلم أن الأعمش مدرب، قد شهد الوقائع، اذهب فجئني بتمامها، وتعال أحدثك بخمسة أحاديث، فجئته فحدثني بخمسة، فكان إذا كان كل شهر جئته بعطائه، فحدثني بخمسة أحاديث.
قال عبد الرزاق: رأيت الثوري وابن عيينة ومعمراً ومالكاً، ورأيت ورأيت، فما رأت عيناي قط مثل وكيع.
ذكر أحمد بن حنبل يوماً وكيعاً فقال: ما رات عيناي مثله قط، يحفظ الحديث جيداً، ويذاكر بالفقه فيحسن مع ورع واجتهاد، ولا يتكلم في أحد.
قال علي بن خشرم: رأيت وكيعاً ما رأيت بيده كتاباً قط، إنما هو حفظ، فسألته عن أدوية للحفظ، فقال: إن علمتك الدواء استعملته؟ قلت: إي والله، قال: ترك المعاصي، ما جربت مثله للحفظ.(26/293)
قال صالح بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي أيهما أثبت عندك: وكيع أو يزيد؟ قال: ما منهما بحمد الله إلا ثبت، قلت: فأيهما أصلح عندك في الإيمان؟ فقال: ما منهما بحمد الله إلا مؤمن، ولكن وكيعاً لم يتلطخ بالسلطان، وما رأيت أحداً أوعى للعلم من وكيع، ولا أشبه بأهل النسك منه.
قال مروان: ما رأيت فيمن لقيت أخشع من وكيع، ما وصف لي أحد قط إلا رأيته دون الصفة إلا وكيع، فإني رأيته فوق ما وصف لي.
قدم رجل إلى شريك القاضي رجلاً، فادعى عليه مئة ألف دينار، فأقر به، فقال شريك: أما إنه لو أنكر لم أقبل عليه شهادة أحد بالكوفة إلا شهادة وكيع بن الجراح وعبد الله بن نمير.
قال يحيى بن أكثم القاضي: صبحت وكيعاً في الحضر والسفر، فكان يصوم الدهر، ويختم القرآن كل ليلة.
وحدث بعض من كان يلزمه قال: كان لا ينام حتى يقرأ جزأه في كل ليلة ثلث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر، فيصلي الركعتين.
حدث رجل من أهل بيت وكيع قال: أورثت وكيعاً أمه مئة ألف، وما قاسم وكيع ميراثاً قط.
قال: وكان يؤتى بطعامه ولباسه، ولا يسأل عن شيء، ولا يطلب شيئاً، وكان لا يستعين بأحد، ولا على وضوء، كان إذا أراد ذلك قام هو.
قال عبد الرحمن بن سفيان بن وكيع بن الجراح: حدثني أبي قال: كان أبي يصوم الدهر، فكان يبكر فيجلس لأصحاب الحديث إلى ارتفاع النهار، ثم(26/294)
ينصرف فيقيل إلى وقت صلاة الظهر، ثم يخرج فيصلي الظهر، فيقصد طريق المشرعة التي كان يصعد منها أصحاب الروايا فيريحون نواضحهم، فيعلمهم من القرآن ما إلى حدود العصر، ثم يرجع إلى مسجده، فيصلي العصر ويقرأ القرآن ويذكر الله إلى آخر النهار، ثم يدخل إلى منزله، وكان يفطر على نحو عشرة أرطال من الطعام، ثم يقدم إليه عشرة أرطال نبيذ، فيشرب منها ما طاب له على طعامه، ثم يجعلها بين يديه، ثم يقوم فيصلي ورده من الليل، فكلما صلى ركعتين أو أكثر من شفع أو وتر شرب منها حتى ينفذها، ثم ينام.
قال إسحاق بن البهلول: قدم علينا وكيع بن الجراح، فنزل في مسجد على الفرات، فكنت أصير إليه لاستماع الحديث منه، فطلب مني نبيذاً، فجئته بمخيشته ليلاً، فأقبلت أقرأ عليه الحديث وهو يشرب، فلما نفذ ما جئت به طفأ السراج، فقلت: ما هذا؟ فقال: لو زدتنا زدناك.
قال يحيى بن معين: سمعت رجلاً سأل وكيعاً فقال: يا أبا سفيان شربت البارحة نبيذاً، فرأيت فيما يرى النائم كأن رجلاً يقول لك: شربت خمراً. فقال وكيع: ذلك الشيطان.
قال نعيم بن حماد: تعشينا عند وكيع أو قال: تغذينا، فقال: أي شيء تريدون أجيئكم به، نبيذ الشيوخ أو نبيذ الفتيان؟ قال: قلت: تكلم بهذا، قال: هو عندي أحل من ماء الفرات.
قلت له: ماء الفرات لم يختلف فيه، وقد اختلف في هذا.(26/295)
قدم وكيع مكة حاجاً، فرآه بن عياض، وكان وكيع سميناً. فقال الفضيل: ما هذا السمن وأنت راهب العراق؟ فقال له وكيع: هذا من فرحي بالإسلام. فأفحمه.
قال سلم بن جنادة: جالست وكيع بن الجراح سبع سنين، فما رأيته بزق، ولا رأيته مس حصاة بيده، ولا رأيته جلس مجلسه فتحرك، وما رأيته إلا مستقبل القبلة، وما رأيته يحلف بالله.
أغلظ رجل لوكيع بن الجراح، فدخل وكيع بيتاً، فعفر وجهه في التراب، ثم خرج إلى الرجل، فقال: زد وكيعاً بدينه، فلولاه ما سلطت عليه.
قال بعض المشايخ: سألت وكيعاً عن مقدمه هو وابن إدريس وحفص على الرشيد هارون، فقال لي: ما سألني عن هذا أحد قبلك: قدمنا، فأقعدنا بين السريرين، فكان أول من دعا به أنا، فقال: يا وكيع، إن أهل بلدك طلبوا مني قاضياً، وسموك لي فيمن سموا، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وصالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة، فخذ عهدك وامض. فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ كبير، وإحدى عيني ذاهبة، والأخرى ضعيفة. فقال هارون: اللهم غفراً، خذ عهدك أيها الرجل وامض. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن كنت صادقاً إنه لينبغي أن تقبل مني، وإن كنت كاذباً فما ينبغي أن تولي القضاء كذاباً. فقال: اخرج، فخرجت.
ودخل ابن إدريس، وكان هارون قد وسم له من ابن إدريس وسم، يعني خشونة جانبه. فدخل فسمعنا صوت ركبتيه على الأرض حين برك، وما سمعناه يسلم إلا سلاماً خفياً، فقال له هارون: أتدري، لم دعوتك؟ قال: لا، قال: إن أهل بلدك طلبوا مني قاضياً وسموك لي فيمن سموا، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي، وأدخلك في صالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة، فخذ عهدك وامض. فقال له ابن إدريس: ليس أصلح للقضاء؛ فنكت هارون بأصبعه، وقال له: وددت أني لم أكن رأيتك. قال له(26/296)
ابن إدريس: وأنا وددت أني لم أكن رأيتك، فخرج.
ثم دخل حفص بن غياث، فقال له كما قال لنا؛ فقبل عهده، وخرج.
فأتانا خادم معه ثلاثة أكياس، في كل كيس خمسة آلاف دينار، فقال: أمير المؤمنين يقرئكم السلام، ويقول لكم: قد لزمتكم في شخوصكم مؤنة، فاستعينوا بهذه في سفركم.
فقال وكيع: أقر أمير المؤمنين السلام، وقل له: قد وقعت مني بحيث يحب أمير المؤمنين، وأنا عنهما مستغن، وفي رعية أمير المؤمنين من هو أحوج إليها مني، فإن رأى أمير المؤمنين أن يصرفها إلى من أحب.
وأما ابن إدريس فصاح به: مر من ها هنا. وقبلها حفص.
وخرجت الرقعة إلى ابن إدريس من بيننا: عافانا الله وإياك، سألناك أن تدخل في أعمالنا، فلم تفعل، ووصلناك من أموالنا، فلم تقبل، فإذا جاءك ابني المأمون فحدثه - إن شاء الله -.
فقال للرسول: إذا جاءنا مع الجماعة حدثناه - إن شاء الله -.
ثم مضينا، فلما صرنا إلى الياسرية حضرت الصلاة، فنزلنا نتوضأ للصلاة.
قال وكيع: فنظرت إلى شرطي محموم قائم في الشمس، عليه سوادة، فطرحت كسائي عليه، وقلت: تدفأ إلى أن أتوضأ.
فجاء ابن إدريس فاستلبه، ثم قال لي: رحمته!؟ لا رحمك الله في الدنيا، أحد يرحم مثل ذا؟! ثم التفت إلى حفص، فقال له: يا حفص، قد علمت حين دخلت إلى سوق(26/297)
أسد، فخضبت لحيتك، ودخلت الحمام أنك ستلي القضاء، لا والله، لا كلمتك حتى تموت! قال: فما كلمه حتى مات.
جاء رجل إلى وكيع بن الجراح فقال له: إني أمت إليك بحرمة، قال: وما حرمتك؟ قال: كنت تكتب من محبرتي في مجلس الأعمش.
قال: فوثب وكيع، فدخل منزله؛ فأخرج له صرة فيها دنانير، وقال: اعذرني فإني ما أملك غيرها.
وكان وكيع لا يغضب بواحدة، فإذا غضب سكن غضبه بالتؤدة والوقار.
وكان وكيع إذا أتى مسجد الجامع يوم الجمعة في يوم مطير كان يخرج ونعلاه في يده، يخوض في الطين، ثم يدخل فيصلي.
فقيل له: كان يغسل قدميه؟ قال: لا.
وكان لا يصحبه أحد إلى المسجد، فإن سأله أحد في الطريق كان لا يزيد على أن يقول: في الطريق؟! في الطريق؟! على التؤدة.
قال وكيع: لو علمت أن الصلاة أفضل من الحديث ما حدثتكم.
قيل لابن معين: قوم يقدمون عبد الرحمن بن مهدي على وكيع، فقال ابن معين: من قدم عبد الرحمن على وكيع فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
قال يعقوب بن سفيان: كان غير هذا أشبه بكلام أهل العلم، ومن يحاسب نفسه، وعلم أن كلامه من عمله لم يقل مثل هذا، وكيع خير فاضل حافظ.(26/298)
وسئل أحمد بن حنبل: إذا اختلف وكيع وعبد الرحمن بن مهدي بقول من نأخذ؟ فقال: عبد الرحمن يوافق أكثر، وخاصة في سفيان، - وكان معنياً بحديث سفيان -، وعبد الرحمن يسلم عليه السلف، ويجتنب شرب المسكر، وكان لا يرى أن يزرع في أرض الفرات.
قال علي بن عثمان بن نفيل: قلت لأحمد بن حنبل: إن فلاناً كان يقع في وكيع وعيسى بن يونس وابن المبارك. فقال: من كذب أهل الصدق فهو الكذاب.
قال يحيى بن معين: رأيت عند مروان بن معاوية لوحاً فيه أسماء شيوخ: فلان رافضي، وفلان كذا، وفلان كذا، ووكيع رافضي.
قال يحيى: فقلت له: وكيع خير منك، قال: مني؟ قلت: نعم، قال: فما قال لي شيئاً، ولو قال لي شيئاً لوثب أصحاب الحديث عليه.
قال: فبلغ ذلك وكيعاً، فقال: يحيى صاحبنا، قال: فكان بعد ذلك يعرف لي ويوجب.
وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يتحدث في مجلسه، ولا يقوم أحد من مجلسه، ولا يبرى فيه قلم، ولا يبتسم أحد، فإن تحدث أو برى صاح ونهى عنه، وكذا كان يكون ابن نمير، وكان يغضب ويصيح، وإذا رأى من يبري قلماً تغير وجهه غضباً.
وكان وكيع يكونون في مجلسه كأنهم في صلاة، فإن أنكر من أمرهم شيئاً انتعل ودخل.
قال أحمد بن حنبل: أخطأ وكيع بن الجراح في خمس مئة حديث.
قال علي بن المديني: كان وكيع يلحن، ولو حدثت عنه بألفاظه لكانت عجباً. كان يقول: حدثنا مسعر عن عيسة.(26/299)
قال وكيع: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن القرآن محدث ومن زعم أن القرآن محدث فقد كفر.
قال وكيع: العاقل من عقل عن الله أمره، ليس من عقل تدبير دنياه.
حدث وكيع عن ابن أبي خالد عن البهي: أن أبا بكر جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد وفاته، فأكب عليه، فقبله، وقال: بأبي أنت وأمي، ما أطيب حياتك، وما أطيب ميتتك.
قال البهي: وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك يوماً وليلة حتى ربا بطنه. وانثنت خنصره.
ولما حدث وكيع بهذا الحديث بمكة اجتمعت قريش، وأرادوا صلبه، ونصبوا خشبة ليصلبوه، فجاء سفيان بن عيينة، فقال: الله، الله، هذا فقيه أهل العراق، وابن فقيهه، وهذا حديث معروف. ثم قال ابن عيينة: لم أكن سمعت هذا الحديث إلا أني أردت تخليصه.
قال علي: وسمعت هذا الحديث من وكيع بعد ما أرادوا صلبه، فتعجبت من جسارته.
قال علي: وأخبرت عن وكيع أنه احتج، فقال: إن عدة من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يمت، فأحب الله أن يريهم آية الموت، منهم عمر بن الخطاب.
قال قتيبة: حدث وكيع بهذا الحديث في مكة سنة حج فيها الرشيد فقدموه إليه، فدعا الرشيد سفيان بن عيينة وعبد المجيد ابن عبد العزيز بن أبي رواد.
فأما عبد المجيد فقال: يجب أن يقتل هذا، فإنه لم يرو هذا إلا وفي قلبه غش للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فسأل الرشيد سفيان بن عيينة، فقال: لا يجب عليه القتل، رجل سمع حديثاً؛ فرواه، لا يجب عليه القتل. المدينة أرض شديدة الحر، توفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الاثنين فترك(26/300)
إلى ليلة الأربعاء، لأن القوم كانوا في صلاح أمر أمة محمد، واختلفت قريش والأنصار، فمن ذلك تغير.
قال قتيبة: فكان وكيع إذا ذكر له فعل عبد المجيد، قال: ذلك رجل جاهل، سمع حديثاً لم يعرف وجهه، فتكلم بما تكلم.
وفي حديث آخر بمعناه: أنه لما حدث بهذا رفع أمره إلى العثماني، ودخل إليه سفيان، فكلمه فيه، فأبى العثماني إلا قتله. فقال له سفيان: إني لك ناصح، إن هذا من أهل العلم، وله عشيرة، وإن أقدمت عليه أقل ما يكون أن تقوم عليك عشيرته وولده بباب أمير المؤمنين، فيشخص لمناظرتهم. فعمل فيه كلام سفيان؛ وأطلقه.
قال الحارث بن صديق: فدخلت على العثماني، فقلت: الحمد لله الذي لم تقتل بهذا الرجل، وسلمك الله.
فقال: يا حارث ما ندمت على شيء ندامتي على.
خطر ببالي هذه الليلة حديث جابر بن عبد الله حولت أبي والشهداء بعد أربعين سنة، فوجدناهم رطاباً ينثنون، لم يتغير منهم شيء.
قال سعيد بن منصور: كنا بالمدينة، فكتب أهل مكة إلى أهل المدينة بالذي كان من وكيع وابن عيينة والعثماني. وقالوا: إذا قدم المدينة فلا تتكلوا على الوالي، وأرجموه بالحجارة حتى تقتلوه. فعزموا على ذلك. فقدم بريد على وكيع ألا يأتي المدينة، ويمضي من طريق الربذة. وكان جاوز مفرق الطريقين إلى المدينة، فلما أتاه البريد رجع إلى الربذة، ومضى إلى الكوفة.(26/301)
قال مليح بن وكيع: لما نزل بأبي الموت أخرج إلي يديه، فقال: يا بني ترى يدي ما ضربت بهما شيئاً قط.
قال مليح: وحدثني داود بن يحيى بن يمان قال: رأيت رسول الله صلى عليه وسلم في النوم، فقلت: يا رسول الله، من الأبدال؟ قال: الذين لا يضربون بأيديهم شيئاً، وإن وكيع بن الجراح منهم.
قال علي بن عثام: مرض وكيع: فدخلنا عليه نعوده، فقال: إن سفيان الثوري أتاني، فبشرني بجواره، فإني مبادر إليه.
توفي وكيع سنة ثمان وتسعين ومئة، وقيل: سنة ست وتسعين ومئة مصدره من الحج بفيد، وقيل: سنة سبع وتسعين ومئة، وهو ابن ست وستين.
قال سلمة بن عفار: رأيت وكيعاً في المنام، فقلت: ما صنع بك ربك؟ قال: الجنة، قلت: بأي شيء يا أبا سفيان؟ قال: بالعلم.
الوليد بن أحمد بن محمد بن الوليد
أبو العباس الزوزني الواعظ حدث عن عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بسنده إلى أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أراد أن يدخل بيتاً قمنا له.
وحدث عن عبد الرحمن بن أبي حاتم بسنده إلى أم سلمة: أنها سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال: نعم، إذا خمر الدرع القدمين.(26/302)
توفي الوليد سنة ست وسبعين وثلاث مئة. وقيل: سنة خمس وسبعين.
الوليد بن بكر بن مخلد بن أبي زياد
أبو العباس الأندلسي الغمري من أهل سرقسطة.
حدث عن أبي الحسن علي بن أحمد بن زكريا بن الخصيب بسنده إلى ثوبان، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من عاد مريضاً لم يزل في خرفة الجنة، قيل: وما خرفة الجنة؟ قال: جناها والغمري: بالغين المعجمة. توفي الوليد بالدينور سنة اثنتين وتسعين وثلاث مئة.
الوليد بن جميل بن قيس
أبو الحجاج القرشي، وقيل: الكندي، وقيل: الكناني حدث عن القاسم عن أبي أمامة قال: ذكر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلان، أحدهما عالم والآخر عابد، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله وملائكته وأهل أرضيه يصلون على معلم الناس الخير.
وفي حديث آخر: إن أهل السماء والأرض حتى الحوت في البحر يستغفرون لطالب العلم.(26/303)
وبه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أفضل الصدقات ظل فسطاط في سبيل الله أن منحة خادم في سبيل الله، أو طروقة فحل في سبيل الله ".
وبه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة ".
وبه: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن صلاتين وعن صيامين وعن نكاحين وعن لباسين وعن بيعتين، وفسر ذلك.
الوليد بن الحارث السيكسكي
حدث عن منبه بن عثمان بسنده إلى أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله وتكفير للسيئات ومنهاة للإثم ومطردة للأذى عن الجسد.
ومن هذه الترجمة وترجمة وكيع بن الجراح قال العباس بن محمد: سمعت يحيى بن معين يقول: سمعت وكيعاً يقول كثيراً: وأي يوم لنا من الموت؟! قال يحيى: ورأيت وكيعاً أخذ في كتاب الزهد يقرؤه، فلما بلغ حديثاً منه ترك الكتاب، ثم قام فلم يحدث.
فلما كان الغد، وأخذ فيه، بلغ ذلك الحديث قام أيضاً ولم يحدث، حتى صنع ذلك ثلاثة أيام.(26/304)
قلت ليحيى: وأي حديث هو؟ قال: حديث مجاهد عن عبد الله بن عمر قال: أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببعض جسدي، فقال: كن كأنك غريب في الدنيا أو عابر سبيل، واعدد نفسك من أهل القبور.
قال مجاهد: قال لي عبد الله بن عمر:
يا مجاهد، إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، خذ من صحتك قبل سقمك ومن حياتك قبل موتك، فإنك يا عبد الله لا تدري ما اسمك غداً.
الوليد بن حماد بن جابر
أبو العباس الرملي الزيات حدث عن عبد الرحمن الحلبي بسنده إلى أنس بن مالك قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا أنس، خذ الإداوة فاستعذب لنا من ماء العقيق، قال: فأخذت الإداوة، ثم استعذبت له الماء، فلحقته عند مسجد بني سالم ومعه علي، فسمعته يقول لعلي: يا علي، ما من أهل بيت كانوا في حصرة إلا سيتبعهم بعد ذلك عزة، يا علي، كل نعيم يزول إلا نعيم الجنة، وكل هم قد انقطع إلا هم أهل النار، يا علي، عليك بالصدق وإن ضرك في العاجل كان فرجاً لك في الآجل.
قال: إذ نظر إلى أبي بكر وعمر يأتيان من قبل قباء، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سابقان، سابقان بالخير، حبهما إيمان، وبغضهما نفاق، أحبهما يا علي، قال: نعم، يا رسول الله، إني أحبهما، وقد والله ازددت لهما حباً، قال: أجل، فأحبهما، فإن حبهما إيمان، وبغضهما نفاق.
وحدث عن سليمان بن عبد الرحمن بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " اللهم توفني إليك فقيراً، ولا تتوفني غنياً، واحشرني في زمرة المساكين يوم(26/305)
القيامة؛ فإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة ".
وذكر في هذه الترجمة حديثاً رواه أبو محمد عبد الله بن الفضل بن عاصم بن عمر بن قتادة عن أبيه عن جده إلى قتادة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنزل الله جبريل في أحسن ما كان يأتيني في صورة، فقال: إن الله يقرئك السلام يا محمد، ويقول لك: إني أوحيت إلى الدنيا أن تمرري وتكدري وتضيعي وتشددي على أوليائي كي يحبوا لقائي، فإني خلقتها سجناً لأوليائي، وجنة لأعدائي ".
الوليد بن حنيفة
أبو خزانة التميمي من بني ربيعة بن حنظلة.
شاعر معروف من بادية البصرة.
قال لقيط: قيل لأبي خزانة: لو أتيت يزيد بن معاوية لفرض لك وشرفك، وألحقك بعلية قومك، فلست دونهم.
وكان أبو حزانة يومئذ غلاماً حدثاً، وكان معاوية حياً، ويزيد يومئذ أمير. فلما أكثر قومه عليه في ذلك، وفي قولهم: إنك تشرف بمصيرك إليه، قال: " من الطويل "
يشرفني سيفي وقلب مجانب ... لكل لئيم باخل ومعلج(26/306)
وكري على الأبطال طرفاً كأنه ... ظليم وضربي فوق رأس المدجج
الأبيات.
فلما أكثر قومه عليه، وعنفوه في تأخره أتى يزيد بن معاوية، فأقام ببابه شهراً، فلم يصل إليه، فرجع، وقال: والله لا يراني ما حملت عيني الماء إلا أسيراً أو قتيلاً، وأنشأ يقول: " من الطويل "
فوالله لا آتي يزيد ولو حوت ... أنامله ما بين شرق إلى غرب
لأن يزيداً غير الله ما به ... جموح إلى السوء مصر على الذنب
فقل لبني حرب تقوا الله وحده ... ولا تسعدوه في البطالة واللعب
ولا تأمنوا التغيير إن دام فعله ... ولم ينهه عن ذاك شيخ بني حرب
أيشربها صرفاً إذا الليل جنة ... معتقة كالمسك تختال في القلب
ويلحى عليها شاربيها وقلبه ... يهيم بها إن غاب يوماً عن الشرب
وأبو حزانة بالنون: هو الوليد بن حنيفة.
كان لأبي حزانة جارية، يقال لها بشاشة، وكان بها معجباً، فاضطر إلى بيعها؛ فاشتراها منه عمر بن عبيد الله بن معمر بمال كثير، فلما دفع المال إليه، وقبضها ذهبت لتدخل، فتعلق بها أبو حزانة، وأنشأ يقول: " من الطويل "
تذكر من بشاشة اليوم حاجة ... أتت كمداً من حاجة المتذكر
ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري
أبوء بحزن من فراقك موجع ... أناجي به قلباً طويل التفكر
عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فقال ابن معمر: فقد شئنا، هي لك وثمنها، خذ بيدها.
لما مات طلحة بن عبد الله طلحة الطلحات وهو على سجستان ولى(26/307)
عبد الملك بن مروان مكانه رجلاً من قريش دميماً قصيراً، وكان طلحة جميلاً جسيماً أبيض، فقال أبو حزانة التميمي: " من الرجز "
قد علم الجند غداة استعبروا ... والقبر بين الطيبين يحفر
أن لن يروا مثلك حتى يحشروا ... هيهات هيهات الجناب الأخضر
والنائل الغمر الذي لا ينزر ... يا طلح يا ليتك عنا تخبر
أنا أتانا خزز مؤزر ... شبرين للشابر حين يشبر
أنكره سريرنا والمنبر ... وقصرنا والمسجد المطهر
وخلف يا طلح منك أعور
قال أبو حزانة ليزيد بن المهلب: كيف أصبحت، أصلح الله الأمير؟ قال: كما تحب يا أبا حزانة، قال: لو كنت كذلك كنت قائماً مثلي، وكنت أنا قاعداً في مقعدك، وكان قميص ابني المرقوع على ابنك، والتومتان اللتان في أذن ابنك على ابني.
قال يزيد: فالحمد لله الذي جعلك كذا وجعلني كذا.
فقال: إلا أنني في ضيق أنتظر سعة، وأنت في سعة تنتظر ضيقاً.
قدم على أبي حزانة ابن عمر الأعرابي، فدعا بغدائه، فقام الأعرابي للخلاء، فصعد سطحاً، فرأى كوة في وسط السطح، فظن أنها مخرج، فجلس، فقضى حاجته على مائدة القوم.
فأمر بها أبو حزانة فرفعت، ونزل الأعرابي، فقال: أين غداؤكم؟ قال له أبو حزانة: أفسده علينا عشاؤك.(26/308)
الوليد بن سريع المخزومي الكوفي
مولى عمرو بن حريث وفد على سليمان بن عبد الملك.
حدث عن عمرو بن حريث قال: صليت خلف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفجر، فسمعته يقرأ: " فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس " قال: وكان لا يحني رجل منا ظهره حتى يستتم ساجداً.
قال الوليد بن سريع: بعثني الجراح بن عبد الله، وكان خليفة يزيد بن المهلب على العراق، فبعثني إلى سليمان بن عبد الملك.
وكان سليمان يسأل عن الأخبار والأمطار، وكنت لا أرتق بين كلمتين، وكانت الرسل إذ ذاك إنما بريدها الإبل، وكان الطريق على السماوة سماوة كلب.
فمررت على أعرابي مشتمل بكسائه، فقلت له: هل لك في درهمين؟ قال: فكيف لي بهما؟ فناولته إياهما، وقلت: كيف أقول إذا سئلت عن المطر؟ قال: أي مطر؟ قلت: مطرنا هذا.
قال: تقول: أصابنا أحسن مطر، عقد منه الثرى، واستأصل العود، وفاضت منه الغدر، على أني لم أر في ذلك وادياً دارئاً.
قال: قلت: أملها علي، فكتبتها، وحفظتها(26/309)
فلما أتيت باب سليمان أذن لي، وكان يؤذن لرسول صاحب العراق قبل الناس.
فلما دخلت استبطأت أن يسألني عن المطر حتى سألني، فقلت له الكلام.
فقال: أعد، فأعدت، فقال: إنه ليخيل إلى أمير المؤمنين أنك لست بأبي عذر هذا الكلام.
قلت: أجل، والله، يا أمير المؤمنين، ما أنا بأبي عذره، ولكني كنت لا أرتق بين كلمتين، وبلغني أن أمير المؤمنين يسأل عن الأخبار والأمطار. وحدثته حديث الكلبي.
فقال: قاتله الله، وقعت على ابن بجدتها، وفضلني في الجائزة والكسوة على الرسل.
اختصم الوليد بن سريع وأخته كلثم إلى عبد الملك بن عمير قاضي الكوفة، فتوجه للقضاء على الوليد، فحكم عليه عبد الملك، فقال هذيل: " من الطويل "
أتاه وليد بالشهود يقودهم ... على ما أدعى من صامت المال والخول
يسوق إليه كلثماً وكلامها ... شفاء من الداء المخامر والخبل
فأدلى وليد عند ذاك بحجة ... وكان وليد ذا كراء وذا جدل
وكان لها دل وعين كحيلة ... فأدلت بحسن الدل منها وبالكحل
فأفتنت القطي حتى قضى لها ... بغير قضاء الله في الحشر والطول
إذا ذات دل كلمته لحاجة ... فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل(26/310)
ومر بعينيه ولاك لسانه ... ورا كل شيء ما خلا شخصها جلل
فلو أن من في القصر يعلم علمه ... لما استعمل القبطي فينا على عمل
له حين يقضي للنساء تخاوص ... وكان وما منه التخاوص والحول
فقال عبد الملك: والله إن التنحنح ليأخذني ولياً في الخلاء فإرده.
وقيل لعبد الملك: القبطي: لأن بعض أمهاته كانت قبطية؛ فنسب إليها وقيل: إنما قيل له القبطي؛ لأنه كان له فرس يدعى القبطي؛ فغلب عليه.
ووقف رجل لعبد الملك بن عمير القبطي، فقال له: أين عبد الملك بن عمير القبطي؟ فقال له: إن كنت تريد عبد الملك بن عمير اللخمي فهو أنا، وإن كنت تريد القبطي فها هو ذا واقف على آريه، يعني الفرس.
الوليد بن سريع المحاربي
روى عن سليمان بن حبيب بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " العجماء جرحها جبار، والمعدن جبار والبئر جبار، وفي الركاز الخمس " وإن ناقة لآل البراء بن عازب أفسدت على قوم حوائطهم، فتقاضوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أهل الحوائط حفظ حوائطهم بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظ مواشيهم بالليل.(26/311)
الوليد بن سليمان بن أبي السائب
أبو العباس القرشي مولاهم حدث عن علي بن يزيد بسنده إلى أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ستكون فتن، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً إلا من أحياه الله بالعلم ".
وحدث عن ربيعة بن يزيد بسنده إلى عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم وانتجى عثمان، فقال: " إن الله مقمصك بعدي قميصاً، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني ".
وحدث عن أبي الأشعث الصنعاني قال: سمعت عبد الله بن عمرو يرويه، قال هشام: وجده يرويه قال: من قرض بيت شعر بعد العشاء لم تقبل له صلاة حتى يصبح.
وروى في هذه الترجمة حديثاً عن ابن أبي السائب، يعني عبد العزيز عن أبيه قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فقلت: يا رسول الله، أبايعك على أن أدخل الجنة؟ فقال: نعم، فمد يده، فبايعته، فما رأيت بناناً قط أشد بياضاً ولا ألين من كف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وحدث عبد العزيز بن الوليد قال: نهاني أبي ألا أجلس الخادم معي على المائدة، وكان إذا قامت في حاجة أمسك يده، ولا يأكل حتى تجيء الخادم.
الوليد بن سليمان بن عبد الصمد بن ثابت
أبو محمد الطائي الحمصي حدث عن أبي بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث بسنده إلى عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبل الهدية ويثيب عليها.(26/312)
الوليد بن شجاع بن الوليد بن قيس
أبو همام بن أبي بدر بن أبي همام السكوني البغدادي حدث عن أبيه بسنده إلى جابر بن سمرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إني فرطكم على الحوض وإن بعد ما بين طرفيه كما بين صنعاء وأيلة، كأن الأباريق فيه النجوم ".
وحدث عن الوليد بن مسلم بسنده إلى أبي هريرة قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: متى وجبت لك النبوة؟ قال: " بين خلق آدم ونفخ الروح فيه ".
وحدث عن عبد الله بن وهب بسنده إلى عبد الله بن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرض فيما سقت السماء والأنهار والعيون العشر، وفيما سقي بالنواضح نصف العشر.
زاد في رواية: أو كان عثرياً العشر.
توفي الوليد بن شجاع سنة ثلاث وأربعين ومئتين. وقيل: سنة اثنتين وأربعين.
قال أبو يحيى مستملي أبي همام: رأيت أبا همام في المنام على رأسه قناديل معلقة، فقلت: يا أبا هما، بماذا نلت هذه القناديل؟ قال: هذا بحديث الحوض، وهذا بحديث الشفاعة، وهذا بحديث كذا وهذا بحديث كذا.(26/313)
الوليد بن صالح الدمشقي
حدث عن الوليد بن الوليد بسنده إلى عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما من مولود إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من سورة التغابن ".
الوليد بن صبح
قال: صليت مع عمر بن عبد العزيز صلاة الصبح بدير سمعان، فلما سلم خرجت أتعثر بثوبي من إغلاسها. قال: ما أظن الوليد أدرك عمر بن عبد العزيز.
الوليد بن أبي عائشة الرقي
قدم على عمر بن عبد العزيز متظلماً في مال، فثبتت عنده البينة، وكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بدفعه إليه، فقال له: أقم، وأراجع أمير المؤمنين.
قال: فأقمت أياماً، ثم أتيت خناصرة فإذا جنازة، فقلت: أصلي على هذه الجنازة، وأستريح ليلتي، ثم أغدو.
قال: فجاء عمر، فصلى عليها، ثم قعد، وقعد عن يمينة رجل وعن شماله رجل، وقعدت ناحية ممسك رأس دابتي.
قال: فأمطرت السماء: فجلل صاحبيه بطيلسانه، ثم نظر إلي فقال: كأن عليك(26/314)
أثر السفر؟ قلت: نعم، قال: وممن أنت؟ قلت: من الكوفة، كتب لي أمير المؤمنين إلى عبد الحميد في مظلمة. قال: فعرفته فقمت إليه، فقال لي: أنى به؟ وقال لي: أقم حتى أراجع أمير المؤمنين، قال: وفعل؟ قلت: نعم.
قال: ادعوا لي كاتباً، فجاء، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عبد الحميد، أما بعد: فإن كنت غررتني بكسائك المرفوع وعمامتك الحرقانية ففعل الله لك وفعل، إني أكتب إليك في الشيء، فتراجعني فيه، حتى لو كتبت إليك في شاة لكتبت إلي: أعفراء هي أو سوداء؟ كأنك قد أمنت المنايا بيني وبينك، فإذا أتاك كتابي هذا فادفع إلى الرجل ماله، فإن بدا لك أن تراجعني فراجعني.
فلولا أني قلت: أستريح، وأريح دابتي لرجعت لحاجتي، ولم أدخل.
الوليد بن العباس
أظنه دمشقياً.
روى عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بني لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة.
الوليد بن عبد الرحمن بن هانئ وهو أبو مالك
أبو العباس الهمداني أخو يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك قاضي عمر بن عبد العزيز على نواحي دمشق.(26/315)
حدث الوليد أن أبا إدريس الخولاني حدثهم أن النواس بن سمعان حدثهم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما من قلب رجل إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن يقيمه إن شاء ويرفعه إن شاء، والميزان بيد الرحمن، يرفع أقواماً، ويضع آخرين إلى يوم القيامة.
وحدث عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يجير على المسلمين بعضهم.
وحدث الوليد عن أبي عبيد الله عن أبي الدرداء قال: لا وتر وراء عمود والإمام في الصلاة.
توفي الوليد سنة خمس وعشرين، أو ست وعشرين، أو سبع وعشرين ومئة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
الوليد بن عبد الرحمن الجرشي
حدث عن جبير بن نفير الحضرمي عن أبي ذر قال: صمنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رمضان فلم يقم بنا حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا نحواً من ثلث الليل، فلما كانت الليلة السادسة لم يقم بنا، ثم قام بنا ليلة خمس وعشرين حتى ذهب نحو من شطر الليل، فقلت: يا رسول الله، لو نفلتنا قيام بقية ليلتنا هذه، فقال: إنه من صلى مع الإمام حتى ينصرف حسبت له بقية قيام ليلته.
قال: فلما بقي أربع لم يقم بنا، فلما بقي ثلاث من الشهر أرسل إلى نسائه وأهله، فقام بنا حتى حسبنا أن يفوتنا الفلاح، قلت: وما الفلاح.؟ قال السحور، قال: ثم لم يقم بنا بقية الشهر.
والجرشي: بضم الجيم، وفتح الراء، وكسر الشين المعجمة.
كلم رجل الوليد بن عبد الرحمن في حاجة وهو على الغوطة من قبل هشام بن عبد الملك، فقال: قد حلفت على مثل هذه الحاجة.(26/316)
فقال له الرجل: إن لم تكن حلفت بيمين قط إلا بررتها؛ فما أحب أن أكون أول من أحنثك، وإن كنت ربما حلفت باليمين، فرأيت غيرها خيراً منها فكفرتها، فلست أحب أن أكون أهون إخوانك عليها.
فقال: سحرتني، وقضى حاجته.
الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم
أبو العباس الأموي بويع له بالخلافة بعد أبيه بعهد منه سنة ست وثمانين، ومولده سنة خمس وأربعين، وقيل: سنة خمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين قال الزهري: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر أن يقطع يد رجل ضرب آخر بالسيف، قال: فقطع عمر لتلك، وكانت من ذنوبه التي كان يستغفر الله منها.
وأم الوليد ولادة بنت العباس بن جزي بن الحارث بن زهير العبسية.
كانت أم الوليد عبسية، وأم مصعب بن الزبير كلبية، فقال رجل من عبس: " من المتقارب "
فليت لنا مصعباً بالوليد ... وعبد العزيز بيحي بديلاً
أنحن قعدنا بأبنائنا ... أم القوم أنجب منا فحولاً(26/317)
وكان الوليد أكبر أولاد عبد الملك، وكان أبوه وأمه يترفانه، فشب بلا أدب، وكان ذميماً، وإذا مشى توذف يعني بتختر، وكان شائل الأنف فقال فيه: " من المتقارب "
فقدت الوليد وأنفاً له ... كنثل الفصيل أبى أن يبولا
فلما ولي الخلافة دخل عليه أعرابي، فمت بصهر بينه وبين بعض قرابته، فقال: من حتنك؟ فوجم الأعرابي وقال: بعض هذه الأطباء.
فقال سليمان: إنما يريد أمير المؤمنين: من ختنك؟ فقال الأعرابي: نعم، فلان.
وكان الوليد طويلاً أسمر جميلاً، فيه فطس، في وجهه أثر جدري خفي، بمقدم لحيته شيب ليس في لحيته ورأسه غيره.
قال روح بن زنباع: دخلت على عبد الملك بن مروان وهو مهموم؛ فقلت: ما هذه الكآبة التي بأمير المؤمنين - لا يسوءه الله ولا يخزيه -؟ قال: فكرت فيمن أوليه أمر العرب؛ فلم أجد، قال: قلت: فأين أنت عن الوليد؟ قال: إنه لا يحسن النحو؛ فقال لي: رح إلي العشية، فإني سأظهر كآبة، فسلني: مم ذاك؟ وخلني والوليد.
قال: فرحت إليه والوليد عنده، وقد أظهر كآبة، فقلت: ما هذه الكآبة التي بأمير المؤمنين، لا يسوءه الله، ولا يخزيه؟ قال: فكرت فيمن أوليه أمر العرب: فلم أجده.
قلت: فأين أنت عن ريحانة قريش وسيدها الوليد؟ قال: يا روح، إنه لا يلي أمر العرب إلا من تكلم بكلامهم.(26/318)
فقام الوليد من ساعته، وجمع أصحاب النحو، ودخل إلى بيت وهم معه، وطين عليه وعليهم الباب، وأقاموا ستة أشهر، ثم خرج منه، وهو يوم خرج أجهل بالنحو منه يوم دخل، فقال عبد الملك: أما إنه قد أعذر.
قال العتبي: لما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة جمع ولده، وفيهم مسلمة، وكان سيدهم، فقال: أوصيكم بتقوى الله، فإنها عصمة باقية، وجنة واقية، وهي أحصن كهف وأزين خلية، ليتعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير منكم حق الكبير، مع سلامة الصدور والأخذ بجميل الأمور، وإياكم والفرقة والخلاف، فبها هلك الأولون، وذل ذوو العز المعظمون، انظروا مسلمة، فاصدروا عن رأيه؛ فإنه بابكم الذي تفترقون، ومجنكم الذي به تستجنون، وأكرموا الحجاج؛ فإنه وطأ لكم المنابر، وأثبت لكم الملك، وكونوا بني أم بررة، وإلا دبت بينكم العقارب، كونوا في الحرب أحراراً وللمعروف مناراً، واحلولوا في مرارة، ولينوا في شدة، وضعوا الذخائر عند ذي الأحساب والألباب، فإنه أصون لأحسابهم، وأشكر لما يسدى إليهم.
ثم أقبل على الوليد ابنه، فقال: لا ألفينك إذا مت تجلس تعصر عينيك، وتخن خنين الأمة - الخنين: البكاء - ولكن شمر وأتزر، البس جلد نمر، ودلني في حفرتي، وخلني وشأني، وعليك وشأنك، ثم ادع الناس إلى البيعة، فمن قال هكذا فقل بالسيف هكذا.
ثم أرسل إلى عبد الله بن يزيد بن معاوية وخالد بن أسيد، فقال: هل تدريان لم بعثت إليكما؟ قالا: نعم، لترينا أثر عافية الله إياك، قال: لا، ولكن قد حضر من الأمر ما تريان، فهل في أنفسكما من بيعة الوليد شيء؟ فقالا: لا، والله ما نرى أحداً أحق بها منه بعدك يا أمير المؤمنين.
قال: أولى لكما، أما والله لو غير ذلك قلتما لضربت الذي فيه أعينكما.(26/319)
ثم رفع فراشه، فإذا السيف مشهور، ولم يزل بين مقالتين حتى فاظ، مقالته الأولى: " من الوافر "
فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس من عار
ومقالته الثانية: الحمد لله الذي لا يبالي من أحد من خلقه، وترك صغيراً أو كبيراً.
حتى مات؛ فسجاه الوليد، وكان هشام أصغر ولده، فقال: " من الطويل "
وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
فلطمه الوليد، وقال: اسكت يا بن الأشجعية، فإنك أحول أكشف، تنطق بلسان شيطان، ألا قلت: " من الطويل "
إذا مقرم منا ذرا حد نابه ... تخمط منا ناب آخر مقرم
قال مسلمة: إياكم والضجاج، فإنكم إن صلحتم صلح الناس، وإن فسدتم كان الفساد أسرع، ثم قال: " من الطويل "
لقد أفسد الموت الحياة وقد أتى ... على شخصه يوم علي عصيب(26/320)
فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إلي فقد عادت لهن ذنوب
أتى بعد حلو العيش حتى أمره ... نكوب على آثارهن نكوب
فقال سليمان: مات والله أمير المؤمنين، وصار في منزلة هو فيها والذليل الضعيف سواء.
ثم صعد الوليد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: إنا لله، وإنا إليه راجعون، يا لها مصيبة، ما أعظمها وأقطعها وأخصها وأعمها وأوجعها! موت أمير المؤمنين، ويا لها نعمة، ما أعظمها وأجسمها وأوجب للشكر لله علي فيها خلافته التي سرنا بها.
فكان أول من عزى نفسه وهنأها. ثم قال: انهضوا فبايعوا على بركة الله، فلما بايعه الناس جلس مجلس عبد الملك، وجمع أهل بيتهم قال: " من الكامل "
انفوا الضغائن والتحاسد بينكم ... عند المغيب وفي الحضور الشهد
فصلاح ذات البين طول مقامكم ... إن مد في عمري وإن لم يمدد
فلمثل ريب الدهر إلف بينكم ... بتواصل وتراحم وتودد
وانفوا الضغائن والتخاذل بينكم ... بتكرم وتآزر وتغمد
حتى تلين جلودكم وقلوبكم ... لمسود منكم وغير مسود
إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو حنق وبطش أيد
عزت فلم تكسر وإن هي بددت ... فالوهن والتكسير للمتبدد
قال عبد الله بن عبد الملك بن مروان: قال لي الوليد: كيف أنت والقرآن؟ قلت: يا أمير المؤمنين أختمه في كل جمعة،(26/321)
قلت: فأنت يا أمير المؤمنين؟ قال: وكيف مع ما أنا فيه من الشغل؟ قلت: على ذلك؟ قال: في كل ثلاث.
قال: فذكر ذلك لإبراهيم بن أبي عبلة؛ فقال: كان يختم في شهر رمضان سبع عشرة مرة.
قال إبراهيم بن أبي عبلة: رحم الله الوليد، وأين مثل الوليد؟ افتتح الهند والأندلس، رحم الله الوليد، وأين مثل الوليد؟ هدم كنيسة دمشق، وبنى مسجد دمشق، رحم الله الوليد، وأين مثل الوليد؟ كان يعطيني قصاع الفضة أقسمها على قراء مسجد بيت المقدس.
لما هدم الوليد بن عبد الملك كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن كان حقاً فقد أخطأ أبوك، وإن كان باطلاً فقد خالفته.
فكتب إليه: " وداوود وسليمان إذ يحكما في الحرث " إلى آخرها.
خرج الوليد بن عبد الملك من الباب الأصفر، فوجد رجلاً عند الحائط الشرقي عند المئذنة الشرقية، يأكل وحده، فجاء فوقف على رأسه، فإذا هو يأكل خبزاً وتراباً.
فقال: ما شأنك انفردت من الناس؟ قال: أحببت الوحدة. قال: فما حملك على أكل الخبز بالتراب وحده، أما في بيت المسلمين ما يجري عليك؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين ولكن رأيت القنوع.
قال: فمضى الوليد إلى مجلسه، وأحضره، فقال: إن لك لخبراً، أخبرني به وإلا ضربت ما فيه عيناك.
قال: أنا رجل كنت جمالاً، معي ثلاثة أجمال موقرة طعاماً، حتى أتيت مرج(26/322)
الصفر أريد الكسوة، فدخلت خربة أبول، فرأيت البول ينصب في شق، فاتبعته، فإذا غطاء على حفير، فنزلت، فإذا مال صبيب، فأنخت رواحلي، وفرغت أعكامي. وأوقرتها ذهباً، وغطيت الموضع.
فلما سرت غير يسير وجدت معي مخلاة، فيها طعام، فنزلت الكسوة، ففرغتها، ورجعت إلى الموضع لأملأها من الذهب، فخفي عني الموضع، وأتعبني الطلب.
فرجعت إلى الجمال، فلم أجدها، ولم أجد الطعام، فآليت على نفسي ألا آكل شيئاً إلا الخبز بالتراب.
فقال الوليد: كم لك من العيال؟ فذكر له عياله، قال: نجري عليك من بيت المال، ولا تستعمل في شيء، فإن هذا هو المحروم.
وذكر أن الإبل جاءت إلى بيت مال المسلمين، فأناخت به، فأخذها أمين الوليد، فطرحها في بيت المال.
قال الوليد بن عبد الملك: لولا أن الله عز وجل ذكر آل لوط في القرآن ما ظننت أن أحداً يفعل هذا.
قرأ الوليد بن عبد الملك على المنبر: " يا ليتها كانت القاضية " وضم التاء، وتحت المنبر عمر بن عبد العزيز وسليمان بن عبد الملك، فقال سليمان: وددتها والله لو قال: يا ليتها كانت عليك، وأرحتنا منك.
دخل سليمان بن عبد الملك على الوليد بن عبد الملك وهو يجود بنفسه، فلما رآه(26/323)
قال: أجلسوني، أجلسوني، فقال متمثلاً: " من الكامل "
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
فقال سليمان:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
قال عمر بن عبد العزيز: كنت فيمن نزل الوليد بن عبد الملك في قبره، فنظرت إلى ركبتيه قد جمعتا إلى عنقه، فقال ابنه: عاش والله أبي، عاش والله أبي، فقلت: عوجل أبوك ورب الكعبة، قال: فاتعظ بها عمر بعده.
وفي حديث: فلما تناولناه من السرير، ووقع على أيدينا اضطرب في أكفانه، فقال ابنه: أبي أبي. قال: قلت: ويحك إن أباك ليس بحي، ولكنهم يلقون ما ترى.
وقال عمر بن عبد العزيز ليزيد بن المهلب حين ولاه سليمان العراق: اتق الله يا يزيد، فإنا لما دفنا الوليد ارتكض في أكفانه.
قوله: ركض في لحده: أي ضرب برجله الأرض.
قيل: إن الوليد هلك بدير المران وحمل على أعناق الرجال، فدفن بباب الصغير، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكان سليمان غائباً ببيت المقدس.
وتوفي الوليد سنة ست وتسعين، وكانت خلافته عشر سنين إلا أشهراً.
وقيل: إنه هلك بدمشق، وصلى عليه ابنه عبد العزيز.
وبويع سليمان بن عبد الملك أخوه.(26/324)
الوليد بن عبيد بن يحي بن عبيد بن شملال
البحتري، أبو عبادة، ويكنى أيضاً أبو الحسن الطائي الشاعر من أهل منبج.
شاعر، سائر القول مغلق مفتن في أنواع الشعر، تغني شهرته عن وصفه. مدح جماعة من الخلفاء والأمراء. وقدم دمشق مع المتوكل. وفي نسبه اختلاف.
والبحتري: بتاء مضمومة مثناة.
قال صالح بن الأصبغ التنوخي المنبجي: رأيت البحتري ههنا قبل أن يخرج إلى العراق يمدح أصحاب البصل والباذنجان، ثم كان منه ما كان.
وكانت كنيته أبو الحسن، وكناه المتوكل أبا عبادة.
وقيل: إنه كان يكنى بهما، فأشير عليه في أيام المتوكل أن يقتصر على أبي عبادة؛ فإنها أشهر.
وامتدح البحتري أبا الجيش بن طولون بقصيدته التي يقول فيها: " من البسيط "
وقد رأيت جيوش النصر منزلة ... على جنود أبي الجيش بن طولونا
يوم الثنية إذ يثني بكرته ... في النقع خمسين ألفاً أو يزيدونا
ويوم الثنية: هو اليوم الذي أوقع بابن أبي الساج، فانصرف عنه منهزماً.
اجتمع في دار أبي عبد الله بن المعتز يوماً البحتري وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد في سنة ست وسبعين ومئتين، وقد أنشد البحتري شعراً في معنى قد قال في مثله أبو تمام،(26/325)
فقال له: أنت أشعر في هذا من أبي تمام، فقال: كلا والله، ذاك الرئيس الأستاذ، والله ما أكلت الخبز إلا به، فقال له المبرد: يا أبا الحسن تأبى إلا شرفاً من جميع جواباتك.
قال البحتري: أنشدت أبا تمام يوماً شيئاً من شعري، فأنشد بيت أوس بن حجر: " من الطويل "
إذا مقرم منا ذرا حد نابه ... تخمط منا ناب آخر مقرم
وقال: نعيت إلي نفسي، فقلت: أعيذك بالله، فقال: إن عمري ليس يطول وقد نشأ مثلك بطيئ، أما علمت أن خالد بن صفوان المنقري رأى شبيب بن شبة، وهو من رهطه يتكلم؛ فقال: يا بني نعى نفسي إحسانك في كلامك؛ لأنا أهل بيت، ما نشأ فينا خطيب إلا مات من قبله.
فمات أبو تمام بعد سنة من قوله هذا.
قال البحتري: أنشدت أبا تمام شعراً لي في بعض بني حميد، وصلت به إلى " مال له خطر ". فقال لي: أحسنت، أنت أمير الشعر بعدي. فكان قوله هذا أحب إلي من جميع ما حويته.
أنشد رجل أبا العباس ثعلباً قول البحتري: " من الكامل "
وإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدجى في كتبه
باللفظ يقرب فهمه في بعده ... منا ويبعد نيله في قربه
حكم سحائبها خلال بنانه ... هطالة وقليبها في قلبه
كالروض مختلفاً بحمرة نوره ... وبياض زهرته وخضرة عشبه
وكأنها والسمع معقود بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبه(26/326)
فقال أبو العباس: لو سمع الأوائل هذا الشعر ما فضلوا عليه شعراً.
قال خزيمة بن أحمد الكناني: كنت في شبابي بنهر عيسى، فبت ليلة، فصليت الغداة، وقد سقط الظل على الزهرة، فاستحسنتها، ورأيت شقائق النعمان فيها، ففكرت في نفسي، وقلت: ليت شعري! من النعمان الذي نسبت هذه الريحانة إليه؟ ثم غليني النسيم؛ فنمت؛ فرأيت قائلاً يقول: النعمان ولي من أولياء الله، سأل الله أن يريه لباسه في الجنة؛ فأنبت هذه الريحانة؛ فنسبت إليه، فكان إذا رآها يقوف: رحم الله النعمان، فذكرته للبحتري، فأنشدني: " من البسيط "
إن الشقيق إذا أبصرت حمرته ... فوق السواد على أغصانه الذلل
كأنها دمعة قد غسلت كحلاً ... فاضت بها عبرة في وجنتي خجل
قال أبو العباس بن طومار: كنت أنادم المتوكل، فكنت عنده يوماً، ومعنا البحتري، وكان بين يديه غلام حسن الوجه، يقال له راح.
فقال المتوكل للفتح: إن البحتري يعشق راحاً، فنظر إليه الفتح، وأدمن النظر، فلم يره ينظر إليه.
فقال له الفتح: يا أمير المؤمنين، أرى البحتري في شغل عنه؛ فقال: ذاك دليل عليه.
ثم قال المتوكل: يا راح، خذ رطلاً بلوراً، فاملأه شراباً، وادفعه إليه.
فلما دفعه إليه بهت البحتري ينظر إليه.
فقال المتوكل: يا فتح كيف ترى؟ ثم قال: يا بحتري، قل في راح بيت شعر،(26/327)
ولا تصرح باسمه، فقال: " من الرمل "
حار بالود فتى أم ... سى رهيناً بك مدنف
اسم من أهواه في شع ... ري مقلوب مصحف
قال أحمد بن محمد الأديب البشتي المعروف بالمولى: خرجت إلى بخارى بقصيد؛ مدحت بها الشيخ أبا الفضل البلعمي، فوصلت إليه، وقد أحس بموجدة السلطان، وقد أثر ذلك فيه.
فحضرت الديوان غير مرة لأصادف منه خلوة أو في المنزل، فلم أصادفها، فقرأ يوماً قصة لبعض المتصلين به، فرفع رأسه إلى الكتبة، فقال: من يحفظ منكم قول البحتري في مساعدة الزمان ومعاندته؟ فسكتوا عن آخرهم، فقمت، فقلت: أنا أحفظها، فقال: هاتها، فأنشدته: " من الطويل "
خليلي إن كان الزمان مساعدي ... وآذيتماني لم يضق عنكما صدري
ولكن إذا كان الزمان معاندي ... فإياكما أن تؤذياني مع الدهر
فقال: أحسنت، ارفع حاجتك، فقلت: أعزك الله، معي قريض من نيسابور، فقال: هاته، فأنشدته القصيدة، فوصلني وقضى حوائجي.
ومن شعره: " من المتقارب "
إذا المرء لم يرض ما أمكنه ... ولم يأت من أمره أزينة
وأعجب بالعجب فاقتاده ... وتاه به التيه فاستحسنه
فدعه فقد ساء تدبيره ... سيضحك يوماً ويبكي سنة
مرض البحتري، فوصف الطبيب له مرقدة، فقال بعض إخوانه: عندي أحذق خلق الله بها، ومضى ليوجه بها، فلم يفعل، فكتب إليه البحتري: " من البسيط "(26/328)
وجدت وعدك زوراً في مرقدة ... ذكرت مبتدئاً إحكام طاهيها
فلا شفى الله من يرجو الشفاء بها ... ولا علت كف ملق كفه فيها
فاحبس رسولك عني أن يجيء بها ... فقد حبست رسولي عن تقاضيها
ومن شعره: " من الكامل "
وإذا أتى للمرء من أعوامه ... خمسون وهو عن الصبا لم يجنح
عكفت عليه المخزيات وقلن قد ... أضحكتنا وسررتنا لا تبرح
وإذا رأى إبليس صورة وجهه ... حياً وقال فديت من لا يفلح
قال أبو هفان: كنا في دعوة أنا والبحتري، فلما انصرفنا قلت: لا بد أن أعيب بالبحتري؛ فقلت له: يا أبا عبادة من الذي يقول: " من المتقارب "
تلبس للحرب أثوابها ... وقال أنا الفارس البحتري
فلما رأى الخيل قد أقبلت ... أصيب على سرجه قد خري
أنشد البحتري يوماً المتوكل قصيدة التي أولها: من مجزوء الكامل
عن أي ثغر تبتسم
وفيها يقول:
يا جعفر بن المعتصم ... يا منعم بن المنتقم
وكان إذا أنشد تبختر في إنشاده، وحرك يديه، وأشار برأسه إعجاباً بما يأتي، وقال: أحسنت والله! مالكم لا تستحسنون، وتتعجبون مما تسمعون، وكان ذلك ربما غاظ المتوكل منه، ففعل مثل ذلك وهو ينشد هذه القصيدة، وأبو العنبس الصيمري حاضر، فلما فرغ منها ردد البيت الأول، وكذلك كان يفعل في قصائده، فلما ردد قوله:(26/329)
عن أي ثغر تبتسم ... وبأي طرف تحتكم
غمز المتوكل أبا العنبس أن يولع به، فقال للبحتري: " من مجزوء الكامل "
عن أي سلح ترتطم ... وبأي كف تلتقم
أدخلت رأسك في الرحم
فولى البحتري لما سمع ذلك مغضباً، فجعل أبو العنبس يصيح من خلفه: وعلمت أنك تنهزم فضحك المتوكل، وأمر لأبي العنبس بالصلة التي أعدت للبحتري، فراح البحتري إلى أبي خالد، فقال: أنت عشير وابن عم وصديق، وقد رأيت ما جرى علي. أترى لي أن أخرج إلى منبج بغير إذن، فقد ضاع العلم وهلك.
فقال: لا تفعل، والملوك تمزح بما هو أعظم من هذا.
وتوجه إلى الفتح، فشكا ذلك، فأشار عليه بمثل ذلك، وعوضه، فسكن إلى ذلك، توفي البحتري سنة ثلاث وثمانين ومئتين. وقيل: سنة أربع وثمانين وعمره ثلاث وثمانون سنة، أسكت منها ثلاث سنين.
وقيل: توفي سنة خمس وثمانين، ومولده سنة ست وثمانين.
الوليد بن عبيد الدمشقي
أحد الصالحين.
كتب أبو الفيض ذو النون إلى الوليد بن عبيد الدمشقي كتاباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم
قرأت كتابك، وفهمت ما سألتني فيه عن تعريف حالي، وما عسى أن أخبرك به من(26/330)
حالي؟ وأنا بين خصال موجعات، بكائي منهن، أربعة: حب عيني النظر، ولساني الفضول، وقلبي الرئاسة، وإجابتي لإبليس عدو الله فيما يكره الله مني، وأمرضني مثلها عين لا تبكي الذنوب المبيتة، وقلب لا يخشع عند الموعظة، وعقل رهن فهمه إلى محبة الدنيا، ومعرفة كلما قلبتها وجدني الله عز وجل أجهل، وضناي من مثلها، عدمت خير زاد، وهو التقوى، وعدمت خير خصال الإيمان، وهو الحياء، وبعت أيامي بمحبة الدنيا، وتضييعي قلباً لا أقتني مثله أبداً.
الوليد بن عتبة بن صخر بن حرب
ابن أمية الأموي بن أخي معاوية بن أبي سفيان ولي المدينة لعمه معاوية، ولابن عمه يزيد، وكان جواداً حليماً.
وكان بدمشق لما بايع الضحاك لابن الزبير، وأنكر ذلك؛ فحبسه الضحاك.
قال الوليد بن عتبة: أسر إلي معاوية حديثاً، فأتيت أبي، فقلت: يا أبه، إن أمير المؤمنين أسر إلي أمراً، ولا أراه يطوي عليك، أفلا أخبرك به؟ قال: لا، إنه من كتم سره كان الخيار إليه، ومن أفشاه كان الخيار عليه، فلا تكونن مملوكاً بعد أن كنت مالكاً.
فقال: يا أبه، وإن هذا ليدخل بين الرجل وأبيه؟ قال: لا، ولكن أكره أن تذلل لسانك بأحاديث السر.
قال: فدخلت على معاوية فأخبرته ما جرى بيني وبين أبي. فقال لي: ويحك يا وليد! أعتقك أخي من رق الخطأ.
قال عمرو بن العاص: لله در أمية، ما أجمع قلوبهم، وأوسع حلومهم! لشهدت معاوية دخل عليه الوليد بن عتبة وهو غلام حدث، فقلت: يا أمير المؤمنين لأفرن ابن أخيك عن عقله.(26/331)
قال: تجده بعيد الغور، ساد الفور، ربيط الجأش.
فدنا، فسلم، ثم سكت ملياً، فقلت: لقد أطلت سجن لسانك. قال: إنه غير مأمون الضرر إذا أطلق.
قال: قلت: ما سنك؟ قال: هيهات، يا أبا عبد الله! جللنا عن هذه المحنة.
قال: فضحك إلي معاوية، ثم قال: كلا يا عمرو، إن العود لمن لحائه، وإن الولد من آبائه، وهو نبتة أصل لا تخلف، وسليل فحل لا يقرف.
وعن ابن عباس أنه ذكر معاوية، فقال: لله تلاد ابن هند، ما أكرم حسبه! وأكرم مقدرته، والله ما شتمنا على منبر قط، ولا بالأرض ضناً منه بأحسابنا وحسبه، ثم بعث إلينا ابن أخيه الوليد بن عتبة غلاماً ابن عشرين سنة، فما ترك في السجن غارماً إلا أدى عنه، ولا عانياً إلا فكه. ثم كتب إلينا معاوية أن أرسل إلي الحسين بن علي مع شرطي حتى نبلسه. فبينا أنا عنده أرسل إليه، فأقرأه كتاب معاوية.
فقال: أنت ترسل بي إليه يا بن آكلة الأكباد، فقال: أما والله، إنه لابد لك من ذلك من السمع والطاعة.
فوثب الحسين، فأخذ عمامته، فاجترها إليه، وجعل الوليد يطلقها عنه كوراً كوراً، ويقول: ما أردنا أن نبلغ كل هذا منك يا أبا عبد الله.
فقمت إلى الحسين، فلم أزل به حتى أخرجته، فالتفت إلى الوليد، فقال: جزاك الله خيراً، ما هجنا بأبي عبد الله إلا أسداً.(26/332)
ثم قال ابن عباس: " من الطويل "
معاض عن العوراء لا ينطقونها ... وأهل وراثات الحلوم الأوائل
وجدنا بني حرب وكانوا أعزة ... ذراً في الذرا وكاهلاً في الكواهل
فبلغ ذلك معاوية، فقال: يا أهل الشام، ما كنتم صانعين لو شهدتموه؟ قالوا: لو شهدناه لقتلناه.
فقال معاوية: إن ثم لدماً مصوناً عند بني عبد مناف، الوليد أعلم بأدب أهله.
ولما هلك معاوية ولي المدينة يومئذ الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان رجلاً رفيقاً سرياً كريماً.
كان بين الحسين بن علي وبين الوليد ين عتبة كلام في مال كان بينهما بذي المر والوليد يومئذ أمير المدينة. فقال الحسين بن علي: استطال علي الوليد بن عتبة في حقي بسلطانه، أقسم بالله لينصفني من حقي أو لأحدن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم لأدعون بحلف الفضول.
فقال عبد الله بن الزبير: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لأحدن سيفي، ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه، أو نموت جميعاً.
فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري، فقال مثل ذلك.
فبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التميمي، فقال مثل ذلك.
فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي.
وقيل: إنهما تنازعا في الأرض، فبينا حسين ينازعه إذا تناول عمامة الوليد عن رأسه،(26/333)
فجذبها. فقال مروان بن الحكم - وكان حاضراً - ما رأيت كاليوم جرأة رجل على أميره قال الوليد: ليس ذلك بك، ولكنك حسدتني على حلمي عنه.
فقال حسين عليه السلام: الأرض لك، اشهدوا أنها له.
لما توفي معاوية قدم رسول يزيد على الوليد بن عتبة، وهو على المدينة، يأمره أن يأخذ البيعة على الحسين بن علي وعلى عبد الله بن الزبير. فأرسل إليهما ليلاً حين قدم عليه الرسول، ولم يظهر موت معاوية. فقالا: تصبح، وتجمع الناس، فنكون منهم. فقال له مروان: إن خرجا من عندك لم ترهما.
فنازعه ابن الزبير الكلام، وتغالظا حتى قام كل واحد منهما لصاحبه، فتناصيا، وقام الوليد فحجز بينهما حتى خلص كل واحد من صاحبه. فأخذ عبد الله بن الزبير بيد الحسين، وقال: انطلق بنا.
فقاما، وتمثل ابن الزبير قول الشاعر: " من الكامل "
لا تحسبني يا مسافر شحمة ... تعجلها من جانب القدر جائع
فأقبل مروان على الوليد يلومه، ويقول: لا تراهما أبداً.
فقال له الوليد: إني أعلم ما تريد، ما كنت لأسفك دماءهما، ولا لأقطع أرحامهما.
لما آتي برأس الحسين بن علي إلى عمرو بن سعيد العاص وضع بين يديه، فقال للوليد بن عتبة: قم، فتكلم.
فقام، فقال: إن هذا - عفا الله عنا وعنه - حرنا بين أن يقتلنا ظالماً، أو نقتله معذورين في قتله، فصرنا إلى التي كرهنا مضطرين إليها غير مختارين لها، وتالله لوددنا أنا اشترينا له العافية منه، ولو أمكن ذلك بإغلاء الثمن، وإن عجل قوم بملامنا ليصيرن إلى عذر منا.(26/334)
ولما مات معاوية بن يزيد بن معاوية أرادوا الوليد بن عتبة على البيعة له، فأبى، وهلك تلك الليالي.
وقيل: إن الوليد قدم للصلاة على معاوية بن يزيد، فأصابه الطاعون في صلاته عليه، فلم يرفع إلا وهو ميت.
الوليد بن عتبة أبو العباس الأشجعي
حدث عن الوليد بن مسلم بسنده إلى أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: " وكان تحته كنز لهما " قال: " ذهب وفضة " وحدث عنه بسنده إلى ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه ".
توفي الوليد بن عتبة سنة أربعين ومئتين، ومولده سنة ست وسبعين ومئة.
الوليد بن عقبة بن أبي معيط
واسمه أبان بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس أبو وهب الأموي له صحبة، وهو أخو عثمان لأمه، أمهما أروى بنت كريز بن حبيب بن عبد شمس كان سخياً شاعراً.
واستعمله عثمان على الكوفة، وسكن الجزيرة بعد قتل عثمان، ولم يشهد شيئاً من الحروب التي جرت بين علي ومعاوية.(26/335)
روى الوليد بن عقبة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أناساً من أهل الجنة يتطلعون إلى أناس من أهل النار، فيقولون: بم دخلتم النار؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم، فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل " كان الوليد من رجال قريش وشعرائهم.
وخرج يرتاد منزلاً حتى أتى الرقة، فأعجبته؛ فنزل على البليخ، وقال: منك المحشر، فمات بها. وأخوه عمارة بن عقبة، نزل الكوفة. وأبوهما عقبة بن أبي معيط، قتله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر صبراً.
واستعمله عثمان على الكوفة، فرفعوا عليه أنه شرب الخمر؛ فعزله عثمان، وجلده الحد. وقال فيه الحطيئة يعذره: " من الكامل "
شهد الحطيئة حين يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
خلعوا عنانك إذ جريت ولو ... خلوا عنانك لم تزل تجري
فزادوا فيها من غير قول الحطيئة:
نادى وقد تمت صلاتهم ... أأزيدكم ثملاً وما يدري
ليزيدهم جزءاً ولو فعلوا ... لأتت صلاتهم على العشر
أسلم الوليد يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صدقات بني المصطلق. وولاه(26/336)
عمر بن الخطاب صدقات بني تغلب. وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، ثم عزله عنها، فلم يزل بالمدينة حتى بويع علي، فخرج إلى الرقة، فنزلها، واعتزل علياً ومعاوية. ومات بالرقة، وقبره بعين الرومية على خمسة عشر ميلاً من الرقة، وكانت ضيعة له.
وأم أروى أمه أم حكيم البيضاء عمة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان عقبة أبوه من شياطين قريش، أسره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر، وضرب عنقه. وهو الفاسق الذي ذكره الله عز وجل بقوله: " أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ".
قال الوليد: لما فتحت مكة جعل أناس من أهلها يأتون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأولادهم؛ فيمسح رؤوسهم، ويدعو لهم بالبركة، قال: فلم يمنع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يمسح رأسي ويدعو إلي بالبركة إلا أن أمي خلقتني بخلوق.
وعن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة، فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله، أرجع إلى قومي، فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، فترسل إلي - رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولاً لإبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول، فلم يأته، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله عز(26/337)
وجل ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فدعا بسروات قومه، فقال لهم: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله؛ ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت. فانطلقوا فنأتي رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة.
لما سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق، فرجع، فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي.
فضرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البعث إلى الحارث.
وأقبل الحارث بأصحابه، إذ استقبل البعث وفصل من المدينة لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث.
فلما غشيتهم قال لهم: إلى من يعثتم؟ قالوا: إليك، قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله. فقال: لا، والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة، ولا أتاني.
فلما دخل الحارث على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: منعت الزكاة، وأردت قتل رسولي. قال: لا، والذي بعثك بالحق ما رأيته، ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خشيت أن يكون كانت سخطة من الله.
قال: فنزلت الحجرات: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " إلى هذا المكان: " فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم ".(26/338)
وقيل: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى بني المصطلق بعد وقعة المريسيع.
قالوا: حتى إذا كان قريباً منا رجع، قال: فركبنا في أثره، وسقنا طائفة من صدقاتنا، يطلبونه بها وبنفقات يحملونها، فقدم قبلهم، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله أتيت قوماً في جاهليتهم، جدوا للقتال، ومنعوا الصدقة. فلم يغير ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزل عليه: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ".
قال: وأتى المصطلقيون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على إثر الوليد بطائفة من فرائضهم يسوقونها، ما اتبعهم منها، ونفقات يحملونها، فذكروا ذلك له، وأنهم خرجوا يطلبون الوليد بصدقاتهم، فلم يجدوه، فدفعوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان معهم، فقالوا: يا نبي الله، بلغنا فخرج رسولك؛ فسررنا بذلك، وقلنا: نتلقاه، فبلغنا رجعته، فخفنا أن يكون ذلك عن سخطة علينا.
وعرضوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يشتروا منه بقية ما تبقى.
قال: فقبل منهم الفرائض، وقال: ارجعوا بنفقاتكم؛ فإنا لا نبيع شيئاً من الصدقات حتى نقبضه.
وعن علي: أن امرأة الوليد بن عقبة أتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن الوليد يضربها، قال: قولي له: قد أجارني.
قال علي: فلم تلبث إلا يسيراً حتى رجعت، فقالت: ما زادني إلا ضرباً.(26/339)
فأخذ هدبة من ثوبه فدفعها، فقال: قولي له: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أجارني.
فلم تلبث إلا يسيراً حتى رجعت فقالت: ما زادني إلا ضرباً، فرفع يديه وقال: " اللهم عليك الوليد، أثم بي مرتين ".
وفي رواية: " اللهم عليك الوليد مرتين أو ثلاثاً ".
وعن ابن عباس قال: قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط لعلي بن أبي طالب: أنا أحد منك سناناً وأبسط منك لساناً وأملأ للكتيبة منك. فقال له علي: اسكت، فإنما أنت فاسق، فنزلت: " أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ".
قال: يعني بالمؤمن علياً، وبالفاسق الوليد بن عقبة.
وقيل: إنها نزلت في أبيه.
ولما ولي الوليد الكوفة بعد سعد، وقدم على سعد، قال له سعد: يا أبا وهب، والله ما أدري، أكست بعدي أم استحمقت أنا بعدك؟ فقال الوليد: ما كسنا بعدك ولا حمقت، ولكن القوم استأمروا عليك بسلطانهم. قال: صدقت: وخرج سعد، وأقام الوليد على الكوفة خمس سنين.
كان لبيد قد جعل على نفسه أن يطعم ما هبت الصبا، فألحت عليه زمن الوليد بن عقبة.
فصعد الوليد المنبر، فقال: أعينوا أخاكم، وبعث إليه بثلاثين جزوراً.(26/340)
وكان لبيد قد ترك الشعر في الإسلام، فقال لابنته: أجيبي الأمير، فقالت: من الوافر
إذا هبت رياح أبي عقيل ... ذكرنا عند هبتها الوليدا
أبا وهب جزاك الله خيراً ... نحرناها وأطعمنا الثريدا
طويل الباع أبيض عبشمي ... أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركباً ... عليها من بني حام قعودا
فعد إن الكريم له معاد ... وظني يا بن أروى أن تعودا
فقال لبيد: أحسنت لولا أنك سألت، قالت: إن الملوك لا يستحى من مسألتهم، قال: وأنت في هذا أشعر.
قال علقمة: كنا في جيش بالروم، ومعنا حذيفة، وعلينا الوليد، فشرب الوليد الخمر؛ فأردنا أن نحده. فقال حذيفة: أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم؛ فيطمعوا فيكم؟ فبلغه، فقال: لأشربن وإن كانت محرمة، ولأشربن على رغم أنف من رغم.
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " سيلي أموركم من بعدي رجال، يطعنون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها "، فقلت: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركتهم؟ فقال: " سألني ابن أم عبد "، ثم رفع يديه حتى إني لأرى بياض إبطيه، فقال: " لا طاعة لمن عصى الله " ثلاث مرار حسبت.
فلما كان الوليد بن عقبة بالكوفة أخر الصلاة يوماً، فقام ابن مسعود، فأقام الصلاة، وصلى بالناس.(26/341)
فأرسل إليه الوليد: ما حملك على ما صنعت اليوم؟ أجاءك عهد من أمير المؤمنين؟ فسمع وطاعة، أم ابتدعت؟ فقال: ما جاءني من صاحبك أمر، ولم أبتدع، ولكن أبى الله ورسوله أن ننتظرك بصلاتنا، وأنت في حاجتك ".
قال حضين بن المنذر: صلى الوليد بن عقبة بالناس الفجر أربعاً، وهو سكران، ثم انفتل، فالتفت إليهم، فقال: أزيدكم؟ فرفع ذلك إلى عثمان ... الحديث.
وعن زر بن حبيش قال: لما أنكر الناس شرة الوليد بن عقبة فزع الناس إلى عبد الله بن مسعود، فقال لهم عبد الله بن مسعود: اصبروا، فإن جور إمام خمسين عاماً خير من هرج شهر، وذلك أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا بد للناس من إمارة برة أو فاجرة، فأما البرة فتعدل في القسم، وتقسم بينكم فيكم بالسوية، وأما الفاجرة فيبتلي فيها المؤمنين، والإمارة الفاجرة خير من الهرج "، قيل: يا رسول الله وما الهرج؟ قال: القتل والكذب.
كان عمر بن الخطاب استعمل الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة، فنزل في تغلب، وكان أبو زبيدة في الجاهلية والإسلام في بني تغلب حتى أسلم، وكانت بنو تغلب أخواله، فاضطهده أخواله ديناً له، فأخذ له الوليد بحقه، فشكرها له أبو زبيد وانقطع إليه، وغشيه بالمدينة.
فلما ولي الوليد الكوفة أتاه مسلماً ومعظماً على مثل ما كان يأتيه بالجزيرة والمدينة، فنزل دار الضيفان، وتلك آخر قدمة قدمها أبو زبيد على الوليد، وقد كان ينتجعه ويرجع.
وكان نصرانياً، فأسلم في آخر إمارة الوليد، وحسن إسلامه، فاستدخله الوليد، وكان عربياً شاعراً، حتى أقام على الإسلام.
فأتى آت زينب وأبا مورع وجندباً وهم يحفرون له مذ قتل أبناءهم، ويصنعون له العيوب، فقال لهم: هل لكم في الوليد يشارب أبا زبيد، فثاروا في ذلك، فقال(26/342)
أبو زينب وأبو مورع وجندب لأناس من أهل الكوفة: هذا أميركم وأبو زبيد خيرته وهما عاكفان على الخمر.
فقاموا معهم، ومنزل الوليد في الرحبة مع عمارة بن عقبة، ليس عليه باب.
فاقتحموا عليه من المسجد، وبابه إلى المسجد، فلم يفجأ الوليد إلا وهم ... فنحى شيئاً، فأدخله تحت السرير، فأدخل بعضهم يده، فأخرجه لا يؤامره، فإذا طبق، عليه تفاريق عنب، وإنما نحاها استحياء أن يروا طبقه وليس عليه إلا تفاريق.
فقاموا فخرجوا على الناس، وأقبل بعضهم يلوم بعضاً، وسمع الناس بذلك؛ فأقبلوا عليهم يسبونهم ويلعنونهم، ويقولون: أقوام غضب بعضهم لعمله، وبعضهم أرغمهم الكتاب، فدعاهم ذلك إلى التجسس والخبث.
فستر عنهم الوليد ذلك، وطواه عن عثمان، ولم يدخل بين الناس في ذلك شيء، وكره أن يفسد بينهم، وسكت عن ذلك، وصبر.
وفي حديث آخر: أن جندباً ورهطاً معه جاؤوا إلى ابن مسعود، فقالوا: الوليد يعكف على الخمر، وأذاعوا ذلك حتى طرح على ألسن الناس، فقال ابن مسعود: من استتر منا بشيء لم نتبع عورته، ولم نهتك ستره.
فأرسل إلى ابن مسعود: فأتاه، فعاتبه في ذلك، وقال: يرضى من مثلك بأن تجيب أقواماً موتورين؟ على أي شيء أستتر به؟ إنما يقال هذا للملجلج، فتلاحنا، وافترقا على تغاضب، ولم يكن بينهما أكثر من ذلك.
قال محمد وطلحة: أتي الوليد بساحر، فأرسل إلى ابن مسعود يسأله عن حده، قال: وما يدريك أنه ساحر؟ قال: زعم هؤلاء النفر أنه ساحر، فقالوا: أساحر أنت؟ قال:(26/343)
نعم، قالوا: وتدري ما السحر؟ قال: نعم. وثار إلى حمار، فجعل يركبه من قبل ذنبه وينزل من قبل رأسه، ومن قبل رأسه فينزل من قبل ذنبه، ويريهم أنه يخرج من فيه واسته. فقال ابن مسعود: فاقتله. فانطلق الوليد، فنادوا في المسجد أن رجلاً يلعب بالسحر عند الوليد، فأقبلوا، وأقبل جندب، واغتنمها، يقول: أين هو؟ أين هو؟ حتى أريه، فضربه.
وأجمع عبد الله والوليد على حبسه حتى كتب إلى عثمان، فأجابهم عثمان أن: استحلفوه بالله ما علم برأيكم فيه، وأنه لصادق لقوله فيما ظن من تعطيل حده، وعزروه وخلوا سبيله. وتقدم إلى الناس في ألا يعملوا بالظنون، أو يقيموا الحدود دون السلطان، فإنا نقيد المخطئ، ونؤدب المصيب. ففعل ذلك به، وترك، لأنه أصاب حداً.
وغضب لجندب أصحابه؛ فخرجوا إلى المدينة، فاستعفوا من الوليد، فقال لهم عثمان: تعملون بالظنون، وتخطئون في الإسلام، وتخرجون بغير إذن، ارجعوا.
فرجعوا إلى الكوفة، فلم يبق موتور في نفسه إلا آتاهم، فاجتمعوا على رأي فأصدروه، فتغفلوا الوليد، وكان ليس عليه حجاب. فدخل عليه أبو زينب الأزدي وأبو مورع الأسدي، فسلا خاتمه، ثم خرجا إلى عثمان، فشهدا عليه، ومعهما نفر.
فبعث إليه عثمان، فلما قدم أمر به سعيد بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين أنشدك الله، فوالله أنهما لخصمان موتوران، فقال: لا يضرك ذلك، إنما نعمل بما ينتهي إلينا، فمن ظلم فالله ولي انتقامه، ومن ظلم فالله ولي جزائه.
وقيل: إنهم لما غشوا الوليد، وله امرأتان في المخدع، بينهما وبين القوم ستر، إحداهما بنت ذي الخمار، والأخرى بنت أبي عقيل. فنام الوليد، وتفرق القوم وثبت أبو زينب أبو مورع، فتناول أحدهما خاتمه، وخرجا.
فاستيقظ الوليد، وامرأتاه عند رأسه فلم ير خاتمه، فسألهما عنه، فلم(26/344)
يجد عندهما منه علماً، قال: فأي القوم تخلف عنهم؟ قالتا: رجلان لا نعرفهما، ما غشياك إلا منذ قريب، قال: حلياهما. قالتا: على أحدهما خميصة، وعلى الآخر مطرف. صاحب المطرف أبعدهما منك، قال: الطوال؟ قالتا: نعم. وصاحب الخميصة أقربهما إليك، قال: القصير؟ قالتا: نعم، وقد رأيناه يده على يدك، قال: ذاك أبو زينب، والآخر أبو مورع، وقد أرادا داهية، فليت شعري ما يريدان؟ فطلبهما فلم يقدر عليهما وكان وجههما إلى المدينة فقدما على عثمان، ومعهما نفر ممن قد عزل الوليد عن الأعمال، فقالوا له: فقال: من يشهد منكم؟ قالوا: أبو زينب أبو مورع، وكاع الآخرون.
فقال: كيف رأيتماه؟ قالا: كنا من غاشيته، فدخلنا عليه وهو يقيء الخمر. فقال: ما يقيء الخمر إلا شاربها.
وفي حديث آخر قال:
أتشهدان أنكما رأيتماه يشرب؟ فقالا: لا، وخافا، قال: فكيف؟ قالا: اعتصرنا من لحيته وهو يقيء الخمر.
فبعث إليه، فلما دخل على عثمان رآهما، فقال متمثلاً: من البسيط
مهما خشيت على أمر خلوت به ... فلم أخفك على أمثالها جار
فحلف له الوليد، وأخبره خبرهم، فقال: نقيم الحدود ويبوء شاهد الزور بالنار، فاصبر يا أخي.
فأمر سعيد بن العاص، فجلده، فأورث ذلك عداوة بين ولدهما حتى اليوم.
وكان على الوليد يوم أمر به أن يجلد خميصة، فنزعها عنه علي بن أبي طالب.(26/345)
وفي حديث: فكلمه في ذلك علي، فقال له عثمان: دونك ابن عمك فأقم عليه الحد.
قال: قم يا حسن فاجلده، قال: فيم أنت من هذا؟ ول هذا غيرك. قال: بل ضعفت ووهنت. قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده.
فجعل يجلده، ويعد علي حتى بلغ أربعين، فقال: كف أو أمسك أو أرسله. جلد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعين، وأبو بكر أربعين، وكملها عمر ثمانين، وكل سنة.
كان الناس في الوليد فرقتين: العامة معه، والخاصة عليه، فما زال عليهم من ذلك خشوع حتى كانت صفين، فولي معاوية، فجعلوا يقولون: عنته عثمان بالباطل، فقال لهم علي: إنكم وما تعيرون بع عثمان كالطاعن نفسه ليقتل ردفه، وما ذنب عثمان من رجل قد ضربه بقولكم، وعزله؟! وما ذنب عثمان فيما صنع عن أمرنا؟.
وكان الوليد أدخل على الناس خيراً حتى كان يقسم للولائد والعبيد، ولقد تفجع عليه الأحرار والمماليك، كان يسمع الولائد وعليهن الجرار يقلن: من الرجز
يا ويلنا قد عزل الوليد ... وجاءنا مجوعا سعيد
ينقص في الصاع ولا يزيد ... قد جوع الإماء والعبيد
والوليد بن عقبة هو الذي يقول: من الطويل
بني هاشم إنا وما كان بيننا ... كصدع الصفا لا يرأب الدهر شاعبه
بني هاشم كيف التعذر عندنا ... وبر ابن أروى عندكم وحرائبه
بني هاشم أدوا سلاح ابن أختكم ... ولا تهبوه لا تحل مواهبه(26/346)
فإلا تؤدوه إلينا فإنه ... سواء علينا قاتلاه وسالبه
وأخوه عمارة بن عقبة، وله يقول الوليد: من الطويل
وإن يك ظني يا بن أمي صادقاً ... عمارة لا تدرك بذحل ولا وتر
تلاعب أقتال ابن عفان لاهياً ... كأنك لم تسمع بموت أبي عمرو
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
لقي الوليد بن عقبة بجاداً مولى عثمان بن عفان بالمراض صادراً عن المدينة، والوليد قادم، فسأله عن أمر عثمان، فأخبره أنه قد قتل، فقال: من الخفيف
ليت أني هلكت قبل حديث ... سل جسمي وريع منه فؤادي
يوم لاقيت بالمراض بجاداً ... ليت أني هلكت قبل بجاد
قدم معاوية الكوفة، فصعد المنبر، وقال: أين هو وهب؟ فقام إليه الوليد، فقال: أنشدني قولك: من الوافر
ألا أبلغ معاوية بن صخر ... فإنك من أخي ثقة مليم(26/347)
قطعت الدهر كالسدم المعنى ... تهدر في دمشق وما تريم
يمنيك الخلافة كل ركب ... لأنضاء العراق بهم رسوم
فإنك والكتاب إلي علي ... كدابغة وقد حلم الأديم
لك الخيرات فاحملنا عليهم ... فإن الطالب الترة الغشوم
وقومك بالمدينة قد أنيخوا ... فهم صرعى كأنهم هشيم
فلما فرغ من إنشادها قال معاوية: من الطويل
ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
ولما حضر الموت الوليد بن عقبة قال: اللهم إن كان أهل الكوفة صدقوا علي فلا تبارك لي فيما أقدم عليه، واجعل مردي شر مرد، وإن كانوا كذبوا علي فاجعله كفارة لما لا يعلمون من ذنوبي.
مر مسلمة بن عبد الملك بقبر الوليد بن عقبة بالرقة، فقال: قبر من هذا؟ قيل:(26/348)
قبر الوليد بن عقبة، قال: رحم الله أبا وهب، وأثنى عليه، فقيل: قبلا من هذا الآخر؟ قيل: قبر أبي زبيد الطائي الشاعر، قال: وهذا فيرحمه الله. فقيل: إنه كان نصرانياً، قال: إنه كان كريماً.
الوليد بن عمر بن الدرفس الغساني
حدث عن أبيه عن جده في تفسير: " والتين " قال:
والتين: مسجد دمشق، كان بستاناً لهود النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه تين. " والزيتون ": هو مسجد بيت المقدس.
الوليد بن القعقاع بن خليد العبسي
كان سليمان بن عبد الملك ربما نظر المرآة فيقول: أن الملك الشاب، فنزل مرج دابق، فمرض مرضه الذي مات فيه، وفشت الحمى في أهله وأصحابه، فدعا جارية بوضوء، فبينا هي توضئه إذ سقط الكوز من يدها، قال: ما قصتك؟ قالت: محمومة، قال: ففلان؟ قالت: محموم، قال: ففلانة؟ قالت: محمومة. قال: الحمد لله الذي جعل خليفته في أرضه، ليس عنده من يوضئه.
ثم التفت إلى خاله الوليد بن القعقاع العبسي، فقال:
قرب ضوءك يا وليد فإنما ... هذي الحياة تعلة ومتاع
فأجابه الوليد:
فاعمل لنفسك في حياتك صالحاً ... فالدهر فيه فرقة وجماع(26/349)
الوليد بن كامل بن معاذ بن محمد بن أبي أمية
أبو عبيدة البجلي مولاهم الشامي الحمصي وقيل: إنه دمشقي.
حدث عن المهلب بن حجر البهراني بسنده إلى المقداد بن الأسود قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى إلى سترة جعلها على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يضمد إليها.
وفي حديث عنه: ما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى إلى عمود ولا عود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يضمد له ضمداً.
وحدث عن عبد الله بن بسر الحمصي قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً على بعث إلى بئر خم، فعممه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمامة سوداء.. الحديث.
الوليد بن محمد أبو بشر القرشي
الموقري مولى يزيد بن عبد الملك من أهل الموقر: حصن بالبلقاء.
حدث عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله.
وأنزل الله - سبحانه وتعالى - في كتابه، وذكر قوماً استكبروا فقال: " إنهم كانوا(26/350)
إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون " وقال: " إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها "، وهي: لا إله إلا الله محمد رسول الله، استكبر عنها المشركون يوم الحديبية، يوم كاتبهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قضية المدة.
وحدث عن الزهري عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمر بالغلمان، فيسلم عليهم، ويدعو لهم بالبركة.
توفي الوليد بن محمد سنة اثنتين وثمانين ومئة. وقيل: سنة إحدى وثمانين. وكان ضعيفاً.
الوليد بن محمد بن العباس
ابن الوليد بن محمد بن عمر بن الدرفس أبو العباس الغساني حدث عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بسنده إلى عائشة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة.
وحدث عن قديرة بسنده إلى أبي عمرو بن العلاء، قال: إن لكل شيء ذؤابة، وذؤابة الشرف الأدب، وإن لكل شيء عروة، وعروة العز الأدب.
قال أبو عمرو: وكان يقال: شخص بلا أدب كجسد بلا روح.
توفي الوليد بن محمد سنة ست وعشرين وثلاث مئة.(26/351)
الوليد بن مروان بن عبد الله
ابن مروان بن أخي جنادة بن مروان حدث عن جنادة بن مروان بسنده إلى عبد الله بن بسر قال: أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزلنا مع أبي، فقام أبي إلى قطيفة لنا قليلة الخمل، فجعلها بيده، ثم ألقاها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقعد عليها، ثم قال أبي لأمي: هل عندك شيء تطعمينا؟ فقالت: نعم، شيء من حيس، قال: فقربته إليهما، فأكلا، ثم دعا لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم التفت إلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا غلام، فمسح بيده على رأسي، ثم قال: يعيش هذا الغلام قرناً.
فعاش مئة سنة.
الوليد بن مزيد العذؤي البيروتي
حدث عن الأوزاعي بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سيكون بعدي خلفاء يعملون بما يعلمون، ويفعلون ما يؤمرون، وسيكون بعدهم خلفاء يعملون بما لا يعلمون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن أنكر عليهم برئ، ومن أمسك يده سلم، ولكن من رضي وبايع.
وحدث عن سعيد بن عبد العزيز، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عمر قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احثوا في وجوه المداحين التراب.
قال الوليد: سمعت ابن جابر يحدث عن رجل يقال له سعد: أنه أتى ابن منبه، فسأله عن الحسن بن أبي الحسن، وقال له: كيف عقله؟(26/352)
فأخبره، ثم قال ابن منبه: إنا لنتحدث أو نجد في الكتاب أنه ما آتى الله عبداً علماً، فعمل به في سبيل الله، فيسلبه عقله حتى يقبضه إليه.
قال الوليد: قلت لأبي عمرو الأوزاعي: كتبت عنك حديثاً كثيراً، فما أقول فيه؟ قال: ما قرأته عليك وحدك فقل فيه: حدثني، وما قرأته على جماعة أنت فيهم، فقل فيه: حدثنا. وما قرأته علي وحدك فقل فيه: أخبرني. وما قرأ علي جماعة أنت فيهم، فقل فيه: أخبرنا. وما أخبرته لك وحدك، فقل فيه: خبرني. وما أخبرته لجماعة أنت فيهم، فقل فيه: خبرنا.
وعن الوليد بن مزيد قال: من أكل شهوة من حلال قسا قلبه.
وقال: ما ابتلي عبد من شيء أضر عليه من إطلاق اللسان.
توفي الوليد سنة ثلاث ومئتين، وكان ثقة. وقيل: سنة سبع ومئتين.
الوليد بن مسلم
أبو العباس القرشي الفقيه، مولى بني أمية حدث عن الأوزاعي بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: ثم مه؟ قال: ثم رجل في شعب من الشعاب يتقي ربه، ويذر الناس من شره.
وحدث عن خالد بن يزيد بسنده إلى عقبة بن عامر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل " ثم قال: ألا إن القوة الرمي.(26/353)
وحدث عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسمح يسمح لك.
وعن ابن جريج قال: رأيت رجلاً على المهراس يغسل فرجه، والماء يرجع فيه، فذكرت ذلك لعطاء، فقال: توضأ منه، فقلت: وقد رأيت ما رأيت؟ فقال: نعم، إن ابن عباس هو الذي أمر به، وقد علم أنه يتوضأ منه الأحمر والأسود، وأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اسمح يسمح لكم.
توفي الوليد بن مسلم سنة أربع وتسعين ومئة.
وقيل: حج في سنة أربع وتسعين، ثم انصرف، فمات في الطريق، قبل أن يصل دمشق في المحرم.
وقيل: توفي سنة خمس وتسعين ومئة، وكان مولده سنة تسع عشرة ومئة.
كان الوليد من الأحماس، فصار لآل مسلمة بن عبد الملك.
فلما قدم بنو هاشم في دولتهم، فصاروا إلى الشام، قبضوا رقيقهم من الأحماس وغيرهم، فصار الوليد بن مسلم وأهل بيته لصالح بن علي، فوهبهم للفضل بن صالح، فأعتقهم الفضل.
فركب الوليد بن مسلم إلى آل مسلمة، فاشترى نفسه منهم.
قال سعيد بن مسلمة بن عبد الملك: جاءني الوليد، فأقر لي بالرق، فأعتقته.
وروي عن سعيد أنه قال: أنا أعتقت الوليد بن مسلم، كان عبدي.(26/354)
قال يعقوب بن سفيان: سألت هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم، فقال: رحم الله أبا العباس، كان وكان، وجعل يذكر فضله وعلمه، وورعه ومواضعه.
وكان مسلم أبوه من رقيق الإمارة، وتفرقوا على أنهم أحرار.
وكان للوليد أخ جلف متكبر يركب الخيل، ويركب معه غلمان له كثير، وكان صاحب صيد وتنزه، ويخرج إلى الصيد في فوارس ومطابخ.
وحمل الوليد دية فأداه في بيت المال، خرج عن نفسه، إذ اشتبه عليه أمر أبيه، فوقع بينه وبين أخيه في ذلك قطيعة وجفاء، وقال: فضحتنا، وما كان حاجتك إلى ما فعلت؟.
وللوليد سبعون كتاباً، ولما أخذ الوليد في التصنيف أتاه شيخ من شيوخ المسجد، فقال: يا فتى، جد فيما أنت فيه؛ فإني رأيت كأن قناديل مسجد الجامع قد طفئت، فجئت أنت فأسرجتها.
قال الوليد بن مسلم: لا تأخذوا العلم من الصحفيين، ولا تقرؤوا القرآن على الصحفيين إلا ممن سمعه من الرجال، وقرأه على الرجال.
قال الوليد بن مسلم: أكلت مرة فجلاً، فرأيت فيما يرى النائم كأني صرت إلى باب المسجد، فقلت: افتح الباب، فقال: من أنت؟ قلت: أنا الوليد بن مسلم، فقال: ألست أنت آكل الفجل؟ قال: وأبى أن يفتح لي الباب، قال: قلت: افتح لي لا أعود لأكله، قال: ففتح لي، قال الوليد: فما عدت لأكله.
قال أبو زرعة: وكنت معجباً بأكله، إذا رأيته على الخوان لا أصبر، فما أكلته منذ سمعت هذا.(26/355)
الوليد بن معاوية بن مروان بن عبد الملك
ويقال: الوليد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان بن الحكم.
ويقال: الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم. والأول أثبت.
كان أميراً على دمشق في آخر أيام بني أمية حين افتتحها بنو العباس.
وأمه أم ولد بربرية، وهو أصيهب قريش الذي جاء في الملاحم ذكر قتله.
ويقال: إن أمه زينب بنت الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان ختن مروان بن محمد على ابنته.
كان عمر بن يزيد البصري يقول: يقتل أصيهب قريش من دمشق ومعه سبعون صديقاً هزم مروان بالزاب، ومضى حتى مر بدمشق وعليها الوليد بن معاوية بن مروان، وهو ختن لمروان متزوج بابنته أم الوليد.
فمضى، وخلفه بها حتى قدم عبد الله بن علي عليه، فحاصره أياماً، ثم فتحت المدينة، ودخلها عنوة، وقتل الوليد فيمن قتل. وهدم عبد الله بن علي حائط مدينتها.
وكان مدخل عبد الله بن علي دمشق سنة اثنتين وثلاثين ومئة.
قال عبد الأعلى بن مسهر: إن الوليد بن معاوية تحدر من الحائط من ناحية باب الفراديس وهو يقول: اللهم إني أحمدك يا إلهي على خذلانك إياي، فأتى دار ابن عروبة التي عند حمام أيوب، فقالت له عجوز: عندي مخبأ لرجل لا يوصل إليه؛ فقال له صالح بن محمد: نموت جميعاً ونحيا جميعاً.(26/356)
ودخلت الخراسانية، فقال رجل كان معهم: آتيكم بالسلاح؟ قال: نعم، قال: فخرجت، ثم جئت فوجدت الوليد بن معاوية، وصالح بن محمد، وزرعة بن إبراهيم قد قتلوا جميعاً.
ودخل عبد الله دمشق، ودخل الخضراء، فجلس مع ابنة مروان بن محمد على فراشها فاحزألت حتى ألقت نفسها على الجدار، فقال لها: يا بنت مروان، أين ابن الصناجة؟ - يعني زوجها الوليد بن معاوية -. فقالت: الرجال أعلم بالرجال.
فذكر أنهم قتلوا فيها أربعة آلاف.
وقيل: إن الوليد أسر من الخضراء. وقيل: إنه قتل قبل افتتاح دمشق في الفتنة التي وقعت بين أهلها في الحضرية واليمانية في هذه الحضار.
الوليد بن موسى القرشي
حدث عن منبه بن عثمان بسنده إلى أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن مؤمني الجن لهم ثواب، وعليهم عقاب، فسألناه عن ثوابهم وعن مؤمنيهم، فقال: على الأعراف، وليسوا في الجنة مع أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألناه: وما الأعراف؟ قال: حائط الجنة، تجري فيه الأنهار، وتنبت فيه الأشجار والثمار.
وحدث عن الأوزاعي بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشيبة نور، من خلع الشيبة فقد خلع نور الإسلام، فإذا بلغ الرجل أربعين سنة وقاه الله الأدواء الثلاثة: الجنون والجذام والبرص.
وحدث عنه بسنده إلى أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: آجال البهائم كلها من القمل والبراغيث والجراد والخيل والبغال والدواب كلها والبقر وغير ذلك، آجالها في التسبيح، فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها، وليس إلى ملك الموت من ذلك شيء.(26/357)
طعن فيه قوم، وقالوا: أحاديثه كلها مناكير.
الوليد بن النضر
أبو العباس المسعودي الرملي قيل: إنه من أهل دمشق.
حدث عن ميسرة بن معبد بسنده إلى أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اقتلوا الحيات، وعليكم بذي الطفيتين والأبتر: فإنهما يلتمسان البصر ويسقطان الحبل.
الوليد بن نمير بن أوس الأشعري
كان أبوه على قضاء دمشق.
حدث عن أبيه بسنده إلى أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أكرموا الخبز: فإن الله سخر له بركات السماوات والأرض والحديد والبقر وابن آدم.
الوليد بن الوليد بن زيد
أبو العباس العبسي القلانسي من دمشق.
حدث عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن الفضل بن العباس، قال: كنت رديف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم عرفة، فجاء رجل من أهل اليمن يسأله عن بعض الأمر، وخلفه امرأة ضخمة حسناء، قال: فجعلت أنظر نظراً، ففطن بي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،(26/358)
فأهوى بمخصرة، فوكزني بها، وقال: يا بن أخي هذا يوم من حفظ عينيه من النظر، ولسانه أن يتكلم بما لا يحل له غفر له إلى عام قابل من هذا.
وحدث عن ابن ثوبان عن مجاهد عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
ما من عبد صام يوماً في سبيل الله إلا زوج حوراء من الحور العين في خيمة من درة مجوفة، عليها سبعون حلة ليس منها حلة تشبه صاحبتها، على سرير من ياقوته حمراء موشحة بالدر، عليها سبعون ألف فراش، بطانتها من إستبرق، ولها سبعون ألف وصيفة لحاجاتها، وسبعون ألفاً لبعلها، مع كل وصيفة منهن سبعون ألف صحفة من ذهب، ليس منها صفحة إلا وفيها لون من الطعام ما ليس في الأخرى، يجد لذة آخرها كلذة أولها.
كان الوليد يرى القدر، وكان منكر الحديث.
الوليد بن الوليد بن سمرة
أبو عتبة القرشي حدث عن سعيد بن عبد العزيز قال: قال مكحول: لا تقصر الصلاة حتى تكون تمشي ميلاً.
الوليد بن هاشم أبو العباس
حدث عن معروف الخياط قال: خرجت مع واثلة بن الأسقع على حمار له أسود، عليه عمامة سوداء، قد ألقى عذبة إلى قدام، وعذبة إلى خلف حتى أتينا باب الفراديس، فشرب فقاعاً، وشربت معه.(26/359)
الوليد بن هشام بن معاوية
ابن هشام بن عقبة بن أبي معيط أبان بن أبي عمرو بن أمية أبو يعيش المعيطي القرشي حدث عن معذان بن طلحة اليعمري، قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: أخبرني بعمل أعمله؛ يدخلني الله به الجنة، أو قال: قلت: بأحب الأعمال إلى الله، فسكت، ثم سألته، فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: عليك بكثرة السجود؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة.
قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء، فسألته، فقال لي مثل ما قال ثوبان.
قال رجاء بن أبي سلمة: سألت الوليد بن هشام عما غيرت النار، فقال: إني لست بالذي أسأل، قال: قلت: على ذلك، قال: كان مكحول - وكان ما علمتم فقهاً - يتوضأ. فحج فلقي من أثبت له الحديث أنه ليس فيه وضوء، فترك الوضوء.
قال الوليد بن هشام: أرسلت إلى ابن محيريز أسأله عن لبس اليلامق في الحرب، قال: فأرسل إلي: أتذكر أشد كراهية لما يكره عند الصفوف، - أو قال: للقتال - حين تعرض نفسك للشهادة؟ ولى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطي على جند قنسرين، والفرات بن(26/360)
مسلم على خراجها، فتباغيا حتى بلغ الأمر بالوليد إلى أن هيأ أربعة نفر من كهول قنسرين، يشهدون على فرات أنه يدع الصلاة، ويفطر في شهر رمضان مقيماً صحيحاً، ولا يغتسل من الجنابة، ويأتي أهله وهي طامث.
فقدمواعلى عمر بن عبد العزيز، فشهدوا بهذه الشهادة، وهم مختضبون بالحناء.
فقال عمر: هذا في صلاته، فلم يصلها، إما تركها متعمداً، وإما ساهياً. ورأيتموه يفطر في شهر رمضان ولا ترون به سقاماً، ما أعلمكم أنه لا يغتسل من الجنابة، وبغشيانه أهله؟ والله ما هذا مما يشتم به، ولا سيما فرات في مثل عفافه وأمانته، يا غلام، انطلق بهؤلاء المشيخة السوء إلى صاحب الشرط، فمره فليضرب كل واحد منهم عشرين سوطاً على مفرق رأسه، وليرفق في ضربه لمكان أسنانهم، وبحسبهم من الفضيحة ما هم صائرون إليه، إن لم يتغمد الله ما كان منهم بعفوه.
ثم استوثق منهم بالكفلاء حتى يكون فرات هو الآخذ بحقه منهم، أو العافي عنهم، والعفو أقرب للتقوى وأقرب إلى الله. ثم أصلح بين الوليد وفرات.
قال: وقدم الوليد، ومعه رؤوس النبط بقنسرين، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى الفرات يقدم.
وإنه لقاعد خلف سرير عمر إذ دخل الوليد والأنباط، فقال لهم عمر: ماذا أعددتم لأميركم في نزله لسيره إلي؟ قالوا: وهل قدم يا أمير المؤمنين؟ قال: ما علمتم؟ قالوا: لا والله.
فأقبل عمر على الوليد، فقال: يا وليد، إن رجلاً ملك قنسرين وأرضها خرج يسير في سلطانه وأرضه حتى انتهى إلي لا يعلم به أحد، ولا ينفر أحداً ولا يروعه، لخليق أن يكون متواضعاً عفيفاً.
قال الوليد: أجل والله يا أمير المؤمنين، إنه لعفيف، وإني له لظالم، وأستغفر الله، وأتوب إليه.
فقال عمر: ما أحسن الاعتراف وأبين فضله على الإصرار.(26/361)
وردهما عمر على عملهما. فكتب إليه الوليد مرائياً خديعة منه لعمر، وتزيناً بما هو ليس عليه: إني قدرت نفقتي لشهر، فوجدتها كذا وكذا درهماً، ورزقي يزيد على ما أحتاج إليه، فإن رأى أمير المؤمنين أن يحط فضل ذلك.
فقال عمر: أراد الوليد أن يتزين عندنا بما لا أظنه عليه، وإن كنت عازلاً أحداً عن ظن لعزلته.
ثم أمر بحط رزقه إلى الذي سأله.
ثم كتب إلى يزيد بن عبد الملك - وهو ولي عهد -: إن الوليد بن هشام كتب إلي كتاباً، أكبر ظني أنه تزين بما ليس عليه، ولو أمضيت شيئاً على ظني ما عمل لي أبداً، ولكن آخذ بالظاهر، وعند الله علم الغيب، فأنا أقسم عليك إن حدث بي حدث، وأفضى إليك الأمر، فسألك أن ترد إليه رزقه، وذكر أني نقصته، فلا يظفر منك بهذا، فإنما خادع الله، والله خادعه.
فلما استخلف يزيد كتب الوليد أن عمر نقصني وظلمني، فغضب يزيد، وعزله، وغرمه كل رزق جرى عليه في ولاية عمر كلها، وعزله يزيد، فلم يل له عملاً حتى هلك.
الوليد بن هشام بن يحيى بن يحيى بن قيس الغساني
حدث عن أبيه بسنده إلى عائشة - رضي الله عنها - قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: القطع في ربع دينار فصاعداً.
الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان
أبو العباس بويع له بعد عمه هشام بن عبد الملك بعهد أبيه يزيد بن عبد الملك وأم الوليد بن يزيد أم الحجاج بن محمد بن يوسف الثقفي.(26/362)
واستخلف الوليد بن يزيد سنة خمس وعشرين ومئة. وقيل: سنة ست وعشرين ومئة، وهو ابن ست وثلاثين سنة وشهرين وأيام.
وقيل: إنه ولد سنة سبع وثمانين، وقيل: سنة تسعين.
وكان وكلاء الوليد ختموا خزائن هشام، وبيوت أمواله، فلم يوجد له كفن يكفن فيه، وكفنه خادم له.
روي عم سعيد بن المسيب قال: ولد لأخي أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلام، فسموه الوليد، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد جعلتم تسمون بأسماء فراعنتكم، إنه سيكون رجل يقال له الوليد، هو أضر على أمتي من فرعون على قومه.
وكان الناس يرون أنه الوليد بن عبد الملك، ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد؛ لفتنة الناس به حين خرجوا عليه، فقتلوه، فافتتحت الفتن على الأمة والهرج.
وفي حديث: دخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أم سلمة، وعندها رجل، فقال: من هذا؟ قالت: أخي الوليد، قدم مهاجراً، فقال: هذا المهاجر. فقالت: يا رسول الله هذا الوليد، فأعاد وأعادت، فقال: إنكم تريدون أن تتخذوا الوليد حناناً! إنه يكون في أمتي فرعون يقال له الوليد، يسر الكفر، ويظهر الإيمان. وعرفت أم سلمة ما أراد من تحويل اسمه، فقالت: نعم يا رسول الله، هو المهاجر.
قال جعدي: لو رأيته يوم بدر، وجاء مقنعاً في الحديد، لا يرى منه إلا عيناه، وقف ودعا إلى البراز، فاستشرفه الناس، فقلنا: من هذا؟ قال: أنا ابن زاد الركب، فعرفنا أنه ابن(26/363)
أبي أمية، فقلنا: أيهم؟ قال: أنا ابن جذل الطعان. فعرفناه. فلم يلبث أن انصرف.
وجاء فارس في مثل حاله، ووقف في مثل موقفه، فاستشرفه الناس، فقلنا من هذا؟ فقال: أنا ابن زاد الركب، فعرفنا أنه ابن أبي أمية، فقلنا: أيهم؟ فقال: أنا ابن عبد المطلب، فعرفنا أنه زهير بن أبي أمية.
قال: فكان ابن عمتي أثبت مقاماً من أخيك.
كانت أم المهاجر بن أبي أمية، وأم أم سلمة بنت أبي أمية عاتكة بنت جذل الطعان. وكانت أم أخيهما لأبيهما زهير بن أبي أمية عاتكة بنت عبد المطلب بن هاشم.
وكان أبو أمية يلقب زاد الركب؛ لأنه لم يكن يترك أحداً يتزود ممن يخرج معه في سفر، ويكفي من رافقه زاده.
وكان يلقب بهذا اللقب أيضاً مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي.
قال مروان بن أبي حفصة: قال لي هارون أمير المؤمنين: هل رأيت الوليد بن يزيد؟ قلت: نعم، قال: فصفه لي، فرمت أزحزح، فقال: إن أمير المؤمنين لا يكره ما تقول.
فقلت: كان من أجمل الناس وأشعرهم وأشدهم، قال: أتروي من شعره شيئاً؟ قلت: نعم.
دخلت عليه مع عمومتي، ولي جمة فينانة، فجعل يقول بالقضيب فيها، ويقول: يا غلام هل ولدتك شكر؟ - أم ولد كانت لمروان بن الحكم زوجها(26/364)
أبا حفصة - فقلت: نعم، فسمعته أنشد عمومتي: من السريع
ليت هشاماً عاش حتى يرى ... محلبه الأوفر قد أترعا
كلنا له الصاع التي كالها ... وما ظلمناه بها أصوعا
وما أتينا ذاك عن بدعة ... أحلها القرآن لي أجمعا
محلبه الأوفر: معناه: الإناء الذي يحلب فيه، بكسر ميمه. والمحلب: الذي يتطيب به. محلب مثل المندل: العود.
فأمر هارون بكتابتها، فكتبت.
كان الزهري يقدح أبداً عند هشام بن عبد الملك في خلع الوليد بن يزيد، ويعيبه، ويذكر أموراً عظيمة لا ينطق بها حتى يذكر الصبيان أنهم يخضبون بالحناء.
ويقول لهشام: ما يحل لك إلا خلعه، وكان هشام لا يستطيع ذلك؛ للعقد الذي عقد له، ولا يسوءه ما يصنع الزهري؛ رجاء أن يؤلب ذلك الناس عليه.
قال أبو الزناد: فكنت يوماً عند هشام في ناحية الفسطاط، وأسمع ذرق كلام الزهري في الوليد، وأنا أتغافل، فجاء الحاجب، فقال: هذا الوليد على الباب، فأدخله، فأوسع له هشام على فراشه، وأنا أعرف في وجه الوليد الغضب والشر.
فلما استخلف الوليد بعث إلي وإلى عبد الرحمن بن القاسم وابن المنكدر وربيعة، فأرسل إلي ليلة مختلياً بي، وقدم العشاء، وقال بعد حديث: يا بن ذكوان أرأيت يوم دخلت على الأحوال، وأنت عنده، والزهري يقدح في، أفتحفظ من كلامه يومئذ شيئاً؟(26/365)
فقلت: يا أمير المؤمنين، أذكر يوم دخلت وأنا أعرف الغضب في وجهك.
قال: كان الخادم الذي رأيت على رأس هشام نقل ذلك كله إلي، وأنا على الباب قبل أن أدخل إليكم، وأخبرني أنك لم تنطق عنه بشيء.
قلت: نعم، لم أنطق فيه بشيء يا أمير المؤمنين.
قال: قد كنت عاهدت الله لئن أمكنني القدرة بمثل هذا اليوم أن أقتل الزهري، فقد فاتني.
قال يحيى بن عبد الله بن بكير: كان الوليد بن يزيد يظن أن عند ربيعة ما كان عند الزهري، فكان يسأله، فلا يجد عنده ما أمل فيه، فسأله يوماً عن ناز له، فقال: ليس عندي فيه رواية، فقال الوليد: ولكن ذاك الذي فعل الله به في قبره وفعل، لو سقط قضيبي هذا من يدي لروى فيه شيئاً.
فقلت: ولم قال هذا في الزهري، أمن سوء رأي في الزهري.
فقال: نعم، كان الوليد فيه وفيه ...
كان الزهري يقول لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، اخلع الوليد؛ فإن من الوفاء بعهد الله خلعك إياه. فقال: أخشى أن الأجناد يأبون ذلك. فقال الزهري: فوجهني حتى أسير في الأجناد جنداً جنداً فأخلعه، فأبى عليه. فأرسل الوليد إلى ماله ببداً وشغب، فعقر أشجاره. وخاصمه الزهري إلى عمر، وكان مال الزهري اشتراه(26/366)
من قوم كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقطع لهم، فأخرج كتابه، وخاصم الوليد. فقال عمر للزهري: فإنه لا يحكم عليه إلا أنت، فاحكم عليه. فقال: يا أمير المؤمنين، يغرس لي مكان كل نخلة قطعها وشجرة نخلةً وشجرةً، ويعمرها حتى يبلغ ذلك مبلغ ما قطع لي، ويغرم لي مثلما كنت أستغل منها.
فأجاز حكمه عليه، وألزمه ذلك.
وكان الوليد يقول للزهري: إن أمكنني الله منك يوماً فستعلم. وكان الزهري يقول: إن الله أعدل من أن يسلط علي سفيهاً.
قال ابن بكير: وأنكر ربيعة وأبو الزناد ذلك، وقالا: ما كان وجه الحكم ما حكم به أبو بكر الزهري.
فبلغ ذلك الزهري، فقال الزهري: ذانك العلجان أفسد أهل تلك الحرة - يعني المدينة - كأنه قال: من قبل الرأي.
وأغرم الوليد ابني هشام مالاً عظيماً، وعذبهما حتى ماتا في عذابه.
وزاد أهل المدينة في أعطياتهم عشرة دنانير لكل إنسان، وأمر بهدم دار هشام.
أراد هشام بن عبد الملك أن يخلع الوليد بن يزيد ويجعل العهد لولده؛ فقال الوليد ابن يزيد: من الطويل
كفرت يداً من منعم لو شكرتها ... جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن(26/367)
رأيتك تبني جاهداً في قطيعتي ... ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني
أراك على الباقين مجنى ضغينة ... فيا ويحهم إن مت من شر ما تجني
كأني بهم يوماً وأكثر قيلهم ... ألا ليت أنا حين يا ليت لا تغني
وقال الوليد في ذلك: من الرجز
يا رب أمر ذي شؤون جحفل ... قاسيت فيه جلبات الأحول
وقال أيضاً حين مات هشام: من مجزوء الخفيف
هلك الأحول المشو ... م فقد سرح المطر
ثمت استخلف الولي ... د فقد أورق الشجر
جاء الوليد بن يزيد إلى هشام بن يزيد بن عبد الملك، فلما قام الوليد قام معه مسلمة بن هشام حتى ركب. فلما ركب قال مسلمة: ما اسمك؟ قال: رباح شارزنجي. فقال هشام: قاتله الله ما أظرفه، لولا ما علمت عليه من البطالة.
قال الهيثم عن عمران: سمعت الوليد بن يزيد خطيباً على المنبر، وقد زيد في أعطياتهم خمسة، فسمعته يقول: من الطويل
ضمنت لكم إن لم تعقني منيةً ... بأن سحاب الفقر عنكم ستقلع
قال حماد الراوية: كنت عند الوليد يوماً، فدخل عليه رجلان كانا منجمين، فقالا: نظرنا فيما أمرتنا به، فوجدناك تملك سبع سنين مؤيداً منصوراً، يستقيم لك الناس، ويجبى لك الخراج.(26/368)
قال حماد: فاغتنمتها، وأردت أن أخدعه كما خدعاه؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، كذبا؛ نحن أعلم بالرواية والآثار وضروب العلوم منهما، وقد نظرنا في هذا، ونظر الناس فيه قديماً، فوجدناك تملك أربعين سنة في الحال التي وصفا.
فأطرق الوليد، ثم رفع رأسه إلي، فقال: لا ما قال هذان يكسرني، ولا ما قلت يعزني، والله لأجبين هذا المال من حله جباية من يعيش الأبد، ولأصرفنه في حقه صرف من يموت في غد.
كان الوليد يتغدى، وابنه معه، فإذا هو يلوك لقمة يديرها؛ فقال: ويحك ألقها؛ فإنها على معدتك أشد منها على لسانك.
نظر الوليد بن يزيد إلى جارية نصرانية بالمدينة من أهيأ النساء، يقال لها سفرى، فجن بها، وجعل يراسلها، وتأبى عليه، حتى بلغه أن عيداً للنصارى قد قرب، وأنها ستخرج فيه، وكان في موضع العيد بستان حسن، والنساء يدخلنه، فصانع الوليد صاحب البستان أن يدخله؛ فينظر إليها، فتابعه، وحضر الوليد وقد تقشف وغير حليته.
ودخلت سفرى البستان، فجعلت تمشى حتى انتهت إليه، فقالت لصاحب البستان: من هذا؟ فقال لها: رجل مصاب، فجعلت تمازحه وتضاحكه حتى اشتفى من النظر إليها ومن حديثها.
فقل لها: ويلك تدرين من ذلك الرجل؟ قالت: لا، فقيل لها: الوليد، وإنما تقشف حتى ينظر إليك، فجنت به بعد ذلك، وكانت عليه أحرص منه عليها؛ فقال الوليد في ذلك: من الكامل
أضحى فؤادك يا وليد عميدا ... صباً قديماً للحسان صيودا(26/369)
من حب واضحة العوارض طفلةٍ ... برزت لنا نحو الكنيسة عيدا
ما زلت أرمقها بعيني وامق ... حتى بصرت بها تقبل عودا
عود الصليب فويح نفسي من رأى ... منكم صليباً مثله معبودا
فسألت ربي أن أكون مكانه ... وأكون في لهب الجحيم وقودا
قال المنصف: لم يبلغ الشيباني هذا الحد من الخلاعة إذ قال في عمرو النصراني: من الرجز
يا ليتني كنت له صليباً ... فكنت منه أبداً قريبا
أبصر حسناً وأشم طيباً ... لا واشياً أخشى ولا رقيبا
فلما ظهر أمر الوليد، وعلمه الناس قال: من الطويل
ألا حبذا سفرى وإن قيل إنني ... كلفت بنصرانية تشرب الخمرا
يهون علي أن نظل نهارنا ... إلى الليل لا أولى نصلي ولا عصرا
وللوليد في هذا النحو من الخلاعة والمجون وسخافة الدين ما يطول ذكره، وقد تضمن شعره من ركيك ضلاله وكفره ما شاع من أمره.
حكى خمار بالحيرة قال: ما شعرت يوماً، وقد فتحت حانوتي، إذا فوارس ثلاثة متلثمون بعمام خز، أقبلوا من طريق السماوة، فقال لي أحدهم: أنت مرعيداً الخمار؟ قلت: نعم، وكنت موصوفاً بالنظافة وجودة الخمر، وغسل الأواني، فقال: اسقني رطلاً.
فقمت، فغسلت يدي، ثم نقرت الدنان، ونظرت إلى أصفاها فنزلته، وأخذت قدحاً نظيفاً فملأته، ثم أخذت منديلاً جديداً، فناولته إياه، فشرب وقال: اسقني(26/370)
آخر، فغسلت يدي وتركت ذلك الدن وذلك القدح وذلك المنديل، ونقرت دناً آخر، فنزلت منه رطلاً في قدح نظيف، وأخذت منديلاً جديداً، فسقيته، فشرب، وقال: اسقني رطلاً آخر، فسقيته في غير ذلك القدح، وأعطيته غير ذلك المنديل، فشرب وقال: بارك الله عليك، فما أطيب شرابك وأنظفك! فما كان رأيي أشرب أكثر من ثلاثة، فلما رأيت نظافتك دعتني نفسي إلى شرب آخر، فهاته، فناولته إياه على تلك السبيل. ثم قال: لولا أسباب تمنع من بيتك لكان حبيباً إلي أن أجبس فيه بقية يومي هذا.
وولى راجعاً في الطريق الذي بدا منه، وقال: اعذرنا، ورمى إلي أحد الرجلين اللذين معه بشيء، فإذا صرة، فيها خمس مئة دينار، وإذا هو الوليد بن يزيد، أقبل من دمشق حتى شرب من شراب الحيرة، وانصرف.
قال المنصف: وللوليد أشعار، ضمنها ما فجر به من خرقه وسفاهته وحمقه وخسارته، وهزله ومجونه، وسخافة دينه وركاكته، وما صرح به من الإلحاد في القرآن والكفر بمن أنزل عليه، وذكر أنه عارضها بشعره.
قال صالح بن سليمان:
أراد الوليد بن يزيد الحج، وقال: أشرب فوق ظهر الكعبة، فهم قوم أن يفتكوا به إذا خرج.
فجاؤوا إلى خالد بن عبد الله القسري، فسألوه أن يكون معهم، فأبى، فقالوا له: فاكتم علينا، فقال: أما هذا فنعم.
فجاء إلى الوليد، فقال له: لا تخرج، فإني أخاف عليك، قال: ومن هؤلاء الذين تخافهم علي؟ قال: لا أخبرك بهم، قال: إن لم تخبرني بهم بعثت بك إلى يوسف، قال: وإن بعثت بي إلى يوسف.
فيعث به إلى يوسف، فعذبه حتى قتله.(26/371)
ذكر الوليد ين يزيد عند المهدي، فقال رجل في المجلس: كان زنديقاً، فقال المهدي: مه، خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها في زنديق.
روي عن أم الدرداء أنها قالت: إذا قتل الخليفة الشاب من بني أمية بين الشام والعراق مظلوماً لم تزل طاعة مستحق بها ودم مسفوك على وجه الأرض بغير الحق.
وعن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا يزال هذا الأمر قائماً بالقسط حتى يثمله رجل من بني أمية.
لما أحاطوا بالوليد أخذ المصحف، وقال: أقتل كما قتل ابن عمي، يعني عثمان.
حدث عبد الله بن واقد الجرمي، وكان شهد قتل الوليد، قال: لما اجتمعوا على قتل الوليد قلدوا أمرهم يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، وبايعه من أهل بيته عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك.
فخرج يزيد بن الوليد، فأتى أخاه العباس ليلاً فشاوره في قتل الوليد، فنهاه عن ذلك.
وأقبل يزيد ليلاً حتى دخل مسجد دمشق في أربعين رجلاً، فكسروا باب المقصورة، ودخلوا على واليها، فأوثقوه، وحمل يزيد الأموال على العجل إلى باب المضمار.
وعقد لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، ونادى مناديه: من ابتدر إلى الوليد فله ألفان، فابتدر معه ألفا رجل.
حدث يعقوب بن إبراهيم بن الوليد: أن مولى الوليد، لما خرج يزيد بن الوليد، خرج على فرس له، فأتى الوليد من يومه، فنفق فرسه حين بلغه.(26/372)
فأخبر الوليد، فضربه مئة سوط، وحبسه، ثم دعا أبا محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية، وأجازه، ووجهه إلى دمشق.
فخرج أبو محمد، فلما أتى إلى ذنبة أقام، فوجه يزيد بن الوليد إليه عبد الرحمن بن مصاد، فسالمه أبو محمد، وبايع ليزيد بن الوليد.
وأتى الوليد الخبر، وهو بالأغدف. والأغدف بن عاد، فقال له بيهس بن زميل الكلابي. ويقال: قال له يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية: يا أمير المؤمنين: سر حتى تنزل حمص؛ فإنها حصينة، ووجه الجنود إلى يزيد، فيقتل أو يؤسر.
فقال عبد الله بن عنبسة بن سعيد بن العاص: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل، ويعذر، والله مؤيد أمير المؤمنين وناصره.
فقال يزيد بن خالد: وماذا تخاف على حرمه؟ وإنما أتاه عبد العزيز بن الحجاج، وهو ابن عمهم.
فأخذ بقول ابن عنبسة، فقال له: الأبرش سعيد بن الوليد: يا أمير المؤمنين: تدمر حصينة، وبها قومي يمنعونك، فقال: ما أرى أن نأتي تدمر، وأهلها بنو عامر، وهم الذين خرجوا علي، ولكن دلني على منزل حصين.
فقال: أرى أن تنزل القريتين، قال: أكرهها، قال: فهذا الهزيم. قال: أكره اسمه، قال: فهذا البخراء قصر النعمان بن بشير، قال: ويحك! ما أقبح أسماء مياهكم.(26/373)
فأقبل في طريق السماوة، ونزل الريف، وهو في مئتين، فقال: من الطويل
إذا لم يكن خير مع الشر لم تجد ... نصيحاً ولا ذا حاجة حين تفزع
إذا ما هم جاؤوا بإحدى هناتهم ... حسرت لهم رأسي فلا أتقنع
فمر في شبكة للضحاك بن قيس الفهري، وفيها من ولده وولد ولده أربعون رجلاً.
فساروا وقالوا: إنا عزل، فلو أمرت لنا بسلاح، فما أعطاهم رمحاً ولا سيفاً.
فقال له بيهس: إذا أبيت أن تمضي إلى حمص وتدمر، فهذا الحصن البخراء - البخراء شرقي حمص في البرية - فإنه حصين، وهو من بناء العجم فانزله.
قال: فإني أخاف الطاعون، قال: الذي يراد بك أشد من الطاعون. فنزل حصن البخراء.
قال: فندب يزيد بن الوليد الناس مع عبد العزيز، ونادى مناديه: من سار معه فله ألفان؛ فانتدب ألفا رجل؛ فأعطاهم ألفين ألفين، وقال: موعدكم بذنبة.
فوافى بذنبة ألف ومئتان، فقال لهم: موعدكم مصنعة بني عبد العزيز بن الوليد بالبرية، فوافاه بها ثمان مئة، فسار فتلقاهم ثقل الوليد، فأخذوه، ونزلوا قريباً من الوليد.(26/374)
وأتاه رسول العباس بن الوليد: إني آتيك؛ فقال الوليد: أخرجوا سريراً فأخرجوا سريراً، فجلس عليه، وقال: علي توثب الرجال وأنا أثب على الأسد والخضر الأفاعي؟ وهم ينتظرون العباس.
فتلقاهم عبد العزيز، على الميمنة حوي بن عمرو، وعلى المقدمة منصور بن جمهور، وعلى الرجالة عمارة بن أبي كلثم.
وركب عبد العزيز بغلاً له أدهم وبعث إليهم زياد بن حصين يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فقتله قطري مولى الوليد.
فانكشف أصحاب يزيد، فدخل عبد العزيز، فكر في أصحابه، وقد قتل من أصحابه عدة، وحملت رؤوسهم إلى الوليد وهو على باب حصن البخراء، قد أخرج لواء مروان بن الحكم الذي كان عقده بالجابية.
وقتل من أصحاب الوليد يزيد بن عثمان الخشبي.
وبلغ عبد العزيز مسير العباس بن الوليد، فأرسل منصور بن جمهور في خيل، وقال: إنكم تلقون العباس في الشعب ومعه بنوه، فخذوهم.
فخرج منصور والخيل فإذا هم في الشعب بالعباس في ثلاثين من بنيه، فقال له: اعدل إلى عبد العزيز، فشتمهم، فقال له منصور: والله لئن تقدمت لأنفذن حصينك.(26/375)
قال نوح بن عمرو: الذي لقي العباس بن الوليد يعقوب بن عبد الرحمن بن سليم.
فعدل به إلى عبد العزيز، فأبى عليه، فقال هل: يابن قسطنطين، لئن أبيت علي لأضربن الذي فيه عيناك، فنظر العباس إلى هرم بن عبد الله بن دحية، فقال: من هذا؟ قال يعقوب بن عبد الرحمن بن سليم، فقال: أما والله إن كان لبغيضاً إلى أبيه أن يقف ابنه هذا الموقف.
وعدل به إلى عسكر عبد العزيز، ولم يكن مع العباس أصحابه، وكان قد تقدمهم مع ثلاثة، فقال: إنا لله، فأتوا به عبد العزيز، فقال له: بايع لأخيك يزيد بن الوليد، فبايع، ووقف.
ونصبوا راية، وقالوا: هذه راية العباس بن الوليد، وقد بايع لأمير المؤمنين يزيد بن الوليد.
فقال العباس: إنا لله، خدعة من خداع الشيطان، هلك بنو مروان، فتفرق الناس عن الوليد، فأتوا العباس وبعد العزيز، وظاهر الوليد بين درعين، وأتوه بفرسين: السندي والذائد، فقاتلهم، فناداهم رجل: اقتلوا عدو الله قتلة قوم لوط، ارموه بالحجارة.
فلما سمع ذلك دخل القصر، وأغلق الباب، وأحاط عبد العزيز وأصحابه بالقصر.
فدنا الوليد من الباب، فقال: أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلمه؟ فقال له يزيد بن عنبسة: كلمني، قال: من أنت؟ قال: يزيد بن عنبسة، قال: يا أخل السكاسك، ألم أزد في أعطياتكم؟ ألم أدفع عنكم المؤن؟ ألم أعط فقراءكم؟ ألم أخدم زمناكم؟(26/376)
فقال: ما ننقم عليك في أنفسنا، ولكنا ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله، وشرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله.
قال: حسبك، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت، إن فيما أحل الله لي سعة عما ذكرت.
ورجع إلى الدار، فجلس، وأخذ مصحفاً، وقال: يوم كيوم عثمان، ونشر المصحف يقرأ.
فعلوا الحائط، فكان أول من علا الحائط يزيد بن عنبسة، فنزل إليه، وسيف الوليد إلى جنبه، فقال له يزيد: نح سيفك.
فقال له الوليد: لو أردت السيف كان لي ولك حال غير هذه، فأخذ بيد الوليد وهو يريد أن يحبسه ويؤامر فيه، فنزل من الحائط عشرة، فضربه عبد السلام اللخمي على رأسه، وضربه السري بن زياد بن أبي كبشة على وجهه، وجروه بين خمسة ليخرجوه، فصاحت امرأة كانت معه في الدار؛ فكفوا عنه لم يخرجوه.
واحتز أبو علاقة القضاعي رأسه، وأخذ عقباً، فخاط الضربة التي في وجهه.
وقدم بالرأس على يزيد روح بن مقبل، وقال: أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الفاسق الوليد وأسر العباس. ويزيد يتغذى؛ فسجد ومن كان معه.
وقدم يزيد بن عنبسة، وأخذ بيد يزيد، وقال: قم يا أمير المؤمنين، وأبشر بنصر الله.
فاختلج يزيد يده من كفه، وقال: اللهم، إن كان هذا لك رضى فسددني.
وقال ليزيد بن عنبسة: هل كلمكم الوليد؟ قال: نعم، كلمني من وراء الباب، وقال: أما فيكم ذو حسب فأكلمه؟ فكلمته، ووبخته، فقال: حسبك، فقد لعمر أغرقت وأكثرت، أما والله لا يرتق فتقكم، ولا يلم شعثكم، ولا تجمع كلمتكم.(26/377)
قال المثنى بن معاوية:
أتيت الوليد، فدخلت من مؤخر الفسطاط، فدعا بالغداء، فلما وضع يده أتاه رسول أم كلثوم بنة عبد الله بن يزيد بن عبد الملك، فأخبره أن عبد العزيز بن الحجاج قد نزل اللؤلؤة، فلم يلتفت إليه، وأتاه خالد بن عثمان، وكان على شرط، برجل من بني حارثة، فقال: إني كنت بدمشق مع عبد العزيز، وقد أتيتك بالخبر، وهذه ألف وخمس مئة قد أخذتها، وحل همياناً من وسطه، وأراه قد نزل اللؤلؤة، وهو غاد منها إليك، فلم يجبه.
والتفت إلى رجل إلى جنبه، فكلمه بكلام لم أسمعه، فسألت بعض من كان بيني وبينه عما قال؛ فقال: سأله عن النهر الذي حفر بالأردن: كم بقي منه. وأقبل عبد العزيز من اللؤلؤة.. الحديث.
وكان يزيد بن الوليد جعل في رأس الوليد مئة ألف.
وأقبل أبو الأسد مولى خالد بن عبد الله القسري، فسلخ من جلدة الوليد قدر الكف، فأتى بها يزيد بن خالد بن عبد الله.
وانتهب الناس عسكر الوليد وحراسه.
ولما قتل الوليد قطعت كفه اليسرى، فبعث بها إلى يزيد، فسبقت الرأس، وصلت يوم الجمعة، ووصلت الرأس من الغد، فنصبه الناس بعد الصلاة؛ فقال يزيد بن فروة مولى بني مروان: إنما ينصب رأس الخارجي، وهو ابن عمك وخليفة، ولا آمن إن نصبته أن ترق له قلوب الناس؛ فيغضب له أهل بيته.
قال: والله، إلا نصبته، فنصبه على رمح، ثم قال: انطلق، فطف به دمشق، وأدخله دار أبيه.(26/378)
ففعل، وصاح الناس وأهل الدار، ثم رده إلى يزيد، فقال له: انطلق به إلى منزلك.
فمكث عنده قريباً من شهر، ثم قال: ادفعه إلى أخيه سليمان، وكان أخوه سليمان ممن يسعى على أخيه.
فغسل ابن فروة الرأس، ووضعه في سفط، وأتى به سليمان، فنظر إليه سليمان، فقال بعدالة: أشهد أنه كان شروباً للخمر ماجناً فاسقاً، ولقد أرادني على نفسي الفاسق.
فخرج ابن فروة، فتلقته مولاة للوليد، فقال لها: ويحك! ما أشد ما شتمه! زعم أنه أراده على نفسه! قالت: كذب والله الخبيث، ما فعل، ولئن كان أراده على نفسه فقد فعل، وما كان ليقدر على الامتناع منه.
ويزيد بن الوليد الذي قتل الوليد بن يزيد هو ابن عمه الذي يقال له الناقص، سار إليه في التدرية، فقتلوه بالبخراء، وقتل أهل مصر أميرهم.
وقيل: إنه حمل إلى دمشق سراً، ودفن خارج باب الفراديس.
وعن سيار بن سلامة أنه قال لما قتل الوليد: إنكم لترسون خبراً - يقال: بلغني رس من خبر وذرء من خبر - إن كان حقاً لا يبقى أهل بيت من وتر إلا دخل عليهم منه مكروه.
قال سفيان: لما قتل الوليد كان بالكوفة رجل، يكون بالشام، وأصله كوفي، سديد عقله، قال لخلف بن حوشب لما وقعت الفتنة: اصنع طعاماً، واجمع بقية من بقي، فجمعهم، فقال سليمان الأعمش: أنا لكم النذير: كف رجل يده، وملك لسانه، وعالج قلبه.
ولما قتل الوليد قال خلف بن خليفة: من الطويل(26/379)
لقد سلبت كلب وأسباب مذحج ... صدى كان يزقو ليله غير راقد
تركن أمير المؤمنين بخالد ... مكباً على خيشومه غير ساجد
فإن تقطعوا منا مناط قلادة ... قطعنا به منكم مناط قلائد
وإن تشغلونا عن ندانا فإننا ... شغلنا الوليد عن غناء الولائد
وإن سافر القسري سفرة هالك ... فإن أبا العباس ليس بشاهد
فقال حسان بن جعدة الجعفري يكذب خلف بن خليفة في قوله: من البسيط
إن امرأ يدعي قتل الوليد سوى ... أعمامه لمليء النفس بالكذب
ما كان إلا امرأ حانت منيته ... سارت إليه بنو مروان بالعرب
الوليد بن يزيد الخزاعي
حدث عن عمر بن عبد العزيز قال: حدثوا أهل العراق، ولا تحدثوا عنهم، وعلموهم، ولا تعلموا منهم.
وهب بن الأسود
ويقال: ابن مسعود الثقفي والأول أصح.
وفد على مروان بن الحكم، فقال له مروان: يا وهب، ما المروءة؟ قال: العفاف في الدين، والصنيعة في المال.
وقيل: إنه قال له: ما المروءة فيكم؟ قال: بر الوالدين، وإصلاح المال.
وقيل: إنه قال: العفاف وإصلاح المال، فقال مروان: عل بعبد الملك وعبد العزيز، فقال: اسمعا ما يقول عمكما.(26/380)
قال: فما السؤدد بينكم؟ قال: الحلم والنائل. قال: أي بني اسمعوا.
فلما استخلف عبد الملك ركب يوماً حتى انتهى إلى عين الأسد حول مدينة دمشق، فمر بغنم له، فإذا شاة جرباء، فنزل، فحسر عن ذراعه، ودعا بزيت وقطران، وأخذ الشاة؛ فقال له الراعي: تكفى يا أمير المؤمنين، فقال له: ويحك! فأين قول وهب بن مسعود لأمير المؤمنين؟!
وهب بن أكيدر بن عبد الملك بن عبد الحق
ويقال وهب بن عبد الملك بن أكيدر الكندي، ويقال: الكلبي من دومة الجندل.
حدث عن أبيه قال: كتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأكيدر كتاباً، فيه أمان لهم من الظلم، ولم يكن معه خاتم، فختمه لهم بظفره.
وهب بن جابر الهمداني الحيواني الكوفي
حدث عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا ينبغي للمسلم أن يضيع من يقوت.
قال وهب بن جابر: كنت في بيت المقدس، فجاء مولى لعبد الله بن عمرو، فقال: إني أريد أن أقيم ههنا شهر رمضان، فقال له عبد الله: تركت لأهلك ما يقوتهم؟ قال: لا، قال: فارجع، فاترك عندهم ما يقوتهم؛ إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت.
وهب بن جابر ثقة.(26/381)
وهب بن زمعة بن أسيد
ابن أحيحة بن خلف بن وهب بن حذافة أو دهبل الجمحي، الشاعر من أهل مكة. قدم دمشق.
خرج أبو دهبل يريد الغزو - وكان رجلاً جميلاً صالحاً - فلما كان بجيرون جاءته امرأة، فأعطته كتاباً، فقالت له: اقرأ هذا، فقرأه لها. ثم ذهبت، فدخلت قصراً، ثم خرجت إليه، فقالت: لو تبلغت إلى هذا القصر، فقرأت الكتاب على امرأة فيه كان لك أجر - إن شاء الله - فدخل القصر، فإذا جوار كثير، فأغلقن عليه باب القصر، وإذا امرأة جميلة قد أتته، فدعته إلى نفسها، فأبى؛ فأمرت به فحبس في بيت من القصر، وأطعم وسقي قليلاً قليلاً حتى ضعف، وكاد أن يموت، ثم دعته إلى نفسها؛ فقال: أما حرام فلا يكون ذلك أبداً، ولكن أتزوجك، قالت: نعم. فتزوجها، وأمرت به فأحسن إليه حتى رجعت إليه نفسه، فأقام معها زماناً طويلاً، لم تدعه يخرج من القصر، حتى يئس منه أهله وولده، وزوج أولاده بناته، واقتسموا ميراثه، وأقامت زوجته تبكي عليه، ولم تقاسمهم ماله، ولا أخذت شيئاً من ميراثه، وجاءها الخطاب، فأبت، وأقامت على الحزن والبكاء عليه.
فقال أبو دهبل لامرأته يوماً: إنك قد أثمت في وفي ولدي؛ فأذني لي أن أخرج إليهم، وأرجع إليك.
فأخذت عليه أيماناً ألا يقيم إلا سنة حتى يعود إليها، وأعطته مالاً كثيراً.
فخرج إلى أهله، وأتى زوجته وما صارت إليه من الحزن، ونظر إلى ولده ممن(26/382)
اقتسم ماله، فقال: ما بيني وبينكم عمل، أنتم ورثتموني وأنا حي، فهو حظكم، والله لا يشرك زوجتي فيما قدمت به أحد.
وقال لزوجته: شأنك بهذا المال، فهو لك، ولست أجهل ما كان من وفائك.
فأقام معها، وقال في الشامية: - ويروى لعبد الرحمن بن حسان وليس بصحيح -: من الخفبف
صاح حيا الإله حياً ودوراً ... عند أصل القناة من جيرون
فبتلك اغتربت في الشام حتى ... ظن أهلي مرجمات الظنون
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوا ... ص ميزت من جوهر مكنون
وفيها:
ثم فارقتها على خير ما كا ... ن قرين مفارقاً لقرين
وبكت خشية التفرق والبي ... ن بكاء الحزين نحو الحزين
فأسألي عن تذكري واكتئابي ... كل أهلي إذا هم عذلوني
فلما جاء الأجل أراد الخروج إليها، فجاءه موتها؛ فأقام.
كان عبد الله بن الزبير استعمل المغيرة بن عبد الله بن خالد على ناحية من اليمن، وكان المغيرة شريفاً، ووفد عليه أبو دهبل الجمحي، فقال له: من مجزوء الكامل
يا ناق سيري واشرقي ... بدم إذا جئت المغيرة
سيثيبني أخرى سوا ... ك وتلك لي منه يسيره
إن ابن عبد الله نع ... م فتى الندى وابن العشيرة
حلو الحلاوة دهثم ... جلد القوى مر المريره
كفاه كفا ماجد ... حر سحائبه مطيره(26/383)
تتحليان ندى إذا ... ضنت به النفس العسيره
ولأبي دهبل يمدح عبد الله الأزرق: من الكامل
عقم النساء فما تلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم
غض الكلام من الحياء تخاله ... ضمناً وليس بجسمه سقم
خرج أبو دهبل يريد مصر، ثم رجع من الطريق. وقال في زوجته أم دهبل: من الخفيف
اسلمي أم دهبل قبل هجر ... وتقص من الزمان وعصر
واذكري كري المطي إليكم ... بعدما قد توجهت نحو مصر
إن تكوني أنت المقدم قبلي ... وأطع يثو عند قبرك قبري
قال إبراهيم بن أبي عبد الله: فرأيت قبريهما بتهامة بعليب في موضع واحد.
وهب بن سعد بن أبي سرح
ابن الحارث بن حبيب بن جذيمة، ويقال: وهب بن عبد الله بن أبي سرح له صحبة. شهد بدراً ومؤتة، واستشهد بها.
وآخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين وهب بن سعد وسويد بن عمرو، وقتلا شهيدين يوم مؤتة سنة ثمان، وهو ابن أربعين سنة، وشهد أحداً والخندق والحديبية وخيبر.(26/384)
وهب بن سلمان بن أحمد
ابن عبد الله بن أحمد أبو القاسم السلمي المعروف بابن الزلف، الفقيه الشافعي حدث بسنده إلى أنس قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وإن الصدقة تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار، والصلاة نور المؤمن، والصوم جنةٌ من النار.
ولد أبو القاسم سنة ثمان وتسعين وأربع مئة، وتوفي سنة تسع وأربعين وخمس مئة.
وهب بن منبه بن كامل بن سيج
أبو عبد الله الأبناوي الذماري الصنعاني اليماني حدث وهب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يخرج من عدن اثنا عشر ألفاً ينصرون الله ورسوله، وهم خير من بيني وبينهم.
وحدث عن أخيه عن معاوية قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد شيئاً، فتخرج له مسألته شيئاً فيبارك له فيه.
ولد وهب سنة أربع وثلاثين في خلافة عثمان - رضي الله عنه -.
دخل سليمان بن عبد الملك مسجد دمشق فإذا نقش في حجر، فقال لمن معه: ما هذا النقش؟ قالوا: ما ندري، قال: ابعثوا إلى أناس من النصارى واليهود.(26/385)
قال: فجاؤوه بأناس، فقالوا: ما نعرف، فقيل: يا أمير المؤمنين ابعث إلى وهب بن منبه، فإنه يقرأ الكتاب.
فبعث إليه، فعرفه، فإذا هو يا بن آدم لو رأيت يسير ما بقي من أجلك لزهدت في طويل ما ترجو من أملك، وإنما تلقى ندمك، لو قد زلت بك قدمك، فأسلمك أهلك وحشمك، وانصرف عنك الحبيب، وودعك القريب، فلا أنت إلى أهلك بعائد، ولا في عملك زائد، فاعمل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة.
زاد في آخر وقصرت من حرصك وحيلك، وابتغيت الزيادة في عملك.
ومنبه: من أهل هراة، خرج فوقع إلى فارس أيام كسرى، وكسرى أخرجه من هراة، وهراة من خراسان، أسلم على عهد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحسن إسلامه.
عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يكون في أمتي رجلان: أحدهما يقال له وهب، يهب الله له الحكمة والأخبار، وآخر يقال له عيلان هو شر على أمتي من إبليس.
ويروى هو أضر.
كان وهب تابعياً ثقة على قضاء صنعاء.
قال وهب بن منبه: يقولون: إن عبد الله بن سلام كان أعلم أهل زمانه، وإن كعباً أعلم أهل زماني، أفرأيت من جمع علمهما، أهو أعلم أم هما؟ حدث كثير بن عبيد: أنه سار مع وهب حتى باتوا في دار بصعدة عند رجل من أهلها، فأنزلوا(26/386)
مصابيحهم، وخرجت ابنة الرجل، فرأت عنده مصباحاً، فاطلع إليه صاحب المنزل؛ فرآه صاف قدميه في ضياء كأنه بياض الشمس.
فقال الرجل: رأيتك الليلة في هيئة ما رأيت فيها أحداً، قال: وما الذي رأيت؟ قال: رأيتك في ضياء أشد من الشمس، قال: اكتم ما رأيت.
قال المثنى بن الصباح: رأيت وهب بن منبه أربعين سنة لم يسب شيئاً فيه الروح، ولبث عشرين سنة لم يجعل بين العشاء والصبح وضوءاً.
وقال وهب: لقد قرأت ثلاثين كتاباً نزل على ثلاثين نبياً.
ولبث وهب أربعين سنة لا يرقد على فراش.
كان وهب إذا قام إلى الوتر قال: الحمد لله، الحمد للدائم السرمد، حمداً لا يحصيه العدد، ولا يقطعه الأبد، كما ينبغي لك أن تحمد، وكما أنت له أهل، وكما هو لك علينا حق.
كان وهب بن منبه يحفظ كلامه كل يوم، فإن سلم أفطر، وإلا طوى.
قال الجعد بن درهم: ما كلمت عالماً قط إلا غضب، وحل حبوته غير وهب بن منبه.
قال سماك بن الفضل: كنا عند عروة بن الزبير وإلى جنبه وهب بن منبه، فجاء قوم، فشكوا من عاملهم شيئاً، فتناول وهب عصاً كانت في يد عروة، فضرب بها رأس العامل حتى سال دمه؛ فضحك عروة، واستلقى على قفاه، وقال: يعيب علينا أبو عبد الله الغضب، وهو يغضب.(26/387)
فقال وهب: وما لي لا أغضب وقد غضب الذي خلق الأحلام؟! إن الله تبارك وتقدس يقول: " فلما آسفونا انتقمنا منهم "، يقول: أغضبونا.
قيل لوهب: كنت ترى الرؤيا تحدثنا بها، فلا نلبث أن نراها كما رأيت، قال: هيهات! ذهب ذلك عني منذ وليت القضاء.
قال عبد الرزاق: قلت لمعمر: إن أبي أخبرني أن وهباً ولي القضاء في زمن عمر بن عبد العزيز، قال: فلم يحمد، فممه؟ فتبسم، ثم قال - لا يرفع صوته -: فإن الحسن ولي القضاء في زمن عمر فلم يحمد، فممه؟ كان وهب بن منبه على بيت مال اليمن، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز: إني فقدت من بيت مال المسلمين ديناراً؛ فكتب إليه: إني لا أتهم دينك ولا أمانتك، ولكني أتهم تضييعك وتفريطك، وأنا حجيج المسلمين في أموالهم، ولأشحهم عليك أن تحلف، والسلام.
قال داوود بن قيس: كان لي صديق من أهل بيت خولان، يقال له أبو شمر ذو خولان، فخرجت من صنعاء أريد كرنبة، فوجدت كتاباً مختوماً، في ظهره: إلى أبي شمر ذي خولان. فجئته، فوجدته حزيناً، فسألته، فقال: قدم رسول من صنعاء، فذكر لي أن أصدقاء لي كتبوا إلي كتاباً وضيعه الرسول، قلت: فهذا الكتاب قد وجدته، فقرأه، فقلت: أقرئنيه، قال: إني أستحدث سنك، قلت: وما فيه؟ قال: ضرب الرقاب، قلت: لعله كتبه إليك ناس من أهل حروراء في زكاة مالك، قال: من أين تعرفهم؟ قلت: إني وأصحاب لي نجالس وهب بن منبه، فيقول لنا: أيها الأحداث احذروا هؤلاء الأغمار(26/388)
هؤلاء الحروراء، لا يدخلوكم في رأيهم المخالف، فإنهم غرة لهذه الأمة.
فدفع إلي الكتاب، فإذا فيه: إنا نوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له، فإن دين الله رشد وهدى في الدنيا، ونجاة ونور في الآخرة، وإن دين الله طاعة الله، ومخالفة من خالف سنة نبيه وشريعته، فإذا جاءك كتابنا فانظر أن تؤدي ما افترض الله عليك من حقه، تستحق بذلك ولاية الله وولاية أوليائه والسلام.
فقلت: إني أنهاك عنهم، قال: كيف أتبع قولك وأترك قول من هو أقدم منك؟ قلت: أفتحب أن ندخلك على وهب بن منبه؟ ومسعود بن عوف وال على اليمن، فوجدنا عند وهب نفراً من جلسائه.
فقال بعضهم: من هذا الشيخ؟ فقلت: هذا أبو شمر ذي خولان، وله حاجة يريد أن يستشير أبا عبد الله في بعض أمره؛ فقام القوم.
فقلت: يا أبا عبد الله إن ذا خولان من أهل القرآن وأهل الصلاح فيما علمنا، وأخبرني أنه عرض له نفر من حروراء، وقالوا له: زكاتك التي تؤديها إلى الأمراء لا تجزي عنك فيما بينك وبين الله؛ لأنهم لا يضعونها في مواضعها؛ فأدها إلينا، فإنا نضعها في مواضعها، نقسمها في فقراء المسلمين، ونقيم الحدود، ورأيت أن كلامك يا أبا عبد الله أشفى له من كلامي، وذكر لي أنه يؤدي إليهم الثمرة، للواحد مئة فرق على دوابه.
فقال له وهب: يا ذا خولان، أتريد أن تكون بعد الكبر حرورياً تشهد على من هو خير منك بالضلالة؟ فماذا أنت قائل لله غداً حين يقفك الله ومن شهدت عليه؟ الله يشهد له بالإيمان، وأنت تشهد عليه بالكفر؟! والله يشهد له بالهدى وأنت تشهد عليه بالضلالة؟! فأين تقع إذا خالف رأيك أمر الله وشهادتك شهادة الله؟! أخبرني يا ذا خولان ما يقولون لك؟(26/389)
فقال خولان: إنهم يأمروني ألا أتصدق إلا على من يرى رأيهم، ولا أستغفر إلا له.
فقال له وهب: صدقت، هذه محنتهم الكاذبة. فأما قولهم في الصدقة: فإنه قد بلغني: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر أن امرأة من أهل اليمن دخلت النار في هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.
أفإنسان ممن يعبد الله ويوحده ولا يشرك به شيئاً أحب إلى الله من أن تطعمه من جوع أو هرة؟! والله تعالى يقول في كتابه: " ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً " الآيات، إلى قوله: " وكان سعيكم مشكوراً ". ثم قال وهب ما كاد تبارك وتعالى أن يفرغ من تعديد ما أعد الله لهم بذلك الطعام في الجنة وأما قولهم: لا تستغفر إلا لمن رأى رأيهم: أفهم خير من الملائكة؟! والله تعالى يقول: " والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض "، وأنا أقسم بالله ما كانت الملائكة ليقدروا على ذلك ولا ليفعلوا حتى أمروا به؛ لأن الله عز وجل قال: " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون "، وفسر ذلك في قوله: " الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا " الآيات.
ألا ترى يا ذا الخولان أني قد أدركت صدر الإسلام؟ فوالله ما كانت الخوارج جماعة قط إلا فرقها الله على شر حالاتهم، وما أظهر أحد منهم رأيه قط إلا ضرب الله عنقه، وما اجتمعت الأمة على رجل قط من الخوارج، ولو أمكن الله الخوارج من رأيهم فسدت الأرض، وقطعت السبل، وقطع الحج من بيت الله الحرام، وعاد أمر الإنسان جاهلية،(26/390)
وإذاً لقام أكثر من عشرة أو عشرين رجلاً ليس منهم رجل إلا وهو يدعو إلى نفسه بالخلافة، ومع كل رجل منهم أكثر من عشرة آلاف يقاتل بعضهم بعضاً، ويشهد بعضهم على بعض بالكفر حتى يصبح المؤمن خائفاً على نفسه ودينه ودمه وأهله وماله، لا يدري أين يسلك، أو مع من يكون، غير أن الله بحكمه وعلمه ورحمته نظر لهذه الأمة؛ فجمعهم، وألف بين قلوبهم على رجل واحد ليس من الخوارج، فحقن الله به دماءهم، وستر به عوراتهم وعورات ذراريهم، وجمع به فرقتهم، وأمن به سبلهم، وقاتل به عن بيضة المسلمين عدوهم، وأقام له حدودهم، وأنصف به مظلومهم، وجاهد بظالمهم، رحمةً من الله تعالى، فقال: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض " إلى " العالمين "، وقال: " اعتصموا بحبل الله جميعاً " إلى " تهتدون "، وقال تعالى: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا " إلى " الأشهاد ". فأين هم من هذه الآية؟ فلو كانوا مؤمنين نصروا. وقال تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا " إلى " لهم الغالبون " فلو كانوا جند الله غلبوا ولو مرة واحدة في الإسلام. وقال الله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم " حتى " لا يشركون بي شيئاً "، وقال تعالى: " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ".
وأنا أشهد أن الله قد أنفذ للإسلام ما وعده من الظهور والتمكين والنصر على عدوهم ومن خالف رأي جماعتهم.
أفلا يسعك يا ذا خولان من أهل التوحيد وأهل القبلة وأهل الإقرار بشرائع الإسلام وسننه وفرائضه ما وسع نبي الله نوحاً من عبدة الأصنام والكفار، إذ قال له قومه: "(26/391)
أنؤمن لك واتبعك الأرذلون "؟ أو لا يسعك منهم ما وسع نبي الله وخليله إبراهيم من عبدة الأصنام إذ قال: " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " إلى " غفور رحيم "؟ أو لا يسعك ما وسع عيسى من الكفار الذين اتخذوه إلهاً من دون الله؟ إن الله قد رضي قول نوح وقول إبراهيم، وترك قول عيسى إلى يوم القيامة؛ ليقتدي به المؤمنون ومن بعدهم، يعني: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "، ولا يخالفون قول أنبياء الله ورأيهم، فمن نقتدي إذا لم نقتد بكتاب الله وقول أنبيائه ورأيهم؟ واعلم أن دخولك علي رحمة لك إن قبلت مني، وحجة عليك غداً عند الله إن تركت كتاب الله وعدت إلى رأي الحروراء.
قال ذو خولان: فما تأمرني؟ فقال وهب: انظر زكاتك المفروضة، فأدها إلى من ولاه الله أمر هذه الأمة، وجمعهم عليه، فإن الملك من الله وحده وبيده، يؤتيه الله من يشاء، وينزعه ممن يشاء، فمن ملكه الله لم يقدر أحد أن ينزعه منه.
فإذا أديت الزكاة المفروضة إلى ولي الأمر برئت منها، فإن كان فضل فصل به أرحامك ومواليك وجيرانك من أهل الحاجة وضيف إن ضافك.
فقام ذو خولان، فقال: أشهد أني نزلت عن رأي الحرورية، وصدقت ما قلت.
فلم يلبث ذو خولان إلا يسيراً حتى مات. كان وهب كتب كتاباً في القدر ثم ندم عليه.
قال عمرو بن دينار: دخلت على وهب بن منبه، فقلت له: وددت أنك لم تكن كتبت في القدر كتاباً، فقال: وأنا والله لوددت كذلك.
قال وهب بن منبه: كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعاً وسبعين كتاباً(26/392)
من كتب الأنبياء، في كلها: من جعل شيئاً من المشيئة إلى نفسه فقد كفر، فتركت قولي.
وعن وهب قال: كان أهل العلم فيما مضى يضنون بعلمهم عن أهل الدنيا، فرغب أهل الدنيا في علمهم؛ فيبذلون لهم دنياهم، وإن أهل العلم اليوم بذلوا علمهم لأهل الدنيا؛ فزهد أهل الدنيا في علمهم؛ فضنوا عنهم بدنياهم.
وقال وهب: كان العلماء فيما خلا حملوا العم، فأحسنوا حمله، فاحتاجت إليهم الملوك وأهل الدنيا، ورغبوا في علمهم، فلما كانوا بأخرة فشت علماء، فحملوا العلم، فلم يحسنوا حمله، وطرحوا علمهم على الملوك وأهل الدنيا، فاهتضموهم واحتقروهم.
وقيل: يأتون من يغلق بابه، ويظهر فقره ويكتم غناه، ويتركون من بابه مفتوح بالغداة والعشي ونصف النهار.
خطب وهب الناس على المنبر، فقال: احفظوا مني ثلاثاً: إياكم وهوى متبعاً، وقرين سوء، وإعجاب المرء بنفسه.
وعن وهب بن منبه قال: دع المراء والجدال من أمرك، فإنه لن تعجز أحد رجلين: رجل هو أعلم منك، فكيف تعادي وتجادل من هو أعلم منك؟! ورجل أنت أعلم منه، فكيف تعادي وتجادل من أنت أعلم منه، ولا يطيعك؟! فاطو ذلك عنه.
وعن وهب بن منبه قال: العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والعقل دليله، والصبر أمير جنوده، والرفق أبوه، واللين أخوه.
وقال وهب: المؤمن ينظر ليعلم، ويسكت ليسلم، ويتكلم ليفهم، ويخلو ليغنم.
قال وهب: الإيمان عريان، ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وماله الفقه.
وقال وهب لرجل من جلسائه: ألا أعلمك فقهاً لا يتعايا الفقهاء فيه؟ قال: بلى، قال: إن سئلت عن شيء عندك فيه علم فأخبر بعلمك، وإلا فقل: لا أدري.(26/393)
وقال وهب: ثلاث من كن فيه أصاب البر: سخاوة النفس، والصبر على الأذى، وطيب الكلام.
قال رجل لابن وهب: إني مررت بفلان وهو يشتمك، فغضب وهب وقال: أما وجد الشيطان رسولاً غيرك؟ وفي رواية: بريداً غيرك.
فلم يبرح حتى جاء الرجل الشاتم، فسلم على وهب: فرد عليه السلام، وصافحه، وأخذ بيده، وضحك في وجهه، وأجلسه إلى جنبه.
قال وهب بن منبه: استكثر من الإخوان ما استطعت، فإنك إن استغنيت عنهم لم يضروك، وإن احتجت إليهم نفعوك.
قال وهب: ترك المكافأة تطفيف، وقال الله عز وجل: " ويل للمطففين ".
وقال وهب بن منبه: إذا رأيت الرجل يمدحك بما ليس فيك فلا تأمنه أن يذمك بما ليس فيك.
وقال وهب: إخفاؤك بعض الذل خير من انتصار يزيد صاحبه قماءة.
جاء رجل إلى وهب، فقال: إن الناس قد وقعوا فيما وقعوا فيه، فقد حدثت نفسي ألا أخالطهم. فقال: لا تفعل، إنه لا بد للناس منك، ولا بد لك منهم، ولهم إليك حوائج، ولك إليهم حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعاً، أعمى بصيراً، سكوتاً نطوقاً.
وقال وهب: لا يكون البطال من الحكماء، ولا ترث الزناة ملكوت السماء.
قال وهب: لا يكون الرجل فقيهاً كامل الفقه حتى يعد البلاء نعمة، ويعد الرخاء مصيبة، وذلك أن صاحب البلاء ينتظر الرخاء، وصاحب الرخاء ينتظر البلاء.
جاء رجل إلى وهب، فقال: علمني شيئاً ينفعني الله به. قال: أكثر من ذكر الموت، وأقصر أملك، وحصة ثالثة إن أنت أصبتها بلغت الغاية القصوى، وظفرت بالعبادة، قال: ما هي؟ قال: التوكل.(26/394)
وعن وهب قال: في حكمة الله مكتوب: من صبر على البلاء ورضي بالقضاء، وشكر النعماء، وزهد في الدنيا، فقد أرضى الله حق الرضاء.
قال وهب: اعمل خيراً، ودعه على الله.
قيل لوهب: لم زهدت في الدنيا؟ قال: بحرفين وجدتهما في التوراة: يا من لا يستتم سرور يوم، ولا يأمن على روحه يوماً، الحذر الحذر.
وعن وهب أنه قال: إن من أعون الأخلاق على الدين الزهادة في الدنيا، وأوشكها ردى اتباع الهوى، ومن اتباع الهوى الرغبة في الدنيا، ومن الرغبة في الدنيا حب المال والشرف، ومن حب المال والشرف استحلال الحرام، ومن استحلال الحرام يغضب الله، وغضب الله الداء الذي لا دواء له إلا رضوان الله، ورضوان الله الدواء الذي لا يضر معه داء. فمن يرد أن يرضي الله يسخط نفسه. ومن لم يسخط نفسه لا يرضي ربه. إن كان كلما ثقل الإنسان شيء من أمر دينه تركه أوشك ألا يبقى معه شيء.
قال وهب: مثل الدنيا والآخرة كمثل رجل له ضرتان، إن أرضى إحداهما أسخط الأخرى.
وقال: لكل شيء طرفان ووسط، فإذا أمسكت بأحد الطرفين مال الآخر، وإذا أمسكت بالوسط اعتدل الطرفان. وقال: عليكم بالأوسط من الأشياء.
وقال وهب: الدراهم والدنانير خواتيم الله في الأرض، فمن ذهب بخاتم الله قضيت حاجته.
وعن وهب قال: من يرحم يرحم، ومن يصمت يسلم، ومن يجهل يغلب، ومن يعجل يخطئ، ومن يحرص على الشر لا يسلم، ومن لا يدع المراء يشتم، ومن لا يكره الشتم يأثم، ومن يكره الشر يعصم، ومن يتبع وصية الله يحفظ، ومن يحذر الله يأمن، ومن يتول الله يمتع، ومن لا يسأل الله يفتقر، ومن لا يكن مع الله يخذل، ومن يستعن بالله يظفر.
قال وهب: ما عند الله شيء أفضل من العقل.(26/395)
قال وهب: من أخلاق العاقل عشرة أخلاق: الحلم والعلم والرشد والعفاف والصيانة والحياء والرزانة ولزوم الخير والمداومة عليه، ورفض الشر وبغضه له ولأهله، وطواعية الناصح وقبوله منه. ويتشعب من كل خصلة منها عشرة أخلاق صالحة: فالحلم يتشعب منه: حسن العاقبة، والمحمدة في الناس، وشرف المنزلة، والتسليم من السفه، وركوب الجميل من الفعل، وصحبة الأبرار، ويرتدع عن الضعة، ويرتفع من الخساسة، وينتهي إليه البر، ويقربه معالي الدرجات.
والعلم يتشعب منه: الشرف وإن كان دنيئاً، والعز وإن كان مهيناً، والغنى وإن كان فقيراً، والقوة وإن كان ضعيفاً، والنبل وإن كان حقيراً، والقرب وإن كان قصياً، والجود وإن كان بخيلاً، والحياء وإن كان صلفاً، والمهابة وإن كان وضيعاً، والسلامة وإن كان سفيهاً.
وينشعب من الرشد: الرشاد والهدى والبر والتقى والعبادة والقصد والاقتصاد والثواب والكرم والصدق.
وينشعب من العفاف: الكفاية والاستكانة والمصادقة والموافقة والنص واليقين والسداد والرضى والراحة.
وينشعب من الصيانة: الكف والورع وحسن الثناء والتزكية والمروءة والتكرم والغبطة والسرور والمسالمة والتفكير.
وينشعب من الحياء: البر والرقة والمخافة والسماحة والصحة والمداومة على الخير وحسن البشاشة والمطاوعة وذل النفس.
وينشعب من الرزانة: الراحة والسكون وعلو وتمكين وتأن وحظوة وتكرم.
وينشعب من المداومة على الخير: الصلاح والقرار والإخبات والإنابة والسؤدد والظفر والرضى في الناس وحسن العافية.(26/396)
وينشعب من كراهية الشر: حسن الأمانة، وترك الخيانة، واجتناب الشر، وحب الخير، وتحصين الفرج، وصدق اللسان، وحب التواضع لمن هو فوقه، والإنصاف لمن هو دونه، وحسن الجوار، ومجانبة خلطاء السوء.
وينشعب من طاعة الناصح: زيادة في الفضل، وكمال في اللب، ومحمدة في العواقب، والسلامة من اللوم، والبعد من الطيش، واستصلاح المال، ومراقبة ما هو نازل، والاستعداد للعدو، والاستقامة على المنهاج، ولزوم الرشاد.
فذلك مئة خصلة من أخلاق العاقل.
ومن أخلاق الجاهل عشرة أخلاق سيئة: الطيش والسفه والضجر والعجلة والغضب والملامة والكذب وبغض الخير وحب الشر وطاعة الغاش.
وينشعب من الطيش: سوء الصنيع، والمداومة على سوء صنيعه، وسوء المنزلة والصلف والردى والهوان والسفال والغل والقماء والرذل والغباء والذل.
وينشعب من السفه كثرة الكلام في غير الحق فيما لا عليه ولا له. والخوض في الباطل، وصحبة الفجار، والإنفاق في السرف والاحتيال والبذخ، والمكر والخديعة والاغتيال والسباب.
وينشعب من الضجر ترك الحق، والميل إلى الباطل والتردي ومتابعة الهوى، وقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وسوء اليقين، والتفريط في العمل والنسيان والهم والخيلاء.
وينشعب من العجلة الخسران والندامة وقلة الفهم وسوء المنظر، وفراق الصاحب وطلاق المرأة، وتضييع المال، وشماتة العدو، واكتساب الشر، واكتساب الملامة والندامة والمذمة.
وينشعب من الغضب قتل النفس ظلماً، وركوب الصديق بالقبيح، وضرب(26/397)
الخادم، واقتحام في المعاصي، ومباشرة العيوب، ومصاولة الحميم ومصارمته، والأيمان الكاذبة، وفراق الأحبة ومصارمتهم، وسوء ذات البين، والتعب في طلب المعاذير.
وينشعب من الملامة سوء المعاشرة، ومنابذة الصديق، وتقريب العدو، وحب الفاحشة، وبغض التقوى، وطاعة الغاش، والتجبر عند الناس، وخذلان الأصحاب، والميل إلى أهل العمى، والمسارعة إلى الشر.
وينشعب من الكذب الغدر والفجور، والمقت عند ذوي الألباب وغيرهم، والفخر بالباطل، ومدحة الفاسقين، والإفراط في البذل، واختلاط العقل وحب الشقاء وأهله، وبغض السعادة وأهلها، والتهمة عند الخلق وإن صدق.
وينشعب من بغض الخير طاعة الشيطان، ومعصية الرسل، والكسل عند الرشد، والمسارعة في الغي والجفاء والحقد والمذمة، والاستطالة، والتردي.
وينشعب من حب الشر أكل الحرام، ومنع الصدقات، وتضييع الصدقات، والاستخفاف بالذنب، والانهماك في الطغيان والمعصية، واقتحام المهالك، واختيارالبلايا والشقاء، والثناء على أهل المنكر والرضى بصنيعهم، ومذمة الصالحين والطعن عليهم.
وينشعب من طاعة الغاش: الصدود عن الخير والمعروف، والمسارعة إلى الشر والمنكر، واستحلال الفروج، وركوب الفواحش، وأذى الجيران، وبغض الإخوان، والإساءة إلى المرأة، والتواني عن النجاح، وبغض القرآن، ومعصية الرب.
فتلك مئة خصلة سيئة من أخلاق الجاهل.
قال وهب: كما تتفاضل الشجر بالثمار كذلك يتفاضل الناس بالعقل.
قال وهب: المؤمن متفكر مذكر، من ذكر تفكر فعلته السكينة، قنع فلم يهتم، رفض الشهوات فصار حراً، ألقى الحسد، وظهرت له المحبة، زهد في كل فانٍ فاستكمل العمل؛ رغب في كل باق، فنهته المعرفة.(26/398)
قال وهب: الأحمق إذا تكلم فضحه حمقه، وإذا سكت فضحه عيه، وإذا عمل أفسد، وإذا ترك أضاع، لا علمه يعينه، ولا علم غيره ينفعه، تود أمه أنها ثكلته، وتود امرأته أنها عدمته، ويتمنى جاره منه الوحدة، ويأخذ جليسه منه الوحشة، وأنشد لمسكين الدارمي في ذلك: من الرمل
اتق الأحمق أن تصحبه ... إنما الأحمق كالثوب الخلق
كلما رفعت منه جانباً ... حركته الريح وهناً فانخرق
أو كصدع في زجاج فاحش ... هل ترى صدع زجاج يتفق
وإذا جالسته في مجلس ... أفسد المجلس منه بالخرق
فإذا نهنهته كي يرعوي ... زاد جهلاً وتمادى في الحمق
قال وهب: طوبى لمن شغله عيبه عن عيب أخيه، طوبى لمن تواضع لله من غير مسكنة، طوبى لمن تصدق من مال جمعه من غير معصية، طوبى لأهل الضر وأهل المسكنة، طوبى لمن جالس أهل العلم والحلم، طوبى لمن اقتدى بأهل العلم والحلم والخشية، طوبى لمن وسعته السنة فلم يعدها.
عن ليث بن أبي سليم قال: قال لي مجاهد: احذر الهتاتين؛ فلا تكتب عنهما: عمرو بن شعيب ووهب بن منبه.
يقال: هت الحديث يهته هتاً: إذا دخل فيه ما ليس منه؛ فأزاله عن معنى الصواب. وكان معنى الهتات: المكثر من غير إصابة.
حبس وهب بن منبه فواصل ثلاثاً، فقيل له: ما هذا الصوم؟ فقال: نحن في طرف من عذاب الله، قال الله عز وجل: " ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم(26/399)
وما يتضرعون "، أحدث لنا الحبس فأخذتنا زيادة عبادة.
قال صالح بن طريف الضبي: لما قدم يوسف بن عمر العراق، فأتانا خبره بخراسان بكى صالح بن طريف، فاشتد بكاؤه، وقال: ضرب وهب بن منبه حتى قتله.
مات وهب بن منبه بصنعاء سنة عشر ومئة، وقيل: سنة ثلاث عشرة، وقيل سنة أربع عشرة، وقيل: سنة ست عشرة، وعمره ثمانون سنة.
وهب بن وهب بن كبير
ابن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد أبو البختري الأسدي القاضي بالمدينة وبغداد كبير: بفتح الكاف، وكسر الباء المعجمة بواحدة.
والبختري: بباء مفتوحة، وخاء معجمة، وتاء باثنتين.
حدث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال: إن أول سورة تعلمتها من القرآن " طه " وكنت إذا قلت: " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا شقيت يا عائش.
ولاه هارون المدينة، وجعل إليه صلاتها وحربها وقضاءها.
وكان سخياً مرياً من رجال قريش، وروى منكرات.
وتوفي ببغداد سنة مئتين.
قال أبو البختري: لأن أكون في قوم أعلم مني أحب إلي من أن أكون في قوم أنا أعلم منهم، لأني إن كنت أعلمهم لم أستفد، وإن كنت مع من هم أعلم مني استفدت.(26/400)
دخل شاعر على أبي البختري وهب بن وهب، فأنشده: من الطويل
إذا افتر وهب خلته برق عارض ... تنفق في الأرضين أسعده السكب
وما ضر وهباً ذم من خالف الملا ... كما لا يضر البدر ينبحه الكلب
لكل أناس من أبيهم ذخيرةٌ ... وذخر بني فهر عقيد الندى وهب
فاستهل أبو البختري ضاحكاً، وسر سروراً شديداً، ثم دعا عوناً له، فأسر له شيئاً، فأتاه بصرة، فيها خمس مئة دينار، فدفعها إليه.
وكان إذا أعطى عطاء قليلاً أو كثيراً أتبعه عذراً إلى صاحبه، وكان يتهلل عند طلب الحاجة إليه، حتى لو رآه من لا يعرفه لقال: هذا الذي قضيت حاجته.
وكان أبو البختري جواداً سمحاً.
قال محمد بن يزيد النحوي: دخل رجل باذ الهيئة على قوم، وهم على شراب لهم، فحطوا مرتبته في الشراب، فقال: من المتقارب
نبيذان في مجلس واحد ... لإيثار مثر على مقتر
ولو كنت تفعل ذا في الطعام ... لرمت قياسك في المسكر
ولو كنت تفعل فعل الكرام ... سلكت سبيل أبي البختري
تتبع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقل عن المكثر
فبعث إليه أبو البختري بألف دينار.
ويروى قبل البيت الأول:
تأمل قبيح الذي جئته ... تجده خلوف فم الأبخر(26/401)
وهذا من قبيح الهجاء، وفيه مبالغة في الذم. وفي هذا المعنى: من المتقارب
رأيت نبيذان في مجلس ... فقلت لساق لنا ما السبب
فقال الذي نحن في بيته ... يفضل قوماً بسوء الأدب
كان أبو البختري قد مدحه الشعراء لسماحته وسعة عطائه ومكارمه وأخلاقه. وذمه الأئمة الأكابر وأعلام المحدثين، ونسبوه إلى الكذب فيما يرويه، ووضع كثيراً من الحديث الذي كان يمليه. قال أبو سعيد العقيلي - وكان من ظرفاء الناس وشعرائهم - قال: لما قدم الرشيد المدينة أعظم أن يرقى منبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قباء أسود ومنطقة، فقال أبو البختري: حدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال: نزل جبريل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعليه قباء ومنطقة محتجزاً فيها بخنجر، فقال المعافى التميمي، وقال الجازري: المعادي التميمي: من السريع
ويل وغول لأبي البختري ... إذا توافى الناس للمحشر
من قوله الزور وإعلانه ... بالكذب في الناس على جعفر
والله ما جالسه ساعةً ... للفقه في بدو ولا محضر
ولا رآه الناس في دهر ... يمر بين القبر والمنبر
يا قاتل الله ابن وهب لقد ... أعلن بالزور وبالمنكر
يزعم أن المصطفى أحمداً ... أتاه جبريل النقي البري
عليه خف وقباً أسود ... محتجزاً في الحقو بالخنجر
وقف يحيى بن معين على حلقة أبي البختري، فإذا هو يحدث بهذا الحديث عن جعفر عن أبيه عن جابر، فقال له: كذبت يا عدو الله على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فأخذني الشرط، فقلت لهم: هذا يزعم أن رسول رب العالمين نزل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعليه قباء، فقالوا لي: هذا - والله - قاض كذاب، وأفرجوا عني.(26/402)
دخل أبو البختري على الرشيد، وهو قاض، وهارون إذ ذاك يطير الحمام، فقال: هل تحفظ في هذا شيئاً.
فقال: حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يطير الحمام.
فقال هارون: اخرج عني، ثم قال: لولا أنه رجل من قريش لعزلته.
قال هارون لأبي البختري: أليس أخبرتني أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يقول إذا رأى الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية، وإذا رأى بعد الزوال فهو للمستقبلة؟ فقال: لا، فقال له المأمون: بلى والله لقد حدثتنا به في البستان، قال: صدقت.
قال دحيم: كذابا هذه الأمة: صاحب طبرية وصاحب صيدا، الوليد بن سلمة وأبو البختري.
قال إبراهيم الحربي لأحمد بن حنبل: تعلم أحداً روى: لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح؟ قال: ما روى هذا إلا ذاك الكذاب أبو البختري.
ولما بلغ عبد الرحمن بن مهدي موت أبي البختري قال: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه. وهذا وهم، فإن ابن مهدي مات سنة ثمان وتسعين ومئة، وأبو البختري مات سنة مئتين.
وهيب بن حامد بن إبراهيم بن الوليد
أبو الرضا العذري حدث عن أبي القاسم عبد الله بن محمد البجلي بسنده إلى عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الله يحب الرفق في الأمر كله.
عبد الله بن محمد هو تمام بن محمد داسة الحنائي.(26/403)
أسماء النساء على حرف الواو
ولادة بنت العباس بن جزي
ابن الحارث بن زهير بن جذيمة، العبسية أم الوليد وسليمان زوج عبد الملك بن مروان.
لما دخل عبد الملك بولادة دخل عليه أبوها من الغد، فقال: كيف وجدت أهلك؟ قال: وجدتها قد ملأتني بالدم، قال: إنها من نساء يحتسبن على أزواجهن ذلك.
أسماء الرجال على(26/404)
حرف الهاء
هابيل بن آدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وهو الذي قتله أخوه قابيل بجبل قاسيون عند مغارة الدم.
قيل: إنه كان يسكن سطرا.
لما هبط آدم إلى الأرض هبطت معه حواء وإبليس، فولدت لآدم هابيل وقابيل.
وكان هابيل صاحب ماشية، وكان قابيل صاحب حرث. وكان قربانهما أن يتقربا بقربان، ثم يلقيانه على وجه الأرض، حتى تأتي نار فتأكله، أو يبليه الدهر.
وكان هابيل يتقرب بجلة عنمه وخيارها، وكان قابيل يتقرب بزؤان ونفاية الحنطة، فتأتي نار من السماء فتأكل قربان هابيل، ولا تقرب قربان قابيل؛ فغاظه ذلك.
فلقي إبليس، فقال: يا إبليس أتقرب أنا وأخي بقربانين، فتأتي نار، فتأكل قربانه، ولا تقرب قرباني.
قال له إبليس: اقتله، تكون ملكاً تبحبح في الأرض، قال: وما القتل؟ قال: إذا رأيته راقداً فآذني به.(26/405)
فلما رقد هابيل أتى قابيل إلى إبليس، فآذنه، فانطلق معه حتى وقف على رأسه، فقال: خذ حجراً، فاضرب به رأسه، ففعل.
فلما قتله حمله ثلاثة أيام، يطوف به الأرض، يظعن به إذا ظعن، وينزل به إذا نزل حتى بعث الله الغرابين، فاقتتلا، وقابيل ينظر إليهما، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له حتى أعمق، فدفنه، فقال الله تعالى: " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " الآيات.
وعن ابن عباس قال: كان لآدم عليه السلام أربعة توءم، ذكر وأنثى من بطن، وذكر وأنثى من بطن، فكانت أخت صاحب الحرث جميلة، وكانت أخت صاحب الغنم قبيحة، فقال صاحب الحرث: أنا أحق بها، وقال صاحب الغنم: أنا أحق بها، أتريد أن تستأثر بوضاءتها علي؟ فتعال نقرب قرباناً، فإن تقبل قربانك فأنت أحق بها، وإن تقبل قرباني فأنا أحق بها.
فقربا قربانهما، فجاء صاحب الغنم بكبش أبيض أعين أقرن، وجاء صاحب الطعام بصبرة من طعامه. فتقبل الكبش، فخزنه الله في الجنة أربعين خريفاً، وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام.
فقال صاحب الحرث: " لأقتلنك "، فقال: " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " فقتله، فولد آدم كلهم من ذلك الكافر.
وكان آدم يزوج ذكر هذا البطن من أنثى هذا البطن الآخر، وأنثى هذا البطن من ذكر هذا البطن الآخر.
كان خارج باب الساعات صخرة يوضع عليها القربان، فما تقبل منه جاءت نار، فأخذته، وما لم يتقبل بقي على حاله.(26/406)
وكان هابيل صاحب غنم في سطرا، وكان قابيل في قينية صاحب زرع، وكان آدم في بيت أبيات، وكانت حواء في بيت لهيا.
فجاء هابيل بكبش سمين من غنمه، فجعله على الصخرة، فأخذته النار، وجاء قابيل بقمح علث، فوضعه على الصخرة، فبقي على حاله، فحسده، وتبعه في الجبل، فأراد قتله، فلم يدر كيف يقتله، فجاء إبليس فأخذ حجراً، فجعل يضرب به رأس نفسه، فذهب، فأخذ حجراً ضرب رأس أخيه، فقتله، فصاحت حواء، فقال لها آدم: عليك وعلى بناتك، لا علي ولا على بني.
قال الأوزاعي: من قتل مظلوماً كفر الله عنه كل ذنب، وذلك في القرآن: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ".
قال الزهري: الكبش الذي فدى الله به إسماعيل كان الكبش الذي قربه هابيل.
وعن وهب: أن الأرض نشفت دم ابن آدم، فلعن آدم الأرض، فمن أجل ذلك لا تنشف الأرض دماً بعد دم هابيل إلى يوم القيامة.
كان كعب الأحبار يقول: الدم الذي على جبل قاسون هو دم ابن آدم.(26/407)
وعن أبي موسى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اكسر قسيكم - يعني في الفتنة - واقطعوا أوتاركم، والتزموا أجواف البيوت، وكونوا فيها كالخير من ابني آدم.
وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ما يمنع أحدكم إذا جاءه من يريد قتله أن يكون مثل ابني آدم؟ القاتل في النار، والمقتول في الجنة.
وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال عند فتنة عثمان: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي. قال له الرجل: أفرأيت يا رسول الله إن دخل علي بيتي، وبسط إلي يده ليقتلني؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كن كابن آدم.
قال الحسن: أول من يفر يوم القيامة من أبيه إبراهيم، وأول من يفر من أمه إبراهيم، وأول من يفر من ابنه نوح، وأول من يفر من أخيه هابيل بن آدم، وأول من يفر من صحابته نوح ولوط، وتلا هذه الآية: " يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه "، فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم.
قال سالم بن أبي الجعد: إن آدم لما قتل أحد ابنيه الآخر مكث عامه لا يضحك حزناً عليه، فأتى على رأس المئة، فقيل له: حياك الله وبياك، وبشر بغلام، فعند ذلك ضحك. قلت: ما بياك؟ قال: أضحكك.
وقيل: إنه مكث مئة سنة لا يضحك، وقال: من الوافر
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح(26/408)
تغير كل ذي لون وطعم ... وقل بشاشة الوجه الصبيح
قتل قابيل هابيلاً أخاه ... فواحزناً مضى الوجه المليح
فأجابه إبليس: من الوافر
تنح عن البلاد وساكنيها ... فبي في الأرض ضاق بك الفسيح
وكنت بها وزوجك في رخاء ... وقلبك من أذى الدنيا مريح
فما انفكت مكايدتي ومكري ... إلى أن فاتك الثمن الربيح
فلولا رحمة الجبار أضحى ... بكفك من جنان الخلد ريح
هارون بن إبراهيم
أبو محمد - أظنه - الأهوازي بصري.
حدث عن محمد عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: صلاة المغرب وتر النهار، فأوتروا صلاة الليل، وصلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل.
هارون بن سعيد
أبو عبد الرحمن الأصبهاني المعروف بالراعي العابد حدث عن إبراهيم بن يوسف بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للكاتب إذا كتب: ضع القلم على أذنك.(26/409)
هارون بن عبد الصمد بن عبدوس بن حسان
أبو موسى النيسابوري الرخي حدث عن علي بن المديني بسنده إلى علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال، وليقل له: يرحمكم الله، وليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم.
توفي هارون بن عبد الصمد سنة خمس وثمانين ومئتين.
هارون بن عمران بن يزيد بن خالد بن أبي جميل القرشي
حدث عن أبي الجماهر محمد بن عثمان السعدي إلى أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
هارون بن عمر بن يزيد بن زياد
ابن أبي زياد أبو عمر المخزومي من دمشق.
حدث عن عبد الله بن يوسف بسنده إلى أبي الدرداء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فرغ الله إلى كل عبد من علمه وأجله ورزقه وأثره ومضجعه.
وحدث بسنده إلى الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فضل الله قريشاً بسبع خصال: فضلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبد الله إلا قرشي، وفضلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون، وفضلهم بأنه نزلت فيهم سورة من القرآن لم يدخل فيها أحد من العالمين، وهي " لإيلاف قريش " وفضلهم بأن فيهم الخلافة والحجابة والسقاية.(26/410)
وحدث الوليد عن مسلم بسنده إلى مالك بن أحمر: أنه لما بلغه مقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبوك ومكانه بها وفد إليه مالك بن أحمر، وقدم عليه بها وأسلم، فقبل إسلامه وبيعته، وسأله أن يكتب له كتاباً يدعو قومه إلى الإسلام، فكتب له كتاباً في رقعة من أدم.
قال الوليد بن مسلم: فسألت سعيداً أن يقرئني كتابه، فذكر كبره وضعف بصره عن قراءته، وقال أبو أيوب بن محرز: فسله عنه فسيقرئك، قال: فلقيته، فأخرج إلي رقعة من أدم، عرضها أربع أصابع، وطولها شبر، قد كاد يتماح ما فيها، فقرأ علي أيوب: بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد بن عبد الله لمالك لن أحمر ولمن اتبعه من المسلمين أماناً لهم ما أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، واتبعوا المسلمين، وخالفوا المشركين، وأدوا الخمس من المغنم، وسهم الغارمين، وسهم كذا وكذا - انماح ذكر السهم الثاني -، وهم آمنون بأمان الله وأمان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وحدث عن مبشر بن إسماعيل بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي عوف قال: لا تعادين رجلاً حتى تعرف الذي بينه وبين الله، فإن كان محسناً فيما بينه وبين الله لم يسلمه الله لعداوتك، وإن كان مسيئاً فيما بينه وبين الله كفاك عمله.
حدث سنة اثنتين وعشرين ومئتين.
هارون بن محمد بن بكار بن بلال
العاملي حدث عن منبه بن عثمان بسنده إلى الحسن بن عبد الرحمن بن سمرة قال له: يا حسن سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا تسأل الإمارة، فإنه من سألها وكل إليها، ومن ابتلي بها ولم يسألها أعين عليها.(26/411)
قال عمر بن عبد العزيز: إن هذا لشيء ما سألته الله قط.
حدث عن محمد بن عيسى بسنده إلى معاذ بن جبل: أنه أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ بعثه إلى اليمن، فقال: يا رسول الله أوصني، فقال احفظ لسانك. فكأن معاذاً تهاون بذلك؛ فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثكلتك أمك يا بن جبل وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟! وحدث عن مروان بسنده إلى عمر بن الخطاب: أنه ذكر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: توضأ واغسل ذكرك، ثم نم.
وحدث عن محمد بن سميع بسنده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يقول: دية كلب الصيد أربعون درهماً، ودية كلب الغنم شاة سمينة، ودية كلب الحرث فرق من طعام، ودية كلب الحرس فرق من تراب، ليس لقاتله أن يمنعه، وليس لصاحبه أن يرده.(26/412)
1 - /هارون الرشيد بن محمد بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أبو جعفر ويقال: أبو أمير المؤمنين بويع بالخلافة بعد موت أخيه موسى الهادي بعهد من أبيه المهدي. قدم الشام غير مرة للغزو.
حدث هارون الرشيد عن جده المنصور عن أبيه محمد بن علي عن أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب عن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا نكاح إلا بولي، وما كان بغير ولي فهو مردود ".
قال هارون على المنبر: حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتقوا النار ولو بشق تمرة. مر الرشيد بدير مران، فاستحسنه، وهو على تل تحته رياض زعفران وبساتين، فنزله، وأمر أن يؤتى بطعام خفيف، فأتى به، فأكل، وأتي بالشراب، ودعا بالندماء والمغنين، فخرج إليه صاحب الدير، وهو شيخ كبير هرم، فسأله واستأذنه في أن يأتيه بشيء من طعام الديارات، فأذن له، فإذا أطعمه نظاف، وإدام في نهاية الحسن، فأكل منها اكثر أكله، وأمره بالجلوس فجلس يحدثه، وهو يشرب إلى أن جرى ذكر بني أمية، فقال له الرشيد: هل نزل منهم أحد؟ فال: نعم، نزل بي الوليد بن يزيد وأخوه الغمر، فجلسا في هذا الموضع، فأكلا وشربا وغنيا. فلما دب فيهما السكر وثب الوليد إلى ذلك(27/5)
الجرن فملأه وشرب به، وملأه، وسقى به أخاه الغمر، فما زالا يتعاطيانه حتى سكرا، وملأه لي دراهم، فنظر إليه الرشيد، فإذا هو عظيم لا يقدر على أن يشرب ملأه، فقال: أبى بنو أمية إلا أن يسبقونا إلى اللذات سبقًا لا يجاريهم أحد فيه، ثم أمر برفع النبيذ من بين يديه وركب من وقته.
كان الرشيد يقول: الدنيا أربعة منازل قد نزلت منها ثلاثة: أحدها الرقة، والآخر دمشق، والآخر الري في وسطه نهر، وعن جنبيه أشجار ملتفة متصلة، وفيما بينهما سوق. والمنزل الرابع سمرقند، وهو الذي بقي علي أنزله، وأرجو ألا يحول الحول في هذا الوقت حتى أحل به. فما كان بين هذا وبين أن توفي إلا أربعة أشهر فقط. كان أبو جعفر الرشيد ولد بالري سنة ست وأربعين ومئة، وقيل: سنة سبع وأربعين، وقيل: ثمان، وقيل: تسع وأربعين، وقيل: سنة خمسين ومئة. وكان سنة يحج وسنة يغزو. قال أبو السعلي: الوافر
فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور
ففي أرض العدو على طمر ... وفي أرض البنية فوق كور
وما جاز الثغور سواك خلق ... من المستخلفين على الأمور
وأم الرشيد والهادي واحدة هي الخيزران وفيها يقول الشاعر: الكامل
يا خيزران هناك ثم هناك ... أمسى العباد يسوسهم ابناك(27/6)
واستخلف هارون يوم مات أخوه موسى، وكان هارون أبيض، طويلاً، مسمناً، جميلاً، قد وخطه الشيب.
ولما بويع الرشيد في سنة سبعين ومئة في اليوم الذي توفي فيه الهادي ولد المأمون في تلك الليلة، فاجتمعت له بشارة الخلافة، وبشارة الولد، وكان يقال: ولد في هذه الليلة خليفة، وولي خليفة، ومات خليفة. وكان ينزل الخلد. وحكى بعض أصحابه أنه كان يصلي في كل يوم مئة ركعة إلى أن فارق الدنيا إلا أن تعرض له علة. وكان يتصدق في كل يوم من صلب ماله بألف درهم، وكان إذا حج حج معه مئة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج في كل سنة ثلاث مئة رجل بالنفقة السابغة. وكان يقتفي أخلاق المنصور، ويعمل بها إلا في العطايا والجوائز، فإنه كان أسنى الناس عطية ابتداءً وسؤالاً، وكان لا يضيع عنده يد ولا عارفة. وكان لا يؤخر عطاءه، ولا يمنعه عطاء اليوم من عطاء غد. وكان يحب الفقه والفقهاء، ويميل إلى العلماء، ويحب الشعر والشعراء، ويعظم الأدب والأدباء، ويكره المراء في الدين والجدال، ويقول: إنه لخليق ألا ينتج خيراً، ويصغي إلى المديح ويحبه، ويجزل عليه العطاء ولاسيما إذا كان من شاعر فصيح مجيد.
وكان نقش خاتم هارون بالحميرية، وخاتم الخاصة لا إله إلا الله.
قال أبو معاوية الضرير: حدثت الرشيد هارون بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وددت إني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل. فبكى هارون حتى انتحب وقال له: يا أبا معاوية، ترى لي أن أغزو؟ قلت: يا أمير المؤمنين، مكانك في الإسلام أكبر، ومقامك أعظم، ولكن ترسل الجيوش.(27/7)
قال أبو معاوية: ما ذكرت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين يديه إلا قال: صلى الله على سيدي ومولاي. وفي سنة ست وثمانين ومئة أقام الحج الرشيد هارون، وجدد البيعة لابنه محمد المخلوع، وعبد الله المأمون، وكتب بينهما شروطا، وعلق الكتاب بالكعبة.
وفي سنة تسعين غزا الرشيد الروم، وفرق القواد في بلادهم، وأقام هو بطوانة، وسأله الطاغية أن ينصرف عنه، ويعطيه مالاً، فأبى، أو يعطيه فدية وخراجاً، ويبعث إليه بجزية عن رأسه ورأس ابنه، فبعث إليه ثلاثين ألف دينار جزية، وأربعة دنانير جزية عن رأسه ودينارين عن رأس ابنه.
وفي سنة ثلاث وسبعين ومئة حج بالناس هارون، وهي السنة التي قسم فيها للناس صغيرهم وكبيرهم درهماً درهماً.
وفي سنة ثلاث وسبعين فتحت سمالوا. وفي سنة تسعين فتح هرقلة، وقال أبو العتاهية فيها: الكامل
الحمد لله اللطيف بخلقه ... إنا لنجزع والإمام صبور
فتحت هرقلة بعد طول تمنع ... إني بكل مسرة مسرور
وإمامنا فيها أغر محجل ... وحجوله يوم القيامة نور
إن حط رحل الحج أعمل سرجه ... للغزو ينجد مرة ويغور
همم لهارون الإمام بعيدة ... أبداً لهن مواسم وثغور
هارون شيد كل عز كان أس ... سه له المهدي والمنصور(27/8)
هارون هارون المدافع ربه ... عنه هو المحفوظ والمستور
قفل الإمام وقد تكامل فيئه ... وأقام جزيته له النقفور
روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يكون من ولد العباس ملوك يلون أمر أمتي يعز الله بهم الدين. ومن بارع شعر أبي الشيص قوله يمدح الرشيد عند هزيمة نقفور وفتح بلاد الروم من قصيد: الطويل
شددت أمير المؤمنين قوى الملك ... صدعت بفتح الروم أفئدة الترك
قريت سيوف الله هام عدوه ... وطأطأت بالإسلام ناصية الشرك
فأصبحت مسروراً ولا تعي ضاحكاً ... وأصبح نقفور على ملكه يبكي
كان أبو معاوية الضرير عند الرشيد، فجرى الحديث إلى حديث أبي هريرة أن موسى لقي آدم، فقال: أنت آدم الذي أخرجتنا من الجنة؟ ... الحديث، فقال رجل قرشي كان عنده من وجوه قريش: أين لقي آدم موسى؛ فغضب الرشيد وقال: النطع والسيف، زنديق والله يطعن في حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول: كانت منه بادرة ولم يفهم يا أمير المؤمنين حتى أسكنه.
وفي رواية: فغضب الرشيد وقال: من طرح إليك هذا؟ وأمر به فحبس، فقال: والله ما هو إلا شيء خطر ببالي، وحلف بالعتق وصدقة المال ومغلظات الأيمان ما سمعت من أحد، ولا جرى بيني وبين أحد في هذا الكلام. قال: فلما عرف الرشيد ذلك قال: فأمر به فأطلق، وقال: إنما توهمت أنه طرح إليه بعض الملحدين هذا الكلام الذي خرج منه، فيدلني عليهم فأستبيحهم، وإلا فأنا على يقين أن القرشي لا يتزندق.
قال رجل من قواد هارون: دخلت على هارون وبين يديه رجل مضروب العنق، ورجل معه سيف ملطخ بالدم يمسحه على قفاه، ففزعت لما رأيته فقال: متلت هذا(27/9)
الرجل لأنه كان يقول: القرآن مخلوق، تقربت إلى الله بدمه.
قال أبو بكر بن عياش: قلت لهارون: يا أمير المؤمنين، انظر هذه العصابة الذين يحبون أبا بكر وعمر، ويفضلونهم فأكرمهم يعز سلطانك، ويقوى، فقال: أولست كذلك؟ أنا والله كذلك، أنا والله كذلك، أنا والله أحبهم، وأحب من يحبهم، وأعاقب من يبغضهم.
جاء جنديان يسألان عن منزل أبي بكر بن عياش، قال: فقلت: ما تريدان منه؟ فقالا: أنت هو؟ قلت: نعم، فقالا: أجب الخليفة، قلت: أدخل ألبس ثوبي، قالا: ليس إلى ذلك سبيل، فأرسلت من جاءني بثيابي، ومضيت معهم إلى الرشيد بالحيرة، فدخلت عليه، فقال: لا أرنا إلا قد رعناك. إن أبا معاوية الضرير حدثني بحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يكون قوم بعدي ينبزون بالرافضة فاقتلوهم، فانهم مشركون، فوالله لئن كان حقاً لأقتلنهم. فلما رأيت ذلك خفت منه، فقلت: يا أمير المؤمنين، لئن كان ذلك فإنهم ليحبونكم أشد من نبي الله، وهم إليك أميل، فسري عنه، ثم أمر لي بأربع بدر، فأخذتها. ولقيني رجل منهم فقال: يا أبا بكر، أخذت الدراهم، ما عذرك عند الله؟ فقلت: عذري عند الله أني خلصت من القتل.
دخل ابن السماك على هارون فقال: يا أمير المؤمنين، تواضعك في شرفك أشرف من شرفك. وقال له مرة: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل لم يجعل أحداً فوقك، فلا ينبغي أن يكون أحد أطوع لله عز وجل منك. قال ابن السماك: بعث إلي هارون فأتيته، فأخذني خصيان حتى انتهيا بي إليه في بهو، فقال لهما(27/10)
هارون: ارفقا بالشيخ، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما مر بي يوم منذ ولدتني أمي أنا أنصب فيه من يومي هذا، فاتق الله يا أمير المؤمنين، واعلم أن لك مقاماً بين يدي الله أنت فيه أذل من مقامي هذا بين يديك، فاتق الله في خلقه، واحفظ محمداً في أمته، وانصح نفسك في رعيتك، واعلم أن الله أخذ سطواته وانتقامه منأهل معاصيه بكم، فاضطرب على فراشه حتى وقع على مصلى بين يدي فراشه، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا ذل الصفة، فكيف لو رأيت ذل المعاينة، فكادت نفسه تخرج، وكان يحيى بن خالد إلى جنبه، فقال للخصيين: أخرجاه، فقد أبكى أمير المؤمنين.
بعث هارون إلى محمد بن السماك، فقال له يحيى بن خالد: أتدري لم بعث إليك أمير المؤمنين؟ قال: لا أدري، قال له يحيى: بعث لما بلغه عنك من حسن دعائك للخاصة والعامة، فقال له ابن السماك: أما ما بلغ أمير المؤمنين عني ذلك فبستر الله الذي ستره علي، ولولا ستره لم يبق لنا ثناء، ولا التقاء على مودة، فالستر هو الذي أجلسني بين يديك يا أمير المؤمنين. إني والله ما رأيت وجهاً أحسن من وجهك، فلا تحرق وجهك بالنار، فبكى هارون بكاء شديداً، ثم دعا بماء فاستسقى، فأتي بقدح فيه ماء، فقال: يا أمير المؤمنين، أكلمك بكلمة قبل أن تشرب هذا الماء؟ قال: قل ما أحببت، قال: يا أمير المؤمنين، لو منعت هذه الشربة إلا بالدنيا وما فيها، أكنت تفتديها بالدنيا وما فيها حتى تصل إليك؟ قال: نعم، قال: فاشرب، بارك الله فيك. فلما فرغ من شربه قال له: يا أمير المؤمنين، أرأيت لو منعت إخراج هذه الشربة منك إلا بالدنيا وما فيها، أكنت تفتدي ذلك بالدنيا وما فيها؟ قال: نعم، قال: يا أمير المؤمنين، فما تصنع بشيء شربة ماء خير منه؟ فبكى هارون واشتد بكاؤه، فقال يحيى بن خالد: يا بن السماك، قد آذيت أمير المؤمنين، فقال له: وأنت يا يحيى فلا تغرنك رفاهية العيش ولينه.
قال يحيى بن خالد لابن السماك: إذا دخلت على هارون أمير المؤمنين فأوجز، ولا تكثر عليه، فدخل عليه، وقام بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لك بين يدي الله مقاماً، وإن لك من مقامك منصرفاً، فانظر إلى أين منصرفك: إلى الجنة أم إلى النار، فبكى هارون حتى كاد أن يموت.(27/11)
قال الفضيل بن عياض: لما قدم الرشيد بعث إلي، فذكر الحديث بطوله وقال: عظنا بشيء من علم، فقلت له: يا حسن الوجه، حساب هذا الخلق كلهم عليك، فجعل يبكي، ويشهق، قال: فرددتها عليه: يا حسن الوجه، حساب هذا الخلق كلهم عليك، فأخذني الخدم، فأخرجوني، وقالوا: اذهب بسلام.
قال الأصمعي: كنت عند الرشيد يوماً، فرفع إليه في قاض كان استقضاه يقال له: عافية فكبر عليه، فأحضره، وفي المجلس جمع، فجعل يخاطبه، ويوقفه على ما رفع إليه، وطال المجلس، ثم إن أمير المؤمنين عطس فشمته من كان بالحضرة ممن قرب منه سواه، فإنه لم يشمته، فقال له الرشيد: ما بالك لم تشمتني كما فعل القوم؟! فقال له عافيه: لأنك يا أمير المؤمنين لم تحمد الله، ولذلك لم أشمتك، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عطس عنده رجلان، فشمت أحدهما، ولم يشمت الآخر، فقال: يا رسول الله، ما بالك شمت ذاك، ولم تشمتني؟ قال: لأن هذا حمد الله، فشمتناه، وأنت فلم تحمد الله فلم نشمتك، فقال له الرشيد: ارجع إلى عملك، أنت لم تسامح في عطسة تسامح في غيرها؟ وصرفه منصرفاً جميلاً، وزبر القوم الذين رفعوا عليه.
قال عبد الله بن عبد العزيز العمري: قال لي موسى بن عيسى: ينتهي إلى أمير المؤمنين الرشيد أنك تشتمه، وندعو عليه، فبأي شيء استجزت ذلك منه يا عمري؟ قال: قلت: أما في شتمه، فهو والله أكرم علي من نفسي، وأما في الدعاء عليه، فو الله ما قلت: اللهم إنه قد أصبح عبئاً ثقيلاً على أكتافنا، لا تطيقه أبداننا، وقذى في عيوننا، لا تطرف عليه جفوننا، وشجاً في أفواهنا، لا تسيغه حلوقنا، فاكفنا مؤنته، وفرق بيننا وبينه، ولكني قلت: اللهم، إن كان قد تسمى بالرشيد ليرشد، فأرشده أو لغير ذلك فراجع به، اللهم، إن له في الإسلام بالعباس على كل مسلم حقاً، وله بنبيك قرابةً ورحماً، فقربه من كل خير، وبعده من كل شر، وأسعدنا به، وأصلحه لنفسه ولنا، فقال موسى: يرحمك الله يا أبا عبد الرحمن، كذلك لعمري كان ما فعلت.(27/12)
قال أبو معاوية: أكلت مع الرشيد هارون طعاماً يوماً، فصب على يدي رجل لا أعرفه، فقال الرشيد: يا أبا معاوية، هل تدري من يصب على يديك؟ قلت: لا، قال: أنا، قلت: أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، إجلالا للعلم.
قال يحيى بن أكثم:
قال لي الرشيد: ما أنبل المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين، قال: فتعرف أجل مني؟ قلت: لا، قال: لكني أعرفه، رجل في حلقة يقول: حدثنا فلان عن فلان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... قلت: يا أمير المؤمنين، هذا خير منك وأنت ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وولي عهد المسلمين؟ قال: نعم، ويلك،، هذا خير مني لأن اسمه مقترن باسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يموت أبدا، نحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدهر.
قال يحيى بن أكثم: قال لي الرشيد: ما أنبل المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين، قال: فتعرف أجل مني؟ قلت: لا، قال: لكني أعرفه، رجل في حلقة يقول: حدثنا فلان عن فلان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... قلت: يا أمير المؤمنين، هذا خير منك وأنت ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وولي عهد المسلمين؟ قال: نعم، ويلك، هذا خير مني لأن اسمه مقترن باسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يموت أبدا، نحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدهر.
حدث أبو زرعة عن أبيه قال: كنا بالرقة وبيوتات الأموال تنقل إلى هارون الرشيد، فقدرناها أربعة آلاف وست مئة جمل، ألف وست مئة منها ذهب، وثلاثة آلاف ورق.
قال الأصمعي: دخلت على هارون الرشيد يوم الجمعة، وهو يقلم أظفاره، فقلت له في ذلك: فقال: أخذ الأظفار يو الخميس من السنة. وبلغني أن أخذها يوم الجمعة ينفي الفقر. فقلت: يا أمير المؤمنين، وتخشى أنت أيضا الفقر؟ فقال: يا أصمعي، وهل أحد أخشى للفقر مني؟
حدث إبراهيم بن المهدي قال: كنت أتغدى مع الرشيد في يوم شات، فسأل صاحب المطبخ: هل عنده برمة من لحم الجزور، فأعلمه أنه عنده ألواناً منه، فأمره بإحضاره، فقدمت إليه صحفة، فأدخل لقمة منها في فيه، وحرك لحيته عليها مرتين، فضحك جعفر بن يحيى، فسأله الرشيد عن ضحكه، وأمسك عن المضغ، فقال: ذكرت كلاماً دار بيني وبين جاريتي البارحة،(27/13)
فضحكت، فقال الرشيد: هذا محال، فأخبرني بحقي عليك، قال إذا ابتلعت لقمتك حدثتك، فألقى لقمته من فيه تحت المائدة، فقال له جعفر: بكم يتوهم أمير المؤمنين أن هذا اللون يقوم عليه؟ فقال له الرشيد: أتوهمه يقوم بأربعة دراهم، فقال جعفر: إنه يقوم عليك بأربع مئة ألف درهم، قال: كيف؟ ويحك! فقال جعفر: سأل أمير المؤمنين صاحب المطبخ من أكثر من أربع سنين عن برمة من لحم جزور، فلم يجدها، فأنكر أمير المؤمنين ذلك علي وقال: لا يفت مطبخي لون يتخذ من لحم جزور في كل يوم، فأنا منذ ذلك اليوم أنحر جزوراً في كل يوم، فإن الخلفاء لا نبتاع لهم لحم الجزور من السوق، ولم يدع أمير المؤمنين بشيء من لحمها غلا يومه هذا. وكان الرشيد في أول طعامه، وكان أشد خلق الله تقززاً، فضرب الرشيد بيده اليمنى وجهه وفيها الغمر، ومد بها لحيته، ثم قال: هلكت ويلك يا هارون، واندفع يبكي، ورفعت المائدة، وطفق يبكي حتى آذنه المؤذنون بصلاة الظهر، فتهيأ للصلاة ثم أمر أن يحمل للحرمين ألفي ألف درهم يفرق في كل حرم ألف ألف، وأن يفرق في كل جانب من جانبي بغداد خمس مئة ألف درهم، وأن يفرق في كل مدينة من الكوفة والبصرة خمس مئة ألف درهم، وقال: لعل الله أن يغفر لي هذا الذنب، وصلى الظهر وعاد إلى مكانه يبكي إلى العصر، وقام فصلى، وعاد إلى مكانه إلى أن قرب ما بين العصر والمغرب، فأخبره القاسم بن الربيع أن أبا يوسف القاضي بالباب، فأذن له، فدخل، وسلم، فلم يرد عليه، وأقبل يقول: يا يعقوب، هلك هارون، فسأله عن القصة، فقال: يخبرك جعفر، وعاد لبكائه، فحدثه جعفر عن الجزور التي تنحر كل يوم، ومبلغ ما أنفق من الأموال، فقال له أبو يوسف: هذه الإبل التي كانت تبتاع كانت تترك إذا نحرت حتى تفسد وتنتن، ولا تؤكل لحومها، فيرمى بها؟ قال جعفر: اللهم، لا، قال أبو يوسف: فما كان يصنع بها؟ قال: يأكلها الحشم والموالي وعيال أمير المؤمنين، فقال أبو يوسف: الله أكبر، أبشر يا أمير المؤمنين بثواب الله على نفقتك، وعلى ما فتح لك من الصدقة في يومك هذا، ومن البكاء للتقية من ربك، فإني لأرجو ألا يرضى الله من ثوابه على ما داخلك من الخوف من سخطه عليك إلا بالجنة، فإنه عز وجل يقول: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " وأنا أشهد أنك خفت مقام(27/14)
ربك، فسري عن الرشيد وطابت نفسه، ووصل أبا يوسف بأربع مئة ألف درهم، وصلى المغرب ودعا بطعامه وأكل، فكان غداؤه في اليوم عشاءه.
قال عمرو بن بحر: اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لأحد من جد ولا هزل: وزراؤه البرامكة، لم ير مثلهم سخاء وسرواً، وقاضيه أبو يوسف، وشاعره مروان بن أبي حفصة، كان في عصره كجرير في عصره، ونديمه عم أبيه العباس بن محمد صاحب العباسية، وحاجبه الفضل بن الربيع أتيه الناس وأشده تعاظماً، ومغنيه إبراهيم الموصلي واحد عصره في صناعته، وضاربه زلزل، وزامره برصوما، وزوجته أم جعفر أرغب الناس في خير، وأسرعهم إلى كل بر، أدخلت الماء الحرم بعد امتناعه، إلى أشياء من المعروف.
كان عبيد الله بن ظبيان قاضي الرقة، وكان الرشيد إذ ذاك بها، فجاء رجل فاستعذر عليه من عيسى بن جعفر، فكتب إليه ظبيان: أما بعد. أبقى الله الأمير وحفظه، أتاني رجل ذكر أنه فلان بن فلان، وأن له على الأمير - أبقاه الله - خمس مئة ألف درهم، فإن رأى الأمير حفظه الله أن يحضر معه بمجلس الحكم أو يوكل وكيلاً يناظر خصمه فعل، ودفع بالكتاب إلى الرجل، فأتى به باب عيسى بن جعفر، ودفع الكتاب إلى حاجبه، فأوصله إليه، فقال: كل هذا الكتاب، فرجع إلى القاضي فأخبراه، فكتب إليه: أبقاك الله وحفظك وأمتع بك، حضر رجل يقال له فلان بن فلان، فذكر أن له عليك حقاً فصر به معه إلى مجلس الحكم أو وكيلك، إن شاء الله، ووجه بالكتاب مع عونين من أعوانه، فحضرا باب عيسى، ودفعا الكتاب إليه، فغضب، ورمى به،(27/15)
فانطلقا فأخبره، فكتب إليه: حفظك الله، وأبقاك، وأمتع بك، لا بد من أن تصير أنت وخصمك إلى مجلس الحكم، فإن أبيت أنهيت أمرك إلى أمير المؤمنين، ووجه بالكتاب مع عدلين، فقعدا على باب عيسى حتى خرج، فقاما إليه، ودفعا إليه كتاب القاضي، فلم يقرأه، ورمى به، فأبلغاه ذلك، فختم قمطره وانصرف، وقعد في بيته، فبلغ الخبر الرشيد، فدعاه، وسأله عن أمره، فأخبره بالقصة عن آخرها، حرفاً حرفاً، فقال لإبراهيم بن عثمان: صر إلى باب عيسى بن جعفر، واختم عليه أبوابه كلها، ولا يخرجن أحد، ولا يدخلن أحد عليه حتى يخرج إلى الرجل من حقه أو يصير معه إلى الحاكم، فأحاط إبراهيم بداره، ووكل بها خمسين فارساً، وغلقت أبوابه، فظن عيسى أنه قد حدث للرشيد رأي في قتله، ولم يدر ما سبب ذلك، وجعل يكلم الأعوان من خلف الباب، وارتفع الصياح من داره، وصرخ النساء، فأمرهن أن يسكتن، وقال لبعض غلمان إبراهيم: ويلك ما حلنا؟ فأخبره خبر ابن ظبيان، فأمر أن يحضر خمس مئة ألف درهم من ساعته، وتدفع إلى الرجل، فجاء إبراهيم إلى الرشيد، فأخبره، فقال: إذاً قبض الرجل ماله فافتح أبوابه.
قال بشر بن الوليد: كنت عند أبي سفيان يعقوب بن إبراهيم القاضي، فحدثنا بحديث طريف قال: بينا أنا البارحة أويت إلى فراشي فإذا داق يدق الباب، فخرجت فإذا هرثمة بن أعين قال: أجب أمير المؤمنين، فقلت: يا أبا حاتم، بي لك حرمة، فإن أمكنك أن تدفع بذلك إلى الغد، فلعله أن يحدث له رأي، فقال: ما لي إلى ذلك سبيل، قلت: تأذن لي أن أصب علي ماء وأتحنط؟ فإن كان أمر من الأمور كنت قد أحكمت شأني، وإن رزق الله(27/16)
العافية فلن يضر، فدخلت وفعلت ما أردت، ومضينا، فإذا مسرور واقف، فقال له هرثمة: قد جئت به. قال: فقلت لمسرور: يا أبا هاشم، هذا وقت ضيق، فتدري لم طلبني أمير المؤمنين؟ قال: لا، قلت: فمن عنده؟ قال: عيسى بن جعفر، قلت: ومن؟ قال: ما عنده ثالث، قال: مر، فإذا صرت إلى الصحن فإنه في الرواق، وهو ذلك جالس، فحرك رجلك بالأرض، فإنه سيسألك، فقل: أنا. ففعلت، فقال: من؟ قلت: يعقوب، قال: ادخل، فدخلت، فإذا هو جالس وعنده عيسى بن جعفر، فسلمت، فرد وقال: أظننا روعناك، قلت: إي والله، وكذلك من خلفي. قال اجلس، ثم التفت إلي فقال: يا يعقوب، تدري لما دعوتك؟ قلت: لا، قال: دعوتك لأشهدك على هذا، إن عنده جارية سألته أن يهبها لي فامتنع، وسألته أن يبيعها فأبى، والله لئن لم يفعل لأقتلنه، قال: فالتفت إلى عيسى، وقلت: وما بلغ الله بجارية تمنعها أمير المؤمنين، وتنزل نفسك هذه المنزلة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ فقال لي: عجلت علي في القول قبل أن تعرف ما عندي: إن علي يميناً بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك ألا أبيع هذه الجارية، ولا أهبها، فالتفت إلي الرشيد فقال: هل له في ذلك من مخرج؟ قلت: نعم، يهب لك نصفها، ويبيعك نصفها، فيكون لم يبع ولم يهب. قال عيسى: ويجوز ذلك؟ قلت: نعم. قال: فأشهدك أني قد وهبت له نصفها، وبعته النصف الباقي بمئة ألف دينار، فقال: الجارية، فأتي بالجارية وبالمال، فقال: خذها يا أمير المؤمنين، بارك الله لك فيها. قال: يا يعقوب، بقيت واحدة، قلت: ما هي؟ قال: هي مملوكة، ولا بد أن تستبرأ، ووالله إن لم أبت معها ليلتي أظن نفسي ستخرج، قلت: يا أمير المؤمنين، تعتقها، وتتزوجها، فإن الحرة لا تستبرأ، قال: فإني قد أعتقتها، فمن يزوجنيها؟ قلت: أنا، فدعا بمسرور وحسين، فخطبت وحمدت الله، ثم زوجته على عشرين ألف دينار، ودعا بالمال فدفعه إليها ثم قال: يا يعقوب، انصرف، وقال: يا مسرور، احمل إلى يعقوب مئتي ألف درهم، وعشرين تختاً ثياباً، فحمل ذلك معي. قال بشر بن الوليد: فالتفت إلى يعقوب فقال: هل رأيت بأساً فيما فعلت؟ قلت: لا، قال: فخذ منها حقك، قلت: وما حقي؟ قال: العشر، فشكرته، وذهبت(27/17)
لأقوم، فإذا بعجوز قد دخلت فقالت: يا أبا يوسف، بنتك تقرئك السلام، وتقول لك: ما وصل إلي في ليلتي هذه من أمير المؤمنين إلا المهر الذي عرفته، وقد حملت إليك النصف منه، وخلفت الباقي لما أحتاج إليه، فقال: رديه، فوالله لا قبلتها، أخرجتها من الرق، وزوجتها أمير المؤمنين وترضى لي بهذا، فلم نزل نطلب إليه أنا وعمومتي حتى قبلها، وأمر لي منها بألف دينار.
كان حماد بن موسى صاحب أمر محمد بن سليمان والغالب عليه، فحبس سوار القاضي رجلاً في بعض ما يحبس فيه القضاة، فبعث حماد فأخرج الرجل من الحبس، فخاصمه إلى سوار فأخبره أن حماداً أخرج الرجل من الحبس، فركب سوار حتى دخل على محمد بن سليمان، وهو قاعد للناس، والناس على مراتبهم، فجلس حيث يراه محمد، ثم دعا قائداً من قواده، فقال: أسامع أنت أم مطيع؟ قال: نعم، قال: اجلس ها هنا فأقعده عن يمينه، ودعا آخر من نظرائه ففعل به ما فعل بالأول، فعل ذلك بجماعة من قواد سليمان ثم قال لهم: انطلقوا إلى حماد بن موسى فضعوه في الحبس، فنظروا إلى محمد بن سلمان فأعلموه ما أمرهم، فأشار إليهم أن افعلوا ما يأمركم، فانطلقوا إلى حماد فوضعوه في الحبس، وانصرف سوار إلى منزله، فلما كان بالعشي أراد محمد بن سليمان الركوب إلى سوار، فجاءته الرسل، فقالوا: إن الأمير على الركوب إليك، فقال: ا، نحن أولى بالركوب إليه، فركب إليه، فقال: كنت على المجيء إليك يا أبا عبد الله، فقال: ما كنت لأجشم الأمير ذلك، قال: بلغني ما صنع هذا الجاهل حماد، قال: هو ما بلغ الأمير، قال: فأحب أن تهب لي ذنبه، قال: أفعل أيها الأمير، اردد الرجل إلى الحبس، قال: نعم، بالصغر له والقماء، فوجه إلى الرجل فحبسه، وأطلق حماداً، وكتب بذلك صاحب الخبر إلى الرشيد، فكتب إلى سوار يحمده على ما صنع، وكتب إلى محمد بن سليمان كتاباً غليظاً يذكر فيه حماد ويقول: الرافضي ابن الرافضي، والله لولا أن الوعيد أمام العقوبة ما أدبته إلا بالسيف ليكون عظة لغيره، ونكالاً، يفتات على قاضي المسلمين في(27/18)
رأيه، ويركب هواه لموضعه منك، ويتعرض في الأحكام استهانة بأمر الله وإقداماً على أمير المؤمنين؟! وما ذلك إلا بك، وبما أرخيت من رسنه. تالله لئن عاد إلى مثلها ليجدني أغضب لدين الله، وأنتقم من أعدائه لأوليائه.
كان الرشيد يقول: أنا من أهل بيت عظمت رزيتهم، وحسنت بقيتهم، رزئنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبقيت فينا خلافة الله عز وجل. بينما الرشيد هارون يطوف بالبيت إذ عرض له رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أكلمك بكلام فيه غلظة فاحتمله لي، فقال: لا، ولا نعمة عين ولا كرامة، قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فأمر أن يقول له قولاً ليناً.
قال منصور بن عمار: ما رأيت أغزر دمعاً عند الذكر من ثلاثة: فضيل بن العياض، وأبو عبد الرحمن الزاهد، وهارون الرشيد.
قال شعيب بن حرب: بينا أنا في طريق مكة إذ رأيت هارون الرشيد، فقلت لنفسي: قد وجب عليك الأمر والنهي، فقالت لي: لا تفعل، فإن هذا الرجل جبار، ومتى أمرته ضرب عنقك، فقلت لنفسي: لابد من ذلك. فلما دنا مني صحت: يا هارون، قد أتعبت الأمة، وأتعبت البهائم، فقال: خذوه، فأدخلت عليه، وهو على كرسي وبيده عمود يلعب به، فقال: ممن الرجل؟ قلت من أفناء الناس، قال: ممن ثكلتك أمك؟ قلت: من الأبناء، قال: ما حملك على أن تدعوني باسمي؟! قال شعيب: فورد على قلبي كلمة ما خطرت لي قط على بال، قلت: أنا أدعو الله باسمه، فأقول: يا الله، يا رحمن، لا أدعوك باسمك؟ وما تنكر من دعائي باسمك؟ وقد رأيت الله سمى في كتابه أحب(27/19)
الخلق إليه محمداً، وكنى أبغض الخلق إليه: أبا لهب فقال: " تبت يدا أبي لهب " فقال: أخرجوه، فأخرجوني.
قال ابن السماك: قلت للرشيد هارون: يا أمير المؤمنين، إنك تموت وحدك، وتقبر وحدك، فاحذر المقام بتن يدي الجبار، والوقوف بين الجنة والنار، فإنك لا تقدم إلا على قادم مشغول، ولا يخلف إلا جاهل مغرور، يا أمير المؤمنين، إنما هو دبيب من سقم حتى يؤخذ بالكظم، وتزل القدم، ويقع الندم، فلا توبة تنال، ولا عثرة تقال، ولا يقبل فداء بمال، فجعل أمير المؤمنين يبكي حتى علا صوته، فالتفت إلي يحيى بن خالد فقال: قم، فقد شققت على أمير المؤمنين منذ الليلة، فقمت وأنا أسمع بكاءه.
لما لقي الرشيد هارون الفضيل بن العياض، قال له الفضيل: يا حسن الوجه، أنت المسؤول عن هذه الأمة، قال مجاهد: " وتقطعت بهم الأسباب " قال: الوصل التي كانت بينهم في الدنيا، فجعل هارون يبكي.
حج هارون وكان يأنس بسفيان بن عيينة، فقال لسفيان: أشتهي أن أرى الفضيل بن العياض، وأسمع كلامه، فقال له سفيان: إن علم أنك أمير المؤمنين لم ينبسط، قال: فكيف الوجه فيه؟ قال: نذهب إليه جميعاً وأنت متنكر، فمضيا، فقام سفيان على الباب، فقال: السلام عليك يا أبا علي، فقال الفضيل: من أنت؟ قال: سفيان، قال: ادخل يا أبا محمد، قال سفيان: ومن معي؟ قال: ومن معك، فدخلا، فأقبل الفضيل على سفيان فتحدثا ساعة، فقال له سفيان: يا أبا علي، هذا الفتى تعرفه؟ فنظر إليه فقال سفيان: هذا هارون أمير المؤمنين، فنظر إليه الفضيل فقال: يا حسن الوجه، قد قلدت أمراً عظيماً، فاتق الله في نفسك، وكان هارون من أحسن الناس وجهاً.(27/20)
قال الأصمعي: بعث إلي الرشيد، وقد زخرف مجلسه وبالغ فيها وفي بنائها، وصنع فيها طعاماً كثيراً، ثم وجه إلى أبي العتاهية فأتاه فقال: صف لنا ما نحن فيه من نعيم الدنيا. فأنشأ يقول: مجزوء الكامل
عش ما بدا لك سالماً ... في ظل شاهقة القصور
فقال: أحسنت ثم ماذا؟ فقال:
يسعى عليك بما اشتهيت ... لدى الرواح وفي البكور
فقال: ثم ماذا؟ فقال:
فإذا النفوس تقعقعت ... في ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ... ما كنت إلا في غرور
فبكى هارون، فقال الفضل بن يحيى: بعث إليك أمير المؤمنين لتسره، فأحزنته، فقال هارون: دعه، فإنه رآنا في عمىً فكره أن يزيدنا عمىً.
قال أبو العتاهية: دخلت على هارون الرشيد، فقال لي: أبو العتاهية؟ قلت: أبو العتاهية، قال: الذي يقول الشعر؟ قلت: الذي يقول الشعر، قال: عظني وأوجز، فقال: البسيط
لا تأمن الموت في طرف ولا نفس ... وإن تمنعت بالحجاب والحرس
واعلم بأن سهام الموت قاصدة ... لكل مدرع منا ومترس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس
قال: فخر مغشياً عليه.(27/21)
جاء هارون الرشيد إلى باب عبد الله بن المبارك فاستأذن، فلم يأذن له، فكتب هارون في رقعة: الخفيف
هل لذي حاجة إليك سبيل ... لا طويل قعوده بل قليل
فكتب ابن المبارك على ظهر رقعته:
أنت يا صاحب الكتاب ثقيل ... وقليل من الثقيل طويل
لما حبس الرشيد أبا العتاهية جعل عليه عيناً يأتيه بما يقول، فوجده يوماً قد كتب على الحائط: الوافر
أما والله إن الظلم لؤم ... وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
فأخبره بذلك الرشيد، فبكى، ودعا به، فاستحله، ووهب له ألف دينار.
خرج الرشيد في بعض متنزهاته، فانفرد من الناس على نحو ميل، فرفع له خباء مضروب، فأمه، فإذا فيه أعرابي، فسلم عليه الرشيد، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا من أبغض الناس إلى الناس، فقال الأعرابي:؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ أنت إذاً من معد، فمن أي معد؟ قال: من أبغض معد إلى معد، قال: أنت إذاً من مضر، فمن أي مضر أنت؟ قال: من أبغض مضر إلى مضر، قال: أنت إذاً من كنانة، فمن أي كنانة أنت؟ قال: من أبغض كنانة إلى كنانة، قال: إذاً أنت من قريش، فمن أي قريش أنت؟ قال: من أبغض قريش إلى قريش، قال: أنت إذاً من بني هاشم، فمن أي بني هاشم؟ قال: من أبغض بني هاشم إلى بني هاشم، قال: أنت إذاً من ولد العباس، فمن أي ولد العباس أنت؟ قال: من أبغض بني العباس إلى العباس، فوثب الأعرابي قائماً وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وتوافت الجيوش، فقال الرشيد: احملوه قاتله الله ما أذهنه.(27/22)
قال سفيان بن عيينة: دخلت على هارون أمير المؤمنين فقال: أي شيء خبرك يا سفيان؟ فقلت: الوافر
بعين الله ما تخفي البيوت ... فقد طال التحمل والسكوت
فقال: يا فلان، مئة ألف لابن عيينة، تغنيه، وتغني عقبه، ولا ينقص بيت مال المسلمين من ذلك.
قال شبيب: كنا في طريق مكة، فجاء أعرابي في يوم صائف شديد الحر، ومعه جارية له سوداء، وصحيفة، فقال: أفيكم كاتب؟ قلنا: نعم، وحضر غداؤنا،؟؟؟ فقلنا له: لو أصبت من طعامنا، فقال: إني صائم، فقلنا له: أفي هذا الحر الشديد، وجفاء البادية تصوم؟! فقال: إن الدنيا كانت ولم أكن فيها، وتكون ولا أكون فيها، وإنما لي منها أيام قلائل، وما أحب أن أغير أيامي، ثم نبذ إلينا الصحيفة، فقال: اكتب، ولا تزيدن على ما أقول حرفاً: هذا ما أعتق عبد الله بن عقيل الكلابي جارية له سوداء يقال لها: لؤلؤة ابتغاء وجه الله، وجواز العقبة العظمى، وإنه لا سبيل لي عليها إلا سبيل الولاء والمنة لله الواحد القهار، قال الأصمعي: فحدثت بهذا الحديث الرشيد، فأمر أن يشترى له ألف نسمة ويعتقون، ويكتب لهم هذا الكتاب.
قال الأصمعي: قدم الرشيد هارون البصرة يريد الخروج إلى مكة، فخرجت معه، فلما صرنا بضرية فإذا أنا على شفير الوادي بصبية قدامها قصعة لها، وإذا هي تقول: الخفيف
طحطحتنا طحاطح الأعوام ... ورمتنا حوادث الأيام(27/23)
فأتيناكم نمد أكفاً ... لفضالات زادكم والطعام
فاطلبوا الأجر والمثوبة فينا ... أيها الزائرون بيت الحرام
من رآني فقد رآني ورحلي ... فارحموا غربتي وذل مقامي
فأخبرت أمير المؤمنين، وأنشدته ما قالت، فعجب، فقلت: آتيك بها؟ قال: بل نذهب إليها، فوقف عليها، فقلت لها: أنشديه ما كنت تقولينه، فأنشدته ولم تهبه، فقال: يا مسرور، املأ قصعتها دنانير، فملأها حتى فاضت.
قال أبو عبيدة: حج الرشيد على طريق البصرة، فمر منفرداً ومعه الفضل بن الربيع فإذا بأعرابيين على قعودين لهما، فقال أحدهما: الرجز
يا أيها المجمع هماً لاتهم ... إنك إن تقض إلى الحمى تحم
كيف توقيك وقد جف القلم ... وحطت الصحة منك والسقم
فقال الرشيد للفضل: يا عباسي، قل للمنشد يعيد، فقال الفضل: يا صاحب الشعر، أعد، فقال: لو قال لي هذا لفعلت - يعني الرشيد - قال الفضل: فهممت بالإقبال عليه، فغمزني الرشيد بالصبر، فقلت له: ولم لا تجيبني؟ فقال لي: الطويل
إذا ما رأى الناس الجواد ومقرفاً ... إذا حربا قالوا جواد ومقرف(27/24)
فقال الرشيد: يا عباسي، ادع لي أقرب الخدم منك، فدعوت خادماً، فقال له الرشيد: ما معك؟ قال: أربع مئة درهم، قال: ادفعها إلى المنشد، فأخذها، فضرب الآخر بيده على كتف صاحبه ثم قال: الوافر
وكنت جليس قعقاع بن عمرو ... ولا يشقى بقعقاع جليس
فقال الرشيد: يا عباسي، ادع لي أقرب الخدم منك، فدعوت خادماً، قال الرشيد: ما معك؟ قال: مئتا دينار، قال: ادفعها إلى المتمثل، فدفعها إليه.
قال أبو عبيدة: فسألني الفضل: ما قصة القعقاع؟ فقلت: أهدي إلى معاوية هدايا يوم المهرجان، فيها جامات ذهب وفضة، فدفع معاوية الجامات إلى جلسائه، ودفع إلى القعقاع جام ذهب، وفي القوم أعرابي لم يعط شيئاً، وهو إلى جانب القعقاع، فدفع القعقاع إليه الجام، فأخذه الأعرابي ونهض، وهو يقول:
وكنت جليس قعقاع بن عمرو ... ولا يشقى بقعقاع جليس
قال أبو محمد الزيدي: دخلت على الرشيد، فوجدته منكباً ينظر في ورقة فيها مكتوب بالذهب، فتبسم فقلت: فائدة، أصلحك الله، قال: نعم، وجدت هذين البيتين في بعض خزائن بني أمية فاستحسنتهما، وقد أضفت إليهما ثالثاً، وأنشدني: الطويل
إذا سد باب عنك من دون حاجة ... فدعه لأخرى ينفتح لك بابها
فإن قراب البطن يكفيك ملؤه ... ويكفيك سوآت الأمور اجتنابها
فلا تك مبذالاً لعرضك واجتنب ... ركوب المعاصي يجتنبك عقابها
قال الفضل بن الربيع: خرج الرشيد من عند زبيدة - وقد تغدى عندها ونام - وهو يضحك، فقلت: قد سرني سرور أمير المؤمنين، فقال: ما أضحك إلا تعجباً: أكلت عند هذه المرأة، ونمت، وسمعت رنة فقلت: ما هذا؟ قالوا: ثلاث مئة ألف دينار، وردت من مصر، فقالت: هبها لي يا بن عم، فدفعتها إليها، فما برحت حتى عربدت وقالت: أي خير رأيت منك!.
قال الأصمعي: سمعت بيتين لم أحفل بهما، قلت: هما على كل حال خير من موضعهما من الكتاب، فإني عند الرشيد يوماً وعنده عيسى بن جعفر، فأقبل علي مسرور الكبير، فقال:(27/25)
يا مسرور، كم في بيت مال السرور؟ قال: ليس فيه شيء، فقال عيسى: هذا بيت الحزن، قال: فاغتنم الرشيد، وأقبل على عيسى فقال: والله لتعطين الأصمعي سلفاً على بيت مال السرور ألف دينار، فاغتم عيسى وانكسر، فقلت في نفسي: جاء موضع البيتين فأنشدت الرشيد: الطويل
إذا شئت أن تلقى أخاك معبساً ... وجداه في الماضين كعب وحاتم
فكشفه عما في يديه فإنما ... تكشف أخبار الرجال الدراهم
قال: فتجلى عن الرشيد وقال: يا مسرور، أعطه سلفاً على بيت مال السرور ألف دينار، قال: فأخذت بالبيتين ألفي دينار، وما كان البيتان يسويان عندي درهمين.
قال الأصمعي: دخلت على هارون - ومجلسه حافل - فقال يا أصمعي، ما أغفلك عنا، وأجفاك لحضرتنا! قلت: يا أمير المؤمنين، ما ألاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك، فأمرني بالجلوس فجلست، وسكت. فلما تفرق الناس إلا أقلهم نهضت، فأقعدني حتى خلا، قال: يا أبا سعيد، ما ألاقتني؟ قلت: أمسكتني يا أمير المؤمنين، وأنشدت:
كفاك كف ما تليق درهما ... جوداً وأخرى تعطي بالسيف الدما
فقال: أحسنت، وهكذا فكن، وقر نا في الملأ، وعلمنا في الخلاء، وأمر لي بخمسة آلاف دينار.
وقيل: إنه قال له: ما لاقتتني بعدك أرض. فلما خرج الناس قال له: ما معنى: ما لا قتتني أرض؟ قال: ما استقرت بي أرض، كما يقال: فلان لا يليق شيئاً أي: لا يستقر معه شيء، وقال له: هذا حسن، ولكن لا ينبغي أن تكلمني بين يدي الناس إلا بما أفهمه، فإذا خلوت فعلمني، فإنه إما أن أسكت فيعلم الناس أني لا أفهم، وإما أن أجيب بغير صواب، فيعلم الناس أني لم أفهم. قال الأصمعي: فعلمني أكثر مما علمته.(27/26)
مازح الرشيد أم جعفر فقال لها: كيف أصبحت يا أم نهر، فاغتمت لذلك، ولم تدر ما معناه، فوجهت إلى الأصمعي فسألته عن ذلك، فقال لها: الجعفر: النهر الصغير، وإنما ذهب إلى هذا، فسكنت نفسها.
قال الأصمعي: دخلت على هارون الرشيد، فقال لي: إني أرقب ليلتي هذه، فقلت: لم، أنام الله عين أمير المؤمنين؟ قال: فكرت بالعشق مم هو؟ فلم أقف عليه، فصفه لي حتى أخاله جسماً، قال الأصمعي: لا والله ما كان عندي قبل ذلك منه شيء، فأطرقت ملياً ثم قلت: نعم يا سيدي، إذا توافقت الأخلاق المشاكلة، وتمازجت الأرواح المتشابهة ألفيت لمح نور ساطع يستضيء به العقل، وتنير لإشراقه طباع الجناة، ويتصور من ذلك النور خلق في النفس منصباً نحو جواهرها يسمى العشق. فقال: أحسنت والله، يا غلام، أعطه، وأعطه، فأعطيت ثلاثين درهم.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: دخلت على أمير المؤمنين الرشيد يوماً، فقال: أنشدني من شعرك، فأنشدته: الطويل
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري ... فذلك شيء ما إليه سبيل
أرى الناس خلان الجواد ولا أرى ... بخيلاً به في العالمين خليل
ومن خير حالات الفتى لو علمته ... إذا نال خيراً أن يكون ينيل
عطائي عطاء المكثرين تكرماً ... وما لي كما قد تعلمين قليل
وإني رأيت البخل يزري بأهله ... ويحقر يوماً أن يقال بخيل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الفتى ... ورأي أمير المؤمنين جميل؟
فقال: لا كيف، إن شاء الله، يا فضل، أعطه مئة ألف درهم، لله در أبيات تأتينا(27/27)
بها، ما أحسن فصولها، وأثبت أصولها، فقلت: يا أمير المؤمنين، كلامك أجود من شعري، قال: أحسنت، يا فضل، أعطه مئة ألف أخرى.
قال الرشيد للمفضل الضبي: ما أحسن ما قيل في الذئب، ولك هذا الخاتم الذي في يدي، وشراؤه ألف وست مئة دينار؟ فقال: قول الشاعر: الطويل
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع
قال: ما ألقي هذا على لسانك إلا لذهاب الخاتم، وحلق به إليه، فاشترته أم جعفر بألف وست مئة دينار، وبعثت به إليه وقالت: قد كنت أراك تعجب به، فألقاه إلى الضبي وقال: خذه وخذ الدنانير، فما كنا نهب شيئاً ونرجع فيه.
صنع الرشيد ذات ليلة بيتاً، واضطرب عليه الثاني، فقال: علي بالعباس بن الأحنف، فأتي به في جوف الليل على حال من الذعر عظيمة، فقال له الرشيد: لا ترع، قال: وكيف لا يكون ذلك وقد طرقت في منزلي في مثل هذا الوقت؟ فلم أخرج إلا والواعية فيه وأهلي لا يشكون في قتلي، فقال: أحضرتك لبيت قلته صعب علي أن أشفعه بمثله، قال: ما هو؟ قال: مجزوء الوافر
جنان قد رأيناها ... فلم نر مثلها بشرا
فقال العباس:
يزيدك وجهها حسناً ... إذا ما زدته نظرا
إذا ما الليل مال علي ... ك بالظلماء واعتكرا(27/28)
ودج فلم تر قمراً ... فأبرزها تر قمرا
فقال الرشيد: أول ما يجب أن ندفع إليك ديتك، إذ نزل بك هذا الروع وبعيالك منا، فأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه.
دخل العباس بن الأحنف على هارون الرشيد فقال له هارون: أنشدني أرق بيت قالته العرب، فقال: قد أكثر الناس في بيت جميل حيث يقول: الطويل
ألا ليتني أعمى أصم تقودني ... بثنية لا يخفى علي كلامها
فقال له هارون: أنت أرق منه حيث تقول: البسيط
طاف الهوى في عباد الله كلهم ... حتى إذا مر بي من بينهم وقفا
قال العباس: أنت أمير المؤمنين أرق قولاً مني ومنه حيث تقول: الوافر
أما يكفيك أنك تملكيني ... وأن الناس كلهم عبيدي
وأنك لو قطعت يدي ورجلي ... لقلت من الهوى أحسنت زيدي
فأعجب بقوله وضحك.
قال ابن المبارك: عشق هارون جارية، فأرادها، فذكرت أن أباه كان مسها، فشغف بها هارون حتى قال: الوافر
أرى ماء وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود
أما يكفيك أنك تملكيني ... وأن الناس كلهم عبيدي
وأنك لو قطعت يدي ورجلي ... لقلت من الرضى أحسنت زيدي
قال: فسأل أبا يوسف عنها، فقال: أو كلما قالت جارية تصدق؟ قال:(27/29)
ابن المبارك: فلا أدري ممن أعجب! من أمير المؤمنين حين رغب عنها، أو منها حين رغبت عن أمير المؤمنين، أو من أبي يوسف حين أمره بالهجم عليها.
قال إبراهيم الموصلي: قال لي غلامي: بالباب رجل حائك يستأذن، فقلت: مالي ولحائك؟ قال: لا أدري غير أنه حلف بالطلاق لا ينصرف حتى يكلمك بحاجته، قال: فأذنت له، فدخل، فقلت: ما حاجتك؟ قال: أنا رجل حائك، وكان عندي بالأمس جماعة فتذاكرنا الغناء والمتقدمين فيه، فأجمع من حضر أنك رأس القوم وبندارهم وسيدهم في هذه الصناعة، فحلفت بطلاق ابنة عمي وأعز الخلق علي ثقة مني بكرمك على أن تشرب عندي غداً، وتغنيني، فإن رأيت جعلني الله فداك أن تمن على عبدك بذلك فعلت، فقلت له: أين منزلك؟ قال: في دور الصحابة، قلت: فصف للغلام موضعه وانصرف، فإني رائح إليك، فوصف للغلام. فلما صليت الظهر ركبت، وأمرت الغلام أن يحمل معه قنينة وقدحاً ومصلى وخريطة العود، وصرت إلى منزله، ودخلت فقام إلي الحاكة فقبلوا أطرافي، وعرضوا علي الطعام، فقلت: قد تقدمت في الأكل، فشربت من نبيذي، وتناولت العود، فقلت: اقترح علي، فقال: غنني بحياتي: الطويل
يقولون لي لو كان بالرمل لم يمت ... نسيبة والطراق يكذب قيلها
فغنيت، فقال: أحسنت جعلني الله فداك، ثم قلت: اقترح، فقال: غنني بحياتي: الطويل
وخطا بأطراف الأسنة مضجعي ... وردا على عيني فضل ردائياً
فغنيت، فقال: أحسنت جعلني الله فداك، ثم شربت وقلت: اقترح، فقال: غنني بحياتي: الطويل
أحقاً عباد الله أن لست وارداً ... ولا صادراً إلا علي رقيب؟(27/30)
فقلت: يا بن اللخناء، أنت بابن سريج أشبه منك بالحاكة، فغنيته، ثم قلت: والله إن عدت ثانية حلت امرأتك لغلامي قبل أن تحل لك، ثم انصرف، وجاء رسول أمير المؤمنين الرشيد فمضيت إليه من فوري، فقال: أين كنت؟ قلت: ولي الأمان؟ قال: ولك الأمان، فحدثته، فضحك وقال: هذا أنبل حائك على ظهر الأرض، ووالله لقد كرمت في أمره، وأحسنت إجابته، وبعث إلى الحائك، فاستنطقه، وساءله فاستطابه، واستظرفه، وأمر له بثلاثين ألف درهم.
كتب هارون الرشيد إلى جارية له كان يحبها وكانت تبغضه: البسيط
إن التي عذبت نفسي بما قدرت ... كل العذاب فما أبقت ولا تركت
مازحتها فبكت واستعبرت جزعاً ... عني فلما رأتني باكياً ضحكت
فعدت أضحك مسروراً بضحكتها ... حتى إذا ما رأتني ضاحكاً فبكت
تبغي خلافي كما خبت براكبها ... يوماً قلوص فلما حثها بركت
كأنها درة قد كنت أذخرها ... ليوم عسر فلما رمتها هلكت
وأنشدوا هذه الأبيات لذؤيب.
قال الأصمعي: ما رأيت أثر النبيذ في وجه الرشيد قط إلا مرة واحدة: فإني دخلت عليه أنا وأبو جعفر الشطرنجي، فرأيته خاثراً، فقال لنا: استبقا إلى بيت، بل إلى أبيات، فمن أصاب ما في نفسي فله عشرة آلاف درهم. وفي رواية قال: كان الرشيد يهوى عنان جارية الناطفي، وكانت صيانته لنفسه تمنعه منها. قال الأصمعي: فما رأيته قط متبذلاً(27/31)
إلا مرة، فإني دخلت إليه، وفي وجهه تخثر، وعنده أبو جعفر الشطرنجي، فقال لنا: استبقوا، فمن أصاب ما في نفسي فله عشرة آلاف درهم، فوقع في نفسي أنه يريد عنان - فقال أبو جعفر بن أبي حفص الشطرنجي بجرأة العميان: الخفيف
مجلس ينسب السرور إليه ... لمحب ريحانه ذكراك
فقال: أحسنت، يا فضل، أعطه عشرة آلاف درهم، ثم قال: قد حضرني بيت ثان، قال: هات، فأنشد:
كلما دارت الزجاجة زادت ... هـ حنيناً ولوعة فبكاك
قال: أحسنت، يا فضل، أعطه عشرة آلاف درهم. قال الأصمعي: فنزل بي ما لم ينزل بي قط مثله، إن ابن أبي حفص يرجع بعشرين ألف دهم وبفخر ذلك المجلس، وأرجع صفراً منهما جميعاً، ثم حضرني بيت، فقلت: يا أمير المؤمنين، قد حضرني ثالث، قال: هاته، فأنشأت أقول:
لم ينلك المنى بأن تحضريني ... وتجافت أمنيتي عن سواك
فقال: أحسنت، يا فضل، أعطه عشرين ألف درهم ثم قال هارون: قد حضرني رابع، فقلنا: إن رأى أمير المؤمنين أن ينشده فعل، فأنشأ يقول:
فتمنيت أن يغشيني الله ... نعاسا لعل عيني تراك
فقلنا: يا أمير المؤمنين، أنت أشعر منا، فجوائزنا لأمير المؤمنين، فقال: جوائزكما لكما، وانصرفا.
قال أبو هفان: أهديت إلى الرشيد جارية في غاية الجمال والكمال، فخلا بها أياماً، وأخرج كل قينة من داره، واصطبح يوماً، فكان من حضر من جواريه للغناء والخدمة في الشراب وغيره زهاء ألفي جارية في أحسن زي، من كل نوع من أنواع الثياب والجواهر، واتصل الخبر بأم جعفر فغلظ عليها ذلك فأرسلت إلى علية تشكو إليها، فأرسلت إليها علية: لا يهولنك هذا، فوالله لأردنه، وأنا أعمل شعراً، وأصوغ فيه لحناً، وأطرحه على جواري،(27/32)
فلا تدعي عندك جارية إلا بعثت بها إلي وألبسيهن فاخر الثياب والحلي ليأخذن صوتاً مع جواري، ففعلت أم جعفر ما أمرتها. فلما جاء وقت العصر لم يشعر الرشيد إلا وعلية قد خرجت عليه من حجرتها، وأم جعفر قد خرجت من حجرتها معهما زهاء ألفي جارية من جواريهما وسائر جواري القصر، وكلهن في لحن واحد هزج صنعته علية: مجزوء الرجز
منفصل عني وما ... قلبي عنه منفصل
يا قاطعي اليوم لمن ... نويت بعدي أن تصل
فطرب الرشيد، وقام على رجليه حتى استقبل أم جعفر علية، وهو على غاية السرور، وقال: لم أر كاليوم قط، ثم قال: يا مسرور، لا يبقين في بيت المال درهم إلا نثرته، فكان مبلغ ما نثر يومئذ ست آلاف ألف درهم، وما سمع بمثل ذلك اليوم قط.
دخلت أعرابية على هارون الرشيد، فأخرج إليها ماردة وكانت ذات جمال وشكل، وكان الرشيد يحبها فأنشدته الأعرابية أشعاراً تمدحه ببعضها، وأنشدها الرشيد لنفسه في ماردة: الكامل
وتنال منك بحد مقلتها ... ما لا ينال بحده النصل
شغلتك وهي ككل منتصر ... لاقى محاسن وجهها شغل
فلوجهها من وجهها قمر ... ولعينها من عينها كحل
وإذا نظرت إلى محاسنها ... فلكل موضع نظرة قتل
فقالت الأعرابية: يا أمير المؤمنين، ما أدري أيهم أحسن: الشعر، أو من قاله، أو من قيل فيه، فأمر لها بجائزة.
كان الرشيد شديد الحب لهيلانة، وكانت قلبه ليحيى بن خالد، فدخل يوماً إلى يحيى قبل الخلافة، فلقيته في ممر، فأخذت بكمه فقالت: أما لنا منك يوم مرة؟ فقال لها: بلى، فكيف السبيل إلى ذلك، فقالت: تأخذني من هذا الشيخ، فقال ليحيى: أحب أن تهب لي فلانة، فوهبها له، وغلبت عليه، وكانت تكثر أن تقول: هي لانة،(27/33)
فسماها هيلانة. فأقامت عنده ثلاث سنين، وماتت، فوجد عليها وجداً شديداً، وأنشد: السريع
أقول لما ضمنوك الثرى ... وجالت الحسرة في صدري
اذهب فلا والله ما سرني ... بعدك شيء آخر الدهر
كتب هارون الرشيد إلى جاريته الخيزرانة وهي بمكة: الخفيف
نحن في أفضل السرور ولكن ... ليس إلا بكم يتم السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودي ... أنكم غبتم ونحن حضور
فأجدوا في السير بل إن قدرتم ... أن تطيروا مع الرياح فطيروا
فأجابته الخيزرانة:
قد أتانا الذي وصفت من الشو ... ق فكدنا وما فعلنا نطير
ليت أن الرياح كن يؤدين ... إليك الذي يجن الضمير
لم أزل صبه فإن كنت بعدي ... في سرور فدام ذاك السرور
أنشد عمران بن موسى المؤدب لهارون الرشيد في ثلاث حظيات كن عنده وهن قصف، وضياء، وخنث: الكامل
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان
ما لي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني؟
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه ملكن أعز من سلطاني
اشتريت للرشيد هارون جارية مدينية، فأعجب بها، وأمر الربيع أن يبعث في حمل أهلها ومواليها لينصرفوا بجوائزها، وأراد بذلك تسريتها، فوفد إلى مدينة السلام ثمانون رجلا، ووفد معهم رجل من أهل العراق استوطن المدينة كان يهوى الجارية. فلما بلغ الرشيد خبرهم أمر الفضل أن يخرج إليهم ليكتب اسم كل رجل منهم وحاجته ففعل(27/34)
حتى بلغ إلى العراقي فقال له: حاجتك؟ قال: إن كتبتها وضمنت لي عرضها مع ما يعرض أنبأتك بها، فقال: أفعل ذلك، قال: حاجتي أن أجلس مع فلانة حتى تغنيني ثلاثة أصوات، وأشرب ثلاثة أرطال، وأخبرها بما تجن ضلوعي من حبها، فقال الفضل: إنه موسوس، قال: يا هذا، قد أمرت أن تكتب ما يقول كل واحد، فاكتب ما أقول، واعرضه، فإن أجبت إليه، وإلا فأنت في أوسع العذر. فدخل الفضل مغضباً، فقرأ على الرشيد ما كتب، وقال: يا أمير المؤمنين، فيهم واحد مجنون سأل ما أجل مجلس أمير المؤمنين عن التفوه به فيه، فقال: قل ولا تجزع، فقال: قال كذا وكذا، قال: قل له: بعد ثلاث احضر لينجز لك ما سألت، وأنت تتولى الاستئذان له، ودعا بخادم، وقال: امض إلى فلانة، وقل لها حضر رجل وذكر كذا وكذا، وأجبناه إلى ما سأل، فكوني على أهبة، ثم أدى الفضل الرسالة إليه، فانصرف وحضر في اليوم الثالث، وعرف الرشيد خبره، فقال: يلقى له بحيث أرى كرسي فضة، وللجارية كرسي ذهب، وتخرج إليه، ويحضر ثلاثة أرطال، فجلس الفتى والجارية بإزائه، فحدثها والرشيد يراهما، فقال للخادم: لم تدخل لتشتو وتصيف، فأخذ رطلاً، وخر ساجداً وقال: إذا شئت أن تغني فغني: الطويل
خليلي عوجا بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند بأرضكما قصدا
وقولا لها ليس الضلال أجازنا ... ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا
غداً يكثر الباركون منا ومنكم ... وتزداد داري من دياركم بعدا
فغنته، وشرب الرطل، وحادثها ساعة، فاستحثه الخادم، فأخذ الرطل بيده، وقال: غني جعلت فداك: الطويل
تكلم منا في الوجوه عيوننا ... فنحن سكوت والهوى يتكلم
ونغضب أحياناً ونرضى بطرفناوذلك فيما بيننا ليس يعلم
فغنته، وشرب الرطل الثاني، وحادثته ساعة، فاستعجله الخادم، فخر ساجداً يبكي، وأخذ الرطل بيده، واستودعها الله، وقام على رجليه، ودموعه تستبق استباق المطر، وقال: إذا شئت غني: السريع(27/35)
أحسن ما كنا تفرقنا ... وخاننا الدهر وما خنا
فليت ذا الدهر لنا مرة ... عاد لنا يوماً كما كنا
فغنته الصوت، فقلب الفتى طرفه، فبصر بدرج في الصحن، فأمها، وتبعه الخدم، ليهدوه الطريق، ففاتهم، وصعد الدرجة وألقى نفسه إلى الأرض على رأسه، فخر ميتاً، فقال الرشيد: عجل الفتى، ولو لم يعجل لوهبتها له.
قال عمار بن كثير الواسطي: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ما من نفس أشد علي موتاً من هارون أمير المؤمنين، فلوددت أن الله زاد من عمري في عمره، فكبر ذلك علينا. فلما مات هارون، وظهرت تلك الفتن، وكان من المأمون ما حمل الناس على أن القرآن مخلوق، قلنا الشيخ أعلم بما تكلم به.
قال إسماعيل بن فروخ: أنشدنا أمير المؤمنين الرشيد لنفسه، وقد صعب عليه الصعود في عقبة همذان، فقال: البسيط
حتى متى أنا في حل وترحال ... وطول هم بإدبار وإقبال
ونازح الدار ما ينفك مغترباً ... عن الأحبة لا يدرون ما حالي
بمشرق الأرض طوراً ثم مغربها ... لا يخطر الموت من حرصي على بالي
ولو قنعت أتاني الرزق في دعة ... إن القنوع الغنى لا كثرة المال
قال زكريا بن سعد الوصيف: كان الرشيد ذات يوم في مقيله إذ رأى في منامه كأن رجلاً وقف على باب مجلسه، فضرب بيده إلى عود من الباب ثم أنشأ يقول: الطويل(27/36)
كأني بهذا القصر قد باد آهله ... وأقفر منه ربعه ومنازله
وصار عميد القصر من بعد بهجة ... وملك إلى قبر عليه جنادله
فلم يبق إلا ذكره وحديثه ... تبكي عليه بالعويل حلائله
ثم خرج إلى طوس، فلما نزل حلوان العراق هاج به الدم، فأجمع المتطببون أن دواءه الجمار، فوجه إلى دهقان حلوان، فسأل عن النخل، فقال: ليس بهذا البلد نخلة إلا النخلتان اللتان على عقبة حلوان، فوجه إليهما من قطع إحداهما، فأكل هارون جمارها، فسكن عنه الدم، فترحل، فمر عليهما، فرأى على القائمة منهما مكتوباً: الخفيف
أسعداني يا نخلتي حلوان ... وابكيا لي من صرف هذا الزمان
أسعداني وأيقنا أن نحساً ... سوف يلقاكما فتفترقان
ولعمري لو ذقتما حرق الفر ... قة أبكاكما الذي أبكاني
فقال هارون: عز والله علي أن أكون أنا نحسهما، ولو علمت بهذا الكتاب ما قطعتها ولو تلفت نفسي.
لما حضر هارون الرشيد الوفاة جاءت إحدى جواريه إليه تبكي عند رأسه، فرفع رأسه إليها، وأنشأ يقول: السريع
باكيتي من جزع أقصري ... قد غلق الرهن بما فيه
لما حضرت الرشيد الوفاة كان ربما غشي عليه فيفتح عينيه، فيغشى عليه، ثم نظر إلى الربيع واقفاً على رأسه فقال: يا ربيع الطويل
أحين دنا ما كنت أرجو دنوه ... رمتني عيون الناس من كل جانب
فأصبحت مرحوماً وكنت محسداً ... فصبراً على مكروه مر العواقب(27/37)
سأبكي على الوصل الذي كان بيننا ... وأندب أيام السرور الذواهب
وأعتقل الأيام بالصبر والعزا ... عليك وإن جانبت غير مجانب
قال مسرور الخادم: أمرني هارون أمير المؤمنين لما احتضر أن آتيه بأكفانه، فأتيته بها، ينتقيها على عينه، ثم أمرني، فحفرت قبره، ثم أمر فحمل إليه، فجعل يتأمله ويقول: " ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية " ويبكي، ثم تمثل ببيت شعر.
قال أحمد بن محمد الأزدي: جعل هارون أمير المؤمنين يقول وهو يموت: واسوءتاه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
استخلف الرشيد هارون سنة سبعين ومئة، وتوفي سنة ثلاث وتسعين ومئة بطوس، ودفن بقرية يقال لها سناباذ. وأتت الخلافة ابنه محمد الأمين وهو ببغداد، وتوفي الرشيد وهو ابن ست وأربعين سنة.
قال بعضهم: قرأت على خيام هارون أمير المؤمنين بعد منصرفهم من طوس، وقد مات هارون: السريع
منازل العسكر معموره ... والمزل الأعظم مهجور
خليفة الله بدر البلى ... تسفي على أجداثه المور
أقبلت العير تباهي به ... وانصرف تندبه العير(27/38)
هارون الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد
ابن محمد المهدي بن عبد الله المنصور أبو جعفر، وقيل أبو القاسم أمه أم ولد اسمها قراطيس. استخلف بعد أبيه المعتصم بعهد منه. قدم دمشق مع أبيه في خلافة عمه.
حدث الواثق عن أبيه عن المأمون عن الرشيد عن المهدي عن المنصور عن أبيه عن أبيه عن ابن عباس قال: لا تذهب الدنيا حتى يبعث الله شاباً منها، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فيعود الأمر فيه كما بدأ.
قلت يطمع في ذلك فتيانكم، ولا يطمع فيه شيوخكم، قال: يفعل الله ما يشاء، ذلك عزم. قال رجل لابن عباس: إن ابن الزبير يزعم بأن المهدي منهم، فقال: لا ورب الكعبة، ولو كان زمانه لكنته، ولكنه من ولدي.
ولد الواثق بطريق مكة سنة تسعين ومئة، وولي الخلافة سنة سبع وعشرين ومئتين، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين ومئتين. وقيل: ولد سنة ست وتسعين ومئة. وقيل: سنة أربع وتسعين. وبويع الواثق في اليوم الذي توفي فيه أبوه المعتصم بسر من رأى. وورد رسوله بغداد يوم الجمعة على إسحاق بن إبراهيم، فلم يظهر ذلك، ودعا للمعتصم على منبري بغداد وهو ميت. فلما كان الغد يوم السبت أمر إسحاق بن إبراهيم الهاشميين والقواد والناس بحضور دار أمير المؤمنين، فحضروا، فقرأ كتابه على الناس بنعي أبيه، وأخذ البيعة، فبايع الناس.
لما مات المعتصم، وولي الواثق كتب دعبل بن علي الخزاعي أبياتاً، وأتى بها الحاجب، فقال: أبلغ أمير المؤمنين السلام، وقل: مديح لدعبل، فأخذ الحاجب(27/39)
الطومار فأدخله على الواثق ففضه فإذا فيه: البسيط
الحمد لله لا صبر ولا جلد ... ولا رقاد إذا أهل الهوى رقدوا
خليفة مات لم يحزن عليه أحد ... وآخر قام لم يفرح به أحد
فمر هذا ومر الشر يتبعه ... وقام هذا فقام الويل والنكد
فطلب، فلم يوجد دخل هارون بن زياد مؤدب الواثق على الواثق، فأكرمه، وأظهر من بره ما شهر به، فقيل له: من هذا يا أمير المؤمنين الذي فعلت به ما فعلت؟ قال: هذا أول من فتق لساني بذكر الله عز وجل، وأدناني من رحمة الله عز وجل.
قال يحيى بن أكثم: ما أحسن أحد إلى آل أبي طالب من خلفاء بني العباس ما أحسن إليهم الواثق، ما مات وفيهم فقير.
قال أبو عثمان المازني: كتب الواثق في حملي، فحملت، وأدخلت عليه، وهو عليل، فقال: يا بكر، لك ولد؟ قلت: لا، قال: فلك امرأة؟ قلت: لا، قال: فمن خلفت بالبصرة؟ قلت: أختي، قال: أكبر منك أم أصغر؟ فقلت: أصغر مني، قال: فما قالت المسكينة؟ قلت: قالت لي ما قالت ابنة الأعشى لأبيها: المتقارب
تقول ابنتي حين جد الرحيل ... أرانا سواء ومن قد يتم
فيا أبتا لا تزل عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم
ترانا إذا أضمرتك البلاد ... نجفى وتقطع منا الرحم
قال: ما رددت عليها المسكينة؟ قال: رددت عليها ما قال جرير لابنته: الوافر(27/40)
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
فضحك ثم أمر لي بخمس مئة دينار.
كتب محمد بن حماد إلى الواثق: الطويل
جذبت دواعي النفس عن طلب الغنى ... وقلت لها كفي عن طلب النزر
فإن أمير المؤمنين بكفه ... مدار رحا الأرزاق دائبة تجري
فوقع: جذبك نفسك عن امتهانها دعا إلى صونك بسعة فضلي، فخذ ما طلبت هنيئاً.
قال المهتدي: كنت أمشي مع الواثق في صحن داره، فقال: اكتب: الوافر
تنح عن القبيح ولا ترده ... ومن أوليته حسناً فزده
ستكفى من عدو كل كيد ... إذا كاد العدو ولم تكده
ثم قال: اكتب: البسيط
هي المقادير تجري في أعنتها ... فاصبر فليس لها صبر على الحال
ومما روي من شعر الواثق: البسيط
حين استتم بأرداف تجاذبه ... واخضر فوق قناع الدر شاربه
وتم في الحسن فالتامت ملاحته ... وما زجت بدعاً من عجائبه
كلمته بجفون غير ناطقة ... فكان من رده ما قال حاجبه
قال حمدون بن إسماعيل: كان الواثق مليح الشعر، وكان يحب خادماً أهدي له من مصر، فأغضبه الواثق يوماً ثم سمعه يوماً يقول لبعض الخدم: هو يروم أن أكلمه، ما أفعل، فقال الواثق: وله فيه لحن: البسيط(27/41)
إن الذي بعذابي ظل مفتخراً ... ما أنت إلا مليك جار إذ قدرا
لولا هواه تجارينا على قدر ... وإن أفق منه يوماً ما فسوف يرى
قال أحمد بن حمدون: كان بين الواثق وبين بعض جواريه شر، فخرج كسلان، فلم أزل أنا والفتح نحتال لنشاطه، فرآني أضحك الفتح بن خاقان، فقال: قاتل الله ابن الأحنف حيث يقول: البسيط
عدل من الله أبكاني وأضحككم ... فالحمد لله عدل كل ما صنعا
اليوم أبكي على قلبي وأندبه ... قلب ألح عليه الحب فانصدعا
للحب في كل عضو لي على حدة ... نوع تفرق عنه الصبر واجتمعا
فقال الفتح: أنت يا أمير المؤمنين في وضع التمثل موضعه أشعر منه وأظرف.
أمر الواثق ابن أبي دواد يصلي بالناس في يوم عيد، وكان عليلاً، فلما انصرف قال له: يا أبا عبد الله، كيف كان عيدكم؟ قال: كنا في نهار لا شمس فيه، فضحك، وقال: يا أبا عبد الله، أنا مؤيد بك، وكان ابن أبي دواد قد استولى على الواثق وحمله على التشدد في المحنة، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن. ويقال: إن الواثق رجع عن ذلك القول بعد موته.
قال صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي: حضرت المهتدي بالله أمير المؤمنين وقد جلس للنظر في أمور المتكلمين في دار العامة، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها، فيأمر بالتوقيع فيها، وينشأ الكتاب عليها ويحرر، ويختم، ويدفع إلى صاحبه بين يديه، فسرني ذلك، واستحسنت ما رأيت منه، فجعلت أنظر إليه، ففطن، ونظر إلي،(27/42)
فغضضت عنه حتى كان ذلك مني ومنه مراراً ثلاثاً، إذا نظر غضضت، وإذا شغل نظرت، فقال: يا صالح، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: في نفسك منا شيء تريد أن تقوله، قلت: نعم، حتى إذا قام قال للحاجب: لا يبرح صالح، وانصرف الناس، وأذن لي، وهمتني نفسي، فدخلت، وجلست، فقال: يا صالح، تقول لي ما دار في نفسك، أو أقول أنا ما دار في نفسي أنه دار في نفسك؟ قلت: يا أمير المؤمنين، ما تأمر به، فقال: دار في نفسي أنك استحسنت ما رأيت منا، فقلت: أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول بخلق القرآن، فورد على قلبي أمر عظيم، ثم قلت: يا نفس، هل تموتين قبل أجلك، وهل تموتين إلا مرة واحدة، وهل يجوز الكذب في جد أو هزل؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، ما دار في نفسي إلا ما قلت، فأطرق ملياً ثم قال: ويحك! اسمع مني ما أقول، فوالله لتسمعن الحق، فسر عني، وقلت: يا سيدي، ومن أولى بقول الحق منك، وأنت خليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين؟ فقال: ما زلت أقول إن القرآن مخلوق صدراً من أيام الواثق حتى أقدم أحمد ابن أبي دواد علينا شيخاً من أهل الشام، من أهل أذنة مقيداً، وهو جميل الوجه تام القامة، حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه، ورق له، فما زال يدينه، ويقربه حتى قرب منه، فسلم الشيخ، فأحسن، ودعا، فأبلغ وأوجز، فقال له الواثق: اجلس ناظر ابن أبي دواد على ما يناظرك عليه، فقال له الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن أبي دواد يضوى ويضعف عن المناظرة، فغضب الواثق، وعاد مكان الرقة له غضباً عليه، وقال: أبو عبد الله بن أبي دواد يضوى، ويضعف عن مناظرتك أنت؟! فقال الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تحفظ علي وعليه ما نقول، قال: افعل. فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه هي مقالة واجبة، داخلة في عقدة الدين، فلا يكون الدين كاملاً حتى يقال فيه بما قلت؟ قال: نعم، قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بعثه الله إلى عباده، هل سن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً مما أمره الله به في أمر دينهم؟ فقال: لا، قال الشيخ: فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمة إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دواد، فقال الشيخ: تكلم،(27/43)
فسكت، فقال الشيخ للواثق: يا أمير المؤمنين، واحدة. فقال الواثق: واحدة.
فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن الله عز وجل حين أنزل القرآن على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " كان الله عز وجل الصادق في إكمال دينه، أو أنه الصادق في نقصانه حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دواد، فقال الشيخ: أجب يا أحمد، فلم يجب، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، اثنتان، فقال الواثق: نعم. فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، علمها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم جهلها؟ قال ابن أبي دواد: علمها، قال: فدعا الناس إليها؟ فسكت، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين ثلاث، فقال الواثق ثلاث.
قال الشيخ: يا أحمد، فاتسع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن علمها وأمسك عنها كما زعمت، ولم يطالب أمته بها؟ قال: نعم. قال الشيخ: واتسع لأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله عنهم؟ قال ابن أبي دواد: نعم، فأعرض الشيخ عنه، وأقبل على الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قدمت القول إن أحمد يضوى ويضعف عن المناظرة، يا أمير المؤمنين، إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما زعم هذا أنه اتسع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع لهم - أو قال: فلا وسع الله عليك - فقال الواثق: نعم، إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فلا وسع الله علينا. اقطعوا قيد الشيخ. فلما قطع القيد ضرب الشيخ بيده إلى القيد حتى يأخذه، فجاذبه الحداد عليه، فقال الواثق: دع الشيخ يأخذه، فأخذه في كمه. فقال له الواثق: لم جاذبت الحداد عليه؟ قال: لأني نويت أن أوصي أن يجعل بيني وبين كفني حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله يوم القيامة، أقول: يا رب، سل عبدك هذا: لم قيدني، وروع(27/44)
أهلي وولدي وإخواني بلا حق أوجب ذلك علي، وبكى الشيخ، وبكى الواثق، وبكينا، وسأله الواثق أن يجعله في حل، فقال: والله لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراماً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ كنت رجلاً من أهله، فقال الواثق: لي إليك حاجة، فقال: إن كانت ممكنة فعلت، فقال الواثق: تقيم عندنا فننتفع بك، وينتفع بك فتياننا، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن ردك إلى الموضع الذي أخرجني عنه هذا الظالم أنفع لك من مقامي عندك، وأصير إلى أهلي وولدي أكف دعاءهم عليك، فقد خلفتهم على ذلك، قال الواثق: فتقبل منا صلةً تستعين بها على دهرك، قال: يا أمير المؤمنين، لاتحل لي، أنا عنها غني، وذو مرة، سوي، فقال: سل حاجة، قال: أو تقضيها؟ قال: نعم، قال: يخلى لي السبيل الساعة إلى الثغر، قال: قد أذنت لك، فسلم عليه وخرج. قال المهتدي: فرجعت عن هذه المقالة، وأحسب أن الواثق رجع عنها منذ ذلك الوقت.
وفي حديث آخر بما معناه: وسقط ابن أبي دواد في عينه، ولم يمتحن بعد ذلك أحداً.
لما احتضر الواثق جعل يردد هذين البيتين: البسيط
الموت فيه جميع الخلق مشترك ... لا سوقة منهم يبقى ولا ملك
ما ضر أهل قليل في تفاقرهم ... وليس يغني على الإملاك ما ملكوا
ثم أمر بالبسط، فطويت، وألصق خده بالأرض، وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه.
حدث محمد أمير البصرة قال: كنت أحد من مرض الواثق، لما مات، فكنت واقفاً بين يديه مع جماعة إذ لحقته غشية، فما شككنا أنه مات فقال بعضنا لبعض: تقدموا، فاعرفوا خبره، فما جسر أحد منهم يتقدم، فتقدمت أنا. فلما صرت عند رأسه، وأردت أن أضع يدي على(27/45)
أنفه أختبر نفسه لحقته إفاقة، ففتح عينيه، فكدت أن أموت فزعاً من أن يراني مشيت في مجلسه إلى غير رتبتي، فرجعت إلى الخلف، وتعلقت قبيعة سيفي بعتبة المجلس، وعثرت به، فاتكأت عليه، فاندق سيفي، وكاد أن يدخل في لحمي ويجرحني، فسلمت وخرجت. فاستدعيت سيفاً ومنطقة فلبستها، وجئت حتى وقفت في مرتبتي ساعة. فتلف الواثق بلا شك، فتقدمت، فسددت لحييه، وغمضته، وسجيته، ووجهته إلى القبلة، وجاء الفراشون فأخذوا ما تحته في المجلس ليردوه إلى الخزائن، لأن جميعه مثبت عليهم، وترك وحده في البيت، وقال لي ابن أبي دواد القاضي: إنا نريد أن نتشاغل بعقد البيعة، ولا بد أن يكون أحدنا يحفظ الميت، فكن أنت ذلك الرجل، وكنت من أخصهم به لأنه أحبني حتى لقبني الواثقي، باسمه، فحزنت عليه، فرددت باب المجلس، وجلست في الصحن عند الباب أحفظه. وكان المجلس في بستان عظيم، فحسست بعد ساعة في البيت بحركة أفزعتني، فدخلت أنظر ما هي، فإذا بجرذون من دواب البستان قد جاء حتى استل عين الواثق فأكلها، فقلت: لا إله إلا الله، هذه العين التي فتحها من ساعة - فاندق سيفي هيبة لها - صارت طعمة لدابة ضعيفة، وجاؤوا فغسلوه، فسألني ابن أبي دواد عن عينه فأخبرته.
وكان الواثق أبيض إلى الصفرة، جسيماً، حسن الوجه، جميلاً، في عينه اليمنى نكتة بياض.
هارون بن معاوية أبي عبيد الله الأشعري
عم معاوية بن أبي صالح حدث عن محمد بن أبي قيس بسنده إلى أبي ليلى الأشعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تمسكوا بطاعة أئمتكم، لا تخالفوهم، فإن طاعتهم طاعة الله، وإن معصيتهم معصية الله، فإن الله بعثني أدعو إلى سبيله بالحكمة، والموعظة الحسنة، فمن خلفني في ذلك فهو مني وأنا منه.(27/46)
هارون بن موسى بن شريك
أبو عبد الله التغلبي المقرئ المعروف بالأخفش حدث عن سلام بن سليمان بسنده إلى ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في الروم: " الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوةً ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبةً " برفع الضاد من ضعف في هذا كله.
قال أبو عبد الله الأخفش: دخلت مع مشايخ دمشق أعود أبا مسهر ابن عبد الأعلى بن مسهر الغساني، فسمعته يترنم لهذا البيت: الطويل
يسر الفتى ما كان قدم من تقى ... إذا نزل الداء الذي هو قاتله
ذكر الأخفش أنه مولده سنة مئتين، وتوفي سنة اثنتين وتسعين ومئتين. وقيل: توفي سنة إحدى وتسعين ومئتين.
هارون بن أبي الهيذام
واسم أبي الهيذام محمد بن هارون أبو يزيد العسقلاني مولى آل عثمان بن عفان قيم مسجد الرملة.
حدث عن الحارث بن عبد الله بسنده إلى جابر بن سمرة قال: رأيت أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتناشدون الشعر، ويضحكون ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس معهم، يبتسم إليهم.(27/47)
هارون بن يزيد الشاري النيسابوري
ابن أخت مخلد بن مالك حدث عن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي بسنده إلى ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو: اللهم، عافني في قدرتك، وأدخلني في رحمتك، واقبض أجلي في طاعتك واختم لي بخير عملي، واجعل ثوابه الجنة.
هاشم بن بلال
ويقال: ابن سلال، ويقال: سلام بن أبي سلام، أبو عقيل الحبشي دمشقي.
حدث عن سابق بن ناجية عن أبي سلام قال: رأيت رجلاً في مسجد حمص، فقيل لي: إن هذا قد خدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فلقيته، فقلت: حدثني حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يتداوله بينك وبينه الرجال، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما من مسلم يقول إذا أصبح ثلاثاً، وثلاثاً إذا أمسى: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً إلا كان حقاً على الله أن يرضيه يوم القيامة.
وعقيل: بفتح العين وكسر القاف. وكان هاشم ثقة.
هاشم بن خالد بن أبي جميل
أبو مسعود القرشي من دمشق.(27/48)
حدث عن عمه صالح الأوقص عن أبي جمرة عن ابن عباس قال: لا تكسروا الرمانه من رأسها، فإن فيها دودة يعتري منها الجذام.
قال هاشم بن خالد: سمعت أبا سليمان الداراني يقول لأحمد بن أبي الحواري: خذ ممن جرب، ودع عنك الوصافين.
وقال هاشم: سمعت أبا سليمان يقول: من لا يسأل الله يغضب عليه، فأنا أسأله لعيالي حتى الملح.
وقال هاشم: سمعت أبا سليمان يقول: أيما رجل أم قوماً فسبح بهم أكثر من ثلاث فقد ظلم من خلفه، وإن نقص فقد خانهم. قال: وسمعته يقول: ما أحب أن أجعل بيني وبين القبلة مبتدعاً.
قال: وسمعته يقول: لولا أن الله تبارك وتعالى أمر بالتعوذ من الشيطان الرجيم ما تعوذت به أبدا، لأنه لا يقدر لي على ضر ولا نفع.
هاشم بن زايد
ويقال: ابن زيد الدمشقي حدث عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى يوم خيبر عن كل ذي ناب من السباع، وعن الحمر الأهلية، وعن المجثمة، وأن توطأ الحبال من السبي حتى يضعن.
وبه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من مس ذكره فليتوضأ. كان هاشم ضعيف الحديث.(27/49)
هاشم بن سعيد البعلبكي
والد محمد بن هاشم حدث عن يزيد بن زياد البصري بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منها جميعاً، فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة.
هاشم بن عتيبة بن أبي وقاص
مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري، المعروف بالمرقال قيل: إن له صحبة، ولم يثبت. ولد في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وروى عنه. وروي عنه حديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أصيبت عينه يوم اليرموك، وكان مع علي في حروبه في الجمل وصفين. وقتل بصفين.
حدث هاشم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يظهر المسلمون على جزيرة العرب ".
وورد في موضع آخر أن هشاماً حدث عن أبيه قال: أقبلت نحو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في جماعة فهبت أن أتقدم، فتقدمت، فسمعته يقول: " يظهر المسلمون على فارس، وتظهر فارس على الروم، ثم يظهر المسلمون على الأعور الدجال ".
وأكثر ما روي هذا الحديث عن نافع بن عتبة أخي هاشم بن عتبة. فإنه روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "(27/50)
تقاتلون جزيرة العرب فيفتح الله، ثم تقاتلون فارس فيفتح الله، ثم تقاتلون الروم فيفتح الله، ثم تقاتلون الدجال فيفتحه الله. " وكان جابر بن سمرة راويه عن نافع يقول: لا يخرج الدجال حتى تخرج الروم.
وهاشم بن عتبة هو القائل: مشطور الرجز
أعور يبغي أهله محلا
قد عالج الحياة حتى ملا
لا بد أن يفل أو يفلا
وكان بالشام، فأمد به عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص في سبعة عشر رجلاً من جند الشام. وفيه يقول عامر بن واثلة: مشطور الرجز
يا هاشم الخيرجزيت الجنه
قاتلت في الله عدو السنه
أفلج بما فزت به من منه
وقطعت رجله يوم صفين قبل أن يقتل، فجعل يقاتل من دنا منه وهو بارك، ويتمثل: مشطور الرجز
الفحل يحمي شوله معقولا
كان هاشم بن عتبة يوم صفين على أربعة آلاف قد شروا بأنفسهم الموت. وكان أعور، وكانت راياتهم سوداً، وكان بإزائهم عمرو بن العاص مع معاوية، وكان هاشم يدب دبيباً، فقال عمرو: إن كان ذا دأب صاحب الرايات السود تفانت العرب اليوم،(27/51)
يا وردان دونك رايتي فاجعلها عند باب الله ومحمد - ابني عمرو - فقال معاوية: أشهد لئن نقضت رايتك لينتقضن الصف، فقال: الليث يحمي شبليه، لا خير فيه بعد ابنيه، هما ابناي، ليسا ابنيك. فلما رآه يبطئ السير أتاه عمار بن ياسر فسفع رأسه بالرمح ثم قال: الرجز
أكل يوم لم ترع ولم ترع ... لا خير في أعور جناب الفزع
فقال عمار: من هؤلاء بإزائنا؟ فقالوا: عبد الله ومحمد ابنا عمرو، فخرج إليه عمار، فقال: يا عبد الله بن عمرو، فخرج إليه رجل، فقال: قد أسمعته، فمن أنت؟ قال: أنا عمار بن ياسر، ويحك! ما تقول لله عز وجل حين تفضي إليه؟! وقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ويح لعمار، تقتله الفئة الباغية، فوالله لأقتلن اليوم. قال: أنشدك الله يا عمار أسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث جاء عمرو يستعدي علي فقال: إن عبد الله يعصيني، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تعص عمراً، فهذا أمر عمرو، وقد أمرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا أعصيه، وأنا أكره الناس لهذا.
ورئي عمرو بن العاص وهو على المنبر من عجل يجر به جراً، مشرف على الناس ينظر إليهم، وهو يقول لابنه عبد الله بن عمرو: يا عبد الله، أقم الصف، قص الشارب، فإن هؤلاء أخطؤوا خطيئة قد بلغت السماء، ثم قال: علي السلاح، فألقي بين يديه مثل الحرة السوداء، ثم قال: خذ يا فلان، عليكم بالدجال هاشم بن عتبة.
قال الأحنف بن قيس: أتى إلي كاتب عمار بن ياسر يؤمئذ، وبيني وبينه رجل من بني السمين فتقدمنا معه، ودنونا من هاشم بن عتبة فقال له عمار: احمل فداك أبي وأمي، ونظر عمار إلى رقة في الميمنة، فقال هاشم: يا عمار، إنك رجل تأخذك خفة في الحرب، وإنما(27/52)
أزحف باللواء زحفاً، وأرجو أن أنال بذلك حاجتي، وإني إن خففت لم آمن الهلكة، وقال معاوية لعمرو بن العاص: ويحك يا عمرو! أرى اللواء مع هاشم كأنه يرقل به إرقالاً، وإنه إن زحف به زحفاً إنه لليوم الأطم بأهل الشام. فلم يزل به عمار حتى حمل، فبصر به معاوية، فوجه نحوه حماة أصحابه، ومن يزن بالبأس والشدة إلى ناحيته. وكان ذلك الجمع إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، ومعه يؤمئذ سفيان قد تقلد واحداً، وهو يضرب بالآخر، فأطافت به خيل علي، فقال عمرو: ابني، ابني، فقال له معاوية: اصبر، فإنه لا بأس عليه، فقال عمرو: لو كان يزيد بن معاوية لصبرت، فلم يزل حماة أهل الشام يدعون عنه حتى نجا هارباً على فرسه، هو ومن معه. وقال عمار حين نظر إلى راية عمرو بن العاص: والله إن هذه لراية قاتلها ثلاث عركات، وما هذه بأرشدهن.
حدث أبو إسحاق أن علياً صلى على عمار بن ياسر، وهاشم بن عتبة، فجعل عماراً مما يليه، وهاشماً أمام ذلك، وكبر عليهما تكبيراً واحداً خمساً أو ستاً أو سبعاً. والشك من أشعث بن سوار راويه عن أبي إسحاق. وكانت صفين سنة سبع وثلاثين.
هاشم بن عمرو بن هاشم
أبو عمرو البيروتي حدث عن أبيه بسنده إلى ابن عباس قال: إن السنة مضت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إنه أيما عبد خرج من العدو إلينا فهو حر، وإن خرج بعد الصلح فهو عبد. "(27/53)
هاشم بن محمد بن أحمد بن إسماعيل
ابن سيار أبو العهد التميمي الشاعر، المعروف بالمتيم من شعره: مجزوء الخفيف
كنت وحدي ومن توحد ما شاء يفعل
فتأهلت والفقير بلاه التأهل
زلة زلها حليم وذو الجهل يجهل
ربما يجهل المغفل من حيث يعقل
ومن شعره: الطويل
بروحي وجسمي من يرائي ببغضتي ... ويضمر إشفاقاً علي كإشفاقي
يسارقني لحظاً ويطرق خفيه ... وأسرق منه اللحظ من تحت إطراقي
فيعرف أسراري وأعرف سره ... فحاجاتنا تقضى وسر الهوى باق
هاشم بن مرثد بن سليمان
ابن عبد الصمد - ويقال: عبد الله - بن عبد ربه بن أيوب ابن مرهوب الطبراني الطيالسي، مولى ابن عباس حدث عن مروان بن صالح بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تفضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بخمسة وعشرين جزءاً ".
هاشم المرادي شاعر.
اجتمع الطرماح الطائي وهاشم المرادي ومحمد بن عبد الله الحميري عند معاوية بن(27/54)
أبي سفيان فأخرج بدرة، فوضعها بين يديه ثم قال: يا معشر شعراء العرب، قولوا قولكم في علي بن أبي طالب، ولا تقولوا إلا الحق، فأنا نفي من صخر بن حرب إن أعطيت هذه البدرة إلا من قال الحق في علي، فقام الطرماح فوقع في علي، فقال له معاوية: اجلس، فقد علم الله نيتك، ورأى مكانك، ثم قام هاشم المرادي، فوقع فيه أيضاً، فقال له معاوية: اجلس مع صاحبك، فقد عرف الله مكانكما، فقال عمرو بن العاص لمحمد بن عبد الله الحميري - وكان حاضراً -: تكلم، ولا تقولن إلا الحق، ثم قال لمعاوية: قد آليت أنك لا تعطي هذه البدرة إلا قائل الحق في علي بن أبي طالب، قال: نعم، فقام محمد بن عبد الله فتكلم ثم قال: الوافر
بحق محمد قولوا الحق ... فإن الإفك من شيم اللئام
أبعد محمد بأبي وأمي ... رسول الله ذي الشرف التمام
أليس علي أفضل خلق ربي ... وأشرف عند تحصيل الأنام
ولا ينه هي الأيمان حقاً ... فذرني من أباطيل الكلام
وطاعة ربنا فيها وفيها ... شفء للقلوب من السقام
علي إمامنا بأبي وأمي ... أبو الحسن المطهر من أثام
إمام هدى حباه الله علماً ... به عرف الحلال من الحرام
فلو أني قتلت النفس حباً ... له ما كان فيها من غرام
يحل النار قوم أبغضوه ... وإن صلوا وصاموا ألف عام
ولا والله ما تركوا صلاة ... بغير ولاية العدل الإمام
أمير المؤمنين بك اعتمادي ... وبعدك بالأئمة اعتصامي
فهذا القول لي دين وهذا ... إذا أنشدت في ملأ كلامي
فقال معاوية: أنت أصدق القوم قولاً فخذ البدرة.
محمد بن السائب الكلبي وابنه هشام من رواة هذا الحديث كذابان رافضيان.(27/55)
هامة بن الهيم بن لاقيس بن إبليس
قيل: إنه من مؤمني الجن، وممن لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر أنه لقي نوحاً، وهوداً، وصالحاً، ويعقوب، ويوسف، وإلياس، وموسى بن عمران، وعيسى بن مريم، وأنه شهد قتل هابيل بن آدم، وكان قتله بدمشق على ما ذكر.
حدث عمر بن الخطاب قال: بينا نحن قعود مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جبل من جبال تهامة إذ أقبل شيخ بيده عصاً، فسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: نغمة الجن ومشيتهم، من أنت؟ قال: أنا هامة بن الهيم بن لاقيس ابن إبليس، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فما بينك وبين إبليس إلا أبوان، قال: لا، قال: فكم أتى عليك من الدهر؟ قال: قد أفنيت الدنيا وعمرها إلا قليلاً، ثم قال: كنت وأنا غلام ابن أعوام أفهم الكلام وآمر بالآثام، وآمر بإفساد الطعام، وقطيعة الأرحام، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بئس لعمر الله عمل الشيخ المتوسم، والغلام المتلوم، فقال: زدني من التعداد، إني تائب إلى الله. فإني كنت مع نوح في مسجده مع من آمن به، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى عليهم، وأبكاني، وقال: لا جرم إني على ذلك من النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، فقلت: يا نوح، إني كنت ممن شرك في دم قابيل وهابيل، فهل تجد لي من توبة؟ قال: يا هامة، نعم، مر بالخير، وافعله قبل الحسرة والندامة، إني قرأت فيما أنزل الله على آدم وعلي أنه ليس من عبد تاب إلى الله بالغاً ذنبه ما بلغ إلا تاب الله عليه، فقم، وتوضأ، واسجد لله سجدتين، ففعلت من ساعتي بما أمرني به، فناداني: ارفع رأسك، فقد نزلت توبتك من السماء، فخررت لله ساجداً حولاً. وكنت مع هود في مسجده مع من آمن به من قومه، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى عليهم، وأبكاني، وقال:(27/56)
لا جرم، إني على ذلك من النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، وكنت مع صالح في مسجده مع من آمن به من قومه، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى عليهم وأبكاني، وقال: لا جرم، إني على ذلك من النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. زاد في رواية: وكنت مع إبراهيم خليل الرحمن لما ألقي في النار، فكنت بينه وبين المنجنيق حتى أخرجه الله منه. وكنت زواراً ليعقوب. وكنت مع يوسف بالمكان الأمين، وكنت آلف إلياس في الأدوية، وأنا ألقاه الآن. وإني لقيت موسى بن عمران، فعلمني من التوراة شيئاً، وقال: إني لقيت عيسى بن مريم فأقرئه مني السلام. وإني لقيت عيسى فأقرأته من موسى السلام وقال لي عيسى: إن لقيت محمداً فأقرئه مني السلام، - زاد في رواية: قد بلغت وآمنت بك -.
فأرسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عينيه بالبكاء وقال: على عيسى السلام ما دامت الدنيا، وعليك يا هامة لأدائك الأمانة، فقال هامة: يا رسول الله، افعل بي ما فعل موسى، إنه علمني من التوراة شيئاً، فعلمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سورة " إذا وقعت " و" المرسلات " و" عم يتساءلون " و" إذا الشمس كورت " و" الحمد " والمعوذتين، و" قل هو الله أحد " وقال: ارفع إلينا حوائجك يا هامة، ولا تدع زيارتنا. قال عمر: فقبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ينعه إلينا، ولست أدري أحي هو أم ميت.(27/57)
هانئ بن عروة بن فضفاض
ويقال: ابن عروة بن نمران - بن عمرو بن قعاس ابن عبد يغوث الغطيفي المرادي الكوفي قال هانئ لابنه: هب لي من كلامك كلمتين: زعم وسوف.
جاء عمارة بن أبي معيط إلى ابن زياد فحدث أن هانئ بن عروة جز رأسه.
كان الحسين عليه السلام قدم مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى الكوفة، وأمره أن ينزل على هانئ بن عروة المرادي، وينظر إلى اجتماع الناس عليه، ويكتب إليه بخبرهم، فقدم مسلم الكوفة مستخفياً، وأتته الشيعة، فأخذ بيعته، وكتب إلى الحسين: إني قدمت الكوفة، فبايعني منهم - إلى أن كتبت إليك - ثمانية عشر ألفاً، فعجل القدوم، فإنه ليس دونها مانع. فلما أتاه كتاب مسلم أغذ السير حتى انتهى إلى زبالة، فجاءت رسل أهل الكوفة إليه بديوان فيه أسماء مئة ألف، وكان النعمان بن بشير الأنصاري على الكوفة في آخر خلافة معاوية فهلك، وهو عليها، فخاف يزيد ألا يقدم النعمان على الحسين، فكتب إلى عبيد الله بن زياد بن أبي سفيان وهو على البصرة فضم إليه الكوفة، وكتب إليه بإقبال الحسين إليها، فإن كان لك جناحان فطر حتى تسبق إليها، فأقبل عبيد الله بن زياد سريعاً، متعمماً، متنكراً حتى دخل سوق الكوفة. فلما رآه أهل السوق خرجوا يشتدون بين يديه، وهم يظنون أنه حسين، وذلك أنهم كانوا يتوقعونه، فجعلوا يقولون لعبيد الله بن زياد: يا بن رسول الله، الحمد لله الذي أراناك ويقبلون يده ورجله، فقال عبيد الله: لشد ما فسد هؤلاء، ثم دخل المسجد، وصلى ركعتين، وصعد المنبر وكشف وجهه. فلما رآه الناس مال بعضهم على بعض وأقشعوا عنه. وبنى عبيد الله بن زياد بأهله أم نافع بنت عمارة بن عقبة بن أبي معيط، وأتي في تلك الليلة(27/58)
برسول الحسين أرسله إلى مسلم بن عقيل يقال له عبد الله بن بقطر فقتله، وكان قدم مع عبيد الله من البصرة شريك بن الأعور الحارثي، وكان شيعة لعلي فنزل أيضاً على هانئ بن عروة، فاشتكى شريك، فكان عبيد الله يعوده في منزل هانئ، ومسلم بن عقيل هناك لا يعلم به، فهيؤوا لعبيد الله ثلاثين رجلاً يقتلونه إذا دخل عليهم، وأقبل عبيد الله، فدخل على شريك يسأل به، فجعل شريك يقول: البسيط
ما تنظرون بسلمى أن تحيوها ... اسقوني فلو كانت فيها نفسي.
فقال عبيد الله: ما يقول؟ قالوا: يهجر، وتخشع القوم في البيت، وأنكر عبيد الله ما رأى منهم، فوثب، فخرج، ودعا مولى لهانئ بن عروة، وكان في الشرطة فسأله، فأخبره الخبر، فقال: أولى، ثم مضى حتى دخل القصر، وأرسل إلى هانئ بن عروة وهو يومئذ ابن بضع وتسعين سنة، فقال: ما حملك على أن تخبر عدوي وتنطوي عليه؟! فقال: يا بن أخي، إنه جاء حق هو أحق من حقك، وحق أهل بيتك، فوثب عبيد الله، وفي يده عنزة، فضرب بها رأس هانئ حتى خرج الزج، واغترز في الحائط، ونثر دماغ الشيخ فقتله مكانه، وبلغ الخبر مسلم بن عقيل فخرج. وفي حديث آخر أن عبيد الله لما بنى بزوجته أرسل إلى هانئ فأتاه متوكئاً على عصاه، فقال: أكل الأمير العرس وحده، قال: أو تركتني أنتفع بعرس وقد ضممت مسلم بن عقيل، وهو عدو أمير المؤمنين؟! قال: ما فعلت، قال: لعمري لقد فعلت، وما شكرت بلاء زياد، ولا رعيت حقه وزاده فأغضبته، فانتزع عبيد الله العنزة من يده فشجه بها وحبسه حتى أتى بمسلم بن عقيل، فقتلهما جميعاً، وألقاهما من ظهر بيت، فقال عبد الله بن الزبير الأسدي يرثيه: الطويل(27/59)
إن كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى هانئ بالسوق وابن عقيل
إلى بطل قد هشم السيف رأسه ... وآخر يهوى من طمار قتيل
تري جسداً قد غير الموت لونه ... ونضح دم قد سال كل مسيل
أصابهما أمر الإمام فأصبحا ... أحاديث من يسعى بكل سبيل
أيركب أسماء الهماليج آمناً ... وقد طلبته مذحج بقتيل
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم ... فكونوا بغاثاً أرضيت بقليل
يعني أسماء بن خارجة الفزاري، كان عبيد الله بن زياد بعثه وعمرو بن الحجاج الزبيدي إلى هانئ بن عروة فأعطياه العهود والمواثيق، فأقبل معهما حتى دخل على عبيد الله بن زياد فقتله، ويعني بقوله: وآخر يهوي من طمار قتيل: عبد الله بن بقطر، لأنه قتل وألقي من فوق القصر.
قالوا: ولما قتل عبيد الله بن زياد مسلم بن عقيل أمر بهانئ بن عروة، فأخرج فجعل ينادي: يا مذ حجاه ولا مذ حج لي، فانتهوا به إلى موضع في السوق تباع فيه الغنم، فقالوا: مد عنقك، فقال: ما أنا بمعينكم على نفسي بشيء، فضرب عنقه مولى لعبيد الله بن زياد يقال له سلمان.
18 - هانئ بن كلثوم بن عبد الله ابن شريك بن ضمضم - ويقال له: ابن حبان الكندي - ويقال: الكناني الفلسطيني قال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً، أو قتل مؤمناً متعمداً ".(27/60)
قال هانئ بن كلثوم: حدثني محمود بن الربيع عن عبادة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من قتل مؤمناً ثم اغتبط بقتله لم يقبل منه صرف ولا عدل ".
وحدث أيضاً بهذا السند عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يزال المؤمن صالحاً ما لم يصب دماً ".
وسئل يحيى الغساني عن اغتباطه بقتله، قال: هم الذين يقتلون في الفتنة. يقتلون أحدهم، فيرى أنه على هدى. لا يستغفر الله منه أبداً.
وحدث هانئ بن كلثوم عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً بلح ".
قال هانئ بن كلثوم: مثل المؤمن الفقير كمثل المريض عند الطبيب العلم بدائه، تطلع نفسه إلى أشياء يشتهيها، لو أصابها أكلها، كذلك يحمى الله المؤمن من الدنيا.
بعث عمر بن عبد العزيز إلى هانئ بن كلثوم يستخلفه على فلسطين: عربها وعجمها، فأبى، ومات في ولايته. فلما بلغته وفاته قال: أحتسب عند الله صحبة هانئ الجيش.(27/61)
19 - هانئ أبو مالك الهمداني: من أصحاب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو جد بني أبي مالك. قدم هانئ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليمن فدعاه إلى الإسلام، فأسلم، ومسح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رأسه، ودعا له بالبركة، وأنزله على يزيد بن أبي سفيان، فأقام عنده حتى خرج في الجيش الذي بعثه أبو بكر الصديق إلى الشام فلم يرجع.
20 - هانئ أبو سعيد البربري، مولى عثمان بن عفان الأموي حدث عن عثمان قال: كان عثمان إذا وقف على قبر قال: ادعو لصاحبكم بالتثبت، فإنه الآن يسأل.
وفي رواية: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فرغ من دفن الرجل قال: " استغفروا لأخيكم، وسلوا له بالتثبت فإنه الآن يسأل ".
وحدث قال: كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟! فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن القبر أول منازل الآخرة، فإن ينج منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه ".
قال: وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والله، ما رأيت منظراً قد إلا القبر أفظع منه ".(27/62)
هبار بن الأسود بن المطلب
ابن أسد بن عبد العزى - أبو الأسود - ويقال: أبو سعد القرشي الأسدي له صحبه.
حدث هبار أنه زوج ابنه له - وكان عندهم كبر وغرابيل، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمع الصوت، فقال: ما هذا؟ فقيل: زوج هبار ابنته، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أشيدوا النكاح، هذا النكاح لا السفاح. قيل: ما الكبر؟ قال: الكبر: الطبل، والغرابيل: الصنوج.
حدث عروة أن عتبة بن أبي لهب قال: اعلموا أنه كفر بالذي " دنا فتدلى " وعتبة خارج إلى بلاد الشام، فبلغ قوله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: سيرسل الله إليه كلباً من كلابه. فخرج، ونزلوا بأرض كثيرة الأبقار، ومعهم هبار بن الأسود، فعدا عليه الأسد، فأخذ برأسه فمضغه ثم لفظه فمات، فقال هبار: والله لقد رأيت الأسد شم رؤوس النفر رجلاً رجلاً حتى بلغه فأخذه، وهذا كان بالشراة من أرض الشام.
كان هبار يقول: لما ظهر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا إلى الله: كنت ممن عاداه، ونصب له وآذاه، ولا يسير قرشي مسيراً لعداوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقتاله إلا كنت معهم، وكنت مع ذلك قد وترني محمد، قتل أخوي: زمعة وعقيلاً ابني الأسود وابن أخي الحارث بن زمعة يوم بدر، فكنت أقول: لو أسلمت قريش كلها لم أسلم.
وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى زينب ابنته من يقدم بها، وعرض لها نفر من قريش فيهم هبار ينخس بها وقرع ظهرها بالرمح، وكانت حاملاً، فأسقطت، فردت إلى بيوت بني عبد مناف، فكان هبار بن الأسود عظيم الجرم في الإسلام، فأهدر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دمه، فكان كلما بعث سرية أوصاهم بهبار، وقال: إن ظفرتم به فاجعلوه بين حزمتين من حطب، وحرقوه بالنار، ثم يقول بعد: إنما يعذب بالنار رب النار، إن ظفرتم به فاقطعوا يديه ورجليه، ثم اقتلوه.(27/63)
قالوا: ثم قدم هبار بعد ذلك مسلماً مهاجراً، فاكتنفه ناس من المسلمين يسبونه، فقيل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل لك في هبار يسب، ولا يسب. وكان هبار في الجاهلية فأتاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا هبار سب من سبك فأقبل عليهم هبار، فتفرقوا عنه. قالوا: فخرجت سلمى مولاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: لا أنعم الله بك عيناً، أنت الذي فعلت وفعلت، فقال: إن الإسلام محى ذلك. ونهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سبه، والتعرض له.
قال جبير بن مطعم: كنت جالساً مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أصحابه في مسجده منصرفه من الجعرانة، فطلع هبار من باب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما نظر القوم إليه قالوا: يا رسول الله: هبار بن الأسود! قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد رأيته، فأراد بعض القوم القيام إليه، فأشار إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن اجلس، ووقف عليه هبار، فقال: السلام عليك يا رسول الله، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، ولقد هربت منك في البلاد، وأردت اللحوق بالأعاجم، ثم ذكرت عائدتك وفضلك، وبرك، وصفحك عمن جهل عليك، وكنا يا رسول الله أهل شرك فهدانا الله تعالى بك، وتنقذنا بك من الهلكة، فاصفح عن جهلي، وعما كان يبلغك عني، فإني مقر بسوآتي، معترف بذنبي. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد عفوت عنك، وقد أحسن الله بك حيث هداك للإسلام، والإسلام يجب ما كان قبله. زاد في الحديث: قال الزبير: فجعلت أنظر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنه ليطأطىء رأسه استحياء منه مما يعتذر هبار، وجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: قد عفوت عنك.
حدث هبار أنه فاته الحج، فقال له عمر: طفت بالبيت واسع بين الصفا والمروة ثم احلق.(27/64)
وروى نافع أن هبار فاته الحج، فقدم على عمر يوم النحر بمنى، فقال له عمر: ما حسبك - أو ما شغلك -؟ قال: طلبت الهلال لغير ليلته، وأنا كما ترى، وكان ضخماً، فأمر أن يطوف ويسعى ويقصر، وإن كان معه هدي أن ينحره، ثم يهل ويحج عاماً قابلاً ويهدي.
هبة الله بن أحمد بن عبد الله
ابن علي بن طاوس أبو محمد بن أبي البركات المقرئ الشافعي إمام جامع دمشق حدث بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان.
وأنشده بسنده إلى أبي الحسن علي بن أحمد بن الحسن بن محمد بن نعيم البصري المعروف بالنعيمي لنفسه: المتقارب
فكن رجلاً رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا
أبياً لنائل ذي ثروة ... تراه بما في يديه أبياً
فإن إراقة ماء الحياة ... دون إراقة ماء المحيا
توفي أبو محمد بن طاوس سنة ست وثلاثين وخمس مئة.
هبة الله بن أحمد بن محمد
ابن هبة الله بن علي بن فارس أبو محمد بن أبي الحسين بن أبي الفضل الأنصاري المعروف بابن الأكفاني حدث عن أبي الفتح عبد الجبار بن عبد الله بن برزة الأردستاني الجوهري الواعظ بسنده إلى أوس قال:(27/65)
كنا قعوداً عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصفة، وهو يقص علينا ويذكرنا إذ أتاه رجل فساره، فقال: اذهبوا، فاقتلوه. فلما ولى الرجل دعاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هل يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: اذهبوا، فخلوا سبيله، فإنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ثم تحرم علي دماؤهم، وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله.
وأنشده بسنده إلى أبي حكيم محمد بن إبراهيم بن السري التميمي بالكوفة: الطويل
إذا رشوة من باب دار تقحمت ... على أهل بيت والأمانة فيه
سعت هرباً منه وولت كأنها ... حليم تولى عن جواب سيفه
ولد أبو محمد بن الأكفاني سنة أربع وأربعين وأربع مئة. وتوفي سنة أربع وعشرين وخمس مئة.
هبة الله بن جعفر بن الهيثم
ابن القاسم أبو القاسم البغدادي المقرئ حدث سنة خمسين وثلاث مئة عن موسى بن هارون بسنده إلى ابن عباس قال: كان ينبذ للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الليل، فيشربه من الغد، ومن بعد الغد، فإذا كان المساء فإن كان في الإناء شيء أمر به فأهرق. توفي هبة الله بن جعفر سنة خمسين وثلاث مئة.
هبة الله بن الحسن بن هبة الله
ابن عبد الله بن الحسين أخو المصنف الأكبر رحمهما الله تعالى حدث عن أبي طالب عبد القادر بن محمد بن يوسف بسنده إلى المغيرة بن شعبة قال: قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تورمت قدماه، فقيل له: يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟.
ولد هبة الله سنة ثمان وثمانين وأربع مئة. وتوفي سنة ثلاث وستين وخمس مئة.(27/66)
هبة الله بن عبد الله بن الحسن
ابن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن الفضيل، أبو الفرج الكلاعي البزار، أخو أبي القاسم حدث عن أبي بكر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن هلال الأديب بسنده إلى أنس بن مالك قال: صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلف أبي بكر في ثوب واحد متوشحاً به.
هبة الله بن عبد الله أبو القاسم
الشاوي حدث - وقد كان نيف على المئة - عن أبي بكر محمد بن أحمد بن سيد حمدويه قال: أتاني قوم من العصر، فلم أضيفهم، ولم يقفوا، فسألت عنهم، فقيل لي: قد خرجوا، فندمت، وطلعت إلى البيت وأخذت ما قسم الله، وجعلته في قفة، ولحقتهم، وقد وصلوا إلى طاحونة الرياقية، فسلمت عليهم، واعتذرت إليهم، وجئت أدفع إليهم، ما كان معي، فقالوا: يا أبا بكر، من يكون معه مثل هذا إيش يعمل بشيء، وأومأ بيده إلى الوادي، فنظرت، فإذا جميع ما في الوادي ذهب يتقد، فعرفت حال القوم، وودعتهم، ورجعت.
هبة الله بن عبد الوارث بن علي
ابن أحمد بن علي بن أحمد بن إبراهيم بن جعفر بن بوري، أبو القاسم الشيرازي الحافظ حدث عن أبي زرعة أحمد بن يحيى بن جعفر الخطيب بسنده إلى أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة.(27/67)
وحدث سنة أربع وثمانين وأربع مئة عن أبي بكر محمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن الليث بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الوصال، وصوم الصمت. وأنشده أبو القاسم عن أبي الحسن علي بن أحمد بن عبد العزيز الأنصاري لأبي الحسن علي بن عبد الغني المقرئ:
كم من أخ قد كنت أحسب شهده ... حتى بلوت المر من أخلاقه
كالملح يحسب سكراً في لونه ... ويحول عند مجسه ومذاقه
ورد نعي هبة الله من مرو سنة ست وثمانين وأربع مئة.
هبة الله بن محمد بن بديع
ابن عبد الله، أبو النجم الأصبهاني الوزير حدث عن أبي طاهر محمد بن أحمد بن محمد بسنده إلى معاذ بن جبل قال: بقينا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة العتمة حتى ظن الظان منا أنه قد صلى وليس بخارج، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلنا: يا رسول الله، قد ظن الظان منا أنك صليت، ولست بخارج، فقال: أعتموا بهذه الصلاة، فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، ولم يصلها أحد قبلكم.
ولد سنة ست وثلاثين وأربع مئة بأصبهان، واستوزره رضوان بن تتش بحلب، وبعده طغتكين أتابك. وقبض عليه سنة اثنتين وخمس مئة، وخنقه، واستصفى ماله.
هبة الله بن محمد بن حميد
أبو عمرو الأشعري حدث عن أبي محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم بسنده إلى عمر أنه رأى رجلاً محرماً قد عقل راحلته، فقال: ما يحبسك؟ قال: الجمعة، قال: إن الجمعة لا تمنع من سفر، فاخرج أو اذهب.(27/68)
هبة الله بن المسلم بن نصر
ابن أحمد، أبو القاسم بن الخلال الرحبي حدث عن أبي المرجى سعد الله بن صاعد بن المرجى - وهو خال أبيه - بسنده إلى ابن عمر أنه كان يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: أتاني جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تأمر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية والإهلال. وحدث عنه بسنده إلى أبي عمرو بن العلاء:
أبني إن من الرجال بهيمة ... في صورة الرجل السميع المبصر
فطن بكل مصيبة في ماله ... وإذا أصيب بدينه لم يشعر
ولد سنة نيف وسبعين وأربع مئة. وتوفي سنة خمس وأربعين وخمس مئة.
هبيرة بن عبد الرحمن
يقال: ابن غنم - الشامي ويقال: هبيرة عن عبد الرحمن بن غنم وغيره حدث عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الكذب كله إثم إلا ما نفى به مسلم، أو دفع به عن دين.
وحدث عن أبي مالك؟ الأ؟؟ شعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الوضوء شطر الإيمان.(27/69)
هدبة بن الخشرم بن كرز
ابن أبي حية بن الكاهن، وهو سلمة بن الأسحم؟؟؟ شاعر فصيح متقدم من شعراء بادية الحجاز.
هدبة: بضم الهاء وسكون الدال وفتح الباء المعجمة بواحدة. وحية: حاء مهملة وياء مشددة معجمة باثنتين من تحتها.
وهو الذي قتل زيادة بن زيد، وزيادة بن زيد أحد بني الحارث بن سعد إخوة عذرة. وهو القائل:
وإذا معد أوقدت نيرانها ... للمجد أغضت عامر فتقنعوا
وعامر رهط هدبة بن خشرم، وهم من بني الحارث بن سعد إخوة عذرة.
وكان سعيد بن العاص كره الحكم بين هدبة وعبد الرحمن بن زيد أخي زيادة بن زيد، فحملهما إلى معاوية. فنظر في القصة، ثم ردهما إلى سعيد بن العاص وهو والي المدينة لمعاوية. فلما صاروا بين يدي معاوية قال عبد الرحمن أخو زيادة: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك مظلمتي، وقتل أخي، وترويع نسوتي، فقال له معاوية: يا هدبة، قل، قال: إن هذا رجل سجاعة، فإن شئت أن أقص عليك قصتنا كلاماً أو شعراً، قال: لا، بل شعراً، فقال هذه القصيدة ارتجالاً حتى بلغ قوله:
رمينا فرامينا فصادف رمينا ... منا يا رجال في كتاب وفي قدر
وأنت أمير المؤمنين فما لنا ... وراءك من معدى ولا عنك من قصر(27/70)
فإن تك في أموالنا لم نضق بها ... ذراعاً وإن صبر فنصبر للصبر
فقال له معاوية: أراك قد أقررت بقتل صاحبهم، ثم قال لعبد الرحمن: هل لزيادة ولد؟ قال: نعم، المسور، وهو غلام جفر، لم يبلغ، وأنا عمه، وولي دم أبيه، فقال: إنك لا تؤمن على أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حق، والمسور أحق بدم أبيه، فرده إلى المدينة، فحبس ثلاث سنين حتى بلغ المسور.
وفي حديث: فكره معاوية قتله، وضن به عن القتل.
وقيل: إن سعيداً هو الذي حكم بينهما من غير أن يحملهما إلى معاوية.
وعن ابن المنكدر أن هدبة أصاب دماً فأرسل إلى أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن استغفري لي، فقالت: إن قتل استغفرت له.
قال ابن دريد: وهو أول من أقيد بالحجاز.
ولما مضي بهدبة إلى الحرة ليقتل لقيه عبد الرحمن بن حسان، فقال: أنشدني، فقال: أعلى هذه الحال؟ قال: نعم، فأنشده:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
ولا أتبغى الشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب
وحربني مولاي حتى غشيته ... متى ما يحربك ابن عمك تحرب(27/71)
ومما وقف عليه من قسوته قوله:
ولما دخلت السجن يا أم مالك ... ذكرتك والأطراف في حلق سمر
وعند سعيد غير أن لم أبح به ... ذكرتك إن الأمر يعرض للأمر
فسئل عن ذلك فقال: لما رأيت ثغر سعيد، وكان سعيد حسن الثغر جداً ذكرت به ثغرها. ويقال: إنه عرض عليه سعيد عشر ديات فأبى إلا القود، وكان ممن عرض الديات عليه الحسين بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، وسائر القوم من قريش والأنصار. فلما خرج به ليقاد منه بالحرة جعل ينشد الأشعار، فقالت له حبى المدينة: ما رأيت أقسى قلباً منك، أتنشد الشعر وأنت يمضى بك لتقتل؟؟؟؟ وهذه خلفك كأنها ظبي عطشان تولول - تعني: امرأته - فوقف، ووقف الناس معه، وأقبل على حبى فقال:
فما وجدت وجدي بها أم واحد ... ولا وجد حبى بابن أم كلاب
رأته طويل الساعدين شمردلأ ... كما انتعتت من قوة وشباب
فأغلقت حبى في وجهه الباب وسبته. ولما قدم نظر إلى امرأته فدخلته غيرة، وقد كان جدع في حربهم، فقال:
فإن يك أنفي بان منه جماله ... فما حسبي في الصالحين بأجدعا(27/72)
فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا
ضروباً بلحييه على عظم زوره ... إذا القوم هموا بالفعال تقنعا
فسألت القوم أن يمهلوه قليلاً، ثم أتت جزاراً، فأخذت منه مدية، فجدعت بها أنفها ثم أتته قبل أن يقتل مجدوعة الأنف، وقالت: ما عسى أن يكون بعد هذا؟ وقيل: إنها قالت: أهذا فعل من له في الرجال حاجة؟ فقال: الآن طاب الموت، ثم أقبل على أبويه فقال:
أبلياني اليوم صبراً منكما ... إن حزناً منكما اليوم لشر
ما أظن الموت إلا هيناً ... إن بعد الموت دار المستقر
اصبرا اليوم فإني صابر ... كل حي لقضاء وقدر
ثم قال:
إذا العرش إني عائذ بك مؤمن ... مقر بزلاتي إليك فقير
وإني وإن قالوا أمير مسلط وحجاب أبواب لهم صرير
لأعلم أن الأمر أمرك إن تدن ... فرب وإن تغفر فأنت غفور
ثم أقبل على ابن زيادة فقال: أثبت قدميك وأجد الضربة، فإني أيتمتك صغيراً، وأرملت أمك شابة، وسأل فك قيوده ففكت، فذاك حيث يقول:
فإن تقتلوني في الحديد فإنني ... قتلت أخاكم مطلقاً لم يقيد
زاد في غيره: فمد عنقه فضربت.(27/73)
لما نزل بعبد الله بن شداد الموت دعا ابناً له، يقال له محمد، فأوصاه فقال: يا بني، إذا أحببت حبيباً فلا تفرط، وإذا أبغضت بغيضاً فلا تشطط، فإنه كان يقال: أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما، وكن كما قال هدبة العذري:
وكن معقلاً للحلم واصفح عن الخنا ... فإنك راء ما عملت وسامع
وأحبب إذا أحببت حباً مقارباً ... فإنك لا تدري متى أنت نازع
وأبغض إذا أبغضت بغضاً مقارباً ... فإنك لا تدري متى أنت راجع
ومن شعر هدبة:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عان ... ويأتي أهله النائي الغريب
هذيل بن زفر بن الحارث بن عمرو
الكلابي شهد مع أبيه وقعة المرج، ونجا هارباً معه. وكان سيداً رئيساً.
قال هشام: تبع ناس من شيعة بني أمية من باهلة وحمير زفر بن الحارث يوم مرج راهط، ومعه ابناه: الهذيل ووكيع، فقتلوا وكعياً، وعبر زفر والهذيل جسر منبج وقطعاه.
قال ربيعة بن كعب: كنت مع عمر بن عبد العزيز وسالم بن عبد الله نسير بأرض الروم، فعارضهم الهذيل بن زفر بن الحارث، فقال عمر بن عبد العزيز لسالم بن عبد الله: هل تدري من(27/74)
هذا يا فلان؟ قال: لا، قال: هذا رجل طالما صبغ يده في الدماء من امرئ، فذكر صيامه وصلاته. قال سالم: إن استطاع ألا يموت فلا يمت سواء عليه صام أو لم يصم، صلى أو لم يصل.
وقال عاصم بن عبد الله بن يزيد يرثيه:
أتاني ورحلي بالرصافة موهناً ... وقد غار نجم والرفاق هجود
كتاب كلذع النار في متن صارم ... يخب به بعد الهدو يزيد
فقلت له ما في كتابك فالتوى ... ولجلج أقوالاًً وفيه صدود
وقلت له إني لقيت بهذه ... كما لقيت يوم الفصيل ثمود
فقال احتسب صلى الإله وحزبه ... عليه هذيلاً بان وهو حميد
فقلت ولم أرجع إلى غير خالقي ... وعيني بمسفوح الدموع تجود
فقل للرجال الشامتين بموته ... فسودوا كما كان الهذيل يسود
كذبتم وبيت الله لا تعدوانه ... وما كان فيكم للهذيل نديد
وكيف ولم يسبق لهجر ولم يقم ... لسورة جهل والرجال قعود
هرم بن حيان العبدي الربعي العامري
ويقال: الأزدي البصري ولي بعض حروب العجم ببلاد فارس في خلافة عمر وعثمان. وكان أحد الزهاد الثمانية. وقدم دمشق في طلب أويس القرني. وكان هرم عاملاً لعمر بن الخطاب،(27/75)
وكان ثقة. وله فضل وعبادة، وكان هرم ولد أشيب منحنياً، وقد نبتت ثناياه، فلذلك سمي هرماً.
وعن هرم بن حيان أنه قال: إياكم والعالم الفاسق، فبلغ عمر بن الخطاب، فكتب إليه، وأشفق منها: ما العالم الفاسق؟ فكتب إليه هرم: يا أمير المؤمنين، والله ما أردت به إلا الخير، يكون إمام يتكلم بالعلم، ويعمل بالفسق، ويشبه على الناس فيضلوا.
استعمل هرم بن حيان فظن أن قومه سيأتونه، فأمر بنار فأوقدت بينه وبين من يأتيه من القوم، فجاء قومه يسلمون عليه من بعيد، فقال: مرحباً بقومي، ادنوا، فقالوا: ما نستطيع أن ندنو منك، قد حالت النار بيننا وبينك، قال: فأنتم تريدون أن تلقوني في نار أعظم منها، في نار جهنم، قال: فرجعوا.
وفي سنة ثمان عشرة حاصر هرم بن حيان أهل دست هر، فرأى ملكهم امرأة تأكل ولدها، فقال: الآن أصالح العرب، فصالح هرماً على أن خلى لهم المدينة.
وجه عثمان بن أبي العاص هرم بن حيان إلى قلعة بجرة - يقال لها: قلعة الشيوخ - فافتتحها عنوة، وسبى أهلها، وصالح أهل قلعة الرهبان من كازرون سنة ست وعشرين في خلافة عثمان.
وعن الحسن قال: كان رجل إذا كانت له حاجة، والإمام يخطب قام، فأمسك بأنفه، فأشار إليه الإمام أن يخرج. قال: فكان رجل قد أراد الرجوع إلى أهله فقام إلى هرم بن حيان، وهو يخطب، فأخذ بأنفه، فأشار إليه هرم أن يذهب، فخرج إلى أهله، فأقام فيهم ثم قدم إليك وأنت تخطب، فأخذت بأنفي، فأشرت إلي أن اذهب، قال: فاتخذت هذا(27/76)
دغلاً - أو كلمة نحوها - قال: اللهم، أخر رجال السوء لزمان السوء. وكان هرم يقول: اللهم، إني أعوذ بك من زمان يمرد فيه صغيرهم، ويأمل فيه كبيرهم، وتقترب فيه آجالهم.
بعث عمر هرم بن حيان على الخيل فغضب على رجل، فأمر به، فوجئت عنقه، ثم أقبل على أصحابه فقال: لا جزاكم الله خيراً، ما نصحتموني حين قلت، ولا كففتموني عن غضبي. والله لا ألي لكم عملاً، ثم كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، لا طاقة لي بالرعية، فابعث إلى عملك.
بات هرم بن حيان عند حممة، فبات حممة باكياً حتى أصبح، فقال له هرم: يا أخي، ما أبكاك الليلة؟ قال: ذكرت ليلة صبيحتها تناثر الكواكب. قال: وبات حممة عند هرم ليلة فبات هرم باكياً حتى أصبح، فقال له حممة: ما أبكاك يا أخي؟ قال: ذكرت ليلة صبيحتها تبعثر القبور للمحشر إلى الله. وكانا إذا أصبحا غدوا، فمرا بأكورة الحدادين فنظرا إلى الحديد ينفخ عليه، فيقعان، ويبكيان، ويستجيران بالله من النار، ثم يأتيان أصحاب الرياحين، فيقفان فيسألان الله الجنة، ثم يدعوان بدعوات ثم يتفرقان.
خرج هرم بن حيان وعبد الله بن عامر يريدان الحجاز، فبينما هما يسيران، ورواحلهما ترعيان إذ عرضت لهما صليانة، فابتدر لها الناقتان، فأكلتها إحداهما، فقال هرم لعبد الله بن عامر: أتحب أن تكون هذه الصليانة تأكلك هذه الناقة فذهبت؟ فقال ابن عامر: ما أحب ذلك، فإني لأرجو أن يدخلني الله الجنة، وإني لأرجو، وإني لأرجو، فقال هرم: والله لو علمت أني أطاع في نفسي لأحببت أن أكون هذه الصليانة فأكلتني هذه الناقة فذهبت.(27/77)
قال هرم بن حيان: لو قيل لي: إنك من أهل النار لم أترك العمل لئلا تلومني نفسي، تقول: ألا صنعت؟ ألا فعلت؟.
كان هرم بن حيان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم.
قال هرم بن حيان: ما عصى الله تعالى كريم، ولا آثر الدنيا على الآخرة حكيم.
كان هرم بن حيان يخرج في شطر الليل فينادي بأعلى صوته: عجبت من الجنة، كيف ينام طالبها، وعجبت من النار كيف ينام هاربها " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا الخاسرون " ثم يقرأ: " ألهاكم التكاثر " " والعصر " وكان يقول: لو أن منادياً ينادي من أهل السماء: أين خير الأرض رجوت أن أكون أنا، ولو نادى مناد: أين شر أهل الأرض خشيت أن أكون أنا هو، ولو قيل لي: إنك من أهل الجنة ما زادني ذلك إلا اجتهاداً، شكراً لربي، ولو قيل لي: إنك من أهل النار ما زادني ذلك إلا اجتهاداً كيلا ألوم نفسي إن هلكت، لأني لم أهلك إلا بعد الاجتهاد.
أخذ محمود الوراق قوله: لم أر مثل الجنة نام طالبها، ولا مثل النار نام هاربها:
عجبت من هارب يخاف من النار ومن نومه على هربه
والذي يطلب السبيل إلى الجنة أنى ينام على طلبه(27/78)
كم من جهول قد نال بغيته ... ومن أديب أكدى على أدبه
ورب باك فوات حاجته ... وفي الفوات النجاة من عطبه
قيل لهرم بن حيان: أوصه، قال: أوصيكم بالآيات الأواخر من سورة النحل: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة " إلى قوله: " والذين هم محسنون ".
قيل لهرم بن حيان لما حضره الموت: أوص قال: ما أدري ما أوصي، ولكن بيعوا درعي واقضوا عني ديني، فإن لم يف فبيعوا فرسي، فإن لم يف فبيعوا غلامي، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل. قال قتادة: أوصى والله بجماع من الأمر، ومن أوصى بما أوصى فقد أبلغ.
قال الحسن: مات هرم بن حيان في يوم صائف. فلما دفن جاءت سحابة قدر قبره فرشت، ثم انصرفت، وأنبت العشب من يومه، وما جاوزت قبره شبراً.
هشام بن أحمد بن هشام
ابن عبد الله بن كثير، أبو الوليد المقرئ، مولى بني أسد بن عبد العزى.
حدث بدمشق عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن أبي سلمة بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين.
وحدث عن أبي جعفر محمد بن الخضر بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أن عبدين تحابا في الله، أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب جمع بينهما يوم القيامة، يقول: هذا الذي كنت تحبه في.
توفي أبو الوليد هشام سنة اثنتين وثلاثين وثلاث مئة.(27/79)
هشام بن إسماعيل بن هشام
ابن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أبو الوليد المخزومي قدم دمشق، فتزوج عبد الملك بن مروان ابنته، وولاه المدينة، وولدت لعبد الملك هشاماً. وهشام أول من أحدث دراسة القرآن في جامع دمشق في السبع.
روى هشام عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تبادروني بالركوع. وأم هشام أمة الله بنت المطلب بن أبي البختري بن هاشم بن الحارث. وكان هشام بن إسماعيل من وجوه قريش. وكان مشدداً في ولايته.
وكان عمر بن عبد الرحمن بن عوف لما رأى أسف عبد الملك على زينب بنت عبد الرحمن بن الحارث - وكان يريد أن يتزوجها، فتزوجها عمه يحيى بن الحكم - قال له: يا أمير المؤمنين، أنا أدلك على مثلها في الجمال، وهي شريكتها في النسب، قال: من هي؟ قال: زينب بنت هشام بن إسماعيل، وهو عندك حاضر، قال: فكيف لي بذلك؟ قال: أنا لك به. قال: فأنت، فذهب عمر إلى هشام بن إسماعيل، فخطب إليه ابنته على عبد الملك، فقال هشام: تريد أن آتيه أزوجه؟ ولا يكون هذا أبداً، فقال له عمر: يا هذا، إن ابن عمك صنع ما صنع بالأمس، فأنشدك بالله أن ترد فتنة بدت للشر بينكم وبينه، ولكن تشهد العصر معه في المقصورة، فتكون وراءه، فإذا صلى انحرف(27/80)
عليك فخطب، قال: نعم، فأعلم عمر عبد الملك، فراح إلى العصر في قميص معصفر، ورداء معصفر. فلما صلى العصر أقبل بوجهه على هشام بن إسماعيل، فخطب إليه ابنته، فزوجه إياها، وأصدقها أربع مئة دينار.
قوله: إن ابن عمك صنع ما صنع، يعني: المغيرة بن عبد الرحمن أخا زينب حتى تزوجها يحيى بن الحكم.
قال الأوزاعي: كان معاوية بن أبي سفيان أول من اعتذر إلى الناس في الجلوس في الخطبة الأولى في الجمعة، ولم يصنع ذلك إلا لكبر سنه وضعفه، وكان عبد الملك بن مروان أول من رفع يديه في الجمعة، وقنت فيها، وكان المصعب بن الزبير أول من أحدث التكبير الثلاث بعد المغرب والصبح، وكان هشام بن إسماعيل أول من جمع الناس في الدراسة.
قال: وقد كان عمر بن عبد العزيز يجلس في الخطبة الأولى.
لما عقد عبد الملك لابنيه الوليد وسليمان العهد، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان وعامله على المدينة هشام بن إسماعيل، فدعا الناس إلى البيعة لهما، فبايع الناس، وامتنع سعيد بن المسيب، وقال: حتى أنظر، فضربه هشام ستين سوطاً، وطاف به في تبان من شعر حتى بلغ به رأس الثنية. فلما كروا به قال: أين تكرون بي؟ قالوا: إلى السجن، قال: لولا أني ظننت أنه الصلب ما لبست هذا التبان، فرده إلى السجن، وحبسه، وكتب إلى عبد الملك بذلك، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع به، ويقول: سعيد كان أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عند سعيد شقاق ولا خلاف.
ولما كتب عبد الملك إلى هشام بذلك قال سعيد: الله بيني وبين من ظلمني.
قال عبد الله بن يزيد الهذلي: دخلت على سعيد بن المسيب السجن، فإذا هو قد ذبحت له شاة، فجعل الإهاب(27/81)
على ظهره، ثم جعلوا له بعد ذلك قصباً رطباً، وكان كلما نظر إلى عضديه قال: اللهم، انصرني من هشام.
قال أبو الزناد: رمقت سعيد بن المسيب بعد جلد هشام بن إسماعيل إياه، فلما رأيته يفوته في سجود ولا ركوع، ولا زال يصلي معه بصلاته. وكان سعيد بن المسيب لا يقبل بوجهه على هشام بن إسماعيل إذا خطب في الجمعة، فأمر به هشام بعض أعوانه أن يعطفه عليه إذا خطب، فأهوى العون يعطفه، فأبى سعيد، فأخذه حتى عطفه، فصاح سعيد: يا هشام، إنما هي أربع بعد أربع فلما انصرف هشام قال: ويحكم جن سعيد. فسئل سعيد: أي شيء أربع بعد أربع؟ سمعت في ذلك شيئاً؟ قال: لا، قيل: فما أردت بقولك؟ قال: إن جاريتي لما أردت المسجد قالت: إني أريت كأن موسى غطس عبد الملك في البحر ثلاث غطسات فمات في الثالثة، فأولت أن عبد الملك بن مروان مات، لأن موسى بعث على الجبارين بقتلهم، وعبد الملك جبار هذه الأمة. قال: فلم قلت: أربع بعد أربع؟ قال: مسافة مسير الرسول من دمشق إلى المدينة بالخبر. فمكثوا ثمان ليال ثم جاء رسول بموت عبد الملك.
كان هشام بن إسماعيل يؤذي علي بن حسين وأهل بيته، يخطب بذلك على المنبر، وينال من علي. فلما ولي الوليد بن عبد الملك عزله، وأمر به أن يوقف الناس، فكان يقول: لا والله ما كان أحد من الناس أهم إلي من علي بن حسين، كنت أقول: رجل صالح يسمع قوله، فوقف الناس، فجمع علي بن حسين ولده وخاصته ونهاهم عن التعرض له، وغدا علي بن حسين ماراً لحاجة، فما عرض له، فناداه هشام بن إسماعيل " الله أعلم حيث يجعل رسالته ".(27/82)
هشام بن إسماعيل بن يحيى
ابن سليم بن عبد الرحمن، أبو عبد الملك الخزاعي العطار حدث عن محمد بن شعيب بسنده إلى ابن عمر، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى صلاة فلبس عليه. فلما انصرف قال لأبي: أصليت معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك؟ وحدث عنه بسنده إلى حكيم بن حزام قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستقاد في المساجد، أو ينشد فيها الأشعار، أو تقام فيها الحدود.
وحدث عن سهل بن هاشم بن إبراهيم بن أدهم قال: قال عمر بن الخطاب: لؤم بالرجل أن يرفع يده قبل القوم. توفي هشام سنة سبع عشرة ومئتين. وكان ثقة.
قال ابن عمر: ما رأيت بدمشق أفضل من هشام بن العطار.
هشام بن حبيش بن خالد بن الأشعر
ويقال: الأشعر بن لوث، أبو حزام الخزاعي القديدي حدث هشام قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي الهيثم بن التيهان: المستشار مؤتمن.(27/83)
هشام بن حكيم بن حزام
ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي له صحبة ورواية عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رأى هشام بن حكيم ناساً من أهل الذمة قياماً في الشمس، فقال: ما هؤلاء؟ فقالوا: من أهل الجزية. فدخل على عمير بن سعد - وكان على طائفة من الشام - فقال هشام: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من عذب الناس في الدنيا عذبه الله. فقال عمير: خلوا عنهم.
وفي حديث آخر أنه مر بناس من أهل الذمة قد أقيموا في الشمس بالشام، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: بقي عليهم شيء من الخراج، فقال: إني أشهد إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الله يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا.. الحديث.
وعن عياض بن غنم - وهو الذي فتح الجزيرة. فلما فتح داراً دعا عظيمها فضربه بالسوط حتى مات، فقال له هشام بن حكيم: أما سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة أشد الناس عذاباً للناس في الدنيا، وأنت تضرب هذا الرجل؟! كان هشام بن حكيم له فضل، وكان ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وليس لأحد عليه إمرة. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أنكر الشيء قال: لا يكون هذا ما عشت أنا وهشام بن حكيم. ومات هشام قبل أبيه. وكان هشام بن حكيم كالسائح ما يتخذ أهلاً ولا ولداً.(27/84)
ودخل هشام بن حكيم على العامل بالشام يريد الوالي أن يعمل به فيتواجده ويقول له: لأكتبن إلى أمير المؤمنين بهذا، فيقوم إليه العامل فيتشبث به ويلزمه ويترضاه.
كان هشام ومن معه بالشام يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وكانوا يمشون في الأرض بالإصلاح والنصيحة، يحتسبون.
هشام بن خالد بن يزيد
ويقال: زيد أبو مروان الأزرق السلامي ويقال: مولى بني أمية، ودعوته في الأزد.
حدث عن الوليد بسنده إلى أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ". قال الله عز وجل: " وأقم الصلاة لذكري ".
ولد هشام بن خالد سنة ثلاث وخمسين ومئة. وكان صدوقاً. وكان يحرك الزبل في حمام ابن قنان بأربعة دوانيق كل يوم، ويمر ويشتري به ورقاً، ويكتب الحديث. وتوفي هشام سنة تسع وأربعين ومئتين.
هشام بن الدرفس الغساني
قال أبو مسهر: حدثني هشام بن الدرفس قال: كان على خاتم جدك أبي درامة: أبرمت، فقم، فكان إذا استثقل إنساناً ناوله الخاتم.(27/85)
هشام بن سليمان الداراني
قال هشام: قرئ على أبي سليمان الداراني: " هل أتى على الإنسان " فلما بلغ عليه: " وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً " قال: بما صبروا على ترك الشهوات في دار الدنيا، وأنشد الشيخ:
كم قتيل لشهوة وأسير ... أف من مشته خلاف الجميل
شهوات الإنسان تورثه الذ ... ل وتلقيه في البلاء الطويل
هشام بن زياد
وهو هشام بن أبي هشام أبو المقداد البصري، أخو الوليد بن أبي هشام، مولى لآل عثمان بن عفان حدث عن أبيه بسنده إلى عبد الله بن سلام قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم بارك لأمتي في بكورها.
قال محمد بن كعب القرظي: شهدت عمر بن عبد العزيز وهو علينا عامل بالمدينة، وهو غليظ ممتلئ الجسم. فلما استخلف وقاسى من الهم والعناء ما قاسى تغيرت حاله، فجعلت أنظر إليه، لا أكاد أصرف بصري عنه، فقال لي: يا بن كعب، إنك تنظر إلي نظراً ما كنت تنظر إلي قبل! قال: لما حال من لونك، ونفى من شعرك، ونحل من جسمك، فقال: كيف لو رأيتني بعد ثالثة في قبري حين تسيل حدقتاي على وجنتي، ويسيل منخراي صديداً(27/86)
ودوداً؟ كنا أشد لي نكرة، أعد علي حديثاً حدثتنيه عن ابن عباس، قال: حدثني ابن عباس ورفع ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن لكل شيء شرفاً، وإن أشرف المجالس ما استقبل القبلة، وإنما تجالسون بالأمانة، ولا تصلوا خلف النائم، ولا المحدث، واقتلوا الحية والعقرب وإن كنتم في صلاتكم، ولا تستروا الجدر بالثياب، ومن نظر في كتاب أخيه بغير إذن فكأنه ينظر في النار. ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده. ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من نزل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده. قال: أفلا أنبئكم بأشر من هذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من لا يقيل العثرة، ولا يقبل المعذرة، ولا يغفر ذنباً. إن عيسى عليه السلام قام في قومه فقال: يا بني إسرائيل، لا تكلموا بالحكمة عند الجهال، فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، ولا تظلموا ظالماً، ولا تكافئوا ظالماً بظلمه فيبطل فضلكم عند ربكم. يا بني إسرائيل، الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فاتبعوه، وأمر بين غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف فيه فكلوه إلى عالمه.
قال هشام بن زياد: رأيت عمر بن عبد العزيز يستفتح ببسم الله الرحمن الرحيم. ثم يقرأ بفاتحة الكتاب، ثم يستفتح ببسم الله الرحمن الرحيم. وحدث هشام قال: رأيت سعيد بن المسيب يصلي في نعليه. ضعف هشاماً قوم.(27/87)
هشام بن العاص بن وائل
ابن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص، أبو مطيع كان يكنى أبا العاص فكناه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا مطيع. أخو عمرو بن العاص، وهو أصغر من عمرو. صحب سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشهد له بالأيمان، وخرج إلى الشام مجاهداً، فقتل يوم أجنادين. وقيل: يوم يرموك. وقد كان دخل دمشق رسولاً من أبي بكر الصديق إلى ملك الروم.
قال هشام بن العاص: بعثت أنا ورجل من قريش إلى هرقل صاحب الروم، ندعوه إلى الإسلام، فقدمنا الغوطة - يعني: دمشق - ونزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني، فإذا هو على سرير له، فأرسل إلينا برسول نكلمه، فقلنا: لا نكلم رسولاً، إنما بعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلمناه، وإلا لم نكلم الرسول، فأخبره الرسول بذلك، فأذن لنا، فكلمه هشام ودعاه إلى الإسلام، وعليه ثياب سواد، فقال له هشام: وما هذه التي عليك؟ قال: لبستها، وحلفت ألا أنزعها حتى أخرجكم من الشام، قلنا: ومجلسك هذا، فو الله لنأخذنه منك،(27/88)
ولنأخذن ملك الملك الأعظم إن شاء الله، أخبرنا بذلك نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار، ويفطرون بالليل، فكيف صومكم؟ فأخبرناهن فملأ وجهه سواداً، فقال: قوموا، وبعث معنا رسولاً إلى الملك. فخرجنا. فلما كنا قريباً من المينة قال لنا الذي معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال، قلنا: لا والله لا ندخل إلا عليها، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأتون، فدخلنا على رواحنا متقلدين سيوفنا حتى انتهينا إلى غرفة له، فأنخنا في أصلها، وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله والله أكبر، والله يعلم لقد تنقضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق تصفقه الرياح، وهو على فراش، وعنده بطارقته من الروم، وكل شيء في مجلسه أحمر، وما حوله حمرة، وعليه ثياب من الحمرة، فدنوا منه، فضحك، وقال: ما كان عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم، وعنده رجل فصيح بالعربية كثير الكلام، فقلنا له: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل عليك، وتحيتك التي تحيا بها لا يحل لنل أن نحييك بها، قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ فقلنا: السلام عليك، قال: فكيف تحيون ملككم؟ قلنا: بها، قال: وكيف يرد عليكم؟ قلنا: بها، قال: كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله والله أكبر. فلما تكلمنا بها قال: - والله يعلم لقد تنقضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها. قال - فهذه الكلمة التي قلتموها، حيث تنقضت الغرفة كلما قلتموها في بيوتكم تنقض بيوتكم عليكم؟ قلنا: لا، ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك، قال: لوددت أنكم كلما قلتم ينقض كل شيء عليكم، وأني خرجت من نصف ملكي، قلنا: لم؟ قال: لأنه كان أيسر لشأنها، وألا يكون من أمر النبوة، وأن يكون من خبل الناس. ثم سألنا عما أراد، فأخبرناه، ثم قال: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه، فقال: قوموا، فقمنا، فأنزلنا بمنزل حسن، ونزل كبير، فأقمنا ثلاثاً. فأرسل إلينا ليلاً، فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا، فأعدناه ثم دعا بشيء كهيئة(27/89)
الربعة العظيمة مذهبة، فيها بيوت صغار، عليها أبواب، ففتح بيتاً وقفلاً، فاستخرج حريرة سوداء، فنشرها، وإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل ضخم العينين، عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وليست له لحية، وله ضفيرتان أحسن ما خلق الله، قال: تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا آدم عليه السلام وإذا هو أكثر الناس شعراً. ثم فتح لنا باباً آخر، فاستخرج منه حريرة حمراء، وفيها صورة بيضاء، وإذا له شعر كشعر القطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللحية، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح. ثم فتح باباً آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها رجل شديد البياض، حسن العينين، صلب الجبين، طويل الخد، أبيض اللحية، كأنه يبتسم، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إبراهيم. ثم فتح باباً آخر، فإذا صورة بيضاء، وإذا والله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أتعرفون هذا؟ قلنا نعم، هذا محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبكينا، قال: والله يعلم إنه قام قائماً ثم جلس، ثم قال: والله إنه لهو، قلنا: نعم لهو، كما ننظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عجلته لكم، لأنظر ما عندكم. ثم فتح باباً آخر فستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة أدماء سحماء، وإذا رجل جعد، قطط، غائر العينين، حديد النظر، عابس، متراكب الأسنان، مقلص الشفة، كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا موسى، وإلى جنبه صورة تشبهه، إلا أنه مدهان الرأس، عريض الجبين، في عينه قبل، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا هارون بن عمران.(27/90)
ثم فتح باباً آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل آدم، نشيط، ربعة، كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون
هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا لوط. ثم فتح باباً آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء فيها صورة رجل أبيض، مشرب حمرة، أقنى، خفيف العارضين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يعقوب. ثم فتح باباً آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة رجل أبيض، حسن الوجه، أقنى الأنف، حسن الهامة، يعلو وجهه نور، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب إلى الحمرة، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، فقال: هذا إسماعيل جد نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم فتح باباً آخر، فستخرج منه حريرة بيضاء، فيها صورة كأنها صورة آدم، كأن الشمس وجهه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يوسف. ثم فتح باباً آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فيها صورة رجل أحمر، أخنس العينين، حمش الساقين، ضخم البطن، ربعة، متقلد سيفاً، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا داود. ثم فتح باباً آخر، فستخرج منه حريرة بيضاء، فبها صورة رجل ضخم الأليتين، طويل الرجلين، راكب فرساً، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا سليمان بن داود. ثم فتح باباً آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل شاب، شديد سواد اللحية، كثير الشعر، حسن العينين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا ابن مريم.؟ قلنا: لا، قال: هذا لوط. ثم فتح باباً آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء فيها صورة رجل أبيض، مشرب حمرة، أقنى، خفيف العارضين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يعقوب. ثم فتح باباً آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة رجل أبيض، حسن الوجه، أقنى الأنف، حسن الهامة، يعلو وجهه نور، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب إلى الحمرة، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، فقال: هذا إسماعيل جد نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم فتح باباً آخر، فستخرج منه حريرة بيضاء، فيها صورة كأنها صورة آدم، كأن الشمس وجهه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يوسف. ثم فتح باباً آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فيها صورة رجل أحمر، أخنس العينين، حمش الساقين، ضخم البطن، ربعة، متقلد سيفاً، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا داود. ثم فتح باباً آخر، فستخرج منه حريرة بيضاء، فبها صورة رجل ضخم الأليتين، طويل الرجلين، راكب فرساً، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا سليمان بن داود. ثم فتح باباً آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل شاب، شديد سواد اللحية، كثير الشعر، حسن العينين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا ابن مريم.(27/91)
قلنا: من أين لك هذه الصور، لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء، لأنا رأينا صورة نبينا مثله، فقال: إن آدم سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، وكانت في خزانة آدم عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس، فدفعها إلى دانيال. ثم قال لنا: والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وأني كنت عبداً - لا يسرهم ملكه - حتى أموت. ثم أجازنا، فأحسن جائزتنا، وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر الصديق، حدثناه بما رأينا، وما قال لنا، وما أجازنا، فبكى أبو بكر وقال: مسكين، لو أراد الله به خيراً لفعل. ثم قال: أخبرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنهم واليهود يجدون نعت محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندهم.
وأم هشام بن العاص أم حرملة بنت هشام بن المغيرة. وكان قديم الإسلام بمكة. وهاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية وقدم مكة حين بلغه مهاجر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة يريد اللحاق به، فحبسه أبوه وقومه بمكة حتى قدم بعد الخندق على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فشهد ما بعد ذلك من المشاهد. وقتل في اليرموك سنة خمس عشرة. وقيل: سنة ثلاث عشرة.
وسعيد بضم السين، وفتح العين: سعيد بن سهم، وسهم بن عمرو بن هصيص هو جد السهميين. من ولده عمرو بن العاص، وأخوه هشام.
قال عمر بن الخطاب: لما اجتمعنا للهجرة اتعدت وأنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص، وقلنا: الميعاد بيننا التناصب من أضاءة بني غفار، فمن أصبح منكم لم يأتها فقد حبس، فليمض(27/92)
صاحباه، فأصبحت عندها أنا وعياش بن أبي ربيعة، وحبس هشام، وفتن فافتتن. وقدمنا المدينة، فكنا نقول: ما الله بقابل من هؤلاء توبة، قوم قد عرفوا الله وآمنوا به وصدقوا برسوله، ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم من الدنيا، وكانوا يقولونه لأنفسهم، فأنزل الله عز وجل فيهم: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " إلى قوله " مثوى للمتكبرين " قال عمر: فكتبتها بيدي كتاباً ثم بعثت بها إلى هشام. قال هشام بن العاص: فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى، فجعلت أصعد فيها وأصوب لأفهمها، فقلت: اللهم، فهمنيها، فعرفت أنما أنزلت فينا لما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، فرجعت فجلست على بعيري، فلحقت برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقتل هشام بأجنادين في ولاية أبي بكر رضي الله عنه.
كان العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مئة بدنة، وإن هشام بن العاص نحر حصته خمسين بدنة. وإن عمراً سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فقال: أما أبوك - وكان أقر بالتوحيد - فقمت وتصدقت عنه. نفعه ذلك.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابنا العاص مؤمنان: هشام وعمرو.
قال سعيد بن عمرو الهذلي: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة يوم الجمعة لعشر ليال بقين من رمضان، فبث السرايا في كل وجه، وأمرهم أن يغيروا على من لم يكن على الإسلام، فخرج هشام بن العاص في مئتين قبل يلملم.
وعن علي بن رباح قال: أقبلت الروم يوم دالي في جمع كبير من الروم ونصارى العرب، عليهم نياق(27/93)
البطريق، فقال بعض القوم لبعض: إنه قد حضركم جمع عظيم، فإن رأيتم أن تناجزوا إلى نواظر الشام، إلى بيرين وقدس، وتكتبوا إلى أبي بكر فيمدكم، فقال هشام بن العاص إن كنتم تعلمون أنما النصر من عند العزيز الحكيم، فقاتلوا، وإن كنتم تنتظرون نصراً من عند أبي بكر ركبت راحلتي حتى ألق به، فقال بعض القوم: ما ترك لكم هشام بن العاص مقالاً، فقاتلوا، فقتل من المسلمين بشر كثير، وقتل هشام بن العاص، وهزم الله الروم، وقتل نياق البطريق، فمر رجل بهشام بن العاص وهو قتيل، فقال: رحمك الله، هذا الذي كنت تبتغي.
قال هشام بن العاص يوم أجنادين: يا معشر المسلمين، إن هؤلاء القلعاء لا صبر لهم على السيف، فاصنعوا كما أصنع، فجعل يدخل وسطهم فيقتل النفر منهم حتى قتل.
ورأى من المسلمين بعض النكوص عن العدو، فألقى المغفر عن وجهه وجعل يتقدم في نحر العدو وهو يصيح: يا معشر المسلمين، إلي إلي، أنا هشام بن العاص، أمن الجنة تفرون؟ حتى قتل. ولما انهزمت الروم يوم أجنادين انتهوا إلى موضع لا يعبره إلا إنسان إنسان، فجعلت الروم تقاتل عليه، وقد تقدموا، وعبروه، فتقدم هشام بن العاص، فقاتلهم عليه حتى قتل، ووقع على تلك الثلمة فسدها. فلما انتهى المسلمون إليها هابوا أن يوطئوه الخيل، فقال عمرو بن العاص: أيها الناس، إن الله قد استشهده، ورفع روحه، وإنما هو جثة، فأوطئوه الخيل، ثم أوطأه هو وتبعه الناس حتى قطعوه. فلما انتهت الهزيمة، ورجع المسلمون إلى العسكر كر عمرو بن العاص، فجمع لحمه وأعضاءه وعظامه، وحمله في نطع فواراه.
ولما بلغ عمر بن الخطاب قتله قال: رحمه الله، فنعم العون كان للإسلام.(27/94)
قال أبو الجهم بن حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمي ومعي شنة من ماء، فقلت: إن كان به رماق سقيته من الماء ومسحت به وجهه، فإذا أنا به ينشغ، فقلت: أسقيك؟ فأشار أي نعم، فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فأتيته فقلت: أسقيك؟ قال: نعم، فسمع آخر يقول: آه، فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئته فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، ثم أتيت ابن عمي فإذا هو قد مات.
قال عمرو بن شعيب: علق عمرو يوم اليرموك سبعين سيفاً بعمود فسطاطه قتلوا من بني سهم.
دخل عمرو إلى الطواف، فتكلم فيه نفر من قريش، فقال لهم: ما قلتم؟ قالوا: تكلمنا فيك وفي أخيك هشام: أيكما أفضل، فقال: أفرغ من طوافي وأخبركم. فلما انصرف من طوافه قال: أخبركم عني وعنه: بيننا خصال ثلاث: أمه بنت هشام بن المغيرة، وأمي أمي، وكان أحب إلى أبيه مني، وفراسة الوالد في ولده فراسته، واستبقنا إلى الله فسبقني.
وفي رواية: فبات وبت يسأل الله، وأسأله إياها، فلما أصبحنا رزقها وحرمتها، ففي ذلك يبين فضله علي.
46 -(27/95)
هشام بن عبد الله الكناني روى عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جبريل عن ربه عز وجل قال: " من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، ما ترددت عن شيء أنا فاعله ما ترددت في قبض نفس مؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه. ومن عبادي المؤمنين من يريد باباً من العبادة فأكف عنها، لئلا يدخله عجب فيفسده ذلك. وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتنفل حتى أحبه، ومن أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً، دعاني فأحببته، وسألني فأعطيته، ونصح لي فنصحت له. وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك. وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، وإن بسطت يده أفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك. إني أدبر عبادي بعلمي بقلوبهم، إني عليم خبير "؟؟.
هشام بن عبد الله بن هشام
أبو الوليد الخولاني قاضي داريا حدث عن أبي علي الحسن بن حبيب بن عبد الملك بسنده إلى أبي قتادة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا بال أحدكم فلا يأخذ ذكره بيمينه. ولا يتنفسن في الإناء ".(27/96)
هشام بن عبيد الله الدمشقي
ويقال: ابن عبد الله - بن سلمى، أبو الوليد الكلبي، ويقال: الكلابي الدمشقي حدث عن أبي خليد عتبة بن حماد بسنده إلى عائشة قالت: " لم أر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصوم شيئاً من السنة أكثر من صيامه في شعبان. كان يصومه كله.
وحدث عنه بسنده إلى أبي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إذا بال أحدكم فلا يستقبل القبلة بفرجه، ولا يستدبرها. قال أبو أيوب الأنصاري: فأتينا الشام فوجدنا مرايض قد بنيت على القبلة، ونحن ننحرف ونستغفر الله.
هشام بن عبد الملك بن مروان
ابن الحكم، أبو الوليد الأموي بويع له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن عبد الملك بعهد منه. وداره بدمشق الدار المعروفة بالقبابين عند باب الخواصين التي بعضها اليوم مدرسة الملك العادل نور الدين رحمه الله تعالى.
قال الزهري: قال لي هشام: أبلغك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر منادياً فينادي: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؟ قال: قلت: نعم. وذلك قبل أن تنزل الفرائض.(27/97)
كان يزيد بن عبد الملك استخلف هشام بن عبد الملك وجعل ابنه الوليد بن يزيد ولي عهده، وأخذ على هشام العهد ألا يغيره عن ولاية عهده.
وعلى هشام بن عبد الملك خرج زيد بن علي بالكوفة، وهشام هو الرابع - من ولد عبد الملك بن مروان لصلبه الذين كانوا خلفاء. وكان هشام يجمع المال، ويوصف بالحزم ويبخل، وهشام الذي حفر الهني وعمله، وكان قد اتخذ طرازاً، له قدر، واستكثر منه حتى كان يحمل ما أثر فيه من طرازه على تسع مئة جمل، وحمله على ذلك أن عمر بن عبد العزيز لما أتي بثياب سليمان بن عبد الملك ومتاعه لم يعرض لما قطع من الثياب وأثر فيه، فرأى هشام أنه إمام عدل، وأن من يأتي من أهل العدل يقتدى به، فجعل يتخذ المتاع للجند، ويؤثر فيه، ويلبسه ثم يدخره لولده، وكان يستجيده ويثمن فيه.
وأم هشام بن عبد الملك فاطمة بنت هشام بن إسماعيل المخزومي. واستخلف هشام سنة خمس ومئة. وأتته الخلافة وهو بالزيتونة في منزله، فجاءه البريد بالعصا والخاتم، وسلم عليه بالخلافة، فركب من الرصافة إلى دمشق وهو ابن أربع وثلاثين سنة. ومات بالرصافة سنة خمس وعشرين ومئة، وهو ابن أربع وخمسين سنة، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وعشر ليال.
وكان هشام جميلاً، أبيض، مسمناً، أحول، يخضب بالسواد. كان عبد الملك رأى في منامه أنه بال في المحراب أربع مرات، فدس من يسأل سعيد بن المسيب عنها - وكان سعيد يعبر الرؤيا، وعظمت على عبد الملك - فقال سعيد: يملك من ولده لصلبه أربعة، فكان هشام آخرهم. ولهشام يقول الوليد بن يزيد:
هلك الأحوال المشو ... م فقد أرسل المطر(27/98)
قال محمد بن النحاس: كان لا يدخل بيت مال هشام مال حتى يسهد أربعون قسامة، لقد أخذ من حقه، ولقد أعطى كل ذي حق حقه. شتم هشام بن عبد الملك رجلاً من أشراف الناس يوماً وهو مغضب، فوبخه الرجل، فقال له: أما تستحي أن تشتمني وأنت خليفة الله في الأرض؟ فاستحيا منه، فقال له: اقتص مني، قال: إذاً أنا سفيه مثلك، قال: فخذ من ذلك عوضاُ من المال، قال: ما كنت لأفعل، قال: فهبها لله، قال: هي لله، ثم هي لك، قال: فنكس هشام رأسه، وقال: والله لا أعود أبداً إلى مثلها.
قال سحبل بن محمد: ما رأيت أحداً من الخلفاء أكره إليه الدماء، ولا أشد عليه من هشام بن عبد الملك، ولقد دخله من مقتل زيد بن علي ويحيى بن زيد أمر شديد، وقال: وددت أني كنت أفتديتهما. ولقد ثقل عليه خروج زيد بن علي، فما كان شيء حتى أتي برأسه، وصلب بدنه بالكوفة. وولي ذلك يوسف بن عمر في خلافة هشام.
ولما ظهر ولد العباس عمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس إلى هشام بن عبد الملك فأمر به، فأخرج من قبره، وصلبه، وقال: هذا بما فعل بزيد بن علي، وقيل: أحرقه.
قعد هشام بن عبد الملك يوماً قريباً من حائط له، فيه زيتون، ومعه عثمان بن حيان المري، وهو يكلمه، إذ سمع هشام نفض الزيتون، فقال هشام لرجل: انطلق إليهم، فقل لهم: التقطوه لقطاً، ولا تنفضوه نفضاً، فتفقأ عيونه، وتكسر غصونه.
وكان هشام بن عبد الملك يقول: ثلاث لا يضعن الشريف: تعاهد الصنيعة، وإصلاح المعيشة، وطلب الحق وإن قل.(27/99)
قال خالد بن صفوان: قدمت على هشام بن عبد الملك، فوجدته في بركة ماء، وفي البركة كراسي عليها أصحابه جلوس، عليهم المناديل، فأمر بثيابي فنزعت، وأعطيت منديلاً، فجلست على كرسي، فقال لي: يا خالد رب خالد قد جلس مجلسك هو أشهى إلي حديثاً، وأحب إلي قرباً منك، فعلمت أنه يريد خالداً القسري، فقلت: ما يمنعك من إعادته يا أمير المؤمنين؟ قال: إنه أدل فأمل، وأوجف فأعجف، ولم يدع لذي رجعة مرجعاً، ولا إلى عودة مطمعاً. ألا أخبرك عنه يا خالد؟ ما سألني حاجة قط حتى أكون أنا الذي أعرضها عليه، قال: قلت: ذاك أحرى أن تعيده يا أمير المؤمنين، قال: كلا:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل
ثم قلت: يا أمير المؤمنين، زدني في عطائي خمسة دنانير، قال: ولم يا خالد؟ أحديث عبادة؟ أم فتحت لأمير المؤمنين فتحاً؟ قلت: لا، قال: إذاً تكثر السؤال، ولا يستطيع ذلك بيت المال، قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إن ابن أبي جمعة يقول:
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... حقيقة تقوى أو خليل تخالقه
منعت وبعض المنع حزم وقوة ... ولم يفتلتك المال إلا حقائقه
فقال: هو ذاك. فقيل لخالد: لم زينت له البخل؟ قال: ليقع المنع، فتكثر اللوام.
قال هشام: ما بقي علي شيء من لذات الدنيا إلا وقد نلته، وما أتمنى إلا شيئاً واحداً: أخ أرفع مؤنة التحفظ فيما بيني وبينه.(27/100)
خرجت جارية لهشام بن عبد الملك، وعليها درع من لؤلؤ، فتحرش بها الأبرش الكلبي، قال: أتهبين لي هذا الدرع؟ فقالت: لأنت أطمع من أشعب، فقال هشام: وما أشعب؟ فجعلت تذكر له طرائف من طرائفه، فقال للكاتب: اكتب إلى المدينة: يرفع أشعب إلينا، فإن فيه ملهى، فكتب الكتاب، فلما قرأه هشام شقه، فقال الأبرش: مالك يا أمير المؤمنين؟ قال: استحييت أن يرد كتابي على أهل المدينة - دار الهجرة والسنة وأبناء المهاجرين والأنصار - يرفع إلي من عندهم مضحك، ثم أنشأ يقول:
إذا أنت طاوعت الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
ويقال: إنه لم يقل من الشعر غير هذا البيت.
قال منذر بن أبي ثور: أصبنا في خزائن هشام بن عبد الملك اثني عشر ألف قميص، كلها قد أثر بها.
كتب هشام بن عبد الملك إلى أبيه عبد الملك: يا أمير المؤمنين، إنه قد حدثت في ابنك خصال ثلاث: يصعد المنبر فلا يستطيع الخطبة، وتوضع المائدة بين يديه فلا ينال منها إلا اليسير، وفي قصره مئة جارية لا يكاد يصل إلى كبير شيء منهن. فكتب إليه عبد الملك: أما قولك: إنك تصعد المنبر فلا تستطيع الخطبة، فإذا صعدت فارم بطرفك إلى مواخر الناس، فإنه يهون عليك من بين يديك. وأما قولك في الطعام فمر أن يستكثر من الألوان، فإنه لا يعدمك من كل لون لقمة. وأما قولك في الجواري فعليك بكل بيضاء بضة " ذات جمال " وحسن.
قال أبو المليح: كنا قعوداً ومعنا صالح بن مسمار، فقالوا: سبق هشام، فقال: إنه والله ما سبق،(27/101)
ولكنه سبق، ولقد أجرى في غير ما أمر به، فقال بعضهم والله ما نشتهي أن يروى هذا عنا، قال: أبعدكم الله، والله لوددت أن الناس كلهم مثلي حتى نأتيه فنقول: اعدل في هذه الأمة، وإلا فاعتزل حتى يأتي من هو أولى بهذا المجلس منك.
وكان هشام يفرح إذا سبق بالخيل فرحاً شديداً.
قدم شاعر على هشام فأنشده:
رجاؤك أنساني تذكر إخوتي ... ومالك أنساني بحرسين ماليا
فقال هشام: ذلك أحمق لك.
قال المسور بن مخرمة: قال عمر بن الخطاب لعبد الرحمن بن عوف: ألم يكن فيما تقرأ: قاتلوا في الله في آخر مرة، كما قاتلتم فيه أول مرة؟ قال: متى ذاك؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء، وبنو مخزوم الوزراء.
لما بنى هشام بن عبد الملك الرصافة قال: أحب أن أخلو يوماً لا يأتيني فيه خبر غم،(27/102)
فما انتصف النهار حتى أتته ريشة دم من بعض الثغور، فأوصلت إليه، فقال: ولا يوماً واحداً؟! قال الهيثم: كان هشام بن عبد الملك جباراً، فأمر أن يفرش له في قصر بين شجر وكروم، وصور من النبت، ففرش بأفخر الفرش، وأحضر ندماءه، وأمر الحجاب بحفظ الأبواب، فبينا هو جالس إذا أقبل رجل جهير الصوت، جميل، كأن الشمس تطلع من ثيابه، فشخص هشام ينظر إليه متعجباً من هيئته، فألقى إليه صحيفته، ثم ذهب، فلم ير، فإذا فيها: بئس الزاد إلى المعاد، العدوان على العباد. فأحضر الحجاب فسألهم عن الرجل، فقالوا: ما رأينا أحداً، فصرف ندماءه، وقال: تكدر علينا هذا اليوم، ولم يمض عليه بعد ذلك شهر حتى مات.
قال عمر بن علي: مشيت مع محمد بن علي إلى داره، فقلت له: إنه قد طال ملك هشام وسلطانه، وقد قرب من العشرين، وقد زعم الناس أن سليمان سأل ربه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فزعم الناس أنها العشرون، فقال: ما أدري ما أحاديث الناس، ولكن أبي حدثني عن أبيه عن علي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لن يعمر الله ملكاً في أمة نبي مضى قبله ما بلغ بذلك النبي من العمر في أمته. فإن الله عمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث عشرة بمكة وعشراً بالمدينة ".
قال عبد الله بن الزبير: إنه سمع علياً يقول: هلاك بني أمية على رجل، الأحول منهم. قال مسلم بن إبراهيم: يعني: هشاماً.(27/103)
قال سالم كاتب هشام بن عبد الملك: خرج علينا هشام يوماً، هادلاً عنقه، مرخياً عنان دابته، مسترخية ثيابه عليه، فسار قليلاً، ثم إنه انتبه، فجذب عنان برذونه، وسوى عليه ثيابه ثم قال للربيع - وكان على حرسه -: ادع لي الأبرش بن الوليد، فأقبل عليه الأبرش، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد رأيت اليوم منك شيئاً، قال: وما هو؟ فأخبره بحاله التي خرج عليهم فيها، قال: ويحك يا أبرش! كيف لا أكون بذلك، وزعم أهل العلم بالنجوم أني أموت إلى ثلاثة وثلاثين يوماً من يومي هذا؟ فكتبت: ذكر أمير المؤمنين أنه مسافر إلى ثلاثة وثلاثين يوماً من يومي هذا وأدرجت الكتاب، وختمته. فلما كان في الليلة التي صبيحتها ثلاثة وثلاثون يوماً أتاني خادم، فقال: أدرك أمير المؤمنين، وائت بالدواء معك - وكان دواء الذبحة، يكون معه - فذهبت بالدواء إليه، فجعل يتغرغر به، وما يسكن عنه ما يجد، حتى مضى من الليل شيء، ثم قال: انصرف، ودع الدواء عندي، فقد وجدت بعض الراحة، فانصرفت إلى منزلي، فلم أنم حتى سمعت الصراخ عليه.
قال هشام يوماً، وهو يسير في موكبه: يا لك دنيا! ما أحسنك! لولا أنك ميراث لآخرك، وآخرك كأولك. فلما حضرته الوفاة نظر إلى ولده يبكون حوله، فقال: جاد لكم هشام بالدنيا، وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم عليه ما كسب، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له!
كان نقش خاتم هشام: الحكم للحكم الحكيم. حبس هشام بن عبد الملك عياض بن مسلم كاتب الوليد بن يزيد، وضربه، وألبسه المسوح. فلم يزل محبوساً حتى مات هشام. فلما ثقل هشام وصار في حد لا يرجى لمن كان مثله في الحياة رهقته غشية، وظنوا أنه مات، فأرسل عياض بن مسلم إلى الخزان أن احتفظوا بما في أيديكم، ولا يصلن أحد إلى شيء، وأفاق هشام من غشيته، فطلبوا من(27/104)
الخزان شيئاً، فمنعوهم، فقال هشام: إنا كنا خزاناً للوليد. ومات هشام من ساعته فخرج عياض من الحبس، فختم الأبواب والخزائن، وأمر بهشام فأنزل عن فراشه، ومنعهم أن يكفنوه من الخزائن، فكفنه غالب مولى هشام. ولم يجدوا قمقماً يسخن فيه الماء حتى استعاروه، فقال الناس: إن في هذا لعبرة لمن اعتبر.
مر أعرابي بقبر هشام، وخادم له قائم عليه يقول: يا أمير المؤمنين، فعل بنا بعدك كذا وكذا. فقال له الأعرابي: إيه، لو نشر لأخبرك أنه لقي أشد مما لقيتم.
كان مكحول يقول: اللهم، لا تبقني بعد هشام. وكان هلاك معاوية سنة ستين، وهلاك هشام سنة خمس وعشرين ومئة.
وعن عبد الرحمن قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ترفع زينة الدنيا سنة خمس وعشرين ومئة. " قال اسحاق بن البهلول: قلت لابن أبي فديك: ما معناه؟ قال: زينتها: نور الإسلام وبهجته. وفي آخر بمثله يعني بالزينة: الرجال.
مات هشام من ورم أخذه في حلقه، يقال له الحرذون، بالرصافة - رصافة هشام - وعمره إحدى وستون سنة. وقيل: ثلاث وخمسون سنة. وصلى عليه الوليد بن يزيد. وقيل: صلى عليه مسلمة بن هشام.
هشام بن عمار بن نصير بن ميسرة
أبو الوليد السلمي الظفري خطيب دمشق، ومقرئ أهلها. أحد المكثرين الثقات.(27/105)
حدث عن مالك بن أنس عن الزهري عن أنس ابن مالك، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل مكة يوم الفتح وكان على رأسه المغفر.
ولد هشام بن عمار سنة ثلاث وخمسين ومئة. وكان هشام يحرك الزبل كل يوم بأربعة دوانيق، فيشتري بها ورقاً، ويكتب الحديث. وقد رويت هذه الحكاية عن هشام بن خالد. قال: وهي به أشبه.
قال هشام بن عمار: باع أبي عمار بيتاً له بعشرين ديناراً، وجهزني للحج. فلما صرت إلى المدينة أتيت مجلس مالك بن أنس، ومعي مسائل أريد أن أسأله عنها، فأتيته وهو جالس في هيئة الملوك، وغلمان قيام، والناس يسألونه، وهو يجيبهم. فلما انقضى المجلس قال بعض أصحاب الحديث: سل عما معك، فقلت له: يا أبا عبد الله، ما تقول في كذا وكذا؟ فقال: حصلنا على الصبيان! يا غلام، احمله، فحملني كما حمل الصبي، وأنا يومئذ غلام مدرك، فضربني بدرة مثل درة المعلمين سبع عشرة درة، فوقفت أبكي، فقال لي مالك: ما يبكيك؟ أوجعتك هذه؟ قلت: إن أبي باع منزله، ووجه بي أتشرف بك، وبالسماع منك فضربتني، فقال: اكتب، فحدثني سبعة عشر حديثاً، وسألته عما كان معي من المسائل فأجابني، رحمه الله.
وفي آخر بمعناه: قلت له: زدني من الضرب، وزد في الحديث، فضحك مالك وقال: اذهب. وفي آخر بمعناه قال: جئت إلى منزله، فإذا هو شديد الاحتجاب، فلقيته في الطريق، فقلت: يا أبا عبد الله، أنا غلام من أصحاب الحديث، إن رأيت أن تأمر لي بشيء أكتبه عنك، فقال لي: وحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكتب على الطريق؟! وأمر بضربي. الحديث.(27/106)
كان هشام بن عمار إذا مشى أطرق إلى الأرض، لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله عز وجل. قال هشام بن عمر: الخلفاء الراشدون المهديون خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز. قال عبدان: كنا لا نصلي خلف هدبة من طول صلاته، يسبح في الركوع والسجود نيفاً وثلاثين تسبيحة، وكان من أشبه خلق الله بهشام بن عمار: لحيته، ووجهه، وكل شيء منه حتى صلاته. قال عبدان: كان هشام بن عمار يخطب على المنبر يوم الجمعة، فقلت له يوماً: يا أبا الوليد، خطبتك هذه لا تشبه سائر خطبك في سائر الأيام، تلك كانت أبلغ. قال: اسكت يا صبي، ما أعدت خطبة منذ عشرين سنة.
قال هشام يوماً في خطبته: قولوا الحق ينزلكم الحق منازل أهل الحق يوم لا يقضى إلا بالحق. كان هشام بن عمار ثقة، صدوقاً، كبير المحل، وكان يأخذ عن الحديث، ولا يحدث ما لم يأخذ. قال هشام بن عمار: سألت الله سبع حوائج، فقضى لي منها ستاً، والواحدة ما أدري ما صنع فيها: سألته أن يغفر لي ولوالدي، وهي التي لا أدري ما صنع فيها. وسألته أن يرزقني الحج ففعل. وسألته أن يعمرني مئة سنة ففعل، وسألته أن يجعلني مصدقاً على(27/107)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففعل، وسألته أن يجعل الناس يغدون إلي في طلب العلم ففعل، وسألته أن أخطب على منبر دمشق ففعل، وسألته أن يرزقني ألف دينار حلالاً ففعل. فقيل له: كل شيء قد عرفناه فألف دينار حلال، من أين لك؟ قال: وجه المتوكل ببعض ولده ليكتب عني لما خرج إلينا، ونحن نلبس الأزر، ولا نلبس السراويلات، فجلست، فانكشف ذكري، فرآه الغلام، قال: استتر يا عم، قلت: رأيته؟ قال: نعم، فقلت له: أما إنه لا ترمد عينك أبداً إن شاء الله ز فلما دخل على المتوكل ضحك، فسأله، فأخبره بما قلت، فقال: فأل حسن تفاءل لك به رجل من أهل العلم. احملوا إليه ألف دينار، فحملت إلي، فأتتني من غير مسألة، ولا استشراف نفس.
قال أبو علي صالح بن محمد الحافظ: كنت عند هشام بن عمار بدمشق إذ جاءه رجل، فقال: ممن أنت؟ قال: من بني مجداف، قال: ثم من بني من؟ قال: ثم من بني سكان، قال: ثم من بني من؟ قال: من بني دقل، فقال هشام: لا أعرف هذا النسب في العرب، فضحكت. فقال هشام: مم تضحك؟ فقال: إنما هذا رجل جاء يطنز بك، فقال هشام: ما أشركم يا أهل العراق. قال أبو علي: وجاءه رجل، وقال هشام: مم أنت؟ قال: من بني لازب، فقال هشام0 لا أعرف بني لازب في العرب، ثم قال لي: تعرف بني لازب؟ قلت: إنما يسند إلى قول الله عز وجل " من طين لازب ". فضحك هشام.
قال أبو بكر أحمد بن المعلى: رأيت هشام بن عمار في النوم، والمشايخ متوافرون، سليمان بن عبد الرحمن وغيره، وهو يكنس المسجد، فماتوا، وبقي هو آخرهم.(27/108)
توفي هشام سنة خمس وأربعين ومئتين، وهو ابن اثنتين وتسعين سنة.
هشام بن الغاز بن ربيعة أبو العباس
ويقال: أبو عبد الله - الجرشي دمشقي.
حدث عن نافع ابن عمر، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها، فقال للناس: أي يوم هذا؟ قالوا: هذا يوم النحر، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: هذا البلد بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: هذا يوم الحج الأكبر، دماؤكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام كحرمة هذا البلد في هذا اليوم، ثم قال: هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: فطفق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم، اشهد، ثم ودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع.
وحدث هشام بن الغاز عن نافع عن ابن عمر، أنه أقرع لابنه أبي عبيد وهي امرأته، فسار مسيرة ليلتين في ليلة. فلما غربت الشمس قلنا: الصلاة، أصلحك الله، فسكت، فتركناه، وقلنا: هو أعلم. فلما اشتبكت النجوم نزل فصلى المغرب، ثم توضأ فصلى العشاء الآخرة، ثم ركب، فقال: دعوتموني إلى صلاة المغرب، وإني سرت كما سار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصليت كما صلى.
قال هشام بن الغاز: كنت جالساً مع مكحول في مسجد دمشق، وسليمان بن موسى في ناس ناحية، فسئل سليمان: أتقتل النصرانية المسلمة؟ فقال: لا، فقال بعض جلسائه: بلى، فالتفت إلى مكحول فقال: ألا تسمع ما يقول هؤلاء؟ يقولون: إن النصرانية تقتل المسلمة، فما(27/109)
تقول؟ فالتفت إلي مكحول وقال: إنه لأحمق، يسألني: تقتل النصرانية المسلمة؟ وأم القسري نصرانية، وأم نمير نصرانية! والغاز: بالزاي. والجرشي: بضم الجيم، وفتح الراء، وكسر الشين المعجمة.
وكان هشام ثقة، صالح الحديث، من خيار الناس. توفي سنة ثلاث وخمسين ومئة. وقيل: سنة تسع وخمسين. وقيل: سنة ست وخمسين. وكان على بيت مال أبي جعفر.
هشام بن محمد بن أحمد بن علي
ابن هشام، أبو محمد التيملي الكوفي الحافظ حدث عن أبي الطيب محمد بن الحسين التيملي البزاز بسنده إلى علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اغتنموا دعاء ضعفاء أمتي، فإنه يستجاب لهم فيكم، ولا يستجاب لهم في أنفسهم ".
وحدث عن أحمد بن محمد بن حماد الواعظ بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن من الشعر حكماً، وأصدق بيت تكلمت به العرب ":
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
توفي هشام بن محمد سنة اثنتين وأربع مئة. وجرحه قوم.(27/110)
هشام بن محمد بن جعفر بن هشام
ابن عبد ربه بن زيد بن خالد بن قيس أبو عبد الملك الكندي، وقيل: أبو الوليد أخو جعفر المعروف بابن بنت عدبس الدمشقي.
حدث عن أبي عمرو عثمان بن خرزا بسنده إلى أبي جحيفة قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب وهو يقول: لا يزال أمر أمتي صالحا حتى يمضي اثنا عشر خليفة. كلهم من قريش.
وعدبس، بفتح العين والدال وتشديد الباء المعجمة بواحدة هو جعفر بن محمد يعرف بابن بنت عدبس، وأخوه هشام بن محمد بن جعفر بن هشام.
هشام بن مصاد بن زياد
أبو زياد الكلبي ثم العليمي أخو معاوية وعبد الرحمن ويزيد بني مصاد. من فرسان كلب.
قال هشام بن مصاد: كنت جالسا مع عمر بن عبد العزيز نتحدث إذ بكى عمر، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك؟ قال: يا هشام، إن في الجسد مضغة إليها يأوي خيره وشره، فأصلحوا قلوبكم تصلحوا، فإنه لا عمل لمن لا نية له، ولا آخر لمن لا خشية له، وإن أيمن أحدكم وأشأمه لسانه، فمن حفظ لسانه أراح نفسه، وسلم المسلمون منه. وإن أقواما صحبوا سلطانهم بغير ماحق عليهم فعاشوا بخلاقهم، وأكلوا بألسنتهم، وخلفوا الأمة بالمكر والخيانة(27/111)
والخديعة. ألا وكل ذلك في النار. ألا فلا يقربنا من أولئك أحد ولاسيما خالد بن عبد الله، وعبد الله بن الأهتم، فإنهما رجلان بينان وبعض البيان يشبه السحر. ألا وإن كل راع مسؤول عن رعيته، وكلأ وزير مأخوذ بجنايته، ومعروض عليه قوله، لا إقالة له فيه، فمن صحبنا بخمس، فأبلغنا حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ودلنا على ما لاهتدى له من العدل، وأعاننا على الخير، وترك مالا يعنيه، وأدى الأمانة التي حملها منا ومن جماعة المسلمين فحيهلا به، ومن كان على غير ذلك ففي غير حل من صحبتنا، والدخول علينا. ثم جاء مزاحم فقال: يا أمير المؤمنين، هذا محمد بن كعب بالباب، قال: أدخله. فلما دخل - وعمر يمسح عينيه من الدموع - قال: ما الذي أبكاك يا أمير المؤمنين؟ قال هشام: فأخبرته الحديث، فقال محمد: يا أمير المؤمنين، إنما الدنيا سوق من الأسواق، فمنها خرج الناس بما ضرهم، ومنها خرجوا بما نفعهم، وكم من قوم قد غرهم مثل الذي أصبحنا فيه حتى أتاهم الموت، فاستوعبهم، فخرجوا منها ملومين، لم يأخذوا منها لما أحبوا من الآخرة عدة، ولا لما كرهوا جنة، واقتسم ما جمعوا من لا يحمدهم، وصاروا إلى من لا يعذرهم، فنحن محقوقون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي نغبطهم بها أن نخلفهم فيها، وأن ننظر إلى تلك الأعمال التي نتخوف عليهم منها أن نكف عنها، فاتق الله يا أمير المؤمنين، واجعل عقلك في شيئين: انظر الذي يجب أن يكون معك إذا قدمت على ربك فابتغ به البدل حيث يوجد البدل، ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ترجو أن تجوز عنك، فاتق الله يا أمير المؤمنين، وافتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانصر المظلوم، ورد المظالم. ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان بالله عز وجل: من إذا رضي لم يدخل رضاه في الباطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له.
هشام بن مطيع الدمشقي
أحد شيوخ الصوفية. كان أحسن خلق الله كلاماً. نظر يوما إلى رجل، يساوم بغلام جميل ليشتريه، فقام ينظر حتى قطع أمره مع صاحبه، وهم أن يزن له، فجلس إلى جانبه، فقال: يا أخي، إني ما عرفتك، ولا عرفتني، ولا كلمتك، ولا كلمتني،(27/112)
وقد رأيتك على أمر لم يسعني فيك إلا تسديدك، وبذل النصيحة لك، فإنه أول ما يجب للمسلم على أخيه النصيحة إذا رآه على حالة لا يرضاها، وقد رأيتك تنظر إلى هذا الغلام نظرا، لا ينظر مؤمن إلى مثله إلا من غفلة اشتغل بها عن طاعة ربه، ثم رأيتك وأنت تريد أن تزن فيه مالاً لا أدري ما أقول فيه: أحلال هو أم حرام، فلئن كان حراماً فحقيق على مثلك ألا يجمع على نفسه أمرين، وإن كان حلالاً فينبغي أن تضعه في موضع يشبع الحلال. واعلم أنه لم يصب المؤمن بمصيبة، ولا بلي ببلية أعظم عليه من نكتة تسكن في قلبه، فينقطع بها عن طاعة ربه عز وجل.
هشام بن يحيى بن يحيى بن قيس
أبو الوليد - ويقال: أبو عثمان - الغساني حدث عن أبيه عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: القطع من ربع دينار فصاعداً.
وحدث عن عروة بن رويم بسنده إلى عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كان وصلةً لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ بر أو تيسير عسرة أعانه الله عز وجل على إجازة الصراط يوم القيامة عند دحض الأقدام.
وفي رواية: ثبت الله قدمه يوم القيامة عند دحض الأقدام.
وحدث عن أبيه قال: سمعته يقول: لا تحزنوا ابني، فقد بلغني أن الفرحة تشب الصبي.(27/113)
قال إبراهيم بن هشام: أقبل رجل إلى أبي هشام بن يحيى فقال: اكتب إلى مالك بن دلهم إلى مصر يستعملني، فكتب له الكتاب. فلما عنونه كتب: من هشام بن يحيى إلى مالك بن دلهم، فقال له الرجل: ما آخذ الكتاب حتى تبدأ بمالك في العنوان، فقال: ويحك! هذا سبيلي وسبيل من أكتب إليه، فكتب له الذي أراد. فلما ورد على مالك إلى مصر قال: ما هذا كتابه، إنه عودني أنه يبدأ بنفسه في كتابه، قال له الرجل: قد أراد أن يفعل ذلك، وأنا سألته هذا، قال: لست أقبله حتى ترجع إليه، فيكتب بخطه، فرجع إلى أبي من مصر، فكتب له وبدأ بنفسه. فلما ورد الكتاب على مالك قال: الآن صح كتابه، فولاه ما أراد.
كان هشام بن يحيى جليسا لسعيد بن عبد العزيز، فقال له يوما: كان عندنا صاحب شرطة يقال له عبيدة بن رياح، وكان غشوماً ظلوماً، فأتته امرأة، فقالت: إن ابني يعقني، ويظلمني، فأرسل معها الشرط، فلما صاروا بها في الطريق قالوا لها: إن أخذ ابنك ضربه أو قتله، قالت: كذا؟ قالوا: نعم، فمرت بكنيسة على بابها شماس، فقالت: خذوا هذا، هذا ابني، فقالوا له: أجب عبيدة بن رياح. فلما مثل بين يديه قال له: تضرب أمك، وتعقها؟ قال: ما هي أمي، قال: وتجحدها أيضا؟ خذوه، فضربه ضرباً وجيعاً، وأرسله، فقالت: إن أرسلته معي ضربني، فقال: هاتوه، فأركبها على عنقه وقال: كروا عليه النداء، وقولوا: هذا جزاء من يضرب أمه، ويعقها، فمر به رجل ممن يعرفه، فقال له: ما هذا؟ فقال: من لم يكن له أم فليمض إلى عبيدة بن رياح حتى يجعل له أما.(27/114)
هضاب بن طوق اللخمي الكاتب
ولي هضاب خراج دمشق، ومساحتها في ولاية المنصور. كان المنصور بعث المعدلين يعني: المساح إلى أجناد الشام سنة أربعين وإحدى وأربعين ومئة، فعدلوا الأراضي ما في أيدي المسلمين والأنباط على تعديل مسمى، ولم يعدل الغوطة في تلك السنة حتى بعث المنصور هضاب بن طوق ومحرز بن زريق، فعدلوا الأشربة بالغوطة، وأمرهم ألا يضعوا أيديهم على شيء من القطائع القديمة ولا الأشربة خراجا، وأن يمضوها لأهلها عشرا، ووضعوا الخراج على ما بقي منها بأيدي الأنباط، وعلى الأشربة المحدثة بعد سنة مئة إلى السنة التي عدل فيها.
هقل واسمه محمد
ويقال: عبد الله - ولقبه: هقل - بن زياد بن عبيد الله، ويقال: ابن عبيد أبو عبد الله السكسكي من دمشق. حدث عن الأوزاعي قال: قال عطاء عن ابن عباس أن رجلا أصابته جراحة على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأصابته جنابة، فاستفتى، فأفتي بالغسل، فاغتسل فمات، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: قتلوه، قتلهم الله. ألم يكن شفاء العي السؤال؟ قال عطاء: فبلغنا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن ذلك فقال: لو غسل جسده وترك رأسه حيث أصابه الجرح أجزأه.
وحدث عن هشام بن حسان القردوسي بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وليشرب بيمينه، وليأخذ بيمينه، وليعط بيمينه، وإن(27/115)
الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويعطي بشماله، ويأخذ بشماله.
وحدث عن الأوزاعي بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اختناث الأسقية. قال: وهو الشرب من أفواهها. كان هقل ثقة، حافظا، متقنا، توفي سنة تسع وسبعين ومئة.
همام بن أحمد
ويقال: ابن محمد - بن عبد الباقي أبو مروان القرشي، قال: ويظن أنه همام بن أبي شيبان
حدث عن أبيه عن مروان بن عبد الملك بن عبد الله بن عبد الملك قال: لما أراد الوليد بن عبد الملك بناء مسجد دمشق احتاج إلى صناع كثير، فكتب إلى الطاغية بأن وجه إليه بأربع مئة صانع من صناع الروم، فإني أريد أن أبني مسجداً لم يبن من مضى قبلي، ولا من يكون بعدي مثله، فإن أنت لم تفعل غزوتك بالجيوش، وأخربت الكنائس في بلدي، وكنيسة بيت المقدس، وكنيسة الرها، وسائر آثار الروم في بلدي، فأراد الطاغية أن يفضه عن بنائه، ويضعف عزمه، فكتب إليه: لئن كان أبوك فهمها، وغفل عنها إنها لوصمة عليك، وإن كنت فهمتها وغيبت عن أبيك إنها لوصمة عليه، وأنا موجه إليك ما سألت، فأراد أن يعمل له جوابا، فحشر له عقلاء من الرجال في خطة المسجد، يتفكرون في ذلك، فدخل الفرزدق، فقال: ما بال الناس مجتمعين؟ فقيل له: السبب كيت وكيت، فقال: أنا أجيبه من كتاب الله. قال الله تبارك الله من قائل: " ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً " فسري عنه.(27/116)
همام بن إسماعيل
أظنه ابن عبيد الله بن أبي المهاجر حدث عن زمعة بن يزيد عن جبير عن أبي الدرداء - قال: لا أعلمه إلا رفعه - قال: من قال في أمر مسلم ما ليس فيه ليؤذيه حبسه الله في ردغة الخبال يوم القيامة حتى يقضى بين الناس.
همام بن غالب بن صعصعة
ابن ناجية بن عقال بم محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم أبو فراس بن أبي خطل التميمي البصري الشاعر، المعروف بالفرزدق وفد على معاوية يطلب ميراث عمه الحتات، ووفد على الوليد بن عبد الملك، وعلى هشام بن عبد الملك، وقيل إنه لم يفد إلا على هشام.
قال همام: حدثني الطرماح بن عدي الشاعر قال: لقيت نابغة بني جعدة الشاعر، فقلت له: لقيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، وأنشدته قصيدتي التي أقول فيها:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا(27/117)
قال: فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد بدا الغضب في وجهه، فقال: إلى أين يا أبا ليلى؟ فقلت: إلى الجنة يا رسول الله، قال: أجل إن شاء الله. فلما رأيته سري عنه قلت:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذاما أورد الأمر أصدرا
فقال لي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يفضض الله فاك. مرتين.
قال الفرزدق: رآني أبو هريرة فقال لي: يا فرزدق، إني أراك صغير القدمين، وأنا سمعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن لي حوضا كما بين أيلة وعمان، فإن استطعت أن يكون لقدميك عليه موضع فافعل. وفي آخر بمعناه: فاطلب لهما موضعاً في الجنة، فقلت: إن لي ذنوباً كثيرة، فقال: لا تأيس، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن بالمغرب بابا مفتوحا لا يغلق - زاد في رواية -: حتى تطلع الشمس من مغربها.
وفي آخر فقال: إن التوبة لا تزال تقبل ما لم تطلع الشمس من مغربها. عمل عبد عمل من شيء.(27/118)
وفي حديث آخر فقال: إن قدميك صغيرتان، وكم من محصنة قد قذفتها، وإن لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوضاً ما بين أيلة إلى كذا وكذا، وهو قائم بذناباه يقول: إلي إلي، فإن استطعت فلا تحرمه. قال: فلما قدمت قال: ما صنعت من شيء فلا تعظمه.
وللفرزدق رحلة مع أبيه، وهو صغير إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. قال الفرزدق: دخلت مع أبي على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وبين يديه سيوف يذوقها، فقال لأبي: من أنت؟ قال: غالب بن صعصعة، قال: ذو الإبل الكثيرة؟ قال: نعم. قال: فمت فعلت؟ قال: ذعذعتها النوائب والحقوق، فقال: ذلك خير سبيلها، من هذا معك؟ فقال: هذا ابني همام، وهو يقول الشعر، فقال: علمه القرآن، فهو خير له.
سمي الفرزدق لشبه وجهه بالخبرة، وهي فرزدقة. واسمه همام. والفرزدق: الرغيف الضخم الذي تتخذ منه النساء الفتوت، ويقال للقطعة من العجين التي تبسط فيخبز منها، شبه وجهه بذلك لأنه كان غليظاً جهماً.
قال الجارود: كان رجل من بني رياح يقال له: ابن وثيل - وكان شاعراً - أتى الفرزدق بماء بظهر الكوفة على أن يعقر هذا مئة من الإبل، وهذا مئة من الإبل إذا وردت الماء. فلما وردت الإبل قاما إليها بالسيوف يكسعان عراقيبها، فخرج الناس على الحمران والبغال(27/119)
يريدون اللحم، وعلي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة، فخرج على بغلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البيضاء، وهو ينادي: يا أيها الناس، لا تأكلوا من لحومها، فإنه أهل لغير الله.
كان بسر بن سعيد من العباد المنقطعين وأهل الزهد في الدنيا، وكان ثقة، كثير الحديث، ورعا، وكان قد أتى البصرة في حاجة له، ثم أراد الرجوع إلى المدينة، فرافقه الفرزدق الشاعر. فلم يشعر أهل المدينة إلا وقد طلعا عليهم في محمل، فعجب أهل المدينة لذلك. وكان الفرزدق يقول: ما رأيت رفيقاً خيراً من بسر بن سعيد. وكان بسر يقول: ما رأيت رفيقاً خيراً من الفرزدق.
قال الفرزدق: لقيت أبا هريرة بالشام، فقال لي: أنت الفرزدق؟ قلت: نعم، قال: أنت الذي يقول الشعر؟ قلت: نعم، قال: اتق وانظر، فلعلك إن بقيت أن تلقى قوماً يخبرونك أن الله لن يغفر لك فلا تقنطن من رحمة الله.
قال الفرزدق: رأيت أنف عرفجة من ذهب، وكان أصيب أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفاً من فضة، فأنتن عليه، فرأيته بعد ذلك صنعه من ذهب. وزعم منصور بن سعيد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره بذلك.
قال الفرزدق: خرجت من البصرة أريد العمرة، فرأيت عسكرا في البرية، فقلت: عسكر من(27/120)
هذا؟ قالوا: عسكر الحسين بن علي عليه السلام، فقلت: لأقضين بحق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه، فأتيته، فسلمت، فقال: من الرجل؟ فقلت: الفرزدق بن غالب، قال: هذا نسب قصير، فقلت: أنت أقصر مني نسباً، أنت ابن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لي: أبو من؟ قلت: أبو فراس، فقال لي: يا أبا فراس، كيف خلقت الناس؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ قلت: من البصرة، أريد العمرة، وما سألت عنه من أمر الناس فقلوبهم معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، فاغرورقت عيناه، وقال: هكذا الناس في كل زمان أتباع لذي الدينار والدرهم، والدين لغو على ألسنتهم، فإذا فحصوا بالابتلاء قل الديانون.
قال الفرزدق: لقيت حسناً، فقلت: يا أبي أنت لو أقمت حتى يصدر الناس لرجوت أن ينقصف أهل الموسم معك، فقال: لم آمنهم يا أبا فراس، قال: فدخلت مكة، فإذا فسطاط وهيئة، فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لعبد الله بن عمرو بن العاص، فأتيته، فإذا شيخ أحمر، فسلمت: فقال: من؟ قلت: الفرزدق، أترى أن أنصر حسيناً، قال: إذاً تصيب أجراً وذخراً، قلت: بلا دنيا، فأطرق ثم قال: يا بن غالب، لتتمن خلافة يزيد، فانظرن، فكرهت ما قال، فسببت يزيد ومعاوية، قال: مه، قبحك الله، فغضبت فشتمته وقمت. فلو حضره حشمه لأوجعوني. فلما قضيت الحج رجعت، فإذا عير، فصرخت، ألا بايعا الحسين، فردوا على الأفناء.
قال إسماعيل بن يسار: لقي الفرزدق حسيناً، فسلم عليه، فوصله بأربع مئة دينار، فقالوا: يا أبا عبد الله، تعطي شاعراً متهتراً؟! فقال: إن خير ما أمضيت من مالك ما وقيت به عرضك، والفرزدق شاعر لا يؤمن، فقال قوم لإسماعيل: وما عسى أن يقول في الحسين، ومكانه مكانه، وأبوه وأمه من قد علمت؟ قال: اسكتوا، فإن الشاعر ملعون، إن لم يقل في أبيه وأمه قال في نفسه.(27/121)
قال الفرزدق: لما خرج الحسين لقيت عبد الله بن عمرو قلت له: إن هذا الرجل قد خرج فما ترى؟ قال: أرى أن تخرج معه، فإنك إن أردت دنيا أصبتها، وإن أردت آخرة أصبتها، فرحلت نحوه. فلما كنت ببعض الطريق بلغني قتله، فرجعت إلى عبد الله فقلت: أين ما قلت لي؟ قال: كان رأياً رأيته.
قال مغيرة: لم يكن أحد من أشراف العرب بالبادية كان أحسن ديناً من صعصعة جد الفرزدق، ولم يهاجر، وهو الذي أحيا ألف موءودة، وحمل على ألف فرس، وهو الذي افتخر به الفرزدق، فقال: المتقارب
ومنا الذي منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم يوأد
قال صعصعة بن ناجية: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلمت، وعلمني آياً من القرآن، فقلت: يا رسول الله، إني عملت في الجاهلية أعمالاً، فهل في ذلك من أجر، قال: وما هي؟ قال: أضللت ناقتين لي عشراوين، فخرجت أبغيهما على جمل لي، فبينا أنا أسير إذ رفع لي بيتان في فضاء من الأرض، فقصدت نحوهما، فإذا في أحدهما شيخ، فقلت: هل أحسست من ناقتين عشراوين، قال: وما نارهما؟ قلت: ميسم بني دارم، قال: قد وجدتهما، وقد ولدتهما، وظأرتا على أولادهما، وقد أحيا الله بهما أهل بيت من قومك من مضر، فبينا هو يخاطبني إذ قالت امرأة من البيت الآخر: قد ولدت، قد ولدت، قال: وما ولدت؟ إن كان غلاما فقد شاركنا في قومنا، وإن كان جارية فادفناها،(27/122)
قلت: وما هذه المولودة؟ قال: ابنة لي، قلت: هل لك أن تبيعنيها؟ قال: تقول لي هذا وقد أخبرتك أني من العرب من مضر؟ قلت: إني لا أشتري منك رقبتها، إنما أشتري منك روحها؟ قال: بكم؟ قلت: بناقتي، قال: على أن تزيدني بعيرك هذا، قلت: نعم، على أن ترسل معي رسولاً، فإذا بلغت أهلي دفعته إليه، ففعل. فلما بلغت أهلي دفعت الجمل للرسول، ثم فكرت ثم قلت: والله إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب، وكنت لا أسمع بموءودة إلا اشتريتها بناقتين عشراوين وجمل، فجاء الإسلام وقد استحييت ثلاث مئة وستين، من الموءودة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا باب من الخير، ولك أجره إذ من الله عليك بالإسلام. قال: وذلك مصداق قول الفرزدق:
وجدي الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم يوأد
مات غالب بن صعصعة أبو الفرزدق بسيف كاظمة، فدفن على رابية، فآلى الفرزدق على نفسه أن يكون قبر أبيه مأهولاً معموراً لا يستجير به أحد إلا أجاره، ولا يلوذ به عان إلا فكه، ولا يأتيه غارم إلا أدى عنه. فلما شرعت العداوة بين الفرزدق وبين بني جعفر بن كلاب، وعزم أن يهجوهم خرجت امرأة من رؤسائهم - قيل: إنها أم ذي الأهدام نفيع - ومضت إلى سيف كاظمة، وضربت على قبر أبي الفرزدق فسطاطاً، وأقامت به أياماً. فلما رحلت عنه حملت حصيات من قبره، فأتت بها الفرزدق، فألقتها بين يديه، وقالت له: سألتك بصاحب هذه التربة إلا أعفيتني من ذكرك في هجائك في شعر، قال: ورب الكعبة اليمانية لا ذكرتك بسوء أبداً، فهاجى بني جعفر بن كلاب. فلما صار إليها قال:
عجوز تصلي الخمس عاذت بغالب ... فلا والذي عاذت به لا أضيرها
لئن نافع لم يرع أرحام أمه ... وكانت كدلو لا يزال يعيرها
لبئس دم المولود مس ثيابها ... عشية نادى بالغلام بشيرها(27/123)
وإني على إشفاقها من مخافتي ... وإن عقها بي نافع لمجيرها
وكان رجل من بني منقر كاتب غلاماً له كان منشؤه البادية على ألف درهم على أن يؤديها إليه بعد حول، فسعى فيها، ومضى الحول، ولم يصل إليها، فخرج من البصرة متنكراً حتى أتى سيف كاظمة، فحمل من قبر غالب أبي الفرزدق حصيات وأتى بهن الفرزدق، وهو واقف بالمربد، يبيع إبلاً له، فألقاهن في حجره، وقال: إني مستجير غارم، قال: وما بك، لا أبالك؟ فأنشده:
بقبر ابن ليلى غالب عذت بعدما ... خشيت الردى أو أن أرد على قسر
بقبر امرئ تقري المئين عظامه ... ولم يك إلا غالباً ميت يقري
فقال لي استقدم أمامك إنما ... فكاكك أن تلقى الفرزدق في المصر
فقال له الفرزدق: مالك؟ قال: إني مكاتب، وقد عجزت، قال: وكم كتابك؟ قال: ألف درهم، قال: لك ألف لكتابك، وألف معونة لك، ولك ناقة سوداء، ولك كسوة سابغة، قال: فأعطني، قال: والله لا تريم من مكانك حتى أفي لك بما قلت، فعجل ذلك ليله.
ولما وجه الحجاج بتميم بن زيد إلى السند قدم البصرة فحمل من أهلها قوماً كثيراً، وحمل معه رجلاً قصاباً، يقال له خنيس. فلما نظرت أمه إلى ذلك ركبت بعيراً لها، ولحقت بقبر غالب، فحملت منه حصيات، ثم أتت بهن الفرزدق، فألقتهن على بابه، فخرج مذعوراً، فقال: ما بك؟ قالت: ابني وواحدي، قال: وأين هو؟ قالت: مع تميم بن زيد بالسند، فدعا برجل، فقال: اكتب ما أمليه عليك، فكتب:(27/124)
تميم بن زيد لا تكونن حاجتي ... بظهر فلا يعيا علي جوابها
وهب لي خنيساً واحتسب فيه منة ... لعبرة أم ما يسوغ شرابها
أتتني فعاذت يا تميم بغالب ... وبالحفرة السافي عليها ترابها
وقد علم الأقوام أنك ماجد ... وليث إذا ما الحرب شب شبابها
فلما قرأ تميم الكتاب لميدر حبيش، أم خنيس، فقال: انظروا من كان في هذا العسكر له هذا الاسم، فرجعوا به إلى الفرزدق، فأصابوا ستة نفر من خنيس وحبيش فوجه بهم إليه، وقيل إنه لما حضر إليه الستة نفر: سأل عن ابن العجوز البصرية فقال أحدهم: أنا هو، فكتب له منشور ونقل عطاؤه إلى البصرة، وكتب منشوراً: لا يزعجه أحد حتى يقول هو: قد فرغت من حاجة تميم بن زيد، وأعطاه ألف درهم، وحمله على البريد إلى البصرة، وأجاب الفرزدق عن كتابه، ووجه مع الجواب عشرة آلاف درهم ثم تأمل الخمسة الباقين، فقال: قد أتي بكم وكل واحد منكم يرجو، والرجاء ذمام، والله لا خيبت آمالكم، فكتب لكل واحد منهم منشوراً، وأمر لهم بنفقاتهم إلى مواطنهم.
قال عبد الكريم: دخلت على الفرزدق، فتحرك، فإذا في رجليه قيد، فقلت: ما هذا يا أبا فراس؟! قال: حلفت ألا أخرجه من رجلي حتى أحفظ القرآن.
قال جرير: نبعة الشعر الفرزدق.
قال ابن شبرمة: كان الفرزدق أشعر الناس.(27/125)
قال أبو عمرو بن العلاء: لم أر بدوياً أقام بالحضر إلا فسد لسانه غير رؤبة بن العجاج والفرزدق، كأنهما زادا على طول الإقامة جدة وحدة.
قال المبرد: قال لي الفتح بن خاقان: أيهما تقدم، الفرزدق أم جريراً؟ فقلت: كلاهما عندي غاية، وفي الذروة، وإنما أقول على قدر الخاطر: إذا أحببت المسامحة والسهولة، وقلة التكلف ملت إلى جرير، وإذا أحببت الركانة والرزانة ملت إلى الفرزدق.
قال أبو يحيى الضبي: لما هرب الفرزدق من زياد حين استعدى عليه بنو نهشل في هجائه أباهم أتى سعيداً، وهو على المدينة أيام معاوية، فاستجاره فأجاره، والحطيئة وكعب بن جعيل حاضراه فأنشده الفرزدق:
ترى النفر الجحاجح من قريش ... إذا ما الأمر في الحدثان آلى
بني عم النبي ورهط عمرو ... وعثمان الألى غلبوا فعالا
قياماً ينظرون إلى سعيد ... كأنهم يرون به هلالا
فقال الحطيئة: هذا والله الشعر، لا ما تعلل به منذ اليوم أيها الأمير، فقال كعب بن جعيل: فضله على نفسك، ولا تفضله على غيرك، فقال: بلى والله أفضله على نفسي وعلى غيري. أدركت من قبلك وسبقت من بعدك، لئن بقيت لتبرزن علينا. ثم قال له الحطيئة: يا غلام، أنجدت امك؟ قال: لا بل أبي. يريد الحطيئة: إن كانت أمك أنجدت، فإني أصبتها، فأشبهتني، فألفاه لقن الجواب فنعاه عليه(27/126)
الطرماح حين هجاه فقال:
فاسأل قفيرة بالمروت هل شهدت ... سوط الحطيئة بين السجف والنضد
أم كان في غالب شعر فيشبهه ... شعر ابنه فينال الشعر من صدد؟
جاءت به نطفةً من شر ما اتسقت ... منه إلى شر واد شق في بلد
كان الفرزدق جالساً في حلقة الحسن، فقال رجل: يا أبا سعيد، ما تقول في رجل قال فلان: طلقت امرأتي، وعتقت مملوكي، وفعلت وفعلت، فقال الفرزدق: يا أبا سعيد، أجيبه؟ قال: نعم، قال الفرزدق: أو ليس قد قلت في ذلك شعراً؟ فقال: وما قلت؟ وليس كل ما قلت يؤخذ به، فقال الفرزدق:
فلست بمأخوذ بشيء تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم
فقال الحسن: أصاب أبو فراس، والقول ما قال أبو فراس.
سأل رجل الحسن - والفرزدق عنده - عن قول الله عز وجل (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) ، فقال الفرزدق: تسأل أبا سعيد، وقد قلت بذلك شعراً؟ فقال له الحسن: ما هو؟ قال:(27/127)
وذات حليل أنكحتها رماحنا ... حلالا ومن بين بها لم تطلق
فتبسم الحسن ولم يرد عليه ما قال، قال: تحل لكم السبايا أن تطؤوهن بملك اليمين من غير أن يطلقهن أزواجهن.
أتى الفرزدق الحسن فقال: إني قد هجوت إبليس، فاسمع، قال: لا حاجة لنا بالقول، قال: لتسمعن أو لأخرجن، فأقول للناس: إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس، فقال الحسن: اسكت، فإنك عن لسانه تنطق.
قال سلام بن مسكين: كنت في حبس بلال والفرزدق معي في السجن، فقلت: يا أبا فراس، تمزق أعراض الناس، وتتناولهم بلسانك! فقال لي: اسمع ما أقول: والله إنه تبارك وتعالى أحب إلي من نفسي التي بين جنبي، ومن عيني هاتين، ومن عشيرتي، أفترى الله يعذبني بعد هذا، إنه لأكرم من ذلك.
قيل لابن هبيرة: من سيد أهل العراق؟ قال: الفرزدق، هجاني ملكاً ومدحني سوقة. وقال لخالد حين قدم العراق:
ألا قطع الرحمن ظهر مطية ... أتتنا تخطى عن دمشق بخالد
وكيف يؤم الناس من كانت أمه ... تدين بأن الله ليس بواحد
وقال:
نزلت بجيله واسطاً فتمكنت ... ونفت فزارة عن قرار المنزل(27/128)
وقال:
لعمري لئن كانت بجيلة زانها ... جرير لقد أخزى بجيلة خالد
لقي الفرزدق شاب من أهل البصرة، فقال: يا أبا فراس، أسألك عن مسألة، قال: سل، قال: أيهما أحب إليك: تسبق الخير أو يسبقك؟ قال: يا بن أخي؟ لم تأل أن شددت وأحببت ألا تجعل لي مخرجاً، أفتجيبني أنت إن أجبتك؟ قال: نعم، قال: فاحلف، فغلظ عليه، ثم قال: نكون معاً، لا يسبقني ولا أسبقه. أسألك الآن؟ قال: نعم، قال: أيما أحب إليك: أن ترجع الآن على منزلك، فتجد امرأتك قابضة بكذا وكذا من رجل أو تجد رجلاً قابضاً على كذا وكذا منها؟ مر الفرزدق بمجلس لبني حرام ومعه عنبسة الفيل مولى عثمان بن عفان - وهو جد عبد الكريم بن روح - فقال: يا أبا فراس، متى تذهب إلى الآخرة؟ قال: وما حاجتك إلى ذلك؟ قال: اكتب معك إلى أبي، قال: أنا لا أذهب حيث أبوك، ابوك في النار. ولكن اكتب مع ريالوه واسطفانوس.
كان أسد بن عبد الله القسري شديد التعصب، فاجتمع عنده ذات يوم جماعة من الشعراء، فيهم الفرزدق، فقال له: أنشدنا، قال الفرزدق: فعلمت أنه يكره شعري، فقلت: أيها الأمير، لو أمرت غيري لأنشدك، فقال: أنشدني، ودعني من غيرك، فأنشدته قصيدة أقول فيها:
فإن الناس لولا نحن كانوا ... كما خرز تساقط من نظام(27/129)
قال: فبم؟ واضطرب، ثم أقبل علي كالمهدد، فقال: أنشدنا، ودعنا من فخرك، فأنشدته: البسيط
يختلف الناس ما لم نجتمع لهم ... فلا خلاف إذا ما استجمعت مضر
منا الكواهل والأعناق تقدمها ... والرأس منا وفيه السمع والبصر
ولا نلين لمن يبغي تهضمنا ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
فاربد وجهه، واضطرب، وقال: أي رأس منكم فيه السمع والبصر؟ قال الفرزدق: فبركت بين يديه، وقلت: على الخبير سقطت: قريش وكنانة، فلم يجد لي جواباً حين ذكرت قريشاً، ثم فكر فقال: كذبت، قريش سبط من الأسباط، وهي حيث جعلها الله أمةً وسطاً، فقلت: إن كانت قريش سبطاً، ولم تكن من مضر فهي إذاً من بني إسرائيل، فضحك الناس، وأمر بنا فأخرجنا.
ولما خاصمت الفرزدق زوجته نوار إلى عبد الله بن الزبير، وطلب فسخ نكاحها قال: الطويل
لعمري لقد أردى نواراً وساقها ... إلى الغور أحلام قليل عقولها
أطاعت بني أم النسير فأصبحت ... على قتب يعلو الفلاة دليلها
منها:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وفيهن عن أبوالهن بسالة ... وبسطة أيد يمنع الضيم طولها
فدونكها يا بن الزبير فإنها ... مولهةً يوهي الحجارة قيلها
ولما طلق الفرزدق امرأته النوار ثلاثاً قال لأبي شفقل: امض بنا إلى الحسن نشهده(27/130)
على طلاق النوار، قال: فقلت له: أخشى أن يبدو لك فيها، فتشهد عليك الحسن، فتجلد، ويفرق بينكما، فقال: لا بد منه، فمضيا إلى الحسن، فأخبره، فقال له الحسن: قد شهدنا عليك، ثم بدا له بعد فادعاها، فشهد عليه الحسن، ففرق بينهما، فأنشأ يقول:
ندمت ندامة الكسعي لما ... مضت مني مطلقة نوار
وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
فلو أني ملكت يدي وقلبي ... لكان علي للقدر اختيار
ولما ماتت النوار امرأة الفرزدق أوصت أن يصلي عليها الحسن بن أبي الحسن البصري، فحضر جنازتها آجلاء أهل البصرة، والحسن على بغلته، والفرزدق على بعيره، فقال له الحسن: يا أبا فراس، ما يقول الناس؟ قال: يقول الناس: حضر الجنازة خير الناس وشر الناس، قال: ما أنا بخيرهم، ولا أنت بشرهم. يا أبا فراس، ما أغددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة. فقال الحسن بيده: نعم والله العدة. فلما صلى عليها الحسن مالوا إلى قبرها لدفنها، فأنشأ الفرزدق يقول:
أخاف وراء القبر إن لم يعافني ... أشد من القبر التهاباً وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائد ... عنيف وسواق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى ... إلى النار مغلول القلادة أزرقا
يساق إلى ذل الجحيم مسربلاً ... سرابيل قطران لباساً محرقا(27/131)
إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم ... يذوبون من حر الصديد تمزقا
فبكى الحسن ثم التزم الفرزدق، وقال: لقد كنت من أبغض الناس إلي، وإنك اليوم من أحب الناس إلي.
شهد الحسن جنازة أبي رجاء العطاردي على بغلة، والفرزدق معه على بعيره، فقال له الفرزدق: يا أبا سعيد، يستشرفنا الناس، فيقولون: خير الناس، وشر الناس، فقال الحسن: يا أبا فراس، كم أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، ذاك خير من الحسن، وكم من شيخ مشرك أنت خير منه يا أبا فراس، قال: الموت يا أبا سعيد، قال له الحسن: وما أعددت له يا أبا فراس؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة، قال: إن للا إله إلا الله شروطا، فإياك وقذف المحصنة، يا أبا فراس كم من محصنة قد قذفتها، فاستغفر الله، قال: فهل من توبة أبا سعيد؟ قال: نعم.
زاد في آخر بمعناه: ثم وقف الحسن ملياً ثم قال: أما أنت يا أبا رجاء فقد استرحت من غموم الدنيا ومكابدتها، فجعل الله لك في الموت راحة طويلة، ثم أقبل على الفرزدق فقال: يا أبا فراس، كن من مثل هذا على حذر، فإنما نحن وأنت بالأثر، قال: فبكى الفرزدق ثم أنشأ يقول:
فلسنا بأنجى منهم غير أننا ... بقينا قليلا بعدهم وترحلوا
حدث محمد بن زياد - وكان في ديماس الحجاج زماناً حتى أطلقه سليمان حين قام - قال:(27/132)
انتهيت إلى الفرزدق، وهو ينشد بمكة، بالردم مديح سليمان:
وكم أطلقت كفاك من قيد بائس ... ومن عقدة ما كان يرجى انحلالها
كثيراً من الأسرى التي قد تكنعت ... فككت وأعناقاً عليها غلالها
فقلت: أنا أحدهم، فأخذ بيدي وقال: أيها الناس، سلوه فو الله ما كذبت: قال الفرزدق يذكر ولادة برة بنت مر قريشاً - يعني: أم النضر بن كنانة: الوافر
هم أبناء برة بنت مر ... فأكرم بالخؤولة والعموم
فما فحل بأنجب من قريش ... وما خال بأكرم من تميم
ومن شعر الفرزدق: " الكامل "
إن المهالبة الذين تحملوا ... دفع المكاره عن ذوي المكروه
زانوا قديمهم بحسن حديثهم ... وكريم أخلاق وحسن وجوه
قدم جرير على عمر بن عبد العزيز، وهو يتولى المدينة، فأنزله في دار، وبعث إليه بجارية تخدمه، فقالت له: إني أراك شعثاً، فهل لك في الغسل؟ فجاءته بغسل وماء، فقال لها: تنحي عني، ثم اغتسل. ثم قدم الفرزدق فأنزله داراً وبعث إليه بجارية، فعرضت عليه مثل ذلك، فوثب عليها، فخرجت إلى عمر، فنفاه من المدينة، وأجله ثلاثاً، ففي ذلك يقول:
توعدني وأجلني ثلاثاً ... كما لبثت لمهلكها ثمود(27/133)
فبلغ ذلك جرير فقال:
نفساك الأغر ابن عبد العزيز ... بحقك تنفى عن المسجد
وشبهت نفسك أشقى ثمود ... فقالوا ضللت ولم تهتد
وقد أخروا حين حل العذاب ... ثلاث ليال إلى الموعد
قدم الفرزدق المدينة في سنة جدبة، فمشى أهل المدينة إلى عمر بن عبد العزيز، وهو يومئذ أميرها فقالوا: إن الفرزدق قدم في هذه السنة الجدبة التي قد حلقت أموالها، وليس عند أحد ما يعطيه، فلو أن الأمير بعث إليه وأرضاه، وتقدم إليه ألا يعرض لأحد بمدح ولا هجاء. فبعث إليه عمر: إنك يا فرزدق قدمت مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة، وليس عند أحد ما يعطيه شاعراً، وقد أمرت لك بأربعة آلاف درهم، فخذها، ولا تعرض لأحد بمدح ولا هجاء. قال: فأخذها الفرزدق، ومر بعبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو جالس في سقيفة داره، وعليه مطرف خز وجبة حمراء فقال:
أعبد الله أنت أحق ماش ... وساع بالجماهير الكبار
فللفاروق أمك وابن أروى ... أبوك فأنت منصدع النهار
هما قمرا السماء وأنت نجم ... به في الليل يدلج كل سار
فخلع عليه جبته والمطرف والعمامة، ودعا له بعشرة آلاف درهم، فسمع ذلك عمر بن عبد العزيز، فبعث إليه عمر: ألم أتقدم إليك يا فرزدق ألا تعرض لأحد بمدح(27/134)
ولا هجاء؟ اخرج، فقد أجلتك ثلاثاً، فإن وجدتك بعد ثلاث نكلت بك، فخرج الفرزدق وهو يقول:
توعدني وأجلني ثلاثاً ... كما وعدت لمهلكها ثمود
كان الحجاج يتمثل بهذا البيت من شعر الفرزدق لما مات ابنه:
فما ابنك إلا من بني الناس فاصبري ... فلن يرجع الموتى خنين المآتم
كان شاعر من بني حرام بن سماك قد هجا الفرزدق، فأخذوه، فأتوا به الفرزدق، وقالوا له: هذا بين يديك، فإن شئت فاضرب، وإن شئت فاحلق، لا عدوى، ولا قصاص، فخلى عنه وقال:
فمن يك خائفاً لأذاة شعري ... فقد أمن الهجاء بنو حرام
هم قادوا سفيههم وخافوا ... قلائد مثل أطواق الحمام
كتب الفرزدق إلى جرير كتاباً يدعوه إلى الصلح، ويقول: ذهبت أيامنا بالباطل وكرت أيامنا، وقطعنا الدهر بشتم العشيرة، فهلم إلى الصلح، فجعل جرير يقرئ كتابه الناس، ويقول: دعاني إلى الصلح، فإذا في آخر كتابه:
شهدت طهية والبراجم كلها ... أن الفرزدق نال أم جرير
وقال بعض الخلفاء لجرير والفرزدق: حتى متى لا تنزعان، فقال جرير: يا أمير المؤمنين، إنه يظلمني، قال: صدق، إني أظلمه، ووجدت أبي يظلم أباه.
خرج الفرزدق حاجاً فمر بالمدينة، فدخل على سكينة بنت الحسين بن علي بن(27/135)
أبي طالب مسلماً عليها، فقالت: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: ليس كما قلت، أشعر منك الذي يقول:
بنفسي من تجنبه عزيز ... علي ومن زيارته لمام
ومن أمسى وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النيام
فقال: لئن أذنت لي لأسمعنك من شعري أحسن من هذا، فقالت: أقيموه، فخرج. فلما كان الغد عاد إليها، فقالت: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: ليس كما قلت، أشعر منك الذي يقول:
لولا الحياء لهاجني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار
كانت إذا هجر الضجيع فراشها ... خزن الحديث وعفت الأسرار
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليل يكر عليهم ونهار
قال: لئن أذنت لي لأسمعنك من شعري ما هو أحسن من هذا، فأمرت به، فأخرج، فعاد إليها من الغد، وحولها جوار مولدات، كأن التماثيل عن يمينها وعن شمالها، فأبصر الفرزدق واحدة منهن، كأنها ظبية، أدماء، فمات عشقاً لها، وجنوناً بها، وقالت: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: ليس كذلك، أشعر منك الذي يقول:
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
فقال: يا بنة رسول الله، إن لي عليك حقاً عظيماً لموالاتي لك ولآبائك، وإني صرت إليك من مكة قاصداً لك إرادة التسليم عليك، فلقيت في مدخلي إليك من التكذيب لي، وتعنيفي إياي أن أسمعك شعري ما قطع ظهري، وعيل صبري،(27/136)
والمنايا تغدو وتروع، ولا أدري لعلي لا أفارق المدينة حتى أموت، فإن أنا مت فمري من يدفني في درع هذه الجارية، وأومأ إلى الجارية التي كلف بها، فضحكت سكينة حتى كادت تخرج من بردها، وأمرت له بألف درهم وكسى وطيب، وأمرت له بالجارية يجتمع إليها وقالت: يا أبا فراس، إنما أنت واحد منا - أهل البيت - لا يسؤك ما جرى، خذ ما أمرنا لك به، وأحسن إلى الجارية، وأكرم صحبتها. قال الفرزدق: فلم أزل أرى البركة بدعائها في نفسي ومالي.
قال أبو عبيدة: أول حمام بني بالبصرة حمام منجاب السعدي، وإن الفرزدق كان ذات يوم على باب دربه في أطمار خز إذ مرت به امرأة نبيلة برزة، فقالت له: كيف الطريق إلى حمام منجاب؟ فقال: هاهنا، وأومأ إلى دربه. فلما ولجت المرأة الدرب كامشها فاحتملها، وقد علم الله ما كان بعد ذلك.
وحدث بعض أهله قال: كنت عند رأس الفرزدق ألقنه الشهادة، فكنت أقول: يا أبا فراس، قل لا إله إلا الله، فيقول:
يا رب قائلة يوماً وقد لعبت ... كيف الطريق إلى حمام منجاب
ثم يقول: نعم، لا إله إلا الله، إلي أن مات.
ولما احتضر الفرزدق قال:
أروني من يقوم لكم مقامي ... إذا ما الأمر جل عن العتاب
إلى من تفزعون إذا حثوتم ... بأيديكم علي من التراب
قال أبو عمرو بن العلاء: حضرت الفرزدق، وهو يجود بنفسه، فما رأيت أحسن ثقة بالله منه. وذلك في أول سنة عشر ومئة. فلم أنشب أن قدم جرير من اليمامة، فاجتمع إليه الناس،(27/137)
فما وجدوه كما عهدوه، فقلت له في ذلك، فقال: أطفأ الفرزدق جمرتي، وأسال عبرتي، وقرب ميتي، ثم شخص إلى اليمامة، فنعي لنا في رمضان من تلك السنة.
وقيل: إن الفرزدق عاش حتى قارب المئة، ومات سنة أربع عشرة ومئة.
وكان له من الولد لبطة وسبطة وخبطة وركضة، فانقرض عقبه.
وقيل: إن جريراً مات بعده بأربعين يوماً.
قال لبطة بن الفرزدق: رأيت أبي في النوم، فقال لي: يا بني، نفعتني الكلمة التي خاطبت بها الحسن. يعني: لما قال له: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة.
لما نعي الفرزدق إلى جرير، وهو بالبادية اعترض الطريق، فإذا أعرابي على قعود له، فقال له جرير: من أين؟ قال: من البصرة، قال: هل من حاسة خبر؟ قال: نعم، بينا أنا بالمربد فإذا جنازة عظيمة قد حفل لها الناس، فيها الحسن البصري، فقلت: من؟ قالوا: الفرزدق، فبكى جرير بكاءً شديداً، فقال له قومه: أتبكي على رجل يهجوك وتهجوه مذ أربعون سنة؟! قال: إليكم عني، فما تساب رجلان، ولا تناطح كيسان فمات أحدهما إلا تبعه الآخر عن قريب:
لعمري لئن كان المخبر صادقاً ... لقد عظمت بلوى تميم وجلت
فلا حملت بعد الفرزدق حرة ... ولاذات حمل من نفاس تعلت
هو الوافد المحبو والرافع الثأى ... إذا النعل يوماً بالعشيرة زلت(27/138)
همام بن قبيصة بن مسعود
ابن عمير بن عامر بن عبد الله بن الحارث النميري من أصحاب معاوية. شاعر فارس. شهد صفين مع معاوية، وكان مع الضحاك بن قيس يوم مرج راهط، وقتل يومئذ، وكان همام سيد قومه.
قال عمرو بن العاص لعبد الرحمن بن خالد: اقحم يا بن سيف الله، فتقدم بلوائه، وقدم أصحابه، فأقبل علي على الأشتر، فقال له: لقد بلغ لواء معاوية حيث ترى، فدونك القوم، فأخذ الأشتر لواء علي وهو يقول:
إني أنا الأشتر معروف الشتر ... إني أنا الأفعى العراقي الذكر
لست من الحي ربيع ومضر ... لكنني من مذحج الغر الغرر
فضارب القوم حتى ردهم، فانتدب لهم همام بن قبيصة، وكان مع معاوية، فشد نحو مذحج وهو يقول: مشطور الرجز
قد علمت حوراء كالتمثال ... أني إذا ما دعيت نزال
أقدم إقدام الهزبر الخال ... أهل العراق إنكم من بالي
حتى أنال فيكم المعالي ... أو أطعم الموت وتلكم حالي
في نصر عثمان ولا أبالي
فحمل عليه عدي بن حاتم الطائي وهو يقول:
يا صاحب الصوت الرفيع العالي ... إن كنت تبغي في الوغى نزال
فأقدم فإني كاشف عن حالي(27/139)
فالتقيا، فضربه عدي، وأخذ لواءه، واقتتل الناس قتالاً شديداً، فدعا علي ببغلة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فركبها، وتعصب بعمامة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السوداء ثم نادى: أيها الناس، من يشري نفسه لله؟ من يبيع الله نفسه؟ هذا يوم له ما بعده، فانتدب معه ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفاً، فتقدمهم علي وهو يقول:
دبوا دبيب النمل لا تقوتوا ... أصلحوا أمركم وبيتوا
حتى تنالوا الثأر أو تموتوا
فتبعه عدي بن حاتم وهو يقول:
أبعد عمار وبعد هاشم ... وابن بديل فارس الملاحم
نرجو البقاء ضل حكم الحاكم ... وقد عضضنا أمس بالأباهم
فاليوم لا نقرع سن نادم ... ليس امرؤ من يومه بسالم
وتبعه الأشتر في مذحج وهو يقول:
حرب بأسباب الردى تأجج ... يهلك فيها البطل المدجج
يكفيكها همدانها ومذحج
وحمل الناس حملة واحدة، فلم يبق لأهل الشام صف إلا أزالوه حتى أفضوا إلى معاوية، فدعا بفرسه لينجو عليه. قال معاوية: فلما وضعت رجلي في الركاب تمثلت بأبيات عمرو بن الإطنابة:
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي(27/140)
فأقام، فنظر معاوية إلى عمرو فقال: اليوم صبر، وغداً فخر، فقال عمرو: صدقت.
قدم أعرابي من بني هلال دمشق في خلافة معاوية، فأتى همام بن قبيصة النميري، فقال له رجل من بني هلال: أصابتني السنة، فأذهبت مالي، فجئت أطلب الفريضة، فكلم لي معاوية، فقال له: إن معاوية علي غضبان، ولست أدخل عليه، ولكني أكلم لك أذنه يدخلك عليه، فإذا وضع الطعام فكل، ثم علمه كلاماً يكلمه به إن لم يفرض له، فكلم له الآذن، فسأدخله. فلما وضع الطعام أكل الأعرابي ثم قام فقال: يا أمير المؤمنين، إنني من بني هلال أصابتني السنة، فأذهبت مالي، فجئت أطلب الفريضة، فقال: وكلما أصابت السنة أعرابياً أردنا أن نفرض له؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن جل من معك أهل اليمن، وقد كان فيهم ملك، فهم، لكنه صور، وقد حدثوا بأنه سيرجع إليهم، فإن رأيت إن تفرض لهذا الحي من مضر فتستظهر بهم، فافعل، فقال له معاوية: هذا كلام همام - فعرفه - أبا لدوائر تخوفاني؟! عليك وعلى همام لعنة الله ودائرة السوء، ثم أمر ففرض له. وبلغ هماماً الخبر، فقال: إن كنا لنعد عقل معاوية يفضل ألف رجل، فما زال به النساء والبنون والشفاعات حتى صار عقله إلى عقل مئة رجل.
لما بلغ يزيد بن معاوية أن أهل مكة أرادواابن الزبير على البيعة، فأبى، فأرسل النعمان بن بشير الأنصاري وهمام بن قبيصة النميري إلى ابن الزبير بن عوام إلى البيعة ليزيد على أن يجعل له ولاية الحجاز، أو ما شاء، وما أحب لأهل بيته من الولاية، فقدما على ابن الزبير، فعرضا عليه ما أمرهما يزيد، فقال ابن الزبير: أتأمروني ببيعة رجل يشرب الخمر، ويدع الصلاة، ويتبع الصيد؟ فقال همام: أنت أولى بذلك منه، فلطمه رجل من قريش، فرجعا إلى يزيد، فغضب، وحلف لا يقبل بيعته إلا وفي يده جامعة.
قال الحجاج لوازع بن ذؤالة الكلبي: كيف قتلت همام بن قبيصة؟ قال: مر بي(27/141)
والناس منهزمون، فلو شاء أن يذهب لذهب، فلما رآني قصدني، فضربته، وضربني، وسقط، فحاول القيام، فلم يقدر، فقال وهو في الموت:
تعست ابن ذات النوف أجهز على فتى ... يرى الموت خيراً من فرار وأكرما
ولا تتركني بالحشاشة إنني ... صبور إذا ما النكس مثلك أحجما
فدنوت منه فقال: أجهز علي، قبحك الله، فقد كنت أحب أن يلي هذا مني من هو أربط جأشاً منك، فاحتززت رأسه، وأتيت به مروان.
وكان مروان يقاتل الضحاك بن قيس بمرج راهط، فجاء روح بن زنباع الجذلمي فبشره بقتل الضحاك بن قيس، وقتل همام بن قبيصة، وقتل ابن معن السلمي، وقال ابن مقبل:
يا جذع آنف قيس بعد همام ... بعد المذبب عن أحسابها الحامي
يعني همام بن قبيصة.
همام بن محمد بن سعيد أراه
ابن عبد الملك بن الأموي حدث عن ميمون بن مهران قال:
قال لي عمر بن عبد العزيز: يا ميمون، احفظ عني أربعا: لا تصحبن سلطاناً، وإن أمرته بمعروف، ونهيته عن منكر، ولا تخلون بامرأة، وإن أقرأتها القرآن، ولاتصل من قطع رحمه، فإنه لك أقطع، ولا تكلمن بكلام اليوم تعتذر منه غداً.(27/142)
همام بن محمد بن أبي شيبان العبسي
حدث عن الوليد بن مسلم بسنده إلى أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الله عز وجل: " وكان تحته كنز لهما ". قال: ذهب وفضة.
همام بن الوليد الدمشقي
حدث عن صدقة بن عمر الغساني بسنده إلى الحسن قال: كان اسم كبش إبراهيم عليه السلام حرير، واسم هدهد سليمان عبقر، واسم كلب أصحاب الكهف قطمير، واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدته بهموت. وهبط آدم بالهند، وهبطت حواء بجدة، وهبط إبليس بدست ميسان. وهبطت الحية بأصبهان.
هميم بن همام بن يوسف
أبو العباس الطبري حدث عن هشام بن خالد الأزرق بسنده عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن العجين وقع فيه قطرات من دم، فنهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكله.
قال الوليد: لأن النار لا تنشف الدم.
وحدث عن هشام بن عمار بسنده عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما الوقوف عشية عرفة فإن الله يهبط إلى السماء الدنيا، فيباهي بكم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي، جاؤوني شعثاً غبراً يرجون رحمتي. فلو كانت ذنوبكم كعدد(27/143)
الرمل، وكعدد القطر أو الشجر لغفرتها لكم. أفيضوا عبادي، مغفوراً لكم، ولمن شفعتم له. توفي هميم بن همام سنة ثلاث وتسعين ومئتين.
هنبل بن محمد بن يحيى بن هنبل
أبو يحيى السليحي الحمصي حدث عن هشام بن عمار بسنده إلى أبي عنبة الخولاني قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مشى أقلع. وحدث عن محمد بن إسماعيل بن عياش بسنده إلى جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن إبليس قد أيس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم.
هنيدة من أصحاب الوليد بن عبد الملك
قال الزهري: دخلت على عروة بن الزبير، وهو يكتب إلى هنيدة صاحب الوليد بن عبد الملك، وكان كتب يسأله عن قول الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن "، فكتب إليه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صالح قريشاً يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاء بغير إذن ولي، فكان يرد الرجال، فلما هاجر النساء أبى الله ذلك - أن يردهن إذا امتحن بمحنة الإسلام، فزعمت أنها جاءت راغبة فيه - وأمره أن يرد صدقاتهن إليهم إذا حبسوا عنهم، وأن يردوا عليهم مثل الذي يرد عليهم إن فعلوا، فقال: " واسألوا ما أنفقتم ".(27/144)
هني مولى عمر بن الخطاب
رضي الله عنه كان عامل عمر على الحمى الذي حماه للمسلمين، وكان مع معاوية بصفين.
حدث هني أن أبا بكر الصديق لم يحم شيئاً من الأرض إلا للنفع، وقال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حماه، فكان يحميه للخيل التي يغزا عليها. وكانت إبل الصدقة إذا أخذت عجافاً أرسل بها إلى الربذة، وما والاها ترعى هناك، ولا يحمي لها شيئاً، ويأمر أهل المياه لا يمنعون من ورد عليهم أن يشرب معهم، ويرعى عليهم.
فلما كان عمر بن الخطاب، وكثر الناس، وبعث البعوث إلى الشام، وإلى مصر، وإلى العراق حمى الربدة، واستعملني على حمى الربدة.
كان عمر بن الخطاب استعمل مولى له يدعى هنياً على الحمى، فقال: يا هني اضمم جناحك عن الناس، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة والغنيمة، وإياي ونعم ابن عفان وابن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيته يأتيني بالبينة فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبالك؟ فالملأ والكلأ أيسر علي من الورق، وايم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم ومياههم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبراً.
قال هني مولى عمر بن الخطاب: كنت أول شيء مع معاوية على علي، فكان أصحاب معاوية يقولون: والله لا نقتل عماراً أبداً، إن قتلناه فنحن كما يقولون، فلما كان يوم صفين ذهبت أنظر في القتلى فإذا(27/145)
عمار بن ياسر مقتول. قال هني: فجئت إلى عمرو بن العاص، وهو على سريره، فقلت: أبا عبد الله، قال: ما تشاء؟ قلت: انظر أكلمك، فقام إلي، فقلت: عمار بن ياسر، ما سمعت فيه؟ فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تقتله الفئة الباغية، فقلت: هوذا والله مقتول، فقال: هذا باطل، فقلت: بصر عيني مقتول، قال: فانطلق فأرينيه، فذهبت. فأوقعته عليه، فساعة رآه امتقع، ثم أعرض في شق، وقال: إنما قتله الذي خرج به.
وفي رواية: إنما قتله أصحابه.
هود بن عبد الله بن رباح
ابن خالد بن الخلود بن عاد بن عوض بن إرم، ابن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو - إدريس - بن يارد بن مهلائيل بن قتبان، ابن أنوش بن شيث بن آدم نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال بعض النسابين إن هوداً هو عابر بن شالخ بن أفخشد بن سام بن نوح.
قيل: إن هوداً بنى الحائط القبلي من جامع دمشق. وقيل: إن قبره به. وقيل: قبره بمكة. وقيل: قبره باليمن.
وكان عاد ابن عوض بن إرم بن سام بن نوح. وكان الضحاك بن أهنوت من ولد قحطان، وهو أهنوت بن ملل بن لاوذ بن الغوث بن الفزر بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرب بن قحطان بن أنمر بن الهميسع بن نايت بن إسماعيل بن إبراهيم بن تارح، وهو آزر بن ناخور بن ارغوا بن اسروغ بن فالغ بن يقطن، وهو قحطان بن عابر، وهو(27/146)
هود النبي - صلى الله على نبينا وعليه وسلم - ابن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح.
وأول نبي بعثه الله إدريس ثم نوح ثم إبراهيم ثم إسماعيل وإسحاق ثم يعقوب ثم يوسف ثم لوط ثم هود بن عبد الله بن الخلود بن عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح، وعاد وغبيل ابنا عوض بن إرم.
وعن ابن عباس قال: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح، وهود، ولوط، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وعليهم وسلم. وليس من نبي له اسمان غير عيسى المسيح، ويعقوب إسرائيل. وكان أبو هود أول من تكلم بالعربية. وولد لهود أربعة، فهم العرب: قحطان، ومقحط، وقاحط، وقالع أبو مضر. وقحطان أبو اليمن، والباقون ليس لهم نسل.
وكان من قصة هود، كيف بعثه الله من بعد نوح أن عاداً كانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله، وذلك إنما عبدت الأصنام العرب أصنام قوم نوح بعد نوح، فتفرقوا في عباداتهم للأوثان، وفرقوا أصنام قوم نوح بينهم، فكانت هذيل بن مدركة بن خندف اتخذوا سواعاً إلهاً يعبدونه، وكانت لهم برهاط من أرض الحجاز، وكانت كلب بن وبرة من قضاعة اتخذوا وداً إلهاً يعبدونه بدومة الجندل، وكانت أنعم من طيء، وأهل جرش من مذحج من تلك القبائل من أهل اليمن اتخذوا يعوق إلهاً يعبدونه بجرش، وكانت خيوان - بطن من همدان - بأرض همدان من اليمن، وكانت(27/147)
ذو الكلاع اتخذوا بأرض حمير نسراً إلهاً يعبدونه من دون الله. وكانت قوم هود وهم عاد أصحاب أوثان، يعبدونها من دون الله اتخذوا أصناماً على مثال ود وسواع ويغوث ونسر، فاتخذوا صنماً، يقال له: صمود، وصنماً يقال له: الهبار، فبعث الله إليهم هوداً. فكان هود من قبيلة يقال لها: الخلود، وكان من أوسطهم نسباً، وأفضلهم موضعاً، وأشرفهم نفساً، وأصبحهم وجهاً، وكان في مثل أجسامهم، أبيض جعداً، بادي العنفقة، طويل اللحية، فدعاهم إلى الله، وأمرهم أن يوحدوا الله، ولا يجعلوا مع الله إلهاً غيره، وأن يكفوا عن ظلم الناس، لم يذكر أنه أمرهم بغير ذلك، ولم يدعهم إلى شريعة، ولا إلى صلاة، فأبوا ذلك وكذبوه " وقالوا من أشد منا قوة " فنزل الله " وكانوا بآياتنا يجحدون ". قال الله عز وجل: " وإلى عاد أخاهم هوداً " الآية. وكان هود من قومهم، ولم يكن أخاهم في الدين، " قال يا قوم اعبدوا الله "، يعني: وحدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، " ما لكم " يقول: ليس لكم " من إله غيره أفلا تتقون " يعني: فكيف لا تتقون؟ " واذكروا إذ جعلكم خلفاء " يعني: سكاناً في الأرض: " من بعد قوم نوح "، فكيف لا تعتبرون فتؤمنوا، وقد علمتم ما أنزل بقوم نوح من النقمة حين عصوه، واذكروا ما أتى إليكم " وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله "، يعني: هذه النعم " لعلكم تفلحون " وكانت منازلهم وجماعتهم حيث بعث الله هوداً فيهم بالأحقاف. والأحقاف: الرمل، ما بين عمان إلى حضرموت باليمن كله، وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها، وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله، يقول الله عز وجل: " واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف "، يعني:(27/148)
دكادك الرمل حيث منازلهم.
روى الزهري: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل ربه أن يريه رجلاً من قوم عاد، فأراه رجلاً رجلاه في المدينة ورأسه بذي الحليفة.
وعن يحيى بن يعلى قال: قال هود لقومه حين أظهروا عبادة الأوثان: يا قوم، إني بعثة الله إليكم، وزعيمه فيكم، فاتقوه بطاعته، وأطيعوه بتقواه، فإن المطيع لله يأخذ لنفسه من نفسه بطاعة الله للرضا، وإن العاصي لله يأخذ لنفسه من نفسه بمعصية الله للسخط، وإنكم من أهل الأرض، والأرض تحتاج إلى السماء، والسماء تستغني بما فيها، فأطيعوه تستطيبوا حياتكم، وتأمنوا ما بعدها، وإن الأرض العريضة تضيق عن التعرض لسخط الله.
وعن الضحاك قال: أمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين، وكانت الرياح عليهم من غير مطر ولا سحاب.
وعن جابر بن عبد الله قال: إذا أراد الله بقوم سوءاً حبس عنهم المطر، وحبس منهم كثرة الرياح. قال: فلبثوا بذلك ثلاث سنين لا يستغفرون الله، فقال لهم هود: " استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً "، يعني: برزق متتابع " ويزدكم قوة إلى قوتكم ". يعني: في الغنى والعدد " ولا تتولوا مجرمين "، فأبوا إلا تمادياً. فلما أصابهم الجهد أنفوا أن يطلبوا إلى هود أن يستسقي لهم، ونزل بهم البلاء، وجهدوا، فطلبوا إلى الله الفرج، وكان طلبتهم عند البيت الحرام، مسلمهم، ومشركهم، فتجمع بها ناس كثير مختلفة أديانها، وكلهم معظم لمكة، يعرف حرمتها ومكانتها من الله عز وجل.(27/149)
وعن ابن عباس قال:
كانوا إذا أتوا مكة - عظمها الله تعالى - ليسألوا الله عز وجل صعدوا الصفا ثم دعوا بحوائجهم، وسألوا الله تعالى، فيأتيهم بما سألوا. فانطلق وفد عاد فصعدوا الصفا، يقدمهم قيل بن عتر. فلما استووا على الصفا يريدون أن يسألوا، فقال قيل عاد حين دعا بإله هود: إن كان هود صادقاً فاسقنا، فإنا قد هلكنا، فإنا لم نأتك لمريض تشفيه، ولا لأسير فتفاديه، فأنشأ الله ثلاث سحابات بيضاء، وحمراء، وسوداء، وناداه مناد من السماء: يا قيل، اختر لنفسك وقومك من هذه السحابات، قال قيل: أما البيضاء فجفاء لا ماء فيها، وأما الحمراء فعارض، وأما السوداء فهي مطلخمة، وهي أكثر ماء، فقد اخترت السوداء. فناداه مناد فقال: اخترت رماداً رمدداً، لا تبقي من آل عاد أحداً، لا والداً تترك ولا ولداً، إلا جعلته همداً، إلا بنو اللوذية الغمدا - وإنما يعني الفهدا: السام، وبنو اللوذية: بنو لقيم بن هزال بن هويلة بنت بكر، وكانوا سكاناً بمكة مع إخوانهم، لم يكونوا مع عاد بأرضهم، فهم عاد الآخرة، ومن كان من نسلهم الذين بقوا من عاد - وساق الله السحابة التي اختار قيل بن عتر بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى تخرج عليهم من واد لهم يقال له: المغيث، وقيل: إن الوادي يقال له: الريان. كانوا إذا قحطوا فجاءتهم الريح من تلك الناحية مطروا. فلما رأوها جثلة من(27/150)
ناحية الريان، أو المغيث استبشروا بها، فقالوا: قد جاءنا وفدنا بالمطر قالوا لهود: أين ما كنت توعدنا؟ ما قولك إلا غرور " هذا عارض ممطرنا ". يقول الله عز وجل لهود: قل لهم " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها " أي: كل شيء مرت به. فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح امرأة يقال لها: مهد. فلما تبينت ما فيها صاحت، وصعقت، فلما أفاقت قيل: ماذا رأيت يا مهد؟ قالت: رأيت ريحاً، فيها كشهب النار، أمامها رجال يقودونها.
وروى العلماء: أن الريح التي سخرها الله على عاد الجنوب العقيم، وأنه إنما أرسل عليهم منها مثل حلقة الخاتم، ولو أرسل عليهم مثل منخر الثور ما تركت على ظهر الأرض شيئاً إلا أهلكته.
وعن الحارث بن حسان قال: مررت بعجوز بالربذة، منقطع بها من بني تميم، فقالت: أين تريدون، فقلنا: نريد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: فاحملوني معكم، فإن لي إليه حاجة. قال: فدخلت المسجد، فإذا هو غاص بالناس، وإذا راية سوداء تخفق، فقلت: ما شأن الناس اليوم؟ فقالوا: هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجهاً، فقلت: يا رسول الله، إن رأيت أن تجعل الدهناء حجازاً بيننا وبين تميم فافعل، فإنها كانت لنا خاصة، قال: فاستوفزت العجوز، وأخذتها الحمية، فقالت: يا رسول الله، أين يضطر مضطرك؟ قلت: يا رسول الله، حملت هذه، ولا أشعر أنها كائنة لي خصماً، قال: قلت: أعوذ بالله أن أكون كما قال الأول، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وماذا قال الأول؟ قال:(27/151)
على الخبير سقطت، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هيه، يستطعمه الحديث، قال: إن عاداً أرسلوا وافدهم قيلاً، فنزل على معاوية بن بكر شهراً، يشكر له الخمر التي شربها عنده. قال: فمرت سحابات سود، فنودي أن خذها رماداً رمدداً، لا تذر من عاد أحداً.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نصرت بالصبا، وأهلك عاد بالدبور، وما أرسلت عليهم إلا مثل الخاتم - وفي رواية: مثل فص الخاتم -، فمرت بأهل البادية فحماتهم ومواشيهم، فجعلتهم بين السماء والأرض. فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عاد الريح وما فيها " قالوا هذا عارض ممطرنا " فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أرسل الله سفياً من الريح إلا بمكيال، ولا قطرة ماء إلا بميزان، إلا يوم نوح وعاد، فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان، فلم يكن لهم عليه سلطان، ثم قرأ: " إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ". وإن الريح يوم عاد عتت على الخزان، ثم قرأ: " ريح صرصر عاتية ".
وقيل: إن الريح العقيم في الأرض السابعة.
وقال عطاء بن يسار: قلت لكعب: من ساكن الأرض الثانية؟ قال: الريح العقيم. لما أراد الله أن يهلك قوم عاد أوحى إلى خزنتها أن افتحوا منها بابا، قالوا: يا ربنا، مثل منخر الثور؟ قال: إذاً تكفأ الأرض بمن عليها. قال: ففتحوا منها مثل حلقة الخاتم.(27/152)
وقيل: لما أوحى الله إلى العقيم أن تخرج على قوم عاد، فينتقم له منهم، فخرجت بغير كيل على قدر منخر ثور حتى رجفت الأرض ما بين المشرق والمغرب، فقال الخزان: يا رب، لن نطيقها، ولو خرجت على حالها لأهلكت ما بين مشارق الأرض ومغاربها، فأوحى الله إليها أن ارجعي، فرجعت، على قدر خرق الخاتم، وهي الحلقة، فأوحى الله تعالى إلى هود أن يعتزل بمن معه من المؤمنين في حظيرة، فاعتزلوا، وخط عليهم خطاً، وأقبلت الريح، فكانت لا تدخل حظيرة هود، ولا تجاوز الخط، وإنما يدخل عليهم منها بقدر ما تلذ به أنفسهم، وتلين على الجلود، وإنها لتمر من عاد بالظعن فتحتمله بين السماء والأرض، فتدمغهم بالحجارة. وأوحى الله إلى الحيات والعقارب أن يأخذوا عليهم الطرق، فلم تعد غادياً يجاوزهم.
وعن مالك بن أنس قال: سئلت امرأة من بقية قوم عاد: أي عذاب الله رأيت أشد؟ قالت: كل عذاب شديد، وسلام الله ورحمته ليلة الريح فيها، قالت: ولقد رأيت العير تحملها الريح بين السماء والأرض.
قال الضحاك بن مزاحم: لما أهلك الله عاداً، ولم يبق منهم إلا هود والمؤمنون فتنجست الأرض من أجسادهم أرسل الله عليها دكادك الرمل، فرمستهم، فكان يسمع أنين الرجل من تحت الرمل من مسيرة يوم، فقال الله عز وجل لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية " يعني بالصرصر: الباردة، كانت تقع على الجلد فتحرقه برداً حتى ينكشط عن اللحم، ثم تصير اللحم كقطع النار " عاتية " يعني: عتت على الخزان، " سخرها عليهم " يعني أنه سلطها عليهم " سبع ليال وثمانية أيام حسوماً " هبت عليهم يوم الأربعاء غدوة، وسكنت يوم الأربعاء عشية " حسوماً ": متصلات، مستقبلات، مشؤومات " فترى القوم فيها صرعى " وذلك أنهم صفوا صفوفاً، وحفروا تحت أرجلهم إلى الركب، ورمسوها(27/153)
بالثرى كي لا تزيلهم الريح، فقالوا: " من أشد منا قوة " فأمهلهم الله ثمانية أيام ليعتبر عباده، فكانت الريح تعصفهم، وتضرب بعضهم بعضاً، ولا تلقيهم، فلما كان يوم الثامن دخلت من تحت أرجلهم، فاحتملتهم، فضربت بهم الأرض، فذلك قوله: " تنزع الناس " " كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ".
قال وهب بن منبه: هلكت عاد، فلم يبق على الأرض منهم أحد، وما أتت الريح على شيء من النبات والشجر إلا جعلته كالرميم. فكان الرجل منهم ستين ذراعاً، وكانت هامة الرجل مثل القبة العظيمة، وكانت عين الرجل ليفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم. وكان أول من عذب الله من الأمم قوم نوح ثم عاد ثم ثمود، فكانوا هؤلاء أول من كذب المرسلين. يقول الله عز وجل: " كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون " قال: ومن بعد قوم نوح " كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون " قال: ومن بعد عاد " كذبت ثمود المرسلين " وقال عز وجل: " كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ".
حدث عبد الله قال: ذكر الأنبياء عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما ذكر هود قال: ذاك خليل الله.(27/154)
قال الخضر بن محمد بن شجاع الحراني: أتينا عبد الله بن المبارك بالكوفة، فأتاه رجل فقال: أرأيت الرجل يدعو، يبدأ بنفسه؟ فقال: روينا إلى ابن عباس أنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يرحمنا الله وأخا عاد.
وروى أبي بن كعب عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رحمة الله علينا، وعلى أخي موسى. في قصة الخضر.
وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ذكر الأنبياء بدأ بنفسه، فقال: رحمة الله علينا وعلى هود وصالح.
وعن أبي العالية في قوله عز وجل: " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل " نوح وهود وإبراهيم، فأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصبر كما صبر هؤلاء. وكانوا ثلاثة، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رابعهم عليه السلام ورحمة الله: قال نوح: " يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله " إلى آخرها، فأظهر لهم المفارقة. وقال هود حين قالوا: " إن تقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون " فأظهر لهم المفارقة. وقال لإبراهيم: " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم " إلى آخر الآية، فأظهر لهم المفارقة. وقال محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله " فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الكعبة، فقرأها على المشركين، فأظهر لهم المفارقة.(27/155)
وعن ابن عباس قال: حج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما آتى وادي عسفان قال: يا أبا بكر، أي واد هذا؟ قال: هذا عسفان، قال: لقد مر بهذا الوادي نوح وهود وإبراهيم صلوات الله عليهم، على بكرات لهم، حمر، خطمهن الليف، أزرهم العباء، وأرديتهم النمار، يحجون البيت العتيق.
وعن عروة بن الزبير أنه قال: ما من نبي إلا وقد حج البيت إلا ما كان من هود وصالح. ولقد حجه نوح. فلما كان في الأرض ما كان من الغرق أصاب البيت ما أصاب الأرض، وكان البيت ربوة حمراء، فبعث الله هوداً، فتشاغل بأمر قومه حتى قبضه الله إليه، فلم يحجه حتى مات. ثم بعث الله صالحاً، فتشاغل بأمر قومه حتى قبضه الله إليه، فلم يحجه حتى مات. فلما بوأه الله لإبراهيم حجه. ثم لم يبق نبي بعده إلا حجه.
وعن عثمان بن أبي العاتكة قال: قبلة مسجد دمشق قبر هود النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن ابن سابط قال: بين المقام والركن وزمزم قبر تسعة وسبعين نبياً، وإن قبر هود، وشعيب، وصالح، وإسماعيل في تلك البقعة.
وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مكة لا يسكنها سافك دم، ولا تاجر بربا، ولا مشاء بنميمة. قال: ودحيت الأرض من مكة، وكانت الملائكة تطوف بالبيت، وهي أول من طاف به. وهي الأرض التي قال الله: " إني جاعل في الأرض خليفةً ". وكان النبي من الأنبياء إذا هلك قومه،(27/156)
فنجا هو والصالحون معه أتاها بمن معه، فيعبدون الله حتى يموتوا فيها. وإن قبر نوح، وهود، وشعيب، وصالح بين زمزم وبين الركن والمقام.
قال عثمان ومقاتل: في المسجد الحرام بين زمزم والركن قبر تسعين نبياً منهم هود، وصالح، وإسماعيل. وقبر آدم، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف في بيت المقدس.
وعن علي أنه قال لرجل من حضرموت: أرأيت كثيباً أحمر تخالطه المدرة الحمراء بذي أراك وسدر، كثير ماء، حبه كذا وكذا بين أرض حضرموت، هل رأيته؟ قال: نعم والله إنك لنعت نعت رجل رآه، قال: لا، ولكني حدثت عنه، وفيه قبر هود صلوات الله عليه وسلم، عند رأسه شجرة، إما سلم، وإما سدرة.
قال إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة: ما يعلم قبر نبي من الأنبياء إلا ثلاثة: قبر إسماعيل، فإنه تحت الميزاب بين الركن والبيت، وقبر هود، فإنه في حقف تحت جبل من جبال اليمن، عليه شجرة تندى وموضعه أشد الأرض خيراً، وقبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فإن هذه قبورهم بحق. وقيل: إن هوداً عمر مئة وخمسين سنة.
هود بن عطاء يمامي وقع إلى الشام
حدث عن أنس بن مالك عن أبي بكر قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ضرب المصلين.(27/157)
وحدث عن أنس قال: كان في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل يعجبنا تعبده واجتهاده، فذكرناه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسمه، فلم يعرفه، ووصفناه بصفته، فلم يعرفه، فبينا نحن نذكره إذ طلع الرجل، قلنا: هوذا، قال: إنكم لتخبرون عن رجل إن على وجهه سفعة من الشيطان، فأقبل حتى وقف عليهم، ولم يسلم، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنشدك بالله، هل قلت حين وقفت على المجلس: ما في القوم أحد أفضل - أو خير - مني؟ قال: اللهم، نعم، ثم دخل يصلي، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يقتل الرجل؟ فقال أبو بكر: أنا، فدخل عليه، فوجده يصلي، فقال: سبحان الله، أقتل رجلاً يصلي، وقد نهى رسول الله صلى الله عليهم وسلم عن ضرب المصلين؟ فخرج، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما فعلت؟ قال: كرهت أن أقتله، وهو يصلي، وقد نهيت عن ضرب المصلين. قال: من يقتل الرجل؟ قال عمر: أنا، فدخل، فوجده واضعاً وجهه، قال عمر: أبو بكر أفضل مني، فخرج، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مه؟ قال: وجدته واضعاً وجهه لله، فكرهت أن أقتله، قال: من يقتل الرجل؟ فقال علي: أنا، قال: أنت إن أدركته، فدخل عليه فوجده قد خرج، فرجع إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: مه؟ قال: وجدته قد خرج، فقال: لو قتل ما اختلف من أمتي رجلان كان أولهم وآخرهم.
قال محمد بن كعب: هو الذي قتله علي ذو الثدية.
هوذة
شهد بدراً مع المشركين، وأسلم بعد ذلك، ووفد على معاوية، روى الشعر.
قال: قدم على معاوية رجل يقال له: هوذة، فقال له معاوية: هل شهدت(27/158)
بدراً؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، علي، لا لي، قال: فكم أتى عليك؟ قال: أنا يومئذ قمد قمدود، مثل الصفا والجلمود، كأني أنظر إليهم، وقد صفوا لنا صفاً طويلاً، وكأني أنظر إلى بريق سيوفهم كشعاع الشمس من خلال السحاب، فما أشفقت حتى غشيتنا عادية القوم، في أوائلهم علي بن أبي طالب، ليثاً، عبقرياً، يفري الفريا، وهو يقول: لن يأكلوا التمر ببطن مكة، لن يأكلوا التمر ببطن مكة، يتبعه حمزة بن عبد المطلب، في صدره ريشة بيضاء، قد أعلم بها، كأنه جمل يخطم بنساء، فرغت عنهما، وأحالا على حنظلة - يعني أخا معاوية - عمل ولا كفران لله زلت، فليت شعري متى أرحت، يا هوذة؟ قال: والله يا أمير المؤمنين، ما أرحت حتى نظرت إلى الهضبات من أرثد، فقلت: ليت شعري، ما فعل حنظلة؟ فقال له معاوية: أنت بذكرك لحنظلة كذكر الغني أخاه الفقير، فإنه لا يكاد يذكره إلا وسنان أو متواسناً.
قالوا: ولا يصح لهوذة صحبة، لأن إسلامه كان بعد وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هلال بن ضيغم السلامي
قال الوليد: غزا صالح بن علي سنة ثلاث وأربعين ومئة بمن معه من أهل خراسان، ووجه هلال بن ضغيم السلامي - من أهل دمشق - في جماعة من أهل دمشق، فبنوا على جسر سيحان حصن أذنة.(27/159)
هلال بن سراج بن مجاعة
ابن مرارة بن سلمى بن زيد بن عبيد الحنفي اليمامي وفد على عمر بن عبد العزيز في خلافته.
حدث عن أبيه قال: أعطى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجاعة بن مرارة أرضاً باليمامة يقال لها: الفورة. قال: وكتب له بذلك كتاباً: من محمد رسول الله للمجاعة بن مرارة، من بني سلمى، إني أعطيته الفورة، فمن حاجه فيها فليأتني. وكتب يزيد.
وحدث هلال بن سراج عن أبيه عن جده مجاعة، أنه أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلب دية أخيه، قتله بنو سدوس بن ذهل، فأخذ من ذلك طائفة، وأسلمت بنو سدوس، فجاؤوا إلى بكر بكتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكتب له(27/160)
باثني عشر ألف صاع من صدقة اليمامة: أربعة قمح، وأربعة تمر، وأربعة شعير. وكان في كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمجاعة: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمجاعة بن مرارة من بني سلمى بن زيد، إني قد أعطيته مئة من الإبل، من أول خمس يخرج من مشركي بني سدوس بن ذهل عقبة من أخيه. قالوا: ثم إن هلال بن سراج وفد إلى عمر بن عبد العزيز بكتاب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدما استخلف عمر، فأخذه فقبله، ووضعه على عينيه، ومسح به وجهه رجاء أن يصيب وجهه موضع يد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي حديث عمر بن عبد العزيز أنه قال لهلال بن سراج بن مجاعة: يا هلال، هل بقي من كهول بني مجاعة أحد؟ قال: نعم، وشكير كثير، فضحك عمر، وقال: كلمة عربية. وقوله: شكير كثير يريد أن فيهم أخداناً. وأصل الشكير: الورق الصغار ينبت في أصول الكبيرات، وهو أيضاً النبت أول ما يطلع. يقال: بدا شكير النبت: أي شيء قليل، دقيق، وكذلك هو من الشعر والوبر والصوف. وإذا شاخ الرجل دق شعره ولان وصار كالشكير. والشكير في الشجر ورق يخرج في أصل الشجرة، وقد يستعار الشكير فيسمى به صغار الأشياء. قال الراعي يذكر إبلاً:
حتى إذا خشيت تبقي طرقها ... وأبى الرعاء شكيرها المنخولا
يريد أخذ العمال السمان، ورد الرعاء الصغار التي قد تنحل ما فيها.(27/161)
هلال بن عبد الأعلى
ولاه عمر بن عبد العزيز قنسرين. فلما دخل عليه ليودعه قال: يا هلال، اغد علينا الغداة. فغدا عليه، فدخل ودخلت معه وبين يدي عمر المصحف يقرأ فيه. فلما سلم قال: أغدوت مودعاً؟ قال: نعم، قال: إني موصيك، فاتق الله يكفك، وخف الله يخف منك سواه، وآثر الحق، واعمل به، وإذا ورد عليك مني أمر وافق الحق فأنفذه، وإذا ورد عليك منا أمر رأيت الحق في غيره فاكتب إلينا فيه، فنعقب ما رأيت، فإن كان ما رأيت حقاً أمرناك فأنفذته، وإن كان الحق في غيره كتبنا إليك، فانتهيت إليه. وهذا النبطي - وأشار إلى رجل في الدار - فقال: ما له يا أمير المؤمنين؟ قال: استوص به، قال: يا أمير المؤمنين، أصغ عنه الجزية؟ قال: لا، إن الله جعل الجزية على من انحرفعن القبلة، ورضي بالذلة، قال: يا أمير المؤمنين، أستعين به؟ قال: لا، قال: يا أمير المؤمنين، فإن نازع إلى أحد أو خاصمه، أميل إليه، أو أحنق له؟ قال: لا، قال: فما تنفعه وصيتك فيه، فخفض له عمر القول ثم قال له: ويحك يا هلال! إن الوالي إذا شاء عدل وأحسن، وإذا شاء عدل وأساء.
هلال بن عبد الرحمن القرشي
مولاهم المصري ووفد على عمر بن عبد العزيز.
قال هلال: بعثني حيان بن سريج إلى عمر بن عبد العزيز، وكتب معي في سبقه للخيل، فالتفت عمر إلى عراك بن مالك، فقال: يا عراك، هل سبق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخيل؟ قال: قد أجراها، قال: هل علمت أنه جعل له سبقاً؟ قال: لا، قال عمر: أو لست أعلم الناس بأصحاب الخيل، ينطلقون إلى صبيان صغار فيحملونهم على خيل مضمرة قد اعترمت رؤوسها، ثم يسرحونها، فمنهم من يخر فيموت، ومنهم من تنكسر يده، فإن(27/162)
كانت بهم حاجة أن يجروا خيولهم فيجروها، أي بأنفسهم، ثم قال: يا عراك، أترى إجراءها من اللهو؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، قال: أفأنا كنت أنفق مال الله عز وجل في اللهو؟ فقطع السبقة عنهم.
هلال أبو طعمة
مولى عمر بن عبد العزيز حدث عن ابن عمر قال: لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها.
وحدث هلال عن عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن حعفر قال: علمتني أمي أسماء بنة عميس شيئاً أمرها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تقوله عند الكرب: الله ربي، لا أشرك به شيئاً.
وفي رواية: الله الله ربي، لا أشرك به شيئاً.
وفي رواية بسنده إلى عبد الله بن جعفر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول عند الكرب: الله الله ربي، لا شريك له.
وفي حديث عن عمر بن عبد العزيز قال: جمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل بيته فقال: إذا أصاب أحدكم هم أو حزن فليقل سبع مرات: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً.
وفي رواية عن أسماء بنت عميس قالت: جمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهله فقال: إذا نزل بأحدكم غم أو هم أو سقم أو لأواء أو أزل فليقل: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً. ثلاث مرات.(27/163)
هياج بن عبيد بن الحسين
ويقال: ابن عبيد الله - بن الحسن، أبو محمد الفقيه الحطيني من أهل قرية حطين، قرية بين أرسوف وقيسارية.
حدث هياج بن عبيد عن أبي القاسم عبد العزيز بن علي بن أحمد بن الفضل بالعراق بسنده إلى أنس بن مالك قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو: اللهم، إني أعوذ بك من الكسل، والهرم، والجبن، والبخل، وفتنة الدجال، وعذاب القبر.
وحدث هياج عن أبي ذر عبد بن أحمد بن محمد بن عفير الهروي بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً " وقال: " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ". ثم ذكر الرجل يطيل السفر،(27/164)
أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟ قال أبو العز المبارك بن الحسن بن إبراهيم الديلمي: إنه رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فسأله: أي موضع يقيم به، فقال: مكة، قال: فقلت: لمن أذاكر بها؟ قال: الهياج، فإنه رجل صالح.
وكان هياج أوحد عصره في الزهد والورع. كان يصوم ويفطر بعد ثلاث، ويعتمر كل يوم ثلاث عمر، ويدرس عدة من الدروس، ولم يكن يدخر شيئاً، ولا يملك غير ثوب واحد، ونيف على الثمانين، يزور رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل سنة ماشياً حافياً، وكذلك عبد الله بن عباس بالطائف. وكان يأكل بمكة أكلة، ويأكل بالطائف أخرى. وشكا إليه بعض أصحابه أن نعله سرقت في الطواف، فقال: يجب أن تتخذ نعلاً لا تسرق، لأنه رحمه الله منذ دخل الحرم لم يلبس نعلاً.
استشهد بمكة في وقعة وقعت بين أهل السنة والرافضة، فحمله أميرها محمد بن أبي هاشم، وضربه ضرباً شديداً على كبر السن ثم حمل إلى منزله بمكة، فمات في سنة اثنتين وسبعين وأربع مئة. وقيل: إنه أقام بالحرم نحو أربعين سنة لم يحدث في الحرم، وإنما كان يحدث في الحل حين يخرج للإحرام بالعمرة.
وقيل: توفي هياج سنة أربع وسبعين وأربع مئة، ودفن جانب قبر الفضيل بن عياض.
الهيثم بن أحمد بن محمد بن مسلمة
أبو الفرج القرشي الفقيه الشافعي المقرئ، المعروف بابن الصباغ حدث عن أبي منصور محمد بن زريق بن إسماعيل بن زريق البلدي بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو يعلمون ما في شهود العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً.(27/165)
وحدث عن جمح بن القاسم بسنده: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكبر في العيدين سبعا، وخمساً قبل القراءة. توفي أبو الفرج الصباغ سنة ثلاث وأربع مئة.
الهيثم بن الأسود بن أقيش
ابن معاوية بن سفيان بن هلال بن عمرو، أبو العريان النخعي المذحجي الكوفي، قدم دمشق.
حدث عن عبد الله بن عمرو في قوله: " فمن تصدق به فهو كفارة له " قال: يهدم عنه مثل ذلك من ذنوبه.
قال الهيثم: أتيت معاوية، ومعه على السرير رجل في وجهه غضون، فقال: من أي بلد أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قال: إن أرضك أرض يقال لها: دوثى، ذات نخل وسباخ؟ قلت: نعم، فقال: منها يخرج الدجال.
قال الرجل - أحد رواته -: إن الذي كان معه على سريره: عبد الله بن عمرو بن العاص.
وعن الهيثم: أن عبيد الله بن زياد وجهه إلى يزيد بن معاوية في حاجة، فدخل، فإذا خارجي بين يدي يزيد يخاطبه، فقال له الخارجي في بعض ما يقول: أنا سفي، فقال: والله لأقتلنك، فرآه محركاً شفتيه، فقال: يا حرسي، ما يقول؟ قال: يقول:(27/166)
عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كل يوم في خليفته أمر
قال: أخرجاه، فاضربا عنقه. ودخل الهيثم بن الأسود، فقال: ما هذا؟ فأخبر، قال: كفا عنه قليلاً، قال: يا أمير المؤمنين، هب مجرم قوم لوافدهم، قال: هو لك، فأخذ الهيثم بيده، فأخرجه، والخارجي يقول: الحمد لله على أنعامه، تألى على الله فأكذبه، وغالب الله فغلبه.
شهد أبوه الأسود بن أقيش القادسية، وقتل يومئذ، وكان الهيثم معه من خيار التابعين.
قال عبد الملك بن مروان للهيثم بن الأسود: ما مالك؟ قال: الغنى عن الناس، والبلغة الجميلة، فقيل له: لم لم تخبره بحاجتك؟ قال: إن أخبرته أني غني حسدني، وإن أخبرته أني فقير حقرني.
قال الشعبي: قلت للهيثم بن الأسود: أي الثلاثة أشعر منك ومن الأعور الشني وعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، حيث تقول أنت:(27/167)
وأعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا زال مال المرء فهو ذليل
وأن لسان المرء ما لم تكن له ... حصاةً على عوراته لدليل
أم الأعور الشني حيث يقول:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فهل بعد إلا صورة اللحم والدم
وكائن ترى من ساكت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم
أم عبد الرحمن بن حسان حيث يقول:
ترى المرء مخلوقاً وللعين حظها ... وليس بأحناء الأمور بخابر
وذاك كما البحر لست مسيغه ... ويعجب منه ساجياً كل ناظر
الساجي: الساكن.
فقال الهيثم: هيهات، الأعور أشعرنا.
قال العريان بن هيثم: بعث المختار بن أبي عبيد إلى الهيثم بن الأسود، فركب إليه، وركبت معه، فأذن لأبي فدخل، ولم يلبث أن خرج، فقلت: يا أبه، ما الذي سألك عنه المختار؟ قال: يا بني، بينا أنا وهو نطوف بالكعبة إذ قال: ما يشاء رجل طريف مثلي أو مثلك يأكل الناس يحب أهل هذا البيت إلا فعل. فلما دخلت عليه قال: تذكر حديثاً تذاكرناه ونحن نطوف بالكعبة؟ قلت: نعم، قال: هل ذكرته لأحد؟ قلت: لا، قال: فانصرف راشداً، وإياك وذكره.
قال عبد الملك بن عمير: دخلوا على أبي العريان يعودونه، فقالوا: كيف تجدك؟ قال: أجدني ابيض مني(27/168)
ما كنت أحب أن يسود، واسود مني ما كنت أحب أن يبيض، ولان مني ما كنت أحب أن يشتد، واشتد مني ما كنت أحب أن يلين:
ألا أخبركم بآيات الكبر ... تقارب الخطو وسوء في البصر
وقلة الظعم إذا الزاد حضر ... وقلة النوم إذا الليل اعتكر
وكثرة النسيان فيما يذكر ... وتركي الحسناء في قيل الظهر
والناس يبلون كما تبلى الشجر
ألا أخبركم بجيد العنب؟ ما روي عموده، واخضر عوده، وتفرق عنقوده، ألا أخبركم بجيد الرطب؟ ما كثر لحاه، وصغر نواه، ورق سحاه
الهيثم بن حميد، أبو أحمد
ويقال: أبو الحارث - الغساني، مولاهم حدث عن زيد بن واقد بسنده إلى أبي الدرداء قال: أفاء الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبلاً، ففرقها، فقال: فقال: أبو موسى الأشعري: يا رسول الله، أجدني، فقال ثلاثاً، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا أفعل، قال: وبقي أربع غر الذرى، فقال: خذهن يا أبا موسى، فقال:، إني استجديتك، فمنعتني، وحلفت، فأشفقت أن يكون دخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم، فقال: إني إذا حلفت، ورأيت أن غير ذلك أفضل كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو أفضل.
وحدث الهيثم عن العلاء بن الحارث بسنده إلى أم حبيبة أم المؤمنين أنها سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من مس فرجه فليتوضأ.
وثقه قوم، وقال قوم: إنه كان ضعيفاً، قدرياً.(27/169)
الهيثم بن خارجة أبو أحمد
ويقال: أبو يحيى الخراساني ثم البغدادي حدث عن يحيى بن حمزة بسنده إلى ثوبان قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أصلح هذا اللحم، فأصلحته. فلم يزل يأكل منه حتى بلغ المدينة.
وحدث عن مالك بن أنس بسنده إلى عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفرد للحج.
توفي سنة سبع وعشرين - أو ثمان وعشرين - ومئتين. وقيل: سنة تسع وعشرين ومئتين. وكان يتزهد.
الهيثم بن رياب
وفد على معاوية، ودخل هو والأحنف بن قيس عليه، والهيثم ملتف بعباء، فازدراه معاوية، فلم يملأ عينيه منه، فقال الهيثم: يا أمير المؤمنين، ليس العباء يكلمك، ولكن من فيها، فقربه إليه، وقال للأحنف: مه، فقال: يا أمير المؤمنين، قصدنا إليك نعرفك أحوالنا: إن أهل العراق يسير، وعظمهم كسير، وماؤهم زعاق، وأرضهم سبخة، فإن رأى أمير المؤمنين، أن يطيب شربهم، ويجبر كسرهم، ويكثر جمعهم، ويحفر لهم نهر يستعذبون به، فقال: ارتفع يا أبا بحر، ورفعه إلى قربه، وقضى حوائجه.
الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن
ابن زيد بن أسيد بن جابر بن عدي بن خالد، أبو عبد الرحمن الطائي البحتري كوفي، قدم دمشق.(27/170)
حدث عن الأعمش بسنده إلى عمرو بن الحمق عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أمن رجلاً على نفسه فقتله، فأنا بريء من القاتل، وولي المقتول.
وحدث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تقرن التمرتان في الأكلة، وأن تفتش التمرة عما فيها.
وحدث عن مجالد عن الشعبي قال: سألت ابن عباس أي الناس كان أول إسلاماً؟ فقال: أبو بكر الصديق. ألم تسمع قول حسان يومئذ:
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... إلا النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا
قال يحيى بن معين: هذا الحديث بهذا السند باطل. والهيثم ليس بثقة. وجد بخط أبي العباس أحمد بن جعفر بن محمد بن حماد في آخر كتاب الدولة للهيثم بن عدي:
إن الصلاة على النبي محمد ... وعلى الصحابة رحمة وسلام
لا توجبن لرافضي حرمة ... إيجاب رحمته عليك حرام
قال يحيى بن معين: الهيثم ليس بثقة، كان يكذب.
قالت جارية للهيثم: كان مولاي يقوم عامة الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب.
صار أبو نواس إلى مجلس الهيثم بن عدي، فجلس والهيثم لا يعرفه، فلم يستدنه، ولو يقرب مجلسه، فقام، وتبين الهيثم في وجهه الغضب، فسأل عنه، فأخبر به، فقال: إنا لله، هذه بلية لم أجنها على نفسي، قوموا بنا إليه لنعتذر، فصار إليه، فدق الباب،(27/171)
وتسمى له، فقال: ادخل، فدخل، وهو قاعد، يصفي نبيذاً، وقد أصلح بيته بما يصلح به مثله، فقال: المعذرة إلى الله، وإليك، لا والله ما عرفتك، وما الذنب إلا لك حين لم تعرفنا بنفسك، فنقضي حقك، ونبلغ الواجب من برك، فأظهر له قبول العذر، فقال له الهيثم: أستعهدك من قول يسبق منك في، فقال: ما قد مضى فلا حيلة فيه، ولك المان فيما يستأنف، قال: وما الذي مضى جعلت فداك؟ قال: بيت مر، وأنا فيما ترى، قال: فتنشدنيه؟ فدافعه، فألح عليه، فأنشده:
إذا نسبت عدياً في بني ثعل ... فقدم الدال قبل العين في النسب.
وأنشد أبو شبل لأبي نواس في الهيثم تمام هذه الأبيات:
للهيثم بن عدي في تلونه ... في كل يوم له رحل على خشب
فما يزال أخا حل ومرتحلاً ... إلى الموالي وأحياناً إلى العرب
له لسان يزجيه بجهوره ... كأنه لم يزل يغدى على قتب
لله أنت فما قربى تهم بها ... إلا اجتلبت لها الأنساب من كثب
فعاد إليه الهيثم لما بلغته الأبيات، فقال: يا سبحان الله! أليس قد جعلت لي عهداً ألا تهجوني؟ فقال: " وأنهم يقولون ما لا يفعلون ".
توفي الهيثم بن عدي سنة ست ومئتين. وقيل: سنة سبع ومئتين.
الهيثم بن عمران بن عبد الله
ابن جرول أبي عبد الله، أبو الحكم العبسي حدث عن جده عبد الله بن أبي عبد الله قال: حل ببني إسرائيل بلاء مرة، فاجتمعوا في مجمع لهم، فقالوا لرجل من عظمائهم: قم،(27/172)
فادع لنا ربك، فقام: اللهم، يا رب، إنك أنزلت في التوراة التي أنزلت على موسى تأمرنا إذا ملكنا العبد أن نعتقه، وإنا عبيدك، فأعتقنا مما حل بنا. ثم قالوا لآخر: قم، فقام، فقال: اللهم، أي رب، إنك انزلت في التوراة التي انزلت على موسى أن نعفو عمن ظلمنا، وإنا قد ظلمنا أنفسنا، فاعف عنا. ثم قالوا لآخر: قم، فقام، فقال: اللهم، أي رب، إنك أنزلت في التوراة التي أنزلت على موسى تأمر إذا قام المسكين على أبوابنا ألا نرده، وإنا مساكينك، قد قمنا اليوم على بابك فلا تردنا.
توفي الهيثم بن عمران سنة تسع وتسعين ومئة.
الهيثم بن مروان بن الهيثم بن عمران أبو الحكم العنسي
حدث عن محمد بن عيسى بن القاسم بن سميع بسنده إلى عائشة رضوان الله عليها قالت: لو أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم ما يحدث للنساء من بعده لمنعهن من إتيان المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل، فقلت لها: يا أم المؤمنين، ومنعت نساء بني إسرائيل المساجد؟ قالت: نعم.
وحدث عنه بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اليهود والنصارى لا تصبغ فخالفوهم.
وحدث عن مروان بن محمد بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان شيء أبغض إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكذب، وما جرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أحد كذباً فرجع إليه ما كان يعرف منه حتى كان يظهر منه توبة.(27/173)
أسماء النساء على حرف الهاء
هجيمة ويقال جهيمة بنت حيي
ويقال: حي - الأوصابية - ويقال: الوصابية، أم الدرداء، زوج أبي الدرداء صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأوصاب بطن من حمير، حي من اليمن، كانت زاهدة فقيهة.
حدثت عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أصبح معافى بدنه، آمناً سربه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدني. يا بن جعشم، يكفيك منها ما سد جوعك، ووارى عورتك، وإن كان ثوباً يواريك فذاك، وإن كانت دابة تركبها فبخ. فلق الخبز، وماء الجر. وما فوق ذلك حساب عليك.
قال أحمد بن حنبل: أم الدرداء الصغرى هجيمة، والكبرى خيرة بنت أبي حدرد. وهجيمة أشعرية، وهما جميعاً كانتا تحت أبي الدرداء. وكانت أم الدرداء يتيمة في حجر أبي الدرداء، تختلف مع أبي الدرداء في برنس تصلي في صفوف الرجال، وتجلس في حلق القرآن تعلم القرآن حتى قال أبو الدرداء يوماً: الحقي بصفوف النساء.
قال إبراهيم بن أدهم: قال أبو الدرداء لأم الدرداء: إذا غضبت أرضيتك، وإذا غضبت فأرضيني، فإنك(27/174)
إن لم تفعلي ذلك فما أسرع أن نفترق، ثم قال إبراهيم بن أدهم لبقية بن الوليد - وكان يؤاخيه - يا أخي، هكذا الإخوان إن لم يكونوا كذا ما أسرع ما يفترقون.
وعن أم الدرداء أنها قالت: اللهم، إن أبا الدرداء خطبني، فتزوجني في الدنيا، اللهم، فأنا أخطبه إليك، فأسألك أن تزوجنيه في الجنة. فقال لها أبو الدرداء: فإن أردت ذلك فكنت أنا الأول، فلا تتزوجي بعدي. فمات أبو الدرداء - وكان لها جمال وحسن - فخطبها معاوية، فقالت: لا والله لا أتزوج زوجاً في الدنيا حتى أتزوج أبا الدرداء إن شاء الله في الجنة.
زاد في حديث آخر: وقال عليك بالصيام، فإنه محسمة.
خطب معاوية أم الدرداء فقالت: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " المرأة للآخر من أزواجها "، وإني سألت أبا الدرداء يسأل الله أن يجعلني زوجته في الجنة فقال: ذلك إن لم تحدثي بعدي زوجاً.
وفي حديث آخر: فقال لها معاوية: ما الذي تكرهين مني؟ فقالت: لأني سمعت عويمراً - تعني: أبا الدرداء - وهو يقول: إن المرأة لآخر زوجها، قالت: فقلت له: فلي الله عليك إن اجتهدت بعدك في العبادة ثم مت، فدخلت الجنة، فعرضت عليك لتقبلني، فقال: نعم.
وفي حديث آخر: " إن المرأة لآخر أزواجها "، ولست أريد بأبي الدرداء بدلاً. وعن أم الدرداء قالت: قال لي أبو الدرداء: لا تسألي أحداً شيئاً، فقلت: إن احتجت؟ قال: تتبعي الحصادين، فانظري ما يسقط منهم، فخذيه، فاخبطيه، ثم اطحنيه، ثم اعجنيه، ثم كليه. ولا تسألي أحداً شيئاً.(27/175)
قال مكحول: كانت أم الدرداء تجلس في صلاتها جلسة الرجل، وكانت فقيهة.
قال عون بن عبد الله: جلسنا إلى أم الدرداء فقلنا لها: أمللناك، فقالت: أمللتموني! لقد طلبت العبادة في كل شيء، فما أصبت شيئاً أشفى من مجالسة العلماء ومذاكرتهم، ثم احتبت، وأمرت رجلاً أن يقرأ، فقرأ: " ولقد وصلنا لهم القول ".
وفي رواية: فاتكأت ذات يوم، فقيل لها: لعلنا أن نكون قد أمللناك، فجلست، فقالت: أزعمتم أنكم أمللتموني! وقد طلبت العبادة بكل شيء، فما وجدت شيئاً أشفى لصدري، ولا أحرى أن أدرك ما أريد من مجالسة أهل الذكر. ويروى: من مجالسة الذكر.
وكانت أم الدرداء تقول: أفضل العلم المعرفة.
وعن عبد ربه بن سليمان بن عمير بن زيتون قال: كتبت لي أم الدرداء في لوحتي فيما تعلمني: تعلموا الحكمة صغاراً تعملوا بها كباراً. وإن كل زارع حاصد، ما زرع من خير أو شر.
قال ابن أبي السائب: سمعت أبي يذكر أن أم الدرداء كانت تشرق إذا قرأت. قال ميمون: دخلت على أم الدرداء فرأيتها مختمرة بخمار صفيق، قد ضربت على(27/176)
حاجبها، وكان فيه قصر، فوصلته بسير. قال: وما دخلت عليها في ساعة صلاة إلا وجدتها مصلية. وكان النساء يتعبدن مع أم الدرداء، فإذا ضعفن عن القيام في سلاتهن تعلقن بالحبال. قال إبراهيم بن أبي عبلة: رأيت أم الدرداء جالسة مع نساء المساكين في بيت المقدس، فجاء إنسان، فقسم بينهن فلوساً، فأعطى أم الدرداء فلساً، فقالت لجاريتها: اشتري لنا بهذا جروزاً، فقالت: أوليس صدقة؟ قالت: إنه إنما جاءنا عن غير مسألة.
الجروز: البقل.
وعن أم الدرداء قالت: إن أحدهم يقول: اللهم، ارزقني، وقد علم أن الله لا يمطر عليه ديناراً ولا درهماً، وبعضهم - يعني - يرزق من بعض، فإذا أتى أحدكم شيء فليقبل، فإن كان غنياً عنه فليضعه في ذي الحاجة من إخوانه، وإن كان إليه محتاجاً فليستعن به على حاجته، ولا يرد على الله تعالى رزقه الذي رزقه.
وعن أم الدرداء قالت: ولذكر الله أكبر، فإن صليت فهو من ذكر الله، وإن صمت فهو من ذكر الله، وكل خير تعمله فهو من ذكر الله، وكل شيء تحسنه فهو من ذكر الله، وكل شيء تحسنه فهو من ذكر الله، وأفضل ذلك تسبيح الله عز وجل.(27/177)
قال ابن أبي زكريا الخزاعي: خرجنا مع أم الدرداء في سفر، فصحبنا رجل، فقالت له أم الدرداء: ما يمنعك أن تقرأ، أو تذكر الله كما يصنع أصحابك؟! فقال: ما معي من القرآن إلا سورة، وقد رددتها حتى قد أدبرتها. فقالت: وإن القرآن ليدبر؟! ما أنا بالتي أصحبك، إن شئت أن تتقدم، وإن شئت أن تتأخر. فضرب دابته، وانطلق. ثم صحبنا رجل آخر، فقال: يا أم الدرداء، دعاء كان يدعو به: اللهم، اجعلني أرجو رحمتك، وأخاف عذابك، إذ يأمنك من لا يرجو رحمتك، ولا يخاف عذابك، وأسألك الأمن يوم يخافون، فقالت لي أم الدرداء: اكتبه، فكتبته.
جاء رجل إلى أم الدرداء فقال لها: إنه قد نال منك رجل عند عبد الملك، فقالت: إن نؤبن بما فينا فطالما زكينا بما ليس فينا. وكانت أم الدرداء تصلي وهي جالسة متربعة.
قال سفيان: عوتبت أم الدرداء في شيء، فقيل لها: لم فعلت كذا وكذا؟ قالت: نقص الناس فنقصت كما نقصوا.
قال إسماعيل بن عبيد الله: قالت لي أم الدرداء: يا بني، ما يقول الناس في الحارث الكذاب؟ قال إسماعيل: يا أمه، يزعمون أنك قد بايعته. قال: فلم تسل أم الدرداء من الذي قال لئلا يكون في صدرها غل لأحد.
قال عثمان بن حيان: أكلنا مع أم الدرداء طعاماً، فأغفلنا الحمد لله، فقالت: يا بني، لا تدعوا أن تأدموا طعامكم بذكر الله، أكلاً وحمداً خير من أكل وصمت.(27/178)
قال هزان: قالت لي أم الدرداء: يا هزان، ألا أحدثك ما يقول الميت إذا وضع على سريره؟ قال: قلت: بلى، قالت: فإنه ينادي: يا أهلاه، يا جيراناه، يا حملة سريراه، لا تغرنكم الدنيا كما غرتني، ولا تلعبن بكم كما تلعبت بي، فإن أهلي لم يحملوا عني من وزري شيئاً، ولو حاجوني اليوم عند الجبار لحجوني. ثم قالت أم الدرداء: الدنيا أسحر لقلب العبد من هاروت وماروت، وما آثرها عبد قط غلا أضرعت خده.
بعث عبد الملك بن مروان إلى أم الدرداء، فكانت عنده. فلما كانت ذات ليلة قام عبد الملك من الليل، فدعا خادمه، فكأنه أبطأ عنه، فلعنه. فلما أصبح قالت له أم الدرداء: قد سمعتك الليلة لعنت خادماً! قال: إنه أبطأ عني، قالت: سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة ".
كانت أم الدرداء تتكىء على عبد الملك بن مروان إذا خرجت من صخرة بيت لمقدس.
قال إسماعيل بن عبيد الله: كان عبد الملك بن مروان جالساً في صخرة بيت المقدس، وأم الدرداء معه جالسة حتى إذا نودي للمغرب قام عبد الملك، وقامت أم الدرداء تتوكأ على عبد الملك بن مروان حتى يدخل بها المسجد، فإذا دخلت جلست مع النساء، ومضى عبد الملك إلى المقام فصلى بالناس.
هند بنت أسماء بن خارجة بن حصن الفزارية
كانت زوج عبيد الله بن زياد، وهو ابتكرها. وكانا لا يفترقان في سفر ولا حضر. فقتل يوم الخازر وهو من الزاب، وهي معه، فقالت: لا يستمكن هؤلاء مني، ثم(27/179)
شدت عليها قباءة وعمامته ومنطقته، وركبت فرسه الكامل، ثم خرجت حتى دخلت الكوفة في بقية يومها، وليلتها، ليس معها أنيس. وكانت من أشد خلق الله حزناً عليه وتذكراً له، وقالت: إني لأشتاق إلى القيامة لأرى فيها عبيد الله بن زياد. ولم يكن في زمانها امرأة تشبهها جمالاً وكمالاً وعقلاً وأدباً.
هند بنت عتبة بن ربيعة
ابن عبد شمس بن عبد مناف، العبشمية القرشية، أم معاوية بن أبي سفيان من النسوة اللائي بايعن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أسلمت يوم فتح مكة، وشهدت اليرموك، وقدمت على ابنها معاوية في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
روت هند امرأة أبي سفيان قالت: قلت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أبا سفيان شحيح، وإنه لا يعطيني وولدي إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم، فهل علي في ذلك حرج؟ قال: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
وكانت هند تزوجها حفص بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فولدت له أبان، ثم خلف عليها أبو سفيان بن حرب، فولدت له معاوية وعتبة.
وأم هند صفية بنت أمية بن حارثة بن الأوقص بن مرة بن هلال.
وكانت هند بنت عتبة عند الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان من فتيان قريش، وله بيت للضيافة، يغشاه الناس عن غير إذن فخلا ذلك البيت يوماً، فاضطجع الفاكه، وهند فيه في القائلة، ثم خرج الفاكه، وأقبل رجل ممن كان يغشاه، فولج البيت. فلما رأى المرأة ولى هارباً، وأبصره الفاكه، وهو خارج من البيت، فأقبل إلى هند فضربها برجله، وقال: من هذا الذي كان عندك؟ قالت: ما رأيت أحداً ولا تنبهت حتى أنبهتني، قال لها: الحقي بأبيك، وتكلم فيها الناس، فقال لها أبوها: إن الناس قد أكثروا فيك، فأنبئيني نبأك، فإن يكن الرجل عليك صادقاً دسست إليه من يقتله، فتنقطع عنك القالة، وإن يك كاذباً حاكمته إلى بعض كهان اليمن. فحافت له بما كانوا(27/180)
يحلفون في الجاهلية إنه لكاذب عليها، فقال عتبة للفاكه: يا هذا، إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم، فحاكمني إلى بعض كهان اليمن.
فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم، وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف، وخرجوا معهم بهند، ونسوة معها. فلما شارفوا البلاد تنكرت حال هند، وتغير وجهها، فقال لها أبوها: إني أرى ما بك من تنكر الحال، وما ذاك عندك غلا لمكروه، فألا كان هذا قبل أن يشتهر للناس مسيرنا؟ قالت: لا والله يا أبتاه، ما ذاك لمكروه، وإني أعرف أنكم تأتون بشراً يخطئ ويصيب، ولا آمنه أن يسمني ميسماً يكون علي سبة في العرب، قال: إني سوف أختبره قبل أن ينظر في أمرك، فصفر لفرسه حتى أدلى، ثم أخذ حبة من حنطة، فأدخلها في إحليله، وأوكى عليها بسير. فلما وردوا على الكاهن أكرمهم، ونحر لهم. فلما تغدوا قال له عتبة: إنا قد جئناك في أمر، وإني قد خبأت لك خباً، أختبرك به، فانظر ما هو، قال: ثمرة في كمرة، قال: أريد أبين من هذا، قال: حبة من بر في إحليل مهر. قال: صدقت، انظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يدنو من إحداهن فيضرب كتفها، ويقول: انهضي. حتى دنا من هند، فضرب كتفها، فقال: انهضي غير رسحاء، ولا زانية، ولتلدن ملكاً يقال له: معاوية. فوثب إليها الفاكه، فأخذ بيدها، فنترت يدها من يده، وقالت: إليك، فو الله لأحرصن على أن يكون ذاك من غيرك.
فتزوجها أبو سفيان، فجاءت بمعاوية.
قالت هند لأبيها: إني امرأة قد ملكت أمري، فلا تزوجني رجلاً حتى تعرضه علي، فقال لها: ذلك لك، ثم قال لها يوماً: إنه قد خطبك رجلان من قومك، ولست مسمياً لك واحداً منهما حتى أصفه لك: أما الأول ففي الشرف الصميم، والحسب الكريم، تخالين(27/181)
به هوجاً من غفلته، وذلك إسجاج من شيمته، حسن الصحابة، حسن الإجابة، إن تابعته تابعك، وإن ملت كان معك، تقضين عليه في ماله، وتكتفين برأيك في ضعفه. وأما الآخر ففي الحسب الحسيب، والرأي الأريب، بدار أرومته، وعز عشيرته، يؤدب أهله، ولا يؤدبونه، إن اتبعوه أسهل بهم، وإن جانبوه توعر بهم، شديد الغيرة، سريع الطيرة، شديد حجاب القبة، إن حاج فغير منزور، وإن نوزع فغير مقهور. قد بينت لك حالهما.
قالت: إما الأول فسيد مطيع لكريمته، موات لها فيما عسى - إن لم تعصم - أن تلين بعد إبائها، ويضع تحت جناحها. إن جاءت له بولد أحمقت، وإن أنجبت فعن خطأ ما أنجبت، اطو ذكر هذا عني، فلا تسمه لي. وأما الآخر فبعل الحرة الكريمة، إني لأخلاق هذا لوامقة، وإني له لموافقة، وإني لآخذه بأدب البعل مع لزومي قبتي، وقلة تلفتي، وإن السليل بيني وبينه لحري أن يكون المدافع عن حريم عشيرته، الذائد عن كتيبتها، المحامي عن حقيقتها، الرأس لأرومتها، غير مواكل ولا زميل عند صعصعة الحوادث، فمن هو؟ قال: أبو سفيان بن حرب، قالت: فزوجه، ولا تلقني(27/182)
إليه إلقاء المتسلس السلس، ولا تسمه سمة المواطس الضرس، استخر الله في السماء يخر لك بعلمه في القضاء.
زاد في حديث بمعناه، وسمى فيه الرجلين: سهيل بن عمرو، وأبو سفيان بن حرب: وتزوج سهيل امرأة فولدت له غلاماً، فمر ذات يوم مع أبيه برجل يقود ناقة وشاة، فقال لأبيه: هذه بنت هذه؟ فقال: رحم الله هنداً.
ومن سعر هند بنت عتبة تبكي أباها عتبة بن ربيعة:
أعيني جودا بدمع سرب ... على خير خندف لم ينقلب
على عتبة الخير ذي المرمات ... وذي الفضلات قريع العرب
ساد الكهول فتى ناشئاً ... وساد الشباب ولما يشب
تداعى له قومه غدوة ... بنو هاشم وبنو المطلب
ببيض خفاف جلتها العيون ... تلوح بأيديهم كالشهب
يذيقونه حد أسيافهم ... يعلونه بعدما قد سحب
فمن كان في نسب خاملاً ... فنحن سلالة بيت الذهب
ولسنا كجلدة رفغ البعير ... بين العجان وبين الذنب
كان مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس من فتيان قريش جمالاً وسخاء وشعراً، فعشق هند بنت عتبة حتى اشتهر أمرهما، فاستحيا، وخرج إلى الحيرة ليسلوها،(27/183)
فنادم عمرو بن هند، وكان له مكرماً، ثم تزوج أبو سفيان هنداً في غيبة مسافر، ثم خرج أبو سفيان إلى الحيرة تاجراً، ولقي مسافر بن أبي عمرو، فسأله مسافر عن مكة، وأخبار قريش، فأخبره ثم قال: وإني تزوجت هنداً، فأسف مسافر، ومرض حتى سقى بطنه فقال:
ألا إن هنداً أصبحت منك محرماً ... وأصبحت من أدنى حموتها حما
وأصبحت كالمسلوب جفن سلاحه ... تقلب بالكفين قوساً وأسهما
فدعا له عمرو بن هند الأطباء، فقالوا: ليس له دواء إلا الكي، فقال له: ما ترى؟ قال: أفعل، فدعا له طبيباً من العياد، فأحمى مكاويه حتى صارت كالنار، ثم قال: أمسكوه لي، فقال مسافر: لست أحتاج إلى ذلك، فجعل يضع عليه المكاوي. فلما رأى الطبيب صبره هاله ذلك، وفعلها - يعني: الحدث - فقال مسافر:
قد يضرط العير والمكواة في النار
فأرسلها مثلاً. قال: فلم ينفعه ذلك شيئاً، فخرج يريد مكة، فأدركه الموت، بهبالة، فدفن بها، ونعي إلى أهل مكة.
قال زياد بن حدير: قال معاوية: أسرجوا لي حماراً غليظ الوسط، فركبه، ومر بشيخ، فقال له:(27/184)
أرأيت أبا سفيان؟ قال: نعم، رأيته حين تزوج هنداً، فأطعمنا في أول يوم لحم جزور، وسقانا خمراً، وفي اليوم الثاني لحم غنم وسقانا نبيذاً، وفي اليوم الثلث لحم طير وسقانا عسلاً، وإن كانت لذوات أزواج، فقال معاوية: كلهم كان كريماً.
قال أبو هريرة: رأيت هنداً بمكة كأن وجهها فلقة قمر، وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس، ومعها صبي يلعب. فمر رجل، فنظر إليه، فقال: إني لأرى غلاماً إن عاش ليسودن قومه، فقالت هند: إن لم يسد إلا قومه فأماته الله. وهو معاوية بن أبي سفيان.
سافر أبو سفيان سفراً أضرت به الغربة، فاشترى جارية، فبلغ ذلك هنداً، فوجدت عليه، وكتبت إليه:
يا قليل الوفاء ما كان فيما ... كان منا إليك ما ترعانا
كيف يبقى لك الجديد من النا ... س إذا كنت تطرح الخلقانا
فوجه أبو سفيان الجارية التي كان اشترى.
جاءت هند في الأحزاب يوم أحد، وكانت نذرت لئن قدرت على حمزة بن عبد المطلب لتأكلن من كبده، فلما كان حيث أصيب حمزة، ومثلوا بالقتلى، وجاؤوا بحزة من كبده، فأخذتها تمضغها لتأكلها، فلم تستطع أن تبتلعها، فلفظتها، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " إن الله قد حرم على النار أن تذوق لحم حمزة شيئاً أبداً ". قال محمد الراوي: وهذه شديدة على هذه المسكينة.
وعن ابن مسعود قال: قال أبو سفيان يوم أحد: قد كانت في القوم مثلة، وإن كانت عن غير ملأ مني، ما أمرت، ولا نهيت، ولا أحببت، ولا كرهت، ولا أساءني، ولا سرني، قال: فنظروا فإذا خمزة قد بقر بطنه، وأخذت هند كبده، فلاكتها، فلم تستطع أن تأكلها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أأكلت منها شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة النار.(27/185)
قيل لأم عمارة: يا أم عمارة، هل كن نساء قريش يومئذ يقاتلن مع أزواجهن؟ فقالت: أعوذ بالله، لا والله ما رأيت امرأة منهن رمت بسهم ولا بحجر، ولكن رأيت معهن الدفاف والأكبار، يضربن، ويذكرن القوم قتلى بدر، ومعهن مكاحل ومرواد، فكلما ولى رجل أو تكعكع ناولته إحداهن مروداً ومكحلة، ويقلن: إنما أنت امرأة. ولقد رأيتهن ولين منهزمات مشمرات - ولها عنهن الرجال أصحاب الخيل، ونجوا على متون الخيل - يتبعن الرجال على الأقدام، فجعلن يسقطن على الطريق. ولقد رأيت هند بنت عتبة، وكانت امرأة ثقيلة ولها خلق، قاعدة خاشية من الخيل، ما بها مشي، ومعها امرأة أخرى، حتى كر القوم علينا، فأصابوا ما أصابوا، فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذ من قبل الرماة، ومعصيتهم الرسول.
وعن الزبير قال: ولد عتبة بن ربيعة أبا حذيفة بن عتبة، وكان من الهاجرين الأولين، شهد بدراً، وقتل يوم اليمامة شهيداً. وله تقول أخته هند بنت عتبة:
فما شكرت أباً رباك من صغر ... حتى شببت شباباً غير محجون
الأحوال الأثعل الشؤوم طائره ... أبو حذيفة شر الناس في الدين
قال معاوية: سمعت أمي هنداً تقول - وهي تذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقول: فعلت يوم أحد ما فعلت من المثلة بعمه وأصحابه، كلما سارت قريش مسيراً فأنا معها بنفسي، حتى رأيت في النوم ثلاث ليال: رأيت كأني في ظلمة، لا أبصر سهلاً ولا جبلاً، وأرى من تلك(27/186)
الظلمة انفرجت عني بضوء مكانه، فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوني. ثم رأيت في الليلة الثانية كأني على الطريق، فإذا بهبل عن يميني، يدعوني، وإذا بسياف يدعوني عن يساري، وإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين يدي قال: تعالي، هلم إلى الطريق، ثم رأيت الليلة الثالثة كأني واقفة على شفير جهنم يريدون أن يدفعوني فيها، وإذا أنا بهبل يقول: ادخلي فيها، فالتفت فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ورائي أخذ بثيابي فباعدني عن شفير جهنم، وفزعت، فقلت: هذا شيء قد بين لي، فغدوت إلى صنم في بيتنا، فجعلت أضربه، وأقول: طالما كنت معك إلا في غرور، وأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسلمت، وبايعته. وفي رواية: أن هنداً لما أسلمت جعلت تضرب صنماً لها في بيتها بالقدوم فلذة فلذة، وهي تقول: كنا منك في غرور.
قال عروة: قالت هند لأبي سفيان: إني أريد أن أبايع محمداً، قال: قد رأيتك تكرهين هذا الحديث أمس؟؟؟؟؟؟؟ قالت: إني والله، والله ما رأيت الله عبد حق عبادته في هذا المسجد قبل الليلة. والله إن باتوا إلا مصلين قياماً وركوعاً وسجوداً، قال: فإنك قد فعلت ما فعلت، فاذهبي برجل من قومك معك، فذهبت إلى عثمان، فذهب معها، فاستأذن لها،(27/187)
ودخلت وهي منقلبة، فقال: تبايعني على ألا تشركي بالله شيئاً، ولا تسرقي، ول تزني، فقالت: أو هل تزني الحرة؟ قال: لا، ولا تقتلي ولدك، فقالت: إنا ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً، قال: قتلهم الله يا هند. فلما فرغ من الآية بايعته، فقالت: يا رسول الله، إني بايعتك على ألا أسرق، ولا أزني، وإن أبا سفيان رجل بخيل، ولا يعطيني ما يكفيني إلا ما أخذت منه من غير علمه، قال: ما تقول يا أبا سفيان؟ فقال أبو سفيان: أما يابساً فلا، وأما رطباً فأحله. قال: فحدثتني عائشة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
وعن فاطمة بنت عتبة، أن أبا حذيفة بن عتبة ذهب بها وبأختها تبايعان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما اشترط عليهن قالت هند: أو تعلم في نساء قومك من هذه الهنات والعاهات شيئاً..؟؟ الحديث.
قال عبد الله بن الزبير: لما كان يوم الفتح أسلمت هند بنت عتبة، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل، وأسلمت امرأة صفوان بن أمية البغوم بنت المعذل، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وهند بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو بن العاص في عشر نسوة من قريش، فأتين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بالأبطح، فبايعنه، فدخلن عليه، وعنده زوجتاه، وابنته فاطمة، ونساء من بني عبد المطلب، فتكلمت هند بنت عتبة، فقالت: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختار لنفسه لتمسني رحمتك يا محمد، إني امرأة مؤمنة بالله، مصدقة، ثم كشفت عن نقابها، فقالت: أنا هند بنت عتبة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مرحباً بك، فقالت: والله يا رسول الله ما كان على الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ولقد أصبحت وما على الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وزيادة أيضاً.(27/188)
ثم قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهن القرآن، وبايعهن، فقالت هند من بينهن: يا رسول الله، نماسحك؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني لا أصافح النساء، إن قولي لمئة امرأة مثل قولي لامرأة واحدة. ويقال: وضع على يده ثوباً، ثم مسحن على يده يومئذ. ويقال: كان يؤتى بقدح من ماء، فيدخل يده فيه، ثم يرفعه إليهن، فيدخلن أيديهن فيه. والقول الأول أثبتهما: إني لا أصافح النساء.
وفي رواية: إنه لما قال: ولا تقتلن أولادكن قالت هند: وهل تركت لنا ولداً إلا قتلته يوم بدر؟ وفي حديث آخر: وفرغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بيعة الرجال، ثم دعا النساء، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصفا، وعمر أسفل منه، يبايع النساء لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً وهند مقنعة رأسها بين النساء، فقالت - ورفعت رأسها -: والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيتك أخذته على الرجال، وقد أعطيناك. قال: ولا تسرقن، قالت: إني لآخذ من أبي سفيان هنات، فما أدري أيحلهن أم لا، فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى، وفيما غبر فهو لك حلال. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وإنك لهند؟ قالت: نعم، فاعف عما سلف عفا الله عنك. قال: ولا تقتلن أولادكن، قالت: قد ربيناهم صغاراً، وقتلتموهم ببدر كباراً، وأنت وهم أعلم، فضحك عمر حتى استغرب. وقال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، قالت: والله إن البهتان لشيء قبيح، ولبعض التجاوز أمثل، وما أمرتنا إلا بالرشد، ومكارم الأخلاق. قال: ولا تعصين في معروف، قالت: ما جلسنا هذا المجلس، ونحن نحب أن نعصيك في شيء. قال: ولا تزنين، قالت: أو تزني الحرة؟ فأقر النساء بما أخذ عليهن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر عمر، فبايعهن، واستغفر لهن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(27/189)
زاد في آخر: والبهتان: أن تقذف المرأة ولداً من غير زوجها على زوجها، فتقول لزوجها: هو منك، وليس منه. ثم قال عند قوله: ولا يعصينك في معروف: في طاعة الله، فيما نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه من النوح، وتمزيق الثياب، وأن تخلو مع غريب في حضر أو سفر، أو تسافر فوق ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم، ونحو ذلك. فذلك قوله: " واستغفر لهن الله إن الله غفور " لما كان في الشرك منهن " رحيم " فيما بقي.
وعن جويرية قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهند يوم الفتح: كيف ترين الإسلام؟ فقالت: بأبي وأمي ما أحسنه لولا ثلاث خصال: التجبية، والخمار، وزقو هذا العبد الأسود فوق الكعبة. فقال: أما قولك: التجبية فلا صلاة إلا بركوع، وأما زقو هذا العبد فوق الكعبة فنعم عبد الله هو، وأما الخمار فأي شيء أستر من الخمار؟ فقالت: بأبي وأمي إني كنت أحب أن تعرف الفرعاء من الزعراء، قال: وكانت امرأة لها شعر.
وعن عائشة قالت: جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتبايعه، فنظر إلى يديها فقال لها: اذهبي فغيري يديك، قالت: فذهبت فغيرتها بحناء، ثم جاءت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئاً.. الحديث. وفي آخره: فبايعته، ثم قالت له - وعليها سواران من ذهب -: ما تقول في هذين السوارين؟ قال: جمرتان من نار جهنم.
وعن أبي حصين الهذلي قال: لما أسلمت هند أرسلت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهدية - وهو بالأبطح - مع مولاة لها بجديين مرضوفين وقد - القد لبأ يجعل في جلد سخلة صغيرة - فانتهت الجارية(27/190)
إلى خيمة(27/191)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلمت، واستأذنت، فأذن لها، فدخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بين نسائه: أم سلمة زوجته وميمونة ونساء من بني عبد المطلب، فقالت: إن مولاتي أرسلت إليك بهذه الهدية، وهي معتذرة إليك، وتقول: إن غنمنا اليوم قليلة الوالدة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بارك الله لكم في غنمكم، وأكثر والدتها، فرجعت المولاة إلى هند فأخبرتها بدعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسرت بذلك. وكانت المولاة تقول: لقد رأينا من كثرة غنمنا ووالدتها ما لم نكن نرى قبل ولا قريب، فتقول هند: هذا دعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبركته، فالحمد لله هدانا للإسلام. ثم تقول: لقد كنت أرى في النوم أني في الشمس أبداً قائمة، والظل مني قريب لا أقدر عليه. فلما دنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منا رأيت كأني دخلت الظل.
استقرضت هند بنة عتبة من عمر بن الخطاب من بيت المال أربعة آلاف درهم تتجر فيها وتضمنها، فأقرضها، فخرجت إلى بلاد كلب، فاشترت، وباعت، فبلغها أن أبا سفيان وعمرو بن أبي سفيان قد أتيا معاوية، فعدلت إليه من بلاد كلب، فأتت معاوية - وكان أبو سفيان قد طلقها - فقال: ما أقدمك أي أمه؟! قالت: النظر إليك. أي بني، إنه عمر، وإنما يعمل لله، وقد أتاك أبوك، فخشيت أن تخرج إليه من كل شيء، وأهل ذاك هو، فلا يعلم الناس من أين أعطيته، فيؤنبونك، ويؤنبك عمر، فلا تستقيلها أبداً، فبعث إلى أبيه وإلى أخيه بمئة دينار، وكساهما، وحملهما. فتعظمها عمرو، فقال أبو سفيان: لا تعظمها، فإن هذا عطاءً لم تغب عنه هند، ومشورةً قد حضرتها هند، ورجعوا جميعاً، فقال أبو سفيان لهند: أربحت؟ قالت: الله أعلم، معي تجارة إلى المدينة. فلما أتت المدينة، وباعت شكت الوضيعة عن أمره، فقال لها عمر: لو كان مالي لتركته لك، ولكنه مال المسلمين، هذه مشورة لم يغب عنها أبو سفيان، فبعث إليه، فحبسه حتى وفته، وقال له: بكم أجازك معاوية؟ قال: بمئة دينار.
ولما شخص أبو سفيان إلى معاوية بالشام، ومعه ابناه عتبة وعنبسة كتبت هند إلى معاوية سراً: قد قدم أبوك وأخواك فلا تغذم لهم فيعزلك ابن الخطاب - أي لا تعطهم الكثير، يقال: غذم لهم من المال - احمل أباك على فرس، وأعطه أربعة آلاف درهم، واحمل عتبة على بغل، وأعطه ألفي درهم، واحمل عنبسة على حمار، وأعطه ألف درهم، ففعل معاوية ذلك، فقال أبو سفيان: أشهد أن هذا رأي هند.
كانت هند امرأة عاقلة جزلة. فلما ولى عمر بن الخطاب يزيد بن أبي سفيان ما ولاه من الشام خرج إليه معاوية، فقال أبو سفيان لهند: كيف ترين؟ صار ابنك تابعاً لابني، فقالت: إن اضطرب حبل العرب فستعلم أين يقع ابنك مما يكون فيه ابني، فمات يزيد بالشام، فولى عمر معاوية موضعه، فقالت هند لمعاوية: والله يا بني إنه لقلما ولدت حرة مثلك، وقد استنهضك هذا الرجل، فاعمل بموافقه، أحببت ذلك أم كرهته. وقال له أبو سفيان: يا بني، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين، سبقونا وتأخرنا، فرفعهم سبقهم، وقصر بنا تأخرنا، فصاروا قادة، وصرنا أتباعاً، وقد ولوك جسيماً من أمورهم، فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى أمد فنافس فيه، فإن بلغته أورثته عقبك.
هند بنت معاوية بن أبي سفيان
صخر بن حرب الأموية ولهند ورملة ابنتي معاوية يقول عبد الرحمن بن الحكم:(27/192)
أؤمل هنداً أن يموت ابن عامر ... ورملة يوماً أن يطلقها عمرو
وعبد الله بن عامر بن كريز زوج هند بنت معاوية، كان قد زوجه إياها معاوية. فلما كانت ليلة البناء بها امتنعت منه امتناعاً شديداً حتى لم يقدر منها على شيء، فضربها، فبكت. فلما سمع جواريها بكاءها صخن، فسمع معاوية الصوت، فجاء مبادراً، فأخبروه، فدخل عليه، فقال: مثل هذه تضرب؟! قبح الله رأيك، وقبح ما أتيت به، اخرج عني إلى غير هذا البيت. فلما خرج قال معاوية لابنته: لا تفعلي، فإنما هو زوجك الذي أحله الله لك، أما سمعت قول الشاعر:
من الخفرات البيض أما حرامها ... فصعب وأما حلها فذلول
ثم خرج، ورجع زوجها إليها، فلانت له حتى نال منها حاجته.
وقيل: إن معاوية لما زوج ابنته من عبد الله بن عامر بنى لها قصراً إلى جنب قصره، وجعل بينهما باباً، وأدخلها عليه، وهي بنت تسع سنين. قال: فبينا هو في المشرقة يوماً إذ مرت به حاضنتها، فقال لها: ما فعلت تلكم؟ فقالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: فإني أعزم عليك، بحقي عليك، قالت: يا أمير المؤمنين، إنها مصعت، واعتاصت عليه، فقام حافياً آخذاً بأزرار ثيابه، ودخل عليها، فسلم، والنسوة عندها، فكسرت له نمرقة فجلس، فقال: السلام عليكن يا بنية، بيض عطرات، أوانس خفرات، أما حرامهن فصعب، وأما حلالهن فسهل، به سمحات، ثم رجع إلى مجلسه، فمر به ابن عامر، فقال له: النجاء إلى أهلك، فرب صعب قد ذللته لكم، وحزن قد سهلته لكم. قال: ثم مرت به الحاضنة من الغد، فقال لها: كيف تلكم، فقالت: صارت امرأة من النساء.(27/193)
وكانت هند أبر شيء بعبد الله بن عامر. وكانت تتولى خدمته بنفسها، فجاءته يوماً بالمرآة والمشط، فنظر في المرآة، فالتقى وجهها ووجهه في المرآة، فرأى شبابها وجمالها، ورأى الشيب في لحيته قد ألحقه بالشيوخ، فرفع رأسه غليها وقال: الحقي بأبيك، فانطلقت إلى أبيها، فأخبرته. فقال: وهل تطلق الحرة؟ قالت: ما أتي من قبلي، وأخبرته خبرها، فأرسل إليه، فقال: أكرمتك ببنتي، ثم رددتها علي! قال: إن الله من علي بفضله، وخلقني كريماً، لا احب ان يتفضل علي أحد، وإن ابنتك اعجزتني مكافأتها، لحسن صحبتها، فنظرت فإذا أنا شيخ، وهي شابة، لا أزيدها مالاً إلى مالها، ولا شرفاً إلى شرفها، فرأيت أن أردها إليك لتزوجها فتى من فتيانك، كأن وجهه ورقة مصحف.
هند بنت المهلب بن أبي صفرة
وفدت على عمر بن عبد العزيز.
قال زياد بن عبد الله القرشي: دخلت على هند بنت المهلب امرأة الحجاج بن يوسف، فرأيت في يدها مغزلاً، فقلت: أتغزلين وأنت امرأة أمير؟! قالت: سمعت أبي يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أطولكن طاقة أعظمكن أجراً، وهو يطرد الشيطان، ويذهب بحديث النفس ".
قالت هند: قلت للحسن: يا أبا سعيد، ينظر الرجل إلى عنق أخته، وإلى قرطها، وإلى شعرها؟ قال: لا، ولا كرامة.
قدمت هند بنت المهلب على عمر بن عبد العزيز بخناصرة، فقالت له: يا أمير المؤمنين، علام حبست أخي؟ قال: تخوفت أن يشق عصا المسلمين، فقالت له: فالعقوبة بعد الذنب أو قبل الذنب؟(27/194)
قال أيوب السختياني: ما رأيت امرأة أعقل من هند بنت المهلب.
قال عمران بن موسى حكاية عن هند بنت المهلب - وكانت من عقلاء الناس، قالت: شيئان لا تؤمن المرأة عليهما: الرجال والطيب.
وعن هند، وذكروا عندها جابر بن زيد قالوا: إنه كان إباضياً فقالت: كان جابر أشد الناس انقطاعاً إلي وإلى أمي، فما أعلم شيئاً كان يقربني إلى الله إلا أمرني به، ولا شيئاً يباعدني عن الله إلا نهاني عنه، وما دعاني إلى الإباضية قط، ولا أمرني بها، وإن كان ليأمرني أين أضع الخمار، ووضعت يدها على الجبهة.
قالت أم عبد الله أم أيوب بن صالح: كنت أدخل على هند بنت المهلب، وهي تسبح باللؤلؤ، فإذا فرغت من تسبيحها ألقته إلينا، فقالت: اقسمنه بينكن.
قالت هند: إذا رأيتم النعم مستدرة فبادروا بتعجيل الشكر قبل حلول الزوال. قالت هند، وذكرت عندها امرأة بجمال: ما تحلين النساء بحلية أحسن عليهن من لب ظاهر، تحته أدب كامل.
قالت هند: ما رأيت للأسرة خيراً من السكن، ولرب مسكون غليه غير طائل، والسكن على كل حال أجمع.(27/195)
وقالت هند: ما رأيت لصالح النساء وشرارهن خيراً لهن من إلحافهن بأسكانهن. وقالت هند: رأيت صلاح الحرة إلفها، وفسادها بحدتها، وإنما يجمع ذلك ويفرقه التوفيق.
حدث أبو زيد - وكان ثقة، رضي - قال: قالت هند: الطاعة مقرونة بالبغض، فالعاصي ممقوت، وإن مستك رحمه، ونالك معروفه.
هند الخولانية امرأة بلال بن رباح
مؤذن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل داريا. قيل: إن لها صحبة.
حدثت امرأة بلال، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاها فسلم فقال: آثم بلال؟ فقالت: لا، فقال: لعلك غضبي على بلال، فقالت: إنه يجيئني كثيراً، فيقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما حدثك عني فقد صدقك، بلال، بلال لا يكذب، لا تغضبي بلالاً، فلا يقبل منك عمل ما غضب عليك بلال.
قالت امرأة بلال: كان بلال إذا أخذ مضجعه قال: اللهم، تقبل حسناتي، وتجاوز عن سيئاتي، واعذرني بعلاتي.
وفي رواية: اللهم، اغفر لي خطاياي، واعذرني لعلاتي.(27/196)
هوى جارية أديبة
قال الأصمعي: عرضت على معاوية جارية، فأعجبته، فسأل عن ثمنها، فإذا ثمنها مئة ألف درهم، فابتاعها، ونظر إلى عمرو بن العاص، وقال: لمن تصلح هذه الجارية؟ فقال: لأمير المؤمنين، ثم نظر إلى غيره فقال له ذلك، قال: لا، فقيل: فلمن؟ قال: للحسين بن علي بن أبي طالب، فإنه أحق بها، لما له من الشرف، ولما كان بيننا وبين أبيه، فأهداها له، فأمر من يقوم عليها. فلما مضت أربعون يوماً حملها وحمل معا أموالاً عظيمة، وكسوة، وغير ذلك، وكتب: إن أمير المؤمنين اشترى جارية، فأعجبته، فآثرك بها. فلما قدمت على الحسين بن علي بن أبي طالب أعجب بجمالها، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: هوى. قال: أنت هوى كما سميت، هل تحسنين شيئاً؟ قالت: نعم، أقرأ القرآن، وأنشد الأشعار، قال: اقرئي، فقرأت: " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو " قال: أنشديني، قالت: ولي الأمان؟ قال: نعم، فأنشأت تقول:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
فبكى الحسين، ثم قال: أنت حرة، وما بعث به معاوية معك فهو لك، ثم قال لها: هل قلت في معاوية شيئاً، فقالت:
رأيت الفتى يمضي ويجمع جهده ... رجاء الغنى والوارثون قعود
وما للفتى إلا نصيب من التقى ... إذا فارق الدنيا عليه يعود
فأمر لها بألف دينار، وأخرجها، ثم قال: رأيت أبي، أمير المؤمنين كثيراً ما ينشد:
ومن يطلب الدنيا لحال تسره ... فسوف لعمري عن قليل يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء فتنة ... وإن أقبلت كانت قليلاً دوامها
ثم بكى وقام إلى صلاته.(27/197)
حرف الياء
أسماء الرجال على حرف الياء
ياسين بن سهل بن محمد بن الحسن
ابن محمد، أبو روح القايني الصوفي المعروف بالخشاب حدث عن أبي منصور محمد بن أحمد بن منصور القايني بسنده إلى عبد الله بن عمرو أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدثوا عني ولا تكذبوا علي، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ".
توفي أبو روح سنة إحدى وتسعين وأربع مئة.
ياسين بن عبد الصمد بن عبد العزيز
أبو عتاب الدمشقي حدث عن أبي عبد الملك محمد بن أحمد الصوري بسنده إلى أبي موسى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لما أهبط الله آدم من الجنة علمه صنعة كل شيء، وزوده من ثمار الجنة، فلثماركم من الجنة، غير أن ثمار الجنة لا تتغير.
ياقوت بن عبد الله أبو الدر
الرومي، التاجر حدث عن أبي محمد عبد الله بن محمد الصريفيني بسنده إلى سهل بن سعد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن نحفر الخندق وننقل التراب على أكتافنا فقال: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار ".(27/198)
توفي ياقوت سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة.
يحمد أبو أمية الشعباني من دمشق
قال أبو أمية: أتيت أبا علبة الخشني فقلت: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؟ قال: قلت: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفكم ". قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً: سألت عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمراً لا يدان لك به فعليك نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائك أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله.
ويحمد: بضم الياء وكسر الميم هكذا يقول المتكلفون من أهل الحديث، ومن يتسامح: بفتح الميم.
يحيى بن أحمد بن بسطام
أبو مضر العبسي المقرئ حدث سنة ثمان وثلاثين مئة عن أبي حفص عمر بن مضر بسنده إلى عائشة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله يحب الرفق في الأمر كله ".(27/199)
يحيى بن أحمد بن محمد بن الحسن
ابن علي بن مخلد، أبو عمرو النيسابوري المخلدي العدل حدث عن أبي بكر محمد بن حمدون بن خالد بسنده إلى ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إنما الحسد من يحسد على خصلتين: رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به أناء الليل وأناء النهار، ورجل أتاه الله مالاً فهو ينفقه ".
توفي أبو عمرو سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة، وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
يحيى بن إبراهيم بن أحمد بن محمد
أبو بكر بن أبي طاهر الأزدي السلماسي الواعظ قدم دمشق سنة ثمان وأربعين وخمس مئة. ولد سنة أربع وسبعين وأربع مئة. وكان معه علمان أسودان من أعلام الخليفة ينصبهما على كرسيه وقت وعظه.
حدث عن أبيه بسنده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا إيمان لمن لا يقين له، ولا يقين لمن لا دين له، ولا صلاة لمن لا إخلاص له، ولا زكاة لمن لا نية له، ولا صوم لمن لا ورع له، ولا حج لعاق للوالدين، ولا جهاد لمن كان على حقوق المسلمين، ولا توبة لمدمن الخمر، ولا دين لمن كان في قلبه زيغ وبدعة وضلالة، ولا وفاء للفاسق، ولا نور للكذوب، ولا راحة للحقود في الدنيا والآخرة، ولا سلامة للحسود في الدنيا والآخرة، وأنا منهم بريء في الدنيا والآخرة ".
أنكر هذا الحديث.
يحيى بن إبراهيم بن عثمان بن عمر
ابن شبل، أبو بكر الاسكندراني المالكي حدث عن أبي بكر أحمد بن علي الخطيب بسنده إلى أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، علمني ما أدخل به الجنة، ولا تكثر علي. قال: " لا تغضب ".(27/200)
توفي يحيى سنة أربع عشرة وخمس مئة بالإسكندرية.
يحيى بن أسامة ويقال ابن زيد
وهو يحيى بن أبي أنيسة، أبو زيد الجزري الرهاوي أخو زيد بن أبي أنيسة حدث عن الزهري عن أبي خزامة، عن أبيه قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، أرأيت دواء نتداوى به ورقى نسترقي بها، وتقى ننتقيها، هل ذلك راد علينا من قدر الله من شيء؟ قال: إنه من قدر الله.
وحدث عنه عن علي بن الحسين عن الحارث بن هشام قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ".
وحدث عن أبي الزبير عن جابر، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رمى الجمرة مثل حصى الخذف. توفي يحيى سنة ست وأربعين ومئة. وكان كذاباً.
يحيى بن إسحاق أبو زكريا البجلي
السيلحيني حدث عن عبد العزيز بن الماجشون بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل أخوه أو صاحبه: يرحمك الله.(27/201)
ويقول: يهديكم الله ويصلح بالكم ".
وحدث عن جعفر بن كيسان بسنده إلى عائشة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " فناء أمتي بالطعن والطاعون ". قال: قلت: يا رسول الله، هذا الطعن قد عرفته، فما الطاعون؟ قال: " غدة كغدة الجمل، المقيم فيها كالشهيد، والفار منها كالفار من الزحف ".
توفي أبو زكريا سنة عشر ومئتين.
يحيى بن إسماعيل بن عبيد الله
ابن أبي المهاجر، مولى بني مخزوم حدث عن أبيه بسنده إلى أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله عز وجل: " كل يوم هو في شأن ". قال؛ يغفر ذنباً، ويكشف كرباً، ويجيب داعياً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين.
وبه قال: استشهد ابن لأبي أمامة الحمصي، فكتب إليه عمر: الحمد لله على آلائه وقضائه وحسن بلائه، قد بلغني الذي ساق إلى عبد الله بن أبي أمامة من الشهادة، فقد عاش بحمد(27/202)
الله في الدنيا مأموناً، وأفضى إلى الآخرة شهيداً، وقد وصل إليكم من الله خير كثير إن شاء الله.
يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن
ابن سمعان بن مشنج بن عمرو بن عبد العزى بن أكثم بن صيفي، أبو محمد التميمي الأسيدي المروزي قاضي القضاة للمأمون. قدم دمشق مع المأمون.
حدث عن جرير بسنده إلى ابن مسعود البدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأول: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ".
وحدث يحيى بن أكثم عن عبد الله بن إدريس بسنده إلى ابن عمر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب وأن عمر ضرب وغرب.
وورد في حديث: أن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب. ولم يذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالوا: وهو الصواب.(27/203)
وكان يحيى بن أكثم من أئمة العلم، أحد أعلام الدنيا، وقد اشتهر فضله وعلمه ورئاسته وسياسته، وغلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعاً. وكان المأمون ممن برع في العلم، فعرف من حال يحيى بن أكثم وما هو عليه من العلم والعقل ما أخذ بمجامع قلبه حتى قلده قضاء القضاة، وتدبير أهل مملكته، فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئاً إلا بعد مطالعة يحيى بن أكثم. ولا نعلم أحداً غلب على سلطانه في زمانه إلا يحيى بن أكثم وابن أبي داود.
خرج سفيان بن عيينة إلى أصحاب الحديث وهو ضجر فقال: أليس من الشقاء أن أكون جالست ضمرة بن سعيد وجالس أبا سعيد الخدري، وجالست عمرو بن دينار وجالس جابر بن عبد الله، وجالست عبد الله بن دينار وجالس ابن عمر، وجالست الزهري وجالس أنس بن مالك؟! حتى عدد جماعة، ثم أنا أجالسكم، فقال له حدث في المجلس: أتنصف يا أبا محمد؟ قال: إن شاء الله، قال له: والله لشقاء من جالس أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بك أشد من شقائك بنا، فأطرق وتمثل بشعر أبي نواس.
خل جنبيك لرام ... وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام
فسئل من الحدث؟ فقالوا: يحيى بن أكثم، فقال سفيان: هذا الغلام يصلح لصحبة هؤلاء، يعني: السلطان.
صار يحيى بن أكثم إلى حفص بن غياث فتعشى عنده فأتي حفص بعس فشرب منه، ثم ناوله أبا بكر بن أبي شيبة فشرب منه، فناوله أبو بكر يحيى بن أكثم فقال له: يا أبا بكر، أيسكر كثيره؟ قال: إي والله وقليله، فلم يشرب.
ولي يحيى بن أكثم القاضي البصرة، وسنه عشرون أو نحوها، فاستصغره(27/204)
أهل البصرة، فقال له أحدهم: كم سنو القاضي؟ فعلم أنه قد استصغر - وفي رواية: فاستزري - فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاضياً على أهل مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاضياً على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن الخطاب قاضياً على أهل البصرة. قال: فبقي سنة لا يقبل بها شاهداً، فتقدم إليه أحد الأمناء، فقال له: أيها القاضي قد وقفت الأمور وتريثت، قال: وما السبب؟ قال: في ترك القاضي قبول الشهود، قال: فأجاز في ذلك اليوم شهادة سبعين شاهداً.
قال الفضل بن محمد الشعراني: سمعت يحيى بن أكثم يقول: القرآن كلام الله. فمن قال مخلوق يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه.
قال يحيى بن أكثم: وليت القضاء، وقضاء القضاة، والوزارة.
وفي رواية: كنت قاضياً وأميراً ووزيراً وقاضياً على القضاة، ما سررت لشيء كسروري بقول المستملي: من ذكرت رضي الله عنك.
وقال: جالست الخلفاء، وناظرت العلماء، فلم أر شيئاً أحلى من قول المستملي: من ذكرت يرحمك الله.
قال إسماعيل بن إسحاق: سمعت يحيى بن أكثم يقول: اختصم إلي هاهنا في الرصافة الجد الخامس يطلب ميراث ابن ابن ابن ابنه.
قال أبو العيناء عن أحمد بن أبي داود ومحمد بن منصور: كنا مع المأمون في طريق الشام، فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال لنا يحيى بن(27/205)
أكثم: بكرا غداً إليه، فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا، وإلا فاسكتا إلى أن أدخل، قال: فدخلنا غليه وهو يستاك ويقول، وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى عهد أبي بكر، وأنا أنهى عنهما، ومن أنت يا أحول حتى تنهى عما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر؟؟؟؟؟؟؟؟ فأومأت إلى محمد بن منصور ان أمسك، رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول نكلمه نحن؟ فأمسكنا، وجاء يحيى فجلس وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيراً؟ قال: هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا، قال: الزنا؟؟ قال: نعم، المتعة زنا، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله تعالى وحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال الله عز وجل: " قد أفلح المؤمنون " إلى قوله: " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " يا أمير المؤمنين، زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا. قال: فهي الزوجة التي عنى الله تعالى، ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذا من العادين. وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما محمد عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: " أمرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان قد أمر بها.
فالتفت إلينا المأمون فقال: أمحفوظ هذا من حديث الزهري؟ قلنا: نعم يا أمير المؤمنين، رواه جماعة منهم مالك. فقال: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة، فنادوا بها.
قال إسماعيل بن إسحاق - وقد ذكر يحيى بن أكثم -: فعظم أمره، وقال: كان له يوم في الإسلام لم يكن لأحد مثله. وذكر هذا اليوم فقال له رجل: فما كان يقال؟ قال: معاذ الله ان تزول عدالة مثله بتكذب باغ وحاسد، وكانت كتبه في الفقه أجل كتب، فتركها الناس لطولها.(27/206)
قال مسلم بن حاتم الأنصاري: كنا يوماً عند زهير البابي نعوده، وإذا نحن برجل يقول في الدار: يا جارية، يا غلام، فأشرف عليه بعض من كان يخدمه فقال: من هذا؟ فقال: أخبر أبا عبد الرحمن أن القاضي بالباب، فأخبره، فقال زهير: مالي وللقاضي وما للقاضي ولي قال: وقد كان جاءه قبل ذلك بيوم فحجبه، فقدم إليه رجلين من أمنائه: العيشي وإسحاق بن حماد بن زيد، وقال لهما: إني ذهبت إلى زهير فحجبني، فاغدوا عليه وكونا عنده حتى أجيء فإن أذن لي فذاك وإلا فسهلا أمري، فأقبل عليه العيشي فقال: يا أبا عبد الرحمن، قاضي أمير المؤمنين جاء يعودك إن رأيت أن تأذن له، قال يا عيشي، أنت أيضاً من هذا الضرب؟ ما للقاضي وعبادة زهير فأقبل عليه ابن حماد فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن رأيت أن تأذن له فلعله أن يسمع منك كلمة ينفعه الله بها، فما زالا بالشيخ حتى قال: ائذنوا له، فدخل وهو يومئذ كهل، وعليه كسوة عجيبة، قال: فتحسحس جميع من في البيت، وزهير لا يتحرك حتى جلس يحيى، فانكب على رأسه فقبله ثم قال: يا أبا عبد الرحمن، كيف أصبحت؟ كيف تجدك؟ قال: أنا بخير والحمد لله وأنا في عافية، قال: جعلك الله بخير يا أبا عبد الرحمن، جئتك أمس فمنعتني، وجئتك اليوم، فكدت ألا تأذن لي، بلغك عني أمر تكرهه؟ اشتكاني إليك أحد بظلم أحد من قبلي فأستغفر الله وأرجع وأتوب؟ إلى أن قال في كلامه: والله يا أبا عبد الرحمن ما تركت. فقال زهير: خذوا بيدي، فجلس، فقال: يا يحيى، من لم يدعك؟ ضربت سوطاً قط أخذ من مالك دينار قط حبست يوماً إلى الليل قط قال: لا والله، قال: ولكن ما أرى الله أتى بك من أقاصي مرو وقلدك هذه القلادة لخير يريده بك، قال: فجعل يبكي، ثم قال في آخر كلامه: يا أبا عبد الرحمن، لك حاجة توصي بها؟ قال: مالي إليك حاجة إلا أن تؤثر الله على ما سواه.(27/207)
قال يحيى بن أكثم: كان لي أخ مروزي وكان يكتب إلي في الأحايين، وما كتب إلي إلا انتفعت بكتابه، فكتب إلي مرة: بسم الله الرحمن الرحيم، يا يحيى اعتبر بما ترى، واتعظ بما تسمع، قبل أن تصير عبرة للناظرين وعظة للسامعين. قال: قلت: لقد جمع فيه.
لما ولي يحيى بن أكثم القضاء كتب إليه أخوه عبد الله بن أكثم من مرو وكان من الزهاد:
ولقمة بجريش الملح آكلها ... ألذ من تمرة تحشى بزنبور
وأكلة قربت للهلك صاحبها ... كحية الفخ دقت عنق عصفور
لقي رجل يحيى بن أكثم وهو على قضاء القضاة فقال له: أصلح الله القاضي: كم آكل؟ قال: فوق الجوع ودون الشبع. قال: فكم أضحك؟ قال: حتى يسفر وجهك ولا يعلو صوتك. قال: فكم أبكي؟ قال: لا تمل البكاء من خشية الله تعالى، قال: فكم أخفي من عملي؟ قال: ما استطعت؟ قال: فكم اظهر منه؟ قال: ما يقتدي بك البر الخير، ويؤمن عليك قول الناس. فقال الرجل: سبحان الله، قول قاطن وعمل ظاعن.
قال يحيى بن أكثم: من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راءاهم.
قال يحيى بن أكثم في رجل من القضاة كان استخف بحقوقه ثم رجع إلى خدمته:
ذهبت بنضرة وجهك الأيام ... ولقد مضى زمن وأنت إمام
ما كان ضرك لو ذخرت ذخيرة ... تبقى لصاحبها يد وذمام
فاليوم إذ نزل البلا بك زرتنا ... هيهات ما منا عليك سلام
كتب يحيى بن أكثم إلى صديق له:(27/208)
جفوت وما فيما مضى كنت تفعل ... وأغفلت من لم تلفه عنك يغفل
وعجلت قطع الوصل في ذات بيننا ... بلا حدث أو كدت في ذاك تعجل
فاصبحت لولا أنني ذو تعطف ... عليك بودي صابر متحمل
أرى جفوة او قسوة من أخي ندىً ... إلى الله فيها المشتكى والمعول
فأقسم لولا ان حقك واجب ... علي وأني بالوفاء موكل
لكنت عزوف النفس عن كل مدبر ... وبعض عزوف النفس عن ذاك أجمل
ولكنني أرعى الحقوق واستحي ... واحمل من ذي الود ما ليس يحمل
فإن مصاب المرء في أهل وده ... بلاء عظيم عند من كان يعقل
قال ابن أخي دعبل: أنشدني أبي قال: أنشدنا يحيى بن أكثم:
أما ترى كيف طيب ذا اليوم ... وكيف سألت مدامع الغيم
وكيف يسري الندى بأدمعه ... فهب نواره من النوم
لو سيم ذا اليوم لاشتراه أخ اللهو ولو كان غالي السوم
ونحن ظامون في صبيحتنا ... فامنن علينا بشرب ذا اليوم
جاء رجل يسأل يحيى بن أكثم فقال له: إيش توسمت في؟ أنا قاض، والقاضي يأخذ ولا يعطي، وأنا من مرو، وأنت تعرف ضيق أهل مرو، وأنا من تميم، والمثل إلى بخل تميم.
لما قدم يحيى بن أكثم مع المأمون دمشق كان ينظر في أمور الناس، فدخل إليه رجل يوماً فكلمه بكلام لا يصلح، فأمر بحبسه، فركب إليه المشايخ في العشي - قال ابن ذكوان وكان فيهم -: فكلمناه وسألناه يخليه، فقال: ما أنا حبسته، فكأنا أنكرنا ذلك من قوله: قال: الحق حبسه، والحق يطلقه.
كان يحيى بن أكثم وقاعة في الناس شريراً، وكان يغري المأمون بالناس، ويقع فيهم عنده، وكان يثني على عمرو بن مسعدة ويقرظه، ويذكر حسن صناعته وفراهته ويصحبه، فدخل عمرو على المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني أن يحيى بن أكثم(27/209)
يثني علي عندك، وأنا أسألك بالله أن تريه أنك قبلت شيئاً من قوله في، فإنه إنما قدم للثناء علي لوقيعة يريد يوقعها بي لديك لتصدقه فيما يقول، فضحك المأمون منه وقال: قد أمنت من ذلك فلا تخفه مني.
قال المأمون يوماً ليحيى بن أكثم: أريد أن تسمي لي ثقلاء عسكري وحاشيتي، قال: اعفني من ذلك، فلست أذكر أحداً منهم، وهم لي على ما تعلم، فكيف إن جرى مثل هذا؟ قال: فإن كنت لا تفعل فاضطجع حتى أفتل مخراقاً وأضربك به وأسمي مع كل ضربة رجلاً، فإن كان ثقيلاً تأوهت وإن يك غير ذلك سكت فأعرفه، فاضطجع له يحيى وقال: ما رأيت قاضي قضاة وأميراً ووزيراً يعمل به مثل ذا، فلف له مخراقاً دبيقياً، فضربه ضربة، وذكر رجلاً، فصاح يحيى: أوه أوه يا أمير المؤمنين في المخراق؟ آخره. فضحك حتى كاد يغشى عليه، وأعفاه من الباقين.
كان المأمون قد احتظى يحيى بن أكثم ورفع منزلته، وخص به خلصة باطنه، فدخل عليه يوماً وهو يتغذى، وعبد الوهاب بن علي إلى جانب المأمون، فسلم فرد عليه السلام، ثم قال: هلم يا أبا محمد، يا غلام وضئه، فخرج يحيى والطويلة على رأسه ليتوضأ، فقال المأمون لعبد الوهاب: أوسع لأبي محمد، فأوسع له بينه وبين المأمون. فغسل يده ودخل، فوضع طويلته عن غير إذنه، فقال المأمون لعبد الوهاب: عد إلى مكانك، وأقعد يحيى بين يديه وكان بدء ما نقمه عليه.
سئل رجل من البلغاء عن يحيى بن أكثم وابن أبي دواد أيهما أنبل؟ فقال: كان أحمد يجد مع جاريته وابنته، ويحيى يهزل مع خصمه وعدوه.
قال يحيى بن معين: كان يحيى بن أكثم يكذب، جاء إلى مصر فاشترى كتب الوراقين وأصولهم فقال: أجيزوها لي.(27/210)
قالوا: ولم يسمع من حفص بن غياث إلا عشرة أحاديث فنسخ أحاديث حفص كلها، ثم جاء بها معه إلى البيت.
وقال إسحاق بن راهويه: ذاك الدجال - يعني يحيى بن أكثم - يحدث عن ابن المبارك.
قال علي بن الحسين بن الجنيد: كانوا لا يشكون أن يحيى بن أكثم كان يسرق حديث الناس، فيجعله لنفسه.
وكان يحيى بن أكثم أعور. مازح المأمون يحيى بن أكثم وقد مر غلام أمرد فقال: يا يحيى - وأومأ إلى الغلام - ما تقول في محرم اصطاد ظبياً؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا لا يحسن بإمام مثلك مع فقيه مثلي، قال: فمن القائل؟:
قاض يرى الحد في الزنا ولا ... يرى على من يلوط من باس
قال: من عليه لعنة الله، وفي آخر: أو ما تعرف من قاله؟ قال: لا، قال: يقوله الفاجر أحمد بن أبي نعيم الذي يقول:
حاكمنا يرتشي وقاضينا ... يلوط، والرأس شر ما راس
لا أحسب الجور ينقضي وعلى الأمة وال من آل عباس
فوجم المأمون وقال: هذا مزاح قد تضمن إسماعاً قبيحاً، وأنشأ يقول:
وكنا نرجي أن نرى العدل ظاهراً ... فأعقبنا بعد الرجاء قنوط
وهل تصلح الدنيا ويصلح أهلها ... وقاضى قضاة المسلمين يلوط(27/211)
زاد في آخر وقال: ينبغي أن ينفى احمد بن أبي نعيم إلى السند.
والأبيات السينية:
أنطقني الدهر بعد إخراسي ... لنائبات أطلن وسواسي
يا بؤس للدهر لا يزال كما ... يرفع من ناس يحط من ناس
لا أفلحت أمة وحق لها ... بطول نكس وطول اتعاس
ترضى بيحيى يكون سائسها ... وليس يحيى لها بسواس
قاض يرى الحد في الزنا ولا ... يرى على من يلوط من باس
يحكم للأمرد الغرير على ... مثل جرير ومثل عباس
فالحمد لله كيف قد ذهب ال ... عدل وقل الوفاء في الناس
أميرنا يرتشي وحاكمنا ... يلوط والرأس شر ما راس
لو صلح الدين واستقام لقد ... قام على الناس كل مقياس
لا أحسب الجور ينقضي وعلى الأمة وال من آل عباس
ونسبت هذه الأبيات للرياشي، وهي لأحمد بن أبي نعيم.
تولى يحيى بن أكثم ديوان الصدقات على الأضراء، فلم يعطهم شيئاً، فطالبوه، فلم يعطهم، وقال: ليس لكم عند أمير المؤمنين شيء، فقالوا: لا تفعل يا أبا سعيد، فقال: الحبس الحبس، فحبسوا جميعاً، فلما كان الليل ضجوا، فقال المأمون: ما هذا؟ قالوا: الأضراء، حبسهم يحيى بن أكثم، قال: لم حبسهم؟ قال: كنوه فحبسهم، فدعاه، فقال: حبستهم على أن كنوك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لم أحبسهم على ذلك، إنما(27/212)
حبستهم على التعريض قالوا لي: يا أبا سعيد، يعرضون بشيخ لائط في الحربية.
قال فضلك بن العباس: مضيت أنا وداود الأصبهاني إلى يحيى بن أكثم ومعنا عشر مسائل، فألقى عليه داود خمس مسائل، فأجاب فيها أحسن جواب، فلما كان في السادسة دخل عليه غلام حسن الوجه، فلما رآه اضطرب في المسألة، ولم يقدر يجيء ولا يذهب، فقال لي داود: قم، فإن الرجل قد اختلط.
لما عزل إسماعيل بن حماد عن البصرة شيعوه، فقالوا: عففت عن أموالنا ودمائنا، فقال إسماعيل: وعن أبنائكم، يعرض بيحيى بن أكثم في اللواط.
كان الحسن بن عبيد الله بن الحسن العنبري قاضياً، وكان عابساً كالحاً، فتقدمت إليه جارية لبعض أهل البصرة، تخاصم في ميراث، وكانت حسنة الوجه، فتبسم وكلمها، فقال عبد الصمد بن المعذل في ذلك:
ولما سرت عنها القناع متيم ... تروح منها العنبري متيماً
رأى ابن عبيد الله وهو محكم ... عليها لها طرفاً عليه محكماً
وكان قديماً عابس الوجه كالحاً ... فلما رأى منها السفور تبسما
فإن يصب قلب العنبري فقبله ... صبا باليتامى قلب يحيى بن أكثما
كان سليمان الشاذكوني عند يحيى بن أكثم فجعل يعارضه في كل شيء يقول، فقال(27/213)
له يحيى: يا أبا أيوب، حدثني سليمان بن حرب أن بعض مشايخ البصرة يكذب في حديثه، فقال له سليمان: أعز الله القاضي، حدثني سليمان بن حرب أن بعض قضاة المسلمين يفعل فعلاً عذب الله تعالى عليه قوماً.
كان يحيى بن أكثم يحسد حسداً شديداً، وكان مفنناً، فإذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث، فإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو، فإذا رآه يعلم النحو سأله عن الكلام، ليقطعه ويخجله، فدخل إليه رجل من أهل خراسان ذكي حافظ، فناظره فرآه مفنناً، فقال له: نظرت في الحديث؟ قال: نعم، قال: فما تحفظ من الأصول؟ قال: أحفظ: شريك عن أبي إسحاق عن الحارث أن علياً رجم لوطياً. فأمسك فلم يكلمه بشيء.
كان زيدان الكاتب يكتب بين يدي يحيى بن أكثم القاضي، وكان غلاماً جميلاً متناهي الجمال، فقرص القاضي خده، فخجل الغلام واستحيا، وطرح القلم من يده، فقال له يحيى: اكتب ما أملي عليك ثم قال:
أيا قمراً جمشته فتغضبا ... فأصبح لي من تيهه متجنبا
إذا كنت للتجميش والعشق كارهاً ... فكن أبداً يا سيدي متنقبا
ولا تظهر الأصداغ للناس فتنة ... وتجعل منها فوق خديك عقربا
فتقتل مشتاقاً وتفتن ناسكاً ... وتترك قاضي المسلمين معذبا
استعدى ابن عمار بن أبي الخصيب يحيى بن أكثم على ورثة أبيه، وكان بارع الجمال فقال له: أيها القاضي، أعدني عليهم، قال: فيمن يعديني أنا على عينيك؟ فهربت به أمه إلى بغداد، فقال لها وقد تقدمت إليه: والله لا أنفذت لكم حكماً أو لتردنه، فهو أولى بالمطالبة منك.
كان يحيى بن أكثم عند الواثق، وغلام أمرد حسن الوجه من غلمان الخليفة واقف بين(27/214)
يديه، فأحد النظر إليه، فتبسم، فقال له الواثق: يا يحيى، بحياتي لتبتلنه، فقال: إني وحياتك منزه.
دخل ابنا مسعدة على يحيى بن أكثم، وكانا في نهاية الجمال، فلما رآهما يمشيان في الصحن أنشأ يقول:
يا زائرينا من الخيام ... حياكما الله بالسلام
لم تأتياني وبي نهوض ... إلى حلال ولا حرام
يحزنني أن وقفتما بي ... وليس عندي سوى الكلام
ثم أجلسهما بين يديه وجعل يمازحهما حتى انصرفا وقيل: إن يحيى عزل عن الحكم بسبب هذه الأبيات التي أنشدها لما دخل عليه ابنا مسعدة.
ولما عزل يحيى بن أكثم عن القضاء بجعفر بن عبد الواحد جاءه كاتبه فقال: سلم الديوان، فقال: شاهدان عدلان على أمير المؤمنين أنه أمرني بذلك، فأخذ منه الديوان قهراً، وغضب عليه المتوكل، فأمر بقبض أملاكه، ثم أدخل مدينة السلام، وألزم منزله.
وكان المتوكل قد صير يحيى بن أكثم في مرتبة أحمد بن أبي دواد وخلع عليه خمس خلع.
قال إسماعيل بن إسحاق: كان يحيى بن أكثم يقول: أبرأ إلى الله عز وجل من أن يكون في شيء مما رميت به من أمر الغلمان. قال: ولقد كنت أقف على سرائره فأجده شديد الخوف لله، ولكنه كانت فيه دعابة وحسن خلق، فرمى بما رمي به.
قال عبد الله بن محمود: رأيت قاضي القضاة يحيى بن أكثم بمكة يلاحظ حجاماً عليه أنف كأنه برج فقلت له: أيها القاضي، ما هذا الوقوف؟! فقال: ذرني، فإني أريد أنظر إلى هذا، كيف يستوي له مص المحجمة مع هذا الأنف. وكان رجل بين يدي الحجام، ففطن به(27/215)
الحجام، فقال له: مالك تنظر إلي؟! وليس أضرب في قفا هذا بمعولي وأنت واقف، فتوارينا عنه، فإذا هو يعطف أنفه بيده اليسرى ويمسك المحجمة بيده اليمنى ويمص بفيه، فقال يحيى: أما هكذا فنعم.
قال محمد بن مسلم السعدي: وجه إلي يحيى بن أكثم يوماً فصرت إليه، فإذا عن يمينه قمطرة مجلدة فجلست، فقال: افتح هذه القمطرة ففتحها، فإذا شيء خرج منها، رأسه رأس إنسان، وهو من سرته إلى أسفله خلق زاغ، وفي صدره وظهره سلعتان، فكبرت وهللت وجزعت، ويحيى يضحك، فقال لي بلسان فصيح طلق ذلق:
أنا الزاغ أبو عجوه ... أنا ابن الليث واللبوه
أحب الراح والريحا ... ن والنشوة والقهوه
فلا عربدتي تخشى ... ولا تحذر لي سطوه
ولي أشياء تستظر ... ف يوم العرس والدعوه
فمنها سلعة في الظه ... ر لا تسترها الفروه
وأما السلعة الأخرى ... فلو كان لها عروه
لما شك جميع النا ... س فيها أنها ركوه
ثم قال: يا كهل، أنشدني شعراً غزلاً، فقال لي يحيى: قد أنشدك الزاغ، فأنشده، فأنشدته:
أغرك أن أذنبت ثم تتابعت ... ذنوب فلم أهجرك ثم أتوب
وأكترث حتى قلت ليس بصارمي ... وقد يصرم الإنسان وهو حبيب(27/216)
فصاح زاغ زاغ زاغ، وطار ثم سقط في القمطر، فقلت ليحيى: أعز الله القاضي، وعاشق أيضاً؟! فضحك، قلت له: أيها القاضي، ما هذا؟ قال: هو ما ترى وجه به صاحب اليمن إلى أمير المؤمنين وما رآه بعد. وكتب كتاباً لم أفضضه، وأظنه ذكر في الكتاب شأنه وحاله.
توفي يحيى بن أكثم سنة اثنتين وأربعين ومئتين، وقيل: غره سنة ثلاث وأربعين ومئتين. وكان قد توجه إلى الحجاز وحمل أخته معه، وعزم على أن يجاور. فلما اتصل به رجوع المتوكل له بدا له في المجاورة، ورجع يريد العراق، فمات بالربذة، ودفن بها، وله ثلاث وثمانون سنة.
قال محمد بن سلم الخواص الشيخ الصالح: رأيت يحيى بن أكثم القاضي في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، وقال لي: يا شيخ السوء، لولا شيبتك لأحرقتك بالنار، فأخذني ما يأخذ العبد بين يدي مولاه. فلما أفقت قال لي: يا شيخ السوء لولا شيبتك لأحرقتك بالنار، فأخذني ما يأخذ العبد بين يدي مولاه. فلما أفقت قال لي: يا شيخ السوء فذكر الثالثة مثل الأوليين. فلما أفقت قلت: يا رب، ما هكذا حدثت عنك، فقال الله: وما حدثت عني - وهو أعلم بذلك - قلت: حدثني عبد الرزاق بن همام، حدثنا معمر بن راشد عن ابن شهاب الزهري عن أنس بن مالك عن نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جبريل عنك يا عظيم أنك قلت: ما شاب لي عبد في الإسلام شيبةً إلا استحييت منه أن أعذبه بالنار. فقال الله: صدق عبد الرزاق، وصدق الزهري، وصدق أنس، وصدق نبيي، وصدق جبريل. أنا قلت ذلك، انطلقوا به إلى الجنة.
زاد في آخر بمعناه: إلا أنك خلطت علي في دار الدنيا(27/217)
وقيل: إن يحيى رئي في المنام فقيل له: إلى أي شيء صرت؟ قال: إلى الجنة، قيل له: إلى الجنة؟! قال: نعم، إني رأيت رب العزة جل وعز فقال لي: يا يحيى، لولا شيبتك لعذبتك، فقلت: يا رب، حدثني عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس بن مالك عن محمد نبيك عن جبريل أنك قلت: إني لأستحي أن أعذب أبناء ثمانين.
قال: صدق جبريل، صدق محمد نبيي، صدق أنس بن مالك، صدق قتادة، صدق معمر، صدق عبد الرزاق: إني لأستحي أن أعذب أبناء ثمانين، وكساني حلتين ورداءين وحلة خضراء.
يحيى بن بختيار بن عبد الله
أبو زكريا الشيرازي القرقوبي، المعروف بابن كثامة العالمة حدث عن أبي الفتح نصر بن إبراهيم بسنده إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليعلمه صلاة الحاجة، فأمر أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم، إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه إليك بربك عز وجل في حاجتي هذه لتقضى لي، فاللهم، شفعه في.
قال المقتدر أمير المؤمنين: كنت جالساً بين يدي المؤدب للتعلم إذا دخل صديق له، فبالغ في إكرامه وإعظامه، وأجلسه إلى جانبه فحادثه حتى انتهى به الحديث إلى موضع فقطعه، وأخذ يساره، فأصغيت إليهما لأسمع ما يساره به، فقال لي المؤدب: أيها السيد، ثمانية إن أهينوا فلا يلومن إلا أنفسهم: رجل أتى مائدة لم يدع إليها، والمتآمر على رب البيت في زيه، والداخل بين اثنين في حديثهما ولم يدخلاه فيه، والمستخف بحق السلطان، والجالس في مجلس ليس هو له بأهل، والمقبل بحديثه على من لا يسمع منه، وطالب الحوائج من أعدائه، وملتمس البر من اللئام. فإياك والمعاودة إلى مثل ما فعلت.(27/218)
فقلت: السمع والطاعة، لست أعاود، فقال: اكتب: أنشدني بعض إخواني:
أيها الفاخر جهلاً بالنسب ... إنما الناس لأم ولأب
هل تراهم خلقوا من فضة ... أم نحاس أم حديد أم ذهب
فترى فضلهم في خلقهم ... هل سوى لحم وعظم وعصب
إنما الفخر بعلم راجح ... وبأخلاق حسان وأدب
قال: وحدثنا نصر قال: أنشدني نصر بن معروف المسافر:
نل ما بدا لك أن تنال من الغنى ... إن أنت لم تقنع فأنت فقير
يا جامع المال الكثير لغيره ... إن الصغير غداً يكون كبير
وبه قال:
وإذا ائتمنت على عيوب فاخفها ... واستر عيوب أخيك حين تطلع
لا تفش سرك ما حييت إلى امرئ ... يفشي إليك سرائراً تستودع
فكما تراه بسر غيرك صانعاً ... فكذا بسرك لا محالة يصنع
وكتاب ربك كن به متهجداً ... إن المحب لربه لا يهجع
توفي يحيى سنة سبع وخمسين وخمس مئة. وولد سنة خمس أو ست أو أربع وسبعين
يحيى بن بسطام بن حريث
أبو محمد الزهراني البصري حدث عن يحيى بن حمزة بسنده إلى تميم الداري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من قرأ بمئة آية في ليلة كتب له قنوت ليله ".(27/219)
وحدث عن ليث بن سعد بسنده إلى عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تدخلوا على النساء "، قيل: يا رسول الله، إلا الحمو؟ قال: " الحمو الموت ".
كان يحيى يذكر بالقدر.
يحيى بن بشر بن كثير
أبو زكريا الأسدي الحريري حدث عن معاوية بن سلام بسنده إلى ابن عباس قال: إذا حرم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفرها. وقال: لكم في رسول الله أسوة حسنة.
وحدث عنه بسنده إلى جابر بن عبد الله، أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن المزابنة والحقول، فقال جابر بن عبد الله: المزابنة: الثمر بالثمر، والحقل: كراء الأرض. توفي يحيى بن بشر سنة تسع وعشرين ومئتين، وكان ثقة صدوقاً. وقيل: توفي سنة سبع وعشرين ومئتين.(27/220)
يحيى بن بطريق بن بشرى أبو القاسم
حدث عن أبي الحسين محمد بن مكي بن عثمان بسنده إلى أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم الشهر فعدوا ثلاثين ".
توفي أبو القاسم بن بطريق في الثاني والعشرين من رمضان سنة أربع وثلاثين وخمس مئة.
يحيى بن تمام بن علي
أبو الحسين المقدسي المعروف بابن الرملي الخطيب حدث عن أبي عثمان محمد بن أحمد بن فدقا الإصبهاني بسنده إلى أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا كان صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يجهل، فإن جهل عليه أحد فليقل: إني امرؤ صائم ".
وحدث عن ابن فدقا بإسناده إلى أبي طاهر بن أبي عبيدة عن أبيه لنفسه:
إذا نحن فضلنا علياً فإننا ... روافض بالتفضيل عند ذوي الجهل
وفضل أبي بكر إذا ما ذكرته ... رميت بنصب عند ذكر ذوي الفضل
فلا زلت ذا رفض ونصب كلاهما ... بحبهما حتى أغيب في الرمل
توفي يحيى الخطيب سنة سبع عشرة وخمس مئة. وولد سنة خمسين وأربع مئة.(27/221)
يحيى بن جابر بن حسان
ابن عمرو بن ثعلبة بن عدي بن ملاءة بن عوف، أبو عمرو الطائي الحمصي، قاضي حمص حدث عن عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " تعوذوا بالله من طمع يرد إلى طبع، ومن طمع إلى غير مطمع ".
وحدث عن المقدام بن معدي كرب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه وقال: " إن الله يوصيكم بالنساء خيراً، إن الله يوصيكم بالنساء خيراً، إن الله يوصيكم بالنساء خيراً، فإنهن أمهاتكم، وبناتكم، وأخواتكم، وعماتكم، وخالاتكم، إن الرجل من أهل الكتابين يتزوج المرأة وما يعلق بدنها الحبط، فما يرغب واحد منهما عن صاحبه حتى يموتا هرماً ".
قال أبو سلمة: فحدثت بهذا الحديث العلاء بن سفيان الغساني فقال: لقد بلغني أن من الفواحش التي حرم الله مما بطن مما لم يتبين ذكرها في القرآن أن يتزوج الرجل المرأة، فإذا تقادم صحبتهما، وطال عهدها، ونفضت ما في بطنها طلقها من غير ريبة.
وبه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن، حسب المسلم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه ".
توفي يحيى بن جابر سنة ست وعشرين ومئة، وكان صالح الحديث.(27/222)
حدث رجل من ولد الحارث بن يزيد، حمصي، عن أبيه قال: خرجت في سحر إلى الوادي، فرأيت ركباً فقلت: ما أنتم؟ قالوا: بخير حين رحلنا من عند يحيى بن جابر من كثرة قراءته.
قال يحيى بن جابر: ما عاب رجل قط رجلاً بعيب إلا ابتلاه الله بذلك العيب.
يحيى بن الحارث أبو عمرو
ويقال: أبو عمر - الذماري، المقرئ، إمام جامع دمشق.
حدث عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس الثقفي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: في الجمعة: " من غسل واغتسل، ثم ابتكر وغدا، ثم دنا من الإمام وأنصت، ولم يلغ حتى يفرغ الإمام كانت له كل خطوة خطاها كأجر سنة صيامها وقيامها ".
وحدث عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الغدو والرواح إلى المساجد من الجهاد في سبيل الله ".
قال يحيى بن الحارث: لقيت واثلة بن الأسقع فقلت: بايعت بيدك هذه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، قلت: فأعطنيها حتى أقبلها، قال: فأعطانيها فقبلتها.
قال سويد بن عبد العزيز: سألت يحيى بن الحارث عن عدد آي القرآن قال: فأشار بيده اليمنى: سبعة آلاف ومئتين وستة وعشرين بيده اليسار.(27/223)
قال يحيى بن الحارث: حدثني من سمع عثمان بن عفان يقرأ: " إلا من اغترف غرفة بيده ". توفي يحيى بن الحارث سنة خمس وأربعين ومئة، وكان ثقة صالح الحديث.
يحيى بن حسان أبو زكريا
التنيسي المصري قدم دمشق.
حدث عن سليمان بن بلال بسنده إلى عائشة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " نعم الإدام أو الأدم الخل ".
وبه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يجوع أهل بيت عندهم التمر ".
وحدث عن يحيى بن حمزة بسنده إلى ثوبان أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " صيام شهر بعشرة أشهر - وفي رواية: صيام رمضان بعشرة أشهر - وصيام ستة أيام بشهرين، فذلك صيام سنة ".
يعني رمضان وستة أيام بعده.
وحدث عن سليمان بن قرم عن ثابت عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " طلب العلم فريضة على كل مسلم ".
وكان يحيى بن حسان صاحب حديث، ثقة.
قال الربيع بن سليمان: كان الشافعي إذا قال: أخبرنا الثقة، يريد يحيى بن حسان. وإذا قال: أخبرنا من(27/224)
لا أتهم يريد إبراهيم بن أبي يحيى. وإذا قال: أخبرنا بعض الناس، يريد به أهل العراق. وإذا قال: بعض أصحابنا، يريد به أهل الحجاز.
لما ورد الشافعي تنيس نزل على يحيى بن حسان، وكان من المياسير، وكان طباخه لا يعيد اللون في الأسبوع إلا مرة، فأمر الشافعي الطباخ بإعادة لون استطابه. فلما وضع على المائدة تغير يحيى بن حسان، فقال الشافعي: أنا أمرته بهذا، فسري عنه، ثم قال للغلام الطباخ: أنت حر لوجه الله شكراً لانبساط أبي عبد الله الشافعي في رحلنا.
توفي يحيى بن حسان سنة سبع ومئتين. وقيل: ثمان ومئتين أو تسع ومئتين.
يحيى بن الحسين بن علي
أبو محمد بن أبي عبد الله السعدي البخاري الفقيه حدث عن أبي نصر أحمد بن أحمد الصكاك بسنده إلى طلق بن حبيب قال:
جاء رجل إلى أبي الدرداء، فقال: يا أبا الدرداء، احترق بيتك، فقال: ما احترق، ثم جاء رجل آخر فقال: يا أبا الدرداء، احترق بيتك، فقال: ما احترق، ثم جاء رجل آخر فقال: يا أبا الدرداء، انتهت النار، فلما انتهت إلى بيتك طفئت. قال: قد علمت أن الله لم يكن ليفعل، قالوا: يا أبا الدرداء، ما ندري أي كلامك أعجب، قولك: ما احترق، أو قولك: قد علمت أن الله لم يكن ليفعل، قال: ذلك لكلمات سمعتهن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من قالها أول النهار لم تصبه مصيبة حتى يمسي، ومن قالها آخر النهار لم تصبه مصيبة حتى يصبح: " اللهم، إنك ربي، لا إله إلا أنت، عليك توكلت، وأنت رب العرش الكريم. ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيْ علماً. اللهم، إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها. إن ربي على صراط مستقيم ".(27/225)
يحيى بن الحكم بن أبي العاص بن أمية
ابن عبد شمس، أبو مروان الأموي، أخو مروان بن الحكم حدث عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصدق أهل اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعا "، والتبيع الجذع والجذعة، ومن كل أربعين مسنة فعرضوا علي أن آخذ ما بين الأربعين والخمسين، وبين الستين والسبعين، وما بين الثمانين والتسعين، فأبيت ذلك وقلت لهم: حتى أسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، فأخبرت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعاً، ومن الأربعين مسنة، ومن الستين تبيعين، ومن السبعين مسنة وتبيعاً، ومن الثمانين مسنتين، ومن التسعين ثلاثة أتابيع، ومن المئة مسنة وتبيعين، ومن العشرة والمئة مسنتين وتبيعاً، ومن العشرين ومئة ثلاث مسنات أو أربع أتابيع. قال: وأمرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا آخذ مما بين ذلك شيئاً إلا أن يبلغ مسنة أو جذعاً - وفي حديث: أو جذعة - وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها.
كان يحيى بن الحكم عاملاً على المدينة لعبد الملك بن مروان، وكان فيه حمق، فوفد على عبد الملك بغير إذن، فقال له عبد الملك: ما أقدمك علي بغير إذني؟! من استعملت على المدينة؟ قال: أبان بن عثمان. قال: لا جرم لا ترجع إليها، فأقر عبد الملك أباناً على المدينة، وكتب إليه بعهده عليها.
قدم عبد الملك حمص فأمر بإسحاق بن الأشعث فضربت عنقه صبراً، فتكلم أهل حمص، فبلغه ذلك، فنادى: الصلاة جامعة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما حديث بلغني عنكم يا أهل الكويفة، فقام إليه عبد الرحمن بن ذي الكلاع فقال:(27/226)
يا أمير المؤمنين، لسنا بأهل الكويفة، ولكنا أهل الكوفة الذين قاتلنا معك مصعب بن الزبير، وأنت تقول يومئذ: والله يا أهل حمص لأواسينكم، ولو بما ترك مروان، وعليك يومئذ قباؤك الأصفر، قال: وأخرج إليه رجل من مجلس ميتم ساعداً له نحيفة، فقال: يا أمير المؤمنين، اعزل عنا سفيهك يحيى بن الحكم، وإلا بعثنا عليك بأكثره شعراً. فلما قضى خطبته التفت إلى يحيى بن الحكم فقال: ارتحل عن جوار القوم، فقد سمعت ما قال الفايشي.
ومن شعر يحيى بن الحكم:
لهام بجنب الطف أدنى قرابة ... من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سمية أمسى نسلها عدد الحصى ... وبنت رسول الله ليس لها نسل!
كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: كيف أنت والنساء؟ أحريص جاهد أنت؟ أو مستبق قادر؟ وعليك بذوات الدل منهن، وقليل ما هن، وكيف لنا بمثل التي يقول فيها يحيى بن الحكم:
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... لفاء غامضة الكعبين معطار
خود من الخفرات البيض لم يرها ... بساحة الدار لا بعل ولا جار
يحيى بن حكيم
حدث عن الأوزاعي قال: كان الأوزاعي إذا قدم من بيروت نزل عليه بدمشق.(27/227)
قال: سألت الأوزاعي عن الرجل تقام الصلاة وذكره قائم؟ قال: يضعه بين فخذيه ويدخل في الصلاة.
المشهور في هذا عون بن حكيم.
يحيى بن حمزة بن واقد
أبو عبد الرحمن الحضرمي من بيت لهيا. قاضي دمشق.
حدث عن الأوزاعي بسنده إلى أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
" ما من بلد غلا سيدخله الدجال إلا الحرمين: مكة والمدينة، ما نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، فيصير حتى يأتي السبخة فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فلا يبقى دونها كافر ولا منافق إلا خرج إليه ".
كان يحيى بن حمزة يرمى بالقدر.
لما قدم المنصور دمشق سنة ثلاث وخمسين استعمل يحيى بن حمزة وقال له: يا شاب، إني أرى أهل بلدك قد أجمعوا عليك، فإياك والهدية، فلم يزل قاضياً حتى مات في خلافة هارون.
قال يحيى بن حمزة: ولاني المهدي القضاء وقال لي: يا يحيى، عليك بالحق والشد على يد المظلوم وقمع الظالم، فإني سمعت أبي يقول عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "(27/228)
قال ربك: وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم، في عاجل أمره أو في آجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلوماً يظلم فقدر أن ينتصر له فلم يفعل ".
وفي رواية: " فلم ينصره ".
توفي يحيى بن حمزة سنة اثنتين أو ثلاث وثمانين ومئة، وقيل: سنة ست وسبعين ومئة.
يحيى بن أبي حية
واسم أبي حية حيي، أبو جناب الكلبي الكوفي حدث عن أبي جميلة الطهوي قال: سمعت علياً كرم الله وجهه يقول: احتجم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال للحجام حين فرغ: كم خراجك؟ قال: صاعين، فوضع عنه صاعاً، وأمرني فأعطيته صاعاً.
وحدث أبو جناب عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند هذه السارية، وهي جذع نخلة، قال: " لاعدوى ولا طيرة ولا هامة ".
فقال رجل كأنه بدوي: يا أبا عبد الرحمن، أرأيت البعير تجرب الإبل، فقال له: ذلك القدر، فمن أجرب الأول؟ قال: وكانت السارية يسند إليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظهره، إذا أراد أن يكلم الناس(27/229)
يرفع يديه يوم الجمعة، فقالوا له: ألا نصنع لك شيئاً كقدر مقامك تجلس عليه؟ فقال: ما أبالي أن تفعلوا ثلاث مراقي. فلما تحول إليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خارت الجذعة كما تخور البقرة، فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليها فالتزمها فسكنت.
وحدث عن عبد الرحمن بن أبي يحيى عن أبيه قال: إني لجالس عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاءه أعرابي فقال: إن لي أخاً وجعاً فقال: وما وجع أخيك؟ قال: به لمم. قال: اذهب فائتني به، فسمعته عوذه بفاتحة الكتاب وأربع آيات من أول البقرة، وآيتين من وسطها " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إن في خلق السموات والأرض " الآيتين، وآية الكرسي، وثلاث آيات خاتمة البقرة، وآية من آل عمران: " شهد الله أنه لا إله إلا هو " إلى آخر الآية. وآية من الأعراف: " إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض " إلى آخر الآية. وآية من سورة المؤمنين: " فتعالى الله الملك الحق " الآية. وآية من سورة الجن: " وأنه تعالى جد ربنا مااتخذ صاحبة ولا ولداً "، وعشر آيات من أول الصافات آخرهن: " من طين لازب "، وآخر سورة الحشر. و" قل هو الله أحد "، والمعوذتين. فأتى الأعرابي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: قد برئ ليس به بأس.(27/230)
قال زكريا بن عدي: كان الصلت بن بسطام التميمي يجلس في حلقة أبي جناب يدعون بعد العصر يوم الجمعة، فجلسوا يوماً يدعون، وكان قد نزل الماء في عينيه فذهب بصره، فدعوا وذكروا بصره في دعائهم. فلما كان قبل غروب الشمس عطس عطسة فإذا هو يبصر بعينيه، وإذا قد رد الله عليه بصره. قال زكريا: فقال لي ابنه: قال لي حفص بن غياث: أنا رأيت الناس عشيتئذ يخرجون من المسجد مع أبيك يهنئونه.
ضعفأبا جناب قوم، ووثقه آخرون. وتوفي سنة سبع وأربعين ومئة. وقيل سنة خمسين ومئة.
يحيى بن أبي الخصيب زياد الرازي
ويقال البغدادي قاضي عكبرا.
حدث عن محمد بن قيس المأربي بسنده إلى أبيض بن حمال قال: استقطعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الماء الذي بمأرب فأقطعنيه. فلما وليت قال له رجل: إنما أقطعته الماء العد قال: فرجعه، أو قال: فلا إذاً.
وحدث عن عبد الله بن هانئ بسنده إلى عبد الله بن محيريز قال: كان عياض بن غنم على بعث من أهل الشام، ومعه مولى له، فغضب عليه فضربه فحجزه هشام بن حكيم القرشي، وكلاهما من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانطلق عياض إلى فسطاطه غضبان، فأمهله هشام حتى إذا ذهب عنه الغضب أتاه، فاستأذن، فقال: لله أبوك! ما حملك على الذي فعلت؟! فقال هشام: أم والله ما سمعت شيئاً لم تسمعه، قال: فما سمعت؟ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "(27/231)
إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة أشدهم عذاباً للناس في الدنيا ".
وحدق عن إبراهيم بن أبي عبلة بسنده إلى أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن نملة قرصت نبياً من الأنبياء، فأمر بقريتها فأحرقت فأوحى الله تعالى إليه: من أجل نملة واحدة قتلت أمة من الأمم.
كان يحيى بن أبي الخصيب ثقة، وكان من أوعية العلم.
يحيى بن دواد بن سيار
ابن أبي عتاب البصري حدث بدمشق عن محمد بن مسكين بن نميلة اليمامي بسنده إلى سعيد بن زيد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق ".
يحيى بن راشد بن مسلم
ويقال: ابن كنانة - أبو هشام الليثي الطويل، اخو عمارة بن راشد حدث عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، ومن مات وعليه دين فليس بالدينار والدرهم، ولكنها الحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال ".(27/232)
حدث عمارة بن غزية عن يحيى بن راشد الدمشقي، أنهم جلسوا لابن عمر. قال: فما رأيته أراد الجلوس معنا حتى قلنا: هلم إلى المجلس يا ابا عبد الرحمن. قال: فرأيته تذمم. قال: فجلس، فسكتنا، فلم يتكلم منا أحد، فقال: ما لكم لا تنطقون؟! ألا تقولون: سبحان الله وبحمده، فإن الواحد بعشرة، والعشرة بمئة، والمئة بألف، وما زدتم زادكم الله. سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ". الحديث.
قال يحيى بن راشد: صليت خلف ابن الزبير الجمعة، فقرأ في الركعة الأولى: يسبح. الجمعة، وفي الركعة الثانية: " سبح اسم ربك الأعلى " حتى انتهى إلى هذا الموضع " إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ".
قال يحيى بن راشد: سمعت رجلاً يحدث أنه سمع معاذ بن جبل يقول: والله، لا يدع الله العباد يوم القيامة يقومون على أقدامهم لرب العالمين حتى يسألهم عن خلال أربع: فيسألهم عما أفنوا فيه أعمارهم، وعما أبلوا فيه أجسادهم، وعما أنفقوا فيه مااكتسبوا، وعما عملوا فيما علموا.
قال علي بن أبي حملة: لما قفل الناس من القسطنطينية لقيت يحيى بن راشد فقال لي: وجدت الدين الخبر.(27/233)
يحيى بن أبي راشد النصري
حدث أن عمر بن الخطاب لما حضرته الوفاة قال لابنه: يا بني، إذا حضرتني الوفاة فاحرفني، واجعل ركبتيك في صلبي، وضع يدك اليمنى على جنبي، أو جبيني، ويدك اليسرى على ذقني، فإذا قبضت فأغمضني، واقصدوا في كفني، فإنه إن يكن لي عند الله خير أبدلني به خيراً منه، وغن كنت على غير ذلك سلبني، فأسرع سلبي، واقصدوا في حفرتي، فإنه إن يكن لي عند الله خير وسع لي فيها، مد بصري، وغن كنت على غير ذلك ضيقها علي حتى تختلف أضلاعي، ولا تخرجن معي امرأة ولا تزكوني بما ليس في، فإن الله هو أعلم بي، وإذا خرجتم بي فأسرعوا في المشي، فإنه إن يكن لي عند الله خير قدمتموني إلى ماهو خير لي، وإن كنت على غير ذلك كنتم قد ألقيتم عن رقابكم شراً تحملونه.
يحيى بن أبي عمرو زرعة
أبو زرعة السيباني، ابن عم الأوزاعي الفقيه حدث عن ابن الديلمي بسنده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن سليمان بن داود لما فرغ من بنيان مسجد بيت المقدس سأل الله حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، ولا يأتي هذا المسجد أحد، لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما اثنتان فقد أعطيهما، وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة.
قال أبو زرعة السيباني: خرجت مع أبي، وأناس معنا إلى أبي الدرداء نعوده، فوجدناه مولياً وجهه إلى الحائط، ووجدنا أم الدرداء عند رأسه، فقال لها القوم: كيف بات أبو الدرداء؟ قالت: بات بأجر، قال: فحول وجهه إلينا وقال: ليس القول على ما قالت فوجم(27/234)
القوم لذلك، فقال: أولا تسألوني لم قلت هذا؟ قالوا: ولم قلته؟ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن المؤمن لا يؤجر في مرضه، ولكن يكفر عنه ".
قال محمد بن حبيب: كل شيء في العرب شيبان إلا في حمير، فإن فيها سيبان بن الغوث بن سعد بن عوف ويحيى بن أبي عمرو السيباني، بسين غير معجمة، ويليها ياء معجمة باثنتين من تحتها، وباء معجمة بواحدة.
قال يحيى بن أبي عمرو: مكتوب في الإنجيل: استوصوا بمن يقدم عليكم من غير بلادكم من الغرباء. توفي يحيى بن أبي عمرو سنة ثمان وأربعين ومئة. وقيل: توفي بعد الخمسين. وكان ثقة.
يحيى بن زكريا بن أحمد
ابن يحيى خت بن موسى أبو بكر البلخي الشاهد، ابن القاضي حدث يحيى بن زكريا أن أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن ثابت حدثهم بسنده إلى البراء بن عازب قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول إذا أخذ مضجعه يقول: " إليك اللهم أسلمت نفسي، وإليك وجهت وجهي، وإليك فوضت أمري، وإليك ألجأت ظهري رغبة ورهبة، لا منجا ولا ملتجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي ارسلت ". فإن مات مات على الفطرة.
توفي أبو بكر البلخي سنة تسع وأربعين وثلاث مئة.(27/235)
يحيى بن زكريا بن لشوى
ويقال: زكريا بن ادن بن مسلم بن صندوق بن فخشان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صندوق بن برخيا بن شفاطنة بن ناحور بن شالوم بن يوشافاط بن انييا بن ابنا بن رخيعم بن سليمان بن داود نبي الله ابن نبيه صلى الله عليهما وأم يحيى ايشاع بنت عمران، اخت مريم بنت عمران.
قيل: إنه كان بدمشق.
عن ابن عباس، في قوله عز وجل: " ذكر رحمة ربك " قال: ذكره الله منه برحمة عبده زكريا كتب دعاءه فذلك قوله: " ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداءً خفياً " يعني دعا ربه دعاءً خفياً في الليل، لا يسمع أحداً ويسمع أذنيه، " قال رب إني وهن " يعني: ضعف " العظم مني واشتعل الرأس شيباً " يعني: غلب البياض السواد " ولم أكن بدعائك رب شقياً " أي: إني لم أدعك قط فخيبتني فيما مضى، فتخيبني فيما بقي، فكما لم أشق بدعائي فيما مضى، فكذلك لا أشقى فيما بقي، عودتني الإجابة من نفسك. " وإني خفت الموالي من ورائي " فلم يبق لي وارث، وخفت العصبة أن ترثني " فهب لي من لدنك ولياً " يعني: من عندك ولداً " يرثني " يعني: يرث محرابي وعصاي وبرنس القربان وقلمي الذي أكتب به الوحي " ويرث من آل يعقوب " النبوة " واجعله رب رضياً " يعني: مرضياً عندك.(27/236)
قوله: " وكانت امرأتي عاقراً " قال ابن عباس: خاف أنها لا تلد فقال: وامرأتي عاقر، وأنت تفعل ما تشاء، فهب لي ولداً، فإذا وهبته فاجعله رب رضياً زاكياً بالعمل، فاستجاب الله له، وكانا قد دخلا في السن هو وامرأته.
فبينا هو قائم يصلي في المحراب حيث يذبح القربان، إذا هو برجل عليه البياض حياله، وهو جبريل عليه السلام فقال: يا زكريا، إن الله يبشرك وهو قوله: " نبشرك بغلام اسمه يحيى " واسم يحيى هو اسم من أسماء الله اشتق من يا حي، سماه الله من فوق عرشه، " لم نجعل له من قبل سمياً ".
قال ابن عباس: لم يجعل لزكريا من قبل يحيى ولداً، نظيرها " هل تعلم له سمياً " يعني: هل تعلم له ولداً، ولم يكن لزكريا قبله ولد، ولم يكن قبل يحيى أحد يسمى يحيى.
قال: وكان اسمه حي، فلما وهب الله لسارة إسحاق، فكان اسمها يسارة، ويسارة من النساء التي لا تلد، وسارة من النساء الطالقة الرحم التي تلد، فسماها سارة، وحول الياء من يسارة إلى يحيى، فسماه يحيى، ثم قال: " مصدقاً بكلمة " يعني: بعيسى " من الله " وكان يحيى أول من صدق بعيسى، وهو ابن ثلاث سنين، وبين يحيى وعيسى ثلاث سنين، وهما ابنا خالة، ثم قال تعالى: " وسيدا " يعني: حليماً " وحصوراً " يعني: لا ماء له، ولا يحتاج إلى النساء.
قال الحسن: فأحيا الله عز وجل ماء صلبه وألاق الجلد على العظم فسمي يحيى لما أحيا الله ماء صلبه.(27/237)
وقيل: كان اسمه حي لأنه خلق من قحول، والقحول: العتي، يعني: الذي قال الله: " وقد بلغت من الكبر عتياً " يعني قحولاً، قد يبس الجلد على العظم، وانقطع ماء الصلب.
وعن ابن عباس، في قوله: " كذلك قال ربك " يا زكريا " هو علي هين وقد خلقتك من قبل " أن أهب لك يحيى " ولم تك شيئاً " وكذلك أقدر أن أخلق من الكبير والعاقر " قال رب اجعل لي آية " أعرف ذلك إذا استجيب لي، فأوحى الله إليه " قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً " يعني: صحيحاً من غير خرس.
قال ابن عباس: في قوله: " فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه " يعني: فحاضت، فلما طهرت طاف عليها فاستحملت، فأصبح لا يتكلم، فكان إذا أراد التسبيح والصلاة أطلق الله لسانه، فإذا أراد أن يكلم الناس اعتقل لسانه، فلا يستطيع أن يتكلم، وذلك أن إبليس أتاه فقال: يا زكريا، دعاؤك كان دعاءً خفياً، فأجبت بصوت رفيع وبشرت بصوت عال، ذلك الصوت من الشيطان ليس من جبريل، ولا من ربك فلذلك " قال رب اجعل لي آية " حتى أعرف أن هذه البشرى منك. قال الله تعالى: " آيتك " إذا جامعتها على طهر فحملت فإنك تصبح لا تستنكر من نفسك خرساً، ولا سقماً، فتصبح لا تطيق الكلام مع الناس ثلاثة أيام إلا إشارة، تومئ بيدك أو برأسك أو بالحاجبين.
قال ابن عباس: كانت عقوبة له لأنه بشر بالولد فقال: " أنى يكون لي غلام " فخاف أن يكون الصوت من غير الله " فخرج علىقومه من الحراب " يعني: من مصلاه الذي كان يصلي فيه " فأوحى إليهم " بكتاب كتبه بيده " أن سبحوا بكرة وعشياً " يعني: صلاة الغداة والعصر، فقد وهب الله لي يحيى. فولد له يحيى على ما بشره الله نبياً(27/238)
تقياً صالحاً، قد أنزل الله في ذلك قرآناً على نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما عنى من قصته " يا يحيى خذ الكتاب بقوة " يعني: بجد وطاعة واجتهاد وشكر، وبالعمل بما فيه " وآتيناه الحكم صبياً " قال ابن عباس: ذلك أنه مر على صبية أتراب له يلعبون على الشاطئ نهر بطين وبماء، فقالوا: يا يحيى، تعال حتى نلعب، فقال: سبحان الله أو للعب خلقنا؟! وعن أبي مسلم، في قوله عز وجل: " يرثني يرث من آل يعقوب " يرثني يرث مالي ويرث من آل يعقوب قال: نبياً كما كان آباؤه أنبياء.
وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " يرحم الله زكريا، ما كان عليه من ورثه! ويرحم الله لوطاً إن كان ليأوي إلى ركن شديد " قال قتادة: ولم يبعث نبي إلا في ثروة من قومه بعد لوط، بعث الله محمدا في ثروة من قومه. وعن مجاهد: في قوله: لم نجعل له من قبل سمياً قال: شبهاً. وقال قتادة: لم يسم أحد قبله يحيى. وعن ابن عباس، في قوله عز وجل: " وآتيناه الحكم صبياً " يعني: الفهم صغيراً وحناناً يعني: ورحمة منا وعطفاً وزكاة يعني: وصدقة على زكريا وكان تقياً يعني: مطهراً مطيعاً لله عز وجل.(27/239)
وعن ابن عباس، في قوله عز وجل: " وبراً بوالديه " قال: كان لا يعصيهما " ولم يكن حباراً " قال: ولم يكن قتال النفس التي حرم الله قتلها " عصياً " يعني: لم يكن عاصياً لربه. " وسلام عليه " يعني: حين سلم الله عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حياً.
قال عمرو بن العاص: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " كل نبي يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا " ثم دلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده إلى الأرض، فأخذ عوداً صغيراً ثم قال: " وذلك أنه لم يكن له ما للرجل إلا مثل هذا العود، كذلك سماه الله " وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين ".
قال ابن عيينة: أوحش ما يكون ابن آدم في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيخرج إلى دار هم، وليلة يبيت مع الموتى فيجاور جيراناً لم ير مثلهم، ويوم يبعث فيشهد مشهداً لم ير مثله قط، قال الله ليحيى بن زكريا في هذه الثلاثة مواطن: " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً ".
وعن الحسن قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قال يحيى بن زكريا لعيسى بن مريم: أنت روح الله وكلمته، وأنت خير مني، فقال عيسى: بل أنت خير مني، سلم الله عليك، وسلمت على نفسي ". والحضور: الذي لا يأتي النساء. والسيد: الذي يطيع الله ولا يعصيه، وقيل: الحليم، وقيل: السيد: الذي يملك غضبه، وقيل: الذي لا يغلبه غضبه، وقيل: سيداً حصوراً: حليماً تقياً، وقيل: السيد: الحسن الخلق، وقيل: سيداً كريماً(27/240)
على الله، وقيل: الحصور: الذي لا يأتي النساء، وهو المجبوب، وسمي حصوراً لأنه حصر عن الجماع، أي: حبس عنه ومنع منه، جاء على فعول ومعناه مفعول كما قالوا: شاة حلوب، وفرس ركوب.
قال سفيان بن عيينة: خلق يحيى من غير شهوة، فجاء بغير شهوة. يريد أن خلقه كان آية من آيات الله، لم يكن عن شهوة، بشر به، ألا تراه يقول: " قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر " الآية.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خلق الله يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً، وخلق فرعون في بطن أمه كافراً ". وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يولد العبد مؤمناً، ويحيا مؤمناً، ويموت مؤمناً منهم: يحيى بن زكريا، ويولد العبد كافراً، ويحيا كافراً، ويموت كافراً منهم: فرعون ".
وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رحم الله أخي يحيى حين دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صغير، فقال: أللعب خلقنا، فكيف بمن أدرك الحنث من مقاله ".
حدث هشام بن محمد عن أبيه قال: أول نبي بعث آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم إسماعيل وإسحاق، ثم يعقوب، ثم يوسف، ثم لوط، ثم هود، ثم صالح، ثم شعيب، ثم موسى بن عمران، ثم إلياس، ثم اليسع، ثم يونس بن متى، ثم أيوب، ثم داود، ثم سليمان بن داود، ثم زكريا بن لشوى من بني يهود بن يعقوب، ثم يحيى بن زكريا، ثم عيسى بن مريم، ثم النبي محمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
حدث الحارث الأشعري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن(27/241)
يعملوا بهن، فكان يبطئ بهن، فقال له عيسى بن مريم: إنك أمرت بخمس كلمات تعمل بهن، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تأمرهم بهن وإما أقوم آمرهم بهن. قال يحيى: إنك إن تسبقني بهن أخف أن أعذب أو يخسف بي، فجمع الناس في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، حتى جلس الناس على الشرفات، فوعظ الناس ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن - زاد في رواية: وإنه من يعمل بهن حتى يموت فإنه لا حساب عليه يوم القيامة -: أولهن ألا تشركوا بالله شيئاً، وإن مثل الشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق، ثم قال: هذي داري وعملي، فاعمل وأود إلي عملك، فجعل يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يحب أن يكون له عبد كذلك، يؤدي عمله لغير سيده؟ وإن الله هو خلقكم ورزقكم فلا تشركوا بالله شيئاً.
وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا نصبتم وجوهكم فلا تلتفوا، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده حين يصلي له، ولا يصرف وجهه عنه حتى يكون هو ينصرف. وآمركم بالصيام، فإن مثل الصائم مثل الصائم مثل رجل معه صرة مسك، فهو في عصابة ليس مع أحد منهم مسك غيره، كلهم يشتهي أن يجد ريحها، وإن فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وآمركم بالصقة. قال: مثلها كمثل رجل أسره العدو، فشدوا يده إلى عنقه، فقدموه ليضربوا عنقه فقال: لا تقتلوني، فإني أفدي نفسي منكم بكذا وكذا من المال، فأرسلوه، فجعل يجمع حتى فدى نفسه منه، كذلك الصدقة. وآمركم بكثرة ذكر الله، فإن مثل ذكر الله كمثل رجل طلبه العدو، فانطلقوا في طلبه سراعاً حتى أتى حصناً حصيناً، فأحرز نفسه فيه، فكذلك مثل الشيطان لا يحرز العباد منه أنفسهم إلا بذكر الله ". وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "(27/242)
وأنا آمركم بخمس، أمرني الله بهن: الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله فمن خرج من الطاعة قدر سبر فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه إلا أن يراجع، ومن دعا دعوة جاهلية فإنه من جثى جهنم "، فقال رجل: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟ قال: " وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله الذي سماكم بها المسلمين والمؤمنين جميعاً ".
زاد في رواية في معنى الصلاة: " فمثلها فيكم كمثل رجل يناجي ذا سلطان، والسلطان فوقه يسمع ما يقوله، ولا يتكلم فيه بشيء إلا شفعه فيه، وأقبل إليه بوجههن فأيكم كان يسأم من مناجاة ذي السلطان ما استوفى منه أي في حاجته قبل أن يسأم ذو السلطان "؟ قالوا: لا أحد منا، قال: " فإن الله ليس بصارف وجهه عن عبده، وهو في صلاته حتى يكون هو الذي يصرف وجهه عن ربه، وإن من تقرب إلى الله قيد شبر تقرب منه قيد ذراع، وإنه من تقرب إلى الله قيد ذراع تقرب الله منه قيد يده، ومن يرد الله يرده، وإن الله حليم شكور. ثم على أثرها الصدقة، فمثلها فيكم كمثل رجل يطلب بدم، فأتاه أولياء القتيل، فأخذوه ليقتلوه، فقال لهم: لا تقتلوني، وسموا رضاكم من المال ففعلوا، فأذى إليهم المال أنجماً حتى أكملها فانطلق آمناً لقومه، وانطلق آمناً لعدوه، فأيكم يخشى قومه أن يصدقن الذي له "؟ قالوا: لا أحد منان قال: " فإنها فكاك لأعناقكم من سلاسل النار يوم القيامة ".
وعن ابن عباس قال: كنا في حلقة المسجد نتذاكر فضائل الأنبياء، أيهم أفضل؟ ذكرنا نوحاً وطول عبادته ربه غز وجل، وذكرنا إبراهيم خليل الرحمن، وذكرنا موسى مكلم الله، وذكرنا عيسى بن مريم، وذكرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلنا: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل: بعثه الله إلى(27/243)
الناس كافة، غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو خاتم الأنبياء. قال: فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما تذاكرون بينكم؟ قلنا: يا رسول الله، تذاكرنا فضائل الأنبياء، أيهم أفضل؟ قال: فذكرنا نوحاً وطول عبادته ربه، وذكرنا إبراهيم خليل الرحمن، وذكرنا موسى مكلم الله، وذكرنا عيسى بن مريم. قال: فمن فضلتم؟ قلنا: فضلناك يا رسول الله: بعثك الله إلى الناس كافة، وغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأنت خاتم الأنبياء، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما إنه لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا، فقلنا: يا رسول الله، ومن أين ذلك؟ قال: أما سمعتم الله حيث وصفه بالقرآن: " يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً " إلى قوله: " ويوم يبعث حياً " " مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين " لم يعمل سيئة قط، ولم يهم بها.
وفي رواية: فخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يذكرون ذلك، فقال: " أين الشهيد ابن الشهيد يلبس الوبر، ويأكل الشجر مخافة الذنب ". قال: يريد: يحيى بن زكريا.
وعن عائشة أنها قالت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً: يا سيد العرب، فقال: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وآدم تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر، وأبوك سيد كهول العرب، وعلي سيد شباب العرب، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة يحيى وعيسى عليهم السلام ".
وعن وهب قال: نادى مناد من السماء إن يحيى بن زكريا سيد من ولدته النساء، وإن جرجيس سيد الشهداء. وعن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما من أحد من ولد آدم وقد أخطأ، أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى.(27/244)
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما من نبي إلا أخطأ أو هم بخطيئة غير يحيى بن زكريا، فإنه لم يخطئ، ولم يهم بخطيئته ".
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " كل نبي يلقى الله بذنب قد أذنبه، يعذبه عليه إن شاء، أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا، فإنه " كان سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين " فأهوى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: " كان يكره مثل هذهالقذاة ".
وفي رواية: ثم رفع شيئاً من الأرض فقال: " ما كان معه إلا مثل هذا، ثم ذبح ذبحاً ".
وعن ضمرة بن حبيب قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما تعلت النساء عن ولد ينبغي له أن يقول: أنا أفضل من يحيى بن زكريا. لم يحك في صدره خطيئة، وله يهم بها ".
وعن الحسن قال: بلغني أنه لم يكن أحد من ولد آدم إلا نال منه إبليس، وأصحاب الدنيا إلا ما كان من يحيى بن زكريا عليهم السلام.
وحدث بعضهم ورفع الحديث قال: لعن الله والملائكة رجلاً تأنث، وامرأة تذكرت، ورجلاً تحصن بعد يحيى بن زكريا، ورجلاً قعد على الطريق يستهزئ من أعمى، ورجلاً شبع من الطعام في يوم مسغبة.
أتي عيسى برجل زنى فأمر برجمه، فأخذوا الحجارة، فقال عيسى: لا يرجم رجل عمل عمله، قال: فألقوا الحجارة غير يحيى بن زكريا.(27/245)
قال أبو سليمان: خرج عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا يتماشيان، فصدم يحيى امرأة، فقال له عيسى: يا بن الخالة، لقد أصبت اليوم خطيئة ما أظن أنه يغفر لك أبداً، قال: وما هي يا بن الخالة؟ قال: امرأة صدمتها، قال: والله ما شعرت بها، قال: سبحان الله، بدنك معي فأين روحك؟ قال: معلق بالعرش، ولو أن قلبي اطمأن إلى جبريل لظننت أني ما عرفت الله طرفة عين.
وعن الشافعي أنه قال: لا نعلم أحداً أعطي طاعة الله حتى لم يخلطها بمعصية إلا يحيى بن زكريا، ولا عصى الله فلم يخلط بطاعة، فإذا كان الأغلب الطاعة فهو المعدل، وإذا كان الأغلب المعصية فهو المجرح.
وعن زيد بن ميسرة قال: كان طعام يحيى بن زكريا الجراد وقلوب الشجر، وكان يقول: من أنعم منك يا يحيى؟! طعامك الجراد وقلوب الشجر.
وفي حديث آخر: أن يحيى كان أطيب الناس طعاماً، إنما كان يأكل مع الوحش كراهية أن يخالط الناس في معايشهم.
وعن مجاهد قال: كان طعام يحيى بن زكريا العشب، وإن كان ليبكي من خشية الله، حتى لو كان القار على عينيه لحرقه. ولقد كانت الدموع اتخذت في وجهه مجرى.
وعن خيثمة قال: كان عيسى بن مريم بن زكريا ابني خالة، وكان عيسى يلبس الصوف، وكان يحيى يلبس الوبر، ولم يكن لواحد منهما دينار ولا درهم، ولا عبد ولا أمة، ولا ما يأويان إليه، أينما جنهما الليل أويا، فلما أرادا أن يتفرقا قال له يحيى: أوصني، قال:(27/246)
لا تغضب، قال: لا أستطيع إلا أن أغضب، قال: فلا تقتن مالاً، قال: أما هذه فعسى.
قال يونس بن ميسرة: مر يحيى بن زكريا على دينار فقال: قبح هذا الوجه يا دينار، يا عبد العبيد، يا معبد الأحرار.
قال عبد الله بن عبد الحميد: مر إبليس بيحيى بن زكريا ومعه رغيف شعير، فقال له: يا يحيى، أنت تزعم أنك زاهد، ومعك رغيف قد ادخرت، فقال له يحيى: يا ملعون، هذا هو القوت، فقال له: يا يحيى، إن أقل من القوت يكفي لمن يموت، فأوحى الله إليه: يا يحيى، اعقل إيش قال لك.
روي عن يحيى بن زكريا أنه قال: لئن كان أهل الجنة لا ينامون للذة ما هم فيه من النعيم، فالصديقون كيف ينامون للذة ما هم فيه من حب الله؟! وكم بين النعمتين، وكم بينهما؟! قال يحيى لعيسى: أوصني يا بن خالة، قال: لا تشاح في ميراث، ولا تأس على ما فاتك، فقال: أنا لا أفرح بما جاءني منها، فكيف آسى على ما فاتني، فقال: لا تغضب، قال: فكيف لي بأن لا أغضب؟! وروى أن يحيى وعيسى التقيا، فقال له يحيى: يا روح الله وكلمته، ما أشد ما خلق الله؟ قال: غضب الله أشد، قال: يا روح الله وكلمته، دلني على عمل يباعد من غضب الله، قال: يباعدك من غضب الله ألا تغضب فيغضب عليك، قال: فما الذي يبدي الغضب؟ قال: التعزز والفخر والحمية. قال: يا روح الله، دلني على عمل يباعدني من النار، قال: لا تزن، قال: كيف بدء الزنا؟ قال: النظرة ثم تردفها التمني والشهوة.(27/247)
قال وهيب بن الورد: فقد زكريا ابنه يحيى ثلاثة أيام، فخرج يلتمسه في البرية، فإذا هو قد احتفر قبراً، وأقام فيه يبكي على نفسه، فقال: يا بني، أنا أطلبك منذ ثلاثة أيام، وأنت في قبر قد احتفرته قائم تبكي فيه؟ فقال: يا أبه، ألست أنت أخبرتني أن بين الجنة والنار مفازة لا تقطع إلا بدموع البكائين؟ فقال له: ابك يا بني، فبكيا جميعاً.
وفي رواية: فقال له: يا أبت، أنت حدثتني عن جبريل صلى الله عليه مسلم أنه أخبرك أن بين يدي الجنة والنار مفازة لا يطفئ حرها إلا الدموع، فقال له: فابك يا بني.
شبع يحيى بن زكريا ليلة من خبز الشعير، فنام عن جزئه حتى أصبح، فأوحى الله إليه: يا يحيى، هل وجدت داراً خيراً لك من داري؟ وجواراً خيراً لك من جواري؟ وعزتي يا يحيى، لو اطلعت إلى الفردوس اطلاعةً لذاب جسمك، وزهقت نفسك اشتياقاً، ولو اطلعت إلى جهنم اطلاعة لبكيت الصديد بعد الدموع، وللبست الحديد بعد المسوح.
وعن مجاهد: أن يحيى بكى حتى قرحت دموعه وجنتيه، فقال له زكريا: يا بني، ما يبكيك وقد سألت الله تعالى أن يهبك لي؟ فقال: إن جبريل أخبرني أن بين الجنة والنار مفاوز لا يقطعها إلا كل بكاء.
وروي عن يحيى بن زكريا أنه قال: يا حوباه إني رأيت كأن القيامة قد قامت، وكأن الجبار وضع كرسيه لفصل القضاء، فخررت ميتاً، يا حوباه، هذا إنما رآه روحي، فكيف لو عاينته معاينة. وقام رجل بهذا الكلام في مدينة من مدائن خراسان، فصعق جماعة فماتوا.
وعن إبراهيم بن أدهم، أنه أقبل على بعض إخوانه بطرسوس فقال له: أتحب ان تكون لله تعالى ولياً ويكون لك محباً؟ نعم قال: دع الدنيا والآخرة لله عز وجل، قال: فماذا(27/248)
أصنع؟ قال: أقبل على ربك بقلبك عليك بوجهه، فإنه بلغني أن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا: يا يحيى، إني قضيت على نفسي أن لا يحبني أحد من خلقي أعلم ذلك من نيته إلا كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، وفؤاده الذي يعقل به، فإذا كنت له كذلك بغضت إليه الاشتغال بأحد غيري، وأدمت فكرته، وأسهرت ليله، وأظمأت نهاره، أطلع عليه كل يوم سبعين نظرة، فأرى قلبه مشتغلاً بي، فأزداد من حبي في قلبه نوراً، حتى ينظر بنوري، أقربه مني، وأمسح برأسه، وأضع يدي على ألمه، فإنه لا يشكو إلي ألمه، لأنه مشغول بحبي عن ألم أوجاعه، فإنه يعرف الألم إذا فقدني من قلبه، وعندها يطلبني كما تطلب الوالدة الشفيقة ولدها إذا غاب عنها، أسمع خفقان فؤاده، فأقول: ما قال قلبه، يخفق، فيقول: حقيق على قلبي أن لا يسكن بعد إذ مننت عليه بحبك، فكيف يسكن قلبه يا يحيى وأنا جليسه، وغاية أمنيته؟! وعزتي وجلالي لأبعثنه مبعثاً يغبطه النبيون والمرسلون، ثم آمر منادياً ينادي: هذا حبيب الله وصفيه، دعاه الله إلى زيارته، فإذا جاءني رفعت الحجاب فيما بيني وبينه. فلما ذكر الحجاب صاح يحيى صيحة، فلم يفق ثلاثة أيام. قال: من لم يرض بك صاحباً فبمن يرضى؟ فكيف أصاحب خلقك، وقد دعوتني إلى مصاحبتك؟! سأل يحيى بن زكريا ربه عز وجل قال: رب، اجعلني أسلم على ألسنة الناس ولا يقولون في إلا خيراً، فأوحى الله إليه: يا يحيى، لم أجعل هذا لي، فكيف أجعله لك؟! ظهر إبليس ليحيى بن زكريا، فرأى عليه معاليق، فقال: يا إبليس، ما هذه المعاليق التي أرى عليك؟ قال: هذه الشهوات التي أصبت من بني آدم، قال: فهل لي فيها من شيء؟ قال: لا، قال: فهل تصيب مني شيئاً؟ قال: ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة والذكر، فقال له يحيى: هل غير؟ قال: لا، قال: لا جرم والله لا أشبع أبداً. قال إبليس: ولله علي ألا أنصح مسلماً.
لقي يحيى بن زكريا إبليس في صورته، فقال له يا إبليس، أخبرني بأحب الناس إليك، وأبغض الناس إليك، قال: أحب الناس إلي المؤمن البخيل، وأبغضهم إلي الفاسق السمح، قال يحيى: وكيف ذلك؟ قال: لأن البخيل قد كفاني بخله، والفاسق السخي(27/249)
أتخوف أن يطلع الله عليه في سخائه فيقبله، ثم ولى وهو يقول: لولا أنك يحيى لم أخبرك.
كان عيسى بن مريم أكثر من يحيى بسنتين. فبينا يحيى جالس إذ سمع زجلاً، فقال يحيى: يا روح الله، ما هذا؟ فقال عيسى: إبليس، فقال يحيى: يا روح الله، أرنيه، فقال عيسى: وما حاجتك إليه؟ هو أكذب البرية وأسحر البرية، وأخبث البرية، وأفسق البرية، قال: يا روح الله، أرنيه، فقال عيسى: يا إبليس، تبد له، فتبدى له إبليس، فإذا عليه برنس فيه أباريق من رأسه إلى قدمه، فقال له يحيى: ما هذه الأباريق؟ قال: هي اللذات التي أفتن بها الناس، قال يحيى: فأنشدك بالذي جعل عليك اللعنة إلى يوم الدين، هل أصبتني بشيء منها؟ فقال إبليس: نعم هذه، وأشار بأصبعه إلى شيء فيها عند كعبه، فقال يحيى: وما هي؟ فقال إبليس: إنك رجل تصوم، فأحبب إليك الطعام، لتنهله، فتثقل عن الصلاة، قال يحيى: أما والذي جعل عليك اللعنة إلى يوم الدين لا آكل ما عملته أيدي بني آدم حتى ألقى الله، وكان يأكل من نبت الأرض.
قال وهب بن الورد: تبدى إبليس ليحيى بن زكريا فقال: إني أريد أن أنصحك، فقال: كذبت، أنت لا تنصحني، ولكن أخبرني عن بني آدم قال: هم عندنا على ثلاثة أصناف، أما صنف منهم فهم أشد الأصناف علينا، نقبل عليه حتى نصيبه ونستمكن منه، ثم يفزع إلى الاستغفار والتوبة فيفسد علينا كل شيء أدركنا منه، ثم نعود له فيعود، فلا نحن نأيس منه، ولا نحن ندرك منه حاجتنا، فنحن من ذلك في عناء، وأما الصنف الآخر فهم في أيدينا بمنزلة الكرة في أيدي صبيانكم، نتلقفهم كيف شئنا، قد كفونا أنفسهم، وأما الصنف الآخر فهم مثلك معصومون لا نقدر معهم على شيء. قال يحيى: هل قدرت مني على شيء أبداً؟ قال: لا، إلا مرة واحدة، فإنك قدمت طعاماً تأكله فلم أزل أشهيه إليك حتى أكلت منه أكثر مما تريد، فنمت تلك الليلة، فلم تقم إلى الصلاة كما كنت تقوم إليها،(27/250)
فقال له يحيى: لا جرم، لا شبعت من طعام أبداً، قال له الخبيث: لا جرم، لا نصحت آدمياً بعدك أبداً.
قال أبي بن كعب: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن من هوان الدنيا على الله أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة ".
قال علي بن الحسين: أقبلنا مع الحسين بن علي، فكان قلما نزلنا منزلاً إلا حدثنا حديث يحيى بن زكريا حيث قتل. قال: كان ملك مات، فترك امرأته وابنته، فورث ملكه أخوه، فأراد أن يتزوج امرأة أخيه، فاستشار يحيى بن زكريا، وكانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الأنبياء، فقال له: لا تتزوجها فإنها بغى، فسمعت المرأة وعرفت أنه من قبل يحيى، فقالت: ليقتلن يحيى، أو ليخرجن من ملكه، فعمدت إلى بنتها فصنعتها، وقالت: اذهبي إلى عمك عندالملأ فإنه يدعوك ويجلسك في حجره، ويقول: سليني ما شئت، فإنك لن تسأليني شيئاً إلا أعطيتك، فقولي: لا أسأل شيئاً إلا رأس يحيى بن زكريا، وكانت الملوك إذا تكلم أحدهم بشيء على رؤوس الملأ ثم لم يمض له نزع من ملكه، ففعلت ذلك، فجعل يأتيه الموت من قتل يحيى، وجعل يأتيه الموت من خروجه من ملكه، فاختار ملكه، فقتله، فساخت بأمها الأرض.
وقيل: إن زكريا حيث قتل ابنه انطلق هارباً منهم، واتبعوه حتى أتى إلى شجرة ذات ساق فدعته إليها، فانطوت عليه، وبقيت من ثوبه هدبة تلفها الريح، فانطلقوا إلى الشجرة فلم يجدوا أثره بعدها، ونظروا بتلك الهدبة، فدعوا بالمنشار، فقطعوا الشجرة، فقطعوه معها.
وعن ابن عباس قال: بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس، فكانوا فيما يعلمونهم ينهونهم عن نكاح بنت الأخت، وكان لملكهم بنت أخت تعجبه، وكان يريد أن يتزوجها، وكان لها كل يوم حاجة يقضيها. فلما بلغ أمها أنهم نهوا عن نكاح بنت(27/251)
الأخت قالت لها: إذا قال لك الملك: ألك حاجة؟ فقولي: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا، ففعلت ذلك، فقال: سليني سوى هذا، قالت: ما أسألك إلا هذا. فلما أبت عليه، دعا بطست ودعا به فذبحه، فندرت قطرة من دمه على الأرض، فلم تزل تغلي، حتى بعث الله بخت نصر عليهم، فألقى في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن، فقتل عليه منهم سبعين ألفاً. قالوا: ولما قتله دفع إليها رأسه، فجعلته في طست من ذهب، فأهدته إلى أمها، فجعل الرأس يتكلم في الطست: إنها لا تحل له، ولا يحل لها، ثلاث مرات. فلما رأت الرأس قالت: اليوم قرت عيني، وأمنت على ملكي، فلبست درعاً من حرير، وخماراً من حرير، وملفحة من حرير، وصعدت قصراً لها، وكان لها كلاب تضربها بلحوم الناس، فجعلت تمشي على قصرها، فبعث الله عليها عاصفاً من الريح يلقيها في ثيابها، فألقتها إلى كلابها، فجعلن ينهشنها، وهي تنظر، وكان آخر ما أكلن منها عينيها.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: التي قتلت يحيى بن زكريا امرأة، ورثت الملك عن آبائها، فأتيت برأس يحيى في شيء، فوضع رأسه بين يديها، وهي على سريرها، فجعلت ترفل وجهه بقضيب في يدها، فقيل للأرض: خذيها، فأخذتها وسريرها، فذهب بها. قال: في التوراة مقتلة الأنبياء، قتلت في يوم ستين نبياً، هي في النار على منبر من نار، تصرخ، يسمع صراخها أقصى أهل النار. وقيل: إنه كان ملك دمشق هداد بن هداد وكان قد زوج ابنه ابنة أخيه أزيل ملكة صيدا، وكان حلف بطلاقها ثلاثاً ثم أراد مراجعتها، فاستفتى يحيى بن زكريا صلى الله على نبينا وعليه السلم، فقال يحيى: لا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك، فحقدت عليه أزيل، وكان للملك ابنة يقال لها: هروسة، وكان يحبها حباً شديداً، وكان(27/252)
يخرجها إذا قدم عليه وفود الملك، وترقى بين أيديهم، وإذا رقيت قضى لها حاجة، فقدم عليه وفود ملك الهند، فقالت أزيل لابنتها: إذا رقيت وقال: سلي حاجتك، فقولي: حاجتي رأس يحيى بن زكريا، ولا تقبلي منه إلا رأسه، وأعطتها حين أصبحت طبقاً وقالت: إذا قطع رأسه، فاجعليه فوق هذا الطبق، واحمليه، وائتيني به. فلما أصبحت دعاها الملك، فخرجت مزينة، ومعها الطبق، فضرب لها بالطبل والمزمار، ورقيت يومئذ رقياً ما رقيت قبله مثله، فقال لها أبوها: سلي حاجتك، فقالت: حاجتي رأس يحيى بن زكريا، فقال: ويحك، ما تصنعين برأس نبي من أنبياء الله؟! سلي غيره ما شئت، قالت: ما لي حاجة غيره. فإن أعطيتنيه وإلا لم أسألك شيئاً بعده، فقال من حوله من وزراء السوء: اقض حاجتها، وشفعنا في حاجتها، وما رأس يحيى ورأس غيره إلا سواء، فأكثروا عليه، وغلبوه فقال: اذهبوا، وأعطوها رأسه، فخرج السياف، والناس معه حتى أتوه، وهو يصلي في ذلك المسجد الذي عند باب جيرون، فقال يحيى للسياف: بم أمرت؟ قال: أمرت بضرب عنقك، قال: ويحك ما تعلم أني نبي الله؟! قال: بلى، ولكني مأمور، قال: شقاء جدك، وعسى أن تكون صادقاً، فضرب رأسه، فأخذت الرأس فوضعته على الطبق، فجعل يقول من فوق الطبق: إنها لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، فلم يزل الرأس يقول ذلك وهي تمشي حتى انتهت إلى الفسقية فخسف بها، فأخذتها الأرض حتى غيبت قدميها فصاحت، ووقع الرأس والطبق عن رأسها، ثم غيبتها إلى أنصاف ساقيها وهي تصيح، فذهب الصريخ إلى أمها: أدركي ابنتك، قد خسف بها، فجاءت تسعى، فوجدتها في الأرض قد أخذتها وهي تصيح، فجعلت الأرض تغيبها حتى بلغت سرتها، ثم غيبتها حتى بلغت ثدييها، ثم غيبتها حتى بلغت منكبيها، فلما خشيت أمها أن تغيبها الأرض قالت للسياف: اقطع رأسها يكون عندي، فضرب السياف رأسها ورمى به. فلما وقع الرأس لفظتها الأرض وطرحتها. فلم يزالوا بعد ذلك في الذل، حتى بعث الله بخت نصر عقوبة لقتل يحيى بن زكريا، فدخل دمشق من باب توما، وباب شرقي، وأتى الدرج فصعد، فجلس على(27/253)
الكنيسة فوجد دم يحيى يغلي، ويفور، ويسيل، فعجب لذلك، ثم قال: ما بعثت إلا لأنتصر لهذا الدم، لا أزال أقتل عليه أبداً حتى يسكن ويغيب، فدعا بكرسي، فنصبه، وجلس عليه، ثم أمر بالسيافين، فقاموا، ثم أمر بهم أن يأتوا عشرة عشرة مكتفين، فضرب أعناقهم على الدم، والدم يغلي، ويفور، ويسيل، فقتل يومه ذلك إلى الليل. ثم غدا الوم الثاني فقتل عليه حتى الليل، والدم يغلي، ويفور. ثم غدا عليه اليوم الثالث فقتل عليه خمسة وسبعين ألفاً. قالوا: هي دية كل نبي. فجاء نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: إرميا، فوقف على الدم فقال: أيها الدم، دم يحيى، فني بنو إسرائيل والناس فيك. قال: فسكن الدم، ورسب حتى غاب، فأمر بالكرسي، فرفع، ورفع السيف. قالوا: وهرب من هرب إلى بيت المقدس، فتبعهم إلى بيت المقدس حتى دخلها وخربها، وقتل فيها وسبى ثم رجع.
وعن علي: في قوله عز وجل: " وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب " إلى " أولاهما " قال: قتل زكريا، وقال: " فإذا جاء وعد الآخرة " مقتل يحيى. والأولى من فساد هذه الأمة مقتل عثمان، والآخرة النفس التي تباح لها قريش.
وعن وهب بن منبه: أن يحيى بن زكريا لما قتل رد الله إليه روحه، وأوقفه بين يديه، فقال له: يا يحيى، هذا عملك الذي عملته، وقد أعطيتك ثواب عملك، لكل واحدة عشراً، الحسنة بعشرة أمثالها، قال: فرأى يحيى ثواب عمله، فإذا قد أعطي من الثواب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فقالالله: يا يحيى هذا عملك، وهذا ثوابه، فأين نعمائي عليك؟ ثم قال الله عز وجل للملائكة: أخرجوا نعمائي عليه، فأخرجوا نعمة واحدة من نعمه، فإذا قد استوعبت حميع أعماله والثواب، فقال يحيى: إلهي، ما هذه النعمة الجليلة العظيمة التي قد استوعبت عملي وعشرة أضعاف ثوابها؟ فقال الله عز وجل: هذه النعمة الجليلة العظيمة معرفتك بي. قال: فخر يحيى لوجهه، فقال: إلهي جازني برحمتك وبفضلك لا بعملي.(27/254)
لما قتل يحيى بن زكريا أوحى الله إلى نبي من أنبيائهم أن قل لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل، حتى متى تجترئون علي، وتعصونني وتعصون أمري، وتقتلون رسلي؟ وحتى متى أضمكم في كنفي كما تضم الدجاجة أولادها في كنفها؟ اتقوا ألا آخذكم بكل دم من بني آدم إلى يحيى بن زكريا، واتقوا لا أصرف وجهي عنكم فإني إن صرفت وجهي عنكم لم أقبل عليكم إلى يوم القيامة.
وقيل في قتل يحيى: إن بنت الملك همت بأبيها فقالت: لو تزوجت أبي فيجتمع إلي سلطانه دون نسائه، فقالت: يا أبت تزوجني، ودعته إلى نفسها، فقال لها: يا بنية، إن يحيى بن زكريا لا يحل لنا هذا، فقالت: من لي بيحيى بن زكريا، ضيق وحال بيني وبين أن أتزوج أبي، فأغلب على ملكه ودنياه دون النساء، فأمرت اللعاب، وقالت: ادخلوا على أبي فالعبوا، وإذا فرغتم فإنه سيحكمكم، فقولوا: دم يحيى بن زكريا، ولا تقبلوا غيره، وكان الملك إذا حدث فكذب، أو وعد فأخلف، خلع واستبدل به غيره، فلما لعبوا وكثر تعجبه منهم قال: سلوني، قالوا: نسألك دم يحيى بن زكريا، قال: سلوني غير هذا، قالوا: لا نسألك غيره، فخاف على ملكه إن هو أخلفهم أن يخلع، فبعث إلى يحيى بن زكريا، وهو في محرابه يصلي، فذبحوه وحزوا رأسه، واحتمله الرجل في يده، والدم في الطست، ورأسه في يدي الذي يحمله، وهو يقول: لا يحل لك ما تريد. قال: فأعظم الناس قول الرأس وفزعوا إلى ملكهم، حتى بنوا ديراً من على رأس يحيى ودمه. قالوا: وكان ذلك قبل أن يرفع عيسى بسنة ونصف، ورفع عيسى بين أظهرهم بعد ذلك، فعند ذلك حلت بهم الوقعة الثانية.
وعن ابن عباس قال: أوحى الله عز وجل إلى سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أني قد قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفاً، وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفاً.
وعن شمر بن عطية قال: قتل على الصخرة التي في بيت المقدس سبعون نبياً، منهم يحيى بن زكريا.(27/255)
وعن قرة قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي، وحمرتها بكاؤها وعن سعيد بن جبير قال: لما قتل يحيى بن زكريا عليه السلام قال بعض أصحابه لصاحب له: ابعث إلي بقيص نبي الله حتى أسمه، فإني قد عرفت أني مقتول، قال: فبعثه إليه فإذا سداه أو لحمته ليف.
قال زيد بن واقد: ولقد رأيت رأس يحيى بن زكريا صلى الله عليهما، حيث أرادوا بناء مسجد دمشق، أخرج من تحت ركن من أركان القبة الذي يلي المحراب مما يلي الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير. وفي رواية عنه: أنا رأيت الرأس الذي يغلي، هو رأس يحيى بن زكريا، طري كأنما قتل الساعة.
يحيى بن زكريا بن يحيى
أبو زكريا النيسابوري، الحافظ الأعرج، ويحيى يلقب حيويه حدث عن محمد بن معاوية بن مالج بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً " قال أبو الدحداح: يا رسول الله، أو إن الله يريد منا القرض؟ فقال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك، قال: فناوله، قال: فإني أقرضت ربي حائطاً فيه ست مئة نخلة، ثم جاء يمشي، حتى أتى الحائط، وأم الدحداح فيه وعيالها، فنادها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك. قال: اخرجي، قد أقرضت ربي حائطاً فيه ست مئة نخلة.(27/256)
وفي رواية: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل.
وحدث يحيى بن زكريا - سنة ست وثلاث مئة - عن يوسف بن موسى القطان بسنده إلى عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا عبد الرحمن بن سمرةلا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك ".
توفي أبو زكريا بمصر سنة سبع وثلاث مئة. وكان حافظاً، فاضلاً، ثقة، ثبتاً.
يحيى بن زياد بن عبيد الله
ابن عبد الله، واسمه عبد الحجر بن عبد المدان واسمه عمرو بن الديان واسمه يزيد بن قطن بن زياد بن الحارث، الحارثي الكوفي شاعر يتهم في دينه، وفد على الوليد بن يزيد، وكانت عمته ريطة بنت عبيد الله، زوجة محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فولدت له السفاح، فيحيى بن زياد ابن خال أبي العباس السفاح، وكان شاعراً ماجناً، ينسب إلى الزندقة، وكان صديق مطيع بن إياس، وحماد عجرد، ووالبة بن الحباب، وغيرهم من ظرفاء الكوفيين.
كتب يحيى بن زكريا إلى بعض أهله يعزيه: أما بعد. فإن المصيبة واحدة إن صبرت، ومصائب إن لم تصبر، وقد مضى إلى سلف، يحسن عليهم البكاء، وبقي خلف في مثلهم العزاء، فلا الباء يرد الماضي، وبالعزاء يطيب عيش الباقي، ونحن عما قليل بهم لاحقون، فآثر الصبر، فإنه أرد الأمرين عليك، وأرجعهما بالنفع لك.
كان ليحيى بن زياد غلام سوء، فقيل له: لم تمسك هذا الغلام؟ قال: لأتعلم عليه الحلم.(27/257)
ومن شعر يحيى بن زياد يمدح قوماً بفضل الحلم:
تخالهم للحلم صماً عن الخنا ... وخرساً عن الفحشاء عند التفاخر
ومرضى إذا لاقوا حياء وعفة ... وعند المنايا كالليوث الحوادر
لهم ذل إنصاف ولين تواضع ... به لهم ذلت رقاب المعاشر
كأن بهم وصماً يخافون عيبه ... وما وصمهم إلا اتقاء المعاذر
قال مطيع بن إياس يرثي يحيى بن زياد:
قد قلت للموت حين ساوره ... والموت مقدامة على البهم
لو قد تدبرت ما صنعت به ... قرعت سناً عليه من ندم
فاذهب بمن شئت إذ ذهبت به ... ما بعد يحيى للرزء من ألم
وله يرثيه:
قد راح يحيى ولو تطاوعني ال ... أقدار لم نبتكر ولم نرح
يا خير من يجمل البكاء به ال ... يوم ومن كان أمس للمدح
قد ظفر الحزن بالسرور وقد ... أديل مكروهه من الفرح
يحيى بن زيد بن علي
ابن الحسين بن علي بن أبي طالب العلوي كان مع أبيه حين أقدمه هشام. قتل بخراسان، وكان صار إليها حين قتل أبوه زيد بن علي بالكوفة فقال:
لكل قتيل معشر يطلبونه ... وليس لزيد بالعراقين طالب(27/258)
وأمه ريطة بنت أبي هاشم، واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب.
قال سعد بن إبراهيم بن عبد الرحم بن عوف: خرج بنا إلى هشام بن عبد الملك، وكان أيوب بن سلمة المخزومي أحد من كتب فيه، فقدم بمن قدم الرصافة قبلنا، فوجدنا هشاماً قد استحلف أيوب ما لخالد القسري عنده مال ولا خبر مال، فخرج إلينا سالم فقال: إن أمير المؤمنين قد أمر أن يخرج بكم إلى العراق إلى يوسف بن عمر. قال سعد: فقلت: ولم لا يفعل بنا ما يفعل بصاحبنا أيوب بن سلمة؟ فنحن نرى أمير المؤمنين ونحلف له، فقال سالم: لا، إن يوسف بن عمر قد تضمن لأمير المؤمنين أن يستخرج له أموال القسري، ويخاف أمير المؤمنين إن دخل عليه في ذلك فيقول: دخلت علي فيما ضمنت لك فتفسد عليه ما ضمن له. فلا بد لكم من الذهاب إليه، فقال له زيد بن علي: والله يا سالم ما أحب أحد الحياة إلا ذل، قال: وخرج بي وبزيد حتى انتهينا إلى يوسف بن عمر بالكوفة فأدخلنا عليه، فأحسن في أمرنا وجوزنا، فخرجنا حتى نزلنا القادسية، فو الله إني وزيد لقاعدان بفناء البيت الذي نحن فيه نزول إذ رابني منه الإنسان بعد الإنسان، فيقوم إليه ويخلو به، فقال لي ابنه يحيى بن زيد: يا عم، اعلم أن أبي يريد أن يفارقك هاهنا، فلو كلمته، ولا أحب أن يعلم أني أعلمتك، قال: فجئت زيداً فقلت له: قد تعلم رأي قومك فيك، ومحبتهم لك، وعلى ودهم لو زيد في عمرك أعمارهم لسيرتك بهم وحسن رأيك، ومحبتك لهم، وقد رأيت أمراً أنكرته، وهم أهل الكوفة خدعوا أباك، وقعدوا به، وخذلوه، فأنشدك الله والرحم أن لا تفجع قومك بك. قال: وهو صامت لا يتكلم، حتى إذا فرغت من كلامي قال: يا أبا إسحاق، خرج بنا أسيرين عن غير ذنب ولا جرم ولا جناية، فشق بنا الحجاز وأرض الشام وأرض الجزيرة إلى العراق إلى تيس من ثقيف، يلعب بنا، وأنشد زيد بن علي:(27/259)
بكرت تخوفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل ... لا بد أن أسقى بكأس المنهل
إن المنية لو تمثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضيق المنزل
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
استودعك الله أبا إسحاق، أعطي الله عهداً إن أدخلت يدي في طاعة لهؤلاء ماعشت، فافترقنا وتغيب.
وبلغ هشام بن عبد الملك تغيبه، فقال سالم: يا أمير المؤمنين، قد كان قال لي حيث أعلمته أنه لا بد من الشخوص إلى يوسف بن عمر: ما أحب الحياة أحد إلا ذل، فقال هشام: ويحك كيف لم تخبرني؟ والله لو أخبرتني لحقنت دمه، ولوصلت رحمه.
كان زيد بن علي يقول ليحيى ابنه:
أبني إما تقعدن فلا تكن ... دنس الفعال مبيض الأثواب
واحذر مصاحبة الئيم فإنما ... شين الكريم فسوله الأصحاب
حمل يحيى بن زيد العلوي إلى بخارى مقيداً، ونعي إليه والده، فأنشده بعض الشعراء قصيدة، فقال: دع ما تقول واسمع ما أقول وأنشأ يقول:
إن يكن نالك الزمان ببلوى ... عظمت شدة عليك وجلت
وتلتها قوارع داهيات ... سئمت دونها النفوس وملت
فاصطبر وانتظر بلوغ مداها ... فالرزايا إذا توالت تولت
ولم يعقب يحيى، وتولى قتله سلم بن أحوز المازني بالجوزجان بقرية أرغومة، وكان نصر بن سيار عامل خراسان بعث سلم بن أحوز إلى يحيى، فقتله بعد حرب شديد، وزحوف ومواقف، ثم أصاب يحيى سهم في صدغه فسقط إلى الأرض، وانكبوا(27/260)
عليه، فاحتزوا رأسه، فأنفذه سلم إلى نصر، فأنفذه نصر إلى هشام، فوصل إليه وهو بالرصافة، وصلبت جثته بجوزجان. فلم يزل مصلوباً حتى ظهر أبو مسلم فوارى جسده، بعد أن تولى هو الصلاة عليه. وكتب أبو مسلم بإقامة النياحة ببلخ سبعة أيام بلياليها، فناح وبكى عليه الرجال والنساء والصبيان، وأمر أهل مرو، ففعلوا مثل ذلك، وما ولد في تلك السنة مولود بخراسان من العرب ومن له حال ونبأ إلا سمي يحيى. وقال أبو مسلم لمرار بن أنس: إنه لم يبق من قتله يحيى بن زيد أحد يعرف بعينه إلا سورة بن محمد الكندي، وهو شجى في لهاتي. وكان سورة من فرسان الكرماني، فمضى إليه مرار فقتله، فقال له أبو مسلم: اليوم ساغ لي الشراب، ودعا أبو مسلم بديوان بني أمية فجعل يتصفح أسماء قتلة يحيى بن زيد ومن سار في ذلك البعث لقتاله، فمن كان حياً قتله، ومن كان ميتاً خلفه في أهله وفي عشيرته بما يسوءه.
وكان قتل يحيى بن زيد سنة خمس وعشرين ومئة، وقيل: سنة ست وعشرين، وقيل: في ولاية الوليد بن يزيد.
يحيى بن زيد بن يحيى
ابن علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي، أبو الحسين، الحسيني، الزيدي قاضي دمشق في أيام المستنصر.
حدث سنة سبع وأربعين وأربع مئة عن أبي محمد عبد الرحمن بن عثمان بن أبي نصر بسنده إلى ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ في الواقعة " فشاربون شرب الهيم " بفتح الشين من " شرب ".
توفي الشريف معتمد الدولة أبو الحسين يحيى بن زيد سنة خمس وخمسين وأربع مئة.(27/261)
يحيى بن سعدون بن تمام بن محمد
أبو بكر، الأزدي، الأندلسي، القرطبي المقرئ، النحوي حدث بدمشق عن أبي عبد الله بن الحطاب بسنده إلى علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم بارك لأمتي في بكورها ".
وحدث عن أبي عبد الله بسنده إلى عبد الله بن المبارك قال: أثر الحبر في ثوب صاحب الحديث أحسن من الخلوق في ثوب العروس.
ولد أبو بكر سنة ست وثمانين وأربع مئة، وتوفي سنة سبع وستين وخمس مئة. وهو ثقة.
يحيى بن سعيد بن العاص
ابن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو أيوب - ويقال: أبو الحارث - الأموي حدث يحيى بن سعيد بن العاص أن سعيد بن العاص أخبره، أن أبا بكر استأذن على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مضطجع على فراش لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك، فقضى أبو بكر حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر بن الخطاب وهو على تلك الحال، فقضى حاجته ثم انصرف. قال عثمان: ثم استأذنت، فجلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجمع عليه ثيابه - زاد في رواية: وقال لعائشة اجمعي عليك ثيابك - ثم قضيت إليه حاجتي، ثم انصرفت، فقالت عائشة: يا(27/262)
رسول الله، مالك لم تفزع لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟ قال: " إن عثمان رجل حيي، وإني خفت أن لو أذنت له وأنا على حالتي تلك لا يبلغ إلي في حاجته ".
قال الزهري: وليس كما يقول الكذابون: ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة.
كان عبد الملك قد قتل عمرو بن سعيد أخا يحيى بن سعيد، فلحق يحيى وعبد الله بن يزيد أبو خالد بن عبد الله القسري، لحقا بعبد الله بن الزبير، فلم يزالا معه حتى قتل عبد الله بن الزبير، فخرجا في الأمان، وكان في وجه يحيى رده فقال له عبد الملك: بم تنظر إلى الله إذا لقيته وقد غدرت بي بعدما عفوت عنك، قال: أنظر إليه بالوجه الذي خلقه، وأنت دفعتني إلى عدوك هدية، أخرجتني وأخفتني.
كان عبد الملك بن مروان يفضل يحيى بن سعيد ويقول: ما رأيت ابن زوملة أفضل من يحيى بن سعيد. وأم يحيى مرادية. والقرشي إذا كانت أمه عربية ولم تكن من قريش قيل: ابن زوملة، وإن كانت أمه أم ولد لم يكن ابن زوملة.
وقيل: إن عبد الملك قال له: إنك أشبه الناس بإبليس، قال: ولم تنكر أن يشبه سيد الإنس سيد الجن؟.
يحيى بن سعيد بن عبد الله
أبو سالم البهراني الحموي شيخ فاضل. ولد سنة سبع وثمانين وأربع مئة.
من شعره:(27/263)
ما بعد جلق في البسيطة دار ... تجري خلال قصورها الأنهار
دار تلذ بها النفوس وتجتني ... من حسنها ثمر المنى الأبصار
زادت بها الدنيا جمالاً بارعاً ... وزهت بحسن صفاتها الأمطار
وحوت محاسن كل حسن مبدع ... فيه عقول أولي العقول تحار
أحسن بربوتها إذا ما أسفرت ... شمس الربيع وغنت الأطيار
وافتر ثغر الزهر من أكمامه ... وترنحت تيهاً به الأسحار
وتأزرت أكمامها بخمائل ... باتت تحبر وشيها الأمطار
فإذا جرى فيها النسيم تعطرت ... من طيب صائك عرفها الأقطار
سقياً لجلق من مغان لم تزل ... من أفقها تتبلج الأقمار
ما كان أقصر مدةً فيها انقضت ... وكذاك أعمار السرور قصار
يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو
ويقال: ابن قيس بن قهد، أبو سعيد الأنصاري قاضي المدينة.
حدث عن أنس بن مالك قال: جاء أسيد بن الحضير الأشهلي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد كان قسم طعاماً، فذكر له أهل بيت من الأنصار من بني ظفر، فيهم حاجة. قال: وجل أهل ذلك البيت نوم فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تركتنا يا أسيد حتى ذهب ما في أيدينا فإذا سمعت بشيء قد جاء فاذكر لي أهل ذلك البيت قال فجاءه بعد ذلك طعام من خبير شعير أو تمر قال فقسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس وقسم في الأنصار وأجزل، وقسم في أهل ذلك البيت(27/264)
فأجزل، فقال أسيد بن الحضير متشكراً: جزاك الله أي نبي الله عنا أطيب الجزاء، أو قال: خيراً. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنتم معشر الأنصار فجزاكم الله أطيب الجزاء - أو قال: خيراً -، فإنكم ما علمت أعفة، صبر، وسترون بعدي أثرة في الأمر والقسم، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ".
وحدث يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن عبد الله بن بحينة أنه قال: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظهر فقام من الاثنتين، فلم يجلس فيهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين، ثم سلم بعد ذلك.
قال يحيى بن سعيد: صحبت أنس بن مالك إلى الشام، ومعه فرس له شقراء سمينة، فاندقت فخذها، فذبحها وقسمها في الرفاق.
وقال: إنه سافر معه إلى الوليد بن عبد الملك، فكان أنس يصلي عند كل أذان ركعتين.
وعن يحيى بن سعيد، أنه رأى أنس بن مالك بالجابية يصلي على حمار وهو يتوجه إلى المشرق عند ارتفاع الشمس. توفي أبو سعيد سنة ثلاث وأربعين ومئة، وكان ثقة كثير الحديث. وقيل: توفي سنة أربع وأربعين، وقيل: سنة ست وأربعين ومئة.
قال جرير بن عبد الحميد: سألت يحيى بن سعيد الأنصاري - وما رأيت شيخاً أنبل منه - قلت له: من أدركت من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين كان قولهم في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟ قال:(27/265)
من أدركت من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين لم يختلفوا في أبي بكر وعمر وفضلهما، إنما كان الاختلاف في علي وعثمان.
قال يحيى بن سعيد: إنه كان بإفريقية. قال: فأردت حاجة من حوائج الدنيا، قال: فدعوت فيها، ورغبت وتعبت واجتهدت، ثم ندمت بعد ذلك فقلت: لو كان دعائي في حاجة من حوائج آخرتي. فشكوت إلى رجل كنت أجالسه، فقال لي: لا تكره ذلك، فإن الله قد بارك لعبد في حاجة أذن له فيها بالدعاء.
يحيى بن سعيد أبو زكريا الأنصاري
الحمصي، العطار حدث عن فضيل عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يكون في آخر الزمان عند تظاهر من الفتن، وانقطاع من الزمن أمير، أول ما يكون عطاؤه للناس أن يأتيه الرجل فيحثي له في حجره، يهمه من يقبل منه صدقة ذلك المال لما يصيب الناس من الفرج ".
وحدث عن أبي الرحمن بسنده إلى حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لتقصدنكم نار هي اليوم خامدة، في واد يقال له: برهوت، يغشى الناس فيها عذاب أليم، تأكل الأنفس والأموال، تدور الدنيا كلها في ثمانية أيام، تطير طير الريح والسحاب، حرها بالليل أشد من حرها بالنهار، ولها بين السماء والأرض دوي كدوي الرعد القاصف، هي من رؤوس الخلائق أدنى من العرش ". قلت: يا رسول الله، أسليمة هي يومئذ على المؤمنين والمؤمنات؟ قال: " وأين المؤمنون والمؤمنات؟ قال: " وأين المؤمنون والمؤمنات يومئذ؟ هم شر من الحمر، يتسافدون كما تتسافد البهائم، وليس فيهم رجل يقول: مه، مه ".(27/266)
يحيى بن سليمان
حدث عن أبي سلام الحبشي عن ابن الديلمي قال: أتيت عبد الله بن عمرو بن العاص أريد أن أسأله عن حديثين بلغانا عنه، فوجدته أخذاً بيد رجل من قريش، قد بلغنا أنه يشرب الخمر، فقلت: كيف لي أن يخلو لي وجهه؟ قال: قلت: رحمك الله، هل سمعت في الخمر شيئاً؟ قال: نعم. فلما سمعه القرشي خلى سبيل يده، وولى منطلقاً. قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من شرب الخمر رجس ورجست صلاته أربعين يوماً، فإن تاب تاب الله عليه، ثم إن عاد رجس ورجست صلاته أربعين يوماً، فإن تاب تاب الله عليه، ثم إن عاد رجس ورجست صلاته أربعين يوماً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد كان حقاً على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة ". قلت: أرأيت حديثين بلغاني عنك بالشام، قال: وما هما؟ قلت: قولك جف القلم بما فيه، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره فأصاب به من شاء، فمن أصابه النور يومئذ اهتدى، وإلا فلا ". قلت: فصلاة في بيت المقدس خير من ألف صلاة؟ فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " صلاة في مسجد بيت المقدس خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، ومسجدي هذا ".
يحيى بن صالح أبو زكريا
ويقال: أبو صالح - الوحاظي من أهل دمشق، وقيل: من أهل حمص.
استقدمه المأمون إلى دمشق ليوليه قضاء حمص.(27/267)
حدث عن حماد بن شعيب بسنده إلى بشر بن سحيم قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيام التشريق فقال: " لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن هذه أيام أكل وشرب ".
توفي يحيى بن صالح سنة اثنتين وعشرين ومئتين، وهو ابن خمس وثمانين سنة.
يحيى بن طالب أبو زكريا الأنطاكي
ويقال: الطرسوسي - الأكاف حدث عن هشام بن عمار بسنده إلى أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقرأ عشراً من آخر آل عمران كل ليلة.
يحيى بن طلحة بن عبيد الله
ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي حدث يحيى وعيسى ابنا طلحة عن أبيهما قال: مر على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببعير قد وسم في وجهه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو أن أهل هذا البعير عدلوا النار عن وجه هذه الدابة ". فقلت: لأسمن في أبعد مكان من وجهها، فوسمت في عجب الذنب.
حدث يحيى بن طلحة عن أمه سعدى المرية قالت: مر عمر بطلحة بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما لي أراك مكتبئاً؟ أساءتك إمرة ابن عمك؟ قال: لا، ولكني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند موته إلا كانت نوراً لصحيفته، وإن جسده وروحه ليجدان لها روحا عند الموت ". فقبض ولم أسأله، فقال: أنا أعلمها،(27/268)
هي الكلمة التي أراد عليها عمه، يعني: لا إله إلا الله، ولو علم أن شيئاً أنجى له منها لأمره به.
وفي آخر بمعناه: قال عمر: أنا سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من قال الكلمة التي راودت عمي عليها فردها علي، لا يقولها عبد عند موته إلا فسح له ووجد لها روحاً حتى تخرج نفسه ". فقال طلحة: صدقت والله.
يحيى بن عبد الله بن أسامة
القرشي البلقاوي
حدث عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: كان عمر بن الخطاب كثيراً مما يحدثنا عن أخبار الجاهلية وأهلها، ويقول: الأجل حصن حصين، وكهف منيع، ولقد أتت علي أحوال مهلكات نجوت منها سالماً، وكنت من أشد الناس إقداماً على ما يعجز عنه كثير من الناس، من الدخول على الملوك ومباشرة الحرب، حتى إني ونفر من أقراني من قريش دون العشرة أقدمنا على مئة رجل من ذوي البأس في بعض طريق الشام، فقد أجمعوا للقاء أقران لهم، فهجمنا عليهم ضحى، فواقعناهم حتى ذهب النهار وجاء الليل، فتحاجزنا، وما ظفروا منا بشيء، وافترق أصحابي بعد ذلك فرقتين، فمكثت في أقلهم عدداً، فأقمت أنا ومن معي بمكاننا، وغدا الآخرون عنا يريدون البحر، فذهبوا إلى الساعد، فما يعلم لأحد منهم خبر، وانطلقنا نحن إلى الشام، فقضينا أمرنا. فلما هممنا بالانصراف طعن رجل من أصحابي فمات، وسرت أنا وواحد منهم لم يبق معي غيره، فلم تنتصف الطريق بنا حتى غشينا في ليلة ظلمة سبع، فاختطفه وبقيت وحدي، فأتيت مكة فأقمت بها أياماً، ثم توجهت لبعض الأمر، فبينا أنا أسير تغولت لي الغول، فقالت لي: أين تعمد يا بن الخطاب؟ فقلت: وما عليك من ذلك؟ فاستدار وجهها حتى صار من ورائها، فرفعت السيف فأضرب به ما بين كتفيها وعنقها فأبنته، وانطلقت حتى قضيت حاجتي، وحدثت(27/269)
نفسي أن لا أحد في ذلك الطريق، فأتيت على المكان الذي وقعت الغول فيه، فلم أر لها أثراً.
فبينا أنا أسير سمعت صياحاً قد علا، ولا أرى أحداً، فما راعني ذلك، ولا جبنت به، وسرت حتى أتيت مكة. وكان الناس يكثرون ذكر النعمان بن المنذر ويصفون إكرامه من يأتيه من قريش، فتوجهت نحوه، فوجدته جالساً في مجلس عظيم، وقد كثر الناس فيه، فجلست حيث انتهى بي المجلس، فدعا بقوس وجعبة، فنكت السهام بين يديه، وجعل يتأمل الناس، فإذا رأى رجلاً طالهم وعلا عليهم رشقه في أذنه بسهم، فأنشبه فيه، وكنت رجلاً طويلاً. فلما رأيته فعل ذلك برجلين خفت أن يقع طرفه علي، فيجعلني ثالثاً، فتلطفت حتى خرجت، ثم عدت إلى مكة، فلبثت بها حيناً، ثم بلغني عن ملوك غسان انه من أتاه من قريش حباه وشرفه، فلم يمنعني ما شاهدته من النعمان أن توجهت حتى انتهيت إليه، فأمكث أياماً لا أصل إليه، ولا يؤذن لأحد عليه، ثم جلس جلوساً عاماً، فدخلت في جملة الناس، فإذا هو جالس في صدر مجلسه، وفي وسط داره أسطوانة طويلة، واسعة الرأس، فجعل يتأملها، ثم قال لجلسائه: أترون أنه لو أخذ رجل شاب، ظاهر الدم، حسن الجسم، فذبح على رأس هذه الأسطوانة، أكان يسيل دمه حتى يبلغ الأرض؟ فقالوا: ما نرى ذاك، وإنها لطويلة، فأمر برجل توسمه بين الناس، ونظر إليه على البعث الذي بعثه، فأصعد إلى أعلى الأسطوانة، فذبح، فسال دمه حتى بلغ ثلثها، وانحدر قليلاً، فقال: ما أراه بلغ الأرض، فلقد كانت به أدمة، ولو كان أبيض كان دمه أكثر.
ثم تأمل الناس فلحظني بطرفه، فظننت أنه سيأمر بي، ثم غفل عني فتلطفت وخرجت، فعدت إلى مكة، فمكثت حيناً ثم توجهت في تجارة إلى الشام في رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، وكان مقصدنا غزة. فلما أتيناها وجدنا أسواقها تصرمت، وبقيت بضائعنا، فقيل لنا: لو أتيتم دمشق لأصبتم بها حاجتكم، فأتيناها، فبعنا واشترينا ما يصلح لبلادنا، وخرجنا نريد طريق بلادنا. فلما سرنا غير بعيد عرضت لي حاجة، فحللت إزاري فإذا فيه صرة، ذكرتها حين رأيتها، فيها شيء من الذهب، كانت امرأة من نساء قومي دفعته إلي، وسألتني أن أبتاع لها به بزاً، وما أشبهه،(27/270)
فقلت لأصحابي: أنظروني بمكانكم إلى أن أنصرف إليكم، فقد عرضت لي حاجة لا بد من العودة فيها إلى دمشق، فأخبرتهم بأمر المرأة، فقالوا: فنحن نقيم عليك، فلا تحبسنا، فرجعت حتى أدخلها مساء، فنزلت فندقاً لأبيت فيه، وأصبح على حاجتي، فإني لنائم أتاني رجل حسن الصورة مكتهل، فحركني برجله ففتحت عيني، فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: أنا رجل غريب دخلت في حاجة، فقال: انطلق معي إلى منزلي، فنهضت معه، واحسن ضيافتي، وبت عنده خير مبيت.
فلما أخذت مضجعي قام يصلي الليل كله حتى أدركه الصبح، فأقبل علي، وقال: لا تخرج إلى السوق حتى أخرج معك، فتقضى حاجتك. قال: وكان كل من يخرج إلى الأسواق يحرز متاعه مخافة أن يختطف. قال: وأدرك الرجل النوم لسهره ليله، فكرهت أن أوقظه، وخفت أن أحتبس أنا عن أصحابي، فبادرت إلى السوق، فإذا أكثر أهلها لم يأتوا، فوقفت أترقب، وإذا ببطريق من الروم وجماعة من الأعوان، فرآني وعلم أني غريب، فقال لأعوانه: خذوه، فنعم خادم الكنيسة هو، فأخذوني وانطلقوا بي إلى كنيسة لهم فيها بناء قد استهدم وأعطوني مراً وقالوا: اهدم، فظللت يومي كله أعمل حتى أمسيت، فخلوني، فرجعت إلى الفندق الذي كنت فيه، وأنا بحالة سيئة، فأتاني الرجل الذي كان أضافني فقال: ما كان من أمرك؟ فأخبرته، فقال: ألم أوصك لا تخرج إلى السوق إلا معي؟ فقلت: إنك بت تصلي، وأعجلني الأمر، وكرهت أن أعجلك من منامك، فقال: انطلق الآن معي، فصار بي إلى منزله، وأحسن ضيافتي، وأوصاني ألا أصنع كما صنعت، ولا أخرج إلا معه. وأخذ في صلاته حتى إذا بان الصبح، ونام خالفته فخرجت إلى السوق، فإذا البطريق غشيني، فقال لأصحابه: هذا صاحبنا بالأمس، خذوه فأخذوني، وأعطوني المر، فما زلت أهدم حتى انتصف النهار واشتد الحر، وخلا الموضع، فجلست أستريح، فما شعرت إلا وقد هجم علي البطريق فعلاني بسوط معه حتى أوجعني، فقال: تركت العمل وجلست؟! فأبلغ مني فعله، ونظرت عن يميني وعن شمالي فإذا ليس أحد غيري وغيره، فاجتذبته فسقط إلى الأرض عن دابته،(27/271)
وضربت هامته بالمر ففلقتها، وهو يستغيث، فلم يسمعه أحد، فطرحت عليه من ذلك الهدم، وخرجت من المدينة هارباً لا ألتفت ورائي حذراً من الطلب، وقصدت غير الطريق الذي فيه أصحابي.
فلما أبعدت لحقني رجل من الروم يسير في بعض أمره، فكلمني بلغته فلم أعرفها واستراب بي، وألح في مخاطبتي بما لا أعلمه، وأنا أخاطبه بما لا يعلمه، ثم أومأ بيده إلى سيفه ليسله، فبادرته فغلبته عليه، وصرعته عن بغلة كان عليها وقتلته، وذهبت البغلة، وأخذت حتى وصلت إلى دير فيه جماعة نصارى فدخلته. فلما رأوني سألوني عن حالي فكنيت عنها، وقلت: بم يعرف ديركم؟ قالوا: يعرف بدير العدس، وانطلقوا إلى أسقف لهم فعرفوه خبري، فأتاني. فلما تأملني قال: أرى وجه خائف، قلت: وما ترى من خوفي؟ قال: كن كيف شئت فقد أمن الله خوفك، ولا مكروه عليك إذ وصلت إلينا، وأنزلني في بيته، وأحسن ضيافتي، ثم سألني من أنا؟ وممن أنا؟ فأخبرته، وهو يتأملني، ويعيد مسألتي. فلما أصبحت قال: ما تشاء، المقام أم الرحيل؟ فقلت: الرحيل، فجاءني بحمارة له قمراء ذات لحم وشحم، فأوكفها، وحملها خرجين، فيهما طعام وطرف وتحف، فقال لي: اركبها، وانطلق، فإنك لن تأتي على أحد من النصارى فيراك عليها إلا أحسن ضيافتك، وحفظك وجوزك، ثم أخذ بيدي، فخلا بي من وراء الدير، فقال لي: يا عمر، قد وجب حقي عليك، وأنت رجل من قوم كرام، ولي إليك حاجة، فاقضها، فقلت: اذكرها، وإني لأعجب أن تكون لمثلك إلى مثلي حاجة، وأنا رجل غريب على الحال الذي ترى، فقال: أنا رجل عندي علم من الكتاب، وقد تفرست فيك، ولن تنقضي الأيام حتى يتغير ما عليه الناس، وينتقلون إلى حالة أخرى، وتلي أنت هذه البلاد، وينفذ أمرك، وحكمك فيها وفي أهلها، وأخرج من كمه دواة وصحيفة وقال: حاجتي أن تكتب كتاباً يكون في يدي بإسقاط الجزية عن هذا الدير، ومن يسكنه، فقلت: ما كنت أراك تهزأ بي، فقال: وما كنت أراك تسيء بي الظن، والذي أنزل الإنجيل على عيسى بن مريم لحق كما قلت لك، فاكتب لي بما سألتك، فكتبت له بما سأل وانطلقت، فما أتيت على قوم من النصارى إلا ضيفوني، وجوزوني، وأرشدوني الطريق، وشيعني بعضهم إلى بعض حين رأوني على حمارة الأسقف، حتى انتهيت إلى تبوك، فإذا أصحابي نزول. فلما رأوني نهضوا إلي، وسروا بورودي، وقالوا: حبستنا(27/272)
بالمكان الذي خلفتنا فيه ثلاثاً، ولما يئسنا منك سرنا، وبنا منك هم شديد، فما كان من شأنك؟ فأخبرتهم خبري غير الذي قاله لي الأسقف، فلم أذكره لهم لضعف كان في نفسي. وقال لهم أبو سفيان حين رآني راكباً على تلك الحمارة: أما ترون هذا الفتى وإقبال أمره، إنه مذ نشأ لو عمد إلى حجر لانفلق عن رزق، قال: وكان الأسقف أوصاني إذا وصلت لأصحابي، واستغنيت عن الحمارة جعلت رسنها في أحد جانبي الخرج، وأشد الخرجين عليها شداً متقناً، وأدعها بمكانها حيث كانت، ففعلت بها ذلك، فقال أبو سفيان: ما هذا؟ فقلت: ما ترى: تدع حمارة مثل هذه معرضة للصوص والسباع، فقلت: بهذا أمرني صاحبها، وهو أعلم بشأنها مني. قال: فسمى ذلك الموضع والركن الذي فيه: ركن الأتان.
وأتينا مكة، ودار في نفسي ما سمعته من ذلك الأسقف، فأسررت ذلك إلى حاضنة لي ذات فهم وعلم، فقالت: يا بن الخطاب، إني لم أزل أتوسم فيك الخير، وأنت صغير، وذلك أني رأيت فيما يرى النائم وأنت تطول حتى لم أستطع النظر إلى وجهك لطولك، ثم مددت يدك اليمنى، فنلت بها السماء، فقلت في منامي: ما بال ابني؟ فقال لي قائل: إنه سينال خير الدنيا والآخرة. قال: ونحن في جاهلية لا نعرف معنى هذا الكلام، وكان بمكة رجل من أهل الكتاب يخفي أمره، ويكتم شأنه، إلا أن أكابر قريش يعرفونه ويكرمونه، وربما شاوروه في الأمر يحدث لهم، فطرقته نصف النهار، وقلت له: أغلق الباب، فإن لي بك خلوة ففعل، فقلت له: إني أذكر لك حديثين، فلا تخبر بهما أحداً، وقصصت عليه ما قال الأسقف بدير العدس، وما أخبرتني به حاضنتي من الرؤيا، فأقبل علي وقال: يا بن الخطاب، أما ما ذكر الأسقف فهو اليوم أعلم من بقي على وجه الأرض من النصارى، وما أخبرك إلا بالحق، وأما الرؤيا، فإنه سيحدث بمكة عن قريب أمر يتغير به جميع ما ترى، وقد أظل، فإذا رأيت أوائله يا بن الخطاب فأتني، فإن فيه مصداق ما أخبرك به الأسقف، فقلت: وما هو؟ فقال: لن يخفى عليك، فأول أمر تراه يحدث فهو هو. قال: فانصرفت، وأنا أتوقع ما قال، فمات بعد أيام، وظهر من ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء تحدث به قوم من قريش، وجعلوا يتذاكرونه بينهم على سبيل(27/273)
الهزء، وقلت في نفسي: لئن كان هذا حقاً لهو الرجل الذي أخبرني به الرجل الكتابي، ولم يزل ذلك يقوى حتى أظهر الله الإسلام.
قال أسلم: فلما كان في خلافة عمر توجه إلى الشام أتاه شيخ كبير، ومعه جماعة من النصارى، فسلم عليه، وقال: ما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن كنت صاحبي بدير العدس فإني أعرفك، قال: أنا هو، فقال عمر: إن عهدي بك، وأنت مكتهل، وقد بلغت هذه الحال، وقد أتى الله عز وجل بالإسلام، فما يمنعك من الدخول فيه، وأنت رجل من أهل الكتاب؟ وقد كنت أخبرتني بشيء، فرأيت من نبئه ما استدللت به، على أنك من علمائهم، فاعتذر في ذلك. ثم أظهر الكتاب الذي كان عمر كتبه له، فعرفه عمر، وقال: ما تسأل؟ قال: اسأل أن تمضيه لي، فقد تقدم به أمرك ووعدك، فقال: إنا يومئذ كنا وإياكم على حال قد علمتها، وقد أزالها الله، وجاءنا بغيرها، ولا بد من أحد أمرين: إما الخراج، وإما الضيافة، فاختار الضيافة، فألزمهم إياها عمر، وأسقط عن ديره الخراج على أن عليهم ضيافة من نزل هذا الدير من المسلمين إذا كان عابر سبيل ثلاثة أيام، يطعمونهم، ما يحل لهم من أوسط طعامهم، وكتب لهم بذلك كتاباً، وقال عمر: ما أعرف لأحد عندي يداً منذ كنت حتى من الله علي بالإسلام غير هذا الرجل - يعني ما كان صنعه به أسقف الدير - وعرض عليه المكافأة من ماله، فلم يقبلها، وانصرف وأصحابه راضين بما أكرمهم عمر من ضيافة المسلمين.
يحيى بن عبد الله بن الحارث
أبو بكر القرشي، العبدري، المعروف بابن الزجاج الكاتب حدث عن أبي بكر محمد بن هارون بن محمد بن بكار بن بلال، بسنده إلى نعيم بن همار عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الله عز وجل قال: " ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره ".(27/274)
يحيى بن عبد الله بن الضحاك
ابن بابلت، أبو سعيد الحراني، المعروف بالبابلتي، مولى بني أمية حدث عن الأوزاعي بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقبل وهو صائم.
وحدث عنه بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يساوم الرجل على سوم أخيه حتى يشتري أو يترك، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، فإن المسلمة أخت المسلمة ".
قيل: إن بابلت كان من أهل طخارستان من الملوك الكبار.
وقيل: إنه قيل له: من أين أنت؟ قال: من الري من موضع يقال له: باب لت، فقيل له: بابلتي، فغلب عليه.
وقيل: هي قرية بين حران والرقة.
ضعفه قوم. وقدم يحيى بن معين حران فطمع البابلتي أن يجيئه، فوجه إليه بصرة فيها مئة دينار وطعام طيب، فرد الصرة وقبل الطعام، فقيل ليحيى يوم رحل: ما تقول في البابلتي؟ قال: إن صلته حسنة وطعامه طيب إلا أنه لم يسمع والله من الأوزاعي شيئاً.
توفي سنة ثمان عشرة ومئتين، وهو ابن تسعين سنة.(27/275)
يحيى بن عبد الله بن محمد
ابن سعيد، أبو زكريا حدث عن زيد بن يحيى بن عبيد بسنده إلى عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: أول ما يكفأ أمتي عن الإسلام كما يكفأ الإناء في الخمر. قال: فقلت: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفه.
يحيى بن عبد الله أبو عبد الله
من دمشق.
حدث عن الأوزاعي بسنده إلى أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في قوله عز وجل: " خذوا زينتكم عند كل مسجد "، قال: الصلاة في النعال.
يحيى بن عبد الباقي بن يحيى
ابن يزيد، بن إبراهيم بن عبد الله أبو القاسم الأذني حدث عن محمد بن عبد الله بن القاسم الصغاني بسنده إلى عبادة بن الصامت قال: طلق بعض آبائي امرأته ألفاً، فانطلق بنوه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا:(27/276)
يا رسول الله؛ إن أبانا طلق أمنا ألفاً، فهل له من مخرج؟ فقال: إن أباكم لم يتق الله فيجعل له من أمره مخرجاً، بانت منه بثلاث على غير السنة، وتسع مئة وسبع وتسعون إثم في عنقه.
وحدث عن أحمد بن إبراهيم السائح بسنده إلى شداد بن أوس الأنصاري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا عزت ربيعة ذل الإسلام، ولا يزال الله يعز الإسلام وأهله وينقص الشرك وأهله ما عزت مضر واليمن ".
وحدث عن لوين بسنده إلى علي قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل الثوم، فلولا أني أناجي الملائكة لأكلته ".
توفي يحيى بن عبد الله سنة اثنتين وتسعين، أو سنة ثلاث وتسعين ومئتين.
يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب
ابن أبي بلتعة، أبو محمد ويقال: أبو بكر اللخمي المدني وفد على عبد الملك بن مروان.
حدث عن أبيه عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحج على ثلاثة أنواع، فمنا من أهل بحج وعمرة معاً، ومنا من أهل بحج مفرد، ومنا من أهل بعمرة مفردة، فمن كان أهل بحج وعمرة معاً لم يحلل من شيء مما حرم منه حتى يقضي مناسك الحج، ومن أهل بعمرة مفردة، وطاف بالبيت والصفا والمروة حل مما حرم حتى يتقبل حجاً، ومن أهل بحج مفرد لم يحل من شيء مما حرم منه حتى يقضي مناسك الحج.(27/277)
حدث هشام بن عروة: أن رجلاً من آل حاطب بن أبي بلتعة كانت بينه وبين رجل من آل صهيب منازعة. فذكر الحديث في قتله. قال: فركب يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك، فقضى بالقسامة على ستة نفر من آل حاطب فثنى عليهم الأيمان، فطلب آل حاطب أن يحلفوا على اثنين ويقتلونهما، فأبى عبد الملك إلا ان يحلفوا على واحد فيقتلوه، فحلفوا على الصهيبي فقتلوه.
قال هشام: فلم ينكر ذلك عروة، ورأى أن قد أصيب فيه الحق.
توفي أبو محمد سنة أربع ومئة.
يحيى بن عبد الرحمن بن عبد الصمد
ابن شعيب بن إسحاق، أبو سعيد الدمشقي حدث عن محمود بن خالد بسنده إلى عروة قال: ما قنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن يستنصر.
توفي أبو سعيد سنة تسعين ومئتين.
يحيى بن عبد الرحمن بن عمارة
ابن معلى، أبو زكريا الهمداني الدقاني من أهل قرية دقانية من قرى دمشق.
حدث عن محمد بن إسحاق الأشعري بسنده إلى جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أيما شاب تزوج في حداثة سنه، عج شيطانه: يا ويله! يا ويله! عصم مني ثلثي دينه ".(27/278)
توفي أبو زكريا سنة خمس عشرة وثلاث مئة.
يحيى بن عبد الرحمن أبو شيبة
الكناني، ويقال: الكندي حدث عن عبد الله بن المغيرة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سيكون قوم بعدي من أمتي يقرؤون القرآن، ويتفقهون في الدين، يأتيهم الشيطان فيقول: لو أتيتم السلطان فأصلح من دنياكم، واعتزلتموهم بدينكم، ولا يكون كذلك، كما لا يجتنى من القتاد ولا الشوك، كذلك لا يجتني من قربهم إلا الخطايا ".
يحيى بن عبد العزيز بن إسماعيل
ابن عبيد الله، ابن أبي المهاجر، القرشي المخزومي حدث عن الوليد بن مسلم، بسنده إلى إسماعيل بن عبيد الله قال: قال لي عبد الملك بن مروان: أدب ولدي، فإني معطيك، قلت: كيف بذلك؟ وقد حدثتني أم الدرداء عن أبي الدرداء أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من يأخذ على تعليم القرآن قوساً قلده الله قوساً من نار ".
يحيى بن عبد العزيز أبو عبد العزيز
الأردني دمشقي.(27/279)
حدث عن عبد الله بن نعيم بسنده إلى أبي موسى الأشعري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عقد يوم حنين لأبي عامر الأشعري على جبل الطلب، فلما انهزمت هوازن طلبها حتى أدرك ابن دريد بن الصمة، فأسرع به فرسه، فقتل ابن دريد أبا عامر، قال أبو موسى: فشددت على ابن دريد فقتلته، وأخذت اللواء، وانصرفت بالناس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلما رأى اللواء بيدي قال: أبا موسى، قتل أبو عامر؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: فرفع يديه يدعو له، يقول: اللهم، أبا عامر اجعله في الأكثرين يوم القيامة.
يحيى بن عبد الواحد بن سليمان
ابن عبيد الله - ويقال: ابن عبد الواحد بن عبيد الله - بن مروان بن الحكم حدث يحيى بن عبد الواحد بن سليمان بن عبيد الله بن مروان، أن مروان لم يسبق عبد الملك إلا بالحلم.
يحيى بن عبد الواحد بن علي
ابن عبد الواحد بن موحد بن البري، أبو عبد الله السلمي أنشد أبو عبد الله لأبي علي الحسن بن محمد بن أبي الشخباء العسقلاني:
سار فسار النوم عن ناظري ... وخيم الهم بأفكاري
كأنما قلدني بعده ... كتبة جيش الفلك للساري
ولم يدع لي جارياً غير ما ... قرره من دمعي الجاري(27/280)
يحيى بن عتبة بن عبد السلام
من دمشق.
وقع فيه وهم وهو: ابن عبد السلمي، وهو من حمص.
حدث يحيى عن أبيه عتبة قال: دعاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما اسمك؟ فقلت: عتلة بن عبد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل أنت عتبة بن عبد.
وحدث عنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم قريظة والنضير: من أدخل هذا الحصن سهماً وجبت له الجنة. قال عتبة: فأدخلته ثلاثة أسهم.
يحيى بن عثمان بن سعيد بن كثير
ابن دينار، أبو سليمان - ويقال: أبو زكريا - الحمصي، الرجل الصالح، أخو عمرو بن عثمان حدث عن زيد بن يحيى بن عبيد بسنده إلى جعفر بن أبي طالب، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمه كلمات إذا نزل به كرب دعا بهن: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين.(27/281)
قال المسيب بن واضح: رأيت في النوم كأن آتياً أتاني، فقال: إن كان بقي من الأبدال أحد فيحيى بن عثمان الحمصي.
قال سلمة بن الهيذام الكلبي: كان جعفر المتوكل قد جعل عمراً ويحيى ابني عثمان بن سعيد المختارين بحمص، في أيام التعديل. قال: فقال لي يحيى: يا سلمة، من أين جئت؟ فقلت: من عند أخيك عمرو، قال: وما يعمل؟ قلت: هو قاعد وابنه يكتبان كتاباً إلى أمير المؤمنين عنك وعنه، فقال: الله حسيبهما، ما لي ولأمير المؤمنين! ما أنا وأمير المؤمنين؟! ما أمرت، ولا علمت. قال: وكان يحيى ورعاً لا يدخل في عمل السلطان، قال سلمة: فلقيني عمرو بن عثمان الغد فقال لي: يا فضولي، ما حملك على ما فعلت أمس؟! فقلت: يا أبا حفص، أردت أن أسر أخاك، فقال: يا بني، غمته، ونالنا من العتب منه ما كنا عنه أغنياء، فلا تعد لمثلها.
يحيى بن عثمان أبو زكريا
المعروف بالحربي حدث عن إسماعيل بن عياش بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أحدكم مرآة أخيه، فإذا رأى به شيئاً فليمطه عنه.
وحدث عنه بسنده إلى أنس بن مالك ان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما من مسلم يشهر على أخيه السلاح، إلا كانا على حرف جهنم، فإن أغمدا عادا إلى الذي كانا عليه، وإن قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعاً ".
توفي يحيى بن عثمان سنة ثمان وثلاثين ومئتين.(27/282)
يحيى بن عروة بن الزبير بن العوام
ابن خويلد بن أسيد بن عبد العزى، أبو عروة القرشي الأسدي الزبيري حدث عن أبيه أن عائشة قالت: سأل أناس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الكهان، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليسوا بشيء، فقالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تلك الكلمة الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة.
قوله: فيقرها بضم القاف، معناه الصب، يقال: قرت الحمامة فرخها إذا صبت في حلقه.
وفد يحيى بن عروة على عبد الملك بن مروان فجلس ببابه، فسمع حاجب عبد الملك يتناول من ابن الزبير، فضرب يحيى وجه الحاجب فأدماه، فقال له عبد الملك: من فعل بك؟ قال: يحيى بن عروة، قال: أدخله، فدخل، وقد استوى عبد الملك على فراشه، فقال: ما حملك على ما فعلت بحاجبي؟ فقال له يحيى: عمي عبد الله بن الزبير كان أحسن جواراً لعمتك منك لنا، والله إن كان ليقول لها: من سب أهلك فسبي أهله، وإن كان لينهى حامته وعشيرته وحشمه أن يسمعوها فيكم قذعاً، أنا والله المعم المخول، تفرقت العرب عن عمي وخالي فكنت كما قال الشاعر:(27/283)
يداه أصابت هذه حتف هذه ... فلم تجد الأخرى عليها مقدما
قال: فاضطجع عبد الملك، ولم يزل كذلك يعرف فيه إكراماً ليحيى بن عروة.
قال يحيى بن عروة: أنا أكرم العرب، اختلفت العرب في عمي وخالي، يعني عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم. وكان يحيى بن عروة من أشرف بني عروة، وكان يلي عبد الله في السن، وهو القائل:
أشرتم بلبس الخز لما لبستم ... ومن قبل لا تدرون من فتح القرى
قعوداً بأبواب الفجاج وخيلنا ... تسامي سمام الموت تكدس بالقنا
فلما أتاكم فيئنا برماحنا ... تكذب مكفي بعيب لمن كفى
خرج عروة إلى الوليد بن عبد الملك، فسقط ابنه يحيى عن ظهر بيت، فوقع تحت أرجل الدواب فقطعته.
ومن شعر يحيى بن عروة بن الزبير: الخفيف(27/284)
أين عمي وقبل ذاك أبوه ... وقتيل العراق بين الجسور
أثروا الصبر والحياء فماتوا ... قبل دهر يشاب بالتكدير
يحيى بن علي بن عبد العزيز
ابن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن الوليد أبو المفضل بن أبي الحسين القرشي، المعروف بابن الصائغ قاضي دمشق: حدث عن أبي القاسم عبد الرزاق بن عبد الله بن الفضيل الكلاعي بسنده إلى عبد الله بن عمرو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استند إلى البيت، فوعظ الناس، وذكرهم، ثم قال: " لا يصلي أحكم بعد العصر حتى الليل، ولا بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم ثلاثة أيام، ولا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها ".
ولد أبو المفضل سنة ثلاث أو أربع وأربعين وأربع مئة، وتوفي سنة أربع وثلاثين وخمس مئة.
وكان ثقة، فصيح اللسان، حسن المحاضرة.
يحيى بن علي بن محمد بن هاشم
ابن النعمان بن مرادس
أبو العباس الكندي الحلبي الخفاف
حدث عن عبد الملك بن دليل إمام مسجد حلب بسنده إلى زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" يقول الله عز وجل: توسعت على عبادي بثلاث خصال: بعثت الدابة على الحبة(27/285)
يعني القمح والشعير، ولولا ذلك لكنزهما ملوكهم كما يكنزون الذهب والفضة، وتغير الجسد من بعد الموت، ولولا ذلك لما دفن حميم حميمه، وسليت حزن الحزين ولولا ذلك لم يكن يسلو ".
وحدث عن جده محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة بسنده إلى ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن القزع: أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعض.
قدم دمشق حاجاً سنة أربع وثلاث مئة.
يحيى بن علي بن محمد
ابن المختفي أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو الحسين الزيدي الحسيني حدث عن أحمد بن محمد بن عقدة بسنده إلى زيد بن علي عن أبائه قال: قام أبو بكر على منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هل من كاره فأقيله؟ ثلاثاً يقول ذلك، فيقول علي بن أبي طالب: لا والله، لا نقيلك ولا نستقيلك، من ذا الذي يؤخرك وقد قدمك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ توفي يحيى بن علي سنة تسع وثمانين وثلاث مئة.(27/286)
يحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن بسطام
أبو زكريا التبريزي، الخطيب، الأديب، اللغوي حدث عن أبي الحسين محمد بن محمد السراج بسنده إلى عائشة قالت: ظننت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهدي بمنى قبل أن نزور البيت.
وحدث بسنده إلى حكيم بن حزام قال: نهاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أبيع ما ليس عندي.
وحدث بسنده إلى جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تأكل بالشمال، فإن الشيطان يأكل بالشمال ".
وأنشد عن أبي الفتح سليم بن أيوب الرازي، قال: أنشدنا أبو الحسين أحمد بن الحسين بن زكريا بن فارس النحوي لنفسه: المتقارب
إذا كان يؤذيك حر المصيف ... ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع ... فأخذك للعلم قل لي متى!
قال أبو زكريا: أنشدنا أبو العلاء محمد بن علي بن حسول الهمذاني الوزير بالري لنفسه: مخلع البسيط
تقعد فوقي لأي معنى ... للفضل، للهمة النفيسه!(27/287)
إن غلط الدهر فيك يوماً ... فليس في الشرط أن تقيسه
كم فارس غصت الليالي ... به إلى أن غدا فريسه
فلا تفاخر بما تقضى ... كان الخرا مرة هريسه
توفي أبو زكريا سنة اثنتين وخمس مئة.
يحيى بن علي بن محمد بن زهير
أبو القاسم السلمي، المحتسب حدث عن أبي الفضل أحمد بن عبد المنعم ابن الكريدي بسنده إلى ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا نصح العبد لسيده، وأحسن عبادة ربه، كان له الأجر مرتين ".
توفي أبو القاسم سنة اثنتين وأربعين وخمس مئة، وكان مبخلاً مقتراً على نفسه، ولم يتأهل قط، فمات، فوجد له مال كثير، وذخائر مستحسنة، فأخذ السلطان ماله أجمع، لأنه لم يبق له وارث.
يحيى بن عمرو بن عمارة بن راشد بن مسلم
ويقال: بابن كنانة أبو الخطاب، الليثي مولاهم حدث عن ابن ثوبان بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " والذي نفسي بيده لقيد سوط في الجنة خير مما بين السماء والأرض ".
وبه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا هم العبد بسيئة قال الله للملائكة: إن لم يعملها فلا تكتبوها، وإن عملها فاكتبوها سيئة، وإن العبد إذا هم بالحسنة أن يعملها قال الله عز وجل للملائكة: اكتبوها حسنة، وإن عملها قال: اكتبوها عشر حسنات إلى سبع مئة ".
وحدث عن ابن ثوبان بسنده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه ".(27/288)
وحدث عن عتبة بن عبد الرحمن قال: سمعت أنس بن مالك يقول: إنما الوضوء مما أخرجت القبلين.
يحيى بن عمير الغساني
ذكر في ترجمته أنه قال هو والنعمان بن المنذر: كنا نغزو مع مكحول، فيحمل معه ديكاً يسمى محبوب، فكان إذا صاح من الليل قام فتوضأ وصلى، ثم يقيم أصحابه فيقول: قوموا صلوا ركعتين، واذكروا الله تعالى.
يحيى بن غسان الدمشقي
حدث عن أيوب بن مدرك الدمشقي عن مكحول عن سعيد بن المسيب قال: نزل بي أمر أهمني، فخرجت من الليل إلى مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخلت المسجد فسمعت حركة الحصا، فالتفت فلم أر أحداً، وسمعت قائلاً يقول: ادع الله في هذا الأمر الذي يهمك، وقل: اللهم، إني أسألك بأنك لنا مالك، وأنك على كل شيء مقتدر، وأنك ما تشاء من أمر يكن، قال: فما دعوت به في شيء من أمر الدنيا إلا وقد رأيته، وأنا أرجو أن يكون ما دعوت به من أمر الآخرة على مثل ذلك إن شاء الله تعالى.
يحيى بن محمد بن سهل
حدث عن علي بن سهل عن ضمرة بن ربيعة عن يحيى بن أبي عمرو السيباني قال: لما بنى داود مسجد بيت المقدس نهى أن يدخل الرخام بيت المقدس، لأنه الحجر الملعون. فخر على الحجارة فلعن.(27/289)
يحيى بن محمد بن صاعد بن كاتب
أبو محمد البغدادي الحافظ مولى أبي جعفر المنصور حدث عن عبد الجبار بن العلاء وغيره بسنده إلى عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو يعلم الناس من الوحدة ما أعلم ما سرى أحد ليلة وحده ".
وحدث عن الحسن بن مدرك الطحان بسنده إلى حميد بن عبد الرحمن قال: دخلنا على أسير، رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يأتيك من الحياء إلا خير ".
وحدث عن محمد بن يحيى بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا طلاق إلا بعد نكاح ".
توفي يحيى بن صاعد سنة ثمان عشرة وثلاث مئة. ومولده سنة ثمان وعشرين ومئتين.
يحيى بن محمد بن عبد الحميد السكسكي البتلهي
حدث عن يحيى بن أكثم بسنده إلى ابن عباس قال:
ثلاثة لا أقدر على مكافأتهم ولو حرصت: رجل سقاني شربة على ظمأ، ورجل حفظني بظهر الغيب، ورجل وسع لي في مجلس. ورابع لا يكافئه عني إلا الله عز وجل: رجل بات وحاجته تلجلج في صدره غدا علي فأنزلها بي، وأنشد: الطويل(27/290)
إذا طارقات الهم صاحبت الفتى ... وأعملن فكر الليل والليل عاكر
وباكرني في حاجة لم يجد لها ... سواي ولا من نكبة الدهر ناصر
فرجت بمالي همه في مقامه ... وزايله الهم الطروق المساور
وكان له فضل علي بظنه ... بي الخير، إني للذي ظن شاكر
يحيى بن محمد بن علي
ابن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب أخو السفاح والمنصور قال شهاب بن عباد: لما استباح يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله الموصل عدا رجل من أصحابه على صبي يريد قتله، فسعى الصبي حتى ولج على جدة له، أو أم، أو عمة، فاشتملت عليه فقال: أظهريه، وإلا قتلتكما جميعاً، قالت: أنشدك الله فيه، فإنكم قد أصبتم أهله فلم يبق غيره، ولك عشرة آلاف أعطيكها الساعة، فأبى، فبذلت له كل ما تملك فأبى، ونظر إلى وعاء سقط أو حقة أو غير ذلك فنظر فإذا فيه: الوافر
إذا جار الأمير وكاتبوه ... وخانوا في الحكومة والقضاء
فويل للأمير وكاتبيه ... وقاضي الأرض من قاضي السماء(27/291)
فخرج الرجل نادماً، لم يعرض للغلام ولا لشيء مما في البيت، وتاب فأحسن التوبة.
مات يحيى بن محمد بن عبد الله سنة خمس وثلاثين ومئة.
يحيى بن محمد بن عمران
ابن أبي الصفيراء الحلبي، البالسي حدث عن عقبة بن مكرم بسنده إلى جابر قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الشؤم؟ قال: سوء الخلق.
وحدث عن هشام بن عمار بسنده إلى سعد: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بلالاً أن يدخل يديه في أذنيه إذا أذن، وقال: إنه أرفع لصوتك.
وحدث عن عيسى بن عبد الله العسقلاني بسنده إلى جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة ".
يحيى بن محمد بن محمد بن زياد بن زبار
أبو صالح، الكلبي البغدادي حدث بدمشق سنة اثنتي عشرة وثلاث مئة عن عمرو بن علي الفلاس بسنده إلى عبد الرحمن بن سمرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا حلف أحدكم على يمين، ورأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه، ولينظر الذي هو خير فليأته ".
توفي أبو صالح سنة ثلاث عشرة وثلاث مئة.(27/292)
يحيى بن محمد بن المسلم
أبو غانم الحلبي، المعروف بابن الحلاوي فمن شعره: مجزوء الكامل
يا دهر مهلاً قد بلغ؟ ... ت مناك في تشتيت شملي
وأذقتني ثكل الأحبة ... وهو غاية كل ثكل
حللت فرقة شملنا ... ما أنت من قبلي بحل
يا غربة أنفقت في؟ ... ها أدمعي جهد المقل
وبليت شوقاً نحوهم ... وكذلك الأشواق تبلي
هل لي إليهم أوبة ... ومن التعلل قول هل لي
يحيى بن مبارك الصنعاني
من صنعاء دمشق.
حدث عن شريك بسنده إلى ابن عباس قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " شفعت في هؤلاء النفر، في أبي، وعمي أبي طالب، وأخي من الرضاعة يعني: ابن السعدية ليكونوا من بعد البعث هنا ".
وحدث عن كثير بن سليم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو أن صاحب بدعة أو مكذباً بقدر قتل بين الركن والمقام صابراً محتسباً مظلوماً لم ينظر الله في شيء من أمره حتى يدخله جهنم ".(27/293)
يحيى بن مسعر بن محمد بن يحيى بن الفرج
أبو زكريا، التنوخي المعري حدث عن أبي غروبة بسنده إلى أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة ".
يحيى بن أبي المطاع القرشي الشامي
ابن أخت بلال مؤذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدث عن عرباض بن سارية قال:
وعظنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موعظة، وجفت منها القلوب، وذرفت منها الأعين، فقلنا: يا رسول الله، إنك قد وعظتنا موعظة مودع، فاعهد إلينا، قال: عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً، وسيرى من بقي بعدي منكم اختلافاً شديداً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والمحدثات، فإن كل بدعة ضلالة.
ومن حديث روي عن الوليد بن سليمان بن أبي السائب قال: صحبت يحيى بن أبي المطاع إلى زيزاء، فلم يزل يقرأ بنا في صلاة العشاء وصلاة الصبح في الركعة الأولى ب؟ " قل هو الله أحد " وفي الركعة الثانية ب؟ " قل أعوذ برب الفلق " و" قل أعوذ برب الناس " الحديث.(27/294)
يحيى بن معين بن عون بن زياد
ابن بسطام بن عبد الرحمن وقيل: ابن معين بن غياث بن زياد بن عون بن بسطام أبو زكريا المري مرة غطفان، مولاهم، البغدادي الحافظ حدث عن علي بن هاشم ووكيع بسنديهما إلى عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا مات صاحبكم فدعوه ".
وحدث عن حفص بن غياث بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أقال مسلماً عثرته أقال الله عثرته يوم القيامة ".
وفي رواية: " من أقال نادماً عثرته ... ".
وفي رواية: " من أقال عثرة أقاله الله يوم القيامة ".
وحدث يحيى بن معين عن أبي مسهر عن سعيد بن عبد العزيز قال: قال ابن عمر: وضوء على وضوء عشر حسنات.
ولد يحيى بن معين سنة ثمان وخمسين ومئة. وتوفي سنة ثلاث وثلاثين ومئتين، وغسل على أعواد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان إماماً ربانياً، عالماً حافظاً، ثبتاً متقناً.
ومَعِين: بفتح الميم وكسر العين وآخره نون.
وذكر داود بن رشيد: أن معيناً أبا يحيى كان مشعبذاً، وكان يحيى من قرية نحو(27/295)
الأنبار، يقال لها نقيا. ويقال: إن فرعون كان من أهل نقيا.
وقيل: كان معين على خراج الزي، فمات، فخلف لابنه يحيى ألف ألف درهم، وخمسين ألف درهم، فأنفقه كله على الحديث، حتى لم يبق له نعل يلبسه. رحمة الله عليه.
وعن علي أظنه ابن المديني قال: لا نعلم أحداً من لدن أدم كتب من الحديث ما كتب يحيى بن معين.
قال محمد بن نصر الطبري: دخلت على يحيى بن معين، فعددت عنده كذا وكذا سفطاً، يعني دفاتر.
وسمعته يقول: كتبت بيدي ألف ألف حديث.
وسمعته يقول: كل حديث لا يوجد ههنا وأشار بيده إلى الأسفاط فهو كذب.
قال يحيى بن معين: إذا كتبت فقمش، وإذا حدثت ففتش.(27/296)
وقال: سيندم المنتخب في الحديث، ولا تنفعه الندامة.
قال يحيى بن معين: كنا بقرية من قرى مصر، فلم يكن معنا شيء ولا ثم شيء نشتريه. فلما أصبحنا إذا نحن بزبيل ملئ بسمك مشوي وليس عنده أحد، فسألوني عنه، فقلت: اقتسموه، فكلوه. قال يحيى: أظن أنه رزق رزقهم الله عز وجل.
قال يحيى بن معين: القرآن كلام الله وليس بمخلوق. وكان العباس بن محمد يقول: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.
وقال يحيى: الإيمان يزيد وينقص، وهو قول وعمل.
قال علي بن المديني: دار حديث الثقات على ستة وذكرهم، ثم قال: ما شذ عن هؤلاء يصير إلى اثني عشر فذكرهم، ثم صار حديث هؤلاء كلهم إلى يحيى بن معين. قال أبو زرعة: ولم ينتفع به لأنه كان يتكلم في الناس.
قال هلال بن العلاء: من الله على هذه الأمة بأربعة في زمانهم، أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والشافعي، وأبو عبيد القاسم بن سلام. فأما أحمد بن حنبل فثبت في دين الله، ولولا ذلك لارتد الناس، وأما يحيى بن معين فأنفاه الكذب عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما الشافعي ففقه الناس في دين الله، وأما أبو عبيد ففسر الغريب من حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(27/297)
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: ربانيو الحديث أربعة: فأعلمهم بالحلال والحرام أحمد بن حنبل، وأحسنهم سياقة للحديث وأداء له علي بن المديني، وأحسنهم وضعاً لكتاب ابن أبي شيبة، وأعلمهم بصحيح الحديث وسقيمه يحيى بن معين.
قال أبو حاتم الرازي إذا رأيت البغدادي يحب أحمد بن حنبل فاعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيته يبغض يحيى بن معين فاعلم أنه كذاب.
قال جعفر بن محمد الطيالسي: صلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في مسجد الرصافة، فقام بين أيديهم قاص فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قال لا إله إلا الله يخلق من كل كلمة منها طير منقاره من ذهب، وريشه من مرجان، وأخذ في قصة نحو من عشرين ورقة، فجعل أحمد ينظر إلى يحيى، ويحيى ينظر إلى أحمد، فيقول: أنت حدثته، فقال: والله ما سمعت به إلا هذه الساعة. فلما فرغ من قصصه وأخذ قطاعه، قال له يحيى بن معين: أن تعال، فجاء متوهماً لنوال يجيزه، فقال له يحيى: من حدثك بهذا الحديث؟ فقال: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فقال: أنا يحيى بن معين، وهذا أحمد بن حنبل، ما سمعنا بهذا قط، فإن كان ولا بد والكذب فعلى غيرنا، فقال له: أنت يحيى بن معين؟ قال: نعم، قال: لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق، فقال له يحيى: وكيف علمت أني أحمق؟ قال: كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما، كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ويحيى بن معين غيركما، قال: فوضع أحمد كمه على وجهه فقال: دعه يقوم، فقام كالمستهزئ بهما.
قال يحيى بن معين: ما رأيت على رجل قط خطأ إلا سترته، وأحببت أن أزين أمره، وما استقبلت رجلاً في وجهه بأمر يكرهه، ولكن أبين له خطأه فيما بيني وبينه، فإن قبل ذلك وإلا تركته.(27/298)
جاء رجل عجل إلى يحيى بن معين فقال: حدثني بشيء أذكرك به فقال له: اذكرني أنك سألتني أن أحدثك فلم أفعل.
قال يحيى بن معين: كنت بمصر فرأيت جارية بيعت بألف دينار، ما رأيت أحسن منها صلى الله عليها، فقيل له: يا أبا زكريا، مثلك يقول هذا؟! قال: نعم، صلى الله عليها وعلى كل مليح.
ومن شعر يحيى بن معين:
المال ينفذ حله وحرامه ... يوماً، وتبقى في غد آثامه
ليس التقي بمتق في دينه ... حتى يطيب شرابه وطعامه
ويطيب ما تحوي وتكسب كفه ... ويطيب في حسن الحديث كلامه
نطق النبي لنا به عن ربه ... فعلى النبي صلاته وسلامه
ومن شعر يحيى بن معين أيضاً:
أخلاء الرجال هم كثير ... ولكن في البلاء هم قليل
فلا يغررك خلة من تؤاخي ... فما لك عند نائبة خليل
سوى رجل له حسب ودين ... لما قد قاله يوماً فعول
كان يحيى بن معين يحج، فيذهب إلى مكة على المدينة، ويرجع على المدينة. فلما كان آخر حجة حجها خرج على المدينة، ورجع على المدينة، فأقام بها يومين أو ثلاثة، ثم خرج حتى نزل المنزل مع رفقائه، فباتوا، فرأى في النوم هاتفاً يهتف به: يا أبا زكريا، أترغب عن جواري؟ يا أبا زكريا، أترغب عن جواري؟ فلما أصبح قال لرفقائه: امضوا فإني راجع إلى المدينة، فمضوا ورجع، فأقام بها ثلاثاً، ثم مات، فحمل على أعواد النبي صلى اله عليه وسلم، وجعلوا يقولون: هذا الذاب عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكذب.(27/299)
وقيل: إنه دخل المدينة ليلة جمعة، ومات من ليلته، فتسامع الناس بقدوم يحيى وبموته، فاجتمع العامة، وجاء بنو هاشم، فقالوا: نخرج له الأعواد التي غسل عليها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكره العامة ذلك، فكثر الكلام، فقال بنو هاشم: نحن أولى بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منكم، وهو أهل أن يغسل عليها، فأخرج الأعواد، فغسل عليها.
وفي رواية: فأخرجوا له سرير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحمل عليه فصلى عليه الوالي، ثم صلي عليه مراراً. وتوفي يحيى وسنه سبع وسبعون سنة.
قال إبراهيم بن المنذر: فرأى رجل في المنام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه مجتمعين، فقيل لهم: ما لكم مجتمعين؟ فقال: جئت لهذا الرجل أصلي عليه، فإنه كان يذب الكذب عن حديثي. وقيل: إنه لما مات يحيى بن معين نادى إبراهيم بن المنذر: من أراد أن يشهد جنازة المأمون على حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليشهد.
وعن ابن سيرين قال: رأيت يحيى بن معين في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: قربني، وأدناني، وزوجني ثلاث مئة حوراء، فقلت: بماذا؟ فأخرج شيئاً من كمه، فقال: بهذا، يعني: الحديث. زاد في حديث آخر مثله: وأدخلني عليه مرتين.
قال بعضهم: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرى وهو نائم، ويحيى بن معين قائم على رأسه يذب عنه(27/300)
بمذبة. فلما أصبحت أتيت يحيى فأخبرته، فقال لي: نحن نذب عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكذب.
وقال يحيى بن أيوب المقدسي: رأيت كأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نائم، وعليه ثوب مغطى، وأحمد ويحيى يذبان عنه. قال بعض المحدثين في يحيى بن معين:
ذهب العليم بعيب كل محدث ... وبكل مختلف من الإسناد
وبكل وهم في الحديث ومشكل ... يعيا به علماء كل بلاد
يحيى بن منقذ الفراديسي
كان شيخاً من الجند.
قال: ذبحت شاةً فأكلت لحمها، فسألت مكحولاً عن جلدها؟ فقال: أليس إنما ذبحتها للحمها؟ قلت: نعم، قال: فإن جلدها من لحمها.
يحيى بن موسى بن إسحاق
ويقال: ابن هارون القرشي حدث عن زيد بن يحيى بن عبيد بسنده إلى أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تأتوا النساء في أدبارهن ". وبه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الجماعة أنه قال: " من أدرك من صلاة ركعة فقد أدركها ".
حدث عن علي بن معبد بسنده إلى حذيفة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أوحى الله إلي: يا أخا المرسلين، يا أخا المنذرين، أنذر قومك ألا يدخلوا بيتاً(27/301)
من بيوتي إلا بقلوب سليمة، وألسن صادقة وأيد نقية، وفروج طاهرة، ولا يدخلوا بيتاً من بيوتي ولأحد من عبادي عند أحد منهم ظلامة، فإني ألعنه ما دام قائماً بين يدي يصلي، حتى ترد تلك الظلامة إلى أهلها، فإذا فعل أكون سمعه الذي يسمع به، وأكون بصره الذي يبصر به، ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء ".
يحيى بن هانئ بن عروة بن فضفاض
ويقال: قعاص المرادي الكوفي حدث عن أبي حذيفة بسنده إلى عبد الرحمن بن علقمة قال: قدم وفد ثقيف على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعهم هدية، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما هذه معكم، هدية أم صدقة؟ فإن الصدقة يبتغى بها وجه الله، وإن الهدية يبتغى بها وجه الرسول وقضاء الحاجة "، قالوا: لا، بل هدية، فقبلها منهم، ثم جعلوا يستفتونه، ويسألونه، فما صلى الظهر إلا مع العصر.
وحدث يحيى بن هانئ عن عبد الحميد بن محمود قال: صليت مع أنس يوم الجمعة، فدفعنا إلى السواري، فتقدمنا أو تأخرنا، فقال أنس: كنا نتقي هذا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وحدث عن نعيم بن دجاجة قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لا هجرة بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يعني بعد وفاته.
وحدث عن أبي خمير عن كعب:(27/302)
المطر روح الأرض. وكان يحيى بن هانئ ثقة صالحاً.
يحيى بن هانئ أبو صفوان
الرعيني الدمشقي قال يحيى بن هانئ: ولاني عمر بن عبد العزيز الصدقة بالجزيرة، فبلغت ثمانين ألفاً، فكتب إليه عمر يأمره أن يأخذ منها الثمن، ويبعث إليه بالبقية.
وحدث عن هشام بن عروة عن أبيه قال: تعرف صلاح القوم بطيب عرانهم، يعني: أفنيتهم.
يحيى بن هشام بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص حدث عن عبد الملك بن مروان قال: الفكرة منك في عيوبك مطردة لمكايد الشيطان لك في عيوب غيرك.(27/303)
يحيى بن يحيى بن قيس بن الحارثة
ابن عمرو بن زيد بن عبد مناة بن الحسحاس، أبو عثمان الغساني، سيد أهل دمشق.
حدث عن عمرة عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " القطع في ربع دينار فصاعداً ".
كان يحيى بن يحيى عالماً بالفتيا والقضاء، توفي سنة خمس وثلاثين ومئة. وقيل: سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة ثلاث وثلاثين ومئة. يقال أنه شرب شربة، فشرق بها فمات.
وعن يحيى أنه نام، فاستيقظ، فقال: ما غلب علي النوم قط إلا خشيت ألا أستيقظ حتى أموت.
وعن يحيى قال: امش ميلاً عد مريضاً، امش ميلين أصلح بين اثنين، امش ثلاثة أميال زر أخاً في الله.
قال يحيى: أربع كلمات لا يقولهن عبد مؤمن بهن إلا بوأه الله بيتاً في الجنة: شهادة أن لا إله إلا الله، فإن الله عز وجل يقول: " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم " والثانية: العبد إذا أصاب ذنباً قال: أستغفر(27/304)
الله، فإن عز وجل يقول: " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا " إلى " أجر العاملين " والثالثة: العبد إذا مرت به نعمة من نعم الله قال: الحمد لله، فإن الله عز وجل يقول: " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً " إلى " فنعم أجر العاملين " والرابعة: العبد إذا أصابته مصيبة رجع، فإن الله عز وجل يقول: " الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله " إلى " وأولئك هم المهتدون "، كان يحيى يوصي ولده وأهل بيته فقال: أنزلوا الأضياف، ولا تكلفوا لهم مؤونة، فإنكم إذا تكلفتم لهم ثقلوا عليكم، فأطعموهم مما حضر. ولما خرجت المسودة، ولم يدخلوا الشام بعد قال ابن سراقة - يعني عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة ليحيى بن يحيى -: يا أبا عثمان، هل كتبت إلى المسودة؟ فقال يحيى: لا، إني أشهد الله أن ديني واحد، ووجهي واحد، ولساني واحد، فقال له ابن سراقة: تنام، وابن هند لا ينام. يعني: أنه قد كتب إليهم، فقال له يحيى: لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون عند الله أميناً.
قال يحيى بن يحيى: لما نزل عبد الله بن علي بالمسودة وحصروا دمشق، استغاث الناس بيحيى بن يحيى، فسأله الوليد بن معاوية أن يخرج إلى عبد الله بن علي ليأخذ لهم أماناً، فخرج إلى عبد الله بن علي، فأجابه إلى ذلك، فاضطرب بذلك الصوت حتى دخل المدينة، وقال الناس: الأمان، الأمان، فخرج من المدينة ناس كثير، وأصعدوا إليهم من المسودة خلقاً كثيراً، فقال له يحيى: اكتب لنا كتاباً بالأمان الذي جعلته لنا، فدعا بدواة(27/305)
وقرطاس، ثم ضرب ببصرة نحو المدينة، فإذا الحائط قد غشيه المسودة، فقال: نح هذا القرطاس عني، فإني قد دخلتها قسراً، فقال له يحيى: لا، والله ولكن دخلتها غدراً، لأنك جعلت لنا أماناً، فخرج عليه من خرج، ودخل عليه من دخل، فإن كان كما تقول فاردد رجالك عنها، وارددنا إلى مدينتنا، فقال له عبد الله بن علي: إنه والله لولا ما أعرف من مودتك لنا أهل البيت ما استقبلتني بهذا، فقال له يحيى: إن الله جعلك من أهل بيت الحق والرحمة والبركة، الذين لا يعرف لهم ولا يقبل منهم إلا العمل بتقوى الله وطاعته، واعلم أن قرابتك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تزد حق الله عليك إلا عظماً ووجوباً، ولم تزد الناس إلا إنكاراً للمنكر ومعرفة لكل ما وافق الحق، فقال عبد الله: تنح عني، ثم تذمم عبد الله بن علي فقال: يا غلام، اذهب به إلى حجرتي، تخوفاً عليه، لأنه كان عليه قميص أبيض وعمامة، فقد سود الناس كلهم، فليس يرى على أحد شيء من البياض غيره، ثم قال عبد الله: يا غلام، اذهب بهذا العلم واركزه في داره، وناد: من دخل دار يحيى بن يحيى فهو آمن، فلم يقتل فيها أحد، ولا في الدار التي أجير من بها، وانحشروا فيها فسلموا.
يحيى بن يزيد أبي حفصة
مولى مروان بن الحكم كان ممدحاً، جواداً، شاعراً.
دخل يحيى على الوليد بن عبد الملك لما بويع بالخلافة بعد أبيه فهنأه وعزاه وأنشد:
إن المنايا لا تغادر واحداً ... يمشي ببزته ولا ذا جنه
لو كان خلق للمنايا مفلتاً ... كان الخليفة مفلتاً منهنه
بكت المنابر يوم مات وإنما ... بكت المنابر فقد فارسهنه
لما علاهن الوليد خليفة ... قلن ابنه ونظيره فسكتنه
لو غيره قرع المنابر بعده ... أنكرته فطرحنه عنهنه(27/306)
وقال يحيى يذكر خروج يزيد بن المهلب، ويتأسف على الحجاج:
لا يصلح الناس إلا السيف إذ فتنوا ... لهفي عليك ولا حجاج للدين
لو كان حياً غداة الأزد إذ نكثوا ... لم يحص قتلاهم حساب ديرين
يحيى أبو محمد التميمي
حدث عن العباس بن الفضل العبدي بسند إلى أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن عائد المريض يخوض في الرحمة، فإذا جلس غمرته ".
يخلف بن عبد الله بن بحر
أبو سعيد المقرئ العروضي
حدث عن إبراهيم بن سعد الحبال بسنده إلى معقل بن يسار المزني قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصل نافلة ".
يرفا مولى عمر بن الخطاب وحاجبه
قال اليرفا: قال لي عمر بن الخطاب: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم: إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، وإن استغنيت استعففت.
وقال: قال لي عمر: إني على أمر من الناس جسيم، فإذا رأيتني قد حلفت على شيء فأطعم عني عشرة مساكين، كل مسكين نصف صاع من بر.(27/307)
لما استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي عبيدة: أما بعد. فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفي، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رحم الله أبا بكر العامل بالحق والآمر بالقسط، الآخذ بالعرف والسهل، القريب الوادع الحليم، فرغب إلى الله في العصمة برحمته، والعمل بطاعته، والخلود في جنته إنه على كل شيء قدير. والسلام.
فخرج يرفا مولاه حتى أتى أبا عبيدة بن الجراح، فقرأ كتاب عمر، فلم يسمع فيه بيعة أحد، فدعا أبو عبيدة معاذ بن جبل، فأقرأه الكتاب، فالتفت معاذ إلى الرسول فقال: رحم الله أبا بكر، ويح غيرك، ما فعل المسلمون؟ فقال: استخلف أبو بكر عمر فقال: الحمد لله، وفقوا وأصابوا، فقال أبو عبيدة: ما منعني عن مسألته منذ قرأت الكتاب إلا مخافة أن يستقبلني فيخبرني أنه ولى غير عمر، فقال له الرسول: يا أبا عبيدة، إن عمر بن الخطاب يقول لك: أخبرني عن حال الناس، وأخبرني عن خالد بن الوليد أي رجل هو؟ وأخبرني عن يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص كيف هما في حالهما ونصيحتهما للمسلمين، فقال: خالد خير رجل وأنصحه للإسلام، وأشده على عدوهم من الكفار، وعمرو ويزيد في نصيحتهما وجدهما كما يحب، وقال: وأخبرني عن أخويك سعيد بن زيد ومعاذ بن جبل، فقال: هما كما عهدت إلا أن السؤدد زادهما في الدنيا زهداً، وفي الآخرة رغبة. ثم قام الرسول، فقالا: أين تريد؟ قال: أرجع، فقالا: سبحان الله، انتظر حتى نكتب معك فكتبا: بسم الله الرحمن الرحيم. من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد. فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، يا عمر، قد أصبحت وقد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك العدو والصديق، والضعيف والشديد، ولكل عليك حصة من العدل، فانظر كيف تكون عند ذلك يا عمر، وإنا نذكرك يوماً تبلى فيه السرائر، وتنكشف فيه العورات، وتعنت فيه الوجوه لعزة ملك قهرهم جبروته، فالناس له داخرون، يخافون، وينتظرون قضاءه، وإنه بلغنا أنه يكون في هذه الأمة رجال يكونون إخوان العلانية،(27/308)
أعداء السريرة، وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا منك بغير المنزلة التي أنزلناها من أنفسنا، والسلام عليك.
فمضى الرسول بالكتاب إليه، وقال أبو عبيدة لمعاذ بن جبل: والله ما أمرنا عمر أن نظهر هلاك أبي بكر للناس، وما نعاه إليهم، فما يرى أن نذكر من ذلك شيئاً دون أن يكون هو الذي يذكره، قال معاذ: نعم ما رأيت، فسكتا، فلم يذكر للناس من ذلك شيئاً.
قال نافع: سمعت ابن عمر يحدث سعيد بن جبير قال: بلغ عمر بن الخطاب أن يزيد بن أبي سفيان يأكل ألوان الطعام فقال عمر لمولى له يقال له: يرفا: إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه فأعلمني، فأعلمه، فأتى عمر فسلم، ورجل يقرب عشاءه، فجاء بثريدة لحم، فأكل عمر معه منها، ثم قرب شواء، فبسط يزيد يده، وكف عمر، وقال: الله يا يزيد، أطعام بعد طعام؟! والذي نفس عمر بيده لئن خالفتهم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم.
قال الزهري: كان عمر يأذن عليه مولاه يرفا.
قال المغيرة بن شعبة: أنا أول من رشا في الإسلام، كنت آتي فأجلس بالباب أنتظر الدخول على عمر، فقلت ليرفا حاجبه: خذ هذه العمامة، فإن عندي أختاً لها لتلبسها، فكان يدخلني، أجلس وراء الباب، فمن رآني قال: إنه ليدخل على عمر في ساعة ما يدخل عليه فيها أحد.
وعن المغيرة قال: قال رجل له: إن آذنك يعرف رجالاً فيؤثرهم بالإذن، قال: عذره الله، والله إن المعرفة لتبلغ عند الكلب العقور، والجمل الصؤول، فلا بك من الرجل الخير ذي الحسب؟ والله إن كنا لنصانع أرفى آذن عمر رضي الله عنه.(27/309)
يزيد بن أحمد بن يزيد
ابن عبد الله بن يزيد بن عبد الله بن تميم، أبو عمرو السلمي، مولى نصر بن الحجاج بن علاط حدث عن أبي مسهر بسنده إلى ابن عباس، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لم ير للمتحابين مثل التزويج ".
توفي أبو عمرو سنة إحدى أو سنة اثنتين وثمانين ومئتين.
يزيد بن أبان أبو عمرو الرقاشي
البصري القاص من زهاد البصرة.
حدث يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: ذكروا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً، فذكروا قوته في الجهاد واجتهاده في العبادة، ثم إن الرجل طلع عليهم، فقالوا: يا رسول الله، هذا الرجل الذي كنا نذكر، قال: فوالذي نفسي بيده إني لأرى في وجهه سفعة من الشيطان، ثم أقبل فسلم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل حدثت نفسك حين أشرفت علينا أنه ليس في القوم أحد خير منك؟ قال: نعم، فانطلق، فاختط مسجداً، وصفن بين قدميه يصلي، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيكم يقوم إليه فيقتله؟ قال: قال أبو بكر: أنا، فانطلق، فوجده قائماً، يصلي، فهاب أن يقتله، فرجع إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: ما صنعت؟ قال:(27/310)
وجدته يا رسول الله قائماً يصلي فهبت أن أقتله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيكم يقوم إليه فيقتله؟ فقال عمر: أنا، فانطلق ففعل كما فعل أبو بكر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيكم يقوم إليه فيقتله؟ فقال علي: أنا، فقال: أنت إن أدركته، فانطلق، فوجده قد انصرف، فرجع إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما صنعت؟ فقال: وجدته يا رسول الله قد انصرف. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا أول قرن خرج من أمتي، لو قتلته ما اختلف اثنان بعده من أمتي. وقال: إن بني إسرائيل تفرقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة. قال يزيد الرقاشي: وهي الجماعة.
وحدث يزيد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة ".
وبه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سألت ربي عز وجل أن لا يعذب اللاهين من ذرية البشر فأعطانيهم ".
دخل يزيد الرقاشي على عمر بن عبد العزيز فقال له: عظني، فقال: أنت أول خليفة يموت يا أمير المؤمنين؟ قال: زدني، قال: لم يبق أحد من آبائك من لدن آدم إلى أن بلغت النوبة إليك وقد ذاق الموت، قال: زدني، قال: ليس بين الجنة والنار منزل، والله " إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم "، وأنت أبصر ببرك وفجورك، فبكى عمر حتى سقط عن سريره.
بين المذكر وبين عمر بن عبد العزيز مدة، فالله أعلم. كان يزيد ضعيفاً قدرياً.(27/311)
قال يزيد الرقاشي: أما أن أقوم الليل فلا أستطيع ذلك، فإذا نمت من الليل فاستيقظت، فنمت الثانية فلا أنام الله عيني. وقال: على الماء البارد السلام بالنهار.
وجوع يزيد نفسه لله ستين سنة حتى ذبل جسمه، ونهك بدنه، وتغير لونه، وكان يقول: غلبني بطني فما أقدر له على حيلة.
قال يزيد: رأيت في منامي كأني قرأت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سورة. فلما فرغت قال لي - أو قيل له -: هذه القراءة، فأين البكاء؟ وكان يزيد من البكائين.
قال الهيثم بن جماز: دخلت على يزيد الرقاشي في يوم شديد حره، وهو يبكي، فقال لي: ادخل يا هيثم، تعال، نبك على الماء البارد في اليوم الحار، حدثني أنس بن مالك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " كل من ورد القيامة عطشان ".
وكان يزيد يبكي حتى تسقط أشفار عينيه. وكان يقول: أتروني أتهنأ بالحياة أيام الدنيا، وأنا أعلم أن الموت مصيري؟ وقيل: إنه بكى أربعين عاماً حتى تساقطت أشفاره، وأظلمت عيناه، وتغيرت مجاري دموعه.
وكان يزيد إن دخل بيته بكى، وإن شهد جنازة بكى، وإن جلس إليه إخوانه بكى، وأبكاهم، فقال له ابنه يوماً: كم تبكي يا أبت! والله لو كانت النار خلقت لك ما زدت على هذا البكاء! فقال: ثكلتك أمك يا بني، وهل خلقت النار إلا لي ولأصحابي ولإخواننا من الجن، أما تقرأ يا بني " سنفرغ لكم أيها الثقلان " أما تقرأ: " يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران " فجعل يقرأ عليه حتى انتهى: "(27/312)
يطوفون بينها وبين حميم آن " فجعل يجول في الدار، ويصرخ، ويبكي حتى غشي عليه، فقالت للفتى أمه: يا بني، ما أردت بهذا من أبيك؟ قال: إنما أردت أن أهون عليه، لم أرد أن أزيده حتى يقتل نفسه.
كان يزيد الرقاشي يقول في كلامه: إلى متى تقول: غداً أفعل كذا، وبعد غد أفعل كذا وإذا أفطرت فعلت كذا، وإذا قدمت من سفري فعلت كذا؟ أغفلت سفرك البعيد، ونسيت ملك الموت، أما علمت أن دون غد ليلة تخترم فيها أنفس كثيرة، أما علمت أن ملك الموت غير منتظر بك أملك الطويل، أما علمت أن الموت غاية كل حي؟ ثم يبكي حتى يبل عمامته، ثم يقول: أما رأيت صريعاً بين أحبابه لا يقدر على رد جوابهم، بعد أن كان جدلاً، خصماً، سمحاً، كريماً عليهم؟ أيها المغتر بشبابه، أيها المغتر بطول عمره.
كان يزيد الرقاشي يقرأ هذه الآية على أصحابه: " كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق، وظن أنه الفراق " قال: تقول الملائكة بعضهم لبعض: من أي باب يرتقى بعمله فيرتقى فيه بروحه، ويقول أهله هذا والله حين فراقه، فيبكي إليهم ويبكون إليه، ولا يستطيع أن يحير إليهم جواباً. ثم بكى يزيد بكاءً شديداً.
قال أبو إسحاق: دخلت على يزيد الرقاشي وقت الظهيرة في بيته، وهو يتمرغ على الرمل مثل الجرادة، ويقول: ويحك يا يزيد! من يصوم عنك؟ من يصلي عنك؟ من يترضى لك ربك من بعدك؟ ثم التفت إلي فقال: يا معشر الناس، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ من الموت موعده، والقبر بيته، والثرى فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، ثم لا يعرف منقلبه: إلى الجنة أو إلى النار، ثم يبكي، حتى تسقط أشفار عينيه.(27/313)
تمنى قوم عند يزيد أماني فقال يزيد: أتمنى كما تمنيتم؟ قالوا: تمنه، فقال يزيد: ليتنا لم نخلق، وليتنا إذ خلقنا لم نمت، وليتنا إذا متنا لم نحاسب، وليتنا إذا حوسبنا لا نعذب، وليتنا إن عذبنا لا نخلد.
قال دهثم العجلي: قلت ليزيد: كيف أصبحت رحمك الله؟ قال: كيف يصبح من تعد عليه أنفاسه؟ ويحصى لانقضاء أجله؟ لا يدري على خير مقدم أم على شر، ثم ذرفت عيناه.
قال يزيد الرقاشي: انظروا إلى هذه القبور سطوراً بأفناء الدور، تدانوا في خططهم، وقربوا في مزارهم، وبعدوا في لقائهم، سكنوا فأوحشوا، وعمروا فأخربوا، فمن سامع بساكن موحش، وعامر مخرب غير أهل القبور؟ قال يزيد الرقاشي: خمس يقبحن من خمس: الحرص من القراء، والعجلة من الأمراء، والفحش من ذوي الشرف، والبخل من ذوي الأموال، والفتوة من ذوي الأسنان.
ولما حضر الموت يزيد الرقاشي قرأ: " كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة " ألا إن الأعمال محضرة، والأجور مكملة، ولكل ساع ما سعى، وغاية الدنيا وأهلها إلى الموت، ثم بكى، وقال: يا من القبر مسكنه، وبين يدي الله موقفه، والنار غداً مورده، ماذا قدمت لنفسك؟ ماذا أعددت لمصرعك؟ ما أعددت لوقوفك بين يدي ربك؟.(27/314)
يزيد بن الأخنس بن حبيب بن جرة
ابن زعب بن مالك بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور، أبو معن السلمي، والد معن بن يزيد له صحبة. بايع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حدث يزيد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تنافس بينكم إلا في اثنتين: رجل أعطاه الله قرآناً، فهو يقوم به الليل والنهار، ويتبع ما فيه، فيقول رجل: لو أن الله أعطاني مثلما أعطى فلاناً فأقوم به كما يقوم به، ورجل أعطاه الله مالاً فهو ينفق ويتصدق، ويقول رجل مثل ذلك ".
وعن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب ". فقال يزيد بن الأخنس: والله ما أولئك في أمتك يا رسول الله إلا كالذباب الأصهب في الذبان.
وعن يزيد بن الأخنس:
أنه لما أسلم أسلم معه جميع أهله إلا امرأة واحدة أبت أن تسلم، فأنزل الله عز وجل: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " فقيل له: قد أنزل الله أنه فرق بينها وبين(27/315)
زوجها إلا أن تسلم، فضرب لها أجل سنة. فلما مضت السنة إلا يوم جلست تنظر الشمس حتى إذا دنت للغروب أسلمت، وقالت: المستضعفة المستكرهة على دينها ودين آبائها. فلما دخلت في الإسلام حسن إسلامها وفقهت في الدين، فكانوا يعجبون منها، ويقولون: هذه التي استضعفت واستكرهت؟ فقالت: تعجبون مني، عجبت منكم أشد من إعجابكم، ألا سجنتم ألا ضربتم في الله؟ والله لو ظهر الإيمان على دب أشعر لخالط الناس.
قال يزيد: بايعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا وأبي وجدي، وخاصمت إليه فأفلجني. وعقد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليزيد يوم فتح مكة لواء من الألوية الأربعة التي عقدها لبني سليم.
سكن يزيد الكوفي هو وولده، وشهد معن بن يزيد يوم المرج، مرج راهط.
وزغب: بكسر الزاي، وروي بالعين المهملة والغين المعجمة. وجرة: بالجيم.
وشهد هو وأبوه وجده بدراً، ولا يعلم رجل وابنه وابن ابنه شهدوا بدراً غيرهم، ولم يصحح أهل المغازي شهودهم بدراً، ولم يذكروهم في البدريين، ولكن لهم صحبة.
يزيد بن أسد بن كرز بن عامر
ابن عبد الله بن عبد شمس بن غمغمة بن جرير بن شق الكاهن بن صعب بن يشكر بن رهم أبو الهيثم القسري، البجلي جد خالد بن عبد الله القسري. شهد صفين مع معاوية.
عن خالد بن عبد الله القسري عن أبيه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لجده يزيد بن أسد: " أحب للناس ما تحب لنفسك ".(27/316)
وعن أسد بن كرز سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " المريض تحات خطاياه كما يتحات ورق الشجر ".
وغزا يزيد بن أسد أرض الروم، ففتح قيسارية أرض الروم، وسبى منها خمسة وأربعين ألفاً.
وعن يزيد بن أسد، أنه قال عند معاوية يوم حجر بن الأدبر: أنت الجنة ونحن العدة، ولم يعطك الله بالعقوبة شيئاً إلا وقد أعطاك بالعفو أفضل منه. في كلام تكلم به.
دخل عبد الله بن يزيد بن أسد على معاوية في مرضه الذي مات فيه، فرأى منه جزعاً فقال: ما يجزعك يا أمير المؤمنين؟ إن مت فإلى الجنة، وإن عشت فقد علم الله حاجة الناس إليك. قال: رحم الله أباك إن كان لناصحاً، نهاني عن قتل ابن الأدبر، يعني حجراً، ثم عاده عبد الله بن يزيد فعاد معاوية مثل ذلك القول.
يزيد بن الأسود أبو الأسود
ويقال: أبو عمرو - الجرشي أدرك الجاهلية وأسلم. ولم يلق سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وسكن زبدين.(27/317)
قيل: إنه كان يصلي العشاء الآخرة بمسجد دمشق، ويخرج إلى زبدين، فتضيء إبهامه اليمنى، فيمشي في ضوئها إلى زبدين.
قال يونس بن ميسرة: قلت ليزيد بن الأسود: كم أتى عليك؟ قال: أدركت العزى تعبد في قرية قومي.
والجرشي: بضم الجيم وفتح الراء وكسر الشين المعجمة.
كان يزيد بن الأسود يسير هو ورجل من أهل حمص يقال له: عمرو بن ذي الحليف في أرض الروم، فبينا هما يسيران إذ سمعا منادياً ينادي: يا يزيد بن الأسود، إنك لمن المقربين، وإن صاحبك لمن العابدين، وما نحن بكاذبين، وإنا على ذلكم من الشاهدين. قال: فكان هذا يقول لهذا: أنت نوديت.
كان الأوزاعي يقول إذا ذكر هذا الحديث: إلى هذا انتهى الفضل.
وعن أبي اليمان، أن يزيد بن الأسود قال لقومه: اكتبوني في الغزو، قالوا: قد كبرت، وضعفت، وليس بك غزو، قال: سبحان الله! اكتبوني في الغزو، فأين سوادي في المسلمين؟ قالوا: أما إذ فعلت فأفطر وتقو على العدو، قال: ما كنت أراني أبقى حتى أعاتب في نفسي، والله لا أشبعها من طعام ولا أوطئها من منام حتى تلحق بالذي خلقها. ولقد أدركت أقواماً من سلف هذه الأمة، قد كان الرجل إذا وقع في هوية أو وحلة نادى يا لعباد الله، فيستخرجونه ودابته مما هو فيه. ولقد وقع رجل ذات يوم(27/318)
في وحلة، فنادى يا لعباد الله، فما أدركت منه إلا مفاضه في الطين، فلأن أكون أدركت من متاعه شيئاً، فأخرجه من تلك الوحلة أحب إلي من دنياكم التي ترغبون فيها.
وكانوا يرون يزيد بن الأسود من الأبدال. ولقد حلف - وبر - ألا يضحك، ولا ينام مضطجعاً، ولا يأكل سميناً أبداً، فما رئي ضاحكاً ولا مضطجعاً ولا أكل سميناً حتى مات، رحمه الله.
وعن سليم بن عامر أن السماء قحطت، فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون.
فلما قعد معاوية على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي، فناداه الناس، فأقبل يتخطى الناس، فأمره معاوية، فصعد المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم، إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم، إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد، ارفع يديك إلى الله، فرفع يزيد يديه، ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب، كأنها ترس، وهبت لها ريح، فسقينا حتى كاد الناس ألا يبلغوا منازلهم.
أصاب الناس قحط بدمشق، وعليها الضحاك بن قيس، فخرج بالناس يستسقي، فقال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فلم يجبه أحد، قال: أين يزيد بن الأسود؟ فلم يجبه، ثم قال: أين يزيد بن الأسود، عزمت عليه إن كان يسمع كلامي إلا قام، فقام وعليه برنس، واستقبل الناس بوجهه، ورفع جانبي برنسه على عاتقيه، ثم رفع يديه ثم قال: أي رب، إن عبادك قد تقربوا بي إليك فاسقهم، فانصرف الناس وهم يخوضون الماء، فقال: اللهم، إنه شهرني فأرحني منه، فما أتت جمعة حتى قتل الضحاك.
ولما وقعت الفتنة قال الناس: نقتدي بهؤلاء الثلاثة، يزيد بن الأسود،(27/319)
ويزيد بن نمران وربيعة بن عمرو، فأما ربيعة فقتل براهط، وأما يزيد بن نمران فلحق بمروان، وأما يزيد بن الأسود فاعتزل.
لما خرج عبد الملك إلى مصعب بن الزبير رحل معه يزيد بن الأسود. فلما التقوا قال يزيد: اللهم احجز بين هذين الجبلين، وول الأمر أحبهما إليك قال: فظفر عبد الملك.
قال يونس بن حلبس: دخلنا على يزيد بن الأسود، فأخذ بيدي، ودخل عليه واثلة بن الأسقع، فأخذ بيده فمسح بها وجهه وصدره، لأنه بايع بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له واثلة: كيف ظنك بربك؟ قال: خير. قال: فأبشر، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي، إن خير فخير، وإن شر فشر ".
زاد في رواية: " فليظن بي ما شاء ".
وفي حديث آخر أنه قال: كيف ظنك بالله؟ قال: أغرقتني ذنوب لي أشتات على هلكة، ولكن أرجو رحمة الله.
وفي رواية أنه قال له: كيف أصبحت؟ فقال له يزيد: في خوف لا انقطاع له، ثم أغمي عليه ملياً، ثم فتح عينيه، وقال: ورجاء فوق ذلك، فقال واثلة: الله أكبر، الله أكبر، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " قال الله تبارك وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما أحب ".(27/320)
يزيد بن أسيد بن زافر
ابن أبي أسماء بن أبي السيد بن منقذ بن مالك بن عوف، ابن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور السلمي ولي إرمينية لمروان بن محمد، ووليها للمنصور، وكان شجاعاً.
قال يزيد بن أسيد: إنه كان فيمن سار مع سعيد الحرشي، أو قال: ممن وجه هشام بن عبد الملك مع سعيد الحرشي. فلما دعاهم إلى لقاء خزر، الذين معهم سبقة المسلمين، فأجابوه إلى ذلك، وأرسله في فوارس طليعةً ليأتيه بخبرهم، قال: فأشرفنا على عسكرهم، فرأينا نساء المسلمين أوقدن النيران على أبواب أبنية خزر يبكين أنفسهن، ويندبن الإسلام. قال يزيد: فأرقنا ذلك، وألقينا السمع إليهم، فأتينا بما رأينا وسمعنا.
قال: وذكر من شاهد ذلك اليوم، يعني: يوم قاتل ابن أسيد في ولاية بني العباس، قال:
ركب ابن أسيد على بغلة شهباء وقد تعبأ الناس، ووطنوا أنفسهم على القتال، وأقبل ابن أسيد على الناس وقال: يا معشر المسلمين وأبناء المهاجرين والشهداء، إن الله قد أنعم عليكم، وأحسن إليكم أن رزقكم الأجر، وساقكم إلى هذا الموضع، وجعلكم ممن يختم عمره بالشهادة في سبيله، التي يكفر بها ذنوبكم ويدخلكم الجنة، ويزوجكم من الحور العين، قابلوا الله في هذه المواطن بالحسنى، واستحيوا أن يطلع من قلوبكم على ريبة، أو خذلان، أو فرار من الزحف، فإن الله مقبل عليكم بوجهه، وقد اطلعت عليكم الحور(27/321)
العين، وزخرفت الجنة، وأنتم أبناء الشهداء، ومن فتح الله بهم القلاع والمدائن والحصون وجزائر البحور، وليس موت بأكرم من القتل، فلا يحدثن إنسان نفسه أن تزول قدماه لفرار ولا هرب، فلو فعل ذلك فاعل منكم لتخطفه أهل هذا الجبل، وهذه الأمم، ولكانوا أعدى العدو له، فاستودعوا دماءكم هذه البقعة، فإنها بقعة طيبة، ساقكم الله إليها وأكرمكم بها، واعلموا أنه آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، وإنما تقاتلون من لا يعرف الله ولا يوحده، ومن يعبد الشمس والنار، ويأكل الميتة، لا يعرف له رباً، ناداً عن التوحيد وأهله، فلتصدق نيتكم، وليحسن ظنكم بثواب ربكم وإنجاز موعده لكم، وقد استخلفت عليكم عبد الرحمن بن أسيد إن أصابتني مصيبة، ثم تقدم إلى كل جند في الصف، فكلمهم بهذا الكلام.
غزا يزيد بن أسيد غزاة ذاذ قشة بناحية بحر الخزر سنة خمس وخمسين ومئة.
عزل المنصور يزيد بن أسيد عن الجزيرة، وولى أخاه العباس فعسف يزيد. فقال يزيد لأبي جعفر: يا أمير المؤمنين، إن أخاك أساء عزلي، وشتم عرضي، فقال أبو جعفر: يا يزيد، اجمع بين إحساني وإساءته، يعتدلان، فقال يزيد: إذا كان إحسانكم جزاء لإساءتكم كانت الطاعة منا تفضلاً.
يزيد بن الأصم
وهو يزيد بن عمرو - ويقال: يزيد بن عبد عمرو - بن عدس ابن معاوية بن عبادة، أبو عوف العامري.
وهو ابن أخت ميمونة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن خالة ابن عباس.
حدث عن ميمونة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد جافى حتى يرى من خلفه بياض إبطيه.(27/322)
قال يزيد بن الأصم: دخلت على خالتي ميمونة فوقفت في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصلي، فبينا أنا كذلك إذ دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستحيت خالتي لوقوفي في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسول الله، ألا ترى إلى هذا الغلام وريائه؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعيه، فلأن يرائي بالخير من أن يرائي بالشر.
وفي حديث آخر عن يزيد قال: كنت غلاماً عارماً فقاتلت الغلمان يوماً فهزموني، فدخلت بيت ميمونة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقمت أصلي في المسجد، وعندها نسوة، فقال بعضهن: أما ترين ما يصنع هذا الخبيث؟ قالت: دعوه، فإن الخير بالعادة.
وروى ابن الأصم عن عمه قال: كنت عند معاوية فذكر ربيعة الجرشي علياً، فقام إليه سعد، فجعل يحثي عليه التراب، وقال لمعاوية: أيذكر علي عندك؟! قال: وحثا على ربيعة التراب وقال: وعليك وعليك.
قال يزيد بن الأصم: أتيت معاوية، فأجازني بجائزة، فلم أرضها، ورميت بها، فقلت: أنت الذي لم تصل الرحم.
قال يزيد بن الأصم: كنت عند عبد الملك بن مروان فساءلني عن قول الله عز وجل: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض " الآية. قال يزيد: فقلت: اللهم، إني أبتغي وجهك اليوم، وذكرت حدثنيه أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: التجبر في الأرض، والأخذ بغير الحق، فنكس عبد الملك برأسه، وجعل ينكت في الأرض بقضيب في يده.(27/323)
قال يزيد بن الأصم: كنت جالساً عند سليمان بن عبد الملك، فجاء رجل يقال له: أيوب، كان على جسر منبج، يحمل مالاً مما يوجد على الجسر، فقال عمر بن عبد العزيز: هذا رجل مترف يحمل مال سوء. فلما قام عمر خلى سبل الناس من الجسور والمعابر.
توفي يزيد بن الأصم سنة ثلاث أو أربع ومئة، وقيل: سنة إحدى ومئة.
قال يزيد بن الأصم: خرجت أنا وابن طلحة بن عبيد الله التيمي، فلقيت عائشة وهي حاجة، وكان ابن طلحة ابن أخت عائشة، فمررنا بحائط من حيطان المدينة، فأصبنا منه، فبلغ ذلك عائشة فلامت ابن أختها وعاتبته، وأقبلت علي فقالت: إن مما أنعم الله عليك أن جعلك في بيت نبيه عليه السلام، فكنت في حجر ميمونة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووعظتني موعظة أبلغت إلي فيها، ثم قالت: ذهبت ميمونة، ورمي برسنك على غاربك، ثم قالت: هيهات غدر، لا ميمونة لك، ثم قالت: يرحمها الله، إن كانت لمن أتقانا لله وأوصلنا للرحم.
قال ميمون بن مهران: أمرني عمر أن أسأل يزيد بن عمرو عن نكاح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميمونة فسألته فقال: نكحها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلالاً بسرف، وماتت بسرف، فذلك قبرها تحت السقيفة.
زاد في آخر: قال ميمون: أتيت إلى عطاء بن أبي رباح فسمعته يخبر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبها، وهو(27/324)
حرام، وملكها وهو حرام. فلما انصدع من حوله حدثته بحديث يزيد بن الأصم، فقال: انطلق بنا إلى صفية بنت شيبة، فدخلنا عليها، فإذا عجوز كبيرة، فسألها عطاء عن ذلك فقالت: خطبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو حلال، وملكها هو حلال، ودخل بها وهو حلال.
كتب يزيد بن الأصم إلى الحسين بن علي عليهما السلام حين خرج: أما بعد. فإن أهل الكوفة قد أبوا إلا أن يبغضوك، وقل من أبغض إلا قلق، وإني أعيذك بالله أن تكون كالمغتر بالبرق، وكالمهريق ماء السراب، " فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك " أهل الكوفة " الذين لا يوقنون "
يزيد بن بشر السكسكي
قال يزيد: بعثني عبد الملك بن مروان بكسوة إلى الكعبة، فخرجنا حتى نزلنا تيماء، فأتانا سائل فقال: تصدقوا، فإن الصدقة تدفع سبعين باباً من السوء، فقلت: من أعلم هذه القرية؟ قالوا: نسي، فأتيته، فاستأذنت على الباب، فاطلعت إلي جارية، فقلت: ههنا نسي؟ قالت: نعم، فاستأذنته، فذهبت، ثم اطلعت، فقالت: ارق، فرقيت. فلما رآني أخذ يتوضأ، فقلت: مالك لما رأيتني أخذت تتوضأ؟ قال: إن الله عز وجل قال لموسى: يا موسى، توضأ، فإن أصابك شيء وأنت على غير وضوء فلا تلومن إلا نفسك، قلت: يرحمك الله، إنه أتانا سائل، فقال: تصدقوا، فإن الصدقة تدفع سبعين باباً من السوء، قال: صدق، من هدة الجدار، ومن الغرق، وذكر أشياء من المنايا، فخرجت حتى أتيت المدينة، ولقيت عبد الله بن عمر، فسأله رجل من أهل العراق فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنك تحج وتعمر، ولا تغزو، فسكت عنه ثم أعادها فسكت عنه، ثم أعادها، فقال له ابن عمر: إن الإسلام بني على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله(27/325)
وأن محمد عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم شهر رمضان. والجهاد والصدقة من العمل الصالح. هكذا حدثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
زاد في آخر: قلت: وتنجي من النار؟ قال: نعم.
يزيد بن بشر بن يزيد بن بشر
الكلبي، دمشقي.
قال يزيد: سئل عمر بن عبد العزيز عن علي وعثمان والجمل وصفين وما كان بينهم، فقال: تلك دماء كف الله يدي عنها، وأنا أكره أن أغمس لساني فيها.
يزيد بن تميم بن حجر السلمي
مولى عبيد الله بن نصر بن الحجاج بن علاط، الكاتب، كان على خراج الوليد.
لما هدم الوليد كنيسة دمشق وبنى بها مسجداً التفت إلى يزيد بن تميم فقال: ابعث إلى اليهود حتى يأتوا على هدمها، ففعل، فجاء اليهود فهدموها.
يزيد بن جابر الأزدي والد يزيد
وعبد الرحمن.
حدث عن عمرو بن عنبسة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أقرب ما يكون الرب من العبد جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فافعل ".(27/326)
وحدث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يجزئ من السترة مثل مؤخرة الرحل، ولو أنه شعرة ".
وفي رواية: " وإن كان مثل الخيط في الدقة ".
وعن يزيد بن جابر: " واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب " قال: يقف إسرافيل على صخرة بيت المقدس ويقول: يا أيتها العظام النخرة، والجلود المتمزقة، والأشعار المتقطعة، إن الله يأمرك أن تجتمعي لفصل الحساب.
يزيد بن أبي جميل
أظنه والد عمران بن يزيد، فإن كان هو فإنه يزيد بن خالد بن أبي جميل.
حدث عن حجاج عن كعب قال: من البر أن تبر من كان أبواك يبران، وسيد الأبرار يوم القيامة المتباذلون، المتواصلون في الله.
يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب
ابن أبي صفرة، الأزدي المهلبي البصري قدم دمشق صحبة المنصور، ووجهه منها والياً على المغرب. وولي مصر للمنصور، وولي المغرب للمنصور، المهدي، والهادي، وبعض أيام الرشيد قال يزيد بن حاتم: قال ابن زياد حين قدم الشام: لقد منعتني قبيلة، ما رموا دوني بسهم، ولا حجر(27/327)
فقال له رجل من أسد الشراة: فمن أين جئت؟ أما والله لئن كفرتهم، لقبلك ما كفرهم أبوك.
قال يزيد بن حاتم: ولاني المنصور المغرب - وهو بدمشق - وخرج معي يشيعني، فتغير لذلك أقوام منهم شبيب بن شيبة، وشبة بن عقال التميميان، ورفعا إلى المنصور كتاباً، لم يألوا فيه الحمل علينا والذكر لمساوئنا، ويخوف المنصور منا، فأقرأني المنصور كتابهما، ثم قال لي: إني لم أدفعه إليك، لتحتج وقد كفيتك الحجاج، إني لما دفعا إلي هذا الكتاب أعلمتهما أنك غائب عن الحجة، وإني أقوم بها عنك، خبرتهما ببدء أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعائه الناس إلى الله، وإلى دينه، وامتناعهم منه غيرك وغير قومك، فلما قبض الله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج الأمر عن أهله بغيرك وغير قومك، فلما أراد الله أن يظهر حقهم أجراه على يديك، وأيدي قومك، وكان لك ولأهل بيتك حظ غبر مجهول، حتى بلغ الله في ذلك ما بلغ، وقلت لهما: أردتما أن تجعلا لأنفسكما في هذا الأمر حظاً كحظ يزيد، وحقاً كحقه، ثم عددت عليهما أمر سلم بن قتيبة، وعامر بن ضبارة، وغيرهما ممن كان يقاتل في طاعة مروان الجعدي، وقلت لهما: لولا أني لم أتقدم إليكما لأحسنت أدبكما، ولئن بلغني أنه جرى لهذا ذكر على ألسنتكما بعد يومي هذا لأوقعكن بكما، ثم دفع إلي الكتاب فشكرته على ذلك ودعوت له.
فلما صرت بإفريقية وجه إلي المنصور شبيب بن شيبة في بعض ما كان يتوجه في مثله الخطباء، فلم أعرفه شيئاً من ذلك، ولم أؤاخذه، وبلغت به بعض ما أمل عندي. فلما أراد الانصراف ذكر أنه لم يكن قط إلا على مودتي أهل بيتي فقلت له: ولا يوم دفعت الكتاب إلى أمير المؤمنين! ودعوت بالكتاب، فأقر، وسأل الإقالة، وحسن الصفح، فقلت له: لولا أنك ذكرت ما ذكرت، ولولا أني كرهت أنك تستغبيني، وتظن أني جاهل بك لم أوقفك على هذا، وسأل دفع الكتاب إليه، فلم آمن أن يرجع به إلى المنصور، فأمرت بتخريقه.(27/328)
قال يزيد بن حاتم: كنت على باب المنصور أنا ويزيد بن أسيد إذ فتح باب القصر، وخرج إلينا خادم للمنصور، فنظر إلينا ثم انصرف عادياً، فأخرج رأسه من الستر وقال:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم
فلا يحسب التمتام أني هجوته ... ولكنني فضلت أهل المكارم
ثم انصرف ثم عاد، فأنشد ذلك ثلاث مرات، فقال يزيد بن أسيد، وتمتم: نعم نعم على رغم أنفك وأنف من أرسلك، فرجع الخادم فأبلغها المنصور، فبلغنا أنه ضحك حتى استلقى.
قال صفوان بن صفوان من بني الحارث بن الخزرج: كنا مع يزيد بن حاتم فقال: استنقوا إلي ثلاثة أبيات، فقلت: أفيك؟ قال: فيمن شئتم، فكأنها كانت في كمي فقلت:
لم أدر ما الجود إلا ما سمعت به ... حتى لقيت يزيداً عصمة الناس
لقيت أجود من يمشي على قدم ... مفضلاً برداء الجود والباس
لو نيل بالمجد ملك كنت صاحبه ... وكنت أولى به من آل عباس
ثم كففت، فقال: أتمم: " من آل عباس "، قلت: لا يصلح، فقال: لا يسمعن هذا منك أحد.
قال الجاحظ: قال الأصمعي يوماً وقد جئته مسلماً، وذكر الشعراء المحسنين المداحين من المولدين،(27/329)
فقال لي: يا أبا عثمان، ابن المولى من المحسنين المداحين، ولقد أسهرني في ليلتي هذه حسن مديحه يزيد بن حاتم حيث يقول:
وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشتري
وإذا تخيل من سحاب لامع ... سبقت مخيلته يد المستطمر
فإذا صنعت صنيعة أتممتها ... بيدين ليس نداهما بمكدر
وإذا الفوارس عددت أبطالها ... عدوك في أبطالهم بالخنصر
وقال ربيعة بن ثابت يمدح يزيد بن حاتم، ويهجو يزيد بن أسيد السلمي:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم
يزيد سليم سالم المال والفتى ... أخو الأزد للأموال غير مسالم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
وهم الفتى القيسي دف ولعبة ... وهم الفتى الأزدي ضرب الجماجم
فلا يحسب التمتام أني هجوته ... ولكنني فضلت أهل المكارم
كان يزيد بن حاتم بإفريقية وولد له بالبصرة مولود، فأتاه بشير يبشره به فسماه المغيرة، وكان عنده المشهر التميمي فقال: بارك الله لك فيه، وبارك له في بنيه كما بارك لجده في أبيه.
وكان خروج يزيد إلى إفريقية في سنة خمس وخمسين ومئة ففتحها، وتوفي بها سنة سبعين ومئة.(27/330)
يزيد بن حازم أبو بكر الأزدي
الجهضمي البصري حدث عن عكرمة مولى ابن عباس قال: كان عمرو بن الجموح شيخاً من الأنصار أعرج. فلما خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر قال لبنيه: أخرجوني، فذكروا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرجه وحاله، فأذن له في المقام. فلما كان يوم أحد خرج الناس فقال لبنيه: أخرجوني، فقالوا: لقد رخص لك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأذن، قال: هيهات، منعتموني الجنة ببدر وتمنعونيها بأحد؟ فخرج. فلما التقى الناس قال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت اليوم أطأ بعرجتي هذه الجنة؟ فقال: نعم، قال: فوالذي بعثك بالحق لأطأن بها في الجنة اليوم إن شاء الله، فقال لغلام له كان معه، يقال له سليم: ارجع إلى أهلك، قال: وما عليك إن أصبت اليوم خيراً معك، قال: تقدم إذاً، فتقدم العبد فقاتل حتى قتل، ثم تقدم فقاتل حتى قتل.
حدث يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار قال: أصبح أبو أسيد وهو يسترجع فقيل له: مالك؟ فقال: نمت عن حزبي الليلة، وكان وردي البقرة، فرأيت كأن بقرة تنطحني.
وحدث عنه قال: قال أبو أسيد حين ذهب بصره: الحمد لله الذي متعني ببصري في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنظر إليه. فلما قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأرادوا الفتنة كف علي بصري.
قال جرير بن حازم: رأيت في المنام كأن رأسي في يدي أقلبه، فسألت ابن سيرين فقال: أحد من(27/331)
والديك حي؟ قلت: لا، قال: ألك أخ أكبر منك؟ قلت: نعم، قال: اتق الله وبره ولا تقطعه، وكان بيني وبين يزيد أخي شيء.
توفي يزيد بن حازم سنة سبع، أو أول سنة ثمان وأربعين ومئة.
يزيد بن حجية بن عبد الله
ابن خالد بن حجية بن عبد الله بن عائذ شهد صفين مع علي، وكان أحد الشهود في كتاب الصلح، وكان من أصحاب علي، واستعمله على الري فجمع مالها، واحتمله، وقدم به الكوفة، فبلغ علياً، فسأله عن المال فجحده، فدفعه إلى مولاه سعد، فحبسه، فوثب يزيد على سعد فأدرجه في عباءة وهرب، فبعث علي في طلبه زياد بن خصفة، فبلغ هيت، ففاته، فرجع، فقال يزيد بن حجية:
خدعت سعيداً وارتمت بي مطيتي ... إلى الشام واخترت الذي هو أفضل
وغادرت سعداً مدرجاً في عباءة ... وسعد عبام مستهام مضلل
منها:
ولما وردت الشام أحببت أهله ... لأني بحب الصالحين موكل
وأحببتهم من حب عثمان إنه ... إمام الهدى الوالي الذي هو أعدل
وأبلغ علياً أنني من غدوه ... سأسعى مع الساعي عليه وأرحل
وقالوا علي ليس يقتل مسلماً ... فمن ذا الذي يسحي الرقاب ويقتل
أراق دماء المسلمين كأنما ... جرى بدماء الناس في القاع جدول
وقال في زياد بن خصفة أبياتاً. وأتى الرقة، فنزلها، وكتب إلى معاوية يستأذنه في القدوم عليه، فكتب إليه يأذن له. ويمنيه. فارتحل إلى الشام وقال:(27/332)
أحببت أهل الشام من حبي التقى ... وبكيت من جزع على عثمان
أخبرت قومك أسلموك فسلمي ... واستبدلي وطناً من الأوطان
أرضاً مقدسة وقوماً منهم ... أهل اليقين وتابع الفرقان
فبلغ علياً الشعر، فقال: اللهم، إن ابن حجية هرب بمال المسلمين، وناصبنا مع القوم الظالمين، اللهم، اكفنا كيده، واجزه جزاء الغادرين، فأمن القوم، فقال عفاق بن أبي رهم التيمي: ويلكم، تؤمنون على ابن حجية، شلت أيديكم، فوثب عليه عنق من الناس، فضربوه، فاستنقذه زياد بن خصفة التيمي، ففارقهم عفاق، فقال زياد بن خصفة من أبيات:
ولولا دفاعي عن عفاق ومشهدي ... هوت بعفاق أمس عنقاء مغرب
دعوت عفاقاً للهدى فاستغشني ... وولى عفاق معرضاً وهو مغضب
سنلقى إلهي من عفاق بشيعة ... إذا دعيت للناس جاءت تحزب
فقال عفاق لزياد بن خصفة: لو كنت أحسن الشعر لأجبتك، ولكني أخبركم عنكم: والله لا تصيبون خيراً بعد ثلاث كن فيكم: سرتم إلى أهل الشام في بلادهم، حتى إذا علوتموهم ظهراً خدعوكم برفع المصاحف، فثنوكم عنهم، فرجعتم إلى بلادكم، فلا يعود لكم مثل ذلك الجمع أبداً. ثم بعثتم حكماً، فرجع صاحبكم خالعاً لصاحبه، ورجع صاحبهم يدعى أمير المؤمنين، فرجعتم متباغضين. ثم خالفكم قراؤكم وفرسانكم وأهل البصيرة وأهل النكاية في عدوكم، فغدوتم عليهم، فقتلتموهم، فلن تزالوا بعدهم متضعضعين.
وقال يزيد بن حجية، ويقال: إن الذي قاله ضبة بن محصن العنزي:
يا طول ليلي بالرقاب لم أنم ... ما إن يؤرقني حزني ولا سقمي
إلا مخافة أمر كنت أحذره ... أخشى على الأصل منه زلة القدم
أخشى عليهم علياً أن يكون لهم ... مثل العذاب الذي عفى على إرم
ويروى:
........ مثل القعود الذي عفى على إرم(27/333)
يزيد بن الحر ويقال ابن زحر
ويقال: ابن الحرام - العبسي من وجوه أهل دمشق. شهد صفين مع معاوية، وكان أحد شهوده في صحيفة صلحه مع علي على تحكيم الحكمين.
كتب عثمان إلى معاوية سنة ست وعشرين: أن أغز الروم رجلاً حازماً أريباً ذا سن وحنكة، فأغزى يزيد بن الحر، وكان من خيار المسلمين، وعقد له على الصائفة فغزا.
لما بلغ معاوية مسير علي إليه سار معاوية نحوه، وعبأ عساكره. فلما فرغ من التعبئة، ووضع الناس مواضعهم قام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس، والله ما أصبت الشام إلا بالطاعة، ولا أضبط حرب العراق إلا بالصبر، ولا أحايد أهل الحجاز إلا باللطف، وقد تهيأتم، وسرتم لتمنعوا الشام، وتأخذوا العراق، وسار القوم ليمنعوا العراق ويأخذوا الشام، لعمري ما للشام رجال العراق ولا أموالها، ولا للعراق صبر أهل الشام ولا بصائرها، مع أن القوم بعدهم أعدادهم، وليس بعدكم غيركم، فإن غلبتموهم لم تغلبوا إلا من أتاكم، وإن غلبوكم غلبوا من بعدكم، والقوم لاقوكم بكيد أهل العراق، ورقة أهل اليمن، وبصائر أهل الحجاز، وقسوة أهل مصر، وإنما ينصر غداً من أبصر اليوم، فاستعينوا بالله، واصبروا " إن الله مع الصابرين ".(27/334)
يزيد بن حصين بن نمير
ابن ناتل بن لبيد بن جعثنة السكوني الحمصي حدث يزيد بن حصين، أن رجلاً قال: يا رسول الله، أرأيت، سبأ: رجل أو امرأة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رجل، فقال: يا رسول الله ما ولد من العرب؟ قال: عشرة، فستة يمانون، وأربعة شاميون: فأما اليمانون فكنده، ومذحج، والأزد، وأنمار، والأشعرون، وأمسك في يده واحداً لم يسمه، وأما الشآمون فلخم، وجذام، وعاملة، وغسان، فقال: يا رسول الله، أحمير كلهم؟ قال: هم وما كلهم.
وعن يزيد بن حصين قال: قال معاذ بن جبل: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله لم يبعث نبياً قبلي إلا كان في أمته من بعده مرجئه وقدرية، يشوشون عليه أمر أمته من بعده، ألا إن الله عز وجل قد لعن المرجئة والقدرية على لسان سبعين نبياً، ألا وإن أمتي هذه لأمة مرحومة، لا عذاب عليها في الآخرة، وإنما عذابها في الدنيا إلا صنفين من أمتي لا يدخلون الجنة: المرجئة والقدرية ".
كتب عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن حصين: لا تتركن صليباً إلا محي.
وكتب إليه أيضاً: وامح الصور التي أحدثت في أسواق المدينة، ثم يمسح ببياض حتى لا يرى منها شيء والسلام.
توفي يزيد بن حصين سنة ثلاث ومئة.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن حصين، أن مر الجند بالفريضة، وعليك بأهل الحاضرة، وإياك والأعراب، فإنهم لا يحضرون محاضر المسلمين، ولا يشهدون مشاهدهم.(27/335)
شتم رجل يزيد بن حصين فأعرض عنه فقال: أيها المعرض، إياك أعني، قال: وعنك أعرض، قال: لا تقول لي واحدة إلا قلت لك عشراً، قال: تقول لي عشراً ولا أقول لك واحدة.
كان يزيد بن حصين لا يعطي، فإذا أعطى أعطى كثيراً، ويقول: أحب أن تكون مواهبي كتائب كتائب، ولا أحب أن تكون مفاتت مفاتت.
أوصى يزيد بن ميسرة يزيد بن حصين حين ولي فقال: عليك بتقوى الله، والتأني في أمرك، وإياك والعجلة، وفي السجن راحة، هل تدري ما يقال لصاحب السلطان؟ أيها المسلط لا ينفخنك روح السلطان، فإنما ورثت مكان من كان قبلك، وآخر وارث مكانك غداً.
يزيد بن الحكم بن أبي العاص
ابن بشر بن عبد دهمان بن عبد الله بن همام الثقفي البصري أمه بكرة بنة الزبرقان بن بدر. كان شاعراً مجيداً.
حدث يزيد بن الحكم عن عثمان بن أبي العاص قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لقد استجن جنة حصينة من سلف له ثلاثة أولاد في الإسلام ".
وبه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اشتدت الريح الشمال قال: " اللهم، إني أعوذ بك من شر ما أرسلت ".
دعا الحجاج بن يوسف يزيد بن الحكم فولاه كور فارس، ودفع إليه عهده بها. فلما دخل إليه يودعه قال له الحجاج: أنشدني بعض شعرك، وأراد أن ينشده مديحاً له،(27/336)
فأنشده قصيدة يفخر فيها ويقول فيها:
وأبي الذي سلب ابن كسرى رايةً ... بيضاء تخفق كالعقاب الطائر
فلما سمع الحجاج فخره غضب، ونهض، فخرج يزيد من غير أن يودعه، فقال لحاجبه: ارتجع منه العهد، فإذا رده فقل: أيهما خير لك ما ورثك أبوك أم هذا؟ فرد على الحاجب العهد، وقال: قل له:
وورثت جدي مجده ونواله ... وورثت جدك أعنزاً بالطائف
وخرج مغاضباً عنه، فلحق بسليمان بن عبد الملك، ومدحه بقصيدته التي أولها:
أمسى بأسماء هذا القلب معمودا ... إذا أقول: صحا يعتاده عيدا
منها:
سميت باسم امرئ أشبهت شيمته ... فضلاً وعدلاً سليمان بن داودا
أحمد به في الورى الماضين من ملك ... وأنت أصبحت في الباقين محمودا
لا يبرأ الناس من أن يحمدوا ملكاً ... أولاهم في الأمور الحلم والجودا
قال سليمان: كم كان أجرى لك لعمالة فارس؟ قال: عشرين ألفاً، قال: فهي لك ما دمت حياً.
تولى محمد بن القاسم الثقفي، وهو ابن سبع عشرة سنة، ولاه الحجاج، فقال يزيد بن الحكم:
إن الشجاعة والسماحة الندى ... لمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب ذلك سؤدداً من مولد(27/337)
وقال يزيد بن الحكم الدمشقي:
شريت الصبا والجهل بالحلم والتقى ... وراجعت عقلي والحليم المراجع
أبى الشيب والإسلام أن أتبع الهوى ... وفي الشيب والإسلام للمرء وازع
وإني امرؤ لا أزعم البخل قوةً ... ولكنني للمال بالحمد بائع
وأعلم أن الجود مجد لأهله ... وأن الذي لا يتقي الذم راضع
يزيد بن خالد بن عبد الله
ابن يزيد بن أسد بن كرز القسري البجلي كان أبوه أمير العراقين لهشام بن عبد الملك. فلما ولي الوليد بن يزيد اخذ خالد بن عبد الله، وسلمه إلى يوسف بن عمر الثقفي أمير العراق، فعذبه حتى مات في يده، وحبس الوليد يزيد بن خالد في عسكره، فلما قتل الوليد تخلص، فكان مع يزيد بن الوليد. فلما مات، ودخل مروان بن محمد دمشق واستوسق له الأمر اختفى. فلما وثب أهل دمشق بزامل بن عمرو عامل مروان عليهم، ولوا عليهم يزيد بن خالد، فوجه إليهم مروان من حمص أبا الورد مجزأة بن الكوثر، وعمرو بن الوضاح فهزموهم، ولجأ يزيد وأبو علاقة إلى رجل من لخم من أهل قرية المزة، فدل عليهما زاملاً، فأرسل إليهما فقتلا.
قال إسحاق بن مسلم العقيلي: لقد رأيت من مروان بن محمد فعلاً ما رأيت لعربي ولا عجمي أخنى منه، ولا أرذل:(27/338)
بينما نحن يوماً على مائدته إذ دخل عليه الآذن فقال: قد جيء بيزيد بن خالد بن عبد الله القسري، فقال: ليدخل، فأدخل عليه أربعة ممسكون بعضديه فاستدناه فأدني، ثم استدناه فأدني، حتى صارت ركبتاه على ركبتيه، فرفع يده من الطعام واخذ منديل المائدة فلف طرفه على أصبعه، ثم أدخلها في عين يزيد بن خالد، فوالله إن زال يكبسها حتى استخرج حدقته فضرب بها وجهه، ثم أدار يده إلى حدقته الأخرى ففعل بها مثل ذلك، وما سمعت ليزيد كلمة، غير أني رأيته حين يجيء يمسح وجهه.
وفي سنة سبع وعشرين ومئة قتل يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، قتله رجل يقال له: صعصعة من بني نمير.
يزيد بن ربيعة أبو كامل الرحبي
الصنعاني حدث عن واثلة بن الأسقع الليثي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من طلب علماً، فأدركه أعطاه الله فأدركه أعطاه الله أجره ما علم، وأجر ما عمل، ومن طلب علماً فلم يدركه أعطاه الله أجر ما علم، وسقط عنه أجر ما لم يعمل.
كان يزيد ضعيف الحديث منكره.(27/339)
يزيد بن زياد بن ربيعة
ابن مفرغ بن مصعب الحميري من آل ذي فلجان بن زرعة بن يعفر بن السميفع الكلاعي البصري، حليف آل خالد بن أسيد ابن أبي العاص، وغنما لقب جده مفرغاً لأنه راهن على سقاء لبن أن يشربه حتى فرغه. ويقال: إنه مدفوع النسب في حمير. وأن ربيعة بن مفرغ كان شعاباً بتبالة، وقيل بالمدينة.
وكان يزيد شريراً هجاء للناس، فصحب عباد بن زياد، وعباد على سجستان عاملاً لعبيد الله بن زياد، وعبيد الله يومئذ على البصرة. تولى الكوفة في خلافة معاوية، فهجا ابن مفرغ عباداً، فبلغه ذلك، وكان على ابن مفرغ دين، فاستعذر عليه، فبيع ماله في دينه، وكان فيما بيع غلام له يقال له: برد، وجارية يقال لها: الأراكة، فقال ابن مفرغ من أبيات:
لهفي على الرأي الذي ... كانت عواقبه ندامه
تركي سعيداً ذا الندى ... والبيت ترفعه الدعامه
وتبعت عبد بني علا ... ج تلك أشراط القيامه(27/340)
جاءت به حبشيةً ... سكاء تحسبها نعامه
من نسوة سود الوجو ... هـ ترى عليهن الدمامه
وشريت برداً ليتني ... من بعد برد كنت هامه
هامة تدعو صدى ... بين المشقر واليمامه
العبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه الملامه
الريح تبكي شجوها ... والبرق يلمع في الغمامه
ورمقتها فوجدتها ... كالضلع ليس لها استقامه
شريت: بمعنى بعت، كأنه ندم على بيعه.
ثم قدم يزيد البصرة، وكان عبيد الله وافداً على معاوية، فعرف ابن مفرغ الذي أثر في بني زياد، فأتى الأحنف بن قيس التميمي، فقال له: أجرني من بني زياد، قال: لا أجير عليهم، ولكني أكفيك شعراء بني تميم أن يهجوك، قال: أما هذا فلا أريد أن تكفنيه، فأتى أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد فقال: أجرني، فوعده، وأتى عمر بن عبيد الله بن معمر، فوعده، وأتى طلحة الطلحات فوعده، وأتى المنذر بن الجارود(27/341)
العبدي، فأجاره، وكانت بحرية بنت المنذر عند عبيد الله بن زياد، وبلغ عبيد الله الذي كان من هجاء ابن مفرغ عباداً، وهو عند معاوية، فقال له: إن ابن مفرغ هجاناً، فأذن لي في قتله، فقال معاوية: أما قتله فلا، ولكن ما دون القتل. فلما قدم عبيد الله البصرة لم يكن همه إلا ابن مفرغ، فسأل عنه، فقيل له: أجاره ابن الجارود، وهو في داره، فأرسل إلى المنذر، فسأله، فأتاه. فلما دخل عليه أرسل عبيد الله الشرط إلى دار المنذر، فأخذوا ابن مفرغ، فأتوا به عبيد الله بن زياد، فلم يشعر به المنذر حتى رآه واقفاً عليه، وعلى عبيد الله، فقام المنذر إلى عبيد الله، فكلمه فيه فقال: إني أجرته، فقال له عبيد الله: يا منذر، ليمدحن أباك ويهجون أبي، وليمدحنك ويهجوني، ثم أرضى بذلك؟! لا والله، فخرج المنذر من الدار، وحبس ابن مفرغ، وأسلم إلى الحجامين، وهو حيث يقول:
وما كنت حجاماً ولكن أحلني ... بمنزلة الحجام نأيي عن الأهل
وهجا من أجاره وأخفره. وكان مما هجاهم به ابن زياد:
شهدت بأن أمك لم تباشر ... أبا سفيان واضعة القناع
ولكن كان أمراً فيه لبس ... على وجل شديد وارتياع
وقيل: إن عبيد الله أمر به، فسقي دواء، ثم حمل على حمار على إكاف، فجعل يطاف به، وهو يسلح في ثيابه، ويمر به في الأسواق، فقال للمنذر بن الجارود:(27/342)
تركت قريشاً أن أجاور فيهم ... وجاورت عبد القيس أهل المشقر
أناس أجارونا فكان جوارهم ... أعاصير من فسو العراق المبذر
فأصبح جاري من جذيمة نائماً ... ولا يمنع الجيران غير المنفر
وقال:
أصبحت لا من بني قيس فتنصرني ... بكر العراق ولم تغضب لنا مضر
ولم تكلم قريش في حليفهم ... إذ غاب ناصره بالشام واحتضروا
وقال لعبد الله بن زياد:
يغسل الماء ما صنعت وشعري ... راسخ منك في العظام البوالي
ثم حمله عبيد الله إلى عباد، حتى قدم على معاوية، فقال: إن حمير غدت على معاوية في خمس مئة فارس دارع، فسألوه ان يهبه لهم فقال في طريقه:
عدس ما لعباد عليك إمارة ... نجوت، وهذا تحملين طليق
لعمري لقد نجاك من هوة الردى ... إمام وحبل للإمام وثيق
سأشكر ما أوليت من حسن نعمة ... ومثلي بشكر المنعمين حقيق
فلما دخل على معاوية بكى، وقال: ركب مني ما لم يركب من مسلم، على غير حدث ولا جرم. قال: أو لست القائل:(27/343)
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عف ... وترضى أن يقال أبوك زان
فأشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان
وأشهد أنها ولدت زياداً ... وصخر من سمية غير دان
قال: لا، والذي عظم حق أمير المؤمنين ما قلت هذا. قال: أفلم تقل:
فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سفيان واضعة القناع
في أشعار كثيرة هجوت بها بني زياد؟، اذهب، فقد عفوت عنك، وعن جرمك، فانظر أي أرض شئت، فانزل. فنزل الموصل، ثم ارتاح إلى البصرة، فقدمها فنزل على عبيد الله فأمنه، ولم يزل عبيد الله والياً على البصرة حتى مات معاوية بدمشق سنة ستين، وقيل: إن الذي أطلقه يزيد بن معاوية.
وقيل: إن ابن مفرغ لما طال حبسه وبلاؤه ركب طلحة الطلحات إلى الحجاز ولقي قريشاً، وكان ابن مفرغ حليفاً لبني أمية، فقال لهم طلحة: يا معشر قريش، إن أخاكم وحليفكم ابن مفرغ قد ابتلي بهذه الأعبد من بني زياد، وهو عديدكم وحليفكم ورجل منكم، ووالله ما أحب أن يجري الله عافيته على يدي دونكم، ولا أفوز بالمكرمة في أمره وتخلوا منها، فانهضوا معي بجماعتكم إلى يزيد بن معاوية، فإن أهل اليمن قد تحركوا بالشام، فركب خالد بن عبد الله بن اسيد وأخوه أمية وعمر بن عبيد الله بن معمر ووجوه خزاعة وكنانة، وخرجوا إلى يزيد، فبينا هم يسيرون ذات ليلة إذ سمعوا راكباً يتغنى في سواد الليل بقول ابن مفرغ:
إن تركي ندى سعيد بن عثما ... ن بن عفان ناصري وعديدي
وإتباعي أخا الضراعة واللؤ ... م لنقص وفوت شأو بعيد(27/344)
قلت والليل مطبق بعراه ... ليتني مت قبل ترك سعيد
ليتني مت قبل تركي أخا النج ... دة والحزم والفعال السديد
عبشمي أبوه عبد مناف ... فاز منها بتاجها المعقود
ثم جود لو قيل فيه مزيد ... قلت للسائلين ما من مزيد
قل لقومي لدى الأباطح من آ ... ل لؤي بن غالب ذي الجدود
سامني بعدكم دعي زياد ... خطة الغادر اللئيم الزهيد
كان ما كان في الأراكة واجت ... ب ببرد سنام عيشي وجيدي
أوغل العبد في العقوبة والشت ... م وأودى بطارفي وتليدي
فارحلوا في حليفكم وأخيكم ... نحو غوث المستصرخين يزيد
فاطلبوا النصف من دعي زياد ... وسلوني بما ادعيت شهودي
فدعا القوم بالراكب، فقالوا له: ما هذا الذي تغني به؟ قال: قول رجل أمره عجب، رجل ضائع بين قريش واليمن، وهو رجل البأس، قالوا: ومن هو؟ قال: ابن مفرغ، قالوا: ما رحلنا إلا فيه وانتسبوا له، فضحك وقال: فاسمعوا من قوله أيضاً وأنشدهم:
لعمري لو كان الأسير ابن معمر ... وصاحبه وشكله ابن أسيد
ولو انهم نالوا أمية أرقلت ... بركابها الوجناء نحو يزيد
فأبلغت عذراً في لؤي بن غالب ... وأتلفت فيهم طارفي وتليدي
فإن لم يغيرها الإمام بحقها ... عدلت إلى شم شوامخ صيد
فناديت فيهم دعوة يمنية ... كما كان آبائي دعوا وجدودي(27/345)
ودافعت حتى أبلغ الجهد عنهم ... دفاع امرئ في الخير غير زهيد
فإن لم تكونوا عند ظني بنصركم ... فليس لها غير الأغر سعيد
بنفسي أهلي ذاك حياً وميتاً ... نضار، وعود المرء أكرم عود
فكم من مقام في قريش كفيته ... ويوم يشيب الكاعبات شديد
وخصم تحاماه لؤي بن غالب ... شببت له ناري فهاب وقودي
وخير كثير قد أفأت عليكم ... وأنتم رقود أو شبيه رقود
قال: فاسترجع القوم لقوله، وقالوا: والله لا نغسل رؤوسنا في العرب إن لم نستقلها بفكه، فأغذوا السير إلى الشام.
وبعث ابن مفرغ رجلاً من بني الحارث بن كعب فقام على سور حمص، فنادى بأعلى صوته الحصين بن نمير - وكان والي حمص - بهذه الأبيات وكان عظيم الجبهة:
أبلغ لديك بني قحطان قاطبةً ... عضت بأي ... أبيها سادة اليمن
أمسى دعي زياد فقع قرقرة ... يا للعجائب يلهو بابن ذي يزن
والحميري طريح وسط مزبلة ... هذا لعمركم غبن من الغبن
والأجبه ابن نمير فوق مفرشه ... يرنو إلى أحور العينين ذي غنن
قوموا فقولوا: أمير المؤمنين لنا ... حق عليك ومن ليس كالمنن
فاكفف دعي زياد عن أكارمنا ... ماذا يريد إلى الأحقاد والإحن(27/346)
فاجتمعت اليمانية إلى حصين فعيروه بما قاله ابن مفرغ، فقال الحصين: ليس لي رأي دون يزيد بن أسيد ومخرمة بن شرحبيل، فأرسل إليهما: فقال لهما حصين: اسمعا ما أهدى إلي شاعركم، وقاله لكم في أخيكم - يعني: نفسه - وأنشدهم، فقال يزيد بن أسيد: فإني قد جئتكم والله بأعظم من هذا، في قوله فيما صنع به:
وما كنت حجاماً ولكن أحلني ... بمنزلة الحجام نأيي عن الأهل
فقال الحصين: لقد أساء إلينا أمير المؤمنين في صاحبنا مرتين: إحداهما أنه هرب إليه فلم يجره، والأخرى أنه أمر بعذابه غير مراقب لنا فيه، وقال يزيد بن أسيد: إني لأظن أن طاعتنا سوف تفسد ويمحوها ما صنع بابن مفرغ، ولقد تطلع من نفسي شيء للموت أحب إلي منه. وقال مخرمة بن شرحبيل: أيها الرجلان، اعقلا، فإنه لا معاوية لكما، واعرفا أن صاحبكما لا تقدح فيه الغلظة، فاقصدا للتضرع، فركب القوم إلى دمشق، وقدموا على يزيد بن معاوية، وقد سبقهم الرجل، فنادى بذلك الشعر يوم الجمعة على درج دمشق، فثارت اليمانية، وتكلموا، ومشى بعضهم إلى بعض، وقدم وفد القرشيين في أمره مع طلحة الطلحات، فسبقوا القرشيين، ودخلوا على يزيد.
فتكلم الحصين بن نمير، وذكر بلاءه وبلاء قومه وطاعتهم، وقال: يا أمير المؤمنين، إن الذي أتاه ابن زياد إلى صاحبنا لا قرار عليه، قد سامنا عبيد الله وعباد خطة خسف، وقلدانا قلادة عار، فأنصف كريمنا من صاحبه، فوالله لئن قدرنا لنعفون، وإن ظلمنا لننتصرن.
وقال يزيد بن أسيد: يا أمير المؤمنين، إنا لو رضينا بمثلة ابن زياد بصاحبنا وعظيم ما انتهك منه لم يرض الله بذلك، ولئن تقربنا إليك بما يسخط الله ليباعدننا الله منك. وقد نفرت لصاحبنا نفرة طار غرابها، وما أدري متى يقع، وكل نائرة تقدح في(27/347)
الملك - وإن صغرت - لم يؤمن أن تكبر، وإطفاؤها خير من إضرامها، ولا سيما إذا كانت في أنف لا يجدع، ويد لا تقطع، فأنصفنا من ابن زياد.
وقال مخرمة بن شرحبيل، وكان متألهاً، عظيم الطاعة في أهل اليمن: إنه لا يد تحجزك عن هواك دون الله، ولو مثلت بأخينا، وتوليت منه ذلك بنفسك لم يقم فيه قائم، ولم يعاتبك فيه معاتب، ولكن ابني زياد استخفا بما يثقل عليك من حقنا، وتهاونا بما تكرمه منا، وأنت بيننا وبين الله، ونحن بينك وبين الناس، فأنصفنا من صاحبيك، ولينفعنا بلاؤنا عندك.
فقال يزيد: إن صاحبكم أتى عظيماً، نفى زياداً عن أبي سفيان، ونفى عباداً وعبيد الله عن زياد، وقلدهم طوق المامة، وما شجعه على ذلك إلا نسبه فيكم، وحلفه في قريش، فأما إذ بلغ الأمر ما أرى، وأشفى بكم على ما أشفى، فهو لكم وعلي رضاكم.
وانتهى القرشيون إلى الحاجب فاستأذن لهم، فأذن، وقال لليمانيين: قد أتتكم برى الذهب من أهل العراق، فدخلوا فسلموا، والغضب يتبين في وجوههم، فظن يزيد الظنون، وقال لهم: ما لكم آنفتق فتق؟ أم حدث حدث فيكم؟ قالوا: لا، فسكن.
فقال طلحة الطلحات: يا أمير المؤمنين، ما كفى ما لقيت من زياد، حتى استعملت عليها ولده، يستثيرون لك أحقادها، ويبغضونك إليها؟ إن عبيد الله وأخاه أتيا إلى ابن مفرغ ما قد بلغك، فأنصفنا منهما إنصافاً تعلم العرب به أن لنا منك خلفاً من أبيك، فلقد خبأ لك فعلهما خبئاً عند أهل اليمن لا نحمده لك، ولا تحمده لنفسك. وتكلم خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد فقال: يا أمير المؤمنين، إن زياداً ربا في شر حجر، ونشأ في أخبث نشوء فأثبتم نصابه في قريش وحملتموه على رقاب الناس،(27/348)
فوثب ابناه على أخينا وحليفنا وحليفك، ففعلا به الأفاعيل التي بلغتك، وقد غضبت له قريش الحجاز ويمن الشام ممن لا أحب لك غضبه، فأنصفنا من ابني زياد.
وتكلم أخوه أمية بنحو مما تكلم أخوه، وقال: والله يا أمير المؤمنين، لا أحط رحلي ولا أخلع ثياب سفري، أو تنصفنا من ابني زياد، أو تعلم العرب أنك قد قطعت أرحامنا، ووصلت ابني زياد بقطيعتنا، وحكمت بغير الحق لهم علينا.
وقال ابن معمر: يا أمير المؤمنين، إن ابن مفرغ طالما ناضل عن عرضك وعرض أبيك وأعراض قومك، ورمى عن جمرة أهلك، وقد أتى بنو زياد فيه ما لو كان معاوية حياً لم يرض به، وهذا رجل له شرف في قومه، وقد نفروا له نفرة لها ما بعدها، فأعتبهم وأنصف الرجل، ولا تؤثر مرضاة بني زياد على مرضاة الله عز وجل.
فقال لهم يزيد: مرحباً بكم وأهلاً، والله لو أصابه ابني بما ذكرتم لأنصفته منه، ولو رحلتم في جميع ما تحيط به العراق لوهبته لكم، وما عندي إلا إنصاف المظلوم، ولكن صاحبكم أسرف على القوم. وكتب يزيد ببناء داره، ورد ماله، وتخلية سبيله، وأن لا إمرة لأحد من بني زياد عليه، وقال: لولا أن في القود بعدها جرى منه فساداً في الملك لأقدته من عباد.
وسرح يزيد رجلاً من حمير يقال له خمخام، وكتب معه إلى عباد: نفسك نفسك أن تسقط من ابن مفرغ شعرة، فأقيدك والله به، ولا سلطان لك ولا لأحد غيري عليه. فجاء خمخام حتى انتزعه جهاراً من الحبس بمحضر من الناس، وأخرجه.
فلما دخل على يزيد قال له: يا أمير المؤمنين، اختر مني خصلة من ثلاث خصال في كلها لي فرج: إما أن تقيدني من ابن زياد، وإما أن تخلي بيني وبينه، وإما أن تقدمني فتضرب عنقي.
فقال له يزيد: قبح الله ما اخترته وخيرتنيه، أما القود من ابن زياد فما كنت(27/349)
لأقيدك من عامل كان عليك، ظلمته وشتمت عرضه، وعرضي معه، وأما التخلية بينك وبينه فلا، وايم الله ما كنت لأخلي بينك وبين أهلي تقطع أعراضهم، وأما ضرب عنقك فما كنت لأضرب عنق مسلم من غير أن يستحق، ولكني أفعل بك ما هو خير لك مما اخترت لنفسك، أعطيك ديتك، فإنهم عرضوك للقتل، واكفف عن ولد زياد، فلا يبلغني أنك ذكرتهم، وانزل أي البلاد شئت، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
فخرج، ونزل الموصل، فأقام بها ما شاء الله.
كان أبو موسى وجه ناب بن ذي الجرة سنة عشرين وهو محاصر رامهرمز في مئتي راكب، فأتى قلعة دشتمول وهي قلعة ذي الزناق، وفيها خزائن وسلاح، فطرقهم ليلاً، وقد شربوا يومهم لعيد لهم، فأمنوا ولم يخافوا، فدب في أربعين رجلاً إلى باب الحصن وعليه حرس، لم يغلقوا الباب لغلبة السكر عليهم، فقتلوهم، ودخلوا القلعة، فوصلوا إلى ذي الزناق وقد بدر بهم وهم على دهش، فقاتلوهم فعانق ناب ذا الزناق، فعضه ذو الزناق، فقطع أصبعه، فلم يفارقه ناب وصرعه فقتله، وأعطى الآخر بأيديهم فقتلهم، وحوى ما في القلعة، فقال ابن مفرغ يمدح ناب بن ذي الجرة الحميري من أبيات:
وذو الزناق أتاه في فوارسه ... في عصبة قد شروا لله أطياب
إمامهم ماجد كالسيد يقدمهم ... حامي الحقيقة ماض غير مرتاب
حتى توسط جمعاً بعدما نذروا ... وقد تواصوا بحراس وحجاب
فعانق البش منهم حازم بطل ... وغودر القوم صرعى بين أبواب
قالوا: وقيل له: ذو الزناق أنه كان إذا ظفر برجل يحاربه، أو يخافه أو جنى(27/350)
جناية زنقه. وكان من فرسانهم. وكان اسم ناب عبد الجليل ولقبه ناب، فقدم على أبي بكر، فسماه عبد الرحمن.
قال أبو عبيدة: لما قتل عبيد الله بن زياد، وكان يزيد بن ربيعة بن مفرغ يسهب في هجو القوم، فعاتبه الناس على ذلك وقالوا له: قد قتل الرجل، فإن أمسكت عن ذكره كان هو الأحسن لك، فقال لهم: أعتب إن شاء الله. فلما أصبح في غد ذلك اليوم، دخل المسجد وتقوض إليه الناس فأنشأ يقول:
إن الذي عاش ختاراً بذمته ... ومات عبداً قتيل الله بالزاب
العبد بالعبد لا أصل ولا طرف ... ألوت به ذات أظفار وأنياب
أقول لما أتاني ثم مصرعه ... لابن الخبيثة وابن الكودن الكابي
ما شق جيب ولا ناحتك نائحة ... ولا بكتك جياد عند أسلاب
هلا جموع نزار إذ لقيتهم ... كنت امرأً من نزار غير مرتاب
لا من نزار ولا من خذم ذي يمن ... جلمودة ألقيت من بين ألهاب
إن المنايا إذا حاولن طاغية ... هتكن منه ستوراً بعد أبواب
لا تقبل الأرض موتاهم إذا دفنوا ... وكيف تقبل رجساً بين أثواب
ثم عاهد الله في مجلسه على هجائهم إلى أن يموت.
توفي ابن مفرغ في الطاعون في ولاية مصعب بن الزبير العراق.(27/351)
يزيد بن زياد ويقال ابن أبي زياد
القرشي، من دمشق.
حدث عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله "، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لزوال الدنيا وما فيها أهون على الله من قتل مسلم بغير حق ".
وحدث عن الزهري عن عروة قال: قالت عائشة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا مجلود حداً، ولا ذي غمر على أخيه، ولا مجرب عليه شهادة زور، ولا التابع مع أهل البيت لهم، ولا الظنين في ولاء ولا في قرابة ".
وبه قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم لمسلم مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من يخطئ في العقوبة ".
كان يزيد بن زياد منكر الحديث.
يزيد بن زياد القرشي البصري
نزيل صور. قيل إنه دمشقي.(27/352)
حدث عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه، حتى يصيب منهما جميعاً، فإن إحداهما بلغة الأخرى، ولا تكونوا كلاً على الناس ".
وفي رواية: " فإن الدنيا بلاغ إلى ألآخرة ".
يزيد بن سعد أبو عثمان الحجوري
حدث عن أبيه عن غير واحد من كبراء قومه: أن راية حجور التي هاجرت بها مع المسلمين إلى الشام قدر ذراعاً ونحوه، عذبتان حمراوان بينهما بيضاء.
يزيد بن أبي سعيد مولى المهري
حدث عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعث إلى بني لحيان ليخرج من كل رجلين رجل ثم قال للقاعد: أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير، كان له مثل أجر الخارج.(27/353)
وفي حديث آخر: مثل نصف أجر الخارج. قالوا: وهو الصحيح.
قال يزيد بن أبي سعيد: قدمت على عمر بن عبد العزيز إذ كان خليفة بالشام، فلما ودعته قال: إن لي إليك حاجة، قلت: يا أمير المؤمنين، كيف ترى حاجتك عندي؟ قال: إني أراك إذا أتيت المدينة فسترى قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقرئه مني السلام.
يزيد بن سعيد بن ذي عصوان
ويقال: عصوان - العنسي - ويقال: السكسكي - الداراني حدث عن عبد الملك بن عمير عن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كان يوم القيامة بعث الله إلى كل مؤمن ملكاً، معه كافر، فيقول الملك للمؤمن: يا مؤمن، هاك هذا الكافر، فهذا فداؤك من النار ".
وحدث يزيد بن سعيد عن عبد الملك بن عمير عن سعد بن أبي وقاص، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى حي من قريش، فرجع إليه وهو يظهر التكبير، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما سعد فقد رأى عجباً، فقال: يا رسول الله، أتيتك من عند قوم، هم وأنعامهم سواء، إنما همتهم ما لبسوا على ظهورهم، وأكلوا في بطونهم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا سعد، أفلا أخبرك بأعجب من ذلك؟ قوم، علموا ما جهل هؤلاء ثم جهلوا كجهلهم. فانصرف سعد، فقال: يا أهلاه، يا أهلاه، هلموا إلى بيعة في طلب نعيم لا يزول، نجهد أنفسنا. قال عبد الملك بن عمير: فبايعوه، فأدركت عجوزاً شهدت تلك البيعة، فكنا نأتيها، فلا تكاد تلتفت إلينا اشتغالاً منها بذكر الله.(27/354)
يزيد بن سمرة أبو هزان الرهاوي المذحجي
قيل: أنه من دمشق.
حدث عن عبد الحميد بن يزيد الجذامي بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صلوا صلاة الصبح ثم سلوا الله حوائجكم البتة ".
و: هزان: بالهاء المكسورة والزاي المشددة والنون.
يزيد بن السمط أبو السمط الصنعاني الفقيه
حدث عن الأوزاعي بسنده إلى عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان ".(27/355)
وحدث عن النعمان بن المنذر عن مكحول عن عمرو بن عنبسة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من رمى بسهم في سبيل الله فبلغ، أخطأ أو أصاب فله مثل عدل عتق رقبة. ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة، ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار ".
مكحول لم يدرك عمرو بن عنبسة.
قال يزيد بن السمط: خرجت مع الأوزاعي إلى بيت المقدس، فقال لي: يا أبا السمط، لا تخبر أحداً بمكاني ها هنا، ثم أتى جباً من تلك الجباب، فاستقى دلواً من ماء فتوضأ، فجاءه ناس فقالوا: يا شيخ، اتق الله، أتتوضأ في المسجد، فلم يلتفت إليهم، ثم أتى الصخرة، فجعلها وراء ظهره، وصلى ثمان ركعات. قال: ثم صلينا فيه خمس صلوات، ثم التفت إلي فقال: يا أبا السمط، هذا فعل عمر بن عبد العزيز حين دخل هذه البلدة، ولم يأت شيئاً من تلك المواطن.
يزيد بن أبي سمية أبو صخر الأيلي
حدث عن ابن عمر قال: سألت أم سليم - وهي أم أنس بن مالك - النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: يا نبي الله، ترى المرأة في المنام مثلما يرى الرجل؟ فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا رأت المرأة ذلك فأنزلت فلتغتسل ".
وحدث عنه قال: سمعته يقول: ما قال في جر الإزار فهو في القميص، وجر القميص أشد من جر الإزار ".
وفي رواية عن ابن عمر قال: ما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإزار فهو في القميص.(27/356)
وعن يزيد بن أبي سمية قال: شهدت عمر بن عبد العزيز أقام الحد ثمانين جلدة، على رجل افترى على رجل في أرض الحرب حين خرجوا.
كان أبو صخر من العباد، كان يصلي ليله أجمع ويبكي، وكانت معه في الدار امرأة يهودية ساكنة تبكي رحمةً له، فقال ليلة في دعائه: اللهم، إن هذه اليهودية قد بكت رحمةً لي، ودينها مخالف لديني، فأنت أولى برحمتي.
يزيد بن سنان يقال إن له صحبة
قال يزيد بن سنان: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحلف زمناً فيقول: لا وأبيك، حتى نهي عن ذلك. ثم قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يحلف أحدكم بالكعبة، فإن ذلك إشراك، وليقل: ورب الكعبة ".
قالوا: وأهل بيت سنان يقولون: لم يلق يزيد بن سنان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يره.
ويزيد بن سنان الشامي روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " لا تحلفوا بالكعبة ولا تحلفوا إلا بالله ".(27/357)
يزيد بن شجرة أبو شجرة الرهاوي
يقال: إن له صحبة.
قال يزيد بن شجرة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " السيوف مفاتيح الجنة ".
وقال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يوشك العلم أن يرفع ". يرددها ثلاثاً. قال زياد بن لبيد: بأبي أنت وأمي، وكيف يرفع العلم منا، وهذا كتاب الله بين أظهرنا قد قرأناه، ويقرأه أبناؤنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم؟! فقال: " ثكلتك أمك يا زياد بن لبيد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، أو ليس هؤلاء اليهود والنصارى عندهم التوراة والإنجيل فماذا أغنى عنهم؟! إن الله ليس يذهب بالعلم بالرفع، ولكن يذهب بحملته، لا، قل: ما قبض الله عالماً من هذه الأمة إلا كان ثغرة في الإسلام، لا تسد بمثله إلى يوم القيامة ".
وقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة ودخل عليها: أطعمينا، فقالت: ما عندنا طعام، فقال: أطعمينا، فقالت: والله ما عندنا طعام، ثلاثاً. فقال أبو بكر يعتذر عنها: والله إن المرأة المؤمنة لا تحلف على أن ليس عندها طعام، وهو عندها، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المرأة المؤمنة في النساء كالغراب الأعصم في الغربان، فإن النار خلقت للسفهاء، وإن النساء أسفه السفهاء إلا صاحبة القسط والسراج.(27/358)
قال لي بقية: وهي التي تقوم على راس زوجها توضئه.
وقال يزيد بن شجرة: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جنازة، وخرج الناس، فقال الناس خيراً، وأثنوا خيراً، فجاء جبريل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن هذا الرجل ليس كما ذكروا، ولكنكم شهداء الله في الأرض وأمناؤه على خلقه، فقد قبل الله قولكم فيه، وغفر له ما لا تعلمون.
وحدث يزيد بن شجرة عن أبي عبيدة بن الجراح قال قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الجنة مئة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلى الجنة، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس ".
القبيلة التي ينسب إليها بالضم وهو: رهاء بن منبه بن حرب ليس في ضمها خلاف.
قال مجاهد: كان يزيد بن شجرة رجلاً من رهاء، وكان معاوية يستعمله على الجيوش فخطبنا يوماً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس، اذكروا نعمة الله عليكم، ما أحسن أثر نعمة الله عليكم، لو ترون ما أرى من بين أحمر وأصفر ومن كل لون، وفي الرحال ما فيها، إنه إذا أقيمت الصلاة فتحت أبواب السماء وأبواب الجنة وأبواب النار، فإذا التقى الصفان فتحت أبواب السماء وأبواب الجنة وأبواب النار، وزين الحور العين فيطلعن، فإذا أقبل أحدكم بوجهه إلى القتال قلن: اللهم ثبته، اللهم انصره، وإذا أدبر احتجبن عنه وقلن: اللهم اغفر له، فأنهكوا وجوه القوم، فداء لكم أبي وأمي، فإن أول قطرة تقطر من دم أحدكم يحط بها عنه(27/359)
خطاياه، كما يحط الغصن من ورق الشجرة، وتبتدره اثنتان من الحور العين، وتمسحان التراب عن وجهه، وتقولان: فدانا لك، ويقول: فدانا لكما، فيكسى مئة حلة، ولو وضعت بين أصبعي هاتين لوسعتاهما، ليست من نسيج بني آدم، ولكنها من ثياب الجنة، إنكم مكتوبون عند الله بأسمائكم وسماتكم ونجواكم وخلالكم ومجالسكم، فإذا كان يوم القيامة قيل: يا فلان، هذا نورك، يا فلان لا نور لك، وإن لجهنم جناباً من ساحل كساحل البحر، فيه هوام، حيات كالبخاتي، وعقارب كالبغال الدك أو كالدك البغال. فإذا سأل أهل النار التخفيف قيل: اخرجوا إلى الساحل، فتأخذهم تلك الهوام، شفاههم وجنوبهم، وما شاء الله من ذلك، فتكشطها، فيرجعون، فيبادرون إلى معظم النار، ويسلط عليهم الجرب، حتى إن أحدهم ليحك جلده حتى يبدو العظم، فيقال: يا فلان، هل يؤذيك هذا؟ فيقول: نعم، فيقال له: ذلك بما كنت تؤذي المؤمنين.
توفي يزيد بن شجرة الرهاوي سنة ثمان وخمسين. غزا فأصيب هو وأصحابه.
يزيد بن شجعة الحميري من دمشق.
لما أتى معاوية خبر عثمان أرسل إلى حبيب بن مسلمة الفهري، فقال: إن عثمان قد حصر، فأشر علي برجل لأمري ولا يقصر. فقال: ما أعرف ذلك غيري، فقال: أنت لها، فأشر علي برجل أبعثه على مقدمتك، لا يتهم رأيه ولا نصيحته، وعجله في سرعان الناس. قال: أمن جندي أم من غيرهم؟ فقال: من أهل الشام، فقال: إن أردته من جندي أشرت به عليك، وإن كان من غيرهم فإني أكره أن أغرك بمن لا علم لي به، قال: فهاته من جندك، قال: يزيد بن شجعة الحميري، فإنه كما تحب. فإنهم لفي ذلك غذ قدم الكتاب بالحصر، فدعاهما ثم قال لهما: النجاء، سيراً، فأعينا أميرالمؤمنين، وتعجل أنت يا يزيد، وإن قدمت يا حبيب، وعثمان حي فهو الخليفة والأمر أمره، فانفذ لما يأمرك به، وإن وجدته قد قتل فلا تدعن أحداً أشار إليه ولا أعان عليه إلا قتلته،(27/360)
وإن أتاك شيء قبل أن تصل فأقم، حتى أرى من رأيي. وبعث يزيد بن شجعة، فأمضاه على المقدمة في ألف فارس على البغال، يقودون الخيل، معهم الإبل، عليها الروايا، وأتبعهم حبيب بن مسلمة وهو على الناس.
يزيد بن شريح الحضرمي الحمصي
قدم دمشق.
وحدث عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: " إذا أم الرجل القوم فلا يختص بدعاء دونهم، فإن فغل فقد خانهم، ولا يدخل عينه في بيت قوم بغير إذنهم، فإن فعل فقد خانهم ".
وزاد في آخر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يحل لرجل أو لامرئ أن يصلي وهو حاقن حتى يتخفف، ولا يحل لامرئ مسلم أن يؤم قوماً إلا بإذنهم، ولا يخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم، ولا يحل لامرئ مسلم أن ينظر في قعر بيت، فإن نظر فقد دمر ".
وحدث يزيد بن شريح عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا غضبت عائشة وضع يده على منكبها فقال: اللهم، اغفر لها ذنبها، وأذهب غيظ قلبها، وأعذها من مضلات الفتن.
قال يزيد بن شريح: خرجت أنا وابن عم لي نريد الصلاة في بيت المقدس، فنزلنا على كعب الأحبار بدمشق فقال: إلى أين تريد؟ قلت: أريد إيلياء، فقال: لا تقل: إيلياء، ولكن قل: بيت المقدس، صفوة الله من بلاده، وخيرته وكنزه ومقامه. يعني: فيها صفوة الله من عباده، منها تبسط الأرض، وإليها تطوى، يطلع إليها كل صلاة، فيذر عليها رحمته(27/361)
وحنانه ثم على سائر البلدان. من خرج من بيته لا يعنيه إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه مثل يوم ولدته أمه.
وحدث يزيد بن شريح عن كعب: إذا أراد الله أن يطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب.
يزيد بن صخر أبي سفيان بن حرب
ابن أمية بن شمس، أبو خالد الأموي شهد حصار دمشق، ووليها بعد الفتح، وشهد وقعة اليرموك.
حدث أبو عبد الله الأشعري قال: صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه ثم جلس في عصابة منهم، فجاء رجل فقام يصلي، لا يركع وينقر في سجوده، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر إليه، فقال: ترون هذا؟ لو مات على هذا مات على غير ملة محمد، ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم، مثل الذي يصلي، ولا يركع، وينقر في سجوده كالجائع لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين، فماذا تغنيان عنه. وأسبغوا الوضوء، وويل للأعقاب من النار. أتموا الركوع والسجود. رواه أيضاً يزيد بن أبي سفيان.
وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستعمل يزيد بن أبي سفيان على صدقة أخواله بني فراس بن غنم. وشهد يزيد حنيناً مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعطاه من الغنائم مئة من الإبل وأربعين أوقية، وزنها له بلال، ولم يزل يذكر بخير، وعقد له أبو بكر الصديق مع أمراء الجيوش إلى الشام، وكان يقال له: يزيد الخير. وتوفي بالشام في الطاعون عمواس سنة ثماني عشرة، ونعاه عمر إلى أبي سفيان، فقال: رحمه الله، فمن أمرت بعده؟ قال: معاوية، فقال: وصلتك رحم. وفي رواية: وصلت الرحم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.(27/362)
وقيل: توفي سنة تسع عشرة بعد أن فتح معاوية قيسارية. ولما استعمله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بني فراس لخؤولته فيهم، قدم بمال، فلقيه أبوه أبو سفيان، وطلبه منه، فأبى أن يعطيه إياه، فقال له: فأعلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أني طلبته منك. فلما دفع المال إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلمه أن أباه طلبه منه، فقال له: فعد به على أبيك.
لما عقد أبو بكر ليزيد بن أبي سفيان دعاه فقال له: يا يزيد، إنك شاب تذكر بخير، قد رئي منك، وذلك شيء خلوت به في نفسك، وقد أردت أن أبلوك وأستخرجك من أهلك، فانظر كيف أنت، وكيف ولايتك، فإن أحسنت زدتك، وإن أسأت عزلتك، وقد وليتك عمل خالد بن سعيد، ثم أوصاه بما يعمل به في وجهه، وقال له: أوصيك بأبي عبيدة بن الجراح خيراً، فقد عرفت مكانه في الإسلام، وإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبوعبيدة بن الجراح فاعرف له فضله وسابقته، وانظر معاذ بن جبل، فقد عرفت مشاهدة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يأتي أمام العلماء يوم القيامة برتوة، فلا تقطع أمراً دونهما، فإنهما لن يألواك خيراً، فقال يزيد: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أوصهما بي، كما أوصيتني بهما، فأنا إليهما أحوج منهما إلي، قال أبو بكر: لن أدع أن أوصيهما بك، فقال يزيد: يرحمك الله، وجزاك عن الإسلام خيراً.
وعن ابن عمر قال: لما عقد أبو بكر الأمراء على الشام كنت في جيش خالد بن سعيد بن العاص، فصلى بنا الصبح بذي المروة، وهو على الجيوش كلها. فإنا لعنده غذ أتاه آت فقال: قدم يزيد بن أبي سفيان، فقال خالد بن سعيد: هذا عمل عمر بن الخطاب، كلم أبا بكر في(27/363)
عزلي، وولى يزيد بن أبي سفيان، فقال ابن عمر: فأردت أن أتكلم، ثم عزم لي على الصمت، قال: فتولنا إلى يزيد بن أبي سفيان، وصار خالد كرجل منهم.
وعن يزيد بن أبي سفيان قال: شيعني أبو بكر حين بعثني إلى الشام فقال: يا يزيد، إنك رجل تحب قرابتك، وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من ولى ذا قرابة محاباة، وهو يجد خيراً منه لم يجد رائحة الجنة.
وعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر الصديق حين بعثني إلى الشام: يا يزيد، إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمرة، وذلك أكبر ما أخاف عليك، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فأمر عليهم أحداً محاباة له، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، حتى يدخله جهنم، ومن أعطى رجلاً من مال أخيه شيئاً محاباة له فعليه لعنة الله، أو قال: برئت منه ذمة الله، وإن الله دعا الناس إلى أن يؤمنوا بالله، فيكونوا في حمى الله، فمن انتهك في حمى الله شيئاً فعليه لعنة الله، أو قال: برئت منه ذمة الله ".
وعن ابن عمر: أن أبا بكر بعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام فمشى معهم نحواً من ميلين، فقيل له: يا خليفة رسول الله، لو انصرفت، فقال: لا إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار ".
ثم بدا له في الانصراف إلى المدينة، فقام في الجيوش فقال: أوصيكم بتقوى الله، لا تعصوا، ولا تغلوا، ولا تجتنوا، ولا تهدموا بيعة، ولا تعرقوا(27/364)
نخلاً، ولا تحرقوا زرعاً، ولا تحسروا بهيمة، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تقتلوا شيخاً كبيراً، ولا صبياً صغيراً، وستجدون أقواماً قد اتخذت الشياطين أوساط رؤوسهم أفحاصاً، فاضربوا أعناقهم، وستردون بلداً يغدوا ويروح عليكم فيه ألوان الطعام، فلا يأتيكم لون إلا ذكرتم اسم الله عليه، ولا يرفع لون إلا حمدتم الله عليه.
وفي آخر في آخر الحديث: وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبياً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً، إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلاً ولا تعرقنه، ولا تغلل ولا تجبن.
ولما وجه أبو بكر يزيد إلى الشام أوصاه فقال: سر على بركة الله، فإذا دخلت بلاد العدو فكن بعيداً من الحملة، فإني لا آمن عليك الجرأة واستظهر في الزاد، وسر بالأدلاء، ولا تقاتل بمجروح، فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات، فإن في العرب غرة، وأقلل من الكلام، فإنما ما وعى عنك. فإذا أتاك كتابي فأنفذه، وإذا قدمت وفود العجم فأنزلهم معظم عسكرك، وأسبغ عليهم النفقة، وامنع الناس من محادثتهم، ليخرجوا جاهلين، ولا تلجن في عقوبة، ولا تسرعن إليها وأنت مكتف بغيرها، واقبل من الناس علانيتهم، وكلهم إلى الله في سرائرهم، ولا تجسس في عسكرك، فتفضحه، ولا تهملنه فتفسده، وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.(27/365)
ومن وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام: بدأ بالصلاة إذا حل لك وقتها، ولا تشاغل عنها بغيرها، فإن الإمام تقتدي به رعيته وتعمل بعمله في نفسه، وإذا وعظت فأوجز ولا تكثر الكلام، فإن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضاً، وإنما يغني منه ما وعي عنك، وإذا استشرت فاصدق الحديث تصدق المشورة، ولا تدخرن عن المشير شيئاً فتكون إنما تؤتى من نفسك، واستبسل الناس بالدنيا، فإن ذا النية تكفيك نيته، ومن أعطيته شيئاً بشيء فف له به، ولا تتخذن حشماً تضع عنهم ما تحمله على غيرهم، فإن ذلك يضغن الناس عليك، ويستحلون به معصيتك.
ولما صعد يزيد بن أبي سفيان النبر ارتج عليه فقال: يا أهل الشام، عسى الله أن يجعل بعد عسر يسراً، وبعد عي بياناً، واعلموا أنكم إلى إمام فاعل أحوج منكم إلى إمام قائل. ثم نزل، فبلغ ذلك عمرو بن العاص فاستحسنه.
قال أبو مسلم: غزا يزيد بن أبي سفيان بالناس فغنموا، فوقعت جارية نفيسة في سهم رجل، فاغتصبها يزيد، فأتى الرجل أبا ذر فاستعان به عليه، فقال: رد على الرجل جاريته، فتلكأ عليه ثلاثاً فقال: لئن فعلت ذاك لقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية يقال له يزيد "، فقال له يزيد بن أبي سفيان: نشدتك بالله أنا منهم؟ قال: لا، قال: فرد على الرجل جاريته.
رأى عمر بن الخطاب يزيد بن أبي سفيان كاشفاً عن بطنه، فرأى جلدة رقيقة، فرفع عليها الدرة وقال: أجلدة كافر؟.
بلغ عمر بن الخطاب أن يزيد بن أبي سفيان يأكل ألواناً من الطعام، فقال عمر لمولاه(27/366)
يرفا: إذا حضر عشاؤه فأعلمني. فلما حضر أعلمه، فأتاه عمر فسلم عليه فقرب عشاؤه، فجاؤوه بثريد بلحم، فأكل معه عمر، ثم قدم شواء فبسط يزيد يده، وكف عمر يده ثم قال: تالله يا يزيد أطعام بعد طعام؟ والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم.
يزيد بن صهيب أبو عثمان الفقير الكوفي
قال يزيد بن صهيب الفقير: سألت جابر بن عبد الله عن ركعتين في السفر أقصرهما؟ فقال جابر: لا، إن ركعتين في السفر ليست بقصر، إنما القصر ركعة عند القتال. قال: ثم أنشأ يحدث أنه كان مع رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند القتال، إذ حضرت الصلاة، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصف طائفة خلفه، وقامت طائفة وجوهها قبل وجوه العدو، فصلى بهم ركعة، وسجد بهم سجدتين، ثم الذين صلوا خلفه انطلقوا فقاموا مقام أولئك، فجاء أولئك، فصفوا خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلى بهم ركعة، وسجد بهم سجدتين، ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلس، فسلم، وسلم الذين خلفه، وسلموا أولئك، فكانت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين، والقوم ركعة ركعة.
ثم قرأ يزيد: " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ".
قال يزيد بن صهيب الفقير: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج، وكنت رجلاً شاباً، فخرجنا في عصابة ذوي عدد، نريد أن نحج، ثم نخرج على الناس، قال: فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن(27/367)
عبد الله يحدث القوم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جالس إلى سارية، وإذا هو قد ذكر الجهنميين، فقلت له: يا صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما هذا الذي تحدثون، والله يقول: " إنك من تدخل النار فقد أخزيته " و" كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيوا فيها " فما هذا الذي تقولون؟ فقال: أي نبي، أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: فهل سمعتم بمقام محمد المحمود الذي يبعثه الله فيه؟ قلت: نعم، قال: فإنه مقام محمد المحمود، الذي يخرج الله به من يخرج من النار، قال: ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه، قال: فأخاف ألا أكون حفطت ذلك غير أنه قد زعم أن قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، قال: فيخرجون كأنهم عيدان السماسم قال: فيدخلون نهراً من أنهار الجنة، فيغتسلون، فيخرجون كأنهم القراطيس البيض.
قال: فرجعنا فقلنا: ويحكم! أترون هذا الشيخ يكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرجعنا، ووالله ما خرج منا غير رجل واحد.
وفي آخر: قال جابر: الشفاعة بينة في كتاب الله: " ما سلككم في سقر قالوا: لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين ".
وحدث يزيد الفقير عن أبي سعيد: سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.(27/368)
يزيد بن عبد الله بن رزيق
أبو خالد القرشي حدث عن الوليد بن مسلم، بسنده إلى عائشة، أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقبلها وهو صائم.
وفي رواية: كان يقبل وهو صائم.
وحدث عنه بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ".
يزيد بن عبد الله بن قسيط
أبو عبد الله الليثي المدني حدث عن عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت قال: قرأت عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بالنجم، فلم يسجد.(27/369)
وحدث عن أبي هريرة قال - وأومأ بأصبعيه إلى أذنيه -: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم ".
وحدث عن ابن عمر قال: إن الصلاة لا يقطعها شيء، وادرؤوا عنها وحدث عن ابن المسيب، أن عمر وعثمان قضيا في الملطاة - وهي السمحاق - بنصف ما في الموضحة.
وقال في آخر: إن العمل على غيره.
وحدث يزيد بن قسيط: أنه كان عند عمر بن عبد العزيز حين أتي بأسارى من العدو، فأمرهم أن يقتلوا، فقال أسير منهم: اسقوني ماء، فقال عمر: يا ويحه! اسقوه ماء.
توفي أبو عبد الله سنة اثنتين وعشرين ومئة.
يزيد بن عبد الله بن مسعدة الفزاري
حدث ابن عياش عن أبيه قال: كنا عند عبد الملك بن مروان، فأتاه كعب بن حامد العنسي بفتيان، فيهم ابن لعبد الرحمن بن الحكم، ومعهم بربط وشراب، فقال عبد الملك: اضرب، فإن الأب كان فاسقاً، فضرب، ثم قال: أدنوا مني البربط، فضربه بخيزرانة، فإذا له صوت منكر، فنظر في وجوه القوم، فوقعت عينه على يزيد بن عبد الله بن مسعدة، فقال له:(27/370)
يا يزيد، كيف تصنع بهذا؟ قال: تؤخذ عيدان فتوصل بالغراء، ثم يجعل عليه الحديد حتى يرقق، ويجعل له عينان، ويجعل له عويد ترفع به أوتاره، ثم يضعه الرجل على فخذه اليسرى، ثم يأخذ بيده اليمنى مضراباً، ربما كان رصاصاً أو فضة أو خوصاً، ثم يحركه بأصابع يده اليسرى، ويضربه باليمنى. وكل مملوك لي حر، وكل امرأة له طالق إن لم تكن قد عرفت منه الذي قد عرفت، فلم سألتني من بين القوم؟؟ قال: فجعل عبد الملك يتبسم.
يزيد بن عبد الله بن موهب
أبو عبد الرحمن القاضي كان كاتب يزيد بن عبد الملك في زمن الوليد.
قال يزيد بن عبد الله: من خاف الدوائر لم يعدل، ومن أحب كثرة المال والشرف لم يعدل.
وقال ابن موهب: ثلاثةً إذا لم تكن في القاضي فليس بقاض: يسأل وإن كان عالماً، ولا يسمع شكيةً من أحد وليس معه خصمه، ويقضي إذا فهم.
وحدث يزيد بن موهب عن أبيه عن مالك بن عامر عن معاذ، في قضاء رمضان: أحص العدة، وصم كيف شئت.
كان يزيد بن عبد الله يحسر عن ذراعيه ثم يأخذ بجلدته فيمدها، ويأخذ بيده اليمنى جلدة ذراعه اليسرى، ثم يقول: والله لأحرصن ألا أدع للدود فيك مقيلاً.
كان يزيد بن عبد الله يأتي مسجد إبراهيم كل عشية جمعة على بغلته، فيرسلها تدور حوله، فإذا أراد الانصراف جاءته فركبها.
وكانت له إبل يكريها إلى مصر. فلما قدمت من مصر نزلت غزة، فأكراها الجمال في(27/371)
القصير، فمكث أياماً لم يقدم عليه فقال: بلغني قدومك منذ أيام، فما الذي بطأ بك عنا؟ قال: أكريت في القصير، قال: فخلطته مع كراء مصر، أو هو على حدته؟ قال: خلطته، فأخذه فرمى به في الدار فانتهبه الناس.
وكان يزيد قلد قضاء الشام كارهاً، وكان صليباً في الحكم، لا يأتي الولاة، ولا يرفع بهم رأساً، وكانت له ضيعة تسمى زيتا، وكانوا إذا خوفوه بالعزل قال: أليس في زيتا خبز وزيت؟ أرجع إليه.
قربت إلى يزيد بغلته ليركبها، فوجد منها ريحاً قال: ما هذا؟ قالوا: حقناها بشراب، فلم يركبها أربعين يوماً.
يزيد بن عبد الله أبو خالد السراج
حدث عن مكحول عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، علمني شيئاً أذكر الله به كل ساعة، قال: نعم، يا أبا هريرة، قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن الباقيات الصالحات. قال: يا رسول الله، هذا كله ليس لي منه شيء، قال: قل: اللهم، اغفر لي وارحمني، واجبرني، واهدني، وارزقني. خمسة لك وأربعة لله عز وجل.
وحدث عن مكحول عن الزهري، مرفوع: من قال: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب السموات السبع، ورب العرش العظيم. قالها ثلاث مرات. كان مثل من أدرك ليلة القدر.
يزيد بن عبد الله النجراني
ابن أبي يزيد النجراني، يكنى أبا عبد الله من دمشق. وهو من نجران التي بحوران.(27/372)
روى عن عبد الله بن عمر أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن المؤمن إذا مات تجملت المقابر لموته، فليس منها بقعة إلا وهي تتمنى أن يدفن فيها، وإن الكافر إذا مات أظلمت المقابر لموته، فليس منها بقعة إلا وهي تستجير بالله ألا يدفن فيها ".
قالوا: النجراني لم يدرك ابن عمر.
وحدث يزيد بن عبد الله عن الحسن بن ذكوان عن ابن أبي رباح عن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قال: لا إله إلا الله كتب له بها عند الله عهد، ومن قال: سبحان الله وبحمده، كتب له بها مئة ألف حسنة ".
وحدث عن القاسم بن عبد الرحمن عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " والذي نفسي بيده ما تنصرون، ولا ترزقون إلا بالضعفاء ".
وبه قال: قال رجل: يا رسول الله، أرأيت رجلاً كان في جيش، كان إذا لقوا العدو كان أولهم، وإذا أدبروا كان آخرهم، يحميهم، فإذا نزلوا كان خادمهم، أهو أفضل سهماً في النفل؟ أم رجل يجهد أن يحمل سلاحه من الضعف؟ قال: " والذي نفسي بيده لتنصرنه، أو لا ينصرون إلا به ".
النجراني: بالنون والجيم.
يزيد بن عبد الحميد بن عاصم
أبو خالد النصري حدث عن عبيد بن محمد بن بحر العبدي عن أبي عوانة عن سليمان بن علي قال: دخل علي الحسن فقلت: يا أبا سعيد، حدثني أبي عن جدي أنه قال: يا رسول الله، اجعلني عريفاً، قال: قال له: " إن شئت، ولكن العريف في النار ".(27/373)
يزيد بن عبد الرحمن الهمداني
ابن أبي مالك هانئ الهمداني الفقيه قاضي دمشق.
حدث عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا بعث جيشاً أو سرية أوصى صاحبهم بتقوى الله، في خاصة نفسه وبمن معه من المؤمنين. ثم قال: " اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، فإذا أنت لقيت عدوك من المشركين إن شاء الله فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال، أيهم أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن قبلوا فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن هم دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم على دار المهاجرين فأخبرهم أنهم كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين، وليس لهم في الفيء والغنيمة حتى يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ".
وحدث عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل، خطوتها عند منتهى طرفها، فركبت ومعي جبريل، فسارت بي، ثم قال: انزل فصل، فنزلت فصليت فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة، وإليها المهاجر إن شاء الله. ثم قال: انزل فصل، فنزلت فصليت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى، ثم دخلت بيت المقدس، فجمع لي الأنبياء، فقدمني جبريل فصليت بهم، ثم صعد بي إلى سماء الدنيا، فإذا فيها آدم، فقال لي: سلم عليه، فقال: مرحباً بابني والنبي الصالح، ثم دخلت السماء الثانية فإذا فيها ابنا الخالة يحيى وعيسى، ثم دخلت السماء الثالثة فوجدت فيها يوسف، ثم دخلت السماء الرابعة فوجدت فيها هارون، ثم دخلت السماء الخامسة، فوجدت فيها إدريس، قال الله عز وجل: " ورفعناه مكاناً علياً " ثم صعدت السماء السادسة(27/374)
فوجدت فيها موسى، ثم صعدت السماء السابعة فوجدت فيها إبراهيم، ثم صعدت فوق سبع سموات، فغشيتني ضبابة، فخررت ساجداً، فقيل لي: إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت على أمتك خمسين صلاة، فقم بها أنت وأمتك، فمررت على إبراهيم، فلم يسألني شيئاً، ثم مررت على موسى فقال: كم فرض عليك وعلى أمتك؟ قلت: خمسين صلاة. قال: إنك لن تستطيع أن تقوم بها أنت ولا أمتك، فسل ربك التخفيف، فرجعت فأتيت سدرة المنتهى فخررت ساجداً، فقلت: يا رب، فرضت علي وعلى أمتي خمسين صلاة، فلن أستطيع أن أقوم بها أنا ولا أمتي، فخفف عني عشراً، فمررت على موسى فسألني، فقلت: خفف عني عشراً، قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف، فخفف عني عشراً، ثم قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف، فأتيت سدرة المنتهى، فخررت ساجداً، فقال: إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فخمس خمسين، فقم بها أنت وأمتك، فعلمت أنها من الله. فمررت على موسى، فقال لي: كم فرض عليك؟ فقلت: خمس صلوات، فقال: فرض على بني إسرائيل صلاتين فما قاموا بهما. فعلمت أنها من الله ".
وحدث عن خالد بن معدان عن أبي أمامة أن رجلاً قال: يا رسول الله، هل يتناكح أهل الجنة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعم، دحاماً دحاماً، ولكن لا مني ولا منية ".
توفي يزيد سنة ثلاثين ومئة بدمشق، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
قال يزيد بن أبي مالك: رأيت واثلة بن الأسقع صاحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسلم على الجنازة تسليمةً.
قال سعيد بن عبد العزيز: لم يكن عندنا أحد أعلم بالقضاء من يزيد بن أبي مالك، لا مكحول، ولا غيره.(27/375)
وعن يزيد بن أبي مالك الدمشقي: ليس من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وهو ينظر إلى الله يوم القيامة عياناً إلا الحكم بجور، فإنه لا يحل له أن ينظر إلى الله، وهو أعمى.
وقيل: إنه كان باقياً إلى سنة ثمان وثلاثين ومئة. وفيها مات وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
يزيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي
أخو سعيد بن عبد العزيز.
قال سعيد بن عبد العزيز: لما هلك أخي يزيد قال لي إسماعيل بن عبيد الله: عاد أبو مسلم الخولاني أبا الدرداء في مرضه الذي قبض فيه. فلما رآه أبو مسلم كبر، فقال أبو الدرداء: هكذا تقول إن الله إذا قضى قضاءً أحب أن يرضى به.
يزيد بن عبد المدان
واسم عبد المدان عمرو بن الديان - والديان هو الحاكم - واسمه يزيد بن قطن، أبو النصر الحارثي وفد على رسو الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وفد بني الحارث من أهل نجران، وأسلم. وكان وفد على الحارث بن أبي شمر الغساني بنواحي دمشق.
وسمي الديان لأنه قال: اليوم دين، وغداً دين، ودين الله خير دين، وكان شريفاً شاعراً.
كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث خالد بن الوليد في أربع مئة من المسلمين في ربيع الأول(27/376)
سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، ثلاثاً، ففعل، فاستجاب له من هناك من بلحارث بن كعب، ودخلوا فيما دعاهم إليه، ونزل بين أظهرهم يعلمهم الإسلام، وشرائعه وكتاب الله وسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكتب بذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعث به مع بلال بن الحارث المزني، فجعل بلال بن الحارث المزني يخبره عما وطئوا وإسراع بني الحارث إلى الإسلام، فكتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خالد: أن بشرهم، وأنذرهم، وأقبل ومعك وفدهم، فقدم خالد ومعه وفدهم، وفيهم يزيد بن عبد المدان، وقيس بن الحصين، فقال: من هؤلاء الذين كأنهم رجال الهند؟ فقيل: بنو الحارث بن كعب، فسلموا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأجازهم بعشر أواق، وأجاز قيس بن الحصين باثنتي عشرة أوقية ونشاً، وأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بني الحارث بن كعب، ثم انصرفوا إلى قومهم في بقية شوال، فلم يمكثوا بعد رجوعهم إلى قومهم إلا أربعة أشهر، حتى توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه رحمته وبركاته.
وفي حديث آخر، أنها لما قدموا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسلموا، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنتم الذين إذا زجروا استقدموا، فسكتوا، فلم يراجعه منهم أحد، ثم قال: أنتم الذين إذا زجروا استقدموا، فسكتوا، فلم يراجعه منهم أحد، ثم قال: أنتم الذين إذا زجروا استقدموا، فسكتوا فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الرابعة: أنتم الذين إذا زجروا استقدموا، أربع مرات، فقال يزيد بن عبد المدان: نعم يا رسول الله، نحن الذين إذا زجروا استقدموا، نعم يا رسول الله نحن الذين إذا زجروا استقدموا، نعم يا رسول الله، نحن الذين إذا زجروا استقدموا، نعم يا رسول الله، نحن الذين إذا زجروا استقدموا. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لولا أن خالداً لم يكتب إلي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رؤوسكم تحت أقدامكم. فقال يزيد بن عبد المدان: إنا والله يا رسول الله ما حمدناك، وما حمدنا خالد بن الوليد، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فمن حمدتم؟ قالوا: حمدنا الله الذي(27/377)
هدانا بك، فقال: صدقتم، ثم قال: كيف كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ فقالوا: لم نغلب أحداً، قال: بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم، فقالوا: كنا نغلب يا رسول الله من قاتلنا أننا كنا ننزع عن يد، وكنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحداً بظلم، فقال: صدقتم، ثم أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بني الحارث بن كعب، قيس بن الحصين. الحديث.
وقيل: إن يزيد بن عبد المدان مات قبل وفاة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يزيد بن عبد الملك بن مروان
ابن الحكم بن أبي العاص، أبو خالد الأموي بويع بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز بعهد من أخيه سليمان بن عبد الملك سنة إحدى ومئة. أمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية.
حدث الزهري قال: كان لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا على عهد أبي بكر وعمر وعثمان. فلما ولي معاوية بن أبي سفيان ورث المسلم من الكافر، ولم يورث الكافر من المسلم، فأخذ بذلك الخلفاء حتى قام عمر بن عبد العزيز فراجع السنة الأولى، ثم أخذ بذلك يزيد بن عبد الملك. فلما قام هشام بن عبد الملك أخذ بسنة الخلفاء.
كان عبد الملك قد أخذ على سليمان حين بايع له بولاية العهد ليبايعن لأحد ابني عاتكة. فأما يزيد فبايع له سليمان بن عبد الملك بعد عمر بن عبد العزيز فولى الخلافة بعد عمر.
وفي ولاية عمر يقول الأحوص:(27/378)
لولا يزيد وتأميلي خلافته ... لقلت ذا من زمان الناس إدبار
وقال الأحوص أيضاً حين ولي يزيد بن عبد الملك:
آلان استقر الملك في مستقره ... وعاد بعرف حاله المتنكر
وعاد رؤوس المسلمين رؤوسهم ... ورد لهم ما أصبح الناس غيروا
ولد يزيد بدمشق سنة ست وستين، وقيل: سنة إحدى أو اثنتين وسبعين، وكان جسيماً، أبيض، مدور الوجه، أفقم، لم يشب.
قال ابن جابر: بينا نحن عند مكحول إذ أقبل يزيد بن عبد الملك، فهممنا أن نوسع له، فقال مكحول: دعوه يجلس حيث انتهى به المجلس يتعلم التواضع.
قال محمد بن موسى بن عبد الله بن بشار: إني لجالس في مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد حج في ذلك العام يزيد بن عبد الملك، قبل أن يكون خليفة، فجلس مع المقبري ومع ابن أبي العتاب إذ جاء أبو عبد الله القراظ فوقف عليه، فقال: أنت يزيد بن عبد الملك؟ فالتفت يزيد إلى الشيخين فقال: أمدنون هذا؟ أمصاب؟ فذكروا له فضله وصلاحه. قالوا هذا أبو عبد الله القراظ صاحب أبي هريرة حتى رق له ولان، قال: نعم، أنا يزيد بن عبد الملك، فقال له أبو عبد الله: ما أجملك! إنك لتشبه أباك، إن وليت من أمر الناس شيئاً فاستوص بأهل المدينة خيراً، فأشهد على أبي هريرة حدثني عن حبي وحبه صاحب هذا البيت -(27/379)
وأشار إلى بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى ناحية من المدينة، يقال لها بيوت السقيا، وخرجت معه، فاستقبل القبلة، ورفع يديه حتى إني لأرى بياض ما تحت منكبيه، فقال: " إن إبراهيم نبيك وخليلك دعاك لأهل مكة، وأنا نبيك ورسولك أدعوك لأهل المدينة، اللهم، بارك لهم في مدهم وصاعهم، وقليلهم وكثيرهم ضعفي ما باركت لأهل مكة، اللهم، ارزقهم من ها هنا وها هنا - وأشار إلى نواحي الأرض كلها - اللهم من أرادهم بسوء فأذبه كما يذوب الملح في الماء "، ثم التفت إلى الشيخين، فقال: ما تقولان؟ فقالا: حديث معروف مروي، وقد سمعنا أيضاً أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أخافهم فقد أخاف ما بين هذين "، وأشار كل واحد منهم إلى قلبه.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما توفي عمر بن عبد العزيز، وولي يزيد بن عبد الملك، قال: سيروا بسيرة عمر، قال: فأتى بأربعين شيخاً فشهدوا له: ما على الخلفاء حساب ولا عذاب.
قال ابن عياش المنتوف: كان يزيد بن عبد الملك مطعوناً عليه في دينه، فسمع المؤذن يؤذن فقال: إن كنت كاذباً فلا مت إلا مسلماً، وإن كنت صادقاً فلا مت إلا موحداً، وتلك إنما شهادتك على شهادة معلمك وسماعك. ثم قال لجارية له: غنني بشعري، هو ديني واعتقادي، قال: فغنت:
تذكرني الحساب ولست أدري ... أحقاً ما تقول من الحساب
فقل لله يمنعني طعامي ... وقل لله يمنعني شرابي
فلما غنت قال: أحسنت، هذا ديني.
قال: في إسنادها غير واحد من المجهولين.(27/380)
كتب عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن عبد الملك: احذر أن تدركك الصرعة عند الغرة، فلا تقال العثرة، ولا تمكن من الرجعة، ولا يحمدك من خلفت بما تركت، ولا يعذرك من تقدم عليه بما اشتغلت. والسلام.
وكتب عمر إلى يزيد حين حضره الموت: سلام عليك، أما بعد. فإني لا أراني إلا لما بي، ولا أرى الأمر إلا سيفضي إليك، فالله الله في أمة محمد، فتدع الدنيا لمن لا يحمدك، وتفضي إلى من لا يعذرك. والسلام.
كتب يزيد بن عبد الملك إلى هشام أخيه: أما بعد. فإنه بلغ أمير المؤمنين أنك استبطأت حياته، وتمنيت وفاته، ونحلت قولاً للخلافة، وليس ذلك الذي عهد إلينا عبد الملك، وأمرنا به، أمرنا بالتواصل والتزاور والاجتماع. إن الفرقة شين.
فكتب الجواب: أما بعد. فإن هذا الزمان الغدر والعيش الكدر نشأت فيه ناشئة، ابتغوا الرزق من كل ناحية، ووضعوا له الأبواب، وارتقوا إليه بالأسباب، والله ما حدثت نفسي بهذا في سر ولا علانية، بل جعل الله يومي قبل يومك، فلا خير في العيش بعدك.
اشتكى يزيد بن عبد الملك شكاة، وبلغه أن هشاماً سر بذلك فكتب إليه يعاتبه:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
وقد علموا لو ينفع العلم عندهم ... متى مت ما الباغي علي بمخلد
منيته تجري لوقت وحتفه ... يصادفه يوماً على غير موعد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد(27/381)
كان بالمدينة جارية، يقال لها سلامة، فكتب فيها يزيد بن عبد الملك تشترى له، فاشتريت بعشرين ألف دينار، فقال أهلها: ليس نخرجها حتى نصلح من شأنها، فقال الرسل: لا حاجة لكم بذلك، معنا ما يصلحها. فخرج بها حتى أتي بها سقاية سليمان، فأنزلها رسله، فقالت: لا أخرج حتى يأتيني قوم، كانوا يدخلون علي، فأسلم عليهم، فامتلأ رحبة ذلك الموضع، ثم خرجت، فوقفت بين الناس، وهي تقول:
فارقوني وقد علمت يقيناً ... ما لمن ذاق ميتةً من إياب
إن أهل الحصاب قد تركوني ... موزعاً مولعاً بأهل الحصاب
سكنوا الجزع جزع بيت أبي مو ... سى إلى النخل من صفي السباب(27/382)
أهل بيت تتابعوا للمنايا ... ما على الدهر بعدهم من عتاب
فما زالت على ذلك تبكي، ويبكونحتى رحلت، ثم أرسلت إليهم بثلاثة آلاف درهم، ثلاثة آلاف درهم.
لما مات عمر بن عبد العزيز قال يزيد: والله ما عمر بأحوج إلى الله مني، فأقام أربعين ليلة يسير بسيرة عمر، فقالت حبابة لخصي له كان صاحب أمره: ويحك! قربني منه حيث يسمع كلامي، ولك علي عشرة آلاف درهم. فلما مر يزيد بها قالت:
بكيت الصبا جهداً فمن شاء لامني ... ومن شاء آسى في البكاء وأسعدا
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا ... فقد منع المحزون أن يتجلدا
وهذا شعر الأحوص. فلما سمعها قال: ويحك! قل لصاحب الشرط يصلي بالناس.
وقال يوماً: والله إني لأشتهي أن أخلو بها، فلا أرى غيرها، فأمر ببستان له، وأمر حاجبه أن لا يعلمه بأحد، فبينما هو معها، أسر الناس بها، إذ حذفها بحبة رمان أو بعنبة وهي تضحك، فوقعت في فيها فشرقت فماتت، فأقامت عنده في البيت حتى جيفت ثم دفنت، فأقام أياماً ثم خرج، فوقف على قبرها فقال:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا ... فباليأس أسلو عنك لا بالتجلد(27/383)
وكل خليل راءني فهو قائل ... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد
ثم رجع، فما خرج من منزله إلا على نعشه.
توفي يزيد بن عبد الملك سنة خمس ومئة - وكانت ولايته أربع سنين أو حولها - بالسل، وقيل: مات بإربد من أرض البلقاء، وقيل: بناحية الجولان، فحمل على رقاب الرجال حتى دفن بين باب الجابية وباب الصغير، وقيل: دفن في الموضع الذي توفي فيه، ومات وهو ابن أربعين سنة، وقيل: دون ذلك.
يزيد بن عبيدة بن أبي المهاجر السكوني
من دمشق.
حدث عن أبي عبيد الله عن عوف بن مالك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الرؤيا ثلاثة: منها من الشيطان ليحزن ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ".
قال: فقلت له: أسمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: أنا سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كان يزيد بن عبيدة يدعو: اللهم، أحدث لنا خيراً، وأدمنا عليه، وقدم لنا خيراً، وأوردنا عليه.
وكان يزيد بن عبيدة يقول: من أراد أن يعرف كيف وصف الجبار نفسه فليقرأ ست آيات من أول الحديد. إلى قوله: " والله عليم بذات الصدور ".
وعبيدة: بفتح العين وكسر الباء.(27/384)
يزيد بن عطاء ويقال ابن أبي عطاء
أبو عطاء السكسكي حدث عن معاذ بن سعد السكسكي بسنده إلى عبادة بن الصامت أن رجلاً أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ما مدة أمتك من الرخاء أو الرجاء؟ فلم يرد عليه شيئاً، حتى سأله ثلاث مرات، كل ذلك لا يجيبه، فانصرف الرجل، ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أين السائل؟ فرد عليه، فقال: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي، مدة أمتي من الرخاء أو الرجاء مئة سنة. قالها مرتين، قال الرجل: يا رسول الله، فهل لذلك من أمارة أو علامة أو آية؟ قال: نعم، الخسف، والرجف، وإرسال الشياطين الملجمة على الناس.
وفي آخر بمثله: الخسف، والقذف، والمسخ، وإرسال الشياطين الملجمة على الناس.
يزيد بن أبي عطاء غير منسوب
قال: أظنه غير الذي ذكرناه قبله.
حدث يزيد بن أبي عطاء أنه سمع عمر بن عبد العزيز وهو يخطب الناس على المنبر في خلافته يقول: يا أيها الناس، من ألم بذنب فليستغفر الله وليتب إليه، فإنما الهلاك في الإضراب عن الاستغفار، فإني قد علمت أن الله قد وصف في رقاب أقوام خطايا قبل أن يخلقهم، لا بد لهم أن يعملوا بها، فمن ألم بذنب فليستغفر الله، وليتب إليه.(27/385)
يزيد بن عمر بن عبد العزيز
ابن مروان بن الحكم الأموي حدث عن أبيه عن أبي سلمة عن أبي هريرة وابن عباس قالا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من خرج حاجاً، أو معتمراً فله بكل خطوة حتى يؤوب إلى رحله ألف ألف حسنة، ويمحى عنه ألف ألف سيئة، ويرفع له ألف ألف درجة:.
قيل: إن هذا ليس بولد عمر بن عبد العزيز الخليفة، فقد روى عن أبي عائشة يزيد بن عمر بن عبد العزيز المقراني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وابن عباس قالا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من عرضت له الدنيا والآخرة فأخذ الآخرة، وترك الدنيا فله الجنة، وإن أخذ الدنيا وترك الآخرة فله النار ".
يزيد بن عمر بن مورق
ويقال: ابن مورد، بالدال وفد على عمر بن عبد العزيز.
قال يزيد بن عمر: كنت بالشام وعمر بن عبد العزيز يعطي الناس، فتقدمت إليه، فقال لي: ممن أنت؟ فقلت: من قريش. قال: من أي قريش؟ قلت: من بني هاشم. قال: من أي بني هاشم؟ قلت: مولى علي. قال: من علي؟ فسكت، قال: فوضع يده على صدره، وقال: أنا والله مولى علي بن أبي طالب، ثم قال: حدثني عدة أنهم سمعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من كنت مولاه فعلي مولاه ".(27/386)
ثم قال: يا مزاحم، كم تعطي أمثاله؟ قال: مئة أو مئتي درهم، قال: أعطه ستين ديناراً لولائه لعلي بن أبي طالب، ثم قال: إلحق ببلدك، فسيأتيك مثلما يأتي نظراءك.
يزيد بن عمر بن هبيرة بن معية
ابن سكين بن خديج بن بغيض بن مالك ويقال: حممة بدل مالك - بن عد بن عدي بن فزارة، أبو خالد الفزاري أصله من الشام.
قال ابن هبيرة: لا ينبغي للقاضي إلا أن يكون عالماً، فهماً، صارماً.
ولي ابن هبيرة العراق كلها زمن بني أمية.
وولد سنة سبع وثمانين، واستعمل على العراق سنة ثمان وعشرين ومئة وجمع له المصران. وكان يزيد بن عمر بن هبيرة سخياً خلاف أبيه، فإن أباه كان بخيلاً، فحضر مهرجاناً فجلس يزيد في قصر الحجاج، وأمر بطعام يتخذ له، يطعمه أصحابه، وجلس على سرير في وسط الدار، وأذن لأصحابه، فدخل فيمن دخل خلف بن خليفة الأقطع، فجلس حيال وجهه يذكر بنفسه، وجاء الدهاقين بوظائف المهرجان من المال وآنية الذهب والفضة واللباس، فملؤوا بها الدار، فأقبل ابن هبيرة يقول لأصحابه:(27/387)
يا فلان خذ، يا فلان خذ، ويومى لهم إلى الأشياء ويعطيهم المال، ويفعل ذلك بمن إلى جنب خلف بن خليفة، ويتعدى خلفاً، فأقبل خلف يرفع رأسه إليه، يريه نفسه. فلما كثر ذلك، ونر إلى ما في الدار ينفد قام فقال:
ظللنا نسبح في المهرجان ... في الدار من حسن جاماتها
فسبحت ألفاً فلما انقضت ... عجبت لنفسي وإخباتها
وأشرعت رأسي فوق الرؤوس ... لأرفعه فوق هاماتها
لأكسب صاحبتي صحفةً ... تغيظ بها بعض جاراتها
وأبدلها بصحاف الأمير ... قوارير كانت لجداتها
قال: فضحك ابن هبيرة وقال: خذ ذلك الجام، فأعطاه جام ذهب، كثير الورق، فأخذه في يده وقام وقال:
أصبحت صحفة بيتي من ذهب ... وصحاف الناس حولي من خشب
شفني الجام فلما نلته ... زين الشيطان لي ما في الجرب
إن ما أنفقت باق كله ... يذهب الباقي ويبقى ما ذهب
فضحك ابن هبيرة وقال: خذ، وخذ، وأعطاه حتى أرضاه.
كان يزيد بن عمر شديد الأكل، كان إذا أصبح أتوه بعس لبن حلب على عسل، وأحياناً على سكر فيشربه، فإذا صلى الغداة جلس في مصلاه حتى تحل الصلاة فيصلي، ثم يدخل، فيدعو بالغداء، فيأكل دجاجتين، وناهضين ونصف جدي وألواناً من اللحم، ثم يخرج، فينظر في حوائج الناس إلى نصف النهار، ثم يدخل فيدعو بالحكم وبشر ابني عبد الملك بن بشر بن مروان، وخالد بن سلمة المخزومي، وعتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسعيد بن عبد الرحمن بن عنبسة في أشباههم فيتغذى، فيضع منديلاً على صدره، فيكثر الأكل، ويعظم اللقم، فإذا فرغ تفرقوا، ودخل إلى(27/388)
نسائه، حتى يخرج إلى الظهر، فينظر في أمور الناس، فإذا صلى العصر وضعت الكراسي للناس، ووضع له سرير، فإذا أخذ الناس مجالسهم أتوهم بعساس اللبن والعسل وألوان الأشربة. ثم يؤتى بالطعام، فيأكل إلى المغرب.
وكان يزيد جسيماً، طويلاً، سميناً، أكولاً، شجاعاً خطيباً، وكان فيه حسد.
وقال في آخر: فإذا أخذ الناس مجالسهم أتوهم بعساس اللبن والعسل، وألوان الأشربة، ثم توضع السفر والطعام للعامة، ويوضع له ولأصحابه خوان مرتفع، فيأكل معه الوجوه إلى المغرب، ثم يتفرقون للصلاة، ثم يأتيه سماره فيحضرون مجلساً يجلسون فيه، حتى يدعوهم، فيسامرونه حتى يذهب عامة الليل. وكان يسأل كل ليلة عشر حوائج، فإذا أصبحوا قضيت، وكان رزقه ست مئة ألف، فكان يقسمه كل شهر في أصحابه، من قومه ومن الفقهاء، ومن الوجوه، وأهل البيوت، فقال ابن شبرمة وكان من سماره:
إذا نحن أعتمنا ومال بنا الكرى ... أتانا بإحدى الراحتين عياض
وعياض بوابه، كان تحت يد أبي عثمان الحاجب، وإحدى الراحتين الدخول أو الإذن بالانصراف، ولم يكن لهم مناديل. كان ابن هبيرة إذا دعا بالمنديل قام الناس.
بصرت جارية لابن هبيرة بابن هبيرة وهو أمير العراق، وعليه قميص مرقوع، فضحكت، فأنشأ ابن هبيرة يقول أبيات ابن هرمة:
هزئت أمامة أن رأتني مخلقاً ... ثكلتك أمك أي ذاك يروع
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع
ولرب لذة ليلة قد نلتها ... وحرامها بحلالها مدفوع(27/389)
قال بيهس بن حبيب: لما جاءنا أبو جعفر نهضوا إلينا بجماعتهم، فجعلنا نقاتلهم، فكنا في القتال شعبان ورمضان وشوال، فجاءنا الحسن بن قحطبة في آخر شوال فقال: إلى متى تمدون أعينكم؟ ما بقي أحد إلا وقد دخل في طاعة أمير المؤمنين، لكم عهد الله وميثاقه إنكم آمنون على كل شيء، فقبلنا ذلك، وأتانا خازم بن خزيمة في الغد، فقال مثل ذلك، وجاءنا الحارث بن نوفل الهاشمي، وجاءنا إسحاق بن مسلم العقيلي، فقال: اليوم يعطونكم ما تريدون، فاكتتبنا بيننا وبينهم صلحاً في أول ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومئة، على ما شئنا، على أن ابن هبيرة على رأس أمره، مع خمس مئة من أصحابه، ينزل خمسين يوماً مدينة الشرقية، لا يبايع، فإذا تمت فإن شاء لحق بمأمنه، وإن شاء دخل فيما دخل فيه الناس، وما كان في أيدينا فهو لنا، ففتحنا الأبواب، فدخلوا المدينة، وجولوا فيها، ثم خرجوا، ففعلوا مثل ذلك في الغد، وفي ثالث يوم دخل علج من علوجهم، في خيل فتتبع كل دابة، عليها سمة " له " فأخذها، وقال: هذه للإمارة.
فبلغ ابن هبيرة، فقال: غدر القوم ورب الكعبة، وقال لأبي عثمان: انطلق إلى أبي جعفر، فأقرئه السلام، وقل له: إن رأيت أن تأذن لنا في إتيانك، فأذن له، فركب إليه وركبنا معه نحو مئتين، حتى انتهينا إلى الرواق، فنزل ابن هبيرة وأبو عثمان وسعد فجئنا نمشي معه حتى إذا بلغنا باب الحجرة دفع الباب فإذا أبو جعفر قاعد، فقال له ابن هبيرة: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، ثم أرخى الباب،(27/390)
فسمعنا أبا جعفر يقول: يا يزيد، إنا بنو هاشم نتجاوز عن المسيء ونأخذ بالفضل، لست عندنا كغيرك، إن لك وفاء، وأمير المؤمنين يرغب في الصنيعة إلى مثلك، فأبشر بما يسرك، فقال له ابن هبيرة: إن إمارتكم محدثة فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنبوهم مرارتها، تجلبوا قلوبهم، وما زلت منتظراً لهذه الدعوة ثم قام، فقال أبو جعفر: عجباً لرجل يأمرني بقتل هذا.
قال بيهس: فلما كان يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومئة، بعث أبو جعفر خازم بن خزيمة، فقتل ابن هبيرة، وكان الذي تولى قتله عبد الله بن البختري الخزاعي، وقتل رباح بن أبي عمارة مولى لبني أمية، وعبيد الله بن الحبحاب الكاتب، وقتلوا داود بن يزيد بن عمر بن هبيرة، وأخرج أبا عثمان كاتب ابن هبيرة خازم بن خزيمة فقتله، وأخذ بشر بن عبد الملك بن بشر بن مروان، وأبان بن عبد الملك بن بشر بن مروان، وابنين لأبان بن عبد الملك بن بشر، والحوثرة بن سهيل ومحمد بن نباتة، وقعد الحسن بن قحطبة في مسجد حسان النبطي على الدجلة مما يلي المدائن، فحملوا إليه فضرب أعناقهم، وأتى بحارث بن قطن الهلالي فأمر به إلى السجن، وطلب خالد بن سلمة المخزومي، فلم يقدر عليه فنادى مناديهم أن خالد بن سلمة آمن، فخرج بعدما قتل القوم، فقتلوه أيضاً.
وقيل إن كتاب الأمان الذي كتب مكث يتشاور فيه العلماء أربعين يوماً، حتى رضيه ابن هبيرة، ثم أنفذه إلى أبي جعفر، فأنفذه أبو جعفر إلى أبي العباس فأمره بإمضائه، وكان رأي أبي جعفر الوفاء له بما أعطاه، وكان أبو العباس لا يقطع أمراً دون أبي مسلم، وكان أبو الجهم عيناً لأبي مسلم على أبي العباس، يكتب إليه بأخباره كلها،(27/391)
فكتب أبو مسلم إلى أبي العباس: إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد، ولا والله لا صلح طريق فيه ابن هبيرة.
وألح أبو العباس على أبي جعفر يأمره بقتل ابن هبيرة، وهو يراجعه حتى كتب إليه: والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك، ثم يتولى قتله، فأزمع على قتله، وطلب من معه فجمعهم وانطلق خازم، والهيثم بن شعبة والأغلب بن سالم في نحو مئة، فأرسلوا إلى ابن هبيرة إنا نريد حمل المال، فقال ابن هبيرة لحاجبه: يا أبا عثمان دلهم عليه، فأقاموا عند كل بيت نفراً، ثم جعلوا ينظرون في نواحي الدار ومع ابن هبيرة، ابنه داود، وكاتبه عمرو بن أيوب، وحاجبه، وعدة من مواليه، وبني له صغير في حجره، فجعل ينر نرهم فقال: أقسم بالله إن في وجوه القوم لشراً، فأقبلوا نحوه، فقام حاجبه في وجوههم فقال: وراءكم، فضربه الهيثم بن شعبة على حبل عاتقه فصرعه، وقاتل ابنه داود، فقتل، وقتل مواليه، ونحى الصبي من حجره، وقال: دونكم هذا الصبي، وخر ساجداً، فقتل وهو ساجد، ومضوا برؤوسهم إلى أبي جعفر. وقال أبو عطاء السندي:
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود
عشية قام النائحات وصفقت ... خدود بأيدي مأتم وخدود
فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود
وإنك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد(27/392)
يزيد بن عميرة الزبيدي ويقال الكلبي
ويقال: الكندي حدث يزيد، أن معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة قالوا: يا أبا عبد الرحمن، أوصنا قال: أجلسوني ثم قال: إن العلم والإيمان مكانهما، من التمسهما وجدهما، فالتمسوا العلم عند أربعة رهط: عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام الذي كان يهودياً فأسلم، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنه عاشر عشرة في الجنة ".
كان يزيد بن عميرة لا يجلس مجلساً للذكر إلا قال حين يجلس: الله حكم قسط، تبارك اسمه، هلك المرتابون.
وقال معاذ يوماً: إن وراءكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والحر والعبد، فيوشك قائل يقول: ما للناس لا يتبعوني، وقد قرأت القرآن؟! ما هم بمتبعي حتى ابتدع لهم غيره. فإياكم وما يبتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق.
قال: قلت لمعاذ: ما يدريني رحمك الله أن الحكيم يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق يقول كلمة الحق؟ فقال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال: ما هذه(27/393)
ولا يثنك ذلك عنه، فإنه لعله يرجع ويلقى الحق إذا سمعه، فإن على الحق نوراً.
فلبثت ما شاء الله، ثم قدمت الكوفة، فطفق قراء من أهل الكوفة يقولون: يا أخا أهل الشام، أتشهد أنك مؤمن؟ فأقول: نعم، فيقولون: أتشهد أنك في الجنة؟ فأقول: لا، فبلغ الأمر عبد الله بن مسعود، فمررت به في المسجد، فقالوا: هذا الشامي الذي ذكرنا، فأرسل إلي ابن مسعود، فقال: أتشهد أنك مؤمن؟ فقلت نعم، فقال: أتشهد أنك من أهل الجنة؟ فقلت: إني أخاف الذنوب، قال: فتبسم عبد الله بن مسعود ثم قال: لو شهدت أني مؤمن ما باليت أن أشهد أني في الجنة. قال: قلت: يغفر الله لك، هذا ما كان معاذ يحذرنا من أمثالك، قال: وما حذركم معاذ؟ قال: حذرنا زيغة الحكيم وقال: إن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على فم الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق ثم قال له: ارمم نفسك، فوالله ما أنت إلا أحد الثلاثة: مؤمن أو كافر أو منافق، ثم قال: يرحم الله معاذ بن جبل، ثم ما زال بعد ليناً مقارباً في المجلس.
وفي آخر مثله قال ابن مسعود: إن معاذ بن جبل " كان أمةً قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين ".
يزيد بن عميرة تابعي ثقة، من كبار التابعين.
يزيد بن فروة مولى بني مروان
لما غلب يزيد بن الوليد على دمشق، وقتل ابن عمه الوليد، أتى يزيد(27/394)
برأسه فقال ليزيد بن فروة: أنصبه للناس؟ قال: قلت: لا تفعل، إنما ينصب رأس الخارجي، فحلف لينصبن، ولا ينصبه أحد غيري، فوضع على رمح، ونصبه على درج مسجد دمشق ثم قال: اذهب، فطف به في مدينة دمشق.
يزيد بن فضالة
أظنه ابن سالم بن جميل، أبو خالد اللخمي قال يزيد بن فضالة: أضاف رجلان بابن ثوبان، فسألا عنه، وهو في جنينة له، فأتوه. فلما راح للمغرب قال لهما: أي مشي تحبان أن أمشي؟ فمشى معهما بمشيهما. فلما صلى المغرب قال لهما: أيما أحب إليكما: تنصرفان، فتعشيان، أم تثبتان إلى العتمة؟ قالا: نثبت. فلما صلى العتمة صار معهما إلى المنزل، فجاءهم يثردة عليها دجاجة، قال: كلوا، فإنا لم نتكلف لكما، إن الله لعن المتكلفين، إنما المتكلف أن يطعمه بدين أو خيانة.
يزيد بن قبيس بن سليمان أبو سهل
ويقال: أبو خالد - السليحي الجبلي من أهل جبلة.
حدث عن الوليد بسنده إلى أبي سلمة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أصدق كلمة قالها شاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل.........(27/395)
وفي حديث آخر: أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد.
قبيس: بالباء المعجمة بواحدة وضم القاف.
يزيد بن القعقاع أبو جعفر المخزومي
المدني القارئ، مولى عبد الله بن عياش حدث يزيد بن القعقاع، أن أبا هريرة كان يصلي، فيكبر كلما خفض ورفع، وكان يرفع يديه حين يكبر يفتتح الصلاة.
وحدث أيضاً قال: رأيت عبد الله بن عمر إذا أهوى يسجد يمسح الحصى - لوضع جبهته - مسحاً خفيفاً.
قال أبو جعفر: كنت أصلي وعبد الله بن عمر ورائي، وأنا لا أشعر، فالتفت، فوضع يده في قفاي فغمزني.
كان يزيد إمام أهل المدينة في القراءة، فسمي القارئ بذلك، وكان ثقة قليل الحديث، توفي سنة ثلاثين ومئة، وقيل: سنة سبع وعشرين ومئة.
حدث أبو جعفر: أنه أتي به أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو صغير، فمسحت على رأسه ودعت فيه بالبركة.(27/396)
قال أبو معشر: كنا في جنازة مع أبي جعفر القارئ. فلما جلسنا عند القبر بكى أبو جعفر ثم قال: حدثني زيد بن أسلم: أن أهل النار لا يتنفسون. فذلك الذي أبكاني.
لما غسل أبو جعفر بعد وفاته نظروا إلى ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف، فما شك من حضر أنه نور القرآن.
وقيل: إنه لما حضروا حوله قال ختنه: ألا أريكم منه عجباً؟ قالوا: بلى، فكشف عن صدره، فإذا دوارة بيضاء مثل اللبن، فقالوا: هذا نور القرآن. فلما مات قالت أم ولده: إن ذلك البياض صار غرة بيضاء بين عينيه.
قال سليمان بن سليمان العمري: رأيت أبا جعفر القارئ على الكعبة، فقلت: إنه. أبا جعفر؟ قال: نعم، أقرئ إخواني مني السلام، وأخبرهم أن الله جعلني مع الشهداء الأحياء المرزوقين، وأقرئ أبا حازم السلام، وقل له: يقول لك أبو جعفر: الكيس الكيس، فإن الله وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات.(27/397)
1 - /يزيد بن أبي كبشة واسم أبي كبشة حيويل بن يسار بن حيي بن قرط بن سنبل بن المقلد بن معدي كرب بن عريق بن السكسك بن أشرس بن كندة بن عفير بن عدي بن الحارث السكسكي
من أهل بيت ليها. وكان عقبه بها، وكان عريف السكاسك. وولي العراقين للوليد بن عبد الملك، ثم خراج السند في أيام سليمان. وكان له قدر في أهل الشام.
عن مسرة بن معبد اللخمي قال: صلى بنا يزيد بن أبي كبشة العصر وفي رواية: صلاة العصر ثم انصرف إلينا بعد سلامه، فقال: إني صليت وراء مروان بن الحكم، فسجد بنا مثل هاتين السجدتين، ثم انصرف إلينا، فأعلمنا أنه صلى وراء عثمان بن عفان فسجد مثل هاتين السجدتين، ثم قال لنا عثمان: إني كنت عند نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أتاه رجل، فسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله، إني صليت، فلم أدر أشفعت أم وترت ثلاثاً يقولها فأجابه نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يتلاعب بكم الشيطان في صلاتكم، من صلى فلي يدر أشفع أم وتر فليسجد سجدتين، فإنهما تمام صلاته.
قال أبو بردة بن أبي موسى ليزيد بن أبي كبشة واصطحبا في سفر، فكان ابن أبي كبشة يصوم في السفر، فقال أبو بردة: سمت أبا موسى مراراً يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الرجل المسلم إذا مرض أو سافر كتب له من الأجر ما كان يعمل مقيماً صحيحاً.(28/9)
عن مجالد قال: أول من جمع له المصران: البصرة والكوفة: زياد وابنه عبيد الله بن زياد، ومصعب بن الزبير، وبشر بن مروان، والحجاج بن يوسف، ويزيد بن أبي كبشة السكسكي، ويزيد بن المهلب، ومسلمة بن عبد الملك، وعمر بن هبيرة الفزاري، وخالد بن عبد الله القسري، ويوسف بن عمر الثقفي، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، ويزيد بن عمر بن هبيرة. ولم يجمع لأحد غيرهم.
قال خليفة بن خياط: كتب سليمان بن عبد الملك إلى صالح بن عبد الرحمن أن يأخذ آل بني أبي عقيل، ويحاسبهم، فولى صالح بن حبيي بن المهلب حرب الهند، ويزيد بن أبي كبشة الخراج، فأقام بها يزيد بن أبي كبشة أقل من شهر، ثم مات.
يزيد بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الله بن يزيد بن ذكوان أبو القاسم
مولى بن هاشم روى عن سلامة بن بشر بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما من نبي، ولا وال إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، فمن وقي شرها فقد وقي، وهو من التي تغلب عليه منهما.
وروى عن هشام بن عمار بسنده إلى ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا ينظرن أحد منكم إلى فرج زوجته، ولا فرج جاريته إذا جامعها؛ فإن ذلك يورث العمى.(28/10)
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تربوا الكتاب، وسجوه من أسفله، فإنه أنجح للحاجة.
قال محمد بن يوسف بن بشر الهروي: كنت عند الربيع في منزله إذ جاءه يزيد بن محمد بن عبد الصمد مسلماً عليه، فأقعده الربيع معه على السرير، ثم أقبل عليه، فألقى عليه مسألة من كلام الشافعي، فأجابه يزيد بن عبد الصمد بجواب غير مذهب الشافعي، فرأيت الربيع من إعجابه بأبي عبد الله الشافعي ومذهبه أن قال ليزيد بن محمد: يا أبا القاسم، ينبغي لك أن تنظر في الفقه، أو قال له: تفقه، تفقه! توفي يزيد بن محمد بن عبد الصمد سنة ست وسبعين ومائتين. وكان مولده سنة ثمان وتسعين ومائة.
وثقه النسائي والدارقطني
يزيد بن مرثد أبو عثمان الهمداني
عن يزيد بن مرثد أدرك ثلاثة من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وواثلة بن الأسقع قالوا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا تجشأ أحدكم، أو عطس، فلا يرفعن بهما الصوت؛ فإن الشيطان يحب أن يرفع بهما الصوت.
عن يزيد بن مرثد، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من مشى عن راحلته عقبة فكأنما أعتق نسمة، ومن سافر منكم فليرجع إلى أهله بهدية، ولو بالحجارة في مخلاته.(28/11)
عن يزيد بن مرثد، عن أبي الدرداء: أن رجلاً أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، ما عصم هذا الأمر وعراه ووثائقه؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعقد بيمينه: أخلصوا عبادة ربكم، وأقيموا خمسكم، وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم، وصوموا شهركم، وحجوا بيتكم، تدخلوا جنة ربكم، ويحرك يده.
وعن يزيد بن مرثد، عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من أحسن فيما بقي غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى، وما بقي.
وروى من طريقه البخاري في التاريخ أن أبا الدرداء كان يقول:
ذروة الإيمان أربع: الصبر للحكم، والرضى بالقدر، والإخلاص والتوكل، والاستسلام للموت والمحفوظ: للرب.
وقال أبو الدرداء: لولا ثلاث صلح الناس: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.
قال ابن ماكولا: مرثد: براء وثاء معجمة بثلاث يزيد بن مرثد أبو عثمان الهمداني الشامي.
وقال في موضع آخر: أما غفار بغين معجمة وفاء، وآخره راء: أبو غفار يزيد بن مرثد الهمداني الشامي. قاله خالد بن معدان، وقال مسلم بن الحجاج: هو أبو عثمان.
قيل ليزيد بن مرثد: ما لعينك لا تجف؟ قال: لو أن الله وعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في الحمام لكان بالحري أن لا تجف دموعي، قال: قلت له: أهكذا أنت في الخلوات؟(28/12)
قال: وما مسألتك عن هذا؟ قال: قلت: كلمة لعل الله أن ينفعني بها. قال: إني لأهم بأهلي، فأذكر منه، فأبكي، وتبكي أهلي لبكائي، وإنه ليقرب إلي الطعام، فأذكر منه ما تعلم، فأبكي، وتبكي أهلي لبكائي، والصبيان يبكون لبكائنا، وتقول أهله: يا ويحها لما خصت به من بين نساء المسلمين! وقد روي هذا الخبر عن مرثد بن عبد الله.
عن الوضيين بن عطاء قال: أراد الوليد بن عبد الملك أن يولي يزيد بن مرثد القضاء، فبلغ ذلك يزيد، فلبس فروة قد قلبها، فجعل الجلد على ظهره، والصوف خارجاً، وأخذ بيده رغيفاً وعرق لحم، وخرج بلا رداء، ولا قلنسوة، ولا نعل، ولا خف، وجعل يمشي في الأسواق، ويأكل الخبر واللحم، فقيل للوليد: إن يزيد بن مرثد قد اختلط، وأخبر بما فعل، فتركه.
قال يزيد بن مرثد: إذا راح أحدكم إلى الجمعة فبلغ السقليين يوحد الله حتى يخرج منها: الله أحد، الله الصمد، فسألته، فقال: هذه بقعة قلما يوحد الله فيها.
يزيد بن أبي مريم بن أبي عطاء
أبو عبد الله مولى سهل بن الحنظلية الأنصاري،. كانت داره بدمشق في ناحية باب الفراديس، وكان إمام مسجد الجامع بدمشق في أيام بن عبد الملك.
روى عن قزعة أنه أخبره، عن أبي سعيد، وعبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي(28/13)
هذا، ولا تسافر امرأة مسيرة يوم وفي رواية: تسافر المرأة مسيرة يوم إلا مع زوجها، أو ذي محرم من أهلها.
وروى عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، عن أبي عبس، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار.
قال يزيد بن أبي مريم: سمعت عبد الله أبا إدريس الخولاني يحدث عن معاذ بن جبل قال: لما قلت لمعاذ: إني أحبك لله أخذ بحبوتي: فاجتذبني إليه، وقال: الله إنك تحبني؟ قلت: الله إني أحبك لله، قال: أبشر؛ فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: المتحابون في الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله. قال: أتسمع؟ قلت نعم، قال: إنك تجالس قوماً لا محالة يخوضون في الحديث، فإذا رأيتهم قد غفلوا فارغب أو قال: فازعب إلى ربك عند ذلك رغبات أو زعبات.
قال يزيد بن أبي مريم الأنصاري: صليت مع واثلة بن الأسقع على الجنائز، فكان إذا أتى بالرجل والمرأة جعل الرجل مما يلي الإمام، والمرأة مما يلي القبلة رأسها بإزاء ركبيته.
قال يحيى بن معين، والعجلي، وأبو حاتم: يزيد بن أبي مريم ثقة توفي يزيد بن أبي مريم سنة أربع وأربعين ومائة.
يزيد بن أبي المساحق السلمي
مؤدب الوليد بن يزيد. كان شاعراً. قال شعراً يعظ فيه الوليد بن يزيد، وبعث به إلى النوار جارية الوليد، فغنته به، وهو: من الوافر(28/14)
مضى الخلفاء بالأمر الحميد ... وأصبحت المذمّة للوليد
تشاغل عن رعيّته بلهو ... وخالف فعل ذي الرأي الرّشيد
قال: فكتب إليه الوليد: مجزوء الرمل
ليت حظّي اليوم من كل ... ل معاشٍ لي وزاد
قهوةٌ أبذل فيها ... طارفي ثم تلادي
فيظلّ القلب فيها ... هائماً في كلّ وادي
إنّ في ذلك صلاحي ... وفلاحي ورشادي
يزيد بن أبي مسلم أبو العلاء الثقفي
مولاهم. استكتبه الحجاج بن يوسف، وكانت فيه كفاية، ونهضة. وقدم على سليما بن عبد الملك، ثم استعمله يزيد بن عبد الملك على إفريقية.
قال رقبة بن مسقلة:
خرج يزيد بن أبي مسلم من عند الحجاج فقال: لقد قضى الأمير بقضية، فقال له الشعبي: وما هي؟ فقال: قال: ما كان للرجل فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة. فقال الشعبي: قضاء رجل من أهل بدر، قال: ومن هو؟ قال: لا أخبرك، قال: من هو؟ علي عهد الله وميثاقه ألا أخبره، قال: هو علي بن أبي طالب. قال: فدخل على الحجاج، فأخبره، فقال الحجاج: صدق، ويحك! إنا لم ننقم على علي قضاءه، قد علمنا أن علياً كان أقضاهم.
عن نعيم بن أبي هند قال: كنت جالساً إلى يزيد بن أبي مسلم أيام الحجاج، وهو يعذب الناس، فذكر رجلاً في السجن، فبعث إليه بغيظ وغضب، فأتي به، وما أشك أنه سيقع به، فلما قام بين يديه رأيت الرجل يحرك شفتيه بشيء لم نسمعه، فرفع رأسه إليه، فقال: خلوا سبيله، أو ردوه. قال: فقمت إلى الرجل، فقلت له: شهدت هذا حين أرسل إليك بغيظ وغضب، ولا أشك أنه سيقع بك، فلما قمت بين يديه رأيتك حركت شفتيك بشيء لم(28/15)
أسمعه، فأمر فيك بما ترى، فما الذي قلت؟ قال: قلت: اللهم إني أسألك بقدرتك التي تمسك بها السماوات السبع أن يقع بعضهن على بعض أن تكفينيه.
قال حبيب أبو الأشعث: كان يزيد بن أبي مسلم صفرياً.
قال الأصمعي: لقي أعرابي بين مكة والمدينة، فسئل عن شيء، فقال: ما أرى الناس إلا بقرنائهم؛ انظروا إلى الحجاج من قيض له ابن أبي مسلم؟ وإلى فرعون من قيض له هامان؟ وانظروا إلى عمر بن عبد العزيز من قيض له رجاء بن حيوة؟ فما أرى الناس إلا بقرنائهم.
قال عبيد الله: دخلت على الحجاج، قال: فأشار بيده؟ فقلت: عبيد الله بن يزيد بن أبي مسلم الثقفي، قال: وقد فرضنا لك في كذا وكذا. قال عبيد الله: فلما مات الحجاج في بقية خلافة الوليد أقر الوليد يزيد بن أبي مسلم على العراق أربعة أشهر، فلما هلك الوليد وولي سليمان عزله وولى يزيد بن المهلب العراق فأشخصه إلى سليمان، فقدم عليه وهو بالبلقاء، فأوقفه للناس، فما أتى أحد يتظلم منه بشيء، إلا أن رجلاً من أهل المدينة أدلى بأن يزيد قد نال منه بالعراق لطمة فسأل القود منه، فأقاده، فلطمه لطمة أخضرت عينه، فلما رأى سليمان أن أحداً لا يتبعه بمظلمة أدخله عليه، وجعل يسائله عن أمور الناس، وعن سير الحجاج وأعماله، فكلما أخبره ببعض ما يكره يقول: ويحك يا يزيد، ما ترى الله صانعاً بالحجاج يوم القيامة؟! قال: فسكت يزيد، فلما أكثر عليه قال: أقول يا أمير المؤمنين إن الله سيجعله ثالثاً لأبيك وأخيك وبينهما، فإن دخلا الجنة(28/16)
فعاملهما، والمنفذ لأمرهما، وإن دخلا النار فأسفل منهما. قال: فقال سليمان: ويحك يا فلان! اكتب إلى العامة أن يكفوا عن لعن الحجاج، فلا يذكروه بلعنة، ولا بصلاة. قال: وقد كان كتب إلى العامة ألا يذكروه إلا بلعنة، قال: فكانوا يفعلون. قال: وأذن له بالانصراف إلى أهله، فقدم دمشق، فتهيأ للرواح إلى المسجد، فراح معتماً حتى قام من غرب المسجد، فقام يصلي فيه، فنظر أهل المسجد الذي يلونه بعضهم إلى بعض، فقالوا: هذا ابن أبي مسلم قد صلى، وهو الآن يأتيكم للمجالسة والألفة التي كانت بينكم وبينه فقوموا إليه، فازجروه عنكم قبل أن يأتيكم، فإنكم إن أتاكم فزجرتموه كانت به عليكم شهرة وأحدوثة. قال: فقاموا إليه، فلما رآهم ظن أنهم أتوه ليسلموا عليه، ورحب بهم. فقالوا: يا هذا، إليك عنا، كنت تجالسنا، وقد فعلت بالعراق وفعلت، فلا تجالسنا، ولا تقربنا. قال: فقال بيده يحركها، وقال: فعلت وفعلت، أم والله ما أجدني آسى على شيء إلا على نفوس كثيرة تركتها في سجون العراق ألا أكون أتيت عليها.
دخل يزيد بن أبي مسلم القيسي على سليمان بن عبد الملك بعد وفاة الحجاج، وكان يزيد دميماً قصيراً، فقال له سليمان: ما جاء بك؟ من استكتبك، ومن قلدك؟ قبحك الله! فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين، نظرت إلي وقد أدبر أمري فصغر في عينك ما عظم في عين غيرك.
وهم باستكتابه، فقال له عمر بن عبد العزيز: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تحيي ذكر الحجاج باستكتابك كاتبه! قال: يا أبا حفص، إني كشفته فلم أجد عليه خيانة، فقال عمر: أنا أوجدك من هو أعف عن الدينار والدرهم منه، فقال سليمان: ومن هذا؟ قال: إبليس، ما مس ديناراً، ولا درهماً بيده، وقد أهلك هذا الخلق، فتركه سليمان.
ولما وقف سليمان بن عبد الملك يزيد بن أبي مسلم للناس على درج دمشق، ونصبه للمظالم أقبل جرير على راحلته، وقال: أفرجوا عني حتى وصل إليه، ثم أنشأ يقول: من البسيط
كم في وعائك من أموال موتمة ... شعث صغار وكم خربت من دار(28/17)
ورد عمر بن عبد العزيز ابن أبي مسلم من دابق، وقال: ليس بمثله يستعين به المسلمون على قتال عدوهم. وكان عطاؤه ألفين فحط إلى ثلاثين أو خمسة وعشرين فرجع من دابق إلى أطرابلس؛ لأنه كان سيافاً للحجاج، وكان ثقفياً.
قال يعقوب: وفيها يعني سنة إحدى ومائة أمر يزيد بن أبي مسلم على إفريقية، ونزع إسماعيل بن عبيد الله.
وقال خليفة: وفيها يعني سنة اثنتين ومائة وثب الجند على يزيد بن أبي مسلم، فقتلوه.
يزيد بن معاوية بن صخر أبي سفيان
ابن حرب بن أمية بن عبد شمس أبو خالد الأموي بويع له بالخلافة بعد أبيه بعهد منه.
عن أبي خالد، عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين.
قال الزبير بن بكار: ولد معاوية بن أبي سفيان يزيد، وأمه: ميسون بنت بحدل بن أنيف بن دلجة بن قنافة بن عدي بن زهير بن حارثة بن جناب. بايع له معاوية من بعده، وكان أول من جعل ولي عهد في صحته، وكان معاوية يقول: لولا هوائي في يزيد لأبصرت قصدي. وتمثل له وهو ينظر إليه: من الطويل(28/18)
إن مات لم تصلح مزينة بعده ... فنوطي عليه يا مزين التّمائما
وخرج الحسين بن علي إلى الكوفة ساخطاً لولاية يزيد بن معاوية، فكتب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد، وهو واليه على العراق: إنه قد بلغني أن حسيناً سار إلى الكوفة، وقد ابتلي به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وابتليت به من بين العمال، وعندها تعتق، أتعود عبداً كما تعتبد العبيد.
فقتله عبيد الله بن زياد، وبعث برأسه إليه، فلما وضع بين يديه تمثل قول الحصين بن الحمام المري: من الطويل
يفلّقن هاماً من رجالٍ أحبّةٍ ... إلينا وهم كانوا أعقّ وأظلما
ويزيد الذي أوقع بأهل المدينة، بعث إليهم مسلم بن عقبة المري، فأصابهم بالحرة.
ولد يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان سنة ست وعشرين. وقيل: ولد سنة سبع وعشرين في بيت راس.
قال سعيد بن حريث: كان يزيد بن معاوية رجلاً كثير اللحم عظيم الجسم، كثير الشعر.
وذكر سعيد بن كثير بن عفير أنه كان جميلاً، طويلاً، ضخم الهامة، مخدد الأصابع، غليظها مجدراً.
قال زهير بن بشر الكلبي: تزوج معاوية ميسون بنت بحدل، فطلقها وهي حامل بيزيد، فرأت في النوم كأن(28/19)
قمراً خرج من قبلها، فقصت رؤياها على أمها، فقالت: لئن صدقت رؤياك لتلدن من يبايع له بالخلافة.
قال عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عتبة بن أبي سفيان.
جلست ميسون بنت بحدل الكلبية ترجل ابنها يزيد بن معاوية، وميسون يومئذ مطلقة، ومعاوية وفاختة بنت قرظة ينظران إليهما، ويزيد وأمه لا يعلمان، فلما فرغت من ترجيله نظرت إليه فأعجبها، وقبلت بين عينيه، فقال معاوية بيتاً من شعر، ومضى يزيد، فأتبعته فاختة بصرها، وقالت: لعن الله سواد ساقي أمك! فقال معاوية: أقد رأيتها؟ أما والله على ذلك لما فرجت عنه وركاها خير مما تفرجت عنه وركاك وكان لمعاوية من بنت قرظة عبد الله، وكان أحمق الناس قالت فاختة: لا والله، ولكنك تؤثر هذا عليه، فقال: سوف أبين لك ذلك حتى تعرفيه قبل أن تقومي من مجلسك؛ يا غلام، ادع لي عبد الله، فدعاه، فقال له معاوية: أي بني، إني قد أردت أن أسعفك، وأن أصنع بك ما أنت أهله، فاسأل أمير المؤمنين، فلست سائلاً شيئاً إلا أعطاه، فقال: حاجتي أن تشتري لي كلباً فارهاً، وحماراً، فقال معاوية: يا بني، أنت حمار، ويشترى لك حمار! قم فاخرج. قال: كيف رأيت؟ يا غلام، ادع لي يزيد، فدعاه، فقال: يا بني، إن أمير المؤمنين قد أراد أن يسعفك، ويوسع عليك، ويصنع بك ما أنت أهله، فاسأله ما بدا لك. قال: فخر ساجداً، ثم قال حين رفع رأسه: الحمد لله الذي بلغ أمير المؤمنين هذه المدة، وأراه في هذا الرأي. حاجتي أن تعقد لي العهد من بعدك، وتوليني العام صائفة المسلمين، وتحسن جهازي، وتقويني، فتكون الصائفة أول أسفاري. وتأذن لي في الحج إذا رجعت، وتوليني الموسم، وتزيد أهل الشام عشرة دنانير لكل رجل، وتجعل ذلك بشفاعتي، وتفرض لأيتام بني جمح، وأيتام بني سهم، وأيتام بني عدي. قال: مالك ولبني عدي؟ قال: لأنهم حالفوني، وانتقلوا إلى داري. قال معاوية: قد فعلت، إذا رجعت، ذلك بك، وقبل وجهه، وقال لابنه قرظة: كيف رأيت؟؟ قالت: يا أمير المؤمنين، أوصه بي، فأنت أعلم به. ففعل.
وقد روي هذا الخبر من طريق آخر، وفيه: أن عبد الله سأل مالاً، وأرضاً، وأن(28/20)
يزيد قال لمعاوية: أعتقني من النار، أعتق الله رقبتك منها، فقال له: وكيف؟ قال: لأني وجدت في الأثر أنه من تلقد أمر الأمة ثلاثة أيام حرمه الله على النار؛ فاعهد إلي من بعدك.
في كتاب عبد الله بن جعفر العامري قال: ذكروا أنه كان عند معاوية بن أبي سفيان خطباء العرب، فسألهم عن المروءة، فقال له المغيرة بن شعبة: الدماثة، والرماثة، فقال معاوية: وكيف ذاك؟ قال: الدماثة في الأخلاق سنة أخلاقك، والرماثة حين تستهل في الحكم، فقال معاوية: بخ بخ، وليست هناك. فقال صعصعة بن صوحان: الصبر والصمت، فقال معاوية: وكيف ذاك؟ قال: أن تصبر على ما غاظك، وأن تصمت إلى حين ينبغي لك الكلام. فقال معاوية: بخ بخ، وليست هناك. فقال أبو الأسود الدؤلي: سخاء النفس، وحسن الخلق، فقال: بخ بخ، وليست هناك. فقال عمرو بن العاص: المال، والوالي، قال: وكيف ذاك؟ قال: لا يصلح المال إلا بوال، ولا وال إلا بمال، قال: بخ بخ، وليست هناك. فقال يزيد بن معاوية: أنا أخبرك، فأعرض عنه، ثم أعاد الثانية، فأعرض عنه، ثم أعاد الثالثة، فقال: وكيف ذاك؟ قال: الحلم إذا ذكرت، وإذا أعطيت شكرت، وإذا ابتليت صبرت، وإذا عصيت غفرت، وإذا أحسنت استبشرت، وإذا أسأت استغفرت، وإذا وعدت أنجزت. فقال معاوية: بأبي أنت وأمي، أنت مني وأنا منك.
وقيل: قدم وفد من وفود العرب على معاوية، فقال لهم: ما تعدون المروءة فيكم؟ قالوا: العفاف، والدين، والإصلاح في المعيشة. فقال معاوية: اسم يا يزيد.
عن العتبي قال: رأى معاوية يزيد يضرب غلاماً له، فقال: سوءة لك، أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع عليك؟! والله لقد منعتني القدرة من ذوي الإحن، وإن أحق من عفا لمن قدر!(28/21)
وعن العتبي قال: وفد زياد على معاوية، فأتاه بهدايا، وأموال عظام، وسفط مملوء جوهراً لم ير مثله، فسر معاوية بذلك سروراً شديداً، فلما رأى زياد ذلك صعد المنبر، فقال: أنا والله أمير المؤمنين أقمت لك صعر العراق، وجبيت لك مالها، وألفظت لك بحرها.
فقام يزيد بن معاوية، فقال: إن تفعل ذلك يا زياد فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى قريش، ومن القلم إلى المنابر، ومن زياد بن عبيد إلى حرب بن أمية.
فقال له معاوية: اجلس، فداك أبي وأمي! عن عطاء بن السائب قال:
غضب معاوية على ابنه، فهجره، فقال له الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين، أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم سماء ظليلة وأرض ذليلة؛ إن غضبوا فأرضهم، وإن سألوا فأعطهم، ولا تكن عليهم قفلاً يملوا حياتك، ويتمنوا موتك.
وروى عمرو بن جبلة هذه الحكاية، وزاد فيها: فقال معاوية: لله درك، يا أبا بحر، ثم قال معاوية: يا غلام، ائت يزيد، فأقره مني السلام، وقل له: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بمائة ألف درهم، ومائة ثوب. فقال يزيد للرسول: من عند أمير المؤمنين؟ قال: الأحنف، فقال يزيد: لا جرم، لأقاسمنه. فبعث إلى الأحنف بخمسين ألفاً، وخمسين ثوباً.
عن ابن عائشة، عن أبيه قال: كان يزيد بن معاوية في حداثته صاحب شراب، يأخذ مآخذ الأحداث، فأحس معاوية بذلك، فأحب أن يعظه في رفق، فقال: يا بني، ما أقدرك على أن تصير إلى حاجتك من غير تهتك يذهب بمروءتك، وقدرك! ثم قال له: يا بني، إني منشدك أبياتاً، فتأدب بها، واحفظها. فأنشده: من السريع
أنصب نهاراً في طلاب العلى ... واصبر على هجر الحبيب القريب
حتى إذا الليل أتى بالدّجى ... واكتحلت بالغمض عين الرّقيب(28/22)
فباشر الليل بما تشتهي ... فإنّما الليل نهار الأريب
كم فاسقٍ تحسبه ناسكاً ... قد باشر الليل بأمرٍ عجيب
غطى عليه الليل أستاره ... فبات في أمن وعيش خصيب
ولذّة الأحمق مكشوفةٌ ... يشفي بها كلّ عدوّ غريب
عن محمد بن عمر القرشي، عمن أخبره قال: جاءت وفاة الحسن بن علي، وعبد الله بن عباس بباب معاوية، فخرج الرسول، فدعا ابن عباس، فقال الناس: حدث حدثٌ بالمدينة: قال ابن عباس: فلما دخلت عليه قال: يا بن عباس، أما علمت أن حسناً هلك؟ فقلت: إذا لا يسد الله حفرة قبره، قال: ما كانت سنه؟ فقلت: ما كان ميلاده خفاء، قال: إني لأظنه قد ترك أولاداً صغاراً، قال: هم عيال من كانوا وكان في عياله، قال: أصبحت اليوم سيد قومك. قلت: ما أبقى الله أبا عبد الله حسيناً، فلا. وخرج ابن عباس، وجاء الناس يعزونه إذ رفعت الخيل، وإذا يزيد بن معاوية قد أتاه ماشياً، فلما دنا أوسع له، فلم يرتفع، وجلس بين يديه، وقال: مجلس المعزي، لا مجلس المنئ. ثم ذكر الحسن، فقال: رحم الله أبا محمد أوسع الرحمة وأفسحها، وأعظم أجرك، وأحسن جزاءك، وعوضك من مصابك ما هو خير لك ثواباً، وخير عقبى. ثم قام، فأتبعه ابن عباس بصره، فقال: إذا ذهب آل حرب ذهب حلماء قريش، ثم تمثل: من الطويل
مغاضٍ عن العوراء لا ينطقونها ... وأهل وارثات الحلوم الأوائل
قال خليفة: وفيها يعني سنة خمسين غزا يزيد بن معاوية أرض الروم، ومعه أبو أيوب الأنصاري.
قال مصعب: كانت أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر بن كريز عند يزيد بن معاوية، فأغزاه(28/23)
معاوية إلى الطوانة، فأصابهم موم، فرجع يزيد، فقال: من البسيط
إذا اتكأت على الأنماط مرتفقاً ... بدير سمعان عندي أمٌ كلثوم
فما أبالي بما لاقت جموعهم ... بالفرقدانة من حمّى ومن موم
قال: فقال معاوية: لا جرم والله، لتخرجن، وليصيبنك ما أصابهم.
قال خليفة: وأقام الحج يعني سنة خمسين يزيد بن معاوية بعد أن قفل من أرض الروم.
وقال أبو بكر بن عياش: ثم حج بالناس يزيد بن معاوية سنة إحدى وخمسين، ثم حج بالناس يزيد بن معاوية سنة اثنتين وخمسين، ثم حج بالناس يزيد بن معاوية سنة ثلاث وخمسين.
عن عمر بن شبة قال: لما حج الناس في خلافة معاوية جلس يزيد بالمدينة على شراب، فاستأذن عليه ابن عباس والحسين بن علي، فأمر بشرابه فرفع. وقيل له: إن ابن عباس إن وجد ريح شرابك عرفه، فحجبه، وأذن للحسين، فلما دخل وجد رائحة الشراب مع الطيب، فقال: لله در طيبك هذا ما أطيبه، وما كنت أخشى أحداً يتقدمنا في صنعة الطيب، فما هذا يا بن معاوية؟ فقال: يا أبا عبد الله، هذا طيب يصنع بالشام. ثم دعا بقدح فشربه، ثم دعا بآخر، فقال: اسق أبا عبد الله يا غلام، فقال الحسين: عليك شرابك أيها المرء، فلا عين عليك مني. فشرب يزيد، وقال: من الهزج
ألا يا صاح للعجب ... دعوتك ثمّ لم تجب
إلى القينات والشّ ... هوات والصّهباء والطّرب(28/24)
وباطيةٍ مكلّلةٍ ... عليها سادة العرب
وفيهن التي تبلت ... فؤداك ثم لم تثب
فنهض الحسين وقال: بل فؤادك يا بن معاوية تبلت! عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: خير أمتي القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم والله أعلم أذكر الثالث أم لا ثم يجيء قوم يحبون السمانة، ويشهدون قبل أن يستشهدوا.
عن زرارة بن أوفى قال: القرن عشرون ومائة سنة، فبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قرن، فكان آخره موت يزيد بن معاوية.
عن عبد الله بن عمرو قال: ملك الأرض المقدسة: معاوية وابنه.
عن بكير بن الأشج: أن معاوية بن أبي سفيان قال ليزيد ابنه: كيف تراك فاعلاً إن وليت؟ قال: يمتع الله بك، قال: لتخبرني؟ قال: كنت والله يا أبه عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب، قال: سبحان الله، يا سبحان الله! والله يا بني لقد جهدت على سيرة عثمان فما أطقتها! عن عبد الله بن عوف قال: أخذ الناس على معاوية حين بايعوه أن يسير بهم سيرة عمر بن الخطاب.(28/25)
عن مروان بن أبي سعيد قال: قال معاوية ليزيد وهو يوصيه عند الموت: يا يزيد، اتق الله؛ فقد وطأت لك هذا الأمر، ووليت من ذلك ما وليت، فإن يك خيراً فأنا أسعد به، وإن كان غير ذلك شقيت به؛ فارفق بالناس، وأغمض عما بلغك من قول تؤذى به، وتنتقص به، وطأ عليه يهنك عيشك، وتصلح لك رعيتك. وإياك والمناقشة، وحمل الغضب، فإنك تملك نفسك ورعيتك. وإياك وجفوة أهل الشرف، واستهانتهم، والتكبر عليهم. لن لهم ليناً بحيث لا يروا منك ضعفاً، ولا جوراً، وأوطئهم فراشك، وقربهم إليك، وأدنهم منك؛ فإنهم يعلون لك حقك. ولا تهنهم، ولا تستخفن بحقهم فيهينوك، ويستخفوا بحقك. وليتقوا فيك، فإذا أردت أمراً فادع ذوي السنين والتجربة من أهل الخير من المشايخ، وأهل التقوى، فشاورهم، ولا تخالفهم. وإياك والاستبداد برأيك؛ فإن الرأي ليس في صدر واحد. وصدق من أشار عليك إذا حملك على ما تعرف، واخزن ذلك عن نسائك وخدمك. وشمر إزارك، وتعاهد جندك، وأصلح نفسك يصلح لك الناس، لا تدع لهم فيها مقالاً؛ فإن الناس نزاع إلى الشر. واحضر الصلاة؛ فإنك إذا فعلت ما أوصيك به عرف الناس لك حقك، وعظمت مملكتك، وعظمت في أعين الناس. واعرف شرف أهل المدينة ومكة؛ فإنهم أصلك وعشيرتك. واحفظ لأهل الشام شرفهم، فإنهم أنصارك وحماتك وجندك الذين بهم تصول، وتنتصر على أعدائك، وتصل إلى أهل طاعتك. واكتب إلى أهل أمصارك بكتاب تعدهم فيه منك المعروف؛ فإن ذلك ينشط آمالهم. وإن وفد عيك وافد من الكور كلها فأحسن إليهم، وأكرمهم؛ فإنهم لمن وراءهم. ولا تسعف قول قاذف، ولا عاجل؛ فإني رأيتهم وزراء سوء.
ومن وجه آخر أن معاوية قال ليزيد: إن لي خليلاً من أهل المدينة فأكرمه. قال: ومن هو؟ قال: عبد الله بن جعفر. فلما وفد بعد موت معاوية على يزيد أضعف جائزته التي كان معاوية يعطيه إياها، وكانت جائزته على معاوية ستمائة ألف، فأعطاه يزيد ألف ألف. فقال له: بأبي أنت وأمي، فأعطاه ألف ألف أخرى. فقال له ابن جعفر: والله لا جمع أمر لأحد بعدك!(28/26)
ولما خرج ابن جعفر من عند يزيد وقد أعطاه ألفي ألف رأى على باب يزيد بخاتي مبركات، قد قدمن عليه هدية من خراسان، فرجع عبد اله بن جعفر إلى يزيد، فسأله منها ثلاث بخاتي ليركب عليها إلى الحج والعمرة، وإذا وفد إلى الشام على يزيد. فقال يزيد للحاجب: ما هذه البخاتي التي بالباب؟ ولم يكن شعر بها فقال: يا أمير المؤمنين، هي أربعمائة بختية جاءتنا تحمل أنواع الألطاف وكان عليها أنواع من الأموال كلها فقال: اصرفها إلى أبي جعفر بما عليها. فكان عبد الله بن جعفر يقول: أتلومونني على حسن الرأي في هذا؟! يعني يزيد.
وقد كان يزيد فيه خصاله محمودة من الكرم والحلم والفصاحة والشعر والشجاعة وحسن الرأي في الملك، وكان حسن المعاشرة. وكان فيه أيضاً إقبال على الشهوات، وترك بعض الصلاة في بعض الأوقات.
عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يكون خلف بعد ستين سنة " أضاعُوا الصَّلاةَ، واتَّبعُوا الشَّهَواتِ فسوفَ يَلْقَون غَيّاً "، ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر.
قال الوليد بن قيس: المنافق كافر به، والفاجر يتأكل به، والمؤمن يعمل به.
قال المغيرة بن شعبة: لقد وضعت رجلي معاوية في غرز طويل غيه على أمة محمد. يعني بيعة يزيد.
ولما رجع أهل المدينة من عند يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية، فأرادوه على خلع يزيد، فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر،(28/27)
ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب، فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته، وأقمت عنده، فرأيته مواظباً على الصلاة، متحرياً للخير، يسأل عن الفقه، ملازماً للسنة. قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعاً لك، فقال: وما الذي يخاف مني؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا.
ولما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله، ثم تشهد، ثم قال: أما بعد فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، يقال له: هذه غدرة فلان. وإن من أعظم الغدر إلا يكون الإشراك بالله أن يبايع رجل رجلاً على بيع الله ورسوله، ثم ينكث بيعته، فلا يخلعن أحد منكم يزيد، ولا يسرعن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيني وبينه.
عن يزيد بن أسلم، عن أبيه أن ابن عمر دخل وهو معه على ابن مطيع، فلما دخل عليه قال: مرحباً بأبي عبد الرحمن، ضعوا له وسادة، فقال: إنما جئتك لأحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: من نزع يداً من طاعة فإنه يأتي يوم القيامة لا حجة له، ومن مات مفارق الجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية.
قال علي بن الحسين: دخلنا دمشق بعد أن شخصنا من الكوفة، فإذا الناس مجتمعون بباب يزيد، فأدخلت عليه وهو جالس على سرير، وعنده الناس ساكتين، من أهل الشام، ومن أهل العراق والحجاز. وكنت قدام أهل بيتي، فسلمت عليه، فقال: أيكم علي بن الحسين؟(28/28)
فقلت: أنا، فقلت: ادنه، فدنوت، ثم قال: ادنه، فدنوت حتى على صدري على فراشه، ثم قال: أما إنه لو أن أباك أتاني لوصلت رحمه، وقضيت ما يلزمني من عنقه، ولكن عجل عليهم ابن زياد قتله الله فقلت: يا أمير المؤمنين، أصابتنا جفوة، فقال: يذهب الله عنكم الجفوة. فقلت: يا أمير المؤمنين، أموالنا قبضت فاكتب أن ترد علينا. فكتب لنا بردها، وقال: أقيموا عندي، فإني أقضي حوائجكم، وأفعل بكم وأفعل، فقلت: بل المدينة أحب إلي، قال: قربي خير لكم، قلت: إن أهل بيتي قد تفرقوا، فنأتيهم، فيجتمعون، ويحمدون الله على هذه النعمة.
فجهزنا، وأعطانا أكثر مما ذهب منا حتى الكسوة والجهاز، وسرح معنا رسلاً إلى المدينة، وأمرنا أن ننزل حيث شئنا.
قال عبد الرحمن بن أبي مذعور: حدثني بعض أهل العلم قال: آخر ما تكلم به يزيد بن معاوية: اللهم لا تؤاخذني بما لم أحبه، ولم أرده، واحكم بيني وبين عبيد الله بن زياد.
وكان نقش خاتمه: آمنت بالله العظيم.
مات يزيد بن معاوية بحوارين من قرى دمشق، في رابع عشر شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، ثم حمل إلى دمشق. وصلى عليه ابنه معاوية أمير المؤمنين يومئذ.
يزيد بن يزيد بن جابر الأزدي
أخو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وكان الأصغر. أصله من البصرة.
قال يزيد بن يزيد بن جابر: حدثني يزيد الأسد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزماً من حطب، ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم، ليست بهم علة، فأحرقها عليهم. قلت ليزيد بن الأصم: يا أبا عوف، الجمعة(28/29)
عني أو غيرها؟ قال: صمتا أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما ذكر جمعة، ولا غيرها.
عن كثير بن كثير قال: صلى بنا مكحول بفناء فسطاط ومعه يزيد بن يزيد بن جابر في نفر من أصحابه، ونحن على مسح له من شعر، فلما أهوى للسجود كشف يزيد بن يزيد المسح وسجد على الأرض.
قال سفيان بن عيينة: قدم علينا يزيد بن يزيد بن جابر، وكان حسن الهيئة، حسن النحو، كان يقولون: لم يكن في أصحاب مكحول مثله. وكان يقول: يزيد بن جابر ثقة، عاقل، حافظ، من أهل الشام.
وقال أبو مسهر:
لما مات مكحول أحدقوا بيزيد بن يزيد، وكان رجلاً سكيتاً، فتحولوا إلى سليمان بن موسى فأوسعهم علماً.
وقال هشام بن عمار: أفسد نفسه. خرج فأعان على قتل الوليد، وأخذ مائة ألف دينار.
وثقه يحيى. وقال أحمد: لا بأس به، من صالحيهم.
وقال غير يحيى: كان غيلانياً.
مات بالشام سنة أربع وثلاثين ومائة وقيل: سنة ثلاث وثلاثين في خلافة أبي العباس، وقيل: مات بالمدينة، ولم يبلغ ستين سنة.(28/30)
يزيد بن أبي يزيد مولى بسر بن أبي أرطاة
حدث عن بسر، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يدعو: اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
يزيد بن يعلى بن الضخم
أبو الضخم العنسي كان على شرطة هشام بن عبد الملك، والوليد بن يزيد. له ذكر.
يزيد بن يوسف أبو يوسف الصنعاني
من صنعاء دمشق.
روى عن محمد بن الوليد الزبيدي بسنده إلى أبي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الوتر حق، فمن شاء أن يوتر بخمس فليفعل، ومن شاء أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن شاء أن يوتر بواحدة فليفعل.
قال سعيد بن عبد العزيز: عالما هذا الجند بعد الأوزاعي، يزيد بن السمط، ويزيد بن يوسف.(28/31)
قال أحمد بن حنبل: رأيت يزيد بن يوسف أبا يوسف الشامي، ورأيت عليه إزاراً أصفر، ولم أكتب عنه شيئاً.
ذكره ابن سميع في الطبقة الخامسة، ولم يذكره البخاري وقال الخطيب: يزيد بن يوسف أبو يوسف الشامي. سكن بغداد.
ضعفوه.
يزيد ذو مصر المقرائي
حمصي. من وجوه أهل الشام. وفد على معاوية بن أبي سفيان في ثلاثة آلاف، فقال له: من هؤلاء؟ قال: عبيدي وموالي، فقال معاوية: إني لأمير المؤمنين وما لي ثلاثة آلاف عبد ومولى! قال ابن ماكولا: مصر بكسر الميم وبالصاد المهملة الساكنة: يزيد ذو مصر.
يزيد غير منسوب
قال يزيد الدمشقي: قال أبو هريرة: لقد عرفت أربعين عملاً يدخل الله بها صاحبها الجنة، أعلى عمل منها منيحة عنز.
يزيد أبو حفصة مولى مروان بن الحكم
قيل: إنه من سبي إصطخر. اشتراه عثمان بن عفان، ووهبه لمروان، وقيل: إنه من كنانة بن عوف بن عبد مناة بن اد بن طابخة بن إلياس بن مضر، باعته عمته(28/32)
لمجاعة، وادعته عكل، فلم يفسر بذلك، وزعم أنه رجل من العجم، من سبي فارس نشأ في عكل وهو صغير، وقيل: إنه كان يهودياً، فأسلم على يدي مروان، وقيل: إنه أتى مروان سنة مجاعة، فباعه نفسه. وأبو حفصة هذا هو جد والد مروان الشاعر المعروف بابن أب حفصة، وهو مروان بن سليمان بن يحيى بن يزيد أبي حفصة. وشهد أبو حفصة مع مولاه بن الحكم يوم الدار، فأحسن الغناء عنه، فأعتقه، وزوجه أم ولد له اسمها: سكر كانت له منها بنت اسمها: حفصة.
شهد مع مروان يوم الجمل، ويوم مرج راهط. وكان شجاعاً شاعراً.
ومن شعره: من الطويل
وما قلت يوم الدار للقوم صالحوا ... أحلّ ولا اخترت الحياة على القتل
ولكنّني قد قلت للقوم جالدوا ... بأسيافكم لا تخلصنّ إلى الكهل
يريد بالكهل والله أعلم مروان بن الحكم، لأنه كان يذب عنه يومئذ لما سقط.
يسار بن سبع أبو الغادية
بالغين المعجمة ويقال: الجهني له صحبة. وقيل: لا صحبة له. وكانت داره بدمشق بناحية سوق الطير. وقيل: إنه قاتل عمار بن ياسر.
قال أبو غادية: بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قيل له: بيمينك؟ قال: نعم. وخطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم العقبة، فقال: أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى يوم تلقون ربكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد. ثم قال: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.(28/33)
وقال أبو الغادية: قدم علينا عمر بن الخطاب الجابية وهو على جمل أورق.
قال محمد بن عبد الرحمن الطفاوي: خرج أبو الغادية، وحبيب بن الحارث، وأم الغادية مهاجرين إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاسلموا، فقالت المرأة: أوصني، قال: إياك وما يسوء الأذن.
قال كلثوم بن جبر:
كنا بواسط القصب عند عبد الأعلى بن عامر، فقال: الإذن، هذا أبو الغادية، فقال عبد الأعلى: أدخلوه، فدخل عليه مقطعات له، فإذا رجل طوال ضرب من الرجال، كأنه ليس من هذه الأمة. فلما أن قعدنا قال: بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَن قلت: بيمينك؟ قال: نعم، فخطبنا يوم العقبة، فقال: أيها الناس، ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام الحديث. قال: وكنا نعد عمار بن ياسراً فينا حناناً، فوالله إني لبمسجد قباء إذ هو يعني يسب عثمان رضي الله عنه فلما أن كان يوم صفين أقبل يمشي أول الكتيبة راجلاً، حتى إذا كان بين الصفين طعن رجلاً في ركبته بالرمح، فعثر، فانكفأ المغفر عنه، فضربه، فإذا رأس عمار.
وفي رواية: كنا عبد الأعلى فإذا عنده رجل يقال له أبو الغادية، استسقى، فأتي بإناء مفضض، فأبى أن يشرب.
عن أبي الغادية قال: سمعت عمار بن ياسر يقع في عثمان، يشتمه بالمدينة، فتوعدته بالقتل، قلت: لئن(28/34)
أمكنني الله منك لأفعلن، فلما كان يوم صفين جعل عمار يحمل على الناس، فقيل: هذا عمار، فرأيت فرجة بين الرئتين والساقين، فحملت عليه، فطعنته في ركبته، فوقع، فقتلته.
حدث عثمان بن أبي العاتكة: أن رومياً جاء معاوية بن أبي سفيان، فقال له: أشبب لك ناراً بالنفط وغيره تحرق بها عدوك من الروم في البحر، فقال معاوية: لا أكون أول من حرق بها، وعذب بعذاب الله، ولم يقبل منه ما عرض عليه، فهرب إلى طاغية الروم، فشبها له، ولقيت به سفنهم سفن المسلمين، فرموهم، وحرقوهم، فقال معاوية: أما إذا فعلوا فافعلوا، فغزى المسلمون بها، فكانوا يترامون بها في طياجن، فبينا رومي يرمي سفينة أبي الغادية المزني في طيجن رماه أبو الغادية بسهم، فقتله، وخر الطيجن على سفينتهم، فاحترقت بأهلها ثلاثمائة. فكانوا يقولون: رمية سهم أبي الغادية قتلت ثلاثمائة مقاتل.
يساف بن شريح اليشكري
قدم مع عبيد الله بن زياد دمشق.
قال يساف بن شريح: لما خرج عبيد الله بن زياد من البصرة شيعته، فقال: قد مللت الخف، فأبغوني ذا حافر، فركب حماراً وتفرد وفي رواية: قد ثقل علي ركوب الإبل، فوطئوا لي على ذي حافر، فألقيت له قطيفة على حمار، فركبه، وإن رجليه لتكادان تخطان في الأرض فإنه ليسير أمامي إذ سكت سكتةً، فأبطأتها، فقلت في نفسي: هذا عبيد الله، أمير العراق أمس نائم الساعة على حمار، لو سقط منه لأبغضك قومك. فدنوت منه، فقلت: أنائم أنت؟ قال: لا، قلت: فما أسكتك؟ قال: كنت أحدث نفسي.(28/35)
يسرة بن صفوان بن جميل
أبو صفوان ويقال: أبو عبد الرحمن اللخمي البلاطي من أهل قرية البلاط، من قرى دمشق.
روى عن أبي معشر، عن نافع، عن ابن عمر قال: أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نخرج عن كل صغير وكبير، حر ومملوك صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، وأمرنا أن نخرجه قبل أن نخرج إلى الصلاة.
قال أبو أحمد العسكري: يسرة تحت الياء نقطتان والسين والياء مفتوحتان.
قال أبو حاتم: يسرة بن صفوان ثقة.
وقال محمد بن عوف: كان رجلاً صالحاً. مات سنة ست عشرة ومائتين، ومولده سنة عشر ومائة.
اليسع وهو الأسباط بن عدي
ابن سويلح بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام يقال: هو ابن عم إلياس النبي عليهما السلام وكان مستخفياً مع إلياس بجبل قاسيون بدمشق حين هرب من أهل بعلبك، ثم ذهب معه إلى بعلبك، فلما رفع إلياس خلفه أليسع في قومه، ونبأه الله عز وجل بعد إلياس. وقيل: كان الأسباط ببانياس.(28/36)
وقال الله تعالى: " وأذْكُر إسماعيلَ وألْيَسَعَ وذا الكِفْلِ "، أي اذكرهم بصبرهم وفضلهم لتسلك طريقهم، " وكُلٌّ مِنَ الأخيارِ " اختارهم الله للنبوة.
عن الحسن قال: كان بعد إلياس أليسع، فمكث ما شاء الله، يدعوهم إلى الله، متمسكاً بمنهاج إلياس وشريعته، حتى قبضه الله إليه، ثم خلف فيهم الخلوف، وعظمت فيهم الأحداث والخطايا وكثرت الجبابرة، فقتلوا الأنبياء.
يعقوب ويقال يعبوث بن عمرو بن ضريس القضاعي ثم المشجعي
شهد مع خالد بن الوليد حصار دمشق. وقيل: اسمه عبد يغوث، وقتل بأجنادين سبعة من المشركين، فأصابته طعنة، فأذن له أبو عبيدة في الرجوع إلى أهله، فرجع إليهم، فمات.
يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد أبو عوانة النيسابوري ثم الإسفرائيني
الحافظ، صاحب المسند الصحيح المخرج على كتاب مسلم بن الحجاج. أحد الحفاظ الجوالين، والمحدثين المكثرين. دخل دمشق غير مرة، وطاف الشام، ومصر، والبصرة، والكوفة، والحجاز، وواسط، والجزيرة، واليمن، وأصبهان، وفارس، والري.
روى عن بشر بن مطر بسنده إلى ابن عمر: أن عمر أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد كان ملك مائة سهم من خيبر اشتراها حتى استجمعها(28/37)
فقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد أصبت مالاً لم أصب مثله قط، وقد أردت أن أتقرب إلى الله، قال: فاحبس الأصل وسبل الثمر.
وروى عن عبد الرحمن بن بشر بسنده عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صام يوماً في سبيل الله باعده الله عن النار سبعين خريفاً.
أخرجه مسلم عن عبد الرحمن.
وروى عن الزعفراني بسنده إلى عائشة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يباشر وهو صائم وأظنه قال: وكان يقبل وهو صائم، وكان أملككم لإربه.
أخرجه النسائي عن الزعفراني.
قال أبو عوانة: كنت بالمصيصة، فكتب إلي أخي محمد بن إسحاق، فكان في كتابه: من الوافر
فإن نحن التقينا قبل موت ... شفينا النفس من مضض العتاب
وإن سبقت بنا أيدي المنايا ... فكم من عاتبٍ تحت التراب
فلما رجعت سألته عن ذلك، فقال: بلغني أن علي بن حجر كتب به إلى بعض إخوانه.
قال الحاكم: أبو عوانة من علماء الحديث وأثباتهم. توفي سنة ست عشرة وثلثمائة.
وقال حمزة بن يوسف: توفي بجرجان في سنة اثنتين وتسعين ومائتين.(28/38)
يعقوب بن إسحاق بن حنش
أبو يوسف روى عن العباس بن الوليد بن مزيد، عن أبيه، عن الأوزاعي قال: خرج إبراهيم بن أدهم من بيروت يريد الناعمة، فتبعه رجل يشيعه، حتى إذا صار في الصنوبر، وأراد أن يرجع قال له: يا أبا إسحاق، أوصني، قال: اعلم أن الصائم الحاج المعتمر المجاهد المرابط، المراعي نفسه عن الناس، أستودعك الله.
يعقوب بن إسحاق أبو يوسف اللغوي
المعروف أبوه بالسكيت صاحب كتاب: إصلاح المنطق وغيره. قدم دمشق مع جعفر المتوكل. وكان مؤدب أولاد المتوكل.
قال ابن السكيت: قال محمد بن السماك: من عرف الناس داراهم، ومن جهلهم ماراهم، ورأس المداراة ترك المماراة.
قال أبو بكر الخطيب: يعقوب بن إسحاق السكيت، أبو يوسف النحوي اللغوي. كان من أهل الفضل والدين، موثوقاً بكلامه وبروايته. وأبوه إسحاق هو المعروف بالسكيت. وحكي أن الفراء سأل السكيت عن نسبه فقال: خوزي أصلحك الله من قرى دورق، من كور الأهواز.
قال محمد بن فرج: كان يعقوب بن السكيت يؤدب مع أبيه بمدينة السلام، في درب القنطرة صبيان العامة حتى احتاج إلى الكسب، فجعل يتعلم النحو. وحكى عن أبيه أنه حج، وطاف(28/39)
بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وسأل الله أن يعلم ابنه النحو، فتعلم النحو واللغة، وجعل يختلف إلى قوم من أهل القنطرة، فأجروا له كل دفعة عشرة وأكثر حتى اختلف إلى بشر وإبراهيم ابني هارون أخوين كانا يكتبان لمحمد بن عبد الله بن طاهر فما زال يختلف إليهما، وإلى أولادهما دهراً. فاحتاج ابن طاهر إلى رجل يعلم ولده، وجعل ولده في حجر إبراهيم، ثم قطع ليعقوب رزقاً خمسمائة درهم، ثم جعلها ألف درهم. وكان يعقوب قد خرج قبل ذلك إلى سر من رأى، وذلك في أيام المتوكل، فصيره عبيد الله بن يحيى بن خاقان عند المتوكل، فضم إليه ولده، وأسنى له الرزق.
قال ثعلب: وقد ذكر يعقوب بن السكيت فقال: ما عرفنا له خربة قط.
قال أبو الحسن الطوسي: كنا في مجلس علي اللحياني، وكان عازماً على أن يملي نوادره ضعف ما أملي، فقال يوماً: تقول العرب: مثقل استعان بذقنه، فقام إليه ابن السكيت وهو حدث فقال: يا أبا الحسن، إنما هو مثقل استعان بدفيه، يريدون الجمل إذا نهض بالحمل استعان بجنبيه. فقطع الإملاء. فلما كان في المجلس الثاني أملى، فقال: تقول العرب: هو جاري مكاشري. فقام إليه يعقوب بن السكيت، فقال: أعزك الله، وما معنى مكاشري؟ إنما هو مكاسري؛ كسر بيتي إلى كسر بيته. قال: فقطع اللحياني الإملاء، فما أملى بعد ذلك شيئاً.(28/40)
عن أبي سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان قال: سمعت ثعلباً يقول: عدي بن زيد العبادي أمير المؤمنين في اللغة. وكان يقول في ابن السكيت قريباً من هذا.
وقال: سمعت المبرد يقول:
ما رأيت للبغداديين كتاباً أحسن من كتاب يعقوب بن السكيت في المنطق.
قال أحمد بن محمد بن أبي شداد: شكوت إلى ابن السكيت ضيقةً، فقال: هل قلت شيئاً؟ قلت: لا، قال: فأقول أنا. فأنشدني: من البسيط
نفسي تروم أموراً لست مدركها ... ما دمت أحذر ما يأتي به القدر
ليس ارتحالك في كسب الغنى سفراً ... لكن مقامك في ضيقٍ هو السفر
قال ابن السكيت: كتب إلي صديق: قد عرضت لي قبلك حاجة، فإن نجحت بك، فالفاني حظي، والباقي حظك، وإن تتعذر فالخير مظنون منك، والعذر مقدم لك.
قال المازني: اجتمعت مع يعقوب بن السكيت عند محمد بن عبد الملك الزيات، فقال لي محمد بن عبد الملك الزيات: سل أبا يوسف عن مسألة. فكرهت ذلك، وجعلت أتباطأ، وأدافع مخافة أن أوحشه؛ لأنه كان لي صديقاً. فألح علي محمد بن عبد الملك، وقال لي: لم لا تسأله؟ فاجتهدت في اختيار مسألة سهلة لأقارب يعقوب، فقلت له: ما وزن نكتل من الفعل من قول الله تعالى: " فأرسل معنا أخانا نَكْتَلْ "؟ فقال لي: نفعل، فقلت: فينبغي أن يكون ماضيه كتل! فقال: لا، ليس هذا وزنه، إنما هو نفتعل، فقلت له: نفتعل كم حرفاً؟ قال: هو خمسة أحرف، فقلت له: فنكتل، كم(28/41)
حرفاً هو؟ قال: اربعة أحرف فقلت له: أيكون أربعة أحرف بوزن خمسة أحرف؟ فانقطع، وخجل وسكت. فقال محمد بن عبد الملك: فإنما تأخذ كل شهر ألفي درهم على أنك لا تحسن ما وزن نكتل؟ قال: فلما خرجنا قال لي يعقوب: يا أبا عثمان، هل تدري ما صنعت؟ فقلت له: والله لقد قاربتك جهدي.
قال أبو الفرج: وكان يعقوب في صناعة النحو ذا بضاعة مزجاة نزرة، وقد صنف مع هذا في النحو كتاباً مختصراً لم يعد فيه القدر الذي تناله يده، وإن كان إماماً عالماً في اللغة، وقدرةً سابقاً مبرزاً في اختلاف أهلها من البصريين والكوفيين، وله فيها كتب مؤلفة حسنة، وأنواع مصنفة مفيدة.
قال ابن السكيت: إن محمد بن عبد الله بن طاهر عزم على الحج، فخرجت إليه جارية له شاعرة، فبكت لما رأت آلة السفر، فقال محمد بن عبد الله: مجزوء الرمل
دمعةٌ كاللؤلؤ الرّطب على الخدّ الأسيل
هطلت في ساعة البي ... ن من الطرف الكحيل
ثم قال لها: أجيزي، فقالت:
حين همّ القمر البا ... هر عنّا بالأفول
إنما يفتضح العشا ... ق في وقت الرّحيل
قال الخطيب: بلغني أن يعقوب بن السكيت مات في رجب من سنة ثلاث وقيل: من سنة أربع، وقيل: من سنة ست وأربعين ومائتين، وقد بلغ ثمانياً وخمسين سنةً.(28/42)
يعقوب بن دينار ويقال ميمون
أبي سلمة، الماجشون، أبو يوسف القرشي التيمي مولى المنكدر. من أهل المدينة. وفد على عمر بن عبد العزيز في ولايته المدينة، فلما استخلف عمر قدم عليه يعقوب الماجشون، فقال له عمر: إنا تركناك حيث تركنا لبس الخز. فانصرف عنه. والماجشون هو يعقوب، وهو أخو عبد الله بن أبي سلمة. والماجشون بالفارسية هو الورد، وإنما سمي الماجشون للونه.
وقال أبو الفرج الأصبهاني: الماجشون لقب لقبته به سكينة بنت الحسين، وهو اسم لون من الصبغ أصفر تخالطه حمرة، وكذلك كان لونه. ويقال: إنها ما لقبت أحداً قط بلقب إلا لصق به.
وكان يعلم الغناء، ويتخذ القيان، ظاهر أمره في ذلك، وكان يجالس عروة بن الزبير.
قال مصعب: كان الماجشون يعين ربيعة على أبي الزناد، لأن أبا الزناد كان معادياً لربيعة، فكان أبو الزناد يقول: مثلي ومثل الماجشون مثل ذئب كان يلج على أهل قرية، يأكل صبيانهم، فاجتمعوا له، وخرجوا في طلبه، فهرب منهم، فتقطعوا عنه إلا صاحب فخار، فألح في طلبه، فوقف له الذئب، فقال هؤلاء عذرتهم، مالي ولك؟ ما كسرت لك فخارةً قط! ثم قال أبو الزناد: أرأيت الماجشون، مالي وله؟! ما كسرت له قط كبراً ولا بربطاً.
عن ابن الماجشون قال:
عرج بروح أبي الماجشون، فوضعناه على سرير الغسل، وقلنا للناس: نروح به.(28/43)
فدخل غاسل إليه يغسلهن فرأى عرقاً يتحرك من أسفل قدمه، فأقبل علينا، فقال: أرى عرقاً يتحرك، ولا أرى أن أعجل عليه، فاعتللنا على الناس، وقلنا: نغدو، لم يتهيأ أمرنا على ما أردنا. فأصبحنا، وغدا عليه الغاسل، وجاء الناس، فرأى العرق على حاله، فاعتذرنا إلى الناس بالأمر الذي رأيناه. فمكث ثلاثاً على حاله، ثم إنه نشع بعد ذلك، فاستوى جالساً، فقال: ائتوني بسويق، فأتي به، فشربه، فقلنا له: أخبرنا مما رأيت، قال: نعم، إنه عرج بروحي، فصعد بي الملك، حتى أتى سماء الدنيا، فاستفتح، ففتح له، ثم هكذا في السماوات حتى انتهي به إلى السماء السابعة، فقيل له: من معك؟ قال: الماجشون، فقيل له: لم يأن له، بقي من عمره كذا وكذا سنةً.
وذكر أبو الحسن محمد بن أحمد بن القواس الوراق: أن يعقوب مات سنة أربع وستين ومائة.
يعقوب بن سعيد أبو سعيد الطرميسي
حدث عن هشام بن عمار بسنده إلى المقدام بن معدي كرب الزبيدي قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما أكل العبد طعاماً أحب إلى الله من كد يده، ومن بات كالاً من عمله بات مغفوراً له.
يعقوب بن سفيان بن جوان
أبو يوسف بن أبي معاوية الفارسي الفسوي الحافظ قدم دمشق غير مرة. ذكر أسماء شيوخه، وروى عن كل واحد منهم حديثاً في أربعة(28/44)
أجزاء. وصنف كتاب التاريخ والمعرفة فأكثر فائدته، وصنف غيره من الكتب. وكان كثير الشيوخ واسع الرحلة.
روى عن حاتم القزاز بسنده إلى أبي بكر الصديق: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أراد أمراً قال: اللهم خر لي واختر لي.
قال أبو عبد الله الحاكم: هو إمام أهل الحديث بفارس.
قال يعقوب بن سفيان: كنت في رحلتي في طلب الحديث، فدخلت إلى بعض المدن، فصادفت بها شيخاً احتجت إلى الإقامة عليه للاستكثار منه، وكانت نفقتي قد قلت، وقد بعدت عن بلدي ووطني، فكنت أدمن الكتبة ليلاً، وأقرأ عليه نهاراً، فلما كان ذات ليلة كنت جالساً أنسخ في السراج، وكان شتاءً، وقد تصرم الليل، فنزل الماء في عيني، فلم أبصر السراج، ولا الكتب، ولا البيت، ولا النسخ الذي كان في يدي، فبكيت على نفسي، لانقطاعي عن بلدي، وعلى ما فاتني من العلم الذي كتبت، وما يفوتني مما كنت عزمت على كتبه. فاشتد بكائي حتى انثنيت على جنبي، فحملتني عيناي، فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم، فناداني: يا يعبو بن سفيان، لم أنت كئيب؟ فقلت: يا سول الله، ذهب بصري، فتحسرت على ما فاتني من كتب سنتك، وعلى الانقطاع عن بلدي، فقال: أدن مني، فدنوت منه، فأمر يده على عيني، كأنه يقرأ عليهما، ثم استيقظت، فأبصرت، وأخذت نسخي، وقعدت في السراج أكتب.
قال أبو زرعة الدمشقي: قدم علينا رجلان من نبلاء الناس، أحدهما وأرحلهما يعقوب بن سفيان أبو(28/45)
يوسف، يعجز أهل العراق أن يروا مثله رجلاً. وذكر الثاني: يريد حرب بن إسماعيل، فقال: هو من الكتاب عني. وكان أبو يوسف يجيئني في التاريخ، ينتخب منه، وكان نبيلاً جليل القدر. فبينا أنا قاعد في المسجد إذ جاءني رجل من أهل خراسان، فقعد إلى جنبي، فقال: أنت أبو زرعة؟ قلت: نعم، فجعل يسألني عن هذه الدقائق، فقلت له: من أين جمعت هذه؟ فقال: هذه كتبناها عن أبي يوسف يعقوب بن سفيان.
قال أبو بكر أحمد بن عبدان: لما قدم يعقوب بن الليث، صاحب خراسان، فارس أخبر أن هناك رجلاً يتكلم في عثمان بن عفان رضي الله عنه وأراد بالرجل يعقوب بن سفيان الفسوي؛ فإنه كان يتشيع فأمر بإشخاصه من فسا إلى شيراز، فلما أن قدم علم الوزير ما وقع في قلب السلطان، فقال: أيها الأمير، إن هذا الرجل قد قدم، ولا يتكلم في أبي محمد عثمان بن عفان شيخنا يريد السجزي وإنما يتكلم في عثمان بن عفان صاحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما سمع ذلك قال: مالي ولأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟؟! توهمت أنه يتكلم في عثمان بن عفان السجزي. فلم يعرض له.
توفي يعقوب بن سفيان سنة سبع وسبعين ومائتين. وكان بين موت يعقوب وأبي حاتم شهر، فقدم موت يعقوب على أبي حاتم. ومات يعقوب بفسا.
يعقوب بن سلمة بن عبد الله
ابن الوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي أخو أيوب، ووالد أم سلمة زوج مسلمة بن هشام بن عبد الملك التي خلف عليها أبو العباس السفاح. وفد يعقوب على هشام.(28/46)
قال محمد بن علي الكوفي: كان من شأن زيد بن علي وسبب قتله، أنه وداود بن علي بن عبد الله بن عباس قدما على خالد بن عبد الله القسري زائرين له، وهو عامل لهشام بن عبد الملك على العراق، فوصلهما خالد، وأحسن جائزتهما، وانصرفا إلى الحجاز. ثم إن خالداً عزل عن العراق، وولي مكانه يوسف بن عمر الثقفي، وطالب خالد بن عبد الله بالأموال، وحبسه، وغلظ عليه وعلى كتابه، وعماله. وبلغه أن زيد بن علي، وداود بن علي كانا صارا إلى خالد، وأن خالداً دفع إليهما مالاً عظيماً على جهة الوديعة، فكتب يوسف بذلك إلى هشام، فأشخصهما هشام إليه، وسألهما عن ذلك، فأنكرا. وقد كان بلغ هشام أن خالداً استودع يعقوب بن سلمة بن عبد الله المخزومي مالاً، فأحضره بحضرة زيد وداود، وسأله عن المال كما سألهما، فأنكر، فأمرهم جميعاً بالنهوض، فلما خرجوا، وكانوا ببابه خرج إليهم حاجبه، فقال: إن أمير المؤمنين أمرني أن أستحلفك يا يعقوب بن سلمة ما لخالد عندك مال؟ قال: أقبل. فأستحلفه، وصدقه، وقال لزيد بن علي، وداود بن علي: إن أمير المؤمنين أمرني بإشخاصكما إلى يوسف بن عمر، فقالا: وكيف يكون حكمان في أمر واحد؟ فدخل الآذن على هشام، فأعلمه، فقال: قل لهما: نعم، حكمان في أمر واحد، فقال زيد: إنه ما كره قوم قط الموت إلا ذلوا. وشخصا إلى يوسف.
وقد روي أن الذي اتهم بمال خالد أخوه أيوب بن سلمة.
يعقوب بن طلحة بن عبيد الله بن عثمان القرشي التيمي المدني
قيل إنه وفد على عبد الملك بن مروان.
قال يعقوب بن طلحة بن عبيد الله: قلت لعلي بن أبي طالب: أرأيت الرجل إذا مات من يرث ماله، الحي أم الميت؟ فقال علي: لا بل يرث ماله الحي، قلت: فإن طلحة قد قتل، وإنما مال طلحة لبنيه، وإنما أخذت أموالنا، وليس بمال طلحة. قال: ففاضت عيناه، ثم مسح دموعه، فقال: كيف قلت؟ قال:(28/47)
قلت: ما سمعت؟ فقال علي: أجل والله إذن، إنه لمالكم، ولكني بين ظهراني قوم لست أعلم بهم منك، وإني والله لو أعطيتك مال طلحة لقالوا: أقتل طلحة حلال، وماله حرام؟ ولكن أنظرني حتى ينسى ذلك فادفعه إليك. وإنما هو مالكم.
قال ابن سعد: يعقوب بن طلحة بن عبيد الله. وكان سخياً جواداً. قتل يوم الحرة في ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وجاء بمقتله ومصاب أهل الحرة إلى الكوفة الكروس بن زيد الطائي، ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي: من الطويل
لعمري لقد جاء الكروّس كاظماً ... على خبر للمسلمين وجيع
حديثّ أتاني عن لؤي بن غالب ... فما رقأت ليل التّمام دموعي
يخبر أن لم يبق إلا أراملّ ... وإلا دمٌ قد سال كل مريع
قرومٌ تلاقت من قريشٍ فأنهلت ... بأصهب من ماء السّمام نقيع
فكم حول سلعٍ من عجوزٍ مصابةٍ ... وأبيض فيّاض اليدين صريع
طلوع ثنايا المجد سامٍ بطرفه ... قبيل تلاقيهم أشمّ منيع
وذي سنةٍ لم يبد للشمس قبلها ... وذي صعوة غضّ العظام رضيع
شباب كيعقوب بن طلحة أقفرت ... منازله من رومة فبقيع
فوالله ما هذا بعيشٍ فيشتهى ... هنيٍّ ولا موتٍ يريح سريع(28/48)
قال ابن سعد: وأم يعقوب بن طلحة وأخويه: إسماعيل وإسحاق أم أبان بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.
قال أحمد بن محمد بن أيوب المغيري: وقدم يعني مسرفاً معقل بن سنان الأشجعي صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضرب عنقه صبراً، وقدم الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فضرب عنقه صبراً، وقتل أبا بكر بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وأبا بكر بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ويعقوب بن طلحة بن عبيد الله، وابني زينب ربيبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضرب أعناقهم صبراً.
يعقوب بن عبد الرحمن بن سليم الكلبي
من أهل دمشق، ممن قام في قتل الوليد بن يزيد. بعثه يزيد بن الوليد بن عبد الملك إلى مروان بن محمد ليأخذ له بيعته، فمات يزيد قبل أن يبايع له مروان.
يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي
حليف بني زهرة. من أهل المدينة. قدم الشام، وقال: رأيت السائب بن يزيد يركب بميثرة حمراء. وقال: صحبت عمر بن عبد العزيز إلى الشام، فوالله ما رأيت ساقيه، ولا صدره جهراً، وكان إذا اجتهد يمينه قال: ليس في ذلكم من شيء.
قال ابن سعد وأبو حاتم ويحيى بن معين: يعقوب ثقة.(28/49)
قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، وكان ورعاً سلماً، وكان ممن يستعمل على الصدقات، ويستعين به الولاة. وكنت آتيه، فيأذن لي عليه، ثم يأمر جاريةً له فتغلق الباب، ويقول لها: لا تأذني لأحد علي، فوالله لهو كان أشد مساءلةً لي منه مني له.
قال أبو الزناد: كانوا عشرةً يجلسون مجلساً واحداً، يعرفون به، منهم: يعقوب بن عتبة، فما كان أحد منهم أمرأ مروءةً منه، وما سمع له صوت قط في منزله.
قال محمد بن عمر: وكان هؤلاء العشرة سناً واحدةً، فقهاء علماء: يعقوب بن عتبة، وعثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس، وعبد الله، وعبد الرحمن، والحارث بنو عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسعد بن إبراهيم، والصلت بن زبيد، وصالح بن كيسان، وعبد الله بن يزيد بن هرمز، وعبد الله بن يزيد الهذلي.
مات يعقوب بن عتبة بالمدينة سنة ثمان وعشين ومائة.
يعقوب بن علي بن يعقوب أبو إسحاق
السرخسي الصوفي ذكره عبد الغافر الفارسي في تذييله تاريخ نيسابور، وقال: هو رجل ظريف من المتصوفة شديد، مرضي الحال. سافر الكثير، وسمع الحديث، وله رباط بسرخس قبره فيه، وقد شاهدته.(28/50)
يعقوب بن عمر بن قتادة بن النعمان
أخو عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري المدني وفد على عمر بن عبد العزيز.
قال: قدمت على عمر بن عبد العزيز، فسألني عن عين قتادة بن النعمان، فقلت: رميت يوم الخندق، فقال أناس: وقعت، وقال أناس: بل سالت على خده، وتعلقت بعرق، فجاء بها إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتفل عليها، وردها مكانها، وقال: اللهم أكسه الجمال، فقال عمر بن عبد العزيز: من البسيط
تلك المكارم لاقعبان من لبن ... شيبا بماءٍ فعادا بعد أبوالا
يعقوب بن عمير بن هانئ العنسي
قال عبد الجبار بن مهنا الخولاني: كان يعقوب بن عمير من جلة أصحاب يزيد بن الوليد، وكان رفيع المنزلة عنده. ولما بلغ يزيد بن الوليد ما اجتمع عليه أهل حمص من حربه، والطلب بدم الوليد وجه إليهم عشرة رهط، منهم: يزيد بن يزيد بن جابر، ويعقوب بن عمير بن هانئ، وإنهم لما قربوا منهم لقيتهم خيل أهل حمص، ومنعوهم من دخولها، وبعثوا إلى أهل حمص، فخرج إليهم نحو من خمسين رجلاً من أشرافهم، وأخرج يزيد بن يزيد بن جابر(28/51)
كتاب يزيد بن الوليد، فقرأه عليهم، ثم حمد الله تبارك وتعالى وصلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ذكر الوليد، فوصفه بسيء أعماله، وما نقم عليه أهل بيته، وأعلمهم أن يزيد ليس يدعوهم إلى نفسه، وإنما يدعوهم إلى الرضى من الأمة، وأن يكون أمرهم شورى بينهم، وقال: نجتمع نحن وأنتم، ونظراؤنا من أهل الشام، فننظر لأنفسنا، ونختار للمسلمين.
فقال عمرو بن قيس: فإن الذي لا نرضى إلا به، ولا نقر إلا عليه تولية وليي عهدنا اللذين قد بايعناهما، ورضيت الأمة بهما، فتناول لحية عمرو، فقبض عليها، وقال: عند الله أحتسب فناء عشيرتي، وضيعة أمرهم! وقال: ذهب عقلك! وأغلظ له القول، ووثب الحمصيون، وقالوا: قتلتم خليفتنا، ليس بيننا وبينكم إلا السيف. فانصرفوا إلى يزيد، فأعلموه ما كان من أمرهم.
قال: وكان يعقوب بن عمير على شرطة عبد العزيز بن الحجاج، وتوفي بداريا، ولم يعقب.
يعقوب بن كعب بن حامد أبو يوسف
الأنطاكي الحلبي كان رجلاً صالحاً ثقة صاحب سنة.
يعقوب بن مسدد بن أبي يوسف
يعقوب بن إسحاق بن زياد، أبو يوسف القولسي أصله من البصرة، وسكن أطرابلس، وحدث ببغداد.(28/52)
يعقوب بن يوسف بن كلس
كان يهودياً من أهل بغداد خبيثاً، ذا مكر ودهاء، وفيه فطنة وذكاء. وكان في قديم أمره خرج إلى الشام، فنزل الرملة، وصار بها وكيلاً، وكسر أموال التجار وهرب إلى مصر، فرأى منه كافور الإخشيدي فطنة وسياسة، ومعرفة بأمر الضياع بمصر فقال: لو كان مسلماً يصلح أن يكون وزيراً. وطمع في الوزارة فأسلم يوم جمعة في جامع مصر. فلما عرف الوزير ابن حنزابة أمره قصده، فهرب إلى المغرب، واتصل بيهود كانوا مع الملقب بالمعز. فلما هلك الملقب بالعزيز استوزر ابن كلس في سنة خمس وستين وثلاثمائة، فلم يزل مدبراً أمره إلى أن هلك في ذي الحجة سنة ثمانين وثلاثمائة.
يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان
أبو الفضل الأموي مولاهم النيسابوري الوراق والد أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم قال الحاكم أبو عبد الله: كان يعقوب الوراق من أحسن الناس خطاً. مات لثلاث عشرة خلت من المحرم سنة سبع وسبعين ومائتين، وصلى عليه ابنه أبو العباس.
يعقوب بن يوسف بن يعقوب
ابن عبد الله أبو يوسف الشيباني النيسابوري، المعروف بالأخرم والد أبي عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ. رحل إلى مصر، وأقام بها مدة يتفقه.
قال الحاكم أبو عبد الله: وقد كان أطال المقام بمصر، وكان يكاتبه أبو إبراهيم المري. وقد كان دخل على أحمد بن حنبل غير مرة. وكان ابنه يبخل بحديثه.(28/53)
مات الأخرم في شعبان سنة سبع وثمانين ومائتين.
يعقوب مولى هشام بن عبد الملك
كان من أعيان مواليه. وكان يغزو عن هشام بن عبد الملك، ويقبض عطاء هشام مائتي دينار وديناراً يفضل به الخليفة على رعيته.
يعلى بن الأشدق أبو الهيثم العقيلي
من أهل بادية الطائف. حدث عن عمه عبد الله بن جراد، وزعم أنه له صحبة، وقال: أدركت عدة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو أحمد بن عدي: يعلى بن الأشدق العقيلي الجزري، يكنى أبا الهيثم، ويروي عن عمه عبد الله بن جراد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث كثيرة مناكير، وهو وعمه غير معروفين.
قال أحمد بن علي الأبار: سألت أيوب الوزان عن يعلى بن الأشدق، فقال: كان من أهل البادية. قلت: يعلمون موضعه الذي كان يأوي إليه؟ قال: لا، قلت: فكتب عنه أحد غيركم؟ قال: أهل رحان. قال: ورأيت له ابناً كأنه أكبر منه، ورأيت له ابنه وظننت أنها أمه، فقال: هذه ابنتي ولدت لي بعد المائة. وقال: إنما كان سيارة، ولم أر أمره عنده على الصحة.
وسمعته مرة يقول: لا يعرف.
قال أبو وهب الحراني: سمعت يعلى بن الأشدق وقيل له: كم أتى عليك؟ قال: مائة سنة وست وعشرون، ونصف سنة.(28/54)
قال أبو مسهر: قدم يعلى بن الأشدق دمشق، وكان أعرابياً، فحدث عن عبد الله بن جراد سبعة أحاديث، فقلنا: لعله حق، ثم جعله عشرة، ثم جعله عشرين، ثم جعله أربعين، وكان هو ذا يزيد.
وقلت ليعلى بن الأشدق: ما سمع عمك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: جامع سفيان وموطأ مالك، وشيئاً من الفوائد.
فإن كانت هذه الحكاية عن أبي مسهر صحيحة فرواية يعلى هذه النسخة لا يجوز الاشتغال بها.
سئل أبو زرعة عنه، فقال: هو عندي لا يصدق، ليس بشيء، قدم الرقة فقال: رأيت رجلاً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال له عبد الله بن جراد. فأعطوه على ذلك، فوضع أربعين حديثاً، وعبد الله بن جراد لا يعرف.
وعده الدارقطني وغيره من المتروكين.
يعلى بن أمية أبو خالد
ويقال: أبو خلف التميمي له صحبة، وكان في غزوة مؤتة، وخرج مع عمر إلى الشام في سفرته التي رجع فيها من سرغ.
وقال: جئت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثاني يوم الفتح، فقلت له: يا رسول الله، بايع أي على الهجرة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبايعه على الجهاد، قد انقطعت الهجرة.(28/55)
وقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين بعيراً وثلاثين درعاً، فقلت: يا رسول الله، مضمونة؟ قال: نعم، والعارية مؤداة.
ويعلى بن أمية هو يعلى بن منية؛ أمية أبوه، ومنية أمه، وهي منية بنت غزوان أخت عتبة بن غزوان، وكان يعلى حليف نوفل بن عبد مناف. أسلم هو وأبوه أمية، وأخوه سلمة، وأخته نفيسة. وشهد يعلى وسلمة ابنا أمية مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبوك، وشهد يعلى الطائف وحنيناً، وكان عامل عمر على نجران، وله أخبار مع علي وعثمان. وكان من أسخياء أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال موسى بن عقبة: وزعموا والله أعلم أن يعلى بن أمية قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن شئت أخبرني، وإن شئت أخبرتك قال: أخبرني يا رسول الله، فأخبره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرهم كله، ووصفه لهم، فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفاً لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله رفع لي الأرض حتى رأيتهم، ورأيت معتركهم قال يعلى بن أمية: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: البحر من جهنم، فقيل له في ذلك، فقال: أحاط بهم سرادقها، والله لا أدخله، ولا يصيبني منه قطرة حتى أعرض على الله عز وجل.
وجاء عن يعلى بن أمية أنه كان يقعد في المسجد الساعة ينوي بها الاعتكاف، وأنه كان يصلي قبل أن تطلع الشمس، فقيل له في ذلك، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الشمس تطلع على وفي رواية: بين قرني شيطان. قال: فإن تطلع وأنت في أمر الله خير من أن تطلع وأنت لاه.(28/56)
وقال يعلى بن أمية: سألت عمر أن يريني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نزل عليه الوحي. فأتاه رجل بالجعرانة، ولعيه جبة بها ردع من زعفران، فقال: إني أحرمت بالعمرة، وعلي هذا، فأنزل على الني صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فستر بثوب، فقال: أيسرك أن تنظر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أنزل عليه الوحي؟ قلت: نعم، فرفع طرف الثوب، فنظرت إليه، وله غطيط كغطيط البكر.
وجه أبو بكر يعلى بن أمية على حولان في الردة، واستعمله عثمان على اليمن.
وأول من جاء بقتل عثمان إلى مكة رجل من العرب يقال له الأخضر، وكتمهم ذلك حتى اقتضى ديناً له على الناس، فلما اقتضى دينه خرج، وخرج معه يعلى بن منية، حتى إذا كان بالبطحاء، وأخبره بقتل عثمان، فرجع يعلى، فأخبر أهل مكة.
قال: وجاء يعلى بن أمية إلى عائشة، فقال: قد قتل خليفتك. قالت: برئت إلى الله ممن قتله، فقال: أظهري البراءة ممن قتله. فخرجت إلى المسجد، فجعلت تبرأ ممن قتل عثمان.
قال: ولما بلغ يعلى قول عبد الله بن أبي ربيعة، وما دعا إليه من جهاز من خرج يطلب بدم عثمان خرج يعلى من داره، فقال: أيها الناس، من خرج يطلب بدم عثمان فعلي جهازه. ولما بلغ علياً ما قال يعلى وابن أبي ربيعة عرف أن عندهما مالاً من مال الله كثيراً، فقال: لئن ظفرت بابن بابن أبي ربيعة، ويعلى بن منية لأجعلن أموالهما في مال الله. قال: وقدم يعلى بن أمية بأربع مئة ألف فأنفقها في جهازهم إلى البصرة. وقال يعلى بن منية وهو مشتمل: هذه عشرة آلاف دينار وهي عين مالي أقوي بها من طلب بدم عثمان. واشترى أربع مئة بعير، فأنخاها بالبطحاء، فحمل عليها. فبلغ ذلك علياً، فقال: من أين له عشرة آلاف دينار؟ سرق اليمن. ثم جاء بها! والله لئن قدرت عليه لآخذن ما أقر به! فلما كان يوم الجمل، وانكشف الناس هرب يعلى.
وروي أن علياً قال: حاربني أطوع الناس فيّ للناس؛ عائشة، وأشجع الناس؛ الزبير، وأمكر الناس؛ طلحة، وأعبد الناس؛ محمد بن طلحة، وأسخى الناس؛ يعلى بن(28/57)
منية؛ كان يعطي الرجل الواحد ثلاثين ديناراً، والسلاح، والفرس على أن يقاتلني.
قال يعلى بن منية: إياكم والمزاح؛ فإنه يذهب بالبهاء، ويعقب المذمة، ويذري بالمروءة.
قتل يعلى بن منية سنة ثمان وثلاثين بصفين مع علي بعد أن شهد الجمل مع عائشة. ويقال: إنه تزوج بنت الزبير وبنت أبي لهب.
يعلى بن حكيم الثقفي
مكي سكن البصرة. وقدم الشام على عمر بن عبد العزيز، وبها مات. وقال: كانت أردية عمر بن عبد العزيز ستة أذرع وسبعاً في سبعة أشبار.
قال محمد بن ذكوان:
خرجت مع يعلى بن حكيم من باب المسجد الحرام، فرأى الحبشان يبولون، ثم يأتون المطهرة، فيغمسون أيديهم فيها، فقال: ألا ترى ما يصنع هؤلاء؟ قلت: بلى، قال: خرجت مع سعيد بن جبير من هذا الباب، فرأى الحبشان يصنعون كما تراهم، فقال: يا يعلى، ألا ترى ما يصنع هؤلاء؟ فقلت: بلى، قال: فإني خرجت مع ابن عباس من هذا الباب، فقال: يا سعيد، ألا ترى ما يعمل هؤلاء؟ فقلت: بلى، قال: فإني خرجت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرآهم يصنعون كما تراهم الآن، فلم ينههم.
قال جرير بن حازم: بعث إلي يعلى بن حكيم بصحيفة ضخمة من الشام فيها مسائل، فقال: سل عنها قتادة، فسألته عنها، فقال: إن ذا يكثر علي، أو يشق علي، فسل سعيد بن أبي عروبة عنها، فإنه قد روى حديثي، ثم اعرضه علي، قال: فسألت سعيداً، ثم عرضته على قتادة، فما غير منه إلا يسيراً.(28/58)
قال يعقوب بن سفيان: يعلى بن حكيم، ويعلى بن مسلم مكيان مستقيما الحديث.
وقال أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين: يعلى بن حكيم ثقة.
وقال أبو حاتم: لا بأس به.
قال حماد بن زيد: جاء نعي يعلى بن حكيم وكان مول لثقيف من الشام إلى أمه ولم يكن له ها هنا أحد غيرها، فكان أيوب يأتيها ثلاثة أيام بالغداة والعشي، فيقعد، وتقعد معه. ولم يزل يصلها حتى ماتت. قال: وكانت تأتي منزله، فتبيت عنده.
يعلى بن الضخم العنسي
كان على شرطة هشام بن عبد الملك.
يعلى بن عطاء العامري
ويقال: الليثي الطائفي نزيل واسط.
قال ابن سعد: يعلى بن عطاء مولى عبد الله بن عمرو بن العاص. وكان ثقة، وكان من أهل الطائف، وكان قدم واسط، فأقام بها في آخر سلطان بني أمية.(28/59)
قال شعبة: قال لي يعلى بن عطاء: أكتبك؟ قلت: لا، قال: والله ما أفعل هذا بكل أحد، وما أعرض هذا على كل أحد.
حدث يعلى بن عطاء، عن أبيه: أن رجلاً أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأذنه في الجهاد. قال شعبة: ولم يذكره عن عبد الله بن عمرو بن العاص، فتهاونت به، فقال: لا تأخذ هذا عني، عن أبي، وقد ولد أبي لثلاث سنين بقين من خلافة عمر؟! مات يعلى بن عطاء الطائفي العامري بواسط سنة عشرين ومائة.
أثنى عليه أبو عبد الله خيراً، ووثقه يحيى، وقال أبو حاتم الرازي: هو صالح الحديث.
يعلى بن مرة بن وهب بن جابر
أبو المرازم الثقفي له صحبة. وقيل: إنه قدم دمشق.
قال يعلى بن مرة: مررت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا متخلق، فقال: يا يعلى، هل لك امرأة؟ قلت: لا، قال: اذهب فاغسله، ثم اغسله، ثم اغسله، ثم لا تعد. قال: فغسلته، ثم غسلته، ثم غسلته، ثم لم أعد وفي رواية: فغسلته ثم أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: طيب الرجال ما ظهر ريحه، وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه، وخفي ريحه.
وفي رواية قال: اغتسلت، وتخلفت بخلوق، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسح وجوهنا،(28/60)
فلما دنا مني جعل يجافي يده عن الخلوق، فلما فرغ قال: يا يعلى، ما حملك على الخلوق؟ أتزوجت؟ قلت: لا، قال: أذهب، فاغسله. قال: فمررت على ركية، فجعلت أقع فيها، ثم جعلت أتدلك بالتراب حتى ذهب.
قال يحيى بن معين: يعلى بن مرة هو يعلى بن سيابة، يقولون: سيابة أمه، كنيته أبو المرازم.
قال ابن سعد: يعلى بن مرة، أسلم، وشهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديبية، وبيعة الرضوان، وخيبر، وفتح مكة، والطائف، وحنيناً. وكان فاضلاً. وأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الطائف بقطع أعناب ثقيف، وقال: من قطع حبلةً فله كذا وكذا من الأجر. وقال عيينة بن حصن ليعلى بن مرة: أقطع ولك أجري، فقطع خمس حبلات، ثم أخبر عيينة فقال: لك النار. فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: عيينة أولى بالنار.
عن يعلى بن سيابة الثقفي قال: كنت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا وديتان، فأمرهما أن تجتمعا، فاجتمعتا، فقضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاجته، واستتر بهما، ثم قال: ارجعا إلى ما كنتما. فأتيته بإداوة من ماء، فتوضأ، قال: انطلق إلى البقيع، فأتى على قبرين، فقال: يعذبان، الحديث.
يعمر بن مسعود
أحد صحابة عمر بن عبد العزيز.
عن يعمر بن مسعود قال:
صليت مع عمر بن عبد العزيز، فقال لي: إن عندنا مالاً من مال سهم المؤلفة(28/61)
قلوبهم، وقد استخرت الله تعالى في ذلك، فرأيت أن أبعث به إلى من بمرعش، ورعبان، وزلول، ونحوها من الصقالبة، ومن أسلم حديثاً. فبعث معي، ومع رجل آخر من حرسه بوقر أو وقرين مالاً، وأمرنا أن نقسمه فيهم.
يعيش بن الوليد بن هشام بن معاوية
ابن هشام بن عقبة بن أبي معيط القرشي الأموي المعيطي من أهل دمشق. وسكن قرقيسياء.
قال سعيد بن عبد العزيز: نزل يعيش بن الوليد على مكحول، فأكرمه، وهياً له طعاماً، فأطعمه، وأطعم الناس، فكان يزيد بن يزيد بن جابر ممن يخدم ذلك اليوم توقيراً لمكحول.
قال العجلي: يعيش بن الوليد شامي ثقة.
وقال أحمد بن محمد بن عيسى في تاريخ الحمصيين: قتلته المسودة على عهد عبد الله بن علي.
يغمر بن ألب سارخ أبو الندى
التركي الفقيه المقرئ قال الحافظ ابن عساكر: كان أبوه جندياً، وتوفي وهو صغير، وكان يعمل في القرآن، ويلقن القرآن. كان يختلف إلى الدرس بالمدرسة الأمينية، ويلقن القرآن في المسجد الجامع، ويؤم بالناس في الصلوات الخمس في مسجد العقيبة. وكان يحفظ قطعةً صالحة من أخبار الناس وأشعارهم، وكانت له مروءة، مع ضعف ذلك، يضيف من نزل به في مسجده. وكان حسن الاعتقاد، ذا صلابة في الدين. وكان يحثني على تبييض هذا الكتاب، ويود لو أنه تم؛ حتى إنه عزم عند وجود فترة مني عنه، وانصراف همة عن تبييضه على أن يكتب إلى الملك(28/62)
العادل نور الدين قصة على لسان أصحاب الحديث، يسأله أن يتقدم إلي بإنجازه، فنهاه بعض أصحابنا عن ذلك، إلى أن يسر الله الشروع فيه بعد وفاته، والله يعين على إتمامه. ويا ليت أنه كان بقي حتى يراه، ولو كان رآه لعلم أنه أكثر مما وقع في نفسه.
وكانت وفاته في ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. ولما كنا في جنازته فكرت في نفسي، وقلت: والله إني لأحق من يعمر بالاهتمام بهذا التاريخ. فصرفت همتي إليه، وشرعت فيه، ويسر الله تمامه بهمة يغمر، فإنه كان صالحاً، وكان يتأسف على ترك الشروع فيه، وكان شديد الاهتمام به، يكاد يبكي إذا ذكره، ويقول: لو تم هذا الكتاب لا يكون في الإسلام كتاب مثله.
يلتكين التركي
كان من غلمان هفتكين أمير دمشق من قبل الطائع لله، فأهداه هفتكين للوزير ابن كلس بمصر، فاصطنع، وجرد إلى الشام في عسكر كبير، وولي إمرة دمشق، فوصل يلتكين في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، ومدبر عسكره ميشا بن القزاز اليهودي. وكانت دمشق إذ ذاك مفتتنةً بقسام الذي كان غلب عليها، وبها جيش بن صمصامة بعد موت خاله أبي محمود الكتامي، فلم يزل يلتكين يقاتل أهل البلد، حتى تفرق عن قسام من معه، واستخفى، وتسلم يلتكين البلد، وأقام به إلى أن وردت الكتب من مصر إليه أن يسلم البلد إلى بكجور صاحب حمص، ويرجع إلى مصر، لاحتياج الملقب بالعزيز إليه حين اضطرب عليه جنده من المغاربة، فاحتاج إلى جند من المشارقة يقهر به المغاربة، وذلك في سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
يمان بن عفير
شهد صفين مع معاوية، وكان أميراً يومئذ على حمير، وحضرموت. له ذكر.(28/63)
يمكجور التركي
ولي إمرة دمشق في خلافتي: المعتز بن المتوكل، والمهتدي بن الواثق جميعاً.
يموت بن المزرع بن يموت
أبو بكر العبدي البغدادي الأديب ويقال: اسمه محمد سكن طبرية. وكان أخبارياً.
حدث عن أبي حاتم السجستاني أن العقدي قال له: قال وكيع بن الجراح: لا يقال لرجل من المسلمين: رجيل، ولا مسيجد، ولا مصيحف. وعدد من هذا النحو أشياء كثيرة.
وحدث عن اب إسحاق، عن ابن عائشة، عن بعض أصحابه: إنما قصرت أعمار الملوك لكثرة شكاية الخلق إلى الله عز وجل.
قال الخطيب: يموت بن المزرع بن يموت أبو بكر العبدي، من عبد القيس. بصري قدم بغداد هو سنة إحدى وثلاثمائة، وهو شيخ كبير. وكان صاحب أخبار وملح، وآداب، وهو ابن أخت أبي عثمان الجاحظ. واسمه يموت، ثم تسمى محمداً، ويموت الغالب عليه. وخرج من بغداد إلى الشام، فمات هناك.
وذكره في باب المحمدين.
قال يموت بن المزرع: بليت بالاسم الذي سماني به أبي، فإني إذا عدت مريضاً، فاستأذنت عليه، فقيل: من ذا؟ قلت: أنا ابن المزرع، وأسقطت اسمي.(28/64)
أنشد منصور بن إسماعيل التميمي لنفسه في يموت بن المزرع: مجزوء الرمل
أنت تحيا والذي يك ... ره أن تحيا يموت
أنت صنو النّفس بل أن ... ت لروح النفس قوت
أنت للحكمة بيتٌ ... لا خلت منك البيوت
وأنشد يموت بن المزرع لنفسه: من الوافر
مهلهل قد حلبت شطور دهرٍ ... وكافحني بها الزمن العنوت
وحاربت الرجال بكلّ ريعٍ ... فأذعن لي الحثالة والرّتوت
فأوجع ما أجنّ عليه قلبي ... كريمٌ غتّه زمن غتوت
كفى حزناً بضيعةٍ ذي قديمٍ ... وأولاد العبيد لها الجفوت
وقد أسهرت عيني بعد غمضٍ ... مخافة أن تضيع إذا فنيت
وفي لطف المهيمن لي عزاءٌ ... بمثلك إن فنيت وإن بقيت
فجب في الأرض وابغ بها علوماً ... ولا يقطعك جامحة سنوت
وإن بخل العليم عليك يوماً ... فذلّ له وديدنك السكوت
وقل بالعلم كان أبي جواداً ... يقال ومن أبوك فقل يموت(28/65)
قال ابن زبر: سنة ثلاث وثلاثمائة مات يموت بن المزرع بطبرية.
وقال ابن يونس: مات بدمشق سنة أربع وثلاثمائة.
ينجوتكين التركي
مولى الملقب بالعزيز، ولاه العزيز إمرة دمشق، وتدبير العساكر الشامية. وقدم دمشق في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، فبقي أميراً عليها إلى أن هلك مولاه سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، وولي بعده ابنه منصور الملقب بالحاكم، فعزل ينجوتكين، فتوجه ينجوتكين إلى الرملة للقاء من يجيئه من مصر، فاقتتلوا، وانهزم ينجوتكين يوم الجمعة لأربع خلون من جمادى الأولى سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. ورجع إلى دمشق بعد ثلاثة أيام من الوقعة، وطلب من أهل دمشق النصرة، فلم يجيبوه خوفاً من الحصار والغلاء، ونهبوا داره وخرج منهزماً، وتوجه إلى أذرعات إلى ابن الجراح الطائي، فلم يمنعه، وسلمه إلى سلمان بن جعفر بن فلاح الذي ندب لولاية الشام، فبعث به إلى مصر، فمن عليه منصور، وأطلقه.(28/66)
ذكر من اسمه يوسف من الرجال
يوسف بن إبراهيم بن مرزوق بن حمدان
أبو يعقوب الصهيبي الحبالي من أهل حبال، قرية بوادي موسى. رحل إلى مرو، وتفقه بها. وكان متقشفاً. وكان شافعياً ينزل مدرسة الحنفية. قتل بمرو لما دخلها خوارزم شاه.
كان فقيهاً ورعاً متديناً، مشتغلاً بالعبادة والورع. ورد بغداد في سنة ست عشرة وخمسمائة، وخرج منها إلى خراسان ونيسابور، ثم قدم مرو، وسكنها إلى حين وفاته.
قال الحافظ أبو سعد السمعاني في ذيل تاريخ بغداد: وكان يسمع معنا الكثير بمرو، وسمعنا شعب الإيمان لأحمد بن الحسين البيهقي. ولما قربت وفاته، وكنت غائباً بهراة في رحلتي الثانية إليها أوصى بأكثر كتبه أن توضع في الخزانة النظامية، وتكون موقوفةً على المسلمين ممن ينتفع بها، وشيء منها وضع في الخزانة التي عملها أبو الفضل الكرماني، وأوصى بالأجزاء المتفرقة التي حصلها ونسخها أن تكون عندي، وفي يدي، والله تعالى يرحمه، ويغفر له، فإنه كان نعم الصديق. وكان قليل المخالطة والمجالسة مع الناس، وفي أكثر الأوقات في مدرسة السلطان، وكان يرد الباب على نفسه ويشتغل إما بالعبادة، أو المطالعة، وكان يزورني وأزوره في بعض الأوقات. وظني أن مولده كان في حدود سنة تسعين وأربعمائة. ومات سنة أربعين وخمسمائة.(28/67)
يوسف بن إبراهيم أبو الحسن الكاتب
أظنه بغدادياً. كان في خدمة إبراهيم بن المهدي. قدم دمشق سنة خمس وعشرين ومائتين. وكان من ذوي المروءات.
قال: كانت بيني وبين أحمد بن محمد بن مدبر سوالف ترعى، ويحافظ عليها؛ فلما تولى مصر رأى حسن ظاهري، فظن ذلك عن أموال جمة لدي، فجدني في المطالبة، وأخرج علي بقايا لعقود انكسرت من آفات عرضت لضياعها، ولم يسمع الاحتجاج فيها، واستقصر ما أوردته، وإنما كان عن حيلة، واحتبسني مع المتضمنين، وكان يغدو في كل يوم غلام له يحجبه يعرف بفضل، فيكتب على كل رجل ما مورده في يومه، فإن شكا أنه لا يصل إلى شيء أخرجه، فحملت عليه الحجارة، وطولب أعنف مطالبة، فلم تزل الحاجة علي حتى بعت حصر داري قضاءً عما فيها، وعرضت دوري، فمنعني من بيعها، ووجه إلي: فأين تكون حرمك؟
وأنفذ إلي ورقة نسختها: يا أبا الحسن أعزك الله قد ألويت بما بقي عليك وهو ستة عشر ألف ديناراً، وآثرنا صيانتك عن خطة المطالبة هذه المدة؛ فإن أزحت العلة فيها، وإلا سلمناك إلى أبي الفوارس مزاحم بن خاقان أيده الله. فكتبت إليه رقعة أحلف فيها أني ما أملك عدد هذه حب حنطة، ولو كان لي شيء لصنت به نفسي. فإن رأى السيد رعاية السالف بيني وبينه، وستر تخلفي كان أهلاً لما يأتيه، وإن سلمني إلى هذا الرجل رجوت من الله عز وجل ما لا يخطئ من رجائه.
فرجع إلي بعض غلمانه، ومعه رقعة مختومة، فاستركبني، وصار بي إلى مزاحم. فلما قرئت عليه الرقعة أدخلني عليه، وعنده كاتب له يعرف بالمروذي، فعرفني، ولم أعرفه، وكان أبوه في الحارة التي فيها داري بسر من رأى. فقال: انت كاتب إبراهيم بن المهدي؟ قلت: نعم أيد الله الأمير قال: كنت أراك وأنا صبي في حارتنا، ووالله ما طلب ابن المدبر أن يروج علي مالاً، وإنما أراد أن أقتلك بالمطالبة. وقد رأيت أن أكتب إلى أمير المؤمنين أعرفه قصور يدك عن أداء المال، وأعلمه خدمتك لسلفه، وأسأله(28/68)
أن يتطول بإسقاط هذه البقية عنك، فإن سهل ذلك وإلا نجمها علي وعلى رجالي حتى يقاضوا بها في كل نجم. ثم قال للمروذي: هذا رجل من مشايخي، وأم زوجته ببغداد تولت تربيتي، وقد استكتبته على أموري، وما احتاج إلى قباله من الضياع بمصر، وليس يزيلك عن رسمك. فأخذ خاتماً له كان يختم به الكتب بحضرته فأعطانيه، وسألني عن العجوز التي ربته، فقلت له: هي معي بمصر، وانصرفت من عنده إلى منزلي. فكان أول من هنأني بمحلي منه ابن المدبر، ورجعت إلى نعمتي معه في مدة يسيرة.
يوسف بن إسماعيل بن يوسف
أبو يعقوب الساوي الصوفي قال أبو نعيم الحافظ: قدم أصبهان في سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة. كثير الحديث.
قال الحاكم أبو عبد الله: أبو يعقوب الساوي كان من الصالحين. التقينا ببغداد سنة إحدى وأربعين، ثم ورد خراسان سنة ثلاث وأربعين، وأقام بنيسابور مدة، ثم خرج إلى مرو، وبقي بمرو إلى أن مات بها سنة ست وأربعين وثلاثمائة.
يوسف بن أيوب بن شادي الملك الناصر صلاح الدين
سلطان المسلمين، وقامع المشركين. فاتح البيت المقدس وبلاد الساحل، ومخلصها من أيدي الكافرين، رحمه الله.(28/69)
يوسف بن بحر بن عبد الرحمن
أبو القاسم التميمي البغدادي ثم الأطرابلسي ويقال: الجبلي، قاضي حمص بغدادي سكن حمص. ليس بالمتين عندهم.
يوسف بن الحسن بن محمد أبو القاسم
الزنجاني الفقيه الشافعي المعروف بالتفكري في تاريخ الحافظ أبي سعد السمعاني قال: يوسف بن الحسن بن محمد بن التفكري، أبو القاسم، من أهل زنجان. سكن باب المراتب شرقي بغداد. رحل إلى أصبهان، وقرأ على أبي نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ المعجم الكبير، والأوسط، والصغير للطبراني، ومسند أبي داود الطيالسي، وغيرها من الكتب. ثم انتقل إلى بغداد محدثاً فقيهاً، وسكنها إلى أن توفي بها. وكان ورعاً، زاهداً، عاملاً بعلمه، متنسكاً، بكاءً عند الذكر، خاشعاً، صدوقاً، متبركاً به، مشتغلاً بنفسه، مقبلاً على العبادة ونشر العلم. مولده سنة خمس وسبعين وثلاثمائة بزنجان.
قال أبو القاسم التفكري: سمعت أبا علي الحسن بن علي بن بندار الزنجاني يقول: كان هارون الرشيد بعث إلى مالك بن أنس يستحضره ليسمع منه ابناه الأمين والمأمون، فأبى عليه، وقال: إن العلم يؤتى، لا يأتي. فبعث إليه ثانياً، فقال: أبعثهما إليك يسمعان مع أصحابك، فقال مالك: بشريطة أنهما لا يتخطيان رقاب الناس، ويجلسان حيث ينتهي بهما المجلس. فحضراه بهذا الشرط.
وكان يحيى بن يحيى النيسابوري يحضر المجلس، فانكسر يوماً قلمه، وبجنبه المأمون، فناوله قلماً من ذهب، أو قلماً من فضة، من مقلمة ذهب، فامتنع من قبوله، فقال له المأمون: ما اسمك؟ قال: يحيى بن يحيى النيسابوري، فقال: تعرفني؟ قال: نعم، أنت المأمون ابن أمير المؤمنين. فكتب المأمون على ظهر جزئه: ناولت يحيى بن يحيى النيسابوري قلماً في مجلس مالك فلم يقبله.(28/70)
فلما أفضت الخلافة إلى المأمون بعث إلى عامله بنيسابور، وأمره أن يولي يحيى بن يحيى القضاء. فبعث إليه يستدعيه، فقال بعض الناس: إنه يمتنع من الحضور. فأنفذ إليه كتاب المأمون، فقرئ عليه، فامتنع من القضاء. فرد إليه ثانياً وقال: إن أمير المؤمنين يأمرك بشيء، وأنت من رعيته، فتأبى عليه؟! فقال: قل لأمير المؤمنين: ناولتني قلماً وأنا شاب، فلم أقبله، فتجبرني الآن على القضاء وأنا شيخ! فرفع الخبر إلى المأمون بذلك، فقال: علمت امتناعه، ولكن، ول القضاء رجلاً يختاره. فبعث إليه العامل في ذلك، فاختار رجلاً من نيسابور، فولي القضاء.
قال: والرسم هناك أن يلبس القضاة السواد. فدخل ذلك القاضي على يحيى وعليه سواد، فضم يحيى فراشاً كن جالساً عليه، كراهية أن يجمعه وإياه. فقال: أيها الشيخ، ألم تخترني؟ قال: إنما قلت أختاره، وما قلت لك تقلد القضاء.
قال أبو الفضل بن خيرون: توفي أبو القاسم الزنجاني سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة.
يوسف بن الحسين بن علي أبو يعقوب
الرازي الصوفي، صاحب ذي النون المصري زاهد معروف موصوف.
قال: قلت لأحمد بن حنبل: حدثني، فقال: ما تصنع بالحديث يا صوفي؟ فقلت: لا بد حدثني، فقال: حدثنا مروان الفزاري، عن هلال بن سويد أبي المعلى، عن أنس قال: أهدي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طائران، فقدم إليه أحدهما، فلما أصبح قال: عندكم من غداء؟ فقدم إليه الآخر، فقال: من أين ذا؟ فقال بلال: خبأته لك يا رسول الله، فقال: يا بلال، لا تخف من ذي العرش إقلالاً، إن الله يأتي برزق كل غد.(28/71)
وفي رواية: أهدي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوائر ثلاثة، فأكل منها طيراً، واستخبأ خادمه طيرين، فرده إليه من الغد، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألم أنهك أن ترفع شيئاً لغد؟ إن الله يأتي برزق كل غد.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: يوسف بن الحسين، أبو يعقوب الرازي، إمام وقته، لم يكن من المشايخ على طريقته في تذليل النفس، وإسقاط الجاه. صحب ذا النون المصري، ورافق أبا سعيد الخراز في بعض أسفاره، وأبا تراب النخشبي.
قال أبو القاسم القشيري: كان نسيج وحده في إسقاط التصنع، وكان عالماً أديباً. مات سنة أربع وثلاثمائة.
قال يوسف بن الحسين: لأن ألقى الله بجميع المعاصي أحب غلي من أن ألقاه بذرة من التصنع. وقال: إذا رأيت المريد يشتغل بالرخص فاعلم أنه لا يجيء منه شيء.
وكتب إلى الجنيد: إذا أذاقك الله طعم نفسك، فإنك، إن ذقتها، لا تذوق بعدها خيراً أبداً. وقال: رأيت آفات الصوفية في صحبة الأحداث، ومعاشرة الأضداد، ورفقة النسوان. وقال: كنت أيام السياحة في أرض الشام أمسك بيدي عكازة مكتوباً عليها: من السريع
سر في بلاد الله سياحا ... وابك على نسك نوّاحاً
وامس بنور الله في أرضه ... كفى بنور الله مصباحا(28/72)
وكتب على مخلاته: من الهزج
فلا يومك ينساك ... ولا رزقك يعدوك
ومن يطمع في الناس ... يكن للناس مملوكا
وكن سعيك لله ... فإن الله يكفيك
وقال: قيل لي: إن ذا النون المصري يعرف اسم الله عز وجل الأعظم، فدخلت إلى مصر، فذهبت إليه، فبصرني وأنا طويل اللحية، ومعي ركوة طويلة، فاستبشع منظري، ولم يلتفت إلي.
قال أبو الحسين الرازي:
وكان يوسف بن الحسين يقال: إنه أعلم أهل زمانه بالكلام، وعلم الصوفية. فلما كان بعد أيام جاء إلى ذي النون رجل صاحب كلام، فناظر ذا النون، فلم يقم ذو النون بالحجج عليه، فاجتذبته إلي، وناظرته، فقطعته، فعرف ذو النون مكاني، فقام إلي وعانقني وجلس بين يدي، وهو شيخ وأنا شاب، وقال: اعذرني فلم أعرفك، فعذرته، وخدمته سنة واحدة، فلما كان على رأس السنة قلت له: يا أستاذ، إني قد خدمتك، وقد وجب حقي عليك، وقيل لي: إنك تعرف اسم الله الأعظم، وقد عرفتني، ولا تجد له موضعاً مثلي، فأحب أن تعلمني إياه. قال: فسكت عني ذو النون، ولم يجبني، وكأنه أومأ إلي أنه يخبرني، وتركني ستة أشهر بعد ذلك، ثم أخرج إلي من بيته طبقاً ومكبة مشدوداً في منديل وكان ذو النون يسكن في الجيزة فقال: تعرف فلاناً صديقنا من الفسطاط؟ قلت: نعم، قال: فأحب أن تؤدي هذا إليه. قال: فأخذت الطبق وهو مشدود، وجعلت أمشي طول الطريق وأنا متفكر فيه: مثل ذي النون يوجه إلى فلان(28/73)
بهدية! ترى أيش هي؟ قال: فلم أصبر إلى أن بلغت الجسر، فحللت المنديل، وشلت المكبة، فإذا فأرة، قفزت من الطبق، ومرت. فاغتظت غيظاً شديداً، وقلت: ذو النون يسخر بي، ويوجه مع مثلي فأرة إلى فلان!؟ فرجعت على ذلك الغيظ، فلما رآني عرف ما في وجهي، وقال: يا أحمق، إنما جربناك، ائتمنتك على فأرة فخنتني، أفاأتمنك على اسم الله الأعظم؟! وقال: مر عني فلا أراك شيئاً آخر.
قال: وسمعت ذا النون يقول: من جهل قدره هتك ستره.
وقال: قلت لذي النون وقت مفارقتي له: من أجالس؟ فقال: عليك مجالسة من تذكرك الله رؤيته، وتقع هيبته على باطنك، ويزيد في عملك منطقه، ويزهدك في الدنيا عمله، ولا تعصي الله ما دمت في قربه، يعظك بلسان فعله، ولا يعظك بلسان قوله.
وقال: عليك بصحبة من تسلم منه في ظاهر أمرك، وتبعثك على الخير صحبته، وتذكرك الله رؤيته.
وقال يوسف: قيل لذي النون: ما بال الحكمة لها حلاوة من أفواه الحكماء؟ قال: لقرب عهدها بالرب عز وجل.
وقيل ليوسف بن الحسين: يا أبا يعقوب، هل لك هم غد؟ قال: يا سيدي، من كثرة همومنا اليوم لا نفرغ لهم. فأجابه الجنيد: من البسيط
يكفي الحكيم من التنبيه أيسره ... فيعرف الكيف والتكوين والسببا
فكن بحيث مراد الحق منك ولا ... تزل مع القصد في التمكين منتصبا
إن السبيل إلى مرضاته نظر ... فما عليك له يرضى كما غضبا
ثم قال: من كان ظاهره عامراً فباطنه خراب، ومن كان ظاهره خراباً كان باطنه عامراً، والدليل عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.(28/74)
قال أبو الحسين الدراج: قصدت يوسف بن الحسين الرازي من بغداد، فلما دخلت الري سألت عن منزله، فكل من أسأل يقول: أيش تفعل بذلك الزنديق؟ فضيقوا صدري، حتى عزمت على الانصراف، فبت تلك الليلة في مسجد، ثم قلتك جئت هذا البلد، فلا أقل من زيارة! فلم أزل أسأل عنه حتى دفعت إلى مسجده وهو قاعد في المحراب، بين يديه مصحف يقرأ، وإذا هو شيخ بهي، حسن الوجه واللحية، فدنوت، فسلمت، فرد السلام، وقال: من أين أنت؟ فقلت: من بغداد، قصدت زيارة الشيخ. فقال: لو أن في بعض البلدان قال لك إنسان: أقم عندي حتى أشتري لك داراً وجارية أكان يمنعك عن زيارتي؟ فقلت: يا سيدي، ما امتحنني الله بشيء من ذلك، ولو كان لا أدري كيف كنت أكون، فقال: تحسن أن تقول شيئاً؟ قلت: نعم، وقلت: من الطويل
رأيتك تبني دائماً في قطيعتي ... ولو كنت ذا حزم لهدّمت ما تبني
فأطبق المصحف، ولم يزل يبكي حتى ابتل لحيته وثوبه، حتى رحمته من كثرة بكائه، ثم قال لي: يا بني، تلوم أهل الري في قولهم: يوسف بن الحسين زنديق؟ من وقت الصلاة هو ذا أقرأ القرآن، لم يقطر من عيني قطرة، وقد قامت علي القيامة بهذا البيت.
قال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فكأنه يلبث فيه على لون آخر.
وقال: ما صحبني متكبر قط إلا اعتراني داؤه، لأنه يتكبر، فإذا تكبر غضبت، فإذا غضبت أداني الغضب إلى الكبر، فإذا داؤه قد اعتراني.(28/75)
وقال: في الدنيا طغيانان: طغيان العلم، وطغيان المال، والذي ينجيك من طغيان العلم العبادة، والذي ينجيك من طغيان المال الزهد فيه.
وقال يوسف:
بالأدب يفهم العلم، وبالعلم يصح لك العمل، وبالعمل تنال الحكمة، وبالحكمة يفهم الزهد، ويوفق له، وبالزهد تترك الدنيا، وبترك الدنيا ترغب في الآخرة، وبالرغبة في الآخرة تنال رضى الله عز وجل.
وقيل ليوسف بن الحسين: لو تجملت قليلاً، فقال: هو ذا يطاف على بابنا بالكيزان يتبرك بنا وبدعواتنا، وأنتم تدعوني إلى التجمل! وكان كثيراً ما يقول: إلهي توبة أو مغفرة، فقد ضاقت بي أبواب المعذرة، إلهي، خطيئتي خطيئة صماء، وعاقبتي عاقبة وهماء، فلا الخطيئة أحسن الخروج منها، ولا العاقبة أهتدي للرجوع إليها، ومن شأن الكرماء الرفق بالأسراء، وأنا أسير تدبيرك. ثم يقول: من الطويل
وأذكركم في السّرّ والجهر دائماً ... وإن كان قلبي في الوثاق أسير
لتعرف نفسي قدرة الخالق الذي ... يدبّر أمر الخلق وهو شكور
وقال: الأنس مع الله نور ساطع، والأنس مع الناس سم ناقع.
وسئل عن الكرم والجود، فقال: الجود أن تتفضل بما لا يجب عليك، والكرم أن تتفضل بما يجب لك.
وقيل له: ما بال المحبين يتلذذون بالذل في المحبة؟ فأنشأ يقول: من الكامل
ذلّ الفتى في الحبّ مكرمةٌ ... وخضوعه لحبيبه شرف
وقال: كنت عند ذي النون المصري يوماً، فجاءه رجل، فقال: ما بال المحزون إذا تكامل حزنه لا تجري دموعه؟ فقال: إذا رق سلا، وإذا انجمد سجا. ثم أطرق، ورفع رأسه يقول: من الطويل(28/76)
إذا رقّ قلب درّت جفونه ... دموعاً له فيها سلوٌّ من الكمد
وإن غصّ بالأشجان من طول حزنه ... علاه اصفرار اللّون في الوجه والجسد
وأحمد حال الخائفين مقامهم ... على كمدٍ يضني النفوس مع الكبد
لعمرك ما لذّ المطيعون لذةٌ ... ألذّ وأحلى من مناجاة منفرد
قال أبو عبد الرحمن السلمي: واعتل يوسف بن الحسين الرازي، فدخل عليه بعض إخوانه، فقال له: مالك أيها الشيخ، وما الذي تجد؟ ألا ندعو لك بعض هؤلاء الأطباء؟ فأنشأ يقول: من الطويل
بقلبي سقامٌ ما يداوى مريضه ... خفيّ على العوّاد باقٍ على الدهر
كان مرحوم الرازي يتكلم في يوسف بن الحسين، فانتبه ليلة وهو يبكي، فقيل له: مالك؟ قال: رأيت كتاباً نزل من السماء، فلما قرب من الخلق إذا فيه مكتوب بخط جليل: هذه براءة ليوسف بن الحسين مما قيل فيه. فجاء إله، فاعتذر.
وكان يوسف بن الحسين يقول: اللهم إنك تعلم أني نصحت الناس قولاً، وخنت نفسي فعلاً، فهب لي خيانة نفسي بنصيحتي للناس.
وكان يتمثل كثيراً بهذا البيت: من الوافر
سأعطيك الرّضى وأموت غمّاً ... وأسكت لا أغمّك بالعتاب
كان آخر كلام يوسف بن الحسين: إليه دعوت الخلق إليك بجهدي، وقصرت نفسي بالواجب لك علي مع معرفتي بك، وعلمي فيك، فهبني لمن شئت من خلقك. قال: فمات، فرئي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، وقال لي: يا عبد السوء، فعلت وعصيت! فقلت: يا سيدي، لم أبلغ هذا عنك، بلغت أنك كريم، والكريم إذا قدر عفا. فقال تعالى: تملقت لي بقولك: هبني لمن شئت من خلقك، اذهب فقد وهبتك لك.(28/77)
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ورئي يوسف بن الحسين في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، فقيل: بماذا؟ فقال: لأني ما خلطت جداً بهزل.
قال عبد الله بن عطاء: مات يوسف بن الحسين سنة أربع وثلاثمائة.
يوسف بن الحكم بن أبي عقيل
عمرو بن مسعود بن عامر بن معتب الثقفي والد الحجاج بن يوسف الثقفي. أصله من الطائف، وخرج منها في بعث مسلم بن عقبة إلى المدينة، ثم رجع إلى دمشق، وخرج مع مروان بن الحكم منها إلى مصر. ووجهه مروان في جيش حبيش بن دلجة القيني فأسر بالربذة، ومعه ابنه الحجاج بن يوسف، فهربا سالمين، وأقاما بدمشق حتى بعث عبد الملك ابنه الحجاج إلى قتال عبد الله بن الزبير.
قال أبو سعيد بن يونس:
يوسف بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي من أهل الطائف. قدم مصر مع مروان بن الحكم سنة خمس وستين، ومعه ابنه الحجاج بن يوسف. وكان يوسف بن أبي عقيل فاضلاً، وقيل: إنه شهد فتح مصر، واختط بها وقيل: إن خطته مع ثقيف في السراجين، وإنه أقام بمصر، وولد له بها ابنه الحجاج بن يوسف، وخرج به صغيراً إلى الشام، ثم قدم مع مروان بن الحكم حين قدم مصر لحرب أهلها سنة خمس وستين، ولم أزل أسمع شيوخ العامة بمصر تقول: هذه الغرفة التي ولد فيها الحجاج، يعنون الغرفة التي على درب السراجين على باب الدار التي بجانب الدرب. وكان يوسف بن أبي عقيل حين قدم مع مروان بن الحكم نزل على حبيب بن أوس الثقفي.(28/78)
قال كعب بن علقمة: كان يوسف بن الحكم أبو الحجاج فاضلاً، من خيار المسلمين. فبينا هو وأبوه في مجلس في المسجد فيه عمرو بن سعيد بن العاص، فمر بهم سليم بن عتر، وكان قاضي الجند، وكان من خير التابعين، فقال الحجاج: أما لو أجد هذا خلف هذا الحائط، وكان لي عليه سلطان، لضربت عنقه، إن هذا وأصحابه يثبطون عن طاعة الولاة، فشتمه والده، ولعنه، وقال له: تسمع القوم يذكرون عنه خيراً ثم تقول ما تقول؟ أما والله إن رأيي فيك أنك لا تموت إلا جباراً شقياً.
قال أحمد بن عبد الله العجلي: يوسف بن الحكم أبو الحجاج ثقة، وإنما روى حديثاً واحداً عن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أراد هوان قريش أهانه الله.
قال عوانة بن الحكم: أتي الحجاج برجلين من الخوارج، فقال لأحدهما: ما دينك؟ قال: دين إبراهيم حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، قال: يا حرسي اضرب عنقه. ثم قال للآخر: ما دينك؟ قال: دين الشيخ يوسف بن الحكم يعني أبا الحجاج ت قال: ويحك! اخترته، لقد كان صواماً قواماً، يا حرسي، خل عنه. قال: ويحك يا حجاج، أسفهت نفسك، وأثمت بربك؟ قتلت رجلاً على دين إبراهيم، وقد قال تعالى: " ومَنْ يَرْغَبُ عن مِلَّةِ إبراهيمَ إلاّ مَنْ سَفِه نفسَه " قال: أبيت؟! يا حرسي اضرب عنقه، فانطلق به، فأنشأ يقول: رجز
سبحان ربّ قد يرى ويسمع ... وقد مضى في علمه ما يصنع
ولو يشا في ساعةٍ بل أسرع ... فيرسلن عليك ناراً تسطع
فيترك السرير منك بلقع
فضربت عنقه.(28/79)
قال علي بن أبي حملة: شهد الحجاج مع أبيه الحرة مع بعث مسلم بن عقبة.
قال هشام بن إبراهيم: لما حصر الحجاج ابن الزبير، وأخذ عليه بجوانب مكة أرسل إلى أصحاب مسالحه جميعاً يوصيهم بالاحتفاظ من ابن الزبير لا يهرب، وبلغ ذلك ابن الزبير فقال: يحسبني مثله الفرار بن الفرار! أراد فرار الحجاج من الربذة مع أبيه.
يوسف بن دوناس بن عيسى أبو الحجاج
المغربي الفندلاوي الفقيه المالكي قدم الشام حاجاً، فسكن بانياس مدة، وكان خطيباً بها، ثم انتقل إلى دمشق واستوطنها، ودرس بها مذهب مالك، وحدث بالموطأ، وبكتاب التلخيص لأبي الحسن القابسي.
كان شيخاً حسن الفاكهة حلو المحاضرة، شديد التعصب لمذهب أهل السنة، كريم النفس، مطرحاً للتكلف، قوي القلب.
قال الحافظ ابن عساكر سمع أبا تراب بن قيس بن حسين البعلبكي يذكر أنه كان يعتقد اعتقاد الحشوية، وأنه كان شديد البغض ليوسف الفندلاوي لما كان يعتمده من الرد عليهم، والتنقص لهم، وأنه خرج إلى الحجاز، وأسر في الطريق، وألقي في جب، وألقي عليه صخرة، وبقي كذلك مدة يلقى إليه ما يأكل، وأنه أحس ليلة بحس، فقال: من أنت؟ فقال: ناولني يدك، فناوله يده، فأخرجه من الجب، فلما طلع إذا هو الفندلاوي، فقال: تب مما كنت عليه، فتاب، وصار من جملة المحبين له.
وكان ليلة الختم في شهر رمضان يخطب خاطب في حلقته بالمسجد الجامع، ويدعو بدعاء الختم، وعنده الشيخ أبو الحسن علي بن المسلم، فرماهم بعض من كان خارج الحلقة بحجر، فلم يعرف من هو لكثرة من حضر، فقال الفندلاوي: اللهم اقطع يده. فما مضى إلا يسير حتى أخذ خضير الركابي من حلقة الحنابلة، ووجد في صندوقه مفاتيح كثيرة قد(28/80)
أعدها لفتح الأبواب للتلصص، فأمر شمس الملوك بقطع يديه، ومات من ذلك.
قتل الفندلاوي رحمه الله يوم السبت السادس من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة بالنيرب تحت الربوة. وكان قد خرج مجاهداً للفرنج خذلهم الله وفي هذا اليوم نزلوا على دمشق حماها الله، ورحلوا بكرة يوم الأربعاء الذي يليه بعده أربعة أيام من نزولهم، وكان نزولهم بأرض قينية، وكان رحيلهم لقلة العلوفة، والحذر من العساكر المتواصلة لنجدة أهل دمشق من الموصل وحلب ودفن تحت الربوة على الطريق، ثم نقل إلى مقبرة الباب الصغير، فدفن بها، وكان خروجه إليهم راجلاً.
قال أحمد بن محمد القيرواني: رأيت الشيخ الإمام حجة الدين في المنام جالساً في مكانه الذي كان يدرس فيه بالجامع، فأقبلت إليه وقبلت يده، فقبل رأسي، وقلت له: يا مولاي الشيخ، والله ما نسيتك، وما أنا فيك إلا كما قال الأول: من الكامل
فإذا نطقت فأنت أوّل منطقي ... وإذا سكتّ فأنت في إضماري
فقال لي: بارك الله فيك. ثم قلت له: يا مولاي الشيخ الإمام، أين أنت؟ فقال: في جنات عدن، " على سُرُرٍ متقابلينَ ".
يوسف بن رباح بن علي بن موسى
ابن رباح بن عيسى بن رباح أبو محمد البصري المعدل من شيوخ الخطيب.
قال الخطيب: كان سماعه صحيحاً، ويقال: إنه كان معتزلياً، وأقام ببغداد، ثم خرج إلى الأهواز، فولي القضاء، ومات بها. وبلغتنا وفاته في شعبان من سنة أربعين وأربعمائة.(28/81)
قال ابن ماكولا: رباح بفتح الراء والباء المعجمة بواحدة.
يوسف بن رمضان بن بندار أبو المحاسن
الفقيه الشافعي كان أبوه قرقوبياً من أهل مراغة. وولد يوسف بدمشق، وخرج منها بعد البلوغ إلى بغداد، وتفقه بها. ثم صحب الشيخ أسعد الميهني، وأعاد له بعض دروسه. ثم ولي تدريس المدرسة النظامية ببغداد مدة. وبنيت له مدرسة بباب الأزج، ومدرسة أخرى عند الطيوريين ورحبة الجامع، وانتهت إليه رئاسة أصحاب الشافعي ببغداد في وقته.
قال الحافظ ابن عساكر: حضرت مجلسه فلم يكن فيه بالمجيد، فتركته. وكان يناظر مناظرةً حسنة، وكانت فيه صلابة في الاعتقاد. وأرسله الخليفة المستنجد بالله رسولاً، فأدركته وفاته وهو في الرسالة في شوال سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وجاءنا نعيه إلى دمشق فصلي عليه بعد صلاة الجمعة صلاة الغائب، ولم يخلف بعده في العراق لأصحاب الشافعي رضي الله عنه مثله.
يوسف بن الزبير المكي مولى عبد الله بن الزبير
ويقال: مولى الزبير وكان رضيع عبد الملك بن مروان، وكان يقرأ الكتب.
قال يوسف بن الزبير: إني إلى جنب عبد الملك بن مروان، وهو تحت منبر يزيد بن معاوية، ويزيد يوصي مسلم بن عقبة، وحصين بن نمير، ويتقدم إليهما في قتال ابن الزبير، ويقول:(28/82)
قاتلاه، ثم قاتلاه، ثم قاتلاه، فإن لجأ إلى الكعبة فخرباها عليه. قال: فرأيت عبد الملك يبكي وهو يقول: يا أمير المؤمنين، اتق الله، ولا تحل حرم الله. قال: فلما انصرفنا قلت له: أنت القائل لأمير المؤمنين كذا وكذا! والله لا يحل حرم الله، ولا يحرق الكعبة غيرك. فقال: أعوذ بالله من هذا، ما أنا وهذا!؟ لا تزال تجيء بالشيء لا أدري ما هو. قلت: أنت والله صاحبها لا يزيد، قال: فوالله ما عبرت أيام قلائل وأنا تحت منبره وهو يعهد إلى الحجاج بن يوسف، ويقول: ائت ابن الزبير فقاتله، ثم قاتله، ثم قاتله. ثم إن لجأ إلى الكعبة فحرقها عليه. قال: قلت: ألا تذكر يوم يزيد؟ فقال: دعني منك، فوالله لقد كان مني يومئذ الجد، وإنه مني الجد.
يوسف بن سعيد بن مسلم أبو يعقوب المصيصي
قدم دمشق. وكان بالمصيصية، وهو صدوق ثقة.
ذكره الدارقطني في باب مسلم بالتشديد.
يوسف بن السفر
بالسين المهملة وإسكان الفاء ابن الفيض، أبو الفيض، كاتب الأوزاعي ضعفوه، واتهموه بوضع الحديث. وروي عن الأوزاعي أنه نفى مجالسته له.
يوسف بن عبد الله بن سلام
ابن الحارث أبو يعقوب المدني له رؤية، ولأبيه صحبة.
قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ كسرةً من خبز شعير، فوضع عليها تمرةً، وقال:(28/83)
هذه إدام هذه، فأكلها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أكرم الخلق على ربه.
وقال: صحبت أبا الدرداء أتعلم منه، فلما حضرته الوفاة قال: آذن الناس بموتي، فآذنت الناس بموته، وجئت وقد امتلأت الدار، فقال: أخرجوني، فأخرجناه، قال: أجلسوني، فأجلسناه، فذكر حديثاً.
وقال: أتيت أبا الدرداء، وكان في مرضه الذي قبض فيه، فقال لي: يا بن أخي، ما جاء بك إلى هذا البلد؟ قلت: صلة ما كان بينك وبين والدي عبد الله بن سلام، فقال أبو الدرداء: بئس ساعة الكذب هذه، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام، فصلى ركعتين، أو أربع ركعات، مكتوبة، أو غير مكتوبة، تم فيها الركوع والسجود وفي رواية: يحسن فيهما الركوع والسجود ثم يستغفر الله إلا غفر له.
قال ابن سعد: يوسف بن عبد الله بن سلام، وهو رجل من بني إسرائيل، من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم. وكان يوسف ثقةً.
قال يوسف بن عبد الله بن سلام: سماني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوسف، وأقعدني في حجره، ومسح برأسي وفي رواية: ومسح على رأسي ودعا لي بالبركة.
عن يحيى بن سعيد قال: غدوت مع يوسف بن عبد الله بن سلام في يوم عيد، فقلت له: كيف كانت الصلاة على عهد عمر؟ قال: كان يبدأ بالخطبة قبل الصلاة.
كان يوسف بن عبد الله بن سلام ثقةً، ومات في خلافة عمر بن عبد العزيز.(28/84)
يوسف بن عبد العزيز بن علي
ابن عبد الرحمن أبو الحجاج اللخمي الميورقي الأندلسي الفقيه المالكي رحل إلى بغداد، وتفقه بها مدة، وقدم دمشق سنة خمس وخمسمائة، وعاد إلى الإسكندرية، ودرس بها مدة، وانتفع به جماعة.
يوسف بن عروة بن عطية السعدي
من أهل دمشق، ولي إمرة مكة لمروان بن محمد، ولم يزل عليها حتى جاءت بيعة أبي العباس.
يوسف بن عمر بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي
ابن ابن عم الحجاج بن يوسف بن أبي عقيل. ولي اليمن لهشام بن عبد الملك، ثم ولاه العراقين. وأقره الوليد بن يزيد. ووفد على الوليد، وطلب أن يضم إليه خراسان، ففعل. وكانت له بدمشق دار بناحية سوق الغزل العتيق.
بلغني أن يوسف بن عمر كان قد أخذ مع آل الحجاج ليعذب، ويطلب منه المال، فقال: أخرجوني أسأل، فدفع إلى الحارث بن مالك الجهضمي يطوف به، وكان مغفلاً، فانتهى إلى دار لها بابان، فقال له يوسف: دعني أدخل هذه الدار، فإن فيها عمة لي أسألها، فأذن له، فدخل، وخرج من الباب الآخر، وهرب، وذلك في خلافة سليمان بن عبد الملك.
قال خليفة: ولى هشام اليمن يوسف بن عمر الثقفي، فقدمها لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ست ومائة، فلم يزل والياً حتى كتب إليه في سنة عشرين ومائة بولايته على العراق،(28/85)
فسار واستخلف ابنه الصلت بن يوسف، ثم ولاها أخاه القاسم بن عمر، فلم يزل والياً حتى مات هشام.
قال: وجمع هشام العراق ليوسف بن عمر الثقفي سنة عشرين ومائة.
قال الليث: في سنة عشرين ومائة نزع خلد بن عبد الله القسري وأمر يوسف بن عمر على أهل العراق.
قال الأصمعي: ثم قام يزيد بن عبد الملك، فعزل يوسف، وولى منصور بن جمهور. قال البخاري: كانت ولاية يوسف بن عمر سنة إحدى وعشرين ومائة إلى سنة أربع وعشرين ومائة.
عن عوانة الكلبي قال: لم يؤيد الملك بمثل كلب، ولم تقل المنابر بمثل قريش، ولم تطلب الترات بمثل تميم، ولم ترع الرعايا بمثل ثقيف، ولم تسد الثغور بمثل قيس، ولم تهج الفتن بمثل ربيعة، ولم يجب الخراج بمثل اليمن.
قال يوسف بن عمر في خطبته: أتقوا الله عباد الله، فكم من مؤمل ما لا يبلغه، وجامع ما لا يأكله، ومانع ما سوف يتركه. ولعله من باطل جمعه، ومن حق منعه، أصابه حراماً، وورثه عدواً، واحتمل إصره، وباء بوزره، وقدم على ربه أسفاً قد خسر الدنيا والآخرة.
قال أبو بكر بن عياش: بعث يوسف بن عمر إلى ابن أبي ليلى يستقضيه على الكوفة، وكانوا لا يولون على(28/86)
القضاء إلا عربياً، فقال: عربي أو مولى؟ فقال: أصابتنا يد في الجاهلية، فقال: لو كذبتني في نفسك صدقتك في غيرك، لم تزل العب يصيبها هذا في الجاهلة، فقد وليتك القضاء بين أهل الكوفة، وأجريت عليك مائة درهم في الشهر، فاجلس لهم بالغداة والعشي، فإنما أنت أمين للمسلمين.
قال يوسف بن عمر لأعرابي ولاه عملاً: يا عدو الله، أكلت مال الله! فقال له: فمال من آكل منذ خلقت إلى الساعة؟ والله لو سألت الشيطان درهماً واحداً ما أعطانيه! عن خالد بن سعيد قال:
جاءت امرأة إلى يوسف بن عمر الثقفي، فقالت: إن ابناً لي يعقني، قال: ويفعل ذلك؟ قالت: نعم. فقال لحرسيين على رأسه: انطلقا معها حتى تأتيا به. فخرجا معها. فقيل للمرأة: ويحك! أهلكت ابنك، إن الأمير يقتله. وندموا على ما فعلت. فلقيت عبادياً أشقر أزرق، فقالت للحرسيين: خذاه، فإنه ابني! فأخذا بضبعيه، فقالا: يا عدو الله، أجب الأمير، قال: بأي جرم؟ قالا: تعق أمك، قال: إنها ليست لي بأم، فقالا: كذبت. وأدخلاه على يوسف، فلما نظر إليه قال: شقا عنه. وضربه مائة سوط، ثم قال: لا تخرج بها إلا على عنقك. فحمل المرأة على عنقه، فخرج بها؛ فلقيه عبادي آخر، وهي على عنقه، فقال: فلان، ما هذه ويلك! قال: هذه أمي رزقنيها السلطان. وخشيت المرأة أن يفطن بها، فنزلت، وأنسلت، ومضى العبادي بأسوأ ما يكون من الحال.
قال المدائني: ثم قدم يوسف بن عمر على العراق، فكان يطعم كل يوم على خمسمائة خوان، وكانت مائدته وأقصى الموائد سواء، يتعهد ذلك ويتفقده.(28/87)
قال بشر بن عيسى: حدثني أبي قال: ازدحم الناس عشية في دار يوسف، وهم يتعشون، فدفع رجل من أهل الشام رجلاً بقائم سيفه. ورآه يوسف فضربه مائتين، وقال: يا بن اللخناء، تدفع الناس عن طعامي!؟ ودخل عبد أسود مقيد دار يوسف، والناس يأكلون، فدفعه رجل، ونظر إليه يوسف، فصاح به: دعه. فجلس يأكل مع الناس. ودعا بالأسود حين فرغوا، فأمر بحل قيده، وأمر رجلاً أن يشتريه، وقال للأسود: إن باعك مولاك فأنت لنا، وإن لم يرد بيعك فاحضر طعامنا كل يوم. وانطلق الرجل مع المقيد، فاشتراه، فأعتقه يوسف.
وقال الحجاج: حضرت طعام يوسف، فكنت أعتذر، فقال: يا حجاج، كل كما تأكل الرجال، قلت: إن غلامي جاءني بحبارى قد صاده، فأكلت منه، فقال للحاجب: لا أرى وجهه! فحجبت. وكلمت غير واحد ليشفع لي، فلم أكلم أحداً إلا قال: لا أتعرض ليوسف. فرفعت قصةً، وقعدت في أصحاب الحوائج، فلما دنوت قال: ما فعل الحبارى؟ قلت: لا آكل حبارى أبداً. فقال للحاجب: أعده كما كان. قال: فكنت أتجوع، وأحضر طعامه، فإذا رآني آكل ضحك.
لما قدم يوسف بن عمر العراق، فأتاهم خبره بخراسان بكى أبو الصيداء صالح بن طريف، فاشتد بكاؤه، وقال: هذا الخبيث، شهدته ضرب وهب بن منبه حتى قتله.
قال محمد بن جرير: قيل إن يزيد بن الوليد دعا مسلم بن ذكوان، ومحمد بن سعيد بن مطرف الكلبي، فقال لهما: إنه بلغني أن الفاسق يوسف بن عمر قد صار إلى البلقاء، فانطلقا فأتياني به. فطلباه فلم يجداه، فرهبا ابناً له، فقال: أنا أدلكما عليه؛ إنه انطلق إلى مزرعة له على ثلاثين ميلاً، فأخذها معهما خمسين رجلاً من جند البلقاء، فوجداه. وكان جالساً، فلما(28/88)
أحس بهم هرب وترك بغلته، ففتشا، فوجدا نسوةً ألقين عليه قطيفة خز، وجلسن على حواشيها حاسرات، فجروا برجله، فجعل يطلب إلى محمد بن سعيد أن يرضي عنه كلباً، ويدفع إليه عشرة آلاف دينار، ودية كلثوم بن عمير، وهانئ بن بسر. فأقبلا به إلى يزيد، فلقيه عامل لسليمان على نوبة من نوائب الحرس، فأخذ بلحيته، فهزها، ونتف بعضها وكان من أعظم الناس لحيةً، وأصغرهم قامة فأدخلاه على يزيد، فقبض على لحية نفسه وإنها حينئذ لتجوز سرته وجعل يقول: نتف والله، يا أمير المؤمنين، لحيتي، فما بقي منها شعرة. فأمر به يزيد، فحبس في الخضراء، فدخل عليه محمد بن راشد، فقال: أما تخاف أن يطلع عليك بعض من قد وترت، فيلقي عليك حجراً، فيقتلك؟ قال: لا والله، ما فطنت لهذا، فنشدتك الله ألا كلمت أمير المؤمنين في تحويلي إلى محبس غير هذا، وإن كان أضيق منه. فأخبرت يزيد، فقال: ما غاب عنك من حمقه أكثر، وما حبسته إلا لأوجه به إلى العراق، فيقام للناس، وتؤخذ المظالم من ماله، ودمه.
قال أبو هاشم مخلد بن محمد: أرسل يزيد بن خالد القسري مولى لخالد يكنى أبا الأسد في عدة من أصحابه، فدخل السجن، فأخرج يوسف بن عمر، فضرب عنقه. وذكر أن ذلك كان في سنة سبع وعشرين ومائة.
قال خليفة: وهو ابن نيف وستين سنةً.(28/89)
يوسف بن عمرو الشعيثي
ثم النصري من بني نصر بن معاوية رهط أبي زرعة شاعر له ذكر في حرب أبي الهيذام.
قال يوسف بن عمرو الشعيثي: من الوافر
إذا خطرت هوازن عن يميني ... وذبيان الغطارف عن يساري
وناديت القبائل من معدٍّ ... رأيت الأرض ترجف من حذاري
وأعطتني المقادة كلّ أرض ... على قسرٍ وذلّت لاقتساري
وما ركب المطايا عن عريبٍ ... كهذا الحيّ فأعلم من نزار
وقال: من الرجز
يا قيس عيلان بني الأحماس ... وعصمة الناس غداة الباس
كواشر الأنياب والأضراس ... كشر الأسود في وجوه الناس
يوسف بن القاسم بن يوسف بن فارس
ابن سوار أبو بكر الميانجي الشافعي الفقيه قاضي دمشق، ولي القضاء بها نيابة عن القاضي أبي الحسن علي بن النعمان، قاضي نزار الملقب بالعزيز، وكان بينه وبين أبي عبد الله محمد بن الوليد القاضي منازعات في ولاية القضاء، وكان شيوخ المدينة يميلون مع الميانجي، والأحداث يميلون مع ابن الوليد.
توفي في شعبان سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، ومولده قبل التسعين والمائتين. وكان ثقةً نبيلاً مأموناً. انتقى عليه عبد الغني بن سعيد المصري الحافظ.(28/90)
يوسف بن محمد بن عروة بن محمد بن عطية
ويقال: يوسف بن عروة السعدي من أهل دمشق. كان والياً ببعلبك. ثم ولاه مروان بن محمد مكة والمدينة والطائف.
يوسف بن محمد بن مقلد بن عيسى
أبو الحجاج التنوخي، المعروف بابن الجماهري وتكنى بعد أبا الفتح، ويعرف بابن بنت الدونقي قال الحافظ ابن عساكر: رحل إلى بغداد وأنا بها، واستوطن بغداد، وتصوف. وكان يناظر في مسائل الخلاف، ويعقد المجلس للتذكير، ويتردد من بغداد إلى الموصل للوعظ. ثم رجع إلى دمشق في آخر عمره، وهو مريض بعلة الاستسقاء، فعدته في المنزل الذي كان فيه، فقرأ لابني أبي الفتح ثلاثة أحاديث من حفظه.
وقال لنا في مرضه الذي مات فيه: أنا أبرأ إلى الله من اعتقاد التشبيه. ومات في صفر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة.
يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي
ابن أخي الحجاج بن يوسف. كان خال الوليد بن يزيد، فلما أفضى الأمر إليه ولاه مكة، والمدينة والطائف سنة خمس وعشرين ومائة. وحج بالناس في هذه السنة.(28/91)
قال خليفة: كتب الوليد إلى إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، وهو والي مكة لهشام بن عبد الملك، فقدم عليه، واستخلف على المدينة محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. فعزله الوليد، وجمعها ليوسف بن محمد بن يوسف مع مكة والطائف حتى قتل الوليد.
قال يعقوب بن سفين: فلما ثارت الفتنة، وبايع أهل الآفاق ليزيد بن الوليد نزع يوسف بن محمد عن المدينة، فاستعمل عليها عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان. وقد قيل: افتعل كتاباً فولي المدينة.
يوسف بن ماهك المكي الفارسي
وقيل: إنه يوسف بن مهران حضر وفاة عمر بن عبد العزيز، وقال: بينا نحن نسوي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا رق من السماء فيه مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم. أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار.
قال يوسف بن ماهك: إني عند عائشة أم المؤمنين إذ جاء رجل، فقال لها: يا أم المؤمنين، أرني مصحفك؟ قالت: لم؟ قال: لعلي أؤلف القرآن عليه، فإنا نقرؤه عندنا غير مؤلف. قالت: وما يضرك أيه قرأته قبل؟ قال: فأخرج له المصحف، فأمللت أنا عليه السور يقول ابن جريج.(28/92)
قال خليفة: يوسف بن ماهك من الأبناء. مات سنة ثلاث عشرة ومائة.
قال الحافظ أبو القاسم: فرق ابن سعد بين يوسف بن ماهك، ويوسف بن مهران، فجعلهما ترجمتين، فذكر ابن ماهك في المكيين، وذكر ابن مهران في البصريين والله أعلم.
قال يعقوب بن سفيان: يوسف بن ماهك ويوسف بن مهران واحد، شعبة يقول: ابن ماهك، وحماد بن سلمة يقول: ابن مهران.
وقال: يوسف بن ماهك من أهل مكة، رجل جليل.
قال ابن عياش: لم يكن بعد أصحاب عبد الله بن مسعود أفقه من أصحاب ابن عباس. فكان منهم: يوسف بن ماهك.
مات ابن ماهك سنة عشر، أو ثلاث عشرة، أو أربع عشرة، ومائة. وثقه يحيى.
يوسف بن مكي بن علي بن يوسف
أبو الحجاج الحارثي الفقيه الشافعي إمام جامع دمشق. كان أبوه حائكاً من أهل الباب الشرقي. ونشأ يوسف من صباه نشأ حسناً، فحفظ القرآن، وقرأه بروايات، وتفقه مدة طويلة عند الفقيه أبي الحسن السلمي. ثم رحل إلى بغداد، فسمع بها أبا طالب الزينبي.
قال الحافظ:
علقت عنه شيئاً يسيراً، وكان ثقةً مستوراً. وكان قد نصب للإمامة في جامع دمشق(28/93)
بعد موت أبي محمد بن طاوس في المحرم سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وكان قبل ذلك يؤم في مسجد العميد بن الجسطار بالباب الشرقي مدةً، ثم انتقل إلى إمامة الجامع. وكان قد كتب كتباً كثيرة من كتب العلم في الأصول والفروع. وكان إذا غاب خلفه أبو القاسم العمر الفارسي الصوفي. ولما عزم الناس على الحج سنة خمس وخمسين كان عندي في يوم عيد الفطر، فجرى ركب الحج، فقال: لو استفتيت لأفتيت، إن الخروج إلى الحج في هذا العام معصية لقلة الماء في الطريق. فما مضت إلا أيام حتى عزم على الحج، وقال: أمضي، فلعلي أموت في الطريق، فكان كما توقع في نفسه.
توفي يوسف صبيحة يوم السبت السادس من صفر سنة ست وخمسين وخمسمائة عند مرجعه من الحج، ودفن من يومه.
يوسف بن موسى بن عبد الله
ابن خالد بن حمول بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم أبو يعقوب المروروذي من أعيان محدثي خراسان، والمشهورين بالطلب والرحلة. سافر إلى العراق، والحجاز، والشام، ومصر. وكان ثقة.
توفي بمروروذ منصرفه من الحج سنة ست وتسعين ومائتين.
يوسف بن الهيذام بن عامر
ابن عمارة بن خريم أبو عامر المري كان شيخاً صالحاً. مات ببيروت مرابطاً في سنة تسع عشرة وثلاثمائة.
يوسف بن يعقوب أبو عمرو النيسابوري
قال ابن يونس: قدم مصر وحدث بها سنة تسعين ومائتين.(28/94)
يوشع بن نون بن أفرائيم
ابن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام وهو فتى موسى بن عمران صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والخليفة بعده على أمته. ورد مع موسى أرض كنعان بالبلقاء من نواحي دمشق.
وبلغني أن يعقوب دعا لجده أفرائيم ولذريته، فولد له نون بن أفرائيم، وولد لنون يوشع بن نون.
قال محمد بن إسحاق: وهو فتى موسى الذي كان معه، صاحب أمره، نبأه الله عز وجل في زمن موسى، وكان بعده نبياً. وهو الذي افتتح أريحا، وقتل من بها من الجبابرة، واستوقف الشمس في يومه الذي فتح الله له فيه، لبقية بقيت من الجبابرة، ليستأصلهم، خشي أن يحول الله بينه وبين ذلك، فوقفت له الشمس بإذن الله عز وجل حتى استأصلهم. ثم خلف بعد موسى على بني إسرائيل بأمر الله عز وجل يقيم فيهم التوراة، وأحكام الله التي حكم بها فيهم.
عن عمرو بن ميمون الأزدي في قوله تعالى: " وإذْ فَرَقْنا بِكُمُ البَحْرَ فأنجيناكم "، قال: لما أتى موسى البحر قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمرك ربك يا موسى؟ فوالله ما كذبت ولا كذبت. ففعل ذلك ثلاث مرات، وأوحى الله إلى موسى: " أَنِ أضْرِبْ بعَصَاكَ البحرَ "، فضربه، فانفلق، ثم سار موسى ومن معه، فأتبعهم فرعون في طريقهم، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم. فذلك قوله: " وأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنتمْ تَنْطُرُون ".(28/95)
قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن موسى عليه السلام ذكر الناس يوماً، حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب ولى، فأدركه رجل، فقال: يا رسول الله، هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، فأوحى الله إليه: إن لي عبداً أعلم منك، قال: أي رب، وأين؟ قال: بمجمع البحرين، قال: يا رب، اجعل لي علماً أعلم ذلك به، قال: خذ حوتاً ميتاً حيث ينفخ الله فيه الروح وفي رواية: حيث يفارقك الحوت فذاك قوله تعالى: " وإذْ قال موسى لفتاه " يوشع بن نون. فبينا هو في ظل صخرة إذ تضرب الحوت وموسى نائم، قال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر فأمسك الله عليه جرية البحر حتى كان أثر في حجر وحلق إبهاميه واللتين تليانهما " لقد لَقِينا مِنْ سَفَرنا هذا نَصَبَا "، قال: قد قطع الله عنك النصب، وأخبره، فرجعا، فوجدا خضراً على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه، وقال: هل بأرضك من سلام؟ من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: فما شأنك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت وذكر الحديث.
عن الحسن قال:
إن الله لم يقبض موسى حتى أحب الموت؛ وذلك أنه لم يكن في الأنبياء أكرم، ولا أهيب، ولا أعظم عنده من موسى، فأراد الله أن يحبب الموت إلى موسى، ويزهده في الحياة بتحويل النبوة عنه.
عن محمد بن كعب القرظي أنه حين حولت النبوة إلى يوشع أحب موسى الموت، فكان يغدو ويروح يوشع على(28/96)
موسى، فيقول له موسى: يا نبي الله، أحدث الله إليك اليوم شيئاً؟ فيقول يوشع: يا صفي الله، صحبتك كذا وكذا سنة، فهل سألتك عن شيء يحدث الله إليك حتى تكون أنت تبديه لي؟ فلما رأى موسى الجماعة عند يوشع أحب الموت.
عن عطاء: أوحى الله إلى موسى بن عمران أن يوشع هو القائم على الناس بعدك، فقال: يا رب، أزرع أنا، ويحصد يوشع؟ أأرعى أنا الغنم، حتى إذا صلحت واستوت صارت إلى يوشع؟! فقال الله له: إن أيام يوشع مخرجتك من الدنيا، فقال: يا رب، فأنا أكون ممن قبل يوشع، فقيل له: فاصنع به كما كان يصنع بك، فقال: نعم. وكان من رسم يوشع أن ينبه موسى للصلاة، فجاء موسى إلى باب يوشع، فقال: يا يوشع، فضرب الله على أذنه، فلم ينتبه، وجعل بنو إسرائيل يمرون على موسى، فقال: يا رب، مائة موتة أهون من ذل ساعة. وانتبه يوشع، فلما رأى موسى فرح وقال: يا نبي الله، أنت واقف ها هنا؟! ومضى موسى إلى الجبل، واتبعه يوشع، فجعل موسى يوصيه: اصنع ببني إسرائيل كذا، وافعل كذا. ثم قال له: ارجع، قال: فخلع موسى نعليه، فرمى بهما، فقال: جئني بنعلي، فذهب ليجيء بهما، فأرسل الله نوراً حال بين يوشع وموسى، فلم يصل إليه، فرجع يوشع إلى بني إسرائيل، فأخبرهم، فجاؤوا إلى الموضع من الجبل فإذا موسى قد قبض، وقد وضعت الحجارة عليه.
عن سعيد بن عبد العزيز قال: لما كان قبل موت موسى انقطع الوحي عنه، ونزل جبريل إلى يوشع. قال: وكان إذا خرج موسى إلى البيعة إلى الحكم بين بني إسرائيل توكأ على يوشع، فإذا جلس في البيعة قام يوشع على رأسه. قال: فلما نزل الوحي إلى يوشع، وخرج إلى البيعة للحكم بين بني إسرائيل توكأ على موسى، فلما أن دخل البيعة للحكم بينهم قام موسى على رأسه. قال: فقال موسى: يا رب، إني لا أطيق هذا الذل كله، فاقبضني إليك.(28/97)
عن ابن عباس قال: لما أمر موسى بالمسير إلى قرية الجبارين، واسمها أريحا، فلما دنا منها بعث اثني عشر رجلاً من أصحابه رؤساء اثني عشر سبطاً، فلما دخلوا قرية الجبارين دخل منهم رجلان حائط رجل من الجبارين، فجاء، فدخل الحائط، فأبصر آثارهما، فأتبعهما حتى أخذهما، فجعلهما في كميه، ثم دخل بهما على ملكهم، فنثرهما، فلما رآهما ملك الجبارين قال: اذهبوا فاجهدوا علينا! فخرجوا حتى أتوا موسى، فأخبروه، فقال: اكتموا علينا. فجعل الرجل يخبر أخاه وأباه وصديقه ويقول: اكتم علي. فأشعر ذلك في عسكرهم، ولم يكتم منهم إلا رجلان: يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا، وهما اللذان أنزل الله فيهما: " قال رَجُلانِ مِنَ الذين يخافونَ أَنْعَمَ اللهُ عليهما ". فقال أصحاب موسى: لسنا نقاتلهم، " فاذهبْ أنتَ وربُّك فقاتلا إنَّا ها هنا قاعدون "، فنزل: " فإنَّها مُحَرَّمةٌ عليهم أربعينَ سنةً يَتِيهون في الأرض "، فتاهوا أربعين سنة، فهلك موسى وهارون في التيه، وكل من جاوز الأربعين، فلما مرت الأربعون ناهضهم يوشع بن نون، وهو الذي قام بالأمر من بعد موسى، وهو الذي أفتتحها، وهو الذي قيل له: إن اليوم يوم الجمعة، فهموا بافتتاحها، ودنت الشمس للغروب، فخشي إن دخلت عليه ليلة السبت أن يسبتوا، فنادى الشمس: إني مأمور. وإنك مأمورة، فوقفت حتى افتتحها. قال: فوجدوا فيها من الأموال ما لم يروا مثله، فقربوه للنار فلم تأكله، فقال أفيكم غلول، فدعا رؤساء الأسباط، وهم اثنا عشر رجلاً، فبايعهم، فالتصقت يد رجل منهم بيده. فقال: الغلول في أصحابك، فبايعهم كما بايعت، فمن التصقت يده بيدك فالغلول عنده؛ فبايعهم، فالتصقت يده بيد رجل منهم، فقال: الغلول عندك، فأخرجه، فأخرج رأس بقرة من ذهب، لها عينان من ياقوت، وأسنان من لؤلؤ مرصعة فقرب مع القربان، فأتت النار، فأكلته.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الشمس لم تحبس على بشر إلا يوشع ليالي سار إلى بيت المقدس(28/98)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إن نبياً من الأنبياء قاتل مدينةً، حتى إذا كاد أن يفتحها، وخشي أن تغرب الشمس فقال لها: أيتها الشمس، إنك مأمورة، وإني عبد مأمور، عزمت عليك لما ركدت علي ساعةً من النهار. قال: فحبسها الله عليه حتى فتح المدينة. وكانوا إذا أصابوا غنائم قربوها للقربان، فجاءت نار، فأكلتها، فلما أصابوا، وضعوا، فلم تجئ النار تأكلها، فقالوا: يا نبي الله، مالنا لا يتقبل منا قرباننا؟ قال: فيكم غلول، قالوا: يا نبي الله، وكيف نعلم عند من الغلول وهم اثنا عشر سبطاً؟ قال: يبايعني رأس كل سبط. فلصق كفا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكف رجل منهم، فقال: عندك الغلول؟ فقال: نعم عندي، قال: ما هو؟ قال: رأس ثور من ذهب، أعجبني، فغللته. قال: فجاء به، فوضع مع الغنائم، فجاءت النار، فأكلته. فقال كعب: صدق الله ورسوله، هكذا والله في الكتاب يعني التوراة. ثم قال: يا أبا هريرة، حدثكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي نبي كان؟ قال: لا، قال كعب: هو يوشع بن نون، فتى موسى. فحدثكم أي مدينة هي؟ قال أبو هريرة: لا، قال كعب: هي مدينة أريحا.
وفي رواية قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جاهد نبي من الأنبياء مدينة عليها سبعة أسوار، فافتتح ستةً، وبقي سور منها، ودنت الشمس أن تغرب، فقال: اركدي يا شمس، فإنك مأمورة، فركدت حتى افتتحها. وكان إذا افتتح قريةً أخذ الغنائم فوضعها، فجاءت نار بيضاء، فأخذته، فعمد إلى الغنائم، فوضعها، فلم تأت النار، فقال: فيكم غلول. وكان معه اثنا عشر سبطاً، فبايع رؤوسهم، وقال: اذهبوا أنتم، فبايعوا أصحابكم، فمن لصقت يده بيد أحد منكم فليأت به، فذهبوا، فبايعوا، فالتصقت يده بيد رجلين، فاعترفا، وقالا: عندنا رأس ثور من ذهب.
عن إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي قال: لما أسري برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبر قومه بالرفقة والعلامة في العير، قالوا: فمتى تجيء، قال: يوم الأربعاء فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون قد ولى النهار ولم تجئ، فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فزيد له في النهار ساعةً، وحبست الشمس، فلم ترد(28/99)
الشمس على أحد إلا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ، وعلى يوشع بن نون حين قاتل الجبارين يوم الجمعة، فلما أدبرت الشمس خاف أن تغيب قبل أن يفرغ منهم، ويدخل السبت، فلا يحل له قتالهم فيه، فدعا الله فرد له الشمس حتى فرغ من قتالهم.
قال كعب: وكان الله كسا هارون قباء فيه اثنا عشر علماً كهيئة الكواكب، لكل سبط منهم علم، فإذا غل أحد من الأسباط تحول علم ذلك السبط عن نوره، فصار مظلماً، فيعلم أن سبط فلان قد غل. وكان ذلك القباء مع يوشع، فلما كان يوم أريحا ردت رايته، وانهزم أصحابه، وكانوا إذا غلو انهزموا. فدعا بالقباء، فنظر، فإذا علامة منها قد تغيرت، فدعا رأس ذلك السبط، فقال: ما حملكم على أن غللتم؟ قال: فطلبوا الرجل الذي غل، فأصابوه، فإذا قطيفة قد غلها، فأحرقوه وإياها بالنار.
وقال غير كعب: أحرق القطيفة وكانت منسوجة بالذهب والدر، فأوحى الله إليه أن ضع الكمين وشد عليهم، فإن الله يكفيكهم. قال: فهو أول من وضع الكمين. وفتح الله عليهم، ودخلوا، فأوحى الله إلى يوشع أن اقتل جبابرتها، ولا تستبق منهم أحداً، ففعل، وأقام أربعين سنة حتى فتحت لهم بلاد الشام، وفتح يوشع إحدى وثمانين مدينة، ثم انصرف إلى بلادهم وأرضهم التي كانت وراثة آبائهم التي كتبها الله لهم، وهي الأرض المقدسة، آمنين على أنفسهم. ورفعت الحرب عن بني إسرائيل، فلبثوا أربعين سنة يوشع بين أظهرهم، وهم أحسن ما كانوا هيبة في جميع حالاتهم.
قيل لعلي بن أبي طالب:
هل كان للنجوم أصل؟ قال: نعم، كان نبي من الأنبياء يقال له يوشع بن نون، قال له قومه: لا نؤمن بك حتى تعلمنا بدء الخلق وآجاله. فأوحى الله إلى غمامة، فأمطرتهم. واستنقع على الجبل ماء صاف. ثم أوحى إلى الشمس والقمر والنجوم أن تجري في ذلك الماء، ثم أوحى إلى يوشع أن يرتقي هو وقومه إلى الجبل، فارتقوا، فأقاموا على الماء حتى عرفوا بدء الخلق وآجاله بمجاري الشمس والقمر والنجوم، وساعات الليل والنهار، فكان أحدهم يعلم متى يموت، ومتى يمرض، ومن الذي يولد له، ومن(28/100)
الذي لا يولد له، فبقوا كذلك برهة من دهرهم، ثم إن داود قاتلهم على الكفر، فأخرجوا إلى داود في القتال من لم يحضر أجله، فكان يقتل من أصحاب داود، ولا يقتل من هؤلاء أحد. فدعا داود الله، فحبست الشمس عليهم، فزاد في النهار، فاختلطت الزيادة بالليل والنهار، فلم يعرفوا قدر الزيادة، فاختلط عليهم حسابهم.
قال علي: فمن ثم كره النظر في علم النجوم.
عن الوضين بن عطاء قال: أوحى الله إلى يوشع بن نون: إني مهلك من قومك مائة ألف، وأربعين ألفاً من خيارهم، وستين ألفاً من شرارهم. قال: يا رب، تهلك شرارهم، فما بال خيارهم؟ قال: إنهم يدخلون على الأشرار فيؤاكلونهم، ويشاربونهم، ولا يغضبون لغضبي.
قال إسحاق بن بشر ثم قسم يوشع الأرض المقدسة، وما غلب عليه من الأسباط من بني إسرائيل، وقتل يوشع من ملوك بني كنعان أحداً وثلاثين ملكاً من سبعة أسباط، وكان على العماليق السميدع بن هزبر، فقتل، فقال الشاعر في ذلك: من الطويل
ألم تر أنّ العملقيّ بن هزبرٍ ... بآية أمسى لحمه قد تمزّعا
تداعى عليه من يهود قبائلٌ ... ثمانون ألفاً حاسرين ودرّعا
ثم مات يوشع بن نون، واستخلف كالب بن يوفنا قال أبو جعفر الطبري: كان عمر يوشع بن نون مائة سنة، وستاً وعشرين سنة، وتدبيره أمر بني إسرائيل قبل أن يتوفى موسى إلى أن توفي يوشع سبعاً وعشرين سنة.
وقال غير أبي جعفر: دبر يوشع أمر بني إسرائيل إحدى وثلاثين سنة، ومات وله مائة وعشر سنين، ودفن في جبل كنعان.(28/101)
ذكر من اسمه يونس من الرجال
يونس بن إبراهيم أبو الخير
أظنه من أهل همذان. قدم الشام. وحكى عن راهب لقيه عند قبر شيث بالبقاع، وقال له: عظني، فقال الراهب: كل أنس دون الله وحشة، وكل طمأنينة بغير الله دهشة، وكل نعيم دون دار القرار زائل، وكل شيء سوى الله باطل. ثم قال: ثلاث بثلاث لا يدركن: الغنى بالمنى، والشباب بالخضاب، والصحة بالأدوية.
يونس بن رطاجة
ولي إمرة دمشق في خلافة المتوكل.
يونس بن سعيد بن عبيد
ابن أسيد بن عمرو بن علاج الثقفي الطائفي شاعر. كان أبوه سعيد مولى زياد بن عبيد، وهبه له الحارث بن كلدة مولى أمه سمية.
قال المدائني: قدم يونس بن سعيد على معاوية وزياد على البصرة وكانت العرب تأنف إذا ادعي مولاهم فقال: يا أمير المؤمنين، ادعيت مولاي! فقال معاوية: يا بن سعيد، اتق الله، لا أتطير بك طيرةً بطيئاً وقوعها، قال: يا أمير المؤمنين، أفليس بي وبك المرجع إلى الله بعد؛ قال: بلى، فاستغفر الله، والحق بزياد بالعراق، فذاكره بما شئت. فقدم يونس البصرة، فنزل على عبد الله بن الحارث الكوسج، فأعلم زياداً بمكانه، فدعا به، فكلمه(28/102)
خالياً، وأمر له بمائة ألف، وقال: اشخص إلى بلدك، فأبى، فأرسل زياد إلى الكوسج: أخرجه عنك، فإنه إن بلغني بعد ثالثة أنه عندك، أو بالبصرة قتلتك! فأخرجه، ولم يعطه شيئاً، فقال: رجز
رجعن من عند زيادٍ خيّبا ... سواهماً ونصّباً ولغّباً
قد كان يدعي لعبيد حقبا ... حتّى إذا العبد عثا واختضبا
صار أبو سفيان للعبد أبا ... فأصبح العبد تبوّا منصبا
وكان صفراً فتحول ذهبا
وروي هذا الشعر لعبد الرحمن بن أم الحكم وقال يونس بن سعيد: من الطويل
وقائلةٍ إمّا هلكت وقائلٍ ... قضى ما عليه يونس بن سعيد
قضى ما عليه ثم ودع ماجداً ... وكلّ فتى سمح الخلائق يودي
عن أبي غسان:
لما بلغ يونس بن سعيد الذي كان من أمر زياد قدم على معاوية، وكلمه، وقال: يا أمير المؤمنين، إن زياداً كان عبداً لأختي فهيرة، فأعتقته، وهو مولاي، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الولد للفراش، وللعاهر الحجر. فقال له معاوية: هل تركت الشرب في الدباء بعد؟ إن زياداً ليس لك بمولى، هو ابن أبي سفيان. فألح عليه يونس حتى كلمه على المنبر.(28/103)
يونس بن أبي شبيب الرقي
وفد على عمر بن عبد العزيز.
قال: سألت طاوساً عن مسألة، فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من أهل الجزيرة، فقال: إذا كانت الوقعة بين الرقتين كانت الصيلم والفيصل. وقال: شهدت عمر بن عبد العزيز في بعض الأعياد، وقد جاء أشراف الناس حتى حفوا بالمنبر، وبينهم وبين الناس فرجة، فلما جاء عمر، وصعد المنبر سلم عليهم، فلما رأى أومأ إلى الناس أن تقدموا، فتقدموا حتى اختلطوا بهم.
وقال: رأيت عمر بن عبد العزيز قبل أن يلي الخلافة، وإن حجزة إزاره غائبة في عكنه، ثم رأيته بعدما ولي الخلافة، ولو شئت أن أعد أضلاعه من بعد لعددتها.
وفي رواية: شهدت عمر بن عبد العزيز وهو يطوف بالبيت، وإن حجزة إزاره لغائبة في عكنه، ثم رأيته بعدما استخلف ولو شئت أن أعد أضلاعه من غير أن أمسها لفعلت.
يونس بن عبد الرحيم بن سعد
ويقال: ابن أيوب العسقلاني قال أبو سعيد بن يونس: هو من أهل عسقلان. قدم مصر، وحدث بها سنة سبع وعشرين ومائتين.
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: كان قدم بغداد، فتكلمو فيه، وليس بالقوي.
قال عبد الخالق بن منصور: سألت يحيى بن معين عن يونس بن عبد الرحيم العسقلاني، فقال: لا أعرفه، فقلت له: إن بعض أصحاب الحديث يزعمون أنك قد ذهبت إليه، وكتبت عنه، فقال:(28/104)
كذبوا، لا والله، ما رأيته قط، ولا أعرفه؛ ولكن قدم علينا رجل، فزعم أن أهل بلده يسيئون فيه القول.
يونس بن محمد بن يونس بن محمد
أبو نصر الأصبهاني المقرئ نزيل بيت المقدس. مات سنة إحدى وستين وأربعمائة.
يونس بن متى ذو النون نبي الله
ورسوله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو من سبط لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. كان من أهل الشام، من أعمال بعلبك. قيل إنه مات وهو صغير، فسألت أمه نبي الله إلياس عليه السلام، فدعا الله، فأحياه، ولم يكن لها غيره. ونبئ يونس وله أربعون سنةً، وكان من عباد بني إسرائيل، فهرب بدينه من الشام، ونزل شاطئ دجلة، فبعثه الله إلى أهل نينوى.
قال إسحاق بن بشر بأسانيده: كان يونس عبداً صالحاً، لم يكن في الأنبياء أحد أكثر صلاةً منه، كان يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة قبل أن يطعم، وقلما كان يطعم من دهره. وكان يصلي كل ليلة قبل أن يأخذ مضجعه ثلاثمائة ركعة، وقلما كان يتوسد الأرض. فلما أن فشت المعاصي في أهل نينوى، وعظمت أحداثهم بعث إليهم.
عن الحسن قال: كانت العجائب في بني إسرائيل، ولا يموت نبي حتى يبعث الله نبياً مكانه. وإنها كانت تكون فيهم الأنبياء الكثيرة.(28/105)
قال ابن منبه اليماني: إن للنوبة أثقالاً ومؤونةً لا يحملها إلا القوي، وإن يونس بن متى كان عبداً صالحاً، وكان خلقه ضيقاً، فلما حملت عليه النبوة تفسح تحتها تفسخ الربع تحت الحمل، فرفضها من يده، وخرج هارباً، فقال الله تعالى لنبيه: " فأصْبِرْ كَمَا صَبَر أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ "، وقال: " فأصْبِرْ لحُكْمِ رَبِّكَ ولا تَكُنْ كصاحِبِ الحُوتِ إذ نَادَى وهو مَكْظُوم ".
قال علي بن عاصم: قال بعض أصحابنا: بلغني أن يونس عليه السلام كان في خلقه ضعف، والنبوة لها ثقل، فأتاه جبريل وهو قائم يصلي في المسجد، فقذفها عليه، فتفسخ تحتها.
عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا ينبغي لأحد أن يقول: إني خير من يونس بن متى.
عن شهر بن حوشب قال:
كان يونس بن متى رجلاً من بني إسرائيل، وكان قلما رئي ساعةً تحل فيها الصلاة إلا وجد يصلي، فأتاه الرسول، فوجده يصلي في المسجد ببيت المقدس، فانفتل إليه، فقال له: إن الله يأمرك أن تأتي أهل نينوى، فتدعوهم إليه، قال: إلى أهل المدرة السوء؟ قال: نعم. فجعلت نفسه تأبى، فعاد الرسول إليه، فوجده قائماً يصلي في(28/106)
المسجد، فأعاد عليه الرسالة، قال: إنما آتيهم مشياً، فأخرج إلى السوق، فاشتري حذاءً. فنهض عنه الرسول. وأبت نفسه، وجعل يقول: أولئك يجيئوني، كانوا عند بني إسرائيل أخبث أهل الأرض، لأنهم كانوا أول من غزا بيت المقدس، وقتلوا وحرقوا. فعاد إليه الرسول، فوجده قائماً يصلي في المسجد. فاستحثه، فخرج مغاضباً، وأتى البحر، فوجد سفينةً فذكر ركوبه فيها، والتقام الحوت إياه.
عن ابن عباس في قوله تعالى: " إذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً "، قال: عبد أبق من ربه. ثم اجتباه.
وعنه في قوله: " فَظَنَّ أَنْ لن نَقْدِرَ عليه "، يقول: ظن ألا يأخذه العذاب الذي أصابه وفي رواية: غضب على قومه، فظن أن لن نقضي عليه عقوبة، ولا بلاءً فيما صنع بقومه في غضبه عليهم، وفراره.
وعن مجاهد: فظن أن لن نقدر عليه؛ أن لن نعاقبه بذنبه.
وعن قتادة في قوله تعالى: " فساهَمَ، فكان من المُدْحَضِين "، قال: احتبست السفينة، فعلم القوم أنها احتبست من حدث أحدثه بعضهم، فتساهموا، فقرع يونس، فرمى بنفسه، " فالتَقَمَه الحوتُ وهو مُلِيم "، قال: وهو مسيء فيما صنع، " فلَوْلا أنَّه كان مِنَ المُسَبِّحين "، قال: كان كثير الصلاة في الرخاء، ناجاه.
عن الحسن: أن يونس كان مع نبي من أنبياء بني إسرائيل، فأوحى الله إليه أن ابعث يونس إلى أهل نينوى يحذرهم عقوبتي. قال: وكانت الأنبياء تبعث بإقامة التوراة فيهم، وما أنزل الله بعد موسى كتاباً إلا الإنجيل، وزبور داود. فمضى يونس على كره منه، وكان رجلاً حديداً، شديد الغضب لله عز وجل فأتاهم، وحذرهم، وأنذرهم. فكذبوه، وردوا عليه نصيحته، ورموه بالحجارة، وأخرجوه. فانصرف عنهم. فقال له نبي بني إسرائيل: ارجع إليهم، فرجع، ففعلوا مثل ذلك ثلاث مرات، فأوعدهم العذاب، فقالوا: كذبت.
قال ابن عباس: فلما أيس من إيمان قومه دعا عليهم ربه، وأوعدهم العذاب بعد(28/107)
ثلاثة أيام، وأخرج أهله، ومعه ابناه صغيرين، فصعد جبلاً ينظر إلى أهل نينوى، ويترقب العذاب. قال: وعاين قوم يونس العذاب للوقت الذي وقت لهم يونس، فلما استيقنوا بالعذاب سقط في أيديهم، وعلموا أن يونس قد صدقهم، فبعث القوم إلى أنبياء كانت في بني إسرائيل، فسألوهم عما ابتلوا به، فقالوا: اطلبوا يونس يدعو لكم، فإنه هو الذي دعا عليكم، فطلبوه، فلم يقدروا عليه، فقالوا: تعالوا نجتمع إلى الله، فنتوب إليه. فخرجوا جميعاً الرجال والنساء والبهائم، وجعلوا الرماد على رؤوسهم، ووضعوا الشوك من تحت أرجلهم، ولبسوا المسوح والصوف، ثم رفعوا أصواتهم بالبكاء والدعاء، وجأروا إلى الله، وعلم الله منهم الصدق، فقبل توبتهم.
يقول الله تعالى: " فَلوْلا "، يعني: فلم يكن " قرية آمنت " عند معاينة العذاب، " فَنَفَعَها إيمانُها إلاّ قوْمَ يونسَ لمّا آمنوا كَشَفْنا عنهم عذابَ الخِزْي في الحياةِ الدنيا ".
قال: وكانوا عاينوا العذاب أول يوم من ذي الحجة، ورفع عنهم يوم العاشر من المحرم. فلما رأى يونس ذلك جاءه إبليس عدو الله، فقال له: يا يونس، إنك إن رجعت إلى قومك اتهموك وكذبوك، فذهب مغاضباً لقومه، " فظَنَّ أَنْ لن نقدِرَ عليه "، فقد كذب. فانطلق يونس حتى أتى شاطئ دجلة ومعه أهله وابناه. فجاءت سفينة، فقال: احملوني، فقالوا: قد أوقرنا سفينتنا هذه، فإن شئت حملنا بعض من معك، فتلحقنا بسفينة أخرى، فتركبها. قال: فحمل أهله، وبقي يونس وابناه، فطلعت سفينة، فانطلق يونس إليها، ودنا أحد ابنيه من شاطئ دجلة، فزلت رجله، فوقع في الماء، فغرق، وجاء الذئب فاحتمل ابنه الآخر، فأكله. فجاء يونس، فوجد أحد ابنيه طافياً على الماء، والآخر قد أكله الذئب، فعلم أنها عقوبة، فركب السفينة ليلحق بأهله، فلما توسطت السفينة الماء أوحى الله إلى السفينة أن اركدي، فركدت، والسفن تمر يميناً وشمالاً، فقالوا: ما بال سفينتكم؟ قالوا: لا ندري. قال يونس: أنا أدري، فيها عبد أبق من ربه، فلا تسير حتى تلقوه. قالوا: ومن هو؟ قال: أنا، فقالوا: أما أنت فلسنا نلقيك والله، ما نرجو النجاة منها إلا بك! قال: فاقترعوا، فمن(28/108)
قرع فألقوه في الماء، فاقترعوا، فقرعهم يونس، فأبوا أن يلقوه في الماء، وقالوا: إن القرعة تخطئ وتصيب. فاقترعوا الثانية، فقرعهم، فقال لهم: ألقوني في الماء، فأوحي إلى حوت كان يكون في بحر من وراء البحور أن يجيء حتى يحيط بسفينة يونس، فاخترق الحوت البحار، فاستقبل سفينة يونس، فأحاط بها، وفغر فاه، فأوحى الله إلى الحوت ألا يخدش له لحماً، ولا يكسر له عظماً، فإنه نبيي وصفيي. وقال الحوت: يا رب، جعلت بطني له مسكناً، لأحفظنه حفظ الوالدة ولدها. قال: واحتمل يونس إلى ناحية السفينة ليلقى في الماء، فانصرف الحوت إليها، فقال: انطلقوا بي إلى ناحية أخرى، فانطلقوا به، فإذا هم بالحوت، ففعلوا مثل ذلك بجميع جوانب السفينة، فقال: اقذفوني، فقذفوا به، فأخذه الحوت، وهوى به إلى مسكنه من البحر، ثم انطلق به إلى قرار الأرض، فطاف به البحار أربعين يوماً، فسمع يونس تسبيح الجن، وتسبيح الحيتان، فجعل يسمع الحس، ولا يرى ما هو، فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت: يا يونس، هذا تسبيح دواب البحر، فجعل يسبح ويهلل، وقال: سيدي، من الجبال أهبطتني، وفي البلاد سيرتني، وفي الظلمات الثلاث سجنتني: ظلمة الليل، وظلمة الماء، وظلمة بطن الحوت. إلهي، عاقبتني بعقوبة لم تعاقبها أحداً قبلي.
فلما كان تمام أربعين ليلة وهي قدر ما كان قومه في العذاب، وأصابه الغم، " فَنَادى في الظُّلُماتِ أَنْ لا إله إلاَّ أنتَ سُبحانَكَ إنّي كنتُ مِنَ الظالمين "، فسمعت الملائكة بكاءه، وعرفوا صوته، فبكت الملائكة لبكاء يونس، وقالوا: يا ربنا، صوت ضعيف حزين نعرفه في مكان غريب! قال: ذلك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. فقالوا: يا رب، العبد الصالح الذي كان يصعد له كل يوم وليلة العمل الصالح الكثير؟ قال: نعم.
قال ابن عباس: هذه عقوبته لأوليائه فكيف لأعدائه؟ فشفعت له الملائكة، فبعث الله جبريل إلى الحوت يأمره أن يقذف يونس حيث ابتلعه، قال: فجاء به إلى شاطئ دجلة، فدنا جبريل من الحوت، وقرب فاه من في الحوت، وقال: السلام عليك يا يونس، رب العزة يقرئك السلام، فقال يونس: مرحباً بصوت كنت خشيت ألا(28/109)
أسمعه أبداً، ومرحباً بصوت كنت أرجوه قريباً من شدتي. ثم قال جبريل للحوت: اقذف يونس بإذن الرحمن، فقذفه مثل الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش، فاحتضنه جبريل وقيل: بقي يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاثة ليال وقذفه على الساحل مثل الصبي المنفوس، لم ينقص منه خلقاً، ولم يكس له عظماً.
وقيل: لما أمر الحوت أن يلتقمه قال: يا رب، كنت أشقى خلقك برسولك! فبعث الله حوتاً آخر، فجعل يقول للحوت: والله لتلتقمن يونس أو لألتقمنك، فمضى الحوت لأمر الله تعالى، وقيل: أوحى الله إلى الحوت: إني لم أجعل يونس لك رزقاً، وإنما جعلت بطنك له سجناً؛ فلا تهشمن من يونس عظماً. وقيل: لما استقر في بطن الحوت قال: وعزتك، لأبنين لك مسجداً في مكان لم يبنه أحد قبلي، فجعل يسجد له. وقال تعالى: " فلوْلا أنّه كان مِنَ المُسَبِّحين "، أي من المكثرين للصلاة قبل ذلك.
قال الحسن: شكر الله له صلاته قبل ذلك، فأنجاه بها.
قال ميمون بن مهران: سمعت الضحاك بن قيس يقول على المنبر: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، فإن يونس كان عبداً ذاكراً لله، فلما أصابته الشدة دعا الله، فقال الله: " فلولا أنَّه كان مِنَ المُسَبّحين ". وكان فرعون طاغياً، فلما " أَدْرَكَه الغَرَقُ قال: آمَنْتُ "، فقال الله: " ءآلآن، وقد عَصَيْتَ قبلُ ".
وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعوة ذي النون الذي دعا بها في بطن الحوت: " لا إله إلاّ أنتَ سبحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظالمين "، لم يدع بها مسلم في كربة إلا استجاب الله له.(28/110)
قال علي بن عثام: دعاء الأنبياء: " ربِّ إنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إليَّ مِنْ خَيْرٍ فقِير "، " إلاّ تَغْفِرْ لي وتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الخاسرين "، " لا إله إلاَّ أَنْتَ سبحانَكَ إنِّي كنتُ مِنَ الظالمين ".
عن سعيد بن جبير قال: لما ألقي يونس في بطن الحوت جرى به الحوت في البحور كلها سبعة أيام، ثم انتهى إلى شط دجلة، فقذفه على شط دجلة، فأنبت الله عليه شجرةً من يقطين، قال: من نبات البرية، وأرسله إلى " مائة ألفٍ أو يزيدون "، قال: يزيدون سبعين ألفاً، وقد كان أظلهم العذاب، ففرقوا بين كل ذات رحم ورحمها من الناس والبهائم، ثم عجوا إلى الله، فصرف عنهم العذاب، ومطرت السماء دماً.
قال أمية بن أبي الصلت قبل الإسلام في ذلك بيتاً من شعر: من الطويل
فأنبت يقطيناً عليه برحمةٍ ... من الله، لولا الله ألقي ضاحيا
عن مجاهد في قوله تعالى: " وَأَنْبَتْنا عليه شَجَرةً مِنْ يَقْطِين "، قال: كل غير ذات أصل من الدباء وغيره.
عن الحسن قال: وكان لها ظل واسع يستظل بها، وأمرت أن ترضعه أغصانها، فكان يرضع منها كما يرضع الصبي، ويؤوب إليه جسمه.
وفي رواية أخرى عن الحسن قال: بعث الله تعالى إلى يونس وعلةً من وعل الجبل، يدر ضرعها لبناً، حتى جاءت إلى(28/111)
يونس وهو مثل الفرخ، ثم ربضت، وجعلت ضرعها في في يونس، فكان يمصه كما يمص الصبي، فإذا شبع انصرفت، فكانت تختلف إليه حتى اشتد، ونبت شعره خلقاً جديداً، ورجع إلى حاله قبل أن يقع في بطن الحوت، فمرت به مارة، فكسوه كساءً فبينا هو ذات يوم نائم إذ أوحى الله إلى الشمس: أحرقي شجرة يونس، فأحرقتها، وأصابت الشمس جلده، فأحرقته، فبكى، فأوحى الله إليه: اتبكي على شيء لا ينفع، ولا يضر، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم في غداة واحدة؟ فعند ذلك عرف يونس ذنبه، فاستغفر ربه، فغفر له.
وروي عن عائشة مرفوعاً: أما صلاة الفجر فتاب الله على آدم، وأما صلاة الهاجرة فتاب الله على داود، وأما العصر فتاب الله على سليمان، وأما المغرب فبشر يعقوب بيوسف، وأما العشاء فأخرج الله يونس من بطن الحوت حين اشتبكت النجوم، وغاب الشفق، فصلى لله أربع ركعات شكراً، فجعلها الله لي ولأمتي تمحيصاً، وكفارات ودرجات.
وقيل: إن يونس كان آثر الصمت، فقيل له: يا نبي الله، إنا نراك تكثر السكوت؟ فقال: كثرة الكلام اسكنتني بطن الحوت. فلما خرج يونس من بطن الحوت عاتبه الله في دعائه على قومه، فقال له: آليت على نفسي أن أعذبك، فقال: عذاب الدنيا، فقال: اخطب من فلان ابنته، ففعل، فكانت تسومه سوء العذاب.
قال شهر بن حوشب: كانت رسالة يونس بعدما نبذه الحوت. ولم يذهب إلى القوم إلا من بعد ما خرج من بطن الحوت.
عن الحسن قال: إن يونس كان نبياً، ثم صار من بعد ما أنجاه الله من بطن الحوت نبياً رسولاً، لأن الله يقول: " وأَنْبَتْنا عليه شَجَرةً مِنْ يَقْطِين. وأرسلناه " يعني من بعد ذلك " إلى مائةِ أَلْفٍ أو يزيدون "، قال: والزيادة عشرون ألفاً، وقيل: سبعون ألفاً.(28/112)
عن قتادة قال: إن يونس عليه السلام لقي راعياً من أهل نينوى بعد أن كشف الله عنهم العذاب، فقال له: أنا يونس، فقال الراعي: هات بينة على ما تقول؛ فإني من قوم إذا حدث رجل منه فكذب قتل. قال: هذه الشاة تشهد لك، وهذه الشجرة. فشهدتا له بذلك، فملكوه.
وعن الحسن قال:
فرجع يونس، فمر بارع من رعاة قومه، فقال له: ما فعل يونس؟ قال: لا ندي ما حاله، غير أنه كان خير الناس، وأصدق الناس؛ وأخبرنا عن العذاب فجاءنا على ما قال، فتبنا إلى الله، فرحمنا. ونحن نطلب يونس، ما ندري أين هو، ولا نسمع له بذكر. فقال له يونس: هل عندك لبن؟ قال: والذي أكرم يونس ما أمطرت السماء، ولا أعشبت الأرض منذ فارقنا يونس. فقال: ائتني بنعجة، فمسح يده على بطنها، ثم قال: دي بإذن الله، فدرت لبناً، فاحتلبها يونس، فشرب يونس والراعي، فقال له الراعي: إن كان يونس حياً فأنت هو، قال: فإني أنا يونس، فأت قومك، فأقرهم مني السلام، قال الراعي: إن الملك قد قال: من أتاني فأعلمني أنه رأى يونس، وجاءني على ذلك ببرهان جعلت له عليه ملكي، وجعلته مكاني، ولا أستطيع أبلغه ذلك إلا بحجة، فإني أخاف أن يقال لي: إنما فعلت هذا القول للملك. قال يونس: تشهد الشاة التي شربت من لبنها. فقال: ما يمنعك يا نبي الله أن تأتيهم، فتسلم عليهم؟ قال: لا يروني أبداً.
وعن الحسن: أنه رجع إليهم! وذلك أن الراعي انطلق، فنادى في المدينة بصوت رفيع حزين: ألا إن رسول الله يونس بن متى قد رأيته. فاجتمع الناس، وكذبوه، فقال: إن لي بينة، واستشهد الشاة أنه رآه، فاطلق الله لسانها، فقالت: نعم، وشرب من لبني، وأمرني أن أشهد لك. ثم انطلق بهم إلى الصخرة، فقال لها: أيتها الصخرة، نشدتك بالذي كشف عنا العذاب، هل رأيت يونس؟ قالت: نعم، وأمرني أن أشهد لك، وإنه لتحت ظلي الساعة، فانحدروا في الوادي، فإذا هم بيونس قائماً يصلي، فاحتملوه، ورفعوا أصواتهم(28/113)
بالبكاء والتضرع إلى الله حتى أدخلوه مدينتهم، فأنزل الله عليهم بركات السماء، وأخرج لهم من بركات الإرض، وجمع الله تعالى بين يونس وأهله، فأقام فيهم حتى أقام لهم السنن والشرائع. ثم سأل ربه أن يخرج، فيسيح في الأرض، فيتعبد حتى يلحق بالله، فأذن له، فخرج. وعمد الملك إلى الراعي الذي رأى يونس، فولاه الملك، وقال: أنت خيرنا وسيدنا. ثم لحق الملك بالنساك، فلم ير بعد ذلك يونس، ولا الملك. وقالوا للراعي: أنت خيرنا وسيدنا، ولا ينبغي أن يكون فينا أحد أرفع منك، ولا نعصي لك أمراً. فملكهم الراعي أربعين سنة.
قال أبو الجلد: إن العذاب لما هبط على قوم يونس جعل يحوم على رؤوسهم مثل قطع الليل المظلم، فمشى ذوو العقول منهم إلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا: إنا قد نزل بنا ما ترى فعلمنا دعاء ندعو به عسى الله أن يرفع عنا عقوبته. قال: قولوا: يا حي حين لا حي، ويا حي تحيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت. فكشف الله عنهم.
قال الفضيل بن عياض: بلغني أن قوم يونس لما عاينوا العذاب قال رجل منهم: الله إن ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم منها، وأجل، فافعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله. قال: فكشف الله عنهم العذاب.
عن عباد بن كثير والحسن قالا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تفضلوا بيني وبين إخوتي من النبيين ولا ينبغي لأحد أن يفضل على يونس بن متى.
عن ابن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى على وادي الأزرق، وقال: كأني أنظر إلى موسى منهبطاً وله جؤار إلى ربه بالتلبية. ثم أتى على ثنية، فقال: كأني أنظر إلى يونس بن(28/114)
متى عليه عباءتان قطوانيتان يلبي تجيبه الجبال، والله يقول له: لبيك يا يونس، هذا أنا معك.
وعنه قال: كانت تلبية موسى: لبيك عبدك وابن عبدك، وكانت تلبية يونس: لبيك كاشف الكرب.
عن عثمان بن الأسود بلغه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لقد مر بفم الروحاء سبعون نبياً على نوق حمر خطمها الليف، ولباسهم العباء، وتلبيتهم شتى، فمنهم يونس بن متى، يقول: لبيك فارج الكرب لبيك.
قال محمد بن معاوية بن الأزرق: حدثنا شيخ لنا قال: التقى يونس وجبريل عليهما السلام فقال يونس: يا جبريل، دلني على أعبد أهل الأرض، فأتى به على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه، وهو يقول: متعتني بهما حيث شئت، وسلبتنيهما حيث شئت، وأبقيت لي فيك طول الأمل، يا بارئاً رضاك.
فقال يونس: يا جبريل، إنما سألتك أن ترينيه صواماً قواماً، قال جبريل: إن هذا كان قبل البلاء هكذا، وقد أمرت أن أسلبه بصره، قال: فأشار إلى عينيه، فسالتا، فقال: متعتني بهما حيث شئت، وسلبتنيهما حيث شئت، وأبقيت لي فيك طول الأمل، يا بارئاً رضاك. فقال جبريل: هل تدعو الله، وندعو معك فيرد عليك يديك ورجليك وبصرك، فتعود إلى العبادة التي كنت فيها، قال: ما أحب ذلك، قال: ولم؟ قال: أما إذ كانت محبته في هذا فمحبته أحب إلي من ذاك. قال يونس: بالله يا جبريل، ما رأيت أحداً أعبد من هذا قط. قال جبريل: يا يونس، هذا طريق لا يوصل إلى الله عز وجل بشيء أفضل منه.
عن كعب قال: إن يونس لحق بالعباد، وكانت العباد حين عظمت الأحداث في بني إسرائيل خرجوا(28/115)
إلى الفيافي والجبال والسواحل؛ فمنهم من كان يأكل العشب، ومنهم من كان يأكل ورق الشجر، ومنهم من يطلب الرزق طلب الطير ويجزئه من الدنيا ما يجزئ الطير، تركوا الدنيا، فلولا هؤلاء ما نظر الله إلى بني إسرائيل طرفة عين، غير أن الله كان متجاوزاً عنهم، متعطفاً عليهم، يدفع عنهم بأوليائه.
قال كعب: إن يونس لم يجامع الناس بعد ذلك حتى لحق بالله. وكان شعيا تلميذ يونس، وكان عبداً صالحاً، قد اصطفاه الله، وطهره، فلما مات يونس أمر شعيا أن يفتي ببني إسرائيل، وكان إذا ملك الملك على بني إسرائيل بعث الله معه نبياً يسدده، ويرشده، ويكون فيما بينه وبين الله. قال: وشعيا هو الذي بشر بعيسى بن مريم، وبشر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فخبر بني إسرائيل أنه يكون نبي يخلق من غير ذكر، من عذراء صديقة طيبة مباركة، يركب الحمار، يكون على يديه العجائب والآيات، يبشر بنبي من بعده اسمه أحمد من ولد قيذار بن إسماعيل، مولده بمكة، ومهاجره بأرض طيبة، أمته خير أمة أخرجت للناس، يركب الجمل، ويقاتل الناس بقضيب الحديد، طيبت أمته وقدست وهم في أصلاب آبائهم، خير من مضى، وخير من بقي، يجعل الله فيهم العز والسلطان في آخر الزمان، ويظهرهم على الدين كله ولوكره المشركون.
يونس بن ميسرة بن حلبس أبو عبيد
ويقال: أبو حلبس، الجبلاني الأعمى أخو يزيد بن ميسرة.
قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان على منبر دمشق.
وروى عن معاوية بن أبي سفيان: أنه توضأ لهم وضوء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثاً ثلاثاً، فلما غسل رجليه أنقاهما ولم يعد لهما عدداً من الماء حتى أنقاهما. وسمع معاوية يقرأ: "(28/116)
يا عيسى إنّي متَوفّيكَ ".
وقال الأوزاعي: ليس تغسل الرجلين عدداً، اغسلهما، وأنقهما.
قال ابن سعد في الطبقة الخامسة من أهل الشام: يونس بن ميسرة بن حلبس. وكان ثقة. لما دخل المسودة في أول سلطان بني هاشم دمشق دخلوا مسجدها، فقتلوا من وجدوا فيه، فقتل يومئذ يونس بن ميسرة بن حلبس، وقتل يومئذ جد أبي مسهر عبد الأعلى بن مسره الغساني الدمشقي، وذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، في أول خلافة أبي العباس.
قال الدارقطني: وأما جبلان بالباء فهي قبيلة باليمن، وهو جبلان بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم ورفع في نسبه إلى حمير، ثم قال: وإخوتهم وصاب بن سهل، إليهما ينسب الجبلانيون والوصابيون، وهما قبيلتان بحمص. منهم يونس بن ميسرة الجبلاني، وعمر بن حفص الوصابي.
قال ابن ماكولا.
حلبس بفتح الحاء المهملة وسكون اللام، وفتح الباء المعجمة بواحدة.
وثقه العجلي، والدارقطني وابن عمار.
قال محمد بن إبراهيم الكتاني الأصبهاني: قلت لأبي حاتم: ما تقول في أيوب بن ميسرة بن حلبس؟ فقال: صالح الحديث هو وأخوه يونس بن ميسرة بن حلبس. قلت لأبي حاتم: إن يونس بن ميسرة كان من(28/117)
خيار المسلمين، أدرك معاوية، ونفراً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يقرئ في مسجد دمشق، وكف بصره، فلما دخل عبد الله بن علي البلد قام يدخل البيت، فكدمته دابة، فمات؟ فقال أبو حاتم: نعم.
قال يونس بن ميسرة بن حلبس: خرجت عام توفي معاوية حاجاً، فإني لأسير إذ أدركني عبد الله بن عمر، فسلمن فرددت. ثم هازلني، فقال: جنادل بلادنا أكثر من جنادل بلادكم. فقلت: وثمار بلادنا أكثر من ثمار بلادكم. فقال: أجل. قلت: أخبرني عن ابن عمر؟ فقال: لو أقسمت بالله ما عمل ابن عمر منذ أسلم عملاً إلا الله لبررت.
قال ابن حلبس:
إن لقمان قال لابنه: يا بني ثق بالله، ثم سل في الناس: من ذا الذي وثق بالله فلم ينجه؟ يا بني، توكل على الله، ثم سل في الناس: من ذا الذي توكل على الله فلم يكفه؟ يا بني، أحسن الظن بالله، ثم سل في الناس: من ذا الذي أحسن بالله الظن فلم يكن عند حسن ظنه به.
وقال يونس بن حلبس: من عمل على غير يقين فباطل.
وقال: تقول الحكم: يتعنى ابن أدم وأجدني في حرفين. يعمل خير ما يعلم، ويذر شر ما يعلم.
وقال: أين إخواني؟ أين أصحابي؟ ذهب المعلمون، وبقي المتعلمون، ذهب المطعمون وبقي المستطعمون.
وقال: الزهد أن يكون حالك في المصيبة، وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون مادحك وذامك في الخلق سواء.
وقال: إذا تكلفت ما لا يعنيك لقيت ما يعنيك.(28/118)
وقال: حرم الله على نفس أن تموت حتى ينقطع أثرها، وحتى تأتي على آخر عملها، وحتى تستوعب آخر رزقها، وحتى ينقطع أجلها.
وقال: اللهم إني أسألك حرباً في لين، وقوة في دين، وإيماناً في يقين، ونشاطاً في هدى، وبراً في استقامة، وكسباً من حلال.
قال الهيثم بن عمران: كنت جالساً عند يونس بن حلبس، وكان عند غياب الشمس يدعو بدعوات فيها: اله ارزقنا الشهادة في سبيلك. فكنت أقول في نفسي: من أين يرزق هذه الشهادة وهو أعمى؟! فلما دخلت المسودة دمشق قتل.
قال الهيثم: بلغني أن الخراسانيين اللذين قتلاه بكيا عليه لما أخبرا من صلاحه، وكان من آنس الناس مجلساً.
قال أبو زرعة: قتل أبو حلبس سنة اثنتين وثلاثين ومائة، في شهر رمضان.
يونس بن يزيد بن أبي النجاد
ويقال: ابن مشكان أبو يزيد القرشي مولاهم الأيلي قدم دمشق، وصحب الزهري بالشام ثنتي عشرة سنة، وقيل: أربع عشرة سنة.
قال ابن سعد: وكان بأيلة: يونس بن يزيد الأيلي، وكان حلو الحديث كثيره، وليس بحجة، ربما جاء بالشيء المنكر.(28/119)
قال أبو أحمد الحاكم: له أخوان: يسمى أحدهما خالداً، وهو والد عنبسة، وثانيهما يكنى أبا علي.
قال يونس بن يزيد: أرسلني ابن شهاب في شيء، فلما عدت قلت لابن شهاب: ما حدثت بعدي؟ قال: يا يونس، لا تكاثر العلم مكاثرة، خذه في الليالي والأيام.
وقال: سمعني الزهري أثني على عالم، فقال: ما تزيد لو رأيت عبيد الله بن عبد الله! قال خالد بن نزار: سألني الأوزاعي، فقال لي: أنت من أهل أيلة، أين أنت عن أبي يزيد؟ يعني يونس بن يزيد الأيلي فحضني عليه.
كان الزهري إذا قدم أيلة نزل على يونس، وإذا سار إلى المدينة زامله يونس.
قال عبد الله بن المبارك وذكر أصحاب الزهري: كان يونس أحفظهم للمسند. وقال: ما رأيت مثل معمر في الزهري إلا أن يونس كان آخذ للمسند.
وقال: ليس أحد أعلم بحديث الزهري من معمر إلا ما كان من يونس فإنه كتب الكتب على الوجه.
وقيل ليحيى بن معين: من أثبت: معمر أو يونس؟ قال: يونس أسندهما، وهما ثقتان جميعاً.
وقال: أثبت الناس في الزهري مالك بن أنس، ومعمر، ويونس، وعقيل، وشعيب بن أبي حمزة، وسفيان بن عيينة.(28/120)
عن يحيى بن سعيد قال: لما قدم ابن المبارك من عند معمر قلت له: اكتب لي حديث الإفك عن معمر، قال: إن شئت كتبته لك عن معمر قراءة، وإن شئت كتبته له عن يونس إملاء. قال: قلت: لا أريده.
قال وكيع: لقيت يونس الأيلي، فجهدت الجهد حتى يتخلص منه حديث واحد، فلم يكن يحفظ.
وقال: زاملت يونس إلى مكة، فلم يكن يحفظ شيئاً، كانت كتبه معه. وكان سيئ الحفظ.
مات يونس سنة تسع وخمسين ومائة، وقيل: مات سنة ستين.
وقال ابن يونس: مات سنة اثنتين وخمسين ومائة.
يونس المديني الكاتب
قدم دمشق في خلافة هشام بن عبد الملك، ثم قدم على الوليد بن يزيد.
حكي عنه أنه قال:
خرجت إلى الشام في خلافة هشام ومعي جاريتي عاتكة، وقد كنت علمتها وحذقتها، وأنا أقدر منها ما أستغني به. فلما قربنا من دمشق نزلت القافلة على غدير، ونزلت ناحية منهم، فأقبل فتىً حسن الوجه والهيئة، على فرس أشقر، ومعه خادمان، وعليه ثياب وشي مذهبة، ما أدري أوجهه أحسن أم ثيابه، فسلم علي وقال: أتقبل ضيفاً؟ فقمت، فأخذت بركابه، وقد علمت أنه من أهل بيت الخلافة، ودخلني له هيبة وإجلال، وقلت: انزل سيدي، فنزل. فذكر أنه سقاه، وغناه، وغنته الجارية حتى(28/121)
ظلمة العشاء الآخرة، فقال: ما أقدمك بهذه الجارية؟ قلت: أردت بيعها، قال: كم قدرت منها؟ قلت: قضاء ديني، وصلاح حالي. قال: قد أخذتها بخمسين ألف درهم، ولك بعد ذلك جائزة وكسوة ونفقة طريقك، وأن أشركك في حالي أبداً ما بقيت. قلت: قد بعتكها، قال: قد قبلت، أفتثق بي أن أحمل إليك ذلك غداً وأحملها معي، أو تكون عندك؟ قلت: قد وثقت بك، فخذها، بارك الله لك فيها. فقال لأحد خادميه: احملها على دابتك، وارتدف وراءها، واحملها معك، ففعل، وركب فرسه، وودعني. فما هو إلا أن غاب عني حتى عرفت موضع خطئي، وقلت: ماذا صنعت بنفسي؟ رجل لا أعرفه، ولا أدري من هو وهبني عرفته من أين أصل إليه؟! وجلست مفكراً، ثم قلت: الجارية برة بي، لن تتركه أو تقضي حقي. فلم أزل ليلتي أتململ حتى أصبحت، فصليت، وجلست في موضعي، ودخل أصحابي دمشق، وصهرتني الشمس، وقلت: إن دخلت لم يعرف موضعي، فأقمت، وأنفذت رحلي مع بعض أهل المدينة، وجلس في ظل جدار هناك. فلما أضحى النهار إذا أنا بأحد الخادمين قد أقبل إلي، فما أذكر أني فرحت مثل فرحي بالنظر إليه، فقال لي: أنا منذ غدوة أدور عليك في رفقتك. فقبل أن أسأله عن شيء قلت: من صاحبي؟ قال: ولي العهد الوليد بن يزيد. فسكنت نفسي. ثم قال: قم فاركب، وإذا معه دابة، فركبت، ودخلت إلى داره، فقال: من تكون؟ قلت: يونس الكاتب، قال: مرحباً بك، أما ندمت على ما كان منك البارحة؟ قلت: معاذ الله، قال: لكني ندمت على أخذها منك، وقلت: رجل غريب لا يعرفني، وقد غممته الليلة، وسفهت رأيي واستعجالي.
فذكر أنه أعطاه ثمنها خمسين ألفاً، وزاده ألفي دينار وقال: هذه زيادة لحسن ظنك وثقتك بنا، وخمسمائة درهم لرسم النفقة في الطريق، والهدية للأهل، وقال: إن أفضى هذا الأمر إلي فاقصدني، فوالله لأملأن يديك، ولأغنينك ما بقيت.
قال: فلما ولي الخلافة صرت إليه، فوفى بوعده، وزاد، ولم أزل معه حتى قتل.(28/122)
ذكر من سمي بكنيته
أو اشتهرت كنيته في اسمه سوى ما تقدم ذكره مرتباً على الحروف أيضاً
حرف الألف
أبو أحمد بن علي الكلاعي
من أهل دمشق.
روى عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: تربوا صحفكم؛ فإنه أنجح لها، فإن التراب مبارك.
وروى عن مكحول، عن واثلة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يضمن المقدم على الدابة ثلثي ما أصابت وهو راكب، ويضمن الرديف الثلث.
قال أبو أحمد الحاكم: أبو أحمد الكلاعي الدمشقي، روى عنه بقية بن الوليد حديثاً لا يتابع عليه.
قال الحافظ أبو القاسم: كذا ذكره الحاكم أبو أحمد فيمن لم يقف على اسمه، وعندي أنه عمر بن أبي عمر الكلاعي. روى أبو ياسر عمار بن نصر، ومحمد بن عمرو بن حنان عن بقية، عن عمر بن أبي عمر، عن أبي الزبير حديث تتريب الكتاب.(28/123)
قال أبو طالب أحمد بن حميد: سألت أحمد بن حنبل في السجن، عن حديث يزيد بن هارون بسنده عن جابر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا كتبت كتاباً فتربه، فإنه أنجح للحاجة، قال: هذا حديث منكر.
أبو أحمد بن هارون الرشيد
قدم دمشق في صحبة ابن أخيه جعفر المتوكل بن المعتصم بن الرشيد مع من قدم معه من أهل بيته في سنة أربع وأربعين ومائتين.
حكى عن المأمون أخي، وسمع غناء عمته علية بنت المهدي في شعرها ويروى لأبي العتاهية: من السريع
مالي أرى الأنصار لي جافيه ... لم تلتفت منّي إلى ناحيه
لا تنظر الناس إلى المبتلى ... وإنّما الناس مع العافية
صحبي سلوا ربّكم العافيه ... فقد دهتني بعدكم داهيه
صار مني بعدكم سيّدي ... فالعين من هجرانه باكيه
أنشد أبو الحسن بن البراء لجذيمة بن أبي علي النحوي يخاطب أبا أحمد بن الرشيد: من المتقارب
عجبت لقبلك كيف انقلب ... ومن طول حبك لي لم ذهب
وأعجب من ذا وذا أنّني ... أراك بعين الرّضى في الغضب(28/124)
وأذكر سالف أيّامنا ... فأبكي عليها دماً منسكب
وما كنت أوّل ذي هفوةٍ ... وما كنت أوّل مولىً عتب
مات أبو أحمد بن الرشيد في رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين.
أبو إبراهيم الدمشقي
إن لم يكن خالد بن اللجلاج فهو غيره.
أبو الأبرد الدمشقي
روى عنه حرب بن سيار حديثاً آخره:.. موتاً في طاعة خير من حياة في معصية.
أبو الأبطال
قال: بعثت إلى سليمان بن عبد الملك ومعي ست أحمال مسك، فمررت بدار أيوب بن سليمان، فأدخلت عليه، فمررت بدار ما فيها من الثياب والنجد بياض، ثم أدخلت منها إلى دار أخرى صفراء، وما فيها كذلك، ثم أدخلت منها إلى دار حمراء، وما فيها كذلك، ثم أدخلت منها إلى دار خضراء، وما فيها كذلك؛ فإذا أنا بأيوب وجارية له على سرير، ما أعرفه من الجارية.
قال: ولحقني من كان في تلك الدور، فانتهبوا ما معي من المسك. ثم خرجت، فلما صرت إلى سليمان صليت العصر في مسجده، فقلت لرجل إلى جنبي: هل شهد أمير(28/125)
المؤمنين الصلاة؟ فأشار لي إلى سليمان، فأتيته، فكلمته، فقال: أنت صاحب المسك؟ قلت: نعم، قال: اكتبوا له بالموافاة.
قال: ثم مررت بدار أيوب بعد سبعة عشر يوماً فإذا الدار بلاقع، فقلت: ما هذا؟ قالوا: طاعون أصابهم.
أبو الأبيض العبسي الشامي
من بني زهير بن جذيمة. قدم الشام مع الوليد بن عبد الملك.
روى عن أنس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي العصر والشمس بيضاء محلقة.
قال أبو محمد بن أبي حاتم: عيسى أبو الأبيض العبسي.
ثم قال في باب الكنى: سئل أبو زرعة عن أبي الأبيض الذي روى عن أنس، فقال: لا يعرف اسمه.
قال الحافظ أبو القاسم: لعل ابن أبي حاتم وجد في بعض رواياته أبو الأبيض عبسي فتصفحت عليه بعيسى، والله أعلم.(28/126)
قال أبو الأبيض: قال لي حذيفة: إن أقر أيامي لعيني يوم أرجع إلى أهلي، فيسألون الحاجة. والذي نفس حذيفة بيده لسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الله ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده بالخير، وإن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي المريض أهله الطعام.
وقال أبو الأبيض: رابطت أنا وصاحب لي بالبصرة، فكنت أقصر ويتم، فقضى لي أنس بن مالك عليه.
قال أحمد بن عبد الله العجلي: أبو الأبيض شامي، تابعي، ثقة.
قال علي بن أبي حملة: لم يكن أحد بالشام يستطيع أن يعيب الحجاج علانية إلا ابن محيريز، وأبو الأبيض العبسي. فقال الوليد بن عبد الملك لأبي الأبيض: ما للحجاج كتب يشكوك؟ لتنتهين، أو لأبعثنك إليه! قال أبو حفص عمر الجزري: كتب أبو الأبيض وكان عابداً إلى بعض إخوانه: أما بعد، فإنك لم تلكف من الدنيا إلا نفساً واحدة، فإن أنت أصلحتها لم يضرك فساد من فسد بصلاحها، وإن أنت أفسدتها لم تنتفع بصلاح من صلح بفسادها، وأعلم أنك لا تسلم من الدنيا حتى لا تبالي من أكلها من أحمر أو أسود.
حدث إسماعيل بن عياش: أن رجلاً من الجيش أتى أبا الأبيض العبسي بدابق قبل نزولهم على الطوانة، فقال: رأيت في يدك قناة فيها سنان يضيء لأهل العسكر كضوء كوكب، فقال: إن صدقت رؤياك، إنها الشهادة. قال: فاستشهد في قتال أهل الطوانة.(28/127)
وحدث محمد بن يحيى الثقفي أن أبا الأبيض قال هذه الأبيات: من الطويل
ألا ليت شعري هل يقولن قائلٌ ... وقد حان منهم عند ذاك قفول:
تركنا، ولم نجنن من الطير لحمه ... أبا الأبيض العبسيّ وهو قتيل
فعرّي أفراسي، وزنّت حليلتي ... كأن لم تكن بالأمس ذات حليل
وذي أملٍ يرجو تراثي، وإنّ ما ... يصير له منه غداً لقليل
وما لي تراث غير درعٍ حصينةٍ ... وأجرد من ماء الحديد صقيل
وقيل: إن أبا الأبيض خرج مع العباس بن الوليد في الصائفة، فقال أبو الأبيض: رأيت كأني أتيت بتمر وزبد، فأكلته، ثم دخلت الجنة، فقال العباس: نعجل لك الزبد والتمر، والله لك بالجنة. فدعى له بتمر وزبد، فأكله. ثم لقي أبو الأبيض العدو، فقاتل حتى قتل.
قال الليث:
وفي سنة ثمان وثمانين غزا مسلمة، وعباس بن أمير المؤمنين طوانة.
قال الوليد بن مسلم: حدثني من أصدق أن الوليد لما عزم على غزو الطوانة فذكر القصة، قال: وقتل أبو الأبيض العبسي.
أبو أحيحة القرشي
شهد الفتح. وكان في جيش خالد الذي قدم معه من العراق، وقال شعراً في رافع دليل خالد إلى دمشق.(28/128)
قال ابن إسحاق: قال أبو أحيحة القرشي:
لله عينا رافع أنّى اهتدى ... في مهمه مشتبه يعيي السّرى
والعين منه قد تغشّاها القذى ... معصوبة كأنها ملأى قذى
فهو يرى بقلبه ما لا ترى ... من الصّوى تبرى له ثم الصّوى
أو النّقا بعد النّقا إذا سرى ... وهو به خبرنا وما دنا
وما رآه ليس بالقلب خسا ... قلبٌ حفيظ وفؤاد قد وعى
فوّز من قراقرٍ إلى سوى ... والسيير زعزاع وما فيه ونى
خمساً إذا ما سارها الجيش بكى ... في اليوم يومين وراحٌ وسرى
ما سارها من قبله إنسٌ أرى ... هذا لعمر رافعٍ هو الهدى
وقد روي بعض هذا الرجز للقعقاع بن عمرو التميمي.
أبو الأخضر
مولى خالد بن يزيد بن معاوية.
ذكره أبو زرعة في الطبقة الثالثة من تابعي أهل الشام.(28/129)
عن أبي عبد رب الزاهد قال: لقيت أبا الأخضر مولى خالد بن يزيد بن معاوية، فقلت له: خالد، قد علم العرب والعجم في أي ذلك وجد بناء هذه الدار يعني دار الحجارة فقال: والله سمعته يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما وضعت فيها حجراً على حجر.
أبو الأزهر
ابن بنت أبي النجم العجلي الراجز. كان مع جده عند سليمان بن عبد الملك بن مروان ويقال: عند عبد الملك.
أبو إسماعيل
مولى داود بن علي. وكان فاضلاً.
قال الحافظ: الأظهر أن أبا إسماعيل هذا من مواليه بالحميمة.
أبو الأسود البيروتي
كان من أهل الفضل.
قال الهقل، وابن شعيب، والوليد: احترقت كتب الأوزاعي. قلنا له: يا أبا عمرو، إن نسخها عند أبي الأسود وكان أبو الأسود رجلاً فاضلاً، وكان قد كتب كتب الأوزاعي، وصححها مراراً، ومنزله ببيروت عند قبلة الجامع فقال الأوزاعي: بل نحدث بما حفظنا منها. وما حدث بحرف من ذلك إلا ما كان يحفظه.(28/130)
أبو أسيد
بالفتح ويقال: أبو أسيد بالضم الفزاري من زهاد أهل دمشق.
ذكره أبو زرعة في طبقة قدم تلي الطبقة العليا من التابعين.
قال أبو بكر بن أبي داود: أبو أسيد الفزاري، أحد الأبدال. يقال: كان مستجاب الدعوة.
قال سعيد بن عبد العزيز: قيل لأبي أسيد الفزاري: من أين تعيش؟ قال: فكبر الله، وحمده، وقال: يرزق الله وفي رواية: يرزق الله الكلب والخنزير ولا يرزق أبا أسيد؟! قال: ومر أبو أسيد الفزاري بسوق الرؤوس، فذكر هذه الآية: " هم فيها كالحون "، فخر مغشياً عليه.
قال الوليد بن مسلم: سألت ابن جابر، فقلت: من رأيت ممن يخضب؟ قال: رأيت عبد الله بن أبي زكريا، وأبا مخرمة، وأبا أسيد، وبلال بن سعد، والقاسم بن مخيمرة، وعطية بن قيس لا يخضبون بشيء، بيض لحاهم.
وقال سعيد بن عبد العزيز: كان أبو أسيد يمشي مع ابن أبي زكريا، فقال له ابن أبي زكريا: فلان يفعل كذا وكذا وفي رواية: كان من أمر الناس كذا فقال أبو أسيد: ذكر الناس داء، وذكر الله شفاء. ثم أعرض عنه، فلم ير منه ما يحبه حتى فارقه. قال: وأراد ابن أبي زكريا عبادة أبي أسيد، فلم يقدر عليها. وما كان عندنا أعبد منه يعني من أبي أسيد.(28/131)
قال ابن أبي زكريا: وكان أبو أسيد الفزاري يغتسل كل يوم لصلاة الصبح، ثم يغدو إلى المسجد، فيصلي الصبح، ثم يجلس، فيذكر الله حتى تمكنه السبحة، ثم يقوم يركع، فلا يزال يركع حتى نصف النهار، ثم ينصرف إلى أم الدرداء، فتقوم عليه أم الدرداء بمنزلة الأمة له، فإذا سمع المؤذن راح، فلا يزال قائماً يصلي حتى العصر، ثم يصلي العصر، ثم يجلس بعد العصر، فيذكر لله حتى المغرب، ثم يصلي المغرب، ثم يقوم، فيركع، فلا يزال راكعاً حتى ينصرف آخر النهار من العشاء الآخرة، ثم ينصرف إلى أهله، وهو مع هذا صائم. قال: وكان منزله عند باب الشرقي، فيفطر مع أهله، ثم ينام نومة، فعسى ألا ينام آخر أهل بيته حتى يستيقظ، فلا يزال قائماً يصلي حتى يصبح.
قال: فجاءه ابن أبي زكريا، فقال: قد علمت أنه كان من الناس كيت وكيت. فقال أبو أسيد: ذكر الله شفاء، وذكر الناس داء. ثم لم يره ما يحب حتى فارقه.
قال سعيد: فهذا أعجب إلي من عبادته.
قال سعيد أو غيره: شهد أبو أسيد جنازة، فمر بعتبة باب داره، فإذا هو قد أصلح، فقال: ما نظرت إلى هذا بنهار منذ ثماني عشرة سنة.
أبو أوس
ذكره خليفة في الطبقة الأولى من أهل الشامات.
أبو إياس الليثي
قيل: إنه له صحبة، وإنه شهد عمر بالجابية.(28/132)
وهو وهم، والصواب: أبو واقد الليثي، وسيأتي ذكره في حرف الواو من الكنى حين أرسله عمر إلى المرأة التي زنت.
أبو أيوب مولى معاوية وحاجبه
ذكر ذلك خليفة. والمعروف أبو يوسف.
أبو أيوب
إن لم يكن سليمان بن عبد الرحمن، فهو غيره.
قال أبو أيوب الدمشقي: قال السري بن ينعم وكان من عباد أهل الشام: بؤساً لمحب الدنيا، أيحب ما أبغض الله تعالى؟
أم أبان بنت عتبة بن ربيعة
ابن عبد شمس بن عبد مناف أخت هند، وخالة معاوية.
كانت بالشام، وشهدت الفتح مع أخيها أبي هاشم، وزوجها أبان بن سعيد بن العاص. وقتل عنها يوم أجنادين. وقيل إنه لم يكن معها سوى ليلتين حتى قتل عنها.
قال موسى بن طلحة بن عبيد الله: خطب عمر بن الخطاب أم أبان بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فأبته، فقيل لها: ولم؟ قالت: إن دخل دخل ببأس، وإن خرج خرج بيأس، قد أذهله أمر آخرته عن أمر دنياه، كأنه ينظر إلى ربه بعينه. ثم خطبها الزبير بن العوام، فأبته، فقيل لها:(28/133)
ولم؟ قالت: ليست لزوجه منه إلا شارة في قراملها. ثم خطبها علي، فأبت، فقيل لها: ولم؟ قالت: ليس لزوجه منه إلا قضاء حاجته، ويقول: كنت، وكنت. وكان، وكان. ثم خطبها طلحة بن عبيد الله، فقالت: زوجي حقاً! قالوا: وكيف ذلك؟ قالت: إني عارفةً بخلائقه، إن دخل دخل ضحاكاً، وإن خرج خرج بساماً. إن سألت أعطى، وإن سكت ابتدأ، وإن عملت شكر، وإن أذنبت غفر. فلما أن ابتنى بها قال علي: يا أبا محمد، إن أذنت لي أن أكلم أم أبان، قال: كلمها، قال: فأخذ سجف الحجلة، ثم قال: السلام عليك يا غريرة نفسها، قالت: وعليك السلام، قال: خطبك أمير المؤمنين، وسيد المسلمين فأبيته؟ قالت: كان ذلك. قال: وخطبك الزبير ابن عمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحد حوارييه فأبيته؟ قالت: وقد كان ذلك، قال: وخطبتك أنا، وقرابتي من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: قد كان ذلك، قال: أما والله لقد تزوجت أحسننا وجهاً، وأبذلنا كفاً، يعطي هكذا وهكذا.
قال الزبير في تسمية ولد عتبة بن ربيعة: وولد: أبا هاشم بن عتبة، وأم أبان؛ ولدت لطلحة بن عبيد الله. وأمهم: خناس بنت مالك بن المضرب. وأخواهم لأمهم: مصعب، وأبو عزيز ابنا عمير بن هاشم بن عبد الدار بن قصي.
أم أبيها بنت عبد الله بن جعفر
ابن أبي طالب ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، القرشية الجعفرية كانت عند عبد الملك بن مروان بدمشق، فطلقها، فتزوجها علي بن عبد الله بن عباس.
عن الحسن بن الحسن قال: زوج عبد الله بن جعفر بنته، فخلا بها. قال الحسن: فلقيتها، فقلت: ما قال(28/134)
لك؟ قالت: قال لي: يا بنية، إذا نزل بك الموت، أو أمر تفظعين به، فقولي: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين. فأتيت الحجاج، فقلتهن، فقال لي: لقد جئتني وأنا أريد أن أضرب عنقك، وما من أهلك الآن أحد أحب إلي منك، فسلني ما شئت.
وفي قصة مطولة عن علي بن حسين، قال:
كان أبو جعفر يقول: علمني أبي يعني علياً كلمات، زعم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمه إياهن، يقولهن عند الكرب، إذا نزل به، وقال: أي بني، لقد كتمتهن عن حسن وحسين، وخصصتك بهن، فكنا نسأله عنهن، فيكتمناهن، ويأبى أن يعلمناهن حتى زوج ابنته، فخرجنا نشيعها، حتى إذا كنا بمحيص ركبت، وودعتها، خلا بها، وهي على دابتها، فعرفت أنه يعلمها تلك الكلمات التي كان يكتمنا. ثم انصرف، وانصرفنا، حتى إذا سرنا قريباً من الميل تخلفت كأني أهريق الماء، ثم ركضت حتى أدركتها، فقلت لها: أي ابنة عم، إني قد عرفت أن أباك إنما خلا بك دوننا ليعلمك الكلمات التي كان يكتمنا. قالت: أجل، قلت: فأخبريني بهن، قالت: قد نهاني أن أخبر بهن أحداً، قلت: أسألك بالله لما أخبرتني، فلعلي لا أراك بعد هذا الوقت أبداً، قالت: خلا بي، ثم قال: أي بنية، إن أبي علمني كلمات علمه إياهن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقولهن عند الكرب إذا نزل به، وقال: لقد خصصتك بهن دون حسن وحسين. وأنت تقدمين أرضاً أنت بها غريبة، فإذا نزل بك كرب، أو أصابتك شدة فقوليهن: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحانه، وتبارك الله رب العرش العظيم. الحمد لله رب العالمين.(28/135)
حرف الباء
أبو البختري
شهد وفاة عمر بن عبد العزيز.
قال الحافظ أبو القاسم: أظن أبا البختري هذا مغراء العبدي.
أبو بردة بن عوف الأزدي
عراقي من التابعين. وفد على يزيد بن معاوية.
أبو بردة
مولى سعيد بن عبد الملك بن مروان.
أبو بسرة الجهني
شهد خطبة عمر بن الخطاب بالجابية.
أبو بشر التنوخي
كان نصرانياً. خرج مع الروم إلى اليرموك، وحكى بعض أمر الوقعة.(28/136)
أبو بشر مؤذن مسجد دمشق
يقال: إنه من أهل قنسرين.
مات سنة ثلاثين ومائة في خلافة مروان بن محمد.
أبو بشر المروزي
إن لم يكن إسحاق بن عبد الله بن كيسان، فلا أدري من هو.
قال البخاري: عبد الله بن كيسان المروزي، أبو مجاهد. وله ابن يسمى إسحاق. منكر. ليس من أهل الحديث.
أبو بقية
راجز قدم مع المتوكل دمشق، وقال مزدوجةً يصف فيها المنازل من سامراء إلى دمشق، أولها:؟ يا نفس إن العمر في انتقاص وليس من موتك من مناص
أما تخافين من القصاص ... وترغبين الفوز بالخلاص
فبادري بالطاعة المعاصي
إلى أن قال:
ثمت سرنا سبعةً خفيفه ... فراسخاً أميالها منيفه(28/137)
ثم أتينا منزل القطيفه ... فارتحل الناس مع الخليفه
نؤمّ منها البلدة الشّريفه
مع الإمام السيد الهمام ... أمين ذي العرش على الإسلام
الكاشر السيد والقمقام ... قد سبق القوم على التمام
في أيمن اليوم من الأيام(28/138)
ذكر من اسمه أبو بكر
أبو بكر بن أنس بن مالك بن النضر الأنصاري
أمه أم ولد.
وفد على عبد الملك بن مروان مع أبيه أنس بن مالك، وقال: قدم أبي من الشام وافداً، وأنا معه، فلقينا محمود بن الربيع، فحدث أبي حديثاً عن عتبان بن مالك، فقال أبي: يا بني، احفظ هذا الحديث؛ فإنه من كنوز الحديث. فلما قفلنا انصرفنا إلى المدينة، فسألنا عنه، فإذا هو حي، وإذا شيخ أعمى، فسألناه عن الحديث، فقال: نعم، ذهب بصري على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فذكر حديث مالك بن الدخشم.
حدث حفص بن أخي أنس، عن أنس قال: انطلق أبي في أربعين رجلاً من الأنصار حتى أتى بها عبد الملك بن مروان، ففرض لنا. فلما رجع رجعنا، حتى إذا كنا بفج صلى بنا الظهر صلاة السفر ركعتين، وسلم، فدخل فسطاطه، فقام القوم يضيفون إلى ركعتيه ركعتين آخرتين، فنظر إليهم، فقال لابنه أبي بكر: ما يصنع هؤلاء القوم؟ قال: يضيفون إلى ركعتنا ركعتين آخرتين، فقال: قبح الله الوجوه، ما قبلت الرخصة، ولا أصابت السنة؛ أشهد أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن قوماً يتعمقون في الدين، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.(28/139)
قال ثابت البناني:
كنت عند أنس بن مالك إذ قدم علينا ابن له من غزاة، يقال له: أبو بكر، فساءله، فقال: ألا أخبرك عن صاحبنا فلان؟ بينا نحن قافلون من غزاتنا، إذ ثار وهو يقول: يا أهلاه، يا أهلاه، أو: يا هؤلاء، يا هؤلاء! فثرنا إليه، فظننا أن عارضاً عرض له، فقلنا: مالك؟ فقال: إني كنت أحدث نفسي ألا أتزوج حتى أستشهد، فيزوجني الله تعالى من الحور العين، فلما طالت علي الشهادة قلت في سفري هذا: إن أنا رجعت هذه المرة تزوجت. فأتاني آت قبيل في المنام، فقال: أنت القائل: إن رجعت تزوجت؟ فقم، فقد زوجك الله العيناء، فانطلق إلى روضة خضراء معشبة، فيها عشر جوار، في يد كل جارية صنعة تصنعها، لم أر مثلهن في الحسن والجمال، فقلت: فيكن العيناء؟ فقلن: نحن من خدمها، وهي أمامك. فمضيت، فإذا روضة أعشب من الأولى وأحسن، فيها عشرون جاريةً، في يد كل واحدة صنعة تصنعها، ليس العشر إليهن بشيء في الحسن والجمال. قلت: فيكن العيناء؟ قلن: نحن من خدمها، وهي أمامك، فمضيت، فإذا بروضة، وهي أعشب من الأولى والثانية وأحسن، فيها أربعون جاريةً، في يد كل واحدة منهن صنعة تصنعها، ليس العشر والعشرون إليهن بشيء في الحسن والجمال. قلت: فيكن العيناء؟ قلن: نحن من خدمها، وهي أمامك. فمضيت، فإذا أنا بياقوتة مجوفة، فيها سرير عليه امرأة قد فضل جنباها السرير. قلت: أنت العيناء؟ قالت: نعم، مرحباً. فذهبت أضع يدي عليها، قالت: مه، إن فيك شيئاً من الروح بعد، ولكن تفطر عندنا الليلة. قال: فانتبهت.
قال: فما فرغ الرجل من حديثه حتى نادى المنادي: يا خيل الله اركبي. قال: فركبنا، فصافنا العدو؛ فإني لأنظر إلى الرجل، وأنظر إلى الشمس، فأذكر حديثه، فما أدري أرأسه سقط أولاً أم الشمس سقطت.
فقال أنس: رحمه، رحمه الله.
قال أحمد العجلي: أبو بكر بن أنس بن مالك: بصري، تابعي، ثقة.(28/140)
أبو بكر بن حنظلة العنزي
كان من صحابة خالد بن يزيد بن معاوية، فجفاه، فقال في ذلك شعراً. ذكره البلاذري.
أبو بكر بن سعيد الأوزاعي
ذكره ابن سميع في الطبقة الخامسة.
وقد سمي في بعض الروايات عمراً. وقد تقدم في حرف العين.
أبو بكر بن سليمان بن أبي السائب
القرشي الدمشقي ذكره أبو أحمد الحاكم.
أبو بكر بن عبيد بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري
وفد مع جده على عبد الملك بن مروان.
أبو بكر بن عبد الله بن حويطب بن عبد العزى
ابن أبي قيس بن عبد ود القرشي العامري قدم الشام غازياً.(28/141)
أبو بكر بن عبد الله بن محمد
ابن أبي سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر ابن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب القرشي العامري المديني قيل: إن اسمه عبد الله بن عبد الله، وقيل: محمد.
قال الوليد بن مزيد: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة القرشي ثم الحسلي، وكان قدم علينا دمشق في ولاية الفضل بن صالح سنة خمس وأربعين ومائة.
فذكر حديث العرنيين.
قال مصعب: أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة. كان من علماء قريش. ولاه المنصور القضاء.
قال الزبير: وأمه أم ولد.
وذكره ابن سعد في الطبقة السادسة. وكان كثير العلم والسماع والرواية. ولي قضاء مكة لزياد بن عبيد الله. وكان يفتي بالمدينة، ثم كتب إليه، فقدم به بغداد، فولي قضاء موسى بن المهدي وهو يومئذ ولي عهد. ثم مات ببغداد سنة اثنتين وستين ومائة في خلافة المهدي وهو ابن ستين سنةً. فلما مات ابن أبي سبرة بعث إلى أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، فاستقضي مكانه، فلم يزل قاضياً مع موسى وهو ولي عهد، وخرج معه إلى جرجان.
قال أبو بكر بن أبي سبرة: قال لي ابن جريج: اكتب لي أحاديث من أحاديثك جياداً. قال: فكتبت له ألف حديث، ودفعتها إليه، ما قرأها علي، ولا قرأتها عليه.(28/142)
قال محمد بن عمر: ثم رأيت ابن جريج قد أدخل في كتبه أحاديث كثيرةً من حديثه يقول: حدثني أبو بكر بن عبد الله، وحدثني أبو بكر بن عبد الله يعني ابن أبي سبرة وكان كثير الحديث ليس بحجة.
وأخوه محمد بن عبد الله مات في ولاية زياد بن عبيد الله، وكان ولاه قضاء المدينة.
قال الخطيب:
وأبو سبرة صحابي شهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدراً. وأبو بكر من أهل مدينة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أخو محمد بن عبد الله بن أبي سبرة الذي تولى قضاء المدينة من قبل زياد بن عبيد الله الحارثي. قدم بغداد، وولي القضاء بها، وبها كانت وفاته.
قال مصعب بن عبد الله: خرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة على المنصور، وكان أبو بكر بن أبي سبرة على صدقات أسد وطيئ، فقدم على محمد بن عبد الله منها بأربعة وعشرين ألف دينار، دفعها إليه، فكانت قوة محمد بن عبد الله؛ فلما قتل محمد بن عبد الله بالمدينة قيل لأبي بكر: اهرب، قال: ليس مثلي يهرب. فأخذ أسيراً، فطرح في حبس المدينة، ولم يحدث فيه عيسى بن موسى شيئاً غير حبسه. فولى المنصور جعفر بن سليمان المدينة، فقال له: إن بيننا وبين أبي بكر بن عبد الله رحماً، وقد أساء، وقد أحسن، فإذا قدمت عليه فأطلقه، وأحسن جواره.(28/143)
وكان الإحسان الذي ذكر المنصور من أبي بكر أن عبد الله بن الربيع الحارثي قدم المدينة بعدما شخص عيسى بن موسى، ومعه جند، فعاثوا بالمدينة، وأفسدوا، فوثب عليه سودان المدينة والرعاع والصبيان، فقاتلوا جنده، وطردوهم، وانتهبوهم، وانتهبوا عبد الله بن الربيع؛ فخرج عبد الله بن الربيع حتى نزل بئر المطلب يريد العراق على خمسة أميال إلى المدينة بالميل الأول وكسر السودان السجن، وأخرجوا أبا بكر، فحملوه حتى جاؤوا إلى المنبر، وأرادوا كسر حديده، فقال لهم: ليس على هذا فوت، دعوني حتى أتكلم، فقالوا له: فاصعد المنبر، فأبى، وتكلم أسفل من المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم حذرهم الفتنة، وذكرهم ما كانوا فيه، ووصف عفو الخليفة عنهم، وأمرهم بالسمع والطاعة، فأقبل الناس على كلامه، واجتمع القرشيون، فخرجوا إلى عبد الله بن الربيع، فضمنوا له ما ذهب منه ومن جنده، وقد كان تأمر على السودان زنجي منهم يقال له: وثيق، فمضى إليه محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة، فلم يزل يخدعه حتى دنا منه، فقبض عليه، وأمر من معه فأوثقوه، فشدوه في الحديد، ورد القرشيون عبد الله بن الربيع إلى المدينة، وطلبوا ما ذهب من متاعه، فردوا ما وجدوا منه، وغرموا لجنده. وكتب بذلك إلى المنصور، فقبل منه. ورجع ابن أبي سبرة أبو بكر بن عبد الله إلى الحبس حتى قدم عليه جعفر بن سليمان، فأطلقه، وأكرمه؛ فصار بعد ذلك إلى المنصور فاستقضاه ببغداد، ومات ببغداد.
قال سعيد بن عمرو: كان أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عاملاً لرباح بن عثمان بن حيان على مسعاة أسد وطيء، فلما خرج محمد بن عبد الله بن حسن جاءه أبو بكر بما صدق من مسعاه أسد وطيء، فدفع ذلك إليه، فلما قتل محمد أمر المنصور بحبس أبي بكر وتحديده. فحبس وحدد. فلما قام السودان بعبد الله بن الربيع الحارثي أخرج القرشيون أبا بكر، فحملوه على منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنهى عن معصية أمير المؤمنين، وحث على طاعته. وقيل له: صل بالناس؟ فقال: إن الأسير لا يؤم. ورجع إلى محبسه. فلما ولى المنصور جعفر بن سليمان بن علي المدينة أمر بإطلاق ابن أبي سبرة، وأوصاه به، وقال له: إنه إن(28/144)
كان أساء فقد أحسن. فأطلقه جعفر بن سليمان، فجاء إلى جعفر، فسأله أن يكتب له بوصاة إلى معن بن زائدة، وهو إذ ذاك على اليمن، فكتب له بوصاة إليه، فلقي الرابحي، فقال: هل لك في الخروج معي إلى العمرة؟ قال: والله ما أخرجني من منزلي إلا طلب شيء لأهلي؛ ما تركت عندهم شيئاً، قال ابن أبي سبرة: تكفاهم. فأمر لأهله بما يصلحهم، وخرج به معه. فلما قضيا عمرتهما قال للرابحي: هل لك بنا في معن بن زائدة؟ قال: حال أهلي ما أخبرتك! فخرج معه، وأمر لأهله بما يصلحهم.
وقدم ابن أبي سبرة على معن والرابحي معاً، فدخل عليه ابن أبي سبرة، فدفع إليه كتاب جعفر بن سليمان، فقرأه بالوصاة به. ثم قال له معن: جعفر أقوى على صلتك مني، انصرف، فليس لك عندي شيء. فانصرف مغموماً، فلما انتصف النهار أرسل إليه، فجاءه، فقال له: يا بن أبي سبرة، ما حملك على أن قدمت علي وأمير المؤمنين عليك واجد؟ ثم سأله: كم دينه؟ فقال: أربعة آلاف دينار، فأعطاه إياها، وأعطاه ألفي دينار، فقال: أصلح بهما من أمرك. فانصرف، وأخبر الرابحي، فراح الرابحي إلى معن.
فأنشده الرابحي يقول في مدح لأبي الوليد أخي المهدي الغمر: من الكامل
ملكٌ بصنعاء الملوك له ... ما بين بيت الله والشّحر
لو جاودته الريح مرسلةً ... لجرى بجودٍ فوق ما تجري
حملت به أمٌّ مباركةٌ ... فكأنّها بالحمل ما تدري
حتى إذا ما تمّ تاسعها ... ولدته أوّل ليلة القدر
فأتت به بيضاً أسرّته ... يرجى لحمل نوائب الدهر
مسح القوابل وجهه فبدا ... كالبدر أو أبهى من البدر
فنذرن حين رأين غرّته ... إن عاش أن سيفين بالنّذر
لله صوماً شكر أنعمه ... والله أهل الحمد والشكر(28/145)
فنشا بحمد الله حين نشا ... حسن المروءة نابه الذكر
حتّى إذا ما طرّ شاربه ... خضع الملوك لسيّدٍ فهري
فإذا رمي ثغرٌ يقال له ... يا معن أنت سداد ذا الثّغر
قال: أنا الوليد؛ أعطه ألف دينار، فأعطيها. فرجع إلى ابن أبي سبرة. فخرج ابن أبي سبرة إلى مكة وخرج به معه، فلما قدما مكة قال ابن أبي سبرة للرابحي: أما الأربعة الآلاف التي أعطاني معن في ديني فقد حبستها حتى أقضي بها ديني، لا أوثر عليه شيئاً، وأما ألفا الدينار اللذان أعطاني فلي منها ألف دينار، وخذ أنت ألفاً. فقال الرابحي: قد أعطاني ألف دينار! فقال: أقسمت عليك إلا أخذت. فأخذها، وقام هو والرابحي حتى بلغه أهله بالمدينة. فانصرف ابن أبي سبرة لقضاء دينه، وفضل ألف دينار، وانصرف الرابحي بألفي دينار.
قال: ونمي الخبر إلى المنصور فكتب إلى معن: ما الذي حملك على أن تعطي ابن أبي سبرة ما أعطيته، وقد علمت ما فعل؟ فكتب إليه معن: إن جعفر بن سليمان كتب إلي يوصيني به، فلم أحسب جعفراً أوصاني به حتى رضي عنه أمير المؤمنين. فكتب المنصور إلى جعفر بن سليمان يبكته بذلك، فكتب إليه جعفر: إنك يا أمير المؤمنين أوصيتني به، فلم يكن من استيصائي به شيء أيسر من كتاب وصاة إلى معن بن زائدة.
قال مالك: لما لقيت أبا جعفر قال لي: يا مالك، من بقي بالمدينة من المشيخة؟ قلت: ابن أبي ذئب، وابن أبي سلمة، وابن أبي سبرة.
قال عبد الله بن الحارث المخزومي: كتب ابن جريج إلى ابن أبي سبرة، فكتب إليه بأحاديث من أحاديثه، وختم عليها.(28/146)
قال يحيى بن معين: روى ابن جريج عن أبي بكر السبري، وكتبه منه إملاءً.
قال: وكان ابن أبي سبرة قدم العراق، فجعل يقول لمن أتاه: عندي سبعون ألف حديث، فإن أخذتم عني كما أخذ ابن جريج فخذوا.
قال: وكان ابن جريج أخذ عنه مناولةً.
وقال يحيى القطان، ويحيى بن معين، وابن المديني، والبخاري، وأبو زرعة، والجوزجاني، والدارقطني، وغيرهم: ابن أبي سبرة ضعيف.
قال أحمد بن حنبل: أبو بكر بن أبي سبرة كان يضع الحديث. قال لي حجاج: قال لي أبو بكر السبري: عندي سبعون ألف حديث في الحلال والحرام.
قال أحمد: ليس بشيء، كان يضع الحديث، ويكذب.
وقال: أبو بكر بن أبي سبرة لا يساوي حديثه شيئاً. قال الواقدي: تروى عنه العجائب.
قال يحيى بن معين: أبو بكر بن أبي سبرة الذي يقال له: السبري، هو مديني، كان ببغداد، وليس حديثه بشيء، قدم ها هنا فاجتمع الناس عليه، فقال: عندي سبعون ألف حديث، إن أخذتم كما أخذ ابن جريج يعني عرضاً وإلا فلا.(28/147)
وقال ابن المديني والبخاري: أبو بكر بن أبي سبرة منكر الحديث زاد ابن المديني: هو عندي نحو ابن أبي يحيى.
وقال النسائي: هو متروك الحديث.
وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم.
وذكره يعقوب بن سفيان في باب من يرغب عن الرواية عنهم. ورأيت أصحابنا يضعفونهم.
قال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ، وهو في جملة من يضع الحديث.
ومات ببغداد سنة اثنتين وستين ومائة، وبلغ ستين سنة.
أبو بكر بن عبد الله الأسوار بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان
أخو أبي محمد بن عبد الله القرشي الأموي. وكان شاعراً، وكان ممن بايع مروان بن محمد بدمشق. وهو الذي يقول لولد عباد بن زياد، ونزل عليهم فاعتلوا باحتباس العطاء: من الوافر(28/148)
بتنهج ليلةٌ طالت علينا ... وأخلفنا المواعد والدّعاء
نناديهم ليقرونا فقالوا ... سنقريك إذا خرج العطاء
ذكر الجاحظ في كتاب البخلاء، وذكر البلاذري عن المدائني: كان أبو بكر بن يزيد ذا نيقة في الطعام، وكان صاحب تنعم، فمر بقرية لعباد بن زياد بن أبي سفيان، ومعه رجل من تيم اللات بن ثعلبة بن عكابة، وكانت القرية تدعى تنهج، فلم يقروهم، فقال التيمي:
بتنهج ليلةٌ طالت علينا ... وأخلفنا المواعد والعشاء
نناديهم ليقرونا فقالوا ... سنقريكم إذا خرج العطاء
ودون عطائهم شهرا ربيع ... ونحن نسير إن متع الضّحاء
أنادي خالداً والباب دوني ... وكيف يجيبك الفدم العياء
ويقال: إن الأبيات لأبي بكر نحلها التيمي. فأجاب خالد بن عباد على الشعر، على أنه للتيمي فقال: من الوافر
وما علم الكرام بجوع كلبٍ ... عوى والكلب عادته العواء
وتيم اللات لا ترجى لخيرٍ ... وتيم اللات تفضلها النساء
قال الحافظ أبو القاسم: سألت بعض من يخبر الشام عن تنهج فقال: حصن من مشارف البلقاء مما يلي البرية، وذكر أنه خراب اليوم.
وقد ذكرت في ترجمة مروان بن محمد أن أبا بكر بن عبد الله كان حياً حين قدم مروان دمشق، وكان ذلك سنة سبع وعشرين ومائة.(28/149)
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث
ابن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المدني الفقيه الضرير. أحد فقهاء المدينة السبعة. ويقال: اسمه أبو بكر، وكنيته أبو عبد الرحمن.
روي أنه وفد على الوليد بن عبد الملك.
قال: وأنا أستبعد ذلك لأنه ضرير البصر، والمحفوظ أن دخوله عليه كان بالمدينة عام حج الوليد بعدما استخلف.
ذكر أبو محمد عبد الله بن سعد القطربلي قال: روي أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قدم على الوليد بن عبد الملك، فأجلسه معه على سريره، وأقطعه أموال بني طلحة بن عبيد الله وقد كان سخط على بعضهم، فاصطفى أموالهم فلما خرج أتاه بنو طلحة، فاستأذنوا عليه، فأذن لهم، وحضره بنوه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: إن الله قد رد عليكم أموالكم، وما قبلتها من أمير المؤمنين إلا مخافة أن تصير إلى غيري، فابعثوا من يقبضها. فقال له بنوه: أفلا تركت القوم حتى يتكلموا؟ قال: فما أتعبت عليهم بعد وجوههم.
قال الزبير بن بكار: فولد عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: أبا بكر بن عبد الرحمن، وكان قد كف بصره، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة، وكان يسمى الراهب، وكان من سادة قريش. وكان من التابعين؛ وأمه الشريدة فاختة بنت عنبة بن سهيل بن عمرة، وإخوته لأبيه وأمه: عمر، وعثمان، وعكرمة، وخالد، ومحمد وبه كان يكنى عبد الرحمن وحنتمة ولدت لعبد الله بن الزبير بن العوام: عامراً، وموسى، وفاختة، وأم حكيم.(28/150)
قال ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة: أبو بكر بن عبد الرحمن. وأمه فاختة فذكر نسبها كما سبق، ثم قال: فولد أبو بكر: عبد الرحمن، لا بقية له، وعبد الله، وعبد الملك، وهشاماً لا بقية له، وسهيلاً لا بقية له، والحارث، ومريم. وأمهم سارة بنت هشام بن الوليد بن المغيرة، وأبا سلمة لا بقية له، وعمر، وأم عمرو وهي ربيعة. وأمهم قريبة بنت عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وأمها زينب بنت أبي سلمة بن عبد الأسد، وأمها أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفاطمة بنت أبي بكر، وأمها من نسل قيس بن عاصم المنقري.
قال محمد بن عمر: ولد أبو بكر في خلافة عمر بن الخطاب، وكان يقال له: راهب قريش، لكثرة صلاته، ولفضله. وكان قد ذهب بصره. وليس له اسم، كنيته اسمه. واستصغر يوم الجمل، فرد هو وعروة بن الزبير. وقد روى أبو بكر عن أبي مسعود الأنصاري، وعائشة، وأم سلمة. وكان ثقة، فقيهاً، كثير الحديث، عالماً، عالياً، عاقلاً، سخياً.
قال علقمة بن وقاص الليثي: لما خرج طلحة والزبير وعائشة لطلب دم عثمان عرضوا من معهم بذات عرق، فاستصغروا عروة بن الزبير، وأبا بكر بن عبد الرحمن، فردوهما.
وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم أهل البيت بنو الحارث بن هشام.
عن بعض العلماء قال:
كان يقال: ثلاثة أبيات من قريش توالت خمسة خمسة بالشرف، كل رجل منهم من أشرف أهل زمانه. فمن الثلاثة الأبيات: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة.(28/151)
عن أبي الزناد أن السبعة الفقهاء الذين كان يذكرهم أبو الزناد: سعيد بن المسب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار.
وقال ابن أبي الزناد: والسبعة الذين يستشيرهم الناس: فذكر مثله قال أبو الزناد: أدركت من فقهاء أهل المدينة وعلمائهم، ومن نرتضي وينتهى إلى قولهم، منهم: سعيد، وعروة، والقاسم، وأبو بكر، وخارجة، وعبيد الله، وسليمان، في مشيخة سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل.
قال أحمد العجلي: أبو بكر بن عبد الرحمن: مدني، تابعي، ثقة.
وذكره النسائي في تسمية فقهاء المدينة.
وقال ابن خراش: هو أحد أئمة المسلمين وقال في موضع آخر: عمر، وأبو بكر، وعكرمة، وعبد الله، هؤلاء ولد الحارث بن هشام، كلهم جلة ثقات، يضرب بهم المثل. وروى الزهري عنهم كلهم إلا عمر.(28/152)
عن عثمان بن محمد: أن عروة استودع أبا بكر بن عبد الرحمن مالاً من مال بني مصعب، فأصيب ذلك المال، أو بعضه. فأرسل إليه عروة أن لا ضمان عليك، إنما أنت مؤتمن. فقال أبو بكر: قد علمت أن لا ضمان علي، ولكن لم يكن لتحدث قريش أن أمانتي خربت. فباع مالاً له، فقضاه.
قال هشام بن عبد الله بن عكرمة: جاء المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي إلى أبي بكر بن عبد الله يسأله في غريم ألط به، فلما جلس قال له أبو بكر: قد أعانك الله على غرمك بعشرين ألفاً؛ فقال له من كان معه: والله ما تركت الرجل يسألك؟! فقال: إذا سألني فقد أخذت منه أكثر مما أعطيه.
قال مصعب بن عبد الله: ذكر أن قوماً من بني أسد بن خزيمة قدموا عليه يسألونه في دماء كانت بينهم، فاحتمل عنهم أربع ديات، ثم قال لابنه عبد الله بن أبي بكر: اذهب إلى عمك المغيرة بن عبد الرحمن فأعلمه ما حملنا من هذه الديات، وسله المعونة. فذهب عبد الله إلى عمه، فذكر ذلك له، فقال المغيرة: أكثر علينا أبوك. فانصرف عنه عبد الله، فأقام أياماً لا يذكر لأبيه شيئاً، وكان يقود أباه إلى المسجد، فقال له أبوه يوماً: أذهبت إلى عمك؟ قال: نعم، وسكت، فعرف حين سكت عبد الله أنه لم يجد عند عمه ما يحب، فقال له أبو بكر: يا بني، لا تخبرني ما قال لك، فإن لا يفعل أبو هاشم يعني أخاه المغيرة فربما فعل، واغد غداً إلى السوق فخذ لي عينةً. فغدا عبد الله، فتعين عينةً من السوق(28/153)
لأبيه، وباعها، فأقام أياماً ما يبيع أحد في السوق طعاماً، ولا زيتاً غير عبد الله من تلك العينة، فلما فرغ أمره أبوه أن يدفعها إلى الأسديين، فدفعها إليهم.
عن عمر بن عبد الرحمن: أن أخاه أبا بكر بن عبد الرحمن كان يصوم، ولا يفطر، فدخل عليه ابنه وهو مفطر، فقال: ما شأنك اليوم مفطراً؟ قال: أصابتني جنابة، فلم أغتسل حتى أصبحت، فأفتاني أبو هريرة أن أفطر. فأرسلوا إلى عائشة سألونها، فقالت: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصيبه الجنابة فيغتسل بعدما يصبح، ثم يخرج رأسه يقطر، فيصلي بأصحابه، ثم يصوم ذلك اليوم.
عن هشام بن عروة قال: رأيت على أبي بكر بن عبد الرحمن كساء خز.
حدثنا محمد بن هلال أنه رأى أبا بكر بن عبد الرحمن لا يحفي شاربه جداً، يأخذ منه أخذاً حسناً.
قال مصعب الزبيري: كان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة مكفوفاً. وقد كف بصر أبي بكر بن عبد الرحمن، وكف بصر ابن عباس في آخر عمره، وهو ممن رأى جبريل.
قال الواقدي: وكان عبد الملك بن مروان مكرماً لأبي بكر، مجلاً له، فأوصى الوليد وسليمان بإكرامه. وقال عبد الملك: إني لأهم بالشيء أفعله بأهل المدينة لسوء أثرهم عندنا، فأذكر أبا بكر بن عبد الرحمن، فأستحي منه، وأدع ذلك الأمر له.(28/154)
قال الزبير: وكان أبو بكر ذا منزلة من عبد الملك، فأوصى به حين حضرته الوفاة ابنه الوليد، فقال له: يا بني، إن لي بالمدينة صديقين، فاحفظني فيهما: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وأبا بكر بن عبد الرحمن.
قال ابن أبي سبرة: وزوج أبو بكر في غداة واحدة عشرة من بني المغيرة، وأخدمهم.
قال: وتبين مالاً عظيماً فأداه في ديات تحملها.
وقال صالح بن حسان: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول لي في خلافته: وذكر أبا بكر بن عبد الرحمن فكثروا جلالته، وهيبته، ونبله.
وقال أبو عون مولى المسور بن مخرمة: رأيت أبا بكر بن عبد الرحمن وقد ذهب بصره يفرش له في وسط الدار، وهي دار فيها من أهل بيته، ما يفتح باب، ولا يغلق، ولا يدخل داخل ولا يخرج، ولا يمر به أحد حتى يقوم إعظاماً له.
وقال عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن: قال لي أبي: يا بني، لا يفقدن مني جليسي إلا وجهي، هذا عهدي إليك، وهو عهد أبي كان إلي.
قال خليفة بن خياط، وعلي بن المديني: مات أبو بكر بن عبد الرحمن سنة ثلاث وتسعين.(28/155)
قال عبد الله بن جعفر: صلى أبو بكر بن عبد الرحمن العصر، فدخل مغتسله، فسقط، فجعل يقول: والله ما أحدثت في صدر نهاري هذا شيئاً. قال: فما علمت غربت الشمس حتى مات، وذلك سنة أربع وتسعين بالمدينة.
قال محمد بن عمر: وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء لكثرة من مات منهم فيها قال غيره: مات فيها: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، وعلي بن الحسين.
وقيل: مات أبو بكر بن عبد الرحمن سنة خمس وتسعين.
قال ابن أبي فروة: دخل مغتسله فمات فيه فجاءةً.
أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم القرشي الأموي
أخو عمر بن عبد العزيز لأبويه؛ أمهما أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. وكان أبو بكر فاضلاً، وكان الأسن منهما، وكان له ابنان: الحكم بن أبي بكر، ومروان بن أبي بكر.
قال الزبير بن بكار: وولد عبد العزيز بن مروان: عمر بن عبد العزيز، وعاصماً، وأبا بكر، ومحمداً لا عقب له. وأمهم أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب.(28/156)
عن عبد الله بن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر قال: خرجت أنا والأحوص الأنصاري مع عبد الله بن حسن للحج، فلما كنا بقديد قلنا لعبد الله بن حسن: لو أرسلت إلى سليمان بن أبي دباكل الخزاعي فأنشدنا من شعره. فأرسل إليه، فجاءه، وأنشدنا قصيدة: من الكامل
يا بيت خنساء الذي أتجنّب ... ذهب الزمان وحبّها لا يذهب
أصبحت أمنحك الصّدود وإنّني ... قسماً إليك مع الصّدود لأجنب
مالي أحنّ إذا جمالك قرّبت ... وأصدّ عنك وأنت مني أقرب
لله درّك هل لديك معوّلٌ ... لمتيّم أو هل لودّك مطلب
فلقد رأيتك قبل ذاك وإنّني ... لمتيّمٌ بهواك لو أتجنّب
وأرى السّميّة باسمكم فيزيدني ... شوقاً إليك جنابك المتسبّب
وأرى العدوّ يودّكم فأودّه ... إن كان ينسب منك أو يتنسّب
وأخالف الواشين فيك تجمّلاً ... وهم عليّ ذوو ضغائن درّب
ثم اتّخذتهم عليّ وليجةً ... حتى غضبت ومثل ذلك يغضب
فلما كان القابل حج أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان، فمررنا بالمدينة، فدخل عليه الأحوص، فاستصحبه، فأصحبه؛ فلما خرج الأحوص قال له بعض من عنده: تقدم بالأحوص الشام فتعير به؟ فبعث إلى الأحوص فقال له: يا خال، إني نظرت فيما سألتني من الاستصحاب فكرهت أن أهجم بك على أمير المؤمنين بلا إذن، ولكني أستأذنه لك، فإن أذن كتبت إليك في المسير إلي. فقال الأحوص: لا والله، ما بك ما ذكرت، ولكني(28/157)
سبغت عندك. ثم خرج. فأرسل إليه عمر بن عبد العزيز بصلة، واستوهبه عرض أبي بكر، فوهبه له، ثم قال: من الكامل
يا بيت عاتكة الذي أتعزّل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكّل
إني لأمنحك الصّدود وإنّني ... قسماً إليك مع الصّدود لأميل
ثم قال يعرض بأبي بكر بن عبد العزيز:
ووعدتني في حاجتي فصدقتني ... ووفيت إذ كذبوا الحديث وبدّلوا
حتى إذا رجع الحديث مطامعي ... يأساً وأخلفني الذين أؤمّل
قابلت ما صنعوا إليك برحلةٍ ... عجلى وعندك منهم متحوّل
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل
فقال له عمر بن عبد العزيز: ما أراك أعفيتني ما استعفيتك به! قال أبو سعيد بن يونس: أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان.
قال أحمد بن يحيى بن وزير: توفي في رجب سنة ست وتسعين.
وذكر غير ابن يونس: أن عمر كان قد رضيه للخلافة بعده، فسقي السم، فماتا معاً.(28/158)
أبو بكر بن محمد بن عمرو
ابن حزم بن زيد بن لوذان ابن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار أبو محمد الأنصاري الخزرجي المدني الفقيه ولي القضاء والإمرة بالمدينة والموسم لسليمان بن عبد الملك، ثم لعمر بن عبد العزيز. يقال: إن اسمه أبو بكر، وكنيته أبو محمد.
قدم به على يزيد بن عبد الملك، فتزوج بنت عون بن محمد بن علي بن أبي طالب، وأصدقها مالاً كثيراً، فكتب الوليد بن عبد الملك إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: إنه قد بلغ من اللؤم أن يزيد بن عبد الملك تزوج فلانة، وأصدقها مالاً كثيراً، ولا أراه فعل ذلك إلا وهو يراها خيراً منه، فقبح الله رأيه، فإذا جاءك كتابي هذا فادع عوناً، فاقبض المال منه، فإن لم يدفعه إليك فاضربه بالسياط حتى تستوفيه منه، ثم افسخ نكاحه.
فأرسل أبو بكر بن محمد إلى عون، فدعاه بالمال، فقال: ليس عندي، وقد فرقته. فقال أبو بكر: إن أمير المؤمنين أمرني إن لم تدفعه لما كله أن أضربك بالسياط، ثم لا أرفعها عنك حتى أستوفيه منك. فصاح به يزيد بن عبد الملك، فجاءه، فقال له فيما بينه وبينه: كأنك خشيت أن أسلمك؟! ادفع إليه المال، ولا تعرضه لنفسك، فإنه إن دفعه إلي رددته إليك، وإن لم يدفعه إلي أخلفته لك. ففعل. فلما ولي يزيد بن عبد الملك الخلافة كتب في أبي بكر بن محمد، وفي الأحوص، فحملا إليه، لما بين أبي بكر والأحوص من العداوة وكان أبو بكر قد ضرب الأحوص وغربه إلى دهلك، وأبو بكر مع عمر بن عبد العزيز، وعمر إذ ذاك على المدينة قال: فلما صارا بباب يزيد أذن(28/159)
للأحوص، فرفع أبو بكر يديه يدعو، فلم يخفضهما حتى خرج بالأحوص ملبباً، مكسور الأنف.
فإذا هو لما دخل على يزيد قال له: أصلح الله أمير المؤمنين، هذا ابن حزم الذي سفه رأيك، ورد نكاحك. فقال يزيد: كذبت، عليك غضب الله، ومن يقول ذاك أكسر أنفه! فكسر أنفه، وأخرج ملبباً.
قال ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل المدينة: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أحد بني مالك بن النجار. وأمه كبشة، وخالته عمرة بنت عبد الرحمن التي روت عن عائشة. وأبو بكر هو اسمه.
قال محمد بن عمر: توفي أبو بكر بالمدينة سنة عشرين ومائة في خلافة هشام بن عبد الملك، وهو ابن أربع وثمانين سنة، وكان ثقةً كثير الحديث.
وقال ابن سعد أيضاً: فولد محمد بن عمرو بن حزم: عثمان، وأبا بكر الفقيه، وأم كلثوم. وأمهم كبشة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة بن عدس من بني مالك بن النجار.
قال أبو نصر الكلاباذي: يقال: اسمه وكنيته واحد. ويقال: اسمه أبو بكر، وكنيته أبو محمد. حدث عن عباد بن تميم، وعمرو بن سليم، وعمر، وعمرة. روى عنه. ابنه عبد الله، ويحيى بنت سعيد في الاستسقاء والجنائز والأنبياء.(28/160)
قال يحيى بن معين وابن خراش: هو مدني ثقة.
عن امرأة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنها قالت: ما اضطجع أبو بكر على فراشه منذ أربعين سنة بالليل.
قال محمد بن علي: قالوا لعمر بن عبد العزيز: استعملت أبا بكر بن حزم، غرك بصلاته! قال: إذا لم يغرني المصلون فمن يغرني؟! قال: وكانت سجدته قد أخذت جبهته وأنفه.
قال صالح بن كيسان: كان المحدثون من هذه الطبقة من أهل المدينة: سليمان بن يسار، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعبيد الله بن عبد الله، وسالم بن عبد الله، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن هشام، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة.
عن سليمان بن عبد الرحمن بن خباب قال: أدركت رجالاً من المهاجرين، ورجالاً من الأنصار من التابعين يفتون بالبلد؛ فأما المهاجرون فسعيد بن المسيب فذكرهم، وقال: ومن الأنصار: خارجة بن زيد، ومحمود بن لبيد، وعمر بن خلدة الزرقي، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف.(28/161)
قال ابن وهب: حدثني مالك قال: لم يكن عند أحد بالمدينة من علم القضاء ما كان عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
وحدثني عبد الله بن أبي بكر أن أبا بكر كان يتعلم القضاء من أبان بن عثمان. قال مالك: وكان أبو بكر قاضياً لعمر بن عبد العزيز إذ كان عمر أمير المدينة، ولم يكن على المدينة أنصاري أميراً غير أبي بكر بن محمد. وكان قاضياً.
قال: وحدثني مالك
أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر، وكان عمر قد أمره على المدينة بعد أن كان قاضياً قال مالك: وقد ولي أبو بكر بن حزم المدينة مرتين أميراً، فكتب إليه عمر أن يكتب له العلم من عند عمرة بنت عبد الرحمن، والقاسم بن محمد. قال: فقلت لمالك: السنن؟ قال: نعم. قال: فكتبها له.
قال مالك: فسألت ابنه عبد الله بن أبي بكر عن تلك الكتب، فقال: ضاعت. وكان أبو بكر عزل عزلاً قبيحاً.
قال خليفة: أقام عمر بن عبد العزيز بالمدينة إلى سنة ثلاث وتسعين، ثم عزله الوليد، واستخلف على المدينة أبا بكر بن حزم، فعزله الوليد وولى عثمان بن حيان المري، فعزله سليمان وولى أبا بكر بن حزم في شهر رمضان سنة ست وتسعين حتى مات سليمان، وأقر عمر بن عبد العزيز عليها أبا بكر بن حزم. وقيل: إن محمد بن قيس بن مخرمة ولي(28/162)
المدينة لعمر بن عبد العزيز. ثم عزل يزيد بن عبد الملك أبا بكر بن حزم وولاها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري.
وأقام الحج أبو بكر بن حزم سنة ست وتسعين، وسنتي ولايته: تسع وتسعين، وسنة مائة.
قال: وولى عمر بن عبد العزيز في إمرته على المدينة القضاء عبد الرحمن بن يزيد بن جارية.
ثم عزله واستقضى أبا بكر بن حزم. ثم عزله الوليد.
وولى عثمان بن حيان المري أبا بكر قضاء المدينة سنة ثلاث وتسعين.
قال: وكتب هشام بن عبد الملك إلى أبي بكر بن حزم فكان يصلي بالناس بالمدينة سنة تسع عشرة حتى قدم محمد بن هشام.
قال علي بن محمد: أقر عثمان بن حيان أبا بكر بن حزم على القضاء.
ثم عزل سليمان بن عبد الملك عثمان بن حيان وولى أبا بكر بن حزم على المدينة فاستقضى أبا طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية. وأقر عمر أبا بكر على المدينة، فأقر أبا طوالة على القضاء. ثم عزل يزيد بن عبد الملك أبا بكر عن المدينة وولى ابن الضحاك.
قال ابن وهب: حدثني مالك قال: كان أبو بكر بن حزم على قضاء المدينة، وولي المدينة أميراً. قال: فقال له قائل: ما أدري كيف أصنع بالاختلاف؟ فقال أبو بكر: يا بن أخي، إذا وجدت أهل المدينة على أمر مستجمعين عليه فلا تشك فيه، إنه الحق.(28/163)
عن عبد الله بن أبي بكر: أن عمر أجرى على أبيه ثمانيةً وثمانين ديناراً.
قال مالك بن أنس: ولا أراه أجراها عليه إلا على حساب سعر المدينة.
عن مصعب بن عثمان وغيره: أن أبا الحارث بن عبد الله بن السائب اختصم هو ورجل من قريش، فقال له أبو الحارث: أتكلمني وعندك يتيمة لك تبوكها؟ فاستعدى عليه أبا بكر بن حزم، فسأل عن البوك، فذكر له أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقف على ماء يحير في عين تبوك، فقال: أنتما عليها تبوكانها منذ اليوم، يريد تثورانها. فحد أبو بكر بن حزم أبا الحارث. فقال له أبو الحارث وهو يحده: أيا بن حزم، تضربني قلاظاً؟ فقال ابن حزم: احفظ هذه الكلمة أيضاً حتى نسأل عنها. فقال له أبو الحارث: أتكلفني يا بن حزم أن أعلمك كلام مضر؟ والقلاظ: الظلم. قال: وانتهى بعد ذلك إلى أبي بكر بن حزم أن البوك خرج غير المخرج الذي حد عليه أبا الحارث، فأشهد أنه قد درأ عنه الحد.
قال ابن وهب: قال لي مالك بن أنس: ما رأيت مثل أبي بكر بن حزم أعظم مروءةً، ولا أتم حالاً، ولا رأيت مثلما أولي: ولاية المدينة، والقضاء، والموسم. وكان يقول لابنه عبد الله: إني أراك تحب الحديث،(28/164)
وتجالس أهله، فلا تستقبل صدر حديث إذا سمعت عجزه؛ استدل بأعجازها على صدورها.
وفي رواية: يا بني؛ إنك حديث السن، وإنك تجالس الناس، فاسمع ما يسأل عنه، ولا تسأل، فإن فاتك شيء من أول الحديث تستدل على أوله بآخره.
عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه رأى أبا بكر بن حزم يقضي في المسجد معه حرسيان مستنداً إلى الأسطوان على القبر.
قال محمد بن عمر: فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة ولى أبا بكر إمرة المدينة، فاستقضى أبو بكر على المدينة ابن عمه أبا طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم. وكان أبو بكر هو الذي يصلي بالناس، ويتولى أمرهم.
أخبرنا معن، حدثنا أبو الغصن قال: لم أر على أبي بكر بن حزم على المنبر سيفاً قط، ورأيته يعتم يوم العيد، ويوم الجمعة بعمامة بيضاء.
أخبرنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثنا أبو الغصن أنه رأى أبا بكر بن حزم في أصبعه اليمين خاتم فيه ياقوتة لونها لون السماء.
وفي رواية: خاتم فصه ياقوتة حمراء.(28/165)
قال يحيى بن معين: مات أبو بكر بن حزم سنة عشرين ومائة، ومات ابنه عبد الله بن أبي بكر سنة ثلاثين ومائة.
هذا الذي عليه الأكثر. وقال الهيثم: مات أبو بكر سنة ست وعشرين. وقال آخر: سنة سبع عشرة. وقال غيره: سنة عشر ومائة. وقال بعضهم: سنة مائة. والله أعلم.
أبو بكر بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي
أمه أم ولد.
ذكر البلاذري أنه هو الذي يقول: من الخفيف
وإذا العبد أغلق الباب دوني ... لم يحرّم عليّ متن الطريق
وذكر أن خالد بن يزيد هجاه فقال: من الوافر
سمين البغل من مال اليتامى ... رخيّ البال مرزول الصّديق
أبو بكر بن يزيد بن أبي بكر بن يزيد بن معاوية الأموي
حفيد المقدم ذكره.
كان يسكن صهيا من قرى دمشق، وكانت لجده معاوية
أبو بكر بن يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الموي
أمه امرأة من كلب(28/166)
أبو بكر الكلبي العابد
كان من عباد أهل الشام قال: ابن آدم، ليس لما بقي من عمرك في الدنيا ثمن.
وقال: عند الصباح يحمد القوم السرى، وعند الممات يحمد القوم التقى.
أبو بكر رجل من أهل دمشق
عن أبي بكر الدمشقي أن معاوية بن أبي سفيان قال: فذكر كلاماً.
أبو بكر الشبلي
أحد شيوخ الصوفية المعدودين، وزهادهم الموصوفين.
اختلف في اسمه، فقيل: دلف بن جعبر، ويقال: ابن جحدر، ويقال: بل اسمه جعفر بن يونس.
كان فقيهاً على مذهب مالك بن أنس، وكتب الحديث الكثير، ثم صدف عن ذلك، ولزم العبادة حتى صار رأساً في المتعبدين، ورئيساً للمجتهدين. وكان مقامه ببغداد، وقد زرت قبره بها. وقدم دمشق على ما بلغني في بعض الحكايات.(28/167)
عن الشبلي قال: حدثنا محمد بن مهدي المصري، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، حدثنا صدقة بن عبد الله، عن طلحة بن زيد، عن أبي فروة الرهاوي، عن عطاء، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الق الله فقيراً، ولا تلقه غنياً. قال: يا رسول الله، كيف لي بذلك؟ قال: ما سئلت فلا تمنع، وما رزقت فلا تخبأ. قال: يا رسول الله، كيف لي بذاك؟ قال: هو ذاك، وإلا فالنار.
وقال الشبلي: كنت وردت الشام من مكة، فرأيت راهباً في صومعة، فنظر إلي، فقلت له: يا راهب، لماذا حبست نفسك في هذه الصومعة؟ قال: ليثوب عملي، فقلت: يا راهب، ولمن تعمل؟ قال: لعيسى، قلت: وبأي شيء استحق عيسى هذه العبادة منك دون الله؟ قال: لأنه مكث أربعين يوماً لم يطعم، ولم يشرب، فقلت له: ومن يعمل ذلك يستحق العبادة له؟ قال: نعم.
قال الشبلي: فقلت للراهب: فاستوفها مني. فمكثت أربعين يوماً تحت صومعته، لا آكل، ولا أشرب. فقال لي: ما دينك؟ قلت: محمدي. فنزل، وأسلم علي يدي. وحملته إلى دمشق، فقلت: اجمعوا له أشياء، فإنه قريب العهد بالإسلام. وانصرفت، وتركته مع الصوفية.
قال الحافظ أبو القاسم رحمه الله: وقد كتبت نحو هذه الحكاية عن أبي بكر محمد بن إسماعيل الفرغاني، وسقتها في ترجمته. وقد ورد وروده يعني الشبلي الشام من وجهيت آخرين:(28/168)
قال أبو الحسن بن سمعون: قال لي الشبلي: كنت باليمن، وكان باب دار الإمارة رحبةً عظيمة، وفيها خلق كثير قيام ينظرون إلى منظرة، فإذا قد ظهر من المنظرة شخص أخرج يده كالمسلم عليهم، فسجدوا كلهم. فلما كان بعد سنين كنت بالشام، وإذا تلك اليد قد اشترت لحماً بدرهم، وحملته. فقلت له: أنت ذلك الرجل؟ قال: نعم، من رأى ذاك، ورأى هذا لا يغتر بالدنيا.
وقال: سمعت الشبلي يقول: كنت في قافلة الشام، فخرج الأعراب فأخذوها، وأميرهم جالس يعرضون عليه. فخرج جراب فيه لوز وسكر، فأكلوا منه إلا الأمير فما كان يأكل، فقلت له: لم لا تأكل؟ قال: أنا صائم، قلت: تقطع الطريق، وتأخذ الأموال، وتقتل النفس وأنت صائم؟! قال: يا شيخ، أجعل للصلح موضعاً.
فلما كن بعد حين رأيته يطوف حول البيت وهو محرم كالشن البالي. فقلت: أنت ذاك الرجل؟ فقال: ذاك الصوم بلغ بي إلى هذا.
قال أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي: دلف بن جعبر، ويقال: دلف بن جحدر، ويقال: دلف بن جعفر. ويقال: إن اسم الشبلي جعفر بن يونس. سمعت الحسين بن يحيى الشافعي يذكر ذلك، وهكذا رأيته على قبره مكتوباً ببغداد. وأظن أن الأصح: دلف بن جحدر.
وأبو بكر الشبلي أصله من أشروسنة، ومولده بسر من رأى.(28/169)
سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: الشبلي من أهل أشروسنة، بها قرية يقال لها: شبلية أصله منها. وكان خاله أمير الأمراء بإسكندرية.
قال السلمي: كان الشبلي مولده بسر من رأى، وكان حاجب الموفق، وكان أبوه حاجب الحجاب، وكان الموفق جعل لطعمته دماوند، ثم لما قعد الموفق وكان ولي العهد من قبل أخيه حضر الشبلي يوماً مجلس خير النساج، وتاب فيه، ورجع إلى دماوند، وقال: أنا كنت حاجب الموفق، وكان ولاني بلدتكم هذه، فاجعلوني في حل. فجعلوه في حل، وجهدوا أن يقبل منهم شيئاً، فأبى. وصار بعد ذلك واحد زمانه حالاً ونفساً. سمعت أبا سعيد السجزي يذكر ذلك كله.
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ومنهم أبو بكر دلف بن جحدر الشبلي. بغدادي المولد والمنشأ، أصله من أشروسنة. صحب الجنيد، ومن في عصره، وكان نسيج وحده حالاً وظرفاً وعلماً، مالكي المذهب، عاش تسعاً وثمانين سنة، ومات سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وقبره ببغداد. ومجاهداته في بدايته فوق الحد.(28/170)
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: بلغني أنه اكتحل بكذا وكذا من الملح ليعتاد السهر، ولا يأخذه النوم. ولو لم يكن من تعظيمه للشرع إلا ما حكاه بكران الدينوري في آخر عمره لكان كثيراً.
وكان الشبلي إذا دخل شهر رمضان جد في الطاعات، ويقول: هذا شهر عظمه ربي فأنا أولى من يعظمه.
وقال الشبلي: مات أبي وخلف ستين ألف دينار سوى الضياع والعقار وغيرها، فأنفقتها كلها، ثم قعدت مع الفقراء حتى لا أرجع إلى مادي، ولا أستظهر بمعلوم.
وقال أحمد بن عطاء: سمعت الشبلي يقول: كتبت الحديث عشرين سنةً، وجالست الفقراء عشرين سنةً.
وكان يتفقه لمالك. وكان له يوم الجمعة نظرة، ومن بعدها صيحة. فصاح يوماً صيحةً تشوش ما حوله من الخلق. وكان بجنب حلقته حلقة أبي عمران الأشيب، فقال لأبي الفرج العكبري: ما للناس؟ قال؛ حردوا من صيحتك. وحرد أبو عمران وأهل حلقته. فقام الشبلي، وجاء إلى أبي عمران، فلما رآه أبو عمران قام إليه، وأجلسه إلى جنبه، فأراد بعض أصحاب أبي عمران أن يري الناس أن الشبلي جاهل، فقال له: يا أبا بكر، إذا اشتبه على المرأة دم الحيض بدم الاستحاضة كيف تصنع؟ فأجاب بثمانية عشر جواباً. فقام أبو عمران وقبل رأسه، وقال: يا أبا بكر، أعرف منها اثني عشر، وستة ما سمعت بها قط.
قال السلمي: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: لم أر في الصوفية أعلم من الشبلي، ولا أتم حالاً من الكتاني.
وقال السلمي: سمعت أبا العباس محمد بن الحسن البغدادي يقول: سمعت الشبلي يقول: أعرف من لم يدخل في هذا الشأن حتى أنفق جميع ملكه، وغرق في هذه الدجلة التي(28/171)
ترون سبعين قمطراً مكتوباً بخطه، وحفظ الموطأ، وقرأ بكذا وكذا قراءةً عنى به نفسه.
قال أبو الخير زيد بن رفاعة الهاشمي: دخل أبو بكر بن مجاهد على أبي بكر الشبلي، فحادثه، وسأله عن حاله. فقال ابن مجاهد: نرجو الخير؛ يختم في كل يوم بين يدي ختمتان وثلاث. فقال له الشبلي: أيها الشيخ قد ختمت في تلك الزاوية ثلاثة عشر ألف ختمة إن كان فيها شيء قبل فقد وهبته لك، وإني لفي درسه منذ ثلاث وأربعين سنة ما انتهيت إلى ربع القرآن.
قال أبو بكر محمد بن عمر: كنت عند أبي بكر أحمد بن موسى بن مجاهد المقرئ، فجاء الشبلي، فقام إليه أبو بكر بن مجاهد، فعانقه، وقبل بين عينيه، فقلت له: يا سيدي، تفعل هذا بالشبلي، وأنت وجميع من ببغداد يتصورونه بأنه مجنون؟؟! فقال لي: فعلت كما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل به؛ وذاك أني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام وقد أقبل الشبلي، فقام إليه، وقبل بين عينيه، فقلت: يا رسول الله، أتفعل هذا بالشبلي؟ قال لي: نعم، هذا يقرأ بعد صلاته: " لقد جاءكم رسولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم " الآية، ويتبعها بالصلاة علي.
قال الخطيب: سمعت أبا القاسم عبيد الله بن عبد الله بن الحسن الخفاف المعروف بابن النقيب يقول:
كنت يوماً جالساً بباب الطاق أقرأ القرآن على رجل يكنى بأبي بكر المعيمش، وكان ولياً لله، فإذا بأبي بكر الشبلي قد جاء إلى رجل يكنى بأبي الطيب الجلاء، وكان من أهل العلم، فسلم عليه، وأطال الحديث معه، وقام لينصرف. فاجتمع قوم إلى أبي(28/172)
الطيب فقالوا: نسألك أن تسأله أن يدعو لنا، ويرينا شيئاً من آيات الله ومعهم صاحبان له فألح أبو الطيب عليه في المسألة، واجتمع الناس بباب الطاق، فرفع الشبلي يده إلى الله تعالى، ودعا بدعاء لم يفهم، ثم شخص إلى السماء، فلم يطبق جفناً على جفن إلى وقت الزوال. وكان دعاؤه وابتداء إشخاص بصره إلى السماء ضحى النهار. فكبر الناس وضجوا بالدعاء والابتهال. ثم مضى الشبلي إلى سوق يحيى، وإذا برجل يبيع حلواء، وبين يديه طنجير فيه عصيدة تغلي، فقال الشبلي لصاحب له: هل تريد من هذه العصيدة؟ قال: نعم. فأعطى الحلاوي درهماً، وقال: أعط هذا ما يريد، ثم قال: تدعني أعطيه رزقه؟ قال الحلاوي: نعم. فأخذ الشبلي رقاقة، وأدخل يده في الطنجير، والعصيدة تغلي، فأخذ منها بكفه، وطرحها على الرقاقة. ومشى الشبلي إلى أن جاء إلى مسجد أبي بكر بن مجاهد، فدخل على أبي بكر، فقام إليه، فتحدث أصحاب ابن مجاهد بحديثهما، وقالوا لأبي بكر: أنت لم تقم لعلي بن عيسى الوزير، وتقوم للشبلي؟! فقال أبو بكر: ألا أقوم لمن يعظمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم، فقال لي: يا أبا بكر، إذا كان في غد فسيدخل عليك رجل من أهل الجنة، فإذا جاءك فأكرمه.
قال ابن مجاهد: فلما كان بعد ذلك بليلتين أو أكثر رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فقال لي: يا أبا بكر، أكرمك الله كما أكرمت رجلاً من أهل الجنة. فقلت: يا رسول الله، بم استحق الشبلي هذا منك؟ فقال: هذا رجل يصلي كل يوم خمس صلوات يذكرني في إثر كل صلاة، ويقرأ: " لقد جاءكم رسولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم "، الآية يفعل ذلك منذ ثمانين سنةً، أفلا أكرم من يفعل هذا؟(28/173)
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن جعفر الرازي: كان أهل بغداد يقولون: عجائب الدنيا ثلاث: إشارات الشبلي، ونكت المرتعش، وحكايات جعفر.
قال أبو بكر الزبير بن محمد بن عبد الله: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فقلت: يا رسول الله، ما تقول في الجنيد؟ قال: جمع العلم، قلت: فالشبلي؟ قال: إن صحا انتفع به كثير من الناس، قلت: فالحلاج؟ قال: استعجل.
قال الشبلي: كان بدء أمري أني نوديت: يا أبا بكر، ليس لهذا أردناك، ولا بهذا أمرناك. فتركت خدمة المعتضد، ونظرت في الناسخ والمنسوخ، والتأويل والتفسير، والتحليل والتحريم. وسمعت الحديث والفقه وكتاب المبتدأ وغير ذلك، ثم أبدت علي خفقة أذهبت ما سوى الله، فإذا الله الله.
وقال: كنت في أول بدايتي أكتحل بالملح، فلما زاد علي الأمر أحميت الميل فاكتحلت به.
وقال: أطع الله يطعك كل شيء.
قال برهان الدينوري: حضر الشبلي ليلةً ومعه صبي، فقال للصبي: قم نم، فقال الصبي: إني آنس برؤيتك، فأشتهي النظر إليك إلى أن تنام. فقال الشبلي: إن جاريتي قالت: عددت عليك ستة أشهر لم تنم فيها.(28/174)
قال جعفر الفرغاني: سمعت الجنيد يقول: لا تنظروا إلى أبي بكر الشبلي بالعين التي ينظر بعضكم إلى بعض، فإنه عين من عيون الله.
قال أبو عمر الأنماطي: سمعت الجنيد يقول: لكل قوم تاج، وتاج هؤلاء القوم الشبلي.
قال أبو عمرو بن علوان: سمعت الجنيد يقول: جزى الله الشبلي عني خيراً، فإنه ينوب عني في أمر الفقراء شيئاً كثيراً.
قال الجنيد: إذا كلمتم الشبلي فكلموه من وراء الترس، فإن سيوف الشبلي تقطر دماً، فقال له ابن عطاء: هو هكذا يا أبا القاسم؟ قال: نعم يا أحمد، ما ظنك بشخص السيوف في وجهه، والأسنة في ظهره، والسهام عن يمينه وشماله، والنار تحت قدميه؟ قال: فزعقت.
قال عبد الله بن يوسف الصباغ: كنت مع أبي في الدكان نصبغ، فلما كان يوم من الأيام خرجت فإذا على باب الدكان شيخ جالس، فقلت مازحاً: الشيخ قد صلى الظهر؟ قال: نعم، والحمد لله، قلت: أين صليت؟ قال: بمكة. فدخلت إلى أبي، فقلت: يا أبه، رجل بباب الدكان قال: صليت الظهر بمكة! فخرج أبي، فلما رآه رجع وقال: هذا الشبلي.
قال أبو الحسين بن سمعون:
اعتل الشبلي، فقال علي بن عيسى للمقتدر بالله: الشبلي عليل. فأنفذ إليه بطبيب يحمل إليه ما يصف له، فلما كان يوم قال الطبيب للشبلي: والله لو كان دواءك في قطعة من لحمي ما عسر علي ذلك. قال له الشبلي: دوائي في دون ذلك، قال: وما هو؟ قال:(28/175)
تقطع الزنار، قال: فإذا قطعت الزنار تبرأ؟ قال: نعم. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فأخبر الخليفة بذلك، فقال: أنفذنا بطبيب إلى عليل، وما علمنا أنا أنفذنا بعليل إلى طبيب.
قال أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى الوزير: كان ابن مجاهد يوماً عند أبي، فقيل له: الشبلي؟ قال: يدخل. فقال ابن مجاهد: سأسكته الساعة بين يديك؛ وكان من عادة الشبلي إذا لبس شيئاً خرق فيه موضعاً، فلما جلس قال له ابن مجاهد: يا أبا بكر، أين في العلم إفساد ما ينتفع به؟ قال له الشبلي: أين في العلم " فَطَفِقَ مَسْحاً بالسُّوقِ والأعناق "؟ قال: فسكت ابن مجاهد. فقال له أبي: أردت أن تسكته فأسكتك! ثم قال له: قد أجمع الناس أنك مقرئ الوقت؛ أين في القرآن: الحبيب لا يعذب حبيبه؟ قال: فسكت ابن مجاهد، فقال له أبي: قل يا أبا بكر، فقال: قوله تعالى: " وقالت اليهودُ والنصارى نحنُ أبناءُ اللهِ وأحباؤه قلْ فَلِمَ يُعَذّبُكم بذنوبِكُم ". فقال ابن مجاهد: كأنني ما سمعتهما قط.
قال السلمي: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: قال أبو العباس بن شريح يوماً للشبلي: يا أبا بكر، أنت مع جودة خاطرك وفهمك لو شغلته بشيء من علوم الفقه؟ فقال: أنا أشتغل بعلم يشاركني فيه مثلك؟! قال القشيري: سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سئل الشبلي، فقيل له: أخبرنا عن توحيد مجرد بلسان حق مفرد؟ فقال: ويحك! من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن(28/176)
أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق فيه فهو غافل، ومن سكت عنه فهو جاهل، ومن توهم أنه واصل فليس له حاصل، ومن رأى أنه قريب فهو بعيد، ومن تواجد فهو فاقد، وكل ما ميزتموه بأوهامكم، وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم، محدث مصنوع مثلكم.
قال السلمي: سمعت عبد الله بن موسى السلامي يقول: سمعت الشبلي يقول: جل الواحد المعروف قبل الحدود وقبل الحروف.
وقال الشبلي في قوله تعالى: " ادعوني أستجب لكم ": ادعوني بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة.
قال السلمي: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: كنت واقفاً في مجلس الشبلي في جامع المدينة ببغداد، فوقف سائل على مجلسه وحلقته، وجعل يقول: يا الله، يا جواد، فتأوه الشبلي، وصاح، وقال: كيف يمكنني أن أصف الحق بالجود، ومخلوق يقول في شكله: من الطويل
تعوّد بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبضٍ لم تجبه أنامله
تراه إذا ما جئته متهلّلاً ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفّه غير روحه ... لجاد بها فليتّق الله سائله
هو البحر من أيّ النّواحي أتيته ... فلجّته المعروف والجود ساحله
ثم بكى وقال: بلى يا جواد، فإنك أوجدت تلك الجوارح، وبسطت تلك الهمم، ثم مننت(28/177)
بعد ذلك على أقوام بالاستغناء عنهم، وعما في أيديهم، فإنك الجواد كل الجواد، فإنهم يعطون عن محدود، وعطاؤك لا حد له، ولا صفة. فيا جواد يعلو كل جواد، وبه جاد كل من جاد.
وقال الشبلي: ما قلت الله قط إلا واستغفرت الله من قولي الله.
قال السلمي: سمعت علي بن عبد الله البصري يقول: وقف رجل على الشبلي فقال: أي صبر أشد على الصابر؟ فقال: الصبر في الله، قال: لا، قال: الصبر لله، قال: لا، قال: الصبر مع الله، قال: لا، قال: فأيش؟ قال: الصبر عن الله، فصرخ الشبلي صرخةً كادت روحه أن تتلف.
وسئل الشبلي عن المحبة، فقال: الميم محو الصفات، والحاء: حياة القلوب بذكر الله، والباء بلى الأجساد، والهاء: هيمان القلوب في ذات الله.
قال بندار بن الحسين:
سمعت الشبلي يقول يوم الجمعة وهو يتكلم على الناس، وقد سأله شاب فقال: يا أبا بكر، لم تقول: الله، ولا تقول: لا إله إلا الله؟ قال الشبلي: أخشى أن أؤخذ في كلمة الجحود فلا اصل إلى كلمة الإقرار. قال الشاب: أريد حجةً أقوى من هذه، فقال: يا هذا، قال الله تعالى: " قُلِ اللهُ ثمّ ذَرْهُمْ في خوضِهم يَلْعَبُون "، قال: فزعق الشاب زعقةً، فقال الشبلي: الله، فزعق ثانية، فقال الشبلي: الله، فزعق الثالثة، فمات. فاجتمع إليه أبواه، فقدماه إلى الخليفة، وادعيا عليه الدم، فقال له الخليفة: يا أبا بكر، ماذا صنعت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، روح جنت فرنت، ودربت، فعلمت، ودعيت، فأجابت، فما ذنبي؟ فصاح الخليفة ثم أفاق فقال: خليا سبيله، لا ذنب له. هذا قتيل لا دية له ولا قود.(28/178)
قال السلمي: سمعت أبا بكر الأبهري الفقيه ببغداد يقول: سمعت الشبلي يقول: الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب، وترك الأدب يوجب الطرد، ومن لم يراع أسراره مع الحق لا يكاشف عن عين الحقيقة بذرة.
قال أبو العباس الدامغاني: أوصاني الشبلي فقال: الزم الوحدة، وامح اسمك عن القوم، واستقبل الجدار حتى تموت.
قال السلمي: سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول: كان الشبلي يقول لمن يدخل عليه: عندك خبر، أو عندك أثر؟! وينشد: من الطويل
أسائل عن سلمى فهل من مخبر ... بأنّ له علماً بها أين تنزل
ثم يقول: لا وعزتك ما في الدارين عنك مخبر.
وقال الشبلي: ما أحد يعرف الله، قيل: كيف؟ قال: لو عرفوه لما اشتغلوا عنه بسواه.
قال أبو محمد جعفر بن محمد الصوفي: كنت عند الجنيد، فدخل الشبلي، فقال جنيد: من كان الله همه طال حزنه، فقال الشبلي: يا أبا القاسم، لا بل، من كان همه زال حزنه.
قال البيهقي: قول الجنيد محمول على دار الدنيا، وقول الشبلي محمول على الآخرة، وقول الجنيد محمود على حزنه عند رؤية التقصير في نفسه في القيام بواجباته، وقول الشبلي محمول على سروره بما أعطي من التوفيق في الوقت حتى جعل الهم هماً واحداً. والله أعلم.(28/179)
وسئل الشبلي عن الزهد فقال: تحويل القلب عن الأشياء إلى رب الأشياء.
وقال: ليكن همك معك لا يتقدم، ولا يتأخر.
وسئل: لم سموا صوفية؟ فقال: لمصافاة أدركتهم من الحق فصفوا. فمن صفا فهو صوفي. وقيل للشبلي: يا أبا بكر، أوصني، فقال: كلامك كتابك إلى ربك، فانظر ما تملي فيه.
وقال: سهو طرفة عين عن الله شرك بالله.
قال السلمي: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سئل الشبلي وأنا حاضر: هل يبلغ الإنسان بجهده إلى شيء من طرق الحقيقة، أو الحق؟ فقال: لا بد من الاجتهاد والمجاهدة، ولكنهما لا يوصلان إلى شيء من الحقيقة، لأن الحقيقة ممتنعة عن أن تدرك بجهد واجتهاد، فإنما هي مواهب، يصل العبد إليها بإيصال الحق إياه لا غير. وأنشد على أثره: من الطويل
أسائلكم عنها فهل من مخبّرٍ ... فمالي بنعمٍ بعد مكثتنا علم
فلو كنت أدري أين خيّم أهلها ... وأيّ بلاد الله أو ظعنوا أمّوا
إذاً لسلكنا مسلك الريح خلفها ... ولو أصبحت نعمٌ ومن دونها النجم
قال السلمي: وحكي عن بعضهم قال: كنت يوماً في حلقة الشبلي فسمعته يقول: الحق يفني بما به يبقي، ويبقي بما به يفني، ويفني بما فيه بقاء، ويبقي بما فيه فناء. فإذا أفنى عبداً عن إياه أوصله به، وأشرفه على أسراره. وبكى، وأنشد على أثره: من الوافر
لها في طرفها لحظات سحرٍ ... تميت به وتحيي من تريد(28/180)
وسئل الشبلي: ما علامة صحة المعرفة؟ قال: نسيان كل شيء سوى معروفه. قيل: وما علامة صحة المحبة؟ قال: العمى عن كل شيء سوى محبوبه.
وقال: ليس للعارف، ولا لمحب سلوى، ولا لعبد دعوى، ولا لخائف قرار، ولا لأحد من الله فرار.
قال الحسن الفرغاني: سألت الشبلي: ما علامة العارف؟ فقال: صدره مشروح، وقلبه مجروح، وجسمه مطروح. والعارف الذي عرف الله، وعرف مراد الله، وعمل لما أمر الله، وأعرض عما نهى الله، ودعا عباد الله إلى الله. والصوفي من صفا قلبه فصفا، وسلك طريق المصطفى، ورمى الدنيا خلف القفا، وأذاق الهوى طعم الجفا. والتصوف التآلف والتطرف، والإعراض عن التكلف.
وقال أيضاً: هو التعظيم لأمر الله، والشفقة على عباد الله.
وقال أيضاً: الصوفي من صفا من الكدر، وخلص من الغير، وامتلأ من الفكر، وتساوي عنده الذهب والمدر.
وقيل له: ما علامة القاصد؟ قال: أن لا يكون للدرهم راصداً.
وقيل له: في أي شيء أعجب؟ قال: قلب عرف ربه ثم عصاه.
وقال: المعارف تبدو فتطمع، ثم تخفى فتؤيس، فلا سبيل إلى تحصيلها، ولا طريق إلى الهرب منها؛ فإنها تطمع الآيس، وتؤيس الطامع.
وسئل: إلى ماذا تحن قلوب أهل المعارف؟ فقال: إلى بدايات ما جرى لهم في الغيب من حسن العناية. وأنشد: من الكامل(28/181)
سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن ... ما كان قلبي للصبابة معهدا
وقال: الدنيا خيال، وظلها وبال، وتركها جمال، والإعراض عنها كمال، والمعرفة بالله اتصال.
وسئل: ما الفرق بين رق العبودية، ورق المحبة؟ فقال: كم بين عبد إذا عتق صار حراً، وعبد كلما عتق ازداد رقاً.
وقال: من البسيط
لتحشرنّ عظامي بعد إذ بليت ... يوم الحساب وفيها حبّكم علق
وسئل: هل يتسلى المبتلى عن حبيبه دون مشاهدته؟ فأنشأ يقول: من السريع
والله لو أنك توجتني ... بتاج كسرى ملك المشرق
ولو بأموال الورى جدت لي ... أموال من باد، ومن قد بقي
وقلت لي لا نلتقي ساعة ... اخترت يا مولاي أن نلتقي
وسئل: هل يعرف المحب أنه محب؟ قال: نعم، إذا كتم حبه، ثم ظهر عليه مع كتمانه.
وأنشد: من البسيط
قد يسحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرّق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذبٌ قد رمى بالظن غرّكم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا(28/182)
قال زيد بن رفاعة الهاشمي: سمعت أبا بكر الشبلي ينشد في جامع المدينة يوم الجمعة والناس حوله: من الطويل
يقول خليلي كيف صبرك عنهم ... فقلت وهل صبر فتسأل عن كيف
بقلبي هوى أذكى من النار حرّه ... وأخلى من التقوى وأمضى من السيف
قال أبو جعفر الفرغاني: كنت أنا وأبو العباس بن عطاء، وأبو محمد الجريري جلوساً عند الجنيد، إذ أقبل الشبلي وهو متغير، فلم يتكلم مع أحد، وقصد الجنيد، فوقف على رأسه، وصفق بيديه، وقال: من الخفيف
عوّدوني الوصال والوصل عذب ... ورموني بالصّدّ والصدّ صعب
لا وحسن الخضوع عند التلاقي ... ما جزا من يحبّ الاّ يحبّ
قال: فضرب الجنيد برجله الأرض وقال: هو ذاك يا أبا بكر، هو ذاك! قال عامر الدينوري: كنت جالساً عند الشبلي، فاجتاز أبو بكر بن داود الأصبهاني، فسلم عليه. فقال له الشبلي: أنت الذي أنشدت لك وحقيقة: من الخفيف
موقف للرقيب لا أنساه لست أخشى.(28/183)
مرحباً بالرقيب من غير وعدٍ ... جاء يجلو عليّ من أهواه
لا أحبّ الرّقيب إلاّ لأني ... لا أرى من أحبّ حتى أراه
فقال ابن داود: ما علمت أن لله فيها إشارة حتى نبهني الشبلي عليها.
وسئل الشبلي عن حقيقة التوكل، فقال: حفظ العبد حركات همته من الطلب بما ضمنه الباري عز وجل من رزقه.
وقال الشبلي: ذكر الله على الصفاء ينسي العبد مرارة البلاء.
وقال: ذكر الغفلة يكون جوابه اللعن. وأنشد: من البسيط
ما إن ذكرتك إلاّ همّ يلعنني ... ذكري وسري وفكري عند ذكراكا
حتى كأن رقيباً منك يهتف بي ... إياك ويحك والتذكار إياكا
وقال: ليس مع العالم إلا ذكر؛ قال الله تعالى: " إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ للعالَمِين ".
وسئل: من أقرب أصحابك إليك؟ قال: ألهجهم بذكر الله، وأقومهم بحق الله، وأسرعهم مبادرة في مرضاة الله.
قال أبو نصر محمد بن علي الطوسي: سمعت الشبلي يوماً في مجلسه، وقد غلبه حاله، جثا على ركبتيه وهو يقول: من الطويل
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا ... كفى لمطايانا بذكرك هاديا
وقطع المجلس.
وسمعته يوماً ينشد وهو في مثل هذه الحال: من الطويل
إذا أبصرتك العين من بعد غايةٍ ... وعارض فيك الشكّ أثبتك القلب
ولو أن ركباً أمّموك لقادهم ... نسيمك حتى يستدلّ بك الركب
فقطع المجلس أيضاً بمثل هذا.(28/184)
وسئل الشبلي عن التصوف فقال: ترويح القلوب بمرواح الصفاء، وتجليل الخواطر بأردية الوفاء، والتخلق بالسخاء، والبشر في اللقاء.
وقال السلمي: سمعت ... والسجزي يقولان: بلغنا أن رجلاً قال للشبلي من أصحابك؟ وهم في المسجد الجامع فقال الشبلي: مر بنا إليهم، فمر الرجل معه حتى دخل المسجد، فرأى الشبلي قوماً عليهم المرقعات والفوط، فقال؛ هؤلاء هم؟ قال: نعم. فأنشأ يقول: من الكامل
أمّا الخيام فإنّها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها
قال عيسى بن علي الوزير: دخل الشبلي على أبي، فدفع إليه صرة فيها أربعون ديناراً، فقال له: خذ هذه نفقة للصوفية. فأخذها وخرج. فقيل لأبي: إنه عبر على الجسر، فرأى رجلاً صوفياً قد وقف على دكان الحجام يقول له: قد احتجت إليك ساعة، أتفعل ذلك من أجل الله؟ فقال له: ادخل، فدخل إليه، فأصلح وجهه، وحلق رأسه، وحجمه، والشبلي بباب الدكان، فلما فرغ وجاء الرجل ليخرج قال الشبلي للحجام: خذ هذه الصرة أجرة خدمتك لهذا الرجل، فقال الحجام: إنما فعلت ذلك من أجل الله، فقال له: إن فيها أربعين ديناراً! فقال الحجام: ما أنا بالذي أحل عقداً عقدته بيني وبين الله بأربعين ديناراً. فلطم الشبلي وجهه وقال: كل أحد خير من الشبلي حتى الحجام.
قال أحمد بن جعفر السيرواني: دخلت أنا وفقير على الشبلي، فسلمنا عليه، فقال: إلى أين تريدان؟ فقلنا: البادية، فقال: على أي حكم؟ فقال صاحبي: على حكم الفقراء، فقال: احذروا ألا تسبقكم همومكم، ولا تتأخر!(28/185)
قال أبو الحسن السيرواني: فجمع لنا العلم كله في هذه الكلمة.
قال أبو حاتم الطبري: سمعت أبا بكر الشبلي يقول في وصيته: وإن أردت أن تنظر إلى الدنيا بحذافيرها فانظر إلى مزبلة، فهي الدنيا، فإذا أردت أن تنظر إلى نفسك فخذ كفاً من تراب، فإنك منها خلقت، وفيها تعود، ومنها تخرج. ومتى أردت أن تنظر ما أنت فانظر إلى ما يخرج منك في دخولك الخلاء، فمن كان حاله كذلك لا يجوز أن يتطاول ويتكبر على من هو منه.
قال أبو طالب العلوي: كنت مع الشبلي بباب الطاق، فجاء رجل راكب، وبين يديه غلام، فقال رجل لرجل: من هذا؟ قال: صقعان الأمير ومسخرته، فغدا الشبلي، فقبل فخذه، فرمى الرجل نفسه من الفرس فقال: يا سيدي، أحسبك ما عرفتني! قال: بلى قد عرفتك، أنت تأكل الدنيا بما تساويه، اركب، فأنت خير ممن يأكل الدنيا بالدين.
قال أبو بكر الرازي: سمعت الشبلي يقول: ما أحوج الناس إلى سكرة تفنيهم عن ملاحظات أنفسهم، وأفعالهم، وأحوالهم، والأكوان وما فيها. وأنشد: من الطويل
وتحسبني حيّاً وإنّي لميّت ... وبعضي من الهجران يبكي على بعضي
وسئل عن متابعة الإسلام، فقال: أن تموت عنك نفسك.
وقال: ليس في الوقت مرح، الوقت جد كله.
وقال: من فني عن نفسه وقام الحق بتوليه لا ينكر له تقليب الأعيان، واتخاذ المفقود.(28/186)
وقال: احذر أماكن الاتصال، فإنه خدع كلها، وقف بحيث وقف العوام تسلم.
وقال: لا أشك إلا أني قد وصلت، ولا أشك إلا أن الوصل دوني، ولكن أبكي. ثم أنشأ يقول: من الوافر
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراق
فتسخن عينه عند التنائي ... وتخسن عينه عند التلاقي
وسئل الشبلي: ما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة، لأن الحيلة إما رشوة، أو قرار، وهما بعيدان عن طرق الحقيقة، فاطلب الدواء من حيث جاء الداء، فلا يقدر على شفائك إلا من أعلك وأنشد: من البسيط
إنّ الذين بخيرٍ كنت تذكرهم ... هم أهلكوك وعنهم كنت أنهاكا
لا تطلبن دواء عند غيرهم ... فليس يحييك إلا من توفاكا
واجتاز الشبلي بدرب سليمان عند الجسر في شهر رمضان، فسمع البقلي ينادي: من كل لون. فحال لونه، وأخذه السماع، وأنشأ يقول: من المتقارب
فيا ساقي القوم لا تنسني ... ويا ربّة الخدر غنّي رمل
وقد كان شيء يسمّى السرور ... قديماً سمعنا به ما فعل
خليليّ إن دام هذا الصّدود ... على ما أراه سريعاً قتل
وفي رواية:
خليليّ إن دام همّ النفوس ... على ما تراه قليلاً قبل
مؤمّل دنيا لتبقى له ... فمات المؤمّل قبل الأمل(28/187)
وقال الشبلي: لولا أن الله خلق الدنيا على العكس لكان منفعة الإهليلج في اللوزينج.
وقال: كن مع مولاك مثل الصبي مع أمه؛ تضربه ويمسكها، ويقول: يا أمي لا أعود.
وقال: ما ظنك بمعان هي شموس كلها، بل الشموس فيها ظلمة.
وقيل له: يا أبا بكر، الرجل يسمع الشيء ولا يفهم معناه، فيؤاخذ عليه، لم هذا؟! فأنشأ يقول: من الرمل
ربّ ورقاء هتوفٍ بالضحى ... ذات شجوٍ صدحت في فنن
ذكرت إلفاً ودهراً صالحاً ... فبكت حزناً فهاجت حزني
فبكائي ربما أرّقها ... وبكاها ربما أرّقني
ولقد تشكو فما أفهمها ... ولقد أشكو فما تفهمني
غير أنّي بالجوى أعرفها ... وهي أيضاً بالجوى تعرفني
وقال الشبلي: الوجد اصطلام. ثم قال:
الوجد عندي جحود ... ما لم يكن عن شهود
وشاهد الحق عندي ... يفني شهود الوجود
قال السلمي: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: حضرت مع الشبلي ليلة في مجلس سماع، وحضره المشايخ، فغنى قوال شيئاً، فصاح(28/188)
الشبلي والقوم سكوت، فقال له بعض المشايخ: يا أبا بكر، أليس هؤلاء يسمعون معك؟ مالك من بين الجماعة؟ فقام، وتواجد، وأنشأ يقول: من الكامل
لو يسمعون كما سمعت حديثها ... خرّوا لعزة ركّعاً وسجودا
وقال: من البسيط
لي سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي
قال: وسمعت أبا العباس البغدادي يقول: كنا جماعة من الأحداث نصحب أبا الحسين بن أبي بكر الشبلي، وهو حدث، ونكتب الحديث، فأضافنا ليلة أبو الحسين، فقلنا: بشرط ألا يدخل علينا أبوك، فقال: لا يدخل. فدخلنا داره، فلما أكلنا إذا نحن بالشبلي وبين كل أصبعين من أصابعه شمعة، ثماني شموع. فجاء وقعد في وسطنا، فاحتشمنا منه، فقال: يا سادة عدوني فيما بينكم طست شمع. ثم قال: أين غلامي أبو العباس؟ فتقدمت إليه، فقال لي: غنّ الصوت الذي كنت تغني: من الهزج
ولما بلغ الحير ... ة حادي جملي حارا
فقلت احطط بها رحلي ... ولا تحفل بمن سارا
فغنيته، فألفى الشموع من يده وخرج.
قال أبو يعقوب الخراط: كنت في حلقة الشبلي، فبكى رجل حتى علا صوته، وبكى الشبلي وأهل الحلقة ببكائه، وأنشأ يقول: من السريع
أنافعي دمعي فأبكيكا ... هيهات مالي طمع فيكا
لو كنت تدري بالذي نالني ... أقصرت عن بعض تجنيكا
وقيل للشبلي: كم تهلك نفسك بهذه الدعاوى، ولا تدعها! فقال: من المنسرح(28/189)
إني وإن كنت قد أسأت بي ال ... يوم لراج للعطف منك غدا
أستدفع الوقت بالرجاء وإن ... لم أر منكم ما أرتجي أبدا
أغرّ نفسي بكم وأخدعها ... نفسٌ ترى الغيّ فيكم رشدا
وسئل: هل يقع بين الإلفين تهاجر؟ فقال: يزاد رشدا، ثم أنشأ يقول: من الوافر
هجرتك لا قلىً مني ولكن ... رأيت بقاء ودك في الصدود
كهجر الحائمات الورد لمّا ... رأت أنّ المنية في الورود
وسئل عن قوله تعالى: " وللهِ على النَّاسِ حجُّ البيتِ "، فوصفه بصفة تضبط عنه، ثم قال: من الخفيف
لست من جملة المحبّين إن لم ... أجعل القلب بيته والمقاما
وطوافي إجالة السرّ فيه ... وهو ركني إذا أردت استلاما
قال أبو السري: وقفت يوم عيد على حلقة الشبلي، والناس عليه، فجاء حدثٌ من أولاد الوزراء حسن الوجه والزي، وكثر الناس. فلما رآه الشبلي قال: من نظر اعتباراً سلم، ومن نظر اختياراً فتن. ثم قال له: مر من عندي وإلا أخرق ثيابك.
قال أبو الحسن علي بن محمد بن أي صابر الدلال: وقفت على الشبلي قي قبة الشعراء في جامع المنصور والناس مجتمعون عليه، فوقف عليه في الحلقة غلام لم يكن ببغداد في ذلك الوقت أحسن وجهاً منه يعرف بابن مسلم، فقال له: تنح، فلم يبرح، فقال له الثانية: تنح يا شيطان عنا، فلم يبرح، فقال له الثالثة: تنح، وإلا والله خرقت كل ما عليك، وكان عليه ثياب في غاية الحسن تساوي جملة كبيرة. فانصرف الفتى.(28/190)
وقيل: خرج الشبلي يوماً من منزله وعليه خريق وأطمار، فقيل له: ما هذا؟ فقال: من الطويل
فيوماً ترانا في الخزوز نجرّها ... ويوماً ترانا في الحديد عوابسا
ويوماً ترانا في الثريد نبسه ... ويوماً ترانا نأكل الخبز يابسا
وقال الشبلي: ضاق صدري ببغداد، فضاقت علي أوقاتي، فوقع لي أن أنحدر إلى البصرة، فاكتريت سمارية، وركبت فيها، فلما بلغت البصرة، وخرجت من السمارية زاد علي ما كنت أجده ببغداد أضعاف ذلك. فركبت تلك السمارية، ورجعت إلى بغداد، فلما بلغت دار الخليفة إذا جارية تغنيى له في التاج: من الطويل
أيا قادماً من سفرة البحر مرحباً ... أناديك لا أنساك ما هبّت الصّبا
قدمت على قلبي كما قد تركته ... كئيباً حزيناً بالصّبابة متعبا
فلما سمعت غناءها طرحت نفسي في دجلة، فقيل: أدركوا الرجل! فأخذت إلى الشط، فقال المقتدر: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر الشبلي؛ فحملت إليه، ووقفت بين يديه، فقال: يا أبا بكر، تبلغنا عنك في كل وقت أعاجيب فما هذا؟، فقصصت عليه القصة، وخرجت.
وفي رواية: فصاح صيحة، ووقع في دجلة مغشياً عليه، فقال الخليفة: الحقوه، واحملوه، فحمل إلى بين يديه، فقال له: أمجنون أنت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كان من أمري كيت وكيت، فتحيرت فيما هو يجري علي. فبكي الخليفة مما رأى من حرقته.
قال أبو الصقر الصوفي: دخلت على شيخ من شيوخنا أهنئه يوم عيد، فرأيت عنده نخالة وهندباء وخلاً، فشغل ذلك قلبي، فخرجت من عنده، ودخلت على أحد أرباب الدنيا، فذكرت ذلك له، فدفع إلي صرة فيها دراهم، فقال: احملها إليه.(28/191)
فعدت ودخلت إليه، فأخبرته، فقال: وما الذي رأيت من حالي؟ قلت: رأيت هندباء وخلاً ونخالة. فقال: كأنك افتقدت منزلي، وكذلك لو كانت في بيتي حرمة أكنت تفتقدها؟ قم فاخرج! أشهد لا كلمتك شهراً. قال: فخرجت، فنطح الباب وجهي، ففتحته، فمسحت الدم ومشيت. فلقيني الشبلي، فقلت: يا أبا بكر، رجل مشى في طاعة الله ينطح وجهه، ما يوجب هذا؟ قال: لعله أراد أن يجيء إلى شيء صاف فيكدره.
وقال للشبلي رجل: يا أبا بكر، اليوم يوم العيد، فأنشأ يقول: من البسيط
الناس بالعيد قد سرّوا وقد فرحوا ... وما سررت به والواحد الصمد
لمّا تيقنت أنّي لا أعاينكم ... غمّضت طرفي فلم أنظر إلى أحد
قال السلمي: وبلغني أن الشبلي كان واقفاً على قبر الجنيد، فسئل عن مسألة، فنظر إلى الرجل، ونظر إلى القبر، وقال: من الطويل
وإني لأستحييه والترب بيننا ... كما كنت أستحييه حين يراني
وقيل له: إن فلاناً رجلاً من أصحابه مات فجاءة، فقال: من الطويل
قضى الله في القتلى قصاص دمائهم ... ولكن دماء العاشقين جبار
ومات أخ من إخوان الشبلي، فعز عليه، فرجع من جنازته وهو يقول: من الكامل
سأودّع الإحسان بعدك والنّهى ... إذ حال منك البين والتوديع
ولأستقلّ لك الدموع صبابةً ... ولو أن دجلة لي عليك دموع(28/192)
وحكايات الشبلي رحمه الله كثيرة في إنشاده للشعر الحسن، والتمثل به، والطرب عليه، والتواجد من سماعه.
وأنشد: من البسيط
كادت سرائر سرّي أن تشير بما ... أوليتني من سرورٍ لا أسمّيه
فصاح بالسر سرّ منك ترقبه ... كيف السرور بسرّ دون مبديه
فظل يلحظني فكري لألحظه ... والحق يلحظني أن لا أراعيه
وأقبل الحق يفني اللحظ عن صفتي ... وأقبل اللحظ يفنيني وأفنيه
وقال: من الطويل
وكم كذبةٍ لي فيك لا أستقلّها ... أقول لمن ألقاه إنّي صالح
وأيّ صلاحٍ بي وجسمي ناحلٌ ... وقلبي مشغوفٌ ودمعي سافح
وقال: من الطويل
ذكرتك لا أنّي نسيتك لمحةً ... وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
وكدت بلا وجدٍ أموت من الهوى ... وهام عليّ القلب بالخفقان
فلما أراني الوجد أنك حاضرٌ ... شهدتك موجوداً بكل مكان
فخاطبت موجوداً بغير تكلم ... ولاحظت معلوماً بغير عيان
وقال: من البسيط
إنّي عجبت وما في الحبّ من عجبٍ ... فيه الهموم وفيه الوجد والكلف
أرى الطريق قريباً حين أسلكه ... إلى الحبيب بعيداً حين أنصرف
قال جعفر الخلدي: أحسن أحوال الشبلي أن يقال له مجنون.(28/193)