عن يحيى بن عبد الرحمن بن خاطب، عن أبيه، قال: ذهب بصر مخرمة بن نوفل في خلافة عثمان ببن عفان، وكان قبل ذلك فيمن يجدد أنصاب الحرم معرفة بها.
قال محمد بن عمر: شهد مخرمة بن نوفل مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين، وأعطاه من غنائم حنين خمسين بعيراً.
قال: ورأيت عبد الله بن جعفر ينكر أن يكون مخرمة أخذ منها شيئاً، وقال: ما سمعت أحداً من أهلي يذكر ذلك.
عن أم بكر بنت مسور؛ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم قسماً فأخطأ ذلك مخرمة، فقال له مخرمة: أي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كنت أرى أن تقسم قريش قسماً فتخطئني. قال: " فإني فاعل يا خالي إذا جاءني شيء ". فما لبث أن جاءه قباء من ديباج أو حرير مزرور بالذهب، فوضعه بين يديه، فجعل كلما جاء إنسان يخشى أن يسأله قال: " هذا لخالي مخرمة " حتى جاء مخرمة فأعطاه.
عن عمرو، قال: كسا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخرمة حلة، وقال: ما أرى العبقري مثلها، وقال له: " إن قدمت مكة اشتراها منك صفوان بن أبي أمية أو حكيم بن حزام بأربعين أوقية ". قال فقدم مكة، فاشتراها أحدهما بذاك.
عن عائشة، قالت: جاء مخرمة بن نوفل، فلما سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوته قال: " بئس أخو العشيرة " فلما دخل بش به حتى خرج؛ قالت: قلت له: يا رسول الله قلت له وهو بالباب، فلما دخل بششت به حتى خرج. قالت: أظنه قال: " أعهدتني فحاشاً؟ إن شر الناس من يتقى لشره ".(24/143)
عن مصعب بن عثمان، قال: لما حضرت مخرمة بن نوفل الوفاة بكته ابنته فقالت: وا أبتاه، كان هيناً ليناً. فقال: من النادبة؟ فقالوا: ابنتك. قال: تعالي، فجاءت، فقال: ليس هكذا يندب مثلي، قولي: وا أبتاه كان شهماً شيظماً، كان أبياً عصياً.
قال محمد بن عمر: ومات مخرمة بالمدينة سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وكان يوم مات ابن مئة وخمس عشرة. وقيل: سنة خمس وخمسين.
مخلد بن خالد بن يحيى
ابن محمد بن يحيى بن حمزة أبو علي الحضرمي البتلهي وقد صحف اسمه، إنما هو محمد بن خالد.
روى عن أبي عبد الله أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، عن أبيه، عن جده، قال: صلى بنا المهدي أمير المؤمنين المغرب، فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا؟ فقال: حدثني أبي عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
مخلد بن زياد
أبي محمد بن عبد الله ابن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي، السفياني كان مع أبيه إذ مضى إلى المدينة، وقتل هو وأبوه بها.(24/144)
مخلد بن علي السلامي الشاعر
أنشد مخلد بن علي: " من البسيط "
ما ذاق طعم الغنى من لا قنوع له ... ولا يرى قانعاً ما عاش منتظرا
والعرف من نابه تحمد مغبته ... ما ضاع عرف ولو أوليته حجرا
وأنشد يهجو نوح بن عمرو بن حوي، فقال: " من السريع "
أشكو ويشكو سوء حالاته ... فلست أدري أينا السائل
لو كان لي شيء لآسيته ... لأنه المسكين يستاهل
وأنشد: " من المتقارب "
ولي صاحبان على هامتي ... قعودهما مثل حد الوتد
ثقيلان ما عرفا راحة ... فهذا الصداع وهذا الرمد
مخلد بن عمرو بن الجموح
ابن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي ابن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، الأنصاري شهد غزوة مؤتة، ورزق بها الشهادة. لا عقب له.
مخلد بن محمد بن أبي صالح
أبو هاشم الحراني، مولى عثمان بن عفان كان في عسكر مروان بن محمد، وشهد دخوله دمشق وبيعته بها بالخلافة.(24/145)
مخلد بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة
أبو خداش الأزدي أحد الأسخياء الممدوحين، وفد على عمر بن عبد العزيز يكلمه في أمر أبيه لما حبس، ومات في حياة أبيه بالشام.
عن روح بن قبيصة المهلبي، عن أبيه، قال: قال يزيد بن المهلب لأبنه مخلد: يا بني، استفره الكاتب واستحد الحاجب، فإن كاتب الرجل لسانه وحاجبه وجهه.
وعن الزيادي، قال: قال يزيد بن المهلب لأبنه مخلد حين ولاه جرجان: استطرف كاتبك، واستعطر حاجبك.
عن شعيب بن صفوان؛ أن حمزة بن بيض دخل على مخلد بن يزيد بن المهلب - في السجن - فأنشده: " من التقارب "
أتيناك في حاجة فاقضها ... وقل مرحباً يجب المرحب
فقال: مرحباً.
ولا تكلنا إلى معشر ... متى يعدوا عدة يكذبوا
فإنك في الفرع من أسرة ... لهم خضع الشرق والمغرب
وفي أدب فيهم ما نشأت ... فنعم لعمرك ما أكسبوا
بلغت لعشر مضت من سني ... ك كما يبلغ السيد الأشيب
فهمك فيها جسام الأمو ... ر وهم لداتك أن يلعبوا
وجدت فقلت إلا سائل ... فيسأل أو راغب يرغب(24/146)
فمنك العطية للسائلي ... ن وممن ينوبك أن يطلبوا
قال: هات حاجتك؛ فقضاها. قال أبو الحسين: ولا أحسبه إلا قال: وأمرله بعشرة آلاف.
عن عبد الرحمن بن حسن. عن أبيه؛ أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الجراح بن عبد الله: أما بعد، فإنه بلغني أنك كنت لمخلد بن يزيد، وللمهلب بن يزيد زلآل المهلب أماً فرشت فأنامت أولادها.
فكتب إليه الجراح: أما بعد يا أمير المؤمنين، كتبت إلي في عهدك أن لا أوثق أحداً من خلق الله تعالى وثاقاً يمنع الصلاة، ولا أبسط على أحد من خلق الله تعالى عذاباً، فأنت - يا أمير المؤمنين - الأم التي فرشت فأنامت، لمخلد بن يزيد ولآل المهلب ولجميع رعيتك.
قال: وكان قد أوثقه في سلسلة بركن. قال: فدعا مخلداً فقال: إن شئت أن تفتر عندنا على حالك التي أنت عليها، وإن شئت أن ألحقك بأمير المؤمنين، ولا أراه إلا خيراً لك. قال: فألحقني بأمير المؤمنين.
قال: فدفعته إليه فأطلقه عمر بن عبد العزيز.
عن قبيصة بن عمر المهلبي، قال: لما حبس عمر بن عبد العزيز يزيد بن المهلب، وقد كان فتح جرجان وطبرستان، وأخذ صول رئيساً من رؤسائهم، فأصاب أموالاً كثيرة وعروضاً كثيرة، فكتب إلى سليمان بن عبد الملك: إني قد فنحت طبرستان وجرجان، ولم يفتحهما أحد من(24/147)
الأكاسرة ولا أحد ممن كان بعدهم غيري، وأنا باعث إليك بقطران عليها الأموال والهدايا يكون أولها عندك وآخرها عندي.
فلما أفضت الخلافة إلى عمر بعد ذلك بيسير، وهلك سليمان، أخذه عمر بهذه العدة لسليمان، فحبسه، فقدم مخلد ابنه، فلما صار بالكوفة أتاه حمزة بن بيض في جماعة من أهل الكوفة، فقام بين يديه، فقال:
أتيناك في حاجة فاقضها ... وقل مرحباً يجب المرحب
الأبيات.
قال: فكلمه في عشر ديات فأعطاه مئة ألف درهم، فلما دخل دمشق وأراد الدخول على عمر لبس ثياباً مستنكرة وقلنسوة لاطئة، فقال له عمر: لقد شمرت. قال: إذا شمرتم شمرنا، وإذا أسبلتم أسبلنا، ثم قال: ما بالك وقد وسع الناس عفوك حبست هذا الشيخ، فإن تكن عليه بينة عادلة فاحكم عليه، وإلا فيمينه، أو فصالحه على ضياعه.
فقال يزيد بن المهلب: أما اليمين فلا تتحدث العرب أن يزيد بن المهلب صبر عليها، ولكن ضياعي فيها وفاء لما تطلب.
ومات مخلد وهو ابن سبع وعشرين سنة، فقال عمر: لو أراد الله بهذا الشيخ خيراً لأبقى له هذا الفتى.
وقال غيره: إن مخلد بن يزيد أصابه الطاعون فملت.
وعن ابن عائشة، قال: لما مات مخلد بن يزيد بن المهلب صلى عليه عمر بن عبد العزيز، وتمثل: " من الكامل "(24/148)
بكوا حذيفة لن تبكوا مثله ... حتى تبيد قبائل لم تخلق
وقيل: تمثل: " من الطويل "
على مثل عمرو يهلك المرء حسرة ... وتضحي وجوه القوم مسودة غبرا
ورثاه حمزة بن بيض، فقال: " من الوافر "
أمخلد هجت حزني واكتئابي ... وفل عليك يوم هلكت نابي
وعطلت الأسرة منك إلا ... سريرك يو تحجب بالثياب
ةآخر عهدنا بك يوم يحثى ... عليك بدابق سهل التراب
تركت عليك أم الفضل حرى ... تلدد في معطلة خراب
تنادي والهاً بالويل منها ... وما داعيك مخلد بالمجاب
أما لك أوبة ترجى إذا ما ... رجا الغياب عاقبة الإياب
وليت حريبتي فمضت وذخري ... فكيف تصبري بعد احترابي
أبعدك ما بقيت أبا خداش ... وقد بغضتني برد الشراب
وقال الفرزدق يرثيه: " من الطويل "
وما حملت أيديهم من جنازة ... وما ألبست أثوابها مثل مخلد
أبوك الذي تستهزم الخيل باسمه ... وإن كان فيها قيد شهر مطرد
وقد علموا إذ شد حقويه أنه ... هو الليث ليث الغيل لا بالمعرد
مخلد بن يزيد بن يعلى
ابن قسيم بن نجيح القرشي من أهل ناحية العبادية.(24/149)
مخلد بن يزيد أبو خداش
ويقال: أبو يحيى، ويقال: أبو خالد، ويقال: أبو الحسن، القرشي الحراني سمع بدمشق وغيرها.
روى عن سعيد المغني، بسنده إلى نافع عن ابن عمر، قال: سمع ابن عمر صوت زمارة راع، فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق؛ فوضع يديه وأعاد الراحلة إلى الطريق، وقال: رأيت رسول اللهصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع صوت زمارة راع فصنع مثل هذا.
وعن يحيى بن حمزة، بسنده إلى أسماء، قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليس على النساء أذان ولا إقامة ولاجماعة ".
وعن سفيان بن سعيد الثوري، بسنده إلى علي بن أبي طالب يرفعه إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ".
سئل عنه يحيى بن معين، فقال: ثقة.
مات سنة ثلاث وتسعين ومئة، رحمه الله تعالى.
مخلد
من أهل شهبة، من قرى حوران من أعمال دمشق، أحد الزهاد.
حكى ابنه أبو حفص بن مخلد: أن أاه مخلد مرض، فكنا ربما صنعنا له الشيء مثل سميد أو شيء نعلله به، فنضعه بين يديه فيقول: ارفعوه، ما أطعم هذا ولا كرامة.(24/150)
وحدث أحمد الهلالي، قال: كان مخلد يدق الخروب ويعصده في القدر مع شيء من طحين، وكان مخلد رحمه الله، لا ينحني عنه دابته، ولا يغسل أطماره، وكان أكثر ما يوصي به الوحدة، وكان قد يبس جلده على عظمه من قلة أكله ومما يجوع نفسه ويمنعها من الشهوات.
وقال: كان مخلد من أهل شهبة، وله أهل وولد، وكان يعتد لأهله قوتاً يخاف مجاعة في حوران، وعدم الناس القوت فباع الشعير الذي كان استعده لأهله، فقالت له زوجته: أهلكت صبياننا، تبيع القوت في مثل هذا الوقت؟ فقال لها: نعم، حتى يذوقوا مثل ما يذوق الناس، ويتضرعوا كما يتضرع الناس، ولا يطمئنوا إلى ما عندك.
مخلص بن موحد بن أبي الجماهر
محمد بن عثمان أبو الجماهر، ويقال: أبو عمر التنوخي حدث عن عبد الله بن الصباح، عن أبي أسامة، قال: دخلنا على حبة العرني فأخرج تمراً وقداحاً، فقال: كلوا هذا، فلو كان عندنا غيره لجئناكم به.
قال مخلص: يعني بالقداح: الفصة.
وعن إسحاق بن عبد المؤمن، قال: كنت عند مروان بن محمد، فعطس رجل فقال: الحمد لله رب العالمين. فقال له مروان: تدري ما العالمين؟ قال: لا؛ فقال مروان: إن الله خلق سبعة عشر ألف عالم، أهل السموات والأرض عالم واحد، وسائر ذلك لا يعلمهم إلا الله.(24/151)
مخيس بن تميم
أبو بكر الأشجعي
روى عن حفص بن عمر، بسنده إلى ابن عمر، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم ".
عن أحمد بن الضحاك، قال: سمعت مخيس يقول: من ختم نهاره بالاستغفار صعد عمله مضيئاً وإن كان مسيئاً، ومن لم يختم نهاره بالاستغفار صعد عمله مظلماً وإن كان محسناً.
مدرك بن الحارث الغامدي
له صحبة، روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسكن دمشق.
عن مدرك بن الحارث الغامدي، قال: حججت مع أبي، فلما كنا بمنى إذا جماعة على رجل، فقلت: يا أبه، ما هذه الجماعة؟ فقال: هذا الصابىء الذي بدل دين قومه؛ ثم ذهب أبي حتى وقف عليهم على ناقته، فذهبت أنا حتى وقفت عليهم على ناقتي، فإذا به يحدثهم وهم يردون عليه، فلم يزل موقف أبي حتى تفرقوا عن ملال وارتفاع من النهار؛ وأقبلت جارية في دها قدح فيه ماء، ونحرها مكشوف، فقالوا: هذه ابنته زينب، فناولته وهي تبكي، فقال لها: " خمري عليك نحرك يا بنية، ولن تخافي على أبيك غلبة ولا ذلاً ".(24/152)
مدرك بن حصن الأسدي
شاعر، قال في عبد الله الأسوار بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: " من الكامل "
قبح الإله ولا أقبح غيره ... نسباً أمت به إلى الأسوار
إنا لنعلم يا سخينة أنكم ... بطن العشي مباشم الأسحار
وفيها بيت ثان لم أذكره لفحش ما فيه.
مدرك بن زياد
له صحبة، وهو الذي قبره حجيرا وراوية.
قدم مع أبي عبيدة، فتوفى بدمشق بقرية يقال لها: راوية، وكان أول مسلم دفن بها.
مدرك بن أبي سعد
ويقال: ابن سعد أبو سعد الفزاري روى عن حيان أبي النضر، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا عبادة " قلت: لبيك. قال: " اسمع ةأطع في عسرك(24/153)
ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك، إلا أن تكون معصية الله عز وجل نواحاً ".
مدرك بن عبد الله الأزدي
حدث، قال: نزلنا مع معاوية مصر، فنزلنا منزلاً، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين أتأذن لي أن أقوم في الناس، فأذن له، فقام على قوسه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " رأيت في المنام أن عمود الكتاب حمل من تحت وسادتي، فأتبعته بصري، فإذا هو كالعمود من النور، فعمد به إلى الشام، إلا وإن الإيمان إذا وقعت الفتنة بالشام " ثلاث مرات يقولها ثلاثاً.
مدرك بن منيب الأزدي
روى عن أبيه، قال: رأيت رسول الله في الجاهلية، وهو يقول: " أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا " فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبه؛ فأقبلت جارية بعس من ماء فغسل وجهه ويديه، وقال: " يا بنية اصبري، ولا تحزني ولا تخافي على أبيك غلبة ولا ذلاً ".
فقلت: من هذه؟ فقالوا: هذه زينب بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي جارية وصيف.(24/154)
مدلج بن المقدام بن زمل بن عمرو
العذري ويقال: مدلج قال محمد بن سعد: كان شريفاً بالشام، وكانت عنده أمينة أخت خالد بن عبد الله القسري.
مدلوك
أبو سفيان الفزاري مولاهم له صحبة.
عن مطر بن العلاء الفزاري، يقول: حدثتني عمتي آمنة أو أمية بنت أبي الشعثاء، وقطبة مولاة لنا، قالتا: سمعنا أبا سفيان مدلوكاً يقول: ذهبت مع مولاي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلمت معهم، فدعاني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومسح رأسي بيده، ودعا لي بالبركة.
قالتا: فكان مقدم رأس أبي سفيان أسود ما مسته يد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسائره أبيض.
مذعور بن الطفيل القيسي
بصري، كان ممن سيره أمير المؤمنين عثمان بن عفان إلى دمشق.
عن غيلان بن جرير، قال: قال مطرف: ما تحاب اثنان في الله إلا كان أشدهما حباً لصاحبه أفضلهما. قال: فذكرت ذلك للحسن، فقال: صدق مطرف.(24/155)
قال: وقال غيلان عن مطرف: أنا لمذعور أشد حباً، وهو أفضل مني، فكيف هذا؟ فلما أمر بالرهط أن يخرجو إلى الشام أمر بمذعور فيهم. قال: فلما لقيتني فأخذ بلجام دابتي. قال: فجعلت كلما أردت أن أنصرف حبسني. قلت: إن المكان بعيد، فجعل يحبسني. فقلت: أنشدك الله ألا تتركني، فيم تحبسني؟ فلما ناشدته قال كلمة يخفيها بجهده مني: اللهم فيك.
قال: فلما أصبحت قيل له: هل شعرت أنه خرج بأخيك. قال: فعرفت أنه أشد حباً إلي مني له.
عن أيوب السختياني، قال: لما سير أولئك الرهط إلى الشام كان فيهم مذعور وعامر بن قيس وصعصعة بن صوجان. قال: فلما عرفوا براءتهم أمروا بالانصراف، فانصرف بعضهم وبقي بعضهم، كان فيمن أقام مذعور وعامر، وكان فيمن انحدر صعصعة بن صوجان.
عن سليمان بن المغيرة، قال: قال معاوية: من جاءنا منكم يا أهل العراق فليكن مثل هذا القيسي، يعني مذعوراً.
عن ثابت، قال: قال مطرف: بينا أنا مع مذعور يوماً إذا رجل يقول: هذان من أهل الجنة قال: فنظر إليه مذعور، فعرفت الكراهية في وجهه، ثم رفع بصره إلى السماء، فقال: اللهم تعلمنا ولا يعلمنا، اللهم تعلمنا ولا يعلمنا، ثلاثاً.
عن سليمان بن المغيرة، عن أبيه، قال: كان مذعور يأتينا فيقول: هلم إلى ذكر الله. قال: فقال رجل من الحي: كل يوم لنا من مذعور جمعة. قال: فذكرت ذلك لثابت فأعجبه.
وعنه، قال: قال مذعور لأختيه: ابنتي أمي، اعملا في هذا الليل والنهار، فقد أتيتما.(24/156)
وعنه، قال: كانت لمذعور أختان هنيدة وأم صفية، فأما أم صفية فكانت تقيم الأيتام والمساكين، وأما هنيدة فكانت امرأة عابدة. قال: فقالتا له حين يخرج به: أوصنا. قال: فقال: اعملا فكأنكما قد أتيتما.
قال مطرف: إن كان من هذه الأمة أحد ممتحن القلب، فإن مذعوراً ممتحن القلب.
وقال: إن كان مذعور ليزورنا فيفرح به أهلنا.
وعن سليمان بن المغيرة، قال: قال لي ثابت البناني: إنه ليزيدك إلي حباً قرابتك من مذعور.
مذعور بن عدي العجلي
من أهل العراق.
يقال: إن له صحبة. شهد مع خالد بن الوليد حصار دمشق ووقعة اليرموك، وله أياد في حرب الفرس.
قال سيف: وكان مذعور بن عدي على كردوس يوم اليرموك.
وقال: وقدم المثنى بن حارثة ومذعور بن عدي يوم القفل من اليمامة على أبي بكر، وكانت لهما وفادة ونصيحة، فاستأذنا في غزو أهل فارس وقتالهم، وأن يتأمرا على من لحق بهما من قومهما، وقالا: فإننا وإخواننا من بني تميم قد دربنا لقيان أهل فارس، وأخذنا النصف من أحد وبني كل موسم، فأدركهما فولاهما على من تاعهما، واستعملهما(24/157)
على ما عليا عليه؛ فسارا فجمعا جموعهما ثم سارا بهم حتى قدما بلاد أهل فارس، وكان أول من قدم أرض فارس لقتال أهل فارس هما حرملة وسلمى، فقدما المثنى ومذعوراً في أربعة آلاف من بكر بن وائل وعنزة وضبيعة، فنزل أحدهما بخفان ونزل الآخر بالنمارق، وعلى فرج الفرس مما يليهما شهربراز بن نيدا، فنتقا شهربراز وغلبا على فرات بادقلى إلى السيلحين، واتصل ما غلبا عليه وما غلب عليه سلمى وحرملة؛ وفي ذلكيقول مذعور بن عدي: " من الطويل "
غلبنا على خفان بيداً وشيحة ... إلى النخلات السحق فوق النمارق
وإنا لنرجو أن تجول خيولنا ... بشاطي الفرات بالسيوف البوارق
مذكور العذري
رجل له صحبة، شهد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة دومة الجندل، وكان دليله إليها.
عن محمد بن عمر الوافدي بسنده، قال: أراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدنو إلى أرض الشام، وقيل له: إنها طرف من أفواه الشام، فلو دنوت لها كان ذلك مما يفزع قيصر، وقد ذكر له أن بدومة الجندل جمعاً كثيراً وأنهم يظلمون من مر بهم من الضافطة، وكان بها سوق عظيم وتجار، وضوى إليهم قوم من العرب كثير وهم يريدون أن يدنو من المدينة، فندب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس، فخرج من الجم من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار، وعه دليل له من بني عذرة يقال(24/158)
له: مذكور، هاد خريت؛ فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغذاً للسير، ونكب عن طريقهم.
ولما دنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من دومة الجندل، وكان بينه وبينه يوم أو ليلة سير الراكب المعتق، قال له الدليل: يا رسول الله إن سوائمهم ترعى عندك، فأقم لي حتى أطلع لك. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعم ". فخرج العذري طليعة حتى وجد آثار النعم والشاء وهم مغربون، ثم رجع إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره وقد عرف مواضعهم، فسار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى هجم على ماشيتهم ورعاتهم، فأصاب رسول الله من أصاب وهرب من هرب في كل وجه.
وجاء الخبر أهل دومة الجندل فتفرقوا، ونزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بساحتهم، فلم يجد بها أحداً، فأقام بها أياماً، وبث السرايا وفرقها حتى غابوا عنه يوماً ثم رجعوا إليه ولم يصادفوا منهم أحداً، وترجع السرية بالقطعة من الإبل، إلا أن محمد بن مسلمة أخذ رجلاً منهم، فأتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله عن أصحابه، فقال: هربوا منك حيث سمعوا بأنك أخذت نعمهم، فعرض عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإسلام أياماً فأسلم، فرجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعمل على المدينة سباع بن عرفطة.
قال الواقدي: غزوة دومة الجندل في ربيع الأول على رأس تسعة وأربعين شهراً، يعني: من مهاجرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة.
مرثد بن حوشب الشيباني الكوفي
حدث، فقال: ما رأيت أخوف من الحسن ومن عمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما.(24/159)
مرثد بن سمي الأوزاعي
ويقال: الخولاني من قراء أهل الشام، شهد اليرموك، وسكن حمص.
روى عن أبي الدرداء، قال: سيأتي قوم يقرؤون هذه الآيه " الم. غلبت الروم " وإنما " غلبت الروم ".
عن بعض من شهداليرموك، قال: ثم إن أبا عبيدة انصرف بوجهه على الناس، فقال: أيها الناس أبشروا، فإني رأيت فيما يرى النائم أني أتيت فحف بي قوم عليهم ثياب بيض، ثم دعوا لي رجالاً منكم أعرفهم كثيراً، فقالوا لنا: أقدموا ولا تهابوا فإنكم الأعلون. فكأنا دخلنا عسكرهم فولوا مدبرين. فقال له الناس: أصلحك الله، هذي بشرى، نامت عينك وبشرك الله بخير.
قالوا: فقال له الخولاني: وأنا رأيت رؤيا أيضاً، فيما أرى بشرى، رأيت فيما يرى النائم كأنا خرجنا إليهم، فلما تواقفنا صب الله عليهم من السماء طيراً بيضاً عظاماً لها مخاليب كمخاليب الأسد، تنقض من السماء كانقضاض العقبان، فإذا حاذت الرجل ضربته ضربة يخر منها قطعاً. فكان الناس يقولون: أبشروا، قد أمدكم الله عليهم بالملائكة.
قال: فتاشر المسلمون بذلك وسروا به. قال أبو عبيدة: وهذه رؤيا فحدثوا هاتين الرؤيايين بين الناس، فإن مثلها من الرؤيا تشجع المسلمين وتحسن قلوبهم وتبسطهم للقتال.
قال أبو زرعة: وكان قد قرأ الكتاب.
وعن جرر، قال: رأيت مرثد بن سمي، وكان ممن أدرك علي بن أبي طالب.(24/160)
عن الحسن بن عثمان، قال: وفيها - يعني سنة خمس وعشرين ومئة - مات
مرثد بن سمي من أهل الشام، رحمه الله تعالى.
مرثد بن نجبة بن ربيعة
ابن رباح بن ربيعة بن غوث بن هلال بن شمخ بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان، الفزاري أخو المسيب بن نجبة كان من أصحاب خالد بن الوليد، وشهد معه الحيرة، وفتح دمشق.
وقيل: إنه قتل يومئذ على سورها وهو ممن أدرك عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل: إنه شهد اليرموك أيضاً.
مرثد
خصي كان لعمر بن عبد العزيز حكى أنه كا ربما خرج بالصك الصغير مثل هذا - وأشار مالك ببعض أصابعه - فيه أربعون ألف دينار جائزة لعمر بن عبد العزيز، فما يدري أحد حيث مسلكها.
عن عثمان بن عبد الحميد بن لاحق، عن أبيه، قال: بلغنا أن فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز قالت: اشتد على عمر ليلةً، فسهر وسهرنا معه، فلما أصبحنا أمرت وصيفاً لي يقال له: مرثد، قلت: يا مرثد، عن عند أمير المؤمنين، فإن كانت له حاجة كنت قريباً. فانطلقنا فضربنا برؤوسنا لطول سهرنا من الليل، فلما انتفخ النهار استيقظت وتوجهت إليه، فوجدت مرثداً خارجاً من البيت(24/161)
نائماً، فأيقظته، فقلت: يا مرثد ما أخرجك؟ قال: هو أخرجني، ما عدا أن خرجت فقال: يا مرثد اخرج عني، فوالله إني لأرى ما هو بإنس ولا جان؛ فخرجت، فسمعته يتلو هذه الآية " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ".
قالت: فدخلت عليه وقد وجه نفسه وأغمضها، وإنه لميت.
مرجى بن حبيب بن وهيب
أبو القاسم المجهر روى عن أبي القاسم على بن يعقوب بن أبي العقب، بسنده إلى أسامة بن زيد، قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذني والحسن فيقول: " اللهم إني أحبهما فأحبهما ".
مرجى بن عبد الله
ويقال: ابن الوليد بن مرثد البيروتي حدث، قال:
سمعت إبراهيم الفزاري يقول: لو أن ابن عمر والأوزاعي في أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكان فيهم وسطاً.
وفي أخرى: لو كان الأوزاعي في أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكان فيهم وسطاً. قال مرجى: فأخبرت أبي بذلك، فقال: بل هو عندي كان يكون من كبرائهم.(24/162)
مرجى بن وداع بن الأسود الراسبي
قيل: إنه دمشقي، والصحيح: إنه بصري روى عن قطن القطيعي، قال: سمع أبو بكر ابناً له يدعو بدعوة، فقال: أي بني، أنى لك هذه الدعوة؟ قال: سمعت يا أبه تدعو بها فدعوت بها. قال: فادع بها. قال: وسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو بها، وإلا فصمتا، سمعته يقول ذلك: " عوذوا بالله من الكفر والفقر وعذاب القبر ".
وعن غالب القطان، قال: بينما نحن جلوس مع الحسن إذ أقبل علينا أعرابي بصوت له جهوري، كأنه من رجال شنؤة، فوقف علينا، فقال: السلام عليكم، حدثني أبي عن جدي، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سلم على قومه فقد فضلهم بعشر حسنات وإن ردوا عليه ".
وعنه، قال: جاءت امرأة إلى ابن سيرين فقالت: يا أبا بكر، امرأة رأت في بيتها حجرين، يخرج من رأس الحجرين حيتان، فيقوم إليهما رجلان فيحتلبان من رؤوسهما لبناً.
فقال ابن سيرين: الحية لا تحتلب لبناً، إنما تحتلب السم؛ هذه امرأة عليها رجلان من رؤوس الخوارج يخبرانها أنالسنة والفطرة ما يدعوانها إليه، وإنما يدعوانها إلى الشر.
فقالت المرأة: صدقت يا أبا بكر، ما زلنا نعرف مولاتنا حتى دخل عليها فلان وفلان، فأنكرناها منذ دخلا عليها.
عن مرجى بن وداع الدمشقي، قال: دخلنا على عطاء السلمي وهو يوقد تحت قدر له، فقال له بعض أصحابنا: أيسرك أنك أحرقت بهذه النار ولم تبعث؟ قال: أتصدقوني؟ فوالله لوددت أني أحرقت بها ثم أحرقت بها ولم أبعث.(24/163)
قال المصنف: كذاوجدته بخط رشاً، ولعل مرجى أصله من البصرة، ونسب إلى دمشق لدخوله إليها - إن كان دخلها - أن لم يكن تصحف الراسبي بالدمشقي، والله أعلم.
قال عنه يحيى: ضعيف. وقال مرة أخرى: صالح الحديث.
مرزوق بن أبي الهذيل الثقفي
أبو بكر. من أهل دمشق روى عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: لم أزل حريصاً أن أسأل عمر بن الخطاب حتى سافرت معه، فذهب لحاجته، واتبعته بالإداوة، فلما جاء ناولته. قال: ثم جلس فأخذت الإداوة فجعلت أصب عليه، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان اللتان قال الله عز وجل: " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما "؟ فقال: هما عائشة وحفصة.
قال: ثم أنشأ عمر يحدثني، قال: إنا معشر قريش كنا نغلب النساء ونحن بمكة. فلما قدمنا المدينة إذا إخواننا من الأنصار تغلبهم نساؤهم، فأخذ نساؤنا أخلاقهم. قال: فصحت على امرأتي ذات يوم فردت علي، فأنكرت ذلك. قال: قالت: وما تنكر؟ فوالله إن المرأة من أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لترد عليه وتهجره اليوم إلى الليل. فقال عمر: خبن وخسرن، من يغضب الله يغضب رسوله، فإذا هن قد هلكن.
قال: فجمعت علي ثيابي ثم انطلقت حتى دخلت على حفصة، قلت: أي حفصة، إن امرأة منكن ترد على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتهجره اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: أتأمن بغضب الله لغضب رسوله، فإذا إحداكن قد هلكت؟ لا تردي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تهجرنه ولا تكثرن.(24/164)
وعنه، عن عروة، عن عائشة، قالت: لما استخلف أبو بكر ارتد من ارتد من العرب، فقالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله جل وعز ".
فقال أبو بكر: فإن من حقه أداء الزكاة، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عناقاً مما يؤدون إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتلتهم على منعها.
فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق.
وعنه، بسنده إلى كعب بن مالك.
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنا رجع من طلب الأحزاب نزع لأمته واغتسل واستجم.
قال محمد بن إسحاق: مرزوق ثقة، والحديث غريب.
قال ابن عدي: وأحاديثه يحمل بعضها بعضاً، ويكتب حديثه.
وقال أبو حاتم:
سمعت دحيم يقول: مرزوق بن أبي الهذيل صحيح الحديث.
مرشد بن علي بن المقلد
ابن نصر بن منقذ بن محمد بن منقذ بن نصر بن هاشم أبو سلامة الكناني ذكر لي ولده أبو المغيث منقذ بن مرشد أنه دخل طرابلس غير مرة، وكان مولده بحلب سنة ستين وأربعمئة، وسافر إلى بغداد وأصبهان، وكانت له يد طولى في علم العربية(24/165)
والكتابة والشعر، وكان حافظاً للقرآن، حسن التلاوة له، كثير الصوم، شديد البأس والنجدة في الحرب، ونسخ بخطه سبعين ختمة بخط حسن.
حدثني ابنه أبو عبد الله محمد بن مرشد وكتبه لي بخطه، قال: مات عمي أبو المرهف نصر بن علي، وأوصى بشيزر لوالدي، فقال: لا وليتها ولا خرجت من الدنيا إلا كما دخلت إليها، فولاها أخاه أبا العساكر سلطان بن علي، فاصطحبنا أجمل صحبة مدة من الزمان، وأنا قد نشأنا، ولم يكن لعمي أبي العساكر ولد، فلحقه الحسد على كون أخيه له عدة من الولد، ولم يكن له سوى بنات، ثم رزق أولاداً صغاراً، فصار كلما رأى صغرهم ورأى أولاد أخيه قد سدوا مكان أبيهم تضاعف الحسد؛ فكتب إلى والدي شعراً فأجابه بقصيدة منها: " من الطويل "
ظلوم أبت في الظلم إلا تماديا ... وفي الصد والهجران إلا تناهيا
ولا ناسياً ما أودعت من عهودها ... وإن هي أبدت جفوة وتناسيا
شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها ... فيا عجباً من ظالم جاء شاكيا
وطاوعت الواشين في وطالما ... عصيت عذولاً في هواها وواشيا
ومال بها تيه الجمال إلى القلى ... وهيهات أن أمسي لها الدهر قاليا
ولما أتاني من قريضك جوهر ... جمعت المعاني فيه لي والمعاليا
وكنت هجرت الشعر حيناً لأنه ... تولى برغمي حين ولى شبابيا
وأين من الستين لفظ مفوف ... إذا رمت أدنى القول منه عصانيا
ومنها:
ولبيت في الحرب الضروس بمهجتي ... على حرس عمي يجيب المناديا
ورصعت في علياك در مدائح ... تخال نجوم الأفق فيها قوافيا(24/166)
وقلت أخي يرعى بني وأسرتي ... ويحفظ عهدي فيهم وذماميا
ويجزيهم ما لم أكلفه فعله ... لنفسي فقد أعددته من تراثيا
فما لك لما أن حتى الدهر صعدتي ... وثلم مني صارماً كان ماضيا
تنكرت حتى صار برك قسوة ... وقربك منهم جفوة وتنائيا
فأصببحت صفر الكف مما رجوته ... أرى اليأس قد عفى سبيل رجائيا
على أنني ما حلت عما عهدته ... ولا غيرت هذي السنون وداديا
ولا غرو عند الحادثات فإنني ... أراك يميني والأنام شماليا
تهن بها عذراء لو قرنت بها ... نجوم السماء لم تغد دراريا
تحلت بدر من صفاتك زانها ... كما زان منظوم اللآلي الغوانيا
وعش بانياً للجود ما كان واهياً ... مشيداً من الإحسان ما كان هاويا
وله قصيدة أولها: " من الطويل "
لنا منك يا سلمى عذاب وتعذيب ... وجفن قريح دمعه دمعه فيك مسكوب
ووعد كوعد الدهر يوشك بالغنى ... ولكنه بالمين والمطل مقطوب
تجدين لي هجراً وفعلك مازح ... وتبدين لي زهداً ولي فيك ترغيب
وتبدي سليمى بالصدود تأدباً ... رويدك ما بالموت يا سلم تأديب
وله: " من الطويل "
وما الشعر مما أرتضيه صناعة ... ولا هو من فعل الأماجد محسوب
وله من قصيدة إلى أخيه أبي كامل شافع: " من البسيط "
صفات مجدك تلهيني عن الغزل ... فلست أبكي على رسم ولا طلل
ولا أقول إذا ما خلة صرمت ... حبالها من حبالي راجعي وصلي
حسبي مديحك تسبيحاً أؤمله ... يوم القيامة عند الله يشفع لي
ملكتني بأيديك التي غمرت ... فعدت في وجل منها وفي جذل(24/167)
ما خاب حائز آمال بعثت بها ... إليك إلا بما يوفي على مهل
وافتك غراء نظم بنت ساعتها ... تشكو تباريح وجهه غير منتحل
ما إن لها في الورى كفء يماثلها ... من بعد سلطان إلا شافع بن علي
صنوا البدور إماماً كل مكرمة ... عما توالى لمن في السهل والجبل
وله من قصيدة أولها: " من مجزوء الوافر "
تقطع قلبه أسفاً ... فأضحى للأسى هدفا
وباح بكل ما أخفى ... فليس بما أجن خفا
وما يجدي الجحود له ... إذا ما دمعه اعترفا
زفير لا يني وحشاً ... إذا ذكر الفراق هما
وعين دمعها جار ... إذا نهنهته وكفا
لها دمعان وردي ... وآخر كالجمان صفا
وكان الحبس كثير البسق والبراغيث، فكتب إلى أولاده حين أرادوا التوجه إليه: " من البسيط "
صاحبت بالحبس ليلاً لا انقضاء له ... كأنما صبحه قد ضل أو عدما
مكلماً من براغيث أظل بها ... أعض كفي من ذلي بها ندما
لبست منها قميصاً لو تقمصه ... أيوب لحظة عين لاشتكى ألما
وجاءني البق لا أبقاه خالقه ... مغرداً بطنين عقب الصمما
فقلت: لا تقربني إنني راجل ... لم تبق في براغيث البريح ذما
قال: وكتب إلى أبي مصيار: " من البسيط "
رحلت عنك وأشواقي تجاذبني ... إليك والوجد يثنيني ويعطفني
وغبت عني وما غيبت عن خلدي ... وبنت عنك وسري عنك لم يبن
وما فراقك يا من لا نظير له ... إلا نظير فراق الروح للبدن
ما بعد مثلك محمود عواقبه ... ولا التصبر عن رؤياك بالحسن(24/168)
حكى لي أبو المغيث منقذ بن مرشد الكناني، قال: كنت عند والي رحمه الله تعالى وهو ينسخ مصحفاً، ونحن نتذاكر خروج الروم، فرفع المصحف وقال: اللهم بحق من أنزلته عليه إن قضيت بخروج الروم فخذ روحي ولا أراهم؛ فمات يوم الاثنين الثامن من شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمسمئة بشيزر، ودفن في داره؛ وخرجت الروم ونزلوا على شيزر في نصف شعبان سنة اثنتين وثلاثين وخمسمئة، فحاصروها أربعة وعشرين يوماً، ونصبوا عليها ثمانية عشر منجنيقاً، ثم رحلوا عنها يوم السبت تاسع شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وخمسمئة، والله أعلم.
مروان بن أبان بن عبد العزيز
ابن أبان بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي كان يسكن القوينصة.
مروان بن إسماعيل بن عبيد الله
ابن أبي المهاجر المخزومي مولاهم من أهل دمشق، من حفاظ القرآن.
عن أبي زرعة، قال: قلت لعبد الرحمن بن يحيى: متى مات مروان بن إسماعيل بن عبيد الله؟ قال: حدثني بكر بن عبد العزيز، قال: قتل مروان بن إسماعيل بن عبيد الله مدخل عبيد الله بن علي دمشق سنة اثنتين وثلاثين ومئة.(24/169)
مروان بن بشير بن أبي سارة
مولى الوليد بن يزييد بن عبد الملك حكى، قال: أول ما ارتفعت به منزلة حبابة عند يزيد، أنه أقبل يوماً إلى البيت الذي هي فيه، فقام من وراء الستر، فسمعها تغني وتقول: " من الخفيف "
كان لي يا يزيد حبك حيناً ... كاد يقضي عي لما التقنا
فدخل عليها فوجدها مضطجعة مقبلة على الجدر، فعلم أنها لم تعلم به، ولم يكن ذلك منها تعمداً، فالتقى نفسه عليها وحركت منه.
مروان بن جناح
أخو روح، مولى الوليد بن عبد الملك روى عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة، أنه كان يقول: كل صلاة بقراءة، فما أسمعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسمعناكم، وما أخفاه علينا أحسبناه عليكم.
قال أبو حاتم: مروان بن جناح أحب إلي من روح بن جناح، وهما شيخان يكتب حديثهما ولا يحتج بهما.
قال الدارقطني عنه: لا بأس به، شامي، أصله كوفي.(24/170)
عن سعيد بن عبد العزيز، قال: قال رجل لمروان بن جناح: أدامالله فرحكم. قال: " إن الله لا يحب الفرحين ".
وقال يوم مات مروان بن جناح: إن كان لمن أعيان أهل المسجد.
مروان بن جهم بن خليفة بن بحر
ابن ضبع بن أبة بن يحمد بن مؤهشل بن عقب بن الليسرح بن سعد بن زيد ابن سرحبيل بن حجر بن زيد بن مالك بن زيد بن رعين، الرعيني، المصري شاعر، وفد على بعض خلفاء بني أمية، ولجده بحر بن ضبع وفادة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ابن يونس:
كان بمصر، شريفاً في أيامه، وكان بليغاً فصيحاً، وله وفادة على خلفاء بني أمية، وأخباره بمصر معروفة عند أهل العلم بالأخبار.
قال مروان بن جهم في شعر له يذكر فخره وفخر جده بحر بن ضبع: " من الطويل "
فجدي الذي أعطى الرسول يمينه ... وحنت إليه من بعيد رواحله
ببدر بني بيتاً أقامت أصوله ... على المجد بيتاً علوه وأسافله
يعني ببدر قرية من قرى رعين.(24/171)
مروان بن أبي حفصة
هو مروان بن سليمان يأتي بعد إن شاء الله تعالى.
مروان بن الحكم بن أبي العاص
ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو عبد الملك، ويقال: أبو القاسم، ويقال: أبو الحكم، الأموي ولد في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان كاتباً لعثمان بن عفان في خلافته، وولي إمرة المدينة غير مرة لمعاوية، ثم بويع له بالخلافة بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية بالجابية، وكان الضحاك بن قيس قد غلب على دمشق وتابع بها لابن الزبير، ثم دعا إلى نفسه، فقصده مروان وواقفه بمرج راهط، فقتل الضحاك، وغلب مروان على دمشق؛ وأمه أم عثمان، واسمها آمنة بنت علقمة بن صفوان.
عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زمن الحديبية في بضع عشرة ومئة من الصحابة، حتى إذا كان بذي الخليفة قلد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهدي وأشعره، وأحرم بالعمرة، وبعث بين يديه عيناً(24/172)
من خزاعة يخبره عن قريش، وسار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال له: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعاً هم قاتلوك أو مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أشيروا علي، أترون أننميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم ونسبيهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين، وإن ينجوا يكن عنقاً قطعها الله، أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟ ". قال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، يا رسول الله، إنما جئنا معتمرين ولم نجيء لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فروحوا إذن ".
قال الزهري: وكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فراحوا حتى إذا كان ببعض الطريق قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين " فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا كان بفترة الجيش - قال عبد الرزاق: القترة: الغبار - فانطلق يرتكض نذيراً لقريش.
وسار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت راحلته، فقال الناس: خل خل، فألحت، فقالوا: خلات القصواء، خلات القصواء. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما خلات القصواء وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل " ثم قال: " والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ". ثم زجروها فوثبت به.
قال: فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء، إنما يتبرضه الناس(24/173)
تبرضاً، فلم يلبث الناس أن نزحوه. فشكوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العطش، فنزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه. قال: فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه؛ فبينما هم كذلك إذ جاءهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه بني خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا بحذاء مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنا لم نجىء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهتكم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين البيت، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم عن أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره ". فقال بديل: سأبلغهم ما تقول.
فانطلق حتى أتى قريشاً فقال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل فسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا في أن تحدثنا عنه بشيء. وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم ما قال النببي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى قال: هل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني. قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته. فقالوا: إيته.
فأتاه، فجعل يكلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحواً من قوله لبديل. فقال عروة: أي محمد، أرأيت إن استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فوالله إني لأرى وجوهاً وأرى أوباشاً من الناس خلقاً أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.(24/174)
قال: فجعل يكلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكلما كلمه بكلمة أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرب يده بنعل السيف، فقال: أخر يدك عن لحية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة. قال: أي غدر، أولست أسعى في غدرتك.
فقال: وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء ".
ثم إن عروة جعل يرمق صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعينيه. قال: فوالله ما تنخم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له.
فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، فإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من كنانة: دعوني آته. فقالوا: إيته. فلما أشرف على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها إليه، واستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فرجع إلى أصحابه فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فقالوا: إيته؛ فلما أشرف عليهم قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هذا مكرز، وهذا رجل فاجر " فجاءه، فجعل يكلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.(24/175)
قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة، أنه لما جاء سهيل قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قد سهل لكم من أمركم ".
قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينك كتاباً؛ فدعي الكاتب، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اكتب باسمك اللهم " ثم قال: " هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ". فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله ".
قال الزهري: وذلك لقوله: " لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ".
فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به ". فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل؛ فكتب. فقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟. فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: هذا - يا محمد - أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنا لم نقض الكتاب بعد ". قال: فوالله إنا لا نصالحك إذاً على شيء أبداً. قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فأجره لي ". قال: ما أنا بمجيره لك. قال: " بلى فافعل ". قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجرناه لك. قال أبو جندل: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ - وقد عذب عذاباً شديداً في الله - فقال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، ألست نبي الله؟ قال: " بلى ". قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: " بلى ". قال: قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: " إني(24/176)
رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري ". قلت: ألست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: " بلى "، قال: " أوأخبرتك أنك تأتيه العام؟ " قلت: لا. قال: " فإنك آتيه ومطوف به ". قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزة حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق. قلت: أوليس كان يحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً.
قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله: " قوموا فانحروا، ثم احلقوا ". قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات؛ فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس. قالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج: ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج، فلم يكلم أحداً منهم كلمة حتى فعل ذلك، فنحر بدنه، ودعا حالقه فحلق، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً، ثم جاءه نسوة مؤمنات، فأنزل الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات " حتى بلغ " بعضهم الكوافر "، فطلق عمر يومئذ امرأتين كانت له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية.
ثم رجع إلى المدينة، فجاءه أبو بصير، رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلىالرجلين، فخرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة، فجعلا يأكلان من تمر لهم، فقال أبو نصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك يا فلان هذا جيداً؛ فاستله الآخر فقال: أجل، إنه لجيد، والله جربت به ثم جربت به؛ فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه؛ فأمكنه منه فضربه به حتى برد، وفر الآخر حتى بلغ المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رآه: " لقد رأى هذا أمراً ". فلما انتهى إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول.(24/177)
قال: فجاءه أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم. قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ويل أمة مسعر حرب لو كان له أحد " فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.
قال: وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فحلق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى تجمعت منهم عصابة.
قال: فوالله ما يسمعون بعير يخرج لقريش إلى الشام إلا اعترضوها فقتلوهم وأخذوا أموالهم؛ فأرسلت قريش إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسأل بالله وبالرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه منهم فهو آمن. فأرسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم، فأنزل الله عز وجل: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم " حتى بلغ " حمية الجاهلية " وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحاولوا بينه وبين البيت.
روى عن زيد بن ثابت، قال: شكوت إلىالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرقاً أصابني، فقال: " قل: اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، يا حي يا قيوم أهدي لي ليلتيي وأنم عيني " فقلتها، فأذهب الله عني ما كنت أجد.
عن سهل بن سعد الساعدي، قال: رأيت مروان بن الحكم في المسجد جالساً، فأقبلت حتى جلست إليه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أملى عليه " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " فجاء ابن مكتوم وهو يمليها، فقال: والله يا رسول الله لو أستطيع أجاهد لجاهدت. فأنزل الله - وفخذه على فخذه فثقلت حتى هبت أن ترض فخذي، ثم سري عنه - " " غير أولي الضرر ".
قال ابن يونس: قدم مصر سنة سبع وثلاثين لغزو المغرب مع معاوية بن حديج، وقدمها أيضاً(24/178)
بعدما بويع له بالخلافة في الشام في جمادى الأولى سنة خمس وستين، وخرج منها في رجب سنة خمس وستين أيضاً، وتوفي بعد ذلك بالشام في شهر رمضان سنة خمس وستين.
قال الواقدي: رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يحفظ عنه شيئاً، وتوفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثمان سنين.
وقال أيضاً: الحكم بن أبي العاص أسلم في الفتح، وقدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فطرده من المدينة، فنزل الطائف حتى قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجع إلى المدينة فمات بها في خلافة عثمان رضي الله عنه. فصلى عليه، وضرب على قبره فسطاطاً.
عن أبي الحاكم، قال: رأى غير واحد من الأئمة ترك الاحتجاج بحديثه لما روي عنه بشأن طلحة بن عبيد الله.
وذكر سعيد بن كثير بن عفير: أنه كان قصيراً أحمر أوقص.
عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: سمعت الشافعي يقول: لما انهزم الناس بالبصرة يوم الجمل كان علي بن أبي طالب يسأل عن مروان بن الحكم، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، إنك لتكثر السؤال عن مروان بن الحكم. فقال: تعطفني عليه رحم ماسة، وهو مع ذلك سيد من شباب قريش.
عن قبيصة بن جابر، عن معاوية؛ أنه قال لما سأله: من ترى لهذا الأمر بعدك؟: وأما القارىء لكتاب الله، الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله مروان بن الحكم.
قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: مروان بن الحكم كان عنده قضاء، وكان يتبع قضاء عمر.(24/179)
عن إسحاق بن أبي بردة، قال: قال لي مروان بن الحكم ولقيني فقال: يا ابن أبي موسى، أيثبت أن الجد لا ينزل عندكم بمنزلة الأب إذا لم يكن أب؟ قال: قلت: نعم. قال: لم لا تغيرون؟ قال: قلت: لو كنت أنت لم تقدر تغير. قال: فقال: أشهد على عثمان أنه شهد على أبي بكر أنه جعل الجد بمنزلة الأب إذا لم يكن أب.
عن شريح بن عبيد، قال: كان مروان بن الحكم إذا ذكر الاسلام قال: " من الطويل "
بنعمة ربي لا بما قدمت يدي ... ولا ببراتي إنني كنت خاطئا
عن سالم وهو النضر؛ أن مروان شهد جنازة، فلما صلى انصرف. قال أبو هريرة: أصاب قيراطاً وحرم قيراطاً. فأخبر بذلك، فأقبل يجري قد بدت ركبتاه، فقعد حتى أذن له.
عن عياش بن عباس، قال: حدثني من حضر ابن البياع - يعني عروة بن شييم بن البياع الليثي - يومئذ - يعني يوم الدار - يبارز مروان بن الحكم، فكأني أنظر إلى قبائه قد أدخل طرفيه في منطقته، وتحت القباء الدرع، فضرب مروان على قفاه ضربة قطع علابي رقبته ووقع لوجهه، فأرادوا أن يدففوا عليه فقيل: أتبضعون اللحم؟ فترك.
وعن إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، قال: قال لي أبي بعد الدار وهو يذكر مروان بن الحكم: عباد الله، والله لقد ضربت رقبته، فما أحسبه إلا قد مات، ولكن المرأة أحفظتني، قالت: ما تصنع بلحمه أن تبضعه؟ فأخذني الحفاظ فتركته.(24/180)
عن هارون بن حاتم، عن أبي بكر بن عياش، قال:
ثم حج بالناس مروان بن الحكم سنة ثلاث وأربعين، ثم حج بالناس مروان بن الحكم سنة أربع وخمسين، ثم حج بالناس سنة خمس وخمسين.
حدث مالك؛ أن مروان بن الحكم كان إذا ولي المدينة فقدمها، جلس في ثيابه التي قدم فيها مكانه، ثم يدعو بأهل السجن، فيقطع من يقطع، ويضرب من حل عليه الضرب، ويصلب من حل عليه الصلب، فإذا فرغ رجع إلى منزله.
عن أبي يحيى، قال: كنت بين الحسن بن علي والحسين ومروان بن الحكم، والحسين يساب مروان، فجعل الحسن ينهى الحسين، حتى قال مروان: إنكم أهل بيت ملعونون. قال: فغضب الحسن وقال: ويلك، قلت: أهل بيت ملعونون؟ فوالله لقد لعن الله أباك على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنت في صلبه.
عن عائشة بنت سعد: أن مروان بن الحكم كان يعود سعد بن أبي وقاص، وعنده أبو هريرة وهو يومئذ قاض لمروان بن الحكم، فقال سعد: ردوه. فقال أبو هريرة: سبحان الله، كهل قريش وأمير البلد. جاء يعودك فكان حق ممشاه إليك أن ترده؟ فقال سعد: أئذنوا له، فلما دخل مروان وأبصره سعد تحول بوجهه عنه نحو سرير ابنته عائشة، فأرعد سعد وقال: ويلك يا مروان، أنه طاعتك - يعني أهل الشام - عن شتم علي بن أبي طالب. فغضب مروان، فقام وخرج مغضباً.
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: رأيت أسامة بن زيد مضطجعاً في حجرة عائشة، رافعاً عقيرته يتغنى، ورأيته يصلي عند قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج عليه مروان فقال: تصلي عند قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟(24/181)
فقال: إني أحبه. فقال له قولاً قبيحاً ثم أدبر؛ فانصرف أسامة ثم قال: يا مروان، إنك قد آذيتني، وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الله يبغض الفاحش المتفحش، وإنك فاحش متفحش.
عن داود بن أبي صالح، قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فقال: أدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب، فقال: نعم، جئت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم آت الحجر، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله ".
عن طارق بن شهاب. قال: أول من أخر الخطبة مروان، فقام إليه رجل فقال: يا مروان خالفت خالف الله بك. قال: يا فلان أترك ما هنالك. فقام أبو سعيد الخدري فقال: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من رأى منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ".
عن عمر مولى أم سلمة؛ أن مروان خطب إلى أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم عمر، فقالت أم سلمى: إني لم أكن لأنكحك ما دمت أميراً - وكان أميراً على المدينة - فلما أمر سعيد بن العاص على المدينة وصرف مروان قالت أم سلمة: الآن أنكحك، فإن خير أيامك الأيام التي لا تكون فيها أميراً، فأنكحت أم عمر من مروان.
عن بعض أهل المدينة، قال: وجد مروان على مولاه خيانة، قال: تخونني؟ قال: إي والله أخونك وأنت تخون معاوية.
عن ابن موهب؛ أنه كان عند معاوية بن أبي سفيان، فدخل عليه مروان فكلمه في حاجة، فقال: اقض حاجتي يا أمير المؤمنين، فوالله إن مؤونتي لعظيمة، وإني أبو عشرة وعم عشرة وأخو(24/182)
عشرة؛ فلما أدبر مروان وابن عباس جالس مع معاوية على السرير، فقال معاوية: أشهد بالله يا ابن عباس، أما تعلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين اتخذوا مال الله بينهم دولاً، وعباد الله خولاً، وكتاب الله دغلاً، فإذا بلغوا ستة وتسعين وأربعمئة كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة "؟ قال ابن عباس: اللهم نعم.
وذكر حاجة لي فرد مروان عبد الملك إلى معاوية وكلمه فيها، فلما أدبر عبد الملك قال معاوية: أنشدك بالله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر هذا وقال: " أبو الجبابرة الأربعة "؟ قال ابن عباس: اللهم نعم.
عن عوانة، قال: قدم مروان الجابية على حسان بن مالك بن بحدل في بني أمية، فقال له حسان أتيتني بنفسك إذ أبيت أن آتيك! والله لأجالدن عنك في قبائل اليمن أو أسلمها إليك. فبايع حسان وأهل الأردن لمروان على أن لا يبايع مروان إلا لخالد بن يزيد، وله إمرة حمص، ولعمرو بن سعيد وله إمرة دمشق؛ وكانت بيعة مروان بالجابية يوم الاثنين للنصف من ذي الفعدة سنة أربع وستين.
قال الليث: بويع مروان في ذي القعدة في الجابية، وذلك بعد يزيد بن معاوية بثمانية أشهر، لأن يزيد مات للنصف من ربيع الأول في هذه السنة - يعني سنة أربع وستين - وفيها كنت وقعة راهط في ذي الحجة، بعد الأضحى بليلتين.
قال خليفة: حدثني الوليد بن هشام، عن أبيه، عن جده، وأبو اليقظان وغيرهما، قالوا: قدم ابن زياد الشام وقد بايع أهل الشام مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية،(24/183)
وأمه آمنة بنت علقمة بن صفوان، وكان من بني أمية، فبايع ابن زياد ومن كان هناك من بني أمية ومواليهم لمروان بن الحكم ومن بعده لخالد بن يزيد بن معاوية، وذلك للنصف من ذي القعدة سنة أربع وستين، ثم ساروا إلى الضحاك الفهري، فالتقوا بمرج راهط فاقتتلوا عشرين يوماً، ثم كانت الهزيمة على الضحاك بن قيس وأصحابه، وذلك في آخر ذي الحجة سنة أربع وستين، فقتل الضحاك وناس كثير من قيس.
عن محمد بن سعد، قال: قالوا: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومروان بن الحكم ابن ثمان سنين، فلم يزل مع أبيه بالمدينة حتى مات أبوها لحكم بن أبي العاص في خلافة عثمان بن عفان، وكان كاتباً له، وأمر له عثمان بأموال، وكان يتأول في ذلك صلة قرابته، وكان الناس ينقمون على عثمان تقريبه مروان وطاعته له، ويرون أن كثيراً مما ينسب إلى عثمان لم يأمر به وأن ذلك عن رأي مروان دون عثمان؛ فكان الناس قد شنفوا لعثمان لما كان يصنع بمروان ويقربه، وكان مروان يحمله على أصحابه وعلى الناس ويبلغه ما يتكلمون به فيه ويتهددونه به، ويريه أنه يتقرب بذلك إليه.
وكان عثمان رجلاً كريماً حيياً سليماً، فكان يصدقه في بعض ضلك ويرد عليه بعضاً؛ وينازع مروان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين يديه، فيرده عن ذلك ويزبره.
فلما حضر عثمان كان مروان يقاتل دونه أشد قتال؛ وأرادت عائشة الحج وعثمان محصور. فأتاها مروان وزيد بنثابت وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العاص فقالوا: يا أم المؤمنين لو أقمت، فإن أمير المؤمنين على ما ترين محصور، ومقامك مما يدفع الله به عنه. فقالت: قد حليت ظهري وعريتغرائزي، ولست أقدر على المقام. فأعادوا عليها الكلام، فأعادت عليهم مثل ما قالت لهم، فقام مروان وهو يقول: " من المتقارب "
وحرق قيس علي البلا ... د حتى استعرت أجذما(24/184)
فقالت عائشة: أيها المتمثل علي بالأشعار، وددت والله أنك وصاحبك هذا الذي يعنيك أمره في رجل كل واحد منكما رحى وأنكما في البحر. وخرجت إلى مكة.
قالوا: فلما قتل عثمان وصار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة يطلبون بدم عثمان خرج معهم مروان بن الحكم، فقاتل يومئذ أيضاً قتالاً شديداً، فلما رأى انكشاف الناس نظر إلى طلحة بن عبيد الله واقفاً فقال: والله إن دم عثمان إلا عند هذا، هو كان أشد الناس عليه، وما أطلب أثراً بعد عين. ففوق له بسهم فرماه به فقتله، وقاتل مروان أيضاً حتى ارتث، فحمل إلى بيت امرأة من عنزة، فداووه وقاموا عليه، فما زال آل مروان يشكرون ذلك لهم.
وانهزم أصحاب الجمل، وتوارى مروان حتى أخذ الأمان له من علي بن أبي طالب، فأمنه، فقال مروان: ما تقر بي نفسي حتى آتيه فأبايعه، فأتاه فبايعه، ثم انصرف مروان إلى المدينة فلم يزل بها حتى ولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة، فولى مروان بن الحكم المدينة سنة اثنتين وأربعين، ثم عزله وولى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فلم يزل على المدينة حتى مات معاوية، ومروان يومئذ معزول عن المدينة. ثم ولى يزيد بعد الوليد بن عتبة المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان؛ فلما وثب أهل المدينة أيام الحرة أخرجوا عثمان بن محمد وبني أمية من المدينة، فأجلوهم عنها إلى الشام وفيهم مروان بن الحكم، وأخذوا عليهم الأيمان ألا يرجعوا إليهم، وإن قدروا أن يردوا هذا الجيش الذي قد وجه إليهم مع مسلم بن عقبة المري أن يفعلوا.
فلما استقبلوا مسلم بن عقبة سلموا عليه، وجعل يسائلهم عن المدينة وأهلها، فجعل مروان يخبره ويحرضه عليهم، فقال مسلم: ما ترون؟ تمضون إلى أمير المؤمنين، أو ترجعون معي؟ قالوا: بل نمضي إلى أمير المؤمنين. وقال مروان من بينهم: أما أنا فأرجع معك؛ فرجع معه مؤازراً له، معيناً له على أمره حتى ظفر بأهل المدينة، وقتلوا، وانتهبت المدينة ثلاثاً.(24/185)
وكتب مسلم بن عقبة بذلك إلى يزيد بن معاوية وقد كان عقد لابنه معاوية بن يزيد بالعهد بعده، فبايع له الناس، وأتته بيعة الآفاق إلا ما كان من ابن الزبير وأهل مكة، فولى ثلاثة أشهر، فكان يأمر الضحاك بن قيس الفهري يصلي بالناس بدمشق، فلما ثقل معاوية بن يزيد قيل له: لو عهدت إلى رجل عهداً واستخلفت خليفة. فقال: والله ما نفعتني حياً فأتقلدها ميتاً؟ وإن كان خيراً فقد استكثر منه آل أبي سفيان، لا تذهب بنو أمية بحلاوتها وأتقلد مرارتها، والله لا يسألني الله عن ذلك أبداً، ولكن إذا مت فليصل علي الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وليصل بالناس الضحاك بن قيس حتى يختار الناس لأنفسهم ويقوم بالخلافة قائم.
فلما مات صلى عليه الوليد، وقام بأمر الناس الضحاك بن قيس، فلما دفن معاوية بن يزيد قام مروان على قبره، وقال: أتدرون من دفنتم؟ قالوا: معاوية بن يزيد. فقال: هذا أبو ليلى، فقال أزنم الفزاري: " من البسيط "
إني أرى فتناً تغلي مراجلها ... والملك بعد أبي ليلى غلبا
واختلف الناس بالشام، فكان أول من خالف من أمراء الأجناد ودعا إلى ابن الزبير النعمان بن بشير بحمص، وزفر بن الحارث بقنسرين. ثم دعا الضحاك بن قيس بدمشق الناس سراً، ثم دعا الناس إلى بيعة ابن الزبير فأتوه، فلما علم مروان ذلك خرج يريد ابن الزبير بمكة ليبايع له ويأخذ منه أماناً لبني أمية، وخرج معه عمرو بن سعيد بن العاص، فلما كانوا بأذرعات وهي مدينة البثينة لقيهم عبيد الله بن زياد مقبلاً من العراق، فقال(24/186)
لمروان: أين تريد؟ فأخبره. فقال: سبحان الله، أرضيت لنفسك بهذا؟ تبايع لأني خبيب وأنت سيد بني عبد مناف! والله لأنت أولى بها منه. فقال مروان: فما الرأي؟ قال: أن ترجع وتدعو إلى نفسك، وأنا أكفيك قريشاً ومواليها، ولا يخالفك منهم أحد. فقال عمرو بن سعيد: صدق عبيد الله، إنك لجذم قريش وشيخها وسيدها، وما ينظر الناس إلا إلى هذا الغلام خالد بن يزيد بن معاويد، فتزوج أمه فيكون في حجرك، وادع إلى نفسك، فأنا أكفيك اليمانية فإنهم لا يخالفونني - وكان مطاعاً عندهم - على أن تبايع لي من بعدك. قال: نعم.
فرجع مروان وعمرو بن سعيد ومن معهما، وقدم عبيد الله بن زياد دمشق يوم الجمعة، فدخل المسجد فصلى، ثم خرج فنزل باب الفراديس، فكان يركب إلى الضحاك بن قيس كل يوم فيسلم عليه ثم يرجع إلى منزله؛ فقال له يواً: يا أبا أنيس، العجب لك وأنت شيخ قريش تدعو لابن الزبير وتدع نفسك، وأنت أرضى عند الناس منه، فادع إلى نفسك. فدعا إلى نفسه ثلاثة أيام. فقال له الناس: أخذت بيعتنا وعهودنا لرجل ثم تدعو إلى خلعه من غير حدث أحدثه! فلما رأى ذلك عاد إلى الدعاء لابن الزبير، فأفسده ذلك عند الناس وغير قلوبهم عليه، فقال عبيد الله بن زياد ومكر به؛ من أراد ما تريد لم ينزل المدائن والحصون، يبرز ويجمع إليه الخيل، فأخرج عن دمشق واضمم إليك الأجناد.
فخرج الضحاك فنزل المرج، وبقي عبيد الله بدمشق، ومروان وبنو أمية بتدمر، وخالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية بالجابية عند خالهما حسان بن مالك بن بحدل، فكتب عبيد الله إلى مروان أن ادع الناس إلى بيعتك، واكتب إلى حسان بن مالك فليأتك، فإنه لن يردك عن بيعتك، ثم سر إلى الضحاك فقد أصحر لك.
فدعا مروان بني أمية ومواليهم فبايعوه، وتزوج أم خالد بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة، وكتب إلى حسان بن مالك بن بحدل يدعوه أن يبايع له ويقدم عليه، فأبى، فأسقط في يدي مروان، فأرسل إلى عبيد الله، فكتب إليه عبيد الله أن اخرج إليه فيمن معك من بني أمية.(24/187)
فخرج إليه مروان وبنو أمية جميعاً معه وهو بالجابية، والناس بها مختلفون، فدعاه إلى البيعة فقال حسان: والله لئن بايعتم مروان ليحسدنكم علاقة سوط وشراك نعل وظل شجرة، إن مروان وآل مروان أهل بيت من قيس - يريد أن مروان أبو عشرة وأخو عشرة - فإن بايعتم له كنتم عبيداً لهم، فأطيعوني وبايعوا خالد بن يزيد. فقال روح بن زنباع: بايعوا الكبير واستشبوا الصغير. فقال حسان بن مالك لخالد: يا ابن أختي هواي فيك وقد أباك الناس للحداثة، ومروان أحب إليهم منك ومن ابن الزبير. قال: بل عجزت. قال: كلا.
فبايع حسان وأهل الأردن لمروان على أن لا يبايع مروان لأحد إلا لخالد بن يزيد، ولخالد إمرة حمص، ولعمرو بن سعيد إمرة دمشق. فكانت بيعة مروان بالجابية يوم الاثنين للنصف من ذي القعدة سنة أربع وستين. وبايع عبيد الله بن زياد لمروان بن الحكم أهل دمشق، وكتب بذلك إلى مروان، فقال مروان: إن يرد الله أن يتمم لي خلافة لا يمنعنيها أحد من خلقه. فقال حسان بن مالك: صدقت.
وسار مروان من الجابية في ستة آلاف حتى نزل مرج راهط، ثم لحق به من أصحابه من أهل دمشق وغيرهم من الأجناد سبعة آلاف، فكان في ثلاثة عشر ألفاً أكثرهم رجالة، ولم يكن في عسكر مروان غير ثمانين عتيقاً، أربعون منهم لعباد بن زياد، وأربعون لسائر الناس.
وكان على ميمنة مروان عبيد الله بن زياد وعلى ميسرته عمرو بن سعيد. وكتب الضحاك بن قيس إلى أمراء الأجناد فتوافوا عنده بالمرج، فكان في ثلاثين ألفاً، وأقاموا عشرين يوماً يلتقون في كل يوم فيقتتلون حتى قتل الضحاك بن قيس، وقتل معه من قيس بشر كثير.
فلما قتل الضحاك بن قيس وانهزم الناس، رجع مروان ومن معه إلى دمشق، وبعث عماله إلى الأجناد، وبايع له أهل الشام جميعاً، وكان مروان قد أطمع خالد بن يزيد بن معاوية ف بعض الأمر، ثم بدا له، فعقد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز ابني مروان بالخلافة بعده.(24/188)
فأراد أن يضع من خالد بن يزيد ويقصر به ويزهد الناس فيه، وكان إذا دخل عليه أجلسه معه إلى سريره، فدخل عليه يوماً فذهب ليجلس مجلسه الذي كان يجلسه، فقال له مروان وزبره: تنح يا ابن رطبة الاست، والله ما وجدت لك عقلاً. فانصرف خالد وقتئذ مغضباً حتى دخل على أمه فقال: فضحتني، وقصرت بي، ونكست برأسي، ووضعت أمري. قالت: وما ذاك؟ قال: تزوجت هذا الرجل فصنع بي كذا وكذا؛ ثم أخبرها بما قال له، فقالت: لا يسمع هذا منك أحد، ولا يعلم مروان أنك أعلمتني بشيء من ذلك، وادخل عليه كما كنت تدخل، واطو هذا الأمر حتى ترى عاقبته، فإني سأكفيكه وأنتصر لك منه.
فسكت خالد وخرج إلى منزله، وأقبل مروان فدخل على أم خالد بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة وهي امرأته، فقال لها: ما قال لك خالد، وما قلت له اليوم، وما حدثك به عني؟ فقالت: ما حدثني بشيء ولا قال لي. فقال: ألم يشكني إليك، ويذكر تقصيري به، وما كلمته به؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، أنت أجل في عين خالد، وهو أشد لك تعظيماً من أن يحكي عنك شيئاً، أو يجد من شيء تقوله، وإنما أنت بمنزلة الوالد له. فانكسر مروان، وظن أن الأمر على ما حكت له، وأنها قد صدقت.
ومكث حتى إذا كان بعد ذلك وحانت القائلة، فنام عندها، فوثبت هي وجواريها فغلقن الأبواب على مروان، ثم عمدت إلى وسادة فوضعتها على وجهه، فلم تزل هي وجواريها يغممنه حتى مات. ثم قامت فشقت عليه جيبها، وأمرت جواريها وخدمها فشققن وصحن عليه وقلن: مات أمير المؤمنين فجأة. وذلك في هلال شهر رمضان سنة خمس وستين. وكان مروان يومئذ ابن أربع وستين سنة، وكانت ولايته على الشام ومصر لم يعد بعد ذلك ثمانية أشهر، ويقال: ستة أشهر.
وقد قال علي بن أبي طالب له يوماً ونظر إليه: ليحملن راية الضلال بعدما يشيب صدغاه، وله إمرة كلحسة الكلب أنفه.
وبايع أهل الشام بعده لعبد الملك بن مروان، فكانت الشام ومصر في يد عبد الملك(24/189)
كما كانتا في يد أبيه، وكانت العراق والحجاز في يد ابن الزبير، وكانت الفتنة بينهما سبع سنين، ثم قتل ابن ابزبير بمكة يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، واستقام الأمر لعبد الملك بن مروان بعده.
وكان مروان قد روى عن عمر بن الخطاب: من وهب هبة لصلة رحم فإنه لا يرجع فيها.
وروى أيضاً عن عثمان وزيد بن ثابت ويسرة بنت صفوان، وروى مروان عن سهل بن سعد الساعدي.
وكان مروان في ولايته على المدينة يجمع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستشيرهم ويعمل بما يجمعون له عليه، فجمع الصيعان فغاير بينهما حتى أخذ أعدلهما، فأمر أن يكال به، فقيل: صاع مروان، وليست بصاع مروان إنما هي صاع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن مروان غاير بينها حتى قام الكيل على أعدلها.
عن ابن وهب، قال: سمعت مالكاً يحدث أن مروان بن الحكم تذكر يوماً فقال: قرأت كتاب الله مذ أربعين سنة ثم أصبحت فيما أنا فيه من هراق الدماء وهذا الشأن.
عن حرب بن زياد، قال: كان نقش خاتم مروان بن الحكم: آمنت بالعزيز الرحيم.
وعن بعض أهل العلم، قال: كان آخر ما تكلم به مروان بن الحكم: وجبت الجنة لمن خاف النار. وكان نقش خاتمه: العزة لله.
عن أبي هريرة: أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " رأيت في النوم بني الحكم - أو بني العاص - ينزون على منبري كما تنزو الفردة ". قال: فما رؤي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستجمعاً ضاحكاً حتى توفي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(24/190)
وعن سعيد بنالمسيب، قال: رأى النبي عليه السلام بني أمية على منابرهم، فساءه ذلك، فأوحى الله إليه: إنما هي دنيا أعطوها؛ فقرت عينه، وهي قوله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس " أي بلاء للناس.
عن عمرو بن مرة - وكانت له صحبة - قال: جاء الحكم بن أبي العاص يستأذن على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعرف كلامه فقال: " ائذنوا له، حية - أو ولد حية - عليه لعنة الله وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمنون، وقليل ماهم، يشرفون في الدنيا ويوضعون في الآخرة، ذوو مكر وخديعة، يعظمون في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق ".
قال المصنف: هذا الإسناد فيه من يجهل حاله.
عن عبد الله بن عمرو، قال: كنا جلوساً عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد ذهب عمرو بن العاص يلبس ثيابه ليلحقني، فقال ونحن عنده: " ليدخلن عليكم رجل لعين " فوالله ما زلت وجلاً أتشوف داخلاً وخارجاً حتى دخل فلان - يعني الحكم -.
عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: كان الحكم بن أبي العاص يجلس عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا حدث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء قال هكذا - يكلح وجهه - فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنت كذا ". فما زال يختلج حتى مات.
عن الشعبي عن عبد الله بن الزبير أنه قال وهو على المنبر: ورب هذا البيت الحرام والبلد الحرام أن الحكم بن أبي العاص وولده ملعونون على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(24/191)
عن عائشة أم المؤمنين، قالت: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجرته، فسمع حساً فاستنكره، فذهبوا فنظروا، فإذا الحكم كان يطلع على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلعنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما في صلبه، ونفاه.
فأما ما روى في تفسير الشجرة الملعونة أنها بنو أمية فلم يصح.
عن سعيد بن عامر، قال: قضى عمر بن عبد العزيز بقضية، فقال له رجل: خالفت جدك. ففزع فقال: أي جد؟ فقال: مروان. قال: فما التفت إليه، وكان توهمه عمر بن الخطاب.
عن ابن شهاب، قال: اجتمع مروان وابن الزبير يوماً عند عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجلسا في حجرتها، وعائشة في بيتها، وبينهم الحجاب، فساءلا عائشة وحدثتهما، فقال مروان: " من الطويل "
من يشأ الله يخفضه بقدرته ... وليس لمن لم يرفع الله رافع
فقال ابن الزبير:
فوض إلى الله الأمور إذا غرت ... وبالله لا بالأقربين تدافع
فقال مروان:
داو ضمير القلب بالبر والتقى ... لا يستوي قلبان قاس وخاشع
فقال ابن الزبير:
لا يستوي عبدان عبد مصلم ... عتل لأرحام الأقارب قاطع(24/192)
فقال مروان:
وعبد تجافي جنبه عن فراشه ... يبيت يناجي ربه وهو راكع
فقال ابن الزبير:
وللخير أهل يعرفون بشكلهم ... تشير إليهم بالفجور الأصابع
فسكت ابن الزبير فلم يجب مروان بشيء، فقالت عائشة: يا عبد الله، ما له لم تجب صاحبك؟ والله ما سمعت تجاول رجلين تجاولاً في نحو ما تجاولتما فيه أعجب إلي مجاولة منكما. قال ابن الزبير: إني خفت عوار القول وتخففت. قالت عائشة: إن لمروان في الشعر إرثاً ليس لك.
وأنشد لمروان: " من الكامل "
يا عين جودي بالدموع الذارية ... جودي فلا زلت غروبك باكيه
وأبكي على خير البرية كلها ... فلقد أتتك مع الحوادث داهيه
بكر النعي مع الصباح بقوله ... ينعي ربيع المسلمين معاويه
فاستك مني السمع حين نعاه لي ... جزعاً عليه واستطير فؤاديه
فأحببته أن لا حييت مسلماً ... ماذا تقوا اليوم أمك غاويه
من المهبات وللأرامل بعده ... عند القحوط وللعتاة الطاغيه
أينالندى يبكيه والحلم الذي ... شمخت بذروته الفروع الساميه
عن عبد العزيز بن مروان، قال: أوصاني مروان قال: لا تجعل لداعي الله عليك حجة، وإذا وعدت ميعاداً فانزل عنده ولو ضربت به على حد السيف، وإذا رأيت أمراً فاستشر فيه أهل العلم بالله عز وجل وأهل مودتك، فأما أهل العلم فيهديهم الله إن شاء، وأما أهل مودتك فلا يسألونك نصيحة.(24/193)
عن أبي معشر، قال: ثم بايع أهل الشام مروان بن الحكم - يعني سنة أربع وستين - فعاش تسعة أشهر ثم مات.
وقال: كان لمروان بن الحكم يوم مات إحدى وثمانون سنة.
قال ابن أبي السري: ومات بدمشق وهو ابن ثلاث وستين، وصلى عليه ابنه عبد الملك، وكان قصيراً أحمر الوجه، أوقص، دقيق العنق، كبير الرأس واللحية، وكان يلقب خيط باطل.
وذكر سعيد بن كثير بن عفير؛ أن مروان مات حين انصرف من مصر بالصنبرة، ويقال: بلد. وقد قيل: إنه مات بدمشق منصرفه من مصر، ودفن بباب الجابية وباب الصغير.
مروان بن الحكم الأزدي
حمصي، قدم دمشق في العسكر الذي طلب بدم الوليد بن يزيد.
مروان بن سالم
أبو عبد الله الغفاري القرقساني قيل: إنه دمشقي، وأظن أنه دمشقي الأصل، سكن قرقيسياء.(24/194)
روى عن طلحة بن عبيد الله، عن حسين بن علي، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى لم يضره أم الصبيان ".
وبه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا البحر أن يقولوا: " بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم " و" ما قدروا الله حق قدرة " الآية ".
وعن الحجاج بن دينار، عن الحكم بن جحل، قال: مر بنا عل أمير المؤمنين بعد صلاة الغداة فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من صلى صلاة الغداة ثم لم يتكلم حتى يقرأ " قل هو الله أحد " عشر مرات، لم يدركه ذلك اليوم ذنب، وأجير من الشيطان ".
وعن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أول ما يجازى به المؤمن بعد موته أن يغفر لجميع من يتبع جنازته ".
قال مسلم: أبو عبد الله مروان بن سالم البريري، كان منكر الحديث.
وعن ابن أبي حاتم، قال: سألت أبي عن مروان بن سالم فقال: منكر الحديث جداً، ضعيف الحديث، ليس له حديث قائم. قلت: يترك حديثه؟ قال: لا بل يكتب حديثه.
مروان بن سعيد بن هشام
ابن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي أسره مروان بن محمد مع أبيه حين خلعوه.(24/195)
مروان بن سليمان بن هشام
ابن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي
مروان بن سليمان بن يحيى
ابن أبي حفصة واسم أبي حفصة يزيد. أبو السمط، ويقال: أبو الهيذام الشاعر وأبو حفصة مولى مروان بن الحكم.
مدح جماعة من الخلفاء والأمراء، فأجاد، ووفد مع عمومته على الوليد بن يزيد.
قال في الوليد: " من الخفيف "
إن بالشام بالموقر عزاً ... وملوكاً مباركين شهودا
سادة من بني يزيد كراماً ... سبقوا الناس مكرمات وجودا
هان يا ناقتي علي فسيري ... أن تموتي إذا لقيت الوليدا
قال أبو بكر الخطيب: وكان أبو حفصة مولى مروان بن الحكم، أعتقه يوم الدار لأنه أبلى يومئذ بلاءً حسناً، واسمه يزيد.
وقيل: إن أبا حفصة كان يهودياً طبيباً، أسلم على يد عثمان بن عفان، وقيل: على يد مروان بن الحكم. ويزعم أهل المدينة أنه كان من موالي السموأل بن عادياء، وأنه سبي من إصطخر وهو غلام، فاشتراه عثمان ووهبه لمروان بن الحكم.(24/196)
ومروان بن سليمان شاعر مجود محكك للشعر، وهو من أهل اليمامة، وقدم بغداد ومدح المهدي والرشيد، وكان يتقرب إلى الرشيد بهجاء العلوية في شعره، وله في معن بن زائدة مدائح ومراث عجيبة.
وقيل: إنه قال الشعر وهو غلام لو يبلغ سنة العشرين.
قال مصعب الزبيري: كان أبو حفصة طبيباً يهودياً، أسلم على يدي مروان بن الحكم، وكان معه يوم الدار يوم قتل عثمان، وحمله إلى العالية حين ضرب يوم الدار وكان يداويه حتى برأ.
قال: والذي عند أهل المدينة لا اختلاف بينهم في ذلك، أن أبا حفصة كان مولى السموأل بن عادياء.
قال مصعب: وأنا أفرق أن أقول لهم ذلك.
عن محمد بن سعيد بن أبي مريم، قال:
سمعت الشافعي يقول: ليس لقريش كلها شعر جيد، وأشعرها ابن هرمة، ثم مروان بن أبي حفصة.
قال الكسائي: إنما الشعر سقاء تمخض فدفعت الزبدة إلى مروان بن أبي حفصة.
حدث محمد بن بشار، قال: رأيت مروان يعرض على أبي أشعاره، فقال له أبي: إن وفيت قيم قيم أشعارك استغنيت.
حدث أبو حاتم، قال: قلت لأبي عبيدة: مروان أشعر أم بشار؟ قال: حكم بشار لنفسه بالاستظهار لأنه قال ثلاثة عشر ألف بيت ببيت جيد، ولا يكون عدد الجيد من الشعر شعراء الجاهلية والإسلام هذا العدد، وما أحسبهم برزوا في مثلها، ومروان أمدح للملوك.(24/197)
قال الرياشي: سألت الأصمعي عن مرون بن أبي حفصة، فقال لي: كان مولداً ولم يكن له علم باللغة.
عن الفضل بن بزيغ، قال: رأيت مروان بن أبي حفصة قد دخل على المهدي بعد موت معن بن زائدة في جماعة من الشعراء منهم سلم الخاسر وغيره، فأنشده مديحاً له، فقال له: من؟ قال: شاعرك مروان بن أبي حفصة. فقال المهدي: ألست القائل: " من الوافر "
أقمنا باليمامة بعد معن ... مقاماً ما نريد به زيالا
وقلنا: أين نرحل بعد معن ... وقد ذهب النوال فلا نوالا
قد جئت تطلب نوالنا وقد ذهب النوال؟ لا شيء لنا عندنا، جروا برجله، فجر برجله على الخلفاء في ذلك الحين في كل عام مرة. قال: فمثل بين يديه، وأنشده قصيدته التي قال: فأنصت لها حتى بلغ إلى قوله:
هل تطمسون من السماء نجومها ... بأكفكم أو تسترون هلالها
أو تدفعون مقالة عن ربكم ... جبريل بلغها النبي فقالها
شهدت من الأنفال آخر آية ... بتراثهم فأردتم إبطالها
يعني بني علي وبني العباس.(24/198)
قال: فرأيت المهدي وقد تزاحف من صدر مصلاه حتى صار على البساط إعجاباً بما سمع، ثم قال له: كم هي بيتاً؟ قال: مئة بيت. فأمر له بمئة ألف درهم.
قال: فإنها لأول مئة ألف أعطيها شاعر في خلافة بني العباس.
قال: فلم تلبث الأيام أن أفضت الخلافة إلى هارون الرشيد. قال: فرأيت مروان ماثلاً مع الشعراء بين يدي الرشيد، وقد أنشده شعراً، فقال له: من؟ قال: شاعرك مروان بن أبي حفصة. قال: ألست القائل - البيتين اللذين له في معن اللذين أنشدهما المهدي - خذوا بيده فأخرجوه فإنه لا شيء له عندنا. فأخرج، فلما كان بعد ذلك بيومين تطف حتى دخل، فأنشده قصيدته التي يقول فيها: " من الطويل "
لعمرك لا أنسى غداة المحصب ... إشارة سلمى بالبنان المخضب
وقد صدر الحجاج إلا أقلهم ... مصادر شتى موكباً بعد موكب
قال: فأعجبه، فقال له: كم قصيدتك بيتاً؟ قال له: ستون - أو سبعون -، فأمر له بعد أبياتها ألوفاً، فكان ذلك رسم مروان حتى مات.
عن محمد بن زياد، قال: دخل مروان بن أبي حفصة على المهدي، وعنده جماعة فأنشده: " من الطويل "
صحا بعد جهل واستراحت عواذله
قال: فقال لي: ويحك، كم هي بيتاً؟ قلت: يا أمير المؤمنين، سبعون بيتاً. قال: فإن لك عندي سبعين ألفاً. قال: فقلت في نفسي: بالنسيئة، إنا لله وإنا إليه راحعون. ثم قلت: يا أمير المؤمنين، اسمع مني أبياتاً حضرت، فما في الأرض أنبل من كفيلي. قال: هات. فاندفعت فأنشدته:
كفاكم بعباس أبي الفضل والداً ... فما من أب إلا أبو الفضل فاضله
كأن أمير المؤمنين محمداً ... أبو جعفر في كل أمر يحاوله
إليك قصرنا النصف من صلواتنا ... مسيرة شهر بعد شهر نواصله(24/199)
فلا نحن نخشى أن يخيب مسرنا ... إليك ولكن أهنأ البر عاجله
قال: فتبسم وقال: عجلوها. فحملت إلي من وقتها.
عن الرياش، قال: قال رجل لمروان بن أبي حفصة: ما حملك على أن تناولت ولد علي في شعرك؟ قال: والله ما حملني على ذلك بغضاء لهم، ولقد مدحت أمير المؤمنين بشعري الذي أقول فيه: " من الكامل "
طرقتك زائرة فحي خيالها ... بيضاء تخلط بالحياء دلالها
حتى بلغت إلى قولى:
هل تطمسون من السماء نجومها ... بأكفكم أم تسترون هلالها
أم تدفعون مقالة عن ربه ... جبريل بلغها النبي فقالها
شهدت من الأنفال آخر آية ... بتراثهم فأردتم إبطالها
فذروا الأسود خوادراً في غيلها ... لا تولغن دماكم أشبالها
فقال المهدي: وجب حقك على هؤلاء القوم. ثم أمر لي بخمسين ألف درهم، وأمر أولاده أن يبروني، فبروني بثلاثين ألف درهم.
وعن عبيد الله بن إسحاق بن سلام، قال: خرج مروان من دار المهدي ومعه ثمانون ألف درهم، فمر بزمن فسأله، فأعطاه ثلثي درهم. فقيل له: هلا أعطيته درهماً؟ فقال: لو أعطيت مئة ألف لأتممت له درهماً!.
قال: وكان مروان يبخل، فلا يسرج له داره، فإذا أراد أن ينام أضاءت له الجارية بقصبة إلى أن ينام.(24/200)
قال عبد الله بن مصعب: دخل مروان بن أبي حفصة على أمير المؤمنين الهادي، فأنشده مديهاً له حتى إذا بلغ قوله: " من الطويل "
تشابه يوماً بأسه ونواله ... فما أحد يدري لأيهما الفضل
فقال له الهادي: أيما أحب إليك، ثلاثون ألفاً معجلة أو مئة ألف تدون في الدواووين؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أنت تحسن ما هو أحسن من هذا، ولكنك أنسته، أفتأذن لي أن أذكرك؟ قال: نعم. قال: تعجل الثلاثون الألف وتدون المئة الألف. قال: يعجلان لك جميعاً. فحمل ذلك إليه.
وقال عبد الصمد بن المعذل: دخل مروان بن أبي حفصة وسلم الخاسر ومنصور النمري على الرشيد، فأنشده قصيدته التي يقول فيها: " من الكامل "
أنى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام
وأنشده سلم: " من الكامل "
حضر الرحيل وشدت الأحداج
وأنشده النمري قصيدته التي يقول فيها: " من البسيط "
إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع
فأمر لكل واحد منهم بمئة ألف درهم. فقال له يحيى بن خالد: يا أمير المؤمنين، مروان شاعرك خاصة، أقد ألحقتهم به؟ قال: فليزد مروان عشرة آلاف.
قال مروان بن أبي حفصة: خرجت إلى معن بن زائدة فأنشدته: " من الكامل "(24/201)
هاجت هواك بواكر الأحزان ... يوم النوى فظللت ذا أحزان
فلما صرت إلى قولي:
لولا رجاؤك ما تخطت ناقتي ... عرض الدبيل ولا قرى نجران
قال: صدقت والله. فلما بلغت إلى قولي:
لولا رجاؤك ماتخطت ناقتي ... عرض الدبيل ولا قرى نجران
قال: صدقت والله. فلما بلغت إلى قولي:
مطر أبوك أبو الفوارس والذي ... بالخير حاز هجائن النعمان النعمان
قال: وأنى وقع إليك هذا اليوم؟ فقلت: أصلح الله الأمير، لهو أشهر من ذلك، قال: فسر بذلك، وأنشدته قصيدتي التي أقول فيها: " من الكامل "
مسحت قطيعة وجه معن سابقاً ... لما جدا وجزى ذوو الأحساب
قال: فأعجب به، وأقبل يقول في كل أيام دخلت عليه: قم يا مروان؛ فأنشده هذا الشعر.
حدث العتبي، قال: قدم معن بن زائدة بغداد، فأتاه الناس وأتاه ابن أبي حفصة، فإذا المجلس غاص بأهله، فأخذ بعضادتي الباب ثم قال: " من الطويل "
وما أحجم الأعداء عنكم بقية ... عليك ولكن لم يروا فيك مطمعا
له راحتان الجود والحتف فيهما ... أبى الله إلا أن تضرا وتنفعا
فقال معن: احتكم يا أبا السمط. فقال: عشرة آلاف. فقال معن: ربحت عليك - والله - تسعين ألفاً.
أنشد ابن قتيبة لمروان بن أبي حفصة في بني مطر: " من الطويل "
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل(24/202)
قال مروان: أنشدت معن بن زائدة أربعة أبيات فأعطاني بها أربعة آلاف دينار، فبلغت أبا جعفر فقال: ويلي على الأعرابي الجلف؛ فاعتذر إليه فقال له: يا أمير المؤمنين إنما أعطيته على جودك؛ فسوغه إياها.
فلما مات معن رثاه مروان بقوله: " من الطويل "
ألما على معن فقولا لقبره ... سقيت الغوادي مربعاً ثم مربعا
فيا قبر معن كنت أول حفرة ... من الأرض خطت للمكارم مضجعا
يل قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا
ولكن صممت الجود والجود ميت ... ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا
ولما مضى معن مضى الجود والندى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
وما كان إلا الجود صورة خلقه ... فعاش زماناً ثم مات فودعا
فتى عيش من معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مربعا
تعز أبا العباس عنه ولا يكن ... ثوابك من معن بأن تتضعضعا
تمنى رجال شأوه من ضلالهم ... فأضحوا على الأذقان صرعى وظلعا
قال مروان: لقيني الناطفي فدعاني إلى عنان، فانطلقت معه، فدخل إليها قبلي فقال لها: قد جئتك بأشعر الناس مروان بن أبي حفصة - وكانت عليلة - فقالت: إني عن مروان لفي شغل؛ فأهوى بسوطه فضربها به، فقال لي: ادخل، فدخلت وهي تبكي، فرأيت الدموع تنحدر من عينيها، فقلت: " من السريع "
بكت عنان مسبل دمعها ... كالدر إذ يسبق من خيطه(24/203)
فقالت مسرعة:
فليت من يضربها ظالماً ... تيبس يمناه على سوطه
فقلت للنطاف: اعتق مروان ما يملك إن كان في الجن والإنس مثلها.
حدث علي بن محمد النوفلي، قال: سمعت أبي يقول: كان مروان بن أبي حفصة لا يأكل اللحم بخلاً حتى يقرم إليه، فإذا قرم أرسل غلامه فاشترى له رأساً فأكله. فقيل له: نراك لا تأكل إلا الرؤوس في الصيف والشتاء، فلم تختار ذلك؟ قال: نعم، الرأس أعرف سعره فآمن خيانة الغلام، ولا يستطيع أن يغبني فيه، وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر أن يأكل منه، وإن مس عيناً أو أذناً أو خداً وقفت على ذلك، وآكل منه ألواناً؛ آكل عينه لوناً، وأذنه لوناً، وغلصمته لوناً، ودماغه لوناً، وأكفى مؤونة طبخه، فقد اجتمعت لي فيه مرافق! عن جهم بن خلف، قال: أتينا اليمامة فنزلنا على مروان بن أبي حفصة، فأطعمنا تمراً، وأرسل غلامه بفلس وسكرجة يشتري به زيتاً، فلما جاء بالزيت قال: خنتني! قال: من فلس كيف أخونك؟ قال: أخذت الفلس لنفسك واستوهبت زيتاً!.
عن أبي العيناء محمد بن القاسم اليمامي، قال: كان مروان بن أبي حفصة من أبخل الناس، خرج يريد الخليفة المهدي فقالت له امرأة من أهله: ما لي عليك إن رجعت بالجائزة؟ قال: إن أعطيت مئة ألف درهم أعطيتك درهماً. فأعطي ستين ألفاً، فدفع إليها أربعة دوانيق!.
وكان قد اشترى يوماً لحماً بدرهم، فدعاه صديق له، فرد اللحم إلى القصاب بنقصان دانق، وقال: أكره الإسراف!.
وهجاه بعض الشعراء فقال: " من الطويل "(24/204)
وليس لمروان على العرس غيرة ... ولكن مروناً يغار على القدر
قال مروان بن أبي حفصة يرثي معن بن زائدة الشيباني: " من الوافر "
مضى لسبيله معن وأبقى ... محامد لن تبيد ولن تنالا
كأن الشمس يوم أصيب معن ... من الإظلام ملبسة جلالا
هو الجبل الذي كانت نزار ... تهد من العدو به الجبالا
وعطلت الثغور لفقد معن ... وقد يروي بها الأسل النهالا
وأظلمت العراق وألبستها ... مصائبه المجللة اختلالا
وظل الشام يرجف جانباه ... لركن العز حين وهى فمالا
وكادت من تهامة كل أرض ... ومن نجد تزول غداة زالا
فإن يعل البلاد له خشوع ... فقد كانت تطيل به اختيالا
أصاب الموت يوم أصاب معناً ... من الأخيار أكرمهم فعالا
وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن غير ابن زائدة ارتحالا
ثوى من كان يحمل كل ثقل ... ويسبق فيض راحته السؤالا
وما نزل الوفود بمثل معن ... ولا حطوا بساحته الرحالا
وما بلغت أكف ذوي العطايا ... يميناً من يديه ولا شمالا
وما كانت تجف له حياض ... من المعروف مترعة سجالا
لأبيض لا يعد المال حتى ... يعم به بغاة الخير مالا
فليت الشامتين به فدوة ... وليت العمر مد له فطالا
ولم يك كنزه ذهباً ولكن ... سيوف الهند والحلق المذالا
ومادته من الخطي سمراً ... ترى فيهن ليناً واعتدالا
وذخراً من مكارم باقيات ... وفضل تقى به التفضيل نالا
لئن أمست زوائد قد أذيلت ... جياد كان يكره أن تزالا(24/205)
لقد كانت تصان به وتسمو ... بها عققاً ويرجعها خيالا
وقد حوت النهاب فأحرزته ... وقد غشيت من الموت الطلالا
زاد الخطيب:
مضى لسبيله من كنت ترجو ... به عثرات دهرك أن تقالا
فلست بمالك عبرات عيني ... أبت بدموعها إلا انهمالا
وفي الأحشاء منك عليك حزن ... كحر النار تشتعل اشتعالا
كأن الليل واصل بعد معن ... ليالي قد قرن به طوالا
لقد أورثتني وبني هماً ... وأحزاناً نطيل به اشتغالا
وقائلة رأت جسدي ولوني ... معاً عن عهدها قلباً فحالا
رأت رجلاً براه الحزن حتى ... أضر به وأورثه خبالا
أرى مروان عاد كذي نحول ... من الهندي قد فقد الصقالا
فقلت لها: الذي أنكرت مني ... لفجع مصيبة أبكى وغالا
وأيام المنون لها صروف ... تقلب بالفتى حالاً فحالا
يرانا الناس بعدك قبل دهر ... أبى لجدودنا إلا اغتيالا
فنحن كأسهم لم يبق ريشاً ... لها ريب الزمان ولا نصالا
وقد كنا بحوض نداك نروى ... ولا نرد المصردة السمالا
فلهف أبي عليك إذا العطايا ... جعلن من كواذب واعتلالا
ولهف أبي عليك إذا الأسارى ... شكوا خلقاً بأسوقهم ثقالا
ولهف أبي عليك إذا اليتامى ... غدوا شعثاً كأن بهم سلالا
ولهف أبي عليك إذا المواشي ... فرت جدباً تمات به هزالا
ولهف أبي عليك لكل هيجا ... لها تلقي حواملها السخالا
ولهف أبي عليك إذا القوافي ... للمتدح بها ذهبت ضلالا
ولهف أبي عليك لكل أمر ... يقول له النجي ألا احتيالا
أقمنا باليمامة بعد معن ... مقاماً ما نريد به زيالا
وقلنا أين نذهب بعد معن ... وقد ذهب النوال فلا نوالا(24/206)
فإن تذهب قرب رعال خيل ... عوابس قد لقيت بها رعالا
وقوم قد جعلت لهم ربيعاً ... وقوم قد جعلت لهم نكالا
فما شهد الوقائع منك أمضى ... وأكرم محتداً وأسد آلا
سيذكرك الخليفة غير قال ... إذا هو في الأمور بلا الرجالا
ولا ينسى وقائعك اللواتي ... على أعدائه جعلت وبالا
ومعترك شهدت به حفاظاً ... وقد كرهت فوارسه النزالا
حباك أخو أمية بالمراثي ... مع المدح اللواتي كان قالا
أقام وكان نحوك كل عام ... يطيل لواسط الرحل اعتقالا
فألقى رحله أسفاً وآلى ... يميناً لا يشد له حبالا
ذكر إدريس بن سليمان بن أبي حفصة: أن مروان توفي سنة إحدى وثمانين ومئة، ودفن ببغداد في مقبرة نصر بن مالك، وقال غبيره: كان مولده سنة خمس ومئة.
وقال يعقوب بن سفيان: سنة اثنتين وثمانين ومئة، فيها مات مروان بن أبي حفصة الشاعر النبيل، رحمه الله تعالى.
مروان بن شجاع أبو عمرو
الحراني الجزري مولى محمد بن مروان بن الكم، يعرف بالخصيفي كان يكون مع خلفاء بني أمية بالشام، ثم انتقل إلى بغداد، فسكنها ومات بها.(24/207)
روى عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الشفاء في ثلاث، شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهي أمتي عن الكي ".
وعن خصيف، عن مجاهد، عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتين على المنبر يقول: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة، وزناً بوزن ".
قال محمد بن سعد: مروان بن شجاع الخصيفي، كان من أهل الجزيرة، من أهل حران، وكان راوية لخصيف، فقدم معه بغداد فكان مؤدباً لولد موسى أمير المؤمنين، فلم يزل ببغداد حتى مات.
وقال: مات ببغداد سنة أربع وثمانين ومئة.
قال مروان بن شجاع الجزري: أثبتني عمر بنعبد العزيز وأنا فطيم في عشرة الدنانير.
قال عنه يحيى بن معين: ثقة.
مروان بن عبد الله بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي من وجوه بني مروان، كان عاملاً للوليد بن يزيد على حمص، وكان موصوفاً بالنسك والتعبد.
قال علي بن محمد: كان مروان بن عبد الله بن عبد الملك عاملاً للوليد على حمص، وكان من سادة بني(24/208)
مروان نبلاً وفضلاً وكرماً وجمالاً، فلما قتل الوليد بلغ أهل حمص قتله فأغلقوا أبوابها وأقاموا النوائح والبواكي حتى جاء العباس بن الوليد، فمال إلى عبد العزيز بن الحجاج، فوثب أهل حمص فهدموا دار العباس وانتهبوها، وسلبوا حرمه، وأخذوا بنيه فحبسوهم، وطلبوه، فخرج إلى يزيد ابن الوليد، وكاتبوا الأجناد، ودعوهم إلى الطلب بدم الوليد، فأجابوهم؛ فكتب أهل حمص بينهم كتاباً إلا يدخلوا في طاعة يزيد، وإن كان ولياً عهد الوليد حيين فالبيعة لهما، وإلا جعلوها لخير من يعلمون، على أن يعطيهم العطاء من المحرم إلى المحرم ويعطي الذرية، وأمروا عليهم معاوية بن يزيد بن حصين، فكتب إلى مروان بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان وهو بحمص في دار الإمارة، فلما قرأه قال: هذا كتاب حضره من الله حاضر. وتابعهم على ما أرادوا.
فلما بلغ يزيد بن الوليد خبرهم وجه إليهم رسلاً فيهم يعقوب بن عمير بن هانئ، وكتب إليهم: إنه ليس يدعو إلى نفسه، ولكن يدعوهم إلى الشورى. فقال عمرو بن قيس السكوني: رضينا بولي عهدنا - يعني الوليد بن يزيد - فأخذ يعقوب بن عمير بلحيته، فقال: لأيها العشمة، إنك قد فيلت وذهب عقلك، إن الذي تعني لو كان يتماً في حجرك لم يحل لك أن تدفع إليه ماله، فكيف أمر الأمة؟ فوثب أهل حمص على رسل يزيد بن الوليد، فطردوهم.
وكان أمر حمص لمعاوية بن يزيد بن حصين، وليس إلى مروان بن عبد الله من أمرهم شيء. وكان معهم السمط بن ثابت، وكان الذي بينه وبين معاوية بن يزيد متباعداً، " وكان معهم أبو محمد السفياني فقال لهم: لو قد أتيت دمشق ونظر إلي أهلها لم يخالفوني ". فوجه يزيد بن الوليد مسرور بن الوليد، والوليد بن روح في جمع كبير، فنزلوا حوارين، أكثرهم بنو عامر من كلب؛ ثم قدم على يزيد سليمان بن هشام من عمان، فأكرمه يزيد، وتزوج أخته أم هشام بنت هشام بن عبد الملك. ورد عليه ما كان الوليد أخذه من أموالهم، ووجهه إلى مسرور بن الوليد والوليد بن روح، وأمرهما بالسمع والطاعة له، وأقبل أهل حمص فنزلوا قرية كانت لخالد بن يزيد بن معاوية.(24/209)
وعن عمرو بن محمد بن عبد الرحمن البهراني، قالا: قام مروان بن عبد الملك، فقال: يا هؤلاء إنكم خرجتم لجهاد عدوكم، والطلب بدم خليفتكم، وخرجتم مخرجاً أرجو أن يعظم الله به أجركم، ويحسن عليه ثوابكم، وقد نجم لكم منه قرن، وسال إليكم منه عنق، إن أنتم قطعتموه اتبعه ما بعده، وكنتم عليه أجرأ، وكانوا عليكم أهون، ولست أرى المضي إلى دمشق وتخليف هذا الجيش خلفكم، فقال السمط بن ثابت: هذا والله العدو القريب الدار، يريد أن ينقض جماعنكم، وهو ممايل للقدرية.
قال: فوثب الباس على مروان بن عبد الله فقتلوه وقتلوا ابنه، ورفعوا رؤوسهما للناس. وإنما أراد السمط بهذا الكلام خلاف معاوية بن يزيد، فلما قتل مروان بن عبد الله ولو عليهم أبا محمد السفياني، وأرسلوا إلى سليمان بن هشام: آنا آتوك، فأقم بمكانك. فأقام.
قال: فتركوا عسكر سليمان ذات اليسار ومضوا إلى دمشق، وبلغ سليمان مضيهم، فخرج معداً، فلحقهم بالسليمانية - مزرعة لسليمان بن عبد الملك خلف عذراء من دمشق على أربعة عشر ميلاً -.
عن حجاج بن فرافصة، قال: حدثني صاحب لنا يقال له: سفيان، أن مروان بن عبد الله بن عبد الملك سأل صالحاً الحكمي عن القدر، هل ذكر في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: قال: نعم. فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أمتي لا تزال بخير متمسكة بما هي فيه حتى تكذب بالقدر ".
مروان بن عبد الله الثقفي
من أهل القطيفة، من ظاهر دمشق.(24/210)
مروان بن عبد الملك بن سوار القرشي
من أهل الراهب، كان بدمشق.
مروان بن عبد الملك بن عبد الله
ابن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص
مروان بن عبد الملك بن مروان
ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف أبو عبد الملك الأموي وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية قال أحمد بن سليمان الطوسي:
كان عبد الملك قد أخذ على سليمان حين بايع له بولاية العهد ليبايعن لأحد ابني عاتكة؛ فأما مروان فإنه حج مع الوليد بن عد الملك، فلما كان بوادي القرى جرى جري بينه وبين أخيه الوليد بن عبد الملك مجاورة، والوليد يومئذ خليفة، فغضب الوليد فأمصه، فتفوه مروان بالرد عليه، فأمسك عمر بن عبد العزيز على فيه، فمنعه من ذلك، فقال لعمر: قتلتني، رددت غيظي في جوفي؛ فما رراحوا من وادي القرى حتى دفنوه. فله يقول الشاعر: " من الطويل "
لقد غادر الركب اليمانون إذا غدوا ... بوادي القرى جلد الجناب مشيعا
فسيروا فلا مروان للقوم إذ غدوا ... وللركب إذ أمسو مكلين جوعاً
وقيل: إن هذه القصة جرت لمروان مع أخيه سليمان.(24/211)
مروان بن عبيد الله بن مروان
ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية، الأموي
مروان بن عثمان
أبو الحسن السقلي، المغربي، الفقيه له شعر لا بأس به، قدم دمشق سنة ثمان وسبعين وأربعمئة، ولقيه غيث بن علي بصور، وأنشده شيئاً من شعره.
قال ابن الملحي: أبو الحسن مروان السقلي، رجل صدر إمام، زاهد فقيه عالم، أحسن الناس خطاً، وأكثرهم في العلم حظاً، وصل إلى دمشق فأنزله الشيخ الأمين أبو محمد ابن الأكفاني بمنزله، وتكفل بجميع حوائجه مدة مقامه عنده، ولم يكن يقبل الهدية، ولا له في التكسب نية، ولم يدرس أحداً، ولا كان يكاد يظهر، ولم أجتمع به إلا بعد أن استأذنته الشيخ، ففسح في حضوري، فحضرت ومعي " الجمل " وقرأن عليه منه كراسة واحدة؛ وسار إلى بغداد، واتصل بالخليفة، وغزم عليه في تعليم ولده، فدخل داره، وهناك توفي رحمه الله، وهو القائل: " من البسيط "
هلمن لواعج هذا البين من جار ... لمستهام غريب دمعه جار
حيران مغترب، حران مكتئب ... ذي مدمع سرب كالسيل خرار
وكلما نسمت نجدية نظمت ... ريح الجنوب تباريحي وأفكاري
فيض الدموع ونيران الضلوع معاً ... يا قوم كيف اجتماع الماء والنار(24/212)
مروان بن عنبسة
أظنه ابن الفيض بن عنبسة بن عبد الملك بن مروان كان كاتباً لأبي العميطر علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية.
مروان بن عمر بن عبد العزيز
ابن مروان بن الحكم الأموي له ذكر، ولا أعلم له عقباً.
مروان بن محمد بن حسان
أبو بكر، ويقال: أبو حفص، الأسدي الطاطري كانت داره بدمشق، بنواحي قصر الثقفيين.
روى عن سليمان بن بلال، بسنده إلى عائشة، قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بيت لا تمر فيه جياع أهله ".
وعن صدقة بن خالد، بسنده إلى أوس بن أوس الثقفي، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من غسل واغتسل يوم الجمعة، وغدا وابتكر، ودنا ونصت واستمع، كان له بكل خطوة عمل سنة صيامها وقيامها ".
قال مروان بن محمد: ولدت سنة سبع وأربعين ومئة، عالم الكواكب.(24/213)
وقال سليمان بن أحمد: كل من يبيع الكراييس بدمشق يسمى الطاطري.
قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لأحمد بن حنبل: بلغني أنك تثني على مروان بن محمد. فقال: إنه كان يذهب مذهب أهل العلم.
وقال يحيى: كان الطاطري لا بأس به، وكان مرجئاً، وأهل دمشق من كان مرجئاً فعليه عمامة، ومن لم يكن مرجئاً فلا يعتم.
وقال: مروان بن محمد الطاطري ثقة، وهو مرجئ، عن عبد الرحمن بن عمرو، قال: وقال لي أحمد بن حنبل: كان عندكم ثلاثة أصحاب حديث، مروان والوليد وأبو مسهر.
وقال عبد الله بن معاوية بن يجيى الهاشمي: أدركت ثلاث طبقات، أحدها طبقة سعيد بن عبد العزيز ما رأيت فيهم أخشع من مروان بن محمد.
وقال أبو سليمان: ما رأيت شامياً خيراً من مروان بن محمد. فقال له عبيد بن أم أبان الأنصاري: ولا معلمه سعيد بن عبد العزيز؟ قال: لا ولا معلمه. قال: ولا يحيى بن حمزة؟ قال له أبو سليمان: ولا يحيى، لأن سعيداً كان على بيت المال وكان يحيى على القضاء.
قال مروان: كنت أنا وحسان نذاكر سفيان بن عيينة، وكان قد استخفى، قال: فكنا نضاحكه(24/214)
في مذكراتنا. قال: فحقد علينا؛ فلما جئنا نودعه قال: اتقوا الله، وصونوا هذا العلم، ولا تكثروا الضحك.
وقال:
لا غنى لصاحب الحديث عن ثلاثة، صدقه، وحفظه، وصحة كتبه؛ فإن كانت فيه ثنتان وأخطأته واحدة لم يضره؛ صدق وصحة كتب ولم يحفظه، فرجع إلى كتب صحيحه لم تضره.
وقال: طال الإسناد، وسيرجع الناس إلى الكتب.
وقال أحمد بن أبي الحواري: قال لي مروان بن محمد: لا تخرج أبداً من المسجد حتى توتر، فإن مت كنت على وتر.
قال الحسن بن محمد بن بكار: وتوفي أبو محمد مروان بن محمد الأسدي في سنة عشر ومئتين، وكان مولده في سنة انتثرت النجوم في سنة سبع وأربعين ومئة، فتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة.
مروان بن محمد بن مروان بن الحكم
ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو عبد الملك، الأموي، المعروف بالحمار، آخر خلفاء بني أمية بويع له بالخلافة بعد قتل الوليد بن يزيد، وبعد موت يزيد بن الوليد، وخلع إبراهيم بن يزيد بن عبد الملك، واستتب له الأمر في سنة سبع وعشرين ومئة، وأمه أم ولد، وداره بسوق الأكافين.(24/215)
عن سالم الأفطس، قال: سألني مروان بن محمد عن تعجيل الزكاة إذا رأى لها موضعاً قبل أن تحل؛ فسألت سعيد بن حبير، فلم ير دبه بأساً.
قال إسماعيل بن علي بن إسماعيل: وأمه كرديه، أم ولد يقال لها: لبابة، جارية إبراهيم بن الأشتر.
وعن أبي اليقظان وغيره: ولد مروان بالجزيرة سنة اثنتين وسبعين، وأمه أمة لمصعب بن الزبير.
وعن محمد بن عمر، قال: وفيها - يعني سنة ست وسبعين - ولد مروان بن محمد بن مروان.
وذكر سعيد بن كثير بن عفير؛ أن مروان كان أبيض مشرباً، أزرق، ضخم الهامة، كبير اللحية، ربعة، ولم يكن يخضب بالحناء.
قال خليفة: قال ابن الكلبي: وفيها - يعني سنة خمس ومئة - غزا مروان بن محمد على الصائفة اليمنى، فافتتح مدينة من أرض الروم من ناحية كمخ.
وقال خلفة: سنة أربع عشر ومئة: فيها عزل هشام مسلمة بن عبد الملك عن أرمينية وأذربيجان والجزيرة، وولاها مروان بنمحمد بن مروان، مستهل الحرم.
قال أبو خالد: قال أبو البراء: سار مروان في سنة أربع عشرة ومئة حتى جاوز نهر الروم، فقتل وسبى وأغار على الصقالية.(24/216)
وقال: وفيها - يعني سنة سبع عشرة - بعث مروان بن محمد وهو والي أرمينية وأذربيجان بعثتين إلى جبل القبق فافتتح أحد البعثين ثلاثة حصون من اللان، ونزل البعث الآخر على تومان شاه، فنزل تومان شاه على حكن مروان بن محمد، فبعث به مروان إلى هشام بن عبد الملك، فرده هشام إلى مروان، فأعاده على مملكته.
قالخليفة: سنة ثمان عشرة ومئة؛ فيها غزا مروان بن محمد من أرمينية، فدخل أرض ورتنيس من ثلاثة أبواب، فهرب ورتنيس إلى الخزر وترك القلعة، فنصب مروان عليها المجانيق، فقتل أهل خمرين ورتنيس وبعثوا برأسه إلى مروان، فنصب مروان رأس ورتنيس لأهل قلعته، فنزلوا على حكم مروان، فقتل المقاتلة وسبى الذرية.
وقال: سنة تسع عشرة ومئة: فيها غزا مروان بن محمد من أرمينية غزوة السائحة، فدخل من باب أللان، فمر بأرض أللان كلها حتى خرج منها إلى بلاد الخزر، فمر ببلنجر وسمندر، وانتهى إلى البيضاء التي يكون فيها خاقان، فهرب خاقان.
وقال: سنة إحدى وعشرين ومئة؛ فيها غزا مروان بن محمد من أرمينية، وهو واليها، فأتى قلعة بيت السرير، فقتل وسبى، ثم أتى قلعة ثانية، فقتل وسبى، ودخل غومسك وهو حصن فيه بيت الملك، يكون فيه ملك السرير، فخرج الملك هارباً حتى أتى حصناً يقال(24/217)
له: خثرج، فيه سرير الذهب، فأقام مروان عليه شتوة وصيفةً، فصالحه على ألف رأس في كل سنة ومئة ألف مدي، وسار مروان فدخل أرض زروبكران، فصالحه ملكها، ثم سار مروان في أرض تومان فصالحه تومان ملكها، ثم أتى مروان خمرين فأبى ملكها أن يصالحه، فقاتل حصناً من حصون خمرين شهراً، فأخرب بلاد خمرين، ثم سأله خمرين الصلح فصالحه، ثم أتى مروان أرض مسدار، فافتتحها على صلح، ثم نزل مروان كيران فصالحه طبرستان وفيلان.
قال محمد بنيزيد: ثم بويع مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، وكنيته أبو عبد الملك، لأربع عشرة خلت من صفر سنة سبع وعشرين ومئة، وقتل يوم الخميس لست بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومئة.
قال أبو بكر:
وقتل بأرض بوصير من مصر، فكانت ولايته إلى أن قتل خمس سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام، وكانت ولاية مروان بن محمد إلى أن بويع لأبي العباس بعد بني أمية خمس سنين وثمانية وعشرين يوماً، وتوفي وله اثنتان وستون سنة، وأمه أم ولد.
قال خليفة: سنة سبع وعشرين، فيها وقعت الفتنة.
قال إسماعيل بن إبراهيم: قتل الوليد بن يزيد، ومروان بن محمد بن مروان بأرمينية والياً عليها، فلما أتاه قتل الوليد دعا الناس إلى بيعة من رضيه المسلمون، فبايعوه. فلما أتاه وفاة يزيد بن الوليد دعا قيساً وربيعة ففرض لستة وعشرين ألفاً من قيس، وسبعة آلاف من ربيعة، فأعطاهم أعطياتهم، وولى على قيس إسحاق بن مسلم العقيلي، وعلى ربيعة المساور بن عقبة، ثم خرج يريد الشام، واستخلف على الجزيرة أخاه عبد العزيز بن محمد بن(24/218)
مروان، فلقيه وجوه قيس، الوثيق بن الهذيل بن زفر، ويزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري، وأبو الورد بن الهذيل بن زفر، وعاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي في أربعة أو خمسة آلاف من قيس، فساروا معه حتى قدم حلب وبها بشر ومسرور أبنا الوليد بن عبد الملك أرسلهما إبراهيم بن الوليد حين بلغه مسير مروان، فصاف القوم، فخرج أبو الورد بن الهذيل بن زفر في ثلاثمئة فكبروا وحملوا على مروان حتى كانوا قريباً منه، ثم حولوا وجوههم وأترستهم ولحقوا بمروان، وحمل مروان ومن معه فانهزم مسرور وبشر من غير قتال، فأخذهما مروان فحبسهما عنده، وأسر ناساً كثيراً من أصحابهما، فأعتقهم مروان، ثم سار مروان حتى أتى حمص فدعاهم إلى المسير معه والبيعة لوليي العهد الحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد، وهما محبوسان عند إبراهيم بن الوليد بدمشق، فبايعوه وخرجوا معه حتى أتى عسكر سليمان بن هشام بن عبد الملك بعد قتال شديد، وحوى مروان عسكره.
وبلغ عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك ما لقي سليمان وهو معسكر في ناحية أخرى، فأقبل إلى دمشق فأخرج إبراهيم بن الوليد من دمشق، ونزل باب الجابية وتهيأ للقتال، وعه الأموال على العجل، ودعا الناس فخذلوه، وأقبل عبد العزيز بن الحجاج وسليمان بن الوليد فدخلا مدينة دمشق يريدان قتل الحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد، وهما في السجن، وجاء يزيد بن خالد بن عبد الله القسري فدخل السجن فقتل يوسف بن عمر والحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد، وهما الحملان.
ويقال: ولي قتلهما لخالد بن عبد الله، يقال له: أبو الأسد، شدخهما بالعمد، وأتاهم رسول إبراهيم فتوجه عبد العزيز بن الحجاج إلى داره ليخرج عياله، فثار به أهل دمشق فقتلوه واحتزوا رأسه، فأتوا به أبا محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية، وكان محبوساً مع يوسف بن عمر وأصحابه، فأخرجوه فوضعوه على المنبر في قيوده، ورأس عبد العزيز بين يديه، وحلوا قيوده وهو على المنبر، فخطبهم وبايع لمروان وشتم يزيداً وإبراهيم ابني الوليد وأشياعهم، وأمر بجسد عبد العزيز فصلب على باب الجابية منكوساً، وبعث برأسه إلى مروان بن محمد؛ وبلغ إبراهيم فخرج هارباً، واستأمن أبو محمد لأهل دمشق فأمنهم مروان ورضي عنهم، ثم أتى مروان يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية(24/219)
وأبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية ومحمد بن عبد الملك بن مروان وأبو بكر بن عبد الله بن يزيد، فأذن لهم، فكان أول من تكلم أبو محمد بن عبد الله بن يزيد ين معاوية، فسلم عليه بالخلافة، وعزاه عن الوليد وابنيه الحكم وعثمان ابني الوليد. قال: وأصيب الغلامان، إنا لله، إن كان الحملين اللذين يذكران ويوصفان؛ ثم بايعوه، ثم أتى دمشق فأمر بيزيد بن الوليد فنبش وصلب، وأتته بيعة أهل الشام.
وفيها: أتى إبراهيم بن الوليد مروان بن محمد بالجزيرة فخلع نفسه، فبايعه، فقبل منه وأمنه، فسار إبراهيم فنزل الرقة على شاطئ الفرات، ثم أتاه كتاب سليمان بن هشام يستأمنه، فأمنه، فأتاه فبايعه، واستقامت لمروان بن محمد.
عن مصعب بن عبد الله، قال: كانت بنو أمية يرون أن الخلافة تنزع منهم إذا وليها منهم ابن أم ولد، فكانوا لا يبايعون إلا لابن صريحة، حتى أخذ مروان بن محمد الخلافة عنوة، وهو لأم ولد، فقتلته بنو العباس، وأخذت الخلافة منه.
عن أبي الحكم الهيثم بن عمران العبسي، قال: سمعت رسالة مروان تقرأ بمسجد دمشق حين أمر لهم بعطاء، فعدهم وعيالهم، وهو أول عطاء أمر لهم به.
أما بعد؛ فإن هذا الفيء فيء الله الذي فاءه على المسلمين بهم، وجعل فيه حقوقهم وقوتهم، وأوجب على واليهم حسن ولايته لهم، وتوفيره عليهم، وتأدية حقوقهم إليهم؛ فأمير المؤمنين يجهد لكم نفسه في جمعه واجتلابه، شديد ظلفه نفسه وولده وأهل بيته وعماله عنه، بغيض إليه انتقاص شيء من حقوقكم وأطماعكم، وتأخيرها عنكم في إبانها ما وجد إلى ذلك سبيلا، وقد أمرنا لكم بعطاء، فعدكم وعيالكم، فخذوا ذلك هنيئاً مريئاً، مباركاً لكم فيه، والسلام عليكم.
عن منصور بن أبي مزاحم، قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: دخلت على أبي جعفر المنصور يوماً، فقال لي: إني(24/220)
أريد أن أسألك عن شيء، فاحلف بالله أنك تصدقني. قال: فرماني بأمر عظيم، فقلت: يا أمير المؤمنين، وأدين الله بغير طاعتك وصدقك، أو أستحل أن أكتمك شيئاً علمته؟ قال: دعني من هذا، والله لتحلفن. قال: فأشار إلي المهدي أن أفعل. فحلفت؛ فقال: ما قولك في خلفاء بني أمية؟ فقلت: وما عسيت أن أقول فيهم، إنه من كان منهم لله مطيعاً، وبكتابه عاملاً، ولسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متبعاً فإنه إمام تجب طاعته ومناصحته، ومن كان منهم على غير ذلك فلا. فقال: جئت بها - والذي نفسي بيده - عراقية، هكذا أدركت أشياخك من أهل الشام يقولون؟ قلت: لا، أدركتهم يقولون: إن الخليفة إذا استحلف غفر الله له ما مضى من ذنوبه. فقال لي المنصور: إي والله، وما تأخر من ذنوبه، أتدري ما الخليفة؟ سيله ما تقام من الصلاة، ويحج به البيت، ويجاهد به العدو. قال: فعدد من مناقب الخليفة ما لم أسمع أحداً ذكر مثله، ثم قال: والله لو عرفت من حق الخلافة في دهر بني أمية ما أعرف اليوم لرأيت من الحق أن آتي الرجل منهم حتى أضع يدي في يده، ثم أقول له: مرني بما شئت.
فقال له المهدي: فكان الوليد منهم؟ فقال: قبح الله الوليد ومن أقعد الوليد خليفة. قال: فكان مروان منهم؟ فقال أبو جعفر: مروان؟ لله در مروان! ما كان أحزمه وأمرسه وأعفه عن الفيء. فلم لمتموه وقتلتموه؟ قال: للأمر الذي سبق في علم الله.
كتب مروان بن محمد إلى جارية تركها بالرملة عند انزعاجه إلى مصر منهزماً " من الرمل "
وما زال يدعوني إلى الصبر ما أرى ... فأبى ويدنيني الذي لك في صدري
وكان عزيزاً أن بيني وبينك ... حجاب فقد أمسيت مني على عشر
وأقواهما والله للقلب فاعلمي ... إذ زدت مثليها فصرت على شهر
وأعظم من هذين والله إنني ... أخاف بأن لا نلتقي آخر الدهر
سأبكيك لا مستبقياً فيض عبرة ... ولا طالباً بالصبر عاقبة الصبر
عن أبي الحسين بن راهوية الكاتب، عن من أخبره: أن مروان بن محمد جلس يوماً وقد أحيط به، وعلى رأسه خادم له، فقال له:(24/221)
ألا ترى ما نحن فيه؟ لهفي على يد ما ذكرت، ونعمة ما شكرت، ودولة ما نصرت. فقال له: يا أمير المؤمنين، من ترك القليل حتى يكثر، والصغير حتى يكبر، والخفي حتى يظهر، وأخر فعل اليوم لغد، حل به أكثر من هذا. فقال: هذا القول أشد علي من فقد الخلافة.
وعن محمد بن المبارك، قال: كان آخر ما تكلم به مروان بن محمد قال لابن هبيرة: قاتل وإلا فتلتك. فقال ابن هبيرة: بودي أنك تقدر على ذلك.
وكان نقش خاتمه: رضيت بالله العظيم.
عن يوسف بن مازن الراسبي، قال: قام رجل إلى الحسن بن علي، فقال: يا مسود وجه المؤمنين! فقال الحسن: لا تؤنبني رحمك الله، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى بني أمية يخطبون على منبره رجلاً فرجلاً، فساءه ذلك، فنزلت: " إنا أعطيناك الكوثر " نهر في الجنة، ونزلت " إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر " تملكه بنو أمية.
قال: فحسبنا ذلك، فإذا هو كما قال لا يزيد ولا ينقص.
قال خليفة: وفي هذه السنة - يعني سنة اثنتين وثلاثين ومئة - بعث أبو العباس عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس لقتال مروان، وزحف مروان بمن معه من أهل الشام والجزيرة، وحشدت معه بنو أمية بأنفسهم وأتباعهم.
فحدثني بشر بن بشار، عن شيخ من أهل الجزيرة، قال: خرج مروان في مئة ألف من فرسان أهل الشام والجزيرة.(24/222)
قال خليفة:
وقال أبو الذيال: كان مروان في مئة ألف وخمسين ألفاً، فسار حتى نزل الزابين دون الموصل، وسار عبد الله بن علي، فالتقوا يوم السبت صبيحة إحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومئة. فهزم مروان، وقطع الجسور إلى الجزيرة، فأخذ بيوت الأموال والكنوز فأتى دمشق؛ وسار عبد الله بن علي حتى دخل الجزيرة، ثم خرج واستخلف موسى بن كعب التميمي، وتوجه عبد الله بن علي إلى الشام، وأرسل أبو العباس صالح بن علي حتى اجتمعا جميعاً ثم سارا إلى دمشق فحاصروها أياماً حتى افتتحوها، وكان مروان يومئذ بفلسطين، فهرب حتى أتى مصر.
قال أبوالذيال: كان مروان بمصر، فلما بلغه دخول عبد الله بن علي دمشق عبر النيل وقطع الجسر، ثم سار قبل بلاد الحبشة، ووجه عبد الله بنعلي أخاه صالح بن علي في طلب مروان، فاستعمل صالح عامر بن إسماعيل أحد بني الحارث بن كعب، وتوجه في أثر مروان فلحقه بقرية من قرى مصر يقال لها: بوصير، فقتل مروان في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومئة.
عن يعقوب بن سفيان، قال: وهرب مروان بن محمد إلى مصر، فنزل إلى كنيسة يقال لها: بوصير، من كورة الصعيد، من آخر الليل، فأرق وسهر، فسأل بعض أهلها فقال: ما اسم هذه؟ قيل: بوصير. فتطير من ذلك - وأتقن مروان ذلك مما نزل به - فجعل يرجع ويقول: بوصير " إنا لله وإنا إليه راجعون " فيها المصير إلى الله.
وأحاط عامر بن إسماعيل ببوصير، فقتلوا مروان، وحاز صالح بن علي بن عبد الله بن عباس عسكر مروان، وبعث برأس مروان إلى أبي عون، فبعث به إلى صالح بن علي يوم الأحد لثلاث من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومئة، وبعث صالح بالرأس مع خزيمة بن يزيد بن هانئ إلى أبي العباس وهو بالحيرة.(24/223)
مروان بن معاوية بن الحارث بن عثمان
ابن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر أبو عبد الله الفزاري كوفي الأصل، وسكن دمشق.
روى عن إسماعيل بن أبي خالد، بسنده إلى جرير، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من يتزود في الدنيا ينفعه في الآخرة ".
وعن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي بن خراش، عن حذيفة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله خلق كل صانع وصنعته ".
قال سليمان بن الأشعث: سمعت أحمد بن حنبل ذكر أبا إسحاق الفزاري فقال: كان مروان ابن عمه، كانا من ولد أسماء بن خارجة. قال: قلت لأحمد: من أين كان مروان - أعني الفزاري -؟ قال: كان أهل الكوفة، ثم صار بمكة، ثم صار بدمشق.
قال ابن سعد: كان من أهل الكوفة، ثم أتى الثغر فأقام به، ثم قدم بغداد فأقام بها ونزله، وسمع منه البغداديون، وكان ثقة، ثم خرج إلى مكة فأقام بها، فمات في عشر ذي الحجة قبل التروية بيوم سنة ثلاث وتسعين ومئة؛ وكان يوم مات ابن إحدى وثمانين سنة.
قال مروان بن معاوية الفزاري: أتيت الأعمش فقال لي: ممن أنت؟ فقلت: أنا مروان بن معاوية بن الحارث بن عثمان بن أسماء بن خارجة الفزاري. فقال لي: لقد قسم جدك أسماء قسماً، فنسي جاراً(24/224)
له، ثم استحيا أن يعطيه وقد بدأ يآخر قبله، فنقب عليه. وصب الماء صباً! أفتفعل أنت شيئاً من ذلك؟ عن سليمان بن الأشعث، قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما كان أحفظ مروان بن معاوية، كان يحفظ حديثه كله.
وقال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما كان أحفظ مروان بن معاوية، كان يحفظ حديثه كله.
وقال: سمعت أحمد يقول: مروان بن معاوية ثقة.
وقال العجلي: مروان بن معاوية كوفي ثقة، وما حدث عن الرجال المجهولين فليس حديثه بشيء.
وقال في موضع آخر: مروان بن معاوية ثقة ثبت، من فزارة، من ولد عيينة بن بدر، من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يروي عن عيينة شيئاً، وما حدث عن المعروفين فصحيح، وما روى عن المجهولين ففيه ما فيه وليس بشيء.
عن علي بن الحسين بن جنيد، يقول: سمعت ابن نمير يقول: كان مروان بن معاوية يلتقط الشيوخ من السكك.
قال: وسألت أبي عن مروان بن معاوية الفزاري، فقال: صدوق، ولا يدفع عن صدق، وتكثر روايته عن الشيوخ المجهولين.
قال مهدي بن أبي مهدي: كان في خلق الفزاري شراسة، وكان له حفاظ، وكان معيلاً شديد الحاجة، وكان الناس يبرونه، فإذا بره الإنسان كان ما دام ذلك البر عنده في منزله يعرف فيه البر والانبساط إلى الرجل.(24/225)
قال: فنظرت فلم أجد شيئاً أبقى في منزل الرجل من الخل، ولا أرخص منه بمكة.
قال: فكنت أشتري جرة من خل، فأهدي له، فأرى موقع ذلك منه؛ فإذا فني أرى منه. فأسأل جاريته: أفني خلكم؟ فتقول: نعم. فأشتري جرة فأهديها له فيعود إلى ما كان عليه.
قال دحيم: ومات مروان بن معاوية في سنة ثلاث وتسعين ومئة.
وقال ابن مصفى: ومروان بن معاوية توفي سنة أربع وتسعين ومئة.
مروان بن موسى بن نصير
وفد على سليمان بن عبد الملك.
قال خليفة: ففيها - يعني سنة تسع وثمانين - أغزا موسى بن نصير ابنه مروان بن موسى السوس الأقصى، فبلغ السبي أربعين ألفاً.
مروان بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي
كان مع إخوته يزيد والمفضل وعبد الملك بني المهلب حتى استجاروا بسليمان بن عبد الملك، لما هربوا من الحجاج بن يوسف من العراق، فكتب فيهم سليمان من فلسطين إلى أخيه الوليد يسأله لهم الأمان، فأمنهم، فحملوا إلى الولي، فعفا عنهم.(24/226)
مروان بن هشام بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس وأمه أم عثمان بنت سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان بن عفان.
مروان بن الوليد بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ولي الصائفة في خلافة أبيه الوليد.
قال الوليد: وفي سنة ثلاث وتسعين غزا العباس بن الوليد الصائفة اليسرى، وغزا مروان بن الوليد الصائفة الأخرى، وخرج مسلمة من قبل الجزيرة، وبلغ الوليد بن هشام مرج الشحم.
قال خليفة: وغزا مروان بن الوليد فبلغ حنجرة، سنة ثلاث وتسعين.
قال محمد بن عمر: وفيها - يعني سنة ثلاث وتسعين - توفي مروان بن الوليد.
وقال: إن الذي غزا حنجرة مروان بن عبد الملك، فالله أعلم.
مروان بن يحيى بن الحكم
ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي(24/227)
مروان بن أبي حفصة
واسم أبي حفصة يزيد، مولى مروان بن الحكم الأموي، وكان مروان هذا من أصحاب عبد الملك بن مروان.
زعم المدائني: أنه كان لأبي حفصة ابن يقال له: مروان، سماه مروان بن الحكم بأسمه، وليس بالشاعر، وكان شجاعاً مجرباً، وأمد به عبد الملك الحجاج، وقال له: قد بعثت إليك مولاي مروان بن أبي حفصة، وهو يعدل ألف فارس؛ فشهد معه محاربة ابن الأشعث، فأبلى بلاءً حسناً، وعقرت تحته عدة خيول، فاحتسب بها الحجاج عليه من عطائه، فشكاه إلى عبد الملك وذم الحجاج عنده، فعوضه مكان ما أغرمه الحجاج.
مروان أبو عبد الملك مولى بني أسيد
روى عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: أغرنا مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حي، فمررنا بجبل فيه الحي، فأشرف علينا منهم مشرف، فقال: ما الذي ينجيكم منا؟ فقلنا: لا إله إلا الله. فقالها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حرز الجبل ومن فيه " أو قال: " ومن فيه ".
مروان أبو عبد الملك الذماري
القارئ، يلقب مزنة من أهل دمشق، قرأ القرآن، وولى قضاء دمشق.(24/228)
روى عن يحيى بن الحارث الذماري، قال: قلت لوائلة بن الأسقع الليثي: بايعت بيدك هذه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم.
قلت: أعطنيها أقبلها؛ فأعطانيها وقبلتها.
عن أيوب بن تميم القارئ، قال: كبر يحيى بن الحارث الذماري، قال: وكانت قراءة الجند على قراءة أبي عبد الملك القارئ، ولاإمام يحيى بن الحارث وعلى أبي عبد الملك قرأت، ثم أدركت يحيى بن الحارث حتى قرأت عليه، وكان يحيى يقف خلف الأئمة لا يستطيع أن يؤم من الكبر، فكان يرد عليهم إذا غفلوا.
مروان المغربي
وهو غير مروان بن عثمان السقلي حدث أبو عبد الله محمد بن المحسن بن أحمد السلمي، قال: مروان المغربي رجل وصل دمشق، ذكره خامل، وحاله عن الصلاح حائل، كان كثير الاختلاط بالقاضي الزكي، وكان يصله ويحسن إليه مدة مقامه بدمشق، وكان القاضي يشهد له بالفضل ووفور القسم من العلم، ويذكر أنه كان أفضل من مروان بن عثمان.
مرة بن جنادة الكلبي
ثم العليمي شاعر شهد صفين مع معاوية.
قال: " من الكامل "(24/229)
ألا سألت بنا غداة تبعثرت ... بكر العراق بكل عضب مقصل
برزوا إلينا بالرماح تهزها ... بين الخنادق مثل هز الصقيل
والخيل تضبر في الحديد كأنها ... أشد أصابتها رياح شمأل
مرة الداراني
مرى الرومي
أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسمع رسوله شجاع بن وهب، وآمن بالنبي ولم يره.
حدث عمر بن عثمان الجحشي، عن أبيه، قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر، وهو بغوطة دمشق، فخرج من المدينة في ذ الحجة سنة ست، وذلك مرجع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الحديبية، فكتب إليه: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن به وصدق به، وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك ".
قال: فختم الكتاب، ثم خرج به شجاع. قال: فانتهيت إلى حاجبه، فأخذه وهو يومئذ مشغول بتهيئة والألطاف لقيصر وهو جاء من حمص إلى إيلياء، حيث كشف الله عنه جنود فارس، فشكر الله. قال: فانتهيت إلى حاجبه، فأقمت عنده يومين أو ثلاثة. فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه. فقال حاجبه: لا تصل إليه - وكان رومياً، وكان اسمه مرى - قال: فكنت أحدثه عن صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما يدعو إليه، فيرق حتى يغلبه البكاء، ويقول: إني قرأت الإنجيل فأجد صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعينه، فكنت أراه يخرج بالشام، فأراه قد خرج بأرض القرظ، فأنا أومن به وأصدقائه، وأنا أخاف الحارث أن يقتلني؛ فكان يكرمني ويحسن ضيافتي، ويخبرني عن الحارث باليأس منه، ويقول: وهو يخاف من قيصر.(24/230)
فخرج الحارث يوماً، فوضع التاج على رأسه فأذن لي عليه، فدفعت إليه كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقرأه ثم رمى به، ثم قال: ومن ينزع ملكي؟ أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئته، علي بالناس. فلم يزل يفرض حتى الليل، وأمر بالخيول تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك بما ترى.
قال: وكتب إلى قيصر يخبره خيري وكتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه، فيصادف قيصر بإلياء وعنده دحية، فدفع إليه بكتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقرأه قيصر، ثم كتب إليه: ألا تسير إليه، وله عنه، ووافني بإيلياء.
قال: ورجع الكتاب وأنا مقيم. قال: فلما جاءه جواب الكتاب دعاني فقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ قال: فقلت: غداً. قال: فأمر لي بمئة مثقال من ذهب، قال: ووصلني بكسوة ونفقة، وقال: أقرئ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مني السلام، وأخبره أني متبع دينه.
قال شجاع: فقدمت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبرته بما قال لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صدق ".
ومات ابن أبي شمر عام الفتح، ووليهم جبلة بن الأيهم، وكان ينزل الجابية، وكان آخر ملوك غسان، فأدركه عمر بن الخطاب، وأسلم فلاحي رجلاً من مزينة فلطم عينه، فجاء به إلى عمر بن الخطاب فقال: تأخذ لي بحقي. فقال عمر: ألطم عينه، فقال جبلة: عيني وعينه سواء؟ قال عمر: نعم. قال جبلة: لا أقيم بهذه الدار أبداً، فلحق بعمورية مرتداً، حتى مات على ردته؛ وكان الحارث بن أبي شمر نازلاً بجلق.
مزاحم بن خاقان
أحد قواد المتوكل، قدم معه دمشق سنة ثلاث وأربعين ومئتين.(24/231)
وذكر أبو بكر أحمد بن كامل القاضي، قال: سنة أربع وخمسين ومئتين مات مزاحم بن خاقان، وكان على الحرب بمصر.
مزاحم بن أبي مزاحم زفر الثوري
ويقال: الضبي، الكوفي وفد على عمر بن عبد العزيز.
عن مزاحم بن زفر - وكان من قوم ربيع بن خثيم - قال: قال رجل للربيع بن خثيم: أوصني. قال: ائتني بصحيفة. قال: فكتب فيها: " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " إلى أن بلغ " لعلكم تتقون ". قال: إنما أتيتك لتوصيني. قال: عليك بهؤلاء.
وعنه، قال: قدمت على عمر بن العزيز، فسألني: من على قضائكم؟ قلت: القاسم بن عبد الرحمن. قال: كيف علمه؟ قلت: فيما فهم. قال: فمن أعلم أهل الكوفة؟ قلت: أتقاكم لله عز وجل.
وقال: قدمت على عمر بن عبد العزيز في وفد أهل الكوفة، فسألنا عن بلدنا وأميرنا وقاضينا، ثم قال: خمس إن أخطأ القاضي منهن خصلة كانت فيه وصمة؛ أن يكون فهماً، وأن يكون حليماً، وأن يكون عفيفاً، وأن يكون صلباً، وأن يكون عالماً يسأل عما لا يعلم.
روى عن مجاهد، عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
" أربع دنانير؛ ديناراً أعطيته مسكيناً، وديناراً أعطيته في رقبة، وديناراً أنفقته في سبيل الله، وديناراً أنفقته على أهلك، أفضلها الذي أنفقته على أهلك ".(24/232)
عن يحيى بن معين، أنه قال: مزاحم بن زفر الضبي ثقة.
مزاحم بن زفر بن علاج
ابن مالك بن الحارث بن عامر بن جساس - بكسر الجيم - بن نشبة بن ربيع بن عمرو بن عبد الله بن لؤي بن عمرو بن الحارث بن تيم الرباب بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، التيمي قدم دمشق، وحدث بها وبالعراق، وكان مزاحم فقيهاً شريفاً بالكوفة.
روى عن أيوب بن حوط، عن نفيع بن الحارث، عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا خرج أحدكم إلى سفر فليودع إخوانه، فإن الله جاعل له في دعائهم بركة ".
مزاحم بن عبد الوارث بن إسماعيل بن عباد
أبو الحسن البصري العطار قدم دمشق سنة تسع وثلاثين وثلاثمئة، ونزل دار خديجة بنت الحسين.
روى عن محمد بن زكريا الغلابي، بسنده إلى ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قسم من الله عز وجل لا يدخل الجنة بخيل ".
غريب جداً، والغلابي ضعيف.
وبه، عن الغلابي: حدثني رجل أنه دخل إلى بستان بالحجاز، فيه قصر، وفيه قبر صاحب البستان، وعليه مكتوب: " من البسيط "(24/233)
يا من يعلل باللذات مهجته ... أما ترى رب هذا القصر مهجورا
كان الأنيس ومأوى كل نتجع ... فأصبح اليوم بالبيداء مقبورا
مزاحم بن أبي مزحم
مولى عمر بن عبد العزيز أصله من سبي اليزيد، وسكن مكة.
عن مزاحم، قال: خرجت مع عمر بن عبد العزيز في بعض أسفاره. قال: فأمر بشاة فذبحت. قال: فجاء كلب حتى قام علينا، قال: فقال عمر: مزاحميا، ألق له بضعة فإنه المحروم.
وقال: قال لي عمر بن هبيرة: ما تركت لأحد من أهلي ما تركت لك.
وعن سفيان الثوري، قال: قال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: إن الولادة جعلوا العيون على العوام، وإني أجعلك عيناً على نفسي، فإن سمعت مني كلمة تربأ بي عنها، أو فعلاً لا تحبه، فعظني عنده، ونبهني عليه.
قال عمر بن عبد العزيز: أول من أيقظني لهذا الشأن مزاحم، حبست رجلاً فجاوزت في حبسه القدر الذي يجب عليه، فكلمني في إطلاقه، فقلت: ما أنا بمخرجه حتى أبلغ في الحيطة عليه ما هو أكثر مما مر عليه. قال: فقال مزاحم: يا عمر بن عبد العزيز، إني أحذرك ليلة تمخض بالقيامة، في صبيحتها تقوم الساعة، يا عمر، ولقد كدت أنسى اسمك مما أسمع: قال(24/234)
الأمير وقال الأمير. فوالله ما هو إلا أن قال ذلك فكأنما كشفت عن وجهي غطاء، فذكروا أنفسكم - رحمكم الله - فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
قال ميمون بن مهران: ما رأيت ثلاثة في بيت خيراً من عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك ومولاه مزاحم.
عن حنظلة بن عبد العزيز بن ربيع بن سبرة بن معبد الجهني، عن أبيه، عن جده، قال: قلت لعمر بن عبد العزيز وقد هلك ابنه وأخوه ومولاه مزاحم في أيام: يا أمير المؤمنين، ما رأيت رجلاً أصيب في أيام متوالية بأعظم من مصيبتك، ما رأيت مثل ابنك ابناً، ولا مثل أخيك أخاً، ولا مثل مولاك مولى. قال: فسكن ساعة، ثم قال لي: كيف قلت يا ربيع. فأعدتها عليه؛ فقال: لا والذي قضى عليهم بالموت ما أحب أن شيئاً من ذلك كان لم يكن، من الذي أرجوه من الله تعالى فيهم.
مزيد بن حوشب بن يزيد بن رويم
الشيباني أخو العوام بن حوشب حدث، قال: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تقلق إلا لهما.
مزيد
عن الوليد بن مسلم، قال: وأخبرني مزيد أنه كان يرى ابن أبي زكريا وأبا مخرمة وغيرهم من التابعين يغزون عليهم تباين إلى الركبتين تحت السراويلات مخافة السلب.
قال: ويكرهون لبس الثياب التي لا تستر شيئاً إلا العورة.(24/235)
مساحق بن عبد الله بن مساحق
ابن عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي القرشي، العامري، ابن أخي نوفل بن مساحق
مسافر بن أحمد بن جعفر
أبو المعافى البغدادي، الجزري، الخطيب بتنيس قدم دمشق، وحدث بها.
روى عن أبي عمر محمد بن جعفر القتات، بسنده إلى عبد الله، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء ".
مسافر ويقال مساور الخراساني
ولي دمشق في خلافة المنصور، وولاية محمدبن الأشعث بن يحيى الخراساني على دمشق، سنة أربعين ومئة.
مسافع بن تميم بن نصر
ابن مسافع بن عبد العزى بن جارية بن يعمر بن عوف بن حدى بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة شهد صفين مع معاوية، وكان معه لواء كنانة.
قال أبو نصر بن ماكولا: وأما حدى، أوله حاء مهملة مسافع بن عبد العزى، الذي عمر فطال عمره، وهو(24/236)
شاعر، ومن ولده مسافع بن تميم بن نصر بن مسافع، كان معه لواء كنانة يوم صفين مع معاوية.
مسافع بن عبد الله بن شافع
ممن أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد فتح دمشق، من قواد أهل اليمن.
عن خالدوعبادة، قالا: وبقي بدمشق مع يزيد بن أبي سفيان من قواد أهل اليمن عدد، منهم مسافع بن عبد الله بن شافع.
مسافع بن عبد الله بن شيبة
ابن عثمان بن أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر أبو سليمان القرشي، العبدري، المكي روى عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورها، ولولا ذلك لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب ".
وفي رواية: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الركن والمقام من ياقوت الجنة، ولولا ما مسهما من خطايا بني آدم لأضاءا ما بين المشرق والمغرب، وما مسهما من ذي عاهة ولا سقيم إلا شفي ".
وعن صفية بنت شيبة: أن امرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارهم، قالت لعثمان بن طلحة: لم دعاك(24/237)
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد خروجه من البيت؟ قال: قال لي: " إني رأيت قرني الكبش في البيت، فنسيت أن آمرك تخمرهما، فخمرهما، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصلياً ".
قال صامت: فقلت لسفيان: هو قرن الكبش الذي فدي بنابن إبراهيم؟ قال: نعم.
وحدث مسافع؛ أنه أتى عمر بن عبد العزيز ومعه ابن له، فقال: أما ابنه فأنزله دار الضيفان، قال: وأنزله معه في البيت، وكانت امرأته ذات قرابة. قالت: فصلى ليلة المغرب، ثم دخل فصلى في مسجد البيت، فبكى فأطال البكاء، فقالت له امرأته: يا أمير المؤمنين، انصرف إلى ضيفك فعشه ثم شأنك؛ فانصرف وأقبل يعتذر، وقال: يا مسافع، كيف يسيغ الرجل الطعام والشراب وليس أحد بين المشرق والمغرب يظلم بمظلمة إلا كنت أنا صاحبه؟! قال ابن سعد: وأمه أم ولد، وكان قليل الحديث.
وقال العجلي: مسافع بن شيبة، حاجب الكعبة، مكي، ثقة.
مساور بن شهاب بن مسرور
ابن سعد بت أبي الغادية يسار بن سبع أبو الحسن المزني روى عن أبيه شهاب، عن أبيه مسرور، عن جده، عن أبيه، قال: فقد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا الغادية في الصلاة، فإذا به قد أقبل، فقال: " ما خلفك عن(24/238)
الصلاة يا أبا الغادية؟ ". فقال: ولد لي مولود يا رسول الله. فقال: " هل سميته؟ " فقال: لا. قال: " فجئ به ". فجاء به فمسح على رأسه بيده وسماه سعداً.
مساور بن عتبة الربعي
من وجوه أصحاب مروان بن محمد الذين خرجوا معه من الجزيرة إلى دمشق في طلب الخلافة، وكان المساور أميراً على من معه من ربيعة.
مساور بن قيس بن زهير
ابن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس ابن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان، العبسي وفد على الوليد بن عبد الملك يستمنحه في أيام عبد الملك، ويدل عليه بالخؤولة، فإن أم الوليد عبسية، فلم يصادف عنده ما أراد فهجاه.
ذكر أبو الحسن المدائني، قال: كان جد برز العبسي - يعني جد برز بن كامل بن برز - سيداً، وقد هجاه المساور بن قيس العبسي، أتاه فلم يصله، فتحول عنه وقال: " من الوافر "
ثلاثة أشهر في دار برز ... يرجى نائلاً عند الوليد
فلا يشكى الكلال بدار برز ... ولكن أن تحوب فلا تعودي
فإن زهد الوليد كما زعمتم ... فما ورث الزهادة من بعيد
فقال عبد الملك بن مروان: ممن ورث الزهادة؟ قال: منا. قال: لو قلت غير هذا لقتلتك.
وقال أيضاً: " من المتقارب "
فقدت الوليد وأنفاً له ... كثيل القعود أبى أن يبولا(24/239)
فليت لنا خالداً بالوليد ... وعبد العزيز بيحيى بديلا
أنحن قعدنا بأبنائنا ... أم القوم أنج منا فحولا
فقال له عبد الملك: من قعد به؟ قال: نحن يا أمير المؤمنين.
مسبح الداراني
حدث، قال: رأيت أبا سليمان الداراني وعليه قباء أحمر وقلنسوة حمراء مقلوبة وخف أحمر.
مستورد بن قدامة الباهلي
من أهل العراق، وفد على معاوية، وكان ممن شهد لزياد أنه ابن أبي سفيان.
مستهل بن داود التميمي
روى عن عبد السلام بن مكلبة، بسنده إلى أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عزة العرب كنانة، وأركانها تميم، وخباؤها أسد، وفرسانها قيس، ولله تبارك وتعالى من أهل السموات فرسان، وفرسانه في الأرض قيس ".
مستهل بن الكميت بن زيد
ابن خنيس بن مجالد بن وهيب بن عمروبن سبيع ويقال: ابن زيد بن خنيس بن مجالد بن ذؤيبة بن قيس بن عمرو بن سبيع بن مالك بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة، الأسدي(24/240)
شاعر ابن شاعر، وفد على هشام بن عبد الملك مع أبيه حين هرب من خالد القسري.
ذكر أبو الفرج علي بن الحسين في كتابه، قال: وحضر المستهل بن الكميت باب عيسى بن موسى، فكان يكرمه، فبلغه أنه قد غلب عليه الشراب، فاستخف به، وكان آخر من يدخل علىعيسى بن موسى قوم يقال لهم: الراشدون، يؤذن لهم في القعود، فأدخل المستهل معهم فقال: " من المتقارب "
ألم تر أني لما حضرت ... دعيت فكنت مع الراشدينا
ففزت بأحسن أسمائهم ... وأقبح منزلة الداخلينا
قال الأصمعي: حبس عبد الله بن علي المستهل بن الكميت، فكتب إليه: " من الطويل "
لئن نحن خفنا في زمان عدوكم ... وخفناكم إن البلاء لراكد
فأطلقه.
مسجر السكسكي
روى عن عبد الله بن مساحق، عن أبي الدرداء، قال: قلنا: يا رسول الله، ماذا يروا أمتك؟ أو ماذا ينتقم منها؟ قال: " فتن تأتي من المشرق كقطع الليل المظلم، يهلك فيها أمتي أفناداً " قلت: بأبي وأمي، وأي شيء أفناداً؟ قال: " زمراً زمراً ".(24/241)
مسدد بن علي بن عبد الله
ابن العباس بن حميد بن العباس بن الوليد بن أبي السجيس أبو المعمر بن أبي طالب الأملوكي، الحمصي إمام جامع حمص وخطيبها، سمع بحمص بجمشق روى عن عبد الوهاب بن الحسن الكلابي، بسنده إلى عائشة؛ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ".
وعن أبي حفص عمر بن علي بن الحسين بن إبراهيم العتكي الأنطاكي، بسنده إلى أنس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق ".
غريب جداً.
قال أبو محمد الكتاني: توفي شيخنا أبو المعمر إمام مسجد سوق الأحد في ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وأربعمئة، وكان فيه تساهل.
مسرور بن صدقة
أبو صدقة الحارثي من أهل دمشق.
روى عن الأوزاعي، بسنده إلى أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أراد أن ينفر من منى، قال: " نحن نازلون - إن شاء الله - بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا الكفر ". يعني بذلك المحصب، وذلك أن قريشاً وبني كنانة تقاسموا على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم، ولا يكون بينهم وبينهم شيء حتى يسلموا إليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(24/242)
مسرور بن مساور بن سعد
ابن أي الغادية يسار بن سبع المزني روى عن جده سعد بن أبي الغادية، عن أبيه، قال: فقد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا الغادية في الصلاة، فإذا به قد أقبل، فقال: " ما خلفك عن الصلاة يا أبا الغادية؟ " فقال: ولد لي مولود يا رسول الله. فقال: " هل سميته؟ " فقال: لا. قال: " فجئ به " فجاء به فمسح على رأسه، وسماه سعداً.
مسرور بن الوليد بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس أبو سعيد الأموي وجهه يزيد بن الوليد من دمشق في جيش لقتال أهل حمص حين قاموا بطلب دم الوليد بن يزيد، ثم استعمله يزيد على قنسرين، وأم مسرور أم ولد.
وكانت داره بدمشق بناحية سوق القمح.
مسروق بن عبد الرحمن
وهو الأجدع بن مالك بن أمية بن عبد الله بن مر بن سلامان بن معمر بن عائشة، ويقال: أبو أمية الهمداني، ثم الوادعي، الكوفي وقدم الشام في طلب الحديث، ثم حضر تحكيم الحكمين بدومة الجندل.(24/243)
روى عن عائشة، قالت:
فتلت لهدى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القلائد قبل أن يحرم.
عن الشعبي، قال: خرج مسروق إلى البصرة، إلى رجل يسأله عن آية، فلم يجد عنده فيها علماً، وأخبر عن رجل من أهل الشام يقدم علينا ها هنا، ثم خرج إلى الشام، إلى ذلك الرجل في طلبها.
قال أبو بكر الخطيب: يقال: إنه سرق وهو صغير، ثم وجد فسمي مسروقاً، وكان حضر مع علي حرب الخوارج بالنهروان.
عن مسروق بنالأجدع، قال: كنت مع أبي موسى أيام الحكمين، وفسطاطي إلى جانب فسطاطه، فأصبح الناس ذات يوم قد لحقوا به - بمعاوية - من الليل، فلما أصبح أبو موسى رفع رفرف فسطاطه فقال: يا مسروق بن الأجدع. قلت: لبيك أبا موسى. قال: إن الأمرة ما اؤتمر فيها، وإن الملك ما غلب عليه بالسيف.
عن أبي داوا، قال: مسروق بن الأجدع، كان أبوه أفرس فارس باليمن، ومسروق ابن أخت عمرو بن معد يكرب، وعمرو خاله.
كان عيسى بن يونس يقول إذا حدث عن مسروق: كان ضخماً في الجاهلية، وفي الإسلام أضخم وأضخم، وكان أبوه همدان، وقادها في الجاهلية.(24/244)
قال مسروق: لقيت عمر بن الخطاب، فقال لي: من أنت؟ قلت: مسروق بن الأجدع. فقال عمر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الأجدع: الشيطان " ولكنك مسروق بن عبد الرحمن.
قال عامر: فرأيته في الديوان مكتوباً: مسروق بن عبد الرحمن. فقلت: ما هذا؟ فقال: هكذا سماني عمر.
عن عامر الشعبي، قال: ما علمت أن أحداً كان أطلب للعلم في أفق من الآفاق من مسروق.
عن أبي الأحوس، قال: سمعت ابن مسعود يقول لمسروق: يا مسروق، أصبح يوم صومك دهيناً كحيلاً، وإياك وعبوس الصائمين، وأجب دعوة من دعاك من أهل ملتك ما لم يظهر لك منه معزاف أو مزمار، وصل على من مات منهم، ولا تقطع عليه الشهادة، واعلم أنك لو تلقى الله بأمثال الجبال ذنوباً خير لك من أن تلقاه - كلمة ذكرها - وأن تقطع عليه الشهادة؛ يامسروق، وصل عليه وإن رأيته مصلوباً أو مرجوماً، فإن سئلت فأحل علي، وإن سئلت أحلت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن مرة، قال: ما ولدت همدانية مثل مسروق.
قال الشعبي: أحدثك عن القوم كأنك شهدتهم، كان شريح أعلمهم بالقضاء، وكان عبيدة يوازي شريحاً في علم القضاء، وأما علقمة فانتهى إليه علم عبد الله بن مسعود لم يجاوزه، وأما مسروق فأخذ عن كل، وكان الربيع بن خثيم أعلمهم علماً وأورعهم ورعاً.(24/245)
عن إبراهيم، قال: انتهى علم أهل الكوفة إلى ستة من أصحابه - يعني ابن مسعود - فهم اللذين كانوا يفتنون الناس ويعلمونهم ويقؤئونهم؛ علقمة بن قيس النخعي، والأسود بن يزيد النخعي، ومسروق بن الأجدع الهمداني، وعبيدة السلماني، والحارث بن قيس الجعفي، وعمروبن شرحبيل الهمداني.
قال العجلي: مسروق بن الأجدع، يكنى أبا عائشة، كوفي، تابعي، ثقة، وكان أحد أصحاب عبد الله الذين يقرؤون ويفتون، وكان يصلي حتى ترم قدماه.
قال الشعبي: كان مسروق أعلم بالفتوى من شريح، وكان شريح أعلم بالقضاء من مسروق، وكان شريح يستشير مسروقاً، وكان مسروق لا يستشير شريحاً.
وقال: إن أهل بيت خلقوا للجنة فهم هؤلاء؛ الأسود وعلقمة ومسروق.
قال مسروق: لا تنشر برك إلا عند من يبغيه.
وقال: إني أخاف أن أقيس فتزل قدم بعد ثبوتها.
قال خليفة في تسمية قضاة الكوفة في زمن معاوية: كان شريح قاضياً عليها فأحدره زياد معه إلى البصرة فقضى مسروق بن الأجدع حتى رجع شريح.
وذكر أن شريحاً غاب بالبصرة سنة.(24/246)
عن قمير امرأة مسروق: أن مسروقاً لم يكن يأخذ على القضاء رزقاً.
قال مسروق: لأن أقضي يوماً بعدل وحق أحب إلي من أغزو في سبيل الله سنة.
وعن إبراهيم بن المنتشر ابن أخي مسروق، عن أبيه؛ أن خالداً - يعني ابن عبد الله بن أسيد - كان عاملاً على البصرة، أهدى إلى مسروق ثلاثين ألفاً وهو يومئذ محتاج فلم يقبلها.
قال مسروق: أوثق ما أكون بالرزق حين يجيء الخادم فيقول: ما في البيت طعام ولا دقيق ولا ماء.
وقال: أطيب ما أكون نفساً يوم تقول المرأة: ما عندنا درهم ولا قفيز.
عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه، قال: أصبح مسروق يوماً وليس لعياله رزق، فجاءته امرأته قمير، فقالت له: يا أبا عائشة، إنه ما أصبح لعيالك اليوم رزق. قال: فتبسم وقال: والله ليأتيهم الله برزق.
حدث أبو إسحاق:
أن كسروقاً زوج ابنته السائب - يعني ابن الأقرع - على عشرة آلاف اشترطها لنفسه، وقال: جهز امرأتك من عندك. قال: وجعلها مسروق في المجاهدين والمساكين والمكاتبين.(24/247)
قال أبو وائل: كنت مع مسروق في السلسلة. فما رأيت أميراً قط كان أعف منه، ما كان يصيب إلا ماء دجلة.
عن مسلم، قال: غاب مسروق إلى السلسلة سنتين، ثم قدم، فلما قدم نظر أهله في خرجه فأصابوا فأساً بغير عود، فقالوا: غبت عنا سنتين ثم جئتنا بفأس بغير عود! قال: إنا لله، تلك فأس استعرناها نسينا نردها.
قال مسروق: ما عملت عملاً أخوف عندي أن يدخلني النار من عملكم هذا، وما بي أن أكون ظلمت مسلماً أو معاهداً ديناراً ولا درهماً، ولكن بي هذا الجبل الذي لم يسنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أبو بكر ولا عمر. قال: فقيل له: ما حملك على الدخول فيه؟ قال: لم يدعني شريح وزياد والشيطان حتى أدخلوني فيه.
عن الشعبي، قال: استعمل زياد مسروقاً على السلسلة، فانطلق، فمات بها. فقيل له: كيف خرج من عمله؟ قال: ألم تروا إلى الثوب يبعث به إلى القصار فيجيد غسله، فكذلك خرج من عمله.
وعنه، قال: لما بعث زياد مسروقاً إلى السلسلة شيعه أصحابه، فلما انصرفوا قال له شاب: يا مسروق، إنك قد أصبحت قريع القراء، وإن زينك لهم زين، وإن شينك لهم شين، فلا تحدث نفسك بفقر ولا بطول أمل.
عن مسلم، قال: وكان - يعني مسروقاً - على السلسلة، فقدم إلى الكوفة، فاشترى كبشاً باثنين(24/248)
وعشرين درهماً، فلم يكن عنده نقد، فاستقرضها من بعض جيرته، فدخل القصر وأنا معه، فلقيه قوم فأثنوا عليه فقالوا: جزاك الله خيراً فقد عدلت وأحسنت؛ فلم يزد على أن قرأ هذه الآية " أفمن وعدناه وعداً حسناً " حتى بلغ " ثم هو يوم القيامة من المحضرين ".
قال عبيدة بن يعيش: دعا أعرابي لمسروق فقال: وقاك الله خشية الفقر وطول الأمل، ولا جعلك دريئة للسفهاء ولا شيناً على الفقهاء.
قال سعيد بن جبير: لقيني مسروق فقال: يا سعيد، ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نغفر وجوهنا في هذا التراب.
قال أبو إسحاق: حج مسروق فلم ينم إلا ساجداً على وجهه حتى رجع.
قالت امرأة مسروق: كان - تعني مسروقاً - يصلي حتى تورم قدماه، فربما جلست نهاري أبكي مما أراه يصنع بنفسه.
قال أنس بن سيرين: بلغنا بالكوفة أن مسروقاً كان يفر من الطاعون، فأمكر ذاك محمد وقال: انطلق بنا إلى امرأته نسألها. قال: فدخلنا عليها فسألناها عن ذلك، فقالت: كلا والله، ما كان يفر، ولكنه كان يقول: أيام تشاغل، فأحب أن أخلو للعبادة، وكان شيخاً يخلو للعبادة.
قالت: فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه، وكان يصلي حتى تورمت قدماه.(24/249)
قالت: وسمعته يقول: الطاعون والبطن والنفساء والغرق، من مات فيهن مسلماً فهي له شهادة.
قال الشعبي: غشي على مسروق بن الأجدع في يوم صائف وهو صائم. وكانت عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تبنته فسمى ابنته عائشة، وكان لا يعصي ابنته شيئاً. قال: فنزلت إليه فقالت: يا أبتاه أفطر واشرب. قال: ما أردت بي يا بنية؟ قالت: الرفق. قال: يا بنية، إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
قال مسروق: كفى بالرجل علماً أن يخشى الله، وكفى بالرجل جهلاً أن يعجب بعمله.
وقال: المرء حقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها فيذكر ذنوبه فيستغفر الله.
عن حمزة بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، قال: بلغني أن مسروق بن الأجدع أخذ بيد ابن أخ له فارتقى به على كناسة بالكوفة فقال: ألا أريكم الدنيا؟ هذه الدنيا أكلوها فأفنوها، لبسوها فأبلوها، ركبوها فأنضوها، سفكوا فيها دماءهم، واستحلوا فيها محارمهم، وقطعوا فيها أرحامهم.
عن أبي الضحى، عن مسروق: أنه سئل عن بيت من شعر، فكرهه، فقيل له، فقال: إني أكره أن أجد في صحيفتي شعراً.
عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، قال: كان مسروق بن الأجدع د شهد القادسية هو وثلاثة إخوة له، عبد الله وأبو بكر والمنتشر بنو الأجدع، فقتلوا يومئذ بالقادسية، وخرج مسروق فشلت يده وأصابته آمة.(24/250)
وعن مسلم، عن مسروق؛ أنه كانت هـ آمة، فقال: ما أحب أنها ليست بي، لعلها لولم تكن بي كنت في بعض هذه. قال أبو شهاب: أظنه يعني الجيوش.
قال الشعبي:
كان مسروق إذا قيل له: أبطأت عن علي وعن مشاهده - ولم يكن شهد معه شيئاً من مشاهده، فأراد أن يناصحهم الحديث - قال: أذكركم بالله، أرأيتم لو أنه حين صف بعضكم لبعض، وأخذ بعضكم على بعض السلاح يقتل بعضكم بعضاً، فتح باب من السماء وأنتم تنظرون. ثم نزل منه ملك حتى إذا كان بين الصفين قال: " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطا إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً " أكاد ذلك حاجزاً بعضكم عن بعض؟ قالوا: نعم. قال: فوالله لقد فتح الله لها باباً من السماء، ولقد نزل بها ملك كريم على لسان نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنها لمحكمة في المصاحف ما نسخها شيء.
عن ابن أبي ليلة، قال: شهد مسروق النهروان مع علي، فلما قتلهم قام علي وفي يده قدوم، فضرب باباً وقال: صدق الله ورسوله. فقلت: أسمعت من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا شيئاً؟ قال: لا، ولكن الحرب خدعة.
وعن عامر الشعبي قال: ما مات مسروق حتى استغفر الله من تخلفه عن علي.
قال مسروق: ما غبطت أحداً ما غبطت مؤمناً في لحده، قد استراح من نصب الدنيا وأمن عذاب الله.(24/251)
عن أبي وائل، قال: لما احتضر مسروق بن الأجدع قال: أموت على أمر لم يسنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أبو بكر ولا عمر، أما إني لست أدع صفراء ولا بيضاء إلا ما في سيفي هذا، فبيعوه وكفنوني به.
عن الفضل بن عمرو، قال: مات مسروق وله ثلاث وستون.
قال المدائني: توفي مسروق سنة ثلاث وستين.
وقيل: اثنتين وستين.
قال ابن شهاب: حدثني ملاحة - نبطية مشركة كانت تحمل له الملح - قالت: كنا إذا قحط المطر نأتي قبر مسروق - وكان منزلها بالسلسلة - فنستسقي فنسقى؛ قالت: فننضح قبره بخمر.
قالت: فأتانا في النوم فقال: إن كنتم لا بد فاعلين فبنضوح.
ومات مسروق بالسلسلة بواسط رحمة الله تعالى عليه.
مسروق العكي
أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أعلم له رؤية ولا رواية، وشهد وقعة اليرموك أميراً على بعض الكراديس.
عن سيف بن عمر، قال: وكان مسروق بن فلان في كردوس - يعني يوم اليرموك -.
وعن خالد وعبادة، قالا: وبعث - يعني أبا عبيدة - مسروقاً وعلقمة بن حكيم فكانا بين دمشق وفلسطين.(24/252)
مسعدة كان من الغزاة
مسعدة مولى خالد
ابن عبد الله القسري.
ذكر أبو الحسين الرازي؛ أنه أبو عمرو بن مسعدة، وكان خالد استعمله على الطراز بالكوفة.
مسعدة بن الحرسي القرشي
من أهل دمشق.
مسعود بن الأسود بن حارثة
ابن نضلة بن عوف بن عبيد بن عويج، ويقال: عوف بن عدي بن عويج ابن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب، القرشي، العدوي.
أخو مطيع بن الأسود له صحبة، استشهد يوم مؤتة بأرض البلقاء من أطراف دمشق، وهو ابن عم مسعود بن سويد بن حارثة.
حدث قال: لما سرقت المرأة القطيفة من بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظمنا ذلك، وكانت من قريش، فجئنا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكلمناه، فقلنا: يا رسول الله، نحن نفديها بأربعين(24/253)
أوقية. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تطهر خير لها ". فلما سمعنا لين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انطلقنا إلى أسامة بن زيد فكلمناه، فقلنا: اشفع لنا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شأن هذه المرأة، نفديها بأربعين أوقية؛ فلما رأى ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام فينا خطيباً، فقال: " يا أيها الناس، ما إكثاركم على حد من حدود الله وقع على أمة من إماء الله، فواللذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد كانت لقطعتها ". فأيس الناس، فقطع يدها.
قال ابن البرقي: مسعود بن الأسود قتل يوم مؤتة في زمان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنة ثمان، وأمه العجماء بنت عامر.
وقال أبو سعيد ابن يونس: شهد فتح مصر، وكان ممن بايع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت الشجرة.
وذكر الزبير بن بكار أن الذي استشهد بمؤتة ابن عمه مسعود بن سويد، وتابعه محمد بن سعد كاتب الواقدي، فلا أدري أحد القولين وهم. والله تعالى أعلم.
مسعود بن سعد الجدامي
وفد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يسكن البلقاء.
عن عمرو بن أمية الضمري وغيره، قالوا:
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رجع من الجديبية في ذي الحجة سنة ست أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. فذكر الحديث إلى أن قال: وكان فروة بن عمرو الجذامي عاملاً لقيصر على عمان من أرض البلقاء، فلم يكتب إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسلم فروة، وكتب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسلامه وأهدى له، وبعث من عنده رسولاً من قومه يقال له:(24/254)
مسعود بن سعد؛ فقرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتابه، وقبل هديته، وكتب إليه جواب كتابه، وأجاز مسعوداً باثنتي عشرة أوقية ونش، وذلك خمسمئة درهم.
مسعود بن سعد الأشجعي
ممن أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستشهد يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة.
ويقال: كانت في المحرم سنة أربع عشرة.
مسعود بن سويد بن حارثة
ابن نضلة بن عوف بن عدي بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب العدوي، القرشي له صحبة، قتل بمؤتة من أرض البلقاء شهيداً، وهو ابن عم مسعود بن الأسود.
قال محمد بن سعد: وكان قديم الإسلام، وقتل يوم مؤتة شهيداً في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة. وقيل: إن الشهيد بمؤتة مسعود بن الأسود بن حارثة، فالله أعلم.
مسعود بن علي بن الحسين بن مسعود
أبو عمرو القاضي الأردبيلي المعروف بابن الملحي قدم دمشق، وحدث بها.
روى عن أبي علي محمد بن وشاح، بسنده إلى ابن عباس، قال: بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الليل فتوضأ، ثم صلى ثماني ركعات، ثم أوتر بثلاث، ثم اضطجع، ثم قام فصلى الركعتين، ثم خرج.(24/255)
قال القاضي أبو عمرو: لما فرغت من قراءة كتاب " اللمع في أصول الفقه " على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ببغداد أنشدته: " من البسيط "
إن الإمام أبا إسحاق درس لي ... ما صاغه من أصول الفقه في اللمع
فسوف أشكر ما يأتيه من كرم ... علامة العلماء الألمعي معي
وأنشد لنفسه: " من الوافر "
أراني هدني طول الليالي ... كعنين تعانيه عجوز
يقول الشافعي يجوز هذا ... وقول أبي حنيفة لا يجوز
قال ابن صابر: سألت القاضي أبا عمرو
مسعود بن علي عن مولده فقال: في يوم عاشوراء من سنة إحدى وعشرين وأربعمئة.
مسعود بن علي
أبو البركات البغدادي قدم دمشق، وحدث بها.
مسعود بن محمد بن مسعود
أبو المعالي النيسابوري. الفقيه الشافعي المعروف بالقطب كان أبوه من طريثيث، وكان أديباً يقرأ عليه الأدب، ونشأ هو من صباه في طلب العلوم، وتفقه على جماعة بنيسابور، ورحل إلى مرو وتفقه عند شيخنا أبي إسحاق إبراهيم بن محمد المروذي، وسمع الحديث بنيسابور من شيخنا أبي محمد هبة الله بن سهل(24/256)
السيدي وغيره، ودرس في المدرسة النظامية بنيسابور مع الشيوخ الكبار نيابة عن ابن بنت الجويني، واشتغل بالوعظ، وقدم علينا دمشق سنة أربعين وخمسمئة وعقد مجلس التذكير، وحصل له قبول، وتولى التدريس بالمدرسة المجاهدية، ثم تولى التدريس بالواوية الغربية بعد موت شيخنا أبي الفتح نصر الله بن محمد الفقيه، وكان حسن النظر، مرابطاً على التدريس، ثم خرج إلى حلب، وتولى التدريس بها مدة في المدرستين اللتين بناهما له نور الدين وأسد الدين رحمهما الله، ثم خرج من حلب ومضى إلى همذان، وتولى بها التدريس، وهو بها ألى الآن له قبول، ثم رجع إلى دمشق وتولى التدريس بالزاوية الغربية، وحدث بها إلى أن مات، وقد تفرد برئاسة أصحاب الشافعي.
وكان حسن الأخلاق، كريم العشرة، متودداً إلى الناس، متواضعاً قليل التصنع.
مات رحمه الله آخر يوم من شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وخمسمئة، وصلى عليه صبيحة الجمعة يوم عيد الفطر، ودفن في المقبرة التي أنشأها جوار مقبرة الصوفية غربي دمشق على الشرف القبلي.
مسعود بن أبي مسعود
أحد ولاة الصائفة لمعاوية.
قال خليفة: وفيها - يعني سنة ست وخمسين - شتا مسعود بن أبي مسعود أرض الروم.
مسعود بن مصاد
أو ابن أنيف بن عبيد بن مصاد الكلبي من أهل المزة، شاعر وفارس.
ذكر له أبو المظفر محمد بن أحمد بن محمد الأبيوردي النسابة فيما جمعه من نسب آل أبي سفيان: " من الوافر "(24/257)
ألا صرمت حبالك واستمرت ... وحلت عقدة العهد الوثيق
فإن تصرم حبالي أو تبدل ... فقد يسلو الصديق عن الصديق
مسعود بن مطيع السجزي
سمع بدمشق.
مسكين بن أنيف
ويقال: ابن عامر بن أنيف الدارمي اسمه ربيعة، تقدم ذكره في حرف الراء.
مسكين بن بكير
أبو عبد الرحمن الحراني سمع بدمشق وحمص والعراق والجزيرة والحجاز.
روى عن شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس؛ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف على نسائه بغسل واحد.
وعن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: أهل ناس مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعمرة في حجة، وكنت ممن أهل بعمرة.
وعن الأوزاعي، عن ابن شهاب، عن أنس؛ أن النبي شرب قائماً.
قال أبو عروبة: في الطبقة الرابعة من أهل الجزيرة مسكين بن بكير الحذاءالحراني، كنيته أبو عبد الرحمن، سمعت محمد بن الحارث قال: كان أبيض الرأس واللحية.(24/258)
قال عنه يحيى بن معين: ليس به بأس.
وقال أبو حاتم: لا بأس به، صالح الحديث، يحفظ الحديث.
قال أبو جعفر بن نفيل: مات مسكين بن بكير سنة ثمان وتسعين ومئة.
مسلمة بن إبراهيم بن عبد الله
ابن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص القرشي، الأموي كان يسكن الراهب خارج دمشق.
مسلمة بن إبراهيم البيروتي
أمه أم ولد.
مسلمة بن أبي بكر بن يزيد
ابن معاوية بن أبي سفيان الأموي أمه أم ولد.
مسلمة بن جابر اللخمي
روى عن منبه بن عثمان، بسنده إلى جابر بن عبد الله، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذات يوم: " أتحبون أن يكون لكم سدس الجنة؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، عرضها السموات والأرض. قال: " فخمسها؟ " قالوا: نعم. قال: "(24/259)
فالربع؟ " قالوا: فذاك أكبر. قال: " أرجو أن أكون أنا وأمتي نصف أهل الجنة، ثم أقاسم الأنبياء النصف الباقي ".
مسلمة بن حبيب بن مسلمة الفهري
كان أميراً على جند دمشق مع مسلمة بن عبد الملك في غزاة القسطنطينية.
عن الوليد، قال: وأخبرني غير واحد، قالوا: لما قطع مسلمة الدرب وأفضى إلى ضواحي أرض الروم أتاه كتاب ليون بن قسطنطين، وهو عامل لصاحب قسطنطينية على الضواحي إلى مسلمة يعلمه ولاية من يلي، وأنه إن أعطاه ما يسأله قدم عليه فناصحه وقواه على فتحها؛ فقرأ مسلمة كتاب ليون على الأمراء وأهل مشورته، فاجتمع رأيهم جميعاً على إجابته إلى ما سأل، وسكت مسلمة بن حبيب بن مسلمة - وهو أمير الجند - فقال مسلمة بن عبد الملك: أيها الشيخ، مالك لا تتكلم؟ فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر الروم فقال: " أصحاب صحر ونحر ومكر " وهذه إحدى مكرهم، فلا تعطه إلا السيف. فتضاحك به أمراء الأجناد، وقالوا: كبر الشيخ. وقالوا: ما عسى أن يكون عند ليون مع هذه الجموع؟ فكتب إليه مسلمة بأمانة على ما سأل؛ فقدم في اثني عشر ألفاً من أساورته، فكاتبه على مناصحته ومظاهرته على الروم ودلالته على ما فيه سبب فتح القسطنطينية على بطرقته، وتمليكه على جماعة الروم الذين يؤدون الجزية، كبطريق جرزان وأرمينية؛ فكاتبه على ذلك وأشهد عليه، وذكر الحديث في خديعة ليون مسلمة حتى جمع غلال ما حول القسطنطينية، وإشارته عليه بالخروج إلى بعض الوجوه، ومكاتبة ليور الروم ليملكوه عليهم ويخلي بينهم وبين حمل الغلال، حتى كان ذلك سبب رحيل مسلمة عن القسطنطينية.(24/260)
مسلمة بن سعيد بن العاص
ابن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي، الأموي وفد على عمر بن عبد العزيز، ولم أجد له ذكراً في كتاب بن بكار.
عن أيوب بن سليمان الرصافي، قال: سمعت أبي يقول: لما ثقلت وطأة عمر بن عبد العزيز على بني أمية اجتمعوا ببابه منكرين لما كان منه، وفي القوم مسلمة بن عبد الملك ومسلمة بن سعيد بن العاص، فقال مسلمة بن سعيد لمسلمة بن عبد الملك: يا أبا سعيد، ما تقول في هذا الأمر الذي نحن فيه؟ فقال: أرى أنه إبراء من الأضرار نزل بكم في دنياكم نقمة عليكم بقول هذا الرجل، وما أرى لكم شيئاً تلجؤون إليه إلا الصبر إلى انقضاء مدته، فإما خلفه من كان يرى بكم ما كان يراه خلفاؤكم وإما اقتدى بسيرته فيكم، فراضكم الصبر على القناعة. فقال له مسلمة بن سعيد: أحلتنا على مدة تعتادونها، ما لي نفس تقوى على هذا، فقوموا بنا.
فدخل الحاجب على عمر فأعلمه بمكانهم، فقال: قد عرفت الأمر الذي جمعهم، والله لا انصرفوا إلا بما يسود وجوههم، أدخل علي زعيمهم مسلمة بن سعيد؛ فأدخله، فسلم وجلس، فأخذ في تقريظ عمر. فقال له: دع هذا وخذ فيما جئت له. فقال: يا أمير المؤمنين، إن الأمر قد أفضى بأهل بيتك إلى ما يرق لهم منه العدو. فقال له عمر: هيهات، تلك أثرة حملها المعتدون على كاهل الدين فأوقروه، إنما يتراد به في صدورهم حسرات لما أسلفوا، والله ما ازددت لهم نظراً إلا ازداد البلاء عليهم ثقلاً. فقال له مسلمة: فادفع إلينا صكاك قطائعنا من خلفائنا. فقال عمر: ذكرتني الطعن وكنت ناسياً، يا جارية ذلك الصندوق؛ فوضع بين يديه، ففتحه وجعل يخرج تلك السجلات فيحرقها كتاباً كتاباً. فقال له مسلمة: لا صبر على هذا. فقال: بلى والله تصبر عليه غير مكرم في دنيا ولا مأجور في دين. فقال له: أراحنا الله منك. فقال له عمر: لا ضير، هلم فيدي معقودة بيدك إلى أن نوافي الموسم، فأجعلها إلى المسلمين، فيكونون هم الذين يختارون(24/261)
لأنفسهم. فقال له مسلمة: لا يمنعني ما يسوؤني في أهل بيتي أن أقول فيك الحق، والله لا يعدلون بها عنك.
مسلمة بن سعيد بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم الأموي روى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة؛ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يوتر بخمس ركعات، لا يفصل في شيء منهن إلا الخامسة.
قال عنه أبو حاتم: أرى أحاديثه صحاحاً.
وقال الدارقطني: يعتبر به.
مسلمة بن عبد الله بن ربعي
الجهني، الداراني، العدل روى عن خالد بن اللجلاج، عن أبيه، قال: كنا نعمل في السوق، فأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجل فرجم، فجاء رجل فسألنا أن ندله على مكانه الذي رجم فيه، فجئنا به حتى أتينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلنا: يا رسول الله، إن هذا جاء يسألنا عن ذلك الخبيث الذي رجم اليوم. فقال رسول الله: " لا تقولوا: الخبيث، فوالله لهو أطيب عند الله من المسك ".(24/262)
وعن عمير بن هانئ، بسنده إلى أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحلوا الله يغفر لكم ". قال مروان بن محمد: قوله: أحلوا الله، أي أسلموا لله يغفر لكم.
قال عبد الرحمن بن إبراهيم.
مسلمة بن عبد الله الجهني، كان على بيت المال زمن هشام، وكان أيضاً على تابوت الزكاة بدمشق.
مسلمة بن عبد الحميد الضبي
من أهل دمشق.
مسلمة بن عبد الملك بن مروان
ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس أبو سعيد، وأبو الأصبغ، يكنى بهما جميعاً، الأموي وكانت داره بدمشق في محلة القباب عند باب الجامع القبلي، وولي الموسم في أيام الوليد، وغزا الروم غزوات، وحاصر القسطنطينية، وولاه أخوه يزيد إمرة العراقين، ثم عزله، وولى أرمينية.
عن مسلمة بن عبد الملك، قال: لما احتضر عمر بن عبد العزيز كنا عنده في قبة، فأومأ إلينا أن اخرجوا، فخرجنا فقعدنا حول القبة، وبقي عنده وصيف، فسمعناه يقرأ هذه الآية " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علو في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين " ما أنتم بإنس ولا جان، ثم خرج الوصيف فأومأ إلينا أن ادخلوا، فدخلنا فإذا هو قد قبض.(24/263)
قال الزبير بن بكار في تسمية ولد عبد الملك، قال: ومسلمة بن عبد الملك، كان من رجالهم، وكان يلقب الجرادةالصفراء، وله آثار كثيرة في الحروب ونكاية في الروم.
عن خليفة، قال: قال ابن الكلبي: وفي سنة ست وثمانين غزا مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم، ففتح حصن تولق وحصن الأخرم قبل وفاة عبد الملك.
وفيها - يعني سنة سبع وثمانين - غزا مسلمة بن عبد الملك فافتتح قميقم وبحيرة الفرسان، وبلغ عسكره قلوذيمانس فقتل وسبى.
وفيها - يعني سنة ثمان وثمانين - غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك قرى أنطاكية وطوانة من أرض الروم وشتوا عليها فجمعت لهم الروم جمعاً كثيراً، فساروا إليهم، فهزم الله الروم، وقتل منهم بشراً كثيراً يقال: خمسون ألفاً وفتح الطوانة والجرجومة.
وفيها - يعني سنة تسع وثمانين - غزا مسلمة بن عبد الملك عمورية فلقي جمعاً للمشركين فهزمهم الله.
وفيها - يعني سنة تسعين - غزا مسلمة بن عبد الملك سورية ففتح الحصون الخمسة التي بها.
وفيها - يعني سنة إحدى وتسعين - عزل الوليد محمد بن مروان عن الجزيرة وأرمينية وأذربيجان وولاها مسلمة بن عبد الملك، فغزا مسلمة سنة إحدى وتسعين الترك حتى بلغ الباب من بحر أذربيجان، ففتح مدائن وحصوناً، ودان له من وراء الباب.
وفيها - يعني سنة ثلاث وتسعين - غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، فافتتح سندرة؛ وأقام الحج مسلمة بن عبد الملك.(24/264)
وفيها - يعني سنة خمس وتسعين - فتح مسلمة بن عبد الملك مدينة الباب من أرمينية، وهدم مدينتها وأخربها، ثم بناها مسلمة بعد ذلك وبتسع سنين؛ حدثني أبو خالد عن أبي البراء، جدثني يزيد بن أسيد، قال: غزا مسلمة سنة خمس وتسعين، وافتتح مدينتين سروان وجمران والبران ومدينة صول، حتى أتى مدينة الباب.
وأغزى سليمان بن عبد الملك الصائفة مسلمة بن عبد الملك - يعني سنة ست وتسعين -.
وفيها - يعني سنة سبع وتسعين - غزا مسلمة بن عبد الملك برجمة، والحصن الذي افتتح الوضاح وهو حصن ابن عوف، وافتتح مسلمة أيضاً حصن الحديد وسردا، وشتا بضواحي الروم.
وفي سنة ثمان وتسعين، شتا مسلمة بضواحي الروم، وشتا عمر بن هبيرة البحر، فسار مسلمة من مشتاه حتى صار إلى القسطنطينية في البحر والبر، فجاوز الخليج وافتتح مدينة السقالبة، وأغارت خيل برجان على مسلمة، فهزمهم الله، وخرب مسلمة ما بين الخليج وقسطنطينية.
عن عبيد الله بن بشر الغنوي، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش ". قال: فدعاني مسلمة بن عبد الملك. قال: فحدثته بهذا الحديث فغزاهم.
قال الأصمعي: حاصر مسلمة بن عبد الملك حصناً، فأصابهم فيه جهد عظيم، فندب الناس إلى نقب منه، فما دخله أحد، فجاء رجل من الجند فدخله، ففتح الله عليهم، فنادى مسلمة: أين صاحب الثقب؟ فما وجد أحد، حتى نادى مرتين أو ثلاثاً أو أربعً. فجاء في الرابعة رجل فقال: أنا أيها الأمير صاحب النقب، آخذ عهوداً ومواثيقاً ثلاثاً؛ لا تسودوا اسمي في صحيفة، ولا تأمروا لي بشيء، ولا تشغلوني عن أمري. قال: فقال مسلمة: قد فعلنا ذلك بك. قال: فغاب بعد ذلك فلم ير؛ فكان مسلمة بعد ذلك يقول في دبر صلاته: اللهم اجعلني مع صاحب النقب.(24/265)
عن الأوزاعي، قال: لما غزا مسلمة بن عبد الملك الروم أخذه صداع شديد، فبعث إليه ملك الروم بقلنسوة، فقال: ضعها على رأسك، فإنها تذهب بصداعك. فقال: مكيدة؛ فأخذها فوضعها على بعض البهائم فلم ير إلا خيراً، ثم أخذها فوضعها على رأس بعض أصحابه فلم ير إلا خيراً، ثم أخذها فوضعها على رأسه فذهب الصداع عنه؛ فأمر بها ففتقت فإذا فيها كتاب فيه سبعون سطراً هذه الآية مكررة " إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إن الله كان حليماً غفوراً ".
قال خليفة: وفيها - يعني سنة إحدى ومئة - جمع يزيد بن عبد الملك لمسلمة بن عبد الملك العراق. وأمره بمحاربة يزيد بن المهلب.
وفي آخر سنة اثنتين ومئة أو أول سنة ثلاث ومئة عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق.
وفيها - يعني سنة سبع ومئة - عزل هشام بن عبد الملك الجراح بن عبد الله الحكمي عن أرمينية وأذربيجان، وولاها مسلمة بن عبد الملك، فوجه مسلمة الحارث بن عمرو الطائي.
قال أبو خالد: قال أبو البراء: وغزا مسلمة من ذلك العام فأدرب من ملطية فأناخ على قيسارية، فافتتحها عنوة، وذلك لأربع خلون من شهر رمضان سنة سبع ومئة.
وفيها - يعني سنة ثمان ومئة - غزا مسلمة بن عبد الملك الصائفة اليمنى.
وفيها - يعني سنة تسع ومئة - غزا مسلمة بن عبد الملك وسرح الجيوش في أذربيجان، فشتوا بها. ثم عزله سنة تسع.(24/266)
وفيها - يعني سنة عشر ومئة - غزا مسلمة بلاد الخزر وهي الغزاة التي تسمى غزاة الطين.
وفيها - يعني سنة إحدى عشرة - عزل هشام بن عبد الملك أخاه مسلمة عن أرمينية وأذربيجان، وولى الجراح بن عبد الله الحكمي الولاية الثانية.
قال: قال ابن الكلبي: وخرج مسلمة بن عبد الملك في شوال سنة اثنتي عشرة ومئة في طلب الترك في شدة من المطر والثلج حتى جاوز الباب، وخلف الحارث بن عمرو الطائي في بنيان الباب وتحصينه، وقطع له بعثاً، ثم بعث الجيوش فافتتح مدائن وحصوناً فحرق أعداء الله أنفسهم بالنار في مدائنهم؛ وقتل الجراح سنة اثنتي عشرة ومئة، فولى سعيد بن عمرو الحرشي، ثم عزله سنة ثلاث عشرة وولى مسلمة بن عبد الملك ففعل مسلمة، واستخلف مروان بن محمد، وولاها هشام مروان بن محمد في أول سنة أربع عشرة ومئة.
وفيها - يعني سنة أربع عشرة ومئة - عزل هشام مسلمة بن عبد الملك عن أرمينية وأذربيجان والجزيرة وولاها مروان ن محمد بن مروان مستهل المحرم.
عن العتبي، قال: دخل مسلمة إلى الوليد فاسترضاه من شيء بلغه عنه، فرضي عنه. وخرج مسلمة بعد المغرب فقال الوليد: خذوا الشمع بين يدي أبي سعيد، فقال مسلمة: يا أمير المؤمنين لا سريت الليلة إلا في ضياء رضاك.
قال مسلمة: إن أقل الناس هماً في الآخرة أقلهم هماً بالدنيا.
وقال: ما أحمدت نفسي على ظفر ابتدأته بعجز، ولا لمتها على مكروه ابتدأته بحزم.
وقال: مروءتان ظاهرتان: الرياس والفصاحة.(24/267)
عن شيخ من باهلة، قال: كان مسلمة بن عبد الملك إذا كثر عليه أصحاب الحوائج وخاف أن يضجر قال لآذنه: ائذن لجلسائي، فيأذن لهم، فيفتن ويفتنون في محاسن الناس ومروءاتهم، فيتطرب لها ويرتاح عليها، ويصيبه ما يصيب صاحب الشراب، فيقول لأصحابه: ائذن لأصحاب الحوائج؛ فلا يبقى أحد إلا قضيت حاجته.
قال المدائني: قال مسلمة لنصيب: سلني، قال: لا، لأن كفك الجزيل أكثر من مسائلتي باللسان، فأعطاه ألف دينار.
قال مسلمة: الأنبياء لا يتثاءبون، ما تثاءب نبي قط.
عن عمرو بن ميمون، عن أبيه، قال: قال مسلمة بن عبد الملك: أليس قد أمرتم بطاعتنا؟ يعني " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ". قال: قلت: إن الله قد انتزعه منكم إذا خالفتم الحق، قال الله تعالى: " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ". قال: فأين الله؟ قلت: الكتاب. قال: فأين الرسول؟ قلت: السنة.
قال مسلمة: " من الوافر "
فلو بعض الحلال ذهلت عنه ... لأغناك الحلال عن الفضول
وقال في صديق كان له فمات، فجزع عليه: " من الطويل "
يسخي بنفسي عن شراحيل أنني ... إذا شئت لاقيت امرءاً مات صاحبه(24/268)
عن عوانة، قال: كان بين مسلمة بن عبد الملك وبين العباس بن الوليد بن عبد الملك مباعدة، فبلغ مسلمة أن العباس ينتقصه، فكتب إليه بهذه الأبيات: " من الوافر "
فلولا أن أصلك حيث تنمى ... وفرعك منتهى فرعي وأصلي
وإني إن رميتك هيض عظمي ... ونالتني إذا نالتك نبلي
إذا أنكرتني إنكار خوف ... تضم حشاك عن شتمي وعذلي
فكم من سورة أبطأت عنها ... بنى لك مجدها طلبي وجملي
ومبهمة عييت بها فأبد ... حويلي عن مخارجها وفضلي
كقول المرء عمرو في القوافي ... لقيس حين خالفه بفعل
عذيرك من خليل من مراد ... أريد حباءه ويريد قتلي
عن موسى بن زهير بن مضرس بن منظور بن زيان بن سيار، عن أبيه، قال: كنت في عسكر هشام بن عبد الملك لما مات مسلمة بن عبد الملك، فرأيت هشاما في شرطته، ونظرت إلى الوليد بن يزيد قد أقبل يجر مطرف خز عليه حتى وقف على هشام، والوليد نشوان، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عقبى من بقي لحوق من مضى، وقد أقفر بعد مسلمة الصيد والمرمى، واختل الثغر فوهى، وعلى أثر من سلف يمضي من خلف " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ". فلم يحر هشام جواباً، وسكت الناس فلم يترهسم أحد بشيء، فأنشأ الوليد يقول: " من الوافر "
أهيمنة حديث القوم أم هم ... نيام بعد ما متع النهار
عزيز كان بينهم نبياً ... فقول القوم وحي لا يحار
كأنا بعد مسلمة المرجى ... شروب طوحت هم عقار
أو ألاف هجائن في قيود ... تلفت كلما جنت ظؤار(24/269)
فليتك لم تمت وفداك قوم ... تراخى بينهم عنا الديار
سقيم الصدر أو شرف نكيد ... وآخر لا يزور ولا يزار
قال: سقيمالصدر، عنى به يزيد بنالوليد الناقص. والشرف النكيد: عن به هشاماً. والذي لا يزور ولايزار: مروان بن محمد.
قال خليفة: وفي سنة عشرين ومئة مات مسلمة بنعبد الملك، يوم الأربعاء في المحرم بالشام! وقيل: سنة إحدى وعشرين.
مسلمة بن علي بن خلف
أبو سعيد الخشني من أهل قرية البلاط من قرىدمشق.
روى عن ابن جريج، عن حميد، عن أنس، قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا عود مريضاً إلا بعد ثلاث.
وعن إبراهيم بن أبي عبلة، عن عوف بن مالك الأشجعي، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " إن بين يدي الساعة سنين خداعة يتهم فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويصدق فيها الكذاب، ويكذب فيها الصادق، ويتكلم فيها الرويبضة " قيل: يا رسول الله، وما الرويبضة؟ قال: " السفيه ينطق في أمر العامة ".
قال البخاري: مسلمة بن علي الخشني منكر الحديث.(24/270)
قال ابن أنس: قدم مصر وسكنها وحدث بها، ولم يكن عندهم بذاك في الحديث، توفي بمصر قبل سنة تسعين ومئة، آخر من حدث عنه بمصر محمد بنرمح، وداره بمصر عند مسجد العيثم معروفة به.
قال ابن جبان: كان ممن يقلب الأسانيد، ويروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم، فلما فحش ذلك بطل الاحتجاج به.
مسلمة بن عمرو
أبو عمرو حدث، قال: شهدت مع عمير بن هانئ جنازة، فلما دفن قلت: أشهد أنك تحب الله ورسوله. فقال لي عمير: أحسنت يا أبا عمرو، اشهدوا لأخيكم بأحسن ما تعلمون منه، فإن شهادتكم نافعة له.
مسلمة بن مخلد بن الصامت
ابن نار بن لوذان بن عبد ود بن ثعلبة بن الخزرجبن ساعدة بنكعب بن الخزرج بن حارثة أبو معن، ويقال: أبو سعيد، ويقال: أبو معاوية، ويقال: أبو معمر، الأنصاري أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووفد على معاوية، وشهد معه صفين، وكان فيها أميراً على أهل فلسطين وكانوا في الميسرة.(24/271)
وقيل: إنه لم يشهد صفين ولم يفد على معاوية إلا بعد أن أخذ مصر؛ وولي إمرة مصر لمعاوية ولابنه يزيد.
روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن فرج عن مكروب فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ".
قال محمد بن عمر الواقدي: وقد روى مسلمة بن مخلد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتحول إلى مصر فنزلها، وكان مع أهل خربتا وكانوا أشد أهل المغرب وأعده، وكان له بها ذكر ونباهة، ثم صار إلى المدينة فمات بها في خلافة معاوية بن أبي سفيان.
وقال ابن يونس: من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شهد فتح مصر واختط بها، وولي الجند لمعاوية بن أبي سفيان ولابنه يزيد بن معاوية، توفي بالإسكندرية سنة اثنتين وستين في ذي القعدة.
قال مسلمة: قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وأنا ابن أربع سنين، وتوفي وأنا ابن أربع عشرة.
عن الحكم بن الصلت، قال: سمعت يزيد بن شريك الفزاري يقول: أنا في زمن عمر أرعى الهم. قلت: من كان يبعث إليكم؟ قال: مسلمة بن مخلد، فكان يأخذ الصدقة من أغنيائنا فيردها على فقرائنا.
قال مجاهد: كنت أتحدى الناس بالحفظ، فصليت خلف مسلمة بن مخلد فقرأ بسورة البقرة، فما ترك منها واواً ولا ألفاً.(24/272)
قال الليث بن سعد: وف سنة اثنتين وستين توفي مسلمة بن مخلد.
مسلمة بن نافع
مولى سعيد بن عبد الملك بن مروان الأموي وهو أخو ذويد بن نافع من أهل دمشق.
روى عن أخيه ذويد بن نافع، عن عبد الله بن شهاب أخي الزهري، عن أنس بن مالك، قال:
جاءت امرأة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: " يا رسول الله، إن بطني حدثاً فأقم علي حد الله. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يقتل ما في بطنك من أجلك، اذهبي حتى تضعيه " فذهبت، فلما وضعته جاءت، فقالت: يا رسول الله، قد وضعته. قال: " اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه ". فذهبت فأرضعته حتى فطمته، ثم جاءت فقالت: يا رسول الله، قد فطمته. فقال: " اذهبي فأكفليه قوماً ". فذهبت ثم جاءت هي وأخت لها تماشيان، فقالت: يا رسول الله، هذه أختي تكفله؛ فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجب منها ومن أختها، ثم أمر بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحفر لها، ثم قال: " إذا وضعتموها في حفرتها فليذهب رجل منكم من بين يديها كأنه يريد أن يشغلها، حتى إذا شغلها فليذهب رجل منكم من خلفها حجر عظيم فليرم به رأسها ".
مسلمة بن هشام بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية أبو شاكر الأموي كان شريفاً ممدوحاً، ولي في أيام أبيه الموسم وغزو الصائفة، وأمه أم حكيم بنت(24/273)
يحيى بن الحكم بن أبي العاص؛ وداره بدمشق هي المعروفة بدار أماجور لزيق الجامع من ناحية باب البريد ولزيق دار أبي الدرداء.
وله يقول ابن أذينة: " من المتقارب "
أتينا نمت بأرحامنا ... وجئنا بإذن أبي شاكر
بإذن الذي سار معروفه ... بنجد وغار مع الغائر
إلى خير خندق في ملكه ... لباد من الناس أو حاضر
قال ذلك عروة بن أذينة حين سأله هشام بن عبد الملك: ما جاء بكم؟ ولذلك حديث.
قال خليفة: وأقام الحج - يعني سنة تسع عشرة ومئة - مسلمة بن هشام بن عبد الملك أبو شاكر.
عن الزهري: أن هشام بن عبد الملك استعمل ابنه أبا شاكر، واسمه مسلمة بن هشام، على الحج سنة ست عشرة ومئة، وأمر الزهري أن يسير معه إلى مكة، ووضع عن الزهري من ديوان مال الله سعة عشر ألف دينار، فلما قدم أبو شاكر المدينة أشار عليه الزهري أن يصنع لأهل المدينة خبزاً، وحضه على ذلك، فأقام بالمدينة نصف شهر، وقسم الخمس على أهل الديوان، وفعل أموراً حسنة، وأمره الزهري أن يهل من باب مسجد ذي الحليفة إذا انبعثت به راحلته؛ وأمره محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي أن يهل من البيداء، فأهل من البيداء.
وقال خليفة: سنة عشرين ومئة غزا مسلمة بن هشاه أرض الروم.(24/274)
وفي سنة إحدى وعشرين ومئة: غزا مسلمة بن هشام على الصائفة، وسار معه هشام حتى أتى ملطية.
عن أبي عكرمة، قال: لما مدح الكميت مسلمة بن هشام قال له مسلمة: لو قلت في مثل ما قال الأخطل في يزيد - يعني قصيدته الدالية - فقال الكميت: إن كنت أعطيتني ما أعطى زيد الأخطل فعلت - وكان يزيد أعطى الأخطل سبعين ألف درهم - فقال هشام: أنا أفعل؛ فعمل الكميت فيه: " من الطويل "
أفي اليوم تقضي حاجة النفس أم غدا ... وما بعد بعد كان إن كان أبعدا
مسلمة بن يعقوب بن إبراهيم
ابن الوليد بن عبد الملك بن مروان كان يسكن قرية الجامع من قرى المرج، وامرأته أمة العزيز بنت عبد العزيز بن عبد الرحمن بن الولد بن عبد الملك.
مسلمة بن يعقوب بن علي
ابن محمد بن سعيد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص ويقال: مسلمة بن يعقوب بن إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، الأموي وهو الذي وثب على أبي العميطر علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية، وخلعه من الخلافة، وبايع لنفسه بدمشق في أيام المأمون.(24/275)
حدث النضر بن حيى، قال: وقبل أن ينصرف ابن بيهس في علته إلى حوران، جمع رؤساء بني نمير فقال لهم: قد كان من علتي ما ترون، فارفقوا ببني مروان بن الحكم، وألطفوا بهم، وعليكم بمسلمة بن يعقوب بن علي بن محمد بن سعيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، فإنه ركيك، وهو ابن أختكم، فأعلموه أنكم لا تثقون به وتبايعونه، ثم أنشدهم: " من البسيط "
كيدوا العدو بأن تبدوا مباعدتي ... ولا تنوا في الذي فيه لهم تلف
وكاتبوا بما تأتون من هنة ... حتى تكون إلي الرسل تختلف
فاجتمعت بنو نمير إلى مسلمة بن يعقوب فكلموه وبذلوا له البيعة، فقل منهم، وجمع مواليه وأهل بيته فدخل على أبي العميطر في الخضراء كما كان يدخل للسلام عليه، وقد أعد لحجاب أبي العميطر عدادهم، فلما سلم عليه وجلس معه في الخضراء بض على أبي العميطر فشده في الحديد، وبعث ىالرؤساء بني أمية على لسان أبي العميطر يأمرهم بالحضور فجعل كل من دخل يقال له: بايع، والسيف على رأسه، فيبايع؛ وأدنى مسلمة القيسية ولبس الثياب الحمر وجعل أعلامه حمراً، وأقطع بني أمية ضياع المرج، وجعل لكل رجل من وجوه قيس بمدينة دمشق منزلاً وولاهم، فقال له أبو العميطر يوماً، وقد دعا به وهو مقيد، فنظر إلى قيس في الثياب الحمر، ومسلمة كذلك، فقال له: لو حمرت استك كان خيراً لك؛ فأمر به فسحب. وخرج ابن بيهس من الصلة، فجمع جماعة وأقبل يريد دمشق، فقال مسلمة بن يعقوب لمن معه من هوزان: هذا صاحبكم يريد بنا ما فعل بأبي العميطر. فقالوا له: ما هو لنا بصاحب، وما يعرف غيرك، وهذه سيوفنا دونك؛ وأنشده بعضهم: " من الوافر "
ستعلم نصحنا إن كان كون ... وتعلم أننا صبر كرام
حماة دون ملكك غير ميل ... إذا ماجد بالحرب احتدام
وسوف نريك في الأعداء ضرباً ... يطير سواعد منهم وهام
وطعناً في النحور بدابلات ... طوال في أسنتها الحمام(24/276)
فوثق بهم مسلمة وتزيد في برهم، وأقبل ابن بيهس حتى نزل قرية الشبعاء، وأصبح غادياً إلى مدينة دمشق، وصاح الديدبان بالسلاح، وخرج مسلمة وخرجت معه القيسية، فقاتلوا ذلك اليوم مع مسلمة قتالاً شديداً، وكثرت الجراحات في الفريقين، وانصرف ابن بيهس وقد ساء ظنه بقيس، فكتب إليه: " من الوافر "
سيكفي الله وهو أعز كاف ... أمير المؤمنين ذوي الخلاف
وكل مقدار في اللوح يأتي ... وكل ضبابة فإلى انكشاف
وما أنا بالفقير إلى نصير ... وى الرحمن والأسل العجاف
وعندي في الحوادث صبر نفس ... على المكروه أيام الثقاف
وعن حق أدافع أهل جور ... وشتى بين قصد وانحراف
فهابت القيسية على أنفسها، فدخلوا على مسلمة فكلموه على وجه النصيحة له، وقد أضمروا الغدر به؛ فقالوا له: نرى أن نخرج إلى ابن بيهس فنسأله الرجوع عنا وحقن الدماء بيننا، فإن فعل وإلا ثبطنا أصحابنا عنه ومن أطاعنا، واستلمنا من قدرنا عليه، فقال لهم: الصواب ما رأيتم؛ وطمع أن يفوا له، ولم يكن تهيأ لهم ما أرادوا بمدينة دمشق؛ فخرجوا إلى ابن بيهس فباتوا عنده وأحكموا الأمر معه، وصبح دمشق بالخيل والرجالة والسلالم، ونشب القتال، وصعد أصحاب ابن بيهس السور بناحية باب كيسان، فلم يشعر بهم أصحاب مسلمة إلا وهم معهم في مدينة دمشق، فأجفلوا هرباً إلى مسلمة، فدعا بأبي العميطر ففك عنه الحديد، ولبسا ثياب النساء وخرجا مع الحرم من الخضراء، وخرجا من باب الجابية حتى أتوا المزة، ودخل ابن بيهس مدينة دمشق يوم الثلاثاء لعشر خلون من المحرم سنة ثمان وتسعين ومئة وغلب عليها، فلم يزل يحارب أهل المزة وداريا وهو مقيم بدمشق أميراً متغلباً عليها إلى أن قدم عبد الله بن طاهر دمشق سنة ثمان(24/277)
مئتين، وخرج إلى مصر، ورجع إلى دمشق سنة عشر ومئتين، وحمل ابن بيهس معه إلى العراق، ومات بها ولم يرجع إلى دمشق.
قال صالح بن البختري: توفي مسلمة بن يعقوب في المزة، فصلى عليه أبو العميطر، فلما رفعت جنازته قال له أبو العميطر: رحمك الله وإن كنت قد ظلمتني وظلمت نفسك.
المسلم بن أحمد بن الحسين
أبو الفضل، ويقال: أو الغنايم، ويقال: أبوالقاسم الأنصاري، الكعكي، الحلاوي، المعروف ابن بخانية روى عن أبي محمد عبد الرحمن بن عثما بن القاسم التميمي، بسنده إلى إسماعيل بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن جده، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سعادة ابن آدم رضاه ما يقضي الله، واستخاره الله؛ ومن شقوة ابن آدم سخطه بما يقضي الله، وتركه استخارة الله؛ ومن سعادة ابن آدم ثلاث ومن شقوته ثلاث؛ فمن سعادته المرأة الصالحة، والخادم الصالح، والمسكن الصالح؛ ومن شقوته المرأة السوء. والخادم السوء، والمركب السوء ".
قال أبو بكر الخطيب: مسلم بن أمد بن الحسين، أبو القاسم الكعكي، من أهل دمشق.
قال ابن الأكفاني: توفي المسلم بن أحمد في شهر رمضان من سنة ست وستين.
المسلم بن إبراهيم
أبو الفضل السلمي، البزاز، المعروف بالشويطر أنشد أبو الفضل البزاز: " من البسيط "(24/278)
ما في زمانك من تأمن خيانته ... ولا صديق إذا خان الزمان وفى
فعش وحيداً ولا تركن إلى أحد ... فليس في الناس خير يرتجى وكفى
مات في رجب سنة خمس وخمسين وأربعمئة.
المسلم بن الحسن بن هلال بن الحسن
أبو الفضل بن أبي محمد الأزدي، البزاز قرأ القرآن بالسبعة، وكتب كثيراً، واستورق، ولم يحدث.
قال ابن الأكفاني: توفي يوم الأربعاء، ودفن يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة سبع وستين وأربعمئة بصور، وكان حافظاً للقرآن بعدة روايات.
المسلم بن الحسن بن عبد الله
أبو الغنايم الرفافي روى عن أبي القاسم عبد الرحمن بن عمر بن نصر، بسنده إلى أنس؛ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " القرآن غنى لا فقر بعده ولا غنى دونه ".
قال أبو محمد الكتان: توفي سنة اثنتين وخمسين وأربعمئة.
المسلم بن الحسين بن الحسن
أبو الغنايم المؤدب كان في صاه أجير خباز، ثم حفظ القرآن، وتأدب وقال الشعر، واشتغل بتأديب الصبيان، فحسن أثره في ذلك، وظهر له اسم في إجادة التعليم والحذق بالحساب، حتى كثر زبونه، وسمعته ينشد لنفسه قصيدة رثى بها شيخنا الفقيه أبا الحسن السلمي، ولم يقع لي إلى الآن، وكان إنشاده إياها على قبره عقيب وفاته.(24/279)
ومات مسلم وهو شاب يوم الجمعة قبل الصلاة الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وخمسمئة، ودفن بعد العصر من ذلك الوم بباب الصغير.
المسلم بن الخضر بن المسلم بن قسيم
أبو المجد التنوخي الحموي شاب شاعر، قدم دمشق على ما ذكر لي أبو السر شاكر بن عبد الله التنوخي، وأنشدني له قصيدة يمدح بها أتابك زنكي بن آق سنقر نصير أمير المؤمنين، صاحب الشام، أنشده إياها بقلعة حمص.
قال: وكان ملك الروم نزل شيزر وحاصرها، وأشرفت منه على الهلاك، وكان أتابك يركب كل يوم في جيشه ويقف على تل أرجزا ولا يزول عنه إلى المغرب، وملك الروم على جريجنس - جبل شرقي شيزر - ينظر إلى الجيش، فإذا قال له الفرنج: دعنا نأخذ العسكر ونمضي إليه. يقول لهم: هذا زنكي أتابك يعتبئ النهار كله في هذه المدة لأي سبب؟ إنما يريدني أركب إليه، وإذا حصلنا معه في أرض واحدة ما يبقى لنا سبيل إلى السلامة، وقد جعل تحت كل مكمن كميناً، ونحن الآن على هذه الجبل في حصن، وبيننا وبينه العاصي.
وألقى الله في قلب ملك الروم منه الرعب حتى رحل عنها بعد أحد وعشرين يوماً، وطلب درب أفامية، وترك مجانيقه العظام، وتبعه أتابك إلى بعض الطريق وعاد ظافراً قد حفظ الإسلام بالشام، ورفع المجانيق إلى قلعة حلب المحروسة.
فوصف مسلم بن الخضر بن المسلم بن قسيم، الحال فقال: " من الوافر "
بعزمك أيها الملك العظيم ... تذل لك الصعاب وتستقيم
رآك الدهر منه أشد بأساً ... وشح بمثلك الزمن الكريم(24/280)
إذا خطرت سيوفك في نفوس ... فأول ما يفارقها الجسوم
ولو أضمرت للأنواء حرباً ... لما طلعت لهيبتك الغيوم
أيلتمس الفرنج لديك عفواً ... وأنت بقطع دابرها زعيم
وكم جرعتها غصص المنايا ... بيوم فيه يكتهل الفطيم
فسيفك في مفارقهم خضيب ... وذكرك في مواطنهم عظيم
وكل محصن منهم أخيد ... وكل محضن فيهم يتيم
ولما أن طلبتهم تمنى ال ... منية جوسلينهم اللئيم
أقام يطوف الآفاق جبناً ... وأنت على معاقلهم مقيم
فسار وما يعادله مليك ... وعاد وما يعادله سقيم
يحاول أن يحاربك اختلاساً ... كما رام اختلاس الليث ريم
ألم تر أن كلب الروم لما ... تبين أنه الملك الرحيم
فجاء فطبق الفلوات خيلاً ... كأن الجحفل الليل البهيم
وقد نزل الزمان على رضاه ... فكان لخطبه الخطب الجسيم
فحين رميته بك في خميس ... تيقن أن ذلك لا يدوم
وأبصر في المفاضة منك جيشاً ... فأحرف لا يسير ولا يقيم
كأنك في العجاج شهاب نور ... توقد وهو شيطان رجيم
أراد بقاء مهجته فولى ... وليس سوى الحمام له حميم
يؤمل أن يجود بها عليه ... وأنت بها وبالدنيا كريم
رأيتك والملوك لها ازدحام ... ببابك لا تزول ولا تريم
تقبل من ركابك كل وقت ... مكاناً ليس تبلغه النجوم
تود الشمس لو وصلت إليه ... وأين من الغزالة ما تروم
أردت فليس في الدنيا منيع ... وجدت فليس في الدنيا عديم
وما أحييت فينا العدل حتى ... أميت بسيفك الزمن الظلوم
وصرت إلى المماليك في زمان ... به وبملك الدنيا عقيم
تزخرف للأمير جنان عدن ... كما لعداء تستعر الجحيم
أقر الله عينيك من مليك ... تخامر غب همته الهموم(24/281)
ولا برحت لك الدنيا فداء ... وملكك من حوادثها سليم
وإن تك في سبيل الله تشقى ... فعند الله أجرك والنعيم
وأنشدني أبو اليسر له أبياتاً قالها في الملك العادل أبي القاسم محمود بن زنكي: " من الكامل "
يا صاح هل لك في احتمال تحية ... تهدى إلى الملك الأغر جبينه
قف حيث تختلس النفوس مهابة ... ويغيض من ماء الوجوه معينه
فهنالك الأسد الذي امتنعت به ... وبسيفه دنيا الإله ودينه
فمن المهندة الرقاق لباسه ... ومن المثقفة الدقاق عرينه
تبدو الشجاعة من طلاقة وجهه ... كالرمح دل على القساوة لينه
ووراء يقظته أناة مجرب ... لله سطوة بأسه وسكونه
هذا الذي في الله صح جهاده ... هذا الذي في الله صح يقينه
هذا الذي بخل الزمان بمثله ... والمشمخر إلى العلى عرنينه
هذا عماد الدين وأبن عماده ... ثبتاً كما انشق الوشج رصينه
هذا الذي تقف الملوك ببابه ... هذا الذي تهب الألوف يمينه
ملك الورى ملك أغر متوج ... لا غدره يخشى ولا تلوينه
إن حل فالشرف التليد أنيسه ... أو سارف فالظفر العزيز قرينه
فالدهر خاذل من أراد عناده ... أبداً وجبار السماء معينه
والذين يشهد إنه لمعزه ... والشرك يعلم إنه لمهينه
ما زال يقسم أن يبدد شمله ... والله يكره أن تمين يمينه
حتى رمى بالأهوجية ركنه ... فانهد شامخه وحض ركينه
فتح الرها بالأمس فانفتحت له ... أبواب ملك لا يدال مصونه
دلف الأمير لها يهب لنصره ... منها مبارك طائر ميمونه
وغداً يكون له بأنطاكية ... مشهور فتح في الزمان مبينه
طعن الجيوش برأيه وسنانه ... يوم اللقاء فما أبل طعينه(24/282)
المسلم بن عبد الواحد بن عمرو
ابن جعفر بن محمد أبو القاسم الأطرابلسي، المقرئ، المعروف بابن شفلح، خطيب جبيل حدث بجبيل من ساحل دمشق.
المسلم بن عبد الواحد بن محمد بن عمرو
أبو البركات، المعيوفي، الدمشقي حدث بدمشق ومصر عن أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد بن يحيى بن ياسر، بسنده إلى ابن عمر؛ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل ".
المسلم بن عبد الواحد بن محمد
أبو الفضل الإيادي البزاز، المعروف بابن شقيقة
المسلم بن علي بن سويد
أبو الحسن قدم دمشق وحدث بها عن محمد بن سنان التنوخي، بسنده إلى محمد بن معروف المكي، عن أبيه، قال:
قام رجل إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فذم الدنيا، فقال له علي: إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار غناء لمن تزود منها، ودار عافية لمن فهم عنها، هي مسجد أحباء الله ومهبط وحيه ومبحر أوليائه، اكتبسوا فيها الجنة وربحوا فيها الرحمة، فمن ذا الذي يذمها، وقد آذنت ببينها ونادت بانقطاعها ونعت نفسها وأهلها، فيا أيها الذام الدنيا المعتل بغرورها، متى استذمت إليك الدنيا؟ ومتى غرتك؟ أبمنازل آبائك من الثرى، أم بمضاجع أمهاتك من البلى؟ كم مرضت بكفيك وعالجت بيديك تبتغي له(24/283)
الشفاء، وتستوصف له الأطباء لم تسعف له بطلبتك، مثلت له الدنيا بعيبها، وبمصرعه مصرعك غداً، لا يغني بكاؤك ولا ينفعك أحباؤك.
ثم انصرف إلى القبور فقال: يا أهل القبور، يا أهل الضيق والوحدة، يا أهل الغربة والوحشة؛ أما الدور فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما الأزواج فقد نكحت؛ فهذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما على ذلك فلو أذن لهم في الجواب لأجابوا: إن خير الزاد التقوى.
المسلم بن هبة الله بن مختار
أبو الفتح الكاتب ألف رسالة في تفضيل دمشق على غيرها من البلاد، ذكر فيها بعض خواصها وبعض ما قالت الشعراء في وصفها، ولم يبلغ في ذلك كنه حقها ولم يوفها؛ فقال في أثناء الرسالة: ومن صفتها - وأظن هذه الأبيات له -: " من مجزوء الكامل "
دمن كأن رياضها ... يكسين أعلام المطارف
وكأنما نوارها ... يهتز بالريح العواصف
طرر الوصائف يلتفت ... ن بها إلى طرر الوصائف
وكأنما غدرانها ... فيها عشور في مصاحف
ثم قال بعد أوراق: ولقد سافرت عن دمشق دفعات، فكان إنشادي: " من الطويل "
وما ذقت طعم الماء إلا وجدته ... كأن ليس بالماء الذي كنت أعرف
ولا سر صدري مذ تناءت بي الهوى ... أنيس ولا مال ولا متصرف
ولم أحضر اللذات إلا تكلفاً ... وأي سرور يقتضيه التكلف
مات أبو الفتح في سنة ستين وأرعمئة على ما بلغني.(24/284)
مسلم بن إياس العنزي الجسري
من أهل العراق، قدم دمشق.
عن أبي عبيدة قال: أجريت الخيل بالكوفة أيام عبيد الله بن زياد في خلافة يزيد، فسق الناس حرملة بن جنادة بن جابر الجسري على فرس يقال لها: الوردة.
فقال مسلم بن إاس الجسري: فخرجت إلى الشام، فلما دنوت من دمشق إذا أنا بشاب على ظهر الطريق قد صرع حمار وحش عليها، فتأملتها فعرفتها؛ فقال لي: أتعرفها؟ قلت: نعم، هذه الجسرية. فقال: هي والله، نحن افتليناها وصنعناها، وقدناها إلى الخليفة، وهي التي يقول فيها حرملة بن جنادة: " من الرجز "
كيف ترى الوردة بنت الورد ... تعترق الخيل ببسط الشد
منسوبة من الخيار التلد ... من إرث زيد وأبيه عبد
وجابر أكرم به من جد ... نحن استللناها بفحل نهد
موثق الخيل أسيل الخد ... كأنه يوم ابتدار المجد
واحتل في معمعة وكد ... يحث بالزجر ووقع القد
قطاة في حين غدت للورد ... فأحرزت سبقتها لم تكد
مسلم بن الحارث بن مسلم
ويقال: الحارث بن مسلم التميمي روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقال: بل روى عن أبيه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(24/285)
روى عن أبيه، قال: بعثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية، فلما لغنا المغار استحثثت فرسي فسبقت أصحابي، فتلقاني الحي بالرنين، قال: قلت: قولوا: لا إله إلا الله تحرزوا، فقالوها؛ فلامني أصحابي وقالوا: حرمتنا الغنيمة عد أن بردت بأيدينا؛ فلما قدمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبروه بما صنعت، فدعاني، فحسن لي ما صنعت وقال: " إن الله قد كتب لك من كل إنسان منهم كذا وكذا ". ثم قال: " أما إي سأكتب لك كتاباً أوصي بك من يكون بعدي من أئمة المسلمين ".
قال: فكتب لي كتاباً ختم عليه دفعه إلي، وقال لي: " إذا صليت المغرب فقل قبل أن تكلم أحداً: اللهم أجرني من النار - سبع مرات - فإنك إن مت من ليلتك تلك كتب الله لك جواراً من النار، فإذا صليت الصبح فقل قبل أن تكلم أحداً: اللهم أجرني من النار - سبع مرات - فإنك إن مت من يومك ذلك كتب الله لك جواراً من النار ".
قال: فلما قبض الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتيت أبا بكر بالكتاب، ففضه وقرأه وأمر لي بعطاء، وختم عليه، ثم أتيت بع عمر ففضه فقرأه، وأمر لي وختم عليه، ثم أتيت به عثمان ففعل مثل ذلك.
فقال ابن الحارث: فتوفي الحارث في خلافة عثمان وترك الكتاب عندنا، فلم يزل عندنا حتى كتب عمر بن عبد العزيز إلى العامل بلدنا يأمره بإشخاصي إليه بالكتاب، فقدمت عليه ففضه، فأمر لي وختم عليه، وقال: لو شئت أن يأتيك هذا وأنت في منزلك لفعلت، ولكن أحببت أن تحدثني بالحديث على وجهه. قال: فحدثته به.
مسلم بن الحجاج بن مسلم
أبو الحسين القشيري، النيسابوري، الحافظ صاحب الصحيح، الإمام المبرز والمصنف المميز، رحل وجمع. وصنف فأوسع، وسمع بدمشق والري والعراق والحجاز ومصر.(24/286)
روى عن سهل بن عثمان العسكري، بسنده إلى ابن عمر، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " بني الإسلام على خمس، على أن يعبد الله ويكفر بما دونه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ".
وعن محمد بن مهران، بسنده إلى عباد بن تميم عن عمه، قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستلقياً لظهره رافعاً إحدى رجليه على الأخرى.
قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه بالري، وكان ثقة من الحفاظ، له معرفة بالحديث، سئل أبي عنه فقال: صدوق.
قال أبو بكر الخطيب: أحد الأئمة من حفاظ الحديث، صاحب المسند الصحيح، وآخر قدموه بغداد كان في سنة تسع وخمسين ومئتين.
عن أبي عمرو المستملي: أملى علينا إسحاق بن منصور سنة إحدى وخمسين ومئتين، ومسلم بن الحجاج ينتخب عليه وأنا أستملي، فنظر إسحاق بن منصور إلى مسلم فقال: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين.
قال بندار محمد بن بشار: حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بن الحجاج بنيسابور، وعبد الله بن عد الرحمن الرازي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى.
قال أو أحمد محمد بن عبد الوهاب - وذكر حديثه عن الحسين بن الوليد في مس الذكر - فقال: كان مسلم يعجبه هذا الحديث ويراه، ويأخذه به، وكان مسلم بن الحجاج من علماء الناس وأوعية العلم، ما علمته إلا خيراً، وكان براً، رحمنا الله وإياه، وكان أبوه الحجاج بن مسلم من مشيخة أبي رضي الله عنهما.(24/287)
عن الفضل محمد بن إبراهيم، قال: سمعت أحمد بن سلمة يقول: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما.
عن أبي عمرو بن أبي جعفر، قال: سمعت أبا العباس بن سعيد بن عقدة، وسألته عن محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري أيهما أعلم؟ فقال: كان محمد بن إسماعيل عالماً ومسلم عالم؛ فكررت عليه مراراً وهو يجيبني بمثل هذا الجواب، ثم قال لي: يا أبا عمرو، قد يقع لمحمد بن إسماعيل الغلط في أهل الشام، وذاك أنه أخذ كتبهم فنظر فيها، فربما ذكر الواحد منهم بكنيته ويذكره في موضع آخر باسمه، ويتوهم أنهما اثنان، فأما مسلم فقل ما يقع لع الغلط في العلل، لأنه كتب المسانيد ولم يكتب المقاطيع والمراسيل.
قال الخطيب: إنما قفا مسلم طريق البخاري، ونظر في علمه، وحذا حذوه، ولما ورد البخاري نيسابور في آخر أمره لازمه مسلم وأدام الاختلاف إليه، وقد حدثني عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي، قال: سمعت أباالحسن الدارقطني الحافظ يقول: لولا البخاري لما ذهب مسلم ولا جاء.
قال أبو حامد أحمد بن حمدون القصار: سمعت مسلم بن الحجاج - وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقيل بين عينيه - وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله.
قال محمد بن يعقوب الأخرم: قل ما يفوت البخاري ومسلماً مما يثبت من الحديث.
قال مسلم بن الحجاج: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمئة ألف حديث مسموعة.(24/288)
قال ابن مندة: سمعت أبا علي الحافظ يقول: ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج.
قال أبو بكر الخطيب:
وكان مسلم أيضاً يناضل عن البخاري حتى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحيى الذهلي بسببه، فأخبرني محمد بن علي المقرئ، أنا محمد بن عبد الله النيسابوري، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ يقول: لما استوطن محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور أكثر مسلم بن الحجاج الاختلاف إليه، فلنا وقع بين محمد بن يحيى والبخاري ما وقع في مسألة اللفظ، ونادى عليه، ومنع الناس عن الاختلاف إليه، حتى هجر وخرج من نيسابور؛ في تلك المحنة قطعه أكثر الناس غير مسلم فإنه لم يتخلف عن زيارته، فأنهى إلى محمد بن يحيى أن مسلم بن الحجاج على مذهبه قديماً وحديثاً وأنه عوتب على ذلك بالعراق والحجاز ولم يرجع عنه، فلما كان في يوم مجلس محمد بن يحيى قال في آخر مجلسه: ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا. فأخذ مسلم الرداء فوق عمامته وقام على رؤوس الناس، وخرج من مجلسه، وجمع كل ما كتب منه وبعث به على ظهر حمال إلى باب محمد بن يحيى، فاستحكمت تلك الوحشة وتخلف عن زيارته.
قال أحمد بن سلمة: عقد لأبي الحسين مسلم بن الحجاج مجلس للمذاكرة، فذكر له حديث لم يعرفه، فانصرف إلى منزله وأوقد السراج، وقال لمن الدار: لا يدخلن أحد منكم هذا البيت. فقيل له: أهديت لنا سلة فيها تمر. فقال: فقدموها إلي. فقدموها إليه، فكان يطلب الحديث ويأخذ تمرة يمضغها، فأصبح وقد فني التمر ووجد الحديث.
قال مكي بن عبدان: توفي مسلم بن الحجاج في سنة إحدى وستين ومئتين.
وزاد غيره: عشية يوم الأحد، ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب.(24/289)
مسلم بن الحسن بن مسلم
أبو صالح الدمشقي حدث ببغداد سنة تسعين ومئتين عن محمد بن شجاع، بسنده إلى علي، قال: تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة، شرهم قوم ينتحلون حبنا أهل البيت ويخالفون أعمالنا.
مسلم بن ذكوان
مولى يزيد بن الوليد
مسلم بن ربيعة المري
شاعر، فارس.
عن عتاب بن محرز، قال: وقف مسلم بن ربيعة المري بدمشق على فرس مجلل، فقال: سابق لا يجاري. فابتاعه وصنعه ثم أجراه، فلم يصنع شيئاً، فباعه، ثم وقف عليه الثانية، فقال: سابق، فابتاعه، ثم صنعه، ثم أجراه، فلم يصنع شيئاً، فباعه. ثم وقف عليه الثالثة، فقال: سابق لا يخلف، فابتاعه وصنعه ثم أجراه، فسبق خيل دمشق دهره. فقال: " من الطويل "
نظرت ومندوب عليه جلالة ... أمام رعاة الخيل مستقبلاً يعدو
فقلت: جواد أو صبور ملازم ... على الغاية القصوى إذا بلغ الجهد
فما خانني لبي لدن أن وزنته ... بالباب أقوام ولا بصري بعد(24/290)
مسلم بن زياد الحمصي
مولى ميمونة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصاحب خيل عمر بن عبد العزيز، وقد ذكرت وفوده في ترجمة عمر الدمشقي المعروف بعمردن.
حدث أنس بن مالك يقول: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " من قال حين يصبح: اللهم إنا أصبحنا نشهدك ونشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك بأنك أنت الله، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك، أعتق الله ربعه من النار في ذلك اليوم، فإن قالها مرتين عتق نصفه، فإن قالها ثلاثاً عتق ثلاثة أرباعه، فإن قالها أربع مرات أعتقه الله ذلك اليوم من النار ".
وفي رواية، قال: سمعت أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قال حين يصبح: اللهم إنا أصبحنا نشهدك ونشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك، غفر له ما أصاب في يومه من ذنب، وإن قالها حين يمسي غفر له ما أصاب تلك الليلة من ذنب ".
قال مسلم بن زياد: رأيت أربعة من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنس بن مالك، وفضالة بن عبيد، وأبا المنذر، وروح بن سيار أو سيار بن روح، يرخون العمائم من خلفهم وثيابهم إلى الكعبين.
مسلم بن شعيب بن مسلم
ويقال: ابن عبد الرحمن بن سويد، ويقال: ابن شعيب بن مسلم الأموي. مولى يزيد بن أبي سفيان.
روى عن صدقة بن عبد الله، بسنده إلى عبد الله بن عمر، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ".(24/291)
مسلم بن عبد الله بن ثوب
وهو مسلم بن أبي مسلم الخولاني
كان أبوه من زهاد التابعين، وأدرك عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان لمسلم هذا عقب بالأندلس من ولد ابنه هانئ بن مسلم؛ ذكر ذلك أبو محمد علي بن أحمد بن حزم.
مسلم بن عبد الله الخزاعي
أبو عبد الله الخزاعي، جد البطريق بن بريد الكلبي من أهل دمشق، من قراء أهل الشام.
حكى عن أبي الدرداء، قال: إنكم تقولون: إنك تأمرنا، ولعمري ما أحمد لكم نفسي، ولكن علي أن آمر بالحق بلغته أو قصرت عنه، فإن أمرت به ولم أفعله كان خيراً من أسكت عنه.
مسلم بن عقبة بن رياح بن أسعد
ابن ربيعة بن عامر بن مالك بن يربوع بن غيظ ابن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، أبو عقبة المري، المعروف مسرف.
أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يحفظ أنه رآه، وشهد صفين مع معاوية وكان على الرجالة، وهو صاحب وقعة الحرة، وكانت داره بدمشق موضع فندق الخشب الكبير قبلي دار البطيخ.
قال ابن سميع: في الطبقة الثانية من التابعين مسلم بن عقبة، ولاه معاوية خراج فلسطين.(24/292)
عن جري بن حازم، قال: لما أخرج أهل المدينة بني أمية ومروان، نزلوا حقلاً، وكتب مروان إلى يزيد بالذي كان من رأي القوم، فأمر يزيد بقبة فضربت له خارجاً من قصره، وقطع البعوث على أهل الشام مع مسلم بن عقبة المري، فلم تمضه ثالثة حتى فرغ، ثم أصبح في اليوم الثالث فعرض عليه الكتائب، وقد كان بلغه أن ابن الزبير يسميه السكير.
قال: فجعلت تمر به الكتائب وهو يقول: " من الرجز "
أبلغ أبا بكر إذا الجيش ابرى ... وأشرف القوم على وادي القرى
أجمع نشوان من القوم ترى
عن عبد الله بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: لما بلغ يزيد بن معاوية وثوب أهل المدينة وإخراجهم عامله وأهل بيته عنها، وجه إليهم مسلم بن عقبة المري - وهو يومئذ ابن بضع وتسعين سنة، كانت به النوطة - ووجه في جيش كثيف، فكلمه عبد الله بن جعفر في أهل المدينة، وقال: إنما تقتل بهم نفسك. فقال: أجل، أقتل بهم نفسي، ولك عندي واحدة، آمر مسلم بن عقبة أن يتخذ المدينة طريقاً، فإن هم تركوه ولم يعرضوا له ولم ينصبوا الحرب تركهم ومضى إلى ابن الزبير فقاتله، وإن هم منعوه أن يدخلها ونصبوا له الحرب بدأ بهم فناجزهم القتال، فإن ظفر بهم قتل من أشراف له، وأنهبها ثلاثاً، ثم مضى إلى ابن الزبير.
فرأى عبد الله بن جعفر أن في هذا فرجاً كبيراً، وكتب بذلك إليهم وأمرهم أن لا يعرضوا لجيشه إذا مر بهم حتى يمضي عنهم إلى حيث أرادوا؛ وأمر يزيد مسلم بن عقبة بذلك وقال له: إن حدث بك حدث فحصين بن نمير على الناس؛ فورد مسلم بن عقية المدينة فمنعوه أن يدخلها ونصبوا له الحرب، وقالوا: من يزيد؟ فأوقع بهم وأنهبها ثلاثاً، ثم خرج يريد ابن الزبير، وقال: اللهم، إنه لم يكن قوم أحب إلي أن أقاتلهم من(24/293)
قوم خلعوا أمير المؤمنين ونصبوا له الحرب، اللهم فكما أقررت عيني من أهل المدينة فأبقتني حتى تقر عيني من ابن الزبير، ومضى.
فلما كان بالمشلل نزل به لموت، فدعا حصين بن نمير فقال له: يا بردعة الحمار، لولا عهد أمير المؤمنين إلي فيك لما عهدت إليه، اسمع عهدي: لا تمكن قريشاً من أذنك، ولا تزدهم على ثلاث، الوقاف ثم الثقاف ثم الانصراف. فأعلم الناس أن الحصين واليهم، ومات مكانه، فدفن على ظهر المشلل لسبع بقين من المحرم سنة أربع وستين، ومضى حصين بن نمير.
عن مغيرة، قال: أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، وأنه افتض منها ألف عذراء، وكان قدوم مسلم المدينة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، فأنهبوها ثلاثاً حتى رأوا هلال المحرم.
عن ابن الاعرابي، قال: قال مسلم بن عقبة لرجل: والله لأقتلنك قتلة تتحدث بها العرب، فقال له: إنك والله لنتدع لؤم القدرة وسوء المثلة لأحد بهما منك.
عن يزيد بن عياض، عن أبيه، قال: استؤمن لعباس بن سهل بن سعد الساعدي من مسلم بن عقبة المري يوم الحرة، فأبى مسلم أن يؤمنه؛ فأتوه به، ودعا بالغداء، فقال عباس: أصلح الله الأمير، والله لكأنها جفنة أبيك، كان يخرج عليه مطرف خز حتى يجلس بفنائه، ثم توضع جفنته بين يدي من حضر، قال: وقد رأيته؟ قال: لشد ما. قال: صدقت، كان كذلك، أنت آمن.
فقيل للعباس: كان أبوه كما قلت؟ قال: لا والله، ولقد رأييته في عباءة يجرها على الشوك، ما نخاف على ركابنا ومتاعنا أن يسرقه غيره.
عن ابن أخي جابر بن عبد الله، أن جابر بن عبد الله كان قد ذهب بصره، فلما كان يوم الحرة خرج فأتاه حجر،(24/294)
وهو بيني وبين ابنه، فقال: حسن، تعس من أخاف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: ومن أخاف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جبيني ".
عن عبادة بن الصامت، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: اللهم، من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل من صرف ولا عدل ".
قال ذكوان مولى مروان: شرب مسلم بن عقبة دواء بعدما أنهب المدينة، ودعا بالغداء؛ فقال له الطبيب: لا تعجل فإني أخاف عليك إن أكلت قبل أن يعمل الدواء. قال: ويحك، إنما كنت أحب البقاء حتى أشفي نفسي من قتلة أمير المؤمنين عثمان، فقد أدركت ما أردت، فليس شيء أحب إلي من الموت على طهارتي، فإني لا أشك أن الله عز وجل قد طهرني من ذنوبي بقتل هؤلاء الأرجاس.
عن جعفر بن خارجة، قال: خرج مسرف من المدينة يريد مكة، وتبعته أم ولد ليزيد بن عبد الله بمزمعة تسير وراء العسكر بيومين أو ثلاثة، ومات مسرف فدفن بثنية المشلل، وجاءها الخبر، فانتهت إليه فنبشته ثم صلبته على المشلل.
وفي رواية: فأخرج وأحرق بالنار.
مات مسلم في صفر سنة أربع وستين.
مسلم بن عمرو بنحصين
ابن أسيد بن زيد بن قضاعي الباهلي.
والد قتيبة بم مسلم أمير خراسان.
كان عظيم القدر عند يزيد بن معاوية، ووجهه يزيد إلى عبيد الله بن زياد بتوليته إياه الكوفة عند توجه الحسين عليه السلام إليها.(24/295)
عن عوانة، قال: كان مسلم بن عمرو الباهلي على ميسرة إبراهيم بن الأشتر، فارتث، فلما قتل مصعب أرسل إلى خالد بن يزيد بن معاوية أن يطلب له الأمان من عبد الملك؛ فأرسل إليه: ما تصنع بالأمان وأنت بالموت؟ قال: ليسلم لي مالي، ويأمن ولدي، قال: فحمل على سرير فأدخل على عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك لأهل الشام: هذا أكفر الناس لمعروف، ويحك أكفرت معروف يزيد بن معاوية عندك؟ فقال له خالد: تؤمنه يا أمير المؤمنين. فأمنه، ثم حمل فلم يبرح الصحن حتى مات. فقال الشاعر: " من الطول "
نحن قتلنا ابن الحواري مصعباً ... أحا أسيد والنخعي اليمانيا
قال خليفة: قال أبو اليقظان: وقتل مصعب ابنه عيسى بن مصعب، ومسلم بن عمرو بن حصين بن ربيعة الباهلي - يعني سنة اثنتين وتسعين -.
مسلم بن قرظة الأشجعي
ابن عم عوف بن مالك روى عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خياركم وخيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم؛ وشراركم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم ". قالوا: أفلا ننابذهم يا رسول الله؟ قال: " لا، ما أقاموا الصلاة الخمس؛ ألا من وليه وال فرأى معصية فليكره ما أتى من معصية الله، ألا ولا تنتزعوا يداً من طاعة ".(24/296)
قال المصنف: هذا حديث جليل.
مسلم بن محمد أبو صالح
ويلقب أبا الصالحات القائد ولي إمرة دمشق في خلافة المعتصم، وكان من قواد المعتصم، وولي أيضاً أصبهان.
وبلغني أن أبا الصالحات كان من القواد بسر من رأى، وكان من أفتى الناس وأظرفهم، وأحسنهم مروءة وطعاماً، وكان إذا دعا صديقاً له كتب إليه يسأله أن يجيبه وكل من عنده من أصدقائه، وأن يجتذب معه إليه كل من يعرفه ويأنس به، فكان منزله مألفاً للفتيان؛ وكان يضرب بالعود ضرباً حسناً، فقال له المعتصم يوماً: بلغني أنك ضارب بالعود. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: أحضروه عوداً، فأحضر، فضرب به ضرباً فارسياً حشناً استحسنه المعتصم ومن عنده؛ ثم ذهب ليخرج فقال له: تعال، خذ أبرارك معك. فضرب بيده إلى سفه وقال: هذا أبراري أيضاً. فقال العتصم: صدق والله. فأمر له بخمسين ألف درهم.
مات سنة ثلاث وأربعين ومئتين بأصبهان.
مسلم بن مشكم
أبو عبيد الله الخزاعي قيل: إنه قرأ القرآن على أبي الدرداء، ثم قرأه على عبد الله بن عامر اليحصبي.
روى عن عوف بن مالك، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " الرؤيا ثلاثة، منها تأويل الشيطان ليحزن ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ".(24/297)
عن أبي عبيد الله، قال: رأيت أبا الدرداء وفضالة بن عبيد ومعاذ بن جبل يدخلون المسجد والناس في صلاة الغداة، فيميلون إلى بعض زوايا المسجد، فيوترون، ويدخلون مع الناس في صلاتهم.
قال عنه العجلي: شامي، تابعي، ثقة، من خيار التابعين.
عن الضحاك بن عبد الرحمن، قال: كنت أسمع أبا عبيد الله مسلم بن مشكم إذا انصرف بعد العشاء متوجهاً إلى منزله، يدعو أن يرزقه الله الصلاة في جماعة من الغد.
مسلم بن يسار
أبو عبد الله البصري، الفقيه مولى بني أمية، ويقال: مولى طلحة بن عبيد الله قدم دمشق في خلافة عبد الملك، وحدث بها.
روى عن أبيه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسح على الخفين: " للمسافر ثلاثة أيام ولياليه، وللمقيم يوماً وليلة ".
عن علي بن أبي حملة، قال: قدم علينا مسلم بن يسار دمشق، فقالوا له: يا أبا عبد الله لو علم الله أن بالعراق من هو أفضل منك لأتانا به؛ فجعل يقول: كيف لو رأيتم عد الله بن زيد الجرمي أبا قلابة؟. فما ذهبت الأيام والليالي حتى أتانا الله بأبي قلابة.(24/298)
قال محمد بن سعد: وكان مسلم ثقة فاضلاً، عابداً ورعاً، قالوا: وتوفي سلم بن سار في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة مئة أو إحدى ومئة.
قال عبد الغني بن سعيد: مسلم بن يسار البصري والد عبد الله، وهو أحد القراء الذين خرجوا على الحجاج.
وقال قتادة: كان مسلم بن يسار يعد خامس خمسة من فقهاء أهل البصرة.
وقال كلثوم بن جبر: كان المتمني بالبصرة يقول: فقه الحسن، وورعابن سيرين، وعبادة طلق بن حبيب، وحلم مسلم بن يسار.
وقال الواقدي: كان مسلم بن يسار لا يفضل عليه في زمانه أحد في العلم والزهد، وكان يقول: إني لأكره أن أمس فرجي بيميني، وأنا أرجو أن آخذ بها كتابي يوم القيامة.
وقال الحسن: يكون الرجل عالماً ولا يكن عابداً، ويكون عابداً ولا يكون عاقلاً، وكان مسلم بن يسار عابداً عالماً عاقلاً.
وقال ابن عون: أدركت هذا المسجد مسجد البصرة وما فيه حلقة تنسب إلى الفقه إلا حلقة واحدة تنسب إلى مسلم بن يسار، وسائر المسجد قصاص.
قال محمد بن سلام: كان مسلم بن يسار مفتي أهل البصرة قبل الحسن، حمل عنه ابن سيرين وأبو قلابة وكلثوم بن جبر ومحمد بن واسع ثابت البناني، وكان جليلاً عند الفقهاء، وروي كلامه.(24/299)
قال ابن عون: رأيت مسلم بن سار يصلي كأنه ود، لا يميل على قدم مرة ولا على قدم مرة، ولا يحرك له ثوباً.
قال جعفر بن حيان: ذكر لمسلم قلة التفاته في الصلاة، فقال: وما يدريكم أين قلبي.
وقال ابن شوذب: كان مسلم بن يسار يقول لأهله إذا دخل في صلاته في بيته: تحدثوا فلست أسمع حديثكم.
عن أبي قلابة، قال: قلت لمسلم بن يسار: أين موضع البصر في الصلاة؟ قال: موضع السجود حسن، أرأيت لو كنت بين يدي ملك ألم تحب أن يراك متخشعاً؟ وقال مكحول: رأيت سيداً من ساداتكم داخل الكعبة. فقلت: من هو يا أبا عبد الله؟ قال: مسلم بن يسار. فقلت: لأنظرن ما يصنع مسلم اليوم؛ فلما دخل قام في الزاوية التي فيها الحجر الأسود يدعو قدر أربعين آية، ثم تحول إلى الزاوية التي فيها الركن فقام يدعو قدر أربعين آية، ثم تحول إلى الزاوية التي فيها الدرجة فقام يدعو قدر أربعين آية، ثم جاء حتى قام بين العمودين عند الرخامة الحمراء فصلىركعتين، فلما سجد قال: اللهم اغفر لي ذنوبي وما قدمت يداي، اللهم اغفر لي ذنوبي وما قدمت يداي، اللهم اغفر لي ذنوبي وما قدمت يداي؛ ثم بكى حتى بل المرمر.
عن عبد الله بن مسلم بن يسار، أن أباه قال: لا ينبغي للصديق أن يكون لعاناً، لو لعنت شيئاً ما تركته في بيتي؛ وكان لا يسب أحداً، وكان أشد ما يقول إذا غضب: فرق بني وبينك. قال: فإذا قال ذلك علموا أنه لم يبق بعد ذلك شيء.(24/300)
عن إسحاق بن سويد، قال: صحبت مسلم بن يسار عاماً في الكعبة، فلم أسمعه يتكلم بكلمة حتى بلغنا ذات عرق. قال: ثم حدثنا فقال: بلغني أنه يؤتى بالعبد يوم القيامة ويوقف بين يدي الله عز وجل، فيقول: انظروا في حسابه، فينظر في حسابه فلا توجد له حسنة؛ فيقول: انظروا في سيآته، فتوجد له سيآت كثيرة؛ فيؤمر في النار، فيذهب به إلى النار وهو يلتفت فيقول: أي رب، لم يكن هذا ظني - أو رجائي - فيك. فيقول: صدقت: فيؤمر به إلى الجنة.
قال سفيان الثوري:
قال رجل لمسلم بن يسار: علمني كلمة تجمع لي موعظة نافعة. قال: فأطرق طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: لا ترد بعملك غير من يملك ضرك ونفعك. قال: زدني. قال: أهمل رجاءك ولا تستعمله، واستشعر الخوف ولا تغفله. قال: زدني. قال: يوم العرض على ربك لا تنسه. قال: ثم سقط لوجهه مكباً.
عن معاوية بن مرة، قال: دخلت على مسلم بن يسار، فذكر حديثاً من حديث النار، فقلت: يا أبا عبد الله، والله إنا لنرجو ونخاف. فقال ما أدري ما حسب رجاء رجل لرحمة الله وهو لا يصبر نفسه عن الشهوات عن ما حرم الله. قال: فنبهني. وكان خيراً مني.
عن عبد العزيز بن عبيد الله، قال: سمع مسلم بن يسار رجلاً يدعو على أخ له من أجل أنه ظلمه، فقال له مسلم، يا أخي لا تدع على أخيك، ولا تقطع رحمه، وكله إلى الله، فإن خطيئته هي أشد له طلباً من أعدى عدو له.
قال مسلم بن يسار: ما من شيء من عملي إلا وأنا أتخوف أن يكون قد دخله ما أفسده علي ليس الحب في الله.(24/301)
وقال: ما غبطت رجلاً بشيء من الدنيا، إلا جار لصالح أو مسكن واسع أو زوجة صالحة.
وقال: اعمل عمل رجل يعلم أنه لا ينجيه إلا عمله، وتوكل توكل رجل يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب له.
وقال: إياكم والمراء، فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته.
قال حماد: ذكر أيوب القراء الذين خرجوا مع ابن الأشعث، فقال: لا أعلم أحداً منهم قتل إلا رعب له من مصرعه، ولا نجا فلم يقتل إلا ندم على ما كان منه.
قال: وصحب أبو قلابة مسلم بن سار إلى مكة، فقال له: يا أبا قلابة، إني أحمد إليك الله أني لم أطعن فيها برمح، ولم أرم فها بسهم، ولم أضرب فيها بسيف. قال: فقال: له: أبا عبد الله، كيف بمن رآك واقفاً فقال: هذا أبو عبد الله، والله ما وقف هذا الموقف إلا وهو على حق، فتقدم فقاتل حتى قتل؟ قال: فبكى حتى تمنيت أني لم أكن قلت شيئاً.
وعن أيوب، قال: قيل لابن الأشعث: إن سرك أن يقتلوا حولك كما قتلوا حول جمل عائشة فأخرج مسلم بن يسار معك. قال: فأخرجه مكرهاً.
قال خليفة: وفيها - يعني سنة مئة - مات مسلم بن يسار بالبصرة.(24/302)
مسلم أبو عبد الله الخزاعي مولاهم
صاحب حرس معاوية، وهو أول من ولي الحرس، وكان يدور على الحلق بدمشق، وكانت له دار في نواحي زقاق النهر.
مسلم أبو سليمان
والد حماد بن أبي سليمان كان مولى لمعاوية بن أبي سفيان، فأهداه إلى أبي موسى الأشعري بدومة الجندل حين التحكيم.
سبي من رستاق براخوار.
مسلم مولى عمر بن عبد العزيز
حكى، قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعند كاتب يكتب. قال: وشمعة تزهر، وهو ينظر في أور المسلمين. قال: فخرج الرجل فأطفئت الشمعة وجيء بسراج إلى عمر، فدنوت منه فرأيت عليه قميصاً فيه رقعة قد طبق ما بين كتفيه. قال: فنظر في أمري.
عن أبي سعد الإدريسي، قال: مسلم، كان من سبي سمرقند، فوقع لابنه لعمر بن عبد العزيز، فاشتراه منها عمر بن عبد العزيز فأعتقه، ثم ولد له بعد ذلك مولود فجاء به إلى عمر بن عبد العزيز، وهو ابن شهرين، فسماه عبد الله، وفرض له في الذرية، فعاش عبد الله عشرين ومئة سنة.(24/303)
مسمع بن محمد الأشعري
من أهل دمشق.
روى عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يبغض المؤمن الذي لا زبر له ". قال جنادة: يعني الشدة في الحق.
قال العقيلي: مسمع بن محمد الأشعري عن ابن أبي ذئب، لا يتابع على حديثه.
مسمع ن مالك بن مسمع
ابن شيبان بن شهاب بن علقمة بن عباد بن عمرو بن ربيعة بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة ويقال: مسمع بن مالك بن مسمع بنقلع، وقلع لقب واسمه علقمة بن عمرو بن عباد، ويقال: ابن عباد بن عمرو بن جحدر، أبو سيار الربعي، البصري وفد على عبد الملك، وكان سيد بكر بن وائل بالبصرة.
عن أبي سعيد السكري، عن غيره، قال: فولد مالك بن مسمع بن شيبان أبا غسان مسمع بن مالك، وغسان بن مالك، وشهاب بن مالك؛ فأما مسمع بن مالك فكان شريفاً سيداً حليماً لا يقدم عليه أحد من ربيعة في زمانه، وكان جواداً سخياً؛ فلما ولي عبد الملك بن مروان شكر لمالك بن مسمع ومسمع بن مالك ما كان من مالك إلى مروان، فلما أقطع مالكاً قطيعته التي بين الجسرين أقطع مسمعاً أيضاً قطيعة خلف قطيعة أبيه.(24/304)
قال خليفة: كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج؛ أن ول مسمع بن مالك سجستان، فولاه، فلم يزل عليها حتى مات.
عن ميمون أبي السمط مولى مسمع بن مالك، قال: كان مسمع بن مالك مع الحجاج في جميع مشاهده لا يفارقه، يوم رستق أباد ويوم ابن الأشعب ويوم الزاوية ويوم دير الجماحم، وكان منادي الحجاج يخرج فينادي: ألا إن مسمع بن مالك سيد أهل العراق.
مسور بن مخرمة بن نوفل
ابن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن قصي ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.
أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عثمان، القرشي، الزهري له صحبة، روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث، وقدم دمشق برسالة عثمان إلى معاوية يستدعيه إليه لأجل الذين حصروه، ثم قدمها ثانية وافداً على معاوية في خلافته.
عن المسور: أنه بعث إليه حسن بن حسن يخطب ابنة له، فقال له: قل له فليلقني في العتمة. قال: فلقيه، فحمد الله تعالى المسور وأثنى عليه، وقال: أما بعد؛ أما والله ما من نسب ولا سب ولا صهر أحب إلي من نسبكم وصهركم، ولكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " فاطمة مضغة مني، يقبضني ما قبضها ويبسطني ما بسطها، وإن الأنساب يوم القيامة تنقطع غير نسبي وصهري ". وعندك ابنتها، ولو زوجتك لقبضها ذلك. فانطلق عاذراً له.(24/305)
قال المصنف: هذا حديث غريب، وقد روي من وجه آخر صحيح؛ عن المسور بن مخرمة، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على المنبر يقول: " إن بني هاشم بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها ".
قال الزبير بن بكار: وكان المسور ممن يلزم عمر بن الخطاب ويحفظ عنه، وكان من أهل الفضل والدين، ولم يزل مع خاله عبد الرحمن مقبلاً ومدبراً في أمر الشرى حتى فرغ عبد الرحمن، ثم انحاز إلى مكة حين توفي معاوية، وكره بيعة يزيد، فلم يزل هناك حتى قدم الحصين بن نمير، وحضر حصار عبد الله بن الزبير وأهل مكة، وكانت الخوارج تغشى المسور بن مخرمة وتعظمه، وينتحلون رأيه، حتى قتل تلك الأيام، أصابه حجر المنجنيق، فمات في ذلك.
قال محمد بن عمر: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسور بن مخرمة ابن ثماني سنين، وقد حفظ عنه.
قال أبو بكر ابن البرقي: توفي المسور بن مخرمة بمكة، أصابه حجر منجنيق وهو قائم يصلي، وذلك اليوم الذي مات فيه يزيد بن معاوية، لهلال شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين، وكان المسور يوم مات ابن اثنتين وستين سنة، صلى عليه ابن الزبير؛ وولد المسور بعد الهجرة بسنتين.
قال ابن يونس: قدم مصر سنة سبع وعشرين لغزو المغرب.
عن إبراهيم بن حمزة، قال: أتى عمر بن الخطاب ببرود من اليمن، فقسمها بين المهاجرين والأنصار، وكان فيها(24/306)
برد فائق لها، فقال: إن أعطيته أحداً منهم غضب أصحابه ورأوا أني فضلته عليهم، فدلوني على فتى من قريش نشأ نشأة حسنة أعطيه إياها. فأسموا له المسور بن مخرمة، فدفعه إليه، فنظر إليه سعد بن أبي وقاص على المسور، فقال: ما هذا؟ فقال: كسانيه أمير المؤمنين. فجاء سعد إلى عمر فقال: تكسوني هذا البرد وتكسو ابن أخي مسوراً أفضل منه. قال له: يا أبا إسحاق، إني كرهت أن أعطيه أحداً منكم فيغضب أصحابه، فأعطيته فتى نشأ نشأة حسنة لا يتوهم فيه أني فضلته عليكم. فقال سعد: فإني قد حلفت لأضربن بالبر الذي أعطيتني رأسك. فخضع له عمر رأسه، وقال: عندك يا أبا إسحاق، وليرفق الشيخ بالشيخ. فضرب رأسه بالبرد.
عن المسور: أنه خرج تاجراً إلى سوق ذي المجاز أو عكاظ، فإذا رجل من الأنصار يؤم الناس أرت أو ألثغ فأخره وقدم رجلاً، فغضب الرجل المؤخر فأتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن المسور أخرني وقدم رجلاً. فغضب عمر وجعل يقول: واعجباً لك يا مسور؛ وجعل يرسل إلى بيته.
فلما قدم المسور أخبر بذلك، فأتاه. فلما رآه طالعاً قال: واعجباً يا مسور. فقال: لا تعجل يا أمير المؤمنين، فوالله ما أردت إلا الخير. قال: وأي خير في هذا؟ فقال: إن سوق عكاظ - أو ذا المجاز - اجتمع فيها ناس كثير، عامتهم لم سمع القرآن، وكان الرجل أرت أو ألثغ فخشيت أن يتفرقوا بالقرآن على لسانه، فأخرته وقدمت رجلاً عربياً بيناً. فقال عمر: جزاك الله خيراً.
عن عروة بن الزبير: أن المسور بن مخرمة أخبره أنه قدم وافداً على معاوية بن أبي سفيان، فقضى حاجته، ثم دعاه فأخلاه، فقال: يا مسور، فافعل طعنك على الأئمة؟ قال مسور: دعنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له. قال معاوية: لا والله لا تكلمني بذات نفسك بالذي تعيب علي. قال لمسور: فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا بينته له. فقال معاوية: لا براء من الذنب، فهل تعد يا مسور مما تلي من الإصلاح في أمر العامة، فإن الحسنة بعشر(24/307)
أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك الإحسان؟ قال المسور: لا والله ما نذكر إلا ما ترى من هذه الذنوب. فقال له معاوية: فإنا نعترف لله كل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلك إن لم غفرها الله لك؟ قال مسور: نعم. قال: فما يجعلك برجاء المغفرة أحق مني؟ فوالله لما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أخير بين أمرين بين الله وغيره إلا اخترت الله على سواه، وإني لعلي دين يبل فيه العمل، ويجزي فيه بالحسنات، ويجزي فيه بالذنوب، إلا أن يعفو الله عنها، وإني أحتسب كل حسنة عملتها بأضعافها من الأجر، وألي أموراً عظاماً لا أحصيها ولا يحصيها من عمل الله بها في إقامة الصلاة للمسلمين، والجهاد في سبيل الله، والحكم بما أنزل الله، والأمور التي لست أحصيها عدداً فيكفي في ذلك.
قال المسور: فعرفت أن معاوية قد خصمني حين ذكر ما ذكر.
قال عروة بن الزبير: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه.
عن أم بكر بنت المسور، قالت: كان المسور بن مخرمة إذا قدم مكة طاف لكل يوم غاب عنه سبعاً، وكان يفرق بين الأسابيع، ثم صلي لكل أسبوع ركعتين.
وعنها، عن أبيها؛ أنه كان يصوم الدهر.
وعنها عن أبيها؛ أنه وجد يوم القادسية إبريق ذهب عليه الياقوت والزبرجد، فلم يدر ما هو، فلقيه فارسي فقال: آخذه بعشرة آلاف؛ فعرف أنه شيء، فذهب به إلى سعد بن أبي وقاص وأخبره خبره، فنفله إياه، وقال: لا تبعه بعشرة آلاف. فباعه له بمئة ألف فدفعها إلى المسور ولم يخمسها.
عن المسور، قال: لقد وارت القبور رجالاً لو رأوني مجالسكم في هذا المجلس لاستحييت من ذلك.(24/308)
عن شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: لما دنا الحصين بن نمير من مكة أخرج المسور بن مخرمة سلاحاً قد حمله من المدينة ودروعاً، ففرقها في مواليه كهول، فرس، جلد، فدعاني ثم قال لي: يا مولى عبد الرحمن بن مسور. قلت: لبيك. قال: اختر درعاً من هذه الأدراع. قال: فاخترت درعاً وما يصلحها، وأنا يومئذ شاب غلام حدث. قال: فرأيت أولئك الفرس قد غضبوا وقالوا: تخير هذا الصي علينا، والله لولا الجد لتركك. قال المسور: لتجدن عنده حزماً.
فلما كانت الوقعة لبس المسور سلاحه، درعاً وما يصلحها، فأحدق به مواليه ثم اكشفوا عنه، واختلط الناس، فالمسور يضرب بسيفه، وابن الزبير في الرعيل الأول يرتجز قدماً، ومصعب بن عبد الرحمن معه يفعلان الأفاعيل، إلى أن أحدقت جماعة منهم بالمسور، فقام دونه مواليه فذبوا عنه كل الذب، وجعل يصيح بهم ويكنيهم بكناهم، فما خلص إليه، ولقد قتلوا من أهلالشام يومئذ نفراً.
وعن أم كر بنت المسور وأبي عون قالا: أصاب المسور بن مخرمة حجر من المنجنيق ضر البيت، فانفلق منه فلقة فأصابت خد المسور وهو قائم يصلي، فمرض منها أياماً، ثم هلك في اليوم الذي جاء فيه نعي يزيد بن معاوية، وابن الزبير يومئذ لا يسمى بالخلافة، الأمر شورى.
قالت أم بكر: كنت أرى العظام تنتزع من صفحته، وما مكث إلا خمسة أيام حتى مات.
عن زيد بن أسلم، قال: أغمي على المسور بن مخرمة، ثم أفاق فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أحب إلي من الدنيا وما فيها، عبد الرحمن بن عوف في الرفيق الأعلى " مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً "، عبد الملك والحجاج يجران أمعاءهما في النار.(24/309)
وعن شرحبيل، عن أبيه، قال:
حضرنا غسل المسور، وبنوه حضور، قال: فولي ابن الزبير غسله، فغسله الغسلة الأولى بالماء القارح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور، ووضأه بعد أن فرغ من غسله، ومضمضه وأنشقه، ثم كفناه في ثلاثة أثواب أحدها حبرة. قال: فرأيت ابن الزبير حمله بين العمودين، فما فارقه حتى صلى عليه بالحجون، وإنا لنطأ به القتلى، وأهل الشام صلوا عليه معنا، ونهانا ابن الزبير يومئذ أن نحمل معه مجمرة، ثم انتهينا إلى قبره، فنزل بنوه في قبره وابن الزبير يسله من قبل رجلي القبر.
قال يحيى بن بكير: توفي المسور بن مخرمة يوم جاء نعي يزيد بن معاوية إلى ابن الزبير سنة أربع وستين، وصلى عليه ابن الزبير بالحجون، وأصابه حجر منجنيق وهو يصلي في الحجر، فأقام خمسة أيام وتوفي في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، ولد بعد الهجرة بسنتين، وقدم به المدينة في عقب ذي الحجة سنة ثمان، وشهد عام الفتح وهو ابن ست سنين، وتوفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثمان سنين.
مسهر بن عبد الأعلى بن مسهر
أبو عبد الأعلى، ويقال: أبو ذرامة الغساني، والد أبي مسهر حدث مسهر بن عبد الأعلى، قال: حمل أبو بكر الصديق الحسن ابن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " من الرجز "
وابأبي وابأبي ... تفديك نفسي وأبي
والناس كلهم أبي ... فإن أبي الناس فبي
قال مسهر في ابنه: " من الوافر "
امحتمل بثكلى أم تطيق ... وكيف يطيق ذاك أب رفيق
علاه الشيب لم يدرك له ابن ... وحادي الموت معتزم يسوق(24/310)
بنيي كان لي سكناً وأنا ... على صغر شمائله تروق
صغيراً كان في عيني كبيراً ... يؤمله الأقارب والصديق
فسابقني إليه الموت غدواً ... وغدو الموت أبطأه سبوق
فيالله صبري واحتسابي ... ونفسي من مصيبته تفوق
وإشفاقي عليك من المنايا ... وهل يسطيع يدفعها الشفيق
أردد غصة في القلب حلت ... وصدري عن ترددها يضيق
وريح الموت ينفضه بسعف ... وفي النفس الضعيف عليه ضيق
ورنت أخته وأخوه شجواً ... وأم قد أضر بها الشهيق
أسكنهم وفي كبدي حريق ... وليس يسوغ في اللهوات ريق
وأنشد: " من الكامل "
حسدوا مروءتنا فضلل سعيهم ... ولكل بيت مروءة أعداء
لسنا إذا عز الكرام لمعشر ... أزرى بفعل بنيهم الآباء
قال أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر: حدثني هشام بن يحيى الغساني، قال: كان لأبيك مسهر بن عبد الأعلى خاتم نقشه: أبرمت فقم، فكان إذا ثقل عليه الرجل من جلسائه حرك خاتمه في يده ونظر إلى نفسه، ثم رمى به إلى الرجل، فيقرأ ما على خاتمه، فيقال: ما على خاتمك يا أبا عبد الأعلى، فإذا أخبره قام وكفى ثقله.
قال يحيى بن معين: إبراهيم بن علي الهاشمي قتل يونس بن ميسرة بن حلبس في المسجد وهو يصلي، وقتل أبا أبي مسهر.(24/311)
المسيب بن حزن بن أبي وهب
ابن عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب أبو سعيد. وهو والد سعيد بن المسيب المخزومي له صحبة، وهم ممن بايع تحت الشجرة، روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً، وعن أبيه؛ وشهد اليرموك.
عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجد عنده أبا حهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا عم، قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله ". قال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم، هو على ملة عبد المطلب؛ وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ". فأنزل الله عز وجل " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ". وأنزل في أبي طالب " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ".
عن ابن المسيب، عن أبيه؛ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لجده - جد سعيد -: " ما اسمك؟ " قال: حزن. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنت سهل؟ " فقال: لا أغير اسماً سمانيه أبي. قال ابن المسيب: فما زالت فينا حزونة بعد.(24/312)
وعنه، عن أبيه، قال: خمدت الأصوات يوم اليرموك، فلم يسمع صوت إلا رجل تحت الراية ينادي: يا نصر الله اقترب. فدنوت فإذا أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه يزيد بن أبي سفيان.
وعن سعيد بن المسيب، أن أباه قدم على عمر بريداً من الشام، فجعل يستخبره فقال: أتعجلون الإفطار؟ قال: نعم. فقال: أما إنهم لن يزالوا بخير ما كانوا كذلك ولم ينطعوا تنطع أهل العراق.
وعنه، قال: كان المسيب رجلاً تاجراً، فدخل عليه ابن سلام، فقال: يا أبا سعيد، إنك رجل تبايع الناس، وإن أفضل مالك ما تغيب عنك، وإنه ليس المفلس الذي يفلس بأموال الناس، ولكن المفلس الذي يوقف يوم القيامة فلا يزال يؤخذ من حسناته حتى لا تبقى لح حسنة. فكان أبو سعيد مستوصياً بها.
قال ابن سلام: إذا كان له حق على أحد فجاءه ببعضه قال: لا أقبل منك إلا الذي لي كله، حرصاً على الحسنات يوم القيامة.
المسيب بن دارم
أبو صالح البصري سمع عمر بن الخطاب الجابية.
قال أبو صالح: قدم علينا عمر بن الخطاب الجابية، فقام على بعير له أحمر مقتب بقتب عليه رجل له رث. عليه عباءة قطوانية، فصاح بصوت له عال: أيها الناس؛ فثاب إليه الناس، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في مثل مقامي هذا مثل مقالتي هذه: " استوصوا بأصحابي خيراً، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " ثم قال شيخ بيده هكذا ثلاث فرق، " ثم يأتي بعد ذلك قوم يشهدون وإن لم يستشهدوا، ويحلفون ولا يستحلفون، إلا ومن(24/313)
سره أن ينزل الجنة فليلزم الجماعة فإن يد الله على الجماعة، وإن الواحد شيطان، وهو من الإثنين أبعد، إلا ولا يخلون رجا بامرأة، ألا ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن ".
قال المسيب: رأيت عمر وفي يده درة، فضرب رأس أمة حتى سقط القناع عن رأسها، قال: فيم الأمة تسبه بالحرة؟ وقال: رأيت عمر بن الخطاب ضرب جمالاً وقال: لم تحمل على بعيرك ما لا يطيق؟ قال ابن حاتم: مات سنة ست وثمانين.
المسيب بن نجبة بن ربيعة
ابن رباح بن ربيعة بن عوف بن هلال بن شمخ بن فزارة بن ذبيان، الفزاري صحب علي بن أبي طالب وسمع منه، وشهد حصار دمشق، وكان في الجيش الذي جاء مع خالد بن الوليد من العراق، وكان ممن خرج في جيش التوابين الذين خرجوا للطلب بدم الحسين بن علي فقتل بعين الوردة من أرض الجزيرة سنة خمس وستين.
روى عن علي بن أبي طالب، قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما من نبي إلا وله سبعة نجباء، وأعطيت أنا اثني عشر نجيباً ".
قيل لعلي بن أبي طالب: ومن هم؟ قال علي: أنا والزبير بن العوام وأبو بكر الصديق وعمر وضمرة وجعفر ومصعب بن عمير وبلال وعمار بن ياسر والمقداد وعثمان بن مظعون - وشك سفيان في عبد الله بن مسعود -.(24/314)
وعن الحسن بن علي، قال: إني رجل محارب، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الحرب خدعة ".
عن قيس، قال: كنت مع خالد فأقبل حتى نزل بناحية يصرى، وقسم خيله فجعل على شطرها المسيب بن نجبة وعلى الشطر الآخر رجلاً كان معه من بكر بن وائل.
قال محمد بن سعد: في الطبقة الأولى من أهل الكوفة، شهد القادسية، وشهد مع عل مشاهده، وقتل يوم عين الوردة مع التوابين الذين خرجوا وتابوا من خذلان الحسين، فبعث الحصين بن نمير برأس المسيب بن نجبة مع أدهم بن محرز الباهلي إلى عبيد الله بن زياد، وبعث به عبيد الله بن زياد إلى مروان بن الحكم، فنصبه بدمشق.
عن سلمة بن كهيل، قال: جالست المسيب بن نجبة الفزاري في هذا المسجد عشرين سنة، وناس من الشيعة كثير، فما سمعت أحداً منهم يتكلم في أحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بخير، وما كان الكلام إلا في علي وعثمان.
عن أبي مخنف، قال: حدثني هذا الشيخ عن المسيب بن نجبة، قال: والله ما رأيت أشجع من إنساناً قط، ولا من العصابة التي كان فيهم، ولقد رأيته يوم عين الوردة يقاتل قتالاً شديداً ما ظننت أن رجلاً واحداً يقدر أن يبلي ما أبلى ولا نكأ في عدوه مثل ما نكأ، ولقد قتل رجالاً.
قال: وسمعته يقول قبل أن يقتل وهو يقاتلهم: " من الرجز "
قد علمت سيالة الذوائب ... واضحة اللبات والترائب
أني غداة الروع والتغالب ... أشجع من ذي لبد مواثب
قصاع أقران مخوف الجانب
وقال: " من الطويل "
ولست كمن خان ابن عفان منهم ... ولا مثل من يعطي العهود ويغدر(24/315)
ولكن نبغي جنة أتقي بها ... لعل ذنوبي عند ربي تغفر
شهدت رسول الله بالحق قلما ... يبشر بالجنات والنار يندر
المسيب بن واضح بن سرحان
أبو محمد السلمي، الحمصي ثم التلمنسي سمع منه بصور، واجتاز بدمشق أو بساحلها في طريقه إلى صور.
روى عن يوسف بن أسباط، بسنده إلى جابر، قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مداراة الناس صدقة ".
وعن حفص بن ميسرة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: توضأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة مرة وقال: " هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به " ثم توضأ مرتين مرتين وقال: " هذا وضوء من يضاعف الله له الأجر " ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً فقال: " هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي ".
قال أبو نصر هبة الله بن عبد الجبار السجزي: وأما المسيب بن واضح فهو شيخ جليل ثقة من تبع الأتباع - يعني التابعين - كنيته أبو محمد الحمصي من أهل تل منس قرية بحمص.
قال أو حاتم عنه: صدوق، كان يخطئ كثيراً، فإذا قيل له لم يقبل.
وقال صالح بن محمد البغدادي: لا يدري أي طرفيه أطول، لا يدري أيش يقول. ويوسف بن أسباط صدوق.
قال المسيب: خرجت من تل منس وأنا أريد مصر إلى ابن لهيعة، فلما صرت إلى مصر أخبرت بموته، فسمعت من إسماعيل بن عياش(24/316)
مات سنة ست وأربعين ومئتين، وقيل سنة سبع وأربعين ومئتين غرة المحرم، وسنه تسع وثمانون سنة، ودفن بتل منس. وكان مسنداً، وله عقب نحاس.
مشرف بن مرجى بن إبراهيم
أبو المعالي المقدسي، الفقيه سمع بدمشق.
روى بصور سنة ثمان وثلاثين وأربعمئة عن أبي أحمد محمد بن سهل القيساري، بسنده إلى فاطمة الكبرى عليها السلام، قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل المسجد صلى على محمد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: " اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك " وإذا خرج صلى على محمد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: " اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبوابفضلك ".
وعن أبي الحسن محمد بن عوف بن أحمد المري، بسنده إلى أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أهل الشام أزواجهم وذرياتهم وعبيدهم وإماؤهم مرابطون في سبيل الله، فمن احتل منها مدينة من المدائن فهو في رباط، ومن احتل منها ثغراً من الثغور فهو في جهاد ".
مشكان أبو عمرو
ويقال: أبو عمر، الدمشقي روى عن أبي الدرداء أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إني فضلت بأربع؛ جعلني وأمتي نصف في الصلاة كما تصف الملائكة، وجعل الصعيد لي وضوءاً، وجعلت الأرض كلها لي مسجداً، وأحلت لي الغنائم ".
عن علي بن أبي حملة، قال: كنت في مجلس ابن أبي زكريا الدمشقي، فذكر مشكان الدمشقي - وكان جليساً(24/317)
لأبي الدرداء - فقالوا: إنه لرجل صالح، من رجل يحب السلطان، فقال: اللهم غفراً، لقد رأيتنا معه في القوادس في البحر، واشتد علينا، فتقلد مصحفه ثم جاءني فضرب فخذي فقال: يا ابن أبي زكريا، أي شيء تخاف؟ وددت أنها تجلجل بي وبك إلى يوم القيامة.
مصاد بن زهير الكلبي
من وجوه بني كلب، كان ينزل المزة، وله يقول الشاعر: " من الخفيف "
حبذا ليلتي بمزة كلب ... غال عني بها الكوانين غول
بت ألهو بها وعندي مصاد ... إنه لي وللكرام وصول
مصعب بن أيوب
حرسي كان لعمر بن عبد العزيز.
قال مصعب:
كنت في حرس عمر بن عبد العزيز، وكنت قائماً على رأسه إذ دخل عليه رجل من قريش من أهل المدينة ونبطي ينازعه في أرض، فاختصما إلى عمر. قال محمد بن خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط للنبطي وهو يظن أن عمر لا يأبه لما أراد: صدق أمير المؤمنين، ليكسر النبطي - ويريه أن يخصمه من يرقده عند عمر -، فأقبل عليه عمر فقال: أعندي ترفده؟ والله لقد كنت أنكر هذاقبل أن تنصل هذه - يشير بأصبعه يخطط بها لحيته - ثم قال: قم. فأقامه من المجلس، وأتبعه رسولاً يرحله من العسكر.
مصعب بن الربيع الخثعمي
كاتب مروان بن محمد.(24/318)
عن مصعب بن الربيع الخثعمي، وهو أبو موسى بن مصعب - وكان كاتباً لمروان بن محمد - قال: لما انهزم مروان وطهر عبد الله بن علي على الشام طلبت الأمان فأمنني، فإني يوماً جالس عنده وهو متكئ، إذ ذكر مروان وانهزامه، فقال: أشهدت القتال؟ قلت: نعم. أصلح الله الأمير. فقال: حدثن عنه. قال: قلت: لما كان ذلك قال لي: احزر القوم. فقلت: إنما صاحبقلم، ولست بصاحب حرب. فأخذ يمنة ويسرة فقال لي: هم اثنا عشر ألفاً. فجلس عبد الله وقال: ماله - قاتله الله - ما أحصى الديوان يومئذ فضلاً على اثني عشر ألف رجل!
مصعب بن الزبير بن العوام
ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب أبو عيسى، ويقال: أبو عبد الله، الأسدي، الزبيري وفد على معاوية، وكان أخوه عبد الله بن الزبير ولاه الصرة، ثم عزله بابنه حمزة، ثن ولاها إياه ثانية وجمع له معها الكوفة.
عن الحكم، أن رجلاً من عبد القيس كان يدخل على امرأة فنهاها زوجها عن ذلك وأشهد عليه أهل المجلس، فجاء يوماً فرآه في بيته، فقتله، فرفع إلى مصعب بن الزبير، فقال: لولا أن عمر عقل هذا ما عقلته، فوداه.
وقال جرير بن حازم: قدم على معاوية شباب من أهل المدينة من قريش وافدين، فيهم عمرو بن سعيد(24/319)
وعبد الملك بن مروان وعبد الرحمن بن أم الحكم ومصعب بن الزبير، فأنزلهم في منازل حسنة وأكرمهم، ووافق ذلك قدوم زياد عليه. فقال له معاوية: يا أبا المغيرة، إنه قدم علي شباب من قومي يزعم أهل المدية وغيرهم أنهم أفضل من وراءهم، فأت كل رجل منهم حتى تجالسه وتسأله وتبلوا ما عنده، ثم انصرف فعرفني.
فجعل زياد يزور كل واحد منهم فيتحدث عنده ساعة، ومنهم من يتحدث عنده يزماً وليلة، ثم أتاه، فقال: صفهم لي ولا تسمهم؛ فقال: أما رجل منهم فبسيط اللسان، حسن العقل، لم يدع التيه فيه فضلاً، وهو خليق أن يطلب هذا الأمر فتعطيه. قال: هو - والله - عمرو بن سعيد. قال: هو هو.
قال: ورجل له مثل عقله، حسن اللسان، إلا أن لصاحبه فضل حلاوة عليه، فذكر العفة ويتحظى بها، وهو خليق أن يبلغ غايته في نفسه. قال: هو - والله - عبد الملك. قال: هو هو.
قال: ورجل آخر هو أحيا من فتاة مخدرة حيية، وهو أحبهم إلي، لك أن تصطنعه. قال: هذا - والله - مصعب بن الزبير. قال: هو هو.
قال: وكيف رأيت عبد الرحمن؟ قال: قد غلب عليه قول الشعر وذهب به. قال: لعن الله من لا يموت دونك.
قال الزبير بن بكار في تسمية ولد الزبير: ومصعب وحمزة ورملة بني الزبير، وأمهم الرباب بنت أنيف بن عبيد بن قصاد بن كعب بن عليم بن جناب بن هبل، من كلب، وكان مصعب سمى آنية النحل، من كرمه وجوده. قال الشاعر: " من الطويل "
لا تحسب السلطان عاراً عقابها ... ولا ذلة عند الحفئظ في الأصل
فقد قتل السلطان عمراً ومصعباً ... قريعي قريش واللذين هما مثلي(24/320)
عماد بني العاص الرفع عمادها ... وقرم بن العباس آنية النحل
ولي العراقين لأخيه عبد الله بن الزبير، وكان شجاعاً ممدحاً، يقول عببيد الله بن قيس الرقيات: " من الخفيف "
إنما مصعب شهاب من الل ... هـ تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك عزة ليس فيها ... جبروت منه ولا كبرياء
يتقي الله في الأمور وقد أف ... لح من كان همه الاتقاء
وقال أحد الكلبيين يذكر ولادة من ولدوا: " من الطويل "
وعبد العزيز قد ولدنا ومصعباً ... وكلب أب للصالحين ولود
قال محمد بن سعد: مصعب بن الزبير بن العوام قتل بالعراق سنة اثنتين وسبعين، ويكنى أبا عبد الله ولم يكن له ابن يسمى عبد الله.
قال أبو بكر الخطيب: كان من أحسن الناس وجهاً، وأشجعهم قلباً، وأسخاهم كفاً، وولي إمارة العراقين وقت دعي لأخيه عبد الله بن الزبير بالخلافة، فلم يزل كذلك حتى سار إليه عبد الملك بن مروان فقتله بمسكن في موضع قريب من أوانا على نهر دجيل عند دير الجاثليق، وقبره إلى الآن معروف هناك.
عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز الزهراني، أن جميلاً نظر إلى مصعب بن الزبير على جبال عرفة فقال: إن ها هنا لفتى أكره أن تراه بثينة.
قال الشعبي: ما رأيت أميراً قط على منبر أحسن من مصعب بن الزبير.(24/321)
عن الوليد بن هشام، قال: كان مصعب بن الزبير يحسد الناس على الجمال، فإنه ليخطب الناس بالبصرة إذ أهل ابن جودان من ناحية الأزد، فأعرض بوجهه عن تلك الناحية إلى ناحية بني تميم، فأقبل ابن حيران من تلك الناحية، فأعرض ببصره عنها ورمى ببصره إلى مؤخر المسجد، فأقبل الحسن البصري من مؤخر المسجد، فأفف مصعب ونزل عن المنبر.
عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: اجتمع في الحجر مصعب بن عروة وعبد الله بنو الزبير، وعبد الله بن عمر، فقالوا: تمنوا. فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة. وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم. وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة.
قال: فنالوا كلهم ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له.
قالخليفة: وفيها - يعني سنة سبع وستين - جمع عبد الله بن الزبير العراق لأخيه مصعب بن الزبير.
وقال: سنة ثمان وستين: فيها عزل ابن الزبير ابنه حمزة عن العراق وجمعها لمصعب بن الزبير، فأقام بها - يعني الكوفة - مصعب نحواً من سنتين، ثم انحدر إلى البصرة واستخلف القباع الحارث بن عبد الله المخزومي، ثم رجع مصعب فلم يزل بها حتى قتل.(24/322)
وسار مصعب يريد الشام، وسار عبد الملك يريد العراق، فأتى مصعب باجميرا أقصى عمل العراق، وأتى عبد الملك بطنان حبيب أقصى عمل الشام، وهجم عليهما الشتاء فرجعا، وكذلك كانا يفعلان في كل عام حتى قتل مصعب، وفي ذلك يقول: " من الرجز "
أبيت يا مصعب إلا سيراً ... في كل عام لك باجميرا
تغزو بنا ولا تفيد خيرا
عن عبد الله بن أبس بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: قدم وفد من أهل العراق على عبد الله بن الزبير، فأتوه في المسجد، فسلموا عليه، فسألهم عن مصعب بن الزبير وعن سيرته فيهم، فقالوا: أحسن الناس سيرة، وأقضاهم بحق، وأعدلهم في حكم؛ وذلك يوم الجمعة، فلما صلى عبد الله بنالزبير بالناس الجمعة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم تمثل: " من الرجز "
قد جربوني ثم جربوني ... من غلوتين ومن المئين
حتى إذا شابوا وشيبوني ... خلوا عناني ثم سيبوني
أيها الناس، إني قد سألت هذا الوفد من أهل العراق عن عاملهم مصعب بن الزبير فأحسنوا الثناء، وذكروا منه ما أحب، إن مصعباً اطبى القلوب حتى لا يعدل به، والأهواء حتى لا تحول عنه، واستمال الألسن بثنائها، والقلوب بصحتها، والأنفس بمحبتها، فهو المحبوب في خاصته، المأمون في عامته، بما أطلق الله به لسانه من الخير، وبسط به من البذل. ثم نزل.(24/323)
عن علي بن زيد، قال: بلغ مصعب بن الزبير عن عريف الأنصار شيء. فهم به، فدخل عليه أنس بن مالك فقال له: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " استوصوا بالأنصار خيراً - أو قال: معروفاً - اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئتهم ". فألقى مصعب نفسه عن سريره وألزق خده بالبساط وقال: أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرأس والعين. فتركه.
عن عبد الله بن المبارك، قال: دخل أيقف نجران على مصعب بن الزبير، فرمى إليه مصعب بشيء فشجه، فقال: له الأسقف: أعطني الأمان حتى أخبرك بما أنزل الله على عيسى بن مريم في الأنجيل. فقال له: لك الأمان. وما أنزل الله عليه؟ فقال للأسقف: أنزل الله عليه: ما للأمير وللغضب ومن عنده يطلب الحلم! وما له وللجور ومن عنده يطلب العدل! وما له وللبخل ومن عنده يطلب البذل! عز وجل من أهل العلم، قال: بلغ مصعب بن الزبير عن رجل من أهل البصرة كبر، فقال مصعب: العجب من ابن آدم، كيف يتكبر وقد جرى في مجرى البول مرتين؟
قال أبو عبد الله بن سلمويه: أسر عبد الله بن الزبير رجلاً فأمر بضرب عنقه، فقال: أعز الله الأمير، ما أقبح بمثلي أن يقوم يوم القيامة فأتعلق بأطرافك الحسنة وبوجهك الذي يستضاء به فأقول: يا رب سل مصعباً فيم قتلني؟ فقال: يا غلام، اعف عنه. فقال: أعز الله الأمير، إن رأيت أن تجعل ما وهبت لي من حياتي في عيش رخي. قال: يا غلام، أعطه مئة ألف. فقال: أعز الله الأمير، فإني أشهد الله وأشهدك أني قد جعلت لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفاً، فقال له: ولم؟ فقال: لقوله فيك: " من الخفيف "
إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء(24/324)
قال الشعبي: مر بي مصعب بن الزبير وأنا على باب داري، قال: فقال بيده هكذا. قال فتبعته. قال: فلما دخل أذن لي فدخلت عليه فتحدثت معه ساعة. ثم قال بيده هكذا، فرفع الستر، فإذا عائشة بنت طلحة امرأته. فقال: يا شعبي، رأيت مثل هذه قط؟ قال: قلت: لا، ثم خرجت. ثم لقيني بعد ذلك فقال لي: يا شعبي، تدري ما قالت لي؟ قلت: لا، قال: قالت: تجلوني عليه ولا تعطيه شيئاً. قال: فقد أمرت لك بعشرة آلاف. فأخذتها. فكان أول مال ملكته.
قال الزبير بن بكار: حدثني عمي، قال: أهديت لمصعب بن الزبير نخلة ذهبية، عناقيدها من صنوف الجوهر، فدعا لها المقومين فقوموها بألفي ألف دينار، وكانت من متاع الفرس. فقال: والله ما أدري ما أصنع بها، أما إني سأعطيها رجلاً أحبه. فاستشرف لها ولده ومن حواليه، فدفعها إلى عبد الله بن أبي فروة.
عن عبد الله بن نافع، قال: كان عبد الله بن الزبير لا يكسو أسماء بنت أبي بكر بكسوة إلا كساها مصعب مثلها.
قال أبو عاصم النبيل: قيل لعبد الملك: شرب المصعب الشراب. فقال: والله لو كان ترك الماء مروءة عند مصعب لترك الماء.
وكان عبد الله بن الزبير إذا كتب لرجل بجائزة إلى مصعب بألف درهم جعلها مصعب مئة ألف.
عن الحكم، قال: أول من عرف بالكوفة مصعب بن الزبير.(24/325)
قال عبد الله بن عمرا: كتبت إلى عبد الملك بن مروان، وكتبت إلى عبد الله بن الزبير، ولم يمنعني أن أكتب إلى مصعب بن الزبير إلا مخافة تزيد أهل العراق.
عن سعيد، قال: جاء ابن عمر مصعب بن الزبير فسلم عليه، فقال: من أنت؟ قال: أنا ابن أخيك مصعب بن الزبير، قال: صاحب العراق؟ قال: نعم. قال ابن عمر: أسألك عن قوم خالفوا وخلعوا وقاتلوا، حتى إذا غلبوا دخلوا قصراً وتحصنوا فيه وسألوا الأمان على دمائهم فأعطوا، ثم قتلوا بعد ذلك. قال: وكم العدد؟ قال: خمسة آلاف. قال: فسبح، ثم قال: عمرك الله يا مصعب لو أن امرءاً أتى ماشية للزبير فذبح منها خمسة آلاف شاة في غداة، أكنت تعده أو تراه مسرفاً. قال: فسكت مصعب. فقال: أجبني. قال: نعم، إني لأعد رجلاً يذبح خمسة آلاف شاة مسرفاً. قال: أفتراه إسرافاً في البهائم، لا تعبد الله وتدري ما الله، وقتلت من وحد الله؟ أما كان فيهم مستكره يراجع به التوبة أو جاهل ترجى رجعته؟ أصب يا ابن أخي من الماء البارد ما استطعت في دنياك.
عن عمر بن حمزة، قال: سمعت سالم بن عبد الله يسأل عبد الله بن عمر: أي ابني الزبير أشجع؟ قال: كلاهما جاءه الموت وهو ينظر إليه.
عن عبد الله بن مصعب، عن أبيه، قال: لما تفرق عن مصعب جنده قال له بعض أودائه: لو اعتصمت ببعض القلاع، وكاتبت من بعد عنك من أوليائك كمثل المهل والأشتر وفلان وفلان، فإذا اجتمع لك من ترضاه لقيت القوم بأكفائهم، فقد ضعفت جداً واختل أصحابك. فلبس سلاحه وخرج فيمن بقي من أصحابه وهو يتمثل بشعر - قيل: لطريف العنبري، وكان طريف يعد بألف فارس من فرسان خراسان - فقال: " من الطويل "(24/326)
علام تقول السيف يثقل عاتقي ... إذا أنا لم أركب به المركب الصعبا
سأحميكم حتى أموت ومن يمت ... كريماً فلا لوماً عليه ولا عتبا
عن سعيد بن يزيد، قال: سار عبد الملك إلى مصعب، وسار مصعب حتى نزل الكوفة، فقال إبراهيم بن الأشتر لمصعب: ابعث إلى ابن زياد بن عمرو ومالك بن مسمع ووجوه من وجوه البصرة فاضرب أعناقهم، فإنهم قد أجمعوا على أن يغدروا بك. فأبى. قال: فقال إبراهيم: فإني أخرج الآن في الخيل، فإذا قتلت فأنت أعلم. فقاتل حتى قتل. فلما التقى المصعب وعبد الملك قلب القوم ترستهم ولحقوا بعبد الملك.
قال: فقتل المصعب وقتل معه ابنه عيسى وإبراهيم بن الأشتر، وخرج مسلم بن عمرو الباهلي فقال: احملوني إلى خالد بن يزيد، فحمل إليه، فاستأمن له، ووثب عبيد الله بن زياد بن ظبيان على مصعب فقتله عند دير الجاثليق على شاطئ نهر يقال له: دجيل من أرض مسكن، واحتز رأسه فذهب به إلى عبد الملك، فسجد عبد الملك لما أتى برأسه؛ وكان عبيد الله بن زياد بن ظبيان فاتكاً رديئاً، فكان يتلهف ويقول: كيف لم أقتل عبد الملك يومئذ حين سجد، فأكون قد قتلت ملكي العرب!.
فقال عبد الملك لحاجبه: أقص هذا الأعرابي عني أخر إذنه ما استطعت. فكان يفعل به ذلك.
فجاء يوماً فأذن الحاجب للناس وحبسه حتى أخذ الناس مجالسهم، ثم أنزله، فدخل والناس حول سرير عبد الملك، فمضى حتى جلس مع عبد الملك على السرير، فغضب عد الملك فأقبل عليه فقال: يا ابن ظبيان، لقد بلغني أنك لا تشبه أباك. فقال: والله لأنا أشبه من الغراب بالغراب، والقذة بالقذة، والماء بالماء، والتمرة بالتمرة، ولكن إن شئت - يا أمير المؤمنين - أخبرتك بمن لم تنضجه الأرحام، ولم يولد لتمام، ولم يشبه الأخوال والأعمام. قال: ومن ذاك ويحك؟ قال: سويد بن منجوف بن ثور السدوسي، وهو قد تجالس معه. فقال عبد الملك: أكذاك يا سويد؟ قال سويد: إن ذلك ليقال -(24/327)
وكان عبد الملك ولد لسعة أشهر - فلما خرجا قال ابن ظبيان: ما أحب أن لي بفطنتك حمر النعم. قال سويد: وأنا - والله - ما سرني أن لي بما قلت حمر النعم وسودها.
وسار عبد الملك من فوره حتى دخل الكوفة، وعمرو بن حريث يسير بين يديه.
عن جعفر بن أبي كثير، عن أبيه، قال: لما وضع رأس مصعب بن الزبير بين يدي عبد الملك بن مروان قال: " من الوافر "
لقد أردى الفوارس يوم عبس ... غلاماً غير مناع المتاع
ولا فرح لخير إن أتاه ... ولا هلع من الحدثان لاع
ولا وقافة والخيل تعدو ... ولا خال كأنبوب اليراع
فقال الذي جاء برأسه: والله - يا أمير المؤمنين - لو رأيته والرمح في يده تارة، والسيف تارة، يفري بهذا ويطعن بهذا لرأيت رجلاً يملأ القلب والعين شجاعة وإقداماً، ولكنه لما تفرقت رجاله وكثر من قصده وبقي وحده، ما زال يشهد: " من الطويل "
وإني على المكروه عند حضوره ... أكذب نفسي والجفون له تنضي
وما ذاك من ذل ولكن حفيظة ... أذب بها عند المكارم عن عرضي
وإني لأهل الشر بالشر مرصد ... وإني لذي سلم أذل من الأرض
فقال عبد الملك: كان والله كما وصف نفسه وصدق، ولقد كان من أحب الناس إلي، وأشدهم لي إلفاً ومودة، ولكن الملك عقيم.
حدث أبو محلم، قال: لما قتل مصعب بن الزبير خرجت سكينة تطلبه في القتلى، فعرفته بشامة في فخذه، فأكبت عليه، فقالت: يرحمك الله، نعم - والله - حليل المسلمة كنت، أدركك - والله - ما قال عنترة: " من الكامل "(24/328)
وحليل غانية تركت مجدلاً ... بالقاع لم يعهد ولم يتثلم
فتهتكت بالرمح الطويل إهانه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
عن الكلبي، قال: قال عبد الملك بن مروان يوماً لجلسائه: من أشجع العرب؟ قالوا: شبيب، قطري، فلان، فلان. فقال عبد الملك: إن أشجع العرب لرجل جمع بين سكينة بنت حسين وعائشة بنت طلحة وأمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وأمه رباب بنت أنيف الكلبي سيد ضاحية العرب، وولي العراقين خمس سنين فأصاب ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وأعطي الأمان فأبى. ومشى بسيفه حتى مات، ذلك مصعب بن الزبير. لا من قطع الجسور مرة ها هنا ومرة ها هنا.
عن عبد الملك بن عمير، قال: رأيت عجباً، رأيت رأس الحسين أتي به حتى وضع بين يدي عبيد الله بن زياد، ثم رأيت رأس عبيد الله أتي به حتى وضع بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار أتي به حتى وضع بين يدي مصعب بن الزبير، ثم أتي برأس مصعب حتى وضع بين يدي عبد الملك.
حدث شيخ من أهل مكة سنة مئة، قال:
لما قتل مصعب بن الزبير بالعراق وبلغ عبد الله بن الزبير بمكة، فظع به فأضرب عن ذكر مقتله أياماً حتى تحث به العبيد والإماء في سكك المدينة، ثم صعد ذات يوم المنبر فأسكت عليه هنيهة، فنظرت إليه فإذا جبينه يعرق، وإذا أثر الكآبة على وجهه لا تخفى، فقلت لأخ لي إلى جانبي: أما والله إنه للبيب النهد؟ قال: فلعله يريد أن يذكر مقتل سيد فتيان العرب المصعب بن الزبير، ففظع بذلك وغير ملوم.
فما كان بأسرع أن قام فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، وملك الدنيا والآخرة، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من(24/329)
يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، ألا وإنه لم يذلل من كان الحق معه وإن كان فرداً، ولم يعز الله من كان من أولياء الشيطان وحزبه وإن كان معه الناس طراً، إنه أتانا خبر من قبل العراق أحزننا وأفرحنا، قتل مصعب بن الزبير رحمة الله عليه؛ فأما الذي أحزننا من ذلك قإن لفراق الحميم لوعة يجدها له حميمة عند المصيبة له، ثم يرعوي بعدها ذو الرأي إلى جميل الصبر وكريم العزاء؛ وأما الذي أفرحنا له فإنا قد علمنا أن قتله له شهادة، وأن الله جعل ذلك لنا وله خيرة، ألا إن أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقل ثمن كانوا يأخذونه منه إسلام النعام المخطم فقتل؛ وإن يقتل مصعب فقد قتل أبوه وأخوه وعمه وخاله، وكانوا الخيار الصالحين، إنا والله ما نموت حبجاً، ما نموت إلا قتلاً قتلاً، قعصاً بالرماح وموتاً تحت ظلال السيوف.
ثم قال: ألا إن الدنيا عارية من الملك إلا على الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد، فإن تقبل علي الدنييا لا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر عني لا أبكي عليها بكاء الخرف المهتر. ثم نزل.
قوله: أخوه، يعني المنذر بن الزبير، وعمه، يعني السائب بن العوام قتل يوم اليمامة شهيداً. وخاله، ويعني خال أبيه حمزة بن عبد المطلب.
عن الزبير بن خبيب، قال: قام عبد الله بن الزبير بعد المقام الذي نعى فيه بمصعب لقد صبت بأبي الزبير. فظننت أن لا أجتبرها، ثم استمرت مريرتي، وما كنت خلواً من مصيبة عثمان، وما كان مصعب إلا فتى من فتياني؛ ثم جعل يرد البكاء وإنه ليغلبه، ويقول: " من الطويل "
هم دفعوا الدنيا على حين أعرضت ... كراماً وسنوا للكرام التأسيا
قتل مصعب سنة إحدى وسبعين،، وقيل: سنة اثنتين وسبعين، يوم الخميس للنصف من جمادى الأولى، وقتل معه ابنه عيسى.(24/330)
قال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعب بن الزبير: " من الطويل "
لقد أورثت المصرين خزياً وذلة ... قتيل بدير الجاثليق مقيم
فما نصحت لله بكر بن وائل ... ولا صدقت يوم الحفاظ تميم
فلو كان بكرياً تعطف حوله ... كتائب يغلي حمومها ويديم
ولكنه ضاع الذمام ولم يكن ... بها مضري يوم ذاك حكيم
جزى الله كويفي تميم ملامة ... بفعلهما إن المليم مليم
فنحن بنو العلات أخلوا ظهورنا ... لذي حرمة في المسلمين حريم
مصعب بن عبد الله بن مصعب
ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن اللعوام بن خويلد ابن أسد بن عبد العزى بن قصي أبو عبد الله الأسدي، الزبيري، المدني.
قيل أنه قدم الشام غازياً.
روى عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن النجش.
وعن عبد العزيز بن محمد، بسنده إلى عمر بن الخطاب، قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالساً، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أفضل أهل الإيمان(24/331)
إيماناً؟ قالوا: يا رسول الله، الملائكة. قال: " هم كذلك، ويحق لهم ذلك، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها ". قالوا: يا رسول الله، الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء. قال: " هم كذلك، ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة مع الأنبياء، بل غيرهم ". قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: " أقوام في أصلاب الرجال، يأتون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني، ويصدقون بي ولم يروني، فيجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه، هؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً ".
قال مصعب بن عبد الله يذكر طرفيه، ويفخر بمن ولده من قريش سواهم: " من الكامل "
أني امرؤ خلطت قريش مولدي ... فحللت بين سماكهاوالفرقد
ضمنت علي لهم قرابة بيننا ... حسن الثناء عليهم في المشهد
تدعى قريش قبل كل قبيلة ... في بيت مرحمة وملك أيد
بيت تقدمه النبي ورهطة ... متعطفين على النبي محمد
فإذا تنازعت القبائل مجدها ... وتطاول الأنساب بعد المحتد
وتواشجوا نسباً إلى آبائهم ... قبض الأصابع راحتاها باليد
نسجت علي سداءها ولحامها ... أسد وقال زعيمها: لا تبعد
وحللت حيث أحب من أنسابهم ... بين الزبير وبين آل الأسود
في منتقى أسد على أحسابها ... في باذخ دون السماء ممرد
وإذا يقوم خطيب قوم منهم ... يثني بمكرمة أقول له: اعدد
قد شاركت أسد على أحسابها ... أهل الحفائظ منكم والسؤدد
فإذا تعد لهاشم أيامها ... تعرف فضائل هاشم لا تجحد
آل النبي لهم إمامة ديننا ... وصيامنا وصلاتنا في المسجد(24/332)
فنمت بالرحم القريبة بيننا ... ثدي على الأدنين غير مجدد
بصفية الغراء عمة أحمد ... وعقيلة النسوان بنت خويلد
فتنازعوا نسباً يكون شبيهه ... علم الهدى وهداية المسترشد
وإذا تعد بنو أمية فضلها ... وحلومها رجحت بقنة صندد
وعلت علو الشمس في غلوائها ... حين استقل على دماغ الأصيد
فتر أمية أننا أكفائها ... إذ لا يكون كفيها بالقعدد
بنت الأمين وصهر أحمد منهم ... تهدى ظعينتها إلينا عن يد
وشجت أمية بننا أرحامها ... فسلكن بين مصوب ومصعد
وبلغن مطلباً ودرن بنوفل ... حتى اشتجرن به اشتجار الفرقد
وأتين عبد الدار بين بيوتها ... حيث استقر بها طناب الموتد
وورثن عبد قصي من ميراثه ... من حيث ورث يخلد ابنه أعبد
وإذا تغطط بحر زهرة فارتمى ... بالموج مطرد العباب المزيد
يدعون عبد مناف في حافاته ... وإذا يصاح بحارث لم يقعد
يتناسخون أثيل مجد قادم ... وحديث مجد لس بالمتردد
فدعوت هالة فاتخذت خيارهم ... نسباً وقلت لمن يقاسمني زد
وتناظلت تيم على أحسابها ... فأخذت أكرمهم برغم الحسد
من حيث شئت أتيتهم من ها هنا ... وهناك عود بدي وإن لم أبتدي
أدعو بريطة إن دعوت ودونها ... بنت المصدق بالنبي المهتدي
وتطاولت مخزوم حتى أشرفت ... للناس من متغور أو منجد
يتأملون وجه غر سادة ... ورثوا المكارم سيداً عن سيد
يتأملون وجوه غر سادة ... ورثوا المكارم سيداً عن سيد
في منتهى الشرف الذي ما فوقه ... شرف وليس أثيله بمولد
فدعوت عمراناً أباً فأجابني ... نسباً وشجت إليه غير المسند
وإذا عدي خاطرت في مشهد ... طمت غواربها وإن لم تحشد
فأتيت أسألهم لمرة حظها ... من كل مكرمة لهم أو مولد
وابنا هصيص واللذان كلاهما ... في منتهى الشرف القديم المتلد(24/333)
وإذا انتميت لعامر لم أنتحل ... وشركت في عرنينها والأسعد
وإذا دعوت محارباً أو حارثاً ... دفعاً بكل خميلة أو فدفد
فنزلت من أحمائهم بحفيظة ... وقعدت من أحسابهم في مقعد
وإذا تكون لمعشر أكرومة ... أضرب بسهم قرابة لم تبعد
فأحوز حوزهم بغير تنحل ... وأكون وسطهم وإن لم أشهد
وعلت عروق بني الزبير من الثرى ... حتى رجعن إلى جمام المورد
فمتى تقاسمنا قريش مجدها ... نهتل ولا نكتل بصاع المبدد
ومتى نهب بكريمة من معشر ... تلق المراسي عندنا وتمهد
صدقاتها أحسابنا وفوائد ... من طيب مكسبة عطاء الأوحد
عن الحسين بن الفهم، قال: مصعب بن عبد الله، نزل بغداد، وروى عن مالك بن أنس الموطأ، وكان إذا سئل عن القرآن يقف، ويعيب من لا يقف، وتوفي ببغداد في شوال سنة ست وثلاثين ومئتين.
قال أبو بكر الخطيب: مصعب بن عبد الله، عم الزبير بن بكار، سكن بغداد وحدث بها، وكان عالماً بالنسب عارفاً بأيام الناس.
وقال الزبير: وكان مصعب بن عبد الله وجه قريش علماً ومروءة، وشرفاً وبياناً، وجاهاً وقدراً.
قال أحمد بن حنبل: مصعب الزبيري مستثبت.
وقال العباس بن مصعب بن بشير: قد أدركته ببغداد، وهو أفقه قريش في النسب.(24/334)
قال عنه ابن معين والدارقطني: ثقة.
قال الزبير: حدثني محمد بن راشد، قال: اختلف ما بين أبي بكر بن عبد الله بن مصعب وبين أخيه مصعب بن عبد الله. فدخلت يوماً على مصعب، فوجدته يقول: " من الطويل "
أيزاعم أقوام وموه بظنة ... بأن سوف تأتيني عقاربه تسري
وود رجال لو تمادت بنا الخطى ... إلى الغي أو تلقي علانية تجري
أبت رحم أطت لنا مرجحنة ... أماني العدى والكاشح الحسك الصدر
فقل لوشاة الناس لن تذهب الرقى ... ولا عاقدات السحر ود أبي بكر
قال: فترويتها، ثم خرجت حتى استأذنت على أبي بكر، فحدثته عن مدخلي على أخيه مصعب، وأنشدته شعره هذا، فرق وبكى حتى نشف دموعه بمنديل، وأمرني فجئته به. فكان ذلك صلح بينهما.
قال الزبير بنبكار: وتوفي مصعب بن عبد الله ليومين خلوا من شوال سنة ست وثلاثين ومئتين، وهو ابن ثمانين سنة.
مصعب بن المثنى العبدي
والد موسى بن مصعب من وجوه خراسان، أوفده قتيبة بن مسلم أمير خراسان على سليمان بن عبد الملك ليقره على ولايته.(24/335)
مصقلة بن هبيرة بن شبل
ابن يثربي بن امرئ القيس بن ربيعة بن مالك بن ثعلبة ابن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ن قاسط أبو الفضل البكري من وجوه أهل العراق، كان من أصحاب علي بن أبي طالب، وولي أردشيرخره من قبل ابن عباس، وعتب علي عليه في إعطاء مال الخراج لمن يقصده من بني عمه، وقيل: لأنه فدى نصارى ني ناجية بخمسمئة ألف فلم يردها كلها؛ ووفد على معاوية.
عن عوانة، قال: وخرج زياد من القلعة حتى قدم على معاوية فصالحه على ألفي ألف، ثم أقبل فلقيه مصقلة بن هبيرة وافداً إلى معاوية في الطريق، فقال له: يا مصقلة متى عهدك بأمير المؤمنين؟ قال: عاماً أول. قال: كم أعطاك؟ قال: عشرين ألفاً. قال: فهل لك أن أعطيكها على أن أعجل لك عشرة آلاف، وعشرة آلاف إذا فرغت، على أن تبلغه كلاماً؟ قال: نعم. قال: قل له إذا انتهيت إليه: أتاك زياد وقد أكل بر العراق وبحره، فخدعك، فصالحته على ألفي ألف؟ والله ما أرى الذي يقال إلا حقاً. قال: نعم. ثم أتى معاوية فقال له ذلك، فقال له معاوية: وما يقال يا مصقلة؟ قال: يقال: إنه ابن أبي سفيان. فقال معاوية: وإن ذلك ليقال؟ قال: نعم. قال: أبي قائلها إلا إثماً. فزعم أنه نقد مصقلة العشرة آلاف الأخرى بعدما ادعاه معاوية.
عن عمار، قال: كانت الخوارج تقول: إنعلياً سبى المسلمين، فلم يكن أحد أدرك علياً ولا ذلك إلا أبو الطفيل. قال: فلما قدمت سألت أبا الطفيل، فقال: إن علياً لم يسب مسلماً، إن علياً سبى بني ناجية وكانوا نصارى أسلموا ثم ارتدوا ثم ارتدوا عن الإسلام ورجعوا إلى النصرانية،(24/336)
فقتل علي مقاتلتهم وسبى ذراريهم، وباعهم من مصقلة بن هبيرة بمئة ألف، فأعطاه خمسين ألفاً وبقيت عليه خمسون، فأعتقهم مصقلة ولحق بمعاوية، فأجاز علي عتقهم.
عن عبد الله بن فقيم، قال:
ثم إنه - يعني معقل بن قيس - أقبل بهم - يعني نصارى بني ناجية - حتى مر بهم على مصقلة بن هبيرة الشيباني، وهو عامل أردشيرخره، وهم خمسمئة إنسان، فبكى النساء والصبيان وصاح الرجال: يا أبا الفضل، يا حامي الرجال، ومأوى المعضب، وفكاك العناة، امنن علينا واشترنا فأعتقنا. فقال مصقلة: أقسم بالله لاأتصدقن عليكم، إن الله يجزي المتصدقين. فبلغها عنه علي، فقال: والله لولا أني أعلمه قالها توجعاً لهم لضربت عنقه، ولو كان في ذلك تفاني تميم وبكر بن وائل. ثم إن مصقلة بعث ذهل بن الحارث الذهلي إلى معقل بن قيس فقال له: بعني بني ناجية. فقال: نعم، أبيعكم بألف ألف فأبى عليه، فلم يزل يراوضه حتى باعهم بخمسمئة ألف، ودفعهم إليه، وقال له: عجل بالمال فأبى عليه، فلم يزل يراوضه حتى باعهم بخمسمئة ألف، ودفعهم إليه، وقال له: عجل بالمال إلى أمير المؤمنين، فقال: أنا باعث الآن بصدر، ثم أعث بصدر آخر، ثم كذلك حتىلا بقى منه شيء إن شاء الله؛ وأقبل معقل بن قيس إلى أمير المؤمنين فأخبره بما كان منه، فقال له: أحسنت وأصبت.
وانتظر علي مصقلة أن يبعث إليه بالمال، فأبطأ به، وبلغ علياً أن مصقلة خلى سبيل الأسارى، ولم يسألهم أن يعينوه في فكاك أنفسهم بشيء، فقال علي: ما أظن مصقلة إلا وقد تحمل حمالة، لا أراكم إلا سترونه عن قريب منها ملبداً؛ ثم إنه كتب إليه: أما بعد، فإن من أعظم الخيانة خيانة الأمة، وأعظم الغش على أهل المصر غش الإمام، وعندك من حق المسلمين خمسمئة ألف، فابعث بها إلي ساعة يأتيك رسولي، وإلا فأقبل حين تنظر في كتابي، فإني قد تقدمت إلى رسولي إليك ألا يدعك تقيم ساعة واحدة بعد قدومه عليك إلا أن تبعث بالمال، والسلام عليك.
وكان الرسول أبو جرة الحنفي، فقال له أبو جرة: إن بعثت بالمال الساعة، وإلا فاشخص إلى أمير المؤمنين. فلما قرأ كتابه أقبل حتى نزل البصرة، فمكث بها أياماً؛ ثم أن(24/337)
ابن عباس سأله المال - وكان عمال البصرة يحملون من كور البصرة إلى ابن عباس، فيكون ابن عباس هو الذي يبعث به إلى علي - فقال له: نعم، انظرني أياماً، ثم أقبل حتى أتى علياً، فأقره علي أياماً ثم سأله المال، فأدى إليه مئتي ألف، ثم إنه عجز عنها ولم يقدر عليها.
قال ذهل ابن الحارث: دعاني مصقلة إلى رحلة، فقدم عشاؤه، فطعمنا منه، ثم قال: والله إن أمير المؤمنين ليسألني هذا المال وما أقدر عليه. فقلت: والله ما كنت لأحملها قومي، ولا أطلب فيها إلى أحد. ثم قال: أما والله لو أن ابن هند هو طالبني بها - أو ابن عفان - لتركها لي، ألم تر ابن عفان حيث أطعم الأشعث من خراج أذربيجان مئة ألف في كل سنة. فقلت له، إن هذا لا يرى ذاك الرأي، لا والله ما هو بتارك شيئاً. فسكت ساعة، وسكت عنه، فلا والله ما مكث إلا ليلة واحدة بعد هذا الكلام حتى لحق بمعاوية. وبلغ ذلك علياً فقال: ما له - برحه الله - فعل فعل السيد، وفر فرار العبد، وخان خيانة الفاجر! أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه، فإن وجدنا له شيئاً أخذناه، وإن لم نقدر على مال تركناه. ثم سار علي إلى داره فهدمها، وكان أخوه نعيم بن هبيرة شيعياً، ولعلي مناصحاً، فكتب إليه مصقلة من الشام مع رجل من النصارى من بني تغلب يقال له: حلوان: أما بعد، فإني كلمت معاوية فيك، فوعدك الإمارة، ومناك الكرامة، فأقبل إلي ساعة يلقاك رسولي إن شاء الله، والسلام.
فيأخذه مالك بن كعب الأرحبي، فيسرحه إلى علي، فأخذ كتابه فقرأه، فقطع يده فمات، وكتب نعيم إلى مصقلة: " من البسيط "
لا ترمين هداك الله معترضاً ... بالظن منك فما بالي وحلوانا
ذاك الحريص على ما نال من طمع ... وهو البعيد فلا يحزنك إن خانا
ماذا أردت إلي بإرساله سفهاً ... ترجو سقاط امرئ لم يلف وسنانا
حتى تقحمت أمراً كنت تكرهه ... للراكبين له سراً وإعلانا
عرضته لعلي إنه أسد ... يمشي العرضنة من آساد خفانا
قد كنت في منظر عن ذا ومستمع ... تحمي العراق وتدعى خير شيبانا(24/338)
لو كنت أديت ما للقوم مصطبراً ... للحق أحييت أحيانا وموتانا
لكن لحقت بأهل الشام ملتمساً ... فضل ابن هند وذاك الرأي أشجانا
فاليوم تقرع سن العجز من ندم ... ماذا تقول وقد كان الذي كانا
أصبحت تبغضك الأحياء قاطبة ... لم يرفع الله بالبغضاء إنسانا
فلما وقع الكتاب إليه علم أنه قد هلك، ولم يلبث التغلبيون إلا قليلاً حتى بلغهم هلاك صاحبهم حلوان، فأتوا مصقلة فقالوا: إنك بعثت صاحبنا فأهلكته، فإما أن تحييه وإما أن تديه. فقال: أما أن أحييه فلا أستطيع، ولكن سأديه. فوداه.
وبلغني أن مصقلة قال في ذلك: " من المتقارب "
لعمري لئن عاب أهل العراق ... علي انتعاشي بني ناجيه
لأعظم من عتقهم رقهم ... وأكفى بعتقهم عاليه
وزايدت فيهم لإطلاقهم ... وغاليت إن العلى غاليه
ثم إن معاوية بعد ذلك ولى مصقلة طبرستان، وبعثه في جيش عظيم، فأخذ العدو عليه المضايق، فهلك وجيشه، فقيل في المثل: حتى يرجع مصقلة من طبرستان.
عن مسلمة بن محارب، قال: مرض معاوية فأرجف به مصقلة بن هبيرة، وساعده قوم على ذلك، ثم تماثل معاوية وهم يرجفون به، فحمل زياد مصقلة إلى معاوية، وكتب إليه: إن مصقلة كان يجمع مراقاً من مراق العراق فيرجفون بأمير المؤمنين. وقد حملته إليك ليرى عافية الله إياك. فقدم مصقلة، وجلس معاوية للناس، فلما دخل مصقلة قال له معاوية: ادن، فدنا، فأخذ بيده وجيده، فسقط مصقلة، فقال معاوية: " من مجزوء الكامل "
أبقى الحوادث من خلي ... لك مثل جندلة المراجم
قد رامني الأقوام قب ... لك فامتنعت من النظالم
فقال مصقلة: يا أمير المؤمنين، قد أبقى الله منك ما هو أعظم من ذلك، حلماً وكلاً(24/339)
ومرعى لأوليائك، وسما ناقعاً لعدوك، فمن يرومك، كانت الجاهلية وأبوك سيد المشركين، وأصبح الناس مسلمين وأنت أمير المؤمنين.
وأقام مصقلة، فوصله معاوية، وأذن له فانصرف إلى الكوفة، فقيل له: كيف تركت معاوية؟ قال: زعمتم أنه لما به، والله لغمز يدي غمزة كاد يحطمها، وجبذني جبذة كاد يكسر مني غضواً.
عن كليب بن خلف، قال: ثم غزا مصقلة خراسان أيام معاوية في عشرة آلاف، فأصيب وجنده بالرويان، وهي متاخمة طبرستان، فهلكوا في واد من أوديتها، أخذ العدو عليهم بمضايقة، فقتلوا جميعاً، فهو يسمى وادي مصقلة.
قال: وكان يضرب به المثل: حتى يرجع مصقلة من طبرستان. والله أعلم.
مضارب بن حزن
أبو عبد اللهالتميمي، المجاشعي، البصري وفد على معاوية.
روى عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا عدوى ولا هامة، وخير الطير الفأل، والعين حق ".
وزاد في رواية: " ويوشك الصليب أن يكسر، ويقتل الخنزير، وتوضع الجزية ".
قال ابن سعد: وكان قليل الحديث.(24/340)
قال العجلي: مضارب بن حزن بصري، تابعي، ثقة.
المضاء بن عيسى الكلاعي الزاهد
كان يسكن راوية من قرى دمشق.
روى عن شعبة، بسنده إلى عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ضبط هذا - وأشار إلى لسانه - وهذا - وأشار إلى وسطه - ضمنت له الجنة ".
قال أبو عبد الرحمن السلمي: مضاء بن عيسى الشامي من أقران أبي سليمان الداراني، وكان من أهل دمشق.
عن أحمد بن أبي الحواري، قال: سمعت مضاء يقول: رحم الله أقواماً زاروا إخوانهم بقلوبهم في قبورهم وهم قيام في ديارهم.
قال: وسمعته يقول: لإزالة الجبال من مواضعها أهون من إزالة رئاسة قد ثبتت.
وقال مضاء: من رجا شيئاً آثره على غيره.
وقال: خف الله يلهمك، واعمل له لا يحوجك إلى دليل.
وقال: إنما أرادوا بالزهد لتفرغ قلوبهم للآخرة.
وقال: يا معشر الفقراء، أعطوا الله الرضا من قلوكم يثبتكم على فقركم.(24/341)
وقال: ما عرف الله من عصاه، ولا عرفه من وصفه ببخل.
قال قاسم الجوعي: وأضفت بالمضاء بن عيسى، فأخرج إلي نصف رغيف عليه نصف خيارة، وقال لي: يا قاسم كل، إن كسب الحلال صعب، من درى كيف يكسب درى كيف ينفق.
مضرس بن عثمان الجهني
من أهل دمشق.
مضر بن محمد بن خالد بن الوليد
أبو محمد الأسدي، القاضي، البغدادي حدث بدمشق وبغداد.
روى عن محمد بن أبان، بسنده إلى أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين ".
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يبل أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه " يعني الراكد.
قال ابن يونس: مضر بن محمد من أهل ملطية، كان قد رحل، ثقة.
وعن علي بن عمر، قال: ولي قضاء واسط، وكان رواية لحروف القراءات.(24/342)
قال الدارقطني: هو ثقة.
أنشد مضر بن محمد بن خالد الأسدي: " من البسيط "
لو كان في البين إذ بانوا لهم دعة ... لكان بينهم من أعظم الضرر
فكيف والبين مقرون به تعب ... تعسف البيد والإدلاج في السحر
سيان إتعاب من أهوى وبينهم ... هذا لعمرك خطب غير مغتفر
كأن أيدي مطاياهم إذا وخدت ... يقعن في حر وجهي أو على بصري
عندي من الواحد ما لو أن أيسره ... يصب في الماء لم يشرب من الكدر
قال أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي: ومات مضر بن محمد الأسدي سنة سبع وسبعين ومئتين.
مطاع بن المطلب القيني
من فرسان أهل الشام. شهد صفين مع معاوية وبارز علي بن أبي طالب، فقتله علي يومئذ.
مطرف بن عبد الله بن الشخير
ابن عوف بن كعب بن وقدان بن الحريش - وهو معاوية - ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة أبو عبد الله الحرشي، البصري لأبيه صحبة، وقدم الشام ولقي بها أبا ذر.
روى عن أبيه، قال:(24/343)
دخلت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد وهو قائم يصلي، ولصدره أزرير كأزرير المرجل، وعن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أقل ساكني الجنة النساء ".
وعنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له أو لرجل: " هل صمت من سرر شعبان شيئاً؟ " قال: لا. قال: " فإنه إذا أفطرت فصم يومين ".
قال مطرف: أتيت الشام فإذا أنا برجل يصلي، يركع ويسجد ولا يفصل، فقلت: لو قعدت حتى أرشد هذا الشيخ؛ فقعدت، فلما قضى الصلاة قلت: يا عبد الله، أعلى شفع انصرفت أم على وتر؟ قال: قد كفيت ذاك. قلت: وما يكفيك؟ قال: الكرام الكاتبون، إني لأرجو أن لا أكون ركعت ركعة ولا سجدت سجدة إلا كتب الله لي بها حسنة، أو حط لي بها خطيئة، أو جمعهما لي جميعاً. قلت: ومن أنت يا عبد الله؟ قال: أبو ذر. قلت: ثكلت مطرفاً أمه، يعلم أبا ذر السنة! فأتيت منزل كعب، فقالوا لي: قد سأل كعب عنك؛ فلما لقيته ذكرت له أمر لأبي ذر وما قال لي، فقال مثل قوله.
وقال: كان يبلغني عن أبي ذر حديث، فكنت أشتهي لقاءه، فلقيته فقلت له: يا أبا ذر، كان يبلغني عنك حديث، وكنت أشتهي لقاءك. قال: لله أبوك، فقد لقيتني. قال: قلت: حديث بلغني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدثكم قال: " إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة ". قال: فلا إخالني أكذب على خليلي، فلا إخالني أكذب على خليلي، فلا إخالني أكذب على خليلي. قال: قلت: من هؤلاء الذين يحبهم الله؟ قال: رجل غزا في سبيل الله صابراً محتسباً مجاهداً، فلقي العدو فقاتل حتى قتل، وأنتم تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل. ثم قرأ هذه الآية " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ". قلت: ومن؟ قال: رجل له جار سوء، يؤذيه فيصبر على أذاه(24/344)
حتى يكفيه الله إياه إما بحياة أو موت. قلت: ومن؟ قال: رجل سافر مع قوم فأدلجوا، حتى إذا كانوا من آخر الليل وقع عليهم الكرى - وهو النعاس - فضربوا رؤوسهم، ثم قام فتطهر رهبة لله ورغبة فيما عنده.
قلت: فمن الثلاثة الذين يبغضهم الله؟ قال: المختال الفخور، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل " إن الله لا يحب كل مختال فخور ". قال: ومن؟ قال: البخيل المنان. قال: ومن؟ قال: التاجر الحلاف، أو البائع الحلاف.
قال محمد بن سعد: في الطبقة الثانية من أهل البصرة مطرف بن عبد الله بن الشخير، وكان ثقة، له فضل وورع، ورواية، وعقل وأدب.
قال أبو سليمان الداراني: لبس مطرف بن عبد الله الصوف، وجلس مع المساكين، فقيل له، فقال: إن أبي كان جباراً، فأحب أن أتواضع لربي لعله أن يخفف عن أبي تجبره.
قال مطرف: لقيت علياً فقال لي: يا أبا عبد الله، ما بطأ بك؟ أحب عثمان؟ ثم قال: لئن قلت ذلك لقد كان أوصلنا للرحم وأتقانا للرب عز وجل.
قال العجلي:
مطرف بن عبد الله بن الشخير، بصري، تابعي، ثقة؛ من خيار التابعين، رجل صالح وكان أبوه من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم ينج بالبصرة من فتنة ابن الأشعث إلا رجلان مطرف بن عبد الله، ومحمد بن سيرين؛ ولم ينج منها بالكوفة إلا رجلان خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي وإبراهيم النخعي.
قال مطرف: إني لأستلقي من الليل على فراشي فأتدبر القرآن كله، فأعرض نفسي على أعمال أهل(24/345)
الجنة فأرى أعمالهم شديدة، " كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون " " يبيتون لربهم سجداً وقياماً " " أم من هو قانت اناء الليل ساجداً وقائماً " فلا أرى صفتي فيهم، فأعرض نفسي على أعمال أهل النار " قالوا: ما سلككم في سقر؟ قالوا: لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين " فأرى القوم مكذبين، فلا أراني فيهم، فأمر بهذه الآية " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم " فأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخوتا منهم.
وقال: يا إخوتي، اجتهدوا في العمل، فإن يكن الأمر كما نرجو من رحمة الله وعفوه كانت لنا درجات في الجنة، وإن يكن الأمر شديداً كما نخاف ونحاذر لم نقل: ربنا أرجعنا " نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل " نقول: قد عملنا فلم ينفعنا ذلك.
وقال: لقد كاد خوف النار يحول بيني وبين أن أسأل الله الجنة.
وقال: عجبت لهذا الإنسان كيف ينجو؟ وأول ركن منه ضعيف، وخلق من الطين، وجعل الخير والشر فتنة له، وجعل له نفس أمارة بالسوء، وجعل له عدو خلقه من نار ويراه من حيث لا يراه ولا له به قوام، فلو أن رجلاً طلب صيداً يرى الصيد ولا يراه، لأوشك أن يقع منه على غرة فيأخذه.(24/346)
وقال: من صفا عمله صفا لسانه، ومن خلط خلط له.
وقال: فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع.
وقال: الإنسان بمنزلة الحجر إن جعل الله فيه خيراً كان فيه، وقرأ " ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ".
وقال: إن ها هنا قوماً يزعمون أنهم إن شاؤوا دخلوا الجنة وإن شاؤوا دخلوا النار، فأبعدهم الله إن هم دخلوا النار، ثم حلف مطرف بالله ثلاثة أيمان مجتهداً أن لا يدخل الجنة عبد أبداً إلا عبد شاء الله أن يدخله إياها عمداً.
وقال: لو كان الخير في يد أحد ما استطاع أن يفرغه في قلبه حتى يكون الله هو الذي يفرغه في قلبه.
وقال: أتى على الناس زمان وأفضلهم في أنفسهم المسارع، وأما اليوم فأفضلهم في أنفسهم المتأني.
وقال: ما يسرني أني كذبت كذبة واحدة وأن لي الدنيا وما فيها.
قال أبو عقيل بشير بن عقية: قلت ليزيد بن عبد الله بن الشخير أبي العلاء: ما كان مطرف يصنع إذا هاج في الناس هيج؟ قال: كان يلزم قعر بيته، ولا يقرب لهم جمعة ولا جماعة حتى ينجلي لهم عما انجلت.(24/347)
عن الحرمازي، قال: بلغني أن الحجاج بعث إلى مطرف بن عبد الله أيام ابن الأشعث - وكان من اعتزل أو قاتل عند الحجاج سواء - فقال له: أشهد على نفسك بالكفر. فقال: إن من خلع الخلفاء، وشق العصا، وسفك الدماء، ونكث البيعة، وأخاف المسلمين لجدير بالكفر. فقال الحجاج: يا أهل الشام، إن المعتزلون هم الفائزون. وخلى سبيله.
قال مطرف: إن من أحب عباد الله إلى الله الصبار الشكور، الذي إذا ابتلي صبر وإذا أعطي شكر.
وقال: الخير الذي لا شر فيه الشكر مع العافية، فكم من منعم عليه غير شاكر، وكم من مبتل غير صابر.
عن زهير البابي، قال: مات ابن لمطرف بن عبد الله بن الشخير، فخرج على الحي قد رجل لمته ولبس حلته، فقيل له: أنرضى منك بهذا وقد مات ابنك؟ فقال: أتأمروني أن استكين للمصيبة؟ فوالله لو أن الدنيا وما فيها لي وأخذها الله مني ووعدني عليها شربة ماء غداً ما رأيتها لتلك الشربة أهلاً، فكيف بالصلوات والهدى والرحمة؟ عن ثابت البناني، قال:
أتينا مطرف بن عبد الله في باديته، فإذا هو يلعب مع صبيان له، فلما رآنا قام إلينا ليستقبلنا، فلم يزل يحضر حتى جر إزاره. قال: فما ترك منا أحداً إلا قبله، ثم قال: بأبي أنتم، إذا كنت وحدي فإنما أنا صبي، فإذا رأيتموني ذكرتموني الآخرة. قال: ثم دخلنا بيتاً له يذكر فيه، قال: فقرأ علينا سورة من القرآن، وذكر ربه، وصلى على نبيه، ودعا بدعاء حسن تعجبنا من حسنه. قال: وقال لي: يا ثابت، أترى الله قد استجاب لنا؟ فقلت: ماشاء الله. فقال: وما يمنعه أن لا يستجيب؟ وقد اجتمعنا قوم لا بأس بنا، وقرأنا القرآن، وذكرناربنا، وصلينا على نبينا، ودعونا الله، فما يمنعه أن لا يستجيب لنا؟(24/348)
قال مطرف - وذكر له أهل الدنيا -: لا تنظروا إلى خفض عيشهم ولين رياشهم، ولكن انظروا إلى سرعة ظعنهم وسوء منقلبهم.
عن يزيد، قال: كان مطرف يبدو، فإذا كان ليلة الجمعة جاء ليشهد الجمعة، فبينا هو يسير في وجه الصبح سطع من رأس سوطه نور له شعبتان، فقال لابنه عبد الله وهو خلفه: أتراني لو أصبحت فحدثت الناس هذا كانوا يصدقون؟ فلما أصبح ذهب.
عن مطرف، أنه كان بينه وبين رجل كلام، فكذب عليه، فقال مطرف: اللهم إن كان كاذباً فأمته. قال: فخر ميتاً مكانه. قال: فرفع ذلك إلى زياد، فقالوا: قتل الرجل. فقال: قتلت الرجل؟ قال: لا، ولكنها دعوة وافقت أجله.
عن غيلان بن جرير، قال: حبس الحجاج مورقاً. قال: فطلبنا فأعيانا، فلقيني مطرف فقال: ما فعلتم في صاحبكم؟ قلنا: ما صنعنا شيئاً، طلبنا فأعيانا. قال: تعال فلندع. فدعا مطرف وأمنا؛ فلما كان من العشي أذن الحجاج للناس فدخلوا، ودخل أبو مورق فيمن دخل، فلما رآه الحجاج قال لحرسي: اذهب مع هذا الشيخ إلى السجن فادفع إليه ابنه.
وكان مطرف يقول: اللهم إني أعوذ بك من ضر ينزل يضطرني إلى معصيتك، وأعوذ بك أن أكون عبرة للناس، وأعوذ بك أن أتزين للناس بشيء من شأني يشنيني عندك، وأعوذ بك أن أقول شيئاً من الحق أريد به أحداً سواك، وأعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما أعطيتني مني.
وكان من دعائه: اللهم إني أستغفرك بما تبت إليك منه ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي ثم لم أف به، وأستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك فخالط قلبي فيه ما قد علمت.(24/349)
وقال: إن هذا الموت أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيماً لا موت فيه.
وقال لما حضره الموت: اللهم خر لي في الذي قضيته علي من أمر الدنيا والآخرة. قال: وأمرهم أن يحملوه إلى قبره فختم فيه القرآن قبل أن يموت.
عن محمد بن سعد، قال: قالوا: ومات مطرف في ولاية الحجاج بن يوسف العراق، بعد الطاعون الجارف، وكان الطاعون سنة سبع وثمانين، في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان.
وقال الخليفة: سنة ست وثمانين فيها مات مطرف بن عبد الله بن الشخير الحرشي.
مطرف بن مالك
أبو الرباب القشيري، البصري شهد فتح تستر مع أبي موسى الأشعري، ولقي أبا الدرداء وكعب الأحبار.
عن أبي الرباب القشيرش، قال: دخلنا على أبي الدرداء نعوده، فدخل عليه أعرابي، فقال: ما لأميركم؟ - وأبو الدرداء يومئذ أمير - قلنا: هو شاك. قال: والله ما اشتكيت قط - أو قال ما صدعت قط - فقال أبو الدرداء: أخرجوه عني، ليمت بخطاياه، ما أحب أن لي بكل وصب وصبته حمر النعم، وإن وصب المؤمن يكفر خطاياه.(24/350)
وعنه، أنه شهد فتح تستر مع الأشعري، وأنا أصبنا دانيال بالسوس في بحر من صفر، وكان أهل السوس إذا استقوا استخرجوه فاستقوا به، وأصبنا معه ريطتي كتاب، وأصبنا معه ستين جرة مختومة، ففتحنا جرة من أدناها وجرة من وسطها وجرة من أقصاها فوجدنا في كل جرة عشرة آلاف - قال همام: أحسبه قال: واف - وأصبنا معه ربعة فيها كتاب، وكان معنا أجير نصراني يقال له: نعيم. فقال: أتبيعوني هذه الربعة وما فيها؟ قلنا: إن لم يكن فيها ذهب أو ورق أو كتاب. قال: فالذي فيه كتاب الله. فكرة الأشعري ومن عنده من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيع ذلك الكتاب، فمن ثم كره بيع المصاحف لأن الأشعري وأصحاب الأشعري كرهوا بيع الكتاب، فبعناه الربعة بدرهمين ووهبنا له ذلك الكتاب.
قال أبو حسان: إن أول من وقع عليه رجل من بني العنبر يقال له: حرقوص، فأعطاه الأشعري الريطتين وأعطاه مئتي درهم؛ ثم إن الأشعري طلب إليه أن يرد عليه الريطتين فأبى، فشققها عمائم بين أصحابه.
فكتب الأشعري في ذلك إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر: إنه نبي الله، دعا الله أن لا يرثه إلا المسلمون، فصل عليه وأدفنه.
وقال أبو تميمة: إن كتاب عمر بن الخطاب جاء إلى الأشعري أن اغسله بالسدر وماء الريحان.
قال مطرف: ثم بدا لي أن آتي بيت المقدس، فبينا أنا بقياض إذا أنا براكب، فشبهته بذلك الأجير النصراني، فقلت: أنعيماً؟ قال: نعم. قلت: ما فعلت نصرانيتك؟ قال: تحنفت بعدك. ثم أتينا دمشق فلقينا كعب فقال: إذا أتيتم بيت المقدس فاجعلوا الصخرة بينكم وبين القبلة؛ ثم انطلقنا ثلاثتنا حتى أتينا أبا الدرداء، فقالت أم الدرداء لكعب: ألا تعدي على أخيك يقوم الليل ويصوم النهار؟ فجعل لها من كل ثلاث ليال(24/351)
ليلة، ومن كل ثلاثة أيام يوماً؛ ثم انطلقنا ثلاثتنا حتى أتينا بيت المقدس، فسمعت اليهود بنعيم وكعب فاجتمعوا، فقال كعب: إن هذا الكتاب قديم، وإنه بلغتكم فاقرؤوه. فقرأه قارئهم، فأتى على مكان فضرب به الأرض، فغضب نعيم واخذ الكتاب وقال: إن هذا كتاب قديم لا أدعكم تقرؤونه. فقالوا: إنه فعل ذلك عن غير مؤامرة منا. فلم يزالوا يطلبون إليه حتى قال: فإني أمسكه في حجري وتقرؤونه. فأمسكه في حجره وقارئهم يقرؤه حتى أتى على ذلك المكان " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " فأسلم منهم اثنان وأربعون حبراً، وذلك في خلافة معاوية، ففرض لهم معاوية وأعطاهم.
فقال همام: فحدثني بسطام بن مسلم أن معاوية بن مرة حدثه أنهم تذاكروا ذلك الكتاب، فمر بهم شهر بن حوشب فقال: على الخبير سقطتم؛ إن كعباً لما احتضر قال: ألا رجل أئتمنه على أمانة يؤديها. فقال رجل: أنا. فدفع إليه ذلك الكتاب وقال: اركب البحيرة، فإذا بلغت مكان كذا وكذا فاقذفه. فخرج من عند كعب فقال: هذا كتاب فيه علم من علم كعب، ويموت كعب فأضعه في أهلي واخبره أن قد فعلت الذي أمرتني. فأتى كعباً فقال: ما صنعت؟ قال: فعلت الذي أمرتني. قال: وما رأيت؟ قال لم أر شيئاً. فعلم كعب بالموت أنه كذب، فلم يزل يناشده ويطلب إليه حتى رد عليه الكتاب. فلما أيقن كعب بالموت قال: ألا رجل أئتمنه على أمانة يؤديها؟ فقام رجل من بني عمنا قد كنا نأبنه بالقوة والورع، فدفع إليه ذلك الكتاب، وقال: اركب البحيرة، فإذا بلغت مكان كذا وكذا فاقذفه. فركب سفينة هو وأصحاب له، فلما أتى ذلك المكان ذهب ليقذفه، فانفرج له البحر حتى راى جديد الأرض، فقذفه، وهاجت، فدارت بهم السفينة حتى خشوا الغرق، ثم استقامت لهم. فأتى كعباً فقال: ما صنعت؟ فقال: فعلت الذي أمرتني. قال: فما رأيت؟ قال: فأخبره الرجل بالذي رأى فعلم كعب أنه قد صدق. وقال كعب: إنها التوراة كما أنزلها الله على موسى ما غيرت ولا بدلت. ولكن خشيت أن يتكل على ما فيها، ولكن قولوا: لا إله إلا الله، ولقنوها موتاكم.(24/352)
مطر أبو خالد
مولى أم خالد بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، أم خالد بن يزيد بن معاوية.
وهو حمصي وكانت مولاته أم خالد بدمشق، فالأظهر أنه دخلها، والله أعلم.
حكى عن كعب، أنه قال: أظلتكم فتنة كقطع الليل المظلم، لا يبقى بيت من بيوت المسلمين فيما بين المشرق والمغرب إلا دخله حرب أو خزي. فقلنا: يا أبا إسحاق ما يخلص من هذه الفتنة أحد؟ قال: يخلص منها من استظل بظل لبنان فيما بينه وبين البحر، فهم اسلم الناس من تلك الفتنة. قلنا: يا أبا إسحاق، كيف نعرف أسباب هذه الفتنة؟ قال: إذا رأيتم داري هذه تحترق. فتفقدنا ذلك، واحترقت سنة اثنتين وعشرين ومئة، وذلك مغزى كلثوم بن عياض إفريقية على البعث الثاني.
مطر القرشي
إن لم يكن أبو خالد فهو غيره سمع مطر القرشي أبا هريرة يقول: يهدم هذه الكنيسة - يعني كنيسة دمشق - خليفة، ويبني مكانها مسجداً. قال: فبعث إليه سليمان بن عبد الملك فزاد في عطائه.
مطر بن العلاء بن أبي الشعثاء
ويقال: ابن أبي الأشعث، الفزاري من أهل فذايا.(24/353)
روى عن عمته آمنة أو أمية وقطبة مولاة لهم، عن أبي سفيان مدلوك، قال:
قدمت مع موالي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلمت، فمسح على رأسي، ودعا لي البركة. قالتا: فكان مقدم رأس أبي سفيان أسود ما مسته يد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسائر ذلك ابيض.
مطعم بن المقدام بن غنيم
أبو المقدام الكلاعي، الصنعاني روى عن الحسن البصري، أن معاوية قال لابن الحنظلية: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، فمن ربط فرساً في سبيل الله كانت النفقة عليها كالماد يده بالصدقة لا يقبضها " وعن نصيح العنسي، عن ركب المصري، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذل في نفسه في غير مسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة، ورحم أهل الذل والمسكنة، طوبى لمن طاب كسبه، وحسنت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله ".
قال يحيى: مطعم شيخ من أهل الشام، ثقة، يروي عنه الثوري.
قال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي يقول: حدثني الثقة المطعم بن المقدام أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما خلف عبد على أهله افضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد سفرا ".(24/354)
وقال الاوزاعي: ما أصيب أهل دمشق بأعظم من مصيبتهم بالمطعم بن مقدام الصنعاني، وبأبي مرثد الغنوي، وبإبراهيم بن جدار العذري.
مطلب بن عبد الله بن المطلب
ابن حنطب بن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة أبو الحكم القرشي، المخزومي، المدني وفد على هشام بن عبد الملك لدين لحقه فقضاه عنه.
قال الطلب: كان ابن عمر يتوضأ ثلاثاً ثلاثا، ويسند ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان ابن عباس يتوضأ مرة مرة ويسند ذلك إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال: خطب الناس عمر بن الخطاب بالجابية، فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فينا كهيئة قيامي فيكم فقال: " يا أيها الناس، احفظوني في أصحابي فأنهم خير أمتي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب، فيحلف الرجل من غير أن يستلف ويشهد من غير أن يستشهد؛ فمن أراد بحبوبه الجنة فليلزم الجماعة فإن يد الله على الجماعة، وإياكم والفذ فإن الشيطان مع الفذ، وهو من الإثنين أبعد؛ لا يخلون رجل بامرأة ليست منه بمحرم، فإنه لم يخل رجل بامرأة ليست بمحرم منه إلا كان ثالثهما الشيطان؛ من سرته حسنته وساءته سيئته - أو خطيئته - فهو مؤمن ".
قال محمد بن سعد: في الطبقة الثالثة من تابعي أهل المدينة أهل المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي،(24/355)
وأمه ابنة الحكم بن أبي العاص بن أمية، وفد إلى هشام بهذه الخؤولة فقضى عنه سبعة عشر ألف دينار، والبئر على طريق العراق تنسب إلى المطلب هي بئره.
قال المصعب: كان من وجوه قريش.
وقال ابن سعد: وكان كثير الحديث، وليس يحتج بحديثه لأنه يرسل عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيراً، وليس له لقي، وعامة أصحابه يدلسون.
عن ابن حاتم، قال: سئل أبو زرعة عنه فقال: مديني ثقة.
قال الزبير بن بكار: حدثني أبي قال: وكان الحارث بن المطلب من أبيه بموقع عجب من شدة حبه له؛ مات الحارث بن المطلب قبل أبيه، فأقام بعده أبوه سنة ثم نظر إلى مضجعه فتذكره، فقال: كان الحارث ها هنا مضجعه العام الأول، ثم سكت ساعة، ثم تنفس، ثم سقط مغشياً عليه، فما رفع إلا ميتاً.
مطهر بن أحمد بن الوليد
ابن هشام بن يحيى بن يحيى بن قيس الغساني قال ابن يونس: دمشقي قدم مصر.
مطهر بن بزال
ولي إمرة دمشق في أيام الملقب بالحاكم، بعد حامد بن ملهم الوالي بعد علي بن جعفر بن فلاح، ثم عزل بغلام للقائد منير، فولي مديدة يسيرة، ثم عزل بالقائد مظفر.(24/356)
قال عبد المنعم بن علي بن النحوي:
وفي يوم الجمعة لست عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة تسعين وثلاثمئة ورد السجل إلى دمشق بولاية للمطهر بن بزال دمشق وعزل غلي بن فلاح عنها، وركب المطهر إلى الجامع فصلى الجمعة، وقرئ سجله على المنبر، وتجهز علي بن فلاح للمسير إلى الحضرة، وورد مظفر سنة أربعمئة وأظهر سجلاً يذكر فيه أنه قائد الجيوش، فلما بلغ ذلك ابن بزال هرب، فبلغ ذلك مظفراً فأنفذ خلفه الخيل، فلحقوه ورجلوه عن فرسه، وضرب وجرح في يده جرحاً واحداً، وركب مظغر من وقته وخلصه منهم، ثم أخذه إليه وجعله في خيمة وقيده، وقال: ما أمرت بقتلك وإنما أمرت بأن أحاسبك على ما عندك من المال.
وقيل: إنه لما كان في عشي هذا اليوم سير بابن بزال موكلاً به، ووصل الخبر إلى دمشق من بعلبك بأن المطهر بن بزال مات ببعلبك في يوم السبت لتسع خلون من شهر رمضان من هذه السنة - يعني إحدى وأربعمئة، وذلك أنه كان قد ضمن ببعلبك، وخرج إليها، فاعتل ومات.
مطهر بن محمد بن إبراهيم
أبو عبد الله الشيرازي، اللحافي، الصوفي سمع بدمشق.
روى عن أبي العباس أحمد بن محمد بن زكريا النسوي، بسنده إلى علي بن يونس المدني، قال: كنت جالساً في مجلس مالك بن أنس حتى إذا استأذن عليه سفيان بن عيينة قال مالك: رجل صالح وصاحب سنة، أدخلوه. فلما دخل سلم، ثم قال، السلام خاص وعام، السلام عليك أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته. فقال له مالك: وعليك السلام أبا محمد ورحمة الله وبركاته. وقام إليه وصافحه، وقال: لولا أنه بدعة لعانقتك، فقال سفيان: قد عانق من هو خير منا ومنك. فقال له مالك: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعفراً؟ فقال له(24/357)
سفيان: نعم. فقال مالك: ذاك خاص ليس بعام. فقال له: ما عم جعفراً يعمنا، وما خص جعفراً يخصنا إذا كنا صالحين؛ ثم قال له سفيان: يا أبا عبد الله، إن أذنت لي أن أحدث في مجلسك. فقال له مالك: نعم. فقال سفيان: اكتبوا، حدثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، أن جعفر بن أبي طالب لما قدم من أرض الحبشة تلقاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واعتنقه، وقبل ما بين عينيه، وقال: " مرحباً بأشبههم بي خلقاً وخلقاً ".
وعنه، بسنده إلى جابر، قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المواقعة قبل الملاعبة.
قال الخطيب: كان أحد الشيوخ الصالحين وكان ممن جاور بمدينة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو أربعين سنة، وقدم بغداد وسكن الرباط الذي كان عند جامع المدينة كتبت عنه وكان سماعه صحيحاً توفي اللحافي بإيذج في رجب من سنة خمس وأربعين وأربعمئة، بلغتنا وفاته ونحن ببيت المقدس بعد رجوعنا من الحج.
مطهر بن مازن العكي
من أهل الأردن أو فلسطين، كان غزاء، وكان من فرسان أهل الشام، قتل يوم الطوانة سنة سبع وثمانين أو بعدها، وهي الغزوة التي قتل فيها أبو الأبيض.
مطهر العامري
شاعر كان مع مروان بن محمد حين حارب سليمان بن هشام بن عبد الملك القائم بأمر الجيش إبراهيم بن الوليد بعين الجر.(24/358)
عن المدائني، قال: قال مطهر أحد بني عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة: " من الطويل "
ويوم بعين الجر أهجن جاثماً ... سليمان كاليعفور شهب الهزائم
وطار عليها المخلصون لربهم ... سراعاً وبيعات الأكف السلائم
فلما تمطت في العنان وواجهت ... دمشق شجرنا روسها بالعمائم
مطير
مولى يزيد بن عبد الملك وكان على خاتمه.
حدث مطير، قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى الحجاج يعزيه عن أخيه محمد بن يوسف، فكتب إليه الحجاج: يا أمير المؤمنين، ما التقيت أنا محمد منذ كذا وكذا إلا عاماً واحداً، وما غاب عني غيبة أنا لطول اللقاء منها أرجى من غيبته هذه، في دار لا يفرق فيها مؤمنان.
مطيع بن إياس بن أبي مسلم
أبو سلمى الكناني، الليثي، الكوفي شاعر محسن، وفد على الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكان أبوه شاعراً من أهل فلسطين، من أصحاب الحجاج.
قال أبو بكر الخطيب: قدم بغداد وصحب المنصور والمهدي من بعده، وكان شاعراً ماجناً، ورمي بالزندقة.(24/359)
قال الأصمعي: مدح مطيع بن إياس معن بن زائدة، فوقع معن في ظهر رقعته: إن شئت أثبتناك، وإن شئت مدحناك. فكره اختيار المدح وهو محتاج إلى النوال، فكتب إليه: " من الوافر "
ثناء من أمير خير كسب ... لصاحب مكسب وأخي ثراء
ولكن الزمان برى عظامي ... ولا مثل الدراهم من دواء
زاد في رواية: فأمر له بألف دينار.
قال أحمد بن أبي نعيم: قدم جدي أبو نعيم الفضل بن دكين بغداد، ونحن معه، فنزل الرملية، ونصب له كرسي عظيم، فجلس عليه ليحدث، فقام إليه رجل - ظننته من أهل خراسان - فقال: يا أبا نعيم، أتتشيع؟ قال: فكره الشيخ مقالته، فصرف وجهه، وتمثل بقول مطيع بن إياس: " من الطويل "
وما زال بي حبيك حتى كأنني ... برجع جواب السائلي عنك أعجم
لأسلم من قول الوشاة وتسلمي ... سلمت وهل حبي على الناس يسلم
فلم يفقه الرجل مراده فعاد سائلاً، فقال: يا أبا نعيم أتتشيع؟ فقال الشيخ: يا هذا، كيف بليت بك؟ وأي ريح هبت بك؟ إني سمعت الحسن بن صالح قول: سمعت جعفر بن محمد يقول: حب علي عبادة، وأفضل العبادة ما كتم.
وقال مطيع: " من الخفيف "
حبذا عيشنا الذي زال عنا ... حبذا ذاك حين لا حبذا ذا
أين هذا من ذاك سقياً لهذا ... ك ولسنا نقول سقياً لهذا
زاد هذا الزمان شراً وعسراً ... عندنا إذ أحلنا بغداذا(24/360)
بلذة تمطر التراب على القو ... م كما تمطر السماء الرذاذا
فإذا ما أعاذ ربي بلاداً ... من عذاب كبعض ما قد أعاذا
خربت عاجلاً كما خرب الل ... هـ بأعمال أهلها كلواذا
عن أحمد بن علي، قال: اجتمع مطيع مع إخوان له ببغداد في يوم من أيامهم، فقال مطيع يصف مجلسهم: " من الطويل "
ويوم ببغداد نعمنا صباحه ... على وجهه حوراء المدامع تطرب
ببيت ترى فيه الزجاج كأنه ... نجوم الدجى بين الندامى تقلب
يصرف ساقينا ويقطب تارة ... فيا طيبها مقطوبة حين يقطب
علينا سحيق الزعفران وفوقنا ... أكاليل فيها الياسمين المذهب
فما زلت أسقي بين صنج ومزهر ... من الراح حتى كادت الشمس تغرب
وقال مطيع: " من السريع
نازعني الحب مدى غاية ... بليت فيها وهو غض جديد
لو صب ما للقلب من حبها ... على حديد ذاب من الحديد
حبي لها صاف وودي لها ... محض وإشفاقي عليها شديد
وزادني صبراً على جهد ما ... ألقى وقلبي مستهام عميد
إني سعيد الجد أن نلتها ... وأنني أن مت منه شهيد
وقال: " من الخفيف "
إنما صاحبي الذي يغفر الذن ... ب وإن زل صاحب قل عذله
ليس من يظهر المودة إفكاً ... وإذا قال خالف القول فعله
وصله للصديق يوم فإن طا ... ل فيومان ثم يبتث حبله(24/361)
وقال: " من مجزوء الرمل "
قل لعباد أخينا ... يا ثقيل الثقلاء
ما رأينا جبلاً قب ... لك يمشي بالفضاء
أنت كانون علينا ... ليس كانون الصلاء
أنت في الصيف سموم ... وجليد في الشتاء
أنت في الأرض ثقيل ... وثقيل في السماء
بلغني أن مطيع بن إياس مات بعد ثلاثة أشهر مضت من خلافة موسى الهادي، وبويع الهادي في سنة تسع وستين ومئة.
المظفر بن أحمد بن إبراهيم
ابن الحسن بن برهان أبو الفتح المقرئ سكن دمشق، وأقرأ القرآن مدة، وكان مصنفاً في القراءات، حسن التصنيف.
روى عن إبراهيم بن المولد الصوفي، بسنده إلى أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كن ورعاً تكن أعبد الناس ".
وعن محمد بن منصور الأسواري، بسنده إلى أبي بكر الصديق، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ليس عند الله يوم ولا ليلة تعدل اللة الغراء واليوم الأزهر " عني ليلة الجمعة ويوم الجمعة.
قال ابن الأكفاني: سنة خمس وثمانين وثلاثمئة فيها توفي أبو الفتح المظفر بن أحمد.(24/362)
المظفر بن أحمد بن علي بن عبد الله
أبو بكر، ويقال: أبو نصر الدامعاني، الصوفي سمع دمشق.
روى عن محمد بن ريدة، بسنده إلى عثمان بن حنيف، قال:
شهدت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أوتبصر؟ " فقال: يا رسول الله، إني ليس لي قائد، وقد شق علي. فقال له: " إيت الميضأة فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات ".
قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا، وطال الحديث، حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر.
قال المصنف: كذا أخرجه علي بن الخضر وحذف منه ذكر الدعوات التي هي المقصود.
قال عبد الغافر في تذييله تارخ نيسابور: شيخ، مستور، معروف، صوفي، قدم نيسابور سنة إحدى وسبعين وأربعمئة، وروى الحديث، وكان قد سافر الكثير، وطاف البلاد، وزار المشاهد، وسمع الحديث بنيسابور.(24/363)
المظفر بن حاجب بن مالك بن أركين.
أبو القاسم بن أبي العباس الفرغاني روى عن محمد بن زيد بن عبد الصمد، بسنده إلى ابن عمر، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أبلى بلاء فلم يجد إلا الثناء فقد شكر، وإن كتمه فقد كفر ".
وقرئ عليه في سنة ثلاث وستين وثلاثمئة، عن أبي يعلى أحمد بن علي بن المثنى التميمي، بسنده إلى ابن عباس، قال: كان الفضل بن العباس ردف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عرفة، فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، وجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصرف وجهه من خلفه، وجعل الفتى يلاحظ إليهن، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ابن أخي، إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له ".
المظفر بن الحسن بن المهند
أبو الحسن السلماسي روى عن أحمد بن عمير بن جوصا، بسنده إلى عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادفنوا موتاكم وسط قوم صالحين، فإن الميت يتأذى بجاره كما يتأذى الحي بجاره ".
وعنه، بسنده إلى أنس: عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يتبع الميت إلى قبره أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان أهله وماله ويبقى عمله ".(24/364)
مات بأشنة وحمل إلى سلماس - لأنه كان محبوساً بأشنة - سنة إحدى وثمانين وثلاثمئة.
المظفر بن طاهر بن محمد بن عبد الله
أبو القاسم البستي، الفقيه سمع بدمشق.
روى عن عبد الوهاب بن الحسن القيسي، بسنده إلى أبي بكر بن أبي جهمة، عن أبيه، قال: قال لي علي بن أبي طالب: قم إلى هؤلاء القوم فقل لهم: يقول لكم أمير المؤمنين: أتتهموني على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فأشهد على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " لا تؤموا قريشاً وائتموا بها، ولا تعلموا قريشاً وتعلموا منها، فإن أمانة الأمين من قريش تعدل أمانة أمينين، وإن علم عالم قريش مبسوط على الأرض ".
المظفر بن عبد الله
أبو القاسم المقرئ، المعروف بزعزاع
المظفر بن عمر بن يزيد الفزاري
أبو الحديد
المظفر بن مرجى البغدادي
روى عن ثابت بن موسى المكفوف، بسنده إلى جابر، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من تكثر صلاته بالليل يحسن وجهه بالنهار ".(24/365)
المظفر بن مكارم الرجي
شاب قدم دمشق، وتفقه بها، ومدح جماعة بشعر غير فائق، ثم خرج إلى مصر فأدركه أجله بها.
فمما قرأت من شعره: " من الطويل "
أطالب عزمي في الصبا بالعظائم ... وأصبو إلى نيل العلا والمكارم
وأرتاح نحو السيف والرمح والوغى ... وأهوى من الفتيان صيد الغمائم
وما مأزق كالحبس عندي مبغض ... إذا انتثرت فيه رؤوس الضراغم
يحب غبار الخيل يرجع نحوها ... إذا سد على الأفق وكش القشاعم
تقول فتاة القوم هل يدرك العلا ... صبي يحلي جيده بالتمائم
فعندك أثبت لا ترم ما لا تناله ... بعزم وهى من بين عز العزائم
فقلت لها كيف الملام عن امرئ ... يرى خلة المعشوق جود الساطم
إليك ابنة العتبي ما طلب العلا ... بعار ولا من بان مجداً بآثم
ألم تعلمي أن المهارة سبق ... وأن المنايا في قضيب الصوارم
المظفر أبو الفتح المنيري القائد
ولي إمرة دمشق بعد المطهر بن بزال في أيام الملقب بالحاكم.
قال عبد الوهاب بن جعفر الميداني:
وتسلم البلد مظفر غلام منير في هذا اليوم - يعني يوم الأحد - لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعمئة، وعزل مظفر يوم الإثنين لسبع وعشرين ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعمئة، فكان جميع ما أقام ستة أشهر وتسعة أيام، وتسلمها بدار العطار في هذا اليوم.(24/366)
المظفر الصويفي
من ساكني طبريه، قدم دمشق، وكان يعلم بها مماليك طغتكين.
قال أبو عبد الله محمد بن المحسن السلمي: مظفر الصويفي، وصل مع أبي عبد الله بن سيف إلى دمشق، وأقام بها إلى أن مات، وكان أتابك أمره بأن يعلم مماليكه الخط، فجلس قريباً من داره لذلك، وكان رجلاً ذكياً له شعر صالح، اعتمد على أبي سعد بن القرة الحلبي ورمى مقاليده إليه فبان له تغيره عليه، فكتب إليه هذه الأبيات، وهي طويلة منها: " من الكامل "
إني أعوذ بجودك الموجود ... وبظلك المتفيأ المحدود
وبحسن رأيك لا عداني إنه ... عند النوائب عدتي وعد يدي
من أن أغادر في ذراك دريئة ... لسهام كل معاند وحسود
الله في من الوشاة ومينهم ... لا تخلف الآمال في موعودي
عطفاً أبا سعد فما يوم إذا ... لم ألق سعدك ينقضي بسعيد
ما لي أراك تظن بي سوءاً كأن ... قد قلت قولاً فيك غير حميد
من غير الود الصحيح ومن زوى ... ذاك الوداد عن الفتى المودود
عهدي بجودك يستهل إذا اجتدي ... معروفه ويجيب إذ هو نودي
فعلام تغري حاسدي وتتقي ... ما العذر من شيم الفتى المحمودي
وبك اعتلى جدي وأنجح مطلبي ... ووارتنا زندي وأورق عودي
والظل غير مقلص والصفوغي ... ر مكدر والمن غير زهيد
ودليل عودك لي إلى ما سمته ... بشر وأن لا تلقني بصدود(24/367)
معاذ بن جبل بن عمرو
ابن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدي ابن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج أبو عبد الرحمن الأنصاري صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شهد العقبة وبدراً، وروى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث، وقدم دمشق.
قال معاذ: كنت رديف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال: " يا معاذ ". قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: ثم سار ساعة فقال: " يا معاذ " قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم قال: " يا معاذ " قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: " هل تدري ما حق الله في عباده؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ". ثم سار ساعة، ثم قال: " يا معاذ " قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: " هل تدري ما حق العباد على الله إذافعلوا ذلك، إلا يعذبهم ".
وزاد في أخرى: فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: " لا تبشرهم فيتكلوا ".
قال أبو نعيم الحافظ: معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي، شهد العقبة وبدراً والمشاهد، إمام الفقهاء وكبير العلماء، بعثه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاملا على اليمن وقال: " نعم الرجل معاذ " بعثه ليجبره من دينه، يكنى أبا عبد الرحمن، أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة، وتوفي وهو ابن ثمان(24/368)
وثلاثين، وقيل: ثلاث وثلاثين، وقيل: أربع وثلاثين، كان ابن مسعود يسميه الأمة القانت، كان من أفضل شباب الأنصار حلماً وحياء، وبذلاً وسخاء، وضيء الوجه، أكحل العينين، براق الثنايا، جميلاً وسيماً، أردفه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وراءه فكان رديفه، وشيعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماشياً في مخرجه إلى اليمن، وهو راكب، وتوفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عامله على اليمن، مات شهيداً بالشام في طاعون عمواس، لم يعقب.
عن أنس، قال: جمع القرآن على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة كلهم من الأنصار، أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد. قال أنس: أبو زيد أحد عمومتي.
عن ابن عمر:
أنه قال له بعض أصحابه: لقد أحسنت الثناء على ابن مسعود. فقال: كيف لا أحسن عليه الثناء وقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " خذوا القرآن من أربعة، أبي ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وابن مسعود، ولقد هممت أن أبعثهم إلى الأمم كما بعث عيسى بن مريم الحوارين " فقال له علي: يا رسول الله، لو بعثت أبا بكر وعمر. قال: " إنه لا غناء عنهما، إنهما من الذين بمنزلة السمع والبصر ".
عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أرحم أمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ".
وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " معاذ بن جبل أعلم الناس بحلال الله وحرامه ".
عن أبي العجفاء، قال: قيل لعمر: لو عهدت. قال: لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح ثم وليته، ثم لقيت الله عز وجل فقال: من استخلفت على أمة محمد؟ قلت؟ سمعت عبدك ونبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(24/369)
يقول: " إنه أمين هذه الأمة ". ولو أدركت معاذ بن جبل ثم وليته، ثم لقيت الله عز وجل فقال: من استخلفت على أمة محمد؟ قلت سمعت عبدك ونبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة "، ولو أدركت خالد بن الوليد ثم وليته، ثم قدمت على ربي فسألني: من وليت على أمة محمد؟ قلت: سمعت عبدك ونبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على المشركين ".
قال مجاهد: لما فتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة وسار إلى حنين استخلف عليها عتاب بن أسيد يصلي بالناس، وخلف معاذ بن جبل يقرئهم القرآن ويفقههم.
قال معاذ: بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليمن، فلما سرت أرسل في أثري فرددت، فقال: " أتدري لم بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير علم فإنه غلول، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، لقد أذعرت فامض إلى عملك ".
وقال: لقد أخذ بيدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمشى ميلاً ثم قال: " يا معاذ، أوصيك بتقوى الله، وصدق الحديث، ووفاء العهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، ورحم اليتيم، وحفظ الجوار، وكظم الغيظ، ولين الكلام، وبذل السلام، ولزوم الإمام، والفقه في القرآن، والجزع من الحساب، وقصر الأمل، وحسن العمل.
وإياك أن تشتم مسلماً، وتصدق كاذباً، أو تعصي إماماً عادلاً، وأن تفسد في الأرض.
يا معاذ اذكر الله عند كل شجر وحجر، وأحدث لكل ذنب توبة، السر بالسر والعلانية بالعلانية ".(24/370)
عن عبيد بن صخر بن لوذان الأنصاري السلمي - وكان فيمن بعثه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع عمال اليمن - فقال: فرق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمال اليمن في سنة عشر بعدما حج حجة التمام، وقد مات باذام، فلذلك فرق أعمالها بين شهر بن باذام، وعامر بن شهر الهمداني وعبد الله بن قيس أبو موسى، وخالد بن سعيد بن العاص، والطاهر بن أبي هالة، ويعلى بن أمية، وعمرو بن حزم؛ وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد البياضي، وعكاشة بن ثور على السكاسك والسكون، وبعث معاذ بن جبل معلماً لأهل اليمن وحضرموت، وقال: " يا معاذ، إنك تقدم على أهل الكتاب، وإنهم سائلوك عن مفاتيح الجنة فأخبرهم أن مفاتيح الجنة لا إله إلا الله، وأنها تخرق كل شيء حتى تنتهي إلى الله عز وجل لا تحجب دونه، فمن جاء بها يوم القيامة مخلصاً رجحت به كل ذنب "
فقال معاذ: إذا سئلت واختصم إلي فيما ليس في كتاب الله ولم أسمع منك فيه سنة؟ فقال " تواضع لله عز وجل يرفعك الله، واستدق الدنيا تلقك الحكمة، فإنه من تواضع لله عز وجل واستدق الدنيا أظهر الله الحكمة من قلبه ولسانه، ولا تقيضن ولا تقولن إلا بعلم، فإن أشكل عليك أمر فاسأل ولا تستحي، واستشر، فإن المستشير معان والمستشار مؤتمن، ثم اجتهد فإن الله عز وجل إن يعلم منك الصدق يوفقك، فإن ألبس عليك فقف وأمسك حتى تتبينه أو تكتب إلي فيه، ولا تضربن فيما تجد في كتاب الله ولا في سنتي على قضاء إلا عن ملأ، واحذر الهوى فإنه قائد الأشقياء إلى النار، وإذا قدمت عليهم فأقم فيهم كتاب الله، وأحسن أدبهم، وأقرئهم القرآن يحملهم القرآن على الحق وعلى الأخلاق الجميلة، وأنزل الناس منازلهم فإنهم لا يستوون إلا في الحدود، لا في الخير ولا في الشر على قدر ما هم عليه من ذلك، ولا تحابين في أمر الله، وأد عليهم الأمانة في الصغير والكبير، وخذ ممن لا سبيل عليه العفو، وعليك بالرفق، وإذا أسأت فاعتذر إلى الناس، وعاجل التوبة، وإذا سروا عليك أمراً بجهالة فبين لهم حتى يعرفوا، ولا تحافدهم، وأمت أمر الجاهلية إلا ما حسنه الإسلام، واعرض الأخلاق على أخلاق الإسلام ولا تعرضها على شيء من الأمور، وتعاهد الناس في المواعظ، والقصد القصد، والصلاة الصلاة فإنها قوام هذا الأمر، اجعلوها همكم وآثروا شغلها على الأشغال، وترفقوا بالناس في كل ما عليهم ولا تفتنوهم، وانظروا في وقت كل صلاة فإنه كان أرفق بهم، فصلوا بهم فيه أوله وأوسطه وآخره، صلوا الفجر في(24/371)
الشتاء وغسلوا بها، وأطل في القراءة على قدر ما يطيقون، لا يملون أمر الله ولا يكرهونه، وصلوا الظهر في الشتاء مع أول الزوال، والعصر في أول وقتها والشمس حية، والمغرب حين تجب القرص، صلها في الشتاء والصيف على ميقات واحد إلا من عذر، وأخر العشاء شاتياً فإن الليل طويل، إلا أن يكون غير ذلك أرفق بهم؛ وإذا كان الصيف فأسفر فإن الليل قصير فيدركها النوام، وصل الظهر ببعدما يتنفس الظل وتبرد الرياح، وصل العصر في وسط وقتها، وصل المغرب إذا سقط القرص، والعشاء إذا غاب الشفق، إلا أن يكون غير ذلك أرفق بهم ".
قال معاذ: لما بعثني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليمن قال لي: " كيف تقضي إن عرض القضاء؟ " قال: قلت: أقضي بما في كتاب الله. قال: " فإن لم يكن في كتاب الله؟ " قال: قلت: أقضي بما قضى به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: " فإن لم يكن قضى به الرسول؟ " قال: قلت: أجتهد رأيي ولا آلو. قال فضرب صدري وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما يرضي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
عن عاصم بن حميد السكوني: أن معاذ بن جبل لما بعثه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليمن، فخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال: " يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري ". قال: فبكى معاذ جشعاً لفراق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تبك يا معاذ، البكاء - أو إن البكاء - من الشيطان ".
عن عبيد بن صخر، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين ودعه معاذ، قال: " حفظك الله من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك، ومن فوقك ومن تحتك، ودرأ شرور الإنس والجن وشر كل دابة هو آخذ بناصيتها " فسار وساروا حتى انتهوا إلى أعمالهم. فبدأ معاذ بصنعاء ثم ثنى بالجند.(24/372)
وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يبعث يوم القيامة له رتوة فوق العلماء ".
عن أبي موسى: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن قال لهما: " يسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تنفرا " فقال له أبو موسى: إن لنا شراباً يصنع بأرضنا من العسل يقال له: البتع، ومن الشعير يقال له: المزر. فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل مسكر حرام ".
قال: فقال معاذ لأبي موسى: كيف تقرأ القرآن؟ قال: أقرؤه في صلاتي وعلى راحلتي قائماً وقاعداً ومضطجعاً، أتفوقه تفوقاً. فقال معاذ: لكني أنام ثم أقوم فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. قال: فكأن معاذاً فضل عليه.
عن أم جهيش إحدى بني جذيمة، قالت:
بينا نحن بدثنية بين الجند وعدن إذ أقبل هذا، رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوافينا صحن القرية، فإذا رجل متوكئ على رمحه، متقلد السيف، متعلق حجفة، متنكب قوساً وجعبة، فتكلم وقال: إني رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اتقوا الله، واعملوا بجد غير تعذير، فإنما هي الجنة والنار، خلود فلا موت وإقامة فلا ظعن، كل أمر عمل به عامل فعليه ولا له إلا ما ابتغى به وجه الله، وكل صاحب استصحبه أحد خاذله وخائنه إلا العمل الصالح، انظروا لأنفسكم فأضروا لها بكل شيء ولا تضروا بها لشيء؛ فإذا رجل موفر الرأس، أدعج أبيض، براق وضاح.
عن أنس، أن معاذ بن جبل دخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متكئ فقال: " كيف أصبحت يا معاذ؟ " قلت: أصبحت بالله مؤمناً. قال: " إن لكل قول مصداقاً، ولكل حق حقيقة، فما مصداق تقول؟ " قلت: يا نبي الله، ما أصبحت صباحاً قط إلا ظننت أن لا أمسي، ولا أمسيت قط إلا ظننت أني لا أصبح، وما خطوت خطوة قط إلا ظننت أن لا أتبعها أخرى، وكأني أنظر إلى أمة جاثية، كل أمة تدعى إلى كتابها ومعها نبيها وأوثانها التي كانت تعبد من دون الله، وكأني أنظر إلى عقوبة أهل النار وثواب أهل الجنة. قال: " عرفت فالزم ".(24/373)
قال معاذ: لقيني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يا معاذ، إني لأحبك في الله " قال: قلت: وأنا والله يا رسول الله أحبك في الله. قال: " أفلا أعلمك كلمات تقولهن دبر كل صلاة: رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ".
عن أبي سعيد: أن معاذ بن جبل دخل المسجد ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساجد، فسجد معاذ مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما سلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى ما سبقه. فقال له رجل: كيف صنعت؟ سجدت ولم تعتد بالركعة؟ قال: لم أكن لأرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حال إلا أحببت أن أكون مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها. فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسره وقال: " هذه سنة لكم ".
عن مسروق، قال: كنا عند ابن مسعود فقال: إن معاذ بن جبل كان أمة لله حنيفاً. قال: فقال له فروة بن نوفل: نسي أبو عبد الرحمن، أإبراهيم خليل الله تعني؟ قال: وهل سمعتني ذكرت إبراهيم؟ إنا نشبه معاذاً بإبراهيم، أو إن كان نشبه به. قال: فقال له رجل: ما الأمة؟ قال: الذي يعلم الناس الخير، والقانت: الذي يطيع الله ورسوله.
عن محمد بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، قال: كان الذين يفتون على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثة من المهاجرين وثلاثة من الأنصار، عمر وعثمان وعلي، وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت.
عن أشياخ، قالوا: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، إني غبت عن امرأتي سنتين، فجئت وهي حبلى. فشاور عمر الناس في رجمها، فقال معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين، إن كان لك عليها سبيل، فليس لك على ما في بطنها سبيل، فاتركها حتى تضع، فتركها، فولدت غلاماً قد خرجت ثنيتاه، فعرف الرجل الشبه فيه فقال: ابني ورب الكعبة. فقال عمر: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، رضي الله عنه، لولا معاذ هلك عمر.(24/374)
عن أيوب بن النعمان بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن جده، قال: كان عمر بن الخطاب يقول حين خرج معاذ بن جبل إلى الشام؛ لقد أخل خروجه بالمدينة وأهلها في الفقه وما كان يفتيهم به، ولقد كلمت أبا بكر أن يحبسه لحاجة الناس إليه، فأبى علي وقال: رجل أراد وجهاً يرد الشهادة فلا أحبسه. فقلت: والله إن الرجل ليرزق الشهادة وهو على فراشه وفي بيته.
عن مسروق، قال: انتهى علم أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هؤلاء الستة، إلى عمر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت.
عن شهر بن حوشب، قال: كان أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تحدثوا وفيهم معاذ نظروا إليه هيبة له.
قال أبو إدريس الخولاني:
دخلت مسجد حمص، فجلست إلى حلقة فيها اثنان وثلاثون رجلاً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: يقول الرجل منهم: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيحدث، ثم يقول الآخر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيحدث، قال: وفيهم رجل أدعج، براق الثنايا، فإذا شكوا في شيء ردوه إليه ورضوا بما يقول فيه. قال: فلم أجلس قبله ولا بعده مجلساً مثله، فتفرق القوم وما أعرف اسم رجل منهم ولا منزله. قال: فبت بليلة ما بت بمثلها. قال: وقلت: أنا رجل أطلب العلم، وجلست إلى أصحاب نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم أعرف اسم رجل منهم ولا منزله! فلما أصبحت غدوت إلى المسجد فإذا أنا بالرجل الذي كانوا إذا شكوا في شيء ردوه إليه يركع إلى بعض اصطوانات المسجد، فجلست إلى جانبه، فلما انصرف قال: قلت: يا أبا عبد الله وإني لأحبك لله. فأخذ حبوتي حتى أدناني منه، ثم قال: إنك لتحبني لله؟ قال: قلت: إي والله، إني لأحبك لله. قال: فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن المتحابين بجلال الله في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله " قال: فقمت من عنده، فإذا أنا برجل من القوم الذين كانوا معه. قال: قلت: حديث حدثنيه الرجل. قال: أما إنه لا يقول لك إلا حقاً. قال: فأخبرته. فقال: قد سمعت ذلك، وأفضل منه، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يأثر عن ربه عز وجل: " حقت محبتي للذين(24/375)
يتباذلون في، وحقت محبتي للذين يتزاورون في ". قال: قلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عبادة بن الصامت. قال: قلت: من الرجل؟ قال: معاذ بن جبل.
عن ابن كعب بن مالك، قال: كان معاذ بن جبل شاباً جميلاً سمحاً من خيار شباب قومه، لا يسأل شيئاً إلا أعطاه حتى دان عليه دين أغلق ماله، فكلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أن يكلم له غرماءه، ففعل، فلم يضعوا له شيئاً، فلو ترك لأحد بكلام أحد لترك لمعاذ بكلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: فدعاني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يبرح أن باع ماله وقسمه بين غرمائه. قال: فقام معاذ ولا مال له. قال: فلما حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث معاذاً إلى اليمن ليجبره. قال: فكان أول من تجر في هذا المال معاذ.
قال: فقدم على أبي بكر من اليمن وقد توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاءه عمر وقال: هل لك أن تعطيني، تدفع هذا المال إلى أبي بكر، فإن أعطاكه فأقبله. قال: فقال معاذ: لم أدفعه إليه؛ وإنما بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليجبرني؟ فلما أبى عليه انطلق عمر إلى أبي بكر فقال: أرسل إلى هذا الرجل فخذ منه ودع له. فقال أبو بكر: ما كنت لأفعل، إنما بعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليجبره، فلست آخذ من شيئاً.
قال: فلما أصبح معاذ انطلق إلى عمر فقال: ما أراني إلا فاعل الذي قلت، إني رأيت البارحة في النوم أجر إلى النار وأنت آخذ بحجزتي. قال: فانطلق إلى أبي بكر بكل شيء جاء به، حتى بسوطه، وحلف له أنه لم يكتمه شيئاً. قال: فقال أبو بكر: هو لك، لا آخذ منه شيئاً.
عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب بعث معاذاً ساعياً على بني كلاب أو بني سعد بن ظبيان، فقسم فيهم حتى لم يدع شيئاً، حتى جاء بحلسه الذي خرج به على رقبته، فقالت له امرأته: أين ما جئت به مما يأتي به العمال من عراضة أهليهم؟ فقال: كان معي ضاغط: كان معي ضاغط. فقالت: قد كنت أميناً عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر، فبعث معك عمر ضاغطاً؟ فقامت بذلك في(24/376)
نسائها، واشتكت عمر، فبلغ ذلك عمر فدعا معاذاً فقال: أنا بعثت معك ضاغطاً؟ فقال: لم أجد شيئاً أعتذره إليها. فضحك عمر وأعطاه شيئاً فقال: أرضها به.
قال ابن جريج: فأقول: قول معاذ: الضاغط. يريد به ربه عز وجل.
عن نافع، قال: كتب عمر بن الخطاب إلى عبيدة بن الجراح وإلى معاذ بن جبل حين بعثهما إلى الشام، أن انظروا رجالاً من صالحي من قبلكم فاستعملوهم على القضاء، وارزقوهم، وأوسعوا عليهم من مال الله عز وجل.
عن مالك الدار
أن عمر بن الخطاب أخذ أربعمئة دينار فجعلها في صرة ثم قال للغلام: اذهب بها إلى عبيد بن الجراح، ثم تله ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع. فذهب الغلام إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين؛ اجعل هذه في بعض حوائجك. فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان وبهذه الخمسة إلى فلان، حتى أنفذها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، ووجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل، قال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل، وتله في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع. فذهب بها إليه، قال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: وصله الله ورحمه، تعالي يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، وإلى بيت فلان بكذا، وإلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا ديناران، قد جاء بهما إليها.
فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فسر بذلك عمر وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض.
عن أيوب عن أبي قلابة، أن فلاناً مر به أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أوصوني. فجعلوا يوصونه؛ وكان معاذ بن جبل في آخر القوم، فمر بالرجل فقال: أوصني يرحمك الله. فقال: إن القوم قد أوصوك فلم يألوا، وإني سأجمع لك أمرك بكلمات، فاعلم أنه لا غنى بك عن نصيبك من(24/377)
الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر، فابدأ بنصيبك من الآخرة فإنه سيمر بك على نصيبك من الدنيا فينتظمه ثم يزول معك أين ما زلت.
قال معاذ: ما خلق الله من يوم ولا ليلة إلا للعبد فيه رزق معلوم، بينه وبينه ستر، فإن أجمل في الطلب وفاه الله رزقه ولم يهتك ستره، وإن هو لم يجمل في الطلب هتك ستره ولم يزد على رزقه الذي رزقه الله شيئاً.
وقال: كيف أنتم عند ثلاث؛ دنيا تقطع رقابكم، وزلة عالم، وجدال منافق في القرآن؟ قال: فسكتوا. فقال معاذ بن جبل: أما دنيا تقطع رقابكم، فمن جعل الله غناه في قلبه فقد هدي. ومن لا فليس بنافعته دنياه، وأما زلة عالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وإن فتن فلا تقطعوا منه أناتكم، فإن المؤمن يفتن ثم يفتن ثم يتوب؛ وأما جدال منافق بالقرآن، فإن القرآن مناراً كمنار الطريق لا يكاد يخفى على أحد، فما عرفتم فتمسكوا به، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه.
عن عون بن معمر، قال: كان معاذ بن جبل له مجلس يأتيه فيه ناس من أصحابه، فيقول: يا أيها الرجل، وكلكم رجل، اتقوا الله، وسابقوا الناس إلى الله، وبادروا أنفسكم إلى الله تعالى الموت، وليسعكم بيوتكم، ولا يضركم أن لا يعرفكم أحد.
قال الأصمعي: بلغني أن معاذ بن جبل كان يقول إذا تعار في الليل من وسنه: اللهم غارت النجوم ونامت العيون وأنت حي قيوم لا تأخذك سنة ولا نوم، فراري من النار بطيء، وطلبي الجنة ضعيف، وليس عندي إلا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك.
قال معاذ: اعملوا ما شئتم أن تعملوا، فلن يأخذكم الله بالعلم حتى تعملوا.(24/378)
عن عبد الله بن عمر بن العاص، أنه مر بمعاذ بن جبل وهو قائم على بابه يشير بيده كأنه يحدث نفسه. قال له عبد الله بن عمرو: ما شأنك يا أبا عبد الرحمن تحدث نفسك. قال: فقال لي: يريد عدو الله أن يلفتني عن كلام سمعته من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال لي: تكابد دهرك في بيتك، ألا تخرج إلى المسجد فتحدث؟ وأنا سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من جاهد في سبيل الله كان ضامناً على الله، ومن عاد مريضاً كان ضامناً على الله، ومن جلس في بيته، ولم يغتب أحداً كان ضامناً على الله ". وهو يريد يخرجني من بيتي إلى المسجد.
عن محمد بن يحيى بن حبان، قال: خرج معاذ بن جبل يعود إنساناً، فجعل معاذ لا يمر بأذى في الطريق إلا أماطه، ومعه صاحب له فجعل صاحبه كلما رأى أذى أماطه. فقال معاذ: ما حملك على هذا؟ قال: الذي رأيتك تصنع. قال: أما إنه من أماط أذى في طريق كتبت له حسنة، ومن كتبت له حسنة دخل الجنة.
قال معاذ: ما بزقت عن يميني منذ أسلمت.
عن محفوظ بن علقمة، عن أبيه، أن معاذ دخل قبته فرأى امرأة تنظر من خرق في القبة فضربها.
قال: وكان معاذ يأكل تفاحاً ومعه امرأته، فمر غلام له فناولته امرأته تفاحة قد عضتها، فضربها معاذ.
عن عبد الله بن رافع، قال:
لما أصيب أبو عبيدة في طاعون عمواس استخلف معاذ بن جبل، واشتد الوجع، فقال الناس لمعاذ: ادع الله أن يرفع عنا هذا الرجز. قال: إنه ليس برجز؛ ولكنه دعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وشهادة يختص بها الله من يشاء منكم؛ أيها الناس، أربع خلال من استطاع أن لا يدركه شيء منهن فلا تدركه. قالوا: وما هي؟ قال: يأتي زمان يظهر فيه الباطل، ويصبح الرجل على دين ويمسي على آخر، ويقول الرجل:(24/379)
والله ما أدري على ما أنا؛ لا يعيش على بصيرة، ويعطي المال من مال الله على أن يتكلم بكلام الزور الذي يسخط الله. اللهم آت معاذ نصيبهم من هذه الرحمة. فطعن ابناه، فقال: كيف تجدانكما؟ قالا " " الحق من ربك فلا تكونن من الممترين "، وقال: وأنا ستجداني إن شاء الله من الصابرين. ثم طعنت امرأتاه، فهلكتا، وطعن هو في إبهامه فجعل يمسها بفيه ويقول: اللهم إنها صغيرة فبارك بها، فإنك تبارك في الصغير. حتى هلك.
عن عبد الرحمن بن غنم، قال: وقع الطاعون بالشام، فخطب الناس عمرو بن العاص فقال: هذا الطاعون رجز ففروا منه في الأودية والشعاب؛ فبلغ ذلك شرحبيل بن حسنة فغضب، فجاء يجر ثوبه، ونعلاه بيده فقال: صحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنه رحمه ربكم ودعوة نبيكم ووفاة الصالحين قبلكم - أو قال: ممات الصالحين - فبلغ ذلك معاذ بن جبل، فقال: اللهم اجعل نصيب آل معاذ الأوفر، فماتت ابنتاه في قبر واحد، فطعن ابنه عبد الرحمن فقال " الحق من ربك فلا تكونن من الممترين " فقال معاذ: " ستجدوني إن شاء الله من الصابرين ". قال فطعن معاذ على كفه فجعل يقلبها ويقول: هي أحب إلي من حمر النعم. فإذا سري عنه قال: رب غم غمك، فإنك تعلم أني أحبك.
قال: ورأى رجلاً يبكي عنده، فقال له: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم الذي كنت أصيبه منك. قال: فلا تبكه، فإن إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه كان في الأرض وليس بها علم فأتاه الله علماً، فإن أنا مت فاطلب العلم عند أربعة، عند عبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وعويمر أبي الدرداء.
وعنه، قال: حضرت معاذ بن جبل وهو عند رأس ابن له يجود بنفسه، فما ملكنا أن ذرفت أعيننا أو انتحب بعضنا، فحرد معاذ وقال: مه؟ والله ليعلم رضاي بهذا أحب إلي من كل(24/380)
غزاة غزوتها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ثم قال: ما يسرني أن لي أحداً ذهباً وأني أسخط بقضاء قضاه الله بيننا. قال: فقبض الغلام، فغمضناه، وذلك حين أخذ المؤذن في النداء لصلاة الظهر. فقال معاذ: عجلوا بجهازكم؛ فما فجأنا إلا وقد غسله وكفنه وحنطه خارجاً بسريره، قد جاز به المسجد غير مكترث لجميع الجيران ولا لمشاهدة الإخوان؛ وتلاحق الناس ثم قالوا: أصلحك الله، إلا انتظرتنا نفرغ من صلاتنا ونشهد جنازة ابن أخينا؟ فقال معاذ: إنا نهينا أن ننتظر بموتانا ساعة من ليل أو نهار، وما يزال أول الأذى فيها من بقيا الجاهلية، ثم نزل الحفرة هو وآخر، فقلت: الثالث يا معاذ. فقال: إنما يقول الثالث الذين لا يعلمون. فناولته يدي لأعينه فأبى، فقال: والله ما أدع ذلك من فضل قوة، ولكني أتخوف أن يظن الجاهل أن بي جزعاً واسترخاء عند المصيبة؛ ثم خرج فغسل رأسه، ودعا بدهن فأدهن، ودعا بكحل فاكتحل، ودعا ببردة فلبسها، وقعد في مسجده فأكثر من التبسم والتكشير، ليس به إلا ما ينوي من ذلك. ثم قال: " إنا لله وإنا إليه راجعون " في الله خلف من كل فائت، وغناء من كل عزم، وأنس من كل وحشة، وعزاء من كل مصيبة، رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً ومحمد نبياً. فقلنا: وما ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: وعظني خليلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً فقال: " يا معاذ، من كان له ابن وكان عليه عزيزاً، وكان به حنيناً، فأصيب به فاحتمل وصبر بمصيبته، أنزل الله الميت داراً خيراً من داره وقراراً خيراً من قراره وأهلاً خيراً من أهله، وأوجب للمصاب المغفرة والهدى والرضوان والجوار في الجنة؛ ومن أصابته فخرق فيها ثوباً فقد خرق دينه ومزقه وبدده، ومن لطم عليها وجهاً حرم الله عليه النظر إلى وجهه، ومن دعا عليها ويلاً احتجب الله من بين يديه يوم القيامة، ومن سالت دمعته من عينه لا يملكها كتب الله مصيبته له ولا عليه ".
ثم أن معاذاً طعن في كفه عام عمواس، فقبلها وقال: حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم. قلت: يا معاذ، هل ترى شيئاً؟ قال: نعم، شكر لي ربي حسن عزائي، أتاني روح ابني يبشرني أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مئة صف من الملائكة والشهداء الصالحين يصلون على روحي ويسوقوني إلى الجنة؛ ثم أغمي عليه، فرأيته كأنه يصافح قوماً ويقول: مرحباً مرحباً، أتيتكم. قال: فقضى.(24/381)
عن عبد الرحمن بن غنم، قال: أصيب معاذ بولد فاشتد جزعه، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكتب إليه: " من محمد رسول الله إلى معاذ بن جبل، سلام عليك، فأني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثم إن أنفسنا وأهالينا وأموالنا وأولادنا من مواهب الله الهنية وعواريه المستودعة، يمتع بها إلى أجل معدود، ويقبض لوقت معلوم، ثم افترض علينا الشكر إذا أعطى والصبر إذا ابتلى؛ وكان ابنك من مواهب الله الهنية وعواريه المستودعة، متعك الله به في غبطة وسرور، وقبضه بأجر الصلاة والرحمة والهدى إن صبرت واحتسبت، فلا تجمعن يا معاذ خصلتين: أن يحبط جزعك أجرك فتندم على ما فاتك، فلو قدمت على ثواب مصيبتك قد أطعت ربك وتنجزت موعده عرفت أن المصيبة قد قصرت عنه، واعلم يا معاذ أن الجزع لا يرد ميتاً ولا يدفع حزناً، فأحسن العزاء وتنجز الموعدة، وليذهب أسفك بما هو نازل بك فكأن قد، والسلام ".
عن عمرو بن قيس، قال: بلغني أن معاذاً لما طعن، فجعل سكرات الموت تغشاه، فيفيق الإفاقة ويقول: وعزتك أنت تعلم أني لم أكن أريد البقاء في الدنيا لكر الأنهار وغرس الأشجار، ولكن لمزاحمة العلماء بالركب في المجالس عند حلق الذكر.
وعن موسى بن وردان، أن معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي جزعاً ولكن أبكي على الجهاد في سبيل الله، وعلى فراق الأحبة. قال: ويغشاه الكرب، فجعل يقول: اخنق خنقك، فوعزتك إني أحبك.
وعن الحسن البصري، قال: لما حضرت معاذاً الوفاة جعل يبكي. قال: فقيل له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنت وأنت. فقال: ما أبكي جزعاً من الموت أن حل بي ولا ديناً تركته بعدي، ولكن إنما هما القبضتان قبضة في النار وقبضة في الجنة، فلا أدري في أي القبضتين أنا.(24/382)
مات معاذ سنة ثمان عشرة في طاعون عمواس بالشام بناحية الأردن، وهو ابن ثلاث أو أربع وثلاثين سنة.
عن عبد الله بن قرط، قال: حضرت وفاة معاذ بن جبل، فقال: روحوني ألقى الله مثل سن عيسى بن مريم ابن ثلاث وثلاثين أو أربع وثلاثين سنة.
معاذ بن سعد السكسكي
روى عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت، قال: سأل رجل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يا رسول الله، ما أمد أمتك من الرخاء؟ فأسكت عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم سأله فأسكت عنه، ثم سأله فقال: " أمد أمتي من الرخاء مئة سنة " قال " هل لذلك يا رسول الله من أمارة أو علامة؟ قال: " نعم، الخسف والمسخ والإرجاف وإرسال الشياطين الملجمة على الناس ".
معاذ بن عبد الحميد بن حريث
ابن أبي حريث القرشي مولى بني مخزوم، والد محمد وعبد الله ابني معاذ.
معاذ بن عفان
أبو عثمان الخواشي ساكن هراة، قدم دمشق وسمع بها.
قال أبو إسحاق أحمد بن محمد بن يونس البزاز: أبو عثمان معاذ بن عفان الخواشي، سكن هراة ومات بها، وكان فقيه الندى، حافظاً للحديث، فاضلاً، توفي سنة سبع وسبعين ومئتين.(24/383)
معاذ بن محمد بن حمزة
ابن عبد الله بن سليمان بن أبي كريمة الصيداوي حكى عن أبيه محمد بن حمزة، أن جده سليمان بن أبي كريمة نظر عموداً أو حجراً عليه مكتوب كتاباً، فلم يحسن يقرؤء، فتعلم بعد ذلك قراءة اليونانية، فقرأه فإذا عليه: بنى صيدا صيدوق بن سام بن نوح، وهي رابع مدينة بنيت بعد الطوفان.
وروى عن الحسين بن السميدع، بسنده إلى أبي سعيد الخدري، أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا صلى أحدكم فلا يفترش ذراعه ربضة الكلب والسبع ".
معاذ بن محمد بن عبد الغالب
ابن عبد الرحمن بن ثوابة. أبو محمد الصيداوي روى عن أبي بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري، بسنده إلى سليمان الفارسي
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن ربكم حيي كريم، يستحيي أن يبسط العبد يده إليه فيردها صفراً ".
وعن أبي يعلى عبد الله بن محمد بن حمزة بن أبي كريمة، بسنده إلى بشر بن الحارث، قال: من أحب أن يكون عزيزاً في الدنيا مكيناً في الآخرة فليجتنب أربعاً؛ لا يحدث، ولا يشهد، ولا يؤم، ولا يقبل وصية.
معاذ بن محمد بن مخلد
ابن مطر بن صبيح أبو سعيد العامري النسائي، المعروف بخشنام روى عن الحجي، عن محمد بن ثابت، عن نافع، قال: انطلقت مع ابن عمر في حاجة لابن عباس، فقضى حاجته، وكان من حديثه أنه(24/384)
قال: لقي رجل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سكة من السكك وقد خرج من غائط أو بول، فسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى كاد الرجل يتوارى في السكة، فضرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده على الحائط فمسح يديه جميعاً، ثم مسح وجهه، ثم ضربه بيديه فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام، وقال: " إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت ليس على طهر ".
قال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي وهو صدوق.
وقال الخطيب: سكن بغداد فحدث بها، وكان ثقة.
مات في سنة ثلاث وستين ومئتين، في غرة شهر رمضان.
معاذ بن ماعص
ويقال: ابن معاص، بن قيس ابن خلدة بن عامر بن زريق بن عامر بن زريق بن عبد بن حارثة بن مالك ابن غضب بن جشم بن الخزرج ويقال: عباد بن ماعص له صحبة، وشهد بدراً، ومات في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقال: إنه شهد غزوة مؤتة.
عن معاذ بن ماعص جرح ببدر، فمات من جرحه بالمدينة.
قال محمد بن عمر: وليس ذاك عندنا بثبت، والثبت أنه شهد بدراً وأحداً ويوم بئر معونة، وقتل يومئذ شهيداً في صفر على رأس ستة وثلاثين شهراً من الهجرة، وليس له عقب.
وقال ابن شهاب: وقتل يومئذ - يعني يوم مؤتة - من بني زريق معاذ بن ماعص.(24/385)
معافى بن عبد الله بن معافى
ابن أحمد بن محمد بن بشير بن أبي كريمة أبو محمد الصيداوي روى عن أبيه وعمه محمد بن المعافى، بسنده إلى أنس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له ".
معالي بن هبة الله بن الحسن
ابن علي أبو المجد ابن الحبوبي، الثعلبي، البزار سمعت منه وكان ثقة.
روى عن أبي الفرج سهل بن بشر الإسفراييني، بسنده ألى أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل عن ضالة الغنم، فقال: " هي لك أو لأخيك أو للذئب "، وسئل عن ضالة الإبل، فقال: " مالك وله؟ معه سقاؤه وحذاؤه حتى يجد ربه ".
توفي أبو المجد ليلة الأربعاء سلخ شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وخمسمئة، ودفن الغد في مقبرة باب الفراديس.
معالي بن هبة الله بن المفرج
أبو المجد المقرئ، البزار، الشافعي، المعروف بابن الشعار كتبت عنه، وكان شيخاً خيراً، يقرئ القرآن في الجامع حسبة.
روى عن أبي الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر المقدسي، بسنده إلى عائشة، قالت: كان عتبة عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعه مني، فاقبضه إليك؛ فلما كان عام الفتح أخذه سعد، قال: ابن أخي، عهد إلي فيه؛ فقام عبد بن زمعة فقال: ابن وليدة أبي، ولد على فراشه؛ فتساوقا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "(24/386)
هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر ". ثم قال لسودة: " احتجي منه " لما رأى من شبهه بعتبة؛ فما رآها حتى لقي الله عز وجل.
سألت أبا المجد عن مولده فقال: في سنة اثنتين وخمسين وأربعمئة، وتوفي يوم الإثنين الثامن وعشرين من شهر رمضان سنة خمس وعشرين وخمسمئة، ضحى نهار، وصلي عليه في الجامع بعد العصر، ودفن من يومه بباب الصغير قرب قبر بلال. حضرت دفنه والصلاة عليه.
معالي بن يحيى بن خلف السلمي
رجل متأدب، كان يتعانى علم النجوم، ويقول الشعر، ويكتب خطاً حسناً، وكان يسكن درب التميمي، ويعرف بشغتر.
قرأت بخطه ما كتبه إلى ابن خالي أبي الحسن علي بن محمد: " من الكامل "
هضبات مجد ليس تنقصم ... وعرى علاء ليس تنفصم
ومناقب عادت منورة ... بضيائها في العالم الظلم
لابن الذي شهدت لمحتده ... بالفضل دون نفوسها الأمم
الماجد ابن الماجدين ومن ... سمعت له كجدوده الهمم
بحر من المكنون مندفق ... وحياً من المعروف منسجم
في كل صالحة له قدم ... تسعى وكل فضيلة قدم
وإذا تقدم للفخار فلا ... عرب تؤخره ولا عجم
بعلي بن محمد شرفت ... علماء دين الله كلهم
وسموا به عند الملوك على ... ما ساد علمهم وفضلهم
قاض إذا تليت مناقبه ... في الجدب جادت بالحيا الديم
وأخو وجود لا يلم بمن ... أسرى إلى صدقاته العدم
لا تقدر الأيام تسلم من ... بعلا زكي الدين يستلم
جود لكل مودع وطناً ... وحمى لكل مروع حرم(24/387)
يتقي الفواحش سمعه أنفاً ... حتى يخال بسمعه صمم
مدحوه بالكرم السني علا ... وأقل ما في خلقه الكرم
شهد القضاء بفضله فله ... حكم به وبعلمه حكم
يا سيد الحكام دعوة ذي ... مقة بحبل وفاك يعتصم
لي في علائك عدة خدم ... بمثالها يتجمل الخدم
كلم إذا جليت فصاحتها ... سجدت لحسن نظامها الكلم
مات معالي بن يحيى في حدود سنة ستين وخمسمئة.
معالي الشيباني
كان مع آل الصقيل ببعلبك.
قال أبو عبد الله بن الحسن بن أحمد: معالي الشيباني، كان مختلطاً بآل الصقيل، ربي معهم وفي حجورهم، وساهم في خيرهم وشرهم، وهم في بعلبك، فلما أخذ السلطان تاج الدولة عون بن الصقيل وصار في قبضته افتداه أبوه بتسليم بعلبك إلى السلطان، وانتقل الصقيل وأولاده وجماعة كثيرة معه إلى دمشق، وأقطعوا إقطاعاً واسعاً يفيض عليهم، وعكف الصقيل وولده على الالتذاذ في جميع معانيه، فقال فيه معالي: " من مجزوء الكامل "
إني لأعجب للصقي ... ل وكيف جاد ببعلبك
ورضي بسكناه دمش ... ق ولعنة شتى بيك
وعجبت منه كيف يض ... حك عن قليل سوف يبكي
يا شيخ واظب خدمة الس ... سلطان ما الإقطاع هكي
واعلم بأنك ليس تت ... رك كل ما أقطعت يزكي
لا شك أنك قد تحق ... ققت الكلام بغير شك(24/388)
معان بن رفاعة السلامي
من أهل دمشق، سكن حمص.
روى عن أبي خلف حازم بن عطاء الأعمى، عن أنس بن مالك، قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تجتمع أمتي على ضلالة، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بسواد الأعظم ".
وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الإسلام ذلول لا يركبه إلا ذلول ".
وعن أبي الزبير المكي، عن جابر بن عبد الله، قال: أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سعد بن معاذ أن يكتوي في أكحله حين رمته بنو النضير، فاكتوى.
قال مهنى بن يحيى: سألت أحمد بن حنبل عن حديث معان بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدولة ينفون عنه تحريف الجاهلين وانتحال المبطلين وتأويل الغالين " فقلت لأحمد: كأنه كلام موضوع.
قال: لا، هو صحيح.
قال أحمد: معان بن رفاعة لا بأس به، قال أبو حاتم بن حبان: معان بن رفاعة السلامي، من أهل دمشق، يروي عن الشاميين، روى عنه أهل بلده، منكر الحديث، يروي مراسيل كثيرة، ويحدث عن أقوام ومجاهيل، لا يشبه حديثه حديث الأثبات، فلما صار الغالب في روايته ما ينكره القلب استحق ترك الاحتجاج.(24/389)
معان مولى يزيد بن تميم السلمي
حكى، أن رجلاً من بني تميم رأى في المنام كتاباً منشوراً من السماء بقلم جليل: بسم الله الرحمن الرحيم " هذا كتاب من الله العزيز الحليم، براءة لعمر بن عبد العزيز من العذاب الأليم، إني أنا الغفور الرحيم ".
معاوية بن إسحاق بن عباد
ابن زياد بن أبيه، المعروف بابن أبي سفيان كان يسكن جرود من إقليم معلولا.
معاوية بن إسحاق
روى عن يزيد بن ربيعة، عن عبد الله بن عامر الحضرمي، قال: سمعت معاوية يخطب على المنبر يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ".
قال المصنف: إنما يحفظ هذا عن ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن عامر اليحصبي المقرئ.
وبه، قال:
سمعت معاوية يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما أنا خازن فمن أعطيته عن(24/390)
طيب نفس مني فهو يبارك لأحدكم، ومن أعطيه عن شره نفس وشدة مسألة فهو كالآكل يأكل ولا يشبع ".
معاوية بن الأوس بن الأصبغ
ابن محمد بن محمد بن لهيعة أبو المستضيء السكسكي، القوفاني من أهل قرية قوفا.
قال أبو المستضيء: رأيت هشام بن عمار وهو شيخ خضيب، إذا مشى أطرق إلى الأرض، لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله عز وجل.
معاوية بن الحارث
أرسله معاوية بن أبي سفيان إلى عائشة يخبرها بوقعة صفين.
عن عبد الله بن لهيعة، قال: وسار أهل الشام حين بلغهم أن علياً قد توجه لوجههم، خرج معاوية وعمرو بن العاص حتى التقوا بصفين فكان من شأنهم بها ما كان، ثم بايعوا معاوية، وكان ممن بايعه أبو هريرة، وبعث معاوية معاوية بن الحارث إلى عائشة وإلى أم حبيبة، وأمره أن يبدأ بعائشة، فيخبرهم من قتل بصفين؛ فلما دخل على عائشة - وقد غلبه الكرى - فأخبرها عن الناس، وقال: قتل عمار. قالت: ذلك كان يتبعه الناس على دينه. قال: وقتل هشام بن عتبة. قالت: كان يتبع على بأسه. قال: وقتل ابن بديل. قالت: وكان يتبع على رأيه. وجعل يخبرها حتى غلبه النوم فنام.
فقالت عائشة: دعوا الرجل. فلما استيقظ خرج إلى أم حبيبة.(24/391)
معاوية بن حديج بن جفنة
ابن قتيرة بن حارثة بن عبد شمس بن معاوية بن جعفر بن أسامة بن سعد بن أشرس بن شبيب بن السكون بن أشرس بن كندة أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو نعيم، الكندي له صحبة، روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وولي إمارة مصر وغزو المغرب، وهو ممن شهد اليرموك، ووفد على معاوية.
روى، قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن كان في شيء شفاء فشربة عسل أو شرطة محجم أو كية نار، وما أحب أن أكتوي ".
وروى عن معاوية بن أبي سفيان، أنه سأل أخته أم حبيبة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ فقالت: نعم، إذا لم ير فيه أذى.
قال سيف بن عمر في تسمية الأمراء يوم اليرموك: ومعاوية بن حديج على كردوس.
قال أبو سعيد ابن يونس: شهد فتح مصر، وكان الوافد بفتح الإسكندرية إلى عمر بن الخطاب، وكان أعور ذهبت عينه يوم دمقلة من بلد النوبة مع عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة إحدى وثلاثين، ولي الإمرة على غزو المغرب سنة أربع وثلاثين، وسنة أربعين، وسنة خمسين.(24/392)
قال معاوية بن حديج: من غسل ميتاً، وكفنه، وتبعه، وولي جنته، رجع مغفوراً له.
عن علي بن رباح، قال: سمعت معاوية بن حديج يقول: هاجرنا على عهد أبي بكر الصديق، فبينا نحن عنده إذ طلع المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنه قدم علينا برأس نياق البطريق، ولم يكن لنا به حاجة، إنما هذه سنة العجم.
عن عبد الرحمن بن شماسة، قال: غزونا مع معاوية بن حديج، فلما قفلنا دخلنا على عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت لي: يا ابن الشماسة، كيف رأيتم أميركم؟ قلت: يا أمة، خير أمير، ما مرض منا أحد إلا عاده، ولا مات له فرس إلا أبدله. قالت: أما إنه لا يمنعني ما فعل لأخي أن أخبره بما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ولي شيئاً من أمر أمتي فرفق بهم، اللهم فأرفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم، اللهم فشق عليه ".
عن علي بن أبي طلحة، قال: حججنا فمررنا بالمدينة ومعنا معاوية بن حديج، فمررنا بالحسن بن علي، فقيل له: هذا معاوية بن حديج الساب لعلي بن أبي طالب. فقال: علي به. فقال: أنت الساب لعلي؟ فقال له: ما فعلت. قال: والله لئن لقيته - وما أحسبك أن تلقاه - لتجدنه قائماً على الحوض حوض محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذود عنه رايات المنافقين، بيده عصا من عوسج، حدثنيه الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد خاب من افترى.
وحدث أبو قبيل، قال: لما قتل حجر بن أدبر وأصحابه، ومعاوية بن حديج بإفريقية، بلغ معاوية بن حديج قتله، قام في أصحابه فقال: يا أشقائي في الرحم، ويا أصحابي في السفر(24/393)
ويا جيرتي في الحضر، أنقاتل لقريش في الملك حتى إذا استقام لهم وقعوا يقتلوننا، أم والله لئن أدركتها ثانية بمن أطاعني من أهل اليمن لأقولن لهم: اعتزلوا بنا ودعوا قريشاً يقتل بعضها بعضاً. فأيهم غلب أتبعناه.
قال ابن يونس:
توفي معاوية بن حديج سنة اثنتين وخمسين، وولده بمصر إلى اليوم.
معاوية بن خالد بن يزيد
ابن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، الأموي كان مع الوليد بن يزيد فخذله لمال جعل له. وقيل: إنه معاوية بن أبي سفيان بن يزيد بن خالد.
معاوية بن خذرف بن معاوية
أبو عد الرحمن، القرشي، الأموي روى عن محمد بن أحمد بن عمارة، بسنده إلى تميم الداري، قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قلت: يا رسول الله، الرجل يسلم على يدي الرجل، لمن ميراثه؟ قال: " هو أولى الناس بمحياه ومماته ".
معاوية بن الريان الأموي
مولى عبد العزيز بن مروان بن الحكم من أهل مصر، وفد على عمر بن عبد العزيز.
حدث عن أبي فراس مولى عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو، أنه قال: إن في كتاب الله، أنا الله لا إله إلا أنا، خلقت الجنة بيدي وحظرتها على مسكر أو مدمن خمر سكير.(24/394)
وحدث، أنه سمع رجلاً يسأل عطاء عن رجل له أم وامرأة، والأم لا ترضى إلا بطلاق امرأته. قال: ليتق الله في أمه وليصلها. قال: أيفارق امرأته؟ قال عطاء: لا. قال الرجل: فإنها لا ترضى إلا بذلك. قال عطاء: فلا أرضاها الله، أمر امرأته بيده، إن طلق فلا حرج، وإن حبس فلا حرج.
قال ابن يونس: توفي في خلافة هشام.
معاوية بن أبي سفيان بن يزيد
ابن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، الأموي كان في صحابة الوليد بن يزيد بن عبد الملك حين قتل، وكان ميمنته، فخذله ولحق بعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك الذي وجهه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، حين جعل له عشرين ألف دينار.
معاوية بن سلمة بن سليمان
أبو سلمة النصري، الكوفي سكن دمشق، وحدث بها.
روى عن عمرو بن قيس، بسنده إلى علي بن ربيعة، قال: أردف علي بن أبي طالب رجلاً، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله؛ فلما استوى قال: الحمد لله، وكبر ثلاثاً، وهلل ثلاثاً، ثم قال: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. ثم ضحك. فقال له الرجل: ما أضحكك(24/395)
يا أمير المؤمنين؟ قال: أردفني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم فعل كما رأيتني فعلت، فضحك، فقلت: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: " ربنا تبارك وتعالى يعجب بقول عبده، يعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هو ".
وعن نهشل، بسنده إلى عبد الله، قال: لو أن أهل العلم صانعوا العلم ووضعوه عند أهله لسادوا أهل زمانهم، ولكنهم وضعوه عند أهل الدنيا لينالوا من دنياهم فهانوا عليهم؛ سمعت نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من جعل الهموم هماً واحداً، هم المعاد، كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبته الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك ".
وعن منصور بن المعتمر، بسنده إلى سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت ".
قال عنه أبو حاتم: كان ثقة مستقيم الحديث.
معاوية بن سليمان بن هشام
ابن عبد الملك بن مروان بن الحكم، الأموي
معاوية بن سلام بن أبي سلام
أبو سلام الحبشي، ويقال الألهاني روى عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي مزاحم، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من تبع جنازة فصلى عليها ورجع فله قيراط، ومن تبعها حتى يقضى قضاؤها فله قيراطان ". قال: ما القيراط يا رسول الله؟ قال: " مثل أحد ".(24/396)
وسمع جده أبا سلام يحدث عن كعب الأحبار، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قال في يومٍ: سبحان الله وبحمده، مئتي مرة، غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ".
قال مروان: قلت لمعاوية بن سلام عجباً به لصدقه: إنك لشيخ كيسٌ.
ذكر لأحمد بن حنبل، فقال: ثقة.
وقال يحيى بن معين: معاوية بن سلام محدث أهل الشام، وهو صدوق الحديث، ومن لم يكتب حديثه مسنده ومنقطعه فليس بصاحب حديثٍ.
بلعني أن معاوية بن سلام حياً سنة أربع وستين ومئة.
معاوية بن صالح بن حدير
أبو عمرو الحضرمي، الحمصي. قاضي الأندلس حدث عن جماعةٍ من أهل دمشق.
روى عن جابر، عن المقدام بن معدي كرب
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما وعى ابن آدم وعاءً شراً من بطنٍ، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، وإن كان لا محالة فثلثٌ لطعامه وثلثٌ لشرابه وثلثٌ لنفسه ".(24/397)
وعن ربيعة بن يزيد، أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنكم تزعمون أني آخركم موتاً، وإني أولكم ذهاباً، ثم تأتون بعدي أفناداً يقتل بعضكم بعضاً ".
قال محمد بن سعد: وكان بالأندلس معاوية بن صالح، كان قاضياً لهم، وكان ثقةً كثير الحديث، حج من دهره حجةً واحدةً، ومر بالمدينة فلقيه من لقيه من أهل العراق.
قال يحيى بن صالح الوحاظي: خرج معاوية بن صالح من حمص سنة ثلاث وعشرين ومئة.
عن عبد الرحمن بن مهدي، قال: كنا بمكة نتذاكر الحديث، فبينا نحن كذلك إذا بإنسانٍ قد دخل فيما بيننا فسمع حديثنا، فقلت: من أنت؟ أنا معاوية بن صالح. فاحتوشناه.
عن أحمد بن محمد بن هانئ الطائي، قال: قال أبو عبد الله: معاوية بن صالح أصله حمصيٌّ، إلا أنه صار إلى الأندلس، كان زعموا على قضائها.
قال: وقلت لأبي عبد الله: معاوية بن صالح؟ قال: هو حمصيٌّ، إلا أنه وقع إلى الأندلس، وقد سمع من عبد الرحمن بن جبير بن نفير، ومن الحمصيين وحسن أمره. فقال الهيثم بن خارجة لأبي عبد الله: الحمصيون لا يروون عنه. فقال: قد روى عنه الفرج بن فضالة.
قال أبو عبد الله: خرج من عندهم قديماً، صار إلى الأندلس، وإنما سمع الناس منه حين حج. فقال له الهيثم: حج سنة ثمانٍ وستين. فقال الهيثم: بلغني أنه أقام على مالك حتى كتب كتبه.
فقال أبو عبد الله: قد بلعني ذاك.
قال أحمد بن حنبل: وكان ثقة.(24/398)
وقال العجلي: حمصيٌّ، ثقةٌ.
وقال يعقوب بن شيبة: وقد حمل الناس عن معاوية بن صالح، ومنهم من يرى أنه وسط ليس بالثبت ولا بالضعيف، ومنهم من يضعفه.
توفي سنة ثمانٍ وخمسين ومئة.
معاوية بن صالح بن أبي عبيد الله
معاوية بن عبيد الله بن يسار. أبو عبيد الله الأشعري روى عن يحيى بن معين، بسنده إلى عائشة، قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر الله على كل أحيانه.
وعن إبراهيم بن أبي العباس، بسنده إلى عوف بن مالك، قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالهجير وهو موعوك، فقال: " أطيعوني ما كنت بين أظهركم، وعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه ".
قال ابن يونس: قدم مصر، فكتب بها وكتب عنه، وكانت وفاته بدمشق سنة ثلاث وستين ومئتين.
معاوية بن صخر أبي سفيان بن حرب
ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو عبد الرحمن، الأموي خال المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين، أسلم يوم الفتح.(24/399)
وروي عنه أنه قال: أسلمت يوم القضية وكتمت إسلامي خوفاً من أبي، وصحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وروى عنه أحاديث، وروى عن أخته أم حبيبة، وولاه عمر بن الخطاب الشام، وأقره عثمان بن عفان عليها، وبنى بها الخضراء وسكنها أربعين سنة.
عن ابن عباس، أن معاوية أخبره أنه رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصر من شعره بمشقص. فقلنا لابن عباس: ما بلغنا هذا إلا عن معاوية. فقال: ما كان معاوية على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متهماً.
عن معاوية بن أبي سفيان، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الرجل يسألني الشيء فأمنعه حتى تشفعوا فتؤجروا ". وأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اشفعوا تؤجروا ".
قال أبو نعيم الحافظ: معاوية بن أبي سفيان، واسم أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية ين عبد شمس، يكنى أبا عبد الرحمن، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وأمها صفية بنت أمية بن حارثة بن الأوقص من بني سليم، وأمها بنت نوفل بن عبد مناف.
كان من الكتبة الحسبة الفصحة، أسلم قبيل الفتح، وقيل: عام القضية وهو ابن ثمان عشرة، عده ابن عباس من الفقهاء وقال: كان فقيهاً؛ توفي للنصف من رجب سنة ستين؛ وسنه نحو ثمانين سنة، وقيل: ثمان وسبعين.
كان أبيض طويلاً، أجلح، أبيض الرأس واللحية، أصابته لقوة في آخر عمره، وكان يقول: رحم الله عبداً دعا لي بالعافية وقد رميت في أحسني وما يبدو مني، ولولا(24/400)
هواي في يزيد لأبصرت رشدي؛ ولما اعتل قال: وددت أني لا أعمر فوق ثلاث؛ فقيل: إلى رحمة الله ومغفرته. فقال: إلى ما شاء وقضى، قد علم أني لم آل، وما كره الله غير.
وكان عنده قميص رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإزاره ورداؤه وشعره، فأوصاهم عند موته فقال: كفنوني في قميصه، وأدرجوني في ردائه، وآزروني بإزاره، واحشوا منخري وشدقي بشعره، وخلوا بيني وبين رحمة أرحم الراحمين.
كان حليماً وقوراً، ولي العمالة من قبل الخلفاء عشرين سنةً، واستولى على الإمارة بعد قتل علي عشرين سنةً، فكانت الجماعة عليه عشرين سنة، من سنة أربعين إلى سنة ستين.
فلما نزل به الموت قال: ليتني كنت رجلاً من قريش بذي طوى وأني لم أل من هذا الأمر شيئاً وكان يقول لا حلم إلا التجربة وقال ابن عباس ما رأيت رجلاً هو أخلق للملك من معاوية، لم يكن بالضيق الحصر. وقال ابن عمر: ما رأيت أحداً كان أسود من معاوية. وكان يقول: ما رأيت أطمع منه.
قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا معاوية، إذا ملكت فأسجح " فملك الناس كلهم عشرين سنة يسوسهم بالملك، يفتح الله به الفتوح، ويغزوا الروم، ويقسم الفيء والغنيمة، ويقيم الحدود، والله لايضيع أجر من أحسن عملاً.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد رجوعه من صفين: لا تكرهوا إمارة معاوية، والله لئن فقدتموه لكأني أنظر إلى الرؤوس تندر عن كواهلها كالحنظل.
قال أبو بكر الخطيب: أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة، وكان يقول: أسلمت عام القضية، ولقيت الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوضعت عنده إسلامي، واستكتبه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وولاه عمر بن الخطاب الشام(24/401)
بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان، فلم يزل عليها مدة خلافة عمر، وأقره عثمان بن عفان على عمله، ولما قتل علي بن أبي طالب سار معاوية من الشام إلى العراق فنزل بمسكن ناحية حربى إلى أن وجه إليه الحسن بن علي فصالحه، وقدم معاوية الكوفة، فبايع له الحسن بالخلافة، وسمي عام الجماعة.
عن إسماعيل بن علي، قال: وكانت صفته - يعني معاوية - فيما حدثني البربري عن ابن أبي السري؛ طويلاً أبيض، جميلاً، إذا ضحك انقلبت شفته العليا، يخضب بالحناء والكتم.
عن إبراهيم بن قارط، قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو على المنبر بالمدينة يقول: أين فقهاؤكم يا أهل المدينة؟ إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن هذه القصة، ثم وضعها على رأٍسه فلم أر على عروس ولا على غيرها أجمل منها على معاوية ثم قال: لعن الله الواصلة والموصولة، والنامصة والمنموصة، والواشمة والموشومة.
عن صالح بن حسان، قال: رأى بعض متفرسي العرب معاوية وهو صبي صغير، فقال: إني لأظن هذا الغلام سيسود قومه. فقالت هند: ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه.
وعن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف، قال: نظر أبو سفيان يوماً إلى معاوية وهو غلام، فقال لهند: إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه. فقالت هند: قومه فقط؟ ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة.
وكانت هند تحمل معاوية وهو صغير، وتقول: " من الرجز "
إن بني معرق كريم ... محبب في أهله حليم
ليس بفحاش ولا لئيم ... ولا بطحرور لا سؤوم(24/402)
صخر بني فهر به زعيم ... لا يخلف الظن ولا يخيم
قال: فلما ولى عمر بن الخطاب يزيد بن أبي سفيان ما ولاه من الشام خرج إليه معاوية، فقال أبو سفيان لهند: كيف رأيت ابنك صار تابعاً لابني. فقالت: إن اضطرب حبل العرب فستعلم أين يقع ابنك مما يكون فيه ابني.
قال الزبير بن بكار: وركب البحر غازياً بالمسلمين في خلافة عثمان بن عفان إلى قبرص.
قال معاوية بن أبي سفيان: لما كان عام الحديبية وصدت قريش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن البيت، ودافعوه بالراح، وكتبوا بينهم القضية وقع الإسلام في قلبي، فذكرت ذلك لأمي هند بنت عتبة فقالت: إياك أن تخالف أباك، وأن تقطع أمراً دونه فيقطع عنك القوت، وكان أبي يومئذ غائباً في سوق حباشة.
قال: فأسلمت وأخفيت إسلامي، فوالله لقد رحل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الحديبية وإني مصدق به، وأنا على ذلك أكتمه من أبي سفيان، ودخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرة القضية وأنا مسلم مصدق به؛ وعلم أبو سفيان بإسلامي فقال لي يوماً: لكن أخوك خير منك، وهو على ديني. فقلت: لم آل نفسي خيراً.
قال: فدخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الفتح فأظهرت إسلامي ولقيته فرحب بي، وكتبت له.
قال محمد بن عمر:
وشهد معاوية بن أبي سفيان مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غنائم حنين مئة من الإبل وأربعين أوقية وزنها بلال.
عن جابر، قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتاني جبريل فقال: أتخذ معاوية كاتباً ".(24/403)
عن عائشة، قالت: لما كان يوم أم حبيبة من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دق الباب داق، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انظروا من هذا " قالوا: معاوية. قال: " ائذنوا له " فدخل وعلى أذنه قلم لم يخط به، فقال: " ما هذا القلم على أذنك يا معاوية؟ " قال: قلم أعددته لله ولرسوله. فقال: " جزاك الله عن نبيك خيراً، والله ما استكتبتك إلا بوحي من الله، وما أفعل من صغيرة ولا كبيرة إلا بوحي من الله عز وجل، كيف بك لو قمصك الله قميصاً - يعني الخلافة -؟ " فقامت أم حبيبة فجلست بين يديه فقالت: يا رسول الله، وإن الله مقمص أخي قميصاً؟ قال: " نعم، ولكن فيه هنات وهنات وهنات " فقالت: يا رسول الله، فأدع الله له. فقال: " اللهم اهده بالهدى، وجنبه الردى، واغفر له في الآخرة والأولى ".
عن يزيد بن عبد الله الطبري، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت علي بن أبي طالب بخطب على منبر الكوفة وهو يقول: والله لأخرجنها من عنقي ولأضعنها في رقابكم، ألا إن خير الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر الصديق ثم عمر ثم عثمان ثم أنا، ما قلت ذلك من قبل نفسي، ولأخرجن ما في عنقي لمعاوية بن أبي سفيان، لقد استكتبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا جالس بين يديه، فأخذ القلم فجعله في يده، فلم أجد من ذلك في قلبي إذ علمت أن ذلك لم يكن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان من الله عز وجل، ألا إن المسلم من سلم من قصتي وقصته.
عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هبط علي جبريل ومعه قلم من ذهب إبريز فقال لي: إن العلي الأعلى يقرئك السلام وهو يقول لك: حبيبي، قد أهديت القلم من فوق عرشي إلى معاوية بن أبي سفيان، فأوصله إليه، ومره أن يكتب آية الكرسي بخطه بهذا القلم، ويشكله ويعجمه، ويعرضه عليك، فإني قد كتبت له من الثواب بعدد كل من قرأ آية الكرسي من ساعة يكتبها إلى يوم القيامة ". فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من يأتيني بأبي عبد الرحمن؟ " فقام أبو بكر الصديق ومضى حتى أخذ بيده وجاءا جميعاً إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسلموا عليه، فرد السلام، ثم قال لمعاوية: " أدن مني يا أبا عبد الرحمن، أدن مني يا أبا عبد الرحمن ". فدنا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدفع إليه القلم، ثم قال له: "(24/404)
يا معاوية، هذا قلم قد أهداه إليك ربك من فوق عرشه لتكتب به آية الكرسي بخطك، وتشكله وتعجمه وتعرضه علي، فأحمد الله واشكره على ما أعطاك، فإن الله قد كتب لك من الثواب بعدد من قرأ آية الكرسي من ساعة تكتبها إلى يوم القيامة ".
قال: فأخذ القلم من يد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوضعه فوق أذنه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم إنك تعلم أني قد أوصلته إليه، اللهم إنك تعلم أني قد أوصلته إليه ثلاثاً ".
قال: فجثا معاوية بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يزل يحمد الله على ما أعطاه من الكرامة ويشكره حتى أتي بطرس ومحبرة، فأخذ القلم ولم يزل يخط به آية الكرسي أحسن ما يكون من الخط، حتى كتبها وشكلها وعرضها على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا معاوية، إن الله قد كتب لك من الثواب بعدد كل من يقرأ آية الكرسي من ساعة كتبتها إلى يوم القيامة ".
نجز الجزء الرابع والعشرون ويتلوه في الخامس والعشرين تتمة معاوية بن أبي سفيان اختصره على نهج ابن منظور الفقير إلى رحمة ربه إبراهيم بن حسين بن صالح، عقا الله عنه وفرغ منه صبيحة الإثنين لتسع بقين من ذي الحجة الحرام وذلك سنة تسع وأربعمئة وألف من هجرة سيد الأنام الحمد لله رب العالمين كما هو أهله، وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل.(24/405)
وعن سعيد بن المسيب قال: دخل أبو سفيان بن حرب على عثمان بن عفان فقال: يا أمير المؤمنين! كيف رضاك عن معاوية؟ قال: كيف لا أرضى وقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول: هنيئاً لك يا معاوية، لقد أصبحت أنت أميناً على خبر السماء.
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
الأمناء عند الله ثلاثة: جبريل، وأنا، ومعاوية.
قال الخطيب: هذا الحديث بهذا الإسناد باطل.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائتمن الله على وحيه ثلاثة: جبريل في السماء: ومحمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأرض؛ ومعاوية بن أبي سفيان.
قال ابن عدي: وهذا باطل بهذا الإسناد.(25/5)
وعن ابن عباس وحيان بن عبد الله الأنصاري قالا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأمناء عند الله سبعة. قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال: القلم، واللوح، وإسرافيل، وميكائيل، وجبريل، وأنا، ومعاوية بن أبي سفيان، فإذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل للقلم: إلى من أديت الوحي؟ فيقول: إلى اللوح، فيقول الله للوح: إلى من أديت الوحي؟ فيقول: إلى إسرافيل. فيقول الله لإسرافيل: إلى من أديت الوحي؟ فيقول: إلى ميكائيل. فيقول الله لميكائيل: إلى من أديت الوحي؟ فيقول: الله أعلم إلى جبريل. فيقول الله لجبريل: إلى من أديت الوحي؟ فيقول: إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فيقول الله لمحمد: من ائتمنت على الوحي؟ فأقول: معاوية، كذا أخبرني جبريل عنك يا رب أنك قلت: إنه أمين في الدنيا والآخرة. فيقول الله: صدق القلم، وصدق اللوح، وصدق إسرافيل، وصدق ميكائيل، وصدق جبريل، وصدق محمد، وصدقت أنا، إن معاوية أمين في الدنيا والآخرة.
قال: هذا على إنكاره غير متصل الإسناد.
وعن قيس بن أبي حازم قال: جاء رجل إلى معاوية فسأله عن مسألة فقال: سل عنها علي بن أبي طالب فهو أعلم. فقال: أريد جوابك يا أمير المؤمنين فيها. فقال: ويحك! لقد كرهت رجلاً كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغره بالعلم غراً ولقد قال له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي. ولقد كان عمر بن الخطاب يسأله فيأخذ عنه، وكان إذا أشكل على عمر شيء قال: ها هنا علي. قم لا أقام الله رجليك. ومحا أسمه من الديوان، فبلغ ذلك علياً فقال: جزاه الله خيراً، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأذني وإلا صمتا يقول له: أنت يا معاوية أحد أمناء الله، اللهم علمه الكتاب ومكن له في البلاد.
وعن واثلة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله ائتمن على وحيه جبريل وأنا معاوية، وكاد أن يبعث معاوية نبياً من كثرة حلمه وائتمانه على كلام ربي فغفر لمعاوية ذنوبه ووفاه حسابه، وعلمه كتابه، وجعله هادياً مهدياً وهدى به.(25/6)
وعن العرباض بن سارية السلمي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يدعو نا إلى السحور في شهر رمضان وهو يقول: هلموا إلى الغداء المبارك. قال: وسمعته يقول: اللهم علم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب.
وعن مسلمة بن مخلد: أنه قال لعمرو بن العاص ورأى معاوية يأكل فقال: إن ابن عمك هذا لمخضد! ثم قال: أما إني أقول ذلك وقد سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم علمه الكتاب، ومكن له في البلاد، وقه العذاب.
وعن الزهري: أن معاوية كان يكتب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إليه فأعجبه كتابه فقال: اللهم علمه الكتاب والحساب، وقه العذاب.
وعن عروة بن رويم قال: دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاوية فقال: اللهم أهده وأهد به، وعلمه والكتاب والحساب، وقه العذاب.
وعن ربيعة بن يزيد: أن بعثاً من أهل الشام كانوا مرابطين بآمد، وكان على حمص عمير بن سعد، فعزله عثمان وولى معاوية، فبلغ ذلك أهل حمص، فشق عليهم، فقال عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لمعاوية: اللهم أجعله هادياً مهدياً، وأهده وأهد به.(25/7)
وفي رواية: وأهده وأهد على يديه.
قال: تكون بيعة ببيت المقدس بيعة هدى. فكانت بيعة معاوية.
وعن عبد الله بن بسر قال: أستشار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر وعمر في أمر أراده، فقالا: الله ورسوله أعلم.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أدعوا لي معاوية. فلما وقف عليه قال: أحضروه أمركم، حملوه أمركم، أشهدوه أمركم فإنه قوي.
زاد في آخر: معناه فإنه قوي أمين.
وعن ابن عمر قال: كنت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورجلان من أصحابه فقال: لو كان معاوية عندنا لشاورناه في بعض أمرنا. فكأنهما دخلهما من ذلك شيء! فقال: إنه أوحي إلي أن أشاور ابن أبي سفيان في بعض أمري.
وعن موسى بن طلحة قال:
بعثني أبي أدعو له معاوية، فوجدته مشغولاً بالنساء، فقال: قل له: أفرغ ثم آتيك. فرجعت إلى أبي فأخبرته فقال: أرجع فقل له: أعجل. فرجعت فإذا هو قد أقبل، فرجعت إلى أبي فقلت: هو ذا قد جاء مقبلاً. فلما رآه قال: أما إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنه لموفق الأمر أو رشيد الأمر.
وعن رويم قال: جاء أعرابي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله صارعني؛ فقام إليه معاوية فقال: يا أعرابي! أنا أصارعك. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لن يغلب معاوية أبداً. فصرع الأعرابي. قال: فلما كان يوم صفين قال علي: لو ذكرت هذا الحديث ما قاتلت معاوية.(25/8)
وعن أبي هريرة قال: أردف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاوية فقال له: يا معاوية! ما يليني منك؟ قال: وجهي. فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقاه الله النار. ثم قال: يا معاوية! ما يليني منك؟ قال: صدري قال: حشاه الله علماً وإيماناً ونوراً. ثم قال: يا معاوية! ما يليني منك؟ قال: بطني. قال: عصمه الله يما عصم به الأولياء. ثم قال: يا معاوية! ما يليني منك؟ قال: كلي. قال: غفر الله لك، ووقاك الحساب، وعلمك الكتاب، وجعلك هادياً مهدياً، وهداك وهدى بك.
وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: معاوية أحلم أمتي وأجودها.
وعن أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية جلوس عنده، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل الرطب وهم يأكلون معه، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلقمهم، قال معاوية: يا رسول الله! تأكل وتلقمنا!؟ قال: نعم، هكذا نأكل في الجنة، ويلقم بعضنا بعضاً.
وعن أبي موسى الأشعري قال: دخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أم حبيبة ورأس معاوية في حجرها تفليه، فقال لها: أتحبينه؟ قالت: وما لي لا أحب أخي؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فإن الله ورسوله يحبانه.
وعن أبي الدرداء قال: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أم حبيبة ومعاوية عندنا نائم على السرير، فقال: من هذا يا أم حبيبة؟ فقالت: أخي معاوية يا رسول الله. قال: فتحبينه؟ فقالت: إي والله إني لأحبه. فقال: يا أم حبيبة! فإني أحب معاوية وأحب من يحب معاوية، وجبريل وميكائيل يحبان معاوية، والله أشد حباً لمعاوية من جبريل وميكائيل.
وعن ابن عباس قال: جاء جبريل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بورقة آس أخضر، مكتوب عليها لا إله إلا الله، حب معاوية بن أبي سفيان فرض مني على عبادي.(25/9)
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشاك في فضلك يا معاوية تنشق الأرض عنه يوم القيامة وفي عنقه طوق من نار، له ثلاث مئة شعبة، على كل شعبة شيطان يكلح في وجهه مقدار عمر الدنيا.
وعن ابن عمر قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ليلين بعض مدائن الشام رجل عزيز منيع هو مني وأنا منه. فقال له رجل: من هو يا رسول الله؟ قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقضيب كان بيده في قفا معاوية: هو هذا.
هذا الحديث منكر الإسناد.
وعن عبد الرحمن بن عوف الجرشي قال: ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشام، قال رجل من القوم: كيف لنا بالشام يا رسول الله وفيها الروم ذات القرون؟ فقال: أجل إن فيها لأقواماً أنتم أحقر في أعينهم من القردان في أستاه الإبل. قال: ثم ذكر الشام أيضاً فقال: لعل أن يكفيناها غلام من غلمان قريش. وبيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عصا، فأهوى بها إلى منكب معاوية.
وفي حديث بمعناه: وفي يد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عصا فضرب بها كتف معاوية وقال: لعل هذا إذاً كافيناها هو.
عن ابن عمر قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع زوجته أم حبيبة في قبة من أدم، فأقبل معاوية فقال لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أم حبيبة! هذا أخوك قد أقبل، أما إنه يبعث يوم القيامة عليه رداء من نور الإيمان.(25/10)
وعن سعد بن أبي وقاص يقول لحذيفة: ألست شاهد يوم قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاوية: يحشر يوم القيامة معاوية بن أبي سفيان وعليه حلة من نور، ظاهرها من الرحمة، وباطنها من الرضا، يفتخر بها في الجمع، لكتابة الوحي بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال حذيفة: نعم.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يخرج معاوية من قبره وعليه رداء من السندس والإستبرق، مرصع بالدر والياقوت، عليه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب.
وعن أبي بكر قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الركن والمقام، رافعاً يديه إلى السماء حتى رأيت بياض إبطيه وهو يقول: اللهم حرم بدن معاوية على النار، اللهم حرم النار على معاوية.
وعن مكحول قال: دفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى معاوية سهمين فقال: هذه السهمان سهم الإسلام، خذها فتلقني بهما في الجنة. فلما مات معاوية جعلا معه في قبره. ولما حلق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه بمنى دفع إلى معاوية من شعره فصانه، فلما مات معاوية جعل شعر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عينيه.
وعن يعيش بن هشام قال: كنت عند مالك بن أنس، فجاءه رسول أمير المؤمنين فقال له: أمير المؤمنين يقول لك: لا تحدث هذا الحديث. فقال مالك بن أنس: " إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب " الآية، لأحدثن به الساعة ثم لا أحدث به أبداً:(25/11)
حدثني نافع عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهدي له سفرجل، فأعطي أصحابه سفرجلة سفرجلة، وأعطي معاوية ثلاث سفرجلات، قال: ألقني بهن في الجنة.
وعن أبي هريرة قال: قدم جعفر بن أبي طالب من بعض أسفاره ومعه شيء من السفرجل، فأهداه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ في منزل أبي بكر الصديق - إذ دخل معاوية بن أبي سفيان فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجعفر: أني لك هذا؟ فقال: أهداه إلي رجل شاب حسن الهيئة في بعض أسفاري، فأحببت أن أهديه إليك يا رسول الله. فأكل منه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذ منه واحدة وأعطاها معاوية وقال: هاك، توافيني في الجنة مثلها. وقال: يا معاوية! من مثلك؟! أخذت اليوم من هدايا ثلاثة كلهم في الجنة، وأنت رابعهم؛ يا جعفر! هل تدري من المهدي إليك السفرجل؟ قال: لا. قال: ذاك جبريل وهو سيد الملائكة، وأنا سيد الأنبياء، وجعفر سيد الشهداء، وأنت يا معاوية سيد الأمناء.
قال أبو هريرة: فو الله لا زلت أحبه بعد ذلك مما سمعت من فضله من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن ابن عمر قال: كنت عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة. فطلع معاوية، ثم قال الغد مثل ذلك، فطلع معاوية، فقمت إليه، فأقبلت بوجهه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله! هو هذا؟ قال: نعم يا معاوية، أنت مني وأنا منك لتزاحمني على باب الجنة كهاتين. وقال بأصبعه السبابة والوسطى يحركهما.
حدث عمرو بن يحيى عن جده: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محمداً المصطفى نبي الرحمة، كان ذات يوم جالساً بين أصحابه إذ قال: يدخل عليكم من باب المسجد في هذا اليوم رجل من أهل الجنة يفرحني الله به. فقال أبو هريرة: فتطاولت لها، فإذا نحن بمعاوية بن أبي سفيان قد دخل، فقلت: يا رسول(25/12)
الله! هذا هو؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم يا أبا هريرة، هو هو. يقولها ثلاثاً، ثم قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا هريرة! إن في جهنم كلاباً زرق الأعين، على أعرافها شعر كأمثال أذناب الخيل، لو أذن الله تبارك وتعالى لكلب منها أن يبلغ السماوات السبع في لقمة واحدة لهان ذلك عليه، يسلط يوم القيامة على من لعن معاوية بن أبي سفيان.
قال: هذا منقطع.
وعن ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة يدعى بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعاوية فيوقفان بين يدي الله، فيطوق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطوق ياقوت أحمر، ويسور بثلاثة أسورة من لؤلؤ، فيأخذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطوق، فيطوق معاوية ثم يسوره بثلاثة أسورة، فيقول الله: يا محمد! تتسخى علي وأنا السخي، وأنا الذي لا أبخل! فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا هي وسيدي، كنت ضمنت لمعاوية في دار الدنيا ضماناً فأوفيته ما ضمنت له بين يديك يا رب. فتبسم الرب إليهما ثم يقول: خذ بيد صاحبك وأنطلقا إلى الجنة جميعاً.
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لا أفتقد أحداً من أصحابي غير معاوية بن أبي سفيان، فإني لا أراه ثمانين عاماً أو سبعين عاماً، فإذا كان بعد ثمانين عاماً أو سبعين عاماً يقبل علي على ناقة من المسك الأذفر، حشوها من رحمة الله، قوائمها من الزبرجد فأقول: معاوية؟ فيقول: لبيك يا محمد فأقول: أين كنت من ثمانين عاماً؟ فيقول: في روضة تحت عرش ربي، يناجيني وأناجيه ويحييني وأحييه ويقول: هذا عوض مما كنت تشتم في دار الدنيا.
هذا حديث موضوع، باطل إسناداً ومتناً.
وعن أم حبيبة قالت: دخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخي معاوية راقداً على فراشه، قالت: فذهبت لأنحيه، قال: دعيه، كأني أنظر إليه في الجنة يتكئ على أريكته.(25/13)
وعن ابن عباس: في هذه الآية: " عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة " قال: كانت المودة التي جعل الله تعالى بينهم تزويج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين، وصار معاوية خال المؤمنين.
قال البيهقي: كذا في رواية الكلبي، وذهب علماؤنا إلى أن هذا حكم لا يتعدى أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهن يصرن أمهات المؤمنين في التحريم، ولا يتعدى هذا التحريم إلى إخوتهن ولا إلى أخواتهن، ولا إلى بناتهن، والله أعلم.
وعن عياض الأنصاري - وكانت له صحبة - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحفظوني في أصحابي وأصهاري، فمن حفظني فيهم حفظه الله في الدنيا والآخرة، ومن لم يحفظني فيهم تخلى الله منه، ومن تخلى الله منه أوشك أن يأخذه.
وعن أنس بن مالك قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعوا لي أصحابي وصهري.
وعن أنس بن مالك قال: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن صلى العصر إلى بيت أم حبيبة فقال: يا أنس! صر إلى منزل فاطمة. وأعطاني أربع موزات فقال لي: يا أنس! واحدة للحسن، وواحدة للحسين، وأثنتين لفاطمة، وصر إلي. ففعلت، وصرت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت أم حبيبة: يا رسول الله! تفاضل أصحابك من قريش، ويفتخرون على أخي بما بايعوك تحت الشجرة! فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يفتخرن أحد على أحد، فلقد بايع كما بايعوا. وخرج مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرجت معه فقعد على باب المسجد، فطلع أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الناس، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر: يا أبا بكر! قال: لبيك يا رسول الله. قال: تحفظ من أول من بايعني ونحن تحت الشجرة؟ قال أبو بكر: أنا(25/14)
يا رسول الله، وعمر، وعلي بن أبي طالب. فرفع عثمان رأسه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا بكر! إذا غبت أنا فعثمان، وإذا غاب عثمان فأنا. فضحك أبو بكر وقال: عثمان يا رسول الله، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثم من؟ قال: هؤلاء الذين كانوا وكنا. قال: وأين معاوية؟ قال: لم يكن معنا بالحضرة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي بعثني بالحق نبياً لقد بايع معاوية بن أبي سفيان كما بايعتم. قال أبو بكر: ما علمنا يا رسول الله. قال: إنه في وقت ما قبض الله تعالى قبضة من الذر قال: في الجنة ولا أبالي، كنت أنت يا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، ومعاوية بن أبي سفيان في تلك القبضة؛ ولقد بايع كما بايعتم، ونصح كما نصحتم، وغفر الله له كما غفر لكم، وأباحه الجنة كما أباحكم.
وعن أبي هريرة قال:
خرجت من بيتي هارباً بجوعي، فقلت: أمضي إلى منزل أبي بكر، قلت: عثمان أطيب لقمة؛ فأنا مار إلى منزل عثمان إذ رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على باب الزبير بن العوام يأكل طعاماً فقلت: أشهد، لأعارضن بوجهي وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعارضت بوجهي وجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لي: أقبل يا أبا هريرة، إني لأعرف من ضعف أسبابك ما أعرف، وبين يدي طعام طيب، أدن فكل. فدنوت فإذا هو يأكل البطيخ بالرطب، فو الله لقد أكلت بيدي وأكل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده، وأكل الزبير بن العوام بيده ومعاوية لا يمد يده ولا يهوي إلى الطعام، إلا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رأى رطبة طيبة أخذها ووضع عليها قطعة بطيخ ووضعها في في معاوية وقال: كل على رغم أنف الراغمين. فطالت علي ليلتي حتى أصبحت، فجئت إلى الزبير فقلت: أرأيت ما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمعاوية؟ قال: هو أوصاه بذلك. فقلت له: كيف كان؟ قال: جئت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله عندي طعام طيب، وقد أحببت أن تأكل منه. فأخذ بيد معاوية وقال له: هو ذا، نصير إلى منزل الزبير بن العوام، فيضع بين أيدينا طعاماً طيباً فبحقي عليك، لا تأكل حتى أطعمك بيدي.
قال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: لا يصح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فضل معاوية بن أبي سفيان شيء، وأصح ما روي في فضل معاوية حديث ابن عباس. أنه كان كاتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(25/15)
وأخرجه مسلم في صحيحه؛ وبعده حديث العرباض: اللهم علمه الكتاب؛ وبعده حديث ابن أبي عميرة: اللهم أجعله هادياً مهدياً.
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: بينا أنا راقد في كنيسة يوحنا - وهي يؤمئذ مسجد يصلى فيها - إذ أنتبهت في نومي، فإذا أنا بأسد يمشي بين يدي، فوثبت إلى سلاحي، فقال الأسد: مه إنما أرسلت إليك برسالة لتبلغها. قلت: ومن أرسلك؟ قال: الله أرسلني إليك لتبلغ معاوية السلام وتعلمه أنه من أهل الجنة. فقال له: ومن معاوية؟ قال: معاوية بن أبي سفيان.
وفي رواية: أرسلني إليك الله لأن تعلم معاوية الرحال أنه من أهل الجنة. قلت: من معاوية؟ قال: ابن أبي سفيان.
لما قدم وفد بني حنيفة على عبد الملك بن مروان قال عبد الملك: هل فيكم من حضر قتل مسيلمة؟ فقال رجل منهم: نعم. فأنشأ يحدثه بالوقعة التي كانت بينهم. قال عبد الملك: فمن ولي قتل مسيلمة؟ قال: رجل أصبح الوجه، كذا وكذا. فقال عبد الملك: قضيت والله لمعاوية. قال خالد: وكان معاوية يدعي ذلك.
كان أبو هريرة يحمل الإداوة فمرض، فأخذها معاوية فحملها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع رأسه مرة أو مرتين فقال: يا معاوية! إن وليت أمراً فاتق الله وأعدل. قال: فما زلت أظن أني مبتلي بالعمل لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أبتليت.
وعن الحسن قال: سمعت معاوية يخطب وهو يقول: صببت يوماً على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضوءه، فرفع(25/16)
رأسه إلي فقال: أما إنك ستلي أمر أمتي بعدي، فإذا كان ذلك فأقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم. فما زلت أرجوها حتى قمت مقامي.
وعن عبد الملك بن عمير قال: قال معاوية: والله ما حملني على الخلافة إلا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لي: يا معاوية! إن ملكت فأحسن.
ولما قدم عمر الجابية نزع شرحبيل، وأمر عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر، وبقي الشام على أميرين: أبو عبيدة بن الجراج ويزيد بن أبي سفيان؛ ثم توفي أبو عبيدة في طاعون عمواس وأستخلف عياض بن غنم، ثم توفي يزيد بن أبي سفيان، فأمر معاوية بن أبي سفيان مكانه، ثم نعاه عمر لأبي سفيان فقال: يا أبا سفيان! أحتسب يزيد. قال: من أمرت مكانه؟ قال: معاوية. قال: وصلتك يا أمير المؤمنين رحم. فكان على الشام معاوية وعمير بن سعد حتى قتل عمر.
فأقر عمر معاوية وولي عمرو بن العاص فلسطين والأردن، ومعاوية دمشق وبعلبك والبلقاء، وولي سعيد بن عامر بن حذيم حمص، ثم جمع الشام كلها لمعاوية، وأقر عثمان معاوية على الشام.
ولما عزيت هند على يزيد بن أبي سفيان قيل: إن الله تعالى قد جعل معاوية خلفاً من يزيد وغيره. فقالت: أو مثل معاوية يجعل خلفاً من أحد؟! فو الله لو أن العرب(25/17)
أجتمعت متوافرة ثم رمي به فيها لخرج من أي أعراضها شاء.
وعزى عمر أبا سفيان بابنه يزيد، فقال له أبو سفيان: من جعلت على عمله؟ قال: جعلت أخاه معاوية؛ وأبناك مصلحان، ولا يحل لنا أن ننزع مصلحاً.
وعن إسماعيل بن أمية: أن عمر بن الخطاب أفرد معاوية بالشام ورزقه ثمانين ديناراً في كل شهر.
وقيل: إن الذي أفرد معاوية بالشام عثمان بن عفان.
ذكر معاوية عند عمر بن الخطاب فقال: دعونا من ذم فتى قريش وابن سيدها، من يضحك في الغضب، ولا ينال على الرضا، ومن لا يأخذ ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه.
ولما خرج عمر إلى الشام وقرب من دمشق تلقاه معاوية في موكب له رز، وعمر على حمار إلى جانبه عبد الرحمن بن عوف على حمار آخر، فلم يرهما معاوية فطواهما، فقيل له: خلفت أمير المؤمنين وراءك، فرجع، فلما رآه نزل عن دابته، فأعرض عنه عمر، ومشى حتى تعلق نفسه بأرنبته، فقال له عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين! أجهدت الرجل، فقال: عمر: يا معاوية: نعم. فرفع عمر صوته فقال: ولم ويلك؟! فقال: إني في بلاد لا يمتنع فيها من جواسيس العدو، ولا بد لهم مما يرهبهم من آلة السلطان، فإن أمرتني أقمت عليه، وإن نهيتني عنه أنتهيت. فقال عمر: يا معاوية! والله ما بلغني عنك أمر أكرهه فأعاتبك عليه إلا تركتني منه في أضيق من رواجب الضرس، فإن كان ما قلت حقاً إنه لرأي أديب، وإن كان باطلاً إنها لخدعة أريب، لا آمرك به ولا أنهاك عنه. فقال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين! لأحسن الفتى المصدر فيما أوردته فيه! فقال عمر: لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه.(25/18)
وعن أسلم مولى عمر قال: قدم علينا معاوية بن أبي سفيان وهو أبيض - أو أبض - الناس وأجملهم، فخرج إلى الحج مع عمر وكان عمر ينظر إليه، فيعجب له، ثم يضع أصبعه على متنه ثم يرفعها عن مثل الشراك فيقول: بخ بخ! نحن إذاً خير الناس أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة! فقال معاوية: يا أمير المؤمنين! سأحدثك: إنا بأرض الحمامات والريف. فقال عمر: سأحدثك: ما بك إلطافك نفسك بأطيب الطعام ونضيجه حتى نضرت الشمس متنيك، وذو الحاجات وراء الباب!. قال: فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حلة فلبسها، فوجد عمر منها ريحاً كأنه ريح طيب فقال: يعمد أحدكم يخرج حاجاً تفلاً، حتى إذا جاء أعظم بلدان الله حرمة، أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما! فقال معاوية: إنما لبستهما لأن أدخل فيهما على عشيرتي - أو قومي - والله لقد بلغني أذاك هنا وبالشام، والله يعلم أني لقد عرفت الحياء فيه. ونزع معاوية الثوبين ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما.
كان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب.
وعن عمر أنه قال: تعجبون من دهاء هرقل وكسرى وتدعون معاوية!.
دخل معاوية على عمر بن الخطاب وعليه حلة خضراء، فنظر إليها أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما رأى ذلك عمر وثب إليه ومعه الدرة، فجعل ضرباً لمعاوية ومعاوية يقول: الله الله يا أمير المؤمنين! فيم فيم؟ قال: فلم يكلمه حتى رجع فجلس في مجلسه فقال له القوم: لم ضربت الفتى يا أمير المؤمنين؟! ما في قومك مثله. فقال: والله ما رأيت إلا خيراً وما بلغني إلا خير، ولكني رأيته.. وأشار بيده، فأحببت أن أضع منه.(25/19)
وفي سنة تسع عشرة فتحت قيسارية؛ أميرها معاوية بن أبي سفيان وسعيد بن عامر بن حذيم، كل أمير على جنده، فهزم الله المشركين، وقتل منهم مقتلة عظيمة.
وغزا معاوية قبرس سنة خمس وعشرين ومعه أمرأته فاختة ابنة قرظة.
وقيل: إن قبرس وإصطخر كانا في عام واحد، سنة ثمان وعشرين وأمير قبرس معاوية بن أبي سفيان.
وكان عام المضيق من قسطنطينية سنة ثنتين وثلاثين، وأميرها معاوية. وفي سنة ثلاث وثلاثين غزا معاوية ملطية وإفريطية، وحصن المرأة من أرض الروم.
ولما أستخلف عثمان أفراد معاوية بالشام جميعاً. فأستقضى فضالة بن عبيد بن نافذ الأنصاري. وشخص أبو سفيان ابن حرب إلى معاوية بالشام ومعه ابناه عتبة وعنبسة؛ فكتبت هند إلى معاوية: قد قدم عليك أبوك وأخواك فاحمل أباك على فرس، وأعطه أربعة آلاف درهم. ففعل معاوية ذلك؛ فقال أبو سفيان: أشهد بالله أن هذا لعن(25/20)
رأي هند. فلما قتل عثمان كتبت نائلة ابنة الفرافصة إلى معاوية كتاباً تصف فيه كيف دخل على عثمان وكيف قتل، وبعثت إليه بقميصه الذي قتل وهو عليه، فيه دمه، فقرأ معاوية الكتاب على أهل الشام، وأمر بقميص عثمان فطيف به في أجناد الشام ونعى إليهم عثمان، وأخبرهم بما أتي إليه واستحل من حرمته؛ وحرضهم على الطلب بدمه فبايعوه على الطلب بدم عثمان، وبويع علي بن أبي طالب بالمدينة، فقال له عبد الله بن العباس والحسن بن علي: اكتب إلى معاوية فأقره على عمله ولا تحركه، وأطمعه فإنه سيطمع، ويكفيك عهد الله وميثاقه أن لا أعزله. فقالا: لا تعطه عهداً ولا ميثاقاً. وبلغ ذلك معاوية فقال: والله لا ألي له شيئاً أبداً ولا أبايعه ولا أقدم عليه. وأظهر بالشام أن الزبير بن العوام قادم عليهم وأنه يبايع له. فلما بلغه خروج الزبير وطلحة إلى الجمل أمسك عن ذكره؛ فلما بلغه قتل الزبير قال: يرحم الله أبا عبد الله، أما إنه لو قدم علينا لبايعنا له، وكان أهلاً أن نقدمه لها. فلما أنصرف علي من البصرة أرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية، فكلمه وعظم عليه أمر علي وسابقته في الإسلام، ومكانه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأجتماع الناس عليه؛ وأراده على الدخول في طاعته والبيعة له. فأبى، وجرى بينه وبين جرير كلام كثير. فأنصرف جرير إلى علي فأخبره بذلك، فذلك حين أجمع علي على الخروج إلى صفين، وبعث معاوية أبا مسلم الخولاني إلى علي بأشياء يطلبها منه، ويسأله أن يدفع إليه قتلة عثمان حتى يقتلهم به، فإنه إن لم يفعل ذلك أنهج للقوم - يعني أهل الشام - بصائرهم لقتاله. فأبى علي أن يفعل. فرجع أبو مسلم إلى معاوية، فأخبره بما رأى من علي وأصحابه.
وجرت بين علي ومعاوية كتب ورسائل كثيرة، ثم أجمع علي على الخروج من الكوفة يريد معاوية بالشام. وبلغ ذلك معاوية، فخرج في أهل الشام يريد علياً، فالتقوا بصفين لسبع ليال بقين من المحرم سنة سبع وثلاثين، فلما كان هلال صفر نشبت الحرب بينهم، فاقتتلوا أيام صفين قتالاً شديداً حتى هر الناس القتال وكرهوا الحرب، فرفع أهل الشام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه. وكان ذلك مكيدة من(25/21)
عمرو بن العاص، فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتاباً على أن يوافوا رأس الحول أذرح، ويحكموا حكمين ينظران في أمور الناس فيرضون بحكمهما، فحكم علي أبا موسى الأشعري وحكم معاوية عمرو بن العاص، وتفرق الناس. فرجع علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل، واختلف عليه أصحابه، فخرج عليه الخوارج من أصحابه ومن كان معه وأنكروا تحكيمه وقالوا: لا حكم إلا لله. ورجع معاوية إلى الشام بالألفة واجتماع الكلمة عليه، ووافى الحكمان بعد الحول بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين.
واجتمع الناس إليهما وكان بينهما كلام اجتمعا عليه في السر، ثم خالفه عمرو بن العاص في العلانية، فقدم أبا موسى فتكلم وخلع علياً ومعاوية، ثم تكلم عمرو بن العاص فخلع علياً وأقر معاوية. فتفرق الحكمان ومن كان اجتمع إليهما، وبايع أهل الشام معاوية بالخلافة في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين، وبعث معاوية على الحج سنة تسع وثلاثين يزيد بن شجرة، وبعث علي في هذه السنة على الموسم عبيد الله بن العباس فاجتمعا بمكة فسأل كل واحد منهما صاحبه أن يسلم إليه؛ فأتيا جميعاً واصطلحا على أن يصلي بالناس ويحج بهم تلك السنة شيبة بن عثمان العبدري. وكان معاوية يبعث الغارات فيقتلون من كان في طاعة علي، ومن أعان على قتل عثمان؛ فبعث بسر بن أرطاة العامري إلى المدينة واليمن ومكة يستعرض الناس، فقتل باليمن عبد الرحمن وقثماً ابني عبيد الله بن عباس. ثم قتل علي بن أبي طالب في شهر رمضان سنة أربعين، فحج بالناس تلك السنة المغيرة بن شعبة بكتاب افتعله من معاوية بن أبي سفيان. وصالح الحسن بن علي معاوية وسلم له الأمر، وبايعه الناس جميعاً، فسمي عام الجماعة.
واستعمل معاوية المغيرة بن شعبة تلك السنة على الكوفة على صلاتها وحربها؛ واستعمل على الخراج عبد الله بن دراج مولاه، واستعمل على البصرة عبد الله بن عامر بن(25/22)
كريز، واستعمل على المدينة أخاه عتبة بن أبي سفيان، ثم عزله واستعمل مروان بن الحكم سنة اثنتين وأربعين، واستعمل عمرو بن العاص على مصر، وأقر فضالة بن عبيد على قضائه بالشام، وكان يولي الحج كل سنة رجلاً من أهل بيته، ويولي الصوائف والمشاتي بأرض الروم كل سنة رجلاً. وحج بالناس معاوية سنة خمسين ومر بالمدينة وولى يزيد بن معاوية الموسم، فحج بالناس سنة إحدى وخمسين، ثم أعتمر معاوية في رجب سنة ست وخمسين، وقدم المدينة، فكان بينه وبين الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير ما كان من الكلام في البيعة ليزيد بن معاوية وقال: إني أتكلم بكلام فلا تردوا علي شيئاً فأقتلكم؛ فخطب الناس وأظهر أنهم قد بايعوا، وسكت القوم، فلم يقروا ولم ينكروا خوفاً منه.
ورحل معاوية من المدينة على هذا، وأدعى معاوية زياد بن أبي سفيان فولاه الكوفة بعد المغيرة بن شعبة فكتب إليه في حجر بن عدي وأصحابه، وحملهم إليه، فقتله معاوية بالشام بمرج عذراء، وضم معاوية البصرة إلى زياد، ومات زياد فولى معاوية الكوفة والبصرة ابنه عبيد الله بن زياد.
كان كعب يحدث فجاء معاوية فقال: ما هذه الأحاديث يا كعب ابن أم كعب؟ قال: نعم والله يا معاوية، إن لله داراً فيها سبعون ألف دار، على عمود من ياقوت ليس فيها صدع ولا وصل، ولا يسكنها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو محكم في نفسه، أو إمام مقسط. فانظر من أيهم أنت يا معاوية. قال: فأدبر معاوية يبكي ويقول: وأني لمعاوية بالقسط!.
قال مقسم بن بجرة: حججت فقدمت المدينة حين قتل عثمان، وقد بويع لعلي بن أبي طالب، فسمعت علياً يقول: أما الهجين ابن النابغة - يعني عمرو بن العاص - فهو(25/23)
أهون علي من عصاي هذه - وفي يده مخصرة - فقال عبد الله بن عباس: لا تقل في أبي عبد الله إلا خيراً. قال: وأما ابن عمي معاوية فأقره على الشام، وأزيده إن شاء.
هذا غريب، والمحفوظ: ما روي عن ابن عباس قال: دعاني عثمان فاستعملني على الحج، قال: فخرجت إلى مكة فأقمت للناس الحج، وقرأت عليهم كتاب عثمان إليهم، ثم قدمت المدينة وقد بويع لعلي، فقال: سر إلى الشام فقد وليتكها. فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية رجل من بني أمية، وهو ابن عم عثمان وعامله على الشام، ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم علي. فقال له علي: ولم؟ قال: لقرابة ما بيني وبينك، وإن كل من حمل عليك حمل علي، ولكن اكتب إلى معاوية فمنه وعده. فأبى علي وقال: والله لا كان هذا أبدا.
قال الشعبي: لما قتل عثمان رضي الله عنه أرسلت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورضي عنها إلى أهل عثمان: أرسلوا إلي بثياب عثمان التي قتل فيها. فبعثوا إليها بقميصه مضرج بالدم، وبالخصلة الشعر التي نتفت من لحيته فعقدت الشعر في زر القميص، ثم دعت النعمان بن بشير فبعثت به إلى معاوية، فمضى بالقميص وبكتابها إلى معاوية. فصعد معاوية المنبر، وجمع الناس، ونشر القميص، وذكر ما صنع بعثمان، ودعا إلى الطلب بدمه. فقام أهل الشام فقالوا: هو ابن عمك وأنت وليه، ونحن الطالبون معك بدمه. فبايعوا له.
وعن الحسن قال: لقد تصنع معاوية للخلافة في ولاية عمر بن الخطاب.
قال أبو صالح: كان الحادي يحدو بعثمان ويقول:(25/24)
إن الأمير بعده علي ... وفي الزبير خلف مرضي
فقال كعب: بل هو صاحب البغلة الشهباء - يعني معاوية. فبلغ ذلك معاوية فأتاه فقال: يا أبا إسحاق! تقول هذا وها هنا علي والزبير وأصحاب محمد؟! قال: أنت صاحبها.
زاد في رواية: ولكن والله لا تصل إليك حتى تكذب بحديثي هذا. فوقعت في نفس معاوية.
وروي عن ذي قربات قال: لما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل: يا ذا قربات، من بعده؟ قال: الأمين - يعني أبا بكر - قيل: فمن بعده؟ قال: قرن من حديد - يعني عمر - قيل: فمن بعده؟ قال: يعني عثمان - قيل: فمن بعده؟ قال: الوضاح الأزهر المنصور - يعني معاوية.
قال البغوي: رواه عثمان بن عبد الرحمن - وهو ضعيف - عن سعيد بن عبد العزيز، قال: ولا أحسب سعيد بن عبد العزيز أدرك ذا قربات. ولا أحسب ذا قربات سمع من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً.
وعن عمر قال: إياكم والفرقة بعدي، فإن فعلتم فأعلموا أن معاوية بالشام، وستعلمون إذا وكلتم إلى رأيكم كيف يستبرها دونكم.
وعن عمر: أنه قال لأهل الشورى: إن اختلفتم دخل عليكم معاوية بن أبي سفيان من الشام، وبعده عبد الله بن أبي ربيعة من اليمين، فلا يريان لكم فضلاً إلا سابقتكم.(25/25)
وعن عبد الملك الحمطي قال: اجتمع أهل الشام بعد قتل عثمان، فأرسلوا وفوداً إلى عبد الله بن عمر، وعلى الشام يومئذ معاوية بن أبي سفيان وما يرجوها - يعني الخلافة - قال: فلما قدموا على عبد الله بن عمر وقد اجتمع أهل الشام على - إن رضي - أن يبايعوه، فقال عبد الله بن عمر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من أجلب فليس منا. فمعاذ الله أن أختار الدنيا على الآخرة. فلما كرهها عبد الله بن عمر ويئسوا منه بايعوا معاوية.
وعن زهدم الجرمي قال: كنا في سمر ابن عباس فقال: إني لمحدثكم بحديث ليس سر ولا علانية؛ إنه لما كان من أمر هذا الرجل ما كان - يعني عثمان - قلت لعلي: اعتزل، فلو كنت في جحر طلبت حتى تستخرج؛ فعصاني، وايم الله، ليتأمرن عليكم معاوية، وذلك أن الله يقول: " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً " لتحملنكم قريش على سنة فارس والروم، وليتمنن عليكم النصارى واليهود والمجوس، فمن أخذ منكم يومئذ بما يعرف نجا، ومن ترك وأنتم تاركون كنتم كقرن من القرون هلك فيمن هلك.
وعن الحكم بن عمير الثمالي - وكانت أمه مريم بنت أبي سفيان بن حرب: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه ذات يوم: يا أبا بكر! كيف بك إذا وليت؟، قال: لا يكون ذاك أبداً. قال: فأنت يا عمر؟، قال: حجراً إذا لقيت شراً. قال: فأنت يا عثمان؟، قال: آكل وأطعم وأقسم ولا أظلم. قال: فأنت يا علي؟، قال: أقسم التمرة وأحمي الجمرة، وآكل القوت. قال: أما إنكم كلكم سيلي، وسيرى الله عملكم. قال: فأنت يا معاوية؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أنت رأس الخطم، ومفتاح(25/26)
العظم، خفتاً خفتاً، يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، وتتخذ السيئة حسنة، والحسنة قبيحة؛ أجلك يسير وجرمك عظيم إلا أن يرحمك ربك عز وجل.
قال ابن شهاب الزهري: لما بلغ معاوية وأهل الشام قتل طلحة والزبير، وهزيمة أهل البصرة، وظهور علي عليه السلام دعا أهل الشام معاوية للقتال معه على الشورى والطلب بدم عثمان. فبايع معاوية أهل الشام على ذلك أميراً غير خليفة. فخرج علي على رأس أربعة عشر شهراً من مقتل عثمان بأهل العراق يأم معاوية وأهل الشام. وخرج معاوية بأهل الشام، فالتقوا بصفين، فاقتتلوا بها قتالاً شديداً لم تقتتل هذه الأمة مثله قط، وغلب أهل العراق على قتلى أهل حمص، وفيهم عبد الله ابن عمر بن الخطاب وذو الكلاع وحوشب وجابس بن سعد الطائي؛ وغلب أهل الشام على قتلي أهل العالية وفيهم عمار بن ياسر وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص وابنا بديل الخزاعي.
وكان علي أراد أن يبعث إلى معاوية بالشام رسولاً وكتاباً، فقال له جرير بن عبد الله البجلي: ابعثني إليه فإنه لم يزل لي مستنصحاً وواداً، فآتيه فأدعوه على أن يسلم هذا الأمر لك ويجامعك على الحق، وأن يكون أميراً من أمرائك، وعاملاً من عمالك ما عمل بطاعة الله، واتبع ما في كتاب الله؛ وأدعوا أهل الشام إلى طاعتك وولايتك، وإن جلهم قومي، وقد رجوت أن لا يعصوني. فقال له الأشتر: لا تبعثه ولا تصدقه فإني لأظن هواه هواهم ونيته نيتهم. فقال له: دعه حتى ننظر ما يرجع به إلينا. فبعثه علي إلى معاوية، فقال له حين أراد أن يوجهه: إن حولي من قد علمت من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل الدين والرأي، وقد اخترتك عليهم لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيك:(25/27)
من خير ذي يمن. فأت معاوية بكتابي، فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون، وإلا فانبذ إليه على سواء، وأعلمه أني لا أرضى به أميراً، وأن العامة لا ترضى به خليفة.
فانطلق جرير حتى نزل بمعاوية فدخل عليه، فقام جرير فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا معاوية، فإنه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين وأهل المصرين، وأهل الحجاز واليمن، ومصر وعمان والبحرين واليمامة، فلم يبق إلا هذه الحصون التي أنت فيها: لو سال عليها سيل من أوديته غرقها، وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة أمير المؤمنين علي. ودفع إليه كتابه، وكانت نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد فإن بيعتي لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوا عليه، فلم يكن لشاهد أن يختار ولا لغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك رضي فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على أتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولي، ويصله جهنم وساءت مصيراً، وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي، وكان نقضهما كردهما، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإن أحب الأمور إلي فيك العافية، إلا أن تعرض للبلاء، فإن تعرضت له قاتلتك، واستعنت الله عليك، وقد أكثرت في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب الله. فأما تلك التي تريدها يا معاوية فهي خدعة الصبي عن اللبن، ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان؛ واعلم يا معاوية أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا تعرض فيهم الشورى، وقد أرسلت إليك وإلى من(25/28)
قبلك جرير بن عبد الله، وهو من أهل الإيمان والهجرة. فبايع ولا قوة إلا بالله.
فلما قرأ معاوية الكتاب وعنده جماعة قام جرير خطيباً فحمد الله وأثنى على رسوله ثم قال: أيها الناس! إن أمر عثمان قد أعيا من شهده فما ظنكم بمن غاب عنه؟ وإن الناس بايعوا علياً غير واتر ولا موتور، وكان طلحة والزبير ممن بايعه ثم نقضا بيعته على غير حدث، ألا وإن الدين لا يحتمل الفتن، وإن العرب لا تحتمل السيف وقد كانت بالبصرة أمس ملحمة إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس بعدها، وقد بايعت العامة علياً، ولو أنا ملكنا أمورنا لم نختر لها غيره، فمن خالف هذا استعتب. فادخل يا معاوية فيما دخل الناس فيه، فإن قلت: استعملني عثمان ثم لم يعزلني، فإن هذا أمر لو جاز لم يقم لله دين، وكان لكل امرئ ما في يديه، ولكن الله جعل للآخر من الولاة حق الأول، وجعل تلك الأمور موطأة، وحقوقاً ينسخ بعضها بعضا.
فقال معاوية: أنظر وأنتظر وأستطلع رأي أهل الشام. وأمر معاوية منادياً فنادى: الصلاة جامعة. فلما اجتمع الناس صعد المنبر فخطب، فحمد الله وقال: الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركاناً، والشرائع للإيمان برهاناً يتوقد قابسه في الأرض المقدسة التي جعلها الله محل الأنبياء والصالحين من عباده فأحلها الشام، ورضيهم لها ورضيها لهم بما سبق من مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم أولياءه فيها، والقوام بأمره، الذابين عن دينه وحرماته، ثم جعلهم لهذه الأمة نظاماً، وفي أعلام الخير عظاماً، يردع الله به الناكثين، ويجمع ألفة المؤمنين، والله نستعين على ما تشعث من أمور المسلمين وتباعد بينهم بعد القرب والألفة؛ اللهم انصرنا على قوم يوقظون نائمناً(25/29)
ويخيفون آمننا، ويريدون هراقة دمائنا وإخافة سبيلنا، وقد يعلم الله أنا لا نريد لهم عقاباً، ولا نهتك لهم حجاباً: غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة ثوباً لن ننزعه طوعاً، ما جاوب الصدى، وسقط الندى، وعرف الهدى؛ حملهم على خلافنا البغي والحسد، فالله نستعين عليهم. أيها الناس! قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأني خليفة أمير المؤمنين عثمان عليكم، وأني لم أقم رجلاً منكم على خزاية قط، وإني ولي عثمان وابن عمه، وقد قال الله عز وجل في كتابه: " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً " وقد علمتم أنه قتل مظلوماً، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان.
فقال أهل الشام بأجمعهم: بل نطلب بدمه. فأجابوه إلى ذلك وبايعوه ووثقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم أو يدركوا بثأره أو يفني الله أرواحهم قبل ذلك.
وكان علي استشار الناس فأشاروا عليه بالمقام بالكوفة، غير الأشتر، وعدي بن حاتم، وشريح بن هانئ الحارثي، وهانئ بن عروة المرادي، فإنهم قالوا لعلي: إن الذين أشاروا عليك بالمقام بالكوفة إنما خوفوك حرب الشام، وليس في حربهم شيء أخوف من الموت وإياه نريد. فدعا علي الأشتر وعدياً وشريحاً وهانئاً فقال: إن استعدادي لحرب الشام، وجرير بن عبد الله عند القوم صرف لهم عن غي إن أرادوه، ولكني قد أرسلت رسولاً، فوقت لرسولي وقتاً لا يقيم بعده، والرأي مع الأناة فاتئدوا، ولا أكره لكم الأعذار.
فأبطأ جرير على علي حتى أيس منه. وإن جريراً لما أبطأ عليه معاوية بالبيعة لعلي كلمه في ذلك وقال له: إن هذا الأمر له ما بعده. فدعا معاوية ثقاته واستشارهم فقال له عقبة - وكان نظير معاوية -: استعن في هذا الأمر بعمرو بن العاص فإنه من عرفت، وقد اعتزل عثمان في حياته، وهو لأمرك أشد اتباعاً. فكتب إليه معاوية وعمرو بفلسطين: أما بعد فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط الشام مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة، وقد قدم علي جرير بن عبد الله ببيعة علي،(25/30)
فاقدم علي على بركة الله، فإني قد حبست نفسي، ولا غناء بنا عن رأيك. وإن معاوية قال لجرير: قد رأيت أن أكتب إلى صاحبك أن يجعل لي مصر والشام حياته، فإن حضرته الوفاة لم يجعل لأحد من بعده في عنقي بيعة وأسلم له هذا الأمر، وأكتب إليه بالخلافة. فقال جرير: اكتب ما شئت وأكتب معه إليه. فكتب معاوية بذلك، فلما أتى علياً كتابه عرف أنما هي خديعة منه. وكتب علي إلى جرير: أما بعد فإن معاوية إنما أراد بما طلب أن لا تكون في عنقه بيعة، وأن يختار من أمره ما أحب، وأراد أن يريثك حتى يذوق أهل الشام. وقد كان المغيرة بن شعبة أشار علي وأنا بالمدينة أن أستعمل معاوية على الشام فأبيت ذلك، ولم يكن الله ليراني أن أتخذ المضلين عضداً؛ فإن بايعك وإلا فأقبل. وفشا كتاب معاوية في الناس. فكتب إليه الوليد بن عقبة: من الطويل
معاوي إن الشام شامك فاعتصم ... بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا
وحام عليها بالقنابل والقنا ... ولاتك محشوش الذراعين وانيا
فإن علياً ناظر ما تجيبه ... فأهد له حرباً تشيب النواصيا
وإلا فسلم إن في الأمر راحة ... لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا
وإن كتاباً يا بن حرب كتبته ... على طمع جان عليك الدواهيا
سألت علياً فيه مالا تناله ... ولو نلته لم يبق إلا لياليا(25/31)
إلى أن ترى منه التي ليس بعدها ... بقاء فلا تكثر عليك الأمانيا
ومثل علي تعتريه بخدعة ... وقد كان ما جربت من قبل كافيا
ولو نشبت أظفاره فيك مرة ... حذاك ابن هند بعض ما كنت حاذيا
جاء أبو مسلم الخولاني وأناس معه إلى معاوية فقالوا له: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال معاوية: لا والله إني لأعلم أن علياً أفضل مني، وإنه لأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً وأنا ابن عمه؟ وإنما أطلب بدم عثمان، فأتوه فقولوا له فليدفع إلي قتلة عثمان، وأسلم له. فأتوا علياً فكلموه بذلك، فلم يدفعهم إليهم.
ثم إن علياً كتب إلى معاوية: أما بعد: فقد رأيت الدنيا وتصرفها بأهلها؛ ومن يقس شأن الدنيا بالآخرة يجد بينهما بالآخرة يجد بينهما بوناً بعيداً؛ ثم إنك يا معاوية قد ادعيت أمراً لست من أهله، لا في قديم ولا في حديث، ولست تدعي أمراً بيناً، ولا لك عليه شاهد من كتاب الله عز وجل، ولا عهد من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف أنت صانع إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه؟ من أمر دنيا دعتك فأجبتها، وقادتك فاتبعتها وأمرتك فأطعتها! فأي شيء من هذا الأمر وجدته ينجيك؟! ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعية؟ وولاة هذا الأمر؟ بغير قديم حسن، ولا شرف باسق؟ فلا تمكنن الشيطان من بغيته، مع أني أعلم أن الله ورسوله صادقين فيما قالا، فأعوذ بالله من لزوم الشقاء، فإنك يا معاوية مترف قد أخذ الشيطان منك مأخذاً، وجرى منك مجرى. اللهم أحكم بيننا وبين من خالفنا بالحق فأنت خير الحاكمين.
فكتب إليه معاوية: أما بعد يا علي فدعني من أحاديثك واكفف عني من(25/32)
أساطيرك، فبالكذب غررت من قبلك، وبالخداع استدرجت من عندك، وتوشك أمورك أن تكشف فيعرفوها ويعلموا باطلها، وإن الباطل كان مضمحلاً.
فكتب إليه علي: أما بعد، فطالما دعوت أنت وكثير من أوليائك أولياء الشيطان الحق أساطير، وحاولتم إطفاءه بأفواهكم، ونبذتموه وراء ظهوركم، فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ولعمري ليتمن الله نوره بكرهك؛ فعقب من دنياك المنقطعة ما طاب لك، فكأن أجلك قد انقضى، وعملك قد هوى، والسلام على من اتبع الهدى.
ثم إن معاوية بعث إلى عتبة بن أبي سفيان - وكان من أسد قريش رأياً - فقال: إنا قد حبسنا جريراً حتى طمع فينا علي، وإنما حبسته لننظر ما يصنع أهل الشام، فإن تابعوني نبذت إليهم بالحرب، وإن حالفوني بعثت إليهم بالسلم؛ واعلم أن اختلاف القلوب على قدر اختلاف الصور، فلو أصبت رجلاً مصقعاً - يعني خطيباً بليغاً - جمعت أهل الشام على قلب واحد. فقال عتبة: لا يكون إلا يمانياً، وهما رجلان: أحدهما لك والآخر عليك؛ فأما الذي لك فشرحبيل بن السمط، له صحبة وهو عدو لجرير؛ وأما الذي عليك فالأشعث بن قيس، وشرحبيل خير لك من الأشعث لعلي. فعرف معاوية أن قد أتاه بالرأي. وكتب معاوية إلى شرحبيل يسأله القدوم عليه، وهيأ له رجالاً يخبرونه أن علياً قتل عثمان، منهم يزيد بن أسد البجلي، وبسر بن أرطاة، وأبو الأعور السلمي.
فلما جاء كتاب معاوية إلى شرحبيل استشار أهل اليمن - وكان شرحبيل من أهل حمص - فاختلفوا عليه، فقال له عبد الرحمن بن غنم: يا شرحبيل! إن الله أراد بك خيراً، قد هاجرت إلى يومك هذا، ولن ينقطع عنك المزيد من الله عز وجل حتى ينقطع من الناس، ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. إنه قد فشت القالة عن معاوية بقوله إن علياً قتل عثمان، فإن يك فعل فقد بايعه المهاجرون والأنصار، وهم الحكام على الناس، وإن لم يكن فعل فعلى ما يصدق معاوية على علي وهو من قد علمت(25/33)
فلا تهلكن نفسك وقومك. فأبى شرحبيل إلا أن يسير إلى معاوية. فقدم عليه فقال: إن جريراً قدم علينا يدعونا إلى بيعة علي، وعلي خير الناس لولا أنه قتل عثمان، وقد حبست عليك نفسي، وإنما أنا رجل من أهل الشام، أرضى بما رضوا وأكره ما كرهوا. فقال شرحبيل: أخرج فأنظر في ذلك.
فخرج شرحبيل، فلقيه النفر الذين وطأهم له معاوية، فأخبروه أن علياً قتل عثمان فقبل ذلك، فعاد إلى معاوية فقال له: يا معاوية! أبى الناس إلا أن علياً قتل عثمان، فلئن بايعت علياً ليخرجنك من الشام. فقال معاوية: ما أنا إلا رجل منكم، وما كنت لأخالف عليكم. قال: فاردد الرجل إلى صاحبه. فعرف معاوية أن شرحبيل قد ناصح، وأن أهل الشام معه.
ثم إن شرحبيل أتى حصين بن نمير في منزله، فبعث حصين إلى جرير: إن رأيت أن تأتينا فإن شرحبيل عندنا. فأتاهم جرير فقال له شرحبيل: إنك أتيتنا بأمر ملفف لتلقينا في لهوات الأسد، فأردت أن تخلط الشام بالعراق، وقد أطريت علياً وهو القاتل عثمان، والله سائلك عما قلت يوم القيامة. فقال جرير: أما قولك أني جئت بأمر ملفف، فكيف يكون ملففاً وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وقاتلوا معه طلحة والزبير؟ وأما قولك أني ألقيك في لهوات الأسد ففي لهواته ألقيت نفسك؛ وأما خلط الشام بالعراق فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل؛ وأما قولك أن علياً قتل عثمان فو الله ما في يديك من ذلك إلا قذف بالغيب من مكان بعيد، وإن ذلك لباطل، ولكنك ملت إلى الدنيا وأهلها، وأمر كان في نفسك.
فبلغ معاوية قولهما، فبعث إلى شرحبيل فقال له: إنه قد كان من إجابتك إلى الحق ما قد وقع فيه أجرك على الله، وقبله عنك صالح الناس، وإن هذا الأمر لا يتم إلا برضى العامة، فسر في مدائن الشام، فادعهم إلى ذلك وأخبرهم بما أنت عليه.
فسار شرحبيل فبدأ بأهل حمص فدعاهم إلى القيام في ذلك، وقال لهم: إن علياً قتل عثمان وحرضهم عليه وخوفهم منه، وإن معاوية ولي عثمان، فقوموا معه، فأجابه أهل(25/34)
حمص إلا نفر من نسائكم وقرائهم فإنهم أبوا ولزموا بيوتهم، ثم إن شرحبيل استقوى مدائن الشام بذلك، فجعل لا يأتي قوماً إلا قبلوا ما أتاهم به.
ثم إن علياً كتب إلى جرير: أما بعد، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل، ثم خيره بين حرب مجلية أو سلم مخزية. فإن اختار الحرب فانبذ إليه. فلما انتهى الكتاب إلى جرير أتى معاوية، فأقرأه إياه، فلما علم معاوية أن أهل الشام قد تابعوه، بعث إلى جرير أن الحق بصاحبك فقد أبى الناس إلا ما ترى. فانصرف جرير إلى علي فأخبره الخبر، وإن شرحبيل قدم على معاوية بأهل الشام فقال لمعاوية: ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فبايعه وبايعه أهل الشام على ذلك، ثم إن معاوية قام فيهم خطيباً فقال: يا أهل الشام! إن علياً قتل خليفتكم، وفرق الجماعة، وأوقع بأهل البصرة، ولها ما بعدها، وقد تهيأ للمسير إليكم، وإيم الله لا يفل حدكم إلا قوم أصبر منكم، فاصبروا فإن الله مع الصابرين، وقد قال الله عز وجل: " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً " فأنا ولي عثمان وابن عمه، وأنتم أعواني على ذلك، فأعدوا للحرب وتهيؤوا للقاء. فقام معاوية بن حديج السكوني، وحوشب فقالوا: يا أمير المؤمنين! قد أتتنا أمدادنا على علي فإذا شئت.
ولما ظهر أمر معاوية بالشام وتابعوه على أمره، دعا علي رجلاً فأمره أن يتجهز، وأن يسير إلى دمشق، وأمره إذا دخل إلى دمشق أناخ راحلته بباب المسجد، ثم يدخل المسجد ولا يحط عن راحلته من متاعها شيئاً، ولا يلقي عن نفسه من ثياب السفر شيئاً وقال له: إنك إذا فعلت ورأوا أثر الغربة والسفر عليك، سيسألونك من أين أقبلت؟ فقل من العراق، فإنك إذا قلت ذلك حشدوا إليك وسألوك ما الخبر وراءك؟(25/35)
فقل لهم: تركت علياً قد نهد إليكم في أهل العراق. فإنهم سيحشدون إليك، ثم انظر ما يكون من أمرهم. قال: فسار الرجل حتى أتى دمشق، ثم دخل المسجد ولم يحلل عن راحلته ولم ينزع عنه شيئاً من ثيابه فلما دخل المسجد، عرفوا أنه غريب، وأنه مسافر، فسألوه: من أين أقبلت؟ فقال: من العراق. فحشدوا إليه فقالوا: ما الخبر وراءك؟ قال: تركت علياً قد حشد إليكم ونهد في أهل العراق. فكثر الناس عليه يسألونه، وبلغ ذلك معاوية، فأرسل إلى أبي الأعور السلمي: ما هذا القادم الذي قد أظهر هذا الخبر؟ انطلق حتى تكون أنت الذي تشافهه وتسأله، ثم ائتني بالخبر، فأتاه أبو الأعور فساءله فأخبره، فأتى معاوية فأخبره بأن الأمر على ما انتهى إليك؛ فقال لأبي الأعور: ناد في الناس الصلاة جامعة. فنادى في الناس فجاء الناس فقيل لمعاوية شحن الناس المسجد وامتلأ منهم فخرج معاوية فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إن علياً قد نهد إليكم في أهل العراق فما الرأي؟ فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم ولم يرفع إليه أحد طرفه، ولم يتكلم منهم متكلم، فقام ذو الكلاع الحميري فقال: يا أمير المؤمنين! عليك الرأي وعلينا ام فعال - قال: وهي بالحميرية يعني الفعال - فنزل معاوية عن المنبر وأمر أبا الأعور السلمي أن ينادي في الناس: أن اخرجوا إلى معسكركم، فإن أمير المؤمنين قد أجلكم ثلاثاً، فمن تخلف فقد أحل بنفسه.
فخرج رسول علي فرجع إليه، فأخبره الخبر، فأمر علي قنبراً فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس في المسجد، وصعد علي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن رسولي الذي أرسلته إلى الشام قد قدم علي وأخبرني أن معاوية قد نهد إليكم في أهل الشام، فما الرأي؟ قال: فأضب أهل المسجد يقولون: يا أمير المؤمنين! الرأي كذا، يا أمير المؤمنين! الرأي كذا. فلم يفهم علي كلامهم من كثرة من تكلم، ولم يدر(25/36)
المصيب من المخطئ. فنزل عن المنبر وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. ذهب بها ابن أكالة الأكباد - يعني معاوية.
قال الأعمش: حدثني من رأى علياً يوم صفين يصفق بيديه ويعض عليهما ويقول: يا عجباً! أعصى ويطاع معاوية!.
وعن علي قال: قنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعين ليلة دعا على حي من أحياء العرب.
وقال علي: لا أزيد على قنوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقنت أربعين ليلة يدعو على معاوية بن أبي سفيان.
وعن أبي عبيدة قال: قال معاوية: لقد وضعت رجلي في الركاب وهممت يوم صفين بالهزيمة، فما منعني إلا قول ابن الإطنابة حيث يقول: من الوافر
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإكراهي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
قال علي بن المديني: سمعت سفيان يقول: ما كانت في علي خصلة تقصر به عن الخلافة، ولا كانت في معاوية خصلة ينازع علياً بها.
قال إبراهيم بن سويد: قلت لأحمد بن حنبل: من الخلفاء؟ قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. قلت:(25/37)
فمعاوية؟ قال: لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمان علي من علي رضي الله عنه، ورحم اله معاوية.
قال محمد بن سعيد: ذكر قوم معاوية عند شريك، فقال بعضهم: كان حليماً. فقال: ليس بحليم من سفه الحق وقاتل علي بن أبي طالب.
قال يزيد بن الأصم: لما وقع الصلح بين علي ومعاوية خرج علي فمشى في قتلاه فقال: هؤلاء في الجنة. ثم مشى في قتلى معاوية فقال: هؤلاء في الجنة، وليصير الأمر إلي وإلى معاوية، فيحكم لي ويغفر لمعاوية؛ هكذا خبرني حبيبي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أول من يختصم في هذه الأمة بين يدي الرب علي ومعاوية، وأول من يدخل الجنة أبو بكر وعمر.
قال ابن عباس: كنت جالساً عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية إذ أقبل علي بن أبي طالب فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاوية: أتحب علياً يا معاوية؟ فقال معاوية: إي والله الذي لا إله إلا هو إني لأحبه في الله حباً شديداً. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنها ستكون بينكم هنيهة. قال معاوية: ما يكون بعد ذلك يا رسول الله؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عفر الله ورضوانه، والدخول إلى الجنة. قال معاوية: رضينا بقضاء الله. فعند ذلك نزلت هذه الآية: " ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل مايريد ".
وعن عمر بن عبد العزيز قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت وجلست، فبينا أنا(25/38)
جالس إذ أتي بعلي ومعاوية، فأدخلا بيتاً وأجيف عليهم الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع أن خرج علي وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة. ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول غفر لي ورب الكعبة.
قال أبو القاسم ابن أخي أبي زرعة الرازي: جاء رجل إلى عمي أبي زرعة فقال له: يا أبا زرعة! أنا أبغض معاوية. قال: لم؟ قال: لأنه قاتل علي بن أبي طالب. فقال له عمي: إن رب معاوية رب رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فأيش دخولك أنت بينهما رضي الله عنهم أجمعين؟.
سأل رجل أحمد بن حنبل عما جرى بين علي ومعاوية، فأعرض عنه، فقيل له: يا أبا عبد الله! هو رجل من بني هاشم، فأقبل عليه فقال: اقرأ: " تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعلمون ".
سأل النضر أبو عمر الحسن فقال: أبو بكر أفضل أم علي؟ قال: سبحان الله! ولا سواء سبقت لعلي سوابق شركه فيها أبو بكر، وأحدث علي أحداثاً لم يشركه فيها أبو بكر، أبو بكر أفضل. قال: فعمر أفضل أم علي؟ فذكر مثل قوله الأول. قال: عمر أفضل. قال: فعلي أفضل أم عثمان؟ فذكر مثل قوله الأول ثم قال: عثمان أفضل. فطمع السائل قال: علي أفضل أم معاوية؟ قال: سبحان الله! ولا سواء، سبقت لعلي سوابق لم يشركه فيها معاوية وأحدث علي أحداثاً شركه معاوية في أحداثه، علي أفضل من معاوية.
قال مغيرة: لما جاء قتل علي إلى معاوية جعل يبكي ويسترجع، فقالت له امرأته: تبكي عليه وقد كنت تقاتله؟! فقال لها: ويحك! إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم.(25/39)
قال معاوية: ما روى أحد في الأمور ترويتي قط، إذا استلقيت على قفاي ووضعت إحدى رجلي على الأخرى؛ وما باده الأمور مثل عمرو بن العاص؛ وما رميت في مصممة مثل أبي الحسن علي بن أبي طالب قط.
وعن أنس بن مالك قال:
تعاهد ثلاثة رهط من أهل العراق على قتل معاوية وعمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة: فأقبلوا بعدما بويع معاوية على الخلافة حتى قدموا إيلياء يصلون من السحر ما قدر لهم، ثم سألوا بعض من حضر المسجد من أهل الشام عن ساعة يوافون فيها خلوة أمير المؤمنين وهو لنا فارغ وقالوا: إنا رهط من أهل العراق أصابنا غرم في أعطياتنا، فنريد أن نكلم أمير المؤمنين وهو لنا فارغ. فقالوا لهم: امهلوا حتى إذا ركب دابته فاعرضوا له فكلموه، فإنه يقف عليكم حتى تفرغوا من كلامه في حاجتكم. فعجلوا ذلك، فلما خرج معاوية لصلاة الفجر كبر، فلما سجد السجدة الأولى، انبطح أحدهم على ظهر الحرسي الساجد بينه وبين أمير المؤمنين، حتى طعن معاوية في مأكمته بخنجر في يده، فانصرف معاوية وقال للناس: أتموا صلاتكم.
وأخذ الرجل فأوثق منه، فدخل معاوية ودعي له الطبيب، فقال له الطبيب: إن لم يكن هذا الخنجر مسموماً فليس عليك بأس. فأعد الطبيب عقاقيره التي يشرب إن كان مسموماً، ثم أمر من يعرفها من تباعه أن يسقيه إن عقل لسانه حتى يلحس، ثم لحس الخنجر فلم يجده مسموماً، فكبر وكبر من عنده، فخرج خارجة - وهو أحد بني عدي إلى الناس من عند معاوية فقال: هذا أمر عظيم ليس بأمير المؤمنين بأس، فحمد الله وأخذ(25/40)
يذكر الناس فشد عليه الحروريون الباقون بالسيف يحسبونه عمرو بن العاص، فضربه على الذؤابة فقتله، فرماه الناس بالثياب وتعاووا عليه حتى أخذوه وأوثقوه، واستل الثالث السيف فشد على أهل المسجد، فانكشف الناس، وصبر له سعيد بن مالك بن شهاب وعليه ممطر، تحته السبف مشرجاً على قائمه، فأدخل يده في الممطر يحل شرج السيف، فلم يفض لحله حتى غشيه الحروري، فنحاه لمنكبه الأيسر، فضربه الحروري ضربة خالطت سحره، ثم استل سعيد السيف فاختلف هو والحروري ضربتين، فضربه الحروري على عينه اليسرى ضربة ذهبت عينه، وضربه سعيد فطرح يمينه والسيف، ثم علاه سعيد بالسيف فقتل الحروري، ونزف سعيد فاحتمل نزيفاً، فدووي ثلاثين ليلة ثم توفي وهو يخبر من دخل عليه: أم والله لو شئت لانحزت مع الناس، ولكني تحرجت أن أوليه ظهري ومعي السيف. فدخل رجل من كلب على الذي طعن معاوية فقال: هذا طعن معاوية؟ قالوا: نعم. فامتلخ السيف فضرب عنقه، وأخذ الكلبي فسجن. وقالوا: قد اتهمت بنفسك. قال: إنما قتلته غضباً لله. فلما سئل عنه فوجد بريئاً أرسل، ودفع قاتل خارجة إلى أوليائه من بني عدي بن كعب، فقطعوا يده ورجله، وسمروا عينه، ثم حملوه حتى حلوا به العراق، فعاش كذلك حيناً، ثم تزوج امرأة فولدت له غلاماً فسمعوا به قد ولد له غلام، فقالوا: لقد عجزنا حين(25/41)
يترك قاتل خارجة يولد له الغلمان. فكلموا فيه معاوية، فأذن لهم في قتله فقتلوه، وقال الحروري الذي قتل خارجة حين ذكر له أنه قتل خارجة: أما والله ما أردت إلا عمرو بن العاص. فقال عمرو حين بلغته كلمته: ولكن أراد الله خارجة.
قال الدارقطني: البرك بن عبد الله الخارجي هو الذي أراد قتل معاوية، فضربه بالسيف ففلق أليته.
وهو بضم الباء وفتح الراء.
وعن عمر قال: هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد، وفي كذا وفي كذا، وليس فيها الطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء.
قال الأسود بن يزيد: قلت لعائشة رضوان الله عليها: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخلافة!؟ قالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر؛ وقد ملك فرعون أهل مصر أربع مئة سنة.
وعن هزيل بن شرحبيل قال: صعد معاوية المنبر فقال: يا أيها الناس! ومن كان أحق بهذا الأمر مني؟ وهل بقي أحد أحق بهذا الأمر مني؟.
قال سعيد بن عبد العزيز: كان علي بالعراق يدعى أمير المؤمنين، وكان معاوية بالشام يدعى الأمير، فلما مات علي دعي معاوية بالشام أمير المؤمنين.(25/42)
قال الليث بن سعد: بويع معاوية بإيلياء في رمضان بيعة الجماعة، ودخل الكوفة سنة أربعين، وهو عام الجماعة. وقيل كان دخوله سنة إحدى وأربعين، وبويع بأذرح، بايعه الحسن بن علي.
وقيل: إن أهل الشام بايعوا معاوية سنة سبع وثلاثين.
وكان نقش خاتم معاوية: لكل عمل ثواب. وقيل: لا قوة إلا بالله.
وكان آخر ما تكلم به معاوية: اتقوا الله فإنه لا يقين لمن لا يتقي الله.
وعن الزهري:
أن معاوية عمل سنتين ما يخرم عمل عمر، ثم إنه بعد.
وعن سعيد بن سويد قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة في الضحى، ثم خطبنا فقال: ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون.
قال سفيان بن الليل: قلت للحسن بن علي لما قدم من الكوفة إلى المدينة: يا مذل المؤمنين. قال: لا تقل ذاك، فإني سمعت أبي يقول: لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك معاوية. فعلمت أن أمر الله واقع، فكرهت أن تهراق بيني وبينه دماء المسلمين.
قال الشعبي: قيل للحارث الأعور: ما حمل الحسن بن علي على أن يبايع لمعاوية وله الأمر؟ قال: إنه سمع علياً يقول: لا تكرهوا إمرة معاوية.(25/43)
وعن الحارث قال: لما رجع علي من صفين علم أنه لا يملك، فتكلم بأشياء لم يكن يتكلم بها قبل ذلك، وقال أشياء لم يكن يقولها قبل ذلك، فقال: يا أيها الناس! لا تكرهوا إمارة معاوية، فو الله لو فقدتموه لقد رأيتم الرؤوس تندر من كواهلها كالحنظل.
وعن أبي الدرداء أنه قال: لا مدينة بعد عثمان ولا رخاء بعد معاوية.
ولما قدم معاوية المدينة يريد الحج دخل على عائشة فكلمها خاليين، لم يشهد كلامهما إلا ذكوان أبو عمرو مولى عائشة، فقالت له عائشة: أمنت أن أخبأ لك رجلاً يقتلك بقتلك أخي محمداً؟ قال معاوية: صدقت. فكلمها معاوية، فلما قضى كلامه تشهدت عائشة ثم ذكرت ما بعث الله به نبيه من الهدى ودين الحق، والذي سن الخلفاء بعده، وحضت معاوية على اتباع أمرهم فقالت في ذلك فلم تترك، فلما قضت مقالتها قال لها معاوية: أنت والله العالمة بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المناصحة المشفقة، البليغة الموعظة، حضضت على الخير وأمرت به، ولم تأمرينا إلا بالذي هو لنا، وأنت أهل أن تطاعي. فتكلمت هي ومعاوية كلاماً كثيراً. فلما قدم معاوية اتكأ على ذكوان، قال: والله ما سمعت خطيباً ليس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبلغ من عائشة.
ولما قدم معاوية المدينة أرسل إلى عائشة رضوان الله عليها، أن أرسلي إلي(25/44)
بأنبجانية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشعره، فأرسلت به، فأخذ الأنبجانية فلبسها، وأخذ شعره، فدعا بماء فغسله فشربه وأفاض على جلده.
قال الشعبي: لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقته رجال من وجوه قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك وأعلى أمرك. فما رد عليهم جواباً حتى دخل المدينة، فقصد المسجد وعلا المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني والله ما وليت أمركم حين وليته إلا وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم، ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة، ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي قحافة فلم أجدها تقوم بذلك، وأردتها على عمل ابن الخطاب فكانت عنه أشد نفوراً، وحاولتها على مثل سنيات عثمان فأبت علي، وأين مثل هؤلاء؟ هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم! رحمة الله ورضوانه عليهم، غير أني قد سلكت بها طريقاً لي فيه منفعة ولكم فيه مثل ذلك، ولكل فيه مؤاكلة حسنة، ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خيركم لكم؛ والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني ببعضه، فإنها ليست بقائبة قوبها، وإن السيل إذا جاء يترى وإن قل أغثى. وإياكم والفتنة فلا تهموا بها فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة، وتورث الأستئصال. وأستغفر الله لي ولكم. ثم نزل.(25/45)
وعن صالح بن كيسان: أن معاوية قدم المدينة أول حجة حجها بعد اجتماع الناس عليه، فلقيه الحسن والحسين ورجال من قريش، فتوجه إلى دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة ابنة عثمان وندبت أباها فقال معاوية لمن معه: انصرفوا إلى منازلكم، فإن لي حاجة في هذه الدار. فانصرفوا ودخل فسكن عائشة وأمرها بالكف وقال لها: يا بنة أخي، إن الناس أعطونا سلطاناً فأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا وباعونا هذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا شحوا على حقهم، ومع كل إنسان منهم شيعة، وهو يرى مكان شيعتهم، فإن نكثنا به نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا، وأن تكوني ابنة عمر أمير المؤمنين خير من أن تكوني أمة من إماء المسلمين. ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك والسلام.
وعن أبي سعيد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا رأيتم معاوية على هذه الأعواد فاقتلوه. فقام إليه رجل من الأنصار وهو يخطب بالسيف، فقال أبو سعيد: ما تصنع؟ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إذا رأيتم معاوية يخطب على الأعواد فاقتلوه. فقال له أبو سعيد: إنا قد سمعنا ما سمعت، ولكنا نكره أن يسل السيف على عهد عمر حتى نستأمره. فكتبوا إلى عمر في ذلك، فجاء موته قبل أن يجيء جوابه.
وعنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه.
قال حماد بن زيد: قيل لأيوب: إن عمرو بن عبيد روى عن الحسن أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا رأيتم معاوية على المنبر فاقتلوه. فقال: كذب عمرو.
وروي عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه، فإنه أمين مأمون.(25/46)
في إسناده إنكار.
قال الأوزاعي: أدركت خلافة معاوية عدة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم سعد، وأسامة، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك ورجال أكثر من سمينا بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، وأخذوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأويله؛ ومن التابعين لهم بإحسان إن شاء الله، منهم المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن محيريز، في أشباه لهم لم ينزعوا يداً عن مجامعة في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن سعيد بن عبد العزيز قال: لما قتل عثمان واختلف الناس، لم تكن للناس غازية ولا صائفة حتى اجتمعت الأمة على معاوية سنة أربعين، وهي سنة الجماعة. فأغزى معاوية الصوائف وشتاهم بأرض الروم، ستة عشر صائفة، تصيف بها وتشتو، ثم تقفل وتدخل معقبتها. ثم أغزاهم معاوية ابنه يزيد في سنة خمس وخمسين، في جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البر والبحر، حتى أجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها. ثم قفل.
قال سعد بن أبي وقاص: ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب - يعني معاوية.
قدم المسور بن مخرمة وافداً على معاوية، فقضى حاجته ثم دعاه، فأخلاه فقال: يا مسور! ما فعل طعنك على الأئمة؟ فقال المسور: دعنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له. قال معاوية: لا والله لتكلمن بذات نفسك، والذي تعيب علي. قال المسور: فلم أترك(25/47)
شيئاً أعيبه عليه إلا بينته له. قال معاوية - لا برئ من الذنب -: فهل تعد يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؟ فإن الحسنة بعشر أمثالها؛ أم تعد الذنوب وتترك الحسنات؟ قال المسور: لا والله ما نذكر إلا ما نرى من هذه الذنوب. قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم يغفرها الله؟ قال مسور: نعم. قال معاوية: فما يجعلك أحق أن ترجو المغفرة مني، فو الله لما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكني والله لا أخير بين أمرين بين الله، وبين غيره إلا اخترت الله على ما سواه، وأنا على دين يقبل الله فيه العمل، ويجزي فيه بالحسنات، ويجزي فيه بالذنوب، إلا أن يعفو عمن شاء، فأنا أحتسب كل حسنة عملتها بأضعافها، وإذا رأى أموراً عظاماً لا أحصيها ولا يحصيها من عمل لله في إقامة صلوات المسلمين، والجهاد في سبيل الله، والحكم بما أنزل الله؛ والأمور التي ليست تحصيها وإن عددتها لك؛ فتفكر في ذلك، قال المسور: فعرفت أن معاوية قد خصمني حين ذكر لي ما ذكر.
قال عروة: فلم نسمع المسور بعد ذلك يذكر معاوية إلا صلى عليه.
قال ثابت مولى سفيان: سمعت معاوية وهو يقول: إني لست بخيركم، وإن فيكم من هو خير مني، عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما من الأفاضل، ولكني عسيت أن أكون أنكاكم في عدوكم وأنعمكم لكم ولاية، وأحسنكم خلقاً.
وفي رواية: أن أكون أنفعكم ولاية وأدركم حلباً.
قال يونس بن حلبس: سمعت معاوية على منبر دمشق يوم الجمعة يقول: يا أيها الناس! اعقلوا قولي، فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني، أقيموا وجوهكم وصفوفكم في الصلاة، فلتقيمن وجوهكم وصفوفكم في الصلاة، أو ليخالفن الله بين قلوبكم. خذوا على أيدي سفهائكم، فلتأخذن(25/48)
على أيدي سفهائكم، أو ليسلطن الله عليكم، فليسومنكم سوء العذاب. تصدقوا، ولا يقول الرجل إني مقل، فإن صدقة المقل أفضل من صدقة الغني. إياي وقذف المحصنات، وأن يقول الرجل سمعت وبلغني، فلو قذف امرأة على عهد نوح لسئل عنها يوم القيامة.
وعنه قال: سمعت معاوية على منبر دمشق يقول: يا أهل قردا! يا أهل زاكية! يا داني البثنية! الجمعة الجمعة.
وربما قال: يا أهل فنن! يا قاصي الغوطة! الجمعة الجمعة، لا تدعوها.
وعن أيوب بن ميسرة: أن معاوية كان يبعث حرساً من حرسه إلى كناكر وزاكية وقردا فيقول: إن هذا يوم عاشوراء، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصومه ونحن صائمون، فمن أحب أن يصومه فليصمه.
وعن ابن أبي ملكية قال: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس فأخبره بذلك، فقال: دعه فإنه قد صحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي رواية أن ابن عباس قال: أصاب أي بني! ليس أحد منا أعلم من معاوية، هي واحدة، أو خمس، أو سبع، إلى أكثر من ذلك، الوتر ما شاء.(25/49)
وفي رواية: أنه قيل لابن عباس: إن معاوية لم يوتر حتى أصبح، فأوتر بركعة. فقال: إن أمير المؤمنين عالم.
وعن القاسم بن محمد قال: قال معاوية: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا صلى الأمير جالساً فصلوا جلوساً.
قال القاسم: فتعجب الناس من صدق معاوية! قال البيهقي: فهذا جعفر بن محمد يرويه ويصدق القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، فيما يحكيه من تصديق الناس معاوية، والناس إذ ذاك، من بقي من الصحابة، ثم أكابر التابعين، ونحن نزعم أنه كان منسوخاً.
وعن محمد بن سيرين قال: كان معاوية لايتهم في الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان معاوية قليل الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال رجاء بن حيوة: كان معاوية ينهى عن الحديث يقول: لا تحدثوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: وما سمعته يروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا يوماً واحداً.
وعن أبي قبيل حيي بن هانئ:
أن معاوية صعد المنبر يوم الجمعة فقال عند خطبته: أيها الناس! إن المال مالنا، والفيء فيئنا، من شئنا أعطيناه، ومن شئنا منعناه. فلم يحبه أحد. فلما كان الجمعة الثانية قال مثل ذلك، فلم يجبه أحد. فلما كانت الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن حضر المسجد فقال: يا معاوية! كلا، إنما المال مالنا، والفيء فيئنا، من حال(25/50)
بيننا وبينه حاكمناه إلى الله بأسيافنا. فنزل معاوية، فأرسل إلى الرجل، فأدخل عليه فقال القوم: هلك الرجل. ففتح معاوية الأبواب، فدخل الناس عليه، فوجدوا الرجل معه على السرير، فقال معاوية للناس إن هذا أحياني أحياه الله، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: سيكون أئمة من بعدي، يقولون فلا يرد عليهم قولهم، يتقاحمون في النار كما تقاحم القردة. وإني تكلمت أول جمعة فلم يرد علي أحد، فخشيت أن أكون منهم؛ ثم تكلمت الثانية فلم يرد علي أحد، فقلت في نفسي: إني من القوم. فتكلمت الجمعة الثالثة، فقام هذا الرجل فرد علي، فأحياني أحياه الله، فرجوت أن يخرجني الله منهم. فأعطاه وأجازه.
قيل: إن هذا القائل لمعاوية هذا القول أبو بحرية عبد الله بن قيس السكوني.
وعن أبي مسلم الخولاني عن معاوية: أنه خطب الناس، وقد حبس العطاء شهرين أو ثلاثة، فقال له أبو مسلم: يا معاوية! إن هذا المال ليس بمالك ولا مال أبيك ولا مال أمك. فأشار معاوية إلى الناس أن امكثوا؛ فنزل واغتسل، ثم رجع فقال: أيها الناس! إن أبا مسلم ذكر أن هذا المال ليس بمالي ولا مال أبي ولا مال أمي، وصدق أبو مسلم، إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الغضب من الشيطان والشيطان من النار، والماء يطفئ النار، فإذا غضب أحدكم فليغتسل. اغدوا على عطائكم على بركة الله عز وجل.
وعن عطية بن قيس قال: خطبنا معاوية فقال: إن في بيت مالكم فضلاً عن عطائكم، وإني قاسم بينكم ذلك، فإن كان فيه قابلاً فضل قسمته عليكم، وإلا فلا عتيبة علي، فإنه ليس مالي، وإنما هو فيء الله الذي أفاء عليكم.(25/51)
وعن قتادة قال: لما انتهى كتاب الحكم بن عمرو إلى زياد كتب بذلك إلى معاوية، وجعل كتاب الحكم في جوف كتابه، فلما قدم الكتاب على معاوية خرج إلى الناس فأخبرهم بكتاب زياد وصنيع الحكم فقال: ما ترون؟ فقال بعضهم: أرى أن تصلبه. وقال بعضهم: أرى أن تقطع يديه ورجليه. وقال بعضهم: أرى أن تغرمه المال الذي أعطي. فقال معاوية: لبئس الوزراء أنتم! لوزراء فرعون كانوا خيراً منكم، أتأمروني أن أعمد إلى رجل آثر كتاب الله تعالى على كتابي، وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سنتي، فأقطع يديه ورجليه؟! بل أحسن وأجمل وأصاب! فكانت هذه مما يعد من مناقب معاوية.
قال أبو قبيل: كان معاوية قد جعل في كل قبيل رجلاً، وكان رجل منا يكنى أبا الجيش، يصيح في كل يوم، فيدور على المجالس: هل ولد فيكم الليلة ولد؟ هل حدث الليلة حدث؟ هل نزل بكم اليوم نازل؟ فيقولون: ولد لفلان غلام، ولفلان. فيقول: فما سمي؟ فيقال له، فيكتب، فيقول: هل نزل بكم الليلة نازل؟ فيقولون: نعم، نزل رجل من أهل اليمن، يسمونه وعياله، فإذا فرغ من القبيل كله أتى الديوان فأوقع أسماءهم في الديوان.
قال عبيد بن سلمان الطابخي: كنت جالساً عند معاوية، فرأيته متواضعاً، ولم أر له سياطاً غير مخاريق كمخاريق الصبيان، من رقاع قد فتلت يفقعون بها.(25/52)
قال يونس بن حلبس: رأيت معاوية في سوق دمشق، على بغلة له، وخلفه وصيف قد أردفه، عليه قميص مرقوع الجيب، وهو يسير في أسواق دمشق.
قال أبو إسحاق: ما رأيت بعد معاوية مثله. قال أبو بكر: وما ذكر عمر بن عبد العزيز! وفي رواية: وما استثنى أبو إسحاق عمر بن عبد العزيز! وقال مجاهد: لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي.
وعن العتبي قال: قال معاوية: لا أضع لساني حيث يكفيني مالي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي. فإذا لم أجد من السيف بداً ركبته.
وعنه، قال معاوية: أفضل ما أعطي الرجل العقل والحلم، وإذا ذكر ذكر، وإذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا غضب كظم، وإذا قدر غفر، وإذا أساء استغفر، وإذا وعد أنجز.
وعن ابن عمر قال: ما رأيت أحداً بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسود من معاوية.
وعنه قال:
ما رأيت أحداً كان أسود من معاوية! قال: قلت: ولا عمر؟ قال: كان عمر خيراً من معاوية، وكان معاوية أسود منه.
وفي حديث: قلت: هو كان أسود من أبي بكر؟ قال: أبو بكر كان خيراً منه، وكان هو أسود منه. قلت: فهو كان أسود من عمر؟ قال: عمر والله كان خيراً منه، وكان(25/53)
هو أسود منه. قلت: هو كان أسود من عثمان؟ قال: رحمة الله على عثمان، كان خيراً منه وهو أسود من عثمان.
وعن ابن عباس قال: ما رأيت أحداً أخلق للملك من معاوية! كان الناس يردون منه أرجاء واد رحب، ليس بالضيق الحصر العصعص المتغضب - يعني ابن الزبير.
زاد في رواية: العقص ابن الزبير.
قوله: يردون منه أرجاء واد رحب: شبهه بواد واسع لا يضيق على من ورده للشرب. والرجا: حرفه وشفيره. والحصر: الممسك البخيل.
والحصور: الضيق من الرجال. والعقص: السيئ الخلق، والمتلوي العسر. وفيه لغة أخرى: عكص، والشكس مثله.
قال جعدة بن هبيرة لجلسائه وعواده: إني قد علمت ما لم تعلموا، وأدركت ما لم تدركوا، وإنه سيجيء بعد هذا - يعني معاوية - أمراء ليسوا من رجاله، ولا من ضربائه، ليس فيهم إلا أصعر أو أبتر، حتى تقوم الساعة. هذا السلطان سلطان الله جعله، وليس أنتم تجعلونه، ألا وإن للراعي على الرعية حقاً، وللرعية على الراعي حق، فأدوا إليهم حقهم، وإن ظلموكم فكلوهم إلى الله تبارك وتعالى، فإنكم وإياهم تختصمون يوم القيامة، ألا وإن الخصم لصاحبه الذي أدى إليه الحق الذي عليه في الدنيا ثم قرأ: "(25/54)
فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ". حتى بلغ: " والوزن يومئذ القسط " وكذا قرأ " القسط ".
قال كعب: لن يملك أحد من هذه الأمة ما ملك معاوية.
قال معاوية: أنا أول الملوك.
وقال: أنا أول ملك وآخر خليفة.
وعن ابن عمر قال: معاوية من أحلم الناس. قالوا: يا أبا عبد الرحمن! وأبو بكر؟ قال: أبو بكر خير من معاوية، ومعاوية من أحلم الناس.
قال مسلمة بن محارب: ذكر عبد الملك يوماً معاوية فقال: ما رأيت مثل ابن هند في حلمه واحتماله وكرمه! لقد خرج حاجبه في يوم رهان إلى المقصورة، وأنا وحدي فيها، فنظر إلي، ثم دخل وخرج معاوية، فقمت إليه فتوكأ علي حتى انتهى إلى الخيل، فأرسلت، فسبق، ثم خرج في الحلبة الأخرى، وصنع مثلها فسبق، ثم خرج في الحلبة الثالثة، فخفت أن يتشاءم بي فتنحيت، فطلبني فجئت، وتوكأ علي، وأجرى الخيل فسبق، فأقبل علي فقال: يا بن مروان، هكذا القرح، هات حوائجك. قلت: ما لي حاجة. قال: عزمت عليك. فما سألته شيئاً إلا أنعم لي وأضعف.(25/55)
قال قبيصة بن جابر: ما رأيت رجلاً أعظم حلماً، ولا أكثر سؤدداً، ولا ألين مخرجاً في أمر من معاوية.
وقال: أيضاً: صحبت معاوية بن أبي سفيان، فما رأيت رجلاً أثقل حلماً، ولا أبطأ جهلاً، ولا أبعد أناة منه! وعن معاوية أنه قال: إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أوزن من حلمي.
أسمع رجل مرة معاوية كلاماً شديداً غضب منه أهله، فقيل له: لو سطوت عليه لكان له نكالاً، قال: إني لأستحي أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي.
قال رجل لمعاوية: يا أمير المؤمنين ما أحملك! قال: إني لأستحي أن يكون جرم رجل أعظم من حلمي.
وعن سفيان قال: قال معاوية: إني لأستحي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، أو يكون جهل أكثر من حلمي، أو تكون عورة لا أواريها بستري.
وقال معاوية: ما شيء أحمد عاقبة من جرعة غيظ أتجرعها.
خرج الحسين من عند معاوية، فلقي ابن الزبير، والحسين مغضب، فذكر الحسين أن معاوية ظلمه في حق له، فقال له الحسين: أخيره في ثلاث خصال، والرابعة الصيلم: أن يجعلك أو ابن عمر بيني وبينه، أو يقر بحقي ثم يسألني فأهبه له، أو يشتريه مني، فإن لم يفعل فو الذي نفسي بيده لأهتفن بحلف الفضول.
فقال(25/56)
ابن الزبير: والذي نفسي بيده لئن هتف به وأنا قاعد لأقومن، أو قائم لأمشين، أو ماش لأشتدن، حتى تفنى روحي مع روحك، أو ينصفك. ثم ذهب ابن الزبير إلى معاوية فقال: لقيني الحسين فخيرني في ثلاث خصال، والرابعة الصيلم. قال معاوية: لا حاجة لنا بالصيلم، إنك لقيته مغضباً، فهات الثلاث خصال. قال: تجعلني أو ابن عمر بينك وبينه. فقال: قد جعلتك بيني وبينه أو ابن عمر، أو جعلتكما جميعاً. قال: أو تقر له بحقه. قال: فأنا أقر له بحقه وأسأله إياه. قال: أو تشتريه منه. قال: فأنا أشتريه منه. قال: فلما انتهى إلى الرابعة قال لمعاوية كما قال للحسين: إن دعاني إلى حلف الفضول أجبته. قال معاوية: لا حاجة لنا بهذه. قال: وبلغني أن عبد الرحمن بن أبي بكر ومسور بن مخرمة قالا للحسين مثل قول ابن الزبير، فبلغ ذلك معاوية وعنده جبير بن مطعم، فقال له معاوية: يا أبا محمد! كنا في حلف الفضول. قال له جبير: لا.
وحكى الزبير نحو هذه القصة للحسن بن علي مع معاوية.
قال العتبي: قدم معاوية المدينة، فخرج إلى العقيق وخرج الناس إليه، فضربت له أبنية، فجاء(25/57)
أبو غليط بن عتبة بن أبي لهب، فعمد إلى جمل أجرب، فهنأه بالقطران، وركب وأداره في الشمس حتى هرج، ثم قصد به نحو معاوية، فلما نظر إلى الأبنية حمل الجمل عليها، والناس عنده جلوس فأقبل الجمل يقطع تلك الأبنية، وفزع الناس! فقال معاوية: أيها الناس! اجلسوا، إن هذا بعض جنون آل أبي لهب. فقال أبو عليط: والله ما أنا بالمجنون، وما أتانا الجنون إلا من قبل حرب بن أمية! ما زال الشيطان يخنقه حتى مات. وكان حرب بن أمية مات مخنوقاً، ذكروا أن الجن خنقته فمات.
دخل قوم من الأنصار على معاوية فقال لهم: يا معشر الأنصار! قريش لكم خير منكم لها؛ فإن يكن ذلك لقتلي أحد، فقد نلتم يوم بدر مثلهم؛ وإن يكن ذلك للأثرة، فو الله ما تركتم إلى صلتكم سبيلاً، لقد خذلتم عثمان يوم الدار، وقتلتم أنصاره يوم الجمل، وصليتم بالأمر يوم صفين. فتكلم رجل منهم فقال: أقلت قريش خير لنا منا لها؟ فإن فعلوا فقد أسكناهم الدار، وقاسمناهم الأموال، وبذلنا لهم الديار، ودفعنا عنهم العدو وأنت سيد قريش، فهل لهذا عندك جزاء؟ وأما قولك إن يكن ذلك لقتلى أحد، فإن قتيلنا وحينا ثائر؛ وأما ذكرك الأثرة، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا بالصبر عليها، وأما خذلان عثمان فإن الأمر في عثمان ما كان إلا جفلى - يريد الجمع - وأما قتل أنصاره يوم الجمل فما لا يعتذر منه؛ وأما قولك إنا صلينا بالأمر يوم صفين فإنا كنا مع رجل لم نأله خيراً. وقاموا وخرجوا، فقال معاوية: ردوهم، فو الله ما فرغ من كلامه حتى ضاق بي مجلسي! أما كان فيكم رجل يجيبه؟! فردوهم فترضاهم ووصلهم.
جرى بين معاوية وبين أبي الجهم كلام، حتى كان من أبي الجهم إلى معاوية كلام غمه، فأطرق ثم رفع رأسه فقال: يا أبا الجهم! إياك والسلطان، فإنه يغضب غضب(25/58)
الصبيان، ويعاقب عقاب الأسد، وإن قليله يغلب كثير الناس. ثم أمر له بمال، فأنشأ أبو الجهم يقول: من الوافر
نميل على جوانبه كأنا ... إذا ملنا نميل على أبينا
نقلبه لنخبر حالتيه ... فنخبر منهما كرماً ولينا
طاف الحسن بن علي مع معاوية، فكان يمشي بين يديه فقال: ما أشبه أليتيه بأليتي هند! فسمعه معاوية، فالتفت إليه فقال: أما إنه كان يعجب أبا سفيان.
قال عبد الرحمن بن أبي الحكم لمعاوية: يا أمير المؤمنين! إن فلاناً يشتمني. قال: تطأطأ لها، تمر، فتجاوزك.
قال رجل لمعاوية: ما رأيت أنذل منك! قال: بلى من واجه الرجال بمثله.
قال معاوية: ما يسرني بذل الكرم حمر النعم.
قال معاوية: يا بني أمية! قاربوا قريشاً بالحلم، فو الله إن كنت لألقى الرجل منهم في الجاهلية فيوسعني شتماً وأوسعه حلماً، فأرجع وهو صديقي، أستنجده فينجدني، وأثور به فيثور معي، وما رفع الحلم عن شريف شرفه ولا زاده إلا كرماً.
قال معاوية: آفة الحلم الذل.(25/59)
قال معاوية: لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة الحلم.
قال معاوية: العقل عقلان، عقل تجارب، وعقل نحيزة؛ فإذا اجتمعا في رجل، فذاك الذي لا يقام انفراداً له، وإذا انفردا كانت النحيزة أولاهما.
قال أبو عبيدة:
كان الرجل يقول لمعاوية: فو الله لتستقيمن يا معاوية، أو لنقومنك. فيقول: بماذا؟ فيقول: بالخشب. فيقول: إذاً أستقيم.
قال هشام بن عروة: صلى بنا عبد الله بن الزبير الغداة ذات يوم، فوجم بعد الصلاة وجوماً لم يكن يفعله، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: لله در ابن هند! أما والله إن كنا نتخدعه فيتخادع لنا، وما ابن ليلة بأدهى منه، لله در ابن هند! أما والله إن كنا نفرقه فيتفارق لنا، وما الليث الحرب بأجرأ منه! كان والله كما قال بطحاء العذري: من المتقارب
ركوب المنابر وثابها ... معن بخطبته مجهر
تريع إليه فصوص الكلام ... إذا نثر الخطل المهمر(25/60)
كان والله كما قالت بنت رقيقة: من الهزج
ألا ابكيه ألا ابكيه ... ألا كل الفتى فيه
والله لوددت أنه بقي ما بقي أبو قبيس؛ لا يتحول له عقل، ولا تنتقص له قوة. قال: فعرفنا أن الشيخ قد استوحش له.
قيل لمعاوية: من أسود الناس؟ قال: أسخاهم نفساً حين يسأل، وأحسنهم في المجالس خلقاً، وأحلمهم حين يستجهل.
كان معاوية يتمثل بهذه الأبيات: من الوافر
فما قتل السفاهة مثل حلم ... يعود به على الجهل الحليم
فلا تسفه وإن ملئت غيظاً ... على أحد فإن الفحش لوم
ولا تقطع أخاً لك عند ذنب ... فإن الذنب يغفره الكريم
ذكر معاوية عند ابن عباس فقال: لله تلاد ابن هند، ما أكرم حسبه! وأكرم مقدرته! والله ما شتمنا على منبر قط، ولا بالأرض، ضناً منه بأحسابنا وحسبه.
قال ابن عباس: قد علمت بما كان معاوية يغلب الناس، كانوا إذا طاروا وقع، وإذا وقعوا طار.
قال زياد: ما غلبني معاوية في السياسة إلا في أمر واحد، استعمل رجلاً من بني تميم، فكسر(25/61)
الخراج، ولحق بمعاوية. فكتب إليه إن هذا أدب سوء، فابعث به إلي. فكتب إليه: لا يصلح أن نسوس الناس أنا وأنت بسياسة واحدة؛ فإنا إن نشتد نهلك الناس، ونخرجهم إلى أسوأ أخلاقهم، وإن لنا جميعاً أبطرهم ذلك، ولكن ألين وتشتد، وتلين وأشتد، فإذا خاف خائف وجد باباً يدخله.
وفي حديث آخر: ولتكن للشدة والفظاظة والغلظة، وأكون أنا للين والألفة والرحمة.
كتب عمرو بن العاص إلى معاوية يعاتبه في التأني، فكتب إليه معاوية: أما بعد؛ فإن التفهم زيادة ورشد، وإن الرشيد من رشد عن العجلة، وإن الخائب من خاب عن الأناة، وإن المتثبت مصيب، أو كاد يكون مصيباً، وإن العجل يخطئ، أو كاد يكون مخطئاً، وإنه من لا ينفعه الرفق يضره الخرق، ومن لا تنفعه التجارب لا يدرك المعالي، ولا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة الحلم.
قيل لمعاوية: إنا نراك تقدم حتى نقول يقبل، وتتأخر حتى نقول لا يرجع! قال: أتقدم ما كان التقدم غنماً، وأتأخر ما كان التأخر حزماً.
قال بعض الشعراء: من الطويل
شجاع إذا ما أمكنتني فرصة ... وإن لم يكن لي فرصة فجبان(25/62)
قيل لمعاوية: من أحلم أنت أو زياد؟ قال: إن زياداً لا يترك إلا من يفترق عليه، وأنا أتركه يفترق علي ثم أجمعه.
قال الشعبي: كان دهاة العرب أربعة. فذكر أحدهم معاوية: فأما معاوية فكان يدبر الأمر فيقع بعد عشرين سنة.
خرج عبد الملك بن مروان ومعه نافع بن جبير بن مطعم، فوقف على راهب فذكر الراهب الخلفاء، فأطرى معاوية، فقال عبد الملك لنافع: لشد ما أطرى ابن هند! فقال نافع: إن ابن هند أصمته الحلم وأنطقه العلم، بجأش ربيط، وكف ندية.
قال قبيصة بن جابر قال: لم أعاشر أحداً كان أرحب باعاً بالمعروف منك يا معاوية.
وعن جويرية قال: قعد معاوية وعمرو ذات يوم، فقال معاوية: ما شيء أصبته أحب إلي من عين فوارة في أرض خوارة أصبتها من صاحبها بطيب نفسه. فقال عمرو: لكني لست هكذا، ما شيء أصبته أحب إلي من أن أصبح عروساً بعقيلة من عقائل العرب. ورجل جالس فقال: لكني لست هكذا، ما شيء أصبته أحب إلي من الفضل على الإخوان. فقال معاوية: أنا أحق بها منك لا أم لك. قال: فقد قدرت يا أمير المؤمنين.
قال سعيد بن عبد العزيز: قضى معاوية عن عائشة ثمانية عشر ألف دينار.
بعث معاوية إلى عائشة مرة بمئة ألف، فما أمست من ذلك اليوم حتى فرقتها، فقالت مولاة لها: لو اشتريت لنا من هذه الدراهم بدرهم لحماً. فقالت: لو قلت لي قبل أن أفرقها فعلت.(25/63)
قال عطاء: قدمت عائشة مكة، فأرسل إليها معاوية بطوق قيمته مئة ألف فقبلته.
دخل الحسن بن علي بن أبي طالب على معاوية فقال: أما والله لأجيزنك اليوم بجائزة لم أجزها أحداً من قبلك من العرب، ولا أجيزها بعدك. قال: فأعطاه أربع مئة ألف فأخذها.
دخل الحسن والحسين على معاوية فأمر لهما في وقته بمئتي ألف درهم وقال: خذاها وأنا ابن هند، ما أعطاها أحد قبلي، ولا يعطيها أحد بعدي. قال: فأما الحسن فكان رجلاً مسكيناً، وأما الحسين فقال: والله ما أعطى أحد قبلك ولا أحد بعدك لرجلين أشرف ولا أفضل منا.
أرسل الحسن بن علي وابن جعفر إلى معاوية يسألانه المال. فبعث بمئة ألف درهم، أو لكل رجل منهما بمئة ألف فبلغ ذلك علياً فقال لهما: ألا تستحيان! رجل يطعن في عينه غدوة وعشية، تسألانه المال! قال: لأنك حرمتنا وجاد لنا.
كان معاوية إذا تلقى الحسن بن علي قال له: مرحباً وأهلاً بابن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا تلقى عبد الله بن الزبير قال له: مرحباً بابن عمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأمر للحسن بن علي بثلاث مئة ألف، ولعبد الله بن الزبير بمئة ألف.
أمر معاوية للحسن بن علي بمئة ألف درهم، فذهب بها إليه، فقال لمن حوله: من أخذ شيئاً فهو له. وأمر للحسين بن علي بمئة ألف فذهب بها إليه وعنده عشرة فقسمها عليهم عشرة آلاف عشرة آلاف، وأمر لعبد الله بن جعفر بمئة ألف فذهب بها إليه. فأرسلت إليه امرأته أرسل بها إلي. فأرسل إليها: تعالي أنت وجواريك، وصفقن وخذنها. ففعلن، فأخذنها. فقال معاوية: ما كان عليه لو لم يفعل هذا. فأمر لمروان بن(25/64)
الحكم بمئة ألف، فذهب بها إليه فقسم خمسين ألفاً وحبس خمسين ألفاً، وأمر لعبد الله بن عمر بمئة ألف، فقسم تسعين ألفاً وحبس عشرة آلاف فقال معاوية: مقتصد يحب الاقتصاد. وأمر لعبد الله بن الزبير بمئة ألف، فذهب بها إليه الرسول فقال: من أمرك أن تجيء بها بالنهار؟ ألا جئت بها بالليل. فبلغت معاوية فقال: خب ضب، كأنك به قد رفع ذنبه فقطع.
وكان الحسن والحسين رضي الله عنهما يقبلان جوائز معاوية.
كان لعبد الله بن جعفر من معاوية ألف ألف في كل عام ومئة حاجة، يختم معاوية على أصل الأديم ثم يقول: اكتب يا بن جعفر ما بدا لك فقضى عاماً حوائجه وبقيت حاجة لأهل الحجاز. وقدم أصبهبذ سجستان يطلب إلى معاوية أن يملكه سجستان ويعطي من قضاء حاجته ألف ألف درهم، وعند معاوية يومئذ وفد العراق: الأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود، ومالك بن مسمع، فأتاهم الأصبهبذ فقال له الأحنف: أيسرك أن نغرك؟ قال: لا. قال: فإنا لسنا بأصحابك، ولكن ائت عبد الله بن جعفر، فإن كان بقي لك شيء من حوائجه جعله لك. فأتى ابن جعفر فذكر له حاجته. فقال: بقيت لي حاجة كانت لغيرك، فأما إذ قصدتني فهي لك. ودخل ابن جعفر على معاوية يودعه فقال: بقيت لي حاجة كنت جعلتها لأهل الحجاز فعرض فيها أصبهبذ سجستان، فأنا أحب أن تملكه. فقال معاوية: إنه يعطى على حاجته هذه ألف ألف درهم. قال أبن جعفر: فذاك أحرى أن تقضيها. فقال: قد قضيت حاجتك؛ يا سعد! اكتب له عهده على سجستان. فكتب له عهده، فأخذه ابن جعفر والدهقان على الباب ينتظر ابن جعفر، فخرج فأعطاه العهد، فحمل له الأصبهبذ إليه من غد ألف ألف درهم وسجد له، فقال له ابن جعفر: اسجد لله عز وجل، واحمل هذا المال إلى رحلك، فإنا أهل بيت لا نبيع المعروف بالمن. فبلغ معاوية فقال: لأن يكون يزيد قالها(25/65)
أحب إلي من خراج العراق! أبت بنو هاشم إلا كرماً. فقال ابن الزبير الأسدي: من الوافر
تواكل حاجة الدهقان قوم ... هم الشفعاء من أهل العراق
الأحنف وابن مسمع والمنادى ... به حين النفوس لدى التراقي
وكان المنذر المأمول منهم ... وليس الدلو إلا بالعراق
وقد أعطي عليها ألف ألف ... بنجح قضائها قبل الفراق
فقالوا لا نطيق لها قضاء ... وليس لها سوى الضخم السياق
فدونكها ابن جعفر فارتصدها ... وقد بقى من الحاجات باق
فقد أدركت ما أملت منه ... فراح بنجحها رخو الخناق
وجاء المرزبان بألف ألف ... فما زلت بصاحبنا المراقي
فقال خدبها إنا أناس ... نرى الأموال كالماء المراق
ولسنا نتبع المعروف منا ... ولا نبغي به ثمن المذاق
كان لعبد الله بن جعفر من معاوية في كل سنة ألف ألف، فاجتمع عليه خمس مئة ألف دينار، فألح عليه غرماؤه فيها فاستأجلهم إلى أن يرحل إلى معاوية فأجلوه، فرحل إليه فمر بالمدينة على ابن الزبير فقال له: إلى أين؟ قال: أردت أمير المؤمنين يصل قرابتي ويقضي ديني. قال: لتجدنه متعبساً. فقال: بالله الثقة وعليه التوكل. فقال له ابن الزبير: هل لك في صاحب صدق؟ فقال: بالرحب والسعة. فرحلا جميعاً، فاستشرف أهل الشام عبد الله بن جعفر فقالوا: قدم ابن جعفر في غير وقته. فلما وصل استأذن على معاوية فأذن له، وأجلسه عن يمينه، ثم أذن لابن الزبير فأجلسه عن يمين ابن جعفر فساءله فأنعم السؤال ثم قال: ما أقدمك يا بن جعفر؟ قال: يا أمير المؤمنين(25/66)
تصل قرابتي وتقضي ديني. قال: وما دينك؟ قال: خمس مئة ألف. قال: قد فعلت. فأقبل عبد الله بن جعفر على ابن الزبير فقال: من الطويل
لعمرك ما ألفيته متعبساً ... ولا ماله دون الصديق حراماً
إذا ما ملمات الأمور احتوينه ... يفرج عنها كالهلال حسما
فقال معاوية: كأنك مررت بابن الزبير فقال لك: أين تريد؟ فقلت: أمير المؤمنين يصل قرابتي ويقضي ديني، فقال لك لتجدنه متعبساً! فقال ابن جعفر: لا تظن إلا الخير يا أمير المؤمنين. فقال معاوية: يا ابن جعفر! من الكامل
إني سمعت مع الصباح منادياً ... يا من يعين لما جد معوان
طلب المروءة بالمروءة كلها ... حتى تحلق قي ذرى البنيان
ما أقدمك يا بن الزبير؟ قال: يا أمير المؤمنين! تصل قرابتي وتقضي ديني. قال: وما دينك؟ قال: مئة ألف. قال: قد فعلت. ثم نهضا لقبضها فقال معاوية: يا بن جعفر، إن الألف ألف تأتيك لوقتها.
قال ابن عباس لمعاوية: لا يخزيني الله ولا يسوؤني ما أبقى الله أمير المؤمنين. فأعطاه ألف ألف رقة وعروضاً وأشياء، وقال: خذها فاقسمها في أهلك.
وعن قتادة قال: قال معاوية: واعجباً للحسن! شرب شربة من عسل يمانية بماء رومة فقضى نحبه! ثم قال لابن عباس: لا يخزيك الله ولا يسوؤك، ولا يخزيك في الحسن.(25/67)
فقال: أما ما أبقى الله لي أمير المؤمنين، فلن يسوءني الله، ولن يخزيني. فأعطاه ألف ألف ما بين عروض وعين. فقال: اقسم هذا في أهلك.
قال عبد الله بن جعفر: كنت مع معاوية في خضراء دمشق، إذ طلعت رؤوس إبل من نقب المدينة فقال: مرحباً وأهلاً بفتيان من قريش، أنفقوا أموالهم في مروآتهم وأدنوا فيها، ثم قالوا: نأتي أمير المؤمنين فيخلف لنا أموالنا، ويقضي عنا ديوننا. والله لا يحلون عنده حتى يرجعوا بجميع ما سألوا. قال: فدخلوا على معاوية وأنيخت ركابهم، فخرجوا من عنده بحوائجهم حتى عادوا إلى ظهور رواحلهم منصرفين إلى أوطانهم.
ثم شهدت عبد الملك بن مروان في تيك الخضراء، إذ طلعت رؤوس إبل من نقب المدينة، فقال عبد الملك: لا مرحباً ولا سهلاً، فتيان من فتيان المدينة، أنفقوا أموالهم وأدانوا فيها. فقالوا: نأتي أمير المؤمنين فيقضي عنا ديوننا، ويقرعنا للذاتنا. والله لا يحلون عنده حتى يرجعوا كما جاؤوا. قال: ثم أمر بهم فنخس بهم. قال: فعجبت لتباعد الأمرين مع قربهما.
قيل لمعاوية: أيكم كان أشرف، أنتم أو بنو هاشم؟ قال: كنا أكثر أشرافاً وكانوا أشرف واحداً، لم يكن في بني عبد مناف مثل هاشم، فلما هلك كنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً، وكان فيهم عبد المطلب، ولم يكن فينا مثله، فصرنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً، ولم يكن فيهم واحد كواحدنا، وما كان إلا كقرار العين، حتى جاء شيء لم يسمع الأولون بمثله ولا يسمع الآخرون بمثله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(25/68)
وعن مجالد بن سعيد أنه قال: رحم الله معاوية، ما كان أشد حبه للعرب! وعن ابن عباس:
أن عمرو بن العاص قال لمعاوية بن أبي سفيان: رأيت فيما يرى النائم أبا بكر كئيباً حزيناً قد أخذ بضبعيه رجلان، قلت: بأبي أنت وأمي يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ما شأنك؟ أراك كئيباً حزيناً! قال: وكل بي هذان الرجلان ليحاسباني بما ترى. وإذا صحف ليس بالكثيرة، ورأيت عمر بن الخطاب كئيباً حزيناً، وقد أخذ بضبعيه رجلان، فقلت: بأبي وأمي أنت يا أمير المؤمنين! مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: وكل بي هذان الرجلان ليحاسباني بما ترى. وإذا صحف مثل الحزورة - جبيل ليس بالضخم - ثم رأيت عثمان بن عثمان كئيباً حزيناً، فقال: وكل بي هذان يحاسباني بما ترى. وإذا صحف مثل الخندمة - جبل إذا دخلت البطحاء عن يسارك - ورأيتك يا معاوية كئيباً حزيناً وقد أخذ بضبعيك رجلان قد ألجمك العرق، فقلت: بأبي وأمي يا أمير المؤمنين! مالي أراك كئيباً حزيناً؟ فقلت: وكل بي هذان ليحاسباني بما ترى.
وإذا صحف مثل أحد وثبير فقال معاوية: أما رأيت ثم دنانير مصر؟ قال العتبي: دخل عمرو بن العاص على معاوية وقد ورد عليه كتاب بعض ولاته فيه نعي رجل من السلف، فاسترجع معاوية فقال عمرو: من الوافر
يموت الصالحون وأنت حي ... تخطأك المنايا لا تموت
فقال معاوية: من الوافر
أترجو أن أموت وأنت حي ... فلست بميت حتى تموت(25/69)
انحدر عبد الله وعمرو ابنا عتبة إلى البصرة، فلقيا معاوية بالكوفة قالا: فقال لنا: يا أبناء أخي اتقيا الله، فإنها تكفي من غيرها، واشتريا بالمعروف عرضكما من الأذى، وذللا ألسنتكما بالوعد، وصدقاها منكما بالفعال، واعلما أن الطلب وإن قل أعظم من الحاجة قدراً وإن عظمت، واعلماً أن أغنى الناس من كثرت حسناته وأفقرهم من كثرت سيئاته، وأنه لا وجع أشد من الذنوب، وأن الدهر ليس بغافل عن من غفل.
قيل لابن السماك: أي الأعداء لا يحب أن يعود صديقاً؟ قال: من سبب عداوته النعمة؛ يعني الحاسد. ثم قال ابن السماك: قال معاوية: كل الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها.
قال معاوية: المروءة ترك اللذة، وعصيان الهوى.
وقال معاوية: المروءة في أربع: العفاف في الإسلام، واستصلاح المال، وحفظ الإخوان، وعون الجار.
وقال معاوية لبنيه: يا بني إنكم تجار قوم لا تجارة لهم غيركم، فلا يكون تجار أربح منكم، فإن أدنى ما يرجع به الخائب عنكم تخطئة ظنه فيكم.
كان عبد الصمد بن علي لا يخضب، فقيل له: لو خضبت؛ قال أتشبه بشيخ من بني عبد مناف، كان له شأن، فقيل له: علي؟ قال: لم أرد علياً، إنما عنيت معاوية، كان لا يخضب.
كان معاوية يقول الشعر، فلما ولي الخلافة أتاه أهله فقالوا: قد بلغت الغاية فما تصنع بالشعر؟ ثم ارتاح يوماً فقال: من الوافر
سرحت سفاهتي وأرحت حلمي ... وفي على تحملي اعتراض
على أني أجيب إذا دعتني ... إلى حاجاتها الحدق المراض(25/70)
قال الشعبي: أول من خطب جالساً معاوية، حين كثر شحمه، وعظم بطنه.
وقال ميمون: أول من جلس على المنبر معاوية، واستأذن الناس في القعود، فأذنوا له.
قال إبراهيم: أول من جلس في الخطبة يوم الجمعة معاوية.
قال سعيد بن المسيب: أول من أذن وأقام يوم الفطر والنحر معاوية، ولم يكن قبل ذلك أذان ولا إقامة.
وعن أبي هريرة: أنه حدث خلاد بن رافع عن صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوصفها له، يكبر إذا سجد، وإذا رفع رأسه كصلاة الهاشميين. قال له خلاد: فمن أول من ترك ذلك؟ قال: معاوية.
وعن ابن شهاب قال: أول من أخذ الزكاة من الأعطية معاوية بن أبي سفيان.
وعن أبي كريب قال: تمتع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر، وأول من نهى عنها معاوية. يعني متعة الحج.
قالوا: ولم يكن للدور أبواب، كان أهل العراق وأهل مصر يأتون بقطراتهم، فيدخلون دور مكة فيربطون بها، وأول من بوب معاوية.
سئل الزهري عن أول من قضى: لا يرث المسلم الكافر؟ قال: مضت السنة من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر وعثمان، أن لا يرث المسلم(25/71)
الكافر ولا الكافر المسلم؛ وكان معاوية أول من قضى بأن المسلم يرث الكافر، وأن الكافر لا يرث المسلم؛ ثم قضى بذلك بنو أمية بعد معاوية حتى كان عمر بن عبد العزيز، فراجع السنة الأولى، وقضى بأن لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، ثم رد ذلك هشام بن عبد الملك إلى قضاء معاوية، وبنو أمية بعد.
وقال الزهري: كانت السنة الأولى أن دية المعاهد كدية المسلم، فكان معاوية أول من قصرها إلى نصف الدية، وأخذ نصف الدية لنفسه.
وقال ميمون: أول من وضع شرف العطاء فصيرها إلى عشرين ألفاً، وأول من قتل صبراً معاوية.
وعن البراء قال: مر أبو سفيان بن حرب برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعاوية خلفه، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قنة، وكان معاوية رجلاً مستهاً فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم عليك بصاحب الأسنة.
قال محمد بن كعب: إنا لجلوس مع البراء في مسجد الكوفة إذ دخل قاص، فجلس فقص، ثم دعا للخاصة والعامة، ثم دعا للخليفة، ومعاوية يومئذ الخليفة، فقلنا للبراء: يا أبا إبراهيم! دخل هذا فدعا للخاصة والعامة، ثم دعا لمعاوية فلم نسمعك قلت شيئاً! فقال: إنا شهدنا وغبتم، وعلمنا وجهلتم، إنا بينا نحن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحنين إذ أقبلت امرأة حتى وقفت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: إن أبا سفيان وابنه معاوية أخذا بعيراً لي فغيباه علي. فبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً إلى أبي سفيان بن حرب ومعاوية: أن ردا على المرأة بعيرها. فأرسلا: إنا والله ما أخذناه، وما ندري أين هو. فعاد إليها الرسول فقالا: والله(25/72)
ما أخذناه وما ندري أين هو. فغضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى رأينا لوجهه ظلالاً ثم قال: انطلق إليهما فقل لهما: بل والله إنكما صاحباه، فأديا إلى المرأة بعيرها. فجاء الرسول إليهما وقد أناخا البعير وعقلاه فقالا: إنا والله ما أخذناه، ولكن طلبناه حتى أصبناه. فقال لهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذهبا.
قال نبيح الغنزي: كنت عند أبي سعيد الخدري وهو متكئ، فذكرنا علياً ومعاوية، فتناول رجل معاوية، فاستوى جالساً ثم قال: كنا ننزل رفاقاً مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكنت في رفقة أبي بكر، فنزلنا على أهل أبيات - أو قال: بيت - قال: وفيهم امرأة حبلى، ومعنا رجل من أهل البادية، فقال لها البدوي: أيسرك أن تلدي غلاماً إن جعلت لي شاة؟ فولدت غلاماً فأعطته شاة، فسجع لها أساجيع، فذبحت الشاة وطبخت، فأكلنا منها ومعنا أبو بكر، فذكر أمر الشاة، فرأيت أبا بكر متبرزاً مستنتلاً يتقيأ، ثم أتي عمر بذلك الرجل البدوي يهجو الأنصار فقال عمر: لولا أن له صحبة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أدري ما نال فيها لكفيتكموه، ولكن له صحبة.
وعن الحسن قال: قلت: يا أبا سعيد! إن ناساً يشهدون على معاوية وذويه أنهم في النار! فقال: لعنهم الله، وما يدريهم أنهم في النار؟ وعن الزهري قال: سألت سعيد بن المسيب عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: اسمع يا زهري من مات محباً لأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وشهد للعشرة بالجنة، وترحم على معاوية، كان حقيقاً على الله عز وجل أن لا يناقشه الحساب.
وعن ابن يزيد قال: ذكر معاوية عند حسن بن حي، فنالوا منه، فقال حسن: لو لم تكفوا عن(25/73)
معاوية، ألا إنه كان من عمال عمر بن الخطاب، وقد كانت له برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصاهرة.
سئل ابن المبارك عن معاوية فقيل له: ما تقول فيه؟ قال: ما أقول في رجل قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سمع الله لمن حمده. فقال معاوية من خلفه: ربنا ولك الحمد. فقيل له: ما تقول في معاوية؟ هو عندك أفضل أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لتراب في منخري معاوية مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير - أو أفضل - من عمر بن عبد العزيز.
سأل رجل المعافي بن عمران فقال: يا أبا مسعود! أين عمر بن عبد العزيز من معاوية؟ فغضب من ذلك غضباً شديداً وقال: لا يقاس بأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد! معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله عز وجل، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعوا لي أصحابي وأصهاري، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وفي رواية: فغضب وقال: يوم من معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز عمره. ثم التفت إليه فقال: تجعل رجلاً من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل رجل من التابعين! وفي رواية عن الفضل بن عنبسة: أنه سئل: معاوية أفضل أم عمر بن عبد العزيز؟ فعجب من ذلك وقال: سبحان اللهّ أأجعل من رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كمن لم يره؟! قالها ثلاثاً.
وقال عبد الله بن المبارك: معاوية عندنا محنة، فمن رأيناه ينظر إلى معاوية شزراً اتهمناه على القوم، أعني على أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
جاء رجل سفيان فقال: ما تقول في شتم معاوية؟ قال: متى عهدك بشتيمة فرعون؟ قال: ما خطر ببالي. قال: ففرعون أولى بالشتم.
قال الربيع بن نافع: معاوية ستر أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه.(25/74)
وعن أحمد بن حنبل أنه قال: إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسوء فاتهمه على الإسلام.
سئل أبو عبد الله عن رجل انتقص معاوية وعمرو بن العاص، أيقال له رافضي؟ قال: إنه لم يجتر عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما يبغض أحد أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وله داخلة سوء.
قال وكيع: معاوية بمنزلة حلقة الباب، من حركه اتهمناه على من فوقه.
قال جعدة بن هبيرة في مرضه الذي هلك فيه لعواده وجلسائه: إني قد أدركت ما لم تدركوا، وعلمت ما لم تعلموا، إنه سيكون بعد هذا أمراء - يعني معاوية - ليسوا من ضربائه، ولا من رجاله، ليس منهم إلا أصعر أو أبتر، حتى تقوم الساعة، ألا وإن السلطان سلطان الله، جعله الله، ليس أنتم جعلتموه، ألا وإن للراعي على الرعية حقاً، وللرعية على الراعي حقاً، فأدوا إليهم حقهم، وإن ظلموكم حقكم فكلوهم إلى الله، فإنكم وإياهم مختصمون يوم القيامة، وإن الخصم لصاحبه، الذي أدى الحق الذي عليه في الدنيا. ثم قرأ: " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين، فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين، والوزن يومئذ القسط ".
قال أبو جعفر الرازي: وقع إلينا شيخ بخراسان ممن لقي بعض أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله يزيد النخوي عن آية من كتاب الله، فقرأ فلحن، فقال يزيد: تلحن؟! فقال: إني سمعت(25/75)
الله عير بالذنب ولم أسمعه عير باللحن. فقال له يزيد: ما شهادتك على معاوية؟ قال: أنا على دين نوح " إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون ".
قال إبراهيم بن ميسرة: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قط إلا إنساناً شتم معاوية، فإنه ضربه أسواطاً.
قال محمد بن الحسن: بينما أنا فوق جبل الأسود بالشام ناحية البحر إذ هتف هاتف وهو يقول: من أبغض الصديق فذاك زنديق، من أبغض عمر إلى جهنم زمر، من أبغض عثمان فذاك خصمه الرحمان، من أبغض علياً فذاك خصمه النبي، من أبغض معاوية تسحبه الزبانية، إلى نار الله الحامية، في السر والعلانية، ويرمى به في الهاوية، هكذا جزاء الرافضة، احذروا سلم العشرة، ممن سبقوا إلى الله وإلى الرسول، فهم خيرة الله من خلقه.
قال الفقيه أبو طاهر الحسين بن منصور بن محمد بن يعقوب - وكان رجلاً سنياً شفعوياً، إلا أنه كان يتشيع قليلاً - قال: كنت أبغض معاوية وألعنه، فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم كأنه دخل داري، وفي الدار حمام، دخل الحمام واغتسل، فلما خرج من الحمام ركب بغلة، وكان بين يديه رجل قائم أصفر اللون، فسلمت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: يا أبا طاهر لا تلعنه ولا تبغضه. قلت: من هو يا رسول الله؟ قال: هو معاوية بن أبي سفيان، أخي، كاتب الوحي.
قال محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب - وكان من الأبدال - قال:
رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم جالساً، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي جلوس معه،(25/76)
ومعاوية قائم بين يديه، فأتي برجل، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! هذا يذكرنا وينتقصنا. فكأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهر الرجل - قال الحميدي: وكنت أعرف الرجل - فقال الرجل: أما هؤلاء فلا، ولكن هذا - يعني معاوية - فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويلك! أو ليس معاوية من أصحابي؟! ويلك أو ليس معاوية من أصحابي؟! - ثلاثاً - وفي يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حربة، فدفعها إلى معاوية وقال: جأ بهذه في لبته. فوجأ بها في لبته؛ وانتبهت، فبكرت إلي منزل الرجل، فإذا الذبحة قد طرقته ومات في الليل.
قال أبو عمرو: بلغني أن هذا الرجل راشد الكندي.
قال إبراهيم بن الأشعث: ما سمعت الفضيل قط ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح إلا بكى وتنفس، أو رئي فيه الحزن. وكان إذا ذكر علياً وعثمان دمعت عيناه وأكثر الترحم عليهما، وسمعته يترحم على معاوية ويقول: كان من العلماء الكبار، من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن ابتلي بحب الدنيا.
قال العتبي: قيل لمعاوية: أسرع إليك الشيب. فقال: كيف لا يسرع إلي الشيب، ولا أعدم رجلاً من العرب قائماً على رأسي، يلقح لي كلاماً يلزمني جوابه، فإن أنا أصبت لم أحمد وإن أنا أخطأت سارت به البرد.
وعن معاوية قال: لقد نتفت الشيب كذا وكذا سنة. وكان يخرج إلى مصلاه ورداؤه يحمل، فإذا دخل مصلاه جعل عليه، قال: وذاك من الكبر. ودخل عليه إنسان وهو يبكي فقال: ما يبكيك؟ قال: هذا الذي كنتم تمنون لي.(25/77)
قال يزيد بن أبي زياد: خرج معاوية حاجاً، فاطلع في بئر عادية فأصابته اللقوة، فخرج على الناس معصباً وجهه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إن ابن آدم بعرض بلاء؛ إما معافى فيشكر، وإما مبتلى فيصبر، وإما معاقب بذنب؛ ولست أعتذر من إحدى ثلاث: إن ابتليت فقد ابتلي الصالحون قبلي، وآمل أن أكون منهم، ولئن عوفيت فلقد عوفي الخطاؤون قبلي، وما آمن أن أكون أحدهم، ولئن ابتليت في أحسني فما أحصي صحيحي وإما أن تكون عقوبة من ربي.
زاد في غيره: ولو كان الأمر إلى نفسي ما كان لي على ربي أكثر مما أعطاني، فأنا ابن بضع وستين، فرحم الله عبداً دعا لي بالعافية، فو الله لئن عتب علي بعض خاصتكم لقد كنت حدباً على عامتكم. قال: فعج الناس يدعون له، فبكى معاوية، فلما خرجوا من عنده قال له مروان بن الحكم: يا أمير المؤمنين! لم بكيت؟ قال: يا مروان! كبر سني، ودق عظمي، وابتليت في أحسن ما يبدو مني، وخشيت أن تكون عقوبة من ربي، ولولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي.
وعن عبادة بن نسي قال: خطبنا معاوية بالصنبرة، قال: لقد شهد معي صفين ثلاث مئة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما بقي منهم أحد غيري، وإنما ذلك فناء قربي، وإن فناء الرجل فناء قرنه. ثم ودعنا وصعد الثنية، فكان آخر العهد به.(25/78)
ومن حديثين، عن عبادة بن نسي، وثمامة بن كلثوم: أن آخر خطبة خطبها معاوية أن قال: أيها الناس! إني من زرع قد استحصد، وقد طالت إمرتي عليكم حتى مللتموني ومللتكم، وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي، وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد بعدي إلا من هو شر مني، كما كان من قبلي خيراً مني، وقد قيل: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحب لقائي؛ ويا يزيد! إذا وفى أجلي فول غسلي رجلاً لبيباً، فإن اللبيب من الله بمكان فلينعم الغسل وليجهر بالتكبير، ثم اعمد إلى منديل في الخزانة، فيه ثوب من ثياب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقراضة من شعره وأظفاره، فاستودع القراضة أنفي وفمي وأذني وعيني، واجعل الثوب يلي جلدي دون أكفاني؛ ويا يزيد! احفظ وصية الله في الوالدين، فإذا أدرجتموني في جريدتي، ووضعتموني في حفرتي فخلوا معاوية وأرحم الراحمين.
وفي رواية: وقطعوا تلك القلامة، واسحقوها واجعلوها في عيني، فعسى.
كان أبو هريرة يمشي في سوق المدينة وهو يقول: اللهم لا تدركني سنة الستين، ويحكم، تمسكوا بصدغي معاوية، اللهم لا تدركني إمارة الصبيان.
ولما احتضر معاوية جعل يقول: من الطويل
لعمري لقد عمرت في الملك برهة ... ودانت لي الدنيا بوقع البواتر
وأعطيت جم المال والحكم والنهى ... وسلم قماقيم الملوك الجبابر
فأضحى الذي قد كان مما يسرني ... كحلم مضى في المزمنات الغوابر
فيا ليتني لم أعن في الملك ساعة ... ولم أعن في لذات عيش نواضر(25/79)
وكنت كذي طمرين عاش ببلغة ... من الدهر حتى زار ضنك المقابر
وتمثل وقد تعرى ورأى تحول جسمه وتغيره فقال: من مجزوء الرجز
أرى الليالي مسرعات النقض
حنين طولي وركبن بعضي
أقعدنني من بعد طول النهض
قال عمرو بن عتبة: لما اشتكى معاوية شكاته التي هلك فيها أرسل إلى أناس من بني أمية، فخص ولم يعم فقال: يا بني أمية! إنه لما قرب مالم يكن بعيداً وخفت إن يسبقكم الموت إلي سبقته بالموعظة إليكم، لا لأرد قدراً، ولكن لأبلغ عذراً؛ لو وزنت بالدنيا لرجحت بها، ولكني وزنت بالآخرة فرجحت بي، إن الذي أخلف لكم من الدنيا أمر ستشاركون فيه، أو تغلبون عليه، والذي أخلف عليكم من رأي أمر مقصور عليكم نفعه إن فعلتموه، مخوف عليكم ضرره إن ضيعتموه، فاجعلوا مكافأتي قبول وصيتي: إن قريشاً شاركتكم في نسبكم، وبنتم منها بفعالكم، فقدمكم ما تقدمتم فيه، إذ أخر غيركم ما تأخروا له، وبالله لقد جهر لي فعلمت، ونغم لي ففهمت، حتى كأني أنظر إلى أبنائكم بعدكم نظري إلى آبائهم قبلهم، إن دولتكم ستطول، وكل طويل مملول وكل مملول مخذول، فإذا انقضت مدتكم كان أول(25/80)
تخاذلكم فيما بينكم، واجتماع المختلفين عليكم، فيدبر الأمر بضد الحسن الذي أقبل به، فلست أذكر عظيماً يركب منه، ولا حرمة تنتهك إلا والذي أكف عن ذكره أعظم، فلا معول عليه عند ذلك أفضل من الصبر، وتوقع النصر، واحتساب الأجر فيما دكم القوم دولتهم، امتداد الغنانين في عنق الجواد، فإذا بلغ الله بالأمر أمده، وجاء الوقت المحتوم، كانت الولة كالإناء المكفو، فعندها أوصيكم بتقوى الله الذي لم يتقه غيركم فيكم، فجعل العافية لكم والعافية للمتقين.
ولما احتضر معاوية أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال، كأنه أراد أن يطيب له، لأن عمر بن الخطاب قاسم عماله.
ولما كبر معاوية خرجت به قرحة في ظهره، فكان إذا لبس دثاراً ثقيلاً - والشام أرض باردة - أثقله ذلك وغمه، فقال: اصنعوا لي دثاراً خفيفاً دفياً من هذه السخال، فصنع له، فلما ألقي عليه سار إليه ساعة ثم غمه فقال: جافوه عني. ثم لبسه ثم غمه، فألقاه، ففعل ذلك مراراً ثم قال: قبحك الله من دار، ملكتك أربعين سنة، عشرين خليفة، وعشرين إمارة، ثم صيرتني إلى ما أرى! قبحك الله من دار.
وقيل: إنه أصابته قرة شديدة في مرضه، فألقي عليه ثوب حواصل، فأدفأه، وخف عليه فما لبث أن ثقل عليه فقال ما قال.
دخل عمرو بن سعيد على معاوية في مرضه الذي مات فيه فقال: يا أمير(25/81)
المؤمنين! ما رأيت أحداً من أهل بيتك في مثل حالك إلا مات. فقال معاوية: من الوافر
فإن المرء لم يخلق حديداً ... ولا هضباً توقله الوبار
ولكن كالشهاب يرى ويخبو ... وحادي الموت عنه ما يحار
فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار
قال عبد الملك بن عمير: لما ثقل معاوية، وتحدث الناس أنه بالموت قال لأهله: احشوا عيني إثمداً، وأوسعوا رأسي دهناً، ففعلوا وبرقوا وجهه بالدهن، ثم مهد له، فجلس فقال: أسندوني. ثم قال: ائذنوا للناس فليسلموا قياماً ولا يجلس أحد. فجعل الرجل يدخل فيسلم قائماً، فرآه متكحلاً متدهناً فيقول الناس: هو لما به، وهو أصح الناس! فلما خرجوا من عنده قال معاوية: من الكامل
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لاتنفع(25/82)
قال: وكان به النفاثة، فمات من يومه ذلك.
ولما مرض معاوية أخرج يديه كأنهما عسيبا نخل فقال: هل الدنيا إلا ما ذقنا وجربنا؟ والله لوددت أني لم أغبر فيكم إلا ثلاثاً ثم ألحق بالله عز وجل. قالوا: يا أمير المؤمنين! إلى رحمة الله ورضوانه. فقال معاوية: إلى ما شاء الله من قضاء قضاه لي، قد يعلم الله أني لم آل. ولو أراد أن يغير لغير.
قال محمد بن عقبة:
كان معاوية أميراً عشرين سنة، وخليفة عشرين سنة، فلما نزل به الموت قال: ليتني كنت رجلاً من قريش بذي طوى وأني لم أل من هذا الأمر شيئاً.
قال أبو السائب المخزومي: لما حضرت معاوية الوفاة تمثل: من الخفيف
إن تناقش يكن نقاشك يا رب ... ب عذاباً لا طوق لي بالعذاب
أو تجاوز تجاوز العفو فاصفح ... عن مسيء ذنوبه كالتراب
قال أبو عبد الله بن المنادر: تمثل معاوية عند الموت: من المنسرح
لو فات شيء يرى لفات أبو ... حيان لا عاجز ولا وكل
الحول القلب الأريب ولا ... يدفع ريب المنية الحيل(25/83)
وعن عوانة قال: لما حضرت معاوية الوفاة احتوشه أهله فقال لهم وهم يقلبونه: إنكم لتقلبون أمراً حولاً قلباً إن نجا من النار غداً. ثم قال: من البسيط:
لقد جمعت لكم من جمع ذي نشب ... وقد كفيتكم الترحال والنصبا
وقال أبو بردة: قال معاوية وهو يقلب في مرضه، وقد صار كأنه سعفة محترقة: أي شيخ تقلبون إن نجاه الله من النار غداً.
وفي رواية: إن وقي كبة النار.
قال ابن الأعرابي: تقدم رجلان إلى معاوية فادعى أحدهما على صاحبه مالاً، وكان المدعى قبله حولاً قلباً مخلطاً مزيلاً، فأنشأ معاوية يقول: من البسيط
أنى أتيح لها حرباء تنضبة ... لا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقا(25/84)
ثم دعا بمال، فأعطى المدعي وفرق بينهما.
قال محمد بن سيرين: لما مرض معاوية نزل عن السرير، فكشف ما بينه وبين الأرض، وجعل يلزق ذا الخد مرة بالأرض، وذا الخد مرة بالأرض، ويبكي ويقول: اللهم إنك قلت في كتابك الكريم: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فاجعلني ممن تشاء أن تغفر لهم.
ولما حضر معاوية الموت تمثل: من الطويل
هو الموت لا منجى من الموت والذي ... أحاذر بعد الموت أدهى وأفظع
ثم قال: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة وعد بحلمك على من لا يرجو غيرك، فإنك واسع المغفرة، ليس من خطيئة مهرب إلا إليك.
قال ابن عباس: ولما احتضر معاوية قال: يا بني! إني كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصفا، وإني دعوت بمشقص، فأخذت من شعره وهو في موضع كذا وكذا، فإذا أنا مت فخذ ذلك الشعر، فاحشوا به فمي ومنخري. قالوا: ولما قال ذلك تمثلت ابنته: من الطويل
إذا مت مات الجود وانقطع الندى ... من الناس إلا من قليل مصرد
وردت أكف السائلين وأمسكوا ... من الدين والدنيا بخلف مجدد(25/85)
كلا يا أمير المؤمنين، يدفع الله عنك. فقال معاوية متمثلا: من الكامل
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
ثم أغمي عليه، ثم أفاق، فقال لمن حضره من أهله: اتقوا الله فإن الله يقي من اتقاه، ولا تقى لمن لا يتقي الله. ثم قضى رحمه الله.
قال مكحول: لما حضرت معاوية الوفاة جمع بنيه وولده ثم قال لأم ولد له: أريني الوديعة التي استودعتك إياها. قال: فجاءت بسفط مختوم، مقفلاً عليه، قال: فظننا أن فيه جوهراً، فقال: إنما كنت أدخر هذا لهذا اليوم. ثم قال: افتحيه. ففتحته فإذا منديل عليه ثلاثة أثواب فقال: هذا قميص رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كساني، وهذا رداء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كساني لما قدم من حجة الوداع. قال: ثم مكثت بعد ذلك ملياً ثم قلت: يا رسول الله! اكسني هذا الإزار الذي عليك. قال: إذا ذهبت إلى البيت أرسلت به إليك يا معاوية. قال: ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل به إلي، ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا الحجام، فأخذ من شعره ولحيته فقلت: يا رسول الله هب لي هذا الشعر. قال: خذه يا معاوية. فهو مصرور في طرف الرداء، فإذا أنا مت، فكفنوني في قميص رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأدرجوني في ردائه وأزروني بإزاره، وخذوا من شعر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاحشوا به شدقي ومنخري وذروا سائره على صدري، وخلوا بيني وبين رحمة أرحم الراحمين.
وعن الشافعي قال: كان يزيد في بعض المواضع، فجاءه الرسول بمرض معاوية، فركب وهو يقول: من البسيط(25/86)
جاء البريد بقرطاس يخب به ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
وقال: إنه حضر ودخل إلى معاوية وهو مغمور.
قالوا: والصحيح أن يزيد لم يدركه حياً وإنما جاء بعد موته.
ولما مات معاوية أخرجت أكفانه فوضعت على المنبر، ثم قام الضحاك بن قيس الفهري خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن أمير المؤمنين معاوية كان في جد العرب، وعوذ العرب؛ وحد العرب، قطع الله به الفتنة وملكه على العباد، وسير جنوده في البر والبحر، وبسط به الدنيا، وكان عبداً من عبيد الله، دعاه الله فأجابه، فقد قضى نحبه رحمة الله عليه، وهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره، ومخلوه وعمله فيما بينه وبين ربه، إن شاء رحمه، وإن شاء عذبه، ثم هو الهرج إلى يوم القيامة، فمن أراد حضوره بعد الظهر فليحضره، فإنا رائحون به. وصلى عليه الضحاك بن قيس الفهري، وكان يزيد غائباً حين مات معاوية بحوارين، فلما ثقل معاوية أرسل إليه الضحاك، فقدم وقد مات معاوية ودفن، فلم يأت منزله حتى أتى قبره، فصلى عليه ودعا له، ثم أتى منزله فقال: من البسيط(25/87)
جاء البريد بقرطاس يخب به ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم ... قالوا الخليفة أمسى مثبتاً وجعا
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأن أعين من أركانها انقلعا
لما انتهينا وباب الدار منصفق ... لصوت رملة ريع القلب فانصدعا
من لا تزل نفسه توفي على شرف ... توشك مقادير تلك النفس أن تقعا
أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه ... كانا تكونا جميعاً قاطنين معاً
أغر أبلج يستسقي الغمام به ... لو قارع الناس عن أحلامهم قرعا
وما أبالي إذا أدركن مهجته ... ما مات منهن بالبيداء أو ظلعا
ثم خطب يزيد الناس فقال: إن معاوية كان عبداً من عبيد الله، أنعم الله عليه ثم قبضع الله، وهو خير ممن بعده، ودون من قبله، ولا أزكيه على الله، هو أعلم به، إن عفا عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه، وقد وليت الأمر من بعده، ولست آسى على طلب، ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد الله شيئاً كان. اذكروا الله واستغفروه. فقال أبو الورد العنبري يرثي معاوية: من الوافر
ألا أنعى معاوية بن حرب ... نعاة الحل للشهر الحرام
نعاه الناعجات بكل فج ... خواضع في الأزمة كالسهام
فهاتيك النجوم وهن خرس ... ينحن على معاوية الشآمي(25/88)
وقال أيمن بن خريم: من الوافر
رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا
ورد شعورهن السود بيضاً ... ورد وجوههن البيض سودا
فإنك لو شهدت بكاء هند ... ورملة إذ يصفقن الخدودا
بكيت بكاء معولة قريح ... أصاب الدهر واحدها الفريدا
قال سعيد بن حريث: لما كان الغداة التي مات معاوية في ليلتها فزع الناس إلى المسجد، ولم يكن خليفة قبله في الشام غيره، فلما ارتفع النهار وهم يبكون في الخضراء، وابنه يزيد غائب في البرية، وهو ولي عهده، وكان خليفته على دمشق الضحاك بن قيس إذ قعقع باب النحاس الذي يخرج إلى المسجد من الخضراء، فدلف الناس إلى المقصورة، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا رجل على يده اليسرى ثياب ملفوفة، فإذا هو الضحاك بن قيس، فاتكأ على المنبر بيده اليسرى، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إني قائل لكم قولاً، فرحم الله امرأ وعى ما سمع مني، تعلمون أن معاوية كان حد العرب، مكن الله له في البر والبحر، وأذاقكم معه الخفض والطمأنينة، ولذاذة العيش - وأهوى بيده إلى فيه - وإنه هلك رحمه الله وهذه أكفانه على يدي ونحن مدرجوه فيها ودافنوه وإياها، ثم هي البلايا والملاحم والفتن، وما توعدون إلى يوم القيامة.
ثم دخل الخضراء، فلم يخرج إلا لصلاة الظهر، فصلى ثم أخرجوا جنازة معاوية،(25/89)
فدفنوه، فلبثنا حتى كان مثل يوم الجمعة، فبلغنا أن ابن الزبير خرج بالمدينة وحارب، وكان معاوية قد غشي عليه قبل ذلك غشية، فركب به الركبان، فلما بلغ ذلك ابن الزبير خرج، ثم كان مثل ذلك اليوم الجمعة المقبلة صلى بنا الضحاك بن قيس الظهر، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: تعلمون أن خليفتكم يزيد بن معاوية، قد أظلكم، ونحن خارجون غداً وملتقوه، فمن أحب أن يتلقاه معنا فعل.
فركبنا الصبح، وسار إلى ثنية العقاب، وما بين باب توما وبين ثنية العقاب بيت مبني بقرى إلى قرى العجم، فلما صعدنا في ثنية العقاب إذا بأثقال يزيد قد تحدرت في الثنية، ثم سرنا غير كثير، فإذا يزيد في ركب من أخواله من كلب، وهو على بختي له رحل ورائطة مثنية في عنقه، ليس عليه سيف ولا عمامة، وكان رجلاً كثير اللحم، عظيم الجسم، كثير الشحم، كثير الشعر، وقد أجفل شعره وشعث، فسلم الناس عليه وعزوه، ودنا منه الضحاك بن قيس بين أيديهم فليس منا أحد يتبين كلامه، إلا أنا نرى فيه الكآبة والحزن وخفض الصوت، والناس يعيبون منه ذلك ويقولون: هذا الأعرابي الذي ولاه أمر الناس، والله سائله عنه! وسار مقبلاً إلى دمشق فقلنا: يدخل من باب توما، حتى دنا منها فلم يفعل، ومضى مع الحائط إلى باب الشرقي، فقال الناس: يدخل من باب الشرقي، فإنه باب خالد بن الوليد الذي دخل منه حين فتح. فلما دنا من الباب أجازه إلى باب كيسان، ثم أجاز باب كيسان إلى باب الصغير، فلما وافى الباب رمى بزمام بختيته فاستناخ ثم تورك فبرك، ونزل الضحاك بن قيس، ومضى يمشي بين يديه إلى قبر معاوية، فصلى عليه وصففنا خلفه، وكبر أربعاً ثم أمر بنعليه حين خرج من المقابر فركبها حتى أتى الخضراء ثم أذن المؤذن الصلاة جامعة، لصلاة الظهر، وقد اغتسل ولبس ثياباً نقية وجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر موت معاوية قال: إن(25/90)
معاوية كان يغزيكم البر والبحر، ولست حاملاً أحداً من المسلمين في البحر؛ وإن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم، ولست مشتياً أحداً من المسلمين بأرض الروم؛ وإن معاوية كان يخرج لكم العطايا أثلاثاً، وأنا أجمعه لكم كله. قال: فافترقوا وما يفضلون عليه أحداً.
وقف مروان بن الحكم على قبر معاوية فقال: رحمك الله يا أبا عبد الرحمن! أكل على مائدته وأطعم عليها أربعين سنة، عشرين أميراً وعشرين خليفة ثم قال: من الطويل
وما الدهر والأيام إلا كما أرى ... رزية مال أو فراق حبيب
فلا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
دخل علي بن عبد الله بن عباس على عبد الملك بن مروان في يوم بارد وبين يديه وقود قد ألقي عليه عود مقد دخن، فقال عبد الملك: ها هنا، إلي يا أبا محمد! فأجلسه معه فقال علي: احمد الله يا أمير المؤمنين فيما أنت فيه من الإدفاء، والناس فيما هم فيه من شدة البرد - وفي رواية: وهو في فرش قد كاد يغيب فيها - فقال: يا أبا محمد! أبعد ابن هند بالشام أربعين سنة أميراً وخليفة أمسى يهتز على قبره ينبوتة؟! ثم دعا بالغداء فتغديا جميعاً.
وفي رواية: ثم هو ذاك على قبره ثمامة نابتة، وكانت خلافة معاوية عشرين سنة إلا أشهر.
ودفن بين باب الجابية وباب الصغير.(25/91)
وكان محارباً لأهل العراق خمس سنين، وهلك وهو ابن ثمان وسبعين سنة، ومات سنة ستين.
توفي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعشر سنين من التاريخ، وولي أبو بكر رضي الله عنه سنتين وأشهراً، وولي عمر رضي الله عنه عشر سنين وأشهراً، وولي عثمان رضي الله عنه ثنتي عشرة سنة، وكانت الفتنة لخمس سنين، وملك معاوية عشرين سنة.
خطب معاوية فقال: توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثلاث وستين، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وعمر وهو ابن ثلاث وستين، وأنا ابن ثلاث وستين.
ولكنه عمر بعد هذا حتى بلغ الثمانين، وقد قيل: إنه توفي ابن اثنتين وثمانين سنة.
جاء نعي معاوية إلى ابن عباس والمائدة بين يديه فقال لغلامه: ارفع، ارفع. ثم قال: اللهم أنت أوسع لمعاوية. ثم قال: خير ممن يكون بعده، وشر ممن كان قبله. ثم قال: من الكامل
جبل تزعزع ثم مال بجمعه ... في البحر لارتقت عليك الأبحر
ولما نعي معاوية قال عبد الله بن الزبير: ذهب والله عز بني أمية، كان والله كما قال الشاعر: من المتقارب
ركوب المنابر ذو همة ... معن بخطبته مجهر
تثوب إليه هوادي الكلام ... إذا ضل خطبته المهمر
وقيل: إن ابن الزبير لما بلغه خطب فقال: رحم الله ابن هند، لوددت أنه بقي لنا ما بقي من أبي قبيس حجر، على مثل ما فارقنا عليه، كان كما قال بطحاء العذري:(25/92)
ركوب المنابر ذو همة ... معن بخطبته مجهر
تثوب إليه هوادي الكلام ... إذا ضل خطبته المهمر
ولد معاوية بمكة في دار أبي سفيان، وقيل: في دار عتبة بن ربيعة.
معاوية بن طويع
ابن جشيب اليزني الداراني حدث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل شيء للرجل حل من المرأة في صيامه، ما خلا ما بين رجليها.
وعن معاوية قال: قال أبو هريرة: المروءة الثبوت في المجلس، وإصلاح المال، والغداء بأفنية البيوت.
معاوية بن عبد الله
ابن جعفر بن أبي طالب القرشي الهاشمي وفد على يزيد بن معاوية، ثم عمر، حتى وفد على يزيد بن عبد الملك.
حدث عن أبيه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ناس يرمون كبشاً بالنبل، فكره ذلك وقال: لا تمثلوا بالبهائم.
لما حضرت عبد الله بن جعفر الوفاة دعا ابنه معاوية، فنزع شنفاً من أذنه، وأوصى إليه، وفي ولده من هو أسن منه وقال: إني لم أزل أؤهلك لها. فلما توفي عبد الله احتال معاوية بدين أبيه، وخرج يطلب فيه حتى قضاه، وقسم أموال أبيه بين ولده، ولم يستأثر بشيء عليهم.(25/93)
قال جويرية: لما مات عبد الله بن جعفر أمر ابنه معاوية رجلاً فنادى: من كان له على عبد الله بن جعفر شيء فليعد بالغداة، ومن أراد أن يشتري من عقده شيئاً فليعد بالغداة. قال: فغدا التجار والغرماء، فباع عقدة وقضى دينه. ومن كانت له بينة أعطي، ومن لم يكن له بينة استحلف وأعطي. وكان عليه ألف ألف.
وكان معاوية بن عبد الله مقدماً يوصف بالفضل والعلم؛ ومرض مرضة فدخل عليه قوم يعودونه فقالوا له: كيف تجدك؟ قال: إني وجدت فضل ما بين البليتين نعمة. يعني أني أبتلى ويبتلى غيري بما هو أشد منه.
غنت حبابة يزيد صوتاً لابن سريج وهو: من المنسرح
ما أحسن الجيد من مليكة وال ... لبات إذ زانها ترائبها
فطرب يزيد وقال: هل رأيت أحداً قط أطرب مني؟ قالت: نعم، ابن الطيار معاوية بن عبد الله بن جعفر. فكتب فيه إلى عبد الرحمن بن الضحاك، فحمل إليه، فلما قدم أرسلت إليه حبابة: إنما بعث إليك لكذا وكذا وأخبرته، فإذا دخلت عليه وتغنيت فلا تظهرن طرباً حتى أغني الصوت الذي غنيته. فقال: سوأة! على كبر سني! فدعا به يزيد وهو على طنفسة خز، ووضع لمعاوية مثلها، وجاؤوا بجامين فيهما مسك، فوضعت إحداهما بين يدي يزيد، والأخرى بين يدي معاوية، فلم أدر كيف أصنع فقلت: أنظر كيف يصنع فأصنع مثله، فكان يقلبه فيفوح ريحه، وأفعل مثل ذلك، فدعا بحبابة، فلما غنت ذلك الصوت أخذ معاوية الوسادة فوضعها على رأسه وقام يدور وينادي: الدخن بالنوى - يعني اللوبياء - فأمر له بصلات عدة دفعات، إلى أن خرج فكان مبلغها ثمانية آلاف دينار.
أنشد محمد بن سلام لمعاوية بن عبد الله بن جعفر: من الكامل(25/94)
أنس غرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الحديث زوانياً ... ويصدهن عن الخنا الإسلام
معاوية بن عبيد الله
ابن يسار أبو عبيد الله الأشعري مولى عبد الله بن عضاه الأشعري، وزير المهدي ولاه هشام بن عبد الملك صدقات عذرة.
حدث عن المهدي بسنده إلى ابن عباس قال: عارض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جنازة أبي طالب فقال: وصلتك رحم، جزاك الله خيراً يا عم.
وحدث عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن أبيه أن كعباً قدم إيلياء مرة من المرار، فرشا حبراً من أحبار يهود بضعة عشر ديناراً، على أن دله على الصخرة التي قام عليها سليمان بن داود حين فرغ من بناء المسجد، وهي مما يلي ناحية باب الأسباط، فقال كعب: قام سليمان بن داود على هذه الصخرة، ثم استقبل القدس كله، ودعا الله بثلاث، فأراه الله تعجيل إجابته إياه في دعوتين، وأرجو أن يستجيب له في الآخرة. فقال: اللهم هب " لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، إنك أنت الوهاب ". فأعطاه الله ذلك؛ وقال: اللهم هب لي ملكاً وحكماً يوافق حكمك. ففعل الله ذلك به، ثم قال: اللهم لا يأتي هذا المسجد أحد يريد الصلاة فيه إلا أخرجته من خطيئته كيوم ولدته أمه.(25/95)
قال أبو عبيد الله:
جاء قوم إلى المهدي يتظلمون من عباد الوصيف، فأغلظ لهم المهدي، فخرج شيخ وهو يقول: ليسمع المهدي ومن حضر، اللهم لا صبر لنا على أناتك، وأتينا هذا وأيسنا من عزل عباد، فاعزله أنت عنا يا أرحم الراحمين. قال: فمات عباد من ليلته.
وصف رجل أبا عبيد الله كاتب المهدي فقال: ما رأيت أوفر من حلمه، ولا أطيش من قلمه.
أبلى أبو عبيد الله مصليين وأشرع في الثالث - أو ثلاثة وأشرع في الرابع - موضع الركبتين والوجه والقدمين لكثرة صلاته؛ وكان له كل يوم كر دقيق يتصدق به على المساكين وكان يلي ذلك مولى له، فاشتد الغلاء فقال له: قد غلا السعر، فلو نقصنا من هذا. فقال: أنت شيطان - أو رسول شيطان - صيره كرين، فكان له في كل يوم كران يخبزان للمساكين. ويوم مات امتلأ الجسور، قلما يعبر عليها إلا من تبع جنازته من مواليه واليتامى والأرامل والمساكين.
بعث أبو عبيد الله إلى عبد الله بن مصع بألفي دينار صلة، وعشرين ثوباً، فلم يقبلها. وكتب إليه: أن لو كان قابلاً من سوى الخليفة قبلها، وكتب إليه: أصلحك الله وأمتع بك، ما لسببك ومناحتك آخيناك، ولا لاستقلال ما بعثت به والسخط له كان ردنا إياه عليك، ولكنا آخيناك ووددناك وشكرناك لفضلك ونبلك، وقسم الله لك في رأيك ومعرفتك ورعايتك حق ذوي الحقوق؛ ولقد أصبحت عندنا بالمنزل الذي لا يزيدك فيه صلة وصلتنا بها، ولا يضرك ردناها.
قال عبد الأعلى بن أبي المساور: دخلت الديوان في خلافة المهدي وأبو عبيد الله جالس في صدر الديوان، فسلمت فرد علي، وما هش إلي ولا حفل بي، فجلست إلى بعض كتابه، فقلت: حدثنا الشعبي(25/96)
فسمعني أبو عبيد الله فقال لي: رأيت الشعبي؟ فقلت: نعم ورأيت أبا بردة بن أبي موسى وهو خير من الشعبي! فقال: ارتفع ارتفع، كتمتنا نفسك حتى كدت أن تلحقنا ذماً لا ترحضه المعاذير. ثم أقبل علي واشتغلبي حتى فرغت من حاجتي وانصرفت بشكره.
قال عمران بن شهاب الكاتب: استعنت على أبي عبيد الله في أمر ببعض إخوانه، فلما قام قال لي: لولا أن حقك حق لا يحد ولا يضاع لحجبت عنك حسن نظري، أظننتني أجهل الإحسان حتى أعلمه، ولا أعرف موضع المعروف حتى أعرفه؟! لو كان ما ينال ما عندي إلا بغيري لكنت بمنزلة البعير الذلول، عليه الحمل الثقيل، إن قيد انقاد وإن أنيخ برك، لا يملك من نفسه شيئاً. فقلت: معرفتك بمواقع الصنائع أثقب من معرفة غيرك، ولم أجعل فلاناً شفيعاً، إنما جعلته مذكراً. فقال لي: فأي اذكار لمن رعى حقك أبلغ من تسليمك عليه ومصيرك إليه؟ إنه متى لم يتصفح المأمول أسماء مؤمليه بقلبه غدواً ورواحاً لم يكن للآمل محلاً، وجرى القدر لمؤمليه على يديه بما قدر وهو غير محمود على ذلك ولا مشكور، وما لي إمام أدرسه بعد وردي من القرآن إلا أسماء رجال التأميل لي، وما أبيت ليلة حتى أعرضهم على قلبي؛ فلا تستعن على شريف إلا بشرفه، فإنه يرى ذاك عنياً لمعروفه.
ومن شعر أبي عبيد الله: من البسيط
لله دهر أضعنا فيه أنفسنا ... بالجهل لو أنه بعد النهى عادا
أفسدت ديني بإصلاحي خلافتهم ... وكان إصلاحها للدين إفسادا
ما قربوا أحداً إلا ونيتهم ... أن يعقبوا قربة بالغدر إبعادا(25/97)
قال جعفر بن يحيى: أخبرني الفضل بن الربيع أن الموالي كانوا يشنعون أبا عبيد الله عند المهدي، ويسعون عليه عنده، وكانت كتب أبي عبيد الله تنفذ إلى المنصور بما يدبر من الأمور، ويتخلى الموالي بالمهدي، فيبلغونه عن أبي عبيد الله ويحرضونه عليه. قال الفضل: وما كانت كتب أبي عبيد الله إلى أبي تترى، يشكو الموالي وما يلقى منهم، فلا يزال يذكره عند المنصور ويخبره، ويستخرج الكتب إلى المهدي بالوصية به وترك القبول فيه، ولما رأى أبو عبيد الله غلبة الموالي على المهدي وخلوهم به، نظر إلى أربعة رجال من قبائل شتى من أهل الأدب والعلم، فضمهم إلى المهدي، فكانوا في صحابته، فلم يكونوا يدعون الموالي يتخلون به، ثم إن أبا عبيد الله كلم المهدي في بعض أموره إذ اعترض رجل من هؤلاء الأربعة في الأمر الذي تكلم فيه، فسكت أبو عبيد الله، فلم يراده وخرج، فأمر بحجبه عن المهدي، فحجبه عنه، وبلغ خبره أبي.
قال: وحج أبي مع المنصور في السنة التي مات فيها، وقام أبي من أمر المهدي بما قام به من أمر البيعة وتجديدها على أهل بيت أمير المؤمنين، والقواد، والموالي؛ فلما قدم تلقيته بعد المغرب، فتجاوز منزله وترك دار المهدي ومضى إلى أبي عبيد الله، فقلت له: تترك أمير المؤمنين ومنزل أهلك وتأتي أبا عبيد الله؟! قال: يا بني! هو صاحب الرجل، وليس ينبغي أن نعامله على ما كنا نعامله عليه، ولا أن نحاسبه بما كان منا في أمره من نصرتنا له، فمضينا حتى أتينا باب أبي عبيد الله، فما زال واقفاً حتى صليت العتمة، فخرج الجاجب فثنى رجله وثنيت رجلي، فقال: إنما استأذنت لك يا أبا الفضل وحدك. قال: اذهب فأخبره أن الفضل معي. ثم أقبل علي فقال: وهذا أيضاً من ذلك. فخرج الحاجب فأذن لنا فدخلنا فإذا أبو عبيد الله في صدر المجلس على مصلى متكئ على وسادة، فقلت: يقوم إلى أبي إذا دخل عليه، فلم يقم، فقلت: يستوي جالساً، فلم يفعل، فقلت: يدعو له بمصلى، فلم يفعل، فجلس بين يديه على البساط وهو متكئ، فجعل يسائله عن مسيره وسفره وحاله، وجعل أبي يتوقع أن يسأله عما كان منه في أمر المهدي(25/98)
وتجديد بيعته، فأعرض عن ذلك، فذهب أبي يبتدئ ذكره فقال: قد بلغنا نبؤكم. فذهب أبي لينهض، فقال: لا أرى الدروب إلا وقد أغلقت، فلو أقمت. فقال أبي: إن الدروب لا تغلق دوني. قال: بلى قد أغلقت. قال: فظن أبي أنه يريد أن يحبسه ليسكن من مسيره، ويريد أن يسأله. قال: فأقيم. قال: يا غلام، اذهب فهيئ لأبي الفضل في منزل محمد بن عبيد الله مبيتاً. فلما رأى أبي أنه يريد أن يخرج من الدار قال: فليس تغلق الدروب دوني. فاعتزم فقام، فلما خرجنا من الدار أقبل علي وقال: يا بني! أنت أحمق. قال: قلت: وما حمقي أنا؟ قال: تقول لي كان ينبغي لك أن لا تجيء، وكان ينبغي إذ جئنا ألا نقيم حتى صليت العتمة، وأن ترجع فتنصرف ولا تدخل، وكان ينبغي إذ دخلت فلم يقم إليك أن ترجع ولا تقيم عليه، ولم يكن الصواب إلا ما علمت كله، ولكن والله الذي لا إله إلا هو - واستغلق في اليمين - لأخلقن جاهي، ولأنفقن مالي حتى أبلغ مكروه أبي عبيد الله.
ثم جعل يضطرب بجهده ولا يجد مساغاً إلى مكروهه، ويحتال الحيل، إلى أن ذكر الرجل الذي كان أبو عبيد الله حجبه، فأرسل إليه: إنك قد علمت ما ركبك به أبو عبيد الله، وقد بلغ مني كل غاية من المكروه، وقد أذعت أمره بجهدي، فما وجدت عليه طريقاً، فعندك حيلة في أمره؟ فقال: إنما يؤتى أبو عبيد الله من وجوه ثلاثة: يقال هو جاهل بصناعته، وأبو عبيد الله أحذق الناس؛ أو يقال هو ظنين في الذي يتقلده، وأبو عبيد الله أعف الناس، لو كانت بنات المهدي في حجره لكان لهن موضعاً؛ أو يقال هو يميل إلى أن يخالف السلطان، فليس يؤتى أبو عبيد الله من ذلك، إلا أنه يميل إلى القول بالقدر، وليس يتسلق عليه بذاك، ويقال هو متهم في الله، فعند أبي عبيد الله عقد وثيق، ولكن هذا كله مجتمع لك في ابنه. فتناوله الربيع فقبل بين(25/99)
عينيه، ثم رب لابن أبي عبيد الله، فما زال يحتال ويدس إلى المهدي ويتهمه ببعض حرم المهدي حتى استحكم عند المهدي الظنة لمحمد بن أبي عبيد الله، فأمر فأحضر وأخرج أبو عبيد الله فقال: يا محمد! اقرأ. فذهب ليقرأ، فاستعجم عليه القرآن فقال: يا معاوية! ألم تعلمني أن ابنك جامع للقرآن؟! قال: قد أخبرتك، ولكنه فارقني منذ سنين، وفي هذه المدة التي نأى فيها عني ما نسي القرآن. قال: قم فتقرب إلى الله بدمه. قال: فذهب يقوم فوقع، فقال العباس بن محمد: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تعفي الشيخ. ففعل، وأمر به فضربت عنقه.
قال: واتهمه المهدي في نفسه، فقال له الربيع: قتلت ابنه وليس ينبغي أن يكون معك، ولا أن تثق به. قال: فأوحش المهدي. وكان الذي كان من أمره وبلغ الربيع ما أراد.
قال عبد الله بن يعقوب: ضرب المهدي رجلاً من الأشعريين، فأوجعه، فتغضب أبو عبيد الله له، وكان مولى لهم وقال: القتل يا أمير المؤمنين أحسن من هذا. فقال له المهدي: يا يهودي! اخرج من معسكري لعنك الله! فقال: ما أدري إلى أين أخرج إلا إلى النار. قال: قلت يا أمير المؤمنين: من الكامل وأخو هناه مثلها يتوقع
دخل الربيع على المهدي وأبو عبيد الله جالس يعرض كتباً، فقال له أبو عبيد الله: يا أمير المؤمنين! يتنحى هذا - يعني الربيع - فقال له المهدي: تنح. قال: لا أفعل. قال: كأنك تراني بالعين الأولى. قال: بل أراك بالعين التي أنت بها. قال: فلم(25/100)
لا تنتحي إذا أمرتك؟ قال: لا آمن أن يكون معه حديدة ينالك بها وأنت سفره المسلمين، وقد قتلت ابنه. فقام المهدي مذعوراً، وأمر بتفتيشه، فوجدوا بين جوربيه وخفيه سكيناً فردت الأشياء إلى الربيع، فجعل كاتبه يعقوب بن داود فقال فيه الشاعر: من مجزوء الكامل
أدخلته فعلا علي ... ك كذاك شؤم الناصيه
يعقوب يحكم في الأمو ... ر وأنت تنظر ناحيه
توفي أبو عبيد الله سنة سبعين، وقيل سنة تسع وستين، وله سبعون سنة. وكان مولده في سنة مئة.
معاوية بن عثمان
ابن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي أمه كلبية، وهي الكاملة بنت زياد بن عتعت الكلبي، وعمها عوف الكلبي القائل: من الطويل
تباشر أعدائي بديني ولم يكن ... ليدان ذاك الدين غير كريم
سأخرج من تلك الديون مسلماً ... ومجدي لدى الأقوام غير ذميم(25/101)
معاوية بن عمرو بن عتبة
ابن أبي سفيان صخر بن حرب من فصحاء قريش.
وفد على هشام بن عبد الملك، وكان عند الوليد بن يزيد حين بدأ يزيد بن الوليد في الدعاء لنفسه، وكلم الوليد ناصحاً له، فقال له لما بلغه خوض الناس: يا أمير المؤمنين! إنك تبسط لساني بالأنس بك، وأكففه بالهيبة لك، وأنا أسمع ما لا تسمع، وأخاف عليك ما أراك تأمن، أفأتكلم ناصحاً، أو أسكت مطيعاً؟ قال: كل مقبول منك، وإنه فينا علم غيب، نحن صائرون إليه، ولو علم بنو مروان ما توقدون على رضف تلقونه في أجوافهم ما فعلوا، وتعود فأسمع منك.
معاوية بن قرمل المحاربي
يقال إن له صحبة، قال: كنت مع خالد بن الوليد حين غزا الشام، فخرجنا فرفع لنا دير، فدخلنا فقلنا: السلام عليكم. فخرج إلينا قس فقال: من أصحاب هذه الكلمة الطيبة؟
معاوية بن قرة بن إياس بن هلال
ابن رئاب بن عبيد بن سواءة بن سارية أبو إياس المزني البصري، والد إياس بن معاوية وفد على عبد الملك بن مروان مع الحجاج بن يوسف.
حدث معاوية بن قرة عن أبيه، أن رجلاً جاء بابنه إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتحبه؟ قال: أحبك الله كما أحبه. فتوفي الصبي ففقده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(25/102)
فقال: أين فلان؟ فقال: يا رسول الله توفي ابنه. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما ترضى ألا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا جاء يسعى حتى يفتحه لك؟ قالوا: يا رسول الله! أله وحده أو لكلنا؟ قال: لا بل لكلكم.
قال معاوية بن قرة: سمعت عبد الله بن مغفل قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الفتح وهو على ناقته - أو جمله وهو يحبر - وهو يقرأ سورة الفتح - أو من سورة الفتح - قراءة لينة. قال معاوية: لولا أن يجتمع الناس علينا لقرأت لكم اللحن. قال وجعل يرجع.
وحدث معاوية عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة.
وحدث معاوية عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعمل رجلاً على عمل فقال: يا رسول الله! خر لي. قال: الزم بيتك.
قدم الحجاج على عبد الملك وافداً ومعه معاوية بن قرة، فسأله عبد الملك معاوية عن الحجاج فقال: إن صدقناكم قتلتمونا، وإن كذبناكم خشينا الله. فنظر إليه الحجاج، فقال له عبد الملك: لا تعرض له. فنفاه الحجاج إلى السند، وكان يذكر من بأسه.
ولد أبو إياس يوم الجمل؛ وإياس يكنى أبا واثلة.(25/103)
قال معاوية بن قرة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا كان يوم الجمعة اغتسلوا ولبسوا من صالح ثيابهم ومسوا من طيب نسائهم، ثم أتوا الجمعة فصلوا ركعتين، ثم جلسوا يبثون العلم والسنة حتى يخرج الإمام.
وقال معاوية بن قرة: أدركت سبعين رجلاً من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو خرجوا فيكم اليوم ما عرفوا شيئاً مما أنتم فيه إلا الأذان.
وعن معاوية بن قرة:
اللهم إن الصالحين أنت أصلحتهم ورزقتهم، يعلمون بطاعتك، فرضيت عنهم، اللهم كما أصلحتهم فأصلحنا، وكما رزقتهم أن عموا بطاعتك فرضيت عنهم، فارزقنا أن نعمل بطاعتك وارض عنا.
قال معاوية بن قرة: كنا لا نحمد ذا فضل لا يفضل عليه فضله، فصرنا اليوم نحمد ذا شر لا يفضل عنه شره. ثم قال: لا تطلب من الناس اليوم الخير، اطلب منهم كف الأذى، فمن كف أذاه عنك اليوم فهو بمنزلة من كان يعطيك الجوائز.
وقال معاوية: أشد الناس حساباً يوم القيامة الصحيح الفارغ.
وقال معاوية: بكاء العمل أحب إلي من بكاء العين.
وقال معاوية: من يدلني على رجل بكاء بالليل، بسام بالنهار؟ جلس معاوية بن قرة ورجل من التابعين وتذاكرا، فقال أحدهما: إني أرجو وأخاف. وقال الآخر: إنه من رجا شيئاً طلبه، وإنه من خاف شيئاً هرب منه، وما حسب امرئ يرجو شيئاً لا يطلبه، وما حسب امرئ يخاف شيئاً لا يهرب منه.(25/104)
قال معاوية: أن لا يكون في نفاق أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ كان عمر يخشاه وآمنه أنا؟! نظر قوم إلى معاوية بن قرة في يوم صائف، وقد أقبل من مكان بعيد وعليه عباءة له، مؤتزر بها، فقال بعضهم لبعض: ما أبو إياس من الطيبين معاقد الأزر. فسمعها الشيخ فقال: إنما طابت معاقد الأزر ممن طابت معاقده، أنهم لم يعقدوها على فجرة ولا معصية.
قال محمد بن عيينة: كان معاوية بن قرة إذا أتانا في حلقتنا لم يجلس حيث نوسع له، إنما يجلس حيث ينتهي.
حدث معاوية بن قرة عن أبيه قال: يا بني! إذا كنت في مجلس ترجو خيره فعجلت بك حاجة فقل السلام عليكم، فإنك شريكهم فيما يصيبون في ذلك المجلس.
قال معاوية: جالسوا وجوه الناس، فإنهم أحلم وأعقل من غيرهم.
قال معاوية: لقد أتى علينا زمان وما أحد يموت على إسلام إلا ظننا أنه من أهل الجنة، حتى إذا كان الآن خلطتم علينا.
قال معاوية: دخل الموت بين الأقارب والأهل ففرق بينهم في الدنيا، فطوبى لمن جمع بينه وبين أحبابه بعد الفرقة واليأس منه! ثم يبكي.(25/105)
قال معاوية بن قرة عام مات: رأيت كأني وأبي على فرسين، فجرينا عليهما جميعاً فلم أسبقه ولم يسبقني. وعاش ستة وتسعين سنة، وقد بلغت سنه فمات في ذلك العام. وتوفي سنة ثلاث عشرة ومئة.
معاوية بن محمد بن دنبويه
أبو عبد الرحمن الأذري حدث عن الحسن بن جرير بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأكون أول من يبعث، فأخرج أنا وأبو بكر إلى أهل البقيع، فيبعثون ثم يبعث أهل مكة، فأحشر بين الحرمين.
وحدث عن أحمد بن إبراهيم بن بكار القرشي بسنده إلى كلثوم بن جوشن قال: جاء رجل عند الحسن وقد ولد له مولود، فقيل له: يهنئك الفارس! فقال الحسن: وما يدريك؟ أفارس هو؟ قالوا: كيف نقول يا أبا سعيد؟ قال: تقول: بورك لك في الموهوب، وشكرت الواهب، ورزقت بره، وبلغ أشده.
توفي معاوية سنة سبع وعشرين وثلاث مئة.
معاوية بن مروان بن الحكم
ابن أبي العاص بن أمية، أبو المغيرة القرشي الأموي أخو عبد الملك بن مروان.
قال عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي: لم يقل أحد في تفضيل أخ على أخيه، وهما لأب وأم، مثل قول المغيرة بن حبناء لأخيه صخر: من الوافر
أبوك أبي وأنت أخي ولكن ... تفاضلت الطبائع والظروف(25/106)
وأمك حين تنسب أم صدق ... ولكن ابنها طبع سخيف
وكان عبد الملك بن مروان إذا نظر إلى أخيه معاوية - وكان ضعيفاً - يتمثل بهذين البيتين.
معاوية بن مصاد بن زهير
ويقال: ابن زياد الكلبي سيد أهل المزة كان بطلاً شديداً من أبطال كلب.
بايع ليزيد أكثر أهل دمشق سراً، وبايع أهل مزة غير معاوية بن مصاد، وهو سيد أهل المزة، فمضى يزيد من ليلته إلى معاوية بن مصاد ماشياً في نفير من أصحابه، وبين دمشق والمزة ميل أو أكثر، فأصابهم مطر شديد، فأتوا منزل معاوية ففتح لهم، فدخل، فقال ليزيد: الفراش أصلحك الله. قال: إن في رجلي طيناً وأكره أن أفسد بساطك. قال: الذي تريدنا عليه أفسد. وكلمه يزيد، فبايعه معاوية، ورجع يزيد إلى دمشق.
وقيل: إن صاحب هذه القصة عبد الرحمن بن مصاد أخو معاوية بن مصاد.
معاوية بن معدي كرب
أخو إسماعيل بن معدي كرب قال عبد الحميد بن حريث:
خاصمت معاوية بن معدي كرب إلى عمر بن عبد العزيز - وهو بخناصرة - فنازعته، فقال معاوية: برئت من الإسلام يا أمير المؤمنين إن كان كما قال. فقال له عمر:(25/107)
إلى ما تؤول بعد الإسلام؟! والله لا كلمتك بعدها أبداً. واحتجب منه عمر بكمه.
وفي سنة إحدى وتسعين فتح على معاوية بن معدي كرب موقان.
معاوية بن يحيى أبو روح
الصدفي الدمشقي كان على بيت المال للمهدي.
حدث عن الزهري بسنده إلى أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة.
وحدث عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أسلم على يديه رجل فله ولاؤه.
وحدث عن الزهري، عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء.
وحدث عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: جاءني رجل من الأنصار في لسانه ثقل، وسألني: فكان في كلامه تعتب على عثمان، فلما فرغ قلت: يا هذا! إنا كنا نتحدث على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وخيرها بعد أبي بكر عمر، وخيرها بعد عمر عثمان، وإنا والله ما نرى أن عثمان أتى أمراً يستحل به دمه، ولكنه هذا المال، إن أعطاكموه رضيتم، وإن أعطاه ذا قرابته سخطتم، وإنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم، لا يدعون لهم أميراً إلا قتلوه. قال: فأقبلت عيناه بأربع من الدمع ثم قال: اللهم إنا لا نريد أن نكون كفارس والروم.
ضعفه قوم.(25/108)
معاوية بن يحيى أبو مطيع الدمشقي
الأطرابلسي حدث عن محمد بن عبد الرحمن بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من علم آية من كتاب الله علمه - أو باب من علم - أنمى الله أجره إلى يوم القيامة.
وحدث عن الحكم بن عبد الله الأيلي بسنده إلى أم رومان قالت: رآني أبو بكر أتميل في صلاتي، فزجرني زجرة انصرف. ثم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إذا قام أحدكم في صلاته فليسكن أطرافه، ولا يتميل كما يتميل اليهود.
وثقه قوم، وضعفه آخرون.
معاوية بن يحيى أبو عثمان الشامي
حدث عن الأوزاعي بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لله عباداً يختصهم بالنفع لمنافع العباد، فمن بخل بتلك المنافع عن العباد نقل الله تلك النعم عنهم، وحولها إلى غيرهم.(25/109)
قال معاوية بن يحيى: حدثت بهذا الحديث يزيد بن هارون فقال: لو ذهب إنسان في هذا الحديث إلى خراسان لكان قليلاً.
وحدث عن الأوزاعي بسنده إلى عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أعان أخاه المسلم بكلمة، أو مشى له خطوة، حشره الله عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء والرسل آمناً، وأعطاه على ذلك أجر سبعين شهيداً قتلوا في سبيل الله.
وحدث عن الأوزاعي بسنده إلى ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اتقوا الحرام في البنيان فإنه أساس الخراب.
معاوية بن يزيد بن معاوية
ابن أبي سفيان أبو عبد الرحمن، ويقال أبو يزيد، ويقال أبو ليلى القرشي الأموي بويع له بالخلافة بعد موت أبيه يزيد في ربيع الأول سنة أربع وستين، وكان رجلاً صالحاً ولم تطل مدته.
وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم، ويقال ابنة هاشم، وهما أخوان، أبناء عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. عاش بعد أمه أربعين يوماً ولم يعهد. وله يقول الشاعر - قيل إنه عبد الله بن همام السلولي: من الوافر
تلقفها يزيد عن أبيه ... فخذها يا معاوي عن يزيدا
فإن دنياكم بكم اطمأنت ... فأولوا أهلها خلقاً جديدا
ولما حضرت معاوية بن يزيد الوفاة قيل له: اعهد. قال: لا أتزود مرارتها وأترك لبني أمية حلاوتها؛ وإن كان خيراً فقد استكثر منه آل أبي سفيان.
وقيل: إنه ولي ثلاثة أشهر، فلم يخرج إلى الناس ولم يزل مريضاً، والضحاك بن(25/110)
قيس يصلي بالناس، فقيل له: اعهد. فقال: لا يسألني الله عن ذلك، ولكن إذا مت فليصل للناس الوليد بن عتبة، والضحاك بن قيس حتى يقوم بالخلافة قائم. ومات وهو ابن إحدى وعشرين سنة، أو عشرين سنة؛ وقيل: ابن ثمان عشرة سنة. وكان قد بايع له الناس إلا ما كان من ابن الزبير وأهل مكة.
ولما دفن قام على قبره مروان فقال: أتدرون من دفنتم؟ قالوا: معاوية بن يزيد. فقال: هذا أبو ليلى. فقال أزنم الفزاري: من البسيط
إني أرى فتنة تغلي مراجلها ... والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
وكان كما قال مروان، فوثب مروان بأهل الشام على الأمة، واستعلى ابن الزبير، وخرج القراء والخوارج بالبصرة، عليهم نافع بن الأزرق، وخرج نجدة بن عامر الحنفي باليمامة، وخرج بنو ماحوز إلى الأهواز وفارس، وكان نقش خاتم معاوية بن يزيد: بالله يثق معاوية.
وعن ابن معتب قال: نجد في كتاب أن خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية أربعين ليلة، سلام عليك إنك لمن الصالحين: قال ابن لهيعة: وسألته أمه بثدييها أن يستخلف أخاه(25/111)
خالد بن يزيد بن معاوية، فأبى وقال: لا أتحملها حياً وميتاً.
ولما حضرته الوفاة قيل له: لو استخلفت. فقال: كفيتها حياً وأتضمنها ميتاً!؟
معبد بن خالد بن ربيعة بن مرين
ابن حارثة بن ناضرة بن عمرو بن سعد أبو القاسم الجدلي، وجديلة بنت مر بن أد بن طابخة وهي أم يشكر بن عدوان حدث معبد بن خالد عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: تصدقوا، فسيأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته، فيقول الرجل: لو جئت بها بالأمس لقبلتها، فأما اليوم فلا حاجة لي فيها.
وحدث عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أهون أهل النار عذاباً رجل يجعل في أخمص قدميه جمراً يغلي منهما دماغه.(25/112)
كان معبد ثقة وكان يقرأ في كل ليلة سبع القرآن - أو ثلث القرآن.
وقال معبد: ما قمت ليلة إلا صليت حتى أصبح.
لما قدم عبد الملك بن مروان الكوفة بعد قتل مصعب بن الزبير جلس يعرض أحياء العرب، قال معبد بن خالد: فتقدمنا إليه معشر عدوان، وقدمنا رجلاً وسيماً جسيماً جميلاً، وتأخرت - وكان معبد دميماً - فقال عبد الملك بم مروان: من؟ فقال الكاتب: عدوان. فقال عبد الملك: من الهزج
عذير الحي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض
بغى بعضهم بعضاً ... فلم يرعوا على بعض
ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض
ثم أقبل على الجميل فقال: إيه. فقال: لا أدري. فقلت من خلفه:
ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي
ومنهم من يجيز الحج ... ج بالسنة والفرض
قال: ثم تركني عبد الملك وأقبل على الجميل فقال: من يقول هذا؟ فقال: لا أدري. فقلت من خلفه: ذو الإصبع فأقبل على الجميل وقال: لم سمي ذو الإصبع؟ قال: لا أدري. قلت من خلفه: لأن حية عضت إصبعه فقطعها. فأقبل على الجميل(25/113)
فقال: ما كان اسمه؟ فقال: لا أدري. فقلت من خلفه حرثان بن الحارث. فأقبل على الجميل فقال: من أيكم كان؟ قال: لا أدري. فقلت من خلفه: من بني ناج من الطويل
أبعد بني ناج وسعيك بينهم ... فلا تتبعن عينيك من كان هالكا
إذا قلت معروفاً لأصلح بينهم ... يقول وهيب لا أصالح هالكا
ثم أقبل على الجميل فقال: كم عطاؤك؟ فقال سبع مئة. فقال لي: في كم أنت؟ قلت: في ثلاث مئة. فأقبل على الكاتبين فقال: حطا من عطاء هذا أربع مئة وزيداها في عطاء هذا. فرجعت وأنا في سبع مئة وهو في ثلاث مئة.
توفي معبد بن خالد سنة ثمان عشرة ومئة.
معبد بن عبد الله بن عويمر
ويقال: معبد بن خالد، ويقال: معبد بن عبد الله ابن عكيم - الذي روى حديث الدباغ - الجهني هو أول من تكلم في القدر بالبصرة؛ استقدمه عبد الملك بن مروان دمشق لينفذه إلى ملك الروم، ثم جعله مع ابنه سعيد بن عبد الملك يودبه ويعلمه.
حدث معبد الجهني عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحمى حظ المؤمن من النار يوم القيامة.(25/114)
وحدث معبد الجهني قال: كنت عند عثمان فدعا بوضوء، فتوضأ، فلما فرغ قال: توضأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما توضأت، ثم تبسم فقال: هل تدرون مم ضحكت؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم. قال: إن العبد المسلم إذا توضأ فأتم وضوءه، ثم دخل في صلاته، فأتم صلاته خرج من صلاته كما يخرج من بطن أمه من الذنوب.
كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج أن ابعث إلي عالماً أبعثه إلى ملك الروم. فبعث إليه معبداً، فلما قدم معبد حدثه أن عبد الملك بن مروان قال له: ما تقول في المكاتب؟ فإن عمر كان يقول: هو عبد ما بقي عليه شيء؛ وكان معاوية بن أبي سفيان يقول: يؤدي ما بقي عليه في مكاتبته، ويكون ما بقي لولده. قلت: قضاء معاوية أحب إلي من قضاء عمر. قال: ولم؟ أليس عمر أفضل من معاوية؟ قلت: بلى، وداود أفضل من سليمان ففهمها سليمان.
قال معبد الجهني: قلت لعبد الله بن عمر: رجل لم يدع من الخير شيئاً إلا عمل به، إلا أنه كان شاكاً؟ قال: هلك للنية. قال: فقلت: رجل لم يدع من الشر شيئاً إلا عمل به، غير أنه يشهد أن لا إله إلا الله. قال: عش ولا تغتر. قال: ثم لقيت ابن عباس فقلت له مثل ذلك، فقال لي مثل ذلك.
اجتمع القراء إلى معبد الجهني - كان ممن شهد دومة الجندل موضع الحكمين - فقالوا(25/115)
له: قد طال أمر هذين الرجلين فلو لقيتهما فسألتهما عن بعض أمرهما. فقال: تعرضوني لأمر أنا له كاره! والله ما رأيت كهذا الحي من قريش، كأن قلوبهم أقفلت بأقفال من حديد، وأنا صائر إلى ما سألتم. قال معبد الجهني: فخرجت فلقيت أبا موسى الأشعري فقلت له: صحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكنت من صالحي أصحابه، واستعملك فكنت من صالحي عماله، وقبض وهو عنك راض، وقد وليت أمر هذه الأمة، فانظر ما أنت صانع. فقال لي: يا معبد! غداً يدعو الناس إلى رجل لا يختلف فيه اثنان. فقلت في نفسي: أما هذا فقد عزل صاحبه، فطمعت في عمرو، فخرجت فلقيته وهو راكب بغلته يريد المسجد، فأخذت عنانه، فسلمت عليه فقلت: أبا عبد الله! إنك قد صحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكنت من صالحي أصحابه. قال: بحمد الله. قلت: واستعملك فكنت من صالحي عماله. فقال: بتوفيق الله. قلت: وقبض وهو عنك راض. فقال: بمن الله. ثم نظر إلي شزراً فقلت: وقد وليت هذه الأمة، فانظر ما أنت صانع. فخلع عنانه من يدي ثم قال لي: إيها تيس جهينة، ما أنت وهذا؟! لست من أهل السر ولا من أهل العلانية، والله ما ينفعك الحق، ولا يضرك الباطل، ثم مضى وتركني. فأنشأ معبد يقول: من البسيط
إني لقيت أبا موسى فأخبرني ... بما أردت وعمرو ضن بالخبر
شتان بين أبي موسى وصاحبه ... عمرو لعمرك عند الفصل والخطر
هذا له غفلة أبدت سريرته ... وذاك ذو حذر كالحية الذكر
وكان معبد رأساً في القدرن قدم المدينة فأفسد بها ناساً.
قال إبراهيم بن يعقوب السعدي: وكان قوم يتكلمون في القدر، احتمل الناس حديثهم لما عرفوا من اجتهادهم في الدين، وصدق ألسنتهم وأمانتهم في الحديث، لم يتوهم عليهم الكذب، وإن بلوا بسوء رأيهم، منهم قتادة، ومعبد الجهني هو رأسهم.(25/116)
قال يحيى بن يعمر: كان رجل من جهينة فيه زهو، وكان يترقب على جيرانه، ثم إنه قرأ القرآن، وفرض الفرائض، وقص عل الناس، ثم إنه صار من أمره أنه زعم أن العمل أنف؛ من شاء عمل خيراً، ومن شاء عمل شراً.
قال ابن عون: أمران أدركتهما وليس بهذا المصر منهما شيء، وأنا بين أظهركم كما ترون: الكلام في القدر، إن أول من تكلم فيه رجل من الأساورة يقال له سستوه كان لحيقا. قال: ما سمعته قال لأحد لحيقا غيره. قال: فإذا ليس له تبع عليه إلا الملاحين. ثم تكلم فيه بعده - يعني رجلاً قد كانت له مجالسة، يقال له معبد الجهني، فإذا له عليه تبع. قال: وهؤلاء الذين يدعون المعتزلة. وسستويه بالتاء.
قال أبو عون: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان، حتى نشأ ها هنا حقير يقال له سستويه البقال. وكان أول من تكلم في القدر، فقال حماد: فما ظنكم برجل يقول له ابن عون هنا حقير؟! قال يونس بن عبيد: أدركت البصرة وما بها قدري إلا سستويه ومعبد الجهني، وآخر ملعون في بني عوانة.
قال الأوزاعي: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن، كان نصرانياً فأسلم، ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد.(25/117)
قال أنس بن مالك:
إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج من باب البيت وهو يريد باب الحجرة سمع قوماً يتراجعون بينهم في القرآن - زاد في آخر: في القدر - ألم يقل الله عز وجل في آية كذا وكذا؟ ألم يقل الله في آية كذا وكذا؟ ففتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باب الحجرة وكأنما فقئ على وجهه حب الرمان فقال: أبهذا أمرتم؟! أو بهذا عنيتم؟ إنما هلك الذين من قبلكم بأشباه هذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، أمركم الله بأمر فاتبعوه، ونهاكم عن شيء فانتهوا. قال: فلم يسمع الناس بعد ذلك أحداً تكلم في القدر، حتى كان ليالي الحجاج بن يوسف، فأول من تكلم فيه معبد الجهني، فأخذه الحجاج بن يوسف فقتله.
قال محمد بن زيد الألهاني: كنا في المسجد إذ مر بمعبد الجهني إلى عبد الملك بن مروان، فقال الناس: إن هذا لهو البلاء. قال: فسمعت خالد بن معدان يقول: إن البلاء كل البلاء إذا كانت الأئمة منهم.
قال الحسن: إياكم ومعبد الجهني فإنه ضال مضل.
قال يونس بن عبيد: أدركت الحسن وهو يعيب قول معبد يقول: هو ضال مضل. قال: ثم تلطف له معبد فألقى في نفسه ما ألقى.
كان مسلم بن يسار وأصحابه يقولون: إن معبداً الجهني يقول بقول النصارى.
قال ابن عون: كنا جلوساً في مسجد بني عدي، وفينا أبو السوار، فدخل معبد الجهني من بعض أبواب المسجد فقال أبو السوار: ما أدخل هذا مسجدنا؟ لا تدعوه يجلس إلينا.
بينا طاوس يطوف بالبيت لقيه معبد الجهني، فقال له طاوس: أنت معبد؟ قال: نعم. فالتفت إليهم طاوس فقال: هذا معبد، فأهينوه.(25/118)
وقال طاوس: احذروا معبد الجهني فإنه كان قدرياً.
قال أبو الزبير المكي: مررت أنا وطاوس فإذا معبد الجهني جالس في جانب المسجد، قلت لطاوس: هذا الذي يقول في القدر ما يقول. فعدل إليه طاوس حتى وقف عليه وقال: أنت المفتري على الله القائل ما لا تعلم؟ قال معبد: يكذب علي.
قال أبو الزبير: عدلنا إلى ابن عباس فذكرنا شأن من يقول في القدر، فقال ابن عباس: ويحكم! أروني بعضهم. قلنا: ما أنت صانع به؟ قال: والذي نفسي بيده، لئن أريتموني منهم أحداً لأجعلن يدي في رأسه ثم لأدقن عنقه.
قال مالك بن دينار: لقيت معبد الجهني بمكة بعد ابن الأشعث وهو جريح، وقد قاتل الحجاج في المواطن كلها فقال: لقيت الفقهاء والناس، لم أر مثل الحسن: ياليتنا أطعناه. كأنه نادم على قتال الحجاج.
كان الحجاج يعذب معبداً الجهني بأصناف العذاب، ولا يجزع ولا يستعتب، فكان إذا ترك من العذاب يرى الذباب مقبلة تقع عليه فيصيح ويضج، قال: فيقال له، قال: أما إن هذا من عذاب بني آدم فأنا أصبر عليه، وأما الذباب من عذاب الله فلست أصبر عليه. فقتله.
وقيل: إن عبد الملك قتل معبداً وصلبه بدمشق في سنة ثمانين أو بعد الثمانين.(25/119)
معبد بن محمد البيروتي
حدث ببيروت سنة سبع وثمانين ومئتين عن العباس بن الوليد بسنده إلى حسان بن عطية قال: من حلمك وعلمك ورفقك حملك ما شئت من خلقك، ولولا ذلك لم يطق حملك شيء، ومن حلمك وعلمك ورفقك وسعك ما شئت من خلقك، ولولا ذلك لم يسعك شيء، ومن حلمك وعلمك ورفقك سترك ما شئت من خلقك، ولولا ذلك لم يسترك شيء.
وحدث عنه بسنده إلى عمر بن عبد العزيز أنه قال: كفاك من شر وشؤم صحبة الفاجر يوم؛ ثم كأنه استكثره فقال: أو نصف يوم.
معبد بن وهب
ويقال: ابن قطني ويقال: ابن قطن أبو عباد المديني مولى العاص بن وابصة المخزومي وقيل: مولى معاوية بن أبي سفيان وقيل مولى ابن قطن، وابن قطر مولى معاوية أحد الأدباء الفصحاء وهو الذي يضرب به المثل في جودة الغناء.
وفد على الوليد، وكان مقبول الشهادة عند حكام المدينة إلى أن نادم الوليد بن يزيد فردت شهادته على ما قيل.
سأل أبان القارئ معبداً المغني عن دواء الحلق فقال: حدثتني أم جميل الحدباء أنها سألت الجن عن ذلك فقالوا: دواؤها الهوان.(25/120)
قال معبد: بدت لي حاجة إلى خولة بنت منظور بن زبان، وهي أم حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وأم إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله، قال: فجعلت ذريعتي إليها أن غنيتها شعراً فيها وهو: من الوافر
كأنك مزنة برقت بليل ... لعطشان يضيء له سناها
فلم تمطر عليه وجاوزته ... وقد أشفى عليها أو رجاها
قال: فاهتزت العجوز لهذا الشعر كما يهتز الغصن تحت الرياح وقالت: يا عبد آل قطن! قيل هذا الشعر في، وأنا أحسن من النار الموقدة.
غدا الأحوص على امرأة لها شرف، وهي في قصرها بالعقيق، فوجد عندها معاذاً الزرقي - وكان حسن الغناء - ومعبداً المغني، وابن صياد النجاري وكان مضحكاً مليحاً، فطلب إذن عليها، فرد عن بابها فانصرف وهو يقول: من البسيط
ضنت عقيلة لما جئت بالزاد ... وآثرت حاجة الثاوي على الغادي
فقلت والله لولا أن تقول له ... قد باح بالسر أعدائي وحسادي
قلنا لمنزلها حييت من طلل ... وللعقيق ألا بوركت من وادي
إني وهبت نصيبي من مودتها ... لمعبد ومعاذ وابن صياد
لابن اللعين الذي يخبى الدخان له ... وللمغني رسول السوء قواد
أما معاذ فإني غير ذاكره ... كذاك أجداده كانوا لأجدادي
قال: وإنما ترك معاذاً لأنه كان جلداً خاف أن يضربه، وغضب عليه معبد وقال: لا أغني بشعره أبداً. فبلغ ذلك الأحوص، فركب راحلته وحمل معه مذرعاً(25/121)
فيه طلاء. فأتى معبداً وهو بالعقيق، فأعرض عنه معبد فلم يكلمه، فقال له الأحوص: يا أبا عباد أتهجرني؟! وجعلت زوجته تقول: أتهجر أبا محمد مع حسن أياديه؟! ولم تزل به حتى رضي عنه. فنزل الأحوص عن راحلته واحتمل معبداً على عنقه حتى أدخله منزله وقال: والله لأسمعن في بيتك الغناء، ولأشربن الطلاء، ولآكلن الشواء. فقال له معبد: قد والله أخزاك، هذا الشواء أكلته، وهذا الغناء سمعته، فأين الطلاء؟ قال: هو هذا خلف راحلتي أردفتها إياه فأنزله في ذلك المذرع - وهي شيء من أدم يجعل فيه النبيذ - وخذ الدنانير التي تحت وطاء الرحل فاشتر بها طعاماً. ففعل، فقالت زوجته أم كردم لمعبد: أي عدو نفسه! أتغضب على من إن جاءنا ملأنا فضلاً، وإن تولى أغدر فينا نعماً! قبح الله رأيك. فأقام الأحوص عنده حتى صلى العصر، ثم رحل إلى المدينة فمر بين الدارين في المصلى يميل بين شعبتي رحله.
قال كردم بن معبد المغني مولى ابن قطن: مات أبي وهو في عسكر الوليد بن يزيد، وأنا معه، فنظرت حين أخرج نعشه إلى سلامة جارية يزيد بن عبد الملك، وقد أضرب الناس عنه ينظرون إليها وهي آخذة بعمود السرير وهي تندب أبي وتقول: من مجزوء الرمل
قد لعمري بت ليلي ... كأخي الداء الوجيع
ونجي الهم مني ... بات أدفى من ضجيعي
كلما أبصرت ربعاً ... خالياً فاضت دموعي
قد خلا من سيد كا ... ن لنا غير مضيع
لا تلمنا إن خشعنا ... أو هممنا بخشوع
قال كردم: وكان يزيد أمر أبي أن يعلمها هذا الصوت، فعلمها إياه، فرثته به يومئذ، فلقد(25/122)
رأيت الوليد بن يزيد والغمر أخاه متجردين في قميصين ورداءين يمشيان بين يدي سريره، حتى أخرج من دار الوليد، لأنه تولى أمره وأخرجه من داره إلى موضع قبره.
معبد بن هلال العنزي البصري
حدث معبد بن هلال قال:
اجتمع رهط من أهل البصرة وأنا فيهم، فأتينا أنس بن مالك وتشفعنا إليه بثابت البناني، فدخلنا عليه، فأجلس ثابتاً معه السرير؛ فقلت: لا تسلوه عن شيء غير هذا الحديث. فقال ثابت: يا أبا حمزة! إخوانك من أهل البصرة جاؤوك يسألونك عن حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الشفاعة فقال: حدثنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض، فيؤتى آدم فيقولون: يا آدم! اشفع لذريتك. فيقول: لست لها، ولكن ائتوا إبراهيم فإنه خليل الله. فيؤتى إبراهيم فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى، فإنه كليم الله. فيؤتى موسى صفوة الله، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى، فإنه روح الله وكلمته. فيؤتى عيسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأوتى، فأقول: أنا لها، فأنطلق فأستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه، فأقوم بين يديه مقاماً فيلهمني فيه محامد لا أقدر عليها الآن، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقول لي: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع. فأقول: أيرب! أمتي أمتي. فيقال لي: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال برة، أو مثقال شعيرة من إيمان فأخرجه. فأنطلق، فأفعل ثم أعود فأحمد بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع. فأقول: أي رب! أمتي أمتي. فيقال: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال ذرة - أو مثقال خردلة - من إيمان فأخرجه منها. فأنطلق، فأفعل ثم أرجع، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع. فأقول: أي رب! أمتي أمتي. فيقال لي: انطلق، فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال خردلة من إيمان فأخرجه من النار.(25/123)
فلما رجعنا من عند أنس قلت لأصحابي: هل لكم في الحسن وهو مستخف في منزل أبي خليفة في عبد القيس؟ فأتيناه فدخلنا عليه فقلنا: جئنا من عند أخيك أنس، فلم نسمع مثلما حدثنا في الشفاعة. فقال: كيف حدثكم؟ فحدثناه الحديث، حتى إذا بلغنا قال: هيه. قلنا: لم يزدنا على هذا. قال: قد حدثنا هذا الحديث وهو جميع، حدثني منذ عشرين سنة، ولقد ترك شيئاً فلا أدري أنسي الشيخ أم كره أن يحدثكموه فتتكلوا. حدثني ثم قال: في الرابعة، ثم أعود فأخر له ساجداً، ثم أحمد بتلك المحامد، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع. فأقول: أي رب! ائذن فيمن قال لا إله إلا الله - بها صادقاً - قال: فيقول: ليس لك، وكبريائي وعظمتي، لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله. قال: فأشهد على الحسن لحدثنا بهذا الحديث يوم حدث به أنس.
وحدث معبد بسنده إلى عوف بن مالك: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قعد إلى أبي ذر - أو قعد أبو ذر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس؟ فقال: يا رسول الله! وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم يا أبا ذر، ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: ما هو؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قلت: يا رسول الله! ما الصلاة؟ قال: خير موضوع، فمن شاء استقل، ومن شاء استكثر. قلت: يا رسول الله، فما الصوم؟ قال: فرض مجزئ. فقلت: يا رسول الله! فما الصدقة؟ قال: أضعاف مضعفة وعند الله مزيد. قلت: يا رسول الله! فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، وبسر إلى سر. قلت: يا رسول الله! كم المرسلين؟ قال: ثلاث مئة وخمسة عشر الجم الغفير. قلت: أرأيت(25/124)
آدم عليه السلام كان نبياً؟ قال: نعم، ومكلماً. ثم قال: إن أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصل علي.
وعن معبد سمع أنساً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر.
معبد مولى الوليد بن معاوية
قال معبد: لما مر محمد بن عبد الملك بن مروان إلى الزاب، فنظر إلى دمشق قال: ويحك يا إرم! رميت عند جرانك، وفيك تعقل العروش.
معبد أبو المخارق الراهبي
من أهل الراهب، محلة كانت بدمشق خارج البلد بقرب المصلى.
قال: أربع من أوتيهن فقد أوتي خير الدنيا والآخرة: العدل في الغضب والرضا؛ والقصد في الفقر والغنى؛ وخشية الله في السر والعلانية؛ وحمد الله على كل حال. وأربع من أوتيهن فقد أوتي خير ما أوتي آل داود: قلب شاكر؛ وبدن صابر؛ ولسان ذاكر؛ وزوجة إذا نظر إليها سرته.
معدان بن طلحة
ويقال: ابن أبي طلحة اليعمري حدث عن أبي الدرداء، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: أما يستطيع أن يقرأ أحدكم ثلث القرآن في ليلة؟ قالوا: نحن أعجز من ذلك(25/125)
وأضعف. قال: إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل " قل هو الله أحد " جزءاً من القرآن. وفي رواية: ثلاثاً من أجزاء القرآن.
وحدث عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاء فأفطر، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فأخبرته فقال: أنا صببت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضوءه.
وعن معدان قال: قدمت دمشق على أبي الدرداء فكان أول ما سألني عن منزلنا والقرآن، ثم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما من ثلاثة في بدو ولا حضر لا يقيمون الصلاة إلا كان الشيطان رابعهم، فعليكم بالجماعة، فإن الذئب إنما يأخذ القاصية.
قال عبادة بن نسي: كان رجل بالشام يقال له معدان، كان أبو الدرداء يقرئه القرآن، ففقده أبو الدرادء، فلقيه يوماً وهو بدابق، فقال له أبو الدرداء: يا معدان! ما فعل القرآن الذي معك؟ كيف أنت والقرآن اليوم؟ قال: قد علم الله منه فأحسن. قال: يا معدان! أفي مدينة تسكن اليوم أو في قرية؟ قال: لا، بل في قرية، قريب من المدينة. قال: مهلاً ويحك يا معدان! فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما من خمسة أهل أبيات لا يؤذن فيهم بالصلاة، وتقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، وإن الذئب يأخذ الشاذة، فعليك بالمدائن، ويحك يا معدان.
ضرب الوليد بن عبد الملك سالم بن أبي الجعد ومعدان بن أبي طلحة مئة سوط مئة سوط في الترفض.(25/126)
معرور الكلبي
أراه جد النضر بن يحيى بن معرور.
حدث عن رجل أن عثمان أمر منادياً فنادى إن الذكاة في الحلق واللبة لمن قدر. وأقروا الأنفس حتى تزهق.
معروف بن سويد مولى علي
ابن عبد الله بن عباس وأبي عبد الله بن جعفر بدمشق قال معروف: كنت مع مولاي علي بن عبد الله حين مضى إلى دمش فقال وهو راكب على بغلته وقد أردفني خلفه إذ رأيته نزل عن البغلة، فجاء إلى شيخ طوال، حسن الوجه، حسن كل شيء منه، فقبل يديه ورجليه، وحمله على البغلة، ومشى تحت ركابه حتى بلغه إلى منزله، ثم حمله فأنزله وقبل يديه، وأدخله إلى منزله، وركب البغلة فقلت له: يا مولاي! من هذا الشيخ؟ قال: أو ما تعرفه؟ قلت: لا. فقال: هذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غفر الله لمن رآني، ومن رأى من رآني، ومن رأى من رأى من رآني. فقالت أم الحسن: قد رأيت معروفاً ورأى معروف عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن جعفر رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ونحن نرجو المغفرة.(25/127)
معروف بن عبد الله أبو الخطاب الخياط
مولى عبيد الأعور مولى بني أمية حدث معروف الخياط عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بكاء الصبي إلى سنتين، يقول: لا إله إلا الله، وما كان بعد ذلك فاستغفار لأبويه؛ وما عمل من حسنة فلأبويه، وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على أبويه، حتى يجري عليه القلم.
قال معروف: كنت في مجلس واثلة بن الأسقع إذ أقبل رجل يشهد على بضاعة اشتراها، فلما ولى البيع والمشتري قال واثلة: ردوا علي المشتري. فلما رجع قال: اذهب خذ مالك، فقد دلس عليك. فرجع الرجل فأخذ ماله، فقيل للبائع: تدري من رده إليك؟ قال: واثلة بن الأسقع. فرجع البائع إلى واثلة، فلما قام على مجلسه قال له: يا صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! مثلك يسعى! فقال: كذبت، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يحل لمسلم أن يطلع على دلسة على مسلم إلا أخبره بها.
وحدث معروف أنه رأى واثلة يشرب الفقاع.
وحدث أنه رأى أنس بن مالك خادم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشرب الفقاع.
وحدث معروف قال: رأيت رجلاً قام إلى واثلة بن الأسقع صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما تقول في الطلاء؟ قال: اطبخه حتى يذهب ثلثاه، وزد قليلاً.(25/128)
وقال معروف: رأيت واثلة بن الأسقع بصلي على جنائز الرجال والنساء، فيجعل الرجال يلونه والنساء أما القبلة، وإن كان رجل قام نحو صدره، وإن كانت امرأة قام حذو رأسها.
وقال معروف: رأيت واثلة بن الأسقع يرتعش من الكبر، وكان يمسح رأسي ويقول: يا معروف! أخشى عليك الكبر. فعلمت أنها كلمة ألقاها الله تعالى في قلبه.
معروف بن محمد بن معروف
أبو المشهور النخعي الزنجاني الواعظ حدث سنة اثنتين وسبعين وثلاث مئة بإسناده لأبي نجيح قال: سأل رجل ابن عمر عن صيام يوم عرفة فقال: حججت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه. كان أبو المشهور يذكر أنه من ولد مالك بن الحارث، الأشتر النخعي، وهو من أهل زنجان. وطعن الناس في نسبه.
معروف بن أبي معروف البلخي
حدث عن جرير بن عبد الحميد بسنده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دخلت الجنة فما فيها شجرة ولا ورقة إلا عليها مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذا النورين.
معروف بن أبي معروف يسرق الحديث.
وبه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وزنت بالخلق كلهم فرجحت بهم، ثم وزن أبو بكر(25/129)
فرجح بهم، ثم وزن عمر فرجح بهم، ثم وزن عثمان فرجح بهم، ثم رفع الميزان قال: وهذا كالحديث الأول.
معقس بن عمران بن حطان السدوسي
قال: دخلت مع أبي على أم الدرداء: فسألها أبي: ما فضل من قرأ القرآن على من لم يقرأ؟ قال حدثتني عائشة قالت: جعل درج الجنة على عدد آي القرآن - وفي آخر: إنه ليقال: اقرأ وارق. فإنه ليقرأ ويرقى حتى ينفذ ما معه - فمن قرأ ثلث القرآن ثم دخل الجنة كان على الثلث من درجها، ومن قرأ نصف القرآن كان على النصف من درجها، ومن قرأ كله كان في عليين، لم يكن فوقه إلا نبي أو صديق أو شهيد.
وحدث عن أم الدرداء، عن عائشة: ليس أحد ممن دخل الجنة أفضل ممن قرأ القرآن.
وحدث معقس عن عبد الله، سمع أبا ذر يقول: الجليس الصالح خير من الوحدة، والوحدة خير من جليس السوء.
معقل بن سنان بن مظهر بن عركي
ابن فتيان بن سبيع بن بكر بن أشجع أبو محمد ويقال أبو سنان ويقال أبو عيسى ويقال أبور.... الأشجعي له صحبة، قدم دمشق على يزيد بن معاوية، ورجع إلى المدينة ساخطاً على يزيد، وخلعه، وكان مع أهل الحرة وقتل بها.
وعن عبد الله بن مسعود أنه قضى برأيه في امرأة مات زوجها، وكان تزوجها ولم يفرض لها شيئاً، أن لها(25/130)
مثل صداق نسائها ولها ميراث وعليها العدة؛ ولم يكن سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقدم المدينة فلقي معقل بن سنان فسأله عبد الله بن مسعود: كيف قضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بروع بنت واشق الأشجعية التي مات زوجها في القليب، وكان تزوجها ولم يفرض لها شيئاً؟ فأخبره معقل بن سنان أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى مثل قضائه، فقال عبد الله: الحمد لله الذي وفقني لقضائه.
قال أبو سعيد: ما خلق الله بروع بنت واشق قط، ولم يقدم معقل بن سنان الأشجعي قط الكوفة.
وشهد معقل الفتح مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان شاباً طرياً، وقتل يوم الحرة في ذي الحجة سنة ثلاث وستين، فقال الشاعر: من الطويل
ألا تلكم الأنصار تبكي سراتها ... وأشجع تبكي معقل بن سنان
وقدم معقل المدينة في زمن عمر، ونفاه عمر عن المدينة لما قيل فيه، وكان جميلاً: من الطويل
أعوذ برب الناس من شر معقل ... إذا معقل راح البقيع مرجلا
فبلغ ذلك عمر فنفاه، وكانت له وفرة، فبعث إليه عمر فضم شعره. وكان معقل بن(25/131)
سنان على المهاجرين يوم الحرة فقتله مسرف بن عقبة المري.
وعركي: بفتح العين والراء وكسر الكاف وآخره ياء مشددة.
ومظهر بظاء معجمة وهاء مشددة مكسورة.
وكان الوليد بن عتبة بن أبي سفيان بعث معقل بن سنان ببيعة يزيد بن معاوية، فاجتمع معقل بن سنان ومسلم بن عقبة الذي يعرف بمسرف فقال معقل - وكان آنسه وحادثة إلى أن ذكر معقل يزيد بن معاوية فقال -: إني خرجت كارهاً لبيعة هذا الرجل، وقد كان من القضاء والقدر خروجي إليه، رجل يشرب الخمر وينكح الحرم! ونال منه فلم يترك، ثم قال لمسرف: أحببت أن أضع ذلك عندك. فقال مسرف: أما أن أذكر ذلك لأمير المؤمنين يومي هذا فلا والله لا أفعل، ولكن لله عهد علي وميثاق أن لا تمكني يداي منك ولي عليك مقدرة، إلا ضربت الذي فيه عيناك.
فلما قدم مسرف المدينة، وأوقع بهم أيام الحرة وكان معقل يومئذ صاحب المهاجرين، فأتي به مسرف مأسوراً فقال له: يا معقل، أعطشت؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير قال: خوضوا له شربة بلوز. فخاضوها له، فشرب، فقال له: أشربت ورويت؟ قال: نعم. قال: أما والله لا تستهنئ بها، يا مفرج، قم فاضرب عنقه، ثم قال: اجلس. ثم قال لنوفل بن مساحق: قم فاضرب عنقه. فقام إليه فضرب عنقه. ثم قال: ما كنت لأدعك بعد كلام سمعته منك تطعن فيه على إمامك. فقتله صبراً.
وقيل: إن مسلماً لما دعا الناس إلى البيعة قال: يا ليت شعري، ما فعل معقل بن سنان؟ وكان له مصافياً، فخرج ناس من أشجع يطلبونه، فأصابوه في قصر العرصة، وقيل أصابوه في جبل أحد، فقالوا له: الأمير يسأل عنك، فارجع إليه. قال: أنا أعلم(25/132)
به منكم، إنه قاتلي. قالوا: كلا. فأقبل معهم، فقال له مسلم: أهلاً بأبي محمد، أظنك ظمآناً، وأظن هؤلاء أتعبوك. قال: أجل. قال: شوبوا له عسلاً بثلج، من العسل الذي حملتموه لنا من حوارين. فسقوه فقال: سقاك الله أيها الأمير من شراب الجنة. قال: لا جرم والله لا تشرب بعدها - لا أم لك - شراباً حتى تشرب من حميم جهنم. قال: أنشدك الله والرحم. قال: ألست القائل ليلة لقيتك بطبرية وأنت منصرف من عند أمير المؤمنين، وقد أحسن جائزتك: سرنا شهراً وحسرنا ظهراً ورجعنا صفراً، نرجع إلى المدينة، فنخلع الفاسق شارب الخمر، ونبايع رجلاً من المهاجرين أو أبناء المهاجرين؟ يا تيس أشجع! فيم غطفان وأشجع من الخلع والتأمير؟! إني عاهدت الله لا ألقاك في حرب أقدر فيها على قتلك إلا قتلتك. وأمر به فقتل، وقال لعمرو بن محرز: واره. فقال: تقتله أنت وأواريه أنا!؟ قال: نعم.
قالوا: ولما أمر مسلم بقتل معقل قال: أسألك بالرحم. قال: ما عذري عند أمير المؤمنين إذاً؛ أن أقتل بني عمه وتركت بني عمي؟ وقتله. فقال عاصم الأشجعي يرثي معقلاً: من الطويل
وقائلة تبكي بعين سخينة ... جزى الله خيراً معقل بن سنان
فتى كان غيثاً للفقير ومعقلاً ... حريزاً لما يخشى من الحدثان
وقال يذم عمرو بن محرز إذ ترك دفنه: من الطويل
بني محرز هلا دفنتم أخاكم ... ولم تتركوه للضباع الخواضع
تلعبتم جهلاً بلحم ابن عمكم ... وأسلمتوه للسيوف القواطع
تعاوره أرماحكم وسيوفكم ... وتلك لعمر الله إحدى البدائع
وقال أرطاة بن سهية يرد على عاصم: من الطويل(25/133)
يعد علينا عاصم قتل معقل ... فما ذنبنا إن كان أجرى وأوضعا
وما ذنبنا إن كان فارس بهمة ... أصاب فلم يترك لرأسك مسمعا
معلل بن خالد الهجيمي البصري
وفد على هشام بن عبد الملك وعنده الأبرش الكلبي، فقال له الأبرش: يا أخا تميم، لمن يقال: من الكامل
لو يسمعون بأكلة أو شربة ... بعمان أصبح جمعهم بعمان
فقال: لنا يقال، وإنكم يا معشر كلب! لتغفرن النساء، وتجزون الشاء، وتكدرون العطاء، وتؤخرون العشاء، وتبيعون الماء. فضحك هشام! فلما خرجوا قال الأبرش: يا أخا تميم! أما كانت لك بقية؟ قال: أنت بدأت.
معلى بن أيوب أبو العلاء الكاتب
وهو ابن خالة الفضل والحسن ابني سهل.
من كتاب المأمون، قدم دمشق مع المأمون، وبقي إلى أن كتب للمتوكل، وكان ممن حضر الجامع بدمشق للكشف عن أحوال المتظلمين من التعديل والمساحة.
قال المعلى بن أيوب: دخلت على المأمون فرأيته مقبلاً على شيخ شديد بياض الثوب، حسن اللحية، على رأسه لاطئة، وقد أقبل عليه المأمون، فقلت للحسن بن أبي سعيد وهو ابن خالة(25/134)
المعلى، وكان حاجب المأمون على العامة: من هذا؟ فقال: ألا تعرفه؟ فقلت: لو عرفته ما سألتك عنه. قال: هذا أبو العتاهية. فأقبل عليه المأمون فقال: أنشدني أحسن شعرك في ذكر الموت. فأنشده: من مجزوء الكامل
أنساك محياك المماتا ... فطلبت في الأرض الثباتا
أوثقت بالدنيا وأن ... ت ترى جماعتها شتاتا
وعزمت منك على الحيا ... ة وطولها عزماً بتاتا
دار تواصل أهلها ... ستعود نأياً وانبتاتا
إن الله يميت من ... أحيا ويحيى من أماتا
يا من رأى أبويه في ... من قد رأى كانا فماتا
هل فيهما لك عبرة ... أم خلت أن لك انفلاتا
ومن الذي طلب التفل ... لت من منيته ففاتا
كل تصبحه المني ... ية أو تبيته بياتا
فلما نهض تبعته إلى آخر الصحن أو في الدهليز وكتبها عنه.
قال معلى بن أيوب: دخل صديق لعبد الله بن طاهر عليه كان يعرفه قديماً، فأجلست معه على السرير وأنشد:
أميل مع الذمام على ابن عمي ... وأحمل للصديق على الشقيق
فإن ألفيتني ملكاً عظيماً ... فإنك واجدي عبد الصديق
أفرق بين معروفي ومني ... وأجمع بين مالي والحقوق(25/135)
حدث معلى بن أيوب الكاتب عن أحمد بن صالح بن أبي فنن الشاعر قال: كان محمد بن يزيد بن مزيد الشيباني أجود بني آدم في عصره، كان لا يرد طالباً ولا راغباً عن حاجته، فإن لم يحضر مال لم يقل لا، ولكن يعد، ثم يستدين وينجزه، وكان بين وعده وإنجازه كعطفة لام على ألف! قال: وأنشدني ابن أبي فنن يمدحه: من الكامل
عشق المكارم فهو مشتغل بها ... والمكرمات قليلة العشاق
وأقام سوقاً للثناء ولم يكن ... سوق الثناء يعد في الأسواق
بث الصنائع في البلاد فأصبحت ... تجبى إليه محامد الآفاق
حدث المعلى بن أيوب عن بعض الأعراب قال: إني وابن عم لي بأكناف نجد إذا نحن بنسوة كأنهن لآلئ يمشين، فأتت إلي امرأة منهن فقالت: ابنة عم لك تسألك الدنو منها لاستماع كلامها وحمل رسالتها. قلت: من هي؟ قالت: إذا رأيتها عرفتها. قال: فدنوت منهن، فإذا نسوة كأنهن الدمى حسناً! ومنهن جارية قد بذتهن جمالاً وأربت عليهن كمالاً فقالت لي: يا فتى هل لك في اكتساب أجر واتخاذ شكر؟ قلت: ما بي عما ذكرت من رغبة وإن بي من قضاء وطرك لأعظم الحاجة قالت: قل لابن عمك: من البسيط
كم قد تجرعت من غيظ ومن كمد ... إذا تجدد حزن هون الماضي
وكم سخطت فما باليتم سخطي ... حتى رضيت فقلتم ساخط راضي
فأنشدته البيتين عنها، فتغير لونه، وأنكرت ما كنت أعرفه به. ثم قال: ارجع فقل لها: من الطويل
وما هجرتك النفس ياليل إنها ... قلتك ولكن قل منك نصيبها(25/136)
فأتيتها فأنشدتها، فقالت: ابتدأت فمننت، فإن شفعت فبفضلك. قلت: أفعل. قالت: قل له: من الطويل
أتوك بما لا والذي سبحت له ... قريش وأعناق المطي تسوم
بأمر صليت النار إن كنت قلته ... ولكن عيب الكاشحين وخيم
فأتيته بالبيتين فزفر زفرة ظننت أن قلبه قد انصدع فقلت له: ويحك! بلغ بك الوجد ما أرى؟ فقال: من الطويل
وجدي بها وجد الموافى بغلة ... لعشر فلم يدرك على الماء ساقيا
وقد شارف الأمر الجليل فلم يجد ... على الماء إلا المعطشين الأعاديا
فأنشدتها البيتين فشهقت شهقة ظننت أن فؤادها انخلع، ثم قالت: من الطويل
كما لقي المهموم من علة الهوى ... وأكثر فيه الناظرون التماديا
فلما استبانوا ما به عدلوا به ... عن الإلف حتى ظن أن لا تلاقيا
فأودى به سقمان سقم صبابة ... وسقم هيام فهو يلقى الدواهيا
فقلت لأولئك النسوة: هل لكن في إحيائهما واحتساب الأجر في الجمع بينهما؟ قلن: إي والله. ثم رفعنا أزراً على أربع عصي، فصار كالرواق، فأدخلناهما فيه وجعلنا نتساقط حديثهما، ثم خرج إلي فقلت له: كيف رأيت يومك؟ قال: أعداني إحسانها على إساءة الدهر، وأظفرني محبوبها بمكروه الأيام، فأنا مستأنف لباقي عمري في ارتياد ساعة أخرى. ثم قال: من الطويل
فقل بعدها للدهر يأتي بصرفه ... وقل لليالي اصنعي ما بدا لك
توفي المعلى بن أيوب سنة خمس وخمسين ومئتين، وكان عفيفاً كافياً.(25/137)
معلى بن سلام أبو عبد الله
القرشي الخباز الرفاء حدث معلى وعبد الرحمن الكتاني عن معروف الخياط قال: رأيت واثلة بن الأسقع يتوضأ للصلاة من نهر قلوط.
وحدث معلى عن عبد الملك المغازلي قال: رأيت واثلة بن الأسقع يشرب الفقاع، ورأيت عليه عمامة سوداء.
معلى بن عيسى الدمشقي
حدث عن مالك بن أنس بسنده إلى عائشة قالت: ما خير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس منه؛ وما انتقم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها.
معلى بن منصور أبو يعلى الرازي
حدث عن صداقة بن خالد بسنده إلى بلال بن سعد، عن أبيه وكان قد أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قيل يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: أنا وأصحابي. قال: قلنا: ثم ماذا؟ قال: ثم القرن الثاني. قال: قلنا ثم ماذا؟ قال: القرن الثالث. قال ثم يجيء قوم يشهدون من قبل أن يستشهدوا، ويحلفون من قبل أن يستحلفوا ويؤتمنون فلا يفوا.
وحدث عنه وعن يحيى بن حمزة بسندهما إلى أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها.(25/138)
قال سهل بن عمار: كنت عند المعلى بن منصور وإبراهيم بن حرب النيسابوري في أيام خاض الناس في القرآن، فدخل علينا إبراهيم بن مقاتل المروزي فذكر للمعلى أن الناس قد خاضوا في أمره. قال: في ماذا؟ قال: يقولون إنك تقول القرآن مخلوق. فقال: ما قلته، ومن قال القرآن مخلوق فهو عندي كافر.
قال يحيى بن معين: كان المعلى بن منصور الرازي يوماً يصلي فوقع على رأسه كور الزنانير، فما التفت ولا انفتل حتى أتم صلاته، فنظروا فإذا رأسه قد صار هكذا من شدة الانتفاخ.
كان معلى بن منصور ثقة صاحب سنة نبيلاً، طلبوه على القضاء غير مرة فأبى.
توفي معلى بن منصور سنة إحدى عشرة أو اثنتي عشرة ومئتين.
معمر بن محمد بن يزيد
أبو الهيذام الفزاري الإمام حدث عن عيسى بن إدريس البغدادي بسنده إلى ابن مسعود: أنه قال لأصحابه: كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل جدد القلوب خلعان الثياب، تعرفون في السماء، وتخفون على أهل الأرض.
وحدث سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة عن يحيى بن علي بن هاشم الخفاف بسنده إلى ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت عند حجرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكنت أسمعه إذا قام من الليل يقول: سبحان الله رب العالمين الهوي! ثم يقول: سبحان الله وبحمده.(25/139)
وفي طريق آخر عن ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآتيه بوضوئه وحاجته، فكان يقوم بالليل فيقول: سبحان ربي وبحمده! سبحان ربي وبحمده الهوي، سبحان رب العالمين! سبحان رب العالمين! سبحان رب العالمين الهوي. قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل لك حاجة؟ قلت: يا رسول الله أحب مرافقتك في الجنة. قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود.
معمر بن يعمر أبو عامر
الليثي الدمشقي من أهل دمشق.
حدث عن معاوية بن سلام بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه.
وحدث عنه بسنده إلى أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما من وال إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، فمن وقي شرهما فقد وقي، وهو من التي غلبت عليه منهما.
ومعمر: بضم الميم الأولى، وفتح العين، وتشديد الميم الثانية وفتحها، ويعمر: أوله ياء معجمة باثنتين تحتها.(25/140)
معمر بن راشد
أبو عروة بن أبي عمرو الأزدي مولاهم البصري حدث عن همام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير.
وحدث عن الزهري، عن أنس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كوى أسعد بن زرارة من الشوكة. قال: وهذا مما غلط فيه معمر.
وغلط في حديث الزهري عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة، فأمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأخذ منهن أربعاً. قال معمر: ذهبت إلى حديث الزهري عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة طلق نساءه وقسم ماله بين ولده، فبلغ ذلك عمر فقال: بلغني أنك طلقت نساءك وقسمت مالك بين ولدك، والله إني لأظن أن الشيطان فيما يسترق من السمع، سمع بموتك وألقاه في نفسك، والله إن لم ترجع نساءك وترجع في مالك ثم مت لأورثنهم منك، ولآمرن بقبرك أن يرجم كما رجم قبر أبي رغال. قال: فراجع نساءه ورجع في ماله.(25/141)
قال معمر: فأخبرني أيوب أنه ما لبث سبعاً حتى مات.
كان معمر بن راشد تاجراً يختلف إلى الشام، فوافى أل مروان ولهم وليمة وعرس، فاستعاروا منه متاعاً لعرسهم، فأعارهم، فلما انقضى عرسهم بروه، قال: إنما أنا عبد وكلما بررتموني به فهو لمولاي، ولكن كلموا هذا الرجل يحدثني - يعني الزهري - فكلموه، فحدثه.
توفي باليمن سنة أربع وخمسين ومئة، وقيل سنة ثلاث وخمسين وقيل سنة خمسين ومئة.
قال معمر: جالست قتادة وأنا ابن أربع عشرة سنة، فما من شيء سمعته في تلك السنين إلا كأنه مكتوب في صدري وقال قتادة: جالست الحسن ثنتي عشرة سنة، ومثلي يجالس مثله، وصليت الصبح معه ثلاث سنين.
قال ابن عيينة: قال لي ابن أبي عروبة: شرفنا معمراً، روينا عنه وهو حدث. قال: قلت: أنت شرفته؟ الله شرفه.
وعن ابن جريج قال: عليكم بهذا الرجل - يعني معمراً - فإنه لم يبق من أهل زمانه أعلم منه.
سئل ابن جريج عن شيء من التفسير فأجاب، فقيل له: إن معمراً قال: كذا وكذا، فقال: إن معمراً شرب من العلم بأنقع.
يعني الماء الذي يجتمع على الصخر في مواضع كله طيب، فيأخذ من أيها شاء. ويقال: فلان شراب بأنقع، أي معاود للأمور التي تكره. ومنه قول الحجاج في(25/142)
خطبته؛ إنكم يا أهل العراق شرابون علي بأنقع. وقال أبو زيد: يقال إنه شراب بأنقع، أي معاود للخير والشر. وقيل: أصل هذا في الطائر إذا كان حذراً ورد المنافع في الفلوات حيث لا تبلغ الغياض ولا تنصب الأشراك.
ولما دخل معمر صنعاء كرهوا أن يخرج من بين أظهرهم، فقال لهم رجل: قيدوه. قال: فزوجوه.
قال مالك: نعم الرجل كان معمر، لولا روايته التفسير عن قتادة!.
قال معمر: لقد طلبت هذا الشأن وما لنا فيه نية، ثم رزقنا الله النية بعد.
وعن معمر قال: كان يقال: إن الرجل ليتعلم العلم لغير الله فيأبى العلم عليه حتى يصير لله.
وكان في معمر تشيع، وكان في أبي الأسود تشيع.
توفي معمر في رمضان سنة اثنتين وخمسين ومئة. وقيل: سنة ثلاث وخمسين ومئة. وقيل: في سنة أربع وخمسين ومئة. وقيل سنة خمس وخمسين ومئة.
دخل معمر على أهله فإذا عندها فاكهة، فأكل منها فقال: من أين لك هذه الفاكهة؟ قالت: أهدته لنا فلانة النواحة. فقام معمر فتقيأ.(25/143)
وبعث إليه معن بن زائدة والي اليمن دنانير فردها وقال لأهله: لئن علم بهذا غيري وغيرك لا يجتمع رأسي ورأسك أبداً. قال عبد الرزاق: وهذه أشد. يعني الكتمان.
معمر بن المثنى أبو عبيدة التيمي
البصري النحوي العلامة حدث عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخصف نعله، وكنت أغزل، فنظرت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعل جبينه يعرق، وجعل عرقه يتولد نوراً! قالت: فبهت فيه، فنظر إلي فقال: مالك بهت؟ فقالت: يا رسول الله! نظرت إليك فجعل جبينك يعرقك، وجعل عرقك يتولد نوراً، فلو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره. قال: وما يقول يا عائشة أبو كبير الهذلي؟ فقال: يقول: من الكامل
ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل
قالت: فقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبل بين عيني وقال: جزاك الله يا عائشة عني خيراً، ما سررت مني كسروري منك.
أنشد أبو عبيدة عن يونس: من الكامل
خلقان لا أرضى فعالهما ... تيه الغنى ومذلة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطراً ... وإذا افتقرت فته على الدهر(25/144)
واصبر فلست بواجد خلقاً ... أدنى إلى فرج من الصبر
وأنشد أبو حاتم عن أبي عبيدة: من المجتث
لي صاحب ليس بخلو ... لسانه من جراحي
يجيد تمزيق عرضي ... على طريق المزاج
ولد أبو عبيدة سنة عشر ومئة في الليلة التي مات فيها الحسن البصري.
قال الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه.
وتوفي سنة تسع ومئتين، وقيل عشر، وقيل إحدى عشر، وقيل سنة ثلاث عشرة. وله ثمان وتسعون سنة.
معن بن أوس بن نصر بن زيادة
ويقال: زياد بن أسحم، ويقال: ابن زيادة ابن أسعد بن أسحم بن ربيعة المزني
شاعر مجيد، أدرك عمر بن الخطاب، وعاش إلى فتنة ابن الزبير، ومروان بن الحكم، وكان معاوية يفضله ويقول: كان أشعر أهل الجاهلية من مزينة وهو زهير وكان أشعر أهل الإسلام منهم ابنه كعب ومعن بن أوس.
دخل معن بن أوس على معاوية فاستنشده معاوية، فأنشده: من الطويل
فو الله ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تغدو المنية أول
فقال له معاوية: أنشدنيها عبد الله بن الزبير. فقال معن: اشتركنا فيها يا أمير المؤمنين،(25/145)
عقدت القوافي وحشا فيها الكلام. فضحك معاوية وقال: فلثوالي أيكما شاءت. قال معن: فذكرت ذلك لابن أبي عتيق فقال: والله لولا شغل معاوية بالخلافة لكنتما معه في الطين، فأيكما والت؟ قلت: إياي، أسلمها لي أبو بكر ورجع إلى حظه من قراءته وصلاته. قال ابن أبي عتيق: رجعت الإبل إلى مباركها. وكان عبد الله بن الزبير راضع بعض ولد معن بلبان قديم. فكان معن أباه من الرضاعة.
سافر معن بن أوس إلى الشام، وخلف ابنته ليلى في جوار عمر بن أبي سلمة، وأم سلمة أم المؤمنين، وفي جوار عاصم بن عمر بن الخطاب، فقال له بعض عشيرته: على من خلفت ابنتك ليلى بالحجاز وهي صبية ليس لها من يكفلها؟ فقال معن: من الطويل
لعمرك ما ليلى بدار مضيعة ... وما شيخها إذ غاب عنها بخائف
وإن لها جارين لن يغدرا بها ... ربيب النبي وابن خير الخلائف
وقد قيل: إنه قال هذين البيتين في نخله بأحوس من الأكحل وهي:
لعمرك ما نخلي بحال مضيعة ... ولا ربها إن غاب عنها بخائف
والبيت الثاني.
وقال مصعب بن عبد الله: أراد معن بقوله: وابن خير الخلائف عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، كانت صدقة عاصم بالأكحل له قبل عاصم، فلما قدم مصعب بن الزبير من العراق يريد ابن الزبير بمكة قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لعاصم بن عمر: اذهب بنا إلى مصعب حتى نستجديه من مال العراق. فجاءه فأعطى عبد الله بن جعفر أربعين ألف دينار، وأعطى عاصم بن(25/146)
عمر عشرين ألف دينار حكمه فيها فاحتكمها، فاشترى بها صدقته بالأكحل، وقد كانت قبله لعبد الرحمن بن أبي بكر، فقال عبد الله بن جعفر. مالك لم تحكمني كما حكمت عاصم بن عمر؟ قال: كرهت أن تخزيني أو تبخلني. قال: لو فعلت لفعلت.
ومن شعر معن بن أوس من قصيده التي أولها: من الطويل
لعمرك ما أدري وإني لأوجل....................................
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كل يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مرحل
قال محمد بن عبيد: لم يترك عروة بن الزبير ورده في الليلة التي قطعت فيها رجله، وتمثل بأبيات معن بن أوس: من الطويل
لعمري ما أهويت كفي لريبة ... ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة ... من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي
كان عبد الملك يوماً في عدة من ولده وأهل بيته فقال: لينشد كل رجل منكم أشعر ما يروى من الشعر. فأنشدوه لزهير والنابغة وامرئ القيس وطرفة ولبيد، فقال عبد الملك: أشعر منهم الذي يقول - والشعر لمعن بن أوس المزني -: من الطويل
وذي رحم قلمت أظفار ظغنه ... بحلمي عنه وهو ليس له حلم
يحاول رغمي لا يحاول غيره ... وكالموت عندي أن يحل به الرغم
فإن أعف عنه أغض عيناً على قذى ... وليس له بالصفح عن ذنبه علم(25/147)
وإن أنتصر منه أكن مثل رائش ... سهام عدو يستهاض بها العظم
صبرت على ما كان بيني وبينه ... وما يستوي حرب الأقارب والسلم
ويشتم عرضي بالمغيب جاهداً ... وليس له عندي هوان ولا شتم
إذا سمته وصل القرابة سامني ... قطيعتها تلك السفاهة والإثم
وإن أدعه للنصف يأب ويعصني ... ويدع لحكم جائر غيره الحكم
وقد كنت أكوي الكاشحين وأشتفي ... وأقطع قطعاً ليس ينفعه الحسم
وقد كنت أجزي النكر بالنكر مثله ... وأحلم أحياناً ولو عظم الجرم
ولولا اتقاء الله والرحم التي ... رعايتها حق وتعطيلها ظلم
إذاً لعلاه بارقي وحطمته ... بوسم سنان لا يشاكله وسم
ويسعى إذا أبني ليهدم صالحي ... وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم
يود لو أني معدم ذو خصاصة ... وأكره جهدي أن يخالطه العدم
ويعتد غنماً في الحوادث نكبتي ... وما إن له فيها شفاء ولا غنم
أكون له إن ينكب الدهر مدرهاً ... أكالب عنه الخصم إذ عضه الخصم
وألجم عنه كل أبلخ ظالم ... ألد شديد الخصم غايته الغشم
فما زلت في لين له وتعطف ... عليه كما تحنو على الولد الأم
وقولي إذ أخشى عليه مصيبة ... ألا اسلم فذاك الخال والرفد والعم
وصبري على أشياء منه تريبني ... وكظم على غيظي وقد ينفع الكظم
لأستل منه الضغن حتى استللته ... وقد كان ذا حقد يضيق به الخرم(25/148)
رأيت انثلاماً بيننا فرقعته ... برفقي وإحنائي وقد يرقع الثلم
وأبرأت غل الصدر منه توسعاً ... بحلمي كما يشفي بالأدوية الكلم
فأطفأت نار الحرب بيني وبينه ... وأصبح بعد الحرب وهو لنا سلم
ومن شعر معن بن أوس بن زهير بن أبي سلمى: من البسيط
ما مسني من غنى يوماً ولا عدم ... إلا وقولي عليه الحمد لله
قد يرزق المرء لا من حسن حيلته ... ويصرف الرزق عن ذي الحيلة الداهي
معن بن ثور بن يزيد بن الأخنس السلمي
من الصدر الأول.
قال حبيب بن مسلمة لمعن بن ثور السلمي: هل تدري لم اتخذت النصارى الديارات؟ قال معن: ولم؟ قال: إنه لما أحدثت الملوك في دينها البدع وضيعوا أمر النبيين وأكلوا الخنزير اعتزلوهم في الديارات، وتركوهم وما ابتدعوا، فتخلوا للعبادة. قال حبيب لمعن: فهل لك؟ قال: ليس بيوم ذاك.
قتل معن بن ثور بمرج راهط سنة خمس وستين.(25/149)
معن بن يزيد بن الأخنس
ابن حبيب بن جرو بن زعب بن مالك بن خفاف ابن امرئ القيس، أبو يزيد السلمي له ولأبيه ولجده صحبة. وشهد معن فتح دمشق، وكان ذا بلاء في الغزو، وكان له مكان عند عمر بن الخطاب، وشهد صفين مع معاوية.
قال معن بن يزيد: بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا وأبي وجدي، وخاصمت إليه فأفلجني، وخطب علي فأنكحني.
وقال معن: لا تحل غنيمة حتى تقسم على الناس كفة واحدة فإذا قسم حل لي أن أعطيك.
وفي رواية أن معن بن يزيد قال: خاصمت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأفلجني. قلت له: ما كانت خصومتك؟ قال: كان رجل يغشى المسجد فيتصدق على رجال يعرفهم، فجاء ذات ليلة ومعه صرة، فظن أني بعض من يعرفه، فلما أصبح تبين له فقال: ردها. فأبيت، فاختصمنا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأجاز لي الصدقة وقال: لك أجر ما نويت.
وعن معن بن يزيد: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب وقال فيه: إن من البيان سحراً!.
ومعن ويزيد بن الأخنس قتلا براهط، ومعن وأبوه وجده شهدوا بدراً.
قال يزيد بن حبيب: ولا أعلم رجلاً هو وابنه وابن ابنه مسلمين شهدوا بدراً غيرهم.(25/150)
قال: ولا أعلم ليزيد بن حبيب متابعاً على شهودهم بدراً.
قال الدارقطني: زغب، بغين معجمة.
قالوا: وهو غلط ظاهر، وهو زعب، بعين مهملة، مشهور. وإلى اليوم خلق منهم بالحجاز زعبيون، ولهم خفارة في طريق مكة.
قال عقبة بن رافع: غزونا الصائفة وعلينا معن بن يزيد الخفافي، فنزل منزلاً حتى أشفينا على أرض العدو، فقام في الناس فحمد اله وأثنى عليه فقال: ياأيها الناس! إنا لا نريد أن نقسم الغنم والعلف، وأشباه ذلك، فخذوا منه ما أحببتم، فقد أحللناكم منه.
قدم معن بن يزيد بن الأخنس السلمي في رجال من بني سليم نحواً من مئة، فقال أبو بكر: لو كانوا هؤلاء أكثر مما هم أمضيناهم. فقال له عمر: والله لو كانوا عشرة لرأيت أن تمد بهم إخوانهم، ووالله إني لأرى أن نمدهم بالرجل الواحد إذا كان ذا حزم وغناء. فقال حبيب بن مسلمة الفهري: وعندي نحو من عدتهم، رجال من أفناء القبائل، ذو رغبة في الجهاد، فاجمعنا وهؤلاء جميعاً يا خليفة رسول الله، ثم ابعثنا مدداً إخواننا من المسلمين. فقال أبو بكر: فاخرج بهم جميعاً فأنت أمير القوم حتى تقدم على إخوانك. فعسكر بهم وجمع إليه أصحابه، ومضى بهم حتى قدم على يزيد بن أبي سفيان.
قال معاوية: ما ولدت قرشية لقرشي خيراً لها في دينها من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما ولدت قرشية لقرشي(25/151)
خيراً لها في دنياها مني. فقال معن بن يزيد السلمي: ما ولدت قرشية لقرشي خيراً لها في دينها من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا شراً لها في دنياها منك. قال: ولم؟ قال: لأنك عودتهم عادة كأني بهم قد طلبوها من غيرك، فكأني بهم صرعى في الطرق. قال: ويحك! والله إني لأكاتمها نفسي منذ كذا وكذا.
دخل معاوية بن يزيد على معاوية وهو بين جاريتين تدفئانه وترفعان عنه اللحاف، فلما نظر إليه معن بكى، فقال له معاوية: ما يبكيك؟ هذا الذي كنتم تلتمسون لي. يريد البقاء.
مغلس البغدادي
كان شيخاً ثقة.
وحدث عن هشام بن خالد بسنده إلى جابر، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها.
مغيث بن سمي أبو أيوب الأوزاعي
حدث عن عبد الله بن عمرو قال: قيل يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب، صدوق اللسان. فقالوا: صدوق اللسان قد عرفناه، فما مخموم القلب؟ قال: التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد. قالوا: فمن يليه يا رسول الله؟ قال: الذين شنؤوا الدنيا وأحبوا الآخرة. قالوا: فما نعرف هذا فينا إلا رافع مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن يليه؟ قال: مؤمن في خلق حسن.
وحدث مغيث بن سمي قال: صليت مع ابن الزبير صلاة الفجر، فصلى فغلس، وكان يسفر بها، فلما سلم(25/152)
قلت لعبد الله بن عمر: ما هذه الصلاة؟ - وهو إلى جانبي - فقال: هذه صلاتنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر، فلما قتل عمر أسفر بها عثمان.
مغيث: بعد الميم غين منقوطة، وتحت الياء نقطتان، وفوق الثاء ثلاث نقط.
أقبل مغيث بن سمي إلى مكحول وأوسع له إلى جنبه، فأتى وجلس مقابل القبلة وقال: هذا أشرف المجالس وأجل دعوة تحضر.
المغيرة بن زياد
أبو هاشم البجلي الموصلي حدث عن عطاء عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من ثابر على اثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة: أربع ركعات قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر.
وحدث عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة، عن عبادة بن الصامت قال: علمت ناساً من أهل الصفة الكتابة والقرآن، فأهدى إلي رجل منهم قوساً فقلت: ليست لي بمال، وأرمي عنها في سبيل الله. فسألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن سرك أن تطوق بها طوقاً من نار فاقبلها.
وحديث عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتخذ خاتماً من ذهب فلبسه ثلاثة أيام، ففشت خواتيم الذهب في أصحابه، فرمى به وأتخذ خاتماً من ورق، نقش فيه: محمد رسول الله، فكان في يده حتى مات، وفي يد أبي بكر حتى مات، وفي يد عمر حتى مات، وفي يد عثمان ست سنين، فلما كثرت عليه الكتب دفعه إلى رجل من الأنصار يختم به، فأتى قليباً لعثمان فسقط فيها، كثرت عليه الكتب دفعه إلى رجل من الأنصار يختم به، فأتى قليباً لعثمان فسقط فيها، فالتمسوه فلم يجدوه، فاتخذ خاتماً من ورق نقش فيه: محمد رسول الله.(25/153)
وكان مغيرة بن زياد حسن الوجه، طويل اللحية جيد القامة، كانت له لحية وافرة، وخضابه بالحناء.
ودعي إلى القضاء فلم يجب إلى ذلك، وكان ثقة. وقيل إنه كان مضطرب الحديث. وحدث بأحاديث مناكير، فطعنوا في الأحاديث التي رواها.
المغيرة بن شعبة بن أبي عامر
ابن مسعود بن معتب ابن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قسي، وهو ثقيف؛ أبو عيسى، وقيل أبو عبد الله، وقيل أبو محمد الثقفي
صحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد اليرموك، وأصيبت عينه بها، وقدم دمشق على معاوية.
قال المغيرة بن شعبة: قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تورمت قدماه، فقيل له: يا رسول الله! قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً.
وعن المغيرة بن شعبة قال: لقد سرت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أكثر ما كانوا، فأصابهم عطش، قال: فوقف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أوائل الناس، فجعل إذا مر عليه أحد قال: هل معك ماء؟ فيقول: لا. حتى أتيت عليه وإني لفي آخر الناس، فقال: يا مغيرة! هل معك ماء؟ قلت: نعم. قال: هاتها، رد على أوائل الناس. قال: فجعل يصب لهم في قدح حتى شربوا كلهم قال: فبقيت أنا وهو، قال: فصب فقال: اشرب. قلت: اشرب أنت، بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال: لا، إن الساقي يشرب آخر القوم.
قال أبو إدريس الخولاني: قدم المغيرة بن شعبة دمشق فأتيته فسألته عما حضر فقال: وضأت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك فمسح على خفيه.(25/154)
وكان المغيرة داهية لا يشتجر في صدره أمران إلا وجد في أحدهما مخرجاً وكان يقال له مغيرة الرأي، وشهد المشاهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدم وفد ثقيف فأنزلهم عليه، فأكرمهم، وبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أبي سفيان بن حرب إلى الطائف، فهدموا الربة.
قال المغيرة: وكنت أحمل وضوء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأيته يوماً من ذلك، توضأ ومسح على خفيه، وكنت معه في حجة الوداع، قال: ولما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثني أبو بكر إلى أهل النجير، ثم شهدت اليمامة، ثم شهدت فتوح الشام مع المسلمين، ثم شهدت اليرموك وأصيبت عيني يوم اليرموك، ثم شهدت القادسية وكنت رسول سعد إلى رستم، ووليت لعمر بن الخطاب البصرة، ففتح ميسان، ودست ميسان وأبزقباذ، ولقي العجم بالمرغاب فهزمهم، وفتح سوق الأهواز، وغزا نهر تيرى ومناذر الكبرى، فهرب من(25/155)
فيها من الأساورة إلى تستر، وفتح همذان وشهد نهاوند وكان على ميسرة النعمان بن مقرن، وكان عمر كتب: إن هلك النعمان فالأمير حذيفة، فإن هلك فالأمير المغيرة. والمغيرة أول من وضع ديوان البصرة، وجمع الناس ليعطوا عليه، وولي الكوفة لعمر بن الخطاب، وقتل عمر وهو عليها، ووليها بعد ذلك لمعاوية بن أبي سفيان، فمات بها وهو وال عليها سنة خمسين وهو يومئذ ابن سبعين سنة.
قال الزهري: كان من دهاة الناس في الفتنة خمسة نفر: عمرو بن العاص؛ ومعاوية؛ ومن الأنصار قيس بن سعد؛ ومن ثقيف المغيرة بن شعبة؛ ومن المهاجرين عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي. وكان مع علي رجلان: قيس وعبد الله؛ واعتزل المغيرة بن شعبة.
وكانت أم المغيرة أمامة بنت الأفقم بن أبي عمرو. وقيل: أمه امرأة من بني نصر بن معاوية، وكان طوالاً، أصهب الشعر، أجعد، ضخم الهامة، عبل الذراعين، أقلص الشفتين، يخضب بالحمرة، يفرق رأسه فروقاً أربعة، مهتوماً، بعيد ما بين المنكبين، وكان أول من رشا في الإسلام، رشا يرفأ حاجب عمر.
ومعتب، بضم الميم، وفتح العين المهملة وتشديد التاء المعجمة باثنتين فوقها، وبعدها باء معجمة بواحدة.
قال المغيرة بن شعبة: كناني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي عيسى؛ قال زيد بن أسلم: جاء رجل فنادى: يستأذن أبو عيسى على أمير المؤمنين. فقال عمر: من أبو عيسى؟ قال المغيرة بن شعبة: أنا. فقال(25/156)
عمر: وهل لعيسى من أب؟ فكناه بأي عبد الله.
وعن عائشة قالت: كسفت الشمس على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقام المغيرة بن شعبة ينظر إليها فذهبت عينه.
وعن المغيرة بن شعبة قال:
كنا قوماً من العرب متمسكين بديننا ونحن سدنة اللات، فأراني لو رأيت قومنا قد أسلموا ما تبعتهم، فأجمع نفر من بني مالك الوفود على المقوقس، وأهدوا له هدايا، فأجمعت الخروج معهم، فاستشرت عمي عروة بن مسعود، فنهاني وقال: ليس معك من بني أبيك أحد. فأبيت إلا الخروج، فخرجت معهم، وليس معهم أحد من الأحلاف غيري حتى دخلنا الإسكندرية، فإذا المقوقس في مجلس مطل على البحر، فركبت زورقاً حتى حاذيت مجلسه، فنظر إلي فأنكرني، وأمر من يسألني من أنا وما أريد؟ فسألني فأخبرته بأمرنا وقدومنا عليه، فأنزلنا في الكنيسة، وأجرى علينا ضيافة، ثم دعا بنا، فنظر إلى رأس بني مالك فأدناه وأجلسه معه وسأله: أكل القوم من بني مالك؟ فقال: نعم، إلا رجل واحد من الأحلاف، فعرفه إياي، فكنت أهون القوم عليه، ووضعوا هداياهم بين يديه فسر بها، وأمر لهم بجوائز، وفضل بعضهم على بعض، وقصر بي فأعطاني شيئاً قليلاً لا ذكر له، وأقبل بنو مالك يشترون الهدايا لأهلهم وهم مسرورون، ولم يعرض علي رجل منهم مواساة.
وخرجوا وحملوا معهم الخمر، فكانوا يشربون وأشرب معهم وتأبى نفسي تدعني ينصرفون إلى الطائف بما أصابوا، وما حباهم الملك ويخبرون قومي بتقصيره بي وازدرائه إياي، فأجمعت على قتلهم، فلما كنا ببيسان تمارضت وعصبت رأسي، فوضعوا شرابهم ودعوني، فقلت:(25/157)
رأسي يصدع، ولكن أجلس فأسقيكم. فلم ينكروا شيئاً، وجلست أسقيم وأشرب القدح بعد القدح، فلما دبت الكأس فيهم اشتهوا الشراب، فجعلت أصرف لهم ورع الكأس، فيشربون ولا يدرون، فأهمدتهم الكأس حتى ناموا ما يعقلون، فقتلتهم جميعاً وأخذت جميع ما كان معهم، وقدمت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأجده جالساً في المسجد مع أصحابه، وعلي ثياب سفري فسلمت بسلام الإسلام، فنظر إلي أبو بكر بن أبي قحافة، وكان بي عارفاً فقال: ابن أخي عروة؟ قال: قلت نعم. جئت أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحمد لله الذي هداك للإسلام. فقال أبو بكر: أمن مصر أقبلتم؟ قلت: نعم. قال: فما فعل المالكيون الذين كانوا معك؟ قلت: كان بيني وبينهم بعض ما يكون بين العرب، ونحن على دين الشرك فقتلتهم وأخذت أسلابهم، وجئت بها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليخمسها أو يرى فيها رأيه، فإنما هي غنيمة من مشركين، وأنا مسلم مصدق بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما إسلامك فنقبله، ولا آخذ من أموالهم شيئاً، ولا أخمسه، لأن هذا غدر، والغدر لا خير فيه. قال: فأخذني ما قرب وما بعد وقلت: يا رسول الله! إنما قتلتهم وأنا على دين قومي، ثم أسلمت حين دخلت عليك الساعة قال: فإن الإسلام يجب ما كان قبله.
وكان قتل منهم ثلاثة عشر إنساناً، فبلغ ذلك ثقيفاً بالطائف، فتداعوا للقتال، ثم اصطلحوا على أن يحمل عمي عروة بن مسعود ثلاث عشرة دية. قال المغيرة: وأقمت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى اعتمر عمرة الحديبية، في ذي القعدة سنة ست من الهجرة، فكانت أول سفرة خرجت معه فيها، وكنت أكون مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وألزم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن يلزمه، وبعثت قريش عام الحديبية عروة بن مسعود إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليكلمه، فأتاه فكلمه وجعل يمس لحية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقنع في الحديد، فقال لعروة: كف يدك قبل أن لا تصل إليك. فقال عروة: يا محمد! من هذا؟ ما أفظه وأغلظه! فقال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. فقال عروة: يا غدر! والله ما غلست عني سوأتك إلا بالأمس. وانصرف عروة إلى قريش فأخبرهم بما كلم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(25/158)
وعن الواقدي قال: قالوا: ولما نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديبية.. فذكر القصة وفيها: فقال عروة بن مسعود الثقفي: يا معشر قريش! تتهموني؟! ألستم الوالد وأنا الولد؟ وقد استنفرت أهل عكاظ لنصركم فلما بلحوا علي نفرت إليكم بنفسي وولدي ومن أطاعني. فقالوا: قد فعلت؟! فقال: وإني لكم ناصح، عليكم شفيق ولا أدخر عنكم نصحاً. قال: فإن بديل جاءكم بخطة رشد لا يردها أحد أبداً إلا أخذ شراً منها، فاقبلوها منه وابعثوني حتى آتيكم بمصداقها من عنده وأنظر إلى من معه، وأكون لكم عيناً آتيكم بخبره.
فبعثته قريش إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقبل عروة بن مسعود حتى أناخ راحلته عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أقبل حتى جاءه ثم قال: يا محمد! إني تركت قومك كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي على أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وقد استنفروا لك الأحابيش، هم ومن أطاعهم، وهم يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تجتاحهم، وإنما أنت من قتالهم بين أحد أمرين: أن تجتاح قومك - فلم نسمع برجل اجتاح أصله قبلك؛ أو بين أن يخذلك من يرى معك، فإني لا أرى معك إلا أوباشاً من الناس، لا أعرف وجوهم ولا أنسابهم. فغضب أبو بكر وقال: امصص بظر اللات، أنحن نخذله! فقال عروة: أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها بعد لأجبتك. وكان(25/159)
عروة قد استعان في حمل دية، فأعانه الرجل بالفريضتين والثلاث، وأعانه أبو بكر بعشر فرائض؛ فكانت هذه يد أبي بكر عند عروة بن مسعود.
قالوا: وكان مع المغيرة لما خرج مع بني مالك وأوقع بهم حليفان له، يقال لأحدهما دمون - رجل من كندة - والآخر الشريد، وإنما كان اسمه عمرو، فلما صنع المغيرة بأصحابه ما صنع شرد فسمي الشريد فلما قتلهم ونظر إليهم دمون تغيب عنه وظن أن المغيرة إنما حمله على قتلهم السكر، فجعل المغيرة يطلب دمون ويصيح به ويقلب القتلى فلا يراه، فبكى، فلما رأى ذلك دمون خرج إليه فقال له المغيرة: ما غيبك؟ قال خشيت أن تقتلني كما قتلت القوم. قال المغيرة: إنما قتلت بني مالك لما صنع بهم المقوقس. وأخذ المغيرة أمتعتهم وأموالهم ولحق بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأسلم المغيرة، وقدم الشريد مكة، فأخبر أبا سفيان بن حرب بما صنع المغيرة ببني مالك، فبعث أبو سفيان معاوية إلى عروة بن مسعود يخبره الخبر.
قال معاوية: خرجت حتى إذا كنت بنعمان قلت في نفسي: إن أسلك ذا غفار فهي أبعد وأسهل، وإن سلكت ذا العلق فهي أغلظ وأقرب؛ فسلكت ذا غفار، فطرقت عروة بن مسعود من الليل فأخبرته الخبر، فقال عروة: انطلق إلى مسعود بن عمرو المالكي، فو الله ما كلمته منذ عشر سنين، والليلة أكلمه، فخرجنا إلى مسعود، فناداه عروة، فقال: من هذا؟ فقال عروة: فأقبل مسعود إلينا وهو يقول:
أطرقت عراهية
أم طرقت بداهية
بل طرقت بداهية(25/160)
أقتل ركبهم ركبنا أم قتل ركبنا ركبهم؟ لو قتل ركبنا ركبهم ما طرقني عروة بن مسعود. فقال عروة: أصبت، قتل ركبي ركبك، يا مسعود! انظر ما أنت فاعل. فقال مسعود: إني عالم بحدة بني مالك وسرعتهم إلى الحرب. فانصرفنا، فلما أصبح قال مسعود: يا بني مالك! إنه قد كان من أمر المغيرة بن شعبة أنه قتل إخوانكم بني مالك، فأطيعوني وخذوا الدية، اقبلوها من بني عمكم وقومكم. قالوا: لا يكون ذلك أبداً، والله لا نترك الأحلاف أبداً حتى نقتلها. قال: أطيعوني واقبلوا ما قلت لكم، فو الله لكأني بكنانة بن عبد ياليل قد أقبل يضرب درعه روحتي رجليه، لا يعانق رجلاً إلا صرعه، والله لكأني بجندب بن عمرو وقد أقبل كالسيد عاضاً على سهم مفوق بالأخر، لا يشير إلى أحد بسهمه إلا وضعه حيث يريد. فلما غلبوه أعدوا القتال واصطفوا، وأقبل كنانة بن عبد يا ليل، يضرب درعه روحتي رجليه يقول: هل من مصارع؟ ثم أقبل جندب بن عمرو عاضاً سهماً مفوقاً لآخر. قال مسعود: يا بني مالك! أطيعوني. قال: الأمر إليك. فبرز مسعود بن عمرو فقال: يا عروة بن مسعود، اخرج إلي. فخرج، فلما التقيا بين الصفين قال: عليك ثلاث عشرة دية، فإن المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلاً، فاحمل بدياتهم. قال عروة: حملت بها، هي علي. فاصطلح الناس. فقال الأعشى، أخو بني بكر بن وائل: من الوافر(25/161)
تحمل عروة الأحلاف لما ... رآى أمراً تضيق به الصدور
ثلاث مئين عادية وألفاً ... كذلك يفعل الجلد الصبور
وعن المغيرة بن شعبة قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقاماً، فأخبرنا بما يكون في أمته إلى يوم القيامة، وعاه من وعاه، ونسيه من نسيه.
وعن المغيرة:
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكل طعاماً ثم أقيمت الصلاة، فقام وقد كان توضأ قبل ذلك، فأتيته بماء ليتوضأ منه، فانتهرني وقال: وراءك. فساءني والله ذلك! ثم صلى؛ فشكوت ذلك إلى عمر فقال: يا نبي الله! إن المغيرة قد شق عليه انتهارك إياه، وخشي أن يكون في نفسك عليه شيء. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس عليه في نفسي شيء إلا خير، ولكن أتاني بماء لأتوضأ، وإنما أكلت طعاماً، ولو فعلت فعل الناس ذلك بعدي.
وعن المغيرة قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة في سفر فقال: أمعك ماء؟ قلت: نعم. فنزل عن راحلته، فمشى حتى توارى عني في سواد الليل، ثم جاء، فأفرغت عليه ماء من الإداوة، فغسل يديه ووجهه، وعليه جبة من صوف، فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة، وغسل ذراعيه ومسح برأسه، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين. فمسح عليهما.
وعن المغيرة بن شعبة قال: أنا آخر الناس عهداً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما دفن خرج علي من القبر، ألقيت خاتمي فقلت: يا أبا حسن خاتمي! قال: انزل فخذ خاتمك. مرتين أو ثلاثاً، فمسحت يدي على الكفن ثم خرجت.
وعن المغيرة بن شعبة قال: كنت جالساً عند أبي بكر الصديق إذ عرض عليه فرس له، فقال رجل من الأنصار: احملني عليها. فقال أبو بكر: لأن أحمل غلاماً قد ركب الخيل على غرلته -(25/162)
يعني الأقلف - أحب إلي من أن أحملك عليها. فقال له الأنصاري: أنا خير منك ومن أبيك. قال المغيرة: فغضبت لما قال لأبي بكر! فقمت إليه، فأخذت برأسه، فركبته على أنفه، فكأنما كان عزلاء مزادة فتواعدني الأنصار أن يستقيدوا مني، فيبلغ ذلك أبا بكر، فقام فقال: إنه بلغني عن رجال زعموا أني مقيدهم من المغيرة، ووالله لأن أخرجهم من دارهم أقرب إليهم من أن أقيدهم من وزعة الله الذين يزعون عنه.
استعمل عمر بن الخطاب المغيرة بن شعبة على البحرين فكرهوه، فعزله، ثم خافوا أن يرد عليهم ثانية، فقال دهقان لهم: إن ضيعتم ما آمركم لم يرد عليكم المغيرة. قالوا: مرنا بأمرك. قال: اجمعوا إلي مئة ألف درهم. قال: فجمعوا له مئة ألف، فحمله إلى عمر، فوضعه بين يديه، فقال له عمر: يا دهقان! ما هذا؟ قال: إن المغيرة اختان هذا من مال الله ودفعه إلي. فبعث عمر إلى المغيرة، فدعاه فقال: ما يقول هذا؟ قال: كذب - أصلحك الله - دفعت إليه مئتي ألف! قال: ما حملك على ذا؟ قال: العيال والحاجة؛ فقال عمر للدهقان: ما تقول؟ قال الدهقان: ما دفع إلي شيئاً، ولكنا كرهناه فخفنا أن ترده علينا. قال عمر للمغيرة: ما أردت بقولك مئتي ألف؟ قال: كذب علي الخبيث فأحببت أن أخزيه.
وكان فتح الأبلة على يدي عتبة بن غزوان في رجب أو شعبان سنة أربع عشرة، فلما خرج عتبة إلى عمر قال للمغيرة بن شعبة: صل بالناس، فإذا قدم مجاشع ين مسعود من الفرات فهو الأمير. فلما هلك عتبة بن غزوان كتب عمر إلى المغيرة بن شعبة بولايته(25/163)
على البصرة؛ فكان عليها باقي سنة خمس وست وسنة سبع عشرة، حتى كان منه ما كان، فعزله عمر.
وافتتح المغيرة بن شعبة نهر تيرى عنوة؛ وقيل: فيها جد النوشجان - وهو يومئذ صاحبها - وكان المغيرة صالحهم على ألف ألف درهم ومئة ألف درهم. ثم كفروا، فافتتحها أبو موسى بعد، وافتتحت الأهواز سنة ست عشرة، ثم كفروا. وكان المغيرة سار إلى الأهواز، فصالحه البيروان على ألفي ألف درهم وثمان مئة وسبعين ألفاً. ثم غزاهم الأشعري بعد.
وفي سنة ست عشرة شهد أبو بكرة ونافع ابنا الحارث، وشبل بن معبد على المغيرة بن شعبة، أنهم رأوه يولجه ويخرجه، وكان زياد رابعهم وهو الذي أفسد عليهم؛ فقال أبو بكرة: والله لكأني بأثر جدري في فخذها. فقال عمر حين رأى زياداً: إني لأرى غلاماً كيساً لا يقول إلا حقاً، ولم يكن ليكتمني شيئاً. فقال زياد: لم أر ما قال هؤلاء، ولكني قد رأيت ريبة، وسمعت نفساً عالياً. فجلدهم عمر وخلى عن زياد.
وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان أن أنزل البصرة الناس، فيكونوا بها، ويغزوا عدوهم من قريب.
وقد كان عتبة خطب الناس، فكان أول خطبة خطبها بالبصرة - وكان بدرياً - فحمد الله وأثنى عليه فقال: ألا إن الدنيا قد أدبرت وتولت، وآذنت بصرم، فلم يبق(25/164)
منها إلا صبابة كصبابة الإناء يصطبها أحدكم، ألا وإنكم منتقلون من هذه الدار لا محالة إلى دار مقامة، فانتقلوا بخير ما يحضرنكم، ولقد بلغني أن الحجر يلقى من شفير جهنم فلا يبلغ قعرها سبعين خريفاً، فعجبتم، والله لتملأن! لقد بلغني أن للجنة ثمانية أبواب، عرض ما بين جانبي الباب مسيرة خمس مئة عام، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام، ولقد رأيتني مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سابع سبعة ما لنا طعام إلا ورق الشجر وشوك القتاد حتى قرحت أشداقنا؛ ولقد التقطت يوماً تمرة فشققتها بيني وبين سعد بن أبي وقاص، وما منا اليوم رجل إلا وهو أمير على مصر من الأمصار، ألا وإنها لم تكن نبوة فتطاولت، إلا تناسخت ملكاً، وأعوذ بالله أن أكون عظيماً في نفسي، صغيراً في أعين الناس، وستجربون الأمراء بعدنا وتعرفون منهم وتنكرون؛ يغفر الله لي ولكم.
قال: فبينا عتبة في خطبته إذ أقبل رجل من ثقيف - يكنى أبا عبد الله - بكتاب عمر بن الخطاب إلى عتبة بن غزوان: أما بعد فإن أبا عبد الله ذكر أنه اقتنى خيلاً بالبصرة حين لا يقتنيها أحد، فإذا أتاك كتابي هذا فأحسن جوار أبي عبد الله وأعنه على ما استعانك عليه.
فكان أبو عبد الله أول من ارتبط بالبصرة فرساً واتخذه، وكان سعد بن أبي وقاص يكتب إلى عتبة بن غزوان كتاب الأمير عليه، فأنف من ذلك عتبة وكتب إلى عمر أن يقدم عليه، فأذن له واستخلف عتبة على البصرة المغيرة بن شعبة. فجاء إلى عمر فشكا إليه تسليط سعد بن أبي وقاص عليه؛ فسكت عمر عنه، فأعاد ذلك مراراً حتى أكثر عليه فقال: وما عليك يا عتبة أن تقر بالإمارة لرجل من قريش له صحبة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشرف! فلما قضى حجه أمره أن يرجع إلى عمله، فأبى أن يفعل، وحلف أن لا يرجع إليه أبداً ولا يلي عملاً. فكتب عمر إلى المغيرة فاستعمله على البصرة، وأمره أن يغزو من قبله،(25/165)
فغزى وافتتح نهر تيرى، ورجع فأقام بالبصرة. وكان بالبصرة امرأة من بني هلال يقال لها أم جميل، وكانت امرأة حادرة، وكان لها زوج من ثقيف يقال له الحجاج بن عبيد فهلك، فكان المغيرة يدخل عليها، فبلغ ذلك أهل البصرة فأعظموه، حتى أساء به الظن أناس من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل عليه الرصد، فخرج المغيرة يوماً من الأيام حتى دخل عليها، فانطلق أبو بكرة الثقفي، ومسروح بن يسار، وزياد بن عبيد - أخو أبي بكرة لأمه، واستلحقه معاوية؛ وأم أبي بكرة وزياد سمية - وشبل بن معبد البجلي - وكان شريفاً - ولم يكن بالبصرة رجل من بجيلة غيره، ونافع بن الحارث بن كلدة؛ فأتوا الباب، فكشفوا الستر والمغيرة مع المرأة، فشهدوا أنه قد واقعها.
وقيل: إن أبا بكرة والمغيرة كانا متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين متقابلتين لهما في داريهما، في كل واحدة منهما كوة مقابلة للأخرى. فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته، فهبت ريح ففتحت باب الكوة، فقام أبو بكرة ليسفقها فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب كوة مشربته وهو بين رجلي امرأة، فقال للنفر: قوموا فانظروا. فقالوا فنظروا، ثم قال: اشهدوا، قالوا: ومن هذه؟ قال: أم جميل بنت الأفقم - وكانت أم جميل إحدى بني عامر بن صعصة، وكانت غاشية للمغيرة، وتغش الأمراء والأشراف - فقالوا: إنما رأينا أعجازاً ولا ندري ما الوجه. ثم إنهم صمتوا حين قامت. فلما خرج المغيرة إلى الصلاة حال أبو بكرة بينه وبين الصلاة وقال: لا تصل بنا. قالوا: فركب أبو بكرة إلى عمر بن الخطاب، فدخل عليه فأخبره.
فزعموا أن عمر لما رآه قال: اللهم إني أسألك خير ما جاء به، وأعوذ بك من شر ما جاء به. ثم قال: أبو بكرة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: لقد جئت بسوءة، قال: إنما جاء بها المغيرة بن شعبة. وقص عليه القصة. فبعث عمر عبد الله بن قيس وهو أبو موسى الأشعري أميراً على البصرة، وعزم عليه أن يسرح المغيرة إليه وأصحابه الذين يشهدون عليه حتى يقدم. فقال أبو موسى: يا أمير المؤمنين! أعني بنفر من الأنصار،(25/166)
فإني وجدت هذا الأمر لا يصلح إلا بهم، كما لا يصلح العجين إلا بالملح. فبعث معه أنس بن مالك في نفر من الأنصار. فخرج أبو موسى حتى قدم البصرة، فنزل المربد وبعث بكتاب عمر إلى المغيرة بن شعبة وفيه: ثكلتك أمك! إذا نظرت في كتابي هذا فاقدم أنت والنفر الذين سميت معك. فلما جاء الخبر إلى المغيرة أن أبا موسى قد نزل المربد قال: ما جاء الأشعري زائراً ولا تاجراً. ثم أحسن أبو موسى في أمره، ثم رحل أبو موسى النفر الذين يشهدون عليه حتى قدموا على عمر. وقد كان المغيرة أرسل إلى أبي موسى حين قدم عليه بجارية من مولدات الطائف يقال لها عقيلة، وقال: إني رضيتها لك فاتخذها لنفسك.
لما قدم المغيرة والشهود على عمر سألهم، فشهد ثلاثة فأثبتوا الشهادة، وتقدم الرابع وهو زياد بن عبيد - وكان آخرهم - فشهد، فزعموا أن عمر قال: إني لأرى وجه رجل لا يخزي الله به رجلاً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادرؤوا الحدود ما استطعتم. فقال زياد لما فحصه عمر: وكع قليلاً، فكبر المغيرة وقال لأبي بكرة حين أثبت عليه الشهادة: لقد حرصت على النظر! قال أبو بكرة: أجل والله، أي عدو الله! على أن يخزيك الله بعملك الخبيث، وقال لعمر: والله لكأني أنظر إلى بثر في فخذ المرأة؛ فسأل عمر زياداً عن شهادته فقال: لقد رأيت منظراً قبيحاً ونفساً عالياً، وما رأيت الذي فيه ما فيه الأمر. فكبر عمر وجلد أبا بكرة ونافعاً وشبلاً. فقال أبو بكرة: أما والذي بعث محمداً بالحق لقد رأى زياد مثل الذي رأيت، ولكنه كتم الشهادة، وإن المغيرة لزان. فأراد عمر أن يعيد عليه الحد مرة أخرى، فقال له علي: يا أمير المؤمنين! إذن تكمل شهادته أربعة ويحل على صاحبك الرجم. فتركه وكتب إلي(25/167)
أبي موسى أن لا تجالسوا أبا بكرة فإنه شيطان. فحلف أبو بكرة أن لا يكلم زياداً أبداً. فولى زياد البصرة بعد ذلك، فلم يكلمه حتى مات.
وقيل: إن عمر قال لأبي موسى: إني مستعملك، وإني أبعثك إلى أرض قد باض فيها الشيطان وأفرخ، فالزم ما تعرف، ولا تبدل فيستبدل الله بك. فخرج أبو موسى حتى أناخ بالبصرة، فدفع إلى المغيرة كتاب عمر، وإنه لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس أربع كلم؛ عزل فيها وعاتب واستحث وأمر: أما بعد، فإنه بلغني عنك نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميراً، فسلم له ما في يديك، والعجل. وكتب إلى أهل البصرة: أما بعد، فإني قد بعثت أبا موسى أميراً عليكم ليأخذ لضعيفكم من قويكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن ذمتكم، وليجبي لكم فيئكم، ثم ليقسمه فيكم، ولينقي لكم طرفكم. ورحل المغيرة وأبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد بن أبي سفيان، وشبل بن معبد البجلي؛ حتى قدموا على عمر، فجمع بينهم وبين المغيرة، فقال المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني مستقبلهم أو مستدبرهم؟ أو كيف رأوا المرأة أو عرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر؟ أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إلي في منزلي على امرأتي؟! إني والله ما أتيت إلا امرأتي - وكانت تشبهها. فبدأ بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يخرجه ويدخله كالملمول في المكحلة، قال: كيف رأيتهما؟ قال: مستدبرهما. قال: فكيف استبنت رأسها؟ قال: تجانبت؛ ثم دعا شبل بن معبد، فشهد بمثل ذلك، قال: أستدبرتهما أم استقبلتهما؟ قال: استقبلتهما. وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم، قال: رأيته جالساً بين رجلي امرأة، فرأيت قدمين مخضوبتين(25/168)
تخفقان، واستين مكشوفتين، وسمعت حفزاناً شديداً؛ قال: هل رأيت كالملمول في المكحلة؟ قال: لا، قال: هل تعرف المرأة؟ قال: لا ولكن أشبهها، قال: فتنح. وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد وقرأ: " فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " فقال المغيرة: اشفني من الأعبد، قال: اسكت أسكت الله نأمتك! والله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجاري.
انبثق بثق في مسهراة، فركب عمار بن ياسر في أناس من أهل الكوفة وقال: ندخل دوابنا مرابطكم فقالوا: لا. وأبو عليه، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال: لأبعثن عليهم رجالاً لا يمنعونه أن يدخل الدواب مرابطهم، فبعث المغيرة بن شعبة فقال: جلدة للمسلمين.
يروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: ما تقولون في تولية ضعيف مسلم، أو قوي فاجر؟ فقال له المغيرة: المسلم الضعيف إسلامه لك، وضعفه عليك وعلى رعيتك، وأما القوي الفاجر ففجوره عليه، وقوته لك ولرعيتك. فقال له عمر: فأنت هو، وأنا باعثك يا مغيرة. فكان المغيرة على الكوفة سنة وثلاثة أشهر. وغزا أذربيجان سنة عشرين، وصالح أهلها؛ وكفروا بعد ذلك في ولاية عثمان، فغزا الأشعث بن قيس، ففتح حصوناً لهم بما جروان، ثم صالحوه على صلح المغيرة، فأمضى ذلك لهم.
وعن المغيرة قال: أنا أول من رشا في الإسلام؛ قال: كنت آتي فأجلس في الباب أنتظر الدخول على(25/169)
عمر، فقلت ليرفأ حاجب عمر: خذ هذه العمامة فالبسها فإن عندي أختاً لها. فكان يدخلني حتى أجلس وراء الباب؛ فمن رآني قال: إنه ليدخل على عمر في ساعة لا يدخل عليه فيها أحد.
قالوا: وكان الرجل يقول للرجل: غضب الله عليك كما غضب أمير المؤمنين على المغيرة! عزله عن البصرة واستعمله على الكوفة.
وعن سماك بن سلمة قال: أول من سلم عليه بالإمرة المغيرة بن شعبة. يعني قول المؤذن عند خروج الإمام إلى الصلاة: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته.
وافتتح المغيرة همذان سنة أربع وعشرين، ويقال: جرير بن عبد الله افتتحها بأمر المغيرة بن شعبة.
وقال أبو عبيدة: غزا حذيفة همذان، ففتحهار عنوة، ولم تكن فتحت قبل ذلك. وفي سنة اثنتين وعشرين فتحت أذربيجان، وأميرها المغيرة بن شعبة.
ولما قبض سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال المغيرة بن شعبة لعلي: قم فاصعد المنبر، فإنك إن لم تصعد صعد غيرك. قال: فقال علي: والله إني لأستحي أن أصعد المنبر ولم أدفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فصعد غيره. وقال له المغيرة بن شعبة حين كانت الشورى: انزع نفسك منهم، فإنهم لن يبايعوا غيرك. وقيل: قال له حين قتل عثمان: اقعد في بيتك ولا تدع الناس إلى نفسك، فإنك لو كنت في جحر بمكة لم يبايع الناس غيرك.
قالوا: وقال المغيرة بن شعبة: لئن لم تطعني في هذه الرابعة لأعتزلنك؛ ابعث إلى معاوية عهدة ثم اخلعه بعد ذلك. فلم يفعل، فاعتزله المغيرة بن شعبة باليمن، فلما اشتغل علي ومعاوية فلم يبعثوا إلى الموسم أحداً، جاء المغيرة بن شعبة فصلى بالناس ودعا لمعاوية.
وقيل: إنه افتعل كتاباً عام الجماعة بإمارة الموسم، فقدم للحج يوماً خشية أن يجيء(25/170)
أمير، فتخلف عنه ابن عمر، فصار عظم الناس مع ابن عمر. قال نافع: فلقد رأيتنا ونحن غادون من منى واستقبلونا مفيضين من جمع، فأقمنا بعدهم ليلة بمنى.
لقي عمار بن ياسر المغيرة بن شعبة في زقاق من سكك المدينة وهو متوشح سيفاً، فناداه: يا مغير! فقال: ما تشاء؟ فقال: هل لك في الله جل وعز؟ قال: وأين هو؟ قال: تدخل في هذه الدعوة فتسبق من معك وتدرك من سبقك. فقال المغيرة: وددت والله أني لو علمت ذلك، إني والله ما رأيت عثمان مصيباً ولا رأيت قبله صواباً، فهل لك يا أبا اليقظان أن تدخل بيتك وتضع سيفك؟ وأدخل بيتي حتى تنجلي هذه الظلمة ويطلع قمرها، فمشي مبصرين نطأ أثر المهتدين، ونجتنب سبيل الحاثرين. فقال عمار: أعوذ بالله أن أعمى بعد إذ كنت بصيراً، يدركني من سبقته، ويعلمني من علمته! فقال المغيرة: يا أبا اليقظان! إذا رأيت السيل جار فاجتنب جريته - قال: يعني بجار جاري - ولا تكن كقاطع السلسة فر من الضحل فوقع في الغمر. فقال عمار: اسمع ما أقول وانظر ما أفعل، فلن تراني إلا في الرعيل الأول. قال: واطلع عليهما علي فقال: ما يقول لك الأعور؟ إنه والله على عمد يلبس عزله، ولن يأخذ من الدين إلا ما خلطته الدنيا. فانتجاه عمر فأخبره، فقال علي: ويحك يا مغيرة! إن هذه الدعوة المودية، تودي من دخل فيها إلى الجنة، وأنا أجتاز إليهما بوهل من وهل، فإذا غشيناك فالزم بيتك. فقال له المغيرة: أنت أعلم مني وأوقر، أما إذ لم أعنك فلن أعن عليك.(25/171)
وعن الزهري قال: دعا معاوية عمراً وهو بالكوفة فقال له: يا أبا عبد الله! أغن عني الكوفة، قال عمرو: فكيف ترى في مصر؟ قال: أستعمل عليها ابنك عبد الله، قال عمرو: فنعم. فبينما هم على ذلك طرقهم المغيرة بن شعبة - وكان معتزلاً بالطائف - فناجاه معاوية، فقال: أتؤمر عمرو بن العاص على الكوفة وتؤمر ابنه عبد الله على مصر، وتكون كالقاعد بين لحيي الأسد؟! فقال له معاوية: ماذا ترى؟ قال: أنا أكفيك الكوفة، قال: فافعل فقال معاوية لعمرو حين أصبح: يا أبا عبد الله! إني قد رأيت أن ابقائك واستوحشنا إليك، فقال عمرو: فنعم ما رأيت! وعرف عمرو أن المغيرة قد سبقه ونقض رأي معاوية عليه، فقال عمرو لمعاوية: ألا أدلك على أمير الكوفة؟ قال: بلى، قال: المغيرة بن شعبة، فاستعن برأيه وقوته على المكيدة واعزل عنه المال، فإن من قبلك عمر وعثمان قد فعلا به ذلك، فقال معاوية: نعم ما رأيت! فدخل مغيرة على معاوية، فقال معاوية: إني قد كنت أمرتك فجمعت لك الجند والأرض، ثم ذكرت السير قبلي، فإذا الأئمة لم يكونوا يستعملونك إلا على الجند، وكانوا يجعلون الأرض إلى غيرك، وإني قد رأيت أن لا أخالف سنة عمر وعثمان، قال المغيرة: قد قبلت. فلما خرج إلى أصحابه قال: قد عزلت الأرض عن صاحبكم، ولم يغب عن ذلك أبو عبد الله.
وعن اليث قال: كان المغيرة قد اعتزل، فلما صار الأمر إلى معاوية كتب إليه المغيرة يروزه: إني أشكو إلى الله وإليك كبر سني ونفاد أهل بيتي، وجفوة قريش عني. فكتب إليه معاوية: أما ما ذكرت من كبر سنك فإنه لم يكن يشركك فيما ذهب منك أحد؛ وأما نفاد أهل بيتك فقد توفي آل أبي سفيان، فما عدمت أحداً منهم شيئاً؛ وأما جفوة قريش عنك فهم حملوك على رقاب الناس.(25/172)
فلما رأى أنه ليس عنده من الغضب إلا هذا قدم عليه، فلما دخل عليه دعا له فيما أعطاه الله من الظفر والنصر والعون على ما حمل، ثم قال: وجزاك الله عن أبي عبد الله خيراً - يريد عمرو بن العاص وكان قد أمره على مصر وأمر ابنه على العراق - فقد صنعت به وصنعت. فقال معاوية: إني والله لقد فعلت. فقال المغيرة في آخر ذلك: أي معاوية! داهية العراق، جعلت الأسد بين يديك، وشبله بين كتفيك، وجلست في الشام! هذا الذي إن نالت منه عجوز افقدته، فكيف لي به؟ قال: أكفيك. فخرج المغيرة ودخل عمرو على معاوية فقال: قد جاءك أعور ثقيف من كل طير بريشة، قال: لا تفعل يا أبا عبد الله، فإنه أول ما كلمني به بعد الدعاء لي فيما حملت ما غبطني به فيما فعلت بيني وبينك، وما عظم من حقك؛ وذكر من فضلك. فخرج عمرو وقد تفتح قلبه للمغيرة بما أخبره عنه، وذهب الذي في نفسه عليه. وأقبل عمرو إلى منزله، فوجد المغيرة بالباب، فأذن له، فدعا لهم فيما أعطاهم الله من الظفر، وما جمع من أمر أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أيديهم؛ ثم قال: عمرو بن العاص داهية العرب! جعلت شطرك بالمغرب وشطرك بالمشرق! وإنما معاوية هامة اليوم أو غد، فكيف بك إذا اختلف أمر الناس على أي سقيك تقبل، وبأيهما تهتم؟ قال: صدقت لعمر الله. ثم ذهب إلى معاوية فقال: أعف لي عبد الله من العراق. فقال معاوية: ما أنا بفاعل. فألح عليه عمرو بن العاص، وألح معاوية في الإباء، حتى قال عمرو: إن شئت فررناها جذعة. فقال معاوية: أما إذ بلغ هذا منك فقد أعفيناه لك. وأرسل معاوية إلى المغيرة بن شعبة فولاه العراق،(25/173)
فذكر ذلك لعمرو فقال: خدعني. فأتى معاوية، فقال: بعثت المغيرة إلى العراق؟ قال: نعم، هذا عملك، غلبتني على عبد الله فلم أجد منه بداً. فقال عمرو: فتأمنه على المال؟ قال: ما ترى؟ قال: أرى أن تبعث على الأموال رجلاً فلا يقدم المغيرة منه على قليل ولا كثير إلا بأمرك. ففعل معاوية ذلك، فقال المغيرة حين جاءه ذلك: قد استوفى بعض الستيفاء ولم يبلغ الذي بلغنا.
قال ابن شوذب: أحصن المغيرة بن شعبة أربعاً من بنات أبي سفيان، وكان آخر من تزوج بها عرج، فلما خطبها قال له معاوية: إنها ضمنة، قال: إني لست أريد أراهن عليها، إنما أردت بنات أبي سفيان. فزوجه إياها.
وعن عوانة قال: ذكر عمر شيئاً، فقال المغيرة: الرأي فيه كذا كذا، فقال: وما أنت والرأي! إذا جاء الرأي غلبك عليه عمرو ومعاوية.
وعن عامر قال: القضاة أربعة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري. والدهاة أربعة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد.
وفي حديث آخر: المغيرة بن شعبة لم يأخذ عقدة إلا حلها.
قال قبيصة بن جابر: صحبت المغيرة بن شعبة، ولو أن مدينة لها ثمانية أبواب، لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج من أبوابها كلها.
قال المغيرة بن شعبة: ما غلبني أحد في الدنيا إلا غلام من بلحارث بن كعب، فإني خطبت امرأة فقال لي: لا تردها، فإني رأيت رجلاً يقبلها. فانصرفت عنها، فبلغني أنه تزوجها، فلقيته(25/174)
فقلت: ألم تقل أنك رأيت رجلاً يقبلها؟ قال: بلى، رأيت أباها يقبلها. فإذا ذكرت ما فعل بي غاظني ذلك.
خطب المغيرة بن شعبة وفتى من العرب امرأة، وكان الفتى طريراً جميلاً، فأرسلت المرأة إليهما: لست أجيب أحداً منكما دون أن أراه وأسمع كلامه، فاحضرا إن شئتما. فحضرا، فأجلستهما حيث تراهما وتسمع كلامهما، فلما رآه المغيرة ونظر إلى جماله وشبابه وهيئته أيس منها وعلم أنها تؤثره عليه؛ فأقبل على الفتى وقال: لقد أوتيت جمالاً وحسناً وثياباً فهل عندك سوى ذلك؟ قال: نعم؛ وعدد محاسن ثم سكت، فقال له المغيرة: كيف حسابك؟ قال: ما يسقط علي منه شيء، وإني لأستدرك أدق من الخردلة، قال المغيرة: لكني أضع البدرة في زواية البيت فينفقها أهلي على ما يريدون، فما أعلم بنفادها حتى يسألوني غيرها. فقالت المرأة: والله لهذا الشيخ الذي لا يحاسبني أحب إلي من هذا الذي يحصي علي مثل صغير الخردلة. فتزوجت المغيرة.
قيل للمغيرة بن شعبة: ما بقي من أربك؟ قال: الإفضال على الإخوان. قيل: فمن أحسن الناس عيشاً؟ قال: من عاش بعيشه غيره؛ قيل: فمن أسوأ الناس عيشاً؟ قال: من لا يعيش بعيشه أحد.
قيل للمغيرة بن شعبة: إني أراك تحابي! قال: إن المعرفة تنفع عند الجمل الصؤول والكلب العقور، فكيف بالمرء المسلم؟!.
وقيل: إنه قيل له: إن آذنك يؤثر بالإذن. فقال: عمره الله! إن المعرفة لتنفع عند الكلب العقور والجمل والصؤول، فكيف الحر الكريم.
عرض المغيرة بن شعبة الجند بالكوفة فوجدهم أربعة آلاف، فمر به شاب من الجند، فقال: يا غلام! زد هذا في عطائه كذا وكذا، فقام شاب كان إلى جانبه فقال: أصلحك الله، هذا ابن عمي لحاً، ليس له علي فضلة في نسب ولا نجدة، فألحقني به، قال: لا،(25/175)
قال: فمر من يحط من عطائي ليظن من حضر أن بك موجدة. قال: لا، إن أبا هذا كان بيني وبينه مودة، وكان لي صديقاً، وإن المعرفة لتنفع عند الجمل الصؤول والكلب العقور، فكيف بالرجل ذي المروءة والحسب!؟ وعن المغيرة بن شعبة أنه قال: اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك، فإنه لابقاء للنعمة إذا كفرت، ولا زوال لها إذا شكرت؛ إن الشكر زيادة من المنعم وأمان من الفقر.
قال المغيرة بن شعبة: خطبت امرأة فذكرتها لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: هل نظرت إليها؟ قلت: لا، قال: فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما. فأتيتها وعندها أبواها وهي في خدرها فقلت: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرني أن أنظر إليها. قال: فسكتا. قال: فرفعت الجارية جانب الخدر فقالت: أخرج عليك إن كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرك أن تنظر إلي لما نظرتن وإن كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمرك أن تنظر إلي أن تنظر. قال: فنظرت إليها ثم تزوجتها. قال: فما وقعت عندي امرأة بمنزلتها؛ ولقد تزوجت سبعين أو بضعاً وسبعين امرأة.
قال الشعبي: لما كان يوم القادسية طعن المغيرة بن شعبة في بطنه، فجيء بامرأة من طيئ، فجعلت تخيط بطنه، فلما نظر إليها قال: ألك زوج؟ قالت: وما يشغلك ما أنت فيه من سؤالك إياي!؟ قال ابن المبارك: كان تحت المغيرة بن شعبة أربع نسوة، قال: فصففن بين يديه فقال: أنتن حسنات الأخلاق طويلات الأعناق، ولكني رجل مطلاق، فأنتن طلاق.
وكان المغيرة ينكح أربعاً جميعاً ويطلقهن جميعاً.
وعن المغيرة بن شعبة: أحصنت ثمانين امرأة فأنا أعلمكم بالنساء؛ كنت أحبس المرأة لجمالها، وأحبس المرأة لولدها، وأحبس المرأة لقومها، وأحبس المرأة لمالها؛ فوجدت(25/176)
صاحب الواحدة إن زارت زار، وإن حاضت حاض، وإن نفست نفس، وإن اعتلت اعتل معها بانتظاره لها؛ ووجدت صاحب الثنتين في حرب، هما ناران تشتعلان؛ ووجدت صاحب الثلاث في نعم، فإذا كن أربعاً كان في نعيم لا يعدله شيء؛ ولا يقتصرن أحدكم على الواحدة، فيكون مثله ومثلها مثل أبي جفنة وامرأته أم عقار، إنه قال لها: إذا كنت خاطباً فإياك وكل مجفرة مبخرة، منتفخة الوريد، كلامها وعيد، وبصرها حديد، سفعاء فوهاء، مليلة الإرغاء، دائمة الدعاء، سلفع، لا تروى ولا تشبع، دائمة القطوب، عارية الظنبوب، حديدة الركبة، سريعة(25/177)
الوثبة، شرها يفيض، وخيرها يغيض، لا ذات رحم قريبة، ولا غريبة نجيبة، إمساكها مصيبة، طلاقها حريبة، فضول مئناث، حبلها رقاب، وشرها ذباب، واغرة الضمير، عالية الهدير، شثنة الكف، غليظة الخف، لا تعتذر من علة، ولا تأوي من قلة، تأكل لما وتوسع ذماً، تفشي الأسرار، وتؤذي الأخيار، وهي مع(25/178)
ذلك من أهل النار.
فأجابته امرأته فقالت: بئس لعمر الله ما علمت! زوج المرأة المسلمة، قضمة حطمة، أحمر المأكمة، محزون اللهزمة، جلد عنز هرمة، وسرة متقدمة، وشعره صهباء، وأذن هدباء، ورقبة هلباء، لئيم الأخلاق، ظاهر النفاق، صاحب حقد وهم وحزن، عشرته غبن، رهين الكاس، زعيم الأنفاس، بعيد من كل خير في الناس، يسأل الناس إلحافا، وينفقه إتلافا، ووجهه عبوس، وشره(25/179)
ينوس، وخيره محبوس، أشأم من البسوس، لا ألوف مفيد، ولا متلاف قصود، فهو شر أشنع، وبطر أجمع، ورأس أصلع، مجمع مضفدع، في صورة كلب وبدن إنسان، هو الشيطان، بل هو أم صئبان.
ولما مات المغيرة خطب جرير فقال: أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وأن تسمعوا وتطيعوا حتى يأتيكم أمير؛ استغفروا للمغيرة بن شعبة، غفر الله له، فإنه كان يحب العافية؛ أما بعد، فإني أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبايعه بيدي هذه على الإسلام، فاشترط علي، والنصح، فو رب هذا المسجد إني لكم لناصح.
قال عبد الملك بن عمير:
شهدت جنازة المغيرة بن شعبة فإذا امرأة أدماء جنواء، مشرفة على النساء، وهي تندبه وتقول: من مجزوء الكامل
الخل يحمله النفر ... قرماً كريم المعتصر
أبكي وأنشد صاحباً ... لا عين منه ولا أثر(25/180)
قد كنت أخشى بعده ... أني أساء ولا أسر
أو أن أسام بخطتي ... خسف فآخذ أو أذر
لله درك قد عني ... ت وأنت باقعة البشر
حلماً إذا طاش الحلي ... م وتارة أفعى ذكر
قلت: من هذه؟ قالوا: امرأته أم كثير بنت قطن بن عبد الله بن الحصين ذي الغصة - وإنما قيل له ذو الغصة لأنه كانت به غصة.
قال عبد الملك بن عمير: رأيت زياداً واقفاً على قبر المغيرة بن شعبة وهو يقول: من الخفيف
إن تحت الأحجار حزماً وعزماً ... وخصيماً ألد ذا معلاق
حية في الوجار أربد لا ين ... فع منه السليم نفثه راقي
توفي المغيرة بن شعبة بالكوفة سنة خمسين بإجماع؛ وقد وهم بعضهم فقال: توفي بالمدائن سنة ست وثلاثين. وهو خطأ.
وقيل: توفي سنة تسع وأربعين وهو ابن سبعين سنة، واستخلف ابنه عروة؛ وقيل: استخلف جرير بن عبد الله؛ فولى معاوية زياداً الكوفة مع البصرة وجمع له العراقين.(25/181)
ومنهم من قال: إن عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ماتا في خلافة معاوية بن أبي سفيان سنة ثمان وخمسين. والله أعلم.
المغيرة بن عبد الله بن معرض
ابن عمرو بن معرض بن أسد بن خزيمة ويقال: المغيرة بن عبد الله بن الأسود بن وهب بن معرض الأسدي الكوفي المعروف بالأقيشر - بالشين المعجمة والياء والراء - إسلامي. شاعر مشهور، ولد في الجاهلية، ولقب بالأقيشر لأنه كان أحمر الوجه، أقيشر.
قال عبد الملك للأقيشر: أنشدني أبياتك في الخمر. فأنشده: من الطويل
تريك القذى من دونها وهي دونه ... لوجه أخيها في الإناء قطوب
كميت إذا شجت وفي الكأس وردة ... لها في عظام الشاربين دبيب
فقال له: أحسنت والله يا أبا معرض، ولقد أجدت وصفها، وأظنك قد شربتها، فقال: والله يا أمير المؤمنين، إنه ليريبني منك معرفتك بها.
قال أبو عبيدة: قدم رجل من بني سلول بكتاب على قتيبة بن مسلم، من عامله المعلى بن عمرو المحاربي على الري، فدخل قدامة بن جعدة بن هبيرة المخزومي على قتيبة فقال: ببابك ألأم العرب، سلولي رسول محاربي إلى باهلي. فتبسم قتيبة تغيظاً، ثم دعا مرداس بن(25/182)
خذام الأسدي فقال: أنشدني ما قال الأقيشر لهذا بالحيرة؛ فأنشده: من الرمل
رب ندمان كريم سيد ... ماجد الجدين من فرعي مضر
قد سقيت الكأس حتى هرها ... لم يخالط صفوها فيها كدر
قلت قم صلي فصلى قاعداً ... تتغاشاه سمادير السكر
قرن الظهر مع العصر كما ... قرن الحقة بالحق الذكر
ترك الطور فما يقرؤها ... وتلا الكوثر من بين السور
المغيرة بن عبد الله التميمي البصري
وفد على معاوية. قال من حديث: ثم قام المغيرة بن عبد الله التميمي - وكان رجلاً عظيماً طريراً، فتخطى رقاب الناس إلى معاوية، ففرح الناس بقيامه وقالوا: هذا خليق أن يخطب خطبة يعم فيها أهل مصره بخير، فلما دنا من معاوية استأذنه في المنطق فقال له: تكلم بحاجتك. فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين وأمتع به، أنا من الوفد الذين قدموا من أهل العراق، ثم من البصرة، ثم أنا أحد بني تميم، المغيرة بن عبد الله المعروف الوالد والمنصب، قدمنا فلم نر من أمير المؤمنين إلا الذي نحب، من لين الحجاب وخفض الجناح، وإعطاء المسألة، واستقبال أنواع الخير، فأحب أن يتم أمير المؤمنين ويستعملني على خراسان. وكان معاوية منكساً ينكث في الأرض بقضيب، يسمع قوله، فرفع رأسه ونظر إليه فقال: عليها من يكفيك أمرها. قال: فأحب أن تستعملني على شرط البصرة، فإني بها عالم فهم مصيب، عليهم جريء. قال معاوية: كفيتها. قال: فأحب يا أمير المؤمنين أن تأمر لي بجائزة وعطائي(25/183)
وكسوتي، وتكسو امرأتي فلانة قطيفة، وتكسوني برنساً. قال معاوية: أما هذا فنعم. ثم أثنى على زياد، ثم قعد.
فلما خرج المغيرة أقبل عليه أهل البصرة فلاموه وقالوا: أما استحييت!؟ تسأل أمير المؤمنين أن يستعملك وأن يجيزك! والله لنرجو أن تأتي بخطبة تعم بها أهل البصرة بخير. فقال المغيرة: ويحكم، بدأت فسألت أمير المؤمنين الأمر العظيم، فلو أعطاني الذي سألت كان ذلك الذي أردت، ثم سألته الذي هو دون، فأعطانيه، فقد أصبت مع الفرض ستة آلالف درهم، ولم يصب رجل منكم درهماً.
المغيرة بن عبد الرحمن
ابن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ابن يقظة بن مرة بن كعب، أبو هاشم، ويقال أبو هاشم القرشي المخزومي المدني سكن الشام مدة، وغزا مع مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، وكان من أجواد قريش.
حدث عن خالد بن الوليد أنه شكا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضيق في مسكنه فقال: ارفع البنيان إلى السماء.
وكان المغيرة أعور، أصيبت عينه عام غزوة مسلمة بن عبد الملك بأرض الروم.
وكان المغيرة يطعم الطعام حيث ما نزل، ينحر الجزر، ويطعم من جاء؛ فجعل أعرابي يديم النظر إلى المغيرة حابساً نفسه عن طعامه، فقال له المغيرة: ألا تأكل من هذا الطعام؟ ما لي أراك تديم النظر إلي؟ قال: إنه ليعجبني طعامك وتريبني عينك. قال: وما يريبك من عيني؟ قال: أراك أعور، وأراك تطعم الطعام، وهذه صفة الدجال. فقال له المغيرة: إن الدجال لا تصاب عينه في سبيل الله.(25/184)
وأم المغيرة سعدى بنت عوف بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة، من بني مرة بن عوف بن غطفان.
وكان المغيرة في جيش مسلمة الذين احتبسوا بأرض الروم حتى أقفلهم عمر بن عبد العزيز، وذهبت عينه، ثم رجع إلى المدينة، فمات بالمدينة، وأوصى أن يدفن بأحد مع الشهداء، فلم يفعل أهله، ودفنوه بالبقيع.
وقيل: إنه مات بالشام. وهو وهم.
قال عبد الله بن أبي بكر المخزومي: سيم ابن أفلح مولى أبي أيوب بمنزله الذي كان لأبي أيوب الذي نزل فيه عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقدمه المدينة خمس مئة دينار، فبلغ ذلك المغيرة بن عبد الرحمن، فأرسل إلى ناس من صديقه، وأرسل معهم إلى ابن أفلح، وقد صر ألف دينار في منديل وضعه، فلما جاؤوه قدم إليهم طعاماً، فأكلوا، فلما فرغوا قال لابن أفلح: بلغني أنك أعطيت بمنزلك خمس مئة دينار فلم تبعه. فقال: نعم. قال: أفأسومك به؟ قال: نعم. قال: والذي تحلف به لنسومنك به سومة ثم لا ننقصك منها ولا نزيدك فيها. قال: فأنصفني يا أبا هاشم. قال: إنه قد خرب ولا بد لي من هدمه وبنائه، وأشار له إلى المنديل وقال: في ذلك المنديل ألف دينار، وأنا آخذه بها، فإن كانت لك بذلك حاجة فخذ وإلا فدعه. فقال ابن أفلح: هو لك. ووثب جذلاً مستعجلاً فأخذ المنديل الذي فيه الألف دينار، فتصدق به المغيرة مكانه.
ولما باع ابن أفلح المغيرة منزله الذي كان لأبي أيوب اشترى داره بالبقيع التي تعرف بدار ابن أفلح صارت لعمر بن بزيع؛ فكان المغيرة يركب إلى ضيعته بقباء، فيمر بابن(25/185)
أفلح على داره بالبقيع فيقول: " فريق في الجنة وفريق في السعير " فيقول ابن أفلح: لا ذنب لي يا أبا هاشم، فتنتني بالدنانير.
ولما هدم المغيرة منزله الذي نزل فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبي أيوب أمر بحظيرة فعملت، وضم نقصه فيها ... لنته وأعاده في المنزل حيث بناه.
توفي ابن للمغيرة بن عبد الرحمن يقال له دانيال، فدفنه مع الشهداء بأحد، فلما حضرت المغيرة الوفاة أوصى أن يدفن مع الشهداء بأحد، وأوصى بألف دينار يطعم الناس ويسقون بها يوم يدفن بأحد. فحال إبراهيم بن هشام بين ولده وبين دفنه بأحد وقال: إن دفن المغيرة بأحد لم يمت شريف من قريش إلا دفن بأحد.
قال صدقة بن المغيرة بن يحيى: قال أخو عبد الرحمن: فاختلف في الألف دينار فوقفت، فاستعدى فيها أبي المغيرة بن يحيى بن عمران، فرأى أن ترد على صدقته، فتجرى مجراها؛ وقال: فضلت من ماله: فقبضها أبي المغيرة بن يحيى، فكلمه ولد المغيرة بن عبد الرحمن أن ينفقها عليهم، فأبى ورفع بها في رأس عسه صدقته المفترضة وعمرها وعمر صدقته ببديع بالألف دينار.
قال عبد الرحمن: أدركت ذلك، وكان المغيرة قد وقف ضيعة له، يقال لها المفترضة في أعلى إستارة على طعام يصنع بمنى في أيام الحج. فأدركتهم يطعمون من صدقته الحيس بمنى.(25/186)
وكا المغيرة سخياً، وكان يعمل الخبيص بمكة على الأنطاع فيضعه الناس، ويعمل جفان الثريد فيضعها في زقاق الفول. وكان يطعم بمنى خمسة أيام الحيس، يعمل ستين وسقاً سويقاً، وستين وسقاً تمراً، وخمسة عشر راوية سمناً ووقف عليه مالاً له إلى اليوم.
قال مصعب بن عثمان: عجب الناس بالكوفة لطعام المغيرة بن عبد الرحمن فقال: والله لقد اقتصرت كراهة أن يضع ذلك من أخي عمر، إذ كان يسكنها.
قال أبو بكر بن عياش: رأيت ثريد المغيرة بن عبد الرحمن بالكوفة يطاف بها على العجل.
قام اليسع بن المغيرة يوماً على جفنة أبيه، فأحسن ماكللها بالسنام، فنظر إليها المغيرة فأعجبته، فأعطاه ستين ديناراً، وكان ينحر في كل يوم جزوراً، وفي كل جمعة جزورين.
مر إبراهيم بن هشام بثردة المغيرة بن عبد الرحمن وقد أشرفت على الجفنة، فقال لغلام للمغيرة: يا غلام! على أي شيء نصب هذا الثريد على العمد؟ قال له الغلام: لا، ولكن على أعضاد الإبل. فبلغ ذلك المغيرة، فأعتق الغلام. وكان إبراهيم بن هشام إذا مر بثريد المغيرة أمسك على أنفه، يري الناس أنها منتنة.
وكان بالمدينة مجنونة يقال لها أم المشمعل تمر بالذين يصنعون السرفي بالمدينة، فتنزع درعها ثم تغمسه في مركن من مراكن السرفي، فيصاع عليها فتقول: أليس هذا حيس المغيرة؟.(25/187)
كان للمغيرة بن عبد الرحمن مولى، فهلك وترك مالاً، فأتاه رجل فقال: إن هذا الذي مات أخي. قال: أعندك بينة؟ ومن أين؟ إنما ولدنا ببلدنا. قال: فنظر إليه ساعة وصوب، وأعطاه المال. فقيل له في ذلك فقال: رأيت فيه الشبه، وإنما هي نفسي، فلأن آخذ منها لغيري أحب إلي من أن آخذ لها من غيري.
قال محمد بن فرقد مولى المغيرة بن عبد الرحمن: خرج أبي فرقد يوماً يسعى مع بغلة المغيرة، فمر بحرة الأعراب فقالوا له: يا أبا هاشم! فاض معروفك على الناس، فما بالنا أشقى الناس بك؟! فقال: خذوا هذا الغلام فهو لكم. فقلت: لأنا كنت أولى بذلك منهم، لخدمتي وحرمتي. فقال: يا فتيان! تبيعونه؟ قالوا: بكم تأخذه؟ قلت: آخذه بأربعين ديناراً، قالوا: هو لك. قال: والله لا أعرضك مثلها أبداً، أنت حر. وأعطاهم أربعين ديناراً.
قسم المغيرة بن عبد الرحمن على مماليك أهل المدينة درحمين درهمين، فأعطى رقيق عامر بن عبد الله، فأبوا أن يأخذوا، فقال لهم عامر: خذوا من خالي فإنه جواد.
أوصى أبو بكر بن عبد الله بن الزبير وأمه ريطة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى خاله المغيرة بن عبد الرحمن بابنه عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان معتوهاً، يعطى الثوب يلبسه فلا يلبسه، ويطعم الطعام فلا يأكله، فكان المغيرة يجعل كوا في منزل عبد الرحمن بن أبي بكر فيجعل فيها الخبر واللحم والكعك والقديد وأنواع الطعام، وجعل معاليق تعلق عليها الثياب، فيمر عبد الرحمن بالكوة فيخلس منها الطعام فيأكله، ويمر بالثوب المعلق فيختلسه فيلبسه.
وسقط درهم لعبد الرحمن بن أبي بكر من يد المغيرة في كيس للمغيرة فيه ألف درهم؛ فجعل المغيرة يتغمغم ويقول: لا أعرف الدرهم، فقيل له: خذ أجود درهم فيها، فأبى وجعل الكيس له كله.(25/188)
قال مصعب بن عبد الله: أخبرني ابن كليب مولانا قال: خرجت مع عامر بن عبد الله إلى الصلاة، فمر بمنزل المغيرة بن عبد الرحمن وبعير لد دبر، فصاح بجارية للمغيرة، فخرجت إليه، فأمرها أن تأتيه بما يعالج به الدبرة، ففعلت، فناولني رداءه، وغسل الدبرة وداواها، فقلت له: ما حملك على هذا وأنا كنت أكفيك لو أمرتني؟ قال: إن أمي ماتت وأنا صغير لا أعقل برها، فأردت أن أبرها ببر خالي.
مات عبد الرحمن بن أبي بكر فقال المغيرة بن عبد الرحمن لعامر بن عبد الله - وورثه عامر: هذا حساب ما وليت له فانظر فيه. قال: يا خال! لا أنظر في حسابك، فأعط ما أحببت وأمسك ما شئت، وما أعطيت أو أمسكت فأنت منه في سعة. فأبى عليه المغيرة إلا الحساب، فقال له عامر لما نظر في الحساب: بقيت خلة. قال: ما هي؟ قال: تحلف على حسابك عند منبر سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فألاح المغيرة من اليمين وقال: تحلفني يا بن أختي؟! فقال له عامر: فما دعاك أن تأبى إلا المحاسبة؟ وتركه من اليمين.
خرج المغيرة سفراً في جماعة من الناس، فوردوا غديراً ليس لهم ماء غيره، فأمر المغيرة بقرب العسل فشقت في الغدير وخيضت بمائه، وما شرب أحد حتى راحوا إلا من قرى المغيرة.
كان ابن هشام بن عبد الملك يسوم المغيرة بماله ببديع من فدك فلا يبيعه إياه، إلى أن غزا معه أرض الروم، وأصاب الناس مجاعة في غزاتهم، فجاء المغيرة إلى ابن هشام فقال له: قد كنت تسومني بنا لي ببديع فآبى أن أبيعكه، فاشتر مني نصفه. فاشترى نصفه بعشرين ألف دينار، فأطعم بها المغيرة الناس. فلما رجع ابن هشام من غزاته، وقد بلغ هشاماً الخبر، فقال لابنه: قبح الله رأيك، أنت ابن أمير المؤمنين وأمير الجيش، تصيب(25/189)
الناس معك مجاعة فلا تطعمهم، ويبيعك رجل سوقة ماله ويطعم به الناس! أخشيت أن تفتقر إن أطعمت الناس؟ فالنصف المال الذي صار ببديع لابن هشام اصطفي عنهم حين ولي بنو العباس. ثم صار لسعد بن الجون الأغرابي، مولى الفضل بن الربيع. ثم اشتري لمحمد بن علي بن موسى، فهو بيد ولده إلى زمن المؤرخ. والنصف الآخر الذي بقي بيد المغيرة تصدق به، فهو بيده ولده إلى زمن المؤرخ رحمه الله.
المغيرة بن عمرو
حدث عن جعفر بن محمد السوسي بسنده إلى كعب قال: ما من صباح إلا وملكان يناديان، يقول أحدهما: يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشر أقصر. وملكان يناديان، يقول أحدهما: اللهم عجل لمنفق خلفاً. والآخر يقول: اللهم عجل لممسك تلفا.
المغيرة بن فروة
ويقال: فروة بن المغيرة، ويقال: ابن حكيم أبو الأزهر القرشي من أهل دمشق.
حدث عبد الله بن العلاء: أنه سمع يزيد بن مالك وأبا الأزهر يحدثان عن وضوء معاوية إذ يريهم وضوء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، وغسل رجليه بغير عدد.(25/190)
وحدث عن معاوية عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: صوموا الشهر وسرره.
قال الأوزاعي: سرره: آخره. هو كقوله: صوموا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين.
وعن أبي الأزهر قال: من ركع بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم كانتا له عدل عمرة.
أوصى أبو الأزهر أن تحلق عانته بعد موته، فقال مكحول: كانت هذه من كنوز أبي الأزهر.
المغيرة بن المغيرة
أبو هارون الربعي الرملي حدث عن أسيد بن عبد الرحمن بسنده إلى معاذ بن أنس قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من ضيق منزلاً أو قطع طريقاً أو آذى مؤمناً فلا جهاد له.
مفضل بن غسان بن المفضل
ابن عمرو ويقال: ابن غسان بن خالد بن معاوية أبو عبد الرحمن الغلابي البصري حدث عن أبي داود الطيالسي بسنده إلى رجل من بكر قال: انطلقت مع أبي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فناجاه أبي دوني فقلت لأبي: ما قال لك(25/191)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: قال لي: إذا أردت أمر فعليك بالتؤدة، حتى يجعل الله لك فرجاً. أو قال: مخرجاً.
وحدث عن أبيه بسنده إلى بلال مؤذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم.
زاد في غيره: وقربة إلى الله، وتكفير للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد.
وقال في نسب آبائه: عمرو بن خالد بن غلاب، وغلاب أمه، وهو خالد بن الحارث بن أوس بن النابغة بن عمير الغلابي.
مفضل بن محمد بن مسعر
ابن محمد أبو المحانس التنوخي المعري الفقيه على مذهب أبي حنيفة. وكان ينوب في القضاء بدمشق عن بني أبي الجن، وولي قضاء بعلبك. وكان ينحو في مذهبه الاعتزال والتشيع.
حدث في صفر سنة ثمان وثلاثين وأربع مئة عن أبي العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة بسنده إلى عطية العوفي أنه سأل أبا سعيد الخدري عن قوله تعالى: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً " فأخبره أنها نزلت في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلي وفاطمة والحسن والحسين، رضوان الله عليهم.
توفي ابن مسعر سنة اثنتين أو ثلاث وأربعين وأربع مئة. ويقتضي أن يكون مولده بعد السبعين وثلاث مئة بالمعرة، وبها مات.(25/192)
وذكر عنه أنه كان يضع من الشافعي رحمه الله. وصنف كتاباً ذكر فيه الرد على الشافعي فيما خالف الكتاب والسنة.
وذكر أنه بلغ والده أنه ارتشى، فعزله عن الحكم ببعلبك.
ولأبي المحانس رسالة في وجوب غسل الرجلين.
مفضل بن المهلب بن أبي صفرة
ظالم بن سارق، أبو غسان، وقيل أبو حسان الأزدي قدم على سليمان بن عبد الملك.
حدث عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم.
وفي رواية: قاربوا بين أبنائكم.
وعن المفضل بن المهلب أن ملك اليمن حضرته الوفاة، فقالوا: يا ربنا! ملك العباد والبلاد. فقال: أيها الناس! لا تجلهوا، فإنكم في مملكة من لا يبالي أصغيراً أخذ منكم أم كبيراً.
وعن المفضل بن المهلب أنه قال: الثقلاء ثلاثة، والرابع أشدهم علي: رجل كان يزور قوماً فاستثقلوه وسألوا الله أن يريحهم منه، فغاب عنهم أياماً، فانفسحت أبصارهم وطابت أنفسهم؛ ثم أتاهم معتذراً وقال: ما حبسني عنكم إلا الشغل. ورجل أتى رجلين وهما في حديث قد خلوا به دون الناس، فأخذ بأنفاسهما، حتى إذا بلغ منهما قال: لعلكما في حاجة وفي سر فقطعت عليكما؛ فاستحييا منه وقالا: لا. ورجل انتهى إلى حلقة قوم ورجل يحدثهم، فأقبل على الذي يليه فقال: أي شيء يحدثكم هذا؟ فرجع يسمع من هذا ويودي إلى هذا(25/193)
ولا يعرف أول الحديث من آخره. والرابع الشاب المتشيخ قد أرخى شعيرته.
وفي سنة اثنتين ومئة بعث مسلمة بن عبد الملك في طلب آل المهلب، وقتل المفضل بن المهلب، وانهزم الناس، وقيل: إن المفضل لما قتل أخوه يزيد هرب إلى سجستان، فقتل هو وإخوانه عبد الملك، ومدرك، وزياد، ومعاوية بنو المهلب.
وكان الذي تولى ذلك منهم هلال بن أحوز المازني، ولم يعرض للنساء ولم يفتشهن، وبعث بالعيال والأسارى إلى يزيد بن عبد الملك.
مقاتل بن حكيم العكي
من أهل مرو، كان أميراً على حران من قبل المنصور في أيام السفاح، فأسره عبد الله بن علي ووجه به إلى دمشق إلى ابن سراقه ليعتقله؛ فلما علم بهرب عبد الله بن علي سأل مقاتلاً أن يكتب له كتاباً، ثم قتله.
قالوا: ولما انتهى عبد الله بن علي إلى حران أغلقوها دونه، وكان فيها مقاتل بن حكيم، قد أخذ البيعة لأبي جعفر، وشغلوه عن المسير إلى العراق، وخاف أن يقع بين عدوين، فحاصرها أربعة أشهر حتى افتتحها صلحاً، على أن لا يعرض لأحد من الناس. فلما دخلها أخذ مقاتلاً وابنه، وجماعة من القواد فوجههم إلى عثمان بن عبد الأعلى بن سراقه إلى دمشق؛ وكان خليفته عليها، فحبسهم عنده، ولم يزل مقاتل بن حكيم وخالد بن مقاتل وأصحابهما محبوسين عند عثمان حتى بلغهم الخبر بهزيمة عبد الله، فدخل إليهم عثمان بن سراقة إلى الحبس فقال لمقاتل: أريتكم إن أنا خليت عنكم وتمضون حيث شئتم، أتكتبون لي كتاباً أنه إن تغيرت بعبد الله بن علي حال أنكم لا تبتغوني بشيء كان مني، ولا تطالبوني بأمر سلف؟ قالوا: نعم، فافعل. فذهب ليأتيهم بصحيفة ودواة(25/194)
ليكتبوا له، فسمع مقاتلاً يقول لابنه: ويحك يا خالد! أحلف حقاً أن هذا ما سألنا الأمان إلا وقد حدث في صاحبه حدث؛ وما ينبغي لنا أن نؤمنهم إلا بعد مؤامرة أمير المؤمنين ومعرفة رأيه. فاشتمل عثمان على السيف ثم دخل عليهم فقال: من أراد أمانكم فهو كلب ثم قتلهم جميعاً.
وقيل: إن عبد اله بن علي قتل مقاتلاً حين استنزله من حصن حران.
مقاتل بن حيان أبو بسطام النبطي
البلخي مولى بكر بن وائل، ويقال: مولى بني تيم الله كان خرازاً، ووفد على عمر بن عبد العزيز، وعلى هشام بن عبد الملك.
حدث عن عمرة عن عائشة أنها قالت: كنا ننتبذ لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غدوة في سقاء ولا نخمره، ولا نجعل فيه عكراً، فإذا أمسى تعشى فشرب على عشائه، فإن بقي شيء فرغته أو صببته ثم نغسل السقاء فننبذ من العشي، فإذا أصبح تغدى فشرب على غدائه، فإن فضل شيء صببته أو فرغته. ثم نغسل السقاء. فقيل له: أفيه غسل السقاء مرتين؟ قال: مرتين.
وحدث عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: حرم الله الخمر، وكل مسكر حرام.
وحدث عن قتادة عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لكل شيء قلب، وإن قلب القرآن ياسين. ومن قرأ ياسين كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات.(25/195)
وحدث مقاتل عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة.
قال مقاتل بن حيان:
كنا جلوساً عند عمر بن عبد العزيز إذ دخل عليه أبو بردة فقال: يا أمير المؤمنين! ألا أهدي لك هدية هي خير من الدنيا وما فيها؟ قال: ليس شيء من الخير وإن صغر إلا وهو خير من الدنيا وما فيها؛ لقد أنبأني أبو سلمة عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الله خلق الدنيا منذ خلقها فلم ينظر إليها بعد، إلا مكان المتعبدين منها، وليس بناظر إليها إلى يوم ينفخ في الصور، ويأذن في هلاكها. مقتاً لها، ولم يؤثرها على الآخرة.
قال مقاتل: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فلما كان ساعة دخل عليه رجل، فأقبل عليه عمر بوجهه وحدثه. فلما خرج قلت: يا أمير المؤمنين! من هذا الذي رأيتك أقبلت عليه تحدثه؟ قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم. قال: أنت رأيته؟ - مرتين أو ثلاثاً - قلت: نعم. قال: ذلك الخضر.
قال: فسر بمقاتل بعد وأعجب به.
وكان مقاتل بن حيان ثقة، صدوقاً، صالح الحديث.
وعن مقاتل بن حيان قال: ليس لملول صديق، ولا لحسود غناء، وطول النظر في الحكمة تلقيح للعقل؛ وأهل هذه الأهواء آفة أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إنهم يذكرون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهل بيته، فيتصيدون بهذا الذكر الحسن الجهال من الناس، فيقذفون بهم في المهالك، فما أشبههم بمن يسقي الصبر باسم العسل! ومن يسقي السم القاتل باسم الترياق! فأبصرهم، فإنك إلا تكن أصحبت في بحر الماء، فقد أصبحت في بحر الأهواء، الذي هو أعمق غوراً، وأشد اضطراباً، وأكثر عواصفاً، وأبعد مذهباً من البحر وما فيه؛ فلتكن مطيتك التي تقطع التي تقطع بها سفر الضلال اتباع السنه، فإنهم هم السيارة الذين إلى الله يعمدون.(25/196)
قالوا: وهرب مقاتل بن حيان مولى مصقله بن هبيرة الشيباني، وزياد بن عبد الرحمن القشيري، وغالب مولى تميم، أيام أبي مسلم، فاستجاروا بزنبيل ملك الهند، فكره مقاتل المقام في أرض الشرك، وناء ثم، فخرج من هنال، فلما سار ليلتين مات.
وكان مقاتل ببلخ في شهر رمضان يصلي بقوم، فيذهب قوم ويبقى قوم، فيصلي بهم ويعظهم، فما يزال هذه حاله حتى يصبح
مقاتل بن سليمان أبو الحسن البلخي
صاحب التفسير.
حدث عن ثابت البناني بسنده إلى كعب بن عجرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من جاء بالحسنة فله خير منها " لا إله إلا الله، والسيئة: الشرك. قال: فهذه تنجي وهذه تردي.
وحدث عن ابن الزبير عن جابر قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تؤكل التمرتين جميعاً.
وحدث مقاتل عن الضحاك، عن ابن عباس قال: قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله! استخلف علينا بعدك رجلاً نعرفه وننهي إليه أمرنا، فإنا لا ندري ما يكون بعدك. فقال: إن استعملت عليكم رجلاً فأمركم بطاعة الله فعصيتموه كان معصيته معصيتي، ومعصيتي معصية الله؛ وإن أمركم بمعصية الله فأطعتموه كانت لكم الحجة علي يوم القيامة. ولكن أكلكم إلى الله.(25/197)
جلس مقاتل بن سليمان في مسجد بيروت فقال: لا تسألوني عن شئ مما دون العرش إلا أنبأتكم به.
وكان مقاتل حافظاً للتفسير، وكان لا يضبط الإسناد، وأصله من بلخ، ولم يكن في الحديث بذاك.
كان أبو جعفر المنصور جالساً، فألح عليه ذباب يقع على وجهه، وألح في الوقوع مراراً حتى أضجره فقال: انظروا من بالباب. فقيل: مقاتل بن سليمان. فقال: علي به. فلما دخل قال له: هل تعلم لماذا خلق الله الذباب؟ قال نعم، ليذل الله به الجبارين. فسكت المنصور.
قال أبو نصير: صحبت مقاتل بن سليمان ثلاث عشرة سنة فما رأيته لبس قميصاً قط إلا لبس تحته صوفاً.
قال عبد المجيد من أهل مرو: سألت مقاتل بن حيان قلت: يا أبا بسطام، أنت أعلم أو مقاتل بن سليمان؟ قال: ما وجدت علم مقاتل بن سليمان في علم الناس إلا كالبحر الأخضر في سائر البحور.
ذهب رجل بجزء من أجزاء تفسير مقاتل إلى عبد الله، فأخذه عبد الله منه وقال: دعه. فلما ذهب يسترده. قال: يا أبا عبد الرحمن، كيف رأيت؟ قال: يا له من علم؟ لو كان له إسناد.(25/198)
قال سفيان: سمعت مسعراً يقول لرجل: كيف رأيت الرجل؟ يعني مقاتلاً إن كان ما يجئ به علماً فما أعلمه!.
الرجل هو حماد بن عمرو.
قال أبو الحارث الجوزجاني: حكي لي عن الشافعي أنه قال: الناس كلهم عيال على ثلاثة: على مقاتل في التفسير؛ وعلى زهير بن أبي سلمة في الشعر؛ وعلى أبي حنيفة في الكلام.
وعن الشافعي قال: من أحب الأثر الصحيح فعليه بمالك، ومن أحب الجدب فعليه بأصحاب أبي حنيفة، ومن أحب التفسير فعليه بمقاتل.
وكان الشافعي يقول: كان أبو حنيفة ممن وفق له الفقه.
وزاد في آخر: ومن أراد التجر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق، ومن أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال الكسائي.
قال يحيى بن شبل: قال لي عباد بن كثير: ما يمنعك من مقاتل؟ قال: قلت إن أهل بلادنا كرهوه. قال: فلا تكرهنه، فما بقي أحد أعلم بكتاب الله تعالى منه.
قيل لحماد بن أبي حنيفة: إن مقاتلاً أخذ التفسير عن الكلبي. قال: كيف يكون هذا وهو أعلم بالتفسير من الكلبي؟!.
قعد مقاتل بن سليمان فقال: سلوني عما دون العرش إلى لوناثا فقال له رجل: آدم(25/199)
حيث حج من حلق رأسه؟ فقال: ليس هذا من عملكم ولكن الله أراد أن يبتليني بما أعجبتني نفسي.
وفي رواية: أنه قام إليه رجل فقال: أرأيت الذرة أو النملة معاها في مقدمها أو مؤخرها؟ فبقي الشيخ لا يدري ما يقول له. قال سفيان: فظننت أنها عقوبة عوقب بها.
سئل ابن المبارك عن مقاتل بن سليمان وأبي شيبة الواسطي؟ فقال: ارم بهما، ومقاتل بن سليمان ما أحسن تقسيره لو كان ثقة!.
قال يحيى بن شبل: كنت جالساً عند مقاتل بن سليمان فجاء شاب فسأله: ما تقول في قول الله تعالى: " كل شيء هالك إلا وجهه "؟ قال: فقال مقاتل: هذا جممي. فقال: ما أدري ما جهم، إن كان عندي علم فيما أقول وإلا فقل لا أدري. قال: ويحك! إن جهماً والله ما حج هذا البيت، ولا جالس العلماء إنما كان رجلاً أعطي لساناً، وقوله تعالى: " كل شيء هالك إلا وجهه " إنما هو كل شيء فيه الروح، كما قال هاهنا لملكه سبأ " وأوتيت من كل شيء " لم تؤت إلا ملك بلادها، وكما قال: " وآتيناه من كل شيء سبباً " لم يؤت إلا ما في يده من الملك، ولم يدع في القرآن كل شئ، وكل شيء إلا سرد علينا.
سئل وكيع عن كتاب التفسير عن مقاتل بن سليمان فقال: لا تنظر فيه. قال: ما أصنع به؟ قال: ادفنه. ثم قال: أليس زعموا أنه كان يفظ؟ كنا نأتيه فيحدثنا، ثم نأتيه بعد أيام فيقلب الإسناد والحديث.(25/200)
وقيل عن وكيع أنه قال: كان مقاتل بن سليمان كذاباً.
سأل الخليفة مقاتلاً: بلغني أنك تشبه. فقال: إنما أقول: " قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد " فمن قال غير ذلك فقد كذب.
قال أحمد بن سيار بن أيوب يقول: مقاتل بن سليمان من أهل بلخ، تحول إلى مرو، ومات بالعراق، وهو تهم متروك الحديث، مهجور القول؛ وكان يتكلم في الصفات بما لا تحل الرواية عنه.
قال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: أخرجت خراسان ثلاثة لم يكن لهم في الدنيا نظير - يعني في البدعة والكذب -: جهم بن صفوان، وعمر بن صبح، ومقاتل بن سليمان.
قال أبو حنيفة: أتانا من المشرق رأيان خبيثان: جهم معطل، ومقاتل مشبه. وقال مرة عنهما: كلاهما مفرط، أفرك جهم حتى قال: إنه ليس بشيء؛ وأفرط مقاتل حتى جعل الله مثل خلقه.
قال خارجة بن مصعب: كان جهم ومقاتل بن سليمان عندنا فاسقين فاجرين.
قال خارجة: لم أستحل دم يهودي ولا ذمي، ولو قدرت على مقاتل بن سليمان في موضع لا يراني فيه أحد لقتلته.
قيل لمقاتل: سمعت من الضحاك؟ قال: ربما أغلق علي وعليه باب. قال سفيان: ينبغي أن يكون أغلق عليهما باب المدينة.(25/201)
قال جوبير: مات الضحاك ومقاتل بن سليمان له قرطان وهو في الكتاب.
وعن المحاربي قال: مقاتل روى عنه المحابي، يقال: مقاتل دوال دوز.
قال ابن عيينة: سمعت مقاتلاً يقول: إن لم يخرج الدجال الأكبر سنة خمسين ومئة فاعلموا أني كذاب.
سكتوا عنه، ولم يذكره البخاري.
وقال الخطيب: المحفوظ ابن دوال دوز هو ابن حيان لا ابن سليمان.
قال عبد الصمد بن عبد الوارث: قدم علينا مقاتل بن سليمان فجعل يحدثنا عن عطاء بن أبي رباح، ثم حدثنا بتلك الأحاديث نفسها عن الضحاك بن مزاحم، ثم حدثنا بها عن عمرو بن شعيب فقلنا له: ممن سمعتها؟ قال: عنهم كلهم. ثم قال بعد: لا والله ما أدري ممن سمعتها. قال: ولم يكن بشيء.
قال الوليد: سألت مقاتل بن سليمان عن أشياء، فكان يحدثني بأحاديث، كل واحد ينقض الآخر، فقلت: بأيهم آخذ؟ قال: بأيهم شئت.
قال عبيد الله كاتب المهدي:
لما أتانا نعي مقاتل اشتد ذلك علي، فذكرته لأمير المؤمنين أبي جعفر فقال: لا يكبر عليك، فإنه كان يقول لي: انظر ما تحب أن أحدثه فيك حتى أحدثه.(25/202)
قال أبو عبيد الله: قال لي المهدي الأموي: ألا ترى ما يقول لي هذا؟ يعني مقاتلاً - قال: إن شئت وضعت لك أحاديث في العباس. قال: قلت لا حاجة لي فيها.
وعن ما لم: أنه بلغه ن مقاتلاً جاءه إنسان فقال به: إن إنساناً سألني: ما لون كلب أصحاب الكف؟ فلم أدر ما أقول له. فقال له مقاتل: ألا قلت هو أبقع، فلو قتله لم تجد أحداً يرد عليك قولك.
قال نعيم بن حماد: أول ما ظهر من مقاتل من الكذب هذا، قال للرجل: يا مائق، لو قلت أصفر أو كذا أو كذا، من كان يرد عليك!.
قال السعدي: مقاتل بن سليمان كان دجالاً.
جلس مقاتل بن سليمان في مسجد بيروت فقال: لا تسألوني عن شيء مادون العرش إلا أنبئكم عنه. فقال الأوزاعي لرجل: قم إليه فاسأله، ما ميراثه من جدته. فحار ولم يكن عنده جواب، فما بات فيها إلا ليلة، ثم خرج بالغداة.
قال عبد الله بن المبارك: سمعت مقاتل بن سليمان يقول: الأم أحق بالصلة، والأب بالطاعة.
وقيل: إن ابني المبارك لم يرو عن مقاتل إلا هذين الحرفين.
وقال الكلبي: مقاتل يكذب علي.
وقال وكيع: كان مقاتل كاذباً.(25/203)
قالوا: وكان مقاتل قاصاً، فترك الناس حديثه.
قال أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي: الكذابون المعرفون بوضع الحديث على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة: ابن أبي يحيى بالمدينة، والواقدي ببغداد، ومقاتل بن سليمان بخراسان، ومحمد بن شعيب يعرف بالمصلوب بالشام.
توفي مقاتل بن سليمان في سنة خمسين ومئة.
مقاتل بن مكوذ بن أبي نصر يمريان
أبو محمد المغربي السوسي المقرئ حدث عن أبي علي أحمد بن عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم بسنده إلى علي بن أبي طالب وبريدة قالا: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن زياد القبور فزوروها، فغنها تذكركم الآخرة؛ ونهيتكم عن حبس لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، فاحبسوها ما بدا لكم؛ ونهيتكم عن الأوعية فانتبذوا فيها ما بدا لكم، وإياكم وكل مسكر.
وحدث عن أبي علي الحسن بن علي إبراهيم خوزستان بسنده إلى أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري السابق إلى الإيمان قال: قلت يا رسول الله، ما كان في صحف موسى؟ قال: كان فيه: عجبت لمن آمن بالموت كيف يفرح بالدنيا!؟ وعجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك!؟ وعجبت لمن أيقن بالحساب كيف يعمل السيئات!؟ وعجبت لمن أيقن بالقدر وهو ينصب!؟ وعجبت لمن(25/204)
يرى زوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها!؟ وعجبت لمن أيقن بالجنة ولا يعمل الحسنات!؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قلت يا رسول الله! أوصني. قال: يا أبازد! عليك بتقوى الله فإنه رأس مالك. قال: قلت يا رسول الله زدني. قال: عليك بذكر الله وقراءة القرآن فإنه نور لك في السماء وذكر لك في الأرض. قلت: يا رسول الله زدني. قال: عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي. قلت: يا رسول الله زدني. قال: أقل الكلام إلا من ذكر الله، فإنك تغلب الشيطان. قلت يا رسول الله زدني. قال: انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من فوقك. قلت يا رسول الله زدني. قال: إياك وكثرة الضحك فإنه يقسي القلب ويذهب بنور الوجه.
وجد بخط أبي محمد مقاتل على ظهر جزء له، لبعضهم: من الخفيف
خذ كلامي محبراً وامتحنه ... وبميزان عقل رأسك زنه
طاعة الله خير ما لبس الع ... د فكن طائعاً ولا تعصينه
ما خلاك النفوس إلا المعاصي ... فتوق الخلاك لا تقربنه
إن شيئاً هلاك نفسك فيه ... ينبغي أن تصون نفسك عنه
سئل مقاتل عن مولده فقال: في ذي الحجة سنة ست عشرة وأربع مئة. وتوفي في صفر سنة خمسة وتسعين وأربع مئة بدمشق.
مقاتل مولى عمر بن عبد العزيز
قال عبد الله بن سعيد بن قيس الهمداني:
قدمنا دمشق مع مسلمة بن عبد الملك من غزة القسطنطينية فقال عمر بن عبد العزيز: هات يا مسلمة حدثني عن بلاد الروم. فقال مقاتل مولى عمر بن عبد العزيز: سمعت يقول لعمر: ما رأيت بلاداً تشبه القسطنطينية! فذكر وصفه(25/205)
لها. قال مقاتل: فلما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة قال له: يا مقاتل! إنه بلغني عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الإمام العادل إذا وضع في قبره ترك علة يمينه، فإذا كان جائراً نقل من يمينه على يساره، فاطلع حتى تنظر إلي. قال: فاطلعت فرأيته على يمينه والحمد لله. قال مقاتل: رأيته قبل أن يخرج الروح من حسده وهو يضحك وهو يقول: لمثل هذا فليعمل. ثم مات رحمه الله.
قالوا: إسناده ضعيف.
مقاس الأسدي ثم الفقعسي
شاعر له قصة مع هشام بن عبد الملك.
كانت وليمة في قريش تولى أمرها مقاس الفقعسي، فاجلس عمارة الكلبي فوق هشان بن عبد الملك، فأحفظه ذلك وآلى على نفسه أنه متى أفضت إليه الخفلاة عاقبة. فلما جلس في الخلافة أمر أن يؤتى به وتقلع أضراسه وأظفار يديه، ففعل به ذلك، فأنشأ يقول: من مجزوء الرمل
عذبوني بعذاب ... قلعوا جوهر رأسي
ثم زادوني عذاباً ... نزعا عني طساسي
بالمدى حزر لحمي ... وبأطراف المواسي
قال القالي: قال أبو المياس: الطساس، الأظفار، ولم أجد واحداً من مشايخنا يعرفه. قال: ثم أخبرني رجل من أهل اليمن قال: يقال عندنا: كشهه، إذا تناوله بأطراف أصابعه.
وكان أبو المياس من أروى الناس للرجز، وهو من أهل سر من رأى.(25/206)
مقبل بن عبد الله
ويقال معقل - وهو وهم - الكناني الفلسطيني حديث عن هانئ بن كلثوم أن صاحب جيش الشام لما فتحت الشان كتب إلى عمر بن الخطاب: إنا فتحنا أرضاً كثيرة الطعام والعلف، فكرهت أن أتقدم في شيء من ذلك إلا بأمرك، فاكتب إلي بأمرك في ذلك.
فكتب إليه عمر: أن دع الناس يأكون ويعلفون، فمن باع شيئاً بذهب أو فضة ففيه خمس الله وسهام المسلمين.
وحدث عن عطاء بن يزيد الليثي قال: أكثر الناس عليه ذات يوم يسألون فقال: إنكم أكثرتم في أرأيت أرايت، لا تعلموا لغير الله، ترجون الثواب من الله، ولا يعجبن أحدكم علمه وإن كثر، فإنه لا يبلغ عند من عظمه الله كقائمة من قوائم ذباب.
قال مقبل بن عبد الله الكناني: لست أخاف على نفسي أن أتعمد الكذب إنما أخاف على نفسي الكذب في تردادي الحديث.
مقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك
ابن ربيعة بن ثمامة بن مطرود، أبو الأسود ويقال أبو عمر، يوقال أبو معبد الكندي صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمي ابن الأسود لأن الأسود بن عبد يغوث الزهري حالفه وتبناه.
وهو من المهاجرين الأولين ممن هاجر الهجرتين، وشهد بدراً واليرموك، وشهد الجانية مع عمر بن الخطاب، وكان على ربع أهل المن، وخرج مع عمر أيضاً في خرجته(25/207)
الثانية التي رجع فيها من سرع اميراً على ربع اليمن.
قال المقداد:
قدمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعي رجلان من أصحابي، فطلبنا هل يضيفنا أحد؟ فلم يضيفنا أحد؟ فلم يضيفنا أحد، فدفع إلينا أربعة أعنز فقال: يا مقداد! خذ هذه فاحتلبها، فجزئها أربعة أجزاء، جزءاً لي، وجزءاً لك وجزءين لصاحبيك. فكنت أفعل ذلك، فلما كان ذلك ليلة شربت جزئي وشرب صاحباي جزأيهما، وجعلت جزء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العقب، وأطبقت عليه فاحتبس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت لي نفسي: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دعاه أهل بيت من المدينة فتعشى معهم، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحتاج إلى هذا اللبن، فلم تزل نفسي تدبرني حتى قمت إلي القعب فشربت ما فيه، فلما تقار في بطني أخذني ما قدم وما حدث، فقالت لي نفسي: يجئ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جائع ظمآن، فيرفع القعب، فلا يجد فيه شيئاً، فيدعو عليك. فتجيت كأني نائم، وما كان بي نوم، فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم تسليمه أسمع اليقظان ولم يوقظ النائم، فلما لم ير في القعب شيئاً رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم أظعم من أطعمنا واسق من سقانا. فاغتنمت دعوة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذت الشفرة وأنا أريد أن أذبح بعض تلك الأعنز فأطعمه، فضربت بيدي فوقعت على ضرعها، فإذا هي حافل، ثم نظرت إليهن جميعاً فإذا هن حفل، فحلبت في القعب حتى امتلأ، ثم أتيته وأنا أبتسم، فقال: بعض سوآتك يا مقداد. قلت يا رسول الله! اشرب ثم أخبر الخبر. ثم شرب(25/208)
وشربت ما بقي ثم أخبرته فقال: يا مقداد! هذه بركة كان ينبغي لك أن تعلمني حتى نوقظ صاحبنا فنسقيهما من هذه البركة. قال: قلت يا رسول الله! إذا شربت أنت البركة وأنا فما أبالي من أخطأت.
قال جبير بن نفير: جلسنا إلى المقداد بن الأسود بدمشق وهو يحدثنا وهو على تابوت، ما به عنه فضل، فقال له رجل: لو قعدت العام عن الغزو. قال: أبت البحوث - يعني سورة التوبة - قال اله عز وجل: " انفروا خفافاً وثقالا. قال أبو عثمان: بحثت المنافقين.
قالوا: وكان القارئ يوم اليرموك المقداد؛ ومن السنة التي سن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد بدر أن تقرأ سورة الجهاد عند اللقاء - وهي الأنفال - ولم يزل الناس بعد على ذلك.
قال صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل: قلت لأبي: المقداد بن الأسود، هو المقداد بن عمرو؟ قال: نعم، ولما نزل القرآن العزيز: " ادعوهم لآبائهم " قيل: المقداد بن عمرو.
وكان من الرماة المذكورين من أصحاب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغزا إفريقية مع عبد الله بن سعد سنة سبع وعشرين.
وكان آدم، أبطن، اصفر اللحية، أقنى، طويلاً، كثير شعر الرأس، أعين، مقرون الحاجبين، يصفر لحيته.(25/209)
وآخى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين عبد الله بن رواحة.
قال عبد الله بن معسود: كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد؛ فأما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنعه الله عز وجل بعمه أب يطالب، وأما أبو بكر فمنعه الله عز وجل بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وقد صهروهم، فما منهم أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله عز وجل، وهان على قومه، فأخذه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد.
وقد طعنوا في إسناد هذا الحديث.
وعن عكرمة: " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم " قال: أتى شيبة وعتبة ابنا ربيعة ونفر معهما - سماهم - أبا طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك محمد يطرد موالينا وحلفاءنا فإنما هم عبيدنا وعسافءنا، كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا. فأتى أبو طالب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحدثه بالذي كلموه، فأنزر الله تعالى: " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم "، " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغادة والعشي " قال: وكانوا بلالاً، وعمار بن ياسر مولى ابن المغيرة، وسالم مولى أبي حذيفة بن عتبة، وصبيح مولى أسيد؛ ومن الحفلاء اين مسعود والمقداد بن عمرو وغيرهم.
وخرج رسول الله حروف من المدينة خرجه أخرى فبلغ ودان، فنزل وبعث ستين راكباً من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وأمر عليهم عبيدة بن الحارث بن(25/210)
الملطب، وأمره أن يسير إلى جيش المشركين، فإنهم قد خرجوا من مكة، وكان معهم المقداد بن الأسود، فكتب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن المشركين قد خرجوا من مكة يريدون أن يسيروا إلى تهامه ويدنوا من المدينة، ويرجعون. فلذلك بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبيدة بن الحارث والذين معه، فالتقوا بثينة المرأة، فارتموا بالنبل، فانحاز المسلمون على حامية، حتى هبطوا من الثنية، ثم انكفأ بعضهم على بعض، ورمى يومئذ سعد بن أبي وقاص بأسهم في أعداء الله، فأصاب بكل سهم رمى به رجلاً، وكان أول من رمى بسهم في سبيل الله. ويومئذ لحق المقداد بالمسلمين، وكان خرج في جيش المشركين فتوصل بهم ليلحق بنبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففعل ذلك حتى لقي المسليمن، ورجع المسلمون إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقدموا المدينة فأقاموا بها إلى ما شاء الله.
وعن أنس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاور الناس يوم بدر فتكلم أبو بكر، فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقالت الأنصار: يا رسول الله أوص فقال المقداد بن الأسود: والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، لو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد فعلنا، فشأنك يا رسول الله. وذكر الحديث.
قال: وهذا الكلام محفوظ لسعد بن عبادة وهو أنصاري، وأما المقداد فله كلام آخر، وهو أن أبا أيوب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن بالمدينة: إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة، فهل لكم أن نخرج قبل هذه العبرة، لعل الله يغنمناها. فقلنا: نعم. فهرج وخرجنا، فلما سرنا يوماً أو يومين ثم قال لنا: ما ترون في القوم؟ فإنهم قد أخبروا(25/211)
بمخرجكم. فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو، ولكنا أردنا العير. ثم قال: ما ترون في قتال القوم؟ فقلنا مثل ذلك. فقال المقداد بن عمرو: إذاً لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون. قال: فتمنينا معشر الأنصار لو أنا قلنا كما قال المقداد، أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم. وذكر حديثاً طويلاً.
وفي رواية: إنا ها هنا قاعدون، ولكن والذي بعثك بالحق لنكونن بين يديك وعن يمينك وعن شملك ومن خلفك حتى يفتح الله عز وجل عليك.
وفي رواية: فرأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشرق وجهه لذلك وسره.
وفي رواية: ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكم مقاتلون.
وعن علي بن قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد أيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح.
وفي رواية: إلا المقداد على فرس أبلق.
قال المقداد: شهدت بدراً على فرس يقال سبحة فضرب لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسهم، ولفرسي بسهم، فكان لي سهمان.
وعن يزيد بن رومان أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن معه يوم بدر إلا فرسان: فرس عليه المقداد بن عمرو حليف الأسود خال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وفرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي، حليف حمزة بن عبد المطلب. وكان مع المشركين يومئذ مئة فرس؛ وقيل كانت ثلاثة أفراس، فرس عليه الزبير بن العوام.
قال القاسم بن عبد الرحمن: إنه كان أول من عدا به فرسه في سبيل الله المقداد بن الأسود.
وعن القاسم أيضاً قال: أول من أفشى القرآن بمكة في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن مسعود؛ وأول(25/212)
من بنى مسجداً يصلى فيه عمار؛ وأول من أذن من أذن بلال؛ وأول من غزا في سبيل الله المقداد؛ وأول من رمى بسهم في سبيل الله سعد؛ وأول من قتل من المسليمن مهجع مولى عمر بن الخطاب؛ وأول مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهينة؛ وأول من أدى الصدقة طائعين من قبل أنفسهم بنو عذرة بن سعد.
وعن زر: أول من بايع تحت الشجرة أبو سنان بن وهب؛ وأول من رفعت له راية في الإسلام عبد الله بن جحش؛ وأول مال خمس مال عبد الله بن جحش؛ وأول من قرأ آية من ظهر قلبه عبد الله بن مسعود، وأول من رمى بسهم في سبيل الله سعد بن مالك؛ وأول من قاتل على ظهر فرسه المقداد بن الأسود.
وعن سعيد بن جبير قال:
قتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر ثلاثة صبراً: عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث؛ وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتله قال المقداد: يا رسول الله! أسيري. فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه كان يقول في كتاب الله ورسوله ما يقول. قال: فأمر بقتله، فقال: يا رسول الله! أسيري. فقال: إنه كان يقول في كتاب الله ورسوله ما يقول. يقال: يا رسول الله! أسيري. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم أغن المقداد من فضلك. قال: هذا الذي أردت. قال: ففيه نزلت هذه الآية: " وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إلا أساطير الأولين ".
عن ابن عباس قال: هبط جبريل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد وقد طرح المسلمون أسلحتهم، وعلى ثنايا جبريل أثر النقع فقال: يا محمد! قد طرحتم أسلحتكم والملائكة تقاتل! من هذا الذي قد حملك على ظهره؟ قال: هذا طلحة بن عبيد الله. قال: أقره السلام، وأعلمه الذي قد حملك على ظهره؟ قال: هذا طلحة بن عبيد الله. قال: أقره السلام، وأعلمه أني لا أراه في هول من أهوال يوم القيامة إلا استنقذته منه؛ من هذا الذي على البحر الذي(25/213)
تعجب الملائكة من فريه! قال: هذا علي بن أبي طالب. قال: إن هذه المواساة. قال: إنه مني وأنا منه. قال: وأنا منكما. يا محمد! من هذا الذي بين يديك يبقي عليك؟ قال: هذا عمار بن ياسر. قال: حرمت النار على عمار، ملئ عمار إيماناً إلى مشاشه؛ من هذا الذي عن يمينك؟ قال: هذا المقداد. قال: إن الله يحبه ويأمرك بحبه.
قال سعيد بن المسيب: كانت راية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد مرط أسود كان لعائشة رضي الله عنها. فذكر الحديث، وفيه: الزبير على الرجال، ويقال: المقداد.
وعن أبي كبشة الأنماري قال: لما فتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة كان الزبير بن العوام على المجنبة اليسرى، وكان لامقداد بن الأسود على المجنبة اليمنى؛ فلما دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة وهدأ الناس جاءا بفرسيهما، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسح الغبار عن وجههما بثوبه ثم قال: إني جعلت للفرس سهمين وللفارس سهماً، فمن نقصهما نقصه الله.
بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية وأمر عليهم المقداد، فلما رجعوا قال: كيف وجدت الإمارة يا أبا معبد؟ قال: خرجت يا رسول الله وأنا كأحدهم، ورجعت وانا أراهم كالعبيد لي. قال: كذلك الإمارة أبا معبد، إلا من وقاه الله شرها. قال: لا جرم، والذي بعثك بالحق، لا أتأمر على رجلين بعدها.
وعن محمود بن لبيد قال: نادي: الفزع الفزع ثلاثاً، ثم وقف واقفاً على فرسه حتى طلع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديد مقنعاً، فوقف واقفاً، فكان أول من أقبل إليه المقداد بن عمرة، وعليه الدرع والمغفر، شاهراً سيفه، فقعد له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لواء في رمحه وقال: امض حتى تلحقك(25/214)
الخيول إنا على أثرك. قال المقداد: فخرجت وأنا أسأل الله الشهادة، حتى أدرك أخريات العدو وقد آذم بهم فرس لهم، فأقتحم فارسه وردف أحد أصحابه، فآخذ الفرس المذم فإذا مهر ضرع أشقر عتيق، لم يقو على العدو، وقد عدوا عليه من أقصى الغابة فحسر، فأرتبط في عنقه قطعة وتر وأخليه، وقلت: إن مر به أحد وأخذه حثته بعلامتي فيه، فأدرك مسعدة فأطعنه بالرمح فيه اللواء فزل الرمح، وعطف علي بوجهه فطعنني وآخذ الرمح بعضدي فكسرته، وأعجزني هرباً وأنصب لوائي فقلت: يراه أصحابي ويلحقني أبو قتادة معلماً بعمامة صفراء على فرس له، فسايرته ساعة ونحن ننظر إلى دبر ابن مسعدة فاستحث فرسه فتقدم على فرسي، فبان سبقه، وكان أجود من فرسي حتى غاب عني فلا أراه، ثم ألحقه فهذا هو ينزع بردته، فصحت: ما تصنع؟ قال: خير أصنع كما صنعت بالفرس، فإذا هو قد قتل سمعدة وسجاه ببردة. ورجعنا، فإذا فرسي في يد علبة بن زيد الحارثي، فقلت: فرسي وهذه علامتي. فقال: تعال إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعله مغنماً.
وخرج سلمة بن الأكوع على رجليه يعدو ويسبق الخيل مثل السبع، قال سلمة: حتى لحقت القوم، فجعلت أراميهم بالنبل وأقول حين أمرمي:
خذها وانا ابن الأكوع
على خيل من خيلهم، فإذا وجهت نحوي انطلقت هارباً، فأسبقها وأعمد إلى المكان(25/215)
المعمور فأشرف عليه وأرمي بالنبل إذا أمكنني الرمي وأقول: من منهوك الرجز
خذها وأنا ابن الأكوع
اليوم يوم الرضع
فما زلت أكافحهم وأقول: قفوا قليلاً يلحقكم أربابكم من المهاجرين والأنصار؛ فيزدادون علي حنقاً، فيكرون علي، فأعجزهم هرباً، حتى انتهيت بهم إلى ذي قرد ولحقنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخيول عشاء فقلت: يا رسول الله! إن القوم عطاش، أو ليس لهم ماء دون أحساء كذا وكذا؟ فلو بعثتني في مئة رجل استنقذت مما بأديديهم من السرح، وأخذت بأعناق القوم، فقال النبي: ملكت فأسجح. ثم قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنهم ليقرون في غطفان.
فحدثني خالد بن إلياس عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم قال: توافت الخيل وهم ثمانية: المقداد، وأو قتادة، ومعاذ بن ماعص، وسعد بن زيد، وأبو عياش(25/216)
الزرقي، ومحرز بن نضلة، وعكاشة بن محصن، وربيعة بن أكثم.
وعن ابن عباس قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. فأهوى إليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد. فقال: ادعوا لي المقداد. فقال: يا مقداد! أقتلت رجلاً قال لا إله إلا الله؟ فكيف بلا إله إلا الله غداً؟ فأنزل الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام ست مؤمناً " إلى قوله: " وكذلك كنتم من قبل "، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمقداد: كان رجلاً مؤمناً يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلته، كذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة قبل.
وعن الحارث بن سويد قال: كان المقداد بن الأسود في سرية فحصرهم العدو، فعزم الأمير أن لا يحسر أحد دابته، فحسر رجل دابته، لم تبلغه العزيمة، فضربه فرجع الرجل وهو يقول: ما رأيت كما لقيت قط. على المقداد فقال: ما شأنك؟ وذكر له قصته، فتقلد السيف وانطلق معه حتى انتهى إلى الأمير فقال: أقده من نفسك. فأقاده، فعفى الرجل لا سيف، فرجع المقداد وهو يقول: لأموتن والإسلام عزيز.
وعن ابن عباس في قول الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " قال: نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم أبو بكر، وعمر،(25/217)
وعلي، وعبد الله بم مسعود، وعثمان بن مظعون، والمقداد بن الأسود الكندي، وسالم مولى أب حذيفة بن عتبة؛ اجتمعوا في دار مظعون الجمحي، فتواثقوا أن يجبوا أنفسهم وأن يعتزلوا النساء، ولا يأكلوا لحماً ولا دسماً، وأن يلبسوا المسوح، ولا يأكلوا من الطعام إلا قوتاً، وأن يسيحوا في الأرض كهيئة الرهبان؛ فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمرهم، فتى عثمان بن مظعون في منزله فلم يجده في منزله، ولا إياهم، فقال لأمرأه عثمان أم حكيم بنت أبي أمية بن حارثة السلمية: أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ قالت: ما هو يا رسول الله؟ فأخبرها، وكرهت أن تحدث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سألها، وكرهت أن تبدي على زوجها فقالت: يا رسول الله! إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك. فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قولي لزوجك وأصحابه إذا رجعوا إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لكم: إني آكل وأشرب، وآكل اللحم والدسم، وأنام، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني. فلما رجع عثمان وأصحابه أخبرته امرأته بما خبرها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: لقد بلغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا فما أعجبه؟ فذروا ما ركه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ونزل فيهم: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما حل الله لكم " قال: من الطاعم والشارب والجماع " ولا تعتدوا " قال: في قطع المذاكر " إن الله لا يحب لمعتدين " قال: للحلال من الحرام.
وعن ثابت قال:
كان عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود جالسين بتحدثان فقال له عبد الرحمن: ما يمنعك أن تزوج؟ فقال له المقداد: زوجني إنك. قال: فاغلظ له وجبهه، فسكت المقداد عنه. قال: ولم يصب أحداً منهم غم ولا غيظ ولا فتنة إلا شكى ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قال: وقام المقداد فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنظر إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعرف الغم في وجهه، فقال: ما شأنك يا مقداد؟ قال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، كنت عند عبد الرحمن بن عوف جالساً فقال لي: ما منعك يا مقداد أن تزوج؟ فقلت له: زوجني أنت ابنتك، فاإلظ ي وجبهني. فقال له(25/218)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لكني أزوجك - ولا فخر - ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب. قال ثابت: وكان بها من الجمال والعقل والتمام مع قرابتها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن ضباعة بنت الزبير - وكانت تحت المقداد بن عمرو - قالت: إنما كان الناس إنما يذهبون فرطاليوم والليلة - وفي حديث: اليوم واليومين والثلاثة - فيبعرون كل تبعر الإبل، فلما كان ذات يوم خرج المقداد لحاجته، حتى أتى بقيع الخبجبة، وهو بقيع الغرقد، فدخل خربة لحاجته، فبينا هو جالس إذ أخرج جرذ من حجر ديناراً، فلما يزل يخرج ديناراً ديناراً حتى أخرج سبعة عشر ديناراً، ثم أخرج طرف خرقة حمراء، قال المقداد: فقمت فأخذتها فوجدت فيها ديناراً فقمت ثمانية عشر ديناراً، فاخذتها فخرجت بها حتى جئت بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته خبرها، قال: فقال هل أتبعك يدك الجحر؟ قال: قلت لا والذي بعثك بالحق. قال: لا صدقة فيها، بارك الله لك فيها. قالت ضباعة: فما فني آخرها حتى رأيت غرائر الورق في بيت المقداد.
وعن بريدة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أمرني الله عز وجل بحب أربعة من أصحابي. قال: وأخبرني أنه يحبهم: علي منهم، وأبو ذر، وسلمان، والمقداد الكندي رضي الله عنهم.
وعن علي، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ألا أن الجنة اشتاقت إلى أربعة من أصحابي. فأمرني ربي أن أحبهم: فانتدب صهيب، وبلال بن رباح، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر؛ فقالوا: يا رسول الله! من هؤلاء الأربعة حتى نحبهم؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عمار! أنت عرفك الله المنافقين، وأما هؤلاء الأربعة فأحدهم علي بن أبي طالب، والثاني المقداد بن الأسود الكندي، والثالث سلمان الفارسي، والرابع أبو ذر الغفاري.
وعن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لكل نبي سبعة نقباء نجباء، وإني قد أعطيت أربعة عشر نقيباً: علياً،(25/219)
وابنيه، وحمزة، وجعفراً، وأبا بكر، وعمر، وابن مسعود، وحذيفة، والمقداد، وسلمان، وعماراً، وأبا ذر، وبلالاً.
وفي حديث آخر: وإني أعطيت أربعة عشر وزيراً نقيباً نجيباً، وسبعة من قريش وسبعة من المهاجرين.
وعن سلمان قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا سلمان! امض إلى فاطمة، فإن لها إليك حاجة. فجئت، فاستأذنت عليها، فإذا هي جالسة في وسط الدار، فلما نظرت إلي تبسمت فقالت: أبشرك يا سلمان! فقلت بشرك الله بخير يا مولاتي. قالت صليت البارحة وردي، فأخذت مضجعي فبينا أنا بين النائمة واليقظانة، إذ بصرت بأبواب السماء قد فتحت، وإذا ثلاثة جوار قد هبطن من السماء، لم أر أكمل منهن جمالاً! فقلت لإحاهن: من أنت؟ قالت أنا المقدودة، خلقت للمقداد بن الأسود الكندي. فقلت للثانية: من أنت؟ قالت: أنا ذرة، خلقت لأبي ذر الغفاري. قلت للثالثة: من أنت فقالت: أنا سلمى خلقت لسلمان الفارسي. فأعجبني جمالهن! قلت: فما لعلي بن أبي طالب منكن زوجة؟ فقلن: مهلاً إن الله عز وجل يستحي منك أن يغيرك في علي بن أبي طالب، فأنت زوجته في الدنيا وزوجته في الآخرة.
وعن جبير بن نفير قال:
جاءنا المقداد بن الأسود لحاجة فقلنا: اجلس عافاك الله، نطلب لك حاجتك، فجلس فقال: لعجب من قوم مررت بهم آنفاً يتمنون الفتنة! وقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن السعيد لمن جنب الفتن - فرددها ثلاثاً - ولمن ابتلى فصبر. وأيم الله، لا أشهد على أحد أنه من أهل الجنة حتى اعلم على ما يموت عليه، بعد حديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لقلب ابن آدم أسرع انقلاباً من القدر إذا استجمعت غلياً.(25/220)
وعنه قال: جلسنا إلى المقداد بن السود يوماً، فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت. قال: فاستغضب المقداد، فجعلت أتعجب، ما قال الرجل إلا خيراً! ثم أقبل عليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى شيئاً غيبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه؟ والله لقد حضر رسول الله حروف أقوام أكبهم الله على من أخرهم في جهنم، لم يعينوه ولم يصدقوه، أو لا تحمدون الله أن أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم؟ مصدقون لما جاء به نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كفيتم البلاء بغيركم؛ والله لقد بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أشد حال بعث عليه نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون أن ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان يفرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى إن كان أرجل ليرى والده أو ولده أو جده كافراً وقد فتح الله قفل قلبه الوالد وولده، حتى إن كان الرجل ليرى والده أو ولده أو جده كافراً وقد فتح الله قفل قلبه لإيمان - يعني أنه إن ما يعني الكافر ودخل النار فلا تقر عينه - وهو يعلم أنه مات كان في النار؛ وإنها التي قال الله: " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ".
وعن السائب بن يزيد قال: صحبت عبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن الأسود، فلم أسمع أحداً منهم يتحدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا أني سمعت طلحة بن عبيد الله يتحدث عن يوم أحد.
وعن كريمة ابنة المقداد عن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قالت: كنت أنا وزوجي المقداد وسعد بن أبي وقاص على فراش، وعلينا خميل واحد.
وعن كريمة أن المقداد أوصى للحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب، لكل واحد منهما بثمانية عشر ألف درهم، وأوصى لأزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكل امرأة منهن بسبعة آلاف درهم، فقبلوا وصيته.(25/221)
شرب المقداد بن الأسود دهن الخروع فمات، ولما مات بكى عليه عثمان بعد موته. فقال الزبير بن العوام وقيل ابن الزبير: من البسيط
لا ألفينك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي مازودتني زادي
وكانت وفاة المقداد بالجرف - على ثلاثة أميال من المدينة - فحمل على رقاب الرجال حتى دفن بالبقيع، وصلى عليه عثمان بن عفان سنة ثلاث وثلاثين وعرمه سبعون سنة أو نحوها.
المقدام بن معدي كرب بن عمرو
ابن يزيد بن سيار بن عبد الله بن وهب بن الحارث بن معاوية ويقال: المقدام بن معدي كرب بن يزيد بن معدي كرب بن سلمة ابن عبدك الله بن وهب بن الحارث، أبو كريمة، ويقال أبو يزيد ويقال أبو صالح، ويقال أبو بشر، ويقال أبو يحيى الكندي صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم دمشق على معاوية.
قال المقداد أبو كريمة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليلة الضيف حق واجب، فمن أصبح بفنائه فهو دين له، إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه.(25/222)
قال أبو يحيى الكلاعي: أتيت المقدام في المسجد فقلت له: يا أبا يزيد! إن الناس يزعمون أنك لم تر رسول الله حروف. قال: سبحان الله! والله لقد رأيته وأنا أمشي عمي، فاخذ بأذني هذه فقال لعمي: أترى هذا يذكر أمة وأباه؟ فقلنا له: حدثنا بشيء سمعته من رسول الله. فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يحشر السقط إلى الشيخ الفاني، المؤمنون منهم أبناء ثلاث وثلاثين سنة - وفي رواية: أبناء ثلاثين سنة - في خلق آدم وحسن يوسف، وقلب أيوب، مرداً مكلحين، أولي أفانين. فقلت هل: فكيف بالكافر؟ قال: يعظم للنار حتى يصير جلده أربعين باعاً، وحتى يصير أب من أنيابه مثل أحد.
وعن المقدام عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
من ترك كلاً فإلى الله ورسوله - وربما قال: فإلينا - ومن ترك مالاً فلوارثه، والخال وارث من لا وارث له، وأنا وارث من لا وارث له، أرثه وأعقل عنه.
وفي رواية: والخال وارث من لا وارث له، يفك عنه ويرث ماله.
وعن خالد بم معدان قال: وقد المقادم بن معدي كرب وعمرو بن الأسود إلى معاوية، فقال معاوية للمقدام: أعملت أن الحسن بن علي توفي؟ فرجع المقدام، فقال له معاوية: ارتاها مصيبة؟ فقال: ولم لا أراها مصيبة، وقد وضعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجرة فقال: هذا مني وحسين من علي.
وعن المقدام قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: افلحت يا قديم إن مت ولم تكن أميراً ولا جابياً ولا عريفاً.(25/223)
توفي المقدام بن معدي كرب سنة سبع وثمانين وهو ابن إحدى وتسعين سنة بالشان. وقيل توفي سنة وثمانين.
مكحول بن دبر
ويقال ابن أبي مسلم بن شاذل بن سند بن سروان بن بزدك ابن يغوث بن كسرى، أبو عبد الله الكابلي من سبي كابل مولى لامرأة من هذيل، وقيل لامرأة من قريش - ويقال إنه من الأنباء لم يملك - فقيه أهل دمشق.
حدث مكحول عن أم أيمن قالت: أوصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض أهله: لا تشرك بالله شيئاً وإن عذبت وحرقت، أطع والديك، وإن أمراك أن تخرج من كل شيء هو لك فاخرج منه، لا تترك صلاة عمداً، فإنه من ترك الصلاة عمداً فقد برئت منه ذمه الله؛ إياك والخمر فإنها مفتاح كل شر، إياك والمعصية فإنها كسخط الله، لا تفر يوم الزحف وإن أصاب الناس موتان، لا تنازع الأمر أهله، وإن رأيت أن لك؛ أنفق من طولك على أهل بيتك، ولا ترفع عصاك عنهم، أخفهم في الله عز وجل.(25/224)
وفي حديث آخر عنه مرسلاً: وإذا كنت في قوم فكثر فيهم القتل والموت فاثبت.
وكان مكحول يقول بالقدر، وكان ضعيفاً في حديثه وروايته.
وكان مكحول إذا رمى يقول: أنا الغلام الهذلي. كان مولى امرأة من هذيل. وقيل: كان عبداً لسعيد بن العاص، فوهبه لمرأة من هذيل. وقيل: لامرأة من قريش فأعتقته.
واختلف في ولائه، فقيل: هو لامرأة من هذيل فأعتقته بمصر، وكان نوبياً. وقيل: إنه من مصر، ويقال: إنه من الفرس، ومن سبي الفرس.
وقيل: كان اسم أبيه سهراب. وكان مكحول يكني أبا مسلم، وكان فقيهاً عالماً.
وقيل: أصله من هراة، وكان جده شاذل من أهل هراة فتزوج ابنة ملك من ملوك كابل ثم هلك عنها وهي حامل، فانصرفت إلى أهلها فولدت سهراب، فلم يزل في أخواله بكابل حتى ولد له مكحول، فلما ترعرع سبي من صثمة فوقع إلى سعيد بن العاص، فوهبه لامرأة من هذيل فأعتقته.
وشاذل بذاك معجمة.
قال مكحول: كنت لعمرو بن سعيد أو لسعيد بن العاص فوهبني لرجل من هذيل بمصر، فانعم علي بها، فما خرجت من مصر حتى ظننت أنه ليس بها علم إلا وقد سمعته، ثم قدمت المدينة المدشنة، فما خرجت منها حتى ظننت أنه ليس بها علم إلا وقد سمعته، ثم لقيت الشعبي فلم أر مثله.
قال مكحول: عتقت بمصر، فلم أدع بها علماً إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت العراق، فلم أدع بها علماً إلا حويت عليه فميا أرى، ثم أتيت المدينة، فلم أدع بها علماً إلا حويت عيه فيما أرى، ثم أتيت الشام فعربلتها، كل ذلك أسأل عن النفل، فلم أجد أحداً يخبرني عنه،(25/225)
حتى مررت بشيخ من بني تميم يقال له زياد بن جارية جالساً على كرسي، فسألته فقال: حدثني حبيب بن مسلمة قال: شهدت رسول الله حروف نفل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث.
قال مكحول: طبقت الأرض كلها في طلب العلم.
قال مكحول: رأيت أنساً فقلت: رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أسلم عليه ولا أسله عن شيء! فسلمت عليه وسألته.
قال أبو مسهر: لم يلق مكحول أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أنس بن مالك، لم يسمع منه إلا حديثاً واحداً.
قال الزهري: العلماء أربعة: سعيد بن المسيب بالمدينة، وعامر الشعبي بالكوفة، والحسن بن أبي الحسن بالبصرة، ومكحول بالشام.
وعن إسماعيل بن أمية قال: قال لي مكحول: كل ما أحدثك به، أو عامة ما أحدثك به فهو عن سعيد بن المسيب أو الشعبي.
قال مكحول: اختلفت إلى شريح ستة أشهر لا أسأله عن شيء، أكتفي بما أسمعه يقضي.
كان سليمان بن موسى يقول: إذا جاءنا العلم من الحجاز عن الزهري قبلناه، وإذا جاءنا من العراق عن الحسن قبلناه، وإذا جاءنا من الجزيرة عن ميمون بن مهران قبلناه، وإذا جاءنا من الشام عن مكحول قبلناه(25/226)
قال سعيد: فكل هؤلاء الأربعة علماء الناس في خلافة هشام.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لمامات العبادلة: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرة بن العاص، صار الفقه في البلدان كلها إلى الموالي، وكان فقيه أهل مكة عطاء بن أبي رباح، وفقيه أهل الكوفة إبراهيم، وفقيه أهل اليمن طاوس، وفقيه أهل السام مكحول، وفقيه أهل اليمامة يحيى بن أبي كثير، وفقيه أه البصرة الحسن، وفقيه أهل الخراسان عطاء الخراساني، إلا المدينة فإن الله خصها بقرشي فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن السميب غير مدافع.
وكان مكحول رجلاً أعجمياً لا يستطيع أن يقول قل. يقول كل، فكلما قال بالشام قبل منه.
قال الخطيب: معناه أنه عندهم مع عجمة لسانه بمحل الأمانة وموضع الإمامة يقبلون قوله، لم يرد أنهم كانوا يحكون لفظه.
جلس مكحول وعطاء بن أبي رباح يفتيان الناس، فكان لمكحول الفضل عليه، حتى بلغا جزاء الصيد، فكان عطاء أنفذ في ذلك منه.
قال رجاء بن أبي سلمة: سألت الوليد بن هشام عما غيرت النار فقال: إني لست بالذي أسأل. قال: قلت على ذلك؟ قال: كان مكحول وكان ما علمت فقيهاً يتوضأ. فحج فلقي من أثبت له الحديث أنه ليس فيه وضوء، فترك الوضوء.
قال مكحول: ما عملت بعد أن سئلت أكثر مما عملت قبل أن أسأل.
وعن مكحول: أنه كان إذا سئل لا يحدث حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذا رأي، والرأي يخطئ ويصيب.(25/227)
قال تميم بن عطية الهنسي: كثيراً ما كنت أسمع مكحولاً يسأل فيقول: ندانم. بالفارسية: لا أدري.
قيل للزهري: أقتادة أعلم عندكم أم مكحول؟ فقال: لا بل قتادة، ما كان عند مكحول إلا شيء يسير.
قال سعيد بن عبد العزيز: لم يكن عندنا أحسن سمتاً في العبادة من مكحول وربيعة بن يزيد.
وعن مكحول قال: لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن إلي القضاء، ولأن ألي القضاء أحب إلي من أن ألي بيت المال.
قال مكحول: إن لم يكن في مجالسة الناس ومخالطتهم خير، فالعزلة أسلم.
قال مكحول: إن كان الفضل في الجماعة فإن السلامة في العزلة.
وعن مكحول قال: إياك ورفيق السوء، فإن الشر للشر خلق.
قال سعيد بن عبد العزيز: رأيت في خاتم مكحول: رب أعذ مكحولاً من النار. فضة منه.
قال مكحول: رأيت رجلاً يصلي، فلما ركع وسجد بكى، فاتهمته أنه يرائي ببكائه، فأحرمت البكاء سنة.
وعن مكحول قال: أرق الناس قلوباً أقلهم ذنوباً.(25/228)
كان مكحول يقول: الله انفعنا بالعلم، وزينا بالحلم، وجملنا بالتقوى، وكرمنا بالعافية.
قال أبو هريرة - رجل من أهل الشام -: جلسنا إلى مكحول فرأيناه مغتماً، فأقبلنا نحدثه، فما زادنا على أن قال: بأي وجه تلفون ربكم؟ زهدكم في أمر فرغبتم فيه، ورغبكم في أمر فزهدتم فيه، فبأي وجه تلقون ربكم.
قال عمرة بن ميمون: كنت مع أبي ونحن نطوف بالكعبة فلقي أبي شيخ فعانقه أبي، ومع الشيخ - قال - نحو مني، فقال له أبي: من هذا؟ قال: ابني. فقال: كيف رضاك عنه؟ قال: ما بقيت خصلة يا أبا أيوب من خصال الخير إلا وقد رأيتها فيه إلا واحدة. قال: وما هي؟ قال: كنت أحب أن يموت فأوجز فيه. قال: ثم فارقه أبي. قال: فقلت لأبي: من هذا الشيخ قال: هذا مكحول.
وعن ابن جابر قال: أقبل يزيد بن عبد الملك بن مروان إلى مكحول في أصحابه، فلما رأيناه هممنا بالتوسعة له فقال مكحول: مكانكم، دعوة يجلس حيث أدرك، يتعلم التواضع.
وعن مكحول قال:
أربع من كن فيه كن له، وثلاث من كن فيه كن عليه، أما الأربعي اللائي من كن فيه كن له فالشكر، والإيمان، والدعاء، والآستغفار، قال الله عز وجل: " ما يفعل اله بغذابكم إن شكركتم وآمنتم "؛ وقال الله عز ولح: " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون "؛ وقال الله عز وجل: " قل ما يعبأي بكم ربي لولا جعاؤكم ". وأما الثلاث اللائي من كن فيه كن عليه: فالمكر والبغي والنكث،(25/229)
قال الله عز وجل: " ومن كث فإنما ينكث على نفسه " وقال عز وجل: " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله "، وقال الله عز وجل: " إنما بغيكم على أنفسكم ".
كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل الشام: أن انظروا الأحاديث التي رواها مكحول في الديات أن أحرقوها، قال: فأحرقت.
كان الزهري ومكحول يقولان: أمروا الأحاديث كما جاءت.
قال أبو عبيد مولى يلميان: ما سمعت رجاء بن حيوة يلعن أحداً إلا رجلين: يزيد بن المهلب ومكحولاً.
وقال علي بن أبي حملة: كنا بأرض الروم والناس يمرون في الغلس وفينا رجل يقصض يكنى أبا شبية، فدعا فقال فيما يقول: اللهم ارزقنا طيباً، واستعملنا صالحاً. فقال مكحول وهو في القوم: إن الله لا يرزق إلا طيباً؛ ورجاء بن حيوة وعدي بن عدي ناحية لا يعلم بهما مكحول، فقال أحدهما لصاحبه: أسمعت الكلمة؟ قال: نعم. فقيل لمكحول: إن رجاء بن حيوة وعدي بن عدي قد سمعا قولك، فشق ذلك عليه فقال له عبد الله بن يزيد الدمشقي: أنا أكفيك رجاء. فلما نزل الناس العسكر جاء عبد الله بن يزيد حتى دنا من منزل رجاء كأنه يطلب أصحابه، فنظر إليه رجاء - وكان يعرفه - فعدل إليه فقال له: إني أطلب أصحابي. قال: نحن أصحابك. فجاء حتى نزل، فأجرى ذكر مكحول، فقال له رجاء: دع عنك مكحولاً، أليس هو صاحب الكلمة؟ فقال له عبد الله بن يزيد: ما تقول رحمك الله في رجل قتل يهودياً فأخذ منه ألف دينار، فكان يأكل منه حتى مات، أزرق رزقه الله إياه؟ قال رجاء: كل من عند الله. قال علي: وأنا شهدتها حين تكلما.
قيل: إن مكحول لم يكن قدرياً. وقيل: كان قدرياً ثم رجع.(25/230)
وعن مكحول قال: كنا أجنة في بطن أمهتنا فهلك من هلك ونجونا فيمن نجا، ثم كنا أطفالاً هلك من هلك ونجونا فيمن نجا، ثم كنا يفعة فهلك من هلك ونجونا فيمن نجا، ثم كنا شباباً فهلك من هلك ونجونا فيمن نجا، ثم جاء الشمط - لا أبالك - فماذا ننتظر.
وفي آخر بمعناه: فلن نزل ننتقل من حالة إلى حالة حتى صرنا شيوخاً - لا أبالك - فما ننتظر، أترى هل بقيت لك حالة تنتقل إليها إلا الموت؟ وقال مكحول: الجنين في بطن أمه لا يطلب ولا يحزن، فيأتيه الله برزقه من قبل سرته، وغذاؤه في بطن أمه من دم حيضها، فمن ثم لا تحيض الحامل، فإذا سقط إلى الأرض استهل قائماً استهلالة إنكار، لمانه وقطع سرته، وحول رزقه إلى ثدي أمه من فيه، ثم حوله بعد ذلك إلى العسي له، ويتناوله بكفه، حتى إذا اتسهل وعقل خاف لرزقه؛ يا بن آدم! أنت في بطن أمك وحجرها يرزقك الله، حتى إذا عقلت ونشئت قلت رزقي؟! فما بعد العقل والسر إلا الموت أو التقل؟ ثم قرأ: " الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار ".
كتب الحسن إلى مكحول - وكان نعي له - فكان في كتابه: واعلم رحمنا الله وإياك أبا عبد الله، أنك اليوم أقرب إلى الموت يوم، عيت، ولم يزل الليل والنهار(25/231)
سر يعين في نقص الأعمار، وتقريب الآجال، هيات هيات، قد صحبا نوحاً وعاداً وثموداً وقروناً بين ذلك كثيراً، فأصبحوا قد قاموا على ربهم، ووردوا على أعمالهم، فأصبح الليل والنهار عضين جديدين. لم يبلهما ما مراً به، مستعدين لمن بقي بمثل ما أصاباً به من مضى، وأنت نظير إخوانك وأقرانك وأشباهك مثلك كمثل جسد نزعت قوته، فلم يبق إلا حشاشة نفسه، ينظر للداعي فنعود بالله من مقته إيانا فيما نعظ به مما نقص عنه.
قال عبد ربه بن صالح: دخل أصحابنا على مكحول في مرضه الذي مات فيه، فقال له: أحسن الله عافيتك يا أبا عبد الله. فقال مكحول: اللحاق بمن ترجو خيره خير من المقام عند من لا تأمن شره.
وكان مكحول الغلب عليه الحزن، فدخلوا عليه في مرض موته وهو يضحك، فقيل له في ذلك، فقال: ولم لا أضحك وقد دنا فراق من كنت أحذره، وسرعة القدوم على من كنت أرجوه وأؤمله.
توفي مكحول سنة اثنتي عشرة ومئة، وقيل سنة ثلاث عشرة، وقيل سنة أربع عشرة، وقيل: سنة ست عشرة، وقيل: سنة ثمان عشرة.
مكلبة بن حنظلة بن حوية
شهد الروم وقال: إني لفي المسيرة - يعني باليرموك - إذ مر بنا الروم رجال على خيل من خيول العرب، لا يشبهون الروم، وهم أشبه شيء بنا، فما أنسى قول قائل منهم: النجاء يا معشر العرب النجاء! الحقوا بوادي القرى ويثرب وهو يقول: من مجزوء الرجز(25/232)
أكل حي منكم مغير
نحن لنا البلقاء والسدير
هيهات يأتي ذلك الأمير
والملك المتوج المحبور
قال: فاحمل عليه، وحمل علي، فاضربنا بسيفنا فلم يغنيا شيئاً، ثم إني اعتنقته فخررنا جميعاً واعتركنا ساعة، ثم تحاجزنا. قال: فيضرب بعنقه بادياً منها مثل الشراك، فمشيت إليه، فاعتمدت ذلك الموضع بسيفي، فوالله لقطعته إلى ترقوته. قال: فأقبلت إلى فرسي فإذا هو قد غار، وإذا قومي قد حبسوه علي، فأقبلت حتى أركبه. قال: وجازنا الروم.
مكي بن أحمد بن سعدويه
أبو بكر البرذعي أحد المحدثين.
حدث عن محمد بن يوسف الهروي بسنده إلى جدامة الأسدية قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، حتى ذكرت أن فارس والروم يفعلون ذلك فلا يضر أولادهم.
قال ملك: والغيلة أن يصيب الرجل امراته وهي ترضع ولدها.
وحدث مكي بن أحمد عن العباس بن محمد بن منصور - يعني الفرنداباذي - بسنده إلى أبي هريرة قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رجل يدعو بهذه الدعوات. فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد دعوت بدعوات ما دعا بهن أحد إلا استجبت له، وهو أن يقول: اللهم أستغفرك وأسألك(25/233)
التوبة من مظالم كثيرة لعبادك لعي، اللهم! فأيما خلق من خلقك كانت له قبلي مظلمة ظلمتها غياه - في ماله أو بدنه أو عرضه أو دمه، قد غاب أو مات، نسيته أو فرطته - عمداً أو خطأ، لا أستطيع أداءها إليه وتحللها منه، فإني أسألك يا رباه يا رباه يا رباه! يا سدياه يا سيداه سا سيداه! أسألك أن ترضهم عني يما شئت وكيف شئت، ثم تهبها لي من لدنك، إنك واسع لذلك كله، واجد له، قادر عليه، يا رب! وما تصنع بعذابي وقد وسعت رحمتك كل شيء، يا رب! وما ينقصك أن تعطيني جميع ما سألتك وأنت واحد، واجد بكل خير، وإنما أمرك لشيء إذا أردت أن تقول له كن فيكون؛ يا رب! وما عليك أن تكرمني بجنتك، ولا تهينني بعذابك، وأنت أرحم الراحمين؛ يا رب! أعطني سؤلي، وأنجز لي موعدي، إنك قلت ادعوني أستجب لكم؛ فهذا الدعاء ومنك الإجابة، غير مستكبر ولا مستنكف، راغب راهب، خاضع خاشع، مسكين راج لثوابه، خائف من عقابه، فاغفر لي إله العاليمن.
توفي مكي سنة أربع وخمسين وثلاث مئة.
مكي بن إبراهيم بن بشير بن فرقد
أبو السكن الحنظلي التميمي البرجمي البلخي قدم الشام ومصر وسمع بهما.
حدث عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة قال: خرجنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بير فقال رجل من القوم: أسمعنا يا عامر من هنياتك. فحدا بهم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من السائق؟ قالوا: عامر. فقال: رحمه الله. فقالوا: يا رسول الله! هلا امتعتنا به. فأصيب صبيحة ليلته، فقال القون: حبط عمله،(25/234)
قتل نفسه، فلما رجعت - وهن يتحدثون أن عامراً حبط عمله - فقال: كذب من قالها، إن له لأجرين اثنين، إنه لجاهد مجاهد، وأي قتيل يزيده عليه؟ وحدث عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على النجاشي، فكبر عليه أربعاً.
قال مكي بن إبراهيم: رأيت كروماً بالرملة، فقيل لي: هذه كروم من غرس إبراهيم بن أدهم، يتعرف فيها البركة إلى اليوم.
توفي مكي بن إبراهيم سنة أربعي عشرة ومئتين، وقيل سنة خمس عشرة، وذكر أنه ولد سنة ست وعشرين ومئة.
قال مكي: حججت ستين حجة، وتزوجت ستين امرأة وجاوزت بالبيت عشر سنين وكتبت عن سبعة عشر نفساً من التابعين، ولو علمت أن الناس يحتاجون إلي لما كتبت دون التابعين عن أحد.
قال مكي بن إبراهيم: حضرت مجلس بن إسحاق، فإذا هو يروي أحاديث في صفة الله تعالى، لم يتحتملها قلبي، فلم أعد إليه.(25/235)
قال مكي بن إبراهيم: قطعت البادية من بلخ خمسين مرة حاجاً ودفعت في كراء بيوت مكة ألف دينار ومئتي دينار ونيفاً.
وكان مكي بن إبراهيم ثقة، مأموناً، ومات وقد قارب مئة سنة.
مكي بن إبراهيم بن محمد بن سهلان
أبو الحسن الشيرازي الحافظ حدث عن عمر بن القاسم الفرضي بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المعدة حوض البدن، والعروق إليها واردة، فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة، وإذا سقمت المعدة صدرت العروق بالسقم.
قيل: إنه مات سنة أربع وثلاثين وأربع مئة.
مكي بن جابار بن عبد الله بن أحمد
أبو بكر الدينوري القاضي الحافظ حدث عن عبد الرحمن بن عمر بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتقوا النار ولو بشق تمرة.
وحدث عن أبي القاسم صدقة بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الملك مروان القرشي بسنده إلى أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي.(25/236)
وحدث عن محمد بن عوف بسنده إلى مكحول قال: ما من أمة يكون فيها سبعة وعشرون رجلاً فيستغفرون الله كل يوم سبعة وعشرين مرة إلا لم يصب الله تلك الأمة بعذاب العامة.
توفي مكي بن جابار سنة ثمان وستين وأربع مئة.
مكي بن الحسن بن المعافي
ابن هارون بن علي، أبو الحزم السلمي الجبيلي، من أهل جبيل حدث عن أبي القاسم بن أبي العلاء بسنده إلى عبد الله بن ظالم المازني قال: كنت إلى جنب سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فلما أن خرج معاوية من الكوفة استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة. قال عسيد بن زيد: فقام فأخذ بيده فتبعته، فقال: أشهد على التسعة أنهم في الجنة، ولو شهدت على العاشر لم آثم. قلت: ومنذاك؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أثبت جراء، فإنه ليس ليك إلا نبي أو صديق أو شعيد. قال له: ومن هم يا رسول الله؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن مالك. قال: ثم سكت. قلت: من العاشر؟ قال: أنا.
ذكر أبو الحزم أن مولده سنة ثمان وثلاثين وأربع مئة بجبيل. وقيل سنة أربعين وأربع مئة. وتاوفي سنة إحدى وثلاثين وخمس مئة.(25/237)
مكي بن عبد السلام بن الحسين
ابن القاسم بن محمد، أبو القاسم النصاري المقدسي، والمرعوف بابن الرميلي قدم دمشق سنة خمس وثامنين وأربع مئة.
روى عن أبي محمد عبد العزيز بن أحمد النصيبي الزاهد، بسنده إلى إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: خطبنا علي فقال: من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب. قال: صحيفة فيها شيء من أسنان الإبل والجراحات وفيها: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المدينة حرام ما بين غير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً أو آدة محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه عدلاً ولا صرفاً، وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم.
ولد مكي بن عبد السلام في عاشوراء سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة.
وقتل شهيداً يوم دخلت الفرنج بيت المقدس في شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة.(25/238)
مكي بن محمد بن الغمر
أبو الحسن التميمي المؤدب الوراق حدث عن أبي بكر احمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي بسنده إلى أبي هريرة عن أبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه، فأراد الظهور، لا يضع يده في الإناء حتى يغسلها، فإنه لا يدري أين باتت يده.
وحدث عن أبي الخير أحمد بن علي الحمصي بسنده إلى أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه قال: من البسيط
ما مستعير كتابي إنه علق ... بمهجتي وكذلك الكتب بالمهج
في حل من نسخه إن شئت تنسخه ... وأنت في حبسه في أضيق الحرج
توفي مكي بن محمد سنة ثمن عشرة وأربع مئة في رمضان. وكان ثقة مأموناً. وقيل: سنة اثنتي عشرة.
ملحان بن زياد بن غطيف
ويقال ملحان بن عطيف بن حارثة بن سعد بن الحشرج ابن امرئ القيس بن عدي بن أخزم أخو عدي بن حاتم الطائي لأمه أدرك سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرج إلى الشام مجاهداً، وشهد فتح دمشق، وشهد صفين مع معاوية.
وكان ملحان أتى أبا بكر في جماهة من طيئ - خمس مئة أو ست مئة - فقال به: إنا(25/239)
أتيناه رغبة في الجهاد وحرصاً على الخير، ونحن الحي الذي تعرف، قاتلناه معكم من ارتد منا حتى أقر بمعرفة كان ينكر؛ وقتاتلنا معك من ارتد منكم حتى أسلموا طوعاً وكرهاً، فسرحنا في آثار الناس، واختر لنا أميراً صالحاً نكون معه.
وكان قدومهم على أبي بكر بعد مسير الأمراء كلهم إلى الشام، فقال له أبو بكر: قد اخترت لك أفضل أمرائنا وأقدم المهاجرين هجرة، الحق بابي عبيدة بن الجراح، فقد رضيت لك صحبته، فنعم الرفيق في السفر، ونعم الصاحب في الحضر.
وقال ملحان لأبي بكر: رضيت بخيرتك التي اخترت لي. فلحقه بالشام، وشهد معه مواطنه كلها، لم يغب عن يوم منها.
مليح بن وكيع بن الجراح
ابن مليح بن عدي بن فرس بن حمحمة الرؤاسي الكوفي حدث عن أبيه بسنده إلى إسحاق بن عبد الله القصار قال: سألت نافعاً عن المسح على الخفين فقال: حدثني عبد الله بن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة. قال نافع: فقلت لابن عمر: وإن خرج من البراز؟ قال: وإن خرج من البراز يا بن أم نافع.
وحدث عن أبيه بسنده إلى عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الذين يقطعون يعني السدر يصبون على رؤوسهم صباً.
وروى عن أبيه أيضاً لما قدم المدينة قال: أمرني فصليت في المسجد ركعتين ونحر بقرة أو جزوراً.
وحدث عن بكر بن محمد العابد أنه قال: ينبغي أن يكون المؤمن من السخاء هكذا. وحثا بيديه.
ومليح: بفتح الميم وكسر اللام، توفي سنة تسع وعشرين ومئتين. وكان ثقة.(25/240)
ممطور أبو سلام الأعرج
الأسود الحبشي ينسب إلى حي من اليمن لا إلى الحبشة، من أهل دمشق، بطن من حمير.
حدث عن أبي أمامة عن رسول الله حروف أنه قال: ثلاثة لا يقبل منهم صرف ولا عدل: عاق، ومنان ومكذب بقدر.
وحدث عن ثوبان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن حوضي كما بين عدن إلى عمان، أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك أكاويبه كنجوم السماء، من شرب مه شربة لم يطمأ أبداً؛ وأكثر الناس وروداً عليه يوم القيامة المهاجرون. قلنا: من هم يا رسول الله؟ قال: الشعث رؤوساً الدنس ثياباً، الذين لا ينكحون المتمنعات، ولا تفتح لهم أبواب السدد، الذين يعطون الحق الذين عليهم ولا يعطون كل الذي لهم.
وفي رواية أخرى: ا، عمر بن عبد العزيز بعث إلى أبي سلام فحمل على البريد، فلما قدم قال: يا أمير المؤمنين! لقد شق علي محمل البريد. وحدثه حديث ثوبان. وفي آخره: فقال عمر بن عبد العزيز: لا جرم، لقد فتحت لي أبواب السدد، ونكحت المتمنعات فاطمة بنت عبد الملك، إلا أن يرحمني الله، لا جرم لا أدهن رأسي حتى يشعث، ولا أغسل ثوبي الذي يلي جلدي حتى يتسخ.
انتقل أبو السود من حمص إلى دمشق وقال: البركة تضعف فيها مرتين.(25/241)
ويقال أبو سلام النوبي أيضاً، بنون مضمومة باء موحدة.
قال أبو سلام: كنت إذا قدمت بيت المقدس نزلت على عبادة بن الصامت، فدخلت المسجد، فوجدته وكعباً جالسين، فسمعت كعباً يقول: إذا كانت سنة ستين فمت كان عزباً فلا يتزوج.
قيل لأبي مسهر: فسمع من كعب؟ قال: نعم.
منبه بن عثمان اللخمي الدمشقي
حدث عن الأوزعي بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا سها أحكم في صلاته فلا يدري أزاد أم نقص فليسجد سجدتين وهو جالس.
وحدث منبه بن عثمان عن ثور بن يزيد بنده إلى النعخان بن بشير قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الحلال بين والحرام بين وبين الحلال والحرام أمور مشتبهات، لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام، يدعهن المرء، يكون أشد استبراء لعرضه ودينه، ومن يقع فيهن يوشك أن يقع في الحرام، كمن يرتع إلى جانب الحمى يوشك أن يرتع في الحمى، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه.
توفي منبه بن عثمان بعد سنة اثنتي عشرة بيسير، وولد سنة ثلاث عشرة ومئة.
منتصر بن أبي الدرداء
ذكر أن رجلاً أرسل بنتاً له في حاجة إلى السوق، فلقيها رجل صوفي، فسألها أن تكشف وجهها، فأبت، فقال: بحبك له إلا كشفت جهك. فكشفته صاح الصوفي ووقع مغشياً عليه. وجاءت الجارية إلى أبيها مذعورة فسألها عن قصتها؟ فأخبرته فأدركته الغيرة فقال قومي اسجري التنور. فسجرته، حتى إذا حمي قال لها أبوها:(25/242)
بحبك له إلا ألقيت نفسك فيه. فاقتحمت فيه، وغط التنور عليها، حتى إذا ذهب عنه ما كان فيه قام فكشف عنها، فوجدها جالسة تمسح العرق عن وجهها، فقال لها: اخرجي يا محبة ربها.
منتصر بن عبد الله الدمشقي
حدث عن محمد بن عبد الله النيسابوري، عن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول لينس بن عبد الأعلى: يا أبا موسى! عليك بالفقه، فإنه كالتفاح الشامي يحمل من عامه.
منجى بن سليم بن عيسى بن نسطورس
أبو منصور الصوري الكاتب حدث سنة وستين وأربع مئة عن أبي محمد الحسن بن محمد بن أحمد بن جميع، بسنده إلى عبد الله بن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله.
ولد سنة أربع وأربع مئة
منخل بن منصور الجهني المشجعي
نزيل عكا.
حدث عن محمد بن حمير بسنده إلى عمران بن الحصين قال: قال رسول الله حروف: من غزا في البحر غزوة في سبيل الله - والله أعلم بمن يغزو في سبيله - فقد أدى إلى الله طاعته كلها، وطلب الجنة كل مطلب، وهرب من النار كل مهرب.
وحدث عن مروان بن معاوية بسنده إلى عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشرب قائماً وقاعداً، ويصلي حافياً ومنعلاً، وينصرف عن يمينه وشماله في الصلاة، ويصوم في السفر ويفطري.(25/243)
وحدث منخل المشجعي قال: رأيت في المنام قائلاً يقول لي: إن أردت أن تدخل الجنة فقل كما يقول مؤذن أفيق. قال: فصرت إلى أفيق، فلما أذن المؤذن قمت إليه فسألته عما يقول إذا أذن؟ فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد بها مع الشاهدين وأحملها عن الجاحدين، وأعدها ليوم اليدن، وأشهد أن الرسول كما أرسل، وأو القرآن كما أنزل، وأن القضاء كما قدر، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، عليها أحيا وعليها أموت، وعليها أبعث إن شاء الله.
المنذر بن الجارود بن عمرة بن حنش
ويقال: الجارود بن المعلى، ويقال: ابن العلاء، ويقال: إن الجارود لقب، واسمه بشر بن عمرة بن حنش بن المعلى، واسم المعلى الحارث بن زيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبة بن جذيمة بن عوف بن أنمار.
ويقال: اسم الجارود مطرف وإنما سمي الجارود لقوله:
كما جرد الجارود بكر بن وائل
وهو أشعث، ويقال أبو غياث، ويقال أبو الحكم العبدي، ولد على عهد(25/244)
سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأبيه الجارود صحبه، وقتل غازياً في خلافة عمر بأرض فارس - بعافية سنة إحدى وعشرين.
ووفد المنذر على معاوية، وكان من وجوه أهل البصرة، وكان من أصحاب علي عليه السلام. وولي إصطخر من قبله.
روت دقرة قالت: بينا أنا أطوف مع عائشة رضي الله عنها بالبيت إذ قالت لي: ناوليني ثوباً. فناولتها ثوباً فيه تصليب فقالت لي: إنا آل محمد لا نلبس ثوباً فيه تصليب.
ودقرة هذه بنت من عبد القيس، وابناها عبد الله وعبد الرحمن ابنا أذنية، وكان عبد الرحمن قاضياً لابن زساد، وقضى للحجاج بالبصرة، وأخوة عبد الله بن أذنية كان لمصعب بن الزبير على فسا ودار بجردا، وهو الذي مشى في صلح بني تميم وربيعة والأزد أيام مسعود، وكان المنذر بن الجارود هطب دقرة هذه فخاف ابناها أن تزوجه فلم تفعل.
قال الأصمعي: وقد الأحنف والمنذر بن الجارود على معاوية، فتهيأ المنذر في اللباس والخيل الجياد، وخرج الأحنف على قعود، وعليه بت، فكلما مر المنذر قال الناس: هذا(25/245)
لأحنف بن القيس! فقال المنذر: أراني إنما تزينت لهذا الشيخ.
وإنما سني الجارود لأن بلاد عبد القيس أسافت حتى بقيت للجارود شلية - والشلية: هي البقية - فبادر بها إلي أخواله من بني هند من بني شيبان، فأقام فيهم وإبله جربه، فأعدت إبلهم فهلكت، فقال الناس: جردهم بشر. فسمي الجارود. وقال الشاعر: من الطويل
جردناهم بالبيض من كل جانب ... كما جرد الجارود بكر بن وائل
وأم الجارود رملة بنت رويم أخت يزيد بن رويم أبو حوشب بن يزيد الشيباني.
وكان الجارود شريفاً في الجاهلية، وكان نصرانياً فقدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسلم في الوفد فدعاه إلى الإسلام، فقال الجارود: إني كنت على دين وإني تارك ديني لدينك، أفتضمن لي ديني؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا ضامن لك أن قد هداك الله إلى ما هة خير منه. ثم أسلم الجارود وحسن إسلامه، وكان غير مغموص عليه، وكان الجارود قد أدرك الردة، فلما رجع قومه مع المعرور بن المنذر بن النعمان قام الجارود فشهد شهادة الحق ودعا إلى الإسلام. وله من الولد المنذر وحبيب وعتاب، وأمهم أمامة بنت النعمان من الحصفات من جذيمة.
وكان ولده أشرافاً.
وكان المنذر بن الجارود سيداً جواداً ولاه علي بن أبي طالب عليه السلام إصطخر. فلم يأته أحد إلا وصله، ثم ولاه عبيد الله بن زياد ثغرة الهند، فمات سنة إحدى وستين، أول سنة إحدى وستين، وهو ابن ستين سنة.(25/246)
وقيل: إنه قتل في ولاية الحجاج، ولما ولاه عبيد الله بن زياد ثغر السند وخرج شعية عبيد الله، فتعلق لواؤه بشيء فاندق، فقال عبيد الله: إنه لله، لا يرجع والله المنذر إليكم أبداً، فمات بقصدار من أرض الهند، ولم تكن المنصورة أحدثت إذ ذاك، إنما أحدثها الحكم بن عوانة الكلبي فقال لأصحابه الشاميين: ما اسمها؟ قالوا: تدمر. فقال: دمر الله عليكم، بل اسمها المنصورة، فسميت بذلك.
المنذر بن الزبير بن العوام بن خويلد
ابن أسد ابن عبد العزى بن قصي بن كلاب أبو عثمان القرشي الأسدي وأمه أسماء ذات النظاقين بنت أبي بكر وفد على معاوية، وغزا القسطنطينية مع يزيد بن معاوية، ووفد على يزيد بن معاوية قبل الحرة.
وعن عبد الله بن زمعة: أنه كان ممن غزا القسطنطينة في ثلاثين رجلاً من قومه. قال: فأرسل إلينا حكيم بن حزام، فأتيناه وفينا المنذر بن الزبير وعبد الله بن وهب، وهو كثير المال فقال له: إني جعلت مالاً في سبيل الله، وإني أردت ان أبدأ بكم لقرابتكم وحركتكم. فقال له المنذر - وهو كثير المال -: ما أنت بالرجل يرد عيه عطاؤه. فقال: بارك الله فيك، والله ما عملت إنك لأحسن بني أبيك وجهاً، أعطني يدك. فأعكاه يده، فاخذها فقبلها ووضعها على وجهه وقال: إنه كما قلت فدعا بثلاثين صرة، في كل صرة ثلاث مئة، فدفع إلى كل رجل صرة.
كان المنذر الزبير غاضب عبد الله بن الزبير فخرج إلى الكوفة، ثم قدم على معاوية قبل ووفاته، فاجازه بألف ألف درهم، وأقطعه موضع داره بالبصرة بالكلاء التي(25/247)
تعرف بالزبير؛ وأقطعه موضع ماله بالبصرة الذي يعرف بمنذران، ومات معاوية وهو عنده قبل أن يقبض جائزته. وأوصى معاوية أن يدخل المنذر في قبره، فكان أحد من نزل في قبر معاوية، فلما أراد يزيد بن معاوية أن يدفع الجائزة إلى المنذر قيل له: تعطي المنذر هذا المال وأنت توقع خلاف أخيه لك، فتعنيه به عليك! فقال: أكره أن أرد شيئاً فعله أبي. فقيل له: أعطه ثم استسلفه منه، فإنه لا يردك عنه. فدفعه إليه ثم استسلفه منه، فأسلفه، فكان ولد المنذر يقبضون ذلك لمال بعد من ولد يزيد بن معاوية.
قال مصعب بن عثمان: فأدركت صكاً في تب محمد بم المنذر بمئتي ألف درهم بقية ذلك المال.
كانت دار المنذر بن الزبير التي في الكلاء وسوق الطير، وداره التي تعرف بالهراوة لسمرة بن جندب، فقال المنذر لمعاية: والله يا أمير المؤمنين لقد حان سمرة. فقال سمرة: يا أمير المؤمنين! مالي بالبصرة قيمة كيلو كذا. قال المنذر: فأنا آخذ ماله بالبصرة بمثة ألف درهم. فقال سمرة: قد قبلت. قال المنذر: اغد على مالك فاقبضه. فأعطاه مئة ألف درهم، وصارت الدور للمنذر بن الزبير.
قدم المنذر بن الزبير من العراق فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر بكسوة من ثياب مروية وقوهية، رقاق عتاق، بعد ما كف بصرها؛ قال: فلمستها بيدها ثم قالت: أف، ردوا عليه كسوته. فشق ذلك عليه وقال: يا أمه! إنها لا تشف. قالت: إنها إن لم تشف فإنها تصف، فاشترى لها ثياباً مروية وقوهية فقبلتها وقالت: مثل هذا فاكسني.
زوجت عائشة المنذر بن الزبير حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الرحمن غائب، فلما قدم بعثت إليه رسولها فحجبه، ثم أتته فحجبها. قال ابن أبي مليكة: فأخبرتني عائشة، فقتل لها: تريدن أن تلقينه؟ قالت: وددت. قال: قلت إنه(25/248)
الآن يأتي فيطوف، فإذا فرغ من طوافه أتى الحجر ليصلي فيه، فكوني فيه. حتى إذا أتى الحجر ليصلي فيه فأخذت بثوبت فقالت له: أي أخي! قدمت، فبعثت رسولي فحجبته، وجئت إليك فحجبتني، أرغبت عن ابن الزبير؟ قال: إني لا أرغب عنه، ولكنك قضيت علي بشيء لم تشاوريني فيه. قالت: مفا الذي تريد؟ قال: أريد أن يجعل أمرها بيدي. فبعثت إلى ابن الزبير فأعلمته بذلك. قال: قد جعلت أمرها بيده. فأخرته بذلك. قال: قد أجزت ما صنعته. فوالله ما أعدى ولا أجدى بشيء.
وخلف على حفصة بعد المنذر حسين بن علي بن أبي طالب.
تزوج الحسن بن علي حفصة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان المنذر بن الزبير قد هو بها فأبلغ الحسن عنها شيئاً، فطلقها الحسن، فخطبها المنذر، فأبت أن تزوجه وقالت: شهر بي. فخطبها عاصم بن عمر بن الخطاب، فتزوجها فرقى إليه المنذر أيضاً شيئاً، فطلقها، ثم خطبها المنذر، فقيل: تزوجيه، فيعلم الناس أنه كان يعضهك. فتزوجته، فعلم الناس أنه كذب عليها، فقال الحسن لعاصم بن عمر: انطلق بنا حتى نستأذن المنذر فندخل على حفصة، فاستأذناه فشاور أخاه عبد الله بن الزبير فقال: دعهما يدخلان عليها. فدخلا فكانت إلى عاصم أكثر نظراً منها إلى الحسن، وكانت إليه أنشط في الحديث، فقال الحسن للمنذر: خذ بيدها. فأخذ بيدها، وقام الحسن وعاصم فخرجا، وكان الحسن يهواها، وإنما طلقها لما رقى إليه المنذر، فقال الحسن وعاصم فخرجا، وكان الحسن يهواها، وإنما طلقها لما رقي إليه المنذر، فقال الحسن يوماً لابن أبي عتيق - وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي بكر وحفصة عمته -: هل لك في العتيق؟ قال: نعم. فخرجا، فمرا على منزل حفصة، فدخل إليها الحسن، فتحدثا طويلاً ثم خرج، ثم قال بعد ذلك بأيام لابن أبي عتيق: هل لك في العتيق؟ قال: نعم. فخرجا، فمرا بمنزل حفصة، فدخل الحسن، فتحدثا طويلاً، ثم خرج ثم قال الحسن مرة أخرى لابن أبي عتيق: هل لك في العقيق؟ فقال: يابن أم! ألا تقول: هل لك في حفصة.(25/249)
كتب يزيد بن معاوية للمنذر بن الزبير: إلى عبيد الله بن زياد بإنفاذ قطائعه، فأنفذها له عبيد الله وأقطعه زياد فيها، وورد على يزيد بن معاوية خلاف عبد الله بن الزبير له وإباؤه بيعته، فكتب إلى عبيد الله بنم زياد أن عبد الله بن الزبير أبي البيعة وصار إلى الخلاف، وقبلك أخوه المنذر فاستوثق منه وابعث به إلي. فورد كتابه على عبيد الله بن زيا بذلك، فأخبر المنذر بما كتب به يزيد وقال: اختر مني إحدى خلتين: إن شئت اشتملت عليك، ثم كانت نفسي دون نفسك؛ وإن شئت فاذهب حيث شئت، وأما أكتم الكتاب ثلاث ليال، ثم أظهره وأطلبك، فإن ظفرت بك بعثتك إليه. فاختار أن يكتم الكتاب ثلاث ليال. ففعل، وخرج المنذر، فأصبح بمكة صبح ثامنة من اللالي، فقال بعض من يزجر معه: من مجزوء الرجز
فاستن قبل الصبح ليلاً مبكراً
حتى إذا الصبح انجلى فأسفرا
أصبحن صرعى بالكثيب حسرا
لو يتكلمن شكون المنذرا
فسمع عبد الله بن الزبير صوت المنذر على الصفا وابن الزبير في المسجد الحرام فقال: هذا أبو عثمان حاشته الحرب إليكم. وقال: من الطويل
جررت على راجي الهوادة منهم ... وقد تلحق المولى العنود الجرائر
قال محمد بن الضحاك: كان المنذر بن الزبير وثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام يقاتلان أهل الشام(25/250)
بالنهار ويطعمانهم بالليل؛ قال: وكان منذر يقاتل مع أخيه عبد الله بن الزبير جيش الحصين بن نمير في الحصار الأول ويرتجز ويقول: من مجزوء الرجز
يأبى الحواريون إلا وردا
من يقتل اليوم يزود حمدا
قال: وجعل يقاتل يوم قتل ويقول: من مجزوء الجرز
لم يبق إلا حسبي وديني
وصارم تلتذه يميني
وهو على أبي قبيس، وابن الزبير محتبي في المسجد الحرام، ينظر إليه وهو لا يسمع رجز المنذر ويقول: هذا رجل يقاتل عن حسبه ودينه. فقيل: المنذر. فما زاد عبد الله على أن قال: عطب أبو عثمان.
وقتل المنذر وهو ابن أربعين سنة، وقيل: إن رجلاً من أهل الشام دعا المنذر إلى المبارزة، وكان كل واحد منهما على بغلة، فخرج إليه المنذر فضرب كل واحد منهم أصاحبه ضربة خر صاحبه لها ميتاً.
وقال رجل من الهرب يرثى المنذر بن الزبير ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، قتلا في حصار الحصين بن نمير: من الكمال
إن الإمام ابن الزبير فإن أبي ... فذروا في بني الخطاب
لستم لها أهلاً ولستم مثله ... في فضل سابقة وفضل خطاب
وغدا النعي بمصعب وبمنذر ... وكهول صدق سادة وشباب
قتلوا غداة قعيقعان وحبذا ... قتلاهم قتل ومن أسلاب(25/251)
قتلوا حواري النبي وحرقوا ... بيتاً بمكة ظاهر الأثواب
أقسمت لو أني شهدت فراقهم ... لاخترت صحبتهم على الأصحاب
وقالت بنت هبار بن الأسود في قتل أخيها إسماعيل بن هبار: من البسيط
قل لأبي بكر الساعي بذمته ... ومنذر مثل ليث الغابة الضاري
شدا فدى لكما أمي وما ولدت ... لا توصلني إلى المخزاة والعار
أبو بكر: عبد الله بن الزبير، ومنذر بن الزبير.
المنذر بن العباس بن نجيع القرشي
الدمشقي قال أبو حاتم سمعت المنذر بن العباس الدمشقي يتمثل: من مجزوء الكامل
إن المنايا يطلع ... ن على أناس آمنينا
فتذورهم شتى وقد ... كانوا جميعاً وافرينا
منذر بين عبيد المدني
حدث عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أمه سيرين قالت: حضرت موت إبراهيم بن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكسفت الشمس يومئذ فقال الناس: هذا لموت إبراهيم! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الشمس لا تنكسف لموت أحد ولا لحياته.
ومات يوم الثلاثاء لعشر خلون من ربيع الأول سنة عشر.
قال المنذر بن عبيد: كنت لدى عمر بن عبد العزيز بدابق، إذا أتم الصلاة جمع بالناس، وإذا صلى ركعتين لم يجمع، إلا أن يمر على مدينة يجمع فيها.(25/252)
المنذر بن يعلى أبو يعلى الثوري الكوفي
حدث عن محمد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب قال: كنت رجلاً مذاء فكرهت أن أسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرت المقداد بن الأسود، فسأله فقال: فيه الوضوء.
قال أبو يعلى: رآني ربيع خثيم وأنا تعجبني الصحف، فقال: يا أبا يعلى، ألا أطرفك بصحيفة عليها خاتم من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ثم قرأ: " تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ".
قال منذر الثوري: لزمت محمد بن الحنفية حتى قال بعض ولده: لقد غلبنا هذا النبطي على أبينا.
وعن منذر قال: كل مالاً يبتغى به وجه الله يضمحل.
قدم المنذر جمشق في صحبة محمد بن الحنفية، وكان قدومه على يزيد بن معاوية.
منصور بن بشير أبي مزاحم
أبو نصر التركي الكاتب مولى الأزد سمع بدمشق وبغيرها.
حدث عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة، عن عائشة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا فاطمة في مرضه الذي توفي فيه، فقال لها قولاً فبكت مه، ثم قال لها فضحكت. قالت عائشة: فسألتها فقالت: أول القول قال لي: إنه ميت من وجعه. فبكت، ثم قال: إنك أول من يلحق بي في الجنة، فضحكت.(25/253)
وحدث عن يحيى بن حمزة بسنده إلى أنس بن مالك، أن رسول الله حروف قال: ما من بلد إلا سيدخله الدجال إلا الحرمين: مكة والمدينة؛ ما من نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسون، فيسير حتى يأتي السبخة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فلا يبقى فيها كافر ولا منافق إلا خرج إليه.
كان أبو نصر من سبي الترك، وكان له ديوان فتركه؛ وكان ثقة صاحب سنة.
وتوفي ببغداد سنة خمس وثلاثين ومئتين وهو ابن ثمانين سنة أو أكثر.
منصور بن جعونة بن الحارث العامري
وقد على عمر بن عبد العزيز.
حدث نوفل بن الفرات: أن عمر استعمل جعونة بن الحارث على ملطية، فغزا، فأصاب وغنم ووفد ابنه على عمر، فلما أخبره الخبر قال له عمر: هل أصيب من المسلمين أحد؟ قال: لا، إلا رويجل. فغضب عمر وقال: رويجل! رويجل! مرتين؛ تجيئوني بالشاة والبقرة. ويصاب رجل من المسلمين؟! لا تلي لي أنت ولا أبوك عملاً ما كنت حياً.
كان منصور بن جعونة عاملاً على الردها في آخر خلافة بني أمية، فامتنع من بيعة بني العباس، فحصره المنصور وهو عامل للسفاح على الجزيرة، فلما فتح الرها هرب منصور ثم أومن فظهر، فلما خلع عبد الله بن علي أبا جعفر ولاة شرطته، فلما هرب عبد الله إلى البصرة اختفى منصور، فدل عليه في سنة إحدى وأرعبين ومئة، فأتى به المنصور فقتله، وقيل إنه أومن من بعد هروب عبد الله فظهر، ثم وجدت له كتب إلى الروم بغش الإسلام فقتله لذلك.(25/254)
منصور بن جمهور بن حصن
ابن عمرو بن خالد بن حارثة الكلبي، من قرية المزة خرج مع يزيد بن الوليد، وولاه يزيد العراقين، وجمع له المصرين: الكوفة والبصرة، وكان ممن سعى في قتل الوليد بن يزيد.
وكان قدرياً ثم صار خارجياً، وكان أعرابياً جافياً غيلاني أن ولم يكن من أهل الدين، وإنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانية، وحمية لقتل يوسف بن عمر خالد القشري، فشهد لذلك قتل الوليد، فقال يزيد له لما ولاه العراق: قد وليتك العراق فسر إليه، واتق الله، واعلم أني إنما قتلت الوليد لفسقه، ولما أظهر من الجور، فلا ينبغي أن تركب مثلما قتلناه عليه. فدخل على يزيد بن الوليد يزيد بن حجرة الغساني - وكان ديناً فاضلاً ذا قدر في أهل الشام، قد قاتل الوليد ديانة، فقال: يا أمير المؤمنين! أوليت منصوراً العراق؟ قال: نعم، لبلائه وحسن معونته. قال: يا أمير المؤمنين! إنه ليس هنالك في أعرابيته وجفائه في الدين. قال: فإذا لم أول منصوراً في حسن معاونته فمن أولي؟ قال: تولي رجلاً من أهل الدين والصلاح، والوقوف عند الشبهات، والعلم بالأحكام والحدود، ومالي لا أرى أحداً من قيس يغشاك، ولا يقف ببابك؟ قال: لولا أنه ليس من شأني سفك الدماء لعاجلت قيساً، فوالله إلا ذل الإسلام.
ولما غزل منصور بن جمهور عن العراق أتى السند، فغلب عليها، ونزل العسكر، وسماها المنصورة؛ وتوجه إليه أبو العباس موسى بن كعب لقتاله في سنة أربع وثلاثين ومئة، فلقيه فهزمه ومن كان معه، فمضى ومات عطشاً بالرمال.
وقيل أصابه بطن، ورحل خليفة منصور لما بلغته الهزيمة بعيال منصور وثقله وعدة من ثقاته، فدخل بهم بلاد الخزر.(25/255)
منصور بن رامش بن عبد الله بن زيد
أبو نصر النيسابوري قدم دمشق وحدث بها.
روى عن علي بن عمر بن مهدي الحافظ بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان.
توفي منصور بن رامش شنة سبع وعشرين وأربع مئة، وكان رجلاً من الرجال، وداهية من الدهاة، تولى رياسة نيسابور في أيام محمود، فعدل وأنصف، وعرض عليه الأمير مسعود بن محمود الوزارة فأبى، فقلده رياسة نيسابور ثانياً، فلم يتمكن في زمانه من العدل والإنصاف، كما كان في زمان محمود، فاستعفى وقعد في البيت وأجد في العبادة. وكان ثقة.
منصور بن سعيد بن الأصبغ
ويقال منصور بن زيد الكلبي شاعر.
حدث عن دحية بن خليفة أنه خرج من قريته بدمشق المزة إلى قدر قرية عقبة من الفسطاط، ذلك ثلاثة أميال في رمضان، تم إنه أفطر وأفطر معه الناس، وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمراً وما كنت أظن أني أراه، أن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. يقول ذلك للذين صاموا. ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك.(25/256)
منصور بن عبد الله أبو القاسم الوراق
حدث عن علي بن جابر بن بشر الأودي بسنده إلى أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كان فيمن كان قبلكم رجل مسرف على نفسه، وكان مسلماً، كان إذا أكل طعامه طرح ثقالة طعامه على مزبلة، فكان يأوي إليها عابد، فإن وجد كسرة أكلها، وإن وجد بقلة أكلها، وإن وجد عرقاً تعرقه. قال: فلم يزل كذلك حتى قبض الله عز وجل ذلك الملك فأدخله النار بذنوبه، فخرج العابد إلى الصحراء مقتصراً على مائها وبقلها، ثم إن الله عز وجل قبض ذلك العابد، فقال: هل لأحد عندك معروف تكافئه؟ قال: لا يا رب. قال: فمن أين كان معشك؟ - وهو اعلم بذلك - قال: كنت أوي إلى مزبلة ملك، فإن وجدت كسرة أكتلها، وإن وجدت بقلة أكتلها، وإن وجدت غرقاً ترعفته؛ فقبضته فخرجت إلى البرية نقتصراً على بقلها ومائها. فأمر الله عز وجل بذلك الملك فاخرج من النار حممة وفي رواية: جمرة تنفض - فأعيد مكانه كما كان، فقال: يا رب! هذا الذي كنت آكل من مزيلته. فقال الله عز وجل له: خذ بيده فأدخله الجنة، من معروف كان منه إليك لم تعلم به. أما لو علم به ما أدخلته النار.
منصور بن عبد الله بن إبراهيم
أبو نمصر الأصبهاني الصوفي حكى عن إبراهيم بن المولد قال: دخلت على إبراهيم القصار وهو يبكي فقلت له: مالك؟ فقال: تذكرت أيامي التي كنت فيها ف يمحل البسط وحال الأنس، وقيامي ببعض ما أوجب الله علي من حقوقه ففترت وعجزت، وأنا أدافع النهار بالليل، والليل بالنهار، وأخشى أن أكون قد سقطت م عين الله عز وجل، فبعدني من بابه، وصرت من المطرويدن؛ وأنشأ يقول: من الطويل(25/257)
إذا كنت تجفوني وأنت ذخيرتي ... وموضع شكواي فما أنا صانع
نهاري نهار الناس حتى إذا دجا ... لي الليل هرتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع
منصور بن علي بن منصور بن طاهر
ابن محمد بن إسحاق أبو الحسني الهروي الواعظ حدث بدمشق، ذكر أنه من ولد خالد بن الوليد وليس كذلك.
حدث عن أبي علي أحمد بن محمد بن منصور الخالدي بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول لله! أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا.
وأنشد المبرد في هذا المعنى من الكامل:
امهد لنفسك في الحياة فإنما ... يبقى غناك لمصلح أو مفسد
فإذا جمعت لفاسد لم يبقه ... وأخو الصلاح قليله لتزيد
وحدث بمعرة النعمان سنة خمس وعشرين وأربع مئة، عن أب يعلي أحمد بن محمد بن منصور بن خالد بن عبد الله الخالدي، بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قال: سبحان الله وبحمده، غرست له نخلة في الجنة.
منصور بن علوان بن وهبان أبو الفتح
السلمي الصيداوي المؤدب أديب حاسب، له شعر حسن، وكان كثير التبذل، يحضر مقام المصارعين، ويجلس في حلق الطرقيين.
ولد بصيدا سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة وكان شافعي المذهب وله: من السريع(25/258)
لو أن لي مالاً وجاهاً لما ... قصر في إكرامي الناس
لكنها الأيام لما سطت ... ومسنى ضر وإفلاس
رماني الدهر بأحداثه ... كأنني للدهر برجاس
وأظهر الإخوان لي جفوة ... وبان ليم منبرهم ياس
إن غبت لا يسأل عني وإن ... حضرت لا يرفع بي راس
توفي أبو الفتح سنة ستين وخمس مئة بدمشق.
منصور بن عمار بن كثير
أبو السري السلمي الخراساني الواعظ حدث عن ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أعيته المكاسب فعليه بمصر، وعليه بالجانب الغربي منها.
وحدث عنه بسنده إلى أبي سعيد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن السباع. والسباع: المفاخرة بالجماع.
وحدث عنه بسنده إلى عقبة بن عامر، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كل طعام لا يذكر أسن اله عليه فإنما هو داء، ولا بركة فيه، وكفارة ذلك - إن كانت المائدة موضوعة - أن تسمي وتعيد يدك؛ كانت قد رفعت أن تسمي الله وتعلق أصابعك.
قدم منصور بن عمار مصر وجلس يقص، فسمع الليث بن سعد كلامه، فاستحسن قصصه وفصاحته، فقال له الليث: ما لاذي أقدمك بلادنا؟ قال: طلبت(25/259)
أكسبت بها ألف دينار. قال له الليث: فهي لك على قص كلامك هذا الحسن، ولا تبتذل. فأقام بمصر في جملة الليث بن سعد وفي جرايته إلى أن خرج عن مصر، فدفع له الليث ألف يدنار ودفع إليه بنو الليث أيضاً ألف دينار، فخرج وسكن بغداد ومات يها.
ودخل منصور بن عمار العراق، وأقام بها؛ أوتي الحكمة، وكان سبب ذلك أنه وجد رقعة في الرض، مكتوب عليها بسم الله الرحمن الرحيم، فأخذها فلم يجد لها موضعاً فأكلها، فأوي فيما يرى النائم كأن قائلاً قال له: قد فتح عليك باب الحكمة باحترامك لتلك الرقعة. فكان بعد ذلك يتلكم بالحكمة.
وكان منصور بن عمار من الواعظين الأكابر.
قال منصور بن عمار: من جزع من مصائب الدنيا تحولت مصيبة في دينه.
وقال منصور: أحسن لباس العبد التواضع والإنكسار؛ وأحسن لباس العارفين التقوى، قال الله تعالى: " ولباس التقوى ذلك خير " قال منصور بن عمار: قال لي رجل بالشام: يا أبا السري، عندنا رجل عائد من واسط، لا يأكل إلا من كديده، من سف الخص، ورو رأيته لوقذك النظر إليه، فهل لك أن تمضي بنا إليه؟ قلت: نعم. فأتينا فدققنا بابه فخرج وسمعته يقول: اللهم إني أعوذ بك ممن جاء ليشغلني عما أتلذذ به من مناجاتك. فدخلنا وإذا رجل يرى به الآخرة، وإذا قبر محفور، ووصيته قد كبها في الحائط، وكساؤه قد أعده لكفنه، فقلت: أي موقف لهذذا الخلق؟ قال: بين يدي من؟ فصاح وخر لوجهه، ثم أفاق من غشيته، فقال له صاحبي: يا أبا عباد؟ هذا منصور بن عمار. فقال: مرحباً بأخي، ما زلت إليك مشتاقاً(25/260)
قال: وأراه صافحني - أعلمك أن بي داء قد أعيا المتطلب بين قبلك قديماً، فهل لك أن تتأتى به برفقك، وتلصق عليه بعض مراهمك، لعل الله أن ينفع بك؟ قلت: وكيف يعالج مثلي مثلك، وجرحي انغل من جرحك؟! فقال: وإن كان ذاك كذلك فإني مشتاق منك إلى ذلك. قلت: أما إذا أبيت، فلئن كنت تمسكنت باحتقار قبرك في بيتك، وبوصية رسمتها بعد وفاتهك، وبكفن أعددته ليوم منيتك فإن لله عباداً اقتطعهم خوفه عن النظر إلى قبورهم. قال: فصاح صيحة ووقع في قبره، وجعل يفحص برجليه وبال، فعرفت بالبول ذهاب عقله، فخرجت إلى طحان على بابه فقلت: ادخل فأعنا على هذا الشيخ؛ فاستخرجناه من قبره وهو في غشيته، فقال لي الطحان: ويحك، ما أردت إلى ما صنعت بهذا الشيخ؟ والله لا يغفر الله لك ما صنعت؛ فخرجت وتركته صريع فترة، فلما كان من الغد عدت إليه، فإذا بسلخ في وجهه، وشريط شد به رأسه لصداع وجده، فلما رآني قال: يا أبا السري! المعاودة. قلت: يكون من ذلك ما قدر. فقلت له: فأين بلغت أيها المتعبد من أحزانك؟ وهل بلغ الخوف ليلة من منامك؟ فتالله لكأني انظر إلى أكل الفطير والصابر على خبز الشعير، يأكل ما اشتهى وسعي عليه بلحم الطير، وسقي من الرحيق المختوم! قال: فشهق شهقة، فحركته فإذا هو قد فارق الدنيا.
قال منصور بن عمار: حججت حجة فنزلت سكة من سكك الكوفة، فخرجت في ليلة مظلمة، فإذا بصارخ يصرخ في جوف الليل وهو يقول: إلهي! وعزتك وجلالك، ما أردت مخالتفك، ولقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بمكانك جاهل، ولكن خطيئة عرضت، أعانني عليها شقائي، وغرني سترك المرخى علي، وقد عصيتك بجهدي، وخالفتك بجهلي، فالآن من عذابك من يستنقذني، وبحبل من أتصل إلا أن أتصل إن أنت قطعت حبلك مني، وأشباباه! فلما فرغ من قوله تلوت آية من كتاب الله: " وقدوها الناس والحجارة عليها(25/261)
ملائكة غلاظ شداد " الآية، فسمعت دكدكة شديدة، ثم لم أسمع بعدها شيئاً فمضيت، فلما كان من الغد رجعت في مدرجتي، فإذا بجنازة قد وضعت، وإذا بعجوز كبيرة، فسألتها عن أمر الميت - ولم تكن عرفتني - فقلت: هذا رجل لا جزاه الله إلا جزاءه، مر بابني البارحة وهو قائم، فتلا آية من كتاب لله فلما سمعها ابني تفطرت مرارته فمات.
وعن محمد بن هشام قال: قال منصور بن عمار: قال لي هارون: كيف تعلمت الكلام؟ قال: قلت يا أمير المؤمنين، رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامي وكأنه تفل في في وقال لي: يا منصور! قل. فأنطقت بإذن الله عز وجل.
قال منصور بن عمار:
لما قدمت مصر وكان الناس قد قحطوا، فلما صلوا الجمعة رفعوا أصواتهم بالبكاء والدعاء، فحضرتني النية، فصرت إلى صحن المسجد فقلت: يا قوم! تقربوا إلى الله بالصدقة، فإنه ما تقرب إليه بشيء أفضل منها؛ ثم ميت بكسائي فقلت: اللهم هذا كسائي وهو جهدي وفوق طاقتي؛ فجعل الناس يتصدقون ويعطوني ويلقون على الكساء وهو جهدي وفوق طاقتي؛ فجعل الناس يتصدقون ويعطوني ويلقون على الكساء، حتى جعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها حتى فاض الكساء من أطرافه، ثم هطلت السماء فخرج الناس في الطين والمطر، فلما صليت العصر قلت: يا أهل مصر! أنا رجل غريب، ولا علم لي بفقرائكم، فأين فقهاؤكم؟ فدفعت إلى الليث بن سعد وابن لهيعة، فنظرا إلى كثرة المال فقال أحدهما لصاحبه: لا تحرك؛ فوكلوا به الثقات، حتى أصبحوا فأدلجت إلى الإسكندرية، فأقمت بها شهرين، فبينا أنا أطوف على حصنها وأكبر، إذا برجل يرمقني فقلت: مالك؟ قال: يا هذا أنت قدمت مصر؟ قلت: نعم. قال: أنت المتكلم يوم الجمعة؟ قلت: نعم. قال: فإنك صرت فتنة على(25/262)
أهل مصر. قلت: وما ذاك؟ قال: قالوا كان ذلك الخضر، دعا فاستجيب له. قلت: ما كان الخضر، بل أنا العبد الخاطئ. فأدلجت فقدمت مصر، فلقيت الليث بن سعد، فلما نظر إلي قال: أنت المتكلم يوم الجمعة؟ قلت: نعم. قال: فهل لك في المقام عندنا؟ قلت: كيف أقيم وما أملك إلا جبتي وساويلي؟! قال: قد أقطعتك خمسة عشر فداناً. ثم صرت إلى ابن لهيعة فقال لي مثل مقالته، وأقطعني خمس فدادين، فأقمت بمصر.
وفي رواية آخر مثله مختصراً، أن الليث بن سعد كان إذا تكلم بمصر أحد نفاه، فتكلم منصور في المسجد، فطلبه الليث بن سعد، فتكلم بحضرته، وأعطاه ألف دينار، ثم عاوده فأعطاه خمس مئة دينار، ثم عاوده فأطعاه ثلاث مئة ثم قال: يا جارية! هات ثياب إحرام منصور. فجاءت يازار فيه أربعون ثوباً فلك. قلت: رحمك الله، اكتفي بثوبين. فقال: أنت رجل كريم فيصحبك قوم فأعطهم. وقال للجارية التي تحمل الثياب معه: وهذه الجارية لك.
وفي رواية: أن الليث أعطاه ألف دينار وقال: لا يعلم بها ابني فتهون عليه. فبلغ ذلك سعيد بن الليث، فوصله بألف دينار وقال: إنما نقصتك هذا الدينار لئلا أساوي الشيخ في عطيته.
قال منصور عن عمار: رأيت كأني دنوت من جحر، فخرج قبلي عشر نحلات فلدغنني، فقصصتها على أبي المثنى المعبر البصري فقال: الجد ما تقول، أعطني شيئاً. قال: إن صدقت رؤياك تصلك امرأة بعشرة آلاف، لكل نحلة ألف؛ قال منصور: فقلت لأبي المثنى: منأين قلت هذا؟ قال: لأنه ليس شيء من الخلق ينتفع ببطنه من ولد آدم إلا النساء، فإنهم ولدوا(25/263)
الصديقين والأنبياء؛ والطير ليس فيها شيء ينتفع ببطنه إلا النحل. فلما كان من الغد وجهت إلي زبيدة بعشرة آلاف درهم.
لقي بشر المريسي منصور بن عمار فقال له: أخبرني عن كلام الله، أهو الله أم غير الله أم دون الله؟ فقال: إن كلام الله لا ينبغي أن يقال هو الله، ولا ينبغي أن يقال هو غير الله، ولا هو دون الله، ولكنه كلامه وقوله، وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله، أي لم يقله أحد إلا الله، فرضينا حيث رضي لنفسه، واخترنا له من حيث اختار لنفسه، فقلنا: لكلام اله ليس بخالق ولا مخلوق، فمن سمى القرآن بالاسم الذي سماه الله به كان من المهتدين، ومن سماه باسم من عنده كان من الغالين فاله عن هذا وذر " الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون " فإن تأبى كنت من الذين " يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ".
كتب بشر المريسي إلى منصور عن عمار: بلغني اجتماع الناس عليك، وما حكي من العلم، فأخبرني عن القرآن، خالق أو مخلوق؟
فكتب إليه منصور: بسم الله الرحمن الرحيم عافانا الله وإياك من كل فتنة، فإنه إن يفعل فأعظم بها نعمة، وإن لم يفعل فتلك أسباب الهلكة وليست لأحد على الله بعد المرسلين حجة؛ نحن نرى أن الكلام في القرآن بدعة، اشترك فيها السائل والمجيب، فتعاطى السائل ما ليس به، وتكلف المجيب ما ليس عليه، وما أعلم خالقاً إلا الله، وما دون الله مخلوق، والقرآن كلام الله، ولو كان القرآن خالقاً لم يكن للذين وعوه إلى الله شافعاً، ولا بالذين ضيعوه ماحلاً. فاتنه بنفسك وبالمختلفين بالقرآن إلى أسمائه التي سماه الله بها تكن من المهتدين " وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون "(25/264)
ولا تسمي القرآن باسم من عندك فتكون من الضالين، جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ".
وكتب بشر إلى مصور أيضاً يسأله عن قوله الله عز وجل " الرحمن على العرش استوى " كيف استوى؟ فكتب إليه منصور: استواؤه غير محود، والجواب فيه تكلف، ومسألتك عن ذلك بدعة، والإيمان بجملة ذلك واجب، قال الله تعالى: " فأما الذين في قلوبهم زيغ فييتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله " وحده ثم استأنف الكلام فقال: والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب " فنسبهم إلى الرسوخ في العلم بأن قالوا لما تشابه منه عليهم: آمنا به كل من عند ربنا. فهؤلاء هم الذين أغناهم الرسوخ في العلم على الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب، بما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب؛ فمدح اعترافهم بالعجز عن تأول ما لم يحيطوا به علماً، وسمي تركهم التعميق فيما لم يكلفهم رسوخاً في العلم. فاتنه رحمك الله من العلم إلى حيث انتهى بك إليه، ولا تجاوز ذلك إلى ما حظر عنك علمه، فتكون من المتكلفين، وتهلك مع الهالكين. والسلام عليك.
قال منصور بن عمار في مجلس له، وقد فرغ من كلامه: لي إليكم حاجة، أريد حبة لم يزينها المطففون، ولم تخرج من أكياس المربين ولم تجر عليها أحكام الظالمين. قالوا: ما عندنا هذه.
كتب بشر إلى منصور بن عمار: اكتب إلي بما من الله علينا. فكتب إليه منصور: أما بعد يا أخي، فقد أصبح بنا من نعم الله ما لا نحصيه، في كثرة ما نعصيه ولقد بقيت متحيراً فيما بين هاتين: لا أدري كيف أشكره بجميل ما نشر أو قبيح ما ستر.(25/265)
قال منصور بن عمار: دخلت على المنصور أمير المؤمنين فقال لي: يا منصور! عظني وأوجز، فقلت: إن من حق المنعم على المنعم عليه أن لا يحول ما أنعم به عليه سبباً لمعصيته. فقال: أحسنت وأوجزت! رئي منصور بن عمار في النوم فقيل له: يا أبا السري! ما فعل الله بك؟ قال: أوثقني في عذابه وقال لي: منت تخلط، ولكني قد غفرت لك لأنك كنت تحببني إلى خلقي، قم فمجدني بين ملائكتي كما كنت تمجدني في الدنيا، فوضع لي كرسي، فمجدت الله بين ملائكته.
قيل لمنصور بن عمار: تكلم بهذا الكلام ونرى منك أشياء! قال: احسبوني درة وجدتموها على كناسة، استنفعوا بالدرة ودعوا الكناسة مكانها.
وكان منصور بن عمار لا يبقي له شيئان في رمضان، لا كسوة ولا دراهم، ولا طعاماً حتى يبعث به إلى إخواته المتقللين.
قال سليمان بن منصور: رأيت أبي منصوراً في المنام فقلت: ما فعل بك ربك؟ فقال: إن الرب قربني وأدناني وقال لي: يا شيخ السوء، تدري لم غفرت لك؟ قلت: لا إلهي. قال: إنك جلست للناس يوماً مجلساً فبكيتهم، فبكى فيهم عبد من عبادي لم يبك من خشيتي قط، فغفرت له ووهبت أهل المجلس كلهم له، ووهبتك فيمن وهبته له.
قال أحمد بن العباس: خرجت من بغداد، فاستقبلني رجل عليه أثر العبادة فقال لي: من أين خرجت؟ قلت: من بغداد، هربت منها لما رأيت فيها من الفساد، خفت أن يخسف بأهلها. فقال: ارجع ولا تخف، فإن قبور أربعة من أولياء الله، هم حصن لهم من جميع البلايا. قلت: من هم؟ قال: أحمد بن حنبل، ومعروف الكرخي، وبشر الحافي، ومنصور بن عمار. فرجعت وزرت القبور ولم أحج تلك السنة.(25/266)
منصور بن محمد بن أحمد بن حرب
أبو نصر البخاري الحربي القاضي حدث بمرو سنة تسع وسبعين وثلاث مئة عن أبي بكر أحمد بن سليمان الدمشقي بسنده إلى معاوية بن أبي سفيان قال: إنه لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة.
وورد من طريق آخر مرفوعاً إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وحدث عن أبي الحسن موسى بن جعفر بن أحمد بن عثمان بن قرين بسنده إلى أبي الدرداء قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قليل التوفيق خير من كثير العقل، والعقل في أمر الدنيا مضرة، والعقل في أمر الدين مسرة.
توفي أبو نصر الحربي ببخارى وهو على الحسية سنة ثمانين وثلاث مئة.
منصور بن محمد المهدي
ابن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله ابن العباس بن عبد المطلب الهاشمي وفي إمرة دمشق في أيام الأمين سنة ثلاث وتسعين ومئة، وولي البصرة في أيام الرشيد، ودعي إلى أن يبايع بالخلافة في أيام المأمون فأبى.
حدث عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الباس وصيتي ووارثي.(25/267)
قال منصور بن المهدي: حدثني أعمامي قال: كان المنصور يقول لبنيه: يا بني، اغسلوا أيديكم قبل الطعام فإنه أمنة من الفقر.
دخل منصور بن المهدي يوماً على المأمون وعنده جماعة يتكلمون في الفقه، فقال له: ما عندك فيما يقول هؤلاء؟ قال: يا أمير المؤمنين! أغفلونا في الحداثة، وشغلنا الطلب عند الكبر من اكتساب الأدب. قال: لم لا تطبه اليوم وأنت في كفاية؟ قال: أو يحسن بمثلي طلب العلم؟ فقال له المأمون: والله لأن تموت طالباً للعلم خير من أن تعيش قانعاً بالجهل. قال: يا أمير المؤمنين! إلى متى يحسن؟ قال: ما حسنت بك الحياة؛ يا منصور! اتق الله في نفسك ولا ترض بهذا، فإنه يقصر بك في المجالس، ويصغرك في أعين من يراك ويزري بك.
وحدث يزيد بن مرثد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أراد العافية ملأ الله حضنيه عافية، ومن أراد البلاء ملأ الله حضنيه بلاء.
وحدث بهذا الحديث منصور بن المهدي.
كان أهل دمشق قد ثاروا بمنصور بن المهدي مرة بعد مرة، إحداهن في القلة التي فقدت من مسجدهم، وكان منصور يتولى دمشق لمحمد الأمين، وكان الأمين يعجبه البلور، فدس من سرق قلة دمشق - وكانت من بلور - فلما رأى إمام جامع دمشق مكانها فارغاً انفتل من الصلاة وجاء إلى وسط القبة الكبيرة التي بحذاء المحراب، وأخذ قلنسوته، وضرب بها الأرض وصاح بأعلى صوته: سرقت قلتكم. فقال الناس: لا صلاة بعد القلة. فصارت مثلاً.
وكان منصور هو الذين أمر داود بن عيسى صاحب شرطة دمشق فأخذ القلة بعث با إلى محمد الأمين؛ ووقع في دمشق فتن بسبب القلة وغيرها. فولى محمد الأمين سليمان بن أبي جعفر دمشق وأعمالها، ورجع منصور بن المهدي إلى بغداد، ولما انقضت أيام الأمين، فصارت الخلافة إلى المأمون وجه عبد الله بن طاهر إلى دمشق،(25/268)
ووجه إسحاق بن إبراهيم معه، فلما ودع المأمون قال له: خذ هذه القلة التي سرقها ابن عمك من مسجد دمشق فردها عليهم. قال: فردتها عليهم ظاهراً مكشوفاً، وإنما أراد المأمون بذلك الشنعة على أخيه الأمين.
وعن محمد بن عمر أن منصور بن المهدي عسكر بكلواذى سنة إحدى ومئتين. وسمي المرتضى، ودعي له على المنابر، وسلم عليه بالخلافة، فأبى ذلك وقال: أنا خليفة أمير المؤمنين المأمون حتى يقدم.
وذكر وكيع بن خلف أنه رأى دنانير ضربت لمنصور بن المهدي في سنة إحدى ومئتين عليها كانت زعم مردودة، فلما ضعف منصور عن قبول ما دعي إليه من ذلك عدل بالأمر إلى إبراهيم بن المهدي فبايع الناس له بالخلافة، وسموه المبارك، وخلعوا المأمون.
وأم منصور بن المهدي أم ولد يقال لها بحرية. وكان المأمون عقد العهد بعده لعلي بن موسى الرضا، وعظم ذلك على العباسيين ببغداد.
توفي منصور بن المهدي سنة ست وثلاثين ومئتين.(25/269)
منصور بن محمد بن علي الوليدي
حدث عن أبي محمد عبد الله بن جعفر الطبري المعروف بالجناري بسنده إلى الجاحظ قال: ثلاثة أشياء في ثلاثة أصناف من الناس: السلامة في أصحاب الحديث، والجلادة في أصحاب الرأي، وسوؤ التدبير في العلوية.
قال منصور بن محمد: أنشدوا أبو عبد الله محمد بن أحمد الحاكم بنيسابور: من الوافر
وكم من أكلة منعت أخاها ... بلذة ساعة أكلات دهر
وكم من طلب يسعى بشيء ... وفيه هلاكه لو كان يدري
منصور بن محمد بن محمد بن محمد
ابن إدريس، ويقال منصور بن محمد بن محمد بن محمد بن يحيى أبو محمد النيسابوري الحاكم الخفاف
قدم دمشق سنة خمس عشرة وأربع مئة.
حدث عن أبي عمرو إسماعيل بن نجيد بن أحمد بن يوسف السلمي بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا هجرة بين المسليمن فوق ثلاثة أيام. أو ثلاث ليال.
وحدث عن أبي محمد عبد الله بن محمد الدقاق بسنده إلى ابن عباس قال: ملعون من أكرم بالغنى وأهان بالفقر.(25/270)
منصور بن نصر بن منصور
ويقال: ابن نصر بن إبراهيم بن أبي عيسى الهاشمي من أهل دمشق قال: أنشدني بعض إخواني لعبد الله بن المبارك في إسماعيل بن علية لما تقلد القضاء: من السريع
يا جاعل الدين له بازياً ... يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها ... بحلية تذهب بالدين
فصرت مجنوناً بها بعدما ... كنت دواء للمجانين
أين رواياتك فيمامضى ... عن ابن عون وابن سيرين
وتركك الدنيا ولذاتها ... وهجر أبواب السلاطين
إن قلت أكرهت فماذا كذا ... زل حكار العلم بالطين
وقال: أنشدني بعضهم:
إذا جار الأمير وكاتباه ... وقاضي الأرض يدهن في القضاء
فويل للأمير وكاتبيه ... وقاضي الأرض من قاضي السماء
منصور أبو أمية الخصي
خادم عمر بن عبد العزيز قال: رأيت عمر بن عبد العزيز وله سفط في كوة، مفتاحه في إزاره، فكان يتغفلني، فإذا نظر إلي قد نمت فتح السفط، فأخرج منه جبيبة شعر، ورداء شعر، فصلى فيهما الليل كله، فإذا نودي بالصبح نزعهما.(25/271)
منهال بن عمرو أبو محمد الأسدي
مولى بني عمرو بن أسد بن خزيمة.
حدث عن زاذان أبي عمر، عن البراء بن عازب قال: خرجنما مع رسول الله حروف في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد له، فجلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجلسنا حوله، كأن على رؤسنا الطير، وفي ده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر - مرتين أو ثلاثاً - ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة، وانقطاع من الدنيا نزل إليه ملائكة بيض الوجوه كا، وجوههم الشمس، معهم كفن من كفن الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون معه مد البصر، ثم يجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس المطمئة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. فتخرج نفسه تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى ياخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وتلك الحنوط فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ماهدة الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه في الجنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي يليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسان، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، أفرشوه من الجنة وألبسوه من(25/272)
الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة. فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب، طيب الريح فيقول له: أبشر بالذي يسرك، فهذا يومك الذي كنت توعد. فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة - ثلاثاً - حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال: وإن العبد الكافر، إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتفرق في أعضائه كلها ونتزعها كما ينتزع السفود ن الصوف المبلول، فتنقطع معها العروق والعصب، فيأخذها، فإذا أخذها لم يعدوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولن: فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون لها، فلا يفتح لها؛ ثم قرأ رسول الله حروف: " لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " قال: ثم يقول الله: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلي، فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ رسول الله حروف: " ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق " فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسان، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري. فيقولان له ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري. فينادي مناد من السماء: أن كذب علي عبدي، فأفرشوه(25/273)
من النار وألبسوا من النار، وافتحوا له باباً إلى النار. فيدخل لعيه من حرها وسموها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه. قال: ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسؤول، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر. فيقول: ا، اعملك السيئ. فيقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة.
زاد في رواية عنه قوله: فإنه قد وعدناهم أن منها خلقناهم وفيها نعيدهم. فإنه ليسمع خفق نعالهم وهم مدبرون. قال ذلك في وصف المؤمن ووصف الكافر.
وحدث المنهال بن عمرو بسنده إلى صفوان بن عسال المرادي قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله! إني جئت أطلب العلم. قال: مرحباً بطالب العلم، إن طالب العلم لتحفه الملائكة وتظله بأجنحتها، ثم يركب بعضها بعضاً حتى يبلغوا سماء الدنيا من حبهم ما يطلب. قال: فما جئت تطلب؟ قال صفوان: يا رسول الله! لا نزال نسافر بين مكة والمدينة، فأفقنا عن المسح على اخفين، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثلاثة أيام للمسافر، ويم وليلة للمقيم.
وروى الأعمش عن المنهال بن عمرو قال: أنا والله رأيت الحسين بن علي حين حمل وأنا بدمشق وبين يدي الرأس رجل يقرأ سورة الكهف، حتى بلغ إلى قوله " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً " قال: فانطق الله الرأس بلسان ذرب فقال: أعجب من أصحاب الكهف قتلى وحملي.
عدله قوم وجرحه قوم.(25/274)
منيب بن أيوب
أطنه الأوزاعي.
حدث منيب قال: أقبل غلام لعمر بن عبد العزيز بجرزة من حطب يحملها وهو يرجز تحتها فطرحها وقال: كل إنسان في راحة غيري وغيرك. فقال له عمر: ما قلت؟ قال: قلت كل إنسان في راحة غيري وغيرك. قال عمر: والله لأريحنك، اذهب فانت لله عز وجل، دعني أنا وهمي.
منيب بن مدرك بن منيب
الأزدي الغامدي حدث عن أبيه، عن جده قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجاهلية وهو يقول للناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. فمكنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حتى عليه التراب، ومنهم من سبه حتى انتصف النهار، وأقبلت جارية بعس من ماء، فغسل وجهه وقال: يا بنية لا تخشي على أبيك غلبة ولا ذلاً، فقلت: من هذه؟ فقالوا: هذه زينب بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي جارية وصيفة.
ومنيب أبو مدرك رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أقام له صاحب الأصل ترجمة بذاته بعد ولد ولده، ولم يذكر غير هذا الحديث.
منيب الأوزاعي
قال الأوزاعي وسأله منيب فقال: أكل ما جاءنا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقبله؟ فقال: نقبل مه ما صدقه كتاب الله عز وجل فهو منه، وما خالفه فليس منه. قال له منيب: إن الثقال جاؤوا به. قال: فإن كان الثقات حملوه عن غير الثقات!(25/275)
منيب بن الزبير أبو ذر الأزدي
قال سمعت عبادة بن نسي الكندي يحدث عن عبد الله بن سالم أنه قال: يا رسول الله، نجدكم في كتاب الله: أمة حمادون، مولد نبيهم بمكة وهجرته بطيبة. وجهادهم بالشام، يأتزرون على أنصافهم، ويطهرون أطرافهم، أصواتهم بالليل في المساجد كأصوات النحل في رهاء، يأتون يوم القيامة غراً محجلين.
وحدث عن مكحول، عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يقام عن الطاعام حتى يرفع.
وحدث منير أنه سمع مكحولاً يقول: بر الوالدين كفرة الكبائر، ولا يزال الرجل قادراً عل البر ما دام في فصيلته من هو أكبر منه.
منير بن سنان أو سيار أبو عطيف
قال أبو عطيف: سألت الأوزاعي عن أشياء من أمر الصوافي فقال: إن نظرتم في هذه الدقائق ضاقت عليكم الطرق وسرب الماء.
منير بن عبد الرزاق بن إلياس
أبو عمرو الأطرابلسي حدث عن أبي محمد بن جعفر بن محمد بن أبى كريمة بسنده إلى بشر بن سحيم الغفاري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم رمنادياً ينادي: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن هذه اليام أيام أكل وشرب. وأيام منى.(25/276)
مؤتمن بن أحمد بن علي
ابن الحسين بن عبد الله أبو نصر بن أبي منصور الربعي البغدادي المعروف بالساجي الحافظ حدث بسنده إلى أبى هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: بينا امرأتان ومعهما ابنهما إذ جاء الئب فذهب بأحدهما، فقالت هذه: إنما ذهب بابنك. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فاختصمتا إلى داود عليه السلام، فأخبرتاه فقال: ائتوني بسكين أشقه بينكما. فقالت الصغرى لا، يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى. قال أبو هريرة: والله إن سمعت بالسكين قبل ذلك اليوم، ما كنت أقول إلا المدية.
وحدث عن شيخ الإسلام عبد الله بن محمد النصاري بسنده إلى الشافعي قال: العشرة أشكال لهم أن يغير بعضهم على بعض، والمهاجرون الأولون والأنصار لهم أن بغير بعضهم على بعض، ومسلمة الفتح أشكال، لهم أن يغير بعضهم على بعض، فإذا ذهب أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحرام على تابع إلا اتباع بإحسان، حذوا بحذو.
كان الإمام عبد الله الأنصاري إذا مؤتمناً يقول: لا يمكن أحد أن يكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما دام هذا حياً.
مات أبو نصر المؤتمن سنة سبع وخمسمئة.(25/277)
موحد بن إسحاق بن إبراهيم بن سلامة
أبو الفرجبن البري المتعبد حكى عن أبى صالح قال: يقول المعلم: إن قوماً من أصحابنا قد اجتمعوا في مجلس على سماع، فامرني أن الآذان لهم في دخول المسجد وقال: يا بني الله! إنما هذا فضلة طرب فر رؤوسهم من الأول، فتتحرك في وقتهم، فيظنونه خوفاً أو حلالاً.
قال أبو بكر محمد بن عبد الرحمن أبي المغيث القطان: سمعت أبا الفرج الموحد يقولك رأيت رب العزة في النوم، فوقفت بين يديه وقلت: يا مولاه! أسألك رضاك إن تعديت في طلبي قدري فإنك تعلم سري وإعلاني. قال فتبسم عز وجل. قال أبو بكر: فقلت لأبي الفرج: فما كان الجواب؟ قال لا يتحمل. يعني ما يمكن.
توفي أبو الفرج سنة أربع وثمانين وثلاثمئة.
موحد بن محمد بن عثمان أبي الجماهر التنوخي
حدث عن محمد بن المغيرة بسنده إلى عروة قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبصر في الظلمة كما يبصرفي الضوء.
توفي موحد سنة سبع وستين ومئتين.(25/278)
موسى بن إبراهيم بن سابق
ويقال: عيسى إبراهيم بن سابق، أبو المغيث الرافقي ويقال الإفريقي ولي إمرة دمشق من قبل المعتصم، وولي حمص في خلافة المتوكل.
حكى أبو المغيث قال: مات رجل من كبار الكرخ، فحضر جنازته خلق من الحلة فلما دفن الرجل قام رجل مقنع الرأس بكسائه، فنظر إلى الناس يميناً وشمالاً، فإذا خلق عظيم قد حضر جنازته، فنادى بصوت لق وحلق ند: من الهزج
ألا يا عسكر الأحيا ... ء هذا عسكر الموتى
أجابوا الدعوة الأولى ... وهم منتظرو الأخرى
فضج الناس بالبكاء منكل جانب، ومات يومئذ خلق كثير، فسألت عن الرجل، فقيل: أبو العتاهية.
قال عبد الله بن المعتز:
جائني محمد بن يزيد النحوي، فأقام عندي، فجري ذكر أبي تمام فلم يوفه حقه، وكان في المجلس رجل من الكتاب ما رأيت أحفظ لشعر أب تمام منه! فقال له: يا أبا العباس! ضع في نفسك من شئت من الشعراء، ثم انظر أتحسن أن تقول مثل ما قاله أبو تمام لأبي المغيث موسى بن إبراهيم يعتذر إليه: من الطويل
أتاني مع الركبان ظن طننته ... لففت له رأسي حياء من المجد
لقد نكث الغر الوفاء بساحتي ... إذاً وسرحت الذم في مسرح الحمد
جحدت إذا كم من يد لك شاكلت ... يد القرب أعدت مستهاماً عل البعد
ومن زمن ألبستنيه كانه ... إذا ذكرت أيامه زمن الورد(25/279)
وكيف وما أخللت بعدك بالحجا ... وأنت فلم تخلل بمركمة بعدي
أألبس هجر القول من لو هجوته ... إذاً لهجاني عنه معروفه عندي
كريم متى أمدحه أمدحه والروى ... معي ومتى مالمته لمته وحدي
وإن يك جرم عن أو تك هفوة ... على خطأ مني فعذري على عمد
قال محمد بن يزيد: ما سمعت أحسن م هذا قط، ما يهضم هذا الرجل حقه إلا رجل جاهل بعلم الشعر ومعرفة الكلان، أو عالم لم يتبحر شعره ولم يسمعه.
موسى بن إبراهيم أبو عمران الدمشقي
حدث عن أبي بكر نب عباس، بسنده إلى عبد الله بن مسعود أنه قال لخازن به: كلت لأهلنا قوتهم؟ فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولك كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت.
موسى بن إسحاق بن موسى
ابن عبد الله بن مويى بن عبد الله بن يزيد، أبو بكر الأنصاري الخطمي القاضي حدث عن كثير بن الوليد بسنده إلى أنس بن مالك قال: الآخر شر حتى تقوم الساعة. ثم وضع أصعيه في أذنيه فقال: سمعت ذلك من نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا فصمتا.
وحدث عن خالد بن يزيد - يعني العمري بسنده إلى أنس بن مالك أن امرأة أتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشكت إليه الحاجة فقال: أدلك على خير من ذلك؟ تهللين الله عند منامك ثلاثاً وثلاثين، وتسبحينه ثلاثاً وثلاثين، وتحمدينه أربعاً وثلاثين فذلك مئة خير لك من الدنيا وما فيها.(25/280)
كان موسى بن إسحاق لا يرى متبسماً قط، فقالت له امرأته: أيها القاضي! لا يحل لك أن تحكم بين الناس، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا يحل للقاضي أن يحكم بين اثنين وهو غضبان، فتبسم.
قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى القاضي: حضرت مجلس موسى بن إسحاق القاضي بالري سنة وثمانين ومءتين وتقدمت امرأة، فادعى وليها على زوجها خمس مئة دينار مهراً، فانكر، فقال القاضي: شهودك. فقال: قد أحضرتهم. فاستدعى بعض الشهود أن ينظر إلى المرأة، فقام الشاهد وقالوا للمرأة: قومي. فقال الزوج: يفعلون ماذا؟ قال الوكيل: ينظرون إلى امرأتك وهي مسفرة ليصح عندهم معرفتها. فقال الزوج فإني أشهد القاضي أن لها علي هذا المهر الذي تدعيه، ولا تسفر عن وجهها. فردت المراة وأخبرت بما كان من زوجها. فقالت المراة فإني أشهد القاضي أنى قد وهبته المهر وأبرأته منه في الدنيا والآخرة. فقال القاضي: فكتب هذا في مكارم الأخلاق.
توفي أبو بكر موسى القاضي سنة سبع وتسعين ومئتين. ومولده سنة عشر ومئتين.
كان قاضياً على الأهواز، وأقرأ الناس القرآن وله ثمان عشرة سنة؛ واستقضي وله ثمان وعشرون سنة.
موسى بن أيوب أبو الفيض الحمصي
حدث عن معاوية، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من كذب علي متعمداً فليتبوا مقعده من النار.
قال أبو الفيض: لقيت أبا قرصافة، رجلاً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألته - يعني عن الصوم في(25/281)
السفر - وكان مسلمة بن عبد الملك قال: من صام رمضان في السفر فليقض في الحضر. فقال أبو قرصافة: لو صمت في السفر ثم صمت، ما قضيت؟
موسى بن أيوب أبو عمران النصيبي
ويقال الأنطاكي حدث عن الوليد بن ملسم بسنده إلى معاوية أنه قام بدير مسحل فقال: إنا رأينا الهلال يوم كذا وكذا، والصيام يوم كذا، ونحن متقدمون، فمن أحب أن يتقدم فليفعل. فقام مالك بن هبيرة السبئي فقال: يا معاوية! أراي رأيته أو شيء سمعته؟ فقال معاوية: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: صوموا الشهر وسره.
وحدث عنه بسنده إلى عبد الله بن عمرو، رفعه إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من قرض بيت شعر بعد العشاء لم تقبل له صلاة حتى يصبح.
موسى بن أيوب الجسريني
حدث عن عبد الواحد بن إسحاق القرشي بسنده إلى عبد الله بن عباس قال: كان في صحف إبراهيم الخليل: إن لله ثوراً ساكناً في الهواء، يستظل في أصل ذلك الثور طير الهواء، فيبيض ذلك الطير، فتهوي البيضة، فما تصل إلى الأرض حتى تفقس عن فرخ، ويطير ويعود إلى مكانه، رأس ذلك الثور رأس حية، ورجلاه رجلاً طير، لونه أبيض وأصفر وأحمر، ومن كل لون، يرفع إلى ذلك الثور في كل يوم مئة جبل من جبال الأرض يرعاها، يحبس على ذلك الثور نهر الأردن، يشربه في خمسة وعشرين ليلة من حزيران في ثلاث جرع، ويقبل ذلك الثور في صفصاف وينام على(25/282)
صفائح من فضة، يبعث الله إليه في كل يوم طائراً من طيور الجنة، يلعب بين يديه، يفرحه ويلهبه، فإذا كان يوم القيامة، فاول ما يأكل أهل الجنة من لحم حوت ومن لحم ذلك الثور، يبقر ذلك الثور بقرنه الحوت، فيأكلون من لحمه فيجدون في طعمه طعم أنهار الجنة، فيذبح الحوت الثور بريشة من ريشه، فيأكلون من لحمه فيجدون في طعمه طعم أشجار الجنة، إذا كان يوم القيامة جعل الله عز وجل حا ذلك الثور فسطاط أهل الأردن.
اسم الثور اليثيا، واسم الحوت بهموت.
موسى بن بغا الكبير
أبو عمران أحد قواد المتوكل الذين قدموا معه دمشق.
قال أبو القاسم عبيد الله بن سليمان: كنت أكتي لموسى بن بغا، وكنا بالري، وقاضيها إذ ذاك أحمد بن بديل الكوفي، فاحتاج موسى أن يجمع ضيعة هناك كان له فيها سهام ويعمرها، وكان فيها سهم ليتم، فصرت إلى أحمد بن بديل - أو فاستحضرته - وخاطبته في أن يبيع علينا حصة اليتيم، فامتنع وقال: ما باليتيم حاجة إلى البيع، ولا آمن أن أبيع ماله وهو مغن عنه، فيحدثه فامتنع وقال: ما باليتيم حاجة إلى البيع، ولا آمن أن أبيع ماله وهو مستغن عنه، فيحدث على المال حادث، فأكون قد ضيعته عليه. فقلت: إنا نعطيه في ثمن حصته ضعف قيمتها. فقال: ما هذا لي بعذر في البيع والصورة في المال إذا كثر، مثلها إذا قل. قال: فأخذته بكل لون وهو يمتنع، فأضجرني، فقلت له: أيها القاضي! لا تفعل، فإنه(25/283)
موسى بن بغا. فقال لي: أعزك الله، إنه الله تبارك وتعالى، قال: فاستحيت من الله أن أعاوده بعد ذلك وفارقته، فدخلت على موسى فقال: ما عملت في الضيعة؟ فقصصت عليه الحديث، فلما سمع: إنه الله تبارك وتعالى، بكى، وما زال يكررها ثم قال له: لا تعرض لهذه الضيعة، وانظر في أمر هذا الشيخ الصالح، فإن كانت له حاجة فاقضها، فأحضرته وقلت له: إن الأمير قد أعفاك من أمر لضيعة، وذلك أني شرحت له ما جرى بيننا، وهو يعرض عليك حوائجك. فدعا له وقال: هذا الفعل أحفظ لنعمته؛ وما لي حاجة إلا إدرار رزقي، فقد تأخر منذ شهور وأضر بي ذلك. قال: فأطلقت له جارية.
توفي موسى بن بغا سنة أربع وستين ومئتين.
موسى بن جمهور بن زريق البغدادي
ثم التنيسي السمسار حدث عن إبراهيم بن مروان الطاطري بسنده إل جابر بن عبد الله
أن رجلاً سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن وقت الصلاة، فسكت عنه، فأذن بلال بصلاة الظهر حين دلكت الشمس، فأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقام الصلاة، فصلى؛ ثم أذن بلال بالعصر حين ظننت أن ظل الرجل قد صار أطول منه، فأمره فأقام الصلاة، فصلى؛ ثم أذن بلال المغرب حين غربت الشمس، فأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقام الصلاة، فصلى؛ ثم أذن بلال العشاء حين ذهب بياض النهار، وهو أول الشفق، فأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقام الصلاة، فصلى؛ ثم أذن بلال بصلاة الصبح حين طلع الفجر، فأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقام الصلاة، فصلى؛ ثم أذن بلال في اليوم الثاني للظهر حين دلكت الشمس، فأمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقام الصلاة حين ظننا أن ظل الرجل قد صار مصثله، ثم أذن بلال للعصر، فأخر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة حين ظننا أن ظل الرجل قد كان مثليه، ثم أمره فأقام فصلى؛ ثم أذن بلال للمغرب فأخر الصلاة حتى كاد يذهب بياض النهار، وهو(25/284)
أول الشفق، ثم أمره فأقام الصلاة، فصلى؛ ثم أذن بلال للعشاء حين ذهب بياض النهار وهو الشفق، فنمنا ثم قمنا مراراً، ثم خرج إلينا فقال: إن الناس قد صلوا ثم ناموت، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة ولولا أن أشق على أمتي لأخرت الصلاة إلى هذا الوقت، فصلى قبل أن ينتصف الليل، ثم أذن بالفجر حين طلع الفجر، فأخر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة حتى أسفر، ورأى الرامي نبله؛ ثم أمره فأقام الصلاة، فصلى ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ فقال: ها أنا يا رسول الله. فقال: الوقت فيما بين هاذين الوقتين.
موسى بن الحسن بن عبد الله بن يزيد
أبو عمران السقلي، ويقال أبو عمرة حدث عن أبي عمر الخوضي بسنده إلى جابر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا ترتد بثوب واحد، ولا تشتمل به الصماء.
وحدث عن معاوية بن عطاء بسنده إلى عبد الله قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخصى أحد من بني آدم.
حدث بحديث في سنة اثنين وسبعين ومئتين.
موسى بن الحسن بن عباد بن أبي عباد
أبو السري الأنصاري النسائي ثم البغدادي المعروف بالجلاجلي حدث عن أبي عمر الخوضي بسنده إلى ابن عباس قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم عرفة، فجعل الفتى يلاحظ النساء(25/285)
وينظر إليهن، وجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشير بيده من خلفه، وجعل الفتى يلاحظن فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بن أخي! هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له.
توفي أبو السري الجلاجلي سنة سبع وثمانين ومئتين وقيل عنه: أن القعنبي قدمه في صلاة التراويح، فأعجبه صوته، فقال له: كأن صوتك صوت الجلاجل. فبقي عليه لقباً.
موسى بن الحسين بن علي
والد أبي الحسن بن السمسار حدث عن أبي بكر محمد بن رشيد البغدادي بسنده إلى خلف بن تميم الكوفي قال: كنا مع إبراهيم بن أدهم في مركب نغزو في البحر فعصفت علينا ريح شديدة فجاء أمير المركب إليه وهو نائم في كساه، فحركه فأنبهه، فقال له: ألا ترى إلى ما نحن فيه - يعني من الريح - فشال يده فقال: اللهم قد أريتنا قدرتك فأرنا عفوك. فصار البحر كأنه الزيت.
موسى بن سليمان بن موسى
أبو عمرو الأموي حدث عن القاسم بن مخيمرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أصاب مالاً من مأثم فوصل به رحماً، أو تصدق به، أو أنفقه في سبيل الله جمع ذلك جميعاً ثم قذف به في جهنم.
وحدث عنه قال: إن أفضل الصلاة عند الله عز وجل صلاة الصبح من يوم الجمعة، فيها تجتمع ملائكة الليل والنهار.
وحدث عنه أنه كان يقول: إذا راح الرجل إلى المسجد كانت خطاه: خطوة درجة، وخطوة كفارة، وكتب له بكل إنسان جاء من بعده قيراط قيراط.(25/286)
موسى بن سهل بن عبد الحميد
أبو عمران الجوني حدث عن هشام بن عمار بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يأكل أحدكم من أضحية فوق ثلاثة أيام، فكان ابن عمر لا يأكل في اليوم الثالث من لحم هدية.
مات أبو عمر سنة سبع وثلاث مئة
موسى بن سهل بن قادم
أبو عمران الرملي، أخو علي بن سهل حدث عن أبي الجماهر محمد بن عثمان بسنده إلى أبي هريرة
أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن ينتعل الرجل وهو قائم أو يتمسح بعظم أو برجيع دابة.
وحدث عن علي بن عياش بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: آخر الأمرين من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك الوضوء مما مست النار.
توفي موسى بن سهل سنة إحدى وستين ومئتين، وقيل سنة اثنتين وستين ومئتين.
موسى بن الصباح أبي كثير
أبو الصباح الأنصاري يعرف بموسى الكبير، ويقال الواسطي ويقال الهمداني قال موسى بن أبي كثير: قال ابن عباس: إن أم هانئ حدثته أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى يوم الفتح ثماني ركعات في بيتها. فقال ابن عباس: إن كنت لأحسب أن لهذه الساعة صلاة. يقول الله: " يسبحن بالعشي والإشراق ".
وحدث موسى بن أبي كثير عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال: طلبت خليلي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(25/287)
فقيل: بمكان كذا وكذا، فأتيته فوجدته عند شجرة يصلي. قال: فصلى صلاة طويلة ثم سجد حتى ظننت أنه نائم ثم انصرف، فقال لي: أبو ذر؟ قلت: ظننت أنك نائم من طول ما سجدت. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعطيت خمساً ل يعطهن نبي قبلي: أحل لي الغنائم؛ وبعثت إلى الأحمر والأسود والأبيض؛ ونصرت بالرعب؛ وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً؛ وأعطيت مسألة لأمتي يوم القيامة تنال من مات لا يشرك بالله شيئاً.
وكان موسى من المتكلمين في الإرجاء وغيره، وهو ممن وفد إلى عمر بن عبد العزيز، فكلمه في الإرجاء، وكان يرى القدر، وكان ثقة في الحديث.
وموسى بن أبي كثير سمع سعيد بن المسيب " فاسعوا إلى ذكر الله " قال: موعظة الإمام، فإذا قضيت الصلاة بعد ذلك.
وقال أبو الصباح: الكلامفي القدر أبو جاد الزندقة.
قال أبو عبد الله الشيباني: كنا جلوساً مع أبي جعفر، فاختصم هو وموسى بن أبي كثير طويلاً، قال أبو جعفر: هل رأيت منا ضالاً؟ قال: فقال رجل من القوم: نعم، أنت.
موسى بن صهيب
حدث موسى انه حضر الوليد بن بليد المري يسأل في إمرته على دمشق عن التكبير في صلاة العيد، فحدثه نفر فيهم فقهاء، فنظر إلى مكحول فقال: يا أبا عبد الله! ألا تقول؟ فقال: قد كان من الاختلاف ما قاتلوا: إن عمر بن عبد العزيز قد كفاكم من كان قبله، كبر سبعاً في الأولى وخمساً في الآخرة.(25/288)
موسى بن طلحة بن عبيد الله
ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة أبو عيسى أو أبو محمد القرشي التيمي قيل: إنه ولد في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو سماه، ووفد على الوليد بن عبد الملك.
حدث عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا صلى أحدكم فليجعل بين يديه مثل آخرة الرحل، ثم يصلي ولا يبال من مر وراء ذلك.
وحدث موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال: لما نزلت " وأنذر عشيرتك الأقربين " دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريشاً فجمعهم، فعم وخص قال: يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار؛ يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار؛ يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار؛ إني لا أملك لم من الله شيئاً، إن لكم رحماً سأبلها ببلالها.
قال عبد الملك بن مروان: دخل موسى بن طلحة على الوليد بن عبد الملك فقال له الوليد: ما دخلت علي قط إلا همما بقتلك، لولا أن أبي اخبرني أن مروان قتل طلحة.
وأم موسى خولة بنت القعقاع بن معبد بن زرارة، وكان يقال للقعقاع تيار الفارت من سخائه.
وتوفي موسى بن طلحة سنة ثلاث - أو أربع - ومئة وكتم من وجوه آل طلحة.
وأخو موسى لأمه محمد بن أبي الجهم بن حذيفة العبدي، وأبو الجهم صاحب(25/289)
رسول لله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الذي قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيخميصة ألبسها فصلى فيها: شغلني النظر إلى علمها، فاذهبوا بها إلى أب يجهم بن جذيفة وأتوني بان بجانيته.
وكان موسى بن طلحة يخضب بالسواد، وكان قد شد أسنانه بذهب.
قال مسوسى بن طلحة: صليت مع عثمان بن عفان على جنائز رجال ونساء، فجعل الرجال مما يليه، وجعل النساء مما يلي القبلة، وكبر أربعاً.
وكان موسى بن طلحة من فصحاء الناس.
قال خالد بن شمير:
لما ظهر الكذاب بالكوفة - يعني المختار بن أبي عبيد - هرب منه ناس من وجوه أهل الكوفة، فقدموا علينا البصرة، وكان فيمن قدم موسى بن طلحة بن عبيد الله، وكان في زمانه يرون أ، المهدي، فغشيه الناس وغشيته فيمن بغشاه من الناس، فغشينا رجلاً طيل السكوت، شديد الكآبة والحزن، إلى أن رفع رأسه يوماً فقال: والله لأن أعلم أنها فتنة لها انقضاء أحب إلي من كذا وكذا - واعظم الخطر - فقال له رجل: يا أبا محمد! ما لاذي ترهب أن يكون أعظم من الفتنة؟ قال: الهرج. قال له: وما الهرج؟ قال الذي كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدثونا: القتل القتل حتى تقوم الساعة، وهم على ذلك؛ والله لوددت أنه لو كان ذلك أني على رأس جبل لا أسمع لكم صوتاً، ولا أرى لكم داعياً حتى يأتيني داعي الله. قال: ثم سكت ساعة فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن - أو قال عبد الله بن عمر إما سماه وإما كناه -: والله إني أحسبه على العهد الذي عهد إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبدل ولم يغير، والله ما استفزته قريش في فتنتها الأولى، قال: فقلت في نفسي: إن هذا ليزرني على أبيه في مقتله.
قال موسى بن طلحة: كنت في سجن علي بن أبي طالب، فلما كان ذات يوم نودي بالباب: أين موسى بن طلحة؟ فقلت: هو ذا أنا، قال: أجب أمير المؤمنين. قال: فاسترجع أهل السجن،(25/290)
فخرجت فكنت بين يديه فقال: يا موسى بن طلحة! قلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: استغفر الله وتب إليه - ثلاث مرات - انطلق إلى المعسكر فما وجدت من سلاح أو ثوب أو دابة أو شيء فاقبضه واتق الله واجلس في بيتك.
قال عمر بن عبد العزيز لأبي بردة: هل بقي بالكوفة أحد في مثل سنك وشرفك؟ فكأنه لم يذكر أحداً، فقيل له: بلى، موسى بن طلحة.
موسى بن عامر بن عمارة
ابن خريم الناعم بن عمرو بن الحارث بن خارجة، أبو عامر بن أبي الهيذام المري الخريمي حدث عن الوليد بن مسلم بسنده إلى أسامة بن يزيد: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركب يوماً حماراً ياكاف عليه قطيفة فدكية، ردفه أسامة بن زيد يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، فمر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول قبل إسلامه، وفي المجلس أخلاط من الناس والمشركين من اليهود وعبدة الأوثان، فملا عشيهم غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر ابن أبي أنفة بردائه ثم قال: لا تغبر علينا. فسلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم وقف فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن فقال ابن أبي: أيها المرء! إنه لا أحسن ما تقول، فلا تؤذنا في مجلسنا وارجع إلى رحلك. يعني فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله! اغشنا في مجلسنا، فإنا نحب ذلك. فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يقتتلون فخفضهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى سكنوا، وسار حتى دخل على سعد فقال: أي سعد! ألم تسمع ما قال أبو الحباب؟ وخبرة بما كان، فقال سعد: يا رسول الله! اعف عنه واصفح، هو الذي أنول عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي أنزله عليك، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه، ويعصبون بالعصابة، فرد الله ذلك بالحق الذي أنزله عليك.(25/291)
وحدث أبو عامر عن سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: يمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقولك يمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول للمتلاعنين: حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها. قال الرجل: يا رسول الله! مالي مالي. قال لا مال لك، إن كنت صدقت لعيها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك آيس.
قال الحجاج لخريم الناعن: ما لا لعيش؟ قال: الأمن، إني رأيت الخائف لا ينتفع بعيش أبداً.
كان أبو الهيذام عامر بن عمارة بن خريم قد ضبط دمشق أيام الفتن، فوجه إلى الوليد بن مسلم ليحدث أبا عامر ابنه فكان الوليد يركب إليه ويحدثه فكان عند أبي عامر من كتب الوليد ما لم يكن عند الشيخين بدمشق هشام ودحيم، فلما مات هشام ودحيم أقبل إليه أصحاب الحديث فقالوا له: يا أبا عامر! حدثنا، فإن عندك شيئاً لا نثصيبه عند غيرك، فجلس لهم أبو عامر على كرسي، فحدثهم أول يومن والثاني والثالث، فلما كان في اليوم الرابع قام إليه رجل يكنى أبا المطيع خراساني من أصحاب الحديث، فقال له: يا أبا عامر! إن الناس يحيون أن يسمعوا ما تقول في التفضيل فقال: أبو بكر. قال: ثم من؟ قال: ثم عمر، قال: ثم من؟ قال: ثم عثمان. قال له أبو المطيع: جزاك الله خيراً، فهذه السنة وعلى هذا مضى السلف، فوضع أبو عامر سبابته في شدقه الأيسر وفقع تفقيعة عظيمة سمع صوتها، ثم قال: أوه! ما لعلي بن أبي طالب؟ وحق رسول الله لعلي بن أبي طالب خير من هؤلاء كلهم، فضحك الناس، فقال لهم أبو المطيع: ما أراد الشيخ إلا خيراً، ما أراد الشيخ إلا خيراً، وأدخل أبو الحسن سبابته في شدقه الأيسر وفقع تفقيعه عظيمة وقال: هكذا فقع أبو عامر.
قال أبو الحسن: أدركت من شوخنا، من شيوخ دمشق ممن يربع بعلي بن أبي طالب، وذكر جماعة ثم قال: وأبو عامر موسى بن عامر وبقيتهم لم يكونوا يربعون.
توفي أبو عامر موسى بن عامر سنة خمس وخمسين ومئتين.(25/292)
موسى بن العباس بن محمد
أبو عمران الجويني النيسابوري. رحال حدث عن محمد بن الأشعث بسنده إل عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا صلى قائماً في التطوع فشق عليه القيام ركع ثم سجد سجدتين ثم قعد فقراً ما بدا له وهو قاعد، فإذا أراد أن يركع قام فقراً بعض ما يريد أن يقرأ، ثم يركع ويسجد.
توفي موسى بن العباس سنة ثلاث وعشرين وثلاثمئة.
موسى بن عبد الله بن الحسن
ابن الحسن بن علي بن أبي طالب أبو الحسن الحسني كان قد وجهه أخوه محمد بن عبد الله حين ظهر بالمدينة، وبويع له بالخلافة إلى الشام ليدعوه إلى طاعته، فوصل إلى دومة الجندل، ورجع إلى البصرة، واختفى بها حتى أخذ وحمل إلى المنصور، وقيل: إنه دخل الشام ودعاهم إلى البيعة لأخيه فلم يجيبوه، فاختفى ثم رجع.
حدث عن أبيه بسنده إلى علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج.
وأم موسى هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد.
وحملت به أمه وهي بنت ستين سنة، يقال: لا تحمل لستين سنة إلا قرشية، ولا تحمل لخمسين سنة إلا عربية.
وكان موسى بن عبد الله اخفتى بالبصرة فأخذه المنصور وعفا عنه بعد أن ضربه سبعين سوطاً.(25/293)
وكان موسى آدم، وله تقول أمه هند: من مجزوء الرجز
إنك إن تكون جوناً أنزعا
أجدر أن تضرهم وتنفعا
وتسلك العيس طريقاً مهيعا
فرداً من الأصحاب أو متعسا
وموسى هو الذي يقول: من الهزج
تولت بهجة الدنيا ... فكل جديدها خلق
وخان الناس كلهم ... فما أدري بمن أثق
رأيت معالم الخيرا ... ت سدت دونها الطرق
فلا حسب ولا نسب ... ولا دين ولا خلق
فلست مصدق الأقوا ... م في قول وإن صدقوا
وقيل: إن المنصور لما ظفر به بعد قتل أخويه محمد وإبراهيم ضربه ألف سوط فلم ينطق، فقال: عجبت من صبر هؤلاء على عقوبة السلطان! فما بال هذا الفتى الذي لم تره عين الشمس، وسمع موسى قوله فقال: من الكامل
إني من القوم الذين يزيدهم ... جلداً وصبراً قسوة السلطان
كتب موسى بن عبد الله إلى زوجته أم سلمة بنت محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق يستدعيها إلى الخروج إليه إلى العراق فلم تفعل: من الطويل
لا تتركيني بالعراق فإنها ... بلاد بها أس الخيانة والغدر(25/294)
فإني زعيم أن أجيء بضرة ... مقابلة الأجداد طيبة النشر
غذا انتسبت من آل شيبان في الذرا ... ومرة لم تحفل بفضل أبي بكر
وقال فيها غير ذلك أيضاً، فأجابه الربيع بن سليمان: من الطويل
أبنت أبي بكر تكيد بضرة ... لعمري لقد حاولت إحدى الكبائر
تغط غطيط البكر شد خناقه ... وأنت مقيم بين ضوجي عبائر
التقى العباس بن محمد وموسى بن عبد الله فقال له العباس: يا أبا حسن! ما رثيت به أصحابك والذين قتلوا بفخ؟ قال: قد قلت:
بني عمنا ردوا فضول دمائنا ... ينم ليلكم أو لا يلمنا اللوائم
فقال العباس: دماً والله لا يرد عليك أبداً. فقال وسى بن عبد الله: ذلك إذا كان الأمر لك فصدقت.
قوله: ينم ليلكم؛ أي تامنون باساً والأخذ بثأرنا، وتمامون في ليلكم آمنين غير خائفين، وتستقر بكم مضاجعكم؛ والعرب تقول: ليل نائم، وسر كاتم، تريد: ليل منوم فيه، وسر مكتوم.
تعرض رجل لموسى بن عبد الله فسبه فتمثل موسى ببيتي ابن ميادة: من الطويل
أظنت سفاهاً من سفاهة رأيها ... أن أهجوها لما هجتني محارب
فلا وأبيها إنني بعشيرتي ... ونفسي عن اك المقام لراغب(25/295)
موسى بن عبد الرحمن بن موسى بن محمد
ويقال ابن صالح، أبو عمران الصباغ إمام جامع بيروت.
حدث عن الحسن بن جرير بسنده إلى عقبة بن عامر: أن رجلاً سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الناس خير؟ قال: من يطعم الطعام، ويقرئ السلام على من عرف ومن لم يعرف.
وحدث عن عثمان بان خرزاذ بسنده إلى أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: حبب إلي النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة.
موسى بن عبد العزيز بن الرماح الدمشقي
حث عن سفيان بن عيينة بسنده إلى ابن عباس قال: لما قتل ابن آدم أخاه قال آدم صلى الله على نبينا ولعيه السلام: من الوافر
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون ... وفات بشاشة الوجه الصبيح
قتل قابيل هابيلاً أخاه ... فواحزني على الوجه المليح
فأجابه إبليس لعنه الله: من الوافر(25/296)
تنح عن البلاد وساكنيها ... فبي في الخلد ضاق بك السيح
وكنت بها وزوجك في رخاء ... وقلبك من أذى الدنيا مريح
فما انفكت مكايدتي ومكري ... إلى أن فاتك الثمن الربيح
فلولا رحمة الجبار أضحى ... بكفي من جنان الخلد ريح
موسى بن عبد الملك بن هشام أبو الحسين الكاتب من كتاب المتوكل، ورد معه دمشق.
قال موسى بن عبد الملك: رايت في النوم وأنا في الحبس قائلاً يقولك من مخلع البسيط
لا زلت تعلو بك الجدد ... نعم وحفت بك السعود
أبشر فقد آن ما تريد ... يبيد أعداءك المبيد
لم يمهلوا ثم لم يقاتلوا ... والله يأتي بما تريد
فاصبر فصبر الفتى حميد ... واشكر فمع شكرك المزيد
توفي أبو الحسين بن عبد الملك بالفالج سنة سبع وأربعين ومئتين.
موسى بن عقبة أبو محمد المدني مولى آل الزبير، صاحب المغازي.
حدث عن أم خالد بنت خالد - قال: لم أسمع أحداً يقول سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيرها - قالت: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعوذ من عذاب القبر.
كان بالمدينة شيخ يقال له شرحبيل أبو سعد، وكان من أعلم الناس بالمغازي، فاتهموه أن يكون يجعل لمن لا سابقة له سابقة، وكان قد أحتاج فأسقطوا مغازيه وعلمه،(25/297)
فسمع بذلك موسى بن عقبة فقال: وإن الناس قد اجترؤوا على هذا! فدب على كبر سنه وقيد من شهد بدراً فاحداً، ومن هاجر إل أرض الحبشة والمدينة، وكتب ذلك.
كان مالك إذا سئل عن المغازي قال: عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة، فإنه أصح المغازي.
قال المسور بن عبد الملك المخزومي لمالك: يا أبا عبد الله! فلان كلمني يعرض عليك وقد شهد جده بدراً. فقال مالك: لا أدري ما تقولون، من كان في كتاب موسى بن عقبة قد شهد بدراً فقد شهد بدراً، ومن لم يكن في كتاب موسى بن عقبة فلم يشهد بدراً.
وعن هشام بن عروة قال: إنما كنت أجيء إلى المدينة من أجل موسى بن عقبة أنها، فلما مات موسى بن عقبة تركت المدينة، وكان مؤاخياً له، وكان هشام بن عروة إذا قدم المدينة أخلوا له مصلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
توفي موسى بن عقبة سنة إحدى وأربعين، اثنتين وأربعين ومئة.
موسى بن علي بن رباح بن قصير
ابن القشيب بن يثيع بن أزدة بن حجر بن جزيلة ابن لخم بن عمرو أبو عبد الرحمن اللخمي المصري زفد على هشام بن عبد الملك من المغرب، وولي مصر للمنصور سنة تسني.
حدث عن أبيه بسنده إلى عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فضل ما بين صيامكم وصيام أهل الكتاب أكلة السحر.
وحدث عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الحسد في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فقام به، وأحل حلاله وحرم حرامه؛(25/298)
ورجل آتاه اله مالاً، فوصل به أقرباءه ورحمه، وعمل بطاعة الله؛ تمنى أن يكون مثله. ومن تكن فيه أربع فلا يضره مازوي عنه من الدنيا: حشن خليقة، وعفاف، وصدق حديث، وحفظ أمانة.
وعلي، بضم العين وفتح اللام، وكان يكره أن يقال له علي، ويقول: لا أجعل في حل من ينسبني إلى علي، أنا ابن علي بن رباح، ومن قال علي فقد اغتابني.
ولد موسى بن علي سنة سبع وثمانين، وتوفي سنة ثلاث وستين ومئة بالإسكندرية. وكان رجلاً صالحاً يتقن حديثه، من ثقات المصريين.
موسى بن علي بن محمد بن علي
أبو عمران النحوي الصقلي حدث عن عبد بن أحمد بسنده إلى بكير بن وهب الجزري قال: قال لي أنس: إني أحدثك حديثاً ما حدثته كل أحد، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام على باب بيت ونحن فيه فقال: الأئمة من قريش من بعدي، إن لهم عليكم حقاً، ولكم عليهم مثل ذلك، ما إن استرحموا رحموا، وإن عاهدوا اوفوا، وإن حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجميعن.
قال أبو عمران: حفظت القرآن ولي تسع سنين، وجودته ولي إحدى عشرة سنة.
وتوفي أبو عمران سنة سبعين وأربع مئة.(25/299)
موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث
ويقال: عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم الخليل كليم الرحمن صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم روي أن قبره بين عليه وعويله وهما محلتان كانتا بقرب مسجد القدم.
ويقال إنه رئي في النوم قبره فيه، والصح أن قبره بيته بني إسرائيل وسأتي الاختلاف فيه.
والأطوار التي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عليها أربعة أطوار: طور سيناء وهو في البية بالقرب من بحر قلزم، والطور الذي ببيت المقدس، والطور الذي في طبرية عند أكسال، والطور الذي بدمشق، وهو جبل كوكب موضع الكنيسة الخربة، وقد بني في هذه المواضع كنائس باقية إلى الساعة إلا كنيسة كوكباً فإنها خراب.
روي أنه أول نبي بعث: إدريس، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم إسماعيل وإسحاق ويعقوب بن إسحاق، ثم يوسف بن يعقوب، ثم لوط، ثم هود، ثم صالح، ثم شعيب، ثم موسى وهارون.
وكان حاز حزا لفرعون فقال: إنه يولد في هذا العام غلام يذهب بملككم، وكان فرعون يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم حذراً لقول الحازي، وذلك قول اله عز وجل: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ومجعلهم الوارثين " إلى قوله: " يحذون " قوله: " ونجلعهم الوارثين " أي يرثوا الأرض بعد فرعون. قال: " وأوحينا إلى أم موسى " قال: قرر في نفسها " أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم " إلى قوله: " وهم لا يشعرون " قال: لا يشعرون أن هلالاكهم على(25/300)
يديه. وقوله: " لولا أن ربطنا على قلبها " قال: ربط الله على قلبها بالإيمان. وقوله: " وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً "، قال: من كل شيء إلا من ذكر موسى، و" إن كادت لتبدي به " فتقول: وابنياه.
ولما أكثر فرعون القتل في بني إسرائيل، ورأى عظماء قومه ما يصنع اجتمع نفر من عظمائهم وأشرافهم وذوي السن منهم، وقال بعضهم لبعض: ألا ترون إلى الملك يذبح الصغير من بني إسرائيل، وأن الكبار يموتون بآجالهم، وقد أسرع القوابل في نساء بنس إسرائيل وأمرهن أن لا يسقط على ايديهن وليد من بني إسرائيل إلا ذبحوه، وقد ترون ما يصنع بالحبالى، وكيف يعذبهن حتى يطرحهن حتى ما في بطونهن، فيوشك أن يفني بني إسرائيل ويستأصلهم، فنصير نحن بغير خدم، وتصير الأعمال التي كانوا يكفوناها في أعناقنا، وإنما بنو إسرائيل خدمنا وخولنا؛ فانطلقوا بنا إلى الملك حتى نشير عليه برأينا. فانطلقوا حتى دخلوا على فرعون فقالوا: أيها الملك! قد أفنيت بني إسرائيل، وقطعت النسل، وإنما هم خدمك، وهم لك خول طائعون، فاستبقهم لذلك ومر أن يرفع عنهم الذبح عاماً أو عامين حتى يشب الصغار.
فأمر فرعون أن يذبحوا عاماً ويستحيوا عاماً فحملت أم موسى بهارون في السنة التي لا يذبح فيها الغلمان، فولدت هارون علانية آمنة من الذبح حتى إذا كان العام القابل الذي يذبح فيه الغلمان حملت بموسى، فوقع في قلب أم موسى الهم والحزن من أجل موسى، تخشى عليه كيد فرعون، وكان هارون أكبر من موسى عليهما السلام، ولما تقارب ولاد أم موسى كانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لام موسى، فلما ضربها الطلق أرسلت إليها فقالت: قد ترين ما نزل بي، ولينفعني حبك إياي اليوم، فعالجت قبالها، فلما أن وقع موسى بالأرض هالها نور بين عينيه، فارتعش كل مفصل منها، ودخل حب مسوى في قلبها ثم قالت لها: يا هذه! ما جئت إليك إلا ومن رآني أقتل مولودك وأخبر فرعون، ولكن قد وجدت لابنك هذا حباً ما وجدت مثله، واحفظي ابنك، فإني أراه هو عدونا.(25/301)
فلما خرجت من عندها وحراس فرعون وعيونه على القوابل ينظرون أين يدخلن وأين يخرجن؛ فإن وجدوا قابلة تداهن أو تكتم، واطلعوا على ذلك منها قتلوها والمولود، فلما خرجت القابلة من عند أم موسى أبصرها بعض العيون، فجاء غل بابها ليدخلوا على أم موسى، وكانت أخت موسى قد سجرت تنورها لتخبز، فسمعت الجلبة بالباب فقالت: يا أمتاه! هذا الحرس بالباب. فلقت موسى في خرقة، ثم سولت لها نفسها، فوضعته في التنور وهو مسجور، وطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع خوفاً على موسى، وكان ذلك إلهاماً من الله عز وجل لما أراد بعبده موسى، فدخلوا فإذا التنور مسجور، وإذا أم موسى لم يتغير لها لون، ولم يظهر لها لين. فقالوا لها: ما أدخل عليك القابلة؟ قالت: هي مصافية لي. فدخلت علي زائرة، فخرجوا من عندها، فرجع إليها عقلها، فقالت لأخت موسى: فأين الصبي؟ قالت: لا أدري، فسمع صوت بكاه من التنور، فانطلقت إليه، وقد جعل الله عليه النار برداً وسلاماً، فاحتملت الصبي فأرضعته، وذلك قول الله عز وجل: " وأوحينا إلى أم موسى " بعد ذلك، وإنما كان هذا الوحي إلهاماً من الله " أن أرضعيه " فأرضعته ولا تخاف شيئاً، فذلك قوله: " فإذا خفت عليه " فاجعليه في التابوت ثم اقذفيه في اليم " ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ".
وكانت أم موسى لما حملت به كتمت أمرها جميع الناس، فلم يطلع على حبلها أحد من خلق الله، وذلك شيء ستره الله لم أراد أن يمن به على بني إسرائيل.
فلما كانت السنة التي يولد فيها بموسى بعث فرعون القوابل وأمرهن يفتشهن النساء تفتيشاً لم يفتشنه قبل ذلك، ولم ينب بطن أم موسى ولم يتغير لونها، ولم يظهر لبنها، وكانت القوابل لا يعرضن لها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها موسى ولدته أمه ولا رقيب عليها ولا قابلة، ولم يطلع أحد إلا أخته مريم، وأوحي الله إليها " أن أرضعيه فإذا خفت عليه " الآية، فكتمته أمه ثلاثة أشهر ترضعه في حجرها لا يبكي ولا يتحرك؛ فلما خافت عليه عملت له تابوتاً مطبقاً ومهدت له فيه، ثم ألقته في البحر ليلاً كما أمرها الله، فلما(25/302)
أصبح فرعون جلس في مجلسه على شاطئ النيل، فبصر بالتابوت فقال لمن حوله من خدمه: ائتوني بهذا التابوت، فوضع بين يديه وفتحه، فوجد فيه موسى، فلما نظر إليه فرعون قال: عبارني من الأعداء. فغاظه ذلك وقال: كيف أخطأ هذا الغلام الذبح؟! وكان فرعون قد استنكح امرأة من بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم، وكانت من خيار النساء، ومن بنات الأنبياء، وكانت أماً للمسلمين، ترحمهم وتتصدق عليهم وتعطيهم، ويدخلون عليها، فقالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه: هذا الولد أكبر من ابن سنة، وإنما أمرت أن يذبح الولدان لهذه السنة، فدعه يكن قرة " عين لي ولك، لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً وهم لا يشعرون " بأن هلاكهم على يده، فاستحياه فرعون وومقه، القي الله عليه محبته ورأفته، وقال لمرأته: عسى أن ينفعك فأما أنا فلا أريد نفعه. ولو أن عدو الله قال في موسى كما قالت أسية: عسى أن ينفعنا، لنفعه الله به، ولكنه أبى، للشقاء الذيس كتبه الله عليه.
وحرم الله المراضع على موسى ثمانية أيان ولياليهن، كلما أتي بمرضعة لم يقبل ثديها، فرق فرعون إليه ورحمه، وطلب له المراضع، وحزنت أم موسى وبكت عليه، حتى كانت أن تبدي به، ثم تداركها الله برحمته، وربط على قلبها، وقالت لأخته: تنكري واذهبي مع الناس فانظري ماذا يفعلون به. فدخلت أخته مع القوابل على أسية نبت مزاحم، فلما رأت وجدتهم بموسى وحبهم له ورأفتهم عليه قالت: " هل أذلكم على أهل بيت يكفلونه لكن وهم له ناصحون "؟ فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، وما عاينت وما سمعت منهم، فانطلقت أم موسى حتى انتهيت إليهم متنكرة فقالت لهم: هل تريدون ظئراً؟ قالوا: نعم. فناولوها موسى، فوضعته في حجرها، فلما شم ريح أمه عرفها فوثب إلى ثدي أمه فمصه حتى روي، فلما رده الله إلى أمه وقبل ثديها استبشرت آسية وقالت لأم موسى: إن شئت امكثي عندي ترضعين ابني هذا، فإني لم أحب حبه شيئاً قط. فقالت لها أم موسى: لا أستطيع أن أترك بيتي وولدي وزوجي وأقيم عندك، ولكن إن طابت نفسك أن تدفعيه إلي، فأذهب به إلى بيتي، فيكون عندي لا ألوه خيراً.(25/303)
وذكرت أم موسى ما كان الله صنع لها في موسى فتعاسرت عليهم وعلمت أن الله مبلغ موسى ومنجز وعده. قال: فدفعت إليها ابنها، فرجعت به إلى بيتها، فبلغ من لطف الله لها ولموسى أن الله رد عليها ابنها، وعطف عليها فرعون وأهل بيته بالمنفعة حتى كأنهم كانوا من أهل بيت فرعون، من المان والسعة، فلم يزل موسى في كرامة الله عز وجل، وهو في منزل والدته، فلما ترعرع وشب وتكلم، وكانت امرأة فرعون إذا أرداته بعثت إليه، فيحمل إليها في الفرسان والخدم حتى يدخل عليها، ولما فطمته أمه ردته، فنشأ في حجر فرعون وامرأته يربيانه بأيديهما، واتخذاه ولداً، فبينا هو يلعب يوماً بين يدي فرعون، وبيده قضيب يلعب به إذ رفع القضيب فضرببه رأس فرعون، فغضب فرعون وتطير من ضربه حتى هم بقتله، فقالت آسية: أيها الملك! لا تغضب، ولا يشقق عليك، فإنه صبي صغير لا يعقل، جربه إن شئت، اجعل في هذا الطست جراً وذهباً، فانظر على أيهما يقبض، فأمر فرعون بذلك، فلما مد موسى يده ليقبض على الذهب قبض الملك الموكل به على يده فردها إلى الجمرة، فقبض عليها مويى، فألقاها في فيه، ثم قذفها حين وجد حرارتها، فقالت آسية لفرعون: أن أفل لك إنه لا يعقل شيئاً؟ فكف عنه فرعون وصدقها، وكان أمر بقتله.
ويقال: إن العقدة التي كانت في لسان موسى أثر تلك الجمرة التي التقمها.
ولما أرادت أم موسى أن تجل ولدها في التابوت انطلقت إلى نجار من مصر من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتاً صغيراً، فقال لها النجار: ما تصنعين بهذا التابوت؟ قالت: ابن لي أخبؤة في التابوت - وكرهت أن تكذب - قال: ولم؟ قالت: أخشى عليه كيد فرعون. فلما اشترت منه التابوت وحملته انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى، فلما هم بالكلام أمسك الله لسانه، فلم يطق الكلام، وجعل يشير بيده، فلم يدر الأمناء ما يقول، فلما أعياهم أمره قال كبيرهم: اضربوا هذا المصاب، فضربوه حى أخرجوه، فلما انتهى إلى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم، فانطلق أيضاً يريد الأمناء، فأتاهم ليخربهم، فأخذ الله لسانه وبصره، فلم يطق الكلام ولم يبصر شيئاً، فضربوه(25/304)
وأخرجوه من عندهم لا يبصر شيئاً، فوقع في وادي يهودي فيه حيران، فجعل لله إن رد عليه لسانه وبصره أن لا يدل عليه، وأن يكون من تبعه، يحفظه حيث ما كان، فعرف الله منه الصدق، فرد عليه بصره ولسانه، فخر لله ساجداً وقال: يا رب! دلني على هذا العبد الصالح. فدله الله عليه، فخرج من الوادي فآمن به وصدق به، وعلم أن ذلك من الله.
وانطلقت أم موسى بالتابوت إلى منزلها فمهدت فيه لموسى ثم لفته في الخرق، ثم أدخلته التابوت، فأطلقت عليه، فنظرت ألسحرة والكهنة إلى نجم موسى، فإذا مجمه ورزقه قد غاص في الأرض، وخفي عليهم نجمه، وذلك حين أدخلته أمه في التابوت، فخفي على الكهنة، فلما أبصروا ذلك فرحوا فرحاً شديداً، ورفعوا أصواتهم بالغناء، وأسرعوا البشارة إلى فرعون وهم يظنون أن قد ظفروا بحاجتهم، وأن موسى قد قتل فيمن قتل من ولدان بني إسرائيل فقالوا: أيها الملك! إن نجم المولود الذي تحذر مه غاص في الأرض وذهب رزقه. ففرح فرعون وذهب عنه الغم، وظن أنها ستراح منه، فأمر للكهنة والسحرة بجوائز وكسوة، وأمر بالجهاز والخروج من الإسكندرية، وكان لفرعون يومئذ ابنة، لم يكن له ولد غيرها، وكانت من أكرم الناس عليه، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون، وكان بها برص شديد مسلخة برصاً، وكان فرعون جمع لها أطباء مصر والسحرة، فنظروا في أمرها وقالوا: إنها لا تبرأ إلا من قبل البحر، يؤخذ منه شيء شبه الإنسان، فيؤخذ منه ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك، وذلك في يوم كذا وكذا حين تشرق الشمس، فلما كان يوم الإثنين غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل، ومعه امرأته آسية، وأقبلت ابنة فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل، فبينا هي كذلك مع جواريها تنضح الماء على وجوههن وتلاعبهن، وعمدت أم موسى إلى التابوت فقذفته في النيل، فانطلق الماء بالتابوت حتى توارى عنها، فجاء الشيطان فندمها وأنساها ما كان الله عز وجل ألهمها إذ جعلته في التنور، فجعل الله عليه النار برداً وسلاماً؛ وندمت حين جعلته ي التابوت وقالت: لو ذبح ابني بين يدي كنت(25/305)
أكفنه وأدفنه في التراب، وكان أحب إلي وأسلي لهمي من أن ألقيه في البحر، فيأكله دواب البحر وحيتانه، ثم ذكرها الله ما أنساها الشيطان فقالت: إن الذي خلصه من النار سيحفظه في اليم، فاحتمل النيل التابوت حتى تعلق بشجرة مما يلي فرعون، فبينا فرعون في مجلسه إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج، فقال فرعون: إن هذا لشيء في البحر قد تعلق بالشجرة، ترفعه الأمواج وتضعه، ائتوني به. فابتدروه بالسفن من كل جانب، حتى وضعوه بين يده، فعالجوا فتح التابوت فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه فدنت آسية فرأن في جوف التابوت نرواً لم يره غيرها، للذي أراد الله أن يكرمها، فعالجته ففتحت التابوت، فإذا هي بصبي صغير فيمهده، فإذا نور بين عينيه، وقد جعل الله رزقه في البحر في إبهامه، وإذا إبهامه في فيه، يمصه لبناً، وألقي الله لموسى المحبة في قلب آسية، فلم يبق منها عضو ولا شعر ولا بشر إلا وقع فيه الاستبشار، فذلك قوله: " وألقيت عليك محبة مني "، وأحبه فرعون وعطف لعيه.
وأقبلت ابنة فرعون، فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت ابنة فرعون إلى ما كان يسيل من ريقه ولعابه فلطخت به برصها وقبلته وضمته إلى صدرها، وجعل فرعون يفعل كفعلها لما يرى من سرورهم به، فأخذته آسية فضمته إلى نفسها، فقالت الغواة من قوم فرعون: إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل، هو هذا رمي به في البحر فرقاً منك، فاقتله مه من قتلت منهم. فهم به فمنعه الله منه، فلما هم بقتله قالت إمراته آسية: لا تقتله " قرة عين لي ولك " لا تقتله " عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً " وكانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها، وقال فرعون: أما أنا فلا حاجة لي فيه. فقالت لآسية: سميه. قالت سميته موشى. قيل: ولم سميته موشى؟ قالت لأنا وجدنا في الماء والشجر ف مه هو الماء وشى هو الشجر فسموه موشى، ماء وشجر.(25/306)
قال قتادة في قوله: " وألقيت عليك محبة مني "، قال: كانت ملاحة في عيني موسى لم يرهما أحد قط إلا أحبه.
وقال سلمة بن كهيل: " وألقيت عليك محبة مني "، قال: حببتك إلى عبادي.
وقال ابن المبارك: أوحى الله تعالى إلى موسى: تدري لم ألقيت عليك محبتي؟ قال: لا يا رب. قال: لأنك اتبعت مسرتي.
وقال أبو عمران الجوني: " ولتصنع على عيني " قال: تربى بعين الله عز وجل.
وقال ابن عباس: في قوله: " وحرمنا عليه المراضع من قل " قال: ليس يعني النساء، ولكن يعني حلم الثدي، وكان لا يقبل ثدي امرأة، فجعل لا يقبل حلمة امرأة، فكبر ذلك على امرأة فرعون، فقالوا لها: أرسلي إلى نساء بني إسرائيل التي قتل أولادهن، لعلك تجدين من يقبل هذا الصبي ثديها منهن، فأرسلت، فجعلت تعرضهن على موسى مرضعاً بعد مرضع، فلم يقبل منهن شيئاً حتى أشفقت آسية أن يمتنع من الرضاع فيهلك، حتى جاءت أمه، فلما أن شم ريح أمه عرفها فوثب إلى ثدي أمه فمصه حتى روي.
وعن أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليلة أسري بي مررت بموسى بن عمران فنعته النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رجل - حسبته قال: مضطرب - رجل الرأس، كأنه من رجال شنوءة.(25/307)
وفي حديث جابر مثله، ورأيت عيسى، فإذا أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود، ورأيت إبراهيم إليه السلام، فإذا أقرب من رأيت به شبهاً صاحبكم - يعني نفسه - ورأيت جبريل عليه السلام، فأقرب من رأيت به شبهاً دحية.
وعن ابن عباس: أن بني إسرائيل لما شب موسى نظروا إلى المبعث الذي كانوا يجدون في كتبهم، أن الله عز وجل مخلص بني إسرائيل على يديه.
وقال وهب بن منبه: إنهم قالوا لموسى: إن آباءءنا أخبرونا أن الله عز وجل يفرج عنا على يدي رجل أنت شبه، فتكون لنا الأرض كما كانت أول مرة في زمن يعقوب، وإنما سخط الله علينا وملك فرعون علينا لأنا لم نطعربنا، لم نصدق رسلنا فجعل موسى يقول لهم: أبشورا يا بني إسرائيل ثم أبشروا، فإني أرجو أن يكون قد تقارب ذلك، فاتقوا الله وأطيعوه، ولا تسخطوه كما أسخطمتوه أول مرة، فلا يرضى عنكم أبداً. قالوا: يا موسى! أما تقدر أن تشفع لنا إلى فرعون بمنزلتك عنده أن يرفه عنا شهراً من العمل، فقد قرحت أيدينا ومناكبنا من نقل الحجارة وبناء المدائن، فنستريح شهراً فقد كسرت ظهورنا وذهبت قوتنا. فقال لهم موسى: فهل تعلمون يا بني إسرائيل أن الذين أنتم فيه من البلاء عقوبة من الله للذين سلف من ذنوبكم. قالوا: يا موسى! ما منا صغير ولا كبير إلا وهو يعرف ذلك، مقر على نفسه بخطيئته. قال لهم موسى! ما منا صغير ولا كبير إلا وهو يعرف ذلك، مقر على نفسه بخطيئته. قال لهم موسى: فما عليكم من الشكر إن هلك عدوكم وفرج عنكم وردوكم إلى ملككم؟ قالوا: يا موسى! وهل يكون ذلك أبداً؟ قال عسى الله أن يفعل بكم ذلك، فينظر كيف شكركم وحمدكم عند الرخاء، وصبركم عند البلاء.
قال وهب: وكذلك الأنبياء يجري الله الحكمة على ألسنتهم من قبل الوحي، فقالوا: يا موسى! إذاً والله نكثر صلاتنا وصيامنا ونواسي المساكين في اموالنا ونظع الجائع، ونكسو العاري، ونطيع ربنا ورسلنا. قال موسى: يا بني إسرائيل! زعموا أن عبداً من عبيد الله غضباً عضباً في الله على قومه أنهم عبدوا الأوثان من دون الله، فعمد إلى تلك الأوثان فكسرها غضباً لله عز وجل؛ فأخذه قومه فالقوة في النار، فأمر الله النار أن تكون برداً وسلاماً، فأنجاه الله من تلك النار، لما علم من صدق نيته، قالوا:(25/308)
يا موسى! هذا هو إبراهيم الخليل بن تارح هو أبو إسحاق، وهو جد يعقوب، وهو إسرائيل أبونا.
فلما فرغوا من حديثهم خلابة فتى من قومه فقال لموسى: لولا أني أخاف لأخبرتك خبراً صادقاً إنك أنت الذي نرجوه، ولكنك من فرعون بمنزلة، وهو يحبك حباً شديداً. فقال له موسى: وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب إلهاً واحداً، لا أحلف بعزة فرعون المخلوق الضعيف إلا ما أخبرتني الخبر كله. فقال له الفتى: يا موسى! أشهد بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط أنك الذي نرجو وننتظر أن يهلك الله عدونا على يده ويفرج عنا به. قال له موسى: وإله بني إسرائيل إني لأحبكم حب الوالدة لودها وحب الأخ لأخيه؛ ولا يغرنكم حب فرعون إياي، فإن أكمن أنا ذاك أو غيري. قال: فلم يزل موسى يتآلفهم ويتآلف بهم ويتحدث معهم حتى صار موسى أحب إليهم من أبائهم وأمهاتهم، وصاروا إذا قعدوا ساعة كالغنم لا راعي لها. ثم إن موسى وأخاه ذلك الرجل في الله، وجرت بينهما المودة، ثم ثم إنه خلابه موسى لما أراد الله بذلك الفتى من السعادة، فأفشى إليه موسى سره وما هو عليه من يدنه، وأخذ عليه عهد الله وميثاقه ألا يخبر به أحداً حتى يظهر الله ذلك الأمر، فحلف الفتى بإله بني إسرائيل ليجتهدن في الأمر، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولو أحرقت بالنار.
فأنبت اله موسى نباتاً حسناً حتى بلغ أشده، فآتاه الله حكماً وعلماً - يعني فهماً في دينه ودين آبائه وشرائعهم - وصار لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه، يقتدون برأيه ويجتمعون إليه، فلما عرف ما هو عليه من الحق، وبان له أم ر فرعون وما هو عليه من الباطل، وعرف عداوته له ولبني إسرائيل علم أن فراق فرعون خير له في دينه ودنياه وأخرته. فتكلم موسى بالحق وعاب المنكر، ولم يرض بالباطل والظلم والإشراك بالله، حتى ذكر ذلك منه في مدينة مصر، وما صنع بأهلها، وحتى علموا أن دينه ورأيه مخالف لهم؛ فلما اشتد عليهم أمر موسى رفعوا أمره إلى فرعون، فأمرهم فرعون أن لا يعرضوا له إلا(25/309)
بخير، ونهاهم عنه حتى صار من أمر أهل مصر أنهم خافوا موسى خوفاً شديداً، وكن لا يلقى موسى أحداً منهم إلا هربوا منه حتى لا يستطيع أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل، ولا يصل إلى ظلمه ولا يسخره، وامتنعت بنو إسرائيل في كنف موسى كل الامنتاع، فلما اشتد عليهم أمر موسى نصبوا له العداوة في كل نواحي المدينة ليقتلوه، فصار من أمر موسى لا يدخل المدينة إلا خائفاً مستخفياً، فبينا موسى ذات يوم وهو داخل " المدينة على حين غفلة من أهلها " يعني عند الظهيرة وهم قائلون " فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته " يعني من شيعة موسى، والآخر " من عدوه " يعني من آل فرعون كافراً " فاسغائه الذي من شعته " وهو الإسرائيلي " على الذين من عدوه " يعني بع القطبي، وكان موسى أوتي بسطه في الخلق، وشدة في القوة، فدنا موسى منهما، فإذا هو بالفتى المؤمن الذي كان عاهده موسى وأفشى إليه سره، وقد تعلق به عظيم من عظماء الفراعنة، يريد أن يدخله على فرعون، فقال له موسى: ويحك، خل سبيله، قال له الفرعوني: هل تعلم يا موسى أن هذا الفتى سب سيدنا فرعون؟ فقال له موسة: كذبت يا خبيث؟ بل السيد الله، ولعنة الله على فرعون، فنازعه موسى فلم يخل عنه " فوكزه موسى " وكزة على قلبه " فقضى عليه " ولم يكن يريد قتله، وليس يراهما إلا الله والفتى الإسرائيلي الذي كان من شيعه موسى. فقال موسى حين قتل الرجل: " هذا من عمل الشيطان " يعني من تزيين الشيطان " إنه عدو مضل مبين، قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ".
وقيل: إن موسى نبي الله قال: يا رب؟ لا ترني النفس التي قتلت يوم القيامة. قال الرب: ألم أغفره لك يا موسى؟ قال: بلى، ولكن أخشى مما أرى من عذلك أن يكون لقلبي روعة يوم القيامة. قال: فجنبه ألا تراه.
وعن ابن عباس قال: إن موسى كان قد جعل الله له نوراً في قلبه قبل نبوته، فلما قتل الرجل خمد ذلك(25/310)
النور، فلم يحس به، فقال عند ذلك: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي. فعرف الله منه الندامة، فرد عليه النور في قلبه وغفر له، إنه هو الغفور الرحيم.
وكان موسى بعد ذلك خائفاً وجلاً، حتى جاءته النبوة، فأوحى الله إليه: لو أن النسمة التي قتلتها أقرت لي ساعة من نهار أني خالقها ورازقها لأذقتك طعم العذاب، ولكنها لم تقر لي ساعة من نهار أني خالقها ورازقها، فقد غفرت لك. فاطمأن بعد ذلك.
وعن ابن عباس:
في قوله عز وجل: " وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى " قال: جاء خربيل بن نوحابيل خازن فرعون، وكان مؤمناً يكتم إيمانه مئة سنة، وكان هو حاضر فرعون حين ائتمروا في قتل موسى. قال: فخرج فأخذ طريقاً آخر، فأخبر موسى بما ائتمروا من قتله، وأمره بالخروج وقال: " إني لك من الناصحين " فخرج موسى على وجهه، فمر براعي، فألقى كسوته واخذ منه جبة من صوف بغير حذاء ولا رداء، فمضى " خائفاً يترقب " يخاف فرعون، وهو يتحسس الأخبار ولا يدري أين يتوجه، ولا يعرف الطريق إلا حسن ظنه بربه، فذلك قوله: " عسى ربي أن يهديني سواء السبيل " فهيأ الله تعالى له قصد السبيل - يعني الطريق إلى المدينة الذي قضى عليه، وما هو كائن من أمره. فخرج نحو مدين بغير زاد ولا ظهر، قال: " رب نجني من القوم الظالمين " فتعسف الطريق يأخذ يميمناً وشمالاً، يأكل النبت من الأرض وورق الشجر حتى تشقق شدقاه، وكان يرى خضرة النبت بين جلده وأمعائه، فأصابه(25/311)
الجهد والجوع حتى وقع إلى مدين، فذلك قوله عز وجل: " ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون " أنعامهم، وكانوا أصحاب نعم وشاء " ووجد من " دون القوم " امرأتين تذوادان " غنمها عن الماء وهما ابنتا يثروب - وهو بالعربية شعيب - فقال موسى لهما: " ما خطبكما " يقول: ما شأنكما معتزلتين بغنمكما دون القوم لا تسقيان مع الناس؟. " قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء " ونحن بعد كما ترى إمراتين ضعيفتين لا نستطيع أن نزاحم الرجال " وأبونا شيخ كبير " لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، وليس أحد يقوم بشأنه ولا يعنيه في رعاية غنمه وسقيها، فنحن نرعاها ونتكلف سقيها، وكان شعيب صاحب غنم، وكذلك الأنبياء كانوا يقتنون الغنم.
قال ابن عباس: ما من بيت يكون تكون فيه شاة إلا نادى ملك من السماء: يا أهل البيت قدستم قدستم.
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أعيته المكاسب فعليه بتجارة الأنبياء. يعني الغنم، إنها إذا أقبلت أقبلت وإذا أدبرت أقبلت.
قال ابن عباس: لما ورد موسى ماء مدسن كان يتراءى خضرة البقل في بطنه من الهزال.
وعن مجاهد: في قوله عز وجل حكاية عن موسى " رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير: قال: ما سأل الله إلا طعاماً يأكله وقال: كان يومئذ فقيراً إلى شق تمرة، ولزق بطنه بظهره من شدة الجوع. وقيل: ما كان معه رغيف ولا درهم وقيل: سأل الله تعالى فلقاً من الخبز يشد بها صلبه من الجوع، ولقد قال ذلك وهو من(25/312)
أكرم خلق الله عليه، ولقد أصابه م الجوع حتى لصق ظهره ببطنه، حتى تبين خضرة البقل من أعلى الجلد، حتى أتته الجارية.
سأل رجل ابن عيينة فقال: يا أبا محمد؟ أرأيت الرجل يعمل العمل لله يؤذن أو يؤم، أو يعين أخاه، أو يعمل شيئاً من الأعمال فيعطى الشيء؟ قال: يقبله، ألا ترى موسى لم يعمل للعمالة، إنما عمل لله، فعرض له رزق من الله فقبله وقرأ: " إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا " " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء " فذهب معها، وإنما كان أول الأمر لله.
ولما أبصر موسى ما بالجارية من العري وما يبدو من ساقيها قال لها موسى: امشي خلفي رحمك الله وانعتي لي الطريق بكلامك، فإنا قوم لا ننظر إلى أدبار النساء. ففعلت ما أمرها موسى، فكلما عدا موسى يميمناً أو شمالاً تقول له: على يمينك دع شمالك؛ حتى دخل على شعيب، فلما دخل عليه دعا شعيب بطعام، فوضعه بين يديه، ثم قام من عنده شعيب، وأقسم لعيه إلا ما أكلت حتى أرجع إليك. وإنما صنع ذلك شعيب حين خرج من عند موسى كراهية أن يستحي من شعيب، فلا يشبع من الطعام، فلما فرغ موسى من الطعام دعا له بلين فسقاه، ثم سأله بعد ذلك عن أمره كله وما أخرجه من بلاده، فقص عليه موسى القصص، وأخبره بالذي أخرجه من بلاده، وأخبره بنسبه وممن هو، فعلم شعيب أن موسى من أهل بيت النبوة، فقال: " لا تخف نجوت من القوم الظالمين "، المسالة. فقالت إحدى ابنتي شعيب: " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ".
وقيل: إن الذي قال له: " لا تخف نجوت من القوم الظالمين " ليس بشعيب، ولكنه سيد الماء يومئذ.
وعن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن سئت أي الأجلين قضى(25/313)
موسى؟ فقل: خيرهما وأوفرهما؛ ون سئلت أي المرأتين تزوج؟ فقل الصغرى منهما، وهي التي جاءت وقالت: يا أبت استأجره.
قالوا: وقال لها أبوها: ما علمك بقوته وأمانته؟ فقالت: أما قوته فإنه رفع الحجر وحده ولا يطيق رفعه إلا عشرة، وأما أمانته فقوله: امشي خلفي وصفي لي الطريق، لا تصف الريح لي حسدك. فزاده ذلك فيه رغبة " قال: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك، وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين "، أي من حسن الصحبة والوفاء بما قلت. قال موسى: " ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي " قال: نعم. قال: " والله على ما نقول وكيل ". فزوجه وأقام معه يكفيه ويعلم له في رغاية غنمه.
وعن أبي سعيد الخدري: عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن جبريل، عن ميكائيل، عن الرفيع، عن إسرافيل، عن ذي العزة تبارك وتعالى أن موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى أتم الأجلين وأظنه عشر سنين.
قال عكرمة: لقيت الحسن بن علي فصافحته، قال: التقابل مصافحة المؤمن. قال: قلت أخبرني " وأما بنعمة ربك فحدث " قال: الرجل المؤمن يعمل عملاً صالحاً فيخبر به أهل بيته، قال: قلت أي الأجلين قضى موسى، الأول أو الآخر؟ قال: الآخر.
ولما رعى موسى عليه السلام على صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما قال له صاحبه: كل شاة ولدت على غير لونها فلك ولدها. قال: فعمد فوضع حبالاً على الماء، فلما رأت الحبال فزعت فجالت جولة، فولدن كلهن برقاء إلا شاة واحدة، فذهب بأولادهن ذلك العام.(25/314)
وعن عتبة قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً فقرأ سورة طسم، حتى إذا بلغ قصة موسى قال: إن موسى أجر نفسه ثمان سنين - أو قال عشر سنين - بعفة فرجه وطعام بطنه.
وعن عتبة بن الندر - وكان من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال من حدث: وإن نبي الله موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أراد فراق شعيب عليه السلام قال لامراته: سلي أباك من نتاج غنمه ما يعيشون به، فأعطاها - وفي رواية فأعطاه - ما وضعت غنمه من قالب لون ذلك العام، فوقف موسى بإزاء الحوض، فلما وردت الغدير لم تصدر شاة إلا طعن جنبها بعصاة فوضعت قوالب ألوان، فوضعت اثنتين وثلاثين ليس فيهن فشوش ولاضبوب، ولامشة تفوت الكف، ولا ثغول؛ فإن فتحتم الشام وجدتم بقايا منها وهي السامرية.
الثغول: الواسعة ثقب الضرع، فلا يستمسك فيه اللبن، فيقطر من غير حلب وتنفش.
والضبوب: من الضب، وهو الحلب بالإبهام؛ والضرع - وأحسب ذلك يفعل بالشاة إذا كانت ضيقة مخرج اللبن. الكمشة: القصيرة الضرع، التي يفوت ضرعها كف الحالب، فلا يتمكن من حلبها. والثغول: التي لها حلمة زائدة، يقال لها الثغل.
وفي حديث عن وهب، أن شعيباً زوجة ابنته الكبرى أسفورياً، وقيل صفورياً وهي التي كان أرسلها أبوها لتعو له موسى، فأقام موسى معه يكفيه رعاية غنمه وما يحتاج إليه منه، حتى توفي بشرطه، فلما قضي موسى الأجل قال لشعيب: أريد أن أنصرف بأهلي فانظر إلى أمي وأخي وأهل بيني. قال له شعيب: يا موسى؟؟! ضع يدك على ما شئت من مالي، فإنما هو من مال الله، ثم من بكرتك؛ قال: وذلك أن الله ثمر لشعيب ماله وكثره له، ورأى شعيب البركة في منزله بدخول موسى، فقال موسى:(25/315)
حبي متاع قليل أعيش به أيام حياتي، ودابة أحمل عليها ابنتك وحمار أحمل عليه زادنا ومتاعنا. قال له شعيب: وما تريد غير هذا؟ موسى: وهذا كثير.
ولما أراد موسى الخروج قال له شعيب: ادخل المخدع الذي فيه العصي، فخذ منها عصا وأتني بها. فدخل، فمد يده إلى العصي، فوقعت في يده منها عصا فأخرجها، فلما أبصرها شعيب ضحك قال: ردها. فردها مكانها وخرج إلى شعيب فقال له: اذهب فأتني بعصاً أخرى، فدخل فمد يده، فوقعت تلك العصا في ديه، فأخرجها إلى شعيب فإذا هي هية.
فزعم وهب أنه رده سبع مرات، كل ذلك تقع العصا في يده، فقال شعيب: يا موسى! أنت صاحبها فاتوص بعصاك خيراً واحتفظ بها، فإنك سترى منها أمراً عجيباً من أمر الله وسلطانه. فزعم وهب أنها هي التي أخرجها آدم من الجنة.
قال ابن عباس: كان عصا موسى من عوسج، وكان يستظل بها من الشمس، ويستضيء بها في ظلمة الليل، ويضرب بها الحجر فيخرج الماء، ويضرب بها الأرض فتنبت له البقل، وكانت من عوسج، وما جعلت بعها عصا من عوسج.
وفي رواية: ولم يسخر العوسج لأحد بعده.
وعن ابن عباس:
في قوله تعالى: " لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ". قال ابن عباس: أضلوا الطريق وكانوا شاتين، فلما رأى النار قال: " لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى " أهتدي به إلى الطريق، فإن لم أجد أحداً يهديني أتيتكم بنار تستدفئون بها.
وعن وهب بن منبه قال: خرج موسى ومعه أهله يؤم الشام، وأكبر همه طلب أخيه هارون وأخته مريم، وهما(25/316)
بأرض مصر في مملكة فرعون، وهم موسى الاجتماع لهما والرخوج من أرض مصر فسار في البرية غير عارف بطرقها ولا معالمها، غير أنه يؤم الغرب ويجع الشرق، ويرى أنه الوجه إلى أرض مصر، فلم يزل كذلك حتى ألجأه المسير إلى جانب الطور الأيمن في البقينة المباركة، في عشية شاتيه شديدة البرد والظلمة، فعمد إلى زنده فقحها فلم تنور شيئاً ولم تزدد إلا نداوة، وكان عهده أن زنده لا يقدح بها إلا مرة حتى تنور فيها النار، فلما آيس مه تركه.
ولما عند موسى عليه الصلاة والسلام - وعلى نبينا - نحو النار التي رأى وانتهى إليها، رأى ناراً عظيمة تتوقد من فرع شجرة خضراء، سديدة الخضرة، يقال لها العليق، لا تزداد النار فيما يرى إلا عظماً وتضرماً، ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرة وحسناً، فأعجبته ولا يدري على ما يضع أمرها، إلا أنه ظن أهها شجرة تحترق، أوقد إليها موقد قبالها، وأنه ظن أنها تمنع النار أن تحرقا شدة خضرتها وكثرة مائها، فوقف وهو يرجو أن يسقط منها شيء يقتبسه، فلما طال ذلك عليه ارتم إليها ضغثاً من رقاق الحطب والشيح، ثم أهوى به ليقتبس من لهبها، فلما فعل ذلك مالت إليه كأنها تريده، فاخر عنها وهابها، ثم عاد فطاف بها، فلم تزل تطعمه ويطمع بها، ويطوف حولها، ثم لم يك شيء بأوشك من طرفة عين من خمودها حتى كأن لم تكن، فعند ذلك أعجبه شأنها، ونظر في أمرها وتدبر فقال: نار توق في جوف شجرة لا تحرقها! وتمنعه فلا يقتبس منها، ثم خمدوها على قدر عظمها في أوشك من طرفة عين! إن لهذه لشأنا! فوضع أمرها على أنها مأمورة، أو مصنوعة لا تدري لما أمرت ولا من أمرها، ولا لمن(25/317)
صنعت ولا من صنعها؟ فوقف متحيراً لا يدري، أيرجع أم يقيم؟ ثم رمى بطرفه نحو فرعها، فإذا هي أشد ما كانت خضرة، وإذا خضرتها ساطعة في السماء، ينظر إليها تشتق الظلام وتجلوه، ثم لم تزل الخضرة تنور وتسفر وتبيض، حتى عاد نوراً ساطعاً ما بين السماء والأرض، فيها شعاع الشمس، تكل دونه الأبصار، فلما نظر إليها تكاد تخطف بصره، خمر عينيه بثوبه ولصق بالأرض، فعند ذلك اشتد رعبه، وهمه وأحزنه شأنها، وجعل يسمع الحس والوجس، إلا أنه يسمع شيئاً لم يسمع السامعون مثله عظماً لا يدري ما هو، فلما اشتد به الخول وبلغه الكرب، وكاد أن يخالط في عقله نودي من السجرة أن يا موسى! فأسرع الإجابة - وما ذلك منه حينئذ إلا للاستئناس بالصوت حين سمعه، لما قد بلغه من الوحشة والخوف - فقال: لبيك لبيك - مراراً - إني أسمع الصوت ولا أرى مكانك فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك، ومحيط بك، وأقرب إليك منك من نفسك. فلما سمع هذا علم موسى أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله عز وجل، قال: كذلك أنت يا إلهي، أكلامك أسمع أم رسولك؟ فقال: بل الكلام كلامي والنور نوري، وأنا رب العالمين، يا موسى! أنا الذي أكلمك فأذن مني. فجمع يديه في العصا، ثم تحامل حتى استقل قائماً وما كاد، فأرعدت فرائصه، وانكسر قلبه ولسانه، وطاش عقله، ولم يبق منه عظم يحمل آخر، وصار بمنزلة الميت إلا أن روح الحياة تجري فيه، فبعث الله إليه ملكاً كأحسن شيء خلقه الله، فشد له عضده وظهره، ورجاه وبشره، فرجف وهو مرعوب، فلما انتهى إلى الشجرة قال له: اخلع " نعليك إنك بالواد المقدس " فخلعهما، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت فطير - يعني غير مدبوغ - فخلعهما ثم قال: " وما تلك بيمينك يا موسى، قال هي عصاي " قال: ما تصنع بها؟ - ولا أحد أعلم بذلك منه جل وعز - قال: " أوتكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى " قال: قد علمتها وكانت مآرب موسى أنها كانت(25/318)
عصا له شعبتان ومحجن تحت الشعبتين، وزج في طرفها، فكان يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه، وإذا طالت شجرة حناها بالمحجن، وإذا أراد أن يقوس شجرة تطول لها لواها بالشعبتين، وكان إذا مشى ألقاها على عاتقه، فيعلق بها قوسه وكنانته ومرجمته وحلابه وإرادته، وزاداً إن كان مع، وإذا ارتعى في البرية التي ليس فيها ظل ركزها في الأرض، ثم أعرض زنده بين شعبتيها ثم ألقي عليها كساءه، فاستظل ما كان مرتاعاً، وكان إذا ورد ماء يقصر عنه رشاؤه وصل الرشاء بالمحجن؛ وكان يقاتل بها السباغ عن غنمه.
فكانت هذه من مآربه التي أراد أن يقص، ولكن منعه من ذلك الخوف، فأجمع القصة بقوله: " ولي فيها مآرب أخرة، قال ألقها يا موسى " فظن موسى أنه يقول ارفضها ولا تقبض بها " فألقاها موسى على وجه الرفض، ثم حانت منه نظرة، فإذا هو بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون! في مثل بدن البختي العظيم، إلا أنه أطول منه، مسرعة تدب على قوائم قصار غلاظ شداد، قد جعلت الشعبتان له فم مثل القليب الواسع، فيها أضراس وأنياب وقد جعل له عرفاً نابتاً له شعر مثل شعر البازل، قد جعل له عينان يتوقدان ناراً، وجعل يدب كأنه يبتغي شيئاً ليأخذه، إلا أنه ليمر بالشجرة العظيمة فيطعن بناب من أنيابه في أصلها، فيجدلها، ثم يبتلعها، ويمر بالصخرة العظيمة مثل الحلقة فيبتلعها حتى أنه ليسمع تقعقع الصخرة في جوفها، فلما عاين موسى ذلك " ولى مدبراً ولم يعقب " فذهب على وجهه حتى أمعن، وظن أنه قد أعجز الحية، ثم ذكر أنه هو فاستحيا، ثم نودي يا موسى! ارجع حيث كنت. فرجع وهو شديد الخوف فقال: " خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى "، فأدركه وعليه(25/319)
جبة من صوف، فلف كم جبته على يده، فقال له الملك: يا موسى! أرأيت لو أذن لها في الذي تحاذر، أكانت المدرعة تغني عنك شيئاً؟ قال موسى: لا، ولكني ضعيف، خلقت من ضعف، قال له: أخرج يدك، فكشف عن يده فقال: أدخلها في فيه. فوضهعا في في الحية حتى حبس الأضراس والأنياب، ووجد ذلك بيده في موضعها الذي كان يضعها بين الشعبتين، فقبض عليها فإذا هي هصا كما كانت، قال: فال له: ادن منس سا موسى، فدنا منه فقال: أخرج يدك من جيبك فأخرجها فإذا الشعاع مثل شعاع الشمس " بيضاء من غير سوء " يعني من غير برص؛ فقال له: العصا آية، ويدك " آية أخرى، لنريك " بعدهما " من آياتنا الكبرى ". ادن مني، فإني موقفك اليوم مكاناً لا ينبغي لبش من بعدك أن يقوم مقامك أدنيتك وقربتك حتى سمعت كلامي وكنت بأقرب المنازل والأمكنة منين فاسمع قولي واحفظ وصيتي وارع عهدي، وانطلق برسالتي فإنك تسمعني وتعيني، وأنا معك أيدي ونصري، وسألبسك جبة من سلطاني تستكمل بها القوة في أمري، وأنت جند من جندي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي وأمن مكري، وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وعبد دوني وتمثل بي، وزعم أنه لا يعرفني، وإني أقسم بعزتي لولا الحجة العذر اللذان وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار، تغضب لغضبه السماوات والرض والجبال، إن آذن للسماء حصبته، وإن آذن للأرض ابتلعته وإن آذن للجبال درمته، وإن آذن للبحار غرقته، ولكنه هان علي وسقط من عيني، ووسعه حلمي واستغنت بما عندي وحق ي، إني أنا الغني، غنى غيري، فبلغه رسالتي، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي، وإخلاص اسمي، وحذره نقمتي وبأسي، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي، وذكره أيامي، وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لعله يتذكر أن يهشى، ولا يغرنك ما ألبسته من لباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي، ليس يطرف ولا ينظر ولا يتنفس إلا يإذني، وقل له أجب ربك، فإنه واسع المغفرة، قد أمهلك منذ أرعبمئة سنة في كلها أنت تبارزه بالمحاربة، وتتسمى به وتتمثل به، وتصد عباده عن سبيله، وهو يمطر عليك السماء، وينبت لك الأرض، ويلبسك العافية، لم تسقم ولم تهرم، ولم تفتقر، ولم تغلب، ولو شاء أن يعجل لك ويبتليك ويسلبك ذلك فعل، يعني بالفقر والهرم، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم. " قال(25/320)
رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري ".
وعن ابن مسعود، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يوم كلم الله موسى كانت عليه جبة صوف وكساء صوف، وسراويل صوف، وكمة صوف، ونعلان من جلد حمار غير ذكي.
وعن أبي قلابة قال: تدرون لم قال الله تعالى: اخلع " نعليك إنك بالواد المقدس طوى "؟ قال: كانت نعلاه من جلد حمار ميت، فأحب أن يباشر القدس بقدميه.
قال وهل بن منبه: لما كلم الله تعالى موسى صلى الله على نبينا وعليه يوم الطور، كان على موسى جبة من صوف مخللة بالعيدان، مخروم وسطه بشريط ليف، وهو قائم على جبل قد أسند ظهره إلى صخرة من الجبل، فقال الله: يا موسى! إني قد أقيمك مقاماً لم يقمع أحد قلبك ولا يقومه أحد بعك، وقرتبك مني نجياً. قال موسى: إلهي! ولم أقمتني هذا المقام؟ قال: لتواضعك يا موسى. فلما سمع لذاذة الكلام من ربه نادى: إلهي! أقريب فأناجيك، أم بعيد فأناديك؟ قال: يا موسى! أنا جليس من ذكرني.
وعن ميسرة
في قوله: " وقربناه نجياً " قال: أدني حتى سمع صريف الأقلام في الألواح.
وعن الحسن " تخرج بيضاء من غير سوء " قال: أخرجها كأنها والله المصباح، فعلم موسى أ، قد لقي ربه. وقيل: أخرجها كأنها الثلج.(25/321)
وقال ابن عباس: كانت عليه جبة صوف، كمها إلى مرفقه، ولم يكن لها أزرار، فأدخل يده في جيبه فإذا هي بيضاء تبرق مثل النور، فخروا على وجوههم.
قال الحسن: لما كلم الله موسى ضرب على قلبه بصفائح النور، ولولا ذاك أطاق كلام الله عز وجل.
وعن أبي الحويرث قال: إنما كلم الله موسى بما يطيق من كلامه، لو تكلم بكلامه لم يطقه شيء.
قال وهب: قرأت في بعض الكتب التي أنزل الله من السماء: إن الله قال لموسى: أتدري لأي شيء كلمتك؟ قال: لأي شيء؟ قال: لأني اطلعت في قلوب العباد فلم أر قلباً أشد حباً لي من قلبك.
وقال وهب: اطلع الله على قلوب الآدميين فلم يجد قلباً أشد تواضعاً له من قلب موسى، فخصه بالكلام لتواضعه.
قالوا: وأوحى الله تعالى إلى الجبال إني ملكم عليك عبداً من عبيدي، فتطاولت الجبال لتكلمه عليها، وتواضع الطور، قال: إن قدر شيء كان. قال: فكلمه عليه لتواضعه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لما كلم الله عز وجل موسى عليه السلام كان يبصر حثيث النمل على الصفا في الليلة المظلمة من مسيرة عشرة فراسخ.
وعن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية قال: مكث موسى أربعين ليلة بعدما كلمه الله لا يراه أحد إلا مات من نور رب العالمين.
وفي رواية أخرى: لا ينظر أحد إلى وجهه إلا هرب من نور رب العالمين تبارك وتعالى.(25/322)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كن لما لم ترج أرجى منك لما ترجو، فإن موسى بن عمران خرج يقتبس ناراً فرجع بالنبوة.
وعن أنسقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن موسى بن عمران ما كلم في الأرض، إنما كان يبعث إليه جبريل يجلس من الجنة، ويضع تحته كرسياً مكللاً بالجوهر، فيكلمه حيث يشاء.
ومما أنشد وهب بن ناجية المري: من الخفيف
كن لما لا ترجو من الأمر أرجى ... منك يوماً لما له أنت راجي
إن موسى مضى ليقبس ناراً ... من ضياء رآه والليل داجي
فأتى أهله وقد كلم الله ... هـ وناجاه وهو خير مناجي
وكذا الأمر ربما ضاق بالمر ... ء فتتلوه سرعة الإنفراج
روي أن موسى قام في بني إسرائيل بخطبة أحسن فيها فأعجب بها! فقال به بنو إسرائيل أفي الناس أعلم منك؟ قال: لا. فأوحى الله غليه: إن في الناس من هو أعلم منك. قال: يا رب! ومن أعلم مني وقد آتيتني التوراة، فيها علم كل شيء. فأوحى الله إليه: أعلم منك عبد من عبادي، حملته الرسالة، ثم بعته إلى ملك جبار عنيد، فقطع يديه ورجليه، وجدع أنفه، فأعدت إليه ما قطع منه ثم أعدته إليه رسولاً يأتيه فولى وهو يقول: رضيت لنفسي ما رضيت لي، ولم يقل كما قلت أنت عند أول: إني أخاف أن يقتلون.
وعن عائشة أنها خرجت في بعض ما كانت تعتمر، فنزلت ببعض الأعراب، فسمعت رجلاً يقول: أي أخ كان أنفع لأخيه؟ قالوا: لا ندري. قال: أنا والله أدري، قالت عائشة: فلمته في(25/323)
نفسي حين لا يستثني أنه يعلم أي أخ كان أنفع لأخيه حتى قال: موسى ين سأل لأخيه النبوة. فقلت: صدقت.
وعن ابن عباس في قوله:
" إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى " قال: هذه مقالة موسى عليه السلام. وكان هارون بمصر فقال موسى: رب إن أخي هارون رجل ضعيف وأنا أقوى منه، وقد تخوفت وهو أضعف مني فيتخوف أيضاً أو أن يطغى فيقتلنا " قال: لا تخافا إنني معكما " شاهد لكما عند فرعون، أسمع قولكما وقوله، فأرى وأنظر إليكما " فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم " وفي البنيان ونقل الحجارة، وقتل الأنبياء، واستخدام النساء وأشباه ذلك " قد جئناك بآية من ربك " يعني بعبرة، إن لم تصدقنا قلنا: " والسلام على من اتبع الهدى " يعني والسلام من ربنا على من اتبع دينه ومنهاجه " إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب " بأنا لسنا رسله " وتولى " عما جئناه، وقولا له فيما بين ذلك: يا فرعون، " هل لك إلى أن تزكى " يعني أن تصلح " وأهديك إلى ربك فتخشى " يعني فتخاف، وأره يا موسى آياتي الكبرى، وأخبر أني أنا الغفور الرحيم، وأني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى العقوبة والغضب، ولا يروعنك يا موسى ما ترى من عظمة فرعون، وشدة سلطانه، فإن ذلك بعيني، ولو شئت أن أسلط عليه أوهن خلقي وأضعفه لقتله، ولكن قد أمهلته منذ أربع مئة سنة لكتون لي الحجة عليه.
وعن ابن عباس في قوله: " اذهب أنت وأخوك بآياتي " يعني باليد والعصا. قال:(25/324)
ففصل برسالة ربه، وشيعته الملائكة يصافحونه، ويدعون له بالنصر والظفر على عدوه.
قال وهب: أوحى الله عز وجل إلى هارون عليه السلام يبشره بنبوة موسى وأنه قادم عليه، وأنه قد جعله وزيراً ورسولاً مع موسى إلى فرعون وملئه، فإذا كان يوم الجمعة لغرة ذي الحجة، قبل طلوع الشمس، ينظر إلى شاطئ النيل، فإنها السعة التي تلتقي أنت وأخوك موسى. قال: فأقبل موسى في ذلك الوقت، وخرج هارون من عسكر بني إسرائيل، حتى التقي هو وموسى على شاطئ النيل، فلقيه فقال له موسى: انطلق بنا إلى فرعون، فانطلقا على وجوههما حتى انتهيا إلى فرعون، وهو في مدينة لها سبعة وسبعون مدينة، في كل مدينة سبعون ألف مقاتل، بين كل مدينتين الزراع والأنهار، تأتي عليهم الحقب، لا يموت منهم ميت وهو في مجلس له، يرقى فيه سبعة آلاف درجة، إذا رقي على دابته رفع لها كفلها حتى يحاذي منسجها، وإذا هبط رفع له منسجها حتى يحاذى بكفلها، لا يسعل ولا يبول ولا يمتخط ولا يتغوط إلا في كل عشرة أيام مرة. قد أنبت حول مدائنة الغياض، وألقيت فيها الأسد، وجعل ساستها يشلونها على من يشاء، ويكفونها عمن يشاء، وطرق فيما بينهما إلى أبواب مدائنه، من أخطأها ووقع في تلك الأسد مزقته، وقد جعل فرعون بني إسرائيل عساكر من وراء مدينة يعملون له، فذو القوة منهم قد قرحت عواتقهم من نقل الحجارة والطين، ومن دون ذلك قد قرحت أيديهم من العمل ومن دونهم يؤدي الخراج؛ فمن غابت له الشمس قبل أن يؤدي الذي عليه غلت يده إلى عنقه شهراً وعمل بشماله، والنساء ينسجن ثياب الكتان، فكانوا على ذلك حتى بعث الله موسى، فسبحان الله ما أعظم سلطانه وأعلى شأنه وعن ابن عباس قال: لما قال الله لموسى: " اذهب إلى فرعون إنه طغى " قال: يا رب أذهب إلى(25/325)
فرعون وقد أعطيته من زينة الدينا وسلطانها فأذهب إليه في رساستي هذه؟ قال: نعم يا موسى إني معك " أسمع وأرى " فقال له موسى: فنعم يا رب. فلما قال له هامان: أما وجد ربك رسولاً غيرك في جودياك هذه، ذكر موسى قول ربه عز وجل إني معك " أسمع وأرى " قال له موسى: نعم إني رسول الله إليكم على رغم أنفك. فقال له هامان: أيها الساحر لا يغرنك طاعة الأبواب لك، وما تبصبصت لك الأسد إنما كان ذلك من كيد سحرك، سوف تعلم أنه ليس لك إله غير فرعون.
قال وهب:
أوحى الله إلى موسى: يا موسى؟ لو شئت أن أزينكما بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليه أن قدرته تعجز عما أوتيتما فعلت، ولكن أرغب بكما عن ذلك، وأزويه عنكما، وهكذا أفعل بأوليائي، إني لأذودهم عن نعيمها ورجائها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مواقع الهلكة، وإني لأحميهم عيشها وسلوتها كما يجنب الراعي الشفيق أبله مبارك العرة، وما ذاك لهوانهم علي، ولكنهم استكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفراً لم يكلمه الطمع، ولا يطعنه الهوى؛ واعلم أنه لن يتزين لي العباد بزينة أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا، إنما هي زينة الأبرار عندي، وآنق ما يزين به العباد في عيني منها، لباس يعرفون به السكينة والخشوع، سيماهم النحول والسجود، أولئك أوليائي حقاً، فإذا(25/326)
لقيتهم فاخفض لهم جناحك، وذلل لهم قلبك ولسانك، واعلم أن من أهان لي ولياً وأخافه فقد بادرني بالمحاربة وبادأني، وعرضني بنفسه، ودعاني إليها، وأنا أسرع إلى نصرة أوليائي، أفيظن الذي يحاربني فيهم أنه يقوم لي؟ أم يظن الذي يعاديني فيهم أنه يعجزني، أم يظن الذي يبادرني إليهم أنه يسبقني أو يفوتني؟ كيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة؟ ولاأكل نصرتهم إلى غيري؛ يا موسى أنا إلهك الديان، لا تستذل الفقير ولا تغبط الغني بشيء، وكن عند ذكري خاشعاً، وعند تلاوة وحيي طامعاً، أسمعني لذاذة التوارة بصوت حزين.
وعن الضحاك قال: دعا موسى حين وجه إلى فرعون، ودعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين، ودعا كل مكروب: كنت وتكون، كنت حياً، لا تموت، تنام العيون وتنكدر النجوم، وأنت حي قيوم، لا تأخذك سنة ولا نوم.
وعن وهب: أن موسى لما دخل على فرعون كان أمامه سلطان الله عز وجل، وعن يمينه ملائكة الله، وعن يساره ملائكة الله تبارك وتعالى، فلما رأى ذلك سرير فرعون اهتز حتى رجف عليه فرعون وتغير لونه، وجعل يقطر منه البول، ولم يستطع النظر إلى موسى، وذلك من قدرة الله أن اهتز سريره، والله يفعل ما يشاء.
وعنه قال: إن موسى حين " قال رب المشرق والمغرب وما بينهما " عباد له " إن كنتم تعقلون " قال فرعون: يا موسى؟ ما عقلت هذا وما عقل أحد أن له إلهاً غيري ف " لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين " يقول: لأجلدنك في السجن أبداً. فقال له موسى: " أولو جئتك بشيء مبين " يعني باني قد جئتك بشيء مبين، يعني برهاناً بيناً يحول بينك وبين ما تريد، وتعلم صدقي وكذبك، وأينا على الحق، قال له فرعون: " فأت به إن كنت من الصادقين " قال: فهز موسى عصاه ثم(25/327)
ألقاها " فإذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فإذا بيضاء للناظرين " لها شعاع كشعاع الشمس، قال له فرعون: هذه يدك! فلما قالها فرعون أدخلها موسى جيبه، ثم أخرجها الثانية لها نور تكل منه الأبصار، لها نور ساطع في السماء قد أضاءت ما حولها، فدخل نورها في البيوت، وتنور منها المدينة، ويرى من الكوة، ومن وراء الحجب، فلم يستطع فرعون النظر إليها، ثم ردها موسى في جيبه ثم أخرجها فإذا هي على لونها الأول.
وعن ابن عباس: كانت السحرة بضعاً وثلاثين ألفاً.
وقال ابن المنكدر: كانوا ثمانين ألفاً.
وقال الكلبي: كانوا اثنين وسبعين ساحراً، اثنان من آل فرعون وسبعون من بني إسرائيل.
قال وهب بن منبه:
إن موسى لما ألقى عصاه فصارت العصا ثعباناً أعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، أسود مدلهم، يدب على قوائم غلاظ، فصار في مثل بدن البختي العظيم، إلا أنه أطول منه بدناً وعنقاً ومشفراً، وإن له ذنباً يقوم عليه، يشرف على حيطان المدينة رأسه وعنقه، ثم يقع على أرض، فلا يلوي على شيء إلا حطمه، ويحش بقوائمه الصخر والرخام والحيطان والبيوت حتى يرمي بعضها على بعض، فما مر بشيء إلا حطمه بكلكله، يتنفس في البيوت فيشتعل كل شيء فيه ناراً، وله عينان تتوقدان ناراً، ومنخران يخرج منهما الدخان، وقد صار له المحجن عرفاً علو ظهره، وشعره أسود(25/328)
غلاظ مثل الرماح الطوال، لا يصيب منه شيء إلا قطعه، وقد جعلت الشعبتان له فم مثل القليب الواسع، يخرج منه رياح السموم، لا يصيب أحداً منهم نفحة إلا صار أسود مثل الليل الدامس، في فيه أضراس وأنياب، وفي أعلى شدقه اثنتان وسبعون ضرساً، وفي أسفله مثل ذلك، له صرير يصم من سمعه، ما يسمع الرجل كلام جليسه إذا صرت أضراسه بعضها على بعض، فإنه ليهدر مثل البعير، يتزبد شدقاه زبداً أبيض، يتطاير لعابه فلا تقع منه قطرة على أحد إلا اشتعل برصاً، فأدخل الثعبان أحد شدقيه تحت سرير فرعون، والآخر فوقه، وفرعون على سريره فسلح في ثيابه، فلما عاين الناس ذلك من أمر الثعبان، وكان قد اجتمع أهل المدينة بأسرها، فلما انهزموا ولوا ذاهبين، تزاحموا في الأبواب وتضاعفوا وضاق عليهم، فوطئ بعضهم بعضاً، فمات يومئذ خمسة وعشرون ألفاً، وقام فرعون فوقع عن سريره، وكان الله قد أملاه حتى صار آية، كان يمكث أربعين يوماً لا يخرج من بطنه شيء، ولا يحدث إلا في كل أربعين يوماً مرة، فلما كان يومئذ أحدث في ثيابه، حتى علم بذلك جلساؤه، وكان يأكل ويشرب جاهداً، لا يبصق ولا يتمخط ولا يتنخع ولايسعل، ولا تذرف عيناه، ولا يمرض ولا يصدع ولا يسقم ولا يهرم ولا يفتقر، شاب السن، والله عز وجل يملي له أربع مئة سنة، فلما كان يوم الثعبان، وعاين ما عاين أحدث وامتخط وبصق، وأخذه الصداع والمرض، واختلف بطنه أربعين مرة، فلم يزل بعد ذلك يختلف حتى مات؛ فلما عاين من أمر موسى والثعبان خاف أن يدخل قومه من ذلك الرعب مثل الذي دخله فيؤمنوا به.
قال الحسن: لما عاين فرعون من أمر موسى والثعبان قال له فرعون: يا موسى! ارجع يومك هذا وكف ثعبانك هذا - يقول سراً دون أصحابه - وقال لأصحابه: " إن هذا لساحر عليم " فدعا موسى فقال له: يا موسى! ألا رفقت بالأمر، قتلت خمسى وعشرين ألفاً أبهذا أمرك ربك الذي بعثك؟ قال: يا فرعون! أنت فعلت هذا. يا فرعون! أسألك واحدة وأعطيتك أربعاً. قال: وما الذي تسألني؟ قال: أسألك أن تعبد الله ولا تشرك به(25/329)
شيئاً، وأعطيتك الشباب لا تهرم، والملك لا ينازعك فيه أحد، والصحة لا تسقم، والجنة خالداً. قال فرعون، ورفع وخضع، حتى استأمر آسية بنت مزاحم فدخل عليها فقال: يا آسية! ألا ترين إلى موسى إلى ما يدعوني وما أعطاني؟ قالت: وما هو؟ قال: يدعوني إلى أن أعبد الله ولا أشرك به شيئاً، وأن لي الشباب فلا أهرم، والملك لا ينازعني فيه أحد، والصحة لا أسقم، والجنة خالداً. قالت يا فرعون! وهل رأيت أحداً يصيب هذا فيدعه؟ فخرج فدعا هامان لا يعرف له نسب، وكان إبليس يتارءى لفرعون في صورة الإنس يغويه، فقال له: أنا أذرك شاباً، قال فخضبه بالسواد، وهو أول من خضب بالسواد، فدخل على آسية فقال: يا آسية! ألا ترين، صرت شاباً. فقال: من فعل هذا بك؟ قال: هامان. قالت: ذاك إن لم ينصل.
قال ابن عباس:
لما قال فرعون للملأ من قومه: " إن هذا لساحر عليم " قالوا له: ابعث إلي السحرة. فقال فرعون لموسى: يا موسى! اجعل " بيننا وبينك موعداً لا نخلفه " فتجتمع أنت وهارون ويجتمع السحرة. فقال موسى: " وموعدكم يوم الزينة " ووافق ذلك يوم السبت أول يوم من السنة، وهو يوم النيروز " وأن يحشر الناس ضحى " يعني وأن يحشرهم ويجمعهم ضحى - وقيل كان يوم عاشوراء - فاجتمعت السحرة " لميقات يوم معلوم "، وقيل: " هل أنتم مجتمعون، لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين " فاجتمع خمسة عشر ألف ساحر، ليس فيهم ساحر إلا وهو يحسن من السحر مالا يحسن صاحبه، وكان كبراؤهم ألف ساحر، وهم الذين عملوا بالعصي والحبال، فقالوا(25/330)
لفرعون: أيها الملك! ما هذا الذي يعمل به هذا الساحر فنعمل مثله؟ قال: يعمل بالعصا. قالوا: نحن نعمل. قال: اعرضوا علي سحركم، فقام الذين يعلمون بالعصي والحبال فألقوها بين يدي فرعون، وسحروا أعين الناس، فإذا حبالهم عصيهم صارت حيات وأفاعي، ففرح بذلك فرعون واستبشر، وطمع أن يظفر بموسى، وظن عصيهم وحباهلم صارت حيات، فقال لهم اجهدوا على أن تغلبوه فإنه ساحر لم ير مثله. فقالوا: " إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين "؟ يعني إن غلبنا إن لنا لمنزلة وفضيلة؟ قال فرعون: " نعم وإنكم إذاً لمن المقربين " في المجالس والدرجة عندي. فقالوا: أيها الملك واعد الرجل، فقال: قد واعدته يوم الزينة، وهو عيدكم الأكبر، ووافق ذلك يوم السبت، فخرج الناس لذلك اليوم. فقال فرعون أجمعوا " كيدكم ثم أءتوا صفاً " كل ألف ساحر صف، فكانوا خمسة وعشرين صفاً، وقيل: خمسة عشر صفاً، مع كل ساحر عمل ليس مع صاحبه، وخرج موسى وهارون، وبيد موسى عصاه في جودياءة وعباءة، حتى انتهوا إلى الصفوف، وخرج فرعون في عظماء قومه، فجلس على سريره، عليه خيمة ديباج ميل في ميل، ومعه هامان وزيره وقارون بين يديه، قد استكف له الناس، واجتمعا في صعيد واحد، وخرج الناس يقول بعضهم لبعض: ننظر من الغالب فنكون معه. فوقف موسى وهارون قبل السحرة، ف " قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً " يعني لا تقولوا على الله إلا الحق " فيسحتكم " يعني فيبعثكم " بعذاب، وقد خاب " يعني قد خسر " من افترى " قال " فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى " فصارت السحرة يناجي كل واحد صاحبه(25/331)
سراً يقول: ما هذا بقول ساحر، ولكن هذا كلام من الرب الأعلى فعرفوا الحق ثم نظروا إلى فرعون وسلطانه وبهائه، ونظروا إلى موسى في كشائه وعصاه، فنكسوا على رؤوسهم و" قالوا إن هذان لساحران " ألآية. ثم قال كبيرهم: " يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى " فهم موسى أن يلقي، فأمسك الله يده، وألقى على لسانه أن ابدؤوا فألقوا. فألقى كل رجل منهم ما كان في يده من حبل أو عصاً. قيل: إنهم أخرجوا ثلاثمائة وستين وسقاً ما بين عصا وحبل، فلما ألقوا قالوا " بعزة فرعون " يعني بإلهية فرعون " إنا لنحن الغالبون " يعني القاهرون " فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم " ملؤوا الدنيا في أعينهم حيات وأفاعي، فكان أول ما خطفوا بسحرهم بصر موسى وهارون، ثم فرعون والناس، وألقى كل رجل منهم ما كان في يده، فأقبلت الحيات والأفاعي فامتلأ الوادي يركب بعضها بعضاً وهرب الناس منهم " فأوجس " موسى " في نفسه خيفة " فقال: لقد كانت هذه عصاً في أيديهم وإنها صارت حيات، فظن موسى وخاف أن تكون صارت حيات كما صارت عصاه ثعباناً، فأوحى الله إليه أني بمكان أسمع وأرى، وجاء جبريل حتى وقف عن يمينه، بين موسى وهارون، قال: " لا تخف إنك أنت الأعلى، وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى " فذهب عن موسى ما كان يجد.
وعن ابن عباس قال: مكث موسى في آل فرعون بعدما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات الجراد والقمل والضفادع فأبوا.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطوفان: الموت.(25/332)
وقال ابن عباس: قوله: " تسع آيات " قال: اليد والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين، ونقص من الثمرات.
وقال لغيره: بدل " ونقص من الثمرات " والبحر.
قال ابن شهاب:
دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال لي: يا بن شهاب! أخبرني عن قول الله عز وجل " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات " ما هن؟ قال: قلت: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ويده، والبحر، والطمسة، وعصاه. فقال عمر بن عبد العزيز: هكذا يكون العلم يابن شهاب. ثم قال: يا غلام! ائتني بالخريطة. فأتي بخريطة مختومة، ففكها ثم نثر ما فيها، فإذا فيها دراهم ودنانير وتمر وجوز وعدس وفول، فقال: كل يابن شهاب. فأهويت إليه، فإذا هو حجارة! فقلت: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا مما أصاب عبد العزيز بن مروان في مصر، إذ كان عليها والياً، وهو مما طمس الله عليه من أموالهم.
وحدث من رأى بمصر النخلة مصروعة، وإنها لحجر. قال: ولقد رأيت ناساً كثيراً قياماً وقعوداً في أعمالهم، لو رأيتهم ما شككت فيهم قبل أن تدنو منهم أنهم أناس، وإنهم لحجارة. ولقد رأيت الرجل من رقيقهم، وإنه لحارث على ثورين وإنه وثوريه لحجارة.
وعن محمد بن كعب " قال قد: أجيبت دعوتكما " قال: كان موسى يدعو وهارون يؤمن.
وعن مجاهد قال: الطوفان: طاف عليهم الموت.(25/333)
وقال ابن عباس: الطوفان الغرق.
قال وهب بن منبه: أرسل الله عليهم الطوفان وهو الماء، فمطرت عليهم السماء ثمانية أيام ولياليهن، لا يرون فيها شمساً ولا قمراً، وفاض الماء حتى ارتفع، وامتلأت الأنهار والآبار والبيوت، فخافوا الغرق، فصرخ أهل مصر إلى فرعون بصيحة واحدة، إنا نخاف الغرق، وإنا قد هلكنا جوعاً، فأرسل فرعون إلى موسى يدعوه إليه، فأتاه، فقال له فرعون: أيها الساحر! " ادع لنا ربك بما عهد عندك " يعني عهد إليك بزعمك أنك رسوله إننا لمهتدون إنا لمبايعوك " لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل " قال موسى: لست أدعو لكم أبداً ما سميتموني ساحراً. فعند ذلك " قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك " فدعا موسى ربه، فكشف الله عنهم الطوفان، فأقلعت السماء، وابتلعت الأرض، فنبتت زروعهم وكلؤهم وخصبوا خصباً لم يروا مثله قط في أرض مصر، فلما أبصروا الخصب نكثوا العهد وكذبوا موسى وقالوا: لقد كان ماكنا نحذر من هذا الماء رحمة وخصباً، جادت زروعنا وأخصبت بلادنا، فنقضوا العهد وقالوا: يا موسى لن نؤمن لك، ولن نرسل معك بني إسرائيل، فإنا كنا جزعنا من شيء كان خيراً لنا. فأوحى الله إلى موسى أن صل ركعتين، ثم أشر بعصاك نحو المشرق والمغرب. ففعل موسى، فأرسل الله عليهم الجراد من الأفقين أمثال الغمام المظلم الأسود، حتى امتلت أرضهم، وحال الجراد بينهم وبين السماء، حتى صارت الشمس كأنها في سحاب، فلحس الجراد ما أنبت الله من الزرع والكلأ، حتى لم يذر منه شيئاً، ثم توجهت نحو النخل والشجر، فجلعت تستقبل النخلة العظيمة فتأكلها، حتى تحفرها عن عروقها، ويستقبل بعضها الشجرة العظيمة المثمرة، فيقع بعضها في أعلاها وبعضها في أسفلها. فيأكلها حتى ما يرى فيها عود ولا ورقة، ويسمع لها قضم ثم تبتلعه كما يبتلع الجمل اللقمة،(25/334)
فما ينكشف الجراد عن شيء وقع عليه إلا صار ذلك المكان كأنما حرث بالبقر.
قال ابن عباس:
كان الجراد يأكل الأبواب والخشب، ومسامير الأبواب، ويقع في دورهم ومساكنهم، فلا يستطيع أحد منهم الخروج من بيته إلا أكله الجراد وثيابهم وشعورهم، وثبت الجراد عليهم ثمانية أيام ولياليها، لا يرون الأرض حتى ركب الجراد بعضه بعضاً ذراعاً من الأرض، فصرخ أهل مصر إلى فرعون فقالوا: يا سيدنا! إن هذا لا تقوم له حيلتنا، وكل مصيبة أهون علينا من الجوع، وإنه متى أصابنا الجوع ظهر علينا عدونا، وصار بعضنا خدماً لبعض، وإنا لم نر ساحراً قط مثله! إن سحره لم يزل يعظم حتى بلغ ما ترى، فادعه وعجل قبل الهلاك.(25/335)
فأرسل فرعون إلى موسى، فأتاه فقال له: " يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون " نحلف لك يا موسى " لئن كشفت عنا " هذا " لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل " فدعا موسى ربه فأرسل الله ريحاً شديدة فاحتملت الجراد فألقته في البحر، وانكشفت لهم الأرض، فلما نظر أهل مصر إلى الأرض فإذا هم قد بقي من زروعهم وكلئهم ما يكفيهم عامهم ذلك، وذلك في أرض لم تصل إليه الجراد، فأتوا موسى ونكثوا العهد وقالوا: بقي لنا ما نكتفي به سنتنا هذه، فلن نؤمن لك ولن نرسل معك بني إسرائيل. فلما علم الله ذلك من كفرهم أمر الله موسى أن امش إلى كثيب في ناحية كذا وكذا من أرض مصر، فاضربه بعصاك ثم انكته من نواحيه. فانطلق موسى إلى ذلك الكثيب فضربه بعصاه، فخرج عليهم مثل القمل - وقال بعضهم: البراغيث - والقمل هو هذا الدبى من الجراد، حتى خرج شيء لا يحصي عدده إلا الله، حتى امتلأت البيوت والأطعمة، ومنعتهم من النوم والقرار، فكان الرجل منهم لا يقر ليله ولا نهاره، ويصيح كهيئة المجنون قد اعترتهم الحكة، وأقبلت على بقية الزرع فأكلته حتى أخرجته من عروقه، فصرخ أهل مصر إلى فرعون: إنا قد هلكنا جوعاً إن لم ترسل إلى هذا الساحر يدعو لنا ربه أن يكشف عنا هذا العذاب. فأرسل فرعون إلى موسى، فأتاه فقال له: " يا أيها الساحر ادع لنا ربك " يكشف عنا، وإن فعل آمنا بك وأرسلنا معك بني إسرائيل. قال موسى: قد كنت حلفت لي واعطيتني عهداً إن كشف الله عنكم لتؤمنن بي، ولترسلن معي بني إسرائيل. قال: قد كان ذلك فيما مضى، ولكن المرة ادع لنا. قال موسى: لا أدعو لكم ما سميتموني ساحراً. فقال: يا موسى! ادع لنا ربك. فدعا موسى ربه، فأمات القمل، فلم يبق منه بأرض مصر شيء، فلما أن علم القوم أنه لم يبق لهم ما يعيشون به أتوا فرعون، فجعلوا يتوامرون ماذا يصنعون بموسى؟ قال: فاتفق أمرهم على أنه ساحر، وإنما غلبهم بسحره، فدعا فرعون موسى فقال: يا موسى! إن لم نؤمن لك هل يستطيع ربك أن يفعل بنا شراً مما فعل، فلن نؤمن لك ولن نرسل معك بني إسرائيل. فلما علم الله نكثهم أوحى إلى موسى أن يأتي البحر ثم يشير بعصاه، ففعل موسى فأرسل الله عليهم الضفادع، فتداعى بعضها بعضاً حتى أسمع أدناها أقصاها وما فوق الماء منها وما تحته، فخرج كل ضفدع خلقه الله في البحر، فلم يشعر الناس إلا والأرض مملوءة ضفادع، ثم توجهت نحو المدينة فدبت في أرضهم وبيوتهم، ومجالسهم وأجاجيرهم وفرشهم وأقبيتهم، وامتلأت الأطعمة والآنية، وكانوا لا يمشون ولا يقعدون إلا على الضفادع، وكان الرجل منهم لا يكشف عن ثوب ولا عن قدر ولا عن آنية إلا وجد فيه ضفادع ميتة، حتى إن الرجل كان ينام على فراشه مع أهله، فإذا انتبه من نومه وجد عليه من الضفادع ما لا يحصى، وقد ركب بعضها بعضاً، وجعل أهل المدينة لا يستطيعون أن، يأكلوا طعاماً من بين الضفادع.
قال مجاهد: كانت الضفادع تسكن الحجرة، فلما أرسلها الله عذاباً على فرعون وقومه كانت تجيء حتى تقذف أنفسها في التنور المسجور والقدور، وهي تغلي غضباً لله، فشكر الله لها فأسكنها الماء، وجعل نقيقها النشيج.(25/336)
قال وهب:
فلما آذى آل فرعون القذر والنتن، وأجهدهم البلاء الذي أصابهم من الضفادع صرخوا إلى فرعون، فأرسل إلى موسى فأتاه فقال: " يا أيها الساحر ادع لنا ربك " يدفع عنا هذا الرجز فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل. قال موسى: لولا الحجة والعذر الذي وضعه الله بيني وبينك ما فعلت. قال: فدعا ربه فماتت الضفادع، فجعلوا يكنسونها من بيوتهم ودورهم وأقبيتهم، ثم ينتقلونها إلى باب المدينة، حتى جعلت ركاماً، ثم أرسل الله عليهم مطراً وابلاً، فسال بالضفادع فأكفاها في البحر، فلما كشف الله عنهم الضفادع قالوا: ما فعل هذا إلا سحره، فلو صبرنا كانت تموت الضفادع، فنكثوا وقالوا: لن نؤمن لك ولن نرسل معك بني إسرائيل. فلما نكثوا أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك النيل - وهو النهر الذي يشرب به أهل مصر - ففعل موسى فتحول النيل دماً عبيطاً، يرده بنو إسرائيل فيشربون ماء عذباً صافياً، ويرده قوم فرعون فتختضب بها أيديهم دماً، فجرت أنهارهم دماً وصارت ركاياهم دماً، فلم يقدر أحد منهم على ماء يشربه، وكانوا لا يستقون من بئر ولا نهر، ولا يغرفون من إناء إلا صار دماً، حتى قيل إن المرأة من آل فرعون كانت تخرج إلى المرأة من بني إسرائيل حين أجهدها العطش فتقول لها: اسقيني من مائك، فإني قد هلكت عطشاً. فترحمها فتغرف لها من جرتها أو قربتها فيعود الماء بإذن الله في إنائها دماً، وفي إناء الإسرائيلية ماء صافياً، حتى إن كانت المرأة من آل فرعون لتقول للمرأة من بني إسرائيل: اجعلي الماء في فيك ثم مجيه في في، فإذا مجته في فيها صار دماً. فمكثوا بذلك سبعة أيام ولياليهن، لا يقدرون على ماء حتى بلغهم الجهد.
وقيل: إن آبارهم كانت قبل الدم دوداً أحمر، فاتخذ لها فرعون أكوازاً على فيها كهيئة الغرابيل يقال له البرقال، فعند ذلك صارت أنهارهم دماً، فصرخوا إلى فرعون: إنا قد هلكنا عطشاً، وإنه لا صبر لنا، وقد هلكت مواشينا وأنعامنا عطشاً. فأرسل فرعون إلى موسى فقال: بحق ربك الذي أرسلك إلينا لما دعوته أن يكشف عنا إننا لمهتدون.(25/337)
وهي مدتك هذه نعطيك عهداً أن لا ننكث، ونؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل. قال موسى: يا فرعون! أليس تزعم أني ساحر وأني أصنع هذا بسحري؟ فكيف تأمرني أن أدعو ربي؟ قال: يا موسى! لا تؤاخذنا بما قد مضى، ولكن ادع لنا ربك مرتك هذه. فدعا موسى ربه، فكشف الله الرجز وشربوا من بعد الدم ماء عذباً صافياً، وما كان دعوة موسى في كل مرة إلا للحجة والعذر، والقدر الذي قدره الله، ورجاء أن يرجعوا ويوفوا بعهده، ويؤمنوا ويرسلوا معه بني إسرائيل، فلم يفوا، وعادوا إلى أمرهم، قال الله عز وجل: فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ".
قالوا: وكان الطوفان ثمانية أيام حتى خافوا الغرق، وكان بين الطوفان وبين الجراد أربعون يوماً، وكان الجراد ثمانية أيام، وكان بين الجراد وبين القمل أربعون يوماً، وكان القمل ثمانية أيام، وكان بين القمل والضفادع أربعون يوماً، وكان الضفادع ثمانية أيام، وكان بين الضفادع والدم أربعون يوماً، وكان الدم ثمانية أيام. فقال الله عز وجل لموسى: " أسر بعبادي " ليلاً " إنكم متبعون ".
وعن ابن عباس أن الله أمهل لفرعون بين القولين حين قال " أنا ربكم الأعلى "، وقال: " ما علمت لكم من إله غيري " فأمهله أربعين سنة فيما بين القولين، فلذلك حكم ربنا تبارك وتقدس، ثم أخذه بنكال الآخرة والأولى؛ فأما الأولى فقال: " ما علمت لكم من إله غيري "، والآخرة حين حشر الناس في أمر فرعون فقال: " أنا ربكم الأعلى ".
وعن محمد بن كعب قال:
لقد ذكر لي أن فرعون خرج في طلب موسى على ستمائة ألف من الخيل دهم، كلها(25/338)
زرق حصان، سوى ما كان في جنده وسائر الخيل، فخرجوا في طلب موسى كما قال الله عز وجل: " فأتبعوهم مشرقين " عند طلوع الشمس ولما انتهى موسى إلى بحر القلزم، لم يكن له عنه مصرف، واطلع عليهم فرعون في جنوده من خلفهم والبحر أمامهم، فظن بنو إسرائيل الظنون، وجعلوا يلومون موسى بقول الله عز وجل: " فلما تراءى الجمعان " يعني الفريقان جند فرعون وأصحاب موسى " قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال كلا إن معي ربي سيهدين " يقول: وعدني وسينجز وعدي ولا خلف لموعد الله. فقال بنو إسرائيل لموسى: لم يدعنا بأرض مصر، أرض طيبة نعيش فيها، ونخدم فرعون وقومه، ولم نر هذا البلاء، هذا البحر أمامنا، وفرعون وجنوده من خلفنا، إن ظفر بنا قتلنا، وإن اقتحمنا في البحر غرقنا، لقد لقينا في سبيلك بلاء وشدة.
ولما رأى موسى قومه وما يتضرعون ويستغفرون من ذنوبهم، ويقولون: يا موسى! سل لنا ربك يضرب لنا " طريقاً في البحر يبساَ "، فقد وعدنا بذلك بمصر، فاتبعناك وصدقناك وهذا فرعون وجنوده قد دنا منك. فانطلق موسى نحو البحر فقال: إن الله أمرني أن أسلك فيك طريقاً. وضرب بعصاه البحر من قبل أن يوحى إليه، فأنطلق الله البحر فقال له: يا موسى! أنا أعظم منك سلطاناً، وأشد منك قوة، وأنا أول منك خلقاً، وعلي كان عرش ربنا، وأنا لا يدرك قعري، ولا أترك أحداً يمر بي إلا بإذن ربي، وأنا عبد مأمور لم يوح الله إلي قبل شيئاً. ودنا فرعون وجنوده. فجاء موسى إلى(25/339)
قومه راجعاً، فأيس القوم، فأتاه جبريل بن يوحائيل المؤمن فقال له: يا موسى! يا نبي الله! أليس وعدك الله البحر؟ قال: نعم. قال: فلن يخلفك، فناج ربك. فبينا هو كذلك إذ جاءه خازن البحر فسلم عليه، فقال له: يا موسى! أتعرفني؟ قال: لا. قال: أنا خازن البحر. قال: فما أوحى الله إليك في أمر فرعون شيئاً؟ قال: يا موسى! والله إني لخامس خمسة من خزان الله، والله ما أدري ما الله صانع بعد بفرعون، ولقد خفي علي أمره، فإن الله وعدك وهو منجز ذلك، فتضرع إلى ربك. فتضرع موسى إلى الله وقال: يا رب! قد ترى ما يقول بنو إسرائيل وما قد كربهم، وما نزل بهم من سوء الظن، فأسألك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف، فرج عنا هذا الكرب، ونجنا من فرعون، وأبدل لنا مكان الخوف أمناً، كي نسبحك كثيراً ونعبدك حق عبادتك.
واختلط خيل فرعون بخيل موسى، وخرج فرعون معلماً على فرس، له حصان وكانت لحيته تغطي قربوس سرجه، ولمته من خلفه تغطي مؤخر سرجه، وعليه درع من ذهب، قد علاه بالأرجوان، فلما رأى ذلك الله عز وجل مما دخل في قلب موسى وقلوب بني إسرائيل أوحى الله إلى موسى أني قد أدبت البحر أن يطيعك، فاضرب " بعصاك البحر " فضرب موسى البحر " فانفلق " اثنا عشر طريقاً، ودعا موسى أصحابه فقال لهم: هلموا فثم ثم. قال: اللهم أجعل هذا البحر غضباً ورجزاً ونقمة على فرعون وقومه، ونجنا جميعاً، فإنا جندك ونحن أهل الذنوب والخطايا. قال: فصار البحر كما قال الله اثني عشر طريقاً يابساً وهو قوله: " واترك البحر رهواً " يعني سهلاً دمثاً، لا تخاف دركاً من فرعون وجنوده، ولا تخشى البحر يغرقك ومن معك.
قال: فلما كان البحر " كالطود العظيم " كل فرقة منه يعني كالجبل العظيم.(25/340)
وتفرق الماء يميناً وشمالاً، وبدت الأرض يابساً، فقالت بنو إسرائيل: إنا نخاف أن يغرق بعضنا ولا يراه إخوانه، غير أنا نحب أن يكون البحر أبواباً، ليرى بعضنا بعضا، فصار لهم أبواباً ينظر بعضهم إلى بعض. وكان طول الطريق فرسخين، وعرضه فرسخاً، فأتبعه فرعون بجنوده.
ولما جاز بنو إسرائيل البحر ولم يبق منهم أحد، بقي البحر على حاله، وأقبل فرعون عدو الله وهو على حصان من دهم الخيل، ووقف على شفير البحر، والبحر رهواً ساكناً على حاله، فأراد موسى أن يضرب بعصاه البحر فتركه كما كان، فأوحى الله إليه أن أترك " البحر رهواً إنهم جند مغرقون " فتركه على حاله خامداً، فلما أبصر فرعون البحر خامداً اثني عشر طريقاً يقول لجنوده: ألا ترون البحر كيف أطاعني، وإنما فعل هذا لتعظيمي وما ينشق إلا فرقاً مني لأنه علم أني سأتبع بني إسرائيل فأقتلهم، ولم يعلم عدو الله أن الله مكر به من حيث لا يشعر، فانطلق ليقتحم في البحر، وجالت الخيل فعاينت العذاب، فنفر الحصان الذي هو عليه، وجالت الخيل فأقحموها، فعاينت العذاب فلم تقتحم، وهابت أن تدخل البحر، فعرض له جبريل على فرس له أنثى ودق، فقربها من حصان فرعون، فشمها الفحل فتقدم جبريل أمام الحصان، فاتبعها الحصان وعليه فرعون، فلما أبصر جند فرعون أن فرعون دخل نادت أصحاب الخيل: يا صاحب الرمكة! على رسلك لتتبعك الخيل. فوقف جبريل حتى وافت الخيل ودخلوا البحر، وما يظن فرعون إلا أن جبريل فارس من أصحابه، فجعلوا يقولون له: أسرع الآن فقد دخلت الخيل، أسرع يسرع الخيل في إثرك. فجعل جبريل يخب إخباباً وهم في إثره لا يدركونه، حتى توسط بهم في أعمق مكان في البحر، وبعث الله عز وجل ميكائيل على فرس آخر من خلفهم يسوقهم ويقول لهم: التحقوا بصاحبكم. حتى(25/341)
إذا فصل جبريل من البحر، ليس أمامه أحد من آل فرعون، وقف ميكائيل من الجانب الآخر ليس خلفه أحد، قالوا: وكان مع موسى ستمئة ألف، وأتبعهم فرعون على ألف ألف حصان سوى الإناث؛ وقيل: ألف ألف ومئتي ألف حصان؛ وقيل: إن مقاتلة بني إسرائيل يومئذ ستمئة ألف، وإن مقدمة فرعون كانوا ستمئة ألف، على خيل دهم سود غر محجلين، ليس فيها شية مخالفة لذلك، إلا أدهم أغر محجل؛ قال: فلما تتاموافيه أطبقت عليهم، فلذلك قال: " وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ".
وعن أبي السبيل قال: لما انتهى موسى إلى البحر قال له: هن أبا خالد. فأخذه أفكل. يعني رعدة.
وعن ابن عباس قال: قال موسى: يا رب! أمهلت فرعون أربع مئة سنة وهو يقول: " أنا ربكم الأعلى " ويكذب بآياتك ويجحد رسلك. فأوحى الله إليه: إنه كان حسن الخلق، سهل الحجاب، فأحببت أن أكافئه.
قال سعيد بن جبير: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عز وجل " وفتناك فتوناً " ما هو الفتون: استأنف النهار يا بن جبير! فإن له حديثاً طويلاً. فلما أصبحت غدوت عليه فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم من أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل لينظرون ذلك ما يشكون فيه، وقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما ملك قالوا: ليس هكذا كان الله وعد إبراهيم. قال فرعون: كيف ترون؟ فذكر حديث قتل الأبناء، وما جرى على موسى، وذلك من الفتون.
ثم ذكر رميه في اليم وأن الماء انتهى به إلى فرضة مستقى جواري امرأة فرعون(25/342)
وأنهن أخذنه وهممن بفتح التابوت، فقال بعضهن: إن في هذا مالاً، وإن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه. فحملنه فيه. فحملنه إليها فلما فتحته رأت غلاماً، فألقى الله عليها منه محبة، فسمع الذباحون بأمره، فأقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، وذلك من الفتون.
ثم ذكر أنها استوهبته من فرعون، وطلبت له ظئراً لترضعه، فلم يأخذ ثدي أحد منهن، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، وأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس، ترجو أن تجد له ظئراً، " فبصرت به " أخته " عن جنب " والجنب: أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد، وهو إلى جنبه لا يشعر به، فقالت من الفرح: أنا " أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون " فأخذوها وقالوا: ما يدريك ما نصحهم له؟ هل يعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك. وذلك من الفتون يا بن جبير.
ثم ذكر أن أمه لما وضعته في حجرها أخذ ثديها ومصه حتى امتلأ جنباه رياً، وبشرت امرأة فرعون بذلك، وأتيت بها. فقالت لها امرأة فرعون امكثي عندي ترضعين ابني هذا. فقالت أم موسى: لا أستطيع أن أضيع بيني وولدي، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فيكون معي لا آلوه خيراً فعلت. وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه فتعاسرت على امراة فرعون وأيقنت أن الله منجز وعده. فرجعت إلى بيتها بابنها في يومها، فأنبته الله نباتاً حسناً، وحفظه لما قد مضى فيه، فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية مجتمعين، يمتنعون به من السخرة والظم، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أريني ابني. فوعدتها يوماً تريها. فقالت امرأة فرعون لخزانها وقها رمتها: لا يبقي أحد منكم اليوم إلا استقبل ابني بهدية وكرامة لأرى ذلك فيه، وأنا باعثة أميناً يحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم. فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين(25/343)
خرج من بيت أمه إلى أن دخل بين امرأة فرعون، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته وفرحت به ونحلت أمه وقالت: لآتين به فرعون فلينحلنه، وليكرمنه، فدخلت به عليه، فجعلته في حجره، فتناول لحية فرعون فمدها إلى الأرض، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه؟ إنه يذلك ويعلوك ويصرعك، فأرسل إلى الذابحين ليذبحوه. وذلك من الفتون يا بن جبير.
ثم ذكر حديث الجمرتين واللؤلؤتين، وأن موسى تناول الجمرتين.
ثم ذكر حديث الرجلين اللذين يقتتلان والوكز، وإرسال فرعون الذباحين لتقل موسى " وجاء رجل من أقصى المدينة " من شيعة موسى فاخبره الخبر. وذلك من الفتون.
وذكر باقية الحديث إلى أن اجتمع السحرة وغلبوا " وانقلبوا صاغرين، وألقي السحرة ساجدين ". قال: وامرأة فرعون بارزة متبذلة، تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه، فمن رآها من آل فرعون ظن أن ابتذالها شفقة على فرعون وأشياعه.
ثم ذكر حديث الآيات، ودخول موسى البحر وأصحابه، والتقاء البحر على فرعون وقومه. ولما جاوز موسى البحر قال أصحابه: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه. فدعا ربه فأخرجه لهم ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه. ثم مروا بعد ذلك على " قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون، إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعلمون " قد رأيتم من العبر وسمعتم بما يكفيكم ومضى، فأنزلهم موسى منزلاً ثم قال لهم: أطيعوا هارون، فإني قد استخلفته عليكم، وإني ذاهب إلى ربي وأجلهم ثلاثين يوماً أن يرجع إليهم فيها، فلما أتى ربه، فأراد أن يكلمه في ثلاثين يوماً، وقد صامهن ليلهن ونهارهن، كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم، فتناول من نبات الأرض شيئاً فمضغه، فقال له ربه حين أتاه: لم أفطرت؟ - وهو أعلم بالذي كان - قال: يا رب! إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي(25/344)
طيب الريح. قال: أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، ارجع حتى تصوم عشراً ثم ائتني، ففعل موسى ما أمر به، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم للأجل ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم فقال: إنكم خرجتم من مصر، ولقوم فرعون عندكم عوار وودائع ولكم فيهم مثل ذلك، وإني أرى أن تخمسوا مالكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية، ولسنا برادي إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيراً، وأمر كل من عنده شيء من ذلك من متاع أو حلية أن يدفنوه في تلك الحفرة ثم أوقد عليه النار فأحرقه، فقال: لا يكون لنا ولا لهم. وكان السامري من قوم يعبدون البقر، جار لهم، ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضي له أن رأى أثر الرسول، فاخذ منه قبضة، فمر بهارون فقال له هارون: يا سامري! ألا تلقي ما في يدك وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك. فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر فلا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها ما أريد أن يكون. فألقاها، ودعا له هارون فقال: أريد أن تكون عجلاً. فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد، فصار عجلاً أجوف، ليس فيه روح، له خوار.
قال ابن عباس: لا والله ما كان له صوت قط، إنما كان الريح يدخل من دبره ويخرج من فيه، وكان ذلك الصوت من ذلك. فتفرق بنو إسرائيل فرقاً، فقالت فرقة: يا سامري! ما هذا؟ فأنت أعلم به؟ قال: هذا ربكم، ولكن موسى ضل الطريق. فقالت فرقة: لا نكذب بهذا " حتى يرجع إلينا موسى " فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه، ولا عجزنا عنه حين رأيناه؛ وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى، وقالت فرقه: هذا عمل الشيطان وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق به. وأشرب قومه في قلوبهم(25/345)
التصديق بما قال السامري في العجل، وأعلنوا أن لا يكذب به، فقال " لهم هارون " " يا قوم إنما فتنتم به، وإن ربكم " عز وجل ليس هكذا. قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين ليلة ثم أخلفنا، فهذه أربعون قد مضت، وقال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو يطلبه ويتبعه.
فلما كلم الله موسى وقال له ما قال، وأخبر بما لقي قومه " رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً " فقال لهم: ما سمعتم في القرآن " وأخذ برأس أخيه يجره إليه " " وألقى الألواح " من الغضب، ثم أنه عذر أخاه واستغفر له، وانصرف إلى السامري فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: قبضت " قبضة من أثر الرسول " وفطنت لها وعميت عليكم، فقذفتها " وكذلك سولت لي نفسي، قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس إن لك موعداً لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً " ولو كان إلهاً لم يخلص إلى ذلك منه. فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة، اغتبط الذي كان رأيهم فيه رأي هارون وقالوا بجماعتهم لموسى: سل بنا ربك أن يفتح باب توبة نصنعها وتكفر عنا ما عملنا، فاختار " موسى قومه سبعين رجلاً " لذلك لا يألو الخير خيار بني إسرائيل، ومن لم يشرك في العجل، فانطلق بهم ليسأل لهم التوبة، فرجفت بهم الأرض فاستحيا نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قومه ووفده حين فعل بهم ما فعل، و" قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " وفيهم من كان الله قد اطلع على ما أشرب في قلبه من حب العجل وإيماناً به فلذلك رجفت بهم الأرض فقال " ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول النبي(25/346)
الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ".
فقال: يا رب! سألتك التوبة لقومي، فقلت إن رحمتك كتبتها لقوم غير قومي، فليتك أخبرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة. فقال الله له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كل من لقي من ولد أو والد، فيقتله بالسيف لا يبالي من قتل في ذلك الموطن. وثاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون ما اطلع الله عليهم من ذنوبهم، واعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا به، فغفر الله للقاتل والمقتول.
وسار موسى بهم متوجهاً نحو الأرض المقدسة، و" اخذ الألواح " بعد ما سكت عنه الغضب، وأمرهم بالذي أمرهم أن يبلغهم من الوظائف. فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها، فشق الله عليهم الجبل " كأنه ظلة " ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم، فأخذوا الكتاب بإيمانهم وهم مصغون برؤوسهم ينظرون إلى الجبل وإلى الأرض، والكتاب بأيديهم، وهم ينظرون إلى الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون خلقهم خلقاً منكرة، ذكر من ثمارهم أمراً عجيباً من عظمها، فقالوا " يا موسى إن فيها قوماً جبارين " لا طاقة لنا بهم ولا " ندخلها أبداً ما داموا فيها " " فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون " من الجبارين: آمنا بموسى - قال يزيد: هكذا قرأ ابن عباس: " من الجبارين آمنا بموسى " - وخرجا إليه فقالا: نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم، فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم، فادخلوا " عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ".(25/347)
ويقول أناس: إنهم من قوم موسى. وزعم سعيد بن جبير أنهما من الجبارين آمنا بموسى يقول: " من الذين يخافون " إنما أعني بذلك من الذين يخافهم بنو إسرائيل. " قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون " فأغضبوا موسى فدعا عليهم، فسماهم قوماً فاسقين، ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم، حتى كان يومئذ، فاستجاب الله له، وسماهم كما سماهم موسى فاسقين، فحرمها " عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض " يصبحون كل يوم فيسيرون، ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثياباً لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهرانيهم حجراً مربعاً وأمر موسى بضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتي عشرة عيناً، في كل ناحية ثلاثة أعين وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها فلا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر منهم بالمكان الذي كان منه بالأمس.
روي أن الله عز وجل أهدى إلى موسى خمس دعوات، جاء بهن جبريل عليه السلام في أيام العسر وقال: يا موسى! ادع بهذه الخمس دعوات، فإنه ليس عبادة أحب إلى الله من عبادة أيام العسر، أولاهن: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. والثانية: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إلهاً أحداً صمداً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً. والثالثة: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحداً صمداً. والرابعة: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. والخامسة: حسبي الله وكفى، سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله منتهى.(25/348)
فقال الحواريون - يعني لعيسى بن مريم -: ما ثواب من قال هؤلاء الكلمات؟ فقال: أما من قال الأولى مئة مرة فإنه لا يكون أحد من أهل الأرض عمل مثل ذلك ذلك اليوم، وكان أكثر العباد حسنات يوم القيامة. ومن قال الثانية مئة مرة كتبت له بها عشرة آلاف ألف حسنة، ومحي عنه بها عشرة آلاف ألف سيئة، ويفتح له بها عشرة آلاف ألف درجة، ونزل سبعون ألف ملك من سماء الدنيا رافعي أيديهم يصلون على من قالها. من قال الرابعة مئة مرة تلقاها ملك حتى يضعها بين يدي الرحمن تبارك وتعالى، وينظر الله إلى من قالها، ومن ينظر الله إليه لا يشقى، قال عيسى: أخبرني ما ثواب الخامسة؟ قال جبريل: هي دعوتي، ولم يؤذن لي أن أفسرها.
وعن ابن عباس في قوله: " إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم " يعني كان ابن عم موسى، وكان قارون بن يصهر بن لاوي. قالوا: وكان قارون قد خرج مع موسى منافقاً، فلم يزل على نفاقه على موسى وقومه، فأهلكه الله، وكان من بغيه أن امرأة بغية كانت تسمى بشيراً، دعاها قارون فقال لها: أعطيك مئة دينار، فانطلقي إلى محلة بني إسرائيل فقولي إن موسى أرسل إلي بهذه المئة دينار يدعوني إلى نفسه، فإذا فعلت فهذه المئة لك، وأعطيك مثلها، فانطلقت إلى محله بني إسرائيل، فهمت أن تقول ما قال لها قارون فحول الله عز وجل كلامها فقالت: إن قارون أرسل إلي بهذه الدنانير وأمرني أن أعلم الناس أن موسى أرسل إلي بها وأنه راودني عن نفسي ويعطيني مثلها أيضاً. فغضب موسى غضباً شديداً ودخل بيته، فجاء بنو إسرائيل إلى قارون - وكان أغنى أهل زمانه - قالوا: ويحك يا قارون! ما حملك على ما صنعت!؟ هذا موسى نبي الله وهو(25/349)
ابن عمك وقد أهلك الله عدونا وبسط الله لك من الدينا ما لم يعطه أحداً من بني إسرائيل، فلا تفرح. يعني لا يحملنك على ما تصنع البطر، ولا تبطر إن الله لا يحب البطرين " وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا " يقول: لا تدع حظ آخرتك لدنياك وخذ لآخرتك من دنياك وقدم لها. قال قارون عند ذلك: " إنما أوتيته " يعني هذا المال " على علم عندي " موسى يمن علي أن الله رزقني.
وكان يعلم علم الكيمياء، وهو صنعة الذهب، فخرجوا من عنده وأراد الله هلاكه، وأن يلحقه بصاحبه فرعون " فخرج على قومه في زينته " قال: خرج راكباً على برذون أشهب، عليه الأرجوان، على سرج مقدمه ذهب ومؤخره ذهب، مكلل بالدر والياقوت، وأخرج معه أربع مئة جارية، عليهن الأرجوان، في عنق كل واحدة منهن طوق من ذهب، عليهن الخفاف البيض، على بغال شهب، عليها سروج الذهب والفضة ومياثر الأرجوان، وأخرج أربع مئة غلام على أربع مئة دابة دهم وكمت، عليها سروج الذهب والفضة، عليهم ثياب الأرجون والخفاف، ثم أظهر ابن له، فحملته الرجال أمامه، وأظهر كنوزه من الدنانير والدراهم، وكانت عامة كنوزه الدنانير، فوضعها على عواتق الرجال يسير في محلة بني إسرائيل.
قال قوم من بني إسرائيل وهم الذين وصفهم الله في كتابه: " قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون " من الأموال " إنه لذو حظ عظيم " يعني لذو حظ واف من الدنيا. " قال الذين أوتوا العلم " من بني إسرائيل للذين تمنوا مثل ما أعطي قارون " ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون " يعني طاعة الله والصبر عليه خير مما أعطي قارون يتباهى بأمواله. فأقبل موسى وهو شديد الغضب عليه، حنقاً حين انصرف إليه بنو إسرائيل الذين وعظوه،(25/350)
وأخبروه بما هو له حظ إن فعل من الإحسان فيما أعطاه الله. قالوا: إنهم قالوا لقارون: انظر إلى ما أعطاك الله فاقسمه في فقراء قومك وأهل بيتك. قال قارون: يعينون بذلك موسى وهارون، وهما أقرب بني إسرائيل إلى مال جمعته على علم عندي من صنعه الذهب؟ والله لا أفعل. فلما سمع ذلك موسى كبر عليه وظن موسى أنما ظن قارون أني طمعت في ماله؟ فخرج موسى حين قيل له: هذا قارون قد أقبل. فقال موسى: اللهم إني أسألك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن تأمر الأرض أن تطيعين. فأوحى الله عز وجل إلى الأرض أن أطيعي عبدي موسى. فقالت الأرض - وأنطقها الله -: يا موسى! مرني فأطيعك، قال: خذي قارون وما معه. قال: فأخذت قارون ومن معه من الغلمان والجواري، وتركت أموالهم ودوابهم، فقيل لقارون: هذا موسى قد دعا عليك - وهو يسيخ في الأرض - فنادى قارون: يا موسى! أنا ابن عمك قارون فارحمني. قال موسى: خذيه. فأخذتهم الأرض إلى ركبهم، فنادى: يا موسى! إن ربك رحيم فارحمني. قال موسى: خذيهم. فأخذتهم إلى أوساطهم. قال قارون: يا موسى! أتوب وأرجع. قال: خذيهم. فأخذتهم. فلم يزل قارون يدعو موسى حتى دعاهم سبعين مرة، كل ذلك يقول للأرض: خذيهم، حتى ابتلعتهم وبقيت الأموال.
فتحدث بنو إسرائيل فقالوا: إنما دعا عليه وترك الأموال لما يريدها لنفسه. فقال موسى: يا رب! وأمواله. فخسف الله بها الأرض، فهم يتجلجلون فيها إلى الأرض السابعة إلى يوم القيامة، تسيخ كل يوم على قدر قامته، فلما رأى ذلك بنو إسرائيل قال الذين " تمنوا مكانه بالأمس " فإنهم تمنوا غدوة، وخسف بقارون عشية، فلما أصبحوا قال: " ويكاد الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده " " ويكأنه " يعني: ألم تر أنه " لا يفلح الكافرون ".
فلما عاينوا بعد ما صنع الله بقارون خافوا على أنفسهم، قالوا " لولا أن من الله علينا لخسف بنا " فأوحى الله إلى موسى فقال: يا موسى! عبدي قارون وهو(25/351)
ابن عمك، دعاك سبعين مرة فلم ترحمه! وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني، لو دعاني من ذلك سبع مرات لنجيته ولاستجبت به. فقال موسى: أنت الرحيم يا رب! ومنك الرحمة، وإنما اشتد غضبي لله، إنه اختار دعاء المخلوق على الخالق.
قال علي بن زيد بن جدعان: سمعت عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي وهو مستند إلى المقصورة، فذكر سليمان بن داود وما آتاه الله من الملك، ثم قرأ هذه الآية: " أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين " حتى بلغ " فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر " ولم يقل هذا من كرامتي، ثم قال إن " ربي غني كريم " ثم ذكر قارون وما أوتي من الكنوز فقال " إنما أوتيته على علم عندي " قال: بلغنا أنه أوتي الكنوز والمال حتى جعل باب داره من ذهب، وجعل داره كلها من صفائح الذهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون، يطعمهم الطعام ويتحدثون عنده. وساق الحديث.
وقيل: إن موسى لما أتى قومه وأمرهم بالزكاة جمعهم قارون فقال: هذا جاءكم بالصوم والصلاة وأشياء تحتملونها، أفتحتملون أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: ما نحتمل أن نعطيه أموالنا، فما ترى؟ قال: أرى أن ترسلوا إليه بغي بني إسرائيل فتأمرونها أن ترميه بأنه أرادها على نفسها. وساق الحديث.
وروي عن وهب بن منبه: أن موسى لم يدخل أرض مصر، إنما بعث جندين، كل جند اثنا عشر ألفاً، فالله أعلم أي ذلك كان؛ وأما ما فسره المفسرون أنه قد رجع إلى أرض مصر لقول الله عز وجل: " كذلك وأورثناها بني إسرائيل " الجنان والعيون والزروع والكنوز والمقام الكريم التي كانت لآل فرعون.(25/352)
وعن أبي يوسف - وكان يهودياً فأسلم - أن موسى لما عبر ببني إسرائيل البحر أقام بأرض الشام سنة لا يكلم ولا ينزل عليه وحي، فشق ذلك عليه، وزعم أنه كان إذا كلمه الله يمكث أربعين ليلة مبرقعاً، من رآه غشي عليه مما يغشي وجهه من النور فقام على جبل بريحاء بفلسطين، فنادى الرحمن وهو عليه فقال: إلهي! ذهب روحي، وانقطع ظهري ولم ينزل علي وحي ولا كلمة منذ سنة - وبكى بكاء شديداً - فإن كان ذلك لذنوب رأيتها من بني إسرائيل فعفوك اللهم، وإن كان لأمر رأيته مني فهذه يدي وهذه ناصيتي، خذ اليوم رضاك من نفسي. قال له: يا موسى! أتدري لم كلمتك؟ قال: إلهي أنت أعلم. قال: لم يتواضع لي عبد من ولد آدم تواضعك، فلذلك كلمتك، فبعزة وجهي لأنزلن على جبال العرب نوراً أملأ به ما بين المشرق والمغرب، ولأخرجن من ولد قادر بن إسماعيل نبياً أمياً عربياً، ولتسبحن عظيمة قريتي عروباً بتسبيح ذلك النبي وتقديسه وليحملن ذلك النور من عظيمة قريتي عروباً إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولا يبقى من ولد آدم جنس إلا جاءني منه بشر كثير، عدد نجوم السماء وتراب الأرض على جبال كوثى، وكوثى: مكة بالعبرانية كلهم يؤمن بي رباً وبه رسولاً، يكفرون بملك آبائهم ويبرؤون(25/353)
منها. قال موسى: سبحانك يا رب! تقدست، لقد كرمت هذا النبي وشرفته. فقال الله له: يا موسى! إني أنتقم من عدوه في الدنيا والآخرة، وأظهر دعوته على كل دعوة وأسلطه ومن اتبعه على البر والبحر، وأخرج لهم من كنوز الأرض، وأذل من خالف شريعته في هذا العالم؛ يا موسى! العدل رتبته، والقسط زينته، بعزة وجهي لأستنقذن به فئاماً من الناس عظيماً، حتمت يوم خلقت السموات والأرض أني مسبب ذلك الأمر على يدي محمد، وقضيت أني جاعل العز في الأرض والنبوة في الأجراء والرعاء. فقال له موسى لقد كرمت هذا النبي وشرفته! أي رب! أخبرني بعلامتهم من ولد بني آدم. قال: الأرز على أنصافهم ويغسلون أطرافهم، وهم رعاة الشمس، يخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي، يقاتلون صفاً في سبيلي، رهبان بالليل، ليوث بالنهار، طوبى لتلك القلوب والأرواح التي أخلصت لي لم يسيروا بأرواحهم إلى غيري قط، يصفون لي في مساجدهم كما تصف الملائكة حول عرشي، فهم أوليائي وأنصاري، أنتقم بهم من عبدة الأوثان، وهم الذين ينصروني. قال له موسى: أي رب! ما بعثت في الأنبياء مثلي، ولم تكلم منهم غيري. قال له: أما في بني إسرائيل فلا أقيم مثلك، ولكني باعث في بلعم نبياً هو مثلك. قال: أي رب، هل أنت معطيه قرباناً مثل قرباننا؟ قال: قربانهم أفضل من قربانكم، تأكل قربانكم النار، فتنطلق به، ولهم في قربانهم أجران اثنان، يذبحون لي في غداة واحدة، يذكر اسمي ويهريقون الدماء لي فآجرهم، ويطعمون اللحم إخوانهم فآجرهم. فتحت الدنيا بإبراهيم، وختمتها بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل كتابه الذي يجيء به - فاعرفوه يا بني إسرائيل - مثل السقاء المملوء لبناً يخاض فيخرج زبده، فهو كذلك كتاب الله، يقرأ عليكم لم تسمعوا بمثله قط، فيه خبر الكتب كلها، قضاء إلهي أنه يختم بكتابه الكتب، وبشريعته الشرائع، فمن أدركه فلم يؤمن به ويدخل في شريعته فهو من إلهي ومني بريء؛ وإنهم يبنون الصوامع في مشارق الأرض ومغاربها، إذا ذكروا اسم إلهي ذكروا اسم ذلك النبي معه، لا يزول ذكره من الدنيا حتى تزول.
وإن داود النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم، لما بنى بيت المقدس صلى ركعتين ثم قال أي رب! بنيت لك بيتاً أتعبد لك فيه. فنزل عليه الوحي، قال الله: ويحك(25/354)
عبدي داود! أي بيت يسعني وأي سماء تسعني وأي أرض تسعني؟ أنا أعظم من ذلك كله، وسأضرب لك مثلاً فاعقله: السموات السبع وما فيهن من الملائكة والأرض جميعاً، وما فيهن من البحار والجبال تحت عرشي بمنزلة القنديل المعلق، قال له داود: سبحانك! تقدست أنت كما شئت أن يكون! وكما قلت لنفسك وفوق ما تقول إلى خلائقك. قال الله: أجل فسبحني وقدسني، واصنع كما تصنع الأمة التي أخرتها على هذا العالم. قال له: رب! وأي أمة هي؟ قال: هي أمة أحمد. قال: أي رب! أخبرني بعلامتهم. قال: إذا فرغوا كبروني، وإذا غضبوا هللوني، وإذا تنازعوا سبحوني.
وقيل: إنهم تاهوا في اثني عشر فرسخاً أربعين عاماً، وجعل لهم حجر مثل رأس الثور، يحمل على ثور، فإذا نزلوا منزلاً وضعوه، فضربه موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعصاه " فانفجرت منه اثنتا عشر عيناً " وإذا ساروا حملوه على ثور واستمسك الماء.
وعن ابن وهب: أن الله عز وجل لما حرم عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون في الأرض، شكوا إلى موسى فقالوا: ما نأكل؟ فقال: إن الله سيأتيكم بما تأكلون. قالوا: من أين لنا إلا أن تمطر علينا خبزاً. قال: إن الله سينزل عليكم خبزاً مخبوزاً. فكان ينزل عليهم المن، فسئل وهب: ما المن؟ قال الخبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقي. قالوا: وما نأتدم؟ وهل بدلنا من اللحم؟ قال: فإن الله يأتيكم به. قالوا: من أين إلا أن تأتينا به الريح. قال: فإن الريح تأتيكم به. فكانت الريح تأتيهم بالسلوى. فسئل وهب: ما السلوى؟ قال: فإن الريح تأتيكم به. فكانت الريح تأتيهم منه، فيأخذون منه من سبت إلى سبت. قالوا فما نلبس؟ قال: لا يخلق لأحد ثوب أربعين سنة، قالوا: فما نحتدي؟ قال: لا ينقطع لأحدكم شسع أربعين سنة. قالوا: فإنه يولد فينا أولاد فما نلبسهم؟ قال: الثوب الصغير على الكبير يشب معه. قالوا: فمن أين لنا الماء؟ قال: يأتيكم به الله. قالوا: من أين إلا أن يخرج لنا من الحجر. فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا: فيما نبصر؟ فإنها تغشانا الظلمة. فضرب له عمود من نور في وسط عسكرهم،(25/355)
أضاء عسكرهم كله. قالوا: فيما نستظل؟ فإن الشمس علينا شديدة؟ قال يظلكم الله بالغمام.
قال وهب بن منبه:
إن الله أوحى إلى موسى أن سر ببني إسرائيل حتى تدخل الأرض المقدسة، فقد كتبتها لكم، فاخرج إليها فجاهد من فيها بمن معك من بني إسرائيل، فإني ناصركم. قال: فانطلق موسى بمن معه من بني إسرائيل فقالوا: يا موسى! إنا لا نعرف الطريق، ولا علم لنا بالأرض ومدخلها ومخرجها، ورجالها وحصونها. قال: فبعث موسى هؤلاء الاثنا عشر النقباء إلى الأرض، ليتحسسوا لهم الأرض، وأقام موسى مكانه وجعل عليهم يوشع بن نون. وكالب بن يوفنا، وكان فيما بين الشام وبينهم مفاوز ليس بها ماء ودعا لهم موسى بالرزق، فأنزل الله عليهم في مسيرهم المن والسلوى، وفجر لهن الحجارة عيوناً ماء من موضع موسى إلى أرض أريحا، وأقام موسى بمكانه، فقالت بنو إسرائيل: كيف لنا بهذا المسير البعيد الذي لا تقوى فيه على حمل الماء وصنعة الطعام؟ يعول الرجل منا أربع مئة عيل، فأي ماء يسعهم وأي طباخ يوسعهم، وأي دار تكنهم حتى تبلغهم؟ وأي خباء يسعهم؟ وإنما معناه الثياب والذهب والفضة، وليس بيننا وبين الأرض المقدسة مدائن الأسواق؛ فادع لنا ربك يكفينا مؤنة هذا السعي. فأوحى الله إلى موسى أني قد سمعت الذين قالوا، فاعلمهم أني قد أعلمتك وأعطيتك ما سألوا، فقل لهم: أما ما سألتم من الطعام، فإن الله يمطر لكم السماء بالمن - خبزاً مخبوزاً، طعمه كطعم الخبز المأدوم بالسمن والعسل - ومسخر لكم الريح فتنسف لكم طير السلوى، فتوسعكم لحماً ما أكلتم. وأما ما تحتاجون إليه من الماء فيفجر لكم من الحجر ماء رواءاً حيث نزلتم، فيوسعكم لشربكم وطهوركم؛ وأما ما أردتم من الكن والظل، فيسخر لكم الغمام فيظلكم من فوقكم ويكنكم من البرد والحر والريح. قالوا: يا موسى! نقيم حتى يرجع إلينا النقباء، فيخرجونا، فنرى(25/356)
رأينا، فأمر موسى النقباء أن يسيروا، فأتوا الأرض المقدسة، وارتحل موسى ومعه بنو إسرائيل، فكان إذا نزلوا ضرب بعصاه " الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً " فكانت تجري إلى كل سبط عين تدخل عسكرهم، وكانت السماء تمطر عليهم خبز المن، مثل خبز الماء، طعمه طعم الخبز المأدوم بالسمن والعسل، وتنسف عليهم الريح طير السلوى، وتذري رأسه عنه فيصير مصفى ليس فيه ريش فيصبح في العسكر ركامان عظيمان من خبز وطير، فيأكلون ويحملون.
وعن وهب: أن بني إسرائيل لما أيقنوا أن لا يرجعوا إلى مصر، ولا يدخلوا الأرض المقدسة قالوا لموسى: لابد لنا من كتاب نقرؤه، وشرائع أحكام. فسأل ربه فقال: نعم يا موسى. فواعده أن يخرج إل طور سيناء، وواعده ثلاثين يوماً؛ قال: واستخلف موسى على قومه هارون وقال: إني منصرف إليكم بعد أربعين يوماً، وآتيكم بأحكام وشرائع. قال: فانطلق موسى معه جبريل، حتى انتهى إلى طور سيناء، وطهر ثوبيه، وكلمه ربه، فلما سمع كلام ربه طمع في رؤيته فقال موسى " رب أرني أنظر إليك قال " يا موسى! " لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " يقول: أي لا تستطيع أن تنظر إلي، وسأجعل بيني وبينك علماً إن استطاع ذلك العلم النظر إلي فسوف تراني.
قال ابن عباس: في قوله: " وكلم الله موسى تكليماً " قال: يعني بالتكلم مشافهة. وقال: إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام واصطفى محمداً بالرؤية.
وقال كعب الأحبار: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرآه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلمه موسى مرتين.(25/357)
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لما ذهب أخي موسى إلى مناجاة ربه قال: يا موسى! ما هذا الذي في يدك؟ قال: يا رب! خاتم حديد.
وفي رواية قال: شيء من حلي الرجال. قال: اجعله ورقاً، واجعل فصه من عقيق، وانقش عليه " لكل أجل كتاب ".
وفي رواية قال: فيه شيء من اسمي أو من كلامي؟ قال: لا. قال ما كتب فيه " لكل أجل كتاب ".
وعن كعب قال:
أن الله عز وجل أعطى محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به أربع آيات، ما أعطاها أحد قبله. قول الله عز وجل: " لله ما في السماوات وما في الأرض " إلى آخر السورة، وهي ثلث الكتاب، وآية الكرسي، وأعطى الله موسى غيرها حين قربه نجياً، وأمره أن يدعو بهن، فدعا فاطمأن وقوي على احتمال النبوة وحفظ ما ناجاه ربه. قال: قل يا موسى: اللهم لا تولج الشيطان في قلوبنا، وخلصنا منه ومن كل شر من أجل أن لك الملكوت والأيد والسلطان والملك والحمد والأرض والسماء، والبقاء دهر الداهرين أبد الآبدين أبداً آمين آمين. فدعا بهن، فاطمأن، ثم ناجاه ربه عز وجل.
وقيل: إن الله عز وجل، حين ناجى موسى قال: يا موسى بن عمران! يا صاحب جبل لبنان، قم بين يدي مقام العبد الذليل المعترف بذنبه. وكان فيما علمه أن قال له: اقرأ في دبر كل صلاه آية الكرسي، فمن قرأها في دبر كل صلاة أعطيته قلوب الشاكرين، وأعمال الصديقين، وثواب النبيين، وبسطت عليه يميني بالرحمة، ولم يحجبه عن الجنة شيء إلا ملك الموت، فيقبض روحه فيدخل الجنة.
زاد في رواية: فقال موسى: يا رب! من يدوام على ذلك؟ قال: يا موسى! يداوم(25/358)
على ذلك نبي أو صديق أو عبد قد رضيت عنه، أو عبد أريد أن أقبله.
وعن أبي هريرة قال: عرض رجل من اليهود سلعة، فأعطي بها شيئاً فأبى، ثم قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعها رجل من الأنصار فلطمه، فقال: نقول والذي اصطفى موسى على البشر، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرنا! فانطلق اليهودي إلى رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: با أبا القاسم! إن لي ذمة وعهداً. فقال: وما ذاك؟ قال: ما بال فلان لطمني؟! فأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الأنصاري فقال: ما يقول هذا؟ قال: يا رسول الله! يقول والذي اصطفى موسى على البشر وأنت بين أظهرنا! فغضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه وسلم حتى رئي ذلك في وجهه، ثم قال لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث، أو في أول منبعث، فإذا بموسى عليه السلام آخذ بالعرش، فما أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أو بعث قبلي، ولا يقولن أحد إني أفضل من يونس بن متى.
وفي رواية: فلا أدري، أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله عز وجل.
وعن عوف بن مالك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الأنبياء ليكاثرون بأممهم، وقد كثرتهم إلا موسى بن عمران، وإني لأرجو أن أكثره ولقد أوتي موسى بن عمران خصلات لم يعطهن نبي: أنه مكث يناجي ربه أربعين يوماً، لا ينبغي لمناجيين أن يتناجيا أطول من نجواهما. وأن ربك تحود بدفنه وقبره فلم يطلع عليه أحد، وهو يوم يصعق الناس قائم عند العرش، لا يصعق معهم.
وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن موسى قال: يا رب! أرنا آدم الذي أخرجنا من الجنة. فأراه الله آدم، فقال: أنت أبونا آدم، نفخ الله فيك من روحه، وعلمك الأسماء كلها، وأمر الملائكة فسجدوا(25/359)
لك؟ قال: نعم. قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ قال له آدم: ومن أنت؟ قال: أنا موسى. قال أنت نبي بني إسرائيل؟ أنت الذي كلمك الله من وراء حجاب، ولم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه؟ قال: نعم. قال: فيم تلومني في شيء سبق من الله فيه القضاء قبل؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذلك: فحج آدم موسى فحج أدم موسى.
وفي رواية بمعناه: تلومني على أمر قدره الله علي أن أعمله قبل أن يخلق السموات والأرض! وفي رواية: بكم تجد الذي عملت كتب علي قبل أن أخلق؟ قال: بأربعين سنة. قال فلم تلومني يا موسى؟! وعن الشعبي: في قول الله تبارك وتعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله " قال: موسى عليه السلام والصلاة " ورفع بعضهم درجات " قال: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " وآتينا عيسى ابن مريم البينات " فكان الشعبي يقول: هؤلاء أشراف الرسل يوم القيامة.
وعن أنس:
أن الناس ذكروا يوم القيامة عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: والذي نفسي بيده، إني لسيد الناس يوم القيامة ولا فخر، وإن بيدي لواء الحمد، وإن تحته آدم ومن دونه ولا فخر. قال: ينادي الله يومئذ آدم فيقول: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك. فيقول: اخرج من ذريتك بعث النار. فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين. فيخرج مالا يعلم عدده إلا الله. قال: فيأتون آدم فيقولون: يا آدم! أنت أكرمك الله، وخلقك بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسكنك جنته، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لذريتك، تحرق اليوم بالنار. فيقول آدم: ليس ذلك إلي اليوم، ولكن سأرشدكم، عليكم بنوح. فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح! اشفع(25/360)
لذرية آدم. فيقول: ليس ذلك إلي، ولكن عليكم بعبد اصطفاه الله بكلامه ورسالته، وصنع على عينه، وألقي عليه محبة منه، موسى، وأنا معكم. فيأتون موسى، فيقولون: يا موسى! أنت عبد اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وصنعت على عينه، وألقي عليك محبة منه، اشفع لذرية آدم لا تحرق اليوم بالنار فيقول ليس ذلك إلي اليوم، عليكم بروح الله وكلمته، وعيسى. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى! أنت روح الله وكلمته، اشفع لذرية آدم لاتحرق اليوم بالنار. فيقول: ليس ذلك إلي اليوم، ولكن سأرشدكم، عليكم بعبد جعله الله رحمة للعالمين، أحمد، وأنا معكم فيأتون أحمد، فيقول: يا أحمد! جعلك الله رحمة للعالمين، أحمد، وأنا معكم فيأتون أحمد، فيقول: يا أحمد! جعلك الله رحمة للعالمين، اشفع لذرية آدم لاتحرق اليوم بالنار. فأقول: نعم، أنا صاحبها. قال: فآتى حتى آخذ بحلقه الجنة، فيقال: من هذا؟ فأقول: أحمد. قال: فتفتح لي، فإذا نظرت إلى الجبار لا إله إلا هو خررت ساجداً، ثم يفتح لي من التحميد والثناء على الرب شيئاً لا يفتح لأحد من الحق، ثم يقال: ارفع، سل تعط، واشفع تشفع. فأقول: يا رب! ذرية آدم لا تحرق اليوم بالنار. فيقول الرب جل جلاله: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال قدر قيراط من إيمان فأخرجوه، ثم يعودون إلي يقولون: ذرية آدم لا يحرقون اليوم بالنار. قال: فأتى حتى آخذ بحلقة الجنة، فيقال: من هذا؟ فأقول: أحمد. فيفتح لي، فإذا نظرت إلى الجبار لا إله إلا هو خررت ساجدا، فأسجد مثل سجودي أول مرة ومثله معه، فيفتح لي من الثناء على الله والتحميد مثلما فتح لي أول مرة. فيقال: ارفع رأسك، سل تعط، واشفع تشفع. فأقول: يا رب! ذرية آدم لا تحرق اليوم بالنار. فيقول الرب: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فاخرجوه قال: ثم أتي حتى أصنع ما صنعت أول مرة، فإذا نظرت إلى الجبار عز جلاله خررت ساجداً، فأسجد كسجودي أول مرة ومثله معه، ويفتح لي من الثناء والتحميد مثل ذلك. ثم يقال: ارفع رأسك سل تعط، واشفع تشفع. فأقول: يا رب! ذرية آدم لا تحرق اليوم بالنار. فيقول الرب: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه. فيخرجون مالا يعلم عدده إلا الله، ويبقى أكثر، ثم يؤذن لآدم(25/361)
بالشفاعة، فيشفع لعشرة آلاف ألف، ثم يؤذن للملائكة والنبيين فيشفعون، ثم يؤذن للمؤمنين فيشفعون، وإن المؤمن يشفع يومئذ لأكثر من ربيعة ومضر.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ليس أحد من أهل الجنة إلا يدعى باسمه إلا آدم فإنه يكنى أبا محمد، وليس أحد من أهل الجنة إلا وهم جرد مرد إلا ما كان من موسى بن عمران، فإنه له لحية تبلغ سرته.
قال موسى لربه يوم الطور: أي رب! إن كلمتني فمن قبلك، وإن صليت فمن قبلك، وإن صمت فمن قبلك، وإن أرسلتني فمن قبلك، وإن بلغت رسالتك فمن قبلك، فكيف أشكرك؟ قال: يا موسى! الآن علمت أنك قد شكرتني، حيث علمت أنه من قبلي.
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لما كلم الله موسى في الأرض كان جبريل يأتيه من حلل الجنة وبكرسي مرصع بالدر والجوهر، فيجلس عليه ويرفعه الكرسي، فيرفعه حيث شاء ويكلمه حيث شاء.
قال عطاء بن السائب: كان لموسى قبة طولها ست مئة ذراع يناجي فيها ربه.
وعن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
إن الله ناجى موسى بمئة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة، في ثلاثة أيام وصايا كلها، فلما سمع موسى كلام الآدميين مقتهم مما وقع في مسامعه من كلام الرب، فكان فيما ناجاه: يا موسى! إنه لم يتصنع لي المتصنعون بمثل الزهد في الدنيا، ولم يتقرب إلي المتقربون بمثل الورع، عما حرمت عليهم، ولم يتعبد العابدون بمثل البكاء من خيفتي. قال موسى: يا إله البرية كلها! ويا مالك يوم الدين، ويا ذا الجلال والإكرام، وما أعددت لهم وماذا جزيتهم؟ قال: يا موسى! أما الزاهدون في الدنيا فإني أبحتهم الجنة يتبوؤون منها(25/362)
حيث يشاؤون، وأما الورعون عما حرمت عليهم فإنه ليس من عبد يلقاني يوم القيامة إلا ناقشته الحساب لنفسه مما في يديه، إلا ما كان من الورعين فإني أستحييهم وأجلهم وأكرمهم وأدخلهم الجنة بغير حساب، أما البكاؤون من خيفتي فلهم الرفيق الأعلى، لا يشاركون فيه.
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم قال: أي رب! عبدك المؤمن تقتر عليه في الدنيا! قال: فيفتح له باب إلى الجنة فينظر إليها، وقال: يا موسى! هذا ما أعددت له. قال موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم: أي رب! وعزتك وجلالك، لو كان أقطع اليدين والرجلين يسحب على وجهه منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة، وكان هذا مصيره لم ير بؤساً قط. قال: ثم قال موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم: أي رب! عبدك الكافر يوسع عليه في الدنيا! قال: يفتح له باب من النار، فيقال: يا موسى! هذا ما أعددت له. فقال موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم: أي رب! وعزتك وجلالك، لو كانت له الدنيا منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة، وكان هذا مصيره كأن لم ير خيراً قط.
قال أبو أيوب المقرئ: كلم الله موسى مئة ألف كلمة وأربعة وعشرين ألف كلمة، ذكر كلمة كلمة، قال له: يابن عمران! كل خدن لا يؤازرك على طاعتي فاتخذه عدواً كائناً من كان.
قال وهب بن منبه: إن الله كلم موسى في ألف مقام، وكان إذا كلمه رئي النور على وجهه ثلاثة أيام، ولم يمس موسى عليه السلام امرأة منذ كلمه ربه.
وعن كعب قال: قال موسى: أقريب فأناجيك أم بعيد فاناديك؟ قال: يا موسى! أنا جليس من ذكرني. قال: يا رب! فإنا نكون من الحال على حال نعظمك ونجلك أن نذكرك عليها.(25/363)
قال: وما هي؟ قال: الجنابة والغائط. قال: يا موسى! اذكرني على كل حال.
وفي رواية: إني أكون على الحال التي أجلك عن أن أذكرك عليها: الخلاء والرجل من أهله. قال: يا موسى، اذكرني على كل حال.
وفي رواية: الغائط، وإهراقه الماء، والجنابة، وعلى غير وضوء.
وفيه قال: يا رب! كيف أقول؟ قال: تقول سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت تحميني الأذى، سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت تقيني الأذى.
وعن مكحول قال: أغار الضحاك بن معد - يعني ابن عدنان - على نبي إسرائيل في أربعين رجلاً من بني معد، عليهم دراريع الصوف، خاطمي خيلهم بحبال الليف، فقتلوا وسبوا وظفروا، فقالت بنو إسرائيل: يا موسى! إن بني معد أغاروا علينا، وهم قليل، فكيف لو كانوا كثيراً، وأغاروا علينا وأنت نبينا، فادع الله عليهم. فتوضأ موسى وصلى، وكان إذا أراد من الله حاجة صلى ثم قال: يا رب! إن بني معد أغاروا على بني إسرائيل فقتلوا وسبوا وظفروا، فسألوني أن أدعوك عليهم. فقال الله عز وجل: لا تدع عليهم فإنهم عبادي، وإنهم ينتهون عند أول أمري، وإن فيهم نبياً أحبه وأحب أمته. قال: يا رب! ما بلغ من محبتك له؟ قال: أغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: يا رب! ما بلغ من محبتك لأمته؟ قال: يستغفرني مستغفرهم فأغفر له، ويدعوني داعيهم فأستجب له. قال: يا رب! فاجعلهم من أمتي. قال: نبيهم منهم. قال: يا رب! فاجعلني منهم. قال: تقدمت واستأخروا.
وعن كعب قال:
قال موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم ناجاه ربه: أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ قال الله عز وجل: يا موسى! أنا جليس من ذكرني. ثم قال: يا موسى! أتريد أن أقرب من مجلسك يوم القيامة؟ فلا تنهر السائل، ولا تقهر اليتيم، وجالس(25/364)
الضعفاء، وارحم المساكين، وأحب الفقراء، ولا تفرح بكثرة المال، فإن كثرة المال تفسد القلب وتقسيه؛ يا موسى! استمع وأنصت واحفظ، وأمر بني إسرائيل أن يتبعوا راكب الحمار، ابن العذارء البتول، يبعث من جبل صهيون يصنع بالآيات والعجائب، ويحيي الموتى ويبرئ الأكمة والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير بإذني، ويبشر بالنبي العربي الأمي من ولد قيدار بن إسماعيل، يبعث من بين جبلي قدس، صاحب الجمل، صاحب الهراوة - وهي العصا - والتاج - وهي العمامة - والنعلين، يبعث في آخر الزمان على فترة من الرسل، اسمه محمد في القرآن، وفي الإنجيل أحمد، وفي التوارة أحيد، افتح به وأختم، لم تلد النساء قبله ولا بعده، الأكحل العينين، الصلت الجبين، المقرون الحاجبين البادي النفقة الرجل الشعر، الشثن البنان، الحسن الثغر، المفلج الثنايا، الكث اللحية، النكاح للنساء، ذو النسل القليل، نسله من صديقة، لها في الجنة قصر من ذهب، ليس فيه صدع ولا وصل، ولا نصب ولا صخب، له منها ابنة لها فرخان مستشهدان، أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يرضون مني باليسير أعطيه إياهم، وأرضى منهم باليسير من العلم، أدخل أحدهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله، يقاتل بقضيب الحديد وتقاتل أمته بقضيب الشجر، صفهم في قتالهم كصفهم في صلاتهم، يأتزرون على أنصافهم، ويطهرون أطرافهم، جعلت لهم الأرض مسجداً وطهوراً، يصلون حيث أدركتهم صلاتهم ولو كانوا على كناسة، لمناديهم في الصلاة ذوي في جو السماء، تفتح لهم أبواب السماء، أنزل عليهم رحمتي، أشداء على الكفار، متوادون بينهم، إذا رأيتهم عرفتهم أنهم أهل ركوع وسجود، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، يقاتلون في صفوفاً وزحوفاً، ويصلون لي ركوعاً وسجوداً، وقياماً وقعوداً، أناجيلهم في صدورهم، وقربانهم في بطونهم، نساؤهم أيامى لطول غيبة أزواجهم وما هم بأيامى، وأولادهم يتامى لطول غيبة آبائهم، يطلبون الجهاد بكل أفق، رهبان الليل أسود النهار، أعطيهم من قبل أن يسألوني، وأستجب لهم من قبل أن يدعوني؛ ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم، أظهره على الدين كله ولو كره(25/365)
المشركون فأفتح لهم فتحاً يسيراً، وأنصره نصراً عزيزاً، أجعله أول شافع، أول مشفع، أختم به الأنبياء، وأفتح به الشفاعة؛ يا موسى! مر بني إسرائيل أن لا يغيروا نعته، ولا يكتموا صفته، وإنهم لفاعلون. قال: فخر موسى ساجداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: إلهي! لقد أكرمت هذا العبد وهذه الأمة. فقال الله: يا موسى! " إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من االشاكرين ".
قالوا: ولما قرب الله موسى نجياً بطور سيناء قال: يا موسى! إذا جعلت لك قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً وزوجة تعين على الخير فلم أخزن عنك من الخير شيئاً، ومن أخزن عنه هذا فلم أفتح له من الخير شيئاً.
وعن وهب قال: أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم: يا موسى بن عمران! إن الذي لك عندي، على قدر ما لي عندك.
وعن الحسن قال: أوحى الله إلى موسى عليه السلام: اتخذ طاعتي تجارة يأتك الربح من غير بضاعة.
ولما كلم الله موسى اعتزل النساء وترك اللحم، فبلغ ذلك أخاه، فاعتزل النساء وترك اللحم، ثم لم يلبث أن تزوج وأكل اللحم، فقيل لموسى: إن أخاك هارون قد أكل اللحم وتزوج. قال: لكني لا أرجع في شيء تركته لله.
وفي مناجاة موسى قال: رب! هذه الأمة التي أجدها في كتابي مرحومة؟ قال: تلك أمة أحمد، أعطيهم القليل فيرضون به، وأرضى منهم من العمل بالقليل، وأدخلهم الجنة بلا إله إلا الله.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إن موسى لما نزلت عليه التوراة وقرأها، فوجد فيها ذكر هذه الأمة، قال:(25/366)
يا رب! إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب! إني أجد في الألواح أمة هم الشافعون المشفوع لهم فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب! إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون المستجاب لهم، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب! إني أجد في الألواح أمة أنا جيلهم في صدورهم، يقرؤونه ظاهراً، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. يا رب! إني أجد في الألواح أمة يأكلون الفيء، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب! إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم، يؤجرون عليها، فاجعلها أمتي، قال تلك أمة أحمد. قال: يا رب! إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشر حسنات، فاجعلها أمتي، قال تلك أمة أحمد. قال: يارب! إني أجد الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم يعلمها لم تكتب، وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب! إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول والآخر فيقتلون فيروز الضلالة المسيح الدجال، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب! فاجعلني من أمة أحمد. فأعطى عند ذلك خصلتين. فقال: يا موسى " إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ". قال قد رضيت يا رب.
وعن نوف قال: لما انطلق موسى بوفد بني إسرائيل ناجاه ربه عز وجل فقال: إني أبسط لكم الأرض مسجداً ووضوءاً، تصلون حيث أدركتم الصلاة، إلا في حمام أو مرباض - وفي رواية: أو مرحاض - أو عند قبر، وأجعلكم تقرؤون التوراة على ظهر ألسنتكم، ذكركم وأنثاكم، وصبيانكم. فقالوا: لا نصلي إلا في كنيسة، ولا نستطيع أن نحمل السكينة في قلوبنا،(25/367)
فاجعل لنا تابوتاً تحمل فيه، ولا تقرأ التوراة إلا نظراً. قال: " فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة " حتى أتم الآية. قال: يا رب! اجعلني نبيهم. قال: إن نبيهم منهم. قال: رب فأخرني حتى أكون منهم. قال: إنك لن تدركهم. قال: رب جئت بوفادة قومي، فجعلت الوفادة لغيرهم. قال: " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " فكان نوف يقول: احمدوا ربكم شهد غيبتكم وأخذ بسهمكم، وجعل وفادة بني إسرائيل لكم.
زاد في رواية أخرى، في ذكر صدقاتهم يأكلون في بطونهم، قال: وكان من قبلنا يقربون صدقاتهم فإن تقبلت منهم جاءت النار فأكلتها وإن لم تقبل منهم تركت، فجاءت السباع فأكلتها.
قال الأعمش: قال الله تعالى: " وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك " نودي: يا أمة محمد! قد أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني.
وعن المقدام بن معدي كرب أن موسى لم يزل مغطياً وجهه منذ كلمه ربه.
جاء إبليس إلى موسى وهو يناجي ربه فقال له الملك: ويحك، وما ترجو منه وهو على هذه الحال يناجي ربه؟ قال: أرجو منه ما رجوت من أبيه آدم وهو في الجنة.
ولما كلم الله تعالى موسى عرض إبليس على الجبل، فإذا جبريل قد وافاه فقال: اخز يا لعين، أيش تعمل ها هنا؟ قال: جئت أتوقع من موسى ما توقعت من أبيه. فقال له جبريل: اخز يا لعين. ثم قعد جبريل يبكي حيال موسى، فأنطق الله الجبة - أو(25/368)
الزرمانقة - فقالت: يا جبريل، أيش هذا البكاء؟ قال: إني في القرب من الله، وإني لأشتهي أن أسمع كلام الله كما سمعه موسى. فقالت الجبة: يا جبريل! أنا جبة موسى، وأنا على جلد موسى، أنا أقرب إلى موسى أو أنت؟! والكلام هو ألطف اللغات، وهو مثل الرعد القاصف، يا جبريل، أنا لا أسمعه تسمعه أنت!
بينا موسى جالس في بعض مجالسه إذ جاءه إبليس وهو في برنس يتلون عليه ألواناً، فلما دنا منه خلع البرنس ثم أقبل إلى موسى فقال: من أنت؟ قال: أنا إبليس. قال: أنت فلا مرحباً بك، وما جاء بك؟ قال: جئت لأسلم عليك لمكانك من الله ومنزلتك منه. قال: فما هذا البرنس؟ قال: به أختطف قلوب بني آدم. قال: فأخبرني ما الذنب الذي إذا أذنب ابن آدم استحوذت عليه؟ قال: إذا أعجبته نفسه، واستكبر عمله، ونسي ذنبه استحوذت عليه، وأوصيتك بثلاثة أشياء. قال: وما هي؟ قال: لا تخل بامرأة لا تحل لك، فإنه ما خلا رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت أنا صاحبه دون أصحابي حتى أفتنه بها، ولا تعاهد لله عهداً إلا كنت صاحبه دون أصحابي، حتى أحول بينه وبين الوفاء به، ولا تهمن بصدقة إلا أمضيتها، فوالله ما هم أحد بصدقة إلا كنت أنا صاحبه دون أصحابي، حتى أحول بينه وبين الوفاء بها. ثم ولى وهو يقول: ياويله! - ثلاث مرات - علم موسى ما يحذره ابن آدم.
لقي إبليس موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا موسى! أنت الذي اصطفاك الله برسالته، وكلمك تكليماً، وأنا من خلق الله، أذنبت وأنا أريد أن أتوب فاشفع لي إلي ربي أن يتوب علي. قال موسى: نعم. فدعا موسى ربه فقال: يا موسى! قد قضيت حاجتك. فلقي موسى إبليس فقال: قد أمرت أن تسجد لقبر آدم ويتاب عليك فاستكبر(25/369)
وغضب فقال: لم أسجد له حياً أسجد له ميتاً! ثم قال إبليس: يا موسى! إن لك علي حقاً بما شفعت لي إلى ربك، فاذكرني عند ثلاث لا أهلكك فيهن: اذكرني حين تغضب، فإن روحي في قلبك وعيني في عينك، وأجري منك مجرى الدم؛ واذكرني حين تلقى الزحف فإني آتي ابن آدم حين يلقى الزحف، فأذكره ولده وزوجته وأهله حتى يولي، وإياك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم فإني رسولها إليك ورسولك إليها.
وعن مجاهد: في قوله ولقد " آتينا موسى الكتاب والفرقان " قال: الكتاب: هو الفرقان، سمي فرقاناً لأنه فرق بين الحق والباطل.
وعن ابن عباس قال: لما انتهى موسى إلى ربه عز وجل لميقاته قال له: أأكتب - أو أنا أكتب - لك الألواح، وإن قومك يسجدون لغيري. قال: فما ألقى الألواح لقول ربه عز وجل حتى نظرهم بعينيه يسجدون للعجل، فلما رآهم ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه.
وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: فيما أعطى الله موسى في الألواح في أول ما كتب عشرة أبواب: يا موسى! لا تشرك بي شيئاً فقد حق القول مني: لتلفحن وجوه المشركين النار، واشكر لي ولوالديك أقك المتألف، وأنسى لك في عمرك، وأحييك حياة طيبة وأقلبك إلى خير منها؛ ولا تقتل النفس التي حرمت إلا بالحق، فتضيق عليك الأرض برحبها، والسماء بأقطارها، وتبوء بسخطي في النار؛ ولا تحلف باسمي كاذباً ولا آثماً، فإني لا أظهر ولا أزكي من لم ينزهني ولم يعظم أسمائي؛ ولا تحسد الناس على ما أعطيتهم من فضلي، ولا تنفس عليهم نعمتي ورزقي، فإن الحاسد عدو لنعمتي، راد لقضائي، ساخط لقسمتي التي أقسم بين عبادي، ومن يكن كذلك فلست منه وليس مني، ولا تشهد بما لم يع سمعك، ويحفظ عقلك،(25/370)
ويعقد عليه قلبك، فإني واقف أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة، ثم سائلهم عنها سؤالاً حثيثاً؛ ولا تسرق ولا تزن بحليلة جارك، فأحجب عنك وجهي وتغلق عنك أبواب السماء، وأحب للناس ما تحب لنفسك، ولا تذبح لغيري فإني لا أقبل من القربان إلا ما ذكر عليه اسمي، وكان خالصاً لوجهي؛ وتفرغ لي يوم السبت وفرغ لي آنيك وجميع أهل بيتك. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله جعل السبت لهم عيداً، واختار لنا الجمعة فجعلها لنا عيداً.
قال الضحاك: لما حرق موسى العجل وذراه في البحر، وأتاهم بكتاب الله فيه الحلال الحرام، فإذا فيه الرجم للزاني المحصن والقطع على السارق، والقصاص، قالوا: يا موسى! لا نقبل ما جئتنا به، كان العجل أحب إلينا، لا تقطعنا ولا تقتلنا ولا ترجمنا. فقال موسى: رب! إن عبادك بني إسرائيل ردوا كتابك، وكذبوا بآياتك. فأمر الله الملائكة فنتقلوا الجبل على بني إسرائيل حتى ظل به على عسكر بني إسرائيل، وحال بينهم وبين السماء، ثم قال لهم موسى: إما أن تأخذوا هذا الكتاب بما فيه، وإما أن يلقي عليكم. فقالوا " سمعنا وعصينا " يقولون سمعنا الذي تخوفنا وعصينا الذي أتينا به.
وعن ابن عباس قال:
ما أعلمني من أين تسجد اليهود على حواجبهم. قيل: ومن أين ذاك؟ قال: إنهم لما أبوا أن يقبلوا التوراة أرسل الله عليهم الطور من فوق رؤوسهم، فكان الرجل منهم إذا سجد يسجد على أحد حاجبيه وهو يلحظ بإحدى عينيه إلى الجبل متى يرمى به عليه. فمن ثم تسجد اليهود على حواجبها. قال: فرفع موسى الألواح فوضعها في بيت الهيكل، وكان يخرجها إليهم كل سبت فيقرؤها ولد هارون عليهم، ويدرسونها بينهم، وكان من شأن بيت الهيكل أن الله عز وجل أمر موسى حين جاوز البحر، وأمره بالمسير إلى الأرض المقدسة، ومن قبل أن يتيه الله عز وجل بني إسرائيل، أمر الله موسى أن يبني مسجداً لجماعتهم وبيتاً لقدسهم وبيتاً لقربانهم.(25/371)
وعن عبد الله بن مسعود قال: لما تعجل موسى إلى ربه قال: " وما أعجلك عن قومك يا موسى، قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى " قال: فرأى رجلاً بمكان من العرش غبطه لمكانه ذلك قال: يا رب! من هذا؟ فقال: سأخبرك من عمله بثلاث: هذا رجل كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، وهذا رجل كان لا يمشي بين الناس بالنميمة، وهذا رجل كان لا يعق والديه. قال موسى: يا رب! وهل يعق أحد والديه؟ قال: نعم، يعرضهما للشتم فيشتمان.
قال وهب بن منبه: إن في الألواح التي كتب الله عز وجل لموسى: يا موسى! وقر والديك، فإن من وقر والديه مددت في عمره، ووهبت له ولداً يبره، ومن عق والديه قصرت عمره، ووهبت له ولداً يعقه.
وعن موسى بن سعيد قال: لما قرب الله موسى نجياً رأى عبداً تحت العرش فقال: يا رب! من هذا العبد؟ لعلي أعمل بمثل عمله. فقيل: يا موسى! هذا عبد كان براً بوالديه، وكان لا يحسد الناس، ولا يمشي بالنميمة.
ومن حديث قال: يا موسى! ما جئت تبغي؟ قال: الهدى. قال: قد وجدت. قال: يا رب! اغفر لي ذنوبي ما خلا وما غبر وما بين ذلك وما أنت أعلم به مني. قال: كفيت. قال: يا رب! أي عبادك أحب إليك لو أني أعمل عمله؟ قال: الذي لا يكذب لسانه، ولا يزني فرجه، ولا يفجر قلبه. قال: سبحانك! وأي عبادك لا يغنم أولا يكذب؟ قال: يا رب! أي عبادك أحب إليك بعد هذا؟ قال: مؤمن في خلق حسن. قال: يا رب! فأي عبادك أبغض إليك؟ قال: قلب كافر في خلق شيء. قال: يا رب! فأي عبادك أبغض إليك بعد هذا؟ قال: جيفة ليل، بطال بالنهار.(25/372)
أوحى الله تعالى إلى موسى: إني أعلمك خمس كلمات، وهن عماد الدين: ما لم تعلم أن قد زال ملكي فلا تترك طاعتي، وما لم تعلم أن خيراتي قد نفذت فلا تهتم لرزقك، وما لم تعلم أن عدوك قد مات - يعني إبليس - فلا تأمن ناحيته، لا تدع محاربته، وما لم تعلم أني قد غفرت لك فلا تعب المذنبين، وما لم تدخل جنتي فلا تأمن مكري.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سأل موسى ربه هو عن ست خصال قال: رب! أي عبادك أتقى؟ قال: الذي يذكر ولا ينسى. قال: فأي عبادك أهدى؟ قال: الذي يتبع الهدى. قال: فأي عبادك أحكم؟ قال: الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه. قال: أي عبادك أعلم؟ قال: عالم لا يشبع من العلم، يجمع علم الناس إلى علمه. قال: فأي عبادك أعز؟ قال: الذي إذا قدر غفر. قال: أي عبادك أعبد؟ قال: الذي يرضى بما أوتي. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس الغنى عن ظهر مال إنما الغنى عن النفس، وإذا أراد الله بعبد خيراً جعل غناه في نفسه وتقاه في قلبه، وإذا أراد الله بعبد شراً جعل فقره بين عينيه.
وفي حديث آخر قال: فأي عبادك أفقر؟ قال: صاحب سقر.
وعن أبي سعيد، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن موسى سأل ربه تعالى حين أعطاه التوراة أن يعلمه دعوة يدعو بها، فأمره أن يدعو بلا إله إلا الله. فقال موسى: يا رب! كل عبادك يدعو، وأنا أريد أن تخصني بدعوة أدعوك بها. فقال تعالى وتقدس: يا موسى! لو أن السماوات وساكنها، والأرض وساكنها، والبحار وما فيها وضعوا في كفة، ووضعت له إله إلا الله في كفة لوزنت لا إله إلا الله.
وفي رواية: علمني شيئاً أذكرك به وأدعوك به. قال: قل: لا إله إلا الله.
وزاد في رواية: فكان موسى أحب عملاً أنهك لبدنه من ذلك، فأوحى الله عز وجل إليه: أغرك أني ذللت بها لسانك، لو جعلت لا إله إلا الله والسماوات والأرضون في كفة(25/373)
لرجحت بهن، ولو كانت السماوات والأرضون حلقة لقصمتهن لا إله إلا الله حتى تجاورن.
سأل موسى ربه عز وجل فقال: رب أي عبادك أعدل؟ قال: من أنصف من نفسه.
سأل موسى ربه فقال: اللهم اجمع لي خصال الخير في كلمة واحدة. فقال: صاحب الناس بالذي تحب أن يصاحبوك به.
ومن حديث: قال: يا رب! أي عبادك أخشى لك؟ قال: أعلمهم بي.
وعن عطاء بن يسار قال: قال موسى: يا رب! من أهلك الذين هم أهلك، الذين تؤوي في ظل عرشك يوم القيامة؟ قال: هم البريئة أبدانهم، الظاهرة قلوبهم، الذين يتحابون بجلالي، الذين إذا ذكرت ذكروني ذكرتهم، يسبغون الوضوء عند المكاره، وينيبون إلى ذكري ما تنيب النسور إلى أوكارها، يكلفون بحبي كما يكلف الصبي بحسب الناس، يغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حرب.
زاد في آخر بمعناه: فإن النمر إذا غضب لم يبال أقل الناس أم كثروا.
وفي رواية: أخبرني عن أهلك الذين هم أهلك. قال: هم المتحابون في الدين، يعمرون مساحدي ويستغفروني بالأسحار. الحديث.
وعن زيد بن أسلم: أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه: من الذين يرثون دار قدسك؟ قال: يا موسى! هم النقية أبدانهم. الحديث.(25/374)
وفي حديث عروة قال: يا رب! أخبرني بأكرم خلقك عليك؟ قال: الذي يسارع إلى هواي كما يسرع النسر إلى هواه، والذي يكلف بعبادي الصالحين كما يكلف الصبي بالناس. الحديث.
وعن بديل بن مسيرة - وكان قد قرأ الكتب - قال: إن الله تعالى أوحى إلى موسى فيما يوحي إليه أن أحب عبادي إلي الذين يمشون في الأرض بالنصيحات، والذين يمشون على أقدامهم إلى الجمعة، المستغفرين بالأسحار، أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقاباً ثم رأيتهم كففت عنهم عقابي، وإن أبغض عبادي إلي الذي يقتدي بسيئة المؤمن ولا يقتدي بحسنته.
وقال موسى: يا رب! أي عبادك أحب إليك؟ قال: أكثرهم لي ذكراً. قال: رب، أي عبادك أعلم؟ قال: غلام يلتمس العلم. قال: رب: أي عبادك أحلم؟ قال: أملكهم لنفسه عند الغضب. قال: رب! أي عبادك أصبر؟ قال: أكظمهم للغيظ.
وعن أبي الدرداء قال: قال موسى: يا رب! من يسكن غداً في حظيرة القدس ويستظل بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك؟ قال: يا موسى! أولئك الذين لا تنظر أعينهم في الزنا، ولا يبتغون في أموالهم الربا، ولا يأخذون على أحكامهم الرشا، طوبى لهم وحسن مآب.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: قال موسى: يا رب! أي خلقك أكرم عليك؟ قال: الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكري. قال: يا رب! فأي خلقك أعلم؟ قال: الذي يلتمس إلى علمه علم غيره. قال: يا رب! فأي خلقك أعدل؟ قال: الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس. قال: يا رب! فأي خلقك أعظم ذنباً؟ قال: الذي يتهمني. قال: يا رب! وهل يتهمك أحد؟! قال: الذي يستخيرني فلا يرضى بقضائي.
قال ابن عباس: لما بعث الله موسى وكلمه، وأنزل عليه التوراة فقال: إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت أن لا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تعصى، فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله تعالى إليه أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. فانتهى موسى.(25/375)
خرج عمار بن ياسر إلى أصحاب له وهم ينتظرونه فقالوا: أبطأت علينا أيها الأمير. قال: أما إني سأحدثكم حديثاً، كان أخ لكم ممن كان قبلكم، وهو موسى قال: يا رب! أخبرني بأحب خلقك إليك. قال: لم؟ قال: لأحبه لك. قال: سأحدثك، رجل في طرف من الأرض يعبدني، فيسمع به أخ في طرف الأرض الأخرى لا يعرفه، فإن أصابته مصيبة فكأنما أصابته، وإن شاكته شوكة فكأنما شاكته، لا يحبه إلا لي. فذاك أحب خلقي إلي ثم قال موسى: يا رب! خلقت خلقاً فجعلتهم في النار، فأوحي الله إليه أن يا موسى ازرع زرعاً. فزرعه وسقاه، وقام عليه حتى حصده وداسه، فقال له: ما فعل زرعك يا موسى؟ قال: قد رفعته. قال: فما تركت منه؟ قال: ما لا خير فيه. قال: فإني لا أدخل النار إلا من لا خير فيه.
وعن أبي بكر بن عياش قال: قال موسى: يا رب، أرني أهل صفوتك فقيل لها: انطلق إلى خربة كذا وكذا. فانطلق فإذا هو برجل ميت قد بليت أكفانه، وبدت عظامه، فقال موسى: يا رب! سألتك أن تريني أهل صفوتك فأرتني رجلاً ميتاً قد بليت أكفانه وبدت عظامه! قال: نعم يا موسى! ومع هذا فإني أخرجته من الدنيا وهو جائع.
وعن جابر قال:
أوحى الله إلى موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: أن ارحم عبادي المعافى مهم والمبتلى. فقال: يا رب! هذا المبتلى أرحمه لبلائه فما بال المعافى!؟ قال: لقلة شكره إياي على عافيتي إياه.
وعن قتادة قال: قال موسى: يا رب! أنت في السماء ونحن في الأرض، فما علامة غضبك من رضاك؟ قال: إذا استعملت عليكم خياركم فهو علامة رضائي وإذا استعملت عليكم شراري فهو علامة سخطي عليكم.(25/376)
وعن وهب قال: قال موسى بن عمران: أي رب، أخبرني بآية رضاك عن عبدك. فأوحى الله إليه: يا موسى، إذا رأيتني أهيئ له طاعتي وأصرفه عن معصيتي فذلك آية رضاي عنه.
قال: وفي بعض الكتب، أو فيما أنزل الله تعالى وتقدس: ابن آدم! إذا غضبت فاذكرني، أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك مع من أمحق، فإذا ظلمت فارض بنصري لك فإن نصري لك خير من نصرتك لنفسك.
وعن كعب قال: قال الله عز وجل: يا موسى! أتريد أن أملأ مسامعك يوم القيامة مما يسرك؟ ارحم الصغير كما ترحم ولدك، وارحم الكبير كما ترحم الصغير، وارحم الغني كما ترحم الفقير، وارحم المعافى كما ترمم المبتلى، وارحم القوي كما ترحم الضعيف، وارحم الجاهل ما ترحم الحليم.
وعن كعب قال: إن الرب عز وجل قال لموسى عليه السلام: إذا رأيت الغنى مقبلاً فقلت: ذنب عجلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقل: مرحباً بشعار الصالحين؛ يا موسى، إنك لن تقرب إلي بعمل من أعمال البر خير لك من الرضا بقضائي، ولن تأتي بعمل أحبط لحسناتك من البطر، وإياك والتضرع لأبناء الدنيا إذا أعرض عنك، وإياك أن تجود بدينك لدنياهم، إذاً أمر أبواب رحمتي أن تغلق دونك؛ أذن الفقراء وقرب مجالسهم منك، ولا تركن إلى حب الدنيا فإنك لن تلقاني بكبيرة من الكبائر أضر عليك من الركون إلى الدنيا. يا موسى، قل للمذنبين النادمين أبشروا، وقل للغافلين المعجبين اخسؤوا.
وعن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال موسى: يا رب! وددت أني أعلم من يحبك من عبادك فأحبه. قال: إذا رأيت عبدي يكثر ذكري فأنا أذنت له في ذلك فأنا أحبه، وإذا رأيت عبدي لا يذكرني فأنا حجبته عن ذلك وأنا أبغضه.
وعن أبي عمران الجوني قال: أوحى الله تعالى إلى موسى: يا موسى! اذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك من ذكري،(25/377)
وكن عند ذكري خاشعاً مطيعاً - زاد في آخر: وإذا دعوتني فاجعل لسانك من وراء قلبك - وإذا كنت بين يدي فقم مقام العبد الحقير الذليل، وذم نفسك فهي أولى بالذم، وناجني حين تناجيني بقلب وجل، ولسان صادق.
وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: كان فيما أعطى الله موسى في الألواح اشكر لي ولوالديك أقك المتالف، وأنسئ لك في عمرك، وأحييك حياة طيبة، وأقلبك إلى خير منها.
وعن أبي الجلد قال: قرأت في مسألة موسى أنه قال: كيف لي أن أشكرك؟ وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمك لا يجازي بها عملي كله. فأتاه الوحي أن يا موسى الآن شكرتني.
وفي رواية قال: يا رب! كيف أشكرك وكل ما بي فهو منك!؟ قال الله له: يا موسى! إن شكري أن تعلم انه مني.
وعن عبد الله بن سلام قال: قال موسى: يا رب! ما الشكر الذي ينبغي لك؟ قال: فأوحى الله عز وجل إليه أن لا يزال لسانك رطباً من ذكري. قال: يا رب! إني أكون على حال أجلك أن أذكرك فيها: يا رب! فما أقول؟ قال: تقول سبحانك وبحمدك جنبني الأذى، سبحانك وبحمدك قني الأذى.
وعن زيد بن أسلم أن موسى عليه السلام قال: يا رب! قد أنعمت علي كثيراً فدلني أن أشكرك كثيراً، قال: اذكرني كثيراً، فإذا ذكرتني فقد شكرتني كثيراً، وإذا نسيتني فقد كفرتني.
وعن عطاء قال: قال موسى: يا رب! أوصني. قال: أوصيك بي. قال: يا رب! أوصني قال:(25/378)
أوصيك بي. قال: يا رب! أوصني. قال: أوصيك بأبيك. قال: يا رب! أوصيني قال: أوصيك بأمك. قال: يا رب! أوصني، قال: أوصيك بابنك.
قال عطاء: فجعلت ثلثي بره لأمه وثلثاً لأبيه.
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
قال موسى: رب! أرني متى تحبني ومتى تبغضني؟ واجعل لي في ذلك علماً أعرفه. قال: يا موسى! إن آية ما أحبك أنك إذا أردت الخير يسرتك له ويسرته لك، وإذا أردت الشر حلت بينك وبينه، وآية ما أبغضك أنك إذا أردت الخير صرفتك عنه وصرفته عنك، وإذا أردت الشر خليت بينك وبينه. قال: رب! فمتى تحبنا عامة، ومتى تبغضنا عامة؟ قال: آية ما أحبكم عامة أن أنزل عليكم المطر لحينه، وأولي عليكم خياركم؛ وآية ما أبغضكم عامة أن أنزل عليكم المطر لغير حينه، وأولي عليكم شراركم. قال: رب! أي الأعمال أحب إليك أن أعمل لك به؟ قال: تعبدني ولا تشرك بي شيئاً. قال: رب! ثم مه؟ فأعادها عليه مرة أخرى قال: ثم مه؟ قال: ثم عليك بأمك - ثلاثاً - ثم بأبيك. قال: رب! فأي الدعاء أحب إليك أن أدعوك به؟ قال: تحمدني على كل حال، وتشكر نعمتي وحسن ملئي إياك، وتسألني من الخير كله، وتستعذ بي من الشر كله، فإني على كل شيء قدير وليكن مما تستعيذني منه الجار المؤذي وصاحب الغفلة الذي إذا نسيت لم يذكرك، وإذا ذكرت لم يعنك.
وعن مكحول قال: أوحى الله إلى موسى: اغسل قلبك. قال: يا رب! بأي شيء أغسله؟ قال: اغسله بالهم والحزن.
وعن الحسن أن موسى سأل ربه جماعاً من الخير فقال: اصحب الناس بما تحب أن تصحب به.(25/379)
وعن عبد الله بن أبي عوف قال: قال موسى: كيف يحبني خلقك كلهم؟ قال: خالق الناس بأخلاقهم، وأحسن فيما بيني وبينك.
وعن سفيان قال: سأل موسى ربه فقال: يا رب! ما أعددت أوليائك؟ قال: يا موسى! غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، ففيها ما لا عين رأت، ولا خطر على قلب بشر. قال سفيان: ونحن ترى أنها جنة عدن، لأنه لم يخلق بيده من الجنان شيئاً غيرها.
وعن كعب الأحبار قال: أوحى الله تعالى إلى موسى في بعض ما أوحى إليه: يا موسى! لولا من يحمدني ما أنزلت من السماء قطرة، ولا أنبت من الأرض ورقة؛ لولا من يعبدني ما أهملت من يعصيني طرفة عين؛ يا موسى! إذا لقيت المساكين فسائلهم كما تسائل الأغنياء، فإن لم تفعل ذلك فاجعل كل شيء علمت - أو قال عملت - تحت التراب؛ يا موسى! أتحب أن لا ينالك من عطش يوم القيامة؟ قال: إليه! نعم. قال: فأكثر الصلاة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن المنهال بن خليفة قال: قال موسى: يا رب! إن نزلت بي حاجة فإلى من؟ قال: إلى النجباء من خلقي.
وعن سفيان الثوري قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى بن عمران: يابن عمران! لأن تجعل يدك في فم تنين إلى المرفق خير لك من أن تسأل غنياً - كان فقيراً - حاجة.
قال كعب الأحبار: في كتاب الله الذي أنزل على موسى: احفظ ود أبيك، لا تجفه فيطفئ الله نورك.
وعن عبد الله بن عمرو قال: أوحى الله إلى موسى: أنا قاتل القتالين ومفقر الزناة.(25/380)
وكان رجل يخدم موسى ويتعلم منه فاستأذنه أن يرجع إلى قريته ثم يعود إليه فأذن له، فانطلق، فجعل يقول: حدثني موسى نجي الله بكذا، حدثني موسى كليم الله بكذا. حتى كثر ماله، وجعل موسى يسأل عنه فلا يخبر عنه بشيء، فبينما موسى قاعد إذ مر به رجل يقود خرزاً، في عنقه حبل - والخرز: الأرنب الذكر - فقال: يا عبد الله! من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من قرية كذا وكذا، من قرية الرجل. قال: فتعرف فلاناً؟ قال: نعم، هو هذا الذي في يدي. قال موسى يا رب! رده إلى حاله حتى أسأله فيما صنعت به هذا؟ فأوحى الله إلي: لو سألني الذي سألتني آدم فمن دونه من البشر حتى تبلغ محمداً لم أرده إلى حاله، وإنما صنعت هذا لأنه كان يطلب الدنيا بالدين.
وعن محمد بن مهاجر القاري قال: مر موسى برجل رافع يديه يدعو، فقال موسى: يا رب! عبدك يدعوك، فاستجب له، افعل به. قال: فأوحى الله إليه: يا موسى! لو رفع يديه حتى تنقطعا من آباطهما ما استجبت له حتى يرد غربالي التبن اللذين غصبهما.
أوحى الله تعالى إلى موسى: كن يقظاناً مرتاداً لنفسك أخذاناً، وكل خدن لا يواتيك على مسرتي فلا تصحبنه، فإنه عدوي وأكثر من ذكري حتى تستكمل الشكر فستوجب المزيد.
أوحى الله إلى موسى بن عمران: إن أول من مات إبليس، وذلك أنه أول من عصاني، وإنما أعد من عصاني من الموتى.
وعن وهب قال: أوحى الله إلى موسى: إني رزقت الأحمق ليعلم العاقل أن الرزق ليس باحتيال.
وعن محمد بن كعب
في قول الله تعالى " واختار موسى قومه سبعين رجلاً " قال: اختار صالحيهم(25/381)
سبعين رجلاً، ثم خرج بهم فقالوا: أين تذهب بنا؟ قال: أذهب بكم إلى ربي، وعدني أن ينزل علي التوراة. قالوا: فلا نؤمن بها حتى ننظر إليه. فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، فبقي موسى قائماً بين أظهرهم ليس معه منهم أحد " قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " ماذا أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وليس معي رجل ممن خرج معي؟ ثم قرأ: " ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون " فقالوا: " هدنا إليك ". قال: فبهذا تعلقت اليهود، فتهودت بهذه الكملة.
وقوله تعالى: " فاقتلوا أنفسكم " قال: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر، فقتل بعضهم بعضاً، لا يحمي الرجل على قريب ولا بعيد، حتى لوى موسى عليه السلام بثوبه، فألقوا ما بأيدهم فكشفوا عن سبعين ألف قتيل، وإن الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى أن حسبي فقد اكتفيت.
زاد في حديث آخر: فكانت شهادة للمقتول وتوبة للحي.
وفي حديث: فأحزن موسى وبني إسرائيل الذي كان من القتل، فاوحى الله إلى موسى: ما يحزنك؟ أما من قتل منهم فحي عندي يرزق، وأما من بقي فقد قبلت توبته. فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كان أول شأن موسى نسياناً، والثانية عذراً، والثالثة فراق ما بينهما؛ ولو صبر موسى لقص الله علينا من شأنهما أكثر مما قص.
وعن محمد بن كعب أن موسى ثقل عليه أمر بني إسرائيل، واشتد عليه بعض المؤنة منهم فقال له رجل:(25/382)
يا نبي الله! ألا أدلك على شيء يخفف عنك أمر بني إسرائيل؟ فقال: بلى. قال: إن نبي إسرائيل اثنا عشر سبطاً، فاختر من كل سبط رجلاً فاجعله عليهم، ثم ميز من كل سبط ألفاً، فاختر من كل ألف رجلاً فاجعله عليهم فما كان بين المئة من خصومه نظر فيه صاحبهم، فإذا أشكل عليه، رفعه إلى صاحب الألف، فإن اشكل عليه رفعه إلى صاحب السبط، فإن أشكل على صاحب السبط رفعه إليك، فإنه قليل ما يأتيك من ذلك. ففعل موسى، فخف عليه شأن الناس، فقال موسى: رب! كلمني وناجني واصطفني لنفسك مثل ثم كان من خلقك من هو أعلم مني. فبعث الله طيراً إلى بحر، فشرب منه ثم قال: يا موسى! ما تقول هذا الطير نقص من هذا النهر؟ قال: لا ينقص، وماذا ينقص يا رب؟ طير وضعت خراطيمها في نهر منه! قال الله: فكما لم ينقص هذا الطير من هذا النهر شيئاً فكذلك لا ينقص ما علمتك من علمي شيئاً. قال موسى: فدلني يا رب على عبد لك أعلم مني حتى أتبعه، فألتمس من علمه. فقال الله له: خذ هذا الحوت، اذهب حيث فارقك هذا الحوت فستجد من هو أعلم منك، فخرج موسى لفتاه: " آتنا غذاءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " قال: فزع الفتى حين لم يجد الحوت وكان يتعاهده " قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره فاتخذ سبيله في البحر عجبا "، قال له موسى: " ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصاً " فلقي رجلاً قال له موسى: السلام عليك. فقال له الرجل أنى السلام بهذه الأرض؟ من أنت؟ قال: أنا موسى. قال فابتدأه الرجل بعلم من علم الغيب قال: نبي بني إسرائيل؟ قال له موسى: نعم. قال له الرجل: إن كنت(25/383)
لأتوجع لك مما كنت تلقى من فرعون " قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً، قال إنك لن تستطيع معي صبراً، وكيف نصبر على ما لم تحط به خبراً " ثم تلا الآية حتى فرغ. قال عمر بن الخطاب - ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدثهم بهذا الحديث حتى فزع من القصة -: يرحم الله موسى، وددت لو أنه صبر حتى يقص علينا أيضاً من حديثهما.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: هل يصلي ربك؟ فتكابد - أو تكابر - موسى عليه السلام فقال الله عز وجل له: ما قالوا لك يا موسى؟ قال: قالوا الذي سمعت. قال: فأخبرهم أني أصلي، وأن صلاتي تطفئ غضبي.
وفي حديث آخر: إن صلاتي على عبادي أن تسبق رحمتي غضبي، لولا ذلك لأهلكتهم.
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكي موسى على المنبر قال:
وقع في نفس موسى هل ينام الله تعالى وتقدس؟ فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثاً، ثم أعطاه قارورتين، في كل يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بها فجعل ينام، وتكاد يداه تلتقيان ثم يستيقط فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة، فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان. قال: ضرب له مثلاً أن الله تبارك وتعالى لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض.
وعن راشد بن سعد قال: إن موسى لما قدم على قومه ووعد قومه أربعين ليلة قال الله: يا موسى! إن قومك قد افتتنوا من بعدك. قال: يا رب، كيف يفتتنون وقد نجيتهم من فرعون، ونجيتهم من البحر، وأنعمت عليهم وفعلت بهم! قال: يا موسى! اتخذوا بعدك عجلاً له خوار.(25/384)
قال: يا رب! فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا. قال: فأنت أضللتهم. قال: يا موسى! يا رأس النبيين يا أبا الأحكام! إني رأيت ذلك في قلوبهم، فيسرته لهم.
وعن وهب أنه كان يذكر من كرامة موسى على الله أن بني إسرائيل لما كثروا عليه أوحى الله إلى ألف - أو قال: سبعين نبي - يكونون أعواناً له، فلما مال إليهم الناس ورجعوا عن موسى كأنه وجد في نفسه غيرة، فأماتهم الله في يوم واحد.
وعن نوف أن طول سرير عوج الذي قتله موسى ثمان مئة ذراع، وعرضه أربع مئة ذراع، وكان موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ووثبته حين وثب ثمانية - وقيل عشرة - أذرع، فضربه فأصاب كعبه فخر على نيل مصر فجسره للناس عاماً يمرون على صلبه وأضلاعه.
وعن زيد بن أسلم قال: كان موسى بن عمران إذا غضب اشتعلت النار في قلنسوته.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: " إنا لن ندخلها أبداً ما داموا " إلى قوله " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " قال: لا تأس على من سميت أنه فاسق. قال ابن عباس: كانت طيرة من موسى حين قال " الفاسقين " وقال لهم: يا حمير! فقال الله عز وجل: مه عن عبادي.
وعن ابن عباس قال: غضب موسى على قومه في بعض ما كانوا يسألونه، فلما نزل الحجر قال: اشربوا يا حمير! فأوحى الله إليه: أتعمد إلى عبيد من عبادي فتقول لهم يا حمير!؟ قال: فما برح موسى حتى أصابته عقوبة.
كان شاب في بني إسرائيل على عهد موسى عليه السلام باراً بأمه عابداً يصلي ثلث(25/385)
الليل، وينام الليل، ويجلس ثلث الليل عند رأس أمه، يلقنها التسبيح والتهليل، فإذا أصبح خرج إلى البرية فيحتطب ثم يدخله محلة بني إسرائيل فيبيعه ويتصدق بثلثه، ويشتري بثلثه طعاماً يكفيه وأمه يومهما، ثم يأتي بالثلث الثالث إلى أمه فتصدق به، فغبر بذلك ما شاء الله، ثم قالت له أمه ذات يوم: أي بني! إن لي بقرة ورثتها عن أبي، وإني أرسلها في البرية ترعى، ويحفظها علي إله بني إسرائيل، فاذهب في طلبها. فذهب الفتى في طلبها، ووصفتها له، وأوعزت إليه أن لا يركبها ولا يحدث فيها أمراً.
وقيل: إن تلك البقرة، كانت لغلام يتيم وهي التي وصفها الله في كتابه. ولما أن أصاب الفتى البقرة ناداها فقال: أيتها البقرة! أسألك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب لما ابتعتني. فاتبعه، فتكلمت البقرة بإذن الله فقالت: يا فتى! لو سألت الله ربك أن يسير معك الجبال لفعل، لبرك بأمك ولطواعيتك لها. فمضى بالبقرة، فتعرض له إبليس لعنه الله ليركبها ويعصي أمه، فأبى، فلما عصمه الله من معصية أمه عرض له إبليس ليخدعه عنها فيشتريها منه، فسأله أن يبيعها منه يعطيه ما سأل، فأبى، فجاء بها إلى أمه، فقالت: يا بني! اذهب بها فبعها. قال: بكم؟ قالت: بستة دنانير على رضاي. فقبض الله له ملكاً أعطاه بها اثني عشر ديناراً على أن لا يستأمر أمه، فأبى، فردها إلى أمه فأخبرها الخبر، فقالت: اذهب فبعها باثني عشر ديناراً على أن تستأمرني فيها، فانطلق بها إلى السوق، فجاءه الملك فأعطاه أربعة وعشرين ديناراً على أن لا يسامر أمه، فأبى فقال: لو أعطيتني ملء مسكها ذهباً ما بعناكها إلا برضا أمي. فقال له الملك: إنك لا تبيعها حتى تعطي ملء مسكها ذهباً لبرك بأمك وطواعيتك لها - ونظر الملك خير للفتى - فقال: حتى قتل رجل في بني إسرائيل؛ وذلك أنه كان رجلاً فيهم كثير المال، لم يكن له ولد، عمد أخوان من بني إسرائيل وهما ابنا أخيه فقتلاه كي يرثانه، فألقياه إلى جانب قرية أهلها براء منه، فأصبح القتبل بين أظهرهم، فأخذوا به فعمي عليهم شأنه ومن قتله؛ قال أهل القرية الذين وجد القتيل عندهم لموسى: ادع(25/386)
الله يا رسول الله لنا أن يطلعك على قاتل هذا. قال: أفعل. ففعل. قالوا له: ماذا أجابك ربك؟ قال: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " فتضربوه ببعضها فيعيش فيخبركم من قتله إن شاء الله. فظنوا أن موسى استهزأ بهم " قالوا " يا موسى " أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال " فدعا ربه فقال " إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان " يعني لا هرمة ولا بكر عوان " بين ذلك " يعني نصف بين البكر والهرمة " فافعلوا ما تؤمرون " ثم " قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين " يعني أنها صفراء الظلف والقرنين " لا شية فيها " يقول: لا وضح فيها " قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقرة تشابه علينا ".
قال ابن عباس: فلو أنهم عمدوا إلى بقرة لا صغيرة ولا كبيرة فذبحوها لأجزت عنهم، ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم.
قال ابن عباس: كانت مدينتان في بني إسرائيل، إحداهما حصينة ولها أبواب، والأخرى خربة، فكان أهل المدينة الحصينة إذا أمسوا أغلقوا أبوابها، وإذا أصبحوا قاموا على سور المدينة فنظروا أهل حدث فيما حولها حدث؟ فأصبحوا يوماً، فإذا شيخ قتيل مطروح بأصل مدينتهم، فأقبل أهل المدينة الخربة فقالوا: قتلتم صاحبنا، وابن أخ له شاب يبكي عنده ويقول: قتلتم عمي. قالوا والله ما فتحنا مدينتنا منذ أغلقناها، وما ندينا من دم صاحبكم هذا بشيء. فأتوا موسى، فأوحى الله إلى موسى " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " إلى قوله " فذبحوها وما كادوا يفعلون ".(25/387)
وكان في بني إسرائيل غلام شاب يبيع في حانوت له، وكان له أب شيخ كبير، فأقبل رجل من بلد آخر يطلب سلعة له عنده، فأعطاه بها ثمناً، فانطلق معه ليفتح حانوته، فيعطيه الذي طلب، والمفتاح مع أبيه، فإذا أبوه نائم في ظل الحائط فقال: أيقظه. فقال: إني أكره أن أروعه من نومه، فانصرفا، فأعطاه ضعف ما أعطاه، فعطف على أبيه، فإذا هو أشد ما كان نوماً. فقال: أيقظه. قال: لا والله لا أوقظه أبداً ولا أروعه من نومته. قال: فلما انصرف وذهب طالب السلعة استيقظ الشيخ فقال له ابنه: يا أبتاه! لقد جاء ها هنا رجل يطلب سلعة كذا وكذا فكرهت أن أروعك من نومك. فلامه الشيخ، فعوضه الله من بره بوالده إذ نتجت بقرة من بقرة تلك البقرة التي يطلبها بنو إسرائيل، فأتوه فقالوا: بعناها. فقال: لا أبيعكموها. قالوا: نأخذها منك. قال: إن غصبتموني سلعتي فأنتم أعلم. فأتوا موسى فقال: اذهبوا فأرضوه من سلعته. فقالوا: فقالوا: حكمك. قال: حكمي أن تضعوا البقرة في كفة الميزان وتضعوا ذهباً صامتاً في الكفة الأخرى، فإذا مال الذهب أخذته. ففعلوا، أقبلوا بالبقرة إلى قبر الشيخ وهو بين المدينتين، واجتمع أهل المدينتين، وابن أخيه عند قبره يبكي، فذبحوها فضرب ببضعة من لحمها القبر فقام الشيخ ينفض رأسه يقول: قتلني ابن أخي، طال عليه عمري فأراد أخذ مالي. ومات.
وقيل: إنهم اشتروا البقرة بملء جلدها إذا سلخت ذهباً قباعها إياهم، فذبحوها ثم قالوا: قد ذبحناها يا موسى! قال: فخذوا عضواً منها فاضربوه به. قال الحسن: أخذوا عضد البقرة فضربوه فقام وأوداجه تشخب دماً، فسألوه: من قتلك؟ فقال: فلان وفلان ابنا أخيه فمات.
وقيل: إنهم أعطوه ملء مسكها ذهباً من مال القتيل، فاستغلق المال كله، فحرمهم الله ميراثه فجرت السنة بهن لا يرث وارث إن قتل. فقال ابنا أخيه: ما قال إنا قتلناه. فأنزل الله على نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخير ما قالوا وما كان من أمرهم. فقال " وإذ قتلتم نفساً " إلى قوله " لعلكم تعقلون "، ونزلت فيما قالا: ما قال إنا قتلناه " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة " يعني من بعد ما رأيتم العبرة فهي " أشد قسوة " من الحجارة.(25/388)
وعن أبي موسى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لقد مر بالصخرة من الروحاء سبعون نبياً، منهم موسى نبي الله، حفاة عليهم العباء، يؤمون بيت الله العتيق.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً، منهم موسى - أو فيهم موسى - فكأني أنظر إليه وعليه عباءتان قطوانيتان وهو محرم على بعير من إبل شنوءة، مخطوم الخطام من ليف، وله ضفران.
وعن ابن عباس قال: حج موسى على ثور أحمر، عليه قطوانية.
وعن انس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أكثروا من الصلاة على موسى، ما رأيت أحداً من الأنبياء أحوط على أمتي منه.
وعن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: في قوله " فلا تكن في مرية من لقائه "، قال: لقاء موسى ربه " وجعلناه هدى لنبي إسرائيل " قال موسى: هدى لبني إسرائيل.
وعن زيد بن أسلم في قوله: " رسول كريم " قال موسى عليه السلام.
وعن أبي هريرة وغيره في هذه الآية: " لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبراه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ".(25/389)
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يكاد يرى من جلده شيء استحياء، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل وقالوا: ما يستر هذا الستر إلا من عيب بجلده، إما برص، وإما أدرة، وإما آفة. وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا. وإن موسى خلا يوماً وحده فوضع ثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر وجعل يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! إلى أن انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عرياناً كأحسن الرجال خلقاً فبرؤوه مما قالوا، وإن الحجر قام، فأخذ بثوبه فلبسه، فطفق بالحجر ضرباً. قال: فوالله إن في الحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً، أو أربعاً، أو خمساً.
وفي رواية: أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة فينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى يغتسل وحده. الحديث. وفيه حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس.
وفي حديث آخر: فنظروا إلى أحسن الناس خلقاً، وأعدل صورة. قال الملأ: قاتل الله أفاكي بني إسرائيل، فكانت براءته التي برأه الله بها.
وروي عن علي رضي الله عنه في هذه الآية، قال: صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون، وقال بنو إسرائيل: أنت قتلته، كان أشد حباً لنا منك، وألين منك. فآذوه بذلك، فأمر الله الملائكة فحملته حتى مروا به على بني إسرائيل، وتكلمت الملائكة بموته، حتى عرفت بنو إسرائيل أنه قد مات. فبرأه الله من ذلك، فانطلقوا به ودفنوه. فلم يطلع على قبره أحد من خلق الله إلا الرخم فجعله الله أصم أبكم.(25/390)
وعن الحسن: أن موسى لما حضرته الوفاة، كان جالساً يقضي بين بني إسرائيل إذ نظر إلى رجل بينهم أنكره، فاشرأب مكانه، فلما رآه قام ودخل على أمه حبوراً، فقالت له: يا بني! إن هذه الساعة ما كنت تقومها فما الذي أعجلك؟ وكان نبي الله موسى إذا رأى شيئاً من بني إسرائيل يكرهه دخل على أمه فأخبرها، فقالت: هل رأيت شيئاً من بني إسرائيل تكرهه؟ قال: لا، ولكن رأيت رجلاً أنكرته، فجعلت أنظر إليه فأراه على حاله فقمت، فقالت: وما الذي ظننت؟ قال: ملك الموت جاء يقبضني. فقالت: يا بني! أفلا حققت ذلك؟ أفلا حققت ذلك؟ قال: ما فعلت. قال: فخرج موسى، فوجده على بابه. فقال: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا ملك الموت بعثت إليك لأقبض روحك، وأمرت بطاعتك في نفسك. قال: فهل تراجع الله في؟ قال: نعم إن شئت. قال: ثم مه؟ قال: ثم الموت.
وقال مكحول: إن ملك الموت راجع ربه في موسى، فقال الله عز وجل: قل لموسى إن شئت أمهلتك عدد النجوم في السماء، وإن شئت فاضرب بيديك على مسك ثور، فما وارتا من شعره عددتها فأحييت بعددها سنين. قال: فجاءه ملك الموت فأبلغه، فقال له موسى: ثم مه؟ قال: ثم الموت، قال: ما منه بد؟ قال: لا. قال: فامض لما أمرت به، ولكن دعني فأدخل إلى أمي فأسلم عليها، وعلى زوجتي وولدي فأودعهم، قال: نعم. فدخل على أمه فأكب عليها يقبلها ويقول: يا أمتاه! قد كبرت السن، ودنا الأجل، وقد أحببت لقاء ربي، فبكت وبكى وأوصاها وعزاها، وأكب على زوجته اصفورا، فسلم عليها ثم قال: نعمة الشريكة كنت! فأوصاها، وودعها، وودع ولده وأوصاهم، فقالت زوجته: ادعو الله أن يجعلني زوجتك في الجنة. فقال: على أن لا تصغي ثوباً(25/391)
حتى ترقعيه، وتدخري طعاماً لشهر. قالت: أفعل. وكانت بعد موسى تلتقط السنبل من وراء الحاصدين، وكانوا يطرحون لها الحبوب، ويحبون أن تأخذ شيئاً صالحاً، وإذا رأت ذلك وعرفت أنهم قد عرفوها تركتهم، ولحقت بمكان آخر حتى ماتت رحمها الله.
ولما احتضر موسى قالت له امرأته: إني معك منذ أربعين سنة فمتعني من وجهك بنظرة، قال: وكان على وجه موسى البرقع لما غشي وجهه من نور العرش يوم تجلى ربه للجبل، فكان إذا كشف عن وجهه عشيت الأبصار، فكشف لها عن وجهه فعشي بصرها فقالت: سل الله أن يزوجنيك في الجنة. قال: إن أحببت ذلك فلا تزوجي بعدي، ولا تأكلي إلا من رشح جبينك. قال: فكانت تبرقع بعده، تتبع اللقاط. الحديث.
وقالت الصفراء امرأة موسى لموسى: بأبي أنت وأمي أنا أيم منك منذ كلمك ربك. وكان موسى لم يأت الناس منذ كلمه ربه، وكان قد ألبس على وجهه حريرة أو برقع وكان أحد لا ينظر إليه إلا مات فكشف لها عن وجهه، فأخذها من غشيه مثل شعاع الشمس، فوضعت يدها على وجهها وخرت لله تعالى ساجدة، فقالت: ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة قال: ذاك إن لم تزوجي بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها. قالت: فأوصني، قال: لا تسألي الناس شيئاً.
ولما نزل بموسى الموت جزع، ثم قال: إني لست أجزع للموت، ولكني أجزع أن ييبس لساني عن ذكر الله عند الموت. قال: وكان لموسى ثلاث بنات فقال: يا بناتي! إن بني إسرائيل سيعرضون عليكن الدنيا فلا تقبلن، والقطن هذا السنبل فافركنه وكلنه وتبلغن به إلى الجنة.
ولما ودع موسى أمه وولده وأهله أرسل إلى يوشع فاستخلفه على الناس وخرج إلى ملك الموت، فقال له ملك الموت: يا موسى! ما بد من الموت قال له موسى: فأمض أمر الله في. قال: فخرجا من القرية فإذا هما بجبريل وميكائيل وإسرافيل قيام ينتظرونهما،(25/392)
فمشوا جميعاً حتى مروا بقبر عنده قوم، عليهم العمائم البيض، فلما كانوا منهم قريباً نفحت عليهم رائحة المسك فقال موسى: لمن تحفرون هذا القبر؟ قالوا: لعبد يحبه الله ويحب الله. فقال: هل أنتم تاركي أنزل هذا القبر فأنظر إليه؟ قالوا: نعم. فلما نزل فرجت له من القبر فرجة إلى الجنة، فجاءه من روحها وريحانها، فاضطجع موسى في القبر ثم قال: اللهم اجعلني ذلك العبد الذي تحبه ويحبك. فقبض ملك الموت روحه ثم تقدم جبريل فصلى عليه ثم أهالوا عليه ما أخرج من القبر.
وعن ابن عباس أن موسى كان يستظل في عريش ويأكل ويشرب في نقير حجر، وإذا أراد أن يشرب كرع كما تكرع الدابة تواضعاً لله، وكان يلبس الصوف، فخرج ذات يوم من عريشه ليقضي حاجته لا يعلم به أحد من خلق الله، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبراً، فأقبل إليهم حتى وقف عليهم، فإذا هم يحفرون قبراً لم ير قط شيء أحسن منه، ورأى فيه خضرة وحسناً فقال لهم: يا ملائكة الله! لمن هذا القبر؟ قالوا: لعبد كريم على الله. قال: ما رأيت مضجعاً أحسن منه. قالت له الملائكة: يا صفي الله! تحب أن يكون لك هذا القبر؟ قال: وددت ذلك. قالوا: فنزل فاضجع وتوجه إلى ربك ثم تنفس أسهل نفس تنفسته قط. فنزل فاضجع فيه وتوجه إلى ربه ثم تنفس، فقبض الله روحه فسوت عليه الملائكة.
علقه عبد الله محمد بن المكرم بن أبي الحسن الأنصاري الكاتب عفا الله عنه وفرغ منه في نصف ذي القعدة المبارك سنة أربع وتسعين وست مئة الحمد لله رب العالمين كما هو أهله وصلواته على سيدنا محمد وآله صحبهوسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل(25/393)
تتمة أخبار موسى عليه السلام قال وهب بن منبه: قام موسى فلما رأته بنو إسرائيل قامت إليه، فأما إليهم أن اجلسوا، فجلسوا، فذهب حتى جاء الطور، فإذا هو بنهر أبيض فيه مثل رؤوس الكباش، كافور محفوف بالرياحين، فلما أعجبه ذلك وثب فيه فاغتسل وغسل ثوبه، ثم خرج وجفف ثيابه، ثم رجع إلى الماء فاستنقع فيه حتى جفت ثيابه، فلبسها؛ ثم أخذ نحو الكثيب الأحمر الذي هو فوق الطور، فإذا هو برجلين يحفران قبراً، فقام عليهما فقال: ألا أعينكما؟ قالا: بلى. فنزل يحفره فقال: لتحدثاني مثل من الرجل؟ فقالا: على طولك، فاضطجع فيه، فالتأمت عليه الأرض، فلم ينظر إلى قبر ينظر إلى قبر موسى إلا الرحمة فإن الله أصمها وأبكمها.
وعن أبي هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى، فلما جاءه صكه، ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: فرد الله عليه عينه، فقال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله ما غطت يده، بكل شعرة سنة. فقال: أي رب! ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. قال: فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق بجنب الكثيب الأحمر.
وفي حديث آخر: أن موسى عرف ملك الموت، فلطمه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه مغاضباً، فقال: يا رب! أما ترى ما صنع بي موسى؟ ولولا منزلته منك لقبضته قبضاً عنيفاً. فقيل له: إنه ليس كذلك، ولكن ادخل إليه فخيره بين أن يضع يده على متن ثور أسود فله بكل شعرة تحت يده مدة سنة. الحديث.(25/394)
قال أبو سليمان الخطابي: هذا حديث يطعن فيه الملحدون وأهل البدع ويغمزون به في رواته، ويقولون: كيف يجوز أن يفعل نبي الله موسى هذا الصنيع بملك من ملائكة الله، جاءه بأمر من أمره فيستعصي عليه ولا يأتمر له؟ وكيف تصل يده إلى الملك، ويخلص إليه صكه ولطمه؟ وكيف ينهنهه الملك المأمور بقبض روحه فلا يمضي أمر الله فيه؟ هذه الأمور خارجة عن المعقول مستحيلة من كل وجه.
والجواب: أن من اعتبر هذه الأمور بما جرى به عرف البشر، واستمرت عليه عادات طباعهم، فإنه يسرع إلى استنكارها والارتياب بها لخروجها عن سوم طباع البشر، وعن سنن عاداتهم إلا أنه أمر مصدره عن قدرة الله سبحانه الذي لا يعجزه شيء، ولا يتعذر عليه أمر، وإنما هو محاولة بين ملك كريم ونبي كليم، وكل واحد منهما مخصوص بصفة خرج بها عن حكم عوام البشر ومجاري عاداتهم في المعنى الذي خص به من أثرة الله، واختصاصه إياه، فالمطالبة بالتسوية بينهما وبينهم فيما تنازعاه من هذا الشأن حتى يكون ذلك على أحكام طباع الآدميين وقياس أحوالهم غير واجب في حق النظر، ولله عز وجل لطائف وخصائص يخص بها من يشاء من أنبيائه وأوليائه، ويفردهم بحكمها دون سائر خلقه.
وقد أعطى موسى - صلوات الله عليه - النبوة، واصطفاه بمناجاته وكلامه، وأمده حين أرسله إلى فرعون بالمعجزات الباهرة، كالعصا واليد البيضاء، وسخر له البحر فصار طريقاً يبساً جاز عليه قومه وأولياؤه، وغرق فيه خصمه وأعداؤه. وهذه أمور أكرمه الله بها وأفرده بالاختصاص بها أيام حياته، ومدة بقائه في دار الدنيا، ثم إنه لما دنا حين وفاته، وهو بشر يكره الموت طبعاً، ويجد ألمه حساً، لطف به بأن لم يفاجئه به بغتة، ولم يأمر الملك الموكل به أن يأخذه قهراً وقسراً، لكن أرسله إليه منذراً بالموت،(25/395)
وأمره بالتعرض له على سبيل الامتحان في صورة بشر، فلما رآه موسى استنكر شأنه، فاحتجز منه دفعاً عن نفسه بما كان من صكه إياه، فأتى ذلك على عينه المركبة في الصورة البشرية التي جاء فيها، دون الصورة الملكية التي هو مجبول الخلقة عليها، ومثل هذه الأمور مما تعلل به طباع البشر، وتطيب به نفوسهم في المكروه الذي هو واقع بهم، فإنه لا شيء أشفى للنفس من الانتقام ممن يكيدها ويريدها بسوء.
وقد كان من طبع موسى فيما دل عليه القرآن حمأ وحدة، وقص القرآن من وكزه القبطي الذي قضى عليه، وما كان من غضبه وإلقائه الألواح، وأخذه برأس أخيه يجره إليه، وقد روي أنه كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته ناراً. وقد جرت سنة الدين بحفظ النفس دفع الضرر عنها. ومن شريعة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما سنه فيمن اطلع على محرم قوم، من عقوبته في عينه فقال: من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه.
ولما نظر نبي الله موسى - صلى الله على نبينا وعليه - إلى صورة بشرية هجمت عليه من غير إذن، تريد نفسه وتقصد هلاكه، وهو لا يثبته معرفة، ولا يستيقن أنه ملك الموت ورسول رب العالمين فيما يراوده منه، عمد إلى دفعه عن نفسه بيده وبطشه، فكان في ذلك ذهاب عينه. فقد امتحن غير واحد من الأنبياء - صلوات الله على نبينا وعليهم - بدخول الملائكة عليهم في صورة البشر، كدخول الملكين على داود عله السلام في صورة الخصمين، لما أراد الله من تقريعه إياه بذنبه، وكدخولهم على إبراهيم عليه السلام حين أراوا إهلاك قوم لوط، فقال: " قوم منكرون " وقال: " فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خفية ".
وكان نبينا صولات الله عليه وسلامه أول ما بدئ بالوحي يأتيه الملك فيلتبس عليه أمره. ولما جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام في صورة رجل فسأله عن الإيمان لم يتبينه، فلما انصرف عنه تبين أمره فقال: هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر يدنكم. وكذلك(25/396)
كان أمر موسى فيما جرى من مناوشة ملك الموت، وهو يراه بشراً، فلما عاد الملك إلى ربه مستثبتاً أمره فيما جرى عليه رد الله عليه عينه، وأعاده رسولاً إليه ليعلم نبي الله صوات الله عليه إذا رأى صحة عينه المفقوءة وعود بصره الذاهب أنه رسول الله، بعثه لقبض روحه، فاستسلم حينئذ لأمره، وطاب نفساً بقضائه، وكل ذلك رفق من الله به، ولطف منه في تسهيل ما لم يكن بد من لقائه والانقياد لقضائه.
قال: وما أشبه معنى قوله: ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت، بترديده رسوله، ملك الموت، إلى نبيه موسى عليه السلام فيما كرهه من نزول الموت به لطفاً منه بصفيه وعطفاً عليه، والتردد على الله تعالى وتقدس غير جائز، من رسول أو شيء غيره كما شاء سبحانه، تنزه عن صفات المخلوقين، وتعالى عن نعوت المربوبين الذين يعتريهم في أمورهم الندم والبداء، وتختلف بهم العزائم والآراء " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ".
قال الحسن:
مات موسى عليه السلام، فلم يدر أحد من بني إسرائيل أين قبره، وأين توجه، فماج الناس في أمره فقالوا: ما نرى رسول الله رجع، ورأوه حين خرج، فلبثوا بذلك ثلاثة أيام لا ينامون الليل، يموج بعضهم في بعض، فلما كان بعد ثالثة غشيتهم سحابة على قدر محلة بني إسرائيل، وسمعوا فيها منادياً ينادي، يقول بأعلى صوته: مات موسى وأي نفس لا تموت، يكرر ذلك القول حتى فهمه الناس، فعلموا أنه قد مات، فلم يعرف أحد من الخلائق أين قبره.
قالوا: وما اطلع أحد على قبر موسى إلا الرخمة، فنزع الله عقلها لكيلا تدل عليه.(25/397)
قال الحسن: لو علم بنو إسرائيل قبر موسى وهارون لاتخذوهما إلهين من دون الله.
قال: ومات موسى وهو ابن مئة وعشرين سنة، ومات هارون وهو ابن مئة وثمان عشرة سنة، لأنه كان أكبر من موسى بسنة، ومات قبل موسى بثلاث سنين.
قال: وفي التوراة مكتوب: مات موسى كليم الله، فمن ذا الذي لا يموت؟ قال كعب: قبر موسى بدمشق.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مررت بموسى ليلة أسري بي، وهو قائم يصلي في قبره بين عالية وعويلة.
قال: هما اللتان عند مسجد القدم.
وقيل: إن عالية المعرفة، وعويلة عند كنيسة توما.
وفي رواية: بين عالية وجرهم.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحاً.
وعن أنس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أتيت على موسى ليلة أسري بي عن الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره.
وفي رواية: مررت بأخي موسى وهو قائم يصلي في قبره.
وقيل: مات موسى وهو ابن مئة وسبع عشرة سنة، ومات في سبعة أيام من آذار، ودفن في الوادي بأرض مآب.(25/398)
وعن أبي إسحاق قال: قيل لموسى: كيف وجدت طعم الموت؟ قال: وجدته كسفود أدخل في جزة صوف فامتلخ، قال: يا موسى لقد هونا عليك.
/(25/399)
موسى بن عمران أبو عمران السلمي الكفرطابي حدث عن أبيه بسنده إلى شداد بن أوس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، وإن العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ".
موسى بن عمران بن موسى بن هلال
أبو عمران السلماسي حدث عن أبي الحسن محمد بن عمار السكسكي بسنده إلى زياد أبي السكن قال: دخلت على أم سلمة، وبيدها مغزل تغزل به، فقلت: كلما أتيتك وجدت في يدك مغزلاً! فقالت له: إنه يطرد الشيطان، ويذهب حديث النفس. وإنه بلغني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن أعظمكن أجراً أطولكن طاقة ".(26/5)
مات أبو عمران بأشنة سنة ثمانين وثلاث مئة وحمل تابوته إلى سلماس، ودفن فيها.
موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص
ابن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي حدث عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما نحل والد ولده نحلاً أفضل من أدب حسن ".
دخل بنو عمرو بن سعيد على عبد الملك، وهم إسماعيل وسعيد وموسى فسلموا وانصرفوا، فتمثل عبد الملك: " من الطويل "
أجامل أقواماً حياء وقد أرى ... صدورهم تغلي علي مراضها
وأم موسى وعمران ولدي عمرو عائشة بنت مطيع بن ذي اللحية بن عبد بن عوف.
موسى بن عيسى بن موسى بن محمد
ابن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي العباسي ولي الموسم وإمرة مكة والمدينة واليمن والكوفة ودمشق ومصر للرشيد هارون.
قال ابن السماك لموسى بن عيسى: لتواضعك في شرفك أحب إلي من شرفك.
قدم هارون الكوفة فعزل شريكاً عن القضاء، وكان موسى بن عيسى والياً على الكوفة، فقال موسى لشريك: ما صنع أمير المؤمنين بأحد ما صنع بك، عزلك عن(26/6)
القضاء، فقال له شريك: هم أمراء المؤمنين يعزلون القضاة، ويخلعون ولاة العهود فلا يعاب ذلك عليهم، فقال موسى: ما ظننت أنه مجنون هكذا لا يبالي ما تكلم به.
وكان أبوه عيسى بن موسى ولي العهد بعد أبي جعفر فخلعه بمال أعطاه إياه، وهو ابن عم أبي جعفر.
بينما القاسم بن معن يقضي في دار بالكوفة بين الناس إذ قيل: الأمير وإخوته، يعني موسى بن عيسى، قال: ما له؟ قالوا: يخاصم إخوته، قال: وله رقعة؟ ناد من له حاجة، حتى إذا لم يبق أحد قال: أدخل الأمير وإخوته، قال: فدخل موسى يخطر حتى جلس إلى جانبه، قال: لا، مع خصمائك، يا غلام، ساو بين ركبهم، وأجلسهم بين يديه.
قال موسى: ما غاظني أحد غظية، ثم علمت أنه إنما أراد وجه الله عز وجل، فأحببته.
توفي موسى بن عيسى سنة ثلاث وثمانين ومئة، وسنه خمس وخمسون سنة.
وقيل توفي سنة سبع وثمانين ومئة.
موسى بن عيسى بن موسى أبو عيسى
القرشي، ويقال: مولى قيس حدث عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من سحب ثيابه لم ينظر الله إليه "، فقال أبو ريحانة: والله لقد أمرضني ما حدثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوالله إني لأحب الجمال حتى أجعله لشراك نعلي وعلاقة سوطي، أفمن الكبر ذلك؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ولكن الكبر من سفه الحق وغمض الناس أعمالهم ".(26/7)
موسى بن فضالة بن إبراهيم بن فضالة
القرشي، والد أبي عمرو بن فضالة حدث عن سليمان بن عبد الرحمن بسنده إلى قيس بن جابر الصدفي عن أبيه عن جده، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " سيكو بعدي خلفاء، ومن بعد الخلفاء أمراء، ومن بعد الأمراء ملوك، ومن بعد الملوك جبابرة، ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ثم يؤمر القحطاني، فو الله بعث محمداً بالحق ما هو بدونه ".
وحدث عن عمرو بن عثمان بسنده إلى سمرة بن جندب أنه قال: أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نطمئن في الصلاة ولا نستوفز.
حدث سنة تسع وثمانين ومئتين بحديث ونكره.
موسى بن كعب بن عيينة بن عائشة
ابن عمرو بن عادية بن الحارث بن امرئ القيس أبو عيينة التميمي أحد نقباء بني العباس الذين اختارهم محمد بن علي بن عبد الله بن عباس من أهل خراسان.
ولي إمرة مصر من قبل المنصور، وصرف في سنة إحدى وأربعين ومئة. وكان المنصور حسن الرأي فيه معظماً لقدره.(26/8)
حدث عن أبيه بسنده إلى خالد بن الوليد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الحرب خدعة ".
كان أسيد بن عبد الله البجلي والياً على خراسان، فاتهم موسى بن كعب بأمر المسودة فأمر به فألجم بلجام، ثم كسرت أسنانه، فلما صار الأمر إلى بني هاشم أمالوا على موسى الدنيا، فكان موسى يقول: كان لنا أسنان وليس عندنا خبز، فلما جاء الخبز ذهبت الأسنان.
توفي موسى بن كعب سنة إحدى وأربعين ومئة.
موسى بن محمد بن عبد الله بن خالد
أبو عمران الخياط السامري حدث عن محمد بن حميد بسنده إلى عائشة قالت: لما مرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المرض الذي لم يقم منه قال: " لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ".
وحدث عن هشام بن عمار بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما سماهم الله الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء ".
كان أبو عمران الخياط ثقة.
موسى بن محمد بن عطاء بن أيوب
ويقال: ابن محمد بن زيد أبو ظاهر الأنصاري، ويقال: القرشي البلقاوي المعروف بالمقدسي حدث عن الوليد بن محمد - يعني الموقري - بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس ".(26/9)
قال إبراهيم بن سليمان بن داود الأسدي: جئت أبا الطاهر موسى بن محمد البلقاوي وكان ينزل سيس فقلت له: أمل علي شيئاً من حديثك، فقال: اكتب: حدثني مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفع إلى معاوية سفرجلة وقال: " القني بها في الجنة ".
قال: فانصرفت فلم أعد إليه.
كان أبو طاهر متروك الحديث ليس بثقة.
موسى بن محمد بن عمران
ابن محمد بن مصعب بن عبد الله بن ثابت بن عبد الله بن الزبير ابن العوام القرشي الأسدي الزبيري قاضي بلاد الجزيرة.
حدث بسنده عن محمد بن عبد الملك الأسدي: أنه سأل مالك بن أنس عن امرأة أراد أن يتزوجها، وقص خبره وخبرها عليه، فقال مالك: إنها لا تحل لك في هذا الوقت، وأمره بالتربص، فأنشأ يقول: - وكانت تهواه ويهواها - " من الطويل "
سأخطبها جهدي وإني لخائف ... لما قال لي خير المدينة مالك
يقول وقد حلت تربص وإنما ... تربص مثلي لو علمت المهالك
أحرمت تزويج المحبين بينهم ... وأنت امرؤ فيما يرى الناس ناسك(26/10)
وحدث أيضاً بسنده قال:
جاء ابن سرحون السلمي إلى مالك بن أنس وأنا عنده فقال: يا أبا عبد الله، إني قلت أبياتاً من الشعر وذكرتك فيها، فاجعلني في حل وسعة، فقال له: أنت في حل مما ذكرتني، وتغير وجهه، وظن أنه هجاه.
فقال: إني أحببت أن تسمعها، فقال له مالك: فأنشدني، فأنشده: " من الطويل "
سلوا مالك المفتي عن اللهو والصبا ... وحب الحسان الغانيات العواتك
ينبئكم أني مصيب وإنما ... أسلي هموم النفس عني بذلك
فهل في محب يكتم الناس ما به ... أثام وهل في ضمة المتهالك
فسري عن مالك وضحك.
وحدث بسنده إلى مالك بن أنس قال: المراء في العلم يقسي القلوب ويورث الضغائن.
وحدث بسنده إلى مالك قال: لا خير في جواب قبل فهم.
موسى بن محمد بن أبي عوف
أبو عمران المزني الصفار حدث عن عون بن سلام بسنده إلى جابر بن سمرة قال: أتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه.(26/11)
وحدث عن يحيى بن بكير بسنده إلى عبد الله بن عمرو أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لكعب: " لعلك آذاك هوامك، احلق رأسك، وافتد بصيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين أو انسك شاة ".
وحدث عن عبد الله بن محمد بسنده إلى النعمان بن سعد قال: قال علي: إن في الجنة لسوقاً ما فيها شراء ولا بيع إلا الصور للرجال والنساء، من اشتهى صورة دخل فيها.
توفي موسى بن محمد سنة ثمان وسبعين ومئتين.
موسى بن محمد أبو هارون البكاء
حدث عن كثير بن عبد الله قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا بني، أكثر من الدعاء، فإن الدعاء يرد القضاء المبرم ".
موسى بن مروان
أبو عمران البغدادي نزيل الرقة التمار.
حدث عن عطاء بن مسلم الخفاف بسنده عن علي قال شهدت أنا وأبو بكر وعمر بدراً، فكان جبريل عن يميني وميكائيل عن يمين أبي بكر، أو قال: جبريل عن يمين أبي بكر، وميكائيل عن يميني - عليهم السلام -.
توفي موسى بن مروان سنة ست وأربعين ومئتين.(26/12)
موسى بن نصير
أبو عبد الرحمن مولى امرأة من لخم، وقيل: إنه مولى لبني أمية، وأصله من عين التمر. ويقال: هو من إراشة من بلي، سبي أبوه من جبل الخليل من الشام في زمن أبي بكر، واسمه نصر، فصغر، وأعتقه بعض بني أمية، فرجع إلى الشام، وولد له موسى بقرية يقال لها: كفر مثرى.
وهو صاحب فتوح الأندلس، وكان أعرج، وولاه معاوية البحر، وشهد مرج راهط، وغزا قبرس. وبنى هنالك حصوناً ومثابات منها حسن " يابس وال ... عوصه ".
وقيل: إن موسى كان يقرأ الكتب، فوجد أمر بني أمية، فانقطع إلى مروان بالمدينة، وترقت أحواله حتى ولي الأندلس.
وقدم دمشق على الوليد بن عبد الملك، وقدم معه بمائدة سليمان بن داود التي أصابها بالأندلس.
وكان أميراً بإفريقية والمغرب، وليها سنة تسع وسبعين.
وكان معاوية بعث لابتناء يابس من قبرس رجلين من الموالي أحدهما: موسى بن(26/13)
نصير، والآخر المهاجر بن دعلج مولى خولان، وولى أبا الأعور السلمي البعث، فلما قدما عليه رأى موسى أجسم من المهاجر، فقال: ما ينبغي للسلطان أن يستعين إلا بالجسيم لهيبته.
كان موسى بن نصير ممن بايع لابن الزبير، وحضر يوم المرج مع الضحاك، فلما قتل الضحاك لحق موسى بفلسطين، فكان مع نائل بن قيس يدعو إلى ابن الزبير، فأهدر مروان دمه، فاستجار موسى بعبد العزيز بن مروان، فوهبه له مروان وخرج به معه إلى مصر، وهم في طاعة ابن الزبير، وعليهم ابن جحدم، فلما بلغ أهل مصر مسير مروان خندقوا على الفسطاط خندقاً واستعدوا لحربه، وواجهوا مراكب مصر إلى سواحل الشام لتخالف إلى ذراريهم وعيالهم، وكان على تلك المراكب الأكدر بن حمام اللخمي، فبلغ مروان في العريش أن مراكب أهل مصر سارت إلى عيالات أهل الشام؛ فراعه ذلك، واستشار موسى بن نصير فقال له موسى: إن كان قد خرجوا في هذه الأيام فقد كفيتهم، فقال مروان: أزبيرية هذه يا موسى؟ قال: سيعلم أمير المؤمنين، أزبيرية هي أم مروانية، إني عالم بهذا البحر.
فعقد له مروان على خيل ووجهه، فسار حتى إذا كان ببعض الأيام رأى تكدراً من النجوم ليلة، فقال: لا يبقى الله في البحر مركب إلا تكسر وذهب، فأجاز إلى عكا ويافا، فألفى مراكب أهل مصر ألقاها الريح وتكسرت، فأخذهم موسى أسرى، وهي ست مئة رجل من لخم.
وجعل مروان يتلبث انتظاراً لما يأتيه من قبل موسى، وأقبل موسى بالقوم يغذ السير، فأدرك مروان بخربة القتيل بين الفرما والجفار، وأتاه بالأسرى، فأجازه مروان بألف دينار.
وسار مروان، فلما كان بجرجير بلغه ما استعد به أهل مصر، فبعث إلى وجوه من(26/14)
معه من أهل الشام وأهل بيته: أشيروا علي في هؤلاء الأسرى، فقال كل برأيه وموسى ساكت، فقال له مروان: ما لك يا بن نصير لا تتكلم؟! قال: أخاف يا أمير المؤمنين من الكلمة التي كانت بالأمس، قال: قل، فلست عندنا ظنيناً اليوم، قال: أرى أن تفك عانيهم، وتحسن صفادهم، وتبلغهم مأمنهم، وأن تعف عنهم، فيأتي الرجل قومه فيقول قيل ما لا يستطيعون رده من النبأ عليك، فقبل مروان مشورة موسى وفك عنهم، فقال رجل من مصر من مراد: " من الوافر "
جزاك الله يا بن نصير خيراً ... فقد أحييت من قتل وأسر
عشية قال مروان أشيروا ... علي برأيكم في أهل مصر
فقلت بما تراه الحط نصحاً ... ولم تك مثل نعمان وعمرو
فمن يكن كافراً نعماك يوماً ... فإني شاكر لك طول دهري
ثم صالح مروان أهل مصر، ودخلها صلحاً سنة خمس وستين، وخرج مروان راجعاً إلى الشام، واستخلف على مصر ابنه عبد العزيز وخلف معه بشر بن مروان.
وتوفي مروان بالشام، واستخلف عبد الملك، فكتب إلى أخيه بشر بن مروان وهو بمصر يوليه العراق، وكتب عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز أن أشخص مع بشر موسى بن نصير وزيراً.
فخرج بشر ومعه موسى، فكان موسى على أمره كله إلى أن توفي بشر بن مروان، ورجع موسى بن نصير إلى مصر، فكان من آثر الناس عند عبد العزيز بن مروان.
وفي سنة تسع وسبعين غزا موسى بن نصير المغرب فقتل وسبى، حتى انتهى إلى طبنة وطنجة، فبلغ سبيهم عشرين ألفاً، وذلك سنة إحدى وثمانين، وفي سنة اثنتين وثمانين أغزى موسى بن نصير المغيرة بن أبي بردة العبدري إلى صنهاجة.(26/15)
وفي سنة ست وثمانين وجه موسى المغيرة في مراكب فافتتح أولية، وهي أول مدائن سقلية من الغرب.
وفي سنة سبع وثمانين أغزى موسى ابنه عبد الله بن موسى سردانية فافتتح، وأغزى أيضاً عبد الله بن حذيفة سردانية فأصاب سبياً وغنائم، وأغزى ابن أخيه أيوب، وهو ابن حبيب، ممطورة فبلغ سبيهم ثلاثين ألفاً.
وفي سنة تسع وثمانين أغزى موسى ابنه عبد الله ميورقة وسورانية، جزيرتين بين سقلية والأندلس، ففتحهما الله تعالى.
وهذه الغزو تسمى غزوة الأشراف، كان معه أشراف الناس، وفيها أغزى موسى ابنه مروان السوس الأقصى فبلغ السبي أربعين ألفاً.
وفي سنة ثلاث وتسعين غزا موسى بلاد المغرب، فأتى طنجة، وسار لا يأتي على مدينة فيبرحها حتى يفتحها أو ينزلون على حكمه، وسار إلى قرطبة وغرب فافتتح مدينة باجة مما يلي البحر، وافتتح مدينة البيضاء، ووجه الجيوش فجعلوا يفتحون ويغنمون.
وقدم من الأندلس سنة أربع وتسعين، وأوفد وفداً إلى الوليد بن عبد الملك يخبره بما فتح الله على يديه، وما معه من الأموال والتيجان، وبعث إليه بالخمس. وفي سنة تسع وسبعين أمر موسى بن نصير على إفريقية قال الليث: ولما غزا موسى بن نصير المغرب بعث ابنه مروان على جيش فأصاب من السبي مئة ألف، وبعث ابن أخيه أيوب في جيش فأصاب مئة ألف،(26/16)
قيل لليث: من هم؟ قال: البربر، فلما جاء كتابه بذلك قال الناس: ابن نصير أحمق، من أين له عشرون ألفاً يبعثهم إلى أمير المؤمنين مع الخمس؟ فبلغ ذلك موسى بن نصير، فقال: ابتعثوا من يقبض لهم عشرين ألفاً.
فلما فتحوا الأندلس جاء إنسان فقال: ابعث معي أدلكم على كنز فبعث معه فقال انزعوا ههنا؟ فنزعوا فسال عليهم من الزبرجد والياقوت شيء لم يروا مثله قط، فلما رأوه بهتوا وقالوا: لا يصدقنا موسى بن نصير أبداً، فأرسلوا إليه فجاء، ونظر إليه، وكانت الطنفسة توجد منسوجة بقضبان الذهب، تنظم السلسلة من الذهب باللؤلؤ والياقوت والزبرجد، فكان البربريان ربما وجداها فلا يستطيعان حملها، حتى يأتيا بالفأس فيضربان وسطها، فيأخذ أحدهما نصفها، والآخر نصفها.
قال الليث: وسمع يومئذ مناد ينادي لا يعرفونه ولا يرونه: أيها الناس إنه قد فتح عليكم باب من أبواب جهنم.
ولما دخل موسى إفريقية أقام بها أشهراً يغزو أطرافها، فلما كان من عامه ذاك في رمضان ودنا العيد، لم يشعر الناس به إلا وقد صعد المنبر، فأمر بالأبواب فأخذت على الناس فارتاعوا لذلك، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: أيها الناس فإنكم قد أصبحتم في نحور عدوكم، وبأقصى ثغر من ثغوركم، أبعده شقة، وأشده انتياطاً بدار قد شحطت عن دياركم، ومصر قد نأى عن أمصاركم، بين عدو كلب عليكم، قد قربت داره منكم. وأنتم منه بمرأى ومسمع، وكفى بالله نصيراً، وقد رأيت ضعفاً من قوتكم، ورثاثة من عدوكم، وقد عزمت على قسم فيئكم بينكم، فأن يمضه أمير المؤمنين فحقكم، وإن يكن له رأي غير ذلك أكن لديه كفيلاً، وقد أمرت لكم من مال بمعونة وهي مني لكم في كل عام، إن شاء الله.(26/17)
وفي ذلك يقول زائدة بن الصلت الغساني من فرسان العرب المعدودين من أبيات: " من الرجز "
قد سن موسى سنة وأثرا ... مآثراً محمودة لن تنكرا
بالقيروان فاق فيها البشرا ... ما سنه من قبله فيؤثرا
في سالف الدهر ولا من غبرا ... من كان ذا ملك ومن تأمرا
إلا أبا بكر وإلا عمرا ... سن الذي شأى وقص الأثرا
أعطى الغني حظه والأفقرا ... وسن أخرى بعدها ليذكرا
سن لنا في عيده إذ أفطرا ... في كل عام سنة لن تكفرا
معونة أطابها وأكثرا ... لما علا في العيد منا المنبرا
كأنه البدر إذا ما أبدرا ... واحتضر الناس فجاؤوا زمرا
أنهب فينا بدراً فبدرا ... فوارد أنهله وأصدرا
وصادر يحمد منه الخبرا
وفي سنة أربع وثمانين غزا موسى بن نصير سلوما من أرض إفريقية، فنزل على أوربة، فقاتلوه، ثم فتح الله عليه، فقتل وسبى، وبلغ السبي خمسين ومئة ألف رأس.
وفي سنة خمس وتسعين، قفل موسى من إفريقية، واستخلف ابنه عبد الله، وحمل الأموال على العجل والظهر، ومعه ثلاثون ألف رأس " و" قدم على الوليد.
ولما سار موسى إلى طنجة وافتتح الأندلس وأصاب فيها المائدة التي يتحدث أهل الكتاب أنها مائدة سليمان بن داود، على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
قيل: إنه أخذ مع المائدة التاج الذي نزل من السماء!(26/18)
وأوغل موسى في بلاد الأندلس، لم يزل يفتح مدينة حتى سرقسطة فعظم على الجند مبلغه وخافوا أن يجاوز إلى غرة، فمشوا إلى حنش بن عبد الله السبئي، فشكوا إليه أنهم يخافون أن يجتمع العدو عليهم فيهلكهم، فقام إليه حنش بعد صلاة الصبح فقال: أيها الأمير، أتأذن لي في الكلام؟ قال: تكلم أبا رشدين، قال: كنت سمعتك بإفريقية تذكر عقبة بن نافع وتقول: لقد غرر بنفسه إذ وغل في بلاد البربر حتى قتل، وتقول: أما كان له ناصح؟ وأنا ناصحك اليوم أيها الأمير، أتلتمس غنيمة افضل مما غنمت؟ أو تريد أن تطأ من أرض المشركين أكثر مما قد وطئت؟، لقد بلغك الله أن جعلك أبعد المسلمين أثراً في الجهاد، وفتح عليك ما لم يفتحه على أحد من المسلمين، وقد أحب جندك السلامة واشتاقوا إلى الأهل والولد، فانصرف راشداً أيها الأمير.
فقال موسى: قد قبلت النصيحة وشكرت عليها، فأمر بالتجهز للرجوع، ورجع من هناك إلى الأندلس.
سأل عمر بن عبد العزيز موسى بن نصير - وكانت بنو أمية تبعثه على الجيوش - عن أعجب شيء رآه في البحر. قال:
انتهينا مرة إلى جزيرة فيها ست عشرة جرة خضراء مختومة بخاتم سليمان بن داود، فأمرت بأربعة منها فأخرجت، وأمرت بواحدة منها فثقبت، فإذا شيطان رأسه وهو يقول: والذي أكرمك بالنبوة لا أعود بعدها افسد في الأرض، ثم نظر فقال: ما أرى بها سليمان وملكه، فانساح في الأرض فذهب، فأمرت بالثلاث البواقي فردت إلى مكانها.
وفي سنة ثلاث وتسعين أجدب أهل إفريقية جدباً شديداً، فخرج موسى بن نصير بالناس، وأمرهم بالصيام، وأمر بالولدان فجعلوا على حدة، والنساء على حدة، وأخرج الإبل والبقر والغنم، وخرج بأهل الذمة على حدة، ودعا يومئذ حتى انتصف النهار، وخطب الناس، فلما أراد أن ينزل قيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين؟ قال: ليس هذا يوم ذاك، فسقوا سقياً كفاهم حيناً.(26/19)
قدم قيم عمر بن عبد العزيز بعلبة، وسمع أهله بذلك، فأرسلوا ابناً له صغيراً، ثم أقبل يؤم الدنانير، فقال: امسكوا يديه، ثم رفع يديه فقال: اللهم بغضها إليه كما حببتها إلى موسى بن نصير، ثم قال: خلوه فكأنما رأى بها عقارب.
وقيل: عن موسى قال: والله لو انقادوا لقدتهم حتى أوقفهم على رومية، ثم ليفتحنها الله على يدي - إن شاء الله -.
ودخل موسى إلى مصر سنة خمس وتسعين، وكانت أول عيره بالجيزة وآخرها بثرنوط.
وسار متوجهاً إلى الشام حتى قدم على الوليد بن عبد الملك وتحين يوم الجمعة، فلما جلس الوليد على المنبر أتى موسى بن نصير وقد ألبس ثلاثين رجلاً تيجاناً على كل رجل منهم تاج وثياب ملك ملك التاج، ثم دخلوا المسجد في هيئة الملوك، وأمر بملوك الجزائر أكابر الروم فهبوا وأبناء ملوك البربر وملك الإسبان، وأقبل موسى بن نصير بالثلاثين الذين ألبسهم التيجان حتى دخل بهم مسجد دمشق، والوليد يخطب، فلما رآهم هب إليهم فأقبل حتى سلم على الوليد، ووقف الثلاثون عن يمين المنبر وشماله بالتيجان، فأخذ الوليد في حمد الله والثناء عليه والشكر بما أيده وفتح عليه ونصره، فأطال حتى فات وقت الجمعة، فصلى وانصرف، وأجاز موسى بجائزة عظيمة، وأقام موسى بدمشق حتى مات الوليد، واستخلف سليمان، وكان عاتباً على موسى فحبسه وطالبه بأموال عظيمة.
ولم يزل في يده حتى حج سليمان سنة سبع وتسعين، وحج معه موسى، فمات موسى بالمدينة في هذه السنة، وقيل: توفي بوادي القرى.
موسى بن نضير
أبو عمران البعلبكي حدث عن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: ما استسقى كبير قط فشرب صغير قبله إلى غارت عين من ماء العيون.(26/20)
موسى بن وردان
أبو عمر القرشي مولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري المصري القاضي وفد على عمر بن عبد العزيز في خلافته.
حدث عن أبي هريرة: أن امرأة أتت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن زوجي خرج مجاهداً في سبيل الله، وأحب أن أعمل عمله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تبليغنه، قالت: بلى، فقال: تستطيعين أن تصومي ولا تفطري، وتصلي ولا تفتري؟ قالت: لا، قال: لو استطعت ما بلغت عمله.
وحدث عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أكثروا من شهادة أن لا إله إلا الله، قبل أن يحال بينكم وبينها، ولقنوها موتاكم ".
وحدث عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " تهادوا تحابوا وتصافحوا يذهب الغل عنكم ".
وحدث عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من مات مريضاً مات شهيداً ووقي فتان القبر، وغدي عليه وريح برزقه من الجنة ".
قال موسى بن وردان: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فحدثته بأحاديث عن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكنت عنده بمنزلة، فكنت أول داخل وآخر خارج، وكنت أحدثه عمن أدركت من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فسألته كتاباً إلى حيان بن سريج في عشرين ألف دينار أستوفيها من ثمن فلفل يدفعها إلي. فقال عمر: لمن العشرون ألف دينار؟ فقلت: لي، فقال:(26/21)
ومن أين؟ فقلت: كنت تاجراً، فضرب بمخصرة في يده وقال: التاجر فاجر، والفاجر في النار، ثم قال: اكتبوا له إلى حيان. فلم أدخل عليه بعدها، وأمر حاجبه ألا يدخلني عليه.
توفي موسى بن وردان سنة سبع عشرة ومئة.
موسى بن هشام بن أحمد بن العلاء
أبو عمران الوراق الدينوري حدث عن عبد الله بن هانئ بسنده إلى أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " حبك الشيء يعمي ويصم ".
وحدث عن أبي علي الحسن الموصلي بسنده إلى أنس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دخل إلى الخلاء نزع خاتمه.
موسى بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي
أخو جعفر والفضل ابني يحيى ولاه الرشيد هارون دمشق والشام بأسره أيام عصبية أبي الهيذام، فقدم دمشق وأصلح بين المضرية واليمانية.
قال موسى بن يحيى: كان يحيى بن خالد البرمكي يقول: ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الكتاي يدل على مقدار عقل كاتبه، والرسوم على مقدار عقل مرسله، والهدية على مقدار عقل مهديها.
وفي سنة ست وسبعين ومئة هاجت العصبية بالشام، وعامل السلطان بها موسى بن(26/22)
عيسى، فقتل منهم خلق، فولى الرشيد موسى بن يحيى، وضم إليه من القواد والأجناد، ومشايخ الكتاب جماعة.
قال موسى بن يحيى: قال المأمون يوماً لمحمد بن داود: إني أرى إقبال هذه السنة يدل على كثرة الغلات وانحطاط الأسعار، فاكتب إلى العمال في المبادرة ببيع الغلات.
فجلس محمد يومه كله يعمل كتاباً في ذلك، طوله وبالغ فيه، فلما كان من غد عرضه عليه، وقرأه حتى انتهى إلى آخره، فأخذ المأمون قلماً، واستمد من دواة بين يديه، وخط على أول سطر والثاني والثالث إلى آخره، وكتب في حاشيته: أما بعد: فإن للأمور أوائل يستدل بها على أواخرها، وأشياء يعرف بها ما تؤول إليه الحال منها، وربما أخطأت المخيلة، وكذبت الدليلة، ولا يعلم الغيب إلا الله، وإن أمير المؤمنين لما دل عليه إقبال هذه السنة أن سعر الطعام سينزع، فتقدم في بيع ما استباع لك من الغلات بالسعر الذي تراه صالحاً، ولا تنفق نفقة صغيرة ولا كبيرة إلا ما أتاك به كتاب أمير المؤمنين والسلام.
أصبح موسى بن يحيى يوماً مغموماً مفكراً؛ وكان سبب ذلك أن الرشيد دفع إليه جوهراً عظيماً خطره، وأمره بحفظه فحفظه يحيى في مجلسه تحت تكأته إلى أن يحرزه حيث يرى، فغلب على قلبه الشغل فنهض ونسيه مكانه، فذهب وذكره يحيى فطلبه في الموضع فلم يجده، فأبلغ ذلك منه، وذكر له أمر أبي يعقوب الزاجر، فأمر بإحضاره.
وقال يحيى لمن حضره: لا ينطق أحد بكلمة فيسمعها فتفسد عليه زجره، فدخل، فقال له: مسألة حضرت أنا سائلك عنها، فانظر ما هي؟ قال: نعم وأطرق طويلاً، ثم قال: تسألني عن ضالة؟ قال: نعم، فانظر ما هي؟ فجعل يتلفت يميناً وشمالاً، ثم لمس البساط بيده، وقال: هو شيء أحمر وأخضر وأبيض، هو سموط، هو في وعاء جراب أو كيس، هو جوهر.(26/23)
قال: أصبت، فمن أخذه؟ قال: أحد الفراشين، ولم يقف كما وقف في المرتين الأوليين، قال: فأين هو؟ قال: في بلاعة، ولم يقف أيضاً، فقال يحيى: انظروا كل بلاعة في الدار فاطلبوه، فنظروا فإذا في واحدة أثر قلع وإصلاح، فكشف رأسها واستخرج منها جراب فيه ذلك الجوهر.
فكثر تعجب يحيى، وذهب الغم عنه وقال: يدفع إليه في وقتنا هذا خمسة آلاف درهم ويبتاع له منزل في جوارنا بخمسة آلاف درهم.
فقال أبو يعقوب: أما الخمسة آلاف فإن آخذها، وأما المنزل فلن يبتاع أبداً، قال: فازداد عجباً، ثم سأله عن زجره فقال: دخلت عليك وأنت تعلم أنه لا بصر لي، وإنما يزجر الزاجر على حواسه، وأقوى حواسه بصره، ولكن زجري على سمعي، فلم أسمع شيئاً، وسألتني فأصغيت إلى كلمة أزجر عليها، فلم أجد فاشتققت الزجر من الحال التي كنت فيها فقلت: ضالة، لأنه قد ضل عني كل شيء، يمكن التعلق به، فقلت: ضالة؟ فقلت: نعم، فعلمت أني قد أصبت، ثم قلت: ما هو؟ فجاءت مسألة أخرى، فجهدت أن أسمع شيئاً أزجر عليه فلم أسمعه، فلمست بيدي البساط، فوجدت قمع تمرة مما لعله كان في أسفل خفض بعض من دخل، فقلت: هذا من النخلة، وهو يكون أخضر وأحمر وأبيض، وهو كالسموط، إذا كان في طلعه، وهذه صفة الجوهر، فقلت: جوهر في وعاء، فقلت: أصبت، ثم قلت: من أخذه؟ فسمعت نهيق حمار فزجرت عليه، والحمار علج ولا يصل إلى مجلس المولى من العلوج غير الفراشين، فقلت: فراش، فقلت: فأين هو؟ فسمعت غلاماً يخاطب آخر ويقول: صبه في البلاعة، فزجرت على قوله، فقلت: هو في البلاعة فأصبت.
فقال له يحيى: فكيف قلت فيما أمرنا لك به؟ قال: أمرت بدفع الخمسة آلاف العاجلة فقال غلام في الصحن: نعم، فقلت: يصل، ثم قلت: يبتاع له منزل في جوارنا بخمسة آلاف درهم، فقال آخر في الصحن: لا، فقلت: إنها لا تصل.
فانصرف أبو يعقوب بالخمسة آلاف، وشرع الوكلاء في طلب المنزل.(26/24)
فبعد خمسة أيام حدث في أمر البرامكة ما حدث وبطل أمر المنزل.
قال يحيى بن أكثم: سمعت المأمون يقول: لم يكن ليحيى بن خالد وولده " نظير " في الكفاية والبلاغة والجود والشجاعة، ولقد صدق القائل: " من الرجز "
أولاد يحيى أربع ... كالأربع الطبائع
فهم إذا خيرتهم ... طبائع الصنائع
فقلت: يا أمير المؤمنين، أما الكفاية والبلاغة والسماحة فتعرفها، ففيمن الشجاعة؟ فقال: في موسى بن يحيى، وقد رأيت أن أوليه ثغر السند.
قال علي بن أبي النجم: قال لي يحيى بن خالد: صف لي ولدي، فإنك خليطهم، قال: نعم، أما الفضل: فيرضيك بفعله، وأما جعفر: فيرضيك بقوله، وأما محمد: فيفعل بحسب ما يجد، وأما موسى: فيفعل ما لا يجد.
موسى بن يزيد بن عبد الرحمن
أبو عمران الإسفنجي ثم النيسابوري حدث عن عمرو بن طارق بسنده إلى ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله، علي بدنة وأنا موسر فلا أجدها، قال: " اذبح شاة ".
وحدث عن أزهر بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أحب فطرتي فليستن بسنتي، وإن من سنتي النكاح ".
توفي موسى سنة ثلاث وستين ومئتين.(26/25)
موسى بن يسار الأردني
يقال: إنه من دمشق.
حدث عن أبي هريرة: أن امرأة يعصف ريحها، فقال: يا أمة الخيار، المسجد تريدين؟ قالت: نعم، قال: وله تطيبت؟ قالت: نعم، قال: فارجعي فاغتسلي؛ فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أيما امرأة تخرج إلى المسجد يعصف ريحها لا يتقبل الله منها حتى ترجع فتغتسل ".
وحدث عن نافع عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " في العسل في كل عشرة أزق زق ".
قال موسى بن يسار عن مكحول عن جنادة بن أبي أمية. قال: نزلنا دابق وعلينا أبو عبيدة بن الجراح، فبلغ جيش حبيب بن مسلمة أن ينة صاحب فرس خرج يريد بطريق أذربيجان، معه زبرجد وياقوت ولؤلؤ وديباج، فخرج في خيل حتى قتله في الدرب، وجاء بما معه إلى أبي عبيدة، فأراد أن يخمسه. قال حبيب بن مسلمة: أيا أبا عبيدة، لا تحرمني رزقاً رزقنيه الله، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل السلب للقاتل، فقال معاذ بن جبل: مهلاً يا حبيب، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه ".
وحدث موسى بن يسار عن نافع عن ابن عمر: أنه كان من الماء على علوتين أو ثلاث، ولا يميل إليه وهو مسافر.
قال مالك بن كعب العكي: زرنا يحيى بن حسان البكري من عسقلان إلى سناجية أنا وابن فربر وابن أدهم(26/26)
وموسى بن يسار، فأتانا بطعام، فأمسك موسى يده، فقال له يحيى: كل، فقد أمنا رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا المسجد عشرين سنة يكنى بأبي قرصافة، فكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فولد لي غلام، فأقبلت عليه فدعوته في اليوم الذي كان يصوم فيه فأفطر، قال: فمد موسى يده فأكل، وقام ابن أدهم إلى المسجد فكنسه بردائه.
موسى بن يوسف بن موسى بن راشد
أبو عوانة الرازي حدث عن محمد بن عتبة الكندي بسنده إلى عائشة - رضي الله عنها - قالت: لم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شهر أكثر صياماً منه في شعبان، لأنه تنسخ فيه أرواح الأحياء في الأموات، حتى إن الرجل يتزوج وقد رفع اسمه فيمن يموت، وإن الرجل ليحج وقد رفع اسمه فيمن يموت.
وحدث عن سعيد بن أبي الربيع البصري بسنده إلى أنس بن مالك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الرجل لا يكون مؤمناً حتى يكون قلبه مع لسانه سواء، ويكون لسانه مع قلبه سواء، ولا يخالف قوله عمله، ويأمن جاره بوائقه ".
وحدث عن أبي الربيع الزهراني بسنده إلى عمران العمي قال: جاء رجل إلى حذيفة فقال: يا أبا عبد الله إني أخشى أن أكون منافقاً، قال: تصلي إذا خلوت، وتستغفر إذا أذنبت؟ قال: نعم، قال: اذهب، فما جعلك الله منافقاً.
وحدث عن عبد الله بن ذكوان الدمشقي بسنده إلىعمار بن سعد قال: يكون في آخر هذه الأمة قوم يعظمون الله ويجلونه حتى يكفروا به وهم الجهمية.
وحدث عن أبي معمر الهذلي قال: سمعت عباد بن العوام يقول:
قدم علينا شريك بن عبد الله واسط، فقلت: إن عندنا قوماً ينكرون هذه(26/27)
الأحاديث: " إن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا " وما أشبهها قال: وما تنكرون؟ إنما جاء بهذه من جاء بالصلاة والسنن عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مات موسى بن يوسف القطان سنة ثلاث وثمانين ومئتين.
المؤمل بن أحمد بن المؤمل بن أحمد
أبو البركات المصيصي، يعرف بابن أصيبعات الفزار حدث سنة سبع وثمانين وأربع مئة عن أبي الحسن علي بن الخضر السلمي بسنده إلى أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في قوله: " عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً "، قال: " هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي ".
ولد أبو البركات سنة سبع وعشرين وأربع مئة بدمشق، وتوفي سنة سبع وتسعين وأربع مئة.
مؤمل بن إهاب ويقال ابن يهاب بن قفل بن سدل
أبو عبد الرحمن الربعي حدث عن محمد بن عبيد بسنده إلى عبادة بن الصامت قال: أمنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شملة قد خالف بين طرفيها، وعقدها في قفاه.
وحدث عن أبي داود بسنده إلى أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم، وهما مهلكاكم ".
وحدث عن عبد الله بن المغيرة بسنده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الليل والنهار مطيتان فاركبوهما بلاغاً إلا الآخرة ".(26/28)
وحدث عن سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال: بلغني أن ريحاً تكون في آخر الزمان وظلماً فيفزع الناس إلى علمائهم فيجدونهم قد مسخوا.
قدم مؤمل بن يهاب الرملة، فاجتمع عليه أصحاب الحديث، وكان زعراً ممتنعاً، فألحوا عليه فامتنع أن يحدثهم، فمضوا بأجمعهم، وأكنوا بينهم السير، فتقدموا إلى السلطان فقالوا: إن لنا عبد سبياً، له علينا حق صحبة وتربية، وقد كان أدبنا فأحسن لنا التأديب، وآلت بنا الحال إلى الإهنة بحمل المحبرة وطلب الحديث، وإنا أردنا بيعه فامتنع علينا. فقال لهم السلطان: وكيف أعلم صحة ما ذكرتم؟ قالوا: إن معنا بالباب جماعة من حملة الآثار وطلاب العلم تكتفي بالنظر إليهم دون المسألة عنهم، وهم يعلمون ذلك.
فسمع مقالتهم، ووجه خلف المؤمل بالشرط والأعوان يدعونه فتعزز؛ فجذبوه وجرروه، وقالوا: أخبرنا أنك قد استطعمت الإباق، فصار معهم إلى السلطان فقال له: ما يكفيك الإباق حتى تتعزز على سلطانك؟ احبسوه، فحبس.
وكان مؤمل أصفر طوالاً خفيف اللحية، يشبه عبيد أهل الحجاز.
فأقام أيام حتى علم بذلك جماعة من إخوانه، فصاروا إلى السلطان، فقالوا: إن هذا مؤمل بن يهاب في حبسك مظلوم، فقال: من ظلمه؟ قالوا: أنت، قال: ما أعرف، ومن هو مؤمل؟ قالوا: الشيخ الذي اجتمع عليه جماعة، فقال: ذاك العبد الآبق؟ قالوا: ما هو بآبق، بل هو إمام من أئمة المسلمين في الحديث، فأمر بإخراجه، وسأله عن حاله، فأخبره كما أخبره الذين جاؤوا يذكرون حاله، فصرفه، وسأله أن يحله، فلم يزل مؤمل بعد ذلك ممتنعاً امتناعه الأول حتى لحق بالله عز وجل.(26/29)
توفي مؤمل بن إهاب سنة أربع وخمسين ومئتين.
المؤمل بن الفضل بن مجاهد
ويقال: ابن الفضل بن عمير أبو سعيد الحراني حدث عن الوليد بسنده إلى أبي الدرداء قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض غزواته في حر شديد، حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه، أو كفه على رأسه، من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعبد الله بن رواحة.
وحدث عن بشر بن السري بسنده إلى أبي هريرة قال: كان من تلبية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لبيك لك الحق ".
المهاجر بن أبي مسلم
واسم أبي مسلم: دينار مولى أسماء بنت يزيد الأنصارية الأشهلية من أهل دمشق، وهو والد عمرو ومحمد ابني مهاجر.
حدث عن أسماء قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تقتلوا أولادكم سراً، فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه ".
وحدث عنها قالت: مر بي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا في جواري أتراب فقال: " إياكن وكفر المنعمين "، وكنت أجرأهن عليه مسألة، فقلت: يا رسول الله، وما كفر المنعمين؟ قال: " لعل(26/30)
إحداكن تطول أيمتها عند أبويها، ثم يرزقها الله زوجاً، ثم يرزقها الله ولداً، ثم تغضب الغضبة فتكفر بها فتقول: والله ما رأيت منك خيراً قط ".
وحدث عنها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من ترك دينارين ترك كبتين ".
وحدث أنه سمع معاوية يقول: الجمعة على من آب إلى أهله.
وحدث: أن معاوية كان يصلي يوم الجمعة بنهار طويل، وكان أهل القريات من مرج الصفر يشهدونها معه، ثم ينصرفون إلى أهليهم فيأتونهم قبل غروب الشمس، ومرج الصفر ثمانية عشر ميلاً، قال: يعني إلى دمشق.
وحدث المهاجر أيضاً: أن معاوية كان يخطب الناس بدمشق، ويقول في خطبته: يا أهل قردا، يا أهل زاكية وأقاصي الغوطة وأداني الثنية لا تدعن الجمعة بدمشق.
المهاجر بن عبد الله الكلابي
كان المهاجر بن عبد الله يمشي في مسجد دمشق فيعدل عن القناديل، وقد مدحه جرير فقال: " من الكامل "
إن المهاجر حين يبسط كفه ... سبط البنان طويل عظم الساعد(26/31)
ولقد حكمت فكان حكمك مقنعاً ... وخلقت زين منابر ومساجد
كتب أمير المؤمنين الوليد بن يزيد إلى المهاجر بن عبد الله: إني حلفت بطلاق سلمى يوم تزويجها، فإذا قرأت كتابي هذا فسل لي يحيى بن أبي كثير الطائي، واكتب إلي بما يجيبك.
فلما قرأ الكتاب كتب إلى يحيى بن أبي كثير، فكتب إليه يحيى: حدثنا جماعة سماهم وذكر أسانيدهم إلى ابن عباس وأبي هريرة وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وابن عمر، وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين وأبي موسى الأشعري كلهم يقولون: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك ".
فكتب المهاجر إلى الوليد بما حدثه به.
المهاجر بن أبي المهاجر
كان حافظاً لكتاب الله. كان رأس المسجد في زمان عبد الملك وبعده عبد الله بن عامر اليحصبي، وكان يزعم أنه من حمير، وكان يغمز في نسبه، فحضر شهر رمضان؛ فقالوا: من يؤمنا؟ فذكروا رجلاً، وذكروا المهاجر بن أبي المهاجر فقال: ذلك مولى، ولسنا نريد أن يؤمنا مولى، فبلغت سليمان، فلما استخلف بعث إلى المهاجر، فقال: إذا كان أول ليلة من شهر رمضان قف خلف الإمام، فإذا تقدم عبد الله بن عامر قبل أن يكبر، فخذ بثيابه، واجذبه، وقل: تأخر، فلن يتقدمنا دعي، وصل أنت بالناس؛ ففعل.
المهاجر بن يزيد
أبو عبد الله العامري مولاهم المدني قال مهاجر بن يزيد: بعثنا عمر بن عبد العزيز فقسمنا الصدقة فيهم، فلقد رأيتنا وإنا لنصدق من العام(26/32)
القابل من كان يتصدق عليه، ولقد كنت أراه يكتب إلى أهله أو في الحاجة تكون له في خاصة نفسه فيأمر بالشمعة فتنحى، ويأمر بشمعة أخرى، ولقد كنت أراه يغسل ثيابه؛ فما يخرج إلينا، وما له غيرها، وما أحدث بناء، ولقد رأيت عتبة له خربت، فكلم في إصلاحها، ثم قال: يا مزاحم، هل لك أن تتركها، فتخرج من الدنيا ولم تحدث شيئاً؟ وحرم الطلاء في كل أرض.
قال: وسألت عمر بن عبد العزيز عن هذا الماء الذي يوضع في الطريق، يتصدق به، أنشرب منه؟ قال: نعم لا بأس بذلك، قد رأيتني وأنا وال بالمدينة، وللمسجد ماء يتصدق به، فما رأيت أحداً من أهل الفقه يزع عن ذلك أن يشرب منه.
قال: ورأيته يقدم عليه بالسبي من الأخماس، فربما رأيته يضعهم في الصنف الواحد.
مهاجر
غير منسوب.
قال: قال عمر بن عبد العزيز: احفروا لي وأعمقوا، فإن خير الأرض أعلاها، وشرها أسفلها.
مهدي بن إبراهيم
من أهل البلقاء حدث عن مالك بن أنس عن ابن الزبير عن جابر قال: انتهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تبوك وعينها تبص بماء يسير مثل الشراك، قال: فشكونا العطش، فأمرهم فجعلوا فيها سهاماً دفعها إليهم فجاشت بالماء، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ: "(26/33)
يوشك - يا معاذ - إن طالت بك حياة أن ترى ما ههنا قد ملئ جناناً ".
حدث معدي بن إبراهيم بسنده إلى عائشة - رضي الله عنها - قالت: لما حضرت أبا بكر الوفاة خرجت إليه أريد أن أعرض له بطلحة، فإذا هو يحشرج، فقلت: هذا كما قال الشاعر: " من الطويل "
إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
قال: أفلا تقولين - يا بنية - كما قال الله عز وجل: " وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ".
فقال: يا بنية، إني كنت اقطعتك مالاً بالغابة قطاعاً وقطاعين، وإنك لو كنت جددتيه واحتذتيه كل لك، وإنما اليوم مال وارث، وإنما هما أخواك وأختاك، فاقسموه على كتاب الله؛ فقلت: لو كان كذا لفعلت، هذه أختي أسماء، فمن الأخرى؟ قال ذو بطن: أبنت خارجة؟ لا أراها إلا جارية.
ثم دعا بصحيفة فكتب فيها إلى عمر بن الخطاب، ثم قال: ابعثوا هذه إلى عمر بن الخطاب، فعند ذلك يئست من طلحة.
ثم قال: يا بنية، إذا أنامت فانظروا فما وجدتموه زاد في مالي بعد إمارتي فادفعوه إلى الخليفة من بعدي، وأعلموه أني كنت أستسحها جهدي، إلا ما أصبت من لحمها وودكها.(26/34)
قالت: فما مات نظرت في ماله، فما وجدناه زاد فيه بعد إمارته غير خادم سرداء كانت ترضع بنيه، وغير ناضج كان يسقي عليها بعض ماله، فدعوت الخازن فبعثته بذلك إلى عمر وأعلمته ما قال.
قالت: فبكى عمر، ثم قال: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده إتعاباً شديداً.
مهدي بن جعفر بن جبهان بن بهرام
أبو محمد، ويقال: أبو عبد الرحمن الرملي الزاهد حدث عن عبد الرحمن بن أشرس بسنده إلى أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليرجعن المسلمون إلى المدينة حتى يكون آخر مسالحهم بسلاح ".
وحدث عن ضمرة بن ربيعة بسنده إلى عائشة أنها قالت: مرن لأزواجكن فليغسلوا عنهم أثر البول والغائط، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعله توفي مهدي بن جعفر سنة سبع وعشرين ومئتين، قالوا: وهذا وهم، فإنه روي له حديث بصوم سنة ثلاثين ومئتين. وكان ثقة.
قال مهدي: كان يقال للزاهد: زاهد، إن زهد في الدنيا، وزهد في الرياسة، فمن زهد في الدنيا ولم يزهد في الرياسة لم ينفعه زهده في الدنيا، ومن زهد في الرياسة كان في الدنيا أزهد.(26/35)
المهلب بن أبي صفرة ظالم بن سراق
ابن صبح بن كندي بن عمرو بن عدي أبو سعيد الأزدي العتكي من وجوه أهل البصرة وفرسانهم وأجوادهم.
غزا في خلافة عمر بن الخطاب، ووفد على يزيد بن معاوية، وولي لبني أمية ولايات، وتولى حرب الأزارقة، وكانت له معهم وقائع مشهورة.
حدث عن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما أراهم الليلة إلا سيبتيونكم، فإن فعلوا فشعاركم: حم لا ينصرون ".
وذكر المهلب عن البراء بن عازب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إنكم تلقون عدوكم غداً، فليكن شعاركم: حم لا ينصرون ".
وحدث المهلب عن سمرة بن جندب قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاة قال: " لا تحجب الصلاة إلا عند طلوع الشمس وعند غروبها ".
قال المهلب وهو يخطب: سمعت سمرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا صلاة حين تطلع الشمس، ولا حين تسقط، فإنها تطلع بين قرني شيطان، وتسقط بين قرني شيطان ".
قال أبو لبد الجهضمي: كنا مع المهلب حين وفد إلى يزيد بن معاوية، فقدمنا عليه وهو بحوارين قد خرجا متنزهاً والناس في الفساطيط، فوقفنا ننتظر الإذن فأبطاً؛ فقال من قال من الناس: هو الآن يشرب، فإنا لكذلك إذ هاجت ريح؛ فاقتلعت الفسطاط، فإذا يزيد جالس وبين يديه مصحف، وهو يقرأ فيه، فقلنا: أراد الله أن يبرز عذره.(26/36)
واعتل المهلب بالشام، فكان يزيد يعوده ويبعث إليه كل يوم بدواء مختوم.
وحدث المهلب عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تبعث ... على أهل المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا.... لها ما سقط منهم وتخلف، تسوقهم سوق الحمل الكسير ".
كان أبو صفرة من أزد دبا، ودبا فيما بين عمان والبحرين، وكانوا أسلموا، وقدم وفدهم على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقرين بالإسلام، فبعث عليهم مصدقاً منهم يقال له: حذيفة بن اليمان الأزدي من أهل دبا، وكتب له فرائض الصدقات، فكان يأخذ صدقات أموالهم ويردها على فقرائهم.
فلما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتدوا ومنعوا الصدقة، فكتب حذيفة إلى أبي بكر بذلك، فوجه أبو بكر عكرمة بن أبي جهل، فاقتتلوا وهزمهم عكرمة وأكثر فيهم القتل، ومضى فلهم إلى حصن دبا، فتحصنوا فيه، وحصرهم المسلمون في حصنهم، فنزلوا على حكم حذيفة بن اليمان، فقتل مئة من أشرافهم، وسبى ذراريهم، وبعث بهم إلى أبي بكر - رضي الله عنه - إلى المدينة وفيهم أبو صفرة غلام لم يبلغ يومئذ، فأراد أبو بكر قتلهم، فقال عمر: يا خليفة رسول الله، قوم إنما شحوا على أموالهم، فيأبى أبو بكر أن يدعهم، فلم يزالوا موقوفين في دار رملة بنت الحارث حتى توفي أبو بكر.
وولي عمر فدعاهم فقال: قد أفضى إلي هذا الأمر فانطلقوا إلى أي البلاد شئتم؛ فأنتم قوم أحرار لا يد به عليكم.
فنزلوا البصرة، ورجع بعضهم إلى بلاده، فكان أبو صفرة وهو أبو المهلب ممن نزل البصرة، وشرف بها هو وولده.(26/37)
كان عثمان بن أبي العاص على عمان، والحكم بن أبي العاص على البحرين، فكتب عمر إلى عثمان أن سر بأهل البحرين إلى شهرك، فقال عثمان لأهل عمان: ابغوا لي رجلاً أستخلفه، فجاؤوه بأبي صفرة، فقال: ما اسمك؟ قال: ظالم بن سراق، قال: إني أرسلت إليك، وإني أريد أن أستخلفك، فأما إذ كان اسمك هذا فلا، قال: فلا تمنعني الغزو، قال: أما هذا فنعم، فخرج معهم.
نظر عرفجة بن هزيمة الأزدي البارقي إلى المهلب بن أبي صفرة يلعب مع الصبيان فقال: " من الطويل "
خذوني به إن لم يسد سرواتكم ... ويبلغ حتى لا يكون له مثل
وفد أبو صفرة على عمر بن الخطاب ومعه عشرة من ولده، المهلب أصغرهم، فجعل عمر ينظر إليهم ويتوسمهم، ثم قال لأبي صفرة: هذا سيد ولدك، يعني المهلب، وهو يومئذ أصغرهم.
قال المهلب: حاصرنا مناذر فأصابوا سبياً، فكتبوا إلى عمر، فكتب عمر: إن مناذر قرية من قرى السواد، فردوا إليهم ما أصبتم.
وفي حديث آخر: فرددناهم حتى رددنا الحبالى في بطونها الأولاد.
لما سار المهلب لقي الأزارقة، فاقتتلوا إلى صلاة الظهر، ونادى منادي الأزارقة في ناحية المهلب: إن المهلب قتل، فركب المهلب لما سمعه برذوناً دريداً، فركض بين الصفين على الرايات، وإن إحدى يديه في القباء، والأخرى ليست في القباء من العجلة، وهو ينادي: أنا المهلب، أنا المهلب، فسكن الناس. وأقبل يسير على الرايات ويحضض:(26/38)
أيها الناس إنما هم عبيدكم وسقاطكم، كأن الرجل يجزع إذا لقيه عبده أن يأخذه أخذاً، شدوا باسم الله إلى عدوكم.
كل ذلك يريد أصحابه على أن يسيروا ولا يسيرون فقال: إن القوم سيهفون إليكم، فإذا أتوكم فثوروا في وجوههم، وارموهم بالحجارة، وأمرهم أن يأخذ كل رجل ثلاثة أحجار في مخلاته، فأقبل القوم، فجعل الرجل يرمي الرجل فيصيب وجهه فيصرعه، ويصيب وجه فرسه فيشب بفارسه فيصرعه، فقاتلوهم إلى العصر فلما اشتد القتال أخرجوا ألفي مدجج لم يشهدوا القتال، فقاتلوهم حتى اصفرت الشمس.
قال: فحملوا علينا حملة ألجؤونا إلى عسكرنا، ورجعوا إلى عسكرهم، فانطلق رجل من اليحمد على فرس، فدخل عسكرهم فلم يجد فيه أحداً، فرجع إلى المهلب فقال: ذهب والله القوم، فأرسل معي رسولاً، فأرسل فوجد الأمر حقاً، وأصبحوا وقد انطلقوا، فذكر من عد القتلى لهم أربعة آلاف وثمان مئة.
كتب الحجاج إلى المهلب يستبطئه في حرب الأزارقة، فكتب إليه: ما أنتظر بالقوم إلا إحدى ثلاث: إما موت شامل، أو جوع قاتل، أو فرقة، فأما غير ذلك فلا سبيل إليه.
وكتب إليه يستعجله في حربهم، فكتب إليه: إن من البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره.
ولما واقف المهلب الأزارقة كان يتحرر من الثياب تحرراً شديداً فكان يسهر هو وابنه المغيرة، يدوران في أقاصي العسكر، يحرسان، فهما ليلة إذا هما برجل متلثم ستر وجهه وسائر بدنه بالحديد، أشرف عليه من أكمة فقال: أفيكم من يفهم ما نسأل عنه؟، فخاف المهلب أن تكون مكيدة، فوتر قوسه وصاح لجماعة من غلمانه وقال: قل، قال: من الذي يقول من شعرائكم: " من الكامل "(26/39)
وطوى الطراد مع القياد بطونها ... طي التجار بحضرموت برودا
فقال المهلب: جرير، قال: هو - والله - أشعر شعرائكم. ثم ولى، فقال المهلب: هذا قطري.
لما قدم المهلب على الحجاج بعد حرب الأزارقة أجلسه على سريره وقال: هذا كما قال الشاعر: " من البسيط "
فقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا
فقال رجل ممن كان مع المهلب: والله لكأني أسمع قطري بن الفجاءة وهو يقول: لله در المهلب، والله ما حاربنا مثله، هو كما قال لقيط الإيادي:
صونوا جيادكم واجلوا سلاحكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا
وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا
ما زال يحلب صرف الدهر أشطره ... يكون متبعاً طوراً ومتبعا
حتى استمرت على شزر مريرته ... مستحكم السن لا قحماً ولا ضرعا
فأعجب الحجاج موافقة قطري إياه.
وكان الحجاج قد أكرم المهلب لما قدم عليه من حرب الأزارقة، وشرفه وبلغ به(26/40)
الغاية، فخرج الحجاج يوماً آخذاً بيد المهلب حتى انتهى إلى المحراب فأم الناس، ثم قال: يا أبا سعيد أنا أطول أم أنت؟ قال: الأمير أطول مني، وأنا أشخص منه.
فلما انصرف من صلاته قاله له: سجستان خير ولاية أم خراسان؟ قال: سجستان، قال: وكيف؟ قال: لأنها ثغر كابل وزابلستان وإن خراسان ثغر الترك.
قال: أيهما أحب إليك أن يليه رجل مثلك؟ قال: إن أمثالي في الناس لكثير، وما نحن حيث يرى الناس.
قال: سر إلى سجستان، قال: غيري خير لك فيها مني، وأنا بخراسان خير لك من غيري، قال: ولم؟ قال: لأن بدو نعمة الله علي بعد في الإسلام كان في غزوي خراسان مع الغفاري، وابن أبي بكرة بسجستان خير لك مني، لأن أهلها أحبوه لحسن أياديه فيهم، وأنا بخراسان خير منه.
قال: وما كنت تلي من أمر الغفاري؟ قال: كنت فيمن صحبه، فلما نزلنا بيهق، ودنونا من عدونا، قال الغفاري: هل من فوارس ينظرون لنا أمامنا، وإن أصابوا أحداً أتوا به؟ فانتدب منا مع صاحب شرطة عشرة فوارس، فلقينا عدة من عدونا، فقال أصحابي: قد عاينا طلائع القوم فانصرفوا، فقلت: وما عليكم أن نشأمهم؟ فأبوا وانصرفوا، فتقدمت، فقتل الله العشرة على يدي، ثم انصرفت برؤوسهم ودوابهم وأسلابهم، وقد كان أصحابي نعوني إلى الغفاري، فلما رآني ضحك وقال: " من المتقارب "
كبا القوم عند عيان الرهان ... وقال المهلب خبط الفرس
ففاز المهلب بالمكرمات ... وآب عمير بجد التعس(26/41)
ثم ولاني شرطته؛ فولاه الحجاج خراسان، فكان واليها حتى هلك بها.
قيل للمهلب: بم نلت ما نلت؟ قال: بطاعة الحزم وعصيان الهوى.
قال رجل للمهلب: بم بلغت ما بلغت؟ قال: بالعلم، قال: قد رأينا من هو أعلم منك لم يبلغ ما بلغت؟ قال: ذاك علم صفة، وهذا علم وضع مواضعه، وأصيبت به فرصته، وأخرى لم أخزل بها: إيثاري فعلاً أحمد عليه دون القول به.
قال أبو إسحاق: ما رأيت أميراً كان أفضل من المهلب.
وقيل لأبي إسحاق: لم رويت عن المهلب؟ قال: لأني لم أر أميراً أيمن نقيبة منه ولا أسمع لنا، ولا أبعد مما نكره ولا أقرب مما نحب من المهلب.
زاد في آخر بمعناه: ولا أسخى.
قال أبو بكر الهذلي لأبي العباس السفاح: يا أمير المؤمنين، هل كان في أزد الكوفة مثل المهلب بن أبي صفرة؟ الذي يقول له الشاعر: " من الوافر "
إذا كان المهلب من ورائي ... هدا ليلي وقر له فؤادي
ولم أخش الدنية من أناس ... ولو صالوا بقوة قوم عاد
وهل كان في عبد قيس الكوفة مثل الحكم بن المنذر الجارود الذي يقول له الشاعر: " من السريع "(26/42)
يا حكم بن المنذر بن الجارود ... أنت الجواد ابن الجواد المحمود
سرادق المجد عليك ممدود
فقال له العباس: ما رأيت مثل هذه العلية.
قال محمد بن سلام: كان بالبصرة أربعة، كل رجل منهم في زمانه لا يعلم في الأمصار مثله: الأحنف بن قيس في حلمه وعفافه ومنزلته من علي عليه السلام، والحسن في زهده وفصاحته وسخائه وموضعه من قلوب الناس، والمهلب بن أبي صفرة وركزة أمره، وسوار بن عبد الله القاضي في عفافه وتحريه الحق.
قال طلحة الطلحات يوماً لجلسائه:
أي رجل أسخى؟ قالوا ما نعلم أحداً أسخى منك. قال: بلغني أن المهلب دخل الحمام فبعث له ببرذون وكسوة وطيب، فخرج ولبس الثياب، وتطيب بالطيب، وركب البرذون، ولم يسأل عنه، فعلمت أنه صغر في عينه فلم يسأل عنه.
قدم زياد الأعجم خراسان على المهلب فنزل على حبيب بن المهلب، فجلسا على شراب لهما، وفي الدار شجرة عليها حمامة فجعلت تدعو، فقال زياد الأعجم: " من الوافر "
تغني أنت في ذممي وعهدي ... بأن لن يذعروك ولن تطاري
إذا غنيتي فطربت يوماً ... ذكرت أحبتي وذكرت داري
فإما يقتلوك طلبت ثأراً ... بقتلهم لأنك في جواري
فأخذ حبيب سهماً فرماها فقتلها، فقال زياد: قتلت جارتي بيني وبينك المهلب،(26/43)
فأتى المهلب فقال: يا حبيب، ادفع إلى أبي أمامة دية جاره ألف دينار كاملة، فقال حبيب: إنما كنت ألعب، فقال المهلب: ليس مع هذا لعب، جاره جاري بل هو أفضل، فدفع إليه ألف دينار، فقال زياد: " من الطويل "
فلله عينا من رأى كقضية ... قضى لي بها شيخ العراق المهلب
قضى ألف دينار لجار أجرته ... من الطير حضان على البيض يتعب
رماه حبيب بن المهلب رمية ... فأنفذه بالسهم والشمس تغرب
فألزمه عقل القتيل " بن حرة " ... فقال حبيب إنما كنت ألعب
فقال زياد لا يروع جاره ... وجاره جاري بل من الجار أقرب
فبلغ الحجاج فقال: ما أخطأت العرب حين جعلت المهلب رجلها.
أمر المهلب بقوم فأعظموه وسودوه، فقال رجل: ألهذا الأعور تسودون؟ والله لو خرج إلى السوق ما جاء إلا بألفي درهم، فقال لبعض من معه: أتعرف الرجل؟ قال: نعم، فأرسل إليه معه بألفي درهم وقال: أما إنك لو زدتنا في القيمة زدناك في العطية.
أغلظ رجل للمهلب فسكت، فقيل له: أربى عليك وسكت؟ قال: لم أعرف مساوئه، وكرهت أن أبهته بما ليس فيه.
شتم رجل المهلب فكف عنه، وقال: إني خفت أن يكرمني في ردي عليه أكثر مما نكرمه في شتمه.
سمع المهلب رجلاً يغتاب رجلاً فقال: اكفف، فوالله، لا ينقى فوك من سهكها.(26/44)
قال المهلب لبنيه: اتقوا زلة اللسان، فإن الرجل تزل قدمه فينتعش ويزل لسانه فيهلك.
وقال المهلب: إذا سمع أحدكم العوراء فليتطأطأ بخطاه.
قال المهلب: يعجبني من الرجل الكريم خصلتان: أن أرى عقله زائداً على لسانه، ولا يعجبني أن أرى لسانه زائداً على عقله.
كان المهلب يقول: نعم الخصلة السخاء تسد عورة المزيف، وتلحق خسيسة الوضيع، وتحبب المزهو وتسد الخلة، والبخيل لا ينفعه عيشه، ولا يجد البخيل إلا حسوداً محتالاً.
أوصى المهلب ابنه يزيد فقال: يا بني، إياك والسرعة عند مسألة " بنعم "؛ فإن أولها سهل وآخرها ثقيل في فعلها، واعلم أن " لا " وإن قبحت فربما روحت، وإن كنت من أمر تسأله عن ثقة فأطمع ولا توجب، ثم افعل، وإن علمت أن لا سبيل إليه فاعتذر؛ فإنه من لا يعذر بالعذر بنفسه ظلم.
وأنشد الأخفش لرجل من طيء: " البسيط "
والله والله لولا أنني فرق ... من الأمير لعاتبت ابن نبراس
في موعد قاله لي ثم أخلفني ... وعداً " غدا ضرب أخماس لأسداس
حتى إذا نحن ألجأنا مواعدة ... إلى الطبيعة في فقر وإبساس
أجلت مخيلته عن لا فقلت له ... لوما بدأت بها ما كان من باس(26/45)
وليس يرجع في لا بعد ما سلفت ... منه نعم طائعاً حر من الناس
قال المهلب: ما السيف الصارم في كف الرجل الشجاع بأعز له من الصدق.
كان المهلب يبعث إلى جابر بن زيد من فارس بالمال ويقبله، قال: وكنا نعيب ذلك، قال جابر: إن قوماً يعيبون هذا، وما ضر المهلب إن رددته؟ ألا أجعله في المساكين يعيشون به؟!.
قال محمد بن يزيد المهلبي: سمعت أبي يقول: لم يقل المهلب بن أبي صفرة قط إلا بيتين وهما: " من البسيط "
إنا إذا نسأت يوماً لنا نعم ... قالت لنا أنفس أزدية عودوا
لا يوجد الجود إلا عند ذي كرم ... والمال عند لئام الناس موجود
قال المهلب: ما شيء أبقي للملك من العفو، وخير مناقب الملوك العفو.
قال المهلب: لأن يطيعني سفهاء قومي أحب إلي من أن يطيعني حلماؤهم.
قال المهلب لبنيه:
يا بني، لا تتكلوا على فعل غيركم، وافعلوا ما ينسب إليكم، ثم أنشد: " من الخفيف "
إنما المجد ما بنى والد الصد ... ق وأحيا فعاله المولود
مر المهلب بن أبي صفرة على مالك بن دينار، وهو يتبختر في مشيته، فقال له مالك: أما علمت أن هذه المشية تكره إلا بين الصفين، فقال له المهلب: أما تعرفني؟ قال له مالك: أعرفك أحسن المعرفة، قال: وما تعرف مني؟ قال: أما أولك فنطفة(26/46)
مدرة، وأما آخرك فجيفة قذرة، وأنت بينهما تحمل العذرة، فقال المهلب: الآن عرفتني حق المعرفة.
توفي المهلب بمروروذ سنة اثنتين وسبعين، وله اثنتان وسبعون سنة.
وقيل: توفي سنة إحدى وثمانين، ويقال: سنة اثنتين وثمانين، ويقال: سنة ثلاث وثمانين بقرية يقال لها: ذا غول، وله ست وسبعون سنة، وكان مولده فتح مكة.
مهلهل بن يموت واسمه محمد بن المزرع
ابن يموت بن موسى بن يسار بن حكيم بن جبلة بن حكيم، ويقال: حصين ابن الأسود بن كعب بن عامر، أبو نضلة العبدي شاعر مليح الشعر في الغزل وغيره.
قال أبو الحسين أحمد بن محمد بن العباس الأخباري: حضرت في سنة ست وعشرين وثلاث مئة مجلس تحفة القوالة جارية أبي عبد الله بن عمر البازياري، وإلى جانبي أبو نضلة، وعن يميني أبو القاسم بن أبي الحسن البغدادي، نديم ابن الحواري، فغنت تحفة: " من الخفيف "
بي شغل به عن الشغل عنه ... بهواه وإن تشاغل عني
ظن بي جفوة فأعرض عني ... وبدا منه ما تخوف مني
سره أن أكون فيه حزيناً ... فسروري إذا تضاعف حزني
فقال أبو نضلة: هذا الشعر لي، فسمعه أبو القاسم البغدادي، وكان ينحرف عن أبي نضلة فقال: قل له: إن كان الشعر له يزيد فيه بيتاً آخر، فقلت له: فقال في الحال: " من الخفيف "(26/47)
هو في الحسن فتنة قد أصارت ... في هواه من كل فن
ومن شعر أبي نضلة: " من البسيط "
جلت محاسنه عن كل تشبيه ... وجل عن واصف في الحسن يحكيه
انظر إلى حسنه واستغن عن صفتي ... سبحان خالقه سبحان باريه
النرجس الغض والورد الجني له ... والأقحوان النضير النضر في فيه
دعا بألحاظه قلبي إلى عظتي ... فجاءه مسرعاً طوعاً يفديه
مثل الفراشة تأتي إن ترى لهباً ... إلى السراج فتلقي نفسها فيه
ومن شعر أبي نضلة: " من السريع "
وخمرة جاء بها شبهها ... ظلمت لا بل شبهه الخمر
فبات يسقيني على وجهه ... حتى توفى عقلي السكر
في ليلة قصرها طيبها ... بمثلها كم بخل الدهر
ومن شعر أبي نضلة: " من الطويل "
ولما التقينا للوداع ولم يزل ... ينيل لثاماً دائماً وعناقاً
شممت نسيماً منه يستجلب الكرى ... ولو رقد المخمور فيه أفاقا
مهند بن عبد الرحمن بن عبيد
ويقال: مهدي بن عبد الرحمن بن عبيدة بن حاضر دمشقي.
حدث عن عمته أم الدرداء عن أبي الدردراء قال: سجدت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحدى عشرة سجدة، ليس فيها من المفصل شيء،(26/48)
الأعراف والرعد والنحل وبني إسرائيل ومريم والحج سجدة، والفرقان وسليمان سورة النمل والسجد وص وسجدة الحواميم.
وبه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الخال وارث من لا وارث له ".
مهنا بن يحيى
أبو عبد الله الشامي حدث عن رواد بن الجراح بسنده إلى عامر بن شهر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: خذوا من قريش.
وحدث عن بقية بن الوليد بسنده عن أبي هريرة قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يحشر الحكارون وقتلة الأنفس إلى جهنم في درجة واحدة ".
وحدث عن زيد بن أبي الزرقاء حديثاً ورد من طريق آخر عن بقية بن الوليد بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على منبره:
يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا إليه بالأعمال الصالحة، وصلوا الذي بينه وبينكم بكثرة ذكركم، وبكثرة الصدقة في السر والعلانية، تؤجروا واتنصروا وترزقوا، واعلموا أن الله فرض عليكم الجمعة في عامي هذا، في شهري هذا، في ساعتي هذه، فريضة مكتوبة، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي إلى يوم القيامة جحوداً بها واستخفافاً بحقها، وله إمام عادل أو جائر، فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا حج له، ألا ولا صدقة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا بر له، فمن تاب تاب الله عليه، ألا لا يؤم أعرابي مهاجراً، ألا لا تؤم امرأة رجلاً ألا ولا يؤم فاجر براً إلا أن يكون سلطاناً.(26/49)
ميماس بن مهري بن كامل
أبو رافع الصقيل القشيري الأمير والد إبراهيم بن مياس.
وحدث بدمشق عن خلفة بن أحمد بن الفضل الحوفي بسنده إلى أنس قال: أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل يريد سفراً، فقال: أوصني، فقال: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة، وخالق الناس بخلق حسن ".
فلما ودعه قال: " زودك الله التقوى، وجنبك الردى، وغفر لك ذنبك، ووجهك للخير حيثما توجهت.
توفي بالرحبة وعمره اثنتان وستون سنة، ويظن أنه توفي سنة اثنتين وسبعين وأربع مئة.
ميسرة غلام خديجة رضي الله عنها
خرج مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بصرى لما بلغ سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمساً وعشرين سنة، وليس له بمكة اسم إلا الأمين، فتكاملت فيه خصال الخير.
قال له أبو طالب: أنا رجل لا مالي لي، وقد اشتد الزمان علينا، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجلاً من قومك في عيراتها، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك.
وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له فأرسلت إليه في ذلك.
وفي حديث أنها أرسلت إليه، ولم يذكر محاورة عمه له، فقالت:(26/50)
إنه دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجالاً من قومك.
قال أبو طالب: هذا رزق قد ساقه الله إليك.
فخرج مع غلامها ميسرة، وجعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدما بصرى من الشام، فنزلا سوق بصرى في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان يقال له نسطور، فاطلع الراهب إلى ميسرة وكان يعرفه، فقال: يا ميسرة من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ قال ميسرة: رجل من قريش من أهل الحرم. قال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، ثم قال لميسرة: أفي عينيه حمرة؟ قال: نعم، لا تفارقه، قال: هو هو، وهو آخر الأنبياء، فيا ليتني أدركه حين يؤمر بالخروج.
وفي آخر فقال: هو نبي، وهو آخر الأنبياء.
ثم باع سلعته، فوقع بينه وبين رجل تلاح، فقال الرجل: احلف باللات والعزى، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما حلفت بهما قط، وإني لأمرؤ أعرض عنهما، فقال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة: هذا - والله - نبي تجده أحبارنا منعوتاً في كتبهم.
وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة، واشتد الحريرى ملكين يظللان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الشمس، فوعي ذلك كله ميسرة، وكان الله قد ألقى عليه المحبة من ميسرة، فكان كأنه عبد له.
وباعوا تجارتهم، وربحوا ضعف ما كانوا يربحون، فلما رجعوا فكانوا بمر الظهران قال ميسرة: يا محمد، انطلق إلى خديجة، فأخبرها بما صنع الله لها على وجهك، فإنها تعرف لك ذلك.
فتقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة، وخديجة في علية لها، فرأت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بعيره وملكان يظلان عليه، فأرته نساءها فعجبن لذلك.(26/51)
ودخل عليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخبرها بما ربحوا في وجههم، فسرت بذلك، فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت، فقال ميسرة: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام، وأخبرها بما قال الراهب نسطور، وبما قال الآخر الذي خالفه في البيع.
وقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتجارتها، فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ضعف ما سمت له.
ميسرة بن مسروق العبسي
أحد الفرسان المشهورين، شهد يوم اليرموك وهو شيخ مسن وكان ذا صلاح.
يقال: إنه له صحبة ووفادة على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
روي عن أبي عبيدة بن الجراح قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار.
قال ميسرة: قدمت بصدقة قومي طائعين ونحن على الإسلام لم نبال، وما بعث علينا أحد، حتى أدخلتها على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فجزاني وجزى قومي خيراً، وعقد لنا لواء وقال: سيروا مع خالد بن الوليد إلى أهل الردة، وأوصى بنا خالداً، فكنا إذا زحفت الزحوف نأخذ اللواء فنقاتل به بأبانين واليمامة ومع خالد بالشام، لقد نظر إلي خالد بن الوليد يوم اليرموك فصاح بأبي عبيدة بن الجراح: ادفع رايتك إلى ميسرة، ففعل ففتح الله علي.
حدث وابصة العبسي عن أبيه قال: جاءنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنى، فوقف علينا يدعونا إلى الإسلام، فلم يستجب له منا أحد، فقال ميسرة بن مسروق: ما أحسن كلامك وأنوره، ولكن قومي يخالفونني، وإنما الرجل بقومه.(26/52)
فلما حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع لقيه ميسرة بن مسروق فعرفه، فقال: يا رسول الله، ما زلت حريصاً على اتباعك منذ أنخت بنا حتى كان ما كان، ويأبى الله إلا ما ترى من تأخر إسلامي، فأسلم فحسن إسلامه، وقال: الحمد لله الذي ينقذني من النار، وكان له عند أبي بكر الصديق مكان.
قال أبو وجزة: مر أبو بكر بالناس في معسكرهم بالجرف ينسب القبائل حتى مر فزارة، فقام إليه رجل منهم فقال: مرحباً بكم، فقالوا: يا خليفة رسول الله، نحن أحلاس الخيل وقد قدنا الخيول معنا، فقال: بارك الله فيكم، قالوا: فاجعل اللواء الأكبر معنا، فقال أبو بكر: لا آخذه عن موضعه، هو في بني عبس، فقال الفزاري: أتقدم علي من أنا خير منهم؟ فقال أبو بكر: اسكت يا لكع، هم خير منك، أقدم إسلاماً، ولم يرجع منهم رجل، وقد رجعت وقومك عن الإسلام.
فقال العبسي - وهو ميسرة بن مسروق -: ألا تسمع ما يقول، يا خليفة رسول الله؟ فقال: اسكت، فقد كفيت.
وكان ميسرة بن مسروق وأصحابه أول جيش دخل أرض الروم، دخلها في ستة آلاف فغنم وسبى، وجمعت له الروم فلقيهم فاقتتلوا قتالاً شديداً فهزمهم الله، وكانت فيهم مقتلة عظيمة.
قال ابن جابر: أدركت عظامهم تلوح في مرج القنابل، وهي إحدى ملاحم الروم التي أبيروا فيها.(26/53)
ميسرة مولى فضالة
حدث عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لله أشد أذناً إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته.
وحدث ميسرة عن أبي الدرداء: أنه كان إذا ذكر حديث أبي هريرة عنده يقول: أولم يقل الله في كتابه: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ". قال أبو الدرداء: فنحن الصالحون.
ميمون بن أحمد بن عمار بن نصير السلمي
حدث عن نصر بن منصور الطرسوسي بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.
ميمون بن إبراهيم
أبو إسحاق البغدادي الكاتب كان على الزبد للمتوكل.
حدث عن محمد بن حماد بن سعيد الكاتب قال: كنت أجالس أبا يوسف القاضي، وكان في الحلقة رجل يطيل الصمت، فجاء إلى أبي يوسف رجل فقال: ما تقول في رجل دخل إلى بيت مظلم وفيه إنسان، فخرج وسيفه مخضب دماً والرجل الذي داخل مقتول؟ فابتدره الرجل الصامت فقال: أرأيت إن كان(26/54)
مع الذي داخل سيف، فخرجا ورأس كل واحد منهما في يد صاحبه؟ فنظر أبو يوسف إلى أصحابه وقال: ما كان أحسن صمته لو زين بعقل.
ميمون بن إسماعيل الدمشقي
حدث عن سلم بن جنادة بسنده إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليس من المروءة الربح على الإخوان.
ميمون بن الحسن بن سهل البصري الدباس
حدث عن أبي علي الحسن بن عبد الرحمن بن إسحاق بن عواذ الأسيدي بسنده إلى أبي جزء قال: الناسخ والمنسوخ على ثلاثة أوجه: فمنه ما رفع، وما أثبت خطه وبدل حكمه، ومنه ما نسخ حكمه ونسخت تلاوته وبقي ذكره على ألسنة الناس.
ميمون بن علي بن يعقوب
ابن علي بن أبي البختري وهب بن وهب القرشي الأسدي من أهل صيدا.
حدث عن جده أبي البختري قال:
قال لي هارون الرشيد: أين أنخت لولدك من بعدك؟ قلت: يا أمير المؤمنين بالشام، قال: وأي موضع بالشام؟ قلت: بساحل دمشق بحصن يقال له صيدا، قال: وكيف أنخته الشام وهو - ذكروا - مأواة الفتن وفيه العصبية؟ فقلت له: يا أمير المؤمنين إنه بلد أرضه طعام وسماؤه إدام، قال لي: فتحملنا أن نصير إليه؟ قال: قلت: فما نحملك يا أمير المؤمنين.(26/55)
ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد
أبو بصير، ويقال: أبو بسر التغلبي الشاعر المعروف بالأعشى أحد فحول الشعراء، وفد على آل جفنة الغسانيين.
قال يونس بن حبيب: أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وأهل الحجاز والبادية يقدمون زهيراً والنابغة.
وأبو بصير بباء معجمة بواحدة من تحتها وصاد مهملة مكسورة.
أدرك سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومدحه، ولم يسلم، وهو من بني بكر بن وائل.
دخل حسان بن ثابت في الجاهلة بيت خمار بالشام ومعه أعشى بكر بن وائل، واشتريا خمراً وشربا، فنام حسان ثم انتبه، فسمع الأعشى يقول للخمار: كره الشيخ الغرم، فتركه حسان حتى نام ثم اشترى خمر الخمار كلها، ثم سكبها في البيت حتى سالت تحت الأعشى، فعلم أنه سمع كلامه، فاعتذر إليه.
ذكر عمر بن شبة أن الأعشى وفد إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومدحه بقصيدته التي أولها: " من الطويل "
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وعادك ما عاد السليم المسهدا
يقول لنا فيه:
فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفاً حتى تلاقي محمدا
نبي يرى ما لا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم ... تراحي وتلقي من فواضله يدا(26/56)
فبلغ خبره قريشاً، فرصدوه على طريقه، وقالوا: هذا صناجة العرب، ما مدح أحداً قط إلى رفع من قدره. فلما ورد عليهم قالوا له: أين أردت أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم، قال: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها، وكلها بك رافق ولك موافق، قال: وما هن؟ فقال أبو سفيان: الزنا، فقال: لقد تركني الزنا وما تركته، وماذا؟ قال: القمار. قال: لعلي إن لقيته اصبت منه عوضاً من القمار، وماذا؟ قال: الربا، قال: ما دينت ولا ادينت قط، وماذا؟ قال: الخمر قال: أوه، أرجع إلى صبابة قد بقيت في المهراس فأشربها، فقال أبو سفيان: أبا بصير، هل لك في خير مما هممت به؟ قال: وما هو؟ قال، نحن وهو الآن في هدنة، فتأخذ مئة من الإبل، وترجع إلى بلدك سنتك هذه، فننظر ما يصير إليه أمرنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفاً، وإن ظهر علينا أتيته، قال: ما أكره ذاك.
فقال أبو سفيان يا معشر قريش، هذا الأعشى، والله لئن أتى محمداً واتبعه ليضرمن عليكم نيران العرب بشعره، فاجمعوا له مئة من الإبل، ففعلوا وأخذها وانطلق إلى بلده.
فلما كان بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله، فدفن عناك، فإذا أراد الفتيان أن يشربوا خرجوا إلى قبره، وشربوا عنده، صبوا عليه فضلات الأقداح.
وعن أبي هريرة قال: رخص رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شعر الجاهلية إلا قصيدة أمية بن أبي الصلت في أهل بدر، وقصيدة الأعشى في عامر وعلقمة. وفي رواية: التي يذكر فيها الخوض.
جمع عبد الملك بن مروان بنيه ذات يوم ومسلمة وسليمان فاستقرأهم فقرؤوا فأحسنوا، واستنشدهم فأنشدوا فأجادوا لكل شاعر غير الأعشى، فقال لهم: قرأتم فأحسنتم، وأنشدتم فأجدتم لكل شاعر غير الأعشى، فما لكم تهجرونه؟ قد أخذ في كل فن حسن(26/57)
فأحسن، وما امتدح رجلاً قط إلا تركه مذكوراً، هذا عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة وهما من بيت واحد، هجا علقمة فأخمله وكان شريفاً مذكوراً، ومدح عامر بن الطفيل فرفعه.
قيل لمحمد بن مروان: من أشعر الناس؟ فقال: امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا عجب، والأعشى إذا طرب.
دخل الشعبي على الأخطل فوجده ثملاً وحوله لخالخ ورياحين، فقال: يا شعبي، فعل الأخطل، وذكر أمهات الشعراء. فقال الشعبي: بماذا يا أبا مالك؟ قال: بقوله: " من الكامل "
وإذا تعاورت الأكف زجاجها ... نفحت فنال رياحها المزكوم
فقال الشعبي: أشعر منك الذي قال: " من الوافر "
من اللائي حملن على الروايا ... كريح المسك تستل الزكاما
فقال له الأخطل: من يقول هذا؟ قال: الأعشى، قال: قدوس قدوس، فعل الأعشى، وذكر أمهات الشعراء.
قال الخطابي: تأمل أين منزلة أحدهما من الآخر؟! لم يزد الأخطل حين احتشد على أن جعل رائحتها لذكائها تنفذ حتى تخلص إلى الرأس فينالها المزكوم، وجعلها الأعشى لحدتها وفرط ذكائها مستلة للزكام طاردة له.
كان سفيان يتمثل بأبيات الأعشى: " من الطويل "(26/58)
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد بما كان أرصدا
أنشد ابن الأعرابي للأعشى: " من المنسرح "
استأثر الله بالوفاء وبال ... عدل وولى الملامة الرجلا
الشعر قلدته سلامة ذا ال ... مفضال والشيء حيثما جعلا
والشعر يستثير الكريم كما اس ... تنزل رعد السحابة السبلا
قال حرب: لقيت الأعشى في الجاهلية، فقلت له: ما عنيت بقولك: " من الكامل "
وسبية مما تعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها
قال: شربتها حمراء وبلتها بيضاء.
قال المازني: لما قدمت سر من رأى دخلت على الخليفة فقال: يا مازني من خلفت وراءك؟ فقلت: خلفت أخية لي أصغر مني مقام الولد، قال: فما قالت لك حين خرجت؟ قال: طافت حولي وقالت وهي تبكي: أقول لك يا أخي كما قالت بنت الأعشى لأبيها: " من المتقارب "
تقول ابنتي حين جد الرحيل ... أرانا سواء ومن قد يتم(26/59)
أبانا فلا رمت من عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم
ترانا إذا أضمرتك البلا ... د نجفى وتقطع منا الرحم
قال: فما قلت لها؟ قال: قلت: أقول لك، يا أخية، كما قال جرير لابنته: قال أبو سعيد: الصواب: كما قال لزوجته أو حزرة: " من الوافر "
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
فقال: لا جرم أنها ستنجح، وأمر لي بثلاثين ألف درهم.
ميمون بن مهران
أبو أيوب مولى بني أسد فقيه أهل الجزيرة. ولد سنة أربعين، ووفد على عمر بن عبد العزيز.
حدث عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخر جنازة صلى عليها كبر أربعاً.
وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتخذوا هذه الحمام المقاصيص فإنها تلهو عن صبيانكم من الشياطين.
وعنه قال: احتجم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محرم.
وفي رواية: وهو صائم محرم.
وقد ضعف قوم هذا الحديث.
حدث ميمون عن مهران قال: أتيت صفية بنت شيبة، وهي امرأة كبيرة فسألتها: هل تزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميمونه وهو محرم؟ فقالت: لا، ولقد تزوجها وإنهما لحلالان.(26/60)
قال عبد الملك بن عبد الحميد بن ميمون بن مهران: نحن من سبي إصطخر.
قال ميمون: كانت أمي لبني نصر بن معاوية من قيس عيلان وولدت أنا وأمي حرة، وكان أبي للأزد.
قال ميمون: لقد أدركت من لم يتكلم إلا الحق أو يسكت، وأدركت من لم يكن يملأ عينيه من السماء فرقاً من ربه، وقد أدركت من كنت أستحي أن أتكلم عنده.
كان عمر بن عبد العزيز إذا نظر إلى ميمون بن مهران قال: إذا ذهب هذا وقرنه صار الناس من بعدهم رجاجاً.
قال سليمان بن موسى: إذا أتانا العلم من الحجاز عن الزهري قبلناه، وإذا أتانا من الشام عن مكحول قبلناه، وإذا أتانا من الجزيرة عن ميمون بن مهران قبلناه، وإذا أتانا من العراق عن الحسن قبلناه.
زاد في غيره: فكل هؤلاء الأربعة علماء الناس في زمن هشام.
سأل عبد الملك بن مروان عن فقيه أهل المدينة، فقيل: سليمان بن يسار، وعن فقيه أهل مكة، فقالوا: عطاء بن أبي رباح، وعن فقيه أهل اليمن، قالوا: طاووس، وعن فقيه أهل الجزيرة، فقيل: ميمون بن مهران، وعن فقيه أهل الشام، فقيل: مكحول، وعن فقيه أهل البصرة، فقيل: الحسن بن أبي الحسن، وعن فقيه أهل الكوفة، فقيل: سعيد بن جبير، فقال: ما أراهم إلا أبناء السبايا، ومحكول من سبي كابل مولى لامرأة من هذيل.
قال أبو المليح: ما رأيت أحداً أفضل من ميمون بن مهران، قال له رجل يوماً: يا أبا أيوب أتشتكي؟ أراك مصفراً! قال: نعم، لما يبلغني في أقطار الأرض.
قال أبو الحسن الميموني: سمعت عمي عمراً يقول: ما كان أبي يكثر الصيام ولا الصلاة، كان يكره أن يعصى الله.
وعن ميمون قال: لا تجالسوا أهل القدر، ولا تسبوا أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تعلموا النجوم.(26/61)
وعن ميمون بن مهران قال: قال لي ابن عباس: يا ميمون، لا تشتم السلف، وادخل الجنة بسلام.
قال ميمون بن مهران: رجلان لا تصحبهما: صاحب مأكل سوء وصاحب بدعة.
وقال: رجلان لا تعظهما، ليس تنفعهما العظة: رجل قد لهج بكسب خبيث، وصاحب هوى قد استغرق فيه.
قال فرات بن سلمان: انتهينا مع ميمون بن مهران إلى دير القائم فنظر إلى الراهب فقال لأصحابه: فيكم من بلغ من العبادة ما بلغ هذا الراهب؟ قالوا: لا، قال: فما ينفعه ذلك ولم يؤمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالوا: لا ينفعه شيء، قال: كذلك لا ينفع قول إلا بعمل.
قال فرات بن سلمان: كنت في مسجد ملطية، فتذاكرنا هذه الأهواء، فانصرفت إلى منزلي، فألقيت نفسي فنمت، فسمعت هاتفاً يهتف: الطريق مع ميمون بن مهران.
قال جعفر بن برقان: لم يكن لميمون بن مهران مجلس في المسجد يعرف.
دخل ميمون بن مهران على سليمان بن عبد الملك أو هشام منزله فلم يسلم عليه بالإمرة، فقال له: يا أمير المؤمنين، لا ترى أني جهلت، ولكن الوالي إنما يسلم عليه بالإمرة إذا جلس للناس في موضع الأحكام.
استعمل عمر بن عبد العزيز ميمون بن مهران على الجزيرة، على قضائها وخراجها، فكتب إليه ميمون يستعفيه، وقال: كلفتني ما لا أطيق، أقضي بين الناس، وأنا شيخ كبير ضعيف رقيق.
فكتب إليه عمر: اجب من الخراج الطيب، واقض بما استبان لك، فإذا التبس عليك أمر فارفعه إلي، فإن الناس لو كانوا إذا كبر عليهم أمر تركوه ما قام دين ولا دنيا.(26/62)
وقيل: إن عمر كتب إليه: إني لم أكلفك تعباً في علمك ولا في جبايتك، فاجب ما جبيت من الحلال، ولا تجمع للمسلمين إلا الحلال الطيب.
قال ميمون بن مهران: قال لي عمر بن عبد العزيز: يا ميمون، إني أوصيك بثلاث فاحفظهن، قلت: يا أمير المؤمنين ما هن؟ قال: لا تخل بامرأة ليس بينك وبينها محرم، وإن قرأت عليها القرآن، ولا تصاف قاطع رحم، فإن الله عز وجل لعنه في آيتين من كتاب الله: آية " في الرعد " قوله: " والذين ... يقطعون ما أمر الله به أن يوصل " إلى آخر الآية، وفي سورة " محمد " صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ". ولم يذكر الثالثة.
وعن ميمون قال: وددت أن إحدى عيني ذهبت لي الأخرى أستمتع بها حياتي وإني لم أل، قال: قلت: ولا لعمر بن عبد العزيز؟ قال: لا خير في العمل لعمر ولا لغيره.
قال عمرو بن ميمون بن مهران: خرجت بأبي أقوده في بعض سكك البصرة، فمررت بجدول فلم يستطع الشيخ يتخطاه، فاضطجعت له فمر على ظهري، ثم قمت فأخذت بيده، فدفعنا إلى منزل الحسن، فطرق الباب، فخرجت جارية سداسية فقالت: من هذا؟ فقلت: ميمون بن مهران، فقالت: كاتب عمر بن عبد العزيز؟ قتل: نعم، قالت: يا أسفا ما يقال: إن هذا للزمان السوء؛ فبكى الشيخ، فسمع الحسن بكاءه، فخرج غليه، فاعتنقا، ثم دخلا، فقال ميمون: يا أبا سعيد، إني قد أنست من قلبي غلظة " فأتيتك لتقرأ " لي منه، فقرأ الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم: " أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون "؛ فسقط الشيخ فرأيته يفحص كما تفحص الشاة(26/63)
المذبوحة، فأقام طويلاً، ثم أفاق، فجاءت الجارية فقالت: قد أتعبتم الشيخ، قوموا فتفرقوا. فأخذت بيد أبي فخرجت به، ثم قلت: له: يا أبتاه، هذا الحسن قد كنت أحسب أنه أكبر من هذا، فوكز في صدري وكزة ثم قال: يا بني، لقد قرأ علينا آية لو تفهمتها بقلبك لألفى لها فيه كلوماً.
قال ميمون: الظالم والمعين على الظلم والمجب له سواء.
قال ميمون: التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان عاص ومن شريك شحيح.
وقال: لا يكون الرجل تقيأ حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه وقال لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، وحتى يعلم من أين مطعمه، ومن أين ملبسه، ومن أين مشربه أمن حلال ذلك أم من حرام.
قال أبان بن أبي راشد القشيري: كنت إذا أردت الصائفة أتيت ميمون بن مهران أودعه، فما يزيدني على كلمتين: اتق الله، ولا يغيرك غضب ولا طمع.
وعن ميمون قال: يا أصحاب القرآن، لا تتخذوا القرآن بضاعة تلتمسون به الشف يعني الربح في الدنيا، والتسموا الدنيا بالدنيا، والتمسوا الآخرة بالآخرة.
وقال ميمون: لا يزال أحدكم حديث عهد بعمل صالح، فإنه أهون عليه حين ينزل به الموت أن يتذكر عملاً صالحاً قد قدمه.
وكان يقول: يا معشر الشباب قوتكم اجعلوها في شبابكم ونشاطكم في طاعة الله، يا معشر الشيوخ، حتى متى؟.
وعن ميمون قال: لا خير في الدنيا إلى لأحد رجلين: رجل تائب أو رجل يعمل في الدرجات.
وعنه قال: من أحب أن يعلم ما له عند الله فليعلم ما لله عنده، فإنه قادم على ما قدم لا محالة.
قال حبيب بن أبي مرزوق: رأيت على ميمون جبة صوف تحت ثيابه، فقلت له: ما هذا؟ قال: نعم فلا تخبر به أحداً.(26/64)
كان ميمون إذا رأى شاباً حسن العقل ولم يكن على طريقة حسنة أكرمه وابتدأه بالسلام إذا لقيه، وجاءه وسأله عن أهله وأظهر له براً، ثم يقول له: هاهنا مريض اذهب بنا نعوده، هاهنا جنازة اذهب بنا نحضرها، فيذهب فيقول للفتى أصحابه: رأيناك مع ميمون! أي شيء تصنع أنت مع ميمون؟ فيقول لهم: قال لي كذا وكذا فذهبت معه، فإذا لقيه ميمون مع أصحابه أعرض عنه كأنه لم يره، وإذا لقيته وحده سلم عليه، فلا يزال حتى ينسك.
وعن ميمون قال: ما يعجبني الذي يجد طيلساناً ثم يلبس البت إلا أن يعدم الفضل، فأما أن يلبس - يعني البت - ويضع الدراهم بعضها على بعض فلا يعجبني.
وعن ميمون قال: ما أحب أني أعطيت درهماً في لهو وأن لي مكانه ألفاً، لا يخشى من فعل ذلك أن تصيبه هذه الآية: " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " الآية.
وعن ميمون قال: ثلاث تؤدى إلى البر والفاجر: الرحم تصلها برة كانت أو فاجرة، والعهد تفي به للبر والفاجر، والأمانة تؤديها إلى البر والفاجر.
وقال ميمون: ثلاث: المؤمن والكافر فيهن سواء:..... عاهدته تفي له بعهده مسلماً كان أو كافراً، فإنما العهد لله، ومن كانت له رحم فليصلها مسلماً كان أو كافراً، ومن ائتمنك على أمانة فأدها إليه مسلماً كان أو كافراً.
وعنه قال: ثلاث: المؤمن والكافر فيهن سواء: الأمانة تؤديها إلى البر والفاجر، والعارية تؤديها إلى البر والفاجر، وبر الوالدين، قال الله عز وجل: " وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً ".
قال خلف بن حوشب: تكارينا مع ميمون بن مهران دواباً إلى مكان كذا، فقال(26/65)
ميمون: لولا أن الدواب بكراء لمررنا على آل فلان.
جاء رجل إلى ميمون بن مهران يخطب إليه بنته فقال: لا أرضاها لك! قال: ولم؟ قال: لأنها تحب الحلي والحلل، قال: فعندي من هذا ما تريد، قال: فالآن الذي لا أرضاك لها.
قال ميمون بن مهران: بنفسي العلماء، وجدت صلاح قلبي في مجالستهم، هي بغيتي في أرض غربة، وهم ضالتي إذا لم أجدهم.
وعن ميمون قال: التودد إلى الناس نصف العقل، وحسن المسألة نصف الفقه، ورفقك في المعيشة يكفي عنك نصف المؤونة.
وقدروي هذا مسنداً بإسناد ضعيف.
قال رجل لميمون: يا أبا أيوب ما يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم، فقال له ميمون: أقبل على ثنائك أيها الرجل فما يزال الناس بخير ما اتقوا ربهم.
قال ميمون: ما بلغني عن أخ لي مكروه قط إلا كان إسقاط المكروه عنه أحب إلي ممن أتحققه عليه، فإن قال: لم أقل، كان قوله: لم أقل أكبر عندي من بينة تشهد عليه، وإن قال: قد فعلت، ولم يعتذر، أبغضته من حيث أحببته.
قيل لميمون: مالك لا تفارق أخاً لك عن قلى؟ وفي رواية: ما لك لا يفارقك أخ لك عن قلى؟ قال: لأني لا أماريه ولا أشاريه.
قال جعفر بن برقان: قلت لميمون بن مهران إن فلاناً يستبطئ نفسه في زيارتك، قال: إذا ثبتت المودة فلا بأس وإن طال المكث.
قال ميمون: من رضي من صلة الإخوان بلا شيء فليؤاخ أهل القبور.
قال ميمون: إذا نزل بك ضيف فلا تكلف له ما لا تطيق، وأطعمه من طعام(26/66)
أهلك، والقه بوجه طلق، فإنك إن تكلفت له ما لا تطيق أوشك أن تلقاه بوجه يكرهه.
وعن ميمون قال: المروءة طلاقة الوجه، والتودد إلى الناس، وقضاء الحوائج.
كان ميمون صاحب ضيافة، وكان له مولى يأكل معه، يقال له زياد، فيأتي الضيف، فيؤتى بالقصعة من الزبد فيقول: كل يا زياد، فلعلك ليس عند أهلك غيرها، يريد بذلك الضيف، يسمع فلا يتكل ليأكل.
كتب ميمون إلى ابنه: أن أحسن معونة فلان، وأعطه من مالك، فلا يسأل الناس، فإن المسألة تذهب الحياء.
قال عيسى بن كثير الأسدي: مشيت مع ميمون بن مهران حتى أتى باب دار، ومعه ابنه عمرو، فلما أردت أن أنصرف قال له عمرو: يا أبه، ألا تعرض عليه العشاء؟ قال: ليس ذلك من نيتي.
وفي حديث بمعناه قال: كرهت أن أعرض عليه أمراً لم يكن في نفسي.
قال يونس: كان طاعون قبل بلاد ميمون بن مهران، فكتبت إليه أسأله عن أهله؛ فكتب إلي: بلغني كتابك تسألني عن أهلي، وإنه مات من أهلي وخاصتي سبعة عشر إنساناً وإني أكره البلاء إذا أقبل، فإذا أدبر لم يسرني أنه لم يكن، أما أنت فعليك بكتاب الله، فإن الناس قد لهوا عنه، يعني نسوه، واختاروا عليه الأحاديث أحاديث الرجال، وإياك والجدال والمراء في الدين، لا تمارين عالماً ولا جاهلاً، فإنك إن ماريت الجاهل خشن بصدرك ولم يطعك، وإن ماريت العالم خزن عنك علمه ولم يبال ما صنعت.
قال ميمون: من أساء سراً فليتب سراً، ومن أساء علانية فليتب علانية؛ فإن الناس يعيرون ولا يغفرون، والله يغفر ولا يعير.
قال جعفر بن برقان: قال لي ميمون بن مهران: قل لي يا جعفر في وجهي ما أكره؛ فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره.
قيل لميمون بن مهران: فلان اعتق كل مملوك له، فقال: يعصون الله مرتين: يبخلون به وهو في أيديهم حتى إذا صار لغيرهم أسرفوا فيه.(26/67)
كان عند ميمون بن مهران رجل من قراء أهل الشام فقال: إن الكذب في بعض المواطن خير من الصدق، فقال الشامي: لا، الصدق في كل موطن خير، فقال ميمون: أرأيت لو رأيت رجلاً يسعى وآخر يتبعه بالسيف فدخل الدار فانتهى إليك؟ فقال: أرأيت الرجل؟ ما كنت قائلاً؟ قال: كنت أقول: لا، قال: فذاك.
قال ميمون: إذا أتى رجل باب سلطان فاحتجب عنه فليأت بيوت الرحمن فإنها مفتحة وليصل ركعتين وليسل حاجته.
وعن ميمون قال: قال لي محمد بن مروان في الديوان: ائت قلت: لا، قال: فما يمنعك أن تكتتب في الديوان؟ فيكون لك سهم في الإسلام؛ قلت: إني لأرجو أن يكون لي سهام في الإسلام، فقال: من أين ولست في الديوان؟ قلت: شهادة أن لا إله إلا الله وحده سهم، والزكاة سهم، وصيام رمضان سهم، والحج سهم، قال محمد: ما كنت أحسب أن لأحد في الإسلام سهماً إلا من كان في الديوان.
قال: قلت: هذا ابن عمك حكيم بن حزام لم يأخذ ديواناً قط، وذلك أنه سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسألة فقال: استعف يا حكيم خير لك، قال: ومنك يا رسول الله؟ قال: ومني، قال لا جرم، لا أسألك ولا غيرك شيئاً أبداً، ولكن ادع الله أن يبارك لي في صفقتي، يعني التجارة، فدعا له.
وعن ميمون قال: لو نشر فيكم رجل من السلف ما عرف إلا قبلتكم.
قال أبو المليح: سمعت عبد الكريم يقول: لا علم لنا بكم يا أهل الرقة، من رأيناه من جانب ميمون علمنا أنه مستقيم، ومن رأيناه يكره ناحيته علمنا أنه يأخذ ناحية الأخرى، يعني الجعد.
صلى ميمون بن مهران في سبعة عشر يوماً سبعة عشر ألف ركعة، فلما كان اليوم الثامن عشر انقطع في جوفه شيء فمات.
توفي ميمون سنة ست عشرة ومئة بالجزيرة. وقيل: سنة سبع عشرة ومئة. وقيل: سنة ثمان عشرة. وقيل: سنة تسع عشرة ومئة.(26/68)
أسماء النساء على حرف الميم
مريم بنت عمران بن ماتان بن أليعازر
منسوبة إلى سليمان بن داود عليهما السلام، الصديقة أم عيسى عليه السلام كانت بالربوة ويقال إن قبرها بالنيرب، ولم يصح.
وعن الحسن: في قوله: " إلى ربوة ذات قرار ومعين " قال: إلى أرض مستوية ذات أنهار وأشجار، يعني به أرض دمشق.
واسم أم مريم حنة.
وعن سعيد: في قوله: " إني نذرت لك ما في بطني محرراً "، قال: للعبادة لا يشغله عنها.
وقال سفيان: قالت: يخدم الكنيسة سنة، فملا وضعت جارية قالوا: كيف تخدم الكنيسة امرأة وهي تحيض؟! فألقوا الأقلام التي كانوا يكتبون بها الوحي، فاستهموا بالأقلام أيهم يكفل مريم، فخرج سهم زكريا، وكانت خالتها عنده، فكان عيسى ويحيى ابني خالة، وكانوا من بني إسرائيل.
وعن ابن عباس:
في قوله عز وجل: " إن الله اصطفى آدم ونوحاً " يعني اختار من الناس(26/69)
لرسالته آدم ونوحاً، " وآل إبراهيم " يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، " وآل عمران على العالمين " يعني اختارهم للنبوة وللرسالة على عالمي ذلك الزمان، فهم " ذرية بعضها من بعض " فكل هؤلاء من ذرية آدم، ثم من ذرية نوح ثم من ذرية إبراهيم، " إذ قالت امرأة عمران " ابن ماتان، واسمها حنة بنت واقوذ، وهي أم مريم، " رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً " وذلك أن حنة أم مريم كانت جاشت على الولد والمحيض، فبينا هي ذات يوم في ظل شجرة إذ نظرت إلى طير يزق فرخاً، فتحرك نفسها للود، فدعت الله أن يهب لها ولداً، فحاضت من ساعتها، فلما طهرت أتاها زوجها، فلما أيقنت بالولد قالت: لئن نجاني الله ووضعت ما في بطني لأجعلنه محرراً.
وبنو ماتان من فلول بني إسرائيل من نسل داود.
والمحرر لا يعمل للدنيا ولا يتزوج ويتفرغ لعمل الآخرة، ويعبد الله، ويكون في خدمة الكنيسة، ولم يكن يحرر في ذلك الزمان إلا الغلمان؛ فقالت لزوجها: ليس جنس من جنس الأنبياء إلا وفيهم محرر غيرنا، وإني جعلت ما في بطني نذيرة.
تقول: قد نذرت أن أجعله لله، فهو المحرر.
فقال زوجها: أرأيت إن كان الذي في بطنك أنثى، والأنثى عورة كيف تصنعين؟ فاغتمت لذلك، فقالت عند ذلك حنة أم مريم: " رب إني نذرت لك ما في(26/70)
بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم " يعني تقبل مني ما نذرت لك، فاستجب لي بأن تنجيني من هذا سالمة بعد الإجابة.
" فلما وضعتها قال: رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت " وقد كنت إلهي نذرت لك ما في بطني إن نجيتني فنيجتني " وليس الذكر كالأنثى " والأنثى عورة ثم قالت: " وإني سميتها مريم "، وكذلك كان اسمها عند الله، " وإني أعذيها بك وذريتها " يعني عيسى " من الشيطان الرجيم " يعني الملعون.
فاستجاب الله لها؛ فلم يقربها الشيطان ولا ذريتها عيسى.
قال ابن عباس: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل ولد ابن آدم ينال منه الشيطان نطفته حين يقع بالأرض بإصبعه، ولها يستهل، إلا ما كان من مريم بنت عمران وابنها عيسى، لم يصل إبليس إليها.
قال ابن عباس: لما وضعتها خشيت حنة أم مريم ألا تقبل الأنثى محررة، فلفتها في الخرقة ووضعتها في بيت المقدس عند القراء، فتساهم القراء عليها لأنها كانت بنت إمامهم - وكان إمام القراء من ولد هارون - أيهم يأخذها، فقال زكريا: - وهو رأس الأحبار - أنا آخذها وأنا أحقهم بها، أختها عندي، يعني أم يحيى، فقالت القراء: وإن كان في القوم من هو أفقر إليها منك، ولو تركت لأحق الناس بها تركت لأمها ولكنها محررة غير أنا نتاهم عليها فمن خرج سهمه فهو أحق بها، فقرعوا ثلاث مرات بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي " أيهم يكفل مريم " يعني أيهم يقبضها، فقرعهم زكريا.
وكانت قرعة أقلامهم أنهم جمعوها في موضع، ثم غطوها، فقالوا لبعض خدم بيت المقدس من الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم: أدخل يدك، فأخرج قلماً منها، فأدخل يده فأخرج قلم زكريا، فقالوا: لا نرضى، ولكن نلقي الأقلام في الماء، فمن خرج قلمه في(26/71)
جرية الماء ثم ارتفع فهو يكفلها، فألقوا أقلامهم في نهر الأردن، فارتفع قلم زكريا في جرية الماء، فقالوا: نقترع الثالثة، فمن جرى قلمه مع الماء فهو يكفلها، فألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا مع الماء، وارتفعت أقلامهم في جرية الماء، وقبضها عند ذلك زكريا، فذلك قوله عز وجل: " وكفلها زكريا " يعني وقبضها، ثم قال: " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً " يعني ورباها تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها حتى ترعرت، وبنى لها زكريا محراباً في بيت المقدس، وجعل بابه في وسط الحائط، لا يصعد إليها إلا بسلم، وكان استأجر لها ظئراً، فلما تم لها حولان طعمت وتحركت، فكان يغلق عليها الباب، والمفتاح معه، لا يأمن عليه أحداً، لا يأتيها بما يصلحها غيره حتى بلغت.
وقيل: إنهم لما خرجوا إلى نهر الأردن، وألقوا أقلامهم التي يكتبون بها، أيهم يقوم قلمه فيكفلها، فجرت الأقلام، وقام قلم زكريا على قرنته كأنه في طين، فأخذ الجارية.
أصاب بني إسرائيل أزمة، ومرين عند زكريا على حالها حتى ضعف زكريا عن حملها، فخرج على بني إسرائيل فقال: تعلمون أني قد ضعفت عن حمل ابنة عمران، فقالوا: ونحن قد جهدنا من حمل هذه السنة، فتقارعوا بينهم، فخرج السهم على رجل من بني إسرائيل نجار، يقال له: جريج، فعرفت مريم في وجهه شدة مؤونة ذلك عليه، فقالت: يا جريج، أحسن الظن بالله، فإن الله سيرزقنا.
فجعل الله يرزق جريجاً لمكانها منه، فيأتيها كل يوم رزقها غدوة وعشية وهي في الكنيسة.
قال ابن عباس: فكان زكريا يقوم بشأنها، فكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله من محرابها،(26/72)
فتكون مع خالتها وأختها يلسفع أم يحيى، فإذا طهرت ردها إلى بيت المقدس، فكان زكريا يرى عندهم في المحراب العنب في الشتاء الشديد فيأتيها به جبريل من السماء.
وعن ابن عباس قال: كان بنو إسرائيل إذا أرادوا أن يحرروا للمحراب ولد أحد منهم لم يحرروه حتى يولد، فإن كان غلاماً فشاؤوا أن يحرروه لمهنة المحراب حرروه وإن كانت جارية لم يحرروها للمحراب، وإن امرأة عمران عجلت؛ فنذرت ما في بطنها " فلما وضعتها قالت: رب إني وضعتها أنثى " الآية.
فحملتها على خرقة وأدخلتها المحراب وقالت: أقضي ما نذرت لله علي، فقالوا: ما هذه؟ قالت: كنت عجلت ونذرت ما في بطني محرراً لمهنة المحراب، فوضعتها أنثى، فجئت لأقضي ما جعلته لله علي، قالوا: وما شأن المحراب وشأن الأنثى، فألقى الله في قلوبهم محبة مريم، فقالوا: ما كنا نقبل الأنثى، سوف نقبل هذه.
قال: فوضعتها بين أيديهم وخرجت، وتشاح القوم فيها، فقال لهم زكريا: أخت هذه الجارية عندي، وأنا أحق بها أن أكفلها، وكان في المحراب جدول يجري يشربون منه ويتوضؤون فيه، فلما رأى زكريا إباءهم عليه قال: بيني وبينكم أقلامنا التي نكتب بها التوراة، يجيء كل رجل بقلمه فيلقيه في هذا الجدول، فأي قلم منها شق الماء فقد كفله الله هذه الصبية.
قالوا: نعم، فجاء كل رجل منهم بقلمه، وجاء زكريا بقلمه، فألقوها في الجدول، فذهب الماء بأقلامهم، واستقبل قلم زكريا الماء فجعل يشقه، فقال لهم زكريا: معه، قالوا: قد كفلكها الله تعالى، فأنبتها الله نباتاً حسناً، فجعل لها في المحراب بيتاً لا يدخل(26/73)
عليها فيه إلا بإذنها، فكان زكريا يستأذن عليها؛ فتأذن له، فيدخل عليها، يسلم عليها، فتأتيه بمكيل عندها، فتضعه بين يديه، فيجد زكريا فيه عنباً في غير حين العنب، فيقول: " يا مريم أنى لك هذا؟ ". فتقول: " هو من عند الله ". وقيل: هو ثمرة الشتاء في الصيف، وثمرة الصيف في الشتاء الرمان في غير حينه.
فرغب زكريا في الولد، " فقال: إن الذي أتى مريم بهذه الفاكهة في غير حينها " لقادر " أن يصلح لي زوجي ويهب لي منها ولداً "، فدعا ربه، فأوحى الله إليه يبشره بيحيى " قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً "، " قال: رب اجعل لي آية قال: آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً ".
قال أبو الحسن: يعني هي آية البشرى، فكان زكريا إذا قام يصلي لربه أطلق لسانه فيناجيه، فإذا خرج إلى أهل المحراب اعتقل لسانه، فيشير إليهم أن صلوا كما كنتم تصلون ثلاثة أيام.
فلما بلغت مريم فبينا هي في بيتها متفضلة، إذ دخل عليها رجل بغير إذن، فخشيت أن يكون دخل عليها ليغتالها فقالت: " إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً، قال: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً، قالت: أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً، قال: كذلك قال ربك ".
قال: فجعل جبريل يردد ذلك عليها، وتقول: " أنى يكون لي غلام ". قال: وتغفلها جبريل فنفخ في جيب درعها ونهض عنها، فاستمر بها حملها، فقالت:(26/74)
إن خرجت نحو المغرب فالقوم يصلون نحو المغرب، ولكن أخرج نحو المشرق حيث لا يراني أحد، فخرجت نحو المشرق.
فبينا هي تمشي إذ فجئها المخاض؛ فنظرت هل تجد شيئاً تستتر به؟ فلم تر إلا جذع النخلة؛ فقالت: أستتر بهذا الجذع من الناس، وكان تحت الجذع نهر يجري، فانضمت إلى النخلة، فلما وضعته خر كل شيء يعبد من دون الله في مشارق الأرض ومغاربها ساجداً لوجهه، وفزع إبليس فخرج فصعد فلم يجد شيئاً ينكره، وأتى المشرق فلم يجد شيئاً ينكره، ودخل الأرض فلم يجد شيئاً ينكره، وجعل لا يصبر، فأتى المغرب لينظر فلم ير شيئاً ينكره، وجعل لا يصبر، فبينا هو يطوف إذ مر بالنخلة، فإذا هو بامرأة معها غلام قد ولدته، وإذا الملائكة قد أحدقوا بها وبابنها وبالنخلة، فقال: هاهنا حدث الأمر، فمال إليهم فقال: أي شيء هذا الذي أحدث؟ فكلمته الملائكة فقالوا: هذا نبي ولد بغير ذكر، قال: نبي ولد بغير ذكر؟ قالوا: نعم. قال: أما والله لأضلن به أكثر العالمين، أضل اليهود فكفروا به، وأضل النصارى فقالوا: هو ابن الله.
قال: وناداها ملك من تحتها " قد جعل ربك تحتك سرياً "، والسري هو النهر بكلام أهل اليمن.
قال إبليس: ما حملت أنثى إلا بعلمي، ولا وضعته إلا على كفي، ليس هذا الغلام، لم أعلم به حين حملته أمه، ولم أعلم به حين وضعته.
قال: وكان دعاء زكريا ربه لثلاث ليال بقين من المحرم، قام زكريا فاغتسل، ثم ابتهل بالدعاء إلى الله. قال: يا رازق مريم ثمار الصيف في الشتاء، وثمار الشتاء في الصيف، " هب لي من لدنك " يعني من عندك " ذرية طيبة " يعني تقياً، فأخبر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقصة عبده زكريا، ودعائه ربه، وإجابة الله عز وجل وتخننه(26/75)
عليه، فقال جل وعز: " كهيعص. ذكر رحمة ربك عبده زكريا ".
قال ابن عباس: خمسة أحرف وخمسة أسماء مقطعة، يعني بكاف: كافياً لخلقه، ها: يعني هادياً لأوليائه، يا: يعني يميناً يحلف به عباده، عين: يعني عالماً بأعمال خلقه، صاد: يعني صادقاً وعده.
ووهب الله له يحيى ولم يسم يحيى قبله.
وقيل: إن جبريل عليه السلام نفخ ما بين جيبها ودرعها، فمكث ما يمكث النساء، فخرجت هاربة من أهلها نحو الشرق، وخرجوا في طلبها، فجعلوا لا يلقون أحداً إلا قالوا: هل رأيت فتاة من حالها كذا وكذا؟ فلقوا راعي بقر، فقالوا: يا راعي، هل رأيت فتاة كذا وكذا؟ قال: لا، رأيت من بقري شيئاً لم أره فيما مضى في ليلتي هذه، رأيتها تسجد نحو هذا الوادي.
قال: وجاءها المخاض، فساندت إلى النخلة، و" قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً " حيضة بعد حيضة، فناداها جبريل من أقصى الوادي: " قد جعل ربك تحتك سرياً، وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً "، قالت: لا أدري شاتية أو صائفة، " فكلي واشربي وقري عيناً "، فوضعته وقطعت سرته، ولفته في خرقة، فحملته، فأقبلوا حيث رأوها، فأقعدته في حجرها، فأعطته ثديها، فجاؤوا فقاموا عليها فقالوا: " يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً " أي عظيماً، فمن أين لك هذا؟ "(26/76)
ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً، فأشارت إليه " أن كلموه " قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً " والمهد حجرها، فنزع فمه من ثديها وجلس واتكأ على يساره، فقال: " إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً " حتى بلغ " فاختلف الأحزاب " والأحزاب: الناس.
وفي حديث: أن مريم خرجت إلى جانب المحراب لحيض أصابها فلما طهرت إذا هي برجل معها، وهو قوله " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً " وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، ففزعت منه و" قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً، قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً "، فخرجت وعليها جلبابها، فأخذ بكمها فنفخ في جيب درعها، وكان مشقوقاً من قدامها، فدخلت النفخة صدرها، فحملت.
فأتتها أختها امرأة زكريا ليلة لتزورها، فلما فتحت لها الباب التزمتها، فقالت امرأة زكريا: يا مريم أشعرت أني حبلى؟ قالت مريم: أشعرت أيضاً أني حبلى؟ قالت امرأة زكريا: فإني وجدت ما في بطني سجد للذي في بطنك، فذلك قوله: " مصدقاً بكلمة من الله " وذكرت القصة.
وعن ابن عباس: في قوله: " وبراً بوالديه " قال: كان لا يعصيهما، " ولم يكن جباراً " قال: لم يكن قتال النفس التي حرم الله قتلها " عصياً " يعني لم يكن عاصياً لربه، "(26/77)
وسلام عليه " يعني حين سلم الله عليه " يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً ".
ولما وهب الله لزكريا يحيى، بلغ ثلاث سنين، بشر الله مريم بعيسى.
فبينا هي في المحراب " إذ قالت الملائكة " وهو جبريل وحده: " يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك " من الفاحشة " واصطفاك " يعني اختارك " على نساء العالمين " عالم أمتها " يا مريم اقنتي لربك " يعني صلي لربك، يقول: اذكري لربك في الصلاة بطول القيام، فكانت تقوم حتى ورمت قدماها، " واسجدي واركعي مع الراكعين " يعني مع المصلين، مع قراء بيت المقدس.
والقنوت: طاعة الله عز وجل. وقيل: " اقنتي لربك " سجدت حتى نزل الماء الأصفر في عينها.
يقول الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك " يعني بالخبر الغيب في قصة زكريا ويحيى ومريم، و" ما كنت لديهم " يعني عندهم " إذ يلقون أقلامهم " في كفالة مريم.
ثم قال: يا محمد، يخبر بقصة عيسى " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا " يعني مكيناً عند الله في الدنيا ومن المقربين في الآخرة " ويكلم الناس في المهد " يعني في الخرق في محرابه " وكهلاً " ويكلمهم كهلاً إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء " ومن الصالحين " يعني من المرسلين.(26/78)
وفي حديث: لما استقر حمل مريم، وبشرها جبريل؛ فوثقت بكرامة الله، واطمأنت وطابت نفساً، واشتد أزرها.
وكان معها في المحررين ابن خال لها يقال له يوسف، وكان يخدمها من وراء الحجاب، ويكلمها، ويناولها الشيء من وراء الحجاب، وكان أول من اطلع على حملها هو، واهتم لذلك، وأحزنه، وخاف منه البلية التي لا قبل له بها، ولم يشعر من أين أتيت مريم، وشغله عن النظر في أمر نفسه وعمله لأنه كان متعبداً حيكماً، وكان من قبل أن تضرب مريم الحجاب على نفسها تكون معه ونشأ معها.
وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف أخذا قلتيهما ثم انطلقا إلى المغارة التي فيها الماء، فيملأان قلتيهما ثم يرجعان إلى الكنيسة، والملائكة مقبلة على مريم بالبشارة " يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك " فيعجب يوسف مما يسمع.
فلما استبان ليوسف حمل مريم وقع في نفسه من أمرها حتى كاد أن يفتتن، فلما أراد أن يتهمها في نفسه ذكر ما طهرها الله واصطفاها، وما وعد الله أمها أنه معيذها وذريتها من الشيطان الرجيم، وما سمع من قول الملائكة: " يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك " فذكر الفضاء التي فضلها الله عز وجل بها، وقال: إن زكريا قد أحرزها في المحراب؛ فلا يدخل عليها أحد، وليس للشيطان عليها سبيل؛ فمن أين هذا؟ فلما رأى من تغير لونها، وظهر بطنها، عظم ذلك عليه وتحير فيه رأيه وعقله، وخاف الإثم من التهمة وسوء الظن بها.
فعض لها فقال: يا مريم هل يكون زرع من غير بذر؟ قالت: نعم. قال: وكيف ذلك؟ قالت: إن الله خلق البذر الأول من غير نبات، وأنبت الزرع الأول من غير بذر، ولعلك تقول: لم يقدر أن يخلق الزرع الأول إلا بالبذر، ولعلك تقول:(26/79)
لولا أنه استعان عليها بالبذر لغلبه حتى لا يقدر على أن يخلقه ولا ينبته.
قال يوسف: أعوذ بالله أن أقول ذلك، قد صدقت، وقلت بالنور والحكمة، كما قدر أن يخلق الزرع الأول وينبته من غير بذر يقدر على أن يجعل زرعاً من غير بذر.
قال لها يوسف: أخبريني فهل ينبت الشجر من ماء ولا مطر؟ قالت: ألم تعلم أن للبذر والزرع والماء والمطر والشجر خالقاً واحداً؟ فلعلك تقول: لولا الماء والمطر لم يقدر على أن ينبت الشجر! قال: أعوذ بالله أن أقول ذلك، قد صدقت وتكلمت بالنور والحكمة، فأخبريني هل يكون ولد أو حبل من غير ذكر؟ قالت: نعم. قال: وكيف ذلك؟ قالت: ألم تعلم أن الله خلق آدم وحواء امرأته من غير حبل ولا أنثى ولا ذكر؟ قال: بلى.
قال لها: فأخبريني خبرك، قالت: بشرني الله " بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم " إلى قوله: " ومن الصالحين ".
فعلم يوسف أن ذلك أمر من الله بسبب خير أراده بمريم، فسكت عنها، فلم تزل على ذلك حتى ضربها الطلق، فنوديت: أن اخرجي من المحراب، فخرجت.
وعن أبي وائل قال: لقد علمت مريم أن التقي ذو نهية حتى قالت: " إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً ".
وقيل: إن مريم حملت بعيسى تسعة أشهر، وأن زكريا النجار هو القائل لها: أخبريني: هل يكون زرع من غير بذر. الحديث.
وقيل: لم يكن في حمل مريم إلا أن حملت ثم وضعت.(26/80)
وقيل:
إنها وضعت لثمانية أشهر، ولذلك لا يولد مولود لثمانية أشهر إلا مات لئلا تسب مريم بعيسى عليه السلام.
وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم، وليس شيء من الشجر يلقح غيرها، وأطعموا نساءكم الولد الرطب، فإن لم يكن رطب فالتمر، فليس شيء من الشجر أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران ".
كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب: إن رسلي أخبروني أن قبلكم شجرة تحمل مثل أذان الحمر، ثم تفلق عن مثل اللؤلؤ الأبيض ثم تغبر ثم تصير مثل الزمرد الأخضر، ثم تغبر فتصير مثل الياقوت الأحمر، ثم تينع ثم تنضج فتصير مثل الفالوذجة، فتصير عصمة للمقيم وزاداً للمسافر، فإن رسلي صدقوني فإن هذه شجرة من شجر الجنة.
فكتب إليه عمر: أما بعد، فإن رسلك قد صدقوا، وهي شجرة عندنا يقال لها النخلة، وهي التي أنبتها الله على مريم حين نفست، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلهاً من دون الله، فإنما " مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون. الحق من ربك فلا تكن من الممترين ".
وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أطعموا نساءكم في نفاسهن التمر، فإنه من كان طعامها في نفاسها التمر خرج ولدها ذلك حليماً، فإنه كان طعام مريم حيث ولدت عيسى، ولو علم الله طعاماً هو خير لها من التمر لأطعمها إياه ".
وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أن مريم بنت عمران سألت ربها أن يطعمها لحماً لا دم له، فأطعمها الجراد،(26/81)
فقالت: اللهم أعشه بغير رضاع، وتابع بينه بغير شياع.
قيل: ما الشياع؟ قال: الصوت.
قال عمرو بن ميمون: خير الطعام للنفساء التمر والرطب يريد قوله عز وجل: " وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً ".
وعن الحسن: سأله رجل: يا أبا سعيد ما تقول في قوله عز وجل: " قد جعل ربك تحتك سرياً "، قال الحسن: عبداً صالحاً تقياً، فقال أعرابي وهو قائم يسمع إلى حديث الحسن: إنا لا نقول ذلك، ولكن نقول: سرياً يعني جدولاً نهراً صغيراً، قال الحسن: أحسنت يا أعرابي بمثلها فأفدنا.
قال ابن عباس: وذلك أنه أصابها العطش، فأجرى الله لها جدولاً من الأردن، وحمل الجذع من ساعته رطباً جنياً يعني بغباره، فناداها من تحتها جبريل: " هزي إليك بجذع النخلة " ولم يكن على رأسها سعف، وكانت قد يبست منذ دهر طويل، فأحياها الله لها، وحملت، فذلك قوله: " تساقط عليك رطباً جنياً " يعني طرياً بغباره، " فكلي " من الرطب " واشربي " من الجدول " وقري عيناً " بولدك.
فقالت: فكيف لي إذا سألوني: من أين هذا؟ قال لها جبريل: " فإما(26/82)
ترين " يعني: فإذا رأيت " من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً " يعني صمتاً في أمر عيسى " فلن أكلم اليوم إنسياً " في أمره حتى يكون هو الذي يعبر عني وعن نفسه. الحديث.
فطلبوها فلما رأت قومها قد أقبلوا إليها احتملت الولد إليهم حتى تلقتهم به، فذلك قوله: " فأتت به قومها تحمله " أي لا تخاف ريبة ولا تهمة، فلما نظروا إليها شق أبوها مدرعته، وجعل التراب على رأسه وإخوتها وآل وكريا، فقالوا: " يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً " يعني عظيماً " يا أخت هارون ".
وقال ابن عباس: في قوله عز وجل: " فأتت به قومها تحمله " قال: بعدما تعالت من نفاسها، بعد أربعين يوماً.
وعن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهل نجران، فقالوا: ألستم ترؤون: " يا أخت هارون " وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى من القرون؟ فلم أدر ما أجيبهم، فرجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم.
وعن مجاهد: في قول الله عز وجل: " يا أخت هارون " قال: كان رجل صالح في بني إسرائيل حضر جنازته أربعون ألفاً ممن اسمه هارون سواه.(26/83)
وقال مجاهد: كان رجلاً صالحاص يسمى هارون بني إسرائيل، فشبهوها به فقالوا: يا شبيهة هارون في الصلاح.
وقال ابن عباس: " يا أخت هارون " إنما كانت من آل هارون.
وعن ابن عباس: " ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً " يعني زانية، فأنى أتيت هذا الأخ الصالح، والأب الصالح، والأم الصالحة؟ فأشارت إليه أن كلموه فإنه سيخبركم، وإني نذرت لله صوماً ألا أكلمكم في أمره؛ فإنه سيعبر عني ويكون لكم آية وعبرة.
قالوا يا عجباً " كيف نكلم من كان في المهد صبياً " يعني من هو في الخرق صبياً طفلاً لا ينطق إلا إن أنطقه الله عز وجل، فعبر عن أمه، وكان عبرة لهم، فقال: " إني عبد الله " فلما أن قالها ابتدأ يحيى - وهو ابن ثلاث سنين - فكان أول من صدق به، فقال: أنا أشهد أنك عبد الله ورسوله، لتصديق قول الله: و" مصدقاً بكلمة من الله " فقال عيسى: " آتاني الكتاب وجعلني نبياً " إليكم، " وجعلني مباركاً أينما كنت ".
قال ابن عباس: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: البركة التي جعلها الله لعيسى أنه كان معلماً مؤدباً حيثما توجه، فذلك قوله: " أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً "، يعني وأمرني بالصلاة والزكاة " وبراً بوالدتي ".(26/84)
قال ابن عباس: حين قال: " وبراً بوالدتي " قال زكريا: الله أكبر، فأخذه فضمه إلى صدره.
قال ابن شوذب: كانت لرجل جارية، وكان يطؤها سراً من أهله، فوطئها فقال لأهله: اغتسلوا فإن مريم كانت تغتسل في هذه الليلة، قال: وكانت مريم تغتسل في كل ليلة.
وعن علي عليه السلام قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " خير نسائها مريم بنت عمران هي خير نسائها يومئذ وخير نسائها خديجة بنت خويلد ".
وفي رواية عنه: " خير نساء لجنة مريم بنت عمران وخير نساء الجنة خديجة بنت خويلد ".
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أربع نسوة سادات عالمهن: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وأفضلهن عالماً فاطمة ".
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حسبك من نساء العالمين بأربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، صلوات الله عليهن أجمعين ".(26/85)
وعنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وعليهن وسلم ".
وعن عائشة: أنها قالت لفاطمة: أرأيت حين أكببت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبكيت، ثم أكببت فضحكت؟ قالت: أخبرني أنه ميت من وجعه هذا فبكيت، ثم أكببت فأخبرني أني أسرع أهله لحوقاً به، قال: " وأنت سيدة نساء أهل الجنة، إلا مريم بنت عمران "؛ فضحكت.
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران ".
وعن علي: أن فاطمة شكت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " ألا ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلماً، وأحلمهم حلماً، وأكثرهم علماً؟! أما ترضي أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة إلا ما جعل الله لمريم بنت عمران، وأن ابنيك سيدا شباب أهل الجنة؟! ".
وعن عمار بن سعد قال: رأت عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقطع اللحم لفاطمة وابنيها، فقالت: يا رسول الله لابنة الحمراء وحيش من رأيته تقطع اللحم، فغضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فترك عائشة لا يكلمها، وأن أم رومان كلمته فقالت: يا رسول الله إن عائشة هنة(26/86)
فلا تؤاخذها، فقال: " وتدرين ما قالت؟! إنها قالت: كذا وكذا في خديجة، وقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين ".
وعن عتبة بن عبيد الثمالي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو أقسمت لبررت، لا يدخل الجنة قبل سابق أمتي إلا بضعه عشر رجلاً منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى ومريم بنة عمران ".
وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده، ولو علمت أن مريم ركبت الإبل ما فضلت عليها أحداً من النساء ".
وعن أبي موسى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ".
وعن ابن عمر قال:
نزل جبريل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أرسل به، وجلس يحدث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ مرت خديجة بنت خويلد، فقال جبريل: من هذه يا محمد؟ قال: هذه صديقة أمتي، قال جبريل: معي إلياه رسالة من البر تبارك وتعالى يقرئها السلام، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب، لا نصب فيه ولا صخب. قالت: الله السلام ومنه السلام، والسلام عليكما، ورحمة الله وبركاته على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما ذلك البيت الذي من قصب؟ قال: لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم، وهما من أزواجي يوم القيامة.
وعن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل على خديجة وهي في الموت فقال: يا خديجة، إذا لقيت ضرائرك فاقريهن مني السلام، قالت: يا رسول الله وهل تزوجت قبلي؟ قال: لا، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثم أخت موسى.(26/87)
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أعلمت أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون " فقلت: هنيئاً لك يا رسول الله.
وعن ابن أبي رواد قال: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خديجة في مرضها الذي توفيت فيه، فقال لها: بالكره مني ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيراً كثيراً، أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون؟ قالت: وقد جعل الله ذلك بك يا رسول الله؟ قال: نعم، قالت: بالرفاء والبنين.
وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الصخرة صخرة بيت المقدس على نخلة، والنخلة على نخر في أنهار الجنة، وتحت النخلة آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران ينظمان سموط أهل الجنة يوم القيامة ".
كان من دعاء مريم أم عيسى: اللهم املأ قلبي منك فرحاً وغش وجهي منك الحياء.
وكان من دعاء بعض التابعين: اللهم وأمت قلبي بخوفك وخشيتك، وأحيه بحبك وذكرك.
قال يحيى بن حبيب: بلغني أن أهل بيت من بني إسرائيل كانوا أهل بيت الملك، قال: فاندست إليهم مريم إلى نسائهم فقالت: هذا الملك قد ظفر بعيسى فقتله وصلبه فما يصنع بصلبه وقد بلغ حاجته منه، فلو كلمتم صاحبكم أو من يكلمه أن يهب لي جسده، قال: فكلم، فوعدهم أن يفعل. قال: فوجد منه خلوة قال: فذكروا له أن أهل هذا البيت كانوا منقطعين إلينا، وقد ظفرت به وقتلته، وبلغت حاجتك منه فما تصنع بصلبه؟ هب لي جسده، قال: نعم، قد وهبت لك.(26/88)
قال: فاستنزل ودفن، قال: وأهل الفتى الذي ألقي عليه شبه عيسى قد فقدوه وهم يبكون ولا يدرون ما فعل.
فقالت مريم لأم يحيى: انطلقي بنا نزور قبر المسيح، وهم لا يرون إلا أنه عيسى.
قال: فخرجتا تمشيان مستترتين، فلما أن برزتا تركتا بعض التستر. فبينما هما تمشيان إذ تسترت مريم حين دنت من القبر، وجعلت أم يحيى لا تستتر: قالت لها مريم: ما لم لا تستترين؟ قالت: وممن أتستر؟ قالت: أو ما ترين الرجل على قبر المسيح؟ قالت لها أم يحيى: ما أرى أحداً. قالت: لا، قال: فزجت مريم أن يكون جبريل، قال: ولم يكن لها عهد بجبريل بعد الوقعة الأولى، فقالت لأم يحيى: كما أنت لا تبرحي، ومضت إلى القبر، فقال لها جبريل: يا مريم، أين تريدين؟ قال: فعرفته، فقالت: أريد قبر المسيح أسلم عليه وأحدث به عهداً.
قال: يا مريم، إن هذا ليس المسيح، إن الله قد رفع المسيح وطهره من الذين كفروا، ولكن هذا الفتي الذي ألقي عليه شبه عيسى، فأخذ وقتل وصلب، وعلامة ذلك أن أهله قد فقدوه فلا يدروه ما فعل، فهم يبكون عليه، فإذا كان يوم كذا وكذا فأتي غيضة كذا وكذا فإنك تلقين المسيح.
قال: فرجعت إلى أختها، وصعد جبريل، فأخبرت أم يحيى أن جبريل، وما أخبرها جبريل من إتيان الغيضة، فإذا هي بعيسى في الغيضة، فلما رآها أسرع إليها فأكب عليها، وقبل رأسها، وجعل يدعو لها، كما كان يفعل، وقال: يا أمه، إن القوم لم يقتلوني، ولكن الله رفعني إليه وأذن لي في لقائك، والموت يأتيك قريباً، فاصبري واذكري الله، ثم صعد عيسى، ولم تلقه إلا تلك اللقاة حتى ماتت.
وقيل: إن مريم بقيت بعد رفع عيسى خمس سنين، وكان عمرها ثلاثاً وخمسين سنة.(26/89)
مريّة ويقال مُرّية
امرأة هشام بن عبد الملك ومروان بن محمد ويقال: إنها بنت مروان بن محمد
قال الفضل بن يعقوب: كنت آلف زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس وأكتب عنها أخبار أهلها، وكانت لها جارية يقال لها: كتاب، فوقعت في نفسي، فبكرت إليها يوماً وقلت: لي حاجة، قالت: سل ما أحببت، فقلت: إن كتاب جاريتك قد شغلت قلبي علي فهبيها لي؛ فقالت: اقعد أحدثك حديثاً كان أمس أنفع لك من كل كتاب على ظهر الأرض، وأنت من كتاب على وعد: كنت أمس عند الخيزران، وعادتها إذا كنت عندها أن تجلس في عتبة الرواق المقابل للإيوان، وأجلس بإزائها، وفي الصدر مجلس للمهدي معد وهو يقصدنا في كل وقت، فيجلس ساعة ثم ينهض.
فبينا نحن كذلك إذ دخلت عليه جارية من جواريها اللاتي كن يحجبنها، فقالت: أعز الله السيدة، بالباب امرأة، لها جمال وخلقة حسنة، ليس وراء ما هي عليه من سوء الحال غاية، تستأذن عليك، وقد سألتها عن اسمها، فامتنعت أن تخبرني، فالتفتت إلي الخيزران، فقالت: من ترين؟ فقلت: أدخليها؛ فإنه لا بد من فائدة أو ثواب.
فدخلت امرأة كأجمل النساء وأكملهن لا تتوارى، فوقفت إلى جانب عضادة الباب، فسلمت متضائلة، ثم قالت: أنا مرية بنت مروان بن محمد الأموي، فقالت زينب: وكنت متكئة فاستويت جالسة فقلت: مرية، فإياك لا حيا لله ولا قرب، والحمد لله الذي أزال نعمتك وهتك سترك وأذلك، تذكرين، يا عدوة الله، حين أتاك عجائز أهل بيتي يسألنك أن تكلمي صاحبك في الإذن لي في الدفن لإبراهيم بن محمد فوثبت عليهن وأسمعتهن ما أسمعت، وأمرت بإخراجهن، فأخرجن على الجهة التي أخرجن عليها؟(26/90)
قال: فضحكت، فما أنسى حسن ثغراه وعلو صوتها بالقهقهة، ثم قالت: أي بنت عم، أي شيء أعجبك من حسن صنيع الله لي على العقوق حتى أردت أن تتأسي بي فيه؟ الله، إني فعلت بنساء من أهل بيتك ما فعلت، فأسلمني الله إليك ذليلة جائعة عريانة، فكان هذا مقدار شكرك لله على ما أولاك في، ثم قالت: السلام عليكم وولت.
فصاحت بها الخيزران: ليس هذا لك، علي استأذنت، وإلي قصدت، فما ذنبي؟ فرجعت وقالت: لعمري لقد صدقت يا أخية، وكان مما ردني إليك ما أنا عليه من الضر والجهد.
قالت زينب: فنهضت إليها الخيزران فتعانقها، فقالت: ما في لذلك موضع مع الحال التي أنا عليها، فقالت لها الخيزران: فالحمام إذاً، وأمرت جماعة من جواريها بالدخول معها إلى الحمام وتنظيفها.
فدخلت، فطلبت ماشطة ترمي ما على وجهها من الشعر، فخرجت جارية من جواري الخيزران وهي تضحك، فقالت لها الخيزران: ما يضحكك؟ قالت: من هذه المرأة ومن تحكمها علينا وانتهارها لنا، فإنها تفعل من ذلك فعلاً ما تفعلينه أنت!.
فلم تزل حتى خرجت من الحمام، فوافتها الخلع والطيب، فأخذت من الثياب ما أرادت، وتطيبت، وخرجت، فعانقتها الخيزران، وأجلستها في الموضع الذي يجلس فيه المهدي.
فقالت لها الخيزران: هل لك في الطعام؟ فإنا لم نطعم بعد، فقالت: ما فيكن أحد أحوج إليه مني، فعجلوه.
فأتي بالمائدة فجعلت تأكل غير محتشمة، وتلقمنا، وتضع بين أيدينا، ثم غسلنا أيدينا.
فقالت لها الخيزران: من وراءك ممن تعنين به؟ فقالت: ما خارج هذه الدار أحد من خلق الله بيني وبينه سبب؛ فقالت الخيزران: إن كان هذا هكذا فقومي بنا حتى تختاري لنفسك مقصورة من مقاصرنا، وأحول إليها جميع ما تحتاجين إليه، ثم لا نفترق حتى يفرق بيننا الموت.(26/91)
فقامت، وطفنا بها في المقاصر، واختارات أوسعها، وأنزهها، ولم نبرح حتى حول إليها جميع ما تحتاج إليه من الفرش والكساء والخزائن والرقيق، وخرجنا عنها.
فقالت الخيزران: إن هذه المرأة كانت فيما كانت فيه، وقد مسها ضر، وليس يغسل ما في قلبها إلا المال، فاحملوا إليها خمس مئة ألف درهم، فحملت إليها.
ووافانا المهدي، فحدثته حديثها، فوالله ما انتظر أن أعرف الجواب حتى وثب في وجهي مغضباً، فقال: زينب، الله! إن هذا مقدار شكرك الله على نعمته، وقد أمكنك الله من مثل هذه المرأة على هذه الحال التي هي عليها، فوالله لولا محلك من قلبي لحلفت ألا أكلمك أبداً، فقلت: قد اعتذرت إليها ورضيت، ثم قصصت عليه قصتها كلها، وما فعلت الخيزران بها، فقال لخدام كان معه: احمل إليها مئة بدرة، وادخل إليها أبلغها مني السلام، وقل لها: والله، ما سررت من دهر مثل سروري اليوم بمكانك، وأنا أخوك ومن يوجب حقك، فلا تدعي حاجة إلا سألتها، ولولا أني أكره أن أحشمك لصرت إليك مسلماً عليك وقاضياً لحقك.
فمضى الخادم بالمال والرسالة؛ فأقبلت إلينا معه، فسلمت على المهدي، وشكرت له فعله، وأثنت على الخيزران عنده، وقالت: ما علي من أمير المؤمنين حشمة، أنا في عدد حرمه.
وقعدت ساعة، ثم قامت إلى منزلها، فخلفها عند الخيزران كأنها لم تزل في ذلك القصر.
فهذا الحديث خير لك من كتاب، وقد وهبت لك كتاب.
ملكة بنت داود بن محمد بن سعيد القرطكي
العالمة الصوفية من المعمرات(26/92)
حدثت عن الشريف أبي إبراهيم أحمد بن القاسم بن الميمون بن حمزة بسندها إلى عبد الله بن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ".
ولدت سنة ثلاث وأربع مئة، وتوفيت سنة سبع وخمس مئة.
مؤمنة بنت بهلول
إحدى النسوة العابدات.
قال ابن أبي الحواري: سمعت مؤمنة تقول: إلهي وسيدي لا تجمع علي الأمرين: فقدانك والعذاب.
قال: وسمعتها تقول: ما طابت الدنيا والآخرة إلا به ومعه.
وقالت: الغافل ينام ولا يقوم، ولا تطيب ساعة لا يكون فيها ذكر الله عز وجل.
وقالت مؤمنة: ما النعيم إلا في الأنس بالله والموافقة لتدبيره.
قال ابن أبي الحواري: قالت لي مؤمنة الصغيرة: أنا في شيء قد شغل قلبي، قلت: ما هو؟ قالت: أريد أن أعرف نعمة الله علي طرفة عين، أو أعرف تقصيري عن شكر النعمة طرفة عين، فقلت لها: أنت تريدين ما لا تهتدي إليه عقولنا.
مهدية بنت إبراهيم بن محمد
ابن صالح بن سنان القرشي وجدت في كتاب أبيها بسنده إلى النعمان بن بشير أنه قال على منبر الكوفة، وهو يغمز أذنيه: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات متى يدعهن المرء(26/93)
يكن استبرأ لعرضه ودينه، ومن يرتع فيهن يوشك أن يرتع في الحرام كالمرتع إلى جانب الحمى يوشك أن يقع في الحمى، ألا وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه ".
ميسون بنت بحدل بن أنيف بن دلجة
ابن قنافة بن عدي بن زهير بن حارثة الكلبية زوج معاوية بن أبي سفيان، وأم يزيد بن معاوية كانت لبيبة.
دخل عليها معاوية ومعه حديج الخصي فاستترت منه، فقال لها معاوية: إن هذا بمنزلة المرأة، فعلام تستترين منه؟ فقالت له: كأنك ترى أن المثلة أحلت له مني ما حرم الله عليه.
وحدثت ميسون عن معاوية أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " سيكون قوم ينالهم الإخصاء، فاستوصوا بهم خيراً ".
أو نحو هذا من الكلام.
وميسون: بياء معجمة باثنتين تحتها، وسين غير معجمة وبالنون.
ولما تزوجت ميسون معاوية، ونقلت إلى دمشق، وأسكنت قصراً من قصور الخلافة، حنت ذات يوم إلى البادية، فأنشأت تقول: - وقيل: إنه أسكنها الخضراء؛ فذكرت البداوة، وكرهت الحضارة فقالت: - " من الوافر "
للبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف
وبيت تخفق الأرواح فيه ... أحب إلي من قصر منيف
وبكر يتبع الأظعان صعب ... أحب إلي من بغل زفوف(26/94)
وخرق منن بني عمي نجيب ... أحب إلي من علج عليف
وكلب ينبح الطراق عني ... أحب إلي من قط ألوف
عليف: أي سمين، والقط هاهنا: السنور، والقط: الكتاب، والقط: ساعة من الليل.
فقال معاوية: جعلتني علجاً وطلقها، وألحقها بأهلها.
ميّة مولاة معاوية بن أبي سفيان
وقف ابن الزبير على باب مية، مولاة كانت لمعاوية ترفع حوائج الناس إليه.
قال عمر بن شبة: فقلت: يا أبا بكر، على مية؟ قال: نعم، إذا أعيتك الأمور من رؤوسها فأتها من أذنابها.
قال:
وأتى لمية عبد لرحمن بن الحكم بن أبي العاص بقرطاس فقال: فيه حاجة لي فارفعيها إلى أمير المؤمنين، فدفعته إلى معاوية، فقرأه، فقال: يا مية، ما أحسب هذا الرجل إلا كاذباً! قالت: لا يفعل يا أمير المؤمنين، ما يقول إلا حقاً، قال: أتدرين ما كتب؟ قالت: لا والله، فقرأ عليها: " من الرمل "
سائلاً مية هل نبهتها ... بعدما نامت بعرد ذي عجر
فتخاجب فتقاعست لها ... جلست الجازر يستجي الوتر
فقال: كذب عليه لعنة الله.
أسماء الرجال على(26/95)
حرف النون
نابت بن يزيد
حدث عن الأوزاعي بسنده إلى عائشة رضوان الله عليها أنها كانت تقول: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " مكارم الأخلاق عشر تكون في الرجل ولا تكون في ابنه، وتكون في الابن ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في سيده، يقسمها الله لمن أراد به السعادة: صدق الحديث، وصدق البأس، وإعطاء السائل، والمكافأة للصنائع، وحفظ الأمانة، وصلة الرحم، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب، وإقراء الضيف، ورأسهن الحياء ".
ناتل بن قيس بن زيد بن حباء
ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن حبيب بن ذبيان بن عوف الجذامي من أهل فلسطين.
وإنما سمي جذام جذاماً لأنه جذمت إصبع من أصابعه.
وكان قيس سيداً وفد إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسلم، وعقد له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بني سعد بن مالك بن أفصى، وابنه ناتل جذام بالشام، وشهد ناتل صفين مع معاوية، وكان يومئذ على لخم وجذام.
وناتل: بالتاء معجمة من فوقها بنقطتين، شامي.(26/96)
قال سليمان بن يسار: تفرق الناس على أبي هريرة، فقال له ناتل أخو أهل الشام: يا أبا هريرة، حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أول الناس يقضى فيه يوم القيامة رجل أتى به الله فعرفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها؟ فقال: قاتلت في سبيلك حتى استشهدت؛ فقال: كذبت، إنما أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل، فأمر به، فسحت على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم والقرآن، فأتى به الله، فعرفه نعمه؛ فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم، وقرأت القرآن، وعلمته، قيل: فقال: كذبت، إنما أردت أن يقال: فلان عالم، وفلان قارئ، فأمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل آتاه الله من أنواع المال، فأتى به الله فعرفه نعمه، فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ فقال: ما تركت - ذكر كلمة معناها: من سبيل - تحب أن ينفق فيه إلا أنفقه فيه لك قال: كذبت، إنما أردت أن يقال: فلان جواد، فقد قيل، فأمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ".
حدث الوليد بن هشام، قال: وقع موتان في دمشق فخرج معاوية ومعه زمل بن عمرو وناتل بن قيس، قال همام بن قبيصة النميري: فأقبلت على بغلتي، فأدخلت رأسها بين معاوية وبين زمل، فضن بمكانه، ففعلت مثل ذلك بناتل، فضن بمكانه، فأرسلت عنانها خلفهم، فسمعته يقول: أنا أحدثكم عن سلفنا: ذهب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفضل لا يوصف، ثم ولي أبو بكر، فلم يرد الدنيا، ولم ترده، ثم ولي عمر فأرادته الدنيا ولم يردها، ثم ولي عثمان فأرادته الدنيا وأرادها، ونالت منه، ونال منها، وايم الله، ما بلغ أحسن عملي الذي أحمد عليه ذنب عثمان الذي قتل عليه، ثم مضى، فلما أشرف على الغوطة قال: ويل أمها بستان رجل، فقلت: أرأيت أمير المؤمنين؟ يعني: لا أشبع الله بطنك تمنى الغوطة! قال: يا جباً هذه نمير تعارني في الغوطة.(26/97)
بلغ معاوية في ليلة أن قيصر يعد له في الناس، وأن ناقل بن قيس الجذامي غلب على فلسطين، وأخذ بيت مالها، وأن المصريين الذي كان سجنهم هربوا، وأن علي بن أبي طالب قصد له في الناس؛ فقال لمؤذنه أذن، هذه الساعة وذلك نصف الليل، فجاءه عمرو بن العاصي، فقال: لم أرسلت إلي؟ قال: ما أرسلت إليك! قال: ما أذن المؤذن هذه الساعة إلا من أجلي، قال: رميت بالقسي الأربع.
قال عمرو: أما قولك: الذين خرجوا من سجنك، فهم في سجن الله، وهم سراة لا رحلة لهم، فاجعل لمن أتاك برجل منهم أو برأسه ديته، فإنك ستوفى بهم، وانظر قيصر فوادعه وأعطه مالاً وحللاً من حلل مصر حتى يرضى منك بذلك، وانظر ناتل بن قيس فلعمري ما أغضبه الدين، وما أراد غلا ما أصاب، فاكتب إليه فهبه ذلك، فإن كانت لك قدرت عليه، وإن لم تكن لك فاجعل حدك وحديدك لهذا الذي عنده دم ابن عمك.
قال: وكان القوم كلهم خرجوا من سجنه غير ابن أبرهة بن الصباح، فقال معاوية: ما منعك أن تخرج مع أصحابك؟ قال: ما منعني عنه بغض لعلي ولا حب لك، ولكن ما أقدر عليه، فخلى عنه.
قال يعقوب: سار ناتل بن قيس في أربعة آلاف من قبل ابن الزبير.
وقيل: إن ناتل نزل أرض فلسطين، وقيل: نزل أجنادين فالتقى القوم، فقتل ناتل وابنه ووجوه فرسان عسكره.
قال الليل: ففي سنة وستين غزوة بطنان، ومقتل ناتل.
قالوا: وفيها مقتل عبيد الله بن زياد وأصحابه.(26/98)
ناشب بن عمرو أبو عمرو الشيباني
من دمشق، وقيل: إنه مدني.
حدث عن مقاتل بن حبان بسنده إلى أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من توضأ فمسح بثوب نظيف فلا بأس به، ومن لم يفعل فهو أفضل، لأن الوضوء نور يوم القيامة مع سائر الأعمال ".
وحدث عنه بسنده إلى الحسن بن علي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " أكثروا الصلاة علي، فإن صلاتكم علي مغفرة لذنوبكم، واطلبوا لي الدرجة " و" الوسيلة، فإن وسيلتي عند ربي شفاعة لكم ".
ناشرة بن سمي اليزني المصري
أدرك حياة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد خطبة عمر بالجابية.
قال ناشرة: سمعت عمر يقول يوم الجابية وهو يخطب: إن الله جعلني خازناً لهذا المال وقاسماً له، ثم قال: بل الله يقسمه، وأنا باد بأهل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أشرفهم. ففرض لأزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرة آلاف إلى جويرية وصفية وميمونة؛ وقالت عائشة: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعدل بيننا، فعدل بينهن عمر، ثم قال: إني باد بأصحابي المهاجرين الأولين، فإنا أخرجنا من ديارنا ظلماً وعدواناً، ثم أشرفهم، ففرض لأهل بدر خمسة آلاف، ولمن شهد بدراً من الأنصار أربعة آلاف، وقضى لمن شهد الحديبية ثلاثة آلاف، وقال: من أسرع في الهجرة أسرع به العطاء، ومن أبطأ في الهجرة أبطأ به العطاء، فلا يلومن رجل إلا مناخ راحلته. وإني أعتذر إليكم(26/99)
من خالد بن الوليد، إني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطى ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان فنزعته، وأمرت أبا عبيد بن الجراح.
فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة فقال: والله ما اعتذرت يا عمر، لقد نزعت عاملاً استعمله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأغمدت سيفاً سله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووضعت لواء نصبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقطعت الرحم، وحسدت ابن العم.
فقال عمر بن الخطاب: إنك قريب القرابة، حدث السن مغضب في ابن عمك.
قال ناشرة: كنت أتبع معاذ بن جبل أتعلم منه القرآن وأخدمه، فلما كنت في المدينة صليت في المسجد، وقرأت القرآن، فمر بي رجل، فضرب كتفي فقال: ليس كما تقرأ، فلما فرغت أتيت معاذاً، فأخبرته بقول الرجل، فقال: أتعرفه؟ قلت: نعم، وأريته إياه؛ فانطلق إليه معاذ، فقال له: أخبرني هذا أنك رددت عليه ما قرأ، فقال: نعم - وهو أبي بن كعب - يا معاذ، بعثك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليمن، فأنزل بعدك قرآن، ونسخ بعدك قرآن، ائتني بأصحابك يعرضون علي القرآن. فقال معاذ: يا ناشرة، إن أعلم الناس بفاتحة القرآن أبي بن كعب.
وفي حديث: إن أعلم الناس بفاتحة آيه وخاتمتها أبي بن كعب، وإن أقدر الناس على كلمة حكمه أبو الدرداء، وإن أعلم الناس بفريضته وأقسمه لها عمر بن الخطاب.
واليزني بالزاي والنون.
وكان ناشرة ثقة.
ناصح أبو عبد الله
مولى بني أمية حدث عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
" إن أول شيء خلقه الله القلم، ثم خلق النون، وهي الدواة، ثم قال له: اكتب،(26/100)
قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما يكون وما هو كائن من علم أو بر أو رزق أو أجل. فكتب ما يكون، وما هو كائن إلى يوم القيامة، فذلك قوله: " ن، والقلم وما يسطرون "، ثم ختم على القلم فلم ينطق، ولا ينطق إلى يوم القيامة، ثم خلق العقل فقال: وعزتي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت ".
وحدث عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله، علي حجة الإسلام، وعلي دين، قال: " فاقض دينك ".
ناصر بن عبد الرحمن بن محمد
أبو الفتح القرشي المعروف بابن الراشن النجار حدث عن أبي القاسم علي بن محمد بن علي المصيصي بسنده إلى عبد الله بن شفيق قال: سألت عائشة أم المؤمنين: من كان أحب الناس إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: أبو بكر، قال: قلت: ثم من؟ قالت: ثم عمر، قلت: ثمن من؟ فسكتت.
وحدث عن أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي بسنده إلى أبي عثمان النهدي قال: خطبنا عمر بن الخطاب قال: حذرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل منافق عليم.
توفي ناصر سنة خمسين وخمس مئة.
ناصر بن محمد أبو المكارم
المروزي البغدادي الصوفي حدث عن علان بن محمد القرمسيني بسنده إلى أنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من قال: لا إلا الله دخل الجنة ".(26/101)
قال ناصر: سمعت أبا بكر الشبلي يقول: الموت على ثلاثة أضرب: موت في حب الدنيا، وموت في حب العقبى، وموت في حب المولى، فمن مات في حب المولى مات عارفاً.
ذكر أبو المكارم أنه لما عزم الشبلي على صحة الصداقة بقلبه له أخذ كفه بكفه فقال: إن الله تبارك اسمه قد جمع فيك كمال السعادة ولذلك واجبتك بصحة الصداقة لكمال السعادة فيك، فقلت: وما هي؟ فقال: هو ما أخبرني به الجنيد بن محمد بن الجنيد عن أستاذه أبي النون المصري رحمهم الله قال: كمال السعادة سبع خصال: صفاء التوحيد، وعبرة العقل، وكمال الخلق، وحسن الخلق، وخفة الروح، وشرف النسب، وتحقيق التواضع.
ثم قال: اشكر الله يا أبا المكارم على هذه الخصال التي ركبها فيك الباري بفضله وطوله..... في الآخرة لك، إنه لطيف بالعباد.
تقلد ناصر القضاء بفلسطين وبلاد القدس في سنة خمس وثلاثين وثلاث مئة.
قال: وبقيت على العمل سبع سنين، وكانت المشاهرة أربع مئة دينار، ما خلا منها، مع العطايا، ولم أصرف عن تلك الأعمال إلا بعد أن رأيت في المنام كأن أسود هائل المنظر يظهر لي من جو السماء ويقول: ما جزاء من اصطنعك لنفسه، وأفادك من مكنون خزائنه ومخزون علم أنبيائه أن تؤثر عليه غيره؟ فاستعفيت عن العمل واعتزلت الولاية، ورحلت إلى مكة بلا زاد ولا راحلة، فحججت وجاورت، وكنت حججت ست حجج، وكانت هذه السابعة.(26/102)
ناصر بن محمود بن علي
أبو الفضائل القرشي الصائغ حدث عن أبي الفتح نصر بن إبراهيم بسنده إلى جابر قال: ليس على من ضحك في الصلاة إعادة وضوء، إنما كان ذلك لهم حين ضحكوا خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
توفي ناصر بن محمود سنة تسع وأربعين وخمس مئة.
ناعم بن مرثد
حدث عن الوصين بن عطاء قال: استزارني أبو جعفر، وكانت بيني وبينه خلالة قبل الخلافة، فصرت إلى مدينة السلام، فخلونا يوماً، فقال: يا أبا عبد الله ما مالك؟ قلت: الخير الذي يعرفه أمير المؤمنين، قال: وما عيالك؟ قلت: ثلاث بنيات والمرأة وخادم لهن، قال: فقال لي: أربع في بيتك؟ قلت: نعم، قال: فوالله لردد ذلك حتى ظننت أنه سيمونني، قال: ثم رفع رأسه فقال لي: أنت أيسر العرب، أربع مغازل تدور في بيتك.
نافع بن جبير بن مطعم بن عدي
ابن نوفل بن عبد مناف أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله القرشي المدني قدم دمشق على عبد الملك بن مروان.
حدث عن أبي سريج الخزاعي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ".
وفيه زيادة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه وجائزته يومه وليلته، والضيافة ثلاث، ولا يحل له أن يثوب عنده حتى يحرجه، فما أنفق عليه بعد ثلاث فهو صدقة ".(26/103)
وحدث عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وإذنها صماتها ".
مر عبد الملك بن مروان بقبر معاوية ومعه نافع بن جبير فقال: نشدتك الله ما علمك به؟ قال: كان ينطقه العلم ويسكته الحلم؛ قال: صدقت. وتمثل: " من الطويل "
وما الدهر والأيام إلا كما أرى ... رزية مال أو فراق حبيب
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
قال نافع بن جبير لأبي الحارث بن عبد الله بن السائب - وكان أبو الحارث من فصحاء العرب -: ألا تذهب بنا إلى الحرة نتمخر الريح فقال له أبو الحارث: إنما تمخر الحمير، قال: نستنشئ، قال: إنما تستنشئ الكلاب، قال: فما أقول؟ قال: نتنسم الريح، فقال له نافع بن جبير: صه صه، أنا ابن عبد مناف، فألطه، فقال أبو الحارث: ألصقتك، والله، عبد مناف بالدكادك، ذهبت عليك هاشم بالنبوة وأمية بالخلافة، فتركوك بين فرثها والجبة، أنفاً في السماء وشرفاً في الماء.
فقال ابن أبي عتيق لنافع: يا نافع قد كنت مرجواً قبل هذا، فقال نافع: ما أصنع بمن صح نسبه ومذق لسانه.
كان نافع بن جبير يحج ماشياً وناقته أو راحلته تقاد معه مرحولة.(26/104)
قال نافع بن جبير: ما صخبت بمكة قط، ولا أخرت أفضالي قط، من استقرضنيها أقرضته.
وكان يقضي مناسكه على رجليه.
شوى نافع بن جبير دجاجة، فجاء سائل فأعطاها إياه، فقال له إنسان في ذلك؛ فقال: إني أبغي ما هو خير منها.
قيل لنافع: ألا تشد الجنازة؟ فقال: كما أنت حتى أنوي، ففكر هنيهة، ثم قال: امض.
قال نافع: من لم يشهد الجنازة إلا ليراه أهلها، فلا يشهدها.
وعن نافع بن جبير: أنه قيل له: إن الناس يقولون - كأنه يعني التيه - فقال: والله لقد ركبت الحمار، ولبست الشملة، وحلبت الشاة، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما فيمن فعل ذلك من الكبر شيء ".
جلس نافع بن جبير إلى حلقة العلاء بن عبد الرحمن وهو يقرئ الناس، فلما فرغ، قال: أتدرون لم جلست إليكم؟ قالوا: جلست لتسمع، قال: لا، ولكني جلست إليكم لأتواضع إلى الله بالجلوس إليكم.
وحضرت الصلاة فقدم نافع رجلاً، فلما صلى قال: أتدري لم قدمتك؟ قال: قدمتني لأصلي بكم، قال: لا، ولكني قدمتك لأتواضع إلى الله بالصلاة خلفك.
قال الحجاج لنافع بن جبير، وذكر ابن عمر، فقال الحجاج: أهو الذي قال لي: كذا وكذا، ألا أكون ضربت عنقه؟ فقال له نافع: أراد الله بك خيراً من الذي أردت بنفسك.
قال الحجاج: صدقت.
قال الحجاج: وعمر الذي يقول: إنه سيكون للناس نفرة من سلطانهم، فأعوذ بالله(26/105)
أن يدركني وإياكم ذلك، أهواء متبعة، وما كان عليه لو أدرك ذلك فقال بالسيف هكذا وهكذا، وأشار سفيان عن يمينه وشماله.
فقال نافع: أما إنه كان من خير أمرائكم، قال: صدقت.
قدم نافع بن جبير الكوفة وبها الحجاج، فقال له الحجاج: قتلت عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن مطيع، وعبد الله بن صفوان، وددت أني كنت قتلت عبد الله بن عمر.
فقال له نافع: يا هذا، ما أراد الله بك خير مما أردت بنفسك، فلما خرج لقيه عنبسة بن سعيد، فقال: لا خير لك في المقام عند هذا، فقد كلمته بما كلمته به، فقال: إني لم أرده، إنما أردت الثغر.
فدخل على الحجاج مودعاً، فقال له: لو أقمت عندنا.
فقال: إني لم أردك إنما أردت الثغر إلى دستبا نغزو الديلم.
توفي نافع بن جبير في خلافة سليمان. قالوا: في سنة تسع وتسعين.
نافع بن دريد ويقال ابن ذؤيب
دمشقي.
قال نافع: قدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك، فخرجت برجله قرحة الأكلة، فاجتمع رأي الأطباء على نشرها، وإن لم يفعل قتلته.
فأرسل إلى الوليد يسأله أن يبعث إليه بالأطباء.(26/106)
قال: فأرسلني بهم إليه، فقالوا: نسقيك مرقداً، قال: ولم؟ قالوا: لئلا تحس بما نصنع بك، قال: بل شأنكم بها، قال: فنشروا ساقه بالمنشار، فما زال عضو من عضو حتى فرغوا منها ثم حسموها، فلم نظر إليها في أيديهم تناولها وقال: الحمد لله، أما والذي حملني عليك، إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام قط، ثم أمر بها فغسلت، وحنطت وكفنت، ولفت بقطيفة، ثم أرسل بها إلى المقابر.
نافع بن علقمة النوفلي
من دمشق.
حدث عن أبي قتادة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
" ألا أحدثكم حديث رجلين من بني إسرائيل؟ كان أحدهما يسرف على نفسه، وكان الآخر يراه بنو إسرائيل أنه أفضلهم في الدين والعلم والخلق، ذكر عنده صاحبه فقال: لن يغفر الله له، فقال الله لملائكته: ألا أحدثكم حديث رجلين من بني إسرائيل، كان أحدهما يسرف على نفسه، وكان الآخر يراه بنو إسرائيل أنه أفضلهم في الدين والعلم والخلق، ذكر عنده صاحبه فقال: لن يغفر الله له، ألم يعلم أني أرحم الراحمين؟ ألم يعلم أن رحمتي سبقت غضبي؟ فإني قد أوجبت لهذا الرحمة، وأوجبت على هذا العذاب، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تألوا على الله ".
نافع بن كيسان
قيل: إن له صحبة.
حدث عن أبيه أنه أخبره: أنه كان يتجر في الخمر في زمان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في زقاق يريد به التجارة، فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، إني قد جئت(26/107)
بشراب جيد، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنها قد حرمت بعدك "، قال كيسان: فأذهب فأبيعها يا رسول الله؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنها قد حرمت، وحرم ثمنها "، فانطلق كيسان إلى الزقاق، فأخذ بأرجلها ثم أهرقها.
وفي حديث بمعناه قال: أفلا أبيعها اليهود يا رسول الله؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن بيعها فسق ".
وحدث نافع أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ستشرب من بعدي الخمر، تسمونها بغير اسمها، يكون عونهم على شربها أمراؤهم ".
وحدث نافع قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ينزل عيسى بن مريم عند باب دمشق - قال نافع: ولا أدري أي بابها يومئذ - قال: عند المنارة البيضاء، ليست ساعات من النهار، في ثوبين ممشقين كأنما يتحدر من رأسه اللؤلؤ ".
وفي حديث: " عند باب دمشق الشرقي ".
نافع بن مالك بن أبي عامر
أبو سهيل الأصبحي المدني عم مالك بن أنس.
حدث عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين ".
وفي رواية: " فتحت أبواب الرحمة ".
قال أبو سهيل: سألني عمر بن عبد العزيز عن القدرية: ما ترى فيها؟ قلت: يا أمير المؤمنين،(26/108)
استتبهم، فإن تابوا وإلا فاعرضهم على السيف. فقال عمر: ذلك رأيي فيهم.
قال نافع بن مالك: قلت للزهري: أما بلغك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من طلب شيئاً من هذا العلم الذي يراد به وجه الله ليطلب به شيئاً من عرض الدنيا دخل النار؟ ".
فقال الزهري: لا، ما بلغني هذا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت له: وكل حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغك؟ قال: لا، قلت: فنصفه؟ قال: عسى، قلت: فهذا في النصف الذي لم يبلغك.
نافع أبو عبد الله
مولى عبد الله بن عمر قدم على عمر بن عبد العزيز.
حدث عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم ".
وبه قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نسافر بالقرآن مخافة أن يناله العدو.
وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أعتق من عبده شركاً، فعليه أن يعتق ما بقي ".
وعنه قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية إلى نجد، فبلغت سهامهم اثني عشر بعيراً، فنفلنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعيراً بعيراً.(26/109)
وحدث عنه أيضاً قال: عرضني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد في القتال، وأنا ابن أربع عشرة، فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة فأجازني.
قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز، وهو يومئذ خليفة فحدثته هذا الحديث، فقال: إن هذا لحد بين الصغير والكبير، وكتب به إلى عماله أن يفرضوا لمن كان ابن خمس عشرة، وما كان دون ذلك فاجعلوه في العيال.
وكان نافع من سبي كابل، افتتحها ابن عامر سنة أربع وأربعين، وكان فيه لكنة.
وقيل: كان نافع من سبي نيسابور. وقيل: كان من الجيل وقيل: كان من سبي خراسان، سبي وهو صغير، فاشتراه ابن عمر.
وهو نافع بن هرمز، ويقال: ابن كاوس.
قال نافع: دخلت مع مولاي على عبد الله بن جعفر فأعطى بي اثني عشر ألفاً، فأبى وأعتقني، أعتقه الله من النار.
وكان ابن عمر إذا جاءه بعد ذلك يقول لنافع: لا تأت معي. قال مالك: يخاف أن يفتنه ما يعطيه فيبيعه منه.
وفي حديث: فدخل عبد الله على صفية فقال لها: إنه أعطاني ابن جعفر بنافع عشرة آلاف أو ألف دينار، فقالت: يا أبا عبد الرحمن فما تنتظر أن تبيعه؟ فقال: فهلا ما هو خير من ذلك؟ هو لوجه الله عز وجل.
قال: فكان يخيل إلي أن ابن عمر كان ينوي قول الله عز وجل: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ".(26/110)
قال أبو بكر بن حفص بن سعد بن أبي وقاص: إنه سأل سالم بن عبد الله: من أين كان ابن عمر يشعر البدن؟ قال: من الشق الأيمن، قال: ثم سألت نافعاً فقال: من الشق الأيسر، فقلت لنافع: إن سالماً أخبرني أنه كان يشعر من الشق الأيمن فقال: وهل سالم؟ إنما رأى ابن عمر يوماً وأتي ببدنتين صعبتين، فلم يستطع أن يقوم بينهما، فأشعر هذه من الشق الأيمن، وهذه من الشق الأيسر.
قال: فرجعت إلى سالم، فأخبرته، فقال: صدق نافع، هو كما قال.
قال: وسلوه؛ فإنه أعلمنا بحديث ابن عمر.
وعن نافع قال: لقد سافرت مع ابن عمر بضعاً وثلاثين بين حجة وعمرة.
وعن نافع أنه قال: من يعذرني من زهريكم هذا، يعني ابن شهاب، يأتيني فأحدثه عن ابن عمر، ثم يذهب إلى سالم بن عبد الله، فيقول: هل سمعت هذا من ابن عمر؟ فيقول له: نعم، فيحدث عن سالم، والسياق من عندي.
قال محمد بن إسماعيل: أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر.
قال خصيف: سألت سعيد بن جبير عن الذي رواه نافع عن ابن عمر في قوله عز وجل: " فأتوا حرثكم أنى شئتم " فقال سعيد: كذب نافع، أو قال: أخطأ نافع، ثم قال لي خصيف: إن ابن عمر لم يكن يرى العزل، فأي عزل أشد مما قال نافع؟ ثم قال خصيف الأموي: إنه قال: " فإذا تطهرون فأتوهن من حيث أمركم الله " يقول: من حيث أمرت أن تعتزل في المحيض.(26/111)
وفي رواية: يقال: كذب العبد: أو أخطأ العبد، إنما كان ابن عمر يقول: بأنها مقبلة ومدبرة في الفرج.
وفي حديث بمعناه: إن عبد الله بن عمر كان يحدث أن النساء كن يؤتين في أقبالهن وهن موليات، فقالت اليهود: من جاء امرأته وهي مولية جاء ولده أحول؛ فأنزل الله جل ثناؤه: " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ".
وقيل: إن نافعاً إنما حدث حديثه في إتيان الدبر بعدما كبر وذهب عقله.
توفي نافع سنة ثلاث عشرة ومئة، وقيل: سنة سبع عشرة، وقيل: سنة ثمان عشرة، وقيل: سنة عشرين ومئة، وقيل: سنة تسع عشرة ومئة.
نافع والد المنذر بن نافع
مولى ابن عمر وبنت مروان بن الحكم قال نافع: خرج واثلة بن الأسقع يريد بيت المقدس، فلقيه كعب الأحبار في جيرون، فقال له: يا أبا الأسقع، أين تريد؟ قال: أردت أن أصلي في بيت المقدس إن شاء الله، فقال له: يا أبا الأسقع، أنا أدلك على موضع في مسجدنا هذا، إذا صليت فيه كان كصلاة في بيت المقدس، قال: نعم، قال: وأخذ بيده وصعد من الدرج، فأدخله المسجد، فأدخله الحنية الغربية إلى حد الباب الأصفر الذي يخرج منه الوالي، فأوقفه عندها، ثم قال له: صل ههنا، فإن صلاتك ههنا صلاتك في بيت المقدس، ثم انتزع يده من يده، ثم مضى.(26/112)
نبيه بن صوان
أبو عبد الرحمن المهري له صحبة، وشهد الجابية مع عمر.
قال نبيه: قدم رجل من حمير على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقام عنده، ثم مات، فقال: اطلبوا له وارثاً مسلماً، فلم يوجد؛ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادفعوا ميراثه إلى رجل من قضاعة، فدفع إلى عبد الله بن أنيس.
زاد في آخر: كان أقعدهم في النسب يومئذ عبد الله بن أنيس.
قال نافع: أخبرني رجل من أهل مصر أنه صلى مع عمر بن الخطاب الفجر بالجابية، فقرأ السورة التي يذكر فيها الحج، فسجد فيها سجدتين. قال نافع: فلما انصرف قال: إن هذه السورة فضلت بأن فيها سجدتين، وكان ابن عمر يسجد فيها سجدتين. قيل: إن الرجل المصري هو نبيه.
وفد نبيه على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد فتح مصر، واختط بها، وكان أحد الأربعة الذين أقاموا قبلة جامع فسطاط مصر.(26/113)
نجاح بن سلمة بن نجاح بن عتاب بن نهار
قدم نجاح دمشق في صحبة المتوكل، وكان يتولى ديوان التوقيع له.
كان رجل من دهاة الكتاب وفضلائهم ولي بعض النواحي، وكان عاملاً عليها، فطولب بالحساب فدافع به حتى انقرضت دولة المأمون والمعتصم والمتوكل والواثق، وقد ولي في هذه المدة أحد عشر وزيراً، يطالب في كل وقت ويدافع ويصانع وينسحب ويتحيل إلى أن ولي نجاح بن سلمة الوزارة، فوقع ذكره إليه ذات يوم، فسأله عنه، فقيل له: أيها الوزير، هذا رجل يطلب فلا يقدر عليه، فنظر نجاح إلى رجل بين يديه، فقال له: احلف بحق رأسي أنك تطلب هذا الرجل حيث كان، وأنك إذا رأيته لم تتركه يأكل خبزاً ولا يصلي ولا يعمل شيئاً دون إحضاره الديوان؛ - وكان الرجل يعرف بمحمد بن مسلمة الواسطي -. فحلف برأسه أن يفعل جميع ما أمر به الوزير.
ومضى في طلبه، وكان جزلاً متحركاً ذا حيلة ولطف، فلم يزل يتوصل إلى أن وقع في يديه، وكان واسع الحيلة، فبذل له مالاً كثيراً فامتنع عليه فلما لم ير له فرجاً عنده، صار معه إلى دار الوزير، فصادفه قد ركب إلى دار السلطان، فجلس في بعض المواضع ينتظر رجوعه.
وكان محمد بن مسلمة صفراوياً لا يصبر على الجوع، فجاع جوعاً شديداً كاد أن يتلف منه، فقال للرجل: يا هذا، أنا والله جائه، ومنزلي قريب، فصر معي لنأكل خبزاً ونرجع إلى حين يعود الوزير، فقال: لا، قال: فاشتر لي شيئاً آكله، فما معي فضة، فقال له: ما معي فضة أيضاً، قال: اقترض لي درهماً بدينار، فقال: لا أفعل، كل ذلك والرجل يفزع من اتساع تحيله، وخوف بعد حصوله أن يفلت منه.(26/114)
وزاد الجوع على محمد بن مسلمة، فإذا هو بغلام كما عذر، حسن الوجه، فأومأ إليه، فجاءه فعرفه خبره، فقال له الغلام: عندي ما تأكل، قم، فأخذ بيده، وأدخله إلى بعض الصحون اتلي يجلس فيها الوزير، فأجلسه في صفة مقابلة للمجلس، وقال للغلمان: هاتوا.
فأحضرت مائدة عليها من النوادر التي لم ير أحسن منها. ومن سائر ما يكون للمعد، ونقل الطعام الحار والبارد والمشوي، والرجل يأكل أكل جائع، فإذا الوزير نجاح قد دخل، فالتفت إلى الصفة، فرآه فتبسم، ومضى إلى المجلس، وقال لبعض الغلمان: امض إلى الرجل فأقره مني السلام، وقل له: بحياتي عليك إن احتشمت، وكل حتى تستوفي ما تحتاج إليه.
فرد الرسول إليه، وقال: وحق رأسك، لا قصرت فيما أمرت به، وتشاغل عنه بما يحتاج إليه، والرجل يجيد الأكل، فنقل إليه من الحلوى شيء كثير، فلما فرغ وغسل يديه جاءه الغلام بالبخور فتبخر.
واستدعاه الوزير، فقال له: الحساب، فأخرجه إليه، ونظر فيه ساعة، ثم قال له: بارك الله فيك، إن أستاذي في الكتبة عمرو بن مسعدة، والله الذي لا إله إلا هو إن كان يحسن يعمل مثل هذا في صحنه، وفتح الدواة، ووقع على كل فصل منه صح، صح إلى آخره، فقبل محمد بن مسلمة يده، فقال: عد إلى أهلك آمناً، وأسرع إليهم.
وقام لينصرف، فلما بعد قال للغلام رده، فرده، فقال له: يا محمد، اجلس، إني لم أردك إلا لشيء أوصيك به في ثلاث حوائج لي، فقال: يأمر الوزير بما يشاء، قال: حاجتي إليك أولاً أني أعلم أن جيرانك لما غبت عنهم هذا الزمان، وأنت منسحب، منهم من بنى فزاد عليك في السمك، ومنهم من ترك خشبة في حائطك، ومنهم من حفر بئاً بقرب دارك، فبحسناتي عليك، إن استطلت عليهم بقربك مني، ومنزلتك عندي، واجعل هذه ثلث ما أردت أخذه منك. وأصدقاؤك وإخوانك ومعاشروك تقول: غبت فسبوني(26/115)
وذكروني، فإذا لقيتم، فالقهم بوجه من بلغك عنهم كل جميل، وابسط خلقك لهم بسط غير متكلف، وعاشرهم بأحسن معاشرة، ولا تشمخ عليهم بما عاملوك به، واجعله ثلث ما أردت أخذه منك. واحرص كل الحرص ألا يرفع أحد من أصحاب الأخبار إلي عنك ذماً ولا مدحاً، وأخمل نفسك فتسلم، واجعل هذا ثلث ما أردت أخذه منك.
وكان الوزير لما رأى " محمد بن " مسلمة يأكل، سأل عن السب، فعرفوه خبره وما عمله الغلام، وكان الغلام مملوكاً له، قريب المنزلة منه، فعتقه، ووهب له عشرة غلمان، وجعل أرزاقهم تحت يده، وحمله على عشرة براذين وخلع عليه عشر خلع.
ثم كتب رقعة إلى محمد بن مسلمة بعد يومين: يا محمد، لا تنكرنا، خبرنا برك واحتفادك، واحسب ما تستحقه منا، لكن لنا في ذلك رأي يتبين لك بعد وقت آخر.
فلما كان بعد مدة خاطب فيه الواثق، وعرفه صحة حسابه وفضله وثقته وشهامته؛ فقلده واسط وأعمالها، وأكسبه ثلاث مئة ألف دينار في مدة يسيرة، وكان يقول: ما بلغنا في محمد بن مسلمة ما يستحقه منا لما فعله.
كان نجاح قد خص بالمتوكل، وأنس به، وعاشره، فقال المتوكل، وقد ذكره الفتح وهو مقيم بالجعفري، ويحك ألا ترى إلى نجاح، قعد بسر من رأى وتركنا ههنا؟ ابعث فأشخصه بجماعة يجيئون به على الحال التي يجدونه عليها، فوجه إليه بجماعة، فألفوه يشرب، فحملوه في ثياب بذلته، وجاؤوا به إلى المتوكل، فلما رآه قال: ويلك! تدعنا ههنا، وتمر إلى سر من رأى؟ قال: نعم يا سيدي، أدعك إذا لزمت الصحارى والخرابات وأمضي إلى معادن الأموال والخيرات، جئتك وخلفت ورائي مالاً عظيماً لائحاً يصيح: خذوني، وليس يجد من يأخذه، فقال له: عند من ويلك؟! قال: عند الحسن بن مخلد، وميمون بن غبراهيم، ومحمد بن موسى المنجم، وكان يتقلد الزرع والهندسة في الآفاق، وأحمد بن موسى وكان قد تقلد أعمالاً كثيرة.(26/116)
فقال المتوكل: فما عندك في عبيد الله بن يحيى؟ فسكت، فأعاد عليه القول، وقال له: بحياتي قل ما عندك فيه. فقال: حلفتني بحياتك، ولا بد من صدقك: قد كان على طريقة مستقيمة حتى صاغ صوالجة وكرات من ثلاثين ألف درهم، فقلت له: أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يضرب بكرة جلود وصولجان خشب، وأنت تريد أن يكون ذلك من فضة؟.
فالتفت إلى الفتح فقال: يا فتح، ابعث فأحضرهم كلهم.
فكتب الفتح بالخبر إلى عبيد الله على ما جرى، ووجه إلى الجماعة في الحضور، فحضرت وتشاورت بينها، ورأت أنها قد بليت من نجاح ببلية لا تقاوم؛ فاتفقت على البعثة إليه بأحمد بن إسرائيل برسالتهم معاتباً على ما قاله ومقبحاً ما أتى، فأدى إليه أحمد الرسالة عن الجماعة، فقال: يا أبا جعفر، وتلومني على ما فعلت، وقد تركت الكتابة، وسمحت بمفارقة الصناعة، وصرت نديماً وملهياً، وهم لا يدعون الطعن على قطائعي، وأذاي في ضياعي، ومعارضتي في سائر أموري، والله الذي لا إله إلا هو، لا فارقتهم أو أتلفهم أو أتلف.
فانصرف أحمد إلى عبيد الله والجماعة، فعرفهم، فقال عبيد الله: قد صدق في كل ما قال، فتضمن له عني كل ما يحب، واحتل في أن تأخذ رقعته إلي بالذي جرى منه على جهة الغلط ومن حمل النبيذ له على ذلك، وأنه سيصلح ما أفسد ويسعى في إزالة ما وقع في قلب أمير المؤمنين، فرجع إليه أحمد وتلطف به وضمن له، ولم يبرح حتى أخذ رقعته بذلك.
ثم دخلوا جميعاً إلى المتوكل، فلما وقفوا بين يديه قال لهم ما قال نجاح، وهم بأن يدعو به ليناظرهم، فقال له عبيد الله: يا سيدي، قد كتب إلي يعتذر ويزعم أن النبيذ حمله على ما كان منه، وهذه رقعته بذلك، وهؤلاء خدم أمير المؤمنين، فإذا حدثت عليهم حادثة لم يؤخذ منهم عوض، وهم أصحاب المملكة والمتصرفون فيها، فإذا أوقع بهم فمن يقوم بالأعمال؟ ونجاح، فإنما بذل أن يضمن هذه الجماعة لينفرد وحده، ويتمكن من كتاب المملكة. وهم يضمنونه وحده بما بذل عنهم جميعاً، ولا يزول عن المملكة إلا كاتب واحد.(26/117)
فاغتاظ المتوكل، وقال: إنما كذبني وغرني، وتقدم بتسليمه إليهم، وأن يخلع عليهم، فانصرفوا وهو بين أيديهم، فجمعوا بينهم صدراً من المال مال الضمان وحملوه، لأن مال نجاح لم يكن يفي بما ضمنوه عنه، وبسطوا عليه الضرب والعسف والتضييق.
وسأل المتوكل عنه الفتح مرات، وبلغ الخبر خبر ضربهم إياه، فقال لعبيد الله: إن أمير المؤمنين قد سألني عن نجاح ثلاث دفعات، وقد وقفت على ضربكم إياه، ولست آمن أن يتلف فينكر علي تركي تعريفه خبره، ولا بد من إخباره به، فدفعه عن ذلك، فلم يندفع، فقال له: أنت أعلم، فخبر المتوكل أنه مضيق عليه مضروب مقيد، فقال المتوكل: لا، ولا كرامة، تقدم بإحضار الحسين بن إسماعيل بن أخي إسحاق بن إبراهيم، وكان يتقلد الشرطة، بحضرته، فقال له: اقبض على نجاح فاجعله عندك، ووسع عليه، ولا يوصل إليه بسوء إلا بإذني.
ففعل ذلك وحماه، فلما رأت الجماعة ذلك أيقنت بالهلاك، ولم تشك أن نجاحاً سيعمل الحيلة عليهم، ففكروا في الاحتيال عليه إلى أن وجدوا عملاً عمله الحسين بن إسماعيل في وقت تقلده فارس، ألزمه فيه عشرين ألف ألف درهم.
وقيل: إنهم زوروا العمل، وادعوه على نجاح، فلما وقع في أيديهم أحضروا الحسين فأقرؤوه العمل، ثم قالوا له: أيها أحب إليك: نجاح أم نفسك؟ إما كفيتناه وإما أنفذنا هذا إلى أمير المؤمنين حتى يتقدم بمطالبتك به؛ فقال لهم: قد كفيتم.
وانصرف إليه، فوضع عليه فقتله في ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومئتين.
فلما عرفوا خبره صاروا إلى المتوكل ليخبروه بموته، وهم وجلون مما سيرد عليهم منه، فتلقاهم الفتح، فأخبروه، فقال لهم: إنه كان البارحة في ذكره، وسيتهمكم.
وجاءهم رجاء الزيادي بإزار منام المعتز، وفيه أثر احتلامه في تلك الليلة، فلما رآه عبيد الله قال: توقف قليلاً حتى أدخل قبلك، قال: أخاف أن تبشره أنت بهذه النعمة، فقال: لا والله، لا فعلت.
ودخل عبيد الله والجماعة، وتوقف رجاء، فلما استقروا دخل رجاء الزيداني بالإزار، وعرفه الخبر، فخر ساجداً لله.(26/118)
وابتدأ عبيد الله فهنأه، ودعا له، ووصل كلامه بأن قال: وقد طهر الله الأرض البارحة من عدو أمير المؤمنين، قال: ومن هو؟ قال: نجاح، قال: فعلتموها يا عبيد الله؟ قال: يا سيدي، هذا يوم فعلتموها أو يوم سرور وشكر وصدقة؟.
ونهض وقد تشاغل المتوكل باحتلام المعتز، ودخل إلى فتيحة، فوجه الكتاب إلى فتيحة: الله الله، أشغلته عنا يومين ثلاثة؟ وانصرفوا فجمعوا صدراً من المال الذي بقي عليهم، فحملوه، وكتبوا إليه بخبره، فتناساه، ولم يعد عليهم بسببه مكروه.
وذكر أن عبيد الله والكتاب عرفوا المتوكل أن نجاحاً قد ألط بالمال لنفسه بانقباض اليد عنه، وسألوه الإذن لهم في ضربه عشرة مقارع، لا يزيدون عليها فيها، ليعلم أن اليد منبسطة عليه فأذن في ذلك، وحظر تجاوزه، وإنه لما بطح أخرجت إحدى أنثييه من بين فخذيه، وتعمدت بالضرب عليها، فمات في سبعة مقارع.
وكان فيمن أخذ من أبنائه عبيد الله بن مخلد، فضرب بالمقارع وحبس، وأخذ جميع ما ملكه، وكان ابنه الحسين مستتراً فظفر به فضرب وحبس، وأخذ جميع ما ملكه، وأخذ من وكيله ابن عياش عشرون ألف دينار.
وقال أبو علي البصري في نجاح: " من المتقارب "
لئن كان نجم نجاح هوى ... وزلت به للحضيض القدم
فأصبح يحكم فيه الرجال ... وبالأمس عهدي به يحتكم
لما كان ذلك حتى اشتكته ... وضجت إلى الله منه النعم
وحتى لأوجس منه الثري ... خؤوفاً كما أوجس المتهم
وما للشقي إذا ما اشتكى ... وأبدى تأسفه والندم
أكنت ترى الله في حلمه ... وطول تأنيه لا ينتقم
وهل رحم الناس إلا امرأ ... إذا ما هم استرحموه رحم(26/119)
وفاتك فيها حياة الأنام ... وعصمة أموالهم والحرم
وفيها فتوح على المسلمين......
فلا يرقأ الله عيناً بكتك ... ولا سحت الدمع إلا بدم
نجا بن أحمد بن عمرو بن حرب بن عبد الله
أبو الحسن العطار المعدل حدث عن أبي الحسن علي بن موسى بن الحسين بن التمار بسنده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لم أر للمتحابين مثل التزويج.
كان نجا بن أحمد خرج لنفسه معجماً لأسماء شيوخه، فيه من الخطأ والتصحيف ما الله به عليم.
قال: ومن أعجب شيء رأيته فيه أنه ذكر في باب اللام ألف من حروف المعجم حين أعوزه ذكر شيخ ابتداء اسمه لام ألف: " من الكامل "
لا والذي خلق السموات العلا ... أفضل من المبعوث بالآيات
خير البرية كلها وأتقاهما ... ذاك النبي محمد المبعوت
قال: وهذا غاية ما يكون من الجهل، وأشنع ما يكون من سخيف الشعر والعقل.
توفي أبو الحسن نجا سنة تسع وستين وأربع مئة.(26/120)
نجا بن سعيد بن حمزة
أبو الفوارس الصفار، المعروف بفارس بن أبي لقمة حدث عن أبي الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أراد أن يشرف الله تعالى له البنيان، وأن يرفع له الدرجات يوم القيامة فليعف عمن ظلمه، وليعط من حرمه، وليصل من قطعه، وليحلم عمن جهل عليه.
توفي نجا سنة تسع وثلاثين وخمس مئة، وكان شيخاً مستوراً، لم يكن ممن يفهم.
نجبة بن الأسود الغساني
شاعر مجيد جاهلي، قال في وقعة كانت بين غسان وبين الروم، وسليح ومن انحاز إليهم من نصارى العرب بين بصرى والمجفف، وهي أرض بين البرية والريف: " من الوافر "
ألم يبلغك والأنباء تنمى ... بظهر الغيب ما لاقى سنيط
تحلق إذ سما جذع إليه ... وجذع في أرومته وسيط
بضربة ماجد كشفت غطاء ... تدر عروقه قان عبيط
سنيط هذا: هو سنيط بن عوف الضجعمي ثم السليحي القضاعي كان عاملاً للروم، وكان جاء إلى غسان يستوفي منهم الإتاوة، فقتله جذع بن سنان الغساني.(26/121)
نجم بن عبد المنعم بن الحسن بن الخضر
أبو الثريا الحلبي المعروف بابن أبي درهم، الشاعر كان متعصباً في السنة مظهراً لها بحلب.
من شعره " من السريع "
جردت سكينك ظلماً وقد ... أغناك ما جردت من مقلتيك
فاقطع بها ما شئت مني سوى ... شغاف قلبي فهو ستر عليك
ومن جيد شعره: " من الخفيف "
أنا صاحي الفؤاد ما دمت سكرا ... ن وسكران إذا كنت صاحي
وأبوه الشائم شيخ من بالس، ابن رومي الزمان في الهجو، دهان يزوق، يوقع بالعود بيده اليسرى، ولا يغيره أوتاره.
نجيب بن عماد بن أحمد
أبو السرايا بن أبي فراس الغنوي حدث سنة سبع وخمسين وأربع مئة عن أبي محمد بن أبي نصر بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا استغفروا.
كان أبو السرايا هشاً خفيف الروح، له شعر جيد، فمنه ما قال يمدح به الدريدي ويذكر قتله صالح بن مرداس. " من الخفيف "
أفسدت صالحاً وأصلحت الفا ... سد أسيافك العضاب المواضي
وأنالتك في حروبك والسل ... م قصارى الآراب والأغراض
توفي أبو السرايا سنة تسع وخمسين وأربع مئة.(26/122)
نخار بن أوس بن أبيز بن عمرو
ابن عبد الحارث بن لأي بن عبد مناف بن الحارث بن سعد بن هذيم القاضي وفد على معاوية، وكان أنسب العرب، فازدراه معاوية، وكان عليه عباءة، فكلمه، فأعرض عنه؛ فقال: يا معاوية، إن العباءة لا تكلمك، إنما يكلمك من فيها؛ فأقبل عليه.
قال معاوية للنخار العذري، وكان أعلم أهل زمانه: أبغني محدثاً قال: أتبغي معي أحداً؟ قال: نعم، أستريح منك إليه، ومنه إليك، واجعله كتوماً؛ فإن الرجل إذا أمن الرجل ألقى إليه عجره وبجره.
العجر في البطن، والبجر في الرأس.
نشبة بن حندج بن الحسن بن عبد الله بن
خالد بن يزيد بن صالح بن صبيح بن الحساس بن معاوية بن سفيان أبو الحارث المري من الغوطة.
حدث بقصر ابن عمر سنة خمسين وثلاث مئة أنه وجد في كتاب جده الحسين بن عبد الله بسنده إلى أبي أمامة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اقرؤوا القرآن، فإن الله لا يعذب قلباً وعى القرآن.
حندج: بحاء مهملة مضمومة، وآخره جيم.
نصر الله بن محمد بن عبد القوي
أبو الفتح بن أبي عبد الله المصيصي اللاذقي الفقيه الشافعي الأصولي الأشعري سكن دمشق، وكان صلباً في السنة متجنباًلأبواب السلاطين.(26/123)
حدث عن أبي منصور محمد بن أحمد بن علي بن شكرويه بسنده إلى عمرو بن الحارث ختن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخي جويرية، قال: والله ما ترك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند موته ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة.
توفي أبو الفتح سنة اثنتين وأربعين وخمس مئة.
ومولده سنة ثمان وأربعين وأربع مئة.
نصر بن أحمد بن سهل بن الأزهر
أبو القاسم المدائني حدث عن أبي بكر محمد بن حريم بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج المخلص، وإذا كان ليلة مزدلفة غفر الله للتجار، وإذا كان يوم منى غفر الله للحمالي، وإذا كان عند الجمرة غفر الله للسؤال، ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال: لا إله إلا الله، إلا غفر الله له.
نصر بن أحمد بن الفتح بن هارونان
أبو القاسم الهمداني المؤدب حدث بسنده إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما النجاة من هذا الأمر الذي نحن فيه؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وإني رسول الله.
توفي أبو القاسم نصر سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة بدمشق.(26/124)
نصر بن أحمد بن محمد بن عجل
أبو القاسم العجلي حدث عن أبيه بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.
نصر بن أحمد بن مقاتل بن مظكود
ابن أبي نصر تمريار أبو القاسم بن أبي العباس بن أبي محمد بن السوسي حدث عن أبي القاسم بن أبي العلاء بسنده إلى عبادة بن الصامت: أنه بايع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ألا يخاف في الله لومة لائم.
وحدث عن أبي الفرج سهل بن بسر بسنده إلى منصور الفقيه أنه قال: " من البسيط "
يا راكب الهول والآفات والهلكه ... لا تتعبن فليس الرزق بالحركه
من غير ربك في السبع العلا ملك ... ومن أقام على أرجائها ملكه
سبحانه من لطيف في مشيئته ... أدار فينا بما قد شاءه فلكه
أما ترى البحر والصياد منتصب ... في ليله ونجوم الليل مشتبكه
قد شد أطرافه والموج يضربه ... وعينه بين عيني كلكل الشبكه
حتى إذا صار مسروراً به فرحاً ... والحوت قد شك سفود الردى حنكه
غدا عليك به صفواً بلا تعب ... فصرت أملك منه للذي ملكه
صنعاً من الله يعطي ذا بحيلة ذا ... هذا يصيد وهذا يأكل السمكه
وحدث أبو رجاء بسنده إلى أبي بكر بن سختويه " من الراجز "
إن المزاح ينبت الضغينه ... وحمل ضغن في الحشا مؤونه(26/125)
وكثرة الضحك من الرعونه ... والصمت عن فضل الكلام زينه
توفي نصي بن السوسي سنة ثمان وأربعين وخمس مئة.
نصر بن إبراهيم بن نصر
ابن إبراهيم بن داود أبو الفتح المقدسي الفقيه الشافعي الزاهد كان فقيهاً فاضلاً.
قدم دمشق، ولم يقبل من أحد من أهلها صلة، وكان يقتات من غلة تحمل إليه من أرض كانت له بنابلس، يجر له منها كل ليلة قرص. وكان متقللاً تاركاً للشهوات.
حدث عن أبي الحسن محمد بن عوف بسنده إلى سالم عن أبيه قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذا المنبر يقول: من جاء منكم الجمعة فليغتسل.
وحدث عن عبد الله السقاء، شيخ صالح كان يجاوز الجامع ببيت المقدس، قال: كنت أقرأ كل ليلة سورة " قل هو الله أحد " مئتي مرة ولا أقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " فرأيت في بعض الليالي مئتي شاة مقطعة الرؤوس، وقائلاً يقول لي: هذه لك، فقلت فلم هي مقطعة الرؤوس؟ فقال: لأنك لم تقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم ".
توفي أبو الفتح الزاهد سنة تسعين وأربع مئة، وذكر الدمشقيون أنهم ما رأوا جنازة مثل جنازته، وأقاموا على قبره سبع ليال، تقرأ كل ليلة عشرون ختمة.
نصر بن الحجاج بن علاط
السلمي البهزي شاعر كانت لأبيه صحبة.(26/126)
قال معاوية بن أبي سفيان ذات يوم: إنه قد ذهب مني لذة كل شيء إلا الحديث، فانظروا من بالباب، قالوا: معن بن يزيد ونصر بن حجاج السلميان، فأذن لهما.
فلما دخلا، قال: أتدريان لم بعثت إليكما؟ قالا: نعم، لم يبق لك رحم في العرب إلا وصلتها؛ فأردت أن تصلنا، قال: ليس لهذا بعثت إليكما، ولكنه قد ذهب مني لذة كل شيء إلا لذة الحديث، فقالا: فقرئنا فيما شئت من أمر الجاهلية والإسلام، فإن شئت أن نرقق لك رققنا، وإن شئت أن نصدقك صدقناك.
قال: فحمد الله معاوية وأثنى عليه، ثم قال: أنا خير قريش لقريش، ولو أن أبا سفيان ولد الناس لكانوا أكياساً.
قال: فحمد الله السلميان، ثم قالا: قد ولد الناس من هو خير من أبي سفيان آدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمنهم الأحمق والكيس، وأما خير قريش لقريش فمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما أنت فيه فمن ذلك، وأما أنت فشر قريش لقريش، أطغيت برها، وأكفرت فاجرها، كأنا بهم قد سألوا من بعدك ما سألوك فضربت أعناقهم، ثم ألقوا في السكك، فكانوا كالرقاق المنتفخة.
فقال معاوية: هل سمع منكما هذا الكلام أحد غيري؟ قالا: لا، قال: فاخرجا، ولا يسمعنه منكما أحد.
بينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات ليلة يعس في زقاق من أزقة المدينة فإذا امرأة تقول: " من البسيط "(26/127)
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
فلما أصبح سأل عنه، فإذا هو من أحسن الناس شعرة وأصبحه وجهاً، فأمر عمر أن يطمر شعره، ففعل، فخرجت جبهته، فازداد حسناً، فأمره عمر أن يعتم، فازداد حسناً؛ فقال عمر: لا، والذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض أنا بها.
فأمر له بما يصلحه، وسيره إلى البصرة، فنزل على مجاشع بن مسعود، وكان خليفة أبي موسى، وكان لمجاشع امرأة جميلة شابة، فبينا الشيخ عنده نصر بن حجاج إذ كتب في الأرض: أنا والله أحبك، فقالت هي، وهي في ناحية البيت: وأنا والله، فقال الشيخ: ما قال لك؟ فقالت: قال لي: ما أصفى لقحتكم هذه! فقال الشيخ: ما أصفى لقحتكم هذه، وأنا والله، ما هذه لهذه.
أعزم عليك لما أخبرتني، قالت: إما عزمت فإنه قال: ما أحسن سوار بيتكم! فقال: ما أحسن سوار بيتكم، وأنا والله، ما هذه لهذه.
ثم حانت منه التفاتة، فإذا هو بالكتاب، ثم قال: علي بغلام من المكتب، فقال: اقرأه، فقال: أنا والله أحبك.
فقال: أنا والله أحبك! فقلت أنت: وأنا والله. هذه لهذه.
اعتدي، تزوجها يا بن أخي إن أردت.
وكانوا لا يكتمون من أمرائهم شيئاً، فأتى أبا موسى فأخبره، فقال: أقسم بالله، ما أخرجك أمير المؤمنين من خير، اخرج عنا.
فأتى فارس، وعليها عثمان بن أبي العاصي الثقفي، فنزل على دهقانة، فأعجبها؛ فأرسلت إليه.
فبلغ ذلك عثمان بن أبي العاصي؛ فبعث إليه، فقال: ما أخرجك أمير المؤمنين وأبو موسى من خير، اخرج عنا؛ فقال: والله، لئن فعلتم هذا لألحقن بالشرك.(26/128)
فكتب عثمان إلى أبي موسى، وكتب أبو موسى إلى عمر؛ فكتب عمر أن جزوا شعره، وشمروا قميصه، وألزموه المسجد.
وقيل: إن دعا بإناء أكفأه على ما كتب، ودعا كاتباً، فقرأه، فإذا هو: إني أحبك حباً، لو كان فوقك لأظلك، ولو كان تحتك لأقلك.
وبلغ نصراً ما صنع مجاشع، فاستحى، فلزم بيته، وضني حتى صار كالفرخ؛ فقال مجاشع لامرأته: اذهبي إليه، فأسنديه إلى صدرك، وأطعميه الطعام بيدك، فأبت، فعزم عليها، فأسندته إلى صدرها، وأطعمته الطعام بيدها.
فلما تحامل خرج من البصرة، وخشيت المرأة التي سمع منها عمر أن يبدر من عمر إليها شيء، فدست إليه أبياتاً: " من البسيط "
قل للإمام الذي تخشى بوادره ... مالي وللخمر أو نصر بن حجاج
إني عنيت أبا حفص بغيرهما ... شرب الحليب وطرف فاتر ساجي
إن الهوى زمه التقوى فحبسه ... حتى أقر بإلجام وإسراج
لا تجعل الظن حقاً أو تيقنه ... إن السبيل سبيل الخائف الراجي
فبكى عمر وقال: الحمد لله الذي حبس التقوى الهوى.
وأتى على نصر حين، واشتد على أمه غيبة ابنها عنها؛ فتعرضت لعمر بين الأذان والإقامة، فقعدت له على الطريق، فلما خرج يريد صلاة العصر، قالت: يا أمير المؤمنين، لأجاثينك بين يدي الله، ثم لأخاصمنك، أيبيت عبد الله وعاصم إلى جنبك، وبيني وبين ابني الفيافي والمفاوز والجبال؟(26/129)
فقال لها: يا أم نصر، إن عبد الله وعاصماً لم تدنف بهما العواتق في خدورهن.
وانصرفت، ومضى عمر إلى الصلاة، فأبرد بريداً إلى البصرة، فمكث بالبصرة أياماً، ثم نادى مناديه: من أراد أن يكتب إلى المدينة فليكتب، فإن بريد المسلمين خارج، فكتب الناس، وكتب نصر بن حجاج: سلام عليك، أما بعد يا أمير المؤمنين: " من الطويل "
لعمري لئن سيرتني وحرمتني ... فما نلت من عرضي عليك حرام
أأن غنت الذلفاء يوماً بمنية ... وبعض أماني النساء عرام
ظننت بي الأمر الذي ليس بعده ... بقاء فما لي في الندي كلام
ويمنعني مما تقول تكرمي ... وآباء صدق سالفون كرام
ويمنعها مما تمنت صلاتها ... وحال لها في قومها وصيام
فهاتان حالانا فهل أنت راجعي ... فقد جب منا غارب وسنام
فقال عمر: أما ولي إمارة فلا، وأقطعه مالاً بالبصرة وداراً.
قال أبو بكر: رحم الله عمر ما كان أنظره بنور الله في ذات الله وأفرسه، كان والله كما قال الشاعر: " من الطويل "(26/130)
بصير بأعقاب الأمور برأيه ... كأنه له في اليوم عيناً على غد
وكانت امرأة مجاشع يقال لها الخضيراء، وقيل: إنها شميلة بنت جنادة بن أبي أزيهر، حليف بني مخزوم.
نصر بن الحجاج القرشي
حدث عن الأوزاعي بسنده إلى أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يبعث أهل الجنة في صورة آدم عليه السلام، ميلاد ثلاثة وثلاثين مرداً جرداً مكحلين.
نصر بن الحسن بن زكريا
ويقال: ابن الحسن بن القاسم أبو القاسم الجزري حدث بدمشق عن عبد الرحمن بن أبي نصر بن العفيف بسنده إلى عثمان أنه توضأ فقال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ مرة مرة.
وحدث عن عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم بن معروف بسنده إلى محارب قال: دخلنا على جابر بن عبد الله فقدم إلينا خبزاً وخلاً، ثم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: نعم الإدام الخل.
توفي أبو الفتح نصر بن الحسن سنة أربع وستين وأربع مئة.(26/131)
نصر بن الحسن بن أبي القاسم
ابن أبي حاتم بن الأشعث أبو الليث وأبو الفتح الشاشي التنكتي التاجر حدث عن أبي بكر أحمد بن منصور بن خلف المعري بسنده إلى جابر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا علة ولا مطر.
توفي أبو الليث سنة ست وثمانين وأربع مئة، ومولده سنة ست وأربع مئة.
نصر بن الحسين بن سليمة
أبو القاسم الطبري حدث عن عبيد الله بن محمد بن أحمد بن جعفر السقطي بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ما أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأة تقضي الصلاة وهي حائض.
توفي أبو القاسم الطبري سنة ست عشرة وأربع مئة.
نصر بن الحسين
أبو الفتح المروزي الفقيه المقرئ الواعظ حدث بدمشق سنة خمس وثمانين وأربع مئة عن أبي عاصم الفضيل بن يحيى بن الفضيل بن محمد الفضيلي بسنده إلى جابر قال: استأذنت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من هذا؟ فقلت: أنا، فقال: أنا، أنا، كأنه كرهه.(26/132)
نصر بن حمزة بن مالك بن الهيثم
الخراساني ولي إمرة دمشق في خلافة المأمون.
قال الفيض الغساني: صلى بنا عبد الله بن كثير القارئ، فقرأ: " وإذا قال إبراهام لأبيه "، فبعث إليه نصر بن حمزة، وكان الوالي بدمشق فخفقه بالدرة خفقات، ونحاه عن الصلاة.
قال: وهذا الفعل جعل من نصر بن حمزة، فإن هذه قراءة عبد الله بن عامر قارئ أهل الشام.
مات نصر بن حمزة سنة أربع وثلاثين " ومئتين ".
نصر بن زكريا أبو عمرو البلخي
حدث عن أبي رجاء البغلاني بسنده إلى زينب الثقفية أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيباً ".
وحدث عن هشام بن عمار بسنده إلى ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ثلاث من كن فيه أو واحدة منهن فليتزوج من الحور العين حيث شاء: رجل اؤتمن على أمانة فأداها مخافة الله، ورجل خلى عن قاتله، ورجل قرأ في دبر كل صلاة " قل هو الله أحد " عشر مرات.(26/133)
نصر بن شاكر بن عمار
أبو رجاء، والد أحمد بن أبي رجاء حدث عن جرير بسنده إلى عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي قال: إن تمام التحية المصافحة.
وحدث عنه بسنده إلى عبد الله بن عيسى قال: كان يقول: من قرأ القرآن وصلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم دعا فقد التمس الخير في مظانه.
وحدث عن حفص بن غياث قال: لقي أبو إسحاق السبيعي الفضيل بن عياض، فقال: والله إني لأحبك، ولولا الحياء لقبلتك.
نصر بن عبد الله
أبو محمد الطبراني حدث عن صدقة بن محمد بن أحمد بن محمد القرشي بسنده إلى محمد بن علي عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه نهى عن متعة النساء.
نصر بن علي بن المقلد
ابن نضر بن منفذ بن محمد بن منقذ بن نصر بن هاشم أبو المرهف الكناني ملك حصن شيزر بعد أبيه مدة طويلة.
قال أبو سلامة: أنشدت أخي أبا مرهف قول الشاعر: " من الخفيف "
كنت أستعمل السواد من الأم ... شاط والشعر في سواد الدياجي(26/134)
أتلقى مثلاً بمثل فلما ... صار عاجاً سرحته بالعاج
فلما كان من غد أنشد لنفسه: " من الخفيف "
كنت أستعمل البياض من الأم ... شاط عجباً بلمتي وشبابي
فاتخذت السواد في حالة الشي ... ب سلواً عن الصبا بالتصابي
توفي نصر سنة إحدى وتسعين وأربع مئة بشيزر.
نصر بن الفتح أبو القاسم السامري
الصائغ السراج المعروف بابن مدلج
حدث عن أبي محمد سليمان بن شعيب بن سليمان بن كيسان بسنده إلى أبي هريرة: أنه لقي امرأة يعصف ريحها، فقال: يا أمة الجبار، ألمسجد تريدين؟ قالت: نعم، قال: وله تطيبت؟ قالت: نعم، قال: فارجعي؛ فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من امرأة تخرج إلى المسجد تعصف ريحها فيقبل الله منها صلاة حتى ترجع فتغتسل ".
حدث في سنة ثلاث عشرة وثلاث مئة.
نصر بن القاسم بن الحسن
أبو الفتح الأنصاري المقدسي المقرئ حدث عن أبي محمد بن البري بسنده إلى علي قال: رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر وعمر ومقبلين، فقال: هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين، لا تخبرهما يا علي.
توفي نصر بن قاسم سنة تسع وثلاثين وخمس مئة.(26/135)
نصر بن قتيبة
أبو الفتح القتبي حدث عن داود بن رشيد بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كيف بكم إذا كنتم من دينكم كرؤية الهلال؟ ".
وحدث عن محمد بن كبير المصيصي بسنده إلى أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على جنازة فكبر عليها أربعاً، ثم أتى قبر الميت فحثا عليه من قبل رأسه ثلاثاً.
توفي نصر بن قتيبة سنة اثنتين وثلاث مئة.
نصر بن الليث بن سعد
أبو منصور البغدادي الوراق حدث عن يزيد بن موهب بسنده إلى عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الإيمان يمان، ورجاء الإيمان في قحطان، والقسوة والجفاء فيما ولد عدنان، حمير رأس العرب ونابها، والأزد كاهلها وجمجمتها، ومذحج هامتها وغلصمتها، وهمدان غاربها وذروتها، اللهم أعز الأنصار الذين اقام الله بهم الدين، والأنصار هم الذين آووني ونصروني وآزروني وحموني، وهم أصحابي في الدنيا، وهم شيعتي في الآخرة، وأول من يدخل بحبوحة الجنة من أمتي.
مات نصر بن الليث سنة سبعين ومئتين.(26/136)
نصر بن محمد بن أحمد بن يعقوب بن منصور
أبو الفضل بن أبي نصر الطوسي العطار حدث عن أبي أيوب سليمان بن أحمد الملطي بسنده إلى جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ".
وحدث عن سليمان بن أبي صلاية بسنده إلى علي عليه السلام قال: أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مناديه فنادى: فمن ضيق طرقاً فلا جهاد له.
وحدث عن أبي داود سليمان بن يزيد بن سليمان بسنده إلى عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج وهو معصوب الرأس، من وجع، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " يا أيها الناس، ما هذا الكتاب الذي تكتبون؟ أكتاب مع كتاب الله؟ يوشك أن يغضب الله لكتابه، فلا يدع في رق ولا في يد أحد منه شيئاً إلا أذهبه "، فقالوا: يا رسول الله، فكيف بالمؤمنين والمؤمنات يومئذ؟ قال: " من أراد الله به خيراً أبقى في قلبه لا إله إلا الله ".
نصر بن محمد بن عبيد الله
أبو القاسم البغدادي الكاتب حدث عن أبي محمد عبيد الله بن الحسن بن عبد الرحمن القاضي بسنده إلى محمد بن النعمان بن بشير: أن النعمان قال: نحلني أبي غلاماً، فأمرتني أمي أن أذهب إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأشهده على ذلك، فقال: " أكل ولدك أعطيته؟ "، قال: لا، قال: " فاردده ".(26/137)
نصر بن مسرور بن محمد
أبو الفتح الزهيري العماني من عمان مدينة البلقاء حدث عن أبي الفتح محمد بن إبراهيم بن محمد بن يزيد الطرسوسي بسنده إلى ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " ما من أيام، العمل فيها أفضل من هذه الأيام، يعني أيام العشر، عشر ذي الحجة، فقيل له: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا من خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء ".
نصر بن منصور بن بسام
قدم دمشق والمعتصم بها، وكان الفضل بن مروان وزير المعتصم يتخوفه أن يلي وزارة المعتصم.
دخل أبو تمام إلى نصر بن منصور، فأنشده مديحاً له، فلما بلغ قوله: " من الطويل:
أسائل نصر لا تسله فإنه ... أحن إلى الإرفاد منك إلى الرفد
قال له نصر: أنا أغار على مدحك أن تضعه في غير موضعه، ولئن بقيت لأحصرن ذلك إلا على أهله، وأمر له بجائزة سنية وكسوة.
فمات نصر في سنة سبع وعشرين ومئتين.
سأل دعبل نصر بن منصور حاجة فلم يقضها فقال يهجو بني بسام: " من مخلع البسيط "(26/138)
حواجب كالجبال سود ... إلى عثانين كالمخالي
وأوجه جهمة غلاظ ... عطل من الحسن والجمال
نصر الشيباني
شاعر قدم دمشق، ومن شعره: " من البسيط "
يا أنجم الليل أقري من أحبهم ... مني السلام وكوني بيننا كتبا
وخبريهم بأني بعد بينهم ... ما بت إلا قريح القلب مكتئبا
قد ادعوا شوقهم مثلي فقلت لهم ... شوق بشوق وتسهيد الجفون ربا
نصيب بن رباح
أبو محجن، مولى عمر بن عبد العزيز اشتراه من بني كنانة وأعتقه، وقيل: كان مولى لخزاعة، وقيل: بل كان أبوه من العرب، وأمه نوبية؛ فجاء أسود؛ فباعه عمه ووفد على عبد الملك وغيره.
قدم نصيب الكوفة، فسير إليه صديق له ولده، فقال: سلم عليه وقل له: إن رأيت أن تبدي إلي شيئاً من شعرك فعلت.
قال: فأتيته في يوم جمعة وهو يصلي، فلما فرغ أديت إليه الرسالة فقال: قد علم أبوك أني لم أنشد الشعر في يوم الجمعة، ولكن تعود، ويكون ما تحب، فلما ذهبت لأنصرف دعاني فقال: أتروي الشعر؟ قلت: نعم، قال: فأنشدني لجميل، فأنشدته: " من الكامل "
إني لأحفظ سركم ويسرني ... لو تعلمين بصالح أن تذكري(26/139)
ويكون يوم لا أرى لك مرسلا ... أو نلتقي فيه علي كأشهر
يا ليتني ألقى المنية بغتة ... إن كان يوم لقائكم لم يقدر
تقضى الديون وليس ينجز عاجلاً ... هذا الغريم وليس بمعسر
فقال: لله دره! ما قال أحد إلا دون قوله، ولقد ترك لنا مثالاً لا يحتذى عليه، أما أصدقنا في شعره فجميل، وأما أوصفنا لربات الحجال فكثير، وأما أكذبنا إذا قال الشعر فعمر، وأما أنا فأقول ما أعرف.
قال عبد الملك بن مروان لنصيب وهو ينشد قصيدته التي يقول فيها " " من البسيط "
ومضمر الكشح يطويها الضجيع به ... طي الحمالة لا جاف ولا فقر
وذو روادف لا يلفى الإزار بها ... يلوى ولو كان يسعى حين يأتزر
قال: من هذه يا نصيب؟ قال: بنية عم لي نوبية، لو رأيتها ما شربت من يدها الماء، قال: لو قلت غير هذا لضربت الذي فيه عيناك.
دخل نصيب على عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: أنت الذي تبتهر بالنساء وتقول فيهن؟ قال: يا أمير المؤمنين قد تركت ذاك. وكان قد نسك فأثنى عليه القوم، فقال: أما إذ أثنوا فهات حاجتك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي بنيات سويداوات أرغب بهن عن السودان، ويرغب عنه البيضان، فإن رأيت أن تفرض لهن فافعل.(26/140)
قال: وجهشت الشعراء إلى عمر، فرأوا منه زهادة في الشعر، فقالوا لنصيب: أنت مولاه فكلمه، فدخل عليه نصيب، فقال: " من البسيط "
الحمد لله أما بعد يا عمر ... فقد أتاك بنا الأحداث والقدر
وأنت رأس قريش وابن سيدها ... والرأس يعقل فيه السمع والبصر
فقال عمر: يا نصيب إياي وهذا الكلام، ولم أنا والشعر؟! فخرج نصيب فقال: لم أر لكم عنده خيراً.
قال نصيب: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فقلت له: أنت أعلم بانقطاعي إلى أبيك، وميله كان إلي، فقال: إن ذاك لكذلك، قلت: فتأذن لي في الإنشاد؟ فقال: ما نحن على حال إنشاد، فلم أزل أسأله حتى أذن فأنشدته: " من الوافر "
أمير المؤمنين فدتك نفسي ... ومن فوق التراب لك الفداء
فقد عضتني الحاجات حتى ... تحنى الظهر واقتشر اللحاء
وقد أودى بي الإقتار لولا ... غنى نفسي وشيمتي الحياء
فإن أك حائلاً لوني فإني ... لعقل غير ذي سقط وعاء
فقال: يا مزاحم، كم بقي عندك من بقية غلتنا بالحجاز قال: خمسون درهماً، قال: أعطه إياها. قلت: يا أمير المؤمنين، علفت راحلتي بأكثر من هذا! فقال: أعطه ثياب الجمعة، فأعطاني ثوبين أراهما مصريين.
دخل نصيب على يزيد بن عبد الملك بن مروان، فقال له: حدثني ببعض ما مر عليك.(26/141)
فقال: علقت جارية حمراء يعني بيضاء، فمكثت زماناً تمنيني الأباطيل. فلما ألححت عليها قالت: لا ترعني فكأنك من طوارق الليل، فقلت: وأنت كأنك من طوارق النهار، فقالت: ما أظرفك! فغضبت من قولها، فقالت: وهل تدري ما الظرف؟ الظرف العقل، ثم قالت: انصرف حتى أنظر في أمرك. فأرسلت إليها بهذه الأبيات: " من الوافر "
فإن أك حالكاً فالمسك أحوى ... وما لسواد جلدي من دواء
ولي كرم عن الفحشاء ناء ... كبعد الأرض من جود السماء
ومثلي في رجالكم قليل ... ومثلي لا يرد عن النساء
فإن ترضي فردي قول راض ... وإن تأبي فنحن على السواء
فلما قرأت الكتاب قالت: المال والعقل يعفيان على غيرهما، فزوجتني نفسها.
قال معاذ صاحب الهروي: دخلت مسجد الكوفة، فرأيت رجلاً لم أر قط أنقى ثياباً منه، ولا أشد سواداً منه، فقلت: من أنت؟ قال: نصيب، قلت: أخبرني عنك وعن أصحابك.
قال: جميل إمامنا، وعمر أوصفنا لربا الحجال، وكثير أبكانا على الأطلال والدمن، وقد قلت ما سمعت.
قلت: فإن الناس يزعمون أنك لا تحسن أن تهجو.
قال: فأقروا لي أني أحسن المدح؟ قلت: نعم.
قال: أفتراني لا أحسن أن أجعل مكان: عافاك الله، أخزاك الله؟ قلت: بلى.
قال: ولكني رأيت الناس رجلين: رجلاً لم أسأله، فلا ينبغي أن أهجوه فأظلمه،(26/142)
ورجلاً سألته فمنعني، فكانت نفسي أحق بالهجاء إذ سولت لي أن أطلب منه.
مر جرير بنصيب وهو ينشد، فقال له: اذهب، فأنت أشعر أهل جلدتك. وكان نصيب أسود، قال: وجلدتك، يا أبا حزرة.
ومن شعره: " من الطويل "
فإن تك ليلى العامرية أصبحت ... على النأي مني غير ذنبي تنقم
فما ذاك من ذنب أكون اجتنيته ... إليها فتجزيني به حيث أعلم
ولكن إنساناً إذا مل صاحباً ... وحاول صرفاً لم يزل يتجرم
سأثني على ليلى ولست بزائد ... على أنني مثن بما كنت أعلم
قال الضحاك بن عثمان: خرجت في آخر الحج فنزلت بجهة بالأبواء على امرأة فأعجبني ما رأيت من حسنها، فتمثلت قول نصيب: " من الطويل "
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
وقل في تجنيها لك الذنب إنما ... عتابك إن عاتبت فيها له عتب
خليلي من كعب ألما هديتما ... بزينب لا يفقدكما أبداً كعب
وقولا لها في البعاد لذي الهوى ... بعاد وما فيه لصدع الهوى شعب(26/143)
فمن شاء رام الصرم أو قال ظالماً ... لصاحبه ذنب وليس له ذنب
فلما سمعتني أتمثل الأبيات قالت: يا فتى، أتعرف قائل هذا الشعر؟ قلت: نعم، ذاك نصيب، قالت: نعم، هو ذاك، فتعرف زينبه؟ قلت: لا. قالت: أنا - والله - زينبه. قلت: فحياك الله. قالت: أما إن اليوم موعده من عند أمير المؤمنين، خرج إليه عام أول، ووعدني هذا اليوم، ولعلك لا تبرح حتى تراه.
قال: فما برحت، فإذا أنا براكب يزول مع الركب، فقالت: ترى حيث ذلك الراكب؟ إني لأحسبه إياه.
فأقبل الراكب وأناخ، فإذا هو نصيب، فنزل وسلم علي وجلس منها ناحية، وسلم عليها، وساءلها وساءلته، وسألته أن ينشدها ما أحدث من الشعر بهدها، فجعل ينشده، فقلت في نفسي: عاشقان أطالا التنائي، لا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة.
فقمت إلى راحلتي، فقال لي: على رسلك، أنا معك، فجلست حتى نهض، ونهضت معه، فتسايرنا ساعة، ثم قال لي: قلت في نفسك: محبان التقيا بعد طول تناء، لا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة، فقلت: كان ذلك، قال: فلا ورب هذه البنية ما جلست منها مجلساً قط أقرب من مجلسي الذي رأيت، ولا كان بيننا مكروه قط.
قال رجل من قريش: كنت حاجاً: ومعنا رجل، معه هوادج وأثقال وصبية وعبيد ومتاع، فنزلنا منزلاً فإذا فرش ممهدة، وبسط قد بسطت، فخرج من أعظمها هودجاً امرأة زنجية فجلست على تلك الفرش، ثم جاء زنجي فجلس إلى جنبها على الفرش، فتعجبت، فبينا أنا أنظر إليهما إذ مر بنا مارٌّ يقود إبلاً، فجعل يغني ويقول:(26/144)
بزينب ألمم قبل يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
فوثبت الزنجية إلى الزنجي، فخبطته وضربته، وقالت: شهرتني في الناس، شهرك الله.
فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا نصيب الشاعر، وهذه زينب.
أراد ابن أبي عتيق الحج، فقال لنصيب: هل توصي إلى سعدى بشيء؟ قال: نعم، ببيتين، وأنشده: من الطويل
أتصبر عن سعدى وأنت صبور ... وأنت بحسن الصبر منك جدير
وكدت ولم أخلق من الطير إن أرى ... سناً بارقٍ نحو الحجاز أطير
فخرج ابن أبي عتيق، فوجد سعدى في مجلس لها، فقال: معي إليك رسالة، قالت: هاتها يا بن الصديق، فأنشدها البيتين، فتنفست نفساً شديداً، فقال ابن أبي عتيق: أوه، أجبتيه - والله - بأحسن من بيتيه، لو سمعها لنعق وطار، وعتق ما ملك.
لما أصاب نصيب من المال ما أصاب كانت عنده أم محجن، وكانت سوداء، واشتاق إلى البياض، فتزوج امرأة سرية بيضاء؛ فغضبت أم محجن، وغارت عليه، فقال لها: يا أم محجن، ما مثلي يغار عليه، أنا شيخ كبير، وما مثلك يغار، وأنت عجوز كبيرة، وما أحد أكرم علي منك، ولا أوجب حقاً، فجوزي هذا الأمر، ولا تكدريه علي، فرضيت وقرت. ثم قال: هل لك أن أجمع إليك زوجتي الجديدة، فهو أصلح وألم للشعث؟ فقالت: نعم، فأعطاها ديناراً، وقال لها: إني أكره أن ترى بك خصاصة، أن تفضل عليك، فاعملي لها غداء بهذا الدينار.
ثم أتى زوجته الجديدة، فقال: قد أردت أن أجمعك إلى أم محجن غداً، وهي(26/145)
مكرمتك، وأكره أن تفضل عليك أم محجن، فخذي هذا الدينار، فأهدي لها به لئلا ترى بك خصاصة، ولا تذكري الدينار إليها.
ثم أتى صاحباً له يستنصحه، فقال: إني أريد أن أجمع بين زوجتي الجديدة إلى أم محجن غداً، فأتني مسلماً، وإني سأستجلسك الغداء فاسألني عن أحبهما إلي، فإني سآبى أن أخبرك، وأعظم ذلك، فاحلف علي.
فلما اجتمعوا وأتاه فقال: يا أبا محجن، أحب أن تخبرني عن أحب زوجتيك إليك، فقال: سبحان الله! أتسألني عن هذا وهما يسمعان؟ ما سأل عن مثل هذا أحد. " قال ": فإني أقسم عليك أن تخبرني، فوالله، لا أعذرك، قال: أما إذ فعلت فأحبهما إلي صاحبة الدينار، ولا أزيدك على هذا شيئاً.
فأعرضت كل واحدة منهما تضحك، وهي تظن أنه عناها بذلك القول.
قال منحوف بن جبر: مررت بدار الزبير فإذا مولى لهم يكنى أبا ريحانة، وكان يخضب، فسلمت عليه، وجلست غليه، فمرت به جارية على ظهرها قربة، فقام إليها الشيخ، وقال: غنني بأبيات نصيب، فقالت: أما والقربة على ظهري فلا، قال: فأخذ القربة، ووضعها على ظهره، ثم رفعت عقيرتها وهي تقول: " من الطويل "
فؤادي أسير لا يفك ومهجتي ... تقضى وأحزاني عليك تطول
ولي مقلة قرحى لطول اشتياقها ... إليك وأجفاني عليك همول
فديتك أعدائي كثير لشقوتي ... عليك وأشياعي لديك قليل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلة ... فأفنيت علاتي فكيف أقول
فطرب الشيخ، فوقع على الأرض، وانشقت القربة، فقالت: يا أبا ريحانة، ما هذا جزائي منك، فقال لها: ما دخل الضرر إلا علي، ودخل السوق فباع قميصه، واشترى لها قربة، ثم ملأها.(26/146)
فلقيه زيد بن الحسن العلوي، فقال: يا أبا ريحانة، أحسبك ممن قال الله عز وجل: " فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ". فقال: أرجو أن أكون ممن قال الله عز وجل: " فبشر عباد، الذين يستمعون فيتبعون أحسنه ".
ومن شعر نصيب: " من البسيط "
كما اشتهت خلقت حتى إذا كملت ... كما تمنت فلا طول ولا قصر
جرى لها اللحم حتى عم أكعبها ... ملء الثياب فلا هبج ولا فقر
ما زدت زادتك حسناً في تأملها ... وزادك الطرف حتى يرجع البصر
النضر بن عربي
أبو روح الباهلي مولاهم الحراني وفد على عمر بن عبد العزيز.
حدث عن عكرمة عن ابن عباس قال: طرح في قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطيفة له بيضاء بعلبكية.
قال النضر: دخلت على عمر بن عبد العزيز، وكان لا يكاد يتكئ، إنما هو متقبض أبداً، كأن عليه حزن الخلق.
قال النضر: كنت بمكة، فرأيت الناس مجتمعين على رجل، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا(26/147)
صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا عامر بن واثلة، وعليه إزار ورداء، فمسست جلده، فكان ألين شيء.
وعربي: بالعين والراء والباء والياء.
توفي النضر سنة ثمان وستين ومئة.
النضر بن عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي
حدث عن عمار بن عمرو الجنبي قاضي مكة بسنده إلى جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من لا يرحم الناس لا يرحمه الله ".
النضر بن عمر المقرائي الحميري
قال: سألت الحسن البصري: أي الرجلين أفضل: علي أم عثمان؟ فقال: شارك عثمان علياً في سوابقه، ولم يشاركه في حدثه. قلت: علي ومعاوية؟ فقال: هيهات! لم يشارك معاوية علياً في سوابقه، وشاركه في أحداثه.
قال الحسن: لقد أدركت الأمراء ممن كان قبلكم، كانوا والله " وعاة " لكتاب الله وسنة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جنهم الليل فقيام على أطرارفهم، يفرشون وجوههم، تجري دموعهم على خدودهم، يناجون الذي خلقهم في فكاك رقابهم، إذا عملوا الحسنة دأبوا في "(26/148)
سترها " وسألوا الله أن يتقبلها، وإذا عملوا السيئة " تابوا " وسألوا الله أن يغفرها لهم، فوالله ما زالوا كذلك وعلى ذلك، والله ما سلموا من الذنوب، ولا نجوا إلا بالمغفرة.
وأقبل على الأمير النضر بن عمرو، فقال: وأصبحت أيها الأمير مخالفاً للقوم في الهدي والسيرة، وإياك أن تمنى الأماني، فترجع فيها، فإن أخاك من صدقك ونصح لك في دينك خير لك ممن يمنيك ويغرك.
النضر بن محمد بن خالد
أبو محمد الأسدي البغدادي حدث بدمشق سنة اثنتين وسبعين ومئتين عن يحيى بن معين بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بادروا الصبح بالوتر ".
النضر بن محمد بن بعيث
أبو الفرج الأزدي البثني من أهل البثينة من نواحي دمشق.
حدث عن محمد بن المنكدر بسنده إلى أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن للقلوب صدأ كصدأ الحديد، وجلاؤها الاستغفار ".
وحدث عن جابر قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الأعمالأفضل؟ قال: " سرور تدخله على مسلم ".
وبه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لأن يمتلئ جوف الرجل قيحاً أو دماً خير من أن يمتلئ شعراً مما هجيت به ".(26/149)
وحدث عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاثة هم حداث الله يوم القيامة: رجل لم يمش بين اثنين بمراء قط، ورجل لم يحدث نفسه بزنى قط، ورجل لم يخلط كسبه بربا قط ".
وحدث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما وجع قال: " مروا أبا بكر فليصل بالناس ". فصلى بالناس أبو بكر.
نضلة بن عبيد ويقال ابن عمرو
ويقال: ابن عائذ، ويقال: ابن عبد الله بن الحارث بن حبان بن ربيعة بن دعبل ويقال: عبد الله بن نضلة، ويقال: خالد بن نضلة أبو برزة الأسلمي صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان مع معاوية بالشام، وقدم دمشق على يزيد بن معاوية، وكان عنده حين أتي برأس الحسين عليه السلام.
قال أبو برزة: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت: يا رسول الله إني لا أدري لعله أن تمضي وأبقى بعدك، فحدثني بشيء ينفعني الله به، قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " افعل كذا، افعل كذا، أنسيت ذلك ولم الأذى عن الطريق ".
وفي رواية، قال: " انظر ما يؤذي الناس فاعزله عن طريقهم. وعن طريق الناس ".(26/150)
قيل لأبي برزة الأسلمي: لم آثرت صاحب الشام على صاحب العراق؟ قال: وجدته أطوى لسره، وأملك لعنان جيشه، وأفطن لما في نفس عدوه.
لما أقبل وفد الكوفة برأس الحسين عليه السلام دخلوا مسجد دمشق، فقال لهم مروان بن الحكم: كيف صنعتم؟ قالوا: ورد علينا منهم ثمانية عشر رجلاً فأتينا والله على آخرهم، وهذه الرؤوس والسبايا؛ فوثب مروان وانصرف.
وأتاهم أخوه يحيى بن الحكم، فقال: ما صنعتم؟ فأعادوا عليه الكلام، فقال: حجبتم عن محمد يوم القيامة، إن أجامعكم على أمر أبداً، ثم قام وانصرف.
ودخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه.
قال: فسمعت الحديث هند بنت عبد الله بن عامر بن كثير، وكانت تحت يزيد بن معاوية، فتقنعت بثوبها وخرجت، وقالت: يا أمير المؤمنين، أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، فأعولي عليه وحدي على ابن بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصريحة قريش، عجل عليه ابن زياد فقتله، قتله الله.
ثم أذن للناس، فدخلوا والرأس بين يديه، ومعه قضيب فنكت به في ثغره، ثم قال: إن هذا وأنا كما قال الحصين بن الحمام المري: " من الطويل "
نفلق هاماً من رجال أحبة ... إلينا وهم كانوا أعق وأظلما
فقال رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال له: أبو برزة الأسلمي: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين؟ أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً كريماً، رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرشفه، أما إنك، يا يزيد، تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا يوم القيامة ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شفيعه، ثم قام فولى.(26/151)
وشهد نضلة فتح مكة وهو الذي قتل عبد العزى بن حنظل تحت أستار الكعبة يوم الفتح لما أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتله.
وغزا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوات منها خيبر، وشهد فتح مكة، وحضر مع علي بن أبي طالب قتال الخوارج بالنهروان، وورد المدائن صحبته.
وكان اسم أبي برزة نضلة بن نيار، فسماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله، وقال: نيار شيطان.
قال أبو برزة: لما كان يوم أحد وشج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه خر مغشياً عليه، فأخذت رأسه في حجري، فلما أفاق قال: نضلة؟ قلت: نعم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: بارك الله فيك وفي ذريتك وعترتك من بعدك.
وشهد أبو برزة مع علي بن أبي طالب المشاهد: الجمل وصفين والنهروان.
قال الأزرق بن قيس: كنت مع أبي برزة بالأهواز فقام يصلي وعنان دابته بيده، فجعلت تنكص، وجعل أبو برزة ينكص معها، ورجل من الخوارج قاعد، فجعل يسبه، فلما صلى قال: إني سمعت مقالتك، إني غزوت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستاً أو سبعاً، وشهدت من تيسيره، ولئن أرجع مع دابتي أحب إلي من أن أدعها فتأتي مألفها فيشق علي.
قال: قلت: كم صلى العصر؟ قال: ركعتين.
وفي حديث: جاء أبو برزة آخذاً بمقود برذونه أو دابته، فبينا هو يصلي انفلت المقود من يده فمضت الدابة في قبلته، وانطلق أبو برزة حتى أخذ بها، ثم رجع القهقرى، فقال رجل(26/152)