قال عمير بن سعد: فيّ أنزلت هذه الآية " ويقولون: هو أذن قل: أذن خير لكم " وذلك أن عمير بن سعد كان يسمع أحاديث أهل المدينة، فيأتي النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيسارّه، حتى كانوا يتنادون بعمير بن سعد، وكرهوا مجالسته، وقالوا: هو أذن؛ فأنزلت فيه.
قال ابن سعد: وكان أبوه مّمن شهد بدراً، وهو سعد القارئ، وهو الذي يروي الكوفيّون أنه أبو زيد الذي جمع القرآن على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقتل سعد بالقادسيّة شهيداً، وصحب ابنه عمير بن سعد النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وولاه عمر بن الخطّاب على حمص.
وقال أبو نعيم الحافظ: وكان من زهّاد العمّال، ولي لعمر سنةً على حمص، ثم أشخصه، فقدم عليه بالمدينة، وجدّد عهده، فامتنع، وأبى أن يلي له، وكان عمر يقول: وددت أن لي رجلاً مثل عمير أستعين به على أعمال المسلمين.
عن ابن شهاب، قال: ثم توفي سعيد بن عامر فأمّر مكانه عمير بن سعد الأنصاري، وكان على الشّام معاوية وعمير بن سعد حتى قتل عمر.
وقال: واستخلف عثمان فجمع الشّام لمعاوية، ونزع عميراً.
عن سليم بن عامر، قال: خطب معاوية على منبر حمص، وهو أمير عليها وعلى الشّام كلّها، فقال: والله ما علمت يا أهل حمص أن الله تبارك وتعالى يسعدكم بالأمراء الصّالحين، أوّل من ولي عليكم عياض بن غنم، وكان خيراً منّي؛ ثم ولي عليكم سعيد بن عامر بن حذيم، وكان خيراً منّي؛ ثم ولي عليكم عمير بن سعد، ولنعم العمير، وكان ثم هنا، فإذ قد وليتكم فستعلمون.(19/331)
عن عمير بن سعد، أنه كان يقول وهو أمير على حمص، وهو من أصحاب النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا إن الإسلام حائط منيع، وباب وثيق؛ فحائط الإسلام العدل، وبابه الحقّ، فإذا فرض الحائط وحطم الباب استفتح الإسلام، فلا يزال منيعاً ما اشتدّ السّلطان، وليس شدّة السّلطان قتلاً بالسّيف ولا ضرباً بالسّوط، ولكن قضاءً بالحقّ وأخذاً بالعدل.
عن عبد الرّحمن بن عمير بن سعد قال: قال لي ابن عمر: ما كان من المسلمين رجل من أصحاب النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من أبيك.
عن عبد الملك بن هارون، عن أبيه، عن جده، عن عمير بن سعد الأنصاري، قال: بعثه عمر بن الخطّاب عاملاً على حمص، فمكث حولاً لا يأتيه خبره، فقال عمر لكاتبه: اكتب إلى عمير فوالله ما أراه إلاّ قد خاننا: إذا جاءك كتابي هذا فأقبل، وأقبل بما حبست من فيء المسلمين، حين تنظر في كتابي هذا. قال: فأخذ عمير جرابه، فجعل فيه زاده، وقصعته، وعلّق إداوته، وأخذ عنزته، ثم أقبل يمشي من حمص حتى دخل المدينة. قال: فقدم وقد شحب لونه، واغبرّ وجهه، وطالت شعرته؛ فدخل على عمر، وقال: السّلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله. فقال عمر: ما شأنك؟ فقال عمير: ما ترى من شأني؟ ألست تراني صحيح البدن، طاهر الدم، معي الدّنيا أجرّها بقرنيها؟ فقال: ما معك؟ فطن عمر أنه قد جاءه بمال. فقال: معي جرابي أجعل فيه زادي، وقصعتي آكل فيها وأغسل فيها رأسي وثيابي، وإداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي، وعنزتي أتوكأ عليها وأجاهد به عدوّاً إن عرض لي؛ فوالله ما الدّنيا إلاّ تبع لمتاعي. قال عمر: فجئت تمشي؟ قال: نعم. قال: أما كان لك أحد يتبرّع بدابّة تركبها؟ قال: ما فعلوا ولا سألتهم ذلك. فقال عمر: بئس المسلمون خرجت من عندهم. فقال عمير: اتّق الله يا عمر، قد نهاك الله عن الغيبة، وقد رأيتهم يصلّون صلاة الغداة. قال عمر: فأين بعثتك؟ وأيّ شيء صنعت؟ قال: وما سؤالك يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: سبحان الله. فقال عمير: لولا أني أخشى أن أغمّك(19/332)
لما أخبرتك؛ بعثتني حتى أتيت البلد، فجمعت صلحاء أهلها فولّيتهم جباية فيئهم، حتى إذا جمعوه وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به. قال: ما جئتنا بشيء؟ قال: لا. قال: جدّدوا لعمير. قال: إن ذلك لشيء لا عملت لك ولا لأحد بعدك، والله ما سلمت، بل لم أسلم؛ لقد قلت لنصرانيّ: أي أخزاك الله؛ فهذا ما عرّضتني يا عمر، وإن أشقى أيّامي يوم خلقت معك يا عمر. فاستأذنه، فأذن له، فرجع إلى منزله. قال: وبينه وبين المدينة أميال. فقال عمر حين انصرف عمير: ما أراه إلاّ قد خاننا؛ فبعث رجلاً يقال له: الحارث، وأعطاه مئة دينار، فقال: انطلق إلى عمير حتى تنزل كأنك ضيف، فإن رأيت أثر شيء فأقبل، وإن رأيت حالاً شديداً فادفع إليه هذه المئة دينار. فانطلق الحارث فإذا هو بعمير يفلي قميصه إلى جنب الحائط، فسلّم عليه الرّجل، فقال له عمير: انزل، رحمك الله. فنزل، ثم سأله فقال: من أين جئت؟ قال: من المدينة. قال: فكيف تركت أمير المؤمنين؟ قال: صالحاً. قال: كيف تركت المسلمين؟ قال: صالحين. قال: أليس يقيم الحدود؟ قال: بلى، ضرب ابناً له على فاحشة فمات من ضربه. فقال عمير: اللهم أعن عمر، فإني لا أعلمه إلاّ شديداً حبّه لك. قال: فنزل به ثلاثة أيّام وليس لهم إلاّ قرصة من شعير، كانوا يخصّونه بها ويطوون، حتى أتاهم الجهد. فقال له الحارث: هذه الدّنانير بعث بها أمير المؤمنين إليك فاستعن بها. قال: فصاح، وقال: لا حاجة لي فيها، ردّها. فقالت له امرأته: إن احتجت إليها، وإلاّ ضعها مواضعها. فقال عمير: والله ما لي شيء أجعلها فيه؛ فشقّت المرأة أسفل درعها، فأعطته خرقة، فجعلها فيها، ثم خرج يقسمها بين أبناء الشّهداء والفقراء ثم رجع؛ والرّسول يظنّ أنه يعطيه منها شيئاً. فقال عمير: أقرئ منّي أمير المؤمنين السّلام. فرجع الحارث إلى عمر. قال: ما رأيت؟ قال: رأيت يا أمير المؤمنين حالاً شديداً. قال: فما صنع بالدّنانير؟ قال: لا أدري. قال: فكتب إليه عمر: إذا جاءك كتابي فلا تضعه من يدك حتى تقبل. فأقبل على(19/333)
عمر، فدخل عليه، فقال له عمر: ما صنعت بالدّنانير؟ قال: صنعت ما صنعت! وما سؤالك عنها؟ قال: أنشد عليك لتخبرني ما صنعت بها. قال: قدّمتها لنفسي. قال: رحمك الله. فأمر له بوسق من طعام وثوبين. قال: أمّا الطعام فلا حاجة لي فيه، فقد تركت في المنزل صاعين من شعير، إلى أن آكل ذلك قد جاء الله بالرّزق ولم يأخذ الطعام وأما الثّوبان، فقال: إن أمّ فلان عارية. فأخذهما ورجع إلى منزله، فلم يلبث أن هلك رحمه الله فبلغ ذلك عمر فشقّ عليه، وترحّم عليه، فخرج يمشي ومعه المشّاؤون إلى بقيع الغرقد، فقال لأصحابه: ليتمنّ كلّ رجل منكم أمنيةً. فقال رجل: وددت يا أمير المؤمنين أن لي مالاً فأعتق لوجه الله كذا وكذا. وقال آخر: وددت لو أن عندي مالاً فأنفق في سبيل الله. وقال آخر: وددت لو أن لي
قوةً فأمتح بدلو زمزم لحجّاج بيت الله. فقال عمر: وددت لو أن لي رجلاً مثل عمير بن سعد أستعين به على أعمال المسلمين. ةً فأمتح بدلو زمزم لحجّاج بيت الله. فقال عمر: وددت لو أن لي رجلاً مثل عمير بن سعد أستعين به على أعمال المسلمين.
عمير بن سعد ويقال ابن سعد
المازنيّ، البصريّ قدم على عمر بن عبد العزيز مع أبيه حين شكى إلى عمر فعزله عن ولاية عمان.
عمير بن سيف الخولانيّ دمشقيّ.(19/334)
عمير بن محمد بن أحمد
ابن محمد بن عمير بن أحمد بن سعيد ابن عمير بن محمد بن مسلم بن عبد الله أبو القاسم الجهنيّ حدّث عن أبي محمد عبد الله بن إبراهيم بن مروان القرشيّ، بسنده إلى ابن عمر، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب الرّجل على خطبة أخيه، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تلقّوا السلع ". توفي سنة أربع وعشرين وأربعمئة.
عمير بن هانئ أبو الوليد العنسيّ
من أهل داريّا. ولي الكوفة عن الحجّاج في أيّام عبد الملك، وولي جباية خراج دمشق في أيّام عمر بن عبد العزيز.
روى عن جنادة بن أبي أميّة، عن عبادة بن الصّامت، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من تعارّ من اللّيل، فقال حين يستيقظ: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولاحول ولا قوة إلاّ بالله؛ ودعا: ربّ اغفر لي؛ إلاّ غفر له أو قال: استجيب له فإن قام فتوضّأ ثم صلّى، إلاّ قبلت صلاته ".(19/335)
عن عمير بن هانئ، قال: وجّهني عبد الملك بن مروان بكتب إلى الحجّاج بن يوسف وهو محاصر ابن الزّبير، وقد نصب على البيت أربعين منجنيقاً. قال: فرأيت عبد الله بن عمر إذا أقيمت الصّلاة مع الحجّاج صلّى معه، وإذا حضر عبد الله بن الزّبير المسجد الحرام صلّى معه. قال: فقلت: يا أبا عبد الرّحمن، تصلّي مع هؤلاء، وهذه أعمالهم؟ فقال لي: يا أخا أهل الشّام، صلّ معهم ما صلّوا، ولا تطع مخلوقاً في معصية الخالق. قال: فقلت له: ما قولك في أهل مكة؟ قال: ما أنا لهم بعاذر. قلت: فما تقول في أهل الشّام؟ قال: ما أنا لهم بحامد؛ كلاهما يقتتلون على الدّنيا، يتهافتون في النّار تهافت الذّباب في المرق. قال: قلت: فما قولك في هذه البيعة أخذ علينا ابن مروان؟ فقال عبد الله بن عمر: إنّا كنّا نبايع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السّمع والطّاعة، وكان يلقّننا: " فيما استطعتم ".
قال محمد بن إسماعيل البخاريّ: وزعم آل عمير أنه أدرك ثلاثين من أصحاب النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال العجليّ: شاميّ، تابعيّ، ثقة.
حدّث عمير بن هانئ، قال: ولاّني الحجّاج بن يوسف الكوفة، فما بعث إليّ في إنسان أحدّه إلاّ حددته، وما بعث إليّ في إنسان أقتله إلاّ أرسلته؛ فبينما أنا على ذلك إذ بعث إليّ الجيش أسير بهم إلى أناس أقاتلهم، فقلت: ثكلتك أمّك عمير! كيف بك؟ فلم أزل أكاتبه حتى بعث إليّ أن انصرف. فقلت: والله لا أجتمع أنا وأنت في بلد أبداً؛ فجئت وتركته.
عن ابن جابر، عن عمير بن هانئ: أنه كان يضحك، فأقول له: يا أبا الوليد، ما هذا؟ فيقول: بلغني أن أبا الدّرداء كان يقول: إني أستجمّ ببعض الباطل ليكون أنشط لي في الحقّ.(19/336)
عن عمرو بن شراحيل، قال: سمعت عمير بن هانئ يقول: تقول التّوبة للشّاب: مرحباً وأهلاً؛ وتقول للشّيخ: نقبلك على ما كان منك.
قال عبد الرّحمن بن يزيد بن جابر: قلت لعمير بن هانئ: أرى لسانك لا يفتر عن ذكر الله، فكم تسبّح في كلّ يوم؟ قال: مئة ألف إلاّ أن تخطيء الأصابع.
عن عمران: أن عمير بن هانئ العنسيّ قتله الصّقر بن حبيب المرّيّ بداريّا.
وقال هشام بن عمّار: قتل عمير بن هانئ سنة سبع وعشرين ومئة.
عمير بن يوسف بن موسى
ابن جوصا أبو حفص والد أبي الحسن أحمد بن عمير. وكان كثير المعروف، واسع البذل للفقراء.
عن عمير بن جوصا، قال: كتب إليّ أحمد بن صاعد، قال: من عرف هذا الرّبّ الكريم أحبّه، ونافس في الشّكر والإخلاص.
عن محمد بن الفيض الغسّاني، عن أبيه، قال: كنت واقفاً على دار بني نصر أطلب لوزاً مصلحاً إذ أقبل حبشيّ بن المؤذن إلى رجل من أهل قرية حلفبلتا معه لوز، فساومه به وأعطاه عطيّةً فلم يوجب، ثم انصرف(19/337)
عنه، إذ أقبل عمير بن جوصا، فوقف عليه فقال: بكم القفيز؟ قال: بكذا وكذا درهماً؛ فأعطاه عطيّة، فقال له الرّجل: يا أبا حفص، قد أعطاني حبشيّ بن المؤذن أكثر مّما أعطيتني بدرهم فلم أوجبه له. فقال: هو لك بما أعطاك؟ إذ أقبل حبشيّ بن المؤذن فقال له: قد زادك الله. قال: إني قد بعته من أبي حفص. قال: فالتفت حبشيّ إلى عمير فقال: يا بن اليهوديّة، تدخل عليّ في سومي؟ فقال له: ويلي عليك يا نبطيّ، يا ماصّ بظر أمّه، إنّما أبوك قسيس من أهل حوّارين نبطيّ، وأنا رجل من ولد هارون بن عمران عليه السّلام، دخلنا في الإسلام رغبة فيه فزدنا شرفاً على شرف، نحن موالي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فانصرف حبشيّ خازياً مّما أجابه.
عن إسماعيل بن أسامة وكان شيخاً صالحاً قال: رئي عمير بن يوسف بن جوصا بعد وفاته في النّوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: ما رأيت منزولاً به أكرم من الله، عفى عن السّيّئات، وقبل الحسنات، وتضمّن التّبعات. والله تعالى أعلم.
عنبسة بن سعيد بن العاص
ابن سعيد بن العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف أبو خالد ويقال: أبو أيّوب الأمويّ أخو عمرو بن سعيد الأشدق الذي غلب على دمشق في أيّام عبد الملك. وهو من أهل المدينة، كان مع أخيه بدمشق حين غلب عليها. وفد على عمر بن عبد العزيز.(19/338)
حدّث عن أبي هريرة، قال: قدمت المدينة ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين افتتحها، فسألته أن يسهم لي، فتكلّم بعض ولد سعيد بن العاص، فقال: لاتسهم يا رسول الله. قال: هذا قاتل ابن قوقل. فقال سعيد بن العاص: يا عجباً لوبر قد تدلّى علينا من قدوم ضأن يعيّرني بقتل امرئ مسلم أكرمه الله على يديّ، ولم يهنّي على يديه. قال عنه يحيى بن معين: ثقة.
ذكر عن عنبسة بن سعيد أنه قال: لمّا اجتمعت أهلي قلت: لأرسلنّ إلى سيّد قومي مروان فلأدعونّه؛ فأصلحت داري، وتجمّلت بالفرشة والسّتور والخدم والبزّة الظاهرة، وتكلّفت في ذلك، وصنعت طعاماً وذلك بعدما ملك ثم دعوت مروان، فأتاني هو وابناه عبد الملك وعبد العزيز، فجعل ينظر إلى ماهيّأت؛ وأتيت بالطّعام، فوضعته، فقال: فأدخل يده في الثّريد، هو وابنه، ثم أقبل عليّ ويده في الصّفحة يهيء لقمته، فقال: يا عنبسة، هل عليك من دين؟ قلت: نعم، إن عليّ لدنياً. قال: وكم؟ قلت: سبعون ألف درهم. فقبض يده، ورفعها من طعامي، وقال لابنيه: ارفعا أيديكما، حرم علينا طعامك، أما كنت تقدر أن تجعل بعض هذه الفضول التي أرى في بعض دينك؟ فهو كان أولى بك. ثم قام، ولم يأكل من طعامي شيئاً، فلو كان قضاها عنّي ما كان بأنفع لي من عظته. قلت في نفسي: هذا شيخي وسيّد قومي، صنع ما أرى استخفافاً بي وعظة لي؛ فعمدت إلى تلك الفضول ففرّقتها، وصمدت صمد ديني أقضيه، فما برح ذلك حتى قضى الله عنّي الدّين، وتأثّلت المال. وكان انقطاع عنبسة إلى الحجّاج بن يوسف.(19/339)
قال عنبسة بن سعيد: ما شاحنت رجلاً، ولا جلس إليّ رجل إلاّ عرفت فضله حتى يقوم.
عن أسماء بن عبيد، قال: دخل عنبسة بن سعيد على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قد كان من كان قبلك يعطونا عطايا منعتناها، وإن لي عيالاً وضيعة، وقد أحببت أن أتعاهد ضيعتي وما يصلح عيالي. فقال عمر بن عبد العزيز: أحبّكم إلينا من يعمل ذلك. فلّما ولّى قال: أبا خالد، أبا خالد. فأقبل؛ فقال: أكثر من ذكر الموت، فإنك لا تذكره وأنت في سعة من العيش إلاّ ضيّقه عليك، ولا تذكره وأنت في ضيق من العيش إلاّ وسّعه عليك.
عنبسة بن سعيد بن غنيم
أبو غنيم الكلاعيّ روى عن أنس بن مالك، قال: تمنّى رجل عند أبي هريرة الموت، قال: لاتتمنّ الموت حتى تثق بعمل.
وعن أباه بن أبي عياش، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، في قوله تعالى: " لتسألنّ يومئذ عن النّعيم " قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفسّرها، قال: " الخصاف، والماء، وفلق الكسر ". قال العبّاس بن الوليد: الخصاف: خصف النّعلين.
قال عنبسة بن سعيد الكلاعيّ: ما ابتدع رجلاً بدعةً إلاّ غلّ صدره عن المسلمين، اختلجت منه الأمانة.(19/340)
قال الأوزاعيّ: صدق رحمه الله كنّا نتحدّث أنه ما ابتدع رجل بدعة إلاّ سلب ورعه.
قال عنه أبو زرعة: أحاديثه منكرة.
عنبسة بن أبي سفيان صخر
ابن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف أبو عامر، ويقال: أبو عثمان ويقال: أبو الوليد أخو أمّ حبيبة زوج النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم دمشق، وذكر الواقديّ: أن معاوية استعمله على الصّائفة سنة اثنتين وأربعين، فبلغ مرج الشّحم، وولاّه الموسم بمكة.
روى عن أمّ حبيبة زوج النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من صلّى أربعاً قبل الظّهر وأربعاً بعده وحببت له الجنّة ". ليس فيه ذكر النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعنها، عن النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من صلّى في يوم ثنتي عشرة ركعةً بنى الله له بيتاً في الجنّة ".
وعنها، قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنّة ".(19/341)
قال أبو زرعة: في الطبقة التي تلي أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي العليا: عنبسة بن أبي سفيان بن حرب بن أمية.
قال ابن مندة: أدرك النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تصلح له صحبة ولا رواية.
قال أبو نعيم الحافظ: واتّفق متقدموا أئمتنا أنه من التّابعين.
قال خليفة: وأقام الحجّ يعني سنة ست وأربعين عنبسة بن أبي سفيان بن حرب. وأقام الحجّ يعني سنة سبعون وأربعين عنبسة بن أبي سفيان، وولاّها يعني مكة عنبسة بن أبي سفيان، وكان إذا شخص إلى الطائف استخلف طارق بن المرقع.
عن أبي أمامة، قال: مرض عنبسة بن أبي سفيان، فدخل عليه أناس يعودونه، وهو يبكي، قلنا: ما يبكيك يا أبا عثمان، فقد كانت لك سابقة، وقد سلف لك خير. قال: ومالي لا أبكي من هول المطلع، ومالي عمل أثق به.
عنبسة بن عبد الله بن محمد
ابن عنبسة أبو المجد الكفرطابيّ أجاز لأبي القاسم بن صابر أن يروي عنه كتاب " الغوامض " لعبد الغني، في سنة ثمانين وأربعمئة.(19/342)
عنبسة بن عبد الملك بن مروان
ابن الحكم بن أبي العاص الأمويّ أمّه أمّ ولد كانت له ضيعة من عمل عرقة.
عنبسة الأصغر ن عتبة
ابن عثمان بن أبي سفيان الأمويّ كانت عنده رملة بنت عبد الله بن خالد، أخت أبي العميطر.
عنبسة بن عمر بن حرب
ابن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأمويّ كان يسكن الصّفوانية من إقليم حرلان.
عنبسة بن الفيض بن عنبسة
ابن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأمويّ كان يسكن قرية زملكان من إقليم بيت لهيا.(19/343)
عنبسة بن أبي محمد بن عبد الله
ابن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان كان يسكن ميدعا، قرية من قرى دمشق، وكانت لجده معاوية بن أبي سفيان.
عنبر الأسود خادم بن عبد العزيز
حدّث أبو سعيد هشام وكان من أهل الأدب قال: لمّا كنّا بالرّقّة زمان هارون الرّشيد، جاؤوا بعنبر الأسود خادم عمر بن عبد العزيز وقد جاوز المئة وكذا وكذا، وقد سقطت أسنانه فقالوا: يا عنبر، أخبرنا عن عمر بن عبد العزيز. فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرك بشيء رأيته، أو بشيء بلغني عنه؟ قال: لا، بل بشيء رأيته. قال: سخّنت له ليلةً ماءً، فقال: يا عنبر من أين لنا هذا الماء الحارّ، وليس لنا حطب؟ قال: استقرضت لك من حطب الحرس. قال هارون: وكان له حرس؟ قال: نعم، باللّيل والنّهار يمنعون أهل الذّمّة إذا جاؤوا لا يكفرون عنده.
عنبة ويقال عقبة
وهو وهم بن سهيل بن عمرو ابن عبد شمس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لويّ بن غالب القرشيّ، العامريّ أدرك النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخرج مع أبيه إلى الشّام، ومات في طاعون عمواس.(19/344)
وعنبة هو والد فاختة التي قدم بها من الشّام على عمر بعد وفاة أهلها، فقال عمر: زوّجوا الشّريد الشّريدة، فزوّجها عبد الرّحمن بن الحارث بن هشام، وكان قدم به من الشّام أيضاً.
عن اللّيث بن سعد، قال: ثم كانت الوفاة، وطاعون عمواس، وغزوة عنبة بن سهيل من بني عامر بن لؤيّ سنة ثمان عشرة.
وقال يعقوب: في سنة ثمان عشرة وهي سنة طاعون عمواس توفي سهيل بن عمرو، وعنبة بن سهيل، وأشراف النّاس.
عوّام بن سميع الزّاهد القرنسيّ
حدّث، قال: كنت جار سعيد بن عبد العزيز، ما بيني وبينه إلاّ حائط. قال: فسمعته يردّد " ألهاكم التّكاثر " إلى الصّباح ما قرأ غيرها.
وقال عوام: كان سليمان الخوّاص يمرّ باللّحّام يأخذ منه لقطّة له، فمرّ به فإذا هو يكلّم امرأة. قال: تقول له نفسه: من أجل قطّة تمسك عن الكلام؟ فجاء إلى منزله، فأخرج القطّة، فطردها، ثم صار من الغد إلى اللّحّام فوعظه.(19/345)
عوّام ويقال عرّام
ابن النذر بن زبيد ابن قيس بن حارثة بن لأم الطّائيّ، الشّاعر من المعمرين، بقي إلى أيّام عمر بن عبد العزيز.
قال أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان السّجستانيّ: قالوا: وعاش عوّام أو عرّام بن المنذر بن زبيد بن قيس بن حارثة بن لأم، وأدخل على عمر بن عبد العزيز ليزمّن، أي يكتب في الزّمنى. قالوا: وكان عمّر في الجاهليّة دهراً طويلاً؛ فقال عمر: ما زمانتك هذه؟ فقال فيما زعم ابن الكلبيّ، قال: أخبرني رجل من بني قيس بن حارثة أنه قال لعمر بن عبد العزيز: من الطويل
ووالله ما أدري أأدركت أمّة ... على عهد القرنين أم كنت أقدما
متى تنزعا عنّي القميص تبيّنا ... جآجئ لم يكسين لحماً ولادما
عوّام بن يزيد بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم أمه أمّ ولد.
عوبثان بن ثوبان المرّي
من بادية الشّام. قال أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزبانيّ: أمّ العوبثان وأبرد(19/346)
وبريض: سلمى بنت كعب بن زهير بن أبي سلمى، وكان العوبثان من سادة بني مرّة وشعرائهم. وعلق العوبثان أمّ عمرو، مولاة من أهل جنفاء، لها زوج يقال له: أبو نعيم. فقال العوبثان: من الوافر
أجدّك لاتلاقي أمّ عمرو ... على جنفاء ما اختلف اللّيالي
يقول النّاس: كهل ربّ بيت ... وحبّك شى إحدى الموالى
فليت أبا نعيم قد تولّى ... وصار العويثان أبا العيال
فمات أبو نعيم، فتزوّجها العوبثان، وأولدها.
عوف بن إسماعيل بن عوف
ابن أبي عوف أبو سليمان حدّث عن محمد بن أحمد الواسطيّ الكاتب بدمشق، بسنده إلى أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه عن ربّه عزّ وجلّ: " إذا همّ العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها فهي عشر حسنات، إلى سبعمئة ضعف، وإن همّ بالسّيئة ولم يعملها لم أكتبها له، فإن عملها فهي سيئة واحدة ".
عوف بن حطان بن شجرة التّجيبيّ
قال ابن يونس: شهد الفتح بمصر، رأى بلالاً يؤذّن بالشّام، قديم.(19/347)
عوف بن عبد الرحمن
أبو عديّ الغسانيّ
عوف بن مالك أبو عبد الرحمن
ويقال: أبو محمد ويقال: أبو حمّاد ويقال: أبو عبد الله الأشجعيّ، الغطفانيّ.
شهد الفتح، ويقال: كانت معه راية أشجع، وكانت داره بدمشق عند سوق الغزل العتيق.
روى عن النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: خرجت مع من خرج مع يزيد بن حارثة من المسلمين في غزوة مؤته، فرافقني مدديّ من أهل اليمن ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين زورا، فسأله المدديّ طائفةً من جلده، فأعطاه إيّاه، فاتّخذه كهيئة الدّرق، ومضينا، فلقينا جموع الرّوم وفيهم رجل على فرس له أشقر، عليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرّوميّ يغري بالمسلمين، وقعد له المدديّ خلف صخرة، فضرب الرّوميّ، فخرّ من فرسه، فقتله، فحاز فرسه وسلاحه؛ فلّنا فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد، فأخذ منه السّلب. قال عوف: فأتيته، فقلت: يا خالد، أما علمت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بالسّلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكنّي استكثرته. قلت: لتردّنّه إليه أو لأعرفنّكما عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فأبى أن يرد عليه.(19/348)
قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقصصت عليه قصّة المدديّ وما فعل خالد؛ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا خالد، ما حملك على ما صنعت؟ " قال: يا رسول الله، استكثرته. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ردّ عليه ما أخذت منه ". فقلت: دونك يا خالد، ألم أقل لك؟ فقال رسول الله عليه وسلم: " وما ذاك؟ " فأخبرته، فغضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: " يا خالد، لا تردّه عليه؛ هل أنتم تاركو لي أمرائي، لكم صفوة أمرهم، وعليهم كدره ".
عن سويد بن غفلة، قال: كنّا مع عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين بالشّام، فأتاه نبطيّ مضروب مشجّج؛ فغضب غضباً شديداً، فقال لصهيب: من صاحب هذا؟ فانطلق صهيب فإذا هو عوف بن مالك الأشجعيّ. فقال له: إن أمير المؤمنين قد غضب غضباً شديداً، فلو أتيت معاذ بن جبل فمشى معك إلى أمير المؤمنين. فإني أخاف عليك بادرته. فجاء معه معاذ؛ فلّما انصرف عمر من الصّلاة قال: أين صهيب؟ قال: أنا هذا يا أمير المؤمنين، إنه عوف بن مالك، فاسمع منه ولا تعجل عليه. فقال له عمر: مالك ولهذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، رأيته يسوق امرأة مسلمة، فنخس الحمار ليصرعها، فلم تصرع؛ دفعها فخرّت عن الحمار، فغشيها، ففعلت ما ترى. قال: ائتني بالمرأة لتصدّقك. فأتى عوف المرأة، فذكر الذي قاله عمر. قال أبوها وزوجها: ما أردت بهذا؟ فضحتنا. فقالت المرأة: والله لأذهبنّ معه إلى أمير المؤمنين. فلّما اجتمعت على ذلك قال أبوها وزوجها: نحن نبلّغ عنك أمير المؤمنين. فأتيا فصدّقا عوف بن مالك بما قال. قال عمر لليهوديّ: والله ما على هذا عاهدناكم. فأمر به فصلب، ثم قال: يا أيّها النّاس، فوا بذمّة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن فعل هذا فلا ذمّة له. قال سويد بن غفلة: فإنه لأول مصلوب رأيته.
قال محمد بن عمر: شهد عوف بن مالك خبير مسلماً، وكانت راية أشجع مع عوف بن مالك يوم فتح(19/349)
مكة، وتحوّل عوف بن مالك إلى الشام في خلافة أبي بكر، فنزل حمص، وبقي إلى أول خلافة عبد الملك بن مروان، مات سنة ثلاث وسبعين.
عن إسماعيل بن رافع، قال: غزا عوف مع يزيد بن معاوية بقسطنطينيّة.
عن أبي مسلم الخولانيّ، قال: حدّثني الحبيب الأمين فأمّا هو إليّ فحبيب، وأمّا هو فأمين عوف بن مالك الأشجعيّ، قال: كنّا عند رسول الله عليه وسلم سبعة أو ثمانيةً أو تسعةً، قال: " ألا تبايعون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ " يردّدها ثلاث مرّات، فقدّمنا أيدينا، فقلنا: يا رسول الله، قد بايعناك؛ فعلام نبايعك؟ فقال: " على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصّلوات الخمس " وأسرّ كلمة خفيفةً فقال: " ولا تسألوا النّاس شيئاً ". قال: فلقد رأيت ذلك النّفر يسقط سوطه، فما يسأل أحداً يناوله إيّاه.
عن أنس، قال: آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أصحابه؛ بين سلمان وأبي الدّرداء، وآخى بين عوف بن مالك وصعب بن جثامة.
حدّث عوف بن مالك، قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في خيمة من أدم، فتوضّأ وضوءاً مكيناً، فقلت: يا رسول الله، أأدخل؟ قال: " نعم ". قلت: كلّي؟ قال: " كلّك ". قال: " يا عوف، ستّاً بين يدي السّاعة " قلت: وما هي يا رسول الله؟ قال: " موتي " قال: فوجمت لها، فقال: " قل: إحدى " قلت: إحدى. " والثانية: فتح بيت المقدس، والثالثة موتان فيكم مثل قعاص الغنم، والرّابعة إفاضة المال، حتى يعطى الرّجل مئة دينار فيظل يتسخّطها، وفتنة لا يبقى بيت من العرب إلاّ دخلته، وهدنة بينكم وبين بني الأصفر ثم يغدرون فيأتونكم في ثمانين غاية، تحت كلّ غاية اثنا عشر ألفاً ".(19/350)
عن عوف بن مالك، قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جاءه فيء قسمه من يومه، فأعطى الآهل حظين، وأعطى العزب حظّاً، فدعينا، فكنت أدعى قبل عمّار بن ياسر، فدعيت وأعطاني حظّين، وكان لي أهل؛ ثم دعا بعدي عمّار بن ياسر فأعطاه حظّاً واحداً، فسخط حتى عرف ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجهه، ومن حضره، فبقيت فضلة من ذهب، فجعل النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفعها بطرف عصاه، فتسقط، ثم يرفعها فتسقط، وهو يقول: " فكيف أنتم يوم يكثر لكم من هذا؟ " فلم يجبه أحد، فقال عمّار: وددنا لو كثر لنا فصبر من صبر، وفتن من فتن. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لعلّك تكون فيه شرّ مقتول ".
عن عوف، قال: عّرس بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فترسّد كلّ إنسان منّا ذراع راحلته، فانتبهت بعض اللّيل فإذا أنا لا أرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند راحلته، فأفزعني ذلك، فانطلقت ألتمس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا أنا بمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعريّ، وإذا هما قد أفزعهما ما أفزعني؛ فبينا نحن كذلك إذ سمعنا هزيزاً بأعلى الوادي كهزيز الرّحى، فأخبرناه بما كان من أمرنا، فقال النّبيّ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتاني اللّيلة آت من ربّي عزّ وجلّ فخيّرني بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أمتي الجنّة، فاخترت الشّفاعة " فقلت: أنشدك الله يا بني الله والصّحبة لما جعلتنا من أهل شفاعتك. قال: " فإنكم من أهل شفاعتي ". قال: فانطلقنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى انتهينا إلى النّاس، فإذا هم قد فزعوا حين فقدوا نبيّ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال نبيّ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتاني آت من ربّي عزّ وجلّ فخيّرني بين الشّفاعة وبين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة، فاخترت الشّفاعة ". فقالوا: ننشدك الله والصّحبة لما جعلتنا من أهل شفاعتك. فلّما انضمّوا عليه، قال نبيّ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإني أشهد من حضر أن شفاعتي لمن مات لا يشرك بالله عزّ وجلّ شيئاً ".
قال عوف بن مالك الأشجعيّ: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صّلى على جنازة، يقول: " اللهم اغفر له، وارحمه، واعف عنه، وعافه، وأكرم نزله، ووسّع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقّه من الخطايا كما ينقّى الثوب الأبيض من الدّنس، وأبدله بداره داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وقه فتنة القبر وعذاب النّار ".(19/351)
قال عوف بن مالك: فتمنّيت أن أكون الميّت لدعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك الميّت.
قال خليفة: وفي سنة ثلاث وسبعين مات عوف بن مالك الأشجعيّ من أصحاب النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عون بن إبراهيم بن الصّلت الشّاميّ
حدّث عن عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار، مولى بني أميّة، بسنده إلى عائشة: عن النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان قاعداً وحوله نفر من المهاجرين والأنصار، وهم كثير، إلى أن قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنّما مثل أحدكم ومثل ماله ومثل أهله كمثل رجل له إخوة ثلاثة؛ فقال لأخيه الذي هو ماله حين حضرته الوفاة، ونزل به الموت: ما الذي عندك، فقد نزل بي ما ترى؟ فقال أخوه الذي هو ماله: مالك عندي غناء، ومالك عندي نفع، إلاّ ما دمت حيّاً، فخذ منّي الآن ما أردت، فإني إذا فارقتك سيذهب بي إلى مذهب غير مذهبك، وسيأخذني غيرك ". فالتفت النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " هذا أخوه الذي هو ماله، فأيّ أخ ترونه؟ " قالوا: ما نسمع طائلاً يا رسول الله. " ثم قال لأخيه الذي هو أهله وقد نزل به الموت: قد حضرني ما ترى، فما عندك؟ " قال: لك عندي أن أمرّضك، وأقوم عليك، وأعينك، فإذا متّ غسّلتك وحنّطتك وكفّنتك، وحملتك في الحاملين، ثم أرجع عنك فأثني عليك بخير عند من سألني عنك " فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للّذي هو أهله: " أيّ أخ ترونه؟ " قالوا: ما نسمع طائلاً يا رسول الله. ثم قال لأخيه الذي هو عمله: ماذا لديك؟ قال: أشيّعك إلى قبرك، وأونس وحشتك، وأهب بهمّك، وأقعد في كفنك، وأتشوّل بخطاياك، فقال النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أيّ أخ ترون هذا الذي هو عمله؟ " قالوا: خير أخ يا رسول الله. قال: " فإن الأمر هكذا ".
قالت عائشة: فقام عبد الله بن كرز على رأس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، أتأذن أن أقول على هذا شعراً؟ قال: " نعم ". قالت عائشة: فما بات إلاّ ليلته تلك حتى غدا عبد الله بن كرز، واجتمع المسلمون لما سمعوا من تمثيل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموت وما فيه.(19/352)
قالت عائشة: فجاء ابن كرز على رأس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إيه يابن كرز " فقال: من الطويل
إنّي ومالي والّذي قدّمت يدي ... كداع إليه صحبه ثم قائل
لأصحابه إذ هم ثلاثة إخوة ... أعينوا على أمري الذي هو نازل
فراق طويل غير ذي مثنويّة ... فماذا لديكم في الذي هو غائلي
فقال امرؤ منهم: أنا الصّاحب الذي ... أطعتك فيما شئت قبل التّزايل
فأمّا إذا جدّ الفراق فإنّني ... لما بيننا من خلّة غير واصل
فخذ ما أردت الآن منّي فإنّني ... سيسلك بي في مهيل من مهايل
وإن تبقني لا أبق فاستنفذنّني ... فعجّل صلاحي قبل حتف معاجل
وقال امرؤ: قد كنت جدّاً أحبّه ... وأوثره من بينهم بالتّفاضل
غنائي أنّي جاهد لك ناصح ... إذا جدّ الكرب غير مقاتل
ولكنّني باك عليك ومعول ... ومثن بخير عند من هو سائلي
وأتّبع الماشين أمشي مشيّعاً ... أعين برفق عقبة كلّ حامل
إلى بيت مثواك الذي أنت مدخل ... وأرجع للأمر الذي هو شاغلي
كأن لم يكن بيني وبينك خلّة ... ولا حسن ودّ مرّةً في التّباذل
وذلك أهل المرء ذاك غناؤهم ... وليسوا ولو كانوا حراصاً بطائل
وقال امرؤ منهم: أنا الأخ الذي ... إخالك مثلي عند جهد الزّلازل
لدى القبر تلقاني هنالك قاعداً ... أجادل عنك في رجاع التّجادل
وأقعد يوم الوزن في الكفّة التي ... تكون عليها جاهداً في التّثاقل
فلا تنسني واعلم مكاني فإنّني ... عليك شفيق ناصح غير خاذل
وذلك ما قدّمت من كلّ صالح ... تلاقيه إن أحسنت يوم التّواصل
قالت عائشة: فما بقيت عند النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عين تطرف إلاّ دمعت. قالت: ثم كان ابن كرز يمّر على مجالس أصحاب النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيستنشدونه فينشدهم، فلا يبقى أحد من المهاجرين والأنصار إلاّ بكى.(19/353)
عون بن الحسن بن عون أبو جعفر
روى عن أبي علاثة أحمد بن أبي غسّان، بسنده إلى أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ألبسه الله نعمة فليكثر من الحمد لله؛ ومن كثرت همومه فليستغفر الله؛ ومن أبطأ عليه رزقه فليكثر من قول: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله؛ ومن نزل على قوم فلا يصوم إلا بإذنهم؛ ومن دخل دار قوم فليجلس حيث أمر، فإن القوم أعلم بعورة دارهم؛ وإنّ من الذّنب المسخوط به على صاحبه الجهد في الحسد، والكسل في العبادة، والضّنك في المعيشة ".
عون بن حكيم مولى الزّبير بن العوّام
من أصحاب الأوزاعيّ. كتب عن الأوزاعيّ، وحجّ معه، وكانت له دار بدمشق مّما يلي باب الجابية. قال: خرجت مع الأوزاعيّ إلى عين فاخته، إلى عبد الوهاب، قال: فصلّى بنا الظّهر. قال: فأدخل إصبعه بين منطقته وقبائه يذهب بها ويجيء. قال: فلمّا سلّم قلت للأوزاعيّ: يا أبا عمرو، ما رأيت أكثر عبثه بيده بمنطقته في الصّلاة؟ قال: الذي رآه شرّ منه.
وحدّث عن الوليد بن سليمان، عن أبي السّائب، عن رجاء بن حيوة: أنه كتب إلى هشام بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين، بلغني أنه دخلك شيء من قبل غيلان وصالح؛ فأقسم بالله لقتلهما أفضل من قتل ألفين من التّرك والدّيلم.
عون بن شمعلة المرّيّ
له ذكر في عصبيّة أبي الهيذام المرّيّ.
/(19/354)
عون بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود بن غافل بن حبيب أبو عبد الله الهذلي أخو عبيد الله بن عبد الله الفقيه وفد على عمر بن عبد العزيز في خلافته.
حدث عن ابن عمر قال: بينا نحن نصلي مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من القائل كذا وكذا؟ فقال رجلٌ من القوم: أنا يا رسول الله، قال: عجبت لها لما فتحت لها أبواب السماء. قال ابن عمر: فما تركتن منذ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ذلك.
وحدث عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه قال:
بينما نحن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ سمع القوم وهم يقولون: أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إيمانٌ بالله ورسوله، وجهادٌ في سبيل الله، وحج مبرور. ثم سمع نداءً في الوادي يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وأنا أشهد، ولا يشهد بها أحدٌ إلا برئ من الشرك.
كان عون بن عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن إخوة؛ فأما عبيد الله فكان من فقهاء أهل المدينة وخيارهم، وكان أعمى فمر عليه عبد الله بن عمرو بن عثمان وعمر بن عبد العزيز فلم يسلما عليه فأخبر بذلك فانشأ يقول: " من الطويل ".(20/5)
لاتعجبا أن تؤتيا فتكلما ... فما حشي الأقوام شراً من الكبر
ما تراب الأرض منه خلقتما ... وفيها المعد والمصير إلى الحشر
وأما عون بن عبد الله فكان من آدب أهل المدينة وأفقهم، وكان مرجئاً ثم رجع عن ذلك وأنشأ يقول: " من الوافر "
لأول ما تفارق غير شك ... ففارق ما يقول المرجئونا
وقالوا مؤمنٌ من أهل جورٍ ... وليس المؤمنون بجائرينا
وقالوا مؤمن ذمة حلالً ... وقد حرمت دماء المؤمنينا
ثم خرج مع ابن الأشعث فهرب حيث هربوا، فأتى محمد بن مروان بنصيبين، فأمنه وألزمه ابنه، فقال له محمد: كيف رأيت ابن أخيك؟ قال: ألزمتني رجلاً إن قعدت عنه عتب، وإن أتيته حجب، وإن عاتبته صخب، وإن صاحبته غضب. فتركته ولزم عمر بن عبد العزيز وهو خليفة؛ وكانت له منه منزلة، وخرج جرير، فأقام بباب عمر بن عبد العزيز فطال مقامه فكتب إلى عبد الله: " من البسيط "
يا أيها الفارس المرخي عمامته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني
بلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... أني لدى الباب كالمشدود في قرن
وأما عبد الرحمن بن عبد الله فهو الذي يقول: " من الوافر:(20/6)
تأثل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير
صدعت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليط فالتام الفطور
تغلغل حيث لم يدخل شرابٌ ... ولا حزنٌ ولم يدخل سرور
وقال: " من المتقارب "
أبادر بالمال سهمانه ... وقول المعوق والرائث
وأمنح نفسي الذي تشتهي ... وأوثر نفسي على الوارث
قال أبو أسامة: وصل إلى عون بن عبد الله أكثر من عشرين ألف درهم " فتصدق بها " فقال له أصحابه: لو اعتقدت عقدة لولدك، فقال: أعتقدها لنفسي وأعتقد الله لولدي. قال أبو أسامة فلم يكن في المسعوديين أحدٌ أحسن من ولد عون بن عبد الله.
كان عون يضع يده تحت لحيته، ثم يميلها إلى وجهه، ثم ينظر إليها، ثم يبكي ويقول: اللهم ارحم شيبتي.
قال أبو هارون موسى: كان عون يحدثنا ولحيته ترتش بالدموع.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عون بن عبد الله يعزيه بابن له: أما بعد؛ فإن الناس أهل آخرة أسكنوا الدنيا، أموات أبناء أموات، إخوان أموات: فكيف يعزي ميت ميتاً عن ميت؟ بأخيه، بأبيه، بابنه! والسلام. قال: فكتب إليه عون: أما بعد فما أنزل الموت كنه منزلته من عد غداً من أجله؛ فكم من مستقبل يوماً لا يستكمله! وكم من مؤملٍ لغدٍ لا يدركه، إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره، لأبغضتم الأمل وغروره.(20/7)
قال عون بن عبد الله: إن من كان قبلنا كانوا يجعلون لدنياهم ما فضل عن آخرتهم، وإنكم اليوم، تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم.
كان عون بن عبد الله يقول: اليوم المضمار وغداً السباق، وللسبقية الجنة وللغاية النار فبالعفو تنجون وبالرحمة تدخلون الجنة، وبالأعمال تقتسمون المنازل.
قيل لعون بن عبد الله: ما أنفع أيام المؤمن له؟ قال: يوم يلقى ربه فيعلمه أنه عنه راضٍ؛ قالوا: إنما أردنا من أيام الدنيا، قال: إن من أنفع أيامه له في الدنيا ما ظن أنه لا يدرك آخره.
قال عون بن عبد الله: الخير الذي لا شر فيه، الشكر مع العافية، والصبر عند المصيبة؛ فكم من منعمٍ عليه غير شاكر، ومبتلي غير صابر.
قال محمد بن سوقة: مررت مع عون بن عبد الله بالكوفة على قصر الحجاج، فقلت: لو رأيت ما نزل بنا هاهنا زمن الحجاج! فقال: مررت كأنك لم تدع إلى ضرمسك؛ ارجع فاحمد الله واشكره، ألم تسمع إلى قوله: " مر كأن لم يدعنا إلى ضرمسة ".
قال عون بن عبد الله: فواتح التقوى حسن النية، وخواتمها التوفيق؛ والعبد فيما بين ذلك بين هلكاتٍ وشبهاتٍ؛ ونفسٍ تحطب على شلوها، وعدو يكيد غير غافل ولا عاجز؛ ثم قرأ: " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ".(20/8)
كان عون بن عبد الله يقول: إن من أعظم الخير أن ترى ما أوتيت من الإسلام عظيماً عندما زوى عنك من الدنيا.
وعن عون بن عبد الله قال: قرأ رجلٌ عنده هذه الآية: " ومن يتق الله له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب " فقال عون: والله إنه ليرزقنا من حيث لا نحتسب، ووالله إنه ليجعل لنا المخرج، وما بلغنا كل التقوى، وأنا أرجوا إن شاء الله أن يفعل بنا في الثالثة، كما فعل بنا في الاثنتين " ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً ".
قال عون بن عبد الله: اهتمام العبد بذنبه داعٍ إلى تركه، وندمه عليه مفتاح لتوبته، ولا يزال العبد يغتم بالذنب يصيبه، حتى يكون أنفع له من بعض حسناته.
كان عون بن عبد الله أحياناً يلبس الخز وأحياناً يلبس الصوف والبت ونحوه، فقيل له في ذلك، فقال: ألبس الخز لئلا يتحي ذو الهيئة أن يجلس إلي، وألبس الصوف لئلا يهابني ضعفاء الناس أن يجلسوا إلي.
قال عون بن عبد الله: إذا أزرى أحدكم على نفسه فلا يقولن: ما في خير، فإن فيه التوحيد، ولكن ليقل: قد خشيت أن يهلكني ما في من الشر. وما أحسب أحداً تفرغ لعيب الناس، إلا من غفلته عن نفسه؛ ولو اهتم لعيب نفسه ما تفرغ لعيب أحدٍ ولا لذمه.
قال ثابت البناني: كان لعون بن عبد الله جاريةً يقال لها بشرة، وكانت تقرأ القرآن بألحان، فقال يوماً: يا بشرة اقرئي على إخواني، فكانت تقرأ بصوتٍ رجيع حزين، فرأيتهم يلقون العمائم عن رؤوسهم ويبكون، فقال لها يومئذ: يابشرة قد أعطيت بك ألف دينار لحسن(20/9)
صوتك، اذهبي فلا يملكك علي أحد، فأنت حرة لوجه الله. قال ثابت: فهي عجوز بالكوفة، لولا أن أشق عليها لبعثت إليها حتى تقدم علينا فتكون عندنا حتى تموت.
قال ليث بن أبي سليم: لما مات عون بن عبد الله تركت مجالسة الناس زماناً حزناً عليه.
وكان عون ثقة.
عويمر بن زيد بن قيس
ويقال ابن عامر، ويقال ابن عبد الله وقيل عويمر بن ثعلبة بن عامر بن زيد بن قيس أبو الدرداء الأنصاري الخزرجي من أفاضل الصحابة رضوان الله عليهم. شهد اليرموك، وكان قاضي أهله، وحضر حصار دمشق، وسكن حمص وانتقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى دمشق، وولي بها القضاء وكانت داره بباب البريد وفي نسبه اختلاف.
بعث عبد الملك بن مروان إلى أم الدرداء فكانت عنده، فلما كانت ذات ليلة قام عبد الملك من الليل، فدعا خادمه فكأنه أبطأ عنه، فلعنه، فلما أصبح قالت له أم الدرداء: قد سمعتك الليلة لعنت خادماً، قال: إنه أبطأ عني، قالت: سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة.
وعن أبي الدرداء قال: قالوا: يا رسول الله، أرأيت ما نفعل، أمرٌ قد فرغ منه أم شيءٌ نستأنفه؟ فقال: بل أمرٌ قد فرغ منه، قالوا: فكيف بالعمل يا رسول الله؟ قال: كل امرئٍ مهيأٌ لما خلق له.
وعن أبي الدرداء أنه كان إذا نزل به الضيف قال: أمقيم فنسرح أم ظاعنٌ فنعلف؟ فإن قال ظاعن(20/10)
قال: لا أجد شيئاً خيراً من شيءٍ أمر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ جاء ناس من الفقراء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر، يجاهدون ولا نجاهد ويحجون ويفعلون ولا نفعل. فقال: ألا أدلكم على ما إذا أخذتم به أدركتم أو جئتم بأفضل مما يأتون به؟ تكبرون الله أربعاً وثلاثين وتسبحون الله ثلاثاً وتحمدون الله ثلاثاً وثلاثين في دبر كل صلاة.
وأم أبي الدرداء محبة بنت واقد بن عمرو بن الإطنابة بن عامر بن زيد مناة، وكان أبو الدرداء أقنى، أشهل، يخضب بالصفرة، وكان تاجراً قبل أن بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم زاول العبادة والتجارة، وآثر العبادة وترك التجارة. وكان فقيهاص، عالماً، عابداً قارئاً أحد الأربعة الذين أوصى معاذ بن جبلٍ أصحابه أن يأخذوا العلم عنهم.
فاته بدر ثم اجتهد في العبادة وقال: إن اصحابي سبقوني.
آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين سلمان، وكان أبو الدرداء من آخر الأنصار إسلاماً.
وعن أبي الدرداء أنه قال:
لا مدينة بعد عثمان، ولا رجاء بعد معاوية.
وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله وعدني إسلام أبي الدرداء، فأسلم، قال جبير بن نفير: كان أبو الدرداء يعبد صنماً في الجاهلية؛ وإن عبد الله بن رواحة ومحمد بن مسلمة دخلا بيته فكسرا صنمه، فرجع أبو الدرداء فجعل يجمع صنمه ذلك ويقول: ويحك هلا امتنعت! ألا دفعت عن نفسك! فقالت أم الدرداء: لو كان ينفع أحداً أو يدفع عن أحد دفع عن نفسه ونفعها، فقال أبو الدرداء: أعدي لي في المغتسل ماء، فجعلت له ماء فاغتسل، وأخذ حلته فلبسها ثم ذهب إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنظر إليه ابن رواحة مقبلاً؛(20/11)
فقال: يا رسول الله هذا أبو الدرداء، وما أراه جاء إلا في طلبنا، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما جاء ليسلم، فإن ربي وعدني بأبي الدرداء أن يسلم.
حدث سعيد بن عبد العزيز أن أبا الدرداء أسلم يوم بدرٍ، وشهد أحداً فأبلى يومئذ، وفرض لع عمر في أربع مئة، ألحقه بالبدريين.
قال ابو الدرداء: بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا تاجر، فأردت أن تجتمع الصلاة مع التجارة فلم تجتمعا، فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة؛ والذي نفس أبي الدرداء في يده. ماأحب أن لي حانوتاً على باب المسجد لا تخطئني فيه صلاة، أربح فيه كل يومٍ أربعين ديناراً أتصدق بها في سبيل الله. قيل له: لم يا أبا الدرداء؟ وما تكره من ذلك؟ قال: شدة الحساب.
شهد أبو الدرداء أحداً وأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرد من على الجبل، فردهم وحده. وقيل: إنه لم يشهد أحداً.
ولما هزم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد كان أبو الدرداء يومئذ فيمن فاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس، فلما أظلهم المشركون من فوقهم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم ليس لهم أن يغلبونا، فثاب إليه يومئذٍ ناس، وانتدبوا وفيهم عويمر أبو الدرداء حتى دحضوهم عن مكانهم الذي كانوا فيه؛ وكان أبو الدرداء يومئذ حسن البلاء، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم الفارس عويمر. وقال: حكيم أمتي عويمر.
كان أبو الدرداء يرمي بنبله يوم الشعب حتى أنفذها، ثم جعل يدهده عليهم الصخر والحجارة فحانت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه نظرة، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو الدرداء، فقال: نعم الفارس عويمر! ثم حانت منه نظرة أخرى فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو الدرداء، فقال: نعم الرجل أبو الدرداء!.(20/12)
وعن أنس قال: مات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.
قال الشعبي: جمع القرآن على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستة نفرٍ من الأنصار: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء وسعد بن عبيد، وأبو زيد؛ ومجمع بن دارية قد أخذه إلا سورتين أو ثلاثة. قال: ولم يجمعه أحد من الخلفاء من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير عثمان.
وفي حديث آخر بمعناه، وكان ابن مسعود قد أخذ بضعاً وسبعين سورةً وتعلم بقية القرآن من مجمع.
وعن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأرفق أمتي لأمتي عمر، وأصدق أمتي حياة عثمان، وأقضي أمتي علي بن أبي طالب، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل؛ يجيء يوم القيامة أمام العلماء برتوة وأقرأ أمتي أبي بن كعب، وأفرضها زيد بن ثابت، وقد أوتي عمير عبادةً. يعني أبا الدرداء.
وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبو بكر الصديق أرق أمتي وأرحمها، وعمر بن الخطاب خير أمتي وأعدلها، وعثمان بن عفان أحيا أمتي وأكرمها، وعلي بن أبي طالب ألب أمتي وأشجعها، وعبد الله بن مسعود أبر أمتي وآمنها، وأبو ذر الغفاري أزهد أمتي وأصدقها، وأبو الدرداء أعبد أمتي وأتقاها.(20/13)
وعن شداد بن أوس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أبو بكر أوزن أمتي اعدلها، وعلي بن أبي طالب ولي أمتي اوسمها، وعبد الله بن مسعود أمين أمتي وأوصلها، وأبو ذر الغفاري أزهد أمتي وأرأفها، وأبو الدرداء أعدل أمتي وأرحمها، ومعاوية بن أبي سفيان أحلم أمتي وأجودها.
قال أبو جعفر: ولا يتابع على هذا الحديث ولا نعرفه إلا به.
وعن مكحول قال:
كانت الصحابة يقولون فيما بينهم: أرحمنا بنا أبو بكر وأنطقنا بالحق عمر، وأميننا أبو عبيدة بن الجراح، وأعلمنا بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرأنا أبي بن كعب، ورجل عنده علم ابن مسعود وتبعهم عويمر بالعقل.
وعن جبير بن نفير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لكل أمة حكيماً وحكيم هذه الأمة أبو الدرداء.
وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير قال: أرسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً فقال: اجمع لي بني هاشم في دار ... فذكر الحديث، وقال فيه: قال: فرفع يديه ورفعوا أيديهم، فلما قضى رغبته جعل يسأل من يليه بماذا دعوت؟ ثم الذي يليه، ثم الذي يليه وقد حضر ذلك أبو الدرداء، فرآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رافعاً يديه، وأقبل حتى حضر معهم الرغبة، فسأله: بم دعوت به يا عويمر؟ قال: قلت: اللهم إني أسألك جنات الفردوس نزلا، وجنات عدن نفلا، في معافاة منك ورحمة، وخير وعافية، وعلمٍ لا ينسى. فأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده مرة أو مرتين يقول: ذهبت بها يا عويمر.
وعن محمد بن إسحاق قال: كان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقول: أتبعنا للعلم والعمل أبو الدرداء، وأعلمنا بالحلال والحرام معاذ. وفي نسخة: يقولون: أتبعنا للعلم بالعمل.(20/14)
وعن أبي جحيفة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء، فجاء سلمان يزور أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبتلة، قال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك ليس له حاجةً في الدنيا. فلما جاء أبو الدرداء رحب به وقرب إليه طعاماً، فقال له سليمان: أطعهم، قال: إني صائم، قال: أقسمت عليك إلا ما طعمت، ما أنا بآكلٍ حتى تأكل؛ قال: فأكل معه وبات عنده، فلما كان من الليل قام أبو الدرداء فحبسه سلمان ثم قال: يا أبا الدرداء، إن لربك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، أعط كل ذي حق حقه، صم وأفطر، وقم ونم، وأت أهلك. فلما كان عند الصبح قال: قم الآن، فقاما فصليا ثم خرجا إلى الصلاة؛ فلما صلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام إليه أبو الرداء فأخبره بما قال سلمان، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل ما قال سلمان له.
وعن أبي الدرداء قال: تضيفهم ضيف، فأبطأ أبو الدرداء حتى نام الضيف طاوياً، ونام الصبية جياعاً، فجاء والمرأة غضبى تلظى فقالت: لقد شققت علينا منذ الليلة! اقل: أنا؟ قالت: نعم، أبطأت علينا حتى بات ضيفنا طاوياً، وبات صبياننا جياعاً. قال: فغضب فقال: لا جرم والله لا أطعمه الليلة - والطعام موضوع بين يديه - فقالت أنا والله لا أطعمه حتى تطعمه. قال: فاستيقظ الضيف وقال ما بالكما؟ فقال له: ألا ترى إليهما تجني علي الذنوب؟ إني احتبست في كذا وكذا، فقال الضيف: وأنا والله لا أطعمه حتى تطعماه. قال: فلما رأيت الطعام موضوعاً ورأيت الضيف جائعاً، والصبية جياعاً قدمت والله يا رسول الله يدي فأكلت، وقدموا أيديهم فأكلوا، فبروا والله يا رسول الله وفجرت؛ قال: بل أنت كنت خيرهم وأبرهم.
وعن أبي الدرداء قال قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا فرطكم على الحوض فلألفين ما نوزعت في أحدٍ منكم فأقول: هذا مني، فيقال: لا تدري ما أحدث بعدك. فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن لا يجعلني منهم. قال: إنك لست منهم.(20/15)
وعن أبي الدرداء قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله بلغني أنك قل: ليكفرن قوم بعد إيمانهم. قال: نعم ولست منهم.
وفي حديث بمعناه ومعنى ما تقدمه: فتوفى أبو الدرداء قبل أن يقتل عثمان وقبل أن تقع الفتن.
قال أبو الدرداء قبل أن يقتل عثمان وقبل أن تقع الفتن.
قال رجلٌ لأبي الدرداء: يا معشر القراء ما بالكم أجبن منا وأبخل إذا سئلتم، وأعظم لقماً إذا أكلتم؟ فأعرض عنه أبو الدرداء ولم يرد عليه شيئاً، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب، فسأل أبا الدرداء عن ذلك؟ فقال أبو الدرداء: اللهم غفراً! وكل ما سمعناه منهم نأخذهم به! فانطلق عمر إلى الرجل الذي قال لأبي الدرداء ما قال، فقال بثوبه وخنقه، وقاده إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الرجل: إنما كنا نخوض ونلعب، فأوحى الله تعالى إلى نبيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ".
قال أبو الدرداء:
لو أنسيت آية لم أجد أحداً يذكرنيها إلا رجلاً ببرك الغماد رحلت إليه. وعن أبي الدرداء قال: سلوني فوالذي نفسي بيده لئن فقدتموني لتفقدن رجلاً عظيماً من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كذا قال رجلاً، وفي حديث: لتفقدن زملاً عظيماً من أمة محمد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الزمل في كلام العرب: بمعنى الحمل. ويقال ازدمل الحمل: أي احتمله يزيد أنه في كثرة ما جمعه من العلم وادخره منه كالحمل العظيم من المتاع المحزوم. وروي: زملاً عظيماً، قال: وهذا لا وجه له إنما الزمل الضعيف.
ولما حضرت معاذاً الوفاة قالوا: يا أبا عبد الرحمن أوصنا. قال أجلسوني، فقال: إن العلم والإيمان من ابتغاهما - ثلاثاً قالها - فالتمسوا العلم عند أربعة رهط: عند عويمر(20/16)
أبي الدرداء. وعند سلمان الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام الذي كان يهودياً فأسلم، فإني سمعت رسول الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: عاشر عشرة في الجنة.
قال مرة بن شراحيل: كان عبد الله بن مسعود يقول: علماء الناس ثلاثة: واحد بالعراق، وآخر بالشام يعني أبا الدرداء يحتاج إلى الذي بالعراق يعني نفسه والذي بالشام والعراق يحتجان إلى الذي بالمدينة - يعني علي بن أبي طالب - ولا يحتاج إلى واحد منهما.
قال أبو ذر لأبي الدرداء: ماحملت ورقاء، ولا أظلت خضراء، أعلم يا أبا الدرداء.
قال مسروق: وجدت علم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهى إلى ستة: عمر، وعلي، وأبين وزيد، وأبي الدرداء، وعبد الله بن مسعود، ثم انتهى علم هؤلاء الستة إلى علي وعبد الله.
وكان أبو الدرداء من العلماء والحكماء. قال القاسم بن محمد: كان أبو الدرداء من الذين أوتوا العلمز كان عبد الله بن عمر يقول: حدثونا عن العاقلين. فيقال له: من العاقلان؟ فيقول: معاذ وأبو الدرداء.
دخل أبو الدرداء مالاً له ومعه ناسٌ من أصحابه، فطافوا فيه، فلما خرجوا قالوا: ما رأينا كاليوم مالاً أحسن! قال: فإني أشهدكم أن ما خلفت خلف ظهري في سبيل الله، وأن ذلك إليى أمير المؤمنين يضعه حيث رأى. ثم أتى عمر فاستأذن في أن يأتي الشام فقال: لا آذن لك إلا أن تعمل؛ قال: فإني لا أعمل، قال فإني لا آذن لك، قال: فأنطلق فإعلم الناس سنة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصلي بهم؛ فأذن له، فكان الناس في الصيف يتفرقون في المغزي، فإذا كان الشتاء اجتمعوا في المشتى فصلى بهم أبو الدرداء.
فخرج عمر إلى الشام وقد اجتمعوا في المشتى، فلما كان قريباً منهم أقام حتى أمسى،(20/17)
فلما جنة الليل قال: يا يرفأ، انطلق إلى يزيد بن أبي سفيان، أبصره، عنده سمار ومصباح، مفترشاً ديباجاً وحريراً من فيء المسلمين، فتسلم عليه، فيرد عليك، وتستأذن فلا يأذن لك حتى يعلم من أنت - فذكر جويرية كراهيته ولم يحفظ أبو محمد لفظه - قال: فانطلقا حتى انتهيا إلى بابه، فقال: السلام عليكم، فقال: وعليكم السلام قال: أدخل؟ قال: ومن أنت؟ قال يرفأ: هذا من يسوؤك، هذا أمير المؤمنين. ففتح الباب، فإذا سمار ومصباح، وإذا هو مفترش ديباجاً وحريراً، قال: با يرفأ، الباب الباب؛ ثم وضع الدرة بين أذنيه ضرباً، وكور المتاع فوضعه في وسط البيت، ثم قال للقوم: لا يبرح أحدٌ حتى أرجع إليكم.
ثم خرجنا من عنده، فقال: يا يرفأ، انطلق بنا إلى عمرو بن العاص، أبصره، عنده سمار ومصباح، مفترشاً ديباجاً من فيء المسلمين فتسلم عليه، فيرد عليك، وتستأذن عليه فلا يأذن لك حتى يعلم من أنت - فذكر جويرية مشقة ذلك على عمر، وذكر خلفه واعتذاره - قال: فانتهينا إلى بابه، فقال عمر: السلام عليكم، قال: وعليك السلام، قال: أدخل؟ قال: ومن أنت؟ قال يرفأ: هذا من يسوؤك، هذا أمير المؤمنين. قال: ففتح الباب، فإذا سمار ومصباح، وإذا هو مفترش ديباجاً وحريراً، قال: با يرفأ، الباب الباب؛ ثم وضع الدرة بين أذنيه ضرباً، فجعل عمرو يحلف، ثم كور المتاع فوضعه في وسط البيت، ثم قال للقوم: لا تبرحوا حتى أعود إليكم.
فخرجنا من عنده، فقال: يا يرفأ، انطلق بنا إلى أبي موسى، أبصره، عنده سمارٌ ومصباح، مفترشاً صوفاً من مال فيء المسلمين فتستأذن عليه فلا يأذن لك حتى يعلم من أنت، قال: فانطلقنا إليه وعنده سمارٌ ومصباح، مفترشاً صوفاً، فوضع الدرة بين أذنيه ضرباً وقال: أنت أيضاً يا أبا موسى! قال: يا أمير المؤمنين، هذا وقد رأيت ما صنع أصحابي، أما والله لقد أصبت مثل ما أصابوا، قال فما هذا؟ قال: زعم أهل البلد أنه(20/18)
لا يصلح إلا هذا؛ فكور المتاع فوضعه في وسط البيت، وقال للقوم: لا يبرح منكم أحدٌ حتى أعود إليكم.
فلما خرجنا من عنده قال: يا يرفأ، انطلق بنا إلى أخي لتبصر به ليس عنده سمار ولا مصباح، وليس لبابه غلق، مفترشاً بطحاء، متوسداً برذعة، عليه كساء رقيق قد أذلقه البرد، فتسلم عليه فيرد عليك السلام، وتستأذن فيأذن لك من قبل أن يعلم من أنت. فانطلقنا، حتى إذا قمنا على بابه قال: السلام عليكم، قال: وعليك السلام، قال: أدخل؟ قال: ادخل، فدفع الباب، فإذا ليس له غلق، فدخلنا إلى بيتٍ مظلم، فجعل عمر يلمسه حتى وقع عليه، فجس وساده فإذا برذعة، وجس فراشه فإذا بطحاء؛ وجس دثاره فإذا مساءٌ رقيق، فقال أبو الدرداء: من هذا؟ أمير المؤمنين؟ قال نعم، قال: أما والله لقد استبطأتك منذ العام، قال عمر رحمه الله: أو لم أوسع عليك؟ ألم أفعل بك؟ فقال له أبو الدرداء: أتذكر حديثاً حدثناه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا عمر؟ قال أي حديث؟ قال: ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب. قال: نعم، قال فماذا فعلنا بعده يا عمر؟ قال فما زالا يتجاوبان بالبكاء حتى أصبحا.
قال محمد بن كعب القرظي: جمع القرآن في زمان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسةٌ من الأنصار: معاذ بن جبل، وعبادة بن صامت، وأبي بن كعب، وأبو أيوب، وأبو الدرداء؛ فلما كان زمان عمر بن الخطاب كتب إليه يزيد بن أبي سفيان: إن أهل الشام قد كثروا وربلوا وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم؛ فأعني يا أمير المؤمنين برجالٍ يعلمونهم. فدعا عمر أولئك الخمسة فقال لهم: إن إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، فأعينوني رحمكم الله بثلاثة منكم، إن أحببتم فاستهموا وإن انتدب منكم ثلاثة فليخرجوا. فقالوا: ما كنا لنتساهم، هذا شيخٌ كبير - لأبي أيوب - وأما هذا فسقيم - لأبي بن كعب - فخرج معاذ وعبادة وأبو الدرداء، فقال عمر: ابدؤوا بحمص، فإنكم ستجدون الناس على وجوهٍ مختلفة، منهم من يلقن، فإذا رأيتم ذلك فوجهوا طائفةً من(20/19)
الناس، فإذا رضيتم منهم، فليقم بها واحد وليخرج واحدٌ إلى دمشق والآخر إلى فلسطين.
فقدموا حمص فكانوا بها، حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين. فأما معاذ فمات عام طاعون عمواس؛ وأما عبادة فصار بعد إلى فلسطين فمات بها: وأما أب الدرداء فلم يزل بدمشق حتى مات.
قال راشد بن سعد: بلغ عمر أن أبا الدرداء ابتنى كنيفاً بحمص، فكتب إليه: أما بعد يا عويمر، أما كانت لك كفايةً فيما بنت الروم عن تزيين الدنيا، وقد أذن الله بخرابها؟ فإذا أتاك كتابي هذا فانتقل من حمص إلى دمشق. قال سفيان: عاقبه بهذا.
وكان عمر أمر أبا الدرداء على القضاء - يعني بدمشق - وكان القاضي يكون خليفة الأمير إذا غاب.
قال يحيى بن سعيد: استعمل أبو الدرداء على القضاء، فأصبح يهنئونه، فقال: أتهنئوني بالقضاء وقد جعلت على رأس مهواةٍ مزلتها أبعد من عدن أبين؟؟ ولو علم الناس ما في القضاء لأخذوه بالدول رغبةً عنه وكراهية له؛ ولو يعلم الناس ما في الأذان لأخذوه بالدول رغبةً فيه وحرصاً عليه.
كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي أن هلم إلى الأرض المقدسة؛ فكتب إليه سلمان أن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسان عمله؛ وقد بلغني أنك جعلت طبيباً(20/20)
يداوي، فإن كنت تبرئ فنعم مالك، وإن كنت متطبباً فاحذر أن تقتل إنساناً فتدخل النار. وكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه، نظر إليهما فقال: ارجعا إلى أعيدا علي قصتكما.
وفي حديث بمعناه زيادة: وبلغني أنك اتخذت خادماً، وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن العبد لا يزال من الله، والله منه ما لم يخدم، فإذا خدم وجب عليه الحساب.
كتب أبو الدرداء إلى بعض إخوانه: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله والزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله، فإنك إذا فعلت ذلك أحبك الله لرغبتك فيما عنده، وأحبك الناس لتركك لهم دنياهم والسلام.
كتب أبو الدرداء إلى مسلمة بن مخلد: سلامٌ عليك أما بعد، فإن العبد إذا عمل بطاعة الله أحبه الله، فإذا أحبه الله حببه إلى عباده: وإن العبد إذا عمل بمعصية الله أبغضه الله، فإذا أبغضه الله، بغضه إلى عباده.
قال أبو الدرداء: إني لآمركم بالأمر وما أفعله، ولكن لعل الله أن يأجرني فيه.
زاد في آخر معناه: وإن أبغض الناس (إلي أن) أظلمه الذي لا يستعين علي إلا بالله.
وعن سعد بن إبراهيم، عن أبيه أن عمر بعث إلى أبي الدرداء وابن مسعود وأبي مسعود فقال: ما هذا الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فحبسهم بالمدينة حتى مات.(20/21)
قال المصنف: وهذا من عمر لم يكن على وجه الاتهام لهم، وإنما أراد إقلالهم للرواية لئلا يشتغل الناس بما يسمعونه منهم عن تعلم القرآن. وقد روي عن أبي الدرداء في تحرزه في الرواية أنه كان إذا حدث الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اللهم إلا هكذا فشكله.
وعن خالد بن معدان قال: قال أبو الدرداء: الدنيا ملعونة؛ ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما أوى إليه؛ والعالم والمتعلم في الخير شريكان، وسائر الناس همجٌ لا خير فيهم.
قال أبو الدرداء: لا خير في الحياة إلا لأحد رجلين: منصتٍ واعٍ، أو متكلمٍ عالم.
وعن أبي الدرداء قال: مالي أرى علماءكم يذهبون وأرى جهالكم لا يتعلمون! تعلموا، فإن العالم والمتعلم في الأجر سواء، ولا خير في سائر الناس؛ مالي أراكم تحرصون على ما تكفل لكم به وتباطؤون عما أمرتم به! وعن أبي الدرداء قال: لا تكون عالماً حتى تكون متعلماً ولا تكون بالعلم عالماً حتى تكون به عاملاً.
وعن بي الدرداء: إن أخوف ما أخاف إذا وقفت على الحساب أن يقال لي: قد علمت، فماذا عملت فيما علمت؟ وعن أبي الدرداء قال: ويل للذي لا يعلم مرةً، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات.(20/22)
قال عون بن عبد الله بن عتبة: سألت أم الدرداء: ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: التفكر والاعتبار.
قالت أم الدرداء: وقد قيل لها: ما كان أكثر عمل أبي الدرداء يا أم الدرداء؟ فقالت: التفكر، قالت: نظر يوماً إلى ثورين يخدان في الأرض، مستقلين بعملهما، إذ عنت أحدهما، فقام الآخر. فقال أبو الدرداء: في هذا تفكر، استقلا بعملهما واجتمعا، فلما عنت أحدهما قام الآخر، كذلك المتعاونان على ذكر الله عز وجل.
كان أبو الدرداء يقول: من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر ولهم بذلك أجر، ومن الناس مفاتيح للشر، مغاليق للخير وعليهم بذلك إصر؛ وتفكر ساعةٍ خيرٌ من قيام ليلة.
قيل لأبي الدرداء وكان لا يفتر من الذكر: كم تسبح يا أبا الدرداء في كل يوم؟ قال: مئة ألف إلا أن تخطئ الأصابع.
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: جلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم، فأخذ عوداً يابساً فحط ورقة ثم قال: إن قول لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله يحط الخطايا كما يحط ورق هذه الشجرة، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن، فإنهن الباقيات الصالحات، وهن من كنوز الجنة. فقال أبو سلمة: فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث، لأهللن الله، ولأكبرن الله، ولأسبحن الله، حتى إذا رآني جاهلٌ حسب أني مجنون.
قال مكحول: نزل سلمان بأبي الدرداء، فلما كان في ليلة الجمعة، تعشى أبو الدرداء وصلى ونام بثيابه، فقال سلمان لأم الدرداء: أنبهيه، قالت: إنه ليس ينزع ثيابه ليلة الجمعة. فأنبهه سلمان فقال: ألا تنزع ثيابك؟ قال: إني أريد أن أقوم أصلي ليلتي. قال: إن لعينك(20/23)
عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً. فقام أبو الدرداء فقال: أحييتني أحياك الله، أحييتني أحياك الله، ثلاث مرات.
وعن أم الدرداء قالت: قلت لأبي الدرداء: ألا تبتغي لأضيافك ما يبتغي الرجال لأضيافهم! فقال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن أمامك عقبة كؤوداً لا يجوزها المثقلون. فأحب أن أتخفف لتلك العقبة.
وعن حدير الأسلمي
أنه دخل على أبي الدرداء وتحته فراش جلد وسبنية صوف، وهو وجعٌ وقد عرق، فقال له حدير: ما يمنعك أن تكتسب فراشاً بورق وكساء خز وقطيفة خز مما يعطيك معاوية؟! فقال أبو الدرداء: إن لنا داراً لها نعمل، وإليها نظعن، وإن المخف فيها أفضل من المثقل.
كتب أبو الدرداء إلى سلمان: يا أخي، بلغني أنك اشتريت خادماً، وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يزال العبد يقول: لا يزال العبد من الله عز وجل وهو منه ما لم يخدم، فإذا خدم وجب عليه الحساب. وإن أم الدرداء سألتني خادماً وأنا يومئذ موسراً، فكرهت ذلك لما سمعته من الحساب، ويا أخي، من لي ولك بأن نوافي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم القيامة ولا نخاف حساباً! ويا أخي لا تغتر بصحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنا قد عشنا بعده دهراً طويلاً، والله أعلم بالذي أصبنا.
قال محمد بن واسع: كتب أبو الدرداء إلى سلمان: من أبي الدرداء إلى سلمان، أما بعد يا أخي، اغتنم صحتك وفراغك من قبل أن ينزل بك من البلاء ما لا يستطيع أحد من الناس رده، يا أخي اغتنم دعوة المؤمن المبتلي، ويا أخي ليكن المسجد بيتك، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(20/24)
يقول: المسجد بيت كل تقي. وقد ضمن الله لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والراحة، والجواز على الصراط إلى رضوان الرب، ويا أخي أدن اليتيم منك، وامسح برأسه والطف به وأطعمه من طعامك، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: وجاءه رجل يشكو إليه قسوة قلبه. قال: أدن اليتيم منك والطف به، وامسح برأسه وأطعمه من طعامك، فإن ذلك يلين قلبك، وتدرك حاجتك؛ ويا أخي إياك أن تجمع من الدنيا ما لاتؤدي شكره، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يؤتى بصاحب المال الذي أطاع الله فيه، وماله بين يديه، كلما انكفأ به الصراط قال له ماله: امض فقد أديت حق الله في، ثم يجاء بصاحب المال الذي لم يطع الله فيه وماله بين كتفيه، كلما تكفأ به الصراط قال له ماله: ويلك، ألا أديت حق الله في! فما يزال كذلك حتى يدعو بالويل والثبور ... الحديث.
قال أبو البختري: بينا أبو الدرداء يوقد تحت قدرٍ إذ سمع في القدر صوتاً، ثم ارتفع الصوت بتسبيح كهيئة صوت الصبي، ثم انكفأ القدر، ثم رجعت إلى مكانها ولم ينصب منها شيء، فجعل أبو الدرداء ينادي: يا سلمان انظر إلى ما لم تنظر إلى مثله أنت ولا أبوك، فقال له سلمان: أما إنك لو سكت لسمعت من آيات الله الكبرى.
قال ميمون: مرض أبو الدرداء ففزع إلى نفقةٍ كانت عنده، فوجدها خمسة عشر درهماً فقال: ما كانت هذه مبقيةً مني شيئاً، إن كانت لمحرقة ما بين عانتي إلى ذقني.
وعن مالك بن أنس أن أبا الدرداء قال: إني لبخيل، إن كان لي ثلاثة أثواب لا أقرض الله أحدها.
كان أبو الدرداء يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من تفرقة القلب. قيل له: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يوضع لي في كل وادٍ مال.
قالت أم الدرداء: بات أبو الدرداء ليلة يصلي، فجعل يبكي ويقول: اللهم أحسنت خلقي فحسن(20/25)
خلقي؛ حتى أصبح، فقلت له: يا أبا الدرداء ما كان دعاؤك منذ الليلة إلا في حسن الخلق! فقال: يا أم الدرداء، يأتي العبد المسلم يحسن خلقه حتى يدخله حسن خلقه الجنة، ويسيء خلقه حتى يدخله خلقه النار! وإن العبد المسلم ليغفر له وهو نائم. قالت: قلت: كيف ذلك يا أبا الدرداء؟ قال: يقوم أخوه من الليل فيتجهد، فيدعو الله عز وجل، فيستجيب له، ويدعو لأخيه فيستجب له فيه.
خرج أبو الدرداء إلى السوق ليتشري قميصاً، فلقي أبا ذر فقال: أين تريد يا أبا الدرداء؟ قال: أريد أن أشتري قميصاً، قال: بكم؟ قال: بعشرة دراهم، قال: فوضع يده على رأسه ثم قال: ألا إن أبا الدرداء من المسرفين. قال: فالتمست مكاناً أتوارى فيه فلم أجد، فقلت: يا أبا ذر، لاتفعل، مر معي فاكسني أنت، قال: وتفعل؟ قلت: نعم؛ فأتى السوق، فاشترى قميصاً بأربعة دراهم. قال: فانصرفت، حتى إذا كنت بين منزلي والسوق لقيت رجلاً لا يكاد يواري سوءته، فقلت له: اتق الله ووار سوءتك، فقال: والله ما أجد ما أواري به سوءتي؛ فألقيت إليه الثوب ثم انصرفت إلى السوق، فاشتريت قنيصاً بأربعة دراهم، ثم انصرفت إلى منزلي، فإذا خادمةٌ على الطريق ابكي قد اندق إناؤها، فقلت: ما يبكيك؟ فقالت: اندق إنائي فأبطأت على أهلي. فذهبت معها إلى السوق، فاشتريت لها سمناً بدرهم، فقالت: يا شيخ! أما إذ فعلت ما فعلت، فامش معي إلى أهلي فإني قد أبطأت وأخاف أن يضربوني؛ قال: فمشيت معها إلى مواليها، فدعوت، فخرج مولاها إلي فقال: ما عندك يا أبا الدرداء؟ فقلت: خادمتكم أبطأت عنكم وأشفقت أن تضربوها فسألتني أن آتيكم لتكفوا عنها، قال: فأنا أشهدك أنها حرةً لوجه الله " عز وجل " للمشاك معها. قال: فقلت: أبو ذر أرشد مني حين كساني قميصاً وكسا مسكيناً قميصاً وأعتق رقبةً بعشرة دراهم.
قال عوف بن مالك الأشجعي: رأيت في المنام كأني أتيت مرجاً أخضر فيه قبةً من أدم، حولها غنم ربضٌ، تجتر(20/26)
وتبغر العجوة، فقلت: لمن هذه؟ فقيل لي: لعبد الرحمن بن عوف؛ فانتظرته حتى خرج من القبة قال: ياعوف بن مالك، هذا ما أعطانا الله سبحانه بالقرآن، فلو أشرفت على هذه الثنية لرأيت ما لم تر عينك، ولسمعت ما لم تسمع أذنك، ولا يخطر على قلبك، أعده الله عز وجل لأبي الدرداء لأنه كان يدفع الدنيا بالراحتين والنحر.
وعن معاوية بن قرة قال: قال أبو الدرداء: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك، ويكثر علمك، وأن تباري الناس في عبادة الله؛ وإذا أحسنت حمدت الله، وإذا أسأت استغفرت الله.
وعن أبي الدرداء أنه قال: لولا ثلاثٌ خلال لأحببت أن لا أبقى في الدنيا؛ فقلت: وما هن؟ فقال: لولا وضع وجهي للسجود لخالقي في اختلاف الليل والنهار لحياتي؛ وظمأ الهواجر؛ ومقاعدة قومٍ ينتقون الكلام كما تنتقي الفاكهة، وتمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه في مثقال ذرة، حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حراماً، حاجزاً بينه وبين الحرام. إن الله تبارك اسمه قد بين للعباد الذي هو مصيرهم إليه، قال الله عز وجل: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " فلا تحقرن شيئاً من الشر أن تتقيه، ولا شيئاً من الخير أن تفعله.
قال أبو الدرداء: لن تزالوا بخير ما أحببتم خياركم وما قيل بالحق فعرفتموه، فإن عارف الحق كعامله.
قال أبو الدرداء: ثلاثٌ من ملاك أمرك يا بن آدم: لاتشك مصيبتك؛ وأن لا تحدث بوجعك؛ وأن لا تزكي نفسك بلسانك.(20/27)
كان أبو الدرداء يقول: ما أهدى إلي أخ هدية أحب إلي من السلام، ولا بلغني خبرٌ أعجب إلي من موته.
قيل لأبي الدرداء: ما تحب لصديقك؟ قال: يقل الله ماله وولده، ويعجل موته؛ قال: فما تحب لعدوك؟ قال: يكثر ماله وولده، ويطيل بقاؤه.
قال أبو الدرداء: ثلاثٌ أحبهن ويكرههن الناس: الفقر، والمرض، والموت.
وعن أبي ذر أو أبي الدرداء أنه قال: تولدون للموت وتعمرون للخراب، وتحرصون على ما يفنى، وتذرون ما يبقى ألا حبذا المكروهات الثلاث: الموت والمرض والفقر.
قال أبو الدرداء: أحب الفقر تواضعاً لربي، وأحب الموت اشتياقاً إلى ربي، وأحب المرض تكفيراً لخطيئتي.
حدث إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة قال:
إن نفراً من الجن تكونوا في صورة اإنس فأتوا رجلاً فقالوا: أي شيءٍ أحب إليك أن يكون لك؟ قال: الإبل، قالوا: أحببت الشقاء والعناء وطول البلاء تلحقك بالغربة وتبعدك من الأحبة. فارتحلوا من عنده فنزلوا بآخر فقالوا: أي شيئٍ أحب إليك أن يكون لك؟ قال: العبيد، قالوا: عز مستفاد، وغيظٌ كالأوتاد، ومال وبعاد. فارتحلوا فنزلوا على آخر فقالوا: أي شيءٍ أحب إليك أن يكون ذلك؟ قال: أحب الغنم، قال: أكل آكل ورفدة سائل، لا تملك في الحرب، ولا تلحقك بالنهب، ولا تنجيك من الكرب. فارتحلوا من عنده فنزلوا على آخر فقالوا: أي شيءٍ أحب إليك أن يكون لك؟ قال: أحب الأصل، قالوا: ثلاث مئة وستون نخلة غنى الدهر، ومال الضح والريح. فارتحلوا من عنده فنزلوا على آخر فقالوا: أي شيءٍ أحب إليك أن يكون لك؟ قال: أحب الحرث، قالوا: نصف العيش، حين(20/28)
تحرث تجد وحين لا تحرث لا تجد. قال: فارتحلوا من عنده فنزلوا على آخر فقالوا: أي شيءٍ أحب إليك أن يكون لك؟ قال: كما أنتم أضيفكم، قال: فجاءهم بخبز فقالوا: قمح صالح؛ ثم جاءهم بلحم فقالوا: روحٌ يأكل روحاً! ماقل منه خير مما كثر. فجاءهم بتمرٍ ولبن، تمر النخلات ولبن البكرات، كلوا بسم الله؛ قال: فأكلوا، قالوا: أخبرنا ما أحدٌ شيء وما أحسن شيء وما أطيب شيء رائحة؟ قال: أما أحد شيء فضرصٌ جائع يقذف في معى ضائع؛ وأما أحسن شيء فغاديةٌ في إثر سارية، في أرضٍ رابية؛ وأما أطيب شيء رائحةٌ فريح زهر في إثر مطر؛ قالوا: فأخبرنا أي شيءٍ أحب إليك أن يكون لك؟ قال: أحب الموت، قالوا: لقد تمنيت شيئاً ما تمناه أحدٌ قبلك! قال: ولم؟ قال: إن كنت محسناً ضمن لي إحساني، وإن كنت مسيئاً كفاني إساءتي، وإن كنت غنياً فقبل فقري، وإن كنت فقيراً ضمن لي فقري. قالوا: أوصنا وزودنا؛ فأخرج إليهم قربة من لبن فقال: هذا زادكم، قالوا: أوصنا، قال: قولوا لا إله إلا الله، تكفيكم ما بين أيديكم وما خلفكم. فخرجوا من عنده وهم يحزمونه على الجن والإنس.
قالوا إن الرجل الذي نزلوا عليه بأخرة عويمر أبو الدرداء.
وعن أبي الدرداء قال: لاتزال نفس أحدكم شابة في حب الشيء ولو التقت ترقوتاه من الكبر إلا الذين امتحن الله قلوبهم للآخرة، وقليل ما هم.
أوجعت أبا الدرداء عينه حتى ذهبت، فقيل له: لو دعوت الله لها العافية، فقال: ما تفرغت بعد من دعائه في ذنوبي أن يغفر لي، فكيف أدعوه لعيني؟!.
قال أبو الدرداء: من لم يكن غنياً عن الدنيا فلا دنيا له.(20/29)
جاء رجلٌ إلى أبي الدرداء فقال: أوصني، قال: اذكر الله في السراء يذكرك في الضراء، وإذا ذكرت الموتى فاجعل نفسك كأحدهم، وإذا أشرفت نفسك على شيءٍ من الدنيا فانظر إلى ما تصير.
وعن أبي الدرداء قال: اعبدوا الله كأنكم ترونه، وعدوا أنفسكم في الموتى، واعلموا أن البر لا يبلى وأن الإثم لا ينسى، واعلموا أن قليلاً يكفيكم خيرٌ من كثيرٍ يلهيكم.
زاد في آخر: وإياك ودعوة المظلوم - فكنا نتحدث أن دعوة المظلوم تصعد إلى السماء.
وفي آخر: وإياك ودعوات المظلوم، فإنهن يصعدن إلى الله عز وجل كأنهن شراراتٌ من نار.
قال أبو الدرداء: من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه.
وعن أبي الدرداء قال: ماتصدق مؤمن بصدقةٍ أحب إلى الله من موعظةٍ يعظ بها قوماً يقوم بعضهم وقد نفعه الله بها.
كتب أبو الدرداء إلى رجلٍ من إخوانه خاف عليه حب ولده: أما بعد يا أخي، فإنك لست في شيءٍ من الدنيا إلا وقد كان له أهل قبلك، وسيكون له أهل بعدك، وإنما تجمع لمن لا يحمدك، ويصير إلى من لا يعذرك، وإنما تجمع لأحد رجلين: إما محسن فيسعد بما شقيت له؛ وإما مفسد فيشقى بما جمعت له؛ وليس واحدٌ منهما بأهلٍ أن تؤثره على نفسك، ولا تبرد له على ظهرك؛ فثق لمن مضى منهم برحمة الله ولمن بقي منهم برزق الله والسلام.(20/30)
قال أبو الدرداء: أضحكني ثلاثٌ وأبكاني ثلاث: أضحكني مؤمل دنيا والموت يطلبه: وغافلٌ بمفغولٍ عنه؛ وضاحكٌ بملء فيه ولا يدري أرضى اله أم أسخطه. وأبكاني فراق الأحبة محمد وحزبه؛ وهول المطلع عند غمرات الموت؛ والوقوف بين يدي الله يوم تبدو السريرة علانية، ثم لا أدري إلى الجنة أو إلى النار.
قال أبو الدرداء:
معاتبة الأخ أهون من فقده، ومن لك بأخيك كله؟ أعط أخاك وهب له، ولا تطع فيه كاشحاً فتكون مثله، غداً يأتيه الموت فيكفيك قبله، وكيف تبكيه في الممات وفي الحياة تركت وصله؟ وعن أبي الدرداء قال: ابن آدم طأ الأرض بقدمك فإنها عن قليل تكون قبرك، ابن آدم، إنما أنت أيام، فكلما ذهب يوم ذهب بعضك، ابن آدم، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ يوم ولدتك أمك.
وعن أبي الدرداء قال: ما من أحد إلا وفي غفلة نقصٍ عن علمه؛ وذلك أنه إذا أتته الدنيا بزيادةٍ في مالٍ ظل فرحاً مسروراً، والليل والنهار دائبان في هدم عمره، ثم لا يحزنه - ضل ضلاله - ما ينفع مالٌ يزيد وعمرٌ ينقص؟ كان أبو الدرداء يقول: لولا ثلاثٌ خلالٍ لصلح أمر الناس: شح مطاع؛ وهوى متبع؛ وإعجاب المرء بنفسه.
وقال: ذروة الإيمان أربع خصال: الصبر في الحكم؛ والرضا بالقدر؛ والإخلاص بالتوكل؛ والاستسلام للرب جل ثناؤه.(20/31)
وعن أبي الدرداء قال: يا أهل حمص، مالي أرى علماءكم يذهبون، وأرى جهالكم لا يتعلمون، وأراكم قد أقبلتم على ما تكفل لكم وضيعتم ما وكلتم به؟ تعلموا قبل أن يرفع العلم. فإن ذهاب العلم ذهاب العلماء.
زاد في رواية: لأنا أعلم بشراركم من البيطار بالفرس: هم الذين لا يأتون الصلاة إلا دبرا، ولا يقرؤون القرآن إلا هجرا، ولا يعتق محرروهم.
لولا ثلاث لصلح الناس: شح مطاع؛ وهوى متبع؛ وإعجاب المرء بنفسه. من رزق قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجةً مؤمنة فنعم الخير أوتيه، ولن يترك من الخير شيئاً، من يكثر الدعاء عند الرخاء يستجاب له عند البلاء، ومن يكثر قرع الباب يفتح له.
وعن أبي الدرداء قال: لايفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً.
وفي آخر بمعناه: ثم ترجع إلى نفسك فتجدها أمقت عندك من سائر الناس، وإنك لن تفقه كل الفقه حتى ترى القرآن وجوهاً. قال حماد: فقلت لأيوب: أرأيت قوله: حتى ترى القرآن وجوهاً؟ قال فسكت هنيهة، قال: فقلت: لهو أن ترى له وجوهاً فتهاب الإقدام عليه؛ قال: نعم هو هذا، نعم هو هذا.
وعن أبي الدرداء قال: يا رب مكرمٍ لنفسه وهو لها مهين، ويا رب شهوة ساعةٍ قد أورثت صاحبها حزناً طويلاً.
زاد في آخره: ألا رب مبيضِ لثيابه وهو لدينه مدنس.(20/32)
وعن أبي الدرداء قال: أهل الأموال يأكلون ونأكل، ويشربون ونشرب، ويلبسون ونلبس، ويركبون ونركب، ولهم فضول أموال ينظرون إليها وننظر إليها معهم، عليهم حسابها ونحن منهت براء.
وعن أبي الدرداء قال: الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنون أنهم مثلنا عند الموت، ولا نتمنى أننا مثلهم عند الموت.
وقال: ما أنصفنا إخواننا الأغنياء، يحبوننا في الله ويفارقوننا في الدنيا، إذا لقيته قال أحبك يا أبا الدرداء، فإذا احتجت إليه في شيء امتنع مني.
وكان يقول: الحمد لله الذي جعل مفر الأغنياء إلينا عند الموت ولا نحب أن نفر إليهم عند الموت؛ إن أحدهم ليقول: يا ليتني صعلوك من صعاليك المهاجرين. يعني بالصعلوك الفقير.
كان أبو الدرداء يقف على أبواب المدائن الخربة يقول: يا مدينة! أين أهلك؟ أين سكانك. أين أين ... ثم لا يخرج حتى يبكي ويبكي. وفي آخر: ثم يقول: ذهبوا وبقيت الأعمال.
وعن أبي الدرداء أنه كان يقول: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم! كيف يغبنون سهر الحمقى وصيامهم؟ فلمثقال ذرةٍ من مؤمنٍ صاحب تقوى ويقين، أفضل وأرجح وأعظم من أمثال الجبال عبادةً من المغترين.
كان أبو الدرداء يقول: تعلموا الصمت كما يتعلم الكلام، فإن الصمت حكم عظيم. وكن إلى أن تسمع أحرص(20/33)
منك إلى أن تتكلم، ولا تتكلم في شيءٍ لا يعنيك، ولا تكن مضحاكاً من غير عجب، ولا مشاء إلى غير أرب. يعني إلى غير حاجة.
وعن أبي الدرداء قال: من كثر كلامه كثر كذبه، ومن كثر حلفه كثر إثمه، ومن كثرت خصومته لم يسلم دينه.
وعن أبي الدرداء قال: ادع الله يوم سرائك لعله يستجيب لك يوم ضرائك.
كتب أبو الدرداء إلى مسلمة بن خالد: أما بعد، فإن العبد إذا عمل بطاعة الله أحبه الله، وإذا أحبه الله حببه إلى خلقه؛ وإذا عمل بمعصية الله أبغضه الله، وإذا أبغضه الله بضه إلى خلقه.
جاء رجلٌ إلى أبي الدرداء وهو في الموت فقال: يا أبا الدرداء، عظني بشيءٍ لعل الله أن ينفعني به، وأذكرك به؛ قال: إنك في أمةٍ مرحومة، أقم الصلاة المكتوبة، وأت الزكاة المفروضة، وصم رمضان، واجتنب الكبائر - أوقال المعاصي - وأبشر. فكان الرجل لم يرض بما قال، حتى رجع الكلمات عليه ثلاث مرات، فغضب السائل ثم قال: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والخدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " ثم خرج، فقال أبو الدرداء: أجلسوني، فأجلسوه فقال: ردوا علي الرجل، فقال: ويحك! كيف بك وقد حفر لك أربع أذرعً من الأرض، ثم غرقت في ذلك الخرق الذي رأيته! ثم جائك ملكان أسودان أزرقان، منكر ونكير يغنيانك ويسألانك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن ثبت فنعم ما أنت فيه، وإن كان غير ذلك فقد هلكت؛ ثم قمت على الأرض، ليس لك إلا موضع قدميك، وليس ثم ظل إلا العرش، فإن ظللت فنعم ما أنت! وإن أضحيت فقد هلكت، ثم عرضت جهنم، والذي نفسي بيده، إنها لتملأ ما بين الخافقين وإن الحشر لعليها، وإن الجنة من ورائها؛ فإن نجوت(20/34)
منها فنعم ما أنت فيه! وإن وقعت فيها فقد هلكت. ثم حلف بالله الذي لا إله إلا هو إن هذا لهو الحق.
كان أبو الدرداء يقول: كفى بك ظالماً أن لا تزال مخاصماً وكفى بك آثماً أن لا تزال مخالفاً، وكفى بك كاذباً أن لا تزال محدثاً في غير ذات الله عز وجل.
كان أبو الدرداء يقول: رب شاطرٍ نعمة غيره؛ ومنعمٍ عليه لا يدري؛ ويا رب حامل فقهٍ غير فقيه.
وكان يقول: من فقه المرء ممشاه ومجلسه ومدخله، قاتل الله الشاعر حيث يقول: من الطويل
عن المرء لا تسل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن مقتدي
قال أبو الدرداء: من فقه الرجل رفقه في معيشته؛ ومن فقه المرء أن يعلم أمزداد هو أو منتقص؛ ومن فقه الرجل أن يتعاهد إيمانه وما يغير منه؛ ومن فقه المرء أن يعلم نزعات الشيطان أن تأتيه؛ ومن فقه المرء أن تسره حسنته وتسوءه سيئته.
قال سالم بن أبي الجعد: صعد رجلٌ إلى أبي الدرداء وهو أمام غرفةٍ له، وهو يلتقط حبات حنطة، فلما رآه الرجل استحيا أن يصعد إليه فقال له: اصعد، إن من فقهك رفقك في المعيشة.
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من فقهك رفقك في معيشتك.(20/35)
كان أبو الدرداء يقول: تبنون شديداً، وتأملون بعيداً، وتموتون قريباً.
قال أبو الدرداء - وكان من العلماء الحكماء الذين يشفون الداء -: يا أهل دمشق، اسمعوا قول أخٍ لكم ناصح: مالي أراكم تجمعون فلا تأكلون، وتبنون فلا تسكنون، وتأملون فلا تدركون؟! إن من كان قبلكم جمعوا كثيراً، وبنوا شديداً، وأملوا بعيداً، فأصبح ما جمعوا بورا، وما أملوا غرورا، وأضحت مساكنهم قبورا.
خرج أبو الدرداء من دمشق فنظر إلى الغوطة، وقد شقت أنهارها، وغرست شجراً وبنيت قصورا؛ فرجع إليهم فقال: يا أهل دمشق، يا أهل دمشق، فلما أقبلوا عليه، قال: ألا تستحيون؟ ثلاث مرات؛ تجمعون مالا تأكلون، وتأملون مالا تدركون، وتبنون مالا تسكنون! ألا إنه قد كان قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويأملون فيطيلون، ويبنون فيوثقون، فأصبح جمعهم بورا، وأصبح أملهم غرورا، واصبحت منازلهم قبورا؛ ألا إن عاداً ملأت ما بين عدن وعمان نعماً وأموالاً، فمن يشتري مني مال عادٍ بدرهمين؟ وعن أبي الدرداء قال: إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه؛ وثلاثة لا ينالون الدرجات العلا؛ من تكهن، أو استقسم، أو رجع من سفرٍ من طيرة.
وعن أبي الدرداء قال: يا أهل دمشق لا يغرنكم ظرف الرجل ودهاؤه وفصاحته، وإن كان مع ذلك قائم الليل صائم النهار إذا رأيتهم فيه ثلاث خصال: العجب، وكثرة المنطق فيما لا يعنيه، وأن يجد على الناس مما يأتي مثله؛ فإن ذلك علامة الجاهل. وإن قيل إنه ظريف، داهٍ، لبيب، فصيح، عاقل. ثم قال: ألا أنبئكم بعلامة العاقل؟ يتواضع لمن فوقه ولا يزري بمن دونه، ويمسك الفضل من منطقه، يخالق الناس بأخلاقهم، ويحتجز الإيمان فيما بينه وبين ربه جل وعز، وهو يمشي في الدنيا بالتقية والكتمان.
قال أبو الدرداء: الدنيا دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له.(20/36)
ومن حديث عن أبي الدرداء أنه قال:
ولو يشاء العالم منكم لازداد علماً إلى علمه؛ لقد خشيت أن تكونوا شباعاً من الطعام، جياعاً من العلم، اللهم إني أعوذ بك من أن أبقى في قومٍ إن ذكرت الله لم يعينوني، وإن نسيت لم يذكروني، وإن تركتم أحزنوني.
وعن أبي الدرداء: أنه مر على رجلٍ قد أصاب ذنباً، فكانو يسبونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليبٍ ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم. قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي.
قال أبو الدرداء: نعم صومعة الرجل المسلم بيته! يكف فيه نفسه وبصره وفرجه؛ وإياكم والمجالس في السوق، فإنها تلغي وتلهي.
وعن أبي الدرداء قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن ناقدت الناس ناقدوك، وإن تركتهم لم يتركوك، وإن هربت منهم أدركوك. قال: قلت: فما أصنع؟ قال هب عرضك ليوم فقرك.
روي هذا الحديث مرفوعاً وروي موقوفاً.
وفي رواية أن أبا الدرداء قال: من يتفقد يفقد، ومن لا يعد الصبر لفواعج الأمور يعجز؛ وإن قارضت الناس قارضوك، وإن تركتهم لم يتركوك، وإن هربت منهم أدركوك. قال: كيف أصنع. قال: أقرض من عرضك ليوم فقرك.
قوله: من يتفقد يفقد. يقول: من يتأمل أحوال الناس وأخلاقهم يتعرفها. يفقد: أي يعدم أن يجد فيهم أحداً يرتضيه. وإن كانت الرواية: من يتفقد يفقد. فإنه يريد: من يتفقد أمور الناس يفقد، أي ينقطع عنهم وعن ملابستهم، فلا يوجد معهم. وقوله: إن قارضت الناس قارضوك، يريد: إن طعنت عليهم ونلت منهم بلسانك فعلوا مثل ذلك بك. وقوله: أقرض من عرضك ليوم فقرك: أراد من شتمك منهم فلا تشتمه،(20/37)
ومن ذكرك بسوءٍ فلا تذكره، ودع ذلك قرضاً لك عليه ليوم الجزاء والقصاص. ومنه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وضع الله الحرج إلا من اقترض من عرض أخيه شيئاً فذاك الذي حرج وهلك. أراد أن الله قد وضع عنكم الضيق في الدين وفسح لكم فلا حرج إلا مما تنالون من أعراض المسلمين.
قال أبو الدرداء لرجل: هب عرضك لله عز وجل، فمن سبك أو شتمك أو قاتلك فدعه لله، وإذا أسأت فاستغفر الله.
وعن أبي الدرداء قال: ما أمسيت ليلةً وأصبحت، لم يرمني الناس فيها بداهية إلا رأيتها نعمة من الله علي عظيمة.
وعن أبي الدرداء أنه دخل المدينة فقال: مالي لا أرى عليكم يا أهل المدينة حلاوة الإيمان؟ والذي نفسي بيده، لو أن دب الغابة طعم طعم الإيمان لرأى عليه حلاوة الإيمان.
وعن أبي الدرداء أنه قال: ما أمن أحدٌ على إيمانه إلا سلبه.
وعن جبير بن نفير أنه سمع أبا الدرداء وهو في آخر صلاته وقد فرغ من التشهد يتعوذ بالله من النفاق، فأكثر من التعوذ منه، قال فقال له جبير: مالك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟ قال دعنا عنك، دعنا عنك، فوالله إن الرجل ليقلب عن درينه في الساعة الواحدة فيخلع منه.
قالت أم الدرداء: كان أبو الدرداء إذا مات الرجل على الحال الصالحة قلت هنيئاً له!(20/38)
يا ليتني بدله، فقالت أم الدرداء: يا أبا الدرداء، مالك إذا مات الرجل على الحال الصالحة قلت هنيئاً له! يا ليتني بدله؟ قال وما تعلمين يا حمقاء أن الرجل يصبح مؤمناً ويمسي منافقاً! قلت وكيف ذلك؟ قال: يسلب إيمانه ولا يشعر، لأنا لهذا بالموت أغبط مني بالبقاء في الصلاة والصيام.
وعن أبي الدرداء قال: استعيذوا بالله من خشوع النفاق، قيل: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع.
قيل لأبي الدرداء: كل أصحابك قد قال الشعر غيرك، فأطرق طويلاً ثم قال: من الوافر
يريد العبد أن يعطى مناه ... ويأبي الله إلا ما أرادا
يقولوا: لقد أحسنت فزد، قال: لا، إنما قلت حين قلتم إن أصحابي كلهم قد قالوا، كرهت أن يعملوا عملاً لا أعمله، وليس الشعر من شأني.
وعن أبي الدرداء أنه قال: إن أبغض الناس إلي أن أظلمه لمن لا يجد أحداً يستغيثه علي إلا الله عز وجل.
كان لأبي الدرداء جملٌ يقال له دمون، فكان إذا استعاروه منه قال: لا تحملوا عليه إلا كذا وكذا فإنه لا يطبق أكثر من ذلك، فلما حضرته الوفاة قال: يا دمون لا تخاصمني غداً عند ربي فإني لم أكن أحمل عليك إلا ما تطيق.
وعن جبير بن نفير قال:
لما فتحت قبرس مر بالسبي، فجاء أبو الدرداء يبكي، فقال له جبير: تبكي في مثل هذا اليوم الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: ياجبير، بينا هذه الأمة قاهرة ظاهرة(20/39)
إذ عصوا الله فلقوا ما قد ترى! ثم قال: ما أهون العباد على الله إذا هم عصوه.
قيل لأبي الدرداء: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " وإن زنى وإن سرق؟ قال: إنه إن خاف مقام ربه لم يزن ولم يسرق.
قال حكيم بن جابر: كان أبو الدرداء مضطجعاً بين أصحابه وثوبه على وجهه إذ مر بهم قس، فأعجبهم سمنه، فقالوا: اللهم العنه، ما أعظمه وما أسمنه! فكشف الثوب عن وجهه فقال من ذا الذي لعنتم آنفاً؟ قالوا: قساً مر بنا، فقال: لا تلعنوا أحداً فإنه لا ينبغي للعانٍ أن يكون عند الله يوم القيامة صديقاً.
قالت أم الدرداء: كان أبو الدرداء إذا حدث حديثاً تبسم في حديثه، فقلت: إني أخشى أن يحمقك الناس، قال: ما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدث حديثاً إلا تبسم في حديثه.
وعن أبي الدرداء قال: إني لأدعو لناسٍ من إخواني وأنا ساجد أسميهم بأسمائهم وأسماء آبائهم.
وفي رواية: إني لأدعو وأنا ساجد لسبعين أخاً من إخواني.
وقالت أم الدرداء: كان لأبي الدرداء ستون وثلاث مئة خليل في الله يدعو لهم في الصلاة، قالت: فقلت له في ذلك فقال: إنه ليس رجلٌ يدعو لأخيه في الغيب إلا وكل الله به ملكين يقولان: ولك بمثله: أفلا أرغب لي الملائكة؟! حضر أبو الدرداء باب معاوية، فحجب عنه، فقال: اللهم غفراً، إنه من يحضر أبواب السلطان يقم ويقعد، وإنه من يجد باباً مغلقاً يجد إلى جنبه باباً فتحاً رحيباً إن(20/40)
سأل أعطي وإن دعا أجيب، وإن أول نفاق المرء طعنه على إمامه. وفي رواية: وبغضهم كفر.
ومن حديث آخر: إن سأل أعطي وإن استغفر غفر له؛ فكان رجالٌ من أهل الذمة استعانوا به على معاوية ليكلمه أن يخفف عنهم من الخراج، قالت: فلما لم يؤذن له قال: أنتم أظلم منه. قالوا: لم أصلحك الله؟ قال: لو شئتم أسلمتم فلم يكن له عليكم سبيل.
قال حسان بن عطية: شكا أهل دمشق إلى أبي الدرداء قلة الثمر فقال: إنكم أطلتم حيطانها، وأكثرتم حراسها، فأتاها الويل من فوقها.
قالت أم الدرداء: دخلت على أبي الدرداء، وهو غضبان فقلت له: ما أغضبك؟ قال: والله ما أعرف منهم من أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً غير أنهم يصلون جميعاً.
وعن أبي الدرداء قال: إنا لنكشر في وجوه أقوامٍ ونضحك إليهم، وإن قلوبنا لتلعنهم.
وعن أبي الدرداء أنه قال: لوددت أني كبش لأهلي، فمر عليهم ضيف، فأمروا على أوداجي، فأكلوا وأطعموا.
نظر أبو الدرداء إلى رجلٍ في جنازةٍ وهو يقول: جنازة من هذا؟ فقال أبو الدرداء: هذا أنت، هذا أنت، يقول الله عز وجل: " إنك ميت وإنهم ميتون ".
خرج أبو الدرداء إلى جنازة، فرأى أهل الميت يبكون عليه فقال: مساكين موتى غداً يبكون على ميت اليوم.
قال أبو الدرداء: ماأكثر عبدٌ ذكر الموت إلا قل فرحه وقل حسده.(20/41)
قال أبو الدرداء: كفى بالموت واعظاً، وكفى بالدهر مفرقاً اليوم في الدور، وغداً في القبور.
مر أبو الدرداء بين القبور فقال: بيوت، ما أسكن ظواهرك! وفي دواخلك الدواهي.
قال أبو الدرداء: إن لكم في هاتين الدارين لعبرة، تزورونهم ولا يزورنكم، وتنتقلون إليهم ولا ينتقلون إليكم، يوشك أن يستفرغ هذه ما في هذه.
قال معاوية بن قرة: اشتكى أبو الدرداء، فدخل عليه أصحابه فقالوا له: يا أبا الدرداء ما تشتكي؟ قال: أشتكي ذنوبي، قالوا: فما تشتهي؟ قال: أشتهي الجنة، قالوا: أفلا ندعو لك طبيباً؟ قال: هو الذي أضجعني.
مرض أبو الدرداء مرضه الذي مات فيه، فكثر عليه العواد في منزله، فأخرجوه إلى كنيسة التصارى، فجهل الناس يعودونه أرسالاً، فجاء أبو إدريس إلى أبي الدرداء وهو يجود بنفسه، فتخطى الناس حتى جلس عند رأسه، فقال أبو إدريس: الله أكبر الله أكبر، فجعل يكبر، فرفع أبو الدرداء رأسه فقال: إن الله إذا قضى قضاءً أحب أن نرضى به، ثم قال: ألا رجلٌ يعمل لمثل مصرعي هذا! ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه! ثم قضى.
لما نزل بأبي الدرداء الموت دعا أم الدرداء، ضمها إليه وبكى وقال: يا أم الدرداء، قد ترين ما نزل بي من الموت، إنه والله قد نزل بي أمر لم ينزل بي قط أمر أشد منه، فإن كان لي عند الله خير فهو أهون ما بعده؛ وإن تكن الأخرى، فوالله ما هو فيها بعده إلا كحلاب ناقة. ثم بكى وقال: يا أم الدرداء اعملي لمثل مصرعي هذا، يا أم الدرداء اعملي لمثل ساعتي هذه ثم دعا ابنه بلالاً فقال: ويحك يا بلال! اعمل لساعة الموت، اعمل لمثل مصرع أبيك، واذكر به صرعتك وساعتك، فكأن قد. ثم قبض.
قالت أم الدرداء: أغمي على أبي الدرداء فأفاق فإذا بلال ابنه عنده فقال: قم فاخرج عني، ثم قال: من(20/42)
يعمل لمضجعي هذا؟ من يعمل لمثل ساعتي هذه؟! " وتقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرةٍ ونذرهم في طغيانهم يعمهون " أتيتم. ثم أغمي عليه، فيلبث لبثةً ثم يفيق فيقول مثل ذلك، فلم يزل يرددها حتى قبض.
مات أبو الدرداء قبل قتل عثمان بسنتين؛ وقيل بسنة. قالوا: توفي سنة اثنتين وثلاثين؛ وقيل سنة إحدى وثلاثين بالشام؛ وله عقب بالشام.
وقيل: سنة ثلاثٍ وثلاثين. وهو وهم.
علان بن الحسين
أبو الحسن الحداد من أصحاب أبي سليمان الداراني.
قال علان: سألت أبا سليمان الدراراني: بأي شيءٍ يعرف الأبرار؟ فقال: تعرفهم بكتمان المصائب وصيانة الكرامات.
وقال علان: خلا بي العدو في ليلةٍ من الليالي فقال: أنت تعبد الله وهو خلقك فمن خلق الله؟! فلم يزل بي على ذلك يجهدني أكثر الليل، فقلت: مالي سوى أبي سليمان الداراني، فقصدت منزله في الليل فلم يكن فيه، فقلت: هو في المقابر، فأتيتها فإذا هو يدور فيها، فلما بصر بي قال من غير أن أكلمه: علان! كأني بك وقد خلا بك العدو فقال لك: أن تعبد الله وهو خلقك، فمن خلق الله فشوش عليك، قل له: يا لعين، لا بد أن ينتهي هذا الأمر إلى واحد، فهو ذلك الواحد.(20/43)
العلاء بن برد بن سنان
من دمشق حدث عن أبيه قال: خرجت أنا ونافع فجزنا بمنزل رجلٍ من قريش، فاستسقى نافع، فأتي بنارجيلة مضببةٍ بضباب فضة، فأبى أن يشرب وقال: ائتونا بإناءٍ غير هذا، فإني سمعت أبا عبد الرحمن يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من شرب في إناء من ذهبٍ أو إناءٍ من فضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم.
وحدث عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من جاء منكم الجمعة فليغتسل.
وحدث عن علي بن غزية، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس قال: مررت بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد انصرف من صلاة الظهر، وعليه ثياب بيض، وهو يناجي دحية الكلبي فيما ظننت، وكان جبريل عليه السلام ولا أدري، فقال: جبريل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله، هذا ابن عباس، أما إنه لوم سلم علينا رددنا عليه، أما إنه شديد وضح الثياب، وليلبسن ذريته من بعده السواد، فلما عرج جبريل وانصرف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما معك أن تسلم إذ مررت آنفاً؟ قال: قلت: يا رسول الله، مررت بك وأنت تناجي دحية الكلبي، فكرهت أن أقطع نجواكما بردكما علي السلام. قال: لقد أتيت النظر، ذاك جبريل وليس أحد رآه غير نبي إلا ذهب بصره؛ وبصرك ذاهب، وهو مردود عليك يوم وفاتك. قال: فلما مات ابن عباس وأدرج في أكفانه، انقض طائر أبيض فأتى بين أكفانه، وطلب فلم يوجد، فقال عكرمة مولى ابن عباس: أحمقى أنتم! هذا بصره الذي وعده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرد عليه يوم وفاته. فلما أتوا به القبر، ووضع في لحده تلقي بكلمةٍ سمعها من كان على شفير القبر: " يا أيتها النفس المطمئنة، أرجعي إلى ربك راضية مرضية، فدخلي في عبادي، وادخلي جنتي ".(20/44)
قال محمود بن خداش الطالقاني:
لما أردت أن أحدث صرت إلى أحمد بن خليل فقلت له: يا أبا عبد الله، إن الناس سألوني أن أحدث فأنا موضع للتحديث: فقال لي: نعم، ولكن ائتني بمشايخك في رقعة حتى أنظر إليها. قال: فجئته بمشايخي، فأسقط منهم نيفاً وأربعين شيخاً، قال: فوضعت الرقعة في البيت، وصرت إلى يحيى بن معين، ومعي رقعةً غير تلك الرقعة، فضرب على النيف والأربعين الذين ضرب عليهم أحمد بن حنبل، فوضعت الرقعة في البيت وكتبت غيرها. وصرت إلى أبي خيثمة، فنظر فيها، فضرب على النيف والأربعين شيخاً الذين ضرب عليهم أحمد بن حنبل ويحيى، وسماهم، ومنهم علي بن عاصم، والعلاء بن برد بن سنان. قال أبو محمد: وجاءني ابن أحمد بن حنبل فقال لي: أخرج شيئاً أنظر فيه، فأخرجت له أجزاء، قال: لم لا تخرج عن علي بن عاصم؟ فقلت له: إن أباك نهاني أن أحدث عنه، فقال: إن أبي أمرني أن أدور على كل من نهاه عنه، فأقول له أن يحدث عنه.
العلاء بن الحارث بن عبد الوارث
أبو وهب، ويقال أبو الحارث الحضرمي حدث عن مكحول، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجهاد واجبٌ عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجراً، والصلاة واجب عليكم خلف كل مسلم برا كان أو فاجراً، وإن عمل بالكبائر، والصلاة واجبةً على كل مسلم يموت براً كان أو فاجراً وإن عمل بالكبائر.
وحدث العلاء، عن مكحول، عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا يحل لامرأةٍ تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها، وما تصدقت من صدقةٍ من طعام البيت، فلزوجها شطره ولها شطره.(20/45)
وحدث عن عبد الله بن دينار، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أشرك بالله فليس بمحصن.
كان العلاء بن الحارث أحلم أصحاب مكحول وأقدمهم؛ وكان يفتي حتى خولط. ومات سنة ست وثلاثين ومئة، وهو ابن سبعين سنة.
قال يحيى بن معين: العلاء بن الحارث الذي يروي عنه فرج بن فضالة هو ثقة، قيل له: العلاء بن الحارث في حديثه شيء؟ قال: لا ولكن كان يرى القدر.
العلاء بن الحارث أبي حكيم يحيى
سياف معاوية حدث حدث شفي بن ماتع الأصبحي قال: قدمت المدينة فدخلت المسجد، فإذا الناس قد اجتمعوا على رجل، فقلت: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، فلما تفرق الناس دنوت منه فقلت: يا أبا هريرة، حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بينك وبينه في أحد من الناس، فقال: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليس بيني وبينه فيه أحد من الناس؛ ثم نشغ نشغةً فأفاق وهو يقول: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليس بيني وبينه فيه أحد من الناس؛ ثم نشغ الثانية، فأفاق وهو يقول: أفعل لا؛ دثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليس بيني وبينه فيه أحد من الناس؛ ثم نشغ الثالثة والرابعة، ثم أفاق وهو يقول: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في هذا البيت ليس معي فيه غيره، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إذا كان يوم القيامة ينزل الله إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمةٍ جاثية، فأول من(20/46)
يدعي رجل جمع القرآن فيقول الله عز وجل له: عبدي، ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ فيقول: بلى يارب، فيقول: ماذا عملت فيما علمتك؟ فيقول: يا رب! كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت. وتقول له الملائكة: كذبت، بل أردت أن يقال: فلانٌ قارئ؛ فقد قيل ذلك، اذهب فليس لك اليوم عندنا شيء. ثم يؤتى بصاحب المال، فيقول الله عز وجل له: عبدي، ألم أنعم عليك؟ ألم أفضل عليك؟ ألم أوسع عليك؟ أو نحوه - فيقول: بلى يا رب فيقول: فماذا عملت فيما ايتك؟ فيقول: يا رب! كنت أصل الرحم، وأتصدق وأفعل وأفعل، فيقول الله له: كذبت. وتقول له الملائكة: كذبت، بل أردت أن يقال: فلان جواد، فقد قيل ذاك، اذهب فليس لك اليوم عندنا شيء. ويدعى المقتول، فيقول الله له: عبدي، فيم قتلت؟ فيقول: يا رب فيك وفي سبيلك، فيقول الله له: كذبت. وقول الملائكة: كذبت بل أردت أن يقال: فلان جرئ، فقد قيل ذاك، اذهب فليس اليوم عندنا شيء.
قال أبو هريرة: ثم ضرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده على ركبتي ثم قال: يا أبا هريرة! أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة.
قال أبو عثمان: فأخبرني العلاء بن أبي حكيم وكان سيافاً لمعاوية، أنه دخل عليه رجل - يعني على معاوية - فجدثه بهذا الحديث عن أبي هريرة. قال الوليد: فأخبرني عقبة أن شفيا هو الذي دخل على معاوية رحمه الله، فحدثه هذا الحديث؛ قال فبكى معاوية فاشتد بكاؤه، ثم أفاق وهو يقول: صدق الله ورسوله " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ".(20/47)
العلاء بن أبي الزبير
ويقال ابن الزبير الكلابي من فقهاء دمشق.
حدث عن أبيه قال: رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارساً، ثم رأيت غلبة المسلمين فارساً والروم، وظهورهم على الشام والعراق، وكل ذلك في خمس عشرة سنة.
العلاء بن عاصم
أبو السمراء الغساني قدم مع عبد الله بن طاهر دمشق وامتدحه.
قال أبو السمراء: لما توجه عبد الله بن طاهر خارجاً من مصر خرجنا معه، حتى إذا كنا قريباً من دمشق، إذا نحن بأعرابي معرضٍ العسكر قد سأل عن الأمير فأرشد إلى ناحيته، وأنا وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي ربعي نسايره، وقد اعتور العسكر بغباره وارتفع، ونحن مع الأمير ليس فينا إلا أفره من الأمير دابةً وأحسن بزةً، فقصدنا الأعرابي وكان شيخاً فيه بقيةً حسنة، فلما رأيناه مقبلاً قلنا: هذا أعرابي يريد الأمير، فإن أتى مسلماً فردوا عليه بأجمعكم لتبلد في أمره، فلا يعرف الأمير من غيره؛ فأتى الأعرابي، ففعلنا به ذلك، فأشار بيده نحو ابن أبي ربعي، وأنشأ يقول: من الطويل
أرى كاتباً زهو الكتابة بين ... عليه وتأديب العراق كريم
وفيه علاماتٌ يشاهدن أنه ... بصيرٌ بتقسيط الخراج عليم
ثم أومى نحو إسحاق بن إبراهيم فقال: من الطويل(20/48)
ومظهر نسكٍ ما عليه ضميره ... يحب الهدايا بالرجال مكبر
أظن به بخلاً وجبناً وشيمةً ... تدل عليه إنه لوزير
ثم أشار إلي فقال:
وأنت خليلٌ للأمير ومؤنسٌ ... يكون له بالقرب منك سرور
إخالك للأشعار والعلم راوياً ... فأنت نديمٌ مرةً ووزير
أظن بلا شك بأنك كاتبٌ ... بصيرٌ بأبواب الرشاء خبير
ثم أشار نحو الأمير فقال:
وهذا الأمير المرتجى سيب كفه ... فما إن له فيما علمت نظير
عليه رداءٌ من وقارٍ وهيبةٍ ... ووجهٌ بإدراك النجاح بشير
كريمٌ له في المكرمات سوابقٌ ... على كل من يزهو بهم ويطير
ألا إنما عبد الاله بن طاهرٍ ... لنا والدٌ في دهرنا وأمير
قال أبو السمراء: فضحك الأمير وأمر له بعشرة آلاف درهم، وأمره بلزومه وصحبته.
قال أبو السمراء: كنت عند أبي العباس عبد الله بن طاهر، وليس غيري وأنا بالقرب منه بين يديه، ودخل أبو الحسن إسحاق بن إبراهيم فاستدناه لمناجاته، واعتمد على سيفه وأصغى لمناجاته وحولت وجهي وأنا ثابتٌ مكاني، وطالت النجوى بينهما، واعترتني حيرةً فيما بين القعود على ما أنا عليه والقيام، وانقطعا عما كانا فيه ورجع إسحاق إلى موقفه ونظر أبو العباس فقال: يا أبا السمراء، قلت: لبيك، فأنشأ يقول: من البسيط
إذا النجيان رسا عنك سرهما ... فانزح بسمعك تجهل ما يقولان
ولا تحملهما ثقلاً لخوفهما ... على تناجيهما بالمجلس الداني(20/49)
قال أبو السمراء: فما رأيت أكرم منه ولا أرفق تأديباً! ترك مطالبتي في هفوتي لحق الأمراء فأدبني تأديب النظراء.
ومن شعر أبي السمراْ:
فإن تك الربع شفك وردها ... فعقباك منها أن يطول بك العمر
وقيناك لو يعطى الهوى فيك والمنى ... لكان بنا الشكوى وكان لك الأجر
العلاء بن عبد الوهاب بن أحمد
ابن عبد الرحمن بن سعيد بن حزم بن غالب أبو الخطاب بن أبي المغيرة الأندلسي المري من المرية. قدم دمشق سنة اثنتين وخمسين وأربع مئة.
روى عن محمد بن الحسين بن بقاء المصري بسنده إلى حفص بن حميد قال:
دخلت على داود الطائي أسأله عن مسألة - وكان كريماً - فقال: أرأيت المحارب لإذا أراد أن يلقى الحرب، أليس يجمع آلته؟ فإذا أفنى عمره في جمع الآلة فمتى يحارب؟! إن العلم آلة العمل فإذا أفنى عمره في جمعه، فمتى يعمل؟!(20/50)
العلاء بن كثير
أبو سعيد، مولى بني أمية دمشقي.
حدث عن مكحول، عن أبي الدرداء وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تنتظر النفساء أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، فإن بلغت أربعين يوماً ولم تر الطهر فلتغتسل وهي بمنزلة المستحاضة.
وحدث عن مكحول، عن واثلة وأبي الدرداء وأبي أمامة قالوا سمعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وسل سيوفكم وإقامة حدودكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وأجمروها في الجمع، واجعلوا على أبوابها المطاهر.
وحدث عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من بركة المرأة تبكيرها بالأنثى، أما سمعت الله عز وجل يقول: " يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور " فبدأ بالإناث قبل الذكور.
وحدث عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع قال: أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ من أهل اليمن أكسف، أحول، أوقص، أحنف، أصم، أعسر، أرسح، أفحج، فقال: با رسول الله، أخبرني بما فرض الله علي، فلما أخبره قال: إني أعاهد الله أن لا أزيد على فريضته، قال: ولم ذلك؟ قال: لأنه خلقني فشوه خلقي فجعلني أكسف، أحول، أوقص، أحنف، أصم، أعسر، أرسح، أفحج. قال: ثم أدبر الرجل، فأتاه جبريل فقال: يا محمد أين العاتب؟ إنه عاتب رباً كريماً فأعتبه. قال: قل له: ألا يرضى أن يبعثه الله في صورة جبريل يوم القيامة؟ قال: فبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الرجل فقال له: إنك عاتبت رباً كريماً فأعتبك، أفلا ترضى أن يبعثه الله في صورة جبريل يوم القيامة؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: فإني أعاهد الله أن لا يقوى جسدي على شيء من مرضات الله عز وجل إلا عملته.
كان العلاء بن كثير منكر الحديث.(20/51)
العلاء بن اللجلاج
قيل: هو أخو خالد بن اللجلاج حدث عن أبيه قال: أسلمت وأنا ابن خمسين سنة. ومات اللجلاج وهو ابن عشرين ومئة سنة. قال: ما ملأت بطني منذ أسلمت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آكل حسبي وأشرب حسبي.
وحدث عن ابن عمر، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لا أغبط أحداً يهون موتٍ بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال العباس بن محمد: سألت يحيى بن معين عن القراءة عند القبر فقال: حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي، عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج، عن أبيه، أنه قال لبنيه: إذا أدخلتموني قبري فضعوني في اللحد وقولوا: باسم الله وعلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنوا علي التراب سناً، واقرؤوا عند رأسي أول البقرة وخاتمتها، فإني رأيت ابن عمر يستحب ذلك.
كان العلاء بن اللجلاج ثقة.
العلاء بن المغيرة البندار
كان من صحابة عمر بن عبد العزيز بن مروان، وبقي إلى أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
حدث العلاء قال:
كان الوليد زنديقاً، وكان رجلٌ من كلب من أهل الشام، يقول بمقالة الثنوية، فدخلت على الوليد يوماً وذلك الكلبي عنده، وإذا بينهما سفط قد رفع رأسه عنه، وإذا(20/52)
ما يبدو منه حرير أخضر، فقال: يا علاء ادن، فدنوت، فرفع الحريرة فإذا في السفط صورة إنسان، وإذا الزئبق والنوشادر قد جعلا في جفنة، فجفنه يطرف كلأنه يتحرك، فقال: يا علاء هذا ماني لم يبعث الله نبيا " قبله ولا يبعث نبيا " بعده. فقلت: يا أمير المؤمنين! اتق الله ولا يغرنك هذا الذي ترى من دينك: فقال له الكلبي: يا أمير المؤمنين، قد قلت لك: إن العلاء لا يحتمل هذا الحديث. قال العلاء: ومكث أياماً، ثم جلست مع الوليد على بناءٍ كان بناه في عسكره يشرف منه، والكلبي عنده، وقد كان الوليد حمله على برذونٍ هملاجٍ أشقر من أفره ما سخر، فخرج على برذونه ذلك، فمضى في الصحراء حتى غاب في العسكر، فما نشعر إلا والأعراب قد جاؤوا به يحملونه، متفسخة عنقه ميتاً وبرذونه يقاد، حتى أسلموه؛ فبلغني ذلك، فخرجت متعمداً حتى أتيت أولئك الأعراب، وكانت لهم بالقرب أبيات في أرض البخراء، لا حجر فيها ولا مدر، فقلت لهم: كيف كانت قصة هذا الرجل؟ فقالوا: أقبل علينا على برذونٍ، فكأنه دهنٌ يسيل على صفاةٍ من فراهيته، فعجبنا لذلك! إذ انقض رجلٌ من السماء، عليه ثياب بيض، فأخذ بضبعيه فاحتمله ثم نكسه فضرب برأسه الأرض، فدق عنقه ثم غاب عن عيوننا، فاحتملناه فجئنا به.
العلاء بن الوليد
قال: رأيت عمر بن عبد العزيز صلى على جنازة، فجلس قبل أن توضع.
وقال العلاء أيضاً: رأيت عمر بن عبد العزيز أكل بطيخاً عليه سكر، ثم توضأ وضوءه للصلاة.(20/53)
عياش بن أبي ربيعة ذي الرمحين
واسمه عمرو ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم أبو عبد الله المخزومي له صحبة، وهو الذي دعا له سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة.
روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: إن هذه الأمة لا يزالون بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا. يعني مكة.
وحدث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: تجيء ريح بين يدي الساعة، تقبض روح كل مؤمن.
وعن نافع قال: سمعت عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ولا أدري عمن حدث قال: يبعث الله ريحاً لينة بين يدي الساعة، فلا تدع أحداً في قلبه من الخير شيء إلا أمانته.
كان عياش بن أبي ربيعة هاجر إلى المدينة حين هاجر عمر بن الخطاب، فقدم عليه أخواه لأمه أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام، فذكرا له أن أمه حلفت لا يدخل رأسها دهن ولا تستظل حتى تراه؛ فرجع معهما، فأوثقاه رباطاً وحبساه بمكة، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو له. وأمه وأم عبد الله بن أبي ربيعة أسماء بنت مخربة بن جندل بن أبير بن نهشل بن دارم؛ وهي أم الحارث وأبي جهل ابني هشام بن المغيرة. وكان هشام طلقها، فتزوجها أخوه أبو ربيعة، وندم هشام على فراقه إياها.
وكان عياش من مهاجرة الحبشة، هاجر إليها هو وامرأته أسماء بنت سلمة بن مخربة بن جندل، فولدت له بأرض الحبشة عبد الله بن عياش، ثم قدم عياش مكة فلم يزل بها حتى خرج أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الهجرة إلى المدينة، فخرج معهم، وصاحب عمر بن الخطاب، فلما نزل قباء قدم عليه أخواه لأمه، أبو جهل، والحارث ابنا هشام، فلم يزالا به حتى رداه إلى مكة، فأوثقاه وحبساه، ثم أفلت، فقدم المدينة فلم يزل بها إلى أن(20/54)
قبض سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج إلى الشام، فجاهد، ثم رجع إلى مكة، فأقام بها إلى أن مات، ولم يبرح ابنه عبد الله من المدينة.
وكان عياش من المستضعفين ممن يعذب في الله، ودعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القنوت: اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة.
وقيل: إنه مات بالشام في خلافة عمر.
وعن عمر بن الخطاب قال:
لما أجمعنا الهجرة اتعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل، وقلنا: الميعاد بيننا التناضب من أضاة بني غفار، فمن أصبح منكم لم يأتها فقد حبس، فليمض صاحباه، فأصبحت عندها أنا وعياش بن أبي ربيعة، وحبس عنا هشام، وفتن فافتتن، وقدمنا المدينة، فكنا نقول: ما الله بقابلٍ من هؤلاء توبة، قوم عرفوا الله وآمنوا به، وصدقوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم رجعوا عن الإسلام لبلاءٍ أصابهم من الدنيا، وكانوا يقولونه لأنفسهم فأنزل الله تعالى فيهم " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " إلى قوله " مثوى للمتكبرين ". قال عمر: فكتبتها بيدي كتاباً ثم بعثت بها إلى هشام، فقال هشام بن العاص: فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى، فجعلت أصعد بها وأصوب لأفهمها، فقلت: اللهم فهمنيها، فعرفت أنما أنزلت فينا لما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقتل هشام شهيداً بأجنادين في ولاية أبي بكر.
وقدم على عياش المدينة أخوة لأمه أبو جهل بن هشام فقالا له: إن أمك قد نذرت(20/55)
أن لا يظلها ولا يمسرأسها دهن حتى تراك. وفي رواية: إن أمك تناشدك رحمها وحقها أن ترجع إليها، فقال عمر بن الخطاب: والله إن يريدانك إلا عن دينك، ولو قد وجدت أمك حر مكة لقد استظلت ولو قد آذاها القمل لقد امتشطت؛ فقال: إن لي بمكة مالاً لعلي آخذه، فقلت له: لك نصف مالي ولا ترجع إلى القوم، فأبى إلا الرجوع، فقلت له: خذ هذه الناقة ذلول ناجية، فالزم ظهرها فإن رابك القوم بشيء فانجه، فخرجوا حتى إذا أتوا قريباً من مكة قال أبو جهل: يا أخي لقد شق على بعيري فأعقبني على ناقتك فإنها أوطأ من بعيري، فنزل فلما وقعا إلى الأرض أوثقاه وربطاه ودخلا به مكة، فقالوا: هكذا يا أهل مكة فافعلوا بسفهائكم. ثم فتن فافتتن.
وعن أبي هريرة قال: لما رفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه من الركعة الثانية من صلاة الصبح قال: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف.
وعنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو في دبر كل صلاة: اللهم خلص الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً من أيدي المشركين.
قالوا: ولم يزل الوليد بن الوليد بن المغيرة على دين قومه، وخرج معهم إلى بدر فأسر يومئذ، أسره عبد الله بن جحش، ويقال سليط بن قيس المازني من الأنصار، فقدم في فدائه أخواه خالد وهشام ابنا الوليد بن المغيرة، فتمنع عبد الله بن جحش حتى افتكاه بأربعة آلاف، فجعل خالد يريد أن لا يبلغ ذلك، فقال هشام لخالد: إنه ليس بابن أمك، والله لو أبى فيه إلا كذا وكذا لفعلت.
ويقال: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبى أن يفديه إلا بشكة أبيه الوليد بن المغيرة، فأبى ذلك خالد وطاع به هشام لأنه أخوه لأبيه وأمه؛ وكانت الشكة درعاً فضفاضة وسيفاً وبيضةً، فأقيم ذلك مئة دينار، فطاعا به وسلماه. فلما قبض ذلك خرجا بالوليد حتى بلغا به ذا الحليفة، فأفلت منهما، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم، فقال له خالد: هلا كان هذا قبل أن تفتدى وتخرج مأثرة أبينا فاتبعت محمداً إذ كان هذا رأيك! فقال: ما كنت لأسلم حتى(20/56)
أفتدي بمثل ما افتدى به قومي ولا تقول قريش إنما اتبع محمداً فراراً من الفداء. ثم خرجا به إلى مكة وهو آمن لهما فحبساه بمكة مع نفر من بني مخزوم كانوا أقدم إسلاماً منه عياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، وكانا من مهاجرة الحبشة، فدعا لهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل بدر، ودعا بعد بدرٍ للوليد بن الوليد معهما، فدعا ثلاث سنين لهؤلاء الثلاثة جميعاً، ثم أفلت الوليد بن الوليد من الوثاق، فقدم المدينة، فسأله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام فقال: تركتهما في ضيقٍ وشدة، وهما في وثاق، رجل أحدهما مع رجل صاحبه. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انطلق حتى تنزل بمكة على القين فإنه قد أسلم، تغيب عنده واطلب الوصول إلى عياشٍ وسلمة فأخبرهما أنك رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن تأمرهما أن ينطلقا حتى يخرجا. قال الوليد: ففعلت ذلك، فخرجا وخرجت معهما، فكنت أسوق بهما مخافةً من الطلب والفتنة حتى انتهينا إلى ظهر حرة المدينة.
وعن الزهري قال: كتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحارث، ومسروح ونعيم بن عبد كلال من حمير: سلمٌ أنتم ما آمنتم بالله ورسوله، وأن الله وحده لا شريك له، بعث موسى بآياته، وخلق عيسى بكلماته، قالت اليهود: عزيز ابن الله، وقالت النصارى: الله ثالث ثلاثة عيسى ابن الله. وبعث بالكتاب مع عياش بن أبي ربيعة المخزومي وقال: إذا جئت أرضهم فلا تدخل ليلاً حتى تصبح، ثم تطهر فأحسن طهورك، وصل ركعتين، وسل الله النجاح والقبول، واستعذ بالله، وخذ كتابي بيمينك، وادفعه بيمينك في أيمانهم، فإنهم قابلون، واقرأ عليهم: " لم يكن الدين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين " فإذا فرغت منها فقل: آمن محمد وأنا أول المؤمنين، فلن تأتيك حجة إلا دحضت، ولا كتاب زخرف إلا ذهب نوره، وهم قارئون عليك، فإذا رطنوا فقل ترجموا وقل حسبي الله " آمنت بما أنزل الله من كتابٍ، وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير " فإذا أسلموا فسلهم قضبهم الثلاثة(20/57)
التي إذا حضروا بها سجدوا وهي من الأثل، قضيب ملمع ببياضٍ وصفرة، وقضيب ذو عجر كأنه خيزران، والأسود البهيم، كأنه من ساسم، ثم أخرجها فحرقها بسوقهم.
قال عياش: فخرجت أفعل ما أمرني به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى إذا دخلت، إذاالناس قد لبسوا زينتهم، قال: فمررت لأنظر إليهم، حتى انتهت إلى ستورٍ عظام على أبواب دورٍ ثلاثة، فكشفت الستر، فأدخل الباب الأوسط، فانتهت إلى قومٍ في قاعة الدار، فقلت: أنا رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعلت ما أمرني، فقبلوا، وكان كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان الحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل، وعياش بن أبي ربيعة أثبتوا يوم اليرموك فدعا الحارث بن هشام بشراب، فنظر غليه عكرمة فقال: ادفعوه إلى عكرمة فدفع إليه، فنظر إليه عياش فقال عكرمة: ادفعوه إلى عياش فما وصل إلى أحد منهم حتى ماتوا جميعاً وما ذاقوه.
عياض بن عمرو الأشعري
يقال إن له صحبة، وشهد اليرموك.
عن عامر قال: مر عياض الأشعري في يوم عيد فقال: مالي لا أراهم يقلسون فإنه من السنة! وفي حديث آخر: مالي لا أراهم يقلسون كما كنا نفعل على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!.
سئل هشيم عن التقليس: الضرب ابلدفء؟ فقال: نعم.
وعن عياض الأشعري قال: لما نزلت " فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه " أومى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبي موسى فقال: هم قوم هذا.(20/58)
وروى عياض الأشعري عن عمر أنه كان يرزق الإماء والخيل.
قال عياض الأشعري:
شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء: أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وابن حسنة، وخالد بن الوليد، وعياض - وليس عياض هذا الذي حدث - قال: وقال عمر: إذا كان قتال فعليكم أبو عبيدة. قال: فكتبنا إليه أنه قد جاش غلينا الموت، واستمددناه؛ فكتب إلينا: إنه قد جاءني كتابكم تستمدوني، وإني أدلكم على من هو أعز نصراً وأحضر جنداً، الله تبارك وتعالى فاستنصروه، فإن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نصر يوم بدرٍ في أقل من عدتكم، فإذا أتاكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني. قال: فقاتلناهم وهزمناهم، وقتلناهم أربعة فراسخ، قال: وأصبنا أموالاً. قال: فتشاوروا فأشار علينا عياض أن نعطي عن كل رأسٍ عشرة؛ قال: وقال أبو عبيدة: من يراهني؟ فقال له شاب: أنا إن لم تغضب، قال: فسبقه، فرأيت عقيصتي أبي عبيدة تنقزان وهو خلفه على فرسٍ عري.
عياض بن غطيف الحمصي
حدث عياض قال: دخلنا على أبي عبيدة في مرضه الذي مات فيه وعنده امرأته تجيفة ووجهه مما يلي الحائط فقلنا: كيف بات أبو عبيدة؟ قالت: بات بأجر، فالتفت إلينا فقال: مابت بأجر، فساءنا ذلك وسكتنا، فقال: ألا تسألوني عما قلت؟ قلت: ما سرنا ذلك فنسألك عنه، قال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من أنفق نفقةً فاضلة في سبيل الله(20/59)
فبسبع مئة ضعف ومن أتفق على نفسه وأهله أو ماز أذى عن طريق، أو تصدق فبعشر أمثالها، والصوم جنةٌ ما لم يخرقها، ومن ابتلاه الله ببلاءٍ في جسده فهو له حطة.
عياض بن غنم بن زهير
ابن أبي شداد بن ربيعة بن هلال، أبو سعد ويقال له أبو سعيد الفهري له صحبة وشهد بدراً مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهاجر الهجرتين وشهد فتوح الشام وكان أميراً باليرموك على بعض الكراديس.
روى عياض بن غنم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا تأكلوا حمر الإنسية.
وعن عياض بن غنم أنه رأى نبطاً يشمسون في الجزية، فقال لصاحبهم: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الله يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا.
روى جماعة قالوا: جلد عياض بن غنم صاحب دارا حين فتحت، فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض، ثم مكث ليالي فأتاه هشام بن حكيم فاعتذر إليه ثم قال لعياض: ألم تسمع بقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن من أشد الناس عذاباً أشدهم عذاباً في الدنيا للناس.؟ فقال عياض بن غنم: يا هشام، قد سمعنا ورأينا ما رأيت، أو لم تسمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ يقول: من أراد أن ينصح لذي سلطان بأمرٍ فلا ينكر له علانية، ولكن(20/60)
ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه له. وإنك يا هشام لأنت الجرئ إذ تجترئ على سلطان الله، هلا خشيت أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله عز وجل!.
روى شهر بن حوشب، عن عياض بن غنم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن مات فإلى النار، فإن تاب قبل الله منه، فإن شربها الثانية لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن مات فإلى النار فإن تاب قبل الله منه، فإن شربها الثالثة والرابعة فإن حقاً على الله أن يسقيه من ردغة الخبال، قيل: يا رسول الله! وما ردغة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار.
هذا حديث غريب منقطع، وشهر لم يسمع من عياض.
وشهد عياض بن غنم بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يعقب، وكان رجلاً صالحاً سمحاً، وكان بالشام مع أبي عبيدة بن الجراح، فلما حضرت أبا عبيدة الوفاة ولى عياض بن غنم الذي كان يليه.
قال عمر بن الخطاب: من استخلف أبو عبيدة على عمله؟ قالوا: عياض بن غنم فأقره وكتب إليه: إني قد وليتك ما كان أبو عبيدة يليه، فاعمل بالذي يحق الله عليك. ورزق عمر عياض بن غنم حين ولاه جند حمص كل يومٍ ديناراً وشاةً ومدين، ولم يزل عياض والياً لعمر على حمص حتى مات، ومات وماله مال، ولا عليه دين لأحد.
وقيل: كان عياض ابن امرأة أبي عبيدة بن الجراح. وحضر عياض فتح المدائن مع سعد بن أبي وقاص، وفتح بعد ذلك فتوحاً كثيرة ببلاد الشام ونواحي الجزيرة، وكان عياض يوم اليرموك على كردوس، ومن شعره: من الكامل(20/61)
من مبلغ الأقوام أن جموعنا ... حوت الجزيرة يوم ذات زحام
جمعوا الجزيرة والغياث فنفسوا ... عمن بحمص غيابة القدام
إن الأعزة والمكارم معشرٌ ... فضوا الجزيرة عن فراخ الهام
غلبوا الملوك على الجزيرة فانتهوا ... عن غزو من يأوي بلاد الشام
قال ابن إسحاق: وفي سنة تسع عشرة كتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص، أن ابعث جنداً إلى الجزيرة وأمر عليهم أحد الثلاثة: خالد بن عرفطة، أو هشام بن عتبة، أو عياض بن غنم؛ فلما انتهى إلى سعد كتاب عمر قال: ما أخر أمير المؤمنين عياضاً إلا أن له فيه هوى أن أوليه، وأنا موليه. فبعثه وبعث معه أبا موسى وابنه عمر بن سعد - وهو غلامٌ حدث السن، ليس له من الأمر شيء - وعثمان بن أبي العاص بن بشر الثقفي، في سنة تسع عشرة؛ فخرج عياض إلى الجزيرة، فنزل بجنده على الرها فصالحه أهلها على الجزية وصالحت حران حين صالحت الرها، ثم بعث أبا موسى إلى نصيبين ووجه عمر بن سعد إلى رأس العين في خيل ردءاً للناس، وسار بنفسه في بقية الناس إلى دارا فافتتحها، وافتتح أبو موسى نصيبين، وذلك في سنة تسع عشرة؛ ثم وجه عثمان بن أبي العاص إلى أرمينية الرابعة، فكان(20/62)
عندها شيء من قتال، أصيب فيها صفوان بن المعطل شهيداً، ثم صالح عثمان بن أبي العاص أهلها على الجزية، على أهل كل بيت دينار.
ولما وجه أبو عبيدة عياض بن غنم إلى الجزيرة يقال إنه وجه خالد بن الوليد إلى الجزيرة، فوافق أبا موسى قد افتتح الرها وسمياط، فوجه خالد أبا موسى وعياضاً إلى حران، فصالحا أهلها، ومضى خالدٌ إلى نصبين فافتتحها ثم رجع إلى آمد، فافتتحها صلحاً وما بينهما عنوةً.
وحدث شيخٌ من أهل الجزيرة: أن عياض بن غنم ولي صلح هذه المدن وغيرها من الجزيرة، وكتب لهم كتاباً هو اليوم عندهم باسم عياض، ثم عزل وتولى حبيب بن مسلمة الفهري. ولما توفي أبو عبيدة واستخلف على عمله عياض بن غنم، واقره عمر على ذلك، كتب إليه كتاباً طويلاً يأمره فيه وينهاه، وكان عياض رجلاً سمحاً، وكان يعطي ما يملك لا يعدوه إلى غيره، لربما جاءه غلامه فيقول: ليس عندنا ما تتغدون به، فيقول: خذ هذا الثوب فبعه الساعة فاشتر به دقيقاً، فيقال له: سبحان الله! أفلا تقترض خمسة دراهم من هذا المال الذي في ناحية بيتك إلى غدٍ ولا تبيع ثوبك! فيقول: والله لأن أدخل يدي في جحر أفعى فتنال مني ما نالت أحب إلي من أن أطمع نفسي في هذا الذي تقول. فلا يزال يدافع الشيء بالشيء حتى يأتي وقت رزقه فيأخذه فيتوسع فيه؛ فمن أدركه حين يأخذ رزقه غنم، ومن تركه أياماً لم يجد عنده درهماً. فكلم عمر بن الخطاب في عياض أشد الكلام وقيل له: إنه رجلٌ يبذر المال لا يمسك في يده شيئاً، وإنما عزلت خالد بن الوليد لأنه كان يعطي الناس دونك! فقال عمر: إن سماح عياض في ذات يده حتى لا يبقى منه شيئاً، فإذا بلغ مال الله لم يعط منه شيئاً، مع أني لم أكن لأعزل أميراً أمره أبو عبيدة بن الجراح. وأبي إلا توليته. فرأى من عياض كل ما يحب.(20/63)
وكان افتتاح الجزيرة والرها وحران على يديه سنة ثمان عشرة، وصالحهم وكتب بينهم كتاباً، ووضع الخراج على الأرض فكان ينظر إلى الأرض وما تحمل فيضع عليها، ومنها أرض عشر لا يجاوز به غيره، وأبطأ بالخراج عن وقته، فكتب إليه عمر بن الخطاب: إنك قد أبطأت بالخراج عن وقته، وقد عرفت موقع الخراج من المسلمين، وأنه قوةٌ لهم على عدوهم، ولفقيرهم وضعيفهم، وقد عرفت الموضع الذي أنا به ومن معي من المسلمين، إنما هو كرش منثور، فاجدد في أخذ الخراج في غير خرقٍ ولا وهنٍ عنهم.
فلما جاءه كتاب عمرأخذهم بالخراج أشد الأخذ، حتى أقامهم في الشمس ونال منهم، ثم جمع الخراج في أيام، فحمله إلى عمر رضي الله عنه.
ولما ولي عياض بن غنم قدم عليه نفر من أهل بيته يطلبون صلته ومعروفه، فلقيهم بالبشر وأبر لهم وأكرمهم، فأقاموا أياماً، ثم كلموه في الصلة وأخبروه بما تكلفوا من السفر إليه رجاء معروفه، فأعطى كل رجلس منهم عشرة دنانير، وكانوا خمسة، فردوها وتسخطوا ونالوا منه، فقال: أي بني عم، والله ما أنكر قرابتكم ولا حقكم ولا بعد شقتكم، ولكن ما خلصت إلى ما وصلتكم به إلا ببيع خادمي وبيع مالا غنى بي عنه، فاعذروني؛ قالوا: ما عذرك الله، إنك والي نصف الشام وتعطي الرجل منا ما جهده أن يبلغه إلى أهله. قال: فتأمروني أسرق مال الله! فوالله لأن اشق بالمنشار، وأبرى كما يبرى السفن أحب إلي من أن أخون فلساً، أو أتعدى وأحمل على مسلمٍ ظلماً أو على معاهد! قالوا: قد عذرناك في ذات يدك ومقدرتك، فولنا أعمالاً من أعمالك نؤدي ما يؤدي الناس إليك، ونصيب مما يصيبون من المنفعة، فأنت تعرف حالنا وأنا ليس نعدو ما جعلت لنا؛ قال: إني لاإعرفكم بالفضل والخير، ولكن يبلغ عمر بن الخطاب أني وليت(20/64)
نفراً من قومي فيلومني في ذلك، ولست أحتمل أن يلومني قي قليلٍ ولا كثير؛ قالوا: فقد ولاك أبو عبيدة بن الجراح وأنت منه في القرابة بحيث أنت، فأنفذ ذلك عمر، ولو وليتنا فبلغ عمر أنفذه؛ فقال عياض: إني لست عند عمر بن الخطاب كأبي عبيدة، وإنما أنفذ عمر عهدي على عملٍ لقول أبي عبيدة في، وقد كنت مستوراً عند أبي عبيدة فقال في، ولو علم مني ما أعلم من نفسي ما ذكر ذلك عني. فانصرف القوم لائمين لعياض بن غنم. ومات عياض وماله مالٌ ولا عليه دين لأحد.
حدث جماعة قالوا: كان عمر إذا بعث عماله يشترط عليهم ألا يتخذوا على المجالس التي يجلسون فيها للناس باباً، ولايركبوا البراذين، ولا يلبسوا الرقاق ولا يأكلوا النقي، ولا يغيبوا عن صلاة الجماعة، ولا يطعموا فيهم السغاة. فمر يوماً من طريقٍ من طرق المدينة، وفي ناحيته رجلٌ يسأل، فقال: أبشر يا عمر بالنار! قال: ولم ذاك؟ قال: تستعمل العمال وتعهد إليهم عهدك، ثم ترى أن ذلك قد أجزأك! كلا والله إنك لمأخوذ إذا لم تتعاهدهم.
قال: وما ذاك؟ قال: عياض بن غنم يلبس اللين ويفعل ويفعل، فقال: لساعي؟ قال: بل مؤدي الذي عليه، فبعث إلى محمد بن مسلمة، أن الحق بعياض بن غنم فأتني به كما تجده؛ فانتهى إلى بابه، وإذا عليه بواب فقال له: قل لعياض: على الباب رجلٌ يريد أن يلقاك، قال: ما تقول؟ قال: قل له ما أقول. فذهب كالمتعجب، فأخبره، فعرض عياض أنه أمر حدث، فخرج فإذا محمد فرحب به وقال له: ادخل. فإذا عليه قميص رقيق لين، فقال: إن أمير المؤمنين أمرني أن لا يفارق سوادي سوادك حتى أذهب بك لما أجدك؛ ونظر في أمره فوجد الأمر كما حدثه السائل.
فلما قدم به على عمر وأخبره دعا بدراعةٍ وكيساً وحذاءً وعصا وقال: أخرجوه من ثيابه؛ فأخرج منها، وألبسه ذلك وقال: انطلق بهذه الغنم فأحسن رعيتها وسقيها والقيام(20/65)
عليها، واشرب من ألبانها واجتزمن أصوافها وارفق بها، فإن فضل شيء فاردده علينا. فلما مضى رده، قال: أفهمت؟ قال: نعم، والموت أهون من هذا! قال: ولم كذبت؟ ولكن ترك الفخر أهون من هذا؛ ثم قال له: هل تدري لم سمي أبوك غنماً؟ إنه كان راعي غنم، فأنت خيرٌ من أبيك، ففعل به ذلك مرتين ثم قال: أفرأيت إن رددتك أتراه يكون فيك خير؟ قال: نعم والله يا أمير المؤمنين، فلا يبلغنك عني شيء بعد هذا. فرده فلم يبلغه عنه شيء إلا ما أحب حتى مات؛ وقال عمر: ما استخلفه أبو عبيدة إلا وهو صالح.
ومات عياض بن غنم بالشام سنة عشرين وهو ابن ستين سنة وفي هذه السنة مات بلال مؤذن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدمشق.
وقيل: مات عياض سنة ثلاثين وهو وهم.
عياض بن مسلم الكاتب
كان كاتب الوليد بن يزيد بن عبد الملك، حبسه هشام بن عبد الملك، فضربه وألبسه المسوح، فلم يزل محبوساص حتى مات هشام؛ ولما ثقل هشام وصار في حد لا ترجى لمن كان في مثله الحياة، فرهقته عشية وظنوا أنه قد مات، فأرسل عياض بن مسلم إلى الخزان أن احتفظوا بما في أيديكم فلا يصلن أحد إلى شيء. وأفاق هشام من غشيته، فطلوا من الخزان شيئاً فمنعوهم فقال هشام: أرانا كنا خزاناً للوليد. ومات هشام من ساعته، فخرج عياض من الحبس، فختم على الأبواب والخزائن، وأمر بهشام فأنزل عن فراشه، ومنعهم أن يكفنوه من الخزائن فكفنه غالب مولى هشام، ولم يجدوا قمقماً يسخن فيه الماء حتى استعاروه، فقال الناس: إن في هذا لعبرةٌ لمن اعتبر.(20/66)
عيسى بن إبراهيم
أبو نوح الكاتب كان من كتاب المتوكل الذين قدموا معه دمشق. قيل إنه كان على المطبخ والحرس، وكان يكتب للفتح بن ياقان، وامتدحه البحتري وهو عليل فأنشده من قصيدة: من البسيط
إذا اعتللت ذممنا العيش وهو ندٍ ... طلق الجوانب ضافٍ ظله رغد
لو أنا أنفسنا اسطاعت وقيت بها ... حتى تكون بنا الشكوى التي تجد
فقال له أبو نوح: يا أبا عبادة، مانسمع شيئاً حسناً حتى نراك، وقد أمر لك الأمير - يعني الفتح - بمئتي دينار، وقد أضفت إليها مئة لأني لست مثله. فأخذها وانصرف.
ومن شعر البحتري في أبي نوح: من الكامل
وأخٍ لبست العيش أخضر ناضراً ... بكريم عشرته وفضل إخائه
ما أكثر الآمال عندي والمنى ... إلا دفاع الله عن حوبائه!
وعلى أبي نوح لباس محبةٍ ... تعطيه محض الود من أعدائه
تنبي طلاقة بشره عن جوده ... فتكاد تلقى النجح قبل لقائه
وضياء وجهٍ لو تأمله امرؤ ... صادي الجوانح لارتوى من مائه
ضرب أحمد بن إسرائيل وأبو نوح بن إبراهيم على باب العامة بالسياط، كل واحدٍ خمس مئة، وحملا إلى منزل محمد بن علي السرخسي فمات أحمد بن إسرائيل في الطريق، ومات عيسى بن إبراهيم في دار الرخسي. وكان سبب ذلك أنهما كلما صالح بن وصيف بحضرة المعتز كلاماً أوحشه، فلما قتل المعتز وبويع المهتدي وصار صالح حاجبه فعل بها ذاك، وقيل: كان ذلك سنة خمسٍ وخمسين ومئتين.(20/67)
عيسى بن إبراهيم بن عبد ربه بن جهور
أبو القاسم القيسي الأندلسي الإشبيلي قدم دمشق سنة خمسٍ وخمس مئة، راجعاً من العراق.
حدث عن أبي علي بن محمد بن أحمد الغساني بسنده إلى عبد الله بن عمر، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن.
عيسى بن إدريس بن عيسى
أبو موسى البغدادي حدث بدمشق.
روى عن محمد بن عبد الله المخزومي بسنده إلى أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: توفي عيسى بن إدريس سنة ست وثلاث مئة، وكان صدوقاً.
عيسى بن أزهر
أبو القاسم يعرف ببلبل حدث بدمشق سنة سبعس وثمانين ومئتين عن عبد الرزاق بن همام بسنده إلى ابن عباس قال: مشيت وعمر بن الخطاب في بعض أزقة المدينة فقال لي: يا بن عباس أظن القوم استصغروا صاحبكم إذ لم يولوه أموركم. فقلت: والله ما استصغره الله إذ اختاره لسورة يراه(20/68)
يقرؤها على أهل المدينة، فقال لي: الصواب تقول، والله لسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لعلي بن أبي طالب: من أحلك أحبني، ومن أحبني أحب الله، ومن أحب الله أدخله الجنة مدلاً.
قال المصنف: هذا إسنادٌ معروف ومتن منكر، وبلبل هذا غير مشهور، ورجال الإسناد سواء مشاهير، وعبد الرزاق يتشيع.
عيسى بن أيوب
أبو هاشم القيني الأزدي حدث عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أهل الدرجات العلا من الجنة ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر لمنهم، وأنعما. يقول: وحق لهما.
وحدث عيسى بن أيوب قال: قول: التصفيح للنساء؛ أن تضرب بأصبعين من يمينها على كفها اليسرى.
وكان لعيسى بن أيوب زهدٌ وورعٌ وفضل.(20/69)
عيسى بن جعفر
أبو موسى البغدادي، الوراق حدث عن أبي بدر شجاع بن الوليد بسنده إلى أبي هريرة قال:
جاء أعرابي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، النقبة تكون بمشفر البعير أو بعجبه فتشتمل الإبل كلها جرباً! قال: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فمن أعدى الأول؟ ثم قال: لا عدوي ولا هامة ولا صفر، خلق الله كل نفسٍ فخلق حياتها ومصيباتها ورزقها.
حدث عن قبيصة بن عقبة بسنده إلى عثمان، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
كان أبو موسى من أفاضل الناس وشجعان المجاهدين، مع ورعٍ وعقلٍ ومعرفة، وحديثٍ كثيرٍ عالٍ، وصدقٍ وفصل.
توفي أبو موسى سنة اثنتين وسبعين ومئتين.
عيسى بن أبي الخير حماد بن عبد الله التيناتي
أحد الصالحين.
سأل بعض الفقراء عيسى بن أبي الخير في جامع دمشق فقال: احك لنا حكايتك مع والدك حين طلبت منه الخبز؛ فقال: كنت صبياً فطلبت من والدي الخبز فقالك أيما أحب إليك، أعطيك الخبز وتكون عند السبع، أو تكون عندي بلا خبز؟ فقلت في نفسي: هو(20/70)
والدي ولا يطيب قلبه أن يتركني مع السبع، فقلت: أعطني الخبز واحبسني حيث شئت، فأعطاني الخبز، فلما أكلت قال: قم، فقلت: ترى يحملني إلى السبع؟! فقمت معه، فدخل الغابة وأنا خلفه، فإذا بسبعين، فلما بصرا به قاما، فقال لي اجلس، فجلست ومضى هو، وربض السبعان، فكنت أرجف من الخوف، ثم سكنت وقلت: لو أراد أبي أمراً لكانا قد فعلا، ثم خطر لي أنه وكلهما بحفظي، فبقيت إلى قريب المغرب هناك، فلما صار قرب العشي جاء والدي، فلما بصرا به قاما، فاخذ بيدي وأخرجني وخرج كل واحدٍ منهما إلى جانب.
عيسى بن خذا بنده بن أبي عيسى
واسم أبي عيسى عبد الله، أبو موسى الأذري حدث عن صالح بن حكيم التمار بسنده إلى أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لتنتقضن عرى الإسلام عروةً عروة، فكلما انقضت عروةٌ نشبت بأخرى، وأولهم نقضاً الحكم، وآخرهم الصلاة.
توفي قبل سنة ثلاث مئة.
عيسى بن خالد
أبو عبد الله القرشي اليماني حدث عن أيوب بن عتبة اليماني، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد بن عمير، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الكبائر تسع: الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة، وقذف المحصنة، والفرار من(20/71)
الزحف، والسحر، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين المسلمين، والألحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً.
وكان عيسى بن خالد ثقة، محله الصدق.
عيسى بن سنان
أبو سنان الحنفي القسملي الفلسطيني يعرف بصاحب عمر بن عبد العزيز حدث قال: دفنت ابني سناناً وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأخرجني فقال: ألا أبشرك؟ حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا مات ولد العبد قال الله عز وجل للملائكة قبضتم ولد عبدي؟ قالوا نعم، قال: فما قال؟ قالوا: استرجع وحمدك، قال: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد.
وحدث عن الضحاك بن عرزب، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من مات في بيت المقدس فكأنما مات في السماء.
وحدث عن علي بن شداد قال: سمعت عبادة بن الصامت يقول: عادني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نفرٍ من أصحابه فقال: هل تدرون من الشهداء من أمتي؟ مرتين أو ثلاثاً - فسكتوا، فقال عبادة: أجيبوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: القتل في سبيل الله شهيد، والمبطون شهيد، والنفساء شهيد، يجرها ولدها بسرره إلى الجنة.(20/72)
قال أبو سنان: كنت في نفرٍ عند عمر بن عبد العزيز، فأتى بطعامٍ من هذه الحبوب، ثم أتى بطبق من تمر فقال للجاري: من أين هذا التمر؟ فذهبت الجارية إلى فاطمة فسألتها من أين هذا التمر؟ قالت بعث إلينا من أرضنا بالمدينة، فإن شئت فكل وإن شئت فدع. فسألوا جاريته قالوا: ما طعامه؟ قالت: نحو ما ترون.
قال أبو سنان: بعث معي عمارة بن نسي إلى عمر بسلتين من رطب، أول ما جاء الرطب، فأتيته بهما فقال: على ما جئت بهما؟ قلت على دواب البريد، قال: فاذهب فبعهما، فذهبت فبعتهما بثلاثة عشر درهماً، فاشتراهما مني رجلٌ من بني مروان، فأهدهما إلى عمر، فلما أتي بهما قال: يا أبا سنان كأنهما السلتان اللتان أتينا بهما! قال: نعم، قال: فوضع إحداهما بين أيدينا فأكلنا منها وبعث بالأخرى إلى امرأته وألقى ثمنها في بيت المال.
29 - عيسى بن الشيخ بن السليل بن ضبيس من بني جاس بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة أبو موسى الشيباني الذهلي المتغلب على إمرة دمشق في أيام المهتدي بالله وأول أيام المعتمد، إلى أن وجه المعتمد أماجور التركي أميراً على دمشق فانهزم عيسى إلى بلاد أرمينية، واستولى أماجور على البلد في سنة سبعٍ وخمسين ومئتين.
قال عيسى بن شيخ: قال المأمون: دخول الحمام بالغدوات دخول الملوك، ودخوله وقت الظهر دخول التجار، ودخوله بعد العصر دخول السفل، ودخوله في السحر دخول العيارين والطرارين.(20/73)
وكان عيسى قد ولاه بغا الكبير فلسطين والأردن سنة اثنتين وخمسين ومئتين؛ وفي سنة خمسٍ وخمسين ومئتين؛ وفي سنة خمسس وخمسين ومئتين أظهر عيسى الخلاف وأخذ مال الشام.
قصد بعض الظرفاء عيسى بن الشيخ بآمد فأنشده: من الوافر
رأيتك في المنام خلعت خزاً ... علي بنفسجاً وقضيت ديني
فعجل لي فداك أبي وأمي ... مقالاً في المنام رأته عيني
فقال: يا غلام اعرض كل ما في الخزائن من الخز، فعرضه فوجد فيه سبعين شقةً بنفسجية، فدفعها إليه وقال: كم ديناك؟ قال: عشرة آلاف درهم. فدفع إليه عشرة آلاف قضى بها دينه، وعشرة آلاف درهم أخرى عدةً له، ثم قال لا تعاود ترى مناماً آخر.
عيسى بن طلحة بن عبيد الله
ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن تيم بن مرة بن كعب أبو محمد القرشي التيمي المدني كان من حلماء قريش، ووفد على معاوية.
حدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: وقف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنى للناس يسألونه، فجاء رجلٌ فقال: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، فقال: اذبح ولا حرج. وجاءه رجلٌ آخر فقال: يا رسول الله، لم أشعر فنخرت قبل أن أرمي. فقال: ارم ولا حرج. قال: فما سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج.
قال يحيى بن طلحة: حدثني عمي عيسى بن طلحة قال: كنت معه في سفر فصليت بعد ما صلى هو، فلم يزد على ركعتين، فقال له رجلٌ من قريش: يا أبا محمد! مالي أراك تركت ابن أخيك يصلي ولم تصل أنت إلا ركعتين؟ قال:(20/74)
إني سايرت ابن عمر بين مكة والمدينة فلم يكن يزد على ركعتين، لم يصل قبلها ولا بعدها، وقال: أصلي كما رأيت أصحابي يصلون، وما أنا بمانع أحداً يستزيد من خيرٍ أراده.
وفي حديثٍ آخر بمعناه: فقال له: مالك لا تطوع؟ فقال: إنما أصنع كما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنع.
قال عيسى بن طلحة: كنت أكون مع ابن عمر في السفر، فيرى بني أخيه يتطوعون في السفر فلا يعيب ذلك عليهم.
وعيسى ويحيى ابنا طلحة أمهما سعدى بنت عوف بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة، وأخواهما لأمهما المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسلمة بن عبد الله بن الوليد بن الوليد بن المغيرة. وكان عيسى ثقةٌ كثير الحديث.
قال مصعب بن عثمان: قيل لعيسى بن طلحة: ما الحلم؟ قالك الذل. وكان صديقاً لعروة بن الزبير، خاصاً به، فلما قدم عروة من الشام وقد أصيب بابنه محمد وبرجله نزل قصر بالعقيق؛ فجاءه الناس يسلمون عليه ويعزونه، وكان فيمن جاءه عيسى بن طلحة، فقال عروة لأحد بنيه: يا بني اكشف لعمك عن رجل أبيك ليراها، فقال له عيسى: إنا والله يا أبا عبد الله، ما كنا نعدك للصراع ولا للسباق، وقد أبقى الله لنا منك ما كنا نحتاج إليه، عقلك وفضلك وعلمك؛ فقال عروة: ما عزاني أحد عن رجلي بمثل ما عزيتني به.
دخل رجلٌ إلى عيسى بن طلحة بن عبيد الله فتحدث عنده وأنشده قوله: من الطويل
يقولون لو عزيت قلبك لا رعوى ... فقلت وهل للعاشقين قلوب
عدمت فؤادي كيف عذبه الهوى ... أما لفؤادي من هواه نصيب(20/75)
ثم قال: أجدت والله! ثم قام يجر رداءه حتى بلغ الحجرة ثم رجع حتى عاد لمجلسه طرباً وقال: أحسنت والله، فضحك عيسى ومن بحضرته من طربه.
قال عبد الله بن مسلم بن جندب: طرقني عيسى بن طلحة بن عبيد الله في الليل، فأشرفت عليه فقلت: ما حاجتك؟ قال: إن جارية ابن حمران غنتني لك: من الطويل
تعالوا أعينوني على الليل إنه ... على كل هين لا تنام طويل
وقد جئتك أعينك على طول الليل، فقلت: أدى الله عنك الحق، أبطأت عني حتىأتى الله عز وجل بالفرج.
عيسى بن عبد الله بن الحكم بن النعمان بن بشير
أبو موسى بن أبي عون الأنصاري النعماني حدث عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ربما يضع يده على لحيته في الصلاة من غير عبث.
وحدث عيسى بن عبد الله عن جويبر بن سعيد، عن الضحاك بن مزاحم، عن البراء بن عازب قال: صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس هو على وضوء، فتمت للقوم وأعاد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال البيهقي: وهذا غير قوي.
وحدث عن نافع، عن ابن عمر قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دنا من منبره يوم الجمعة سلم على من عنده من الجلوس، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه ثم سلم.
وحدث عن عبد اله بن العلاء بن زبرن عن مسلم بن مشكم، عن أبي ثعلبة الخشنى قال: كان الناس إذا نزلوا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن تفرقكمفي هذه الأودية من الشيطان. فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى لو بسط ثوب لوسعهم.(20/76)
عيسى بن عبد الله بن سليمان العسقلاني
سمع بدمشق.
حدث عن أبي عبد الله بن سليمان بسنده إلى الزبير بن العوام قال: سخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنفسنا عن أولادنا، قال: من مات له ثلاثةٌ من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حجاباً من النار.
وحدث عن الوليد بن مسلم بسنده إلى ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: البركة مع أكابركم.
عيسى بن عبيد الجبلي
قال عيسى بن عبيد: سمعت أبا كريمة الكلبي - وكان من عباد أهل الشام يقول: ابن آدم، ليس لما بقي من عمرك في الدنيا ثمن. وسمعته يقول: عند الصباح يحمد القوم السرى، وعند الممات يحمد القوم التقى.
عيسى بن أبي عطاء الشامي الكاتب
وذكر أن مروان بن محمد استعمله على خراج مصر.
قال عيسى بن أبي عطاء: سمعت عمر بن عبد العزيز وهو على المنبر وهو يقول: لقد علمت أن الله قد وظف(20/77)
أعمالاً في رقاب أقوامٍ لا بد لهم أن يعملوها - وقال بيده في عنقه - ألا فمن ألم بذنبٍ فليستغفر الله، وإياكم والإصرار فإن الهلكة في الإصرار.
قال عيسى: وكان عمر بن عبد العزيز ربما أعطى المال من يستألف على الإسلام.
عيسى بن علي بن عبد الله
ابن عباس بن عبد المطلب بن هاشم أبو العباس ويقال: أبو موسى الهاشمي اخو محمد وداود وعبد الصمد وسليمان قدم دمشق.
حدث عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يمن الخيل في شقرها.
وفي رواية: ميامن الخيل في شقرها.
وحدث عن أبيه، عن جده قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلما جلس للصلاة استن.
كان عيسى بن علي من أهل السلامة والعافية، وكان لأم ولد، ولم يل لأهل بيته عملاً حتى توفي في خلافة المهدي؛ وولد سنة ثلاثٍ وثمانين، وستين ومئة وله ثمانون سنة. وقيل: ولد سنة إحدى وثمانين وتوفي سنة أربعٍ وستين ومئة، وأمه بربية اسمها لبابة. وقيل: توفي سنة ستين ومئة.
قال الرشيد لابنه: كان أبو العباس عيسى بن علي راهبنا وعالمنا أهل البيت.(20/78)
قال جعفر بن سليمان: سمعت عيسى بن علي يقول في مرضةٍ مرضها، وعاده الناس بمدينة السلام: إن في قصري الساعة لألف محمومة.
36 - عيسى بن أبي عبسى بن بزاز بن مجير أبو موسى القابسي الفقيه المالكي الحافظ حدث عن أبي طالب محمد بن علي بن الفتح بسنده إلى أنس بن مالك قال: صليت خلف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
وحدث عن أبي القاسم علي بن الحسن بن محمد بن أبي عثمان الدقاق بسنده إلى مالك بن أنس عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: إنما سمي رمضان لأن الذنوب ترمض فيه، وإنما سمي شوال لأنه يشول الذنوب كما تشول الناقة ذنبها. قال: وقال ابن عباس: يوم الفطر يوم الجوائز.
وبزاز: بزاي مشددة قبل الألف وزاي بعدها.
توفي بمصر سنة سبعٍ وأربعين وأربع مئة، وكان قدم دمشق طالباً للعلم، وحدث بها.
عيسى بن محمد بن إسحاق
ويقال ابن محمد بن عيسى، أبو عمير الرملي، يعرف بابن النحاس حدث عن ضمرة بسنده إلى أبي ثعلبة الخشني، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كل ما ردت عليك قوسك.
وحدث عنه أيضاً بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت:
طيبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإحرامه، وطيبته لإحلاله بطيبٍ لا يشبه طيبكم هذا.(20/79)
قال أبو عمير ثقة، رضى، من عباد المسلمين. كان يطلب العلم وعلى ظهره خريقة قدر ذارع؛ ومات أبو عمير سنة ست وخمسين ومئتين.
عيسى بن محمد بن حبيب
أبو عبد الله الأندلسي قدم دمشق وحدث بها وغيرها.
حدث عن أبي عبد الله بن أحمد بن حماد زغبة قال: سمعت عبد الغني بن أبي عقيل يقول: سمعت المفضل بن فضالة القتباني - وكان قاضياً لأهل مصر - يقول: من أراد أن يأكل من بوش مصر فليأكل من بوشها بالغداة ومن ناطفها القند بالعشي.
قال أبو عامر العبدري الحافظ: أراه أراد ببوش مصر أخلاطها من تلك الموالح والكوافخ؛ والبوش الجماعة من الناس، وبوش القوم كثروا وخلطوا.
وحدث عن أبي بكر أحمد بن هارون بن هانئ بن المتوكل بسنده إلى محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه قال: وصف لي رجلٌ من العباد باليمن، وذكر من فضله، فارتحلت حتى قدمت عليه بالجند، فإذا رجلٌ كما وصف لي أو فوق ذلك، وإذا به راكعاً وساجداً! فقلت: رحمك الله من أجلك ارتحلت، فانفتل عن صلاته وكتب بإصبعه على الأرض: من الكامل(20/80)
منع السلام من الكلام لأنه ... خبث الردى ومواضع الآفات
ثم قام إلى الصلاة فلم يزد عليه شيئاً.
عيسى بن محمد بن السمط
أبو محمد الشاهد حدث عن أبي زيد محمد بن أحمد بن عبد الله المروزي الفقيه بسنده إلى ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لاتدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، فيصيبكم مثل ما أصابهم.
وروي من طريقٍ آخر عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحاب الحجر: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين الحديث.
عيسى بن محمد بن الطيب بن علي
أبو طالب البغدادي الباقلاني سمع بدمشق.
حدث عن محمد بن عبد الرحمن المعروف بالمخلص بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لكل شيء زكاة، وزكاة الدار بيت الضيافة.(20/81)
عيسى بن محمد بن عبد الله بن الشهريج
أبو موسى مولى بني هاشم، البغدادي حدث بدمشق، وروى عن الحسين بن إبراهيم البابي بسنده عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لما عرج بي رأيت على ساق العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي ونصرته بعلي.
وحدث عنه أيضاً بالسند أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: تختموا بالعقيق فإنه ينفي الفقر، واليمين أحق بالزينة.
عيسى بن مريم
روح الله وكلمته، وعبده ورسوله صلى الله على نبينا محمدٍ وعليه وسلم كان يأوي إلى الربوة خوفاً من الكفار وقد تقدم ذلك في فضل الربوة.
عن ابن عباس: في قوله عز وجل: " وبراً بوالديه " قال: كان لايعصيهما. " ولم يكن جباراً " لم يكن قتال النفس التي حرم الله " عصيا " لم يكن عاصياً لربه " وسلام عليه " يعني حين سلم الله عليه " يوم ولد ويم يموت ويم يبعث حياً " قال: لما وهب الله لزكريا يحيى بلغ ثلاث سنين بشر الله مريم بعيسى، فبينا هي في المحراب إذ قالت الملائكة - وهو(20/82)
جبريل وحده -: " يامريم إن الله اصطفاك وطهرك " من الفاحشة " واصطفاك " يعني اختارك " على نساء العالمين " عالم أمتها " يا مريم اقنتي لربك " يعني صلي لربك، يقول: اذكري لربك في الصلاة بطول القيام، فكانت تقوم حتى ورمت قدماها " واسجدي واركعي مع الراكعين " يعني مع المصلين مع قراء بيت المقدس، يقول الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك " يعني بالخبر الغيب في قصة زكريا ويحيى ومريم " وما كنت لديهم " يعني عندهم " إذ يلقون أقلامهم " في كفالة مريم ثم قال: يا محمد - يخبر بقسة عيسى - " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيه عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا " يعني مكيناً عند الله في الدنيا من المقربين في الآخرة " ويكلم الناس في المهد " يعني في الخرق في محرابه " وكهلاً " ويكلمهم كهلاً إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء " ومن الصالحين " يعني من المرسلين.
وعن ابن عباس
في قوله: " واذكر في الكتاب مريم " يقول: قص ذكريا على اليهود والنصارى ومشركي العرب " إذ انتبذتم " خرجت " من أهلها مكاناً شرقياً قال: كانت خرجت من بيت المقدس مما يلي الشرق، " فاتخذت من دونهم حجاباً " وذلك أن الله عز وجل لما أراد أن يبتدئها بالكرامة ويبشرها بعيسى، وكانت قد اغتسلت من المحيض فتشرقت وجعلت بينها وبين قومها حجاباً، يعني جبلاً، فكان الجبل بين مجلسها وبين بيت المقدس " فأرسلنا إليها روحنا " يعني جبريل عليه السلام " فتمثل لها بشراً سوياً " في صورة الآدامين، سوياً: يعني معتدلاً شاباً، أبيض الوجه جعداً قططاً، حين اخضر شاربه، فلما نظرت إليه بين يديها " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً " وذلك أنها شبهته بشاب كان يراها ونشأ معها يقال له يوسف من بني إسرائيل، وكان من خدم بيت المقدس، فخافت أن يكون الشيطان استزله، فمن ثم قالت: " أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً "(20/83)
يعني إن كنت تخاف الله " قال " جبريل وتبسم: " إنما أنا رسول الله لأهب لك غلاماً زكياً " يعني لله مطيعاً من غير بشر " قالت أنى يكون لي غلام " أو ولد " ولم يمسني بشر " يعني زوجاً، لأن الأنثى تحمل من الذكر " ولم أك بغياً " أي مومسة " قال " جبريل " كذلك " يعني هكذا " قال ربك هو علي هين " يعني خلقه من غير بشر وهو من غيرزوج، وهو يخلق مايشاء " ولنجعله آية للناس " قال: يعني عبرة للناس. قال ابن عباس: والناس هاهنا للمؤمنين خاصة " ورحمة منا " لمن صدق بأنه رسول الله " وكان أمراً مقضيا " يعني كائناً أن يكون من غير بشر " ويعلمه الكتاب " يعني يخط الكتاب بيده " والحكمة " يعني الحلال والحرام " ويعلمه الكتاب والحكمة " والسنة " والتوراة والانجيل، ورسولاً إلى بني إسرائيل " وأجعل على يديه الآيات والعجائب " فحملته " قال ابن عباس: فدنا جبريل عليه السلام فنفخ في جيبها، فدخلت النفخة جوفها، فاحتملت كما تحمل النساء في الرحم والمشيمة ووضعته كما تضع النساء.
قال أبي بن كعب: كان روح عيسى بن مريم عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق في زمن آدم عليه السلام، فأرسله الله إلىمريم في صورة بشر " فتمثل لها بشراً سوياً " إلى قوله: " فحملته " قال: حملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى، قال: ودخل من فيها.
قال أبي بن كعب في قوله عز وجل: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " إلى قوله: " أفتهلكنا بما فعل المبطلون " قال: جمعهم فجعلهم أرواحاً ثم صورهم واستنطقهم(20/84)
فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق " وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا " إلى قوله: " المبطلون " قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع، ويشهد عليكم أبوكم آدم أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري، فلا تشركوا بي شيئاً، فإني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليهم كتابي؛ قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك. فأقروا يومئذٍ بالطاعة، ورفع عليهم أباهم آدم فنظر إليهم، فرأى فيهم الغني والفقير والحسن الصورة ودون ذلك فقال: رب! لو سويت بين عبادك، قال: إني أحب أن أشكر؛ ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج، عليهم النور وخصوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة، وهو قوله: " وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً " وهو الذي يقول: " فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطره الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله " وكان روح عيسى في تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم، قال: " فأرسلنا إليها روحنا " إلى قوله: " وكان أمراً مقضياً " قال: " فحملته " حملت الذي خاطبها وهو روح عيسى.
قال: فسأله مقاتل بن حيان: من أين دخل الروح؟ فذكر عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه دخل من فيها.
وعن مجاهد قال: كانت مريم عليها السلام تقول: كان عيسى إذا كان عندي أحد يتحدث معي سبح في بطني، وإذا خلوت فلم يكن عندي أحد حدثته وحدثني وهو في بطني.
وعن الحسن قال: بلغني أنها حملته لسبعٍ أو لتسعٍ ساعات ووضعته من يومها. وقيل حملته تسعة أشهر كما تحمل النساء، فالله أعلم أنى ذلك كان.(20/85)
قال الشعبي:
كتب قيصر إلى عمر أن رسلي أتتني من قبلك فزعمت أن قبلكم شجرةً ليست بخليقة لشيء من الخير، تخرج مثل آذان الحمير، ثم تقق عن مثل اللؤلؤ ثم تخضر فتكون مثل الزمرد الأخضر، ثم تحمر فتكون كالياقوت الأحمر، ثم تينع وتنضج فتكون كأطيب فالوذخٍ أكل، ثم تتشقق فتنتثر فتكون عصمةً للمقيم وزاداً للمسافر، فإن تكن رسلي صدقتني فلا أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة. فكتب إليه عمر: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم، إن رسلك قد صدقتك، هذه الشجرة عندنا هي الشجرة التي أبتها الله تعالى على مريم عليها السلام حين نفست بعيسى ابنها، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلهاً من دون الله فإن " مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثم قال له كن فيكون، الحق من ربك فلا تكن من الممترين ".
قال: وبلغني أن من آدم إلى مولد المسيح عليه السلام خمسة آلاف وخمس مئة سنة ومن الطوفان إلى مولده ثلاثة آلاف ومئتان وأربع وأربعون سنة، ومن إبراهيم إلى مولده ألفان وسبع مئة وثلاث عشرة، ومنملك داود إلى مولده ألف وتسع وخمسون سنة، وولد في خمسةٍ وعشرين يوماً من كانون الأول، ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسع مئة وثلاث وثلاثون سنة.
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما من بني آدم من مولودٍ إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان غير مريم وابنها. ثم قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم " إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ".(20/86)
وعن أبي هريرة قال: عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كل ابن آدم يطعن الشيطان بإصبعه في جنبه حين يولد إلا عيسى بن مريم فإنه ذهب ليطعن فطعن في الحجاب.
قال وهب بن منبه: لما ولد عيسى بن مريم أتت الشياطين إبليس - لعنهم الله - فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها، فقال: هذا حادثٌ حدث، مكانكم، وطار حتى جاب خافقي الأرض فلم ير شيئاً ولم يجد شيئاً، ثم جاب البحار فلم يقدر على شيء، ثم طاف أيضاً فوجد عيسى قد ولد عند مذود حمار، وإذا الملائكة قد حفت حوله، فرجع إليهم فقال: إن نبياً قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا وأنا بحضرتها إلا هذا. فأيسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة.
وعن عكرمة بن خالد المخزومي قال: لما ولد عيسى بن مريم لم يبق شيء يعبد من دون الله إلا خر لوجهه ففزعت لذلك الشياطين واجتمعوا إلى إبليس فأخبروه، فركب، فإذا بعيسى في مهده، فأراده، فحال الله بينه وبينه وملائكته، فقال له إبليس: أتعرفني؟ قال: نعم أنت إبليس، قال: صدقت، قال: أما إني ما جئتك تصديقاً بك، ولكن رحمتك ورجمت أمك لما قالت بنو إسرائيل فيها، فلو أمرت أمك فجعلتك على شاهقةٍ من الجبل ثم طرحتك فإن ربك وملائكته لم يكن ليسلمك ولا ليكسرك، فقال عيسى: يا قديم الغي! إنما أفعل ما يأمرني ربي، وإني أريد أن أعرف كرامتي عند الله عز وجل.
قال وهب بن منبه:
سألني ابن عباس عن عيسى بن مريم وميلاده، وعن لقيه إبليس بعقبة بين المقدس، وعن نعت الإسلام، وعن صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإنجيل فقلت: نعم، إن إبليس عدو الله اتخذ مجلساً على اللجة الخضراء، ثم بث شياطينه في ولد آدم فقال: انطلقوا فأتوني بأحداث الدنيا، فأتوه بجماعتهم لست ساعات مضين من النهار، فقال: أخبروني عما كنت وجهتكم؟ فقالوا: سيدنا، قد كانت الأصنام بغيتنا ورجاء ضلالة ابن آدم، فلم يبق صنم إلا أصبح منكوساً قد انحدرت حدقتاه على وجنتيه، فساء ظننا وأسقط في أيدينا. فأتوه لست ساعاتٍ مضين من النهار، فقال لهم إبليس: على رسلكم، أعلم علم ما أتيتوني، وكان ذلك(20/87)
ليلة ولد عيسى بن مريم في ثلاث عشرة ليلة مضين من ذي القعدة، فخرت الأصنام كلها سجداً وتنكس كل صنمٍ كان يعبد من دون الله تعالى ما بين المشرق والمغرب، فانطلق إبليس وطار، فغاب عنهم مقدار ثلاث ساعات من النهار، فانصرف إليهم عوده على بدئه فقال: إني لم أدع مشارق الأرض ومغاربها ولا برها ولا بحرها، ولا سهلها ولا جبلها إلا أيتيه، فوجدت ذلك المولود ولد لغير بشر، فأتيته من بين يديه لأضع يدي عليه فإذا الملائكة دونه كأنهم بنيان مرصوص، من تخوم الثرى إلى أعنان السماء، فأتيته من فوقه فإذا الملاسكة مناكبها ثابتةٌ في السماء وأرجلها تحت الأرض الصفلى فلم أصل إلى ما أردت به ولأضلن به أكثر ممن تبعه.
فلما بلغ عيسى ثلاثين سنة، وبعثه الله رسولاً إلى بني إسرائيل، مصدقاً لما بين يديه من التوراة ومبشراً برسولٍ يأتي من بعده اسمه أحمد، واتخذ الآيات والعجائب، من إحياء الموتى وخلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص. لقيه إبليس خالياً عند عقبة بيت المقدس، فقال الخبيث في نفسه: أنتهزن اليوم فرصتي من عيسى، فقال له إبليس: أنت عيسى بن مريم؟ قال نعم، قال: أنت الذي تكونت من غير أبٍ؟ إنك لعظيم الخطر! قال: بل العظمة للذي كونني؛ قال: أنت عيسى بن مريم الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتشفي المريض؟ قال: بل العظمة للذي بإذنه أشفيهم، وإذا شاء أمرضني؛ قال: أنت عيسى بن مريم الذي يحي الموتى؟ إنك لعظيم الخطر! قال: بل العظمة للذي بإذنه احييهم، ولا بد أن سوف يميتني؛ قال: أنت عيسى بن مريم الذي بلغ من عظمتك أنك تمشي على الماء؟ قال: بل العظمة للذي بإذنه مشيت، وإذا شاء أغرقني؛ قال: أنت عيسى بن مريم الذي يبلغ من عظمتك أنك تعلو السماوات فتدبر فيها الأمر، ما أعرف لله نداً غيرك ولا مثلاً إلا أنت! فارتعد عيسى من الفرق، فخر مغشياً عليه ودعا الله على إبليس دعوةً، فخرج يتدأدأ، ما يملك من نفسه شيئاً حتى بلغ الخافق الأقصى، فنهض بالقوة التي جعلت فيه فسد على عيسى العقبة من قبل أن يزول عيسى من مكانه، فقال له: ألم أقل لك إنك إله عظيم وليس لله شبه غيرك، ولكنك لا تعرف نفسك، فهلم(20/88)
فأمر الشياطين بالعبادة لك، فإنهم لم يعترفوا لبشرٍ كان قبلك، فإذا رأى بنو آدم أنهم قد عبدوك عبدوك بعبادتهم، فتكون أنت الإله في الأرض والإله الذي تصفه إلهاً في السماء. فخر عيسى مغشياً عليه، فبعث الله عز وجل إليه ثلاثة أملاك: جبريل ومياكئيل وإسرافيل، فنفحه ميكائيل نفحة فخرج يتدأدأ ما يملك من نفسه شيئاً حتى بلغ الخافق الأقصى حصيداً محترقاً، ثم مثل له إسرافيل فنفحه نفحة بجناحه، فخرج يتدأدأ ما يملك من نفسه شيئاً حتى مر بعيسى على العقبة وهو يقول: يا ويله! لقد اقيت منك يابن العذراء تعباً! ثم مثل له جبريل فنفحه نفحةص فخرج يتدأدأ ما يملك من نفسه شيئاً، حتى وقع في العين الحامية فتخلص منها بعد ثلاثة أيام حتى رجع إلى مجلسه.
وعن مجاهد في قوله " وجعلني مباركاً " قال: نفاعاً للناس، وقال: مباركاً، معلماً للخير.
وعن جابر " وجعلني مباركاً أين ما كنت " لعيسى بن مريم قال: معلماً ومؤدباً وحناناً، قال: ورحمةً وزكاةً، وطاهراً من الذنوب.
وعن يزيد بن أبي حبيب في قوله " وكهلاً " قال: الكهل منتهى الحلم.
وقال مجاهد: الكهل، الحليم.
وعن ابن عباس
في قوله " وبرا بوالدتي " فلا أعقها. فعلموا أنه خلق في غير بشر " ولم يجعلني جباراً شقيا " يعني متعظماً سفاكاً للدم " والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً " يقول الله تعالى " ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون " يعني يشكون - يقوله لليهود - ثم أمسك عيسى عن الكلام حتى بلغ ما يبلغ الناس.(20/89)
قال عبد الله بن عباس: ما تكلم عيسى إلا بالآيات حتى بلغ ما يبلغ الصبيان.
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة أن الله تعالى أطلق لسان عيسى مرة أخرى في صباه، فتكلم ثلاث مرات حتى بلغ ما يبلغ الصبيان فيتكلمون فتكلم، فحمد الله أيضاً بتحميدٍ لم تسمع الآذان بمثله، حيث أنطقه طفلاً فقال: اللهم أنت القرب في علوك، المتعالي في دنوك، الرفيع على كل شيءٍ من خلقك، أنت الذي نفذ بصرك في خلقك، وحارت البصار دون النظر إليك، أنت الذي عشيت الأبصار دونك وشمخ بك العلياء في النور، وتشعشع بك البناء الرفيع في المتباعد، أنت الذي جليت الظلم بنورك، أنت الذي أشرقت بضوء نورك دلادج الظلام وتلألأت تعظيماً أركان العرش نوراً، فلم يبلغ أحدٌ بصفته صفتك، فتباركت اللهم خالق الخلق بعزتك، مقدر الأمور بحكمتك، مبتدئ الخلق بعظمتك. ثم أمسك الله لسانه حتى بلغ.
وعن ابن عمر قال: ما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعيسى أخي، ولكن رسول الله. قال: بينما أنا نائم أراني أطوف بالكعبة فإذا رجلٌ آدم سبط الشعر، بين الرجلين، ينظف رأسه ماءٌ - أو يهراق رأسه - فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مريم، فذهبت التفت، فإذا رجلٌ أحمر جسيم، جعد الرأس، أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبةٌ طافية، فقلتك من هذا؟ قالوا: هذا الدجال - وفي رواية: هذا المسيح الدجال - أقرب الناس به شبهاً، رجلٌ من خزاعة يقال له ابن قطن.
قالوا: وهو من بني المصطلق، هلك في الجاهلية.
وعن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليلة أسري بي رأيت إبراهيم وهو يشبهني، ورأيت موسى جعداً آدم، طويلاً كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلاً أحمر ربعةً سبطاً، كأن رأسه يقطر الدهن.
وفي رواية: جعداً أحمر عريض الصدر.(20/90)
وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصف لأصحابه ليلة اسري به إبراهيم وموسى وعيسى وقال: أما إبراهيم فلم أر أشبه بصاحبكم منه - أو قال: أنا أشبه ولده به - وأما موسى فرجل آدم طوال جعد أقنى، كأنه من رجال شنوة. وأما عيسى فرجل أحمر، بين القصير والطويل، سبط الشعر، كثير خيلان الوجه، كأنه خرج من ديماس - يعني الحمام - تخال رأسه يقطر ماء، وما به ماء، أشبه من رأيت به عروة بن مسعود. قال: وأتيت بإناءين في أحدهما خمر وفي الآخر لبن، فقيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن، فشربت منه، فقيل لي: هديت إلى الفطرة - أو اصبت الفطرة - أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك.
وفي حديث بمعناه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إني ليلة أسري بي وضعت قدمي حيث توضع أقدام الأنبياء من بيت المقدس فعرض علي عيسى بن مريم ... الحديث.
وعن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجلٌ مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، بين ممصرتين، فيدق الصليب، ويقتل الخمزير، ويضع الجزية، وعطل الملل، ويقاتل على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها غيرالإسلام، ويهلك في زمانه مسيح الضلالة، الدجال الكذاب، وتقع الأمنة في الأرض، حتى يرتع الأسد من الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الغلمان والصبيان بالحيات، لا يضر بعضهم بعضاً؛ حتى يمكث في الأرض ما شاء الله، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون، ويدفنونه.
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويهلك في زمانه الملل كلها، صريح البيان عن أن اليهود والنصارى(20/91)
والمجوس وسائر المشركين ذوو مللٍ مختلفة، وليسوا أهل ملةٍ واحدة وإن جمعهم الكفر وأنه لا توارث بين أحدٍ منهم، وبين من هو على غير ملته لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يتوارث أهل ملتين شتى. وكان أبو جنيفة وأصحابه يرون الكفر كله ملة واحدة ويوقعون التوارث بينهم، وإليه يذهب أصحاب الشفعي.
ومن حديث آخر:
وأنا وعيسى أخوان، لأنه بشر بي وليس بيني وبينه نبي.
قالوا: والديماس محبس.
وعن أبي حازم قال: كنت أرى أبا هريرة يأتي الكتاب فيقول للمعلم: مر غلمانك فلينصتوا وليفقهوا ما أقول لهم، فيقول: يا معشر الغلمان، أيكم أدرك عيسى بن مريم فإنه شاب أحمر، حسن الوجه، فليقرا عليه مني السلام.
قال عبد الله عن عمرو بن العاص: كان عيسى بن مريم وهو غلام يلعب مع الصبيان، فكان يقول لأهدهم: تريد أن أخبرك ما خبأت لك أملك؟ فيقول: نعم، فيقول: خبأت لك كذا وكذا. فيذهب الغلام منهم إلى أمه، فيقول لها: أطعميني ما خبأت لي، فتقول: وأي شيءٍ خبأت لك؟ فيقول كذا وكذا فتقول له: من أخبرك؟ فيقول: عيسى بن مريم، فقالوا: والله إن تركتم هؤلاء الصبيان مع ابن مريم ليفسنهم، فجمعوهم في بيت، وأغلقوا عليهم، فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم حتى سمع ضوضاءهم في بيت، فسأل عنهم فقال: ما هؤلاء؟ كأن هؤلاء الصبيان! قالوا: لا، إنما هم قردة وخنازير، قال: اللهم اجعلهم قردة وخنازير. فكانوا كذلك.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن عيسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب بسم الله، فقال لع عيسى: وما باسم؟ قال المعلم: لا أدري، قال عيسى: الباء بهاء الله، والسين سناؤه،(20/92)
والميم ملكه، والله لا إله إلا هو، الرحمن رحمان الدنيا واخرة، والرحيم رحيم الآخرة ... الحديث.
وعن ابن عباس: أن عيسى بن مريم أمسك عن الكلام بعد إذ كلمهم طفلاً، حتى إذا بلغ ما يبلغ الغلمان، ثم أنطقه الله بعد ذلك بالحكمة والبيان، قال: فأكثر اليهود فيه وفي أمه من قول الزور، فكان عيسى يشرب اللبن من أمه، فلما فطم أكل الطعام وشرب الشراب حتى بلغ سبع سنين، فكانت اليهود تسميه ابن البغية، فذلك قول الله تعالى: " وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً " فلما بلغ سبع سنين أسلمته أمه للكتاب عند رجلٍ من الكتبيين يعلمه كما يعلم الغلمان، فلا يعلمه شيئاً إلا بدره عيسى إلى علمه قبل أن يعلمه إياه، فعلمه أبا جاد، فقال عيسى: ما أبجد؟ قال المعلم: لا أدري، فقال عيسى: فكيف تعلمني مالا تدري؟ فقال المعلم: إذاً فعلمني، فقال له عيسى: فقم من مجلسكن فقام فجلس عيسى مجلسه، فقال: سلنين فقال المعلم: فماذا أبجد؟ فقال عيسى: الألف آلاء الله، باء بهاء الله، جيم بهجة الله وجماله - زاد في غيره: دال الله الدائم - فعجب المعلم من ذلك، فكان أول من فسر أبجد عيسى بن مريم.
قال: وسأل عثمان بن عفان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ماتفسير ابجد؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعلموا تفسير ابجد، فإن فيه الأعاجيب كلها، ويل لعالمس جهل تفسيره! فقيل يا رسول الله وما أبجد؟ فقال: أما الألف آلاء الله، حرفٌ من أسماءه؛ وأما الباء فبهجة الله وجلال الله؛ وأما الجيم فمجد الله، وأما الدال فدين الله؛ وأما هوز، فالهاء الهاوية، فويل لمن هوى فيها، وأما الواو فويل لأهل النار، وأما الزاي فالزاوية، فنعوذ بالله مما في الزاوية، يعني زوايا جهنم؛ وأما حطي، فالحاء حطوط خطايا المستغفرين في ليلة القدر، وما نزل به جبريل مع الملائكة إلىمطلع الفجر، وأما الطاء فطوبى لهم وحسن مآب، وهي شجرة غرسها الله بيده، وإن أغصانها لترى من وراء سور(20/93)
الجنة، نبتت بالحي والحلل، والثمار متدلية على أفواههم، فطوبى لهم وحسن مآب، وأما الياء فيد الله فوق خلقه سبحانه وتعالى عما يشركون؛ وأما كلمن، فالكاف كلام الله، لاتبديل لكلماته " ولن تجد من دونه ملتحدا " وأما اللام فإلمام أهل الجنة بينهم بالزيارة، والتحية والسلام، وتلاوم أهل النار بينهم، وأما الميم فملك الله الذي لا يزول، ودوام الله الذي لا يفنى، وأما نون فنون " والقلم وما يسطرون " فالقلم قلمٌ من نور وكتابٌ من نور، في لوحٍ محفوظ يشهده المقربون، وكفى بالله شهيدا؛ يعني الجزاء بالجزاء وكما تدين تدان، والله لا يريد ظلماً للعباد؛ وأما قريشات، يعني قرشهم يجمعهم يوم القيامة يقضي بينهم وهم لا يظلمون.
قال ابن عباس:
فكان عيسى يري العجائب في صباه إلهاماً من الله تعالى، ففشا ذلك في اليهود، وترعرع عيسى، فهمت به بنو إسرائيل، فخافت أمه عليه، فأوحى الله إليها أن تنطلق به إلى أرض مصر فذلك قوله عز وجل: " وجعلنا ابن مريم وأمه آية " فسئل ابن عباس: ألا كان آيتان وهما اثنان؟ فقال: إنما قال آية لأن عيسى من أمه ولم يكن من أبٍ لم يشاركها في عيسى أحد، فصار آيةٌ واحدة " وآويناهما إلى ربوةٍ ذات قرارٍ ومعين " قال: يعني أرض مصر.
قال وهب: ولما بلغ عيسى ثلاث عشرة سنة أمره الله تعالى أن يرجع من مصر إلى بيت إيلياء، فقدم عليه يوسف ابن خال أمه فحملهما على حمار، حتى جاء بهما إلى إيلياء وأقامهما حتى أحدث الله تعالى له الإنجيل، وعلمه التوراة، وأعطاه إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والعلم بالغيوب بما يدخرون في بيوتهم؛ وتحدث الناس بقدومه، وفزعوا لما كان يأتي من(20/94)
العجائب، وجعلوا منه، فدعاهم إلى الله، ففشا فيهم أمره.
وعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، وأن الجنة حقٌ، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من عمل.
زاد في آخر: وأن الساعة آتيةٌ لا ريب فيها.
سئل الأوزاعي عن رجلٍ قال لامرأته: أنت طالقٌ ثلاثاً بتةً أن لم أكن من أهل الجنة؟ فقال الأوزاعي: لا يفرق بينه وبين امرأته؛ حدثني عمير بن هانئ، عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبده ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، أدخله الله الجنة على ما كان منه فلا يفرق بينهما بالشك لما جاء من هذا الحديث.
وفي رواية: أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء.
وعن يعلى بن شداد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليخرجن الله بشفاعة عيسى بن مريم من جهنم مثل أهل الجنة.
أنزلت التوراة على موسى صلى الله على نبينا محمدٍ وعليه وسلم في ست ليالي خلون من شهر رمضان؛ ونزل الزبور على داود صلى الله على نبينا محمدٍ وعليه وسلم في اثنتي عشرة خلت من شهر رمضان، وذلك بعد التوراة بأربع مئة سنة واثنتين وثمانين سنة؛ وأنزل الإنجيل على عيسى بن مريم صلى الله على نبينا محمدٍ وعليه وسلم في ثمان عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد الزبور بألف عام وخمسين عاماً؛ وأنزل القرآن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أربعٍ وعشرين من شهر رمضان.
وعن أبي هريرة قال:
أوحى الله تعالى إلى عيسى بن مريم: يا عيسى خذ في أمري ولا تهن، واسمع وأطع، يا بن الطاهرة البكر البتول، إنك من غير فحل، وأنا خلقتك آية للعالمين، إياي فاعبد،(20/95)
وعلي فتوكل، خذ الكتاب بقوة، فسر لأهل السريانية السريانية، بلغ بين يديك أني أنا الحي القائم الذي لا أزول، صدقوا النبي الأمي العربي، صاحب الجمل والتاج - وهي العمامة - والمدرعة والنعلين والهراوة - وهو القضيب - الأنجل العينين، الصلت الجبين، الواضح الخدين، الجعد الرأس، الكث اللحية المقرون الحاجبين، الأقنى الأنف، المفلج الثنايا البادي العنفقة، الذي كأن عنقه إبريق فضة، كأن الذهب يجري في تراقيه، له شعيراتٌ من لبته إلى سرته يجري كالقضيب، ليس على بطنه ولا على صدره شعر غيره، شثن الكف والقدم، إذا التفت التفت جميعاً، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر وينحدر من صبب، عرقه في وجهه كاللؤلؤة، ريح المسك ينفح منه، لم ير قبله ولا بعده - يعني مثله - الحسن القامة، الطيب الريح، نكاح النساء، ذا النسل القليل إنما نسله من مباركة، لها بيتٌ - يعني في الجنة - من قصب، لانصب فيه ولا صخب؛ تكفله يا عيسى في آخر الزمان، كما كفل زكريا امك، له منها فرحان مستشهدان وله عندي منزلة ليس لأحد من البشر، كلامه القرآن ودينه الإسلام، وأنا السلام، طوبى لمن أدرك زمانه وشهد أيامه وسمع كلامه. قال عيسى: يا رب! وما طوبى؟ قال: غرس شجرة أنا غرستها بيدي، فهي الجنان كلها، أصلها من رضوان وماؤه من تسنيم، وبردها برد الكافور وطعمها طعم الزنجبيل، وريحها ريح المسك، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً. قال عيسى: يا رب اسقني منها، قال: حرامٌ على النبيين أن يشربوا منها حتى يشرب ذاك النبي، وحرامٌ على الأمم أن يشربوا منها حتى تشرب أمة ذاك النبي. قال: يا عيسى أرفعك إلي، قال: يا رب! ولم ترفعني؟ قال: أرفعك ثم أهبطك في آخر الزمان لترى من أمة ذلك النبي العجائب، ولتعينهم على قتال اللعين الدجال، أهبطك في وقت صلاة، ثم لا تصل بهم لأنهم أمةٌ مرحومة، ولا نبي بعد نبيهم.
وروي أن عيسى بن مريم قال: رب أنبئني عن هذه الأمة المرحومة؟ قال: أمة أحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هم علماء حلماء، كأنهم انبياء، يرضون مني بالقليل من العطاء، وأرضى منهم باليسير من العمل، وأدخلهم الجنة بلا إله إلا الله، ياعيسى هم أكثر سكان أهل الجنة لأنها لم تذل ألسن قومٍ قط بلا إله إلا الله، كما ذلت ألسنتهم، ولم تذل رقاب قومٍ قط بالسجود كما ذلت رقابهم.(20/96)
وعن عبد الله بن عوسجة قال: أوحى الله إلى عيسى بن مريم؛ أنزلني من نفسك كهمك، واجعلني ذخراً لك في معادك، وتقرب إلي بالنوافل أحبك، ولا تول غيري فأخذلك، اصبر على البلاء، وارضى بالقضاء، وكن كمسرتي فيك، فإن مسرتي أن أطاع فلا أعصى، وكن مني قريباً، وأحي ذكري بلسانك، ولتكن مودتي في صدره يقظ من ساعات الغفلة، واحكم لي لطف الفطنة، وكن لي راغباً راهباً، وأمت قلبك من الخشية لي، وراع الليل بحق مسرتي واظم نهارك ليوم الري عندي، نافس في الخيرات جهدك، واعرف بالخير حيث توجهت - تفسيره: يقول: ولتعرف بالخير - وقم في الخلائق بنصيحتي، واحكم في عبادي بعدك، فقد أنزلت عليك شفاء وساوس الصدر من مرض النسيان وجلاء الأبصار من غشا الكلال؛ ولا تكن حلساً كأنك مقبوض وأنت حيتنفس؛ ياعيسى بن مريم ما أمنتني خليقةٌ إلا خشعت، ولا خشعت لي إلا رجت ثوابي، فأشهدك أنها آمنةٌ من عقابي ما لم تغير أو تبدل سنتي؛ يا عيسى بن مريم البكر البتول، ابك على نفسك ايام الحياة بكاء من ودع الأهل وقلى الدنيا، وترك اللذات لأهلها وارتفعت رغبته فيما عند إلهه، وكن في ذلك تلين الكلام، وتفشي السلام وكن يقظانا إذا نامت عيون الأنام حذار ما هو آتٍ من أمر المعاد، وزلازل شدائد الأهوال قبل أن لا ينفع أهلٌ ولا مال، واكحل عينك بملمول الحزن إذا ضحك البطالون، وكن في ذلك صابراً محتسباً، فطوبى لك إن نالك ما وعدت الصابرين، زج من الدنيا بالله، يوم بيوم، وذق مذاقه، ما هرب منك أين طعمه؟ وما لم يأتك كيف لذته؟ فزج من الدنيا بالبلغة، وليكفك منها الخشن الخشب، قد رأيت إلى ما تصير؛ اعمل على حساب، فإنك مسؤول؛ لو رات عينك ما أعددت لأوليائي الصالحين ذاب قلبك، وزهقت نفسك.(20/97)
زاد في آخر: اشتياقاً إليهم.
كان عيسى يصلي على رأس الجبل، فأتاه إبليس فقال: أنت الذي يزعم أن كل شيءٍ بقضاءٍ وقدر؟ قال: نعم، قال: ألق نفسك من الجبل وقد قدر علي، قال: يالعين! الله يختبر العباد، ليس العباد يختبرون الله عز وجل.
وفي حديثٍ بمعناه: قال: أما علمت أن الله تعالى قال: لا يجربني عبدي فإني أفعل ما شئت.
صلى عيسى بن مريم ببيت المقدس فانصرف، فلما كان ببعض العقبة عرض له إبليس فاحتبسه، فجعل يعرض عليه ويكلمه ويقول له: إنه لا ينبغي لك أن تكون عبداً؛ فأكثر عليه وجعل عيسى يحرص على أن يتخلص منه، فجعل لا يتخلص منه، فقال له فيما يقول: لا ينبغي لك يا عيسى أن تكون عبداً؛ فاستغاث عيسى بربه فأقبل جبريل وميكائيل، فلما رآهما إبليس كف، فلما استقرا معه العقبة اكتنفا عيسى، وضرب جبريل إبليس بجناحه فقذفه في بطن الوادي، قال: فعاد إبليس معه وعلم أنهما لم يؤمرا بغير ذلك، فقال لعيسى: قد أخبرتك أنه لاينبغي لك أن تكون عبداً، إن غضبك ليس غضب عبد، وقد رأيت ما لقيت منك حين غضبت، ولكن أدعوك إلى أمرٍ هو لك، آمر الشياطين فليطيعوك، فإذا رأى الإنس أن الشياطين قد أطاعوك عبدوك، أما إني لا أقول أن تكون إلهاً ليس معك إله، ولكن الله يكون إلهاً في السماء وتكون أنت إلهاً في الأرض، فلما سمع عيسى ذلك منه استغاث بربه وصرخ صرخةق شديدة، فإذا إسرافيل قد هبط فنظر إليه جبريل وميكائيل فكف إبليس، فلما استقر معهم ضرب إسرافيل إبليس بجناحه فصك به عين الشمس، ثم ضربه ضربة اخرى فأقبل إبليس يهوي، ومر بعيسى وهو مكانه فقال: يا عيسى لقد لقيت منك اليوم تعباً شديداً، فرمى به في عين الشمس، وجره سبعة أملاك عند العين الحامية؛ قال: فغطوه، فجعل كلما خرج غطوه في تلك الحمأة. قال: والله ما عاد إليه بعد.(20/98)
قال أبو حذيفة:
واجتمع إليه شياطينه فقالوا: سيدنا قد لقيت تعباً! قال: إن هذا عبد معصوم ليس لي عليه من سبيل، وسأضل به بشراً كثيراً وأبث فيهم أهواء مختلفة، وأجعلهم شيعاً، ويجعلون وأمه إلهين من دون الله. وأنزل الله فيما أيد به عبده عيسى وعصمه من إبليس قرآناً ناطقاً يذكر نعمته على عيسى فقال: " يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس " يعني إذ قويتك بروح القدس يعني جبريل " تكلم الناس في المهد وكهلاً، وإذ علمتك الكتاب " يعني الانجيل والتوراة " والحكمة " " وإذ كففت بني إسرائيل عنك " الآية كلها، وإذ جعلت المساكين لك بطانةً وصحابةً وأعواناً ترضى بهم، وصحابةً وأعواناً يرضون بك هادياً وقائداً إلى الجنة، فذلك فاعلم خلقان عظيمان، من لقيني بهما فقد لقيني بأزكى الخلائق وأرضاها عندي، وسيقول لك بنو إسرائيل: صمنا فلم يقبل صيامنا، وصلينا فلم يقبل صلاتنا، وتصدقنا فلم يقبل صدقاتنا، وبكينا بمثل حنين الجمال فلم يرحم بكاءنا؛ فقل لهم: ولم ذاك؟ وما الذي يمنعني؟ أن ذات يدي قلت؟ أوليس خزائن السموات والأرض بيدي أنفق منها كيف أشاء؟ أو أن البخل يعتريني؟ أو لست اجود من سئل وأوسع من أعطى؟ وأن رحمتي ضاقت؟ وإنما يتراحم المتراحمون بفضل رحمتي. ولولا أن هؤلاء القوم يا عيسى بن مريم غذوا أنفسهم بالحكمة التي نورت في قلوبهم، فاستأثروا به الدنيا أثرةً على الآخرة لعرفوا من أين أتوا، وإذاً لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى الأعداء لهم، وكيف أقبل صيامهم وهم يتقوون عليه بالأطعمة الحرام؟ وكيف أقبل صدقاتهم وهم يغصبون الناس عليها فيأخذونها من غير حلها؟! يا عيسى، إنما أجزي عليها أهلها؛ وكيف أرحم بكاءهم وأيديهم تقطر من دماء الأنبياء؟! ازددت عليهم غضباً، يا عيسى، وقضيت يوم خلقت السماوات والأرض أنه من عبدك(20/99)
وعبد أمك وقال فيكما بقولي أن أجعلهم جيرانك في الدار، ورفقاءك في المنازل، وشركاءك في الكرامة؛ وقضيت يوم خلقت السماوات والأرض أنه من اتخذك وأمك إلهين من دون الله أن أجعلهم في الدرك الأسفل من النار؛ وقضيت يوم خلقت السماوات والأرض أني مسبب هذا الأمر على يدي محمد، وأختم به الأنبياء والرسل، ومولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام، وليس بفظ ولا غليظ، ولا سخابٍ في الأسواق، ولا متزينٍ بالفحش، ولا قوال بالخنا، أسدده لكل أمرٍ جميل، وأهب له كل خلقٍ كريم، أجعل التقوى ضميره، والحكمة معقوله، والوفاء طبيعته، والعدل سيرته؛ والحق شريعته، والإسلام ملته، واسمه أحمد، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأغني به بعد العايلة، وأرفع به بعد الضعة، أهدي به وأفتح به من ىذانٍ صم، وقلوبٍ وأهواء مختلفةٍ متفرقة، أجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، إخلاصاً لا سمي وتصديقاً لما جاءت به الرسل، ألهمهم التسبيح والتهليل والتقديس في مساجدهم ومجالسهم وبيوتهم ومتقلبهم ومثواهم، يصلون لي قياماً وقعوداص وركعاص وسجداً، ويقاتلون في سبيلي صفوفاص وزحوفاً، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، وقربانهم في بطونهم، رهبانٌ بالليل، ليوثٌ بالنهار، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم.
قال وهب بن منبه: كان دعاء بن مريم الذي يدعو به للمرضى والزمن والعميان والمجانين: اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الأرض، لا إله فيهما غيرك، وأنت جبار من في السماء وجبار من في الأرض، لا جبار فيهما غيرك، وأنت ملك من السماء وملك من في الأرض، لا ملك فيهما غيرك، قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء، وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء، أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم إنك على كل شيءٍ قدير.
قال وهب: هذا للفزع والمجنون، يقرأ عليه ويكتب له ويسقي ماءه إن شاء الله.(20/100)
كان عيسى بن مريم إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتن يقرأ في الأولى " تبارك الذي بيده الملك " وفق الثانية " تنزيل " السجدة، فإذا فرغ مدح الله وأثنى عليه ثم دعا بسبعة أسماء: يا قديم! يا حي! يا دائم! يا فرد! يا وتر! يا أحد! يا صمد! قال البيهقي: ليس هذا بالقوي.
وعن هلال بن خباب قال:
سألت بنو إسرائيل عيسى بن مريم عليه السلام فقالوا: يا روح الله وكلمته، إن سام بن نوح دفن هاهنا قريباً، فادع الله أن يبعثه، قال: فهتف نبي الله فلم ير شيئاً فقال: أتتعنتوني!؟ فقالوا: ما نتعنتك، لقد دفن ها هنا قريباً، فهتف نبي الله فخرج أشمط، قالوا: يا نبي الله! إنه مات وهو شاب، فما هذا البياض؟ فسأله فقال: ظننت أنها الصيحة ففزعت، قالوا: دعه يكن فينا، قال: كيف يكون فيكم وقد نفد رزقه!.
وحدث جماعة عن عبر عيسى وقصته، وما كان من الآيات والعجائب، وزاد بعضهم عن بعض قالوا: إن أول من أحيا عيسى بن مريم من الموتى حين قال لهم " إني أخلق من الطين " بإذن الله " وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " فتعاظم ذلك عند الكفار والمنافقين فأنكروه، وازداد المؤمنون بذلك إيماناً؛ فكانت اليهود تجتمع إليه في ذلك ويستهزئون به ويقولون له: يا عيسى، ما أكل فلان البارحة وما ادخر في بيته لغدٍ؟ فيخبرهم، فيسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم، وكان عيسى ليس له قرار ولا موضع يعرف، إنما هو سائح في الأرض فمر ذات يوم بامرأةٍ قاعدةٍ عند قبرٍ وهي تبكي فقال لها: ما لك أيتها المرأة؟ فقالت: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها، وإني عاهدت ربي أن لا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذافت من الموت، ولا أبرح من موضعي أو يبعثها الله لي فأنظر إليها أو أحشر معها من موضعي، لو يحييها الله لي فأنظر إليها، فقال عيسى: إن نظرت إليها أراجعةٌ أنت؟ قالت: نعم،(20/101)
قال: فصلى عيسى ركعتين ثم جاء فجلس عند القبر، فنادى يا فلانة، قومي بإذن الرحمن فاخرجي، قال: فتحرك القبر، ثم نادى الثانية، فانصدع القبر بإذن الله، ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب، فقال لها عيسى: ما بطأ بك عني؟ قالت: لما جاءتني الصيحة الأولى بعث الله لي ملكاً فركب خلقي، ثم جاءتني الصيحة الثانية فرجع إلي روحي، ثم جاءتني الصيحة الثالثة فخفت أنها صيحة القيامة! فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عيني من مخافة القيامة، ثم أقبلت على أمها فقالت يا أمتاه! ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين؟ يا أمتاه، اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا، يا روح الله وكلمته يسأل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت، قال: فدعا ربه، فقبضها إليه، فاستوت عليها الأرض.
فبلغ ذلك اليهود، فازدادوا عليه غضباً، وكان ملك منهم في ناحيةٍ منهم في مدينةٍ يقال لها نصيبين جباراً عاتياً، وأمر عيسى بالمسير إليه ليدعوه وأهل تلك المدينة إلى المراجعة. قال: فمضى حتى شارف المدينة ومعه الحواريون، فقال لأصحابه: ألا رجلٌ منكم ينطلق إلى المدينة فينادي فيها فيقول: إن عيسى عبد الله ورسوله. قال: فقام رجلٌ من الحواريين يقال له يعقوب فقال: أنا يا روح الله وكلمته؛ قال: فاذهب فأنت أول من يبر أمتي. فقام آخر يقال له توصار قال له: أنا معه، قال: وأنت معه؛ ومشيا، فقام شمعون فقال: يا روح الله وكلمته! أكون ثالثهم؟ فأذن لي بأن أنال منك إن اضطررت إلى ذلك، قال: نعم.
قال: فانطلقوا، حتى إذا كانوا قريباً من المدينة فقال لهما شمعون: ادخلا المدينة فبلغا ما أمرتما وأنا مقيم مكاني، فإن ابتليتما احتلت لكما. فانطلقا حتى دخلا المدينة، وقد تحدث الناس بأمر عيسى وهم يقولون فيه أقبح القول وفي أمه، فنادى أحدهما - وهو الأول - ألا إن عيسى عبد الله ورسوله؛ فوثبوا إليهما: من القائل إن عيسى عبد الله ورسوله؟ فتبرأ الذي نادى فقال: ما قلت شيئاً؛ فقال الآخر: قد قلت وأنا أقوله: إن(20/102)
عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، فآمنوا به يا معشر بني إسرائيل خيرٌ لكم. فانطلقوا به إلى ملكهم - وكان جباراً طاغياً - فقال له: ويلك! ما تقول؟ قال: أقول إن عيسى عبد اللهورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه؛ قال: كذبت؛ فقذفوا عيسى وأمه بالبهتان، ثم قال له: تبرأ ويلك من عيسى وقل فيه مقالتنا! فقال: لا أفعل، فقال الملك: إن لم تفعل قطعت يديك ورجليك وسمرت عينيك، فقال: افعل ما أنت فاعل. قال: ففعل به ذلك، فألقاه على مزبلةٍ في وسط مدينتهم.
قالوا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: كونوا كحواريي عيسى بن مريم، رفعوا على الخشب وسمروا بالمسامير وطبخوا في القدور، وقطعت أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم فكان ذلك البلاء والقتل في طاعة الله أحب إليهم من الحياة في معصية الله.
قال الرواة: إن الملك هم أن يقطع لسانه إذ دخل شمعون وقد اجتمع الناس، فسلم، فلما نظروا إليه أنكروه، فقال لهم: ماقال هذا المسكين؟ قالوا: يزعم أن عيسى عبد الله ورسوله، فقال شمعون: أيها الملك أتأذن لي فأدنوا منه فأسأله؟ قال: نعم، فقال له شمعون: أيها المبتلى! ما تقول؟ قال: أقول: إن عيسى عبد الله ورسوله، قال: فما آيته نعرفه؟ قال: يبرء الأكمة والأبرص والسقيم، قال: هذا يفعله الأطباء فهل غيره؟ قال: نعم، يخبركم بما تأكلون وما تدخرون، قال: هذا يعرفه المهنة فهل غير هذا؟ قال: نعم، يخلق من الطين كهيئة الطير، قال: هذا قد تفعله السحرة، يكون أخذه منهم. قال: فجعل يتعجب الملك منه وسؤاله، فقال: هل غير هذا؟ قال: نعم، يحيي الموتى، قال: أيها الملك! إنه ذكر أمراً عظيماً! وما أظن خلقاً يقدر على ذلك إلا بإذن الله، ولا يقضي الله ذلك على يدي ساحرٍ كذاب، فإن لم يكن عيسى رسولاً فلا يقدر على ذلك، وما فعل الله ذلك بأحد إلا بإبراهيم حين سأله " رب أرني كيف تحيي الموتى " ومن مثل إبراهيم خليل الرحمن! فقال الله: " أو لم تؤمن قال بلى ".
ذكر الحسن أن عيسى بن مريم ومعه ناسٌ من الحواريين، فأتوا على ذهبٍ كثير موضوع، فقال عيسى النجاء النجاء! إنما هي النار. ثم مضى ومضى أصحابه، وتخلف منهم ثلاثة،(20/103)
فقال رجلان منهم لصاحبهما: إنا لا نستطيع هذا الذهب إلا أن نحمله على شيء فخذ من هذا الذهب فاشتر لنا به طعاماً واشتر لنا ظهراً نحمل عليه من هذا الذهب. فانطلق لما أمراه به، فأتى الشيطان للرجلين فقال لهما: إذا أتاكما فاقتلاه واقسما المال نصفين، فلما أحكم أمرهما انطلق إلى الآخر فقال: إنك لن تطيق هذين، فاجعل في الطعام سما فأطعمهما واذهب بالمال وحدك. فابتاع من المدينة سما، فجعله في طعامهما؛ فلما أناهما وثبا عليه فقتلاه، ثم قربا الطعام فأكلا منه فماتا. فانطلق عيسى إلى حاجته ثم رجع، فإذا هو بهم قد موتوا عند الذهب فقال: انظروا إلى هؤلاء! ثم حدثهم حديثهم، ثم قال لأصحابه: النجاء النجاء! فإنما هي النار.
وعن بن عباس قال:
لما بعث الله عيسى وأمره بالدعوة لقيه بنو إسرائيل فأخرجوه، فخرج هو امه يسيحون في الأرض، فنزلوا في قرية على رجلٍ فأضافهم فأحسن إليهم، وكان للمدينة ملكٌ جبارٌ معتدٍ، فجاء ذلك الرجل يوماً وقد وقع عليه هم وحزن، فدخل منزله ومريم عند امرأته فقال لها: ما شأن زوجك أراه حزيناً؟ فقالت: ل تلسيني، قالت: أخبرني لعل الله يفرج كربه، قالت: فإن لنا ملكاً يجعل على كل رجلس منا يوماً يطعمه هو وجنوده ويسقيهم الخمر، فإن لم يفعل عاقبه، وإنه قد بلغت نوبته اليومن يريد أن يصنع له فيه، وليس الآن عندنا سهة، قالت: فقولي له فلا يهتم، فإني آمر ابني فيدعو له، فيلقى ذلك، فقالت مريم لعيسى في ذلك، فقال عيسى: يا أمه! إني إن فعلت كان في ذلك شر! قالت: لا تبالي فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا، فقال عيسى: فقولي له إذا اقترب ذلك فاملاٌ قدورك وخوابيك ما ثم أعلمني، فلما ملأهن أعلمه، فدعا الله، فتحول ما في القدور لحماً ومرقاً وخبزاً، وما في الخوابي خمراً لم ير الناس مثله قط، فلما جاءه الملك أكل منه، فلما شرب الخمر سأل: من أين لك هذا الخمر؟ قال: هو من أرض كذا وكذا، قال الملك: فإن خمري أوتى به من تلك الأرض، ليس هو مثل هذا! قال: هو من أرضٍ أخرى: فلما خلط على الملك اشتد عليه فقال: أنا أخبرك، عندي غلامٌ لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه، وإنه دعا الله فجعل الماء خمراً، فقال له الملك - وكان له ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيام - وكان أحب الخلق إليه - فقال: إن رجلاً دعا الله فجعل الماء خمراً ليستجابن له حتى يحيي ابني؛ فدعا عيسى فكلمه وسأله أن يدعو الله أن يحيي ابنه، فقال(20/104)
عيسى: لا تفعل إنه إن عاش كان شرا! قال الملك: ليس أبالي، أليس أراه؟ فلا أبالي ما كان؛ قال عيسى: فإن أحييته تتركوني أنا وأمي نذهب حيث نشاء، قال الملك: نعم. فدعا الله الغلام، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه. فاقتتلوا.
وذهب عيسى وأمه، وصحبهما يهودي، وكان مع اليهودي رغيفان ومع عيسى رغيف، فقال له عيسى تشاركني؟ قال اليهودي: نعم. فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيف ندم، فلما ناما جعل اليهودي يريد ان يأكل الرغيف أكل لقمة، قال له عيسى: ما تصنع؟ فيقول له: لا شيء، فيطرحها، حتى فرغ من الرغيف كله، فلما أصبحا قال له عيسى: هلم طعامك، فجاء برغيف فقال له عيسى: أين الرغيف الآخر؟ قال: ما كان معي إلا واحد، فسكت عنه؛ وانطلقوا فمروا براعي غنم، فنادى عيسى: يا صاحب الغنم، أجزرنا شاةً من غنمك، قال: نعم، أرسل صاحبك يأخذها، فأرسل عيسى اليهودي، فجاء بالشاة فذبحوها وشووها، ثم قال اليهودي: كل ولا تكسر عظماً؛ فاكلا، فلما شبعوا قذف عيسى العظام في الجلد، ثم ضربها بعصاه وقال: قومي بإذن الله. فقامت الشاة تثغو، فقال: يا صاحب الغنم، خذ شاتك، فقال له الراعي: من أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم. قال: أنت الساحر! وفر منه. قال عيسى لليهودي: بالذي أحيا هذه الشاة بعدها أكلناها، كم كان معك من رغيف؟ قال: فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد؛ فمر بصاحب بقر، فقال له: يا صاحب البقر، أجزرنا من بقرك هذه عجلاً، فقال: ابعث صاحبك يأخذخ. فقال: انطلق يا يهودي فجئ به. فانطلق فجاء به فذبحوه وشووه. وصاحب البقر ينظر، فقال له عيسى: كل ولا تكسر عظماً فلما فرغوا قذف العظام في الجلد ثم ضربه بعصاه وقال، قم بإذن الله؛ فقام، له خوار، فقال: يا صاحب البقر، خذ عجلك، قال: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم. قال: أنت الساحر! ثم فر منه. قال اليهودي: يا عيسى أحييته بعدما أكلناه! قال: يا يهودي، فبالذي أحيا هذه الشاة بعدها أكلناها، والعجل بعدما أكلناه كم كان معك من رغيف؟ قال: فحلف ما كان معه إلا رغيف(20/105)
واحد؛ فانطلقا حتى نزلا قريةً، فنزل اليهودي في أعلاها وعيسى في أسفلها، وأخذ اليهودي عصاً مثل عصا عيسى وقال: أنا الآن أحيي الموتى. وكان ملك تلك القرية مريضاً شديد المرض. فانطلق اليهودي ينادي من يبغي طبيباً؟ حتى أتى ملك تلك المدين، فأخبر بوجعه فقال: أدخلوني عليه فأنا أبرئه، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه. فقيل له: إن وجع الملك قد أعيا الأطباء قبلك، ليس من طبيب يداويه ولا يغني دواؤه شيئاً إلا أمر به فصلب، فقال: أدخلوني عليه فإني سأبرئه؛ فأدخل عليه، برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات! فجعل يضربه وهو ميت ويقول: قم بإذن الله، فأذخ ليصلب فبلغ عيسى، فأقبل عليه وقد رفع علي الخشبة فقال: أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم أتتركون لي صاحبي؟ قالوا: نعم، فأحيا عيسى الملك، فقام وأنزل اليهودي، فقال: يا عيسى! أنت أعظم الناس علي منةً! والله لا أفارقك أبداً. فخرجوا فمروا بثلاث لبنات، فدعا الله عز وجل عيسى فصيرهن من ذهب، قال: يا يهودي لبنةٌ لي ولبنةٌ لك ولبنةٌ لمن أكل الرغيف؛ قال: أنا أكلت الرغيف.
وعن ابن عباس أن عيسى بن مريم قال للحواريين: صوموا ثلاثين يوماً، ثم سلوا الله ما شئتم يعطكموه. فصاموا، فلما قضوا ثلاثين يوماً قالوا لعيسى: يا معلم الخير، إنه لو عملنا لأحد وقضينا عمله أطعمنا طعاماً، وإنا قد صمنا الذي أمرتنا به، فادع الله أن ينزل علينا مائدةً من السماء، فنزلت الملائكة بمائدةٍ يحملونها، عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة، فأكل من آخر الناس كما أكل منها أولهم.
وفي حديثٍ آخر: فأنزلها الله عليهم، فكان ينزل عليهم كل يوم تلك المائدة من ثمار الجنة، فيأكلون من ضروب شتى، فكان يقعد منا أناس يلطخون ثيابنا، فلو بنينا لها بناءً حتى نرفعها؛ فبنوا لها بناءً، فلما فعلوا ذلك أنزلها الله عليهم ذلك اليوم، فجاء أشرافهم وأصحاب الثياب، فارتفعوا على غيرهم، فأكلوا ذلك منها ثم رفعها الله عنهم حين بدلوا أمر الله عز وجل.(20/106)
وعن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنزلت المائدة من السماء خبز ولحم، وأمروا أن لا يخبؤوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغدٍ، فخانوا وادخروا وخبؤوا، فمسخوا قردةً وخنازير.
وعن سلمان
أنه قال في المائدة التي أنزلها الله على عيسى قال: لما سأل الحواريون عيسى - وذلك أنهم حين سألوه - قالوا: تريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا للذي رأينا من العجائب، ونكون عليها من الشاهدين. قال: فقام عيسى فألقى عنه الصوف ولبس جبة من شعر ولحافاً من شعر، ثم وضع يمينه على شماله وصف قدميه، وألصق كعب قدميه مع الآخر، وسى بين إبهاميه، وطأطأ رأسه خاشعاً لله عز وجل، فأرسل عينيه بالبكاء حتى سالت الدموع على لحيته وصدره وهو يدعو الله ويتضرع، ثم قال: " اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا " يعني تكون لنا عظة " وآية منك " يقول: علامة بيننا وبينك " وارزقنا " عليها طعاماً نأكله وارزقنا " وأنت خير الرازقين " فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة من فوقها وأخرى من تحتها، توهي منقضة في الهواء والناس ينظرون إليها! فأوحى الله تعالى: يا عيسى هذه المائدة، فمن كفر بعد ذلك " منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ". فبلغ عيسى قومه فقالوا: نعم، فقال الله: يا عيسى إن كفروا أخذتهم بالشرط. ونزلت المائدة وعيسى يبكي ويقول: إلهي اجعل رحمةً ولا تجعلها عذاباً! كم أسألك من العجائب " فتعطني، إلهي، أعوذ بك أن يكون نزولها عذاباً ورجزاً، وأسألك أن تجعلها عافيةً وسلامةً، ولا تجعلها مثلة ولا فتنة. فما زال " يدعو ويتضرع حتى استقرت بين يدي عيسى، والناس حوله " يجدون ريح " طيبها، لم يجدوا ريحاً قط أطيب منها، فخر عيسى ساجداً، وسجد الحواريون معه.(20/107)
وبلغ ذلك اليهود. فأقبلوا مغمومين مكروبين، فنظروا إلى أمرٍ معجب، فإذا سفرة مغطاة بمنديل، فرفع عيسى راسه واستوى قاعداً، فقال: لننظر من كان خيرنا وأوثقنا بنفسه، وأحسننا عملاً عند ربه فليكشف عن هذه الآية حتى ننظر إليها ونأكل منها ونحمد الله عليها؛ فقال الحواريون: أنت أولانا وأحقنا يا روح الله! فقام عيسى فتوضأ وضوءاً حسناً وصلى صلاة حسنة، ودعا دعاءً كثيراً وبكى بكاءً طويلاً، ثم جلس عند السفرة ثم قال: بسم الله خير الرازقين وكشف المنديل، فإذا سمكة مشوية وليس عليها فلوس ولا فيها شوك، يسيل السمن منها سيلاناً وقد نذد حولها من ألوان البقول إلا الكراث، وخل عند رأسها وملح عند ذنبها، وخمسة أرغفة على كل رغيف زيتون وخمس رمانات وتميرات، فقال شمعون وهو رأس الحواريين: يا روح الله وكلمته! أمن طعام الدنيا أو من طعتم الآخرة؟ فقال عيسى: ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا! فقال: لا وإله بني إسرائيل ما أردت بما سألتك عنه سوءاً، فقال عيسى: نزلت وما عليها من السماء، وليس شيء منها من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، وهي مما ابتدعه الله بالقدرة البالغة، فقال: كن فكان، فقال: كلوا مما سألتم واذكروا اسم الله عليه واحمدوا إلهكم واشكروه يزدكم، فإنه القادر على ما يشاء إذا يشاء، فقال الحواريون: يا روح الله! كن أنت أول من يأكل منها ثم نأكل منها، فقال عيسى: معاذ الله، بل يأكل منها الذي سألها وطلبها.
وفرق الحواريون أن يكون " نزولها سخطة ومثلة، فلم يأكلو منها، فدعا عيسى لها أهل الفاقة والزمانة من العميان والمجذمين والمجانين والمخبلين، وهذا الضرب من أنواع البلاء من الناس، فقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم، وآية من ربكم، فليكن مهناها لكم وبلاؤها لغيركم " فأكلوا، فصدر عن تلك السمكة والطعام " ألف وثلاث مئة من بين رجل وامرأة شباعاً " يتجشؤون من بين فقيرٍ جائع، وزمنٍ ناقهٍ رغيب، ثم نظر عيسى إلى السفرة فإذا هي كهيئتها حين نزلت من السماء، ثم رفعت إلى السماء وهم ينظرون(20/108)
إليها صاعدة، وينظرون إلى ظلها حتى توارت، فاستغنى كل فقير أكل منها حتى مات، وبرأ كل مبتلى يومئذٍ فلم يزل صحيحاً غنياً حتى مات، وندم الحواريون وندم سائر الناس ندامةً شابت حواجبهم وأشفار أعينهم، فكانت إذا نزلت بعد ذلك أقبلوا إليها من كل مكان يسعون، يزاحم بعضهم بعضاً، الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، والصغار والكبار، وكل صغير ضعيف ومريض، يركب بعضهم بعضاً، حتى جعلها عيسى نوائب فيما بينهم، ثم كانت تنزل غباً، تنزل يوماً ولا تنزل يوماً، كناقة ثمود، ترعى يوماً وترد يوماً فلبثوا بذلك أربعين صباحاً، فلا تزال موضوعة يؤكل منها، فإذا فاء الفيء ارتفعت صاعدةُ في السماء؛ ثم أوحى الله إلى عيسى: أن اجعل مائدتي ورزقي لليتامى والزمنى والفقراء دون الأغنياء، فتعاظم ذلك عند الأغنياء، وأذاعوا القبيح وارتابوا وشكوا فيها، ووقعت الفتنة في قلوب المرتابين حتى قال قائلهم: يا روح الله وكلمته! إن المائدة بحق أنها تنزل من عند ربنا؟ فقال: عيسى ويلك هلطتم! العذاب نازلٌ بكم إلا أن يعفو الله ويرحمكم.
فأوحى الله إلى عيسى أني آخذهم بالشرط الذي اشترطت، إني معذب منهم من كفر بعد نزولها بعذاب " لا أعذبه أحداً من العالمين " فقال عيسى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وخبرهم بنزول العذاب عليهم، فمسخ الله منهم ثلاثةً وثلاثين رجلاً خنازير، وأصبحوا يأكلون العذرة في الحشوش ويتبعون الزبل في الطرق، وكانوا باتوا أول الليل على فرشهم مع نسائهم آمنين في دورهم، في أحسن صورةٍ وأوسع رزق فأصبحوا خنازير، وأصبح الناس - من بقي - خائفين من عقوبة الله، وعيسى يبكي ويتضرع وأهلوهم يبكون معه عليهم. وجاءت الخنازير تسعى إلى عيسى حين أبصرته، فطفقوا وعيسى يدعوهم: يا فلان يا فلان، فيقول برأسه: نعم، فيقول: ألم أنذركم عقوبة الله؟ فيقولون برؤوسهم: أي نعم، وأحذركم وأخوفكم عذابه! وكأني كنت انظر إليكم في غير صوركم؛ وذلك قوله تعالى: " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " وأنزل الله على(20/109)
نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات " ثم إن عيسى سأل ربه أن يميتهم، فأماتهم بعد ثلاثة أيام؛ فما رأى أحدٌ من الناس لهم جيفةٌ في الأرض لأن العقوبة إذا نزلت من الله استأصلت، فنعوذ بالله من غضبه.
قالوا: وكان ذلك بين إيلياء وبين أرض الروم.
وفي رواية: فأكلوا، فصدر عنها سبعة آلاف شباعاً - وفي رواية اثنا هشر ألفاً - فكانت المائدة تنزل عليهم أربعين صباحاً، فعمد قومٌ منهم فخبنوا منه، فقال لهم الحواريون: لا تفعلوا فإنكم إن فعلتم عذبتم. وكان قومٌ منهم مداهنين فقال: دعوهم وما الذي يتخوفون عليهم، إنكاراً لما قالوا لهم، فقال الذين جهلوا: ما سمعتهم بساحرٍ يخرج في آخر الزمان يزرع من يومه ويحصد من يومه، ويطعم الناس من يومه فغضب الحواريون وغيروا عليهم، وسكت المداهنون؛ فانطلق الحواريون إلى عيسى فأخبروه بذلك، فأوحى الله إلى عيسى أني آخذهم بشرطي. فاعتزل عيسى والحواريون عن عسكرهم، فلما كان عند وجه الصبح بعث الله عز وجل جبريل عليه السلام فصاح عليهم صيحةً فزعوا فحولوا عن صورهم خنازير، فلما أصبحوا نادى منادي عيسى بالرحيل، وكان يرتحل بفلس، فلم يخرج من عسكر القوم، فأقام عيسى حتى أسفر، فنظر الناس إليهم فقالوا: يا عجباً خنازير لها أذناب يسمع لها وحاوح! فلما رأى ذلك عيسى بكى بكاءً شديداً. قال: فجعلوا يومون برؤوسهم إلى عيسى أن ادع ربك، وعيسى يدعوهم بأسمائهم ويقول: ألم أنهكم؟ فيومون برؤوسهم أن نعم، فمضى عيسى عليه السلام، فأوحى الله عز وجل إليه أن يقيم بمكانه ثلاثة أيام، فأقام عيسى، فاجتمع الناس ينظرون إليهم، ثم ارتحل عنهم، فأخذت الخنازير على إثر عيسى، فأوحى الله إلى الأرض أن خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم على المحجة أربعة أيام، ينظر الناس إليهم ثم أماتهم بعد سبعة أيام، ثم أوحى الله إلى الأرض أن اخسفي بهم، فخسفت بهم فطهر الله الأرض من خسيفتهم، فانكسرت اليهود أعداء الله، فقطعت(20/110)
السنتهم عن عيسى بن مريم فذلك قول الله عز وجل: " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " فأما الخنازير على لسان عيسى، وأما القردة فهم أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت وهم على لسان داود.
وفي حديثٍ آخر بمعناه: عندما قال لهم: ليس شيء مما ترون عليها من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، هي وما عليها شيء ابتدعه الله تعالى بالقدرة الغالبة، إنما قال كن فكان، فكلوا مما سألتم واحمدوا عليه ربكم يمدكم ويردكم فإنه القادر البديع لما يشاء، إذا شاء يقول له كن فيكون. قالوا: يا روح الله وكلمته! إن أريتنا اليوم آية من هذه السمكة، فقال عيسى: يا سمكة أحيي بإذن الله! فاضطربت السمكة طرية تدور عيناها، لها بصيص تلمظ بفيها كما يتلمظ السبع، وعاد عليها فلوسها، ففزع القوم! فقال عيسى: ما لكم تسألون الشيء فإذا أعطيتموه كرهتموه! ما أخوفني أن يعبدوا هذه السمكة! قال: عودي كما كنت بإذن الله. قال: فعادت مشويةً في حالها. قال: كن يا روح الله أول من يأكل ثم نأكل بعد، قال عيسى: معاذ الله بل يأكل من طلبها وسألها ... الحديث.
وعن عبد الرحمن بن زيد قال: كان وزير لعيسى ركب يوماً فأخذه السبع فأكله، فقال عيسى: أي رب! وزيري في ينك وعوني على بني إسرائيل وخليفتي فيهم، سلطت عليه كلبك فأكله، قال: نعم، كانت له عندي منزلةٌ رفيعة لم أجد عمله يبلغها فابتليته بذلك لأبلغه تلك المنزلة.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مر ثلاثة نفرٍ على عيسى بن مريم فقال: يموت أحد هؤلاء اليوم إن شاء الله؛ فراحوا عليه بالعشي عليهم حزم الحطب، فقال لهم: ألقوا، فألقوا، فإذا حيةٌ سوداء في حزمة الذي قال يموت إن شاء الله، فقال: ما عملت اليوم؟ قال: ما علمت شيئاً! قال لتخبرني،(20/111)
قال: ما عملت شيئاً إلا أنه كانت معي فدرةً من خبز كانت بيدي، فمر علي مسكين، فأعطيته بعضها، فقال: بهذه منعت. أو قال: نجوت.
وعن بكر بن عبد الله المزني قال: فقد الحواريون نبيهم، فانطلقوا يطلبونه، فإذا هو قد انطلق نحو البحر، وإذا هو يمشي على الماء، فقال له رجل منهم: يا نبي الله! أجيء إليك؟ قال: نعم، فذهب يرفع رجلاً ويضع أخرى فإذا هو في الماء، فقال له عيسى: ناولني يدك يا قصير اليقين، فلو أن لابن آدم من اليقين قدر ذرةٍ لمشى على الماء.
وعن فضيل بن عياض قال:
قيل لعيسى بن مريم: يا عيسى بأي شيء تمشي على الماء؟ قال: بالإيمان واليقين، قالوا: فإنا آمنا كما آمنت، وأيقنا كما أيقنت، قال: فامشوا إذاً، قال: فمشوا معه، فجاء الموج فغرقوا، فقال لهم عيسى: مالكم، قالوا: خفنا الموج، قال: ألا خفتم رب الموج! قال: فأخرجهم ثم ضرب بيده الأرض فقبض بها ثم بسطها فإذا في إحدى يديه ذهب وفي الأخرى مدر أو حصى، فقال: أيهما أحلى في قلوبكم؟ قالوا: هذا الذهب قال فإنهما عندي سواء.
وعن ابن عباس قال: خرج عيسى بن مريم يستسقي بالناس، فأوحى الله عز وجل إليه: لا يستسقي معك خطاء. فأخبرهم بذلك فقال: من كان من أهل الخطايا فليعتزل، فاعتزل الناس كلهم إلا رجلاً مصاباً بعينه اليمنى، فقال له عيسى: مالك لا تعتزل؟ قال: يا روح الله! ما عصيت الله طرفة عين، ولقد التفت فنظرت بعيني هذه إلى قدم امرأةٍ من غير أن كنت أردت النظر إليها فقلعتها، ولو كنت نظرت إليها باليسرى لقلعتها. قال: فبكى عيسى حتى ابتلت لحيته بدموعه، ثم قال: فادع فأنت أحق بالدعاء مني، فإني معصومٌ بالوحي، وأنت لم تعصم ولم تعص. فتقدم الرجل فرفع يديه وقال: اللهم إنك خلقتنا وقد علمت ما نعمل من قبل أن تخلقنا، فلم يمنعك ذلك ألا تخلقنا، فكما خلقتنا وتكلفت(20/112)
بأرزاقنا فأرسل السماء علينا مدرارا. فو الذي نفس عيسى بيده ما خرجت الكلمة تامةٌ من فيه حتى أرخت السماء عزاليها، وسقي الحاضر والباد.
وفي رواية: فقال له عيسى: ادع وأنا أؤمن. فدعا وأمن عيسى، فسقاهم الله.
وفي رواية: قال بل ادع أنت وأؤمن أنا. فدعا عيسى صلى الله على نبينا وعليه، وأمن الرجل، فما رجعوا حتى كادوا أن يدركهم الغرق.
قال الشعبي: كان عيسى بن مريم إذا ذكر عنده الساعة صاح، ويقول: لا ينبغي لابن مريم أن تذكر عنده الساعة فيسكت.
وكان عيسى إذا سمع الموعظة صرخ صراخ الثكلى.
قيل لعيسى بن مريم عليه السلام: كيف أصبحت يا روح الله؟ قال أصبحت وربي من فوقي، والنار أمامي، والموت في طلبي، لا أملك ما أرجو، ولا أطيق دفع ما أكره، فأي فقيرٍ أفقر مني.
وعن جعفر بن برقان أن عيسى بن مريم عليه السلام كان يقول: اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره، ولا أملك نفع ما أرجو، وأصبح الأمر بيد غيري، وأصبحت مرتهناً بعمل، فلا فقير أفقر مني! اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤ بي صديقي، ولا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تسلط علي من لا يرحمني.
وعن يونس بن عبيد قال: كان عيسى بن مريم يقول: لا يصيب أحد حقيقة الإيمان حتى لا يبالي من أكل الدنيا.(20/113)
وقال الفضل: قال عيسى: فكرت في الخلق، فوجدت من لم يخلق أغبط عندي ممن خلق.
وقوله عز وجل: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات " قال: ذاك عيسى بن مريم كان يأكل من غزل أمه.
وكان عيسى بن مريم عليه السلام يأكل الشجر ويلبس الشعر، ويبيت حيث أمسى، لم يكن له ولد فيموت، ولا بيت يخرب ولا يخبأ غداءلٌ لعشاء، ولا عشاء لغداء؛ وكان يقول: كل يومٍ يجيء معه رزقه.
وعن سعيد بن عبد العزيز أن عيسى نظر إلى إبليس فقال: هذا آثر كون الدنيا، إليها خرج وإياها سأل، لا أشركه في شيءٍ منها ولا حجراً أضعه تحت رأسي فلا أكشر فيها ضاحكاً حتى أخرج منها.
وعن الحسن قال: إن عيسى رأس الزاهدين يوم القيامة، قال: وإن الفرارين بذنوبهم يحشرون يوم القيامة مع عيسى بن مريم.
قال: وقال الحسن: إن عيسى بن مريم مر به إبليس يوماً وهو متوسد حجراً وقد وجد لذة النوم، فقال له إبليس: يا عيسى، أليس تزعم أنك لا تريد شيئاً من عرض الدنيا؟ فهذا الحجر من عرض الدنيا، فقام عيسى غضبان، ثم أخذ الحجر فرمى به فقال: هذا لك مع الدنيا يا إبليس! فلعمري إن الدنيا مزرعةً لك، وإن أهلها لك عمال.
قال الحسن: كان عيسى يمشي على الماء، فقال له الحواريون: يا روح الله إنك لتمشي على الماء! قال: نعم، ذلك باليقين بالله، قالوا: إنا بالله لموقنون، قال لهم عيسى: تقولون لو عرض لكم في الطريق در وحجر أيما كنتم تأخذون؟ قالوا: الدر، قال: لا والله حتى يكون الدر والياقوت مثل الحجارة عندكم سواء.(20/114)
وقال الحسن: إن عيسى بن مريم أصابه الحر وهو صائم حتى اشتد به، فقالوا: يا روح الله وكلمته! لو بنينا لك بيتاً تسكنه ويكنك من الحر والبرد، قال: لا حاجة لي به فألحوا عليه، فأذن لهم فبنوا عريشاً، فلما دخله فنظر إليه قال: سبحان الله! أعادي أنا!؟ إنما أردت بيتاً إذا جلست أصاب رأسي سقفه، وإذا اضطجعت أصاب جنبي حائطه، ولا حاجة لي بهذا. فلم يسكن بعدها ظل بيتٍ حتى رفع.
قال: وقال الحسن: فوالله لو لم يعذبنا الله إلا بحبنا الدنيا لعذبنا، لأن الله يقول: أحببت شيئاً أبغضه ولقول الله تعالى: " تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ".
وحدث مكحول عن كعب أن عيسى بن مريم كان يأكل الشعير ويمشي على رجليه، ولا يركب الدواب ولا يسكن البيوت ولا يصطحب السراج، ولا يلبس الكراسف - يعني القطن - ولم يمس النساء، ولم يمس الطيب، ولم يمزج شرابه بشيءٍ قط، ولم يبرده، ولم يدهن رأسه قط، ولم يقرب رأسه ولحيته غسولٌ قط، ولم يجعل بين الأرض وبين جلده شيئاً قط إلا لباسه، ولم يهتم لغداءٍ قط ولا لعشاء قط، ولا اشتهى شيئاً من شهوات الدنيا؛ وكان يجالس الضعفاء والمنى والمساكين. وكان إذا قرب إليه طعام على شيءٍ وضعه على الأرض، ولم يأكل مع الطعام إداماً قط؛ وكان يجتزئ من الدنيا بالقوت القليل ويقول: هذا لمن يموت ويحاسب عليه كثير.
قيل لعيسى بن مريم: تزوج، قال: وما أصنع بالتزويج؟ قالوا: تلد لك الأولاد، قال: الأولاد إن عاشوا أفتنوا، وإن ماتوا أحزنوا.
وعن ثابت البناني قال: قيل لعيسى بن مريم: لو اتخذت حماراً تركبه لحاجتك، قال: أنا أكرم على الله من أن يجعل لي شيئاً يشغلني عنه.(20/115)
أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى لو رأت عيناك ما أعددت لعبادي الصالحين لذاب قلبك، وزهقت نفسك اشتياقاً إليه.
قال مالك بن دينار: قالوا لعيسى بن مريم: يا روح الله! ألا نبني لك بيتاً؟ قال: ابنوه على شاطئ البحر، قالوا: إذن يجيء الماء فيذهب به! قال: أين تريدون؟ تبنون لي على القنطرة؟.
قيل لعيسى: لو اتخذت بيتاً، قال: يكفينا خلقان من كان قبلنا.
قال ميسرة: ما بنى عيسى بيتاً، فقيل له: ألا تبني؟ فقال: لا أترك بعدي شيئاً من الدنيا أذكر به.
وعن أبي سلمان قال: بينما عيسى يمشي في يومٍ صائف، وقد مشه الحر والشمس والعطش، فجلس في ظل خيمة، فخرج إليه صاحب الخيمة فقال: يا عبد الله، قم من ظلنا، فقام عيسى فجلس في الشمس وقال: ليس أنت الذي أقمتني، إنما أقامني الذي لم يرد أن أصيب من الدنيا شيئاً.
دخل عيسى بن مريم ذات يوم خربةً فمطرت السماء، فنظر إلى ثعلب قد أقبل مستذفراً بذنبه حتى دخل جحره فقال: الحمد لله الذي جعل لكل شيءٍ مأوى إلا عيسى بن مريم لا مأوى له، فإذا هو بصوت: يا بن مريم، ادخل الفج، فدخل الفج فإذا هو برجلٍ قائمٍ يصلي، فأقام عنده ثمانية عشر يوماً ينتظره لينفتل من صلاته فيكلمه، فلما انفتل قال له: يا عبد الله! ما الذي أذنبت؟ فأقبل العابد على البكاء وقال: يا روح الله، أذنبت ذنباً عظيماً، قال: وما هو؟ قال: قلت يوماً لشيءٍ كان: يا ليته لم يكن.
قال المعتمر بن سليمان التيمي: خرج عيسى على أصحابه وعليه جبةٌ من صوف وكساءٌ وتبان حافياً باكياً شعثاً،(20/116)
مصفر اللون من الجوع، يابس الشفتين من العطش فقال: السلام عليكم يا بني إسرائيل، أنا الذي أنزلت الدنيا منزلتها بإذن الله، ولا عجب ولا فخر، أتدرون أين بيتي؟ قالوا: أين بيتك يا روح الله؟ قال: بيتي المساجد، وطيبي الماء، وإدامي الجوع، وسراجي القمر بالليل، وصلاتي في الشتاء مشارق الشمس، وريحاني بقول الأرض، ولباسي الصوف وشعاري خوف رب العزة، وجلسائي الزمنى والمساكين، أصبح وليس لي شيء، وأمسي وليس لي شيء، وأنا طيب النفس، غني مكثر، فمن أغنى مني وأربح!؟.
قال محمد بن سباع النميري:
بينما عيسى بن مريم يسيح في بعض بلاد الشام إذ اشتد به المطر والرعد والبرق، فجعل يطلب شيئاً يلجأ إليه، فرفعت له خيمةٌ من بعيد، فأتاها، فإذا فيها امرأة! فحاد عنها، فإذا هو بكهفٍ في جبل، فأتاه فإذا في الكهف أسد، فوضع يده عليه ثم قال: إلهي! جعلت لكل شيءٍ مأوى، ولم تجعل لي مأوى، فأجابه الجليل تعالى: مأواك عندي في مشتقر من رحمتي لأزوجنك يوم القيامة مئة حوراء خلقاء بيدي، ولأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام، يومٌ منها كعمر الدنيا، وآمرن منادياً ينادري: أين الزهاد في دار الدنيا زوروا عرس الزاهد عيسى بن مريم.
وعن أبي رافع قال: رفع عيسى بن مريم وعليه مدرعة وخفا راعٍ، وخذافةٌ يخذف بها الطير.
وفي رواية: ما ترك عيسى بن مريم حين رفع إلا مدرعة صوف، وخفي راعٍ، وقذافةٌ يقذف بها الطير.
وعن سفيان بن عيينة قال: قال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين، كما ترك لكم الملوك الحكمة فكذلك اتركوا لهم الدنيا.
وعن مالك بن دينار قال: قال عيسى بن مريم: معاشر الحواريين إن خشية الله وحب الفردوس تورثان الصبر على المشقة، وتباعدان من زهرة الدنيا، وفي رواية: وتبعدان العبد من راحة الدنيا.(20/117)
وعن ابن عمر قال: قال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين، كلوا الخبز الشعير، واشربوا ماء القراح، واخرجوا من الدنيا سالمين آمنين، لحق ما أقول لكم: إن حلاوة الدنيا مارة الآخرة، وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين؛ لحق ما أقول لكم: إن شركم عالمٌ يؤثر هواه على علمه يود أن الناس كلهم مثله، ما أحب إلى عبيد الدنيا أن يجدوا معذرة وأبعدهم منها لو كانوا يعلمون!.
وعن أب يهريرة قال: كان عيسى بن مريم يقول لأصحابه: اتخذوا المساجد مساكن والبيوت منازل، وكلوا من بقل البرية، وانجوا من الدنيا بسلام، واشربوا من الماء القراح.
كان عيسى بن مريم يقول: يا بني إسرائيل، عليكم بالماء القراح والبقل البري، والخبز الشعير، وإياكم وخبز البر، فإنكم لن تقوموا بشكره.
قال أنس بن مالك: كان طعام عيسى القاقلى حتى رفع؛ ولم يأكل عيسى عليه السلام شيئاً غيرته النار حتى رفع.
كان عيسى بن مريم يقول: يا بني إسرائيل، اتخذوا مساجد الله بيوتاً، واتخذوا بيوتكم كمنازل الأضياف، مالكم في العالم من منزل، إن أنتم إلا عابري سبيل.
وعن عتبة بن يزيد قال: قال عيسى بن مريم: ابن آدم الضعيف، اتق الله حيثما كنت، وكل كسرتك من حلال، واتخذ المسجد بيتاً، وكن في الدنيا ضيفاً، وعود نفسك البكاء، وقلبك التفكير، وجسدك الصبر، ولا تهتم برزق غدٍ، فإنها خطيئةٌ تكتب عليك.
قال وهيب المكي: بلغني أن عيسى بن مريم قال: يا معشر الحواريين أنى كتبت لكم الدنيا فلا(20/118)
تنعشوها، فإنه لا خير في دارٍ قد عصي الله فيها، ولا خير في دارٍ لا تدرك الآخرة إلا بتركها؛ فاعبروها ولا تعمروها، واعلموا أن أصل كل خطيئةٍ حب الدنيا، ورب شهوةٍ أورثت أهلها حزناً طويلاً.
وعن وهيب قال: قال عيسى بن مريم: أربع لا تجتمع في أحدٍ من الناس إلا يعجب: الصمت، وهو أول العبادة؛ والتواضع لله؛ والزهادة في الدنيا؛ وقلة الشيء.
وعن سفيان الثوري قال: قال المسيح: إنما تطلب الدنيا لتبر، فتركها أبر! روي أن ملكاً من الملوك بدمشق يقال له: هداد بن هداد صنع طعاماً ودعا إليه الناس، وكان فيمن دعا عيسى وحواريه، فقال المسيح لحواريه: لا تذهبوا. وخرج بهم فأتى بهم شاطئ بردى فأخرجوا كسراً لهم، فجعلوا يبلونها في الماء ويأكلون، فقال المسيح: يا معشر الحواريين! عجباً للملوك وما أوتوا في هذه الدنيا، وما يصنع بهم يوم القيامة! يا معشر الحواريين! إن الله قد بطح لكم الدنيا على وجهها، وأجلسكم على ظهرها، فليس يشارككم فيها إلا الشياطين والملوك، فأما الشياطين فاستعينوا عليهم بالصوم والصلاة، وأما الملوك فدعوهم والدنيا يدعوكم والآخرة.
كان عيسى يقول لأصحابه: بحق أقول لكم: إن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وبالنظرة تزرع الشهوة في القلب، وكفى بها خطيئة.
كان عيسى يقول: حب الدنيا أصل كل خطيئة والمال فيه داء كبير، قالوا: وما داؤه؟ قال: لا يسلم من الفخر والخيلاء، قالوا: فإن سلم؟ قال: يشغله إصلاحه عن ذكر الله.
وعن شعيب بن صالح قال:
قال عيسى بن مريم: ما سكنت الدنيا في قلب عبد إلا التاط قلبه منها بثلاث: شغلٍ(20/119)
لا ينفك عناه؛ وفقرٍ لا يدرك منتهاه. الدنيا طالبةٌ ومطلوبةٌ؛ فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنق.
وعن زرعة بن إبراهيم قال: قال المسيح: بحق أقول: كما لا يستطيع أحدكم أن يبني على موج البحر داراً، كذاكم الدنيا، فلا تتخذوها قراراً.
وعن سفيان الثوري قال: قال عيسى بن مريم: لا يستقيم حب الدنيا وحب الآخرة في قلب مؤمن، كما لايستقيم الماء والنار في إناء.
قال ابن شوذب: مر عيسى صلوات الله عليه على نبينا وعليه وسلم بقومٍ يبكون على ذنوبهم فقال لهم: ارتكوها يغفر لكم.
وعن أبي عبد الله الصوفي قال: قال عيسى بن مريم: طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً حتى تقتله.
قال عيسى: إن الشيطان مع الدنيا، ومكره مع المال، وتزيينه عند الهوى، واتمكانه عند الشهوات.
وعن سفيان الثوري قال: قال المسيح: كن وسطاً وامش جانباً.
وعن يزيد بن ميسرة قال: قال عيسى بن مريم: بحق أقول لكم: كما تواضعون، كذلك ترفعون، وكما ترحمون كذلك ترحمون، وكما تقضون من حوائج الناس، كذلك يقضي الله من حوائجكم.(20/120)
وعن خيثمة قال: كان عيسى بن مريم إذا صنع الطعام فدعا القراء قام عليهم ثم قال: هكذا فافعلوا بالقراء.
وعن ابن شابور قال: قال عيسى عليه السلام: طوبى لمن ترك شهوةٌ حاضرة لموعودٍ لم يره.
وعن سالم بن أبي الجعد قال: قال عيسى بن مريم: طوبى لمن خزن لسانه ووسعه بيته، وبكى على خطيئته.
وعن خيثمة قال: مرت بعيسى امرأة فقالت: طوبى لحجرٍ حملك، ولثديٍ رضعت منه! فقال: بل طوبى لمن قرأ القرآن ثم عمل به.
وعن بشر بن صالح قال: قال عيسى بن مريم: طوبى لعينٍ نامت ولم تحدث نفسها بالمعصية وانتبهت إلى غير إثم.
وعن مالك بن دينار قال: كان عيسى يقول: إن هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تصنعون فيهما. وكان يقول: اعملوا، الليل لما خلق له، واعملوا، النهار لما خلق له.
وعن خالد الربعي قال: نبئت أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه: أرأيتم لو مررتم على رجلٍ وهو نائم، وقد كشفت الريح عنه ثوبه؟ قالوا: كنا نرده عليه، قال: بل تكشفون ما بقي، قالوا: سبحان الله! نرده عليه، قال: بل تكشفون ما بقي، قال: مثل ضربه للقوم، يسمعون عن الرجل بالسيئة، فيزيدون عليه ويذكرون أكثر منها.(20/121)
وعن الشعبي قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك إنما ذاك مكافأةٌ بالمعروف، ولكن الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك.
قال يزيد بن المهلب: من البسيط
خير الخليلين من أغضى لصاحبه ... ولو أراد انتصاراً منه لانتصرا
فإن قدرت فكن للعفو مغتنماً ... فإنما يحمد العافي إذا قدرا
واللؤم أن تبخس الأكفاء حقهم ... بالجاه إن زاد أو بالمال إن كثرا
ولا تقولن لي دنيا أصول بها ... فإنما لك منها حسن ما ذكرا
وعن المبارك قال: بلغني أن عيسى بن مريم عليه السلام مر بقومٍ فشتموه، فقال خيراً، ومر بآخرين فشتموه وزادوا، فزادهم خيراً، فقال رجلٌ من الحواريين: كلما زادوا شراً زدتهم خيراً! كأنك تغريهم بنفسك، قال عيسى: كل إنسان يعطي ما عنده.
قال مالك بن أنس: مر بعيسى بن مريم خنزير فقال: مر بسلام، فقالوا له: يا روح الله! لهذا الخنزير تقول؟ قال: أكره أن أعود لساني الشر.
قال مالك بن دينار: مر عيسى بن مريم والحواريين على جيفة كلب، فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا! فقال عيسى: ما أشد بياض أسنانه! يعظهم ينهاهم عن الغيبة.
قال عيسى بن مريم: دع الناس فليكونوا منك في راحة، ولتكن نفسك منهم في شغل، دعهم فلا تلتمس محامدهم ولا تكتسب مذامهم، وعليك بما وكلت به.
وعن مالك بن دينار قال: قال عيسى بن مريم من حديث: الأيام ثلاثة: فيوم مضى وعظمت به؛ ويومك الذي أنت فيه لك منه زادك؛ وغداً لا تدري ما لك فيه.(20/122)
وعن سفيان قال: قالوا لعيسى بن مريم: دلنا على عملٍ ندخل به الجنة؟ قال: لا تنطقوا أبداً، قالوا: لا نستطيع ذلك! قال: فلا تنطقوا إلا بخير.
وعن عيسى بن مريم أنه قال: لقد دخلت أعمال العباد عند الله في ثلاثة أحرف الذين يرجون بها الخير: في المنطق؛ والصمت؛ والنظر؛ فما كان من منطقٍ ليس فيه ذكر فهو لغو؛ وما كان من صمتٍ ليس فيه تفكير فهو سهو، وما كان من نظرٍ ليس فيه عبرةٌ فهو غفاة. فطوبى لمن كان منطقه ذكراً، وصمته تفكيراً، ونظره عبراً؛ وملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته، وأمن الناس من شره. يا بن آدم، كن وديعاً يحبك الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً، ولا تؤذي جارك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإنه يميت القلب.
وعن عبد العزيز بن حصين قال: بلغني أن عيسى بن مريم عليه السلام قال: من ساء خلقه عذب نفسه، ومن كثر كذبه ذهب جماله، ومن لاحى الرجال سقطت كرامته - وفي رواية: سقطت مروءته - ومن كثر همه سقم بدنه.
قال عيسى بن مريم عليه السلام: خذوا الحق من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق؛ كونوا منتقدي الكلام، لكيما لا يجوز عليكم الزيوف.
وعن زكريا بن عدي قال: قال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين، ارضوا بدني الدنيا مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بدني الدين مع سلامة الدنيا.(20/123)
وفي ذلك يقول الشاعر: من البسيط
أرى رجالاً بأدنى الدين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن باللله عن دنيا الملوك كما اس ... تغنى الملوك بدنياهم عن الدين
وعن عمرو بن قيس قال: قال عيسى بن مريم: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم وإن كانت لينة، فإن القلب القاسي بعيدٌ من الله، ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كهيئة الأرباب، وانظروا في ذنوب أنفسكم كهيئة العبيد؛ فإنما الناس اثنان: مبتلى ومعافى، فاحمدوه على العافية، وارحموا المبتلى.
وعن إبراهيم التيمي قال: قال عيسى لأصحابه: بحق أقول لكم: إنه من طلب الفردوس فخبز الشعير له والنوم في المزابل مع الكلاب كثير.
وعن سالم بن أبي الجعد قال: قال عيسى بن مريم: اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم، انظروا إلى هذه الطير تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها، فإن قلتم نحن أعظم بطوناً من الطير فانظروا إلى هذه الأنافر من الوحش والحمير، فإنها تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد، والله يرزقها. اتقوا فضول الدنيا، فإن فضول الدنيا عند الله رجز.
وعن أنس بن مالك: أن عيسى بن مريم كان يقول: لا يطيق عبدٌ أن يكون له ربان إن أرضى أحدهما أسخط الآخر، وإن أسخط أحدهما أرضى الآخر، وكذلك لا يطيق عبد أن يكون خادماً للدنيا، يعمل عمل الآخرة؛ بحق أقول لكم، لا تهتموا بما لا تأكلون ولا(20/124)
ما تشربون فإن الله عز وجل لم يخلق نفساً أعظم من رزقها، ولا جسداً أعظم من كسوته، فاعتبروا.
وعن مالك بن دينار قال: قال عيسى بن مريم: لو أن ابن آدم عمل بأعمال البر كلها وحب في الله ليس، وبغض في الله ليس، ما أغنى ذلك عنه شيئاً.
قال المقبري: كان عيسى عليه السلام يقول: يا بن آدم، إذا عملت الحسنة فاله عنها، فإنها عند من لا يضيعها. ثم تلا هذه الآية: " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً " وإذا عملت سيئة فاجعلها نصب عينيك.
وعن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال: جاء رجلٌ إلى عيسى بن مريم فقال: يا معلم الخير! علمني شيئاً تعلمه وأجهله، ينفعني ولا يضرك. قال: وما هو؟ قال: كيف يكون العبد لله تقياً؟ قال: بيسيرٍ من الأمر؛ تحب الله حقاً من قلبك، وتعمل لله بكدحك وقوتك ما استطعت، وترحم بني جنسك رحمتك نفسك. فقال: يا معلم الخير! من بنو جنسي؟ فقال: ولد آدم كلهم، وما تحب أن لا تؤتاه فلا تأته إلى غيرك وأنت تقي لله حقاً.
كان عيسى بن مريم يقول: من كان يظن أن حرصاً يزيد في رزقه فليزد في طوله أو في عرضه أو في عدد بنانه أو ليغير لونه! ألا فإن الله خلق الخلق، فمضى الخلق لما خلق، ثم قسم الرزق فمضى الرزق لما قسم، فليست الدنيا بمعطيةٍ أحداً شيئاً ليس له، ولا بمانعةٍ أحداً شيئاً هو له، فعلسكم بعبادة ربكم فإنكم خلقتم لها.
وعن فضيل قال:
قال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين، إن ابن آدم خلق في الدنيا في أربع منازل، هو في ثلاث منهن بالله واثق، حسن ظنه فيهن بربه، وهو في الرابع سيئ ظنه(20/125)
بربه، يخاف خذلان الله إياه؛ أما المنزلة الأولى فإنه خلق في بطن أمه خلقاً من بعد خلق، في ظلماتٍ ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، ينزل الله عليه رزقه في جوف ظلمة البطن فإذا خرج من البطن وقع في اللبن، لا يخطو إليه بقدم، ولا يتناوله بيد، ولا ينهض إليه بقوة، ولا يأخذه بحرفةٍ يكره عليه إكراهاً ويؤجر ايجاراً، حتى ينبت عليه عظمه ولحمه ودمه، فإذا ارتفع عن اللبن وقع في المنزلة الثالثة في الطعام من أبويه يكسبان عليه من حلالٍ أو حرام، فإن مات أبواه عن عير شيء تركاه عطف عليه الناس، هذا يطعمه وهذا يسقيه وهذا يؤويه؛ فإذا وقع في المنزلة الرابعة، فاشتد واستوى واجتمع وكان رجلاً، خشي أن لا يرزقه الله، فوثب على الناس يخون أماناتهم ويسرق أمتعاتهم، ويذبحهم على أموالهم مخافة خذلان الله إياه.
كان عيسى عليه السلام يقول: إن الذي يصلي ويصوم ولا يترك الخطايا مكتوبٌ في الملكوت كذاباً.
قال الحواريون لعيسى بن مريم: مال الخالص من العمل؟ قال: مالا تحب أن يحمدك الناس عليه، قال: فما النصوح لله؟ قال: أن تبدأ بحق الله قبل حقوق الناس، وإن عرض لك أمران، أحدهما لله عز وجل، وألاخر للدنيا، بدأت بحق الله تبارك وتعالى.
وفي غيره: من المخلص لله؟ قال: الذي يعمل ... الحديث، وفي آخره: وإذا عرض له أمران، أمر الدنيا وأمر الآخرة، بدأ بأمر الآخرة ثم تفرغ لأمر الدنيا بعد.
وقال عيسى: العمل الصالح الذي لا تحب أن يحمك الناس عليه.
وقال عيسى علسه السلام: لا يجد أحدٌ حقيقة الإيمان حتى لا يحب أن يحمد على طاعة الله عز وجل.
وعن هلال بن يساف قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: إذا كان يوم يصوم أحدكم فليدهن لحيته ويمسح شفتيه ويخرج إلى الناس حتى كأنه ليس بصائم، وإذا أعطى بيمينه فليخفه من شماله، وإذا صلى أحدكم فليدل ستر بابه - يعني يرخيه - فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق.(20/126)
وعن ابن حلبس قال: قال عيسى بن مريم: من أحسن فليرج الثواب، ومن أساء فلا يستنكر الجزاء، ومن أخذ عزاً بغير حق أورثه الله ذلاً بحق، ومن أخذ مالاً بظلم أورثه الله فقراً بغير ظلم.
قال سعيد المقبري: سأل رجلٌ عيسى بن مريم: أي الناس أفضل؟ فأخذ قبضتين من تراب فقال: أي هاتين أفضل؟ الناس خلقوا من تراب، فأكرمهم أتقاهم.
وعن وهيب بن الورد قال: قال يحيى لعيسى عليهما السلام: يا روح الله، ما أشد خلق الله؟ قال: غضب الله، قال: فأخبرني بشيءٍ أتقي به غضب الله؟ قال: لا تغضب.
وعن عمار بن سعد قال: لقي يحيى بن زكريا عيسى بن مريم، فقال يحيى لعيسى: يا روح الله وكلمته حدثني، فقال عيسى: بل أنت فحدثني أنت خيرٌ مني جعلك الله سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين، فقال له يحيى: أنت خيرٌ مني أنت روح الله وكلمته، تصعد مع الروح فحدثني بم يبعد من غضب الله؟ قال له عيسى: لا تغضب، قال: يا روح الله ما يبدي الغضب ويثنيه أو يعيده؟ قال: التعزز والفخر والحمية والعظمة، قال: يا روح الله! هؤلاء شدادٌ كلهن، فكيف لي بهن؟ قال: سكن الروح واكظم الغيظ، ثم قال له: وإياك واللهو غبسخط الله عليك، وإياك والزنى فإنه من غضب الرب، قال: يا روح الله! ما يبدي الزنى ويعيده أو يثنيه؟ قال: النظر والشهوة وأتباعهما، لا تكن حديد النظر إلى ما ليس لك، فإنه لن يزني فرجك ما حفظت عينيك، فإن استطعت أن لا تنظر إلى ثوب المرأة التي لا تحل لك، ولن تستطيع ذلك إلا بالله.
وعن عمران بن سليمان قال: بلغني أن عيسى قال لأصحابه: إن كنتم إخواني وأصحابي فوطنوا أنفسكم على العداوة والبغضاء من الناس، فإنكم لا تدركون ما تطلبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تنالون(20/127)
ما تحبون إلا بالصبر على نا تكرهون؛ طوبى لمن كان بصره في قلبه، ولم يكن قلبه في بصره.
وعن عثمان بن الأسود قال: قال عيسى بن مريم: أي رب! أي عبادك أخشى؟ قال: أعلمهم بي.
وعن مالك بن مغول قال:
بلغنا أن عيسى بن مريم قال: يا معشر الحواريين، تحببوا إلى الله ببغضكم أهل المعاصي، وتقربوا إليه بما يباعدكم منهم، والتمسوا رضاه بسخطهم. قال: لا أدري بأيتهن بدأ، قالوا: يا روح الله فمن نجالس؟ قال: جالسوا من تذكركم بالله رؤيته، ومن يزيد في عملكم منطقه، ومن يرغبكم في الآخرة عمله.
وعن معتمر بن سلمان قال: قال عيسى بن مريم: كانت الدنيا قبل أن أكون فيها، وهي كائنةٌ بعدي، وإنما لي فيها أيامٌ معدودة، فإذا لم أسعد في أيامي فمتى أسعد؟! وعن يزيد بن ميسرة قال: قال الحواريون للمسيح: يا مسيح الله! انظر إلى مسجد الله ما أحسنه! قال: آمين آمين، بحق أقول لكم: لا يترك الله من هذا المسجد حجراً قائماً على حجر إلا أهلكه بذنوب أهله، إن الله لا يصنع بالذهب ولا بالفضة ولا بهذه الأحجار التي تعجبكم شيئاً، إن أحب إلى الله منها القلوب الصالحة، وبها يعمر الله الأرض وبها يخرب الله الأرض إذا كانت على غير ذلك.
قال مالك بن مغول: بلغنا أن عيسى مر بخربة فقال: يا خربة الخربين - أو قال: يا خربة خربت - أين أهلك؟ فأجابه منها شيء فقال: يا روح الله! بادوا فاجتهد. أو قال: فإن أمر الله جد، فجد.
وعن ابن عباد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مر عيسى على مدينة خربة فأعجبه البنيان فقال: أي رب! مر هذه المدينة أن تجيبني، فأوحى الله إلى المدينة: أيتها المدينة الخربة جاوبي عيسى. قال: فنادت(20/128)
الملائكة: عيسى حبيبي وما تريد مني؟ قال: ما فعل أشجارك؟ وما فعل أنهارك؟ وما فعل قصورك؟ وأين سكانك؟ قالت: حبيبي جاء وعد ربك الحق فيبست أشجاري ويبست أنهاري، وخربت قصوري، ومات سكاني؛ قال: فأين أموالهم؟ قالت: جمعوها من الحلال والحرام، موضوعة في بطني، لله ميراث السموات والأرض. قال: فنادى عيسى: تعجبت من ثلاثة أناس: طالب الدنيا والموت يطلبه؛ وباني القصور والقبر منزله؛ ومن يضحك ملء فيه والنار أمامه. ابن آدم لا بالكثير تسبع ولا بالقليل تقنع! تجمع مالك لمن لا يحمدك! وتقدم على رب لا يعذرك، إنما أنت عبد بطنك وشهوتك، وإنما يملأ بطنك إذا دخلت قبرك؛ وأنت يا بن آدم ترى حسد مالك في ميزان غيرك.
وعن إبراهيم التيمي قال: قال عيسى: يا معشر الحواريين اجعلوا كنوزكم في السماء فإن قلب الرجل حيث كنزه.
وعن عطارد - وكان بكى حتى ترح - قال: قال عيسى بن مريم: إلى متى تصفون الطريق إلى الدالجين وأنتم مقيمون مع المتحرين؟ إنما يبتغى من العلم القليل ومن العمل الكثير.
وعن عبد العزيز بن ظبيان وغيره قال: قال المسيح: من تعلم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماء.
كان عيسى بن مريم يقول: لا خير في علم لا يعبر معك الوادي ولا يعمر بك النادي.
ولمحمد بن يسير في هذا المعنى: من الرجز
ليس بعلمٍ ما يعي القمطر ... لا خير فيما لا يعيه الصدر
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن عيسى بن مريم قام في بني إسرائيل فقال: يا معشر الحواريين لا تحدثوا بالحكمة غير(20/129)
أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم؛ والأمور ثلاثةٌ: بينٌ رشده فاتبعوه، وأمرٌ تبين لكم غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف عليكم غيه فردوا علمه إلى عز وجل.
وعن أبي فروة أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تمنع العلم من أهله فتأثم، ولا تنشره عن غير أهله فتجهل، وكن طبيباً رفيقاً يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع.
وفي رواية: إن منعت الحكمة أهلها جهلت، وإن أتحتها غير أهلها جهلت؛ كن كالطبيب المداوي إن رأى موضعاً للدواء وإلا أمسك.
وعن عكرمة قال: قال عيسى: لا تطرحوا اللؤلؤ إلى الخنزير، فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئاً، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها، فإن الحكمة خيرٌ من اللؤلؤ ومن لا يريدها شر من الخنزير.
وعن عمران الكوفي قال: قال عيسى بن مريم للحواريين: لا تأخذوا ممن تعلمون من الأجر إلا مثل الذي أعطيتموني، ويا ملح الأرض لا تفسدوا، فإن كل شيءٍ إذا فسد فإنما يداوى بالملح، وإن الملح إذا فسد فليس له دواء، واعلموا أن فيكم خصلتين من الجهل: الضحك من غير عجب، والصبحة من غير سهر.
قيل لعيسى بن مريم: يا روح الله! من أشد الناس فتنةٌ؟ قال: زلة العالم، إذا زل العالم زل بزلته عالمٌ كثير.
وعن سفيان بن عيينة قال:
قال المسيح: ويلكم يا علماء السوء، لا تكونوا كالمنخل، يخرج منه الدقيق الطيب فيمر ويمسك النخالة، وكذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم؛ ويحكم! إن الذي يخوض النهر لا بد أن يصيب ثوبه الماء، وإن جهد أن لا يصيبه؛ كذلك من يحب الدنيا لا ينجو من الخطايا.(20/130)
وعنه قال: قال عيسى عليه السلام: يا علماء السوء، جعلتم الدنيا على رؤسكم والآخرة تحت أقدامكم ... الحديث.
وعن وهب بن منبه أن عيسى بن مريم عليه السلام قال: ويلكم يا عبيد الدنيا! ماذا يغني عن الأعمى سعة نور الشمس وهو لا يبصرها! كذلك لا يغني عن العالم كثرة علمه إذا لم يعمل به. ما أكثر ثمار الشجر وليس كلها ينفع ولا يؤكل؟ وما أكثر العلماء وليس كلهم ينتفع بما علم؟ فاحتفظوا من العلماء الكذبة الذين عليهم لباس الصوف منكسين رؤوسهم إلى الأرض يطرفون من تحت حواجبهم كما ترمق الذئاب، قولهم مخالفٌ فعلهم، من يجتني من الشوك العنب؟ ومن الحنظل التين؟ كذلك لا يثمر قول العالم الكذاب إلا زوراً، وإن البعير إذا لم يوثقه صاحبه في البرية نزع إلى وطنه وأصله، وإن العلم إذا لم يعمل به صاحبه خرج من صدره وخلا منه وعطله، وإن الزرع لا يصلح إلا بالماء والتراب، كذلك لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل، ويلكم يا عبيد الدنيا؟ إن لكل شيءٍ علامةٌ يعرف بها وتشهد له أو عليه، وإن للدين ثلاث علاماتٍ يعرف بهن: الإيمان، والعلم، والعمل.
وعنه قال: قال عيسى عليه السلام: يا علماء السوء، جلستم على أبواب الجنة، فلا أنتم تدخلون الجنة، ولا تدعون المساكين يدخلونها؟ إن شر الناس عند الله عالم يطلب الدنيا بعلمه.
وعن عيسى المرادي قال: قال عيسى عليه السلام: إن كنتم أصحابي وإخواني فوطنوا أنفسكم على العداوة والبغضاء من الناس، فإنكم لم تفعلوا فلستم لي بإخوان، إني إنما أعلمكم لتعلموا لا لتعجبوا، إنكم لا تبلغون ما تأملون إلا بصبركم على ما تكرهون، ولا تنالون ما تريدون إلا بترككم ما تشتهون؛ إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن كان بصره في قلبه ولم يكن قلبه في بصر عينه، ما أبعد ما فات، وما أدنى ما هو آت؟ ويل لصاحب الدنيا؟ كيف يموت وتتركه؟ ويثق بها وتغره؟ ويأمنها وتمكر به؟ ويل للمغترين؟ قد أزفهم ما يكرهون، وجاءهم ما يوعدون وفارقوا ما يجنون في طول(20/131)
الليل والنهار؛ فويلٌ لمن كانت الدنيا همه، والخطايا عمله، كيف يقتضي غداٌ بربه؟ ولا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم وإن كانت لينة، فإن القلب القاسي بعيدٌ من الله ولكن لا تعلمون؛ لا تنظروا في ذنوب الناس كهيئة الأرباب، وانظروا في ذنوبكم كهيئة العبيد، إنما الناس رجلان: معافى ومبتلى، فاحمدوا الله على العافية وارحموا أهل البلاء؛ متى نزل الماء على جبل، ألا يلين له؟ ومذ متى درسون الحكمة ولا تلين لها قلوبكم؟ بقدر ما تواشعون كذلك ترحمون، وبقدر ما تحرثون كذلك تحصدون، علماء السوء مثلهم كمثل شجرة الدفلى تعجب من نظر إليها وتقتل من يأكلها، كلامكم شفاء يبرئ الداء وأعمالكم داءٌ لا يبرئه شفاء! جعلتم العلم تحت أدامكم مثل عبيد السوء؛ بحق أقول لكم: وكيف أرجو أن تنتفعوا بما أقول وأنتم الحكمة تخرج من أفواهكم ولا تدخل آذانكم، وإنما بينهما أربع أصابع، ولا تعيها قلوبكم، فلا أحرار كرام، ولا عبيد أتقياء.
ومن كلام عيسى بن مريم: تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير عمل، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل، ويلكم علماء السوء! الأجر تأخذون، والعمل تضيعون! يوشك رب العمل أن يطلب عمله، ويوشك أن تخرجوا من الدنيا العريضة إلى ظلمة القبر وضيقه؛ الله نهاكم عن الخطايا كما أمركم بالصيام والصلاة؛ كيف يكون من أهل العلم من سخط رزقه واحتقر منزلته، وقد علم أن ذلك من علم الله وقدرته؟ كيف يكون من أهل العلم من اتهم الله فيما قضى له، فليس يرضى شيئاً أصابه؟ كيف يكون من أهل العلم من دنياه عنده آثر من آخرته، وهو في الدنيا أفضل رغبةٌ؟ كيف يكون من أهل العلم من مصيره إلى الآخرة وهو مقبلٌ على دنياه، وما يضره أشهى إليه مما ينفعه؟ كيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخزنه ولا يطلبه ليعمل به؟! قال عبد الله بن المبارك:
قال عيسى بن مريم: يوشك أن يفضي بالصابر البلاء إلى الرضا، وبالفاجر الرخاء إلى البلاء.(20/132)
وعنه قال: سيأتي على الناس زمان يفضي بالصابر فيه الصبر إلى البلاء ويفضي بالفاجر الفجور إلى الرخاء.
وعن سالم بن أبي الجعد قال: قال عيسى بن مريم لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل، زعمتم أن موسى نهاكم عن الزنى وصدقتم، وأنا أنهاكم عنه وأحدثكم أن مثل حديث النفس بالخطيئة كمثل الدخان في البيت، لا يحرقه، فإنه ينتن ريحه ويغير لونه، ومثل القادح بالخشبة، إلا يكسرها فإنه يعجزها ويضعفها.
قال عيسى عليه السلام لرجل: كن لربك كالحمام الألوف لأهله تذبح فراخه ولا يطير عنهم.
وعن وهب بن منبه قال: قال الحواريون لعيسى: من أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون؟ قال عيسى: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى أجل الآخرة حين نظر الناس إلى عاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، وتركوا ما علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وذكرهم إياها فواتاً، وفرحهم بما أصابوا منها حزناً، فما عارضهم من نائلها رفضوه وما عارضهم من رفعتها أمر الحق وضعوه؛ خلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها، وخربت بينهم فليسوا يعمرونها، وماتت في صدورهم فليسوا يحيونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، رفضوها فكانوا برفضها فرحين، وباعوها فكانوا ببيعها رابحين، ونظروا إلى أهلها ضرعى قد خلت فيهم المثلات، فأحبوا ذكر الموت، وأماتوا ذكر الحياة؛ يحبون الله، ويحبون ذكره، ويستضيئون بنوره؛ لهم خيرٌ عجيب، وعندهم الخبر العجيب؛ بهم قام الكتاب، وبه - يعني - قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، وبهم علم الكتاب، وبه علموا؛ ليسوا يرون نائلاً مع ما نالوا، ولا أمماناً دون ما يرجون، ولا خوفاً دون ما يجدون.(20/133)
وعن مكحول قال: التقى يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، فضحك عيسى في وجه يحيى وصافحه، فقال له يحيى: يا بن خالتي! مالي أراك ضاحكاً كأنك قد أمنت؟ فقال له عيسى: يا بن خالتي! مالي أراك عابساً كأنك قد يئست؟ قال: فأوحى الله إليهما أن أحبكما إلي أبشكما بصاحبه.
وعن شهر بن حوشب قال: بينما عيسى جالس مع بني إسرائيل إذ أقبل طير منظوم الجناحين بالدر والياقوت كأحسن ما يكون من الطير، فجعل يدرج بين أيديهم، فقال عيسى: دعوه لا تنفروه، فإنما بعث إليكم، فحول مسلاخه، فخرج أحمر أقرع كأقبح ما يكون، ثم أتى بركةٌ فتلوث في حمأتها فخرج أسود، ثم استقبل جرية الماء فاغتسل، ثم عاد إلى مسلاخه ولبسه، فعاد إليه حسنه وجماله، فقال عيسى: إنما بعث هذا إليكم، مثل هذا المؤمن إذا وقع في الذنوب والخطايا، ذهب عنه حسنه وجماله، فإذا تاب وراجع عاد عليه حسنه وجماله.
بينما عيسى جالس وشيخ يعمل بمسحاته يثير بها الأرض فقال عيسى: اللهم انزع منه الأمل، فوضع الشيخ المسحاة واضطجع فلبث ساعةٌ، فقال عيسى: اللهم اردد إليه الأمل، فقام فجعل يعمل، فقال له عيسى: مالك بينما أنت تعمل ألقيت مسحاتك واضطجعن ساعةٌ، ثم إنك قمت بعد تعمل؟ فقال الشيخ: بينا أنا أعمل إذ قالت لي نفسي: إلى متى تعمل وأنت شيخٌ كبير؟ فألقيت المسحاة واضطجعت، قم قالت لي نفسي: والله ما بذلك من عيش ما بقيت، فقمت إلى مسحاتي.
قال إبراهيم التيمي: لقي عيسى بن مريم رجلاً فقال: ما تصنع؟ قال: أتعبد، قال: من يعولك؟ قال أخي، فقال: أخوك أعبد منك.
وعن وهب بن منبه قال: كان عيسى واقفاً على قبر ومعه الحواريون وصاحبه يدلي فيه، وذكروا القبر ووحشته وظلمته وضيقه، فقال عيسى: كنتم في أضيق منه في أرحام أمهاتكم فإذا أحب الله أن يوسع وسع.(20/134)
وعن عيسى عليه السلام أنه قال: يا معشر الحواريين، ادعوا الله أن يهون علي هذه السكرة - يعني الموت - ثم قال: لقد خفت الموت خوفاً وقفني، مخافتي من الموت على الموت.
وعن عبد الجبار بن عبيد الله بن سليمان قال: أقبل عيسى بن مريم على أصحابه ليلة رفع فقال لهم: لا تأكلوا بكتاب الله عز وجل، فإنكم لم تفعلوا أقعدكم الله على منابر، الحجر منها خيرٌ من الدنيا وما فيها.
قال عبد الجبار: وهي المقاعد التي ذكر الله في القرآن " في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر " ورفع عليه السلام.
وعن الحسن قال:
لم يكن نبي كانت العجائب في زمانه أكثر من عيسى بن مريم إلى أن رفعه الله، ومن بعده في أصحابه، وكان من سبب رفعه أن ملكاً جباراً - وكان ملك بني إسرائيل - وهو الذي يقال له داود بن بوذا هو الذي بعث في طلبه ليقتله، وكان الله أنزل عليه الإنجيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة ورفع وهو ابن أربعٍ وثلاثين سنة من ميلاده، وكان في نبوته عشرين سنة، فأحدث الله له الإنجيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فأوحى الله إليه " إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا " يعني ومخلصك من اليهود فلا يصلون إلى قتلك.
قال وهب: قال كعب: متوفيك، أي مذيقك الموت ثم أرفعك. قال وهب: فأماته الله ثلاثة أيام ثم بعثه الله ورفعه.
وقال ابن عباس: " إني متوفيك ورافعك " يعني رافعك ثم متوفيك في آخر الزمان.
وعن الحسن: " إني متوفيك " قال: متوفيك من الأرض.(20/135)
وعن وهب بن منبه أن عيسى بن مريم لما أعلمه الله عز وجل أنه خارجٌ من الدنيا جزع من الموت وشق عليه، فدعا الحواريين فصنع لهم طعاماً وقال: احضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم بيده ويوضئهم ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه وقال: ألا من رد علي الليلة شيئاً مما أصنع فليس مني ولا أنا منه؛ فأقروه، حتى إذا فرغ من ذلك قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام، وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم فلا يتعاظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم نفسه لبعض كما بذلت نفسي لكم، وأما حاجتي التي استعنت بكم عليها فتدعون الله وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي. فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاءٌ، ثم يوقظهم ويقول: سبحان الله! أما تصبرون لي ليلةً واحدةً تعينوني فيها! قالوا: والله ما ندري ما لنا، لقد كنا نسمر فنكثر السمر، وما نطيق الليلة سمراً ولا نريد دعاءً إلا حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعي ويتفرق الغنم، وجعل يأتي بكلامٍ نحو هذا يبغي به نفسه، فقال: الحق أقول لكم: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك - ثلاث مرات - وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة، وليأكلن ثمني. فخرجوا فتفرقوا.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لما اجتمعت اليهود على أخي عيسى بن مريم ليقتلوه بزعمهم أوحى الله إلى جبريل عليه السلام أن أدرك عبدي، فهبط جبريل فإذا هو بسطرٍ في جناح جبريل فيه مكتوب لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، قال: يا عيسى قل، قال: وما أقول يا جبريل؟ قال قل: اللهم إني أسألك باسمك الواحد الأحد، أدعوك اللهم باسمك الصمد، أدعوك اللهم باسمك العظيم الوتر، الذي ملأ الأركان كلها إلا فرجت عني ما أمسيت فيه وأصبحت فيه؛ فدعا بها عيسى، فأوحى الله إلى جبريل أن ارفع إلي عبدي. ثم التفت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أصحابه فقال: يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، ادعوا بهؤلاء الكلمات، والذي بعثني بالحق نبياً، ما دعا قومٌ قط إلا اهتز له العرش والسماوات السبع، والأرضون السبع.(20/136)
وعن عاشئة رضي الله عنها قالت: دخل علي أبو بكر فقال: هل سمعت دعاءً علمنيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: وما هو؟ قال: كان عيسى بن مريم يعلم أصحابه: يا فارج الهم وكاشف الغم! مجيب دعوة المضطرين! رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما! ارحمنا رحمةً تغنينا بها عن رحمة من سواك. أو كما قال.
وعن وهب أنه كان إذا قدم مكة تعلق بأستار الكعبة، فدعا بهذه الدعوات؛ وذكر وهب أنه دعاء عيسى عليه السلام وقت رفعه الله إليه، وهو دعاءٌ مستجاب: اللهم أنت القريب في علوك، المتعالي في دنوك، الرفيع على كل شيءٍ من خلقك، أنت الذي نفذ بصرك في خلقك وحسرت الأبصار دون النظر إليك وغشيت دونك، وسبح بها الفلق في النور، أنت الذي جليت الظلم بنورك، فتباركت اللهم خالق الخلق بقدرتك، ومقدر الأمور بحكمتك، مبتدع الخلق بعظمتك، القاضي في كل شيء بعلمك، أنت الذي خلقت سبعاً في الهواء بكلماتك مستويات الطباق مذعنات لطاعتك، سما بهن العلو بسلطانك فأجبن وهن دخانٌ من خوفك، فأتين طائعاتٍ بأمرك، فيهن الملائكة يسبحونك ويقدسونك، وجعلت فيهن نوراً يجلو الظلام، وضياءً أضوأ الشمس، وجعلت فيهن مصابيح يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ورجوماً للشياطين؛ فتباركت اللهم في مفطور سماواتك، وفيما دحوت من أرضك، دحوتها على الماء فأذللت لها الماء المتظاهر، فذل لطاعتك وأذعن لأمرك، وخضع لقوتك أمواج البحار ففجرت فيها بعد البحار الأنهار، وبعد الأنهار العيون الغزار والينابيع، ثم أخرجت منها الأشجار والثمار، ثم جعلت على ظهرها الجبال أوتادا، فأطاعتك أطوادها، فتباركت اللهم صفتك، فمن يبلغ صفة قدرتك! ومن ينعت نعتك! تنزل الغيث وتثني السحاب، وتفك الرقاب وتقضي الحق وأنت خير الفاصلين، ل إلع إلا أنت، إنما يخشاك من عبادك العلماء الأكياس، أشهد أنك لست بإله استحدثناك، ولا رب يبيد ذكره، ولا كان لك شركاء يقضون معك فتدعوهم ويدعونك، ولا أعانك أحدٌ على خلقك فنشك فيك، أشهد أنك أحدٌ صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ولم يتخذ صاحبةً ولا ولدا، اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً. قال وهب: فلما تم الدعاء رفعه الله إليه.
قال وهب: وهو للشقيقة من هذا الموضع: أشهد أنك لست بإلهٍ استحدثناك ... إلى آخرها.(20/137)
وعن الفراء في قوله عز وجل: " ومكروا ومكر الله " معنى هذه الآية: أن عيسى غاب عن خالته زماناً فأتاها، فقام رأس الجالوت اليهودي، فضرب على عيسى حتى اجتمعوا على باب داره فكسروا الباب ودخل رأس الجالوت ليأخذ عيسى فطمس الله عينيه عن عيسى، ثم خرج إلى أصحابه فقال: لم أره، ومعه سيفٌ مسلول، فقالوا: إنه أنت عيسى. ألقى الله شبه عيسى عليه، فأخذوه فقتلوه وصلبوه، فقال جل جلاله: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " ألقى شبهه عليه، ثم قال عز وجل: " ومكروا ومكر الله ".
وعن ابن عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلاً من عينٍ في البيت، ورأسه يقطر ماء؛ قال: فقال: إن منكم من سيكفر اثنتي عشرة مرة من بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سناً فقال: أنا، فقال عيسى: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا، فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا، فقال: نعم أنت ذاك. فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنةٍ في البيت إلى السماء، وجاء الطلب من اليهود فأخذوا شبهه فقتلوه وصلبوه، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، فتقرقوا ثلاث فرق؛ قالت فرقة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء اليعقوبية؛ وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه إليه وهم النسطورية؛ وقالت فرقة: كان عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه اله إليه، وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة " يعني الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في(20/138)
زمان عيسى، والطائفة التي آمنت في زمان عيسى " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين " في إظهار محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دينهم على دين الكفار فأصبحوا ظاهرين.
وعن ابن عباس قال:
لما فرغ عيسى من وصيته واستخلف ضمعون وقتلت اليهود بوذا وقالوا هو عيسى يقول الله تعالى: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ... وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه، وكان الله عزيزاً حكيماً ". فأما اليهود والنصارى فيقولون قد قتلوه؛ وأما الحواريون فعلموا أنه لم يقتل، وأنكروا قول النصارى واليهود، وخلص الله عيسى انزل اله سحابة من السماء، سحابةٌ لاستقلال عيسى، فوضع عيسى على السحابة، فلزمته أمه وبكت، فقالت السحابة: دعيه فإن الله يرفعه إلى السماء، ثم يشرف على أهل الأرض عند أوان الساعة، ثم يهبط إلى الأرض فيكون فيهم ما شاء الله، ويبدل الله به الأرض أمناً وعدلاً. فكفت عنه مريم تنظر إليه وتشير بإصبعها إليه، ثم ألقى إليها بردائه فقال: هذا علامةٌ ما بيني وبينك يوم القيامة.
وقال ابن عباس: إن عيسى لما حمل على السحابة وودع أمه والحواريين ثم أصعدت به السحابة، فذهبت أمه لتتناول رجله فقال: لا تفعلي يا أمه؟ وألقى عمامته إلى شمعون، وأمه تمس السحاب حتى فاتها السحاب، وأخذ شمعون العمامة فجعلها في عنقه وهم ينظرون إلى عيسى ويشيرون بأيديهم حتى توارى عنهم.
وعن مجاهد: أن اليهود لما أرادوا عيسى وطلبوه ليقتلوه، فألجؤوه إلى غارٍ في الجبل، ومعه أمه والحواريون، فعهد إليهم عهده وقال: إني مرفوع. وأنزلت الغمامة حتى حملت عيسى، واليهود يحرسونه، فانصدع الجبل وارتفعت السحابة بعيسى، ثم دخلوا الغار فأخذوا الذي دل على عيسى فعدوا عليه فصلبوه، وأخذوا أصحاب عيسى فحبسوهم وعذبوهم؛ فبلغ ذلك(20/139)
صاحب الروم، وكان اليهود تحت يديه، فقيل له: إنه كان في مملكتك رجلٌ عدا عليه بنو إسرائيل فصلبوه، وهم يعذبون أصحابه، وكان يخبرهم أنه رسول الله قد أراهم العجائب، وأحيا لهم الموتى وأبرأ لهم الأسقام، وخلق لهم من الطين كهيئة الطير. فبعث ملك الروم إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن دين عيسى فأخبروه، فبايعهم على دينه، واستنزل الذي صلب فغيبه، وأخذ خشبه الذي كان صلب عليها فأكرمها وطيبها، وعدا على اليهود فقتل منهم مقتلةٌ عظيمة، فمن هنالك يعظم النصارى الصلبان، ومن هنالك صار جل أهل النصرانية بالروم، وملك الحواريون بعد ذلك وذلت اليهود وظهرت النصرانية، وملك يحيى بن زكريا وشمعون والحواريون ومن بايعهم. وكان يقال لشمعون: صخرة الإيمان، وكان رجلاً بكاءً إذا جلس مجلساً فإنما هو باك وجلساؤه يبكون، وكان يحيى بن زكريا رجلاً صحاكاً بساماً، إذا جلس لم يزل ضاحكاً وأصحابه يضحكون فقال لهم يوماً شمعون: سبحان الله يا بن زكريا؟ ما أكثر ضحكك في الحق والباطل! فقال يحيى: سبحان الله يا شمعون! ما أكثر بكاءك في الحق والباطل! لقد عنيت نفسك وعنيت جلساءك! قال: فجاء من الله أن أحب سيرة الرجلين إلى سيرة يحيى بن زكريا.
وعن وهب بن منبه أن عيسى لما رفع اجتمعت بنو إسرائيل من آمن منهم بعيسى فقالوا: ننظر في أمرنا؛ فانطلق إبليس فدعا عفاريته، فاجتمعوا إليه فأخبرهم بالذي يريد بنو إسرائيل فقال: إنا وجدنا منهم فرصة، قال: فاختار عفريتين فأمرهما بما يريد، ثم انطلقوا حتى دخلوا على بني إسرائيل في مجمعهم الذي اجتمعوا فيه، فأمر صاحبيه فجلس كل واحدٍ منهما ناحية، وجلس إبليس ناحية، فلما فرغ بنو إسرائيل من بعض ما هم فيه قام أحد صاحبيه بهيئة حسنة في هيئة عبادهم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله قد أكرمكم واختاركم على خلقه بأن نزل من السماء، فكان بين أظهركم ما شاء أن يكون، ثم عاد إلى سماواته، فاشكروه بما صنع إليكم. ثم جلس، فقام الآخر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها المتكلم! لا أعلم متكلماً يتكلم بكلامٍ أحسن من كلامك! ولا أرفق ولا أوفق ولا أقرب من كل خير! غير أنك زعمت أن عيسى هو الله وأنه نزل من السماء بين أظهرنا، وإن الله لا يزول من مكانه ولكن(20/140)
عيسى هو ابنه، فأهبطه إلينا وأكرمنا به، ثم جلس، فقام إبليس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها المتكلمان! لا عهد لنا بمتكلمين أقرب من كل خير وأبعد من كل شر منكما إلا ما زعم الأول أن الله هبط إلينا، وإن الله لا يهبط من سماواته؛ وما ذكر الآخر أن عيسى هو ابن الله، وإن الله ليس له ولد، ولكن الله إله السماوات ومن فيهن، وعيسى إله الأرض ومن فيهن. قال: فتفرقت من ذلك العباد والصالحون، فاختلفوا.
قال ابن عابس: اختلفوا على هذا القول بعد إحدى وثمانين سنة.
وفي حديثٍ آخر بمعناه: أن عيسى صعد وهم ينظرون إليه، حتى إذا بلغ من الكو خرج من الكو لا يستوسع الكو ولا يستصغر على عيسى في بدنه؛ قال: وهم ينظرون إليه حتى توارى عنهم ... الحدي.
وعن الأصبغ بن نباتة قال: قال علي: غ، خليلي حدثني أن أضرب لسبع عشرة مضى من رمضان، وهي الليلة التي مات فيها موسى وأموت لاثنتين وعشرين تمضي من رمضان، وهي الليلة التي رفع فيها عيسى عليه السلام.
وعن أبي زرعة أن عيسى بن مرسم عليه السلام رفع من طور زيتا، بعث الله عز وجل ريحاً فخفقت به حتى هرول، ثم رفع الله عز وجل إلى السماء.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي قبض فيه قال: يا فاطمة يابنتي أحني علي.
فأحنت عليه فناجاها ساعةٌ ثم انكشفت عنه وهي تبكي، وعائشة حاضرة، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك بساعة: أحني علي. فأحنت عليه، فناجاها ساعة ثم انكشفت عنه تضحك، فقالت عائشة: يا بنت رسول الله! أخبريني ماذا ناجك أبوك؟ قالت:(20/141)
أوشكت، رأيته ناجاني على حال سر، ثم ظننت أني أخبر بسره وهو حي! فشق ذلك على عائشة أن يكون سر دونها؛ فلما قبضه الله عز وجل إليه قالت عائشة لفاطمة: ألا تخبريني ذلك الخبر؟ قالت: أما الآن فنعم، ناجاني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل عامٍ مرة، وأنه عارضه القرآن العام مرتين، وأنه أخبره أنه لم يكن نبي بعد نبي إلا عاش نصف عمر الذي كان قبله، وأنه أخبرني أن عيسى عاش عشرين ومئة سنة ولا أراني إلا ذاهب. وهو على رأس الستين، فأبكاني ذلك، وقال: يا بنية، إنه ليس من نساء المؤمنين أعظم رزية منك، فلا تكوني أدنى من امرأةٍ صبراً. ثم ناجاني في المرة الأخرى فأخبرني أني أول أهله لحوقاً به، وقال: إنك سيدة نساء أهل الجنة.
وفي روايةٍ أخرى بمثله أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة رضوان الله عليها من حديثٍ بمعناه، وأنه لم يكن نبي إلا عاش نصف عمر أخيه الذي كان قبله، عاش عيسى مئة وخمساً وعشرين سنة، وهذه اثنتان وستون سنة. ومات في نصف السنة.
قال: هكذا وقع، والصحيح أن عيسى لم يبلغ هذا العمر وإنما أراد به مدة مقامه في أمته.
وعن فاطمة بنت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها قالت: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن عيسى بن مريم مكث في بني إسرائيل أربعين سنة.
وفي حديثٍ عن فاطمة عليها السلام بمعناه قالت: دعاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن الله لم يبعث نبياً إلا وقد عمر الذي بعده نصف عمره وإن عيسى لبث في بني إسرائيل أربعين سنة وهذه توفي لي عشرين سنة، ولا أراني إلا ميت في مرضي هذا ... الحديث.
وعن سعيد بن المسيب قال: رفع عيسى وهو ابن ثلاثٍ وثلاثين سنة، ومات معاذ بن جبل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.(20/142)
وعن سلمان قال: الفترة ما بين عيسى ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ست مئة سنة.
وعن أنس بن مالك قال: بينا نحن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ رأينا برداً ويداً، فقلنا: يا رسول الله! ما هذا البرد الذي رأينا واليد؟ قال: قد رأيتموه؟ قلنا: نعم، قال: ذاك عيسى بن مريم سلم علي.
وعن أنس بن مالك قال: كنت أطوف مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئاً ولا نراه! قلنا: يا رسول الله! رأيناك صافحت شيئاً ولا يراه أحد! قال: ذاك أخي عيسى بن مريم انتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه.
وعن ابن أبي يحيى مولى ابن عقيل الأنصاري عن ابن عباس قال:
لقد علمت آية من القرآن ما سألني عنها رجلٌ قط، فما أدري أعلمها الناس فلم يسألوا عنها أم لم يفطنوا لها فيسألوا عنها؟ ثم طفق يحدثنا، فلما قام تلاومنا ألا نكون سألناه عنها فقلت أنا لها إذا راح غداً، فلما راح الغد قلت: يا بن عباس ذكرت أمس أن آية من القرآن لم يسألك عنها رجلٌ قط، ولا تدري أعلمها الناس فلم يسألوا عنها أم لم يفطنوا لها، فقلت: أخبرني عنها وعن اللائي قرأت قبلها؟ قال: نعم، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لقريش، يا معشر قريش! إنه ليس أحدٌ يصد دون الله فيه خير، وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى بن مريم وما تقول في محمد. فقالوا: يا محمد! ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً من عباد الله صالحاً، فلئن كنت صادقاً فإن آلهتهم لكما يقولون. قال فأنزل الله عز وجل: " ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون " قال: قلت: وما يصدون؟ قال: يضجون " وإنه لعلم للساعة " قال: وهو خروج عيسى بن مريم قبل القيامة.(20/143)
وعن الحسن بن صالح قال: لما قيل لعيسى " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " تزايلت مفاصله. ولما قال لقمان لابنه: " يا بني إنها إن تك مثقال حبةٍ من خردلٍ فتكن في صخرةٍ أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله " تفطر فمات.
وعن أبي هريرة قال: تلقى عيسى حجته ولقاه الله في قوله: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين ". قال أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلقاه الله عز وجل " سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا إن عيسى بن مريم ليس بيني وبينه نبي ولا رسول، ألا إنه خليفتي في أمتي من بعدي، ألا إنه يقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويضع الجزية وتضع الحرب أوزارها، ألا فمن أدركه منكم فليقرأ عليه السلام.
زاد في رواية: ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد.
وفي آخر: ولتصلحن ذات البين.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليهبطن الله عز وجل عيسى بن مريم حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً، فليسلكن فج الروحاء حاجاً أو معتمراً وليقفن على فبري، فليسلمن علي، ولأردن عليه.(20/144)
وفي رواية: ثم لئن قام على قبري فقال يا محمد لأحبيبنه.
وفي رواية: فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب وتكون الدعوة واحدة فأقرئوه السلام من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلما حضرته الوفاة قال أقرئوه مني السلام. زاد في آخر: وتجمع له الصلاة.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ينزل ابن مريم إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويرجع السلم، وتتخذ السيوف مناجل، وتذهب حمة كل ذات حمة، وتنزل السماء رزقها، وتخرج الأرض بركتها، حتى يلعب الصبي بالثعبان فلا يضره، فتراعي الغنم الذئب فلا يضرها، ويراعي الأسد البقر فلا يضرها.
وفي رواية حتى يقتل الخنزير والقردة، ويكسر الصليب، وتكون السجدة لله رب العالمين.
وعن سمرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الدجال خارج، وإنه أعور عين الشمال عليها ظفرة غليظة وإنه يبرئ الأكمة والأبرص ويحي الموتى، ويقول للناس: إني ربكم. فمن قال أنت ربي فقد افتتن، ومن قال ربي الله، حتى يموت على ذلك فقد عصم من فتنة الدجال، ولا فتنة عليه ولا عذاب، فيمكث في الأرض ما شاء الله، ثم ينزل عيسى بن مريم من قبل المغرب مصدقاً لمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعل ملته فيقتل الدجال، ثم إنما هو قيام الساعة.
وعن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أبكي فقال: ما يبكيك؟ قلت: يا رسول الله ذكرت الدجال فبكيت فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن يخرج الدجال وأنا حي كفيتكموه، وإن يخرج بعدي فإن ربكم ليس بأعور، إنه يخرج في يهودية أصبهان حتى يأتي المدينة فينزل ناحيتها،(20/145)
ولها يومئذ سبعة أبواب، على كل نقب منها ملكان، فيخرج إليه شرار أهلها، حتى يأتي الشام مدينة بفلسطين بباب لد - وف يرواية: يأتي فلسطين باب لد - فينزل عيسى فيقتله، ثم يمكث عيسى في الأرض أربعين سنة إماماً عدلاً وحكماً مقسطاً.
وعن زيد بن أسلم قال:
يهبط المسيح عيسى بن مريم إماماً مقسطاً وحكماً عدلاً، يكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويضع الجزية وتضع الحرب أوزارها وتنبر قريشٌ الإمارة، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء، حتى يتدفق من جوانبه كلها، وتعود الأرض كفاثور الورق، وترفع العداوة والبغضاء والشحناء، وتنزع من كل ذي حمةٍ حمتها، فيومئذ يطأ الصبي على رأس الحية فلا تضره وتفر الجارية الأسد كما تفر جري الكلب الصغير، ويقوم الفرس بعشرين درهماً، وتقوم البقرة بكذا وكذا، كأنه يرفع ثمنها.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف بكم إذا نزل بكم ابن مريم فأمكم - أو قال: إمامكم منكم.
وعن جابر قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تزال طائفةٌ من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى بن مريم، فيقول أميرهم: تعال صل بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعضٍ أمراء. فتكرمة الله لهذه الأمة. وفي رواية: أنتم أحق، بعضكم أمراء بعض، أمر أكرم الله به هذه الأمة.
وعن عبد الله أن المسيح بن مريم خارجٌ قبل يوم القيامة وليستغن به الناس عمن سواه.(20/146)
وعن أبي هريرة قال: والذي نفسي بيده لينزلن عيسى بن مريم عدلاً في الأرض مقسطاً؛ وإني لأرجو أن لا أموت حتى ألقاه، ويمسح عن وجهي، وأحدثه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيصدقني.
وعن أبي هريرة قال: ينزل عيسى بن مريم إماماً مقسطاً وحكماً عدلاً، يكسر الصليب ويقتل الخنزير، وتضع الحرب أوزارها وتنبر قريشٌ في الإمارة، وتضع كل ذات حملٍ حملها حتى إن الرجل ليضع قدمه على رأس الحية فما تضره، وحتى إن الذئب ليكون في الغنم ككلبها، وحتى إن السبع ليكون في الخيل كراعيها وحتى إن الصبي ليدخل يده في الذئب فما يضره، وحتى إن الملأ ليأكلون التفاحة، وحتى إن العصابة ليأكلون من العنبة، ثم يقولون: يا ليت إخواننا أدركوا هذا العيش.
وعن أبي الأشعث الصنعاني قال: سمعت أبا هريرة يقول: يهبط المسيح عيسى بن مريم، فيصلي الصوات، ويجمع الجمع، ويزيد في الحلال قلت: يا أبا هريرة! ما أراه يزيد إلا في النساء. فضحك وقال: كأني به تجد به رواحله ببطن الروحاء حاجاً أو معتمراً، فمن لقيه منكم فليقل إن أخاك أبا هريرة يقرئك السلام. قال أبو الأشعث: ثم نظر إلي فقال: قد أشفقت أني لا أموت حتى أدركه.
وعن عبد الله بن مسعود قال: لما كان ليلة أسري برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فتذاكروا الساعة متى هي؟ فبدؤوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم، وسألوا موسى فلم يكن عنده منها علم، فردوا الحديث إلى عيسى فقال: عهد الله إلي فيما دون وجبتها، فأما وجبتها فلا يعلمها إلا الله عز وجل - فذكر من خروج الدجال - ما ما يعيط ما قبله، فيرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدبٍ(20/147)
ينسلون، لا يمرون بماءٍ إلا شربوه، ولا شيءٍ إلا أفسدوه فيجأرون إلي، وأدعو الله فيميتهم، فتجيف الأرض من ريحهم، فيجأرون إلي، فأدعو الله، فيرسل السماء بالماء فتحملهم فتقذف أجسادهم في البحر ثم تنسف الجبال، وتمد الأرض مد الأديم؛ فعهد الله إلي أنه إذا كان ذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادها ليلاً أم نهاراً! قال العوام: فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله تعالى ثم قرأ: " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدبٍ ينسلون، ةاقترب الوعد الحق ".
وعن ابن عباس أنه قال:
أول من يتبعه سبعون ألفاً من اليهود عليهم السيجان - وهي الألبسة من صوف أخضر، يعني به الطيالبسة - ومعه سحرة اليهود يعملون العجائب ويرونها للناس فيضلونهم بها وهو أعور ممسوح العين اليمنى، يسلطه الله على رجلٍ من هذه الأمة فيقتله، ثم يضربه فيحييه، ثم لا يصل إلى قتله ولا يسلط على غيره، ويكون آية خروجه تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتهاوناً بالدماء، وضيعوا الحكم، وأكلوا الربا، وشيدوا البناء، وشربوا الخمر، واتخذوا القيان، ولبسوا الحرير وأظهروا بزة آلا فرعون، ونقضوا العهد وتفقهوا لغير الدين، وزينوا المساجد، وخربوا القلوب، وقطعوا الأرحام، وكثرت القراء، وقلت الفهاء وعطلت الحدو، وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، فتكافأ الرجال بالرجال والنساء بالنساء، بعث الله عليهم الدجال فتسلط عليهم، حتى ينتقم منهم، وينحاز المؤمنون إلى بيت المقدس. قال ابن عباس: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فعند(20/148)
ذلك ينزل أخي عيسى بن مريم من المساء على جبل أفيق إماماً هادياً وحكماً عدلاً، عليه برنس له، مربوع الخلق أصلب، سبط الشعر، بيده حربة، يقتل الدجال، فإذا اقتل الدجال تضع الحرب أوزارها وكان السلم، فبلقى الرجل الأسد فلا يهيجه، ويأخذ الحية فلا تضره وتنبت الأرض كنباتها على عهد آدم، ويؤمن به أهل الأرض، ويكون الناس أهل ملةٍ واحدة.
وعن عبد الله بن همرو أنه سأل أحد الرجلين فقال: أنت عبد الله بن عمرو؟ قال: نعم، قال: أنت الذي تزعم أن الساعة تقوم إلى مئة سنة؟ قال سبحان الله! وأنا أقول ذلك! قال: ومن يعلم قيام الساعة إلا الله! إنكم يا أهل العراق لتروون أشياء ليست كذلك، وإنما قلت: ما كانت رأس مئةٍ للخلق - يعني منذ خلقت الدنيا - إلا كان عند رأس المئة، قال: ثم يوشك أن يخرج ابن حمل الضان، قال: قلت: وما ابن حمل الضان؟ قال: رومي، أحد أبويه شيطان، يسير إلى المسلمين في خمس مئة ألف براً، وخمسة مئة ألف بحراً حتى ينزل بين عكا وصور ثم يقول: يا أهل السفن! اخرجوا منها. ثم أمر بها فأحرقت. قال: ثم يقول لهم: لا قسطنطينية لكم ولا لا رومية حتى يفصل بيننا وبين المغرب. قال: فيستمد أهل الإسلام بعضهم بعضاً حتى تمدهم عدن أبين على قلصانهم، قال فيجتمعون فيقتتلون؛ قال: فيكاتبهم النصارى الذين بالشام ويخبرونهم بعورات المسلمين، فيقول المسلمون: الحقوا، فكلكم لنا عدو حتى يقضي الله بيننا وبينكم. فيقتتلون شهراً لا يكل لهم سلاح ولا لكم، ويقذف الصبر عليكم وعليهم.(20/149)
قال: وبلغنا - والله أعلم - أنه إذا كان رأس الشهر قال ربكم: اليوم أسل سيفي فأنتقم من أعدائي وأنصر أوليائي. قال: فيقتتلون مقتلة ما أرى مثلها قط، حتى ما تسير الخيل إلا على الخيل وما يسير الرجل إلا على الرجل وما يجدون خلقاً لله يحول بينهم وبين القسطنطينية ولا رومية، فيقول أميرهم يومئذ: لا غلول اليوم، من أخذ شيئاً فهو له. فيأخذون ما خف عليهم ويذبحون ما ثقل عليهم؛ فبينما هم كذلك إذ جاءهم أن الدجال قد خلفكم في ذراريكم، قال: فيرفضون ما في أيديهم ويقبلون؛ قال: وتصيب الناس مجاعةٌ شديدة حتى إن الرجل ليحرق وتر قوسه فيأكله، وحتى إن الرجل ليحرق حجفته فيأكلها، حتى إن الرجل ليكلم أخاه فما يسمعه الصوت من الجهد؛ قال: فبينما هم كذلك إذ سمعوا صوتاً من السماء: أبشروا فقد أتاكم الغوث. فيقولون: نزل عيسى بن مريم. قال: فيستبشرون ويستبشر بهم ويقولون: صل يا روح الله! فيقول: إن الله أكرم هذه الأمة ولا ينبغي لأحدٍ أن يؤمهم إلا منهم. قال: فيصلي أمير المؤمنين بالناس، قال: فأمير الناس يومئذٍ معاوية بن أبي سفيان؟ قال: لا، فيصلي عيسى خلفه، قال: فإذا انصرف عيسى دعا بحربته، فأتى الدجال فقال: رويدك يا دجال يا كذاب! قال: فإذا رأى عيسى عرف صوته ذاب كما يذوب الرصاص إذا أصابته النار، وكما تذوب الألية إذا أصابتها الشمس. قال: ولولا أنه يقول رويداً لذاب حتى لا يبقى منه شيء، قال: فيحمل عليه عيسى فيطعن بحربته بين ثدييه فيقتله.
قال: وتفرق جنده تحت الحجارة والشجر، قال: وعامة جنده اليهود والمنافقون، فينادي الحجر يا روح الله هذا تحتي كافر فاقتله؛ قال: فيأمر عيسى بالصليب فيكسر وبالخنزير فيقتل، وتضع الحرب أوزارها حتى إن الذئب ليربض إلى جنبه.... ما يغمز بها، وحتى إن الصبيان ليلعبون بالحيات ما تنهشهم، ويملأ الأرض عدلاً؛ فبينما هم كذلك إذ سمعوا صوتاً، قال: فتحت يأجوج ومأجوج، وهو كما قال الله عز وجل " وهم من كل حدبٍ ينسلون " فيفسدون الأرض كلها، حتى إن أوائلهم لتأتي النهر العجاج(20/150)
فيشربونه كله، وإن آخرهم ليقول: قد كان ها هنا نهر، ويحاصون عيسى ومن معه ببيت المقدس ويقول: ما نعلم في الأرض - يعني أحداً - إلا قد أنخناه، هلموا نرمي من في السماء، فيرمون حتى ترجع إليهم سهامهم في نصولها الدم للبلاء، فيقولون: ما بقي في الأرض ولا في السماء، فيقول المؤمنون: يا روح الله! نموت من النتن! فيدعو الله، فيبعث وابلاً من المطر فجعله سيلاً، فيقذفهم كلهم في البحر؛ قال: ثم يسمعون صوتاً فيقال: مه! قيل: غزا البيت الحصين، قال: فيبعثون جيشاً فيجدون أوائل ذلك الجيش.
ويقبض عيسى بن مريم، ووليه المسلمون وغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلوا عليه وحفروا له ودفنوه؛ فيرجع أوائل الجيش والمسلمون ينفضون أيديهم من تراب قبره، فلا يلبثون بعد ذلك إلا يسيراً حتى يبعث الله الريح اليمانية، قال: قلنا: وما الريح اليمانية؟ قال: ريح من قبل اليمن، ليس على الأرض مؤمن يجد نسيمها إلا قبضت روحه، قال: ويسري على القرآن في ليلةٍ واحدة، ولا يترك في صدور بني آدم ولا في بيوتهم منه شيء إلا رفعه الله، قال: فيبقى الناس ليس فيهم نبي، وليس فيهم قرآن وليس فيهم مؤمن.
قال عبد الله بن عمرو: فعندهم أخفي علينا قيام الساعة، فلا يدري كم يتركون، كذلك تكون الصيحة. قال: ولم تكن صيحةٌ قط إلا بغضبٍ من الله على أهل الأرض، قال: فقال الله تعالى: " ما ينظرون إلا صيحة واحدة ما لها من فواق " قال: فلا أدري كم يتركون كذلك.
وعن مجمع بن جارية قال: ذكر عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدجال فقال: يقتله عيسى بن مريم بباب لد.
زاد في رواية: أو إلى جانب لد.(20/151)
وعن عبد الله بن عباس أنه قال: لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى بن مريم على ذروة أفيق، بيده حربة يقتل الدجال.
وعن جابر بن عبد الله في قوله: " ليظهره على الدين كله " قال: خروج عيسى بن مريم.
وعن ابن أبي نجيج عن مجاهد في قوله " ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " قال: إذا نزل عيسى بن مريم لم يكن في الأرض دينٌ إلا الإسلام، فذلك قوله: " ليظهره على الدين كله ".
وعن مجاهد في قوله: " حتى تضع الحرب أوزارها " يعني حتى ينزل عيسى بن مريم، فيسلم كل يهودي وكل نصراني، وكل صاحب ملة، وتأمن الشاة الذئب ولا تقرض فأرة جراباً، وتذهب العداوة من الأشياء كلها وذلك ظهور الإسلام على الدين كله.
وفي رواية: فيطمئن كل شيء ولا يكون عداوة بين اثنين.
وعن ابن عباس في قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال خروج عيسى بن مريم.
وفي رواية: قال: قبل موت عيسى.
وعن مجاهد قال: ليس من أهل الكتاب أحدٌ يموت حتى يشهد أن عيسى رسول الله. قال: وإن وقع من فوق البيت؟ قال: وإن وقع من فوق البيت.(20/152)
وعن الحسن البصري في قوله: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال: لا يموت أحدٌ منهم حتى يؤمن بعيسى بن مريم.
قال شهر بن حوشب: كنت مستخفياً من الحجاج بن يوسف، فجعل لي الأمان، فخرجت فمررت به ذات يوم وهو يقسم جروزاً له في أصحابه، فقال لي: يا شهر! فلعلك تكره لباس هذه الجروز؟ قلت: ما أهكرهها أصلح الله الأمير، فكساني منها شقة فارتديت بها، فلما قفيت أتاني نداء: يا شهر! فقلت في نفسي: ها ها، فانصرفت إليه فقال: يا شهر، إني أقرأ القرآن فآتي منه على آي، فلا تزال حرارةٌ في قلبي ألا أكون علمتها، قلت: وما هي؟ قال: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال: قلت: ذاك في اليهود، لا يقبض ملك الموت روح أحدهم حتى يجيئه ملك ومعه شعلةٌ من نار جهنم فيضرب وجهه ودبره فيقول له: أتقر أن عيسى عبد الله ورسوله؟ فلا يزال به حتى يقر به؛ فإذا أقر به قبض ملك الموت روحه، ففيهم نزلت هذه الآية.
وروى الشافعي، عن محمد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، عن الحسن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدباراً، ولا الناس إلا شحا؛ ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، ولا مهدي إلا عيسى بن مريم.
قالوا: تفرد بهذا الحديث الشافعي، ولا نعلم حدث به غيره، ولا عنه إلا يونس بن عبد الأعلى، وهو حديثٌ غريب الإسناد، مشهور المتن إلا قوله: ولا مهدي إلا عيسى بن مريم. فما قاله أحدٌ غيره، والأحاديث في التنصيص على خروج المهدي أصح إسناداً، وفيها بيان كونه من عترة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(20/153)
قال أبو الحسن علي بن عبد الله الواسطي: رأيت محمد بن إدريس الشافعي في المنام، فسمعته يقول: كذب علي يونس في ديث الجندي، حديث الحسن عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المهدي. قال الشافعي: ما هذا من حديثي ولا حدثت به، كذب علي يونس.
وعن مجاهد قال: المهدي عيسى بن مريم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجا أو معتمراً أو ليثنينهما.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف تهلك أمة أنا أولها وعيسى بن مريم آخرها والمهدي من أهل بيتي في وسطها.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إني أرى أن أعيش من بعدك، أفتأذن لي أن أدفن إلى جنبك؟ فقال: وأنى لك بذلك الموضع! ما فيه إلا موضع قبري وقبر أبي بكر وقبر عمر، وقبر عيسى بن مريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن عبد الله بن سلام قال: وجدت في الكتب أن عيسى بن مريم يدفن مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القبر وقد بقي في البيت موضع قبر.
وعنه قال: نظرت في التوراة صفه محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعيسى بن مريم عليه السلام يدفن معه. قال أبو مودود: وقد بقي من البيت موضع قبر.
وعنه قال: ليدفنن عيسى بن مريم مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته.
قال البخاري: هذا لا يصح عندي ولا يتابع عليه.(20/154)
عيسى بن المساور البغدادي الجوهري
سمع بدمشق وحدث عن نعيم بن سالم بن قنبر خادم علي بن أبي طالب قال: قال لي أنس بن مالك: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قاد أعمى أربعين خطوة لم تمس وجهه النار.
قال: وحدثنا نعيم بن سالم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طوبى لمن رآني وآمن بي، ومن رأى من رآني، ومن رأى من رأى من رآني.
توفي عيسى بن مساور سنة أربعٍ وأربعين ومئتين، وقيل: خمسٍ وأربعين
عيسى بن معبد بن الفضل
أبو منصور الموصلي التاجر قدم دمشق قدمتين للتجارة.
حدث عن أبي عبد الله الحسن بن العباس الرستمي بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أكثروا ذكر هاذم اللذات. قالوا: يا رسول الله! وما هذم اللذات؟ قال: الموت.
توفي بالموصل سنة ثمانٍ وخمسين وخمس مئة.
عيسى بن موسى بن محمد
ابن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أبو موسى الهاشمي جعله السفاح ولي عهده بعد المنصور، فلما ولي المنصور أخره وجعله ولي عهده بعد ابنه المهدي. وكان جليلاً في أهل بيته. ولد سنة ثلاثٍ ومئة - وقيل سنة أربع - وشهد حرب محمد وإبراهيم وهو ابن ثلاثٍ وأربعين سنة، وكان قتلهما على يديه؛ ولما قتلا شرع المنصور في تأخير عيسى وتقديم ابنه المهدي عليه في ولاية العهد في سنة سبعٍ وأربعين ومئة.(20/155)
وجرى بين المنصور وبين عيسى بن موسى في ذلك خطوب ومكاتبات وامتناع من عيسى، ثم أجابه إلى ذلك، فقدم المهدي في ولاية العهد عليه، وأقر عيسى بذلك وأشهد على نفسه به، فبايع الناس على ذلك، وخطب المنصور الناس وأعلمهم ما جرى في امر عيسى من تقديم المهدي عليه ورضاه بذلك، وتكلم عيسى وسلم الأمر للمهدي فبايع الناس على ذلك بيعة مجددة للمهدي، ثم لعيسى من بعده. وقال المنصور يومئذ: " ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " فلما أفضى الأمر إلى المهدي طلب عيسى بن موسى بخلع نفسه من ولاية العهد البتة، وتسليمه لموسى بن المهدي، وألح عليه في ذلك إلحاحاً شديداً، وبذل له مالاً عظيماً وخطراً جسيماً، وجرت في ذلك خطوب إلى أن أحضره من الكوفة إلى بغداد، وتقرر الأمر أن يخلع نفسه ويسلم الأمر لموسى بن المهدي ويدفع إليه عشرة آلاف ألف درهم، ويقال عشرين ألف ألف درهم، ويقطعه مع ذلك قطائع كثيرة وقد كان عيسى ذكر أن عليه أيماناً في أهله وماله، فأحضر له المهدي من القضاة والفقهاء من أفتاه في ذلك وعوضه المهدي من ذلك وأرضاه فيما يلزمه من الحنث في ماله ورقيقه وسائر أملاكه، فقبل ذلك ورضي به وخلع نفسه في هشية الأربعاء لأربعٍ بقين من المحرم سنة ستين ومئة في قصر الرصافة، وبايع للمهدي ولموسى بن المهدي، وحضر الخواص، فبايعوا في القصر للمهدي.
ثم خرج المهدي إلى جامع الرصافة، واجتمع الناس في المسجد فصعد المهدي المنبر وصعد بعده موسى ابنه، فكان دونه، ثم صعد عيسى بن موسى فكان على أول مرقاةٍ من المنبر، فقام المهدي فحمد الله وأثنى عليه وأخبر بما اجتمع عليه أهل بيته وشيعته في ذلك، وأن موسى عاملٌ فيهم بكتبا الله وأحسن السيرة وأعفاها ... في كلامٍ تكلم به، وجلس موسى دونه في جانب المنبر لكي لا يستر وجهه ولا يحول بينه وبين من يصعد إليه ليبايعه ويمسح على يده، وقام عيسى مكانه على أول مرقاة، فقرئ كتاب الخلع، وخروج عيسى مما كان إليه من ولاية العهد، وتحليل الناس جميعاً مما كان له من البيعة في رقابهم، وأن ذلك كان منه وهو طائع غير مكره، فأقر عيسى بذلك كله، وأشهد به على نفسه وصعد إلى المهدي فبايعه ومسح على يده ثم بايع موسى ومسح على يده ثم انصرف؛ ووفى المهدي(20/156)
لعيسى بن موسى بما ضمن له من الأموال والقطائع وأرضاه، وكتب بذلك كتاباً، وشهد فيه خلقٌ من الأشراف والوجوه والكبراء وغيرهم، عدتهم أربع مئة وخمسة وعشرون رجلاً. ورجع عيسى بعد ذلك إلى الكوفة، فلم يزل مقيماً بها في غير ولاية حتى توفي بها سنة سبعٍ وستين ومئة وهو ابن خمسٍ وستين سنة وكانت مدة عيسى في ولاية العهد من أوله إلى آخره ثلاثاً وعشرين سنة. وقيل إن عيسى كان لقب في ولاية العهد بالمرتضى.
لما هم أبو جعفر المنصور بالبيعة للمهدي دخل عليه الحسن بن قحطبة فقال: يا أمير المؤمنين! ما تنتظر بالفتى المقتبل المبارك؟ جدد له البيعة فما أحدٌ يمتنع ممن وراء هذا الباب، ومن أبى لهذا سيفي. وبلغ الخبر عيسى بن موسى فقال: والله لئن ظفرت به لاشرب البارد. وبلغ الحسن بن قحطبة الخبر والمنصور، فدخل الحسن بن قحطبة على المنصور وعنده عيسى بن موسى فتمثل المنصور قول جرير: من الكامل
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامةٍ ما مربع
فتمثل الحسن بن قحطبة بقول جرير: من الوافر
إذا اجتمعوا علي فخل عنهم ... وعن بازٍ يصك حبا ريات
ومربع: رجلٌ من بني جعفر بن كلاب، كان يروي شعر جرير فنذر الفرزدق دمه، فقال جرير هذا الشعر فيه.
قدم هارون الكوفة فعزل شريكاً عن القضاء. وكان موسى بن عيسى والياً على الكوفة، فقال موسى لشريك: ما صنع أمير المؤمنين بأحدٍ ما صنع بك، عزلك عن القضاء، فقال له شريك: هم أمراء المؤمنين يعزلون القضاة، ويخلعون ولاة العهد ولا يعاب ذلك عليهم. قال موسى: ما ظننت أنه مجنون هكذا لا يبالي ما تكلم به. وكان أبوه عيسى بن موسى ولي العهد بعد أبي جعفر فخلعه بمالٍ أعطاه إياه.(20/157)
قال أبو بكر بن عياش:
رأيت الخطابية مروا بنا بالكناسة في أزر وأردية، محرمين بالحج وهم يقولون: لبيك جعفر، فخرج إليهم عيسى فانهزموا إلى موضع دار رزق فقتلهم، فقيل: يا أبا الخطاب! ألا ترى السلاح قد عمل فينا! قال: بدا لله أن يستشهدكم، وقد كان أبو الخطاب قال لهم: إن السلاح لا يعمل فيكم.
جاءت ارمأة يوماً إلى شريك من ولد جرير بن عبد الله البجلي، صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في مجلس الحكم فقالت: أنا بالله ثم بالقاضي، امرأة من ولد جرير بن عبد الله، فزادت في الكلام فقال: إيهاً عنك الآن، من ظلمك؟ قالت: الأمير عيسى بن موسى، كان لي بستان على شاطئ الفرات لي فيه نخلٌ ورثته عن آبائي، وقاسمت إخوتي وبنيت بيني وبينه حائطاً وجعلت فيه رجلاً فارسياً في بيت يحفظ لي النخل ويقوم بشأني، فاشترى الأمير عيسى بن موسى من إخوتي جميعاً وساومني وأرغبني فلم أبعه، فلما كان في هذه الليلة بعث بخمس مئة فاعل فاقتلعوا الحائط، فأصبحت لا أعرف من نخلى شيئاً، واختلط بنخل إخوتي. ثم قال: يا غلام، طينة فختم لها خاتماً ثم قال امضي به إلى بابه حتى يحضر معك. فجاءت المرأة بالطينة فأخذها الحاجب ودخل على عيسى فقال له: أعدي شريك عليك. قال: ادع لي صاحب الشرطة، فدعا به فقال: امض إلى شريك فقل له: يا سبحان الله! ما رأيت أعجب من أمرك! امرأة ادعت دعوى لم تصح أعديتها علي! فقال: إن رأى الأمير أن يعفيني فليفعل، فقال: امض ويلك! فخرج فأمر غلمانه أن يتقدموا إلى الحبس بفراش وغير ذلك من آلة الحبس، فلما جاء وقف بين يدي شريك فأدى الرسالة، فقال لحاجبه؛ خذ بيده فضعه في الحبس، قال: قد عرفت أنك تفعل بي هذا فقدمت ما يصلحني إلى الحبس.
وبلغ عيسى بن موسى ذلك فوجه بحاجبه إليه فقال: هذا من ذاك رسول، أي شيءٍ عليه؟ فلما أدى الرسالة ألحقه بصاحبه فحبس؛ فلما صلى الأمير العصر بعث إلى إسحاق بن(20/158)
الصباح الأشعثي، وإلى حماعةٍ من وجوه الكوفة من أصدقاء شريك فقال: امضوا إليه فأبلغوه السلام وأعلموه أنه قد استخف بي وأني لست كالعامة. فمضوا وهو جالس في مسجده بعد العصر، فدخلوا إليه فأبلغوه الرسالة، فلما انقضى كلامهم قال لهم: مالي لا أراكم جئتم في غيره من الناس؛ من ها هنا من فتيان الحي!؟ فابتدروه، فقال: ليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من هؤلاء فيذهب به إلى الحبس لا ينام والله إلا فيه. قالوا: أجاد أنت؟! قال: حقاً، حتى لا تعودوا تحملون رسالة ظالم. فحبسهم، فركب عيسى بن موسى في الليل إلى باب الحبس، ففتح الباب وأخذهم جميعاً، فلما كان الغد جلس شريك للقضاء فجاء السجان فأخبره، فدعا بالقمطر فختمها ووجه بها إلى منزله وقال لغلامه: الحقني بثقلي إلى بغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر منهم ولكن أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه إذا تقلدنا لهم.
ومضى نحو قنطرة الكوفة يريد بغداد، وبلغ عيسى بن موسى الخبر، فركب في موكبه فلحقه وجعل يناشده الله ويقول: يا أبا عبد الله! تثبت انظر، إخوانك تحبسهم! دع أعواني، قال: نعم لأنهم مشوا لك في أمرٍ لم يجب عليهم فيه، ولست ببارحٍ أو يردوا جميعاً إلى الحبس وإلا مضيت من فوري إلى أمير المؤمنين، فاستعفيته مما قلدني. فأمر بردهم جميعاً إلى الحبس وهو واقفٌ مكانه حتى جاءه السجان فقال: قد رجعوا إلى الحبس، فقال لأعوانه: خذوا بلجامه فردوه بين يدي إلى مجلس الحكم. فمروا به بين يديه حتى أدخل المسجد، وجلس مجلس القضاء ثم قال: الجريرية المتظلمة من هذا. فجاءت فقال: هذا خصمك قد حضر، فلما جلس معها بين يديه قال: يخرج أولئك من الحبس قبل كل شيء. ثم قال: ما تقول فيما تدعيه هذه؟ قال: صدقت. قال: ترد جميع ما أخذ منها إليها وتبني حائطها في أسرع وقت كما هدم. قال: أفعل. قال: بقي لك(20/159)
شيء؟ قال: تقول المرأة: نعم وبيت الفارسي ومتاعه. قال: وبيت الفارسي ومتاعه. فقال شريك: أبقي لك شيء تدعينه؟ قالت: لا، وجزاك الله خيراً. قال: قومي، وزيرها، ثم وثب من مجلسه، فأخذ بيد
عيسى بن موسى فأجلسه في مجلسه ثم قال: السلام عليك أيها الأمير، تأمر بشيء؟ قال: بأي شيء آمر! وضحك.
قال عيسى بن موسى لابن أبي ليلى وابن شبرمة: أسألكما عن الرجل فتخبراني عنه بخير، فإذا بلوناه واستعملناه لم نجده كذلك! قالا: لو سألت عنه أيها الأمير في ذلك الوقت غيرنا لأخبرك بمثل ما أخبرناك، ولكنها الدنيا تعرض لهم فيتغيرون. قال: صدقتما.
ولد لعيسى بن موسى ابنة، واغتم عليها وامتنع من الطعام، فبلغ ذلك بهلولاً، فجاء إلى الحجاب فسألهم الإذن عليه فأبوا، فقال بعضهم لبعض: دعوه لعله أن يكلم الأمير بكلامٍ يسليه، قال: فأذنوا له فدخل، فلما رآه الأمير عيسى بن موسى أطرق، قال: فقال له: بلغني أنك ولد ابنة فاغتمت، أيما خيرٌ لك ابنةٌ عاقلة أو ابنٌ مجنونٌ مثلي؟ قال: ابنةٌ عاقلة؛ قال: فسلا ودعا بالطعام ووهب له.
توفي عيسى بن موسى سنة سبعٍ وستين ومئة بالكوفة وأشهد الناس على وفاته روح بن حاتم - وهو واليها - القاضي وجماعةٌ، وصلى عليه وهو ابن خمسٍ وستين سنة.
وقيل: نات سنة ثمان وستين.
عيسى بن موسى
أبو محمد، ويقال أبو موسى أخو سليمان بن موسى القرشي من أهل دمشق.
حدث عن إسماعيل بن عبيد الله أن قيس بن الحارث المذحجي دخل هو والصنابحي على عبادة بن الصامت في مرضه(20/160)
الذي قبض فيه فقال عبادة حين نظر إلى الصنابحي: من سره أن ينظر إلى رجل كأنما صعد إلى السماء فهو يعمل بما رأى فلينظر إلى هذا. ثم قال: مرحباً بأبي عبد الله! والله لئن شفعت لأشفعن لك، ولئن استشهدت لأشهد لك، ولئن قدرت لأنفعنك. ثم قال: أقعدوني، فأقعد، ثم قال: أما إني سأحدثكم حديثاً عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو علمت أن أقوم من مضجعي هذا لم أحدثكموه - مع أنه قد كان يعمل - إني أحدثكم بحديث، فليحدث الحاضر منكم الغائب: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من مات لا يشرك بي شيئاً فقد حرم الله عليه النار.
عيسى بن موسى القرشي
دمشقي، غير المذكور آنفاً.
حدث عن عطاء الخراساني، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله جميلٌ يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده. الكبر من سفه الحق وغنص الناس.
عيسى بن يزيد
أبو عبد الرحمن الأنطرطوسي، الأعرج من أهل أنطرطوس، من مدينة من نواحي أطرابلس من ساحل دمشق.
حدث عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن سلمان الفارسي، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الصلاة كيل ووزن، فمن أوفى وفي له، ومن نقص فقد علمتم ما أنزل في المطففين.(20/161)
عيسى بن يونس بن أبي إسحاق
عمرو بن عبد الله أبو عمرون، ويقال أبو محمد السبيعي من الكوفة. سكن الشام وقدم دمشق.
حدث عن الأعمش، عن يزيد بن وهب، عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من لا يرحم الناس لا يرحمه الله.
وحدث عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبل الهدية ويثيب عليها.
وفي حديث آخر: ولا يأكل الصدقة.
وحدث عن الأوزاعي بسنده إلى أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا تنكح البكر حتى تستأذن، وإذنها الصموت؛ والثيب تصيب من أمرها ما لم تدع إلى سخطه، فإن دعت إلى سخطه وكان أولياؤها يدعون إلى الرضا رفع ذلك إلى السلطان.
وحدث عن أخيه عن الأعمش عن ابن وائل عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عودوا المريض، وأجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية، ولا تصرموا المسلمين.
وحدث عن هشام بن عروة، عن أخيه عبد الله بن عروة، عن عروة، عن عائشة قالت: جلس إحدى عشرة امرأة تعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً. فقالت الأولى: زوجي لحم جملٍ غث على رأس جبل، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى.
قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف أن لا أذره، إن أذكره اذكر عجره وبجره.(20/162)
قالت الثالثة: زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق.
قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سامة.
قالت الخامسة: زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد.
قالت السادسة: زوجي إن أكل لف، وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف، ليعلم البث.
قالت السابعة: زوجي عيا ياء - أو غيا ياء - طبا قاء، كل داءٍ له داء، سجك أو فلك أو جمع كلا لك.
قالت الثامنة: زوجي الريح ريح زرنب، والمس مس أرنب.
قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد.(20/163)
قالت العاشرة: زوجي مالك، فما مالك، مالكٌ خير من ذلك، له إبلٌ كثيرات المبارك، قليلات المسارح إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك.
قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع، فما أبو زرع، أناس من حلي أذني، وملأ من شحمٍ عضدي، وبجحني فبجحت إلى نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق، فجعلني في أهل صهيل وأطيط، ودائسٍ ومنق، فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمح. أم أبي زرع، فما أم أبي زرع؟ عكومها رداح، وبيتها فياح؛ ابن أبي زرع، فما ابن أبي زرع؟ مضجعة كمسل شطبةٍ، يشبعه ذراع الجفرة؛ بنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع؟ طوع أبيها وطوع أمها، وملء كسائها وغيظ جارتها؛ جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع؟ لا تبث حديثنا تبثيثا، ولا تنقث ميرتنا(20/164)
تنقيثا، ولا تملأ بيتنا تعشيشا. قالت: خرج أبو زرعٍ والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلاً سرياً، ركب شرياً، وأخذ خطيا، وأراح علي نعماً ثريا، وأعطاني من كل رائحةٍ زوجاً وقال: كلي أم زرع وميري أهلك فلو جمعت كل شيءٍ أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع.
قالت عائشة: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كنت لك كأبي زرعٍ لأم زرع.
توفي عيسى بن يونس بالحدث سنة إحدى وتسعين ومئة.
وقيل سنة إحدى وثمانين. وقيل توفي سنة ثمانٍ وثمانين ومئة وكان ثقة.
كان عيسى بن يونس سنة في الغزو وسنة في الحج، وكان قدم إلى بغداد في شيءٍ من أمر الحصون، فأمر له بمال، فأبى أن يقبل.
حدث محمد بن المنذر الكندي - وكان جاراً لعبد الله بن إدريس - قال: حج الرشيد ومعه الأمين والمأمون، فدخل الكوفة، فقال لأبي يوسف: قل للمحدثين يأتونا يحدثونا. فلم يتخلف عنه من شيوخ الكوفة إلا اثنان: عبد الله بن(20/165)
إدريس وعيسى بن يونس، فركب الأمين والمأمون إلى عبد الله بن إدريس فحدثهما بمئة حديث، فقال المأمون لعبد الله: يا عم! أتأذن لي أن أعيدها عليك من حفظي؟ قال: افعل، فأعادها كما سمعها، وكان أبو إدريس من أهل الحفظ يقول: لولا أني أخشى أن ينفلت مني القرآن ما دونت العلم، فعجب عبد الله بن إدريس من حفظ المأمون! وقال المأمون: يا عم، إلى جانب مسجدك دار، إن أذنت لنا اشترناها ووسعنا بها المسجد؟ فقال: ما بي إلى هذا حاجة، قد أجزأ من كان قبلي، وهو يجزيني. فنظر إلى قرحٍ في ذراع الشيخ فقال: إن معنا متطببين وأدوية، أفتأذن أن يجيئك من يعالجك؟ قال: لا، قد ظهر بي مثل هذا وبرأ. فأمر له بمالٍ جائزة، فأبى أن يقبله. وصار إلى عيسى بن يونس، فحدثهما، فأمر له المأمون بعشرة آلاف درهم، فأبى أن يقبلها، فظن أنه استقلها، فأمر له بعشرين ألفاً فقال عيسى: لا ولا إهليلجة، ولا شربة ماءٍ على حديث سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو ملأت لي هذا المسجد ذهباً إلى السقف! فانصرفنا من عنده.
قال جعفر بن يحيى بن خالد: ما رأينا في القراء مثل عيسى بن يونس! أرسلنا إليه فأتانا بالرقة، فاعتل قبل أن يرجع، فقلت له: يا أبا عمرو! قد أمر لك بعشرة آلاف، فقال: هيه فقلت: هي خمسون ألفاً، قال: لا حاجة لي فيها. فقلت: ولم؟ أما والله لأهنئنكها، هي والله مئة ألف. قال: لا والله، لا يتحدث أهل العلم أني أكلت للسنة ثمناً، ألا كان هذا قبل أن ترسلوا إلي! فأما على الحديث فلا ولا شربة ماء ولا إهليلجة.
قيل: إن عيسى بن يونس غزا خمساً وأربعين غزوة، وحج خمساً وأربعين حجة، وتوفي سنة سبعٍ وثمانين. وكان ثقةً، ثبتاً.(20/166)
عيلان بن زفر بن جبر
ابن مروان بن سيف بن يزيد بن شريح بن شقيق أبو الهذام المازني الفقيه، الشافعي، أخو محمد بن زفر عيلان: بالعين المهملة.
حدث عن أبي الحسن أحمد بن محمود بن مقاتل الهروي قال: سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول: رأيت في يومٍ واحد بأرض اليمن ثلاث أعجوبات، رأيت حجاماً أعمى مقعداً يعبر الرؤيا؛ ورأيت رجلاً مذبوحاً من قفاه من أذنه إلى أذنه وقد دووي وبرأ، وهو يجيء ويذهب ويذهب، ورأيت حبة تحمل على بعير.
شريح بن شقيق ممن على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وتوفي أبو الهيدام سنة ثمانٍ وعشرين وثلاث مئة.
عيينة بن عائشة بن عمرو
ابن الشري بن علاثة بن الحارث امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم ابن مر بن أد بن إلياس بن مضر بن نزار صحابي شهد غزوة مؤتة.
حدث عن خالد بن الوليد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحرب خدعة.(20/167)
أسماء النساء على حرف العين المهملة
عاتكة بنت عبد الله بن يزيد
ابن معاوية بن أبي سفيان وهي مولاة زجلة من فوق.
قال سعيد بن عبد العزيز: كانت عاتكة بنت عبد الله بن يزيد، فرآها لبست لبسة رجل، فطلقها.
قال الزبير بن بكار: رأت عاتكة في المنام قائلاً يقول: من الكامل
إن الشباب وعيشنا اللذ الذي ... كنا به زمناً نسر ونجذل
ذهبت بشاشته وأصبح ذكره ... حزناً يغل به القؤاد وينهل
قال: فأول الناس ذلك من رؤيا عاتكة زوال ملك بني أمية، فكان كما أؤلوا.(20/168)
عاتكة بنت يزيد بن معاوية
ابن أبي سفيان بن حرب بن أمية، أم البنين الأموية زوج عبد الملك بن مروان، وأم يزيد بن عبد الملك. وأمها أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر بن كريز. وإلى عاتكة تنسب أرض عاتكة، خارج باب الجابية، وكان لها بها قصر، وبها مات عبد الملك بن مروان.
لما أراد عبد الملك الخروج إلى مصعب بن الزبير ناشت به ارمأته عاتكة بنت يزيد وبكت، فبكى جواريها معها؛ فجلس ثم قال: قاتل الله ابن أبي جمعة حين يقول.
إذا ما أراد الغزو لم تثن همه ... حصان عليها نظك در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت فبكى مما عراها قطينها
ثم مضى.
قال محمد بن حبيب: كانت عاتكة بنت يزيد تضع خمارها بين يدي اثني عشر خليفةً كلهم لها محرم: أبوها يزيد بن معاوية، وأخوها معاوية بن يويد، وجدها معاوية بن أبي سفيان، وزوجها عبد الملك بن مروان، وأبو زوجها مروان بن الحكم، وابنها يزيد بن عبد الملك، وبنو زوجها الوليد وسليمان وهشام، وابن ابنها الويد بن يزيد، وابنا ابن زوجها يزيد بن الوليد، وابراهيم بن الوليد المخلوع.
قال عبد الملك بن مروان لعاتكة بنت يزيد: لو أشهدت بمالك لولدك، قالت: أدخل علي ثقةٌ من ثقات موالي حتى أشهدهم، فوجه إليها بعددٍ منهم، ووجه معهم روح بن زنباع، فأبلغها روح الرسالى فقالت: يا روح، بني في غنى عن مالي بأبيهم وموضعهم من الخلافة، ولكني أشهدكم أني قد أوقفت جميع مالي على آل أبي سفيان، فهم إلى ذلك أحوج لتغير حالهم. فخرج روح وقد تغير(20/169)
لونه، فقال له عبد الملك: ما لك؟ قال: وجهتني إلة معاوية جالس في أثوابه! وأخبره الخبر.
قال ابن جندب: استأذنت ابنة يزيد بن معاوية عبد الملك بن مروان في الحج، فأذن لها وقال: ارفعي حوائجك واستظهري، فإن عائشة بنت طلحة تحج، وإن أقمت كان أحب إلي، فأبت، فرفعت حوائجها وتهيأت، فجهزها، فلما كانت بين مكة والمدينة أقبل ركبٌ في جماعة فضعضعها وفرق جماعتها، فقالوا: عائشة بنت طلحة، فإذا ذلك مع جاريةٍ من جواريها، ثم جاء ركبٌ في موكبٍ مثله، فقال: ما شطتها، ثم جاء موكبٌ أظم من ذلك في ثلاث مئة راحلة، فقالت عاتكة: ما عند الله خيرٌ وأبقى.
قالوا: إن عاتكة بقيت حتى أدركت قتل ابن ابنها الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
عائشة بنت طلحة بن عبيد الله
ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعيد بن تيم بن مرة أم عمران التيميية، وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق امرأة جليلة تحدث الناس عنها بقدرها وأدبها، ووفدت على عبد الملك بن مروان وعلى هشام بن عبد الملك.
حدثت عن عائشة زوج النبي صلى الله عليى وسلم قالت: جاءت الأنصار بصبي لهم إلى النبي صلى الله عليى وسلم فقلت - أو قيل -: هنيئاً له يا رسول الله! لم يعمل شراٌ قط ولم يدركم، عصفورٌ من عصافير الجنة. قال: أو غير ذلك إن الله(20/170)
خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم.
لما وفدت عائشة بنت طلحة على عبد الملك وأرادت الحج حملها احشامها على ستين بغلاً من بغال الملوك، فقال عروة بن الزبير:
يا عيش يا ذات البغال الستين ... أكل عامٍ هكذا تحجين
تزوجها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ثم خلف عليها مصعب بن الزبير بن العوام فقتل عنها، فخلف عليها عمر بن عبيد الله بن معمر بن عثمان التيمي.
قال أنس بن مالك لعائشة بنت طلحة: والله ما رأيت أحسن منك إلا معاوية على منبر رسول الله صلى الله عليى وسلم. فقالت: والله لأنا أحسن من النار في عين المقرور في الليلة القارة.
قال أنس بن مالك: دخلت على عائشة بنت طلحة في حاجة، فقلت: إن القوم يريدون أن يدخلوا إليك فينظروا إلى حسنك، قالت: أفلا قلت لي فألبس ثيابي! من أحسن الناس في زمانها.
قال إسحاق بن طلحة دخلت على أم المؤمنين وعندها عائشة بنت طلحة وهي تقول لأمها أم كلثوم بنت أبي بكر: أنا خير منك، وأبي خير من أبيك. قال: فجعلت أمها تسبها وتقول: أنت خير مني! قال: فقالت عائشة زوج النبي صلى الله عليى وسلم: ألا أقضي بينكما؟ قالتا: بلى، قالت: فإن أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليى وسلم فقال له: يا أبا بكر! أنت عتيق الله من النار. فمن يومئذٍ سمي عتيقاً. قالت: ودخل طلحة بن عبيد الله عليه فقال: أنت يا طلحة ممن قضى نحبه.
حدثت عائشة بنت طلحة أنها كانت عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فدخل(20/171)
عليها زوجها هنالك وهو صائم، فقالت له عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتقبلها وتلاعبها؟ فقال: أقبلها وأنا صائم؟ فقالت: نعم.
قالت عائشة بنت طلحة: سافرت إلى مكة في العمرة، فلقيت عائشة أم المؤمنين فقالت لي: مالي أراك شعثة سيئة الهيئة! قالت: أسقطت سقطاً - أو ولدت ولداً - ولم أغتسل بعد. قالت: اغتسلي وادهني وتطيبي، فإنه قد حل لك كل شيء إلا زوجك.
حدث ابن عياش أن عائشة بنت طلحة كانت عند عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وكان أبا عذرتها، ثم هلك، فتزوجها مصعب بن الزبير فقتل عنها، فتزوجها عمر بن عبيد الله بن معمر حيث وجهه عبد الملك من الشام إلى أبي فديك، وأمره أن ينتخب من أهل الكوفة ستة آلاف ومن أهل البصرة ستة آلاف فبنى بها في الحيرة.
قال ابن عياش: فحدثني من شهد عرسه تلك الليلة أنه مهدت له فرش لم أر مثلها، سبعة أذرع في عرض أربعة أذرع. قال: فانصرف تلك الليلة عن سبع مراتٍ. قال: فلقيته مولاةٌ لها حيث أصبح فقالت له: أبا حفص فديتك كملت في كل شيءٍ حتى في هذا! فلما مات ناحت عليه قائمة ولم تنح على أحدٍ منهم قائمة غيره. وكانت العرب إذا ناحت المرأة على زوجها قائمة علموا أنها لا تتزوج بعده. فقيل لها: يا عائشة! والله ما صنعت هذا بأحدٍ من أزواجك! فقالت: إنه كان فيه خلالً ثلاث، لم تكن في واحدٍ منهم: كان سيد بني تيم، وكان أقرب القوم، وأردت أن لا أتزوج بعده أبداً. قال: فعلم أنها كانت تؤثره على غيره.
قال إسحاق: دخلت على عائشة بنت طلحة، وكانت لا تحتجب من الرجال، تجلس وتأذن كما يأذن الرجل، فلقد رأيتني دخلت عليها وهي متكئة، ولو أن بعيراً أنيخ وراءها مارئي.(20/172)
قال أبن إسحاق: فتزوجها مصعب بن الزبير على مئة ألف دينار. ثم تزوجها ابن عمها عمر بن عبيد الله، فأصدقها مئة ألف دينار.
حد الشعبي: دخلت المسجد باكراً فإذا أنا بمصعب بن الزبير على سرير جالساً والناس عنده، فجلست، وذهبت لأنصرف فقال: ادن، فدنوت فقال: إذا قمت فاتبعني، فجلست مليا، ثم نهض فتوجه نحو دار موسى بن طلحة، وتبعته، فلما طعن في الدار التفت إلي فقال: ادخل، ومضى نحو حجره، وتبعته، فالفت إلي فقال: ادخل، فدخلت فدخل صفته، فدخلت معه فإذا حجلة، وإنها لأول حجلةٍ رأيتها لأمير، فقمت ودخل الحجلة، فسمعت حركة، فكرهت الجلوس ولم يأمرني بالانصراف ولا الجلوس، فإذا جاريةً قد جاءت فقالت: يا شعبي؛ يأمرك الأمير أن تجلس، فجلست على وسادة، ورفع سجف الحجلة، فإذا أجمل الناس! فلم أر زوجاً قط أجمل منهما! مصعب وعائشة بنت طلحة، فقال: يا شعبي أتعرف هذه؟ قلت: نعم، هذه سيدة نساء العالمين عائشة بنت طلحة. قال: لا، ولكن هذه ليلى، ثم أنشأ يقول: من الطويل
وما زلت في ليلى لدن طرشاربي ... إلى اليوم أخفي حبها وأداجن
وأحمل في ليلى لقومٍ ضغينة ... وتحمل في ليلى علي الضغائن
إذا شئت يا شعبي، قال: فقمت، ثم رحنا إلى المسجد، فإذا مصعب جالس على سرير، فسلمت فقال: ادن، فدنوت، ثم قال: ادن، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه فأصغى إلى فقال: هل رأيت مثل ذلك الإنسان قط؟ قلت: لا والله، قال: أتدري لم أخلناك؟ قلت: لا، قال لتحدث بما رأيت. ثم التفت إلى عبد الله بن أبي(20/173)
فروة فقال: أعطه عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوباً. قال: فما انصرف أحد يومئذٍ بما انصرفت به، عشرة آلاف درهم ومثل كارة القصار ثياباً، ونظر إلى عائشة!.
وفي رواية: فقالت عائشة: ينصرف هكذا وقد رآني! فأمر لي بحق مليء وثياب.
وفي رواية: ثو قال: يا شعبي إنها اشتهت علي حديثك فحادثها، فخرج وتركها، فجعلت أنشدها وتنشدني، وأحدثها وتحدثني حتى أنشدتها قول قيس بن ذريح: من الطويل
ألا يا غراب البين قد طرت بالذي ... أحاذر من لبنى فهل أنت واقع
أتبكي على لبنى وأنت تركتها ... فقد هلكت لبنى فما أنت صانع
قال: فلقد رأيتها وفي يدها غراب تنتف ريشه، وتضربه بقضيبٍ وتقول له: يا مشؤوم!.
وجه مصعب بن الزبير إلى عزة المدينية - وكانت من أعقل النساء - فأتته فقال لها: يا عزة! قد عزمت على تزويج عائشة بنت طلحة، وأنا أحب أن تصيري إليها متأملة لخلقةٍ مؤدية لخبرها إلى. فقالت: يا جارية، علي بمنقلي، فلبسته ثم صارت إلى منزل عائشة، فلما دخلت عليها قالت عائشة: مرحباً بالحبيبة، كيف نشطت لنا؟ قالت: جئت في حاجة، قالت: إذاً تقضى، قالت: ارمي عنك جلبابك، قالت: إذاً أفعل، ففعلت، ثم قالت لها: أعوذك بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، الله جارك، ثم رجعت إلى مصعب فقال: ما الخبر يا عزة؟ قالت: رأيت وجهاً أحسن من العافية، ولها عينان نجلاوان، وإن هما مسكن هاروت وماروت، من تحت ذلك أنف أقنى، وخدان أسيلان وفم كفم الرمانة، وعنق كإبريق فضة، تحت ذلك صدر فيه حقا عاجٍ، تحت ذلك(20/174)
بطن أقب، ولها عجز كدعص الرمل، وفخذان كدعص الرمل، وفخذان لفاوان، وساقان رياوان، غير أني رأيت في رجليها كبراً، وهي تغيب عنك في وقت الحاجة.
فلما تزوجها مصعب ودخل بها دعت عائشة عزة ونسواناً من قريش، فلما أصبن من طعامها غنتهن ومصعب قائم في دهليز الدار: من المتقارب
وثغر أغر شتيت النبات ... لذيذ المقبل والمبتسم
وما ذقته غير ظني به ... وبالظن يحكم فينا الحكم
فقال مصعب وهو في الدهليز: بارك الله عليك يا عزة، لكنا والله ذقناه فوجدناه كما ذكرت.
كان مصعب بن الزبير - وهو على العراق - كذيراً ما يولع بقصيدة جميل بن معمر العذري، وبهذا البيت خاصة: من البسيط
ما أنس لا أنس منها نظرة سلفت ... بالحجر يوم جلتها أم منظور
فقال مصعب: أفلا تجلين عائشة بنت طلحة علي كما جليتها؟ قالت: هيهات! هي بين يديك في كل ساعة وفي كل وقت، قال: فإنها من أشكس خلق الله خلقاً، فتصلحين بيني وبينها، لقد بلغ من شكاستها أني بعثت إليها أترضاها وبعثت إليها بأربع مئة ألف درهم فردتها علي وشتمت الرسول. فدخلت عليها أم منظور ثم قالت: مثلك في شرفك وقدرك في نفسك، ينسب إليك هذا الخلق وهذا الفعال الذي لا يشبهك! تحوجين زوجك إلى هذا! فسكتت عائشة فلم ترد عليها؛ وقالت أم منظور لمصعب: قد كلمتها لك فسكتت، ورضاها صمتها. ودخل مصعب، فلما رأته أمرت بالباب فأغلق في وجهه، فكسر الباب ودخل، فتنازعا، فضربها وضربته، فأصلحت بينهما أم منظور، فقال مصعب لعائشة: هذه أربع مئة ألف قد حضرت، وإلى أيام يأتينا مثلها ندفعها إليك، فأمرت عائشة بدفع(20/175)
الأربع مئة ألف المعجلة إلى أم منظور.
قال ابن وداع الوراق: مر بلبل المجنون يوماً فجلس إلي ونظر في بعض الكتب التي كانت بين يديه فمر به أبيات فيها: من الطويل
ونهتجر الأيام ثم يردنا ... إلى الوصل أنا لم يكن بيننا ذحل
فقال لي: أتعرف من تمثل بهذا البيت في بعض الأمر؟ قلت: لا، قال: كانت عائشة بنت طلحة تحت مصعب بن الزبير، فعتبت عليه بسبب بعض جواريه فهجرته، فبلغ ذلك منه وانفتق عليه فتق بالبصرة فثار إليه، فرتقه ورجع، فقالت لها أم حبيبة امرأة أبي فروة: لو صرت إلى الأمير فأهديت إليه التهنئة بظفره لسره ذلك. فقامت نحوه، فلما رآها مصعب قال لها: مرحباً بالغضبان العاتب وأنشد:
ونهتجر الأيام ثم يردنا ... إلى الوصل أنا لم يكن بيننا ذحل
فقالت: والله لولا التهنئة لطال الإعراض. ثم أهوت إليه فعانقته فقال: معذرة من سهك الحديد، فقالت: أوذنب ذاك؟ لهو أطيب من ريح المسك. ثم قالت: أفلح الوجه وعلا العقب وليهنك الظفر! يا جواري أرخين الستور وانصرفن. فخلوا لشأنهما. قال ابن وداع: فكتبت هذا ولم ألبث أن مر بنا علام الطاهري، فأقبل علي فقال: من الطويل
بحق الهوى إن كنت ممن يحيه ... تحب غلام الطاهري المقرطقا(20/176)
فإن قلت لي لا كنت كالشاه خيبة ... وإن قلت إيهاً كنت عندي الموفقا
وقام يسرع السعي خلفه ثم نادى: الشاه بن ميكال الشاه بن ميكال! فأثبت البيتين، ولم أعرف آخر خبره.
كتب أبان بن سعيد إلى أخيه يحيى بن سعيد، يخطب عليه عائشة بنت طلحة، ففعل، فقالت ليحيى: ما أنزل أبان أيلة؟ قال: أراد رخص سعرها وأراد العزلة، فقالت: اكتب إليه عني: من الطويل
حللت محل الضب لا أنت ضائر ... عدواً ولا مستنفع بك نافع
عبدة بنت أحمد بن عطية العنسية
أخت أبي سليمان الداراني من المتعبدات.
قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: إني لأمرض، فأعرف الذنب الذي أمرض به، أصابني مرض لم أعرف له سبباً! قال: فدخلت علي أختي فقلت لها: دعوت الله أن يسلط علي المرض؟ قالت: نعم. قال: لو لم أجد إلا أن أعترض على الحمار لم أدع الحج. قال أحمد: فخرج إلى الحج.
زاد في آخر: فخرجت فما زلت عليلاً.(20/177)
قال أبو سليمان: وصفت لأختي عبدة قنطرةٌ من قناطر جهنم، فأقامت يوماً وليلةً في صحبة واحدة ما سكتت، ثم انقطع عنها بعد، فكلما ذكرت لها صاحت صيحةً واحدة ثم سكتت. قلت: من أي شيءٍ كان صياحها؟ قال مثلت نفسها على القنطرة وهي تكفأ بها.
عبدة بنت عبد الله بن يزيد
ابن معاوية بن أبي سفيان بن حرب، زوج هشام بن عبد الملك وعبدة هي المذبوحة، ذبحت أيام عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس. ولها يقول عمرو بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص حين أخذت أمها أم موسى بنت عمرو بن سعيد درع عبدة بنت عبد الله: من السريع
يا عبد لا تأسي على بعدها ... فالبعد خير لك من قربها
لا بارك الرحمن في عمتي ... ما أبعد الإيمان من قلبها
كانت عبدة بنت عبد الله عند هشام بن عبد الملك، وكانت من أجمل النساء، فدخل عليها يوماً وعليها ثيابٌ سودٌ رقاق، من هذه التي يلبسها النصارى يو عيدهم، فملأته سروراً حين نظر إليها، ثم تأملها فقطب، فقطبت فقالت: مالك يا أمير المؤمنين! أكرهت هذه؟ ألبس غيرها؟ قال: لا، ولكن رأيت هذه الشامة التي على كشحك من فوق الثياب، وبك تذبح النساء - وكانت بها شامةٌ في ذلك الموضع - أما إنهم سينزلونك عن بغلةٍ شهباء وردة - يعني بني العباس - ثم يذبحونك ذبحاً.
قوله: تذبح بك النساء. يعني إذا كانت دولةٌ لأهلك ذبحوا بك من نساء القوم الذين ذبحوك. فأخذها عبد الله بن علي بن عيد الله بن العباس، فكان معها من الجوهر مالا يدرى ما هو، ومعها درع يواقيت وجوهر منسوحٌ بالذهب، فأخذ ما كان معها وخلى سبيلها. فقالت في الظلمة: أي دابةٍ تحتي؟ قيل لها: لظلمة الليل - فقالت:(20/178)
نجوت. قال: فأقبلوا على عبد الله بن علي فقالوا: ما صنعت أدنى ما يكون، يبعث أبو جعفر إليها فتخبره بما أخذت منها فيأخذه منك، اقتلها. فبعث في إثرها وأضاء الصبح، فإذا إليها فتخبره بما أخذت منها فيأخذه منك، اقتلها. فبعث في إثرها وأضاء الصبح، فإذا تحتها بغلةً شهباء وردة؛ فلحقها الرسول فقالت: مه؟ قال: أمرنا بقتلك، قالت: هذا أهون علي. فنزلت فشدت درعها من تحت قدميها وكميها على أطراف أصابعها وخمارها، فما رئي من جسدها شيء. والذي لحقها مولى لآل العباس.
قال ابن عائشة: فرأيت من يدخل دورنا يطلب اليواقيت للمهدي ليتم به تلك الدرع التي أخذت منها. وإنما كانت بدناً تغطي المرأة إذا قعدت.
ولما دخلت البصرة الزنج دخلوا دار جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس فجاؤوا إلى بنته آمنة وهي عجوز كبيرة قد بلغت تسعين سنة، فلما رأتهم قالت: اذهبوا بي إليه، فإنه ابن خال جدتي أم الحسن بنت جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي. قالوا: بك أمرنا. فقتلوها.
قال أحمد بن إبراهيم: كانت عبدة ابنة عبد الله الأسوار بن يزيد بن معاوية عند يزيد بن عبد الملك، ثم خلف عليها هشام، وكانت من أحب الناس إليه، وكانت حولاء جميلةٌ، فقبض عليها عبد الله بن علي بحمص ودفعها إلى الكابلي وقال له: اذهب بها فاذبحها. فلما ضرب بيده إليها أنشأت تقول متمثلةً بشعر خال الفرزدق: من الوافر
إذا جر الزمان على أناسٍ ... كلاكله أناخ بآخرينا(20/179)
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
فقال لها: يا خبيثة! أتدرين لم أقتلك؟ قالت: لا، قال: إنما أقتلك بامرأة زيد بن علي. فذهب بها الكابلي فذبحها بخربةٍ بحمص. فيقال إن السفياني يخرج ثائراً بها.
قال أبو القاسم: هكذا أنشدنا هذين البيتين في هذا الخبر، والذي أنشده أبو بكر بن السراج عن المرد: من الوافر
فإن نغلب فغلابون قدماً ... وإن نغلب فغير مغلبينا
وما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
عتبة المدنية
كان لها في الغناء ذكر.
لما ولي الوليد بن يزيد الخلافة أمر بأن تخرج إليه فأخرجت، فلما قدمت دعا بها وجمع ندماءه والمغنيين، فلما رأت كثرة من حضر ممن يغني قالت: يا أمير المؤمنين! قد دعوت بي فاسمع ما عندي، فإن أعجبك فاصرف هؤلاء واستمتع بما سمعته مني، وإن لم يعجبك فاصرفني وأقبل عليهم. فقال لها: هاتي فقد أنصفت في القول فقالت: من الطويل
يقولون من طول اعتلالك بالقذى ... أجدك ما تلقى لعينيك شافيا
بلى إن بالجزع الذي ينبت الغضى ... لعيني لو لاقيته لمداويا
وأقبلن من أقصى الخيام يعدنني ... بقية ما أبقين نصلاً يمانيا
يعدن مريضاً هن هيجن داءه ... ألا إنما بعض العوائد دائيا(20/180)
تجمعن شتى من ثلاث وأربعٍ ... وواحدةٍ حتى كملن ثمانيا
فقال لها: أحسنت، ما نريد مزيداً عليك! وصرف المغنين واقتصر عليها يومئذ.
عريب المأمونية
قيل: إنها ابنة جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي. لما انتهت دولة البرامكة سرقت صغيرة وبيعت، واشتراها الأمين، ثم اشتراها المأمون. وكانت شاعرةٌ مجيدة، ومغنية محسنة. وقدمت دمشق مع المأمون.
قال حماد بن إسحاق: قال أبي: ما رأيت امرأة قط أحسن وجهاً وأدباً وغناء وصوتاً وشعراً ولعباً بالشطرنج والنرد من عريب! وما تشاء أن تجد خصلةٌ حسنة ظريفة بارعة في امرأة إلا وجدتها فيها.
قال علي بن يحيى المنجم: خرجت من حضرة المعتمد فصرت إلى عريب، فلما قربت من دارها أصابني مطر بل ثيابي فأمرت بأخذ ثيابي عني وأتتني بخلعةٍ فلبستها وأحضرنا الطعام فأكلنا، ودعت بالنبيذ، وأخرجت جواريها ثم سألتني عن خبر الخليفة في أمس ذلك اليوم وشربه، وأي شيءٍ كان صوته، وعلى من كان، فأخبرتها أن بناناً غناه: من مجزوء الوافر
وذي كلفٍ بكى جزعاً ... وسفر القوم منطلق
به قلقٌ يململه ... وكان وما به قلق(20/181)
جوارحه على خطرٍ ... بنار الشوق تحترق
جفون حشوها الأرق ... تجافى ثم تنطبق
فأمرت بإحضار بنانٍ فحضر، وقدم إليه طعام، فأكل وشرب، وأتي بعود، فلما شرب اقترحت عليه الصوت فغناه، فأخذت دواةٌ ودرجاً وكتبت من مجزوء الوافر
أجاب الوابل الغدق ... وصاح النرجس الغرق
فهات الكأس مترعةٌ ... كأن حبابها حدق
تكاد لنور بهجته ... حواشي الكأس تحترق
فقد غنى بنان لنا ... " جفون حشوها الأرق "
فعدل بنان بلحن الصوت إلى شعرها، وغنانا فيه بقية يومنا.
كتبت عريب إلى محمد بن حامد الذي كانت تحبه تستزيره، فكتب إليها: إني أخاف على نفسي من المأمون فكتبت إليه: من المتقارب
إذا كنت تحذر ما تحذر ... وتزعم أنك لاتجسر
فمالي أقيم على صبوتي ... ويوم لقائك لا يقدر
فكتب إليها محمد بن حامد يعاتبها على شيء بلغه عنها، فاعتذرت إليه فلم يقبل عذرها فكتبت إليه: من المتقارب
تبينت عذري فما تعذر ... وأبليت جسمي وما تشعر
ألفت السرور وخليتني ... ودمعي من العين ما يفتر
فقبل عذرها وصار إليها.
دخلت بعض جواري المتوكل على عريب فقالت لها: تعالي ويحك قبلي هذا الموضع مني، فإنك ستجدين ريح الجنة منه، وأومأت إلى سالفتها، ففعلت وقالت: ما السبب في هذا؟ فقالت: قبلني الساعة صالح المنذري في هذا الموضع.(20/182)
كان المعتصم يطرق عريباً كثيراً، فشغل أياماً عنها، وكانت تتعشق فتى، فأحضرته ذات يوم، وقعدت تسقيه وتشرب معه وتغنيه، إذ أقبل المعتصم، فأدخلته بعض المجالس، ووافى المعتصم فرأى من الآلة والزي ما أنكره! وقال لها: عريب! ما هذا؟ قالت: جفاني أمير المؤمنين هذه الأيام واشتد شوقي إليه، وعيل صبري فمثلت مجلس أمير المؤمنين إذا طرقني وأحضرت من الآلة ما كنت أحضره إذا زارني وأكرمني، ونصبت له شرابه بين يديه كما كنت أفعل، وجعلت شرابي بين يدي كأسي؛ فهذه حالي إلى أن دخل أمير المؤمنين، فصح فألي. فقعد المعتصم وشرب وفرح وسكر، فلما انصرف أخرجت الفتى، فما زالا في أمرهما إلى الصبح.
قال عبد الله بن المعتز: وقعت إلي رقاعٌ لعريب، مكاتبات منثورة ومنظومة، فقرأت رقعةٌ منها إلى المأمون وقد خرج إلى فم الصلح، لزفاف بوران: من السريع
انعم تخطتك صروف الردى ... بقرب بوران مدى الدهر
درة خدرٍ لم يزل نجمها ... بنجم مأمون العلا يجري
حتى استقر الملك في حجرها ... بورك في ذلك من حجر
يا سيدي لا تنس عهدي فما ... أطلب شيئاً غير ما تدري
قال عبد الله: فذكرت ذلك لعجوزٍ من جواري بوران، فعرفت القصة وقالت: إن المأمون قرأ الرقعة على بوران فقال: أفهمت معنى الزانية؟ قالت: نعم، فبالله يا سيدي إلا سررتني بالكتاب بحملها إليك. فحملت إليه.
لما توفى محمد بن حامد الذي كانت عريب تحبه صار جعفر بن حامد إلى منزله لينظر(20/183)
إلى تركته، فأخرج إليه سفط مختوم، وإذا فيه رقاع عريب، فجعل بتصفحها ويضحك فأخذت رقعةٌ فإذا فيها شعر لها: من المجتث
ويلي عليك ومنكا ... أوقعت في القلب شكا
زعمت أني خؤون ... جوراً علي وإفكا
ولم يكن ذاك مني ... إلا مجوناً وفتكا
إن كان ما قلت حقاً ... أو كنت حاولت تركا
فأبدل الله قلبي ... بفتكه الحب نسكا
دخلت عريب إلى المتوكل وقد نهض من علةٍ أصابته، وعاد إلى عاداته واصطحب، فغنت: من البسيط
شكراً لأنعم من عافاك من سقم ... كنت المعافى من الآلام والسقم
عادت بنورك للأيام بهجتها ... واهتز نبت رياض الجود والكرم
ما قام للدين بعد المصطفى ملكٌ ... أغف منك ولا أرعى على الذمم
فعمر الله فينا جعفراً ونفى ... بنور سنته عنا دحى الظلم
فطرب وشرب وأجلسها إلى جنبه، ولم تزل تغنيه إياه ويشرب عليه حتى سكر.
ودخلت عليه قبل نهوضه من العلة والحمى تعتاده، فقال لها: أنت مشغولةٌ عني بالقصف وأنا عليل! فقالت هذا الشعر: من الطويل
أتوني فقالوا بالخليفة علةٌ ... فقلت ونار الشوق توقد في صدري
ألا ليت بي حمى الخليفة جعفرٍ ... فكانت بي الحمى وكان له أجري
كفى حزناً أن قيل حم فلم أمت ... من الحزن إني بعد هذا لذو صبر
جعلت فداءٌ للخليفة جعفرٍ ... وذاك قليلٌ للخليفة من شكر(20/184)
فلما عوفي قالت: من الطويل
حمدنا الذي عافى الخليفة جعفراً ... على رغم أشايخ الصلالة والمفر
وما كان إلا مثل بدرٍ أصابه ... كوفٌ قليلٌ ثم أجلى عن البدر
سلامته للدين عز وقوةٌ ... وعلته للدين قاصمة الظهر
مرضت فأمرضت البرية كلها ... وأظلمت الأبصار من شدة الذعر
فلما استبان الناس منك إفاقةٌ ... أفاقوا وكانوا كالقيام على الجمر
سلامة جنيانا سلامة جعفرٍ ... فدام معافى سالماُ آخر الدهر
إمام يعم الناس بالعدل والتقى ... قريباً من التقوى بعيداً من الوزر
كانت عريب تعشق صالحاً المنذري، وتزوجته سراً، فوجه به المتوكل في حاجةٍ له إلى مكانٍ بعيد، فعملت فيه شعراً وصاغته لحناً وهو: من مجزوء الكامل
أما الحبيب فقد مضى ... بالرغم مني لا الرضا
أخطأت في تركي لمن ... لم ألق منه عوضا
لبعده عن ناظري ... صرت بعيشي غرضا
وغنته بين يدي المتوكل، فاستعاده مراراً وجواريه يتغامزون ويضحكن، ففطنت، فأصغت إليهن سراً من المتوكل وقالت: يا سحاقات! هذا خيرٌ من عملكن.
مرضت قبيحة فقال المتوكل لعريب: قولي في علة قبيحة شيئاً، وغني فيه، وليكن قولك الشعر على لساني يذكر ولعي بها. فقالت: من البسيط
بثت قبيحة في قلبي لها حرقا ... وبدلت مقلتي من نومها أرقا
ما ذاك إلا لشكواها فقد عطفت ... قلبي على كل شاكٍ بعدها شفقا
كأنها زهرةٌ بيضاءٌ قد ذبلت ... أو نرجسٌ مس مسكاً طيباً عبقا
إني لأرحم من حبي لها سلمت ... من كل حادثةٍ يا قوم من عشقا(20/185)
وغنت فيه، فاستحسنه المتوكل وأمر أن تدخل إلى قبيحة فتنشدها الشعر وتغنيها به، فقالت لها قبيحة: فأجيبيه عني، فقالت: من البسيط
يا سيدي أنت حقاً سمتني الأرقا ... وأنت علمت قلبي الوجد والحرقا
لولاك لم أتالم علة أبداً ... لكن على كبدي أسرفت فاحترقا
إذا شكوت إليه الوجد كذبني ... وإن شكا قال قلبي خيفةً صدقا
وخرجت إليه فأنشدته الشعر وغنت فيه.
ولها في المستعين أشعار كثيرة.
ولدت عريب سنة إحدى وثمانين ومئة، وتوفيت سنة سبعٍ وسبعين ومئتين بسر من رأى ولها ست وتسعون سنة.
عزة بنت حميل بن حفص
ويقال بنت حميد بن وقاص بن إياس بن عبد العزى بن حاجب بن غفار وفي نسبها اختلاف أم عمرو الضمرية، صاحبة كثير وفدت على عبد الملك.
وحميل: بضم الحاء المحملة وفتح الميم.
دخلت عزة على عبد الملك بن مروان - وهو لا يعرفها - ترفع مظلمة لها، فلما سمع كلامها تعجب منه! فقال له بعض جلسائه: هذه عزة كثير، فقال عبد الملك: إن أردت أن أرد عليك مظلمتك فأنشديني ما قال فيك كثير، فاستحيت وقالت: والله ما أعرف كثيراً، لكني سمعتهم يحكون عنه أنه قال في: من الطويل(20/186)
قضى كل ذي دينٍ علمت غريمه ... وعزة ممطولٌ معنى غريمها
فقال عبد الملك: ليس عن هذا أسألك، ولكن أنشديني من قوله: من الطويل
وقد زعمت أني تغيرت بعدها ... ومن ذا الذي ياعز لا يتغير
تغير جسمي والخليفة كالذي ... عهدت ولم يخبر بسرك مخبر
قالت: قد سمعت هذا ولكني سمعت الناس يحكون عنه أنه قال في: من الطويل
كأني أنادي صخرة حين أعرضت ... من الصم لو تمشي بها العصم زلت
صفوحٌ فما تلقاك إلا ملولة ... فمن مل منها ذلك الوصل ملت
فقضى حاجتها ورد مظمتها وقال: ادخلوها على الجواري يأخذن من أدبها.
وعن أن البنين ابنة عياض بن الحسن الأسلمية قالت: سارت علينا عزة في جماعةٍ من قومها فنزلت على بئر ابن يربوع الجهنية، فسمعنا بها فاجتمع جماعةٌ من نساء الحاضر أنا فيهن، فجئناها فرأينا امرأة حميراء حلوة لطيفة، فتضاءلنها، ومعنا نسوةٌ كلهن لهن الفضل عليها في الجمال والخلق إلى أن تحدثت عزة، فإذا هي أبرع الخلق وأحلاه حديثاً! فما فارقناها إلا ولها الفضل في أعيننا، وما نرى أن امرأة تفوقها حسناً وجمالاً وحلاوة.
قال أبو عبيدة: دخل كثير على عبد الملك بن مروان، وكان كثير دميماً، فلما نظر إليه عبد الملك قال: تسمع بالمعيدي لا أن تراه. فقال كثير: من الوافر(20/187)
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وتحت ثيابه أسدٌ يزيز
ويعجبك الطرير فتختبره ... فيخلف ظنك الرجل الطرير
وما عظم الرجال لها بزين ... ولكن زينها كرم وخير
فقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير
يصرفه الصبي بكل وجه ... ويحمله على الخسف الجرير
شرار الأسد أكثرها زئيراً ... وخبرتها اللواتي لا تزيز
بغاث الطير أكثرها فراخاً ... ولأم الصقر مقلاةٌ نزور
فقال له عبد الملك: إن كنا أسأنا لك اللقاء فلسنا نسيء لك الثواب، فاذكر حاجتك، فقال: تزوجني عزة. فأحضر أهلها وأمرهم بتزويجه إياها، فقالوا: هذه امرأة بالغ، فعرض عليها التزويج به، فقالت: بعد ما شهرني في العرب وشبب بي فأكثر ذكري، ما إلى هذا سبيل. فقال فإذ أبيت هذا وكرهته فاكشفي وجهك. فثقل ذلك عليها، ثم فعلت ومضت مكشوفة الوجه إلى بعض حجر عبد الملك، فدخلت الحجرة ونظرت إلى كثير مغضبة، فقال بعض من حضرها جنت جنت. فأنشأ كثير يقول: من الطويل
أصاب الردى من كان لك الردى ... وجن اللواتي قلن عزة جنت
فهن لأولى بالجنون وبالخنا ... وبالسيئات ماحيين وحيت
ولما رأت من حولها نقص الحيا ... رمتني بباقي وصلها ثم ولت
فصدت كذات البو تتبع سقرها ... فلما قضت يأساً من البر حنت(20/188)
أسيئي بنا أو أحسني لا ملولةٌ ... لدينا ولا مقلية إن تقلت
فحلفت أن لا تكلم كثيراً سنةٌ، فلما انصرفت من الحج بصرت بكثير وهو على جمله يخفق نعاساً، فضربت رجله بيدها وقالت: كيف أنت ياجمل؟ فأنشأ كثير يقول: من البسيط
حيتك عزة يوم البين وانصرفت ... فحي ويحك من حياك ياجمل
لو كنت حييتها مازلت ذا مقةٍ ... عندي وما مسك الإدلاج والعمل
ليت التحية كانت لي فأبدلها ... مكان ياجملٌ حييت يا رجل
فحن من جزعٍ إذ قلت ذاك له ... ورام تكليمها لو تنطق الإبل
دخلت عزة أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز فقالت لها: يا عزة ما قول كثير: من الطويل
قضى كل ذي دينٍ علمت غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها
ما كان هذا الدين؟ قالت: كنت وعدته ثم إني خرجت منها، فقالت: أنجزيها له وعلي إثمها.
أرادت عزة أن تعرف ما لها عند كثير، فتنكرت له ومرت به متعرضة، فاتبعها وكلمها فقالت له: فأين حبك عزة؟ فقال: أنا الفداء لك لو أن عزة أمةً لي لوهبتها لك، قالت: ويحك! لاتفعل، فقد بلغني أنها لك في صدق المودة ومحض المحبة على حسب الذي كنت تبدي لها من ذلك. وبعد فأين قولك: من الطويل
إذا وصلتنا خلة كي تزيلنا ... أبينا وقلنا الحاجبية أول(20/189)
فقال كثير: بأبي أنت، أقصري عن ذكرها واسمعي ما أقول. ثم قال: من البسيط
هل وصل عزة إلا وصل غانيةٍ ... في وصل غانيةٍ من وصلها بدل
قالت: فهل لك في المجالسة؟ فقال: كيف لي بذلك؟ فقالت: فكيف بما قلت في عزة وسيرته لها؟ فقال: أقلبه فيتحول إليك ويصير لك. قال: فسفرت عن وجهها وقالت: أغدراً وتنكاثاً يافاسق! وإنك لهاهنا يا عدو الله؟ قال: فبهت وأبلس ولم ينطلق، وتحير وخجل. ثم إنها عرفت أمرها ونكثه وغدره بها، وأعلمته سوء فعاله وقلة حفاظه، ونقضه العهد والميثاق ثم قالت: قاتل الله جميلاً حيث يقول: من الطويل
لحا الله من لاينفع الود عنده ... ومن حبله إن صد غير متين
ومن هو ذو وجهن ليس بدائمٍ ... على العهد حلافٌ بكل يمين
فأنشأ كثير يقول بانخزالٍ وحصرٍ وانكسار يعتذر إليها ويتنصل متمثلاً بقول جميل - ويقال بل سرقه من جميل ونحله إلى نفسه فقال: من الطويل
ألا ليتني قبل الذي قلت شيب لي ... من المذعف القاضي وسم الذرارح
فمت ولم تعلم علي خيانةٌ ... ألا رب باغي الربح ليس برابح
فلا تحمليها واجعليها جنايةٌ ... تروحت منها في مياحة مائح
أبوء بذنبي إنني قد ظلمتها ... وإني بباقي سرها غير بائح
قال الزبير بن بكار: بينما كثير ينشد الناس وقد حشدوا له إذ مرت به عزة ومعها زوجها، فقال لها زوجها: والله لتسبنه أو لأسوءنك، فقربت منه تسبه فأنشأ يقول: من الطويل
يكلفها الخنزير سبي وما بها ... هواني ولكن للمليك استذلت
هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ ... لعزة من أعراضنا ما استحلت(20/190)
فما أنا بالداعي لعزة بالجوى ... ولا شامتٍ إن نعل عزة زلت
أصاب الردى من كان يهوى لك الردى ... وجن اللواتي قلن عزة جنت
بلغ كثيراً أن عزة مريضةً بمصر وأنها تشتاقه، فخرج يريدها، فلما صار ببعض الطريق إذا غراب بانةٍ ينتف ريشه، فتطير من ذلك، فبينا هو يسير لقي رجلاً عائفاً زاجراً، فأخبره بما صد له وما رأى في طريقه فقال له: لقد ماتت هذه المرأة أو استبدلت بديلاً. فقدم مصر فوجد الناس منصرفين من جنازتها فأنشأ يقول:
فما أعيف النهدي لا در درة ... وأعلمه بالزجر لا عز ناصره
رأيت غراباً واقعاً بين بانةٍ ... ينتف أعلى ريشه ويطايره
فأما غرابٌفاغترابٌ من النوى ... وبانٌ فبينٌ من حبيبٍ تعاشره
عفراء بنت عقال بن مهاصر العذرية
صاحبة عروة بن حزام بن مهاصر وابنة عمه قدمت الشام ونزلت البلقاء، وكانت بنواحي بصرى، وهي شاعرة.
مر ركب بوادي القرى يريدون البلقاء، فوجدوا جنازةٌ، فسألوا: من الميت؟ فقالوا: عروة بن حزام، فقال بعضهم لبعض: لنأتين عفراء بما يسوؤها. فساروا حتى مروا بمنزلها ليلاً، فصاح صائح بأعلى صوته: من الطويل
ألا أيها القصر المغفل أهله ... إليكم نعينا عروةً بن حزام
فسمعت عفراء الصوت ففهمته ونادت بهم: من الطويل(20/191)
ألا أيها الركب المخبون ويحكم ... أحقاً نعيتم عروة بن حزام
فقال بعضهم:
نعم قد دفناه بارضٍ بعيدةٍ ... مقيم بها في سبسبٍ وإكام
فقالت:
فإن كان حقاً ما تقولون فاعلموا ... بأن قد نعيتم بدر كل ظلام
نعيتم فتى يسقى الغمام بوجهه ... إذا هي أمست غير ذات غمام
فلا نفع الفتيان بعدك لذةٌ ... ولا مالقوا من صحةٍ وسلام
ولا لبس الطيقان بعدك لابسٌ ... ولا جممت بعد الحبيب جمام
وقل للحبالى لا يرجين غائباً ... ولا فرحاتٍ بعده بغلام
ثم أقبلت على زوجها فقالت: يا هناه! إنه قد كان من أمر ذلك الرجل ما بلغك، والله ما كان إلا على الحسن الجميل، وقد بلغني أنه مات قبل أن يصل إلى أهله، فإن رأيت أن تأذن لي فأخرج في نسوةٍ من قومه فنندبه ونبكي عليه فعلت. فإذن لها، فخرجت تنوح بهذه الأبيات حتى ماتت.
وعن ابن أبي الزناد قال: قال عمر بن الخطاب: لو أدركت عفراء وعروة جمعت بينهما.
قال معاذ بن يحيى الصنعاني: خرجت من مكة إلى صنعاء، فلما كان بيننا وبين صنعاء خمس مراحل رأيت الناس ينزلون عن محاملهم ويركبون دوابهم، فقلت: أين تريدون؟ قالوا: نريد أن ننظر إلى قبر عفراء وعروة، فنزلت عن محملي وركبت حماري واتصلت بهم، فانتهيت إلى(20/192)
قبرين متلاصقين، قد خرج من هذا القبر ساق شجرة، ومن هذا القبر ساق شجرة، حتى إذا صارا على قامةٍ التفا، فكان الناس يقولون تآلفا في الحياة وفي الموت.
قال إسحاق: فقلت لمعاذ: أترى أي ضربٍ هو من الشجرة؟ فقال: لا أدري، ولقد سألت أهل القرية عنه فقالوا لا تعرف هذا الشجر ببلادنا.
عمارة أخت الغريض
كانت عمارة من أحسن الناس وجهاً وغناءً. واشتراها عبد الله بن جعفر من العبلات مولياتها، وكتمها من زوجته، وكان يجد بها وجداً شديداً، ثم أهداها إلى يزيد بن معاوية.
وفيها يقول بعض فتيان المدينة: من الخفيف
لو تمنيت فانتهيت لكانت ... غاية النفس في المنى عماره
بأبي وجهك الجميل الذي يز ... داد حسناً وبهجة ونضاره
وكان عبد الله بن جعفر اشتراها بثلاثين ألف درهم، ووقعت منه أحسن موقع، ثم وفد إلى معاوية ومعه سائب خاثر وغيره، فلما ورد عليه سر به وأنس بمكانه؛ وكان يسمر معه، فبينا معاوية ليلة خرج من بعض دور حرمه إذ سمع غناءٌ من نحو دار يزيد ابنه، فسعى نحوه حتى قرب منه، فإذا سائب خاثر يغنيه: من الرمل
بينما ينعتني أبصرنني ... دون قيد الميل يعدو بي الأغر
قالت الكبرى أتعرفن الفتى ... قالت الوسطى نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتها ... قد عرفناه وهل يخفى القمر
فما فرغ من الصوت حتى طرب معاوية فضرب برجله الأرض وبعث إلى ابن جعفر(20/193)
فأحضره فقال له: يا هذا ما جلبت علي بوفادتك بغلمانك المغنين؟! ثم دخل إلى يزيد، فلما رآه غلمانه أسرعوا إليه فأعلموه فتناوم، ومضى معاوية، فلما كان الغد بعث إلى يزيد أن مكان القوم لم يخف علي عندك، فلا تعاودن ذلك. فلم يعاود ومضى إلى عبد الله بن جعفر ليلةٌ، فسأله إخراجهم إليه، ففعل وغنوه، وخرجت عمارة فغنته، فشعف بها، وهم بطلبها منه، ثم أمسك خوفاً من أبيه، وكراهية أن يرده ابن جعفر، ولم تزل في نفسه حتى ولي الخلافة، فوفد إليه سائب خاثر فأقام عنده أياماً؛ ثم ذكر له يزيد أمرها وما في نفسه منها فقال له: إن عبد الله من قد علمت، وهو بعيد المرام، ولست أقدم عليه، ولا مثلي يجسر على مخاطبته في مثل هذا، ولكن عليك ببديح، فدعا به وأبثه سره، وسأله السعي له في ذلك، فلما قدم عليه عبد الله بن جعفر صار إليه بديح فقال له: إنك قد جنيت على نفسك جناية أنت فيها بين حالين: من مفارقة لذةٍ لك وحالٍ تؤثؤها، أو سقوط الجاه وخيبة الوفادة، وعداوة الخليفة. قال له: ويحك! وفيم ذلك؟ فأخبره بالقصة. فقال له: أخرجت أحسن الناس وجهاً وغناءً، إلى شابٌ مترف غزل فهويها، وذهبت بعقله كل مذهب، فكتم ما يلقى خوفاً من أبيه طول هذه المدة! فاختر الجارية أو رأيه؛ قال: فما الرأي عندك؟ قال: الرأي عندي أن تدعني أمضي إليه فأخبره أني قد أشرت عليه أن تهديها له، كأنك لم تعلم بذات نفسه، وتبعث بها إليه ابتداء فيكون ذلك أجمل من ن تجشمه مسألة وشكوى بث، وتتسلى عنها، فإن لك من الجواري عوضاً، فقال ابن جعفر: لا والله مالي منها عوض، وإن فراقها لفراق السرور ما بقيت، ولكن أفعل. فدخل بديح إلى يزيد مبادراً وبشره بالقصة. فلما كان الليل بعث ابن جعفر بها إليه وقد زينها وحلاها وبعث بها مع قيمة جواريه، وأمرها أن تقول له: هذه الجارية كنت ملكتها، وهي رضى لك، ورأيت أن أوثرك بها، فبارك الله لك زسرك. فلما وصلت إليه عظم قدرك ابن جعفر عنده ووهب لبديح ألفي دينار، وقضى حوائج ابن جعفر لوفادته وزاده مئة ألف درهم.(20/194)
عمرة بنت النعمان بن بشير
ابن سعد الأنصارية امرأة شاعرةٌ.
كان الحارث بن خالد خطب في مقدمه دمشق عمرة بنت النعمان الأنصارية فقالت: من المتقارب
كهول دمشق وشبانها ... أحب إلي من الجالية
لهم ذفر كصنان التيو ... س أعيا على المسك والغالية
فقال الحارث: من الخفيف
ساكنات العقيق أشهى إلى النف ... س من السكانات دور دمشق
يتضوعن إن تطيبن بالمس ... ك صناناً كأنه ريح مرق
ورواهما بعض علماء قريش للمهاجر بن خالد وقال:
لنساء من الحجون إلى الحث ... مة في مقعرات ليلٍ وشؤق
الحجون: مقبرة أهل مكة وجاه بيت أبي موسى. والحثمة: صخرات مشرفات في ربع عمر بن الخطاب. وقيل: إن هذا الشعر لأختها حميدة بنت النعمان. وقيل: إنه لأمها ليلى بنت هانئ بن الأسود الكندية. وتزوجها المختار بن أبي عبيد الثقفي، وهي التي قتلها مصعب بن الزبير.(20/195)
قال صالح بن الوجيه: كانت عند المختار امرأتان: إحداهما أم ثابت بنت سمرة بن جندب، والأخرى عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاري فعرضهما مصعبٌ على البراءة من المختار، فأما بنت سمرة فبرئت منه فخلاها، وأما الأنصارية فقتلها.
وكان مصعب بعث إليهما فقال لهما: ما تقولان في المختار؟ فقالت أم ثابت: ما عسيب أن أقول فيه إلا ما تقولون فيه أنت، فقالوا لها: اذهبي. وأما عمرة فقالت: رحمة الله عليه إن كان عبداً من عباد الله الصالحين. فرفعها مصعبٌ إلى السجن وكتب فيها إلى عبد الله بن الزبير، إنها تزعم أنه نبي. فكتب إليه: أن أخرجها فاقتلها. فأخرجها بين الحيرة والكوفة بعد العتمة، فضربها مطر ثلاث ضرباتٍ بالسيف - ومطر تابع لآل فهر من بني عبد الله بن ثعلبة، كان يكون مع الشرط - فقالت: يا أبتاه! يا أهلاه! يا عشيرتاه! فسمع به بعض الأنصار وهو أبان بن النعمان بن بشير، فأتاه فلطمه فقال: يا بن الزانيات! قدعت نفسها قطع الله يمينك. فلزمه فتى رفعه إلى مصعب، فقال: إن أمي مسلمة، وادعى شهادة بني ثعل فلم يشهد له أحد. فقال مصعب: خلوا سبيل الفتي فإنه رأى أمراً فظيعاً. فقال عمر بن أبي ربيعة القرشي في قتل مصعب عمرة بنت النعمان بن بشير: من الخفيف
إن من أعجب العجائب عندي ... قتل بيضاء حرةٍ عطبول
قتلت هكذا على غير جرمٍ ... إن لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول(20/196)
حدث محمد بن يوسف أن مصعباً لقي عبد الله بن عمر، فسلم عليه فقال له: أنا ابن أخيك مصعب، فقال له ابن عمر: أنت القاتل سبعة آلافٍ من أهل القبلة في غداةٍ واحدة! عش ما استطعت. فقال مصعب: إنهم كانوا كفرةٌ سحرة، فقال ابن عمر: والله لو قتلت عدتهم غنماً من تراث أبيك لكان ذلك سرفاً. فقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت في ذلك: من الطويل
أتى راكبٌ بالأمر ذي النبأ العجب ... بقتل ابنة النعمان ذي الدين والحسب
بقتل فتاةٍ ذات ذل ستيرةٍ ... مهذبة الأخلاق والخيم والنسب
مطهرة من نسل قرمٍ مطهر ... من المؤثرين الخير في سالف الحقب
خليل النبي المصطفى ونصيره ... وصاحبه في الحرب والنكب والكرب
أتاني بأن الملحدين توافقوا ... على قتلها لا جنبوا القتل والسلب
فلا هنأت آل الزبير معيشةً ... وذاقوا لباس الذل والخوف والحرب
كأنهم إذ أبرزوها وقطعت ... بأسيافهم فازوا بمملكة العرب
ألم يعجب الأقوام من قتل حرةٍ ... من المحصنات الدين محمودة الأدب
من الغافلات المؤمنات بريئةٍ ... من الذم والبهتان والشك والكذب
قتلت بنت النعمان سنة سبع وستين. وقيل: إن مصعباً قتلها بغير أمر أخيه، فكتب إليه يعنفه على ذلك.
أسماء الرجال على(20/197)
حرف الغين المعجمة
غازي بن لحسن بن أحمد
أبو الفضل الحارثي حدث عن أبي القاسم عبد الله بن محمد الخراساني بسنده إلى سبرة قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام حجة الوداع عن المتعة.
عبد الله بن محمد هو تمام بن محمد الرازي دلسه علي بن محمد الحنائي وأخطأ في نسبته إلى خراسان، فإن الري ليست من خراسان.
الغاز بن ربيعة بن عمرو
ابن عوف الجرشي ثم الحميري حدث عن أبيه ربيعة قال: قال يوماً لأهل دمشق: يا أهل دمشق ليكونن فيكم الخسف والقذف والمسخ. قالوا: ما يقول ربيعة؟ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يكون في أمتي الخسف والمسخ والقذف. قالوا: فيم يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: باتخازهم القينات، وشربهم.
زاد في رواية: وشربهم الخمور.
غازي بن محمد
أبو الحسن الوشاء حدث بدمشق إملاء عن سعيد بن عبد العزيز بن مروان الحلبي بسنده إلى أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول الله عز وجل: إن كنتم تحبون رحمتي فارحموا خلقي.(20/198)
غالب بن أحمد بن المسلم
أبو نصر الأذمي المصبح كان خيراً صحيح الاعتقاد مواظباً على صلاة الجماعة.
حدث عن أبي الفضل بن الفرات بسنده إلى عمرو قال: خطب علي فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعهد في الإمارة شيئاً، ولكنه رأي رأيناه، استخلف أبو بكر فقام واستقام، ثم قام عمر فقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه؛ ثم إن قوماً طلبوا الدنيا، يعفو الله عمن يشاء ويعذب من يشاء.
توفي غالب سنة سبع وأربعين وخمس مئة بدمشق.
غالب بن شعوذ
ويقال: ابن عبد الله بن شعوذ الأزدي من دمشق، يقال مولى قريش.
حدث عن أبي هريرة قال: شيعنا أبا هريرة من دمشق إلى الكسوة، فلما أردنا فراقه قال: إن لكل جائزةً وفائدة، وإني أوصيكم بما أوصاني به خليلي أبو القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بصيام ثلاثة أيامٍ من كل شهر، وسبحة الضحى في الحضر والسفر، وأن لا أنام إلا على وتر.
غالب بن غزوان الثقفي
من دمشق.
حدث عن صدقة بن يزيد الخراساني، عمن حدثه قال: لما أتى ذو القرنين العراق استنكر قلبه! فبعث إلى تراب الشام، فأتى به، فجلس عليه، فرجع إليه ما كان يعرف من نفسه.(20/199)
غرير بن علي أو القاسم البغدادي
حكى عن جحظة قال: سلمت على بعض الرؤساء - وكان مبخلاً - فلما أردت الانصراف قال: ياأبا الحسن أيش تقول في قطائف بائتة - ولم يكن له بذلك عادة - فقلت ما آبي ذلك، فأحضرني جاماً فيه قطائف قد خمت، فأوجعت فيها وصادفت مني مسغبة، وهو ينظر إلي شزراً، فقال لي: يا أبا الحسن إن القطائف إذا كان بجوز أتخمتك، وإذا كانت بلوز أبشمتك. قلت: هذا إذا كانت قطائف، وأما إذا كانت مصوصاً فلا. وعملت من وقتي أبياتاً: من الطويل
دعاني صديقلٌ لي لأكل قطائفٍ ... فأمعنت فيها آمناً غير خائف
فقال وقد أوجعت بالأكل قلبه ... ترفق قليلاً فهي إحدى المتالف
فقلت له ما إن سمعت بميتٍ ... يناح عليه يا قتيل القطائف
غزوان
اجتاز بدمشق.
حدث أنه نزل بتبوك وهو حاج، فإذا رجلٌ مقعد، فسأله عن أمره فقال: سأحدثك حديثاً فلا تحدث به ما سمعت أني حي: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل بنبوك إلى نخلة فقال: هذه قبلتنا. ثم صلى إليها، فأقبلت وأنا غلامٌ أسعى حتى صرت بينه وبينها فقال: قطع صلاتنا قطع الله أثره. قال: فما قمت عليها إلى يومي هذا.(20/200)
غضبان بن القبعثري
دخل الغضبان على الحجاج بن يوسف - وكان من علماء العرب - فجالسه وحادثه، فنظر إليه الحجاج مبتسماً فقال له: من الطويل
سموك غضباناً وسنك ضاحك ... لقد غلطوا إذ لم يسموك ضاحكاً
فقال: أصلح الله الأمير، كان لي جد يسمى الغضبان فسميت باسمه، وليس كل اسم يشاكل صاحبه. ولو كانت الأسماء تقسم على الأحساب إذاً ما نالت الأنذال منها شيئاً، فهل ترى اسمي تشاكل لحسبي؟ فقال الحجاج: أخبرني عن أمهات الأولاد؟ فقال هن بمنزل الأضلاع إن سويته انكسر، وإن تركته انتفعت بهن. وفيهن جوهر لا يصلح إلا على المداراة، فمن داراهن انتفع بهن، وقرت عينه، ومن ماراهن كدرن عيشه ونغصن عليه حياته. قال: فأخبرني عن العاقل والجاهل؟ قال: العاقل الذي لا يتكلم هدراً، ولا ينظر شزراً، ولا يضمر غدراً؛ والجاهل المهذار في كلامه، الضنين بسلامه، التائه على غلامه، المجتهد في أقسامه، المتكلم في طعامه، قال: فمن أكرم الناس؟ قال: أعطاهم للمئين، وأطعمهم للسمين. قال: فمن ألأم الناس؟ قال: المعطي على الهوان، المعين على الإخوان، البذول للأيمان، المنان على الإحسان.
بعث الحجاج بن يوسف الغضبان بن البعثري ليأتيه بخبر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وهو بكرمان، وبعث عليه عيناً وكان كذلك يفعل فلما انتهى الغضبان إلى عبد الرحمن قال له: ما وراءك؟ قال: شر، تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك. فانصرف الغضبان فنزل رملة كرمان، وهي أرض شديدة الرمضاء، فبينا هو كذلك إذ ورد عليه أعرابي من بني بكر بن وائل على فرسٍ يقود ناقة، فقال: السلام عليك، قال الغضبان: السلام كثير وهي كلمةٌ مقولة. قال الأعرابي: ما اسمك؟ قال: آخذ، قال: أفتعطني؟ قال: لاأحب أن يكون لي اسمان. قال: فمن أين أقبلت؟ قال: من الذلول، قال: وأين تريد؟ قال أمشي في مناكبها، قال: من عرض اليوم؟ قال: المتقون، قال: فمن سبق؟(20/201)
قال: الفائزون، قال: فمن غلب؟ قال: حزب الله، قال: فمن حزب الله؟ قال: هم الغالبون، قال: فعجب الأعرابي من منطقه، وقال له: أتقرض؟ قال: إنما تقرض الفأرة، قال: أفتسمع؟ قال: إنما تسمع القينة، قال: أفتنشد؟ قال: إنما تنشد الضالة، قال: أفتقول؟ قال: إنما يقول المرء، قال: أفتكلم؟ قال: كل متكلم، قال: أفتنطق؟ قال: إنما ينطق كلام الله، قال: أفتسمع؟ قال: حدثني أسمع، قال: أفتسجع؟ قال: إنما تسجع الحمامة، قال الأعرابي: تالله ما رأيت كاليوم قط، قال: بلى ولكنك نسيت، قال الأعرابي: فكيف أقول؟ قال: لاأدري، قال الأعرابي: فكيف ترى فرسي هذا؟ قال الغضبان: هو خيرٌ من آخر شر منه، وآخر خيرٌ منه أفره منه، قال الأعرابي: إني قد علمت ذاك، قال: لو علمت لم تسألني، قال: إنك لمنكر، قال الغضبان: إنك لمعروف، قال: ليس ذاك أريد، قال: فما تريد؟ قال: أردت إنك لعاقل، قال: أفتعقل بعيرك هذا؟ قال الأعرابي: أفتأذن لي فأدخل عليك؟ قال الغضبان: وراءك أوسع لك، قال الأعرابي: قد أحرقتني الشمس، قال: الساعة يفيء عليك الفيء، قال الأعرابي: م الرمضاء قد آذتني، قال: بل على قدميك، قال: قد أوجعتني الحر، قال الغضبان: مالي عليه سلطان، قال الأعرابي: إني لا أريد طعامك ولا شرابك، قال: لاتعرض بهما فوالله لا تذوقهما، قال الأعرابي: سبحان الله! قال: من قبل أن تطلع رأسك، قال الأعرابي: أما عندك إلا ما أرى؟ قال: بلى هرواتان أضرب بهما رأسك، قال الأعرابي: الله! قال: ما ظلمك أحد. فلما رأى ذلك الأعرابي قال: إني لأظنك مجنوناً، قال الغضبان: اللهم اجعلني ممن يرغب إليك، قال إني لأظنك حروريا، قال: اللهم اجعلني ممن يتحرى الخير. ثم قال له الغضبان: أهذا بعيرك يا أعرابي؟ قال: نعم فما شأنه؟ قال: أرى فيه داء، فهل أنت بائعه ومشترٍ ما هو شر منه؟ فولى الأعرابي وهو يقول: والله إنك لبذخ أحمق.
فلما قدم الضبان على الحجاج قال: كيف تركت أرض كرمان؟ قال: أصلح الله(20/202)
الأمير، ماؤها وشل، وتمرها دقل، ولصها بطل، والجيش فيها ضعاف، إن كثروا بها جاعوا. وإن قلوا بها ضاعوا، فقال له الحجاج: أما إنك صاحب الكلمة التي بلغتني عنك حين قلت: تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك! قال الغضبان: أما إنها تنفع من قيلت له، ولم تضر من قيلت فيه، قال الحجاج: اذهبوا به إلى السجن. فلما ذهب به مكث فيه، حتى إذا بنى الحجاج خضراء واسط أعجبته مالم يعجبه بناء قط، فقال لمن حوله: كيف ترون قبتي هذه؟ قالوا: أصلح اله الأمير، مابنى ملك قط مثلها، ولا نعلم للعرب مأثرة أفضل منها، قال الحجاج: أما إن لها عيباً، وسأبعث إلى من يخبرني به. فبعث إلى الغضبان، فأقبل يرسف في قيده، فلما دخل عليه سلم، فقال الحجاج: كيف ترى قبتي هذه؟ فقال: بنيت في غير بلدك، لغير ولك، لا يسكنها وارثك، ولا يدوم لك بقاؤها، كما لم يدم هالكٌ. ولم يبق فانٍ. وأما هي فكأن لم تكن. قال: صجقت، ردوه إلى السجن فإنه صاحب الكلمة التي بلغتني عنه، قال: أصلح الله الأمير، ماضرب من قيلت فيه ولا نفعت من قيلت له، قال: أتارك تنجو مني؟ لأقطعن يديك ورجليك ولأكوين عينيك، قال: ما يخاف وعيدك البريء، ولا ينقطع منك رجاء المسيء، قال: لأقتلنك إن شاء الله، قال: بغير نس؟ والعفو أقرب للقتوى. قال له الحجاج: إنك لسمين! قال: لمكان القيد والرتعة ومن يكن جاز الأمير يسمن. قال الحجاج: ردوه إلى السجن. قال: أصلح الله الأمير قد أثقني الحديد، فما أطيق المشي، قال: احملوه لعنه الله! فلما حملته الرجال على عواتقها قال: " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " قال: جروه أخزاه اله! فقال: " بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم " فقال الحجاج: ويحكم ارتكوه، فقد غلبني بحجته.(20/203)
أمر الحجاج بإحضار الغضبان، وقال الحجاج: زعموا أنه لم يكذب قط، واليوم يكذب. فلما دخل عليه قال: قد سمنت يا غضبان! قال: أصلح الله الأمير، القيد والرتعة، والخفض والدغة، وقلة التعتعة، ومن يكن ضيف الأمير يسمن، قال: أتحبني يا غذبان؟ قال: أصلح الله الأمير، أو فرقٌ خيرٌ من محبتي! قال: لأحملنك على الأدهم، قال: مثل الأمير حمل على الأدهم والكميت والأشقر، قال: إنه حديد، قال: لأن يكون حديداً خيرٌ من أن يكون بليداً.
غضور ويقال غضور بن عتيق
الكلبي الناجي من بني ناجية.
حدث عن مكحول أن أبا الدرداء قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ياعويمر يا أبا الدرداء، كيف بك إذا قيل لك يوم القيامة: علمت أم جهلت؟ فإن قلت علمت قيل لك: فماذا عملت فيما تعلمت، وإن قلت جهلت قيل لك: فماذا عذرك فيما جهلت، ألا تعلمت.
الغضور بن عتيق: بالضم.
وذكر عن الغضور قال: سمعت مكحولاً يحدث عن عمر، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: احضروا موتاكم بخير.(20/204)
غضيف بن الحارث بن زنيم
أبو أسماء اسكوني اليماني، ويقال الثمالي، ويقال الكندي مختلفٌ في صحبته أدرك زمان سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدم دمشق.
قال غضيف: كنت صبياً أرمي نخل الأنصار، فأتوا بي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمسح برأسي فقال: كل ما يسقط ولا ترمي نخلهم.
وعن غضيف أو الحارث بن غضيف السكوني قال: ما نسيت من الأشياء فإني لم أنس أني رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واضعاً يده اليمنى على اليسرى في الصلاة.
وعن غضيف بن الحارث أنه مر بعمر بن الخطاب قال: نعم الفتى غضيف. فلقيت أبا ذر بعد ذلك فقال: أي أخي استغفر لي، قال: أنت صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنت أحق أن تستغفر لي، قال: إني سمعت عمر يقول: نعم الفتى غضيف. وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله ضرب الحق على سان عمر وقلبه.
وفي رواية: وضع الحق على لسان عمر يقول به.
وفي حديثٍ مختصر أن الله جعل السكينة على لسان عمر وقلبه يقول بهما.
قال عبد الله بن أبي قيس:
خرجت مع غضيف بن الحارث نريد بيت المقدس، فلما أتينا دمشق قال غضيف: لو انطلقنا إلى أبي الدرداء فسلمنا عليه. قال فأتيناه فسلمنا عليه فقال لغضيف: أين تريد؟ قال: بيت المقدس، قال أبو الدرداء: هذا مسجد فصل فيه، فقال: إني قد تجهزت وحملت عيالي، فقال أبو الدرداء: إن كنت لا بد فاعلاً فلا تزد على صلاة يومٍ وليلة، والق(20/205)
أبا ذر فقل له: إن أحاك أبا الدرداء يقول لك: اتق الله وخف الناس، قال: فلما أتينا بيت المقدس ألفينا أبا ذر قائماً يصلي، وإذا قيامه قريبٌ من رطوعه، وركوعه قريبٌ من سجوده. قال فجلسنا، فلما فرغ من صلاته سلمنا عليه وقلنا له: إن أخاك أبا الدرداء يقرئك السلام ويقول لك: اتق الله وخف الناس، فقال: يرحم الله أبا الدرداء، إن كنا قد سمعنا فقد سمع، وإن كنا قد جالسنا فقد جاس، وما علم أني بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن لا أخاف في الله لومة لائم.
وعن غضيف بن الحارث قال: لقد كساني أبي ثوبين بأربعة دراهم، فلقد رأيتني لمن أكسى أبناء الصحابة ثوباً.
كان خالد بن يزيد إذا غاب أو مرض أمر غضيف بن الحارث أن يصلي للناس فإذا سمع به الجند حضروا، فهي جمعة ليست بخرساء يسمع أقصى أهل المسجد موعظته يقول: أيها الناس! هل تدرون أي رهان رهانكم؟ ألا إنها ليست برهان الذهب والفضة، ولو كانت ذهباً وفضةٌ لأحبتم أن لا تعلق بلذاتها رقابكم، قال الله عز وجل: " كل نفسٍ بما كسبت رهينة " أنتم أناسٌ سفر، من جاءته دوابه ارتحل، غير أن الإياب في ذلك إلى الله.
بعث عبد الملك بن مروان إلى غضيف بن الحارث فقال: يا أبا أسماء، إنا قد جمعنا الناس على أمرين، قال: وما هما؟ قار رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر، قال: أما إنهما أمثل بدعتكم عندي، ولست مجيبك إلى شيءٍ منهما، قال: ولم؟ قال: لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما أحدث قوم بدعةٌ إلا رفع مثلها من السنة. فتمسك بسنة خيرٌ من إحداث بدعة.(20/206)
قال أسد بن وداعة: لما حضر غضيف بن الحارث الموت - زاد في رواية: حين اشتد سوقه - حضر إخوته، فقال: هل فيكم من يقرأ سورة " يس " فقال رجلٌ من القوم: نعم، فقال: اقرأورتل، وأنصتوا. فقرأ ورتل وأسمع القوم، فلما بلغ " فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيءٍ وإليه ترجعون " فخرجت نفسه. قال أسد بن وداعة: فمن حضره منكم الموت فشدد عليه الموت، فليقرأ " يس " فإنه يخفف عليه الموت.
غمر بن يزيد بن عبد الملك
ابن مروان الأموي أحد الأجواد الممدحين من بني أمية. وهو غمر بفتح الغين المعجمة.
وعن ابن أبي فروة قال: كنت أسير مع الغمر بن يزيد، فاستنشدني فأنشدته لعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة: من الكامل
ودع لبابة قبل أن تتحلا ... فاسأل فإن قليله أن تسألا
قال ائتمر ما شئت غير مخالفٍ ... فيما هويت فإننا لن نعجلا
لسنا نبالي حين تقضي حاجةٌ ... من يأت أوطان المطي مغفلا
نجزي أيادي كنت تبذلها لنا ... حق علينا واجبٌ أن يفعلا
فامكث لعمرك ليلة وتأنها ... فعسى الذي بخلت به أن تبذلا(20/207)
حتى إذا ما الليل جن ظلامه ... ونطرت غفلة كاشحٍ أن يغفلا
واستكح النوم الذين تخافهم ... ورمى الكرى بوابهم فاستبذلا
خرجت تأطر في الثياب كأنها ... أيم يسيب على كثيب أهيلا
رحبت لما أقبلت فتهللت ... لتحيتي لما رأتني مقبلا
فجلا القناع سحابة مشهورة ... غراء تعشي الطرف أن يتأملا
فظللت أرقيها بما لو عاقلٌ ... يرقى به ما اسطاع أن يتزيلا
تدنو فأطمع ثم تمنع بذلها ... نفس أبت للجود أن تتبخلا
فأمر غلامه فحملني على بغلةٍ كانت تحته، فلما أردت الانصراف أراد الغلام أن يأخذ مني البغلة فقلت: لا أعطيكما، هو أشرف من أن يحملني عليها ثم ينزعه مني، فقال لغلامه: دعه يا بني، ذهبت لبابه ببغلة مولاك.
قتل عبد الله بن عبد الله بن عباس الغمر بن يزيد سنة اثنتين وثلاثين ومئة بنهر أبي فطرس.
غنائم بن أحمد بن الخضر
أبو القاسم الطائي حدث عن عبيد بن إبراهيم المهندس بسنده إلى عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أن أبا بكر الصديق دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى، تلعبان وتضربان بدفين، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثوبه، فانتهرها أبو بكر فكشف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن وجهه فقال: دعها يا أبا بكر، فإنها أيام عيد.(20/208)
غنائم بن أحمد بن عبيد الله
أبو القاسم الخياط المعروف ببنان حدث عن أبي محمد بن أبي نصر بسنده إلى عائشة قالت: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نبيذ الجر.
قال غنائم: شبك بيدي أبو محمد بن أبي نصر، وذكر تشبيك شيوخه إلى أبي هريرة قال: شبك بيدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خلق الله آدم يوم الجمعة، والأرض يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، وامكروه يوم الثثاء، والنور يوم الأربعاء، والبحار يوم الخميس.
غنائم بن أحمد بن مسلم بن الخضر
أبو السرايا السلمي المعروف بابن أبي الوبر حدث غنائم بن أحمد سنة إحدى وثمانين وأربع مئة عن أبي الحسن رشأ بن نظيف بسنده إلى عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو: اللهم إني أعوذ بك من شر فتنة الغنى ومن شر فتنة الفقر.
وفي رواية أخرى أنها قالت: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، ومن فتنة النار، أعوذ بك من عذاب القبر ومن قتنة القبر، وأعوذ بك من المسيح الدجال، ومن الكسل والهرم والمأثم والمغرم، ومن شر فتنة الغنى والفقر، اللهم اغسلني من الخطايا بماء الثلج والبرد، اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب.
توفي أبو السرايا سنة ثلاثٍ وثمانين وأربع مئة. وكان شيخاً ديناً، كثير الصلاة بالليل والنهار، ضرير البصر. ولد سنة إحدى وأربع مئة.(20/209)
غوث بن أحمد بن حبان
أبو عمرو الطائي العكاوي حدث عن إبراهيم بن معاوية القيسراني، عن سفيان، عن أبي هارون قال: كنا إذا أتينا أبا سعيدٍ الخدري قال: مرحباً بوصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال لنا: الناس لكم تبع، وسيأتيكم أقوامٌ من أقطار الأرض بتفقهون، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً.
غوث بن سليمان بن زياد
ابن ربيعة بن نعيم بن ربيعة بن عمرو أبو يحيى الحضرمي الصوراني قاضي مصر. قدم دمشق مع صالح بن علي غازياً.
حدث غوث بن سليمان بن زياد عن أبيه قال: دخلنا على عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي في يوم جمعة، فدعا بطست فقال لجاريته: استري بيني وبين القوم. فبال فيها وتوضأ ثم قال: إني لم أجد منتحى إلا منتحى إلى القبلة، وسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يبولن أحدكم وهو مستقبل القبلة.
ولي القضاء ثلاث مرات، ولم يكن بالفقيه، لكنه كان أعلم الناس بمعاني القضاء وسياسته. وكان هيوباً.
قال أبو رجاء: قدمت ارمأة من الريف في محفة، وغوث قاضي مصر، فوافت غوث بن سليمان عند السراجين رائحاً إلى المسجد، فشكت إليه أمرها وأخبرته بحاجتها، فنزل عن رابته في بعض حوانيت السراحين، ولم يبلغ المسجد، وكتب لها بحاجتها وركب إلى المسجد، فانصرفت المرأة وهي تقول: أصابت امك حين سمتك غوثاً، أنت غوثٌ عند اسمك!.(20/210)
قال غوث بن سليمان:
بعث إلي أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور، فحملت إليه فقال لي: يا غوث إن صاخبتكم الحميرية خاصمتني إليك في شروطها، قلت: أفيرضى أمير المؤمنين أن يحكمني عليه؟ قال: نعم، قلت: فالحكم له شروط، فيحملها أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قلت: يأمرها أمير المؤمنين فتوكل وكيلاً وتشهد على وكالته خادمين حرين يعدلهما أمير المؤمنين على نفسه. ففعل، فوكلت خادماً وبعثت معه بكتاب صداقها، وشهد الخادمان على توكيلها، فقلت له: تمت الوكالة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يساوي الخصم في مجلسه فليفعل، فانحط عن فرشه وجلس مع الخصم، ودفع إلي الوكيل كتاب الصداق، فقرأته عليه، فقلت: أيقر أمير المؤمنين بما فيه؟ قال: نعم، قلت أرى في الكتاب شروطاً مؤكدة بها تم الناح بيتكما، أرأيت يا أمير المؤمنين لو أنك خطبت إليها ولم تشترط لها هذا الشرط أكانت تزوجك؟ قال: لا، قلت فبهذا الشرط تم النكاح، وأنت أحق من وفى لها بشرطها، قال: قد علمت إذ أجلستني هذا المجلس أنك ستحكم علي، قلت: أعظم جائزتي وأطلق سبيلي يا أمير المؤمنين، قال: بل جائزتك على من قضيت له، وأمر لي بجائزة وخلعة، وأمرني أن أحكم بين أهل الكوفة، فقلت: يا أمير المؤمنين! ليس البلد بلدي ولا معرفة لي بأهله، قال: لا بد من ذلك، قلت: يا أمير المؤمنين فأنا أحكم بينهم، فإذا أنا ناديت: من له حاجةٌ بخصومة، ولم يأت أحد تأذن لي بالرجوع إلى بلدي؟ قال: نعم. قال غوث: فجلست فحكمت بينهم، ثم انقطع الخصوم فناديت بالخصوم، فلم يأت أحد؛ فرحلت من وقتي إلى مصر.
وفي رواية: فقال لي أبو جعفر: أقم هاهنا، فقلت: البلد ليس بلدي وليس لي معرفةٌ بأهله، فإن رأيت أن تعفيني، فأعفاني.
توفي غوث بن سليمان سنة ثمانٍ وستين ومئة.
غياث بن جميل
أبو الخضر المقبري قال غياث: حفرت في مقابر باب توما وأنا سبي - وكان من أبناء ثمانين سنة أو دونها - قال: فلما وصلت إلى اللحد رأيت مثل النطع، فكشفت فإذا فخذ(20/211)
عظيمة! فهالني ما رأيت - وكنت أحفر بين يدي شيخٍ مقبري مسن، وكان أطروشاً - فقلت له: ما هذا؟ وأوقفته على الحال، فقال: يا بني هذا من الصحابة ممن كان مع خالد بن الوليد لأن كان لباسهم الفراء. وكان الحفر من نحو القبلة من المقابر، عند السور في باب توما.
غياث بن غوث
ويقال: ابن غويث بن الصلت بن طارقة بن سيحان - وأطار في نسبه. أبو مالك التغلبي النصراني، المعروف بالأخطل الشاعر قدم دمشق غير مرة على غير واحدٍ من الخلفاء.
خطله قول كعب بن جعيل لع: إنك لأخطل يا غلام، وقيل: سمي لخطل لسانه، وقيل: لطول أذنيه، وقيل: سمي الأخطل ببيتٍ قاله. ويلقب دوبل بن حمار، ويعرف بذي الصليب.
قال أبو الحسين بن فارس: الدوبل: حمارٌ صغير، مجتمع الخلق، وبه لقب الأخطل.
وكان مقدماً عند خلفاء بني أمية وولاتهم، لمدحه لهم ولانقطاعه إليهم، ومدح يزيد بن معاوية في أيام أبيه، وهجا الأنصار بسببه؛ وعمر عمرأً طويلاً.
وكان أبو عمرو بن العلاء وينس النحوي يقدمانه على جرير والفرزدق في الشعر؛ واحتج له يونس في ذلك بجماعةٍ من علماء أهل البصرة؛ وكان حماد الراوية يقدمه أيضاً عليهما.
وقيل: إن الأخطل لما ترعض لكعب بن جعيل الشاعر أقبل إليه فقال أبو الأخطل لكعب: إنه غلامٌ خطل. فسمى لذلك الأخطل.
قال إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل: خرجت مع أبي إلى الشام، فخرجت إلى دمشق أنظر إلى بنائها، فإذا كنيسة، وإذا الأخطل في ناحيتها، فلما رآني أنكرني، فسأل عني فأخبر، فقال: يا فتى! إن لك موضعاً(20/212)
وشرفاً. وإن الأشقف قد حبسني، فأنا أحب أن تأتيه وتكلمه في إطلاقي. قال: قلت نعم، فذهبت إلى الأسقف، فانتسبت له وكلمته وطلبت إليه تخليته، فقال: مهلاً أعيذك بالله أن تكلم في مثل هذا. فإن لك موضعاً وشرفاً! وهذا ظالمٌ يشتم أعراض الناس فيهجوهم. فلم أزل به حتى قام معي فدخل عليه الكنيسة، فجعل يوعده ويرفع عليه العصا والأخطل يتضرع إليه وهو يقول له: أتعود؟ أتعود؟ فيقول: لا. قال إسحاق: فقلت له: يا أبا مالك تهابك الملوك ويكرمك الخلفاء، وذكرك في الناس! وعظم أمره، فقال: إنه الدين إنه الدين.
أنشد الأخطل قصيدته التي يقول فيها: من الكامل
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال
فقال له هشام بن عبد الملك: هنيئاً لك أبا مالك الإسلام - أو قال: أسلمت - قال: ما زلت مسلماً - يقول: في ديني.
وقال لعبد الملك: من البسيط
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا
مثل الناس بينه وبين بيت جرير: من الوافر
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وقال الأخطل في قصيدة: من البسيط
حشدٌ على الحق عن قول الخنا خرسٌ ... وإن ألمت بهم مكروهةٌ صيروا
بني أمية إني ناصحٌ لكم ... فلا يبيتن فيكم آمناً زفر(20/213)
فإن مشهده كفرٌ وغائلةٌ ... وما تغيب من أخلاقه دعر
إن العداوة تلقاها وإن قدمت ... كالغر يكمن أحياناً وينتشر
بني أمية قد ناضلت دونكم ... أبناء قومٍ آووا وهم نصروا
أفحمت عنكم بني النجار قد علمت ... عليا معد وكانوا طالما هذروا
وقيس عيلان حتى أقبلوا رقصاً ... فما بغوك جهاراً بعد ما كفروا
ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم ... وقيس غيلان من أخلاقها الضجر
قال عبد الملك بن مروان للخطل: من أشعر الناس؟ قال: أنا، ثم المغدف القناع القبيح السماع، الضيق الذراع. يعني القطامي.
قال أبو عمر بن العلاء: قلت لجرير: أخبرني ما عندكم في الشعراء؟ قال: أما أنا فمدينة الشعر، والفرزدق يروم مني مالا ينال، وابن النصرانية أرمانا للفرائص وأمدحنا للملوك وأقلنا اجتزاء بالقليل، وأوضفنا للخمر والحمر - قال أبو عمرو: والحمر النساء البيض، والحمرة عند العرب البياض - فقلت: ذو الرمة؟ قال: ليس بشيء، أبعار ظباء ونقط عروس.
قال: وقيل للفرزدق: من أشعر الناس؟ فقال: كفاك بي إذا افتخرت؛ وبابن المراغة إذا هجا، وبابن النصرانية إذا امتدح.
قال بعض الرواة: ذهب كثير بالنسيب، وذهب جريرٌ بالهجاء، وذهب الأخطل بالمديح، وذهب الفرزدق بالفخار.(20/214)
قال الشعبي: كان الأخطل ينشد عبد الملك شعره، فأنشده عروضه من أشعار العرب، فغممته ولا أشعر، فجلس لي يوماً على باب عبد الملك، فلما مررت قام إلي فقال: يا هذا إني آخذ من وعاءٍ واحد، وإنك تأخذ من أوعية شتى. قال: فكففت عنه.
وفي رواية قال له: يا شعبي! ارفق بي فإنك تغرف من آنية شتى وأنا أغرف من إناء واحد.
كتب عبد الملك إلى الحجاج أنه لم تبق علي لذةٌ من لذات الدنيا إلا وقد بلغتها، إلا محادثة الرجال، فوجه إلى بعامر الشعبي مكرماً. فأمره الحجاج بالتجهز، ثم خرج. فقال: قدمت على أمير المؤمنين فوافيت بابه، فلقيت حرسياً فقلت له: استأذن لي على أمير المؤمنين، فقال الحرسي: من تكون؟ قال: قلت عامر الشعبي، فدخل وما أبطأ حتى خرج فقال: ادخل، فدخلت فإذا عبد الملك في صحن الدار على الكرسي، في يده خيزرانة وبين يديه شيخٌ جالسٌ لا أعرفه، فسلمت فرد علي وقال: كيف حالك؟ قلت: بخير، ثم أومي إلي فجلست، ثم أقبل على الشيخ فقال: ويحك! من أشعر الناس؟ قال: الذي بينك وبين الحائط. قال الشعبي: فأظلم علي ما بين السماء والأرض! قت: من هذا يا أمير المؤمنين؟! أشعر منه شاب كان عندنا قصير الباع يقول: من البسيط
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
والناس من يلق خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
فقال عبد الملك: أحسن والله! من يقوله؟ قلت: القطامي، قال: لله أبوه! وإذا الشيخ الأخطل قال: يا شعبي إن لك فنوناً تفتن فيها، وإنما لي فن واحد وهو الشعر، فإن رأيت(20/215)
أن لا تعترض علي فيه، ولا تكلفني أن أحمل قومك على كاهل، وأجعلهم عرضاً للعرب فافعل. قال الشعبي: قلت لا أعود لك في مساءة. ثم أقبل عليه عبد الملك فقال: ويلك! من أشعر الناس؟ فقال: قد أعلمتك مرة. فوالله ما صبرت أن قلت: أشعر منه يا أمير المؤمنين الذي قدمه عمر؛ خرج عمر يوماً على أسد وغطفان فقال: من الذي يقول: من الوافر
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي ... على خوفٍ تظن بي الظنون
قالوا: النابغة، قال عمر: هذا أشعر الشعراء. فلما كان الغد خرج فقال: من الذي يقول: من الطويل
ولست بمتبقٍ أخاً لا تلمه ... على شعثٍ أي الرجال المهذب
فقالوا: النابغة، فقال: هذا والله أشعر الشعراء. فغضب الأخطل فقال: يا شعبي! ماأسرع ما رجعت! فقلت: ما أعود لك في مساءة. ثم أقبل عليه فقال: من أشعر النساء قال: ليلى الأخيلية. فما صبرت أن قلت: أشعر النساء من قدمها عمر، قال: ومن هي؟ قلت: خنساء، قال عمر: ومن الذي يقول: من الطويل
وقائلةٍ والنفس تقدم خطوها ... لتدركه يا لهف نفسي على عمر
ألا ثكلت أم الذين عدوا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر
فقالوا: هذه خنساء، فقال عمر: هذه أشعر النساء. فقال عبد الملك صدق أمير المؤمنين.
دخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فاستنشده، فقال: قد يبس حلقي فمن يسقيني؟ قال: اسقوه ماء، قال: شراب الحمار وهو عندنا كثير، قال: فاسقوه(20/216)
لبناً، قال: عن اللبن فطمت، قال: فاسقوه عسلاً، قال: شراب المريض وأنا صحيح! قال: فتريد ماذا؟ قال خمراً يا أمير المؤمنين، قال: وعهدتني أسقي الخمر لا أم لك!؟ لولا حرمتك بنا لفعلت بك وفعلت! وخرج فلقي فراشاً كان لعبد الملك فقال: ويحك إن أمير المؤمنين استنشدني وقد صحل صوتي، فاسقني شربة خمر، فسقاه شربة خمر، فسقاه رطلاً فقال اعدله بآخر، فصقاه آخر فقال: تركتهما يعتركان في بطني، اسقني ثالثاً، فسقاه ثالثاً، فقال: تركت اثنين على واحد، عدل ميلهما برابع، فسقاه رابعاً. فدخل على عبد الملك فأنشده: من البسيط
خف القطين فراحوا منك أو بكروا
فقال عبد الملك: لا، بل منك؛ وتطير عبد الملك من قوله، فعاد فقال:
فراحو اليوم أو بكروا
وأنشده حت بلغ:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا
فقال عبد الملك: خذ بيده يا غلام، فأخرجه ثم ألق عليه من الخلع ما يغمره، ثم ناد أن لكل قومٍ شاعراً وأن شاعر بني أمية الأخطل. فمر به جرير فقال: كيف تركت خنازير أمك؟ قال: كثيراً، وإن أتيتنا قرناك منها، فكيف تركت أعيار أمك؟ قال: كثيراً، وإن أتيتنا حملناك على بعضها.
دخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فقال له: يا أخطل، صف لي السكر، قال: أوله لذة وآخره صداع، وبين ذلك ساعةٌ لا أصف لك مبلغها، فقال له: ما مبلغها؟ فقال: لملك يا أمير المؤمنين أهون علي من شسع نعلي، فقال عبد الملك: صف لي، فأنشأ يقول: من الطويل
إذا ما نديمي علني ثم علني ... ثلاث زجاجاتٍ لهن هدير(20/217)
خرجت أجر الذيل حتى كأنني ... عليك أمير المؤمنين أمير
فقال عبد الملك: يا أخطل! قل من شرها - وهذه صفتها - أن تسخو نفسه بترك لذتها إلا من أحب أن يبتغي إلى ذي العرش سبيلا.
كان عبد الرحمن بن حسان ويزيد بن معاوية يتناقلان، فاستعلاه ابن حسان، فقال يزيد لكع بن جعيل التغلبي: أجبه عني واهجه، فقال: والله ما تلتقي شفتاي بهجاء الأنصار، ولكن أدلك على الشاعر الفاجر الماهر، فتى منا يقال له غياث بن الغوث، نصراني. وكان كعب سماه الأخطل.
قال محمد بن سيرين: دخل أناس من الأنصار فيهم النعمان بن بشير على معاوية، فلما صاروا بين الشماطين حسروا عمائمهم عن رؤوسهم، قال: وما ذلك؟ قال: هذا النصراني الذي قال: من الكامل
ذهب قريش بالسماحة والندى ... واللؤم تحت عمائم الأنصار
قال: لكم لسانه - يعني الأخطل.
وقيل: إن يزيد قال له: اهجهم، فقال: كيف أصنع بمكانهم؟ أخاف على نفسي! قال: لك ذمة أمير المؤمنين وذمتي. فذلك حين يقول:
ذهبت قريشٌ بالسماحة والندى
فجاء النعمان إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين! بلغ منا أمير ما بلغ منا مثله في جاهليةٍ ولا إسلام، قال: ومن بلغ ذلك منكم؟ قال: غلامٌ نصراني من بني تغلب،(20/218)
قال: ما حاجتك؟ قال: ذلك لك - وكان النعمان ذا منزلةٍ من معاوية، كان معاوية يقول: يا معشر الأنصار تستبطئوني وما صحبني منكم إلا النعمان، وقد رأيتم ما صنعت به. ولاه الكوفة وأكرمه - فأخبر الأخطل فطار إلى يزيد. فدخل يزيد على أبيه معاوية فقال: يا أمير المؤمنين هجوني وذكروك، فجعلت له ذمتك على أن يرد عني، فقال معاوية للنعمان: لا سبيل إلى ذمة أبي خالد، فذلك حين يقول الأخطل من أبيات: من الطويل
أبا خالدٍ دافعت عني عظيمةٌ ... وأدركت لحمي قبل أن يتبددا
وأطفأت عني نار نعمان بعدما ... أغذ لأمرٍ فاجرٍ وتجردا
ولما رأى النعمان دوني ابن حرةٍ ... طوى الكشح إذ لم يستطعني وعردا
قال الأخطل: ما رأيت أعجب من قصتي وقصة جرير، هجوته بأجود هجاء يكون، وهجاني بأرذل شعر، فنفق فصار علماً! قلت فيه: من البسيط
مازال فينا رباط الخيل معلمة ... وفي كليبٍ رباط الذل والعار
النازلين بدار الهون مذ خلقوا ... والماكثين على رغمٍ وإصغار
قومٌ إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
وهجاني جرير بأن قال: من الكامل
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك استه وتمثل الأمثال
فانظر كم بين الشعرين!.(20/219)
قال ابن بشير المدني: وفدت إلى بعض ملوك بني أمية، فمررت بقريةٍ فإذا رجلٌ مرنح بالشراب، قائم يبول فسألته عن الطريق فقال: أمامك. ثم لحقني فقال: انزل، فنزلت فقال: ادن وعليك الحانة، فدخلت فأحضر سفرة واستل سلة فأخرج منها رغفاً ووذراً من لحم، فقال: أصب فأصبت، ثم صقاني خمراً، فإذا أبو مالك! ثم قال لي: كيف علمك بالشعر؟ قلت: قد زويت، فأنشدني قصيدته: من الكامل
صرمت حبالك زينب ورعوم
فلما انتهى إلى قوله:
حتى إذا أخذ الزجاج أكفنا ... نفحت فأدرك ريحها المزكوم
قال: ألست تزعم أنك تبصر الشعر؟ قلت: بلى، قال: فكيف لم تشقق بطنك فضلاً عن ثوبك عند هذا البيت! قال: قلت قد فعلت عند البيت الذي سرقت هذا منه، قال: وما هو؟ قلت: بيت الأعشى: من الكامل
من خمر عانة قد أتى لختامها ... حولٌ تفض غمامة المزكوم
قال: أنت تبصر الشعر، فلما صرت إلى سليمان سمرت معه بهذا أول بدأتي.(20/220)
قال المصنف: وللأعشى في هذا المعنى بيتٌ أبلغ من هذا في كلمةٍ أخرى وهو: من الوافر
من اللاتي حملن على الروايا ... كريح المسك تستل الزكاما
واستلال الزكام أبلغ من فضه، لأن استلاله نزعه وإخراجه، وفضه نشره وتفريقه وكسره، كفض الخاتم، وفي فضه مع هذا إزالته وتنحيته كما يزول الختام عند فضة، فيفارق ما كان حالاً فيه ولازماً له؛ وفي قول الأخطل: "..فأدرك ريحها المزكوم " من البلاغة أنه إنما يقويه إدراك المشموم بحلول الزكام به وغلبته إياه، فإذا أدرك ريح الخمر التي كان الزكام حائلاً بينه وبينها عند نفحتها، فإنما ذلك لزوال الزكام المانع الحائل بينه وبين إدراكها، وقد تدرك الرائحة بعد خفة الزكام وزوال بعضه وإن لم يزل بكليته، فمن هاهنا كان الفض والاستلال أبلغ وأبين في المعنى.
غيث بن علي بن عبد السلام
ابن محمد بن جعفر أبو الفرج بن أبي الحسن الصوري المعروف بابن الأرمنازي الكاتب خطيب صور، قدم دمشق وكان ثقة ثبتاً.
حدث بدمشق سنة سبعٍ وخمس مئة عن أبي القاسم رمضان بن علي بن عبد الساتر بن أحمد بن رمضان بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء، وأتى المسجد ولم يلغ ولم يجهل كانت هذه كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى. والصلاة تكفر ما بينها وبين صاحبتها.
ولد أبو الفرج غيث سنة ثلاثٍ وأربعين مئة، وتوفي سنة تسعٍ وخمس مئة.(20/221)
غيلان بن أنس
أبو زيد الكلبي، مولاهم من أهل دمشق.
حدث عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: إن اسم الله الأعظم لفي سورٍ من القرآن، البقرة وآل عمران وطه. قال أبو حفص عمرو: فنظرت أنا في السور الثلاثة فرأيت فيها شيئاً ليس في القرآن مثله، آية الكرسي: " الله لا إله هو الحي القيوم " وفي آل عمران " الله لا إله هو الحي القيوم " وفي طه: " وعنت الوجوه للحي القيوم ".
وفي رواية عن أبي أمامة يرفعه قال: اسم الله الأعظم إذا دعي به أجاب، في ثلاث سور: في البقرة وآل عمران وطه.
وحدث الأوزاعي عن غيلان أنه رأى عمر بن عبد العزيز يرفع يديه مع كل تكبيرةٍ مع الجنازة.
وعن غيلان بن أنس قال: ما ازداد عبدٌ فهماً إلا ازداد قصداً، وما قلد الله عبداً قلادةً خيراً من سكينة.
غيلان بن سلمة بن معتب
ابن مالك بن كعب بن عمو بن سعد بن عوف الثقفي له صحبة، وكان بدمشق حين توفي عبد الملك بن مروان.
حدث غيلان بن سلمة أن نافعاً كان عبداً لغيلان بن سلمة ففر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم، وغيلان مشرك، ثم أسلم غيلان، فرد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولاءه.(20/222)
وعن غيلان بن سلمة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من آمن بي وصدقني، وعلم أن ما جئت به الحق من عندك فأقلل ماله وولده، وحبب إليه لقاءك، ومن لم يؤمن بي ولم يدصقني، ولم يعلم أن ما جئت به الحق من عندك فأكثر ماله وولده، وأطل عمره.
وعن غيلان بن سلمة الثقفي قال: خرجنا مع نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأينا منه عجباً، مررنا بأرض فيها أشاء متفرق، فقال نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا غيلان، ائت هاتين الاشاءتين فمر إحداهما تنضم إلى صاحبتها حتى أستتر بهما فأتوضأ. قال: فانطلقت فقمت بينهما فقلت: إن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر إحداكما أن تنضم إلى صاحبتها. قال: فمادت إحداهما ثم انقلعت تخد في الأرض حتى انضمت إلى صاحبتها فنزل نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتوضأ خلفهما ثم ركب؛ وعادت تخد في الأرض إلى موضعهما. قال: ثم نزلنا معه منزلاً، فأقبل امرأة بابن لها كأنه الدينار، فقالت: يا نبي الله؟ ما كان في الحي غلامٌ أحب إلي بابني هذا، فأصابته الموتة، فأنا أتمنى موته، فادع الله له يا نبي الله؟ قال: فأدناه نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: باسم الله، أنا رسول الله اخرج عدو الله - ثلاثاً - قال: اذهبي بابنك، لن تري بأساً إن شاء الله. قال: ثم مضينا فنزلنا منزلاً، فجاء رجلٌ فقال: يا نبي الله؟ إنه كان لي حائطٌ منه عيشي وعيش عيالي، ولي فيه ناضحان فاغتلما ومنعاني أنفسهما وحائطي وما فيه، ولا يقدر أحدٌ على الدنو منهما. قال: فنهض نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه حتى أتى الحائط فقال لصاحبه: افتح، فقال: با نبي الله أمرهما أعظم من ذلك؟ قال: فافتح. فلما حرك الباب بالمفتاح، أقبلا لهما جلبةٌ كحفيف الريح، فلما أفرج الباب فنظر إلى نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بركا ثم سجدا؟؟! فأخذ نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رؤوسهما ثم دفعهما إلى صاحبهما فقال: استعملهما وأحسن علفهما. فقال القوم: يا نبي الله! تسجد لك البهائم! فما لله عندنا بك أحسن من هذا، أجرتنا من الضلالة، واستنقذتنا من الهلكة، أفلا تأذن لنا بالسجود لك؟ قال: كيف كنتم صانعين بأخيكم إذا مات؟ أتسجدون لقبره؟ قالوا: يا نبي الله نتبع أمرك. فقال نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن السجود ليس إلا للحي الذي(20/223)
لا يموت، لو كنت آمر أحداً بالسجود من هذه الأمة لأمرت المرأة بالسجود لبعلها. قال: ثم رجعنا؛ فجاءت المرأة أم الغلام فقالت: يا نبي الله! والذي بعثك بالحق، ما زال من غلمان الحي؛ وجاءت بسمنٍ ولبنٍ وجزر، فرد عليها السمن والجزر وأمرهم بشرب اللبن.
ولما مات عبد الملك قال الوليد ابنه: انهضوا على اسم الله فبايعوا. فبايع له أعلام الناس، ثم جهز أباه، فبينما هو في دفنه إذ أقبل غيلان بن سلمة؛ والناس لا يدرون يعزونه قبل أو يهنئونه! فقال: أصبحت يا أمير المؤمنين رزئت خير الآباء وسميت خير الأسماء، وأعطيت أفضل الأشياء، فعزم اله لك في الرزية على الصبر، وأثابك في ذلك نوافل الأجر، وأعانك في حسن ثوابه إياك على الشكر، وقضى لعبد الملك خير القضية، وأنزله المنزلة الرضية، وأعانك على أمر الرعية. فقال له الوليد: من أنت؟ قال: من ثقيف. قال: في كم أنت؟ قال: في مئة دينار. فأمر به أن يلحق بالشرف، فكان أول من قضى له حاجةٌ حين استخلف.
قال المصنف: ولا أراه بقي إلى أيام الوليد، فإنه مات في خلافة عمر بن الخطاب، ولعله ابن غيلان بن سلمة، وغيلان أسلم وتحته عشرة نسوة، فأمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يختار منهن أربعاً.
وعن ابن عمر قال: طلق غيلان بن سلمة نساءه، وقسم ماله بين بنيه في خلافة عمر، فبلغ ذلك عمر فقال له: أطلقت نساءك وقسمت مالك بين بنيك؟ قال: نعم، قال: والله إني لأرى الشيطان فيما يسترق السمع بموتك فألقاه في نفسك، فلعلك لا تمكث إلا قليلاً، وأيم الله لئن لم تراجع نساءك وترجع في مالك لأورثتم منك إذا مت، ثم لآمرن بقبرك فليرجمن كما رجم قبر أبي رغال.
أبو رغال: أبو ثقيف. قال: فراجع نساءه، ورجع في ماله. قال نافع: فلم يمكث إلا سبعاً حتى مات.
وكان غيلان شاعراً، وفد على كسرى، وسأله أن يبني له حصناً بالطائف، فبنى له حصناً بالطائف، ثم جاء الإسلام، فأسلم غيلان وعنده عشر نسوة - زاد في رواية: وأسلمن معه - فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اختر منهن أربعاً وفارق بقيتهن. فقال: قد كن ولا يعلمن(20/224)
أيتهن آثر عندي وسيعلمن اليوم ذلك. فاختار منهن أربعاً، وجعل يقول لمن أراد منهن: أقبلي، ومن لم يرد يقول لها: أدبري حتى اختار منهن أربعة وفارق بقيتهن.
وعن عكرمة: في قوله عز وجل: " وثيابك فطهر " قال: لا تلبسها على غدرةٍ ولا فجرة ثم تمثل بشعر غيلان: من الطويل
فإني بحمد الله لا ثوب فاجرٍ ... لبست ولا من غدرة أتقنع
دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أم سلمة وهم محاصر والطائف وعندها مخنث يقال له هيت يقول لأن سلمة: إذا فتحتم الطائف فقولي لأخيك يأخذ بادية بنت غيلان بن سلمة - وكانت أشهر نساء ثقيف جمالاً وهيئة - فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وإنك لتفطن لهذا! لا يدخلن عليكم.
وعن أبي جعدة قال: قالت خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية - ومانت امرأة عثمان بن مظعون وهي الخولاء: يا رسول الله إذا فتح الله عليك الطائف فأعطني حلي بادية بنت غيلان، قال: وإن لم يكن أذن لي فيها يا خولة. فأتت عمر بن الخطاب مسرعةٌ فأخبرته. وكان المسلمون يظنون أنهم يفتحونها، قد فتح مكة وظفروا بحنين في وجههم ذاك. فجاء عمر بن الخطاب إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: شيء أخبرتنيه خويلة؟ قال: نعم، رأيت كأني أريد جلب مياهٍ وهي تعتاص علي، فظننت أني لا أنال منهم شيئاً في وجهي هذا. قال: أفلا تأذن في الناس بالرحيل؟ قال: بلى.(20/225)
توفي غيلان في آخر خلافة عمر، سنة ثلاثٍ وعشرين.
غيلان بن عقبة بن مسعود
ابن حارثة بن عمرو بن ربيعة أبو الحارث العدوي، المعروف بذي الرمة الشاعر المشهور. وفي نسبه اختلاف. قيل: إنه لقب بذي الرمة لأنه أتى مية صاحبته وعلى كتفه قطعة حبل، وهي الرمة فاستسقاها فقالت: اشرب يا ذا الرمة فلقب به. وقيل: لقب بذلك لقوله: من مشكور الجز
أشعث باقي رمة التقليد
وقيل: كان يصيبه الفزع في صغره، فكانت له تميمةٌ تعلق عليه بحبل، فلقب ذا الرمة. وأمه ظبية - بالظاء المعجمة - من بني أسد. وفد على الويد بن عبد الملك.
حدث عن ابن عباسٍ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن من الشعر حكمة.
وحدث عن ابن عباس في قوله عز وجل " والبحر المسجور " قال: الفارغ، خرجت أمةٌ تستقي، فرجعت فقالت: إن الحوض مسجور. يعني فارغاً.
قال ابن سيار: ليس لذي الرمة غير هذين الحديثين.
دخل الفرزدق على الويد بن عبد الملك أو غيره فقال له: من أشعر الناس؟ قال: أنا، قال: أفتعلم أحداً أشعر منك؟ قال: لا، إلا أن غلاماً من بني عدي بن كعب يركب أعجاز الإبل، ينعت الفلوات. ثم أتاه جرير فسأله، فقال له مثل ذلك، ثم أتاه ذو الرمة فقال له: ويحك! أنت أشعر الناس! قال: لا ولكن غلامٌ من بني عقيل يقال له مزاحم، يسكن الروضات، يقول وحشياً من الشعر، لا تقدر على أن تقول مثله.(20/226)
قال عيسى بن عمر: كان ذو الرمة يملي علي شعراً وأنا أكتب الشعر، إذ قال لي: يا غلام أصلح هذا الحرف، فقلت له: أصلحك الله وإنك لتكتب! فقال: نعم، قدم علينا حضري لكم فعلمنا الخط على الرمل.
قال ذو الرمة لعيسى بن عمر: اكتب شعري، فالكتاب أعجب إلي من الحفظ، إن الأعرابي ينسى الكلمة قد شهرت في طلبها ليلةٌ فيضع في موضعها كلمةٌ في وزنها ثم ينشده الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاماً بكلام.
حكى الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: قدم ذو الرمة البصرة فأتيته أعتذر لأني لم أهد إليه شيئاً، فقال: لا تعتذر، أنا وأنت نأخذ ولا نعطي أحداً شيئاً.
وكان ذو الرمة طفيلياً يأتي العرسات.
كان الشافعي يقول ليس يقدم أهل البادية على ذي الرمة أحداً. قال الشافعي: لقي رجلٌ من أهل اليمن فقال اليماني: من أشعر الناس؟ فقال: ذو الرمة، قال له: فأين ارمؤ القيس؟ - يجميه بذلك لأنه يماني - فقال: لو أن امرأ القيس كلف أن ينشد شعر ذي الرمة ما أحسنه.
كان ذو الرمة بسوق المربد وقد عارضه رجلٌ يهزأ به، فقال له: يا أعرابي أتشهد بما لم تر؟ قال: نعم، قال: بماذا؟ قال: أشهد بأن أباك ناك أمك.
كان أبو عمرو بن العلاء يقول: شعر ذي الرمة نقط العروس، تضمحل عن قليل، وأبعار ظباء لها مشم في أول شمها ثم تعود إلى أرواح البعر.(20/227)
قال رؤبة بن العجاج لبلال: علام تعطي ذا الرمة؟ فوالله ما يمدحك إلا بمقطعاتنا هذه يعمد إليها فيوصلها ثم يمدحك بها. فقال بلال: والله لو لم أعطه إلا على تأليفها لأعطيته.
دخل ذو الرمة على بلال بن أبي بردة - وكان بلال راويةً فصيحاً أديباً - فأنشد بلالٌ أبيات حاتم طيئ: من الطويل
لحا الله صعلوكاً مناه وهمه ... من الدهر أن يلقى لبوساً ومطعما
يرى الخمس تعذيباً وإن نال شبعة ... يبت قلبه من قلة الهم مبهما
فقال ذو الرمة: يرى الخمص تعذيباً، وإنما الخمس للإبل، وإنما هو خمص البطون. فحسده بلال - وكان محكاً - أنشنديهما رواة طيئ، فرد عليه ذو الرمة فضحك، ودخل أبو عمرو بن العلاء فقال له بلال: كيف تنشدها - وعرف أبو عمرو الذي به - فقال: كلا الوجهين، فقال: أتأخذون عن ذي الرمة؟ قال: إنه لفصيح، وإنا لنأخذ عنه بتمريض. وخرجا من عنده، فقال ذو الرمة لأبي عمرو: والله لولا أني أعلمك حطبت في حبله وقلت في هواه، لهجوتك هجاءٌ لا يقعد إليك اثنان!.
قال ذو الرمة يوماً: لقد قلت أبياتاً إن لها لعروضاً، وإن لها لمراداً ومعنى بعيداً، قال له الفرزدق: وما هيه؟ قال: قلت: من الطويل
أحين أعاذت بي تميم نساءها ... وجردت تجريد اليماني من الغمد
ومد بضبعي الرباب ومالكٌ ... وعمرو وشالت من ورائي بنو سعد
ومن آل يربوع زهاءٌ كأنه ... زها الليل محمودٌ النكاية والرفد(20/228)
فقال له الفرزدق: لا تعودن فيها فأنا أحق بها منك، قال: والله لا أعود فيها أبداً ولا أنشدها إلا لك. فهي قصيدة الفرزدق التي يقول فيها: من الطويل
وكنا إذا القيسي نب عتوده ... ضربناه فوق الأنثيين على الكرد
الأنثيين: الأذنين، والكرد: العنق.
اجتمع ذو الرمة ورؤبة عند بلال بن أبي بردة وهو أمير البصرة، وكان رؤبة يثبت القدر، وكان ذو الرمة قدرياً، فقال لهما بلال: تناظرا في القدر، فقال رؤبة: والله ما افتحص طائر أحوصاً ولا تقرمص سبعٌ قرموصاً إلا بقضاءٍ من الله وقدر. فقال ذو الرمة: والله ما قدر الله للذئب على أكل حلوبة غيائل عالةٍ ضرائك ذوي حاجة. فقال رؤبة: أفبقدرته أكلها؟ هذا كذب على الذئب! فقال ذو الرمة: الكذب على الذئب أهون من الكذب علر رب الذئب.
قال العلاء بن أسلم أشند ذو الرمة شعراً: من الطويل
وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ماتفعل الخمر
فقال له العدوي الشاعر: قل فعولين بالألباب، فقال له ذو الرمة لو سبحت كان خيراً لك.(20/229)
قال الصولي: كان العدوي مثبتاً للقدر، فأراد أن الله جعل العينين كذا، وفر ذو الرمة من هذا لينصر مذهبه.
قال الأصمعي: قلت ليونس: ما أراد ذو الرمة بقوله: من الطويل
وليلٍ كجلباب العروس ادرعته ... بأربعةٍ والشخص في العين واحد
فقال يونس: ما أحسب الجن تقع على ماوقع عليه ذو الرمة وفطن له؛ قوله: كجلباب العروس، يقول: ليل طويل كقميص العروس في الطول، لأن العروس تجر أذيالها: اردعته: أي لبسته: بأربعة: يعني نفسه وناقته وسيفه وظله؛ والشخص في العين واحد: يقول والأنسان واحد.
قال أبو بكر بن عياش: كنت إذ أنا شاب إذا أصابتني مصيبة تصبرت، وكان ذلك يبرئ بدني جميعاً، حتى رأيت بالناسة أعرابياً ينشد وقد اجتمع الناس عليه وهو يقول: من الطويل
خليلي عوجا من صدور الرواحل ... بجمهور حزوى فابكيا في المنازل
لعل انحدار الدمع يعقب راحةٌ ... من الوجد أو يشفي نجي البلابل
فسألت عنه؟ فقيل: هذا ذو الرمة، فأصابني بعد ذلك مصيبات، فكنت أبكي فأجد له راحة.
ذكر ذو الرمة في مجلسٍ فيه عدةٌ من الأعراب، فقال عصمة بن مالك - شيخٌ من بني جاسئ بن فزارة، كان قد بلغ عشرين ومئة -: إياي فاسألوا عنه، كان من أظرف الناس، كان آدم، خفيف العارضين، حسن المضحك، حلو المنطق؛ وكان إذا أنشد بربر وجش صوته، فإذا راجعك لم تسأم حديثه وكلامه، وكان له إخوة يقولون الشعر منهم(20/230)
مسعود وجرفاس - وهو أوفى - وهشام، كانوا يقولون القصيدة فيرد ففيها الأبيات فيغلب عليها فتذهب له، فجمعني وإياهم مربع، فأتاني يوماً فقال لي: ياعصمة! إن ميا منقرية، وبنو منقر أخبث الحي، أقوفه لأثر، وأبصره في نظر، وأعلمه بشر؛ فهل عندك من ناقةٍ نزداد عليها ميا؟ قلت: عندي الجؤذر، بنت يمانية، قال: علي بها، فركبناها وخرجنا حتى نشرف على بيوت الحي، فإذا هم خلوف، وإذا بيت مي خلو، فعرف النساء ذا الرمة حين طلعنا عليهن، فتقوض النساء إلى بيت مي، وجئنا حتى أنخنا، ثم دنونا فسلمنا وقعدنا نتحدث، وإذا مي جايةٌ أملود، واردة الشعر، صفراء فيها عسن، وعليها سب أصفر وطاقٌ أخضر، فتحدثن مليا ثم قلن له: أنشدنا ياذا الرمة، قال: أنشدهن ياعصمة، فأنشدهن قوله: من الطويل
نظرت إلى أظعان مي كأنها ... ذرا النخل أو أثل تميل ذوائبه
فأوشلت العينان والصدر كاتم ... بمغرورق نمت عليه سواكبه
بكا وامقٍ خاف الفراق ولم تجل ... جوائلها أسراره ومعاتبه(20/231)
فقالت ظريفة ممن حضر: لكن الآن فلتجل، فنظر إليها مي، ثم مضيت فيها إلى قوله:
إذا سرحت من حب مي س ... وارحٌ عن القلب ابته جميعاً عوازبه
فقالت الظريفة: قتلتهقتلك الله، فقالت مي: ما أصحه وهنيئاً له! فتنفس ذو الرمة تنفساً كاد حره يطير شعر وجهه. ومضيت حتى انتهت إلى قوله:
وقد خلفت بالله مية ما الذي ... أقول لها إلا الذي أنا كاذبه
إذاً فرماني الله من حيث لا أرى ... ولا زال في أرضي عدو أحاربه
فقالت الظريفة قتلته قتلك الله، فالتفتت إليه مي فقالت: خف عواقب الله. ثم مضت فيها حتى انتهت إلى قوله:
إذا راجعتك القول مية أو بدا ... لك الوجه منها أو نضا الدرع سالبه
فيا لك من خد آسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلل جادبه
فقالت الظريفة: ها هي ذه قد راجعتك القول، وبدا لك وجهها، فمن لنا بأن ينضو الدرع سالبه؟ فالتفتت إليها مي فقالت: قاتلك الله! ما أنكر ما تجيئين به! قال عصمة: فتحدثنا ساعة ثم قالت الظريفة للنساء: إن لهذين شأناً، فقمن بنا. فقمن وقمت معهن؛ فجلست في بيتٍ أراهما منه فسمعتهما قالت له: كذبت والله. ووالله ما أدري ما قال لها وما أكذبته فيه، فلبث قليلاً ثم جاءني ومعه قارورةٌ فيها دهن وقلائد، فقال: هذا دهن طيب أتحفتنا به مي، وهذه قلائد الجؤذر، ولا والله لا أقلدهن بعيراً أبداً، وشدهن بذؤابة سيفه، وانصرفنا؛ فكان يختلف إليها حتى تقضي الربيع، ودعا الناس المصيف، فأتاني فقال: يا عصمة قد رحلت مي، ولم يبق إلا الآثار والنظر في الديار، فاذهب بنا ننظر في ديارهم، ونقفو آثارها. فخرجنا حتى أتينا منزلها فوقف ينظر ثم قال: من الطويل(20/232)
ألا فاسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر
قال عصمة: فما ملك عينيه، فقلت: مه، فانتبه وقال: إني لجلد، وإن: ان مني ما ترى. قال: رأيت أحداً كان أشد منه صبابة يومئذ، ولا أحسن عزاء وصبراً! ثم انصرفنا، وكان آخر العهد به.
قال غيلان بن الحكم: وفد علينا ذو الرمة ونحن بكناسة الكوفة، فأنشدنا حائيته إلى أن بلغ قوله: من الطويل
إذا غير اليأس المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح
فقال له ابن شبرمة: أراه قد برح، فقلت: بم؟ قال: لم أجد رسيس الهوى. فرجعت بحديثهم إلى أبي الحكم البختري بن المختار فقال: أخطأ ابن شبرمة حين رد عليه، وأخطأ ذو الرمة حيث قبل منه، إنما هذا كقول الله عز وجل: " إذا أخرج يده لم يكد يراها " أي لم يرها ولم يكد.
كان ذو الرمة يشبب بمي بنت طلبة بن قيس بن عاصم المنقري، وكانت كنزة أمة مولدة لآل قيس بن عاصم، وهي أم سهم بن بردة الذي قتله سنان بن مخيس القشيري أيام محمد بن سليمان، فقالت كنزة: من الطويل:
على وجه مي مسحةٌ من ملاحةٍ ... وتحت الثياب الخزي لو كان باديا
ألم تر أن الماء يخبث طعمه ... ولو كان لون الماء في العين صافيا(20/233)
ونحلتها ذا الرمة، فامتعض من ذلك وحلف بجهد أيمانه، ما قالهما وقال: بالله كيف أقوله وقد قطعت دهري وأفنيت شبابي أشبب بها وأمدحها، ثم أقول هذا! ثم اطلع على أن كنزة قالتهما ونحلتهما إياه.
قال أبو المهلهل الحدثي: ارتحلت إلى الرمال في طلب مي، صاحبة غيلان ذي الرمة، فما زلت أطلب موضع بيتها حتى أرشدت إلى البيت، فإذا خيمةٌ كبيرة، على بابها عجوز هتماء فسلمت عليها وقلت: أين منزل مي؟ قالت: مي ذي الرمة؟ قلت: نعم، قالت: أنا مي، فعجبت منها ثم قلت لها: العجب من ذي الرمة وكثرة ما قاله فيك! ولست أرى من المشاهد التي وصفك بها شيئاً! فقالت: لا تعجب يا هذا منه، فإني سأقوم بعذره عندك، ثم قالت: يا فلانة! فخرجت جاريةٌ ناهد، عليها برقع، فقالت أسفري، فسفرت، فتحيرت لجمالها وبراعتها وفصاحتها! فقالت لي: غلق ذو الرمة بي وأنا في سنها، فقلت: عذره الله ورحمه، أنشدني مما قال فيك؛ فجعلت تنشدني وأنا أكتب أياماً، ثم ارتحلت عنها.
وكان ذو الرمة أيضاً يشبب بخرقاء من بني عامر، تحل فلجة، ويمر بها الحاج، فتقعد لهم وتحادثهم وتهاديهم، وتقول: أنا منسك من مناسك الحج. ثم كانت تجلس معها فاطمة ابنتها، فحدثني من رآها قال: لم تكن فاطمة مثلها. وإنما قالت: أنا منسك من مناسك الحج، لقول ذي الرمة: من الوافر
تمام الحج أن تقف المطايا ... على خرقاء واضعة اللثام(20/234)
قال الأصمعي: كان تشبيب ذي الرمة بخرقاء أنه مر في بعض أسفاره ببعض البوادي، فإذا خرقاء خارجةٌ من خباء، فنظر إليها فوقعت في قلبه، فخرق إداوته، ودنا منها يستطعم بذلك كلامها، فقال لها: إني رجلٌ على سفر، وقد تخرقت إداوتي فأصلحيها لي، فقالت: إني لا أحسن العمل وإني لخرقاء. وفيها يقول: من البسيط
أأن توسمت من خرقاء منزلة ... ماء الصبابة من عينيك مجوم
تعتادني زفراتٌ حين أذكرها ... تكاد تنفض منهن الحيازيم
أنشد ذو الرمة خرقاء قصيدته التي يقول فيها:
أحبك حبا خالطته نصاحةٌ ... وما كل ذي ود من الناس ناصح
فقال خرقاء: ومتى يكون محب غير ناصح؟ قال: إذا آثرت ما أهوى من قربك على ما تهوين من بعدك، واتخذتك برداً، علي منه جماله وستره وحصانته ونعمته، وعليك منه ابتداء إلى أعطافه وسجى أطرافه، فهناك نظرت لنفسي عليك، فأديت حق النصيحة إليها لا إليك. وأنشد: من الطويل
وأهوى لك الحسنى وأنت مسيئةٌ ... ونيلك ممنوعٌ ومثواك نازح
قالت خرقاء: والله ما ادري أي تفسير أحسن، السالف من نثرك، أم الرادف من نظمك؟ فقال ذو الرمة:
لأحسن من هذا وهذاك نظرةٌ ... لعينيك فيها منك آسٍ وجارح
فقالت له: ومن ذا يغالبك في محاورة؟ فقال:(20/235)
يغالبني من مهجتي في إساره ... يشاكها طوراً وطوراً يسامح
ومن لم أزل أبغي السلو ولم يزل ... يتيمني منه مراضٌ صحائح
وأصدف عن سقيا ثناياه آيساً ... فيعطفني منه بروقٌ لوامح
مضاحك غر لو تبسمن في الدجى ... تجلى جبين من سنا الفجر واضح
يقر بعيني قربها وكذابها ... ألا كل ما قرت به العين صالح
ثم قطع المحاورة والاقتضاب وأنشد حتى استكمل قصيدته.
مر رجلٌ في بادية بني عذرة فإذا فتاةٌ كأحسن ما يكون، فنظر إليها، فقالت له عجوز: ما تنظر إلى هذا الغزال النجدي ولا حظٌ لك فيه! فقالت الجارية: دعيه يا أمتاه، يكون كما قال ذو الرمة: من الطويل
وإن لم يكن إلا تعلل ساعةٍ ... قليلاً فإني نافعً لي قليلها
قال أبو سلمة الكلابي: سمعت أبي يقول: لما فرغ ذو الرمة من قصيدته التي هي: من البسيط
ما بال عينك منها الماء ينسكب ... كأنه من كلى مفريةٍ سرب
تبدى له إبليس فأخذ حجزته ثم قال له: لا تظن أنك منها في ئيء، ما شركتني فيها بحرف، وأنا قلتها كلها.
دخل ذو الرمة الكوفة، فبينا هو يسير في شوارعها على نجيب له إذ رأى جارية سوداء واقفة على باب الدار، فاستحسنها ووقعت بقلبه، فدنا منها وقال: يا جارية اسقيني ماء، فسقته، فأراد أن يمازحها ويستدعي كلامها، فقال: يا جارية ما أحر ماءك! فقالت: لو شئت لأقبلت على عيوب شعرك وتركت حر مائي فبرده، فقال لها: وأي شعري له عيب؟ فقالت: ألست ذا الرمة؟ قال: بلى، قالت: من الطويل(20/236)
فأنت الذي شبهت عنزاً بقفرة ... لها ذنب فوق استها أم سالم
جعلت لها قرنين فوق جبينها ... ووطبين مسودين مثل المحاجم
وساقين إن يستمسكا منك يتركا ... بحاذك يا غيلان مثل المياسم
" أيا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ ... وبين النقا أانت أم أم سالم "
فقال: نشدتك بالله إلا أخذت راحلتي هذه وما عليها ولم تظهري هذا لأحد. ونزل عن راحلته، فدفعها إليها وذهب ليمضي، فدفعتها إليه وضمنت له ألا تذكر لأحد ما جرى.
كانت وليمة عدي على مائدةٍ عليها إسحاق بن سويد وذو الرمة، فاستسقى ذو الرمة، فسقى نبيذاً، واستسقى إسحاق بن سويد فسقى ماء، فقال ذو الرمة: من البسيط
أما النبيذ فلا يذعرك شاربه ... واحفظ ثيابك ممن يشرب الماء
مشمرين على أنصاف سوقهم ... هم اللصوص وقد يدعون قراء
فقال إسحاق بن سويد: من البسيط
أما النبيذ فقد يزري بشاربه ... ولا ترى أحداً يزري به الماء
الماء فيه حياة الناس كلهم ... وفي النبيذ إذا عاقرته الداء
ثم قال لي الرمة: زد حتى نزيد قال ذو الرمة: بلغت نصف عمر الهرم، أنا ابن أربعين سنة. ولم يبق ذو الرمة بعد ذلك إلا قليلاً. ومات وهو شاب.(20/237)
قال مسعود أخو ذي الرمة: كنا بالبدو، فحضرت ذا الرمة الوفاة فقال: احملوني إلى الماء يصل علي أهل الإسلام، فحملناه على باب، فأغفى إغفاءةٌ ثم انتبه فنقر الباب فقال: مسعود! قلت لبيك، قال: هذا والله الحق المبين لا حين أقول: من الطويل
عشية مالي حيلةٌ غير أنني ... بلقط الحصى والخط في الدار مولع
كأن سناناً فارسيا أصابني ... على كبدي بل لوعة الحب أوجع
دخل رجلٌ على ذي الرمة وهو يجود بنفسه فقال كيف تجدك يا غيلان؟ قال: أجدني أجد مالا أجد أيام أزعم أني أجد فأقول: من الطويل
كأني غداة البين يا مي مدنف ... يجود بنفسٍ قد أتاها حمامها
زاد في آخر، بمعناه ثم قال: اللهم إني لا قوي فأنتصر، ولا برئ فأعتذر، ولكن لا إله إلا أنت. ثم مات.
قال الأصمعي: مات ذو الرمة عطشاناً، وأتى بالماء وبه رمق فلم ينتفع به، فكان آخر ما تكلم به قوله: من البسيط
يا مخرج الروم من نفسي إذا احتضرت ... وفارج الكرب رحزحني عن النار
بلغ ذو الرمة أربعين سنة، وتوفي وهو خارجٌ إلى هشام بن عبد الملك، فدهن بحزوى، وهي الرملة التي كان يذكرها في شعره.(20/238)
غيلان بن أبي غيلان
وهو غيلان بن يونس، ويقال ابن مسلم أبو مروان القدري مولى عثمان بن عفان.
قال الشعبي: دخل غيلان على عمر بن عبد العزيز، فرآه أصفر الوجه، فقال له عمر: يا أبا مروان! مالي أراك أصفر الوجه؟ قال: يا أمير المؤمنين أمراض وأحزان، قال: لتصدقني، قال غيلان: ذقت - يا أمير المؤمنين - حلو الدنيا فوجدته مرا فأسهرت لذلك ليلى وأظمأت له نهاري، وكل ذلك حقير في جنب ثواب الله عز وجل وعقابه؛ فقال رجلٌ ممن كان في المجلس: ما سمعت بأبلغ من هذا الكلام ولا أنفع منه لسامعه، فأنى أوتيت هذا العلم؟ قال غيلان: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تركنا العمل بما علمنا، ولو أنا عملنا بما تكلمنا أورثنا سقماً لا تقوم له أبداننا.
صلب غيلان بالشام، ويعرف بغيلان القدري، ويروى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذمة.
روى عن عبادة بن الصمت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يكون في امتي رجلان: أحدهما باليمن يقال له وهب، يهب الله له الحكمة، والآخر بالشام يقال له غيلان، وهو أشد على أمتي فتنة من الشيطان.
قال الشعبي:
كنت جالساً عند مكحول ومعه غيلان إذ أقبل شيخٌ من أهل البصرة، فجلس إلى مكحول فسلم عليه، ثم قال له مكحول: كيف سمعت الحسن يقول في أنه كذا وكذا، فأخبره بشيء لم أحفظه، ثم أقبل عليه يسأله عن شيء من كلام الحسن، فقال له غيلان: يا أبا عبد الله أقبل علي ودع هذا عنك. قال: فغضب مكحول - وكان شديد الغضب - ثم قال له: ويلك يا غيلان! إنه قد بلغني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: سيكون في امتي رجلٌ يقال له غيلان، هو أضر عليها من إبليس. فإياك أن تكون أنت هو. ثم قام وتركه.
قال يحيى بن مسلم: أتيت بيت المقدس للصلاة فيه فلقيت رجلاً فقال: هل لك في إخوان لك؟ قلت:(20/239)
نعم، قال فبت الليلة فإذا أصبحت لقيتك، فلما أصبح لقيني قال: هل رأيت الليلة في منامك شيئاً؟ قلت: لا، إلا خيراً، قال: فصنع بي ذلك ثلاث ليال، ثم قال: انطلق، فانطلقت معه حتى أدخلني سرباً فيه غيلان والحارث الكذاب في أصحاب له، ورجل يقول لغيلان: يا أبا مروان ما فعلت الصحيفة التي كنا نقرؤها بالأمس؟ قال: عرج بها إلى السماء، فأحكمت ثم أهبطت. فقلت: إنا لله! ما كنت أني أبقى حتى أسمع بهذا في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال خالد بن اللجلاج لغيلان: ويحك يا غيلان! ألم تكن زفاناً؟ ويلك يا غيلان! ألم تكن قبطيا وأسلمت! ألم أجدك في شيبتك وأنت ترامي النساء بالتفاح في شهر رمضان ثم صرت حارساً تخدم امرأة حارث الكذاب وتزعم أنها أم المؤمنين ثم تحولت من ذلك فصرت قدريا أو زنديقاً؟ زاد في رواية: ما أراك تخرج من هوى إلا دخلت في شر منه.
قال الأوزاعي: أول من نطق بالقدر رجلٌ من أهل العراق يقال له: سوسن، وكان نصرانيا فأسلم، ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد.
قال إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة: لقيت غيلان القدري فقلت له: من كان أشد الناس عليك كلاماً؟ فقال: كان أشد الناس علي كلاماً عمر ين العزيز كأنه يلقن من السماء، ولقد كنت أطلب له مسائل أعنته فيها، فبينما أنا ذات يوم أظفر به فاليوم، قال: فدخلت عليه فقلت: يا أمير المؤمنين! هذه الدراهم البيض، فيها كتاب الله، يقلبها اليهودي والنصراني والحائض والجنب، فإن رأيت أن تأمر بمحوها، فقال لي: أردت أن تحتج علينا الأمم إن غيرنا توحيد ربنا واسم نبينا، قال: فبهت فلم أدر ما أرد عليه.(20/240)
قال علي: صليت المغرب، ثم ركعت بعد المغرب، فمر بي عمرو بن مهاجر صاحب حرس عمر بن العزيز فقال: أئت المنزل حتى أخبرك بما كان من أمر صديقك - يعني غيلان - فأتيته في منله فقال: بعث أمير المؤمنين اليوم إلى غيلان، فدخل عليه فقال: يا غيلان أكان فيما قضى الله وقدر أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: نعم، قال: أكان فيما قضى الله وقدر أن يخلق آدم؟ قال: في أشياء سأل عنها، كل ذلك يقول: نعم. وأنا خلف عمر أشير لغيلان إلى خلقى أنه الذبح: فلما أراد أن يوقم قال: يا غيلان والله ما أظن ذباب بيني وبينك إلا بقدر.
قيل لعمر بن عبد العزيز: إن غيلان يقول في القدر، فمر به غيلان، فقال: ما تقول في القدر؟ فتعوذ فتلا هذه الآية " هل أتى على الإنسان حين من الدهر " إلى قوله: " إما شاكراً وإما كفوراً " فقال عمر: إن الكلام فيه عريضٌ طويل، ما تقول في العلم أنافذٌ هو؟ قال: نعم، قال: أما والله لو لم تقلها لضربت عنقك.
زاد في آخر: قال عمر: تم السورة ويحك! أما تسمع الله يقول: " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " ويحك يا غيلان! أما تعلم أن الله " جاعلٌ في الأرض خليفة " إلى " العليم الحكيم " فقال غيلان: يا أمير المؤمنين لقد جئتك جاهلاً فعلمتني وصالاً فهديتني، قال: اخرج ولا يبلغني أنك تكلم بشيءٍ من هذا.
وفي حديثٍ آخر: أن عمر بلغه أن غيلان وفلاناً تكلما في القدر فأرسل إليهما فقال: ما الأمر الذي تنطقان فيه؟ قالا: تقول يا أمير المؤمنين ما قال الله، قال: وما قال الله؟ قالا: يوقل: " هل أتى الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، إنا هديناه(20/241)
السبيل إما شاكراً وإما كفوراً " فقال: اقرأا، اقرأا حتى بلغا " إن هذه تذكرة، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " إلى آخر السورة، قال: كيف ترى يابن الأتانة تأخذ بالفروع وتدع الأصول!؟ قال: ثم بلغه أنهما قد أسرفا، فأرسل إليهما وهو مغضب شديد الغضب؛ قال عمرو بن مهاجر: فقام عمر وكنت خلفه واقفاً حتى دخلا عليه وأنا مستقبلهما فقال لهما: ألم يكن في سابق علم الله حين أمر إبليس بالسجود أنه لا يسجد؟ قال: فأومأت إليهما إيماء برأسي أن قولا نعم - قال: لولا مكاني يومئذ لسطا بها - قال: فقالا: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أو لم يكن في سابق علم الله حين نهى لآدم عن أكل الشجرة أن لا يأكلا منها أنهما يأكلان منها؟ قال: فأومأت إليهما أيضاً برأسي أن قولا نعم، فقالا: نعم، قال: فأمر بإخراجهما، وأمر بالكتاب إلى الأجناد بخلاف ما يقولون، فلم يلبث إلا قليلاً حتى مرض عمر فلم ينفذ ذلك الكتاب.
زاد في رواية: أن غيلان قال: كنت أعمى فبصرتني وأصم فأسمعتني وضالاً فهديتني، فقال: اللهم إن كان عبدك غيلان صادقاً وإلا فاصلبه.
وفي رواية: إن كان صادقاً فارفعه وفقه، وإن كان كاذباً فلا تمته إلا مقطوع اليدين والرجلين مصلوباً. قال: فأمسك عن الكلام في القدر، فولاه عمر بن عبد العزيز دار الضرب بدمشق، فلما مات عمر بن العزيز وأفضت الخلافة إلى هشام، تكلم في القدر فبعث إليه هشام فقطع يده، فمر به رجلٌ والذباب على يده فقال له: يا غيلان! هذا قضاء وقدر، قال: كذبت لعمر الله، ما هذا قضاءٌ ولا قدر، فبعث إليه هشام فصلبه.
زاد في أخرى: فقلت له: يا غيلان! هذه دعوة عمر بن العزيز قد أدركنك.
قال عمر بن العزيز لغيلان: بلغني أنك تكلم في القدر، فقال: يكذبون علي يا أمير المؤمنين، قال: اقرأ علي سورة يس، فقرأ " يس والقرآن الحكيم " إلى قوله " فهم لا يبصرون " فقال غيلان: لكأني لم أقرأها قبل اليوم، أشهدك يا أمير المؤمنين أني(20/242)
تائب مما كنت أقول في القدر، فقال عمر: اللهم إن كان صادقاً فثبته، وإن كان كاذباً فاجعله آية للعالمين.
وفي رواية: وإن كان كاذباً فلا تمته حتى تذيقه حر السيف، أو حد السيف، فلما مات عمر واستخلف يزيد بن عبد الملك قال الزهري: فدخلت عليه وغيلان قاعدٌ بين يديه فقال: مد يدك، فمدها فضربها بالسيف فقطعها ثم قال: مد رجلك، فضربها بالسيف فقطعها، ثم صلبه. فذكرت دعوة عمر بن العزيز.
قال: المحفوظ أن الذي صلبه هشام بن عبد الملك.
قال غيلان لربيعة بن عبد الرحمن: أنشدك الله، أترى الله يحب أن يعصى؟ فقال ربيعة: أنشدك الله أترى الله يعصى قسراً؟ فكأن ربيعة ألقم غيلان حجراً.
قال حسان بن عطية لغيلان القدري: والله لئن كنت أعطيت لساناً لم نعطه إنا لنعرف باطل ما تأتي به.
قال الأوزاعي: قدم علينا غيلان القدري في خلافة هشام بن عبد الملك، فتكلم غيلان - وكان رجلاً مفوهاً - فلما فرغ من كلامه قال لحسان: ما تقول فيما سمعت من كلامي؟ فقال له حسان: يا غيلان إن يكن لساني كل عن جوابك فإن قلبي ينكر ما تقول.
جاء رجلٌ إلى مكحول من أصحابه فقال: يا أبا عبد الله، ألا أعجبك، إني عدت اليوم رجلاً من إخوانك، فقال: من هو؟ فقال: لا عليك، قال: أسألك، قال: هو غيلان، فقال مكحول: إن دعاك غيلان فلا تجبه وإن مرض فلا تعده، وإن مات فلا تمش في جنازته.
زاد في رواية: لهو أضر على هذه الأمة من المرفقين، قال مروان: فقلت للوليد:(20/243)
وما المرفقين؟ قال: هم ولاة السوء يؤتى أحدهم في الشيء الذي لا يجب عليه فيه حد، والرجل يجب عليه الحد، فيجوزوا بهذا الحدود وأكثر منها.
وفي حديثٍ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: هم نصارى هذه الأمة ومجوسها.
كان مكحول يقول: بئس الخليفة كان غيلان لمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمته من بعده.
وقال مكحول: حسيب غيلان الله، لقد ترك هذه الأمة في لججٍ مثل لجج البحار.
وكان مكحول يقول: ويحك يا غيلان! لا تموت إلا مقتولاً.
وعن عبد الله بن أبي زكريا
لقي غيلان في بعض سقائف دمشق فعدل عنه، فقالوا: يا أبا يحيى! ما حملك على هذا؟ فقال: لا يظلني وإياه سقفٌ إلا سقف المسجد، لقد ترك هذا الجند في أمواجٍ كأمواج البحر؛ وكان مالكٌ يقول: كان عدةٌ من أهل الفضل والصلاح أضلهم غيلان.
وسئل مالك عن تزويج القدري فقال: " ولعبدٌ مؤمنٌ خير من مشرك ".
قال محمد بن كثير: كان على عهد هشام رجلٌ يقال له غيلان القدري، فشكاه الناس إلى هشام، فبعث إليه هشام وأحضره، فقال له: قد كثر كلام الناس فيك، قال: نعم يا أمير المؤمنين، ادع من شئت فيجادلني، فإن أدركت علي سبباً فقد أمكنتك من علاوتي - يعني رأسه - قال هشام: قد أنصفت. فبعث هشام إلى الأوزاعي، فلما حضر قال له هشام: يا أبا عمرو!(20/244)
ناظر لنا هذا القدري. فقال له الأوزاعي: اختر إن شئت ثلاث كلمات، وإن شئت أربع كلمات، وإن شئت واحدة، فقال القدري: بل ثلاث كلمات، فقال الأوزاعي للقدري: أخبرني عن الله عز وجل، هل يعلم أنه قضى على ما نهى؟ فقال القدري: ليس عندي في هذا شيء، فقال الأوزاعي: هذه أشد علي من الأولى. ما عندي في هذا شيء؛ فقال له الأوزاعي: هذه اثنتان يا أمير المؤمنين؛ فقال الأوزاعي للقدري: أخبرني عن الله عز وجل أنه أعان على ما حرم؟ فقال القدري؟ فقال القدري: هذه أشد علي من الأولى والثانية، ما عندي في هذا شيء، فقال الأوزاعي: يا أمير المؤمنين، هذه ثلاث كلمات.
فأمر به هشام فضربت عنقه. قال هشام للأوزاعي: فسر لنا هذه الثلاث كلمات، قال: نعم يا أمير المؤمنين، أما تعلم أن الله قضى على ما نهى؟ نهى آدم عن أكل الشجرة ثم قضى عليه بأكلها فأكلها. ثم قال الأوزاعي: أما تعلم أن الله حال دون ما أمر؟ أمر إبليس بالسجود لآدم، ثم حال بينه وبين السجود. ثم قال الأوزاعي: أما تعلم يا أمير المؤمنين أن الله تعالى أعان على ما حرم؟ حرم الميتة والدم ولحم الخنزير، ثم أعان عليه بالاضطرار إليه. فقال هشام: أخبرني عن الواحدة، ما كنت تقول له؟ قال كنت أقول له: مشيئتك مع مشيئة الله، أو مشيئتك دون مشيئة الله؟ ما كنت تقول له؟ قال كنت أقول له: مشيئتك مع مشيئة الله، أو مشيئتك دون مشيئة الله؟ فأيهما أجابني فيه حل فيه ضرب عنقه - زاد في آخر: إن قال مع مشيئة الله صير نفسه شريكاً لله، وإن قال دون مشيئة الله فقد انفرد بالربوبية. فقال هشام: لا أحياني الله بعد العلماء ساعة واحدة - قال: فأخبرني عن الأربع ما هي؟ قال: كنت أقول له: أخبرني عن الله عز وجل، خلقك حيث خلقك كما شاء أو كما شئت؟ فإنه كان يقول: كما شاء؛ ثم أقول له: أخبرني عن الله عز وجل، يتوفاك إذا شاء أو إذا شئت؟ فإنه كان يقول: إذا شاء، ثم كنت أقول له: أخبرني عن الله عز وجل، يرزقك إذا شاء أو إذا شئت؟ فإنه كان يقول: إذا شاء؛ ثم كنت أقول به: أخبرني عن الله عز وجل إذا توفاك إلى أين تصير حيث شئت أو حيث شاء؟ فإنه كان(20/245)
يقول: ثم قال الأوزاعي: يا أمير المؤمنين من لم يمكنه أن يحسن خلقه، ولا يزيد في رزقه ولا يؤخر أجله ولا يصير نفسه حيث شاء، فأي شيء في يديه من المشيءة يا أمير المؤمنين؟! قال: صدقت يا أبا عمرو.
ثم قال له الأوزاعي: يا أمير المؤمنين! إن القدرية ما رضوا بقول الله عز وجل، ولا بقول الأنبياء، ولا بقول أهل الجنة، ولا بقول أهل النار، ولا بقول الملائكة، ولا بقول أخيهم إبليس. فأما قول الله عز وجل: " فاجتباه ربه فجعله من الصالحين " وأما قول الملائكة: " لا علم لنا إلا ما علمتنا " وأما قول الأنبياء فما قال شعيب: " وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت " وقال إبراهيم: " لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين " وقول نوح: " ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم " وأما قول أهل الجنة فإنهم قالوا: " الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن أهدانا الله " وأما قول أهل النار: " لو هدانا الله لهديناكم " وأما قول أخيهم إبليس: " رب بما أغويتني ".
قال أبو جعفر الخطمي:
بلغ عمر بن عبد العزيز كلام غيلان القدري، فأرسل إليه فدعاه فقال له: ما الذي بلغني عنك تكلم في القدر؟ قال: يكذب علي يا أمير المؤمنين، ويقال علي ما لم أقل. قال: فما تقول في العلم ويلك! أنت مخصومٌ، إن أقررت بالعلم خصمت، وإن جحدت العلم كفرت؛ ويلك! أقر بالعلم تخصم خيرٌ من أن تجحد فتلعن، ووالله لو علمت أنك تقول الذي بلغني عنك لربت عنقك، أتقرأ " يس والقرآن الحكيم " قال: نعم،(20/246)
قال: اقرأ، فقرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم، يس والقرآن الحكيم، إلى أن بلغ " لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون " قال له: قف، كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآية قط، قال: زد، قال: " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون " قال: قف، من جعل الأغلال في أعناقهم؟ قال: لا أدري، قال: ويلك! الله والله، قال: زد، قال: " وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً " قال: قف، ويلك! من جعل السد من بين أيديهم؟ قال: لا أدري، قال: ويلك! الله والله، زد ويلك " وسواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرةٍ وأجرٍ كريم " قف، كيف ترى؟ قال: كأني والله لم أقرأ هذه السورة قط، فإني أعاهد الله أني لا أعود في شيءٍ من كلامي أبداً. فانطلق، فلما ولى، قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن كان أعطاني بلسانه ومحنته في قلبه فأذقه حر السيف.
فلم يتكلم في خلافة عمر وتكلم في خلافة يزيد بن عبد الملك، فلما مات يزيد أرسل إليه هشام: ألست كنت عاهدت الله لعمر أنك لا تكلم في شيءٍ من كلامك قال: أقلني يا أمير المؤمنين، قال: لا أقالني الله إن أنا أقلتك يا عدو الله! أتقرأ فاتحة الكتاب؟ قال: نعم، فقرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين "، قال: قف يا عدو الله، على ما تستعين الله، على أمرٍ بيدك أم على أمرٍ بيده؟ من هاهنا انطلقوا به فاضربوا عنقه واصلبوه، قال: يا أمير المؤمنين على ما تضرب عنقي على غير حجة؟ قال: ويلك! وتكون الحجة المرجح من كتاب الله تنطق عليك بالحق، قال: يا أمير المؤمنين أبرز إلي رجلاً من خاصتك أناظره، فإن أدرك علي أمكنته من علاوتي فليضربها، وإن أنا أدركت عليه فاتبعني به. قال هشام: من لهذا القدري؟ قالوا: الأوزاعي. فأرسل إليه وكان بالساحل فلما قدم عليه قال له: يا قدري! إن شئت ألقيت عليك ثلاثاً، وإن شئت أربعاً وإن شئت واحدة ... الحديث.(20/247)
حدث عبد الله بن مسلم عن أبيه قال: كنت في السوق بالبصرة فرأيت شيخاً لا أعرفه يذكر القدر ويظهره ويدعو إليه، فقلت له: يا شيخ، لا تظهر هذا فإني كنت بالشام فرأيت رجلاً أظهر هذا، فأخذه أمير المؤمنين هشام فقطع يديه ورجليه وقتله وصلبه. قال: فسكت، فسألت عنه؟ فقيل لي هذا عمرو بن عبيد.
كتب رجاء بن حيوة إلى هشام بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين بلغني أنك دخل عليك شيءٌ من قتل غيلان وصالح، وأقسم بالله لك يا أمير المؤمنين أن قتلهما أفضل من قتل ألفين من الروم والترك.
بلغ نمير بن أوس قاضي دمشق أنه وقر في صدر هشامٍ من قتله غيلان شيء، فكتب إليه نمير: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن قتل غيلان من فتوح الله عز وجل العظام على هذه الأمة.
قال إبراهيم بن أبي عبلة: كنت عند عبادة بن نسي، فأتاه آتٍ فقال: إن أمير المؤمنين - يعني هشاماً - قد قطع يدي غيلان ورجليه ولسانه وصلبه، فقال: حقاً ما تقول؟ قال: نعم. فقال: أصاب - والله - فيه السنة والقضية، ولأكتبن إلى أمير المؤمنين فلا حسنن له ما صنع.(20/248)
أسماء النساء على حرف الغين المعجمة
غريبة ابنة عبد الله الحلبية
حدثت عن علي بن بشرى الشرابي بسندها إلى علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من كتابٍ يلقى بمضيعةٍ من الأرض فيه اسم من أسماء الله عز وجل إلا بعث الله إليه سبعين ألف ملك يحفونه بأجنحتهم ويقدسونه حتى يبعث الله إليه ولياً من أوليائه، فيرفعه من الأرض. ومن رفع كتاباً من الأرض فيه اسمٌ من أسماء الله عز وجل رفع الله اسمه في عليين، وخفف عن والديه العذاب وإن كانا مشركين.
أسماء الرجال على(20/249)
حرف الفاء
فارس بن الحسن بن منصور
أبو الهيجاء بن البلخي النبهاني
حدث عن القاضي أبي الحسن عبد العزيز بن محمد بسنده إلى بريدة الأسلمي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك، وأن أعلمك، وأن تعي، وإن حقا على الله أن تعي. ونزلت: " وتعيها أذن واعية " قال: أذن عقلت عن الله عز وجل.
توفي فارس بن البلخي سنة خمسٍ وخمسين وأربع مئة.
فارس بن منصور بن عبد الله
أبو شجاع البزار حدث عن الحسين بن إسماعيل بسنده إلى أبي هارون العبدي قال: كنا إذا جئنا إلى أبي سعيد الخدري قال: مرحباً بوصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قلنا: وما وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: قال لأصحابه: الناس لكم تبع، وسيأتيكم ناسٌ من أقطار الأرض يتفقهون، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً وعلموهم مما علمكم الله.
وحدث عنه أيضاً بسنده إلى أبي سعيد قال: سألنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الجنين فقال: كلوه إن شئتم، ذكاته ذكاة أمه.(20/250)
الفتح بن الحسين بن أحمد بن سعدان
أبو نصر الفارقي حدث عن أبي الحسن علي بن يحيى بن زكار الفارقي اللغوي قال: كان عرض لشيخنا أبي الحسن حاجةٌ في بعض قرى ميا فارقين، فأرسل إلى بعض أصدقائه يستعير منه دابة يركبها، فأنفذ له دابة بلا سرج، فاستعار سرجاً من صديقٍ آخر ومضى لحاجته، فلما عاد أرسل بالدابة إلى صاحبها ومعها رقعةٌ فيها هذه الأبيات: من الوافر
بعثت إليك في أمرٍ مهم ... أردت فما أردت به رواجه
فجدت ببعضه ومنعت بعضاً ... ومن حقٌ المقصر أن يواجه
جزاك الله عني نصف خير ... فإنك قد مننت بنصف حاجه
الفتح بن خاقان بن عرطوج
أبو محمد التركي قدم دمشق معادل المتوكل على جمازة، ونزل بالمزة، فلما رحل المتوكل عن دمشق ولاها الفتح بن خاقان، فاستخلف بعده كلباتكين التركي. وكان أديباً ظريفاً، له شعر حسن، وكان من السماحة في الغاية، وكان على خاتم المتوكل، وقتل معه.
دخل المعتصم يوماً إلى خاقان يعوده، فرأى الفتح ابنه وهو صبي لم يثغر، فمازحه ثم(20/251)
قال: أيما أحسن، داري أم داركم؟ فقال الفتح: يا سيدي دارنها إذا كنت فيها أحسن. فقال المعتصم لا أبرح حتى أنثر عليه مئة ألف درهم. ففعل ذلك.
قال الفتح بن خاقان: غضب علي المعتصم ثم رضي عني وقال: ارفع حوائجك لتقضي، فقلت: يا أمير المؤمنين ليس شيء من عرض الدنيا وإن جل يفي برضى أمير المؤمنين وإن قل. فأمر فحشي فمي جوهراً.
ومن شعر الفتح بن خاقان: من الرمل
بني الحب على الجور فلو ... أنصف المعشوق فيه لسمج
ليس يستملح في وصف الهوى ... عاشقٌ يحسن تأليف الحجج
قال أبو العباس المبرد: ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة: الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل إسحاق القاضي؛ فأما الجاحظ فإنه كان إذا وقع في يده كتاب قرأه من أوله إلى آخره، أي كتاب كان. وأما الفتح فكان يحمل الكتاب في حقه، فإذا قام بين يدي المتوكل ليبول أو ليصلي أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي حتى يبلغ الموضع الذي يريد، ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه إلى أن يأخذ مجلسه. وأما إسماعيل بن إسحاق فإني ما دخلت عليه قط إلا وفي يده كتابٌ ينظر فيه، أو يقلب الكتب لطلب كتابٍ ينظر فيه.
قال البحتري: كان أول ما مدحت به الفتح بن خاقان: من الطويل
هب الدار ردت رجع ما أنت قائله
فأنشدته إياها في سنة ثلاثٍ وثلاثين بعد أن أقمت شهراً لا أصل إلى إنشاده، وهو مع ذلك يجري علي ويصلني، ثم جلس جلوساً عاماً وحضرت وحدي، فأنشدته فرأيته يتبسم عند(20/252)
كل بيتٍ جيد فعلمت أنه يعلم الشعر، وكان ذلك أعجب إلى من جميع ما وصلني به، وكان أول ما اهتز له حين بلغت قولي:
وقد قلت للمعلمي إلى المجد طرفه ... دع المجد فالفتح بن خاقان شاغله
أطل بنعماه فمن ذا يطاوله ... وعم بجدواه فمن ذا يساجله
أمنت به الدهر الذي كنت أتقي ... ونلت به القدر الذي كنت آمله
ولما حضرنا سدة الإذن أخرت ... رجالٌ عن الباب الذي أنا داخله
فأفضيت من قربٍ إلى ذي مهابةٍ ... أقابل بدر الأفق حين أقابله
فسلمت واعتاقت جناني هيبةً ... تنازعني القول الذي أنا قائله
فلما تأملت الطلاقة وانثنى ... إلى ببشرٍ أنستني مخايله
ذنوت فقبلت الثرى من يد امرئٍ ... جميلٍ محياه سباط أنامله
صفت مثلما تصفو المدام خلاله ... ورقت كما رق النسيم شمائله
فلما فرغت سره ما سمع، وأمر لي بخمسة آلاف درهم وقال: أمير المؤمنين يخرج إلى المصلى الفطر ويخطب، فاعمل شعراً تنشده إياه إذا رجع. فلما جاء الفطر وركب ورجع أوصلني إليه، فدخلت فأنشدته: من الطويل فلما بلغت قولي:
وحال عليك الحول بالفطر مقبلاً ... فباليمن والإقبال قابلك الفطر
لعمري لئن زرت المصلى بجحفلٍ ... يرفرف في أثناء راياته النصر
عليك ثياب المصطفى ووقاره ... وأنت به أولى إذا حصحص الأمر(20/253)
ولما صعدت المنبر اهتز واكتسى ... ضياء وإشراقاً كما سطع الفجر
بهرت قلوب السامعين بخطبةٍ ... هي الزهر المبثوث واللؤلؤ النثر
فما ترك المنصور نصرك عندها ... ولا خانك السجاد فيها ولا الحبر
جزيت جزاء المحسنين عن الهدى ... وتمت لك النعمى وطال لك العمر
فقال المتوكل للفتح: هذا شاعرك! فجعل يصفني له، فعلمت أنه في صلتي إلى أن أمر لي بعشرة آلاف درهم، فأخذتها من وقتي وخصصت بالفتح حتى كنت أشفع الناس إليه، ثم صيرني بعد في جلساء المتوكل.
قال البحتري: كنت أمدح المتوكل بمثل مدائحي في الفتح بن خاقان مقوماً لفظي عبر مرسلٍ نفسي، فقال لي الفتح - وكان قوي الأدب حسن المعرفة بالشعر - ليس بك حاجةٌ في مدد أمير المؤمنين إلى مثل هذا، لين كلامك حتى يفهم عنك، فإنه يلذ ما يفهم. فعلمت أنه نصحني، فمدحته بأشعاري الني منها: من الخفيف
لي حبيبٌ قد لج في الهجر جداً ... وأعاذ الصدود منه وأبدا
ومنها قولي: من مجزوء الكامل
لم لا ترق لذل عبدك ... وخضوعه فتفي بوعدك
ومنها قولي: من مجزوء الكامل
عن أي ثغرٍ تبتسم ... وبأي طرفٍ تحتكم
فحظيت عنده وقربت من قلبه، وتوفرت علي صلاته.(20/254)
قال البحتري: قال لي المتوكل: قل في شعراً وفي الفتح، فإني أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي، ولا يفقدني فيذل، فقل في هذا المعنى، فقلت: من الخفيف
سيدي أنت كيف أخلفت وعدي ... وتثاقلت عن وفاء بعهدي
لا أرتني الأيام فقدك يا فت ... ح ولا عرفتك ما عشت فقدي
أعظم الرزء أن تقدم قبلي ... ومن الرزء أن تؤخر بعدي
حسداً أن تكون إلفاً لغيري ... إذ تفردت بالهوى فيك وحدي
فقتلا معاً وكنت حاضراً فربحت هذه الضربة - وأومأ إلى ضربةٍ في ظهره - فقال: أحسنت با بحتري! وجئت بما في نفسي لما أنشدته من أمر الفتح. وأمر لي بألف دينار.
قال البحتري: كنت عملت هذه الأبيات في غلامٍ لي، كنت أكلف به، فلما أمرني المتوكل بما أمر تنحيت فقلت الأبيات وأريته عملتها في وقتي وما غيرت فيها إلا لفظة واحدة، فإني كنت قلت:
لا أرتني الأيام فقدك ما عشت
فجعلته يافتح.
قال علي بن الجهم: إني عند المتوكل يوماً، والفتح جالس إذ قيل له: فلان النخاس بالباب، فأذن له، فدخل ومعه وصيفة، فقال له المتوكل: ما صناعة هذه؟ قال ترقأ بألحان، فقال الفتح: اقرئي لنا خمس آيات، فاندفعت تقول: من السريع
قد جاء نصر الله والفتح ... وشق عنا الظلمة الصبح
خدين ملكٍ ورجا دولةٍ ... وهمه الإشفاق والنصح
الليث إلا أنه ماجدٌ ... والغيث إلا أنه سمح(20/255)
وكل بابٍ للندى مغلقٌ ... فإنما مفتاحه الفتح
قال: فوالله لقد دخل أمير المؤمنين من السرور ما قام إلى الفتح فوقع عليه يقبله، ووثب الفتح يقبل رجله! وأمر أمير المؤمنين بشرائها، وأمر لها بجائزةٍ وكسوة، وبعث بها إلى الفتح، فكانت أحظى جواريه عنده، فلما قتل الفتح رثته بهذه الأبيات: من المنسرح
قد قلت للموت حين نازله ... والموت مقدامةٌ على البهم
لو قد تبينت ما فعلت إذاً ... قرعت سنا عليه من ندم
فاذهب بمن شئت إذ ذهبت به ... ما بعد الفتح للموت من ألم
ولم تزل تبكي وتنوح عليه حتى ماتت.
قال المبرد: سمع الفتح ينشد قبل أن يقتل بساعات: من الطويل
وقد يقتل الغتمي مولاه غيلةٌ ... وقد ينبح الكلب الفتى وهو غافل(20/256)
الفتح بن شخرف بن داود بن مزاحم
أبو نصر الكشي الصوفي قدم دمشق.
حدث عن محمد بن يزيد بن سنان بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل ما يوجد في آخر أمتي درهم من حلال، أو أخ يوثق به.
وحدث عن محمد بن خلف العسقلاني قال: سمعت محمد بن يوسف الفريابي يقول: لقد بلغني أن الذين كسروا رباعية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يولد لهم صبية فنبتت لهم رباعية.
وحدث عن نصر بن الصباح بسنده إلى أبي جعفر قال: أكل علي بن أبي طالب يوماً تمر دقل، ثم شرب عليه ماء، ثم ضرب بيده بطنه وقال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله. ثم تمثل: من الطويل
إنك مهما تعطل نفسك سؤلها ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
قال الفتح بن شخرف: كنت في جامع دمشق والقاسم الجوعي، وأبو تراب النخشبي وأحمد ابن أبي الحواري جلوساً، فحدث أبو تراب، أنه رأى شابا في البادية فقال له: من أين زاد؟ قال: فأخرج مصحفاً فإذا فيه مكتوب " كهيعص " فقلت له: ما هذا؟ فقال: كاف من كافٍ وهاء من هادٍ فيحتاج مع هذا إلى زاد.
وكان الفتح بن شخرف أحد العباد السياحين.(20/257)
حدث الفتح بن شخرف قال: حدثني أبو بكر بن زنجويه بسنده إلى سفيان الثوري أنه قال لوهيب بن الورد وهو ينظر إلى الكعبة: ورب هذه البنية إني لأحب الموت، فقال له وهيب: ولم يا أبا عبد اللله؟ قال: فقال سفيان: يا أبا أمية! تستقبلك أمورٌ عظام، تستقبلك أمورٌ عظام.
قال أحمد بن حنبل: ما أخرجت خراسان مثل فتح بن شخرف.
قال فتح بن شخرف: رأيت رب العزة تعالى في النوم فقال لي: يا فتح، احذر لا آخذك على غرة. قال: فتهت في الجبال سبع سنين.
قال فتح بن شخرف: كنت بأنطاكية، وبها جبل يقال له المطل، فنويت أن أصعد عليه، ولا أزال حتى أختم القرآن - أو أتعلم القرآن - فحملتني عيني فنمت، فبينا أنا نائم إذا أنا بشخصين، فقلت للذي يقرب مني من أنت يا هذا؟ فقال لي: من ولد آم، قلت: كلنا من ولد آدم، قلت: فمن الذي وراءك؟ قال: علي بن أبي طالب، قال: قلت له: أنت قريب منه ولا تسأله! قال: أخشى أن يقول الناس أني رافضي، قال: قلت دعني أقرب منه، فيقولوا أني رافضي. فتنحى من مكانه وقعدت فيه فقلت: يا أمير المؤمنين، كلمة خير شيء؟ فقال لي: نعم صدقة المؤمن بلا تكلفٍ ولا ملل. قلت: زدني يا أمير المؤمنين، قال: تواضع الغني للفقير رجاء ثواب الله. قلت: زدني يا أمير المؤمنين، قال: وأحسن من ذلك ترفع الفقير على الغني ثقة بالله. قلت: زدني يا أمير المؤمنين، فبسط كفه، فإذا فيها مكتوب: من مخلع البسيط.
وكنت ميتاً فصرت حيا ... وعن قليلٍ تعود ميتا
أعيا بدار الفناء بيتٌ ... فابن بدار البقاء بيتا
ثم انتهت.(20/258)
قال فتح بن شخرف: من إعجابي بكل شيء جيد: عندي قلمٌ كتبت به أربعين سنة، كنت أكتب به بالنهار وأكتب به بالليل، وكانت دارنا واسعة، فكنت أكتب في القمر حتى يرتفع، وأقعد على سلم في دارنا أرتقي عليه مرقاة مرقاة، حتى ينتهي السلم، فإذا تشعث رأس القلم قططته، وهو عندي. فأخرج إلي أنبوبة صفراء، وأخرج القلم منها فأرانيه.
قال أبو محمد الجريري: غسلنا الفتح بن شخرف، فرأينا على فخذه مكتوباً: لا إله إلا الله، فتوهمناه مكتوباً، فإذا عرقٌ داخل الجلد.
وفي رواية: غسلت الفتح بن شخرف فقلبته عن يمينه، فإذا على فخذه الأيمن مكتوبٌ خلقة: لله. كتابة بينة.
وكان فتح بن شخرف رجلاً زاهداً لم يأكل الخبز ثلاثين سنة.
توفي الفتح بن شخرف سنة ثلاث وسبعين ومئتين ببغداد، وصلي عليه ثلاث وثلاثون مرة، أقل قوم كانوا يصلون عليه كانوا يعدون خمسة وعشرين ألفاً، إلى ثلاثين ألفاً.(20/259)
الفتح بن عبد الله
أبو علي التميمي حدث عن عبد الوهاب بن عبد الله الوكيل بسنده إلى ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رد اليمين على طالب الحق.
فديك بن سلمان
ويقال: ابن سليمان بن عيسى أبو عيسى العقيلي القيسراني
حدث فديك بن سلمان عن الأوزاعي بسنده إلى صالح بن بشير بن فديك، قال: جاء فديك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إنهم يزعمون أن من لم يهاجر هلك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا فديك، أقم الصلاة، وآت الزكاة، واهجر السوء، واسكن من أرض قومك حيث شئت. قال: وأظنه قال: تكن مهاجراً.
وزاد في حديثٍ آخر: وحج البيت، وصم شهر رمضان.
كان سفيان يقول: الإيمان قولٌ وعمل، يزيد وينقص. قال أحمد: سألت الفريابي عنه، قلت: سمعته من سفيان؟ قال: لم أسمعه منه، وهو كان رأيه. وسألت الفريابي عن قول الأوزاعي قال: سمعته يقول: الإيمان قولٌ وعمل، ولم أسمع: يزيد وينقص. وفديك يخبركم عنه؛ فأتينا فديك بن سليمان فقلنا له: حدثنا، فقال: قدم علينا رجلٌ من دمشق، يزعم أن بدمشق رجلاً يقول: إن الإيمان قولٌ وعمل، يزيد وينقص. فخرجنا من قيسارية نحو من عشرين رجلاً يزعم أن الإيمان قولٌ وعمل، يزيد ولا ينقص؟ فقال لنا أبو عمرو: من زعم أن الإيمان قولٌ وعمل، يزيد ولا ينقص، فاحذروه فإنه مبتدع. وقال الأوزاعي: الإيمان قولٌ وعمل، يزيد وينقص.(20/260)
فرات بن مسلم ويقال ابن سالم
الجزري مولى بني عقيل، والد نوفل بن فرات وفد على عمر بن عبد العزيز.
قال فرات بن مسلم: اشتهى عمر بن عبد العزيز تفاحاً، فطلب له، فلم يوجد فركب وركبنا معه، وتلقاه غلمانٌ من الديارنة بأطباقٍ فيها تفاح، فوقف على طبقٍ منها، فتناول تفاحةٌ فشمها وأعادها في الطبق ثم قال: ادخلوا ديركم، لا أعلم بعثتم إلى أحدٍ من أصحابي بشيء. قال: فحركت بغلتي فلحقته فقلت: ألم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية؟ قال: إنها لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكرٍ وعمر هدية، وللعمال بعدهم رشوة.
قال فرات بن مسلم: كنت أعرض على عمر بن العزيز كتبي في كل جمعةٍ مرة، فعرضتها عليه فأخذ منها قرطاساً نقيا قدر أربع أصابع أو شبر، فكتب فيه حاجة له، فقلت: غفل أمير المؤمنين. فبعث إلي من الغد: جئني بكتبك، قال: فبعثني في حاجة، فلما جئت قال لي: ما آن لنا أن ننظر فيها، قلت: إنما نظرت فيها أمس، قال: اذهب حتى أبعث إليك؛ فلما فتحت كتبي وجدت فيها قرطاساً قدر القرطاس الذي أخذه.
دخل الفرات بم سالم على عمر بن العزيز فقال له عمر: ممن أنت؟ قال: من بني عقيل، قال: من أنفسهم أو من مواليهم؟ قال: لا بل من مواليهم، قال: فلا تقل من بني عقيل، فإنما بنو الرجل ما ولد، ولكن قل: من عقيل.
وكان أبو نوفل ثقة.(20/261)
فراس الشعباني
أحسبه دمشقيا.
كان فراس الشعباني مع غزاةٍ بالقسطنطينية في زمان معاوية. قال فراس: وعلينا يزيد بن شجرة، فبينا نحن عنده إذ مر بنا أبو سعد الخير صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له يزيد: يا أبا سعد! أنت الذي يقول إنه لا بأس أن يقرأ الجنب القرآن، فقال أبو سعد: أنا الذي أقول: الجنب إذا توضأ وضوءه للصلاة، لابأس أن يقرأ الآية والآيتين، وايم الله إنكم لتصنعون ما هو أشد عليكم من ذلك، قال: وما هو؟ قال: تأكلون ما مسته النار ثم تصلون ولا توضؤون، وأنا سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: توضؤوا مما مست النار وغلت به المراجل.
زاد في غيره: والقدور.
97 - فرج بن إبراهيم بن عبد الله أبو القاسم النصيبي الصوفي الأعمش ويعرف بفريج حدث عن سليمان بن محمد بن إدريس بسنده إلى أبي العشراء الدارمي عن أبيه قال: قلت يا رسول الله! ما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ قال: وأبيك لو طعنت في فخذها أجزاك.
وعن فريج قال: سمعت أبا جعفر المصيصي يقول: سمعت سهل بن عبد الله يقول: احفظوا الواد على البياض، فما أحد ترك الظاهر إلا خرج إلى الزندقة.
قال فرج النصيبي بسنده إلى أبي محمد الجريري قال: سمعت قائلاً يقول في المنام: إن الله لا يعبأ بصاحب رواية ولا حكاية، إنما يعبأ بصاحب قلبٍ ودارية.(20/262)
قال الفرج بن إبراهيم: أنسدنا عبد الله بن عصام قال: أنشدني بعض أصحابنا: من الطويل
أخوك الذي لا ينقض الدهر عهده ... ولا عند صرف الدهر يزور جانبه
وليس الذي يلقاك بالود والصفا ... وإن غبت عنه تتبعك عقاربه
فخذ من أخيك العفو واغفر ذنوبه ... ولاتك في كل الأمور تجانبه
إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
إذا أنت لم تشرب مرراً على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
الفرج بن فضالة بن النعمان بن نعيم
أبو فضالة التنوخي الحمصي وقيل إنه دمشقي.
حدث عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كنت أغلف لحية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالغالية ثم يحرم.
وحدث فرج بن فضالة، عن العلاء بن الحارث، عن محكول قال: مرض معاذ بن جبل، فأتاه أصحابه يعودونه، فقال: أجلسوني، فأجلسوه فقال: كلمةٌ سمعتها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: من كان آخر كلامه عند الموت لا إله إلا الله وحده لا شريك له هدمت ما كان قبلها من الذنوب والخطايا، فلقنوها موتاكم. فقيل: يا أبا عبد الرحمن! فكيف هي للأحياء؟ قال: هي أهدم وأهدم.
وحدث عن لقمان بن عامرٍ عن أبي أمامة قال: حججت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا لعلكم أن لا تروني بعد عامي هذا - ثلاث مرات - فقام إليه رجلٌ طوال أشعث كأنه من أزد شنوءة فقال: يا رسول الله! فما الذي نفعل؟ قال: اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وحجوا بيت ربكم، وأدوا زكاتكم، طيبة بها أنفسكم تدخلوا جنة ربكم.(20/263)
ولد الفرج بن فضالة في خلافة الوليد بن عبد الملك في غزاة مسلمة الطوانة، فجاء الخبر بولادته في يوم فتح الطوانة؛ فأعلم أبوه مسلمة خبر ولادته، فقال له مسلمة: ما سميته؟ قال: سميته الفرج لما فرج عنا في هذا اليوم بالفتح، فقال مسلمة لفضالة: أصبت. وكان أصاب المسلمين في الإقامة على الطوانة شدة شديدة، وذلك في سنة ثمانٍ وثمانين.
وتوفي فرج سنة ست وسبعين ومئة - وقيل سنة سبعٍ وسبعين - وكان على بيت مال بغداد ز وكان ضعيفاً - وقال أحمد بن حنبل: هو ثقة.
أقبل المنصور يوماً راكباً والفرج بن فضالة جالسٌ عند باب الذهب، فقام الناس. فدخل من الباب، ولم يقم له الفرج، فاستشاط غضباً ودعا به، فقال: ما منعك من القيام حين رأيتني؟ قال: خفت أن يسألني الله عنه لم فعلت، ويسألك لم رضيت؟ وقد كرهه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فبكى المنصور، وقربه وقضى حوائجه.
فروة بن عامر ويقال ابن عمرو
ابن النافرة الجذامي أسل عل عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستشهد في أيامه. وكان يكون بالبلقاء بعمان ومعان من نواحي دمشق.(20/264)
كان فروة بن عمرو عاملاً للروم على عمان من أرض البلقاء أو على معان، فأسلم وكتب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسلامه، وبعث به مع رجلٍ من قومه يقال له مسعود بن سعد، وبعث إليه ببغلةٍ بيضاء، وفرسٍ وحمارٍ وأثواب لين، وقباء سندس مخرصٍ بالذهب. فكتب إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى فروة بن عمرو، أما بعد، فقد قدم علينا رسولك وبلغ ما أرسلت به، وخبر عما قبلكم، وأتانا بإسلامك، وأن الله هداك بهداه إن أصلحت وأطعمت الله ورسوله، وأقمت الصلاة وأتيت الزكاة. وأمر بلالاً فأعطى رسوله مسعود بن سعد اثنتي عشرة أوقية ونشا. قال: وبلغ ملك الروم إسلام فروة، فدعاه فقال له: ارجع عن دينك نملكك، قال: لا أفارق دين محمد، وإنك تعلم أن عيسى قد بشر به ولكن تضن بملكك. فحبسه ثم أخرجه، فقتله وصلبه. ولما حبس قال في محبسه: من الكامل
طرقت سليمى موهناً أصحابي ... والروم بين الباب والقروان
صد الخيال وساءه ما قد رأى ... وهممت أن أغفي وقد أبكاني
لا تكحلن العين بعدي إثمداً ... سلمى ولا تدنن للإيمان
ولقد علمت أبا كبيشة أنني ... وسط الأعزة لا يحس لساني
فلئن هلكت لتفقدن أخاكم ... ولئن أصبت لتعرفن مكاني
زلقد عرفت بكل ما جمع الفتى ... من رأيه وبنجدةٍ وبيان(20/265)
فلما أجمعوا على صلبه على ماءٍ يقال له عفرى من فلسطين، فلما رفع على خشبته قال:
ألا هل أتى سلمى بأن حليلها ... على ماءٍ عفرى فوق إحدى الرواحل
على ناقةٍ لم يضرب الفحل أمها ... مشذبة أطرافها بالمناجل
فلما قدموه ليقتلوه قال:
بلغ سراة المسلمين بأنني ... سلم لربي أعظمي ومقامي
ويروى: أعظمي وبناني.
فروة بن مجاهد اللخمي الفلسطيني
مولى لخم حدث فروة بن مجاهد عن سهل بن معاذ الجهني قال: غزوت مع أبي الصائفة في زمن عبد الملك بن مروان، وعلينا عبد الله بن عبد الملك فنزلنا على حصن سنان فضيق الناس المنازل وقطعوا الطريق، فقام أبي في الناس فقال: أيها الناس إني غزوت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة كذا وكذا، فضيق الناس المنازل وقطعوا الطريق، فبعث نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منادياً فنادى في الناس، أن من ضيق منزلاً أو قطع طريقاً فلا جهاد له.
وحدث فروة عن عقبة بن عامر الجهني قال: كنت أمشي ذات يومٍ مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عقبة بن عامر، صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك. ثم قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ياعقبة بن عامر، أمسك لسانك، وابك على خطيئتك، وليسعك بيتك.(20/266)
وكان فروة بن مجاهد يقول إذا حدثنا بهذا الحديث: ألا رب من لايملك لسانه، ولا يبكي على خطيئته، ولا يسعه بيته.
وحدث فروة بن مجاهد أن طاغية الروم لما دعاه وأصحابه إلى قتال برجان، ووعدهم تخلية سبيلهم إن نصرتم عليهم فأجبناه إلى ذلك. قال لي أصحابي: وكيف تقاتلهم بلا دعوة إلى الإسلام؟ فقال: لا يجيبنا الطاغية، ولكني سأرفق، فقلت للطاغية: إن رأيت أن تأذن لنا فنقيم الصلاة ونجمعها معشر المسلمين بين الصفين، ثم قولوا أنتم جاءنا مددنا من العرب، فتكون صلاتنا بين الصفين مصدقاً لما قلتم من ذلك. فأجابنا إلى ذلك وأقمنا الصلاة، فصلينا وقاتلناهم فنصرنا الله عليهم وخلى سبيلنا.
وفي آخر حديث غيره: ولم ير أهل العلم في ذلك الزمان بما صنعوا بأساً.
قال: وكانوا لا يشكون في أن فروة من الأبدال، مستجاب الدعاء.
فريج بن أحمد بن محمد
أبو عبد الله القرشي حدث عن أبي القاسم علي بن يعقوب بن أبي العقب بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تسافر المرأى سفر ثلاثة أيامٍ فصاعداً إلا مع زوجها أو ابنها أو ذي محرم.
زاد في روايةٍ أخرى: أو أخيها.(20/267)
فضالة بن أبي سعيد المهري المصري
قال: سمعت عمر بن عبد العزيز على منبر دمشق يقول: يا أهل الشام! قد بلغني عنكم أحاديث، ما أ، ابالراجي لخيركم ولا بالآمن من شركم، وقد مللتموني ومللتكم، فأراخني الله منكم وأراخكم مني. فما علاه حتى مات.
فضالة بن شريك بن سلمان بن خويلد
ابن سلمة بن عامر موقد النار ابن الحربش بن نمير الأسدي كان مخضرماً، أدرك الجاهلية والإسلام. وكان شاعراً فاتكاً صعلوكاً. وفد على يزيد بن معاوية ومدحه، ومن شعره في نساء بني حرب: من الوافر
رمى الحدثان نسوة آل حربٍ ... بمقدار سمدن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضاً ... ورد وجوههن البيض سودا
أى فضالة بن شريك عبد الله بن الزبير فقال له: قد نفدت نفقتي ونقبت راحلتي فاحملني، فقال له: أحضر راحلتك، فأحضرها، فقال له: أقبل بها أدبر بها، ففعل، فقال: ارفعها بسبت، واخصفها بهلب، وأنجد بها يبرد خفها، وسر عليها البردين تصح. فقال ابن فضالة: إنما أتيتك مستحملاً ولم أتك مستوصفاً، لعن الله ناقة حملتني(20/268)
إليك. فقال ابن، الزبير: إن وراكبها - يريد نعم وراكبها - فانصرف ابن فضالة وهو يقول: من الوافر
أقول لغلمتي شدوا ركابي ... أفارق بطن مكة في سواد
فما لي حين أقطع ذات عرقٍ ... إلى ابن الكاهلية من معاد
سيبعد بيننا نص المطايا ... وتعليق الأداوي والمزاد
وكل معبدٍ قد أعلمته ... مناسمهن طلاع النجاد
أرى الحاجات عند أبي خبيبٍ ... نكدن ولا أمية بالبلاد
من الأعياص أو من آل حربٍ ... أغر كغرة الفرس الجواد
الكاهلية: إحدى جدات ابن الزبير، فقال: علم أنها ألأم أمهاتي فسبني بها.
وأبو خبيب: عبد الله بن الزبير، كان يكنى أبا خبيب وأبا بكر.
مر فضالة بن شريك بعاصم بن عمر بن الخطاب وهو متبد بناحية المدينة، فنزل به، فلم يقره شيئاً ولم يبعث إليه ولا إلى أًحابه بشيء، وقد عرفوه مكانهم، فارتحلوا عنه(20/269)
والتفت فضالة إلى مولى لعاصم فقال: قل له أم والله لأطوقنك طوقاً لا يبلى. فقال يهجوه: من الطويل
ألا أيها الباغي القرى لست واجداً ... قراك إذا ما بت في دار عاصم
إذا جئته تبغي القرى بات نائماً ... بطيناً وأمسى ضيفه غير طاعم
فدع عاصماً أف لأفعال عاصمٍ ... إذا حصل الأقوام أهل المكارم
فتى من قريشٍ لا يجود لسائلٍ ... ويحسب أن البخل ضربة لازم
ولولا يد الفاروق قلدت عاصماً ... مطوقة يحدى بها في المواسم
فليتك من جرم بن ربان أو بني ... فقيمٍ أو النوكي أبان بن دارم
أناس إذا ما الضيف حل بيوتهم ... غدا جائعاً غيمان ليس بغانم
فلما بلغت أبياته عاصماً استعدى عليه عمرو بن سعيد بن العاص وهو بالمدينة فعاذ فضالة بن شريك بيزيد بن معاوية، وعرفه ذنبه وما تخوف منه، فأعاده وكتب إلى عاصم يخبره أن فضالة أتاه مستجيراً به، وأنه يجب أن يهبه له ولا يذكر لمعاوية شيئاً من أمره، ويضمن له أن لا يعود لهجائه. فقبل ذلك عاصم، وشفع يزيد بن معاوية، وامتدح فضالة يزيد بأبيات.
فضالة بن عبيد بن نافذ
ابن قيس بن صهيب بن الأصرم أبو محمد الأنصاري من أصحاب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين بايعوه تحت الشجرة ولاه معاوية على الغزاة، وولاه قضاء دمشق، وكان خليفة معاوية على دمشق إذا غاب عنها.(20/270)
حدث فضالة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من مات على مرتبةٍ من هذه المراتب بعث عليها يوم القيامة.
قال حيوة بن شريح: رباط حج ونحو ذلك.
وعن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثلاث هن الفواقر: إمام إن أحسنت لم يشكر، وإن أسأت لم يغفر؛ وجارٌ إن رأى خيراً دفنه، وإن رأى شراً أشاعه؛ وامرأة إن حضرتك آذتك، وإن غبت خانتك.
زاد في حديث موقوف: خانتك في مالك ونفسها.
وشهد فضالة بن عبيد أحداً والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخرج إلى الشام ولم يزل فيها حتى مات هنا:. وشهد فتح مصر، وولي بها القضاء والبحر لمعاوية، وتوفي بدمشق سنة ثلاثٍ وخمسين ويقال: إن بها ولده اليوم، وقد كان غزا المغرب مع رويفع بن ثابت.
قال عبد الله بن المكرم مختار هذا الكتاب: هذا رويفع بن ثابت جدي أنتسب إليه، رحمه الله.
ويقال: مات سنة ثلاثٍ وخمسين. ويقال سنة سبعٍ وخمسين. وقيل سنة تسع وخمسين.
قال فضالة بن عبيد: لما كان الذي قدم فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قباء لقيناه نفر من صرطه ونحن غلمان نحتطب، فأرسلنا إلى أهلنا وقال: قولوا قد جاء صاحبكم الذي تنتظرون. قال: فخرجنا إلى أهلنا فأخبرناهم، وأقبل القوم.(20/271)
زاد في غيره بمعناه: وكان يومئذٍ ابن ست سنين.
ومات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن سبع عشرة سنة. والذي ذكر من أنه شهد أحداً والخندق هو الصواب.
وشهد فضالة بيعة الضوان وكان أصغر من شهدها.
وقال معاوية - حين هلك فضالة بن عبيد وهو يحمل نعشه - لابنه عبد الله بن معاوية: تعال اعقبني فإنك لن تحمل مثله أبداً.
وروى جابر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليدخلن الجنة من بايع تحت الشجرة.
قال القاسم أبو عبد الرحمن:
غزونا مع فضالة بن عبيد، ولم يغز فضالة في البر غيرها، فبينا نحن نسير أو نسرع في السير وهو أمير الجيش - وكانت الولاة إذ ذاك يستمعون ممن استرعاهم الله عليه - فقال قائل: أيها الأمير، إن الناس قد تقطعوا، قف حتى يلحقونك. فوقف في مرجٍ عليه قلعة، فيها حصن، فمنا الواقف ومنا النازل إذا نحن برجل ذي شوارب أحمر بين أظهرنا فأتينا به فضالة فقلنا: إن هذا هبط من الحصن بلا عهدٍ ولا عقد، فسأله فضالة ما شأنه؟ فقال: إني البارحة أكلت الخنزير وشربت الخمر فبينا أنا نائم أتاني رجلان، فغسلا بطني، وجاءتني امرأتان لا تفضل إحداهما على الأخرى فقالتا: أسلم؛ فأنا مسلم. فما كانت كلمته أسرع من أن رمينا بالزبر، فأقبل يهوي حين أصابه فدق عنقه، فقال فضالة: الله أكبر! عمل قليلاً وأجر كثيراً، صلوا على صاحبكم، فصلينا عليه ودفناه.
قال القاسم: هذا شيء أنا رأيته.
سأل رجلٌ فضالة بن عبيد أن يكتبه في أصحابه حين ولي، فلم يجبه، فقال له الرجل: أتمنعني ذلك وقد انقطعت إليك ورغبت في قربك؟! فقال فضالة: امحوه من(20/272)
عمل الله واكتبوه في عمال فضالة. فأنكر الرجل ذلك، فقال فضالة: هو على ذلك، تدعون وتحشرون يوم القيامة مع من كنتم تعملون.
حدث أبو مكينة قال: قال فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خذ هذا المصحف، فأمسك علي ولا ترد علي ألفاً ولا واواً فإنه سيكون قوم لا يسقطون ألفاً ولا واواً. ثم رفع فضالة يديه فقال: اللهم لا تجعلنا منهم.
كان أبو الدرداء يقضي على أهل دمشق، ولما احتضر أتاه معاوية عائداً له فقال: من ترى لهذا الأمر بعدك؟ قال: فضالة بن عبيد. فلما توفي أبو الدرداء قال معاوية لفضالة: إني قد وليتك القضاء، فاستعفى منه، فقال له معاوية: والله ما حابيتك بها، ولكني استترت بك من النار، فاستتر منها ما استطعت.
ولما خرج معاوية إلى صفين استخلف فضالة بن عبيد على دمشق.
وقعت لرجلٍ مئة دينار فعرفها فقال: من وجدها فله عشرون ديناراً، فأقبل الذي وجدها فقال: هذا مالك فأعطني الذي جعلت لي، فقال صاحب المال: كان مالي عشرين ومئة دينار، فاختصما إلى فضالة، فقال فضالة لصاحب المال: أليس طان مالك عشرين ومئة دينارٍ كما تذكر؟ قال: بلى، فقال للرجل الذي وجد المال: أليس الذي وجدت مئة؟ قال: بلى، قال: فاحبس هذا المال ولا تدفعه إليه، فليس بماله، حتى يجيء صاحبه.
كان فضالة بن عبيد إذا أتاه أصحابه قال: تدارسوا وأسندوا وزيدوا، زادكم الله خيراً وأحبكم وأحب من يحبكم، ردوا علينا المسائل فإن أجر آخرها كأجر أولها، واخلطوا حديثكم بالاستغفار.
كان فضالة بن عبيد يقول: لأن أعلم أن الله تقبل مني مثقال حبةٍ من خردل أحب(20/273)
إلي من الدنيا وما فيها، لأن الله يقول: " إنما يتقبل الله من المتقين ".
قال ابن محيريز: صحبت فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت له: أوصني رحمك الله، فقال: احفظ عني ثلاث خلال ينفعك الله بهن: إن استطعت أن تعرف ولا تعرف فافعل، وإن استطعت أن تسمع ولا تكلم فافعل، وإن استطعت أن تجلس ولا يجلس إليك فافعل.
كتب معاوية إلى فضالة بن عبيد يخطب ابنته على ابنه يزيد؛ فكتب إليه: أما بعد فقد جاءني كتابك تخطب ابنتي على ابنك يزيد، وإني كتبت إليك ببيتي شعر فاعرفهما وتدبرهما:
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ... لها حفدٌ من ما يعد كثير
ولكنها نفسٌ علي كريمةٌ ... عيوفٌ لأصهار الئام قذور
فضائل بن الحسن بن الفتح
أبو القاسم بن أبي محمد الأنصاري الكتاني كان يخرج إلى القرى ويقايض الكتان بالغزل.
حدث بجامع دمشق عن سهل بن بشر بسنده إلى ابن عمر قال: مسى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصلاة العشاء حتى ملا المصلي واستيقظ المستيقظ ونام النائمون وهجد المتهجدون ثم خرج فقال: لولا أن أشق على أمتي أمرتهم أن يصلوا هذا الوقت. أو هذه الصلاة، أو نحوها.
توفي فضائل سنة خمسٍ وخمسين وخمس مئة.(20/274)
الفضل بن جعفر بن الفضل بن محمد
ابن أحمد بن إبراهيم أبو العباس الجوزجاني المقرئ حدث عن محمد بن علي بن عبد الله السلمي بسنده إلى عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا معشر المسلمين، أطعموا طعامكم الأتقياء، وأولوا معروفكم المؤمنين.
الفضل بن جعفر بن محمد
ابن أبي عاصم أحمد بن حماد بن صبيح بن زياد أبو القاسم التميمي المؤذن الطرائفي كان عبداً صالحاً.
حدث عن أبي شيبة داود بن إبراهيم بن زوربه بسنده إلى أبي هريرة قال: لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الراشي والمرتشي في الحكم.
توفي الفضل بن جعفر سنة ثلاثٍ وسبعين وثلاث مئة.
الفضل بن دلهم الواسطي القصاب
حدث عن ابن سيرين عن معقل بن يسار أن رجلاً من الأنصار تزوج امرأة سقط شعرها، فسئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلعن الواصلة والموصولة.
وحدث عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر، جلد مئة ونفي سنة، والثيب بالثيب، جلد مئة والرجم.(20/275)
قال فضل بن دلهم: كنا نتعلم المروءة في عسكر هشام بن عبد الملك كما بتعلم الانسان القرآن.
قيل: إنه شاعرٌ معتزلي، وحديثه صالح. وقيل: إنه في القلب من أحاديثه شيء.
الفضل بن سهل بن بشر بن أحمد
ابن سعيد أبو المعالي بن أبي الفرج الإسفراييني الواعظ المعروف بالأثير ولد بتنيس ونشأ بدمشق ورحل عنها إلى حلب، ووعظ بها، وكان يعرف ببغداد بالأثير الحلبي، وكان له خط حسن وكان يتطفل بالري.
حدث عن الشيخ أبي الفرج سهل بن بشر بن أحمد الإسفراييني بسنده إلى أنس بن مالك - وفي كل شيخ يقول: وعدهن في يدي - قال أنس: عدهن في يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: عدهن في يدي جبريل قال: عدهن في يدي ميكائيل قال: عدهن في يدي إسرافيل قال: عدهن في يدي رب العالمين جل جلاله قال لي: اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك جميدٌ مجيد؛ اللهم بارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد؛ اللهم ارحم محمداً وآل محمد كما رحمت إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد؛ اللهم تحنن على محمدٍ وعلى آل محمد كما تحننت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد؛ ولد أبو الفرج سنة إحدى وستين وأربع مئة، ومات ببغداد.(20/276)
الفضل بن سهل بن محمد بن أحمد
أبو العباس المروزي الصفار حدث بدمشق وروى عن أبي عمرو لاحق بن الحسين بن عمران بن أبي الورد الأندلسي بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطلبوا العلم يوم الاثنين فإنه ييسر لطالبه.
الفضل بن صالح بن علي
ابن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم أظنة أبو العباس الهاشمي ولي إمرة دمشق في خلافة المنصور.
حدث عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: سيكون بعدي فتن يصطلم فيها العرب، اللسان فيها أشد من السيف، قتلاها جميعاً في النار.
ولد الفضل سنة اثنتين وعشرين ومئة.
ولي الفضل دمشق سنة تسعٍ وأربعين تسع سنين. وهو الذي عمل الأبواب للمسجد والقبة التي في الصحن وتعرف بقبة المال. وتوفي الفضل سنة اثنتين وسبعين ومئة.
الفضل بن عبد المطلب بن هاشم
أبو عبد الله ويقال أبو العباس ويقال أبو محمد الهاشمي ابن عم سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورديفه قدم الشام مجاهداً فهلك به. واختلف في الوقت والموضع الذي أصيب به، فقيل: إنه قتل بمرج الصفر، وقيل بأجنادين، وقيل باليرموك. والأظهر أنه مات في طاعون عمواس.(20/277)
حدث الفضل بن عباس - وكان رديف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انه قال في عشية عرفة وغداة جميع الناس حين دفعوا: عليكم السكينة. وهو كاف ناقته حتى دخل محسراً - وهو من منى قال: عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة. وقال: لم يزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكبر حتى رمى الجمرة.
زاد في غيره: والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشير بيده كما يخذف الإنسان.
حدث الفضل بن عباس قال:
جاءني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موعوكاً قد عصب رأسه فقال: خذ بيدي. فأخذت بيده، فأقبل حتى جلس على المنبر ثم قال: ناد في الناس. فصحت في الناس، فاجتمعوا إليه، فقال: أما بعد أيها الناس، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، ألا فإنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يقل رجلٌ إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حقاً إن كان له، أو حللني فلقيت الله تعالى وأنا طيب النفس، وقد أرى أن هذا غير مغنٍ عني حتى أقوم فيكم مراراً.
قال الفضل: ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، فعاد لمقالته الأولى وغيرها، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله، إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال أما إنا لا نكذب قائلاً ولا نستحلفه علي يمين، فبم كانت لك عندي؟ فقال: يا رسول الله، تذكر يوم مر بك المسكين فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم. فقال: أعطه يا فضل. فأمر به فجلس، ثم قال: يا أيها الناس، من كان عنده شيء فليؤده، ولا يقل رجل: فضوح الدنيا، فإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة. فقالم رجل فقال: يا رسول الله، عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله، قال: ولم غللتها؟ قال: كنت إليها محتاجاً. قال: خذها منه يافضل. ثم قال: أيها الناس، من خشي من نفسه شيئاً فليقم أدع له. فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله، غني لكذاب، وإني لفاحش، وإني لنؤوم. فقال: اللهم ارزقه صدقاً وأذهب عنه النوم إذا أراد. ثم قام آخر فقال: والله يا رسول الله، إني لكذاب، وإني لمنافق وما من شيءٍ من الأشياء إلا قد جئته. فقام عمر بن(20/278)
الخطاب فقال: فضحت نفسك أيها الرجل. فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بن الخطاب، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقاً وإيماناً، وصير أمره إلى خير. فقال عمر كلمة فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: عمر معي وأنا مع عمر، والحق بعدي مع عمر حيث كان.
وعن الفضل عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الصلاة مثنى، وتشهد مستقبلاً في كل ركعتين، وتشرع وتخشع وتمسكن ثم تقنع يديك - يقول ترفعهما - إلى ربك مستقبلاً بطونهما وجهك وتقول: يا رب! يا رب! يا رب! من لم يفعل ذلك فهي خداج.
وفي رواية: صلاة الليل مثنى مثنى.
وشهد الفضل غسل سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستشهد بالشام في خلافة أبي بكر الصديق يوم أجنادين ويقال: يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة. ويقال يوم اليرموك في خلافة عمر سنة خمس عشرة، وقيل مات في طاعون عمواس، وعمواس قريةً من قرى الشام، وقيل إنما هي غرب سوس. وقيل: مات سنة ثمان عشرة. وكان غزا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة وحنيناً؛ وثبت يومئذٍ مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين ولى الناس مهزمين فيمن ثبت معه من أهل بيته وأصحابه، وشهد معه حجة الوداع وأردفه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان فيمن غسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتولى دفنه. وكان أسن ولد العباس وأمه أم الفضل، واسمها لبابة بنت الحارث بن حزن، وكانت أم الفضل أول امرأةٍ أسلمت بمكة بعد خديجة رضي الله عنهما.
قال الهيثم بن عدي: توفي الفضل بن العباس سنة ثمانٍ وعشرين قبل أبيه بأربع سنين.(20/279)
وقيل: توفي قبل أبيه بست عشرة سنة. وقبل: توفي وهو ابن إحدى وعشرين سنة.
وعن علي عليه السلام قال: أردف - يعني - النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفضل - يعني - يوم النحر، ثم أتى الجمرة فرماها، ثم أتى المنحر فقال: هذا المنحر، ومنى كلها منحر واستفتته جاريةٌ شابةٌ من خثعم فقالت: إن أبي شيخٌ كبير قد أفند، وقد أدركته فريضة الله عز وجل في الحج، فيجزئ أن احج عنه؟ فقال: حجي عن أبيك. ولوى عنق الفضل، فقال له العباس: لم لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شابا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما.
وعن ابن عباس قال: كان الفضل أكبر مني فكان يردفني وأكون بين يديه.
قال: كان ابن عباس في سفره إلى الشام يطعم طعامه، ويأمر فيتصدق بفضلته، وإذا سار تعجل على فرسه حتى يسبق ثقله ورفقاءه، ثم لا يزال يصلي حتى يلحقوا به، وهو مطولٌ لفرسه، وفرسه ترعى وعنانه في يده؛ وكان يجدد الوضوء لكل صلاةٍ مكتوبة، وينام من أول الليل، ثم يقوم فيصلي إلى وقت الرحيل. وإذا مر بركبٍ من المسلمين سلم عليهم. فأتاه مولى له وقد نال الناس الطاعون فقال: بأبي أنت وأمي لو انتقلت إلى مكان كذا وكذا، فقال: والله ما أخاف أن أسبق أجلي ولا أحاذر أن يغلط بي، وإن ملك الموت لبصيرٌ بأهل كل بلد.
نفق فرسٌ لرجلٍ مع الفضل بن عباس في رفقته، فأعطاه فرساً كان يجنب له، فعاتبه بعض المتنصحين إليه فقال: أبتبخيلي تتنصح إلي!؟ إنه كفى لؤماً أن يمنع الفضل ويترك المواساة، والله ما رأيت الله حمد في كتابه إلا المؤثرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
ولم يترك الفضل ولداً ذكراً ولم يولد إلا أم كلثوم.(20/280)
الفضل بن العباس بن عتبة
ابن أبي لهب واسمه عبد العزى بن عبد المطلب، واسمه شيبة بن هاشم ابن عبد مناف الهاشمي اللهبي المكي شاعر مشهور وفد على معاوية بن أبي سفيان، وعلى عبد الملك بن مروان.
قال معاوية يوماً وعنده عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عباس، والفضل بن عباس بن أبي لهب: إن بابي لكم مفتوح، وإن خير يلكم لممنوح فلا تقطعوا خيري عنكم، ولا بابي دونكم، فقد نظرت في أمري وأمركم، فرأيت أمراً مختلفاً، إنكم ترون أنكم أحق بهذا الأمر مني وأنا أحق به منكم، فإذا أعيتكم بعض حقوقكم قلتم أعطانا أقل من حقنا، وقصر بنا دون منزلتنا فصرت كأني مسلوب، والمسلوب لا حق له، فبئس المنزلى نزلت بها منك، ونعم المنزلة نزلتم بها مني. قال له عبد الله بن عباس: ما هاهنا مسلوب غيرنا، إذ كان الحق حقنا دون الناس، ووالله ما منحتنا شيئاً حتى سألناك، ولا فتحت لنا باباً حتى قرعناه، ولئن قطعت خيرك عنا إن الله عز وجل لأرحم بنا منك، ولئن غلقت بابك عنا لنكرمن أنفسنا عنك، والله ما سألنا قط عن خلة، ولا أحفينا فس مسألة، وإن من ضعة الدين وعظيم الفتنة في المسلمين قرعنا بابك وطلبنا ما في يدك؛ فأما هذا الفيء فليس لك منه إلا ما لرجلٍ من المسلمين، ولنا في كتاب الله حقان: حق الفيء وحق الخمس، فالفيء ما جتبي، والخمس ما غلب عليه؛ فعلى أي الوجوه جرى منك أخذناه وحمدنا الله عليه، ثم لم يخرجك الله منخيرٍ جرى على يديك، ولولا حقنا في هذا المال لم نأتك. فقال معاوية: كفاك كفاك. وخرج القوم فأنشأ الفضل بن العباس بن أبي لهب يقول: من الوافر
ألا أبلغ معاوية بن صخرٍ ... فإن المرء يعلم ما يقول
لنا حقان حق الخمس جارٍ ... وحق الفيء جاء به الرسول
فكل عطيةٍ وصلت إلينا ... وإن سحبت لطالبها الذيول(20/281)
أتيح له ابن عباس مجيباً ... فلم يدر ابن هندٍ ما يقول
فأدركه الحياء فصد عنه ... وخطبهما إذا ذكرا جليل
وأم الفضل أمية بنت العباس بن عبد المطلب، وهي لأم ولد سوداء ولذلك يقول الفضل: من الرمل
كل حي صيغةٌ من تبرهم ... وبنو عبد منافٍ من ذهب
إنما عبد منافٍ جوهرٌ ... زين الجوهر عبد المطلب
فأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب
من يساجلني يساجل ماجداً ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
قصدوا قومي وساروا سيرةً ... كلفوا من سارها جهد التعب
قال محمد الكلبي:
لم يكن أحدٌ من بني هاشم أكثر غشياناُ لمعاوية من عبد الله بن العباس؛ فوفد إليه مرةٌ معنده وفود العرب فأقعده على يمينه ثم أقبل عليه فقال: نشدتك بالله يا بن عباس أن لو وليتمونا أتيتم إلينا ما أتينا إليكم من الترحيب والتقريب، وعطائكم الجزيل وإكرامكم عن القليل، وصبرتم على ما صبرنا عليه منكم؟ إني لا آتي إليكم معروفاً إلا صغرتموه؛ أعطيكم العطية فيها قضاء حقوقكم فتأخذونها متكارهين عليها، يقولون: قد نقص حقنا وليس هذا تأميلنا. فإني آمل بعد ألف ألف أعطيها الرجل منكم، ثم أكون أسر بإعطائها منه بأخذها، والله لقد انخدعت لكم في مالي وذللت لكم في عرضي، أرى انخداعي تكرماً وذلي(20/282)
حلماً، ولو وليتمونا رضينا منكم بالإنصاف، ثم لا نسألكم أموالكم لعلنا بحالنا وحالكم ويمون أبغض الأمور إلينا أحبها إليكم؛ قل يا بن عباس. فقال ابن عباس: ولو ولينا منكم مثل الذي وليتم منا اخترنا المواساة، ثم لم يعش الحي بشتم الميت، ولم ينبش الميت بعداوة الحي، ولأعطينا كل ذي حق حقه؛ فأما إعطاؤكم الرجل منا ألف ألف فلستم بأجود منا أكفا، ولا أسخى منا نفساً، ولا أصون لأعراض المروءة وأهداف الكرم، ونحن أعطى في الحق منكم على الباطل، وأغضى على التقوى منكم على الهوى، فأما رضاكم منا بالكفاف، فلو رضيتم به منا لم نرضى لأنفسنا بذلك والكفاف رضى من لا حق له، فلو رضيتم به منا اليوم فأقبلتمونا عليه أمس، فلا تستعجلونا، ولا تلفظونا حتى تذوقونا. فقال الفضل: من الطويل
وقال ابن خربٍ قولة أمويةً ... يريد بما قد قال تفنيش هاشم
أجب يا بن عباسٍ تراكم لو أنكم ... ملكتم رقاب الأكرمين الأكارم
أتيتم إلينا ما أتينا إليكم ... من الكف عنكم واجتباء الدراهم
فقال ابن عباسٍ مقالاً أمضه ... ولم يك عن رد الجواب بنائم
نعم لو وليناكم عدلنا عليكم ... ولم تشتكوا منا انتهاك المحارم
ولم يعتمد للحي والميت غمةٌ ... يحدثها الركبان أهل المواسم
ولم نعطكم إلا الحقوق التي لكم ... وليس الذي يعطي الحقوق بظالم
وما ألف ألفٍ تستميل ابن جعفرٍ ... بها يا بن حربٍ عند خز الغلاصم
وأصبح يرمي من رماكم ببغضه ... عدو المعادي سالماً للمسالم
فأعظم بما أعطاك من نصح جيبه ... ومن أمر عيبٍ ليس فيه بنادم(20/283)
خرج علي بن عبد الله بن العباس بالفضل اللهبي إلى عبد الملك بن مروان بالشام، فخرج عبد الملك بن مروان يوماً راكباً على نجيب، ومعه حادٍ يحدو به، وعلي بن عبد الله على يساره على نجيبٍ له ومعه بغلةٌ تجنب، فحدا حادي عبد الملك به: من مشطور الرجز
يا أيها البكر الذي أراكا
عليك سهل الأرض في ممشاكا
ويحك هل تعلم من علاكا
إن ابن مروان على ذراكا
خليفة الله الذي امتطاكا
لم يعل بكراً مثل ما علاكا
فعارضه الفضل اللهبي، فحدا بعلي بن عبد الله بن عباس فقال: من مشطور الرجز
يا أيها السائل عن علي
سألت عن بدرٍ لنا بدري
أغلب في العلياء غلابي
ولين الشيمة هاشمي
جاء على بكرٍ له مهري
فنظر عبد الملك إلى علي فقال: هذا مجنون آل أبي لهب؟ قال: نعم. فلما أعطى قريشاً مر به اسمه فحرمه وقال: يعطيه علي.
لقي الأحوص الشاعر الأنصاري الفضل بن العباس بن أبي لهب، فأنشده الأحوص من شعره، فقال له الفضل: إنك لشاعر، ولكنك لا تحسن تؤبد، فقال الأحوص: بلى والله إني لأحسن أؤبد حين أقول وقال: من البسيط(20/284)
م ذات خبلٍ يراه الناس كلهم ... وسط الجحيم فلا يخفى على أحد
ترى حبال جميع الناس من شعرٍ ... وحبلها وسط أهل النار من مسد
فقال الفضل بن العباس يجيبه: من البسيط
ماذا تريد إلى شتمي ومنقصتي ... لما تعير من حمالة الحطب
غراء سائلةٍ في المجد غرتها ... كانت سلالة شيخٍ ثاقب النسب
أفي ثلاثة رهطٍ أنت رابعهم ... عيرتني واسطاً جرثومة العرب
فلا هدى الله قوماً أنت سيدهم ... في جلدةٍ بين أصل الثيل والذنب
قال الفرزدق أتيت الفضل بن العباس اللهبي وهو يميح بدلوٍ من زمزم وهو يقول: من الرمل
وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب
من يساجلني يساجل ماجداً ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ورسول الله جدي جده ... وعلينا كان تنزيل الكتب
قال: قلت من يساجلك فرجلي في كذا من أمه. قال: أتعرفني لا أم لك؟ قال: قلت: وكيف لا وقد فرغ الله في أبويك سورةً من كتابه! فقال جل وعز " تبت يدا أبي لهب " قال: فضحك وقال: أنت الفرزدق؟ قلت: نعم. قال: قد علمت أن أحداً لا يحسن هذا غيرك.
ومعنى قوله فرغ: أي ليس في السورة غير ذكر أبي لهبٍ وذكر امرأته.
قال المصنف: وقد الطف الفرزدق فيما خاطب به الفضل، لأنه لما لم يمكنه مساجلته وقد فخر بنسبه من هاشم وقرباه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي بما يخصه ويقل من عزته.(20/285)
الفضل بن العباس
أبو بكر الرازي الصائغ الحافظ المعروف بفضلك قدم دمشق طالباً للحديث.
وحدث عن محمد بن مهران بسنده إلى عمر. بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يدخل الجنة من أتى ذات محرم.
توفي الفضل بن العباس فضلك الحافظ سنة سبعين ومئتين.
وكان ثقةً، ثبتا، حافظاً، إمام عصره في معروفة الحديث.
الفضل بن عبد الله بن مخلد
ابن ربيعة أبو نعيم الجرجاني المخلدي التميمي القاضي حدث عن محمود بن خداش بسنده إلى علي بن أبي طالب قال: صليت العصر مع عثمان بن عفان أمير المؤمنين، فرأى خياطاً في ناحية المسجد، فأمر بإخراجه، فقيل له: يا أمير المؤمنين! إنه يكنس المسجد ويغلق الباب ويرش أحياناً! فقال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقو: جنبوا صناعكم مساجدكم.
وحدث عن أبي مروان الدمشقي بسنده إلى عائشة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من وقر صاحب بدعةٍ فقد أعان على هدم الإسلام.
وحدث عن العباس بن الوليد الخلال قال: سمعت محمد بن القاسم بن سميع يقول: سألت أبا حنيفة في مسجد الحرام عن شرب النبيذ فقال لي: عليك بأشده فإنك لن تقوم لشكره.
توفي الفضل بن عبد الله سنة ثلاثٍ وتسعين ومئتين.(20/286)
الفضل بن عمر بن أحمد
ويقال: فضل الله أبو طاهر النسوي المعروف أبوه بلبل قدم مع أبيه دمشق.
حدث بسنده إلى عائشة رضوان الله عليها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأذننا إذا كان يوم المرأة منا بعدما نزلت " ترجي من تشاء منهن وتؤوي إلك من تشاء ". قالت معازة: فقلت: كيف كنت تقولين لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا استأذنك؟ قلت: أقول: إن كان ذلك إلي لم أوثر أحداً على نفسي.
الفضل بن قدامة بن عبيد
ابن محمد بن عبيد بن عبد الله بن عبدة بن الحارث بن إياس بن عوف ويقال: اسمه المفضل بن قدامة بن عبيد الله وفي نسبه اختلاف أبو النجم العجلي الراجز وفد على سليمان وهشام ابني عبد املك وكان مقدماً عند جماعةٍ من أهل العلم على العجاج، ولم يكن أبو النجم كغيره من الرجاز الذين لم يحسنوا أن يقصدوا، لأنه يقصد فيجيد.
قال معاوية يوماً لجلسائه: أي أبيات العرب في الضيافة أحسن؟ فأكثروا، فقال: قاتل الله أبا النجم حيث يقول: من الطويل
لقد علمت عرسي قلانة أنني ... طويلٌ سنا ناري بعيدٌ خمودها
إذا حل ضيفي بالفلاة فلم أجد ... سوى مثبت الأطناب شب وقودها(20/287)
وبقي إلى أيام هشام بن عبد الملك. وكان الأصمعي يغمز عليه وهو القائل: من مشطور الرجز
والمرء كالحالم في المنام
يقول إني مدرك أمامي
في قابلٍ ما فاتني في العام
والمرء يدنيه من الحمام
مر الليالي السود والأيام
إن الفتى يصبح للأسقام
كالغرض المنصوب للسهام
أخطأ رامٍ وأصاب رام
قال هشام للشعراء: صفوا لي إلابلاً فقيظوهن وأوردوهن وأصدروهن حتى كأني أنظر إليهن. قال أبو النجم: فذهب بي الروي حتى قلت:
وصارت الشمس كعين الأحول
فغضب هشام وقال: أخرجوا هؤلاء، لا يدخلن هذا علي.
وكان بالرصافة أحدهما يغدي والآخر يعشي، فكنت أتغدى عند أحدهما وأتعشى عند الآخر، وأبيت في المسجد، فأمسى هشام ذات ليلةٍ لقس النفس، فقال لحاجبه ربيع: ابغني رجلاً غريباً يحدثني، فخرج فأخرجني من المسجد، فأدخلني عليه، فقال لأبي النجم: ألم يكن أمرنا بإخراحك عن هذه القرية، فمن آواك ومن أم مثواك؟ فقلت: أما الغداء فمن عند فلان، والعشاء من عند فلان، والمبيت من حيث(20/288)
أخرجت. فقال: ما مالك وولدك؟ قلت: أما المال فلا مال، وأما الأهل فالنتان. قال: هل زوجتهما؟ قلت: إحداهما، قال: فما أوصيتهما؟ قال: مالاً يجديه علي أمير المؤمنين. قال: هاته، قال: من مشطور الرجز
أوصيت من برة قلباً حرا
بالكلب خيراً والحماة شرا
لا تسأمي خنقا لها وجرا
والحي عميهم بشر طرا
وإن حبوك ذهباً ودرا
حتى يروا حلو الحياة مرا
فضحك حتى استلقى وقال: يا أبا النجمك! ما هذه وصية يعقوب لبنيه! قلت: يا أمير المؤمنين، ولا أنا مثل يعقوب. قال: فما زدتها؟ قلت: بلى، قال: هاته. قلت: من مشطور الرجز
سبي الحماة وابهتي عليها
فإن دنت فازدلفي إليها
وإقرعي بالود مرفقيها
وظاهري النذر به عليها
لاتخبري الدهر به ابنتيها
قال: فما فعلت أختها؟ قال: درجت بين أبيات الحي ونفعتنا، قال: هل قلت فيها شيئاً قلت: نعم، قال: هاته، قلت: من مشطور السريع
كأن ظلامة أخت شيبان
يتيمةٌ والدها حيان(20/289)
الرأس قمل كله وصئبان
وليس في الرجلين إلا خيطان
فهي التي يذعر منها الشيطان
فقال هشام لخصي على رأسه: يا بديح، ما فعلت دنانير فلانة؟ قال: ها هي يا أمير المؤمنين، قال: ادفعها إلى أبي النجم يجعلها في رجلي ظلامة.
دخل أبو النجم على هشام بن عبد الملك فقال له: كيف رابك يا أبا النجم في النساء؟ قال: ما لهن عندي خير، ما أنظر إليهن إلا شزراً، وما ينظرن إلي إلا خزراً، فما ظنك يا أمير المؤمنين؟ قال: ظني بنفسي، قال: لا علم لك يا أبا النجم. ثم أرسل إلى جوارٍ له فسألهن عما ظن أبو النجم، فقلن: يا أمير المؤمنين، وما علم هذا! ثم أقبلن على أبي النجم فقلن: يا أعرابي، أتقول هذا لأمير المؤمنين، وليس منا امرأة تصلي إلا بغسلٍ منه؟! قال هشام: يا أبا النجم، دونك هذه الجارية - لواحدةٍ منهن - فأخذ بيدها ثم أمره أن يغدو عليه بخبرها. فغدا عليه ولم يصنع شيئاً، فلما رآه قال: ما صنعت يا أبا النجم؟ قال: ما صنعت شيئاً ولقد قلت في ذلك شعراً. قال: وما هو؟ قال: قلت:
نظرت فأعجبها الذي في درعها ... من حسنه ونظرت في سربالها
فرأت لها كفلاً ينوء بخصرها ... وعثاً روادفه وأخثم ناتيا
ضيقاً يعض بكل عردٍ ناله ... كالقعب أو ضرعٍ يرى متجافيا
ورأيت منتشر العجان مقبضاً ... رخواً حمائله وجلداً باليا(20/290)
أدني له الركب الحليق كأنما ... أدني إليه عقارباً وأفاعيا
إن الندامة والسدامة فاعلمن ... لو قد صبرتك للمواسي خاليا
ما بال رأسك من ورائي خالفاً ... أحسبت أن حر الفناة ورائيا
فاذهب فإنك ميتٌ لا ترتجى ... أبد الأبيد ولو عمرت لياليا
أنت الغرور إذا خبرت وربما ... كان الغرور لمن رجاه شافيا
كان أبو عمرو بن العلاء يقول: أشعر أرجوزةٍ قالتها العرب قول أبي النجم:
الحمد لله الوهوب المجزل ... أعطى فلم يبخل ولم يبخل
قال: ولم أر أسير منها، لم أر عربياً إلا وهو ينشدها أو بعضها.
ذوك رؤبة بالأراجيز فقال وقد ذكر أبو النجم قصيدته تلك: لعنها الله - يعني هذه اللامية لاستجادته إياها وغصبه منها وحسده عليها.
قال أبو سليم العلاء: قلت لرؤبة: كيف رجز أبي النجم عندكم؟ قال: لاميته تلك عليها لعنة الله. فإذا هي قد غاظته وبلغت منه.
وكان أبو النجم ربما قصد فأجاد، ولم يكن كغيره من الرجاز الذين لم يحسنوا أن يقصدوا، وكان صاحب فخر وبذخ.
اجتمع الشعراء عند سليمان بن عبد الملك فأمرهم أن يقول كل رجلٍ منهم قصيدةٌ يذكر(20/291)
فيها مآثر قومه ولا يكذب: ثم جعل لمن برز منهم جاريةٌ مولدة. فأنشدوه وأنشد أبو النجم حتى أتى على قوله: من الكامل
عدوا كمن ربع الجيوش لصلبه ... عشرون وهو يعد في الأحياء
قال: أشهد إن كنت صادقاً إنك لصاحب الجارية. فقال أبو النجم: سل الملأ عن ذلك يا أمير المؤمنين. فقال الفرزدق: أما أنا فأعرف منه ستة عشر، ومن ولد ولده أربعةٌ كلهم قد ربع. فقال سليمان ولد ولده هم ولده، ادفع إليه الجارية.
الفضل بن محمد بن عبد الله
ابن الحارث بن سليمان أبو العباس الباهلي الأنطاكي العطار الأحدب حدث عن محمد بن هشام بسنده إلى ابن عمر نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن القزع.
وحدث عن كثير الحذاء بسنده إلى سمرة قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا نكاح إلا بولي، وإذا أنكح المرأة وليان فالأول أحق بالنكاح.
توفي سنة سبعٍ وثلاث مئة.
وحدث عن أبي عقيل يحيى بن حبيب بسنده إلى ابن عباس قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من آتاه الله وجهاً حسناً واسماً حسناً، وجعله في موضعٍ غير شائنٍ له فهو من صفوة الله عز وجل. ثم أنشأ ابن عباسٍ يقول: من الخفيف(20/292)
أنت شرط النبي إذ قال يوماً ... اطلبوا الخير من حسان الوجوه
خرجه الدارقطني وغيره وقالوا: هو كذاب.
الفضل بن محمد بن المسيب
ابن موسى بن زهير بن يزيد بن كيسان بن باذان أبو محمد الشعراني البيهقي من رسناق نيسابور. سمع بدمشق.
حدث عن أبي صالح بسنده إلى أبي الدرداء قال: سمعت أبا القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها - يقول: إن الله قال: يا عيسى بن مريم إني باعث بعدك أمةٌ إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا. ولا حلم ولا علم. قال: يا رب! وكيف يكون هذا لهم ولا حلم ولا علم؟! قال: أعطيهم من حلمي وعلمي.
توفي سنة ثمانين ومئتين. وكان ثقة، مأموناً.
وقيل: توفي سنة اثنتين وثمانين ومئتين.
الفضل بن محمد
أبو المعالي الهروي، الفقيه قدم دمشق.
وحدث عن أبي الحسن محمد بن يحيى بسنده إلى أبي الصلت الهروي قال: كنت مع علي بن موسى الرضا، فدخل نيسابور وهو راكب بغلة شهباء أو أشهب - قال أبو الصلت: الشك مني - وقد عدوا في طلبه فتعلقوا بلجامه وفيهم ياسين بن النصر، قالوا: يا بن رسول الله، بحق أبائك الطاهرين، حدثنا بحديثٍ سمعته من أبيك؛ فأخرج(20/293)
رأسه من العمارية فقال: حدثني أبي الرجل الصالح موسى بن جعفر، حدثني أبي الصادق جعفر بن محمد، حدثني أبي محمد بن علي، حدثني أبي علي بن الحسين، حدثني أبي الحسين بن علي. حدثني أبي علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: سمعت جبريل يقول: قال الله عز وجل: أنا الله الذي لا إله إلا أنا، يا عبادي فمن جاء منكم بشهادة أن لا إله إلا الله بالإخلاص دخل في حصني ومن دخل في حصني أمن عذابي.
وفي رواية عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول الله: لا إله إلا الله حصني، فمن دخله أمن عذابي.
الفضل بن مروان
أبو العباس البرذاني، الوزير ولي الوزراة للمعتصم، وقدم معه دمشق ومع المتوكل، وكان كاتباً للسيدة أم المتوكل.
قال الفضل بن مروان: مضيت مع المعتصم إلى علي بن عاصم ليسمع منه، فقال علي بن عاصم: حدثنا عمرو بن عبيد - وكان قدريا - فقلت: يا أبا الحسن! إذا كان قدريا فلم تروي عنه؟ فالتفت علي إلى المعتصم فقال: ألا ترى كاتبك هذا يشغب علينا - وكان ذلك في إمارة المعتصم قبل أن يلي الخلافة.
وفي رواية: فقال له المعتصم: يا أبا الحسن أما يروى أن القدرية مجوس هذه الأمة؟ قال: بلى، قال: فلم تروي عنه؟ قال: لأنه نقةٌ في الحديث صدوق. قال: فإن كان المجوسي ثقة، فما تقول؟ أتروي عنه؟ فقال له علي: أنت شغاب يا أبا إسحاق.(20/294)
قال الفضل بن مروان:
لما دخل إبراهيم بن المهدي على المأمون وقد ظفر به، كلمه إبراهيم بكلامٍ كان سعيد بن العاص كلم به معاوية بن أبي سفيان في سخطةٍ سخطها عليه واستعطفه، وكان المأمون يحفظ الكلام، فقال له المأمون: هيهات يا إبارهيم! هذا كلامٌ سبقك به فحل بني العاصي بن أمية وقارحهم سعيد بن العاص، وخاطب به معاوية. فقال له إبراهيم: فكان مه يا أمير المؤمنين؟ وأنت أيضاً إن غفرت فقد سبقك فحل بني خرب وقارحهم إلى العفو، فلا تكن حالي في ذلك عندك أبعد من حال سعيد عند معاوية، فإنك أشرف منه، وأنا أشرف من سعيد، وأنا أقرب إليك من سعيدٍ إلى معاوية؛ وإن أعظم الهجنة أن تسبق أمية هاشماً إلى مكرمة. فقال: صدقت يا عم وقد عفوت عنك.
قال الفضل بن مروان: علمان نظرت فيهما وأنعمت النظر فلم أرهما يصحان: النجوم والسحر.
كان الفضل متصلاً برجل من العمال يكتب له - وكان حسن الخط - ثم صار مع كاتبٍ للمعتصم يقال له يحيى الجرمقاني، وكان الفضل بن مروان يخط بين يديه، فلما مات الجرمقاني صار الفضل في موضعه وكان يكتب للفضل علي بن حسان الأنباري، فلم يزل كذلك حتى بلغ المعتصم الحال التي بلغها والفضل كاتبه، ثم خرج منها إلى معسكر المأمون، ثم خرج معه إلى مصر، فاحتوى على أموال مصر، ثم قدم الفضل قبل موت المأمون بغداد ينفذ أمور المعتصم ويكتب على لسانه ما أحب حتى قدم المعتصم خليفة، فصار الفضل صاحب الخلافة، وصارت الدواوين كلها تحت يديه وكنز الأموال. وقدم أبو إسحاق حين دخل بغداد يأمره بإعطاء المغني والملهي، فلا ينفذ الفضل ذلك، فثقل على أبي إسحاق.
وكان إبراهيم المعروف بالهفتي مضحكاً، فأمر له المعتصم بمال، وتقدم إلى الفضل بن مروان بإعطائه، فلم يعطه الفضل شيئاً مما أمر له به المعتصم. فبينا الهفتي يوماً عند المعتصم بعدما بنيت داره التي ببغداد، واتخذ له فيها بستان، قام المعتصم يتمشى في البستان ينظر إليه، وإلى ما فيه من أنواع الرياحين ومعه الهفتي، وكان الهفتي يصحب المعتصم قبل أن تفضي إليه الخلافة فيقول له فيما يداعبه: والله لا تفلح أبداً - وكان الهفتي رجلاً مربوعاً(20/295)
والمعتصم رجلاً معرقاً خفيف اللحم، فجعل المعتصم يسبق الهفتي في المشي، فإذا تقدمه ولم ير الهتفي معه التفت إليه فقال: مالك لا تمشي! يستعجله المعتصم ليلحق به، فلما كثر ذلك من المعتصم على الهفتي قال له الهفتي مداعباً له: كنت أراني أماشي خليفة ولم أكن أراني أماشي فيجاً! والله لا أفلحت. فضحك المعتصم وقال: ويلك وهل بقي من الفلاح شيء لم أدركه؟ أبعد الخلافة تقول لي هذا؟! فقال الهفتي: أتحسب أنك قد أفلحت الآن؟ إنما لك من الخلافة الاسم، ما يجاوز أمرك أذنيك، وإنما الخليفة الفضل بن مروان الذي يأمر فينفذ أمره من ساعته. فقال المعتصم وأي أمرٍ لا ينفذ لي؟! فقال الهفتي: أمرت لي بكذا وكذا منذ شهرين فما أعطيت مما أمرت به منذ ذاك حبة.
قال: فاحتجنها المعتصم على الفضل حتى أوقع به. فلما كان سنة تسع عشرة ومئتين - وقيل سنة عشرين ومئتين - خرج المعتصم يريد القاطول، ويريد البناء بسامراء، فصرفه كثرة زيادة دجلة، فلم يقدر على الحركة؛ فانصرف إلى بغداد إلى بغداد إلى الشماسية. ثم خرج بعد، فلما صار بالقاطول غضب بن مروان وأهل بيته، وأمرهم برفع ما جرى على أيديهم، وأخذ الفضل وهو مغضوبٌ عليه في عمل حسابه، فلما فرغ الحساب لم يناظر وأمر بحبسه وأن يحمل إلى منزله ببغداد، وحبس أصحابه، وصير مكانه محمد بن عبد الملك الزيات فنفى الفضل إلى قريةٍ في طريق الموصل يقال لها السن، لم يزل بها مقيماً.
فذكر أن المعتصم لما استوزر الفضل بن مروان حل من قلبه المحل الذي لم يكن أحدٌ يطمع في ملاحظته فضلاً عن منازعته، ولا في الاعتراض في أمره ونهيه؛ فكانت هذه صفته حتى حملته الدالة وحركته الحرمة على خلافه في بعض ما كان يأمر به، ومنعه ما كان يحتاج إليه من الأموال في مهم أموره.(20/296)
وذكر عن ابن أبي دواد قال:
كنت أحضر المعتصم وكثيراً أسمعه يقول للفضل: احمل إلي كذا وكذا، فيقول: ما عندي، فيقول: احتلها من وجه، فيقول: من أين أحتالها؟ ومن يعطيني هذا القدر من المال؟ وعند من أجده؟ فكان ذلك يسوؤه، وأعرفه في وجهه، فلما كثر هذا من فعله ركبت إليه يوماً فقلت له مستلياً به: يا أبا العباس إن الناس يدخلون بيني وبينك بما أكره وتكره، وعلى ذلك فما أدع نصيحتك، وأداء ما يجب علي في الحق لك، وأراك كثيراً مما ترد على أمير المؤمنين أجوبةً غليظة تمرضه وتقدح في قلبه، والسلطان لا يحمل هذا لابنه، لا سيما إذا كثر ذلك وغلظ. قال: وما ذاك يا أبا عبد الله؟ قلت: أسمعه كثيراً ما يقول لك: نحتاج إلى كذا وكذا من المال، فنصرفه في وجه كذا وكذا، فتقول: من يعطيني هذا؟ وهذا ما لايحتمله الخلفاء. قال: فما أصنع إذا طلب مني ما ليس عندي؟ قلت: تصنع أن تقول: نحتال في ذلك بحيلة، فتدفع عنك إلى أن يتهيأ، وتحمل إليه بعض ما يطلب وتسوفه بالباقي. قال: نعم أفعل وأصير إلى ما أشرت به. قال: فلكأني كنت أغريه بالمنع؛ فكان إذا عاود مثل ذلك من القول عاد إلى ما يكره من الجواب. قال: فلما كثر ذلك عليه دخل يوماً عليه وبين يديه حزمة نرجسٍ غض، فأخذها المعتصم فهزها ثم قال: حياك الله يا أبا العباس؛ فأخذها الفضل بيمينه، وسل المعتصم خاتمه من إصبع يساره وقال له بكلامٍ خفي: أعطني خاتمي، فانتزعه من يده ووضعه في يد ابن عبد الملك.
خرج الفضل بن مروان يوماً فرأى مكتوباً على حائط داره: من الطويل
تفرعنت يا فضل بن مروان فاعتبر ... فقبلك كان الفضل والفضل والفضل
ثلاثة أملاكٍ مضوا لسبيلهم ... أبادهم التنكيل والحبس والقتل
وإنك قد أصبحت في الناس لعنةً ... ستودي كما أودى الثلاثة من قبل
وإنما عنى الفضل بن يحيى بن خالد، والفضل بن سهل، والفضل بن الربيع. فإنهم درجوا قبل الفضل بن مروان.(20/297)
وفي الفضل بن مروان يقول محمد بن عبد الله العروضي وكنيته أبو بكر من حضرموت: من البسيط
لا تغبطن أخا دنيا بمقدرةٍ ... فيها وإن كان ذا عز وسلطان
يكفيك من حادثات الدهر ما صنعت ... حوادث الدهر بالفضل بن مروان
إن الليالي لم تحسن إلى أحدٍ ... إلا أساءت إليه بعد إحسان
العيش حلوٌ ولكن لا بقاء له ... جميع ما الناس فيه زائل فاني
توفي الفضل بن مروان سنة خمسٍ ومئتين بسر من رأى.
فضيل بن عياض بن مسعود
ابن بشر أبو علي التميمي ثم اليربوعي الخراساني المروزي الزاهر قدم الشام.
حدث عن أبي علي بسنده إلى أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه.
وحدث عن الأعمش بسنده إلى علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. وأشهد أنه مما كان يشر إلي: لتخضبن هذه من هذه. وأشار إلى لحيته ورأسه.
قال الفضيل: بينما أنا ذات يوم جالس إذ قال رجلٌ من أصحابي: ألا تأتي فلاناً فقد لزم بيته وحفر قبراً؟ قلت: كيف عقله؟ قال: قيل سديد طباعٍ. فأحببت أن آتيه، فأتيته فجلست(20/298)
إليه أتأمله، فسيق إلي قلبي أنه كل ما قيل فيه أنه الحق وأكثر من الخوف - يعني قال: فلم أرده أن قلت بعد السلام عليه: إن الناس قد قالوا خبرك، فانظر أي رجلٍ تكون. قال: ثم خرجت من عنده فلقيني بعد كم شاء الله في بلاد الشام يوم جمعة، فبصر بي ولم أره، فقبض علي ثم قال: أبا علي! لقد أتعبتنا؛ قال فضيل: فرجعت باللائمة على نفسي فقلت: أيها العالم أتيت أخاً لك فألقيت إليه كلمةٌ فأتعبته، فأنت كنت أحق بالدؤوب والتعب أيها العالم.
ولد الفضل بخراسان بكورة أبيورد، وقيل ولد بسمرقند. وقدم الكوفة وهو كبير، فسمع الحديث، ثم تعبد وانتقل إلى مكة. وكان ثقةٌ، ثبتا، فاضلاً، عابداً، ورعاً، كثير الحديث.
ونهر عياض الذي على نصف فرسخٍ من مرو منسوب إلى أبيه. وكان أحد العلماء والزهاد والفتيان. تفتى في أول أمره. وكان شريك بن عبد الله القاضي وسفيان الثوري، وإسرائيل، وفضيل بن عياض، وغيرهم من فقهاء الكوفة ولدوا بخراسان. كان يضرب على آبائهم البعوث، فيتسرى بعضهم وتزوج بعضهم، فلما قفلوا جاء بهم آباؤهم إلى الكوفة.
قال الفضيل: ولدت بسمرقند - وكان من أهل نسا - ورأيت بها عشرة آلاف جوزةٍ بدرهم.
وكان فضيل شاطراً يقطع الطريق في مفازةٍ بين أبيورد ومرو. فربما كان ينتمي إلى أبيورد.
وقيل: كان يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس. وكان سبب توبته أنه عشق جاريةً، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو: " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " فقال: يا رب قد آن. فرجع، فآواه الليل إلى خربةٍ فإذا فيها رفقة(20/299)
سابلة، فقال بعضهم: نرتحل، وقال قوم: حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا. فتاب الفضل وآمنهم، وجاور الحرم حتى مات.
وقيل إنه قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقومٌ من المسلمين هاهنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.
وقيل: إنه خرج ليلةٌ ليقطع الطريق فإذا هو بقافلةٍ قد انتهت إليه ليلاً، فقال بعضهم لبعض: اعدلوا بنا إلى القرية فإن أمامنا رجلاً يقطع الطريق يقال له الفضيل. فسمع الفضيل، فأرعد وقال: يا قوم أنا الفضيل جوزوا، والله لاجتهدن أن لا أعصي الله أبداً. فرجع وترك ما كان عليه.
وقيل: إنه خرج عشية يريد مقطعه، فإذا بقومٍ حمارة معهم ملح، فسمع بعضهم يوقل مروا لا يفجأنا فضيل فيأخذ ما معنا. فسمع ذلك فضيل فاغتم وتفكر وقال: يخافني هذا الخلق الخوف العظيم! فتقدم إليهم وسلم عليهم وقال لهم وهم لا يعرفونه: تكونون الليلة عندي وانتم آمنون من الفضيل. فاستبشروا وفرحوا وذهبوا معه فأنزلهم وخرج يرتاد لهم علفاً فرجع إليهم فسمع قارئاً يقرأ " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق " فصاح الفضيل ومزق ثيابه على نفسه وقال: بلى والله قد آن: فكان هذا مبتدأ توبته.
قال الفضيل: إذا أحب الله عبداً أكثر غمه، وإذا أبغض عبداً وسع عليه دنياه.
وقال الفضيل: لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي لا أحاسب بها لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه.(20/300)
وقال الفضيل: لو حلفت أني مراءٍ أحب إلي من أن أحلف أني لست بمراء.
وقال: ترك العمل لأجل الناس هو الرياء، والعمل لأجل الناس هو الشرك.
وقال أبو علي الرازي: صحبت الفضيل ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكاً ولا مبتسماً إلا يوم مات ابنه علي! فقلت له في ذلك، فقال: إن الله أحب أمراً فأحببت ذلك.
وقال ابن مبارك: إذا مات الفضيل ارتفع الحزن.
وقال الفضيل: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي.
وكان عبد الله بن المبارك يقول: رأيت أعبد الناس، ورأيت أورع الناس، ورأيت أعلم الناس، ورأيت أفقه الناس؛ فأما أعبد الناس فعبد العزيز بن أبي رواد، وأما أورع الناس فالفضيل بن عياض، وأما أعلم الناس فسفيان الثوري، وأما أفقه الناس فأبو حنيفة. ثم قال: ما رأيت في الفقه مثله.
قال ابن المبارك: ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من الفضيل بن عياض.
قال إبراهيم بن سعيد: قال لي المأمون: يا إبراهيم، قال لي الرشيد: ما رأيت عيناي مثل فضيل بن عياض! قال لي وقد دخلت عليه: يا أمير المؤمنين، فرغ قلبك للحزن والخوف حتى يسكناه، فيقطعاك عن معاصي الله ويباعداك من النار.(20/301)
قال شريك بن عبد الله: لم تزل لكل قومٍ حجة في أهل زمانهم، وإن فضيل بن عياض حجةٌ لأهل زمانه؛ فقام فتى من المجلس، فلما توارى قال الهيثم بن جميل: إن عاش هذا الفتى يكون حجة لأهل زمانه. قيل: من هذا الفتى؟ قيل: أحمد بن حنبل.
قال إبراهيم بن الأشعث: رأيت سفيان بن عيينة يقبل يد الفضيل بن عياض مرتين.
قال عبد الله بن المبارك: إن الفضيل بن عياض صدق الله فأجرى الحكمة على لسانه. فالفضيل ممن نفعه علمه.
وكان الفضيل بن عياض يقول: لم يتزين الناس بشيء أفضل من الصدق وطلب الحلال. فقال له علي: يا أبه! إن الحلال عزيز. قال الفضيل: يا بني، وإن قليله عند الله كثير.
قال ابن المبارك:
إذا نظرت إلى فضيل بن عياض جدد لي الحزن ومقت نفسي. ثم بكى.
قال عبد الله بن المبارك لأبي مريم القاضي: ما بقي في الحجاز أحدٌ من الأبدال إلا فضيل بن عياض وعلي ابنه، وعلي يقدم على أبيه في الخوف. وما بقي أحدٌ في بلاد الشام إلا يوسف بن أسباط وأبو معاوية الأسود، وما بقي أحدٌ بخراسان إلا شيخٌ حائك يقال له معدان.
قاليحيى بن أيوب: دخلت مع زافر بن سليمان على الفضيل بن عياض بالكوفة فإذا الفضيل وشيخ معه؛ قال: فدخل زافر وأقعدني على الباب، قال زافر: فجعل الفضيل ينظر إلى ثم قال: يا أبا سليمان هؤلاء أصحاب الدنيا ليس شيء أحب إليهم من قرب الإسناد، ألا أخبرك بإسناد لا يشك فيه: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جبريل عن الله عز وجل " ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكةٌ غلاظٌ شداد " الآية.. فأنا وأنت يا أبا سليمان من الناس. قال: ثم غشي(20/302)
عليه وعلى الشيخ، وجعل زافر ينظر إليهما، قال: تحرك الفضيل فخرج زافر وخرجت معه والشيخ مغشي عليه.
قال إبراهيم بن الأشعث: ما رأيت أحداً كان الله عز وجل في صدره أعظم من الفضيل بن عياض؛ كان إذا ذكر الله أو ذكر عنده، أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن، وفاضت عيناه وبكى حتى يرحمه من بحضرته؛ وكان دائم الحزن شديد الفكرة، ما رأيت رجلاً يريد الله يعلمه وعمله وأخذه وعطائه ومنعه وبذله وبغضه وحبه وخصاله كلها غيره - يعني الفضيل.
قال إبراهيم بن الأشعث: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي لكأنه مودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة، حتى يبلغ المقابر، فيجلس، فلكأنه بين الموتى جلس، من الحزن والبكاء حتى يقوم ولكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.
وكان فضيل يقول: لأن أكون هذا التراب أو هذا الحائط أحب إلي من أن أكون في سلخ أفضل أهل الأرض اليوم؛ وما يسرني أن أعرف الأمر حق معرفته إذاً لطاش عقلي. ولو أن أهل السماء والأرض طلبوا أن يكونوا تراباً فسفعوا كانوا قد أعطوا عظيماً. ولو أن جميع أهل الأرض من جن وإنس، والطير الذي في الهواء، والوحش الذي في البر، والحيتان التي في البحر، علموا الذي يصيرون إليه، ثم حزنوا لذلك وبكوا كان موضع ذلك؛ فأنت تخاف الموت أو تعرف الموت؛ لو أخبرتني أنك تخاف الموت ما قبلت منك، لو خفت الموت ما نفعك طعام ولا شراب ولا شيء من الدنيا.
قال سهل بن راهويه: قلت لسفيان بن عيينة: أما ترى إلى الفضيل بن عياض، ما تكاد تجف له دمعة! قال سفيان: كان يقال: إذا فرح القلب نديت العينان؛ ثم تنفس سفيان نفساً منكراً.(20/303)
سئل الفضيل بن عياض عن قوله عز وجل " سلامٌ علسكم بما صبرتم "؟ قال: بما احتملتم من المكاره وصبرتم عن اللذات في الدنيا.
قال الفضيل بن عياض: دانقٌ حلالٌ أفضل من عبادة سبعين سنة، وقال: من عرف ما يدخل جوفه كتب عند الله صديقا؛ انظر عند من تفطر با مسكين.
قال بشر بن الحارث: عشرةٌ ممن كانوا يأكلون الحلال لا يدخلون بطونهم إلا حلالاً ولو استفوا التراب والرماد. قلت: من هم يا أبا نصر؟ قال: سفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم، وسليمان الخواص، وعلي بن فضيل، ويوسف بن أسباط، وأبو معاوية نجيح الخادم. وحذيفة بن قتادة المرعشي، وداود الطائي، ووهيب بن ورد، وفضيل بن عياض.
قال الفضيل بن عياض: مكثت في جامع الكوفة ثلاثة أيام لم أطعم طعاماً ولم أشرب شراباً، فلما كان اليوم الرابع هرني الجوع، فبينا أنا جالس إذ دخل علي في باب المسجد رجلٌ مجنون وبيده حجرٌ كبير، وفي عنقه غل ثقيل، والصبيان من ورائه، فجعل يجول في المسجد حتى إذا حاذاني جعل يتفرس في، فخفت على نفسي منه، فقلت: إلهي وسيدي! أجعتني وسلطت علي من يقتلني! فالتفت إلي وقال: من الطويل
محل بيان الصبر فيك غريزة ... فيا ليت شعري هل لصبرك من أجر
قال فضيل: فزال عني جوعي وطار عني هلعي وقلت: يا سيدي لولا الرجاء لم أصبر، قال: وأين مستقر الرجاء منك؟ قلت: بحيث مستقر همم العارفين، قال: أحسنت يا فضيل، إنها لقلوبٌ الهموم عمرانها، والأحزان أوطانها، عرفته فاستأنست به، وارتحلت(20/304)
إليه، فعقولهم صحيحة، وقلوبهم ثابتة، وأرواحهم بالملكوت الأعلى معلقة. ثم ولى وأنشأ يقول: من الطويل
فهام ولي الله في القفر سائحاً ... وحطت على سير القدوم رواحله
فعاد لخيرٍ قد جرى في ضميره ... تذوب به أعضاؤه ومفاصله
قال الفضيل: لقد بقيت عشرة أيامٍ لم أطعم طعاماً ولم أشرب شراباً وجداً لكلامه.
قال عبيد الله بن عمر: دخلت أنا ويحيى بن سليم إلى الفضيل نعوده، فقال الفضيل وجعل يضرب بيده على رأسه: يا فضيل، خلقك وأفرغ علسك نعمه ظاهرة وباطنة، وحرسك بعينه، وصرف وجوه الناس إليك وكنت تشتغل عنه! من أنت وما أنت؟ ثم شهق شهقة وسقط، وغطي بثوبه، وجعل ينتفض وهو لا يعقل، وتركناه.
وقال الفضيل بن عياض ليلةٌ: يا رب! أجعتني وأجعت عيالي، وأعريتني وأعريت عيالي، ولي ثلاثة أيامٍ ما أكلت ولا أكل عيالي، ولي ثلاث ليال ما استصبحت، فبما بلغت عندك حتى تفعل بي هذا؟ وإنما تفعل هذا يا رب بأوليائك، أفتراني أنا منهم؟ إلهي! إن فعلت بي مثل هذا يوماً آخر علمت أني منك على بال. فلما كان اليوم الرابع إذا داق يدق الباب، فقال: من هذا؟ فقال: أنا رسول ابن المبارك، وإذا معه صرة دنانير وكتاب يذكر فيه أنه لم يحج هذه السنة، وقد وجهت بكذا وكذا. قال: فجعل فضيل يبكي ويقول: قد علمت أني أشقى من ذلك أن أكون عند الله بمنزلة أوليائه.
قال الفضيل بن عياض: إن الله يزوي الدنيا عن وليه ويمررها عليه مرة بالعري ومرة بالجوع ومرة بالحاجة، كما تفعل الوالدة الشفيقة بولدها مرة صبراً ومرة حضضاً، وإنما تريد بذلك ما هو خير له.(20/305)
وفي حديثٍ آخر بمعناه عن بشر بن الحارث: فبأي يدٍ لي عندك حتى فعلت بي هذا؟ ثم بكى حتى رحمته فقلت له: يا أبا علي! ما هذا البكاء؟ فقال لي: يا أبا نصر، بلغني أن الصراط مسيره خمسة عشر ألف عام خمسة آلاف صعود، وخمسة آلاف نزول، وخمسة آلاف مستوى، أدق من الشعر وأحد من السيف على متن جهنم، لا يجوزها إلا كل ضامرٍ مهزولٍ من خشية الله. قال: فبلغني في بعض الروايات أن إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ذكروا أهل الجنة: هل بقي أحد على الصراط بعد خمسة وعشرين ألف عام؟ فقال: بقي رجلٌ يحبو، قبلغ ذلك الحسن البصري فقال: يا ليتني أنا ذلك الرجل. فأنا يا أبا نصر لا أهدأ من البكاء أبداً.
قال بشر بن الحراث: كنت بمكة مع الفضيل بن عياض، فجلس معنا إلى نصف الليل، ثم قام يطوف إلى الصبح فقلت: يا أبا علي! ألا تنام؟ قال: ويحك! وهل أحدٌ سمع بذكر النار تطيب نفسه أن ينام؟! قال إسحاق بن إبراهيم: ما رأيت أحداً كان أخوف على نفسه ولا أرجى للناس من الفضيل! كانت قرائته حزينة شهية بطيئة مترسلة، كأنه يخاطب إنساناً، وكان إذا مر بآيةٍ فيها ذكر الجنة تردد فيها وسأل، وكانت صلاته بالليل أكثر ذلك قاعداً يلقى له حصير في مسجده، فيصلي من أول الليل ساعة، ثم تغلبه عينه فيلقي نفسه على الحصير فينام قليلاً ثم يقوم، فإذا غلبه ألنوم نام، ثم يقوم هكذا حتى يصبح، وكان دأبه إذا نعس أن ينام. ويقال: أشد العبادة ما تكون هكذا. وكان صحيح الحديث، صدوق الللسان، شديد الهيبة للحديث إذا حدث؛ وكان يثقل عليه الحديث جداً، ربما قال لي: لو أنك طلبت مني الدراهم كان أحب إلي من أن تطلب مني الأحاديث. وسمعته يقول: لو طلبت مني الدنانير كان أيسر علي من أن تطلب مني الحديث، فقلت له: لو حدثتني أحاديث فرائد ليست عندي كان أحب إلي من(20/306)
أن تهب لي عددها دنانير. قال: إنك مفتون، أم والله لو عملت بما سمعت لكان لك في ذلك شغلٌ عما لم تسمع. ثم قال: سمعت سليمان بن مهران يقول: إذا كان بين يديك طعام تأكله فتأخذ اللقمة فترمي بها خلف ظهرك، كلما أخذت اللقمة رميت بها خلف ظهرك متى تشبع؟ كان ابن المبارك يعظم الفضيل وأبا بكر بن عياش، ولو كانا على غير تفضيل أبي بكر وعمر لم يعظمهما.
وقال بشر بن الحارث: قال الفضيل بن عياض: بلغني أن الله قد حجر التوبة عن كل صاحب بدعة، وشر أهل البدع المبغضون لأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم التفت إلي فقال: اجعل أوثق عملك عند الله عز وجل حبك أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنك لو قدمت الموقف بمثل تراب الأرض ذنوباً غفرها الله لك، ولو جئت الموقف وفي قلبك مقياس ذرة بغضاً لهم لما نفعك مع ذلك عمل.
قال الفضيل بن عياض: إذا علم الله في رجلٍ أنه مبغضٌ لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له وإن قل عمله.
وقال: إن لله ملائكة يطلبون حلق الذكر، فانظر مع من يكون مجلسك، لا يكون مع صاحب بدعة، فإن الله لا ينظر إليه، وعلامة النفاق أن يوقم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة.
وقال الفضيل: ليس لأحد أن يقعد مع من شاء، لأن الله عز وجل يقول: " وإذا رأيت الذين يخوضون في أياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره " " إنكم إذاً مثلهم " وليس له أن ينظر إلى من يشاء، لأن الله عز وجل يقول " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " وليس له أن يقول مالا يعلم أو يستمع إلى ما يشاء أو يهوى ما يشاء لأن الله(20/307)
تعالى يقول: " ولا تقف نا ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ".
وعن الفضيل قال: لا تجلس مع صاحب بدعة فإني أخاف أن تنزل عليه اللعنة.
وقال: علامة البلاء أن يكون خدن الرجل صاحب بدعة.
وقال: طوبى لمن مات على الإسلام والسنة. ثم بكى على ومانٍ يأتي تظهر فيه البدعة، فإذا كان ذلك فلتكثر من قول ما شاء الله.
وقال: من قال ما شاء الله فقد سلم لأمر الله.
وقال: من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة.
قال مليح بن وكيع: سمعتهم يقولون: خرجنا من مكة في طلب فضيل بن عياض إلى رأس الجبل فقرأنا القرآن، فإذا هو قد خرج علينا من شعبٍ لم نره، فقال لنا: أخرجتموني من منزلي ومنعتموني الصلاة والطواف، أما إنكم لو أطعتم الله ثم شئتم أن تزول الجبال معكم زالت. ثم دق الجبل بيده فرأينا الجبال أو الجبل قد اهتزت وتحركت.
وقال الفضيل: أصل الإيمان عندنا وفرعه وداخله وخارجه بعد الشهادة بالتوحيد وبعد الشهادة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبلاغ، وبعد أداء الفرائض: صدق الحديث وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، ووفاءٌ بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين. قال معاذ: قلت: يا أبا علي، من الثقة والفضل لم أتكلم به. قال معاذ: وكانت سبعاً فنسيت واحدة.(20/308)
قال بشر بن الحارث: قال لي الفضيل: يا بشر، الرضا عن الله أكبر من الزهد في الدنيا، قلت: يا أبا علي! كيف ذلك؟ قال: يكون العطاء والمنع في قلبك بمنزلةٍ واحدة.
سأل رجلٌ الفضيل فقال له: يا أبا علي، علمني الرضا. قال له الفضيل: يا بن أخي ارض عن الله، فرضاك عن الله يهب لك الرضا.
توفي للرشيد ابن فكتب إليه الفضيل: أما بعد يا أمير المؤمنين فإن استطعت أن يكون شكرك له حين أخذه منك أفضل من شكرك له حين وهبه لك؛ يا أمير المؤمنين إنه جل ثناؤه لما وهبه لك أخذ هبته، ولو بقي لم تسلم من فتنته، أرأيت جزعك عليه، وتلهفك على فراقه؟ أرضيت الدنيا لنفسك فترضاها لابنك؟ أما هو فقد خلص من الطدر، وبقيت أنت في الخطر.
رأى فضيل بن عياض رجلاً يسأل في الموقف فقال له: أفي هذا الموضع تسأل غيرالله.
قال عبد الصمد بن يزيد: سمعت فضيل بن عياض يقول - وشكى إليه أهل المدينة القحط فقال: مدبراً غيرالله تريدون.
نظر الفضيل بن عياض إلى رجلٍ يشكو إلى رجلٍ حاله فقال: يا هذا! تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك!.
قال الشري: سمعت فضيلاً يقول عن ابنةٍ له توجعت كفها فعادها فقال لها: يا بنية، كيف كفك هذه؟ فقالت له: يا أبه قد بسط لي من ثوابها مالا أؤدي شكره عليه أبداً. فتعجب من حسن يقينها، قال الفضيل: فأنا عندها قاعد إذ أتاني ابن لي له ثلاث سنين، فقبلته وضممته إلى صدري، فقالت لي: يا أبه، سألتك بالله أتحبه؟ فقلت: إي والله يا بنية إني لأحبه، فقالت: يا سوأتاه! لك من الله يا أبه، إني ظننت أنك لا تحب مع الله غير الله، فقلت لها: أي بنية أفلا تحبون الأولاد؟ فقالت: المحبة للخالق والرحمة للأولاد.(20/309)
فلطم الفضيل في رأسه وقال: يا رب! هذه ابنتي هيمتني في حبها وحب أخيها. وعزتك لا أحببت معك أحداً حتى ألقاك.
سأل رجلٌ فضيل بن عياض: متى يبلغ الرجل غاية حب الله؟ قال: إذا كان عطاؤه إياك ومنعه سواء.
قال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله عنهما.
قال محمد بن أبي تميلة: خيبة لك إن كنت ترى أنك تعرفه وأنت تعمل لغيره.
قال فضيل بن عياض لرجل: لأعلمنك كلمة هي خيرٌ لك من الدنيا وما فيها: والله لئن علم الله منك إخراج الأدميين من قلبك حتى لا يبقى في قلبك مكانٌ لغيره لم تسأله شيئاً إلا أعطاك.
قال الفضيل بن عياض:
ليتني أموت وأنا مخلط، أخاف أن أموت وأنا مراءٍ، يدعى بي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، يا فضيل خذ أجرك ممن عملت له.
كان الفضيل يقول: والله ما أدري ما أنا، كذاب أنا؟ مراء أنا؟ ما أدري ما أنا.
قال الفضيل: ما دخل علي أحدٌ إلا خفت أن أتصنع له أو يتصنع لي.
قال الفضيل: خير العمل أخفاه، أمنعه من الشيطان وأبعده من الرياء.
اجتمع فضيل بن عياض بسفيان الثوري، فتذاكرا، فرق أو بكى سفيان، فقال سفيان لفضيل: يا أبا علي، إني لأرجو أن يكون هذا المجلس علينا رحمةٌ وبركةٌ، فقال له الفضيل: لكني يا أبا عبد الله أخاف أن لا يكون هذا المجلس جلسنا مجلساً قط هو أضر علينا(20/310)
منه. قال: ولم يا أبا علي؟ قال: ألست تخلصت إلي أحسن حديثك فحدثني به، وتخلصت أنا إلى أحسن حخديثي فحدثتك به، فتزينت لي وتزينت لك؟ فبكى سفيان أشد من البكاء الأول، ثم قال: أحييتني أحياك الله.
كان الفضيل يقول: لأن آكل الدنيا بطبلٍ ومزمار أحب إلي من أن آكلها بدين.
كان الفضيل يقول: إنما يهابك هذا الخلق على قدر هيبتك لله عز وجل. وقال: إنما يطيع الله كل إنسانٍ على قدر منزلته منه.
قال الفيض بن إسحاق: قال الفضيل بن عياض: تزينت لهم بالصوف، فلما ترهم يرفعون بك رأساً تزينت لهم بالقرآن، فلما لم ترهم يرفعون بك رأساً تزينت لهم بشيءٍ بعد شيء. كل ذلك إنما هو لحب الدنيا.
قال: وقال لي الفضيل: لو قيل لك يا مرائي غضبت وشق عليك، وعسى ما قيل حق، تزينت للدنيا وتصنعت لها، وقصرت ثيابك، وحسنت سمتك وكففت أذاك حتى يقولوا: أبو يزيد عابدٌ ما أحسن سمته، وأحسن جواره، وأكف أذاه! فيكرمونك ويفطرونك ويهدون إليك ... مثل الدرهم الستوق لا يعرفه كل أحد، فإذا قشروا قشروا عن نحاس، ويحك! ما تدري في أي الأصناف تدعى غداً أفي المرائين أم في غير ذلك؟ ثم قال: اتق الله لاتكن مرائياً وأنت لا تشعر.
قال الفضيل: إن خفت الله لم يضرك أحد، وإن خفت غير الله لم ينفعك أحد.(20/311)
سئل الفضيل بن عياض عن شيءٍ فقال: من خاف الله خاف منه كل شيء، ومن خاف غير الله خاف من كل شيء.
قيل للفضيل: يا أبا علي، ما الخلاص مما نحن فيه؟ فقال له: أخبرني من أطاع الله هل تضره معصية أحد؟ قال: لا، قال: فمن عصى الله هل تنفعه طاعة أحد؟ قال: لا، قال: هو الخلاص إن أردت.
قال الفضيل: من أحسن فيما بقي غفر له ما مضى وما بقي، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وما بقي. ثم بكى الفضيل فقال: أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يحسن فيما بقي.
قال الفضيل: بلغني أن العلماء فيما مضى كانوا إذا تعلموا علموا، وإذا عملوا شغلوا، وإذا شغلوا فقدوا، وإذا فقدوا طلبوا، وإذا طلبوا هربوا.
قال الفضيل بن عياض: طوبى لمن استوحش من الناس وكان الله أنسه.
وقال: اطلب العلم لنفسك، وانظر إلى من تسلمه يا مسكين، فإن الله يسألك عنه. وقد قيل لإبراهيم بن أدهم: من أبن أقبلت يا أبا إسحاق؟ قال: من أنس الرحمن، قيل له: فأين تريد؟ قال: إلى أنس الرحمن.
وكان الفضيل يقول: رحم الله عبداً أجمل ذكره وبكى على خطيئته قبل أن يرتهن بعمله.
وقال الفضيل بن عياض: كامل المروءة من بر والديه، وأصلح ماله، وأنفق من ماله، وحسن خلقه، وأكرم إخوانه ولزم بيته.
قال الفضيل: أخلاق الدنيا والآخرة أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك.(20/312)
وقال فضيل: إذا خالطت فلا تخالط إلا حسن الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى الخير ولا تخالط سيئ الخلق، فإنه لا يدعو إلا إلى الشر.
وقال: إذا رأيت الأسد فلا يهولك، وإذا رأيت ابن آدم فخذ ثوبك ثم فر، ثم فر.
وقال: من خالط الناس لا ينجو من إحدى اثنتين: إما أن يخوض معهم إذا خاضوا في الباطل، أو يسكت إن رأى منكراً أو يسمع من جليسه شيئاً فيأثم فيه.
قال إبراهيم بن الأشعث: سمعت الفضيل وهو يقرأ " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " فجعل يردد هذه الآية ويقول: إنك بلوت أخبارنا هتكت أستارنا، إنك بلوت أخبارنا فضحتنا.
وقال الفضيل: ما أجد لذة ولا راحة، ولا قرة إلا حين أخلو في بيتي بربي، فإذا سمعت النداء قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون كراهية أن ألقى الناس فيشغلوني عن ربي تبارك وتعالى.
وقال: كفى بالله محبا، وبالقرآن مؤنساً، وبالموت واعظاً، وكفى بخشية الله علماً، والاغترار بالله جهلاً.
وفي آخر: اتخذ الله صاحباً ودع الناس جانباً.
وقال: تفكروا واعملوا من قبل أن تندموا، ولا تفتروا بالدنيا، فإن صحيحها يسقم وجديدها يبلى، ونعيمها يفنى، وشبابها يهرم؛ ألا إن الناس قد تاهوا بين الدراهم والدنانير، وليس لامرئ خيرٌ مما نوى وقدم.(20/313)
وقال: إن أردت أن تستريح فلا تبالي من أكل الدنيا.
وقال: رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله، وزهادته في الدنيا على قدر شوقه إلى الجنة.
وقل: جعل الش ركله في البيت. وجعل مفتاحه حب الدنيا؛ وجعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه حب الزهد في الدنيا.
وقال: لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي حلالاً لا أحاسب عليها لكنت أقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه.
وقال: من عمل بما علم استغنى عما لا يعلم، ومن عمل بما علم وفقه الله لما لا يعلم.
وقال: من ساء خلقه شان دينه وحسبه ومروءته.
قال: وكان يقال: من خا الله كل لسانه.
وقال: أكذب الناس العائد في ذنبه؛ وأجهل الناس المدل بحسناته؛ وأعلم الناس بالله أخوفهم منه.
وقال: لن يكمل عبدٌ حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه.
وقال: خصلتان تقسيان القلب: كثرة الكلام، وكثرة الأكل.
وفي رواية: كثرة النوم، زكثرة الأكل.
وقال: فرحك بالدنيا للدنيا يذهب بحلاوة العبادة، وهمك بالدنيا يذهب بالعبادة كلها.
وقال: حزن الدنيا للدنيا يذهب بهم الآخرة.
وقال: إن من الشقاء طول الأمل، وإن من السعادة قصر الأمل.
وقال: خمس من علامات الشقاء: القسوة في القلب وجمود العين، وقلة الحياء والرغبة في الدنيا، وطول الأمل.(20/314)
وقال: تكلمت فيما لا يعنيك فشغلك عما يعنيك، ولو شغلك ما يعنيك تركت ما لايعنيك.
وقال: إنما أمس مثل، واليوم عمل، وغداً أمل.
وذكر عند الفضيل مجالسة العلماء فقال إن في مجالسة بعضهم لفتنة، إذا كان العالم مفنوناً بالدنيا راغباً فيها، حريصاً عليها، فإن في مجالسته فتنة تزيد الجاهل جهلاً وتفتن العالم، وتزيد الفاجر فجوراً، وتفسد قلب المؤمن.
وقال الفضيل: من عامل الله بالصدق ورثه الحكمة. وقال: إن الله يحب العالم المتواضع ويبغض العالم الجبار، من تواضع لله ورثه الحكمة.
قال شعيب بن حرب: بينا أنا أطوف إذ لكزني رجلٌ بمرفقه، فالفت فإذا أنا بالفضيل بن عياض فقال: يا أبا صالح، فقلت لبيك يا ابا علي، فقال: إن كنت تظن أنه قد شهد الموسم شر مني ومنك فبئس ما ظننت.
وقال الفصيل لسفيان: إن كنت ترى أن أحداً في هذا المسجد دونك فقد بليت ببلاء.
وقال له: لئن كنت تحب أن يكون الناس مثلك فما أديت النصيحة لربك، كيف وأنت تحب أن يكونوا دونك!؟ وقال الفضيل: من رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب. وسئل الفضيل عن التواضع فقال: تخضع للحق وتنقاد له وتقبله ممن قاله.
قال الفضيل: أوحى الله إلى الجبال أني مكلم على واحدٍ منكم نبياً، فتطاولت الجبال وتواضع طور سيناء، فكلم الله عليه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام لتواضعه.(20/315)
وقال الفضيل: ما يسرني أن أعرف الأمر حق معرفته، إذاً لطاش عقلي.
قال رجلٌ للفضيل: كيف أمسيت يا أبا علي وكيف؛الك؟ فقال: عن أي حالي تسألني، عن حال الدنيا أو عن حال الآخرة؟ فإن كنت تسألني عن حال الدنيا فإنها قد مالت بنا وذهبت كل مذهب، وإن كنت تسألني عن حال الآخرة فكيف ترى حال من كثرت ذنوبه، وضعف عمله وفني عمره، ولم يتزود لمعاده، ولم يتأهب للموت ولم يتيسر له.
قال إسحاق بن إبراهيم الطبري: وقفت مع الفضيل بن عياض بعرفات، فلم أسمع من دعائه شيئاً إلا أنه زضع يده اليمنى على خده واضعاً رأسه يبكي بكاءً خفياً، فلم يزل كذلك حتى أفاض الإمام، فرفع رأسه إلى السماء فقال: واسوءتاه - والله - منك وإن غفرت! ثلاث مرات.
قال الفضيل: والله ما يحل لك أن تؤذي كلباً ولا خنزيراً بغير حق، فكيف تؤذي مسلماً.
قال الفضيل: إذا أراد الله أن يتحف العبد سلط عليه من يظلمه.
وفي رواية: إذا أراد الله أن يحب العبد سلط عليه من يظلمه.
وقال: لا يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوه.
وقال الفضيل: إذا لم يستح القلب من الله عز وجل سقط عن القلب مكارم الأخلاق.
وقال: بلغني أن الله عز وجل يحاسب العبد يوم القيامة بحضرة من يعرفه ليكون أشد لفضيحته.(20/316)
وقال: من رأى من أخٍ له منكراً فضحك في وجهه فقد خانه.
وقال: بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد.
وقال: ما حج، ولا رباطٌ، ولا جهادٌ أشد من حبس اللسان، ولو أصبحت يهمك لسانك أصبحت في عمر شديد. قال: سجن المؤمن، وليس أحدٌ أشد غماً ممن سجن لسانه.
وقال: المؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل.
وقال الفضيل: إذا قيل لك: أتخاف الله؟ فاسكت، فإنك إن قلت: لا، جئت بأمرٍ عظيم، وإن قلت: نعم، فالخائف لا يكون على ما أنت عليه.
وقال: المؤمن يحاسب نفسه، ويعلم أن له موقفاً بين يدي الله تعالى، والمنافق يغفل عن نفسه، فرحم الله عبداً نظر لنفسه قبل نزول ملك الموت به.
قال الفضيل: يا مسكين تهلك! إنك مسيء وترى أنك محسن، وأنت جاهل وترى أنك عالم، وأنت بخيل وترى أنك سخي، وأنت أحمق وترى أنك عاقل، وأجلك قصير واملك طويل.
قال إبراهيم بن الأشعث: سمعت الفضيل يقول: هيه، وتريد أن تسكن الجنة! وتريد أن تجاور الله في داره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين! وتريد أن تقف المواقف مع الأنبياء، مع نوحٍ وإبراهيم ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين يا أحمق! بأي عملٍ، بأي شهوةٍ تركتها لله؟ بأي غيظٍ كظمته لله؟ وبأي رحم قاطعٍ وصلتها؟ وبأي قريبٍ باعدته في الله؟ بأي بعيد قربته في الله؟ بأي حبيبٍ رأيته يعمل بما يكره الله فأبغضته في الله؟ بأي بغيضٍ رأيته يعمل بما يحب الله فأحببته في الله؟ ولكن بعفوه ورحمته نرجوه، بإساءتنا لا تقول أحسنا، ولكن تقول: أسأنا وبئس ما صنعنا.(20/317)
وقال الفضيل: إذا أحب الله عز وجل عبداً أكثر غمه، وإذا أبغض الله عبداً أوسع عليه دنياه.
قال رجلٌ للفضيل: أوصني، قال: أعز أمر الله حيث كنت يعزك الله.
وكان يقول: حرها شديد، وقعرها بعيد، وشرابها الصديد وأنكالها الحديد.
وكان يقول: صبر قليل ونعيمٌ طويل، وعجلة قليلة وندامةٌ طويلة.
وقال: قلة التوفيق، وفساد الرأي، وطلب الدنيا بعمل الآخرة من كثرة الذنوب.
وقال: بقدر ما يصغر الذنب عندك كذلك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك كذلك يصغر عند الله.
وقال الفضيل: دعاك الله إلى دار السلام وقد آثرت في دنياك المقام! وحذرك عدوك الشيكان وأنت تخالفه طول الزمان! وأمرك بخلاف هواك، وأنت معانقة صباحك ومساءك! فهل الحمق إلا ما أنت فيه؟! قال محرز بن عون: أتيت فضيل بن عياض بمكة، فسلمت عليه فقال لي: يا محرز، وأنت أيضاً مع أصحاب الحديث؟ ما فعل القرآن؟ والله لو نزل حرفٌ باليمن لقد كان ينبغي أن نذهب حتى نسمع كلام ربنا. والله لأن تكون راعي الحمر وأنت مقيمٌ على ما يحب الله، خيرٌ لك من أن تطوف بالبيت وأنت مقيمٌ على ما يكره الله.
وقال الفضيل: من أوتي علماً لا يزداد فيه خوفاً وحزناً وبكاءً خليقٌ أن لا يكون أوتي علماً ينفعه، ثم قرأ: " أفمن هذا الحديث تعجبون، وتضحكون ولا تبكون ".(20/318)
وقال: لا يزال العالم جاهلاً بما علم حتى يعمل به، فإذا عمل به كان عالماً.
وقال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، ولا يقبله إذا كان له خالصاً إلا على السنة.
قيل للفضيل بن عياض: ألا تحدثنا تؤجر؟ قال: على أي شيءٍ أوجر؟ على شيءٍ تتفكهون به في المجالس؟.
وقال: من عرف الله حق المعرفة فهو بعيدٌ من الضلالة، ومن عرف اإخلاص فهو بعيدٌ من الرياء، ومن أنزل الموت حق المنزلة فلا يغفل عن الموت.
وكان يقول: لا إله إلا الله، ما أقرب الأجل وما أبعد الأمل!.
وقال: أفضل الجهاد المواظبة على الصلوات، وأكبر الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة.
قال: وقال بعضهم: أفضل الجهاد مجاهدة النفس، أن تجاهد نفسك عن الحرام. وعما نهى الله عز وجل عنه، وعن هواك.
وقال الفضيل: لو أني أعلم أن أحدهم يطلب هذا العلم لله تعالى لكان الواجب علي أن آتيه في منزله حتى أحدثه.
قال أبو روح حاتم بن يوسف: أتيت الفضيل فقلت: يا أبا علي، معي خمسة أحاديث إن رأيت أن تأذن لي فأقرأ عليك؟ فقرأت، فإذا هو ستة، فقال لي: أف! قم يا بني، تعلم الصدق ثم اكتب الحديث.
وقال الفضيل: الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان.
قال فيض بن إسحاق:
كنت عند الفضيل بن عياض فجاء رجلٌ فسأله حاجةٌ، فألح بالسؤال عليه، فقلت:(20/319)
لا تؤذي الشيخ، فزجرني الفضيل وصاح علي وقال لي: يا فيض، أما علمت أن حوائج الناس إليكم نعم من الله عليكم؟ فاحذروا أن تملوا النعم فتحول نقماً؛ ألا تحمد ربك أن جعلك موضعاً تسأل ولم يجعلك موضعاً تسأل!.
قال أبو نصر بشر بن الحادث: كتب أبو رجاء الذي كان بمكة إلى فضيل يستقرض دراهم، قال أبو نصر: بعث مسكينٌ إلى مسكين. قال: ولم يكن عند فضيل إلا بعير له يعمل عليه، فأمر ابنه أن يبيعه ثم يبعث إلى أبي رجاء بنصف ثمنه ويأتيه بالنصف الآخر.
قال إبراهيم بن الأشعث: سمعت الفضيل يقول وقد سأله رجلٌ فقال: يا أبا علي، أحب أن تصف لي كيف كان ... في المؤاخاة؟ فقال الفضيل: هيهات! كالمتعجب، دعني. وأين المؤاخاة. ثم قال الفضيل: إن كان الرجل ليحفظ ولد أخيه من بعد موته يتعاهدهم أربعين خمسين سنة عمره كله، يأتي أهله فيقوم على بابه فيقول: هل لكم من حاجة؟ تريدون شيئاً؟ عندكم دقيق؟ عندكم سويق؟ عندكم زيت؟ عندكم حطب؟ عندكم كذا؟ حتى يسألهم عن الكسوة، فيقولون: نعم. فيقول: أروني. فإن كان عندهم وإلا اشترى لهم. وربما اشترى لهم الخادم بخمس مئة درهم فيقول: خذوا هذه تخدمكم. وأحدهم اليوم تطلب إليه الحاجة فما يقضيها، ويغضب حتى كأنه أذنب إليه ذنباً. ويعادي ويقاطع، فإذا هو قضاها أفسدها بمن أو تطاول. وأنت لو طلبت منك عشرة دراهم لشق عليك، نعم والله، ودرهم لو طلب منك لشق عليك.
وقال الفضيل: يزعم الناس أن الورع شديد، وما ورد علي أمران إلا أخذت بأحداهما، فدع ما يريبك إلى مالا يريبك.(20/320)
قال عبيده بن عبد الرحيم المروزي: كنت عند فضيل بن عياض وعنده عبد الله بن المبارك فقال: إن أهلك وعيالك قد أصبحوا مجهودين محتاجين إلى هذا المال فاتق الله وخذ من هؤلاء القوم - يعني الخلفاء - فزجره عبد الله بن المبارك ثم أنشأ يقول: من مجزوء الرمل
خذ من الجاورس والأ ... رز والخبز الشعير
واجعلن ذاك حلالاً ... تنج من حر السعير
وانأ ما استطعت هداك ال ... له عن دار الأمير
لا تزرها واجتنبها ... إنها شر مزور
توهن الدين وتدني ... ك من الحوب الكبير
ولما تترك من دي ... نك في تلك الأمور
هو أجدى لك من ما ... لٍ وسلكانٍ يسير
منه بالدون فأبصر ... واذكرن يوم المصير
قبل أن تسقط يا مع ... رور في حفرة بير
واطلب الرزق إلى ذي ال ... عرش والرب الغفور
وارض يا ويحك من دن ... ياك بالقوت اليسير
إنها دار بلاءٍ ... وزوالٍ وغرور
كم ترى قد صرعت قب ... لك أصحاب القصور
وذوي الهيبة في المجل ... س والجمع الكثير
أخرجوا كرهاً وما كا ... ن لديهم من نكير
كم ببطن الأرض ثاوٍ ... من شريفٍ ووزير
وصغير الشأن عبدٍ ... خامل الذكر حقير(20/321)
لو تصفحت وجوه ال ... قوم في يومٍ نضير
لم تميزهم ولم تع ... رف غنياً من فقير
خمدوا فالقوم صرعى ... تحت أطباق الصخور
فاستووا عند مليكٍ ... بمساويهم خبير
فاحذر الصرعة يا وي ... حك من دهرٍ عثور
أين فرعون وهاما ... ن ونمروذ النسور
أو ما تخشاه أن ير ... ميك بالموت المبير
أو ما تحذر من يم ... مٍ عبوسٍ قمطرير
إقمطر الشر فيه ... بالعذاب الزمهرير
قال: فغشي على الفضيل ورده ولم يأخذه.
قال أبو حفص أحمد بن الفضل البخاري:
كنت عند الفضيل بن عياض فجاءه هارون أمير المؤمنين يزوره ومعه أبو قتادة، فقال أبو قتادة: رحمك الله، الخليفة على الباب، فقال فضيل: ليس له أن يزورنا، لنا أن نزوره! ثم قال: إن أمير المؤمنين على الباب، فقال: يا أبا قتادة، ليس له أن يزورنا، لنا أن نزوره، فارجع فلا آذن لكم. قال: فرجع هارون أمير المؤمنين.
قال الرشيد هارون لسفيان: أحب أن أرى الفضيل فقال له: أذهب بك إليه؛ فاستأذن سفيان على فضيل فقال: من هذا؟ فقال: سفيان، فقال: ادخل، قال: ومن معي؟ قال: ومن معك. فلما دخلواعليه قال سفيان له: يا أبا علي، هذا أمير المؤمنين، فقال: وإنك لهو يا جميل الوجه! أنت الذي ليس بين الله وبين خلقه أحد غيرك؟! أنت الذي يسأل يوم القيامة كل إنسانٍ عن نفسه وتسأل أنت عن هذه الأمة؟ فبكى هارون.
وفي حديثٍ بمعناه: فدخل فإذا فضيل مستقبلٌ القبلة بوجهه فقال: يا أبا علي! هذا(20/322)
هارون أمير المؤمنين قد دخل عليك! فمكث طويلاً لا يلتفت إليه ولا ينظر إليه، ثم رفع فضيل رأسه إلى هارون فقال له: يا حسن الوجه، ما أحسن وجهك! لقد قلدت أمراً عظيماً، حدثني عبيد المكتب، عن مجاهد في قوله: " وتقطعت بهم الأسباب " قال: الوصل التي كانت بينهم في الدنيا، وأومى بيده إليهم. قالوا: فبكى هارون وخرج من عنده وحمل إليه تلك الليلة مئة ألف فأبى أن يقبلها.
قال الفضل بن الربيع: حج أمير المؤمنين هارون، فبينا أنا ليلةٌ نائمٌ بمكة إذ سمعت قرع الباب فقلت: من هذا؟ قال: أجب أمير المؤمنين؛ فخرجت مسرعاً فقلت: يا أمير المؤمنين! لو أرسلت إلي أتيتك، قال: ويحك إنه قد حك في نفسي شيء، فانظر لي رجلاً أسأله، فقلت: ها هنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً فقال: يا أمير المؤمنين! لو أرسلت إلي أتيتك، فقال خذ لما جئنا له رحمك الله، فحادثه ساعةٌ ثم قال: أعليك دين؟ قال: نعم فقال: يا عباسي اقض دينه.
ثم انصرفنا فقال: ما أغنى صاحبك شيئاً، فانظر لي رجلاً أسأله، فقلت: ها هنا عبد الرزاق بن همام، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً فقال: يا أمير المؤمنين! لو أرسلت إلي أتيتك، فقال: خذ لما جئناك رحمك الله، فحادثه ساعةٌ ثم قال: أعليك دين؟ قال: نعم قال: يا عباسي اقض دينه.
ثم انصرفنا فقال: ما أغنى صاحبك شيئاً، انظر لي رجلاً، فقلت: ها هنا الفضيل بن عياض، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه، فإذا هو قائم يصلي، يتلو آية يرددها، فقال لي: اقرع، فقرعت فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: مالي ولأمير المؤمنين! فقلت: سبحان الله! أو ما عليك طاعة؟ أو ليس قد روي عن(20/323)
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ليس للمؤمن أن يذل نفسه؟ قال: فنزل ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاويةٍ من زوايا الغرفة. قال: فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت يد هارون إليه، فبكى وقال: أوه من كف ما أليهنا إن نجت غداً من عذاب الله! قال: قلت في نفسي ليكلمنه الليلة بكلامٍ تقي من قلبٍ تقي، فقال له: خذ لما جئنا له رحمك الله، فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد اللهن، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاءً يا أمير المؤمنين وعددتها أنت وأصحابك نعمةً. فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله عز وجل فصم عن الدنيا وليكن إفطارك فيها الموت. وقال له محمد بن كعب القرظي: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أباً، وأوسطهم عندك أخاً، وصغيرهم عندك ولداً، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك. وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت؛ ثم إني لأقول لك هذا وإني أخاف عليك أشد الخوف يوم القيامة، يوم تزل الأقدام. فهل معك رحمك الله مثل هؤلاء من يأمرك بمثل هذا؟
قال: فبكى هارون بكاءً شديداً حتى غشي عليه؛ فقلت: ارفق بأمير المؤمنين، فقال: يا بن أم الربيع تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا! ثم أفاق فقال: رحمك الله زدني. فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكي إليه فكتب إليه عمر: يا أخي، اذكر طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، فإن ذلك يطرد بك إلى الرب نائماً ويقظاناً، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد ومنقطع الرجاء. فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال له: ما أقدمك؟ قال خلعت قلبي بكتابك، لا وليت ولاية حتى ألقى الله. فبكى هارون بكاءً(20/324)
شديداً ثم قال: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله أمرني على إمارة، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عباس، يا عم النبي، نفسٌ تنجيها خيرٌ لك من إمارة لا تحصيها، إن الإمارة حسرةٌ وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعل. فبكى هارون بكاءً شديداً ثم قال له: زدني رحمك اله. فقال: يا حسن الوجه! أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة؟ فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، إساك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لرعيتك، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أصبح لهم غاشا لم يرح رائحة الجنة. فبكى هارون بكاءً شديداً حتى غشي عليه. ثم قال: عليك دين؟ قال: نعم. دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن ساءلني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي. فقال: إنما أعني من دين العباد. فقال: إن ربي لم يأمرني بهذا؛ أمرني أن أصدق وعده، وأن أطيع أمره. فقال: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق " فقال له: هذه ألف دينار، خذها فأنفقها على عيالك وتقو بها على عبادة ربك، فقال: سبحان الله! أنا أدلك على النجاة وتكافئني يمثل هذا! سلمك الله ووفقك. ثم صمت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فلما صرنا على الباب قال لي هارون: يا عباسي إذا دللتني على رجلٍ فدلني على مثل هذا، هذا أزهد المسلمين اليوم.
زاد في رواية: فدخلت عليه ارمأة من نسائه فقالت: يا هذا! ترى سوء ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال تفرجنا له. فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قومٍ كان لهم بعيرٌ يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه. فلما سمع هارون الكلام قال: أدخل فعسى أن يقبل المال: فدخلنا، فلما علم به الفضيل خرج فجلس على ترابٍ في السطح وجاء هارون فجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه فلم يجبه. فبينما نحن كذلك إذ(20/325)
خرجت جاريةٌ سوداء فقالت: يا هذا آذيت الشيخ منذ الليلة؛ فانصرف رحمك الله. قال فانصرفنا.
قال: وقال الفضيل: تقرأ في وترك: " نخلع ونترك من يفجرك " ثم تعدو إلى الفاجر فتعامله! قال: وقال الفضيل: لا تنظر إليهم من طريق الغلظة عليهم، ولكن انظر من طريق الرحمة. يعني السلطان.
وقال فضيل: لا تجعل الرجال أوصياءك، كيف تلومهم أن يضيعوا وصيتك؟ وأنت قد ضيعتها في حياتك! وأنت بعدها تصير إلى بيت الدود، وبيت الوحشة، وبيت الظلمة، ويكون زائرك فيه منكر ونكير، فقبرك روضةٌ من رياض الجنة. أو حفرةٌ منحفر النار. ثم بكى وقال: أعاذنا الله وإياكم من النار.
وقال: حسناتك من عدوك أكثر منها من صديقك. قيل: وكيف ذلك يا أبا علي؟ قال: لأن صديقك إذا ذكرت بين يديه قال: عافاه الله. وعدوك إذا ذكرت بين يديه يغتابك الليل والنهار، وإنما يدفع المسكين حسناته إليك، فلا ترض حتى إذا ذكر بين يديك تقول اللهم الهلكة، لا بل ادع الله له: اللهم أصلحه، اللهم راجع به، فيكون الله يعطيك أجر ما دعوت له.
قال فضيل: آفة العلم النسيان، وآفة القراء العجب والغيبة، وأشد الناس عذاباً يوم القيامة الساعي والنمام، واحذروا أبواب الملوك فإنها تزيل النعم. وتذهب بالنعم. قلنا: يا أبا علي، هذا الحديث الذي جاء " إن عليها فتناً كمبارك الإبل "؟ قال: لا، ولكنه هو الرجل يكون عليه من الله نعمة، لا يكون به إلى خلقٍ من خلق الله حاجة، فإذا دخل(20/326)
على هؤلاء ورأى ما قد بسط لهم استصغر ما هو فيه، فمن ثم تذهب النعمة أو تزول النعمة.
وقال فضيل:
ليس الآمر الناهي الذي يدخل عليهم يأمرهم وينهاهم ثم يدعونه بعد إلى طعامهم وشرابهم فيجيبهم، إنما الآمر الناهي الذي اعتزلهم ولم يدخل عليهم، فهو الآمر الناهي.
قال الفضيل: لم يتزين العباد بشيءٍ أفضل من الصدق، والله عز وجل سائلٌ الصادقين عن صدقهم، فكيف بالكذابين المساكين؟! وقال: لم ينبل من نبل بالحج، ولا بالجهاد، ولا بالصوم، ولا بالصلاة، إنما نبل عندنا من كان يعقل أيشٍ يدخل جوفه. يعني الرغيفين من حله.
وقال الفضيل: المؤمن ينظر بنور الله، الناس منه في راحة، وهو بركةٌ على من جلس إليه لا يغتاب أحداً، كريم الخلق، لين الجانب؛ والمنافق عياب خياب، خشن الجانب، خشن الكلام، إن رأى خيراً كتمه، وإن رأى زلةً كشفها، غضب الله عليه، ومأواه جهنم، لأن الله قال: " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ".
وقال: إن الفاحشة تشيع في الذين آمنوا، حتى إذا بلغت الصالحين كانوا لها خزاناً.
وقال: رحم الله عبداً كسب طيباً وأنفق قصداً، وقدم فضلاً ليوم فقره وفاقته، رحم الله من ترحم على أصحاب رسول الله، فإنما نحسن هذا كله بحبك أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الفضيل: من أراد الآخرة أضر بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، ألا فأضروا في الدنيا فإنها دار فناء، واعملوا لدار البقاء.(20/327)
وقال: ليكن شغلك في نفسك ولا يكن شغلك في غيرك، فمن كان شغله في غيره فقد مكر به.
وقال: المؤمن في الدتيا مغموم يتزود ليوم معاده، قليل فرحه. ثم بكى.
وقال: وإياكم والعجب فإنه يمحو العمل؛ ومن رمى محصناً أحبط الله عمله؛ ومن قال في رجلٍ مالا يعلم كتب عند الله كذاباً، ومن كتب عند الله كذاباً فقد هلك.
وقال: من علم الله منه أن يحب أن يصلح بين الناس، أصلح الله الذي بينه وبينه وغفر له ذنبه، وأصلح له أهله وولده؛ ومن أحب أن يفسد بين الناس أفسد الله عليه معيشته.
وكان الفضيل يقول: هل ترك الموت للمؤمن فرحاً؟ وإنما المؤمن يصبح مغموماً ويمسي مغموماً، وإنما دهره الهرب بدينه إلى الله عز وجل.
وكان يقول: خلقٌ كثير من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لا يقبل الله منهم ذلك. وذلك لأنهم يريدون به غير الله، وقد يكون الرجل الواحد يأمر العباد فيقبلون منه، فينجي الله به العباد والبلاد.
وكان يقول: طوبى لمن نظر في مطعمه ومشربه وجعله من حله، وبكى على خطيئته.
وكان يقول: عليكم بالشكر فإنه قل قومٌ كانت عليهم من الله نعمة فزالت عنهم إلا لم تعد إليهم أبداً.
وكان يقول: من ازداد علماً فليزدد شكراً، إن المنافق كلما ازداد علماً ازداد عمى.
وقال: إن لله عباداً لا يرفع لهم إلى الله عمل، وهم أصحاب الرياء الذين يكون حبهم في غير الله، إن أعطوا رضوا، وإن منعوا سخطوا، فمن كان كذلك وريه الله العمى.
وقال الفضيل: اجعلوا دينكم بمنزلة صاحب الجوز، إن أحدكم يشتري الجوز فيحركه، فما كان من(20/328)
جيد جعله في كمه، وما كان من رديء رده؛ وكذلك الحكمة، من تكلم بحكمة فاقبل منه، ومن تكلم بسوى ذلك فدعه.
وقال الفضيل: لو أن لي دعوة مستجابة ما صيرتها إلا في الإمام. قيل: وكيف ذلك يا أبا علي؟ قال: متى صيرتها في نفسي لم تجزني، ومتى صيرتها في الإمام، فإصلاح الإمام إصلاح العباد والبلاد، قيل: وكيف ذلك يا أبا علي؟ فسر لنا هذا، قال: أما إصلاح البلاد فإذا أمن الناس ظلم الإمام عمروا الخراب، فتزكو الأرض، وأما العباد فينظر إلى قومٍ من أهل الجهل، يقول: قد شغلهم طلب المعيشة عن طلب ما ينفعهم من تعلم القرآن وغيره، فيجمعهم في دار، خمسين خمسين، أقل أو أكثر، يقول لرجل: لك ما يصلحك وعلم هؤلاء أمر دينهم. وانظر ما أخرج الله من فيهم مما يزكي الأرض فرجه عليهم. فقال: كذا صلاح البلاد والعباد.
قال رباح الكوفي: إن ابن المبارك قبل جبهته في جبهته في عذا الحديث فقال: يا معلم الخير من يحسن هذا غيرك؟ وقال الفضيل: ما لكم وللملوك؟ ما أعظم منتهم عليكم أن قد تركوا لكم طريق الآخرة! فاركبوا طريق الآخرة، ولكن لا ترضون، تعيبونهم بالدنيا ثم تزحمونهم على الدنيا! ما ينبغي لعالم أن يرضى بهذا لنفسه.
وقال الفضيل:
إنما ينبغي للدنيا أن تتلاعب بالجاهل لا بالعالم. وقالوا له: لو كلمت هارون في أمر الرعية فإنه يحبك. قال: لست هناك؛ فكرر القول عليه فقال: لو كنت داخلاً عليه يوماً ما كلمته إلا في علماء السوء، أقول: يا أمير المؤمنين، إنه لا بد للناس من راعٍ. ولا بد للراعي من عالم يشاوره، ولا بد له من قاضٍ ينظر في أحكام المسلمين، وإذا كان لا بد من هذين الرجلين فلا يأتك عالمٌ ولا قاضٍ إلا على حمار بإكافٍ خلفه أغبر، فبالحري أن(20/329)
يؤدوا إلى الراعي والرعية النصيحة؛ يا أمير المؤمنين، متى يطمع العلماء والقضاة أن يؤدوا إليك النصيحة ومركب أحدهم بكذا وكذا؟ فإذا حملتهم على حمرٍ بأكف، فبالحري أن يؤدوا إليك النصيحة.
وقال الفضيل: لو تعلمون ما أعلم لم يهبكم طعامٌ ولا شراب.
مات ولد بعض العلماء بمكة، فأتاه جماعةٌ من العلماء يعزونه فلم يتعز، فأتاه الفضيل فقال: يا هذا، ما ترى في رجلٍ كان في سجن هو وولده. فأخرج ولده من السجن، فأولى به أن يفرح أو يحزن؟ فقال الرجل: أولى به أن يفرح، قال: فإنك كنت أنت وابنك في سجن وأخرج ابنك من السجن. فقال: تعزيت والله.
قال الفضيل: أتيت في منامي فقيل لي: يا فضيل اذكر الله، فإنه ما من أحد يوم القيامة إلا ود أنه زيد في صحيفته مثقال حبةٍ من خردلٍ من بر، ولو كان داود عليه السلام.
احتبس على الفضيل بن عياض وله فقال: سدي! أطلقه عني. فما بال، فقال في الثانية: وعزتك لو قطعتني إرباً إرباً ما ازددت لك إلا حبا. فما بال، فقال في الثالثة: بحبي لك إلا ما أطلقته عني. فما برحنا حتى بال.
قال فضيل بمكة: لا تؤذوني ما خرجت إليكم حتى ثلاثٍ وستين مرة أو نحواً من ستين مرة. وذلك قبل الظهر.
ومما أنشد فضيل بن عياض: من الرجز
ياأيها الذاهب في غيه ... محصول ما تطلبه القوت
والأمر قدامك مستعظمٌ ... قد جل أمر بدؤه الموت(20/330)
قال رجلٌ من أهل مكة: كنا جلوساً مع الفضيل فقلنا: يا أبا علي كم سنك؟ فقال: من المتقارب
بلغت الثمانين أو جزتها ... فماذا أؤمل أو أنتظر
أتت لي ثمانون من مولدي ... ودون الثمانين ما يعتبر
علتني السنون فأبلينني.........................
ثم نهض، فلما ولى التفت وقال:
........................ فدق العظام وكل البصر
قال القاضي: ولدت سنة ستين ومئة. وأنشدنا: من البسيط
عقد الثمانين عقد ليس يبلغه ... إلا المؤخر للأخبار والعبر
ومن شعر الفضيل بن عياض: من البسيط
إنا لنفرح بالأيام ندفعها ... وكل يومٍ مضى نقصٌ من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً ... فإنما الربح والخسران في العمل
توفي الفضيل بن عياض سنة ست وثمانين ومئة. وقيل سبع وثمانين بمكة.
قال بعض المكيين: رأيت سعيد بن سالم القداح في النوم فقلت: من أفضل من في هذه المقبرة؟ فقال: صاحب هذا القبر، قلت: بم فضلكم؟ قال: إنه ابتلى فصبر، قلت: ما فعل فضيل بن عياض؟ قال: هيهات! كسي حلة لا تقوم لها الدنيا بحواشيها.(20/331)
فقيم بن الحارث
شهد صفين مع معاوية بن أبي سفيان.
كانت راية بجيلة في أحمس مع أبي شداد بصفين، واسمه قيس بن مكشوح بن هلال بن الحارث بن عمرو بن عامر بن علي بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار. فقالت بجيلة: خذ رايتنا اليوم. فقال لهم: غيري خيرٌ لكم مني. فقالوا: ما نريد غيرك، فقال: والله لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب. وعلى رأس معاوية رجلٌ قائمٌ معه ترسٌ مذهب يستره من الشمس - قالوا: اصنع ما شءت. فأخذها ثم زحف نحوهم وهو يقول: من مشطور الرجز
إن عليا ذو أناةٍ صارم
جلدٌ إذا ما تحضر العرائم
لما رأى ما يفعل الأشائم
قام لدى ذروته الأكارم
الأشيبان مالك وهاشم
ثم زحف فجعل يقاتل حتى انتهى إلى صاحب الترس، وكان في خيلٍ عظيمة، فاقتتل الناس هناك قتالاً شديداً، وكان صاحب الخيل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فشد أبو شداد بسيفه نحو صاحب الترس، فعرض له رومي لمعاوية فضرب قدم أبي شداد فقطعها.(20/332)
وضربه أبو شداد فقتله، وأشرعت إليه الأسنة فقتل فأخذ الراية عبد الله بن قلع الأحمسي فجعل يقاتل ويقول: من مشطور الرجز
لا يبعد الله أبا شداد
حيث أجاب دعوة المنادي
وشد بالسيف على الأعادي
نعم الفتى قد كان في الطراد
وفي طعان الخيل والجلاد
وقاتل حتى قتل، فأخذ الراية أخوه عبد الرحمن بن قلع فقتل، فأخذها عفيف بن إياس الأحمسي، فلم تزل بيده حتى تحاجز الناس، وقتل حازم بن أبي حازم الأحمسي أخو قيس بن أبي حازم وقتل نعيم بن شهيد بن الثعلبية فأتى ابن عمه فقيم بن الحارث إلى معاوية - وكان مع معاوية - فقال: إن هذا القتيل ابن عمي، فهبه لي أدفنه، فقال: لا تدفنهم فإنه ليسوا لذلك بأهل، فوالله ما قدرنا على دفن عثمان إلا سراً. فقال: لتأذنن لي في دفنه أو لألحقنهم ولأدعنك. فقال له معاوية: ترى أشياخ العرب لا نواريهم وأنت تسألني دفن ابن عمك! دفنه إن شئت أو فدعه. فأتاه فدفنه.(20/333)
فليح بن العوراء المكي
مولى بني مخزوم قال إبراهيم بن المهدي: كتب إلي جعفر بن يحيى وأنا عامل الرشيد على جند دمشق: قد قدم علينا فليح بن العوراء فأفسد علينا بأهزاجه وخفيفه كل غناءٍ سمعناه قبله، وأنا محتال لك في تحصيله عندك لتستمتع به كما استمتعنا. فلم ألبث أن ورد علي فليح بكتاب الرشيد يأمر له بثلاثة آلاف دينار، فورد علي منه رجلٌ ذكرني لقاؤه الناس، فأخبرني أنه قد ناهز المئة سنة، فأقام عندي ثلاث سنين، فأخذ عنه جواري كل ما كان معه من الغناء، وانتشر بعض أغانيه بدمشق. قال يوسف: ثم قدم علينا شاب من المغنين مع علي بن زيد بن الفرج الحراني عند مقدم عنبسة بن إسحاق فسطاط مصر يقال له موفق، فغناني من غناء فليح: من السريع
يا قرة العين اقبلي عذري ... ضاق بهجراتكم صدري
لو هلك الهجر استراح الهوى ... ما لقي الوصل من الهجر
فلم أر بين ما غناه وبين ما سمعت في دار أبي إسحاق فرقاً، فسألته: من أين أخذه؟ فقال: أخذته بدمشق. فعلمت أنه مما أخذه أهل دمشق عن فليح بن العوراء.
فهد بن سليمان بن يحيى
أبو محمد الكوفي النحاس سمع بدمشق.
حدث عن أبي مسهر بسنده إلى أن سلمة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس.(20/334)
وحدث عن قطبة بن العلاء الغنوي بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما ذئبان ضاربان في حظيرةٍ وثيقة، يأكلان ويفرسان بأسرع فيها من حب الشرف وحب المال في دين المسلم.
توفي فهد بمصر سنة خمسٍ وسبعين ومئتين. وكان ثقةٌ ثبتا.
فهد بن موسى بن أبي رباح
أبو الخير الأزدي الإسكندري قاضي الإسكندرية. قدم دمشق.
حدث بدمشق عن عبد الله بن عبد الحكم بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يضر أحدكم بقليلٍ من ماله يروح أم بكثير إذا أشهد.
وحدث عنه بسنده إلى أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من عمل عمل قوم لوط فارجموه وارجعوا من يفعل به.
توفي فهد سنة سبعين ومئتين.
فياض بن عبد الله الدمشقي
روى عن سعيد بن عمرو بسنده إلى ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الولاء، وعن هبته.(20/335)
فياض بن عمرو
كاتب يحيى بن حمزة، القاضي.
حدث عن الزهري مرسلاً عن نافع، عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أتى الجمعة فليغتسل.
ووجد في كتاب فياض بن عمرو عن صدقة بن عبد الله بسنده إلى أب يهريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الله يقول: إذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة.
فياض بن القاسم بن الحريش
ابن خرب بن الحريش، أبو علي حدث عن شعيب بن عمرو بسنده إلى النزال قال: قال أبو مسعود: أغمي على حذيفة أول الليل ثم أفاق فقال: أي الليل هذا يا أبا مسعود؟ فقلت: السحر الأكبر الأعلى. فقال: عائذ بالله من جهنم - يقول ذلك مرتين أوثلاثاً - ابتاعوا لي ثوبين ولا تغالوا فيهما فإن صاحبكم إن يرض عنه يكس خيراً منهما ولا يسلبهما سلباً سريعاً.
وحدث سنة ثلاثين وثلاث مئة عن أبي محمد شعيب بن عمرو بسنده إلى عبد الله قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حبسونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس ملأ الله بطونهم وقبورهم ناراً.
توفي سنة أربع وثلاثين وثلاث مئة.
فيروز أبو عبد الرحمن
ويقال أبو عبد الله، ويقال أبو الضحاك الديلمي
وفد على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي قتل الأسود الكذاب. ووفد على معاوية.
قال فيروز: قدمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله إنا أصحاب كروم وأعناب، وقد(20/336)
نزل تحريم الخمر، فماذا نصنع بها؟ فقال: تتخذونه زبيباً. قال: فنصنع بالزبيب ماذا يا رسول الله؟ قال: تنقعونه على غدائكم وتشربونه على عشائكم، وتنقعونه على عشائكم وتشربونه على غدائكم. قال: قلت: يا رسول الله أفلا نتركه حتى يشتد؟ قال: فلا تجعلوه في الدنان.
وفي رواية: فلا تجعلوه في القلال ولا في الدباء. واجعلوه في الشنان، فإنه إن تأخر عن عصره صار خلاً. قال: قلت يا رسول الله، نحن ممن قد علمت، ونحن بين ظهراني من قد علمت، فمن ولينا؟ قال: الله ورسوله. قال: قلت حسبنا يا رسول الله.
حدث عبد الله بن الديلمي عن أبيه قال: قدمنا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برأس الأسود العنسي الكذاب، فقلنا: يا رسول الله، قد علمت من نحن، فإلى من نحن؟ قال: إلى الله ورسوله ... الحديث مر فيروز بن الديلمي يريد الشام إلى معاوية، فلم يدخل على عائشة، فلما أقبل من الشام دخل عليها، فقالت: يا بن الديلمي! ما منعك أن تمر بي، أرهبة معاوية؟ لولا أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يدخل الكذاب وقاتله مدخلاً واحداً. ما أذنت لك.
وكان باليمن من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيروز بن الديلمي - وهو من الأبناء - فانتسبوا إلى بني ضبة وقالوا: أصابنا سبيٌ في الجاهلية.
وقيل: إن فيروز من أبناء فارس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن، فنفوا الحبشة عنها وغلبوا عليها. وفيروز هو الذي قتل الأسود بن كعب العنسي الذي كان تنبأ باليمن، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قتله الرجل الصالح فيروز بن الديلمي. وبعضهم يقول: فيروز الحميري، وهما واحد. وقيل له الحميري لنزوله في حمير، ومخالفته إياهم. وتوفي فيروز زمن عثمان بن عفان.
وعن ابن الديلمي أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنا منك بعيد، ونشرب شراباً من قمح، فقال: أيسكر؟ قلت: نعم. قال: لا تشربوا مسكراً. فأعاد ثلاثاً قال: كل مسكرٍ حرام.(20/337)
وهو فيروز بن يسع بن سعد بن ذي حباب بن مسعود. وفد مع معذ بن جبل على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي قتل الأسود العنسي المتنبئ. وقدم برأسه على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل على أبي بكر.
وقيل في مقتل العنسي أن داذويه وقيساً وفيروز دخلوا عليه، فحطم فيروز عنقه فقتله. ويقال قتله قيس بن مكشوح.
حدث النعمان بن برزج قال:
خرج الأسود الكذاب، وكان رجلاً من بني عنس ثم من بني صعب. وكان معه شيطانان يقال لأحدهما سحيق وللآخر شقيق، وكانا يخبرانه بكل شيء يحدث من أمر الناس، فسار الأسود حتى أخذ ذمار، وكان باذان إذ ذاك مريضاً بصنعاء، فجاءه الرسول فقال له بالفارسية كلاماً وأجابه ومات، فجاء الأسود شيطانه في عصارٍ من الريح وهو على قصر ذمار، فأخبره بموت باذان. فنادى الأسود في قومه فقال: يا يحابر - ويحابر فخذٌ من مراد - إن سحيقاً قد أجار ذمار وأباح لكم صنعاء، فاركبوا واعجلو. فسار الأسود ومن معه من عنس وبني عامر ومراد وحمير حتى نزلوا بهم المقرانة، فخرج عليهم الأساور عليهم ذاذويه، وكان قد استخلفه باذان - وكان دادويه ابن أخت باذان - فكره إمارة داذويه الذين كانوا مع وهرز ومع المرزبان؛ فلما سمع ذلك دادويه منهم صرف فرسه فرجع إلى صنعاء قبل أن يلقاهم، وانصرف جميع قومه واتبعهم الأسود ومن معه، والقرية يومئذ بأبوابها فأوثقوا بينهم وبينه الأبواب، ونزل الأسود ومن معه على باب قصر النوبة فقال الأسود: إن الأرض أرضي وأرض آبائي فاخرجوا منها والحقوا بأرضكم وأنتم آمنون(20/338)
شهراً على أن تعطوني السلاح. فصالحوه على ذلك، فخرج منهم إلى المضمار من خرج، وارتحل منهم من ارتحل؛ كل أهل رستاق وحدهم وبقيتهم متجهزون. ودخل الأسود ومن معه إلى القرية. فاستنكح المرزبانة ارمأة باذان، فأرسلت إلى داذويه وفيروز وخرزاذ بن برزج واسمه عبد الحميد، وإلى جرجست بن الديلمي فقالت: فرشتموني هذا الشيطان فأتمروا به وأنا أكفيكموه. وكان قيس بن عبد يغوث قال للأسود: قد عرفت الذي بيني وبين أهل هذه القرية وأنا أتخوفهم. فاستأذنه أن ينزل خارجاً عن القرية، فأذن له فنزل هو وقومه تحت نقم، وكان يتخوف قتل الأسود وداذويه وأصحابه، وكان لا يستطيع رجلٌ منهم أن يكلم صاحبه لأن سحيقاً كان يبلغ ذلك الأسود فيخبرهم الأسود بذلك. وكان الأسود يخرج كل يوم إلى الجبانة فيجلس فيها ويخط عليه خطاً فيأتيه رجلٌ فيقول: السلام عليك يا رسول الله، وكان الأسود يقول لقيس إن سحيقاً يقول: لتنزعن قبة قيسٍ العليا أو ليفعلن بك أمراً يرى. فيقول قيس: أيها الملك، ما كنت لأفعل. فجاء قيس إلى داذويه وأصحابه ثلاث مرات يقول لهم: ألا تقتلون هذا الشيطان! فلا يردون عليه شيئاً تخوفاً أن يبلغ ذلك الأسود، وكانوا يظنونه غدراً من قيس وكان الأسود إذا غضب على رجلٍ حرقه بالنار.
فجاء قيس إلى فيروز - وهو أصغر القوم - فذكر ذلك له فقال له فيروز: إن كنت صادقاً فأتنا الليلة. فجاءهم من الليل، فاجتمع داذويه وفيروز وجرجست ومعهم قيس، وكان على باب الأسود ألف رجلٍ يحرسونه وهو في بيوت باذان، وكان بيوت باذان في مؤخر المسجد اليوم، وكان موضع المسجد حائطاً لباذان، فأرسلت إليهم المرزبانة أني أكفيكموه. فجعلت تسقيه خمر ضلع، فكلما قال: شوبوه صبت عليه من خمر ثات حتى سكر،(20/339)
فدخل في فراش باذان - وكان من ريش - فانقلب عليه الفراش، وجعل داذويه وأصحابه ينضحون الجدر بالخل ويحفرونه من نحو بيوت أهل برزج ويحفرونه بحديدة حتى فتحوا الجدر قريباً منه، فلما فتحوا قالوا لقيس: أنت خامنا ونحن نتخوف غدرك، فوالله لا ترثنا الحياة إن قدر علينا ولكنه يدخل منا رجلان ورجلان عندك. فدخل داذويه وجرجست ووقف فيروز وخرزاذ مع قيس، فجعلت المرأة تشير إليه أنه في الفراش فلم يرزقا قتله فخرجا إلى أصحابهما، فقال لهما فيروز: ما فعلتما؟ قالا: لم يوافقنا الأمر. قال: امكثا عند قيس. ودخل فيروز الديلمي وابن برزج، فأشارت إليهما المرأة أنه في الفراش، فتناول فيروز برأسه ولحيته فقصر عنقه فدقها، وطعنه ابن برزج بالخنجر فشقه من ترقوته إلى عانته، ثم احتز رأسه وخرجوا، وأخرجوا المرأة معهم وما أحبوا من متاع البيت إلى غمدان.
قال النعمان: وحملت أمي على عنقي حتى أدخلتها معهم وما أحبوا قصر غمدان. فاستحرزوا فأصبحوا قد سدوه عليهم، فتناول قيس رأس الأسود فرمى به من رأس القصر إلى الحرس الذين كانوا على بابه؛ وصرخ القوم: المضمار المضمار! فظنوا أن الرأس جاء من المضمار، فلما رمى قيس بالرأس أخذ فيروز برجله ليرمي به من رأس القصر، فاحتضنه دادويه من ورائه فمنعه وقال: خون خون. وأغار صحابة الأسود إلى المضمار، فقاتلهم الذين كانوا بالمضمار بالحجارة حتى أدخلوهم القرية؛ فلما أدخلوهم القرية عقدوا اللواء، وكان الذي عقده سعيد بن بالويه، وقتل هو وأصحابه صحابة الأسود حتى خاضت الخيل إلى ثننها، وخرج فيروز وأصحابه فلقي منهم أربعين رجلاً من رؤوسهم فأدخلوا القلمس، فاستوثقوا منهم وقالوا: لا تبرحوا أبداً حتى يرد كل شيءٍ أخذ من صنعاء من صغيرٍ أو كبيرٍ أو متاع، وإلا ضربنا أعناقكم. فجعلوا لهم أن يفعلوا، وجزوا نواصيهم. قال: فارتهنوها كل ناصية رجل بما كان في قومه. وكانوا يردون القدر يجدونها بعد السنة:(20/340)
ولم يكن الأسود مكث بصنعاء إلا خمس ليال، فقتل في الليلة الخامسة؛ فلما فرغ من الأسود وأصحابه، وتفرق من كان معه قال قيس لداذويه وفيروز وهو يريد أن يغدر بهما: اذهبا بنا نتحرق بثات حتى يأتينا بيان أمر هذا الرجل - يعني سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان لقيس امرأة بثات وهي بنت حمزة بن كاربن، فخرجا معه حتى دخلوا ثات، فنزل داذويه وفيروز في بيت باذان الذي بثات، وهو في مسجد أهل ثات اليوم. وكان قيس يرسل إليهما بالطعام والشراب وهو ينظر كيف يغدر بهما، وكان فيروز في حجر داذويه، وكان قيس قد حذق بكلام الفارسية، فأشرف قيس إلى داذويه وفيروز من بيته، ولم يكن بين منزلهما وبيت قيس إلا السكة، فقال لداذوية بالفارسية: يا أبا سعيد، هل لك في غداءٍ حميري؟ فقال داذويه: وما هو؟ نان كرمه وسنبدام كندره وماهية تازه. قال: نعم. قال: فإن كان ذلك من حاجتك فارتفع إلي. فلما قام إليه داذويه منعه فيروز فقال داذويه: إنك صبي أحمق، وما يهمني منهم. وكان داذويه إذا أخذ سيفه لم يبال لو لقي ألف رجل؛ وكان قيس قد خبأ له في مؤخر البيت اثني عشر رجلاً، وقال لهم: لا تخرجوا إليه أبداً حتى تعلموا أنه قد وضع سيفه. فجاء داذويه وأبى فيروز أن يأتيه، فجعل يحمل عليه الخمر حتى صرعه الخمر، فقال: يا أبا سعيد! ضع هذا السيف لا يعيثك، وضع رأسك حتى تفيق. فعلق سيفه فوق رأسه واضطجع، فخرج عليه القوم الذين خبأ قيس بأسيافهم، فكلما أراد أن يأخذ سيفه صرع حتى قتلوه. وأشرف على فيروز فقال: أترهبني يا بن الديلمي؟ فقال: أما وهذا السيف معي فلا. وخرج بفرسه يقوده. وأرسل بسرجه مع وليدته تلقاه به إلى الماء في مشغلها. فقال: أين تريد بفرسك؟ قال: أريد أن أسقيه. فأسرج فرسه ثم جعل يخب إلى جنبه. وأرسل قيس إلى بني صعب أن عندي قاتل أخيكم إن أردتموه. فجاء منهم ستون فارساً وقد خرج فيروز يخب خبب فرسه.
وأخبر ذو رغين بن عبد كلال أن فيروز محصور بثات. فأرسل مئة فارس(20/341)
لينصروه. وأخذ فيروز نحو جنان يريد إلى أخته. فأبصر خيل ذي رعين مقبلة، والعنسيون خلفه، فلما أبصر هؤلاء هؤلاء وقد كانتا رجلاه تقطعتا، فلما أبصرهم ركب فرسه فرمى به إلى الذين بين بديه وهو يظن أنهم يقاتلونه فقالوا: إنما أرسلنا ذو رعين للنصرك، فوقف معهم، فلما أبصرهم العنسيون رجعوا. وسار فيروز حتى نزل عند أخته.
فلما توفي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث أبو بكر أبان بن سعيد القرشي إلى اليمن فكلمه فيروز في دم داذويه فقال: إن قيساً قتل عمي غدراً على غدائه، وقد كان دخل في الإسلام وشارك في قتل الطذاب. فأرسل أبان إلى قيس يعلى بن أمية إلى ثات - وكان يعلى من صحابة أبان - فقال أبان ليعلى: اذهب إلى قيس فقل: أجب أبان بن سعيد، فإن تردد عليك فاضربه بسيفك. فقدم عليه يعلى على بغلة والبغال لا ترى باليمن يومئذ، وعند قيسٍ الدنيا مما أخذ من الأموال التي للناس. فقال له يعلى: أجب الأمير أبان بن سعيد وانظر إلى هذا السي، فقال: ومن أنت؟ قال: أنا يعلى بن أمية، ثم من بني حنظلة من بني تميم. فقال له قيس: أنت ابن عمي فأخبرني لم أرسل إلي؟ وأرغبه، فقال: إن ابن الديلمي كلم فيك أنك قتلت عمه رجلاً مسلماً غدراً على غائك. فقال قيس: ما كان مسلماً لا هو ولا أنا، وكنت طالب ذحل قد قتل أمي وقتل عمي عبيده، وقتل أخي الأسود؛ ولكن أدخلني على حين غفلةٍ من أهل صنعاء واجعلني على بغلتك فأتنقب عليها، واركب أنت على راحلتي واكشف عن وجهك حتى تدخلني على الأمير فتمكني منه أربع كلمات وقد خلاك ذم. فدخل به حين اشتد حر النهار وغفل الناس، والناس يومئذ قليل، فدخل على أبان فقال: أجئت بالرجل؟ فقال: نعم، جئتك بسيد أهل اليمن، فقال أبان لقيس: أقتلت رجلاً قد دخل في الإسلام وشارك في دم الكذاب؟! فقال: قد قدرت أيها الأمير فاسمع مني: أما الإسلام فلم يسلم لا هو ولا أنا، وكنت رجلاً طالب ذحل، وأما فرس باذان الأعصم، وسيف ابن الصباح الوجيه فأهديه لك، وأما الإسلام فتقبل مني أبايعك عليه، وأم أختي كبسة فأزوجك معشوقة من المعشوقات؛ وأما يميني هذه فهي لك بكل حدثٍ يحدثه إنسانٌ من مذحج. قال: قد قبلنا منك؛ فأمر أبان المؤذن أن يؤذن بالصلاة، وذاك قبل نصف النهار، ففزع الناس وقالوا: إن هذا لحدث! فبلغ فيروز أنه(20/342)
قد نادى، فعجب فقال: ما بال هذا!؟ فقالوا: إنه قد أتى بقيس؛ فخرج فيروز فلبس سلاحه وتوشح بسيفه؛ فخرج أبان يقاود قيساً، فقال قيس لفيروز: كيف أنت يا أبا عبد الرحمن ألك حاجة إلى الأمير؟ فقال فيروز: نعم، حاجتي أن أضرب عنقك! فصلى أبان بالناس صلاةٌ خفيفةٌ ثم خطب فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد وضع كل دمٍ كان في الجاهلية، فمن أحدث في الإسلام حدثاً أخذناه به. ثم جلس فقال: يا بن الديلمي! تعال خاصم صاحبك؛ فاختصما فقال أبان: هذا دم قد وضعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا تتكلم فيه. فقال أبان لقيس: الحق بأمير المؤمنين - يعني عمر بن الخطاب - وأنا أكتب لك أني قد قضيت بينكما، فإني أرى قوماً ليسوا بتاركيك. فكتب إلى عمر أن يروزاً وقيساً اختصما عندي في دم داذويه، فأقام قيس البينة أنه كان في الداهلية، فقضيت بينهما.
وخرج قيس فاتبعه فيروز حتى خاصمه عند عمر في دم داذويه، فأخرج قيس كتاب أبان إلى عمر، فقال عمر: قد تولى أبان ب هذا وإثمه، والله أعلم بما قضى، ولو يرد مثل هذا يا بن الديلمي لم يجز بين الناس قضاء. فقال فيروز: فإني قد بعت نفسي وهاجرت. فال عمر: أعزم عليك إلا رجعت إلى ايمن، فإنها لا تصلح إلا بك، فإنك في هجرة. قال: فسمع عمر قيساً يحدث رجلاً من قريش أنه هو الذي قتل الكذاب، فدخل فيروز وقيس يكلم القرشي، فقال: بلى قتله هذا الليث. ثم قال عمر لفيروز: كيف قتلت الكذاب؟ قال: الله قتله يا أمير المؤمنين. قال: نعم ولكن أخبرني. فقص عليه القصة، ورجع فيروز إلى اليمن.
كتب عمر بن الخطاب إليى فيروز الديلمي: أما بعد، فقد بلغني أنه شغلك أكل النبات بالعسل، فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم على بركة الله، فاغز في سبيل الله. فقدم فيروز فاستأذن على عمر، فأذن له، فزاحمه قومٌ من قريش، فرفع فيروز يده فلطم أنف القرشي فدخل القرشي على عمر مستدمى فقال له عمر: من بك؟ قال: فيروز وهو على الباب. فأذن لفيروز بالدخول، فدخل، فقال: ما هذا يا فيروز؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنا كنا حديث عهد بملك، وإنك كتبت إلي ولم تكتب إليه،(20/343)
وأذنت لي بالدخول ولم تأذن له، فأراد أن يدخل في إذني قبلي، فكان مني ما قد أخبرك. قال عمر: القصاص، قال فيروز: لا بد؟ قال: لا بد. قال: فجثا فيروز على ركبتيه، وقام الفتى ليقتص منه، فقال له عمر: على رسلك أيها الفتى حتى أخبرك بشيءٍ سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات غداة وهو يقول: قتل الظليمة الأسود العنسي الكذاب، قتله العبد الصالح فيروز الديلمي. أفتراك مقتصاً منه بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال الفتى: قد عوت عنه بعد إذ أخبرتني عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا. فقال فيروز لعمر: أفترى هذا مخرجي مما صنعت، إقراري له وعفوه غير مستكره؟ قال: نعم. قال فيروز: فأشهدك أن سيفي وفرسي وثلاثين ألفاً من ماي هبةٌ له، قال: عفوت مأجوراً يا أخا قريش وأخذ مالاً.
توفي فيروز الديلمي سنة ثلاثٍ وخمسين.
الفيض بن الخصر بن أحمد
ويقال الفيض بن محمد أبو الحارث التميمي الطرسوسي الأولاسي أحد الزهاد المشهورين، من قدماء المشايخ وجلتهم.
قال أبو الحارث الأولاسي: كنت في بعض مساجد دمسق جالساً، فدخل فقير عليه خلقان رثة، فركع وجلس، فدنوت منه وسلمت عليه، وكان معي قطيعة فذهبت فاشتريت بها عنباً وطرحته في زاوية المسجد فقلت له عند المغرب: تأكل من هذا العنب؟ فقال: دعه الساعة. فما زال يركع إلى عشاء الآخرة فلما صلى عشاء الآخرة قلت له: تأكل من هذا العنب؟ قال: وتحب ذلك؟ قلت: نعم. فأكل حبات ثم قال: أين تريد؟ قلت: الرملة. فقال: وتحب لأن نكون جميعاً؟ قلت: نعم. قال: فما زال عامة الليل يركع، ثم التفت إلي وقال: قم إن شئت. فقمت معه، وخرجنا من دمشق، وسرنا ساعة، وإذا بسرجٍ وبيوت، ونحن نسير بين أحمال تين، فقلت لبعض من يسير معنا: أيشٍ هذه السرج والبيوت؟ فقال: أيش حالك هذه الرملة! فالتفت أطلب صاحبي فلم أره.(20/344)
قال الزعفراني: قلت لأبي الحارث الأولاسي: أنا أعرفك أمير الحرب بنصيبين، فأيش الذي أخرجك إلى الله؟ قال: غدوت في آخر الليل إلى الحمام وكان على باب داري، فإذا أنا بأنين في القامين، فعدلت فإذا برجلٍ عليل، مطروح في الزبل عريان، فقلت له: لك حاجة؟ فقال لي: أريد يزال ما علي من وسخ، وثوب نظيف، ورائحة طيبة، وطعام طيب. فقلت: هات يدك؛ فأدخلته معي الحمام فنظفته وتقلدت أنا خدمته، وأخرجته إلى ثوبٍ من ثيابي، وأحضرت طعاماً طيباً، وطيبته وقلت: لك من حاجة؟ فقال لي: جبرك الله. ومات، فكفنته ودفنته، فلما كان العصر خرجت إلى الله في عباءة.
قال أبو الحارث: رأيت في منامي كأني واقفٌ بين يدي الله، فقال لي: يا عبدي سل حاجتك. فقلت: يا رب! تعلم حاجتي. فقال: أنا أعلم. وكيف لا أعلم وأنا كونتها وكمنتها في صدرك؟! ولكن أحب أن أسأل، والمسارعة في اتباع محبتي منك أولى بك من التعلق بمحبتك، أسرع وأسبق منك إلى أن بدأت تركيبها في قلبك من قبل أن تعقلها، وأطلقت لسانك بمسألتها عندي. اجمع بين مرادي من الأمور كلها وبين مرادك مني. فإن يكن مخالفاً لمرادي فإنك لن تزال في دهرك منقطعاً عني، فابتغ عندي محابي من الأمور وإن خالف منك المحبة. أجهد بدنك، واحذر الخلاف في اتباع الهوى بحب دارٍ أبغضتها وحذرتكها وأخرج قلبك منها، وكن فيها حذراً، فإن متاعها قليل، والعيش فيها قصير، وتقرب إلي ببغضها وبغض أهلها، وكن متحرزاً منها ومن أهلها، وقف بين يدي مقام من أسقط نفسه وحيلته وتعلق بمالكه.
قال أبو الحارث:
رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم كأنه معرض عني فقلت: ما أعرضك عني؟ بأبي وأمي، فقد فهمت عنك ما أمرتني ولكن أخاف أن أكون قد حرمت التوفيق. فقال: لا ولكن ليس ثم داعية يحركك لطلب، ولا رهبة تقلقك لهرب، فأنت بين الآمال الكاذبة متردد حيران قد(20/345)
أطلت الأمل وسوفت العمل. قلت: فمن الآن فأوصني، فقال: عليك بالقلة، ووان شخصك، وكن جلساً من أحلاس بيتك، فقد أمسى وأصبح كثيرٌ من الناس في أمرٍ مريج، وإنك إن تتبع أهواءهم وتلتمس رضاهم يضلك عن سبيل ربك، وهو الخسران المبين.
قال أبو الحارث الأولاسي: رأيت في المنام كأني في صحراء، بين جبال، وكأن منادياً ينادي: الباب الباب الباب - من وراء تلك الجبال - أيها الناس! هلموا وأسرعوا فإنا نريد غلق الباب. والناس فيما هم فيه من الشغل والضجة ما يشعرون بالنداء إلا نفرٌ يسير، خيل ورجالة، فجعلوا يسعون ويركضون نحو النداء. وقبض الله تعالى لي فرساً عربياً فركبته، وجعل يجري بي أشد جري وأنا اتخوف أن أسقط منه، حتى أتى بي على وحلة، فخفت أن يقف بي في تلك الوحلة، فجعل لا يزداد إلا شدة الجري في ذلك الوحل حتى خرج منه، ثم إنه أتى بي إلى عقبة صعبة. فخفت أن يقوم فرسي، فما أزداد إلا سرعة، حتى علا بي رأس العقبة، وأشرفت على المنادي وكأنه جالسٌ على رأس العقبة، عليه ثياب بياض، منكس الرأس، وهو يقرأ: " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون " وجعل ينكث الأرض كأنه حزين، فقلت: يا هذا، مالي أراك حزيناً؟ فقال: أما ترى ما في الأرض؟ فاطلعت، فرأيت سواداً متراكباً وضجة شديدة، فقلت: ما هذا السواد وما هذه الضجة؟ فقال: أما السواد فهي الفتن، وأما الضجة فالهرج المرج، قلت: رحمك الله فالمخرج من ذلك؟ قال: أربعة: لسانك ويديك وبطنك وفرجك؛ فأما لسانك فتمسكه عن الكلام إلا من ثلاثة: ذكر دائم، ورد سلام، أو حاجة لا بد منها؛ فأما يديك، فتمسكها عما ليس لك فيه حق، وتحذر المعاونة بهما؛ وأما بطنك فلا يدخله إلا الحلال! وكذلك فرجك، فإن لم تجد فالقلة القلة، كل الدون والبس الدون. وأربعٌ ألا خذ بهن: الحزم في زمانك، لا تقل لأحد اذهب، ولا قم، ولا كل، ولا لاتأكل، ولا اعمل، ولا لاتعمل، ولا هذا حلال، ولا هذا حرام. قلت: أما الصمت فإني أجهد نفسي فيه، وأما الناس فأعاهد الله على أن(20/346)
لا أقول شيئاً من ذلك إلا أكون ناسياً؛ وأما القلة من المطعم واللباس فإنه يصعب علي، وأرجو أن يعين الله تعالى عليه. فجعل يقول: يصعب علي! أفلا يصعب عليك طول القيام بين يدي الله وعسر الحساب؟! أم والله لو اتقيت لصدقت، ولو صدقت لأتقيت، ولو اتقيت لخفت، ولو خفت لحذرت، ولو حذرت لجانبت. القلة القلة، الخفة الخفة، الصمت الصمت، الهرب الهرب، النجاء النجاء، الوحاء الوحاء، الباب الباب، لجوا فيه قبل أن يغلق دونكم، فتحل بكم الندامة.
قال أبو الحارث: من استغل بما لم يكن فكان، فأنه من لم يزل ولا يزال.
قال أبو الحارث: كتب إلي بعض إخواني: أيش تشتهي من هذه الدنيا؟ فقلت: أشتهي وجهاً مصفراً، وخداً مغفراً، ودمعاً مقطراً وطمراً مشمراً، وعيشاً مكدراً، وقلباً منوراً كالقنديل يزهر، وقوتاً مقتراً. قال: فكتب إلي: يا أخي ما أحسن ما اشتهيت من هذه الدنيا! ولكن ما أحسن الليل على الساجد! والاتصال بالماجد! والزهد على الزاهد أحسن من الحلي على الناهد. ثم قال: يا أخي احفظ الله في خفي كل نظرة، وفتش كل لقمة، وزن كل خطوة، وانتخب الأحوال، وأحب كل أخٍ صحيح المودة، ثم قال: يا أخي، من عرف الله عاش، ومن أحب الدنيا طاش، والأحمق يغدو ويروح في لاش، والعاقل لذنوبه فتاش.
قال أبو الحارث:
دخلت مسجد طرسوس، فرأيت فتيين يتكلمان في علم الأنفة وسوء أدب الخلق،(20/347)
وحسن صنيع الله تعالى إليهم، ويذمان نفوسهما فيما يجب لله تعالى عليهما؛ فقال أحدهما لصاحبه: يا أخي قد تحدثنا في العلم، فتعال نعامل الله به. فيكون لعلمنا فائدة ومنفعة. فعزما على أن لا يتناولا شيئاً مسته أيدي بني آدم ولا ما للخليقة فيه صنع. قال أبو الحارث: فقلت وأنا معكما، فقالا: فخرجنا من طرسوس وجئنا إلى جبل لكام، فأقمنا فيه ما شاء الله تعالى. قال أبو الحارث: أما أنا فضعفت نفسي وقام العلم بين عيني إن مت على ما انا عليه مت ميتة الجاهلية. فتركت صاحبي بالكام سنة ورجعت إلى طرسوس، ولزمت ما كنت أعرفه من صلاح نفسي، وأقام صاحبي باللكام سنة، فلما كان بعد مدة، دخلت المسجد فإذا أنا بأحد الفتيين جالساً في المسجد، فسلمت عليه فقال: يا أبا الحارث خنت الله تعالى في عهدك ولم تف به، أما إنك لو صبرت معنا أعطيت ثلاثة أحوال. وقد أعطينا. قلت: وما الثلاثة؟ قال: طي الأرض. والمشي على الماء، والحجبة إذا أردنا. واحتجب عني عقيب كلامه. فقلت: بالذي أوصلك إلى ما قد رأيت إلا ظهرت لي حتى أسالك عن مسألة: فظهر لي وقال: سل وأوجز، فقلت له: كيف لي بالرجوع إلى هذه الحالة؟ ترى إن رجعت قبلت؟ فقال: هيهات يا أبا الحارث، بعد الخيانة لا تقبل الأمانة فكوى قلبي بكيه. لا يخرج من قلبي حتى ألقى الله عز وجل.
قال أبو الحارث: رأيت إبليس في المنام على بعض سطوح أولاس وعلى يمينه جماعة وعلى يساره جماعة، وعليهم ثياب لطاف. فقال لطائفةٍ منهم: قولوا، فقالوا وغنوا، فاستفزني طيبه حتى تيممت أن أطرح نفسي من السطح، ثم قال: ارقصوا، فرقصوا أطيب ما يكون، ثم قال لي: يا أبا الحارث، ما أصيب شيئاً أدخل به عليكم إلا هذا.(20/348)
وقال أبو الحارث: مكثت ثلاثين سنة ما يسمع لساني إلا من سري، ثم تغيرت الحال، فمكثت ثلاثين سنة لا يسمع سري إلا من ربي.
وقال أبو الحارث: رأيت إبليس له جمة شعر، وعلى حلقه شعر مثل شعر الكلب، فأقبلت عليه أتملقه وأقول له: ويحك! من أنا في هذا الخلق؟ خلني وربي لا تعترض فيما بيني وبين ربي، فقال: هيهات هيهات، كيف أخليك، وفيك وفي أبيك هلكت! لا، أو تهلكوا معلي، فأخذت برأٍه فجعلته على حجر، وأخذت بحلقه أخنقه ثم قلت: كيف أقدر على قتله وقد أخره الله إلى يوم القيامة، ولكن أرفق به، فجعلت أتملقه وهو يأبى، فقلت له: دلني على ما ينفعني، فقال: أدلك على السكر الطبرزذ بالرانج، وتمر برني والأزاذ بالزبد، وأدلك على الجبن الرطب، والمعقود والبط، والحملان، والجواذابات، وأدلك على الدراهم والدنانير أن تكثر منها. فقلت له: يا ملعون! أنا أسألك تدلني على شيءٍ ينفعني في أمر آخرتي تدلني على الدنيا! وما أصنع أنا بهذا وما حاجتي إليه؟ فقال: من ها هنا صار رأسي وخلقي في يدك تقلبه كيف شئت وتلعب به. قلت: قد أفدتني علماً لا جرم إني لأرجو أن لا أنال منها شيئاً إلا ما لاغناء بي عنه. فقال: إن تركتك فاصعد العقبة. قلت: فأين الله عز وجل؟ قال: في السماء وهو الذي سلطني عليك، فبه قويت عليك وعلى غيرك، وأما أنت فأستعين الله عليك بولد جنسك الذي زينت في أعينهم ما قبح في هينك، فأجابوني إليه، فبهم أستعين عليك فيأتونك من مأمنك.
توفي أبو الحارث الأولاسي الفيض بطرسوس، سنة سبعٍ وتسعين ومئتين.(20/349)
الفيض بن محمد الثقفي
عن ابن شهاب في رجلٍ حلفه السلطان بالسلطان، فسأله عن أمرٍ يخاف فيه على نفسه القتل، فيحلف ما فعل، وقد فعل ذلك الأمر؟ قال: يجوز عليه الطلاق، قد قضى عمر بن عبد العزيز في الفيض بن محمد الثقفي في امرأته ابنة النعمان بن بشير، فرق بينهما عمر حين حلف الفيض لابن المهلب وهو يعذبه ليؤدين إليه المال إلى أجلٍ قد سماه، فلم يؤده إليه.
قال عمر: ما أنا براجعها إليك بعد أن طلقتها. ثم أتى يزيد بن عبد الملك في ذلك، فحكم فيه بحكم عمر بن عبد العزيز.
الفيض بن محمد بن الفياض الغساني
قال الفيض:
رأيت يحيى بن حمزة الحضرمي وهو جالسٌ في مجلس القضاء عند الدرج، درج المسجد، وهو يكتب محضراً، ومنادٍ على الدرج ينادي على متاع: عشرين ودانق، عشرين ودانق، فاشتغل، قلت: يحيى! فكتب: عشرين ودانق عشرين ودانق، في سطرين، ثم استفاق، فقام إليه فأخذ بأذنيه، فجعل يعركهما ويقول له: عشرين ودانق عشرين ودانق وذاك يضج ثم خلاه.
قال: فما ينبغي لأحدٍ أن يحدث إنساناً وهو يكتيب، فيدهشه عن كتابه فيغلط.(20/350)
أسماء النساء على حرف الفاء
فاختة بنت عنبة بن سهيل
ابن عمرو بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب القرشية العامرية كانت مع جدها سهيل بن عمرو بالشام، فلما هلك أهلها بالشام رجعت إلى المدينة؛ وكان الحارث بن هشام ترك ابنه عبد الرحمن بن الحارث فحمل ذلك عمر بن الخطاب، وهما صغيران، فترحم على أبويهما وأجلسهما على فخذيه وقال: زوجوا الشريد الشريدة، عسى الله أن ينشر منهما. ففعلوا وولي تزويجهما عمر بن الخطاب، وسماهما عمر بن الخطاب الشريدين، وأقطعهما عمر بالمدينة خطة فأوسعهما لهما، فقيل له: أكثرت لهما يا أمير المؤمنين، فقال عسى الله أن ينشر منهما. ونشر الله منهما ولداً كثيراً رجالاً ونساء.
وعنبة: بعين مهملة مكسورة، ونون مفتوحة، وباء بواحدة.
فاختة بنت قرظة بن عبد عمرو
ابن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، القرشية زوج معاوية بن أبي سفيان غزت معه قبرس في خلافة عثمان بن عفان سنة خمسٍ وعشرين في البحر.
قال عبد الله بن محمد: راود معاوية ابنة قرظة فنخرت نخرة شهوةٍ، ثم وضعت يدها على وجهها، فقال: لا سوأة عليك، والله لخيركن النخارات الشخارات.(20/351)
قال عمر بن شبة: كان الأحنف بن قيس عند معاوية، ليس عنده غيره فغنت جاريةٌ من جواري معاوية في جانب الدار، فأقبل على الأحنف فقال: يا أبا بحر، لا ترم حتى أعود إليك، إني لأطلب خلوة هذه فما أكاد أقدر على ذلك. ثم قام في إثرها، فكأنما كانت لابنة قرظة امرأة معاوية عينٌ على معاوية، فأقبلت به ملببته فقلت لها: أكرمي أسراكم. قالت: اسكت يا قواد! وكان معاوية يحب ابنة قرظة امرأته حبا شجيجاً، فجرى بينهما وبين يزيد كلامٌ، فأغلظ لها يزيد، فوثبت عن مجلسها مغضبة كأنها رمحٌ هز أسفله فاضطرب أعلاه فأتبعها معاوية بصره، ثم التفت إلى ابنه فقال: يا بني إنه ليس لأبيك صبرٌ عما ترى، فأحسن حمل رأسك.
فاطمة بنت الحسن
أم أحمد العجلية قالت أم أحمد: كان بالثغر رجلٌ من تناء البلد من المجاهدين، فلقوا في بعض الغزوات العدو، فكانت على المسلمين هزيمة، وكان تحته فرسٌ يضن به، فحركه للمضي، فوقف، فقال: يا مبارك بسم الله، فالتفت إليه الفرس فقال: أنت تسلم علفي إلى السواس يأخذونه ولا يطعموني منه إلا القليل، فقال: لك علي عهد الله إن أعلفتك الشعير إلا في حجري. فحركه فجرى به وسلم. فكان الناس يجيئون إليه وهو يعلف الفرس في حجره، فيسمعون منه هذه الحكاية. فبلغ خبره ملك الروم فقال: بلدٌ يكون فيه مثل هذا الرجل لا يقدر عليه. فأنفذ إليه بعض من تنصر من المسلمين، فجاء إليه وأراه عبادةٌ وصلاةٌ وصياماً واجتماعاً فنفق عليه، فما تمكن منه قال: قد اشتهينا نخرج نمشي في الصحراء، فلم يصدق بذلك صاحب الفرس، فخرجا جميعاً، فلم يزل يستجره إلى أن وصلوا إلى قبةٍ على أصل قناة(20/352)
البلد، وإذا يعلجٍ قد خرج معه بغل، فأراد أن يكتف الرجل، فعلم أنها حيلة، فرفع طرفه إلى السماء وقال: يا رب! بك خدعني. فخرج سبعان إليهما، فأخذاهما ورجع الرجل سالماً.
فاطمة بنت الحسين بن علي
ابن أبي طالب كانت فيمن قدم بها دمشق بعد قتل أبيها، ثم خرجت إلى المدينة.
حدثت فاطمة أنها سمعت ابن عباسٍ يقول: نهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نديم النظر إلى المجذومين وقال: لا تديموا النظر إليهم.
زاد في حديثٍ آخر: وإذا كلمتموهم فليكن بينكم وبينهم قيد رمح.
وحدثت فاطمة عن فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل المسجد قال: بسم الله والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج قال: بسم الله والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك.
قالوا: وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى، إنما عاشت فاطمة بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشهراً.
وعن فاطمة بنت الحسين عن فاطمة الكبرى قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لكل بني أم عصبةٌ ينتمون إلا ولد فاكمة، فأنا وليهم وأنا عصبتهم.
قال الليث: أبى الحسين بن علي أن يستأسر، فقاتلوه وقتلوه وقتلوا ابنه وأصحابه الذين قاتلوا معه في الطف وانطلق بعلي بن حسين وفاطمة بنت حسين وسكينة بنت حسين إلى(20/353)
عبيد الله بن زياد، وعلي يومئذ غلام قد بلغ، فبعث بهم إلى يزيد بن معاوية فأمر بسكينة فجعلها خلف سريره لئلا ترى رأس أبيها وذوي قرابتها، وعلي بن الحسين في غل، فوضع رأسه فضرب على ثنيتي الحسين وقال: من الطويل
نفلق هاماً من أناسٍ أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فقال علي بن الحسين: " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير " فثقل على يزيد أن تمثل ببيت شعر وتلا علي آية من كتاب الله، فقال يزيد: بل " بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " فقال: أما والله لو أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغلولين لأحب أن يحلنا من الغل. قال: صدقت. فحلوهم من الغل. قال: ولو وقفنا بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بعد لأحب أن يقربنا، قال: صدقت فقربوهم. فجعلت فاطمة وسكينة تتطاولان لتريا رأس أبيهما، وجعل يزيد يتطاول في مجلسه ليستر عنهما رأس أبيهما. ثم أمر بهم فجهزوا وأصلح إليهم وأخرجوا إلى المدينة.
كان الحسن ين الحسن خطب إلى عمه الحسين بن علي، فقال له الحسين: يا بن أخي، قد انتظرت هذا منك، انطلق معي. فأدخله منزله، وأخرج إليه بنتيه فاطمة وسكينة فقال: اختر، فاختار فاطمة، فزوجه إياها، فكان يقال: إن امرأتين سكينة مرذولتهما لمنقطعة الحسن. فلما حضرت الحسن الوفاة قال لفاطمة: إنك امرأة مرغوب فيك، فكأني بع اله بن عمرو بن عثمان إذا خرج بجنازتي قد جاء على فرسٍ مرجلاً جمته لابساً حلته، يسير في جانبٍ من الناس يتعرض لك، فانكحي من شئت سواه، فإني لا أدع من الدنيا ورائي هما غيرك. قالت: آمن من ذلك. وأثلجته بالإيمان من العتق والصدقة لا تتزوجه. ومات الحسن بن الحسن، وخرج بجنازته فوافه عبد الله بن(20/354)
عمرو في الحال التي وصف الحسن. وكان يقال لعبد الله بن عمرو المطرف من حسنه، فنظر إلى فاطمة حاسراً تضرب وجهها، فأرسل إليها: إن لنا في وجهك حاجة فرافقي به. فاسترخت يداها - وعرف ذلك فيها - وخمرت وجهها. فلما حلت أرسل إليها يخطبها، فقالت: كيف بيمين التي حلفت بها؟ فأرسل إليها لك مكان كل مملوك مملوكان، ومكان كل شيءٍ شيئان فعوضها من يمينها فنكحته وولد محمداً الديباج، والقاسم، ورقية، ومحمد هو الذي قال جميل: إني لأراه يخطر على الصفا فأغار على بثينة من أجله.
وكان عبد الله بن الحسن وهو أكبر ولدها يقول: ما أبغضت بغض عبد الله بن عمرو أحداً، وما أحببت حب ابنه محمدٍ أخي أحداً. وكان يقول: لقد زوجت عبد الله بن عمرو وما في الدنيا أبغض إلي منه. وكأن فاطمة أرسلت إلى ابنها عبد الله بن الحسن وهو في سويقة أن اقدم زوجني. فقدم على حمار، فزوجها طاعةٌ لها وبرأيها. وكان عمر بن عبد العزيز على المدينة، ففرق عمر من الوليد بن عبد الملك أن يخطبها بغير إذنه، فكتب إليه يستأذنه فيها، وخطبها عبد الله بن عمرو، فتزوجها وقدم على عمر الكتاب بالإذن فيها وقد بنى بها عبد اله بن عمرو.
قال أبو اليقظان: نظرت فاطمة بنت الحسين إلى جنازة زوجها الحسن بن الحسن ثم غطت وجهها وقال: من الطويل
وكانوا ثم أمسوا رزيةً ... لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
ولما مات الحسن بن الحسن اعتكفت فاطمة بنت الحسين امرأته على قبره سنةً، ضربت على قبره فسطاطاً، وكانت فيه، فلما مضت السنة قلعوا الفسطاط ودخلت المدينة، فسمعوا صوتاً من جانب البقيع: هل وجدوا ما فقدوا؟ فسمع من الجانب الآخر: بل يئسوا فانقلبوا.
ولما حلت للأزواج خطبها الرجال، فقالت: على ابن عمي ألف ألف دين، فلست(20/355)
أتزوج إلا على ألف ألف أقضي بها دينه. فخطبها ابن عمرو بن عثمان، فاستكثر الصداق، فشاور عمر بن عبد العزيز فقال: ابنة الحسين وابنة فاطمة، انتهزها. فتزوجها على ألف ألف وبعث إليها بالصداق كاملاً، فقضت دينها ودخل بها.
خطب الحسن بن الحسن إلى المسور بن مخرمة ابنته، وكانت فاطمة بنت الحسين تحته، فقال: يا بن رسول الله، لو خطبت إلي على شسع نعلك لزوجتك، ولكن سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنما فاطمة شجنةٌ مني يرضيني ما أرضاها ويسخطني ما أسخطها. فأنا أعلم أنها لو كانت حية فتزوجت على ابنتها لأسخطها ذلك، فما كنت لأسخط رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لما زوجت فاطمة بنت الحسين ابنتها من عبد الله بن عمرو بن عثمان هشام بن عبد الملك دخلت عليه هي وسكينة فقال هشام لفاطمة: صفي لنا يا بنة حسين ولدك من ابن عمك، وصفي لنا ولدك من ابن عمنا. قال: فبدأت بولد الحسن فقالت: أما عبد الله فسيدنا وشريفنا والمطاع فينا، وأما الحسن فلساننا ومدرهنا، وأما إبراهيم فأشبه الناس برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شمائلاً وتطلعاً ولوناً. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مشى تقلع، فلا يكاد عقباه تقعان بالأرض. وأما اللذان من ابن عمكم فإن محمداً جمالنا الذي نباهي به، والقاسم عارضتنا التي نمتنع بها، وأشبه الناس بأبي العاص بن أمية عارضة ونفساً. فقال: والله لقد أحسنت صفاتهم يا بنت حسين. ثم وثب، فجبذت سكينة بنت الحسين بردائه وقالت: والله يا أحول لقد أصبحت تهكم بنا، أما والله ما أبرزنا لك إلا يوم الطف. قال: أنت امرأةٌ كثيرة الشر.
وكانت فاطمة بنت الحسين أعطت ولدها من حسن بن حسن مورثها من حسن بن حسن، وأعطت ولدها من عبد الله بن عمرو مورثها من عبد الله بن عمرو، فوجد ولدها(20/356)
من حسن بن حسن في أنفسهم من ذلك، لأن ما ورثت من عبد الله بن عمرو أكثر. فقالت: يا بني، إني كرهت أن يرى أحدكم شيئاً من مال أبيه بيد أخيه فيجد في نفسه، فلذلك فعلت ذلك.
قال محمد بن عبد الله بن عمرو: جمعنا أمنا فاطمة بنت الحسين فقالت: يا بني، إنه والله ما نال أحدٌ من أهل السفه بسفههم، ولا أدركوا ما أدركوه من لذاتهم إلا وقد أدركه أهل المروءات بمروءاتهم، فاستتروا بجميل ستر الله.
وكانت فاطمة بنت حسين تسبح بخيوطٍ معقود فيها.
قال يحيى بن أبي يعلى: لما قدم المال - يعني غلة الكتيبة من حمير وكانت خمس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أبي بكر بن حزم فقسمه على بني هاشم، أصاب كل إنسانٍ خمسين ديناراً قال: فدعتني فاطمة بنت حسين فقالت: اكتب، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من فاطمة بنت حسين، سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فأصلح الله أمير المؤمنين وأعانه على ما ولاه. وعصم له دينه، فإن أمير المؤمنين كتب إلى أبي بكر بن حزم أن يقسم فينا مالاً من الكتيبة ويتحرى بذلك ما كان يصنع من كان قبله من الأثمة الراشدين المهديين: فقد بلغنا ذلك وقسم فينا فوصل الله أمير المؤمنين، وجزاه من والٍ خير ما جزى أحداً من الولاة. فقد كانت أصابتنا جفوةٌ، واحتجنا إلى أن يعمل فينا بالحق، فأقسم لك بالله يا أمير المؤمنين، لقد اختدم من آل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كان لا خادم له. واكتسى من كان عارياً، واستنفق من كان لا يجد ما يستنفق.
وبعثت إليه رسولاً، فقدم عليه، فقرأ كتابها، وإنه ليحمد الله ويشكره. وأمر له(20/357)
بعشرة دنانير، وبعث إلى فاطمة بخمس مئة دينار وقال: استعيني بها على ما يعروك. وكتب إليها كتاباً يذكر فضلها وفضل أهل بيتها، ويذكر ما أوجب الله لهم من الحق، ووصل إليها ذلك المال.
روى جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين قال: لما قتل الحسين عليه السلام جاء غرابٌ فوقع في دمه وتمرغ، ثم طار فوقع بالمدينة على جدار فاطمة بنت الحسين بن علي - وهي الصغرى - ونعب، فرفعت رأسها إليه ونظرت إليه وبكت بكاءً شديداً وأنشأت تقول: من مجزوء الكامل
نعب الغراب فقلت من ... تنعاه ويلك يا غراب
قال الإمام فقلت من ... قال الموفق للصواب
قلت الحسين فقال لي ... حقاً لقد سكن التراب
إن الحسين بكر بلا ... بين الأسنة والضراب
فابكي الحين بعبرةٍ ... ترضي الإله مع الثواب
ثم استقل به الجنا ... ح فلم يطق رد الجواب
فبكت مما حل بي ... بعد الوصي المستجاب
قال علي بن الحسين: فنعته لإهل المدينة فقالوا: قد جاءتنا بسحر عبد المطلب. فما كان بأسرع من أن جاءهم الخبر بقتل الحسين عليه السلام.
قالوا: إسناد هذه الحكاية لا يثبت. وقد ذكر أنها كانت مع عيال الحسين بكربلاء. والله أعلم.
فاطمة ست العجم
بنت سهل بن بشر بن أحمد الإسفراييني المعروفة بالعالمة الصغيرة كانت تعظ النساء في بعض المساجد، وفي الأعزية.
وكان ابن مغيث زوج أختها، فطلقها وتزوج بفاطمة قبل انقضاء عدة أختها، فأتت(20/358)
إلى القاضي أبي المفضل بن عساكر تسأله عن قصتها فقال لها: مذهب الشافعي جواز نكاح الأخت في عدة الأخت. فقالت: أنا شافعية وأقامت على نكاحه ومضت معه إلى مصر فماتت هناك.
فاطمة بنت عبد الله بن مطيع
ابن الأسود بن حارثة بن نضلة بن عوف القرشية العدوية زوج الوليد بن عبد الملك بن مروان لما أهديت فاطمة إلى الوليد، وكان الوليد مطلاقاً قالت له: يا أمير المؤمنين، أكرياؤنا يريدون الشخوص فنحبسهم أو يذهبون؟ فقال: قاتل الله بنت المنافق ما أظرفها! ثم طلقها بعد ذلك.
وإنما نسب الوليد أباها إلى النفاق لأنه شهد الحرة مع أهل المدينة ثم لحق بابن الزبير! فقاتل معه حتى قتل بمكة مع ابن الزبير وه القائل: من مشطور الرجز
أنا الذي فررت يوم الحره
والشيخ لا يفر غير مره
لأجزين كرة بفره
فاطمة بنت عبد الله
زوج أبي الحسين زيد بن عبد الله البلوطي حدثت عن أبي إسحاق إبراهيم بن حاتم التستري البلوطي قالت: سمعته يقول: طويت ستين يوماً.(20/359)
فاطمة بنت عبد العزيز
أبي الحسن القاضي ابن عبد الرحمن بن أحمد بن إبراهيم القزويني أم العز روت عن أبي الحسين أحمد بن علي الجوهري الموصلي بسنده إلى أنس بن مالك قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعاذ بالباب فقال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة فقال معاذ: يا رسول الله! ألا أخبر الناس؟ قال: لا، دعهم فلينافوا في الأعمال، فإني أخاف أن يتكلوا عليها.
فاطمة بنت عبد الملك بن مروان
ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية زوج عمر بن عبد العزيز وولدت له إسحاق ويعقوب ابني عمر. ثم خلف عليها سليمان الأعور بن داود بن مروان؛ فقال الناس: هذا الخلف الأعور.
قال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز: قد زوجك أمير المؤمني فاطمة بنت عبد الملك، فقال: وصلك الله يا أمير المؤمنين فقد كفيت المسألة وأجزلت العطية. فأعجب به. فقال بعض ولد عبد الملك: هذا كلام تعلمه فأداه؛ فدخل على عبد الملك فقال: يا عمر كيف نفقتك؟ قال: بين البينين، قال: وما هما؟ قال: قول الله: " والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك فواما " فقال عبد الملك: من علمه هذا؟! قال عمارة بن غزية: حضرت عرس عمر بن عبد العزيز بفاطمة بنت عبد الملك، فكانوا يسرجون القناديل بالغالية مكان الزيت.(20/360)
وقال: لما بنى عمر بها أسرج في تلك الليلة في مسارجها الغالية. وكان على قبتها مكتوباً: من الكامل
بنت الخليفة والخليفة جدها ... أخت الخلائف والخليفة بعلها
قال خليد بن عجلان: كان عند فاطمة بنت عبد الملك جوهر، فقال لها عمر: من أين صار إليك هذا؟ قالت: أعطانيه أمير المؤمنين. قال: إما أن ترديه إلى بيت المال، وإما أن تأذني في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت. قالت: لا، بل أختارك على أضعافه لو كان لي. فوضعته في بيت المال، فلما ولي يزيد بن عبد الملك قال لها: إن شئت رددته عليك أو قيمته، قالت: لا أريده، طبت به نفساً في حياته وأرجع فيه بعد موته! لا حاجة لي فيه. فقسمه يزيد بين أهله وولده.
كان عمر بن عبد العزيز عند سليمان بن عبد الملك بمنزله، وكان سليمان يقول: ما هو إلا أن يغيب عني هذا الرجل، فما أجد أحداً يفقه عني! فقال له عمر بن عبد العزيز يوماً: ألا تدفع حق هذه المرأة إليها؟ قال: وأي امرأة؟ قال: فاطمة بنت عبد الملك، فقال سليمان: أو ما علمت وصية أمير المؤمنين عبد الملك؟ قم يا فلان فأتني بكتاب أمير المؤمنين - وكان كتب أنه ليس للبنات شيء - فقال له عمر: إلى المصحف أرسلته؟! فقال ابن لسليمان عنده: ما يزال رجالٌ يعيبون كتب الخلفاء وأمرهم حتى تضرب وجوههم. فقال عمر: إذا كان هذا الأمر إليك وإلى ضربائك كان ما يدخل على العامة من ضرر ذلك أشد مما يدخل على ذلك الرجل من ضرب وجهه. فغضب عند ذلك سليمان، فسب ابنه ذلك وقال: تستقبل أبا حفصٍ بهذا! فقال عمر: إن كان عجل علينا فقد استوفينا.
وهذا الابن أيوب بن سليمان.
دخل عمر بن عبد العزيز على فاطمة ارمأته في كنيسةٍ بالشام، فطرح عليها خلق(20/361)
ساجٍ عليه، ثم ضرب على فخذها فقال: يا فاطمة، لنحن ليالي دابق أنعم منا اليوم. فذكرها ما كانت نسيت من عيشها: فضربت يده ضربةً فيها عنف تنحيها عنها وقالت: لعمري لأنت اليوم أقدر منك يومئذ. فأكسعته - أي عبس وتحزن من ذلك - فقام يريد آخر الكنيسة وهو يقول بصوتٍ حزين: يا فاطمة " إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يومٍ عظيم " فبكت فاطمة وقالت: اللهم أعذه من النار.
وعن المغيرة بن عبد العزيز كان قد ضجر على جاريةٍ من جواريها في مرضه الذي هلك فيه، فكان لا يراها إلا انتهرها وقال: أخرجوها. فلما كان يوم.... ونزلنا بعض الشام، قال: دخلت علينا فانتهرها ثم قال: اخرجوا عني. ثم شخص ببصره إلى كوةٍ في القيطون فقال: مرحباً وأهلاً! والله إني لأرى وجوهاً ما هي بوجه إنسٍ ولا جن، فارتبعوا عني. وقال: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ". قالت: فخرجنا فمكثنا مليا، ثم قال مسلمة لي: يا أخته! قد طال مكثنا عن أمير المؤمنين. قالت: فدخلنا عليه فإذا هو مسجى بثوبه كأنما حرفه أهله جميعاً وقد استقبل به القبلة. والله ما كان على القبلة.
قالت فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر بن عبد العزيز: كنت أسمع عمر في مرضه الذي مات فيه يقول اللهم أخف عليهم موتي ولو ساعةً من نهار. فلما كان اليوم الذي قبض فيه، خرجت من عنده فجلست في بيتٍ آخر بيني وبينه باب وهو في قبةٍ له، فسمعته يقول: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في(20/362)
الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين " ثم هدأ، فجعلت لا أسمع له حركة ولا كلاماً فقلت لوصيفٍ كان يخدمه: ويحك! انظر أمير المؤمنين أنائم هو؟ فلما دخل عليه صاح، فوثبت فدخلت عليه فإذا هو ميت قد استقبل القبلة وأغمض نفسه فوضع إحدى يديه على فيه والأخرى على عينيه.
فاطمة بنت علي بن الحسين
ابن جدا، أم أبيها بنت أبي الحسن العكبري قدمت دمشق في طلب ابنٍ لها كان يخدم العسكرية في سياسة الدواب: وسمع عليها سنة ست وعشرين وخمس مئة.
حدثت عن أبي جعفر محمد بن أحمد بن محمد بن المسلمة بسنده إلى أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: ويل للعرب من شر قد اقترب! فتنٌ كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا قليل، المتمسك فيهم يومئذٍ على دينه كالقابض على خبط الشوك أو جمر الغضا.
فاطمة بنت علي بن أبي طالب
ابن عبد المطلب، الهاشمية أمها أم ولدٍ، قدم بها دمشق في عيال الحسين - بعد قتله - على يزيد.
قال موسى الجهني: دخلت على فاطمة بنت علي، فقال لها رفيقي أبو مهلٍ: كم لك؟ قالت: ست(20/363)
وثمانون سنة. قال: ما سمعت من أبيك شيئاً؟ قالت: حدثتني أسماء بنت عميس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بعدي نبي.
وفي رواية: إلا أنه لا نبي بعدي.
قال عروة بن عبد الله بن قشير:
دخلت على فاطمة بنت علي بن أبي طالب فرأيت في عنقها خرزة، ورأيت في يديها مسكتين وهي عجوز كبيرة فقلت لها: ما هذا؟ فقالت: إنه يكره للمرأة أن تتشبه بالرجال. ثم حدثتني أن أسماء بنت عميس حدثتها أن علي بن أبي طالب دفع إلى نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أوحى إليه فجلله بثوبه، فلم يزل كذلك حتى أدبرت الشمس - يقول غابت - قال: فلما سري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع رأسه فقال: صليت يا علي العصر؟ قال: لا، قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم ردها على علي. قالت أسماء: فوالله لنظرت إليها بيضاء على هذا الجبل حتى صلى، فرأيتها طلعت حتى صارت في وسط المسجد.
قالت فاطمة بنت علي بن أبي طالب: شكوت إلى محمد بن علي كثرة السهر والفكر فقال: اجعلي سهرك وفكرك في ذكر الموت. قالت: ففعلت فذهب علي السهر والفكر.
قال عيسى بن عثمان: كنت عند فاطمة بنت علي. فجاء رجلٌ يثني على أبيها عندها. فأخذت رماداً سفت في وجهه.
قال الطبري: في سنة سبع عشرة ومئة ماتت فاطمة ابنة علي وسكينة ابنة الحسين بن علي عليه السلام.(20/364)
فاطمة بنت مجلي
امرأة صالحة.
قالت ستيت الداراني رأيت فاطمة بنت مجلي بعد ما ماتت في النوم، وإذا عليها ثيابٌ حرير وأسورةٌ من ذهب. قالت: فقلت لها: من أين لك هذا؟ فقالت: أما تقرئين القرآن؟ قلت: بلى، قالت: أما تقرئين فيه: " يحلون فيها من أساور من ذهبٍ ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير "؟ قالت: فقلت لها: فأختك كيف حالها؟ فقالت: أختي أرفع حالاً مني، قالت: قلت: بماذا؟ قالت: بصبرها على زوجها.
قال: وكانت فاطمة هذه تقاربني من النساء، وكانت قد بانت من الدنيا وزهدت فيها، فكانت تصوم النهار وتقوم الليل، وتتقلل من كل شيء وتكثر الصدقة والصة للأرحام، وغير ذلك من المعروف حتى ماتت رحمها الله. وبقيت أختها بعدها.
فاطمة بنت مروان بن الحكم
ابن أبي العاص بن أمية، أخت عبد الملك قال نوفل بن الفرات: كانت بنو أمية ينزلون فلانة بنت مروان على أبواب القصور، فلما ولي عمر بن عبد العزيز قال: لا يلي إنزالها أحد غيري. فأدخلوها على دابتها إلى باب قبته، فأنزلها. ثم طبق لها وسادتين إحداهما على الأخرى براً، ثم أنشأ بمازحها - ولم يكن من شأنها المزاح - قال: أما رأيت الحرس الذي على الباب؟ قالت: بلى، فربما رأيتهم عند من هو خيرٌ منك! فلما رأى الغضب لا يتحلل عنها أخذ في الجد وترك المزاح فقال: يا عمة، إن(20/365)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبض فترك الناس على نهر مورود. فولى ذلك النهر بعده رجل، فلم يستنقص منه شيئاً - وفي رواية: فلم يستخص منه بشيء - ثم ولي ذلك النهر بعد ذلك الرجل رجل آخر فلم يستنقص منه شيئاً، ثم ولي ذلك النهر يعد ذلك الرجل رجل آخر، فكرى منه ساقية، ثم لم يزل الناس يكرون منه السواقي حتى تركوه يابساً ليس فيه قطرة؛ وايم الله، لئن أبقاني الله لأسكرن تلك السواقي حتى أعبده إلى مجراه الأول. قالت: فلا يسبوا عندك إذاً، قال: ومن يسبهم؟! إنما يرفع إلي الرجل مظلمته فأردها عليهم.
فاطمة بنت الوليد بن المغيرة
ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم أخت خالد بن الوليد كانت مع زوجها الحارث بن هشام يوم أحد، قبل أن تسلم، ثم أسلمت ولها صحبة، وخرجت مع زوجها الحارث بن هشام، واستشارها خالدٌ في بعض أمره فأشارت عليه، فقام فقبل رأسها وكانت بنت الوليد بالشام تلبس الثياب من الجباب الخز، ثم تتزر، فقيل لها: أما يغنيك هذا عن الإزار؟! قالت: فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بالإزار.
ولما كان يوم الفتح أسلمت فاطمة بنت الويد وأتت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبايعته.
قال محمد بن عمر: في سنة عشرين تزوج عمر بن الخطاب بنت الوليد بن المغيرة أم عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.(20/366)
فسيلة بنت واثلة بن الأسقع
حدث فسيلة أنها سمعت أباها يقول: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: لا، ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم.
وفي رواية: قال: يا رسول الله، الرجل يجب قومه، أعصبي هو؟ قال: لا. قلت: فمن العبي يا رسول الله؟ قال: الذي يعين قومه على الظلم.
والله أعلم.
تم الجزء العشرون من ختصر تاريخ دمشق ويتلوه إن شاء الله عز وجل
حرف القاف قابيل بن آدم علقه عبد الله محمد بن المكرم أبي الحسن الأنصاري الكاتب، عفا الله عنه وفرغ منه في ليلة الأحد الثاني والعشرين من المحرم المبارك سنة أربعٍ وتسعين وست مئة والحمد لله رب العالمين كما هو أهله وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل /(20/367)
أسماء الرجال على حرف القاف
قابيل ويقال قابين ويقال له قاين
وهو قابيل بن آدم أبي البشر الذي قتل أخاه. قيل أنه كان يسكن قينية خارج باب الجابية، وإنه قتل أخاه في جبل قاسيون عند مغارة الدم.
قال أبو بكر الخطيب: قاين - بياء منقوطة باثنتين من تحتها - هو قاين بن آدم أبي البشر المعروف بقابيل، قاتل أخيه هابيل. وقد ذكر الله قصتهما في كتابه، فقال: " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " الآيات كلها إلى آخر القصة.
عن محمد بن إسحاق قال: كان اكبر ولد آدم قابيل وتؤمه.
عن عبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل بن عبيدة الله بن أبي المهاجر قال: كان قابيل في قينية وكان صاحب زرع.
عن أنس ين مالك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أوحى الله إلى آدم: أي آدم، حج هذا البيت قبل أن يحدث بك حدث الموت، قال: وما يحدث علي يا رب؟ قال ما لا يدرى، وهو الموت، قال: وما الموت، قال:(21/7)
سوف تذوق، قال من أستخلف في أهلي؟ قال: أعرض ذلك على السماوات والأرض والجبال. فعرض على السماوات، فأبت، وعرض على الأرض، فأبت، وعرض على الجبال، فأبت وقبله ابنه، قاتل أخيه. فخرج آدم من أرض الهند حاجاً، فما نزل منزلاً أكل فيه وشرب إلا صار عمراناً بعده. وجرى حتى قدم مكة، فاستقبلته الملائكة بالبطحاء، فقالوا: السلام عليك يا آدم، بر حجك، أما إنا قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام - قال أنس: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والبيت يومئذ ياقوتة جوفاء لها بابان، من يطوف يرى من في جوف البيت، ومن في جوف البيت يرى من يطوف " - فقضى آدم نسكه، فأوحى الله تعالى إليه: يا آدم، قضيت نسكك؟ قال نعم يا رب، قال: فسل حاجتك تعط. قال: حاجتي أن تغفر لي ذنبي وذنب ولدي. قال: أما ذنبك، يا آدم، فقد غفرناه حين وقعت بذنبك، وأما ذنب ولدك فقد عرفني، وآمن بي، وصدق رسلي وكتابي غفرنا له ذنبه ".
عن سعيد بن المسيب: أن الله أمر آدم أن يفرق في النكاح من كل بطن هذا لتلك، وتلك لها حتى كان أمر هابيل وقابيل.
عن ابن عباس وكعب وعبد الله ابن سلام قالوا: ولدت حواء مع قابين جاريةً يقال لها لوذا أجمل بنات آدم، وولدت مع هابيل جارية يقال لها إقليميا، فخطبا إلى أبيهما، فقال: أنكحك يا هابيل لوذا، وقال لقابين: - ويقال قابيل، والله أعلم - زوجتك إقليميا، فقال قابين: ما أرضى بهذا، أختي أجمل، فقال آدم، إن الله أمرني أن أفرق بينكما في النكاح، فإن كنت لا ترضى فقربا قرباناً، فقربانكما سيقضي بينكما، قال: وكيف يقضي بيننا؟ قال: من يقبل قربانه فهي له.
قال آدم لجبريل: يا جبريل، أليس تاب الله علي؟ قال: بلى، قال، فما لي لا أسمع خفق أجنحة الملائكة كما كنت أسمعها في الجنة؟ قال: فانطلق جبريل إلى الله، وذلك بغيته، فقالت الملائكة: يا رب، ما فعل عبدك الذي خلقته بيدك، وأمرتنا بالسجود(21/8)
له، وأسكنته الجنة؟ قال: إنه عصاني، فأخرجته من الجنة. فاشتاقت الملائكة إلى آدم، فقال جبريل: يا رب، إن آدم اشتاق الملائكة، فقال الله: يا جبريل، إن الملائكة قد اشتاقت إلى آدم كما اشتاق آدم إليهم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كذلك الأرواح تتعارف ". قال الله: يا جبريل، انطلق بالبيت المعمور، فاهبط به إلى الأرض، وضعه في حرمي، وقل لآدم يحجه، ويوافي ملائكتي هناك. فجاء جبريل وهما يختصمان: قابين وهابيل، فأخبر آدم، فقال لهما آدم: قربا القربان. قال: وكان قابين صاحب زراعة، وهابيل صاحب غنم، فقرب هابيل كبشاً، وكان قائد عنمه يقال له: رذين، وهو الكبش الذي فدى الله به إسحاق. وقرب قابين من زوان؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ حرثه.
وفي رواية: جاء أحدهما بخير ماله، وجاء الآخر بشر ماله، فجاءت النار فأكلت قربان أحدهما وهو هابيل، وتركت قربان الآخر، فحسده، فقال: " لأقتلنك ". وأما قوله: " إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك " فقيول:: " تبوأ بأثم قتلي وإثمك ". وأما قوله تعالى: " فبعث الله غراباً يبحث في الأرض "؛ فإنه قتل غراب غراباً، فجعل يحثو عليه، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه حين رآه: " يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين ".
وقيل: إن هابيل قرب مع الكبش زبداً ولبناً، فكانت النار تجيء من السماء ناراً بيضاء، فإذا أراد الله أن يقبل قرباناً عبد جاءت النار حتى أحاطت بالقربان وصاحبه، فتشم صاحب القربان، ثم تعدل إلى القربان، فتأكله، وإذا لم يتقبل الله قربان العبد جاءت النار حتى أحاطت بالقربان، فشمته، ثم عدلت عنه، فلم تأكله. قال قابين: قبل قربانك، ولم يتقبل قرباني، لأقتلنك أو تعتزل أختي وتدعها، قال: لا أفعل، " إنما يتقبل الله من المتقين "؛ يعني الذين يتقون سفك الدماء الحرام. قال: فجاءا إلى أبيهما،(21/9)
فأخبراه، فقال لهما: إن الله قد فصل بينكما، فلا تشغلاني، ودعاني حتى أنطلق، فأقضي نسكي؛ فإن ربي أمرني أن أوافي الملائكة هناك، وقد زوجتكما. فمضى آدم. فقال قابين: لا أمشي في الناس، وتقول أخوتي: إن هابيل خير منك، فأراد قتله. فخاطبه أخوه يوماً إلى أن ذهب أكثر ذلك اليوم فقال: اتق الله يا أخي لا تقتلني، فقد علمت ما نزل بآدم حين عصى ربه، إنك أن قتلتني ألقى الله عليك الوحشة والمذلة، وصرت طريداً لا ترى شيئاً إلا راعك، ولا تسمع صوناً إلا خفت. فأبى إلا قتله، فقال له أخوه: " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك؛ إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك " يعني تستوجب بإثمي، وإثمك الذي عملت، " فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ". يقول الله جل وعز: " فطوعت له نفسه قتل أخيه، فقتله فأصبح من الخاسرين "، فلما انصرف آدم سأل عن ولده، ثم سأل عن هابيل وقابيل، فقالوا: قتل هابيل قابيل، قال لعنة الله. فأوحى الله إليه: إني قد لعنته.
عن ابن مسعود أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ثلاث هن أصل كل خطيئة، فاتقوهن، واحذروهن، وثلاث إذا ذكرن فامسكوا: إياكم والكبر؛ فإن إبليس إنما منعه الكبر أن يسجد لآدم عليه السلام، وإياكم والحرص؛ فإن آدم إنما حمله الحرص على أن أكل من الشجرة، وإياكم والحسد، فإن ابني آدم إنما قتل أحدهما صاحبه حسداً، فهن أصل كل خطيئة، فاتقوهن واحذروهن. والثلاث: إذا ذكر القدر فامسكوا، وإذا ذكر النجوم فامسكوا، وإذا ذكر أصحابي فامسكوا ".
عن ابن عباس قال: الصخرة التي بمنى بأصل ثبير هي الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء إسحاق ابنه، هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟، فذبحه. قال: وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه، كان مخزوناً حتى فدى به إسحاق، وكان ابن آدم الآخر قرب حرثاً فلم يتقبل منه.(21/10)
عن محمد بن علي بن حسين أنه سئل عن ابن آدم القاتل؟ فقال: جعل مع عين الشمس.
عن بهز بن حكيم أنه قال: إن قابين عاش حتى ولد له الأولاد، ثم أهلكه الله - عز وجل - بعد ذلك، وإن آدم نفى ولده عن ولده، وأمر ولده بمفارقتهم، وترك خلطتهم، فالله أعلم.
عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل ".
عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أشقى الناس رجلان: عاقر الناقة ناقة ثمود، وابن آدم الذي قتل أخاه؛ ما يسفك على الأرض دم إلا لحقه منه شيء، لأنه أول من سن القتل ".
عن عبد الله بن عمرو أن ابن آدم الذي قتل أخاه يقاسم أهل النار نصف عذاب جهنم قسمةً صحاحاً.
عن ابن عباس:
أن فيهما نزلت: " من أجل ذلك " يعني من أجل قابيل وهابيل، " كتبنا على بني إسرائيل " في التوراة " أنه من قتل نفساً " محرمة " بغير نفس " لم تستوجب قتلاً من قود، ولا ارتداد، ولا زنى بعد إحصان " فكأنما قتل الناس جميعاً "، أي لا عقاب له إلا النار، بمنزلة من قتل الناس جميعاً " ومن أحياها "، فعفا عن القاتل، أو فداه " فكأنما أحيا الناس جميعاً "، ليس له ثواب إلا الجنة.(21/11)
عن علي في قوله: " ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس "، قال: إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه.
عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من هجر أخاه سنةً لقي الله بخطيئة قابيل بن آدم، لا يفكه شيئ دون ولوج النار ".
عن أبي أيوب اليماني أن رجلاً من قومه يقال له عبد الله ركب في البحر في نفر من قومه، فأظلم عليهم البحر ثلاثاً، ثم انجلت تلك الظلمة وهم فيها، فإذا قرية على البحر، فخرج يستقي الماء، فإذا القرية، وإذا أبواب مغلقة، فجعل يهتف، فلم يجبه أحد حتى طلع عليه فارسان، تحت كل فارس منهما قطيفة بيضاء، فقالا له: يا عبد الله مالك، وما أنت، وما أمرك؟ فأخبرهما خبره، وما أصابهم في الظلمة في البحر، وإني خرجت أطلب الماء، فناديت في هذه القرية، فلم يجبني احد ورأيت أبواباً مغلقة. قالا لي: يا عبد الله انطلق في هذه، فإنها تنتهي إلى بركة، فاستق منها، ولا يهولنك منها ما ترى. فمضيت في السكة حتى انتهيت إلى بركة فيها ماء، فإذا رجل معلق بين السماء والأرض، ولا أرى ما عليه، وهو يتناول الماء فلا يناله. فلما رآني هتف بي، وقال يا عبد الله اسقني. قال فغرفت بالقدح ماءً، فذهبت أناوله، قال: فقبضت يدي، قال: قلت: يا عبد الله، غرفت بالقدح لأسقيك، فقبضت يدي، فاخبرني من أنت؟ قال: أنا قابيل بن آدم، وأنا أول من سفك دماً في الأرض.
قال: وقد كنت سألت الفارسين عن البيوت التي تتجلجل فيها الريح، وهي مغلقة الأبواب، قالا: فيها أرواح المؤمنين.(21/12)
قال عبد الله بن مسلم الدينوري: في حديث كعب أن عمر قال: لأي ابني آدم كان النسل؟ قال: ليس لواحد منهما نسل؛ أما المقتول فدرج، وأما القاتل فهلك نسله في الطوفان. قال: والناس من بني نوح، ونوح من بني شيث بن آدم.
القاسم بن إسماعيل بن عرباض
أبو محمد روي عن أبي بكر محمد بن تمام الحمصي بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم يكون قوم تسبق شهادتهم أيمانهم، وأيمانهم شهادتهم ".
وروي عن أبي صالح القاسم بن الليث بن مسرور الرسعني بسنده إلى أبي هريرة: أنهم خرجوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض مغازيه، فأرملوا، فجاءه أناس يسألونه في نحر إبلهم، فأذن لهم، فجاءه عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله، إبلهم تحملهم، وتبلغهم عدوهم، وترجعهم! بل ادع يا رسول الله بعيرات الزاد، فادع فيها بالبركة، قال: أجل. فدعا بعيرات الزاء فجاء الناس بما بقي معهم فخلطه بيده فدعا فيه بالبركة. ثم دعاهم بأوعيتهم، فملؤوا كل وعاء، ففضل فضل كثير، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذلك: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأني عبده ورسوله، من لقي الله بهما غير شاك دخل الجنة ".(21/13)
القاسم بن الحسن بن محمد بن يزيد
أبو محمد الهمذاني الصائغ قدم دمشق سنة اثنتين وأربعين ومائتين.
حدث عن روح بن عبادة بسنده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال - أو قال: من الناس - ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا، وأضلوا ".
قال الخطيب: مات القاسم بن الحسن بن يزيد الصائغ سنة اثنتين وسبعين ومائتين في الجانب الشرقي في شارع باب خراسان - وقال ابن قانع: مات بمصر - وكان ثقةً.
القاسم بن سعيد بن شريح
ابن عذرة - يعرف بالتجوبي - التجيبي مولاهم المصري. كان أحد الخطباء والبلغاء من أهل مصر، وله فيهم ذكر. ووفد على مروان بن محمد فأعجبه، فجعله يجيب الخطباء في الآفاق. ولولده بقيةً.
قال ابن ماكولا:
أما التجوبي - أوله تاء معجمة باثنين من فوقها وبعدها جيم وبعد الواو باء معجمة بواحدة ثم ياء - فهو: معاوية بن سعيد بن شريح بن عذرة مولى بني فهم من تجيب، مصري. كان هو وأخوه القاسم يكتبان في ديوان الجند بمصر.(21/14)
القاسم بن سلام
أبو عبيد البغدادي الفقيه القاضي الأديب المشهور. صاحب التصانيف المشهورة، والعلوم المذكورة.
قدم دمشق طالب علم.
روي عن سفيان بن عيينة بسنده إلى عمار بن ياسر: أنه توضأ، فخلل لحيته، فقيل له: أتفعل هذا؟ فقال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله.
وروي عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أبي ريحانة، عن سفينة صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغتسل بالصاع، ويطهره المد. وفي رواية: يتطهر بالمد.
قال محمد بن سعد: القاسم بن سلام، يكنى أبو عبيد، وهو من أبناء أهل خراسان. كان مؤدياً صاحب نحو وعربية، وطلب الحديث والفقه. ولي قضاء طرطوس أيام ثابت بن نصر بن مالك ولم يزل معه ومع ولده. وقدم بغداد ففسر بها " غريب الحديث " وصنف كتباً، وسمع الناس منه. وحج، فتوفي بمكة سنة أربع وعشرين ومائتين.
عن أبي بكر الخطيب قال: أبو عبيد القاسم بن سلام التركي، مولى الأزد، وصاحب الكتب المصنفة منها: " غريب الحديث " و" غريب المصنف " و" كتاب الأموال "، و" كتاب القراءات "، و" كتاب الأمثال "، و" الناسخ والمنسوخ "، وغير ذلك. وكان أحد الأئمة في الدين، وعلماً من أعلام المسلمين. ولد أبو عبيد بهراة. وكان أبوه سلام عبداً لبعض أهل هراة، وكان يتولى الأزد.(21/15)
قال عبد الله بن طاهر: كان للناس أربعة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والقاسم بن معن في زمانه، وأبو عبيد القاسم بن سلام في زمانه.
رثى عبد الله بن طاهر أبا عبيد، فقال: " من البسيط "
يا طالب العلم قد أودى بن سلام ... قد كان فارس علم غير محجام
أودى الذي كان فينا ربع أربعة ... لم يلف مثلهم إسناد أحكام
خير البرية عبد الله عالمها ... وعامر ولنعم التلو يا عام
هما أنافا بعلم في زمانهما ... والقاسمان ابن معن وابن سلام
قال هلال بن العلاء الرقي: من الله على هذه الأمة بأربعة لولاهم لهلك الناس: من الله عليهم بالشافعي حين بين المجمل من المفسر، والخاص من العام، والنسخ من المنسوخ، ولولاه لهلك الناس، ومن الله عليهم بأحمد بن حنبل حتى صبر في المحنة والضرب، فنظر غيره إليه فصبر، ولم يقولوا بخلق القرآن، ولولاه لهلك الناس، ومن الله عليهم بيحيى بن معين حتى بين الضعفاء من الثقات، ولولاه لهلك الناس، ومن الله عليهم بأبي عبيد حتى فسر غريب حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولولاه لهلك الناس.
قال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: أبو عبيد أوسعنا علماً وأكثرنا أدباً، وأجمعنا جمعاً، إنا نحتاج إلى أبي عبيد وأبو عبيد لا يحتاج إلينا.(21/16)
قال إسحاق بن راهوية: الحق يجب لله - عز وجل - أبو عبيد القاسم بن سلام أفقه مني، وأعلم مني.
قال حمدان بن سهل: سألت يحيى بن معين عن الكتبة عن أبي عبيد والسماع منه، فقال: مثلي يسأل عن أبي عبيد؟! أبو عبيد يسأل عن الناس. لقد كنت عند الأصمعي يوماً إذ أقبل أبو عبيد، فشق إليه بصره حتى اقترب منه، ثم قال: أترون هذا المقبل؟ قالوا: نعم، قال: لن تضيع الدنيا - أو لن يضيع الناس - ما حيي هذا المقبل.
قال أحمد بن حنبل: أبو عبيد القاسم بن سلام ممن يزداد عندنا كل يوم خيراً.
قال إبراهيم الحربي: أدركت ثلاثةً لن ترى مثلهم أبداً، تعجز النساء أن يلدن مثلهم: رأيت أبا عبيد القاسم بن سلام، ما مثلته إلا بجبل نفخ فيه روح، ورأيت بشر بن الحارث، فما شبهته إلا برجل عجن من قرنه إلى قدمه عقلاً، ورأيت أحمد بن محمد بن حنبل، فرأيت كأن الله جمع له علم الأولين من كل صنف يقول ما يشاء، ويمسك ما يشاء.
روى أبو عبيد القاسم بن سلام عن حجاج بسنده عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا توضأ خلل لحيته.(21/17)
وروي عن يحيى بن سعيد بسنده إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: رأت عائشة عبد الرحمن يتوضأ، فقالت: يا عبد الرحمن، أسبع الوضوء، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ويل للأعقاب من النار ".
قال أبو العباس ثعلب: لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل لكان عجباً.
قال الخطيب: بلغنا أنه: كان إذا ألف كتاباً أهداه إلى عبد الله بن طاهر، فيحمل إليه مالاً خطيراً استحساناً لذلك، وكتبه مستحسنة مطلوبة في كل بلد، والرواة عنه مشهورون ثقات، ذوو ذكر ونبل. وقد سبق إلى جميع مصنفاته؛ فمن ذلك " الغريب المصنف " وهو من أجل كتبه في اللغة، فإنه احتذى فيه كتاب النضر بن شميل المازني الذي يسميه " كتاب الصفات " وبدأ فيه بخلق الإنسان، ثم بخلق الفرس، ثم بالإبل، فذكر صنفاً بعد صنف حتى أتى على جميع ذلك.
وهو أكبر من كتاب أبي عبيد وأجود. ومنها كتابه " الأمثال "، وقد سبقه إلى ذلك جميع البصريين والكوفيين: الأصمعي، وأبو زيد، وأبو عبيدة، والنضر بن شميل، والمفضل الضبي، وابن الأعرابي؛ إلا أنه جمع روايتهم في كتابه، فبوبه أبواباً، وأحسن تأليفه. وكتاب " غريب الحديث "، أول من عمله أبو عبيدة معمر بن المثنى، وقطرب، والأخفش، والنضر بن شميل، ولم يأتوا بالأسانيد. وعمل أبو عدنان النحوي البصري كتاباً في غريب الحديث، وذكر فيه الأسانيد، وصنفه على أبواب السنن والفقه إلا أنه ليس بالكبير؛ فجمع أبو عبيدة عامة ما في كتبهم، وفسره، وذكر الأسانيد.(21/18)
وصنف المسند على حدته وأحاديث كل رجل من الصحابة والتابعين على حدته، وأجاد تصنيفه، فرغب فيه أهل الحديث والفقه واللغة لاجتماع ما يحتاجون إليه فيه. وكذلك كتابه في " معاني القرآن "، وذلك أن أول من صنف في ذلك من أهل اللغة أبو عبيدة معمر بن المثنى، ثم قطرب بن المستنير، ثم الأخفش. وصنف من الكوفيين: الكسائي، ثم الفراء؛ فجمع أبو عبيد من كتبهم، وجاء فيه بالآثار وأسانيدها، وتفاسير الصحابة والتابعين والفقهاء. وروى النصف منه ومات قبل أن يسمع باقيه، وأكثره غير مروي عنه. وأما كتبه في الفقه، فإنه عمد إلى مذهب مالك والشافعي، فتقلد أكثر ذلك، وأتى بشواهده، وجمعه من حديثه ورواياته، واحتج فيها باللغة والنحو، فحسنها بذلك. وله في القرآن كتاب جيد، ليس لأحد من الكوفيين قبله مثله. وكتابه " في الأموال " من أحسن ما صنف في الفقه وأجوده.
قال أبو الحسن محمد بن جعفر بن هارون التميمي النحوي: كان طاهر بن الحسين حين مضى إلى خراسان نزل بمرو، وطلب رجلاً يحدثه ليلةً، فقيل ما هاهنا إلا رجل مؤدب؛ فأدخل عليه أبو عبيد القاسم بن سلام، فوجده أعلم الناس بأيام الناس والنحو واللغة والفقه، فقال له: من المظالم تركك أنت بهذا البلد؛ فدفع إليه ألف دينار، وقال له: أنا متوجه إلى خراسان إلى حول، وليس أحب اصطحابك شفقاً عليك، فأنفق هذه إلى أن أعود إليك، فألف أبو عبيد " غريب المصنف "، إلى أن عاد طاهر بن الحسين من خراسان، فحمله معه إلى سر من رأى. وكان أبو عبيد ديناً ورعاً جواداً.
قال الفسطاطي: كان أبو عبيد مع ابن طاهر، فوجه إليه أبو دلف يستهديه أبا عبيد مدة شهرين،(21/19)
فأنفذ أبا عبيد إليه، فأقام شهرين، فلما أراد الانصراف وصله أبو دلف بثلاثين ألف درهم، فلم يقبلها، وقال: أنا في جنبة رجل ما يحوجني إلى صلة غيره، فلا آخذ ما فيه علي نقص، فلما عاد إلى طاهر وصله بثلاثين ألف دينار بدل ما وصله أبو دلف، فقال له: أيها الأمير، قد قبلتها، ولكن قد أغنيتني بمعروفك وبرك وكفايتك عنها، وقد رأيت أن أشتري بها سلاحاً وخيلاً، وأوجه بها إلى الثغر، ليكون الثواب متوافراً على الأمير. ففعل.
قال أبو عبيد: كنت في تصنيف هذا الكتاب - يعني غريب الحديث - أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال، فأضعها في موضعها من الكتاب، فأبيت ساهراً فرحاً مني بتلك الفائدة. وأحدكم يجيئني، فيقيم عندي أربعة أشهر، " أو " خمسة أشهر، فيقول: قد أقمت الكثير.
وأول من سمع هذا الكتاب من أبي عبيد يحيى بن معين. واستحسنه أحمد بن حنبل، وقال: جزاه الله خيراً، وكتبه.
وكان طاهر بن عبد الله ببغداد، فطمع في أن يسمع من أبي عبيد، وطمع أن يأتيه في منزله، فلم يفعل أبو عبيد حتى كان هذا يأتيه. فقدم علي بن المديني، وعباس العنبري، فأراد أن يسمعا " غريب الحديث "، فكان يحمل كل يوم كتابه، ويأتيهما في منزلهما، فيحدثهما فيه.
قال أبو عبيد القاسم ابن سلام: لأهل العربية لغةً، ولأهل الحديث لغةً، ولغة أهل العربية أقيس، ولا نجد بداً من اتباع لغة أهل الحديث من أجل السماع.(21/20)
قال أبو عمرو بن الطوسي: قال لي أبي: غدوت إلى أبي عبيد ذات يوم، فاستقبلني يعقوب بن السكيت، فقال: إلى أين؟ فقلت: إلى أبي عبيد، فقال: أنت أعلم منه. قال: فمضيت إلى أبي عبيد، فحدثته بالقصة، فقال لي: الرجل غضبان، فقال: قلت: من أي شيء؟ قال: جاءني منذ أيام. فقال لي: اقرأ علي " غريب المنصف "، فقلت: لا، ولكن تجيء مع العامة، فغضب.
قال أبو بكر بن الأنباري: كان أبو عبيد يقسم الليل ثلاثاً؛ فيصلي ثلثه، وينام ثلثه، ويضع الكتب ثلثه.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: دخلت البصرة لأسمع من حماد بن زيد، فقدمت، فإذا هو قد مات، فشكوت ذلك إلى عبد الرحمن بن مهدي، فقال: مهما سبقت به فلا تسبقن بتقوى الله عز وجل، وقال: ما دققت على محدث بابه قط لقول الله - عز وجل -: " ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم ".
وقال: إن من شكر العلم أن تقعد مع كل قوم، فيذكرون شيئاً لا تحسنه، فتتعلم منهم، ثم تقعد بعد ذلك في موضع آخر، فيذكرون ذلك الشيء الذي تعلمته، فتقول: والله ما كان عندي شيء حتى سمعت فلاناً يقول كذا وكذا، فتعلمته. فإذا فعلت ذلك فقد شكرت العلم.
قال موسى بن نجيح السلمي: جاء رجل إلى أبي عبيد القاسم بن سلام، فسأله عن الربابة، فقال: هو الذي(21/21)
يتدلى دوين السحاب. وأنشده بيتاً لعبد الرحمن بن حسان: " من المتقارب "
كأن الرباب دوين السحاب ... نعام تعلق بالأرجل
فقال: لم أرد هذا، قال: فالرباب اسم امرأة؛ وأنشده: " من الكامل "
إن الذي قسم الملاحة بيننا ... وكسا وجوه الغانيات جمالا
وهب الملاحة للرباب وزادها ... في الوجه من بعد الملاحة خالا
فقال: لم أرد هذا، فقال: عساك أردت قول الشاعر: " من الهزج "
رباب ربة البيت ... تصب الخل في الزيت
لها سبع دجاجات ... وديك حسن الصوت
فقال: هذا أردت. فقال له: من أين أنت؟ فقال: من البصرة، فقال على أي شيء جئت، على الظهر أم على الماء، قال؟ في الماء، قال: كم أعطيت؟ قال: أربعة دراهم، قال: فاسترجع منه ما أعطيته، وقل له: لم تحمل شيئاً! قال أبو عبيد: مثل الألفاظ الشريفة والمعاني الطريفة مثل القلائد اللائحة في الترائب الواضحة، وقال: إني لأتبين في عقل الرجل أن يدع الشمس، ويمشي في الظل.
مات أبو عبيد سنة أربع وعشرين ومائتين بمكة - وقيل قبل ذلك - وقد بلغ سبعاً وستين سنةً.(21/22)
القاسم بن شمر
أبو سفيان خرج من دمشق سائحاً، وسكن الجبال مدة فراراً بدينه.
روى أبو سفيان بن شمر سنة سبع وتسعين ومائة أنه بلغه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من فر بدينه شبراً فقد وجبت له الجنة، ومن قرية إلى قرية، ومن مدينة إلى مدينة كان معي، ومع عيسى في الجنة هكذا - وبسط رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفه - فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الفرارون بدينهم؟ اتبعوا عيسى بن مريم، فإنه كان يفر بدينه من قرية إلى قرية، ومن مدينة إلى مدينة ".
القاسم بن صفوان بن إسحاق
ويقال: ابن صفوان بن عوانة - أبو بكر - ويقال: أبو سعيد - البرذعي حدث عن أبي حاتم الرازي بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن يحب ".
القاسم بن عبد الله بن إبراهيم
ابن سلمة بن الهذيل بن عبد الرحمن بن موسى بن عمران بن عبد الرحمن أبو العباس الكلاعي روى عن يونس بن عبد الأعلى بسنده إلى بريدة قال: دخلت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد، فسمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت(21/23)
الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد سأل الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى ".
وروى عن يونس بن عبد الأعلى بسنده إلى سهل بن سعد الساعدي، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " والذي نفسي بيده لروحةً في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ".
توفي أبو العباس الكلاعي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله
ابن مسعود أبو عبد الرحمن الهذلي الكوفي القاضي
قدم دمشق مجتازاً، إلى بيت المقدس. روى عن أبيه، عن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنه سيلي أمركم من بعدي رجال يطفئون السنة، ويحدثون بدعةً، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها ". قال ابن مسعود: يا رسول الله، كيف بي إن أدركتهم؟ قال: " ليس - يا بن أم عبد - طاعةً لمن عصى الله "، قالها ثلاث مرات.
عن القاسم قال: قال عبد الله: أربع قد فرغ منهن: الخلق، والخلق، والرزق، والأجل.
عن محارب بن دثار قال: صحبنا القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود إلى بيت المقدس، ففضلنا بثلاث: بكثرة الصلاة، وطول الصمت، وسخاء النفس.(21/24)
قال ابن سعد: القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي، ولي قضاء الكوفة في ولاية خالد بن عبد الله القسري. وكان ثقةً كثير الحديث.
وقال العجلي: كان لا يأخذ على القضاء أجراً. ثقة كثير الحديث.
قال سفيان: قلت لمعسر: من أشد توقياً في الحديث؟ فقال: ما رأيت أحداً أشد توقياً في الحديث من القاسم بن عبد الرحمن، وعمرو بن دينار.
وقال: ما رأيت أثبت من عمرو بن دينار والقاسم بن عبد الرحمن.
عن الأعمش قال: كنت أجلس إلى القاسم بن عبد الرحمن وهو على القضاء.
عن المسعودي، عن القاسم.
أنه كان يكره الأخذ على أربع: على قراءة القرآن، والآذان، والقضاء، والمقاسم.
قال الأعمش: قال لي القاسم بن عبد الرحمن: لو جئت فجلست إلي، قال: فجاء، فجلس إليه، فأخذ عليه الأعمش في قضائه.
عن مزاحم بن زفر أنه أخبره قال: قدمت على عمر بن عبد العزيز، فسألني: من على قضائكم؟ قلت: القاسم بن عبد الرحمن. قال: كيف علمه؟ قلت عالم فيما فهم، قال: فمن أعلم أهل الكوفة؟ قلت أتقاهم.(21/25)
قال خليفة: في آخر ولاية خالد - يعني خالد بن عبد الله القسري - مات القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود.
وذكر خليفة أن عزل خالد كان في سنة عشرين ومائة.
القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن
مولى عبد الرحمن بن خالد بن يزيد بن معاوية وهو القاسم بن أبي القاسم. من فقهاء أهل دمشق قال القاسم أبو عبد الرحمن - يرفع الحديث إلى عقبة بن عامر - عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من صام يوماً في سبيل الله باعد الله منه جهنم مسيرة مائة عام ".
وحدث عن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " تدنو الشمس يوم القيامة على قيد ميل، ويزاد في حرها كذا وكذا، تغلي منه الهوام كما تغلي القدر على الأثافي، يعرقون منها على قدر خطاياهم، منهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ساقيه، ومنهم من يبلغ إلى وسطه، ومنهم من يلجمه العرق ".
وعن أبي أمامة. عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن من المؤمنين من يدخل بشفاعته الجنة مثل ربيعة ومضر ".(21/26)
قال ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام: القاسم بن عبد الرحمن، ويكنى أبا عبد الرحمن، مولى جويرية بنت أبي سفيان بن حرب - وقيل: مولى معاوية - مات سنة اثنتي عشرة ومائة في خلافة هشام بن عبد الملك، وله حديث كثير. في بعض حديث الشاميين أنه أدرك أربعين بدرياً.
قال عبد الرحمن بن يزيد: ما رأيت خيراً منه؛ وذكر عنه أشياء في غزوة مسلمة.
وثقة يحيى والعجلي.
وقال إبراهيم بن يعقوب السعدي: كان القاسم جيداً فاضلاً، أدرك أربعين رجلاً من المهاجرين والأنصار.
عن القاسم أبي عبد الرحمن قال: قدم علينا سلمان الفارسي بدمشق.
أنكره أحمد بن حنبل، وقال: كيف يكون له هذا اللقاء، وهو مولى لخالد بن يزيد بن معاوية. فذكر لأحمد حديث القاسم أبي عبد الرحمن قال: رأيت الناس مجتمعين على شيخ، فقلت: من هذا؟ قالوا: سهل بن الحنظلية. فسكت أحمد، ولم يرده كما رد لقاء القاسم سلمان.
عن إبراهيم أبي الحصين قال: كان القاسم من فقهاء دمشق.
وذكر لأحمد بن حنبل حديث عن القاسم الشامي، عن أبي أمامة: " إن الدباغ طهور " فأنكره، وحمل على القاسم.
قال يعقوب بن شيبة: القاسم أبو عبد الرحمن كان من أصحاب أبي لأمامة، وقد أختلف الناس فيه؛ فمنهم من يضعف روايته، ومنهم من يوثقه.(21/27)
قال إبراهيم بن موسى الفراء الرازي: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، قال: فعرضت عليه أحاديث من أحاديث القاسم عن أبي أمامة، فأنكرها، وجعل يقول: " القاسم عن أبي أمامة، القاسم عن أبي أمامة ".
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: سنة اثنتي عشرة ومائة - فيها توفي القاسم أبو عبد الرحمن. ويقال: مات القاسم سنة ثمان عشرة.
القاسم بن عبد الرحمن بن عضاه الأشعري
دمشقي. بعثه سليمان بن عبد الملك إلى قتيبة بن مسلم أمير خراسان في وفد، وغزا مع قتيبة فرغانة.
القاسم بن عبد الغني بن جمعة
أبو حذيفة الهاشمي روى عن عتبة بن حماد أبي خليد بسنده إلى أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قد فرغ الله إلى كل عبد من خلقه من خمس خصال قبل أن يخلقه: أثره، وعمله، وأجله، ورزقه، ومضجعه ".
قال أبو خليد: وجدت مصداق هذا الحديث في كتاب الله المنزل، في الأثر: " إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين "، وفي العمل: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً "، وفي الأجل: " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون "، وفي الرزق: "(21/28)
نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات "، وفي المضجع: " لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ".
القاسم بن عبيد الله بن الحبحاب
السلولي مولاهم كان مع أبيه بدمشق، وخرج إلى مصر، وولي إمرتها خلافةً عن أبيه في خلافة هشام، ثم أقره هشام عليها حين خرج أبوه إلى إفريقية أميراً عليها.
القاسم بن عثمان
أبو عبد الملك العبدي الجوعي الزاهد روى عن عبد الله بن نافع المدني بسنده عن ابن عمر قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ".
قال أبو عبد الرحمن السلمي: قاسم بن عثمان الجوعي من جلة المشايخ.
قال أبو بكر بن أبي داود: كان يقدم في الفضل على ابن أبي الحواري.
وقال أبو جعفر الحداد: دخلت دمشق، فوقفت على قاسم الجوعي وهو يتكلم، وهو شيخ الدمشقيين، فسمعته يتكلم في الإيثار، فدخل عليه رجل من خارج الحلقة حتى جاء إلى القاسم وفي(21/29)
رأسه عمامة، فأخذها، وجعل يلفها على رأسه، وقاسم يدير له رأسه حتى أخذها، ولم يكلمه القاسم، ولا أحد من أصحابه، ولم يقطع كلامه.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: دخلت دمشق على كتبة الحديث، فمررت بحلقة قاسم الجوعي، فرأيت نفراً جلوساًحوله، وهو يتكلم عليهم، فهالني منظرهم، فتقدمت إليهم، فسمعته يقول: اغتنموا من أهل زمانكم خمساً، منها: إن حضرتم لم تعرفوا، وإن غبتم لم تفقدوا، وإن شهدتم لم تشاوروا، وإن قلتم شيئاً لم يقبل قولكم، وإن عملتم شيئاً لم تعطوا به. وأوصيكم بخمس أيضاً: إن ظلمتم لم تظلموا، وإن مدحتم لم تفرحوا، وإن ذممتم لم تجزعو، وإن كذبتم فلا تغضبوا، وإن خانوكم فلا تخونوا. قال: فجعلت هذا فائدتي من دمشق.
قدم يحيى بن أكثم مع المأمون إلى دمشق سنة ست عشرة ومائتين، فبعث إلى أحمد بن أبي الحواري، فسمع منه، وجالسه، واستعذبه، وخلع عليه ثياباً سرية، وقلنسوةً وشيئاً من قلانسه طويلة، ودفع إليه خمسة آلاف درهم، وقال: يا أبا الحسن، فرق هذه حيث ترى. فدخل بها المسجد، وصلى صلوات بالقلنسوة، وأقامت عليها أياماً، فقال بعض جلساء قاسم لقاسم: يا معلم، هذا أحمد بن أبي الحواري، أخذ دراهمه، ولبس قلنسوته. فالتفت قاسم، فنظر إليه، فقال: أخذ دراهم اللصوص، ولبس قلانس اللصوص! وكان قاسم إذا راح إلى المسجد في وقت الزوال يدخل من باب الفراديس، ويأخذ في الأسطوان الغربي حتى يصير إلى المصعد، ثم يأخذ قبلةً حتى يدخل من أقصى الأبواب إلى مجلسه. فلما كان من الغد، من يوم نظره إلى أحمد، دخل من باب الفراديس حتى وافى باب القبة، ثم مر حتى مر بأحمد وهو جالس يتشهد في ركوعه، والقلنسوة على رأسه، فلما حاذى به رفع يده فلطم القلنسوة، فالتفت أحمد بن أبي الحواري، فنظر إليه فسلم، ثم التفت إلى ابنه إبراهيم، فقال: يا إبراهيم، خذ القلنسوة، وامض بها إلى البيت. فقال له من رآه: يا أبا الحسن، ما رأيت ما فعل بك هذا الرجل؟! فقال: رحمه الله!(21/30)
قال سعيد بن عبد العزيز الحلبي: سمعت قاسم الجوعي، وقال له رجل: ادع لي، فإن السلطان يطلبني وأنا مظلوم، قال: ما أخدعك، أنا ما أدعو لنفسي، أنا أعرف أيش تحت ثيابي! قال ابن سيد حمدويه:
كان أستاذي قاسم الجوعي عند باب الساعات في الجامع، قال: من يمضي بكتابي إلى بعض إخواني إلى صور؟ فقلت: أنا يا أستاذ. فأخذت الكتاب، ودعا لي، ثم سرت إلى صور، فدفعت الكتاب إلى الشيخ، ثم قدم لي شيئاً، فأكلت. وكانت ليلة مقمرة، وكنت أشرف على البحر، فإذا برجل قد دخل على الشيخ، فسلم عليه وقال له: هذا كتاب قاسم الجوعي، يقرأ عليك فيه السلام. فلما صليت الغداة ناولني الشيخ الكتاب، فقلت له: يا سيدي، من كان ذلك الرجل الذي دخل عليك البارحة، وسلم عليك، وسلمت أنت عليه؟ فقال: الخضر - عليه السلام - فأخذ الكتاب، فزاد فيه شيئاً.
ثم قدمت على أستاذي قاسم الجوعي، فقال لي: إيش الذي منعك أن تمضي بكتابي؟ فقلت له: قد مضيت، وهذا جواب الكتاب، فقرأه، ثم قال لي: أبشر، فإن الشيخ قد كتب إلي يوصيني بك، ويقول: إن هذا الغلام قد رأى أخانا الخضر - عليه السلام - فقلت: هذا ببركتك. ودعا لي.
قال القاسم بن عثمان الجوعي: التوبة رد المظالم، وترك المعاصي، وطلب الحلال، وأداء الفرائض.
وقال: رأس الأعمال كلها الرضى عن الله، والورع عماد الدين، والجوع مخ العبادة، والحصن الحصين ضبط اللسان. ومن شكر الله حشر من ميدان الزيادة، ومن تم عمله عرف المصائب.
وقال: السلامة كلها في اعتزال الناس، والفرح كله في الخلوة بالله - عز وجل.
وقال: من أصلح فيما بقي من عمره غفر له ما مضى، وما بقي، ومن أفسد فيما بقي من عمره أخذ بما مضى، وما بقي.
وقال: إن لله عباداً قصدوا الله بهمهم، وأفردوه بطاعتهم، واكتفوا به في توكلهم،(21/31)
ورضوا به عوضاً من كل ما خطر على قلوبهم من أمر الدنيا؛ فليس لهم حبيب غيره، ولا قرة عين إلا فيما قرب إليه.
وقال: الاعتبار بالنطق، والذكر باللسان، والفكر بالقلوب، والمراقبة أصل الحذر، والحياء جامع لكل خير.
وقال: رأيت في الطواف حول البيت رجلاً، فتقربت منه، فإذا هو لا يزيد على قوله: اللهم قضيت حاجة المحتاجين وحاجتي لم تقض. فقلت له: مالك لا تزيد على هذا الكلام؟ فقال: أحدثك: كنا سبعة رفقاء من بلدان شتى، غزونا أرض العدو، فاستأسرونا كلنا، فاعتزل بنا لتضرب أعناقنا. فنظرت إلى السماء، فإذا سبعة أبواب مفتحةً، عليها سبع جوار من الحور العين، على كل باب جارية، فقدم رجل منا، فضربت عنقه، فرأيت جارية في يدها منديل قد هبطت إلى الأرض، حتى ضربت أعناق ستة، وبقيت أنا، وبقي باب وجارية، فلما قدمت لتضرب عنقي استوهبني بعض رجاله، فوهبني له، فسمعتها تقول: أي شيء فاتك يا محروم؟! وأغلقت الباب. وأنا يا أخي متحسر على ما فاتني.
قال قاسم بن عثمان: أراه أفضلهم؛ لأنه رأى ما لم يروا، وترك يعمل على الشوق. ومن شعره: " مخلع البسيط "
اصبر على كسرة وملح ... فالصبر مفتاح كل زين
واقنع فإن القنوع عز ... لا خير في شهوة بدين
قال أبو الحسن محمد بن الفيض: قام أبو بكر بن عتاب في مجلس قاسم بن عثمان الجوعي، وكان غلامً جميلاً حسن الوجه، وكان صفوان بن صالح جالساً، وسليمان بن عبد الرحمن جالس عند باب المئذنة وغيرهم، فقال: يا قوم، هذا قاسم، يا أبا عبد الملك، ويا أبا أيوب، دخلت إليه البيت، فجذبني، وقبلني، وأراد أن يفعل بي كذا، وكذا حتى انفلت منه.(21/32)
قال أبو الحسن بن الفيض: وكنت حينئذ صغيراً في المجلس، فوثب إليه رجال، فضربوه، وعنفوه في ذلك، وضربه أبوه، وعنفه في ذلك.
قال أبو الحسن: كان القاسم أورع من ذلك، وإنما أراد أن يوقع عليه بذلك أمراً.
توفي القاسم بن عثمان سنة ثمان وأربعين ومائتين.
القاسم بن عبي
حكى عن أحمد بن السري الأنطاكي قال: كان بالبصرة شاب متعبد، وكانت عمة له تقوم بأمره. فأبطأت عليه مرة، فمكث ثلاثة أيام يصوم، ولا يفطر على شيء. فلما كان بعد ثلاث قال: يا رب، رفعت رزقي! فألقي إليه من زاوية المسجد مزود ملئ سويقاً، فقيل له: هاك يا قليل الصبر!
القاسم بن عمر بن معاوية الربعي
حدث عن عقبة بن علقمة بسنده إلى أبي ذر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجل خاتماً من ذهب، فقرع يده بالعصا، فأخذ الرجل الخاتم، فألقاه، ثم أقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " أين خاتمك؟ " فقال: ألقيته يا رسول الله، قال: " أظننا قد أوجعناك وأغرمناك ".
القاسم بن عيسى بن إبراهيم
ابن عيسى بن يحيى العصار روى عن محمد بن هاشم البعلبكي بسنده إلى عطاء: أنه سأل عائشة: هل رخص للنساء أن يصلين على الدواب؟ قالت: لم يرخص لهن في ذلك في شدة، ولا رخاء.(21/33)
قال عبد الغني وأبو نصر بن ماكولا: العصار بالعين المهملة.
القاسم بن عيسى بن إدريس
ابن معقل بن سيار بن شمخ بن سيار بن عبد العزى بن دلف ابن جشم بن قيس بن سعد بن عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب أبو دلف العجلي ولي دمشق في أيام المعتصم. وكان من الأجواد الممدحين. تولى محاربة الخرمية فأفناهم. وكان شاعراً أديباً وبطلاً شجاعاً.
ذكر محمد بن داود بن الجراح البغدادي: أن المعتصم بالله كان قد غضب على أبي دلف، واعتزم على قبض ماله، فاحتال له عبد الله بن طاهر حتى ولي دمشق، ونحاه عن الجبل حتى سكن أمره. فهجا أبو السري أحمد بن يزيد الشاعر ابنه عجل بن أبي دلف، فقال: " من البسيط "
يا عجل أنت غراب البين والصرد ... في الشؤم منك لحاك الواحد الصمد
أنت البسوس التي أفنت بناقتها ... بكراً وتغلب حتى أقفر البلد
قد كان شؤمك نحى قاسماً فمضى ... إلى دمشق ودمع العين يطرد
لولا المهذب عبد الله ما رفعت ... يوماً إلى قاسم كأس المدام يد(21/34)
يريد عبد الله بن طاهر.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي، عن أبيه: كنت في مجلس الرشيد، إذ دخل عليه غلام أمرد له ذؤابة، فسلم بالخلافة، فقال الرشيد: لا سلم الله على الآخر، أفسدت علينا بالجبل، يا غلام، قال: فأنا أصلحه يا أمير المؤمنين، قال: وكيف تصلحه؟ قال: أفسدته يا أمير المؤمنين وأنت علي، وأعجز عن إصلاحه وأنت معي؟ فأمر الرشيد، فخلع عليه، وعقد له على الجبل. فلما خرج الغلام قلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا أبو دلف العجلي.
قال إبراهيم: فسمعت الرشيد وقد ولى الغلام خارجاً من عنده يقول: إني أرى غلاماً يرمي من وراء همة بعيدة! قال المأمون يوماً وهو مقطب لأبي دلف: أنت الذي يقول فيك الشاعر:
إنما الدنيا أبو دلف ... عند مغزاه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
فقال: يا أمير المؤمنين، شهادة زور، وقول غرور، وملق معتف، وطالب عرف، وأصدق منه ابن أخت لي حيث يقول: " من الطويل "
دعيني أجوب الأرض ألتمس الغنى ... فلا الكرج الدنيا ولا الناس قاسم
فضحك المأمون وسكن غضبه.
وأبو دلف القائل: " مجزوء الكامل "
طلب المعاش مفرق ... بين الأحبة والوطن
ومصير جلد الرجا ... ل إلى الضراعة والوهن(21/35)
قال إبراهيم بن الحسن بن سهل: كنا في موكب المأمون، فترجل له أبو دلف، فقال له المأمون: ما أخرك عنا؟ فقال: علة عرضت لي، فقال: شفاك الله وعافاك، اركب، فوثب من الأرض على الفرس، فقال له المأمون: ما هذه وثبة عليل؟! فقال: بدعاء أمير المؤمنين شفيت.
قال عيسى بن عبد العزيز الحارثي: خرجت رفقةً إلى مكة فيها القاسم بن عيسى، فلما تجاوزت الكوفة حضرت الأعراب، وكثرت تريد اغتيال الرفقة، فتسرع قوم إليهم، فزجهم أبو دلف، وقال: مالكم ولهذا! ثم اتصل بأصحابه، فعبأ عسكره ميمنة وميسرة وقلباً. فلما سمع الأعراب أن أبا دلف حاضر انهزموا من غير حرب. ثم مضى بالناس حتى حج، فلما رجعوا أخبرت القافلة بأن الأعراب قد احتشدوا احتشاداً عظيماً، وهم قاصدون القافلة.
وكان في القافلة رجل أديب شاعر في ناحبة طاهر بن الحسين وآله، فكتب إلى أبي دلف بهذا الشعر: " من الوافر "
جرت بدموعها العين الذروف ... وظل من البكاء له حليف
بلاد تنوفة ومحل قفر ... وبعد أحبة ونوى قذوف
نبادر أول القطرات نرجو ... بذلك أن تخطانا الحتوف
أبا دلف وأنت عميد بكر ... وحيث العز والشرف المنيف
تلاف عصابةً هلكت فما إن ... بها إلا تداركها خفوف
فلما قرأ أبو دلف الأبيات أجاب عنها بغير إطالة فكر، ولا روية، فقال:
رجال لا تهولهم المنايا ... ولا يشجيهم الأمر المخوف
وطعن بالقنا الخطي حتى ... تحل بمن أخافكم الحتوف(21/36)
ونصر الله عصمتنا جميعاً ... وبالرحمن ينتصر اللهيف
قال ابن النطاح في أبي دلف: " من الكامل "
وإذا بدا لك قاسم يوم الوغى ... يختال خلت أمامه قنديلا
وإذا تلذذ بالعمود ولينه ... خلت العمود بكفه منديلا
وإذا تناول صخرة ليرضها ... عادت كثيباً في يديه مهيلا
قال أبو بكر الصولي: تذاكرنا يوماً عند المبرد الحظوظ وأرزاق الناس من حيث لا يحتسبون، قال: هذا يقع كثيراً، فمنه قول ابن أبي فنن في أبيات عملها لمعنى أراده: " من البسيط "
مالي ومالك قد كلفتني شططاً ... حمل السلاح وقول الدارعين قف
أمن رجال المنايا خلتني رجلاً ... أمسي وأصبح مشتاقاً إلى التلف
تمشي المنون إلى غيري فأكرهها ... فكيف أسعى إليها بارز الكتف
أم هل حسبت سواد الليل شجعني ... أو أن قلبي في جنب أبي دلف
فبلغ هذا الشعر أبا دلف فوجه بأربعة آلاف درهم جاءته على غفلة.
قال العتابي: كنا على باب أبي دلف خلق كثير من الشعراء يعدنا بأمواله من الكرج وأعمالها، فلما أتته الأموال أمر بصبها على الأنطاع، وأجلسنا حوله، ثم تقلد سيفه وخرج علينا، فسلم(21/37)
علينا فقمنا إليه، فأقسم علينا بالجلوس، فجلسنا، ثم اتكأ على قائم سيفه، ثم أنشأ يقول: " من الطويل "
ألا أيها الزوار لا يد عندكم ... أياديكم عندي أجل وأكبر
وإن كنتم أفردتموني للرجا ... فشكري لكم من شكركم لي أكثر
كفاني من مال دلاص وسابح ... وأبيض مت صافي الحديد ومغفر
ثم أمر بنهب تلك الأموال، فأخذ كل واحد منا على قدر طاقته.
عن إدريس بن معقل قال: اجتمع على باب أبي دلف جماعة من الشعراء، فمدحوه، وتعذر عليهم الوصول إليه، وحجبهم حياء لضيقة نزلت به، فأرسل إليهم خادماً له، يعتذر إليهم، ويقول: انصرفوا في هذه السنة، وعودوا في القابلة، فإني أضعف لكم العطية، وأبلغكم الأمنية. فكتبوا إليه: " من الخفيف "
أيهذا العزيز قد مسنا الده ... ر بضر وأهلنا أشتات
وأبونا شيخ كبير فقير ... ولدينا بضاعة مزجاة
قل طلابها فبارت علينا ... وبضاعاتنا بها الترهات
فاغتنم شكرنا وأوف لنا الكي ... ل وصدق فإننا أموات
فلما وصل إليه الشعر ضحك وقال: علي بهم. فلما دخلوا قال: أبيتم إلا " أن " تضربوا(21/38)
وجهي بسورة يوسف! والله إني لمضيق، ولكني أقول كما قال الشاعر: " من الوافر "
لقد خبرت أن عليك ديناً ... فزد في رقم دينك واقض ديني
يا غلام، اقترض لي عشرين ألفاً بأربعين ألفاً، وفرقها فيهم.
قال أحمد بن محمد بن الفضل الأهوازي: أنشد بكر بن النطاح أبا دلف: " من المتقارب "
مثال أبي دلف أمة ... وخلق أبي دلف عسكر
وإن المنايا إلى الدارعين ... بعيني أبي دلف تنظر
فأمر له بعشرة آلاف درهم، فمضى فاشترى بها بستاناً بنهر الأبلة، ثم عاد من قابل، فأنشده: " من الطويل "
بك ابتعت في نهر الأبلة جنةً ... عليها قصير بالرخام مشيد
إلى لزقها أخت لها يعرضونها ... وعندك مال للهبات عتيد
فقال أبو دلف: بكم الأخرى؟ قال: بعشرة آلاف، قال: ادفعوها إليه. ثم قال له: لا تجئني قابل، فتقول: بلزقها أخرى! فإنك تعلم أن لزق كل أخرى أخرى متصلة إلى ما لا نهاية.
قال بعضهم: دخل بعض الشعراء على أبي دلف القاسم بن عيسى، فأنشده: " من الطويل "
أبا دلف إن المكارم لم تزل ... مغلغلةً تشكو إلى الله غلها
فبشرها منه بميلاد قاسم ... فأرسل جبريلاً إليها فحلها
فأمر له بمال، فقال الخازن: ما هذا في بيت المال، فأمر له بضعفه، فقال الخازن:(21/39)
ما يحضر، فأمر له بضعفه. فلما حمل المال مع الشاعر أنشأ أبو دلف يقول: " من الوافر "
أتعجب أن رأيت عي ديناً ... وأن ذهب الطريف مع التلاد
ملأت يدي من الدنيا مراراً ... فما طمع العواذل في اقتصادي
وما وجبت علي زكاة مال ... وهل تجب الزكاة على جواد
حدث سماعة بن سعيد قال: أتى جعيفران أبا دلف يستأذن عليه، وعنده أحمد بن يوسف، فقال الحاجب: جعيفران الموسوس بالباب، فقال أبو دلف: ما لنا وللمجانين؟! فقال له أحمد بن يوسف: أدخله. فلما دخل قال: " من السريع "
يا بن أعز الناس مفقودا ... وأكرم الأمة موجودا
لما سألت الناس عن واحد ... أصبح في الأمة محمودا
قالوا جميعاً إنه قاسم ... أشبه آباء له صيدا
قال: أحسنت والله؛ يا غلام، اكسه، وادفع إليه مائة درهم، فقال: مره - أعزك الله - أن يدفع إلي منها خمسةً، ويحفظ الباقي لي، قال: ولم؟ قال: لئلا تسرق مني ويشتغل قلبي بحفظها، قال: يا غلام، ادفع إليه كلما جاء خمسة دراهم إلى أن يفرق بيننا الموت. قال: فبكى جعيفران. فقال له أحمد بن يوسف: ما يبكيك؟ فقال: " على البسيط "
يموت هذا الذي تراه ... وكل شيء له نفاذ
لو كان شيء له خلود ... عمر ذا المفضل الجواد
قال أبو عبد الرحمن التوزي: استهدى المعتصم من أبي دلف كلباً كان عنده، فجعل في عنقه قلادة كيمخت أخضر وكتب عليها: " من المنسرح "(21/40)
أوصيك خيراً به فإن له ... خلائقاً لا أزال أحمدها
يدل ضيفي علي في ظلم الليل ... إذا النار نام موقدها
كان أبو دلف يشتو بالعراق، ويصيف بالجبال، فقال في ذلك: " من المتقارب "
إني امرؤ كسروي الفعال ... أصيف الجبال وأشتو العراقا
وألبس للحرب أثوابها ... وأعتنق الدارعين اعتناقا
فاختار بفضل رأيه وحزمه، وصحة قريحته أن يصيف في الجبال ليسلم من هوام العراق وذبابه، وغلظ هوائه، وسخونة مائه. ويشتو بالعراق ليسلم من زمهرير الجبال وأنديتها وثلوجها ورياحها، ولأن العراق في فصل الخريف والشتاء أفضل منه في الربيع والصيف.
قال أبو هفان: كان لأبي دلف العجلي جارية تسمى جنان، وكان يتعشقها، وكان لفرط فتونه وظرفه يسميها صديقتي، فمن قوله فيها: " من الوافر "
أحبك يا جنان وأنت مني ... مكان الروح من جسد الجبان
ولو أني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الزمان
لإقدامي إذا ما الخيل كرت ... وهاب كماتها حر الطعان
ثم ماتت، فرثاها بمراث حسان.
قال أبو دلف: " من الخفيف "
عاقني عن وداعك الأشغال ... وهموم أتت علي طوال
حيث لا تدفع عن الضيم بالسي ... ف وما للحروب فيه مجال
ومقام العزيز في بلد الذل ... ل إذا أمكن الرحيل محال
فعليك السلام يا ظبية الكر ... خ أقمتم وحان مني ارتحال(21/41)
أنشد علي بن القاسم النحوي لأبي دلف في اللحية الطويلة: " من الكامل "
لا تفخرن بلحية ... كثرت منابتها طويلة
يهوي بها عصف الريا ... ح كأنها ذنب الفتيلة
قال سعيد بن حميد: كان ابن أبي دؤاد قد اصطنع أبا دلف واختلسه بحيلة، واختلسه من يد الإفشين، وقد دعا بالسيف ليقتله، فكان أبو دلف يصير إليه كل يوم ليشكره، وكان ابن أبي دؤاد يقول به، ويصفه. فقال له المعتصم: إن أبا دلف حسن الغناء، جيد الضرب بالعود، فقال: يا أمير المؤمنين، القاسم في شجاعته وبيته في العرب يفعل هذا؟؟؟! قال: نعم، وما هو هذا؟ هو أدب زائد فيه. فكأن ابن أبي دؤاد عجب من ذاك، فأحب المعتصم أن يسمعه ابن أبي دؤاد، فقال له: يا قاسم غنني، فقال: والله ما أستطيع ذلك، وأنا أنظر إلى أمير المؤمنين هيبة له وإجلالاً، فقال: لابد من ذلك. وأجلس من وراء ستارة، فكان ذلك أسهل عليه، فضربت ستارة، وجلس أبو دلف خلفها يغني. ووجه المعتصم إلى ابن أبي دؤاد، فحضر، واستدناه وجعل أبو دلف يغني، وأحمد يسمع، ولا يدري من يغني. فقال له المعتصم: كيف تسمع هذا الغناء يا أبا عبد الله؟ قال: أمير المؤمنين أعلم مني، ولكني أسمع حسناً. فغمز المعتصم غلاماً، فهتك الستارة، وإذا أبو دلف. فلما رأى المعتصم، وابن أبي دؤاد وثب قائماً، وأقبل على ابن أبي دؤاد فقال: إني أجبرت على هذا، فقال: لولا دربتك في هذا من أين كنت تأتي بمثل هذا؟! هبك أجبرت على أن تغني من أجبرك على أن تحسن؟!
مات القاسم بن عيسى أبو دلف العجلي ببغداد في سنة خمس وعشرين ومائتين.(21/42)
قال دلف بن أبي دلف: رأيت كأن آتياً أتى بعد موت أبي، فقال: أجب الأمير، فقمت معه، فأدخلني داراً وحشة، وعرة سوداء الحيطان، مقلعة السقوف والأبواب، ثم أصعدني درجاً فيها، ثم أدخلني غرفة، فإذا في حيطانها أثر النيران، وإذا في أرضها أثر الرماد، وإذا أبي عريان واضعاً رأسه بين ركبتيه، فقال لي كالمستفهم: دلف؟ قلت: نعم، أصلح الله الأمير.
فأنشأ يقول: " من الخفيف "
أبلغن أهلنا ولا تخف عنهم ... ما لقينا في البرزخ الخناق
قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا ... فارحموا وحشتي وما قد ألاقي
أفهمت؟ قلت: نعم. ثم أنشأ يقول: " من الوافر "
فلو أنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ... فنسأل بعده عن كل شيء
انصرف. قال: فانتبهت
القاسم بن الليث بن مسرور
ابن الليث بن مالك بن عبيد الله - ويقال: ابن عبيد - أبو صالح العتابي الرسعني من أهل رأس العين من أرض الجزيرة. سكن بتنيس.
روى عن المعافى بن سليمان بسنده إلى أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى " قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: " من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى ".(21/43)
عن القاسم بن الليث أبي صالح الرسعني بسنده إلى عبد الله بن جعفر قال: لما توفي أبو طالب خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الطائف ماشياً على قدميه. قال: فدعاهم إلى الإسلام، قال: فلم يجيبوه. قال: فانصرف، فأتى ظل شجرة، فصلى ركعتين، ثم قال: " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس " يا " أرحم الراحمين، أنت أرحم بي، إلى من تكلني؟ إلى عدو يجبهني؟ أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم تكن غضباناً علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ".
وروى عن المعافى بن سليمان بسنده إلى عبد الله بن عمر، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لعن الله الخمر وساقيها وشاربها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وآكل ثمنها ".
كان أبو صالح الرسعني ثقة. مات سنة أربع وثلاثمائة.
القاسم بن محمد بن أبي سفيان الثقفي
من أهل دمشق.
حدث عن معاوية أنه أراهم وضوء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما بلغ مسح رأسه وضع كفيه على مقدم رأسه فمر بها حتى بلغ القفا، ثم ردهما حتى بلغ المكان الذي منه بدأ.(21/44)
وسمع أسماء بنت أبي بكر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يخرج من ثقيف كذاب ومبير ". قال الحافظ: وعندي أن الذي روى عن معاوية غير الذي روى عن أسماء. والله أعلم.
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق
عبد الله بن عثمان أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة أبو محمد، ويقال: أبو عبد الرحمن القرشي التيمي المدني وفد على سليمان بن عبد الملك، وعلى عمر بن عبد العزيز.
عن القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قالت: طيبت رسول الله صلى اله عليه وسلم لحرمه حين أحرم وكله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت عن القاسم عن عائشة قالت: كانوا يتخوفون أن تحيض صفية. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحابستنا هي "؟ فقيل: إنما قد أفاضت يوم النحر، قال: " فلا إذاً ".(21/45)
عن القاسم عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يغتسل من جنابته، فيأخذ جفنة لشق رأسه الأيمن، ثم يأخذ جفنة لشق رأسه الأيسر.
قال عمر بن عبد العزيز لسليمان بن عبد الملك: اكتب إلى القاسم بن محمد يقدم عليك، ففعل، فلما قدم عليه عرض بأبيه، وشتمه، وبلغ به، فخرج مغضباً، فركب رواحله ورجع. فلما استخلف عمر بن عبد العزيز بعث إليه، فبلغه المائتين، وأجازه، وأحسن إليه. فهلك في ولاية يزيد بن عبد الملك.
كان القاسم بن محمد من خيار التابعين، حمل عنه العلم. وأمه أم ولد يقال لها: سودة. ذهب بصره وهو ابن سبعين - أو اثنتين وسبعين - وكان ثقة، عالماً، فقيهاً، إماماً كثير الحديث، ورعاً وكان من أفضل أهل زمانه. قتل أبوه بعد عثمان وبقي يتيماً في حجر عائشة.
عن محمد بن خالد بن الزبيرقال: كنت عند عبد الله بن الزبير، فاستأذن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، فقال عبد الله بن الزبير: أوليس عهده بي قريباً. قال: فقال القاسم: إني أردت أن أكلمه بحاجة لي، قال: ائذن له. فلما دخل عليه، قال له ابن الزبير: مهيم؟ قال: مات فلان، وكنا نقول: إنه مولى عائشة، فقال: لا، ليس مولى لكم، هو مولى بني جندع. فولى القاسم، فلما ولى نظر إليه عبد الله بن الزبير، وقال: ما رأيت أبا بكر ولد ولداً أشبه به من هذا الفتى.
عن القاسم أبي عبد الرحمن قال: كانت عائشة قد استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، - هلم جرا - إلى أن ماتت يرحمها الله، وكنت ملازماً لها مع ترهاتي. وكنت أجالس البحر بن عباس. وقد جلست مع أبي هريرة، وابن عمر، فأكثرت، فكان هناك - يعني ابن عمر - ورع، وعلم جم، ووقوف عما لا علم له به.(21/46)
عن محمد بن علي قال: قال لي سعيد بن المسيب: إذا أردت أن تنكح فاخبرني، فإني عالم بأنساب قريش. قال: فنكحت بنت القاسم بن محمد، ولم أجده، فبلغه ذلك، فقال: جاد ما وضع الحسيني نفسه.
قال ابن أبي عتيق للقاسم يوماً: يا بن قاتل عثمان، فقال له سعيد بن المسيب: أتقول هذا؟ فوالله إن القاسم لخيركم، وإن أباه محمد لخيركم، فهو خيركم وابن خيركم.
قال ابن عيينة: كان أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن.
وعن أبي الزناد أن سبعة نفر من أهل المدينة مشيخة نظراء، إذا اختلفوا أخذ بقول أكبرهم وأفضلهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن، والقاسم بن محمد، وعبيد الله بن عبد الله، وخارجة بي زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار: قال يحيى بن سعيد فقهاء أهل المدينة عشرة قلت ليحيى: عدهم قال: سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وعروة بن الزبير وسليمان بن يسار عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وقبيعة بن ذؤيب وخارجة بن زيد وأبان بن عثمان بن عفان عن مالك بن أنس قال: ذكر فضل القاسم بن محمد وابنه، وهو قاعد، فقال الرجل: كيف لا يكون ذلك وهو ابن أبي بكر الصديق؟ فقال القاسم: فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقد جعل في رواية من قول مالك.(21/47)
عن عبيد الله بن موهب قال: سمعت القاسم بن محمد سأله رجل عن مسائل، فلما قام الرجل قال له القاسم بن محمد: لا تذهبن فتقول: إن القاسم قال: هذا هو الحق، إني لا أقول لك هو الحق، ولكن إذا اضطررت إليه عملت به.
وقال: إنكم تسألوننا عما لا نعلم، والله لو علمنا ما كتمناه، ولا استحللنا كتمانه.
عن يحيى بن سعيد قال: سمعت القاسم يقول: ما نعلم كل ما نسأل عنه، ولأن يعيش الرجل جاهلاً بعد أن يعرف حق الله عليه خير من أن بقول مالا يعلم.
قال مالك: أتى القاسم أميراً من أمراء المدينة، فسأله عن شيء، فقال القاسم: إن من إكرام المرء نفسه ألا يقول إلا ما أحاط به علمه.
وقال مالك: إن عمر بن عبد العزيز قال: لو كان لي من الأمر شيء لوليت القاسم الخلافة. قال: وكان القاسم قليل الحديث قليل الفتيا. وما حدث القاسم مائة حديث.
قال ابن عون: كان القاسم بن محمد، وابن سيرين، ورجاء بن حيوة يحدثون بالحديث على حروفه، وكان الحسن، وإبراهيم، والشعبي يحدثون بالمعاني.
وقال: لقيت ثالثة كأنهم اجتمعوا، فتواصوا: ابن سيرين بالبصرة، ورجاء بالشام، والقاسم بن محمد بالمدينة.
قال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق - وسمع رجلاً يقول: ما أجرأ فلان على الله! فقال القاسم: ابن آدم أهون وأضعف ممن يكون جريئاً على الله، ولكن قل: ما أقل معرفته بالله.(21/48)
ونظر القاسم بن محمد إلى رجل يسأل يوم عرفة بعرفة. قال: فقال له القاسم بن محمد: ويحك يا سائل! أتسأل في هذا اليوم غير الله، عز وجل.
وقال: كنا عند القاسم بن محمد جلوساً، فقيل له: كان بين قتادة وبين أبي بكر كلام في الولدان، قال: فتكلم ربيعة - وكان رجلاً له منطق - فلما فرغ ربيعة قال القاسم: إذا انتهى الله إلى شيء فانتهوا عنده.
عن عكرمة بن عمارة قال: سمعت القاسم بن محمد وسأله رجل: ما يقطع الصلاة؟ الله دون كل شيء.
عن سفيان قال: اجتمعوا إلى القاسم بن محمد في صدقة قسمها. قال: وهو يصلي، فجعلوا يتكلمون. فقال ابنه: إنكم اجتمعتم إلى رجل، والله، ما نال منها درهماً، ولا دانقاً. قال: فأوجز القاسم، ثم قال: قل يا بني، فيما علمت.
قال سفيان: صدق ابنه، ولكنه أراد تأديبه في المنطق وحفظه.
أرسل عمر بن عبيد الله بن معمر القرشي إلى القاسم بن محمد بخمسمائة دينار، فأبى أن يقبلها.
عن مالك بن أنس قال: لقي عمر بن عبد العزيز القاسم بن محمد، وعمر قادم من مكة قد اعتمر، والقاسم خارج من المدينة قريباً منها، يريد العمرة، فقال له عمر: إن معنا فضلاً من ظهر وأزواد، فلو صرفنا ذلك إليك، فقال: إني لا آخذ من أحد شيئاً.
عن أيوب قال: رأيت على القاسم بن محمد قلنسوة من خز أخضر، ورداء سابرياً له علم ملون مصبوغ بشيء من زعفران. ويدع مائة ألف يتلجلج في نفسه منها شيء.(21/49)
عن عبد الله بن العلاء بن زبر قال: دخلت على القاسم بن محمد وهو في قبة معصفرة، وتحته فراش معصفر، ومرافق حمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، هذا مما أردت أن أسألك عنه، فقال: لا بأس بما امتهن منه.
قال القاسم بن محمد: قد جعل الله في الصديق البار عوضاً من الرحم المدبرة.
وقال: إن من أعظم الذنب أن يستخف المرء بذنبه.
عن أبي عمر الباهلي قال: جاء بنو مروان إلى عمر، فقالوا: إنك قصرت بنا عما كان يصنعه بنا من قبلك، وعاتبوه، فقال: إن عدتم إلى هذا المجلس لأشدن ركابي، ثم لأقدمن المدينة، ولأجعلنها - أو أصيرها - شورى، أنا إني أعرف صاحبها الأعمش - يعني القاسم بن محمد.
عن سليمان بن عبد الرحمن أنه كان مع القاسم في شكواه حين أقام بقديد، فقال: ائتني بقرطاس ودواة أكتب وصيتي، قال: فجئت به، فأخذت أكتب، فقال لي: أي شيء تكتب ولم أملي عليك بشيء؟ قلت: التشهد، قال: لقد شقينا إن لم نكن تشهدنا إلا اليوم! بعده، اكتب أسفل من هذا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به القاسم بن محمد إن حدث به حدث في شكواه هذه أن كذا في كذا - حتى فرغ من حاجته.
عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد أنه نهى عن موته أن يتبع بنار، ولا يقولون خيراً ولا شراً. ثم قال: اتل هذه الآية: " ألم ترى إلى الذين يزكون أنفسهم، بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا. انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثماً مبينا ".(21/50)
عن عمر بن حسين قال: سهدت موت القاسم، ومات بقديد، فدفن بالمشلل، وبين ذلك نحو من ثلاثة أميال، ووضع ابنه السرير على كاهله، ومشى حتى بلغ المشلل.
عن رجاء بن جميل الأيلي قال: توفي القاسم بن محمد في ولاية يزيد بن عبد الملك بعد عمر بن عبد العزيز سنة إحدى - أو اثنتين - ومائة قال خليفة بن خياط: مات القاسم بن محمد بن أبي بكر في آخر السنة - يعني سنة سبع ومائة.
وقيل غير ذلك في وفاته.
القاسم بن محمد بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي كان مع مروان بن محمد يوم انهزم بالزاب، فقتل يومئذ.
القاسم بن محمد بن أبي عقيل الثقفي
عن القاسم بن محمد الثقفي قال: جاءت أسماء بنت أبي بكر مع جوار لها، وقد ذهب بصرها، فقالت أين الحجاج؟ قلنا: ليس هنا، قالت: فمروه فليأمر لنا بهذه العظام، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهي عن المثلة، قلنا: إذا جاء قلنا له، قالت: فإذا جاء فأخبروه أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن في ثقيف كذاباً ومبيراً ".(21/51)
قال خليفة بن خياط: كان القاسم بن محمد عليها - يعني البصرة - حتى مات هشام، فأقره الوليد بن يزيد حتى قتل.
القاسم بن مخيمرة
أبو عروة الهمداني الكوفي كان معلماً بالكوفة، ثم سكن دمشق.
روى عن شريح بن هانىء قال:
أتيت عائشة فسألتها عن المسح على الخفين، فقالت: ائت علي بن أبي طالب - أو: ائت علياً - فإنه أعلمهم بوضوء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنه كان يسافر معه، قال: فأتيته، فقال: يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر.
عن القاسم بن مخيمرة قال: أخذ علقمة بيدي وحدثني أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيد عبد الله بن مسعود، فعلمه التشهد في الصلاة، وقال: " قل التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. إذا فعلت هذا، أو قضيت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد ".
قال عبد الوهاب بن محمد: استسقى القاسم بن مخيمرة من بعض السائقين الذين يسقون في مسجد دمشق، قال: فلما شرب قال للذي سقاه: جزاك الله خيراً، قال القاسم: الذي أعطيناه خير من الذي أخذنا منه.(21/52)
عن يزيد بن أبي مريم أن أبا عروة القاسم بن مخيمرة كان يتوضأ من النهر الذي يخرج من الباب الصغير.
قال يحيى بن معين: القاسم بن مخيمرة كوفي ذهب إلى الشام، ولم نسمع أنه سمع من أحد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال خليفة: القاسم بن مخيمرة مات في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة مائة، همداني.
قال ابن سعد: وكان ثقة وله أحاديث.
قال محمد بن إسماعيل البخاري: القاسم بن مخيمرة، عن عبد الله بن عكيم قال: حدثنا مشيخة لنا من جهينة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إليهم ألا ينتفعوا من الميتة بشيء.
عن الأوزاعي قال: كان القاسم بن مخيمرة يقدم علينا هاهنا، فإذا أراد أن يرجع استأذن الوالي، فقيل له: أرأيت إن لم يأذن لك؟ قال: إذاً أقيم. ثم قرأ: " وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ".
عن منصور بن نافع قال: كان القاسم بن مخيمرة يأمرنا بجهازه للغزو، ثم يقول: لا تماسكوا في جهازنا؛ فإن النفقة في سبيل الله مضاعفة.(21/53)
عن القاسم بن مخيمرة قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فقضى عني سبعين ديناراً، وحملني على بغلة، وفرض لي في خمسين قال: قلت: أغنيتني عن التجارة. قال: فسألني عن حديث، فقلت: هنني يا أمير المؤمنين - كأنه كره أن يحدثه على هذا الوجه.
عن علي بن أبي حملة قال: ذكر الوليد بن هشام القاسم بن مخيمرة لعمر بن عبد العزيز، فأرسل إليه، فدخل عليه، فقال: سل حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين، قد علمت ما يقال في المسألة، قال: ليس أنا ذاك، إنما أنا قاسم، سل حاجتك؟ قال: تلحقني في العطاء، قال: قد ألحقناك في خمسين، فسل حاجتك؟ قال: تقضي عني ديني، قال: قد قضينا عنك دينك، فسل حاجتك؟ قال: تحملني على دابة، قال: قد حملناك على دابة، فسل حاجتك؟ قال تلحق بناتي في العيال، قال فد ألحقنا بناتك في العيال. فسل حاجتك؟ قال: قد ألحقتني في العطاء، وقضيت الدين، وحملت على الدابة، وألحقت البنات في العيال فأي شيء بقي؟ قال: قد أمرنا لك بخادم، فخذها من عند أخيك الوليد بن هشام.
عن الأوزاعي قال: كان للقاسم بن مخيمرة شريك، كان إذا ربح قاسم شريكه، ثم يقعد في بيته لا يخرج حتى يأكله، وكان يقول: إذا أغلقت بابي فما لي هم خلف بابي.
عن سعيد بن عبد العزيز قال: قال القاسم بن مخيمرة: ما اجتمع على مائدتي لونان من طعام واحد، ولا أغلقت بابي ولي خلفه من هم.
عن ابن جابر قال: قال القاسم: لقد بورك لي في الخبز والزيتون أكتفي بهما.(21/54)
وكان إذا وقعت عنده الزيوف كسرها، ولم يبعها.
عن الشعبي، عن القاسم بن مخيمرة أنه كان يدعو بالموت، فلما حضره الموت قال لأم ولده: كنت أدعو بالموت فلما نزل بي كرهته. مات القاسم بن مخيمرة في زمن عمر بن عبد العزيز، سنة مائة، أو إحدى ومائة.
القاسم بن المساور البغدادي الجوهري
روى عن أبيه بسنده، عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة ".
القاسم بن موسى بن الحسن
ابن موسى الأشيب أبو محمد البغدادي قدم دمشق في سنة ثمانين ومائتين.
حدث عن مجزأة بن سفيان البناني بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" بشر المشائين في ظلم الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ".
توفي أبو محمد الأشيب البغدادي سنة اثنتين وثلاثمائة وكان له تسعون سنة.
القاسم بن هاشم بن سعيد
ابن سعد ين عبد الله بن سيف بن حبي أبو محمد البغدادي السمسار روى عن عمر بن عمرو بسنده إلى أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صام يوماً في سبيل الله كان بينه وبين الناس كما بين السماء والأرض ".(21/55)
وروى عن علي بن عياش الحمصي بسنده إلى أنس بن مالك قال: وضأت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل موته بشهر، فمسح على الخفين.
مات القاسم بن هاشم السمسار سنة تسع وخمسين ومائتين. كان صدوقاً.
القاسم بن هزان الخولاني الداراني
قال القاسم بن هزان: حدثني الزهري: أن ابن عمر قرأ في المسجد: " لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ". قالوا: وإنا لنؤاخذ بما توسوس به أنفسنا؟ ونشج عند ذلك حنى أسمعها ابن عباس وهو في ناحية المسجد.
قال الزهري: فحدثني سعيد بن مرجانة أنه حضر ابن عمر فعل ذلك، فقام إليه ابن عباس، فسأله عما حضر من ذلك، فقال: يغفر الله لابن عمر، لقد وجد المسلمون من هاتين الآيتين ما وجد، فشكوه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كذلك قال ربكم "، قالوا آمنا وسمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فقالوها أياماً، فأنزل الله - عز وجل: " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون " الآية. ثم قال تعالى: " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لها ما كسبت " من العمل " وعليها ما اكتسبت " من العمل.
سمع القاسم بن هزان الزهري يقول: لا ترض الناس قول عالم لا يعمل ولا قول عامل لا يعلم؛ فإن أعطاك ذلك فاجتهد رأيك، وناصح الله في أمره مؤثراً له على هواك.
قال عبد الجبار بن مهنا: والقاسم بن هزان هو الذي بنى المسجد بخولان - يعني بداريا - وما أعلمه أعقب بها عقباً.(21/56)
قال أبو حاتم: القاسم بن هزان شيخ محله الصدق.
القاسم بن يزيد بن عوانة
ويقال: ابن أبي عوانة أبو صفوان الكلابي العامري البصري سكن دمشق.
روى عن يحيى بن كثير بسنده عن عائشة قالت: ما رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سحابة قط إلا امتقع لونه حتى تقشع، أو جاء المطر.
وروى عن حسان بن سياه بسنده عن ابن عمر قال؛ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سئل عن علم فكتمه جيء به - وفي رواية: جاء - يوم القيامة قد ألجم بلجام من نار ". توفي أبو صفوان القاسم بن يزيد بن عوانة الكلابي سنة سبع وعشرين ومائتين.
قال أبو إسماعيل الترمذي: لا بأس به، رأيته يفهم الحديث.
القاسم بن يزيد العامري
حدث عن شيخ، عن وهب بن منبه قال: لا يكمل عقل امرئ حتى تكمل فيه عشر خصال: يكون الكبر منه مأمون، والرشد منه مأمول، ونصيبه من الدنيا القوت، وفضل مال مبذول، لا يسأم طوال الدهر من طلب الفقه، ولا يتبرم من طلب الحوائج قبله، يستكثر قليل المعروف من غيره،(21/57)
ويستقبل كثير المعروف من نفسه، التواضع أحب إليه من الرفعة، والذل أحب إليه من العز، والعاشرة ما العاشرة! هي التي شاد بها مجده، وارتفع بها ذكره، ورقي بها في معالي الدرجات من الدارين جميعاً؛ يرى أن جميع الناس خيراً منه، وأنه شرهم.
القاسم الجوعي الكبير
قال قاسم الجوعي الكبير: شبع الأولياء بالمحبة عن الجوع، فقدوا لذاذة الطعام والشراب والشهوات، ولذاذات الدنيا، لأنهم تلذذوا بلذة ليس فوقها لذة قطعتهم عن كل اللذات. وإنما سميت قاسم الجوعي لأن الله تعالى قواني على الجوع، فكنت أبقى شهراً لا آكل ولا أشرب، ولو تركوني لزدت وكنت أقول: اللهم، أنت فعلت ذلك فأتمه بمنك.
وقال: قليل العمل مع المعرفة خير من كثير العمل بلا معرفة.
قباث بن أشيم الليثي
له صحبة. شهد اليرموك، وكان أميراً على كردوس. وسكن حمص.
عن قباث بن أشيم الليثي، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من صلاة أربعة، وصلاة أربعة يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة ثمانية، وصلاة ثمانية يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة مائة تترى ".
قال ابن سعد:
قباث بن الأشيم بن عامر بن الملوح بن يعمر - وهو الشداخ - بن عوف بن كعب بن(21/58)
عامر بن ليث. شهد بدراً مع المشركين، وكان له فيها ذكر، ثم أسلم بعد ذلك، وشهد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض المشاهد، وكان على مجنبة أبي عبيدة يوم اليرموك.
قال أحمد بن محمد بن عيسى في تسمية من نزل حمص من مضر: قباث بن أشيم الليثي، كناني، عاش إلى خلافة عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: يا قباث، أنت أكبر أم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: رسول الله أكبرمني، وأنا أسن منه، ولد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلاً أعقله.
قال أبو نضر الحافظ: قباث: بقاف مضمومة، وباء معجمة بواحدة مخففة وآخره ثاء معجمة بثلاث، قباث بن أشيم. وقال بعضهم: قباث بن رستم. وهو وهم. وهو في خط الصوري: قباث بفتح القاف.
وقال أبو أحمد العسكري: قباث: القاف مفتوحة وتحت الباء نقطة، وثاء منقوطة بثلاث.
عن محمد بن عمر الواقدي قال: وقالوا: وكان قباث بن أشيم الكناني يقول: شهدت مع المشركين بدراً، فإني أنظر إلى قلة أصحاب محمد في عيني، وكثرة ما معنا من الخيل والرجال، فانهزمت فيمن انهزم، فلقد رأيتني وإني لأنظر إلى المشركين في كل وجه، وإني لأقول في نفسي: ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء! وصاحبني رجل، فبينا هو يسير معي إذ لحقنا من خلفنا. فقلت لصاحبي: أبك نهوض؟ قال: لا والله ما هو بي. قال: وعقر، وترفعت، فلقد(21/59)
صبحت غيقة قبل الشمس، كنت هادياً بالطريق، ولم أسلك المحاج، وخفت من الطلب، فتنكبت عنها، فلقيني رجل من قومي بغيقة، فقال: ما وراءك؟ قلت: لا شيء، قتلنا، وأسرنا، وانهزمنا! فهل عندك من حملان؟ قال: فحملني على بعير، وزودني زاد حتى لقيت الطريق بالجحفة، ثم مضيت حتى دخلت مكة، وإني لأنظر إلى الحيسمان بن حابس الخزاعي بالغميم، فعرفت أنه يقدم ينعي قريشاً بمكة، فلو أردت أن أسبقه لسبقته، فنكبت عنه حتى سبقني ببعض النهار، فقدمت، وقد انتهى إلى مكة خبر قتلاهم، وهم يلعنون الخزاعي، ويقولون: ما جاءنا بخير! فمكثت بمكة.
فلما كان بعد الخندق قلت: لو قدمت المدينة فنظرت ما يقول محمد، وقد وقع في قلبي الإسلام، فقدمت المدينة، فسألت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: هو ذاك في ظل المسجد مع ملأ من أصحابه، فأتيته وأنا لا أعرفه من بينهم، فسلمت، فقال: " يا قباث بن أشيم، أنت القائل يوم بدر: ما رأيت هذا الأمر فر منه إلا النساء؟ " فقلت أشهد أنك رسول الله، وأن هذا الأمر ما خرج مني إلى أحد قط، وما ترمرمت به إلا شيئاً حدثت به نفسي، فلولا أنك نبي ما أطلعك الله عليه، هلم حتى أبايعك. فعرض علي الإسلام، فأسلمت.
عن أبي سعيد قال: قال قباث: كنت في الوفد بفتح اليرموك، وقد أصبنا خيراً ونفلاً كثيراً، فمر بنا الدليل على ماء رجل قد كنت أتبعه في الجاهلية حين أدركت، وآنست من نفسي، لأصيب منه، وكنت دللت عليه - فذكر خبر ذلك الرجل وقد رد إلى أرذل العمر.(21/60)
قبصة بن جابر بن وهب
ابن مالك بن عميرة بن حذار بن مرة بن الحارث بن سعد ابن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة أبو العلاء الأسدي الكوفي شهد خطبة عمر بالجابية، ثم وفد على معاوية بن أبي سفيان بعد ذلك، وكان أخا معاوية من الرضاعة، أرضعت أمه معاوية.
عن قبيصة بن جابر قال: خطبنا عمر بباب الجابية، فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من سرته حسنته، وساءته سيئته فذلك المؤمن ".
قال قبصة بن جابر: قدمت على معاوية، فرفعت إليه حوائجي، فقضاها، قلت: لم تترك لي حاجة إلا قضيتها إلا واحدة، فأصدرها مصدرها، قال: وما هي؟ قلت: من ترى لهذا الأمر بعدك؟ قال: وفيم أنت من ذاك؟ قال: ولم يا أمير المؤمنين؟! والله إني لقريب القرابة، واد الصدر، عظيم الشرف، قال: فوالى بين أربعة من بني مناف، ثم قال: أما كرمة قريش فسعيد بن العاص، وأما فتاها حياء وعلماً وسخاء فابن عامر، وأما الحسن بن علي فسيد كريم، وأما القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله مروان بن الحكم، وأما عبد الله بن عمر فرجل نفسه، وأما الذي يرد ورد الجدي، ثم يروغ رواغ الثعلب فعبد الله بن الزبير.
أدرك قبيصة بن جابر إمرة عبد الملك، وكان من أصحاب علي. يعد في الطبقة الأولى من فقهاء أهل الكوفة بعد الصحابة، وكان ثقة، ومات قبل الجماجم(21/61)
قال أبو نصر الحافظ: حذار: أوله حاء مهملة، وبعدها ذال معجمة مفتوحة.
قال قبيصة بن جابر: كنت محرماً، فرأيت ظبياً، فرميته، فأصبت حشاه - يعني أصل قرنه - فمات، فوقع في نفسي من ذلك الشيء، فأتيت عمر بن الخطاب أسأله، فوجدت إلى جنبه رجل أبيض رقيق الوجه، وإذا هو عبد الرحمن بن عوف، فسألت عمر، فالتفت إلى عبد الرحمن، فقال: ترى شاة تكفيه؟ قال: نعم، فأمرني أن أذبح شاة، فلما قمنا من عنده قال صاحب لي: إن أمير المؤمنين لم يحسن أن يفتيك حتى سأل الرجل، فسمع عمر بعض كلامه، فعلاه بالدرة ضرباً، ثم أقبل علي ليضربني، فقلت: يا أمير المؤمنين، إني لم أقل شيئاً، إنما هو قاله. قال: فتركني. ثم قال: أردت أن تقتل الحرام، وتتعدى الفتيا؟! ويفسدها ذلك السيء. ثم قال: إياك وعثرة الشباب.
وقال قبيصة: ألا أخبركم عمن صحبت، صحبت عمر بن الخطاب، فما رأيت أحداً أفقه في كتاب الله، ولا أحسن مدارسة منه، وصحبت طلحة بن عبيد الله، فما رأيت أحداً أعطى لجزيل عن غير مسألة منه، وصحبت عمرو بن العاص، فما رأيت أحداً أنصع طرقاً - أو أتم " طرقاً - منه، وصحبت معاوية، فما رأيت أحداً أكثر حلماً، ولا أبعد أناة منه، وصحبت زياداً، فما رأيت أحداً أكرم جليساً منه، ولا أخصب رفيقاً منه، وصحبت المغيرة بن شعبة، فلو أن مدينة لها أبواب لا يخرج من كل باب منها إلا بالمكر، لخرج من أبوابها كلها.
اختار أهل الكوفة قبيصة بن جابر وافداً إلى عثمان، وكان من فصحاء أهل الكوفة، مات في ولاية مصعب بن الزبير العراق.(21/62)
عن قبيصة بن جابر قال: أتى علي بزنادقة فقتلتهم، ثم حفر لهم حفرتين، فقال قبيصة شعراً: " من الوافر "
لترم بي الحوادث حيث شاءت ... إذا لم ترم بي في الحفرتين
قال يعقوب بن سفيان في تسمية أمراء الجمل من أصحاب علي: وعلى خيول يني أسد قبيصة بن جابر.
قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة
أبو سعيد - ويقال: أبو إسحاق - الخزاعي الفقيه أصله من المدينة، وكان على الخاتم والبريد لعبد الملك بن مروان. سكن دمشق، وكانت داره بباب البريد موضع دار الحكم.
عن قبيصة بن ذؤيب الكعبي أنه سمع أبا هريرة يقول: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها.
قال خليفة بن خياط: قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة بن عمرو بن كليب بن أصرم بن عبد الله بن قميم بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة - وهو لحي - بن حارثة بن عمرو بن عامر، يكنى أبا إسحاق، من خزاعة. مات سنة ست وثمانين - وقال في موضع آخر: سنة ثمان وثمانين.
قال الحافظ بن عساكر: كذا نسبه خليفة، إلا أنه قال: قميم بدل قمير، والصواب بالراء.(21/63)
ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل المدينة، وقال: له دار بالمدينة في التمارين، في زقاق النقاشين، وكان تحول إلى الشام، فكان آثر الناس عند عبد الملك بن مروان، وكان على خاتم عبد الملك، وكان البريد إليه، فكان يقرأ الكتب إذا وردت ثم يدخلها على عبد الملك، فيخبره بما فيها، وكانت لأبيه صحبة. وكان قبيصة ثقة مأموناً كثير الحديث.
عن ابن ذكوان قال: كان عبد الملك بن مروان رابع أربعة من الفقه أوالنسك؛ فذكر سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان.
عن إسماعيل بن عبيد الله قال: دخلت على أم الدرداء وعندها قبيصة بن ذؤيب، فقلت له: يا أبا سعيد.
عن سعيد بن عبد العزيز قال: أتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقبيصة بن ذؤيب ليدعو له وهو غلام، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هذا رجل " - قال سعيد: يريد أنه ذهب أهله ولم يبق إلا هو.
كان قبيصة بن ذؤيب معلم كتاب، وكان أعور، ذهبت عينه يوم الحرة، وليس مولده محفوظاً، والمحفوظ أنه ولد عام فتح مكة.
قال الشعبي: قبيصة بن ذؤيب أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت.
وقال مكحول: ما رأيت أحداً أعلم من قبيصة بن ذؤيب.
توفي قبيصة بن ذؤيب سنة ست وثمانين، وقيل سنة سبع، وقيل سنة ثمان، وقيل سنة تسع وثمانين.(21/64)
قبيصة بن ضبيعة بن حرملة
العبسي الكوفي من وجوه الشيعة. قدم به دمشق مع حجر بن عدي، وقتل معه بعذراء.
عن قبيصة بن ضبيعة، عن حذيفة بن اليمان قال: " لو لم تذنبوا - أو تخطئوا - لجاء الله بقوم يذنبون ويخطئون يغفر لهم يوم القيامة ".
عن أبي إسحاق قال: وجد زياد في طلب أصحاب حجر، فأخذوا يهربون منه، ويأخذ من قدر عليه منهم.
فبعث إلى قبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي صاحب الشرطة، وهو شداد بن الهيثم، فدعا قبيصة قومه، وأخذ سيفه، فأتاه ربعي بن خراش بن جحش العبسي، ورجال من قومه ليسوا بالكثير، فأراد أن يقاتل، فقال له صاحب الشرطة: أنت آمن على دمك ومالك، فلم تقتل نفسك؟ فقال له أصحابه: قد أومنت، فعلام تقتل نفسك، وتقتلنا معك؟ قال: ويحكم! إن هذا الدعي، ابن العاهرة، والله لئن وقعت في يده لا أفلت منه أبداً أو يقتلني. قالوا: كلا. فوضع يده في أيديهم، فأقبلوا به إلى زياد، فلما دخلوا عليه قال زياد: وحي عبس يعزرني على الدين! أما والله لأجعلن لك شاغلاً عن تلقيح الفتن، والتوثب على الأمراء، قال: إني لم آتك إلا على الأمان، قال: انطلقوا به إلى السجن.
قال أبو مخنف: وجاء وائل بن حجر، وكثير بن شهاب فأخرجا القوم عشية - يعني حجراً(21/65)
وأصحابه - وسار معهم صاحب الشرطة حتى أخرجهم من الكوفة، فلما انتهوا إلى جبانة عرزم نظر ابن ضبيعة العبسي إلى داره في جبانة عرزم فإذا بناته مشرفات، فقال لوائل بن حجر وكثير: ائذنوا لي فأوصي أهلي، فأذنا له، فلما دنا منهن، وهن يبكين، سكت عنهن ساعة، ثم قال: اسكتن، فسكتن، فقال: اتقين الله، واصبرن، فإني أرجو من ربي في وجهي هذا إحدى الحسنيين: إما الشهادة، فهي السعادة، وإما الانصراف إليكن في عافية. وإن الذي كان يرزقكن، ويكفيني مونتكن هو الله، وهو حي لا يموت؛ أرجو أن لا يضيعكن، وأن يحفظني فيكن. ثم انصرف. فمر بقومه، وجعل قومه يدعون الله له بالعافية. فقال: إنه لمما يعدل عندي خطر ما أنا فيه هلاك قومي. يقول حيث لا ينصرونني. وكان رجا أن يتخلصوه.
قال خليفة: سنة إحدى وخمسين - فيها - قتل معاوية حجر بن عدي ومن معه.
قبيصة العبسي
أحد بني رواحة. رسول معاوية إلى بن أبي طالب إلى المدينة.
عن محمد وطلحة قالا: حتى إذا كان في الثالث من الأشهر من مقتل عثمان في صفر دعا معاوية برجل من بني عبس، ثم أحد بني رواحة يدعى قبيصة، فدفع إليه طوماراً مختوماً عنوانه: " من معاوية إلى علي "، فقال له: إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار، ثم أوصاه بما يقول. وسرح رسول علي معه. فخرجا، فقدما المدينة في ربيع الأول لغرته؛ فلما دخلا المدينة رفع العبسي الطومار كما أمره، وخرج الناس ينظرون إليه، فتفرقوا إلى منازلهم، وقد علموا أن معاوية معترض. ومضى الرسول حتى دخل على علي، فدفع إليه الطومار، ففض خاتمه، فلم يجد في جوفه كتاباً، فقال الرسول: ما وراءك؟ قال: آمن(21/66)
أنا؟ قال: نعم، إن الرسل آمنة لا تقتل؛ قال: ورائي أني تركت قوماً لا يرضون إلا بالقود، قال: ممن؟ قال: من خيط نفسك، وتركت ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان، وهو منصوب لهم، قد ألبسوه منبر دمشق، فقال: أمني يطلبون دم عثمان، ألست موتوراً كترة عثمان؟ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله، فإنه إذا أراد أمراً أصابه. اخرج! قال: وأنا آمن، قال وأنت آمن.
فخرج العبسي، وصاحت السبائية، وقالوا: هذا الكلب وافد الكلاب، اقتلوه! فنادى: يا آل مضر، يا آل قيس، الخيل والنبل، إني أحلف بالله ليردنها عليكم أربعة آلاف خصي، فانظروكم الفحولة والركاب، وتغاووا عليه، ومنعته مضر، وجعلةا يقولون له اسكت، ويقول: والله لا يفلح هؤلاء أبداً، ولقد أتاهم ما يوعدون. فبقال له: اسكت، فيقول: لقد حل بهم ما يحذرون. انتهت والله أعمالهم، وذهبت ريحهم.
فوالله ما أمسوا من يومهم ذلك حتى عرف الذل فيهم.
قتادة بن النعمان بن زيد
ابن عامر بن سواد بن ظفر واسمه كعب بن الخزرج بن عمر وهو النبيت بن مالك بن الأوس أبو عبد الله - ويقال: أبو عمر، ويقال: أبو عثمان، ويقال: أبو عمر الأنصاري الظفري شهد بدراً مع الرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدم البلقاء من أعمال دمشق غازياً مع أسامة بن زيد حين وجهه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل موته، وخرج مع عمر بن الخطاب إلى الشام في خرجته التي رجع فيها من سرغ، وكان على مقدمته.
عن ابن خباب:
أن أبا سعيد الخدري قدم من سفر، فقدم إليه أهله لحماً من لحوم الأضاحي، فقال: ما أنا بآكله. فانطلق إلى أخيه لأمه، وكان بدرياً، قتادة بن النعمان، فسأله(21/67)
عن ذلك، فقال: إنه قد حدث بعدك أمر نقضاً لما كانوا نهوا عنه من أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام.
عن قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم: بنو أبيرق؛ بشير وبشير، رجلاً منافقاً، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وينحله بعض العرب، ثم يقول: قال فلان كذا، وقال فلان كذا؛ فإذا سمع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث، فقال: " من الكامل "
أو كلما قال الرجال قصيدة ... أضموا وقالوا ابن الأبيرق قالها
وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام. وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير. وكان الرجل إذا كان له يسار، فقدمت ضافطة ابتاع الرجل منها، فخص به نفسه، فأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير.
فقدمت ضافطة من الشام، فابتاع عمي حملاً من الدرمك، فجعله في مشربه له، وفي المشربة سلاح له: درعان، وسيفاه، وما يصلحهما، فعدي عليه من تحت الليل، فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتى عمي رفاعة، فقال يا بن أخ تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، فذهب بطعامنا وسلاحنا. قال: فتحسسنا في الدار، وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني الأبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم. قال: وقد كان بنو الأبيرق قالوا: ونحن نسأل(21/68)
في الدار والله، ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل - رجل منا له صلاح وإسلام - فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه! وقال: أنا أسرق! والله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها. فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها. فقال لي عمي: يا بن أخي، لو أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكرت ذلك له. قال قتادة فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكرت ذلك له، فقلت: يا رسول الله، أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد، فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا سلاحنا، وأما الطعام فلا حاجة لنا به. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سأنظر في ذلك. فلما سمع ذلك بنو ابيرق أتوا رجلاً منهم يقال له: أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا بيت إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة عن غير بينة، ولا ثبت. قال قتادة فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكلمته، فقال: " عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة، على غير ثبت، ولا بينة "! قال فرجعت، ولوددت أني خرجت من بعض مالي، ولم أكلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، فأتاني عمي رفاعة، فقال: يا بن أخي، ما صنعت؟ فأخبرته ما قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: الله المستعان. فلم نلبث أن ننزل القرآن: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيما " بني أبيرق " واستغفر الله " أي مما قلت لقتادة " إن الله كان غفوراً رحيماً. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " أي بني أبيرق " إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً. ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً. ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً "؛ أي لو أنهم استغفروا الله غفر لهم " ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً. ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً(21/69)
وإثماً مبيناً "، قولهم للبيد " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك "، يعني أسيراً وأصحابه " وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً. لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاه مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ".
فلما نزل القرآن أتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسلاح فرده إلى رفاعة. قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح - وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولاً، فلما أتيته بالسلاح - قال: يا بن أخي، هو في سبيل الله، قال: فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً. فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة بنت سعد بن شهيد، فأنزل الله - عز وجل - فيه: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً. إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً ". فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت به فرمته في الأبطح، ثم قالت: أهديت إلي شعر حسان، ما كنت تأتيني بخير.
قال خليفة:
أم قتادة بن النعمان أنيسة بنت أبي حارثة - ويقال: أنيسة بنت قيس بن مالك من بني النجار، وهو أخو أبي سعيد الخدري لأمه.
وقال محمد بن سعد: أمه انيسة بنت قيس بن عمرو بن عبيد بن مالك بن عمرو بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار من الخوارج. وقد شهد قتادة بن النعمان العقبة مع السبعين من الأنصار.(21/70)
وكان قتادة من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد بدراً واحداً، وشهد أيضاً الخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت معه راية بني ظفر في غزوة الفتح.
عن قتادة بن النعمان، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء ".
عن قتادة بن النعمان: أنه أصيبت عينه يوم بدر، فسالت حدقته على وجنه، فأرادوا أن يقطعوها، فسألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: لا فدعا به، فغمز حدقته براحته، فكان لا يدري أي عينيه أصيبت.
وروي أن ذلك كان يوم أحد: قال قتادة: أهدي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوس، فدفعها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلي يوم أحد، فرميت بها بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى اندقت عن سيتها ولم أزل عن مقامي نصب وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألقى السهام بوجهي كلما مال سهم منها إلى وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميلت رأسي لأقي وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا رمي أرميه، فكان آخرها سهماً ندرت منه حدقتي على خدي، وافترق الجمع، فأخذت حدقتي بكفي، فسعيت بها في كفي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما رآها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كفي دمعت عيناه، فقال: " اللهم إن قتادة فدى وجه نبيك بوجهه فاجعلها أحسن عينيه، وأحدهما نظراً ".
وفي رواية: فقلت: أي رسول الله، إن تحتي امرأة شابة جميلة أحبها وتحبني، وأنا أخشى أن تقذر مكان عيني، فأذها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فردها، فأبصرت، وعادت كما كانت، ولم تضرب عليه ساعة من ليل، ولا نهار. فكان يقول بعد أن أسن: هي أقوى عيني. وكانت أحسنهما.(21/71)
عن قتادة بن النعمان قال: خرجت ليلة من الليالي مظلمة، فقلت: لو أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهدت معه الصلاة، وآسيته بنفسي. ففعلت، فلما دخلت المسجد برقت السماء، فرآني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " يا قتادة، ما هاج عليك؟ " فقلت: أردت - بأبي وأمي أنت - أن أؤنسك، قال: " خذ هذا العرجون، فتخصر به؛ فإنك إذا خرجت أضاء لك عشراً أمامك، وعشراً خلفك ". ثم قال: " إذا دخلت بيتك فضرب به مثل الحجر الأخشن في أستار البيت، فإن ذلك الشيطان ". قال: فخرجت، فأضاء لي، ثم ضربت مثل الحجر الأخشن حتى خرج من بيتي.
عن أبي سلمة قال:
كان أبو هريرة يحدثنا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو في صلاة يسأل الله خيراً إلا أتاه "، قال: وتقللها أبو هريرة بيده، قال: فلما توفي أبو هريرة قلت: والله لو جئت أبا سعيد، فسألته عن هذه الساعة، أن يكن عنده منها علم، فأتيته فأجده يقوم عراجين، فقلت: يا أبا سعيد ما هذه العراجين التي أراك تقوم؟ قال: هذه عراجين جعل الله لنا فيها بركة؛ كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحبها، ويتخصر بها، فكنا نقومها ونأتيه بها. فرأى بصاقاً في قبلة المسجد، وفي يده عرجون من تلك العراجين؟، فحكه وقال: " إذا كان أحدكم في صلاته فلا يبصق أمامه؛ فإن ربه أمامه، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه، فإن لم يجد مبصقاً ففي ثوبه أو نعله ". قال: ثم هاجت السماء من تلك الليلة، فلما خرج النبي لصلاة العشاء الآخرة برقت برقة، فرأى قتادة بن النعمان، فقال: " ما السرى يا قتادة "؟ قال: علمت يا رسول الله أن شاهد الصلاة قليل، فأحببت أن أشهدها، قال: " فإذا صليت فاثبت حتى أمر بك ". فلما انصرف أعطاه العرجون وقال: " خذ(21/72)
هذا، فسيضيء لك أمامك عشراً، وخلفك عشراً، فإذا دخلت البيت، ورأيت سواداً في زاوية البيت فاضربه قبل أن تتكلم، فإنه الشيطان ". قال: ففعل، فنحن نحب هذه العراجين لذلك. قال: قلت: يا أبا سعيد، إن أبا هريرة حدثنا عن الساعة التي في الجمعة فهل عندك منها علم؟ فقال: سألنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها، فقال: " إني قد كنت أعلمتها، ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر ". قال: ثم خرجت من عنده، فدخلت على عبد الله بن سلام.
عن عمر بن قتادة بن النعمان قال: لما احمر الرطب انطلق قتادة، فصنع لحائطه مفتاحاً - وكان له قبل ذلك مفتاح - فجاء به إلى أخيه المهاجري، فقال له: إن الرطب مفتاح، وهذا المفتاح لك، ومعي مفتاح. قال: وكان قتادة إذا خرج اتبعته بنية له، فإذا فتح الباب لاذت منه حتى تدخل، فتجمع، فإذا رآها نهاها نهياً كأنها ليست منه، ثم انطلق إلى المهاجري، فقال له: إن بنية لي ربما دخلت، فجمعت، أتحلل لنا ذلك؟ قال المهاجري: نعم.
قال ابن عياش في تسمية العميان من الأشراف: قتادة بن النعمان.
مات قتادة سنة ثلاث وعشرين بالمدينة، وهو يمومئذ ابن خمس وستين سنة، وصلى عليه عمر بن الخطاب، ونزل في قبره أخوه لأمه أبو سعيد الخدري.
قتير حاجب معاوية
عن قتير حاجب معاوية قال: كان أبو ذر يغلظ لمعاوية. قال: فأرسل إلى عبادة بن الصامت، وإلى أبي الدرداء، وإلى عمرو بن العاص، وإلى أم حرام، فأجلسهم، وقال: كلموه،. فأرسل(21/73)
إليه، فجاء، فكلموه، فقال لعبادة بن الصامت: أما أنت، يا أبا الوليد فلك علي الفضل والسابقة، وقد كنت أرغب بك عن هذا الموطن، وأما أنت يا أبا الدرداء، فلقد كادت وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تسبق إسلامك، ثم أسلمت، فكنت من صالحي المؤمنين، وأما أنت يا عمرو بن العاص فقد أسلمنا، وجاهدنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنت أضل من جمل أهلك، وأما أنت، يا أم خرام فإنما أنت امرأة عقلك عقل امرأة، ورأيك رأي امرأة، فما أنت وهذا؟! فقال عبادة: لا جرم، لا جلست مثل هذا المجلس.
قال علي بن هبة الله الحافظ:
قتير - بضم القاف وفتح التاء المعجمة باثنتين من فوقها، ثم ياء معجمة باثنتين من تحتها وآخره راء - قتير مولى معاية.
ذكره ابن أبي حاتم في كتابه إلا أنه سماه قنبراً بالباء والنون.
قتير
أظنه مولى لعمر بن العاص، شهد معه دومة الجندل حين حكم هو وأبو موسى.
قحدم بن أبي قحدم النضر
ابن معبد أو ابن أبي قحدم سليمان بن ذكوان - الأزدي الجرمي البصري وفد على هشام بن عبد الملك رسولاً من يوسف بن عمر أمير العراق.
روى عن أبيه بسنده إلى قرة المزني قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لتملأن الأرض جوراً وظلماً، فإذا ملئت جوراً وظلماً يبعث الله رجلاً مني اسمه(21/74)
اسمي، واسم أبيه اسم أبي، فيملؤها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، فلا تمنع السماء شيئاً من قطرها، ولا الأرض شيئاً من نباتها، يمكث فيكم سبعاً - يعني التسع سنين ".
قحطبة بن شبيب بن خالد
ابن معدان بن شمس بن قيس بن أكلت بن سعد بن عمرو بن غنم بن مالك بن سعد بن نبهان ابن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء
واسم قحطبة: زياد، وقحطبة لقب له - أبو عبد الحميد الطائي المروزي أحد دعاة بني العباس وقوادهم. وفد على محمد بن علي بن عبد الله بن عباس إلى الحميمة. وقحطبة من أهل قرية شيرنخشير من قرى مرو.
حدث عن أبيه، عن خالد بن معدان، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما شيء في الميزان أثقل من خلق حسن ".
قال أحمد بن سيار: في أسماء النقباء الاثني عشر وكلهم من مرو: سبعة من العرب، وخمسة من الموالي، فأما السبعة من العرب، منهم أبو عبد الحميد قحطبة بن شبيب بن خالد بن معدان بن شمس بن قيس بن كلب بن سعد بن عمرو - وهو الصامت - بن تميم بن مالك بن سيف بن سودان الطائي.
وقال غيره في نسبه: سنبس بدل شمس، وهو الصواب.(21/75)
عن رجل من طيء عن أبيه قال: إني لواقف مع قحطبة وأخيه، وهم يقاتلون ابن هبيرة، قال: فمر بهم رجل، فقال له بعضهم: ممن الرجل؟ قال: من طيء والحمد لله. قال: يقول قحطبة: ما يسر هذا أن يكون قريشياً.
قال بيهس بن حبيب: أصاب قحطبة طعنة في وجهه، فوقع في الفرات، فهلك، ولا نعلم به ولا يعلمون - يعني سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قدامة بن حماطة الضبي الكوفي
عن قدامة بن حماطة قال: كنت قاعداً عند عمر بن عبد العزيز، فدخل علينا أبو بردة بن أبي موسى، فحدث عن عمر بن عبد العزيز أنه سمع أباه يحدث، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا كان يوم القيامة جيء باليهودي والنصراني، فقيل: يامسلم، هذا فداؤك من النار ". فقال عمر بن عبد العزيز لأبي بردة: الله الذي لا ". فقال عمر بن عبد العزيز لأبي بردة: الله الذي لا إله إلا هو لأنت سمعت أباك يحدث هذا الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: الله الذي لا إله إلا هو لحدثنيه أبي أنه سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فرأيت عمر بن عبد العزيز خر لله شكراً ثلاث سجدات.
قرتع التغلبي
شاعر وفد على بعض خلفاء بني أمية.
قال أبو عبيدة: كان الذي هاج بين كعب بن جعيل، وهو من بني عوف بن مالك بن بكر بن حبيب، وبين القرتع، وهو أحد بني أوس بن تغلب، أن بعض خلفاء بني أمية سأل القرتع عن شرف تغلب وبيتهم فيمن هما؟ فقال: في بني الأوس بن تغلب. فقال:(21/76)
الخليفة: تقول هذا وكعب حاضر؟ فقال: نعم. فجاء كعب، فسأله عن قوله، فقال كعب: من بني الأوس؟! وقال: " من الطويل "
لعمرك ما السفاح منك ابن خالد ... وما أنت من أبناء عمرو بن جيجل
السفاح من بني خالد بن بكر ثم من بني أسامة بن مالك بن بكر، وهو عمرو بن جيجل.
فأجابه القرتع فقال: " من الطويل "
فخرت بقوم لم يكن لك فخرهم ... وإنك من أفعالهم لبمعزل
قرة بن شريك بن مرثد
ابن حزام بن الحارث بن حبيش بن سفيان بن عبد الله بن ناشب بن هدم بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان القيسي القنسريني من أمراء بني أمية، ولاه الوليد بن عبد الملك مصر، وكان سيء السيرة.
عن قرة بن شريك أنه سأل ابن المسيب عن الرجل ينكح عبده وليدته، ثم يريد أن يفرق بينهما؟ قال: ليس له أن يفرق بينهما.
قال أبو سعيد بن يونس: قدم قرة بن شريك مصر في شهر ربيع الأول من سنة تسعين، فأقام والياً عليها سبع سنين، وتوفي سنة ست وتسعين. أمره الوليد ببناء جامع الفسطاط والزيادة فيه، وابتدأ ببنائه سنةاثنتين وتسعين، وجعل على بنائه يحيى بن حنظلة مولى قريش، فأقام في بنائه سنتين. وقيل: إن الناس كانوا يجمعون الجمعة في قيسارية العسل حتى فرغ من بنائه.
وقيل: أن قرة بن شريك كان إذا انصرف الصناع من بناء المسجد دخل المسجد، ودعا بالخمر والطبل والمزمار، فشرب، ويقول: لنا الليل، ولهم النهار. وكان قرة بن شريك(21/77)
من أظلم خلق الله، وهمت الإباضية بقتله، والفتك به، وتبايعوا على ذلك، فبلغه ذلك فقتلهم.
قال أبو نصر الحافظ: هدم: بكسر الهاء وسكون الدال.
عن عبد الملك بن شوذب قال: قال عمر بن عبد العزيز: الوليد بن عبد الملك بالشام، والحجاج بن يوسف بالعراق، ومحمد بن يوسف باليمن، وعثمان بن حيان المري يالحجاز، وقرة بن شريك العبسي بمصر، امتلأت، والله، الأرض جوراً.
وفي سنة تسعين نزع عبد الله بن عبد الملك من مصر، وأمر قرة بن شريك فكتب رجل من قريش إلى الوليد بن عبد الملك: " من الخفيف "
عجباً ما عجبت حين أتانا ... أن قد أمرت قرة بن شريك
وعزلت الفتى المبارك عنا ... ثم فيلت فيه رأي أبيك
عن جويرية بن أسماء قال: خرج الوليد وهو مشعان الرأس يقول: هلك الحجاج وقرة بن شريك! - يتفجع عليهما.
قال ابن قتيبة: يريد أنه منتفش الشعر. يقال: رجل مشعان الرأس، وشعر مشعان، إذا كان منتفشاً.(21/78)
قريش بن الحسين بن روشك
أبو صالح الجوني حدث عن تمام بن محمد بن عبد الله الرازي بسنده عن أنس بن مالك قال: أقامني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على يمينه - يعني في الصلاة.
قريش بن هشام بن عبد الملك
ابن مروان أمه أم ولد. حضر الصائفة مع البطال.
قزعة بن يحيى ويقال ابن الأسود
أبو الغادية مولى زياد بن أبي سفيان، ويقال: مولى عبد الملك بن مروان، ويقال بل هو من بني الحريش. من أهل العراق.
عن قزعة، عن أبي سعيد، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تشد إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام، ومسجد المدينة، وبيت المقدس "، وقال: " لا تسافر المرأة فوق ثلاث إلا مع ذي محرم "، ونهى عن صوم يومين، وعن صلاتين: عن صوم يوم النحر، ويوم الفطر، وعن صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وعن صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس.
عن قزعة، عن ابن عمر قال: ودعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك:.(21/79)
وفي رواية قال: كنت عند عبد الله بن عمر، فأردت الانصراف، فقال: مكانك حتى أودعك كما ودعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخذ بيدي فصافحني، ثم قال: وفي رواية: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يودع رجلاً قال: " أستودع الله دينك وأمانتك، وخواتيم عملك ".
عن قزعة: أنه أهدى إلى ابن عمر ثياباً هروية، فلما خرج مشى معه.
قال العجلي: قزعة بن يحيى مولى زياد. بصري، تابعي، ثقة.
وقال ابن خراش: قزعة العقيلي مولى زياد بن أبيه. صدوق.
قال عبد الملك بن عمير: وكان رجلاً يسبق الحاج في سلطان معاوية.
قسام بن إبراهيم بن محمد بن القاسم
أبو بكر الهمذاني حدث عن عبد العزيز الكتاني بسنده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " آكل اللحم يحسن الوجه، ويحسن الخلق ".(21/80)
قسطنطين بن عبد الله
أبو الحسن الرومي، مولى المعتمد على الله روى عن إسحاق بن الضيف بسنده عن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه ".
وروى عن عثمان بن أبي شيبة بسنده إلى علي: قال رسول الله: " البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي "، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قسيم بن هشام بن محمد
ابن هشام بن ملاس بن قسيم أبو القاسم النميري حدث عن جده محمد بن هشام بن ملاس قال: سمعت علي بن بشر الكوفي يقول: توفي كدام أبو مسعر بن كدام، فغسل وكفن وأدخل في لحده، فاختلج، فقالوا: حي. فحل من أكفانه بعد خروجه من القبر، فولد له بعد ذلك ابنه مسعر بن كدام.
توفي قسيم بن هشام سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
قسيم مولى معاوية
ويقال: مولى عمر بن عبيد الله القرشي روى سعيد بن عبد العزيز، عن قسيم قال: كان ملك هذه المدينة - يعني دمشق - له ابنه، فتزوجها ابن أخيه، فطلقها، فأفتاه يحيى بن زكريا أنها لا تحل لك حتى تنكح حتى تنكح زوجاً غيرك. فقالت لها أمها: إذا كنت بين(21/81)
يدي الملك، فقال: حاجتك؟ فقولي رأس يحيى بن زكريا. فقالت له ذلك، فأعظمه، فقال جلساؤه: أمض لها ما جعلت لها. فأتي يحيى بن زكريا وهو قائم يصلي في جيرون، فقطع رأسه، ثم ذهبت البنت تحمله في طبق، حتى إذا بلغت إلى موضع " الفسقية " خسف بها، فخرجت أمها، فقيل لها: أدركي بنتك، فجاءت ولم يبقى إلا رأسها، فقطعوا رأسها، وأخزى الله ذلك الملك.
قصير ويقال قيصر
من تابعي أهل دمشق. ويقال من أهل مصر.
حدث عن ابن عمر أنه كان يصلي على راحلته حيث توجهت به، فسئل: أسنة هي؟ قال: سنة. قالوا: سمعتها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فتبسم، وقال: سمعتها.
قال أبو حاتم: قيصر من أهل مصر، لا بأس به.
قال أبو سعيد بن يونس:
قيصر من أبي غزية، مولى تجيب، وينسب إلى ولاء معاوية بن حديج.
قضاعي بن عامر
ويقال: ابن عمرو العذري ممن أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستعمله على بني أسد، وشهد فتح دمشق. وكان أحد الشهود في كتاب صلحها.
روى ابن سعد من طرق قالوا: وكتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي إلى بني أسد. سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فلا تقربن مياه طيء،(21/82)
وأرضهم، فإنه لا تحل لكم مياههم، ولا يلجن أرضهم إلا من أولجوا وذمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بريئة مما عصاه، وليقم قضاعي بن عمرو ". وكتب خالد بن سعيد.
وقضاعي بن عمرو من بني عذرة، وكان عاملاً عليهم.
عن ابن سراقة أن خالد بن الوليد كتب لأهل دمشق: هذا كتاب من خالد بن الوليد لأهل دمشق؛ إني آمنتهم على دمائهم، وأموالهم، وكنائسهم.
شهد عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، وقضاعي بن عامر، وكتب سنة ثلاث عشرة.
فطبة بن عامر
ويقال: ابن قتادة، ويقال قتادة بن قطبة العذري له صحبة. شهد غزوة مؤتة، وكان على ميمنة عسكر المسلمين.
عن ابن إسحاق قال: وقد كان قطبة بن قتادة العذري الذي كان على ميمنة المسلمين قد حمل على مالك بن زافلة قائد المستعربة، فقتله، فقال في قتله: " من المتقارب "
طعنت ابن زافلة الإراشي ... برمح مضى فيه ثم انحطم
ضبت على خده ضربة ... فمال كما مال غصن السلم
وسقنا نساء بني عمه ... غداة رقوقين سوق النعم(21/83)
قطن بن صالح
من أهل دمشق.
روى عن ابن جريج وغيره، بسنده، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
وروى عن إبراهيم بن أدهم بسنده إلى أنس، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله يعذب الموحدين على قدر - وفي رواية: بقدر - نقصان إيمانهم، ويردهم - وفي رواية: ثم يردهم - إلى الجنة خلوداً دائمين - وفي رواية: دائماً - ".
وروى عن شعبة، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة ".
قال أبو الفضل المقدسي في كتاب " تكملة الكامل في معرفة الضعفاء ": قطن بن صالح الدمشقي، روى عن شعبة بن الحجاج أحاديث مناكير.
قطن
روى أنهم كانوا عند معاوية بن أبي سفيان، فأفطروا في يوم غيم، ثم بدت لهم الشمس على الجبال، فقال معاوية: لا نبالي، نقضي يوماً آخر.(21/84)
قطن مولى آل الوليد بن عبد الملك
كان مع يزيد بن الوليد حين دعا إلى بيعته، وكان من ذوي الرأي من موالي بني أمية.
قال خليفة: في تسمية عمال يزيد بن الوليد: خاتم الخلافة: عبد الرحمن بن جميل الكلبي، ويقال قطن مولاه.
قال ابن عياش: وكان يزيد بن الوليد يأذن عليه قطن مولاه.
قعدان بن عمر
شاعر كان بدمشق حين قدمها أحمد بن طولون سنة تسع وستين ومائتين بخلع أبي أحمد الموفق، ومن قوله في ذلك:
طال الهدى بابن طولون الأمير كما ... يزهو به الذين عن دين وإسلام
قاد الجيوش من الفسطاط يقدمها ... منه على الهول ماض غير محجام
في جحفل للمنابا في مقانبه ... مكامن بين رايات وأعلام
تسمو به من بني سام غطارفة ... بيض وسود أسود من بني حام
حاط الخلافة والدنيا خليفتنا ... بضارم من سيف الله صمصام
يا أيها الناس هبوا ناصرين له ... مع الأمير بدهم الخيل في اللام
ليست صلاة مصليكم بجائزة ... ولا الصيام مقبول لصيام
حتى يرى السيد المأمون ذبكم ... عن الإمام بأطراف القنا الدامي(21/85)
قعقاع بن أبرهة الكلاعي
شهد صفين مع معاوية، وكان أحد الأمراء يومئذ، وقتل ذلك اليوم.
قعقاع بن خليد بن جزء
ابن الحارث بن زهير بن جذيمة العبسي شاعر فارس، من وجوه رجالات دولة بني أمية. كانت له بدمشق قطيعة. وذكر أنه كان كاتباً للوليد بن عبد الملك.
عن العتبي قال:
كتب مسلمة بن عبد الملك وهو بالقسطنطينية إلى أبيه: " من الطويل "
أرقت وصحراء الطوانة منزلي ... لبرق تلالا نحو عمرة يلمح
أداور أمراً لم يكن ليطيقه ... من القوم إلا القلبي الصمحمح
فكتب القعقاع بن خليد العبسي إلى عبد الملك: " من الطويل "
أبلغ أمير المؤمنين بأننا ... سوى ما يقول القلبي الصمحمح(21/86)
أكلنا لحوم الخيل رطباً ويابساً ... وأكبادنا من أكلنا الخيل تقرح
ونحسبها حول الطوانة طلعاً ... وليس لها حول الطوانة مسرح
فليت الفزاري الذي غش نفسه ... وغش أمير المؤمنين يشرح
وكان أصابتهم مجاعة حتى أكلوا الخيل، فكتم ذلك مسلمة عبد الملك. وكتب مع رجل من بني فزارة، فذلك معنى قوله: " فليت الفزاري الذي غش نفسه ".
قال القاضي: القلبي: الذي يعرف تقلب الأمور، ويتدبرها ويتصفحها، فيعلم مجاريها؛ يقال رجل قلبي حول، وتقليبه، واعتباره، وندبره. ويقال أيضاً: حول قلب كما قال الشاعر: " من الخفيف "
حول قلب معن مفن ... كل داء له لديه دواء
وقوله: " الصمحمح " أراد به وصفه بالشدة والقوة. وبين أهل العلم بكلام العرب اختلاف في معنى الصمحمح من جهة اللغة، وفي وزنه من الفعل على الطريقة القياسية.
قعقاع بن شور السدوسي الذهلي
وفد على معاوية.
عن القحذمي قال: دخل القعقاع بن شور إلى معاوية والمجلس غاص، فقام رجل عن مجلسه وأجلسه فيه، وأمر معاوية للقعقاع بمائة ألف. فقال للذي قام عن مجلسه: ضمها إليك، ففعل.(21/87)
فلما خرجا قال القعقاع: مالك، اقبضه! فقال القعقاع: هو لك بقيامك عن مجلسك، فقال الرجل: " من الوافر "
وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاعجليس
ضحوك السن إن نطقوا بخير ... وعند الشر مطراق عبوس
شور: بفتح الشين المعجمة.
القعقاع بن عمرو التميمي
يقال: إن له صحبة. وكان أحد فرسان العرب الموصوفين، وشعرائهم العروفين. شهد اليرموك، وفتح دمشق، وشهد لأكثر وقائع أهل العراق مع الفرس، وكانت له في ذلك مواقف مشكورة.
عن عمرو بن محمد بإسناده قال: ولما بلغ غسان خروج خالد على سوى وانتسافها، وغارته على مصيخ بهراء وانتسافها اجتمعوا بمرج راهط. وبلغ ذلك خالداً وقد خلف ثغور الروم وجنودها مما يلي العراق، فصار بينهم وبين اليرموك صمد لهم، فخرج من سوى بعدما رجع إليها بسبي بهراء، فنزل الرمانتين - علمين على الطريق - ثم نزل الكثب، ثم سار إلى دمشق فنزل مرج الصفر، فلقي عليه غسان، وعليه الحارث بن الأيهم، وأفلت جبلة، وانتسف عسكرهم، وعيالاتهم. وبعث إلى أبي بكر بالأخماس مع بلال بن الحارث المزني. ثم خرج منالمرج حتى نزل قناة بصرى، فكانت أول مدينة افتتحت بالشام على يد خالد فيمن(21/88)
معه من جنود العراق، ثم خرج منها، فوافى المسلمين بالواقوصة، فنازلهم بها في تسعة آلاف.
وقال القعقاع بن عمرو في مسير خالد من سوى إلى الواقوصة قصيدة أولها: " من الطويل "
قطعنا أماليس البلاد بخيلنا ... نريد سوى من آبدات قراقر
وكان القعقاع بن عمرو على كردوس من كراديس أهل العراق يوم اليرموك، وقال في يوم اليرموك: " من الوافر "
ألم ترنا على اليرموك فزنا ... كما فزنا بأيام العراق
فتحنا قبلها بصرى وكانت ... محرمة الجناب لدى البعاق
وعذراء المدائن قد فتحنا ... ومرج الصفرين على العتاق
فضضنا جمعهم لما استحالوا ... على الواقوص بالبتر الرقاق
قتلنا الروم حتى ما تساوي ... على اليرموك ثفروق الوراق
وقال يوم دمشق: " من الطويل "
أقمنا على داري سليمان أشهراً ... نجالد روماً قد حموا بالصوارم
فضضنا بها الباب العراقي عنوة ... فدان لنا مستسلماً كل قائم
أقول وقد دارت رحانا بدارهم ... أقيموا بها حز الذرى بالغلاصم(21/89)
فلما رأوا بابي دمشقيجوزهم ... وتدمر عضوا منهم بالأباهم
وقال القعقاع بن عمرو في حمص الآخرة: " من الكامل "
يدعون قعقاع لكل كريهة ... فيجيب قعقاع دعاء الهاتف
سرنا إلى حمص نريد عدوها ... سير المحامي من وراء اللاهف
حتى إذا قلنا دنونا منهم ... ضرب الإله وجوههم بصوارف
وكتب عمر إلى سعد: أي فارس أيام القادسية كان أفرس، وأي راجل كان أرجل، وأي راكب كان أثبت؟ فكتب إليه: لم أرى فارساً مثل القعقاع بن عمرو؛ حمل في يوم ثلاثين حملة ويقتل في كل حملة كمياً.
قعنب بن ضمرة
وهو قعنب بن أم صاحب الفزاري شاعر. قدم على الوليد بن عبد الملك. ومن قوله فيه: " من المتقارب:
أتيت الوليد فألفيته ... كما قد علمت عيياً بخيلا
قنان بن دارم بن أفلت بن ناشب بن هدم بن عوذ بن غالب بن قطيعة
ابن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بن نزار العبسي له صحبة. وفد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد فتح دمشق.
قالوا: وفد على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسعة رهط من بني عبس، فكانوا من المهاجرين الأولين،(21/90)
منهم: ميسرة بن مسروق، والحارث بن الربيع - وهو الكامل - وقنان بن دارم، وبشر بن الحارث بن عبادة، وهدم بن سعدة، وسباع بن زيد، وأبو الحصن بن لقمان، وعبد الله بن مالك، وفروة بن الحصين بن فضالة، فأسلموا، فدعا لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخير، وقال: " ابغوني رجلاً يعشركم أعقد لكم لواء "، فدخل طلحة بن عبيد الله، فعقد لهم لواء، وجعل شعارهم: يا عشرة.
عن عروة بن أذينة الليثي قال: بلغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَأن عيراً لقريش أقبلت من الشام، فبعث بني عبس في سرية، وعقد لهم لواء، فقالوا: يا رسول الله، كيف نقسم غنيمة إن أصبناها ونحن تسعة؟ قال: " أنا عاشركم " وجعلت الولاة اللواء الأعظم لواء الجماعة، والإمام لبني عبس، ليست لهم راية.
عن محرز بن أسيد قال: ثم أن أبا عبيدة أمر خالد بن الوليد، فسار حتى مر ببعلبك، وأرض البقاع، فغلب على البقاع، وأقبل قبل بعلبك حتى نزل عليها، فخرج إليه منهم رجال، فأرسل إليهم فرساناً من المسلمين نحواً من خمسين، أرسل ملحان بن زياد الطائي، وقنان بن دارم العبسي، فحملوا عليهم حتى أقحموهم الحصن، فلما رأوا ذلك بعثوا في طلب الصلح، فأعطاهم ذلك أبو عبيدة، وكتب لهم كتاباً.
قواد مولى سليمان بن عبد الملك
حكى عن عمر بن عبد العزيز قال: إن أول ما استنكرنا من عمر بن عبد العزيز أنه انفتل من جنازة سليمان بن عبد الملك وقد عمدت إلى دابة من دواب سليمان، فقدمتها إليه، فقال: ما هذه يا قواد؟ قال: دابة من دواب سليمان، فقال: نحها يا قواد: أدن دابتي. ثم أتى المنزل، فإذا البسط قد بسطت، وإذا الفرش قد نجدت فأمر بذلك كله فكشط. ثم دعا بطنفسته فجلس عليها، ودعا بماء فتوضأ، فقال: من أين هذا الماء؟ قالوا: ماء استقاه الأقباط في السحر، مالي ولاستقاء الأقباط! ثم قال: يا قواد، انظر كل دابة استقادها(21/91)
سليمان فادفعها إلى كعب بن حامد يبيعها، ويجعل ثمنها في بيت المال، وكل دابة كانت له قبل ذلك فادفعها إلى ابنه يقسمها على ورثة أبيه.
وقال ابن سميع: قواد - بالواو والتشديد - وروي عنه: فوار - بالفاء والراء
قوام بن زيد بن عيسى
ابن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن زيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي نافع ابن أحمد ابن رافع بن عبد الرحمن بن طلحة بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق أبو فرج المري الفقيه الشافعي ذكر الحافظ ابن عساكر رواية أخرى في نسبه، وقال: وكان شيخاً ثقة.
وروى من طريقه عن جابر بن عبد الله قال: لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكل الربا ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: " هم سواء " ولد أبو الفرج سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة. وتوفي سنة تسع وخمسمائة.
قال الحافظ: وحضرت دفنه والصلاة علبه مع أبي.
قيس بن بسر السندي
ابن عبد الله بن سعيد بن يسر بن عبد الواحد ابن عبد الله، أبو نصر النصري ويقال الرعيني روى عن أبي علب العجمي الأحول بسنده، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من نظر إلى وجه عالم نظرة، ففرح به خلق الله - تبارك الله وتعالى - من تلك النظرة والفرح ملكاً يستغفر الله لصاحبه إلى يوم القيامة ".(21/92)
قال أبو نصر بن ماكولا في باب بسر - بضم الباء، وبالسين المهملة: قيس بن بسرالسندي.
قيس بن ثور بن مازن
ابن خيثمة أبو بكر الكندي السكوني من تابعي أهل حمص. أدرك عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن قيس بن ثور أنه قال: هاجرنا على عهد أبي بكر الصديق، فلما قدمنا المدينة نزلنا بالحرة، فخرج إلينا أبو بكر يتلقانا، وهو مخضوب الرأس واللحية بحناء أو كتم أو بهما جميعاً.
عن عمرو بن قيس الكندي قال: خرجت مع والدي إلى حوارين لنبايع يزيد بن معاوية، إذ أقبل شيخ، فابتدره الناس، فكنت فيمن ابتدره، فسمعته يقول: " إن من أشراط الساعة أن يسود كل قوم منافقوهم، وإن من أشراط الساعة أن يخزن الفعل، وينشر القول، وإن من أشراط الساعة أن تقرأ المثناة على رؤوس الملأ لا يكون فيهم من يغيرها ". فقال رجل: وما المثناة؟ قال: كل كتاب على غير كتاب الله. قال الرجل: أرأيت ما حدثنا به عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: فارووه، واحفظوا، ولا تكتبوا إلا القرآن؛ فإنه عنه تسألون،(21/93)
وبه تجازون، وكفى به علماً لمن كان يعقل عن الله. فقلت: من هذا الشيخ؟ فقالوا: عبد الله بن عمر بن العاص.
قال أبو سعيد بن يونس: قيس بن ثور بن مازن بن خيثمة السكوني. شهد فتح مصر، ثم انتقل إلى حمص فسكنها، وهو والد عمرو بن قيس.
قيس بن الحارث
ويقال: ابن حارثة الكندي ويقال: الغامدي من أهل حمص. شهد صلاة معاوية، وعمر بن عبد العزيز، وولي القضاء في خلافته.
روى عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي، عن أبي الدرداء قال: ما رأيت أحداً أشبه صلاة بصلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أميركم هذا - يعني معاوية. قال: فقيل لقيس: فأين كانت صلاته من صلاة عمر بن عبد العزيز؟ قال: لا إخالها إلا مثلها.
عن عمر بن عبد العزيز، عن قيس بن الحارث أنه أخبره، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " رحم الله حارس الحرس ".
عن قيس بن الحارث الكندي، عن أبي عبد الله الصنابحي، عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من مات لا يشرك بالله شيئاً فإن النار محرمة عليه ".
قال العجلي: قيس بن الحارث المذحجي شامي تابعي ثقة.(21/94)
قيس بن الحجاج بن خولي الحميري
ويقال: الكلاعي السفلي المصري قيل: إنه صنعاني؛ من صنعاء دمشق. والصحيح أنه مصري.
روى عن حنش بن عبد الله السبائي، عن ابن عباس، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وهو ردفه: " يا غلام، إني محدثك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فسل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جفت الأقلام، ورفعت الصحف، والذي نفسي بيده لو أرادت الأمة أن تنفعك ما تنفعك إلا بشيء قد كتب الله لك، ولو أرادت أن يضروك ما ضرتك إلا بشيء قد كتبه الله لك ".
عن عبد الأعلى بن الحجاج، عن أخيه قيس بن الحجاج: في قول الله تعالى: " فاصبر صبرا جميلاً ". قال: يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدري من هو.
عن قيس بن الحجاج؟ قال: قال شيطاني: دخلت فيك وأنا مثل الجزور، وأنا فيك اليوم مثل العصفور، قال: قلت: ولم ذاك؟ قال: تذيبني بكتاب الله.
قيس بن حفص
أبو محمد البصري نزيل مصر. كان حاجباً لبكار بن قتيبة. قدم دمشق مع بكار بن قتيبة لما اسطحبه أحمد بن طولون إليها لخلع أبي أحمد الموفق.(21/95)
قال أبو سعيد بن يونس: فيس بن حفص حاجب بكار بن قتيبة القاضي. توفي سنة إحدى وثمانين ومائتين.
قيس بن حمزة بن مالك
لأبيه حمزة بن مالك وفادة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وولى معاوية قيساً هذا شرطته. وكان من وجوه أهل الشام، ثم عزله.
ذكر ذلك خليفة وغيره.
وذكر خليفة في تسمية عمال معاوية على الشامات الأردن: قيس بن حمزة الهمذاني
قيس بن ذريح بن سنة
ابن حذافة بن طريف بن عتوارة بن عامر ابن ليث بن بكر بن عبد مناة وهو علي ابن كنانة - يقال: قيس بن ذريح بن الحباب بن سنة - لأبو يزيد الليثي
شاعر معروف. قيل: أنه كان أخا الحسين بن علي من الرضاعة، وكان يسكن بادية الحجاز، وهو الذي كان يشبب بأم عمر لبنى بنت الحباب الكعبية، ثم أنه تزوجها، وأقامت معه مدة، فأمره أبواه بطلاقها، فطلقها كارهاً، وتزوجت بعده، ثم زاد تهيامه بها حتى كاد عقله أن يذهب، وكثر ذكره لها في شعره، وتتبعه لهذا حتى شكاه أبوها إلى معاوية، فأهدر دمه. ثم ارتحل إلى معاوية، فدخل إلى يزيد وشكا ما به إليه، وامتدحه، فرق له، وقال: سل ما شئت، إن شئت أن أكتب إلى زوجها فأحتم عليه أن يطلقها، فعلت، فقال: لا أريد ذلك، ولكن أحب أن أقيم بحيث تقيم من البلاد، أعرف أخبارها، وأقنع بذلك من غير أن يهدر دمي. قال: لو سألت هذا من غير أن ترحل(21/96)
إلينا فيه لما وجب أن تمنعه، فأقم حيث شئت. واخذ كتاب أبيه بأن يقيم حيث لا يعترض عليه أحد، وأزال ما كان كتب به في إهدار دمه، فقدم إلى بلده.
قال أبو نصر الحافظ: ذريح - بفتح الذال المعجمة وكسر الراء -: قيس بن ذريح الكناني، أخو بني ليث أبو بكر بن كنانة. شاعر مشهور العشق.
قال عيسى بن أبي جهمة الليثي: كان قيس بن ذريح رجل منا، وكان ظريفاً شاعراً، وكان يكون في مكة وذويها من قديد وسرف وحول مكة في بواديها كلها.
قال: وكان خطب لبنى، وهي امرأة من خزامى، ثم من بني كعب بن عمرو، وكان مسكنها قريباً من مسكنه، فتزوجها، وأعجب بها، وبلغت عنده الغاية القصوى من الكرامة، ثم وقع الشر بين أم قيس، وبين لبنى، وأبغضتها أمه لما ترى من كلفه بها، فناشدته في طلاقها، فأبى، فكلمت أباه أن يكلمه في طلاقها، ففعل، فأبى على أبيه، فقالت أمه لأبيه: لا جمعني وإياك سقف أبداً أو يطلق قيس لبنى، فحلف ذريح - وكان قيس به براً - ألا يكلمه أبداً، ولا يشهد له محياً ولا مماتاً، أو يطلقها. فخرج في يوم حار، فقال: لا أستظل أو تطلق لبنى، فطلقها. فقال: أما إنه آخر عهدك بي.
ولما طلقها اشتد عليه، وجهد، وضمن، فلما طلقها أتاها رجالها يتحملونها، فسأل متى هم خارجون؟ فقالوا غداً، فقال: " من الطويل "
وإني لمف دمع عيني بالبكا ... حذار الذي لما يكن وهو كائن(21/97)
وقالوا غداً أو بعد ذاك بليلة ... فراق حبيب لم يبن وهو بائن
فما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفي إلا أن ما حان حائن
وندم على طلاقها ندماً شديداً، وجعل يأتي منزلها، ويبكي فيه، فلامه أبوه وأهل بيته، فقال: " من الوافر "
أمس تراب أرضك يا لبنى ... ولولا أنت لم أمس ترابا
وقال في ذلك أيضاً في إتيان منزلها: " من الكامل "
كيف السلو ولا أزال أرى لها ... ربعاً كحاشية اليماني المخلق
ربعأ لواضحة الجبين غريرة ... كالشمس إذا طلعت رخيم المنطق
قد كنت أعهدها به في غرة ... والعيش صاف والعدى لم تنطق
حتى إذا نطقوا وآذن فيهم ... داعي الشتات برحلة وتفرق
خلت الديار فزرتها فكأنني ... ذو جنة من سمها لم يعرق
ومن أتم ما قاله في لبنى وأشهره
وصاح غراب البين وانشقت العصا ... ببين كما شق الأديم الصوانع
فلما بدا منها الفراق كما بدا ... بظهر الصفا الصلد الشقوق الصوادع
كأنك بدع لم تر الناس قبلها ... ولم يطلعك الدهر فيمن يطالع
ألا يا غراب البين قد طرت بالذي ... أحاذر من لبنى فهل أنت واقع
فما من حبيب دائم لحبيبه ... ولا صاحب إلا به الدهر فاجع(21/98)
فقد كنت أبكي والنوى مطمئنة ... بنا وبكم من علم ما البين صانع
وأهجركم هجر البغيض وحبكم ... على كبدي منه شؤون صوادع
وأعجل بالإشفاق حتى يشفني ... مخافة شعب الدار والشمل جامع
قال أيوب بن عباية:
خرج قيس بن ذريح إلى المدينة يبيع ناقة له، فاشتراها زوج لبنى، وهو لا يعرفه، فقال له: انطلق معي أعطك الثمن، فمضى معه، فلما فتح الباب فإذا لبنى قد استقبلت قيساً، فلما رآها ولى هارباً، وخرج الرجل في أثره بالثمن ليدفعه إليه، فقال له قيس: لا تركب لي والله مطيتي أبداً، قال: وأنت قيس بن ذريح؟ قال: نعم، قال: هذه لبنى قد رأيتها، تقف حتى أخيرها، فإن اختارتك طلقتها - وظن القرشي أن له في قلبها موضعاً، وأنها لا تفعل - فقال له قيس: أفعل. فدخل القرشي عليها، فخيرها، فاختارت قيساً، فطلقها، وأقام قيس ينتظر انقضاء العدة - وفي رواية: عدتها - ليتزوجها، وماتت في العدة.
وفي خبر آخر أن ابن أبي عتيق رأى قيساً، فسأله عن حاله، فقص عليه قصته، قال: انطلق إلى المنزل، فانطلق معه، فأقام ليلته عنده يحدثه بأمره وعشقه، وينشده، فلما أصبح ابن أبي عتيق ركب، فأتى عبد الله بن جعفر، فقال: جعلني الله فداك، اركب معي في حاجة لي، فركب، واستنهض معه ثلاثة، أو أربعة من قريش، فمضى بهم، لا يدرون ما يريد حتى أتى باب زوج لبنى، فاستأذن عليه، فخرج، فإذا وجوه قريش، فقال: جعلني الله فداكم، ما جاء بكم؟ قالوا: حاجة لابن أبي عتيق، استعان بنا عليك فيها، فقال: اشهدوا أن حكمه جائز، فقالوا لابن أبي عتيق: أخبره بحاجتك؟ فقال: اشهدوا أن امرأته لبنى طالق ثلاثاً، فأخذ عبد الله بن جعفر برأسه، ثم قال: لهذا جئت بنا؟ قبحك الله، وقبح رأيك! فقال: جعلت فداكم، يطلق هذا امرأته ويتزوج أخرى خير من أن يموت مسلم. فقال عبد الله بن جعفر: أما إذ فعل ما أفعل(21/99)
فاشهدوا أن له عندي عشرة آلاف درهم، فقال ابن أبي عتيق: والله ى أبرح حتى ينقل متاعها، ففعلت، وأقامت في أهلها حتى انقضت عدتها، فأتى قيس أباها، فسأله أن ينكحه إياها، فأبى عليه، فمشى إليه قوم من أهلها، وسألوه، وقالوا: قد علمت ما لكل واحد منهما ففي قلب صاحبه، فزوجه إياها، فمكثا عمراً من دهرهما بأنعم عيش.
قال أحمد بن هود: أمرت لبنى لها، فاشترى لها أربع غربان، فلما رأتهن بكت، وصرخت، وكتفتهن، وجعلت تضربهن بالسوط حتى متن جميعاً، وجعلت تقول بأعلى صوتها: " من الوافر "
لقد نادى الغراب ببين لبنى ... فطار القلب من حذر الغراب
فقال غداً تباعد دار لبنى ... وتنأى بعد ود واقتراب
فقلت نعيت ويحك من غراب ... أكل الدهر سعيك في تباب
لقد أولعت لا لقيت خيراً ... بتفريق المحب عن الحباب
فدخل زوجها، فرآها على تلك الحال، فقال: ما دعاك إلى ما أرى؟ قالت: دعاني ابن عمي وحبيبي قيس، أمرهن بالوقوع، فلم يقعن، حيث يقول: " من الطويل "
ألا يا غراب البين قد طرت بالذي ... أحاذر من لبنى فهل أنت واقع
فآليت ألا أظفر بغراب إلا قتلته. قال: فغضب وقال: لقد هممت بتخلية سبيلك! فقالت: لوددت أنك فعلت وأني عمياء، فوالله ما تزوجتك رغبة فيك، ولقد كنت آليت ألا أتزوج بعد قيس أبداً، ولكن غلبني أبي على أمري.
أنشد إبراهيم بن أحمد بن أحمد الشيباني لقيس بن ذريح: " من الطويل "
وددت من الشوق الذي بي أنني ... أعار جناحي طائر فأطير
فما في نعيم بعد فقدك لذة ... ولا في سرور لست فيه سرور
وإن امرأ في بلدة نصف نفسه ... ونصف بأخرى إنه لصبور(21/100)
تفرقت جثماني أسير ببلدة ... وقلبي بأخرى غير تلك أسير
ألا يا غراب البين ويحك نبني ... بعلمك في لبنى وأنت خبير
فإن أنت لم تخبر بشيء علمته ... فلا طرت إلا والجناح كسير
ودرت بأعداء حبيبك فيهم ... كما قد تراني بالحبيب أدور
وله: " من الطويل "
تكذبني بالود لبنى وليتها ... تحمل مني مثله وتذوق
ولو تعلمين الغيب أيقنت أنني ... ورب الهدايا المشعرات صديق
تتوق إليك النفس ثم أردها ... حياء مثلي بالحياء حقيق
ولم أر أياماً كأيامنا التي ... مررن علينا والزمان أنيق
وإني وإن حاولت صرمي وهجرتي ... عليك من أحداث الردى لشفيق
وحدثني يا قلب أنك صابر ... على الصد من لبنى فسوف تذوق
فمت كمداً، أو عش سقيما فإنما ... تكلفني ما لا أراك تطيق
أريد سلواً عنكم فيردني ... عليك من النفس الشعاع فريق
وقد شهدت نفسي بأنك غادة ... رداح وأن الوجه منك عتيق
وأنك قسمت الفؤاد فنصفه ... رهين ونصف في الحبال وثيق(21/101)
وأكتم أسرار الهوى وأميتها ... إذا باح مزاح بهن بروق
صبوحي إذا ما ذرت الشمس ذكركم ... ولي ذكركم عند المساء غبوق
أطعت وشاة لم يكن لي فيهم ... خليل ولا حان علي شفيق
فإن تسألاني عن لبينى فإنني ... بها مغرم صب الفؤاد مشوق
سعى الدهر والواشون بيني وبينها ... فقطع حبل الوصل وهو وثيق
وله: " من الطويل "
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... ومن بعد ما كنا نطافاً وفي المهد
فزاد كما زدنا فأصبح نامياً ... فليس وإن متنا بمنفصم العهد
ولكنه باق على كل حادث ... وزائرنا في ظلمة القبر واللحد
قيس بن سعد بن عبادة
ابن دليم بن حارثة بن أبي حزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج أبو عبد الله - ويقال: أبو عبد الملك - الخزرجي الساعدي له صحبة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان صاحب لواء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض غزواته، وخدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان منه بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير. وقدم على معاوية دمشق.(21/102)
عن ابن أبي ليلى قال: كان سهل بن حنيف، وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية، فمرت بهما جنازة، فقاما، فقيل: إنما هو من أهل الأرض، فقالا: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرت به جنازة فقام، فقيل إنما هي جنازة يهودي، فقال: " أليست نفساً؟ ".
عن قيس بن سعد قال: أمرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن نصوم عاشوراء قيل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان لم يأمرنا، ولم ينهنا، ونحن نفعله.
وقال: أتانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوضعنا له ماء، فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة ورسية، فالتحف بها، فكأني أنظر إلى أثر الورس على عكنه.
قال ابن عيينة: قدم قيس بن سعد على معاوية ليبايعه كما بايع أصحابه، فقال معاوية: وأنت يا قيس تلجم عني مع من ألجم!؟ أما والله لقد كنت أحب ألا يأتي هذا اليوم إلا وقد أصابك ظفر من أظفاري موجع! فقال له قيس: وأنا والله قد كنت كارهاً أن أقوم في هذا المقام، فأحيك بهذه التحية! قال: فقال له معاوية: ولم، وهل أنت إلا حبر من أحبار يهود؟ فقال له قيس: وأنت يا معاوية كنت صنماً من أصنام الجاهلية، دخلت في الإسلام كارهاً، وخرجت منه طائعاً. قال: فقال معاوية: اللهم غفراً مد يدك. قال: فقال له قيس: إن شئت زدت وزدت.
أم قيس بن سعد بن عبادة فكيهة بنت عبيد بن دليم بن الحارثة. ولم يزل قيس مع علي حتى قتل علي، فرجع قيس إلى المدينة، فلم يزل بها حتى توفي في آخر خلافة(21/103)
معاوية بن أبي سفيان. وكان قد أتى الشام والكوفة، وولي مصر لعلي بن أبي طالب، وكان قد شهد فتح مصر واختط بها.
وكان من دهاة أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكرامهم، وأسخيائهم، وله أخ يسمى سعيد بن سعد.
حضر مع علي بن أبي طالب حرب الخوارج والنهروان، ووقعة صفين، وكان مع الحسن بن علي على مقدمته في المدائن، ثم لما صلح الحسن معاوية وبايعه دخل قيس في الصلح، وتابع الجماعة، ورجع إلى المدينة فتوفي بها.
قال الخطيب: قيس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي حزيمة - بالحاء المهملة المفتوحة - وقيل: دليم بن حارثة بن خزيم بن أبي خزيمة - بالخاء المعجمة المرفوعة -.
كان قيس بن يعد رجل ضخماً جسيماً صغير الرأس، له لحية.
قال: وكان إذا ركب الحمار خطت رجلاه في الأرض - وفي رواية إلى الأرض.
عن يريم بن أسعد الخارفي قال: رأيت قيس بن سعد - وكان خدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر سنين - مسح على خفيه.
عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي
أن قيس بن سعد الأنصاري، وكان صاحب لواء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أراد الحج، فرجل أحد شقي رأسه، فقام غلام، فقلد هديه، فنظر قيس، وقد رجل أحد شقي رأسه، فإذا هديه قد قلد، فأهل بالحج ولم يرجل شقه الآخر.
عن عاصم بن عمر بت قتادة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعمل قيس بن سعد بن عبادة على الصدقة.(21/104)
قالوا: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا عبيدة بن الجراح في سرية فيها المهاجرون والأنصار، وهم ثلاثمائة رجل إلى ساحل البحر، إلى حي من جهينة، فأصابهم جوع شديد، فأمر أبو عبيدة بالزاد فجمع حتى إن كانوا ليقتسموه التمرة، فقيل لجابر: فما يغني ثلث تمرة؟ قال: لقد وجدوا فقدها. قال: ولم يك حمولة، إنما كانوا على أقداهم، وأباعر يحملون عليها زادهم. فأكلوا الخبط، وهو يومئذ ذو مشرة - يعني أنه رخص لين الأطراف قبل أن يغلظ - حتى إن شدق أحدهم بمنزلة مشفر البعير العضه. فمكثنا على ذلك حتى قال قائلهم: لو لقينا عدواً ما كان بنا حركة إليه، لما بالناس من الجهد، فقال قيس بن سعد: من يشتري مني تمراً بجزر، يوفيني الجزر هاهنا، وأوفيه التمر بالمدينة؟ فجعل عمر يقول واعجباه لهذا الغلام لا مال له، يدان في مال غيره! فوجد رجلاً من جهينة، فقال قيس بن سعد: بعني جزراً وأوفيك سقة من تمر بالمدينة. قال الجهني: والله ما أعرفك، ومن أنت؟ قال قيس " أنا يس بن سعد بن عبادة بن دليم، قال الجهنب: ما أعرفني بنسبك! أما إن بيني وبين سعد خلة، سيد أهل يثرب. فابتاع منه خمس جزائر، كل جزور بوسقن من تمر، يشترط عليه البدوي تمر ذخيرة مصلبة من تمر آل دليم، قال: يقول قيس: نعم، فقال الجهني: فأشهد لي، فأشهد له نفراً من الأنصار، معهم نفراً من المهاجرين، قال قيس: أشهد من تحب. فكان فيمن استشهد عمر بن الخطاب، فقال عمر: لا أشهد أبداً! هذا يدان ولا مال له؛ إنما المال لأبيه. قال الجهني: والله ما كان سعد ليخني بابنه في سقة من تمر، وأرى وجهاً حسناً، وفعالاً شريفاً. فكان بين عمر وقيس كلام حتى أغلظ له قيس الكلام، وأخذ قيس الجزر فنحرها لهم في(21/105)
مواطن ثلاثة، كل يوم جزوراً؛ فلما كان اليوم الرابع نهاه أميره، وقال: تريد أن تخرب ذمتك ولا مال لك؟! عن رافع بن خديج قال: أقبل عبيدة بن الجراح ومعه عمر بن الخطاب، فقال: عزمت عليك ألا تنحر، أتريد أن تخرب ذمتك ولا مال لك؟! فقال قيس: أبا عبيدة، أترى أبا ثابت وهو يقضي دين الناس، ويحمل الكل، ويطعم في المجاعة ولا يقضي عنه سقة من تمر لقوم مجاهدين في سبيل الله! فكاد أبو عبيدة أن يلين له، ويتركه حتى جعل عمر يقول: اعزم عليه، فعزم عليه، فأبى عليه أن ينحر، فبقيت جزوران معه - حتى وجد القوم الحوت، ورمى به البحر إليهم - فقدم بهما قيس المدينة ظهراً، يتعاقبون عليها. وبلغ سعد ما كان أصاب القوم من المجاعة، فقال: إن يك قيس كما أعرف فيوف ينحر للقوم. فلما قدم قيس لقيه سعد، فقال: ما صنعت في مجاعة القوم حيث أصابتهم؟ قال: نحرت، قال: أصبت، انحر، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم نحرت، قال: أصبت، انحر، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم نحرت، قال: أصبت، انحر، قال: ثم ماذا؟ قال: نهيت، قال: ومن نهاك؟ قال: أبو عبيدة بن الجراح أميري، قال: ولم؟ قال: زعم أنه لا مال لي وإنما المال لأبيك، فقلت: أبي يقضي عن الأباعد، ويحمل الكل، ويطعم في المجاعة ولا يصنع هذا بي. قال: فلك أربعة حوائط. قال: وكتب له بذلك كتاباً. قال: وأتى بالكتاب إلى أبا عبيدة فشهد فيه، وإلى عمر فأبى أن يشهد، وأدنى حائط منها يجد خمسين وسقاً. وقدم البدوي مع قيس، فأوفاه سقته، وحماه وكساه. فبلغ النبي فعل قيس، فقال: " أنه في بيت جود ".(21/106)
عن جويرية بن أسماء قال: كان قيس بن سعد يستدين ويطعمهم، فقال أبو بكر وعمر: إن تركنا هذا الفتى أحلك مال أبيه، فمشيا في الناس، فصلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً بأصحابه، فقام سعد بن عبادة خلفه، فقال: من يعذرني من أبي قحافة، وابن الخطاب يبخلان علي ابني! عن جابر بن عبد الله
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثهم في بعث غليه قيس بن سعد بن عبادة، فجهدوا، فنحر لهم تسع ركائب. ومروا بالبحر فوجدوه قد ألقى دابة حوتاً عظيماً. فمكثوا عليه ثلاثة أيام يأكلون منه، ويغترفون شحمه في قربهم، فلما قدموا ذكروا الحوت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو نعلم أنا ندركه لم يروح لأحببنا لو كان عندنا منه ".
عن موسى بن عقبة قال: وقفت على قيس بن سعد عجوز، فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان، فقال قيس: ما أحسن هذه الكناية! املؤوا بيتها خبزاً، ولحماً، وسمناً، وتمراً.
عن يحيى بن سعيد قال: كان قيس بن سعد بن عبادة يطعم الناس في أسفاره مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت لقيس بن سعد صحفة يدار بها حيث دار. قال: وكان إذا نفذ ما معه تدين، وكان ينادي في كل يوم: هلموا إلى اللحم والثريد.
عن محمد بن سلام قال: كان قيس بن سعد بن عبادة يقول: اللهم هب لي حمداً ومجداً، فإنه لا مجد إلا بفعال، ةلا فعال إلا بمال، اللهم لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه.
عن عروة قال: باع قيس بن سعد مالاً من معاوية بتسعين ألفاً، فأمر منادياً نادى في المدينة: من(21/107)
أراد القرض فليأت منزل سعد؛ فأقرض أربعين أو خمسين، وأجاز بالباقي، وكتب على من أقرضه صكاً. فمرض مرضاً قل عواده، فقال لزوجته: قريبة بنت أبي قحافة - أخت أبي بكر -: يا قريبة، لم ترين قل عوادي؟ قالت: للذي لك عليهم من الدين. فأرسل إلى كل رجل بصكه.
قال سفيان: أقرض قيس بن سعد رجلاً ثلاثين ألفاً، فجاء يقضيه، فقال له قيس: إنا قوم إذا أعطينا شيئاً لم نرجع فيه.
قال قيس بن سعد: تمنيت أن أكون في حال رجل رأيته؛ أقبلنا من الشام، فإذا نحن بخباء، فقلنا: لو نزلنا هاهنا، فإذا امرأة في الخباء، فلم نلبث أن جاء رجل بذود له، فقال لامرأته: من هؤلاء؟ قالت: قوم نزلوا بك، فجاء بناقة، فضرب عرقوبيها، ثم قال: دونكم، وقال: يا هؤلاء، انحروها. قال: فنحرناها، فأصبنا من أطايبها. فلما كان من الغد جاءنا بأخرى، فضرب عرقوبيها، وقال: يا هؤلاء، انحروها. قال: فنحرناها، فقلنا اللحم عندنا كما هو! قال: إنا لا نطعم أضيافنا الغاب. قال: فقلت لأصحابي: إن هذا الرجل إن أقمنا عنده لم يبق عنده بعير، فارتحلوا بنا. وقلت لقيمي: اجمع ما عندك، قال: ليس إلا أربعمائة درهم، قلت: هاتها، وهات كسوتي. فجمعناه، فقلت: بادروه، فدفعنا إلى امرأته، ثم سرنا، فلم نلبث أن رأينا شخصاً، فقلت: ما هذا؟ قالوا: لا ندري! فدنا، فإذا رجل على فرس يجر رمحه، فإذا صاحبنا، فقلت: واسوأتاه! استقل والله ما أعطيناه. قال: فدنا، فقال: دونكم متاعكم، فخذوه، فقلت: والله ما كان إلا ما رأيت، ولقد جمعنا ما كان عندنا، قال: إني والله لم أذهب حيث تذهبون، فخذوه، قلنا: فلا نأخذه، قال: والله لأميلن عليكم برمحي ما بقي منكم رجل أو تأخذونه، قال: فأخذناه، فولى وقال: إنا لا نبيع القرى.(21/108)
امترى ثلاثة في الأجواد، فقال رجل: أسخى الناس عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وقال آخر: أسخى الناس في عصرنا هذا قيس بن سعد بن عبادة، وقال الثالث: أسخى الناس عرابة الأوسي. فتلاحوا، وأفرطوا، وكثر ضجيجهم في ذلك بفناء الكعبة، فقال لهم رجل: قد أكثرتم فلا عليكم يمضي كل واحد إلى صاحبه يسأله حتى ننظر ما يعطيه، ونحكم على العيان. فقام صاحب عبد الله بن جعفر، فصادفه وقد وضع رجله في غرز راحلته يريد ضيعة له، فقال له: يا ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: قل ما تشاء، قال: ابن سبيل، ومنقطع به. قال: فأخرج رجله من الغرز وقال: ضع رجلك واستو على الناقة، وخذ ما في الحقيبة، ولا تحد عن السف فأنه من سيوف علي بن أبي طالب، وامض لشأنك. قال: فجاء بالناقة والحقيبة فيها مطارف خز، وفيها أربعة آلاف دينار، وأعظمها وأجلها خطراً السيف.
ومضى صاحب قيس بن سعد بن عبادة، فلم يصادفه، وعاد، فقالت له الجارية: هو نائم، فما حاجتك إليه، قال: ابن سبيل، ومنقطع به، قالت: فحاجتك أيسر من إيقاظه، هذا كيس فيه سبعمائة دينار، ما في دار قيس مال في هذا اليوم غيره، وصر إلى معاطن الإبل، إلى مولانا بغلامينا، فخذ راحلة مرحلة، وما يصلحها، وعبداً، وامض لشأنك. فقيل: إن قيساً انتبه من رقدته، فخبرته المولاة بما صنعت، فأعتقها، وقال لها: ألا أنبهتني فكنت أزيده من عروض ما في منزلنا، فلعل ما أعطيته لم يقع بحيث أراد.
ومضى صاحب عرابة الأوسي إليه، فألفاه وقد خرج من منزله يريد الصلاة، وهو متوكئ على عبدين، وقد كف بصره، فقال: يا عرابة، قال: قل ما تشاء؟ قال: ابن سبيل، ومنقطع به، قال: فخلى على العبدين، ثم صفق بيده اليمنى على اليسرى، ثم قال: أوه أوه، والله ما أصبحت، ولا ما أمسي، وقد تركت الحقوق لعرابة من مال، ولكن خذهما - يعني العبدين - قال: ما كنت بالذي أفعل، أقص جناحيك! قال: إن لم(21/109)
تأخذهما فهما حران، فإن شئت فأعتق، وإن شئت فخذ. وأقبل يلتمس الحائط بيده. قال: فأخذهما وجاء بهما.
قال: فحكم الناس على ابن جعفر: قد جاد بمال عظيم، وأن ذلك ليس بمستنكر له إلا أن السيف أجلها، وأن قيساً أحد الأجواد؛ حكم مملوكه في ماله بغير علمه، واستحسانه ما فعله، وعتقه لها، وما تكلم به. وأجمعوا على أن أسخى الثلاثة عرابة الأوسي؛ لأنه جهد من مقل.
عن معبد بن خالد قال: كان قيس بن سعد لا يزال هكذا رافعاً إصبعه للسبحة - يعني يدعو.
عن قيس بن سعد قال: لولا أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " المكر والخديعة في النار "، لكنت من أمكر هذه الأمة.
عن ابن شهاب قال: وكان يعدون دهاة العرب حين ثارت الفتنة خمسة رهط، يقال لهم: ذوو رأي العرب في مكيدتهم: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وقيس بن سعد، والمغيرة بن شعبة. ومن المهاجرين عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي. وكان قيس، وابن بديل مع علي - عليه السلام - وكان المغيرة معتزلاً بالطائف حتى حكم الحكمان واجتمعوا بأذرح.
عن يزيد بن أبي حبيب أن عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان كان قد شق عليهما وعلى أهل الشام ما يصنع قيس بن سعد من مناصحة علي، وما ضيق على أهل الشام، فلا يحمل إليهم(21/110)
طعام. فكان عمرو بن العاص ومعاوية جاهدين أن يخرجا قيساً من مصر، ويغلبا عليها، وكان قيس قد امتنع منهما بالمكيدة والدهاء، فمكرا بعلي في أمره، فكتب معاوية كتاباً في قيس إليه يذكر فيه ما أتى إلى عثمان من الأمر العظيم، وأنه على السمع والطاعة. ثم نادى معاوية: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس في السلاح، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا أهل الشام إن الله ينصر خليفته المظلوم، ويخذل عدوه. أبشروا، هذا قيس بن سعد، ناب العرب قد أبصر الأمر، وعرفه على نفسه، ورجع إلى ما عليه من السمع والطاعة، والطلب بدم خليفتكم. وكتب إلي بذلك كتاباً - وأمر بالكتاب فقرى - وقد أمر بحمل الطعام إليكم، فادعوا الله لقيس بن سعد، وارفعوا أيديكم، وابتهلوا له في الدعاء بالبقاء والصلاح. فعجوا، وعج معاوية وعمرو، ورفعوا أيديهم ساعة، ثم افترقوا، فأخذ معاوية بيد عمرو بن العاص، فقال: تحين خروج العيون اليوم إلى علي؛ يسير الخبر إليه سبعاً، أو ثمانياً، يكون أول من يعزل قيس بن سعد، فكل من ولي يكون أهون علينا من قيس، فتحينوا خبر علي؛ فلما ورد عليه الخبر كان أول من حمله إليه محمد بن أبي بكر، فأخبره بما صنع، ورفده الأشتر، ونالا من قيس، وقال: ألا استعملت رجلاً له حق، فجعل علي لا يقبل هذا القول على قيس بن سعد، ويقول: إن قيساً فيسر وشرف في جاهلية وإسلام، وقيس رجل العرب. فيأبى محمد بن أبي بكر أن يقصر عنه، فعزله علي.
عن يحيى بن عبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة قال: قدم قيس بن سعد المدينة، فأرسلت إليه أم سلمى تلومه وتقول: فارقت صاحبك، قال: أنا لم أفارقه طائعاً هو عزلني. فأرست إليه: إني سأكتب إلى علي في أمرك. وراح قيس إليها، فأخبرها الخبر، فكتبت إلى علي تخبره بنصيحة قيس وأبيه في القديم والحديث، وتلومه على ما صنع، فكتب علي إلى قيس يعزم عليه إلا لحق به، قال: والله ما أخرج إليه إلا استحياء، وإني لأعلم أنه مقتول؛ معه جند سوء لا نية لهم. فقدم على علي فأكرمه وحباه.(21/111)
وأخبره قيس بخبره، وما كان يعمل بمصر، فعرف علي أن قيساً كان يداري أمراً عظيماً من المكيدة التي قصر عنها رأي غيره، وأطاع علي قيساً في الأمر كله، وجعله على شرطة الخميس الذين كانوا يبايعون للموت. فكتب معاوية بن أبي سفيان إلى مروان بن الحكم، والأسود بن أبي البختري يتغيظ عليهما، وأنبهما أشد التأنيب وقال: أمددتما علياً بقيس بن سعد، برأيه ومكيدته؟ والله لو أمددتماه بمائة ألف مقاتل ما كان أغيظ لي بإخراج قيس بن سعد إليه! وكان قيس بن سعد لما قدم المدينة تآمر فيه الأسود بن أبي البختري، ومروان بن الحكم أن يبيتاه فيمن معهما، وبلغ ذلك قيساً، فقال: والله إن هذا لقبيح؛ أن أفارق علياً وإن عزلني، والله لألحقن به.
وكان قيس بن سعد بن عبادة مع علي بن أبي طالب في مقدمته، ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رؤوسهم بعدما مات علي. فلما دخل الحسن في بيعة معاوية أبى قيس بن سعد أن يدخل، وقال لأصحابه: ما شئتم؟ إن شئتم جالدت بكم أبداً حتى يموت الأعجل، وإن شئتم أخذت لكم أماناً. فقالوا: خذ لنا. فأخذ لهم: أن لهم كذا وكذا، ولا يعاقبون بشيء، وأنا رجل منهم، وأبى أن يأخذ لنفسه خاصة شيئاً. فلما ارتحل نحو المدينة ومعه أصحابه جعل ينحر كل يوم جزوراً حتى بلغ صراراً.
عن سعيد بن عبد الرحمن بن حسان قال: دخل قيس بن سعد بن عبادة مع رهط من الأنصار على معاوية، فقال لهم معاوية: يا مشر الأنصار، بم تطلبون ما قبلي؟ فوالله لقد كنتم قليلاً معي كثيراً علي، ولفللتم حدي يوم صفين حتى رأيت المنايا تلظى في أسنتكم، ولهجوتموني بأشد من وخز الأشافي، حتى إذا أقام الله ما حاولتم ميله قلتم: ارع فينا وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هيهات، يأبى الحقين العذرة!(21/112)
فقال قيس بن يعد: نطلب ما قبلك بالإسلام الكافي به، لا بما يمت به إليك الأحزاب. وأما عداوتنا لك فلو شئت كففتها عنك، وأما هجاؤنا إياك فقول يزول باطله، ويثبت حقه، وأما استقامة الأمر عليك فعلى كره كان منا، وأما فلنا حدك يوم صفين فإنا كنا مع رجل نرى طاعته لله طاعة، وأما وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنا فمن آمن به رعاها بعده، وأما قولك: " يأبى الحقين العذرة " فليس دون الله يد تحجرك، فشأنك يا معاوية! فقال معاوية: سوءة ارفعوا حوائجكم.
عن رجل من ولد الحارث بن الصمة يكنى أبا عثمان أن ملك الروم أرسل إلى معاوية أن ابعث إلي بسراويل أطول رجل من العرب، فقال لقيس بن سعد: ما نظننا إلا قد احتجنا إلى سراويلك. قال: فقام، فتنحى، فجاء بها، فألقاها إلى معاوية، فقال: يرحمك الله، وما أردت إلى هذا؟ ألا ذهبت إلى بيتك فبعثت بها؟! فقال قيس: " من الطويل "
أردت بها أن يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود
وألا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عادي نمته ثمود
وإني من الحي اليماني لسيد ... وما الناس إلا سيد ومسود
فكدهم بمثلي إن مثلي عليهم ... شديد وخلقي في الرجال شديد
قال: فأمر معاوية بأطول رجل في الجيش، فوضعها على أنفه، قال: فوقعت في الأرض، قال: فدعا له بسراويل، فلما جاء بها قال له قيس: نح عنك ثيابك هذه، فقال معاوية: " من البسيط "
أما قريش فأقوام مسرولة ... واليثربيون أصحاب التبابين
فقال قيس: " من البسيط "
تلك اليهود التي يعني ببلدتنا ... كما قريش هم أقل السياخين(21/113)
وجاء من طريق آخر أن قيصر كتب إلى معاوية إني قد وجهت إليك رجلين: أحدهما أقوى رجل ببلادي، والآخر أطول رجل في أرضي، فأخرج إليهما ممن في سلطانك من يقاوم كل واحد منهما، فإن غلب صاحباك حملت إليك من المال وأسارى المسلمين كذا وكذا، وإن غلب صاحباي هادنتني ثلاث سنين.
قيس بن عباد
أبو عبد الله الضبعي القيسي البصري عن قيس بن عباد قال:
بينما أنا بالمدينة في المسجد في الصف المقدم قائم أصلي، فجبذني رجل من خلفي، فنحاني، وقام مقامي. فوالله ما عقلت صلاتي. فلما انصرف فإذا هو أبي بن كعب، فقال: يا فتى لا يسوءك الله، إن هذا عهد من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلينا أن نليه. ثم استقبل القبلة فقال: هلك أهل العقدة ورب الكعبة، ورب الكعبة ثلاثاً. ثم قال: والله ما عليهم آسى، ولكن آسى على من أضلوا. قلت: من تعني بهذا؟ قال: الأمراء.
عن قيس بن عباد قال: سمعت عمر يقول: من سمع حديثاً فأداه كما سمع فقد سلم.
وقال: قدمت المدينة ألتمس العلم والشرف فرأيت رجلاً عليه ثوبان أخضران، وهو واضع يده على منكب رجل، وله غدائر، قال: قلت: من هذا؟ قالوا علي، وعمر واضع يده على منكب علي.
عن النضر بن عبد الله أن قيس بن عباد وفد إلى معاوية، فكساه ريطة من رياط مصر، فرأيتها عليه قد شق علمها.(21/114)
قال خليفة بن خياط في الطبقة الأولى من طبقات أهل البصرة: ومن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة، ثم من بني ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل: قيس بن عباد.
عن النضر بن عبد الله أن قيس بن عباد كان يركب الخيل، ويرتبطها. وكانت له فرس عربية، فكلما نتجت مهراً، فأدرك حمل عليه في سبيل الله.
وكان إمامهم، فإذا صلى الغداة لم يزل يذكر الله حتى يرى السقائين قد مروا بالماء مخافة أن يصير أجاجاً، أو يصير غوراً، وحتى يرى الشمس قد طلعت من مطلعها مخافة أن تطلع من مغربها. وإذا كان بين الرجلين من الحي كلام فرأى أن أحدهما ظالم لم يمنعه شرفه ولا نسبه أن يأتيه، فيكلمه، ويوبخه، ويأمره أن يرجع إلى الحق، ويقلع عن الظلم.
قدم قيس بن عباد المدينة في خلافة عمر، وكان ثقة قليل الحديث.
وروي أن رجلاً أخذ بلجام فرسه، فجعل يذكره، ويسبه. فلما بلغ إلى منزله قال: خل عن لجام الدابة، يغفر الله لي ولك.
عن عبد الله بن قيس بن عباد، عن أبيه أنه أوصى قال: كفنوني في بردتي عصب، وجللوا سريري بكسائي الأبيض الذي كنت أصلي فيه، فإذا أضعجتموني في حفرتي فجوبوا ما يلي جسدي من الكفن حتى تفضوا بي إلى الأرض - يعني يشق عنه من الكفن ما يلي الأرض.
عباد: بضم العين وتخفيف الباء.(21/115)
قيس بن عباية بن عبيد
ابن الحارث بن عبيد الخولاني من خولان قضاعة. سكن الشام بداريا.
قال عبد الجبار بن محمد: قيس بن عباية بن عبيد بن الحارث بن عبيد. من خولان قضاعة، حليف بني حارثة بن الحارث. من الأوس. شهد بدراً وهو حدث السن، وشهد فتوج الشام مع أبي عبيدة بن الجراح وهو كهل يستشيره أبو عبيدة في أموره.
قال عبد الرحمن بن إبراهيم: هو قيس بن عباية، أبو محمد البدري. توفي في إمارة معاوية بن أبي سفيان.
ومن ولد قيس بن عباية، جماعة بداريا إلى يومنا هذا.
قيس بن أبي حازم عبد عوف
ابن الحارث ويقال: عوف بن عبد الحارث أبو عبد الله البجلي الأحمسي من أهل الكوفة. أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يره - وقيل: إنه رآه - ولأبيه صحبة. وكان مع خالد بن الوليد حين توجه إلى العراق، وشهد فتح بصرى واليرموك. وقدم دمشق، وشهد وفاة معاوية.
عن قيس أبي حازم، عن جرير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يرحم الله من لا يرحم الناس ".
قال قيس بن أبي حازم: كنت صبياً فأخذ أبي بيدي، فذهب إلى المسجد، فخرج رجل، فصعد المنبر،(21/116)
فحمد الله وأثنى عليه، ونزل. فقلت لوالدي: من هذا؟ قال: هذا نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأنا إذ ذاك ابن سبع سنين، أو تسع.
قال الخطيب: لا تثبت رؤية قيس للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن قيس بن أبي حازم قال: وقال: أمنا خالد بن الوليد باليرموك في ثوب واحد، قد خالف بين طرفيه، وخلفه أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال: دخلنا على معاوية في مرضه الذي مات فيه، وكأن ذراعيه سعفتان محترقتان، فقال: إنكم تقلبون: فتى حولاً قلباً، وأي فتى أهل البيت إن نجا غداً من النار! قال: وأخرج معاوية ذراعيه كأنهما عسيبا نخل، ثم قال: ما الدنيا إلا ما ذقنا وجربنا، والله لوددت أني لا أعيش فيكم ثلاثاً حتى ألحق بالله. قالوا: يا أمير المؤمنين، إلى رحمة الله، وإلى رضوانه، قال: إلى ما شاء الله، فقد علم الله أني لم آل، وما أراد الله أن يغير غير.
عن أبي نصر بن ماكولا قال: وفي اليمن: أحمس بن الغوث بن أنمار بن عمرو بن الغوث بن زيد بن كهلان. منهم: أبو حازم، وهو: عوف بن عبد الحارثبن عوف بن حشيش بن هلال بن الحارث بن رزاح. كان شريفاً. وابنه: قيس بن أبي حازم.
وقال: وأما حشيش - بحاء مهملة - في بجيلة حشيش بن هلال بن الحارث بن(21/117)
رزاح. ومن ولده: أبو حازم البجلي، واسمه: عبد عوف - ويقال: عوف - بن الحارث بن عوف بن حشيش. له صحبة. وابنه قيس بن أبي حازم.
قال الخطيب: وكان قد نزل الكوفة، وحضر حرب الخوارج بالنهروان مع علي بن أبي طالب، وكان عثمانياً.
عن قيس بن أبي حازم قال: دخلت مع أبي على أبي بكر في مرضه، وأسماء بنت عميس تروحه، فكأني أنظر إلى وشم في ذراعها، قال: يا أبا حازم، قد أخرت لك فرسيك. قال: وكان وعدني ووعد أبي فرساً.
وقال: دخلت على أبي بكر الصديق مع أبي، فقال: من هذا؟ فقال: ابني، فقال: أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه.
عن عبد الرحمن بن يوسف بن خراش قال: قيس بن أبي حازم كوفي جليل، وليس في التابعين أحد روى عن العشرة إلا قيس بن أبي حازم.
مات قيس بن أبي حازم البجلي في آخر ولاية سليمان بن عبد الملك، وذكروا أن وفاته كانت سنة ثمان وتسعين.
قيس بن عمرو
أبي صعصعة بن زيد بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن ابن النجار تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج ويقال: ابن مبذول بن مازن بن صعصعة بن هوازن حليف بني النجار. له صحبة. شهد بدراً والعقبة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم شهد اليرموك أميراً على كردوس.(21/118)
عن قيس ابن أبي صعصعة أنه قال: يا رسول الله، في كم أقرأ القرآن؟ قال: " في خمسة عشر "، قال: فإني أجدني أقوى من ذلك، قال: " ففي كل جمعة "، قال: فإني أجدني أقوى من ذلك، قال: فسكت لذلك وهو مغضب عليه، ثم رجع، تقرأفي خمس عشرة ليلة. ثم قال: يا ليتني قيلت فريضة رسول اللهصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابن سعد: أمه ثبيتة بنت عاصم بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار. وكان لقيس من الولد: الفاكه، وأم الحارث؛ وأمهما: أمامة بنت معاذ بن عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن غنم بن كعب بن سلمة بن الخزرج. وليس لقيس اليوم عقب. وشهد قيس بن أبي صعصعة العقبة مع السبعين من الأنصار - في رواية موسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، وأبي معشر، ومحمد بن عمر - وشهد قيس أيضاً بدراً واحداً.
عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعمل قيس بن أبي صعصعة يوم بدر على المشاة - يعني الساقة.
عن عقبة بن حميري قال: أشهد أني سمعت أبا بكر الصديق يقول: أشهد أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " بشر من شهد بدراً بالجنة ".(21/119)
قيس بن عمرو بن مالك
ابن حزن بن الحارث بن خديج بن معاوية ابن خديج بن الحماس بن ربيعة بن كعب بن الحارث ابن كعب بن عمرو بن علة بن جلد ابن مالك بن أدد الحارثي، المعروف بالنجاشي شاعر مشهور وفد على معاوية.
قال أبو الحسن المدائني: ضرب علي بن أبي طالب النجاشي في شرب الخمر، فأتى معاوية يستأمنه، فشاور معاوية مروان، فقال: لا تفعل، قال: إذاً يقول في شعراً فتكون أنت أول من ترويه! يا غلام، نادى بأمانه. قال: فأذن له، وكان أعوراً قصيراً، فلما رآه معاوية استصغره، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الرجال ليست بجزر فتستسمن، وإنما المرء بأصغريه، قلبه ولسانه، ثم خرج يقول: " من الطويل "
ألم يأتي أهل المشرقين نصيحتي ... وأني نصيح لا يبيت على عتب
هلكتم وكان الشر آخر عهدكم ... لئن لم تدارككم حلوم بني حرب
قال أحمد بن يحيى ثعلب: وقال بعض أصحابنا:
استعدى تميم بن مقبل عمر بن الخطاب على النجاشي، فقال: يا أمير المؤمنين، هجاني، فأعدني عليه. قال: يا نجاشي، ما قلت؟ قال: يا أمير المؤمنين، قلت ما لا أرى أن علي فيه إثماً؛ قلت: " من الطويل "
قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
فقال عمر: ليتني من هؤلاء! قال:
ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا صدر الوراد عن كل منهل(21/120)
قال عمر: وما على هؤلاء متى وردوا؟ قال: هل غبر هذا؟ قال:
وما سمي العجلان إلا لقوله خذ ... القعب فاحلب أيها العبد فاعجل
قال عمر: خير القوم أنفعهم لأهله. قال تميم: سله عن قوله:
إذا الله عادى أهل لؤم وذلة ... فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
أولئك أولاد الهجين وأسرة ال ... لئيم ورهط العاجز المتذلل
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم ... وتأكل من كعب عوف ونهشل
فقال عمر: أما هذا فلا أعذرك عليه فحبسه وضربه قال الحسن بن بشر الآدمي: خديج بن عمرو بن مالك بن حزن بن الحارث بن خديج بن معاوية بن خديج بن الحماس بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد. شاعر. وهو أخو النجاشي - وهو قيس بن عمرو - وكان محسناً، وهو القائل يرثي أخاه النجاشي: " من الطويل "
من كان يبكي هالكاً فعلى فتى ... ثوى بلوى لحج وآبت رواحله
فتى لا يطيع الزاجرين عن الندى ... وترجع بالعصيان عنه رواحله
قيس بن مشجر
ويقال: ابن المشجر اليعمري أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد غزوة مؤتة، وقال في ذلك شعراً منه: " من الطويل "(21/121)
وجاشت إلي النفس من نحو جعفر ... بمؤته إذ لا ينفع النابل النبل
وما صعهم قوم كرام أعزة ... مهاجرة لا مشركون ولا عزل
قيس بن موسى
أبو عبد الرحمن الأعمى من فقهاء أهل دمشق، وأهل الفتوى بها.
قال أبو عبد الرحمن قيس الأعمى: دعاني الوليد بن مروان - وهو أمير على دمشق - فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما يفرق - أو قال: ما الفرق - بين: " اختاري "، و" أمرك بيدك "؟ فقلت: إن الرجل إذا قال: أمرك بيدك فقد ملكها الأمر، وإذا قال: اختاري فهي في ملكه بعد. قال: لقد قلت قولاً!
قيس بن هانئ العبسي
ويقال: العنسي قال علي بن محمد: ثم دعا - يعني يزيد بن الوليد، بعد قتل الوليد - الناي إلى تجديد البيعة له، فكان أول من بايعه: الأفقم بن يزيد بن هشام، وبايعه قيس بن هانئ العبسي، وقال: يا أمير المؤمنين، اتق الله، ودم على ما أنت عليه، فما قام مقامك أحد من أهل بيتك. وإن قالوا: عمر بن عبد العزيز، فأنت أخذتها بحبل صالح، وإن عمر أخذها بحبل سوء.(21/122)
فبلغ مروان بن محمد قوله، فقال: ماله، قاتله الله! ذمنا جميعاً، وذم عمر! فلما ولي مروان بعث رجلاً، وقال: إذا دخلت مسجد دمشق فانظر قيس بن هانئ، فإنه طالما صلى فيه، فاقتله. فانطلق الرجل، فدخل مسجد دمشق، فرأى قيساً يصلي، فقتله.
قيس بن هبيرة المكشوح
ابن عبد يغوث بن الغزيل بن سلمة بن بدا ابن عامر بن عوثبان بن زاهر بن مراد، أبو حسان المرادي أحد شجعان العرب. أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يره. وهو ممن أعان على قتل الأسود الكذاب. وشهد اليرموك، وأصيبت عينه به.
عن محمد بن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: كان عمرو بن معدي كرب قال لقيس بن مكشوح المرادي حين انتهى إليهم أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا قيس، أنت سيد قومك اليوم. وقد ذكر لنا أن رجلاً من قريش يقال له محمد، قد خرج بالحجاز يقول: إنه نبي، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه، فإن كان نبياً كما يقول فإنه لن يخفى علينا إذا لقيناه، اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فإنه إن يسبق إليه رجل من قومك سادنا، وترأس علينا، وكنا له أذناباً. فأبى عليه قيس، وسفه رأيه؛ فركب عمرو بن معدي كرب في عشرة من قومه حتى قدم المدينة، فأسلم، ثم انصرف إلى بلاده. فلما بلغ قيس بن مكشوح خروج عمر أوعد عمراً، وتحطم عليه، وقال: خالفتني، وتركت رأيي، فقال عمرو في ذلك شعراً: " من الوافر "
أمرتك يوم ذي صنعا ... ء أمراً بادياً رشده
أمرتك باتقاء الل ... هـ والمعروف تأتفده(21/123)
خرجت من المنى مثل ال ... حمير عاره وتده
وجعل عمرو يقول: لقد خبرتك يا قيس أنك تكون ذنابى تابعاً لفروة بن مسيك، وجعل فروة يطلب قيس بن مكشوح كل الطلب، حتى هرب من بلاده، وأسلم بعد ذلك.
قال الدارقطني: الغزيل بتشديد الياء، وخففها ابن ماكولا.
قال أبو عبيدة الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني: كان قيس بن المكشوح سيد قومه، وهو ابن أخت عمرو بن معدي كرب. وهو القائل لعمر بن معدي كرب - وكانا متباغضين: " من الوافر "
كلا أبوي من عم وخال ... كما ابنئته للمجد نام
ولو لاقيتني لاقيت قرناً ... وودعت الحبائب بالسلام
لعلك مودعي ببني زبيد ... وما جمعت من نوكى لئام
عن ابن إسحاق قال: وكان الأسود بن كعب العنسي قد ظهر باليمن، وتنبأ بصنعاء، وتكلم الكذب. فكان سبب قتل الأسود بن كعب أنه كانت عنده امرأة من بني غطيف سباها، وهي عمرة بنت عبد يغوث بن المكشوح، وامرأة من الأبناء ممن استبى، ويقال لها: بهرانة ابنة الديلم أخت فيروز بن الديلم، وكان فيروز يخل عليه إذا شاء لمكان أخته، وكان قيس يدخل عليه إذا شاء لمكان أخته، وكانا نديمين له. فلما قدم قيس على الأسود لقي فيروز، فأخبره الخبر، وأطمعه في قتله؛ وذلك أن قيساً سمع المهاجر بن أبي أمية يخبرهم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للمسلمين: " إنكم ستقتلون الأسود "، فطمع قيس في قتله، وقد قتل(21/124)
أخاه عمر بن عبد يغوث، ودخل معهما رجل من الأبناء في ذلك يقال له: داذاويه، فاجتمعوا على ذلك من قتله، وأفضى قيس ذلك إلى أخته، فقال لها: قد عرفت عداوته لقومه، وما قدر ركبهم به، والرجل مقتول لا شك فيه، فإن استطعت أن يكون بنا فافعلي، فندرك ثأرنا، وتكون مأثرة لنا، فتحيني لنا غرته إذا سكر. فطاوعته على ذلك وقال فيروز لصاحبته مثل ذلك؛ فقال: قد علمت ما قد ركب هذا الرجل من قومك، وما يريد بهم، وقد كان يريد أن يجليهم من اليمن، فتحيني لنا غرته إذا سكر عندك؛ فإنه مقتول، فليكن ذلك بنا، فندك ثأرنا، وتكون مأثرة لنا. فطاوعته على ذلك. وكان مقتله في بيت الفارسية، وذلك أنها أمرت، فجعل في شراب له البنج، فلما غلب على عقله بعثت إلى أخيها أن شأنك وما تريد، فإن الرجل مغلوب. وأقبلوا ثلاثتهم: قيس، وفيروز، وداذويه حتى أنتهوا إلى الباب، فقالوا: أينا يكفي الباب لا يدخل علينا أحد؟ فقال داذويه: أنا أكفيكم الباب، فكان أشد ثغورهم. فلما دخلا على الرجل قال فيروز لقيس: إن شئت أن تجثم على صدره، وأضربه، وإن شئت أن أجثم على صدره وتضربه. قال قيس: اجثم أنت على صدره، واضبطه أكفك قتله. فجثم فيروز على صدره، وضبطه، وضربه قيس بسيفه، فقتله، واحتز رأسه، فبعث به إلى المهاجر بن أبي أمية. فلما أتاه مقتل الأسود أقبل حتى دخل صنعاء، فقال قيس بن عبد يغوث المرادي حين قتل الأسود العنسي: " من الرجز "
ضربته بالسيف ضرب الأسفان ... ضرب امرئ لم يخشى عقبى العدوان
من زبر شيطان ولا سلطان ... فمات لا يبكيه منا إنسان
نشوان لا يعقل وهو يقظان ... ضل نبي مات وهو سكران
ثم تنازع هؤلاء النفر الثلاثة في قتله، فقال قيس: أنا قتلت الرجل واحتززت رأسه، وقال فيروز: أنا ضبطته لك، ولولا ذلك لم تصل إلى قتله، وقال داذويه: أنا كفيتكم ألا يدخل عليكم أحد، وكان أشد ثغوركم، ولولا ذلك لم تقدروا على قتله.(21/125)
والتمس قيس أن يغتالهما، فصنع لهما طعاماً، ثم دعاهما واحداً واحداً، فقتل داذويه ونذر فيروز فخرج، وكان في ذلك بينهما أمر تعاظم فيه الشر حتى أصلح بينهما المهاجر بحمالة، فقال قيس في ذلك: " من الكامل "
زعم ابن حمراء القصاص بأنه ... قتل ابن كعب نائماً نشوانا
كلا وذي البيت الذي حجت له ... شعث المفارق تمسح الأركانا
لأنا النا الذي نبهته فقتلته ... ولقد تكبد قائماً يقظانا
فعلوته بالسيف لا متهيباً ... مما يكون غداً ولا ما كانا
فانصاع شيطان لكعب هارباً ... عنه وأدبرممعناً شيطانا
قال ابن سعد:
كتب أبو يكر إلى المهاجر بن أبي أمية أن يبعث إليه بقيس بن مكشوح في وثاق. فقال: قتلت الرجل الصالح داذويه! وهم بقتله، فكلمه قيس، وحلف أنه لم يفعل، وقال: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، استبقني لحرمك؛ فإن عندي بصراً بالحرب ومكيدة للعدو، فاستبقاه أبو بكر، وبعثه إلى العراق، وأمر ألا يولى شيئاً، وأن يستشار في الحرب.
وكان عمر يقول: لولا ما كان من عفو أبي بكر عنك - يعني عن قتله داذوي - لقتلتك بداذوي، فيقول قيس: يا أمير المؤمنين، قد والله أشعرتني، ما سمع هذا منك أحد إلا اجترأ علي، وأنا بريء من مقتله. فكان عمر بعد يكف عن ذكره، ويأمر إذا بعثه في الجيوش أن يشاور، ولا يجعل إليه عقد أمر، ويقول: إن له علماً بالحرب، وهو غير مأمون.(21/126)
قالوا: إن أبا بكر أوصى أبا عبيدة بقيس بن هبيرة بن مكشوح المرادي، وقال: إنه قد صحبك رجل عظيم الشرف، فارس من فرسان العرب، لا أظن له حسنة، ولا عظيم نية في الجهاد، وليس في المسلمين غناء عن رأيه ومشورته وبأسه في الحرب، فأدنه، وألطفه، وأره أنك عنه غير مستغن؛ فإنك مستخرج بذلك نصيحته وجهده وجده على عدوك. ودعا أبو بكر قيس بن هبيرة بعدما مضى أبو عبيدة، فقال: إني قد بعثتك مع أبي عبيدة الأمين، الذي إن ظلم لم يظلم، وإذا أسيء إليه غفر، وإذا قطع وصل. رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين؛ فلا تعصه؛ فإنه لن يأمرك إلا بخير. وقد أمرته أن يسمع منك، فلا تأمره إلا بتقوى الله. وقد كنا نسمع أنك سائس حرب، وذلك في زمان الشرك والجاهلية الجهلاء، ليس فيها إلا الإثم والكفر، فاجعل بأسك اليوم في الإسلام على من كفر بالله، وعبد غيره، فقد جعل الله لك فيه الأجر العظيم، والعز للمؤمنين. قال: فقال له قيس: إن بقيت وبقيت لك فسيبلغك من حيطتي على المسلم، وجهادي المشرك ما يسرك ويرضيك. فقال أبو بكر: مثلك فعل هذا! فلما بلغه مبارزة البطريكين بالجابية، وقتله إياهما قال: صدق قيس ووفى.
وأمد أبو عبيدة بن الجراح أهل القادسية بتسعة عشر رجلاً ممن شهد اليرموك، منهم: عمرو بم معدي كرب الزبيدي، وطليحة بن خويلد الأسدي، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري، والأشعث بن قيس الكندي، وقيس بن مكشوح المرادي.
عن أبي كبران الحسن بن عقبة: أن قيس بن المكشوح قال مقدمه من الشام مع هاشم، وقام فيمن يليه، فقال: يا معشر العرب، إن الله تعالى قد من عليكم بالإسلام، وأكرمكم بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأصبحتم بنعمة الله إخواناً، دعوتكم واحدة، وأمركم واحد بعد إذ أنتم يعدو بعضكم على بعض عدو الأسد، ويخطف بعضكم بعض اختطاف الذئاب. فانصروا الله ينصركم، وتنجزوا من الله فتح فارس، فإن إخوانكم من أهل الشام قد أنجز الله لهم فتح الشام، وانثيال القصور الحمر، والحصون الحمر.(21/127)
قال خليفة العصفري في تسمية من قتل مع علي بصفين: قيس بن مكشوح المرادي. وكانت صفين سنة سبع وثلاثين.
قيس الهلالي
له شعر في حرب أبي الهيذام.
قال قيس الهلالي في يوم داريا: " من الوافر "
كأنا يوم داريا أسود ... تدافع عن مساكنها أسودا
تركنا أهل داريا رميماً ... حطاماً في منازلهم همودا
قتلنا فيهم حتى رثينا ... لهم ورأيت جمعهم شريدا
إذا غضب الإله على أناس ... دعا قيساً فصيرهم خمودا
وذلك أن قيساً غير شك ... من الصوان بل خلقت حديدا
قيظى بن قيس بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن مجدعة بن حارثة
ابن الحارث بن الخزرج بن عمرو - وهو النبيت - بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي أدرك عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستشهد يوم أجنادين.
أسماء الرجال على حرف الكاف
كابس بن ربيعة بن مالك
السامي البصري كان يشبه بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. استقدمه معاوية بن أبي سفيان، فنظر إليه.
قال عباد بن منصور: كان رجل منا يقال له: كابس بن ربيعة يشبه بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال قوم من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما رأينا بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشبه منه، إلا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أحد حسناً منه - يعني أرق منه رقة حسن.(21/128)
قال أبو نصر بن ماكولا:
حسم - بحاء وسين مهملتين -: حسم بن الحارث بن سامة بن لؤي. من ولده: كابس بن ربيعة بن مالك بن عدي بن الأسود بن حسم بن ربيعة.
كافور أبو المسك الإخشيدي
صاحب مصر. ولي إمرة دمشق بعد سيده الإخشيدي محمد بن طغج بن جف. وكانت وفاة الإخشيد في سنة أربع - ويقال خمس - وثلاثين وثلاثمائة بدمشق، فلما مات أقعد ابناه مكان أبيهما، وكان المدبر لأمرهما كافور. ثم سار كافور إلى مصر، فقتل غلبون المغربي المتغلب عليها، وملكها. وقصد سيف الدولة بدمشق، فملكها. ثم إن أهل دمشق خافوا من حيف سيف الدولة، فكاتبوا كافوراً، فجاء إلى دمشق، فملكها سنة خمس - وقيل سنة ست - وثلاثين وثلاثمائة، فأقام بها يسيراً، ثم ولي بدر الإخشيدي، ويعرف ببدير، ورجع كافور إلى مصر.
كان مجلس كافور الإخشيدي غاصاً بالناس، فدخل إليه رجل، وقال في دعائه: أدام الله أيام سيدنا - بكسر الميم من الأيام - وفطن لذلك جماعة من الحاضرين أحدهم صاحب المجلس حتى شاع ذلك، فقام من أوسط الناس رجل، فأنشأ يقول: " من البسيط "
لا غزو إن لحن الداعي لسيدنا ... أو غص من دهش بالبريق أو حصر
فمثل هيبته حالت جلالتها ... بين الأديب وبين القول بالحصر
وإن يكن خفض الأيام عن غلط ... في موضع النصب لا عن قلة البصر
فقد تفاءلت من هذا لسيدنا ... والفأل مأثوره عن سيد البشر
فإن أيامه خفض بلا نصب ... وإن أوقاته صفو بلا كدر(21/129)
قال أبو محمد الكتاني: وفيها - يعني سنة ست وخمسين وثلاثمائة - توفي كافور الإخشيدي.
قال أبو نصر عبيد الله بن سعيد الوائلي السجستاني الحافظ: وجدت على قبر الأمير أبي المسك الإخشيدي - رحمه الله - بيتين، وهما: " من البسيط "
ما بال قبرك يا كافور منفرداً ... بالصحصح المرت بعد العسكر اللجب
تدوس قبرك أفناء الرجال وقد ... كانت أسود الثرى تخشاك في الكثب
كافور بن عبد الله
أبو الحسن الحبشي الخصي الليثي الصوري روى عنه الحافظ بن عساكر بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أحدكم مرآة أخيه، فإذا رأى به شيئاً فليمطه عنه ".
وروى عنه بسنده إلى جبير بن مطعم، أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في المغرب ب " الطور ".
قال الحافظ: أنشدنا أبا الحسن كافور، وذكر أنهما له: " من الكامل "
ضيعت أيامي ببست وهمتي ... تأبى المقام بها على الخسران
وإذا الفتى في البؤس أنفق عمره ... فمن الكفيل له بعمر ثان
توفي كافور سنة إحدى وعشرين وخمسمائة ببغداد.(21/130)
كالب بن يوفنا بن بارص
ابن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام ورد مع موسى - علبه السلام - أرض كنعان من البلقاء مننواحي دمشق، وهو الذي قام بأمر بني إسرائيل بعد يوشع بن نون، ويقال بل القائم بعد يوشع فنحاس بن العازر.
عن ابن إسحاق قال: لما نشأت النواشيء من ذراريهم - يعني الذين أبو قتال الجبارين مع موسى - وهلك آباؤهم، وانقضت الأربعون سنة التي تتيهوا فيها سار بهم موسى - عليه السلام - ومعه يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنا. فلما انتهوا إلى أرض كنعان، وبها بلعم بن باعور المعروف، وكان قد آتاه الله علماً، وكان فيما أوتي من العلم اسم الله الأعظم - فيما يذكرون - الذي إذا دعي الله أجاب، وإذا سئل به أعطى.
عن وهب بن منبه قال: إن يوشع بن نون لما حضرته الوفاة استخلف على بني إسرائيل كالب بن يوفنا، ولم تكن لكالب نبوة، ولكنه كان رجلاً صالحاً، وكانت بنو إسرائيل منقادة له، فوليهم زماناً يقيم فيهم من طاعة الله ما كان يقيم يوشع بن نون، والناس لا يختلفون عليه يعترفون له بالفضل، وذلك مما كان الله - عز وجل - أكرمه حتى قبضه الله على منهاج يوشع.
كامل بن أحمد بن محمد
ابن أحمد بن سلامة بن الحسين بن محمد بن يزيد ابن أبي جميل، أبو تمام المقرئ الضرير قرأ القرآن بحرف ابن عامر.(21/131)
قال الحافظ بن عساكر:
قرأت عليه القآن العظيم. وكان خيراً ثقة، كثير الدرس للقرآن، مواظباً على صلاة الليل. وحج مرتين، توفي في الثانية منهما محرماً قيل قضاء نسكه في السابع من ذي الحجة سنة أربعين وخمسمائة، ودفن بمكة. ومات بعلة البطن غريباً، فحصلت له الشهادة من وجهينز
كامل بن ديسم بن مجاهد
ابن عروة بن تغلب بن محمود، أبو الحسن النصري الفقيه العسقلاني، المعروف بالمقدسي قدم دمشق مرتين: في سنة أربع وثمانين، وسنة خمس وثمانين وأربعمائة.
روى عن أبي الحسين محمد بن الحسين بن محمد بن علي بن الترجمان بسنده إلى أبي هريرة قال: أتى جبريل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: هذه خديجة قد أتتك، ومعها إناء فيه إدام - أو طعام أو شراب - فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.
قال الحافظ بن عساكر: حدثني أبو الحسين بن كامل: أن أباه قتلته الفرنج - خذلهم الله - يوم دخلوا بيت المقدس، وهو يصلي. وكان دخولهم بيت المقدس في شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة.
كامل بن علي بن سلم
ابن علي أبو الثمام السنبسي الهيتي الأعور كان مقامه بشيزر يعلم بها أولاده الأمير أبي سلامة بن منقذ. وكان قد تأدب بالعراق، وكان له شعر جيد. وقدم دمشق. وكان ينسخ بالأجرة.(21/132)
روى عن أبيه بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أكرم شاب شيخاً لكبر سنه إلا قيض الله من يكرمه عند كبر سنه ".
أنشد أبو الثمام لنفسه: " من البسيط "
نبئت عيسى له في العلم معرفة ... وفطنة بلغات العجم والعرب
فهات قل لي ما حجر وما حجر ... وما الحجى والحجى يا بارع الأدب
الحجر: المنع. وحجر: الثوب أيضاً بالفتح، ويقال بالكسر. وحجر: اسم رجل. والحجى، بكسر الحاء -: العقل، والحجى - بفتح الحاء - واحدتها حجاة، وهي القبيبة تكون على وجه الماء من وقع المطر، ومثل الحجاة: الجعدبة والكعدبة.
وما حجين وساهور وما سمر ... والفخت والهالة الشوهاء في الشهب
حجين: اسم من أسماء القمر، وكذلك الساهور، والسمر: ضوء القمر، ومنه اشتقاق السمرة. والفخت الظل منه. ويقال: الفخت ضوءه أيضاً. والهالة: الدارة التي تكون حول القمر. والشوهاء: الحسنة هاهنا. والشوهاء أيضاً: القبيحة. والشوهاء: المرأة الشديدة الإصابة بالعين. والشهب: النجوم.
وما السكاك وما لوح وجونته ... يوح وما الضح ذات النجر واللهب
السكاك واللوح: وهو الهواء البعيد من الأرض. والجونة: الشمس. والنجر: الحر
وما براح إذا أذكت وديقتها ... وما ذكاء وراح البارح الحصب
براح أيضاً من أسماء الشمس، وهي مبنية على الكسر. وأذكت: أوقدت.(21/133)
والوديقة: شدة الحر. وذكاء أيضاً من أسماء الشمس. والراح: اليوم الشديد الريح. والبارح: الريح الحارة. والحصب: الذي يرمي بالحصباء.
وابنا سمير وما إل وما يلل ... وما الشغا في خلال الظلم والشنب
ابنا سمير: الليل والنهار. والإل: الربوبية والقدرة. والإل: العهد. والإل: القرابة، واليلل: إقبال الأسنان على باطن الفم؛ يقال منه: قد يللت، فأنا أيل يللا. والشغا: هو أن تختلف نبتة الأسنان، فلا تتسق. والظلم - ساكن اللام - ماء الأسنان. والشنب: برد الأسنان، وعذوبة مذاقها.
كامل بن محمد بن عبد الله
ابن هارون بن محمد بن موسى، أبو البركات القرشي الصوري روى عن أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن طلحة الصيداوي بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من مشى لأخيه المسلم في حاجته كتب الله له بكل خطوة سبعين حسنة، ومحا عنه بكل خطوة سبعين سيئة منذ يبتدئ في الحاجة إلى أن تقضى، فإن قضيت الحاجة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فإن مات قبل ذلك دخل الجنة ".
كامل بن المخارق الصوفي
من ساكني دمشق. كان من أحسن الناس وجهاً، وكان قد لزم منزله وأقبل على العبادة، وكان لا يخرج إلا من جمعة إلى جمعة، فإذا خرج يريد المسجد وقف له الناس، ورموه بأبصارهم ينظرون إليه.(21/134)
كامل بن مكرم أبو العلاء
حدث عن محمد بن مروان البيروتي بسنده إلى كعب بن محمد القرظي في قوله: " فلنحيينه حياة طيبة "، قال: القناعة.
كتائب بن علي بن حمزة
ابن الخضر بن أحمد بن سليمان، أبو البركات السلمي المعروف بابن المقصص قال الحافظ بن عساكر: رأيته مرات ولم أسمع منه شيئاً، وسمع منه أبو محمد بن صابر، وابنه، وذكر أنه سأله عن مولده، فقال: ولدت في النصف من ربيع الأول في سنة أربع وأربعين وأربعمائة بدمشق. وكان قد صنف رسالة ذكر فيها بعض الخلفاء، وجماعة من الأئمة بسوء، فحملت إلى الرحبة، فوقف عليها فقيه من أهل الرحبة، فحملها إلى والي الرحبة، وأوقفه على ما فيها، فكتب إلى طغتكين أتابك والي دمشق، فعرفه ذلك، فقبض على ملكه، ونفاه عن دمشق.
كثير بن الحارث
أبو أمين الحميري عن كثير بن الحارث، عن القاسم مولى معاوية: أنه سمع علي بن أبي طالب يذكر أنه أمر فاطمة تستخدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسول الله، أنه قد شق علي الرحى، وأرته أثراً في يدها من أثر الرحى، فسألته أن يخدمها خادماً، فقال: " ألا أعلمك خيراً من ذلك - أو قال: خيراً من الدنيا وما فيها - إذا أويت إلى فراشك فكبري أربع وثلاثين تكبيرة، وثلاثاً وثلاثين تحميدة، وثلاث وثلاثين تسبيحة، فذلك خير لك من الدنيا وما فيها ". فقالعلي: ما تركتها منذ سمعتها. فقيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين.(21/135)
وروى عن القاسم أنه حدثه، عن فضالة بن عبيد أنه سمعه يقول: الإسلام ثلاثة أبيات: سفلى، وعلى، وغرفة؛ فالسفلى الإسلام، والعلى النوافل، والغرفة الجهاد.
قال أبو زرعة: قلت - يعني لعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم -: فكثير بن الحارث؟ قال: ما أعرفه، قلت: فتدفعه؟ قال: لا يدفع.
وقال أبو حاتم: لا بأس به.
وقال ابن ماكولا في باب أمين - بضم الهمزة -: أبو أمين كثير بن الحارث البهراني.
كثير بن زيد
أبو محمد المدني الأسلمي، ثم السهمي سهم أسلم. مولاهم.
روى عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، وأشار بإصبعه وأتبعها بصره، ثم قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لهي أشد على الشيطان من الحديد " - يعني السبابة.(21/136)
وروى عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدرين عن أبيه، عن جده، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا وضوء لمن لا يذكر اسم الله عليه ".
سئل أحمد بن حنبل عن التسمية في الوضوء، فقال: لا أعلم فيه حديثاً يثبت، أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد عن ربيح، وربيح ليس بمعروف.
قال كثير بن زيد: قدمت خناصرة في خلافة عمر بن عبد العزيز، فرأيته يرزق المؤذنين من بيت المال.
قال خليفة بن خياط في الطبقة السابعة من أهل المدينة: كثير بن زيد يكنى أبا محمد، مولى لبني سهم من أسلم، يقال له: ابن صافنة، وهي أمه. توفي آخر زمن أبي جعفر.
حدث مالك أن عمر بن عبد العزيز قال ذات ليلة، ومعه مزاحم، ورجل يقال له: ابن صافنة قال: فدخلت عليه، فإذا بمائدة عليها صحفة مخمرة بمنديل، وعمر قائم يركع، قال: فركع ركعتين، ثم أقبل، فجلس، فاجتبذ المائدة بيده، ثم قال لي: كل، أين عيشنا اليوم من عيشنا إذ كنا بمصر؟ قال: فقلت: لا شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: لقد رأيتني وكنا لو صافني أهل قرية لوجدتما يعمهم. ثم قال: أين عيشنا هذا من عيشنا بالمدينة؟! ثم استبكى. قال: فنادى مزاحم: أن قم، قال: فقمت، قال: فأخبرني من الغد أته إذا أصابه مثل هذا لم يعد إلى طعامه.(21/137)
سئل أبو زرعة عن كثير بن زيد، فقال: هو صدوق، وفيه لين. وسئل أبو حاتم عنه فقال: صالح، ليس بالقوي، يكتب حديثه.
كثير بن زيد بن محمد
ابن سلامة أبو الطيب الغساني اللاذقي روى عن الحسين بن السميدع الأنطاكي بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر ".
كثير بن شهاب بن الحصين ذي الغصة
- ويقال: الحصين ذو الغصة - بن يزيد بن شداد بن قنان بن سلمة بن وهب بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن كعب بن مذحج أبو عبد الرحمن الحارثي المذحجي يقال: إن له صحبة، ولا يصح. وفد على معاوية حين أتى بحجر بن عدي. وكان قد ولي الري في أيام معاوية، وهو الذي تولى فتح قزوين، وقيل: تولى فتحها البراء بن عازب. قدم أصبهان مع أبي موسى الأشعري.
قال كثير بن شهاب
في الرجل الذي لطم الرجل فقالوا: يا رسول الله، ولاة يكونون علينا، لا نسألك عن طاعة من اتقى وأصلح، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اسمعوا وأطيعوا ".
عن كثير بن شهاب قال: سألنا عمر عن الجبن، فقال: سموا عليه وكلوا.(21/138)
وعن حمزة الزيات قال: كتب عمر إلى كثير بن شهاب: مر من قبلك فليأكل الخبز الفطير بالجبن، فإنه أبقى في البطن.
قال أبو مخنف عمن ذكره: وكتب - يعني زياداً -: شهادة الشهود - يعنيالذين شهدوا على حجر وأصحابه - في صحيفة، ثم دفعها إلى وائل بن حجر الحضرمي، وكثير بن شهاب الحارثي، وبعثهما عليهم وأمرهما أن يخرجاهم. وجاء وائل بن حجر، وكثير بن شهاب، فأخرجا القوم عشية، قال: فمضوا بهم حتى انتهوا إلى الغريين، فلحقهم شريح بن هانئ معه كتاب، فقال لكثير: بلغ كتابي هذا أمير المؤمنين، فقال: ما فيه؟ فقال: لا تسألني، ما فيه حاجتي. فأبى كثير، وقال: ما أحب أن آتي أمير المؤمنين بكتاب لا أدري ما فيه، وعسى لا يوافقه، فأتى به وائل بن حجر، فقبل منه، ثم مضوا حتى انتهوا إلى مرج عذراء، وبينها وبين دمشق اثنا عشر ميلاً.
قال محمد بن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة: كثير بن شهاب بن الحصين ذي الغصة، سمي بذلك لغصة كانت في حلقه، ابن يزيد بن شداد بن قنان بن سلمة بن وهب بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن كعب بن مذحج. وكان أبوه شهاب بن الحصين قتل قاتل أبيه الحصين يوم الردة. وكان كثير بن شهاب سيد مذحج الكوفة، وكان بخيلاً، وكان قليل الحديث.
قال العجلي: كثير بن شهاب كوفي تابعي ثقة.(21/139)
كثير بن الصلت بن معدي كرب
ابن وليعة بن شرحبيل بن معاوية بن حجر القرد بن الحارث الولادة بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة أبو عبد الله الكندي المدني قيل: إنه أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو أخو زييد بن الصلت. وكان كاتباً لعبد الملك بن مروان على الرسائل.
عن ابن عمر: أن كثير بن الصلت كان اسمه قليلاً فسماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيراً، وأن مطيع بن الأسود كان اسمه العاص، فسماه مطيعاً.
وعن نافع: أن كثير بن الصلت كان اسمه قليلاً فسماه عمر بن الخطاب كثيراً.
عن كثير بن الصلت، عن زيد بن ثابت قال: أشهد لسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ".
عن كثير بن الصلت قال: كان ابن العاص وزيد بن ثابت يكتبان يكتبان المصاحف، فمروا على هذه الآية، فقال زيد: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الشيخ والشيخة فارجموهما البتة "، فقال عمر: لما أنزلت أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: اكتبنيها؟ فكأنه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا لو يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم.(21/140)
قال محمد بن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة: زييد بن الصلت، وأخوه كثير بن الصلت، بن معدي كرب بن وليعة بن شرحبيل بن حجر القرد بن الحارث الولادة بن عمرو بن معاوية بن كندة، وهو كندي بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وإنما سمي الحارث الولادة لكثرة ولده، وسمي حجر القرد، والقرد في لغتهم الندي الجواد. والحارث الولادة هو أخو حجر بن عمرو آكل المرار. والملوك الأربعة: مخوس، ومشرح، وجمد، وأبضعة بنو معدي كرب بن وليعة بن شرحبيل، وهم عمومة زييد وكثير ابني الصلت، وكانوا وفدوا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الأشعث بن قيس، فأسلموا، ورجعوا إلى بلادهم، ثم ارتدوا فقتلوا يوم النجير. وإنما سموا ملوكاً لأنه كان لكل واحد منهم واد يملكه بما فيه. وهاجر كثير، وزييد، وعبد الرحمن بنو الصلت إلى المدينة فسكنوها، وحالفوا بني جمح بن عمرو من قريش، فلم يزل ديوانهم ودعوتهم معهم حتى زمن المهدي أمير المؤمنين، فأخرجهم من بني جمح، وأدخلهم في حلفاء العباس بن عبد المطلب. ولد كثير بن الصلت في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان له شرف وحال جميلة في نفسه، وله دار بالمدينة كبيرة. ومن ولد كثير بن الصلت: محمد بن عبد الله بن كثير.
قال العجيلي: كثير بن الصت مدني تابعي ثقة.
كثير بن عبد الله
- ويقال: كثير بن فروة - بن خثيم بن عبد بن حبيب بن مالك بن عوف بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور أبو محمد السلمي المعروف بأبي العاج ولقب بذلك لطول ثناياه. كان من أهل الشام. استخلفه عدي بن أرطاة على(21/141)
واسط. وولاه يوسف بن عمر البصرة في أيام هشام بن عبد الملك. وولي كثير هذا الشرطة بدمشق من قبل عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف الثقفي إذ كان أمير دمشق للوليد بن يزيد.
كثير بن عبيد بن نمير
أبو الحسن المذحجي الحمصي المقرئ الحذاء إمام جامع حمص. كان ثقة.
روى عن بقية بن الوليد بسنده إلى عون بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قتل قتيلاً فله سلبه ".
وعن بقية بسنده إلى ثوبان عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه رأى ناساً على دوابهم في جنازة، فقال: " ألا تستحيون؟! الملائكة يمشون على أقدامهم وأنتم ركبان! " عن أبي بكر بن أبي داود أن كثير بن عبيد أم بأهل حمص ستين سنة، فما سها في صلاة قطز قال أبو سليمان الربعي: سنة سبع وأربعين ومائتين - فيها مات كثير بن عبيد الحذاء.
وروي أنه حدث بحمص سنة خمس وخمسين ومائتين - فالله أعلم.(21/142)
كثير بن قيس
ويقال: قيس بن كثير الحمصي عن كثير بن قيس قال: جاء رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء بدمشق يسأله عن حديث بلغه يحدث به أبو الدرداء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له أبو الدرداء: ما جاء بك تجارة؟ قال: لا، قال: ولا جئت طالب حاجة؟ قال: لا، قال: وما جئت تطلب إلا هذا الحديث؟ قال: لا، قال: فابشر - إن كنت صادقاً - فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من رجل يخرج من بيته يطلب علماً إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يطلب، وإلا سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن العالم يستغفر له من في السماوات والأرض، حتى الحيتان في البحر، ولفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، لإن العلماء هم ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً، ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم ".
قال ابن سميع في الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام: كثير بن قيس، أمره ضعيف، لم يثبته أبو سعيد - يعني دحيماً.
ذكره أبو زرعة في الطبقة التي تلي أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي العليا.
كثير بن كثير
- ويقال: ابن أبي كثير - أبو كامل الجرشي مولى هشام بن الغاز.
قال كثير بن كثير الجرشي: اشترى هشام بن الغاز جارية رومية، فوجد معها نفقة قد خبأتها في عقاص رأسها، فسأل مكحولاً وأنا معه، فقال له: إني أصبت مع هذه الجارية نفقة، فما رأيك(21/143)
فيها؟ فقال مكحول: أما الغزاة فقد انقضت، والناس قد افترقوا، والفيء قد قسم، فلا أرى لها وجهاً أفضل من أن تصدق بها على المساكين.
قال أبو كامل: صليت خلف مكحول على بساط، وخلفه يزيد بن يزيد بن جابر، فكلما سجد مكحول رفع يزيد بن يزيد البساط، فسجد على الأرض، فلما سلم مكحول قال ليزيد: إنك إمام يقتدى بك، فلا تعد لمثل هذا.
كثير بن مرة
أبو شجرة - ويقال: أبو القاسم - الحضرمي الحمصي أدرك سبعين من أهل بدر. وحضر الجابية من قرى دمشق.
عن كثير بن مرة الحضرمي قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تبنى بيعة في الإسلام، ولا يجدد ما خرب منها ".
وروى عن عمرو بن عبسة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ساعة السبحة حين تزول الشمس عن كبد السماء، وهي صلاة المخبتين، وأفضلهما في شدة الحر ".
قال كثير بن مرة - وكان يرمي بالفقه - لمعاذ بن جبل:(21/144)
من المؤمنون؟ قال معاذ: أمبرسم والكعبة؟ إن كنت لأظنك أفقه مما أنت! هم الذين أسلموا وصاموا، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة.
قال ابن سعد: كثير بن مرة الحضرمي يكنى أبا شجرة. كان ثقة.
قال ابن يونس: قدم على عبد العزيز بن مروان.
عن يزيد بن أبي حبيب: أن عبد العزيز بن مروان كتب إلى كثير بن مرة - وكان يسمي الجند المقدم - أن يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحاديثهم، إلا حديث بن هريرة.
قال أبو زرعة:
قلت لدحيم: فمن يكون معهم في طبقتهم من أصحابنا؟ - يعني جبير بن نفير، وأبا إدريس الخولاني - فقال: كثير بن مرة. فذاكرته: سنه، ومناظرة أبي الدرداء إياه في القراءة خلف الإمام، وقول عوف بن مالك فيه: أرجو أن تكون يا كثير رجلاً صالحاً، فرآه معهما في طبقة.
عن كثير بن مرة الحمصي قال: دخلت المسجد يوم الجمعة، فمررت بعوف بن مالك الأشجي، وهو باسط رجليه، قال: فضم رجله - وفي رواية: رجليه - ثم قال: يا كثير بن مرة، أتدري لم بسطت رجلي؟ بسطتهما رجاء أن يجيء رجل صالح فأجلسه، وإني أرجو أن تكون رجل صالحاً.
وقال: لا تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك، ولا تحدث بالباطل عند الحكماء(21/145)
فيمقتوك، ولا تمنع العلم أهله فتأثم، ولا تحدث به غير أهله فتجهل، إن عليك في علمك حقاً كما أن عليك في مالك حقاً.
وقال: رأيت منامي كأني دخلت درجة عليا من الجنة، فجعلت أطوف فيها، وأتعجب منها. وإذا أنا بنساء من نساء المسجد في ناحية منها، فذهبت حتى سلمت عليهن، ثم قلت: بم بلغتن هذه الدرجة؟ قلن بسجدات وكسيرات.
أدرك كثير بن مرة وفاة عبد الملك.
كثير بن ميسرة
مصري. وفد على عمر بن عبد العزيز.
قال الليث: حسبت أن عمرو بن الحارث حدثني: أن كثير بن مرة قدم على عمر بن عبد العزيز بعد قفل القسطنطينية، فقال عمر: يا بن ميسرة، هل كنت ترجو قفلاً من القسطنطينية قبل افتتاحها؟ فقال: ما كنت أرجو ذلك إلا بمكانك رجاء أن تكلم سليمان في أن يأذن لنا، قال: هيهات! يرحم الله أبا أيوب، لقد كان حسم ذكر ذلك من الناس، فلا يقدر أحد على أن يكلمه فيه إلا بتقريب فتحها، وإني لأذكر أنها حلقة كان الله أبهما على مدينة الكفر، فأكون أنا أفكها، ثم ذكرت الذي أخاف أن يكون وصل إليهم من الجهد فرأيت أن آذن لهم. فقيل لعمر: إن أهل القسطنطينية أصابه مجرب شديد، قال: فأي الأمور خير للجرب؟ قال: زيت الزيتون مطبوخ بالدفلى. فأمر برواية كبيرة فطبخت، ثم حملت إليها.
قيل أن كثير بن مرة سمع عمر بن الخطاب.
قال الحافظ: ويبعد أن يكون من سمه عمر بن الخطاب يغزو في زمن عمر بن عبد العزيز.(21/146)
كثير بن هراسة الكلابي البصري
كان من صحابة عبد الملك بن مروان. وله مع الحجاج خبر طويل.
قال كثير بن هراسة لابنه: أي بني، إن من الناس ناساً ينقصونك إن زدتهم، وتهون عليهم إذا خاصمتهم، وليس لرضاهم موضع تعرفه، ولا لسخطهم موضع تنكره؛ ف إذا رأيت أولئك بأعيانهم فأبذل لهم وجه المودة، وامنعهم موضع الخلصة يكن ما بذلت لهم من المودة دافعاً لشرهم، وما منعتهم من موضع الخلصة قاطعاً لحرمتهم.
كثير بن هشام
أبو سهل الكلابي الرقي نزيل بغداد. نسبه أهل بعض العلم إلى دمشق، لأنه كان يجهز إليها.
روى عن جعفر بن برقان بسنده إلى أنس بن مالك قال: خدمت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر سنين، فما أمرني بأمر فتوانيت عنه، أو ضيعته فلامني؛ فإن لامني أحد من أهله إلا قال: " دعوه، فلو قدر - أو قال: لو قضي - أن يكون كان ".
وروى عن جعفر بن برقان، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نكاحين: أن تزوج المرأة على عمتها، ولا على خالتها ".
وروى عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "(21/147)
من يرد الله به خيراً يفقه في الدين، ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة ".
قال ابن عمار: كثير بن هشام دمشقي سمسار، كان يكون ببغداد.
وقال في موضع آخر: كان يجهز إلى دمشق سمساراً، وإلى الرقة، وإلى ذي الناحية، وهو ثقة.
قال محمد بن سعد: كثير بن هشام، ويكنى أبا سهل، وهو صاحب جعفر بن برقان، نزل بغداد، باب الكرخ في السور، وكان يجهز على التجار إلى الرقة وغيرها من الجزيرة والشام. وكان ثقة صدوقاً. ثم خرج إلى الحسن بن سهل، وهو بفم الصلح، فمات هناك في شعبان سنة سبع ومائتين.
قال العجلي: كثير بن هشام الكلابي. ثقة صدوق، يتوكل للتجار، يحترف.
وقال يحيى بن معين: ثقة، نحن أول من كتب عنه.(21/148)
كثير بن يسار
أبو الفضل الطفاوي البصري روى عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال:
أتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتمر وريان، فقال: " أنى لكم؟ " فقال: عندنا تمر بعل، فبعنا صاعين بصاع، فقال: " ردوه على صاحبكم، فبيعوه بسعر التمر ".
وروى عن أبي صفوان - شيخ من أهل مكة - عن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرج علي خراج في عنقي، فتخوفت منه، فأخبرت به عائشة، فقلت: سلي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فسألته، فقال: " ضعي يدك عليه، ثم قولي - ثلاث مرات -: بسم الله، اللهم أذهب عني شر ما أجد بدعوة نبيك الطيب المبارك المكين عندك، بسم الله ".
قالت: ففعلت، فانخمص.
قال كثير أبو الفضل: شهدت الوليد بن عبد الملك بدمشق صلى الجمعة والشمس على الشرف، ثم صلى العصر.
وروى عن الحسن قال: كان راية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوداء.
قال أبو نصر الحافظ: أما يسار - أوله ياء معجمة باثنين من تحتها، وسين مهملة - كثير بن يسار، أبو الفضل البصري.(21/149)
كثير الصنعاني اليماني
وفد على عبد الملك بن مروان.
عن كثير الصنعاني قال: كنت مع الضحاك بن فيروز الديلمي يوم رد عبد الملك على عروة سيف الزبير، قال: فخرجا به إلي، فسمعت الضحاك يعتذر إليه، قال: وسمعت عروة يقول له: " من البسيط "
لا تأمن الموت في حل ولا حرم ... إن المنايا بجنبي كل إنسان
واسلك طريقك هوناً غير مكترث ... فسوف يأتيك ما يمني لك الماني
الخير والسر مجموعان في قرن ... بكل ذلك يأتيك الجديدان
ولا تقولن لشيء سوف أفعله ... لعل فيه غداً يأتي بتبيان(21/150)
كثير بن عبد الرحمن بن الأسود
ابن عامر بن عويمر بن مخلد بن سبيع بن جعثمة ابن سعد بن مليح بن عمرو بن عامر بن لحي بن قعمة بن إلياس ابن مضر، أبو صخر الخزاعي الشاعر الحجازي، المعروف بابن أبي جمعة وهو كثير عزة وفد على عبد الملك بن مروان، وروى عنه خطبة له. ووفد على عمر بن عبد العزيز، وغيره من خلفاء بني أمية، وكان من فحول الشعراء.
قال محمد بن سلام: كثير بن عبد الرحمن الخزاعي، وهو ابن أبي جمعة، وكنيته أبو صخر، وهو عند أهل الحجاز أشعر من كل من قدمناه عليه.
وقال: سمعت يونس النحوي يقول: كان ابن إسحاق يقول: كثير أشعر أهل الإسلام.
ورأيت ابن أبي حفصة يعجبه مذهبه في المديح جداً، يقول: كان يستقصي المديح. وكان فيه مع جودة شعر خطل وعجب، وكانت له منزلة عند قريش وقدر.
قال عبد الغني بن سعيد: وكثير - بضم الكاف وتشديد الياء المعجمة - كثير بن عبد الرحمن، وهو ابن أبي جمعة، ويكنى أبا صخر. مات هو وعكرمة في يوم واحد، يقال: سنة خمس ومائة.
عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: لقي الفرزدق كثيراً بقارعة البلاط وأنا معه، فقال: أنت يا أبا صخر أنسب العرب حين تقول: " من الطويل "(21/151)
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
فقال له كثير: وأنت يا أبا فراس أفخر العرب حين تقول: " من الطويل "
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وأن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
- قال: وهذان البيتان لجميل، سرق أحدهما كثير، والآخر الفرزدق - فقال له الفرزدق: يا أبا صخر، هل كانت أمك ترد البصرة؟ قال: لا، ولكن كان أبي يردها.
قال طلحة بن عبد الله: والذي نفسي بيده لعجبت من كثير، ومن جوابه، وما رأيت أحداً قط أحمق منه؛ رأيتني وقد دخلت عليه، ومعي جماعة من قريش، وكان عليلاً، فقلنا: كيف تجدك يا أبا صخر؟ قال: بخير، سمعتم الناس يقولون شيئاً؟ - وكان يتشيع - فقلنا: نعم، يقولون أنك، الدجال، قال: والله لئن قلت ذلك، إني لأجد ضعفاً في عيني هذه منذ أيام عن سليمان بن فليح قال: استنشدني يوماًَ أمير المؤمنين هارون الرشيد لكثير، فأنشدته نسيب قصيدة له، ثم وقفت، فقال لي: مالك؟ فقلت: إنه قد مدح بني مروان يا لأمير المؤمنين، فقال: أمضه، فمضيت في مديحها حتى فرغت، ثم استزادني، فزدته شباب قصيدة أخرى، فلم انتهيت إلى المديح وقفت، فقال لي: مالك؟ فقلت: إنه قد مدح بني مروان يا أمير المؤمنين، فقال: أمضه، فمضيت في مديحها حتى أنشدته قصائد له، فجعل يعجب من شعره، فقال له يحيى بن خالد: ما مدحكم به ابن أبي حفصة أجود من هذا حين يقول: " من البسيط "
نور الخلافة في المهدي تعرفه ... وذلك النور في موسى وهارون(21/152)
فقال له أمير المؤمنين الرشيد: دع هذا الكلام عنك يا أبا علي، فو الله لا نمدح بمثل شعر كثير حتى يحاك لنا بمثل طراز هشام.
قال أبو عبد الله الجمحي: وكان لكثير في التشبيب نصيب وافر، وجميل مقدم عليه في النسيب. وله من فنون الشعر ما ليس لجميل. وكن جميل صادق الصبابة والعشق، وكان كثير يقول، ولم يكن عاشقاً، وكان راوية جميل، وهو الذي يقول: " من البسيط "
ألمم بعز إن الركب منطلق ... وإن نأتك ولم يلمم بها خرق
قامت تراءى لنا والعين ساجية ... كأن إنسانها في لجة غرق
ثم استدار على أرجاء مقلتها ... مبادراً خلسات الطرف يستبق
كأنه حين ما المأقيان به ... در تحلل من أسلاكه نسق
قال: وسمعت الناس يستحسنون من قوله ويقدمونه: " من الطويل "
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
وقدم كثير على عبد الملك بن مروان الشام، فأنشده والأخطل عنده، فقال عبد الملك: كيف ترى يا أبا مالك؟ قال: أرى شعراً حجازياً مقروراً لوقد ضغطه برد الشام لاضمحل.
وأخبرني أبان بن عثمان البجلي قال: دخل كثير على عبد الملك، فأنشده مدحته التي يقول فيها: " من الطويل "(21/153)
على ابن أبي العاص دلاص حصينة ... أجاد المسدي سردها وأذالها
فقال له عبد الملك: أفلا قلت كما قال الأعشى لقيس بن معدي كرب: " من الكامل "
وإذا تجيء كتيبة ملمومة ... شهباء يخشى الذائدون نهالها
كنت المقدم غير لابس جنة ... بالسيف تضرب معلماً أبطالها
فقال: ياأمير المؤمنين، وصفه بالخرق، ووصفتك بالحزم.
عن رجل من بني عامر بن لؤي قال: حدثني كثير أنه وقف على جماعة يفيضون فيه وفي جميل أيهما أصدق عشقاً، ولم يكونوا يعرفونه بوجهه، ففضلوا جميلاً على عشقه، فقلت لهم: ظلمتم كثيراً، كيف يكون جميل أصدق عشقاً من كثير، وإنما أتاه عن بثينة بعض ما يكره، فقال: " من الطويل "
رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وبالغر من أنيابها بالقوادح
والقوادح ما يصيبها ويعيبها. وكثير أتاه عن عزة ما يكره، فقال: " من الطويل "(21/154)
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت
فما انصرفوا إلا على تفضيلي.
عن العتبي قال: كان عبد الملك بن مروان يحب النظر إلى كثير، إذ دخل عليه آذنه يوماً فقال: يا أمير المؤمنين، هذا كثير بالباب، فاستبشر عبد الملك وقال: أدخله يا غلام. فدخل كثير، وكان دميماً حقيراً تزدريه العين، فسلم بالخلافة، فقال عبد الملك: " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه! "، فقال كثير: مهلاً يا أمير المؤمنين. فإنما الرجل بأصغريه - قال القاضي: العرب تقول: تسمع بالمعيدي لا أن تراه. وهو مثل سائر - بلسانه وقلبه، فإن نطق نطق ببيان، وإن قاتل قاتل بجنان. وأنا الذي أقول يا أمير المؤمنين: " من الوافر "
وجربت الأمور وجربتني ... فقد أبدت عريكتي الأمور
وما يخفى الرجال علي أني ... بهم لأخو مثاقبة خبير
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد مزير
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير
وما عظم الرجال لهم بزين ... ولكن زينها كرم وخير
بغاث الطير أطولها جسوماً ... ولم تطل البزاة ولا الصقور
ويروى:
بغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأم الصقر مقلاة نزور
وفي بغاث الطير لغتان: بغاث وبغاث - بالفتح والضم فخطأ عند أهل(21/155)
العلم باللغة، وقد أجاز بعضهم الضم، والمقلات: التي لا يعيش لها ولد، والقلت - بفتح اللام - الهلاك.
قال أبو عبد الله الجمحي: أخبرني عثمان بن عبد الرحمن قال: أنشد كثير بن عبد الملك حين أزمع بالمسير إلى مصعب: " من الطويل "
إذا ما أراد الغزو لم تثن همه ... كعاب عليها نظم در يزينها
نهته، فلم تر النهي عاقة ... بكت وبكى مما شجاها قطينها
فقال عبد الملك: والله لكأنه شهد عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وهي امرأته أم يزيد بن عبد الملك.
عن حماد الراوية قال:
قدمت المدينة، فدخلت المسجد، فكان أول من دفعت إليه كثير عزة، فقلت: يا أبا صخر، ما عندك من بضاعتي؟ قال: عندي ما عند الأحوص ونصيب، قلت: وما عندهما؟ قال: هما أحق بإخبارك، قلت: إنا لم نحث المطي نحوكم شهراً إلا لطلب ما عندكم ليبقى لكم، وقل من يفعل ذلك، قال: أفلا أخبرك ما دعاني إلى ترك الشعر؟ لما كان هذا الرجل والياً - يعني عمر بن عبد العزيز - قلت: بلى، قال: إني شخصت أنا وأحوص ونصيب، وكل واحد منهما يدل بسابقة له عند عبد العزيز بن مروان، وإخاء لعمر، وكل واحد منا ينظر في عطفيه، لا شك أنه يشرك في الخلافة، فلما رفعت لنا أعلام خناصرة - وهي منزل عمر - لقينا مسلمة بن عبد الملك، وهو يومئذ فتى العرب، وقبل ذلك ما بلغتنا الأخبار بأنه لا خير لنا عنده، فجعلنا نكذب، ويغلب الطمع اليأس، فلما لقينا مسلمة سلمنا عليه، فرد علينا، ثم قال: أما بلغكم أن إمامكم لا يقبل الشعر؟! فقلنا له: ما وضح لنا خبر حتى انتهينا إليك يا بن الخليفة، ووجمنا له وجمة(21/156)
عرفها في وجوهنا، فقال: إن يك ذو دين بني مروان، نخشيتم حرمانه، فإن صاحب دنياها قد بقي لكم عنده ما تحبون، فما ألبث حتى انصرف، وأمنحكم، وآتي ما أنتم أهله. فلما رجع كانت رحالنا عنده، وأكرم منزلنا، وأقمنا عنده أربعة أشهر، يطلب الإذن لنا هو وغيره، فلم يؤذن لنا، إلى أن قلت في جمعة من تلك الجمع: لو أني دنوت من عمر، فسمعت كلامه، فتحفظته كان ذلك رأياً، ففعلت. فكان مما حفظته من قوله يومئذ: لكل سفر زاد لا محالة، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة التقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من عذابه وثوابه، فترغبوا، أو ترهبوا، ولا يطولن عليكم الأمد، فتقسو قلوبكم، وتنقادوا لعدوكم؛ فأنه والله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يمسي بعد إصباحه، ولا يصبح بعد إمسائه، وربما كانت له بين ذلك خطرات المنايا؛ وإنما يطمئن من وثق بالنجاة من عذاب الله، وأهوال يوم القيامة، فأما من لا يداوي من الدنيا كلماً إلا أصابه جارح من ناحية أخرى، فكيف يطمئن؟! أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي، فتخسر صفقتي، وتبدو مسكنتي في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق. ثم بكى حتى ظننا أنه قاض نحبه، وارتج المسجد وما حوله بالبكاء والعويل.
فانصرفت إلى صاحبي، فقلت: خذا شرخاً من الشعر غير ما كنا نقول لعمر وآبائه، فإن الرجل آخري وليس بدنياوي. إلى أن استأذن لي مسلمة في يوم جمعة، بعدما أذن للعامة، فلما دخلنا سلمت، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، طال الثواء، وقلت الفائدة، وتحدث بجفائك إيانا وفود العرب، فقال: يا كثير، " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " إلى آخر الآية، أفمن واحد من هؤلاء أنت؟ فقلت: ابن سبيل منقطع به، قال: أولست ضيف أبي سعيد؟ قلت: بلى، قال: ما أرى من كان ضيف أبي سعيد منقطع به! قلت: أيأذن لي أمير المؤمنين في الإنشاد؟ قال: نعم، أنشد، ولا تقولن إلا حقاً، فأنشدته: " من الطويل "(21/157)
وليتم فلم نشتم علياً ولم نخف ... برياً ولم نقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي ... أتيت فأمسى راضياً كل مسلم
ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه ... من الأود البادي ثقاف المقوم
وقد لبست تسعى إليك ثيابها ... تراءى لك الدنيا بكف المعصم
وتومض أحياناً بعين مريضة ... وتبسم عن مثل الجمان المنظم
فأعرضت عنها مشمئزاً كأنما ... سقتك مدوفاً من سمام وعلقم
وقد كنت من أجبالها في ممنع ... ومن بحرها في مزبد الموج مفعم
وما زلت تواقاً إلى كل غاية ... بلغت بها أعلى البناء المقدم
فلما أتاك الملك عفواً ولم يكن ... لطالب دنيا بعده من تكلم
تركت الذي يفنى وإن كان مونقاً ... وآثرت ما يبقى برأي مصم
وأضررت بالفاني وشمرت للذي ... أمامك في يوم من الشر مظلم
ومالك إذ كنت الخليفة مانع ... سوى الله من مال رغيب ولا دم
سما لك هم في الفؤاد مؤرق ... بلغت به أعلى المعالي بسلم
فما بين الشرق الأرض والغرب كلها ... مناد ينادي من فصيح وأعجم
يقول أمير المؤمنين ظلمنتني ... بأخذك ديناري ولا أخذ درهمي
ولا بسط كف لامرئ غير مجرم ... ولا السفك منه ظالماً ملء محجم
ولو يستطيع المسلمون لقسموا ... لك الشطر من أعمارهم غير ندم
فعشت به ما حج لله راكب ... مغذ مطيف بالمقام وزمزم
فاربح بها من صفقة لمبايع ... وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم(21/158)
فأقبل علي، فقال لي: يا كثير، إنك تسأل عما قلت! ثم تقدم الأحوص، فاستأذنه في الإنشاد، فقال: قل، ولا تقولن إلا حقاً، ثم تقدم نصيب، فاستأذنه في الإنشاد، فأبى أن يأذن له، وأمره بالغزو إلى دابق، فخرج محموماً، وأمر لي وللأحوص بثلاثمائة درهم لكل واحد منا، ولنصيب بخمسين ومائة درهم، وقال للأحوص حين أنشد: إنك قال محمد بن سلام: وقدم كثير على يزيد بن عبد الملك وقد مدحه بقصائد جياد مشهورة، فأعجب بهن يزيد، وقال له: احتكم. قال: وقد جعلت ذاك إلي؟ قال نعم: قال: مائة ألف، قال: ويحك! مائة ألف؟! قال: أعلى جود أمير المؤمنين أبقي أم على بيت المال؟ قال: ما بي استكثارها، ولكن أكره أن يقول الناس: أعطى شاعراً مائة ألف، ولكن فيها عروض؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. فكان يحضر سمر بن زيد، ويدخل عليه، فقال له ليلة: يا أمير المؤمنين، ما يعني الشماخ بن ضرار بقوله: " من الوافر "
إذا عرقت مغابنها وجادت ... بدرتها قرى حجن قتين
فسكت عنه يزيد، فقال: بصبصن إذ حدين، ثم أعاد: بصبصن إذ حدين، فقال يزيد: وما على أمير المؤمنين - لا أم لك - ألا يعرف هذا؟ هو القراد أشبه الدواب بك - وكان كثير قصيراً، متقارب الخلق - فحجب عن يزيد، فلم يصل إليه، فكلم مسلمة بن عبد الملك يزيد، فقال: يا أمير المؤمنين، مدحك، قال: بكم مدحنا؟ قال: بسبع قصائد، قال: فله سبعمائة دينار والله لا أزيده عليها.(21/159)
قال الزبير بن بكار: وكان كثير شيعياً حربياً، يزعم أن الأرواح تتناسخ، ويحتج بقول الله - عز وجل - " في أي صورة ما شاء ركبك "، ويقول: ألا ترى أنه محوله في صورة بعد صورة.
وكان كثير ينشد علي بن عبد الله بن جعفر لنفسه في محمد بن علي بن أبي طالب: " من الوافر "
أقر الله عيني إذ دعاني ... أمين الله يلطف في السؤال
وأثنى في هواي علي خيراً ... وساءل عن بني وكيف حالي
وكيف ذكرت شأن أبي خبيب ... وزلة نعله عند النضال
هو المهدي خبرناه كعب ... أخو الأخبار في الحقب الخوالي
فقال له علي بن عبد الله: يا أبا صخر: ما يثني عليك في هواك خيراً إلا من كان على مثل رأيك، فقال: أجل، بأبي أنت.
قال: وكان كثير خشبياً يرى الرجعة. وأبو خبيب الذي ذكر كثير عبد الله بن الزبير، كان يكنى بأبي بكر، وخبيب ابنه وأسن ولده، وكان من العباد، وكان من هجا عبد الله بن الزبير كناه بابنه خبيب، وكان كثير سيء الرأي في عبد الله بن الزبير ينال منه.(21/160)
عن مصعب بن عبد الله قال: بعثت عائشة بنت طلحة بن عبيد الله إلى كثير عزة، فجاءها، فقالت له: ما الذي يدعوك إلى ما تقول من الشعر في عزة وليست على ما تصف من الحسن والجمال، فلو شئت صرفت ذلك إلى غيرها، ممن هو أولى به، أنا وأمثالي، فأنا أشرف وأفضل من عزة، وإنما أرادت أن تخبره، وتبلوه، فقال: " من الطويل "
صحا قلبه ياعز أو كاد يذهل ... وأضحى يريد الصرم أو يتبدل
وكيف يريد الصرم من هو وامق ... لعزة لا قال ولا متبدل
إذا وصلتنا خلة كي تزيلنا ... أبينا وقلنا الحاجبية أول
سنوليك عرفاً إن أردت وصالنا ... ونحن لتيك الحاجبية أوصل
وحدثها الواشون أني هجرتها ... فحملها غيظاً علي المحمل
فقالت عائشة: والله لقد سميتني لك خلة، وما أنا لك بخلة، وعرضت علي وصلك، وما أردت ذلك، فألا قلت كما قال جميل، فهو والله أشعر منك حيث يقول:
يا رب عارضة علينا وصلها ... بالجد تخلطه بقول الهازل
فأحببتها بالقول بعد تستر ... حبي بثينة عن وصالك شاغلي
لو كان في قلبي بقدر قلامة ... فضل وصلتك أو أتتك رسائلي
فقال: والله ما أنكرت فضل جميل ولا أنا إلا حسنة من حسناته. واستحيا.
قال كثير: " من الكامل "(21/161)
بأبي وأمي أنت من معشوقة ... طبن العدو لها فغير حالها
ومشى إلي بعيب عزة نسوة ... جعل الإله خدودهن نعالا
الله يعلم لو جمعن ومثلت ... لاخترت قبل تأمل تمثالها
ولو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها
قال المبرد: قال لي الجاحظ: أتعرف مثل قول إسماعيل بن القاسم: " من الطويل "
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
فقلت: قول كثير، ومنه أخذ: " من الطويل "
فقلت لها ياعزة كل مصيبة ... إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت
قال أبو العباس المبرد: ويروى أن عبد الملك بن مروان لما سمع هذا قال: لو قاله في صفة الحرب كان فيه أشعر الناس.
عن ابن الكلبي قال: مرت عزة بكثير متنكرة لا يعرفها، تميس في مشيتها، يكاد خصرها ينبتر، فاستوقفها ليكلمها، فقالت: وهل تركت عزة لأحد فيك بقية، فقال: والله لو أن عزة أمة لي لوهبتها لك، فسفرت، فقالت: يا عدو نفسه، إنك لها هنا. فندم على ما فرط من قوله، وأنشأ يقول: " من الطويل "(21/162)
ألا ليتني قبل الذي قلت شيب لي ... من الزحف القاضي دماء الذرارح
فمت ولم تعلم علي خيانة ... ألا رب باغي الربح ليس برابح
أبوء بذنبي إنني قد ظلمتها ... وإني بباقي سرها غير بائح
فلا تحمليها واجعليها خيانة ... تروحت منها في مناحة نائح
حكى يحيى بن سعيد الأموي أن امرأة لقيت كثير عزة، وكان قليلاً دميماً، فقالت: من أنت؟ قال: كثير عزة، قالت: " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ". قال: مه رحمك الله، فإني أنا الذي أقول: " من الطويل "
فإن أك معروف العظام فإنني ... إذا ما وزنت القوم بالقوم وازن
قالت: وكيف تكون بالقوم وازناً وأنت لا تعرف إلا بعزة، قال: والله لئن قلت ذاك، لقد رفع الله بها قدري، وزين بها شعري، وإنها لكما قلت: " من الطويل "
وما روضة بالحزن ظاهرة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها
بأطيب من أردان عزة موهناً ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها(21/163)
من الخفرات البيض لم تلق شقوة ... وبالحسب المكنون صاف فخارها
فإن برزت كانت لعينك قرة ... وإن غبت عنها لم يعممك عارها
قالت: أرأيت حين تذكر طيبها، فلو أن زنجية استجمرت بالمندل الرطب لطاب ريحها، ألا قلت كما قال امرؤ القيس: " من الطويل "
خليلي مرا بي على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب
ألم تر أني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
قال: الحق والله خير ما قيل، هو والله أنعت مني لصاحبته.
قال محمد بن سلام: كان لكثير بن عبد الرحمن صاحب عزة غلام تاجر يأتي الشام بمتاع يبيعه، وأرسلت عزة امرأة تطلب لها ثياباً، فدفعت إلى غلام كثير وهي لا تعرفه، فابتاعت منه حاجتها، ولم تدفع إليه الثمن، فكان يختلف إليها مقتضياً، فأنشد ذات يوم قول مولاه: " من الطويل "
أرى كل ذي دين يوفي غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها
فقالت له المرأة التي ابتاعت منه الثياب: فهذه والله دار عزة، ولها ابتعت منك الثياب، قال: والله فأنا غلام كثير، فأشهد الله أن الثياب لها، وأني لا آخذ من ثمنها شيئاً. فبلغ ذلك كثيراً فقال: وأنا أشهد الله أنه حر، وأن ما بقي معه من مال فله.(21/164)
أنشد محمد بن علي الهاشمي لكثير عزة: " من الطويل "
فما أحدث النأي الذي كان بيننا ... سلواً ولا طول اجتماع تقاليا
وما زادني الواشون إلا صبابة ... ولا كثرة الناهين إلا تماديا
وأنشد أبو جعفر العدوي لكثير عزة: " من البسيط "
لو قاس من قد مضى وجدي بوجدهم ... لم يبلغوا من عشير العشر معشارا
وصالكم جنة فيها كرامتها ... وهجركم يعدل الغسلين والنارا
قال ابن قتيبة: قال كثير: " من المتقارب "
بآية أني إذا ما ذكرت ... عرفت خلائق مني ثلاثا
عفافاً ومجداً إذا ما الرجال ... تبالوا خلائقهم واحتراثا
حدث إسحاق بن جعفر أبو يحيى قال: قيل لكثير عزة: ما بقي من شعرك؟ فقال: ماتت عزة فما أطرب، وذهب الشباب فما أعجب، ومات ابن ليلى فما أرغب - يعني عبد العزيز بن مروان - وإنما الشعر بهذه الخلال.
قال عمر بن عبد العزيز: إني لأعرف صلاح بني هاشم وفسادهم بحب كثير؛ من أحبه منهم فهو فاسد، ومن أبغضه منهم فهو صالح؛ لأنه كان خشبياً يرى الرجعة.
مات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد - يعني سنة خمس ومائة - فأجفلت قريش في جنازة كثير، ولم يوجد لعكرمة من يحمله.(21/165)
كدام بن حيان العنزي
من تابعي أهل الكوفة. كان من الشيعة الذين أخذوا مع حجر بن عدي، وقدم بهم على معاوية إلى عذراء، فقتل كدام مع حجر.
كريب بن أبرهة بن الصباح
ابن مرثد بن ينكف بن نيف بن معدي كرب بن عبد الله بن عمرو بن ذي أصبح - واسمه الحارث - بن مالك بن زيد بن غوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن عوف بن حمير بن قطن بن عوف بن زهير بن أيمن بن حمير بن سبأ، أبو رشدين - ويقال: أبو راشد - الأصبحي يقال: إن له صحبة. قدم دمشق وافداً على معاوية، وعلى عبد الملك بن مروان.
عن ثوبان بن شهر قال: سمعت كريب بن أبرهة وكان جالساً مع عبد الملك في سطح بدير المران - وذكر الكبر - فقال كريب: سمعت أبا ريحانة يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا يدخل شيء من الكبر الجنة ". فقال قائل: يا رسول الله، إني أحب أن أتجمل بعلاق سوطي، وشسع نعلي، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن ذلك ليس بالكبر، إن الله جميل يحب الجمال، إنما الكبر من سفه الحق، وغمص الناس بعيبه ".
قال يحيى بن عبد الحميد العامري: قدم الشام: ذو الكلاع، وحوشب، وبحير بن ريسان، وبنو أبرهة بن الصباح: كريب بن أبرهة، والصباح بن أبرهة، وأخ لهم ثالث.(21/166)
قال عبد العزيز بن مروان لكريب بن أبرهة بن الصباح: يا كريب، أشهدت خطبة عمر بن الخطاب بالجابية؟ قال: حضرتها وأنا غلام في إزار أسمع خطبته، ولا أدري ما يقول.
عن أبي ولعة شيخ من عك قال: قدم علينا كريب من مصر يريد معاوية، فزرناه.
قال أبو سعيد بن يونس: كريب بن أبرهة بن الصباح بن لهيعة بن معدي كرب الأصبحي، يكنى أبا رشدين. أمه كبشة بن عيدان بن ربيعة بن عيدان الحضرمي. شهد فتح مصر، واختلط بجيزة فسطاط مصر، وأدركت قصره بالجيزة قائماً بحاله معروف مشهور حتى هدمه ذكاء الأعور - أمير كان على مصر - ونقل عمده وطوبه فابتنى به القيسارية الجديدة المعروفة بقيسارية ذكاء، يباع فيها البزر. وقد ولي لعبد العزيز بن مروان رابطة الإسكندرية، وكان شريفاً بمصر في أيامه. توفي كريب بن أبرهة سنة خمس وسبعين.
عن يعقوب بن عبد الله قال: دخلنا مصر في ولاية عبد العزيز بن مروان فرأيت كريب بن أبرهة يخرج من عند عبد العزيز، فيمشي تحت ركابه خمسمائة من حمير.
عن سليم بن عتر قال: لقينا كريب بن أبرهة راكباً، وراءه غلام له، فقال: سمعت أبا الدرداء يقول: لا يزال العبد يزداد من الله بعداً كلما مشي خلفه.
قال ابن بكير: مات كريب أظنه سنة ثمان وسبعين.(21/167)
قال العجلي: كريب بن أبرهة تابعي ثقة، وكان من كبار التابعين.
كريب بن الصباح الحميري
شهد صفين مع معاوية، وقتل يومئذ. وكان موصوفاً من شدة البأس.
كريب بن أبي مسلم
أبو رشيدين مولى ابن عباس الهاشمي المكي بعثته أم الفضل والدة ابن عباس إلى معاوية رسولاً.
قال: فقدمت الشام، فقضيت حاجتها، واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ورآه الناس، وصاموا، وصام معاوية، فقدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، قال: أنت رأيته ليلة الجمعة؟ فقلت: نعم أنا رأيته ليلة الجمعة، ورآه الناس، وصاموا، وصام معاوية، قال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: أولا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن كريب مولى ابن عباس
أن عبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن أزهر، والمسور بن مخرمة أرسلوه إلى عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعاً، وسلها عن الركعتين بعد العصر وقل: إنا أخبرنا أنك تصليهما، وقد بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عنهما قال ابن عباس: وكنت أضرب مع عمر بن الخطاب الناس عليهما - قال كريب: فدخلت عليها، وبلغتها ما أرسلوني به، فقالت: سل أم سلمة. فخرجت إليهم، فأخبرتهم بقولها،(21/168)
فردوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة، فقالت أم سلمة: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عنهما، ثم رأيته يصليهما، أما حين صلاهما، فأنه صلى العصر ثم دخل علي وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار، فصلاهما، فأسلت إليه الجارية، فقلت: قومي بجنبه، فقولي له تقول أم سلمة: يا رسول الله، إني سمعتك تنهى عن الركعتين وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، قالت: ففعلت، فأشار بيده، فاستأخرت عنه. قال: " يا ابنة أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر؛ إنه أتاني أناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر وهما هاتان ".
قال محمد بن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة: كريب مولى عبد الله بن عباس، يكنى أبا رشدين. وكان ثقة حسن الحديث.
قال عثمان بن سعيد: قلت ليحيى بن معين: كريب أحب إليك أو عكرمة؟ فقال: كلاهما ثقة.
عن مجاهد، عن ابن عباس أنه كان يسمي عبيدة بأسماء العرب: عكرمة، ومسمع، وكريب، وأنه قال لهم: تزوجوا؛ فإن العبد إذا زنى نزع منه نور الإيمان، رد إليه بعد أو أمسكه.
عن موسى بن عقبة قال: وضع عندنا كريب حمل بعير من كتب ابن عباس؛ فكان علي بن عبد الله بن عباس إذا أراد الكتاب كتب إليه: ابعث إلي بصحيفة كذا وكذا، فينسخها ويبعث بها.
مات كريب مولى ابن عباس سنة ثمان وتسعين.
كريم بن عفيف بن عبد الله
ابن كعب الخثعمي الكوفي تابعي، ممن حمل مع حجر بن عدي إلى عذراء، فكلم شمر بن عبد الله القحافي معاوية فيه، فوهبه له، وحبسه مدة، ثم أطلقه، فسكن الموصل، مات بها قبل معاوية بشهر.(21/169)
كعب بن جعيل بن قمير
ابن عجرة بن ثعلبة بن عوف بن مالك بن بكر بن حبيب بن عمرو ابن غنم بن تغلب بن وائل التغلبي الشاعر سائر القول، مشهور الشعر. وفد على معاوية. وله مدائح في عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وغيره. وبقي حتى وفد على الوليد بن عبد الملك، ومدحه.
ذكره ابن سلام في الطبقة الثالثة من الشعراء الإسلاميين، وقال: شاعر مفلق قديم الإسلام، أقدم من الأخطل والقطامي، ولقد لحقا به، وكانا معه، وهو الذي يقول: " من الطويل "
وأبيض جني عليه سموطه ... من الإنس في قصر منيف غواربه
تدليته سقط الندى بعد هجعه ... فبت أمنيه المنى وأخالبه
بما ينزل الأروى من الشعف الطلى ... وما لو يسني حية لان جوانبه
ندمت على شتم العشيرة بعدما ... مضى واستتبت للرواة مذاهبه
فأصبحت لا أستطيع دفعاً لما مضى ... كما لا يرد الدر في الضرع حالبه(21/170)
معاوي انصف تغلب بنة وائل ... من الناس أو دعها وحياً تضاربه
قليل على باب الأمير لباثتي إذا رابني باب الأمير وحاجبه
ولما تداروا في تراث محمد ... سمت بابن هند في قريش مضاربه
قال مصعب بن عبد الله: زعموا أن معاوية قال لكعب بن جعيل بعد موت عبد الرحمن: ليس للشاعر عهد، قد كان عبد الرحمن - يعني ابن خالد - لك صديقاً، فلما مات نسيته، فقال: ما فعلت، ولقد قلت فيه بعد موته: " من الوافر "
ألا تبكي وما ظلمت قريش ... بإعوال البكاء على فتاها
ولو سئلت دمشق وبعلبك ... وحمص من أباح لكم حماها
فسيف الله أدخلها المنايا ... وهدم حصنها وحوى قراها
وأنزلها معاوية بن حرب ... وكانت أرضه أرضاً سواها
فلم يزل معاوية متقياً لكعب بن جعيل مكرماً له حتى مات.
عن الأصمعي قال: كان أبو جهمة الأسدي قد خص بني تغلب جميعاً بالهجاء، فقال كعب بن جعيل: " من الوافر "
بنا كثرت بنو أسد فتخشى ... لكثرتها ولا عز القليل
قبيلة تردد في معد ... خدودهم أذل من السبيل
تمنى أن تكون أخا قريش ... شحيج البغل يأذن للصهيل(21/171)
وقال: " من الطويل "
إذا احمر بأس الناس ألفيت شرهم ... بني أسد، إني بما قلت عارف
أغاروا علينا يسرقون رحالنا ... وليس لنا في مرج صفين قائف
قال كعب بن جعيل: إني قد هجوت نفسي ببيتين، وضمزت عليهما، فمن أصابهما فهو الشاعر؛ فقال الأخطل: " من المتقارب "
سميت كعباً بشر العظام ... وكان أبوك يسمى الجعل
وكان محلك من وائل ... محل القراد من است الجمل
فقال: هما هذان.
وجعيل: بالجيم وفتح العين وسكون الياء المعجمة باثنتين من تحتها.
كعب بن حامد
ويقال: حامز بالزاي - بن سلمة ابن جابر بن شراحيل بن ربيعة ذي الأربعة العنسي الداراني كان على شرطة عبد الملك بن مروان، وقيل: على شرطة الوليد وسليمان ابني عبد الملك، فلما ولي عمر بن عبد العزيز عزله، فلما ملي يزيد بن عبد الملك أعاده، وأقره هشام ثلاث عشرة سنة، ثم بعثه إلى أرمينية أميراً بعد قتل الجراح بن عبد الله الحكمي.
وقيل أنه كان على شرطة عمر بن عبد العزيز.(21/172)
قال يحيى بن حمزة: حدثني عمرو بن مهاجر أن كعب بن حامد - يعني عمر - بسارق قد قطعت يده، أخذ في فسطاط قد أخرج عامة المتاع، فوضعه في خرج، ثم وضعه على دابته، ودابته مربوطة بوتد الفسطاط، فسال كعباً: كيف أخذه، فأخبره، فضربه دون المائة ضرباً وجيعاً، ثم قال: يا عمرو، خذه إليك، فأخذته، فأومأ إلي أن ألبسه جلداً. قال: ثم سألني عنه بعد ليلتين: ما فعل الرجل الذي ضربنا؟ فقلت: عندي يا أمير المؤمنين، قال: هل أكل؟ قلت: نعم، قال: فألبسته جلداً؟ قلت نعم، قال: فإذا كان في ثلث الليل فسرحه.
كعب بن خريم بن جندب
أبو حارثة المري روى عن يعلى بن بشر الخفاجي، عن نابغة بن جعدة قال: أنشدت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا عن يمينه: " من الطويل "
نحلي بأرطال اللجين سيوفنا ... ونعلو بها يوم الهياج السنورا
علونا العباد عفة وتكرماً ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إلى أين لا أم لك؟ " قال: قلت: إلى الجنة يا رسول الله، قال: " أجل إن شاء الله يا أبا ليلى ". ثم أنشدته: " من الطويل "
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أجدت، لا يفضض الله فاك ". قال: فلقد رأيته بعد عشرين ومائة سنة وأن لأسنانه أشراً كأنه البرد.(21/173)
قال أبو نصر الحافظ: حارثة بحاء مهملة وبعد الراء ثاء معجمة بثلاث، وخريم: أوله خاء معجمة مضمومة ثم راء مفتوحة: أبو حارثة كعب بن خريم المري الدمشقي.
كان أبو حارثة شيخاً صادقاً صدوقاًز
كعب بن عبد الله
ويقال: ابن مالك القيسي المعروف بالمخبل عن رباح بن قطيب بن زيد الأسدي قال: كانت عند رجل من بني قيس يقال له: كعب بنت عم له، وكانت أحب الناس إليه، فخلا بها ذات يوم، فنظر إليها وهي واضعة ثيابها، فقال، يا أم عمر، هل ترين أن الله خلق أحسن منك؟ قالت: نعم، أختي ميلاء هي أحسن مني، قال: فإني أحب أن أنظر إليها، فقالت: إن علمت بك لم تخرج، ولكن كن من وراء الستر. ففعل. وأرسلت إليها، وجاءتها، فلما نظر إليها عشقها، وانتظرها حتى روحت إلى أهلها، فعارضها، فشكا إليها حبها، فقالت: والله يا بن عم ما وجدت من شيء إلا وقد وقع لك في قلبي أكثر منه. وعادت مرة أخرى، فأتتهما أم عمر وهما لا يعلمان فرأتهما جالسين، فمضت إلى إخوتها، وكانوا سبعة، فقالت: إما أن تزوجوا ميلاء كعباً، وإما أن تكفوني أمرها. وبلغه الخبر ووقوف إخوتها على ذلك، فرمى بنفسه نحو الشام حياء منهم. وكان منزله منزل أهل الحجاز فلم يدر أهله، ولا بنو عمه أين ذهب، فقال كعب: " من الطويل "
أفي كل يوم أنت من لاعج الهوى ... إلى الشم من أعلام ميلاء ناظر
بعمشاء من طول البكاء كأنها ... بها خزر أو طرفها متخازر(21/174)
تمنى المنى حتى إذا ملت المنى ... جرى واكف من دمعها متبادر
كما ارفض سلك بعدما ضم ضمة ... بخيط الفتيل اللؤلؤ المتناثر
قال: فرواه عنه رجل من أهل الشام، ثم خرج ذلك الشامي يريد مكة، فاجتاز بأم عمرو وأختها ميلاء، وقد ضل الطريق، فذكر - لما نادت: يا ميلاء - شعر كعب، فتمثل به، فعرفت أم عمرو الشعر، فقالت: يا عبد الله، من أين أقبلت؟ قال: من الشام، قالت: وممن سمعت هذا الشعر؟ قال: من رجل من أهل الشام، قالت: أوتدري ما اسمه؟ قال: سمعت أنه كعب، قالت: فأقسمنا عليك ألا تبرح حتى يسمع إخوتنا قولك، فنحسن إليك نحن وهم، فقد أنعمت علينا، فقال: أفعل، وإني لأروي له شعر آخر، فما أدري أتعرفانه أم لا، فقالت: نسألك بالله إلا أسمعتناه، قال: سمعته يقول: " من الطويل "
خليلي قد رمت الأمور وقستها ... بنفسي وبالفتيان كل زمان
ولم أخف شراً للصديق، ولم أجد ... خلياً ولا ذا البث يستويان
من الناس إنسانان ديني عليهما ... مليان لو شاءا لقد قضياني
خليلي أما أم عمر وفمنهما ... وأما عن الأخرى فلا تسلاني
بلينا بهجران ولم أر مثلنا ... من الناس إنسانين يهتجران
أشد مصافاة وأبعد من قلى ... وأعضى لواش حين يكتنفان
تحدث طرفانا بما في صدورنا ... إذا استعجمت بالمنطق الشفتان
فو الله ما أدري أكل ذوي الهوى ... على ما بنا أم نحن مبتليان
فلا تعجبا مما بي اليوم من هوى ... فبي كل يوم مثل ما تريان
خليلي عن أي الذي كان بيننا ... من الوصل أم ماضي الهوى تسلان
وكنا كريمي معشر خط بيننا ... هوى فحفظناه بحسن صيان(21/175)
فما زادنا بعد المدى نقض مرة ... ولا رجعا من علمنا ببيان
سلاه بأم العمر من هي إذ بدا ... به سقم جم وطول ضمان
خليلي لا والله مالي بالذي ... تريدان من هجر الحبيب يدان
ولا لي بالشر اعتلاء إذا نأت ... كما أنتما بالشر معتليان
قال: ونزل الرجل، ووضع رحله حتى جاء إخوتها، فأخبرتهم الخبر، وكانوا مهتمين بكعب، وكان ابن عمهم وأشعرهم وأظرفهم. فأكرموا الرجل، وحملوه على راحلة، ودلوه على الطرق. وطلبوا كعباً فأقبلوا به، حتى إذا كانوا في ناحية مال أهلهم إذا الناس اجتمعوا عند البيوت. وقد كان كعب ترك بنياً له صغيراً، فوجهوه في ناحية المال، فقال كعب: ويحك يا غليم! من أبوك؟ قال: رجل يقال له كعب، قال وعلى أي شيء قد اجتمع الناس؟ - وأحس قلبه بشر - قال: قد اجتمعوا على خالتي ميلاء، قال: وما قصتها؟ قال: ماتت. فزفر زفرة مات منها مكانه، فدفن حذاء قبرها.
وروى الحافظ الخبر من طيق آخر فيه: المخبل، وهو كعب بن مالك، وقيل: كعب بن عبد الله، من بني لأي بن شأس بن أنف الناقةز
كعب بن عجرة
أبو محمد، وبقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو إسحاق الأنصاري السالمي المديني من بلي. حليف قوقل ابن عوف بن الخزرج. من أهل بيعة الرضوان بالحديبية. وشهد غزوة دومة الجندل، ثم قدم الشام مرة اخرى.(21/176)
عن كعب بن عجرة قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديبية، ونحن محرومون، وقد حصره المشركون، وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تساقط على وجهي، فمر بي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " أتؤذيك هوام رأسك؟ " قلت: نعم. فأمره أن يحلق، قال: ونزلت هذه الآية: " فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ".
ومن طريق آخر عن كعب بن عجرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر به وهو بالحديبية، وهو محرم، يوقد تحت قدر والقمل يتهاتف على وجهه، قال: " احلق رأسك، وأطعم فرقاً بين ستة مساكين - والفرق ثلاثة آصع - أو صم ثلاثة أيام، أو انسك نسيكة - وفي رواية: أو اذبح شاة ".
قال واثلة بن الأسقع: حتى إذا بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالد بن الوليد إلى أكيدر الكندي بدومة الجندل خرج كعب بن عجرة في جيش خالد وخرجت معه، فأصبنا فيئاً كثيراً، فقسمه خالد بيننا، فأصابني ست قلائص.
لم يجد محمد بن سعد كاتب الواقدي نسبه في " كتاب الأنصار "، وقال محمد بن هشام الكلبي: هو كعب بن عجرة بن أمية بن عدي بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن عوف بن غنم بن سويد بن مري بن أراشة بن عامر بن عبيلة بن قسميل بن فران بن بلي بن(21/177)
إلحاف بن قضاعة. واختلف فيه، فقيل: هو حليف لبني قوقل من بني عوف بن الخزرج. وقال محمد بن عمر الواقدي: هو من أنفسهم، ليس بحليف، تأخر إسلامه، ثم أسلم، وشهد المشاهدز قال أبو نصر بن ماكولا: وأما سواد - بضم السين وتخفيف الواو - فهو: سواد بن مري بن أراشة من ولده كعب بن عجرة بن أمية بن عدي بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن عوف بن غنم بن سواد.
وكان كعب بن عجرة قد استأخر إسلامه، وكان له صنم في بيته يكرمه، ويمسحه من الغبار، ويضع عليه ثوباً. وكان يكلم في الإسلام فيأباه. وكان عبادة بن الصامت له خليلاً. فقعد له يوماً يرصده، فلما خرج من بيته دخل عبادة ومعه قدوم، وزوجته عند أهلها، فجعل يفلذه فلذة فلذة وهو يقول: " ألا كل ما يدعى مع الله باطلاً " ثم خرج وأغلق الباب، فرجع كعب إلى بيته، فنظر إلى الصنم قد كسر، فقال: هذا عمل عبادة! فخرج مغضباً وهو يريد أن يشاتم عبادة، إلى أن فكر في نفسه، فقال: ما عند هذا الصنم من طائل، لو كان عنده طائل حيث جعله جذاذاً لامتنع. ومضى حتى دق على عبادة، فأشفق عبادة أن يقع به، فدخل عليه، فقال: قد رأيت أن لو كان عنده طائل ماتركك تصنع به ما رأيت؛ وأني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. قال: ثم شهب كعب بعد ذلك المشاهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن كعب بن عجرة قال: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً فرأيته متغيراً، قال: قلت: بأبي أنت، مالي أراك متغيراً؟ قال: " ما دخل جوفي ما يدخل جوف ذات كبد منذ ثلاث "، قال: فذهبت،(21/178)
فإذا يهودي يسقي إبلاً له، فسقيت له على كل دلو بتمرة، فجمعت تمراً، فأتيت به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " من أين لك يا كعب؟ " فأخبرته، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتحبني يا كعب "؟ قلت: بأبي أنت، نعم، قال: " إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى معادته، وإنه سيصيبك بلاء، فأعد له ". قال: ففقده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " ما فعل كعب؟ " قالوا مريض، فخرج يمشي حتى دخل عليه، فقال له: " أبشر يا كعب "، فقالت أمه: هنيئاً لك الجنة يا كعب، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من هذه المتألية على الله؟ " قال: هي أمي يا رسول الله، قال: " ما يدريك يا أم كعباً، لعل كعباً قال ما لا ينفعه، أو منع ما لا يغنيه ".
عن ثابت بن عبيد قال: بعثني أبي إلى كعب بن عجرة، فأتيت رجلاً أقطع. فأتيت أبي، فقلت: بعثتني إلى رجل أقطع! فقال: إن يده قد دخلت الجنة، وسيتبعها ما بقي من جسده إن شاء الله.
عن الحسن قال: رحلت إلى كعب بن عجرة من البصرة إلى الكوفة، فقلت: ما كان فداؤك حين أصابك الأذى؟ قال: شاة.
عن مولى كعب بن عجرة قال: أشهد لرأيت أربعة، أو خمسة، من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبسون المعصفر المشبع، منهم كعب بن عجرة.
سنة إحدى وخمسين، أو اثنتين وخمسين مات كعب بن عجرة، وهو يومئذ ابن خمس وسبعين سنة، وقيل: ابن سبع وسبعين سنة، وقد انقرض عقبه.(21/179)
كعب بن عمير الغفاري
وجهه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ذات أطلاح من أرض البلقاء.
عن الزهري قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلاً، حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام، فوجدوا جمعاً من جمعهم كثير، فدعوهم إلى ال فوجدوا جمعاً من جمعهم كثير، فدعوهم إلى الإسلام، فلو يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنبل، فلما رأى ذلك أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتلوهم أشد القتال حتى قتلوا، فأفلت منهم رجل جريح في القتلى، فلما برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم بالبعث إليهم، فبلغه أنهم قد ساروا آخر، فتركهم.
قال محمد بن سعد: سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح - وهي من وراء وادي القرى - في شهر ربيع الأول سنة ثمان من مهاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كعب بن ماتع بن هيتوع
- ويقال: هلسوع - بن ذي هجري بن ميتم بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد - ويقال: كعب بن ماتع بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن عوف بن حمير بن فطن بن عوف بن زهير بن أيمن بن حمير بن سبأ أبو إسحاق الحميري من آل ذي رغين - ويقال: من ذي الكلاع - ثم من بني ميتم المعروف بكعب(21/180)
الأحبار. من مسلمة أهل الكتاب. أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسلم في خلافة أبي لكر، ويقال: في خلافة عمر. قدم الشام، وسكن حمص.
روى عن عمر بن الخطاب قال: أسر إلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " إن أخوف من أخاف على أمتي أئمة مضلين ". قال كعب: فقلت: والله ما أخاف على هذه الأمة غيرهم.
قال أبو أحمد العسكري: كعب الحبر هو ابن ماتع، ويقال بكسر الحاء، وفتحها أكثر.
قال علي بن هبة الله: وأما ميتم - بفتح الميم وسكون الياء وبعدها تاء مفتوحة معجمة باثنتين من فوقها - في نسب حمير: ميتم بن سعد بطن في ذي الكلاع رهط كعب الأحبار بن ماتع بن هيسوع بن ذي هجران بن سمي.
عن أبي إدريس الخولاني قال: كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب الحبر، وكان يلزمه إبطاءه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: وبعثني إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال كعب: وخرجت حتى أتيت ذا قرنات، فقال لي: أين تأخذ ياكعب؟ فقلت: أريد هذا النبي، فقال: والله لئن كان نبياً إنه الآن لتحت التراب. فخرجت، فإذا أنا براكب، فقلت: الخبر، فقال: مات محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وارتدت العرب.
قال أبو مسهر: كان سعيد بن عبد العزيز يقول: أسلم كعب على يدي أبي بكر.
قال أبو نعيم: كعب بن ماتع الحبر، أبو إسحاق، أدرك عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يره. كان إسلامه في خلافة عمر.(21/181)
وذلك أنه مر برجل من أصاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يقرأ هذه الآية: " يا أيها الذين أوتوا الكتاب الكتاب آمنوا بما أنزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولا ". قال: فأسلم كعب، ثم قدم على عمر بن الخطاب، ثم استأذنه بعد في غزو الروم، فأذن له.
قالوا: ووقع الطاعون بعد بالشام، ومصر، والعراق، واستعز بالشام، ومات فيه الناس الذين هم الناس، في المحرم، وصفر. وارتفع عن الناس، وكتبو بذلك إلى عمر - ما خلا الشام - فخرج حتى إذا كان منها قريباً بلغه أنه أشد ما كان، فقال: - وقال الصحابة - قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كان بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا عليكم "، فرجع، حتى ارتفع عنها، وكتبوا إليه بذلك، وبما في أيديهم من المواريث، فجمع الناس في سنة سبع عشرة في جمادى الأولى، فاستشارهم في البلدان، فقال: إني قد بدا لي أن أطوف على المسلمين في بلدانهم، ولأنظر في آثارهم فأشيروا علي. وكعب الأحبار في القوم، وفي تلك السنة أسلم في إمارة عمر.
عن سعيد بن المسيب قال: قال العباس رضي الله عنه لكعب: ما منعك أن تسلم على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر حتى أسلمت الآن على عهد عمر - رضي الله عنه - فقال كعب: إن أبي كتب لي كتاباً من التوراة، ودفعه إلي، وقال: اعمل بهذا، وختم على سائر كتبه، وأخذ علي بحق الوالد على ولده ألا أفض الخاتم. فلما كان الآن ورأيت الإسلام يظهر، ولم أر بأساً قالت لي نفسي: لعل أباك غيب عنك علماً كتمك، فلو قرأته، فضضت للخاتم، فقرأته، فوجدت فيه صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته، فجئت الآن مسلماً. فوالى العباس.
وقد قيل إنه أسلم في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على يدي علي، وتأخرت هجرته إلى زمن عمر.(21/182)
عن يونس بن ميسرة بن حلبس قال: لما قدم علي اليمن خطب بها، وبلغ كعب الأخبار قيامه بخطبته فأقبل على راحلته في حلة ومعه حبر من أحبار يهود حتى استمعا له، فوافقاه وهو يقول:
أن من الناس من يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار. فقال كعب: صدق، فقال علي: ومنهم من لا يبصر بالليل، ولا يبصر بالنهار، فقال كعب: صدق. ومن يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة. فقال كعب: صدق. فقال الحبر: وكيف تصدقه؟! قال: أما قوله: من الناس من يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار فهو المؤمن بالكتاب الأول، ولا يؤمن بالكتاب الآخر. وأما قوله: منهم من لا يبصر بالليل، ولا يبصر بالنهار، فهو الذي لا يؤمن بالكتاب الأول ولا الآخر. وأما قوله من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة فهو ما يقبل الله من الصدقات، قال: وهو مثل رأيته بين. قالوا: وجاء كعباص سائلاً فأعطاه حلته - ومضى الحبر مغضباً.
ومثلت بين يدي كعب امرأة تقول: من يبادل راحلة براحلة؟ فقال كعب: وزيادة حلة؟ قالت: نعم. فأخذ كعب وأعطى، وركب الراحلة، ولبس الحلة، وأسرع المسير حتى لحق الحبر وهو يقول: من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة! قال كعب الأحبار: لما قدم علي اليمن لقيته، فقلت: أخبرني عن صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل يخبرني عنه، وجعلت أتبسم، فقال: مم تتبسم؟ فقال: مما يوافق ما عندنا في صفته، فقلت: ما يحل وما يحرم؟ فأخبرني، فقلت: هو عندنا كما وصفت. وصدقت برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وآمنت به، ودعوت من قبلنا من أحبارنا، وأخرجت إليهم سفراً فقلت: هذا كان أبي يختمه علي ويقول: لا تفتحه حتى تسمع بنبي يخرج بيثرب. قال: فأقمت باليمن على إسلامي حتى توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتوفي أبو بكر فقدمت في خلافة عمر بن الخطاب، ويا ليت أني كنت تقدمت في الهجرة!(21/183)
عن كعب قال: يلومني أحبار بني إسرائيل أني دخلت في أمة فرقهم الله أولاً ثم جمعهم، فأدخلهم الجنة جميعاً. ثم تلا هذه الآية: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه " حتى بلغ " جنات عدن يدخلونها ".
قال ابن جريج: سمعت عطاء يقول: " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات "، وزعم أن هؤلاء الأصناف الثلاثة نحن أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وزعم أن قوله: " جنات عدن يدخلونها " في هؤلاء الأصناف الثلاثة، وأن كعباً قال: هم أمة محمد هؤلاء الأصناف الثلاثة. فأنا أقيم على اليهودية، وأدع هذا الدين!؟ عن أبي المتوكل الناجي قال: أتى حبر من أحبار اليهود إلى كعب، فقال: تركت دين موسى، وتبعت دين محمد؟ قال: أنا على دين موسى وتبعت دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ولم ذاك؟ قال: إني وجدت أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسمون يوم القيامة ثلاثة أثلاث: ثلثاً يدخلون الجنة بغير حساب، وثلثاً يحاسبون حساباً يسيراً ويدخلون الجنة، وثلثاً يقول الله لملائكته: قلبوا عبادي ما كانوا يعملون، فيقلبوهم، فيقولون: يا ربنا، نرى ذنوباً كثيرة، وخطايا عظيمة. ثم يقول ذلك ثلاث مرات. ثم يقول: قلبوا ألسنتهم فانظروا ما كانوا يقولون، فيقلبون ألسنتهم، فيقولون: يا ربنا، نراهم كانوا يخلصون لك، لا يشركون بك شيئاً، فيقول: اشهدوا ملائكتي أني قد غفرت لهم فيما أخلصوا، ولم يشركوا بي شيئاً. فقال له الحبر: فإن كنت صادقاً ما كسوت رب العالمين؟ - وذكر الحكاية إلى أن قال: - قال: فقال له الحبر: صدقت، وأسلم.
قال كعب الحبر: لولا كلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت لجعلني اليهود كلباً نباحاً، أو حماراً(21/184)
نهاقاً من سحرهم، فأدعوا بهن أسلم من سحرهم: " أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، أعوذ بوجه الله العظيم الجليل، الذي لا يخفر جاره، والذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه من شر السامة والعامة، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شرما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ، وبرأ، ومن شر كل دابة هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ".
حدث كعب أن عمر قال له:
يا كعب، خوفنا. قال: قلت: يا أمير المؤمنين، أليس فيكم كتاب الله - تبارك وتعالى - وحكمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: بلى، ولكن خوفنا، قال: قلت: يا أمير المؤمنين اعمل عمل رجل واحد، لو وافيت يوم القيامة بعمل سبعين نبياً لازدريت بعملك مما ترى. قال: فأطرق عمر ملياً، ثم أفاق، وقال: زدنا يا كعب، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو فتح قدر منخر ثور من جهنم بالمشرق، ورجل بالمغرب لغى دماغه حتى يسيل من شدة حرها. قال: فأطرق عمر، ثم أفاق، فقال: زدنا ياكعب، فقلت: يا أمير المؤمنين إن جهنم لتزفر زفرة ما يبقى ملك مقرب، ولا نبي مصطفى إلا خر جاثياً لركبتيه، حتى أن إبراهيم خليل الله - تبارك وتعالى - ليخر جاثياً لركبتيه، ويقول: يا رب، لا أسألك إلا نفسي. قال: فأطرق عمر ملياً، ثم أفاق، فقلت: يا أمير المؤمنين، أليس هذا في كتاب الله - تبارك وتعالى؟ قال: أين؟ قلت: " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " الآية.
كان كعب عند عمر بن الخطاب، فتباعد في مجلسه، فأنكر ذلك عليه، فقال كعب: يا أمير المؤمنين، إن في حكمة لقمان ووصيته لابنه: " يا بني، إذا جلست إلى ذي سلطان فليكن بينك وبينه مقعد رجل، فلعله يأتيه من عو آثر عنده منك، فتنحى عنه، فيكون ذلك نقصاً عليك ".
كان كعب عند عمر بن الخطاب، فتباعد في مجلسه، فأنكر ذلك عليه، فقال كعب: يا أمير المؤمنين، إن في حكمة لقمان ووصيته لابنه: " يا بني، إذا جلست إلى ذي سلطان فليكن بينك وبينه مقعد رجل، فلعله يأتيه من هو آثر عنده منك، فتنحى عنه، فيكون ذلك نقصاً عليك ".
لما قتل ابن الزبير وجد الحجاج صندوقا في خزانة، عليه أقفال حديد، ففتحت،(21/185)
وتعجب الحجاج من ذلك، وقال: أرى في هذه الأشياء، فإذا صندوق آخر عليه الأقفال، ففتحت، فإذا سفط فيه درج، ففتحته، فإذا فيه صحيفة فيها: إذا كان الحديث حلفاً، والمقيت إلفاً، وكان الولد غيظاً، والشتاء قيظاً، وغاض الكرام غيضاً، وفاض الئام فيضاً فاعبر عبرتي جبل وعر خير من ملك بني النضر، حدثني بذلك كعب الحبر.
عن ابن أبي ذئب قال: استلقى عبد الله بن الزبير يوماً فرأى طائراً في جو السماء، فقال: حدثني بن كعب أنه لا يصعد طير يطير في السماء أكثر من اثني عشر ميلاً. قال: وما أصبت في سلطاني شيئاً إلا قد أخبرني به كعب قبل أن أليه.
عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير قال: قال معاوية: ألا إن أبا الدرداء أحد الحكماء، ألا إن عمر بن العاص أحد الحكماء، ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده لعلم كالثمار، وإن كنا فيه لمفرطين.
وسمع حميد بن عبد الرحمن معاوية يحدث رهطاً من قريش، وهو بالمدينة، فذكر كعب الأحبار، فقال: إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يتحدثون عن الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب.
عن روح بن زنباع قال: شهدت كعباً جاء إلى معاوية، فقام على باب الفسطاط، فناداه: يا معاوية، يا معاوية، يا معاوية، فخرج إليه، فأخذ بيده، فانطلقا جميعاً. فقلت: لأمر ما جاء كعب يدعو معاوية! فاتبعت أثرهما، فلما كنت قريباً منهما حيث أسمع كلامهما ولا أحب أن يرياني سمعت كعباً يقول: يا معاوية، والذي نفسي بيده إن في كتاب الله المنزل: محمد أحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أبو بكر الصديق - رحمه الله - عمر الفاروق، عثمان الأمين. فالله الله يا معاوية في أمر هذه الأمة. ثم ناداه الثانية: إن في كتاب الله المنزل، ثم عاد الثالثة.(21/186)
كان كعب يقص، فقال عبد الحمن بن عوف: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا يقص إلا أمير أو مأمور، أو محتال "، فأتي كعب، فقيل له: ثكلتك أمك، هذ عبد الرحمن يقول كذا وكذا، فترك القصص. ثم إن معاوية أمره بالقصص، فاستحل ذلك بعد.
قال عبد الله بن سلام لكعب، أو كعب لعبد الله بن سلام: ما يذهب العلم من صدور الرجال بعد إذ حفظوه؟ قال: الطمع وكثرة السؤال، والطلب إلى الناس الحوائج.
عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو لألحقنك بأرض دوس. وقال لكعب: لتتركن الحديث أولأجعلنك بأرض قردة.
عن أبي عبيدة قال:
جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، فقال: إن كعباً يقرأ عليك السلام، ويبشركم أن هذه الآية نزلت في أهل الكتاب: " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ". قال ابن مسعود: وعليه السلام، إذا أنت أتيته فاخبر أنها نزلت وهو يهودي.
عن قتادة أن كعباً قال: إن السماء تدور على قطب كقطب الرحى. فبلغ ذلك حديفة، فقال: كذب كعب! " إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ".
عن كعب قال: لأن أبكي من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بوزني ذهباً، وما من عينين بكتا(21/187)
من خشية الله في دار الدنيا إلا كان حقاً على الله - عز وجل - أن يضحكهما في الآخرة.
عن همام قال: دخلنا على كعب وهو مريض، فقلنا له: كيف تجدك يا أبا إسحاق؟ قال: أجدني جسداً مرتهناً بعملي، فإن بعثني الله من مرقدي بعثني ولا ذنب لي، وإن قبضني قبضني ولا ذنب لي.
عن أبي فوزة حدير السلمي قال: خرج بعث الصائفة، فاكتتب فيه كعب، فخرج البعث، وهو مريض، فقال: لأن أموت بحرستا أحب إلي من أن أموت بدمشق، ولأن أموت بدومة أحب إلي من أن أموت بحرستا، هكذا قدماً في سبيل الله - جل وعز - قال: فمضى، فلما كان بفج معلولاً قلت: أخبرني، قال: شغلتني نفسي. حتى إذا كان بحمص توفي بها، فدفناه هنالك بين زيتونات أرض حمص. ومضى البعث، فلم يقفل حتى جاء عثمان.
مات كعب الأحبار سنة اثنتين وثلاثين.
وقيل أن كعباً مات سنة أربع وثلاثين بذات الجوز من درب الحدث.
كعب بن مالك بن أبي كعب
واسمه عمرو بن القين بن كعب بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة ابن سعد بن علي بن أسد ابن سارذة بن يزيد بن جشم بن الخزرج، أبو عبد الله ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو بشير الأنصاري صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشاعره. روى عن النبي أحاديث صالحة، وشهد العقبة واحداًز قدم على معاوية بعد مقتل عثمان بن عفان.(21/188)
قال كعب بن مالك: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف وجوه الناس إليه أدخله الله النار ".
وعن كعب بن مالك، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " أرواح الشهداء في طير خضر تحلق من ثمر، أو شجر، الجنة ".
لما بويع علي بن أبي طالب بلغه عن حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، والنعمان بن بشير، وكانوا عثمانية، أنهم يقدمون بني أمية على بني هاشم، ويقولون: الشام خير من المدينة، واتصل بهم أن ذلك قد بلغه، فدخلوا عليه، فقال له كعب بن مالك: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن عثمان، أقتل ظالماً فنقول بقولك، أو قتل مظلوماً فتقول بقولنا، ونكلك إلى الشبهة، والعجب من يقيننا وشكك! وقد زعمت العرب أن عندك علم ما اختلفنا فيه، فهاته لنعرف، ثم قال: " من الطويل "
كف يديه ثم أغلق بابه ... وأيقن أن الله ليس بغافل
وقال لمن في داره لا تقاتلوا ... عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل
فكيف رأيت الله صب عليهم ال ... عداوة والبغضاء بعد التواصل
وكيف رأيت الخير أدبر عنهم ... وولى كإدبار النعام الجوافل
فقال لهم علي: لكم عندي ثلاثة أشياء: استأثر عثمان وأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع، وعند الله ما تختلفون فيه إلى يوم القيامة. فقالوا: لا ترضى بهذا العرب، ولا(21/189)
تعذرنا به، فقال علي: أيرد علي بين ظهراني المسلمين بلا نية صادقة، ولا حجة واضحة؟ اخرجوا، فلا تجاوروني في بلد أنا فيه أبداً. فخرجوا من يومهم، فساروا حتى أتوا معاوية، فقال لهم: لكم الكفاية أو الولاية، فأعطى حسان بن ثابت ألف دينار، وكعب بن مالك ألف دينار، وولى النعمان بن بشير حمص، ثم نقله إلى الكوفة بعدز قال محمد بن سعد: كعب بن مالك بن أبي كعب بن القين بن كعب بن مالك بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة، وهو شاعر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمه ليلى بنت زيد بن ثعلبة بن عبيد، من بني سلمة. شهد كعب العقبة في قولهم جميعاً.
قال محمد بن عمر: وقد سمعت أن كعب بن مالك كان يكنى أبا عبد الله، وكان قد شهد العقبة مع السبعين من الأنصار، وشهد كعب بن مالك أحداً والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما خلا تبوك، فإنه أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابن أبي حاتم:
كان من أهل الصفة، وكان ذهب بصره في خلافة معاوية، ومات وهو ابن سبع وسبعين، وذلك سنة خمسين.
قال ابن الكلبي: شهد بدراً مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو نعيم: شهد المشاهد كلها إلا بدراً، وتبوك. آخى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين طلحة بن عبيد الله.(21/190)
عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: لما حضرت كعباً الوفاة أتته أم بشر بنت البراء بن معرور، فقالت يا أبا عبد الرحمن، إن لقيت ابني فلاناً فاقرأ عليه مني السلام، فقال: غفر الله لك يا أم بشر، نحن أشغل من ذلك، فقالت: يا أبا عبد الرحمن، أما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن أرواح المؤمنين في طير خضر تعلق بشجرالجنة؟ " قال: بلى، قالت: فهو ذاك.
عن عبد الرحمن بن كعب قال: كنت قائد أبي كعب حين ذهب البصرة، وكنت إذا خرجت به إلى الجمعة، فسمع الآذان بها فصلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة قال: فمكث حيناً على ذلك، لا يسمع الآذان إلى الجمعة إلا صلى عليه، واستغفر له. فقلت له: يا أبه، مالك إذا سمعت الآذان بالجمعة صليت على أبي أمامة أسعد بن زرارة! قال: أي بني، كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم من حرة بني بياضة في بقيع يقال له: بقيع الخضمات، قال: وكم كنتم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلاً.
عن ابن إسحاق قال: آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين طلحة بن عبيد الله وبين كعب بن مالك أخي بني سلمة.
وعن عروة بن الزبير: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخى بين الزبير والعوام، وكعب بن مالك، فارتث كعب يوم أحد، فجاء به الزبير يقود راحلته بزمامها، ولو كان كعب مات يومئذ لورثه الزبير، فأنزل الله - عز وجل -: " وأولو الأرحام ببعضهم أولى ببعض في كتاب الله ".(21/191)
عن ابن شهاب قال: غبي خبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد على الناس كلهم إلا على ستة نفر: الزبير بن العوامن وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وكعب بن مالك، وأبي دجانة، وسهل بن حنيف.
قال كعب بن مالك: لما انكشف الناس يوم أحد كنت أول من عرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبشرت به المؤمنين حياً سوياً.
قال كعب: وأنا في الشعب، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كعباً بلأمته، وكانت صفراء - أو بعضها - فلبسها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته ولبسها كعب، وقاتل كعب يومئذ قتالاً شديداً حتى جرح سبعة عشر جرحاً.
عن أبي بشير المازني قال: لما صاح الشيطان أزب العقبة: إن محمد قد قتل، لما أراد الله من ذلك، سقط في أيدي المسلمين، وتفرقوا في كل وجه، وأصعدوا في الجبل، فكان أول من بشرهم برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سالماً كعب بن مالك. قال كعب: فجعلت أصيح ويشير إلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإصبعه على فيه أن اسكت! عن أبي المخارق محفوظ بن المسور: أن أبا سفيان بن حرب أقبل يوم أحد، فقال: يا معشر الأنصار، خلوا بيننا وبين إخواننا من قريش، فإنكم إن فعلتم رحلنا عنكم. فكاد ذلك يكسر في أذرع القوم، فقال(21/192)
كعب بن مالك الأنصاري يحرض الأنصار، وبعث بقصيدته هذه إلى أبي سفيان: " من الطويل "
أبلغ أبا سفيان أن أضالنا ... بأحمد نور من هدى الله ساطع
فلا ترغبن في حربنا أن تكيدنا ... وألب وجمع كل ما أنت جامع
ودونك فاعلم أن نقض عهودنا ... أباه الملا منا الذين تبايعوا
أباه البراء وابن عمرو كلاهما ... وأسعد يأباه عليك ورافع
وسعد أباه الساعدي ومنذر ... لأنفك إن حاولت ذلك جادع
وما ابن ربيع إن تناولت عهده ... بمسلمه لا يطمعن ثم طامع
وأيضاً فلا يعطيكه ابن رواحة ... وإخفاره من دونه السم ناقع
وفاء بهن والسالمي بن صامت ... بمندوحة عما تحاول يافع
أبو هيثم أيضاً جدير بمثلها ... وفي بما أعطى من العهد خانع
وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه ... ضروح بما يأتي من الأمر مانع
وما ابن حضير إن أردت بمطمع ... فهل أنت عن أحموقة الرأي نازع
ونحن نجوم من يغبك منهم ... عليك بنحس من دجى الليل طالع(21/193)
فهؤلاء الناس ذكرهم كعب بن مالك في قصيدته النقباء: البراء هو ابن معرور، وابن عمرو هو عبد الله والد جابر، وأسعد هو أبو أمامة، ورافع هو ابن مالك ابن عجلان، وسعد هو ابن عبادة، ومنذر هو ابن عمرو، وابن الربيع هو سعد بن الربيع، وابن رواحة هو عبد الله، والسالمي بن صامت هو عبادة، وأبو هيثم هو ابن التيهان، وسعد العمري هو ابن خيثمة، وابن حضير هو أسيد، وهم اثنا عشر نقيباً من الأنصار.
قال كعب بن مالك في غزوة بدر الموعد: " من الطويل "
وعدنا أبا سفيان بدراً فلم نجد ... لموعده صدقاً وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا ... رجعت ذميماً وافتقدت المواليا
تركنا بها أوصال عتبة وابنه ... وعمراً أبا جهل تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله، أف لدينكم ... وأمركم السيء الذي كان غاويا
وإني ولو عنفتموني لقائل ... فدى لرسول الله إهلي وماليا
أطعنا فلم نعدل سواه بغيره ... شهاباً لنا في ظامة الليل هاديا
عن جابر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لكعب بن مالك: " مانسي ربك، وما كان ربك بسياً، بيتاً قلته " قال: ما هو؟ قال: " أنشده يا أبا بكر "، فقال: " من الكامل "
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب(21/194)
عن مسور بن عبد الملك قال: مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكعب بن مالك وهو يقول: " من الطويل "
تجلدنا عن جذمنا كل قحمة ... مدربة فيها القوانس تلمع
قال: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عن ديننا يا كعب " عن محمد بن سيرين: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى كعب بن مالك على جمل قد سبق له حتى بلغ رأس المورك، فقال: " أين هو؟ " فجاء خلفه، فقال: " هيه "، فأنشده، فقال " " لهو أشد عليهم من وقع النبل ".
وقال: كان شعراء أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك.
عن عبد الرحمن بن غبد الله بن كعب بن مالك: أن كعب بن مالك حين أنزل الله في الشعر ما أنزل أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: إن الله قد أنزل في الشعر ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما تنظمونهم بالنبل ".
قال محمد بن سيرين: كان ثلاثة من الأنصار يهاجون عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حسان بت ثابت وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك. فأما حسان فكان يذكر عيوبهم وأيامهم، وأما عبد الله بن(21/195)
رواحة فكان يعيرهم بالكفر، وترددهم فيه، وأما كعب فكان يذكر الحرب فيقول: فعلنا، ونفعل، ويتهددهم.
عن عبد الوارث قال: كان شعبة يحقرني أبداً إذا ذكرت شيئاً. قال: فحدث يوماً عن ابن عون، عن ابن سيرين أن كعب بن مالك قال: " من الوافر "
قضينا من تهامة كل ريب ... وخيبرثم أجممنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوساً أو ثقيفا
وننتزع العروش عروش وج ... ونترك داركم منكم خلوفا
فلست لحاصن إن لم نزركم ... بساحة داركم منا ألوفا
قال: فقال شعبة: وننتزع العروس عروس وج فقلت له: يا أبا بسطام، وأي عروس ثمة؟ فقال: ويلك، ما هي؟؟؟؟! قلت: العروش، قال الله - عز وجل -: " فهي خاوية على عروشها "! فكان بعد ذلك يهابني ويجلني.
عن محمد بن سيرين قال: أسلمت دوس فرقاً من بيت قاله كعب بن مالك:
نخيرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوساً أو ثقيفا(21/196)
عن ابن عباس: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا "؛ كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية.
عن عبد الله بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، فقال كعب بن مالك:
لم أتخلف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة غيرها قط، إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفتفي غزوة بدر، ولم يعاتب أحد تخلف عنها؛ إنما خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد عير قريش حين جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العقبة حين توافقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها. وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى وأيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة؛ وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً، ومفازاً، واستقبل عدواً كثيراً. فجلا للمسلمين أمره ليتأهبوا أهبة عدوهم، وأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمين مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - فقال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له مالم ينزل فيه وحي من الله، وغزا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك الغزوة حين طابت الثمار والظل، فتجهز إليها رسول الله، والمؤمنون معه، وطفقت أغدي لكي أتجهز(21/197)
معه، فارجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين، ثم ألحقهم، فغدوت بعدما فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئاً من جهازي، ثم رجعت ولم أقض شيئاً؛ فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا، ونفارط الغزو، وههمت أن أرتحل فأدركهم، وليت أني فعلت، ثم لم يقدر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطفت فيهم يحزنني ألا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجل ممن عذر الله. ولم يذكرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بلغ تبوكاً، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: " ما فعل كعب بن مالك؟ " قال رجل من بني سلمة: حسيه يا رسول الله برداه، والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيراً. فسكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول اللهصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد توجه قافلاً في تبوك حضرني بثي، فطفقت أتفكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه عذراً، أستعين على ذلك كل رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أظل قادماً زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أنجو منه بشيء أبداً، فأجمعت صدقه، وصبح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علانيتهم، ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله حتى جئت. فلا سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: " تعال "، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: " ما خلفك؟ ألم تكن قد استمر ظهرك؟ "(21/198)
قال: فقلت: يا رسول الله، إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني أخرج من سخطته بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكنه والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله يسخطك علي، ولئن حدثتك بصدق، تجد علي فيه، إني لأرجو قرة عيني عفاً من الله، والله ما كان لي عذر، ووالله ما كنت قط أفرغ مني، ولا أيسر مني حين تخلفت عنك! قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقض الله فيك ". فقمت، وبادرت رجالاً من بني سلمة، فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما اعتذر به المخلفون، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لك. قال: والله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأكذب نفسي. قال ثم قلت لهم: هل لقي عذا معي أحد؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان، قالا ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: فقلت لهم: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي، قالك فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً، لي
فيها أسوة. قال: فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين عن كلامنا - أيها الثلاثة - من بين ما تخلف عنه. فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحبي فاستكنا، وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم، وأجلدهم؛ فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَوهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم عليه، فأقول في نفسي: حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي(21/199)
نظر إلي، فإذا التفت نحةه أعرض. حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي. فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك الله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت، قال: فعدت ونشدته، فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام، ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة، يقول من يدلني على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاء، فدفع إلي كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً، فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك قد جافاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. قال: فقرأتها، فقلت حين قرأتها: وهذ أيضاً من البلاء، قال: فتيممت بها التنور فسجرته بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتيني، فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرك أن تعتزل امرأتك، قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها، فلا تقربها. قال: وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك. قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت له: يا رسول الله، إن هلالاً شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه، قال: " لا، ولكن لا يقربنك "، قالت: فإنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما يزال يبكي لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ قال: فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أدري ما يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا استأذنته، وأنا رجل شاب، قال: فلبثنا بعد ذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسين ليلة حين نهى عن كلامنا. قال: ثم صليت صلاو الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا. فبينا أنا جالس على(21/200)
الحال التي ذكر الله منا، قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخاً أوفى على جبل سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر، قال: فخرجت ساجداً، وعرف أنه قد جاء فرج، وآذن رسول الله بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب مبشرونا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض إلي رجل فرساً وسعى ساع من أسلم، وأوفى الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي، فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين، فلبستهما، فانطلقت أؤم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة، يقولون لي: ليهنئك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس في المسجد حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني. وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره - قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة - قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وهو يبرق وجهه من السرور: " أبشر يخسر يوم مر عليك مذ ولدتك أمك "، قال: قلت: من عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله، قال: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطهة قمر، حتى يعرف ذلك منه. قال: فلما جلست بين يديه قال: قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله، وإلى رسوله. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أمسك بعض مالك، فهو خير لك "، قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر.
قال: فقلت: يا رسول الله، إنما الله نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث صدقاً ما بقيت. قال: فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن مما أبلاني الله؛ واللع ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومي هذا، وإني(21/201)
لأرجوا أن يحفظني فيما بقي. قال: وأنزل الله: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ". قال كعب: فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوئذ ألا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوه حين كذبوه؛ فإن الله قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما يقال لأحد؛ فقال الله - عز وجل -: " سيحلفون بالله لكم إذا انقلتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون. يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ". قال: وكنا خلفنا - أيها الثلاثة - عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين حلفوا له، فبايعهم، واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا حتى قضى الله في ذلك، قال اله - عز وجل -: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا ". وليس تخليفه إيانا، وإرجاءه أمرنا الذي ذكر بأننا خلفنا بتخلفنا عن الغزو، وإنما هو عمن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه. لت: يا رسول الله، إنما الله نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث صدقاً ما بقيت. قال: فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن مما أبلاني الله؛ واللع ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومي هذا، وإني لأرجوا أن يحفظني فيما بقي. قال: وأنزل الله: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ". قال كعب: فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوئذ ألا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوه حين كذبوه؛ فإن الله قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما يقال لأحد؛ فقال الله - عز وجل -: " سيحلفون بالله لكم إذا انقلتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون. يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ". قال: وكنا خلفنا - أيها الثلاثة - عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين حلفوا له، فبايعهم، واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا حتى قضى الله في ذلك، قال اله - عز وجل -: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا ". وليس تخليفه إيانا، وإرجاءه أمرنا الذي ذكر بأننا خلفنا بتخلفنا عن الغزو، وإنما هو عمن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه.
عن كعب بن مالك قال: لما نزلت توبتي قبلت يد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال كعب بن مالك في بعض أشعاره: " من البسيط "
إن يسلم المرء من قتل ومن هرم ... وملي العيش أبلاه الجديدان(21/202)
مات كعب سنة خمسين وهو ابن سبع وسبعين سنة، وقيل: سنة إحدى وخمسين. وقيل: مات سنة أربعين، وقيل: قبلها.
كعب بن معدان الأزدي
ثم الأشقري والأشاقر: قيلة من الأزد. أصله من عمان، وسكن خراسان. وكان أحد الشعراء الخطباء الشجعان، وله في حرب الأزارقة مع الملهب آثار. ووفد على عبد الملك بن مروان قال أحمد بن سيار:
كعب بن معدان الشقري، وهو من التابعين، وهو أبو فيروز بن كعب. رجل شريف، منزلهم فيما بين النهرين: نهر الرزيق، ونهر ماجان.
قال أبو نصر الحافظ: الأشقري: بالقاف.
عن المدائني قال: لما افتتح المهلب خراسان، ونفى عنها الخوارج، وتفرقت الأزارقة كتب الحجاج إلى ملهب أن اكتب إلي بخبر الوقعة، واشرح لي القصة حتى كأني شاهدها. فلما قرأ المهلب كتابه وجه إليه بكعب الأشقري، فلما قدم عليه أنشده قصيدته وهي ستون بيتاً يقتص فيها خبر الأزارقة، ولا يخرم شيئاً حتى وفاه الخبر، فقال له الحجاج: أخطيب أنت أم شاعر؟ قال: كل ذاك - أعز الله الأمير - فقال له الحجاج: أخبرني عن بني المهلب؟ فقال: المغيرة سيدهم، وكفاك بزيد فارساً، وما لقي الأبطال مثل حبيب، وما يستحي شجاع أن يفر عن مدرك، وعبد الملك موت ناقع، وحسبك بالمفضل في النجدة، وأسمحهم قبيصة، ومحمد فليث غاب.(21/203)
فقال له الحجاج: ما أراك فضلت عليهم واحداً منهم، فأخبرني عن جملتهم، ومن أفضلهم؟ قال: هم - أعز الله الأمير - كالحلقة، لا يدرى أين طرفها، فقال: إن خبر حربكم - كان بلغني - عظيماً، أفكذلك كان؟ قال: أعز الله الأمير، كان السماع بها دون العيان. قال: أخبرني كيف رضى المهلب عن بنيه، ورضى بنيه عنه؟ فقال: أعز الله الأمير، شفقة الوالد، وبر الولد، قال: أخبرني كيف فاتكم قطري؟ قال: كدناه في منزله فتحول عنه، وتوهم أنه قد كادنا بذلك، قال: فهلا اتبعتموه؟ فقال: إن الكلب إذا أجحر عقر. فأطرق الحجاج ملياً، ثم قال له: أكنت تهيأت لهذا الكلام؟ فقال: لا يعلم الغيب إلا الله، قال الحجاج: لقد كان المهلب أعلم بك مني إذ أرسلك إلي! قال محمد بن يزيد والعتبي: أفد المهلب بن أبي صفرة كعب بن معدان الأشقري ومعه مرة بن التليد الأزذي إلى الحجاج بخبر وقعة كانت له مع الأزارقة، فلما قدما عليه، ودخلا داره بدر كعب بن معدان فأنشد الحجاج قوله: " من البسيط "
يا حفص إن عداني عنكم السفر ... وقد سهرت فآذى عيني السهر
علقت يا كعب بعد الشيب غانية ... والشيب فيه عن الأهواء مزدجر
أممسك أنت عنها بالذي عهدت ... أم حبلها إذا نأتك اليوم منبتر
ذكرت خوداً بأعلى الطف منزلها ... في غرفة دونها الأبواب والحجر
وقد تركت بشط الزابيين لها ... داراً بها يسعد البادون والحضر(21/204)
واخترت داراً بها حي أسر بهم ... ما زال فيهم لمن تختاره خير
أبا سعيد إني سرت منتجعاً ... أرجو نوالك لما مسني الضرر
لما نبت بي بلادي سرت منتجعاً ... وطالب الخير مرتاد ومنتظر
لولا المهلب ما زرنا بلادهم ... ما دامت الأرض فيها الماء والشجر
وما من الناس من حي علمتهم ... إلا يرى فيهم من سيبكم أثر
أحييتهم بسجال من يديك كما ... تحيا البلاد إذا ما جادها المطر
إني لأرجو إذا ما فاقة نزلت ... فضلاً من الله في كفيك يبتدر
وهي قصيدة طويلة.
وقال كعب الأشقري في قتيبة بن مسلم: " من البسيط "
لا يدرك الناس ما قدمت من حسن ... ولا يفوتك مما قدموا شرف
عن المدائني: أن يزيد بن المهلب جبس كعباً لهجاء بلغه عنه، ودس إليه ابن أخ له، فقتله بعمان، لأنه هرب من خراسان إليها، وكان بين كعب وبين أخيه مهاجاة، وقيل إن زياد بن المهلب هو الذي دس إليه في فتنة يزيد بن المهلب.
كلثوم بن زياد
أبو عمرو المحاربي الداراني مولى سليمان بن حبيب. ولي القضاء بدمشق بعد سليمان بن حبيب.(21/205)
عن سليمان بن حبيب المحاربي، عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاث من كان في واحدة منهم كان ضامناً على الله: من خرج في سبيل الله كان ضامناً على الله إن توفاه أدخله الجنة، وإن رده إلى أهله فبما نال من أجر وغنيمة، ورجل كان في المسجد، فهو ضامن على الله إن توفاه أدخله الجنة، وإن رده إلى أهله فبما نال من أجر وغنيمة. ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله ".
وعن الأوزاعي وكلثوم بن زياد قالا: أن أبا كثير قال: سمعت أبو هريرة يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنب ".
عن كلثوم بن زياد قال: سألت الزهري عن رجل تزوج أمة ثم اشتراها على أي شيء تكون عنده؟ قال: سرية.
قال عبد الجبار بن محمد بن مهنا: كلثوم بن زياد، وكان كاتباً لسليمان بن حبيب المحاربي. وكان فاضلاً خياراً ضعفه النسائي؛ وقال ابن عدي: ليس له من الحديث إلا اليسير، وذكره أبو زرعة في نفر ثقات.
كلثوم بن عياض بن وحوح
ابن قيس بن الأعور بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة القشيري ولي دمشق لهشام بن عبد الملك، ثم ولي غزو المغرب، فقتل هناك.(21/206)
عن الهيثم بن عمران قال: سمعت كلثوم بن عياض القشيري، وهو على منبر دمشق ليلي هشام وهو يقول: من آثر الله آثره الله، فرحم الله عبداً استعان بنعمته على طاعته، ولم يستعن بنعمته على معصيته؛ فإنه لا يأتي على صاحب الجنة ساعة إلا وهو مزاد صنفاً من النعيم لا يكون يعرفه، ولا يأتي على صاحب العذاب ساعة إلا وهو مستنكر لشيء من العذاب لم يكن يعرفه.
وقال: سمعت كلثوم بن عياض القشيري أمير دمشق، في آخر خلافة هشام بن عبد الملك يخطب يوم الجمعة هذه الخطبة: الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ة ومن يعصهما فقد غوى. أسأل الله ربنا ورب كل شيء يجعلنا وإياكم ممن يطيعه ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه، ويجتنب سخطه، فإنما نحن به وله. أوصيكم بتقوى الله، وإيثار طاعته، فأنه من آثر الله آثره الله، ومن عمل بأمر الله أرشده الله، ومن ترك ذلك لم يضرر إلا نفسه، ولم ينقص إلا حظه، ووجد الله غنياً حميداً. اتقوا الله، وصية الله في الأولين والآخرين من عباده، وأحق الوصايا أن يحافظ عليها، وينتفع بها وصية الله. قال الله - تبارك وتعالى -: " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنياً حميداً ". من أراد يدرك آخر ما رغب الله فيه، وينجو من أسوأ ما خوف الله منه، فليتق الله في السر والعلانية، فإن الله جعل العاقبة للمتقين، وليسمع وليطع، فإن الله يقول: " وإن تطيعوه تهتدوا ". وليذكر الله كثيراً، فإن الله جعل للذاكرين الله مغفرة وأجراً عظيماً. أسعد الناس بقضاء الله في الأمور كلها المؤمن؛ إن قضى الله فيما يوافق هواه حمد الله وشكر، فاستوجب على الله ما يجزي الصابرين. إن الله لم يدع لأحد عليه حجة؛ بين كل شيء على الخير، ويسره، وبين الشر وحذره. فلو أن أدناكم علماً أتى بما عنده أمة من الناس كفاراً، كثيراً عددهم، شديداً بأسهم، شديداً كفرهم، فأمرهم بما يعلم مما يحب الله، ونهاهم عما يعلم مما يكره الله، فأطاعوه دخلوا الجنة. أبصر(21/207)
امرؤ والبصر ينفعه، وعقل، والعقل ينفعه؛ فإن الله يقول في آي تترى من القرآن: " أفلا يبصرون "، " أفلا يعقلون "، " فأنى تؤفكون ". تفكر امرؤ لما خلق له، الفراغ أم العمل؟ الشقاء أم السعادة؟ الجنة أم النار؟ قال الله - تبارك وتعالى -: " إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً " اللهم صل على محمد عبدك ونبيك، اللهم أعظم برهانه، وشرف بنيانه، واجعله أعظم عبادك عليك حقاً، وأقربهم منك مجلساً، وأكثرهم يوم يلقاك تابعة. والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
قال أبو سعيد بن يونس: كلثوم بن عياض القشيري عامل هشام على إفريقية. وكان مقتله في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ومائة.
وذكر أبو جعفر الطبري أنه قتل سنة اثنتين وعشرين.
وقال الليث بن سعد: وفي سنة أربع وعشرين ومائة قتل أمير إفريقية.
ومثله من طريق خليفة، وقال: وافترقت الصفرية فرقتين فرقة عليها خالد بن حميد، وفرقة عليها سالم أبو يوسف الأزدي، فسار إليهم كلثوم بن عياض، واجتمعا جميعاً، فلقيه كلثوم بن عياض على واد من أودية طنجة، فقتل كلثوم، ومحمد بن عبيد الله الأزدي، ويزيد بن سعيد بن عمرو الحرشي، وحبيب بن أبي عبيدة. واستباحوا عسكر كلثوم، وسبوا الذرية، وانهزم بلج بن بشر ابن عم كلثوم بالناس، فاتبعهم أبو يوسف، وخالد بن حميد، وفي ساقة بلج بن بشر حسان بن عتاهية، فلما غشوه قاتلهم، وصبر لهم، وقتلهم(21/208)
وهزمهم، وقتل أبو يوسف، وناس كثير من الصفرية. وضت الصفرية على هزيمتها، ومضى بلج وأصحابه، فنزلوا الحصن.
كلياتكين التركي
ولي أمر دمشق في أيام المتوكل خلافة للفتح بن خاقان.
عن أبي عبيدة أحمد بن عبد الله بن ذكوان: أن جعفر المتوكل لما نزل دمشق في قصره بداريا، وهم بالرحيل عنها - وكان مقامه بها من يوم وردها إلى أن خرج عنها ثمانية وأربعين يوماً - عقد للفتح بن خاقان على دمشق يوم الأحد لخمس ليال بقين من سهر ربيع الأول سنة أربع وأربعين ومائتين، وعزل عنها صالح العباسي، وولى الفتح بن خاقان دمشق كلياتكين.
كليب بن عيسى بن أبي حجير
الثقفي روى عن زجلة مولاة عاتكة بنت يزيد بن معاوية قالت: سمعت سالماً - أو نافعاً - يحدث عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على الصلوات الخمس حيث ينادى بهن ".
وقال: سمعت زجلة مولاة معاوية قالت: أدركت يتامى كن في حجر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إحداهن تسمى كويسة، قالت: فخرجت معهن إلى بيت رجل، وقد هلك، لأعزي أهله، فلما أخرجت الجنازة وضعت رجلي أخرج من عتبة الباب، فأخذتني حتى أدخلتني البيت - قالت: ولم تكن تتبع الجنازة امرأة إلا أن تكون نفساء أو مبطونة، تخرج معها امرأة من ثقاتها حتى يضعوها في المصلى،(21/209)
تدخل يدها تنظر هل خرج شيء، فلا يزال القوم جلوساً أو قياماً، حتى إذا توارت المرأة قالوا للإمام: كبر.
كميت بن زيد بن خنيس
ابن مجالد بن وهيب بن عمرو بن سبيع - ويقال: ابن زيد بن حبيش بن مجالد بن ذؤيبة بن قيس بن عمرو بن سبيع - بن مالك بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة أبو المستهل الأسدي الشاعر من أهل الكوفة. وفد على يزيد وهشام ابني الملك.
قال الكميت بن زيد الشاعر: حدثني الطرماح الشاعر قال: لقيت نابغة بني جعدة الشاعر فقلت له: لقيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، وأنشدته قصيدتي التي أقول فيها: " من الطويل "
بلغنا السماء مجداً وسؤدداً ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال: فرأيت وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تغير، وبدا الغضب فيه، فقال لي: " إلى أين يا أبا ليلى؟ " فقلت: إلى الجنة يا رسول الله، فقال: " إلى الجنة - إن شاء الله ".
عن الكميت بن زيد الأسدي قال: قال مذكور مولى زينب بنت جحش، عن زينب بنت حجش قالت: خطبني عدة من قريش، فأرسلت أختي حمنة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أستشيره، فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أين هي ممن يعلمها كتاب ربها، وسنة نبيها؟ " قالت: ومن هو يا رسول الله؟ قال: " زيد بن حارثة ". قال: فغضبت حمنة غضباً شديداً، فقالت:(21/210)
يا رسول الله، أتزوج ابنة عمك مولاك؟ قالت: وجاءتني، فأعلمتني، فغضبت أشد من غضبها، وقلت أشد من قولها؛ فأنزل الله - عز وجل -: " وما كان لمؤمن أو مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة " الآية. قالت: فأرسلت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني أستغفر الله، وأطيع الله ورسوله، افعل يا رسول الله ما رأيت، فزوجني زيداً، فكنت أرزأ عليه، فشكاني إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " امسك عليك زوجك واتق الله "، فقال: يا رسول الله، أنا أطلقها، قالت، فطلقني، فلما انقضت عدتي لم أعلم إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دخل على بيتي، وأنا مكشوفة الشعر، فعلمت أنه أمر من السماء، فقلت: يا رسول الله، بلا خطبة، ولا إشهاد؟ فقال: " الله المزوج، وجبريل الشاهد ".
قال حبيش بن الكميت بن المستهل بن الكميت بن زيد: وفد الكميت على يزيد بن عبد الملك، فدخل إليه يوماً وقد اشتريت له سلامة القس، فأدخلت إليه والكميت حاضر، فقال له: يا أبا المستهل، هذه جارية تباع، أفترى أن نبتاعها؟ قال: أي والله يا أمير المؤمنين، ولا أرى لها مثلاً في الدنيا، فلا تفوتنك، قال: فصفها لي في شعر حتى أقبل رأيك، فقال الكميت: " من الخفيف "
هي شمس النهار في الحسن إلا ... أنها فضلت بفتك الطراف
غضة بضة رخيم لعوب ... وعثة المتن شختة الأطراف
زانها دلها وثغر نقي ... وحديث مرتل غبر جاف
خلقت فوق منية المتمني ... فاقبل النصح يا بن عبد مناف
فضحك يزيد، وقال: قد قبلنا نصحك يا أبا المستهل، وأمر له بجائزة سنية.(21/211)
عن أبي نصر الحافظ قال:
وأما ذؤيبة - بالذال المعجمة - فهو: الكميت بن زيد بن الأخنس بن مجالد بن ربيعة بن قيس بن الحارث بن عامر بن ذؤيبة بن عمرو بن مالك بن سعد بن ثعلبة بن دودان الشاعر المشهور.
عن العتابي قال: كان في الكميتعشر خصال لم تكن في الشاعر: كان خطيب أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان. وكان كاتباً حسن الخط، وكان نسابة، وكان جدلاً، وكان أول من ناظر في التشيع، وكان رامياً لم يكن في أسد أرمى منه بنبل، وكان فارساً، وكان شجاعاً، وكان سخياً ديناً.
قال أبو عبيدة: لو لم يكن لبني أسد منقبة غير الكميت لكفاهم؛ حببهم إلى الناس، وأبقى لهم ذكراً، وأخرج فضائلهم، ولولاه لما عرف الناس قبائل نزار من غيرها، ولا فضائلها.
عن الزيادي قال: كان عم الكميت رئيس قومه، فقال له يوماً: يا كميت، لم لا تقول الشعر؟ ثم أخذه، فأدخله ماء كان لهم، وقال: لا أخرجنك منه أو تقول الشعر. فمت به قبرة، فأنشأ متمثلاً يقول: " رجز "
يا لك من قبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري(21/212)
فقال له عمه: إنما حلفت أنك تقول شعراً، وقد قلته، فاخرج! فقال: والله لا خرجت من الماء أو أقول شعراً لنفسي. فما رام عن الماء حتى قال قصيدته المشهورة، وهي أول شعره، ثم غدا على عمه، فقال له: اجمع لي العشيرة ليسمعوا قولي، فجمع له العشيرة، ثم قام، فأنشد: " من الطويل "
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ... ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب
ثم قال له عمه: ثم ماذا؟ فقال:
ولم تلهني دار ولا ربع منزل ... ولم يتطربني بنان مخضب
فقال له عمه: ثم ماذا؟ فقال:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه ... أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية ... أمر سليم القرن أم مر أعضب
فقال له عمه: فأي شيء؟ فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى ... وخير بني حواء والخير يطلب
فقال له عمه: من ويلك!؟ فقال:
إلى النفر البيض الذين بحبهم ... إلى الله فيما نابني أتقرب(21/213)
فقال له عمه: ثكلتك أمك، من هم؟ فقال:
بني هاشم رهط النبي فإنني ... لهم وبهم أرضى مراراً وأغضب
قال: فأمسك عمه حتى أتى على القصيدة إلى آخرها، فقال عمه لقومه: ليهنكم النعمتين؛ إن فيكم شاعراً ومع ذلك إنه طاهر الولادة.
قال الكميت: رأيت، وأنا مختف، فيما يرى النائم، رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لي: " مم خوفك؟ " قلت: يا رسول الله، من بني أمية، قال: " ألست القائل: حياتك كانت مجدنا.. "؟ قلت: بلى، وأنا القائل أيضاً: " فبوركت مولوداً.. " وأنا القائل أيضاً:
ألم ترني من حب آل محمد ... أروح وأغدو خائفاً أترقب
قال: " اظهر، فإن الله قد آمنك في الدنيا والآخرة ".
وقال في قوله:
فطائفة قد أكفرتني بحبكم ... وطائفة قالت مسيء ومذنب
التي أكفرتني: التيم، والتي قالت مسيء: بنو حرام.
عن المدائني قال: قال الكميت لمحمد بن علي: إني قد قلت أبياتاً، إن أظهرتها خشيت على نفسي، وإن أخفيتها خشيت على ديني، قال: هاتها. فأنشده هذه الأبيات: " من الوافر "(21/214)
نفى عن عينيك الأرق الهجوعا ... وهم يمتري منه الموعا
فاستدار علي بن الحسين إلى القبلة، ثم رفع يديه وقال: اللهم اغفر لكميت - ثلاث مرات.
قال الجاحظ ما فتح لشيعة الحجاج إلا كميت بقوله:
فإن هي لم تصلح لحي سواهم ... فإن ذوي القربى أحق وأوجب
يقولون لم يورث ولولا تراثه ... لقد شركت فيه بكيل وأرحب
وقال: هذا وضع نكد يصغي إليه كل أحد، ولو كان شعره في المكانة مثل حجاجه لكان منقطع القرين، وكان يقول، ما رأيت شيئاً من البرودة أشد من قوله في مدح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاً ... وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
وبورك قبر أنت فيه وبوركت ... به وله أهل لذلك يثرب
لو مدحوا بها سائر الناس لما كان مرضياً، فكيف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ عن ابن شبرمة قال:
قلت للكميت الأسدي الشاعر: إنك قد قلت في بني هاشم فأحسنت، وقد قلت في بني أمية أفضل مما قلت في بني هاشم؟ قال: إني إذا قلت أحببت أن أحسن.
حدثنا عبد الله بن إسحاق بن سلام قال: أتى كميت باب مخلد بن يزيد بن الملهب يمدحه، فصادف على بابه أربعين شاعراً، فقال للآذن: استأذن لي على الأمير، فاستأذن له عليه، فأذن له، فقال: كم رأيت(21/215)
بالباب من شاعر؟ قال: أربعين شاعراً، قال: فأنت جالب التمر إلى هجر، قال: إنهم جلبوا دقلاً وجلبت أزاذاً، قال: فهات أزاذك، فأنشده: " من الكامل "
هلا سألت منازلاً بالأبرق ... درست وكيف سؤال من لم ينطق
لعبت بها ريحان ريح عجاجة ... بالسافيات من التراب المعبق
والهيف رائحة لها بنتاجها ... طفل العشي بذي حناتم سرق
الحناتم: جرار خضر شبه الغيم بها، والهيف: الريح الحارة.
والحب فيه حلاوة ومرارة ... سائل بذلك من تطعم أوذق
حتى بلغ إلى قوله:
بشرت نفسي إذ رأيتك بالغنى ... ووثقت حين سمعت قولك لي ثق
فأمر بالخلع عليه، فخلع عليه حتى استغاث، فقال: أتاك الغوث، ارفعوا عنه.
قال أبو عبيدة: خرج الكميت إلى أبان عبد الله البجلي، وهو على خراسان، فأدخله في سماره، وكان في الكميت حسد؛ فبينا هو ليلة يسمر معه، فأغفى البجلي، وتناظر القوم في الجود، فرفع أحدهم صوته، فقال: مات والله الجود يوم مات الفياض. وانتبه أبان بصوته، فقال: فيم كنتم؟ فقال الكميت: زعم النضر، والمغيرة، والنعمان، والبحتري، وابن عياض، قال: زعموا ماذا؟ يا أبا المستهل، فقال: " من الخفيف "
إن جود الأنام مات جميعاً ... يوم راحوا بطلحة الفياض
كذبوا والذي يلبي له الرك ... ب سراعاً بالمفضيات العراض(21/216)
لا يموت الندى ولا الجود ما عا ... ش أبانا غياث ذي الأنفاض
فإذا ما دعا الإله أباناً ... أذن الجود بعده بانقراض
قال: سلني، قال: لكل بيت عشرة آلاف، قال: لك ذلك. فأمر له بخمسين ألفاً.
قال المبرد: وقف الكميت على الفرزدق وهو صبي، والفرزدق ينشد. فلم فرغ قال له: يا غلام، أيسرك أني أبوك؟ فقال الكميت: أما أبي فلا أبغي به بدلاً، ولكن يسرني أن تكون أمي. فحصر الفرزدق، وقال: ما مر بي مثلها! عن محمد بن سهل قال: أتى الفرزدق وجرير الكميت يتنافران إليه، فجعل الكميت يخلو بجرير، فيقول له: أتفاخر الفرزدق؟ ألك مثل أبي الفرزدق نهشل؟ ألك مثل حاجب بن زرارة؟ ألك مثل لقيط بن معبد؟ ألك كذا، ألك كذا؟ ويخلو بالفرزدق، فيقول له: ألم تعرف ما في بني يربوع من الشرف؟ هل في بني تميم كلها مثل عيينة بن الحارث، أين مثل فرسانها؟ أين مثل وقفاتها؟ فجعل يكسر هذا مرة، وهذا مرة، ويعد شرف هذا وشرف هذا حتى افترقا على ذلك. فجعلا يتوعدانه، فبلغه ذلك، فقال: " من الوافر "
سأقضي بين كلب بني كليب ... وبين القين قين بني عقال
بأن الكلب مطمعه خبيث ... وان القين يعمل في سفال
فما بقيا علي تركتماني ... ولكن خفتما صرد النبال(21/217)
عن أبان بن تغلب قال: قال لي الكميت وأنا أحادثه: يا أبان، لا تخبر الناس فقراً؛ وإن مت هزلاً؛ فإن الفقير تريكة من الترائك، لا يعبأ بها، ولا يلتفت إليها. وأنشدني قوله: " من الطويل "
وما أنت يا كلب إلا تريكة ... كما تركت في دمنة خلق النعل
قال أبو أيوب سليمان بن أيوب: قيل للكميت: لم لم ترث أخاك؟ قال: إن مرثيته لا ترد مرزيته.
قال ثور بن يزيد الشامي: رأيت الكميت بن زيد في النوم، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال غفر لي، قال: بماذا؟ قال: نصب لي كرسياً، وأجلسني عليه، وأمرت بإنشاد " طربت.. "، فلم بلغت إلى قولي:
حنانيك رب الناس من أن يغرني ... كما غرهم شرب الحياة المنضب
قال: صدقت يا كميت، إنه ما غرك ما غرهم، فقد غفرت لك بصدقك في صفوتي من بريتي، وخيرتي من خليقتي، وجعلت لك بكل منشد أنشد بيتاً من مدك آل محمد رتبة أرفعها لك في الآخرة إلى يوم القيامة.
قال الحافظ بن عساكر:
بلغني أن مبلغ شعر الكميت خمسة آلاف ومئتان وتسعة وثمانون بيتاً، وأنه ولد أيام قتل الحسين بن علي سنة ستين، ومات في سنة ست وعشرين ومائة في خلافة مروان بن محمد.(21/218)
كميل بن زياد بن نهيك
ابن هيثم بن سعد بن مالك بن الحارث بن صهبان بن سعد بن مالك بن النخع بن مذحج النخعي الصهباني الكوفي قدم دمشق في خلافة عثمان، في حملة المبشرين.
عن كميل، عن أبي هريرة قال: كنت أمشي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض حيطان المدينة، فقال: " يا أبا هريرة "، فقلت: لبيك يا رسول الله، فقال: " إن المكثرين هم الأقلون، إلا من قال بالمال هكذا، وهكذا - وأومأ عن يمينه، وعن يساره - وقليل ما هم ". ثم قال: " يا أبا هريرة، ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ " قلت بلى يا رسول الله، قال: " تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ من الله إلا إليه ". ثم قال: " يا أبا هريرة، هل تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: " حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به ".
قال محمد بن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة: كميل بن زياد بن نهيك بن هيثم بن سعد بن مالك بن الحارث بن صهبان بن سعد بن مالك بن النخع، من مذحج. شهد مع علي صفين. وكان شريفاً مطاعاً في قومه، فلما فدم الحجاج بن يوسف الكوفة دعا به، فقتله. وكان ثقة قليل الحديث.
قال علي بن محمد بن أبي سيف المدائني: وفيهم - يعني أهل الكوفة - من العباد: أويس القرني، وعمرو بن عتبة بن فرقد، ويزيد بن معاوية النخعي، وربيع بن خثيم، وهمام بن الحارث، ومعضد الشيباني، وجندب بن عبد الله، وكميل بن زياد النخعي.(21/219)
عن كميل بن زياد النخعي قال: خرجت مع علي بن أبي طالب، فلما أشرف على الجبان التفت إلى المقبرة، فقال: يا أهل القبور، يا أهل البلاء، يا أهل الوحشة، ما الخبر عندكم فإن الخبر عندنا: قد قسمت الأموال، وأيتمت الأولاد، واستبدل بالأزواج. فهذا الخبر عندنا فما الخبر عندكم؟ ثم التفت إلي، فقال: يا كميل، لو أذن لهم في الجواب لقالوا: إن خير الزاد التقوى، ثم بكى، وقال لي: يا كميل، القبر صندوق العمل، وعند الموت يأتيك الخبر.
وعنه قال: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالكوفة، فخرجنا حتى انتهينا إلى الجبان، فلما أصحر تنفس صعداء، ثم قال لي: يا كميل بن زياد، إن هذه القلوب أوعية، وخيرها أوعاها للعلم، احفظ عني ما أقول لك؛ الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجوا إلى ركن وثيق. يا كميل بن زياد، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، المال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق. يا كميل بن زياد، صحبة العلم دين يدان بها، تكسبه الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته. ومنفعة المال تزول بزواله. العلم حاكم، والمال محكوم عليه، يا كميل، مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، عيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة. وإن هاهنا - وأشار إلى صدره - لعلماً جماً.
عن الأعمش قال: دخل الهيثم بن الأسود النخعي على الحجاج، فقال له: ما فعل كميل بن زياد؟ قال: شيخ كبير مطروح في البيت، قال: بلغني أنه فارق الجماجم، قال: ذاك شيخ كبير خرف. فدعا كميلاً، فقال له: أنت صاحب عثمان؟ قال: ما صنعت بعثمان؟ لطمني، فأقادني، فعفوت. فأمر بقتله.(21/220)
عن محمد بن عبد الرحمن قال: منع الحجاج النخع أعطياتهم وعيالهم حتى يأتوه بكميل بن زياد، فلما رأى ذلك كميل أقبل إلى قومه، فقال: أبلغوني الحجاج، فأبلغوه، فقال الحجاج: يا أهل الشام، أتعرفون هذا؟ هذا كميل بن زياد الذي قال لثمان: أقدني من نفسك، فقال كميل، فعرف حقي، فقلت: أما إذا أقدتني فهو لك هبة، فمن أحسن قولا، ً أنا أو عثمان؟ فذكر الحجاج علي بن أبي طالب، فصلى عليه كميل، فقال الحجاج: والله لأبعثن إليك إنساناً أشد بغضاً لعلي من حبك له. فبعث إلى أدهم القيسي من أهل حمص، فضرب عنق كميل بن زياد.
وفي سنة اثنتين وثمانين قتل الحجاج كميل بن زياد النخعي - وقيل سنة أربع وثمانين -.
وثقة يحيى بن معين والعجلي والخطيب.
وقال الخطيب: هو من رؤساء الشيعة.
كنانة بن بشر بن سلمان
- ويقال: ابن بشر بن عتاب - التجيبي الأيداعي أحد من سار إلى حصر عثمان بن عفان، وممن تولى قتله. وقيل أنه كان في الرهن التي أخذها معاوية من أهل مصر، وسجنهم بلد، وقيل: بدمشق، وقيل: إنه قتل يوم الدار، وقيل: إنه قتل قبل دخول جيش معاوية مصر.
عن يزيد بن أبي حبيب قال: ولما رأى معاوية أنه لا يستطيع دخول الفسطاط كتب إلى محمد بن أبي حذيفة: إنا لا نريد قتال أحد من المسلمين، إنما جئنا لنسأل القود بعثمان، أو ادفعوا إلينا قاتله: ابن(21/221)
عديس، وكنانة بن بشر، وهما رأس القوم. وأمر معاوية عمراً بأن يكتب إلى ابن أبي حذيفة بمثل ذلك، فكتب عمرو، فكتب محمد بن أبي حذيفة: إني لم أكن لأقيد بعثمان جدياً أرطب السرة. وأمر بصحيفة أخرى فطويت. ليس في جوفها شيء، وكتب عنوانها: من محمد بن أبي حذيفة إلى عمرو بن العاص، فلما فضها عمر لم يرى فيها شيئاً، فقال له معاوية: ما كتب إليك ابن أبي حذيفة؟ قال: نعم، إني لست شيئاً، سيعلم أينا يدحض في بول أمه. فقال معاوية لابن أبي حذيفة: اجعلوا بيننا وبينكم رهناً منا ومنكم، لا يكون بيننا وبينكم حرب حتى يستخلف الله، ويجمع الأمة على من يشاء. فقال ابن أبي حذيفة: فإني أرضى بذلك على أني أستخلف على جندي وانطلق مع الرهن وكان ذلك منه جبناً، فقال معاوية عند ذلك - واغتنم قول ابن أبي حذيفة -: فمن تستخلف؟ قال: أستخلف أمية بن شييم، قال معاوية: نعم. فانطلق ابن أبي حذيفة مع معاوية حتى دخل بهم الشام، ففرقهم نصفين، فسجن ابن أبي حذيفة ومن معه في سجن دمشق، وسجن ابن عديس ومن والنصف الثاني في سجن بعلبك. قال: فبينا معاوية في مسيره ذلك جاءه بريد، فأخبر أن قيس بن عدي اللخمي، ثم الراشدي صاحب مصر قد أغار في خيل حتى بلغ فلسطين، ثم جاءه آخر، فأخبره أن محمد بن أبي حذيفة قد خرج من السجن، ثم جاءه آخر، فأخبره أن ابن عديس وأصحابه قد خرجوا من السجن، فكان رأس القوم بعد ابن أبي حذيفة عبد الرحمن بن عديس، وكنانة بن بشر. ثم جاءه بريد آخر، فأخبره أن ابن هرقل قد نزل الدرب. ثم جاءه بريد آخر، فأخبره أن علي بن أبي طالب قد شارف، جاءته خمسة برد في ليلة واحدة. فأرسل معاوية إلى عمرو بن العاص: ما ترى في خمسة أمور شتى في ليلة واحدة، ما منها أمر إلا يهد المرء ذا القوى؟! فقال: وما هن؟ فأخبره الخبر، فقال: أما قيس بن عدي فإنما هو سارق، ولن يضر أحداً، وأما بن عديس وأصحابه فإنهم قد خرجوا من سجن الناس إلى سجن الله؛ فإنهم لن يعجزوا الله، وابعث إلى أبي راشد صاحب فلسطين يبعث بمن خرج منهم إلى أرضه. فبعث أبو راشد عمرو بن عبد الله الخثعمي في طلب الرهن، قال: فخرجت نبطية من أنباط فلسطين تطلب حماراً، فاتبعت الحمار حتى وصل إلى عار، فرأت محمد بن حذيفة وأصحابه(21/222)
في الغار - وكانوا يسيرون الليل، ويكمنون النهار - فدلت النبطية عليهم عمرو بن العاص. فزعم من زعم أن محمد بن حذيفة وكنانة بن بشر عرض عليهما أن يستبقيا فكرها ذلك، فقتلوا.
وذكر أبو مخنف أن كنانة قتله جيش معاوية الذي أنفذه لافتتاح مصر.
وذكر أبو عمر محمد بن يوسف المصري قال: كان قتل كنانة بن بشر في ذي الحجة سنة ست وثلاثين.
عن الزهري قال: قتل عثمان عند صلاة العصر، وشد عبد لعثمان أسود على كنانة بن بشر، فقتله
كنجور بن عيسى
أبو محمد الفرغاني حدث عن أبي إسماعيل بن محمد بن قيراط العذري بسنده إلى أمامة الباهلي، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه تلا هذه الآية: " وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين "، قال: " أتدرون أين هي؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " هي بالشام، بأرض يقال لها الغوطة، مدينة يقال لها دمشق ".
كنيز بن عبد الله
أبو علي الخادم الفقيه الشافعي مولى المنتصر بالله بن جعفر المتوكل على الله.(21/223)
كان من أهل بغداد، ثم خرج إلى مصر، وأقام بها مدة، وسكن دمشق، ومات بها.
حدث عن الربيع بن سليمان بسنده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله تجاوز عن أمتي: الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ".
قال كنيز الخادم:
كنت للمنتصر بالله، فلما مات خرجت إلى مصر، فكنت أجلس في حلقة محمد بن عبد الله بن الحكم، وأناظرهم على مذهب الشافعي - رحمه الله - وأحتج عنه. وكان هؤلاء مالكيين، فكنت أقيم قيامتهم، وأكشف عيوبهم، فلما تبين لهم أنهم لا يقوون لي سعوا بي إلى أحمد بن طولون، فأمر بحبسي في موضع قذر، فبقيت في ذلك الموضع القذر محبوساً سبع سنين حتى مات أحمد بن طولون، وخلي عن المحبوسين، فخرجت من الحبس، وذهبت إلى الإسكندرية، فبقست بها سبع سنين. ثم خرجت من الإسكندرية وجئت إلى دمشق.
كنيز: بضم الكاف وفتح النون تليها الياء معجمة باثنتين من تحتها وبعدها الزاي.
كوثر بن الأسود
ويقال: كوثر بن عبيد، القنوي كان على شرطة مروان بن محمد، وكان معه حين هزم سليمان بن هشام، وغلب على دمشق. وقيل: هما اثنان: ابن الأسود غير ابن عبيد، والصحيح أنهما واحد.(21/224)
كوثر بن حكيم بن أبان
ابن عبد الله بن عباس أبو مخلد الهمداني الكوفي ثم الحلبي حدث عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يا بن أم عبد، هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: " لا تجهز على جريحها، ولا تقتل أسيرها، ولا تطلب هاربها، ولا تقسم فيئها ".
وقال: غزونا مع مسلمة بن هشام، فلما كان أول يوم من شهر رمضان قام في الناس فقال: إن أمبر المؤمنين يقول: من صام رمضان في السفر فال صيام له. فقام أمية بن يزيد بن أبي عثمان القرشي، فقال: أصلح الله الأمير، إن مكحولاً كان إماماً من أئمة المسلمين، وكان يقول: من أفطر في السفر ففي عذر وسعه، ومن صام فهو أفضل، وما صمتم شهر رمضان في شهر أحب إلى الله من الشهر الذي فرضه فيه. فدع الناس، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر. فقال: صدق أبو عبد الله، من شاء صام، ومن شاء أفطر.
قالوا: كوثر بن حكيم منكر الحديث، لا يسوى شيئاً، وضعفوه.
كوثر النميري
شاعر فارس، له ذكر في حرب أبي العميطر. ومن شعره: " من السريع "
لو لم يكن مع هاشم عاجل عاجل ... لكان في الآجل خير كثير
فكيف والأمران من عاجل ... وآجل عندهم مستنير(21/225)
كهيل بن حرملة النميري
من أهل دمشق. كانت له دار بدمشق عند الباب الشرقي، عن يمين الداخل.
عن كهيل بن حرملة قال: أقبل أبو هريرة إلى دمشق، فنزل على أبي كلثم الدوسي، قال: فجلس في المسجد في غربيه، قال: فتذاكرنا الصلاة الوسطى، فاختلفنا، فقال أبو هريرة: اختلفنا فيها كما اختلفتم، ونحن بفناء بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفينا الرجل الصالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة، فقال: أنا أعلم ذلك، وكان جريئاً عليه، فاستأذن على رسول الله، ثم خرج، فأخبرنا أنها صلاة العصر.
وروى عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " تكفير كل لحاء ركعتان ".
عن كهيل الأزدي - وكانت له صحبة - قال: أصيب الناس في يوم أحد، وكثر فيهم الجراحات، فأتى رجل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إن الناس قد كثر فيهم الجراحات، قال: " انطلق، فقم على الطريق، فلا يمر بك جريح إلا قلت بسم الله، ثم تفلت بجرحه، وقلت: بسم الله شفاء الحي الحميد من كل حد حديد، أو حجر تليد، اللهم اشف، إنه لا شافي ألا أنت ". قال كهيل: فإنه لا يقيح ولا يدمى.
قال أبو مسهر: كهيل من نمر الأسد، لا من نمر بن قاسط.(21/226)
كلاب بن أمية
أبو هارون الليثي عن كلاب بن أمية قال: قدم علينا واثلة بن الأسقع، فنزل دار أم خالد بنت هاشم، فأتيناه نسلم عليه، فقال له بعضنا: حدثنا - رحمك الله - بحديث سمعته من حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليس فيه زيادة، ولا نقصان، قال: فغضب حتى عرفنا الغضب في وجهه، ثم قال: إن مصحف أحدكم ليكون عند رأسه، فينظر فيه كل يوم، وهو يزيد وينقص، تسألوننا أن نحدثكم بحديث قد أتى له كذا وكذا، لا زيادة، ولا نقصان؟! قال: فلما سري عنه الغضب قال: شهدت نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأتاه نفر من بني سليم، فقالوا: يا رسول الله، إن صاحبنا لنا قد أوجب، فقال: " مروه فليعتق رقبة يفك الله بكل عضو منها عضو منه من النار ".
عن الحسن قال:
بغث زياد كلاب بن أمية الليثي على الأبلة، فمر به عثمان بن أبي العاص، فقال: يا أبا هارون، ما يجلسك هنا. قال: بعثني هذا على الأبلة، فقال: ألا أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: " إن داود كان يوقظ أهله ساعة من الليل، يقول: يا آل داود، قوموا، فصلوا،؛ فإن هذه الساعة يستجاب فيها الدعاء إلا لساحر أو عشار ". قال: فدعا بسفينة فركبها، ثم رجع إلى زياد، فقال، ابعث على عملك من شئت.(21/227)
كلاب
خرج إلى الشام مجاهداً، وكان في جيش يزيد بن أبي سفيان.
كيسان
له صحبة.
عن كيسان أنه كان يتجر في الخمر، في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما حرمت الخمر نهاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقبل من الشام ومعه خمر في زقاق يريد به التجارة، فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، لقد جئت بشراب جيد، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنها قد حرمت بعدك يا كيسان "، قال: فأذهب، فأبيعها يا رسول الله؟ فقال رسول الله: " إنها قد حرمت وحرم ثمنها "، قال: فانطلق كيسان إلى الزقاق، فأخذ بأرجلها، ثم أهراقها جميعاً.
ولكيسان هذا حديث آخر في نزول عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيه اختلاف؛ قيل: إن راوي حديث نزول عيسى آخر.
ذكر كيسان فيمن نزل حمص من أصحاب رسول الله من قريش، وولده بدمشق. وقيل: توفي بحمص.(21/228)
كيسان أبو حريز
مولى معاوية بن أبي سفيان القرشي عن كيسان مولى معاوية قال: خطب معاوية الناس، فقال: يا أيها الناس، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن تسع وأنا أنهي عنهن: النوح، والشعر، والتبرج، والتصاوير، وجلود السباع، والغناء، والذهب، والحرير، والحديد.
أسماء الرجال على حرف اللام
لبطة بن همام الفرزدق
ابن غالب بن صعصعة بن ناجية ابن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع ابن دارم، أبو غالب التميمي البصري بعثه أبوه إلى هشام بن عبد الملك.
حدث عن أبيه أنه كان بالمدينة، فإذا قوم على باب، فقلت: من ذا؟ قالوا: أبو سعيد الخدري ننظره. قال: فجلست حتى أذن للقوم، فدخلوا، ودخلت معهم. قال: فجلست وسط الحلقة، فقلنا: يا أبا سعيد، إن قبلنا قوماً يصلون صلاة لا يصليها أحد، ويقرؤون قراءة لا يقرؤها أحد. قال: وكان متكئاً، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن قبل المشرق قوماً يقرؤون القرآن، لا يجاوز حلاقيمهم ".
وروى عن أبيه قال: حججت، فمررت بذات عرق، فإذا بها قباب منصوبة، فقلت: ماهذه؟ قالوا:(21/229)
الحسين بن علي. فدخلت عليه، فقال: ما الخبر، ما وراءك؟ قال: قلت: القلوب معك، والسيوف مع بني أمية.
وفي رواية أخرى: فنزلت عن راحلتي، وكان بيني وبينه معرفة، فأخذت بزمام راحلته، قال: ما وراءك؟ قلت: أنت أحب الناس إلى الناس، والسيوف مع بني أمية، والقضاء في السماء. قال: فشهدت الموسم مع الناس، فلما كان يوم الصدر، وتقلع الناس، فإذا فسطاط، فقلت: لمن هذا يا فسطاط؟ فقالوا: لعبد الله بن عمرو، فأتيته، فإذا أغيلمة سود قصار يلعبون، قلت: يا غلمان، أين أبوكم؟ قالوا: في هذا الفسطاط يتوضأ. فخرج كأنه قد توضأ، فقلت: ما تقول في هذا الرجل الذي خرج؟ - يعني الحسين - قال: ليس يحيك فيه السلاح، قال: قلت: ألست القائل لفلان كذا وكذا؟ فسبني، قال: قلت: ما مثله إلا مثل موسى حين خرج هارباً من آل فرعون! قال الفرزدق: فلما كنت على ماء لنا يقال له تعشار، إذا رفقة من أهل الكوفة، قلت: ما الخبر؟ قالوا: قتل الحسين - عليه السلام.
لا يحيك فيه السلاح: أي لا يضره السلاح مع ما قد سبق له، ليس أنه لا يقتل.
قال محمد بن سلام بن عبيد الله: حدثني أبو يحيى قال: قال الفرزدق لابنه لبطة وهو محبوس: اشخص إلى هشام. ومدحه بقصيدة، وقال لابنه: استعن بالقيسية، ولا يمنعك منهم هجائي لهم؛ فإنهم سيغضبون لك. وقال: " من الطويل "
أنقتل فيكم أن قتلنا عدوكم ... على دينكم والحرب باد قتامها
فغير أمير المؤمنين فإنها ... يمانية حمقاء أنت هشامها(21/230)
فأعانته القيسية، وقالوا: يا أمير المؤمنين، إذا ما كان في مضر ناب، أو شاعر، أو سيد وثب عليه خالد " فحبسه ".
قال الحافظ:
بلغني أن لبطة بن الفرزدق قتل مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو شيخ كبير، وذلك في خلافة المنصور سنة خمس وأربعين ومائة.
لبيب بن عبد الله
أبو الحسن الأطرابلسي مولى القاضي أبي بكر بن حيدرة.
روى عن مولاه القاضي أبي بكر عبد الله بن الحسين بن محمد بن حيدرة بسنده إلى أنس بن مالك قال: أول خطبة خطبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: " يا أيها الناس، إن الله قد اختار لكم الإسلام ديناً، فأحسنوا صحبة الإسلام بالسخاء، وحسن الخلق، ألا إن السخاء شجرة في الجنة، وأغصانها في الدنيا، فمن كان منكم سخياً لا يزال متعلقاً بغصن من أغصانها حتى يورده الله الجنة. ألا إن اللؤم شجرة في النار، وأغصانها في الدنيا، فمن كان منكم لئيماً لا يزال متعلقاً بغصن من أغصانها حتى يورده الله النار ". ثم قال مرتين: " السخاء في الله، السخاء في الله ".(21/231)
لبيد بن حميد بن لبيد
أبو الوقاد البقال حدث عن أبي بكر عبد الله بن عبد الرحمن الداراني بسنده إلى عائشة قالت: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل عثمان بن مظعون عند موته حتى سالت دموعه على وجهه.
لبيد ين عطارد بن حاجب
- واسمه يزيد، ويكنى أبا عكرشة - بن زرارة ابن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك ابن حنظلة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم بن مر بن طابخة التميمي من وجوه أهل الكوفة وأشرافهم. وفد على يزيد بن معاوية، وله قصة مع عمر بن زيد بن العوام.
لجلاج أبو خالد بن اللجلاج الزهري
- مولى لبني زهرة - ويقال: العامري له صحبة. وفرق أبو الحسن بن سميع بين لجلاج أبي خالد، ولجلاج أبي العلاء، وجمعهما يحيى بن معين.
قال لجلاج أبو خالد: بينما نحن في السوق إذ مرت امرأة تحمل صبياً، فثار الناس، وثرت معهم، فانتهيت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول لها: " من أبو هذا؟ " فسكتت، فقال: " من أبو(21/232)
هذا؟ " فسكتت، فقال شاب بحذائها: يا رسول الله، إنها حديثة السن، حديثة عهد بخزية، وإنها لن تخبرك، وأنا أبوه، يا رسول الله، فالتفت إلى من عنده كأنه يسألهم عنه، فقالوا ما علمنا إلا خيراً، ونحو ذلك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحصنت "؟ قال: نعم، فأمر برجمه، فذهبنا، فحفرناله حتى أمكنا، ورميناه بالحجارة حتى هدأ، ثم رجعنا إلى مجالسنا. فبينما نحن كذلك إذا شيخ يسأل عن الفتى، فقمنا إليه، فأخذنا بتلابيبه، فجئنا به إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلنا: يا رسول الله، إن هذا جاء سأل عن الخبيث! فقال: " مه، لهو أطيب عند الله ريحاً من المسك "! قال فذهبنا، فأعناه على غسله وحنوطه وتكفينه، وحفرنا له - ولا أدري أذكر الصلاة أم لا.
عن العلاء بن اللجلاج، عن أبيه قال: أسلمت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا ابن خمسين سنة - ومات اللجلاج وهو ابن عشرين ومائة سنة - قال: ما ملأت بطني من طعام منذ أسلمت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ آكل حسبي، وأشرب حسبي.
عن ابن اللجلاج قال: خرجت مع أبي إلى المصلى في سوم عيد، فخرج وهو يرفع صوته بالتكبير، فقلت: اخفض صوتك يا أبتاه، فإن الناس ينظرون إليك! قال: وقد بقيت حتى صرت في قوم أظهر سنة فيرمقوني في أبصارهم، وينكرونها؟ اللهم لا تردني إلى أهلي حتى تقبضني إليك. قال: فما رجع إلى منزله حتى مات. وكان قد أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن العلاء بن اللجلاج قال: قال لي أبي: يا بني، إذا أنا مت فالحد لي، فإذا وضعتني في لحدي فقل: بسم الله، وعلى سنة رسول الله. ثم سن علي التراب سناً، ثم أقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة، وخاتمتها؛ فإني سمعت ابن عمر يقول ذلك.(21/233)
لقيط بن عبد القيس بن بجرة
الفزاري حليف بني ظفر. أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد اليرموك، وكان أميراً على بعض الكراديس.
لمازة بن زبار
أبو لبيد الجهضمي البصري وفد على يزيد بن معاوية.
روى عن عروة بن أبي الجعد البارقي قال:
نظر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جلب من الغنم، فأعجبه نحوها. قال عروة: فأعطاني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ديناراً، قال: " أي عروة، ائت ذاك الجلب، فابتع لنا منه شاة بدينار ". قال: فأتيت الجلب. فساومت صاحبها، فاشتريت شاتين بدينار، ثم جئت بهما أقودهما، أو أسوقهما. قال: فلقيني رجل في الطريق، فساومني بهما، فبعت إحداهما بدينار، ثم جئت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشاة والدينار. قال: وأخبرته الخبر. قال: فدعا لي في صفقة يميني بالبركة. قال: فإن كنت لأبيع الرقيق بالكناسة، فتبلغ الجارية عشرة آلاف أو أكثر، فما أرجع إلى أهلي حتى أربح أربعين ألفاً.
عن أبي لبيد قال: شهدت كابل مع ابن سمرة، فأصاب الناس غنماً، فانتبهوا، فقال: أيها الناس، من(21/234)
انتهب من هذه الغنم نهبة فليؤدها، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من انتهب فليس منا ".
عن أبي لبيد قال: أرسلت الخيل في زمن الحجاج، والحكم بن أيوب أمير البصرة، قال: فأتينا الرهان، فلما جاءت الخيل قلنا: لو ملنا إلى أنس بن مالك، فسألناه أكنتم تراهنون على عهد رسول الله؟ فأتيناه، وهو في قصره في الزاوية، فسألناه، فقلنا: يا أبا حمزة، أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يراهن؟ قال: نعم، والله لقد راهن على فرس يقال لها سبحة، فسبق الناس، فابتش لذلك، وأعجبه.
وعنه قال: وفدنا على يزيد، قال: فبينا هو نازل في الصحراء، فجعل الناس يقولون: هو الآن قاعد على الخمر يشربها، فهاجت ريح شديدة، فألقت بناءه، فإذا هو قد نشر المصحف بين يديه وهو يقرأ.
قال ممد بن سعد: أبو لبيد، واسمه لمازة بن زبار الأزدي ثم الجهضمي. كان ثقة، وله أحاديث.
عن حماد بن زيد قال: رأيت أبا لبيد يصفر لحيته، وكانت لحيته تبلغ سرته، وقد قاتل علياً يوم الجمل.
وعن الزبير بن الخريت: قيل لأبي لبيد: أتحب علياً؟ قال: كيف أحب رجلاً قتل من قومي حين كانت الشمس من هاهنا إلى أن صارت من هاهنا ألفين وخمسمائة.
وفي رواية: ستة آلاف. وقيل أنه كان يشتم علي بن أبي طالب.(21/235)
لوط بن هاران
ويقال: ابن أهرن - بن تارخ - وهاران هو أخو إبراهيم خليل الله - بن تارخ - وتارخ هو آزر - بن ناحور بن ساروع بن أرعو بن فالغ بن غابر بن شالغ بن أرفشخد بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلح بن خنوخ - وهو إدريس، وهو يارد - بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى في مقام إبراهيم ببرزة، على ما قيل.
عن جابر قال: أول من قاتل في سبيل الله إبراهيم خليل الرحمن حيث أسر لوط، واستأسرته الروم، فغزا إبراهيم حتى استنقذه من الروم.
عن ابن عباس قال: كل الأنبياء من ذرية يعقوب إلا عشرة: محمد، وإسماعيل، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ولوط، وهود، وشعيب، وصالح، ونوح.
وأول من هاجر مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عثمان بن عفان كما هاجر لوط إلى إبراهيم.
عن أنس قال: أول من هاجر من المسلمين إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان، فاحتبس على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبره، فجعل يخرج يتوكف عنه الأخبار؛ فقدمت امرأة من قريش، فقالت له: يا أبا القاسم، قد رأيت ختنك متوجهاً في سفره، وامرأته على حمار من هذه الدبابة، وهو يسوق بها، يمشي خلفها، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".(21/236)
عن ابن عباس قال:
أرسل إبراهيم إلى الأرض المقدسة، ولوط إلى المؤتفكات. وكانت قرى لوط أربع مدائن: سدوم، واموراء، وعاموراء، وصبويراء. وكان في كل قرية مائة ألف مقاتل، فجميعهم أربعمائة ألف، وكانت أعظم مدائنهم سدوم، وكان لوط يسكنها، وهي المؤتكفات، وهي من بلاد الشام، ومن فلسطين مسيرة يوم وليلة. وكان الله قد أمهل قزم لوط، فخرقوا حجاب الإسلام، وانتهكوا المحارم، واتوا الفاحشة الكبرى، فكان إبراهيم يركب على حماره حتى يأتي مدائن قوم لوط، فينصحهم، فيأبون أن يقبلوا، فكان بعد ذلك يجيء على حماره، فينظر إلى سدوم، فيقول: يا سدوم، أي يوم لك من الله! سدوم، إنما أنهاكم ألا تتعرضوا لعقوبة الله، حتى بلغ الكتاب أجله، فبعث الله جبريل في نفر من الملائكة، قال: فهبطوا في صورة الرجال حتى انتهوا إلى إبراهيم، وهو في زرع له يثير الأرض، كما بلغ الماء في مسكنه من الأرض، ركز مسحاته في الأرض، فصلى خلفها ركعتين. قال: فنظرت الملائكة إلى إبراهيم، فقالوا: لو كان الله - عز وجل - ينبغي أن يتخذ خليلاً لاتخذ هذا العبد خليلاً، ولا يعلمون أن الله قد اتخذه خليلاً.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف، ثم جاءني الداعي لأجبت ".
عن ابن عباس قال: لما سمعت الفسق بأضياف لوط جاؤوا إلى باب لوط، فاغلق الباب دونهم، ثم اطلع عليهم، فقال: " هؤلاء بناتي "، يعرض عليهم بناته بالنكاح والتزويج، ولم يعرضها عليهم للفاحشة، وكانوا كفاراً وبناته مسلمات، فلما رأى البلاء، وخاف الفضيحة عرض عليهم التزويج - وكان في سنتهم ألا يتزوجوا إلا امرأة واحدة، فلما خطبوا إلى لوط فلم(21/237)
يزوجهم تزوجوا - فقالوا: " لقد علمت ما لنا في بناتك من حق، وإنك لتعلم ما نريد "، وكان اسم ابنتيه إحداهما رعوثا، والأخرى رميثا - ويقال: زبوثا ورعوثا، فالله أعلم. وكان الذي حملهم على إتيان الرجال دون النساء أنه كانت لهم ثمار في منازلهم، وحوائطهم، وثمار خارجة على ظهر الطريق، وانهم أصابهم قحط، وقلة من الثمار، فقال بعضهم لبعض: إنكم إن منعتم ثماركم هذه الظاهرة من أبناء السبيل لكان فيها لكم عيش، قالوا: بأي شيء نمنعها؟ قال: اجعلوا سنتكم من أخذتم في بلادكم غريباً سنتكم فيه أن تنكحوه، وأغرموه أربعة دراهم؛ فغن الناس يظهرون ببلادكم إذا فعلتم ذلك، فذلك الذي حملهم على ما ارتكبوا من الحدث العظيم، الذي لم يسبقهم إليه أحد من العالمين. وقال في آية أخرى: " أتأتون الذكران من العالمين " - يعني الغرباء، وقالوا فيما عاتبوا لوطاً: " أولم ننهك عن العالمين "؟ أي ألم ننهك عن الغرباء حتى تفعل بهم الفاحشة؟ فعند ذلك قال: " هؤلاء بناتي " دعاهم إلى الحلال، فأبوا، " فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد "؟ أي: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وقيل: كان بدء عمل قوم لوط أن إبليس جاءهم عند ذكرهم ما ذكروا في هيئة صبي، أجمل صبي رآه الناس، فدعاهم إلى نفسه، فنكحوه، ثم جروا على ذلك، فلم يتناهوا، ولم يردهم قوله، ولم يقبلوا شيئاً مما عرض عليهم من أمر بناته، فكسروا الباب، ودخلوا عليه، قال: وتحول جبريل في صورته - وله صورتان، إذا كان في الأرض كان في صورة دحية بن خليفة الكلبي، وإذا كان في السماء كان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، وله جناحان أخضران موشحان بالدر والياقوت - قال: فتحول في صورته التي يكون فيها في السماء، قال: ثم قال: يا لوط، لا تخف، نحن الملائكة، لن يصلوا إليك، وأمرنا بعذابهم، فقال لوط: يا جبريل، الآن فعذبهم، وهو شديد الأسف عليهم. قال جبريل، يا لوط " موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب "؟ " فأسر بأهلك بقطع من الليل(21/238)
واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد ". ووثب القوم، فتعلقوا بهم، فطمس جبريل بجناحيه وجوههم، فشدخت وجوههم، وتناثرت أحداقهم بالأرض، فذلك قوله: " ولقد راودوه عن ضيفه، فطمسنا أعينهم "، فعند ذلك قالوا: يا لوط، معك رجال سحروا أعيننا، فأوعدوه، قال: فخرجوا من عنده عمي لا يهتدون الطريق، فلما كان عند وجه الصبح جاءهم العذاب.
عن ابن عباس قال:
لما بشر إبراهيم بقول الله: " فلما ذهب عن إبراهيم الروع، وجاءته البشرى - بإسحاق - يجادلنا في قوم لوط "، وإنما كان جداله أنه قال: يا جبريل، أين تريدون، وغلى من بعثتم؟ قالوا إلى قوم لوط، وقد أمرنا بعذابهم، فقال إبراهيم: إن كان فيهم مائة مؤمن تعذبونهم؟ قال جبريل: لا، قال: إن كان فيهم تسعون مؤمنون تعذبونهم؟ فقال جبريل: لا، قال: فإن كان فيهم ثمانون مؤمن تعذبونهم؟ قال جبريل: لا، حتى انتهى العدد إلى واحد مؤمن، قال جبريل: لا. فخاف إبراهيم على لوط، فقال: " إن فيها لوطاً " ليدفع به عنهم، فقالوا: " نحن نعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين "، يعني من الباقين الذين أهلكوا ولم ينجوا، إنما أنجى لوطاً، وغبرت امرأته مع الغابرين فأهلكت. قيل أنها صعدت ظهر بيتها، فلوحت بثوب لها فأتاها الفسقة يهرعون إليها سراعاً، فقالوا: هل عندك شيء؟ قال: نعم والله، لقد نزل بنا أضياف ما رأينا قط أحسن وجوهاً منهم، ولا أطيب منهم ريحاً.
وفي قوله: " فخانتهما "، قال: لم يكن زنى، ولكن امرأة نوح كانت تخبر أنه مجنون، وامرأة لوط تخبر بالضيف إذا نزل.(21/239)
وعن الضحاك قال: إنما كانت خيانة امرأة وامرأة لوط النميمية.
عن حذيفة قال: إنما حق القول على قوم لوط حين استغنى النساء بالنساء والرجال بالرجال.
عن جعفر بن محمد بن علي قال: جاءته امرأتان قد قرأتا القرآن فقالتا: هل تجد غشيان المرأة المرأة محرماً في كتاب الله؟ فقال لها: نعم؛ هن اللواتي كن على عهد تبع، وهن صواحب الرس - وكل نهر وبئر رس.
عن الزبير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل سنن قوم لوط قد فقدت إلا ثلاثاً: جر نعال السيف، وخضب الأظفار، وكشف عن العورة. وضرب بيده على فخذه ".
عن أبي أمامة الباهلي قال: كان في قوم لوط عشر خصال يعرفون بها: لعب الحمام، ورمي البندق، والمكاء، والخذف في الأنداء، وتبسيط الشعر، وفرقعة العلك، وإسبال الأزرار، وحبس الأقبية، وإتيان الرجال، والمنادمة على الشرابز عن الحسن قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عشر خصال عملها قوم لوط بها أهلكوا؛ وتزيدها أمتي بخلة: إتيان الرجال بعضهم بعضاً، ورميهم بالجلاهق والخذف، ولعبهم بالحمام، وضرب الدفوف، وشرب الخمور،(21/240)
وقص اللحية، وطول الشارب، والصفير، والتصفيق، ولباس الحرير. وتزيدها أمتي بخلة: إتيان النساء بعضهم بعضاً ".
عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الآية: " وتأتون في ناديكم المنكر " ما المنكر الذي كانوا يأتون في ناديهم؟ قال: " كانوا يخذفون أهل الطريق، ويسخرون منهم ".
عن معاوية بن قرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل: " ما أحسن ما أثنى عليك ربك " ذي قوة عند ذي العرش مكين. مطاع ثم أمين "، فما كانت قوتك، وما كانت أمانتك؟ قال: أما قوتي فإني بعثت إلى مدائن لوط، وهي أربع مدائن، وفي كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج، ونباح الكلاب، ثم هويت بهن، فقلبتهن. وأما أمانتي فلم أؤمر بشيء فعدوته إلى غيره ".
قيل لمجاهد: يا أبا الحجاج، هل بقي من قوم لوط أحد؟ قال: لا، إلا رجل بقي أربعين يوماً، تاجراً كان بمكة، فجاءه حجر ليصيبه في الحرم، فقام إليه ملائكة الحرم، فقالوا للحجر: ارجع من حيث جئت؛ فإن الرجل في حرم الله. فخرج الحجر، فوقف خارجاً من الحرم أربعين يوماً بين السماء والأرض حتى قضى الرجل تجارته، فلما خرج أصابه الحجر خارجاً من الحرم، يقول الله: " وما هي من الظالمين ببعيد "، يعني من ظالمي هذه الأمة ببعيد.
عن أبي سعيد قال: من عمل ذاك من عمل قوم لوط إنما كانوا ثلاثين رجلاً ونيفاً لا يبلغون أربعين،(21/241)
فأهلكهم الله جميعاً. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو لتعمنكم العقوبة جميعاً ".
عن الزهري قال: أن لوطاً لم يزل مع إبراهيم حتى قبضه الله إليه.
لؤلؤ بن عبد الله أبو الحسن
الخادم كان لزبيدة، ويقال: بل كان لهارون الرشيد فوهبه لليث بن سعد، وقدم مع الليث دمشق لما رجع من بغداد إلى مصر.
قال: كنت غلاماً لزبيدة، وإني يوم أتى بالليث يستفتيه كنت واقفاً على رأس ستي زبيدة خلف الستارة، فسأله هارون الرشيد: حلفت إن لي جنتين؟ فاستحلفه الليث ثلاثاً أنه يخاف الله؟ فحلف له، فقال له الليث: قال الله - عز وجل -: " ولمن خاف مقام ربه جنتان "، قال: فأقطعه قطائع بمصر كثيرة. وقال: جرى بين هارون الرشيد وبين ابنة عمه زبيدة مناظرة وملاحاة في شيء من الأشياء، فقال هارون في عرض كلامه لها: أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة، ثم ندم واغتما جميعاً بهذه اليمين، ونزل بهما مصيبة لموضع ابنة عمه منه، فجمع الفقهاء وسألهم عن هذه اليمين، فلم يجدوا منها مخرجاً، ثم كتب إلى سائر البلدان من عمله أن تحمل إليه الفقهاء من بلدانهم، فلما اجتمعوا جلس لهم، وأدخلوا عليه، وكنت واقفاً بين يديه لأمر إن حدث يأمرني بما شاء فيه، فسألهم عن يمينه، وكنت المعبر عنه، وهل له منها مخلص، فأجابه الفقهاء بأجوبة مختلفة، وكان فيهم الليث بن سعد فيمن أشخص من مصر.
فذكر تفصيل الخبر، وكيف جعل هارون الرشيد في حل من يمينه.(21/242)
لؤلؤ بن عبد الله أبو محمد
الخصي، مولى أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون المصري روى عن أحمد بن طولون بسنده عن أبي بكرة قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر، ومعه الحسن بن علي، وهو يقول: " إن ابني هذا لسيد، وإن الله سيصلح على يديه بين فئتين عظيمتين من المسلمين ".
وروى عن المزني قال: دخلت على الشافعي في اليوم الذي مات فيه، فقلت: كيف أصبحت، يا أبا عبد الله؟ قال: فرفع إلي رأسه، فقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، وبكأس المنية شارباً وبسوء أفعالي ملاقياً، وعلى الله وارداً، فلا أدري روحي إلى جنة تصير فأهنيها، أو إلى نار تصير فأعزيها. ثم بكى، وأنشأ يقول: " من الطويل "
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فلولاك لم يغوى بإبليس عابد ... وكيف وقد أغوى صفيك آدما
مات أبو محمد لؤلؤ الخادم سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
لؤلؤ بن عبد الله القيصري
أبو محمد القيصري مولى المقتدر بالله روى عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد النصيبي الصوفي - بالموصل - بسنده إلى معاوية بن حيدة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " مبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن ود يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة ".(21/243)
قال الحافظ: هذا حديث منكر.
وحدث عن عبد الله بن محمد بن الحسين بن جمعة بسنده إلى عبد الله بن حوالة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ستجدون أجناداً: جنداً بالشام، وجنداً بالعراق، وجنداً باليمن " قال عبد الله: فقمت، فقلت: خر لي يا رسول الله، فقال: " عليكم بالشام، فمن أبى فليلحق بيمنه؛ فإن الله قد تكفل لي بالشام ".
قال الحافظ: المشهور عندنا عبد الله بن الحسين بن محمد بن جمعة، فإن كان هذا عمه، وإلا فهو آخر.
قال الخطيب: سألت البرقاني عن لؤلؤ القيصري، فقال: كان خادماً، حضر مجلس أصحاب الحديث، فعلقت عنه أحاديث. قلت: كيف حاله؟ قال: لا أخبره.
قال الخطيب: لم أسمع أحداً من شيوخنا يذكره إلا بالجميل.
لؤلؤ بن عبد الله البشراوي
أبو محمد البشراوي، ويقال: البشاري أمير دمشق في أيام الحاكم.
قدم لؤلؤ البشراوي والياً على دمشق، ولقب منتجب الدولة، يوم الأحد لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعمائة، وعزل يوم عيد الأضحى، وولي أبو المطاع ذو القرنين بن حمدان، فكان ما أقام والياً ستة أشهر وثلاثة أيام.(21/244)
وأرسل الأمير ذو القرنين إلى الأمير لؤلؤ يقول له: إن كنت في الطاعة فتركب إلى القصر وتخدم، وإن كنت عاصياً فاخرج عن البلد. فظن لؤلؤ أنهم يريدونه يجيء إلى القصر حتى يؤخذ رأسه، فرد لؤلؤ جواب الرسالة إلى ابن حمدان يقول: أنا في الطاعة غير أني ما أدخل في القصر، وأخروني ثلاثة أيام حتى أسير عن البلد، فركب ابن حمدان إليه، ولقيه ابن لؤلؤ وأصحابه، ولم يزل القتال بينهم إلى بعد العتمة، وألقي القبض على ابن لؤلؤ، وسير إلى بعلبك. وفي سنة اثنتين وأربعمائة ورد من بعلبك ابن الأمير ذي القرنين ومعه رأس لؤلؤ البشاري.
الليث بن تميم الفارسي
من أهل ساحل دمشق، من غزاة البحور.
كان من المشيخة الذين رووا صلح قبرس، وغزا القسطنطينية مع عمر بن هبيرة.
ليث بن أبي رقية الثقفي
مولاهم ويقال: مولى أم الحكم بنت أبي سفيان، وكانت متزوجة في ثقيف، وكان كاتب سليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز.
قال ابن ماكولا: رقية - بضم الراء وفتح القاف والياء المشددة المعجمة باثنتين من تحتها.
قال خليفة في تسمية عمال سليمان: كاتب الرسائل ليث بن أبي رقية مولى أم الحكم بنت أبي سفيان ثم ذكره خليفة في عمال عمر بن عبد العزيز.(21/245)
الليث بن سعد بن عبد الرحمن
أبو الحارث الفهمي المصري الفقيه روى عن الزهري، عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ".
وروى الليث عن يزيد بن أبي حبيب بسنده عن معاذ بن جبل: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ - وفي رواية: قبل أن تزيغ - الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر، فيصليهما جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها العشاء، فإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء، فصلاها مع المغرب.
خرج الليث إلى العراق سنة إحدى وستين، وقدم دمشق، فجالس سعيد بن عبد العزيز.
قال ابن سعد في الطبقة الخامسة من أهل مصر: الليث بن سعد، مولى لقيس، يكنى أبا الحارث. مات يوم الجمعة لأربع عشرة بقيت من شعبان سنة خمس وستين ومائة. وكان قد استقل بالفتوى في زمانه بمصر. ولد سنة ثلاث - أو أربع - وتسعين في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان ثقة كثير الحديث صحيحه، وكان سرياً من الرجال، نبيلاً سخياً، له ضيافة.
وقال خليفة: مات سنة خمس وسبعين ومائة.(21/246)
قال أبو صالح كاتب الليث: سمعت الليث يقول: أنا أكبر من أبي لهيعة بسنتين، ومات عمر بن عبد العزيز ولي سبع سنين.
قال ابن زغبة: سمعت الليث بن سعد يقول: نحن من أهل أصبهان، فاستوصوا بهم خيراً. وقال لأصحاب الحديث: تعلموا الحلم قبل العلم.
قال يحيى بن بكير: سعد أبو الليث بن سعد مولى لقريش، وإنما افترض أبوه سعد، وجده، والليث في فهم، كان ديوانه فيهم، فنسب إلى فهم، وأصلهم من أصبهان.
قال الليث: حججت سنة ثلاث عشرة وأنا عشرين سنة.
قال الليث: حججت أنا وابن لهيعة، فلما صرت بمكة رأيت نافعاً، فأقعدته في دكان علاف، قال: فمر بي ابن لهيعة، فقال: من هذا الذي رأيته معك؟ قلت: مولى لنا. فلما قدمنا مصر قلت: حدثني نافع، فوثب إلي ابن لهيعة، فقال: يا سبحان الله! فقلت: ألم ترى الأسود معي في دكان العلاف بمكة؟ فقال لي: نعم، فقلت: ذاك نافع. فحج قابل فوجده قد توفي. وقدم الأعرج يريد الإسكندرية، فرآه ابن لهيعة، فأخذه، فأخذه، فما زال عنده يحدثه حتى اكترى له سفينة وأحدره إلى الإسكندرية، فخرج إلى الإسكندرية، فقعد يحدث، فقال: حدثني الأعرج، عن أبي هريرة. فقلت: الأعرج، متى رأيته؟! قال: إن أردته، هو بالإسكندرية، فخرج الليث إلى الإسكندرية، فوجده قد مات، فذكر أنه صلى عليه.(21/247)
قال الليث بن سعد: كنا بمكة سنة ثلاث عشرة " ومائة " وعلى الموسم سليمان بن هشام، وبها: ابن شهاب، وعطاء بن أبي رباح، وابن أبي مليكة، وعمرو بن شعيب، وقتادة بن دعامة، وعكرمة بن خالد، وأيوب بن موسى، وإسماعيل بن أمية، فكسفت الشمس بعد العصر، فقاموا قياماً يدعون في المسجد، فسألت أيوب بن موسى، فقلت: ما يمنعهم أن يصلوا صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي صلاها في الكسوف؟ فقال أيوب بن موسى: نهى " رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " عن الصلاة بعد العصر، والنهي يقطع الأمر.
قال الليث: كتبت من علم ابن شهاب علماً كثيراً، وطلبت ركوب البريد إليه إلى الرصافة، فخفت ألا يكون ذلك لله، فتركت ذاك.
وقال: دخلت على نافع، فسألني، فقلت: أنا رجل من أهل مصر، قال: ممن؟ قلت: من قيس، فقال لي: ابن كم؟ قلت: ابن عشرين سنة، قال: أما لحيتك فلحية " ابن " أربعين! قال عمر بن خالد الحراني: قلت لليث: يا أبا الحارث، بلغني أنك أخذت بركاب الزهري؟ قال: للعلم، فأما غير ذلك فلا والله، ما أخذت بركاب والدي الذي ولدني.
قال عبد العزيز بن محمد:
رأيت الليث بن سعد عند ربيعة يناظرهم في المسائل، وقد فرفر أهل الحلقة.(21/248)
قال شرحبيل بن حميد بن يزيد مولى شرحبيل بن حسنة: أدركت الناس أيام هشام، وكان الليث بن سعد حديث السن، وكان بمصر: عبيد الله بن أبي جعفر، وجعفر بن ربيعة، والحارث بن يزيد، ويزيد بن أبي حبيب، وابن هبيرة وغيرهم من أهل مصر، ومن يقدم علينا من فقهاء المدينة وإنهم ليعرفون لليث فضله، وورعه، وحسن إسلامه على حداثه سنه.
قال ابن بكير: ورأيت من رأيت فلم أر مثل الليث، وما رأيت أحداً أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الشعر والحديث، حسن المذاكرة - وما زال يذكر خصالاً جميلة ويعقد بيده حتى عقد عشرة - لم أر مثله.
قال شعيب بن الليث: قيل لليث: أمتع الله بك، إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك، فقال: أوكلما في صدري في كتبي؟ لو كتبت ما في صدري ما وسعه هذا المركب! عن يعقوب بن داود وزير المهدي قال: قال لي أمير المؤمنين لما قدم الليث بن سعد العراق: الزم هذا الشيخ؛ فقد ثبت عند أمير المؤمنين أنه لم يبق أحد أعلم بما حمل منه.
قال يحيى بن معين: هذه رسالة مالك بن أنس إلى الليث بن سعد: حدثنا عبد الله بن صالح - فذكرها وذكر فيها: - وأنت في أمانتك، وفضلك، ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاءهم منك - وذكرها.
قال ابن بكير: الليث أفقه من مالك، ولكن كانت الحظوة لمالك.(21/249)
وقال: أخبرت عن سعيد بن أيوب قال: لو أن مالكاً والليث اجتمعا لكان مالك عند الليث أبكم، ولباع الليث مالكاً فيمن يزيد - قال: وهو يضرب يده على الأخرى، يرينا ذلك ابن بكير.
قال ابن وهب: لولا مالك والليث لضل الناس، ولولا مالك بن أنس والليث بن سعد لهلكت، كنت أظن أن كل ما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل به.
قال الشافعي: الليث بن سعد أتبع للأثر من مالك بن أنس.
قال سعد بن أبي مريم: قال يحيى بن معين: الليث عندي أرفع من محمد بن إسحاق، قلت له: فالليث أو مالك؟ قال لي: مالك.
وقال أبو عبد الله: ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث بن سعد، لا عمرو بن الحارث، ولا أحد. وقد كان عمرو بن الحارث عندي، ثم رأيت له أشياء مناكيرز وقال: ليث بن سعد كثير العلم، صحيح الحديث.
قال أحمد بن صالح: - وذكر الليث بن سعد فقال: - إمام قد أوجب الله علينا حقه.
قال زيد بن الحباب: رأيت الليث بن سعد عند معاوية بن صالح نائماً في ناحية المسجد، ومعاوية يحدث، فلما فرغ معاوية من الحديث قال الليث لغلامه: انظر ما حدث معاوية فاكتب لي، فكتبه له، وذهب به.(21/250)
قال الليث بن سعد: لما ودعت أبا جعفر ببيت المقدس قال: أعجبني ما رأيت من شدة عقلك، والحمد لله الذي جعل في رعيتي مثلك. وكان يقول: لا تخبروا بهذا ما دمت حياً.
قال عثمان ابن صالح: كان أهل مصر ينتقصون عثمان حتى نشأ فيهم الليث بن سعد، فحدثهم بفضائل عثمان، فكفوا عن ذلك. مكان أهل حمص ينتقصون علياً حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عياش، فحدثهم بفضائله، فكفوا عن ذلك.
قال الليث: قال لي أبو جعفر: تلي لي مصر؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين، إني أضعف عن ذلك، وإني رجل من المالي. فقال: ما بك من ضعف معي، ولكن ضعف نيتك في العمل لي عن ذلك. تريد قوة أقوى مني ومن عملي؟ فأما إذا أبيت فدلني على رجل أقلده أمر مصر، قلت: عثمان بن الحكم الجذامي، رجل له صلاح وعشيرة. قال: فبلغه ذلك فعاهد الله ألا يكلم الليث بن سعد.
قال قتيبة بن سعيد: قفلنا مع الليث بن سعد من الإسكندرية، وكان معه ثلاث سفائن سفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه. وكان إذا حضرته الصلاة يخرج إلى الشط، فيصلي، وكان ابنه شعيب إمامه. فخرجنا لصلاة المغرب، فقال: أين شعيب؟ فقالوا: حم، فقام الليث، فأذن، وأقام، ثم تقدم، فقرأ: " والشمس وضحاها "، فقرأ: " فلا تخاف عقباها "، وكذلك في مصاحف أهل المدينة، يقولون: هو(21/251)
غلط من الكاتب عند أهل العراق - ويجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ويسلم تسليمة تلقاء وجهه.
قال أشهب بن عبد العزيز:
كان الليث له كل يوم أربعة مجالس فيها، أما أولها فيجلس ليأتيه السلطان في نوائبه وحوائجه، وكان الليث يغشاه السلطان، فإذا أنكر من القاضي أمراً، أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين، فيأتيه القرار، ويجلس لأصحاب الحديث. وكان يقول: نحوا أصحاب الحوانيت؛ فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم، ويجلس للمسائل؛ يغشاه الناس، فيسألونه ويجلس لحوائج الناس؛ لا يسأله أحد من الناس فيرده، كبرت حاجته أو صغرت. قال: وكان يطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل، وسمن البقر، وفي الصيف سويق اللوز بالسكر.
قال عبد الله بن صالح: صحبت الليث عشرين سنة، لا يتغدى، ولا يتعشى إلا مع الناس، وكان لا يأكل إلا بلحم، إلا أن يمرض.
قال يحيى بن إسحاق السيلحيني: جاءت امرأة بسكرجة إلى الليث بن سعد، فطلبت منه فيها عسلاً - أحسبه قال لمريض - قال: فأمر من يحمل معها زقاً من عسل، فجعلت المرأة تأبى، قال: وجعل(21/252)
الليث يأبى إلا أن يحمل معها زقاً من عسل، قال: نعطيك على قدرنا - أو على ما عندنا.
قال شعيب بن الليث: خرجت مع أبي حاجاً، فقدم المدينة، فبعث إليه مالك بن أنس بطبق رطب. قال: فجعل على الطبق ألف دينار ورده إليه.
عن أبي صالح قال: كنا على باب مالك فامتنع عن الحديث، فقلنا: ما يشبه هذا صاحبنا! قال: فسمع مالك كلامنا، فأدخلنا عليه، فقال: من صاحبكم؟ قلنا: الليث. فقال مالك: تشبهوننا برجل كتبنا إليه في قليل عصفر نصبغ به ثياب صبياننا، فأنفذ إلينا ما صبغنا به ثياب صبياننا، وصبيان جيراننا، وبعنا الفضلة بألف دينار.
قال ابن وهب: كتب مالك إلى الليث بن سعد: إني أريد أن أدخل ابنتي على زوجها، فأحب أن تبعث إلي بشيء من عصفر. فبعث إليه الليث بثلاثين حملاً عصفراً، فصبغ لابنته، وباع بخمسمائة دينار، وبقي عنده فضلة.
قال محمد بن صالح الأشج: سئل قتيبة بن سعيد: من أخرج لكم هذه الأحاديث من عند الليث؟ فقال: شيخ كان يقال له زيد بن الحباب.
وقدم منصور بن عمار على الليث بن سعد فوصله بألف دينار، واحترق بيت عبد الله بن لهيعة فوصله بألف دينار، ووصل مالك بن أنس بألف دينار. قال: وكساني قميص سندس، فهو عندي.(21/253)
قال أسد بن موسى: كان عبد الله بن علي يطلب بني أمية، فيقتلهم، فلما دخلت مصر دخلت في هيئة رثة، فدخلت على الليث بن سعد، فلما فرغت من مجلسه خرجت، فتبعني خادم له في دهليزه، فقال: اجلس حتى أخرج إليك، فجلست، فلما خرج إلي، وأنا وحدي، دفع إلي صرة فيها مائة دينار، فقال: يقول لك مولاي: أصلح بهذه النفقة بعض أمرك، ولم من شعثك.
وكان في حوزتي هميان فيه ألف دينار، فأخرجت الهميان، فقلت: أنا عنها في غنى استأذن لي على الشيخ، فاستأذن لي، فدخلت، فأخبرته بنسبي؛ واعتذرت إليه من ردها، وأخبرته بما معي. فقال: هذه صلة، وليست بصدقة، فقلت: أكره أن أعود نفسي عادة وأنا في غنى، فقال: ادفعها إلى بعض أصحاب الحديث ممن تراه مستحقاً لها. فلم يزل بي حتى أخذتها ففرقتها على جماعة.
قال سعيد الآدم: مررت بالليث بن سعد، فتنحنح لي، فرجعت إليه، فقال لي: يا سعيد، خذ هذا القنداق فاكتب لي فيه من يلزم المسجد ممن لا بضاعة له، ولا غلة. قال: فقلت: جزاك الله خيراً يا أبا الحارث. وأخذت منه القنادق، ثم صرت إلى المنزل، فلنا صليت أوقدت السراج، وكتبت: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قلت: فلان بن فلان. قال: فبينا أنا على ذلك إذ أتاني آت، فقال: هاالله يا سعيد، تأتي إلى قوم عاملوا الله سراً، فتكشفهم لآدمي؟ مات الليث، ومات شعيب بن الليث، أليس مرجعهم إلى الله الذي عاملوه! قال: فقمت، ولم أكتب شيئاً. فلما أصبحت أتيت الليث بن سعد، فلما رآني تهلل وجهه، فناولته القنادق، فنشره، فأصاب(21/254)
فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم ذهب ينشره، فقلت: ما فيه غير ما كتبت. فقال لي: يا سعيد، وما الخبر؟ فأخبرته بصدق عما كان، فصاح صيحة فاجتمع عليه الناس من الخلق، فقالوا: يا أبا الحارث، إلا خيراً! فقال: ليس إلا خيراً. ثم أقبل علي، فقال: يا سعيد، بينتها، وحرمتها، صدقت، مات الليث، أليس مرجعهم إلى الله!؟ قال شعيب بن الليث: يستغل أبي في السنة ما بين عشرين ألف دينار إلى خمسة وعشرين ألف دينار، تأتي عليه السنة وعليه دين.
حدثني خالد بن عبد السلام الصدفي قال:
جالست الليث بن سعد، وشهدت جنازته وأنا مع أبي، فما رأيت جنازة قط بعدها أعظم منها، ورأيت الناس كلهم في جنازته عليهم الحزن، والناس يعزي بعضهم بعضاً ويبكون، فقلت لأبي: يا أبه، كأن كل واحد من الناس صاحب الجنازة! فقال لي: يا بني، كان عالماً كريماً حسن العقل كثير الإفضال، يا بني، لا يرى مثله أبداً! قال ابن بكير: ولد الليث بن سعد سنة أربع وتسعين، وتوفي يوم النصف من شعبان يوم الجمعة سنة خمس وسبعين ومائة، وصلى عليه موسى بن عيسى الهاشمي، ودفن بعد الجمعة.
ليث بن سليمان بن سعد الخشني
قال خليفة في تسمية عمال يزيد بن الوليد: كاتب الرسائل: ليث بن سليمان بن سعد.(21/255)
ليث الليثي
من ندامى الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
قال فيه الوليد حين سقط من على فرس فاندقت عنقه: " من الهزج "
عجبت اليوم من ليث ... لقرب الدار والبعد
فلا يبعد! وكيف البع ... د إلا المكث في اللحد
أسماء الرجال على حرف الميم
محمد بن أحمد بن إبراهيم
أبو الفرج الشنبودي المقرئ قال عبد الرحمن بن عبد الله: كنت أجلس إلى الشنبودي ببغداد، وأسمع منه تفسير القرآن، وكان من أعلم الناس به.
قال الخطيب: سمعت أبا الفضل عبيد الله بن أحمد بن علي الصيرفي يذكر أبا الفرج الشنبودي، فعظم أمره، ووصف علمه بالقراءات، وحفظه للتفسير، وقال: سمعته يقول: أحفظ خمسين ألف بيت من الشعر شواهد للقرآن.
قال أبو الفرج الشنبودي: أنشدنا أبو عبد الله نفطويه: " من البسيط "
وكم ظفرت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء وخوف الله والحذر
وكم خلوت بمن أهوى، فيقنعني ... منه الفكاهة والتحديث والنظر(21/256)
أهوى الملاح وأهوى أن أجالسهم ... وليس لي في فساد منهم وطر
كذلك الحب لا إتيان معصية ... لا خير في لذة من بعدها سقر
ولد الشنبودي في سنة ثلاثمائة، ومات في سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وقيل: سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.
محمد بن أحمد بن إسحاق
ابن إبراهيم بن يزيد أبو عمرو النيسابوري، المعروف بأبي عمرو الصغير رفيق أبي علي النيسابوري في الرحلة. كان كبيرا في العلوم والعدالة. وإنما لقب بالصغير لأنهما كانا أبوي عمرو لا يزايلان مجلس أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وهو أصغرهما، فكان أبو بكر يقول: أبو عمرو الصغير، فيثني عليه.
توفي سنة ثنتين وخمسين وثلاثمائة، وهو ابن ثلاث وستين سنة.
محمد بن أحمد بن إسماعيل بن عنبس
أبو الحسين البغدادي الواعظ الصوفي، المعروف بابن سمعون روى عن أبي بكر أحمد بن سليمان الكندي بسنده عن عائشة قالت: من حدثك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بال قائماً فلا تصدقه، ما بال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائماً منذ أنزل عليه الفرقان.
قال أبو عبد الرحمن السلمي في " تاريخ الصوفية ": أبو الحسين محمد بن أحمد بن سمعون الذي هو لسان الوقت، والمعبر عن الأحوال بألطف بيان مع ما يرجع إليه من صحة الاعتقاد، وصحبة الفقراء.(21/257)
قال الخطيب: كان واحد دهره، وفرد عصره في الكلام على علم الخواطر والإشارات، ولسان الوعظ. دون الناس حكمه، وجمعوا كلامه. وكان من بعض شيوخنا إذا حدث عنه قال: حدثنا الشيخ الجليل المنطق بالحكمة أبو الحسين بن سمعون.
قال ابن ماكولا: سمعون - بسين مهملة - وقال الأزجي: قال لي ابن سمعون: إسماعيل جدي كسر اسمه، فقيل سمعون.
قال أبو بكر الأصبهاني - وكان خادم الشبلي: كنت بين يدي الشبلي في الجامع يوم الجمعة، فدخل أبو الحسين بن سمعون، وهو صبي، وعلى رأسه قلنسوة بشفاشك مطلس بفوطة، فجاز علينا وما سلم، فنظر الشبلي إلى ظهره وقال: يا أبا بكر، تدري إيش لله في هذا الفتى من الذخائر؟!
كان ابن سمعون في أول عمره ينسخ بالأجرة ويعود بأجرة نسخه على نفسه وعلى أمه، وكان كثير البر لها. فجلس يوماً ينسخ، وهي جالسة بقربه، فقال لها: أحب أن أحج، قالت له: يا ولدي، كيف يمكنك الحج وما معك نفقة، ولا لي ما أنفقه، إنما عيشنا من أجرة هذا النسخ. وغلب عليها النوم، فنامت، وانتبهت بعد ساعة، وقالت بل ولدي حج، فقال لها: منعت قبل النوم وأذنت بعده! قالت: رأيت الساعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول: دعيه يحج، فإن الخير له في حجه في الآخرة والأولى. ففرح، وباع من دفاتره ما له قيمة، ودفع إليها من ثمنها نفقة لها، وخرج مع الحجاج. وأخذ العرب الحجاج، وأخذوه في الجملة.
قال ابن سمعون: فبقيت عريان، ووجدت مع رجل عباءة كانت على عدل، فقلت له: هب لي هذه(21/258)
العباءة أستر نفسي بها، فقال: خذها. فجعلت نصفها على كتفي، ونصفها على وسطي. وكان عليها مكتوب: يا رب سلم وبلغ برحمتك، يا أرحم الراحمين. وكنت إذا غلب علي الجوع، ووجدت قوماً يأكلون وقفت أنظر إليهم، فيدفعون لي الكسرة، فأقتنع بها ذلك اليوم. ووصلت إلى مكة، فغسلت العباءة، وأحرمت بها، وسألت أحد بني شيب أن يدخلني البيت، وعرفته فقري، فأدخلني بعد خروج الناس، وغلق الباب، فقلت: اللهم إنك بعلمك غني عن إعلامي بحالي، اللهم ارزقني معيشة أستغني بها عن سؤال الناس. فسمعت قائلاً يقول من ورائي: اللهم إنه ما يحسن أن يدعوك، اللهم ارزقه عيشاً بلا معيشة. فالتفت، فلم أر أحداً، فقلت هذا الخضر، أو أحد الملائكة. فأعدت القول، فأعاد الدعاء، فأعدت، فأعاد ثلاث مرات. وعدت إلى بغداد، وكان الخليفة قد حرم جارية من جواريه، وأراد إخراجها من الدار، فكره ذلك إشفاقاً عليها، فقال: اطلبوا رجلاً مستوراً يصلح أن يزوج هذه الجارية، فقال: من حضر: وصل ابن سمعون من الحج، وهو يصلح لها، فاستصوب الخليفة قوله، وتقدم بإحضاره وحضور الشهود، فأحضروا، وزوج الجارية، ونقل معها من المال والثياب والجواهر ما يحمل الملوك. فكان ابن سمعون يجلس على الكرسي للوعظ، فيقول: أيها الناس، خرجت حاجاً، فكان من حالي كذا وكذا، ويشرح حاله جميعها، وها أنا اليوم علي من الثياب ما ترون.
قال الحسن بن محمد الخلال: قال لي أبو الحسين بن سمعون: ما اسمك؟ فقلت: حسن، فقال: قد أعطاك الله الاسم، فسله أن يعطيك المعنى.
وقال ابن سمعون: رأيت المعاصي نذالة فتركتها مروءة، فاستحالت ديانة.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت محمد بن أحمد بن سمعون - وكان سئل عن الرضا: الرضا بالحق، والرضا عنه، والرضا له فقال -: الرضا به مدبراً مختاراً، والرضا عنه قاسماً ومعطياً، والرضا له إلهاً ورباً.(21/259)
وسأله رجل عن التصوف؟ فقال: إن له اسماً وحقيقة، فعن أيهما تسأل؟ فقال: عنهما جميعاً. فقال: أما اسمه فنسيان الدنيا، ونسيان أهلها، وأما حقيقته فالمداراة مع الخلق، واحتمال الأذى منهم من جهة الحق.
قال أبو بكر محمد بن محمد الطاهري: سمعت أبا الحسين ين سمعون يذكر أنه خرج من مدينة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاصداً بيت المقدس، وحمل في صحبته تمراً صيحانياً، فلما وصل إلى بيت المقدس ترك التمر مع غيره من الطعام في الموضع الذي كان يأوي إليه، ثم طالبته نفسه بأكل الرطب، فأقبل عليها باللائمة، وقال: من أين لنا في هذا الموضع رطب!؟ فلما كان وقت الإفطار عمد إلى التمر ليأكل منه فوجده رطباً صيحانياً، فلم يأكل منه شيئاً. ثم عاد إليه من الغد عشية فوجده تمراً على حالته الأولى، فأكل منه.
قال أبو طاهر محمد بن علي العلاف: حضرت أبا الحسين بن سمعون يوماً في مجلس الوعظ، وهو جالس على كرسيه يتكلم. وكان أبو الفتح القواس جالساً إلى جنب الكرسي، فغشيه النعاس، ونام، فأمسك أبو الحسين عن الكلام ساعة حتى استيقظ أبو الفتح، ورفع رأسه، فقال له أبو الحسين: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نومك؟ قال: نعم، قال أبو الحسين: لذلك أمسكت عن الكلام خوفاً أن تنزعج، وتنقطع عما كنت فيه.
حكى دجى مولى الطائع لله قال:
أمرني الطائع لله بأن أوجه إلى ابن سمعون، فأحضره دار الخلافة، ورأيت الطائع على صفة من الغضب، وكان يتقى في تلك الحال؛ لأنه كان ذا حدة، فبعثت إلى ابن سمعون وأنا مشغول القلب لأجله، فلما حضر أعلمت الطائع حضوره فجلس مجلسه، وأذن له في الدخول، فدخل، وسلم عليه بالخلافة، ثم أخذ في وعظه، فأول ما ابتدأ به أن(21/260)
قال: روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - وذكر خبراً وأحاديث بعده - ثم قال: روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وذكر عنه خبراً. ولم يزل يجري في ميدان الوعظ حتى بكى الطائع، وسمع شهيقه، وابتل منديل بين يديه بدموعه، فأمسك ابن سمعون حينئذ. ودفع إلي الطائع درجاً فيه طيب وغيره، فدفعته إليه، فانصرف. وعدت إلى حضرة الطائع، فقلت: يا مولاي، رأيتك على صفة من شدة الغضب على ابن سمعون، ثم انتقلت عن تلك الصفة عند حضوره، فما السبب؟ فقال: رفع إلي عنه أنه ينتقص علي بن أبي طالب، فأحببت أن أتيقن ذلك لأقابله عليه إن صح ذلك منه، فلما حضر بين يدي افتتح كلامه بذكر علي بن أبي طالب والصلاة عليه، فعلمت أنه وفق لما تزول به الظنة، ويبرئ ساحته عندي، ولعله كوشف بذلك.
توفي أبو الحسين بن سمعون سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.
محمد بن أحمد بن إسماعيل بن علي
ويقال: ابن إسماعيل بن محمد - أبو عبد الله - ويقال: أبو بكر - البرزي المقرئ الصوفي روى عن أبي سليمان محمد بن عبد الله بن أحمد بن زبر بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه إبصارهم وهو مؤمن ".
توفي أبو عبد الله البرزي سنة خمس عشرة وأربعمائة.
محمد بن أحمد بن أيوب
ابن الصلت أبو الحسن البغدادي المقرئ، المعروف بابن شنبوذ أحد القراء المشهورين.(21/261)
حدث عن خطاب بن سعد الدمشقي بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو أن الله أذن لأهل الجنة بالتجارة لتبايعوا بينهم العطر والبز ".
وأخطأ الراوي فقلب اسمه واسم أبيه في الإسناد.
روى ابن شنبوذ عن محمد بن رزيق المديني بسنده عن أبي هريرة أن رجلاً أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: " الصلاة في جوف الليل " قال: فأي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: " شهر الله الذي تدعونه المحرم ".
ورد ابن شنبوذ نيسابور سنة خمس وتسعين ومائتين، فأقام بها مدة، ثم خرج إلى مرو، وعاد إلى نيسابور، ثم انصرف إلى بغداد فامتحن بها، ثم مات بها.
قال أبو نعيم الحافظ: قدم أصبهان سنة ثلاث وثلاثمائة.
قال الخطبي في " كتاب التاريخ ": واشتهر ببغداد أمر رجل يعرف بابن شنبوذ، يقرئ الناس، ويقرأ في المحراب بحروف يخالف فيها المصحف، مما يروى عن عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وغيرهما مما كان يقرأ به قبل جمع المصحف الذي جمعه عثمان بن عفان، ويتبع الشواذ فيقرأ بها، ويجادل حتى عظم أمره وفحش، وأنكره الناس، فوجه السلطان، فقبض عليه في يوم السبت لست خلون من ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. وحمل إلى دار الوزير محمد بن علي - بحضرتهم، فأقام على ما ذكر عنه، ونصره، واستنزله الوزير عن ذلك، فأبى أن ينزل عنه، أو يرجع عما يقرأ به من هذه الشواذ المنكرة التي تزيد على المصحف، وتخالفه. فأنكر ذلك جميع من حضر المجلس، وأشاروا بعقوبته، ومعاملته بما يضطره إلى(21/262)
الرجوع، فأمر بتجريده، وضربه بالدرة على قفاه، فضرب نحو العشر ضرباً شديداً، فلم يصبر، واستغاث، وأذعن بالرجوع والتوبة، فخلي عنه، وأعيدت عليه ثيابه، واستتيب، وكتب عليه كتاب بتوبته، وأخذ فيه خطه بالتوبة.
مات ابن شنبوذ في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
محمد بن أحمد بن بشر
أبو سعيد الهمذاني قدم دمشق، وسكن القباب. حدث عن عبدان الجوالقي بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ".
خرج أبو سعيد إلى الرملة فمات بها.
محمد بن أحمد بن بكير
ابن سعيد أبو بكر التنوخي الخياط إمام مسجد أبي صالح.
روى - من طريق قلب فيه اسمه - عن الوهاب الكلابي بسنده عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل مكة وعلى رأسه المغفر.
توفي أبو بكر محمد بن بكير سنة ست وثلاثين وأربعمائة.(21/263)
محمد بن أحمد بن تغلب
ابن إبراهيم أبو عبد الله التاجر كان أبوه من أهل آمد، وولد وهو ببغداد. وقدم دمشق غير مرة، ومضى إلى مصر. قال الحافظ ابن عساكر: كتبت عنه شيئاً يسيراً.
محمد بن أحمد بن أبي جحوش
أبو جحوش الخريمي المري خطيب جامع دمشق.
حدث عن أبي حامد أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل الجلودي، بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كان الناس يعودون داود، ويظنون أن به مرضاً، وما به إلا شدة الخوف من الله ".
وحدث عن عمر بن إسحاق النيسابوري بسنده إلى البراء قال: قال رسول الله: " زينوا القرآن بأصواتكم ".
ذكر عبد الوهاب الميداني أن محمد بن أحمد بن أبي جحوش كان من أهل العلم والستر والبيوتات والأقدار. والخريمي: بضم الخاء وبالراء.(21/264)
محمد بن أحمد بن جعفر
ابن محمد بن الحسن بن مهران بن أبي جميلة أبو العلاء الذهلي الكوفي، نزيل مصر يعرف بالوكيعي.
روى عن هشام بن عمار بسنده عن القاسم بن محمد قال: أشهد على عائشة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " للأمة تطليقتان، ولها قرء وحيضتان، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ".
قال أبو سعيد بن يونس - بعد أن ساق اسمه ونسبه -: ولد بالكوفة سنة أربع ومائتين. قدم مصر قديماً تاجراً، وكان ثقة ثبتاً. توفي بمصر يوم الخميس لست بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاثمائة، وصلى عليه أبو عبيد علي بن الحسين القاضي. وكان قد عمي قبل وفاته بيسير، وما رأيته أنا إلا وهو أعمى.
محمد بن أحمد بن جعفر
أبو أحمد الحربي حدث عن جعفر بن أحمد بن عاصم الأنصاري بسنده إلى ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة. من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ".(21/265)
محمد بن أحمد بن جعفر
أبو الحسن اليزدي حدث عن محمد بن جعفر بن هشام بن ملاس بسنده إلى أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قال ربكم: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ".
محمد بن أحمد بن الحسن أبو حاتم
السجستاني الحافظ قدم دمشق سنة سبع وأربعين وثلاثمائة طالب علم.
حدث عن الحسن بن أحمد بن المبارك الطوسي بسنده إلى أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما كرهت أن تواجه به أخاك فهو غيبة ".
محمد بن أحمد بن الحسن أبو الحسين
الغزي الكرجي نزل بيت المقدس. انتقى عليه عبد الغني سعيد الحافظ.
حدث عن أبي الليث محمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب بن هشام بن الغاز بسنده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا رأيتم الحريق فكبروا، فإن التكبير يطفئه ".(21/266)
محمد بن أحمد بن حماد
ابن سعيد بن مسلم أبو بشر الأنصاري الوراق الحافظ، المعروف بالدولابي من أهل الري. طاف في طلب الحديث، وقدم دمشق.
حدث عن أحمد بن أبي سريج الرازي بسنده عن ابن عباس أن النبي كتب إلى حبر تيماء فسلم عليه.
وروى عن بندار بسنده إلى ابن عباس، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: " أو أثارة من علم "، قال: " الخط ".
وحدث عن أبي بكر بن أخت حسين الجعفي بسنده إلى جابر بن سليم قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إياك وإسبال الإزار فإنها مخيلة، وأن الله لا يحب المخيلة ".
ولد أبو بشر الدولابي سنة أربع وعشرين ومائتين.
قال أبو سعيد بن يونس في " تاريخ الغرباء ": محمد بن احمد بن حماد بن سعد الدولابي مولى الأنصار الوراق، يكنى أبا بشر، قدم مصر نحو سنة ستين ومائتين، وكان يورق على شيوخ مصر في ذلك الزمان، وكان من أهل صنعة الحديث، حسن التصنيف، وله بالحديث معرفة، وكان يضعف. توفي وهو قاصد إلى الحج بين مكة والمدينة بالعرج سنة عشر وثلاثمائة، وقيل: توفي بذي الحليفة.(21/267)
محمد بن أحمد بن أبي حماد
أبو بكر الإسكندراني حدث عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث بسنده إلى عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من صافح أخاه المسلم ليس في صدر أحدهما على صاحبه إحنة لم تتفرق أيديهما حتى يغفر الله لهما ما مضى من ذنوبهما، ومن نظر إلى أخيه المسلم نظرة ليس في قلبه عليه إحنة لم يرفع طرفه حتى يغفر الله له ما مضى من ذنبه ".
محمد بن أحمد بن حمدان
ابن عيسى أبو الطيب المروروذي ثم الرسعني الوراق سكن رأس العين - مدينة بالجزيرة.
روى عن محمد بن أحمد بن محمد بن مطر بن العلاء بسنده عن ابن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطبنا، فيقول: " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة فليغتسل، وليتنظف ".
قال ابن عدي: أبو الطيب الوراق المروروذي، يضع الحديث، ويلزق أحاديث قوم لم يرهم.
محمد بن أحمد بن خالد
ابن زيد، أبو عبد الله المصري، المعروف بالأعدالي قدم دمشق، وسكن مسجد الزيتونة.(21/268)
روى عن أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي في " كتاب السنن " بسنده إلى جابر بن عبد الله.
أن جبريل أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلمه مواقيت الصلاة.
توفي أبو عبد الله الأعدالي المصري بمدينة دمشق سنة تسع وأربعين وثلاثمائة.
محمد بن أحمد بن داود بن سيار
ابن أبي عتاب، أبو بكر البغدادي المؤدب قدم دمشق.
روى عن محمد بن يحيى بن فياض الزماني بسنده إلى عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل عائشة إلى امرأة، فقالت: ما رأيت طائلاً، فقال: " لقد رأيت خالاً بخدها اقشعرت " منه " ذوائبك "، فقلت: ما دونك سر، ومن يستطيع أن يكتمك؟! روى عن هشام بن عمار بسنده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كسا ولياً لله ثوباً كساه الله من خضر الجنة، ومن أطعمه على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقاه على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة ".
وروى عن أبي عمرو حاتم بن بكر الضبي بسنده إلى عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا عيد الرحمن، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن(21/269)
أعطيتها عن غير مسألة أعنت بها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك ".
ذكر الدارقطني أن أبا بكر البغدادي لا بأس به.
محمد بن أحمد بن راشد
ابن معدان بن عبد الرحيم أبو بكر الثقفي مولاهم أصبهاني.
حدث عن يحي بن حكيم المقوم بسنده إلى أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المرء مع من احب ".
وروى عن أبي السائب سلم بن جنادة بسنده إلى عائشة قالت: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تزوجوا النساء؛ فإن هن يأتين بالمال ".
قال أبو نعيم: محمد بن أحمد راشد بن معدان بن عبد الرحيم، مولى ثقيف، أبو يكر، محدث ابن محدث. توفي بكرمان سنة تسعة وثلاثمائة. كثير الحديث والتصانيف.
محمد بن أحمد بن رزقان
بكسر الراء وبعدها زاي ساكنة - أبو بكر المصيصي حدث عن علي بن عاصم بسنده إلى سفينة مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوضئه المد من الماء، ويغسله الصاع من الجنابة.(21/270)
محمد بن أحمد بن سعيد
أبو عبد الله الواسطي، المعروف بابن كساء حدث عن هشام بن خالد بسنده إلى كيسان قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ".
محمد بن أحمد بن سعيد
ابن الفضل، أبو بكر البغدادي الكاتب صاحب شعر مستحسن، ونثر في الكتابة حسن. قدم دمشق.
يقول في استهداء مداد وأقلام وكاغد: وأنا أستمد من معونته مداداً كلون الشباب، أو سويداء دائم الاكتئاب؛ فإن الدواة قد شابت ذوائبها، وتبسم قاطبها، وضحكت مستديرة، وأضاءت مستنيرة: " من البسيط "
أشكو إليك مشيباً لاح بارقه ... في فرع دهماء تجري بالأساطير
وأقلام تقلم أظفار الخطوب، وتؤذن بدرك المطلوب، تهزأ بالسمر الطوال، وتستكن في جريها الأرزاق والآجال: " من المتقارب "
بها يدرك المرء آماله ... ويسمو إلى درجات العلى
تروق العيون بأزهارها ... وتخبر عن مضمرات الحشا
وبياضاً مصقولاً، يتكافأ عرضاً وطولاً، نقياً كعرضه الوافر، وقدحه الفائز الظافر، يرتاح القلب بإشراقه، ويبتهج عند وجوده ولحاقه: " من الطويل "
صحائف لو شئنا لقلنا صفائح ... فما بينها إلا أغر صقيل(21/271)
وله من قصيدة يمدح بها الأفضل بن بدر أمير الجيوش: " من الكامل "
ملك يجير على الزمان وصرفه ... ويقيم مائل كل خطب معضل
وإذا الوفود تزاحموا بفنائه ... برقت أسرة وجهه المتهلل
يعطي الجزيل من النوال تبرعاً ... وينيل مسؤولاً وإن لم يسأل
قد بخل الأنواء جود يمينه ... وأعاد حاتم في ملابس جرول
يا سيد الأمراء جودك قادني ... وإليك من أرض العراق ترحلي
وقد التقت حلق البطان وليس لي ... عن جود كفك في الورى من معدل
جرول: الحطيئة الشاعر، وكان بخيلاً.
محمد بن أحمد بن سليمان
أبو العباس الهروي الفقيه فقيه محدث، كثير المصنفات، خرج من أصبهان سنة ست وثمانين ومائتين، ومات ببروجرد سنة اثنتين وتسعين ومائتين.
روى عن موسى بن عامر بسنده إلى ابن عمر: " أن رجلاً زوج ابنته بكراً، فكرهت، فرد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نكاحه.
محمد بن أحمد بن سليمان
أبو النضر الشرمغولي النسوي روى عن أبي الدحداح أحمد بن محمد بن إسماعيل التميمي بسنده إلى معاذ بن جبل أنه قال:: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: " أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله ".(21/272)
قال أبو مسعود أحمد بن محمد بن عبد الله البجلي: ودعت أبا النضر الشرمغولي فأنشدني: " من الكامل "
شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناي حتى يؤذنا بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقيهما ... فقد الشباب وفرقة الأحباب
محمد بن أحمد بن سعد
أبو عبد الله البركاني القاضي المالكي حدث عن عبد الله بن محمد الزهري بسنده إلى أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لو كان الدين بالثريا لناله رجال من أبناء فارس ".
وروى عن بندار محمد بن بشار بسنده إلى ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب " قال البركاني القاضي: الإيمان شجرة، والكفر شجرة، ولكل واحدة أغصان، وأغصان الإيمان السنة، وأغصان الكفر البدعة.
قال أبو عبد الله بن مروان: ثم صرف - يعني عمر بن الجنيد - سنة ست وثلاثمائة، وولي مكانه محمد بن أحمد البركاني. وقدم البركاني، فأقام قاضياً، ثم شخص معزولاً للنصف من المحرم سنة عشر وثلاثمائة.(21/273)
قال أبو سليمان بن زبر: سنة عشر وثلاثمائة - فيها توفي أبو عبد الله محمد أحمد البركاني القاضي بالبصرة.
محمد بن أحمد بن سهل بن عقيل
أبو بكر البغدادي الأصباغي، صاحب الموارث سكن دمشق.
روى عن محمد بن يحيى بن المنذر بسنده إلى معاوية بن حيدة قال: قلت: يا رسول الله، من أبر؟ قال: " أمك "، قلت: ثم من؟ قال: " أمك "، قلت: ثم من؟ قال: " ثم أمك، ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب ".
قال الخطيب: ما علمت من أمره إلا خيراً.
محمد بن أحمد بن سهل بن نصر
أبو بكر الرملي، المعروف بابن النابلسي روى عن عمر بن محمد بن سليمان العطار بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أهل الجنة ليحتاجون إلى العلماء في الجنة، وذلك أنهم يزورون الله - عز وجل - في كل جمعة، فيقول لهم: تمنوا علي ما شئتم، فيلتفتون إلى العلماء، فيقولون: ماذا نتمنى؟ فيقولون: تمنوا علي كذا وكذا. قال: فهم يحتاجون إليهم في الجنة كما يحتاجون إليهم في الدنيا ".(21/274)
قال محمد بن الأكفاني: وفيها - يعني سنة ثلاث وستين وثلاثمائة - توفي العبد الصالح الزاهد أبو بكر محمد بن أحمد بن سهل بن نصر الرملي المعروف بابن النابلسي. وكان يرى قتال المغارب وبغضهم أنه واجب، وكان قد هرب من الرملة إلى دمشق، فقبض عليه الوالي بها أبو محمود الكتامي صاحب العزيز بن تميم، وجعله في قفص خشب، وحمله إلى مصر، فأشهدوه على قوله في بغض المغاربة ومحاربتهم فاعترف بذلك، فسلخ، وحشي جلده تبناً، وصلب.
محمد بن أحمد بن سيد حمدويه
أبو بكر التميمي صاحب الكرامات المشهورة. صحب قاسماً الجوعي.
روى عن قاسم الجوعي بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، وإن منبري لعلى حوضي ".
وروى عن شعيب بن عمرو بسنده إلى أبي قتادة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين فبل أن يجلس ".
قال ابن سيد حمدويه " كنت أمشي في اليوم أربعين ميلاً وأختم ختمة، فلما كان في بعض الأيام تعبت تعباً شديداً، وغلب علي الجوع، وضعفت، فأتيت في البرية على موضع فيه ماء طيب من عين تنبع، فجلست عنده واسترحت، وقلت في نفسي: لو كان مع الماء شيء من طعام نأكله، ونشرب معه شيئاً من هذا الماء. فمع هذا الخاطر في نفسي إذا جارية سوداء واقفة على(21/275)
رأسي، فقالت: مولاي، فقلت: ما شأنك؟ فقالت: إن لي مولى قد أرسلني إليك بهدية، فقال: إن قبله فأنت حرة لوجه الله، يا مولاي، فما تعتقني؟ فقلت: ضعيه مكانه واذهبي لشأنك، قال: فبصرت فإذا هو فرنيتان معهما بيض مسلوق. قال: فتركته بحاله ومضيت لم أرزأ منه شيئاً - قال الراوي: كأنه جزع من سرعة الإجابة.
وقال: مضت لي أيام لم أشرب فيها ماء، وكنت إذ ذاك في المسجد الجامع في الليل، فاحتجت إلى الطهارة، فأتيت باب المسجد لأخرج، فوجدته مغلقاً، فرجعت إلى المقصورة، فجلست فيها، وأنا عطشان، ومحتاج إلى الطهارة، فبكيت، وقلت: يا سيدي، قد علمت حاجتي إلى الطهارة، وما يشق علي من تركها. قال: فظهرت لي كف من الحائط فيها كوز، فقالت: خذ فاشرب، فقلت: الطهارة أغلب علي، فقالت: خذ، فاشرب، وتوضأ. قال: فأخذت الكوز، وخرجت إلى صحن المسجد، فتوضأت للصلاة، وفضلت في أسفل الكوز فضلة من ماء، فشربتها، فأقمت بعدها ثمانين يوما لا أحتاج إلى شرب الماء.
وقال: خرجت حاجاً، فصرنا إلى مغار، وأصابنا شتاء، فجمعت ناراً أصطلي عليها والقوم، فإذا برجل قائم، فقال لي: يا غلام، سر، فسرت وراءه. وأخذنا المطر حتى انتهينا إلى رابية، أو نحو ذلك، فقال: قد طلع الفجر فصل، فصليت به. ثم لاحت برقة على جدار، فقال: هذه المدينة، ادخلها وانتظر أصحابك، فدخلت، فأقمت أربعة عشر يوماً إلى أن قدم أصحابي.
قال أبو أحمد عبد الله بن محمد المفسر: أقام أبو بكر محمد بن سيد حمدويه خمسين سنة ما استند، ولا مد رجله بين يدي الله هيبة له.
عن عمر بن البري: أن المعلم بن سيد حمدويه أضاف به قوم، فقال لرجل من أصحابه: جئني بشواء ورقاق، فقدمه إليهم، فقالوا: يا أبا بكر، ما هذا من طعامنا، فقال: إيش طعامكم؟ قالوا: البقل، فأمر من يجيئهم ببقل، فأكلوا، وأكل هو الشواء والخبز، وقاموا هم يصلون بالليل، ونام المعلم على طهره، وصلى بهم صلاة الغداة وهو على طهارة العتمة، وقال لهم:(21/276)
تخرجون بنا نتفرج؟! فأخذ رداءه، فألقاه على الماء، وصلى عليه، ودفع إلي الرداء، ولم يصبه ماء، ثم قال: هذا عمل الشواء فأين عمل البقل؟ جاء رجل إلى المعلم ابن سيد حمدويه الدمشقي، فقال له: يا أبا بكر، بلغني عنك أن الخضر - عليه السلام - كثير الزيارة لك، فإن رأيت أن تريني إياه، فلعل الله أن ينفعني برؤيته، فقال المعلم: أفعل ذلك، فلما جاء الخضر إلى عند المعلم قال له المعلم ما قال له الرجل، فقال له الخضر: قل له يجلس في جامع دمشق عند خزانة الزيت، فأنا ألقاه - إن شاء الله - ثم جاء الرجل إلى المعلم، فأخبره بما قال له الخضر، فجاء الرجل، فجلس في الجامع عند خزانة الزيت، فلم ير لذلك أثراً، ثم جاء إلى ابن سيد حمدويه، فقال له: يا معلم، ما جاءني الخضر كما وعدتني! فقال له المعلم: الخضر قد جاء إلى عندي، وقال لي: أنه رآك جالساً عند خزانة الزيت في الجامع، وجلس عندك، وسل عليك، فقلت له: قم يا هذا إلى موضع غيره، ما وجدت في الجامع موضعاً غير هذا تجلس فيه! ما كنت بالذي أسلم على رجل يتكبر على الفقراء. فقال الرجل: يا معلم، قد كان هذا الحديث كله، وما أعود إلى مثل هذا. قال المعلم: ليس إلى هذا سبيل.
توفي المعلم ابن سيد حمدويه سنة ثلاثمائة، وقيل: سنة إحدى وثلاثمائة.
محمد بن أحمد بن الضحاك
ابن الفرج، أبو بكر الجدلي جديلة قيس.
إمام جامع دمشق.
روى عن هشام بن عمار بسنده إلى عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة.. " الحديث.(21/277)
محمد بن أحمد بن طالب
أبو الحسن البغدادي قال: أنشدني أبو علي " بن " الأعرابي لنفسه: " من الخفيف "
كنت دهراً أعلل النفس بالوع ... د وأخلوا مستأنساً بالأماني
فمضى الواعدون واقتطعتنا ... عن فضول المنى صروف الزمان
قال الخطيب: محمد بن أحمد بن طالب، أبو الحسن الأخباري. سكن الشام. بلغني أنه توفي بعد سنة سبعين وثلاثمائة.
محمد بن أحمد بن الطيب
أبو الحسين البغدادي قدم دمشق.
حدث عن أبي سعد الحسن بن علي بن أحمد التستري بسنده إلى مالك بن أنس قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بستان، وأهدي له طائر مشوي، فقال: " اللهم ائتني بأحب الخلق إليك "، فجاءه علي بن أبي طالب، فقلت: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشغول، فرجع، ثم جاء بعد ساعة، ودق الباب، ورددته مثل ذلك. ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أنس، افتح له، فطالما رددته "! فقلت: يا رسول الله، كنت أطمع أن يكون رجلاً من الأنصار، فدخل علي بن أبي طالب، فأكل معه من الطير، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليماً كثيراً: " المرء يحب قومه ".(21/278)
محمد بن أحمد بن عبادة
أبو سعيد البروتي كتب عنه بعض أهل دمشق.
محمد بن أحمد بن عبد الله
أبو الحسن قدم دمشق حاجاً.
حدث عن صالح بن علي النوفلي بسنده إلى الحسن قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟: " من جاءه الموت وهو يطلب العلم يحيي به الإسلام لم يكن بينه وبين الأنبياء إلا درجة ".
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رحمة الله على خلفائي "، قالوا: ومن خلفائك يا رسول الله؟ قال: " الذين يحيون سنتي، ويعلمونها للناس ".
محمد بن أحمد بن عبد الله البغدادي
ابن نصر بن بجير - بضم الباء وفتح الجيم - بن عبد الله بن صالح بن أسامة أبو طاهر الذهلي البغدادي القاضي نزيل مصر. أحد الثقات المكثرين. ولي قضاء دمشق، وبغداد، وواسط، ومصر. واستخلف على قضاء دمشق.
روى عن محمد بن عثمان بن سويد الذارع بسنده عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد: "(21/279)
التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ".
وروى عن أبي مسلم إبراهيم بن عبد الله بن مسلم الكجي بسنده إلى أبي طلحة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ".
قال عبد الغني بن سعيد: قرأت على القاضي أبي الطاهر " كتاب العلم " ليوسف بن يعقوب. وكان من مذهبه - رحمه الله - إذا قرئ له الحديث فانتهت القراءة يقرر الحديث، فيقول: كما قرئ عليك، فقلت له لما فرغت من القراءة: كما قرئ عليك، فقال: نعم إلا اللحنة بعد اللحنة. فقلت: أيها القاضي سمعته معرباً؟ قال: لا، قلت: هذه بهذه! قال إسماعيل بن علي الخطبي: صرف الحسين بن عمر بن محمد القاضي عن قضاء مدينة المنصور وولي مكانه أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر بن بجير. وكان أبو طاهر يشهد ببغداد عند قاضي القضاة عمر بن محمد، وله تقدم عنده وخاصية به، ثم ولاه القضاء بواسط، فأقام بها مدة طويلة يلي القضاء بين أهلها إلى أن توفي عمر بن محمد وهو على ذلك، وأقام بعده مدة على ولايته، ثم عزله بجكم عند دخوله إلى واسط، ونكبه. وصار إلى بغداد، فأقام في منزله، ثم ولي قضاء المدينة وأعمالها ببغداد ونواحيها. وكان حسن السيرة جميل الأمر.(21/280)
واستقضى المتقي لله على مدينة المنصور في جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة أبا طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر، وله أبوة في القضاء، سديد المذهب، متوسط الفقه على مذهب مالك. وكان له مجلس يجتمع إليه المخالفون، ويتناظرون بحضرته، وكان يتوسط بينهم، ويكلمهم كلاماً سديداً، ويجري معهم فيما يجرون فيه على مذهب محمود وطريقة حسنة. ثم صرف أبو طاهر بعد أربعة أشهر من هذه السنة في شوال، ثم استقضى المستكفي أبا طاهر على الشرقية في صفر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، فكانت ولايته أقل من خمسة اشهر.
توفي القاضي الذهلي سنة سبع وستين وثلاثمائة.
محمد بن أحمد بن عبد الله المروزي
ابن محمد أبو زيد المروزي الفقيه الشافعي الزاهد قدم دمشق، وحدث بها وبغيرها بكتاب " الصحيح " للبخاري.
روى عن محمد بن يوسف الفربري بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان ".
قال أبو عبد الله الحافظ: محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد الفقيه الزاهد، أبو زيد المروزي. كان أحد أئمة المسلمين، ومن أحفظ الناس لمذهب الشافعي، وأحسنهم نظراً، وأزهدهم في الدنيا. قدم نيسابور غير مرة، أولها للتفقه قبل الخروج إلى العراق وبعده لتوجهه إلى غزو الروم، وقدمها الكرة الخامسة متوجهاً إلى الحج في شعبان سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وأقام بمكة(21/281)
سبع سنين، ثم انصرف أيضاً. وحدث بمكة وببغداد بالجامع الصحيح لمحمد بن إسماعيل البخاري عن الفربري، وهي أجل الروايات لجلالة أبي زيد.
قال أبو زيد المروزي: لما عزمت على الرجوع إلى خراسان من مكة تقسم قلبي بذلك، وكنت أقول: متى يمكنني هذا؟ والمسافة بعيدة، والمشقة لا أحتملها؛ فقد طعنت في السن! فرأيت في المنام كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعد في المسجد الحرام، وعن يمينه شاب، فقلت: يا رسول الله، قد عزمتعلى الرجوع إلى خراسان، والمسافة بعيدة، فالتفت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الشاب بجنبه، فقال: " يا روح الله، تصحبه إلى وطنه؟ " قال أبو زيد: فرأيت انه جبريل - عليه السلام -، فانصرفت إلى مرو، فلم أحس بشيء من مشقة السفر.
ولد أبو زيد النيسابوري سنة إحدى وثلاثمائة، وتوفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة.
محمد بن أحمد بن عبد الباقي
ابن منصور أبو بكر البغدادي الدقاق المعروف بابن الخاضبة اجتاز بدمشق، وكتب الحديث الكثير بخط حسن صحيح، وكان مفيد بغداد في زمانه، وكان رجلاً صالحاً حسن الأخلاق متواضعاً. حدث عن الخطيب البغدادي.
محمد بن أحمد بن عبد الخالق
أبو زرعة روى عن أبي إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي بسنده حكاية عن الشافعي: أنه كان في مجلس مالك بن أنس، وهو غلام، فجاء رجل إلى مالك، فاستفتاه، فقال: إني حلفت بالطلاق الثلاث إن هذا البلبل لا يهدأ من الصياح. قال: فقال له مالك: قد حنثت. فمضى الرجل. فلتفت الشافعي إلى بعض أصحاب مالك، فقال: إن هذه الفتيا خطأ. فأخبر مالك بذلك. قال: وكان مالك مهيب المجلس، لا يجسر أحد أن(21/282)
يراده، وكان ربما جاء صاحب الشرطة، فيقف على رأسه إذا جلس في مجلسه. قال: فقالوا لمالك: إن هذا الغلام الشافعي يزعم أن هذه فتيا إغفال أو خطأ، فقال له مالك: من أين قلت هذا؟ فقال له الشافعي: أليس أنت الذي رويت لنا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قضية فاطمة بنت قيس أنها قالت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أبا جهم ومعاوية خطباني، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما أبا جهم فلا يضع عصاه على عاتقه "، وإنما أراد الأغلب من ذلك. قال: فعرف مالك محل الشافعي ومقداره. قال الشافعي: فلما أردت أن أخرج المدينة جئت إلى مالك، فودعته، فقال لي مالك حين فارقته: يا غلام، اتق الله، ولا تطفئ هذا النور الذي أعطاكه الله بالمعاصي. يعني بالنور: العلم، وهو قول الله - عز وجل -: " ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ".
محمد بن أحمد بن عبد الرحمن
أبو الحسين الملطي المقرئ روى عن خيثمة بن سليمان بن حيدرة بسنده إلى النزال بن سبرة الهلالي قال: وافقنا من علي ذات يوم طيب نفس ومزاج، فقلنا له: يا أمير المؤمنين، حدثنا عن أصحابك، قال: كل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابي.
وروى عن أبي بكر أحمد بن صالح بن محمد الفارسي بسنده إلى بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إن جبريل أتاني ليلة النصف من شعبان، قال: قم، فصل، وارفع رأسك ويديك إلى السماء. قال: فقلت: يا جبريل، ما هذه الليلة؟ قال: يا محمد، تفتح فيها أبواب السماء، وأبواب الرحمة ثلاثمائة باب، فيغفر لجميع من لا يشرك بالله شيئاً غير(21/283)
مشاحن، أو غاش، أو مدمن خمر، أو مصر على زنى، فإن هؤلاء لا يغفر لهم حتى يتوبوا. فأما مدمن الخمر، فإنه يترك له باب من أبواب الرحمة مفتوحاً حتى يتوب، فإذا تاب غفر الله له، وأما المشاحن فإنه يترك له باب من أبواب الرحمة حتى يكلم صاحبه، فإذا كلمه غفر له ". قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا جبريل، فإن لم يكلمه حتى يمضي عنه النصف؟ قال: لو مكث إلى أن يتغرغر بها في صدره فهو مفتوح، فإن تاب قبل منه ". فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بقيع الغرقد، فبينا هو ساجد، قال: - وهو يقول في سجوده -: " أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، جل ثناؤك، لا أبلغ الثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ". فنزل جبريل - عليه السلام - في ربع الليل، فقال: يا محمد، ارفع رأسك إلى السماء، فرفع رأسه، فإذا أبواب الرحمة مفتوحة على كل باب ملك ينادي: طوبى لمن تعبد في هذه الليلة، وعلى الباب الآخر ملك ينادي: طوبى لمن سجد في هذه الليلة، وعلى الباب الثالث ملك ينادي: طوبى لمن ركع في هذه الليلة، وعلى الباب الرابع ملك ينادي: طوبى لمن دعا ربه في هذه الليلة، وعلى الباب الخامس ملك ينادي: طوبى لمن ناجى ربه في هذه الليلة.. ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يا جبريل، إلى متى أبواب الرحمة مفتوحة "؟ قال: من أول الليل إلى صلاة الفجر.
توفي أبو الحسين الملطي بعسقلان سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، وكان كثير العلم كثير التصنيف في الفقه، وكان يتفقه للشافعي، وكان يقول الشعر ويسره ويعجب به.
محمد بن أحمد بن عبد الواحد
ابن عبدوس بن جرير - ويقال: بن جرير بن عبدوس ويقال: ابن عبد القدوس - أبو عبد الملك الربعي التغلبي الصوري المعروف بابن عبدوس روى عن هشام بن عمار بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يقول الله تعالى: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة شعير من الإيمان، ثم(21/284)
يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ثم يقول: وعزتي لا أجعل من آمن بي ساعة من ليل أو من نهار كمن لم يؤمن بي ".
وروى عن هشام بن عمار بسنده عن عقبة بن عامر قال: جئت وأصحاب لي حتى حللنا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أصحابي: ترعى إبلنا حتى ننطلق ونقتبس من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ففعلت ذلك أياماً، ثم إني ذكرت في نفسي، فقلت: لعلي مغبون، يسمع أصحابي مالم أسمع، ويتعلمون مالم أتعلم من نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فحضرت يوماً، فسمعت رجلاً يقول: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من توضأ وضوءاً كاملاً، ثم قام إلى صلاته كان من خطيئته كيوم ولدته أمه ". فعجبت لذلك، فقال عمر بن الخطاب: فكيف لو سمعت الكلام كله كنت أشد عجباً؟ فقلت: أردد علي جعلني الله فداك؟ فقال: إن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من مات لا يشرك بالله شيئاً فتح الله له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء، ولها ثمانية أبواب "، فخرج علينا نبي الله، فجلست مستقبله، فصرف وجهه عني حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فلما كانت الرابعة قلت: بأبي وأمي، لم تصرف وجهك عني؟ فأقبل إلي فقال: " أواحد أحب إليك أو اثنا عشر؟ " - مرتين أو ثلاثاً - فلما رأيت ذلك رجعت إلى أصحابي.
محمد بن أحمد بن عبد الواحد
ابن صالح بن سعيد بن الحسن بن علي بن جعفر بن عبد الله أبو المغيث الأموي مولاهم الصفار روى عن بكار بن قتيبة بسنده إلى جابر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه ".
توفي أبو المغيث النحاس سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.(21/285)
محمد بن أحمد بن عبيد بن فياض
أبو سعيد العثماني الزاهد روى عن هشام بن عمار بسنده إلى عمر بن الخطاب قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
مات أبو سعيد بن فياض سنة عشر وثلاثمائة، وهو ابن نيف وتسعين سنة.
قال الدارقطني: ليس به بأس.
محمد بن أحمد بن عثمان
ابن الوليد بن الحكم بن سليمان أبو بكر بن أبي الحديد السلمي المعدل روى عن أبي الدحداح بسنده إلى عبد الله بن عمر، يبلغ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها ".
قال عبد العزيز بن أحمد: توفي أبو بكر محمد بن أحمد بن عثمان المعروف بابن أبي الحديد في شوال سنة خمس وأربعمائة، وحضرت داره، وأنا أعرفه، وكان ثقة مأموناً.
وذكر أن مولده سنة تسع وثلاثمائة.(21/286)
محمد بن أحمد بن عثمان بن محمد
أبو الفرج الزملكاني الإمام من أهل قرية زملكا.
حدث عن ابن الوهاب بن الحسن بن الوليد بسنده إلى أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله بعثني هدى ورحمة للعاملين، وأمرني أن أمحق المعازف والمزامير، والخمور والأوثان التي كانت في الجاهلية. وأقسم ربي بعزته لا يشرب عبد من عباده الخمر في الدنيا إلا سقيته مثلها من جهنم، معذب بعد أو مغفور له، واقسم ربي بعزته لا يدعها عبد من عبادي حرجاً إلا سقيته إياها من حظيرة القدس ".
قال عبد العزيز بن أحمد: توفي أبو بكر محمد بن أحمد الزملكاني سنة إحدى وعشرين وأربعمائة. كتب الكثير.
محمد بن أحمد بن عثمان بن الفرج
ابن الأزهر بن إبراهيم أبو طالب الصيرفي الأزهري البغدادي أخو أبي القاسم الأزهري. قدم دمشق.
روى عن محمد بن المظفر الحافظ بسنده إلى جابر قال:(21/287)
نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأكل الرجل بشماله، وأن يحتبي في ثوب واحد، وأن يشتمل الصماء.
وروى عن أبي الحسن علي بن محمد بن لؤلؤ الوراق بسنده إلى عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنزل علي آيات لم ير مثلها: " قل أعوذ برب الناس " - إلى آخر السورة، و" قل أعوذ برب الفلق " - إلى آخر السورة ".
قال الخطيب: محمد بن أحمد بن عثمان بن الفرج بن الأزهر المعروف بابن السوادي. كتبنا عنه. وكان صدوقاً، وتوفي بواسط سنة خمس وأربعين وأربعمائة، وكنت إذ ذاك بمكة. وسألته عن مولده، فقال: سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
محمد بن أحمد بن عرفجة
ابن عثمان بن سعيد أبو بكر القرشي الكريزي الدمشقي روى عن يزيد بن محمد بن عبد الصمد بسنده إلى السهل بن سعد الساعدي أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " عن العبد ليعمل عمل أهل الجنة - فيما يرى الناس - وإنه لمن أهل النار، وإنه ليعمل عمل أهل النار - فيما يرى الناس - وإنه لمن أهل الجنة ".(21/288)
محمد بن أحمد بن علي
ابن محمد بن إبراهيم بن يزيد بن حاتم أبو يعقوب البغدادي النحوي اجتاز بدمشق. توفي بمصر سنة تسع وأربعين وثلاثمائة. وكان ثقة.
محمد بن أحمد بن علي بن محمد
أبو الحسن البغدادي الواعظ يعرف بصاحب الجلاء.
حدث بدمشق سنة ثمان وستين وثلاثمائة عن أبي القاسم البغوي، عن أحمد بن إبراهيم الموصلي قال: ركب المأمون إلى الشماسية، فنظر إلى الناس، وعظمهم، وعن يمينه يحيى بن أكثم القاضي، فالتفت إليه، فقال: أما ترى ما نرى؟! ثم روى بسنده عن أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الخلق عيال الله، فاحبهم إليه أنفعهم لعياله ".
ذكره الخطيب فيمن لم يحفظ اسم جده.(21/289)
محمد بن أحمد بن علي بن الحسين
أبو مسلم البغدادي الكاتب حدث عن أبي علي الحسن بن حبيب بن عبد الملك بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قال: استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاثاً غفر ذنوبه ولو كانت عدد رمل عالج، وغثاء البحر، وعدد نوم السماء ".
قال أبو بكرالخطيب: محمد بن أحمد بن علي بن الحسين، أبو مسلم، كاتب الوزير أبي الفضل بن حنزابة. نزل مصر. قال لي محمد بن علي الصوري: كان بعض أصول أبي محمد عن البغوي وغيره جياداً. وكان من أهل العلم والمعرفة بالحديث، ولم بكن بمصر بعد عبد الغني بن سعيد أفهم منه.
سنة تسع وتسعين وثلاثمائة فيها توفي أبو مسلم الكاتب البغدادي بمصر، وكان آخر من يفتي من أصحاب ابن منيع.
محمد بن أحمد بن علي
أبو عبد الله بن أبي سعد القزويني المقرئ نزيل مصر.
روى عن عبد الوهاب بن الحسن بن الوليد الكلابي بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الأذنان من الرأس ".(21/290)
قال أبو عبد الله بن الحطاب: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي القزويني المقرئ. كان من المذكورين بالقراءات ورواياتها بمصر. عندي عنه مشيخة لهشام بن عمار الدمشقي، رواها لنا سنة أربعين وأربعمائة.
قال عبد العزيز بن أحمد الكتاني: سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة ورد الخبر من مصر بوفاة القزويني.
محمد بن أحمد بن علي أبي القاسم
أبو بكر الطوسي الصوفي المقرئ إمام صخرة بيت المقدس.
روى عن أبي حفص عمر بن أحمد بن محمد الخطيب بسنده إلى عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أثكل ثلاثة من صلبه، فاحتسبهم على الله - وفي رواية: في سبيل الله - وجبت له الجنة ".
قتل أبو بكر الطوسي سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة حين دخل الفرنجة بيت المقدس.
محمد بن أحمد بن علي الهروي
أبو عبد الله المجاشعي الهروي الأديب قدم دمشق. وكان مواظباً على سماع الحديث. وكان كرامياً.(21/291)
أنشد أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي المجاشعي لنفسه: " من البسيط "
أحسن بربك ظناً إنه أبداً ... يكفي المهم إذا ما عن أو نابا
كم قد تكشر لي عن نابه زمن ... ففل بالفضل منه ذلك النابا
لا تيأس لباب سد في طلب ... فالله يفتح بعد الباب أبوابا
محمد بن أحمد بن عمارة
أبو الحسن العطار روى عن المسيب بن واضح بسنده إلى ابن عباس قال: حمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض أغليمة بني عبد المطلب: واحداً خلفه، وواحداً بين يديه.
وحدث عن عبدة بن عبد الرحيم المروزي بسنده إلى سليمان بن يسار قال: تفرق الناس على أبي هريرة، فقال له قائل من أهل الشام: أيها الشيخ، حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: نعم، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أول ما يقضى فيه يوم القيامة ثلاث: رجل استشهد، فأتى به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، قاتلت ليقال: هو جريء، فقد قيل ذلك. ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتى به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت فيك، وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: هو عالم، فقد قيل، وقرأت ليقال: هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل أوسع الله عليه، وأعطاه من أنواع المال كله، فأتى به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من شيء يجب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل ذلك. ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي النار ".
مات أبو الحسن العطار سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة - وفي رواية: سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة - وهو ابن ست وتسعين سنة(21/292)
محمد بن أحمد بن عمران
ابن موسى بن هارون بن دينار أبو بكر الحشمي البغدادي المطرز روى عن أحمد بن عمرو بن جابر أبي بكر الرملي بسنده إلى أبي العشراء، عن أبيه قال: قلت يا رسول الله، ليس الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ قال: " بل لو طعنت في فخذها لكان ذكاة ".
قال الأزهري: كان هذا الشيخ زمناً ينزل في التستريين.
قال أبو القاسم التنوخي: سمعت من الحشمي في دكانه بباب الشعير في سنة أربع وسبعين وثلاثمائة.
محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد
ابن سليمان أبو بكر الرملي الداجوني المقرئ المكفوف روى عن أبي بكر أحمد بن محمد بن عثمان الرازي بسنده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كذب في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ".(21/293)
وكان الداجوني مقرئاً جليلاً حافظاً ثقة. قدم الداجوني بغداد، وقصد حلقة ابن مجاهد، فرفعه ابن مجاهد، وقال لأصحابه: هذا الداجوني اقرؤوا عليه.
محمد بن أحمد بن عياض
أبي غسان بن عبد الملك أبي طيبة بن نصير أبو علاثة الجنبي مولاهم المصري حدث عن أحمد بن سعيد الهمذاني بسنده إلى أنس بن مالك قال: عق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حسن وحسين بكبشين.
قال الدارقطيني:
أبو طيبة عبد الملك بن نصير، مولى جنب، من مذحج. عداده في المصريين. كان مفرض أهل مصر، وفي ولده أيضاً علم بالفرائض. ومن ولده: أبو علاثة المفرض محمد بن أحمد بن عياض بت أبي طيبة.
قال ابن قديد: أقبح ما أتى أهل هذا المسجد شهادتهم على القطاس حتى باعوه، وعلى أبي علاثة حتى قتلوه.
قال أبو سعيد بن يونس: توفي أبو علاثة سنة إحدى وتسعين ومائتين، شهد عليه بزور، فضرب، فمات من ذلك الضرب في الحبس.(21/294)
محمد بن أحمد بن عيسى
أبو بكر القمي حدث - بصيدا - عن أبي العباس محمد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني بسنده إلى أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني ".
محمد بن أحمد بن عيسى السعدي
ابن عبد الله بن عبد الوهاب أبو الفضل السعدي البغدادي الفقيه الشافعي القاضي روى عن موسى بن محمد بن جعفر بن عرفة السمسار أبي القاسم بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من هم بحسنة كتبت له حسنة، ومن عملها كتبت له عشراً، أو هم بسيئة لم تكتب عليه، ومن عملها كتبت عليه سيئة واحدة ".
قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحطاب: كان أبو الفضل السعدي البغدادي من المرضيين، يملي بمصر ويحدث. وقد كان أبوه مالكي المذهب، فأما هو فمن تلامذة أبي حامد الأسفراييني شافعي. وسمعت أنا عليه كثيراً. توفي سنة إحدى وأربعين وأربعمائة.(21/295)
محمد بن أحمد بن الفضل
أبو المضاء الصيداوي حدث عن بن المعافى الصيداوي بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أن الله تسع وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من حفظها دخل الجنة، إنه وتر يحب الوتر ".
محمد بن أحمد بن القاسم
أبو منصور الأصبهاني المقرئ المقيم بآمد. قدم دمشق حدث عن أبي بكر محمد بن الحسن بن محمد بن أحمد بن محمويه بسنده إلى عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أن الله لا يذهب بالعلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، فإذا لم يبق عالماً، أو إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ".
محمد بن أحمد بن لبيد
أبو عبد الله السلاماتي البيروتي الحطاب روى عن عمر بن هشام البيروتي بسنده إلى ابن عمر، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من حلف إلى يمين فاستثنى، ثم أتى ما خلف فلا كفارة عليه ".
توفي أبو عبد الله محمد بن أحمد المعروف بورد سنة نيف وثمانين ومائتين.(21/296)
محمد بن أحمد بن محمد بن مطر
ابن العلاء بن أبي الشعثاء - ويقال: ابن أبي الأشعث - أبو بكر الفزاري الفذائي، يعرف بابن الخراط حدث بقرية فذايا عن سليمان بن عبد الرحمن بسنده إلى مدلوك أبي سفيان قال: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع مولاي، فأسلمت، فمسح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رأسي - قال الراوي: فرأيت أثر ما مسح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسود، وسائره أبيض.
وعن سليمان بن عبد الرحمن بسنده إلى علي قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشرب قائماً.
مات أبو بكر الفذائي بعد الثمانين ومائتين.
محمد بن أحمد بن محمد بن أبان
ابن سلم أبو العباس السلمي الرقي الضراب روى عن الهيثم بن مروان بسنده إلى أبي طلحة، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تدخل الملائكة بيتاً في كلب، ولا صورة تماثيل ".
محمد بن أحمد بن محمد البعلبكي
ابن أبي خنبش أبو بكر البعلبكي القاضي حدث عن موسى بن عيسى الحمصي بسنده إلى أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة: يا(21/297)
عبد الله، هذا خير، وللجنة ثمانية أبواب؛ فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ". قال أبو بكر الصديق: ما على أحد - وفي رواية: ما على الذي - يدعى من تلك الأبواب من ضرورة! هل يدعى منها كل أحد، يا رسول الله؟ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر ".
وروى عن يحيى بن أيوب بن بادى بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الإحصان إحصانان: إحصان النكاح، وإحصان العفاف، فمن قرأها " والمحصنات " - بكسر الصاد - فهن العفائف، ومن قرأها " والمحصنات " فهن المتزوجات ".
وحدث عن إبراهيم بن عرق بسنده إلى أبي الدرداء، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا كتب أحدكم إلى أناس فليبدأ بنفسه، وإذا كتب فليترب كتابه؛ فإنه أنجح ".
خنبش: أوله خاء معجمة مفتوحة بعدها نون ساكنة وباء مفتوحة معجمة بواحدة، وآخره شين معجمة.
محمد بن أحمد بن محمد بن الصلت
أبو الحسن البغدادي الصفار حدث عن أبي عبد الله أحمد بن محمد بن غالب بسنده إلى مالك بن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا قال العبد: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان موالياً من الزحف ".(21/298)
محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم
ابن محمد بن رواحة بن محمد بن النعمان صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو النعمان بن بشير بن سعد - أبو عبد الله الأنصاري الصرفندي حدث عن أبي عمرو موسى بن عيسى بن المنذر الحمصي بسنده إلى عامر بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة؛ أما الليل فطويل، وأما النهار فقصير ".
قال أبو الحسين الرازي في " تسمية من كتب عنه بدمشق من الغرباء ": أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد، كان من أهل صرفند؛ حصن بين صور وصيدا على الساحل، وكان كثيراً ما يقدم دمشق، ثم يخرج عنها.
محمد بن أحمد بن محمد بن عمرو
ابن زيد بن عبد الله بن يزيد بن تميم بن حجر أبو بكر السلمي مولى نصر بن الحجاج إمام مسجد سوق الشيخ.
حدث عن إسماعيل بن محمد بن قيراط بسنده إلى عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إياك يا حميراء وأكل الطين، فإنه يعظم البطن، ويعين على القتل ".
وحدث عن زيد بن أحمد بن يزيد السلمي بسنده إلى مالك قال: وجدت في بعض الكتب: يؤتى براعي السوء يوم القيامة، فيقال: يا راعي السوء شربت اللبن، وأكلت اللحم، ولبست الصوف، ولم تجبر الكسير، ولم ترعها في مراعيها، اليوم أنتقم لها منك.(21/299)
توفي أبو بكر السلمي بدمشق سنة ست وعشرين وثلاثمائةز
محمد بن أحمد بن محمد بن شيبان
أبو جعفر الخلال الرملي روى عن مقدام بن داود بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ".
محمد بن أحمد بن محمد بن يحيى
ابن مفرج أبو عبد الله - وقيل: أبو بكر - الأندلسي القرطبي القاضي مولى عبد الرحمن بن الحكم الأموي، ويقال: مولى عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك.
روى عن أبي أحمد منصور بن أحمد الهروي بسنده إلى بعض الحكماء:
خرجت وأنا أريد الرباط حتى إذا كنت بعريش مصر - أو دون العريش - إذا أنا بمظلة، وإذا برجل قد ذهبت يداه ورجلاه وبصره، وإذا هو يقول: اللهم غني أحمدك حمداً يوافي محامد خلقك إذ فضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلاً. فقلت: والله لأسألنه أعلمه أم إلهاما؟ قال: فدنوت منه، فسلمت عليه، فرد علي السلام، فقلت: إني سائلك عن شيء، أتخبرني به؟ قال: إن كان عندي منه علم أخبرتك به، فقلت: على أي نعمة من نعمه تحمده عليها، أم على أي فضيلة من فضائله تشكره عليها؟ قال: أليس ترى ما قد صنع بي؟ وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فغرقتني، وأمر الأرض فخسفت بي ما ازددت له إلا حباً، وما ازددت له إلا شكراً. وإن لي إليك حاجة؛ فتى كان يتعاهدني(21/300)
لوقت صلاتي، ويطعمني عند إفطاري، وقد فقدته منذ أمس، انظر هل تحسه لي؟ قال؟ فقلت: إن في قضاء حاجة هذا العبد لقربة إلى الله. قال: فخرجت في طلبه حتى إذا كنت بين كثبان من رمال إذا أنا بسبع قد افترس الغلام، فأكله. قال: فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. فأتيته، فسلمت عليه، فرد علي السلام، فقلت: إني سائلك عن شيء، أتخبرني؟ قال: إن كان عندي منه شيء أخبرتك، قلت: أنت أكرم على الله منزلة أم أيوب؟ قال: بل أيوب أكرم على الله مني وأعظم عنده منزلة مني، قلت: أليس ابتلاه الله فصبر حتى استوحش منه من كان يأنس به، وصار غرضاً لمار الطريق؟ قال: بلى، فقلت: إن ابنك الذي أخبرتني بقصته ما أخبرتني، إني خرجت في طلبه حتى إذا كنت بين كثبان من رمال إذا بسبع قد افترس الغلام، فأكله. فقال: الحمد لله الذي لم يجعل في قلبي حسرة من الدنيا. قال: ثم شق شهقة فمات. قال: فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، من يعينني على غسله وكفنه وحفر قبره ودفنه؟! قال: فبينا أنا كذلك إذا أنا بركب يريدون الرباط، قال: فأشرت إليهم، فأقبلوا إلي، فقالوا: ما أنت وهذا؟ فأخبرتهم الذي كان من أمره، فغسلناه بماء البحر، وكفناه بأثواب كنت معهم، ووليت الصلاة عليه بينهم، ودفناه في مظلته، ومضى القوم إلى رباطهم. قال: وبت في مظلته تلك الليلة أنساً به، فلما مضى من الليل مثل ما بقي إذا أنا بصاحبي في روضة خضراء، عليه ثياب خضر. فقلت: ألست صاحبي؟ قال: بلى، قلت: فما الذي صيرك إلى ما أرى؟ قال: إني وردت مع الصابرين إلى درجة لم ينالوها إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء.
ذكر أبو الوليد بن الفرضي أن أبا عبد الله رحل إلى المشرق في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وقدم الأندلس من رحلته سنة خمس وأربعين، واتصل بأمير المؤمنين المستنصر، وكانت له منه مكانة خاصة، وأف له عدة دواوين، واستقضاه. وكان حافظاً للحديث عالماً به، بصيراً بالرجال، صحيح النقل، جيد الكتاب على كثرة ما جمع. سألته عن مولده؟ فقال لي: ولدت سنة(21/301)
خمس عشرة وثلاثمائة في أولها. وتوفي ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثمانين وثلاثمائة. شهدت جنازته.
قال أبو عبد الله الحميدي صاحب " تاريخ الأندلس ": صنف كتباً في فقه الحديث، وفي فقه التابعين، منها: " فقه الحسن البصري "، في سبع مجلدات، و" فقه الزهري "، في أجزاء كثيرة. وجمع " مسند حديث قاسم بن أصبغ " للحكم المستنصر.
محمد بن أحمد بن محمد بن عمرو
أبو الحسن البغدادي - وقيل: الواسطي - البزاز نزيل مدينة جونيه وإمامها وخطيبها. وجونية من ناحية أطرابلس، من أعمال دمشق.
حدث عن أبي بكر السراج بسنده إلى أنس بن مالك، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " نعم الإدام الخل ".
محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب
ابن عبد الله أبو بكر المفيد الجرجرائي روى أبو بكر الخطيب عن أبي نعيم الحافظ أنه بغدادي الأصل سكن جرجرايا. ووصفه بالحفظ.
وقال محمد بن أحمد بن شعيب الروياني: لم أر أحفظ من أبي بكر المفيد.(21/302)
وقال الخطيب: سافر الكثير، وكتب عن الغرباء، وروى مناكير، وعن مشايخ مجهولين.
روى بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الموت كفارة لكل مسلم ".
قال عبد العزيز بن علي الوراق:
سئل أبو بكر المفيد وأنا حاضر عن سماعه من أبي العباس أحمد بن هبد الرحمن السقطي صاحب يزيد بن هارون، فذكر أنه سمع منه سنة خمس وتسعين ومائتين. قال: وكان سني في ذلك الوقت إحدى عشرة سنة، ومولدي سنة أربع وثمانين ومائتين، وكان سن السقطي وقت سماعي منه مائة سنة وخمس سنين.
وحكي عنه أنه قال: قال الخطيب: وكان شيخنا أبو بكر البرقاني قد أخرج في مسنده الصحيح عن المفيد حديثاً واحداً، فكان كلما قرئ عليه اعتذر من روايته عنه، وذكر أن ذلك الحديث لم يقع إليه إلا من جهته، فأخرجه عنه. وسألته عنه؟ فقال: ليس بحجة. وقال: رحلت إلى المفيد، فكتبت عنه " الموطأ "، فلما رجعت إلى بغداد قال لي أبو بكر بن أبي سعد: أخلف الله عليك نفقتك، فدفعته إلى بعض الناس، وأخذت بدله بياضاً.
توفي المفيد سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. وكان مولده ببغداد، ووفاته بجرجرايا.(21/303)
محمد بن أحمد بن خلف
أبو الحسين الرقي، المعروف بابن أبي المعتمر ويعرف بابن الفحام. سكن دمشق، وقرأ القرآن على أبي القاسم زيد بن أبي بلال الكوفي. كان خيراً فاضلاً زاهداً متقشفاً، يقول بالفقر وصحبة الفقراء.
روى عن أبي جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني - بالكوفة - بسنده إلى جبير بن مطعم قال: قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخيف من منى، فقال: " نضر الله عبداً سمع مقالتي، فوعاها، ثم أداها إلى من لم يسمع؛ فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن: إخلاص العمل، والنصيحة لأولي الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تجوز من ورائهم ".
وروى عن أبي هاشم محمد بن أحمد بن سنان - بالموصل - بسنده إلى أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، ما منتهى العلم الذي إذا علمته العبد كان عالماً؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمور دينها بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً ".
وروى عن عمر بن محمد الحداد بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا بقي ثلث الليل ينزل الله - تبارك وتعالى - إلى السماء الدنيا، فيقول: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ من ذا الذي يستكشف الضر فأشفه؟ حتى ينفجر الصبح ".
توفي أبو الحسين بن أبي المعتمر الرقي المقرئ سنة تسع وتسعين وثلاثمائة.(21/304)
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد
ابن عبد الرحمن بن يحيى بن جميع أبو الحسين الغساني الصيداوي كان واسع الرحلة كثير السماع.
حدث عن يعقوب بن عبد الرحمن - ببغداد - بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقرأ علي من سورة النساء؟ " قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: " إني أشتهي أن أسمعه من غيري ". فقرأته عليه حتى انتهيت إلى قوله: " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً "، فسالت عيناه، فسكت.
قال عبد الغني بن سعيد في باب " جميع " بالضم: وشيخ لقيته بصيدا كتبت عنه، يكنى أبا الحسين بن جميع.
قال سكن بن محمد بن جميع: صام أبي وله ثمان عشرة سنة إلى أن توفي.
وتوفي سنة اثنتين وأربعمائة، وقيل: سنة ثلاث وأربعمائة.
محمد بن أحمد بن محمد الأنباري
ابن علي بن محمد بن النعمان أبو الفتح الأنباري المعروف بابن النحوي نزيل الرملة.(21/305)
روى عن أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي بسنده إلى عائشة، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أرهقوا القبلة " - معناه: ادنوا منها.
وبسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحله القسم " وأن منكم ألا واردها " ".
محمد بن أحمد بن محمد السلمي
ابن عبد الله بن هلال بن عبد العزيز بن عبد الكريم بن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب أبو بكر السلمي، المعروف بابن الجنبي الاطروش المقرئ قال أبو علي الأهوازي: مات الشيخ الصالح الفاضل المقرئ السلمي المعروف بالجنبي سنة سبع وأربعمائة، وصلى عليه الشريف القاضي أبو عبد الله الحسيني.
وذكر عبد العزيز الكتاني وفاته سنة ثمان وأربعمائة، وقال: انتهت إليه الرئاسة في قراءة بن عامر، وقرأ عليه جماعة من أصحاب الأخفش.
محمد بن أحمد بن محمد بن منصور
أبو جعفر البيع، ويعرف بالعتيق الروياني الطبري ولد برويان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وحمل إلى طرسوس وهو ابن سبع(21/306)
سنين فنشأ بها. ولم يزل بها حتى غلبت الروم على البلد، فانتقل عنه إلى دمشق. ثم ورد بغداد فسكنها حتى مات بها سنة ثلاث عشرة وأربعمائة.
محمد بن أحمد بن محمد بن القاسم
أبو أسامة الهروي المقرئ نزيل مكة.
روى عن أبي علي الحسن بن منير بن محمد التنوخي - بدمشق - بسنده إلى بريدة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أخرج رجلاً شيئا من الصدقة حتى يفك عنها لحي سبعين شيطاناً ".
محمد بن أحمد بن محمد الأنصاري
ابن موسى بن جعفر بن سليمان بن أحمد بن عبد الواحد بن جعفر بن جابر بن عبد الله الأنصاري أبو الحسين روى عن محمد بن بشار النهاوندي بسنده إلى معاذ بن جبل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعلي بن أبي طالب: " ألا أنبئك بشر الناس؟ " قال: بلى يا رسول الله، قال: " من أكل وحده، ومنع رفده، وسافر وحده، وضرب عبده ". ثم قال: " يا علي، ألا أنبئك بأشر من هذا؟ " قال: بلى يا رسول الله، قال: " من يخشى شره، ولا يرجى خيره ". ثم قال: " يا علي، ألا أنبئك بأشر من هذا؟ " قال: بلى يا رسول الله، قال: " من باع آخرته بدنيا غيره ". ثم قال: " يا علي، ألا أنبئك بأشر من هذا؟ " قال: بلى يا رسول الله، قال: " من أكل الدنيا بالدين ".(21/307)
قال الحافظ: كذا كان في الأصل، والصواب " بشر " في الواضع كلها، وإسناد هذا الحديث مضطرب.
قال أبو الحسين الأنصاري: دخلت على المرشدي في بلد يقال لها جرموز، فقلت: أنشدني أيها الشيخ من قيلك - وكان عليه ثوب رث - فأنشدني: " من الطويل "
تعيرني قومي على الملبس الدون ... وما أنا فيما قد لبست بمجنون
إذا كنت مولى للقناعة مالكاً ... فإن ملوك الأرض كلهم دوني
محمد بن أحمد بن محمد البزار
ابن علي بن جعفر بن سعيد أبو الفرج العين زربي البزار يعرف بابن الغاثوري.
روى عن أبي القاسم الفضل بن جعفر بن محمد التميمي بسنده إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من ستر عورة فكأنما أحيا موؤدة من قبرها ".
توفي ابن الغاثوري سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.
محمد بن أحمد بن محمد بن عمرو
أبو بكر - ويقال: أبو عبد الله - البجلي، يعرف بابن القماح روى عن يوسف بن القاسم الميانجي بسنده إلى علي، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يؤمن العبد حتى يؤمن بأربع: حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله،(21/308)
بعثني بالحق، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر ".
توفي ابن القماح سنة سبع وثلاثين وأربع مائة.
محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر
أبو سعيد الأصبهاني الفقيه الواعظ، المعروف بابن ملة قدم دمشق سنة أربع وعشرين وأربعمائة.
روى عن أبي نصر عبد الوهاب بن عبد الله بن عمر بن أيوب المري - بدمشق - بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من خشية الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد من حبه إياه، ورجلان تحابا في الله تعالى، " ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله "، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها لا تشعر شماله بما صنعت يمينه ".
وحدث عن الحسين بن علي بن يعقوب الخطابي بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من حفظ على أمتي أربعين حديثاً لقي الله - عز وجل - فقيهاً عالماً ".
وبسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أشد الناس حسرة يوم القيامة رجل أمكنه طلب العلم في الدنيا فلم يطلبه، ورجل علم علماً فانتفع به من سمعه منه دونه ".(21/309)
ولأبي سعيد الأصبهاني شعر حسن. ومما انشد لنفسه: " من البسيط "
القبر منزلنا، واللحد مأوانا ... إذا المنايا وريب الدهر نادانا
يا عامراً لخراب الدهر بستانا ... هلا جعلت خراب الدهر عمرانا
بنيت قصرك من حرص ومن أمل ... والقبر تملؤه ظلماً وعدوانا
محمد بن أحمد بن محمد بن موسى
ابن عمرو بن ليث أبو عبد الله الشيرازي الصوفي، المعروف بالنذير
قال الخطيب: قدم بغداد، وأقام بهامدة يتكلم على الناس بلسان الوعظ، ويشير إلى طريقة الزهد، ويلبس المرقعة، ويظهر عزوف النفس عن طلب الدنيا، فافتتن الناس به لما رأوا من حسن طريقته. وكان يحضر مجلس وعظه خلق لا يحصون. وعمر مسجداً كان خراباً بالشونيزية، فسكنه، وسكن فيه معه جماعة من الفقراء. وحصل له ببغداد مال كثير، ونزع المرقعة، ولبس الثياب الناعمة الفاخرة، وجرت له أقاصيص، وصار له تبع وأصحاب. ثم أظهر أنه يريد الغزو، فحشد الناس إليه، وصار معه من أتباعه عسكر كبير، ونزل بظاهر البلد من أعلاه، وكان يضرب له بالطبل في أوقات الصلوات.
قال الشيرازي: اعتقادي اعتقاد أحمد بن حنبل، ومذهبي مذهب الشافعي، وأنشد لنفسه: " مجزوء الكامل "
حكم التدين قد عفا ... فعلى المودات العفا
ولقد تكدر ما صفا ... والقلب صلد كالصفا(21/310)
يا من تلا صحف الجفا ... لم تتل حرفاً في الوفا
ما هكذا سن النبي ... ي الهاشمي المصطفى
مات النذير أبو عبد الله الشيرازي بتبريز سنة تسع وثلاثين وأربعمائة.
محمد بن أحمد بن محمد الصواف
ابن عبد الرحمن أبو الفتح المصري الصواف روى عن أبي الحسن علي بن محمد بن إسحاق بن يزيد الحلبي بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تسحروا، فإن في السحور بركة ".
قال الخطيب: محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن، أبو الفتح المصري. قدم بغداد قبل سنة أربعمائة، فأقام بها، وكتب عن عامة شيوخها حديثاً كثيراً، واحترقت كتبه دفعات. سألت أبا الفتح عن مولده، فقال: في سنة أربع وسبعين وثلاثمائة. ومات سنة أربعين وأربعمائة.
محمد بن أحمد بن محمد البغدادي
ابن أحمد بن حسنون أبو الحسين بن النرسي البغدادي سمع أبو الحسين الكلابي بسنده إلى أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من قال: لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة ". قال: يا نبي الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: " إني أخاف أن يتكلوا ".(21/311)
مات أبو الحسين النرسي سنة ست وخمسين وأربعمائة.
قال الخطيب: كان صدوقاً من أهل القرآن حسن الاعتقاد. وسألته عن مولده؟ فقال: في سنة سبع وستين وثلاثمائة.
حسنون: بعد الحاء المهملة سين مهملة ونون
محمد بن أحمد بن محمد بن ورقاء
أبو عثمان الأصبهاني الصوفي حدث عن عبد الرحمن بن محمد بن يحيى بن ياسر بسنده إلى أسامة بن زيد لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها من المساكين، وإذا أصحاب الجد محبوسون، إلا أصحاب النار، فقد أمر بهم إلى النار، واطلعت في النار فإذا عامة من يدخلها من النساء ".
وحدث عن أبي عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفسي بيده إن في الجنة لباب يسمى باب الريان لينادى عليه يوم القيامة: أين الصائمون؟ هلموا إلى باب الريان، لا يدخل معهم أحد غيرهم ".
ولد أبو عثمان بن ورقاء بأصبهان سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. وتوفي سنة خمس وستين وأربعمائة.(21/312)
محمد بن أحمد بن محمد أبو البركات
ابن قفرجل البغدادي البزار روى عن أبي الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران بسنده إلى أبي هريرة، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ".
ولد أبو البركات بن قفرجل سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وتوفي سنة خمس وستين وأربعمائة. وكان ثقة.
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد
أبو طاهر بن أبي الصقر اللخمي الأنباري الخطيب روى عن أبي عبد الله محمد بن الحسين بن يوسف الأصبهاني الصنعاني بسنده إلى أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يشير في الصلاة.
أنشد أبو طاهر لنفسه: " من الهزج "
حبيب خص بالكرم ... إمام الحسن في الأمم
بوجه نور جوهره ... يريك البدر في الظلم
مهذبة خلائقه ... سما بالأصل والشيم
حلفت على الوداد له ... برب البيت والحرم
لأنت أعز من بصري ... علي وكل ذي رحم
فقال لك الوفا أبداً ... ولو لم تأت بالقسم
توفي أبو طاهر سنة ست وسبعين وأربعمائة. وكان مولده سنة ست وتسعين وثلاثمائة.(21/313)
محمد بن أحمد بن محمد البغدادي
ابن أحمد بن محمد بن منصور أبو غالب بن أبي الحسن العتيقي البغدادي حدث عن الحسين بن محمد بن سليمان الكاتب بسنده قال: قام وكيع لسفيان، فأنكر عليه قيامه إليه، فقال: أتنكر علي قيامي إليك، وأنت حدثتني عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم ". قال: فأخذ سفيان بيده، فأقعده إلى جانبه.
توفي أبو غالب بصور سنة ستين وأربعمائة، وكان قد نيف على الستين.
محمد بن أحمد بن محمد الأندلسي
ابن عبد الله بن يونس بن حبيب بن إسماعيل أبو عبد الله الأنصاري الأندلسي السرقسطي المقرئ قدم دمشق. وفي بها سنة تسع وسبعين وأربعمائة.
محمد بن أحمد بن محمد القصاع
ابن أحمد بن يحيى أبو عبد الله المخزومي القصاع المعروف بابن اللباد، ويعرف بابن عروس أيضاً قال الحافظ بن عساكر: كتبت عنه. وكان شيخاً مستوراً ملازماً للجامع.
روى عن جده أبي محمد الحسن بن علي بن عبد الصمد اللباد المقرئ بسنده إلى أبي هريرة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة، وأول ثلاثة يدخلون النار؛ فأما أول ثلاثة(21/314)
يدخلون الجنة فالشهيد، وعبد مملوك أحسن عباد ربه، ونصح لسيده، وعفيف متعفف ذو عيال. وأما أول ثلاثة يدخلون النار فأمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يعطي حق ماله، وفقير فجور ".
ذكر أبو عبد الله أن مولده في سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وتوفي سنة ست وعشرين وخمسمائة، وحضر الحافظ ابن عساكر دفنه والصلاة عليه.
محمد بن أحمد بن المثنى
وهو ابن أحمد بن إبراهيم أبو بكر حدث عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين ". فقال رجل: تركتنا نتنافس في الآذان، فقال: " إن من بعدكم زمان سفلتهم مؤذنوهم ".
محمد بن أحمد بن محمويه
أبو بكر العسكري روى عن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي بسنده إلى أبي عثمان الصنعاني قال: كنا مع أبي الدرداء بمسلحة ببرزة، ثم تقدمنا مع أبي عبيدة، ففتح الله لنا ما دون النهر، وحاصرنا عانات، وقدم علينا سلمان الخير في مدد لنا، فقال: ألا أعينكم على رباطكم؟ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، صائم لا يفطر، وقائم لا يفطر ".(21/315)
محمد بن أحمد بن المرزبان المرزباني
قاضي دمشق، ولي القضاء بها بعد أبي زرعة محمد بن عثمان بن زرعة من قبل جعفر المقتدر. توفي سنة أربع وثلاثمائة بدمشق.
محمد بن أحمد بن المعلى بن يزيد
أبو شبيب الأسدي روى عن أبيه بسنده عن علي بن أبي حملة: أنه لما ولي عمر بن عبد العزيز قال نصارى دمشق: يا أمير المؤمنين، قد علمت حال كنيستنا؛ إنها قد صارت إلى ما ترى. فعوضهم كنيسة من كنائس دمشق لم تكن في صلحهم، يقال لها: كنيسة توما.
محمد بن أحمد بن نصر البغدادي
روى عن أبي بكر المروزي بسنده إلى عائشة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اطلبوا الخير عند حسان الوجوه ".
محمد بن أحمد بن الوليد
أبو بكر البغدادي الكرابيسي حدث عن إسحاق بن سعيد بن أركون الدمشقي بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم عن علمائهم وكبرائهم وذوي أسنانهم، فإذا أتاهم العلم عن صغارهم وسفلتهم فقد هلكوا.(21/316)
محمد بن أحمد بن الوليد بن هشام
أبو بكر القرشي مولاهم يعرف بابن أبي هشام القنبيطي وإنما سمي القنبيطي لأن جده الوليد بن هشام لما خرج مع أبي العميطر استكتبه فلما قتل الوليد جعل رأسه على أصل قنبيطة.
روى عن العباس بن الوليد بن مزيد بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام ".
وروى عن أحمد بن إبراهيم بن هشام بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" اخرج فناد في الناس: إنه من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وجبت له الجنة "، قال: فلقيني عمر بن الخطاب، فأخبرته بما أمرني به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ارجع، فإني أخاف أن يتكل الناس، ولا يعملون. قال: فرجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبرته بما قال لي عمر، فقال: " أحسن بن الخطاب، أحسن بن الخطاب ".
قال أبو الحسين الرازي في تسمية من سمع منه بدمشق: ابن أبي هشام القنبيطي. شيخ جليل من أهل دمشق. مات سنة تسع عشرة وثلاثمائة. وذكر بن زبر وفاته سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
محمد بن أحمد بن هارون
ابن موسى بن عبدان، أبو نصر بن الجندي الغساني إمام جامع دمشق، وخليفة القاضي بها.(21/317)
روى عن خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي بسنده إلى أسماء بنت أبي بكر، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه نهى عن الواصلة والمستوصلة.
الجندي: بضم الجيم وسكون النون.
توفي أبو نصر ابن الجندي سنة سبع عشرة وأربعمائة. وذكر أن مولده سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائةز
محمد بن أحمد بن هاشم
أبو الحسن البيروتي روى خبراً عن الجنيد
محمد بن أحمد بن الهيثم
ابن صالح بن عبد الله بن الحصين، أبو الحسن التميمي ذكره أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد الشيرازي في " كتاب الألقاب "، فقال: فروجة محمد بن صالح الحافظ. كذا قال: ابن صالح، نسبه إلى جد أبيه.
روى عن أبي الشريف إبراهيم بن سليمان بسنده إلى جابر بن عبد الله في قوله تعالى: " واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم "، قال: في أعين المشركين يوم بدر.
وروى عن محمد بن سليمان بن هارون بسنده إلى علي، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا رضاع بعد فطام، ولا يتم بعد احتلام ".(21/318)
قال الخطيب: محمد بن أحمد بن الهيثم بن صالح بن عبد الله بن الحصين بن علقمة بن لبيد بن نعيم بن عطارد بن حاجب بن زرارة، أبو الحسن التميمي المصري. يلقب فروجة. كان ثقة حافظاً.
محمد بن أحمد بن الهيثم التميمي
أبو بكر البلخي الروذباري المقرئ سكن غزنة من إقليم الهند، وأقرأ بها القرآن. وكان عالماً بالقراءات.
روى عن أبي علي الأهوازي بسنده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أشرف أمتي حملة القرآن وقوام الليل ".
محمد بن أحمد بن يحيى الدمشقي
ابن أحمد بن يزيد بن الحكم، أبو بكر الحجوري الدمشقي حدث عن أبي بكر محمد بن سعيد الرازي بسنده إلى علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما شئت أن أرى جبريل متعلقاً بأستار الكعبة، وهو يقول: يا واحد، يا ماجد، لا تزل عني نعمة أنعمت بها علي، إلا رأيته ".
محمد بن أحمد بن يحيى البغدادي
أبو عبد الله البغدادي روى عن أبي الحسن علي بن إبراهيم بسنده إلى عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا قال العبد يا رب، يا رب، قال الله: لبيك عبدي، سل حاجتك ".(21/319)
محمد بن أحمد بن يحيى بن حيي
أبو عبد الله العثماني الديباجي المقدسي الواعظ الفقيه كان يناظر في مسائل الخلاف، ويفتي على مذهب الشافعي، وله حرمة عند الخليفة، وعند العامة لتصوفه وتعففه، ولزومه مسجده. وحج دفعات، وجاور، وتولى عمارة الحرم. سمع منه الحافظ بن عساكر، وقال: لم أر في زماني مثله. جمع الزهد والورع والعلم والعمل بالعلم والمروءة وحسن الخلق.
ذكر أن مولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة ببيروت توفي سنة سبع وعشرين وخمسمائة.
روى عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن محمد الطبري بسنده إلى أنس قال: إني لا ألو أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي بنا. فكان أني إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجود مكث حتى يقول القائل: قد نسي.
محمد بن أحمد بن يزيد
ابن وركشين أبو عبد الله البلخي، مولى بني هشام يعرف بالزر حدث عن يحيى بن أكثم بسنده إلى أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أكثروا ذكر هاذم اللذات ".
حدث عن هشام بن عمار بسنده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " للمرأة ستران: القبر والزوج ".قال: فأيهما أفضل؟ قال: " القبر ".(21/320)
محمد بن أحمد بن يعقوب
ابن أحمد بن محمد بن عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، أبو الفضل الهاشمي روى عن أحمد بن عمير بن يوسف بن جوصا بسنده إلى عائشة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفرد الحج.
وبسنده عن ابن عمر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم.
وروى عن أبي القاسم عامر بن خريم الدمشقي بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الندم توبة " قال الخطيب: محمد بن أحمد بن يعقوب بن أحمد بن محمد بن عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، أبو الفضل الهاشمي، من أهل المصيصة. ولي القضاء بدسكرة الملك في طريق خراسان، وورد بغداد. وكان سيء الحال في الحديث.
محمد بن أحمد بن يوسف
ابن يعقوب بن بريد، أبو بكر الطائي الكوفي الخزاز حدث عن محمد بن معاذ بن المستهل، دران البصري، بسنده إلى عبادة بن الصامت قال:(21/321)
بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.
وروى عن أحمد بن خليد بن يزيد بن عبد الله الكندي بسنده إلى ابن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عبيده، فيقعد بين يديه، فيسأله عن جاهه كما يسأله عن ماله ".
توفي أبو بكر بن بريد الكوفي الخزاز بدمشق سنة خمس وأربعين وثلاثمائة.
محمد بن أحمد أبو عبد الله
الواسطي الكاتب ولي إمرة دمشق نيابة عن أبي الجيش خمارويه بن أحمد.
حدث عن عاصم بن علي بسنده إلى ابن مسعود أنه كان يخط المعوذتين من المصاحف، ويقول: إنما أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتعوذ بهما، ولم يكن عبد الله يقرؤهما.
بلغني أن محمد بن أحمد الواسطي هرب من دمشق بعد وقعة الطواحين إلى أنطاكية، فأقام بها مديدة، ومات كمداً حين كان الظفر لأبي الجيش بن طولون، وكانت وقعة الطواحين بظاهر الرملة سنة إحدى وسبعين ومائتين.
محمد بن أحمد أبو الحسن
البغدادي الناقد سكن أطرابلس. إن لم يكن صاحب الجلاء فهو غيره.(21/322)
محمد بن أحمد أبو الفرج الغساني
المعروف بالوأواء الشاعر له شعر حسن مطبوع. ذكره أبو منصور الثعالبي في كتاب " يتيمة الدهر " فقال: من حسنات الشام، وجد صاغة الكلام. ومن عجيب شأنه ما أخبرني به أبو بكر الخوارزمي قال: كان الوأواء منادياً في دار البطيخ بدمشق، ينادي على الفواكه، وما زال يشعر حتى جاد شعره، وسار كلامه، ووقع منه ما يروق، ويشوق، ويفوق حتى يعلو العيوق.
أنشد أبو الفرج الملقب بالوأواء الدمشقي لنفسه: " من المتقارب "
زمان الربيع زمان أنيق ... وعيش الخلاعة عيش رقيق
وقد جمع الوقت حاليهما ... فمن ذا يفيق ومن يستفيق
ويوم ستارته غيمة ... وقد طرزت رفرفيه البروق
تظل به الشمس محجوبة ... كأن اصطباحك فيع غبوق
عقدنا من الند دخانه ... ومن شرر الراح فيه حريق
سجدنا لصلبان منثورة ... وقد نصرتنا لديه الرحيق
فذا أصفر وجل خائف ... وذا أحمر وكذاك العشيق
أدر يا غلام كؤوس المدام ... وإلا فيكفيك لحظ وريق(21/323)
وقال: " من المتقارب "
ترشفت من شفتيه العقارا ... وقبلت من خده جلنارا
وشاهدت منه كثيباً مهيلاً ... وغصناً رطيباً وبدراً ونارا
وأبصرت من وجهه في الظلام ... بكل مكان بليل نهارا
وقال: " من البسيط "
يا سادتي هذه روحي تودعكم ... إذ كان لا الصبر يسليها ولا الجزع
قد كنت أطمع في روح الحياة لها ... فالآن مذ غبتم لم يبق لي طمع
لا عذب الله روحي بالبقاء فما ... أظنها بعدكم بالعيش تنتفع
وله في الشمعة:
وهيفاء من ندماء الملو ... ك صفراء كالعاشق المدنف
تكيد الزمان كما كادها ... فتفنى وتفنيه في موقف
وقال:
رب ليل أمد من نفس العا ... شق طولاً قطعته بانتحاب
ونهاراً ألذ من نظر المع ... شوق بدلته ببؤس عتاب
محمد بن أحمد أبو عبد الله
الرزاز حكى عن أبي محمد الشريف الكوفي خبراً في البركة.(21/324)
محمد بن أحمد الجلاب
أنشده أبو صالح بن جميع الصيداوي أبياتاً في القناعة منها: " مجزوء الكامل "
طوبى لمن رزق القناعه ... وأفاد معرفة وطاعه
ونفى مضلات الهوى ... عنه وصلى في جماعه
محمد بن أحمد أبو بكر الهروي
الخفاف حدث عن أبي عبد الرحمن السلمي بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أخاف على أمتي إلا ضعف اليقين ".
محمد بن أحمد أبو مظفر
التميمي المروروذي الفقيه الشافعي الواعظ قدم دمشق، وحدث بها وبغيرها، وعاد إلى بلده.
حدث عن أبي عبد الله محمد بن محمد بن حازم الحازمي بسنده إلى عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، فقال: " أكرموا أصحابي، ثم الذي يليهم، ثم الذي يليهم. ثم يظهر الكذب حتى يشهد الرجل، ولا يستشهد، ويحلف الرجل، ولا يستحلف، فمن أحب بحبحة الجنة فليلزم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلون رجل بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثهما، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن ".
كان أبو المظفر هذا حياً إلى بعد الخمسين وأربعمائة.(21/325)
محمد بن إبراهيم بن أحمد الأصبهاني
ابن إسحاق أبو طاهر الأصبهاني المحتسب المعروف بالثغري حدث عن أبي علي محمد بن هارون بن شعيب الأنصاري بسنده إلى علي بن أبي طالب أنه خطب الناس يوماً، فقال في خطبته: وأعجب ما في الإنسان قلبه، وله مواد من الحكمة، وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفظ، وإن ناله الخوف شغله الحزن، وأن أصابته مصيبة قصمه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع فند به الضعف؛ فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد.
فقام إليه رجل ممن كان شهد معه الجمل، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن القدر؟ فقال: بحر عميق فلا تلجه. قال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن القدر؟ قال: بيت مظلم فلا تدخله، قال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن القدر؟ قال: سر الله فلا تتكلفه، قال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن القدر؟ قال: أما إذا أبيت فإنه أمر من أمرين، لا جبر ولا تفويض.
توفي أبو طاهر الثغري سنة أربع وستين وثلاثمائة.
محمد بن إبراهيم بن محمد السوسي
ابن يعقوب أبو بكر السوسي شيخ الصوفية بدمشق.
سمع أبو بكر السوسي بدمشق سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة يقول: ما عقدت لنفسي قط على دينار ولا درهم، ولا اغتسلت من مباشرة حلال ولا حرام قط. فقلت: أكنت تحتلم في المنام؟ قال: كان ذلك قبل دخولي في طريق الجد ثم زال عني.(21/326)
توفي أبو بكر محمد بن إبراهيم السوسي سنة ست وثمانين وثلاثمائة.
محمد بن إبراهيم بن أحمد الشراك
أبو بكر الإمام المؤدب، المعروف بالشراك روى عن أبي سليمان بن زبر بسنده إلى أنس، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: " خذوا زينتكم عند كل مسجد "، قال: " صلوا في نعالكم ".
محمد بن إبراهيم بن إسحاق
ابن إبراهيم بن صالح بن زياد، أبو بكر العقيلي الأصبهاني حدث عن إبراهيم بن عامر بن إبراهيم بسنده إلى ابن عباس قال: احتجتم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محرم.
محمد بن إبراهيم بن أسد
أبو بكر الأسدي الصوري، المعروف بالقنوي حدث عن يزيد بن عياض بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما عبد الله بشيء أفضل من الفقه في الدين. والفقيه أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد، وعماد هذا الدين الفقه ". ثم قال أبو هريرة: لأن أقعد ساعة في الفقه أحب إلي من أن أحيي ليلة إلى الصباح.(21/327)
محمد بن إبراهيم بن إسماعيل
ابن عزرة أبو طلحة الضبي حدث عن أبي سعيد محمد بن أحمد بن فياض بسنده إلى أسماء بنت أبي بكر أنها سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصف سدرة المنتهى، فقال: " يسير الراكب في ظل الفنن مائة سنة - أو يستظل في الفنن مائة راكب - فيها فراش من ذهب، كأن ثمرها القلال.
قرئ على ابن عزرة الضبي سنة خمس وستين وثلاثمائة.
محمد بن إبراهيم بن جعفر
أبو عبد الله الكردي النشابي المقرئ كتب عنه ابن عساكر وقال: كان خيراً مستوراً.
روى عن أبي القاسم بن أبي العلاء بسنده إلى عبد الله بن بسر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تغالوا بالشاء، فإنما هي سقيا وليدك، إذا حلبتموها فلا تجهدوها، ودعوا داعية اللبن - أو داعي اللبن ".
توفي أبو عبد الله محمد بن إبراهيم سنة خمس وثلاثين وخمسمائة.
محمد بن إبراهيم بن الحارث
ابن خالد بن صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة أبو عبد الله القرشي التيمي المدني وفد علي عمر بن عبد العزيز.(21/328)
روى عن جابر وأنس قالا: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو على الجراد: " اللهم اقتل كباره، وأهلك صغاره، وأفسد بيضه، وأهلك دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا، وارزقنا إنك سميع الدعاء ". فقال رجل: يا رسول الله، تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما الجراد نثرة حوت في البحر " - قال الراوي: فحدثني من رأى الحوت ينثره.
سمع علقمة بن وقاص يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
قال محمد بن سعد في الطبقة الثالثة من أهل المدينة: محمد بن إبراهيم الحارث بن خالد بن صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. وأمه حفصة بنت أبي يحيى - واسمه عمرو - وكان من قدماء موالي بني تيم، ولهم عدد بالمدينة، ثم انتموا إليهم حديثاً من الزمان. فولد محمد بن إبراهيم موسى بن محمد، وكان فقيهاً محدثاً، وإبراهيم وإسحاق، وأمهم: أم عيسى بنت عمران بن أبي يحيى. قال محمد بن عمر: وكان محمد بن إبراهيم يكنى أبا عبد الله، وكان جده الحارث بن خالد من المهاجرين الأولين. توفي محمد بن إبراهيم سنة عشرين ومائة بالمدينة في آخر خلافة هشام بن عبد الملك. وكان محمد بن إبراهيم ثقة كثير الحديث.(21/329)
قال محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: رأيت سعد بن أبي وقاص وابن عمر يأخذان برمانة المنبر، ثم ينصرفان.
وقال: كنت أرى عبد الله بن عمر يخرج إذا زالت الشمس، فيصلي اثنتي عشرة ركعة قبل الظهر. قال: فجئت يوماً، فسألني: من أنت؟ فانتسبت له، فقال: كان جدك من مهاجرة أرض الحبش - وفي رواية أخرى: من مهاجرة الحبشة - فأثنى القوم علي خيراً، فنهاهم.
توفي محمد بن إبراهيم التيمي سنة عشرين ومائة. وقال القاسم بن سلام: سنة تسع عشرة ومائة، وقال خليفة: سنة إحدى وعشرين ومائة.
وثقه: العجلي، ويحيى، وأبو حاتم، وابن خراش.
محمد بن إبراهيم بن الحسين
ابن عبد الله بن عبد الرحمن أبو العباس الحنائي أصله من حلب. وهو والد أبي الحسن، وأبي إسحاق، وأبي القاسم.
محمد بن إبراهيم بن زياد الإسكندراني
أبو عبد الله الإسكندراني الفقيه المالكي، يعرف بابن الواز مصنف على مذهب مالك بن أنس. قدم دمشق مع أحمد بن طولون سنة تسع وستين ومائتين لما قدمها لخلع الموفق.
ذكره أبو العباس الوليد بن بكر الأندلسي الحافظ في " تسمية الفقهاء من أصحاب مالك " فقال: محمد بن إبراهيم بن المواز، أبو عبد الله. كان بالإسكندرية. تفقه بابن الماجشون، وابن عبد الحكم، واعتمد على أصبغ، وهو أجل من محمد بن عبد الله بن الحكم.(21/330)
توفي ابن المواز بدمشق سنة تسع وستين ومائتين.
محمد بن إبراهيم بن زياد الرازي
ابن عبد الله بن ميمون ين مهران أبو عبد الله الرازي حدث عن محمد بن مهران الحمال بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يوم يقوم الناس لرب العالمين "، مقدار نصف يوم، يكون ذلك اليوم على المؤمنين كتدلي الشمس للغروب ".
وحدث عن أبي مصعب أحمد بن أبي بكر بسنده إلى أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه، وطعامه وشرابه. فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجل إلى أهله ".
قال الخطيب:
محمد بن إبراهيم بن زياد بن عبد الله، أبو عبد الله الطيالسي الرازي. كان جوالاً، وعمر عمراً طويلاً - ونقل قول من قال: تكلموا فيه، وأفسد حاله بمرة - وقال: سألت أبا حازم عمر بن أحمد بن إبراهيم العبدوي الحافظ بنيسابور عن محمد بن إبراهيم بن زياد، فقال: سمعت أبا أحمد الحافظ ذكره، فقال: لو أنه اقتصر على سماعه لكان له فيه مقنع، لكنه حدث عن شيوخ لم يدركهم.
قال الدارقطيني: دجال. يضع الأحاديث.
كان محمد بن إبراهيم حياً سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة.(21/331)
محمد بن إبراهيم بن سعيد
ابن عبد الرحمن بن موسى - ويقال: ابن موسى بن عبد الرحمن - أبو عبد الله العبدي البوشنجي أحد الأئمة الفقهاء الحفاظ العلماء.
حدث عن يحيى بن عبد الله بن بكير بسنده إلى أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، أو تأذن في بيته إلا بإذنه، وما أنفقت من نفقة من غير أمره فإنها تؤدي إلى شطره ".
وبسنده عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار ".
قال أبو إسحاق أحمد بن محمد بن يونس البزار: محمد بن إبراهيم البوشنجي، أبو عبد الله العبدي. كان فقيه البدن، فصيح اللسان.
وقال أبو عبد الله الحافظ: شيخ أهل الحديث في عصره.
حدث عن بعض الفقهاء من أصحاب داود بن علي أنهم حضروا مجلس داود بن علي يوماً ببغداد، ودخل عليه المجلس رجل جلس آخر الناس، ثم إنه كان كلم داود بن علي في بعض ما كان يتكلم به، فتعجب داود من حسن كلامه، فقال: لعلك عبد الله البوشنجي؟ قال: نعم. فقام داود بنفسه إليه، وأخذ بيده حنى أجلسه إلى جنبه، وقال لأصحابه: قد حضركم من يفيد، ولا يستفيد.(21/332)
قال أبو زكريا العنبري: شهدت جنازة الحسين بن محمد القباني سنة تسع وثمانين ومائتين، فقدم أبو عبد الله للصلاة عليه، فصلى عليه، فلما أراد أن ينصرف قدمت دابته، وأخذ أبو عمر الخفاف بلجامه، وأبو بكر محمد بن إسحاق بركابه، وأبو بكر الجارودي، وإبراهيم بن أبي طالب يسويان عليه ثيابه.
فمضى ولم يكلم واحداً منهم.
وقال: قال لي أبو عبد الله البوشنجي في شيء سألني عنه: أحسنت. ثم التفت إلى أبي، فقال: يا أبا عبد الله، قد قلت لابنك: أحسنت، ولو قلت هذا لأبي عبيد لفرح به.
سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن مسألة، وكان يشيع جنازة أبي عبد الله البوشنجي، فقال: لا أفتي حتى يواريه لحده.
وقال أبو محمد عمرو محمد بن أحمد الضرير الفقيه: حضرت أبا عبد الله البوشنجي بمرو، وقد وصف له حالي، وما أتقلب فيه من العلوم. فقال: أسألك عن مسألة؟ فقلت: مثل الشيخ لا يسأل مثلي! فقال: صدقت، أنا روباس الناس من الشاش إلى مصر. ثم قال لي: أتدري ما الروباس؟ قلت: لا، قال: هي الآلة التي بها بين جيد الفضة وخبيثها.
قال أبو عبد الله البوشنجي: من أراد العلم والفقه بغير أدب فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله.
كان أبو عبد الله البوشنجي من الكرم بحيث لا يوصف، وكان يقدم لسنانيره من كل طعام يأكله، فبات ليلة، ثم ذكر السنانير، فقال لخادمه: أطعمتم اليوم سنانيرنا من طعامنا؟ فقال: لا، فأمر بالليل حتى طبخ من ذلك الطعام، وأطعم السنانير.(21/333)
توفي أبو عبد الله البوشنجي سنة إحدى وتسعين ومائتين، وصلى عليه أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة.
محمد بن إبراهيم بن سهل
ابن حية بن يحيى بن صالح أبو بكر البزاز كان يسكن عقبة الصوف.
روى عن أبي معاوية عبيد الله بن محمد القري المؤدب بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عج حجر إلى الله - عز وجل - فقال: إلهي وسيدي، عبدتك منذ كذا وكذا سنة، ثم جعلتني في أس كنيف؟ فقال: أما ترضى أن عدلت بك عن مجالس القضاة "؟ عن علي بن هبة الله قال: حية: أوله حاء مهملة وبعده ياء مشددة معجمة باثنتين من تحتها: أبو بكر محمد بن إبراهيم بن سهل بن يحيى بن صالح بن حية البزاز الدمشقي.
محمد بن إبراهيم بن أبي عامر
أبو عامر الصوري النحوي روى عن سليمان بن عبد الرحمن بسنده إلى عوف بن مالك قال:
صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جنازة رجل من الأنصار، فسمعته يقول: " اللهم صل عليه، واغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله ومنقلبه، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله بداره داراً خيراً من(21/334)
داره، وأهلاً خيراً من أهله، وقه فتنة القبر، وعذاب النار ". قال عوف: فلقد رأيتني في مقامي ذلك أتمنى أن أكون أنا الميت مكان ذلك الأنصاري لما رأيت من صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
محمد بن إبراهيم بن عبد الله الأنطاكي
ابن يعقوب بن زوزان أبو بكر الحارثي الأنطاكي حدث عن الحسن بن علي بن خلف الصيدلاني الدمشقي بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار ".
وروى عن الحسين بن إسحاق بسنده إلى ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نضر الله امرأ سمع مقالتي هذه فوعاها، وحفظها، وعقلها، فرب حامل فقه ليس بفقيه ".
قال ابن ماكولا: زوزان - بزايين، الأولى منهما مضمومة.
محمد بن إبراهيم بن عبد الله الأسترباذي
أبو محمد بن بندار بن سهل بن إسحاق بن سعيد بن عبد الواحد أبو زرعة الأسترباذي المؤذن المعلم، المعروف باليمني حدث عن أبي العباس محمد بن إسحاق السراج بسنده أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان بن عفان: أشهد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(21/335)
قال: " إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي "، قال: أفرأيت إن دخل على بيتي، وبسط يده ليقتلني؟ قال: " كن كابن آدم ".
عرف أبو زرعة باليمني لأنه سكن اليمن مدة. ومات بأستراياذ.
محمد بن إبراهيم الطوسي
ابن عبد الله بن عمر أبو همام الطوسي الحافظ روى عن أبي علي محمد بن سعيد الحراني بسنده إلى ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخطب إلى جذع، فلما وضع المنبر حن إليه الجذع، فاتاه، فمسحه، فسكن.
محمد بن إبراهيم بن عبد الحميد
أبو بكر الحلواني ولي قضاء بلخ.
روى عن محمد بن إسماعيل بن عياش بسنده إلى أبي موسى الأشعري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " رأيت رجالاً تقرض جلودهم بمقاريض من نار، قلت: ما شأن هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين يتزينون إلى ما لا يحل لهم. ورأيت جباً خبيث الريح، فيه صياح، قلت: ما هذا؟ قال: هن نساء يتزين إلى ما لا يحل لهن، ورأيت قوماً اغتسلوا في ماء الحياة، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هم قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ".(21/336)
وروى عن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي بسنده إلى عبد الرحمن بن عوف، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " يا بن عوف، وإنك من الأغنياء، ولن تدخل الجنة إلا زحفاً، فاقرض الله يطلق لك قدميك ".
وروى عن محمد بن جعفر الفيدي بسنده إلى عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا فرطكم على الحوض وإني مكاثر بكم الأمم، فلا تقتتلوا بعدي ".
سكن أبو بكر الحلواني بغداد، وكان ثقة.
محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن
ابن عبد الملك بن مروان أبو عبد الله القرشي روى عن زكريا بن يحيى السجزي بسنده إلى أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم، وعبد الحلة، وعبد الخميصة، تعس ونكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد مغبر قدمه في سبيل الله، مشعث رأسه، وإذا كانت الساقة كان فيهم، وإذا كان الحرس كان فيهم، إن شفع لم يشفع، وإن استأذن لم يؤذن له، طوبى له، ثم طوبى له ".
توفي أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن مروان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وكان ثقة مأموناً جواداً، انتقى عليه أبو عبد الله محمد بن منده فوائده ثلاثين جزءاً.(21/337)
محمد بن إبراهيم بن عبدويه
ابن سدوس بن علي بن عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أبو عبد الله الهذلي العبدوي النيسابوري المعروف بكثرة السماع، والرحلة في طلب الحديث، والتصنيف، وإفادة الناس في الحضر والسفر. كان يستملي علي أبي بكر بن خزيمة. توفي شهيداً بالكوفة سنة القرمطي، أصابته جراحة، فمات بها سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.
محمد بن إبراهيم بن علي
ابن عاصم بن زاذان
أبو بكر المعروف بابن المقرئ الأصبهاني أحد المكثرين الرحالين، والمحدثين المشهورين. جمع معجم أسماء شيوخه في أربعة أجزاء، وخرج الفوائد في أربعة عشر جزءاً. وكان مكثراً ثقة.
روى عن محمد بن نصير بن أبان المدني بسنده إلى عائشة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينام وهو جنب، ولا يمس ماء.
وروى عن ابن منيع بسنده إلى عبد الله بن مسعود، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ".
حكى عن أحمد بن الحسن الصوفي قال: سمعت هارون بن معروف يقول: رأيت فيما يرى النائم كأن قائلاً يقول لي: من شغله الحديث عن القرآن عذب.
قال أبو سلامة: قيل للصاحب " إسماعيل بن عباد ": إنك رجل معتزلي، وأبو بكر بن المقرئ رجل صاحب حديث، وتحبه أنت، لماذا؟! فقال: لمسألتين اثنتين: كان أبو بكر بن المقرئ(21/338)
صديق والدي، وقيل: مودة الآباء قرابة الأبناء. ولمسألة أخرى: إني كنت نائماً فرأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فقال: أنت نائم وولي من أولياء الله على بابك! فانتبهت، ودعوت الباب، وقلت: من بالباب؟ قال: أبو بكر بن المقرئ بالباب.
توفي أبو بكر بن المقرئ بأصبهان سنة إحدى وثمانين وثلاثمئة، وله ست وتسعون سنة.
محمد بن إبراهيم بن العلاء
أبو عبد الله الزاهد السائح من أهل غوطة دمشق.
حدث عن سعيد بن مسلمة إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أتاكم كريم قوم فاكرموه ".
حدث عن محمد بن الحجاج اللخمي بسنده إلى ابن العباس قال: هجت امرأة من بني حطمة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هجاء لها، قال: فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاشتد عليه ذلك، فقال: " من لي بها؟ " فقال رجل من قومها: أنا يا رسول الله، وكانت تمارة تبيع التمر، قال: فأتاها، فقال لها: عندك تمر؟ فقالت: نعم، فأرته تمراً، فقال: أردت أجود من هذا، قال: فدخلت لتريه، قال: فدخل خلفها، ونظر يميناً وشمالاً، فلم ير إلا خواناً، قال: فعلا به رأسها حتى دمغها به، قال: ثم أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، كفيتكها، قال: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنه لا ينتطح فيها عنزان "، فأرسلها مثلاً.(21/339)
وحدث عن أحمد بن محمد - ابن أخي سوار القاضي - بسنده إلى ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الجنة لتتزين من الحول إلى الحول في شهر رمضان، وإن الحور لتتزين من الحول إلى الحول في شهر رمضان، فإذا دخل شهر رمضان قالت الجنة: اللهم اجعل لنا في هذا الشهر من عبدك سكاناً، ويقلن الحور العين: اللهم اجعل لنا في هذا الشهر من عبادك أزواجاً ". قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صان نفسه في شهر رمضان، لم يشرب فيه مسكراً، ولم يقف فيه مؤمناً ببهتان، ولم يعمل به خطيئة زوجه الله - تبارك وتعالى - في كل ليلة مائة حورية، وبنى له قصراً في الجنة من لؤلؤ وياقوت، وزبرجد، لو أن الدنيا كلها جعلت في ذلك القصر لكانت منه كمربط عنز في الدنيا. ومن شرب فيه مسكراً، أو قفا فيه مؤمناً ببهتان أو عمل به خطيئة أحبط الله عمله سنة؛ فاتقوا شهر رمضان، فإنه شهر الله جعل الله لكم أحد عشر شهراً تأكلون وتشربون وتتلذذون، وجعل لنفسه شهر رمضان، فاتقوا شهر رمضان، فإنه شهر الله - عز وجل ".
قال أبو أحمد بن عدي: محمد بن إبراهيم الشامي منكر الحديث، وعامة أحاديثه غير محفوظة.
وقال الداقطيني: كذاب.
محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد
ابن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي أمير دمشق من قبل المهدي والرشيد. وولي مكة وإمرة الموسم غير مرة.(21/340)
روى عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا خطب حمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم يقول: " أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أصدق الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ". ثم يرفع صوته، وتحمر وجنتاه، ويشتد غضبه إذا ذكر الساعة حتى كأنه منذر جيش، ثم يقول: " صبحتكم، أو مستكم "، ثم يقول: بعثت أنا والساعة كهاتين - وفرق بين أصابعه الوسطى والتي تليها، وبين الإبهام - صبحتكم أو مستكم، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي، أو علي، ألا وإني ولي المؤمنين ".
وبسنده إلى علي:
أنه دعا بماء، فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الخطيب: محمد بن إبراهيم المعروف بالإمام. كان يلي إمارة الحج، والمسير بالناس إلى مكة، وإقامة المناسك في خلافة المنصور عدة سنين. وتوفي ببغداد في خلافة الرشيد سنة خمس وثمانين ومائة، وكان الرشيد إذ ذاك قد شخص عن بغداد إلى الرقة، فصلى على محمد بن إبراهيم ابنه محمد بن هارون الأمين، وهو ولي العهد، ودفن بالمقبرة المعروفة بالعباسية بباب الميدان.
ولد سنة اثنتين وعشرين ومائة. وتوفي سنة خمس وثمانين ومائة.(21/341)
قال همام بن مسلم: كنت بمكة مع سفيان والأوزاعي، فمرض سفيان، فاتاه محمد بن إبراهيم بن علي بن عبد الله بن العباس أميرهم، فلما قيل له: هذا محمد بن إبراهيم قام فدخل الكنيف، فما زال فيه حنى استحييت من طول ما قعد. ثم خرج، فجاء، فقال: السلام عليكم، كيف أنتم، وطرح نفسه، ومحمد جالس، فحول وجهه إلى الحائط، فما كلمه حتى خرج من عنده، فلما كان من الغد بعث إليه يقرئه السلام، ويقول: كيف نجدك!؟ لولا أعلم أنه ليس بمكة أبغض إليك مني لأتيتك.
قال العنبري لمحمد بن إبراهيم: " من الرمل "
اقض عني يا بن عم المصطفى ... أنا بالله من الدين وبك
من غريم فاحش يقدر لي ... أشره الوجه لعرضي منتهك
أنا والظل وهو ثالثنا ... أين ما زالت من الأرض سلك
محمد بن إبراهيم بن محمد بن رواحة
ابن محمد بن النعمان بن بشير أبو معن الأنصاري الصرفندي. من أهل حمص. صرفند من أعمال صور. رأى أنس بن مالك.
محمد بن إبراهيم بن محمد بن يزيد
أبو الفتح الجحدري الطرسوسي الغازي البزاز المعروف بابن البصري. من أهل طرسوس. قدم دمشق.(21/342)
حدث عن أبي سعيد أحمد بن محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي بسنده إلى زر بن حبيش قال: سألت أبي بن كعب عن ليلة القدر، فحلف لا يستثني: إنها ليلة سبع وعشرين، قلت: بم تقول أبا المنذر؟ قال: بالآية، وبالعلامة التي قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنها تصبح من ذلك اليوم تطلع الشمس وليس شعاع ".
وحدث عن عبد الله بن السري بسنده إلى سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الآذان من الرأس ".
قدم أبو الفتح بغداد. واستوطن بأخرة بيت المقدس، وبها مات سنة سبع - أو ثمان - وأربعمائة. وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة عشر، وأربعمائة.
محمد بن إبراهيم بن محمد الأسدي
ابن عبد الله بن أحمد بن سليمان بن أيوب بن حذلم أبو الحسن الأسدي حدث عن سعد بن محمد البيروتي بسنده إلى أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبي: " لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً ".
توفي أبو الحسن سنة اثنتين وستين وأربعمائة. لم يكن الحديث من شأنه، ولكن أبوه سمعه.
محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم
ابن علي بن بندار بن عباد بن أيمن أبو عبد الله بن أبي إسحاق الدينوري المؤدب(21/343)
روى عن محمد بن علي أبي عبد الله بن سلوان المازني بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح وخدوش ". وسئل قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: " خمسون درهماً، أو شأنها من الذهب ".
ولد أبو عبد الله الدينوري المؤدب سنة أربع وعشرين وأربعمائة، وتوفي سنة سبع وثمانين وأربعمائة.
محمد بن إبراهيم بن مخلد
الأنصاري الجبيلي روى عن وزير بن القاسم بسنده إلى عبد العزيز قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صام أول يوم من رجب فكأنما صام سنة، ومن صام سبعة أيام غلقت عنه سبعة أبواب جهنم، ومن صام ثمانية أيام فتحت له ثمانية أبواب الجنة، ومن صام عشرة أيام لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه، ومن صام ثمانية عشر يوماً غفر الله لما تقدم به من ذنب، وقيل له: استأنف العمل، وبدل الله سيئاته حسنات، ومن زاد زاده الله - عز وجل - وفي رجب حمل الله نوحاً في السفينة، وصام، وأمر من معه، فصاموا، فجرت بهم السفينة ستة أشهر، واستوت بهم على الجودي يوم عاشوراء، وذلك لعشر مضين من المحرم، فصام نوح ومن معه من الطير والوحش شكراً لله - عز وجل ".
محمد بن إبراهيم بن مسلم
أبو أمية البغدادي، المعروف بالطرسوسي
سكن طرسوس، وقدم دمشق.(21/344)
حدث عن يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري بسنده إلى عقبة بن عامر الجهني قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، فاسترقد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما كان منها على ليلة، فلم يستيقظ حتى كانت الشمس قيد رمح قال: " ألم أقل لك يا بلال اكلأ لنا الفجر؟ " فقال: يا رسول الله ذهب بي النوم، فذهب بي الذي ذهب بك. فانتقل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك المنزل غير بعيد، ثم صلى، ثم هذب بقية يومه وليلته، فأصبح بتبوك، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: " يا أيها الناس، أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامى ندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبراً، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجراً، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذاب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله، وخير ما وقر في القلب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من جثى جهنم، والكبر كي من النار، والشعر من " مزامير " إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حبالة الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربع أذرع، والأمر إلى(21/345)
الآخرة، وملاك العمل خواتمه، وشر الرواية رواية الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتأل على الله يكذبه، ومن يغفر يغفر الله له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغ السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله. اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي - قالها ثلاثاً - أستغفر الله لي ولكم.
قال الخطيب بسنده: محمد بن إبراهيم بن مسلم، يكنى أبا أمية. بغدادي أقام بطرسوس. يقال: إنه من أهل سجستان. كان من أهل الرحلة فهماً في الحديث، وكان حسن الحديث. توفي بطرسوس في جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين ومائتين.
وقال: أبو أمية محمد بن إبراهيم رجل رفيع القدر جداً، كان إماماً في الحديث، مقدماً في زمانه. ثقة.
أنشد عبد الله بن جابر الطرسوسي لأبي أمية الطرسوسي: " من البسيط "
في كل يوم أرى بيضاء قد طلعت ... كأنما طلعت في ناظر البصر
لئن قطعتك بالمقراض عن بصري ... لما قطعتك عن همي وعن فكري
قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ: محمد بن إبراهيم الطرسوسي صدوق كثير الوهم.(21/346)
محمد بن إبراهيم بن مسلم بن البطال
أبو عبد الله اليماني الصعدي نزيل المصيصة. قدم دمشق حاجاً. وقدم بغداد. وهو من صعدة اليمن.
حدث عن إسحاق بن وهب العلاف الواسطي بسنده إلى ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عموا بالسلام، وعموا بالتشميت ".
وبإسناده قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسلم عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله "، وعن يساره: " السلام عليكم ورحمة الله ".
وحدث عن محمد بن يحيى الأزدي بإسناده إلى بريدة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أنظر معسراً كان له بكل يوم صدقة ". ثم سمعته يقول: " من أنظر معسراً كان له بكل يوم مثله صدقة ". قال: فقلت: يا رسول الله، سمعتك تقول كذا، ثم سمعتك تقول كذا!؟ قال: " إذا أقرضته ثم تركته في أجله فله في كل يوم صدقة، فإذا حل ثم تركته فله بكل يوم مثله صدقة ".
قال أبو سعيد بن يونس: محمد بن إبراهيم بن البطال، يكنى أبا عبد الله، من أهل صعدة من اليمن. قدم علينا مصر قدمتين. كان آخر قدمتيه سنة عشر وثلاثمائة، ثم صار إلى الثغر، فتوفي هناك.(21/347)
محمد بن إبراهيم بن المسيب
روى عن إسحاق بن نجيح بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من أكل ما يسقط من المائدة عاش في سعة، وعوفي من المحن في ولده، وفي جاره وجار جاره ودويرات جاره ".
محمد بن إبراهيم الهاشمي القرشي
إمام جامع دمشق.
روى عن أبي صالح، عن عكرمة، عن ابن العباس قال: قال علي بن أبي طالب: يا رسول الله، القرآن يتفلت من صدري! فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، وينفع من علمته، ويثبت ما تعلمت في صدرك؟ " قال: بلى، قال: " فصل ليلة الجمعة أربع ركعات، تقرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب، و" يس "، وفي الثانية بفاتحة الكتاب، و" حم الدخان "، وفي الثالثة بفاتحة الكتاب و" تنزيل السجدة "، وفي الرابعة بفاتحة الكتاب و" تنزيل المفصل "، فإذا فرغت من التشهد فأحمد الله، وصل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستغفر للمؤمنين، وقل: اللهم ارحمني بترك المعاصي أبداً ما أبقيتني، وارحمني أن أتكلف مالا يعنيني، وارزقني حسن النظر فيما يرضيك عني. اللهم بديع السماوات والأرض ذا الجلال والإكرام، والعزة التي لا ترام، أسألك بالله يا رحمن؛ بجلالك، ونور وجهك أن تلزم قلبي حفظ كتابك كما علمتني، فارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني، وأسألك أن تنور بكتابك بصري، وتطلق به لساني، وتفرج به عن قلبي، وتشرح به صدري، وتشغل به بدني، وتقوني على ذلك، وتعينني عليه؛ فإنه لا يعين على الخير، ولا يوفق له إلا أنت، تفعل ذلك ثلاث جمع - أو خمس، أو سبع - تجب بإذن الله، وما أخطأ مؤمن ". فأتى علي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك بسبع جمع، فأخبره بحفظه للقرآن والأحاديث، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مؤمن ورب الكعبة! علم أبا حسن، علم، علم ".(21/348)
محمد بن إبراهيم أبو حمزة
البغدادي الصوفي قال أبو حمزة الصوفي: كنت مع منصور بن جمهور الصوفي، فنظر إلى غلام يعرض للبيع، فوقف، فنظر إليه، ثم التفت إلي، فقال: ما أعلم أحداً اشترى هذا إلا متعرضاً لمحن الله - عزوجل - فإما أن يعصمه، وإما أن يفتنه؛ فإن عصمه اتسع للناس القول فيه بما لا يعلمون، وان هو فتنه طال في القيامة حسابه، وفي النار عذابه. ثم رفع يديه، فقال: اللهم اعصمنا فيما بقي من أعمارنا، ولا تؤاخذنا بما قد علمت من أفعالنا، وهب لنا عقوبة نظرنا. ثم بكى.
وقال: خرجت من بلاد الروم، فوقفت على راهب، فقلت: هل عندك من خبر من قد مضى؟ فقال: نعم، " فريق في الجنة وفريق في السعير ".
قال أبو عبد الرحمن السلمي: أبو حمزة البغدادي البزاز، واسمه محمد بن إبراهيم، من أقران سري السقطي، أو أقدم منه، كان يتكلم ببغداد في مسجد الرصافة قبل كلامه في مسجد المدينة، وأبو حمزة كان يذكر أنه من أصحاب حسن المسوحي، وكان يسميه: أستاذي، وكان هو أستاذ الجنيد، وكان عالماً بالقراءات خصوصاً بقراءة أبي عمرو، وكان قد تكلم في شيء من علوم الإرادات في المسجد الجامع، فسقط عن كرسيه، واعتل، ودفن في الجمعة الثانية. وكان سافر مع أبي تراب. وهو أستاذ جميع البغداديين في هذه العلوم، ولما مات غسله قاسم بن أبي علي المنصوري الصوفي.(21/349)
قال أبو القاسم القشيري: ومنهم أبو حمزة البغدادي. مات قبل الجنيد، وكان من أقرانه، وكان عالماً بالقراءات فقيهاً، وكان من أولاد عيسى بن أبان. وكان أحمد بن حنبل يقول له في المسائل: ما تقول فيها يا صوفي؟ قيل: كان يتكلم في مجلسه يوم الجمعة، فتغير عليه الحال، فسقط عن كرسيه، ومات في الجمعة الثانية. مات سنة تسع وثمانين ومائتين.
قال أبو حمزة: من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه، ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحواله، وأفعاله، وأقواله.
وقال: من رزق ثلاثة أشياء فقد نجا " من الآفات ": بطن خال مع قلب قانع، وفقر دائم معه زهد حاضر، وصبر كامل معه ذكر دائم.
وحكى بعضهم عن أبي حمزة محمد بن إبراهيم البغدادي أستاذ الجنيد
أنه ولد له مولود في ليلة مطيرة، وما كان في منزله شيء، واشتد المطر، وكانت داره على الطريق. قال: وأخذ السيل يدخل داره، وكان معه في الدار صبي يخدمه، فقام هو والصبي، فأخذ صرتين، فكانا ينقلان الماء إلى الطريق حتى أصبحوا، فلما أصبحوا احتالت المرأة درهمين، وقالت لأبي حمزة: اشتر لنا بها شيئاً، فخرج أبو حمزة والصبي معه، فإذا بجارية صغيرة تبكي، قال: فقال لها أبو حمزة: مالك؟ قالت: لي مولى شرير، وقد دفع إلي قارورة، فانكسرت، وهلك الزيت، فأخاف أن يضربني، قال: فأخذ بيدها، وذهب فاشترى لها قارورة، وأخذ فيها زيتاً، فقالت الجارية: تجيء معي إلى عند مولاي، وتشفع إليه ألا يضربني بتأخري عنه. قال: فذهب أبو حمزة معها إلى مولاها، وتشفع فيها، ثم رجع إلى المسجد، وقعد في الشمس، فقال له الغلام: أيش عملت في يوم مثل هذا، أو قصة مثل هذه؟ فقال له: اسكت فقعدا إلى العصر، ثم قال له الصبي: قم بنا نعود إلى المنزل، وكانت داره في زقاق لا ينفذ، فجاؤوا(21/350)
والزقاق كله من أوله إلى آخره حمالون قعود، معهم كل ما يحتاجون إليه في الشتاء، ومعهم رجل معه رقعة فيها مكتوب: أخبرنا أيها الشيخ، أن البارحة ولد لك مولود، فحملنا إليك ما حضر، فتفضل بقبوله. ومع الرجل كيس فيه خمسمائة درهم، فأخذه، ثم التفت إلى الغلام، وقال: إذا عاملت فعامل من هذه معاملته! قال أبو حمزة الصوفي: إني لأستحيي من الله تعالى أن أدخل البادية وأنا شبعان، وقد اعتقدت التوكل؛ لئلا يكون سعيي على الشبع زاداً أتزوده.
وقال: سافرت سفرة على التوكل، فبينا أنا أسير ذات ليلة، والنوم في عيني إذ وقعت في بئر، فلم أقدر على الخروج لبعد مرتقاها، فجلست فيها، فبينا أنا جالس إذ وقف على رأسها رجلان، فقال أحدهما لصاحبه: نجوز ونترك هذه في طريق السابلة والمارة؟ فقال الآخر: فما نصنع؟ قال: نطمها! فبدرت نفسي أن تقول: أنا فيها، فنوديت: تتوكل علينا، وتشكو بلاءنا إلى سوانا؟! فسكت. فمضيا، ثم رجعا، ومعهما شيء جعلاه على رأسها غطوها به، فقالت لي نفسي: أمنت طمها، ولكن جعلت مسجوناً فيها. فمكثت يومي وليلتي، فلما كان الغد ناداني شيء يهتف بي، ولا أراه: تمسك بي شديداً. فمددت يدي، فوقعت على شيء خشن، فتمسكت به، فعلاها، وطرحني، فتأملت فوق الأرض، فإذا هو سبع، فلما رأيته لحق نفسي من ذلك ما يلحق مثله، فهتف بي هاتف: يا أبا حمزة، استنقذناك من البلاء، وكفيناك ما تخاف بما تخاف.
قال جعفر بن محمد الخلدي: خرج طائفة من مشايخ الصوفية يستقبلون أبا محمد الصوفي في قدومه من مكة، فإذا به قد شحب لونه، فقال له الجريري: يا سيدي، هل تتغير الأسرار إذا تغيرت الصفات؟ قال: معاذ الله! لو تغيرت الأسرار لتغير الصفات لهلك العالم، ولكنه ساكن(21/351)
الأسرار فحماها، وأعرض عن الصفات فلاشاها. ثم تركنا وولى وهو يقول: " مجزوء الرجز "
كما ترى صيرني ... قطع قفار الدمن
شردني عن وطني ... كأنني لم أكن
إذا تغيبت بدا ... وإن بدا غيبني
يقول لا تشهد ما ... يشهد أو تشهدني
وقال: علامة الصوفي الصادق أن يفتقر بعد الغنى، ويذل بعد العز، ويخفى بعد الشهرة، وعلامة الصوفي الكاذب أن يستغني بعد الفقر، ويعز بعد الذل، ويشتهر بعد الخفاء.
قال أبو عثمان المغربي: كان أبو حمزة وجماعة أصحابنا يمشون إلى موضع من المواضع، فبلغوا ذلك الموضع، فإذا الباب مغلق، فقال أبو حمزة لأصحابه: ليتقدم كل واحد منكم إلى هذا الباب، ويظهر صدقه وإخلاصه، فينفتح عليه الباب من غير معالجة أحد. فتقدم كل واحد من القوم، فلم ينفتح على أحد. فتقدم أبو حمزة من الباب وقال: بكذبي إلا فتحت، ففتح عليه الباب، فدخلوا ذلك الموضعز قال الخلدي: كان لأبي حمزة مهر قد رباه، وكان يحب الغزو، وكان يركب المهر ويخرج عليه، وهو يدعي التوكل، فقيل له: يا أبا حمزة، أنت قد علمنا كيف تعمل، فالدابة، إيش كنت تعمل في أمرها؟ قال: كان إذا رحل العسكر تبقى تلك الفضلات من الدواب، ومن الناس، تدور، فتأكل.(21/352)
قال أبو عبد الله الرملي:
تكلم أبو حمزة في جامع طرسوس، فقبلوا. فبينا هو ذات يوم يتكلم إذ صاح غراب على سطح الجامع، فزعق أبو حمزة، وقال: لبيك لبيك! فنسبوه إلى الزندقة، وقالوا: حلولي زنديق، فشهدوا، وأخرج، وبيع فرسه بالمناداة على باب الجامع؛ هذا فرس الزنديق. فرفع رأسه إلى السماء، وقال: من الخفيف "
لك من قلبي المكان المصون ... كل عتب علي فيك يهون
ومن أقواله: من ذاق حلاوة عمل صبر على تجرع مرارة صرفه، ومن صفت فكرته استلذ ذوقه، واستوحش ممن يشغله. وسئل: هل يتفرغ المحب إلى شيء سمى محبوبه؟ فقال: لا، لأنه بلاء دائم، وسرور منقطع، وأوجاع متصلة لا يعرفها إلا من باشرها. وأنشد: " من الطويل "
يقاسي المقاسي شجوه دون غيره ... وكل بلاء عند لاقيه أوجع
قال أبو سعيد الزيادي: كان أبو حمزة أستاذ البغداديين، وهو أول من تكلم ببغداد في هذه المذاهب من صفاء الذكر، وجمع الهمة، والمحبة والشوق والقرب والأنس؛ لم يسبقه إلى الكلام هذا على رؤوس الناس ببغداد أحد، وما زال مقبولاً حسن المنزلة عند الناس إلى أن توفي. وتوفي سنة تسع وستين ومائتين، ودفن بباب الكوفة.
وروى الخطيب من طريق آخر أنه توفي سنة تسع وثمانين ومائتين.
محمد بن إبراهيم أبو بكر الصوري
روى عن أبي نعيم الحلبي بسنده إلى أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قعد إلى قينة يستمع منها صب الله في أذنيه الانك يوم القيامة ".(21/353)
محمد بن إبراهيم أبو الفضل
الدينوري المقرئ سكن صيدا، وأقرأ بها القرآن.
روى عن علي بن أبي طالب أنه قال: اجتنب من الرجال أربعة: من إذا حدثك كذب، وإذا حدثته كذبك، وإن ائتمنته خانك، وإن ائتمنك اتهمك، وإن أنعمت عليه كفرك، وإن أنعم عليك امتن عليك.
محمد بن إبراهيم أبو عبد الله
الحصري البانياسي سكن صور، وحدث بها سنة عشرين وأربعمائة. توفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
محمد بن إدريس بن إبراهيم
أبو الحسن الأصبهاني قدم دمشق.
روى عن أحمد بن محمد البزاز بإسناده: أن الحسين بن علي بن أبي طالب دفع ذات يوم إلى سائل عشرة آلاف درهم، فقالت له جارية له يقال لها فضة: والله لقد أسرفت يا بن بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فقال لها: يا فضة! وأنشأ يقول: " من الطويل "
إذا جمعت مالاً يداي ولم أنل ... فلا انبسطت كفي ولا نهضت رجلي
أريني بخيلاً نال خلداً ببخله ... وهاتي أريني باذلاً مات من هزل
على الله إخلاف الذي أتلفت يدي ... فلا مهلكي بذلي ولا مخلدي بخلي(21/354)
محمد بن إدريس بن الحجاج
ابن أبي حمادة أبو بكر الأنطاكي قدم دمشق سنة إحدى وثمانين ومائتين.
حدث عن أبي تقي هشام بن عبد الملك اليزني بسنده إلى ابن عمر قال: بعثنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية، فلقينا العدو، فحاص الناس حيصة، فانهزمنا، فقلنا نهرب في الأرض، ولا نأتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حياء مما صنعنا. قال: فلقينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلنا: يا رسول الله، نحن الفرارون! قال: " لا، بل أنتم الكرارون، وأنا فيتكم ".
وحدث عن يعقوب بن سعد بسنده إلى جابر قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ثمن الكلب والسنور.
محمد بن إدريس بن العباس
ابن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر أبو عبد الله المطلبي الشافعي المكي إمام عصره، وفريد دهره. اجتاز دمشق، أو بساحلها حين ذهب إلى مصر.
روى عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم - وفي رواية: من صلاة الفذ - وحده بخمسة وعشرين جزءاً ".
وروى عن محمد بن عثمان بن صفوان الجمحي بسنده إلى عائشة، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تخالط الصدقة مالاً إلا أهلكته ".(21/355)
عن الشافعي قال:
كنت مع محمد بن الحسن بالرقة، فمرضت مرضه، فعادني العواد، فلما نقهت من مرضي مددت يدي إلى كتب عند رأسي، فوقع في يدي " كتاب الصلاة " لمالك، فنظرت في باب الكسوف، ثم خرجت إلى المسجد فإذا محمد بن الحسن جالس، فقلت له: جئت أناظرك في الكسوف، فقال: قد عرفت قولنا فيه، فقلت: جئت أناظرك على النظر والخبر، فقال: هات، قلت: أشترط ألا تحتد علي، ولا تقلق - وكان محمد رجلاً قلقاً حديداً - فقال: أما ألا أحتد فلا أشترط ذلك، ولكن لا يضرك ذلك عندي. فناظرته، فلما ضاغطته، فكأنه وجد من ذاك، فقلت: هذا هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة، وزيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس؛ واجتمع علي وعليه الناس، فقال: وهل زدتني على أن جئتني بصبي وامرأة؟! فقلت: لو غيري جالسك! وقمت عنه بالغضب! فرفع الخبر إلى هارون أمير المؤمنين، فقال: قد علمت أن الله لا يدع هذه الأمة حتى يبعث عليهم قرشياً قلباً يرد عليهم ما هم فيه من الضلالة. ثم رجعت إلى بيتي، فقلت لغلامي: اشدد على رواحلك، واجعل الليل حملاً. فقدمت مصر.
وهذه الحكاية تدل على أن الشافعي دخل مصر مرتين: إحدى المرتين على طريق الشام، فإن فيها أنه دخلها أيام هارون الرشيد، وتوفي هارون سنة ثلاث وتسعين ومائة. ودخلته الثانية مصر سنة تسع وتسعين ومائة، فأقام بها إلى أن مات، وأظنه في هذه الثانية ذهب إليها من مكة؛ فإن الحميدي صحبه.
قال محمد بن إدريس الشافعي بمكة: سلوني ما شئتم أجبكم من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فقيل له: أصلحك الله، ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ قال: نعم. بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: " ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ".(21/356)
وعن سفيان بن عيينة بسنده إلى حذيفة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ".
وبسنده عن عمر بن الخطاب أنه أمر المحرم بقتل الزنبور.
زاد البيهقي وغيره في نسب الشافعي المتقدم في بداية الترجمة: ابن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وروى بسنده أن هذا النسب بعينه قرئ في مصر في مقابر بني عبد الحكم في حجر منقور على قبر الشافعي، وزاد فيه: ابن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن نبت بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن.
قال الخطيب بعد أن ساق نسب الشافعي: وقد ولده هاشم بن عبد مناف ثلاث مرار: أم السائب: الشفاء بنت الأرقم بن هاشم بن عبد مناف. أسر السائب يوم بدر كافراً، وكان يشبه بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأم الشفاء بنت الأرقم: خلدة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. وأم عبيد بن عبد يزيد: العجلة بنت عجلان بن البياع بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. وأم عبد يزيد: الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف بن قصي. كان يقال لعبد يزيد: محض لا قذى فيه. وأم هاشم بن المطلب: خديجة بنت سعيد بن سعد بن سهم. وأم هاشم والمطلب وعبد شمس بن عبد مناف: عاتكة بنت مرة السلمية: وأم شافع أم ولد.(21/357)
قال الخطيب: وسمعت القاضي أبا الطيب طاهر بن عبد الله الطبري يقول: شافع بن السائب الذي ينسب إليه الشافعي قد لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مترعرع، وأسلم أبوه السائب يوم بدر؛ فإنه كان صاحب راية بني هاشم، فأسر، وفدى نفسه، ثم أسلم، فقيل له: لم لم تسلم قبل أن تفتدى؟ فقال: ما كنت أحرم المؤمنين طمعاً لهم في. وقال بعض أهل العلم بالنسب: وقد وصف الشافعي أنه شقيق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نسبه، وشريكه في حسبه، لم تنل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طهارة في مولده، وفضيلة في آبائه إلا وهو قسيمه فيها إلى أن افترقا من عبد مناف، فزوج المطلب ابنه هاشماً الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف، فولدت له عبد يزيد جد الشافعي. وكان يقال لعبد يزيد المحض لا قذى فيه، فقد ولد الشافعي الهاشمان: هاشم بن المطلب، وهاشم بن عبد مناف. والشافعي بن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابن عمته؛ لأن المطلب عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأما أم الشافعي فهي أزدية، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الأزد جرثومة العرب ".
ولد الشافعي بغزة من بلاد الشام - وقيل باليمن - ونشأ بمكة، وكتب العلم بها وبمدينة رسول الله، وقدم بغداد مرتين، وخرج إلى مصر فنزلها إلى حين وفاته. وكتاب الشافعي الذي يسمى القديم، هو الذي عند البغداديين خاصة عنه. كان يونس بن عبد الأعلى يقول لا أعلم هاشمياً ولدته هاشمية إلا علي بن أبي طالب ثم الشافعي فأم علي بن أبي طالب فاطمة بنت أسد بن هاشم وأم الشافعي فاطمة بنت عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب وهي التي حملت الشافعي إلى اليمن وأدبته.
قال الراوي: كذا روي عن يونس بن عبد الأعلى، وأغفل الحسن والحسين، وعقيلاً وجعفراً؛ فإن أماهما هاشميتان: فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفاطمة بنت أسد.(21/358)
قال بن عبد الحكم: لم حملت أم الشافعي به رأت كان المشتري خر من فرجها حتى انقض بمصر، ثم وقع في كل بلد منه شظية. فتأول أصحاب الرؤيا أنه يخرج منها عالم يخص علمه أهل مصر، ثم يتفرق في سائر البلدان.
روي عن الشافعي أنه قال: ولدت بغزة سنة خمسين - يعني ومائة - وحملت إلى مكة وأنا ابن سنتين. ولم يكن لي مال، فكنت أطلب العلم في الحداثة أذهب إلى الديوان أستوهب الظهور وأكتب فيها.
قال الحسن بن محمد الزعفراني: قدم علينا الشافعي بغداد سنة خمس وتسعين ومائة، فأقام عندنا سنتين ثم خرج إلى مكة، ثم قدم علينا سنة ثمان وتسعين، وأقام عندنا أشهراً ثم خرج. وكان يخضب بالحناء وكان خفيف العارضين.
قال أبو إبراهيم المزني: ما رأيت وجهاً أحسن من وجه الشافعي، ولا رأيت لحية أحسن من لحيته، وكان ربما قبض عليها فلا تفضل عن قبضته.(21/359)
وقال الشافعي: كنت ألزم الرمي حتى كان الطبيب يقول لي: أخاف أن يصيبك السل من كثرة وقوفك في الحر. قال: وكنت أصيب من عشرة تسعة.
وقال: ولدت باليمن، فخافت أمي علي الضيعة، فقالت: الحق بأهلك، فتكون مثلهم، فإني أخاف أن تغلب على نسبك. فجهزتني إلى مكة، فقدمتها، وأنا يومئذ ابن عشر، أو شبيهاً بذلك، فصرت إلى نسيب لي، وجعلت أطلب العلم، فيقول لي: لا تشتغل بهذا، وأقبل على ما ينفعك. فجعلت لذتي في هذا العلم وطلبه حتى رزقني الله منه ما رزق.
وقال: كنت يتيماً في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام. فلما ختمت القرآن دخلت المسجد، وكنت أجالس العلماء، وأحفظ الحديث، أو المسألة، وكان منزلنا بمكة في شعب الخيف، فكنت أنظر إلى العظم يلوح فآخذه، فأكتب فيه الحديث - أو المسألة - وكانت لنا جرة قديمة، فإذا امتلأ العظم طرحته في الجرة.
فقدم علينا والي اليمن، فكلمه بعض القرشيين في أن أصحبه، ولم يكن عند أمي ما تعطيني أتحمل به، فرهنت دارها على ستة عشر ديناراً، ودفعتها إلي، فتحملت بها مع والي اليمن؛ فلما وصلنا سالمين استعملني على عمل، فحمدت فيه، فزادني عملاً آخر، فحمدت فيه، ودخل العمال مكة، فأحسنوا علي الثناء، وأكثروا من المدح، فلما قدمت مكة لقيت ابن أبي يحيى، فسلمت عليه، فقال لي: تصنعون كذا، أو تفعلون كذا؟! فتركته، ولقيت سفيان بن عيينة، فسلمت عليه، فسلم علي، وقال لي: قد بلغنا خبر(21/360)
ولايتك، وحسن ما انتشر عنك، فأحمد الله، وتمسك بالعلم يرفعك الله به، وينفعك، فكان كلام سفيان أبلغ في مما كلمني به أبي يحيى.
قال: ثم وليت نجران، وكان بها قوم من بني الحارث، وموالي ثقيف، فرفع إلي الناس مظالم كثيرة، فجمعتهم، وقلت لهم: اختاروا لي سبعة منكم، من عدلوه كان عدلاً مرضياً، ومن جرحوه كان مجروحاً قصياً. فاختاروا لي منهم سبعة، فجلست، وأجلست السبعة بالقرب مني، فكلما شهد عندي شاهد بعثت إلى السبعة، فإن عدلوه كان عدلاً، وإن جرحوه كان مجروحاً، فلم أزل أفعل ذلك حتى أتيت على جميع من تظلم إلي، فكنت أكتب وأسجل.
قال: فنظروا إلى حكم جار، فقالوا: أي شيء يعمل؟ إن هذه الأمور التي تحكم علينا فيها ليست لنا، إنما هي في أيدينا لمنصور بن المهدي. فكتبت في أسفل الكتاب: وأقر فلان بن فلان الذي وقع عليه الحكم في هذا الكتاب أن الذي حكمت به عليه ليس له، وإنما هو لمنصور بن المهدي في يديه، ومنصور بن المهدي على حجته ما قام. فلما نظروا إلى ذلك خرجوا إلى مكة، ورفعوا، ولم يزالوا يرفعون علي حتى حملت إلى العراق، فقيل لي: الزم الباب، فقلت: إلى من أجلس، إلى من أختلف؟ وكان محمد بن الحسن جيد المنزلة عند هارون، فجالسته حتى عرفت قوله، ووقعت منه موقعاً، فلما عرفت ذلك كان إذا قام هو ناظرت أصحابه، واحتججت عليه، فقال لي ذات يوم: بلغني يا محمد أنك تخالفنا في الغصب، فقلت: إنما هو من طريق المناظرة، فقال لي: لقد بلغني غير هذا، أفتناظرني؟ قلت: إني أجللك عن المناظرة، قال: لا، فافعل. فلما رأيت ذلك قلت له: هات، ما تقول في رجل اغتصب من رجل ساجة، فبنى عليها بنياناً، فأنفق عليه ألف دينار، فجاء صاحب الساجة، فأتى بشاهدين عدلين أنها ساجته، وأن هذا الرجل غصبه عليها؟ قلت أقول لصاحب الساجة: ترضى بأن تأخذ القيمة؟ فإن رضي دفعت إليه قيمتها، وإن أبى قلعت البنيان من الساجة، ودفعتها إليه. قال: أفليس قد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ضرر، ولا إضرار "؟ قلت له:(21/361)
من أدخل عليه الضرر؟ إنما هو أدخل الضرر على نفسه. فما تقول في رجل اغتصب من رجل خيط إبرسيم، فخاط به بطنه، فجاء صاحب الخيط، فأقام البينة بشاهدين عدلين أن هذا الخيط خيطه، وأنه اغتصبه عليه أكنت تنزع الخيط من بطن هذا، فتدفعه إليه؟ فقلت: لا، قال: الله أكبر، تركت قولك. ثم قال لي أصحابه: قد تركت قولك، فقلت لهم: لا تعجلوا! فال: فما تقول في رجل اغتصب من رجل لوحاً، فأدخله في سفينته، ثم لجج البحر، فأقام صاحب اللوح البينة بشاهدين عدلين أن هذا اللوح لوحه، وأنه غصبه إياه؟ أكنت تنزع اللوح من السفينة، وتدفعه إلى الرجل المحق؟! قلت: لا، قال: الله أكبر، تركت قولك. وقال لأصحابه: تركت قولك. فقلت لهم: مهلاً، لا تعجلوا، ثم قلت له: ما تقول أنت لو كانت الساجة ساجة لم يغصب عليها أحداً، فأراد أن يهدم البنيان الذي أنفق عليه ألف دينار، كان ذلك له مباحاً؟ قال: نعم، قلت: أرأيت لو كان الخيط خيط نفسه، ثم أراد أن ينزعه، أكان له نزع ذلك؟ قال: لا، قالت له: رحمك الله، فلم تقيس على مباح محرماً؟ قال: فكيف تصنع بصاحب اللوح؟ قلت آمره أن يقرب إلى أقرب المراسي إليه، مرسى لا يكون عليه وعلى أصحابه فيه هلكه، ثم أنزع اللوح وأدفعه إلى صاحبه، وأقول لصاحب السفينة: أصلح سفينتك. ثم قلت له: ولكن، ما تقول أنت في رجل اغتصب رجلاً من الزنج جارية، فأولدها أولاداً كلهم قد قرأ القرآن، وخطب على الناس، وقضى بين المسلمين، ثم جاء صاحب الجارية، فأقام البينة بشاهدين عدلين أن هذه الجارية جاريته، وأنه غصبه عليها، وأولدها هؤلاء الأولاد كلهم، بم كنت تحكم بذلك كله؟ قال: كنت أجعلهم رقيقاً له، وأرد الجارية عليه. قلت له: أنشدك الله، أيما أعظم ضرراً أن تجعل أولاده هؤلاء رقيقاً، أم تنزع البنيان من الساجة؟! قال: فبقي ولم يرد علي جواباً. ثم إنه بعد ذلك عرف حقي وموضعي، وقال بفضلي.
وقال الشافعي:
مر بي رجل من بني عمي من الزبيريين، فقال: يا أبا عبد الله، عز علي ألا يكون(21/362)
مع هذه اللغة، وهذه الفصاحة، والذكاء فقه، فتكون قد سدت أهل زمانك، قال: فقلت: ومن بقي يقصد إليه؟ فقال لي: هذا مالك بن أنس، قال: فوقع في قلبي، فعمدت إلى " الموطأ "، فاستعرته من رجل بمكة، فحفظته في تسع ليل ظاهراً، ثم دخلت إلى مالي مكة، فأخذت كتابه إلى والي المدينة، وإلى مالك بن أنس. قال: فقدمت المدينة، وأبلغت الكتاب إلى الوالي. فلما أن قرأه قال: والله يا فتى، أن أمشي من جوف المدينة إلى جوف مكة حافياً راجلاً أهون علي من المشي إلى باب مالك بن أنس، فإني لست أرى الذل حتى أقف على بابه، فقلت: أصلح الله الأمير، إن رأى الأمير أن يوجه إليه ليحضر، فقال، هيهات، ليتني إذا ركبت أنا معك، ومن معي، وأصابنا من تراب العقيق نلنا حاجتنا. قال: فواعدته العصر، وركبنا جميعاً، فوالله لقد كان كما قال. فتقدم رجل، فقرع الباب، فخرجت إلينا جارية سوداء، فقال لها الأمير: قولي لمولاك: إني بالباب. فدخلت، فأبطأت، ثم خرجت، فقالت: إن مولاي يقرئك السلام، ويقول: أن كانت مسألة فادفعها لي في رقعة يخرج إليك الجواب، وإن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس، فانصرف. فقال لها: قولي له: معي كتاب والي مكة إليه في حاجة مهمة. قال: فدخلت ثم خرجت، وفي يدها كرسي، فوضعته، ثم إذا أنا بمالك قد خرج وعليه المهابة والوقار، وهو شيخ طوال مسنون اللحية. فجلس، فدفع الوالي الكتاب، فقرأه، حتى إذا بلغ إلى مكان: هذا رجل من أمره وحاله، فتحدثه، وتفعل، وتصنع، رمى بالكتاب من يده، ثم قال: يا سبحان الله، أوصار علم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤخذ بالوسائل؟! قال: فرأيت الوالي وقد تهيبه أن يكلمه. فتقدمت إليه، فقلت له: أصلحك الله، إني رجل مطلبي، ومن حالي، ومن قصتي. فلما أن سمع كلامي نظر إلي ساعة، وكان لمالك فراسة، فقال لي: ما اسمك؟ فقلت: محمد، فقال لي: يا محمد، اتق الله، واجتنب المعاصي؛ فإنه سيكون لك شأن من الشأن، ثم قال، نعم، وكرامة، إذا كان غداً تجيء، ويجيء من يقرأ لك الموطأ. قال: فقلت: إني أقوم بالقراءة. قال: فغدوت عليه، وابتدأت أن أقرأه ظاهراً والكتاب في يدي، فكلما تهيبت مالكاً وأريد أن أقطع القراءة أعجبه حسن قراءتي وإعرابي يقول لي: بالله يا فتى زد، حتى(21/363)
قرأته في أيام يسيرة، ثم أقمت بالمدينة حتى توفي مالك بن أنس، ثم خرجت إلى اليمن، وأقمت بها، وارتفع لي بها شأن الشأن.
وكتب والي هارون الرشيد: إن هاهنا سبعة من العلوية قد تحركوا، فإني أخاف أن يخرجوا، وهاهنا رجل من ولد شافع بن المطلب لا أمر لي معه ولا نهي، فكتب إليه هارون الرشيد: أن أحمل هؤلاء، وأحمل الشافعي معهم، فاقترنت معهم، فلما أن قدمنا على هارون، وعنده محمد بن الحسن، دعا هارون بالنطع والسيف يضرب رقاب العلوية، فالتفت محمد بن الحسن، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا المطلبي لا يغلبنك بفصاحته ولسانه، فإنه رجل لسن. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، فإنك الداعي وأنا المجيب الدعاء إنك القادر على ما تريد مني، ولست القادر على ما أريد منك، يا أمير المؤمنين، ما تقول في رجلين: أحدهما يراني أخاه، والآخر يراني عبده أيما أحب إلي؟ قال: الذي يراك أخاه، قال: قلت: فذاك أنت، يا أمير المؤمنين، فقال لي: كيف ذلك؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إنكم ولد العباس، ونحن بنو المطلب، تروننا إخوانكم، وولد علي يروننا عبيدهم، قال: فسري ما كان به، واستوى جالساً، وقال: يا بن إدريس، كيف علمك بالقرآن؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، عن أي علومه تسألني؟ عن حفظه فقد حفظته، ووعيته بين جنبي، وعرفت وقفه وابتداءه، وعدد مكيه ومدنيه، وكوفيه وبصريه، وقد عرفت ناسخه ومنسوخه، وليليه ونهاريه، ووحشيه وأنسيه، وسهليه وجبليه، وما خوطب به العام يراد به الخاص، وما خوطب به الخاص يراد به العام. فقال لي: والله يا ابن إدريس، لقد ادعيت " علماً "، فكيف علمك بالنجوم؟ فقلت: إني لأعرف منها البري والبحري، والسهلي والجبلي، وما تجب معرفته. قال: فكيف علمك بأنساب العرب؟ فقلت: غني لأعرف أنساب اللئام وأنساب الكرام، ونسبي ونسب أمير المؤمنين، فقال: والله لقد ادعيت علما، فهل من موعظة تعظ بها أمير المؤمنين؟ قال: فذكرت موعظة لطاوس اليماني، فوعظته بها، فبكى، ثم أمر لي بخمسين ألفاً، وحملت على فرس، وركبت بين يديه، وخرجت فما وصلت الباب حتى فرقت الخمسين ألفاً على حجبة أمير المؤمنين وبوابيه، وجئت إلى منزلي، فوجهت إلى كاتب محمد بن الحسن بمائة دينار، وقلت له: اجمع لي الوراقين الليلة على كتب محمد بن الحسن، وانسخها لي، ووجه بها إلي. فكتبت لي في ليلة، ووجه بها إلي.(21/364)
وكان موضع يجتمع فيه القضاة والأشراف ووجوه الناس على باب هارون يجلسون فيه إلى أن يؤذن لهم. فاجتمعنا في ذلك المكان، وفي جماعة من بني هاشم وقريش والأنصار - قال: والخلق يعظمون محمد بن الحسن لقربه من أمير المؤمنين، وتمكنه منه - فاندفع يعرض بي، ويذم أهل المدينة، فقال: من أهل المدينة؟ وأيش يحسنون - أهل المدينة؟ - والله لقد وضعت كتاباً على أهل المدينة كلها، لا يخالفني فيه أحد، ولو علمت أن أحد يخالفني في كتابي هذا، تبلغني إليه الرواحل لصرت إليه حتى أرد عليه. قال الشافعي: فقلت في نفسي: إن أنا سكت نكست رؤوس من هاهنا من بني هاشم وقريش، وإن أنا رددت عليه أسخطت علي السلطان. ثم إني استخرت الله تعالى في الرد عليه، فتقدمت إليه، فقلت له: أصلحك الله، طعنك على أهل المدينة، وذمك لأهل المدينة؛ إن كنت أردت رجلاً واحداً، وهو مالك بن أنس فألا ذكرت ذلك الرجل بعينه، ولم تطعن وتذم أهل حرم الله وحرم رسوله، وكلهم على خلاف ما ادعيته؟ وأما كتابك الذي ذكرت أنك وضعته على أهل المدينة فكتابك من " بسم الله الرحمن الرحيم " خطأ إلى آخره. فاصفر محمد بن الحسن ولم يحر جواباً. وكتب أصحاب الأخبار إلى هارون بما كان، فضحك وقال: ماذا ينكر لرجل من ولد المطلب أن يقطع مثل محمد بن الحسن؟ قال: فعارضني رجل في المجلس من أصحابه، فقال لي: ما تقول في رجل دخل إلى منزل رجل، فرأى بطة، فرماها، ففقأ عينها، ماذا يجب عليه؟ قال: قلت: ينظر إلى قيمتها وهي صحيحة، وقيمتها وقد ذهبت عينها فيقوم ما بين القيمتين، ولكن ما تقول أنت وصاحبك في محرم نظر إلى فرج امرأة..قال: ولم يكن لمحمد حذاقة في المناسك، فصاح به محمد: ألم أقل لك لا تسأله!
ثم إنا دخلنا على هارون، فلما استوينا بين يديه قال لي: يا أبا عبد الله، تسأل أو أسألك؟ قلت: ذاك إليك، فقال: خبرني عن صلاة الخوف، أواجبة هي؟ فقلت: نعم، فقال: ولم؟ فقلت: لقول الله: " وإذا كنت فيهم، فأقمت لهم الصلاة.. " الآية. قال: ما تنكر من قائل قال لك: إنما أمر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو فيهم،(21/365)
فلما زال عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زالت عنهم تلك الصلاة. قلت: وكذلك قال الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خذ من أموالهم صدقة.. " الآية فلما أن زال عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زالت عنهم الصدقة؟ قال: لا، قلت: وما الفرق بينهما، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المأمور فيهما جميعاً؟ فسكت.
فقال: يا أهل المدينة، ما أجرأكم على كتاب الله - عز وجل -! فقلت: أجرؤنا على كتاب الله من يخالفه، فقال لي: الله يقول: " وأشهدوا ذوي عدل منكم "، فقلتم أنتم نقضي باليمين مع الشاهد. فقلت: لكنا نقول بما قال الله، ونقضي بما قضى به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنك أنت خالفت قضاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فأين؟ قلت: في قصة حويصة ومحيصة وعبد الرحمن حين قال لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قضية القتيل: " أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ " قالوا: لم نشهد، ولم نعاين، قال: فتحلف لكم يهود "، فلم نكلوا عن اليمين رد اليمين على اليهود. قال: فقال: إنما كان ذلك استفهاماً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، استفهم من اليهود. فقال هارون: ثكلتك أمك يا بن الحسن، رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفهم من اليهود!؟ نطع وسيف! قال: فلما رأيت الجد من هارون قلت: يا أمير المؤمنين، إن الخصمين إذا اجتمعا تكلم كل واحد منهما بما لا يعتقده ليقطع به صاحبه، وما أرى محمداً أراد بهذا نقصاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسريت عنه. ثم ركبنا، وخرجنا من الدار، فقال لي: يا أبا عبد الله، فعلتها؟ قال: قلت: فكيف رأيتها بعد ذلك؟ قال الشافعي: حدثنا إسماعيل بن قسطنطين، قال: قرأت على شبل، وأخبر شبل أنه قرأ على عبد الله بن كثير، وأخبر عبد الله بن كثير(21/366)
أنه قرأ على مجاهد، وأخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عباس، وأخبر عباس أنه قرأ على أبي، وقال ابن عباس: وقرأ أبي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الشافعي: وقرأت على إسماعيل بن قسطنطين، وكان يقول: القران اسم، وليس بمهموز، ولم يؤخذ من " قرأت "، ولو أخذ من " قرأت " كان كل ما قرئ قرآناً، ولكنه اسم للقرآن مثل التوراة والإنجيل، يهمز قرأت، ولا يهمز القران.
وقال الشافعي: حفظت " القرآن " وأنا ابن سبع سنين، وحفظت " الموطأ " وأنا ابن عشر سنين.
قال أبو عبيد: رأيت الشافعي عند محمد بن الحسن، وقد دفع إليه خمسين ديناراً، وقد كان دفع إليه قبل هذا خمسين درهماً، وقال: إن اشتهيت العلم فالزم. ثم دفع إليه هذه الدنانير، ولزمه الشافعي.
وقال الشافعي: كتبت عن محمد بن الحسن وقر بعير. وسمع وهو يقول لمحمد بن الحسن - وقدم إليه الدنانير بعد الخمسين درهماً، وقال له: لا تحتشم، فقال: - ما أنت عندي في موضع أحتشمك. وجرى ذكر الشراب، فقال الشافعي: الحمد لله، لو علمت أن الماء البارد يضر مروءتي في ديني لما شربت إلا الماء الحار حتى ألقى الله، ولو كنت عندي ممن أحتشمك ما قبلت برك.(21/367)
وقال: أنفقت على كتب محمد بن الحسن ستين ديناراً، ثم تدبرتها، فوضعت إلى جنب كل مسالة حديثاً - يعني: رداً عليه.
ويروى عن الشافعي أنه قال: أقمت في بطون العرب عشرين سنة آخذ أشعارها ولغاتها، وحفظت القرآن، فما علمت أنه مر بي حرف إلا وقد علمت المعنى فيه والمراد ما خلا حرفين، أحدهما " دساها ".
قال مصعب بن عبد الله الزبيري: قرأت على الشافعي أسعار هذيل حفظاً، ثم قال لي: لا تخبر بهذا أهل الحديث؛ فإنهم لا يحتملون هذا. قال مصعب: وكان الشافعي يسمر مع أبي من أول الليل حتى الصباح، ولا ينامان. قال وكان الشافعي في ابتداء أمره يطلب الشع وأيام الناس والأدب ثم أخذ في الفقه بعد، قال: وكان سبب أخذه في الفقه أنه كان يوماً يسير على دابة، وخافه كاتب لأبي، فتمثل الشافعي ببيت شعر، فقرعه كاتب أبي بسوطه، ثم قال له: مثلك " يذهب " بمروءته في مثل هذا؟! أين أنت من الفقه؟! فهزه ذلك، فقصد لمجالسة الزنجي بن خالد مفتي مكة، ثم قدم علينا، فلزم مالك بن أنس.
قال الشافعي: رأيت علي بن أبي طالب في النوم، فسلم علي، وصافحني، وخلع خاتمه، فجعله في إصبعي. وكان لي عم، ففسرها لي، فقال لي: أما مصافحتك لعلي فأمان من العذاب، وأما خلع خاتمه، فجعله في إصبعك فسيبلغ اسمك ما بلغ اسم علي في الشرق والغرب.(21/368)
قال الربيع بن سليمان: والله لقد فشا ذكر الشافعي في الناس بالعلم كما فشا ذكر علي بن أبي طالب. وقال: لو وزن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض لرجح بهم، ولو كان في بني إسرائيل احتاجوا إليه.
قال أبو عبد الله الزبيري: جاءني رجل من أهل البصرة، يقال له: أبو محمد القرشي من أهل الستر والصلاح فقال لي: يا أبا عبد الله، أخبرك رؤيا تسر به؟ فقلت: هات، فقال لي: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم، وعنده أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - رضي الله عنهم - إذ جاءه أربعة نفر، فقربهم، فتعجبت من تقريبه لهم. فسألت من بحضرته عن النفر، فقال لي: هذا مالك، وأحمد، وإسحاق، والشافعي. فرأيت كأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيد مالك وأجلسه بجنب أبي بكر الصديق، وأخذ بيد أحمد فأجلسه بجنب عمر، وأخذ بيد إسحاق فأجلسه بجنب عثمان، وأخذ بيد الشافعي وأجلسه بجنب علي.
قال أبو عبد الله الزبيري: فسألت بعض العلماء بالتعبير عن ذلك؟ فقال لي: أجلس مالك بجنب أبي بكر، كأن منزلة مالك في العلماء كمنزلة أبي بكر في الصحابة، ومنزلة أحمد في الفقهاء كمنزلة عمر في صلابته؛ لأنه لم يتكلم في القرآن إلا بحق، ومنزلة إسحاق في العلماء كمنزلة عثمان في الصحابة؛ لقي عثمان الفتن والمحن، كذلك لقي إسحاق في بلده من أهل الإرجاء بما فارق به بلده. ومنزلة الشافعي في العلماء كمنزلة علي في الصحابة؛ فإنه كان أعلمهم، وأفضلهم، وأقضاهم. وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أقضاكم علي "، كذلك الشافعي كان أعلم العلماء في الفقه والقضاء.
قال هارون بن سعيد الأيلي: قال لنا الشافعي: أخذت اللبان سنة للحفظ، فأعقبني صب الدم سنة.(21/369)
قال عمرو بن العباس: قيل لعبد الرحمن بن مهدي: إن الشافعي لا يورث المرتد. فقال عبد الرحمن: إن الشافعي شاب معهم، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يتوارث أهل ملتين ".
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت قط رجلاً أعقل، ولا أروع، ولا أفصح من الشافعي.
وقال يونس بن عبد الأعلى: لو جمعت أمة فجعلت في عقل الشافعي لوسعهم عقله. وقال: ناظرت الشافعي يوماًُ في مسالة، ثم افترقنا. ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال لي: يا أبا موسى، لا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟ قال معمر بن شبيب: سمعت المأمون يقول: قد امتحنت محمد بن إدريس في كل شيء فوجدته كاملاً، وقد بقيت خصلة، هو أن أسقيه من النبيذ ما يغلب على الرجل الجيد الشراب. قال: فحدثني ثابت الخادم وقد دعا به، فأعطاه رطلاً، فقال: اشرب يا محمد، فقال: يا أمير المؤمنين، ما شربته قط. قال: عزمت لتشربن. فشربه. ثم والى عليه بالأرطال حتى سقاه عشرين رطلاً، فما تغير، ولا زال عن حجته.
قال الشافعي:
حضرت مالك بن أنس، وأنا أسمع منه الحديث، ولي دون الأربع عشرة سنة.(21/370)
فجاءه رجل، فوقف عليه، ثم قال له: إني رجل أبيع القماري، فبعت قمرياً على هذا، فرده إلي، فقال: ماله صوت، فحلفت بالطلاق أنه لا يسكت. فقال: أوسكت؟ قلت: نعم، قال: أنت حانث. قال الشافعي: فتبعته، فقلت له: يا رجل كيف حلفت؟ قال: حلفت بما سمعت، قال: فقلت له: صياحه أكثر أم سكوته؟ فقال: صياحه، فقلت: مر، فإن امرأتك لك حلال، قال: فماذا أصنع، وقد أفتاني مالك بما أفتى؟ فقال: عد إليه، فقل له: إن في مجلسك من أفتاني بأن امرأتي هي لي حلال، وأومئ إلي، ودعني وإياه. فرجع ورجعت، وجلست فيما بين الناس. فقال له: إني رأيت أن تنظر في يميني، قال: أليس قد أفتيناك بأنك حانث؟! فقال: في مجلسك من أفتاني بأن امرأتي هي حلال لي، قال: أفي مجلسي؟ قال: نعم، قال: ومن هو؟! فأومأ إلي. فقال لي مالك: أنت أفتيته بذلك؟ قلت: نعم، قال: ولماذا أفتيته بذلك؟ فقلت له: سمعتك تروي عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لفاطمة بنت قيس: " إذا حللت فآذنيني ". فلما حلت قالت له: قد خطبني معاوية، وأبو جهم، فقال: " أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه "، وعلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أبا جهم يضع عصاه عن عاتقه ويتصرف في أموره فإنما نسب إلى ضرب النساء فذكر أنه لا يضع عصاه على عاتقه، وحمله على الأغلب من أمره، وإني سألته وقلت: سكونه أكثر أم صياحه؟ فقال: صياحه، فأفتيته بذلك. قال: فتبسم مالك، وقال: القول قولك.
قال سفيان بن عيينة للشافعي: يا أبا عبد الله، ما معنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أقروا الطير في مكانها ".(21/371)
فقال له: يا أبا محمد، كان الرجل من العرب إذا أراد سفراً أخذ معه طيراً، فإن أخذا لطير ذات اليمين مضى في سفره، وإن أخذ ذات الشمال رجع. وكان ابن عيينة قبل أن يسمع من الشافعي إذا سئل أجاب على صيد الليل. قال: فرجع سفيان إلى تأويل الشافعي.
عن إبراهيم بن محمد الشافعي قال: كنا في مجلس ابن عيينة والشافعي حاضر، فحدث ابن عيينة بسنده أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر به رجل في بعض الليل، وهو مع امرأته صفية، فقال: " تعال، هذه امرأتي صفية! " فقال: سبحان الله يا رسول الله! قال: " إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ". فقال ابن عيينة للشافعي: ما فقه هذا الحديث يا أبا عبد الله؟ قال: إن كان القوم اتهموا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا بتهمتهم إياه كفاراً، لكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدب من بعده، فقال: إذا كنتم هكذا ففعلوا هكذا حتى لا يظن بكم ظن السوء، لا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتهم، وهو أمين الله في أرضه. فقال ابن عيينة: جزاك الله خيراً يا أبا عبد الله، ما يجيئنا منك إلا كل ما نحبه.
وكان سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير والفتيا يسأل عنها التفت إلى الشافعي، فيقول: سلوا هذا.
قال عبد الله بن الزبير الحميدي: قال مسلم بن خالد الزنجي للشافعي: يا أبا عبد الله. أفت الناس، أن لك والله أن تفتي. وهو ابن دون عشرين سنة.
قال الربيع بن سليمان: كان الشافعي يفتي وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان يحيي الليل إلى أن مات.(21/372)
قال أحمد بن محمد الشافعي: كانت الحلقة في الفتيا بمكة في المسجد الحرام لابن عباس، وبعد ابن عباس لعطاء بن أبي رباح، وبعد عطاء لعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وبعد ابن جريج لمسلم بن خالد الزنجي، وبعد مسلم لسعيد بن سالم القداح، وبعد سعيد لمحمد بن إدريس الشافعي، وهو شاب.
قال الشافعي: لأن يلقى الله المرء بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء. وذلك أنه رأى قوماً يتجادلون في القدر بين يديه، فقال الشافعي: في كتاب الله: المشيئة له دون خلقه، والمشيئة إرادة الله، يقول الله تعالى: " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله "، فأعلم - عز وجل - خلقه أن المشيئة له، وكان يثبت القدر.
وكان الشافعي بعد أن ناظر حفصاً الفرد يكره الكلام، وكان يقول: لأن يفتي العالم، فيقال: أخطأ العالم خير له من أن يتكلم، فيقال: زنديق، وما شيء أبغض إلي من الكلام وأهله.
وقال ليلة للحميدي: ما يحتج عليهم - يعني أهل الإرجاء - بآية أحج من قوله تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ".
قال إسماعيل بن يحيى المزني: أنشدني الشافعي من قيله: " من الطويل "
شهدت بأن الله لا شيء غيره ... وأشهد أن البعث حق وأخلص(21/373)
وأن عرى الإيمان قول مبين ... وفعل زكي قد يزيد وينقص
وأن أبا بكر خليفة ربه ... وكان أبو حفص على الخير يحرص
وأشهد ربي أن عثمان فاضل ... وأن علياً فضله متخصص
أئمة قوم يقتدى بهداهم ... لحا الله من إياهم يتنقص
قال الربيع بن سليمان: لما كلم الشافعي حفص الفرد، فقال حفص: القرآن مخلوق، فقال له الشافعي: كفرت بالله العظيم.
وقال: سمعت الشافعي يقول: من حلف باسم من أسماء الله، فحنث، فعليه الكفارة؛ لأن اسم الله غير مخلوق، ومن حلف بالكعبة، أو بالصفا والمروة فليس عليه الكفارة، لأنه مخلوق، وذلك غير مخلوق.
عن علي بن سهل الرملي قال: سألت الشافعي عن القرآن، فقال لي: كلام الله غير مخلوق. قلت: فمن قال بالمخلوق، فما هو عندك؟ قال لي: كافر. وقال: ما لقيت أحداً منهم - يعني من أستاذيه - إلا قال: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر.
قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول في قول الله تعالى: " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون "؛ علمنا بذلك أن قوماً غير محجوبين، ينظرون إليه، لا يضامون في رؤيته، كما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " ترون ربكم يوم القيامة كما ترون الشمس، لا تضامون في رؤيتها ".(21/374)
وأنشدوا للشافعي: " من المتقارب "
ما شئت كان وإن لم أشأ ... وما شئت إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن
فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن
على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تعن
عن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: أفضل الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
وقال حرملة بن يحيى: سمعت الشافعي يقول: الخلفاء خمسة، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز.
قال الحسن بن محمد الزعفراني: قال الشافعي: إذا حضر الرافضي الوقعة وغنموا لم يعط من الفيء شيئاً؛ لأن الله ذكر آية الفيء، ثم قال فيها: " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنل ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم "، فمن لم يقل بهذا لم يستحق.
قال الربيع: خرجنا من الشافعي من مكة نريد منى، فلم ينزل وادياً، ولم ينزل شعباً إلا وهو يقول: " من الكامل "
يا راكباً قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفها والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضاً كملتطم الفرات الفائض(21/375)
إن كان رافضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
قال عمارة بن زيد المدني:
كنت صديقاً لمحمد بن الحسن، فدخلت معه إلى الرشيد، فسأله عن أحواله، فقال: في خير يا أمير المؤمنين، ثم تسارا، فسمعت محمد بن الحسن يقول: إن محمد بن إدريس الشافعي يزعم أنه للخلافة أهل. قال فغضب الرشيد، وقال: علي به. فأتي به، فأتي به حتى وقف بين يدي الرشيد، فكره الرشيد أن يعجل عليه من غير امتحان، فقال له: هيه؟ قال: وما هيه يا أمير المؤمنين، أنت الداعي، وأنا المدعو. وأنت السائل وأنا المجيب. قال: فكيف علمك بكتاب الله؟ فإنه أولى أن يبتدأ به؟ قال: جمعه الله في صدري، وجعل جنبي دفتيه. قال: فكيف علمك به؟ قال: أي علم تريد، يا أمير المؤمنين، أعلم تأويله، أم علم تنزيله؟ أم مكيه أم مدنيه؟ أم ليليه، أم نهاريه؟ أم سفريه، أم حضريه؟ أم هجريه، أم عربيه..فقال: له الرشيد: لقد ادعيت من علوم القرآن أمراً عظيماً، فكيف علمك في الأحكام؟ قال: أفي الفتاوى، أم في الطلاق، أم في القضايا، أم في الأشربة، أم في المحاربات، أم في الديات؟ قال: فكيف علمك بالطب؟ قال: أعرف منه ما قالت الروم وبابل وبقراط، فقال: فكيف علمك بالنجوم؟ قال: أعرف منه القطب الدائر والمائي والنهاري..قال: فكيف علمك بالشعر؟ قال: أعرف الشاذ منه، وما نبه للمكارم. قال: فكيف علمك بأنساب العرب؟ قال: أعرف أنساب الكرام، وفيها نسب أمير المؤمنين ونسبي. فقال له الرشيد: لقد ادعيت من العلوم أمراً عظيماً تطول به المحنة، فعظ أمير المؤمنين موعظة تبين له فيها كل ما ذكرت. قال: نعم، يا أمير المؤمنين؛ على رفع الحشمة، وترك الهيبة، وقبول النصح، وإلقاء رداء الكبر عن منكبيك؟ قال: لك ذلك. قال: فجثا الشافعي على ركبتيه ثم نادى: يا ذا الرجل، إنه من أطال عنان الأمن في العزة طوى عذر الحذر في المهلة، ومن لم يعدل على طريق النجاة كان بجانب قلة الاكتراث بالمرجع إلى الله مقيماً، ومن أحسن الظن كان في أمنة المحذور في مثل نسج العنكبوت، لا يأمن عليها نفسه.
فبكى الرشيد بكاء شديداً حتى بل منديلاً كان بين يديه، فقال له خاصة من يقوم على رأسه: اسكت، فقد أبكيت عيني أمير المومنين! فالتفت إليهم، فقال: يا عبيد(21/376)
الرجعة، والذين باعوا أنفسهم من محبوب الدنيا، أما رأيتم ما استدرج به من كان قبلكم من الأمم بالإمارة؟ أما ترون كيف فضح مستورهم، وأمطر بواكر الهوان عليهم بتبديل سرورهم؟ فأصبحوا بعد خفض عيشهم، ولين رفاهيتهم في روح بين حصاد النعم، ومدارج المثلات. فقال له الرشيد: قدك، قد سللت علينا لسانك، وهو أمضى سيفيك! قال: هو لك إن قبلت لا عليك. قال: فهل من حاجة خاصة بعد العامة؟ قال: بعد بذل مكنون النصيحة، وتجريد الموعظة؟! أتأمرني أن أسود وجه موعظتي بالمسألة؟ والتفت الرشيد إلى محمد بن الحسن، فقال: ناظره بين يدي حتى أكون فاصلاً بينكما، فإن اختلفتما في فرع رجعتما إلى الأصل. قال: فالتفت محمد بن الحسن، فقال: يا شافعي، ما تقول في رجل تزوج بامرأة، ودخل بها، وتزوج بالثانية، ولم يدخل بها، وتزوج بالثالثة، ودخل بها، وتزوج بالرابعة ولم يدخل بها. أصاب الثانية أم الأولى، وأصاب الثالثة عمة الرابعة. فقال الشافعي: ينزل عن الثانية والرابعة من غير أن يلزمه شيء، ويتمسك بالأولى والثالثة. قال: ما حجتك؟ قال الشافعي: أما الثانية فإن الله - عز وجل - يقول: " فإن لم تكونوا دخلتم بهن، فلا جناح عليكم ". وأما الرابعة فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يتزوج الرجل المرأة على عمتها أو خالتها. ما تقول أنت يا محمد؟ كيف استقبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القبلة يوم النحر وكبر؟ قال: فتعتع محمد بن الحسن. فقال الشافعي: يسألني عن الأحكام فأجيبه، وأسأله عن سنة من سنن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحتاج إليها الصادر والوارد فلا يجيبني، أفمن الإنصاف هذا؟ فتبسم الرشيد، وأمر للشافعي بعشرة آلاف دينار، فخرج الشافعي، ففرقه على باب داره، وانصرف مكرماً قال الأصمعي: رأيت أمير المؤمنين المأمون سنة أربع عشرة ومائتين يقول: لقد خص الله تعالى محمد بن إدريس الشافعي بالورع والعلم والفصاحة والأدب والصلاح والديانة، لقد سمعت أبي هارون يتوسل إلى الله به والشافعي حي يرزق.(21/377)
عن أبي ثور قال:
كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتاباً فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له " كتاب الرسالة ".
قال عبد الرحمن بن مهدي: لما نظرت في " كتاب الرسالة " لمحمد بن إدريس أذهلني؛ لأنني رأيت كلام رجل عاقل فقيه ناصح، وإني لأكثر الدعاء له. وقال يحيى بن سعيد القطان مثل قول عبد الرحمن بن مهدي.
عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تسبوا قريشاً؛ فإن عالمها يملأ الأرض علماً. اللهم إنك أذقت أولها عذاباً - أو وبالاً - فأذق آخرها نوالاً ".
عن أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " اللهم اهد قريشاً؛ فإن عالمها يملأ طباق الأرض علماً، اللهم كما أذقتهم عذاباً فأذقهم نوالاً - دعا بها ثلاث مرات:.
قال عبد الملك بن محمد: في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإن عالمها يملأ الأرض علماً، ويملأ طباق الأرض "، علامة بينة للمميز أن المراد بذلك رجل من علماء هذه الأمة من قريش، قد ظهر علمه، وانتشر في البلاد، وكتبوا تآليفه كما تكتب المصاحف، واستظهروا أقواله، وهذه صفة لا نعلمها قد أحاطت إلا بالشافعي، إذ كان كل واحد من قريش من علماء الصحابة والتابعين ومن(21/378)
بعدهم، وإن كان علمه قد ظهر وانتشر فإنه لم يبلغ مبلغاً يقع تأويل هذه الرواية عليه، إذ كان لكل واحد منهم نتف وقطع من العلم، ومسألات، وليس في كل بلد من بلاد المسلمين مدرس ومفت ومصنف يصنف على مذهب قرشي إلا على مذهبه، فعلم أنه بعينه لا غيره، وهو الذي شرح الأصول والفروع، وازدادت على مر الأيام حسناً وبياناً.
قال أبو حسان الزيادي: كنت في دهليز محمد بن الحسن يوماً، وقد ركب محمد، فجاء الشافعي، قال: فلما نظر محمد إلى الشافعي ثنى رجله فنزل، ثم قال لغلامه: اذهب فاعتذر. قال: فقال له الشافعي: لنا وقت غير ذا. قال فأخذ بيده، فدخلا الدار.
قال أبو حسان: فاختار مجالسته للشافعي على مرتبته في الدار.
قال الشافعي: كان محمد بن الحسن يقرأ علي جزءاً، فإذا جاء أصحابه قرأ عليهم أوراقاً. فقالوا له: إذا جاء هذا الحجازي قرأت عليه جزءاً، وإذا جئنا قرأت علينا أوراقاً!؟ فقال: اسكتوا، إن تابعكم هذا لم يثبت لكم أحد.
قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: لقيني أحمد بن حنبل بمكة، فقال: تعال حتى أريك رجلاً لم ترى عيناك مثله. فأراني الشافعي. وذهبت أنا وأحمد بن حنبل إلى الشافعي بمكة، فسألته عن أشياء، فرأيته رجلاً فصيحاً حسن الأدب، فلما فارقناه أعلمني جماعة من أهل الفهم بالقرآن أنه كان أعلم الناس في زمانه بمعاني القرآن، وأنه قد كان أوتي فهماً في القراءات.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: كان أبي يصف الشافعي، فيطنب في وصفه، وقد كتب أبي عنه حديثاً صالحاً، وكتب من كتبه بخطه بعد موته أحاديث عدة مما سمعه من الشافعي - رحمه الله.
قال محمد بن الفضل البزاز: سمعت أبي يقول: حججت مع أحمد بن حنبل، ونزلت في مكان واحد معه - أو في الدار، يعني بمكة -(21/379)
وخرج أبو عبد الله باكراً، وخرجت أنا بعده. فلما صليت الصبح درت المسجد، فجئت مجلس سفيان بن عيينة، فكنت أدور مجلساً مجلساً طلباً لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - حتى وجدته عند شاب أعرابي، وعليه ثياب مصبوغة، وعلى رأسه جمة. فزاحمت حتى قعدت عند أحمد بن حنبل، فقلت: يا أبا عبد الله، تركت ابن عيينة وعنده الزهري، وعمرو بن دينار، وزياد بن علاقة، ومن التابعين ما الله به عليم! فقال لي: اسكت، فإن فاتك حديث بعلو تجده بنزول، ولا يضرك في دينك، ولا في عقلك، أو في فهمك. وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف ألا تجده إلى يوم القيامة؛ ما رأيت أحداً أفقه في دين الله من هذا الفتى القرشي. قلت: من هذا؟! قال: محمد بن إدريس الشافعي.
وقال: ما رأيت مثل محمد بن إدريس الشافعي، ولا ترى، إني لأدعو الله له في سجودي أكثر مما أدعو الله لأبوي. كان الفقهاء أطباء، والمحدثون صيادلة، فجاء محمد بن إدريس الشافعي طبيباً صيدلانياً.
قال أبو ثور: ما رأينا مثل الشافعي، ولا أرى مثل نفسه. سأله رجل عن الرياء ما هو؟ فقال له مسرعاً: الرياء فتنة عقدها الهوى حيال أبصار قلوب العلماء، فنظروا إليها بسوء اختبار النفوس فأحبطت الأعمال.
وقال: من زعم أنه رأى مثل محمد بن إدريس الشافعي في علمه، وفصاحته، ومعرفته، وثباته - وفي رواية: وبيانه - وتمكنه فقد كذب. كان محمد بن إدريس الشافعي منقطع القرين في حياته، فلما مضى لسبيله لم يعتض منه.
قال محمد بن عبد الله بن الحكم: ما أحد ممن خالفنا - يعني خالف مالكاً - أحب إلي من الشافعي.
وقال: ما رأينا مثل الشافعي؛ كان أصحاب الحديث ونقاده يجيئون إليه، فيعرضون عليه، فربما أعل نقد النقاد منهم، ويوقفهم على غوامض من علل الحديث لم(21/380)
يقفوا عليها، فيقومون وهم يتعجبون منه. ويأتيه أصحاب الفقه المخالفون والموافقون، فلا يقومون إلا وهم مذعنون له بالحذق والدراية، ويجيء أصحاب الأدب فيقرؤن عليه الشعر، فيفسره. ولقد كان يحفظ عشرة آلاف بيت شعر من أشعار هذيل بإعرابها، وغريبها، ومعانيها. وكان من أضبط الناس للتاريخ، وكان يعينه على ذلك شيئان: وفور عقل، وصحة دين. وكان ملاك أمره إخلاص العمل لله.
قال عبد الله بن محمد البلوي: جلسنا ذات يوم نتذاكر الزهاد والعباد والعلماء، وما بلغ من فصاحتهم وزهدهم وعلمهم. فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا عمر بن بنانة، فقال: فيم تتحاورون؟ قلنا: نتذاكر الزهاد والعباد وفصاحتهم، فقال عمر: والله ما رأيت رجل قط أورع، ولا أخشع، ولا أفصح، ولا أصبح، ولا أسمح، ولا أعلم، ولا أكرم، ولا أجمل ولا أنبل ولا أفضل من محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - خرجت أنا وهو، والحارث بن لبيد إلى الصفا، وكان الحارث بن لبيد قد صحب صالحاً المري، وكان من الخاشعين المتقين الزاهدين. وكان حسن الصوت بالقرآن، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم " هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين. فإن كان لكم كيد فكيدون. ويل يومئذ للمكذبين ". قال: فرأيت الشافعي قد اضطرب وتغير لونه، وبكى بكاء شديداً حتى لصق بالأرض. قال: فأبكاني والله قلقه، وشدة خوفه الله - عز وجل - ثم لم يلبث أن قال: إلهي، أعوذ بك من مقام الكذابين، وإعلام الغافلين. إلهي، خشعت لك قلوب العارفين. وولهت بك همم المشتاقين، فهب لي من جودك، وجللني بسترك، واعف عني بكرم وجهك يا كريم.
عن أبي بكر بن الجنيد قال: حج بشر المريسي، فرجع، فقال لأصحابه: رأيت شاباً من قريش بمكة، ما أخاف على مذهبنا إلا منه - يعني الشافعي.(21/381)
وعن الحسن بن الزعفراني قال: حج بشر المريسي سنة إلى مكة، ثم قدم، فقال: لقد رأيت بالحجاز رجلاً ما رأيت مثله سائلاً، ولا مجيباً - يعني الشافعي - فقدم الشافعي علينا بعد ذلك بغداد، فاجتمع إليه ناس، وخفوا عن بشر، فجئت إلى بشر يوماً، فقلت: هذا الشافعي الذي كنت تزعم يوماً قد قدم؟؟؟! فقال: إنه قد تغير عما كان عليه.
قال الزعفراني: فما كان مثله إلا مثل اليهود في أمر عبد الله بن سلام حيث قالوا: سيدنا وابن سيدنا، فقال لهم: فإن أسلم قالوا: شرنا وابن شرنا.
عن أبي هريرة قال: لا أعلمه إلا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ".
قال أحمد بن حنبل: إن الله يقيض للناس في كل رأس مائة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكذب. فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائتين الشافعي.
قال الحسن بن محمد الزعفراني: قدم علينا الشافعي واجتمعنا إليه، فقال: التمسوا من يقرأ لكم. فلم يجترئ أحد يقرأ عليه غيري، وكنت أحدث القوم سناً، ما كان في وجهي شعرة، وإني لأتعجب اليوم من انطلاق لساني بين يدي الشافعي، وأتعجب من جسارتي يومئذ. فقرأت عليه الكتب كلها إلا كتابين، فإنه قرأهما علينا: " كتاب المناسك " و" كتاب الصلاة ". ولقد كتبنا كتب الشافعي يوم كتبناها، وقرأناها عليه، وإنا لنحسب أنا في اللعب.(21/382)
عن أبي ثور قال: لما ورد الشافعي بغداد جاءني حسين الكرابيسي، وكان يختلف معي إلى أصحاب الرأي، فقال: قد ورد رجل من أصحاب الحديث يتفقه، فقم لنا نسخر به. فقمت، وذهبنا حتى دخلنا عليه، فسأله الحسين عن مسألة، فلم يزل الشافعي يقول: قال الله، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أظلم علينا البيت، وتركنا بدعتنا، واتبعناه.
قال أبو الفضل الزجاج:
لما قدم الشافعي إلى بغداد، وكان في الجامع إما نيف وأربعون، أو خمسون، حلقة، فلما دخل بغداد ما زال يقعد في حلقة حلقة، ويقول لهم: قال الله، وقال الرسول، وهم يقولون: قال أصحابنا حتى ما بقي في المسجد حلقة غيره.
قال حرملة بن يحيى: عن الشافعي قال: سميت بالعراق ناصر الحديث - وفي رواية: ببغداد.
قال الحميدي: كنا نريد أن نرد على أصحاب الرأي، فلم نحسن كيف نرد عليهم حتى جاءنا الشافعي ففتح لنا.
قال أحمد بن حنبل: قدم علينا نعيم بن حماد، وحثنا على طلب المسند، فلما قدم الشافعي وضعنا على المحجة البيضاء.
وقال: ما كان أصحاب الحديث يعرفون معاني حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قدم الشافعي، فبينها لهم. كان الفقه قفلاً على أهله حتى فتحه الله بالشافعي. وقال: لقد كان يذب عن الآثار - رحمه الله.(21/383)
وقال: هذا الذي ترون كله، أو عامته، من الشافعي، وما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو الله للشافعي، وأستغفر له - وفي رواية: منذ أربعين سنة.
وقال: ستة أدعوا لهم سحراً أحدهم الشافعي.
قال عبد الله أحمد بن حنبل: قلت لأبي.
يا أبه، أي رجل كان الشافعي؛ فإني سمعتك تكثر الدعاء له؟! فقال لي: يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر، هل لهذين من خلف، أو منهما عوض؟ وقال: ما أحد يمس بيده محبرة إلا وللشافعي في عنقه منة.
وقال: كلام الشافعي في اللغة حجة.
وقال: الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه.
قال أبو تراب حميد بن أحمد البصري: كنت عند أحمد بن حنبل نتذاكر في مسألة، فقال رجل لأحمد: يا أبا عبد الله، لا يصح فيه حديث، فقال: إن لم يصح فيه حديث ففيه قول الشافعي، وحجته أثبت شيء فيه.(21/384)
قال إسحاق بن راهويه: كان أحمد بن حنبل مشغوفاً بالشافعي، وبعلمه وفقهه، ووالله ما وضع أبو عبد الله أحمد بن حنبل شيئاً إلا في موضعه.
قال الحسن بن محمد: كنا نختلف إلى الشافعي عندما قدم إلى بغداد ستة أنفس: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، وحارث النقال، وأبو عبد الرحمن الشافعي، وأنا - ورجل آخر سماه - وما عرضنا على الشافعي كتبه إلا وأحمد بن حنبل حاضر لذلك.
قال: قال لي أحمد بن حنبل: إذا رأيت أبا عبد الله الشافعي قد خلا فاعلمني. قال: وكان يجيئه ارتفاع النهار، فيبقى معه.
قال الشافعي: وعدني أحمد بن حنبل أن يقدم علي مصر.
قال صالح بن أحمد بن حنبل: مشى أبي مع بغلة الشافعي، فبعث إليه يحيى ين معين، فقال له: يا أبا عبد الله، أما رضيت إلا أن تمشي مع بغلته!؟ فقال: يا أبا زكريا، لو مشيت من الجانب الآخر كان أنفع لك! قال محمد بن ماجة القزويني: جاء يحيى بن معين يوماً إلى أحمد بن حنبل، فبينا هو عنده إذ مر على بغلته، فوثب أحمد، فسلم عليه، وتبعه، فأبطأ، ويحيى جالس، فلما جاء قال يحيى: يا أبا عبد الله، كم هذا؟! فقال أحمد: دع هذا عنك، إن أردت الفقه فالزم ذنب البغلة! قال إسحاق بن راهويه: ما تكلم أحمد بالرأي - وذكر الثوري والأوزاعي ومالكاً وأبا حنيفة - إلا والشافعي أكثر اتباعاً، وأقل خطأ منه.(21/385)
كان الشافعي من معادن الفقه، وجهابذة الألفاظ، ونقاد المعاني، ومن كلامه: حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ، لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممدودة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني مقصورة معدودة، ومحصلة محدودة، وجميع أصناف الدلالات على المعاني، لفظ وغير لفظ، خمسة أشياء، لا تزيد، ولا تنقص؛ أولها اللفظ، ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الخط، ثم الذي يسمى النصبة، والنصبة في الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف، ولا تقصر عن تلك الدلالات، ولكل واحد من هذه الخمسة صورة مواتية من صورة صاحبهتا. وحلية مخالفة لحلية أختها، وهي التي تكشف لك عن أعيان المعاني في الجملة، وعن حقائقها في التفسير، وعن أجناسها وأفرادها، وعن خاصها وعامها، وعن طباعها في السار والضار، وعما يكون لهواً بهرجاً، وساقطاً مدحرجاً.
سئل أبو ثور، فقيل: أيما أفقه، الشافعي أو محمد بن الحسن؟ فقال أبو ثور: الشافعي أفقه من محمد، وأبي يوسف، وأبي حنيفة، وحماد، وإبراهيم، وعلقمة، والأسود.
قال هلال بن العلاء الرقي:
من الله تعالى على الناس بأربعة من زمانهم: بالشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبي عبيدة، ويحيى بن معين؛ فأما الشافعي فبفقه حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما أبا عبيدة ففسر لهم غريب الحديث، لولا ذلك لاقتحم الناس في الخطأ، وأما يحيى بن معين فنفى الكذب عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبين الصادق من الكاذب، وأما أحمد بن حنبل فجعله الله للناس إماماً في القرآن، لولا ذلك لكفر الناس.
قال داود بن علي الأصبهاني: اجتمع للشافعي - رحمه الله - من الفضائل ما لم يجتمع لغيره. فأول ذلك: شرف نسبه ومنصبه، وأنه من رهط النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنها: صحة الدين وسلامة الاعتقاد من الأهواء والبدع، ومنها: سخاوة النفس، ومنها: معرفته بصحة الحديث وسقمه، ومنها:(21/386)
معرفته بناسخ الحديث ومنسوخه، ومنها: حفظه لكتاب الله، وحفظه لأخبار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعرفته بسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبسير خلفائه، ومنها: كشفه لتمويه مخاليفه، ومنها: تأليفه الكتب القديمة والجديدة، ومنها ما اتفق له من الأصحاب والتلامذة مثل: أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه وإقامته على السنة. ومثل: سليمان بن داود الهاشمي، وعبد الله بن الزبير الحميدي، والحسين القلاس وأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، وأبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، وحرملة بن يحيى التجيبي، والربيع بن سليمان المرادي، وأبي الوليد موسى بن أبي الجارود، والحارث بن سريج النقال، وأحمد بن خالد الخلال، والقائم بمذهبه أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني. ولم يتفق لأحد من العلماء والفقهاء من الأصحاب ما اتفق له، رحمة الله عليه وعليهم أجمعين.
قال البهيقي: إنما عدد داود بن علي من أصحاب الشافعي جماعة يسيرة وقد عد أبو الحسن الدارقطني من روى عنه أحاديثه، وأخباره وكلامه زيادة على مائة مع قصور سنة عن سن أمثاله من الأئمة، وإنما تكثر الرواة عن العالم إذا جاوز سنة الستين أو السبعين، والشافعي لم يبلغ في السن أكثر من أربع وخمسين.
قال أحمد بن علي الجرجاني: كان الحميدي إذا جرى عنده ذكر الشافعي يقول: حدثنا سيد الفقهاء الشافعي.
قال الزعفراني: كنت مع يحيى بن معين في جنازة، فقلت له: يا أبا زكريا، ما تقول في الشافعي؟ فقال: دعنا، لو كان الكذب له مطلقاً لكانت مروءته تمنعه أن يكذب.
وفد ذكر توثيقه في أكثر من خبر عن يحيى بن معين، وأبي حاتم، وأبي زرعة، وأبي داود، وقال أبو داود: ما أعلم للشافعي حديثاً فيه خطأ.(21/387)
قال يونس بن عبد الأعلى: كنت أولاً أجالس أصحاب التفسير، فكان الشافعي إذا أخذ في التفسير فكأنه شهد التنزيل.
قال أبو حسان الزيادي: لما رأيت إكرام الشافعي، وإصغاءه إلى ما نقول، وانتزاعه من القرآن المعاني، والعبارة عن المعاني أنست به، فكنت أسأله عن معاني القرآن، فما رأيت أحداً أقدر على معاني القرآن والعبارة عن المعاني، والاستشهاد على ذلك من قول الشعر، أو اللغة منه.
قال المزني، أو الربيع:
كنا عند الشافعي بين الظهر والعصر إذ جاء شيخ عليه جبة صوف، وعمامة صوف، وإزار صوف، وفي يده عكازة. قال: فقام الشافعي، وسوى عليه ثيابه، واستوى جالساً. وسلم الشيخ، وجلس، وأخذ الشافعي ينظر إلى الشيخ هيبة له، إذ قال الشيخ: أسأل؟ فقال: سل، قال: إيش الحجة في دين الله؟ قال الشافعي: كتاب الله، قال: وماذا؟ قال: وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة، قال: من أين قلت: اتفاق الأمة من كتاب الله أم من سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: فقال: من كتاب الله، قال: فتدبر الشافعي ساعة، فقال للشافعي - وفي رواية: فقال: يا شيخ - قد أجلتك ثلاثة أيام ولياليها، فإن جئت بالحجة من كتاب الله في الاتفاق وإلا تب إلى الله - عز وجل - قال: فتغير لون الشافعي، ثم إنه ذهب، فلم يخرج ثلاثة أيام ولياليهن. قال: فخرج إلينا في اليوم الثالث، في ذلك الوقت - يعني بين الظهر والعصر - وقد انتفخ وجهه ويداه ورجلاه، وهو مسقام، فجلس، فلم يكن بأسرع أن جاء الشيخ، فسلم وجلس، فقال: حاجتي! فقال الشافعي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله - عز وجل -: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم "، لا يصليه على خلاف المؤمنين إلا وهو مرضي. فقال: صدقت.(21/388)
قال الشافعي: فلما ذهب الرجل قرأت القرآن في كل يوم وليلة ثلاث مرات حتى وقفت عليه.
وقال: لما أردت إملاء " تصنيف أحكام القرآن " قرأت القرآن مائة مرة.
قال هارون بن سعيد الأيلي: ما رأيت مثل الشافعي، قدم علينا مصر، فقالوا: قدم رجل من قريش، فجئناه وهو يصلي، فما رأيت أحسن صلاة، ولا وجهاً منه، فلما قضى صلاته تكلم، فما رأينا أحسن كلام منه، فأفتتنا به.
قال البويطي: قلت للشافعي: إنك تتعبنا في تأليف الكتب وتصنيفها، والناس لا يلتفتون إليك ولا إلى تصنيفك! فقال لي: إن هذا هو الحق، والحق لا يضيع.
وقال الشافعي: ألفت هذه الكتب، ولم آل فيها، ولا بد أن يوجد فيها الخطأ؛ لأن الله تعالى يقول: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ".
فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب أو السنة فقد رجعت عنه.
وقال: وددت أن كل علم تعلمه الناس أؤجر عليه ولا يحمدوني.
وقال محمد بن مسلم بن وارة الرازي: سألت أحمد بن حنبل، قلت، ما ترى لي من الكتب أن أنظر فيه لتفتح لي الآثار: رأي مالك، أو الثوري، أو الأوزاعي؟ فقال لي قولاً أجلهم أن أذكر ذاك، وقال: عليك بالشافعي، فإنه أكثرهم صواباً، أو أتبعهم للآثار. قلت لأحمد: فما ترى في كتب الشافعي؛ التي عند العراقيين أحب إليك، أو التي عندهم بمصر؟ قال: عليك بالكتب التي وضعها بمصر؛ فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكم، ثم رجع إلى مصر فأحكم ذاك ثم. فلما سمع ذلك من أحمد بن حنبل، وكنت قبل ذلك قد عزمت على الرجوع إلى البلد، وتحدث بذلك الناس، ثم تركت ذاك وعزمت على الرجوع إلى مصر.(21/389)
قال إسحاق بن راهويه: كتبت إلى أحمد بن حنبل وسألته أن يوجه إلي من كتب الشافعي ما يدخل حاجتين فوجه إلي بكتاب " الرسالة ". وتزوج إسحاق بن راهويه بمرو بامرأة رجل كان عنده كتب الشافعي وتوفي، لم يتزوج بها إلا لحال كتب الشافعي.
قال المزني: كتبت " كتاب الرسالة " منذ زيادة على أربعين سنة، وأنا أقرؤه، وأنظر فيه، ويقرأ علي، ما من مرة قرأت، أو قرئ علي إلا استفدت منه شيئاً لم أكن أحسنه.
قال أبو الحسن الشافعي: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرى النائم، فقلت: يا رسول الله، بم جزي محمد بن إدريس الشافعي حين يقول في ذكر الصلاة عليك في " كتاب الرسالة ": وصلى الله على محمد كلما ذكره ذاكر، وغفل عن ذكره غافل. قال: " جزي أنه لا يوقف للحساب يوم القيامة ".
قال الربيع بن سليمان: رأيت الشافعي في المنام، قلت له: ما فعل الله بك؟ قال: أنا في الفردوس الأعلى، فقلت: بماذا؟ قال: بكتاب صنعته وسميته بكتاب الرسالة.
وقد نوه أحمد بن حنبل باتباع الشافعي للسنة، وقال: صاحب حديث لا يستغني عن كتب الشافعي. وقال علي بن المديني: عليكم بكتب الشافعي.
قال أبو زرعة:
سمعت كتب الشافعي من الربيع أيام يحيى بن عبد الله بن بكير سنة ثمان وعشرين ومائتين، وعندما عزمت على سماع كتب الشافعي بعت ثوبين رقيقين كنت حملتهما لأقطعهما لنفسي، فبعتهما وأعطيت الوراق.
قال الجاحظ: نظرت في كتب هؤلاء النبغة الذين نبغوا فلم أر أحسن تأليفاً من المطلبي؛ كأن فاه نظم دراً إلى در.(21/390)
وسئل محمد بن إسحاق بن خزيمة: هل تعرف سنة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتابه؟ قال: لا.
قال الربيع بن سليمان - وذكر الشافعي، فقال: لو رأيتموه لقلتم: إن هذه ليست كتبه، كان والله لسانه أكبر من كتبه.
وقال يونس بن عبد الأعلى: ما كان الشافعي إلا ساحراً، ما كنا ندري ما يقول إذا قعدنا حوله. كانت ألفاظ الشافعي كأنها سكر.
قال عبد الملك بن هشام النحوي: طالت مجالستنا محمد بن إدريس الشافعي فما سمعت منه لحنة قط، ولا كلمة غيرها أحسن منها.
قال الربيع بن سليمان: كان الشافعي عربي النفس، عربي اللسان. وقال: كلما ذكرت ما أكل التراب من لسان الشافعي هانت علي الدنيا. وقال سمعت عبد الملك بن هشام النحوي يقول: الشافعي ممن تأخذ عنه اللغة.
وقيل لمحمد بن عبد الله بن الحكم: يا أبا عبد الله، كان الشافعي حجة في اللغة؟ فقال: إن كان أحد من أهل العلم حجة في شيء فالشافعي حجة في كل شيء.
وقال المبرد: رحم الله الشافعي، كان من أشعر الناس، وآدب الناس، وأفصح الناس، وأعرفهم بالقراءات. وكان الشافعي يقول: تعلموا العربية؛ فإنها تثبت العقل، وتزيد في المروءة. وقال: إعراب القرآن أحب إلي من بعض حروفه. وقرأ رجل على الشافعي، فلحن، فقال الشافعي: أضرستني.(21/391)
قال عبد الرحمن بن أخي الأصمعي: قلت لعمي: يا عماه، على من قرأت شعر هذيل؟ قال: على رجل من آل المطلب يقال له: محمد بن إدريس.
وقال الزبير بن بكار: أخذت شعر هذيل ووقائعها عن عمي مصعب، فسألته: عمن أخذتها؟ فقال: أخذتها من محمد بن إدريس الشافعي حفظاً.
قال أحمد بن صالح: قال لي الشافعي: يا أبا جعفر، تعبد من قبل أن ترأس؛ فإنك إن ترأست لا تقدر أن تتعبد. قال: وكان الشافعي إذا تكلم كأن صوته صنج أو جرس من حسن صوته.
قال بحر بن نصر: كنا إذا أردنا أن نبكي قلنا: بعضنا - وفي رواية: بعض - لبعض: قوموا بنا إلى هذا الفتى المطلبي نقرأ القرآن. فإذا أتيناه استفتح بالقرآن حتى تتساقط الناس بين يديه، ويكثر عجيجهم بالبكاء، فإذا رأى ذلك أمسك عن القرآن، من حسن صوته.
قال محمد بن عبد الله بن الحكم: كنت إذا رأيت من يناظر الشافعي رحمته. وقال: لو رأيت الشافعي يناظرك لظننت أنه سبع يأكلك.
وقال هارون بن سعيد الأيلي: لو أن الشافعي ناظر على هذه العمود التي من حجارة أنها من خشب لغلب، لاقتداره على المناظرة.(21/392)
وقال الشافعي: ناظرت بعض أهل العراق، فلما فرغت قال: زلفت يا قرشي.
قال بعض أهل العربية: يعني قربت من أفهامهم، بفصاحته.
وسئل الشافعي عن مسألة، فأعجب بنفسه، فأنشأ يقول: " من المتقارب "
إذا المشكلات تصدينني ... كشفت حقائقها بالنظر
ولست بإمعة في الرجال ... أسائل هذا وذا ما الخبر
ولكنني مدرة الأصغرين ... فتاح خير وفراج شر
وكان سئل عن رجل في فيه تمرة، فحلف بالطلاق أنه لا يبلعها، ولا يرمي بها، فقال له الشافعي: يبلع نصفها، ويرمي بنصفها حتى لا يكون بالعاً لها كلها، ولا يلفظ بها كلها.
عن أبي ثور قال: سمعت الشافعي يقول: ناظرت بشر المريسي في القرعة، فقال: القرعة قمار. فذكرت ما دار بيني وبينه لأبي البختري، وكان قاضياً، فقال: ائتني بآخر يشهد معك حتى أضرب عنقه.
قال: وسمعت الشافعي يقول: قلت لبشر المريسي: ما تقول في رجل قتل وله أولياء صغار وكبار، هل للكبار(21/393)
أن يقتلوا دون الأصاغر؟ فقال: لا، فقلت: قتل الحسن بن علي ابن ملجم، ولعلي أولاد صغار، فقال: أخطأ الحسن بن علي، فقلت له: أما كان جواب أحسن من هذا اللفظ؟! قال: وهجرته يومئذ.
وقال: ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته، واعتقدت مودته، ولا كابرني على الحق أحد، ودافع الحجة إلا سقط من عيني. وما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ إلا صاحب بدعة، فإني أحب أن ينكشف أمره للناس.
وقال: ما ناظرت أحداً إلا على النصيحة.
قال أحمد بن حنبل: كان أحسن أمر الشافعي عندي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وترك قوله. وقال: كان الشافعي إذا ثبت عنده الخبر قلده، وخير خصلة كانت فيه لم يكن يشتهي الكلام، وإنما همته الفقه.
قال أحمد بن حنبل: قال محمد بن إدريس الشافعي: أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا؛ فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى أذهب إليه كوفياً كان أو بصرياً، أو شامياً.
وفي رواية أخرى: قال لنا الشافعي: إذا صح عندكم الحديث فقولوا لنا حتى نذهب إليه.
قال أبو بكر البيهقي: وإنما أراد حديث أهل العراق - والله أعلم - ليأخذ بما صح عندهم من أحاديث أهل العراق كما أخذ بما صح عنده من أحاديث أهل الحجاز.
قال الشافعي: كلما قلت، فكان عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى، فلا تقلدوني.(21/394)
قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي - وروى حديثاً - فقال له رجل: تأخذ بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال: متى رويت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً صحيحا ًفلم آخذ به فأشهدكم والجماعة أن عقلي قد ذهب - وأشار بيده إلى رؤوسهم.
وقال في رواية أخرى: أفي الكنيسة أنا، أوترى على وسطي زناراً؟ نعم، أقول به، وكل ما بلغني عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت به.
وقال: إذا وجدتم سنة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلاف قولي فخذوا بالسنة ودعوا قولي، فإني أقول بها.
عن عبد الله بن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع الشافعي قال: جلس محمد بن إدريس الشافعي يوماً في خيمة، فجاءه عالم حدث، فسأله عن مسألة، فأجابه فيها، ثم سأله عن أخرى، فقال له: أخطأت يا أبا عبد الله، فأطرق طويلاً، ثم رفع رأسه ثم قال له: أخطأت يا بن أخي ما في كتابك، فأما الحق فلا؟ قال إسماعيل المزني: قال الشافعي: الرجل من أحرز دينه، وضن به.
قال إسماعيل: ورأيت الشافعي يضن بدينه.
قال الربيع بن سليمان: كان الشافعي قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء: الأول يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام.(21/395)
قال حين الكرابيسي: بت مع الشافعي، فكان يصلي نحو ثلث الليل، وما رأيته يزيد على خمسين آية، فإذا أكثر فمائة، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه وللمؤمنين أجمعين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ بالله منه، وسأل النجاة لنفسه ولجميع المؤمنين؛ فكأنما جمع له الرجاء والرهبة معاً.
قال الخطيب: قد كان الشافعي بأخرة يديم التلاوة، ويدرج القراءة.
وروى بسنده عن الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي يختم في كل ليلة ختمة، فإذا كان في شهر رمضان ختم في كل ليلة منه ختمة، وفي كل يوم ختمة، فكان يختم في شهر رمضان ستين ختمة.
وقال: كان الشافعي يختم القرآن ستين مرة. قيل: في صلاة رمضان؟ قال: نعم.
وقال: كان الشافعي لا يصلي مع الناس التراويح، لكنه كان يصلي في بيته، ويختم في رمضان ستين ختمة ليس منها سورة إلا في صلاة، وكان يختم في سائر السنة ثلاثين ختمة في كل شهر.
وقال: سمعت الشافعي يقول: ما شبعت منذ عشرين سنة - وفي رواية: ما شبعت منذ ستة عشر سنة إلا شبعة، ثم أدخلت يدي فتقيأته؛ لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة.
وقال: قال لي الشافعي: يا ربيع، عليك بالزهد؛ فإن الزهد على الزاهد أحسن من الحلي على المرأة الناهد.(21/396)
قال حرملة بن يحيى: سمعت الشافعي يقول: ما حلفت بالله صادقاً، ولا كاذباً.
قال الحارث بن سريج: دخلت مع الشافعي على خادم الرشيد، وهو في بيت قد فرش بالديباج، فلما وضع الشافعي رجله على العتبة أبصره، فرجع، ولم يدخل، فقال له الخادم: ادخل، فقال: لا يحل افتراش هذا؟! فقام الخادم متبسماً حتى دخل بيتاً قد فرش بالأرمني، فدخل الشافعي، ثم أقبل عليه، فقال: هذا حلال، وذاك حرام، وهذا أحسن من ذاك، وأكثر ثمناً منه. فتبسم الخادم، وسكت.
قال السجستاني: وحدثني أبو ثور قال: أراد الشافعي الخروج إلى مكة، ومعه مال، فقلت له: - وقلما كان يمسك الشي من سماحته - ينبغي أن تشتري بهذا المال ضيعة تكون لك ولولدك من بعدك. فخرج، ثم قدم علينا، فسألته عن ذلك المال، ما فعل به؟ فقال: ما وجدت بمكة ضيعة يمكنني أن أشتريها لمعرفتي بأصلها، أكثرها قد وقفت عليه، ولكن بنيت بمنى مضرباً يكون لأصحابنا إذا حجوا، ينزلون فيه.
عن الربيع بن سليمان قال: قال لنا الشافعي: دهمني في هذه الأيام أمر أمضني وآلمني، ولم يطلع عليه غير الله، فلما كان البارحة أتاني آت في منامي، فقال: يا محمد بن إدريس، قل اللهم إني لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني، ولا أتقي إلا ما وفيتني، اللهم فوفقني لما تحب وترضى من القول والعمل في عافية. فلما أن أصبحت أعدت ذلك، فلما أن ترجل النهار أعطاني الله طلبتي، وسهل لي الخلاص مما كنت فيه. فعليكم بهذه الدعوات، فلا تغفلوا عنها.(21/397)
وقال عبد الله بن عبد الحكم الشافعي: إن عزمت أن تسكن البلد - يعني مصر - فليكن لك قوت سنة، ومجلس من السلطان تتعزز به. فقال الشافعي: يا أبا محمد، من لم تعزه التقوى فلا عز له، ولقد ولدت بغزة، وما عندنا قوت ليلة، وما بتنا جياعاً قط.
وقال الربيع: أخذ رجل بركاب الشافعي، فقال لي: يا ربيع، أعطه أربعة دنانير، واعذرني عنده.
قال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشافعي: أنست بالفقر حتى صرت لا أستوحش منه.
قال عمرو بن سواد السرحي: كان الشافعي أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام، فقال لي: أفلست من دهري ثلاث إفلاسات، فكنت أبيع قليلي وكثيري، حتى حلي ابنتي وزوجتي، ولم أرهن قط.
قال المزني: سمعت الشافعي يقول: السخاء والكرم يغطيان عيوب الدنيا، والآخرة بعد، إلا يلحقهما بدعة.
وكنت يوماً مع الشافعي، فخرجنا الأكوام فمر بهدف، وإذا رجل يرمي بقوس عربية، فوقف عليه الشافعي ينظر، وكان حس الرمي، فأصاب بأسهم، فقال له الشافعي: أحسنت، وبرك عليه، ثم قال لي: أمعك شيء؟ فقلت: معي ثلاثة دنانير، قال: أعطه إياها، واعذرني عنده إذ لم يحضرني غيرها.(21/398)
قال الربيع بن سليمان: كان الشافعي راكباً حماراً، فمر على سوق الحذائين، فسقط سوطه من يده، فوثب غلام من الحذائين، فأخذ السوط، ومسحه بكمه، وناوله إياه. فقال الشافعي لغلامه: ادفع تلك الدنانير التي معك إلى هذا الفتى. قال الربيع: فلست أدري كانت تسعة دنانير أو سبعة.
وقال: تزوجت، فسألني الشافعي: كم أصدقتها؟ فقلت: ثلاثين ديناراً، فقال: كم أعطيتها؟ قلت: ستة دنانير. فصعد داره، وأرسل إلي بصرة فيها أربعة وعشرون ديناراً.
قال: وكان الشافعي به هذه البواسير، وكانت له لبدة محشوة بحلبة، فكان يقعد عليها، فإذا ركب أخذت تلك اللبدة، ومشيت خلف حماره، فبينا هو يمر إلى منزله ناوله إنسان رقعة فيها: إنني رجل بقال أبيع البقل، ورأس مالي درهم، وقد تزوجت امرأة، وأريد أن أدخل بها، وليس إلا ذلك الدرهم! تعينني بشيء؟ فقال لي: يا ربيع، أعطه ثلاثين ديناراً، واعذرني عنده. قال: قلت: أصلحك الله، إن هذا تكفيه عشرة دراهم! قال: ويحك يا ربيع! وما يصنع بثلاثين ديناراً؟ أفي كذا، أم في كذا - يعد ما يصنع في جهازه - أعطه ثلاثين ديناراً، واعذرني عنده.
وقال: ولدت لنا شاة في زمان ليس فيه لبأ، فأمرت بلباها، فعمل، ثم تركته حتى برد واستحكم، فصفيته، وجعلته في جام، ولففته في منديل ديبقي، وختمته، وأنفذته إلى الشافعي لأتحفه به، فأعجبه، فقبله، ورد علي الجام، وفيه مائة دينار عيناً.(21/399)
قال إبراهيم بن محمد: باع الشافعي ضيعة له بعشرة آلاف درهم، فصبه على نطع بمنى، فكل من أتاه حثى له - من الأشراف وأهل العلم، وأهل الأدب - بكفه، حتى بقي شيء يسير على النطع، فأتاه أعرابي من بني سدوس، فقال له: يا فتى، لي عندك يد، فكافئني عليها، قال له: وما تلك اليد يا عم؟ قال: حضرت هذا الموسم وأنت مع عمومتك، وهم يشترون الأضحية، فضربت يدك إلى درة شاة، فقلت: يا عم، اشتر لي هذه. فقلت للرجل: أحسن إلى الفتى، فأحسن إليك بقولي. فقال الشافعي: إن هذه ليد جليلة، خذ النطع وما عليها.
قال الحميدي: قدم الشافعي من اليمن، ومعه عشرون ألف دينار، فضرب خيمته خارجاً من مكة، فما قام حتى فرقها كلها.
قال إبراهيم بن برانه - وكان جليساً للشافعي:
دخلت مع الشافعي حماماً، فخرجت قبله. وكان الشافعي طوالاً جسيماً نبيلاً، وكان إبراهيم طوالاً جسيماً. فليس إبراهيم ثياب الشافعي، ولبس الشافعي ثياب إبراهيم، والشافعي لا يعلم أنها ثياب إبراهيم، وإبراهيم لا يعلم أنها ثياب الشافعي. فانصرف الشافعي إلى منزله، فنظر، فإذا هي لإبراهيم، فأمر بها، فطويت، وبخرت، وجعلت في منديل. ونظر إبراهيم، فطواها، وبخرها وجعلها في منديل. ثم راحا جميعاً، فجعل الشافعي ينظر إلى إبراهيم ويتبسم إليه وجعل إبراهيم نظر إلى الشافعي ويتبسم إليه. فلما صليت العصر قال إبراهيم: أصلحك الله، هذه ثيابك، فقال الشافعي: وهذه ثيابك، والله لا يعود إلي منها شيء، ولا يلبسها غيرك. فأخذهما إبراهيم جميعاً.
قال محمد بن عبد الحكم المصري: كان الشافعي أسخى الناس بما يجد، وكان يمر بنا، فإن وجدني، وإلا قال: قولوا(21/400)
لمحمد إذا جاء يأتي المنزل، فإني لست أتغدى حتى يجيء، فربما جئته، فإذا قعدت معه على الغداء قال: يا جارية، اضربي لنا فالوذج. فلا تزال المائدة بين يديه حتى تفرغ منه، وتتغدى.
قال أبو جعفر أحمد بن الحسن المعدل: أنشدت للشافعي: " من البسيط "
يا لهف نفسي على مال أفرقه ... على المقلين من أهل المروءات
إن اعتذرت إلى من جاء يسألني ... ما لست أملكه إحدى المصيبات
قال الربيع بن سليمان: والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبة له.
وقال: كان أصحاب مالك يفخرون، فيقولون: إنه يحضر مجلس مالك نحو من ستين معماً، والله لقد عددت في مجلس الشافعي ثلاثمائة معمم سوى من شذ عني.
وقال: اشتريت للشافعي طيباً بدينار، فقال لي: ممن اشتريت؟ فقلت: من ذاك الأشقر الأزرق، فقال: أشقر أزرق! رده، رده، وقال: ما جاءني خير قط من أشقر.
قال حرملة بن يحيى: سمعت الشافعي يقول: احذر الأعور، والأحول، والأعرج، والأحدب، والأشقر، والكوسج، وكل من به عاهة في بدنه، وكل ناقص الخلق فاحذره؛ فإنه صاحب التواء ومعاملة عسرة، وقال الشافعي مرة أخرى: فإنهم أصحاب خب.(21/401)
قال أبو محمد بن أبي حاتم: يعني إذا كان ولادهم بهذه الحالة، فأما من حدث فيه شيء من هذه العلل وكان في الأصل صحيح التركيب لم تضر مخالطته.
قال الربيع: كنت عند الشافعي، أنا والمزني، وأبو يعقوب البويطي، فنظر إلينا، فقال لي: أنت تموت في الحديث، وقال للمزني: هذا لو ناظره الشيطان قطعه وجدله، وقال للبويطي: أنت تموت في الحديد.
قال الربيع: فدخلت على البويطي أيام المحنة فرأيته مقيداً إلى أنصاف ساقيه، مغلولة - يعني يديه - إلى عنقه.
وقال الربيع: كنت في الحلقة إذ جاءه - يعني الشافعي - رجل، فسأله عن مسألة، فقال له الشافعي: أنت نساج؟ قال: عندي أجراء.
وقال: جاز أخي في صحن المسجد، فقال لي الشافعي: يا ربيع، أتريد أخاك؟ - ولم يكن رآه قط - قلت: نعم، أيدك الله، قال: هو ذاك! قال: فكان أخي.
قال ابن أخي ابن وهب: ما قدم علينا بلدنا فقيه ولا محدث أكثر حفظاً للحكايات والأسمار من الشافعي.
قال المزني: سمعت الشافعي يقول: من لا يحب العلم فلا خير فيه، ولا يكون بينك وبينه معرفة ولا صداقة.
وقال: تعلموا العلم ممن هو أعلم منكم، وعلموا من أنتم أعلم منه؛ فإذا فعلتم ذلك علمتم ما جهلتم، وحفظتم ما علمتم.(21/402)
وقال: أصل العلم التثبيت، وثمرته السلامة، وأصل الورع القناعة، وثمرته الراحة، وأصل الصبر الحزم، وثمرته الظفر، وأصل العمل التوفيق، وثمرته النجح، وغاية كل أمر الصدق.
قال الأصمعي: سمعت الشافعي محمد بن إدريس يقول: العاقل يسأل عما يعلم، وعما لا يعلم، فيثبت فيما يعلم، ولا يتعلم ما لا يعلم، والجاهل يغضب من التعليم، ويأنف من التعلم.
وقال: إن لكل رأي ثمرة، ولكل تدبير عافية، وكل مشورة اختياراً، وعلى قدر درجات الصواب تكون العافية والسلامة، وعلى قدر طبقات الخطأ يكون الفوت والندامة.
قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: من قرأ القرآن عظمت قيمته، ومن تفقه نبل أمره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن تعلم اللغة رق طبعه، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.
وقال: قلت للشافعي: من الوغد من الرجال؟ فقال لي: الذي يرى الفضل نقصاً، والعلم جهلاً.
وقال: خرج علينا الشافعي ذات يوم، ونحن مجتمعون، فقال لنا: اعلموا - رحمكم الله - إن هذا العلم يند كما تند الإبل؛ فاجعلوا الكتب له حماة، والأقلام عليه رعاة.
وقال: العلم كثير، والحكماء قليل، وإنما يراد من العلم الحكمة، " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ".(21/403)
وقال: أحسن الاحتجاج ما أشرقت معانيه، وأحكمت مبانيه، وابتهجت له قلوب سامعيه.
وقال: بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد.
وقال: أشد الأعمال ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى ويخاف.
قال داود بن علي: قال الشافعي: حياة الأرض بالديم، وحياة النفوس بالهمم، وحياة القلوب بالحكم.
قال محمد بن يحيى بن حسان: سمعت الشافعي يقول: العلم علمان: علم الدين، وعلم الدنيا؛ فالعلم الذي للدين فهو الفقه، والعلم الذي للدنيا فهو الطب.
قال يونس بن عبد الأعلى: قال لنا الشافعي: ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر ما فيه صلاحك فالزمه.
قال المسيب بن واضح: سمعت الشافعي يوصي شاباً من أصحابه يقول له: الزم الصمت إلى أن يلزمك التكلم، فإنما أكثر من يندم إذا هو نطق، وقل من يندم إذا سكت، واعلم بأن الرجوع عن الصمت إلى الكلام أحسن من الرجوع عن الكلام إلى الصمت، والعطية بعد المنع أحسن من المنع بعد العطية.
قال أبو ثور إبراهيم بن خالد: سمعت أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي يقول: ضياع الجاهل قلة عقله، وضياع العالم أن يكون بلا إخوان؛ وأضيع من هؤلاء أن يؤاخي الإنسان من لا عقل له.(21/404)
وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: آلات الرئاسة خمس: صدق اللهجة، وكتمان السر، والوفاء بالعهد، وابتداء النصيحة، وأداء الأمانة.
وقال: أرفع الناس قدراً من لا يرى قدره، وأكثر الناس فضلاً من لا يرى فضله.
قال الربيع: وسمعت الشافعي يقول: من استغضب فلم يغضب فهو حمار، ومن استرضي فلم يرض فهو شيطان.
وقال: كتب الشافعي إلى رجل من أهل الحلقة يهنئه بولد رزقه ذكر: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فبارك الله لك في الفارس المستفاد، وجعله طيباً من الأولاد، وحسن وجهه، وجمل صورته، وأسعد جده، وبلغك أملك به. فقر عيناً يا أخي، واشدد به عضداً، وازدد به ولداً.
قال محمد بن عيسى الزاهد: مات لعبد الرحمن بن مهدي ابن، فجزع عليه جزعاً شديداً حتى امتنع من الطعام والشراب، فبلغ ذلك محمد بن إدريس الشافعي، فكتب إليه: أما بعد، فعز نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك، واعلم أن أمض المصائب فقد سرور مع حرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا على اكتساب وزر؟ فأقول: " من البسيط "
إني معزيك لا أني على طمع ... من الخلود ولكن سنة الدين
فما المعزى بباق بعد صاحبه ... ولا المعزي ولو عاشا إلى حين
قال: فكانوا يتهادونها بينهم بالبصرة.(21/405)
قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي ينشد: " من الطويل "
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل ... خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما تخفني عليه يغيب
غفلنا لعمر الله حتى تراكمت ... علينا ذنوب بعدهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ... ويأذن في توباتنا فنتوب
وقال المزني: أنشدنا الشافعي لنفسه: " من السريع "
لا تأس في الدنيا على فائت ... وعندك الإسلام والعافيه
قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: " من الهزج "
إذا القوت تأتى ل ... ك والصحة والأمن
فأصبحت أخا حزن ... فلا فارقك الحزن
أنشد ابن جوصا بدمشق للشافعي: " من الوافر "
أمنت مطامعي فأرحت نفسي ... فإن النفس ما طمعت تهون
وأحييت القنوع وكان ميتاً ... ففي إحيائه عرض مصون
إذا طمع يحل بقلب عبد ... علته مهانة وعلاه هون
عن المزني قال: أخذ الشافعي بيدي ثم أنشدني: " من الطويل "
أحب من الإخوان كل مواتي ... وكل غضيض الطرف عن عثراتي
يوافقني في كل خير أريده ... ويحفظني حياً وبعد مماتي
ومن لي بهذا؟ ليتني قد أصبته ... فقاسمته مالي من الحسنات
تصفحت إخواني فكان جميعهم ... على كثرة الإخوان غير ثقات(21/406)
قال عباس الأزرق: دخلت على أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي - فذكر قصة، وقال: - فقال الشافعي: " من الكامل "
إن الذي رزق اليسار فلم يصب ... حمداً ولا أجر لغير موفق
فالجد بدني كل شيء شاسع ... والجد يفتح كل باب مغلق
وإذا سمعت بأن كل مجدودأً حوى ... عوداً فأثمر في يديه فصدق
وإذا سمعت بأن محروماً أتى ... ماء ليشربه فغاض فحقق
وأحق خلق الله بالهم امرؤ ... ذو همة يبلى بعيش ضيق
ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
أنشد يونس بن عبد الأعلى للشافعي: " مجزوء الكامل "
ما حك جلدك مثل ظفرك ... فتول أنت جميع أمرك
وإذا قصدت لحاجة ... فاقصد لمعترف بقدرك
قال أبو العباس الأبيودري: خرج الشافعي محمد بن إدريس إلى اليمن إلى ابن عم له، فبره ببر غير طائل، فكتب إليه الشافعي: " من الطويل "
أتاني بر منك في غير كنهه ... كأنك عن بري يداك تحيد
لسانك عش بالنوال ولا أرى ... يمينك إذا جاد اللسان تجود
تفرق عنك الأقربون لشأنهم ... وأشفقت أن تبقى وأنت وحيد
وأصبحت بين الحمد والذم واقفاً ... فيا ليت شعري أي ذاك تريد(21/407)
قال إبراهيم بن خالد: رأيت في منامي ليلة الجمعة قائلاً يقول: يكون في يوم الاثنين فزع عظيم، وفتنة صماء غير أن الله تعالى عن محمد بن إدريس الشافعي راض، وله محب. فأعدت ذلك على الشافعي، فقال لي: رؤيا نسأل الله خيرها، ونعوذ به من شرها وضرها. قال: فلما كان يوم الاثنين رأينا من الفزع والفتن أكثر مما قال لنا القائل في المنام.
قال أبو بكر الديلي إمام مسجد الرملة: كنت بمدينة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائماً بالروضة، فإذا أنا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصاحبه، فقلت: يا رسول الله، في نفسي حاجة أسألها، قال: قلت، فقلت: يا رسول الله، أحب أن أنتحل أحد المذاهب، فقال لي: مذهب الشافعي - مرتين - فقالوا له فقالوا له في ذلك، فقال: ما اخترته، بل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختاره.
قال الحسين بن محمد بن داود أبو علي الدينوري بأسد أباذ: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفارسين معه، فسألت عنهما، فقيل: هذا أبو بكر، وهذا عمر، فتقدمت إليه، فقلت: يا رسول الله، إني أذهب مذهب الشافعي، فقال لي بيده: واستمسك به، فإنه العروة الوثقى.
قال محمد بن نصر الترمذي: كتب الحديث تسعاً وعشرين سنة، وسمعت مسائل مالك من قوله، ولم يكن لي حسن رأي في الشافعي. فبينما أنا قاعد في مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة إذ غفوت غفوة، فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فقلت: يا رسول الله، أكتب رأي أبي حنيفة؟ قال: لا، قلت: أكتب رأي مالك؟ قال: ما وافق حديثي، قلت له: أكتب رأي الشافعي؟ فطأطأ رأسه شبه الغضبان لقولي، وقال: ليس هذا بالرأي، هذا رد على من خالف سنتي. فخرجت في أثر هذه الرؤيا إلى مصر، فكتبت كتب الشافعي.(21/408)
قال أحمد بن الحسن الترمذي: كنت في الروضة، فأغفيت، فإذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أقبل، فقلت: يا رسول الله، قد كثر الاختلاف في الدين، فما تقول في رأي أبي حنيفة؟ فقال: أف، ونفض يده! فقلت: فما تقول في رأي مالك؟ فرفع يده، وطأطأ، وقال: أصاب وأخطأ، قلت: فما تقول في رأي الشافعي: قال: بأبي ابن عمي، أحيا سنتي.
وقال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فقلت: يا رسول الله، أما ترى ما في الناس من الاختلاف؟ قال: فقال لي: في أي شيء؟ قلت: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي. فقال: أما أبو حنيفة فما أدري من هو، وأما مالك فقد كتب العلم، وأما الشافعي فمنني وإلي.
قال المزني: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فسألته عن الشافعي، فقال: من أراد محبتي وسنتي فعليه بمحمد بن إدريس الشافعي المطلبي؛ فإنه مني وأنا منه.
قال محمد بن إسحاق بن خزيمة:
كنا نسمع أن من مارس البز، وتفقه بمذهب الشافعي، وقرأ لعاصم فقد كمل ظرفه.
قال الربيع: سمعت الشافعي يقول - في قصة ذكرها -: " من الطويل "
لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها أرض المهامه والقفر
فوالله ما أدري أللفوز والغنى ... أساق إليها أم أساق إلى قبري
قيل: فسيق والله إليهما جميعاً.(21/409)
عن محمد بن عبد بن عبد الحكم قال: بلغ الشافعي أن أشهب بن عبد العزيز يقول في سجوده: اللهم أمت الشافعي؛ فإنك إن أبقيته اندرس مذهب مالك. قال: فتعجب من ذلك: وأنشد: " من الطويل "
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى ... تجهز لأخرى مثلها فكان قد
قال يونس بن عبد الأعلى: ما رأيت أحداً لقي من السقم ما لقي الشافعي؛ فدخلت عليه، فقال لي: أبا موسى، اقرأ علي ما بعد العشرين والمائة من " آل عمران "، وأخف القراءة، ولا تثقل. فقرأت عليه، فلما أردت القيام قال: لا تغفل عني فإني مكروب.
قال يونس: عنى الشافعي بقراءتي ما بعد العشرين والمائة ما لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، أو نحوه.
قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: أوصى الشافعي إلى أبي: فرأيت في آخر وصيته: ومحمد بن إدريس يسأل الله القادر على ما يشاء أن يصلي على محمد عبد ورسوله، وأن يرحمه، فإنه فقير إلى رحمته، وأن يجيره من النار، فإن الله غني عن عذابه، وأن يخلفه في جميع ما خلفه بأفضل ما خلف به أحداً من المؤمنين، وأن يكفيهم فقده، ويجبر مصيبتهم، والحاجة إلى أحد من خلقه بقدرته. وكتب في شعبان سنة ثلاث ومائتين.(21/410)
قال إسماعيل بن يحيى المزني: دخلت على محمد بن إدريس الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت: يا أبا عبد الله، كيف أصبحت؟ قال؛ فرفع رأسه، فقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، ولسوء فعلي - وفي رواية: عملي - ملاقياً، وعلى الله وارداً، ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أو - في رواية: أم - إلى الناس فأعزيها، ثم بكى، وأنشأ يقول: " من الطويل "
إليك إله الخلق أرفع رغبتي ... وإن كنت يا ذا المن والجود مجرما
فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منة وتكرما
فلولاك ما يقوى بإبليس عابد ... فكيف وقد أغوى صفيك آدما
فإن تعف عني تعف عن متمرد ... ظلوم غشوم ما يزايل مأثما
وإن تنتقم مني فلست بآيس ... ولو أدخلت نفسي بجرمي جهنما
فجرمي عظيم من قديم وحادث ... وعفوك يا ذا العفو أعلى وأجسما
قال الربيع بن سليمان المرادي: دخلت على الشافعي وهو مريض، فسألني عن أصحابنا، فقلت: إنهم يتكلمون. فقال لي الشافعي: ما ناظرت أحداً قط على الغلبة، وبودي أن جميع الخلق تعلموا هذا الكتاب - يعني كتبه - على ألا ينسب إلي منه شيء. قال هذا الكلام يوم الأحد، ومات هو يوم الخميس، وانصرفنا من جنازته ليلة الجمعة ورأينا هلال شعبان سنة أربع ومائتين.(21/411)
وسئل الربيع عن سن الشافعي، فقال: نيف وخمسون سنة.
ومن طريق آخر عن الربيع: مات الشافعي سنة أربع ومائتين، وهو ابن أربع وخمس سنة.
قال عبد الله بن عدي الحافظ: قرأت على قبر محمد بن إدريس الشافعي بمصر على لوحين حجارة، أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه نسبته إلى إبراهيم الخليل: هذا قبر محمد بن إدريس الشافعي، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمر وهو من المسلمين، عليه يحيا، وعليه مات، وعليه يبعث حياً إن - شاء الله - وتوفي أبو عبد الله ليوم بقي من رجب سنة أربع ومائتين.
قال الربيع: كنا جلوساً في حلقة الشافعي بعد موته بيسير، فوقف علينا أعرابي، فسلم ثم قال: أين قمر هذه الحلقة وشمسها؟ فقلنا: توفي - رضي الله عنه - فبكى بكاء شديداً وقال: رحمه الله، وغفر له، فلقد كان يفتح ببيانه منغلق الحجة، ويسد على خصمه واضح المحجة، ويغسل من العار وجوهاً مسودة، ويوسع بالرأي أبواباً منسدة.
قال أحمد بن حنبل: رأيت الشافعي أبا عبد الله بن إدريس في المنام، فقلت له: يا أخي، ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، وتوجني، وزوجني، وقال لي: هذه بما لم تزه بما أرضيتك، ولم تتكبر فيما أعطيتك.(21/412)
قال الربيع بن سليمان: رأيت الشافعي بعد وفاته في المنام، فقلت: يا أبا عبد الله، ما صنع الله بك؟ قال: أجلسني على كرسي من ذهب، ونثر علي اللؤلؤ الرطب.
قال أبو عبد الله الهروي الحافظ: رأيت قبر أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، ووقفت عليه، وهو بالقرب من قبور آل عبد الله بن عبد الحكم، وترحمت عليه، وأحسبه رأيته قبراً لاطئاً بالأرض، ودفوف حول صغار.
أنشد أبو الغنائم الحسن بن علي بن حماد لبعض الأعراب وقد عبر بقبر الشافعي: " من السريع "
راحت وفود الأرض عن قبره ... فارغة الأيدي ملاء القلوب
قد علمت ما رزئت، إنما ... يعرف فقد الشمس بعد الغروب
أظلمت الآفاق من بعده ... وعريت من كل حسن وطيب
قال عثمان بن خرزاذ الأنطاكي: رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وكأن الخلائق قد حشروا، وكأن الله قد برز لفصل الفضاء، وكان منادياً ينادي من بطنان العرش: ألا أدخلوا الجنة أبا عبد الله، وأبا عبد الله، وأبا عبد الله، وأبا عبد الله. فقلت لملك إلى جنبي: من هؤلاء آباء عبد الله؟ فقال: أما أولهم فسفيان الثوري، وأما ثانيهم فمالك بن أنس، وأما ثالثهم فمحمد بن إدريس الشافعي، وأما رابعهم فأحمد بن حنبل، أئمة أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سيق بهم إلى الجنة.
قال أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي يرثي أبا عبد الله الشافعي: " من الطويل "
ألم تر آثار ابن إدريس بعده ... دلائلها في المشكلات لوامع(21/413)
معالم يفنى الدهر وهي خوالد ... وتنخفض الأعلام وهي فوارع
مناهج فيها للهدى متصرف ... موارد فيها للرشاد شرائع
ظواهرها حكم ومستبطناتها ... لما حكم التفريق فيه جوامع
لرأي ابن إدريس ابن عم محمد ... ضياء إذا ما أظلم الخطب ساطع
إذا المفظعات المشكلات تشابهت ... سما منه نور في دجاهن لامع
أبى الله إلا رفعه وعلوه ... وليس لما يعليه ذو العرش واضع
توخى الهدى واستنقذته يد التقى ... من الزيع إن الزيع للمرء صارع
ولاذ بآثار الرسول فحكمه ... لحكم رسول الله في الناس تابع
وعول في أحكامه وقضائه ... على ما قضى في الوحي والحق ناصع
بطيء عن الرأي المخوف التباسه ... إليه إذا لم يخش لبساً يسارع
جرت لبحور العلم أمداد فكره ... لها مدد في العالمين يتابع
وأنشأ له منشيه من خير معدن ... خلائق هن الباهرات البوارع
تسربل بالتقوى وليداً وناشئاً ... وخص بلب الكهل مذ هو يافع
وهذب حتى لم تشر بفضيلة ... إذا التمست إلا إليه الأصابع
فمن يك علم الشافعي إمامه ... فمرتعه في باحة العلم واسع
سلام على قبر تضمن جسمه ... وجادت عليه المدجنات الهوامع
لئن فجعتنا الحادثات بشخصه ... لهن لما حكمن فيه فواجع
فأحكامه فينا بدور زواهر ... وآثاره فينا نجوم طوالع(21/414)
قال الحافظ ابن عساكر:
قد جمع الناس في فضائل الشافعي - رحمه الله - فأكثروا، وفضله - رحمه الله - أكثر مما جعلوا وسطروا. ولأبي الحسين الرازي - والد تمام - أخباره، ولأبي بكر البيهقي في فضله مجلد ضخم، ولأبي الحسن الآبري مجلد ضخم. ولا يحتمل هذا الكتاب أكثر مما ذكرنا، فلذلك اقتصدنا، واقتصرنا، والله يتغمده برضوانه، ويجمع بيننا وبينه في مستقر جنانه.
/(21/415)
محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران أبو حاتم الرازي مولى تميم بن حنظلة الغطفاني الحنظلي.
قدم دمشق طالباً للعلم.
حدثنا أبو حاتم الرازي عن داود بن عبد الله، بسنده إلى أبي ذر، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله يقول: يا ابن آدم! إن لقيتني بملء الأرض ذنوباً، لا تشرك بي شيئاً، لقيتك بملء الأرض مغفرة ".
وروى عن عمرو بن الربيع، بسنده إلى أنس بن مالك، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " اطلبوا الخير دهركم، وتعرضوا نفحات الله عز وجل، فإن لله تبارك وتعالى نفحات يصيب بها من يشاء من عباده. وسلوا الله أن يستر عوراتكم ويؤامن روعاتكم ".
وعن داود، بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خير نساء العالم مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة، وفاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".(22/9)
وروى عن سليمان بن عبد الرحمن، بسنده إلى أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا جلس بين شعبها الأربع، فقد وجب الغسل ".
وروى عن محمد بن عمار بسنده، عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أوصي من آمن بي وصدقني بولاية علي بن أبي طالب، فمن تولاه فقد تولاني، ومن تولاني فقد تولى الله، ومن أحبه فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله. ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله عز وجل ".
حدث عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبي يقول: أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سنتين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، لم أزل أحصي حتى ما زاد على ألف فرسخ تركته.
قال: وسمعت أبي يقول: بقيت بالبصرة في سنة أربع عشرة ومائتين ثمانية أشهر، وكان في نفسي أن أقيم سنة، فانقطعت نفقتي، فجعلت أبيع ثيابي شيئاً بعد شيء، حتى بقيت بلا نفقة، ومضيت أطوف مع صديق لي إلى المشيخة، وأسمع منهم إلى المساء، فانصرف رفيقي. ورجعت إلى بيت خال، فجعلت أشرب الماء من الجوع، ثم أصبحت من الغد، وغدا علي رفيقي، فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد، فانصرف عني، فانصرفت جائعاً. فلما كان الغد غدا علي فقال: مر بنا إلى المشايخ. فقلت: أنا ضعيف لا يمكني. قال: ما ضعفك؟ قلت: لا أكتمك أمري، قد مضى يومان ما طعمت فيهما. فقال لي رفيقي: معي دينار، فأنا أواسيك بنصفه، ونجعل النصف الآخر في الكراء. فخرجنا من البصرة، وقبضت منه النصف دينار.
أجمعوا على توثيقه، ووصفوه بالإتقان والتثبت والحفظ.(22/10)
وقال: سمعت أبي يقول: قلت على باب أبي الوليد الطيالسي: من أغرب علي حديثاً غريباً مسنداً صحيحاً لم أسمع به، فله علي درهم يتصدق به. وقد حضر على أبي الوليد خلق من الخلق؛ أبو زرعة فمن دونه. وإنما كان مرادي أن أستخرج منهم ما ليس عندي، فما تهيأ لأحد منهم أن يغرب علي حديثاً.
قال أبو حاتم: قال لي أبو زرعة: ترفع يديك في القنوت؟ قلت: لا. فقلت له: فترفع أنت؟ قال: نعم. فقلت: ما حجتك؟ قال: حديث ابن مسعود. قلت: رواه ليث بن أبي سليم. قال: حديث أبي هريرة. قلت: رواه ابن لهيعة. قال: حديث ابن عباس. قلت: رواه عوف. قال: فما حجتك في تركه؟ قلت: حديث أنس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء. فسكت.
وحدث ابن أبي حاتم الرازي قال: سمعت أبي يقول: اكتب أحسن ما تسمع، واحفظ أحسن ما تكتب، وذاكر بأحسن ما تحفظ.
وأنشد: من الطويل
تفكرت في الدنيا فأبصرت رشدها ... وذللت بالتقوى من الله خدها
أسأت بها ظناً فأخلفت وعدها ... وأصبحت مولاها وقد كنت عبدها
مات أبو حاتم الرازي سنة سبع وسبعين ومئتين، وقال ابن يونس: سنة خمس وسبعين ومئتين.(22/11)
محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن صالح أبو بكر العقيلي الأصبهاني الفابزاني حدث عن محمد بن سلم، بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إنه لينادي المنادي يوم القيامة: أين فقراء أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فيقوموا فيصفوا صفوف القيامة. ألا من أطعمكم أكلة أو سقاكم شربة أو كساكم خلقاً أو جديداً، فخذوا بيده، فأدخلوه الجنة. فلا يزال صاحبه قد تعلق بصاحبه وهو يقول: يا رب العالمين هذا أرواني، ويقول الآخر: هذا كساني. فلا يبقى من فقراء أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صغير ولا كبير إلا أدخلهم الله الجنة ".
وعن هشام بن عمار بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المشاؤون إلى المساجد في الظلم، أولئك الخواضون في رحمة الله عز وجل ".
توفي محمد بن إسحاق بن إبراهيم العقيلي سنة ثلاث وثمانين ومئتين.
محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد بن مهران أبو بكر الضرير البغدادي الصفار شيخ ثقة، أصله من الشام.(22/12)
أنبأنا أبو بكر محمد بن إسحاق الصفار، عن محمد بن صالح بسنده إلى ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أبيت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آتيه بوضوئه وبحاجته، فقال: " سلني " قلت: مرافقتك في الجنة. قال: " أو غير ذلك؟ " قال: فقلت: هو ذاك. قال: " فأعني على نفسك بكثرة السجود ".
رواه أبو داود والنسائي عن هشام.
محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله الأنطاكي المعروف بأخي العريف روى عن أبي بكر محمد بن عمر الجعابي بسنده إلى علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من أفتى بغير علم، لعنته ملائكة السماء والأرض ".
محمد بن إسحاق بن إسماعيل بن مسروق العذري، والد أبي قصي روى عن معروف الخياط عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من شهد جنازة فحمل بأربع زوايا السرير، ومشى أمامها، وجلس حتى يدفن، كتب له قيراطان من أجر، أخفهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أحد ".(22/13)
محمد بن إسحاق بن جعفر - ويقال ابن إسحاق - بن محمد أبو بكر الصغاني ثم البغدادي الحافظ من ثقات الرحالين وأعيان الجوالين، أصله من خراسان، وسكن بغداد.
روى عن روح بن عبادة، بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تخلط بسراً بتمر، أو زبيباً بتمر، أو زبيباً ببسر. وقال: " من شربه منكم فليشرب كل واحد منه فرداً: تمراً فرداً، أو بسراً فرداً، أو زبيباً فرداً ".
رواه مسلم عن أبي بكر الصغاني.
وعن سعيد بن أبي مريم، بسنده إلى أبي سعيد الخدري أنه قال: خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أضحى أو فطر إلى المصلى، فصلى، ثم انصرف، فقام فوعظ الناس، وأمرهم بالصدقة فقال: " يا أيها الناس تصدقوا " ثم انصرف فمر على النساء فقال: " يا معشر النساء تصدقن، فإني أراكن أكثر أمل النار " فقلن: وبم ذاك يا رسول الله؟ قال: " تكثرن اللعن، وتكفرن العشير ".
رواه مسلم عن محمد بن إسحاق.
وعن عفان بسنده إلى أبي هريرة أن أعرابياً جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا أنا عملته دخلت الجنة. قال: " تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان " قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا شيئاً أبداً،(22/14)
ولا أنقص منه. فلما ولى، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ".
رواه مسلم عنه.
مات أبو بكر محمد بن إسحاق الصغاني سنة سبعين ومئتين.
محمد بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي الطلحي حدث عن بشر بن مرحوم، بسنده إلى أبي موسى الأشعري أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن أمتي أمة مرحومة، جعل عذابها بأيديها في الدنيا ".
محمد بن إسحاق بن عمرو بن عمر بن عمران أبو الحسن القرشي المؤذن، المعروف بابن الحريص ختن هشام بن عمار.
حدث عن هشام بن عمار، بسنده إلى معاوية بن حيدة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الغضب يفسد الإيمان، كما يفسد الصبر العسل ". ثم قال: " يا معاوية بن حيدة! إن استطعت أن تلقى الله - عز وجل - وأنت تحسن الظن به فافعل، فإن الله عند ظن عبده به ".
توفي محمد بن إسحاق بن الحريص سنة ثمان وثمانين.(22/15)
محمد بن إسحاق بن محمد بن أحمد ابن إسحاق بن عبد الرحمن بن يزيد بن موسى أبو جعفر الحلبي والد القاضي أبي الحسن علي بن محمد.
حدث عن الخريمي، بسنده إلى أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصلينا معه الفجر، فلما قضى صلاته قال: " ها هنا فلان؟ " قلنا: لا، قال: " ففلان شاهد؟ " قلنا: نعم، قال: " إنه لا صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الغذاة والعشاء الآخرة، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما، ولو حبواً " ثم قال: " الصف الأول على صف الملائكة، وصلاة الرجلين أفضل من صلاة الرجل وحده، وصلاة الثلاثة أفضل من صلاة الرجلين، وما أكثرت فهو أحب إلى الله ".
وحدث عن أبيه، بسنده إلى قتادة قال: سمع عمر بن الخطاب رجلاً يتبع القصص، فقال له: أتحسن سورة يوسف؟ قال: نعم. قال: اقرأها. فقرأ حتى بلغ " نحن نقص عليك أحسن القصص.. "، فقال عمر: أفتريد أحسن من أحسن القصص؟! توفي أبو جعفر محمد بن إسحاق سنة أربع وخمسين وثلاث مئة.
محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى ابن منده - واسمه إبراهيم بن الوليد - بن سنده بن بطة بن استدار أبو عبد الله العبدي الحافظ أحد المكثرين والمحدثين الجوالين، قدم دمشق.(22/16)
حدث عن عبد الله بن يعقوب المعدل، بسنده إلى عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الله الله في أصحابي! لا تتخذوهم غرضاً من بعدي. فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم. ومن آذاهم، فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله ".
وعن أحمد بن علي المقرئ، بسنده، إلى أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من نسي صلاة أو نام عنها، فإن كفارتها أن يصليها إذا ذكرها ".
وعن سهل بن السري، بسنده عن جابر بن عبد الله عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رأى رجلاً شعث الرأس فقال: " ما لهذا ما يسكن به شعره؟! ".
كان أبو عبد الله محمد بن إسحاق ديناً ثقة صالحاً كثير الحفظ، كتب على ألف شيخ، وثقة كثيرون. وقال بعضهم إن له في معرفة الصحابة أوهاماً وإنه اختلط في آخر عمره.
توفي أبو عبد الله بن منده سنة خمس وتسعين وثلاث مئة، وقيل ست وتسعين.
محمد بن إسحاق بن هاشم بن يعقوب بن رافع أبو عبد الله الهاشمي الرافعي مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعرف باليتيم.
حدث عن سعيد بن عبد العزيز، بسنده إلى عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسعة أو ثمانية أو سبعة، قال: " ألا تبايعون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ " وكنا حديث عهد ببيعة، قلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: "(22/17)
ألا تبايعون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ " قلنا: ألسنا قد بايعناك يا رسول الله؟ فقال: " ألا تبايعون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟: " قال: فبسطنا أيدينا، فبايعناه، فقال قائل منا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: " على أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وأن تسمعوا وتطيعوا، وأسر كلمة خفية، ولا تسألوا الناس شيئاً ".
فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه، فلا يسأل أحداً يناوله إياه! محمد بن إسحاق بن يزيد أبو عبد الله البغدادي المعروف بالصيني قدم دمشق.
حدث عن شجاع بن الوليد، بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أقربكم مني منزلاً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً في الدنيا ".
وعن نصر بن حماد، بسنده إلى ابن عباس قال: وقف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قتلى بدر فقال: " جزاكم الله عني من عصابة شراً، فقد خونتموني أميناً، وكذبتموني صادقاً " ثم التفت إلى أبي جهل بن هشام، فقال: " هذا أعتى على الله عز وجل من فرعون؛ إن فرعون لما أيقن بالهلكة وحد الله، وإن هذا لما أيقن بالموت دعا باللات والعزى ".
سئل أبو عون بن عمرو بن عون عن محمد بن إسحاق الصيني فقال: هو كذاب.
محمد بن إسحاق بن يعقوب بن إبراهيم أبو بكر دمشقي.(22/18)
حدث عن عبد الله بن جعفر، بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اتقوا الله في الضعيفين: المملوك والمرأة ".
وعن محمد بن حمدان البلخي بسنده إلى يحيى بن أبي كثير قال: ولد الزنا لا يكتب الحديث.
محمد بن إسحاق أبو عبد الله الرملي روى عن هشام بن عمار، بسنده إلى أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لما قضى الله الخلق كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي ".
محمد بن إسحاق أبو جعفر الزوزني القارئ
قدم دمشق حاجاً.
حدث عن محمد بن علي بسنده إلى أنس بن مالك قال: من صام يوماً تطوعاً، فلو أعطي ملء الأرض ذهباً، ما وفي أجره يوم الحساب.
قال ابن عساكر: كذا ذكر هذا الحديث موقوفاً، وقد وقع لي مرفوعاً بعلو.(22/19)
محمد بن إسحاق المصري حدث عن جده قال: قال ذو النون: كل محب ذليل، وكل خائف هارب، وكل راج طالب، وكل عاص مستوحش، وكل مطيع مستأنس.
مات محمد بن إسحاق المصري سنة أربع وأربعين وخمس مئة.
محمد بن أسد أبو عبد الله الإسفراييني الحوشي حدث عن مران بن معاوية، بسنده إلى طارق بن الأشيم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دونه، حرم الله ماله ودمه، وحسابه على الله ".
محمد بن أسد بن هلال بن إبراهيم أبو طاهر الرقي الأشناني إمام جامع الرقة.
حدث عن عبد الله بن قثم، بسنده إلى جرير، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أول الأرضين خراباً يسراها ثم يمناها ".(22/20)
محمد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد بن سعيد أبو بكر الكشي الجوهري اجتاز بدمشق أو بأعمالها عند توجهه إلى مصر.
أنبأنا أبو بكر محمد بن إسماعيل بن أحمد الكجي الجوهري، عن إسماعيل بن الحسين، بسنده إلى عبد الله بن عمر، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " ما كبر الحاج من تكبيرة، ولا هلل من تهليلة، إلا بشر بها تبشيرة ".
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي البصري المعروف بابن علية ولي القضاء بدمشق.
حدث عن يحيى بن السكن، بسنده إلى عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان واللقمة واللقمتان - زاد في رواية - ومن سأل الناس ليثري ماله، فإنما هو رضف من النار فيلهبه، فمن شاء فليقل، ومن شاء فليكثر ".
وثقه النسائي، وقال الدارقطني: لا بأس به.
لم يزل محمد بن إسماعيل قاضياً بدمشق حتى توفي سنة أربع وستين ومئتين.(22/21)
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم أبو عبد الله الجعفي البخاري الإمام صاحب الصحيح والتاريخ. سمع بدمشق.
حدث الإمام البخاري عن مكي بن إبراهيم بسنده إلى سلمة أنه أخبره قال: خرجت من المدينة ذاهباً نحو الغابة، حتى إذا كنت بثنية الغابة، لقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف، قلت: ويحك ما بك؟ قال: أخذت لقاح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قلت: من أخذها؟ قال: غطفان وفزارة. فصرخت ثلاث صرخات أسمعت ما بين لابتيها: يا صاحباه، يا صاحباه! ثم اندفعت حتى ألقاهم، وقد أخذوها، فجعلت أرميهم وأقول:
أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع
فاستنقذتها منهم قبل أن يشربوا، فأقبلت بها أسوقها، فلقيني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: يا رسول الله، إن القوم عطاش، وإني أعجلتهم أن يشربوا سقيهم، فابعث في أثرهم. فقال: " يا ابن الأكوع، ملكت، فأسجح، إن القوم يقرون في قومهم ".
قال أحمد بن سعدان البخاري: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن مغيرة بن بردزبه البخاري، وبردزبه مجوسي مات عليها. والمغيرة بن بردزبه أسلم على يدي يمان البخاري والي بخارى، ويمان هذا هو(22/22)
أبو جد عبد الله بن محمد المسندي. وعبد الله بن محمد هو ابن جعفر بن يمان البخاري الجعفي. والبخاري قيل له جعفي لأن أبا جده أسلم على يدي أبي جد عبد الله المسندي، ويمان جعفي، فنسب إليه لأنه مولاه من فوق. وعبد الله قيل له مسندي لأنه كان يطلب المسند من حداثته.
قال بكر بن منير: بردزبه هو بالبخارية. وبالعربية الزراع.
قال أبو عمرو المستنير: سألت أبا عبد الله بن محمد بن إسماعيل: متى ولدت؟ فأخرج لي خط أبيه: ولد محمد بن إسماعيل يوم الجمعة، بعد الجمعة، لثلاث عشرة ليلة مضت من شوال، سنة أربع وتسعين ومئة.
قال الحسن بن الحسين البزاز: رأيت محمد بن إسماعيل بن إبراهيم شيخاً نحيف الجسم، ليس بالطويل، ولا بالقصير.
حدث محمد بن الفضل البلخي قال: ذهبت عينا محمد بن إسماعيل البخاري في صغره، فرأت والدته في المنام إبراهيم الخليل، فقال لها: يا هذه، قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك، أو لكثرة دعائك، قال: فأصبحنا وقد رد الله عليه بصره.
حدث محمد بن أبي حاتم الوراق النحوي قال:
قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: كيف كان بدء أمرك في طلب الحديث؟ قال: ألهمت حفظ الحديث، وأنا في الكتاب. قال: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ قال: عشر سنين أو اقل. ثم خرجت من الكتاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخلي(22/23)
وغيره، وقال يوماً فيما يقرأ للناس: سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم فقلت له: يا أبا فلان، إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم. فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل، إن كان عندك. فدخل ونظر فيه، ثم خرج فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم. فأخذ القلم مني، وأحكم كتابه، فقال: صدقت. فقال له بعض أصحابه: ابن كم كنت إذ رددت عليه؟ فقال: ابن إحدى عشرة. فلما طعنت في ست عشرة، حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء. ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة. فلما حججت، رجع أخي، وتخلفت بها في طلب الحديث. فلما طعنت في ثمان عشرة، جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وذلك أيام عبيد الله بن موسى. وصنفت كتاب التاريخ إذ ذاك عند قبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الليالي المقمرة. وقال: كل اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة. إلا أني كرهت تطويل الكتاب.
وقال البخاري أيضاً: كتبت على ألف نفر من العلماء وزيادة، ولم أكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل، ولم أكتب قمن يقول: الإيمان قولي.
سمع حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان: كان أبو عبد الله محمد بن إسماعيل يختلف معنا إلى مشايخ البصرة، وهو غلام، فلا يكتب، حتى أتى على ذلك أيام. فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما معناك فيما تصنع؟ فقال لنا بعد ستة عشر يوماً: إنكما قد أكثرتما علي وألححتما، فاعرضا علي ما كتبتما. فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها على ظهر القلب، حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه. ثم قال: أترون أني أختلف هدراً وأضيع أيامي؟! فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد.(22/24)