صاحبه. واحذر نفسك واتهمها، ولاتحملها على الرخاء والدعة واحملها على مكروهها. وأكثر الصمت؛ فإنه زعة من الخطايا، وسلامة من الشر، ثم انزل الدنيا منزل ظعن، حتى تؤثره على الجهل، ولا الحق حتى تذر الباطل؛ فلا يكونن الحق عندك ضعيفاً، ولا الباطل لك أخاً وصاحباً.
وكتب إليه:
ليس من أحد من الناس رشده وصلاحه أحب من رشدك وصلاحك إلا أن يكون والي عصابةٍ من المسلمين، أو من أهل العهد، يكون لهم في صلاحه مالا يكون لهم في غيره، أو يكون عليهم من فساده مالا يكون عليهم من غيره.
وقال عمر لميمون بن مهران: إن ابني عبد الملك آثر ولدي عندي، وقدرين على علمي بفضله، فاستبره لي، ثم ائتني بعلمه، وأدبه وعقله، وانظر هل ترى منه مايشاكل نحوه؛ فإنه شاب! فخرج إلى عبد الملك، فنظر في أحواله، وتتبع أقواله وأفعاله، فلم ير شاباً مثله.
وقال ميمون بن مهران: قال لي عمر بن عبد العزيز: أما دخلت علي عبد الملك؟ فأتيت الباب، فإذا وصيف، فقلت له: استأذن عليه، فقال: ادخل، فدخلت عليه، فقال: من أنت؟ قلت: ميمون بن مهران، معرف. ثم حضر طعامه، فأتى بقلية مدنية - وهي عظام اللحم - ثم أتى بثريدة قد ملئت خبزاً وشحماً، ثم أتى بتمرٍ وزبدٍ. فقلت: لو كلمت أمير المؤمنين، فخصك منه بخاصة؟ فقال: إني لأرجو أن يكون أوفى حظاً عند الله من ذلك، إني في ألفين كان سليمان ألحقني فيهما، والله لو كان إلى أبي في نفسي ما فعل، ولي غلة بالطائف إن سلمت لي أتاني منها غلة ألف درهم، فما أصنع بأكثر من ذلك؟ فقلت في نفسي: أنت لأبيك.(15/200)
وأمر عمر بن عبد العزيز غلامه بأمرٍ، فغضب عمر، فقال له ابنه عبد الملك: يا أبتاه، ما هذا الغضب والاختلاط؟! فقال له عمر: إنك لمحتكم، يا عبد الملك؟ فقال له عبد الملك: لا والله، ما هو التحكم، ولكنه الحكم.
وقال عمر بن عبد العزيز: لولا أن أكون زين لي من أمر عبد الملك ما يزين في عين الوالد من الولد أنه أهل الخلافة.
ودخل عبد الملك على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، ماذا تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقاً لم يحيه، وباطلاً لم تمته؟ قال: اقعد يا بني، إن آباءك وأجدادك خدعوا الناس عن الحق، فانتهت الأمور إلي، وقد أقبل شرها، وأدبر خيرها، ولكن، أليس حسبي جميلاً ألا تطلع الشمس علي في يومٍ إلا أحييت فيه حقاً، وأمت فيه باطلاً حتى يأتيني الموت وأنا على ذلك؟ وجمع عمر بن عبد العزيز قراء أهل الشام، فقال: إني قد جمعتكم لأمر قد أهمني؛ هذه المظالم التي في يدي أهل بيتي، ما ترون فيها؟ قال: فقالوا: ما نرى وزرها إلا على من اغتصبها. قال: فقال لعبد الملك ابنه: ما ترى أي بني؟ قال: ما أرى من قدر على أن يردها فلم يردها، والذي اغتصبها إلا سواء ". قال: قال: صدقت أي بني، قال: ثم قال: الحمد لله الذي جعل لي وزيراً من أهلي عبد الملك ابني ثم دخل عبد الملك على أبيه فقال: أين وقع رأيك من رد المظالم؟ فقال عمر: على إنفاذه، أصلي الظهر - إن شاء الله - ثم أصعد المنبر، فأردها على رؤوس الناس. فقال عبد الملك: يا أمير المؤمنين، من لك بالظهر؟ ومن لك، يا أمير المؤمنين إن بقيت، أن تسلم لك نيتك للظهر؟ قال عمر: فقد تفرق الناس للقائلة، فقال عبد الملك: تأمر منادياً، فينادي: الصلاة جامعة، حتى يجتمع الناس، فأمر منادياً، فنادى، فاجتمع الناس، وقد جيء بسفط، أو جونة، فيها تلك الكتب، وفي يد عمر جلم يقصه، حتى نودي بالظهر.(15/201)
قالوا لعبد الملك بن عمر بن عبد العزيز: أبوك خالف قومه، وفعل، وصنع، فقال: إن أبي يقول: " قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يومٍ عظيم ". قال: ثم دخل على أبيه فأخبره، فقال: فأي شيء قلت؟ ألا قلت: إن أبي يقول: " إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم " قال: قد فعلت دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في وجعه، فقال: يا بني، كيف تجدك؟ قال: أجدني في الحق، قال: يا بني، لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك. قال ابنه: وأنا يا أبه، لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب.
فلما هلك عبد الملك قال عمر: يا بني، لقد كنت في الدنيا كما قال جل ثناؤه: " المال والبنون زينة الحياة الدنيا " ولقد كنت أفضل زينتها، وإني لأرجو أن تكون اليوم من الباقيات الصالحات التي هي خير ثواباً، وخير أملاً، والله ما يسرني أن دعوتك من جانبٍ فأجبتني.
ومما عزي به عمر بن عبد العزيز بيتان أنشدهما أعرابي من بني طلاب: من الطويل
تعز أمير المؤمنين فإنه ... لما قد ترى يغذى الصغير ويولد
هل ابنك إلا من سلالة آدمٍ ... وكل على حوض المنية مورد
وعن زياد بن أبي حسان:
أنه شهد عمر بن عبد العزيز حين دفن ابنه عبد الملك؛ قال: لما سوي عليه جعلوا في قبره خشبتين من زيتون إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه، فلما سوى عليه قام على قبره، وطاف به الناس، فقال: يرحمك الله يا بني، قد كنت براً بأبيك، ومازلت مذ وهبك الله لي بك مسروراً، ولا والله ما كنت قد أشد سروراً، ولا أرجى لحظي من(15/202)
الله فيك منذ وضعتك في المنزل الذي صيرك الله إليه؛ فرحمك الله، وغفر لك ذنبك، وتجاوز له لك عن سيئة، ورحم الله كل شافع يشفع لك بخيرٍ من شاهد وغائب، رضينا بقضاء الله، وسلمنا لأمره، والحمد لله رب العالمين.
وعن جعونة قال: لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز جعل يثني عليه، فقال له مسلمة: لو بقي كنت نعهد إليه؟ قال: لا، ولم، وأنت تثني عليه؟ قال: أخاف أن يكون زين في عيني منه مازين في عين الوالد من ولده.
وقيل: إن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز كان ابن تسع عشرة سنة " حين مات.
عبد الملك بن عمير اللخمي
من أهل قرية نوى من قرى دمشق روى عن عروة بن رويم اللخمي، أنه سمع أنس بن مالك يحدث الخليفة بالجابية قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الإيمان يمانٍ، والحكمة في هذين الحيين من لخم وجذام " وسماه البخاري عبد الكريم بن محمد اللخمي، وقد تقدم، وتقدم الحديث من طريقه.
عبد الملك بن قريب بن عبد الملك
ابن علي بن أصمع بن مظهر بن رياح بن عمرو بن عبد شمس بن أعيا بن سعد ابن عبد بن غنم بن قتيبة بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان أبو سعيد الباهلي الأصمعي البصري صاحب اللغة روى عن كيسان مولى هشام بن حسان بسنده عن المغيرة بن شعبة قال: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرعون بابه بالأظافير.(15/203)
ونروى عن يعقوب بن طحلاء، عن أبي الرجال، عن أمه عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بيت لاتمر فيه جياع أهله " وذكر قعنب بن محرر أبو عمر الباهلي، أن الأصمعي حدثه قال: رأيت حكم الوادي حين مضى المهدي إلى بيت المقدس، فعرض له في الطريق، وكان له شعيرات. فأخرج دفاً ينقر به، فقال: أنا القائل: مجزوء الخفيف
فمتى تخرج العرو ... س فقد طال حبسها
قد دنا الصبح أو بدا ... وهي لم تقض لبسها
فتسرع إليه الحرس، فصيح بهم: كفوا. وسأل عنه، فقيل: حكم الوادي. فأدخله إليه ووصله.
وروى يعقوب بن سفيان قال: سمعت الأصمعي يقول: مررت بالشام على باب ديرٍ، وإذا على حجر منقور بالعبرانية، فقرأتها، فأخرج راهب رأسه من الدير، وقال لي: ياحنيفي، أتحسن تقرأ العبرانية؟ قلت: نعم، قال لي: اقرأ، فقلت: من الوافر
أيرجو معشر قتلوا حسينا ... شفاعة جدة يوم الحساب
فقال لي الراهب: ياحنيفي؟، هذا مكتوب على هذا الحجر قبل أن يبعث صاحبك بثلاثين عاماً.
قال ابن معين: روى مالك عن عبد الملك بن قرير، وإنما هو: ابن قريب؛ قال الأصمعي: سمع مني مالك. كذا قال يحيى، ووهم في ذلك، إنما هو عبد الملك بن قرير، أخو عبد العزيز بن قرير.(15/204)
قال التوزي: كنا عند الأصمعي، وعنده قوم قصدوه من خراسان، وأقاموا على بابه، فقال له قائل منهم: يا أبا سعيد، إن خراسان ترجف بعلم بالبصرة، وعلمك خاصة "، وما رأينا أصح من علمك. فقال: لا عذر لي إن لم يصح علمي، دع من لقيت من العلماء، والفقهاء والرواة للحديث، والمحدثين، ولكن قد لقيت من الشعراء الفصحاء، وأولاد الشعراء - فعدهم ثم قال: - وما عرف هؤلاء غير الصواب، فمن أين لا يصح علمي؟! وهل يعرفون أحداً له مثل هذه الرواية؟!.
قال المبرد: كان الأصمعي أسد الشعر، والغريب، والمعاني، وكان أبو عبيدة كذلك، ويفضل على الأصمعي بعلم النسب، وكان الأصمعي أعلم منه بالنحو ويقال: إن الرشيد كان يسميه شيطان الشعر. وكان الأصمعي صدوقاً في الحديث. عنده عن ابن عون، وحماد ين سلمة، وحماد بن زيد وغيرهم. وعنده القراءات عن أبي عمرو، ونافع، وغيرهما، ويتوقى تفسير شيءٍ من القرآن والحديث على طريق اللغة، وأكثر سماعة من الأعراب، وأهل البادية.
قال له أعرابي وقد رآه يكتب كل شيء " ما تدع شيئاً إلا نمصته - أي نتفته.
وقال له آخر: أنت حتف الكلمة الشرود
وأبو سعيد الأصمعي عند أهل الأدب أشهر من أبي عبيدة، وأبو عبيدة عند أهل الحديث أصدق من الأصمعي.
قال الأخفش: ما رأينا أحداً أعلم بالشعر من الأصمعي وخلف، والأصمعي أعلم لأنه كان معه نحو. قال الأصمعي: حدث يوماً شعبة بحديث، فقال فيه: فذوى السواك. فقال له رجل(15/205)
حضره: إنما هو: فذوي. فنظر إلي شعبة، وأومأ بيده فقلت له: القول ما تقول. فزجر القائل.
وقال له شعبة: لو أتفرغ لجئتك.
وقال له: إني وصفتك لحماد بن سلمة، وهو يحب أن يراك. قال: فوعدته يوماً، فذهبت معه إليه، فسلمت عليه، فحيا، ورحب. ثم قال لي: كيف تنشد هذا البيت: " أولئك قوم إن بنوا أحسنوا ... "؟ فقلت:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
- يعني بكسر الباء - فقال لي: انظر جيداً، فنظرت، فقلت: لست أعرف إلا هذا. فقال: يا بني، " أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا "، القوم إنما بنو المكارم، ولم يبنوا باللبن والطين! قال: فلم أزل هائباً لحماد بن سلمة، ولزمته بعد ذلك.
قال ثعلب: وقيل للأصمعي: كيف حفظت ونسي أصحابك؟ قال: درست وتركوا.
وقال الأصمعي: أحفظ ست عشرة ألف أرجوزة وقال ابن الأعرابي: شهدت الأصمعي وقد أنشد نحواً من مائتي بيت ما فيها بيت عرفناه.
وقال الشافعي: ما عبر أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي. ما رأيت بذلك العسكر أصدق لهجة " من الأصمعي.
وقال يحيى بن معين: الأصمعي ثقة وسئل عنه أبو داود فقال: صدوق.(15/206)
وزعم الباهلي صاحب المعاني أن طلبة العلم كانوا إذا أتوا مجلس الأصمعي اشتروا البعر في سوق الدر، وإذا أتوا أبا عبيدة اشتروا الدر في سوق البعر. والمعنى أن الأصمعي كان حسن الإنشاد والزخرفة لردىء الأخبار والأشعار حتى يحسن عنده القبيح، وأن الفائدة عنده مع ذلك قليلة، وأن أبا عبيدة كان معه سوء عبارة، وفوائد كثيرة، والعلم عنده جم.
وقال عمرو بن مرزوق: رأيت الأصمعي وسيبويه يتناظران، فقال يونس: الحق مع سيبويه، وهذا يغلبه بلسانه.
قال حماد بن إسحاق الموصلي: قال لي يوماً هارون أمير المؤمنين الواثق: إن لي حاجة إليك، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن هذا الكلام يجل عني، إنما أنا عبد من عبيد أمير المؤمنين، يأمرني فأأتمر، قال: قد جعلتها حاجة "، فقلت: يقول أمير المؤمنين ما أحب، فقال: أحب أن تترك لي التشاغل بالأصمعي؛ فإني ربما سألت عنك، فوجدته مشغولاً به، وتعتل علي، فلا تأتيني. فقلت: يا أمير المؤمنين، أما هذا فلا أضمنه لك، أن تمنعني شيئاً به حللت عندك هذا المحل، وفضلتني به على غيري.
وقال خلف: يغلبني الأصمعي بحضور الحجة.
ولما أخبر أبو نواس بأن الخليفة عمل على أن يجمع بين الأصمعي وأبي عبيدة قال: أما أبو عبيدة فعالم ما ترك مع أسفاره يقرؤها، والأصمعي بمنزلة بليلٍ في قفص تسمع من نغمه لحوناً، وترى كل وقت من ملحه فوناً.
وحكى الأصمعي أن هارون الرشيد أمر بحمله إليه، فلما مثل بين يديه استدناه.
قال الأصمعي: فجلست، وقال لي: يا عبد الملك، وجهت إليك بسبب جاريتين(15/207)
أهديتاه إلي، وقد أخذتا طرفاً من الأدب، أحببت أن تبور ما عندهما، وتشير علي فيهما بما هو الصواب عندك. فحضرت جاريتان ما رأيت مثلهما قط، فقلت لأحداهما: مااسمك؟ قالت: فلانة، قلت: ما عندك من العلم؟ قالت: ما أمر الله - عز وجل - به، ثم ما ينظر الناس فيه من الأشعار، والآداب، والأخبار. فسألتها عن حروف من القرآن، فأجابتني كأنها تقرأ الجواب من كتاب، وسألتها عن النحو، والعروض، والأخبار، فما قصرت. فقلت: أنشدينا شيئاً، فاندفعت في هذا الشعر: من الخفيف
ياغياث البلاد في كل محلٍ ... ما يريد العباد إلا رضاكا
لا ومن شرف الإمام وأعلى ... ما أطاع الإله عبد عصاكا
فقلت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت أمرأة في مسك رجل مثلها.
وقالت الأخرى، فوجدتها دونها، فقلت: ما تبلغ هذه منزلتها، إلا أنها إن ووظب عليها لحقت. ثم قال لي: يا عبد الملك أنا ضجر، وقد جلست أحب أن أسمع حديثاً أتفرج به، فحدثني بشيءٍ، فقلت لأي الحديث يقصد أمير المؤمنين؟ قال: لما شاهدت وسمعت من أعاجيب الناس، وطرائف أخبارهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، صاحب لنا في بدوٍ، كنت أغشاه، وأتحدث إليه، وقد أتت عليه ست واسعون سنة أصح الناس ذهناً، وأجودهم أكلاً، وأقواهم بدناً، فغبرت بدناً. فغبرت عنه زماناً، ثم قصدته، فوجدته ناحل البدن، كاسف البال، متغير الحال، فقلت: ما شأنك، أصابتك مصيبة؟ قالت: لا، قصدت بعض القرابة في حي بني فلان، فألفيت عندهم جارية قد لاثت رأسها، وطلت بالورس مابين قرنها إلى قدمها، وعليها قميص وقناع مصبوغان، وفي عنقها طبل توقع عليه، وتنشد هذا الشعر: من الوافر
محاسنها سهام للمنايا ... مريشة بأنواع الخطوب
برى ريب المنون لهن سهما ... تصيب بنصله مهج القلوب(15/208)
فأجبتها:
قفي شفتي في موضع الطبل ترتعي ... كما قد أبحت الطبل في جيدك الحسن
هبيني عودا أجوفا تحت شنة ... تمتع فيما بين نحرك والذقن
فلما سمعت الشعر مني نزعت الطبل، فرمت به في وجهي، وبادرت إلى الخباء فدخلت، فلم أزل واقفاً إلى أن حميت الشمس على مفرق رأسي، لاتخرج إلي، ولا ترجع إلي جواباً، فانصرفت سخين العين، قريح القلب. فهذا الذي ترى بي من التغير، من عشقي لها.
قال الأصمعي: دخلت أنا وأبو عبيدة على الفضل بن الربيع، فقال: يا أصمعي، كم كتابك في الخيل؟ قال: قلت: جلد. قال: فسأل أبا عبيدة عن ذلك، فقال: خمسون جلداً. قال: فأمر بإحضار الكتابين. قال: ثم أمر بإحضار فرسٍ، فقال لأبي عبيدة: أقرأ كتابك حرفاً حرفاً، وضع يدك على موضعٍ موضعٍ، فقال أبو عبيدة: ليس أنا بيطاراً، إنما هذا شيء أخذته، وسمعته من العرب، وألفته، فقال لي: يا أصمعي، قم، فضع يدك على موضعٍ موضعٍ من الفرس. فقمت، فحسرت عن ذراعي وساقي، قم وثبت، فأخذت بأذني الفرس، ثم وضعت يدي على ناصيته، فجعلت أقبض منه شيئاً شيئاً، وأقول: هذا اسمه كذا، وأنشد فيه، حتى بلغت حافره. قال: فأمر لي بالفرس. فكنت إذا أردت إن أغيظ أبا عبيدة ركبت الفرس، وأتيته.
قال الأصمعي للكسائي، وهما عند الرشيد: ما معنى قول الراعي: من الرمل.
قتلوا كسرى بليلٍ محرما ... فتولى لم يمتع بكفن
هل كان محرماً بالحج؟ فقال هارون للكسائي: يا علي، إذا جاء الشعر فإياك والأصمعي.(15/209)
قوله محرماً، كان في حرمة الإسلام. قال محمد بن سويد: قال ابن السكيت، قال الأصمعي: ومن ثم قيل: مسلم محرم؛ أي لم يحل من نفسه شيئاً يوجب القتل. وقوله في كسرى: محرماً، يعني حرمة العهد الذي كان له في أعناق أصحابه.
قال أبو عر الجرمي يوماً: أنا أعلم الناس بكلام العرب. فسمعه الأصمعي، فقال: كيف تنشد هذا البيت: من الكامل
قد كن يخبأن الوجوه تسترا ... فالآن حين بدأن للنظار
أو " حين بدين "؟ قال أبو عمر: حين بدان، فقال: أخطأت، فقال: بدين، فقال: أخطأت يا أعلم الناس بكلام العرب؛ " حين بدون " وقيل: كان الرشيد يحب الوحدة، فكان إذا ركب حماره عادله الفضل بن الربيع، وكان الأصمعي يسير قريباً منه بحيث يحاذيه، وإسحاق الموصلي على دابةٍ يسير قريباً من الفضل. فأقبل الأصمعي لا يحدث الرشيد شيئاً إلا سربه، وضحك منه، فحسده إسحاق. وكان فيما حدثه الأصمعي، فقال: يا أمير المؤمنين، مررت على رجلٍ زانكي جالس على بابه، قال ويحك. فما الزانكي؟ فوصفه له - وهو الشاطر - قال: فقلت له: يافتى، أيسرك أنك أمير المؤمنين؟ قال: لا، قلت: ولم؟. قال: لا يدعوني أذهب حيث شئت. قال: فقال الرشيد: صدق والله، ما يدعونا نذهب حيث شئنا. قال: فاستضحك الرشيد، فقال إسحاق للفضل: ما يقول كذب، فقال الرشيد: أي شيء؟ قال: فأخبره، فغضب، فقال: والله لو كان ما يقول كذباً إنه لأظرف الناس، وإن كان حقاً إنه لأعلم الناس. فمكث بينهما دهراً من الدهر، فقال إسحاق: أصيمع باهل يستطيل..
قال إبراهيم الحربي: كان أهل البصرة، أهل العربية، منهم أصحاب الأهواء إلا أربعة؛ فإنهم كانوا أصحاب سنة: أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب، والأصمعي.
قال أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي سمعت أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين يثنيان على الأصمعي في السنة(15/210)
قال الأصمعي: من قال: إن الله - لا يرزق الحرام فهو كافر.
قال الجاحظ: كان الأصمعي منانياً، فقال له العباس بن رستم: لا والله، ولكن تذكر حين جلست إليه تسأله، فجعل يأخذ نعله بيده، وهي مخصوفة بحديد، ويقول: نعم قناع القدرس، نعم قناع القدري، فعلمت أنه يعنيك، فقمت؟ قال الأصمعي: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار "، لأنه لم يكن يلحن، فما رويت عنه، ولحنت فيه كذبت عليه.
قال أبو قلابة: سألت الأصمعي، فقلت: يا أبا سعيد، ما قول: أحق بسقيه " - يعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الجار أحق بسقيه " - فقال: أنا لا أفسر حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن العرب تقول: السقب اللزيق.
وسئل عن معنى قول النبي صلى اله عليه وسلم: " جاءكم أهل اليمن، وهم أبخع أنفساً "، قال: يعني أقتل أنفساً، ثم أقبل على نفسه كاللائم لها، فقال: ومن أخذني بهذا، وما علمي به؟ وكان يتقي أن يفسر حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يتقي أن يفسر القرآن.
قال أبو حاتم السجستاني: أهديت إلى الأصمعي قدحاً من هذه السجزية، فجعل ينظر إليه ويقول: ما أحسنه. فقلت: إنهم يزعمون أن فيه عرقاً من الفضة، فردع علي، وقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يشرب في آنية الفضة.(15/211)
قال الأصمعي: من لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً.
وقال: بلغت ما بلغت بالعلم، ونلت ما نلت بالملح.
وقال: مررت بصنعاء اليمن على مزرعة، وبجنبها عين، وإذا غلام قد ملأ قربته، وهو متعلق بعراها، وهو يصيح: يا أبه، يا أبه، فاها، فاها، غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها؛ وإذا به قد أتى بوجوه الإعراب في حال الرفع والنصب والخفض.
قال الأصمعي: مررت بالبادية على رأس بئر، وإذا على رأسه جوارٍ، وإذا واحدة فيهن كأنها البدر، فوقع علي الرعدة، وقلت لها: من البسيط
يا أحسن الناس إنسانا وأملحهم ... هل ياشتكائي إليك الحب من باس
فبيني لي بقولٍ غير ذي خلف ... أبا لصريمة نمضي عنك أم ياس
قال: فرقعت رأسها، وقالت لي: أخسأ! فوقع في قلبي مثل جمر الغضا، فانصرفت عنها، وأنا حزين. قال: ثم رجعت إلى رأس البئر، فإذا هي على رأس البئر، فقالت: من البسيط
هلم نمح الذي قد كان قد وله ... ونحدث الآن إقبالاً من الراس
حتى نكون سواء في مودتنا ... مثل الذي يحتذي نعلا بمقياس
فانطلقت معها إلى أبيها، فتزوجتها، فابني علي منها.
وقال: كنت يوماً في سكة من سكك البصرة فرأيت كناساً يحمل العذرة، وهو ينشد هذا البيت: من الطويل
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها ... لعمري لاتكرم على أحدٍ بعدي
فقلت: يا هذا، أي كرامةٍ لنفسك عندك وأنت من قرنك إلى قدمك في الخراء؟! فقال: عن سفلة مثلك، لا آتية أستقرض منه دانقاً فيردني. قال: فأفحمت، فلم أجىء بجواب.(15/212)
قال سلمة بن عاصم: ما لقيني الأصمعي قد إلا قال: أرجو أن تكون من أهل الجنة. قال: فقال لي جليس له: إنما أراد أنك أبله، لأن أكثر أهل الجنة البله، قال: لا يبعد، فقد كان ماجناً.
قال عباس بن الفرج: ركب الأصمعي حماراً دميماً، فقيل: أبعد براذين الخلفاء تركي هذا؟! فقال متمثلاً: من الطويل
ولما أبت إلا انصراما بودها ... وتكديرها الشرب الذي كان صافيا
شربنا برنقٍ من هواها مكدر ... وليس يعاف الرنق من كان صاديا
هذا، وأملك ديني ونفسي أحب إلي من ذلك م ع ذهابهما.
كان أبو عبيدة يقول: كان الأصمعي بخيلاً، فكان يجمع أحاديث البخلاء ويتحدث بها، ويوصي بها ولده.
وقال محمد بن سلام: كنا مع أبي عبيدة في جنازة ننتظر إخراج الميت، ونحن بقرب دار الأصمعي، فارتفعت ضجة في دار الأصمعي، فبادر الناس ليعرفوا ذلك، فقال أبو عبيدة: إنما يفعلون هذا عند الخبز. كذا يفعلون إذا فقدوا رغيفاً.
ويقال: إن جعفر بن يحيى استرد مبلغاً كان أمر أن يوصل به وذلك لما رأى من رثاثة حاله، ووسخ منزله، وقال: علام نعطيه الأموال إذا لم تظهر الصنيعة عنده، ويتزيا بزي أهل المروآت؟! مات الأصمعي سنة سبع عشرة ومائتين - وقيل: سنة ست عشرة ومائتين، وقيل: سنة خمس عشرة ومائتين - وكان قد بلغ ثمانياً وثمانين سنة. وكانت وفاته بالبصرة.(15/213)
عبد الملك بن محمد بن إبراهيم بن يعقوب أبو سعد بن أبي عثمان الواعظ النيسابوري المعروف بالخركوشي قدم دمشق سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وحدث بها.
روى عن أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد بن حامد بن متويه البلخي بسنده عن أنس بن مالك قال: كنت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حلقة، ورجل قائم يصلي، فلما ركع وتشهد دعا، فقال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لإله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، ياذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقوم: " أتدرون ما دعا "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفسي بيده، لقد دعا الله - عز وجل - باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى.
وروى بسنده عن عطاء قال: بلغنا أن موسى بن عمران صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف بين الصفا والمروة، وعليه جبة قطوانية، وهو يقول: " لبيك اللهم لبيك " فيجيبه ربه: " لبيك ياموسى " كان عبد الملك بن أبي عثمان خلفاً لجماعة من تقدمة من العباد المجتهدين، والزهاد القانعين. وقد وفقه الله لعمارة المساجد والحياض والقناطر والدروب وكسوة الفقراء والعراة من الغرباء والبلدية حتى بنى داراً للمرضى بعد أن خربت الدور القديمة لهم بنيسابور، ووكل جماعة من أصحابه المستورين بتمريضهم، وحمل مياههم إلى الأطباء، وشراء الأدوية لهم.
وقد صنفت في علوم الشريعة، ودلائل النبوة، وفي سير العباد والزهاد كتباً نسخها جماعة من أهل الحديث، وسمعوها منه، وسارت تلك المصنفات في المسلمين تاريخاً لنيسابور، وعلمائها الماضين منهم والباقين.(15/214)
قال أبو الفضل محمد بن عبيد الله الصرام الزاهد: رأيت الأستاذ الزاهد أبا سعد حضر مصلى بنيسابور للاستسقاء في أيام أمسك المطر فيها، وبدأ القحط، وكان الناس يتضرعون، ويبكون، فصلى صلاة الاستسقاء على رأس الملأ، ودعا في الاستسقاء، وسمعته يصيح ويقول: من المنسرح
إليك جئنا وأنت جئت بنا ... وليس رب سواك يغنينا
روى الثقة: أنه دخل على الإمام سهل الصعلوكي يوما، وكان عليه قميص غليظ دنس، فقال له الإمام: أيها الأستاذ، إن هذا الملبوس غليظ خشن، فقال: أيها الشيخ، ولكنه من الحلال، فقال: أيها الأستاذ، إنه دنس، فقال: أيها الشيخ، إنه مما تصح الصلاة فيه. فسكت الشيخ.
توفي أبو سعد سنة ست وأربعمائة.
عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف الثقفي ولي إمرة دمشق للوليد بن يزيد بن عبد الملك، وولي الجند له أيضاً. وكان قد خرج عن دمشق لأجل الوباء، فلذلك تم ليزيد بن الوليد الناقص تدبيره في الوثوب بدمشق.
عبد الملك بن محمد بن عدي أبو نعيم الجرجاني الأستراباذي الفقيه سكن جرجان. وكان مقدماً في الفقه والحديث، كانت الرحله إليه في أيامه. ورد نيسابور في صفر سنة ست عشرة وثلاثمائة، وأقام بها مدة. سئل عن مولده، فقال: سنة اثنتين وأربعين ومائتين.
روى عن العباس بن الوليد بسنده عن أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "(15/215)
لكل أمة مجوس، وإن هؤلاء القدرسة مجوس أمتي؛ فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، ولاتصلوا عليهم " قال الخطيب: وكان أحد أئمة المسلمين، ومن الحفاظ لشرائع الدين مع صدق، وتورع، وضبط، وتيقظ، سافر الكثير، وكتب بالعراق، والحجاز، والشام، ومصر. وورد بغداد قديماً.
مات في حدود سنة عشرين وثلاثمائة.
وقال غير الخطيب: سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة - وقيل ثلاث وعشرين - وكان ابن ثلاث وثمانين سنة.
قال الأستاذ أبو الوليد: لم يكن في عصرنا من الفقهاء أحد أحفظ للفقهيات وأقاويل الصحابة بخراسان أبي نعيم الجرجاني.
وقال الحسين بن علي الحافظ:
كان أبو نعيم الجرجاني أحد الأئمة، مارأيت بخراسان بعد أبي بكر محمد بن إسحاق - يعني ابن خزيمة - مثله، أو أفضل منه. كان يحفظ الموقوفات والمراسيل كما نحفظ نحن المسانيد.
عبد الملك بن محمد بن عطية بن عروة السعدي
من أهل دمشق. ولي الحجاز واليمن لمروان بن محمد ودخل أبو حمزة المدينة فوجه مروان بن محمد بن عبد الملك بن محمد بن عطية، فقتل أبا حمزة، وضم إليه مكة.
قال الزبير بن عبد الرحمن بن أبي يسار الشيبي خرجت مع ابن عطية ونحن في اثني عشر رجلاً بعهد مروان على الحج، ومعه أربعون ألف دينار في أخرجة متفرقة، حتى ينزل الجوف يريد الحج، قد خلف عسكره(15/216)
وخيله وراءه بصنعاء. فوالله إنا لنتحدث، آمنون إذ سمعت كلمة " من امرأة: قاتل الله ابني جمانة ما أشمهما، فقمت كأني أهريق الماء، فأشرقت على نشز، فإذا الدهم من الرجال والسلاح والصبيان والخيل والقذافات. وإذا ابنا جمانة المراديان قد أحدقوا بنا من كل ناحية يرمون، فقلنا: ما تريدون؟ قال: أنتم لصوص، فأخرج ابن عطية كتاب أمير المؤمنين، وعهده على الحج، وقال: أنا ابن عطية، قالوا: هذا باطل: ولكنكم لصوص، فرأينا الشر، فركب الصقر بن حبيب فرسه، فقاتل، فأحسن حتى قتل، ثم ركب ابن عطية، فقاتل حتى قتل.
عبد الملك بن محمد بن يونس بن الفتح
أبو عقيل السمرقندي حدث عن أبي نصر أحمد بن عمرو بن محمد العراقي بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أكرموا العلماء، فإنهم ورثة الأنبياء "
عبد الملك بن محمد، أبو الزرقاء
ويقال: أبو محمد البرسمي الصنعاني من صنعاء دمشق.
روى عن الربيع بن حظيان، عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الناس تبع لكم يا أهل المدينة في العلم " قال: فكنا إذا أتينا أبا سعيد الخدري قال: مرحبا " بوصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(15/217)
وروى عن أبي سلمة العاملي بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " خير رفقائي أربعة " وروى عن الأوزاعي بسنده عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاة في الثوب الواحد، قال: " ليتوشح به، ويصلي فيه " قال أبو أيوب الدمشقي: وهو ثقة من أصحاب الأوزاعي وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، سألت دحيماً عن عبد الملك بن محمد الصنعاني، فكأنه ضجع، فقلت: هو أثبت أو عقبة بن علقمة؟ فقال: ماأقربهما! وقال أبو حاتم محمد بن حبان البستي: كان يجيب فيما يسأل عنه حتى ينفرد بالموضوعات. لا يجوز الاحتجاج بروايته.
عبد الملك بن محمود بن إبراهيم
ابن محمد بن عيسى بن القاسم بن سميع أبو الوليد القرشي الفقيه روى عن عبيد الكشوري بسنده عن حبيب بن سلمة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفل الثلث.
وروى عن محمد بن عبد الملك الدقيقي بسنده أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " ما من رجل من المسلمين يرمي بسهم في سبيل الله، في العدو، أصاب أو أخطأ إلا كان له أجر ذلك السهم كعدل - أو عدل - نسمةٍ، وما من رجل من المسلمين ابيضت(15/218)
شعرة منه في سبيل الله إلا كانت له نوراً يوم القيامة، وما من رجل من المسلمين أعتق صغيراً أو كبيراً إلا كان حقاً على الله أن يجزيه بكل عضوٍ منه أضعافاً مضعفة " مات أبو الوليد بن سميع في جمادى الأولى سنة تسع وثلاثمائة.
عبد الملك بن مروان بن الحكم
ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
أبو الوليد الأموي.
بويع له بالخلافة بعد أبيه مروان، بعهدٍ منه.
روى عن أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من لم يغز، أو يجهز غازياً، أو يخلفه في أهله بخيرٍ أصابه الله - عزوجل - بقارعةٍ قبل يوم القيامة - وفي رواية: إلا أصابه الله " وفي رواية: " ما من امرىء مسلم لا يغزو في سبيل الله، أو يجهز غازياً أو يخلفه بخير إلا " قال عبد الملك: كنت أجالس بريرة بالمدينة قبل أن ألي هذا الأمر، فكان تقول: يا عبد الملك، إني لأرى فيك خصالاً لخليق أن تلي أمر هذه الأمة، فإن وليت فاحذر الدماء؛ فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الرجل ليدفع عن باب الجنة أن ينظر إليها بملء محجمة من دمٍ يريقه من مسلم بغير حق "(15/219)
قال الزبير بن بكار:
فولد مروان بن الحكم أحد عشر رجلاً، ونسوة: عبد الملك بن مروان، ولي الخلافة، ومعاوية، وأمر عمرو، وأمهم عائشة بنت معاوية بن أبي العاص وقال مصعب الزبيري: أول من سمي في الإسلام عبد الملك عبد الملك بن مروان وذكر محمد بن سيرين: أن مروان بن الحكم سمى ابنه القاسم، وكان يكنى به، فلما بلغه النهي حول اسمه عبد الملك.
قال ابن سعد: كان عبد الملك يكنى أبا الوليد. ولد سنة ست وعشرين في خلافة عثمان بن عفان، وشهد سوم الدار مع أبيه، وهو ابن عشر سنين، وحفظ أمرهم وحديثهم، وشتا المسلمون بأرض الروم سنة اثنتين وأربعين، وهو أول مشتى شتوه بها، فاستعمل معاوية على أهل المدينة عبد الملك بن مروان، وهو يومئذ ابن ست عشرة سنة "، فركب عبد الملك بالناس البحر.
كان عابداً ناسكاً قبل الخلافة، وقد جالس العلماء والفقهاء، وحفظ عنهم، وكان قليل الحديث.
قال البخاري: ولي عبد الملك أربع عشرة سنة "، وكانت فتنة ابن الزبير ثمان سنين، مديني سكن الشام. مات سنة ست وثمانين. ودخل على عثمان وهو غلام، فقبله.
قال أبو سعيد بن يونس: قدم مصر سنة خمسين لغزو المغرب مع معاوية بن خديج التجيبي، وكانت وفاته بدمشق.
قال الخطيب: بويع له بالخلافة عند موت أبيه، وهو بالشام، ثم سار إلى العراق، فالتقى هو(15/220)
ومصعب بن الزبير يمسكن على نهر دجيل قريباً من أوانا عند دير الجاثليق، فكانت الحرب بينهما حتى قتل مصعب، وقتل الحجاج بن يوسف بعده أخاه عبد الله بن الزبير بمكة، واجتمع الناس على عبد الملك، وكان منزله بدمشق.
قال خليفة: ولد عبد الملك بالمدينة في دار مروان في بني حديلة سنة ثلاث وعشرين - وقال: سنة ست وعشرين وذكر أبو حسان الزيادي أنه ولد سنة خمسٍ وعشرين قال الخطبي: وكان ربعة، إلى الطول أقرب منه إلى القصر، أبيض، ليس بالنحيف، ولا البادن، ولم يخضب إلى أن مات - وقيل إن خضب وترك - وكانت أسنانه مشبكة بالذهب، أفوه مفتوح الفم.
عن عبادة بن نسي قال: قيل لبن عمر: إنكم معشر أشايخ قريش توشكون أن تنقرصوا، فمن نسأل بعدكم؟ فقال: إن لمروان ابناً فقيهاً فسلوه قال أبو الزناد: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذويب، وعبد الملك بن مروان وروي أن قوماً استغاثوا ليلةً، فخرج الناس مغيثين، فأدركوا رجلاً، فجاؤوا به، فجعل الرجل يقول: إنما كنت مغيثاً، فأبوا حتى رفعوه إلى عبد الملك، فأمر بقتله،(15/221)
فجاء رجل من الناس، فقال: إن هذا، والله، ما هو القاتل، ولكنني أنا القاتل، ولا والله، لا أقتل رجلين، قال: فقال عبد الملك: بلغني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أحيا نفساً بنفسه فلا قود عليه ". فخلى سبيله، وقال: ما أحسب قصته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سقطت عن عبد الملك ومر عبد الملك بن مروان بعبد الله بن عمر، وهو في المسجد، وذكر اختلاف الناس، فقال: لو كان هذا الغلام اجتمع الناس عليه. وقال: ولد الناس أبناء، وولد مروان أباً.
قال بشر أبو نصر: دخل عبد الملك بن مروان على معاوية، وعنده عمرو بن العاص، فسلم، ثم جلس، ثم يلبث أن نهض. فقال معاوية: ما أكمل مروءة هذا الفتى! فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، إنه أخذ بأخلاقٍ أربعةٍ، وترك أخلاقاً ثلاثة: أخذ بأحسن البشر إذا خولف. وترك مزاح من لا يوثق بعقله ولا دينه، وترك مخالفة لئام الناس، وترك من الكلام ما يعتذر منه.
وقالت أمر الدرداء لعبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين، مازلت أتخيل هذا الأمر فيك مذ رأيتك. قال: وكيف ذاك؟ قالت: ما رأيت أحسن منك محدثاً، ولا أعلم منك مستمعاً.
حدث شيخ كان يجالس سعيد بن المسيب قال: مر به يوماً ابن زمل العذري، ونحن معه، فحصبه سعيد، فجاءه، فقال له سعيد: بلغني أنك مدحت هذا، وأشار نحو الشام - يعني عبد الملك، قال: نعم يا أبا محمد، قد مدحته، أفتحب أن تسمع القصيدة؟ قال: نعم، اجلس، فأنشده حتى بلغ: من الوافر(15/222)
فماعابتك في خلقٍ قريش ... بيثرب حين أنت بها غلام
فقال سعيد: صدقت، ولكنه لما صار إلى الشام بدل قال يحيى بن سعيد:
أول من صلى في المسجد مابين الظهر والعصر عبد الملك، وفتيان معه. كانوا إذا صلى الإمام الظهر قاموا، فصلوا إلى العصر، فقيل لسعيد بن المسيب: لو قمنا فصلينا كما يصلي هؤلاء؟ فقال سعيد بن المسيب: ليست العبادة بكثرة الصلاة، ولا الصوم، إنما العبادة التفكر في أمر الله، والورع عن محارم الله.
قال الشعبي: ما جالست أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك بن مروان؛ فإني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه.
عن المقبري: أن عبد الملك بن مروان لم يزل بالمدينة في حياة أبيه، وولايته حتى كان أيام الحرة. فلما وثب أهل المدينة، فأخرجوا عامل يزيد بن معاوية عن المدينة، وأخرجوا بني أمية خرج عبد الملك مع أبيه، فلقيهم مسلم بن عقبة بالطريق قد بعثه يزيد بن معاوية في جيشٍ إلى أهل المدينة، فرجع معه مروان، وعبد الملك بن مروان، وكان مجدوراً، فتخلف عبد الملك بذي خشبٍ، وأمر رسولاً أن ينزل مخيضاً، وهي فيما بين المدينة وذي خشب على اثني عشر ميلاً من المدينة، وآخر يحضر الوقعة يأتيه بالخبر، وهو يخاف أن تكون الدولة لأهل المدينة. فبينا عبد الملك جالس في قصر مروان بذي خشب يترقب إذا رسوله قد جاء يلوح بثوبه، فقال عبد الملك: إن هذا لبشير. فأتاه رسوله الذي كان بمخيض يخبره أن أهل المدينة قد قتلوا، ودخلها أهل الشام، فسجد عبد الملك. ودخل المدينة بعد أن برأ.
ويروى أن رجلاً كان يهودياً فأسلم، يقال له: يوسف، وكان يقرأ الكتب، فمر بدار مروان بن الحكم، فقال: ويل لأمة محمد من أهل هذه الدار - ثلاث مرار - فقلت له: إلى متى؟ قال: حتى تجىء رايات سود من قبل خراسان، وكان صديقاً(15/223)
لعبد الملك بن مروان، فضرب منكبيه ذات يومٍ، فقال: اتق الله - يا بن مروان في أمة محمد إذا وليتهم، فقال: دعني، ويحك! ودفعه، ما شأني وشأن ذلك؟ فقال: اتق الله في أمرهم.
قال: وجهز يزيد بن معاوية جيشاً إلى أهل مكة، فقال عبد الملك بن مروان: - وأخذ قميصه فنفضه، يعني من قبل صدره، فقال: - أعوذ بالله، أعوذ بالله، أعوذ بالله، أتبعث إلىحرم الله؟! فضرب يوسف منكبه وقال: لم تنفض قميصك؟ جيشك إليهم أعظم من جيش يزيد بن معاوية.
أفضى الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره يقرأ، فأطبقه، قوال: هذا آخر العهد بك.
وبايع أهل الشام عبد الملك بالخلافة ليله الأحد لهلال شهر رمضان سنة خمس وشتين - وقيل سنة أربع وستين وهو ابن ثمان وثلاثين، وتوفي وله سبع وخمسون سنة - وكانت الجماعة على عبد الملك سنة ثلاثٍ وسبعين عن أبي الطفيل قال: صنع لعبد الملك مجلس بويع فيه، فدخله، فقال: لقد كان يرى ابن حنتمة الأحوزي يقول: إن هذا عليه حرام - يعني عمر بن الخطاب.
كان نقش خاتم عبد الملك بن مروان: " أومن بالله مخلصاً " عن عبد الملك بن عمير: أن عبد الملك بن مروان دخل الكوفة بعد قتل مصعب الزبير، فطاف في القصر ثم خرج، فاستلقى، وقال: من الكامل
اعمل على حذرٍ فإنك ميت ... واكدح لنفسك أيها الإنسان
- وفي رواية: اعمل على مهل -(15/224)
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأنما هو كائن قد كانا
لما أجمع الناس على عبد الملك بن مروان سنة ثلاث وسبعين كتب إليه ابن عمر بالبيعة، وكتب إليه أبو سعيد الخدري، وسلمة بن الأكوع بالبيعة.
وكتب عبد الله بن عمر إلى عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله بن عمر إلى عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنك راع، وكل راعٍ مسؤول عن رعيته " لا إله إلا الله هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، ومن أصدق من الله حديثاً؟ لا أحد، والسلام.
قال: وبعث به مع سالم. قال: فوجدوا عليه أن قدم اسمه. فقال سالم: انظروا في كتبه إلى معاوية، فنظروا، فوجدوه يقدم اسمه، فاحتلموا ذلك.
حج عبد الملك حجة "، أقام الحج للناس سنة خمس ٍوسبعين، فلما مر بالمدينة نزل في دار أبيه، فأقدم أياماً، ثم خرج حتى انتهى إلى ذي الحليفة، وخرج معه الناس، فقال له أبان بن عثمان: أحرم من البيداء، فأحرم عبد الملك من البيداء.
قال ثعلبة بن مالك القرظي:
رأيت عبد الملك بن مروان صلى المغرب والعشاء في الشعب، فأدركني دون جمع، فست معه، فقال: صليت بعد؟ فقلت: لا لعمري، قال: فما منعك من الصلاة؟ قال: قلت: إني في وقت بعد، قال: لا لعمري، ما أنت في وقتٍ. قال: ثم قال: لعلك ممن يطعن على أمير المؤمنين عثمان؟ فاشهد على أبي لأخبرني أنه رآه صلى المغرب والعشاء في الشعب، فقلت: ومثلك يا أمير المؤمنين يتكلم بهذا، وأنت الأمام!؟ ومالي وللطعن عليه وعلى غيره؟ قد كنت له لازماً، ولكني رأيت عمر لا يصلي حتى يبلغ جمعاً، وليست سنة أحب إلي من سنة عمر. فقال: رحم الله عمر، لعثمان كان أعلم بعمر، لو كان عمر فعل هذا لاتبعه عثمان، وما كان أحد أتبع لأمر عمر بن عثمان، وما خالف(15/225)
عثمان عمر في شيء من سيرته إلا باللين؛ فإن عثمان لان لهم حتى ركب، ولو كان غلظ عليهم جانبه كمما غلظ عليهم ابن الخطاب ما نالوا منه ما نالوا، وأين الناس الذين كان يسير فيهم عمر بن الخطاب والناس اليوم! يا ثعلبة؛ إني رأيت سيرة السلطان تدور مع الناس، إن ذهب اليوم رجل يسير بتلك السيرة أغير على الناس في بيوتهم، وقطعت السبل، وتظالم الناس، وكانت الفتن، فلابد للوالي أن يسير في كل زمان بما يصلحه.
وعن ابن كعب قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول: باأهل المدينة، إن أحق الناس أن يلزم الأمر الأول لأنتم، وقد سالت علينا أحاديث من قبل هذا المشرق، لا نعرفها، ولا نعرف منها إلا قراءة القرآن، فالزموا ما في مصحفكم الذي جمعكم عليه الإمام المظلوم - رحمه الله - وعليكم بالفرائض التي جمعكم عليها إمامكم المظلوم - رحمه الله - فإنه استشار في ذلك رويد بن ثابت، ونعم المشير كان للإسلام - رحمه الله - فأحكما ما أحكما، وأسقطا ما شذ عنهما وعن ابن جريج، عن أبيه قال: حج علينا عبد الملك بن مروان سنة خمس وسبعين بعد مقتل ابن الزبير بعامين، فخطبنا، وقال: أما بعد، فإنه كان من قبلي من الخلفاء، يأكلون من المال، ويؤكلون، وإني والله، لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف، ولست بالخليفة المستضعف - بعني عثمان - ولا الخليفة المداهن - يعني معاوية - ولا الخليفة المأبون - يعني يزيد بن معاوية - أيها الناس، إنما نحتمل لكم كل اللغوبة مالم يكن عقد راية، أو وثوب على منبر؛ هذا عمرو بن سعيد، حقه حقه، وقرابته قرابته، قال رأسه هكذا، فقلنا بسيفنا هكذا.(15/226)
وإن الجامعة التي خلعها من عنقه عندي، وقد أعطيت الله عهداً ألا أضعها في عنق أحدٍ إلا أخرجها الصعداء، فليبلغ الشاهد الغائب.
قال الأصمعي: خطب عبد الملك بن مروان، فحصر، فقال: إن اللسان بضعة من الإنسان، وإنا لا نسكت حصراً ولا ننطق هذراً، ونحن أمراء الكلام، فينا وشجت عروقه، وعلينا تهدلت أغصانه، وبعد مقامنا هذا مقام، وبعد أيامنا هذه أيام يعرف فيها فصل الخطاب، ومواقع الصواب.
عن أبي الزناد قال: قال عبد الملك بن مروان: ما يسرني أن أحداً من العرب ولدني إلا عروة بن الورد لقوله: من الطويل
إني امرؤ عافي إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى ... بجسمي مس الحق والحق جاهد
أقسم جسمي في جسومٍ كثيرةٍ ... وأحسوا قراح الماء والماء البارد
قيل لعبد الملك بن مروان: أسرع إليك الشيب، فقال: شيبني كثرة ارتقاء المنبر مخافة اللحن - وفي رواية: وكيف لا يعجل علي وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين.
وأراد قتل رجل، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنك أعز ما تكون أحوج ما تكون إلى الله، فاعف له، فإنك به تعان، وإليه تعاد، فخلى سبيله.(15/227)
قال في خطبة له بإيلياء قبل أن يقع الوجع الذي خرج منه إلى الموقر: إن العلم سيقبض قبضاً سريعاً، فمن كان عنده علم فليظهره غير غال فيه، ولاجافٍ عنه.
قال يوسف بن الماجشون: كان عبد الملك بن مروان إذا قعد للقضاء قيم على رأسه بالسيوف، فأنشد: من السريع
إنا إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت الساكت للقائل
واصطرع الناس بألبابهم ... نقضي بحكمٍ عادلٍ فاضل
لا نجعل الباطل حقا ولا ... نلط دون الحق بالباطل
نخاف أن نسفه أحلامنا ... فنحمل الدهر مع الخامل
قال: ثم يجتهد في القضاء
عن الزهري: أن يهودياً جاء إلى عبد الملك بن مروان فقال له: ابن هرمز ظلمني، فلم يلتفت إليه، ثم الثانية، ثم الثالثة، فلم يلتفت إليه، فقال له اليهودي: إنا نجد في كتاب الله في التوراة: إن الإمام لا يشرك في ظلم ولا جور حتى يرفع إليه، فإذا رفع إليه فلم يغير شرك في الجور والظلم. قال: ففزع لها عبد الملك، وأرسل إلى ابن هرمز، فنزعه.
عن عبد الله بن بكر السهمي، عن أبيه قال: سأل رجل عبد الملك بن مروان الخلوة، فقال لأصحابه: إذا شئتم. فلما تهيأ الرجل للكلام قال له: إياك أن تمدحني، فإني أعلم بنفسي منك، أو تكذبني، فإنه لا رأي لكذوب، أو تسعى إلي بأحد. وإن شئت أقلتك، قال: أقلني. فأقاله.(15/228)
وفي رواية أخرى: كان عبد الملك بن مروان إذا دخل عليه رجل من أفق من الآفاق قال: أعفني من أربع وقل بعدها ما شئت - وقال فيه: ولا تحملني على الرعية. فإني إلى الرفق بهم والرأفة أحوج - وفي رواية: لا تخفني - يعني تغضبني حتى يحملني الغضب على خفة الطيش.
عن الأصمعي، عن أبيه قال: أتى عبد الملك بن مروان برجلٍ كان مع بعض من خرج عليه، فقال: اضربوا عنقه، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كان هذا جزائي منك! قال: وما جزاؤك؟ قال: والله ما خرجت مع فلان إلا بالنظر لك؛ وذلك أني رجل مشؤوم، ما كنت مع رجل قط إلا غلب وهزم، وقد بان لك صحة ما ادعيت، وكنت عليك خيراً من مائة ألفٍ معك. فضحك وخلى سبيله.
قال يحيى بن الحكم بن أبي العاص لعبد الملك بن مروان: أي الرجال أفضل؟ قال: من تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وترك النصرة عن قوة.
وقال عبد الملك: ثلاثة من أحسن شيء: جواد لغير ثوابٍ، ونصب لغير دنيا، وتواضع لغير ذل.
وقال: يا بني أمية، إن خير المال ما أفاد حمداً، ومنع ذماً، فلا يقولن أحدكم: " أبدأ بمن تعول "، فإن الناس عيال الله.
وقال: الطمأنينة ضد الحزم دخل أعرابي على عبد الملك بن مروان وهو يأكل الفالوذج، فقال: يا بن عم، ادن، فكل من الفالوذج، فإنه يزيد في الدماغ. قال: إن كان كما يقول أمير المؤمنين فينبغي أن يكون رأسه مثل رأس البغل.
بعث عبد الملك بن مروان إلى الشعبي، فقال: يا شعبي، عهدي بك وإنك لغلام في الكتاب، فحدثني، فما بقي معي شيء إلا قد ملكته سوى الحديث الحسن، وأنشد:
ومللت إلا من لقاء محدث ... حسن الحديث يزيدني تعليما(15/229)
وقال: كل شيء قد قضيت منه وطراً إلا من مناقضة - وفي رواية: مفاوضة - الإخوان الحديث على متن التلال العفر في الليالي البيض قال إسماعيل بن عبيد الله: كنت أعلم ولد عبد الملك بن مروان من عاتكة، فكنت جالساً على فراشين وهم بين يدي يتعلمون إذ أقبل عبد الملك، ثم جلس ينظر إليهم، وهم يتعلمون، فقال له بنوه: يا أمير المؤمنين، إنه قد شق علينا في التعليم، فإن رأيت أن تأذن لنا نلعب، فقال: تلعبون، وقد مر على رأس أبيكم ما قد علمتم؟! لقد رأيتني أغزو مصعب بن الزبير، وعدوي كأمثال الجبال كثرة "، وأنصاري من أهل الشام عامتهم أعداء لي، فأمكث طويلاً، وقد ذهب عقلي، ثم يرده الله علي.
وقال لمؤدب بنيه: لا تطعم ولدي السمن، ولا تطعمهم طعاماً حتى تخرجهم على البراز، وعلمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم الكذب، وإن كان فيه القتل - وفي رواية: وجنبهم الحشم، فإنهم لهم مفسدة، وجنبهم السفلة، فإنهم أسوأ الناس رعة "، واحف شعورهم تغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم يقووا، وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، ومرهم أن يستاكوا عرضاً، ويمصوا الماء مصاً، ولا يعبوا عباً، وإذا احتجت أن تتناولهم بأدبٍ فليكن في سر لا يعلم به أحد من الغاشية فيهونوا عليهم - وفي رواية: وجالس بهم علية الناس يناطقوهم الكلام.
كتب زر بن حبيش إلى عبد الملك بن مروان كتاباً يعظه، وكان في آخره: ولا يطعمك يا أمير المؤمنين، في طول البقاء ما يظهر من صحتك، فأنت أعلم بنفسك، واذكر ما تكلم به الأولون: من الرجز
إذا الرجال ولدت أولادها ... وبليت من كبر أجسادها
وجعلت أسقامها تعتادها ... تلك زروع قد دنا حصادها
فلما قرأ عبد الملك الكتاب بكى حتى بل طرف ثوبه، ثم قال: صدق زر، لو كتب إلينا بغير هذا كان أرفق.(15/230)
وقف عبد الملك على قبر أبيه فقال: من الطويل
وما الدهر والأيام إلا كما أرى ... رزية مالٍ أو فراق حبيب
وإن امرأ قد جرب الدهر لم يخف ... تقلب عصريه لغير لبيب
أشرف عبد الملك على أصحابه وهم يذكرون سيرة عمر، فغاظه ذلك، فقال: أيها عن ذكر عمر، فإنه إزراء على الولاة، مفسدة للرعية.
وكان كثيرا ما يجلس إلى أم الدرداء في مؤخر المسجد بدمشق وهو خليفة، فجلس إليها مرة من المرار، فقالت له: يا أمير المؤمنين، بلغني أنك شربت الطلاء بعد العبادة والنسك؟! قال: إي والله، يا أم الدرداء، والدماء قد شربتها، ثم أتاه غلام له قد كان بعثه في حاجةٍ، فأبطأ عليه، فقال: ما حسبك، عليك لعنة الله؟ فقالت له: لا تفعل، يا أمير المؤمنين، فإني سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا يدخل الجنة لعان " قال عبد الملك بن مروان لمحمد بن عطارد التميمي: يا محمد، احفظ عني هذه الأبيات، واعمل بهن، قال: هاتها يا أمير المؤمنين، قال: من الطويل
إذا أنت جاريت السفيه كما جرى ... فأنت سفيه مثله غير ذي حلم
إذا أمن الجهال حلمك مرة ... فعرضك للجهال غنم من الغنم
فلا تعرض عرض السفيه وداره ... بحلم فإن أعيا عليك فبالصرم
وعض عليه الحلم والجهال والقه ... بمرتبةٍ بين العداوة والسلم
فيرجوك تارات، ويخشاك تارة ... وتأخذ فيما بين ذلك بالحزم
فإن لم تجد بدا من الجهل فاستعن ... عليه بجهال وذاك من العزم
قيل لسعيد بن المسيب: إن عبد الملك بن مروان قال: قد صرت لا أفرح بالحسنة أعملها، ولا أحزن على السيئة أرتكبها، فقال سعيد: الآن تكامل موت قلبه!.(15/231)
كان عبد الملك فاسد الفم، فعض تفاحة، فألقاها إلى امرأة من نسائه، فأخذت سكيناً، فاجتلفت ما عاب منها، فقال: ما تصنعين؟ قالت: أمطت الأذى عنها.
وصعد يوماً المنبر فخطب الناس بخطبةٍ بليغة، ثم قطعها، وبكى بكاءً شديداً، ثم قال: يا رب، إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم منها، اللهم فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي. قال: فبلغ ذلك الحسن، فبكى، وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام.
وكان كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين: من الطويل
ألم تر أن الفقر يهجر أهله ... وبيت الغنى يهدى له ويزار
وماذا يضر المرء من كان جده ... إذا سرحت شول له وعشار
عن أبي مسهر الدمشقي قال: حضر غداء عبد الملك بن مروان، فقال لآذنه: خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد؟ قال: مات يا أمير المؤمنين، قال: فأمية بن عبد الملك بن خالد بن أسيد؟ قال: مات يا أمير المؤمنين. قال: - وكان عبد الملك قد علم أنهم ماتوا، فقال: - ارفع يا غلام، ثم قال: من الكامل
ذهبت لذاتي وانقضت آجالهم ... وغبرت بعدهم ولست بخالد
وعن قبيصة بن ذؤيب، عن أبيه قال: كنا نسمع نداء عبد الملك بن مروان من وراء الحجرات: يا أهل النعم، لا تغالوا شيئاً منها مع العافية، وكان قد أصابه داء في فمه.(15/232)
قيل لعبد الملك بن مروان في مرضه: كيف تجدك، يا أمير المؤمنين؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرةٍ، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " واستأذن قوم على عبد الملك بن مروان، وهو شديد المرض، فقالوا: إنه لما به، فقالوا: إنما ندخل لنسلم قياماً ثم نخرج، فدخلوا عليه وقد أسنده خصي إلى صدره، وقد اربد لونه، وجرى منخراه، وشخصت عيناه، فقال: إنكم دخلتم علي في حين إقبال آخرتي، وإدبار دنياي، وإني تذكرت أرجى عمل لي فوجدته غزوة " عزوتها في سبيل الله، وأنا خلو من هذه الأشياء، فإياكم وإيا أبوابنا هذه الخبيثة أن تطيفوا بها.
ولما نزل به الموت أمر بفتح باب القصر، فإذا بقصار يضرب بثوب له على حجر، فقال: ما هذا؟ فقالوا: قصار، قال: يا ليتني كنت قصاراً.
وقال: والله وددت أني عبد لرجلٍ من تهامة أرعى غنماً في جبالها، وأني لم أل من أمر الناس شيئاً ودعا بنيه فأوصاهم، ثم لم يزل بين مقالتين حتى فاضت نفسه: الحمد لله الذي لا يبالي أصغيراً أخذ من ملكه أم كبيراً، والأخرى: من الوافر
فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار
وكان آخر ما تكلم به عد موته: اللهم إن تغفر تغفر جماً، ليتني كنت غسالاً أعيش بما أكتسب يوماً بيوم.
في حديث سعيد بن المسيب أنه قال ذات يوم: اكتب يا برد أني رأيت موسى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشي على البحر حتى صعد إلى قصرٍ، ثم أخذ برجلي شيطانٍ، فألقاه في البحر، وإني لا أعلم نبياً هلك على رجله الجبابرة ما هلك على رجل موسى. وأظن هذا قد هلك - يعني عبد الملك - فجاءه نعيه بعد أربعٍ.(15/233)
قوله: هلك على رجله: إي في زمانه وأيامه، يقال: هلك القوم على رجل فلانٍ أي بعهده.
وقد اختلف في سنه ومدة خلافته وتاريخ وفاته.
قال الخطيب: كانت خلافة عبد الملك بن مروان اثنتين وعشرين سنة ونصفاً - يعني من وقت بويع له بالخلافة بعد موت أبيه.
وقال: كان موت عبد الملك لانسلاخ شوال - وقال آخرون: للنصف من شوال - سنة ست وثمانين، وهو ابن سبع وخمسون سنة " - ومنهم من الق: إحدى وستين سنة " وهو أثبت عندنا - فكانت خلافته من مقتل ابن الزبير إلى أن توفي ثلاث عشرة سنة " وأربعة أشهر وثمانياً وعشرين ليلة. وصلى عليه ابن الوليد بن عبد الملك، ودفن خارجاً بين باب الجابية وباب الصغير.
عبد الملك بن مروان بن موسى
ابن نصير اللخمي مولاهم، أمير مصر، وفد على مروان بن محمد فولاه مصر.
قال أبو عمر الكندي: ووفد على عبد الملك بن مروان بن موسى بن نصير على مروان بن محمد، فولاه مصر، فلما تلقاه سلمة بن أبي رجاء، وزياد بن أبي حمزة، وأبو عبيدة مولى بني سهم، وكانوا خاصته وجلساءه، قال لسلمة: كيف أمك؟ وقال لابن أبي حمزة: كيف أنت يا بن كيسان؟ ولأبي عبيدة: كيف أنت يا بن فروخ؟ فعوتب في ذلك، فقال: أردت أن أرد من سنن دالتهم لئلا ينبسطوا على الناس.
وهو أول من جعل المنابر في الكور، ولم يكن قبله، إنما كان أصحاب الجبل يخطبون على العصي إلى جانب القبلة. وهو أول من سمى الزمام بمصر، وإنما كان قبل ذلك يعرف بديوان المحاسبة. وكان خطيباً من أخطب الناس. وكان حسن السيرة.(15/234)
عبد الملك بن مسمع بن مالك
ابن مسمع بن شيبان بن شهاب بن علقمة بن عباد بن عمرو ابن ربيعة بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الربعي من وجوه أهل البصرة. وقد على عبد الملك بن مروان، وولي السند لعدي بن أرطأة، عامل عمر نب عبد العزيز على البصرة.
قال أبو سعيد السكري: كان عبد الملك بن مسمع بن مالك سيداً جواداً جميلاً، وكان فتى ربيعة وسيدها في زمانه، لا يعرف مثله، ولاه الحجاج شطي دجلة، وأوفده إلى عبد الملك بن مروان، فلما قدم عليه وقد أهل البصرة قدم المشيخة وأهل البلاء، فدخل عبد الملك في آخر من دخل لصغر سنه، فلما انتسب له قال له عبد الملك: فما أخرك عني يا غلام؟ قال: أصلح الله أمير المؤمنين، قدم الأمير أهل السن والبلاء، قال: فأنت، والله، أعظمهم عندنا بلاء " ووالداً! يا حجاج، قدمه في أول من يدخل علي من الناس. فلم يزل مكرماً له، وعارفاً بفضله حتى قدم مع الحجاج العراق، فولاه البحرين، فلم يول والياً عليها حتى مات الحجاج، ثم ولي بعد الحجاج البحرين، وخرزانة البحر، والسند، والهند، لعدي بن أرطأة، وافتتح مدينة القيفان، ومدينة راكس، وهما بين سجستان والسند.
وقد كان بعض الكتاب وجد على عبد الملك من أجل أنه قصر به في شيء كان قسمه في الكتاب والأعوان، فقال لعمر بن عبد العزيز: إن هذه المدينة في الصلح وهو كاذب.
وأتاه قوم بالسند كثير بن ربيعة، فأعطاهم، وحملهم، وكان فيهم قوم ممن سعى عليه مع كيسة امرأة أبيه، ومرنوح بن شيبان فشاور فيهم قوماً من أصحابه، فأشار عليه بعض القوم أن يضربهم، وقال بعض: احرمهم. قال: ليس هذا برأي؛ إن كانوا أساؤوا وجهلوا فنحن أحق من عطف بفضل إذ رغبوا إلينا. فأمر لهم بجوائز كأفضل ما أعطى أحداً من زواره.
قتل عبد الملك بن مسمع سنة اثنتين ومائة.(15/235)
عبد الملك بن مرهان
أبو هشام المغازلي الرقاعي الموصلي حدث عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عباس: أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن بي ناسوراً، وكلما توضأت سال - وفي رواية: إن بي الناسور، وإني أتوضأ فيسيل مني - فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا توضأت فسال من قرنك إلى قدمك فلا وضوء عليك " وروى عن سهل بن أسلم العدوي. عن معاوية بن قرة المزني، قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إذا أتى على الجارية تسع سنين فهي امرأة " وروى بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عاقبوا أرقاءكم على قدر عقولهم " وروى عن يزيد بن أبي معاوية بسنده عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تقص الرؤيا حتى تطلع الشمس قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لعبد الملك المغازلي: أي شيء الزهد في الدنيا؟ قال: إعطاء المجهود، وقطع الآمال، وخلع الراحة.
قال أبو جعفر العقيلي: عبد الملك بن مهران صاحب مناكير، غلب على حديثه الوهم، لا يقيم شيئاً من الحديث.(15/236)
وقال ابن عدي: ليس بشيء وقال الأمير: الرقاعي: بالقاف، ووهم فيه فسماه عبد الله.
عبد الملك بن الوليد
ابن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص أبو مروان الأموي أنشد الأصمعي هذه الأبيات لرجل من كلب يرثيه بها: من البسيط
أقول للركب إذ عاجوا مطيهم ... هل كان من حدثٍ أم جاءكم خير
قالوا: نعم أنت مفجوع بصاحبه ... أمسى وصبح وردا ماله صدر
مات الكريم أبو مروان فابتليت ... كلب وأي بلاءٍ تبتلى مضر
إنا وجدنا بين أم البنين لهم ... مجد طويل وفي آجالهم قصر
عبد الملك بن هشام بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي فيه يقول الكميت بن زيد: من المنسرح
من عبد شمس إلى الشآم ومن ... عبد منافٍ لبيتك القطب
عبد الملك بن يزيد
أبو عون الأزدي مولاهم الجرجاني. مولى بني هناءة من الأزد. أحد قواد بني العباس.
شهد حصار دمشق مع عبد الله وصالح ابني علي. وكان نازلاً على باب كيسان،(15/237)
ومضى إلى مصر في طلب مروان، وولي إمرة مصر في خلافة السفاح خلافة لصالح بن علي مرتين، وكانت ولايته الثانية عليها ثلاث سنين وستة أشهر
عبد المنعم بن الحسن
أبو الفضل المعروف بابن اللعيبة الحلبي رجل من أهل حلب محب للأدب، نصيبه منه وافر، وهو بما يحاوله منه ظافر، سريع الخاطر في النظم والنثر، مائل إلى الشجاعة، ومعان بها، حتى إنه يرمي عن المنجنيق، ويضاهي فيه كل عريق، وله في الموسيقى يد جيدة طويلة، ويلحن شعره، ويغني لنفسه. ومن قوله في صبي: من المتقارب
أبا حسنا وجهه كاسمه ... وياطلعة البدر في تمه
ويا ظالما أنا عبد له ... ولاأتشكاه من ظلمه
فلا يعجل الماس في حربه ... فإن السلامة في سلمه
عبد المنعم بن الخضر بنت العباس
أبو الفتح الغساني روى عن أبي سعيد عمرو بن يحيى الدينوري بسنده عن سعيد بن جبير قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، فمر رجل من المسلمين على رجل من المنافقين، فقال له: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي وأنت جالس؟؟ فقال له: امض إلى عملك، إن كان لك عمل، فقال: ما أظن سيمر عليك من ينكر عليك، فمر عليه عمر بن الخطاب، فقال له: يا فلان، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي وأنت جالس؟؟ فقال له مثلها، قال له: هذا من عملي، فوثب عليه، فضربه حتى انتهر، ثم دخل المسجد، فصلى مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما انفتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام إليه عمر، فقال: يا نبي الله، مررت آنفاً على فلان وأنت تصلي، فقلت له: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي وأنت جالس قال: مر إلى عملك، إن كان لك عمل، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فهلا ضربت عنقه " فقام عمر مسرعاً، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا عمر، ارجع، فإن غضبك عز، ورضاك(15/238)
حكم، إن لله في السماوات السبع ملائكة يصلون له، غني عن صلاة فلان "، فقال عمر: يا نبي الله، وما صلاتهم؟ فلم يرد عليه شيئاً، فأتاه جبريل، فقال: يا نبي الله، سألك عمر عن صلاة أهل السماء؟ قال: " نعم "، قال اقرأ على عمر السلام، وأخبره أن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة يقولون: سبحان رب العزة والجبروت، وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت عبد المنعم بن غلبون أبو الطيب الحلبي، نزيل مصر المقرىء الشافعي روى عن سليمان بن محمد بن إدريس بسنده عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" اعملوا بالقرآن، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واقتدوا به، ولا تكفروا بشيءٍ منه، وما تشابه عليكم فردوه إلى الله - عز وجل - وإلى أولي العلم من بعدي كيما يخبروكم، وآمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور، وما أوتي النبيان من ربهم، وليسعكم القرآن وما فيه، فإنه شافع مشفع، وما حل مصدق، وإن لكل آيةٍ نوراً يوم القيامة، ألا وإني أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب، وخواتيم البقرة من تحت العرش، والمفضل نافلة ".
قال أبو الطيب عبد المنعم بن غلبون المقرىء: لما فتحت عمروية ووجدوا على كنيسةٍ من كنائسها مكتوباً بالذهب: شر الخلف خلف بشتم السلف، واحد من السلف خير من ألف من الخلف. يا صاحب الغار نلت كرامة الافتخار، إذ أثني عليك الملك الجبار، إذ يقول في كتابه المنزل على نبيه المرسل: "(15/239)
ثاني اثنين إذ هما في الغار ". يا عمر، ما كنت والياً، بل كنت والداً. عثمان، قتلوك مقهوراً، ولم يزوروك مقبوراً. وأنت ياعلي، إمام الأبرار، والذاب عن وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكفار، فهذا صاحب الغار، وهذا أحد الأخيار، وهذا غياث الأمصار، وهذا إمام الأبرار، فعلى من ينتقصهم لعنة الجبار.
قال: فقلت لصاحب له: من ذ كم هذا على باب كنيستكم مكتوب؟ فقال: من قبل أن يبعث نبيكم بألفي عام، وهو قول الله عزوجل في كتابه: " ذلك مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل " سنة تسع وثمانين وثلاثمائة مات أبو الطيب عبد المنعم بن غلبون المقرىء. وكان ثقة.
عبد المنعم بن عبد الواحد بن علان أبو القاسم القاضي حدث عنه عبد العزيز الكتاني سنة ثلاث عشرة وأربعمائة روى عن أبي الخير أحمد بن علي الحافظ بسنده عن علي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الذباب في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء، فإذا وقع على الطعام فاغمسوه فيه يذهب الله الداء بالدواء "(15/240)
عبد المنعم بن علي بن محمد
ابن أحمد بن داود بن محمد بن الوليد أبو محمد الخطيب العدل، المعروف بابن النحوي سمع منه عبد العزيز الكتاني سنة خمس عشرة وأربعمائة عن الميانجي يوسف بن القاسم بسنده عن معقل بن يسار قال: حرمت الخمر، وإن عامة شرابهم الفضيخ. قال: فقذفتها، وأنا أقول: هذا آخر عهد بالخمر.
عبد المنعم بن محمد بن عبيد الله
ابن محمد بن عبد الكريم بن أبي حكيم أبو محمد القرشي روى عن جعفر بن أحمد بن عاصم بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يرجع في هبته إلا الوالد من ولده، والعائد من هبته كالعائد من قيئه "
عبد المؤمن بن أحمد
أبو حاتم البيروتي القاضي روى عن أحمد بن يوسف الأوزاعي بسنده عن أبي أسماء قال: وفدت على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبايعته، وصافحني، فآليت على نفسي ألا أصافح أحداً بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(15/241)
وعنه أيضاً بسنده عن حرام بن حزم الجذامي قال: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصيد اصطدته، فأهديتها، فقبلها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكساني عصابته، وسماني حراماً.
عبد المؤمن بن خلف بن طفيل
ابن زيد بن طفيل بن شريك بن شماس بن زيد بن الحارث أبو يعلى التميمي النسفي محدث مشهور، له رحلة واسعة روى عن إبراهيم بن عبد الله العبسي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر ولو يعلمون مافيهما لأتوهما ولو حبوا " وروى عن يحيى بن عثمان بن صالح بسنده عن علي بن أبي طالب قال: أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ندفن موتانا وسط قومٍ صالحين، وقال: " إن الموتى يتأذون بجيران السوء كما يتأذى الأحياء ".(15/242)
عبد المؤمن بن المتوكل بن مشكان
أبو خازم البيروتي روى عن الحسن بن بكار بسنده عن معاذ بن جبل قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ماأزين الحلم "
عبد المؤمن بن مهلهل القرشي
حكى عن أبيه قال:
قال لي مروان بن محمد لما عظم أمر أصحاب الرايات السود: لولا وحشتي لك، وأنس بك لأحببت أن تكون ذريعة فيما بيني وبين هؤلاء القوم، فلآخذ لي ولك الأمان، فقلت: أنى وقد بلغت هذه الحال! قال: إي والله. قال: فأنا أدلك على أحسن في الأحدوثة مما أردت، قال: اذكره، قال: إبراهيم بن محمد في يديك تخرجه من حبسك، وتزوجه ابنتك، وتشركه في أمرك؛ فإن كان الأمر كما تقولون انتفعت بذلك عنده، وإلا يكون كذلك كنت قد وضعت ابنتك في كفاءة. فقال: أشرت والله بالرأي، ولكن الآن؟! السيف والله أهون من ذلك! ولكن انتظروا خامس ولد العباس، فو الله ليملكنها سبعاً يكون فيها لاهياً، وسبعاً ساهياً، وتسعاً جابياً، وليموتن في سنة ثلاث وتسعين ومائة، ولتدخلن سنة أربع ببلاءٍ من العصبية، وليخرجن السفياني في سنة خمس وتسعين ومائة.
الخامس الرشيد، وولي ثلاثاً وعشرين سنة "، وخرج أبو العميطر " علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان في سنة خمسٍ على الأمين(15/243)
عبد الواحد بن أحمد بن إسماعيل بن عوف
أبو القاسم المري الشاهد روى عن أبي علي محمد بن سليمان بن حيدرة بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تخرج عنق من النار، لها عينان تبصر، وأذنان تسمع، ولسان ناطق، تقو: أمرت بأخذ الجبارين، ثم تخرج، فتقول: أمرت بأخذ من اتخذ مع الله إلهاً آخر. ثم تخرج، فتقول: أمرت بأخذ المصورين " مات أبو القاسم بن عوف سنة تسع وتسعين وثلاثمائة - وفي رواية: سنة إحدى وأربعمائة.
عبد الواحد بن أحمد بن الطيب
أبو القاسم الوكيل، يعرف بابن القماح حدث عن عبد الوهاب الكلابي بسنده عن معاوية بن قرة، عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم "(15/244)
عبد الواحد بن أحمد
ابن محمد بن يوسف بن محمد بن مقدام بن قادم يعرف بابن مشماس أبو محمد، وقيل: أبو القاسم، الهمداني روى عن الحسين بن أحمد بن أبي ثابت بسنده عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قد يتوجه الرجلان إلى المسجد، فينصرف أحدهما، وصلاته أفضل من الأخر إذا كان أفضلهما عقلاً، وينصرف الأخر، وصلاته لاتعدل مثقال ذرة " توفي أبو محمد بن مشماس سنة تسع عشرة وأربعمائة - وقيل سنة ثماني عشرة، وقيل سنة عشرين وأربعمائة، وكان سماعه صحيحاً غير أنه لم يكن الحديث من صنعته.
عبد الواحد بن أحمد الغساني
أبو محمد الطبيب طبيب تاج الدولة من شعره في صفة نهر ثوراً " من البسيط
دمشق دار رعاها الله من بلدٍ ... ونهر ثورا سقاه الله من واد
كأنه ونسيم الريح جمشة ... نقش المبارد في سلساله الهادي
مزجت بالراح منه الراح فاكتسبت ... لونا وطعما غريبا غير معتاد
في روضةٍ من رياض الخلد باكرها ... صوب الغمام بإبراق وإرعاد
ظللت فيها رخي البال مع رشأ ... مهفهف كقضيب البان مياد(15/245)
عبد الواحد بن إبراهيم بن أحمد بن محمد
أبو الفضل بن أبي سعد، المعروف بابن القرة كان أبوه من أهل حلب، وانتقل إلى دمشق روى عنه الحافظ ابن عساكر بسنده عن أسماء بنت يزيد قالت: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كاضطراب السعفة في النار " ولد ابن القرة سنة خمسٍ وسبعين وأربعمائة، ومات في سنة ستين وخمسمائة.
عبد الواحد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن إبراهيم
أبو محرز العبسي روى عن أبيه بسنده عن أنس: أن الصلاة كانت تقام لعشاء الآخرة، فيقوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الرجل يكلمه حتى يرقد طوائف من أصحابه، ثم ينتهون إلى الصلاة.
عبد الواحد بن بكر بن محمد
أبو الفرج الهمداني الورثاني الصوفي روى عن محمد بن الحسين القرشي بسنده عن سفيان الثوري قال: قرأت في بعض الكتب: ابن آدم خلق أحمق، ولولا ذلك بم يحب الدنيا، ولم يركن إليها.(15/246)
وروى عن علي بن يعقوب بسنده عن قاسم الجوعي قال:
رأيت رجلاً في الطواف لا يزيد على قوله: إلهي قضيت حوائج الكل ولم تقض حاجتي، فقلت: مالك لاتزيد على هذا الدعاء؟! فقال: أحدثك: اعلم أنا كنا سبعة أنفسٍ من بلدان شتى، فخرجنا إلى الغزاة، فأسرنا الروم، ومضوا بنا لنقتل، فرأيت سبعة أبواب ٍ فتحت من السماء، وعلى كل باب جارية حسناء من الحور العين، فتقدم واحد منا، فضرب عنقه، فرأيت جارية منهن هبطت إلى الأرض، بيدها منديل، فقبضت روحه، حتى ضرب أعناق ستة منا، فاستوهبني بعض رجالهم، فقالت الجارية: أي شيء فاتك يا محروم! وأغلق الباب.
قال حمزة بن يوسف السهمي في " تاريخ جرجان " عبد الواحد بن بكر الورثاني الصوفي، أبو الفرج. كتب الكثير. كان رفيق أحمد بن منصور الشيرازي بالشام. دخل جرجان في سنة خمس وستين، في أيام الشيخ أبي بكر الإسماعيلي، وسمع، وحدث بجرجان بأخبار وأحاديث وحكايات، وتوفي بالحجاز سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة.
عبد الواحد بن جهير بن مفرج
شاعر رقيق الشعر. رآه ابن عساكر ولم يسمع منه.
من أبيات له في غلام اسمه عمر:
قلبي أشار ببينهم ... وعليه عاد وباله
وغداً كئيبا في الهوى ... تبكي له عذاله
يا كاملا لولا نفو ... ر فيه تم كماله
قمر ولكن قافه ... عين فتم جماله
مات ابن جهير سنة أربع وخمسين وخمسمائة(15/247)
عبد الواحد بن الحسن بن محمد بن خلف
أبو نصر الأبهري المقرىء حدث عن أبي بسنده عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبل أن يرفع - ثم يجمع بين إصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام، ثم قال: العالم والمتعلم شريكان في الأجر، ولا خير في سائر الناس بعد. "
عبد الواحد بن الحسين بن إبراهيم بن عطية
أبو الفضل الحارثي المعروف بابن أبي الزميت قاضي جسرين روى عن أبي الفتح عبد الصمد بن تميم بسنده عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أتى الجمعة فليغتسل " توفي ابن أبي الزميت سنة ثمان وستين وأربعمائة
عبد الواحد بن الحسين بن الحسن
أبو أحمد الوراق الكاتب روى عن أبي عبد الله بن إبراهيم بن مروان بسنده عن بي مسعود الأنصاري قال: أشار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده نحو اليمن، فقال: " إن الإيمان هاهنا، إن الإيمان هاهنا، وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين، عند أصول أذناب الإبل، حيث يطلع قرن الشيطان في ربيعة ومضر "(15/248)
توفي عبد الواحد بن الحسين سنة إحدى وعشرين وأربعمائة.
عبد الواحد بن رزق الله بن عبد الوهاب
أبو القاسم بن أبي محمد التميمي البغدادي الحنبلي قدم دمشق، رسولاً من الخليفة المستظهر بالله. وروى تاريخ مولد أبيه ووفاته. توفي سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة
عبد الواحد بن زيد
أبو عبيدة البصري الزاهد كان يسرح في الشام روى عن فرقد السبخي بسنده عن أبي بكر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام " واختلف في سنده وفي رواية أتم من السابقة: " إن الله - عز وجل - حرم الجنة على كل جسد غذي بحرامٍ " - وفي رواية: " حرم على الجنة جسداً - وفي رواية: لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت " قال عبد الواحد بن زيد: هبطت داريا، فإذا أما براهبٍ قد حبس نفسه في بعض مغائر داريا، بالقرب منها، فراعني، وأوحشت منه، فقلت: أجني أنت أم أنسي؟ فقال: ومكيف بتخوف من غير الله؟! أنا رجل أوبقته ذنوبه، فهرب منها إلى ربه، لست بجني، ولكني إنسي(15/249)
مغرور، فقلت: قال: الوحش، قلت: ما طعامك؟ قال: ثمار الأشجار، ونبات الأرض، قلت: أما تحن وتشتاق إلى الناس؟ قال: منهم أفر، قلت: فعلى الإسلام أنت؟ قال: ما أعرفه؛ غير أن المسيح أمرنا بالانفراد عند فساد الناس وفي غير هذه الرواية: ما أعرف غيره.
وروي من وجه آخر، وفيه: هبطت وادياً بدل داريا، وفيه: قال عبد الواحد: فحسدته والله على مكانه ذلك.
وقال: خرجت إلى الشام في طلب العباد، فجعلت أجد الرجل بعد الرجل شديد الاجتهاد، حتى قال لي رجل: قد كان هاهنا رجل من النحو الذي تريد، ولكنا فقدنا من عقله. قلت: وما أنكرتم منه؟ قال: إذا كلمه أحد قال: الوليد وعاتكة، لايزيد على ذلك. قال: قلت: فكيف لي به؟ قال: هذه مدرجته، فانتظرته، فإذا برجل واله، كريه الوجه، كريه المنظر، وافر الشعر، متغير اللون، عليه أطمار دنسة. قال: فتقدمت إليه، فسلمت عليه، فالتفت إلي، فرد علي السلام، قلت: رحمك الله، إني أريد أن أكلمك، قال: الوليد وعاتكة، قلت: قد أخبرتك بقصتك، قال: الوليد وعاتكة. ثم مضى حتى دخل المسجد، فاعتزل إلى سارية، فركع، فأطال الركوع، ثم سجد، فأطال السجود. فدنوت منه، فقلت: رجل غريب يريد أن يكلمك، ويسألك عن شيء، فإن شئت فأقصر، فلست ببارحٍ أو تكلمني. قال: وهو في سجوده يدعو وستضرع، قال: فقمت عنه وهو ساجد، وهو يقول: سترك، سترك. قال: فأطال السجود حتى سئمت، فدنوت منه. فلم أسمع له نفساً، ولا حركة "، فحركته، فإذا هو ميت. قال: بينما أنا أسير في الشاقة في بلاد الروم، فغفلت ذات ليلة عن وردي، فأتاني آت في منامي، فقال لي: من السريع(15/250)
ينام من شاء على غفلة ... والنوم كالموت فلا تتكل
تنقطع الأيام عنه كما ... تنقطع الدنيا عن المرتحل
قال يحيى بن معين: عبد الواحد بن زيد ليس بشيء، كان قاصاً بالبصرة.
وقال البخاري: تركوه وقال عمرو بن علي: كان متروك الحديث وقال الجوزجاني: كان قاصاً بالبصرة، سيىء المذهب، ليس من معادن الصدق وقال يعقوب بن شيبة: رجل صالح متعبد، وكان يقص. يعرف بالنسك والتزهد، وأحسبه كان يقول بالقدر، وليس له بالحديث علم.
وقال يعقوب بن سفيان: هو ضعيف وقال أبو زرعة الرازي: قدري، أما في الحديث فليس بذاك الضعيف وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقويٍ في الحديث، ضعيف بمرة.
وقال النسائي: متروك الحديث وقال الدارقطني: ضعيف هذه الأقاويل في ضعفه في الرواية، فأما زهده، فقد قيل: لو قسم بث عبد الواحد بن زيد على أهل البصرة لوسعهم؛ فإذا أقبل سواد الليل نظرت إليه كأنه فرس رهانٍ مضمر، يتحزم، ثم يقوم إلى محرابه، فكأنه رجل مخاطب.
وقال مضر القارىء: مارأيت عبد الواحد بن زيد ضاحكاً قط، وماشئت أن أراه باكياً إلا رأيته. وكان إذا ذكر الموت تغير لونه جداً.(15/251)
وكان يقول في دعائه: أسألك أركاناً قوية على عبادتك، وأسألك جوارح مسارعة " إلى طاعتك، وأسألك همة متعلقة بمحبتك.
وأصابه الفالج، فسأل الله أن يطلقه في وقت الصلاة. فإذا أراد أن يتوضأ انطلق، وإذا رجع إلى سريره عاد إليه الفالج.
وقال: ما بالله حاجة إلى تعذيب عباده أنفسهم بالجوع والظمأ، ولكن الحاجة بالمؤمن إلى ذلك ليراه سيده ظمآن ناصباً، قد جوع نفسه له، وأهمل عينيه، وأنصب بدنه، فلعله أن ينظر إليه برحمته، فيعطيه بذلك الجوع والظمأ الثمن الجزيل. ثم قال: وهل تدري ما الثمن الجزيل؟ فكاك الرقاب من النار!.
قال مضر القارىء: شاهدت لعبد الواحد بن زيد دعوات مستجابات جلسنا يوماً إلى عبد الواحد بن زيد، فلم يتكلم طويلاً، فقال له بعض إخوانه: ألا تعلم إخوانك شيئاً يا أبا عبيدة، ألا تهديهم إلى خدمة الله؟ قال: قال: فبكى بكاء " شديداً، ثم قال: السرور والخير الأكبر أمامكم، أيها العابدون، فعلى ماذا تعرجون؟ وما تنتظرون؟ الأهبة للرحيل، والعدة لسلوك السبيل، فكأنكم بالأمر الجليل قد نزل بكم، فأوردكم على الكرامة والسرور، أو على مقطعات النيران، مع طول النداء بالويل والثبور. ألا فبادروا إليه رحمكم الله. قال: ثم غشي عليه، وتفرق الناس.
ومن أقواله: " من عمل بما علم فتح له علم مالا يعلم " الغم غمان: فالغم على ما مضى من المعاصي والتفريط، وذلك يفضي بصاحبه إلى راحة، وغم إذا صار في الراحة غم إشفاق أن سلب الأمر الذي هو فيه من الطاعة والعبادة.
ما أحسب أن شيئاً من الأعمال يتقدم الصبر إلا الرضا، فلاأعلم درجة أشرف، ولا أرفع من الرضا، وهو رأس المحبة.(15/252)
قاعدوا أهل الدين، فإن لم تقدروا عليهم فقاعدوا أهل المروءات من أهل الدنيا، فإنهم في مجالسهم لايرفثون.
وقال عبد الواحد:
سألت الله ثلاث ليال أن يريني رفيقي في الجنة، فرأيت كأن قائلاً يقول: ياعبد الواحد، رفيقتك في الجنة ميمونة السوداء، فقلت: وأين هي؟ قال: في آل فلان بالكوفة، قال: وخرجت إلى الكوفة، فسألت عنها، فقيل: هي مجنونة بين ظهرانينا ترعى غنيمات، فقلت: أريد أن أراها، قالوا: اخرج إلى الجبان، فخرجت، وإذا بها قائمة تصلي، وإذا بين يديها عكازة لها، فإذا عليها جبة من صوف، عليها مكتوب: لاتباع ولاتشترى، وإذا الغنم مع الذئاب، لا الذئاب تأكل الغنم، ولا الغنم تفزع من الذئاب، فلما رأتني أوجزت في صلاتها، ثم قالت: ارجع يابن زيد، ليس الموعد هاهنا، إنما الموعد ثم. فقلت لها: رحمك الله، ما يعلمك أنن ابن زيد؟ فقالت: أما علمت أن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وماتناكر منها اختلف. فقلت لها: عظيني، فقالت: واعجبا لواعظ يوعظ! فقلت لها إني أرع هذه الذئاب مع الغنم، لا الغنم تفزع من الذئاب، ولا الذئاب تأكل الغنم، فأيش هذا؟! قالت: إليك عني؛ فإني أصلحت ما بين وبين سيدي فأصلح بين الذئاب والغنم.
خطب عبد الواحد بن زيد رابعة، فحجبته أياماً، ثم أذنت له، فلما دخل قالت له: يا شهواني، أي شيء رأيت من آلة الشهوة في؟! ألا خطبت شهوانية مثلك؟! وقيل إنه صلى الغداة بوضوء العتمة أربعين سنة " ووقف على قبرٍ فقال: من الطويل
وبينا تراه في سرور وغبطة ... إذا هاتف من هاجس الموت قد هتف
فتلقاه مكروبا كثيرا غمومه ... أخا أسفٍ لو كان ينفعه الأسف
فيا عجبا ممن يسر بدهره ... وقد بصر الأنباء فيه وقد عرف
مات عبد الواحد بن زيد سنة سبعٍ وسبعين ومائة.(15/253)
عبد الواحد بن سعيد بن عبد الملك بن عبد الوهاب بن حسان، أبو بكر
حدث عن موسى بن عامر بسنده عن ابن عمر أن رجلاً سأل ابن عمر عن الوتر، أواجب هو؟ فقال ابن عمر: أوتر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون بعده؛ ولم يزد على ذلك.
عبد الواحد بن سعيد
قال: خاصمت إلى عمر بن عبد العزيز في جوار غصبتهن، ولدن في الشام، فردهن علينا وأولادهن - وفي رواية: اغتصبناهن وقد ولدن
عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية أبو عثمان - ويقال: أبو خالد - الأموي ولي الموسم لمروان بن محمد، وكان عامله على المدينة روى عن أبيه بسنده عن عثمان بن عفان أنه لما بنى المسجد، وأكثر الناس فيه قال: ما إكثاركم؟ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار "، وسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من بنى بيتاً بنى الله له بيتاً في الجنة ". فلقيت عروة بن الزبير، فحدثني أنه لما زاد عثمان في مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي رواية: في المسجد - أكثر الناس، فقال علي بن أبي طالب: ما إكثاركم؟ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة ".(15/254)
قال الزبير: عبد الواحد بن سليمان قتله صالح بن علي، وكان ذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وأمه أمر عمرو بنت عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس. وكان جواداً ممدحاً.
عبد الواحد بن شعيب
أبو القاسم الجبلي قاضي جبلة روى عن سلامة بن عبد العزيز اللخمي بسنده عن أبي هريرة قال: مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجلٍ من الأنصار، وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذره؛ فإن الحياء من الإيمان " وعن إبراهيم بن حماد بسنده عن أبي هريرة قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أفطر الحاجم والمحجوم "
عبد الواحد بن عبد الله بن كعب
ابن عمير بن قنيع بن عباد بن عوف بن نصر بن معوية بن بكر ابن هوزان بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان ويعرف بابن بس، أبو بسر النصري كانت داره في دمشق. ولي حمص، وولي المدينة في خلافة يزيد بن عبد الملك، وكان محمود الإمارة(15/255)
حدث عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إن من أعظم الفرى على الله أن يدعي الرجل إلى غير أبيه، أو يري عينيه - وفي رواية: عينه - في المنام مالم تر، ويقول على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي رواية: أو يقول على الله - مالم يقل " وحدث عن وائلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها، ووليدها، والولد الذي لاعنت عليه " وفي رواية: " إن المرأة يحوز ثلاث مواريث: لقيطها، وعتيقها، وولدها الذي تلاعن عليه ".
قال مصعب بن عبد الله: كان عبد الواحد النصري رجلاً صالحاً. بلغي عن القاسم بن محمد أنه سئل عن شيء فقال: مازلت أحبه حتى بلغني أن الأمير يكرهه، والأمير إذ ذاك عبد الواحد النصري.
قال أبو حاتم: صالح الحديث ولايحتج به.
وقال الدارقطني والعجلي: ثقة حج بالناس سنة أربع ومائة.
قال محمد بن عمر: سنة أربع ومائة - فيها نزع عبد الرحمن بن الضحاك عن المدينة، ووليها عبد الواحد بن عبد الله بن بسر النصري، ومكة والطائف، فقدم المدينة يوم السبت للنصف من شوال، لم يقدم عليهم والٍ أحب إليهم منه. كان يذهب مذاهب أهل الخير، ولايقطع أمراً إلا استشار فيه القاسم وسالماً، وما كان لنبي مروان والٍ أحمد منه عند أهل المدينة، ولاأجدر أن يقرب أهل الخير، ويعرف قدرهم، وكان يتعفف في حالاته كلها.(15/256)
وحين نزع النصري توجع القاسم بن محمد، وجزع عليه، وقال: رجل قد عرفناه، وعرفنا مذاهبه، وأمناه، يأتينا غر لا ندري ما هو روى الأصمعي عن مالك بن أنس قال: كان سعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت فاضلاً، عابداً، كثير الصلاة، فأريد على قضاء المدينة، فامتنع، فكلمه إخوانه من الفقهاء، وقالوا له: لقضية تقضيها بحق أفضل من كذا وكذا من التطوع، فلم يجب، فأكره على القضاء، فكان أول شيء قضى به على عبد الواحد بن عبد الله النصري والي المدينة، وأخرج من يده كالاً عظيماً لفقراء أهل المدينة، فقسمه فيهم، وعزل عبد الواحد بذلك السبب، فقال لسعيد بن سليمان إخوانه: قضيتك هذه خير لك من مال عظيم لو تصدقت به من عندك.
قال ابن ماكولا: النصري أوله نون.
عبد الواحد بن عبد الله بن هشام
ابن عبد الله بن سوار أبو الفضل العنسي الداراني روى عن أبي محمد بن أبي نصر بسنده عن أبي الدرداء أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من ذكر أمراً بما ليس فيه ليعيبه حبسه الله به في جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال " قال ابن ماكولا: سوار بكسر السين وتخفيف الواو(15/257)
عبد الواحد بن عبد الماجد
ابن عبد الواحد بن عبد الكريم بن هوازن بن محمد بن طلحة بن عبد الملك أبو محمد بن أبي المحاسن بن أبي سعيد بن أبي القاسم القشيري النيسابوري الصوفي قدم دمشق سنة وسبع وخمسين وخمسمائة، وسمع منه الحافظ ابن عساكر، وخرج من دمشق سنة ثمان وخمسين وخمسمائة روى عن أبي بكر الشيروبي بسنده عن عبد الملك بن عمر قال: حاصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الطائف، فلم ينل منهم شيئا ". قال: " إنا قافلون غداً إن شاء الله "، قال المسلمون: أنرجع ولم نفتحه؟؟! فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اغدوا على القتال "، فأصابهم جراح، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنا قافلون غداً إن شاء الله تعالى "، فأعجبهم ذلك، فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
توفي أبو محمد سنة تسع وستين وخمسمائة - بأصبهان، ودفن بالقرب من قبر حممة الدوسي.
عبد الواحد بن عبد الوهاب
ابن عبد العزيز بن المظفر أبي حزور، أبو محمد ويقال: أبو علي الأزدي الوراق روى عن أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني بسنده عن سهل بن سعد الساعدي سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً - أو سبعمائة ألف شك الراوي - متماسكين، أخذ بعضهم بعضاً، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر ".(15/258)
ولد عبد الواحد بن عبد الوهاب سنة ثمان وعشرين وأربعمائة - أو سنة تسع وعشرين وأربعمائة
عبد الواحد بن علي بن عبد الواحد
ابن موحد بن إسحاق بن إبراهيم بن البري ويقال: موحد بن أبي نصر بسنده عن أنس بن مالك قال:
كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر أن يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ". فقال بعض أصحابه - أو بعض أهله: أتخاف علينا، وقد آمنا بك؟ فقال: " سبحان الله، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقول به هكذا - يعني: يقلبه " توفي أبو الفضل عبد الواحد بن علي البري سنة إحدى وستين وأربعمائة من نشابة أصابته، وفي هذا السنة احترق جامع دمشق.
عبد الواحد بن قيس السلمي
والد عمر بن عبد الواحد. من أهل دمشق روى عن عروة بن الزبير، عن كرز الخزاعي قال: أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعرابي فقال: يا رسول الله، هل للإسلام من منتهى؟ قال: " نعم، فمن أراد الله به خيراً من عجم أعرب أدخله عليهم - وفي رواية: أدخله الله عليهم - ثم تقع فتن كالظلل - وفي رواية: كالظلام - يعودون فيها أساود صباً يضرب بعضهم - وفي رواية: بعضكم - رقاب بعض، فأفضل الناس يومئذ مؤمن معتزل في شعبٍ من الشعاب يتقي ربه، ويدع الناس من شره ".(15/259)
أساود صباً: الأسود إذا انصب، وإنه لا يدركه البصر، أسرع من الريح.
وروى عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك، ثم يشبك لحيته بإصبعه من تحتها - وفي رواية: وشبك يده في لحيته.
وروى عن رجل عن أبي هريرة قال: تكفير كل لحاء ركعتان قال البخاري: كان الحسن بن ذكوان في نفرٍ ثقات. ووثقة يحيى بن معين، وقال مرة: لم يكن بذاك ولا قريب قال أبو أحمد الحاكم: منكر الحديث قال الهيثم بن عمران: جلست إلى نمير بن أوس وأنا غلام لم أحتلم، فسألني عن ابنة عبد الواحد بن قيس السلمي كيف وجدتها؟ قلت: من خير النساء، فقال نمير: إن تك كذلك فإن أباها خير من نمير.
قال عبد الواحد بن قيس ليزيد بن عبد الملك - وكان معلم بنيه: إني لست آخذ منك على القرآن شيئاً، إنما آخذ منك على آدابي.
قال يحيى بن سعيد، وذكر عنده عبد الواحد بن قيس الذي روى عنه الأوزاعي: كان شبه لاشيء(15/260)
قال أبو أحمد بن عدي: أرجو أنه لابأس به؛ لأن في روايات الأوزاعي عنه استقامة قال أبو حاتم: يكتب حديثه، وليس بالقوي، لا يعجبني حديثه.
قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي: ينفرد بالمناكير عن المشاهير ذكره الدارقطني في المتروكين
عبد الواحد بن محمد بن أحمد
أبو الحسن الكلبي الكناني، المعروف بالسني روى عن أبي القاسم بن أبي العقب بسنده عن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسوي صفوفنا في الصلاة حتى يدعهن مثل القدح، فرأى صدر رجل ناتئاً، فقال: " عباد الله، لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم "
عبد الواحد بن محمد بن أحمد
ابن عثمان بن الوليد بن الحكم بن سليمان بن أبي الحديد أبو الفضل الشاهد ذكر الحداد أنه ثقة مأمون روى عن أبي بكر الميانجي بسنده عن حذيفة قال: " لايدخل الجنة قتات "(15/261)
وروى عن أبي بكر يوسف بن القاسم بسنده عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا حضرتم الميت فقولوا خيراً؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ". قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: يا رسول الله، ما أقول؟ قال: قولي: اللهم اغفر له، وأعقبنا عقبى صالحة "، قالت: فأعقبني الله به محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
توفي أبو الفضل بن أبي الحديد يوم السبت السابع من ذي الحجة سنة سبع وأربعمائة - وقيل: سنة ثمان عشرة
عبد الواحد بن محمد بن جبريل
ابن هلال بن عبد الصمد أبو أحمد الهروي المقرىء المعروف بالطيني روى عن أبي القاسم نصر بن أحمد بن الخليل المرجى بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يقول الله تعالى: إذا أخذت كريمتي عبدي، فصبر، واحتسب، أقل ثوابه عندي الجنة ". - وفي رواية: " إذا سلبت كريمتي عبد فصبر واحتسب لم أجد له ثواباً غير الجنة " توفي أبو أحمد الهروي الطيني سنة تسع عشرة وثلاثمائة.
عبد الواحد بن محمد بن عمرو
ابن حميد بن معيوف أبو المقدم الهمذاني المعي وفي قاضي عين ثرماء حدث عن خيثمة بن سليمان بسنده عن سمره قال:
كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أكل طعاماً بعث بفضله إلى أبي أيوب الأنصاري، فبعث إليه بقصعةٍ، فلم يأكل منها، لأن فيها ثوماً، فأتى أبو أيوب، فقال: يا رسول الله، أحرام هو؟ قال: " لا، ولكني أكرهه من أجل ريحه " قال: فإني أكره ما كرهت.
توفي أبو المقدم المعيوفي سنة تسع وأربعمائة(15/262)
عبد الواحد بن محمد بن المسلم
أبو المكارم بن أبي طاهر بن أبي الفضل بن أبي محمد الأزدي الشاهد سمع منه الحافظ ابن عساكر، وسأله عن مولده فقال: في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وأربعمائة.
وروى بسنده عن أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " لكل أمةٍ مجوس، وإن مجوس أمتي هؤلاء القدرية، فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، ولاتصلوا عليهم "
عبد الواحد بن محمد
أبو الليث المقرائي الحمصي روى عن أبي عمرو أحمد بن محمد بن عنبسة الحمصي بسنده عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ويل للذي يحدث، فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له "
عبد الواحد بن محمد بن المهذب
ابن المفضل بن محمد بن المهذب أبو المجد التنوخي المعري روى الحافظ ابن عساكر عنه إجازة بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا من زين نفسه للقضاة بشهادة الزور زينه الله - عز وجل - يوم القيامة بسربالٍ من قطران، وألجمه بلجام من نار "(15/263)
توفي أبو المجد بالمعرة سنة أربع وخمسين وخمسمائة
عبد الواحد بن ميمون
ويقال: ابن حمزة أبو حمزة المدني القرشي مولى عروة بن الزبير روى عن عروة، عن عائشة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير علةٍ، ولا مرض، ولا عذر طبع الله على قلبه " وعن عروة، عن عائشة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قال الله تبارك وتعالى: من آذى لي ولياً فقد استحل محاربتي، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء فرائضي، وإن عبدي ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت عينه التي يبصر بها، وفؤاده الذي يعقل به، ولسانه الذي يتكلم به؛ إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن موته، إنه يكره الموت، وأنا أكره مساءته " - وفي رواية: " من أذل لي ولياً " قال عبد الواحد بن ميمون: شهدت عروة قطعت رجله وهو صائم، من بلاء كان به.
قال البخاري: عبد الواحد بن ميمون منكر الحديث قال النسائي: ليس بثقة وقال الدارقطني: متروك، صاحب مناكير، ضعيف(15/264)
عبد الواحد بن نصر بن محمد
أبو الفرج المخزومي، المعروف بالببغاء أصله من نصيبين، وقدم دمشق غير مرة، وله أشعار يصف فيها أوقاته بدير مران. وأشعاره حسنة سائرة. وإنما لقب بالببغاء للثغة فيه.
قال الخطيب: كان شاعراً مجوداً، وكاتباً مترسلاً، مليح الألفاظ، جيد المعاني، حسن القول في المديح والغزل، والتشبيه، والأوصاف، وغير ذلك.
وكتب إلى سيف الدولة يشكره وقد خلع عليه: من البسيط
لما تحصنت من دهري بخلعته ... سمت بحملانه ألحاظ إقبالي
وواصلتني صلات منه رحت بها ... أختال مابين عز الجاه والمال
فلينظر الدهر عقبى ما صبرت له ... إذ كان من بعض حسادي وعذالي
ألم أكده بحسن الانتظار إلى ... أن صنت حظي عن حط وترحال
بلغت من لا يجوز السؤل نائله ... ولا يدافع عن فضلٍ وإفضال
يا عارضا لم أشم مذ كنت بارقه ... إلا رويت بغيثٍ منه هطال
رويد جودك قد فاضت به هممي ... ورد عني بعزم الدهر إقلالي
أنشد أبو الفرج الببغاء لنفسه: من السريع
قد ساعف الدهر بإعتابه ... واعتاد قلبي بعض إطرابه
فاشكر له من فعله يومنا ... بالدير يامن لي بأضرابه(15/265)
غداة باكرناه في فتية ... والصبح قد سار بأسبابه
محدودب لم يبق فيه التقى ... إلا خيالا بين أثوابه
شاركته عند قرابينه ... فطنني من بعض أصحابه
فلو تراني وترى وقفتي ... وقد أتينا العيش من بابه
من بين مستلق على جنبه ... وآخر يسأل عما به
يريد تمزيقا لأثوابه ... من فرح منه بأحبابه
عاجله السكر فأضحى لقى ... وكفه في ثني جلبابه
وقال:
أكل وميض بارقة كذوب ... أما في الدهر شيء لايريب
تشابهت الطباع فلا دنيء ... يحن إلى الثناء ولاحسيب
وقال: من البسيط
يا من تشابه منه الخلق والخلق ... أما في الدهر شيء لا يريب
تشابهت الطباع فلا دنيء ... يحن إلى الثناء ولا حسيب
وقال: من البسيط
يا من تشابه منه الخلق والخلق ... فما تسافر إلا نحوه الحدق
توريد دمعي من خديك مختلس ... وسقم جسمي من جفنيك مسترق
لم يبق لي رمق أشكو إليك به ... وإنما يشتكي من به رمق
وقال: من المنسرح
يا مكمدي دعني أمت كمدا ... أو جد بعبدك مثلما وجدا
وزعمت أن البين منك غدا ... هدد بهذا من يعيش غدا(15/266)
وقال:
أستودع الله قوما ماذكرتهم ... إلا وضعت يدي لهفا على كبدي
تبدلوا وتبدلنا وأخسرنا ... من ابتغى عوضا يسلي فلم يجد
طمعت ثم رأيت اليأس أجمل بي ... تنزها فخصمت الشوق بالجلد
وقال: من الكامل
يانازحا شط المزار به ... شوقي إليك يجل عن وصفي
أغفي لكي ألقاك في حلمي ... ومن العجائب عاشق يغفي
قال الخطيب: توفي أبو الفرج الببغاء في ليلة السبت لثلاث بقين من شعبان سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.
عبد الواحد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق
أبو يوسف الطبري روى عن غيلان بن محمد بسنده عن سعد القرظ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخطب الناس في الحرب وهو متوكىء على قوسه
عبد الواحد
لم ينسب عن محمد بن سوقة قال: سمعت عبد الواحد الدمشقي قال: رأيت أبا الدرداء يحدث الناس ويفتيهم، وولده إلى جنبه، وأهل بيته جلوس في جانب يتحدثون. فقيل: ما بال الناس يرغبون فيما عنك من العلم، وأهل بيتك جلوس(15/267)
لاهين؟ قال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أزهد الناس في الأنبياء، وأشدهم عليهم الأقربون "، وذلك فيما أنزل الله عز وجل: " وأنذر عشيرتك الأقربين " إلى آخر الآية، ثم قال: " أزهد الناس في العالم أهله حتى يفارقهم " عن عبد الواحد الدمشقي قال: مر أبو هريرة حتى قام على أهل مجلسٍ، فقال: ألا أحدثكم عن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً غير كذب؟ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ألا أحدثكم بما يدخلكم الجنة؟ " قالوا: بلى، قال: " ضرب السيف، وطعام الضيف، واهتمام بمواقيت الصلاة، وإسباغ الطهور في الليلة القرة، وإطعام الطعام على حبه ".
عبد الوارث بن الحسن بن عمر القرشي
يعرف بابن الترجمان البيساني من أهل بيسان. قدم دمشق روى عن عبد الله بن يزيد المقرىء بسنده عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاتجالسوا أهل القدر، ولاتفاتحوهم " وروى عن عطاء بن همام الكندي بسنده عن عمر بن حريث قال: مرض أبو بكر، فصلى بالناس، ثم أقبل عيهم بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنا لم نألكم نصحاً، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يخرج الدجال من قبل المشرق ومعه قوم وجوههم كالمجان "(15/268)
وعن سفيان الثوري بسنده عن حذيفة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يأتي على الناس زمان، أفضل أهل ذلك الزمان كل خفيف الحاذ "، قيل: يا رسول الله، ومن خفيف الحاذ؟ قال: قليل العيال ".
قال ابن ماكولا: البيساني: أوله باء معجمة بواحدة، ثم ياء معجمة باثنتين من تحتها، ثم سين مهملة.
عبد الوارث بن عبد الغني بن علي
ابن يوسف بن عاصم أبو محمد المغربي التونسي المالكي الأصولي الزاهد كان عالماً بعلم الكلام، بصيراً به، حسن الاعتقاد، له قدم في العبادة. قدم دمشق غير مرة، وكان يتردد منها إلى حمص، وحلب، ويرجع إليها، وكان له أصحاب ومريدون.
روى الحافظ ابن عساكر أبياتاً من إنشاده في علم الأصول، وقال: توفي أبو محمد عبد الوارث بن عبد الغني سنة خمسين وخمسمائة بحلب على ما بلغني.
عبد الوارث بن عبد الغني بن علي
ابن يوسف بن عاصم أبو محمد المغربي التونسي المالكي الأصولي الزاهد كان عالماً بعلم الكلام، بصيراً به، حسن الاعتقاد، له قدم في العبادة. قدم دمشق غير مرة، وكان يتردد منها إلى حمص، وحلب، ويرجع إليها، وكان له أصحاب ومريدون.
روى الحافظ ابن عساكر أبياتاً من إنشاده في علم الأصول، وقال: توفي أبو محمد عبد الوارث بن عبد الغني سنة خمسين وخمسمائة بحلب على ما بلغني.
عبد الوهاب بن أحمد بن أبي الحجاج
يزعمون أنه من ولد عمر بن الخطاب، ويقال: إنهم موالي لذي الكلاع الحميري روى عن القاضي الميانجي بسنده عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأتي قباء راكباً وماشيا - وفي رواية: يزور قباء.(15/269)
عبد الوهاب بن أحمد بن هارون بن موسى
أبو الحسين بن الجندي الشاهد أخو القاضي أبي نصر روى عن أبي بكر بن أبي الحديد بسنده عن أسامة بن شريك قال: شهدت الأعاريب يسألون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقولون: ما خير ما أعطي العبد؟ قال: " خلق حسن " توفي أبو الحسين بن الجندي سنة تسع وأربعين وأربعمائة
عبد الوهاب بن إسحاق القرشي
روى عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر قال: خطب عبد الملك بن مروان أم الدرداء، فأبت أن تتزوج، فسمعتها تقول: لا، إني سمعت أبا الدرداء يقول: " المرأة لأخر أزواجها "
عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام
ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي ولي الموسم، وإمرة فلسطين من قبل أبي جعفر المنصور. مولده بأرض الشراة من أعمال دمشق، وقدم على أبي جعفر المنصور، وولاه غزو الصائفة سنة أربعين ومائة فلم تحمد ولايته.
قال الوليد بن مسلم: لما أفضى الأمر إلى أبي جعفر أغزى عبد الوهاب بن إبراهيم والحسن بن قحطبة في(15/270)
سنة تسع وثلاثين ومائة في سبعين ألفاً ملطية، وأمضى طائفة منهم إلى أرض الروم. ووجه في سنة اثنتين وأربعين ومائة عبد الوهاب بن إبراهيم معه الحسن بن قحطبة في جماعة من أهل خراسان، وأهل الشام والجزيرة والموصل، وأمرهما أن يبنيا ما خربته الروم من حائط ملطية، وإعادته على ماكان.
وفي سنة ست وأربعين ومائة حج بالناس عبد الوهاب بن إبراهيم قال خليفة: وفيها - يعني سنة أربعين ومائة - وجه أبو جعفر عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد بن علي لبناء ملطية، فأقام عليها سنة حتى بناها، وأسكنها الناس. وغزا الصائفة سنة اثنتين وخمسين فلم يدرب.
وقال يعقوب الفسوي: سنة إحدى وخمسين ومائة غزا الصائفة عبد الوهاب بن إبراهيم قال الربيع بن حظيان: كنت جالساً عند المنصور إذ دخل الحاجب، فقال: عبد الوهاب بن إبراهيم بالباب، فقال: يدخل ابن الفاعلة، وبيد المنصور قضيب، قال: فلما سمعت ذلك قمت، فأمرني بالجلوس، فجلست، ودخل عبد الوهاب، فسلم، فقال: لاسلم الله عليك يا بن الفاعلة! فألقى عبد الوهاب نفسه على ركبتيه، وجعل يحبو إليه، فألقى بقضيبه قلنسوته، وجعل يضربه حتى وقع من رأسه حتى أدماه، وهو يقول؛ يا بن فلانة، تقتل الغساني، وتتعصب؟ فلو أنك إذ خرجت من دينك عممت، ولكن تعصبت، فمن يعدل بين الناس؟! وحدث غير واحد أن عبد الوهاب بن إبراهيم ولي فلسطين للمنصور، فأخربها، فوجه إليه المنصور أن احمل إلي إبراهيم بن أبي عبلة، وابن مخمر الكناني لأسألهما عن أمر البلد، فدعا بهما عبد الوهاب، فغداهما، ثم غلفهما بالغالية بيده، ثم قرأ عليهما كتاب(15/271)
المنصور، وأشخصهما إليه، فلما قدما، ودخلا على المنصور أدنى مجالسهما، ورفعهما، وقال: يابن أبي عبلة، كيف تركت البلد؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لقد قرأت العهود مذ زمن الوليد بن عبد الملك، فما سمعت عهداً أحسن من عهدته إلى عبد الوهاب، لكنه عمد إلى جميع ما أمرته به فاجتنبه، وإلى جميع مانهيته عنه فارتكبه. وقال ابن مخمر الكناني: يا أمير المؤمنين، ترك ابن أخيك البلد كهذا الطائر، وأخرج من كمه طائراً قد نتفه.
فقال المنصور: ماله؟ قبحه الله! قد عزلته، فاختاروا من أحببتم.
روى ابن أبي الدنيا من طريقه قال: لما احتضر عبد الوهاب بن إبراهيم، وكان أمير فلسطين، جعل يقول: يا ويحكم، أيموت مثلي!؟ توفي عبد الوهاب بن إبراهيم الهاشمي سنة ثمان وخمسين ومائة وقيل: سنة تسع وخمسين ومائة وهو والي دمشق.
عبد الوهاب بن بخت
أبو عبيدة، ويقال: أبو بكر مولى آل مروان. سكن الشام، ثم تحول إلى المدينة.
روى عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نضر الله من سمع مقالتي هذه فوعاها، ثم بلغها غيره، فرب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه؛ ثلاث لايغل عليهن صدر مؤمن: إخلاص العمل لله، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم "(15/272)
وروى بسنده عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من لقي أخاه فليسلم عليه، وإن حالت بينهما شجرة أو حائط، أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه ".
قال عبد الوهاب بن بخت: كنت عند عمر بن عبد العزيز، فأتي بموالٍ لسليمان بن عبد الملك في جراحٍ بينهم، فقال لي: ياعبد الوهاب، قم، فاقض بينهم؛ واعلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقض في شجة دون الموضحة كما حدثني خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال يحيى: كان عبد الوهاب بن بخت ثقة، وكان شامياً نزل المدينة، وكان رجل صدق.
قال أبو زرعة، ويعقوب بن سفيان: ثقة قال أبو حاتم الرازي: لابأس به، صالح الحديث قال معان بن رفاعة: رأيت أبا عبيدة عبد الوهاب بن بخت المكي إذا رأى في المسجد الصبيان يشتد ذلك عليه، حتى لو يستطيع يأخذهم بيده أخذ.
قال مصعب الزبيري: كان عبد الوهاب بن بخت يشبه بالبطال في بلاد العدو، وهما من موالي آل مروان.
قال مالك: بلغني أن عبد الوهاب بن بخت خرج إلى الغزو، فانبعثت به راحلته، فقال: " عسى ربي أن يهديني سواء السبيل "، فاستشهد. ما أراه أخذ ذلك إلا من موسى عليه السلام حين توجه تلقاء مدين. وقد كان تزوج عندنا بالمدينة، وأقام بها. إن لم يكن(15/273)
هو أحق بما في رحله في السفر من رفقائه، وكان كثير الحج والعمرة، والغزو حتى استشهد.
وذكر أن عبد الوهاب غزا مع البطال، وانكشفوا، فجعل يكر فرسه وهو يقول: ما رأيت فرساً أجبن منك، وسفك دمي إن لم أسفك دمك! ثم ألقى بيضته عن رأسه وصاح: أنا عبد الوهاب بن بخت، أمن الجنة تفرون؟! ثم تقدم في نحور العدو. قال: فمر برجلٍ وهو يقول: واعطشاه! فقال: تقدم، الري أمامك.
أخبر من غزا مع البطال أنه سمع عبد الوهاب بن بخت يقول: والله لقد كنا نسمع أن سرية ثمانية آلاف ونحوها يليها رجل من قيس، فيقتل ومن معه إلا الشريد؛ وآية ذلك أنها خيل جريدة، ليس معهم إلا راحلة، فانظروا هل ترون عند آل فلان. قال: ولقينا العدو، فقتلوا مالك بن شبيب، والبطال، وعبد الوهاب بن بخت المكي.
استشهد البطال سنة ثلاث عشرة ومائة، وقيل سنة إحدى عشرة ومائة.
عبد الوهاب بن جعفر بن علي
ابن جعفر بن أحمد بن زياد أبو الحسين بن الميداني روى عن أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن مروان القرشي بسنده عن أم الدرداء قالت: خرجت من الحمام، فلقيني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " من أين يا أم الدرداء؟ " قالت: فقلت: من الحمام، قال: " والذي نفسي بيده ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيتها إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن تعالى " روى عن أحمد بن الحسين بن طلاب بسنده عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " مر رجل ممن كان قبلكم بجمجمة، فنظر إليها، فقال: اللهم أنت أنت، وأنا أنا،(15/274)
أنت العواد بالنعم - وفي رواية: بالمغفرة - وأنا العواد بالذنوب، فاغفر لي. وخر على جبهته ساجداً، فنودي: أنت العواد بالذنوب، وأنا العواد بالمغفرة، قد غفرت لك. فرفع رأسه، فغفر له - وفي رواية: غفر الله عز وجل له " كان ابن الميداني لايبخل بإعارة شئٍ من كتبه سوى كتاب واحد كان يضن بإعارته، فلما احترقت كتبه استجد جميعها من النسخ التي كتبت منها غير ذلك الكتاب الذي ضن بإعارته، فإنه لم يقدر على نسخه، وآلى على نفسه ألا يبخل بإعارة كتابٍ.
توفي أبو الحسين عبد الوهاب بن جعفر الميداني سنة ثماني عشرة وأربعمائة - وذكر أن مولده سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة - ودفن في مقبرة الفراديس.
ذكر أنه كتب بنحو مائة رطل حبر. كان فيه تساهل.
عبد الوهاب بن الحسن بن الوليد
ابن موسى بن سعيد بن راشد بن يزيد بن قندس بن عبد الله أبو الحسين الكلابي، المعروف بأخي تبوك العدل حدث عن أبي بكر محمد بن خريم العقيلي بسنده عن أبي هريرة قال:
جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء؛ فإن توضأنا به عطشنا، فنتوضأ من ماء البحر؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هو الطهور ماؤه، الحل ميتته " ولد عبد الوهاب بن الحسن الكلابي سنة خمس وثلاثمائة، وتوفي سنة ست وتسعين وثلاثمائة. وكان ثقة نبيلاً مأموناً محسناً.(15/275)
عبد الوهاب بن سعيد بن عطية
أبو محمد السلمي، يعرف بوهب روى عن شعيب بن شعيب بن إسحاق بسنده عن عائشة قالت: كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة صامه، وأمر الناس بصيامه، حتى إذا فرض رمضان كان رمضان هو الفريضة، وترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه.
وروى سفيان بن عيينة بسنده عن ابن عباس أن شاعراً أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " يابلال، اقطع لسانه عني " فأعطاه أربعين درهماً وحلة، فقال: قطع والله لساني توفي أبو محمد عبد الوهاب بن سعيد السلمي سنة ثلاث عشرة ومائتين، وشهد أبو زرعة جنازته.
ذكر أبو زرعة في أهل الفتوى بدمشق
عبد الوهاب بن صدقة بن محمد
أبو محمد الضرير المقرىء الفقيه الشافعي كان أديباً. وله شعر متوسط، وكان له بعبارة الرؤيا معرفة حسنة، وكان يقرأ في السبع الكبير، وسكن في دورة حمد، وكان يتردد إلى سماع الدرس بالزاوية الغربية، والمدرسة الأمينية، وسمع من الحافظ ابن عساكر حديثاً كثيراً، وكان حسن الاستفادة، صحيح العقيدة.(15/276)
من شعره: من الوافر
كفى عجبا بأن تعدي فراقا ... محبا ذاب وجدا واشتياقا
حشوت حشاه بالإحراق نارا ... فكيف قرار من ذاق احتراقا
ولولا حكم هذا الدهر قدما ... أذاق صميم قلبك ما أذاقا
قطعت بذات عرقٍ كل عرقٍ ... غريق حين يممت العراقا
ولما ساق حادي الركب ليلا ... بعثت لمهجة الصب السياقا
فلو حملت مابي كل ملك ... تحمل عرش ربك ما أطاقا
وقال: من الرمل
إن من وكل طرفي بالأرق ... لخليا لم يذق طعم القلق
لارعى الله وشاة بيننا ... فيهم زاد من الحب الحنق
صد عني وجفاني معرض ... ورمى قلبي بنارٍ فاحترق
ونعم صد، فمن علمه ... أن يعوق الطيف حتى ماطرق
مات عبد الوهاب سنة إحدى وستين وخمسمائة، ودفن في مقبرة باب الفراديس
عبد الوهاب بن الضحاك
أبو الحارث العرضي سكن سلمية روى عن إسماعيل بن عياش بسنده عن ابن عباس قال: أول ما سمعنا بالفالوذج أن جبريل - عليه السلام - أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إن أمتك تفتح لهم الأرض، وتفاض عليهم الدنيا حتى إنهم ليأكلون الفالوذج، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "(15/277)
وما الفالوذج؟ " قال: يخلطون السمن والعسل جميعاً، قال: فشهق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك شهقة.
وعن إسماعيل بمن عياش بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب - عزوجل " قال ابن أبي حاتم: عبد الوهاب بن الضحاك السلمي، قاص أهل سلمية، أبو الحارث. سمع منه أبي بالسلمية، وترك حديثه والرواية عنه، وقل: كان يكذب، سألت أبا اليمان عنه فقال: لا يكتب عنه، هذا قاص، ثم أتيناه، فأخرج إلينا شيئاً من الحديث، فقال: هذا جميع ما عندي، ثم بلغني أنه أخرج بعدنا حديثاً كثيراً. قال محمد بن عوف: قيل لي: إنه أخذ فوائد أبي اليمان، فكان يحدث بها عن إسماعيل بن عياش، وحدث بأحاديث كثيرة موضوعة، فخرجت إليه، فقلت: ألا تخاف الله!؟ فضمن لي ألا يحدث بها، فحدث بها بعد ذلك.
قال البخاري: عنده عجائب قال ابن عدي: سألت عبدان عن حديث ابن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لو كان القرآن في إهاب مامسته النار "، فقال: لقن عبد الوهاب بن الضحاك بحضرتي، فمنعتهم قال: وكان محمد بن عوف يحسن القول فيه، وبعض حديثه مالايتابع عليه.
تركه الدارقطني والعقيلي والبيهقي وقال صالح بن محمد: عامة حديثه كذب(15/278)
عبد الوهاب بن طالب بن أحمد
ابن يوسف بن عبد الله بن عنبسة بن عبد الله
أبو القاسم التميمي البغدادي المقرىء الأزجي الفقيه قدم دمشق، وكان إمام مسجد درب الريحان روى عن أبي الفرج الطناجيري بسنده عن جابر بن عبد الله قال: أكل أبو بكر بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبزاً ولحماً، ثم صلى، ولم يتوضأ مات أبو القاسم الأزجي الحنبلي سنة سبع وثمانين أربعمائة، ودفن في مقبرة باب الصغير.
عبد الوهاب بن عبد الله
ابن عمر بن أيوب بن المعمر بن قعنب بن يزيد أبو نصر المري الإمام الحافظ الشروطي، ويعرف بابن الأذرعي، ويابن الجبان ذكر أبو بكر الحداد أنه ثقة روى عن أبي عمر محمد بن موسى بن فضالة بسنده عن عوف بن مالك الأشجعي قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو في حبالة من أدم، فسلمت، ثم قلت: أدخل؟ قال: " ادخل "، قال: فأدخلت رأسي، فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضأ وضوءاً مكيثاً، فقلت: يا رسول الله، أدخل كلي؟ قال: " كلك "، قال: فلما جلست قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اعدد ست خصال بين يدي الساعة، قال: " موت نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " - قال عوف: فوجمت لذلك وجمة " ما وجمت مثلها قط - قال: " قل إحدى "، قلت:(15/279)
إحدى، قال: " وفتح بيت المقدس "، قال: " وفتنة فيكم تعم بيوتات العرب، ويأخذكم موت كقعاص الغنم، ويفشو المال فيكم حتى يعطى الرجل مائة دينار، فيظل ساخطاً، وهدنة " تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون، فيأتونكم في ثمانين غاية، تحت كل غايةٍ اثنا عشر ألفاً " وروى عن حميد بن الحسن الوراق بسنده عن أبي وائل قال: قال عبد الله بن مسعود في قوله - عز وجل: " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة "، قال ثعبان له زبيبتان تنهشه في قبره، تقول: أنا مالك الذي بخلت به، قال ابن ماكولا: المري: بضم الميم وكسر الراء وتشديدها توفي أبو نصر بن الجبان سنة خمسٍ وعشرين وأربعمائة وصلى عليه أبو الحسن بن السمسار، ودفن في مقبرة باب الصغير. صنف كتباً مثيرة، وكان يحفظ شيئاً من علم الحديث.
عبد الوهاب بن عبد الله
ابن محمد بن سعيد بن عمرو بن حفص بن حريش أبو الفرج العنسي الداراني - يعرف بوهيب روى عن أحمد بن عطاء المعروف بالروذباري بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الحياء والإيمان مقرونان في قرنٍ، فمن سلب أحدهما تبعه الأخر "(15/280)
قال الحافظ: سألت أبا محمد بن الأكفاني عن نسبة عبد الوهاب، فقال: ما وجدته إلا هكذا - وذكره لي ابن الأكفاني بالشين المعجمة. ووجدته بخط مكي بن جابار: - حريس - بالسين المهملة فالله أعلم.
عبد الوهاب بن عبد الرحيم
ابن عبد الوهاب بن محمد بن يزيد أبوعبد الله الأشجعي الجوبري من أهل قرية جوبر.
روى عن سفيان بسنده عن عمر بن الخطاب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل، وآناء النهار.
قال سفيان: ينفقه في طاعة الله.
قال أبو نصر الحافظ: الجوبري - بفتح الجيم وسكون الواو وفتح الباء المعجمة بواحدة توفي عبد الوهاب بن عبد الرحيم الأشجعي سنة تسع وأربعين ومائتين، وقيل سنة خمسين ومائتين.
عبد الوهاب بن عبد العزيز بن المظفر
أبو بكر الأزدي - ابن حزور الوراق حدث عن تمام بن محمد الرازي بسنده عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "(15/281)
زينوا القرآن بأصواتكم " ذكر أبو بكر الحداد: أن ابن حزور كان كهفاً للفقراء وأصحاب الحديث، وكان يمدهم بالورق والورق رجل صحة ثقة.
مات بتنيس سنة خمسين وأربعمائة. وكان يذهب مذهب أحمد بن حنبل
عبد الوهاب بن عبد الملك بن محمد بن عبد الصمد
أبو طالب الفقيه الهاشمي، ابن المهتدي بالله روى عن أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن مروان بسنده عن حكيم بن حزام قال: سألت رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعطاني، ثم سألته، فأعطاني، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ياحكيم، إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى ". فقال حيكم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، لا أرزأ بعدك أحداً شيئاً حتى أفارق الدنيا.
فكان أبو بكر يدعم حكيماً ليعطيه العطاء، فيأبى أن يقبله منه. فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم ني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيىء، فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ أحداً من الناس حتى توفي.
توفي الشريف أبو طالب عبد الوهاب بن عبد الملك بن عبد الملك سنة خمس عشرة وأربعمائة. كان فقيهاً حافظاً للفقه، يذهب إلى مذهب أبي الحسن الأشعري.(15/282)
عبد الوهاب بن علي ابن نصر بن أحمد بن الحسين بن هارون بن مالك أبو محمد البغدادي القاضي المالكي الفقيه صاحب المصنفات. قدم دمشق سنة تسع عشرة وأربعمائة مجتازاً إلى مصر.
روى عن بن محمد بن إبراهيم البجلي بسنده عن أبي هريرة: " الأبعد فالأبعد إلى المسجد أعظم أجراً " وعن أبي الفتح يوسف بن عمرو بن مسرور القواس بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الشياطين يستمتعون بثيابكم؛ فإذا نزع أحدكم ثوبه فليطوه حتى ترجع إليها أنفاسها؛ فإن الشيطان لا يلبس ثوباً مطوياً قدم الشيخ أبو محمد عبد الوهاب بن نصر الفقيه المالكي - رضي الله عنه، يعني دمشق - في شوال سنة تسع عشرة وأربعمائة، وخرج في جمادى الأولى من سنة عشرين وأربعمائة، وتوفي بمصر.
أنشد حين ودع بغداد: من الطويل
سلام على بغداد في كل منزل ... وحق لها مني السلام المضاعف
لعمرك ما فارقتها عن قلي لها ... وإني بشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت علب بأسرها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
فكنت كخل كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتعاسف(15/283)
وفي رواية موضع " بشطي ": " بجنبي "، وموضع " بأسرها ": " برحبها " قال الخطيب: عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد بن الحسين، أبو محمد الفقيه المالكي، كتبت عنه. وكان ثقة "، ولم نلق من الملكيين أحداً كان أفقه منه، وكان حسن النظر، جيد العبارة، وتولى القضاء ببادرايا، وباكسايا، وخرج في آخر عمره إلى مصر فمات بها سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة.
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف: كان فقيهاً شاعراً متأدباً، وله كتب ككثيرة في كل فن من الفقه.
مات سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وقيل سنة إحدى وعشرين وأربعمائة.
عبد الوهاب بن محمد بن خالد بن أبي معاذ أبومعاذ بن سعدان روى عن أبي علي الحسين بن إبراهيم بن جابر الفرائضي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:: " نعم الإبل الثلاثون؛ يحمل على نجيبها، وتغني أربابها، وتمنح غزيرتها، وتلتقي في محلها يوم ورودها، في أعطانها " توفي أبو معاذ بن سعدان سنة أربع عشرة وأربعمائة؟(15/284)
عبد الوهاب بن محمد بن ميمون أبو القاسم العمري المدني روى عن الحسن بن صالح بن جابر بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:: " مكتوب على ساق العرش: محمد رسول الله، أبو بكر الصديق - رضي الله عنه ".
عبد الوهاب بن محمد الأوزاعي حدث عن عمرو بن مهاجر قال: قدم محمد بن كعب القرظي على عمر بن عبد العزيز بخناصرة، فجعل محمد بن كعب يجد النظر إليه، فقال له عمر: مالي أراك تحد إلى النظر يامحمد؟ قال: يا أمير المؤمنين، عهدي بك بالمدينة وأنت غزير اللون، ظاهر الدم، وهيئتك غير هذه الهيئة، فقال عمر: كيف بك يا محمد لو رأيتني في قبري بعد ثالثة وقد وقعت عيناي على وجنتي، وسال فمي قيحاً ودماً رأيتني أشد تغيراً؟ يا محمد، حدثني حديث ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اقتلوا الحية والعقرب، وإن كنتم في الصلاة " فقال محمد: حدثني عبد الله بن عباس أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اقتلوا الحية والعقرب، وإن كنتم في الصلاة " وحدثني ابن عباس أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أشرف المجالس ما استقبل به القبلة " قال ابن عباس: وسمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول: " من اطلع في كتاب أخيه بغير أمره فكأنما اطلع في النار "(15/285)
وقال ابن عباس: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:: " شركم من نزل وحده، وضرب عبده، ومنع رفده "؟ عبد الوهاب بن المحسن بن عبد الوهاب بن سقير أبو الفضائل العطار روى عن الحافظ ابن عساكر بسنده عن أبي سعيد المقبري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" رب قائم حظه من قيامه السهر، ورب صائمٍ حظه من صيامه الجوع والعطش "؟ عبد الوهاب بن نجدة أبو محمد الحوطي روى عن بقية بسنده عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما عدل والٍ اتجر في رعيته " - وفي رواية: " من أخون الخيانة تجارة الوالي في رعيته " قال رجل لعبد الوهاب الحوطي: يا أبا محمد، تثبت؛ فإن أهل العراق يقولون: حديث الشاميين خرافات. قال الحوطي: سخنت عين الرعونة، أنا شامي عراقي.
ورئي يصلي في سروايل وقلنسوة وخف متقلداً سيفاً، ليس عليه قميص، فقيل له، فقال: أليس يقال: السيف بمنزلة الرداء في الصلاة.(15/286)
عبد الوهاب بن هشام بن الغاز الجرشي روى عن أبيه عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من كان وصلة - وفي رواية: نصرة - لأخيه المسلم إلى ذي سلطانة - وفي رواية: ذي سلطان - في منفعةٍ بر، أو تيسير عسير أعين على إجازة الصراط يوم دحض الأقدام " وفي رواية: " من كان ذا وصلةٍ " قال أبو حاتم: كان يكذب وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، ولا يعرف إلا به.
قال ابن ماكولا: الجرشي: بضم الجيم وفتح الراء وكسر الشين المعجمة
عبد الوهاب بن هلال بن عبد الوهاب
أبو القاسم البيروتي روى عن يحيى بن عبد الباقي بسنده عن أنس بن مالك قال: يقال رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قيدوا العلم الكتاب " ذكره عبد الوهاب الكلابي في تسمية شيوخه.
عبدان بن زرين بن محمد
أبو محمد الأذربيجاني الدويني المقرىء الضرير روى عن الحافظ ابن عساكر وقال: أقرأ القرآن مدة، ولقن جماعة، وكان ثقة خيراً.(15/287)
وروى من طريقه عن ميمون بن مهران قال: دخلت على سالم بن عبد الله بن عمر، وحدثته ملياً، ثم التفت إلي فقال: يا أبا أيوب، ألا أخبرك بحديث تحبه، وتحمله عني، وتحدث به؟ قال: قلت: بلى، قال: دخلت على أبي عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو يتعمم، فلما فرغ التفت إلي، فقال: أتحب العمامة؟ قلت: بلى، قال: فأحبها، وأغر بها تجل، وتوقر، وتكرم، ولا يراك الشيطان إلا ولى. سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " صلاة تطوعٍ أو فريضةٍ بعمامة تعدل خمساً وعشرين صلاة " بلا عمامة، وجمعة بعمامة تعدل سبعين جمعة " بلا عمامة "، أي بني اعتم، فإن الملائكة يشهدون يوم الجمعة معتمين، فيسلمون على أهل العمائم حتى تغيب الشمس.
مات عبدان سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وشهد الحافظ ابن عساكر جنازته والصلاة عليه.
عبدان بن عمر بن الحسن أبو محمد المنبجي حدث عن عبدان بن حميد المنبجي بسنده عن أبي ذر، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لأصحابه: " أي الناس أغنى؟ " قالوا: أبو سفيان بن حرب، قال آخر: عبد الرحمن بن عوف، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أغنى الناس حملة القرآن، من جعله الله في جوفه " وعن هاشم بن محمد الطائي بسنده عن أنس بن مالك: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يطوف على نسائه بغسل واحد - وفي رواية: طاف(15/288)
عبدان بن محمد بن عيسى
أبو محمد المروزي الحافظ الزاهد روى عن هشام بن عمار الدمشقي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قال ربكم - عز وجل: أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه " وعن هشام بن عمار بسنده عن أبي هريرة، سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يتقارب الزمان، ويقبض العلم، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج " قلت: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: " القتل " قال أبو عبد الله الحافظ: حدث عبدان بنيسابور سنة خمس وست وثمانين ومائتين. وهو ثقة مأمون إمام.
وقال الخطيب: قدم بغداد، وروى بها " كتاب التفسير " لمقاتل بن حيان، وكان ثقة حافظاً صالحاً زاهداً. ولد سنة عشرين ومائتين، وتوفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين.
وذكر أبو بكر الشيرازي أن عبدان كان ورعاً فاضلاً من قرية جنو جرد. صنف كتاباً سماه " الموطأ "
عبد عمرو بن يزيد بن عامر الجرشي
ممن أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد اليرموك. وبعثه أبو عبيدة بن الجراح إلى فحل من أرض الأردن لما كان أبو عبيدة بمرج الصفر.(15/289)
عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة
واسمه ثعلبة بن سبين، ويقال: عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة - الغساني
شاعر جاهلي نصراني. وفد على سطيح الغساني إلى الجابية سأله عن رؤيا موبذان الفرس التي ليلة ولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان عبد المسيح من المعمرين، وهو الذي صالح خالد بن الوليد على الحيرة.
روى هانىء المخزومي قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرافة، وخمدت نار فارسٍ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عامٍ، وغاضت بحيرة ساوة. فلما أصبح أفزعه ذلك، فتصبر عليه تشجعاً، فلما عيل صبره رأى ألا يستر ذلك عن وزرائه ومرزابته، فلبس تاجه، وقعد على سريره، وجمعهم إليه، فأخبرهم لما رأى، فينا هم كذلك إذ ورد عليه الكتاب بخمود النار، فازداد غماً إلى غمه، فقال الموبذان: وأنا - أصلح الله الملك - قد رأيت في هذه الليلة إبلاً صعاباً، تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها، فقال: أي شيءٍ يكون يا موبذان؟ قال: حادث يكون من ناحية العرب، فكتب عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر: أما بعد فابعث إلي برجلٍ عالم أريد أن أسأله عنه. فبعث إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغساني، فلما قدم عليه قال: أعندك علم ما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليخبرني الملك؛ فإن كان عندي منه علم أخبرته، وإلا دللته على من يخبره، فأخبره بما رأى، فقال: علم ذلك عند خالٍ لي يسكن مشارف الشام - وفي رواية: ابن عم لي بالجابية - يقال له: سطيح، قال: فأته، فاسأله عما أخبرتك، ثم ائتني بجوابه.
فخرج عبد المسيح حتى قدم على سطيح، وقد أشفى على الموت، فسلم عليه، وحياه، فلم يرد على سطيح جواباً، فأنشأ عبد المسيح يقول: رجز(15/290)
أصم أم يسمع غطريف اليمن ... أم فاز فاز لم به شأو العنن
يافاضل الخطة أعيت من ومن ... أتاك شيخ الحي من آل سنن
فلما سمع شعره رفع رأسه، وقال: عبد المسيح، على جمل مشيح، إلى سطيح، وقد أوفى على ضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان؛ رأى إبلاً صعاباً، تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها.
يا عبد المسيح، إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهرواة، وخمدت نار فارس، وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادي السماوة فليس الشام لسطيح شاماً، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ماهو آت آت. ثم قضى سطيح مكانه، ووثب عبد المسيح الغساني يقول: من البسيط
شمر فإنك ماضي الهم شمير ... لا يفز عنك تفريق وتغيير
إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير
فربما ربما أضحوا بمنزلةٍ ... تهاب صولهم الأسد المهاصير
فالخير والشر مقرونان في قرنٍ ... فالخير متبع والشر محذور
فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بقول سطيح، فقال كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً قد كانت أمور. قال: فملك منهم عشرة في أربع سنين والباقون إلى آخر خلافة عثمان.
قالوا: لما انصرف خالد بن الوليد من اليمامة ضرب عسكره علىالجرعة التي بين الحيرة والنهر، وتحصن منه أهل الحيرة في القصر الأبيض، وقصر ابن بقيلة. فبعث إليهم: ابعثوا إلي رجلاً من عقلائكم أسائله، ويخبرني عنكم. فبعثوا إليه عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة الغساني، وهو يومئذ ابن خمسين وثلاثمائة سنة. فلما رآه خالد قال: مالهم، أخزاهم الله، بعثوا إلي رجلاً لا يفقه فلما دنا من خالد قال: أنعم صباحاً(15/291)
أيها الملك، فقال خالد: قد أكرمنا الله بغير هذه التحية، بالسلام. ثم قال له خالد: من أين أقصى أثرك؟ قال: من ظهر أبي، قال: من أين خرجت؟ قال: من بطن أمي، قال: علام أنت.؟ قال: على الأرض، قال: فيم أنت ويحك؟ قال: في ثيابي، قال: أتعقل؟ قال: نعم، وأقيد، قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد، قال خالد: ما رأيت اليوم قط! أسائله عن شيء وينحو في غيره، قال: ما أجيبك إلا عما سألت عنه، فاسأل عما بدا لك، قال: كم أتى لك؟ قال: خمسون وثلاثمائة، قال: أخبرني، ما أنتم؟ قال: عرب استنبطنا، ونبط استعربنا، قال: فحرب أنتم أم سلم؟ قال: بل سلم، قال: فما بال هذه الحصون؟ قال: بنيناها لتحبس السفيه حتى ينهاه الحليم. فقال له خالد: ما أدركت؟ قال: أدركت سفن البحر ترفأ إلينا في هذا الجرف، ورأيت المرأة من أهل الحيرة تخرج إلى الشام في قرى متواترة ما تزود رغيفاً، وقد أصبحت خراباً يباباً.
وقال عبد المسيح حين رجع:
أبعد المنذرين أرى سواما ... تروح بالخورنق والسدير
تحاماها فوارس كل حي ... مخافة ضيغم عالي الزئير
وبعد فوارس النعمان أرعى ... رياضا بين دورة والحفير
فصرنا بعد هلك أبي قبيسٍ ... كمثل الشاء في اليوم المطير
تقسمها القبائل من معد ... علانية كأيسار الجزور
وكنا لا يباح لنا حريم ... فنحن كضرة الناب الضجور
كذاك الدهر دولته سجال ... تصرف بالمساءة والسرور
قالوا: وخرج بقيلة في ثوبين أخضرين، فقال له إنسان: ما أنت إلا بقيلة، فسمي بقيلة بذلك. واسمه ثعلبة ين سبين.(15/292)
عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث
ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي له صحبة. وروى شيئاً يسيراً. قال: مشت بنو عبد المطلب إلى العباس، فقالوا: كلم لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليجعل فينا ما يجعل في الناس من هذه السعاية وغيرها. قال: فينما هم كذلك يأتمرون إذ جاء علي بن أبي طالب، فدعاه العباس، فقال: هؤلاء قومك، وبنو عمك اجتمعوا، لو كلمت لهم رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعل لهم السعاية، فقال علي: إن الله تعالى أبى لكم يابني عبد المطلب أن يطعمكم غسالة أوساخ أيدي الناس. قال: فقال ربيعة بن الحارث: دعوا هذا، فليس عنده خير، وابعثوا أنتم. فبعث العباس ابنه الفضل، وبعثني أبي ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. قال: فانطلقنا حتى دخلنا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فأجلسنا عن يمينه، وعن شكاله، قال: فحصرنا كأشد حصر. قال: ثم أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بأذني وأذنه، فقال: " أخرجا ماتصرران "، فقلنا: يا رسول الله، بعثنا إليك عمك، واجتمع بنو عمك إليه، بنو عبد المطلب، أن يطعمكم غسالة أوساخ الناس، ولكن لكم عندي الحياء والكرامة؛ أما أنت يا عبد المطلب فأزوجك فلانة، وأما أنت يافضل فأزوجك فلانة، ". قال: فرجعنا إليهم وهم كذلك، فلما أتيناهم قالوا: ماوراءكما، أسعد أو سعيد؟ قال: فقلنا: قد زوجنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فادعوا لنا بالبركة، قال: فأخبرناهم بقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فوثب علي، عليه السلام، فقال: أنا أبو الحسن! وتفرقوا.
قال الزبير بن بكار:
ومن ولد ربيعة: عبد المطلب بن ربيعة. وأمه أم الحكم بنت الزبير بن(15/293)
عبد المطلب. وكان عبد المطلب بن ربيعة رجلاً على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا سفيان بن الحارث أن يزوجه ابنته، فزوجه إياها، وهو الذي أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الفضل بن عباس، فسألاه أن يستعملهما على الصدقة، ولم يزل عبد المطلب بالمدينة إلى زمن عمر نب الخطاب، ثم تحول إلى دمشق، فنزلها، وهلك بها، وأوصى إلى يزيد بن معاوية في خلافة يزيد، وقبل يزيد وصيته.
قال البغوي: عبد المطلب - ويقال: المطلب - بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي قال خليفة: ومات أيام يزيد بن معاوية: عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم.
عبدوس بن ديرويه
أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله، الرازي سكن مصر، وتوفي بها سنة تسعين ومائتين.
روى عن الوليد بن عتبة الدمشقي بسنده عن عبادة بن الصامت قال: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة يجهر فيها بالقراءة، فالتبست عليه القراءة، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه، ثم قال: " هل تقرؤون خلفي إذا جهرت "؟ فقال بعضنا: إنا لنصنع ذلك، قال: " فلا تقرؤوا بشيءٍ من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن ".
وعن هشام عن عمار بسنده عن عمير الليثي قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه مع كل تكبيرة(15/294)
عبدة بن رياح الغساني
ولي الجزيرة للوليد بن يزيد، وكانت داره بدمشق بباب البريد، وهي المعروفة بدار الكأس روى عن منيب بن عبد الله، عن أبيه قال: تلا علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل يوم هو في شأن "، قلنا: يا رسول الله، وما ذلك الشأن؟ قال: " يغفر ذنباً، ويكشف كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين " قال ابن ماكولا: رياح: بكسر الراء وفتح الياء المعجمة باثنتين من تحتها: عبيدة بن رياح الغساني، كذا.
قال أبو مسهر: كان لسعيد بن عبد العزيز جليس يقال له: هشام بن يحيى الغساني، فقال له يوماً: كان عندنا صاحب شرطة يقال له: عبدة بن رياح، وكان ظلوماً، فجاءته امرأة، فقالت: إن ابني يعقني ويظلمني. فأرسل بها في الطريق، فقالوا لها: إن أخذ ابنك ضربه قتله، قالت: كذا! قالوا: نعم، قال: فمرت بكنيسةٍ على بابها شماس، فقالت: خذوا هذا، هذا ابني، فقالوا له: أجب عبدة بن رياح. فلما مصل بين يديه قال له: تضرب أمك وتعقها! قال: ماهي أمي، قال: وتجحدها أيضاً! خذوه! فضربه ضرباً وجيعاً، وأرسله، فقالت: إن أرسلته معي ضربني، قال: هاتوه، فأركبها على عنقه، وقال: كرروا عليه النداء. فقالوا: هذا جزاء من يضرب أمه ويعقها. فمر به رجل ممن يعرفه، فقال له: ماهذا؟ فقال: من لم يكن له أم فليمر إلى عبيدة بن رياح حتى يجعل له أماً(15/295)
عبدة بن عبد الرحيم بن حسان
أبو سعيد المروزي روى عن وكيع بن الجراح بسنده عن عمر بن الخطاب قال: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لإمرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله، وإلى رسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
قال عبدة بن عبد الرحيم: دخلنا بلاد الروم، وكان معنا شاب يقطع نهاره بقراءة القرآن، والصوم، وليله بالقيام، وكان من أعلم الناس بالفرائض والفقه. فمررنا بحصنٍ بم نؤمر أن نقف عليه، فمال إلى ناحية الحصن، ونزل عن فرسه يبول، فنظر إلى من ينظر فوق الحصن، فرأى امرأة "، فأعجبته، فقال لها بالرومية: كيف السبيل إليك؟ فقالت: هين؛ تنتصر، فنفتح لك الباب، وأنا لك، ففعل، ودخل الحصن. فنزل بكلٍ واحدٍ منا من الغم ما لو كان ولده من صلبه ما كان أشد عليه. فقضينا غزاتنا، فرجعنا، فلم نلبث إلا يسيراً حتى خرجنا إلى غزوةٍ أخرى، فمررنا بذلك الحصن، فإذا هو ينظر إلينا مع النصارى، فقلنا: يا فلان، ما فعل قرآنك؟ مافعل علمك؟ ما فعل صومك وصلاتك؟! فقال: أنسيت القرآن كله، حتى لا أحفظ منه إلا قوله: " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين، ذرهم يأكلوا ويتمتعوا، ويلههم الأمل فسوف يعلمون " سئل أبو حاتم عن عبدة بن عبد الرحيم فقال: صدوق، وقال النسائي: صدوق لا بأس به.
وقال أبو سعيد بن يونس: قدم مصر، وحدث بها، وخرج إلى دمشق، فكانت وفاته بها سنة أربع وأربعين ومائتين.(15/296)
عبدة بن أبي لبابة
أبو القاسم الأسدي مولى بني غاضرة، حي من بني أسد. ويقال: مولى قريش. كوفي سمكن دمشق.
سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تابعوا بين الحج والعمرة، فو الذي نفسي بيده إن متابعتهما تنفي الفقر والذنوب كما تنفي النار خبث الحديد " وروى عن شقيق بن سلمة قال: شهدت عثمان توضأ ثلاثا - وذكر أنه أفرد، وفي رواية: وأفرد - المضمضة من الاستنشاق ثم قال: هذا توضأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الأوزاعي: لم يقدم علينا من العراق أحد أفضل من عبدة بن أبي لبابة وثقة أبو حاتم والنسائي والفسوي وابن خراش قال عبدة بن أبلي لبابة: كنت في سبعين من أصحاب ابن مسعود وقرأت عليهم القرآن، ما رأيت منهم اثنين يختلفان، يحمدون اله على الخير، ويستغفرونه من الذنوب.
قال الأوزاعي: كان عبدة إذا كان في المسجد لم يذكر شيئاً من أمر الدنيا وقال: رأيت عبدة يطوف بالبيت وهو ضعيف، فقلت: لو رفقت بنفسك؟ فقال: إنما المؤمن بالتحامل.(15/297)
قال عبدة بن أبي لبابة: لوددت أن حظي من أهل هذا الزمان: لا يسألوني عن شيء، ولا أسألهم. يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم بالدراهم.
وقال: إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته.
وأرسل عبدة بن أبي لبابة بخمسين ومائة درهم ليفرقها في فقراء الأنصار فلم يجد فيهم محتاجاً، كان قد أغناهم عمر بن عبد العزيز حين ولي، فلم يترك فيهم أحداً إلا ألحقه.
قال حسين الجعفي: قدم الحسن بن الحر وعبدة بن أبي لبابة - وكانا شريكين - ومعهما أربعون ألف درهم، قدما في تجارة، فوافقا أهل مكة وبهم حاجة شديدة. قال: فقال الحسن بن الحر: هل لك في رأي قد رأيته؟ قال: وما هو؟ قال: تقرض ربنا عشرة آلاف درهم، وتقسمها بين المساكين. قال: فأدخلوا مساكين أهل مكة داراً. قال: وأخذوا يخرجون واحداً واحداً فيعطونهم، فقسموا عشرة آلاف، وبقي من الناس ناس كثير، قال: هل لك أن تقرضه عشرة آلاف أخرى؟ قال: فاستقرضوا عشرة آلاف، فأرضوا بها الناس. قال: وطلبهم السلطان، فاختفوا، حتى ذهب أشراف أهل مكة، فأخبروا الوالي عنهم بصلاح وفضل. قال: فخرجوا بالليل، ورجعوا إلىالشام.
قال: وكان عبدة بن أبي لبابة قد عمي، وكان يأتي الحسن بن الحر، فكان إذا قام عبدة ليتوضأ أمر الحسن بن الحر غلاماً يقوده أن يغسل ذراعيه، وطيبه، ليضع عبدة يده على ذراعه، فإذا توكأ عليه توكأ عليه وهو مطيب.(15/298)
عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله
ابن محمد بن غفير بن عمرك بن خليفة بن إبراهيم بن قتيبة بن قيس بن عامر بن قيس أبو ذر الأنصاري الهروي الحافظ سكن مكة مجاوراً بها.
روى عن شيبان بن محمد بن عبد الله بسنده عن أبي بكرة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كبر في صلاة الفجر، ثم أومى إليهم، ثم انطلق واغتسل، فجاء ورأسه يقطر فصلى بهم.
قال أبو النجيب الأرموي: سألت أبا ذر عن مولده، فقال: سنة خمس - أو ست - وخمسين وثلاثمائة.
وذكر أبو محمد بن الأكفاني: أن أبا ذر قدم دمشق، وسمع بها من عبد الوهاب الكلابي " الموطأ " وقال الخطيب: خرج أبو ذر إلى مكة، فسكنها مدة، ثم تزوج في العرب، وأقام بالسروات. وكان يحج في كل عام، ويقيم بمكة أيام المواسم، ويحدث، ثم يرجع إلى أهله. وكتب إلينا من مكة بالإجازة بجميع حديثه. وكان ثقة، ضابطاً، ديناً، فاضلاً. مات بمكة لخمس خلون من ذي القعدة سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.
قيل لأبي ذر الهروي: أنت من هراة، فمن أين تمذهبت لمالك والأشعري؟ فقال: سبب ذلك أني قدمت بغداد لطلب الحديث، فلزمت الدارقطني، فلما كان في بعض الأيام كنت معه، فاجتاز به القاضي أبو بكر بن الطيب، فأظهر الدارقطني من إكرامه ما تعجبت منه، فلما فارقه قلت له: أيها الشيخ، الإمام من هذا الذي أظهرت من إكرامه ما رأيت، فقال: أو ما تعرفه؟ قلت: لا، فقال: هذا سيف السنة، أبو بكر الأشعري، فلزمت القاضي منذ ذلك الوقت، واقتديت به في مذهبه.(15/299)
قال أبو ذر الهروي:
كنت أحج على قدمي حجاتٍ، فنفذ زادي مرة "، وضعفت، فاستقرضت من إنسان فأعطاني كفاً، فما كفاني، ومضى بعد ذلك علي يومان، فأيست من نفسي، واستسلمت للموت، فإذا بسواد ٍ قد لاح لي مقبلاً إلي، فحدقت النظر نحوه، وإذا أما بامرأتين على ناقتين، وقد مدتا أيديهما، بيد كل واحدة منهما قعب فيه لبن، فأخذهما أحدهما، وشربت، فبكت الأخرى، فقلت لها: مالك تبكين؟ فقالت: تسابقنا إلى البر فسبقتني، فقلت لها: أعطني، فإني أشرب أيضاً، فما شبعت، فقالت: هيهات! ومن لي بري عظامك؟! قال ابن أبي أسامة: أبو ذر أول من أدخل مذهب الأشعري الحرم وقال الأنصاري: صدوق، تكلموا في رأيه
عبيد بن أحمد بن الحسن بن يعقوب
أبو الفرج بن السخت المقرىء الرقي البزار روى قول أنس: لا يجتمع حب هؤلاء الأربعة إلا في قلب مؤمن، وقد اجتمع حبهم في قلبي توفي أبو الفرج بن السخت في سنة أربعمائة
عبيد الله بن أحمد بن سليمان بن يزيد
المعروف بابن الصنام، أبو محمد القرشي الرملي روى عن إدريس بن أبي الرباب بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحبكم وأقربكم مني مجلس " في الجنة أحاسنكم أخلاقاً، وأبغضكم إلي الثرثارون(15/300)
المتشدقون، المتفيهقون ". قلنا: يا رسول الله، قد عرفنا الثرثارين والمتشدقين، فما المتفيهقون؟ قال: " المستكبرون ".
وروى عن الحسن بن عرفة بسنده عن ابن عمر قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أطيب الكسب، فقال: " عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرورٍ ".
توفي أبو محمد عبيد الله بن الصنام الرملي بدمشق سنة تسع وتسعين ومائتين
عبيد الله بن أحمد بن عبد الأعلى بن محمد بن مروان
أبو القاسم الرقي الفقيه المعروف بابن الحراني روى عن نصر بن أحمد الخليل المرجى بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يفتك مؤمن، الإيمان قيد الفتك " وروى عن محمد بن أحمد بن موسى الملاحمي بسنده عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرفع يديه إذا كبر في الصلاة حذو منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسه من الركوع. وإذا قام في الركعة فعل مثل ذلك.
قال الخطيب: كتبت عنه ببغداد في سنة وعشرين وأربعمائة. وكان ثقة. سألته عن مولده فقال: في ربيع سنة أربع وستين وثلاثمائة. قال: وكان دخولي بغداد في سنة ست وثمانين. وبلغني أنه مات بالرحبة ثلاث وأربعين وأربعمائة، وكان قد سكن الرحبة.(15/301)
عبيد الله بن أحمد بن محمد بن سعيد بن أبي مريم
أبو محمد بن فطيس القرشي المستملي روى عن أبي الحسن بن جوصا بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة "
عبيد الله بن أحمد بن محمد
أبو القاسم الحلبي السراج الفقيه قدم سنة ثمان وستين وثلاثمائة روى عن عبد الرحمن بن عبيد الله الحلبي بسنده عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مثل الذي لايتم صلاته كمثل حبلى حملت، فلما دنا نفاسها أسطت، فلا هي ذات حملٍ، ولاهي ذات ولادٍ، ياعلي، مثل المصلي كالتاجر لايخلص له ربحه حتى يأخذ رأس ماله، كذلك المصلي لاتقبل له نافلة حتى يؤدي الفريضة ".
عبيد الله بن إبراهيم بن أحمد بن محمد
أبو محمد النجار، المعروف بابن كبيبة هكذا وجد الحافظ اسمه بخطه، ويسمى أبضاً عبد القدر، وكان يسمع له على الأجزاء، ويكتب له: عبيد روى عن أبي بكر محمد بن عبد الرحمن القطان بسنده عن عائشة قالت:(15/302)
رحم الله لبيداً إذ يقول: من الكامل
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلفٍ كجلد الأجرب
فقالت عائشة: رحم الله لبيدا، كيف لو أدرك زماننا هذا؟! قال ابن ماكولا: أما كبيبة فهو: ابن كبيبة النجار، شيخ صالح، سمعنا منه بدمشق توفي ابن كبيبة سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وقع من سطح الجامع
عبيد الله بن أرقم
أبي عبيد الله بن أبي الأرقم عبد مناف بن أبي جندب ابن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي المخزومي وأبوه الأرقم له صحبة، وهو الذي استخفى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في داره التي تعرف اليوم بدار الخيرزان
حضرت الأرقم بن أبي الأرقم الوفاة فأوصى أ، يصلي عليه سعد بن أبي وقاص، وكان مروان بن الحكم والياً على المدينة، وكان سعد في قصره بالعقيق، ومات الأرقم فاحتبس عليهم سعد، فقال مروان: أيحبس صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجل غائب؟ وأراد الصلاة عليه، فأبى عبيد الله بن الأرقم ذلك على مروان، وقامت معه بنومخزوم، ووقع بينهم كلام، ثم جاء سعد فصلى عليه، وذلك سنة خمس وخمسين بالمدينة. وشهد الأرقم بدراً مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعبيد الله بن الأرقم أخو عثمان بن الأرقم لأبيه وأمه؛ أمهما حميده بنت عبد الرحمن بن عوف وقال ابن سعد: عبيد الله لأم ولد، وعثمان لأم ولد.(15/303)
عبيد الله بن إسحاق بن سهل
أبو القاسم السنجاري روى عن هشام بن أحمد بن مسرور بسنده عن أنس بن مالك: أن أم سليم أتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحجلات قد شوتهن بأضباعهن، وخمرتهن، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر " قال أنس: فجاء علي بن أبي طالب، فقال: أستأذن لي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: هو علي حاجة، وأحببت أن يجيء رجل من الأنصار، فرجع، ثم عاد، فسمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوته، فقال: " ادخل ياعلي، اللهم وال، اللهم وال، اللهم وال "
عبيد الله بن أقرم
وهو: عبيد الله بن أبي المهاجر أبو الوليد المخزومي والد إسماعيل بن عبيد الله. كانت داره بدمشق ناحية باب الفراديس قال إسماعيل: لما حضرت أبي الوفاة جمع بنيه، فقال: يابني، عليكم بتقوى الله، وعليكم بالقرآن فتعاهدوه، وعليكم بالصدق، حتى لو قتل أحدكم قتيلاً ثم سئل أقر به؛ والله ما كذبت كذبة منذ قرأت القرآن، يا بني، وعليكم بسلامة الصدور لعامة المسلمين؛ فو الله لقد رأيتني وإني لأخرج من بابي فما ألقى مسلماً إلا والذي في نفسي له كالذي في نفسي لنفسي، أفتروني أحب لنفسي إلا خيراً؟! وخرج عطية بن قيس، وينس بن ميسرة، وبلال بن سعد يعودون عبيد الله بن أبي المهاجر في منزله، في سقيفة كعب، فلما دخلوا عليه قال لهم: ما استعفيت الله قط(15/304)
من مرض أصابني، ولا لقيت أحداً بغير ما في نفسي. فلما نزلوا من عنده قالوا: لقد صغر إلينا هذا الرجل أنفسنا.
عبيد الله بن جعفر بن أحمد بن عاصم بن الرواس
أبو الفتح كان يسكن بالبيمارستان روى عن إسحاق بن إبراهيم بن يونس بسنده عن أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر على صبيان فسلم عليهم
عبيد الله بن أبي جعفر.
أبو بكر المصري الفقيه مولى بني كنانة، ويقال: مولى بني أمية. رأى عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، ووفد على عمر بن عبد العزيز، وغزا القسطنطينية روى عن بكير بن عبد الله الأشج، عن بسر بن سعيد، عن زينب الثقفية أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أيتكن أرادت المسجد فلا تقربن طيباً " وعن نافع عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " عليكم بالسواك؛ فإنه مطيبة للفم، مرضاة للرب " قال عبيد الله بن أبي جعفر: رأيت على عبد الله بن الحارث بن جزء صاحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمامة حرقانية، ورداء صنعانياً.
الحرقانية: السوداء(15/305)
وروى عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أهدى مسلم لأخيه أفضل من كلمة حكمةٍ يزيده بها هدى، أو يرده بها عن رديء " قال عبيد الله بن أبي جعفر: غزونا القسطنطينة، فكسر بنا مركبنا. فألقانا الموج على خشبة في البحر، وكنا خمسة " أو ستة، فأنبت الله بعددنا، ورقة لكل رجلٍ منا، فكنا نمصها فتشعبنا، وتروينا، فإذا أمسنا أنبت الله له مكانها حتى مر بنا مركب، فحملنا قال ابن سعد: عبيد الله بن أبي جعفر مولى بني أمية، وكان ثقة بقية في زمانه. مات سنة خمس - أو ست - وثلاثين ومائة.
كان سليمان بن أبي داود يقول: مارأت عيني عالماً زاهداً إلا عبيد الله بن أبي جعفر قال أبو حاتم: ثقة، بابة يزيد بن أبي حبيب وقال ابن خراش: مصري صدوق وقال أحمد: كان يتفقه، وليس به بأس ومن أقوال: إذا كان المرء يحدث في مجلسٍ، فأعجبيه الحديث فليسكت، وإذا كان ساكتاً فأعجبه السكوت فليتحدث كان يقال: هل استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله - عز وجل(15/306)
عبيد الله بن الحبحاب السلولي
مولاهم الكاتب
كان كاتباً لهشام بن عبد الملك، ثم ولاه إمرة مصر، ثم ولاه إفريقية قال يعقوب بن سفيان: وفيها - يعني سنة سبع ومائة - نزع يزيد بن أبي يزيد، وأمر عبيد الله بن الحبحاب، وقدم مصر يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة " خلت من شهر رمضان.
وفي سنة ست عشرة ومائة نزع عبيدة بن عبد الرحمن من إفريقية وأمر عبيد الله بن الحبحاب، جاءته إمارة إفريقية وهو بمصر.
قال أبو سعيد بن يونس: عبيد الله بن الحبحاب مولى بني سلول، عامل مصر زمن هشام. قتله أبو جعفر المنصور بواسط مع ابن هبيرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
عبيد الله بن الحر بن عمرو
ابن خالد بن المجمع بن مالك بن كعب بن عوف بن حريم بن جعفي بن سعد العشيرة بن مالك ابن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ الجعفي الكوفي قدم دمشق على معاوية، وشهد معه صفين، وكان عثمانياً، وكان شجاعاً: فاتكاً سأل الحسين بن علي: أعهد إليك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسيرك هذا شيئاً؟ قال: لا روى عمران بن كثير النخعي: أن عبيد الله بن الحر كان تزوج جارية " يقال لها الدرداء، زوجها إياه أبوها، ثم(15/307)
غاب عبيد الله إلى الشام، ولحق بمعاوية، ثم مات أبوها، فزوجها أخوها وأمها رجلاً يقال له: عكرمة بن خبيص، فدخل بها، فبلغ ذلك عبيد الله بن الحر، فقدم من الشام، فخاصمه إلي علي، فلما دخل على علي قال لعبيد الله: أظاهرت علينا عدونا، ولحقت بمعاوية، وفعلت، وفعلت؟؟ فقال له عبيد الله: ويمنعني ذلك من عدلك؟ قال: لا فقص عليه القصة، فرد عليه امرأته، وقضي بها له. فقالت المرأة لعلي: أقضيت بي لعبيد الله؟ قل: نعم، قالت: فأنا أحق بمالي أم عبيد الله؟ فقال: بل أنت أحق بمالك، قالت: فأشهد أن ما كان لي على عكرمة من شيء فهو له. قال: وكانت المرأة حبلى، فوضعها علي يدي عدلٍ، فلما وضعت ألحق الولد بعكرمة، ودفع المرأة إلى عبيد الله.
روى عبد الرحمن بن جندب الأزدي: أن عبيد الله بن زياد بعد قتل الحسين تفقد أشراف أهل الكوفة، فلم ير عبيد الله بن الحر، ثم جاءه بعد أيام حتى دخل عليه، فقال: أين كنت يابن الحر؟ قال: كنت مريضاً، قال: مريض القلب أو مريض البدن؟ قال: أما قلبي فلم يمرض، وأما بدني فقد من الله على العافية. فقال له ابن زياد: كذبت، ولكنك كنت مع عدوي، قال: لو كنت مع عدوك، لرئي مكاني، وما مثل مكاني يخفى ثم خرج حتى أتى منزل أحمد بن زياد الطائي، فاجتمع إليه في منزله أصحابه، ثم خرج حتى أتى كربلاء، فنظر إلى مصارع القوم، فاستغفر لهم. ثم مضى حتى نزل المدائن.
ومن قوله في ذلك: من الطويل
يقول أمير غادر حق غادر ... ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمة
ونفسي على خذلانه واعتزاله ... وبيعة هذا الناكث العهد لائمة
فيا ندمي ألا أكون نصرته ... ألا كل نفس لا تسدد نادمة
وإني لأني لم أكن من حماته ... لذو حسرةٍ ما إن تفارق لازمه
سقى الله أرواح الذين تآزروا ... على نصره سقيا من الغيث دائمة(15/308)
عبيد الله بن الحسن بن أحمد
ابن إبراهيم بن زنجويه ويقال: ابن العباس بن زنجويه أبو الحسن الأصبهاني روى عن أحمد بن سليمان بن حذلم: بسنده عن ابن مسعود، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " توفي
عبيد الله بن الحسن سنة تسع وأربعمائة، وكان شيخاً صالحاً ثقة مأموناً
عبيد الله بن الحسن
من ولد جعفر بن أبي طالب الهاشمي الأعرج شهد حصار دمشق مع عبد الله بن علي: نزل عبد الله بن علي على باب من أبوابها، وأنزل أخاه عبد الصمد على باب آخر. ثم وافاه عبيد الله بن الحسن في خمسة آلاف، فأنزله على باب آخر، ثم وافاه بسام بن إبراهيم في خمسة آلاف فأنزله على باب آخر وألح عليهم أبو العباس بالكتب يأمرهم بالمناجزة. فأقام عبد الله علي محاصراً لدمشق خمسة أشهر - وقيل أقل من ذلك - فلم يقدر علي شيءٍ منها حتى وقعت العصبية بين اليمانية والمضرية فذكر من شهد يومئذ من أهل خراسان الذين كانوا مع عبد الله بن علي قال:
صففنا، فصفوا، وإن أعيننا لتقتحمهم استقلالاً لهم، ونحن قد ملأنا الأرض، فما شعرنا بشيء حتى أقبل جماعة منهم ببغال وأحمرة تحمل طوباً، فقلنا: ما نراهم يصنعون بهذا؟ ثم جاءت مثلها تحمل حصى "، ثم جاءت دواب تحمل ماء ". ثم نخل الحصى وبل،(15/309)
وقام البناؤون فبنوا منارة " في طرفة عين، ونحن نراهم، ونعجب، ونقول: أي مكيدة ٍ هذه من مكائد اللقاء فما كان شيء حتى ارتفع البناء وأناف. وإذا رجل قد صعد إليه، صيت، ونادى: يا أهل دمشق، ويلكم يا بني فلان، عمن تقاتلون؟ عن مروان الذي قتل منكم فلاناً، وكان سيدكم، وفلاناً، وفعل بكم كذا، وقال فيكم كذا، وشتمكم بكذا؟! فلقد رأيت أولئك وهم يتأخرون وينكصون بعد أن أقدموا، وكانوا في أول الصفوف ثم خرجوا إلى آخرها، فيعدد على أهل كل مدينة ما صنع مروان بهم حتى اختلفوا بينهم، وتلاعنوا في المسجد يوم الجمعة، وتضاربوا بالأيدي والنعال. ثم دست اليمانية إلى عبد الله بالرسل بأنا نفتح لك الباب الذي يلي عبد الصمد أخاك على أن تؤمنا وتقتل أعداءنا المضرية، ففعل له اليمانية الباب الشرقي. ثم دعا عبيد الله بن الحسن الطالبي، فقال له: اكفني الأبواب ألا يخرج منها أحد.
عبدي الله بن الحكم بن أبي العاص
ابن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي أخو مروان بن الحكم قال الزبير بن بكار في تسمية ولد الحكم: عبيد الله بن الحكم، قتل يوم الربذة مع حبيش بن دلجة القيني - وذكر غيره ثم قال: - وأمهم: بنت منبه بن شبل بن العجلان بن عتاب بن مالك بن كعب بن ثقيف.
عبيد الله بن رباح أبو خالد
مولى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وهو الذي ادعى نصر بن الحجاج بن علاط البهزي أنه أخوه، وخاصم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فيه إلى معاوية. وكان نديماً ليزيد بن معاوية بدمشق، وأمره معاوية على بعض جيوشه في غزو الروم.(15/310)
كان جرير مع عبيد الله بن رباح، وكانوا في الدرب، وكان عبيد الله أمير الجيش، فأصاب الناس برد شديد، قال: فقال جرير لعبيد الله بن رباح: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من لا يرحم الناس لا يرحمه الله "، قال: فكتب عبيد الله إلى معاوية بالذي قال جرير، قال: فقال معاوية: ابعث إلي بجرير، قال: فبعث، فقدم على معاوية، فقال: ما حديث ترويه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ يقول " من لا يرحم الناس لا يرحمه الله " قال: أنت سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أنا سمعته؟ قال: لا جرم، لأوسعنهم طعاماً ولحماً، ولا يشتو لي جيش وراء الدرب بعدها أبداً. قال: فبعث إليهم القطائف والأكسية والثياب قال محمد بن إسحاق: ادعى نصر بن الحجاج بن علاط السلمي عبد الله بن رباح مولى خالد بن الوليد، فقام عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فقال: مولاي، ولد على فراشي، مولاي فقال نصر: أخي، أوصاني بمنزله. قال: فطالت خصومتهم، فدخلوا على معاوية، وهو تحت فراشه، فادعيا، فقال معاوية: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الولد للفراش، وللعاهر الحجر "، فقال نصر: فأين قضاؤك هذا يا معاوية في زياد؟ فقال معاوية: قضاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير من قضاء معاوية.
فكان عبد الله بن رباح لا يجيب نصراً إلى ما يدعي. فقال نصر: من الطويل
أبا خالدٍ خذ مثل مالي وراثة ... وخذني أخا عند الهزاهز شاهدا
أبا خالدٍ لا تجعلن بناتنا ... إماء لمخزومٍ وكن مواجدا
أبا خالدٍ إن كنت تخشى ابن خالد ... فلم يكن الحجاج يرهب خالدا
أبا خالد لا نحن نار ولاهم ... جنان ترى فيها العيون رواكدا(15/311)
كذا قال. وإنما هو عبيد الله
عبيد الله بن زيادة
أبو زيادة البكري - من بكر بن وائل - ويقال: الكندي من أهل دمشق.
روى عن بلال: أنه أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤذنه بصلاة الغداة، فحبسته عائشة بأمرٍ سألته عنه حتى انفجر الصبح - وفي رواية: فضحه الصبح - وأصبح جداً. قال: فقام بلال، فآذنه بالصلاة، وتابع أذانه، فلم يخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما خرج، وصلى بالناس، ثم انصرف أخبره بلال أن عائشة شغلته عنه حتى أصبح جداً، فقال: " إني لو أصبحت أكثر مما أصبحت لركعتهما، وأحسنتهما، وأجملتهما "
قال
عبيد الله بن زيادة: دخلت على ابني بسر السلميين، فقلت: يرحمكما الله، الرجل يركب الدابة، فيضربها بالسوط، ويكبحها باللجام، فهل سمعتما من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك شيئاً؟ فقالا: لا، فنادتني امرأة من جوف البيت: يا هذا، إن الله - عز وجل - يقول: " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ ثم إلى ربهم يحشرون ". فقالا: هذه أختنا، وهي أكبر منا، وقد أدركت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عبيد الله بن زياد بن عبيد
المعروف بابن أبي سفيان، أبو حفص أمير العراق قدم دمشق على معاوية، ثم قدمها بعد موت يزيد بن معاوية، وكانت له بها دار(15/312)
بناحية زقاق الديماس النافذ إلى سوق الأساكفة العتق، وعرفت بعده بدار ابن عجلان. ولد سنة تسع وثلاثين، وكان ابن ثمان وعشرين سنة حين قتل الحسين. وهو ابن مرجانة.
روى عن أبي أمية أخي بني جعدة قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتغدى في السفر، وأنا قريب منه جالس، فقال: " هلم إلى الغداء "، فقلت: يا رسول الله، إني صائم، فقال: هلم أحدثك ما للمسافر عند الله، إن الله وضع عن أمتي نصف الصلاة، والصيام في السفر " قال المزرباني: عبيد الله بن زياد بن أبيه. أمه مرجانة سبية من أصبهان. هو القائل لمروان حين وجهه لحرب ابن الأشتر - قال: إياك والفرار كعادتك -: من الطويل
سيعلم مروان ابن نسوة أنني ... إذا التقيت الخيلان أطعنها شزرا
وإني إذا حل الضيوف ولم أجد ... سوى فرسي أوسعته لهم نحرا
قال ثابت بن عبد الرحمن: كتب معاوية بن أبي سفيان إلى زياد: إذا جاءك كتابي فأوفد إلي ابنك عبيد الله. فأوفده عليه، فما سأله عن شيء إلا أنفذه له، حتى سأله عن الشعر، فلم يعرف منه شيئاً. قال: ما منعك من روايته؟ قال: كرهت أن أجمع كلام الله، وكلام الشيطان في صدري، فقال: اغربوالله لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين مراراً، ما يمنعني من الانهزام إلا أبيات ابن الإطنابة حيث يقول: من الوافر(15/313)
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإعطائي على الإعدام مالي ... وإقدامي على البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تعذري أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحاتٍ ... وأحمي بعد عن أنفٍ صحيح
وكتب إلى أبيه: أن روه الشعر. فرواه، فما كان يسقط عليه من شيء ولي معاوية عبيد الله بن زياد البصرة سنة خمسٍ وخمسين، فلم يزل والياً حتى مات معاوية بدمشق، فلما قام يزيد بن معاوية أقر عبيد الله بن زياد على البصرة، وضم إليها الكوفة، فبنى في سلطان بن يزيد البيضاء، وعلق عليها باب قصر الأبيض، أبيض كسرى، وهو المحبس، وبنى الحمراء، وهي على سكة المربد؛ فكان يشتو في الحمراء، ويصيف في البيضاء - يعني بالكوفة - فلم يزل على البصرة حتى هلك يزيد بن معاوية بحمص، فلما خرج الناس على عبيد الله بن زياد تراضوا بعبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، ويلقب: ببه.
وروى الأصمعي أن معاوية قال للناس: كيف ابن زياد فيكم؟ قالوا: ظريف على أنه يلحن، قال: فذاك أظرف له. يريد باللحن: أفقه، يقول: ألحن بحجته.
قال ابن قتيبة: أراد القوم اللحن الذي هو الخطأ، وذهب معاوية إلى اللحن الذي هو الفطنة. قال: والأول بسكون الحاء، والثاني بفتحها.
ولي معاوية عبيد الله بن زياد خراسان سنة ثلاث وخمسين. وفي سنة أربع وخمسين غزا عبيد الله بن زياد خراسان، فقطع النهر إلى بخارى على الإبل، فكان أول عربي قطع(15/314)
النهر إلى بخارى، وافتتح زامين ونصف بيكند، وهما من بخارى، وجمع يزيد بن معاوية لعبيد الله بن زياد الكوفة والعراق.
وبعث مروان بن الحكم عبيد الله بن زياد إلى العراق، فقتله ابن الأشتر بالخازر من أرض الموصل.
خاصمت أم الفجيع زوجها إلى عبيد الله بن زياد، وكانت قد أحبت فراقه، فقال: أبو الفجيع: أصلح الله الأمير، لاتحكم لها، ودع ما تقول؛ فإن خير شطري الرجل آخره، وإن شر شطري المرأة آخره. قال: وكيف ذاك؟ قال: إن الرجل إذا أسن اشتد عقله، واستحكم رأيه، وذهب جهله، وإن المرأة إذا أسنت ساء خلقها، وعقم رحمها، وحد لسانها. فقال: صدقت، خذ بيدها وانصرف.
قال العتبي:
أتي عبيد الله بن زياد برجلٍ، فقال: أيها الأمير، ماتت امرأتي، وأردت أن أتزوج أمها، وليس عندي تمام صداقها، فأعني. قال: كم عطاؤك؟ قال: سبع مائة، قال: يا غلام، حطه أربع مائة، يكفيك من فقهك هذا ثلاثمائة.
أمر ابن زياد لصفوان بن محرز بألفي درهم، فسرقت، فقال: عسى أن يكون خيراً، فقال أهله: كيف يكون هذا خيراً؟ فبلغ ابن زياد، فأمر له بألفين، فوجد الأولى التي سرقت، فصارت أربعة آلاف.
قال أبو عتاب: ما رأيت رجلا: أحسن وجهاً من عبيد الله بن زياد قيل لهند بنت أسماء بن خارجة: أي أزواجك كان أحب إليك؟ فقالت: ما أكرم النساء إكرام بشر بن مروان، ولاهاب النساء هيبة الحجاج، وددت أن القيامة قد قامت فأرى عبيد الله بن زياد، وأشتفي من حديثه، والنظر إليه.(15/315)
كان أبا عذرتها قال إبراهيم النخعي: أول من جهر بالمعوذتين في المكتوبة عبيد الله بن مرجانة وعن مغيرة قال: أول من ضرب الزيوف عبيد الله بن مرجانة قال أبو وائل: دخلت على ابن زياد وعنده مال، فقال: يا أبا وائل، هذا ثلاثة آلاف ألف خراج أصبهان، فما ظنك بمن مات وهذا عنده؟؟ قال: قلت: أصلح الله الأمير، فكيف أيضاً إذا كان من خيانة؟؟؟ عن الحسن قال: ثقل معقل بن يسار، فدخل إليه عبيد الله بن زياد يعوده، فقال: هل تعلم يا معقل أني سفكت دماً؟؟ قال: ما علمت. قال: هل تعلم أني دخلت في شيء من أسعار المسلمين؟ قال: ما علمت، أجلسوني، ثم قال: اسمع يا عبيد الله حتى أحدثك شيئاً لم أسمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة "، ولامرتين؛ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من دخل في شيءٍ من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقاً على الله أن يقعده بعظمٍ من النار يوم القيامة ". قال: أنت سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، غير مرةٍ، ولا مرتين.
وقال الحسن: دخل عبيد الله بن زياد على عبد الله بن مغفل قال: حدثني بشيء سمعته من(15/316)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولاتحد ثني بشيءٍ سمعته من غيره، وإن كان ثقة في نفسك، فقال: لولا أني سمعته غير مرة ما حدثتك، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ويل للوالي من الرعية، إلا والياً يحوطهم من ورائهم بالنصيحة " وقال: قدم علينا عبيد الله بن زياد أميراً، أمره علينا معاوية، فقدم علينا غلاماً سفيهاً يسفك الدماء سفكاً شديداً، وفينا عبد الله بن مغفل المزني صاحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان من التسعة رهطٍ الذين بعثهم عمر بن الخطاب يفقهون أهل البصرة في الدين، فدخل عليه ذات يوم فقال له: انته عما أراك تصنع، فإن شر الرعاء الحطمة، فقال له: وما أنت وذاك، إنما أنت حثالة من حثالات أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: وهل كان فيهم حثالة لا أم لك؟ بل كانوا أهل بيوتات وشرفٍ ممن كانوا منه، أشهد لسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول: " ما من إمام، ولا وال بات ليلة سوداء غاشاً لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ". ثم خرج من عنده حتى أتى المسجد فجلس فيه. فما لبث الشيخ أن مرض مرضه الذي توفي فيه، فأتاه عبيد الله بن زياد يعوده، فقال له: أتعهد إلينا شيئاً نفعل فيه الذي تحب، قال: أو فاعل أنت؟ قال: نعم، قال: فإني أسألك ألا تصلي علي، ولا تقم على قبري، وأن تخلي بيني وبين أصحابي حتى يكونوا هم الذين يلون ذلك مني. قال: فكان عبيد الله بن زياد رجلاً جباناً يركب في كل غداة، فركب ذات يوم، فإذا الناس في السكك، ففزع، فقال: ما لهؤلاء؟ قالوا: مات عبد الله بن مغفل صاحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فوقف حتى مر بسريره، فقال: أما إنه لولا أنه سألنا شيئاً فأعطيناه إياه لسرنا معه حتى نصلي عليه، ونقوم على قبره.
وقال: مرض معقل بن يسار مرضاً ثقل منه، فأتاه ابن زياد يعوده، فقال: إني محدثك حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من(15/317)
استرعي رعية " فلم يحطهم بنصيحته لم يجد ريح الجنة " وريحها يوجد من مسيرة مائة عامٍ ". قال ابن زياد: ألا كنت حدثتني بهذا الحديث قبل الآن؟ قال: والآن لولا الذي أنا عليه لم أحدثك.
وروى أن عائذ بن عمرو - وكان من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على عبيد الله بن زياد، فقال: أي بني، إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أن شر الرعاء الحطمة "، فإياك أن تكون منهم. فقال: اجلس، فإنما أنت من نخالة أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: هل كانت لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم في غيرهم.
قال مغيرة: قالت مرجانة لابنها عبيد الله: يا خبيث، قتلت ابن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لاتدخل الجنة أبداً.
لما مات يزيد بن معاوية، صعد عبيد الله بن زياد المنبر، فخطب، ونعاه إلى أهل البصرة، فقال: اختاروا لأنفسكم، فإنه سيأتيكم الآن أمير، فقالوا: فإنا نختارك، فقال: لعل يحملكم على هذا حداثة عهدي عليكم؟ قالوا: لا، فإنا نختارك، أخرج إلينا إخواننا من السجن. قال: إني اشير عليكم بغير ذلك، اجمعوا جزلاً من جزل الحطب، ثم أحدقوا بالسجن، ثم حرقوا عليهم. قالوا: فإنا لانفعل ذلك بإخواننا. قال: فأخرجهم، فبايعوه. قال: فما خرج منهم إلا قليل حتى جعلوا يغلظون له في البيعة. قال: فخرجوا من السجن، فخرجوا عليه، فحصبوه. قال: فأرسل إلى الحارث بن قيس الجهضمي، فجاءه، فقال: إن نفسي قد أبت إلا قومك، قال: والله ما ذلك لك عندهم، وقد أبلوا في أبيك ما أبلوا، ففعلت بهم ما فعلت. قال: فأردف الحارث بن قيس، وكان الناس يتحارسون. قال: فانطلق به من ناحية، قال: فمر بقوم يحرسون، فقالوا: من هذا؟ قال: الحارث بن قيس، قالوا: ابن أختنا، انطلق. قال: وفطن رجل، فقال: ابن مرجانة! فرماه بسهم، فوقع في قلنسوته، وجاء به إلى مسعود بن عمرو، فلبث في منزله ما لبث.(15/318)
انطلق مالك بن مسمع، وسويد بن منجوف إلى مسعود ليحالفوه، ويردوا ابن زياد إلى دار الإمارة، فقال ابن زياد لأخيه: أكد بينهم الخلف.
فكتبوا بينهم كتاباً، وختمه مسعود بخاتمه، وكتب لمالك بن مسمع كتاباً، وختمه بخاتمه، ودفع الكتاب إلى ذراع النمري أبي هارون بن ذراع، فوضعوهما على يده، وقالوا لابن زياد: انطلق حتى ترد إلى دار الإمارة. فقال لهم ابن زياد: انطلقوا، فمسعود عليكم، فإن ظفرتم رأيتم حينئذ رأيكم. فسار مسعود وأصحابه يريدون الدار، ودخل أصحاب مسعود المسجد، وقتلوا قصاراً كان في ناحية المسجد، ونهبوا دار امرأة يقال لها: عزة، وبلغ الأحنف، فبعث حين علم بذلك إلى بني تميم، فجاؤوا، ودخلت الأساورة المسجد، فرموا بالنشاب. وجاء رجل من بني تميم إلى مسعود، وهو واقف في رحبة بني سليم، فقتله، وهرب مالك بن مسمع، فلجأ إلى بني عدي، وانهزم الناس.
وقد كان لمروان لما بايع لعبد الملك وعبد العزيز عقد لعبيد الله بن مرجانة، وجعل له ماغلب عليه. ومات مروان قبل أن ينفصل، فأمضى عبد الملك بعثه، فخرج متوجهاً إلى العراق، وبلغ ذلك أهل الكوفة، وذلك في سنة ست وستين، ففزع شيعة الكوفة إلى سليمان بن صرد الخزاعي، وإلى المسيب بن نجبة الفزاري، وإلى عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وإلى عبد الله بن وال التميمي، وإلى رفاعة بن شداد البجلي.
وقد كان أهل الكوفة وثبوا على عمرو بن حريث حين هلك يزيد، فأخرجوه من القصر، فاصطلحوا على عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الجمحي، فصلى بالناس، وبايع لابن الزبير.
وقدم المختار بن أبي عبيد في النصف من رمضان يوم الجمعة. وبعث إبراهيم بن الأشتر لقتال ابن زياد، فمضى حتى التقى مع ابن زياد بالخازر، وبين الخازر وبين الموصل خمس فراسخ، والتقوا هم وأهل الشام، فصارت الدائرة على أهل الشام، وانهزموا بعد قتال شديد، وقتلى كثيرة بين الفريقين، وهمهم ابن زياد، وقالوا ترون نجا؟ فقال إبراهيم بن الأشتر: قد قتلت رجلاً وجدت منه رائحة المسك، شرقت يداه، وغربت رجلاه، تحت راية منفرداً على شاطىء النهر، فانظروا من هو. فالتمس، فإذا هو عبيد الله بن زياد مقتولاً كما وصف إبراهيم بن الأشتر(15/319)
ولقي إبراهيم بنت الأشتر عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء أول سنة ست وستين بالخازر من أرض الموصل عن عمارة بن عمير قال:
لما جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه نضدت في المسجد في الرحبة، فانتبهت إليهم وهم يقولون: قد جاءت قد جاءت. فإذا حية قد جاءت تخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد، فمكثت هنيهة، ثم خرجت، فذهبت حتى تغيبت، ثم قالوا: قد جاءت، قد جاءت. ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح
عبيد الله بن أبي زياد
أبو منيع الرصافي أصله من دمشق. وزهو مولى لآل هشام بن عبد الملك.
روى عن الزهري بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ينزل ربنا - عز وجل - كل ليلةٍ حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له، من يسألني فأعطيه، حتى الفجر " قال ابن سعد: وكان عبيد الله بن أبي زياد أخا امرأة هشام بن عبد الملك من الرضاعة؛ وهي عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية. ولزم عبيد الله الزهري فسمع علمه، وكتبه.(15/320)
ومات عبيد الله بن أبي زياد سنة ثمانٍ - أو تسع ٍ - وخمسين ومائة، وهو يومئذ ابن نيف وثمانين سنة، أسود شعر الرأس، أبيض، وكان ذا جمة.
قال أبو أحمد الحاكم: أبو منيع عبيد الله بن أبي زياد الشامي. ويقال اسمه يوسف بن عبيد الله بن أبي زياد، مولى لآل أبي سفيان، يعرف بالرصافي. سكن رصافة الرقة. كناه وسماه لنا أبو غروبة السلمي.
قال الدارقطني: عبيد الله بن أبي زياد الرصافي من الثقات.
عبيد الله بن سفيان بن عبد الأسد
ابن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب القرشي المخزومي استشهد يوم اليرموك في خلافة عمر - وقيل إن الذي استشهد يوم اليرموك أخوه عبد الله - وهو ممن صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يعرف له رواية. وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة. وأمه: ريطة بنت عبد بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي.
عبيد الله بن سليمان
من أهل دمشق حدث عن عبد الرزاق بسنده عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إني لأدخل الجنة، فلا أفقد منها أحداً إلا معاوية بن أبي سفيان سبعين عاماً، ثم أراه بعد ذلك على ناقةٍ من زبرجدة خضراء، قوائمها من ياقوتةٍ حمراء، فأقول:(15/321)
يا معاوية، أين كنت؟ فيقول: لبيك يا رسول الله، كنت تحت العرش عرش ربي - عز وجل - يحييني بيده. فقال: هذا بما كانوا يشتمونك في دار الدنيا.
قال الحافظ: هذا حديث منكر.
عبيد الله بن طغج بن جف
أبو الحسين الفرغاني ولي إمرة دمشق في أيام الراضي بالله خلافة لأخيه أبي بكر محمد بن طغج بن جف المعروف بالإخشيد بعد عزله أخاه الحسن بن طغج، ثم عزله، وولى غلامه بدراً الإخسيدي المعروف ببدير.
مات بالرملة في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة
عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب
ابن هاشم بن عبد مناف أبو محمد الهاشمي أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحدث عنه. وقدم دمشق وافداً على معاوية. وكان من كرماء قريش وجودائهم.
قال: كنت رديف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأتاه رجل فقال: يا نبي الله، إن أمه عجوز كبيرة، إن حزمها خشي أن يقتلها، وإن حملها لم تستمسك. فأمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحج عنها.
وقال: جاءت الغميضاء أو الرميصاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشكو زوجها، وتزعم أنه لايصل إليها. فجاء زوجها، فقال: إنها كاذبة، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليس ذلك لك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره " فما كان إلا يسيراً حتى جاء زوجها، فزعم إنها كاذبة.(15/322)
قال خليفة: عبيد الله ووقثم ابنا العباس بن عبد المطلب بن هاشم، ومعبد بن العباس بن عبد المطلب. أمهم أم الفضل بنت الحارث؛ وهي لبابة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان. عبيد الله يكنى أبا محمد. مات بالمدينة سنة ثمان وخمسين، واستشهد قثم بسمرقند، واستشهد معبد بإفريقية.
وقال الزبير:
وعبيد الله بن العباس كان أصغر سناً من عبد الله بسنة. وكان سخياً جواداً. وكان ينحر، ويذبح، ويطعم في موضع المجزرة التي تعرف بمجزرة ابن عباس بالسوق، فنسبت المجزرة إليه بذلك السبب. واستعمل علي بن أبي طالب عبيد الله بن العباس على اليمن، وأمره فحج بالناس سنة ست وثلاثين.
قال ابن سعد: وقال بعض أهل العلم: كان عبد الله وعبيد الله ابنا العباس إذا قدم مكة أوسعهم عبد الله علماً، وأوسعهم عبيد الله طعاماً. وكان عبيد الله رجلاً تاجراً.
قال أبو شنبة: وكان لعبيد الله بن العباس من الولد: محمد، وبه كان يكنى، وعباس، والعالية، وميمونة. وأمهم: عائشة بنت عبد الله. وعبد الله وجعفر وعمرة لأمهات أولاد، ولبابة، وأم محمد.
عن عبد الله بن الغسيل قال: كنت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمر بالعباس، فقال: " يا عباس، أتبعني بنيك " فقال له أبو الهيثم بن عتبة: يا عم، انتظرني حتى أجيأك. قال: فلم يأتهم، فانطلق بهم ستة " من(15/323)
بنيه: الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وقثم، ومعبد، فأدخلهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيتاً، وغطاهم بشملةٍ له سوداء مخططة بحمرة، فقال: " اللهم، إن هؤلاء أهل بيتي وعترتي فاسترهم من النار كما سترتهم بهذه الشملة ". قال: فما بقي في البيت مدرة، ولاباب إلا أمن.
عن عبد الله بن الحارث قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصف عبد الله، وعبيد الله، وكثيراً بني العباس، ثم يقول: " من سبق إلى فله كذا وكذا " فيستبقون إليه، فيقعون على ظهره ن وصدره، فيقبلهم، ويلزمهم.
قال عبد الله بن جعفر: مر بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وأنا، وقثم، وعبيد الله، فقال: " ارفعوا هذا "، فجعلني أمامه، ثم قال: " ارفعوا هذا - يعني قثم - فجعله وراءه، ثم استحيا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عمه العباس أن حمل قثم، وترك عبيد الله، وكان عبيد الله أحب إلى العباس من قثم. قال: قلت: مافعل قثم؟ - وفي رواية: قلت لعبد الله: ما فعل قثم؟ - قال: استشهد، قلت: الله ورسوله كان أعلم بالخيرة، قال: أجل - وفي رواية: الله أعلم بالخير حيث كان.
قال محمد بن عمر: استعمل علي بن أبي طالب عبيد الله بن العباس على اليمن، فأمره، فحج بالناس سنة ست وثلاثين، وسنة سبع وثلاثين. وبعثه أيضاً على الحج سنة تسع وثلاثين، فاصطلح الناس تلك السنة على سيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري، فحج بهم.
ذكروا أن علياً ولى عبيد الله بن العباس اليمن، فهلك علي، فبعث معاوية بسر بن أبي أرطأة الفهري على اليمن، فأصاب ابنين لعبيد الله صغيرين، فقتلهما، وكانت أمهما تجيء إلى الموسم كل سنةٍ تبكي عليهما، وتقول: من البسيط(15/324)
ها من أحس بنيي اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف
هامن أحسن بنيي اللذين هما ... مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
خبرت يسرا وما أيقنت مازعموا ... من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحى على ودجي ابني مرهفة ... مشحوذة لم يخالط حدها عقف
من دل والهة عبرى مسلبة ... على صبيين ضلا إذا غدا السلف
قال: فدخل عبيد الله على معاوية حين استقام له الناس، وقد عزل بسر بن أبي أرطأة عن اليمن، فقال عبيد الله: يا أمير المؤمنين، إن بسراً قتل ابني ظالما لهما، ولو أبنه أصاب ابنيك على الوجه الذي أصاب ابني عليه قتلهما، ولو ولينا من أمره ما وليت أقدناكه، فأقدنيه يابني، وايم الله لو قتلت بسراً بهما لما كان من قتله بواء بهما، ولكن لاسبيل لي إلا على من قتل ابني، وإني في ذلك لكما قال امرؤ القيس في قاتل حجر أبيه: من الوافر
قد يشفي الضغينة غير كفءٍ ... وقد يملا الوطاب من الحباب
وقد علمت قريش أني غير هش المشاشة، ولامرىء المأكلة. وإن أولنا ساد أولكم، وإن آخرنا هدى آخركم، فإن كنت أمرت بسرا بقتل ابني خلينا عنه وطلبناك، وإن كنت لم(15/325)
تفعل خليناك وطلبناه، وأيم الله لولا أنه: " لافتك في الإسلام " لما سألناك استقادة بسر.
فقال معاوية: يا عبيد الله، إن بسرا قتل ابنيك ظالماً لهما، فاقتل ابنيه بابنيك، فدونك الرجل. وأما قولك: إني غير هش المشاشة، ولامرىء المأكلة، فكذلك بنو عبد مناف، وقريش بعضها أكفاء بعضٍ، عرض بعرض، ودم بدم. ولا والله، ما أمرته بقتلهما، ولاعزلته إلا لهما، ولو أمرته لاعتذرت إليك، وطلبك بسراً أهون علي من طلبي.
وعن ابن عباس: أنه دعا أخاه عبيد الله يوم عرفة إلى طعام، فقال: إني صائم، فقال: إنكم أئمة يقتدى بكم، قد رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا بحلاب في هذا اليوم فشرب.
كان يقال في المدينة: من أراد العلم والسخاء والجمال فليأت دار العباس بن عبد المطلب، أنا عبد الله فكان أعلم الناس، وأما عبيد الله فكان أسخى الناس، وأما الفضل فكان أجمل الناس.
عن جويرة بن أسماء: أن عبيد الله بن العباس كان ينحر كل يوم جزوراً، فقال له عبيد الله: تنحر كل يوم جزوراً؟! قال: وكثير ذاك يا أخي؟ والله لأنحرن كل يوم جزورين! كان عبد الله بن عباس يسمى: حكيم المعضلات، وكان عبيد الله يسمى تيار الفرات. وكان يطعم كل يوم، فقال له أبوه: يا بني، مالك ولا تعشي إذا غديت، فعش. فقال عبيد الله لغلامٍ له: يا بني، انحروا غدوة "، وانحر عشية ".
قال عبيد الله بن محمد العائشي: قدمت امرأة إلى البصرة في سنة شهباء، ومعها ابنان لها، فلم يأت عليها الحول حتى دفنتهما، فقعدت بين قبريهما، فقالت: من الطويل(15/326)
فلله عيني اللذان تراهما ... قريبين مني والمزار بعيد
هما تركا عيني لا ماء فيهما ... وشكا سواد القلب فهو عميد
مقيمان بالبيداء لا يبرحانها ... ولا يسألان الركب أين يريد
فقيل لها: لو أتيت عبيد الله بن العباس، فقصصت عليه القصة، فأتته، فقالت له: يا بن عمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إني أصبحت لاعند قريبٍ يحميني، ولاعند عشيرةٍ تؤويني، وإني سألت عن المرجى سيبه، المأمول نائله، المعطى سائله، فأرشدت إليك، فاعمل بي واحدة " من ثلاثٍ: إما أن تقيم أودي، أو تحسن صلتي، أو تردني إلى أهلي. فقال: عبيد الله: كل يفعل بك.
عن جويرية قال: اقتسم عبد الله وعبيد الله ابنا عباس داراً، فقال عبد الله: يا غلام، أقم حبلك، فقال عبيد الله: دع لأخي ذراعاً، فقال عبد الله: يا غلام، إن أخي قد ترك لي ذراعاً، فأقم حبلك، فقال عبيد الله: دع لأخي ذراعين، فقال: يا غلام، إن أخي قد ترك لي ذراعين، فأقم حبلك، فقال: يا أخي، كأنك تحب أن تكون الدار كلها لك؟ قال: نعم، قال: فهي لك.
عن عوانه قال: وفد عبيد الله بن العباس على معاوية بن أبي سفيان، فلما كان ببعض الطريق عارضته سحابة، فأقام أبياتاً من الشعر، فإذا هو بأعرابي قد قام إليه، فلما رأى هيئته وبهاءه، وكان من أحسن هيئة ثار إلى عنيزة له ليذبحها، فجاذبته امرأته ومانعته، وقالت: أكل الدهر مالك، فلم يبق لك ولبناتك إلا هذه(15/327)
العنيزة تتمتعون منها، ثم تريد أن تفجعهن بها، فقال: والله لأذبحنها، فذبحها أحسن من اللؤم، قالت: إذا " والله لأبقي لبناتك شيئاً، فأخذ العنز، وأضجعها، وقال: من الرجز
قرينتي لا توقظي بنيه ... إن توقظيها تنتحب عليه
وتنزع الشفرة من يديه ... أبغض بهذا أو بذا إليه
ثم ذبح الشاة، وأضرم نارا، وجعل يقطع من أطايبها ويلقيه على النار، ثم يناوله عبيد الله، ويحدثه في خلال ذلك بما يلهيه ويضحكه، حتى إذا أصبح عبيد الله، وانجلت السحابة، وهم بالرحيل قال لقيمه: ما معك؟ قال: خمسمائة دينار، قال: ألقها إلى الشيخ. قال القيم: جعلت فداك، إن هذا يرضيه عشر ما سميت، وأنت تأتي معاوية، ولا تدري علام توافقه، على ظاهره أم على باطنه. قال: ويحك! إنا نزلنا بهذا وما يملك من الدنيا إلا هذه الشاة، فخرج إلينا من دنياه كلها، وإنما وجدنا له ببعض دنيانا، فهو أجود منا.
ثم ارتحل، فأتى معاوية، فقضى حوائجه، فلما انصرف، وقرب من الأعرابي قال لوكيله: انظر ما حال صاحبنا؟ فعدل إليه، فإذا إبل، وحال حسنة وشاء كثير، فلما بصر الأعرابي بعبيد الله قام إليه، فأكب على أطرافه يقبلها، ثم قال: بأبي وأنت وأمي، قد مدحتك، وما أدري من أي خلق الله أنت. ثم أنشده الشيخ أبياتاً منها:
توسمته لما رأيت مهابة ... عليه وقلت المرء من آل هاشم
وإلا فمن آل المرار فإنهم ... ملوك وأبناء الملوك الأكارم(15/328)
فبلغت معاوية، فقال: لله در عبيد الله، من أي بيضةٍ خرج، وفي أي عش ٍ درج؟! عبيد الله معلم الجود.
قال حميد بن هلال: تفاخر رجلان من قريش؛ رجل من بني هاشم، ورجل من بني أمية، فقال هذا: قومي أسخى من قومك، وقال هذا: قومي أسخى من قومك. قال: سل في قومك حتى أسأل في قومي. فافترقا على ذلك: فسأل الأموي عشرة " من قومه، فأعطوه مائة ألف: عشرة آلاف، عشرة آلاف. قال: وجاء الهاشمي إلى عبيد الله بن عباس، فسأله فأعطاه مائة ألف، ثم أتى الحسن بن علي، فسأله فقال هل سألت أحداً قبل أن تأتيني قال نعم أخاك الحسن فأعطاني مائة وثلاثين ألفاً. فقال: هل أتيت أحداً قبلي؟ قال: نعم، عبيد الله بن عباس، فأعطاني مائة ألفٍ، فأعطاه الحسن مائة ألف، وثلاثين ألفاً. ثم أتى الحسين بن علي، فسأله، فقال: لو أتيتني قبل ا، تأتيه أعطيتك أكثر من ذلك، ولكن لم أكن لأزيد على سيدي. قال: فأعطاه مائة ألف وثلاثين ألفاً. قال: فجاء الأموي: بمائة ألف من عشرة وجاء الهاشمي بثلاثمائة وستين ألفاً من ثلاثة فقال الأموي: سألت عشرة " من قومي، فأعطوني مائة ألفٍ، وقال الهاشمي: سألت ثلاثة من قومي، فأعطوني ثلاثمائة وستين ألفاً. قال: ففخر الهاشمي الأموي ورجع الأموي إلى قومه فأخبرهم الخبر، ورد عليهم المال، فقبلوه، ورجع الهاشمي إلى قومه، فأخبرهم الخبر، ورد عليهم المال فأبوا أن يقبلوه، وقالوا: لم نكن لنأخذ شيئاً قد أعطيناه.
قيل لعبيد الله بن العباس: كم تطلب العلم؟! قال: إذا نشطت فهو لذتي، وإذا اغتممت فسلوتي.
مات عبد الله بن عباس سنة سبع وثمانين بالمدينة.
وقيل: مات عبيد الله بن عباس، وقثم بن عباس زمن معاوية، قثم بسمرقند، وعبيد الله بالشام.(15/329)
عبيد الله بن العباس
أبو محمد البغدادي حدث عن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي بسنده عن عبادة بن الصامت قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه قطيفة رومية قد عقدها على عنقه، ثم صلى بنا، ماعليه غيرها.
عبيد الله بن عبد الله بن عمر
ابن الخطاب بن نفيل أبو بكر القرشي العدوي العمري المدني ذكر محمد بن إسحاق أنه قدم دمشق، وغزا منها القسطنطينة في الجيش الذي خرج إليها مع مسلمة بن عبد الملك، وولي على رؤساء أهل الحجاز.
روى إن أباه قال: جمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المغرب والعشاء بجمع ليس بينهما سجدة، وصلى المغرب ثلاث ركعات، وصلى العشاء ركعتين. وكان عبد الله يصلي بجمع كذلك حتى لحق بالله - عزوجل.
وروى عن ابن عمر أيضاً قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " خمس لا جناح في قتل من قتل منهم في الحرم: الفأرة، والغراب، والحدأة، والكلب العقور، والعقرب "(15/330)
قال محمد بن سعد: عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأمه أم ولد، وهي أم سالم بن عبد الله.
قال محمد بن عمر: وكان عبيد الله بن عبد الله أسن من عبد الله فيما يذكرون. وكان قليل ثقة الحديث.
قال خالد بن أبي بكر: رأيت على عبيد الله بن قلنسوة بيضاء، ورأيت عليه عمامة يسدل خلفه منها أكثر من شبر.
وقال عيسى بن حفص: رأيت على عبيد الله بن عبد الله بن عمر ثوبين معصفرين يروح فيهما بعد العصر، يشهد فيهما العشاء.
سئل أبو زرعة عنه، فقال: مدني ثقة وقال خالد بن أبي بكر: رأيت سالماً شهد عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وعلى قبر عبيد الله فسطاط، ورش على قبره الماء.
وقال: إنه رأى سالماً قدم أميراً كان يومئذٍ على المدينة يقال له النصري على عبيد الله. وأمر عبد الواحد بن عبد الله النصري على المدينة سنة أربع ومائة.(15/331)
عبيد الله بن عبد الله بن هشام
ابن عبد الله بن سوار أبو القاسم العنسي الداراني روى عن ابن أبي كامل بسنده عن عقيل بن أبي طالب: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعلي: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي " قال الأمير: سوار بكسر السين وتخفيف الواو توفي أبو القاسم العنسي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وكان مولده سنة أربعٍ وثمانين وثلاثمائة.
عبيد الله بن عبد الرحمن بن العوام بن خويلد بن أسد
ابن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي شهد يوم الدار مع عثمان بن عفان، ثم شهد صفين مع معاوية، وقتل يومئذٍ. ويقال: قتل يوم الجمل.
قال الزبير: عبيد الله، لا عقب له، قتل مع معاوية يوم صفين. وعبد الله بن عبد الرحمن قتل يوم الدار مع عثمان؛ وأمهما: جمينة بنت عبد العزى بن قطن من بني المصطلق، وهي من المبايعات.(15/332)
عبيد الله بن عبد الصمد بن محمد بن المهتدي بالله بن هارون الواثق
أبو عبد الله الهاشمي روى عن إسماعيل بن محمد بن قيراط بسنده عن ابن عمر قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يخرج الأعور الدجال من يهودية أصبهان، ولم تخلق له عين، والأخرى كأنها كوكب ممزوجة من دم، يشوي في الشمس شيئاً، يتناول الطير من الجو، له ثلاث صيحاتٍ يسمعها أهل المشرق والمغرب، له حمار ما بين عرض أذنيه أربعون ذراعاً، يطأ كل منهل في كل سبعة أيام، يسير معه جبلان، أحدهما فيه أشجار وثمار وماء، وأحدهما فيه دخان ونار، يقول: هذه الجنة، وهذه النار. " قال الخطيب: توفي أبو عبد الله بن المهتدي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وكان ثقة، وكان يتفقه بمذهب الشافعي.
عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ
أبو زرعة الرازي الحافظ أحد الأئمة الجوالين، والحفاظ المتقنين.
روى عن يحيى بن عبد الله بن بكير بسنده عن ابن عمر قال: كان من دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم أعوذ بك من زوال نعمتك، وجميع سخطك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك "(15/333)
وروى عن عمرو بن علي الكندي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاثة من كن فيه يستكمل إيمانه: رجل لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يرائي بشيءٍ من عمله، ومن إذا عرض عليه أمران: أحدهما للدنيا والآخر للآخرة اختار أمر الآخرة على الدنيا. " قال يزيد بن عبد الصمد: قدم علينا أبو زرعة الرازي سنة ثمان وعشرين فما رأينا مثله، وكنا نجلس إليه، فلما أراد الخروج قلت له: يا أبا زرعة، اجعلني خليفتك في هذه الحلقة، قال: فقال لي: قد جعلتك.
قال محمد بن عوف: قدم علينا أبو زرعة، فما ندري مما يتعجب به؟! مما وهب الله له من الصيانة والمعرفة مع الفهم الواسع.
قال أبو زرعة الرازي: لا أعلم أنه صح لي رباط يوم قط؛ أما ببيروت فأردنا العباس بن الوليد بن مزيد، وأما عسقلان فمحمد بن أبي السري، وأما قزوين فمحمد بن سعيد بن سابق.
وقال: كنت أكثر الاختلاف إلى أحمد بن حنبل، وأذاكره، ويذاكرني وأسائله.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: لما قدم أبو زرعة نزل عند أبي، فكان كثير المذاكرة له، فسمعت أبي يوماً يقول: ما صليت غير الفرض استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي.
قال أبو سعيد بن يونس: عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد، أبو زرعة الرازي، نسبوه في قريش، قدم مصر. وكانت وفاته بالري سنة أربعٍ وستين ومائتين.(15/334)
وقال الخطيب: أبو زرعة الرازي مولى عياش بن مطرف القرشي. قدم بغداد غير مرة.
قال العسكري أبو أحمد: عياش - تحت الياء نقطتان والشين منقوطة.
قال يونس بن عبد الأعلى: أبو زرعة آية، وإذا أراد الله أن يجعل عبداً من عباده آية جعله.
حدث بمصر وهو ابن سبعٍ وعشرين سنة ".
سئل أبو زرعة الرازي عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث، هل حنث؟ فقال: لا. ثم قال أبو زرعة: أحفظ مائتين ألف حديث كما يحفظ الإنسان " قل هو الله أحد "، وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث.
قال أحمد بن حنبل: صح من الحديث سبعمائة ألف حديث وكسر، وهذا الفتى - يعني أبا زرعة - قد حفظ ستمائة ألف حديث - إنما أراد ما صح من أحاديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقاويل الصحابة، وفتاوى من أخذ عنهم من التابعين.
قال محمد بن إسحاق الصغاني، وذكر جماعة من الحفاظ: أبو زرعة أعلاهم؛ لأنه جمع الحفظ مع التقوى والورع، وهو يشبه بأبي عبد الله أحمد بن حنبل.
وقال أبو يعلى: ما سمعنا بذكر أحدٍ في الحفظ إلا كان اسمه أكبر من رؤيته إلا أبو زرعة الرازي، فإن مشاهدته كانت أعظم من اسمه، وكان لا يري أحداً ممن هو دونه من الحفظ أنه أعرف منه، وكان قد جمع حفظ الأبواب، والشيوخ، والتفسير.(15/335)
قالت أم عمرو بنت شمر:
سمعت سويد بن غفلة يقرأ: وعنس عين، يريد: " حور عين "، فألقي هذا على أبي زرعة، فبقي متعجباً، فقال: أنا أحفظ في القراءات عشرة آلاف حديث! قلت: فتحفظ هذا؟ قال: لا قال إسحاق بن راهويه: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة الرازي ليس له أصل قال أبو زرعة: إن في بيتي ما كتبته منذ خمسين سنة، ولم أطالعه منذ كتبته، وإني أعلم في أي كتابٍ هو، في أي ورقةٍ هو، في أي صفحٍ هو، في أي سطر هو.
وقال: ما سمعت أذني شيئاً من العلم إلا وعاه قلبي. وإني كنت أمشي في سوق بغداد، فأسمع من الغرف صوت المغنيات، فأضع إصبعي في أذني مخافة أن يعيه قلبي.
قال يزيد بن مخلد الطرسوسي: رأيت أبا زرعة في المنام بعد موته، وكنت أشتهي أن أراه في حياته، فرأيته كأنه يصلي في السماء الدنيا بقوم عليهم ثياب بيض، وعليه ثياب بيض، وهم يرفعون أيديهم في الصلاة، فلما سلم دنوت منه، فقلت: يا أبا زرعة، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الملائكة، قلت: بأي شيء أدركت أن تصلي مع الملائكة؟ قال: برفع اليدين في الصلاة.
قال صالح جزرة: قال لي أبو زرعة الرازي: مر بنا إلى سليمان الشاذكوني يوماً حتى نذاكره. قال: فذهبنا جميعاً إليه، فما زال يذاكره حتى عجز الشاذكوني عن حفظه، فلما أعياه الأمر ألقى عليه حديثاً من حديث الرازيين، فلم يعرفه أبو رزعة، فقال الشاذكوني: يا سبحان(15/336)
الله! ألا تحفظ حديث بلدك!؟ هذا حديث مخرجه من عندكم، ولاتحفظه؟ وأبو زرعة ساكت، والشاذكوني يخجله، ويرى من حضر أنه قد عجز عن الجواب، فلما خرجنا رأيت أبا زرعة قد اغتم، ويقول: لا أدري من أين جاء بهذا الحديث؟! فقلت له: إنه وضعه في الوقت كي لا يمكنك أن تجيب عنه، فتخجل. فقال أبو زرعة، هكذا، قلت: نعم، فسري عنه.
قال عبد الله بن محمد بن وهب الحافظ: كنا عند أبي زرعة ورجل من أهل العراق قد جمع أحاديث من الغرائب الطنانات يسأله عنها، وهو يجيب حتى عجز السائل، وجهد أن يتوقف عن الجواب بحديث واحد، فلم يقدر عليه، فقال السائل: أقول في أذنك شيء؟ قال: قل. فتقدم، وأسمعه في أذنه شتمة، فقال له أبو زرعة: الاشتغال بالعلم أولى بنا.
قال الحسن بن الليث الرازي: قدمت على أحمد بن حنبل، فقلت: عندنا بالري شاب يكتب عنه، فقال: من هو؟ فقلت: شاب يكنى أبا زرعة، فقال: شاب شاب؟! كالمنكر لذلك، اكتبوا عنه، أعلى الله كعبه، نصره الله على مخالفيه. فلما رجعت الري أخبرت أبا زرعة بما سمعت من أبي عبد الله، فبكى، ثم قال: والله إني لأكون في الشدة الشديدة من أهل الري فأتوقع أن يكشف الله عني بدعاء أبي عبد الله.
قال أبو حاتم الرازي: حدثني أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد القرشي - رضي الله عنه، وما خلف بعه مثله علماً وفهماً - وفي رواية: وفقها - وصيانة وصدقاً. وهذا مالا يرتاب فيه، ولا أعلم في المشرق والمغرب من كان يفهم هذا الشأن مثله، ولقد كان من هذا الأمر بسبيل.
وقال: لم يكن في أمةٍ من الأمم منذ خلق الله آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة. فقال له رجل: يا أبا حاتم، وربما رووا حديثاً لا أصل له، ولا يصح، فقال:(15/337)
علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم، فروايتهم ذلك للمعرفة، ليتبين لمن بعدهم أنهم ميزوا الآثار، وحفظوها. ثم قال: رحم الله أبا زرعة، كان والله مجتهداً في حفظ آثار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإذا رأيت الرازي وغيره يبغض أبا زرعة فاعلم أنه مبتدع.
وقال: أزهد من رأيت أربعة: آدم بن أبي إياس، وثابت بن محمد الزاهد، وأبو زرعة. وذكر آخر.
قال أحمد بن سعيد الدارمي: صلى أبو زرعة الرازي في مسجده عشرين سنة بعد قدومه من السفر، فلما كان يوماً من الأيام قدم عليه قوم من أصحاب الحديث، فنظروا، فإذا في محرابة كتابة، فقالوا له: كيف تقول في الكتابة في المحاريب؟ فقال: فذكره ذلك أقوام ممن مضوا، فقالوا له: هو ذا محرابك كتابة، أو ما علمت به؟! قال: سبحان الله: رجل يدخل على الله - عز وجل - ويدري ما بين يديه؟ فقالوا: هذا ببركة بشر بن الحارث، وأحمد بن حنبل، فقال: لا، هذا ببركة صوفي رأيته، وصحبته أياماً.
وقال: بشر وأحمد سيدان من سادات المؤمنين إلا أن معارفهم دون معرفة هذا الصوفي.
قال أبو زرعة:
إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح أولى بهم، وهم زنادقة.
قال ابن خراش: كان بيني وبين أبي زرعة موعد أن أبكر عليه، فأذاكره، فبكرت، فمررت بأبي حاتم وهو قاعد وحده، فدعاني، فأجلسني معه، فذاكرني حتى أضحى النهار، فقلت له: بيني وبين أبي زرعة موعد، فجئت إلى أبي زرعة، والناس عليه منكبين، فقال لي:(15/338)
تأخرت عن الموعد، قلت: بكرت، فمرت بهذا المسترشد، فدعاني، فرحمته لوحدته، وهو أعلى إسناداً منك، وضربت أنت بالدست.
قال أبو زرعة: كنا نبكر بالأسحار إلى مجالس الحديث نسمع من الشيوخ، فبينا أنا يوماً من الأيام قد بكرت - وكنت حدثا - إذ لقيني في بعض طرق الري - في موضع قد سماه أبي ونسيته أنا - شيخ مخضوب بالحناء، فسلم علي، فرددت عليه السلام، فقال لي: يا أبا زرعة، سيكون لك شأن، وذكر، فاحذر أن تأتي أبواب الأمراء. ثم مضى الشيخ، ومضى لهذا الحديث دهر وسنين كثيرة، وصرت شيخاً كبيراً، ونسيت ماأوصاني به الشيخ. وكنت أزور الأمراء. وأغشى أبوابهم. فبينا أنا يوماً وقد بكرت أطلب دار الأمير في حاجة عرضت لي إليه فإذا أنا بذلك الشيخ الخضيب بعينه في ذلك الموضع، فسلم علي كهيئة المغضب، وقال لي: ألم أنهك عن أبواب الأمراء أن تغشاها؟ ثم ولي عني، فالتفت، فلم أره، وكأن الأرض انشقت، فابتلعته، فخيل إلي أنه الخضر، فرجعت من وقتي، فلم أزر أميراً، ولا غشيت بابه، ولا سألته حاجة.
قال أبو جعفر التستري: حضرنا أبا زرعة بما شهران، وكان في السوق، وعنده أبو حاتم، ومحمد بن مسلم، والمنذر بن شاذان، وجماعة من العلماء، فذكروا حديث التلقين، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله "، فاستحيوا من أبي زرعة، وقالوا - وفي رواية: وهابوا أن يلقنوه، فقالوا: - تعالوا نذكر الحديث، فقال محمد بن مسلم: حدثنا الضحاك بن مخلد، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح، وجعل يقول: ابن أبي ولم يجاوز، وقال أبو حاتم: نا نبدار، نا أبو عاصم نا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح، ولم يجاوز، والباقون سكتوا. فقال أبو زرعة وهو في السوق: حدثنا بندار، نا أبو عاصم، نا عبد الحميد بن(15/339)
جعفر، عن صالح بن أبي عريب، عن كثير بن مرة الحضرمي، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة ". وتوفي - رحمه الله.
رئي أبو زرعة في النوم، فقيل: ما فعل بك؟ قال: وقفني بين يديه، فقلت: يا رب لقد أوذيت فيك، فقال: هلا تركت خلقي علي وأقبلت أنت علي.
عبيد الله بن عبد الواحد بن محمد
ابن أحمد بن عثمان بن الوليد بن الحكم بن سليمان أبو محمد بن أبي الحديد السلمي المعدل روى عن جده أبي بكر محمد بن أحمد بسنده عن عمران بن حصين قال: بينما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض أسفاره إذا أمرأة من الأنصار على ناقة لها تضجرت منها، فلعنتها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خذوا ما عليها، وأعروها؛ فإنها ملعونه "، قال: فكأني أرى تلك الناقة تمشي في الناس، لايعرض لها أحد.
ولد عبيد الله بن عبد الواحد بن أبي الحديد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وتوفي سنة سبعين وأربعمائة.
عبيد الله بن عبيد
أبو وهب الكلاعي من أهل دمشق روى عن زهير بن سالم العنسي بسنده عن ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لكل سهوٍ سجدتان بعدما يسلم "(15/340)
وروى عن مكحول عن ابن عمر قال: أشد حديثٍ جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل " قوله: عن مكحول عن ابن عمر: خطأ، وإنما هو: عن مكحول، عن نافع، عن ابن عمر.
وهم البخاري فقال: عبيد الله بن وهب أبو وهب الكلاعي، ووهم ابن أبي حاتم فقال: أبو وهب الطلاعي الجشمي قال يحيى بن معين: أبو وهب عبيد الله الكلاعي دمشقي ليس به بأس.
مات أبو وهب الكلاعي مدخل عبد الله بن علي دمشق، ودخل عبد الله بن علي دمشق سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
عبيد الله بن عثمان بن محمد
أبو الحسن البغدادي، المعروف بابن الحلب البزاز روى عن الحسن بن علي العدوي بسنده عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً "
عبيد الله بن عدي الأكبر بن الخيار
ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي القرشي النوفلي أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدم غازياً، واجتاز بدمشق وحمص.
روى عن علي بن أبي طالب أنه قال: ما بال أقوامٍ يكذبون علينا، يزعمون أن عندنا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ليس عند(15/341)
غيرنا، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عاماً، ولم يكن خاصاً، وما عندي عنه ما ليس عند المسلمين إلا شيء في قرني هذا. فأخرج منه صحيفة، فإذا فيها: " من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف، ولا عدل ".
حدث عن رجلين قالا: جئنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع والناس يسألونه من الصدقة، فزاحمنا الناس وفي رواية: فزاحمنا الناس وفي رواية: فزاحمنا عليه الماس - حتى خلصنا إليه، فسألناه من الصدقة، قالا: فرفع البصر فينا وخفضه فرآنا رجلين جلدين، فقال: " إن شئتما فعلت، ولاحظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب - وليست: فيها في رواية ".
وروى أنه دخل على عثمان وهو محصور، وعلي يصلي بالناس، فقال: يا أمير المؤمنين، إني أتحرج أن أصلي مع هؤلاء، وأنت الإمام، فقال: إن الصلاة أحسن ما عمل الناس، فإذا رأيت الناس يحسنون فأحسن معهم، وإذا رأيتهم يسيئون فاجتنب سيئهم.
قال الزبير بن بكار: فولد عدي الأكبر بن الخيار: عبيد الله بن عدي، وأسيد بن عدي، وعبد الله بن عدي، وأمهم: أم قتال بنت أسيد بن أبي العيص. وقال بعض الناس: بل أم بني عدي هؤلاء بنت أسيد بن علاج من ثقيف.
ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل المدينة وقال: له دار بالمدينة عند دار علي بن أبي طالب. ومات عبيد الله بن عدي بالمدينة في خلافة الوليد بن عبد الملك. وكان ثقة قليل الحديث.
قال ابن منده: عن عبيد الله بن عدي قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(15/342)
قال الأمير: خيار بالخاء المعجمة والراء.
قال العجلي: عبيد الله بن عدي بن الخيار. مدني، تابعي، ثقة، من كبار التابعين، وهو ابن أخت عثمان بن عفان.
قال خليفة: مات في آخر ولاية الوليد، ومات الوليد سنة ست وتسعين
عبيد الله بن علي بن أحمد
أبو القاسم البغدادي المالكي الخلال قدم دمشق وروى عن محمد بن إسماعيل الوراق بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاتسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهباً مابلغ مد أحدهم، ولانصيفه " سكن عبيد الله بن علي مصر، وكان يعلم بها ولد السلطان إلى أن مات بمصر.(15/343)
عبيد الله بن علي بن عبيد الله بن داوود
أبو القاسم المصري الداودي القاضي روى عن أبي علي الحسن بن حبيب بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " طاعة الإمام حق على المرء المسلم ما لم يأمر بمعصية الله، فإذا أمر بمعصية الله فلا طاعة له " قال أبو عبد الله الحافظ: عبيد الله بن علي بن عبيد الله بن داود، أبو القاسم الداودي المصري. سكن نيسابور، ثم بخارى، وتصرف في أعمال القضاء في بلاد كثيرة. وكان فقيه الداودية في عصره بخراسان، وكان موصوفاً بالفضل وحسن العشرة والظرف وحفظ النتف من الأشعار والحكايات. توفي ببخارى سنة خمس وسبعين وثلاثمائة.
عبيد الله
ويقال: عبد الله، والصحيح: عبيد الله بن علي القرشي من أهل دمشق روى عن سليمان بن حبيب المحاربي، حدثني أسود بن أصرم المحاربي قال: قلت: يا رسول الله، أوصني، قال: " تملك يدك ". قال: قلت: فماذا أملك إذا لم أملك يدي؟ قال: " تملك لسانك "، قلت: فماذا أملك إذا لم أملك لساني؟ قال: " لاتبسط يدك إلا إلى خير، ولا تقل بلسانك إلا معروفاً "(15/344)
عبيد الله بن عمر بن أحمد بن محمد بن جعفر
أبو القاسم القيسي - يعرف بعبيد - البغدادي الفقيه الشافعي قال أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف الفرضي القاضي في كتاب: " تاريخ الأندلس ":
من أهل بغداد، قدم الأندلس سنة سبع وأربعين وثلاثمائة. تفقه ببغداد على مذهب الشافعي، وتحقق به، وناظر فيه. وأخذ من المالكيين. وكتب بالرقة ودمشق وحلب ومصر. وكان فقيهاً على مذهب الشافعي، إماماً فيه، بصيراً به، عالماً بالأصول والفروع، حسن النظر والقياس. وكان مع ذلك إماماً في القراءات ضابطاً.
وقد سمعت محمد بن أحمد بن يحيى ينسبه إلى الكذب، ووقفت على بعض ذلك في كتاب " تاريخ أبي زرعة " الدمشقي.
ولعبيد الله بن عمر هذا كتب مؤلفة كثيرة في الفقه، والحجة، والرد، والقراءات، والفرائض، وغير ذلك.
وكان المستنصر الأموي صاحب الأندلس قد أنزله، وتوسع له في الجراية، ولم يزل يؤلف له إلى أن مات. وكانت وفاته بقرطبة سنة ستين وثلاثمائة، ومولده ببغداد سنة خمسٍ وتسعين ومائتين.
عبيد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى
أبو عيسى العدوي من أهل المدينة. أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غزا في خلافة أبيه، وقدم على معاوية بعد قتل عثمان، فكان معه حتى قتل بصفين. وكان قد جعله على الخيل.
خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري، وهو أمير البصرة، فرحب بهما، وسهل، وقال: لو أقدر لكما على أمرٍ أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى، هاهنا مال من مال الله تعالى أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكما، فتبتاعان به من متاع العراق، ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان(15/345)
رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون لكما الربح. فقالا: وددنا. ففعل، وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال. فلما قدما على عمر قال: أكل الجيش أسلفه كما أسلفكما؟ فقالا: لا، فقال عمر: ابني أمير المؤمنين، فأسلفكما! أديا المال وربحه! قال: فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين، لو هلك المال، أو نقص لضمناه، فقال: أدياه. فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله. فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراشاً. فقال عمر: قد جعلته قراضاً. فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبيد الله وعبد الله نصف ربح ذلك المال.
قال الزبير في تسمية ولد عمر بن الخطاب: وزيداً الأصغر، وعبيد الله ابني عمر؛ وأمهما أم كلثوم بنة جرول بن مالك بن المسيب من خزاعة. وأخوهما لأمهما عبيد الله الأكبر بن أبي الجهم بن حذيفة بن غانم.
قال ابن سعد: وكان الإسلام قد فرق بين عمر وبين أم كلثوم بنت جرول عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عمر ضرب عبيد الله ابنه بالدرة، وقال: أتكتني بأبي عيسى؟ أو كان له أب؟! عن البهي: أن عبيد الله بن عمر سب المقداد بن عمرو، فقال عمر: علي نذر أن أقطع لسانه. فمشى إليه ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكلموه، فقال: دعوني أقطع لسانه، فلا يسب بعدي أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ابن المسيب أن عبد الرحمن بن أبي بكر - ولم يجرب عليه كذبة قط - قال حين قتل عمر: إني انتهيت إلىالهرمزان وجفنيه وأبي لؤلؤة، وهم نجي، فبغتهم، فثاروا، فسقط من بينهم خنجر له رأسان، نصابه في وسطه. قال عبد الرحمن: فانظروا بم قتل عمر؟ فنظروا، فإذا الخنجر على النعت الذي نعت عبد الرحمن. قال: فخرج عبيد الله بن عمر مشتملاً(15/346)
على السيف حتى أتى الهرمزان، فقال: اصحبني تنظر إلى فرسٍ لي: وكان الهرمزان خبيراً بالخيل، فخرج يمشي بين يديه، فعلاه عبيد الله بالسيف، فلما وجد حز السيف قال: لا إله إلا الله. فقتله، ثم أتى جفنية، وكان نصرانياً، فدعاه، فلما أشرف له علاه بالسيف، فصلب جفنية بين عينيه، ثم أتى أبي لؤلؤة، جارية صغيرة، تدعي بالإسلام، فقتلها، فأظلمت المدينة يومئذ على أهلها ثلاثاً. وأقبل بالسيف صلتاً، وهو يقول: والله لا أترك بالمدينة سبياً إلا قتلته فجعلوا يقولون له: ألق السيف، ويأبى، ويهابون أن يقربوه حتى أتى عمرو بن العاص فقال: أعطني السيف يا بن أخي، فأعطاه إياه، ثم ثار إليه عثمان، فأخذ برأسه، فتناصيا حتى حجز الناس بينهما.
فلما ولي عثمان قال: أشيروا علي في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق! فأشار عليه المهاجرون أن يقتله. وقال جماعة الناس: قتل عمر أمس، وتريدون أن تتبعوه ابنه اليوم؟! أبعد الله الهرمزان وجفنيه! فقال عمر بن العاص: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الأمر ولك على الناس سلطان، إنما كان هذا ولاسلطان لك، فاصفح عنه يا أمير المؤمنين. فتفرق الناس على خطبة عمرو بن العاص، وودى عثمان الرجلين والجارية.
فطعن المسلمون على عثمان، وكان ذلك أول أحداثه، فقال زياد بن لبيد بن بياضة الأنصاري:
أبا عمرو عبيد الله رهن ... فلا تشكك بدفع الهرمزان
فإنك إن حكمت بغير حق ... فمالك بالذي حدثت يدان
كأنك إن فعلت وذاك يجري ... وأسباب الخطا فرسا رهان(15/347)
وقد قيل: إن عثمان إنما ترك قتله لأن ابن هرمزان عفا عنه. ويؤيد ذلك أن الطعانون على عثمان قالوا: عدل ست سنين، ولو لم يكن كذلك لقالوا: استأنف الجور من لدن ولي لأنه تعطيل حد من محارم الله.
وكان علي بن أبي طالب لما بويع له أراد قتل عبيد الله بن عمر، فهرب منه إلى معاوية بن أبي سفيان، فلم يزل معه.
عن يسار بن عوف قال: لما قدم عبيد الله بن عمر الكوفة وأتيته أنا وعبد الله بن بديل، وهو في دار المختار، فقال له عبد الله بن بديل: اتق الله ياعبيد الله بن عمر، لاتهريقن دمك في هذه الفتنة، وأنت فاتق الله لا تهريقن دمك في هذه الفتنة. قال ابن بديل: أطلب بدم أخي قتل مظلوماً، فقال عبيد الله بن عمر: وأنا أطلب بدم الخليفة المظلوم.
قال يسار: لقد رأيتهما صريعين، هذا في هذا الصف، وهذا في هذا الصف ما بينهما إلا عرض الصف.
قال عبيد الله في سيفٍ ورثه عن أبيه يقال له: ذو الوشاح: من الطويل
إذا كان سيفي ذا الوشاح ومركبي ... الظليم فلم يطلل دم أنا صاحبه
سيعلم من أمسى عدوا مكاشحا ... بأني له مادمت حيا أطالبه
عن أبي رزين قال: كنت مع مولاي بصفين، فرأيت علياً بعدما مضى ربع الليل يطوف على الناس يأمرهما، وينهاهم، فأصبحوا يوم الجمعة، فالتقوا، وتقاتلوا أشد القتال، والتقى عمار بن ياسر، وعبيد الله بن عمر، فقال عبيد الله: أنا الطيب بن الطيب، فقال له عمار بن ياسر: أنت الخبيث بن الطيب. فقتلته عمار. ويقال: قتله رجل من الحضارمة. ويقال: قتله رجل من همدان(15/348)
ويقال: إن معاوية أقرع بين الناس يومئذٍ، فخرج سهم عبدي الله بن عمر على ربيعة. فأحضر امرأتيه القتال؛ وكانت عنده أسماء بنت عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي، وبحرية بنت هانىء بن قبيصة الشيباني. ولقيته ربيعة، وعلى ربيعة الكوفة يومئذ: زياد بن خصفة التيمي، فشدت ربيعة على عبيد الله بن عمر، فقتلته، فلما ضرب فسطاط زياد بن خصفة بقي طنب من الأطناب لم يجدوا له وتداً، فشدوه برجل عبيد الله.
وأقبلت امرأتاه منصرفتين حتى وفقتا عليه، فبكتا عليه، وصاحتا، فخرج زياد بن خصفة، فقيل له: هذه بحرية بنت هانىء بن قبيصة الشيباني، فقال لها: حاجتك يابنة أخي؟ فقالت: زوجي قتيل تدفعه إلي، فقال: نعم، خذيه، فجيء ببغل، فحملته. فذكروا أن يديه ورجليه خطتا بالأرض من البغل، فقال في ذلك كعب بن جعيل التغلبي: من الطويل
ألا إنما تبكي العيون لفارسٍ ... بصفين ولت خيله وهو واقف
تبدل من أسماء أسياف وائلٍ ... وكان فتى لو أخطأته المتالف
تركن عبيد الله بالقاع مسلما ... يمج دماء والعروق نوازف
ينوء وتغشه سبائب من دمٍ ... كما لاح من جيب القميص الكفائف
دعاهن فاستسمعن من أين صوته ... فأقبلن شتى والعيون ذوارف(15/349)
يحللن عنه زر درعٍ حصينة ... وينفرن منه بعد ذاك معارف
وقد صبرت حول ابن عم محمدٍ ... لدى الموت شهباء المناكب شارف
فما برحوا حتى رأى الله صبرهم ... وحتى أليحت بالأكف المصاحف
بموج ترى الرايات بيضاً كأنها ... إذا اجتنحت للطعن طير عواكف
جزى الله موتانا بصفين خيرما ... أيثيبت عباد غادرتها المواقف
وكان عبيد الله بن عمر بن الخطاب شد يومئذ، فهو يرتجز ويقول:
أنا عبيد الله يميني عمر ... خير قريشٍ قد مضى ومن غبر
إلا نبي الله والشيخ الأغر
وقال أبو زبيد يرثيه: من البسيط
إن الرزية لاناب مصرمة ... قرم تنصله من حاصنٍ عمر(15/350)
وجفنةٍ كنضيح الحب قد تركت ... بثني صفين يعلو فوقهما الغبر
وظل يرشح مسكا فوقه علق ... كأنما قد في أثوابه الجزر
كم من أخ لي كعدل الموت مهلكه ... أودى فكان نصيبي بعده الذكر
يا أسم صبرا على ماكان من ألم ... تلك الحوادث ملقي ومنتظر
عن نافع قال: أصيب عبيد الله بن عمر يوم صفين، فاشترى معاوية سيفه، فبعث به إلى عبد الله بن عمر. قيل لنافعٍ: هو سيف عمر الذي كان؟ قال: نعم، قلت: فما كانت حليته؟ قال: وجدوا في نعله أربعين درهماً وكانت وقعة صفين في صفر سنة سبع وثلاثين وقيل إنها كانت في ربيع الأول سنة سبع وثلاثين.
عبيد الله بن عمر بن عبد العزيز
ابن مروان بن الحكم الأموي كان له عقب روى عن الربيع بن سبرة، عن أبيه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه أمرهم بالمتعة. قال: فخطبت أنا ورجل امرأة "، قال: فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ثلاث، وإذا هو يحرمها أشد التحريم، ويقول أشد القول، وينهي أشد النهي.(15/351)
عبيد الله بن العيراز المازني البصري
وفد على عمر بن عبد العزيز روى عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تهادوا تزدادو خيرا - وفي رواية: حبا - وهاجروا تورثوا أبناءكم مجداً، وأقيلوا الكرام عثراتهم " وروى عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، وحميد بن عبد الرحمن الحميري قالا: نشأ ناس من أهل العراق، فقالوا في القدر، فقدمنا المدينة، فدخلنا المسجد، فإذا نحن بعبد الله بن عمر، فابتدرناه: أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله. قال: فظننت أنه سيكل المنطق إلي، وكنت أبسط لساناً منه، فقلنا: ياعبد الله بن عمر، ألا تخبرنا عن قوم نشأوا بالعراق، وقضوا في المساجد، وزعموا أن الأمر أنف، وأنه لا قدر. قال: إذا أتيت أولئك فقل لهم؛ قال عبد الله بن عمر: أنا منكم بريء، وأنتم براء مني حتى تؤمنوا بالقدر. أخبرني عمر قال: بينما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس إذا جاء رجل حسن الوجه، شديد سواد الشعر، لم يشفعه سفر، فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: قال: " أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن تصلي الخمس، وأن تصوم رمضان "، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: " نعم "، قال: صدقت، قال: فما الإيمان؟ قال: " أن تؤمن بالله، واليوم الآخر، والبعث من بعد الموت، والقدر كله "، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: " نعم "، فجعل القوم يعجبون من سؤاله، وتصديقه، قال: فما الإحسان؟ قال: " تعمل لله كأنك ترى الله - عز وجل - فإن كنت لا تراه فإنه يراك "، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا محسن؟ قال: " نعم "، قال:(15/352)
صدقت، قال: فمتى قيام الساعة؟ قال: " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، إنها في الخمس التي استأثر الله - عز وجل - بهن: " إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام " حتى ختم السورة "، قال: فما أشراطها؟ قال: " أن ترى الصم البكم العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، وأن تلد الامرأة ربتها " قال عبيد الله بن العيزار: خطبنا عمر بالشام على منبر من طين، فحمد الله وأثنى عليه، ثم تكلم بثلاث كلماتٍ، فقال: أيها الناس، أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم، واعملوا أن رجلاً ليس بينه وبين آدم أب حي لمعرق له في الموت. والسلام عليكم.
قال البخاري، ويحيى بن معين، ويحيى بن سعيد القطان: عبيد الله بن العيزار ثقة وقال عبد الرحمن بن يوسف بن سعيد: بصرى صدوق قال عبيد الله بن العيزار: يابن آدم، إنك موقوف ومسؤول، فأعد جواباً عند الموت يأتك الخير، حتى متى تقول: ياأهلاه غدوني، ياأهلاه عشوني!؟ يوشك ألا يكون لك في الدنيا غداء ولا عشاء، ولا ليل، ولانهار.
عبيد الله بن القاسم بن علي بن القاسم
أبو الحسن المراغي سكن أطرابلس، وحدث بمصر سنة أربع وأربعمائة
روى عن أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد البصري بسنده عن أنس بن مالك قال: أتت النبي صلى الله امرأة تشتكي حاجة "، فقال: " ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟(15/353)
تسبحين الله إذا أويت إلى فراشك ثلاثاً وثلاثين، وتحمدينه ثلاثاً وثلاثين، وتكبرينه أربعاً وثلاثين، فذلك مائة هي خير من الدنيا، وما فيها "
عبيد الله بن قيس بن شريح بن مالك بن ربيعة بن وهيب
ابن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب القرشي العامري الشاعر المعروف بابن قيس الرقيات. من أهل الحجاز. مشهر معروف، وبالإحسان في الشعر موصوف.
مدح مصعب بن الزبير فطلبه عبد الملك بن مروان، فاستخفى منه. ثم قدم دمشق فعفى عنه.
قال الزبير بن بكار: ومن ولد ربيعة بن وهيب بن ضباب: عبيد الله بن قيس الرقيات. وأمه قتيلة بنت وهب بن عبد الله بن عبد الله بن ربيعة بن طريف. وأخوه لأمه وأبيه: عبيد الله بن قيس؛ وسعد وأسامة ابنا عبد الله بن قيس قتلا يوم الحرة، وفيهما يقول عبيد الله بن قيس الرقيات: من الكامل
إن المصائب بالمدينة قد ... أوجعنني وقرعن مروتيه
وأتى كتاب من يزيد وقد ... شد الحزام بسرج بغلتيه
ينعي أسامة لي وإخوته ... فظللت مستكا مسامعيه
كالشارب النشوان قطره ... سمل الزقاق تفيض عبرتيه(15/354)
وعبد الواحد - يعني ابن أبي سعد - بن قيس بن وهب بن وهبان بن ضباب بن حجير أبو رقية التي كان يشبب بها ابن قيس الرقيات، وبابنة عم لها يقال لها: رقية، فقيل لعبيد الله: ابن قيس الرقيات.
وقال محمد بن سلام الجمحي: إنما نسب إلى الرقيات لأن جدات له توالين يسمين رقية قال خالد بن عطاء بن مقدم: قال لي حماد الراوية، وكان نازلاً علي: إذا أردت أن تقول الشعر فارو شعر ابن الرقيات، فإن أرق الناس حواشي شعرٍ قال محمد بن سلام الجمحي: كان عبد الله أشد قريش أسر شعر في الإسلام بعد ابن الزبعري، وكان غزلاً، وأغزل من شعره شعر عمر بن أبي ربيعة، وكان عمر يصرح بالغزل، ولايهجو، ولايمدح، وكان عبد الله يشبب ولايصرح. وكان انقطاعه إلى آل الزبير، فمدح مصعباً، وهجا عبد الملك بن مروان، وذلك حين يقول: من الخفيف
إنما مصعب شهاب من الل ... هـ تجلت عن وجهه الظلماء
ملكة ملك رحمةٍ ليس فيه ... جبروت منه ولاكبرياء
يتقي الله في الأمور وقد أفل ... ح من كان همه الاتقاء
وقال فيها لعبد الملك:
قد عمرنا فمت بدائك غيظا ... لاتميتن غيرك الأدواء(15/355)
وقال في عبد الملك بن مروان لما أخذ عبد الله بن جعفر له الأمان: من المنسرح
عاد له من كثيرة الطرب ... فعينه بالدموع تنسكب
كوفية نازح محلتها ... لأمم دارها ولاسقب
ما نقموا من بني أمية إلا ... أهم يحلمون إن غضبوا
وأنهم معدن الملوك فلا ... تصلح إلا عليهم العرب
إن الفنيق الذي أبوه أبو ال ... عاص عليه الوقار والحجب
يعتدل التاج فوق مفرقه ... على جبينٍ كأنه الذهب
وكان عبد الملك قد نذر دمه فهرب عبيد الله إلى عبد الله بن جعفر، وسأله أن يجيره، فأدخله على عبد الملك، فقال عبد الملك: قد أزلت عنه القتل، ولكني لاأعطيه رزقاً مادمت في الدنيا. فقال عبد الله بن جعفر لابن قيس: أنا أعطيك الرزق موفراً، فلم يزل يقيمه له.
وقيل: إن عبد الله بن جعفر قال له: كم تؤمل أن تعيش؟ قال: عشرين سنة، قال: فأنا أدفع لك من هذا الوقت رزق عشرين سنة، ففعل، فقال عبيد الله يمدحه: من الطويل
تقدت بي الشهباء نحو ابن جعفر ... سواء عليها ليلها ونهارها(15/356)
تزور امرأ قد يعلم الله أنه ... تجود له كف قليل غرارها
أتيناك نثني بالذي أنت أهله ... عليك كما أثنى على الروض جارها
ووالله لولا أن تزور ابن جعفرٍ ... لكان قليلا في دمشق قرارها
ذكرتك إذ جاش الفرات بأرضنا ... وفاص بأعلى الرقتين بحارها
وعندي مما خول الله هجمة ... عطاؤك منها شولها وعشارها
قدم على عبد الله بن جعفر ذي الجناحين بمالٍ عظيم من قبل عبد الملك بن مروان، ومتاع كثير، فقسمه، وقال لنديم له: احفظ نصيب عبيد الله بن قيس الرقيات، فعزل له جارية " وكسوة "، وعشرة آلاف درهم، فلما قدم دفعه إليه، فقال ابن قيس الرقيات: من الطويل
إذا جئت عبد الله نفسي فداؤه ... رجعت بخير من نداه ونائل
وإن غبت عنه كان للود حافظا ... ولم يك عني في المغيب بغافل
أبو جعفر نفسي تقيه من الردى ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل
أبوه كريم ذو الجناحين جعفر ... فبخ بخ له من فاضلٍ وابن فاضل
لما قتل الوليد وضاح اليمن حجت بعد ذلك أم البنين محتجبة لاتكلم أحداً، فقال ابن قيس الرقيات: من المنسرج(15/357)
يا بن الخليط الذي به نثق ... واشتد دون الحبيبة الغلق
قد تتقي الله في المحارم أو ... تعجز في نفسها فتنحمق
لست بجثامةٍ له كرش ... يأكل مااسطاع ثم يغتبق
قد برمت عرسه بمضجعه ... ودت لو أن العجول ينطلق
عبيد الله بن محمد بن أحمد بن حامد
المعروف بابن الحريص، أبو أحمد ويقال: أبو محمد - البغدادي روى عن الحسين بن إسماعيل المحاملي بسنده عن أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة " وروى عن يحيى بن محمد بن صاعد بسنده عن جابر بن عبد الله قال: اطلعت امرأة من هودج لها، ومعها صبي، فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: " نعم، ولك أجر " قال الخطيب: عبيد الله بن محمد بن أحمد بن حامد بن محمود بن جعفر بن عبد الله، أبو أحمد البزاز، ويعرف بابن الحريص. بغدادي سكن الرملة.(15/358)
عبيد الله بن محمد بن الحكم
أبو معاوية الكلابي المقرىء المؤدب كان يسكن قنطرة سنان.
روى عن محمود بن خالد بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " عج حجر إلى الله - عزوجل - فقال: إلهي وسيدي، عبدتك كذا وكذا ألف سنةٍ، ثم جعلتني في أس كنيفٍ؟ فقال: أما ترضى أن عدلت بك عن مجلس القضاة؟ "
عبيد الله بن محمد بن خنيس
ويقال: خشيش أبو علي الدمياطي ويقال: الدمشقي روى عن موسى بن محمد بن عطاء بسنده عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى.
وعنه أيضاً بسنده عن أبي الدراداء أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من قال بعد صلاة الصبح، وهو ثانٍ رجليه، قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير، عشر مرات ٍ كتب له بكل مرةٍ عشر حسناتٍ، ومحي عنه عشر سيئاتٍ، ورفع عشر درجات، وكن له في يومه حرزاً من كل مكروه، وحرزاً هن الشيطان، وكان له بكل مرة عتق رقبة من ولد إسماعيل، ثمن كل رقبةٍ اثنا عشر ألفاً، ولم يلحقه يومئذ ذنب إلا الشرك بالله. ومن قال ذلك بعد صلاة المغرب كان له مثل ذلك ".(15/359)
وعنه أيضاً بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليس في الصوم رياء " قال ابن ماكولا: خنيس: أوله خاء مضمومة بعدها نون مفتوحة، وآخره سين مهملة ".
عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز
ابن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمربن الخطاب أبو بكر العمري القاضي من أهل المدينة. ولي القضاء بحمص، وقنسرين، وأنطاكية، والثغور الشامية. وقدم دمشق أيان ابن طولون. ثم ولي قضاء دمشق في أيام أبي الجيش بن طولون. وكان ممن خلع أبا أحمد الموفق بدمشق سنة تسع وستين ومائتين روى عن الزبير بن بكار بسنده عن عمر بن عبد العزيز: أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد فإنك راع، وكل راعٍ مسؤول عن رعيته، حدثنيه أنس بن مالك، أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " كل راعٍ مسؤول عن رعيته "، " الله الذي لاإله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثاً " وروى إسماعيل بن أويس بسنده عن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سب الأنبياء قتل، ومن سب أصحابي جلد "(15/360)
عبيد الله بن محمد بن عبد الوارث الرعيني القوفاني
روى عن محمد بن الوزير بسنده عن ابن عمر قال: صليت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني - قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وبعد الجمعة ركعتين، فأما الجمعة والمغرب ففي بيته.
عبيد الله بن محمد بن عفان
أبو محمد حدث عن خيثمة بن سليمان بسنده عن أنس بن مالك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يطوف على نسائه بغسلٍ واحد - وفي رواية: طاف مات أبو محمد بن عفان سنة ثمان وأربعمائة.
عبيد الله بن محمد بن محمد
أبو عبد الله العكبري المعروف بابن بطة الفقيه الحنبلي روى عن حفص بن عمر بن الخليل بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعم الإدام الخل ".(15/361)
وروى عن عبد الله بن محمد البغوي بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا " قال الخطيب: أبو عبد الله العكبري المعروف بابن بطة. كان أحد الفقهاء على مذهب أحمد بن حنبل.
قال عبد الواحد بن علي العكبري: لم أر في شيوخ أصحاب الحديث، ولافي غيرهم أحسن هيأة من ابن بطة.
قال أبو حامد أحمد بن محمد الدلوي: لما رجع أبو عبد الله بن بطة من الرحلة لازم بيته أربعين سنة "، فلم ير يوماً منها في سوق، ولارئي مفطراً إلا في يوم الأضحى والفطر. وكان أماراً بالمعروف، ولم يبلغه خبر منكر إلا غيره.
قال أبو الفتح القواس: كان أبو عبد الله بن بطة يخرج إلى دكاني يكتب عني زهد ابن خبيق. وذكرت لأبي سعد الإسماعيلي ابن بطة، وعلمه، وزهده، فقال: شوقتني إليه. فخرج مع أولاده وأهله، فلما رجع جئت لأسلم عليه، فقال لي أول ما رآني: الرجل الذي ذكرت لي رأيته فوق الوصف - يعني ابن بطة.
قال نصر الأندلسي: خرجت إلى عكبرا، فكتبت عن ابن بطة، ورجعت إلى بغداد، فقال أبو الحسن الدارقطني: أين كنت؟ فقلت: بعكبرا، فقال: وعمن كتبت؟ فقلت: عن فلان، وعن ابن بطة، فقال: وأيش كتبت عن ابن بطة؟ قلت: كتبا السنن لرجاء بن مرجى، حدثني به ابن بطة، عن حفص بن عمر الأردبيلي، وعن رجاء بن مرجى،(15/362)
فقال: هذا محال! دخل رجاء بن مرجى بغداد سنة أربعين، ودخل حفص بن عمر الأردبيلي سنة سبعين ومائتين، فكيف سمع منه؟ قال أبو القاسم التنوخي: أراد أبي أن يخرجني إلى عكبرا لأسمع من ابن بطة كتاب " معجم الصحابة "، تصنيف أبي القاسم البغوي، فجاءه أبو عبد الله بن بكير، وقال له: لاتفعل، فإن ابن بطة لم يسمع المعجم من البغوي؛ وذلك أن البغوي حدث به دفعتين الأولى منهما قبل سنة ثلاثمائة في مجلسٍ عام، والأخرى بعد سنة ثلاثمائة في مجلس خاص لعلي بن عيسى وأولاده، ففي أي المرتين سمعه ابن بطة؟ قال الخطيب: وفي هذا القول نظر؛ لأن محمد بن عبد الله بن الشخير قد روى عن البغوي المعجم، وكان سماعه بعد الثلاثمائة بسنين عدة. ولعل ابن بكير أراد بالمرتين قبل سنة عشر وثلاثمائة وبعدها. وأحسب البغوي روى المعجم قبل العشر، فسمعه منه ابن الشخير وغيره، ورواه بعد العشر لعلي بن عيسى وأولاده خاصة. ومما يدل على ذلك أن أبا حفص بن شاهين كان من المكثرين عن البغوي، وكذلك أبو عمر بن حيويه، وأبو بكر بن شاذان، ولم يكن عند واحدٍ منهم عنه المعجم، فهذا يدل على أن رواية العامة كانت قبل العشر بسنين عدة، فلم يسمع هؤلاء منه المعجم لذلك.
قال لي أبو القاسم الأزهري: ابن بطة ضعيف ضعيف، ليس بحجة. وعندي عنه معجم البغوي، ولاأخرج منه في الصحيح شيئاً. قلت: فكيف كان كتابه بالمعجم؟ فقال: لم نر له أصلاً به، وإنما دفع إلينا نسخة طرية بخط ابن شهاب، فنسخنا منها، وقرأنا عليه.
قال محمد بن أبي الفوارس: روى ابن بطة عن البغوي بسنده عن أنس: " طلب العلم فريضة على كل مسلم "(15/363)
قال الخطيب: وهذا الحديث باطل من حديث مالك، وهو موضوع بهذا الإسناد، والحمل فيه على ابن بطة.
توفي ابن بطة سنة سبع وثمانين وثلاثمائة
عبيد الله بن محمد
ويقال: ابن منصور بن محمد أبو بكر البغدادي البزار المعروف بابن الصباغ روى عن أبي الوليد الطيالسي بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها "
وروى عن محمد بن خالد بسنده عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الندم توبة "
عبيد الله بن مروان بن الحكم
ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي ولي غزو الصائفة من قبل أخيه عبد الملك بن مروان. له ذكر ودار بدمشق روى عن عائشة، عن ابن عمر قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات غداةٍ بعد طلوع الشمس، فقال: " رأيت قبيل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين - فأما المقاليد فهذه المفاتيح، وأما الموازين فهذه التي(15/364)
تزنون بها - ووضعت في كفة، ووضعت أمتي في كفة، فوزنت بهم، ثم جيء بأبي بكر فوزن بهم فوزن، ثم جيء بعمر فوزن فوزن ثم جيء بعثمان، فوزن بهم، فوزن، ثم رفعت.
قال محمد بن سعد: فولد مروان بمن الحكم: أبان بن مروان، وعبيد الله، وعبد الله درج، أيوب، وعثمان، وداود، ورملة؛ وأمهم أم أبان بنت عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية قال محمد بن عائذ: وفي سنة إحدى وثمانين غزا عبيد الله بن مروان، وفتح حصن سنان، وأصيبت الروم.
عبيد الله بن مروان بن محمد
ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي كان ولي عهد أبيه مروان بن محمد، وهو الداخل إلى بلاد النوية، وله مع ملكها حكاية طويلة. وفيل إن الذي حكى هذه الحكاية عبد الله أخوه، وعبيد الله قتلته النوبة.
وكان قدم مع أبيه دمشق، فعقد له ولاية العهد، ولأخيه عبد الله بدير أيوب عمل دمشق.
وتزوج عبيد الله هذا عائشة بنت هشام بن عبد الملك، ولم يعقب(15/365)
عبيد الله بن المظفر بن عبد الله بن محمد
أبو الحكم الباهلي الأندلسي ولد بالمدينة سنة ست وثمانين وأربعمائة، وحج سنة ست عشرة وخمسمائة، وحج طبيباً مع أمير الجيوش قطز سنة ثمان عشرة وخمسمائة، وقدم دمشق سنة ثلاثين وخمسمائة.
كان شاعراً مطبوعاً خليعاً، وأكثر شعره في المجون.
ومن قصيدة له قالها على لسان الأديب نصر الهيثي يرثي مقلى انكسرت له: من الطويل
لقد جار هذا الدهر في الحكم واستعلى ... وجرعني كأسا أمر من الدفلى
وحملت من أهواله فوق طاقتي ... ولكنها هانت لحزني على المقلى
أتانا بها من أرض بيروت تاجر ... وأنزلها قبلي دار أبي يعلى
وجزت بها في دار سيف وإنها ... لفي ناظري من كان مقلى بها أحلى
أخاف عليها العين حين أزفها ... إلى منزلي شبه العروس إذا تجلى
فطورا أواريها بكمى وتارة ... أجردها مثل الحسام إذا سلا
وأعددتها ذخرا لترويح طعمنا ... وللشحم إذ يسلى وللبيض إذ يقلى
فلما أراد الله إنفاذ حكمه ... وكان قضاء الله في خلقه عدلا
أتاح لها خطبا من الدهر فاتكا ... فأودى بها هلكى وغادرني عطلا
فتبا لهذا الدهر كم غبطة طوى ... وكم نعمة أودى وكم جدة أبلى
توفي أبو الحكم بدمشق ليلة الأربعاء رابع ذي القعدة سنة تسع وأربعين وخمسمائة(15/366)
عبيد الله بن معمر بن عثمان
ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر أبو معاذ القرشي التيمي والد عمر بن عبيد الله بن معمر، أحد أجواد قريش. أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل إنه وفد على معاوية.
عن عبيد الله بن معمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ماأوتي - وفي رواية: أعطي - أهل بيت الرفق إلا نفعهم، ولامنعوه إلا ضرهم " وروى عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب أن ينهض إلى عدوه عند زوال الشمس قال الزبير: وولد معمر بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة: عبيد الله ومعبداً: وأمهما: سلمى بنت الأصفر بن وائل بن ثمالة. روى له بعض الناس في معاوية:
إذا أنت لم ترخ الإزار تكرما ... على الكلمة العوراء من كل جانب
فمن ذا الذي نرجو لحقن دمائنا ... ومن ذا الذي نرجو لحمل النوائب
قال محمد بن سيرين: أول من رفع يديه في الجمعة عبيد الله بن معمر، وأول من أحدث الوصية برأيه قالوا: سكن المدينة. وقال ابن منده: لا يصح له حديث
روى عثمان بن عبد الرحمن أن عبيد الله بن معمر، وعبد الله بن عامر بن كريز(15/367)
اشتريا من عمر بن الخطاب رقيقاً من سبي، ففضل عليهما من ثمنهم ثمانون ألف درهم، فأمر بهما عمر أن يلزما بها، فمر بهما طلحة وهو يريد الصلاة في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ما لابن معمر يلازم؟ فاخبر خبره، فأمر بالأربعين ألف التي عليه، فقضيت عنه، فقال عبيد الله بن معمر لعبد الله بن عامر: إنها إن قضيت عني بقيت ملازما "، وإن قضيت عنك لم يتركني طلحة حتى يقضي عني. فدفع إليه الأربعين ألف درهم، فقضاها عبد الله بن عامر عن نفسه، وخلي سبيله. فمر طلحة منصرفاً من الصلاة فوجد عبيد الله بن معمر يلازم، فقال: ما لابن معمر؟ ألم نأمر بالقضاء عنه؟ فأخبر بما صنع، فقال: أما ابن معمر فقد علم أن له ابن عم لا يسلمه، احملوا أربعين ألف درهم، فاقضوها عنه. فخلي سبيل عبيد الله بن معمر قال طلحة بن الشجاح: كتب عبيد الله بن معمر القرشي إلى عبد الله بن عمر، وهو أمير على فارس على خيل: إنا قد استقررنا، فلا نخاف عدونا، وقد أتى علينا سبع سنين، وقد ولد لنا الأولاد، فكم صلاتنا؟ فكتب إليه عبد الله: إن صلاتكم ركعتان. ثم أعاد إليه الكتاب، فكتب إليه ابن عمر: إني كتبت إليك بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سمعته يقول: " من أخذ بسنتي فهو مني، ومن رغب عن سنتي فليس مني " قيل إن عبيد الله بن معمر مات في عهد عثمان بإصطخر. وقيل إنه قتل بدرابجرد سنة ثلاث وعشرين.
ومن طريق خليفة: إن ابن عامر صار إلى اصطخر بعد سنة تسعٍ وعشرين وعلى مقدمته عبيد الله بن معمر.(15/368)
1 - /عبيد الله بن أبي بكرة واسمه نفيع، ويقال: مسروح، أبو حاتم الثقفي أحد الكرام المذكورين: ولي قضاء البصرة وإمرة سجستان وقضاءها، ووفد على عبد الملك ابن مروان.
حدث عبيد الله بن أبي بكرة عن أبيه أبي بكرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من رأى أنه يشرب لبناً فهو على الفطرة، ومن رأى عليه درعاً من حديد فهو في حصن من دينه، ومن رأى أنه يبني بناء فهو يبني من عمل الخير بعمله، ومن رأى أنه غرق فهو في النار، ومن رآني فإن الشيطان لا يتشبه بي.
وحدث عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اثنتان يجعلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين.
ولد عبيد الله وعبد الرحمن ابنا أبي بكرة سنة أربع عشرة.
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: كتب أبي وكتبت له إلى عبيد الله بن أبي بكرة، وهو قاضي سجستان: أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإن سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لايحكم أحد وهو غضبان.(16/5)
بعث الحجاج عبيد الله بن أبي بكرة إلى عبد الملك يسأله أن يوليه خراسان أو سجستان، فقال عبد الملك لعبيد الله: إن شئت جمعتهما لك؟ فقال: لا حاجة لي فيهما، إني لا أخون رجلاً بعثني في حاجته، فقال: ما كنت لأعزل أمية للحجاج. ثم إنه ولى الحجاج سجستان وخراسان.
قال أبو جمرة الضبعي: أتى علينا زمان ونحن لا نغسل أثر الغائط والبول، حتى كان أول من رأيت غسل عبيد الله بن أبي بكرة، كنا نقول: انظروا إلى هذا الأحمق يغسل استه.
كان عبد الملك بن مروان يكتب إلى الحجاج: لا تول عبيد الله بن أبي بكرة خراجاً فإنه أريحي.
دخل عبيد الله بن أبي بكرة على الحجاج، وفي إصبعه خاتم، فقال له: يا عبيد الله على كم ختمت بخاتمك هذا؟ قال: على ثلاثين ألف ألف، قال: ففيم أتلفتها؟ قال: في تزويج الغفائل والمكافأة بالصنائع، وأكل الحار، وشرب القار، قال: أراك صليفاً! قال: ذاك أصلحك الله، لأني لا آكل إلا على بناء، ولا أجامع إلا على شهوة، فإذا كان الليل رؤيت قدمي زنبقاً، ورأسي بنفسجاً، يصعد هذا، ويحدر هذا، فالتقيا في المعدة، فعقدا الشحم.
قال رجل لعبيد الله بن أبي بكرة: ما تقول في موت الوالد؟ قال: ملك حادث، قال: فموت الأخ؟ قال قص الجناح، قال: فموت الزوج: قال: عرس جديد، قال: فموت الولد؟ قال صدع في الفؤاد لا يجبر ثم أنشد أبو الأشهب هوذة بن خليفة بن عبد الرحمن لبعضهم:
لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أجب في الليالي حندس الظلم(16/6)
وزادني رغبة في العيش معرفتي ... ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحم
أحاذر الفقر يوماً أن يلم بها ... فيهتك الستر من لحم على وضم
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقاً ... والموت أكرم نزال على الحرم
قال عبيد الله بن أبي بكرة: موت الأخ قاصمة الظهر.
لقي عبيد الله بن أبي بكرة سعيد بن عثمان وقد ولاه معاوية خراسان، فاستبذ هيئته فقال: ابن عثمان بن عفان ووالي خراسان!؟ ليس معك إلا ما أرى؟ ثم كتب له كتاباً إلى وكيله سليم الناصح يأمره فيه أن يدفع إليه، أحسبه قال: عشرين ألفاً وعشرين بعيراً ومن كل شيء عشرين عشرين فلما قدم حمله إليه سليم، وكان سعيد بن عثمان قد استخف بالرقعة، ثم أرسل بها بعد إلى سليم. فلما حمل إليه ما حمل قال سعيد: من الكامل
لا تحقرن صحيفة مختومة ... وانظر بما فيها فكاك الخاتم
إن الغيوب عليكم محجوبة ... إلا تظني جاهل أو عالم
نازع عبيد الله بن أبي بكرة المهلب بن أبي صفرة في ضيعتين من نهر عدي، فقال المهلب: واله لئن دخلتها لا ترجع إلى أهلك أبداً، قال: فغدا إليها ابن أبي بكرة في أربع مئة من مضر، فقال المهلب: يا أبا حاتم، ما كنت أراك تبلغ هذا كله، قال: إنك أتيت الأمر من غير وجهه، قال: فأنا آتيه من وجهه وأسألكها، قال: فهي لك.
كان عبيد الله بن أبي بكرة من الأجواد، فاشتري يوماً جارية نفيسة بمال عظيم، فطلب دابة تحمل عليها، فجاء رجل على دابة، فنزل عنها فحملها، فقال له عبيد الله: اذهب بها إلى منزلك.
وباع ابنه ثابت بن عبيد الله بن أبي بكرة دار الصفاق من مقاتل بن مسمع بستة آلاف دينار، ثم اقتضاه، فلزمه في دار أبيه، ورآه عبيد الله فقال: ما لك؟ قال حبسني ابنك بثمن دار الصفاق، فقال له: يا ثابت! ما وجدت لغرمائك محبساً إلا داري، ادفع إليه صكه وأعوضك.(16/7)
دخلت أعرابية على عبيد الله بن أبي بكرة بالبصرة، فوقفت بين السماطين، فقالت: أصلح الله الأمير وأمتع به، حدرتنا إليك سنة، اشتد بلاؤها، وانكشف غطاؤها، أقود صبية صغاراً، وأجري كباراً، تخفضنا خافضة، وترفعنا رافعة، لملمات من الدهر برين عظمي، وأذهبن لحمي، تركنني والهاً، أذوذ بالحضيض، قد ضاق بي البلد العريض، فسألت في أحياء العرب، من المرتجى غيثه، والمعطى سائله، والمكفي نائله، فدللت عليك أصلحك الله، وأنا امرأة من هوزان، قد مات الوالد، وغاب الوافد، وأنت بعد الله غياثي ومنتهى أملي، فافعل بي إحدى ثلاث خصال: إما أن تردني إلى بلدي، أو تحسن لي صفدي، أو تقيم لي أودي؟ فقال: بل أجمعهن لك وحباً. فلم يجري عليها كما يجري على عياله حتى مات.
وكان عبيد الله ينفق على جيرانه، فينفق على أربعين داراً عن يساره، وأربعين داراً أمامه، وأربعين داراًمن وراء داره، سائر نفقاتهم السنة كلها، ويبعث إليهم في كل عيد التحف والأضاحي والكسوة، ويزوج من أراد التزويج منهم، ويصدق عنهم مهور نسائهم، وكان في كل يعتق في كل عيد مئة عبد سوى ما يعتق في السنة كلها.
أصاب رجلاً من العتيك تشنج في أعصابه، وكان وجيهاً، فأتى ناس من قومه عبيد الله بن أبي بكرة فقالوا له: إن فلاناً صاحبنا أصابه تشنج في أعصابه، ونعت له ألبان الجواميس يستنقع فيها أياماً متتابعة، وقد أخبرنا أن لك جواميس، فأقبل على وكيله فقال: كم لنا منها يا لطف؟ قال: ثلاث مئة، قال اصرفها إليهم، فقالوا: رحمك الله، إنا نحتاج إلى بعضها عارية، إذا استغنى صاحبنا عنها ردت، قال نحن لا نغير الجواميس، وقد أهديتها لصاحبكم.
وجه محمد بن المهلب بن أبي صفرة إلى عبيد الله بن أبي بكرة أنه أصابتني علة، فوصف لي لبن البقر، فابعث إلي ببقرة أشرب من لبنها، قال: فبعث إلي بسبع مئة بقرة ورعاتها، وقال: القرية التي ترعى فيها لك.(16/8)
رأى عبيد الله بن أبي بكرة على أبي الأسود الدئلي جبة رثة، كان يكثر لبسها، فقال: يا أبا الأسود! أما تمل هذه الجبة؟ فقال: رب مملول لا يستطاع فراقه، فبعث إليه بمئة ثوب، فقال أبو الأسود: من الطويل
كساني ولم أستكسه فحمدته ... أخ يعطيك الجزيل وناصر
وإن أحق الناس إن كنت شاكراً ... بشكرك من أعطاك والعرض وافر
قدم يزيد بن مفرغ الحميري على عبيد الله بن أبي بكرة بسجستان فقال له: يابن مفرغ، اصدقني عن نفسك، قال أفعل، أصلح الله الأمير، قال: ماذا قلت لها حين رحلت إلي؟ قال قلت: يا نفس ترحلين إلى واحد أهل الأرض كرماً ونائلاً، فإن ألفيته كثير الزائر والغاشية فهي ثلاثون ألفاً، وإن ألفيته قد خف زواره، وكثرت جبايته، ودر خراجه، وصلحت أطرافه فهي خمسون ألفاً فوقفت الأمنية عندها، قال: فهذا كان قولك حين رحلت، فما قلت حين حللت؟ قال: أيست من الخمسين، ولم أحدث نفسي بالثلاثين، ورجوت العشرين رجاء كرجاً، غير أني طمعت، والطمع أخو الرجاء، قال: وكيف ذلك؟ قال: رأيت باب الأمير كأنه مشهد المصلى يوم العيد، ورأيت أكثر زواره أهل المروءة والثروة، وعلمت أن هؤلاء لا يقيمهم القليل، ورأيت بعد من يرد عليه أكثر ممن يصدر من عنده، ورأيته يلقاهم بوجه بسيط وعريكة لينة، ورأيته يصبر على طول الكلام وكثرة السؤال، وكل هذه الخلال تقطع ظهر المتخلف ويحظى بها السابق، فضحك عبيد الله وأمر له به.
وانصرف إلى البصرة فأتاه إخوانه والمسلمون عليه، وسألوه عن صنيع عبيد الله وبره به فقال: من الطويل(16/9)
يسائلني أهل العراق عن الندى ... فقلت: عبيد الله حلف المكارم
فتى حاتمي في سجستان داره ... وحسبك منه أن يكون كحاتم
سما لبناء المكرمات فنالها ... بشدة ضرغام وبذل الدراهم
كان من جود ابن أبي بكرة أن أقبل من نعمان فعطش، فلما كان بالخريبة استسقى من منزل امرأة، فأخرجت كوزاً وقدحاً، وقامت خلف الباب فقالت: تنحوا عن الباب وليل أخذه مني بعض غلمانكم، فإني امرأة من العرب، ماتت خادمتي منذ أيام، فتنحوا، وأخذ بعض الغلمان الكوز، فشرب وقال لغلامه: احمل إليها عشرة آلاف درهم، فقالت: سبحان الله! تسخر بي! قال: احملوا إليها عشرين ألفاً، قالت: أسأل الله العافية: ياأمة الله، كأنك لا ترينا أهلاً أن تقبلي منا، احمل إليها ثلاثين ألفاً، فما أمست حتى كثر خطابها.
دخل الفرزدق على عبيد الله بن أبي بكرة يعوده وعنده متطبب يذوف له ترياقاً فأنشأ الفرزدق يقول:
ياطالب الطب من داء تخونه ... إن الطبيب الذي أبلاك بالداء
هو الطبيب فمنه البرء فالتمسن ... لامن يذوف له الترياق بالماء
فقال عبيد الله: والله لا أشربه أبداً، فما أمسى حتى وجد العافية.
توفي عبيد الله بن أبي بكرة بسجستان سنة تسع وسبعين، وقيل: سن ة ثمانين. قالوا: وكان عبيد الله جاء إلى سجستان فوهن وخار وأهلك جنده، وكان سلك مضيفاً فأخذ عليه، فهلك جنده.(16/10)
قالوا: ومات ببست كمداً لما أصابه ونال العدو منه، ويقال: اشتكى أذنه. ومات سنة ثمانين.
عبيد الله بن يحيى بن خاقان بن عرطوج
أبو الحسن التركي وزير المتوكل، قدم مع المتوكل دمشق، وقدمها مرة أخرى منكوباً حين نفاه المستعين إلى برقة سنة ثمان وأربعين ومئتين، وعاد إلى بغداد سنة ثلاث وخمسين ومئتين بعد أن حج، واستوزره المعتمد سنة ست وخمسين ومئتين.
حدث عبيد الله عن أبيه قال: حضرت الحسن بن سهل، وجاءه رجل يستشفع يبغي حاجة فقضاها، فأقبل الرجل يشكره فقال له الحسن بن سهل: علاما تشكرنا؟ ونحن نرى أن للجاه زكاة، كما أن للمال زكاة، ثم أنشأ الحسن يقول: من الكامل
فرضت علي الزكاة ما ملكت يدي ... وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
فإذا ملكت فجد فإن لم تستطع ... فاجهد بوسعك كله أن تنفعا
اعتل عبيد الله بن يحيى بن خاقان فأمر المتوكل الفتح أن يعوده، فأتاه فقال: إن أمير المؤمنين يسأل عن علتك؟ فقال عبيد الله: من الهزج
عليل من مكانين ... من الأسقام والدين
وفي هذين لي شغل ... وحسبي شغل هذين
فأمر المتوكل بألف ألف درهم.(16/11)
قال محمد بن أحمد بن الخصيب:
كانت في والدي رقدة لا أحتملها، فضويت إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان فقبلني بأحسن قبول، وحللت منه محل والده، فقال لي يوماً: اخرج إلى شيخ يقف كثيراً على الباب، ولا يترجل إذا رآني، فقل له: قد ألححت علي وأنت ثقيل على قلبي، فليس لك عندي عمل ولا عائد، فانصرف عني وإلا حبستك سنة، وقرن بي من يرتئيه من غلمانه، فخرجت فأديت إليه الرسالة فقال: والله ما أدري ممن أتعجب، أمن المرسل بهذه الرسالة أم من المرسل؟ قل له: أما تبرمك بي، واستثقالك لي، فوالله ما أتيت قصداً لك، ولا رغبة إليك في سواد ليل ولا ضوء نهار، ولكنك أجلست في طريق أرزاقنا فلا بد من الاجتياز بك، وإن كان رجاء العاقل منوطاً بالله دونك، وليس لك إعطاء ما منع الله، ولا منع ما أعطى. ثم تضاحك، وقال: وأعجب ما في رسالتك تواعدك إياي بحسبي سنة، فيا ويحك، من ملكك الزمان المستقبل حتى تتحكم في هذا التحكم؟ وتتوعد به هذا التوعد؟ ولعله يجري عليك فيه من المكروه أكثر مما نويته لي.
وكانت إشارته، وفحوى كلامه يدلان على استصغار موارد أمورنا ومصادرها، فدخلت إليه فقال لي: ما أجابك به؟ فقلت: هو مجنون، فقال: لا تغالطني فيه، هو يعقل إلا أنه حسن الكلام، فبحياتي لما قصصت لي جوابه، فقابلت جهة من الدار، وأعدت عليه جميع ما تكلم به، فقال: قد والله ابتليت به. وركب، فتلقاه بمثل ما كان تلقاه، ودخل عبيد الله إلى أمير المؤمنين، فما أطال حتى خرج إلي غلام له، كان يدخل بدخوله، فقال: الشيخ الذي كلمته اليوم وأجابك، فبعثت إليه من جاء به، فسار به مسرعاً حتى أدخله إلى أمير المؤمنين، وقام مقدار ساعة ثم خرج ومعه ثلاث توقيعات بين أصابعه، فقال لي: يشكر الله عز وجل ولأمير المؤمنين. ومضى.
وانتظرت الوزير على عادتي حتى خرج، فوالله ما صبر إلى دخول داره حتى حدثني بحديثه في الطريق، قال: دخلت وقد غلب علي الغيظ من رسالة هذا الشيخ لأنه خلط فيها التأله وما بنيت عليه الدنيا من سر تقلبها، فبعض الرسالة يحركني على مساءته،(16/12)
وبعضها يقفني عنه، فوقفت بين يدي أمير المؤمنين، فألقى إلي كتاب عامل بريد الثغر يخبر بوفاة عامل الخراج به، وقال: من ترى أن ينقل إلى العمل؟ وكان هذا العمل في أيام المتوكل غزير الإنفاق كثير المال لما يحمله المتوكل من الأموال للغزاة ومصالح الثغر، ففكرت ساعة، فقال: ما ظننتك على هذا التخلف، ولقد توهمت أن في خاطرك الساعة مئة يصلحون لمثله، فقلت له: على الباب شيخ يصلح إن قبلته عين أمير المؤمنين، فاستحضره، فلما تأمله قال: ما أحسن ما اخترت! قد قبلته نفسي، فعلمت أن الأمر على ما ذكره لي في رسالته معك، فقال له المتوكل: كيف بك إذا ندبناك لموضع يهمنا، قال: أستفرغ جهدي، والجهد عاذر، قال: صدقت، وقع له الساعة بتقليده، وأخذ الرزق المرسوم فيه له، ففعلت، فقال: يا أمير المؤمنين! قد أخلقت حالي بعطلتي، فإن رأى أن ينهضني بمعونة. فقال: وقع له بألف دينار معونة. ففعلت، فقال له أمير المؤمنين: بادر إلى الناحية، فقال: يكتب لي بإزاحة علة من يتوجه معي في أرزاقهم؟ قال: اكتب له، فخرج بثلاث توقيعات، وما رأيت في نفسه انخفاضاً ولا تذللاً، وكأن أمير المؤمنين قضاه ديناً يجب له الخروج إليه منه.
قال أحمد بن إسرائيل: صرت يوماً إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فلما صرت في صحن الدار رأيته مضطجعاً على مصلاه مولياً طهره باب مجلسه فهممت بالرجوع، فقال لي الحاجب: ادخل فإنه منتبه، فلما سمع حسي جلس، فقلت: حسبتك نائماً، قال: لا، ولكني كنت مفكراً، قلت: في ماذا؟ في أمر الدنيا وصلاحها في هذا الوقت واستوائها، ودرور الأموال، وأمن السبل وعز الخلافة، فعلمت أنها أمكر وأغدر من أن يدوم صفاؤها لأحد. فدعوت له وانصرفت، فما مضت أربعون ليلة حتى قتل المتوكل ونزل به من النفي ما نزل.
تقلد عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزارة مرتين، ونفي في وقت النكبة إلى برقة، فاجتاز بدمشق وعيسى بن الشيخ يتقلدها، فلقيه عيسى وترجل له، وأعظمه وبره وحدثه، حتى كان عبيد الله يسير بالليل في قبة، وعيسى يسير بين يديه الليل كله على ظهر دابته، فأصبح عبيد الله ووجه إلى عيسى بن الشيخ يسأله عن خبره ومبيته، وهو(16/13)
لا يشك أنه أيضاً في قبة، فقيل له: إنه كان بين يديه يسير على ظهر دابته منذ أول الليل إلى الساعة، فلما تقلد عبيد الله بن يحيى الوزارة المرة الثانية، حفظ له ذلك، وقلده الديار البكرية وإرمينية.
قال محمد بن علي القنبري الهمذاني من ولد قنبر مولى علي بن أبي طالب عليه السلام يمدح عبيد الله بن يحيى بن خاقان: من البسيط
إلى الوزير عبيد الله مقصدها ... أعني ابن يحيى حياة الدين والكرم
إذا رميت برحلي في ذراه فلا ... نلت المنى منه إن لم تشرقي بدم
وليس ذاك لجرم منك أعلمه ... ولا لجهل بما أسديت من نعم
لكنه فعل شماخ بناقته ... لدى عرابة إذ أدته للأطم
قال المبرد: أنشدني عاصم بن وهب البرجمي: من الطويل
نظرت إلى يحيى بن خاقان مقبلاً ... فشبهته في الملك يحيى بن خالد.
ومر عبيد الله يشبه جعفراً ... فأكرم بمولود وأكرم بوالد
جمعت بذا المعنى معان كثيرة ... ولم أفسد المعنى بطول القصائد
قيل: إن عبيد الله بن يحيى بن خاقان لعب في الميدان مع خاتم له يقال له: رشيق، فصدمه فسقط عبيد الله عن فرسه، ومات من يومه، وصلى عليه الموفق، ومشى في جنازته في ذي القعدة سنة ثلاث وستين ومئتين، وقيل توفي سنة ست وستين ومئتين.(16/14)
عبيدة بن عثمان
ويقال: عبيدة الثقفي الفقيه من أهل دمشق.
حدث عن يحيى بن حمزة، عن برد بن سنان أن يزيد بن الوليد أرسل إلى نافع مولى ابن عمر فسأله، فقال: سمعت عبد الله بن عمر يحدث أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه ناراً.
وعبيدة بفتح العين وكسر الباء.
قال عبيدة: كان الرجل يكتفي من العبادة بالنظر إلى الأوزاعي إذا رآه مصلياً أو رآه قاعداً.
عبيدة بن أبي المهاجر
ويقال ابن المهاجر البكري والد يزيد بن عبيدة، من أهل دمشق قال عبيدة بن أبي المهاجر: سمعت معاوية بن أبي سفيان على هذا المنبر، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن رجلاً كان يعمل السيئات وقتل سبعة وتسعين نفساً كلها تقتل ظلماً بغير حق، فخرج فأتى ديرانياً فقال: ياراهب، إن الآخر قتل سبعة وتسعين نفساً كلها تقتل ظلماً بغير حق، فهل له من توبة؟ قال: لا ليس لك توبة، فضربه فقتله: ثم جاء آخر فقال له: يا راهب، إن الآخر قد قتل ثمانية وتسعين نفساً، كلها تقتل ظلماً بغير حق، فهل له من توبة؟ فقال: لا، ليست له توبة، قال: فضربة فقتله: ثم أتى آخر فقال له: إن(16/15)
الآخر قتل تسعة وتسعين نفساً، كلها تقتل ظلماً بغير حق، فهل له من توبة؟ فقال له: لا، فضربه فقتله، ثم أتى راهباً آخر فقال له: إن الآخر لم يدع من الشر شيئاً إلا قد عمله، قد قتل مئة نفس كلها تقتل ظلماً بغير حق، فهل له من توبة؟ فقال له: والله لئن قلت لك: إن الله لا يتوب على من تاب إليه، لقد كذبت، ها هنا دير فيه قوم متعبدون، فأتهم فاعبد الله معهم، فخرج تائباً، حتى إذا كان في نصف الطريق بعث الله إليه ملكاً، فقال لهم: إلى أي الفريقين كان أقرب، فهو منها، فقاسوا ما بينهما فوجدوه أقرب إلى قرية التوابين مقيس أنملة، فغفر له.
وعبيدة بفتح العين وكسر الباء.
حدث سعيد بن عبد العزيز أن الوليد بن عبد الملك كان يؤخر الظهر والعصر، فلما ولي سليمان كتب إلى الناس عن رأي عمر بن عبد العزيز، أن الصلاة كانت قد أميتت فأحيوها، قال سعيد: فبعث والي الجند إلى عبيدة بن المهاجر فسأله عن الوقت الذي كان يصلى فيه على عهد معاوية وأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرهم بالوقت الذي يصلى عليه اليوم بدمشق الظهر والعصر.
وفي حديث: فأراهم عبيدة بن المهاجر وقت الصلاة في خلافة معاوية في المقسلاط. قال سعيد: وهو وقتنا هذا يعني الظهر والعصر.(16/16)
عبيد بن أشعب الطمع
ويقال: عبيدة حجازي مدني، قدم دمشق حين وليها إبراهيم بن المهدي.
عن إبراهيم ين المهدي أن الرشيد لما ولاه دمشق بعث إليه عبيدة بن أشعب، وكان يقدم عليه من الحجاز، وأراد أن يطرفه به، فقدم عليه. قال إبراهيم: وكان يحدثني من حديث أبيه بالطرائف، وعادلته يوماً وأنا خارج من دمشق في قبة على بغل لألهو بحديثه، فأصابنا في الطريق برد شديد، فدعوت بدواج سمور لألبسه فأتيت به، فلما لبسته أقبلت على ابن أشعب، فقلت له: حدثني بشيء من طمع أبيك، فقال لي: ومالك ولأبي، عليك بي هاأنذا، دعوت بالدواج فما شككت في أنك إنما جئت به لي، فضحكت من قوله، ودعوت بغيره فلبسته وأعطيته إياه: ثم قلت له: ألأبيك ولد غيرك؟ فقال: كثير، فقلت: عشرة؟ قال: أكثر، قلت خمسون؟ قال: أكثر كثر، قلت: مئة، قال: دع المئين وخذ في الألوف، فقلت ويلك! أي شيء تقول؟! أشعب أبوك ليس بينك وبينه أب، كيف يكون له ألوف من الولد؟ فضحك، ثم قال لي: له في هذا خبر طريف، فقلت: حدثني به، فقال: كان أبي منقطعاً إلى سكينة بنت الحسين عليهما السلام، وكانت متزوجة بزيد بن عمر بن عمرو بن عثمان، وكانت محبة له، فكان لا يستقر معها، تقول له: أريد الحج،(16/17)
فيخرج معها، فإذا مضوا إلى مكة قالت: أريد الرجوع إلى المدينة، فإذا عاد إلى المدينة قالت له: أريد العمرة، فهو معها في سفر لا ينقضي. قال أبي: وكانت حلفته بما لا كفارة له أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى ولا يلم بنسائه وجواريه إلا بإذنها، وحج الخليفة في سنة من السنين فقال لها: قد حج أمير المؤمنين ولا بد لي من لقائه، قالت: فاحلف لي أنك لا تدخل الطائف، ولا تلم بجواريك على وجه ولا سبب. فحلف لها بما رضيت به من الأيمان على ذلك، ثم قالت: احلف بالطلاق، فقال: لا أفعل، ولكن ابعثي معي بثقتك، قال: فدعتني وأعطتني ثلاثين ديناراً وقالت: اخرج معه وحلفتني بطلاق بنت وردان زوجتي ألا أطلق له الخروج إلى الطائف بوجه ولا سبب فحلفت لها بما أثلج صدرها، وأذنت له فخرج وخرجت معه، فلما حاذينا الطائف قال لي شعيب! تعال، أنت تعرفني وتعرف صنائعي عندك، وهذه ثلاث مئة دينار خذها وأذن لي ألم بجواري، فلما سمعتها ذهب عقلي، ثم قلت: يا سيدي هي سكينة فالله الله في، فقال: أوتعلم سكينة الغيب؟ فلم يزل بي حتى أخذتها، وأذنت له فمضى فبات عند جواريه، فلما أصبحنا رأيت أبيات قوم من العرب قريبة منا، فلبست حلة وشي كانت لزيد، قيمتها ألف دينار، وركبت فرسه وجئت إلى النساء فسلمت، فرددن وأجللني للهيئة والزي الذي لا يلبس مثله إلا أولاد الخلفاء، ونسبنني فانتسبت نسب زيد فحادثنني وأنسن بي، وأقبل رجال الحي، فكما جاء منهم رجل سأل عني فخبر بنسبي، فجاءني فسلم علي وعطمني وانصرف إلى أن أقبل شيخ كبير منكر، فلما خبر بي وبنسبي شال حاجته عن عينه، ثم نظر إلي وقال: وأبي ما هذه خلقة قرشي ولا شمائله، ولا هو إلا عبد، ثم بادر إلى بيته، وعلمت أنه يريد شراً، فركبت الفرس ثم مضيت، ولحقني فرماني بسهم فما أخطأ قربوس السرج، وما شككت في أنه يلحقني بآخر يقتلني، فسلحت في ثيابي، ولوثتها، ونفذ إلى الحلة فصيرتها شهرة، وأتيت رحل زيد بن عمر، فجلست أغسل الحلة وأجففها، وأقبل زيد بن عمر فرأى ما لحق الحلة والسرج فقال لي: ما القصة ويلك؟ فقلت له: يا سيدي! الصدق أنجى، وحدثته الحديث فاغتاظ، ثم قال: لم يكفك أن تلبس حلتي(16/18)
وتصنع بها ما صنعت؟ وتركب فرسي وتجلس إلى النساء حتى انتسبت بنسبي؟ وفضحتني وجعلتني عند العرب ولاجاً جماشاً؟ وجرى عليك ذل نسب إلي؟ أنا نفي من أبي ومنسوب إلى أبيك إن لم أسؤك وأبالغ في ذلك.
ثم لقي الخليفة وعاد ودخلنا إلى سكينة، فسألته عن خبره كله، فخبرها حتى انتهت إلى جواريه فقالت: إيه، وما كان خبرك في طريقك، هل مضيت إلى جواريك بالطائف؟ فقال لها: لا أدري، سلي ثقتك، فدعتني وسألتني؟ وبدأت فحلفت لها بكل يمين محرجة أنه ما مر بالطائف ولا دخلها ولا فارقني، فقال لها: اليمين التي حلف بها لازمة لي إن لم أكن دخلت الطائف، وبت عند جواري وغسلتهن جميعاً، وأخذ مني ثلاث مئة دينار، وفعل كذا وكذا، وحدثها الحديث، وأراها الحلة والسرج، فقالت لي: فعلتها يا شعيب؟ أنا نفية من أبي إن أنفقتها إلا فيما يسوؤك، ثم أمرت بكبس منزلي وإحضارها الدنانير فأحضرت، فاشترت بها خشباً وبيضاً وسرجينا، وعملت من الخشب بيتاً فحبستني فيه، وحلفت أن لا أخرج منه ولا أفارقه حتى أحضن البيض كله إلى أن ينقف، فمكثت أربعين يوماً أحضن لها البيض حتى أنقف كله، وخرج منه فراريج كثير، فربيتهن وتناسلن، فكن بالمدينة يسمين بنات أشعب، ونسل أشعب، فهو إلى الآن بالمدينة نسل يزيد على الألوف وما بين الألوف كلهن أهلي وقرابتي.
قال إبراهيم: فضحكت من قوله ضحكاً ما أذكر أني ضحكت مثله قط، ووصلته، ولم يزل عندي زماناً، ثم خرج إلى المدينة ومات هناك.
بعثت سكينة إلى أبي الزناد فجاءها تستفتيه في شيء، فاطلع أشعب عليه من بيت، وجعل يقوقي مثلما الدجاجة، فسبح أبو الزناد وقال: ما هذا؟! فضحكت وقالت: إن هذا الخبيث أفسد علينا بعض أمرنا فحلفت أن يحضن بيضاً في هذا البيت ولا يفارقه حتى ينقف، فجعل أبو الزناد يعجب.(16/19)
قال أشعب لابنه عبيدة: إني أراني سأخرجك من منزلي وانتفي منك، قال: لم؟ قال: لأني أكسب خلق الله لرغيف، وأنت ابني قد بلغت هذا السن، وأنت في عيالي ما تكسب شيئاً، قال: بلى، إني لأكسب، ولكن مثل الموزة لا تحمل حتى تموت أمها.
عبيد بن أحمد بن عبيد بن سعيد
أبو محمد الرعيني الحمصي الصفار قدم دمشق.
حدث عن سليمان بن عبد الحميد بسنده إلى علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل عليه السلام: من يهاجر معي؟ قال: أبو بكر، وهو يلي أمتك من بعدك، وهو أفضلها وأرأفها. قال: غريب جداً، ولم يكتب إلا من هذا الوجه.
عبيد ويقال عبيد الله بن أوس
ابن أوس الغساني كاتب معاوية وحاجبه، ويزيد بن معاوية، ومروان بن الحكم.
قال عبيد: كتبت بين يدي معاوية كتاباً فقال لي: يا عبيد: ارقش كتابك، فإني كتبت بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاباً رقشته. قال: قلت: ما رقشته يا أمير المؤمنين؟ قال: أعط كل حرف ما ينوبه من النقط.(16/20)
عبيد بن حبان الجبيلي
من أهل جبيل من سواحل دمشق.
روى عن مالك بن أنس بسنده إلى ميمونة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن فأرة وقعت في سمن فماتت؟ فقال: خذوها وما حولها من السمن فألقوه.
قال عبيد: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، الناقة تذبح وفي بطنها جنين، فيرتكض فيشق بطنها فيستخرج جنينها، أيوكل؟ قال: نعم، قال: قلت: إن الأوزاعي قال: لا يؤكل، قال: أصاب الأوزاعي.
وعن عبيد قال: أتيت مجلس مالك بن أنس رحمه الله بالمدينة فلم أجده، فألقيت أصحابه قعوداً، فقلت لهم: ما تقولون في الرجل يذبح الشاة فيركض جنينها في بطنها فيبادر فيشق بطنها، ما تقولون فيه؟ وقد فرى الأوداج؟ قلت: نعم، قالوا: فما بأس بذلك، قلت لهم: لكن أبا عمرو يعني الأوزاعي قال: حرمت وحل جنينها فاستهزؤوا بي وتضاحكوا، فنحن على ذلك إذ أقبل مالك، فتوسد مجلسه، فابتدرته فقلت له: ما تقول رحمك الله في الرجل يذبح الشاة فيركض جنينها في بطنها فيبادر فيشقه، ما تقول في ذلك؟ قال: وقد فرى الأوداج؟ قلت: نعم، قال: لا بأس بذلك، قال: قلت: لكن أبا عمرو الأوزاعي قال: حرمت وحل جنينها، قال لي: كلفوا الشيخ فتكلف، ثم أخلد إلى الأرض طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: صدق أبو عمرو، حرمت وحل جنينها.(16/21)
عبيد بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله عبيد
ابن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي أبو جهم العدوي القرشي: ويقال: اسمه عامر
وهو من مسلمة الفتح، واستعمله سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بعض الصدقات، وشهد اليرموك، وأشخص في تحكم الحكمين بدومة الجندل من الشام، وقدم على معاوية في خلافته غير مرة، ولا تعرف له رواية عن سيدنا رسول الله، بل قد جاء ذكره في غير حديث.
عن يزيد بن عياض بن جعدبة قال: استعمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النفل يوم حنين أبا جهم بن حذيفة العدوي، فجاء خالد بن البرصاء الليثي، فتناول زماماً من شعر، فمنعه أبو جهم فقال: إن نصيبي فيه أكثر، فتمانعا، فعلاه أبو جهم بقوس فشجه منقلة، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستعداه عليه فقال: خذ خمسين شاة ودعه. فقال: يا رسول الله، أقدني منه. قال: لك مئة شاة ودعه. قال: أقدني منه. قال: لك خمسون ومئة شاة لا أزيدك عليها، ولا أقصدك من وال عليك. قال: فقدمت خمسون ومئة شاة خمس عشرة فريضة، وهي عقلها اليوم.
وفي حديث آخر بمعناه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقاً، فلاحه رجل في صدقته، فضربه أبو جهم فشجه الحديث.
أسلم أبو جهم يوم فتح مكة، وقدم المدينة بعد ذلك، فابتنى بها داراً، وكان شديد العارضة، فكان عمر بن الخطاب قد أشرف عليه وأخافه، حتى كف من غرب لسانه عن(16/22)
الناس، فلما مات عمر سر بموته، قال: وجعل يومئذ يخنبش في بيته، ومات بالمدينة في خلافة معاوية، ويقال: بقي أبو جهم إلى فتنة ابن الزبير، وفيها مات.
الخنبشة: أن يقفز على رجليه كما يفعل الجواري.
وأم عبيد بشيرة بنت عبد الله بن أذاة بن رياح، وقيل يسيرة، وهو صاحب الأنبجانية.
عن عائشة قالت: صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خميصة لها أعلام، فقال: شغلتني أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي جهم، وأتوني بأنبجانية.
حدث سعيد بن عبد الكبير بن الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أبيه عن جده قال: بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتي بخميصتين سوداوين، فلبس إحداهما، وبعث بالأخرى إلى أبي جهم، وكانت خميصة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها علم، فكان إذا قام إلى الصلاة نظر إلى علمها فكرها لذلك، فبعث بها إلى أبي جهم بعد ما لبسها، وأرسل إلى خميصة أبي جهم، فلبسها بعد ما لبسها أبو جهم لبسات.
وعن فاطمة بنت قيس قال: كتبت ذاك من فيها كتاباً قالت: كنت عند رجل من بني مخزوم فطلقني البتة، فأرسلت إلى أهله أبتغي النفقة فقالوا: ليس لك علينا نفقة. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليست لك عليهم نفقة، وعليك العدة، انتقلي إلى أم شريك ولا تفوتيني بنفسك، ثم قال: إن أم شريك يدخل عليها إخوتها من(16/23)
المهاجرين الأولين، انتقلي إلى ابن أم مكتوم، فإنه رجل قد ذهب بصره، فإن وضعت من ثيابك شيئاً لم ير شيئاً. قالت: فلما حللت خطبني معاوية وأبو جهم بن حذيفة، فقال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما معاوية فعائل لا شيء له، وأما أبو جهم فإنه رجل لا يضع عصاه عن عاتقه، أين أنتم عن أسامة! فكان أهلها كرهوا ذلك، فقالت: لا أنكح إلا الذي دعاني إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنكحته.
قال أبو الجهم بن حذيفة: لقد تركت الخمر في الجاهلية، وما تركتها إلا خشية الفساد على عقلي ومالي.
قال أبو جهم بن حذيفة: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمي ومعي شنة ماء وإناء، فقلت: إن كان به رمق سقيته من الماء، ومسحت به وجهه، قال: فإذا أنا به ينشع، فقلت له: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن عمي أن انطلق به إليه، فإذا هو هشام بن العاص أخو عمرو بن العاص، فأتيته فقلت: أسقيك؟ فسمع آخر يقول: آه، فأشار هشام أن انطلق به إليه، فجئته فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، ثم أتيت ابن عمي فإذا هو قد مات.
قال عروة: لما أصيب عثمان أرادوا الصلاة عليه فمنعوا من ذلك، فقال أبو جهم بن حذيفة القرشي: دعوه فقد صلى الله عليه ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن ابن شهاب في حديث يطول
أن عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري عبد الله بن قيس حيث حكمهما علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان اختلفا في حكمهما، لا يدعوه عمرو بن العاص إلى أمر إلا خالفه، فلما رأى ذلك عمرو قال له: هل أنت مطيعي فإن هذا الأمر لا يصلح لنا أن ننفرد(16/24)
به حتى نحضره رهطاً من قريش نستعين بهم ونستشيرهم في أمرنا، فإنهم هم أعلم بقومهم. فقال له: نعم ما رأيت، فابعث إلى من شئت منهم، فبعث إلى خمسة رهط من قريش، منهم عبد الله بن عمر، وأبو جهم بن حذيفة، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن الحارث، وجبير بن مطعم، فكتبا إليهم أن أقبلوا حين تنظرون إلى كتابنا هذا، فإنه لا يحبسنا أن نحكم بين الناس غيركم، فانطلقوا يسيرون حتى أتوهم بدومة فوجدوهما حالين بباب المدينة، فلما وقفوا عليها قام عمرو بن العاص فقال: ابرز معي يا أبا جهم أخبرك بعض الخبر، فلما برز به ناداهما أبو موسى: ما هذه النجوى دوني يا أبا جهم، فقال: أيها المرابص بصرك فإنما نحن في بعض أمرنا، فقال له عمرو بن العاص: أبشر يا أبا جهم! فوالذي نفسي بيده لأعتقن رقبتك من ملك بني أمية، قال أبو جهم: لام ما أنت إن فعلت يا عمرو. ثم انصرفا، فكان من اختلافهما ما كان.
قال أبو بكر بن الأنباري: أنشدني أبي لعبد المسيح بن دارس، وكان وفد على بعض ملك غسان فأكرمه وأحسن جائزته، فقال فيه: من الوافر
نقلبه لنخبر حالتيه ... فنخبر منهما كرماً ولينا
نميل على جوانبه كأنا ... نميل إذا نميل على أخينا
وفي رواية: على أبينا. قال ابن الكلبي: ثم وفد أبو الجهم العدوي على معاوية بن أبي سفيان، وكان من شيوخ قريش وأكابرهم، فأمر له بمئة ألف درهم، فأراد بعد ذلك أن يسأله حاجة، فقال له ابنه: يا أبه(16/25)
لا تكثر على أمير المؤمنين فتمله، قال: يا بني إن أمير المؤمنين كما قال الشاعر وذكر هذين البيتين، فأمر له معاوية بمئة ألف أخرى.
قال عيسى بن عمر: وفد أبو الجهم بن حذيفة على معاوية بن أبي سفيان فقال له: يا أبا الجهم إن لك حقاً وقرابة وشرفاً، وإن مع حقك لحقوقاً، وإن مع قرابتك لقرابة، وإنه ليلزمنا مؤن عظيمة، ولكن هذه مئة ألف درهم، فخذها واعذر. قال أبو الجهم: فقبضها على مضض، وقلت في نفسي: ما عسى أن أقول له، رجل ناء عن بلاد قومه، وقد تخلق بأخلاق أهل الشام الجفاة الأغفال، فأخذتها على أنه قد قصر بي، فلما استخلف يزيد، صرت إليه وافداً، فأقمت أياماً، ثم قال: إني بحقك عارف وقرابتك وشرفك، وإن مع حقك علينا لحقوقاً ومؤناً لا نستطيع دفعها، وأنت أولى من عذر ابن أخيه، هذه خمسون ألف درهم فاقبضها واعذر. فقلت في نفسي: غلام حدث نشأ مع غير قومه، وسكن غير بلده، وهو مع هذا فابن كليبة، فأي خير يرجى منه؟ فأخذها على أنه قد قصر بي، فلما استخلف عبد الله بن الزبير قلت: هذا بقية قريش البطاح، فوفدت عليه فأقمت أياماً، ثم قال لي: يا أبا الجهم، مهما جهلت فلم أجهل حقك وقرابتك وشرفك، غير أن مؤناً علينا وغرماً وحمالات وأموراً يطول شرحها، ومع ذلك فغير مخيب لسفرك، هذه ألف درهم فاستعن بها على أمورك. قال أبو الجهم: فقبضها فرحاناً بها، ثم مثلت بين يديه فقلت: يا أمير المؤمنين مد الله لقريش في بقائك، ودافع لنا عن حوبائك، ولا امتحننا بفقدك، فوالله لا زالت قريش بخير ما مد الله لها في عمرك. فقال ابن الزبير: جزاك الله عن الرحم خيراً، فما قلت هذا لمعاوية وقد أعطاك مئة ألف، ولا قلته ليزيد وقد أعطاك خمسين ألفاً، وقد قلت لنا وإنما أعطيناك ألف درهم! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، من أجل ذلك قلت(16/26)
ذلك، وخفت إن أنت هلكت أن لا يلي أمر المسلمين بعدك إلا الخنازير، فأحببت أن يبقيك الله لقريش، فإنك على كل حال خير لها من غيرك.
قيل: إن أبا جهم مات في آخر خلافة معاوية.
عبيد بن حصين بن جندل بن قطن
ويقال ابن حصين بن معاوية بن جندل بن قطن أبو جندل النميري المعروف بالراعي لقب بالراعي لكثرة وصفه الإبل، وحسن نعته، قالوا: ما هذا إلا راعي الإبل، فلزمته.
شاعر محسن مشهور، وقد وفد عبد الملك.
وفد الراعي إلى عبد الملك يشكو بعض عماله. وهو الذي قال لعبد الملك: من الكامل
إني جلفت على يمين برة ... لا أكذب اليوم الخليفة قيلا
ما إن أتيت أبا خبيب وافداً ... يوماً أريد لبيعتي تبديلا
ولما أتيت نجيدة بن عويمر ... أبغي الهدى فيزيدني تضليلا
أزمان قومي والجماعة كالذي ... لزم الرحالة أن تميل مميلا
أخذوا العريف فشققوا حيزومه ... بالأصبحية قائماً مغلولا
كهداهد كسر الرماة جناحه ... يدعو بفارعة الشريف هديلا(16/27)
فادفع مظالم عيلت أبناءنا ... عنا وأنقذ شلونا المأكولا
ولئن بقيت لأدعون بطعنة ... تدع الفرائض بالشريف فليلا
فقال له عبد الملك: وأين من الله والسلطان لا أم لك؟ قال: يا أمير المؤمنين! من عامل إلى عامل، ومصدق إلى مصدق. فلم يحظ ولم يحل منهم بشيء، فوفد إليه من قابل فقال: من البسيط
أما الفقير الذي كانت حلوبته ... قوت العيال فلم يترك له سبد
واختل ذو المال والمثرون قد بقيت ... على التأثل من أموالهم عقد
فإن رفعت بهم رأساً نغشتهم ... وإن لقوا مثلها في عامهم فسدوا
فقال عبد الملك: أنت العالم أعقل منك عام أول.
وفد الراعي وفادة على عبد الملك بن مروان فقال عبد الملك لأهله: أنكحوا إلى هذا الشيخ فإني فأراه منجباً.
قدم الراعي على خالد بن عبد الله بن أسيد ومعه ابنه جندل، فكان ينشد خالداً، وربما أنشده وابنه جندل، إلى أن قدم عليه مرة فقال له خالد: ما فعل ابنك؟ قال: هلك أصلح الله الأمير، بعد أن زوجته وأصدقت عنه، فأمر له خالد بدية ابنه، فأنشأ الراعي يقول: من الطويل
وديت ابن راعي الإبل إذ حان يومه ... وشق له قبراً بأرضك لاحد
وقد كان مات الجود حتى نعشته ... وأذكيت نار الجود خامد(16/28)
فلا حملت أنثى ولا آب غائب ... ولا عاش ذو سقم إذا مات خالد
فقال له خالد: لم أقتله، فأده لك، وإنما مر به ما سيمر بي وبك.
قال أبو دفاقة بن سعيد بن سلم الباهلي: قرأنا على الأصمعي شعر الراعي، فمر في قصيدته: من الكامل
ما بال دفك بالفراش مذيلا
وكأن مربضها إذا باشرتها ... كانت محبسة الدخول ذلولا
فقلنا له: ما معنى باشرتها؟ قال: ركبها من المباشرة، فحكينا ذلك لأبي عبيدة فقال: صحف الأصمعي، إنما هو ياسرتها، وهذا كقول الآخر:
إذا يوسرت كانت ذلولاً أدبية ... وتحسبها إن عوسرت لم تؤدب
قال المصنف: والأمر في ذلك كما قال أبو عبيدة، واستشهاده فيه صحيح.
وهجا الراعي ابن الرقاع العاملي فأوجع: من البسيط
لو كنت من أحد يهجى هجوكم ... يابن الرقاع ولكن لست من أحد
تأبى قضاعة أن تعرف لكم نسباً ... وابنا نزار فأنتم بيضة البلد(16/29)
قال أبو الغراف: الذي هاج بين جرير والراعي، أن الراعي كان يسأل عن جرير والفرزدق؟ فيقول: أكرمهما وأشعرهما، فلقيه جرير فاستعذره من نفسه، وطلب إليه أن لا يدخل بينهما وقال: أنا كنت أولى بعونك، لأني أمدحكم، ولأنه يهجوكم، قال: أجل ولست لمساءتك بعائد، ثم بلغ جريراً أنه عاد في تفضيل الفرزدق عليه، ولقيه بالبصرة، وجرير على بغلة فقال: استعذرك فزعمت أنك غير داخل بيني وبين ابن عمي قال: والراعي يعتذر إليه إذ أقبل ابنه جندل، وكان فيه خطل وعجب، فقال لأبيه: ألا أراك تعتذر إلى ابن الأتان! نعم، والله لنفضلن عليك ولنروين هجاءك، ولنهجونك من تلقاه أنفسنا. وضرب وجه بغلته، وقال: من الوافر
ألم تر أن كلب بني كليب ... أراد حياض دجلة ثم هابا
فانصرف جرير مغضباً محفظاً، فقال الراعي لابنه، أما والله ليهجوني وإياك، فليته لا يجاوزنا ولكن سيذكر سوأتك. وعلم الراعي أن قد أساء فندم. فتزعم بنو تميم أنه حلف أن لا يجيبه سنة غضباً على ابنه، وأنه مات في السنة، ويقول غيرهم: إنه كمد لما سمعها فمات.
وكان جرير يوم جرى هذا بينهما بالبصرة نازلاً على امرأة له من بني كليب، فبات في علية لها، وهي في أسفل دارها، قالت المرأة: فبات ليلته لا ينام، يتردد في البيت حتى ظننت أنه قد عرض له جني فتح له فقال: من الوافر
أقلي اللوم عاذل والعتابا ... وقولي إن أصبت لقد أصابا(16/30)
حتى قال:
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا
ثم أصبح في المربد فقال: يا بني تميم: قيدوا قيدوا أي اكتبوا فلم يجبه الراعي، ولم يهجه جرير بغير ما قال بعض رواة قيس: كان الراعي فحل مضر، فضغمه الليث يعني جريراً.
قال الأصمعي: كان جرير نازلاً على رجل يقال له حسين، فقال له: يا حسين إني أريد هجاء الراعي، فإذا كان الليلة فضع عندك لوحاً وكاتباً وقلماً، وأجد سراجك. ففعل، فلما مر بهذا البيت:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
قال: يا حسين أطفئ سراجك، فإني قد فرغت من هجائه.
قال أبو كندة النميري: قال الراعي لبناته وبنات أخيه: اذهبن إلى ابن المراغة حتى يراكن، فأتينه، فقلن: يا أبا حزرة أنشدنا ما قلت في بنات نمير، قال: فمن أنتن؟ قلن: عقيليات، فأنشدهن حتى انتهى إلى قوله: وسوداء المحاجر من نمير فكشفن عن وجوههن وقلن: يا أبا حزرة! هل ترى من سواد؟ هل ترى من عيب؟ قال: وإنكن نميريات؟ قلن: نعم، قال: إن عمكن لكذوب.(16/31)
عبيد بن زياد الأوزاعي
حدث عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم أحيني مسكيناً، وتوفني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين. وحدث عن سالم عن سديسة عن حفصة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما لقي الشيطان عمر إلا خر لوجهه.
عبيد بن سريج أبو يحيى
مولى بني نوفل بن عبد مناف ثم لعبد الرحمن بن أبي حسين بن الحارث ابن نوفل ويقال: مولى بني الحارث بن عبد المطلب وقيل مولى غيرهم. المكي المشهور بالإحسان في صنعة الغناء وكان من رواة الأخبار والأشعار، واستوفده الوليد بن عبد الملك كما روى إبراهيم الموصلي أن الوليد بن عبد الملك كتب إلى عامل مكة أن أشخص إلي ابن سريج، فأشخصه، فلما قدم مكث أياماً لا يدعو به ولا يلتفت إليه، ثم إنه ذكره وطرب له، فطلبه، فتهيأ وتلبس، ودخل على الوليد فسلم، فأجلسه فجلس بعيداً، فاستدناه فدنا حتى كان قريباً منه فقال: قد بلغني عنك ما حملني على الوفادة بك من كثرة أدبك، وجودة اختيارك، مع ظرف لسانك وحلاوة منطقك، قال: جعلت فداك يا أمير المؤمنين تسمع بالمعيدي لا أن تراه قال الوليد: إني لأرجو أن لا تكون أنت ذاك، هات ما عندك، فاندفع ابن سريج يغني بشعر الأحوص: من الطويل
أمنزلتي سلمى على القدم اسلما ... وقد هجتما للشوق قلباً متيما(16/32)
وذكرتما عصر الشباب الذي مضى ... وجدة وصل حبله قد تجذما
إمام أتاه الملك عفواً ولم يثب ... على ملكه مالاً حراماً ولا دما
تخيره رب العباد لخلقه ... ولياً وكان الله بالناس أعلما
فلما ارتضاه الله لم يدع مسلماً ... لبيعته إلا أجاب وسلما
ينال الغنى والعز من نال وده ... ويرهب موتاً عاجلاً من تسنما
فقال الوليد: أحسنت وأحسن الأحوص. ثم قال: هيه، فغنى بشعر عدي بن الرقاع يمدح الوليد: من البسيط
صلى الذي الصلوات الطيبات له ... والمؤمنون إذا ما جمعوا الجمعا
على الذي سبق الأقوام ضاحية ... بالأجر والحمد حتى صاحباه معا
هو الذي جمع الرحمن أمته ... على يديه، وكانوا قبله شيعا
عذنا بذي العرش أن نحيا ونفقده ... وأن نكون لراع بعده تبعا
إن الوليد أمير المؤمنين له ... ملك عليه أعان الله فارتفعا
لا يمنع الناس ما أعطى الذين هم ... له عبيد ولا يعطون من منعا
فقال الوليد: صدقت ياعبيد أنى لك هذا؟ قال: هو من عند الله، قال الوليد: لو غير هذا قلت لأحسنت أدبك، قال ابن سريج: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " قال الوليد: " يزيد في الخلق ما يشاء " قال ابن سريج: " هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر " قال الوليد: علمك أكبر وأعجب إلي من غنائك، غنني، فغناه، بشعر عدي بن الرقاع يمدح الوليد:(16/33)
عرف الديار توهماً فاعتادها ... من بعد ما شمل البلى أبلادها
صلى الإله على امرئ ودعته ... وأتم نعمته عليه وزادها
وإذا الربيع تتابعت أنواؤه ... فسقى خناصرة الأحص فجادها
نزل الوليد بها فكان لأهلها ... غيثاً أغاث أنيسها وبلادها
أولا ترى أن البرية كلها ... ألقت خزائمها إليه فقادها
ولقد أراد الله إذ ولاكها ... من أمة إصلاحها ورشادها
وعمرت أرض المسلمين فأقبلت ... وكففت عنها من أراد فسادها
وأصبحت في أرض العدو مصيبة ... عمت أقاصي غورها ونجادها
ظفراً ونصراً ما يناوئ مثله ... أحد من الخلفاء كان أرادها
وإذا نشرت له الثناء وجدته ... جمع المكارم طرفها وتلادها
فإشار الوليد إلى بعض الخدم فغطوه بالخلع، ووضعوا بين يديه كيسة الدنانير وبدر الدراهم، ثم قال الوليد: يا مولى بني نوفل بن الحارث، لقد أوتيت أمراً جليلاً، فقال ابن سريج: وأنت يا أمير المؤمنين قد آتاك اله ملكاً عظيماً وشرفاً عالياً، وعزاً بسط يدك فيه. ولم يقبضه عنك، ولا يفعل إن شاء الله، فأدام الله لك ما ولاك، وحفظك فيما استرعاك. قال: يا نوفلي، وخطيب أيضاً!؟ قال: عنك نطقت، وبلسانك تكلمت، وبعزك أنست.
وقد كان أمر بإحضار الأحوص بن محمد الأنصاري وعدي بن الرفاع العاملي، فلما قدما عليه أمر بإنزالهما جنب ابن سريج، فقالا: لقرب أمير المؤمنين كان أحب إلينا من(16/34)
قربك يا مولى بني نوفل، فإن قربك لما يلذ لنا ويشغلنا عن كثير مما نريد، فقال ابن سريج: أو قلة أو شكر؟؟؟، فقال عدي: كأنك يابن اللخناء تمن علينا، علي وعلي إن جمعنا وإياك سقف بيت أو صحن دار إلا عند أمير المؤمنين. وأما الأحوص فقال: أو لا تحتمل لأبي يحيى الزلة والهفوة؟؟؟، كفارة يمين خير من عدم المحبة، وإعطاء النفس سؤلها خير من لجاج في غير منفعة، فتحول عدي، وبقي الأحوص، وبلغ الوليد ما جرى بينهم، فدعا بابن سريج فأدخله بيتاً، وأرخى دونه ستراً، ثم أمره إذا فرغ الأحوص وعدي من كلمتيهما أن يغني، فلما دخلا وأنشده مدائح له، رفع ابن سريج صوته من حيث لا يرونه، وضرب بعوده. فقال عدي: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في أن أتكلم؟ قال: قل يا عاملي، قال: مثل هذا عند أمير المؤمنين؟ وتبعث إلى ابن سريج تتخطى به رقاب قريش والعرب من تهامة إلى الشام، ترفعه أرض وتخفضه أخرى؟، فيقال من هذا؟ فيقال: ابن سريج مولى بني نوفل، بعث إليه أمير المؤمنين ليسمع غناءه،. قال: ويحك يا عدي أولا تعرف هذا الصوت؟ قال: لا والله، ما سمعته قط، ولا سمعت مثله حسناً، ولولا أنه في مجلس أمير المؤمنين لقلت طائفة من الجن يتغنون. فقال: اخرج عليهم، فخرج فإذا ابن سريج، فقال عدي: حق لهذا أن يحمل، حق لهذا أن يحمل ثلاثاً، ثم أمر لهما بمثل ما أمر به لابن سريج، وارتحل القوم.
قال ابن سريج: إذا غنيت لحني في شعر عمر بن أبي ربيعة: من مشطور الرجز
إن خان من تهوى فلا تخنه
وكن وفياً إن سلوت عنه
واسلك سبيل وصله وصنه
إن كان غدراً فلا تكنه
توهمت أني الخليفة في الغناء وأن المغنين رعيتي.
دخل مقمة على ابن سريج في مرضه فقال له: كيف أصبحت؟ فقال: كما قال الشاعر: من الوافر:(16/35)
مريض غاب عنه أقربوه ... وأسلمه المداوي والحميم
ثم مات من ليلته.
قال أبو أيوب المديني: توفي ابن سريج بالعلة التي أصابته من الجذام بمكة في خلافة سليمان بن عبد الملك، أو في آخر خلافة الوليد.
عبيد بن سرية
ويقال: ابن سارية، ويقال: ابن شرية الجرهمي.
وفد على معاوية، وقيل: إنه لم يفد عليه، وإنه لقيه بالحيرة حين توجه معاوية إلى العراق.
قال هشام بن محمد الكلبي: عاش
عبيد بن سرية الجرهمي ثلاث مئة سنة، وأدرك الإسلام فأسلم، ودخل على معاوية بالشام، فقال له معاوية: كيف رأيت الدنيا؟ قال: يوم كيوم، وليلة كليلة، سنيات بلاء وسنيات رخاء، وميت ومولود، ومولود مهنأ، ومولود معزى بمفقود، ولولا كثرة من يولد، ما بقي على الأرض أحد، ولولا من يموت ما وسع الناس بلد، فقال له معاوية: إن لك لعلماً، فما أحسن الأشياء في عينك؟ قال: عين خرارة في أرض خوارة، فال: ثم ماذا؟ قال: ثم فرس في بطنها فرس تتبعها فرس، قال: فأين أنت عن النعم؟ قال: ليس النعم مال مثلك، إنما النعم مال من حضرة وأشرف عليه، قال: فما تقول في الذهب والفضة؟ قال: حجران إن حبستهما لم يزيدا، وإن أنفقتهما تلفا، قال: إنا حابسوك عندنا، ومجرون عليك جراية، قال: لا حاجة لي في هذا، لأن أبي وأمي هلكا في مثل هذه السنة، ونفسي تحدثني أني هالك فيها، فمالي حاجة في المقام عندك، فقال معاوية: فسلني حاجتك؟ قال: أما الآخرة فإنها بيد غيرك، وأما الدنيا فما(16/36)
تقدر ترد شبابي علي فما أسألك؟ قال له معاوية: فأخبرني بما يكون بعدي؟ ثم انصرف ورجع، فقال: سألتني عن شيء لم أكن أعلمه ثم علمته، مررت بغلمان يستبقون يقول بعضهم لبعض: الآخر أشر. فقال معاوية: هل رأيت حرباً؟ قال: رأيت أمية يقوده غلام له يقال له: ذكوان، فقال له: لا تقل ذاك، فإنهم سادة الحي، فقال قل أنت ما شئت.
وقيل إنه عاش مئتين وعشرين سنة. وإن معاوية قال له: كم أتى عليك؟ قال مئتان وعشرون سنة قال: ومن أين علمت ذلك؟ قال من كتاب الله تعالى. قال: ومن أي كتاب الله تعالى؟ قال: من قول الله تعالى: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب " فقال له معاوية: وما أدركت؟ قال: أدركت يوماً في إثر يوم، وليلة في إثر ليلة متشابهاً كتشابه الحذف يحدوان بقوم في ديار قوم يكدحون ما يبيد عنهم، ولا يعتبرون بما مضى منهم، حيهم يتلف، ومولودهم يخلف، في دهر يصرف، أيامه تقلب بأهلها كتقلبها دهرها، بينا أخوه في الرخاء إذ صار في البلاد، وبينا هو في الزيادة إذ أدركه النقصان، وبينا هو حر إذ أصبح قنا، لا يدوم على حال، بين مسرور بمولود، ومخزون بمفقود. قال: أخبرني عن المال، أيه أحسن في عينك؟ قال: أحسن المال في عيني وأنفعه غناء وأقله غناء، وأجداه على العامة: عين خرارة في أرض خوارة، إذا استودعت أدت، وإذا استحلبتها درت وأفعمت، تعول ولا تعال.
وفي آخره قال: فأخبرني عن قيامك وقعودك وأكلك وشربك ونومك وشهوتك للباه؟ قال: أما قيامي فإن قمت فالسماء تبعد، وإن قعدت فالأرض تقرب فالأرض تقرب، وأما أكلي وشربي فإني إن جعت كلبت، وإن شربت بهرت، وأما نومي فإن حضرت مجلساً(16/37)
حالفني، وإن خلوت أطلبه فارقني، وأما الباه فإن بذل لي عجزت، وإن منعته غضبت.
قال معاوية: فأخبرني عن أعجب شيء رأيته، قال: أعجب شيء رأيته، أني نزلت بحي من قضاعة، فخرجوا بجنازة رجل من عذرة يقال له: حريث بن جبلة، فخرجت معهم حتى إذا واروه انكبدت جانباً عن القوم، وعيناي تذرفان، ثم تمثلت بأبيات شعر كنت رويتها قبل ذلك بزمان طويل: من البسيط
يا قلب إنك في أسماء مغرور ... أذكر وهل ينفعك اليوم تذكير
قد بحت بالحب ما تخفيه من أحد ... حتى جرت بك أطلاقاً محاضير
تبغي أموراً فما تدري أعاجلها ... خير لنفسك أم ما فيه تأخير
فاستقدر الله خيراً وارضين به ... فبينما العسر أم ما فيه مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبطاً ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
حتى كأن لم يكن إلا تذكره ... والدهر أيتما حال دهارير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
وذاك آخر عهد من أخيك إذا ... ما المرء ضمنه اللحد الخناشير
الواحد: خنشير والجمع خناشير، ويقال: الخناشرة، وهم الذين يتبعون الجنازة، فقال(16/38)
رجل إلى جانبي، سمع ما أقول: يا عبد الله، من قائل هذه الأبيات؟ قلت: والذي أحلف به ما أدري، قد رويتها منذ زمن، قال: قائلها الذي دفناه آنفاً، وإن هذا ذو قرابته أسر الناس بموته، وإنك للغريب الذي وصف تبكي عليه، فعجبت لما ذكر في شعره، والذي صار إليه من قوله، كأنه كان ينظر إلى موضع قبره، فقلت: إن البلاء موكل بالمنطق فذهبت مثلاً.
عبيد بن سلمان الكلبي ثم الطابخي
حدث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من حدث عني حديثاً هو الله عز وجل رضى فأنا قلته وإن لم أكن قلته، قالوا: يا رسول الله ولم؟ قال: لأني به أرسلت.
وبه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اثنتان خير من واحد، وثلاثة خير من واحد، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ولم يجمع الله عز وجل أمتي إلا على هدى، واعلموا أن كل شاطن هوى في النار.
وحدث عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أهل القرآن وهم في المسجد فقال: يا أهل القرآن، يا أهل القرآن، يا أهل القرآن قال ثلاث مرات إن الله عز وجل قد زادكم في صلاتكم صلاة، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الوتر، فقال أعرابي: ما هي يا رسول الله؟ قال: أما إنها ليست عليك ولا على أصحابك، إنما هي على آل القرآن.(16/39)
وحدث عن أبي ذر أنه سمعه يقول: إن عمر قال: يا أبا ذر آمن بالقدر، خيره وشره، حلوه ومره، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: كل شاطن هوى في الإسلام في النار.
وحدث عبيد بن سلمان قال: كنت عند معاوية وعنده حسان بن مالك بن بحدل، فذكر معاوية تجار قريش، إذ أقبل رجل من القطار على ناقة عليها رجل عليه برنس، وأقبل يمشي حتى أتى معاوية، وهو جالس، فسلم، فضم معاوية رجليه حتى بدت ركبتاه، ثم جلس الرجل على الطنفسة، ثم أقبل عليه بالحديث، فلما قام ليركب كشف البرنس فرأيت عليه قميص كتان قطري، ورأيت أثر مسح زقاق الزيت على قميصه، فقال له حسان بن مالك: ومن الذي شغلك حديثه؟ قال: رجل يرجو الخلافة من بعدي، قال حسان: ما هذا الزيات لذلك بأهل يا أمير المؤمنين، قال: مهلاً يا حسان، فإن هذا مروان بن الحكم.
عبيد بن عبد الواحد بن شريك
أبو محمد البغدادي البزاز رحل وسمع بدمشق وبغيرها. حدث عن نعيم بن حماد بسنده إلى عبد الله بن جعفر قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل الرطب بالقثاء.
وحدث عبيد بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتخاذ الديك الأبيض.
وحدث عن هشام بن عمار بسنده إلى الأوزاعي قال: لابأس بإصلاح الخطأ واللحن والتحريف والحديث.(16/40)
توفي عبيد بن شريك سنة ثمان وثمانين ومئتين، وهو خطأ، والصواب أنه توفي سنة خمس وثمانين ومئتين.
عبيد بن قائد
حدث عن أبي العزيز، قال: مررت بأبي عبيد البسري من المدينة، ومعه جمل له قد مات، وإذا هو وامرأته جلوس عند الجمل، فقلت: عز علي يا أبا عبيد، فبينا أنا وهو كذلك إذا برجل قد جاء بجمل يهدر، فقال: يا أبا عبيد، اركب، وأركب المرأة، وتركنا، ومضى الرجل وترك الجمل.
عبيد بن كعب النميري
من أهل العراق. وفد على معاوية، فقال: أخبرني عن زياد من يستعمل؟ قال: يستعمل على الخير والأمانة دون الهوى، ويعاقب، فلا يعدو بالذنب قدره، ويسمر ويحب السمر، يستحكم بحديث الليل تدبير النهار، قال: أحسن، إن التثقيل على القلب مضرة بالرأي، فكيف رأيه في حقوق الناس؟ قال: يأخذ ما له عفواً، ويعطي ما عليه عفواً، قال: فكيف عطاياه؟ قال: يعطي حتى يقال جواد، ويمنع حتى يبخل، فقال معاوية: إن العدل لضيق، وفي البذل عوض من العدل، قال: فكيف الشفاعة عنده؟ قال: ليس فيها مطمع، ما أراد من خير جعله لك أوله.
لما أراد معاوية أن يبايع ليزيد كتب إلى زياد يستشيره، فبعث زياد إلى
عبيد بن كعب النميري فقال: إن لكل مستسر ثقة، ولكل سر مستودع، وإن الناس قد أبدعت بهم خصلتان: إضاعة السر، وإخراج النصيحة، وليس موضع السر إلا أحد الرجلين: رجل(16/41)
آخرة يرجو ثواباً، ورجل دنيا له شرف في نفسه، وعقل يصون حسبه، وقد عجمتهما منك، فأحمدت الذي قبلك، وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحف، إن أمير المؤمنين كتب إلي يزعم أنه قد أجمع على بيعة يزيد، وهو متخوف نفرة الناس، ويرجو مطابقتهم، ويستشيرني، وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون، مع ما قد أولع به من الصيد، فالق أمير المؤمنين مؤدياً عني، فأخبره عن فعلات يزيد، وقل له رويدك بالأمر، فأقمن أن يتم لك ما تريد، ولا تجعل فإن دركاً في تأخير خير من تعجيل عاقبته الفوت، فقال عبيد: أفلا غير هذا؟ قال: ما هو؟ قال: لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تمقت إليه ابنه، وألقى أنا يزيد سراً من معاوية، فأخبره عنك أن أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك في بيعته، وأنك تخوفت خلاف الناس لهنات ينقمونها عليه، وأنك ترى له ترك ما ينقم عليه، فتستحكم لأمير المؤمنين الحجة على الناس، ويسهل لك ما تريد، فتكون قد نصحت ليزيد وأرضيت أمير المؤمنين، وسلمت مما تخاف من علاقة أمر الأمة، فقال زياد: لقد رميت الأمر بحجره، اشخص على بركة الله، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغش، وأبعدتك إن شاء الله من الخطأ، قال: تقول بما ترى ويقضي الله بغيب ما يعلم، فقدم على يزيد فذاكره ذلك، وكتب زياد إلى معاوية يأمره بالتؤدة وأن لا يعجل، فقبل ذلك معاوية، وكف يزيد عن كثير مما كان يصنع، ثم قدم عبيد على زياد فأقطعه قطيعة.
عبيد بن محمد بن يحيى بن حمزة
ابن واقد الحضرمي البتلهي.
حدث عن أبيه بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما من بني آدم من مولود يولد إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مسه إلا مريم وابنها ". ثم يقول أبو هريرة حين يحدث بهذا الحديث: واقرؤوا إن شئتم: " إذ قالت امرأة عمران " إلى قوله: " حسناً "(16/42)
عبيد بن وهب
ويقال: عبد الله بن وهب ويقال: عبد الله بن هانئ أبو عامر الأشعري له صحبة، روى عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد مؤتة مع جعفر وزيد، ثم استشهد يوم أوطاس.
حدث عامر بن أبي عامر الأشعري عن أبيه أبي عامر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعم الحي الأسد، والأشعريون، لا يفرون في القتال ولا يغلون، هم مني وأنا منهم. " قال عامر: فحدثت به معاوية فقال: ليس هكذا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " هم مني وأنا منهم ". قال: فأنت أعلم بحديث أبيك.
قال أبو اليسر الأنصاري: كنت جالساً عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتاه أبو عامر الأشعري فقال: يا رسول الله، بعثتني في كذا وكذا، فلما أتيت مؤتة، وصف القوم، ركب جعفر فرسه ولبس الدرع وأخذ اللواء، فمشى قدماً حتى رأى القوم فنزل، ثم قال: من يبلغ هذا الفرس صاحبه؟ فقال الرجل: أنا، قال: فبعث به، قال: ثم نزع درعه فقال من يبلغ هذه الدرع صاحبها؟ فقال رجل: أنا، قال: فبعث بها، قال: ثم تقدم فضرب بسيفه حتى قتل، قال فتفجرت عينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دموعاً، فصلى بنا الظهر ولم يكلمنا، قال: ثم أقيمت العصر فخرج فصلى، ثم دخل ولم يكلمنا، قال: وفعل ذلك في المغرب والعشاء، يدخل ولا يكلمنا، قال: كان إذا صلى أقبل علينا بوجهة فخرج علينا الفجر في ساعة كان يخرج فيها وأنا وأبو عامر الأشعري جلوس، فجلس شيئاً ثم قال: ألا أحدثكم عن رؤيا رأيتها: أدخلت الجنة، فرأيت جعفراً ذا جناحين مضرجاً بالدماء، وزيداً مقابله، وابن رواحة معهم، كأنه معرض عنهم وسأخبركم عن ذلك: إن جعفراً حين تقدم فرأى القتل، لم يصرف وجهه، وزيداً كذلك، وابن رواحة صرف وجهه.(16/43)
وكان أبو عامر ممن قدم مع الأشعريين على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم وشهد معه فتح مكة وحنيناً، وبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين في آثار من توجه إلى أوطاس من المشركين.
والأشعريون هم ولد أشعر، واسمه نبت أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، واستشهد بأوطاس يوم حنين مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعثه إلى أوطاس، قتله دريد بن الصمة، واستغفر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي عامر، ودعا له.
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم اجعل عبيدا أبا عامر فوق أكثر الناس يوم القيامة ". قال: فقتل يوم أوطاس، قال: فقتل أبو موسى قاتله، فقال أبو وائل: إني لأرجو أن لا يجتمع الله أبا موسى وقاتل أبي عامر في النار.
وعن أبي موسى مختصراً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اللهم اغفر لعبيد أبي عامر.
كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بعث أبا عامر الأشعري في آثار من توجه إلى أوطاس، وعقد له لواء، معه في ذلك البعث سلمة بن الأكوع، فكان يحدث، يقول: لما انهزمت هوزان عسكروا بأوطاس عسكراً عظيماً، وقد تفرق منهم من تفرق، وقتل من قتل، وأسر من أسر، فانتهينا إلى عسكرهم، فإذا هم ممتنعون، فبرز رجل فقال: من يبارز؟ فبرز له أبو عامر فقال: اللهم اشهد. فقتله أبو عامر حتى قتل تسعة، كذلك، فلما كان التاسع، برز له رجل معلم انتحب للقتال، فبرز له أبو عامر فقتله، فلما كان العاشر برز له رجل معلم بعمامة صفراء، فقال أبو عامر: اللهم اشهد. قال: يقول الرجل: اللهم لا تشهد، فضرب أبا عامر فأثبته، فاحتملناه وبه رمق، واستخلف أبا موسى(16/44)
الأشعري، وأخبر أبو عامر أبا موسى أن قاتله صاحب العمامة الصفراء، قالوا: وأوصى أبو عامر إلى أبي موسى، ودفع إليه الراية، وقال: ادفع فرسي وسلاحي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقاتلهم أبو موسى حتى فتح الله عليه، وقتل قاتل أبي عامر، وجاء بسلاحه وتركته وفرسه إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: إن أبا عامر أمرني بذلك، وقال: قل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستغفر لي، قال: فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى ركعتين ثم قال: اللهم اغفر لأبي عامر، واجعله من أعلى أمتي في الجنة. وأمر بتركه أبي عامر فدفعت إلى ابنه، قال: فقال أبو موسى: يا رسول الله! إني أعلم أن الله قد غفر لأبي عامر، قتل شهيداً، فادع الله لي، فقال اللهم اغفر لأبي موسى، واجعله في أعلى أمتي. فيرون أن ذلك وقع يوم الحكمين.
وعن أبي موسى الأشعري قال: لما فرغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دريد بن الصمة، فقتل الله دريداً وهزم أصحابه. قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر، الحديث.
وفي حديث حبيب بن عبيد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اللهم صل على أبي عبيد أبي مالك، واجعله فوق كثير من الناس ".
روى أبو بردة عن أبيه، قال: أتيت عمر فسلمت عليه، فإذا رجل قاعد عنده، فقال لي عمر: يا أبا موسى أتعرف هذا الرجل؟ قلت: لا، ومن هذا الرجل؟ قال: هذا الذي أفلت من قتل أبي عامر، قال: وقد قتل أبو عامر قبله عشرة من المشركين، كلما قتل رجلاً قال: اللهم اشهد، حتى إذا بقي هذا الحادي عشر ذهب ليتعاطاه فقال: اللهم اشهد، فنزا الرجل حائطاً وقال: اللهم لا تشهد علي اليوم. قال عمر: فقد جاء اليوم مسلماً.
قتل أبو عامر يوم حنين قبل وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقل من سنتين، وهو الذي يقال له: أبصر بعدما ذهب بصره.(16/45)
عبيد بن يزيد بن عبد الله
الكريري الدمشقي حدث عن أبي مسهر بسنده إلى أبي ذر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن الله عز وجل أنه قال: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي إنكم الذين تخطئون بالليل والنهار، وأنا الذي أغفر الذنوب ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمت، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوت، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد، ثم سألوني، فأعطيت كل إنسان منهم ما سأل، لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً، إلا كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط غمسة واحدة، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحفظها عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. قال: فكان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه.
عبيد أبو مريم
قال: أظنه فلسطينياً. قال أبو مريم: دخلت مع عمر بن الخطاب، محراب داود فقرأ فيه " ص " وسجد.
عتبة بن بيان
قال عتبة بن بيان الدمشقي: قال رجل لسفيان الثوري: ادع الله لي، قال: الدعاء ترك الذنوب.(16/46)
عتبة بن أبي حكيم
أبوالعباس الهمذاني الأردني ثم الطبراني سمع بدمشق. وكان ينزل الأردن بالطبرية. حدث عن طلحة بن نافع عن أبي أيوب الأنصاري، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، وأداء الأمانة، كفارة ما بينهما، قلت: وما أداء الأمانة؟ قال: غسل الجنابة، فإن تحت كل شعر جنابة.
وحدث عن طلحة بن نافع عن أبي أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك الأنصاري: أن هذه الآية لما نزلت: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب الطهرين " فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا معشر الأنصاري إن الله عز وجل قد أثنى عليكم خيراً في الطهور، فما طهوركم هذا؟ قالوا: يا رسول الله، نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فعل مع ذلك غيره قالوا: لا: غير أن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أن يستنجي بالماء. قال: هو ذاك فعليكموه.
توفي عتبة بن أبي حكيم بصور سنة سبع وأربعين ومئة.(16/47)
عتبة بن حماد أبو خليد القارئ الحكمي
إمام المسجد الجامع بدمشق. حدث عن الأوزاعي بسنده إلى معاذ بن جبل عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يطلع الله عز وجل إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن.
قال أبو خليد: أقمت على مالك بن أنس فقرأت الموطأ في أربعة أيام، فقال: علم جمعه شيخ في ستين سنة، أخذتموه في أربعة أيام، لافقهتم أبداً.
عتبة بن ربيعة بن عبد شمس
ابن عبد مناف بن قصي بن كلاب، أبو الوليد القرشي العبشمي.
قدم على قيصر في جماعة من قريش لاستخلاص أبي أحيحة سعيد بن العاص بن أمية، وكان شاعراً.
وولد ربيعة بن عبد شمس عتبة وشيبة، قتلا يوم بدر كافرين دعوا إلى البراز، ومعهم الوليد بن عتبة، فخرجوا ثلاثتهم بين الصفين، فخرج إليهم حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث بن المطلب، فقتلوهم، وضرب شيبة رجل عبيدة بن الحارث فقطعها، فمات راجعاً مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصفراء على ليلة من بدر.(16/48)
وعن مجاهد: في قوله عز وجل: " وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ". قالوا: هو عتبة بن ربيعة، وكان ريحانة قريش يومئذ.
قال حكيم بن حزام: لما توافت كنانة وقيس من العام المقبل بعكاظ بعد العام الأول الذي كانوا التقوا فيه، ورأس الناس حرب بن أمية، خرج معه عتبة بن ربيعة، وهو يومئذ في حجر حرب فمنعه أن يخرج وقال: يا بني إني أضن بك، فاقتاد راحلته وتقدم في أول الناس، فلم يدر به حرب إلا وهو في العسكر، قال حكيم بن حزام: فنزلنا على عكاظ، ونزلت هوازن بجمع كثير، فلما أصبحنا ركب عتبة جملاً ثم صاح في الناس: يا معشر مضر على ما تفانون بينكم؟! هلم إلى الصلح. قالت هوازن: وماذا تعرض؟ قال: أعرض على أن أعطي دية من أصيب منكم ونعفو عمن أصيب منا. قالوا: وكيف لنا بذلك؟ قال: أنا، قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فقالوا: قد فعلنا. فاصطلح الناس ورضوا بما قال عتبة، وأعطوهم أربعين رجلاً من فتيان قريش. قال حكيم: كنت في الرهن، فلما رأت بنو عامر أن الرهن قد صار في أيديهم رغبوا في العفو فأطلقوهم.
قال ابن أبي الزناد: مر عتبة بن ربيعة على فتية من بني المغيرة أحدث، فقالوا: على ما يسود هذا؟! ما لهذا مال ولا كذا يعيبونه وهو يسمع، ثم انصرف ولم يراجعهم الكلام، فبلغ هشام بن المغيرة فأرسل بأولئك الفتية إليه، فقال: هؤلاء الفتية بلغني أنهم قالوا كذا وكذا، لا والله ما قصروا إلا بي، فخذ من أبشارهم ما رأيت. فقال عتبة: وصلته رحم ما كنت لأفعل،(16/49)
وما هم إلا ولد، ولكن يحسنون ويحملون ويقلبون مني كسوة. فدعا بكسوة فكساهم.
قال أبو الزناد: ما نعلم أحداً ساد في الجاهلية بغير مال إلا عتبة بن ربيعة.
قال عبد الرحمن بن عبد الله الزهري: لم يسد مملق من قريش إلا عتبة بن ربيعة وأبو طالب بن عبد المطلب، فإنهما سادا ولا مال لهما.
قال مصعب بن عبد الله: لم يعرف لعتبة بن ربيعة رفث إلا كلمتان قالهما يوم بدر، قال لأبي جهل: يا مصفر استه، وقال حمزة: أنا أسد الله وأسد رسوله، فقال عتبة: أنا أسد الخلفاء.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال أبو جهل والملأ من قريش: لقد انتشر علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلاً عالماً بالسحر والكهانة والشعر فكلمه، ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة: لقد سمعت قول السحر والكهانة والشعر، وعلمت من ذلك علماً، وما يخفى علي إن كان كذلك، فأتاه، فلما أتاه قال له عتبة: يا محمد أنت خير أم هاشم، وأنت خير أم عبد المطلب، أنت خير أم عبد الله؟ قال: فلم يجبه، قال: فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسنا ما بقيت، وإن كان بك الباه زوجناك عشر نسوة، تختار من أي أبيات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت(16/50)
وعقبك من بعدك. ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساكت لا يتكلم، فلما فرغ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بسم الله الرحمن الرحيم، حم، تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون " فقرأ حتى بلغ " أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله، واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه: فأتوه، فقال له أبو جهل: والله يا عتبة ما حسبك إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمداً أبداً، وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً، ولكني أتيته فقص عليهم القصة فأجابني بشيء ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة، قرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم، حم، تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعقلون " قال: هكذا! قال: فيه " لقوم يعقلون " حتى بلغ " أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " فأمسكت بفيه وناشدته الرحم يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب.
وفي حديث آخر بمعناه أن عتبة لما انصرف إلى قريش في ناديها، قالوا: والله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي مضى به من عندكم. ثم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: والله لقد سمعت من محمد كلاماً ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، فأطيعوني في هذه وأنزلوها بي، خلوا محمداً وشأنه واعتزلوه، فو الله ليكونن لما سمعت من قوله نبأ: فإن أصابته العرب كفيتموه بأيدي غيركم، وإن كان ملكاً أو نبياً كنتم أسعد الناس به، لأن ملكه ملككم وشرفه شرفكم. فقالوا: هيهات، سحرك محمد يا أبا الوليد، فقال: هذا رأيي لكم، فاصنعوا ما شئتم.
قال ابن إسحاق: ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة حتى كثر في الرجال والنساء، وقريش تحبس من(16/51)
قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من الناس. فقال أبو طالب يمدح عتبة بن ربيعة حين رد على أبي جهل فقال: ما تنكر أن يكون محمد نبياً: من الطويل
عجبت لحكم يابن شيبة حادث ... وأحلام أقوام لديك سخاف
يقولون: شايع من أراد محمداً ... بسوء وقم في أمره بخلاف
ولا تركبن الدهر مني ظلامة ... وأنت امروؤ من خير عبد مناف
ولا تتركنه ما حييت لمطمع ... وكن رجلاً ذا نجدة وعفاف
تذود العدا عن ذروة هاشمية ... إلا فهم في الناس خير إلاف
فإن له قربى لديك قريبة ... وليس بذي خلف ولا بمضاف
ولكنه من هاشم في صميمها ... إلى أبجر فوق البحار صواف
وزاحم جميع الناس عنه وكن له ... ظهيراً على العداء غير مجاف
فإن غضبت فيه قريش فقل لهم ... بني عمنا ما قومكم بضعاف
فما بالكم تغشون من ظلامة ... وما بال أحلام هناك خفاف
وما قومنا بالقوم يغشون ظلمنا ... وما نحن مما ساءهم بخواف
ولكننا أهل الحفائظ والنهى ... وعز ببطحاء الحطيم مواف
قال علي: لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها فاجتويناها، وأصابنا بها وعك، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخبر عن بدر، فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا سار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر، وبدر بئر، فسبقنا المشركين إليها، فوجدنا فيها رجلين منهم، رجلاً من قريش، ومولى لعقبة بن أبي معيط، فأما القرشي فانفلت، وأما مولى عقبة فأخذناه، فجعلنا نقول له: كم القوم؟ قال: هم والله كثير عددهم، شديد بأسهم. فجعل. المسلمون إذا قال ذلك ضربوه، حتى انتهوا به إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: كم القوم؟ قال: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم. فجهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخبره كم هم فأبى، ثم إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأله: كم ينحرون من(16/52)
الجزر؟ فقال: عشراً كل يوم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " القوم ألف، كل جزرو لمئة وتبعها. " ثم إنه أصابنا من الليل طش من مطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف، نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو ربه ويقول: " اللهم إنك إن تهلك هذه الفئة لا تعبد. " قال: فلما طلع الفجر نادى: الصلاة عباد الله. فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحرض على القتال ثم قال: إن جمع قريش تحت هذه الضلع الحمراء من الجبل، فلما دنا القوم منا وصافناهم إذا رجل منهم على جمل له أحمر يسير في القوم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا علي، ناد لي حمزة وكان أقربهم من المشركين من صاحب الجمل الأحمر؟ وماذا يقول لهم؟ ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لم يكن في القوم أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر. فجاء حمزة فقال: هو عتبة بن ربيعة، وهو ينهى عن القتال ويقول لهم: يا قوم إني أرى قوماً مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير، يا قوم اعصبوها اليوم برأسي، وقولوا جبن عتبة بن ربيعة، وقد علمتم أني لست بأجبنكم. قال: فسمع ذلك أبو جهل فقال: أنت تقول هذا؟! والله لو غيرك يقول لأعضضته، قد ملأت رئتك جوفك رعباً. فقال عتبة: إياي تعني يا مصفر استه؟ ستعلم اليوم أينا الجبان. قال: فبرز عتبة وأخوه شبيه وابنه الوليد حمية، فقالوا: من يبارز؟ فخرج فتية من الأنصار شببة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن يبارزنا من بني عمنا، من بني عبد المطلب. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قم يا علي، وقم ياحمزة، وقم ياعبيدة بن الحارث. فقتل الله عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، وجرحعبيدة، فقتلنا منهم سبعين، وأسرنا سبعين، فجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيراً، فقال العباس: يا رسول الله إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح(16/53)
من أحسن الناس وجهاً، على فرس أبلق، ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال: اسكت فقد أيدك الله بملك كريم. فقال علي: فأسرنا من بني عبد المطلب العباس وعقيل ونوفل بن الحارث.
قال سعيد بن المسيب: كان ابن البرصاء الليثي من جلساء مروان بن الحكم ومحدثيه، فكان يسمر معه، فذكروا عند مروان الفيء، فقالوا: مال الله، وقد سن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسمه، ووضعه عمر بن الخطاب مواضعه. فقال مروان: المال مال أمير المؤمنين معاوية، يقسمه لمن شاء، ويمنعه ممن شاء، ما أمضى فيه من شيء فهو مصيب، فخرج ابن البرصاء فذكر ذلك لسعد بن أبي وقاص. قال سعيد بن المسيب: فلقيني سعد وأنا أريد المسجد، فضرب عضدي ثم قال: الحقني تربت يداك، فخرجت معه لا أدري حتى دخلت على مروان في داره، فلم أهب مثل هيبتي له، وجلست لئلا يعلم مروان أني كنت مع سعد، فقال له سعد لما دخل عليه قبل أن يسلم: أنت الذي تزعم أن المال مال معاوية؟ فقال مروان: فقلت ذلك، فمه؟ فردها الثانية، قال: فقلت ذلك فمه؟ فردها الثالثة، قال: فقلت ذلك فمه؟ قال: فرفع سعد يديه إلى الله عز وجل يدعو، فزال رداؤه عنه، وكان أسعر، بعيد ما بين المنكبين، فوثب إليه مروان فأمسك يديه وقال: اكفف عني يدك أيها الشيخ، إنا حملنا على أمر فركبناه، وليس الأمر كذلك. قال سعد: أما والله لو لم تنزع ما زلت أدعو عليك حتى يستجاب لي أو تنفرد هذه السالفة.
فلما خرج سعد ثبت في مجلسي عند مروان، فقال: من ترون قال لهذا الشيخ ما قلت؟ قالوا: ابن البرصاء الليثي. فأرسل إليه، فأتي به، فقال: ما حملت على أن قلت لهذا الشيخ ما قلت؟ قال الليثي: ذلك حق، قلت: ماكنت أظنك تجترىء على الله عز وجل، وتفرق من سعد! فقال له مروان: أوكل ما سمعت تكلمت به؟ أما والله لتعلمن. ثم أمر أن يجرد من ثيابه، فجرد من ثيابه وبرز بين يديه: فبينما نحن على ذلك إذ دخل حاجبه فقال: هذا أبو خالد حكيم بن حزام، قال: ائذن له. ثم قالوا: ردوا عليه ثيابه، آخرجوه عنا، لا يهيج علينا هذا الشيخ، كما فعل بالآخر قبله، فلما دخل حكيم بن(16/54)
حزام قال مروان: مرحباً أبا خالد، ادن مني، فحال له مروان عن صدر المجلس حتى كان بينه وبين الوسادة، ثم استقبله مروان فقال: حدثنا حديث بدر، فقال: نعم، خرجنا حتى إذا نزلنا الجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها وهي زهرة، فلم يشهد أحد من مشركيهم بدراً، ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة التي قال الله عز وجل، فجئت عتبة بن ربيعة فقلت: يا أبا الوليد! هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت؟ قال: أفعل ماذا؟ قلت: إنكم لا تطلبون من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا دم ابن الحضرمي، وهو حليفك، فتحمل بديته وترجع بالناس. قال: أنت وذاك، وأنا أتحمل بدية حليفي، فاذهب إلى ابن الحنظلية يعني أبا جهل فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك. فجئته فإذا هو في جماعة بين يديه ومن ورائه، وابن الحضرمي واقف على رأسه، وهو يقول: قد فسخت عقدي من بني عبد شمس، وعقدي إلى بني مخزوم. فقلت له: يقول عتبة بن ربيعة: هل لك أن ترجع اليوم عن ابن عمك بمن معك؟ قال: أما وجد رسولاً غيرك؟ قلت: لا، ولم أكن لأكون رسولاً لغيره. قال حكيم: فخرجت أبادر إلى عتبة لئلا يفوتني من الخبر شيء، وعتبة متكىء على إيماء بن رحضة الغفاري، وقد أهدى إلى المشركين عشر جزائر، فطلع أبو جهل بالشر في وجهه، فقال: لعتبة: انتفخ سحرك. فقال له عتبة: ستعلم. فسل أبو جهل سيفه فضرب به متن فرسه، فقال له: بئس الفأل هذا. فعند ذلك قامت الحرب.
وعن الأوزاعي قال: قال عتبة بن ربيعة لأصحابه يوم بدر: ألا ترونهم يعني أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد جثوا على الركب، يتلمظون تلمظ الحيات.(16/55)
وأقبل المشركون حتى نزلوا وتعبوا للقتال، والشيطان معهم لا يفارقهم، فسعى حكيم بن حزام إلى عتبة بن ربيعة فقال: هل لك أن تكون سيد قريش ما عاشت؟ قال عتبة: فأفعل ماذا؟ قال: تجير بين الناس، وتحمل بدية ابن الحضرمي، وبما أصاب محمد من تلك العير. ودم هذا الرجل، قال عتبة: نعم، قد فعلت، ونعم ما قلت، ونعم ما دعوت إليه، فاسع في عشيرتك، فأنا أتحمل بهذا. فعسى حكيم في أشراف قريش بذلك يدعوهم إليه، وركب عتبة بن ربيعة جملاً له، فسار عليه في صفوف المشركين في أصحابه فقال: يا قوم، أطيعوني فإنكم لا تطلبون عندهم غير دم ابن الحضرمي، وما أصابوا من عيركم تلك، وأنا أتحمل بوفاء ذلك، ودعوا هذا الرجل، فإن كان كاذباً ولي قتلته غيركم من العرب، فإن فيكم قرابة قريبة، وإنكم إن تقتلوهم لا يزال الرجل منكم ينظر إلى قاتل أبيه أو أخيه أو ابن عمه، فيورث ذلك فيكم إحناً وضغائن، وإن كان هذا الرجل ملكاً كنتم في ملك أخيكم، وإن كان نبياً لم تقتلوا النبي فتسبوا به، ولن تخلصوا أحسب إليهم حتى يصيبوا أعدادهم، ولا آمن أن تكونوا لهم الدبرة عليكم.
فحسده أبو جهل على مقالته، وأبى الله إلا أن ينفذ أمره، وعتبة بن ربيعة يومئذ سيد المشركين، فعمد أبو جهل إلى ابن الحضرمي وهو أخو المقتول فقال: هذا عتبة يخذل بين الناس، وقد تحمل بدية أخيك، يزعم أنك قابلها، أفلا تستحيون من ذلك، أن تقبلوا الدية؟! وقال أبو جهل لقريش: إن عتبة قد علم أنكم ظاهرون على هذا الرجل ومن معه، وفبهم ابنه وبنو عمه، وهو يكره صلاحكم، ولما حرض أبو جهل قريشاً على القتال أمر النساء يعولن عمراً، فقمن يصحن: واعمراه واعمراه، تحريضاً على القتال، وقال رجال فتكشفوا، يعيرون بذلك قريشاً، فاجتمعت قريش على القتال، وقال عتبة لأبي جهل: ستعلم اليوم من انتفخ سحره، وستعلم أي الأمرين أرشد. وأخذت قريش مصافها للقتال، وقالوا لعمير بن وهب: اركب فاحزر لنا محمداً وأصحابه. فقعد عمير على متن فرسه، فأطاف برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، ثم رجع إلى المشركين، فقال: حزرتهم ثلاث مئة مقاتل، زادوا شيئاً أو نقصوا شيئاً، وحزرت سبعين بعيراً أو نحو ذلك، ولكن أنظروني حتى أنظر لهم مدد أو خبيء؟ فأطاف حولهم، وبعثوا خيلهم معه فأطافوا حول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، ثم رجعوا وقالوا: لا مدد لهم ولا خبيء، وإنما هم أكلة جزور(16/56)
وطعام مأكول. وقالوا لعمير: حرش بين القوم، فحمل عمير على الصف ورجعوا لمنية قريش.
قال حكيم بن حزام: فدخلت على أبي جهل، وهو يتخلق بخلوق درعه موضوعه بين يديه، فقلت: إن عتبة بعثني إليك، فأقبل علي مغضباً، فقال: أما وجد عتبة أحداً يرسله غيرك؟! فقلت: أما والله لو كان غيره أرسلني ما شيت في ذلك، ولكن مشيت في إصلاح بين الناس، وكان أبو الوليد سيد العشيرة، فغضب غضبة أخرى، قال: وتقول أيضاً: سيد العشيرة؟! فقلت: أنا أقوله؟ قريش كلها تقوله. فأمر عامر أن يصيح بخفرته، واكتشف. وقال: إن عتبة جاع فاسقوه سويقاً، وجعل المشركون يقولون: إن عتبة جاع فاسقوه سويقاً، وجعل أبو جهل يسر بما صنع المشركون بعتبة.
قال حكيم: فجئت إلى منبه بن الحجاج، فقلت له مثلما قلت لأبي جهل، فوجدته خيراً من أبي جهل، قال: نعم ما مشيت فيه! وما دعا إليه عتبة! فرجعت إلى عتبة فأجده قد غضب من كلام قريش، فنزل عن جمله، وقد طاف عليهم في عسكرهم يأمرهم بالكف عن القتال فيأبون، فحمي فنزل فلبس درعه، وطلبوا له بيضة تقدر عليه، فلم يوجد في الجيش بيضة تسع رأسه من عظم هامته، فلما رأى ذلك اعتجر، ثم برز بين أخيه شيبة وبين ابنه الوليد بن عتبة، ثم دعا عتبة إلى المبارزة، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العريش، وأصحابه على صفوفهم، فاضطجع فغشيه نوم غلبه، وقال: لا تقاتلوا حتى أوذنكم، وإن كثبوكم فارموهم، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم. قال أبو بكر: يا رسول الله، قد دنا القوم وقد نالوا منا. فاستيقظ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أراه الله إياهم في منامه قليلاً، وقلل بعضهم في أعين بعض، ففرع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو رافع يديه يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول: اللهم إن تظهر على هذه العصابة يظهر الشرك، ولا يقم لك دين. وأبو بكر يقول: والله لينصرك الله وليبيضن وجهك. قال ابن رواحة: يا رسول الله إني أشير عليك(16/57)
ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم وأعلم بالأمر من أن يشار عليه إن الله أجل وأعظم من أن تنشد وعده. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يابن رواحة ألا ننشد الله وعده، إن وعد الله لا يخلف الميعاد.
وأقبل عتبة يعمد إلى القتال، فقال له حكيم بن حزام: أبا الوليد، مهلاً مهلاً، تنهى عن شيء وتكون أوله، فلما تزاحف الناس قال الأسود بن عبد الأسد المخزومي حين دنا من الحوض: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه. فشد الأسود بن عبد الأسد حتى دنا من الحوض، فاستقبله حمزة بن عبد المطلب فضربه فأطن قدمه، فزحف الأسود حتى وقع في الحوض، فهدمه برجله الصحيحة وشرب منه، وأتبعه حمزة فضربه في الحوض فقتله، والمشركون ينظرون على صفوفهم، وهم يرون أنهم ظاهرون، فدنا الناس بعضهم من بعض، فخرج عتبة وشيبة والوليد حتى فصلوا من الصف، ثم دعوا إلى المبارزة، ولما ضرب شيبة رجل عبيدة بذباب السيف فأصاب عضلة ساقه فقطعها، وكر حمزة وعلي على شيبة فقتلاه، واحتملا عبيدة فحازاه إلى الصف، ومخ ساقه يسيل، فقال عبيدة: يا رسول الله، ألست شهيداً؟ قال: بلى. قال: أما والله لو كان أبو طالب حياً لعلم أنا أحق بما قال منه حين يقول: من الطويل
كذبتم وبيت الله نخلي محمداً ... ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ونزلت هذه الآية " هذان خصمان اختصما في ربهم ".
كان أبو ذر يقسم قسماً أنها في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، قالوا: وحضر عتبة بن ربيعة بدراً، وهو ابن أربعين ومئة سنة، وقيل ابن اثنتين وخمسين ومئة سنة، قالوا: وشيبة أكبر من عتبة بثلاث سنين.(16/58)
ولما قال عبيدة: يا رسول الله ألست شهيداً؟ قال: بلى وأنا الشاهد عليك. ثم مات. فدفنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصفراء، ونزل في قبره، وما نزل في قبر أحد غيره.
ولما هزم المشركون جاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقام، ثم أمر بأبي جهل بن هشام فسحب فألقي في القليب، ثم أمر بعتبة ربيعة فحسب فألقي في القليب، ثم أمر بشيبة بن ربيعة فسحب فألقي في القليب، ثم أمر بأمية بن خلف فسحب فألقي في القليب، وأبو حذيفة بن عتبة قائم إلى جنب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفطن إليه له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما نظر إلى أبيه سحب حتى ألقي في القليب تغير وجهه، فالتفت إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما رآه تغير وجهه قال: يا أبا حذيفة، كأنه ساءك ما صنعنا بعتبة؟ قال: يا رسول الله ما بي ألا أكون مؤمناً بالله ورسوله، ولكن لم يكن في القوم أحد يشبه عتبة في عقله وفي شرفه، فكنت أرجو أن يهديه الله إلى الإسلام، فلما رأيت مصرعه ساءني ذلك. فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيراً، فلما كان في جوف الليل خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعه الناس وهو ينادي في جوف الليل: يا أبا جهل بن هشام، ويا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، أوجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً. قال: فناداه الناس: يا رسول الله! أتنادي قوماً قد جيفوا؟ قال: والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا.
قال ابن عباس في قوله عز وجل " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض " قال: الذين آمنوا: علي وحمزة وعبيدة بن الحارث، والمفسدون في الأرض، عتبة وشيبة والوليد، وهم الذين تبارزوا يوم بدر.
وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة ليلة من شهر رمضان على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، وهي أول سنة أرخت.(16/59)
عتبة بن أبي السائب
قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت عتبة بن أبي السائب يقول: ثلاث هن إخذة للمتعبد، المرض والحج والترويح، فمن ثبت بعدهن فقد ثبت.
قال: هكذا قال عتبة، قال: وأظنه عبيد بن أبي السائب، وهو عبد العزيز بن الوليد بن سليمان بن أبي السائب.
عتبة بن سلامة بن ربيح
ويقال: دبيح، أبو همام، ويقال: أبو هشام الأزدي حدث عن محمد بن عائذ عن يحيى بن حمزة عن عمر بن الدرفس الغساني قال: رأيت قبة مسجد دمشق، وقد حفر لأركانها حتى بلغ الحفر إلى الماء، وألقي على الماء جراز الكرم، وبني الأساس عليه.
عتبة بن صخر أبي سفيان بن حرب
ابن أمية بن عبد شمس، أبو الوليد الأموي.
أخو معاوية. أدرك عثمان بن عفان، وشهد معه الدار، وقدم دمشق على أخيه معاوية، وولي المدينة والطائف ومصر والموسم لأخيه معاوية غير مرة.(16/60)
روى حسين بن عطية قال: لما نزل بعتبة بن أبي سفيان الموت اشتد جزعه، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: أما إني سمعت أم حبيبة يعني أخته تقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلى أربعاً قبل الظهر، وأربعاً بعدها، حرم الله لحمه على النار. فما تركتهن منذ سمعتها.
وشهد عتبة بن أبي سفيان الجمل مع عائشة، ثم نجا، فعيره ذلك عبد الرحمن بن الحكم، فقال: من الوافر
لعمرك والأمور لها دواعي ... لقد أبعدت يا عتب الفرارا
ولحق عتبة بأخيه معاوية بالشام، فلم يزل معه، وولاه معاوية الطائف وعزل عنه عنبسة بن أبي سفيان، فعاتبه عنسبة على ذلك، فقال معاوية: يا عنسبة، إن عتبة ابن هند، فقال عنبسة: من الطويل
كنا لصخر صالحاً ذات بيننا ... جميعاً فأمست فرقت بيننا هند
فإن تك هند لم تلدني فإنني ... لبيضاء ينميها غطارفه مجد
أبوها أبو الأضياف في كل شتوة ... ومأوى ضعاف قد أضر بها الجهد
له جفنات ماتزال مقيمة ... لمن ساقه غورا تهامة أو نجد
فقال له معاوية: لا تسمعها مني بعدها.
وكان عتبة بن أبي سفيان أعور، ذهبت عينه يوم الجمل مع عائشة.
قال أبو العباس ثعلب: قال معاوية لعتبة يوم الحكمين: يا أخي، أما ترى ابن عباس قد فتح عينيه ونشر أذنيه، ولو قدر أن يتكلم بهما فعل، وغفلة أصحابه مجبورة بفطنته، وهي ساعتنا الطولى فاكفنيه، قال: قلت بجهدي. قال: فقعدت إلى جنبه، فلما أخذ القوم في الكلام أقبلت عليه بالحديث، فقرع يدي وقال: ليست ساعة حديث، قال: فأظهرت غضباً(16/61)
وقلت: يا بن عباس، إن ثقتك بأحلامنا أسرعت بك إلى أعراضنا، وقد والله تقدم فيك العذر، وكثر من الصبر، ثم أقذعته فجاش بي مرجله، وارتفعت أصواتنا، فجاء القوم فأخذوا بأيدينا، فنجوه عني ونحوني عنه، قال: فجئت فقربت من عمرو بن العاص، فرماني بمؤخر عينه: أي ما صنعت؟ فقلت له: كفيتك التقوالة، قال: فحمحم كما يحمحم الفرس للشعير. قال: وفات ابن عباس أول الكلام فكره أن يتكلم في آخره.
قال عتبة بن أبي سفيان: العجب من علي بن أبي طالب ومن طلبه الخلافة، وما هو وهي!؟ فقال له معاوية: اسكت يا وره، فوالله إنه منها كخاطب الحرة إذ يقول: من الطويل
لئن كان أدلى خاطب فتعذرت ... عليه وكانت رائداً فتخطت
لما تركته رغبة عن حباله ... ولكنها كانت لآخر خطت
حج عتبة سنة إحدى وأربعين، والناس قريب عهدهم بالفتنة، فصلى بمكة الجمعة، ثم قال: يا أيها الناس إنا قد ولينا هذا المقام الذي يضاعف عهدهم للمحسن فيه الأجر، وعلى المسيء فيه الوزر، ونحن على طريق ما قصدنا، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تنقطع دوننا، ورب متمن حتفه في أمنيته، فاقبلوا العافية ما قبلناها فيكم وقبلناها منكم، وإياكم ولو، فإنها أتعبت من كان قبلكم، ولن تريح من بعدكم، وأنا أسأل الله أن يعين كلاً على كل. قال: فصاح به أعرابي: أيها الخليفة، قال: لست به ولم تبعد، فقال: يا أخاه، فقال: قد سمعت فقل، فقال: تالله أن تحسنوا وقد أسأنا خير من أن تسيئوا وقد أحسنا، فإن كان الإحسان لكم دوننا فما أحقكم باستتمامه، وإن منا كان منا فما أولاكم بمكافأتنا، قال(16/62)
له عتبة: من أنت؟ قال: رجل من بني عامر بن صعصعة، يلقاكم بالعمومة، ويقرب إليكم بالخوولة، قد كثرة العيال، ووطئه الزمان، وبه فقر، وعنده شكر. فقال عتبة: أستغفر الله منكم وأستعينه عليكم، قد أمرت لك بغناك، فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائك عنا.
وكان عتبة بن أبي سفيان والي الجند بمصر لأخيه بعد عمرو بن العاص سنة ثلاث وأربعين، وتوفي بالإسكندرية سنة أربع وأربعين، هو وأخته أم حبيبة في عام واحد.
استخلف عتبة بن أبي سفيان ابن أخي أبي الأعور السلمي على مصر، فدخلها فاعتاصوا عليه والتاثوا، قال: فكتب إلى عتبة فقدمها ثم دخل المسجد، ثم أوفى على منبرها، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل مصر قد كنتم تعذرون ببعض المنع منكم لبعض الجور عليكم، وقد وليكم من يقول: نفعل ونفعل، يقول: فإن دررتم مراكم بيده، وإن استصعبتم مراكم بسيفه، ثم دخل في الأخير ما أمل في الأول، إن البيعة شائعة، فلنا عليكم السمع، ولكم علينا العدل، وأينا غدر فلا ذمة له عند صاحبه، فنادوه من جنيات المسجد: سمعاً سمعاً، فناداهم: عدلاً عدلاً، ثم نزل.
ورد كتاب معاوية على عتبة بن أبي سفيان وهو وال على مصر: أن قبلك قوماً يطعنون على السلف، ويعيبون على السلطان، فإذا قرأت كتابي فأحسن تقويمهم، وخذ على أيديهم. فلما قرأ عتبة الكتاب صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل مصر، قد خف على ألسنتكم مدح الحق، ولا تأتونه، وذم الباطل، وأنتم تفعلونه، كمثل الحمار يحمل أسفاراً، أثقله حملها ولم ينفعه نقلها، فالزموا ما أمركم الله لنا تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا، وإياكم وقال ويقول، من قبل أن يقال: فعل ويفعل، إني والله ما أداويكم(16/63)
بالسيف ما تقومتم على السوط، ولا أبلغ بكم السوط ما استقمتم بالدرة، ولا أبطئ على الأولى ما لم تسرعوا إلى الأخرى، فكونوا خير قريش سهماً، فهذا اليوم الذي ليس فيه عقاب ولا بعده عتاب، وصلى الله على محمد النبي وسلم.
مر عتبة بن أبي سفيان ببعض ولده وعنده رجل يشتم رجلاً، فوقف عليه فقال: يا بني نزه نفسك عن استماع الخنا كما تنزه لسانك عن الكلام به، فإن المستمع شريك القائل، ولو ردت كلمة جاهل في فيه لسعد بها رادها كما شقي بها قائلها.
ومما قال عبد الله بن المبارك في ذلك: من البسيط
أولو بصائر، عن قول الخنا خرس ... لا يرفعون إلى الفحشاء أبصارا
أسر معاوية إلى الوليد بن عتبة حديثاً، فقال لأبيه: يا أبه، إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً، وما أراه يطوي عنك ما بسطه إلى غيرك. قال: فلا تحدثني به، فإنه من كتم سره كان الخيار له، ومن أفشاه كان الخيار عليه. قال: قلت: يا أبه، وإن هذا ليدخل بين الرجل وبين أبيه؟ قال: والله يابني، ولكن أحب ألا تذلل لسانك بأحاديث السر. فأتيت معاوية فحدثته فقال: يا وليد، أعتقك أخي من رق الخطأ.
قال عمرو بن عتبة: كان أبونا لا يرفع المواعظ عن أسماعنا، إذا أراد سفراً فقال: يا بني، تلقوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا المزيد منها بالشكر عليها، واعلموا أن النفوس أقبل شيء لما أعطيت، فاحملوه على مطاياها إذا ركبتم، لا تسبق وإن تقدمت نجا من هرب من النار. وأدرك من سابق إلى الجنة، فقال الأصاغر: يا أبانا ما هذه المطية؟ قال: التوبة يا بني.
قال سعد مولى عتبة: قال عتبة: يا سعد، تعهد صغير مالي يكبر، ولا تخف كثيره يصغر، فإنه ليس يمنعني كبير ما في يدي عن إصلاح قليل مالي.(16/64)
أوصى عتبة عبد الصمد مؤدب ولده فقال: ليكن أول إصلاحك بني إصلاحك نفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما فعلت، والقبيح ما تركت، علمهم كتاب الله، ولا تملهم فيكرهوا، ولا تدعهم منه فيهجروا، وروهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفه، ولا تخرجهم من باب العلم إلى غيره حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم، تهددهم بي، وأدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الرفيق الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء، وامنعهم من محادثة النساء، واشغلهم بيسير الحكماء، واستزدني بآدابهم أزدك، ولا تتكلن على عذر مني، فقد اتكلت على كفاية منك.
عتبة بن عبد الرحمن الحرستاوي
قال جرير بن عتبة بن عبد الرحمن: سمعت أبي يحدث الأوزاعي وأنا جالس، عن القاسم مولى بني يزيد أبي أمامة الباهلي قال: كنا جلوساً عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكروا الشام ومن بها من الروم فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنكم ستظهرون بالشام وتغلبون عليها، وتصيبون على سيف بحرها حصناً، يقال له أنفة، يبعث الله منه يوم القيامة اثني عشر ألف شهيد.
قال: فسمعت الأوزاعي يقول لأبي: لقد سمعت منك حديثاً جيداً يا شيخ وحدث عنه أنس بن مالك بالبصرة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل المسجد والحارث بن مالك نائم، قال: فحركه برجله، قال: ارفع رأسك. قال: فرفع رأسه فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال: فقال: له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف أصبحت يا حارث بن مالك؟ قال: أصبحت يا رسول الله مؤمناً حقاً، قال: إن لكل حق حقيقة، فما حقيقة ما تقول؟ قال: عزمت عن الدنيا، وأظميت نهاري، وأسهرت ليلي، وكأني أنظر إلى عرش ربي، فكأني أنظر إلى أهل الجنة(16/65)
فيها يتزاورون، وإلى أهل النار يتعاوون. قال: فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنت امروؤ نور الله قلبه، عرفت فالزم.
عتبة بن عبد أبو الوليد السلمي
صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجتاز بدمشق أو بساحلها من حمص إلى عكا لغزو قبرس مع معاوية بن أبي سفيان.
حدث عتبة بن عبد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " القتل ثلاثة: رجل مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، ذاك الشهيد الممتحن في خيمة الله عز وجل تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة، ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، فتلك لساعتها مضمضة محت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محاء الخطايا، وأدخل من أي أبواب الجنة شاء، فإن لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، بعضها أفضل من بعض، ورجل منافق جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، فذلك في النار، إن السيف لا يمحو النفاق.
وعن عتبة قال: أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بالقتال، فرمى رجل من أصحابه بسهم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أوجب هذا. وقالوا حين أمرهم بالقتال إذ أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما من المقاتلين.(16/66)
وعن عتبة قال: استكسيت رسول الله فكساني خيشتين، ولقد رأيتني ألبسهما وأنا أكسى أصحابي.
توفي عتبة بن عبد السلمي سنة سبع وثمانين، ويقال: سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وسبعين، وقيل: سنة سبع وثمانين، وهو ابن أربع وتسعين سنة. وقيل: مات آخر خلافة عبد الملك بن مروان.
قال عتبة بن عبد: أعطاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيفاً قصيراً، قال: إن لم تستطع أن تضرب به، فاطعن به طعناً.
وكان اسم عتبة بن عبد عتلة، فسماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عتبة، قال عتبة: وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتاه الرجل وله اسم لا يحبه حوله، ولقد أتيناه سبعة من بني سليم، أكبرنا العرباض بن سارية، وبايعناه معاً. ونزل عتبة الشام.
وعن عتبة قال: دعاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا غلام حدث، قال: ما اسمك؟ قلت: عتلة بن عبد قال: بل أنت عتبة بن عبد. وقال: أرني سيفك. فسله فنظر إليه، فلما رآه فيه رقة وضعفاً قال: لا تضربن بهذا، ولكن اطعن طعناً.
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم قريظة والنضير: " من أدخل هذا الحصن سهماً وجبت له الجنة. قال عتبة: فأدخلت ثلاثة أسهم ".
وعن عتبة بن عبد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تقصوا نواصي الخيل، فإنه معقود بنواصيها الخير، ولا أعرفها، فإنه دفاؤها، ولا أذنابها، فإنها مذابها.(16/67)
وعن عتبة قال: بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع بيعات، خمس على الطاعة يقول: هن يكفرن واثنتان قال محمد بن إسماعيل: سقط علي ها هنا حرف.
وورد في حديث آخر: واثنتان على المحبة.
وكان عتبة يقول: عرباض خير مني. وعرباض يقول: عتبة خير مني، سبقني إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسنة.
عتبة بن قيس
حدث عن عنبسة بن أبي سفيان عن أخته أم حبيبة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من صلى قبل الظهر أربعاً، وبعدها أربعاً، حرمه الله النار ".
عتبة بن الندر السلمي
سكن دمشق، وروى عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثين. حدث عتبة بن الندر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا انتاط غزوكم، وكثرت العزائم، واستحلت الغنائم، فخير جهادكم الرباط. "
توفي عتبة بن الندر في ولاية عبد الملك، وقيل: سنة أربع وثمانين، وكان ينزل دمشق، توفي سنة ست وثمانين.(16/68)
عتبة الأعور بن يزيد بن معاوية
أمه أم ولد.
حدث عتبة بن يزيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن أرطاة: أما بعد، فإني قد كتبت إليك بكتب كثيرة أنهاك فيها عن الاقتداء بالحجاج بن يوسف، فإنه كان بلاء على أهل العراق، وافق خطيئة قوم بأعمالهم، فبلغ الله في ذلك ما أحب، ثم انقطع ذلك البلاء، وأقبلت عافية الله، فلو لم يكن ذلك إلا جمعة واحدة كان عطاء من الله، ومنا عظيماً ونهيتك عن الاقتداء به في الصلاة فإنه كان يؤخرها تأخيراً عظيماً لم يحلل له ذلك ونهيتك عن الاقتداء به في الزكاة فإنه كان يأخذها، ثم يسيء مواضعها، فاجتنب ما نهيتك عنه، والسلام.
عتبة أبو أمية الدمشقي
حدث عن أبي سلام الأسود الدمشقي عن ثوبان أنه قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ فمسح على الخفين وعلى الخمار يعني العمامة.
عتبة العابد الدمشقي
قال عتبة العابد: ليس لمن حاد عن الله حياة إلا أن يرجع إليه، ولن يصل أحد إلى الله وبينه وبين أحد سبب يتعلق به، حتى يطرح الأسباب كلها، فإذا وصل لم يرجع أبداً.(16/69)
عتيق بن علي بن داود بن علي
ابن يحيى بن عبد الله بن إبراهيم أبو بكر التميمي الصقلي الزاهد المعروف بالسنمطاري.
رحل وسمع بدمشق وغيرها وصنف كتاباً في الزهد وغيره سماه دليل القاصدين في اثني عشر مجلداً.
حدث عن أبي بكر محمد بن الحرمي بسنده إلى العباس بن محمد المنقري قال: قدم حسين بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي عليه السلام حاجاً، فاشتريت منه حقه في صدقة أبيه بذي المروة احتجنا أن نوجه رسولاً يقتضي الثمن، وكان في الجوف، وأبى الرسول أن يخرج، وخاف على نفسه من الطريق، فقال الحسين بن الحسين: أنا أكتب لك رقعة فيها حرز، لن يضرك شيء إن شاء الله. فكتب له رقعة وجعلها الرسول في صرته فذهب الرسول فلم يلبث أن جاء سالماً، فقال: مررت بالأعراب يميناً وشمالاً فما هيجني منهم أحد. فقال حسين بن حسين: ربما خرجت في الرفقة فيعدى عليها، فأسلم أنا إذ علي الحرز، وقال: هو خير لك مما ابتغيت من الثمن.
والحرز عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب. وإن هذا الحرز كان الأنبياء تتحرز به من الفراعنة: " بسم الله الرحمن الرحيم ". " قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون ". " إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً ". أخذت بسمع الله وبصره وقوتة على أسماعكم وأبصاركم وقوتكم، يا معشر الجن(16/70)
والإنس والشياطين والأعراب والسباع والهوام واللصوص مما يخاف فلان ويحذر فلان بن فلان، سترت بينه وبينكم بستر النبوة التي استتروا بها من سطوات الفراعنة، جبريل عن أيمانكم، وميكائيل عن شمائلكم، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمامكم، والله تعالى من فوقكم، يمنعكم من فلان بن فلان في نفسه وولده وأهله وشعره وبشره وماله، وما عليه وما معه وما تحته وما فوقه. " وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً ". " وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً ". " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً ". وصلى الله على محمد وسلم كثيراً.
توفي عتيق سنة أربع وستين وأربع مئة.
عتيق بن عمران بن محمد
أبو بكر الربعي السبتي قدم دمشق سنة أربع وثمانين وأربع مئة. حدث عن أبي يعلى أحمد بن محمد العبدي، الفقيه المالكي، بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له واحداً صمداً، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. إحدى عشرة مرة، كتب له ألفا ألف حسنة، ومن زاده الله عز وجل ".
قتله أمير الجيوش وكان طالب بلده بعد مرجعه من بغداد، فرددته الريح إلى الإسكندرية، فحمل إليه فقتله في سنة أربع وثمانين وأربع مئة. وسبب قتله أنه وجدت معه كتب من المقتدي بأمر الله إلى أمير المغرب.(16/71)
عتيق بن محمد
أبو بكر القرشي المقرئ.
حدث عن القاضي أبي بكر يوسف بن القاسم الميانجي بسنده إلى ابن عمر، قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" يا ابن أم عبد، أتدري من أفضل المؤمنين إيماناً؟ قال: والله ورسوله أعلم. قال: أحسنكم أخلاقاً. الموطؤون أكنافاً، لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه، وحتى يأمن جاره بوائقه.
عتيبة بن عبد العزى أبي لهب
ابن عبد المطلب شيبة بن هاشم بن عبد مناف، أبو واسع الهاشمي ابن عم سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
زوجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبل أن يوحى إليه بابنته أم كلثوم، فلم يبن بها حتى أوحي إليه، وأنزل في أبوي عتيبة سورة تبت ففارقها. وأمه أم جميل بنت حرب بن أمية بن عبد شمس. وقدم الزرقاء من أعمال دمشق، فأكلته بها الأسود بدعوة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان عتيبة بن عبد العزى تزوج أم كلثوم فلم يبن بها حتى بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت رقية ابنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند أخيه عتبة بن عبد العزى أبي لهب. فلما أنزل الله تعالى " تبت يدا أبي لهب وتب " قال أبو لهب لابنيه عتيبة وعتبة: رأسي من رأسيكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد، وسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عتبة طلاق رقية، وسأله رقية ذلك، فقالت له أمه، وهي حمالة الحطب: طلقها يا بني، فإنها قد صبت، فطلقها، وطلق عتيبة أم كلثوم، وجاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين فارق أم كلثوم، وقال: كفرت بدينك، وفارقت ابنتك،(16/72)
لا تحبني ولا أحبك، ثم سطا عليه فشق قميص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو خارج نحو الشام تاخراً، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما إني أسأل الله أن يسلط عليك كلبه ". فخرج في تجر من قريش حتى نزلوا بمكان من الشام يقال له: الزرقاء ليلاً فأطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أمي، هو والله آكلي كما دعا محمد علي، أقاتلي ابن أبي كبشة وهو بمكة وأنا بالشام! فعدا عليه الأسد من بين القوم فأخذ برأسه فضغمه ضغمة فدغه، فتزوج عثمان بن عفان رقية، فتوفيت عنده، ولم تلد له.
وعن هبار بن الأسود قال: كان أبو لهب وابنه عتبة تجهزا إلى الشام فتجهزت معهما، فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينه في ربه سبحانه وتعالى فانطلق حتى أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد، هو يكفر بالذي " دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ". فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم ابعث عليه كلباُ من كلابك ". ثم انصرف عنه، فرجع إلى أبيه فقال: يا بني، ما قلت له؟ فذكر ما قال له، قال: فما قال لك؟ قال: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك. فقال: يا بني، والله ما آمن عليك دعاءه. فسرنا حتى نزلنا الشراة وهي مأسدة فنزلنا إلى صومعة راهب، فقال الراهب: يا معشر العرب، ما أنزلكم هذه البلاد؟ فإنما يسرح الأسد فيها كما يسرح الغنم. فقال لنا أبو لهب: إنكم قدعرفتم كبر سني وحقي، فقلنا: أجل يا أبا لهب. فقال: إن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة، وافرشوا لابني عليها، ثم افرشوا(16/73)
حولها. ففعلنا، فجمعنا المتاع، ثم فرشنا له عليه، وفرشنا حوله، فبتنا نحن حوله وأبو لهب معنا أسفل، وبات هو فوق المتاع، فجاء الأسد يشم وجوهنا، فلما لم يجد ما يريد تقبض، فوثب وثبة فإذا هو فوق المتاع يشم وجهه، ثم هزمه هزمة ففسح رأسه، فقال أبو لهب: قد عرفت أنه لا ينفلت من دعوة محمد.
قال الشعبي: ما ولد عبد المطلب ذكراً ولا أنثى إلا يقول الشعر غير محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عثمان بن أحمد بن شنبك
أبو سعيد الدينوري حدث عن أبي محمد يحيى بن محمد بسنده إلى أنس بن مالك قال: إنما سمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعين العرنيين، لأنهم سملوا أعين الرعاة.
وحدث عن الحسن بن إسحاق الصوفي بسنده إلى محمد بن الحنيفة، قال: وقع بين علي وطلحة كلام، فقال طلحة يعني لعلي ومن جرأتك أنك سميت باسمه، وكنيت بكنيته، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يجتمعان. فقال علي: إن الجريء من اجترأ على الله ورسوله، ادعوا إلي فلاناً وفلاناً فجاؤوا، فشهدوا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعلي: إنك سيولد لك ولد، قد نحلته اسمي وكنيتي.
وحدث عن عبد الله بن أحمد الدينوري بسنده إلى سفيان الثوري قال: قل لمن يطلب الرياسة فليتهيأ للنطاح.
وشنبك: بشين معجمة ونون وباء معجمة بواحدة من تحتها. وكان عثمان هذا حياً إلى سنة خمس وخمسين وثلاث مئة.(16/74)
عثمان بن إبراهيم بن محمد
ابن حاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة أبو محمد الحجمي الحاطبي أصله من المدينة، وسكن الكوفة، وقدم دمشق في خلافة الوليد بن عبد الملك.
حدث عن أبيه وعمه عن ابن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رأى الهلال قال: الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله.
وحدث عثمان بن إبراهيم بن محمد عن جده محمد بن حاطب عن أمه أم جميل بنت المجلل قال: أقبلت من أرض الحبشة، حتى إذا كنت من المدينة على ليلة أو ليلتين طبخت لك طبيخة، ففني الحطب، فخرجت أطلبه، فتناولت القدر فانكفأت على ذراعك، فأتيت بك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمي بك، قالت: فتفل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فيك، ومسح على رأسك، ودعا لك، ثم قال: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشاقي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً. قالت: فما بك من عنده إلا وقد برأت يدك.
وحدث عثمان بن إبراهيم عن أمه عائشة بنت قدامة قالت: أقبلت مع أمي رائطة بنت سفيان امرأة من خزاعة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبايعهن على ألا تشركن بالله شيئاً، ولا تسرفن، ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصين في معروف. قال: فأطرقن، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قولي نعم، فيما استطعنا. فقلن: نعم، فيما استطعنا. كنت أقول كما يقلن، وأمي تقول: قولي نعم، فأقول نعم.
حدث عثمان بن إبراهيم قال: خرجنا ونحن نفر من قريش إلى الوليد بن عبد الملك وفوداً إليه، فلما كنا بناحية من أرض السمارة نزلنا على ماء، فإذا امرأة جميلة قد أقبلت حتى وقفت علينا، فقالت:(16/75)
يا هؤلاء، احضروا رجلاً يموت، فاشهدوا على ما يقول، ومروه بالوصية، ولقنوه. قال: فقمنا معها فأتينا رجلاً يجود بنفسه، فكلمناه، وإذا حوله بنون له صبية صغار، لو غطيت عليهم مكتلاً لغطاهم، كأنما ولدوا في يوم واحد، ستة أو سبعة، فلما سمع كلامنا فتح عينيه فبكى، ثم قال: من الكامل
يا ويح صبيتي الذين تركتهم ... من ضعفهم ما ينضجون كراعا
قد كان في لوان دهراً ردني ... لبني حتى يبلغون متاعا
قال: فأبكانا جميعاً، ولم نقم من عنده حتى مات، فدفناه وقدمناه على الوليد فذكرنا ذلك له، فبعث إلى عياله وولده فقدم بهم عليه، وقضى لهم وأحسن إليهم.
وحدث عثمان: أن ابن عمر كان أحفى شاربه، كأنه قد نتفه، وكان يرفع إزاره.
قال عثمان بن إبراهيم وكان جزلاً موجهاً ذا عارضة قال: أتاني فتى من قريش يستشيرني في امرأة يتزوجها، فقلت: يابن أخي، أقصيرة النسب أم طويلته؟ قال: فكأنه لم يفهم، فقلت: يابن أخي، إني أعرف في العين إذا أنكرت، وأعرف فيها إذا عرفت، وأعرف فيها إذا هي لم تعرف ولم تنكر، أما هي إذا عرفت فتحواص، وأما هي إذا أنكرت فتجحظ، وأما هي إذا لم تعرف ولم تنكر فتسجو. القصيرة النسب يا ابن أخي التي إذا ذكرت أباها اكتفيت، والطويلة النسب التي لا تعرف حتى تطيل، وإياك يابن أخي وأن تقع في قوم قد أصابوا غثرة من الدنيا دناءة، فتضع نفسك بهم.
قوله: تسجو: أي تسكن، والغثرة والكثرة ها هنا بمعنى، ويقال لعوام الناس: الغثر.(16/76)
عثمان بن إسماعيل بن عمران
أبو محمد الهذلي كان يسكن خارج باب الصغير. حدث عن الوليد بن مسلم بسنده إلى بلال بن سعد عن أبيه قال: قيل يا رسول الله، ماللخليفة من بعدك؟ قال: مثل الذي لي إذا عدل في الحكم، وقسط في القسط، ورحم ذا الرحم، فمن لم يفعل ذلك فليس مني ولست منه يريد الطاعة في الطاعة لله، والمعصية في المعصية لله.
وحدث عثمان بن إسماعيل عن مروان الفزاري بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تخيروا بين الأنبياء.
عثمان بن أيمن الدمشقي
حدث عن أبي الدرداء قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من خرج يريد علماً يتعلمه فتح له باب إلى الجنة، وفرشته الملائكة أكنافها، وصلت عليه ملائكة السموات وحيتان البحور، وللعالم من الفضل على العابد كفضل القمر ليلة البدر على أصغر كوكب في السماء، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكنهم ورثوا العلم. فمن أخذ بالعلم فقد أخذ بخطة موت العالم مصيبة ولا تجبر، وثلمة لا تسد، وهو نجم طمس، موت قبيلة أيسر من موت عالم.
عثمان بن أبي بكر بن حمود
ابن أحمد أبو عمرو السفاقسبي المغربي قدم دمشق طالب علم، وسمع بها. وحدث أبو عمرو عثمان وأخذ بلحيته، عن محمد بن إسحاق العبدي وأخذ بلحيته، بسنده إلى أنس وأخذ بلحيته، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذ بلحيته يقول: " لا يؤمن العبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قال: وقبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على لحيته وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره. ".(16/77)
وهذا الحديث مسلسل، رواته جميعهم يأخذون بلحيتهم.
أنشد أبو عمرو بسنده إلى أبي عبد الله المفجع: من المتقارب
إذا ما عدوك يوماً سما ... إلى حالة لم تطق بعضها
فقبل يديه ولا تأنفن ... إذا لم تكن تستطع عضها
عثمان بن الحسن بن نصر
أبو عمرو أخو عمر الحلبي، قدم دمشق حاجاً.
حدث عن عبد الرحمن بن عبيد الله بسنده إلى أبي أمامة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اسم الله الأعظم في سور ثلاث من القرآن، في البقرة وآل عمران وطه. قال القاسم أبو عبد الرحمن: فالتمست في البقرة فإذا هو في آية الكرسي " الله لا إله إلا هو الحي القيوم "، وفي آل عمران فاتحتها " الله لا إله إلا هو الحي القيوم "، وفي طه " وعنت الوجوه للحي القيوم ".
عثمان بن الحسين بن عبد الله
ابن أحمد أبو الحسين، ويقال: أبو الحسن البغدادي الخرقي.
قدم دمشق. حدث عن أبي بكر بن جعفر بن محمد بن الحسين بن المستفاض الفريابي سنة إحدى وستين وثلاث مئة بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة مكتوبة ".(16/78)
قال عثمان بن الحسين المعروف بابن الخرقي: إنه ولد سنة ثمان وثمانين ومئتين وكان ثقة.
عثمان بن الحسين بن كيسان
أبو الليث النصيبي الفقيه المقرئ.
كان عثمان بن الحسين يقول: العالم إذا عملت معه شيئاً من الجميل رأى لك الفضل عليه، والجاهل إذا عملت معه شيئاً من الجميل رأى أن له ديناً عليك توفي أبو الليث في مئذنة الجامع الشرقية بدمشق سنة إحدى وتسعين وثلاث مئة.
عثمان بن حصن بن عبيدة بن علاق
ويقال: عثمان بن عبيدة بن حصن بن علاق ويقال: عثمان بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن ويقال: أبو عبد الله القرشي من أهل دمشق. حدث عن عروة بن رويم عن الديلمي الذي كان يسكن إيلياء: أنه ركب يطلب عبد الله بن عمرو بن العاص بالمدينة، فاتبعه إلى الطائف فوجده في مزرعة له، تسمى الوهط، فوجده يخاصر رجلاً من قريش يزن بشرب الخمر، فسلم فقال: ما غدا بك؟ أومن أين أقبلت؟ فأخبره، قلت: هل سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر(16/79)
شارب الخمر؟ قال: نعم، فانتزع القرشي يده من يده، وقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يشرب الخمر رجل فتقبل منه صلاته أربعين صباحاً. قلت: فما هذا الحديث الذي بلغني عنك! تقول: جف القلم بما هو كائن، وصلاة في بيت المقدس خير من ألف صلاة في غيره؟ فقال: اللهم لا أحل لهم أن يقولوا علي ما لم أقل، أما قولك: جف القلم بما هو كائن فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الله عز وجل خلق خلقه فجعلهم في ظلمه، ثم أخذ من نوره ما شاء، فألقى عليهم، فأصاب النور من شاء الله أن يصيبه، وأخطأ النور من شاء الله أن يخطئه، فمن أصابه النور يومئذ اهتدى، ومن أخطأه النور ضل. فلذلك أقول: جف القلم بما هو كائن، وأما ما ذكرت من أمر إيلياء فإن سليمان بن داود لما فرغ من بيت المقدس قرب قرباناً فتقبل منه، ودعا الله عز وجل بدعوات منهن: أيما عبد مؤمن زارك في البيت تائباً إليك، إنما جاء يتنصل من خطاياه وذنوبه، أن تتقبل منه، وتنزعه من خطاياه كيوم ولدته أمه.
وحدث عن عروة بن رويم عن معاوية بن حكيم القشيري أنه قدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: والذي بعثك بالحق ودين الحق ما تخلصت إليك حتى حلفت لقومي عددها قال: يعني أنامل كفيه بالله لا أتبعك ولا أؤمن بك ولا أصدقك، وإني أسألك بالله: بم بعثك ربك؟ قال: بالإسلام. قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم وجهك لله، وأن تخلي له نفسك. قال: فما حق أزواجنا علينا؟ قال: أطعم إذا طعمت، واكس إذا كسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبحه، ولا تهجر إلا في البيت: كيف " وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً ". ثم أشار بيده قبل الشام فقال: ها هنا تحشرون، ها هنا تحشرون ركباناً ورجالاً، وعلى وجوهكم الفدام، وأول شيء يعرب عن أحدكم فخذه.(16/80)
وحدث عن زيد بن واقد عن خالد بن حسين مولى عثمان بن عفان قال سمعت أبا هريرة يقول: علمت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصوم في بعض الأيام، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في الدباء، فلما كان المساء جئته أحملها إليه فقال: ما هذا يا أبا هريرة؟ فقال: قلت: يا رسول الله، علمت أنك تصوم هذا اليوم فتحينت فطرك بهذا النبيذ، فقال: أدنه مني يا أبا هريرة. فإذا هو ينش، فقال: اضرب بهذا الحائط، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر.
وحدث عن عروة بن رويم اللخمي عن أبي ذر يرفع الحديث قال: من أنفق في سبيل الله زوجين ابتدرته خزنة الجنة. فسألناه: ما هذان الزوجان؟ قال: درهمين أو خفين أو نعلين، أو ثوبين.
قال: عروة لم يدرك أبا ذر.
عبيدة: بفتح العين، وعلاق: بالعين المهملة، وكان ابن علاق ثقة.
عثمان بن الحويرث بن أسد
ابن عبد العزى ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي الأسدي.
شاعر من شعراء مكة، جاهلي يقال له: البطريق. قدم على قيصر ليملكه على أهل مكة.
قال عروة بن الزبير: خرج عثمان بن الحويرث، وكان يطمع أن يملك قريشاً، وكان من أظرف قريش وأعقلها حتى يقدم على قيصر، وقد رأى حاجتهم ومتجرهم ببلاده، فذكر له مكة ورغبه فيها وقال: تكون زيادة في ملكك كما كسرى صنعاء. فملكه عليهم، وكتب له(16/81)
إليهم، فلما قدم عليهم قال: يا قوم، إن قيصر من قد علمتم، أمانكم ببلاده، وما تصيبون من التجارة في كنفه، وقد ملكني عليكم، وإنما أنا ابن عمكم وأحدكم، وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ، والعكة من السمن والإهاب، فأجمع ذلك ثم أبعث به إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمتنع منكم الشام، فلاتتجروا به، ويقطع مرفقكم منه. فلما قال لهم ذلك خافوا قيصر، وأخذ بقلوبهم ما ذكر من متجرهم، فأجمعوا أن يعقدوا على رأسه التاج عشية وفارقوه على ذلك.
فلما طافوا عشية بعث الله عليه ابن عمه أبان، معه الأسود بن المطلب بن أسد، فصاح على أحفل ما كانت قريش في الطواف: يالعباد الله، ملك بتهامة!؟ فانحاشوا انحياش حمر الوحش، ثم قالوا: صدق واللات والعزى، ما كان بتهامة ملك قط. فانتقضت قريش عما كانت قالت له، ولحق بقيصر ليعلمه.
وكان قيصر حمل عثمان على بغلة عليها سرج عليه الذهب حين ملكه.
وقال الأسود بن المطلب حين أرادت قريش أن تملك عثمان بن الحويرث عليها: إن قريشاً لقاح لا تملك، فخرج عثمان بن الحويرث إلى قيصر ليملكه على قريش، فكلم تجار من تجار قريش بالشام عمرو بن جفنة في عثمان بن الحويرث، وسألوه أن يفسد عليه أمره، فكتب إلى ترجمان قيصر يحول كلام عثمان، فلما دخل عثمان على قيصر فكلمه، قال للترجمان: ما قال؟ فقال: مجنون يشتم الملك. فأراد قتله وأمر به فدفع، إلى أن مر برجل من أصحاب الملك، فتمثل ببيت شعر، فكلمه عثمان بن الحويرث وقال له: إني أرى لسانك عربياً فممن أنت؟ قال: رجل من بني أسد، وأنا أكره أن يدروا بنسبي، قال: فما دهاني عنده؟ قال: الترجمان، كتب إليه عمرو بن جفنة أن يحول كلامك. قال: فكيف الحيلة أن تدخلني عليه مدخلاً واحد وخلاك ذم؟ قال: أفعل. فاحتال له حتى أدخل عليه(16/82)
ودعا له قيصر الترجمان، فقال له عثمان: إن أفخر الناس فأعلم ذلك الترجمان قيصر قال وأغدر الناس فأعلمه أيضاً قال: وأكذب الناس، فذكر ذلك الترجمان لقيصر، ثم أهوى فتشبث بالترجمان، فقال قيصر: إن له لقصة، فادعوا إلي ترجماناً آخر، فدعوه له فأفهمه قصته، فعاقب قيصر الترجمان الأول، وكتب لعثمان بن الحويرث إلى عمرو بن جفنة أن يحبس له من أراد حبسه من تجار قريش، فقدم على ابن جفنة، فوجد بالشام أبا أحيحة سعيد بن العاص وابن أخيه أبا ذئب، فحبسهما، فمات أبو ذئب في الحبس، وسم عمرو بن جفنة عثمان بن الحويرث فمات بالشام.
حدث عروة أن ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش بن رئاب، وعثمان بن الحويرث كانوا عند صنم لهم يجتمعون إليه، قد اتخذوا ذلك اليوم من كل سنة عيداً، وكانوا يعظمونه وينحرون له الجزر، ثم يأكلون ويشربون ويعكفون عليه، فدخلوا عليه في الليل فرأوه مكبوباً على وجهه، فأنكروا ذلك وأخذوه إلى حاله، فلم يلبث أن انقلب انقلاباً عنيفاً، فأخذوه فردوه إلى حاله، فانقلب الثالثة، فلما رأوا ذلك اغتموا له وأعظموا ذلك، فقال عثمان بن الحويرث: ما له قد أكثر التنكس؟؟ إن هذا لأمر قد حدث، وذلك في الليلة التي ولد فيها سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل عمي يقول: من الطويل
أيا صنم العيد الذي صف حوله ... صناديد وفد من بعيد ومن قرب
تكوست مغلوباً فما ذاك قل لنا ... أذاك سفية أم تكوست للتعب
وإن كان من ذنب أتيتنا فإننا ... نبوء بإقرار ونلوي عن الذنب
وإن كنت مغلوباً تكوست صاغراً ... فما أنت في الأوثان بالسيد الرب
قال: وأخذوا الصنم فردوه إلى حاله، فلما استوى هتف بهم هاتف من الصنم بصوت جهير، وهو يقول:
تردى لمولود أنارت بنوره ... جميع فجاج الأرض بالشرق والغرب
وخرت له الأوثان طرا وأرعدت ... قلوب ملوك الأرض طرا من الرعب(16/83)
ونار جميع الفرس باخت وأظلمت ... وقد بات شاه الفرس في أعظم الكرب
وصدت عن الكهان بالغيب جنها ... فلا مخبر عنهم بحق ولا كذب
فيال قصي ارجعوا عن ضلالكم ... وهبوا إلى الإسلام والمنزل الرحب
فلما سمعوا ذلك خلصوا نجياً، فقال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض فقالوا: أجل، فقال لهم ورقة بن نوفل: تعلمون والله ما قومكم على دين، ولقد أخطؤوا المحجة وتركوا دين إبراهيم، ما حجر تطيفون به، لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر؟ يا قوم، التمسوا لأنفسكم الدين. قال: فخرجوا عند ذلك يضربون في الأرض، يسألون عن الحنيفية دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام. فأما ورقة فتنصر وقرأ الكتب حتى علم علماً، وأما عثمان بن الحويرث فصار إلى قيصر، فتنصر وحسنت منزلته عنده، وأما زيد بن عمرو بن نفيل فأراد الخروج فحبس، ثم إنه خرج بعد ذلك، فضرب في الأرض حتى بلغ الرقة من أرض الجزيرة، فلقي بها راهباً عالماً فأخبره بالذي يطلب، فقال له الراهب: إنك لتطلب ديناً ما تجد من يحملك عليه، ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلدك، يبعث بدين الحنيفية. فلما قال له ذلك رجع يريد مكة، فغارت عليه لخيم فقتلوه، وأما عبيد الله بن جحش فأقال بمكة حتى بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم خرج مع من خرج إلى أرض الحبشة، فلما صار بها تنصر وفارق الإسلام، فكان بها حتى هلك هنالك نصرانياً.
عثمان بن حيان بن معبد بن شداد ابن نعمان رياح بن أسعد بن ربيعة بن عامر بن يربوع ابن غيظ بن مرة بن عوف، أبو المغراء المري.
مولى أم الدرداء، ويقال: مولى عتبة بن أبي سفيان بن حرب، داره بدمشق، واستعمله الوليد بن عبد الملك على المدينة، وكان في سيرته عنف، وولي الغزو في أيام يزيد بن عبد الملك.(16/84)
حدث عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: لقد رأيتنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض أسفاره في اليوم الحار الشديد الحر، حتى إن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما في اليوم صائم إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعبد الله بن رواحة.
وحدث عن أم الدرداء قالت: كان رجلان متآخيين، تآخياً في الله عز وجل، وكانا إذا لقي أحدهما الآخر قال له: أي أخي، تعال هلم نذكر الله عز وجل. فبينما هما التقيا في السوق عند باب حانوت، فقال أحدهما للآخر: أي أخي، هلم نذكر الله عز وجل، عسى أن يغفر لنا. ثم لبثا لبثاً، فمرض أحدهما، فأتاه صاحبه فقال: أي أخي، انظر أن تأتيني في منامي فتخبرني ماذا لقيت بعدي. قال: أفعل إن شاء الله، قال: فلبث حولاً ثم أتاه فقال: أي أخي، أشعرت أنا حين التقينا في السوق عند الحانوت فدعونا الله عز وجل؟ إن الله غفر لنا يومئذ. قال ابن جابر: ولقد سماهما لي عثمان فنسيت اسميهما.
وعن ابن شوذب قال: قال عمر بن عبد العزيز: الوليد بن عبد الملك بالشام، والحجاج بن يوسف بالعراق، ومحمد بن يوسف باليمن، وعثمان بن حيان بالحجاز، وقرة بن شريك بمصر، امتلأت الأرض والله جوراً.
قال سعيد بن عمرو: رأيت منادي عثمان بن حيان ينادي: برئت ذمة الله ممن آوى عراقياً وكان عندنا رجل من أهل البصرة، له فضل يقال له سوادة، من العباد، فقال: والله ما أحب أن أدخل عليكم مكروهاً، بلغوني مأمني، قال: قلت: لا خير لك في الخروج، إن الله يدفع عنا وعنك، قال: فأدخلته بيتي، وبلغ ذلك عثمان بن حيان، فبعث أحراساً فأدخلته إلى بيت آخر، فما قدروا على شيء، وكان الذي سعى بي عدواً، فقلت: أصلح الله الأمير، يؤتى بالباطل فلا يعاقب عليه؟؟؟؟ قال: فضرب الذي سعى بي عشرين سوطاً، وأخرجنا(16/85)
العرافي، فكان يصلي معنا ما يغيب عنا يوماً واحداً، وحدب عليه أهل دارنا، وقالوا: نموت دونك، فما برح معنا في بني أمية بن زيد حتى عزل الخبيث.
لما مات الحجاج بن يوسف ووليد بن عبد الملك جعل الصبيان والإماء بالمدينة يقولون:
يا مهلك الإثنين ... أهلك ذاك الإنسان
قال: فكان عثمان بن حيان يقول: أنا ذاك الإنسان، فلما عزل عثمان بن حيان جهروا فقالوا:
يا مهلك الإثنين ... أهلك ذاك الإنسان
ومن ذاك الإنسان ... عثمان بن حيان
كنب عبد العزيز إلى عمر بن الوليد: إن أظلم مني وأجور من ولى عبد ثقيف خمس المسلمين، يحكم في دمائهم وأموالهم يعني زيد بن أبي مسلم وأظلم مني وأجور من ولى عثمان بن حيان الحجاز، ينطق بالأشعار على منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأظلم مني وأجور، من ولى قرة بن شريك مصر، أعرابي جلف جاف، أظهر فيها المعازف.
قال هبيرة بن الأشعث:
وجهني عبد الحميد بن عبد الرحمن إلأى عمر بن عبد العزيز بتقدير ديوان الكوفة، فإني لفي المقصورة إذ دخل رجل أمغر، أصهب السبال، عليه جبة خز حمراء، وكساء خز أحمر، وجعل القوم يقولون: مرحباً بك يا أبا المغراء ها هنا. فقلت: من هذا؟ قالوا:(16/86)
عثمان بن حيان المري. ثم دخل رجل طوال، خفيف العارضين، حسن اللحية، عتيق الوجه، عليه جبة خز خضراء، وكساء خز أخضر، فقال القوم: مرحباً بك أبا عقبة ها هنا. فقلت: من هذا؟ فقالوا: الجراح بن عبد الله الحكمي، إذ قال عثمان: العجب من رجل ولي ثغري العرب: خراستان وسجستان، فصعد منبرهم فقال: أتيتكم محفياً فتركتموني عصبياً. فانفرث من حمقه ولؤمه كانفراث الكبد، فأتانا مخلوعاً منزوعاً ملوماً مهاناً.
قال: فأكب الجراح ساعة ثم رفع رأسه فقال: أما تعجبون من رجل ولي ثغري العرب، فأتى قوماً متفرقة أهواؤهم، متشتتاً أمرهم، فلم يخف سبيلاً، ولم يسفك دماً، ولم يأت منكراً، ثم استعفى خليفته، فرجع إلى جنده غير عاجز ولا ملوم. وأحمق والله من ذاك وآلم وأمض لما يكره، رجل ولي حرم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشرب فيه الخمر، فضرب فيه الحد، وغسل منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه، ثم شتم ابن الخليفة عثمان بن عفان بما هو أولى منه، فضرب حداً آخر، ثم صعد به منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فطرح منه فاندقت ترقوته، فأتانا مخلوعاً منزوعاً مهاناً ملوماً.
فسمع عمر كلامهما، فقال: يا غلام، ما هذا؟ فقالوا: الجراح وعثمان استبا، قال: يا حرسي، اخرج فخذ بيد عثمان فأخرجه من المسجد، وقل لهما: الحقا بأهلكما، لا في كنف الله ولا في ستره. وكانا حجا جيين، فكان عمر يبغضهما.
وفي سنة اثنتين افتتح عثمان بن حيان سطبة، وما يليها من الحصون. وفي(16/87)
سنة أربع ومئة غزا عثمان بن حيان المري وعبد الرحمن بن سليم الكلبي سميرة فافتتحاها، وفيها غزا عثمان بن حيان قيصرة حصناً من حصون الروم. وقيل: إن عثمان غزا الروم في سنة ثلاث ومئة، وغزاها سنة خمس ومئة.
عثمان بن الخطاب بن عبد الله
ابن العوام أبو عمرو البلوي المغربي المعروف بأبي الدنيا الأشج قدم دمشق. قال أبو عمرو عثمان بن الخطاب: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام قال: إنه لعهد النبي الأمي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلي أنه لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق.
قال: وسمعت علي بن أبي طالب عليه السلام قال: لما نزلت " وتعيها أذن واعية " قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سألت الله عز وجل أن يجعلها أذنك يا علي.
حدث القاضي أبو الحسين أحمد بن يحيى العطار الدينوري بمدينة ميافارقين سنة ست عشرة وأربع مئة، قال: خرجت مع خالي سنة خمس وثلاث مئة نطلب الحج، حتى إذا كنا بمكة، وقضينا حجنا رأيت حلقة دائرة عليها خلق من الناس، فسألت بعضهم: من هؤلاء؟ فقالوا: حجاج من المغرب. فدنوت منهم، فإذا هم يقولون: هذا أبو سعيد الأشج؛ فجلست إليهم حتى صرنا في جماعة كثيرة، فقالوا له: حدثنا، فقال: نعم؛ خرجت مع أبي من المغرب من مدينة يقال لها: مربذة نطلب الحج، فوصلنا مصر، فبلغنا حرب علي بن أبي طالب عليه السلام مع معاوية؛ فقال لي أبي: أقم بنا يا بني حتى نقصد إلى علي بن أبي طالب عليه السلام؛ فلما وصلنا إلى دمشق خرجنا نطلب العسكر، فبينا نحن سائرون وكان يوماً شديد الحر، فلحق أبي عطش شديد، فقلت له: يا أبه اجلس حتى أمضي أرتد(16/88)
لك المال، وأحملك إليه حتى لا تتعب. فجلس وقصدت إلى طلب الماء يميناً وشمالاً، فبينا أنا أدور رأيت عيناً شبه البركة، فلم أملك نفسي أن خلعت ما كان علي وطرحت نفسي فيها، فتغسلت وشربت من مائها، وجئت إلى أبي فوجدته قد قضى، فواريته؛ وانصرفت أطلب أمير المؤمنين، فوصلت للعسكر ليلاً فبت؛ فلما كان من غد جئت فوقفت على باب خيمته، فخرج وقدم له بغلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم أن يركب، فأسرعت أن أقبل ركابه فنفحني بركابه أو قال: بالمهماز فشجني هذه الشجة وكشف عن رأسه فرأينا أثر الشجة قال: فتأخرت عنه، فنزل وصاح إلي: ادن مني فأنت الأشج. فدنوت منه، فمر يده علي وقال لي: حدثني بحديثك. فحدثته ما كان مني ومن أبي إلى أن وصلت العين، كيف سبحت فيها وشربت من مائها، فقال لي: يا بني تلك عين الحياة، اللهم عمره، اللهم عمره. يقولها ثلاثاً، وقال: أنت المعمر أبو الدنيا، اسمع ما أحدثك به: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى أن الدين قبل الوصية، وأنتم تقرون أو تقضون " من بعد وصية يوصي بها أو دين " وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون العلات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه.
قال أبو الفتح أحمد بن علي الجزري: سافرت إلى أرض إفريقية فلما وصلنا إلى القيروان وقف بنا رجل يسأل الناس، فروى لنا خبراً ممن هذه الأخبار، فقلت له: من أين لك هذا؟ قال: عندنا بالقيروان رجل مقعد يروي هذا الخبر مع أخبار جماعة. فمضيت إلى أبي عمران الفقيه المالكي وكان مقدماً بالقيروان فقصصت عليه الخبر، فقلت له: أخبرني بها أكتبها عنك. فقال لي: لا يجوز أن أمليها أنا. قلت: ولم ذلك؟ قال: فيها خبر لا يجمع عليه العامة. قلت: وما هو؟ قال: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سألت الله أن يجعلها أذنك ففعل. فأنت الأذن الواعية. فكيف يجوز أن يكون الأذن الواعية، ويتقدمه أحد من الناس؟.(16/89)
وذكره في حديث آخر بمعناه، وسماه أبا عمرو عثمان بن الخطاب البلوي عوض أبي سعيد الأشج في الحديث المتقدم.
وكان عثمان بن الخطاب يروي عن علي بن أبي طالب، وعاش دهراً طويلاً، وقدم بغداد بعد سنة ثلاث مئة، والعلماء لا يثبتون قوله، ولا يحتجون بحديثه.
توفي الأشج سنة سبع وعشرين وثلاث مئة، وهو راجع إلى بلده، وقيل: إنهم كانوا يكنونه بعد ذلك بأبي الحسن، ويسمونه علياً.
عثمان بن داود الخولاني
أخو سليمان بن داود.
حدث عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله، ما نسمع منك نحدث به كله؟ قال: نعم، إلا أن تحدث قوماً حديثاً لا تضبطه عقولهم، فيكون على بعضهم فتنة.
فكان ابن عباس يكن أشياء يفشيها إلى قوم.
عثمان بن زفر الجهني الدمشقي
حدث عثمان بن زفر عن بعض بني رافع بن مكيث عن رافع بن مكيث وكان ممن شهد الحديبية أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " حسن الملكة نماء، وسوء الخلق شؤم، والبر زيادة في العمر، والصدقة تمنع ميتة السوء.
وحدث عن أبي الأشد السلمي، عن أبيه عن جده قال: كنت سابع سبعة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجمع كل واحد منا(16/90)
درهماً، فاشترينا أضحية بسبعة دراهم، فقلنا: يا رسول الله، لقد أغلينا بها. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أفضل الضحايا أغلاها وأنفسها. فأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً فأخذ بيد، ورجلاً بيد، ورجلاً برجل، ورجلاً برجل، ورجلاً بقرن، ورجلاً بقرن، وذبحها السابع وكبرنا عليها جميعاً.
وفي حديث آخر بمعناه، قال بقية: فقلت لحماد بن زيد: من السابع؟ قال: لا أدري. قلت: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقيل في الراوي: إنه أبو الأشد، بالشين المعجمة والدال المشددة.
عثمان بن زياد
عزى سليمان بن عبد الملك عن ابنه أيوب لما توفي فقال: يا أمير المؤمنين إن عبد الرحمن بن أبي بكر كان يقول: من أحب البقاء فليوطن نفسه على المصائب.
عثمان بن سعد العذري
جالس عمر بن عبد العزيز، وولاه عمر دمشق.
قال سعيد بن عبد العزيز: ذكر عثمان بن سعد العذري أهل العراق عند عمر بن عبد العزيز، فقال عمر: لا تفرقوا بين الناس.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى واليه عثمان بن سعد على دمشق: إذا صليت بهم فأسمعهم قرآنك، وإذا خطبتهم فأفهمهم موعظتك.(16/91)
عثمان بن سعيد بن أحمد بن البري
أبو عمرو القاضي، والد صدقة بن عثمان.
حدث عن عمر بن الحسن بن نصر الحلبي القاضي بسنده إلى علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أحب أن يمد له في عمره فليتق الله، وليصل رحمه.
توفي القاضي أبو عمرو سنة سبع وأربعين وثلاث مئة.
عثمان بن سعيد بن خالد
أبو سعيد الدرامي السجزي.
سمع بدمشق. وحدث عن موسى بن إسماعيل بسنده إلى أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله، أكلنا يرى ربه يوم القيامة؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا رزين، أليس كلكم يرى القمر مخلياً به؟ قلت: بلى، قال: فالله أعظم ".
قال يعقوب بن إسخاق: سمعت عثمان بن سعيد الدرامي يقول: نويت ألا أحدث عمن أجاب إلى خلق القرآن. قال: فأدركته المنية، ولولا ذلك لترك الحديث عن جماعة من الشيوخ.
قال عثمان بن سعيد: قال لي رجل من أهل سجستان ممن كان يحسدني: مذا كنت أنت لولا العلم؟ فقلت: أردت شيناً فصار زيناً، سمعت نعيم بن حماد يقول: سمعت أبا معاوية يقول: قال الأعمش: لولا العلم لكنت بقالاً من بقالي الكوفة، وأنا لولا العلم لكنت بزازاً من بزازي سجستان.
لما رحل أبو الحسن الطرائفي إلى عثمان بن سعيد، وقدم هراة، دخل عليه،(16/92)
فقال له عثمان: متى قجمت هذا البلد؟ فأراد أن يقول: أمس، فقال: غداً، فقال له عثمان: فأنت إذاً في الطريق بعد.
توفي عثمان سنة ثمانين ومئتين. وقيل: توفي بهراة سنة اثنتين وثمانين ومئتين.
عثمان بن سعيد بن عبيد الله
ابن أحمد ابن أبي سفيان بن فطيس أبو القاسم حدث عن شرحبيل بن محمد بسنده إلى مسلم الخولاني قال: قدم وفد من أهل العراق على معاوية، فقام رجل منهم: فقال: يا أمير المؤمنين، إن لسلطان الله بهاء، فلو اتخذت أقواماً لهم بهاء كأنه يزري على أهل الشام فرفع أبو مسلم الخولاني فقال: ممن الرجل؟ فقال: من أهل العراق. فقال: نعم، ما رأيت قوماً أمد أجساماً، ولا أخرب قلوباً، ولا أسأل عن علم ولا أتركه له من أهل العراق. فقال له أصحابه: يا أبا مسلم، إنه لا يقول شيئاً. فقال أبو مسلم: فعما سمع جواباً؟
عثمان بن سعيد بن محمد بن بشير
أبو بكر الصيداوي.
من أهل صيدا من ساحل دمشق. حدث عن محمد بن شعيب بسنده إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأمور، ويكره سفسافها.
وحدث عن سليم بن صالح بسنده إلى أنس بن مالك قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر يوم من شعبان وأول ليلة من شهر رمضان فقال: " أيها الناس، هل تدرون ما تستقبلونه، وهل تدرون ما يستقبلكم؟ فقلنا: يا رسول الله، هل نزل وحي، أو حضر عدو، أو حدث أمر؟ فقال: هذا شهر رمضان يستقبلكم وتستقبلونه، ألا إن الله ليس بتارك يوم صبيحة الصوم أحداً من أهل القبلة إلا غفر له ".(16/93)
فنادى رجل من أقصى الناس فقال: يا طوبى للمنافقين، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: علي بالرجل، ما لي أراك ضاق صدرك؟ فقال: يا رسول الله، ذكرت أهل القبلة، والمنافقون هم من أهل القبلة! فقال: لا ليس لهم ها هنا حظ ولا نصيب، ألا إن المنافقين ليس هم منا ولا نحن منهم، ألا إن المنافقين هم الكافرون.
عثمان بن سعيد أبو سعيد الدمشقي
حدث عن عثمان بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: كنس البيت يورث الفقر.
عثمان بن سعيد أبو سهل الرازي
حدث عن عمرو بن الصلت البصري بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لست من دد ولا الدد مني ".
عثمان بن سليمان المدني
حدث عن عمر بن عبد العزيز قال: سمعته وهو خليفة يقول: شيئان ليس لأهلهما فيهما جواز أمر ولا لوال، إنما هما لله عز وجل يقوم بهما الوالي: من قتل عدواناً وفساداً في الأرض، ومن قتل غيلة.
عثمان بن أبي سودة أخو زياد بن أبي سودة
من أهل بدر المقدمين، أمه مولاة عبادة بن الصامت، وأبوه مولى عبد الله بن عمرو بن العاص، اجتاز بدمشق أو عمالها في غزوه.(16/94)
حدث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من عاد مريضاً، أو زار أخا له في الله، نادى مناد من السماء أن طبت وطاب ممشاك، وتبأت من الجنة منزلاً.
وعن عثمان بن أبي سودة قال: صلاة الأبرار: ركعتان إذا دخلت بيتك، وركعتان إذا خرجت.
وعنه أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يهتك ستر الله تبارك وتعالى. قيل: وكيف يهتك ستر الله عز وجل؟ قال: يعمل الذنب فيستره الله تعالى عليه فيذيعه في الناس.
وفي رواية: فيحدث به الناس.
عثمان بن طلحة بن أبي طلحة
عبد الله بن عبد العزى بن عبد الدار بن قصي ابن كلاب القرشي العبدري.
حاجب الكعبة. له صحبة ورواية عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أسلم في الهدنة، وهاجر مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وسكن مكة.
حدث عثمان بن طلحة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل الكعبة فصلى ركعتين وجاهك حين تدخل بين الساريتين.
وعن عثمان بن طلحة قال: قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاث يصفين لك ود أخيك: تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه.
هاجر عثمان في الهدنة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وخالد بن الوليد بن المغيرة، ولقوا عمرو بن العاص مقبلاً من عند النجاشي يريد الهجرة إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رآهم: رمتكم مكة بأفلاذ كبدها. يقول: إنهم وجوه أهل مكة.(16/95)
ودفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفتاح الكعبة إليه وإلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وقال: خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة، لا يأخذها منكم إلا ظالم.
فبنو أبي طلحة هم الذين يلون سدانة الكعبة دون بني عبد الدار. وأم عثمان بن طلحة أم سعيد بنت سهيل من بني عمرو بن عوف.
قال عثمان بن طلحة: لقيني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة قبل الهجرة فدعاني إلى الإسلام، فقلت: يا محمد، العجب لك حيث تطمع أن أتبعك وقد خالفت دين قومك، وجئت بدين محدث، ففرقت جماعتهم وألفتهم، وأذهبت بهاءهم. فانصرف، وكنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس، فأقبل يوماً يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فغلظت عليه، ونلت منه، وحلم عني، ثم قال: يا عثمان، لعلك سترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت. فقلت: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل عمرت وعزت يومئذ. ودخل الكعبة، فوقعت كلمته مني موقعاً ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال: قال: فأردت الإسلام ومقاربة محمد، فإذا قومي يزبروني زبراً شديداً، ويزرون برأيي، فأمسكت عن ذكره، فلما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة جعلت قريش تشفق من رجوعه عليها، فهم على ما هم عليه حتى جاء النفير إلى بدر، فخرجت فيمن خرج من قومنا، وشهدت المشاهد كلها معهم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلما دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة عام القضية غير الله قلبي عما كان عليه، ودخلني الإسلام، وجعلت أفكر فيما نحن عليه، وما نعبد من حجر لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر، وأنظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وظلف أنفسهم عن الدنيا، فيقع ذلك مني فأقول: ما عمل القوم إلا على الثواب لما يكون بعد الموت، وجعلت أحب النظر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أن رأيته خارجاً من باب بني شيبة يريد منزلة بالأبطح، فأردت أن آتيه وآخذ بيده وأسلم عليه، فلم يعزم لي على ذلك، وانصرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجعاً إلى المدينة، ثم عزم على الخروج إليه، فأدلجت إلى بطن(16/96)
يأجج، فألقى خالد بن الوليد. فاصطبحنا حتى نزلناه الهدة، فما شعرنا إلا بعمرو بن العاص، فانقمعنا منه وانقمع منا، ثم قال: أين يريد الرجلان؟ فأخبرناه، فقال: وأنا أريد الذي تريدان، فاصطحبنا جميعاً حتى قدمنا المدينة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبايعته على الإسلام، وأقمت معه حتى خرجت معه في غزوة الفتح، ودخل مكة فقال لي: يا عثمان، ائت بالمفتاح. فأتيته به، فأخذه مني ثم دفعه إلي مضطبعاً عليه بثوبه، وقال: خذها تالدة خالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف. قال عثمان فلما وليت ناداني، فرجعت إليه فقال: ألم يكن الذي قلت لك؟ قال: فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: لعلك سترى هذا المفتاح يوماً بيدي، أضعه حيث شئت. فقلت: بلى أشهد أنك رسول الله.
قال ابن عمر: قدم عثمان بن طلحة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة في صفر سنة ثمان. وهذا أثبت الوجوه في إسلام عثمان، ولم يزل مقيماً بالمدينة حتى قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرجع إلى مكة، فنزلها حتى مات بها في أول خلافة معاوية بن أبي سفيان.
قال ابن عمر: قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يوم الفتح، فنزل أعلى مكة، ثم دعا عثمان بن طلحة، فجاء بالمفتاح، ففتح الباب، فدخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودخل بلال وأسامة وعثمان بن طلحة فأغلقوا الباب، فلبثوا فيه ملياً، ثم إن الباب فتح، قال عبد الله: فبادرت الناس، فتلقاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خارجاً وبلال على أثره، فسألت بلالاً هل صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه؟ قال: نعم، قلت: أين؟ قال: بين العمودين تلقاه وجهه؟ قال: فنسيت أن أسأله كم صلى.(16/97)
وفي حديث آخر قال عبد الله: فسألت بلالاً حين خرج: ماذا صنع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: جعل عموداً عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، ثم صلى.
قالوا: وكان المتولي البيت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وليست له هجرة، وكان عثمان بن طلحة بن أبي طلحة هاجر وسكن المدينة، وإليه دفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المفتاح.
وفي حديث آخر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جلس ناحية من المسجد، وأرسل بلالاً إلى عثمان بن طلحة يأتيه بالمفتاح الكعبة، فجاء بلال إلى عثمان فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرك أن تأتي بمفتاح الكعبة، قال عثمان: نعم، فخرج عثمان إلى أمه، ورجع بلال إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره أنه قال: نعم. ثم جلس بلال مع الناس، فقال عثمان لأمه والمفتاح يومئذ عندها: يا أمة: أعطني المفتاح، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أرسل إلي وأمرني أن آتي به إليه. فقالت له أمه: أعيذك بالله أن تكون الذي تذهب مأثرة قومه على يديه. قال: فوالله لتدفعنه أو ليأتينك غيري فيأخذه منك.
وفي حديث غيره فقال: والله لئن تعطينيه ليخرجن هذا السيف من بطني، قال: فأدخلته في حجزتها وقالت: أي رجل يده ها هنا؟ فبينما هما على ذلك، وهو يكلمها إذ سمعت صوت أبي بكر وعمر في الدار، وعمر رافع صوته حين رأى إيطاء عثمان: يا عثمان اخرج. فقالت أمه: يا بني خذ المفتاح، فإن تأخذه أنت أحب إلي من أن تأخذه تيم وعدي. قال: فأخذه عثمان فأتى به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فناوله إياه فلما ناوله إياه بسط العباس بن عبد المطلب يده فقال: يا نبي الله، بأبي أنت، اجمع لنا الحجابة والسقاية. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعطيكم ما ترزؤون فيه، ولا أعطيكم ما ترزؤون منه.(16/98)
وقيل: إن عمر بن الخطاب بعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من البطحاء ومعه عثمان بن طلحة، وأمره أن يتقدم فيفتح البيت، فلا يدع فيه صورة إلا محاها، ولا تمثالاً، إلا صورة إبراهيم، فلما دخل الكعبة رأى صورة إبراهيم شيخاً يستقسم بلأزلام، ويقال: أمره أن لا يدع فيها صورة إلا محاها، فترك عمر صورة إبراهيم، فلما دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى صورة إبراهيم فقال: يا عمر، ألم آمرك أن لا تدع فيها صورة إلا محوتها؟ فقال عمر: كانت صورة إبراهيم، قال: فامحها.
وعن مجاهد في قوله تعالى: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " قال: نزلت في عثمان بن طلحة، قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفتاح الكعبة، فدخل الكعبة يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح، وقال: خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله لا ينزعها منكم إلا ظالم.
قالت صفية بنت شيبة: إني لأنظر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم فتح مكة، فقام إليه علي بن أبي طالب، ومفاتيح الكعبة بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا نبي الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال: ها مفتاحك.
قال سعيد بن المسيب: لما دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة ففتحها، أخذ المفتاح بيده ثمقام للناس، فقال: هل من متكلم؟ هل من أحد يتكلم؟ قال: فتطاول العباس ورجال من بني هاشم رجاء أن(16/99)
يدفعها إليهم مع السقاية، قال: فقال لعثمان بن طلحة: تعال. قال: فجاء فوضعها في يده. وقال الزهري: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفع المفتاح إلى عثمان، وقال له: يا عثمان، غيبوه. قال جبير بن مطعم في روايته: فلذلك تغيب المفتاح.
مات عثمان بن طلحة سنة إحدى وأربعين، وقيل: سنة اثنتين وأربعين، وقيل: قتل بأجنادين.
عثمان بن أبي العاتكة سليمان
أبو حفص قاص أهل دمشق. حدث عن علي بن يزيد بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الغسل من الجنابة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإني أفرغ على رأسي ثلاث مرات، أعرك رأسي في كل مرة ".
وحدث عن سليمان بن حبيب المحاربي، عن الوليد بن عبادة أن أباه عبادة بن الصامت لما احتضر قال له ابنه عبد الرحمن: يا أبتاه، أوصني. قال: أجلسوني لابني. فأجلسوه له، ثم قال: يا بني اتق الله، ولن تتقي الله حتى تؤمن بالله، ولن تؤمن بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: القدر على هذا، من مات على غير هذا أدخله الله النار.
كان دحيم ينسب عثمان إلى الصدق، ويثني عليه ويقول: كان معلم أهل دمشق. ويقالبالشام للمقرئ معلم، وقد ضعفه قوم آخرون.
وتوفي سنة نيف وأربعين ومئة، وقيل: سنة خمس وخمسين ومئة.(16/100)
عثمان بن عاصم بن حصين
ويقال: ابن عاصم بن زيد بن كثير بن زيد بن مرة أبو حصين الأسدي الكوفي.
حدث عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ".
يقال: إن عثمان بن عاصم من ولد عبيد بن الأبرص الشاعر لم يكن له ولد ذكر، وكان من قراء أهل الكوفة، كان يقرأ عليه في مسجد الكوفة خمسين سنة.
وحصين: بفتح الحاء وكسر الصاد، أبو حصين عثمان بن عاصم، وكان شيخاً عالماً صاحب سنة، وكان عثمانياً، رجلاً صالحاً، ثقة، ثبتاً في الحديث، وكان أعلى سناً من الأعمش، ووقع بينه وبين الأعمش شر، حتى تحول الأعمش عنه إلى بني حرام.
أتي أبو حصين بجائزة من السلطان فلم يقبلها، فقيل له: مالك لم تقبلها؟ قال: الحياء والتكرم.
كان أبو حصين إذا سئل عن مسألة قال: ليس لي بها علم، والله أعلم. وكان أبو حصين يقول: إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر.
وحدث شعبة قال: حدثنا أبو حصين عن ذكوان عن أبي هريرة قال: من رآني في النوم فقد رآني. فقالوا لشعبة: يا أبا بسطام رفعه؟ قال: لو قلت هذا لأبي حصين للطم عيني، وكان في خلق أبي حصين زعارة مشددة الراء.
وقال أبو حصين: كنت ولا يصطلى بناري، فصرت اليوم أنحس بالقضيب.(16/101)
قال وكيع: كان أبو حصين يقول: أنا أقرأ من الأعمش، وكانا في مسجد بني كاهل، فقال الأعمش لرجل يقرأ عليه: اهمز الحوت فهمزه، فلما كان من الغد، قرأ أبو حصين في الفجر نون فقرأ " كصاحب الحؤت " فهمزها، فلما صلى قال الأعمش: يا أبا حصين، كسرت ظهر الحوت. فكانن ما بلغكم. والذي بلغنا أنه قذفه، فحلف الأعمش ليحدنه، فكلمه بنو أسد فأبى، فقال خمسون منهم: والله لنشهدن أن أمه كما قال: فحلف ألا يساكنهم، وتحول إلى بني حرام.
وعن الأعمش قال: كان أبو حصين يسمع مني ثم يذهب فيرويه.
قال القاسم بن معن: خرج أبو حصين وهو يضرب بغله، وهو يقول: الحمد لله الذي سار بي تحت رايات الهدى يعني مع زيد بن علي. وفي نسخة أخرى: أبو كبير.
وهذه الحكاية بأبي كبير أشبه، فإن أبا حصين كان عثمانياً.
توفي أبو حصين سنة سبع وعشرين ومئة، وقيل: سنة ثمان وعشرين ومئة، وقيل: سنة تسع وعشرين، وكان الطاعون سنة ثلاثين. وقيل: توفي سنة اثنتين وثلاثين ومئة.
عثمان بن عبد الله بن إبراهيم
ابن محمد أبو عمرو الطرسوسي الكاتب.
قاضي معرة النعمان، سمع بدمشق وبغيرها. حدث عن أبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي البغدادي، المعروف بابن العلاف بسنده إلى أبي أمامة قال: قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم ".(16/102)
وحدث عن أبي العباس أحمد بن أبي بكر الفقيه بسنده إلى أبي ذر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يكون قرية أو مدينة أو مصر، يقال له البصرة، أقوم الناس قبلة، وأكثره مؤذنون، يدفع الله عنهم ما يكرهون ".
توفي عثمان الطرسرسي سنة إحدى وأربع مئة.
عثمان بن عبد الله بن أبي جميل
أبو سعيد القرشي.
حدث عن مروان بن محمد الطاطري بسنده إلى أبي الدرداء قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوشحاً في ثوب واحد، في رأسه أثر الغسل، قال: فصلى، قال: فقلت: يا رسول الله، أفيه وفيه؟ قال: نعم. يعني الجنابة والصلاة.
وحدث عن حجاج بن محمد الأعور بسنده إلى علي بن شيبان وكان ممن وفد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا ينظر الله إلى صلاة عبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده ".
توفي ابن أبي جميل سنة تسع وسبعين ومئتين.
عثمان بن عبد الله بن محمد
ابن خرزاد بن عمرو الأنطاكي.
سمع بدمشق وغيرها. حدث عن مؤمل بن الفضل بسنده إلى أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا نادى المنادي أدبر الشيطان وله ضراط، فإذا قضى أقبل، فإذا ثوب بها أدبر، حتى يخطر بين الرجل وقلبه فيقول: اذكر كذا وكذا، ولما لم يكن يذكر، حتى لا يدري أثلاثاً صلى أم أربعاً أم واحدة، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين وهو جالس.
وحدث عن سليمان بن عبد الرحمن بسنده إلى عطاء بن أبي رباح قال: دعي أبو سعيد الخدري إلى وليمة وأنا معه، فدخلنا، فرأى صفرة وخضرة، فقال: أما(16/103)
يعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا تغدى لم يتعش، وإذا تعشى لم يتغد؟ وكان ثقة مأموناً، وكان يقول: يحتاج صاحب الحديث إلى خمس، فإن عدمت واحدة فهي نقص: يحتاج إلى عقل جيد، ودين، وضبط لما يقول، وحذاقة بالصناعة، مع أمانة تعرف منه.
توفي عثمان بن عبد الله سنة إحدى وثمانين ومئتين، وقيل: سنة اثنتين وثمانين ومئتين بأنطاكية.
عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة
الأزدي القاضي.
من أهل دمشق، وهو من بطن الأزد يقال لهم الخبائل من بني سعد بن الغطريف بن بكر بن يشكر، كانت داره بدمشق.
حدث عن كهيل بن حرملة النمري قال: سمعت أبا هريرة يقول: كيف بكم إذا خرجتم منها كفراً كفراً إلى سنبك من الأرض يقال لها: حسمى جذام، إذا لم تأخذوا أبيض ولا أصفر، ولم يخدمكم ثدراء لا ينان ولا جرجنة ولا مارق، وكيف بكم إذا أخرجتم منها كفراً كفراً إلى سنبك من الأرض يقال لها: حسمى حذام، قال: فقال قائل: أبصر ما تقول يا أبا هريرة! قال فغضب حتى تخالج لونه،(16/104)
فقال: لقد ضل أبو هريرة وما اهتدى إن لم تكن سمعته أذناي ووعاه قلبي. قالها مراراً.
قال ابن سراقة: كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشاوره في جارية أراد أن يشتريها، قال: فكتب إليه عمر لا تتخذ منهن فإنهن قوم لا يتعايرون الزنى، وإن الله نزع الحياء من وجوههم كما نزع من وجوه الكلاب، وعليك بجارية من سبايا العرب، تحفظك في نفسها، وتخلفك في ولدها.
وكان عثمان بن سراقة أمير دمشق في أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
عثمان بن عبد الرحمن بن مسلم
أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد: أبو عبد الله ويقال: أبو هاشم الحراني، مولى بني أمية ويعرف بالطرائفي، لقب بذلك لأنه كان يتتبع طرائف الحديث. سمع بدمشق وبغيرها.
حدث عن أبي يوسف بسنده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الجمعة حج الفقراء " وحدث عن عبد الرحمن بن ثابت بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اختتن إبراهيم خليل الرحمن بعد أن مرت عليه ثمانون سنة، واختتن بالفأس ".
وحدث عن أحمد بن حفص الجزري عن أبي الفضل بن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما اجتمع قوم قط في مشورة، معهم رجل اسمه محمد، لم يدخلوه في مشورتهم إلا لم يبارك لهم ".
توفي سنة ثلاث أواثنتين ومئتين.(16/105)
عثمان بن عثمان الثقفي
له صحبة، كان عاملاً على صنعاء دمشق. روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله ليقبل التوبة من عبده قبل أن يموت بسنة إلى أن رجع إلى فواق ناقة ".
وحدث به عثمان موقوفاً قال: إن الله يقبل التوبة من عبده قبل موته بسنة، ثم قال له: عثمان ابن عثمان الثقفي، فلما قدم ورأى رجال أهل اليمن رجع، فقال له عثمان: ما ردك؟ قال: رأيت قوماً ما سئلوا أعطوه، إن سئلوا حقاً أعطوه، وإن سئلوا باطلاً أعطوا، فلا أعمل على هؤلاء أبداً.
عثمان بن عروة بن الزبير بن العوام
ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى القرشي الأسدي.
حدث عن أبيه عن الزبير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود.
وحدث عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف.
وحدث عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " لقد كنت أطيب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند إحرامه بأطيب ما أجد.(16/106)
وفد عثمان بن عروة على مروان بن محمد، فأخبر به، فقال: أنا راكب غداً فلا تورونيه حتى أتوسمه في الناس. فركب فتصفح وجوه الناس، ثم أقبل على بعض من معه فقال: ينبغي أن يكون ذاك عثمان بن عروة وأشار إليه فقال: هو هو يا أمير المؤمنين. وكان وسيماً جميلاً، فأعطاه مروان مئة درهم، قال: ثم قدم من عند مروان، فأغلى كراء الحمر من كثرة من يلقاه، فقلت له: ولم ذاك؟ قال: يرجون جوائزه.
قال عروة بن خالد بن عبد الله:
دخلت المقصورة في زمن هشام بن عبد الملك، فإذا رجل من أهل الشام قدم من عند هشام بن عبد الملك، فجلست إلى جنبه، وغلقت المقصورة، فاستفتح رجل ففتح له، فإذا محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فأقبل حتى وقف قريباً، ونزع نعله فقام يصلي، فقال الشامي: ما رأيت كاليوم رجلاً أجمل ولا أهيأ من هذا! فقلت: هذا عمي، هذا محمد بن عبد الله بن عمرو. وغلقت المقصورة، ثم استفتح رجل ففتح له فإذا هو عثمان بن عروة بن الزبير، فإذا مثله في الجمال والهيئة، فجاء فجلس قريباً منا، فقال الشامي: ما رأيت كاليوم رجلاً أجمل ولا أهيأ من هذا! فقلت: هذا خالي أخو أمي عثمان بن عروة بن الزبير، ثم أغلقت المقصورة فاستفتح رجل ففتح له فإذا عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فإذا مثلهما في الجمال والهيئة، فأقبل حتى وقف قريباً منا، فقال الشامي: ما رأيت كاليوم رجلاً أجمل ولا أهيأ من هذا! فقلت: هذا ابن خال أبي، وهو ابن خالي، فأقبل علي الشامي فقال: ويحك ما قدرت أن تشبه من هؤلاء أحداً؟ وكان عروة بن خالد قبيحاً.
كان عثمان بن عروة جميل الوجه، جيد الثياب والمركب، عطراً، وقال: إن كان أبي ليقول لي وأنا أغلف لحيتي بالغالية: إني لأراها ستقطر أو قد قطرت. وما يعيب ذلك علي(16/107)
وكان عثمان بن عروة يقوم من مجلسه، فيأتي ناس يستلون الغالية من على الحصى لما أصابها من لحيته.
قال عثمان بن عروة: الشكر وإن قل جزاء لكل نائل وإن جل.
عثمان بن عطاء بن ميسرة
أبو مسعود الخراساني.
من أهل بيت المقدس. وفد مع أبيه على هشام بن عبد الملك.
حدث عن أبيه قال: كان العباس يقول: سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول: " عينان لا تصيبها النار: عين بكت في جوف الليل من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله ".
وحدث عن أبي عمران عن ذي الأصابع رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قلنا يا رسول الله، أرأيت إن ابتلينا بالبقاء بعدك، أين تأمرنا؟ قال: فعليك ببيت المقدس، فعسى الله أن ينشو لك ذرية، يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون.
قال ابن عطاء: ولدت سنة ثمان وثمانين. وتوفي سنة خمس وخمسين مئة. وضعفه قوم.(16/108)
عثمان بن عفان بن أبي العاص
ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو عمرو وأبو عبد الله القرشي الأموي.
أمير المؤمنين، ذو النورين، صاحب الهجرتين، زوج الابنتين، قديم الإسلام، وقدم الشام قبل الإسلام في تجارة، واجتاز بالبلقاء، وكان على ميمنة عمر رضي الله عنهما في خرجته إلى الشام التي رجع منها من سرغ، وقدم مع عمر.
حدث عثمان قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة ".
وحدث أبو صالح مولى عثمان أن عثمان قال: أيها الناس، هجروا فإني مهجر، فهجر الناس، ثم قال: أيها الناس، إني محدثكم بحديث ما تكلمت به منذ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومي هذا، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن رباط يوم في سبيل الله أفضل من ألف يوم مما سواه، فليرابط امرؤ حيث شاء، هل بلغتكم؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
وعن عثمان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا إن خياركم أو قال: أفاضلكم من تعلم القرآن وعلمه ".
تزوج عثمان رقية بنت سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجاهلية، فولدت له عبد الله بن عثمان، وبه كان يكنى، حتى كني بعد ذلك بعمرو، وبكل قد كان يكنى.
وأم عثمان أروى بنت كريز بن حبيب بن عبد شمس، وأمها أم حكيم بنت عبد المطلب بن هاشم توأمة أبي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي البيضاء.(16/109)
وكان أبو عثمان بن عفان خرج في تجارة إلى الشام فهلك هناك، ويقال: إنه قتل بالغميضاء مع الفاكه بن المغيرة.
وأم حكيم بنت عبد المطلب هي التي قالت لامرأة من قريش قاولتها: إني لحصان فما أكلم، صناع فما أعلم.
وهاجر عثمان بن عفان رضي الله عنه الهجرتين إلى الحبشة مع امرأته رقية ابنة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم إلى المدينة، وخلفه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين خرج إلى بدر على ابنته رقية، وكانت مريضة، فماتت يوم زيد بن حارثة المدينة بشيراً بفتح بدر، وضرب له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسهمه وأجره، وزوجه أم كلثوم من بعد رقية، واستخلفه في غزوته إلى ذات الرقاع، واستخلفه في غزوته إلى غطفان بذي أمر بنجد.
وكان عثمان في الجاهلية يكنى أبا عمرو، فلما كان الإسلام ولد له من رقية بنت رسول الله صلى اله عليه وسلم غلام سماه عبد الله، واكتنى به، فكناه المسلمون أبا عبد الله! فبلغ عبد الله ست سنين فنقره ديك على عينه فمرض فمات في جمادى الأولى سنة أربع من الهجرة، فصلى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزل في حفرته عثمان.
كانت خلافته اثنتي عشرة إلا ثنتي عشرة ليلة. وقتل وهو ابن تسعين أو ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه جبير بن مطعم، ودفن في حش كوكب والحشاش: البساتين الصغار.
بويع له يوم الجمعة غرة المحرم سنة أربع وعشرين بعد موت عمر بثلاثة أيام.(16/110)
وشهد له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة، وتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عنه راض، قيل: إنه أسلم بعد أبي بكر وعلي وزيد بن حارثة.
وكان حسن الوجه، ليس بالقصير ولا بالطويل، كبير اللحية، أسمر اللون، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، يخضب بالصفرة، وكان قد شد أسنانه بالذهب.
قتل يوم الجمعة، وقيل: يوم الأربعاء لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.
ولما أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببيعة الرضوان كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهل مكة، فبايع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس، ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله. فضرب بإحدى يديه على الأخرى فكانت يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعثمان خيراً من أيديهم.
وأخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الملائكة تستحي منه، وجهز جيش العسرة من خالص ماله، واشترى بئر رومة، فجعل دلوه كدلاء المسلمين.
كان من القانتين بآيات الله آناء الليل ساجداً حذراً لآخرته ورجاء لرحمة ربه، يحيي القرآن جل لياليه في ركعة حياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخليفتيه، فلما ولي كان خير الخيرة وإمام البررة. أخبر الله عز وجل على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه مع أصحابه حين وقوع الفتنة على الحق، فكان كذلك إلى أن قتل شهيداً، وشهد له بالجنة، ومات وهو عنه راض.
ودفن عثمان بالبقيع ليلاً، وصلى عليه جبير بن مطعم، وخلفه حكيم بن حزام، وأبو جهم بن حذيفة ونيار بن مكرم الأسلمي ونائلة وأم البنين بنت عيينة. ونزل في حفرته نيار وأبو جهم وجبير، وكان حكيم وأم البنين ونائلة يدلونه على الرجال حتى لحد وبني عليه، وغيبوا قبره وتفرقوا. رضي الله عنه.(16/111)
قال أبو عبد الله مولى شداد بن الهاد: رأيت عثمان بن عفان يوم الجمعة على المنبر، عليه إزار عدني غليظ، ثمنه أربعة دراهم أو خمسة وريطة كوفية ممشقة، ضرب اللحم، طويل اللحية، حسن الوجه.
قال عبد الله بن حزم المازني: رأيت عثمان بن عفان فما رأيت قط ذكراً ولا أنثى أحسن وجهاً منه.
وكان عثمان أحسن الناس ثغراً، جمته أسفل من أذنيه، خدل الساقين، طويل الذراعين، أقنى ربعة، رقيق البشرة.
قال الحسن بن أبي الحسن: دخلت المسجد فإذا أنا بعثمان بن عفان متكئاً على ردائه، فأتاه سقاءان يختصمان إليه، فقضى بينهما، ثم أتيته فنظرت إليه، فإذا رجل حسن الوجه، وإذا بوجنته نكتات من جدري، وإذا شعره قد كسا ذراعيه.
سأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد، صف لنا عثمان. قال: كان رجلاً أبيض، نحيف الجسم، مشرف الأنف، كثير شعر الساعدين والساقين، شعر رأسه إلى أنصاف أذنيه. قلت: ماذا كان رداؤه؟ قال مضرجاً، قلت: كم كان ثمنه؟ قال: ثمانية دراهم، قلت: ما كان قميصه؟ قال: سنبلانياً، قلت: كم ثمنه؟ قال: ثمانية دراهم، قال: ونعلاه معقبتان مخصرتان، لهما قبالان.(16/112)
وقيل في وصفه: إنه كان أضلع، أروح الرجلين، وكان من المهاجرين الأولين، هاجر إلى الحبشة ومعه رقية ابنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنهما لأول من هاجر إلى الله بعد إبراهيم ولوط. ثم هاجر إلى المدينة، واشترى بئر رومة بعشرين ألف درهم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يزيد في مسجدنا؟ فاشترى عثمان موضع خمس سواري فزاده في المسجد. وجهز جيش العسرة بتسع مئة وخمسين بعيراً، وأتمها ألفاً بخمسين فرساً.
قال أسامة بن يزيد: بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصفحة فيها لحم إلى عثمان، فدخلت عليه، فإذا هو جالس مع رقية، ما رأيت زوجاً أحسن منهما، فجعلت مرة أنظر إلى عثمان ومرة أنظر إلى رقية، فلما رجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: دخلت عليهما؟ قلت: نعم. قال: هل رأيت زوجاً أحسن منهما؟ قلت: لا يا رسول الله، وقد جعلت مرة أنظر إلى رقية ومرة أنظر إلى عثمان.
وفي رواية أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى عثمان بهدية، فاحتبس الرسول ثم جاء، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما حبسك؟ ثم قال: إن شئت أخبرتك ما حبسك، كنت تنظر إلى عثمان مرة، وإلى رقية مرة، أيهما أحسن. قال: إي والذي بعثك بالحق، إنه الذي حبسني.
قالوا: وكان أحسن زوج في الإسلام عثمان ورقية. ولما عرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإسلام على عثمان وأسلم قال: يا رسول الله، قدمت حديثاً من الشام، فلما كنا بين معان والزرقاء فتحرك النيام إذا مناد ينادينا أيها النيام هبوا(16/113)
فإن أحمد قد خرج بمكة، فقدمنا فسمعنا بك. وكان إسلام عثمان قديماً قبل دخول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دار الأرقم.
ومن حديث في إسلام عثمان حدث به عثمان عن نفسه أنه قال: كنت رجلاً مستهتراً بالنساء، فإني ذات ليلة بفناء الكعبة قاعد في رهط من قريش إذ أتينا فقيل لنا: إن محمداً قد أنكح عتبة بن أبي لهب من رقية ابنته وكانت رقية ذات جمال رائع قال عثمان: فدخلتني الحسرة لم لا أكون أنا سبقت إلى ذلك، قال: فلم ألبث أن انصرفت إلى منزلي، فأصبت خالة لي قاعدة وهي سعدى بنت كريز قال عثمان: وكانت قد طرفت وتكهنت عند قومها، فلما رأتني قالت: من مشطور الرجز
أبشر وحييت ثلاثاً تترى
ثم ثلاثاً وثلاثاً أخرى
ثم بأخرى كي تتم عشرا
أتاك خير ووقيت شرا
أنكحت والله حصاناً زهرا
وأنت بكر ولقيت بكرا
وافيتها بنت عظيم قدرا
بنيت أمراً قد أشاد ذكرا
قال عثمان: فعجبت من قولها وقلت: يا خالة؟؟؟، ما تقولين؟ فقالت: عثمان من مشطور الرجز
لك الجمال ولك اللسان
هذا نبي معه البرهان
أرسله بحقه الديان(16/114)
وجاءه التنزيل والفرقان
فاتبعه لا تغتالك الأوثان
قال: قلت: يا خالة؟؟، إنك لتذكرين شيئاً ما ذكره ببلدنا فأبينيه لي، فقالت:
محمد بن عبد الله ... رسول من عند الله
جاء بتنزيل الله ... يدعو به إلى الله
ثم قالت: من منهوك المنسرح
مصباحه مصباح
ودينه فلاح
وأمره نجاح
وقرنه نطاح
ذلت له البطاح
ما ينفع الصياح
لو وقع الذباح
وسلت الصفاح
ومدت الرماح
قال: ثم انصرفت، ووقع كلامها في قلبي، وجعلت أفكر فيه، وكان لي مجلس عند أبي بكر، فأتيته فأصبته في مجلس ليس عنده أحد، فجلست إليه، فرآني مفكراً، فسألني عن أمري وكان رجلاً متأنياً فأخبرته بما سمعت من خالتي، فقال: ويحك يا عثمان، إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأوثان التي يعبدها قومنا؟ أليست من حجارة صم، لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع؟ قال: قلت: بلى والله إنها لكذلك. قال: فقد صدقتك خالتك، هذا رسول الله، محمد بن عبد الله، قد بعثه الله برسالته إلى خلقه، فهل لك أن تأتيه فتسمع منه؟ قال: قلت: بلى، فما كان أسرع من أن(16/115)
مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه علي بن أبي طالب عليه السلام يحمل ثوباً، فلما رآه أبو بكر قام إليه، فساره في أذنه بشيء، فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقعد، ثم أقبل علي فقال: يا عثمان، أجب الله إلى جنته، فإني رسول الله إليك وإلى خلقه. قال: فوالله ما تمالكت حين سمعت قوله أن أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فكان يقال: أحسن زوج رقية وعثمان، وكان يقال: أحسن زوج رآه إنسان: رقية وزوجها عثمان.
وفي إسلام عثمان تقول خالته سعدى بنت كريزبن ربيعةبن عبد شمس: من الطويل
هدى الله عثماناً بقولي إلى الهدى ... وأرشده، والله يهدي إلى الحق
فتابع بالرأي السديد محمداً ... وكان برأي لا يصد عن الصدق
وأنكحه المبعوث بالحق بنته ... فكانا كبدر ما زج الشمس في الأفق
فداؤك يابن الهاشميين مهجتي ... وأنت أمين الله أرسلت في الخلق
ثم جاء الغد أبو بكر بعثمان بن مظعون وبأبي عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وأبي سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، فأسلموا، وكانوا مع من اجتمع مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمانية وثلاثين رجلاً.
قال محمد بن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر وأظهر إسلامه، ودعا إلى الله ورسوله، وكان أبو بكر رجلاً مألفاً لقومه محبباً سهلاً، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير أو شر، وكان رجلاً تاجراً ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه تجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه فيما بلغني: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، فانطلقوا ومعهم أبو بكر حتى أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعرض عليهم الإسلام، وقرأ عليهم القرآن، وأنبأهم بحق(16/116)
الإسلام وبما وعدهم الله من الكرامة، فآمنوا وأصبحوا مقرين بحق الإسلام، فكان هؤلاء النفر الثمانية يعني مع علي وزيد بن حارثة الذين سبقوا إلى الإسلام، فصلوا وصدقوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآمنوا بما جاء من عند الله تعالى.
ولما أسلم عثمان بن عفان أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية، فأوثقه رباطاً وقال: نزعت عن ملة آبائك إلى دين محدث؟؟ والله لا أحلك أبداً حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين. فقال عثمان: والله لا أدعه أبداً ولا أفارقه. فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه.
قال أبو ثور الفهمي: قدمت على عثمان، فبينا أنا عنده فخرجت، فإذا بوفد أهل مصر قد رجعوا، فدخلت على عثمان فأعلمته، قال: وكيف رأيتهم؟ قلت: رأيت في وجوههم الشر. وعليهم ابن عديس البلوي، فصعد ابن عديس منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلى بهم الجمعة وتنقص عثمان في خطبته، فدخلت على عثمان فأخبرته بما قام فيهم، فقال: كذب والله ابن عديس، ولولا ما ذكر ما ذكرت ذلك: إني لرابع أربعة في الإسلام، ولقد أنكحني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنته، ثم توفيت فأنكحني ابنته الأخرى، وما زنيت ولا سرقت في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أتت علي جمعة إلا وأنا أعتق فبها رقبة منذ أسلمت إلا أن لا أجدها في تلك الجمعة، فأجمعها في الجمعة الثانية.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنته أم كلثوم قال لأم أيمن: هيئي ابنتي أم كلثوم وزفيها إلى(16/117)
عثمان، وخفقي بين يديها بالدف. ففعلت ذلك، فجاءها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الثالثة، فدخل عليها فقال: يا بنية، كيف وجدت بعلك؟ قالت: خير بعل. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما إنه أشبه الناس بجدك إبراهيم وأبيك محمد صلى الله عليهما.
وعن أنس بن مالك قال: أول من هاجر إلى أرض الحبشة عثمان بن عفان، خرج وخرج بابنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأبطأ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرهما، فجعل يتوكف الخبر، فقدمت امرأة من قريش من أرض الحبشة، فسألها فقالت: رأيتهما قال: على أي حال رأيتهما؟ قالت: رأيته وقد حملها على حمار من هذه الدبابة، وهو يسوق بها.
فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صحبهما الله، إن كان عثمان بن عفان لأول من هاجر إلى الله بعد لوط.
وعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما كان بين عثمان ورقية، وبين لوط من مهاجر.
وعن أسماء ابنة أبي بكر قالت: كنت أحمل الطعام إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي، وهما في الغار. قالت: فجاء عثمان إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إني أسمع من المشركين من الأذى فيك ما لا صبر لي عليه؛ فوجهني وجهاً أتوجهه، فلأ هجرنهم في ذات الله. فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أزمعت بذاك يا عثمان؟ قال: نعم. قال: فليكن وجهك إلى هذا الرجل بالحبشة يعني النجاشي فإنه ذو وفاء، واحمل معك رقية ولا تخلفها، ومن رأى معك من المسلمين مثل رأيك، فليتوجهوا هناك، وليحملوا معهم نساءهم ولا يخلفوهم. قال: فودع عثمان نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبل يديه.
قال: فبلغ عثمان المسلمين رسالة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال لهم: إني خارج من تحت ليلتي فمقيم لكم بجدة ليلة أو ليلتين، فإن أبطأتم فوجهني إلى باضع جزيرة في البحر(16/118)
قالت: فحملت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: ما فعل عثمان ورقية؟ قلت: قد سارا فذهبا: قالت: فقال: قد سارا فذهبا؟ قلت: نعم فالتفت إلى أبي بكر فقال: زعمت أسماء أن عثمان ورقية قد سارا فذهبا، والذي نفسي بيده إنه لأول من هاجر بعد إبراهيم ولوط.
وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن عثمان بن عفان قال له: يا بن أخي، أدركت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: فقلت: لا، ولكن خلص إلى من علمه واليقين ما يخلص إلى العذراء في سترها. قال: فتشهد ثم قال: أما بعد، فإن الله بعث محمداً بالحق، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله، وآمن بما بعث به محمد، ثم هاجرت الهجرتين كما قلت، ونلت صهر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله تعالى.
وعن ابن سيرين أنه ذكر عنده عثمان بن عفان فقال له رجل: إنهم ليسبونه. قال: ويحهم، يسبون رجلاً دخل على النجاشي في نفر من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكلهم أعطاه الفتنة غيره؟؟ ؟ قالوا: وما الفتنة التي أعطوها؟ قال: كان لا يدخل عليه أحد إلا أومأ إليه برأسه، فأبى عثمان، فقال له: ما يمنعك أن تسجد كما يسجد أصحابك؟ فقال: ما كنت لأسجد لأحد من دون الله عز وجل.
ولما خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر خلف عثمان على ابنته رقية، وكانت مريضة، فماتت يوم قدم زيد بن حارثة المدينة بشيراً بما فتح الله على رسوله ببدر، وضرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعثمان بسهمه وأجره في بدر، فكان كمن شهدها.
وتزوج عثمان بأم كلثوم بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودخل بها سنة ثلاث، ولما ماتت زوجة عثمان مر عليه عمر فعرض عليه بنته فلم يجبه، فمر عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أزوجك خيراً من بنت عمر، ويتزوج ابنه عمر خير منك. فتزوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنة عمر، وزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عثمان ابنته الثانية.(16/119)
وعن أبي هريرة: أن عثمان لما ماتت امرأته بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكى، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما يبكيك؟ قال: أبكي على انقطاع صهري منك، قال: فهذا جبريل عليه السلام يأمرني بأمر الله عز وجل أن يزوجك أختها.
وفي حديث آخر بمعناه: أن أزوجك أختها أم كلثوم على مثل صداقها، وعلى مثل عشرتها. قال: فزوجه إياها. وفي حديث آخر بمعناه: أن الله أمرني أن أزوجك أختها رقية، وأجعل صداقها مثل صداق أختها.
كذا قال، والمحفوظ أن الأولى رقية.
وفي حديث آخر: وجده يبكي قال: لاتبك، والذي نفسي بيده لو أن عندي مئة بنت، تموت واحدة بعد واحدة، زوجتك أخرى حتى لا يبقى من المئة شيء.
وعن علي بن أبي طالب قال: لقد صنع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثمان أمراً ما صنعه بي ولا بأبي بكر ولا بعمر. قلنا: وما صنع به يا أمير المؤمنين؟ قال: كنا حول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلوساً وقدمه وساقه مكشوفة إلى رأس ركبتيه، وساقه في ماء بارد كان يضرب عليه عضلة ساقه، فكان إذا جعله في ماء بارد سكن عنه، فقلت: يا رسول الله، مالك لا تكشف عن الركبة؟ فقال: إن الركبة من العورة يا علي. فبينا نحن حوله إذ طلع علينا عثمان، فغطى ساقه وقدمه بثوبه، فقلت: سبحان الله يا رسول الله، كنا حولك وساقك وقدمك مكشوفة، فلما طلع علينا عثمان غطيته، فقال: أما أستحي ممن تستحي منه الملائكة؟ ثم طلع علينا عمر فقال: يا رسول الله، ألا أعجبك من عثمان؟ قال: وما ذاك؟ قال: مررت به آنفاً وهو حزين كئيب، فقلت: يا عثمان، ما هذا الحزن والكآبة التي بك؟ قال: ما لي لا أحزن يا عمر، وقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: كل نسب وصهر مقطوع يوم القيامة إلا نسبي وصهري. وقد قطع صهري من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فعرضت حفصة بنت عمر فسكت عني، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عمر، أفلا أزوج حفصة من هو خير من عثمان؟ قال: بلى(16/120)
يا رسول الله. قال: فتزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حفصة في ذلك المجلس، وزوج عثمان ابنته الأخرى، فقال بعض من حسد عثمان بخ بخ يا رسول الله، تزوج عثمان بنتاً بعد بنت، فأي شرف أعظم من ذا؟ قال: لو كانت لي أربعون بنتاً زوجت عثمان واحدة بعد واحدة، حتى لا يبقى منهن واحدة. ونظر إلى عثمان فقال: يا عثمان، أين أنت وبلوى تصيبك من بعدي؟ قال: ما أصنع يا رسول الله؟ قال: صبراً صبراً يا عثمان حتى تلقاني والرب عنك راض.
عن أنس بن مالك أو غيره قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا أبو أيم، ألا أخو أيم، ألا ولي أيم يزوج عثمان، فإني قد زوجته اثنتين، ولو كانت عندي ثالثة لزوجته، وما زوجته إلا بوحي من السماء ".
وعن أم عياش وكانت أمة لرقية بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما زوجت عثمان أم كلثوم إلا بوحي من السماء ".
وعن ابن عمر قال: ذكر عثمان بن عفان عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذاك النور. فقيل له: ما النور؟ قال: النور شمس في السماء والجنان، والنور يفضل على الحور العين، وإني زوجته ابنتي، فلذلك سماه الله عند الملائكة ذا النور، وسماه في الجنان ذا النورين، فمن شتم عثمان فقد شتمني.
وعن النزال بن سبرة الهلالي قال: قلنا يعني لعلي يا أمير المؤمنين فحدثنا عن عثمان بن عفان، فقال: ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين، كان ختن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ابنتيه، ضمن له بيتاً في الجنة.
وعن أم كلثوم أنها جاءت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، زوج فاطمة خير من(16/121)
زوجي؟ قال: فأسكت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملياً، ثم قال: زوجتك من يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله. فولت، فقال: هلمي، ماذا قلت؟ قالت: زوجني من يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله. قال: نعم، وأزيدك: لو قد دخلت الجنة فرأيت منزله لم تري أحداً من أصحابي يعلوه في منزله.
وعن أبي إسحاق قال: قال رجل لعلي بن أبي طالب عليه السلام: إن عثمان في النار، قال: ومن أين علمت؟ قال: لأنه أحدث أحداثاً، فقال له علي: أتراك لو كانت لك بنت أكنت تزوجها حتى تستشير؟ قال: لا. قال: أفرأي هو خير من رأي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابنتيه؟ وأخبرني عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أكان إذا أراد أمراً يستخير الله أو لا يستخيره؟ قال: لا، بل كان يستخيره. قال: أفكان الله عز وجل يخير له أم لا؟ قال: بل كان يخير له. قال: فأخبرني عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخار الله له في تزويجه عثمان أم لم يخر له؟ قال: ثم قال له: لقد تجردت لك لأضرب عنقك، فأبى الله ذلك، أما والله لو قلت غير ذلك ضربت عنقك.
وعن ابن عباس قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليس في الجنة شجرة إلا وعلى كل ورقة منها مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق، عثمان ذو النورين. وحدث جعفر بن محمد عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليلة أسري بي رأيت على العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفروق، عثمان ذو النورين يقتل مظلوماً.
وعن الحسن قال: إنما سمي عثمان ذا النورين لأنه لا نعلم أحداً أغلق بابه على ابنتي نبي غيره.
وعن عبد الله بن عمر بن أبان الجعفي قال: قال لي خالي حسين الجعفي: يابني، تدري لم سمي عثمان ذا النورين؟ قلت: لا أدري. قال: لم يجمع بين ابنتي(16/122)
نبي مذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة غير عثمان بن عفان، فلذلك سمي ذا النورين.
وعن عائشة قالت: مكث آل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة أيام ما طمعوا شيئاً حتى تضاغوا صبياناً، فدخل علي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا عائشة، هل أصبتم بعدي شيئاً؟ فقلت: من أين إن لم يأتنا الله به على يديك؟ فتوضأ وخرج متسجياً، يصلي ها هنا مرة وها هنا مرة، يدعو، قالت: فأتى عثمان بن عفان من آخر النهار فاستأذن، فهممت أن أحجبه، ثم قلت: هو رجل من مكاثير المسلمين، لعل الله إنما ساقه إلينا ليجري لنا على يديه خيراً، فأذنت له، فقال: أيا أمتاه، أين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقلت: يا بني، ما طعم آل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أربعة أيام شيئاُ، ودخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متغيراً، ضامر البطن، فأخبرته بما قال لها وبما ردت عليه، قال: فبكى عثمان بن عفان وقال: مقتاً للدنيا. ثم قال: يا أم المؤمنين، ما كنت بحقيقة أن ينزل بك مثل هذا ثم لا تذكرينه لي ولعبد الرحمن بن عوف ولثابت بن قيس في نظرائنا من مكاثير الناس. ثم خرج فبعث إلينا بأحمال من الدقيق وأحمال من الحنطة، وأحمال من التمر، وبمسلوخ وثلاث مئة درهم في صرة، ثم قال: هذا يبطئ عليكم، فأتى بخبز وشواء كثير، فقال: كلوا أنتم واصنعوا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين يجيء، ثم أقسم على ألا يكون مثل هذا إلا أعلمته. قالت: ودخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا عائشة، هل أصبتم بعدي شيئاً؟ قالت: يا رسول الله، قد علمت أنك إنما خرجت تدعو الله تعالى، وقد علمت أن الله لم يردك عن سؤالك، فقال: فما أصبتم؟ قلت: كذا وكذا حمل بعير دقيق، وكذا وكذا بعير حنطة، وكذا وكذا بعير تمر، وثلاث مئة درهم في صرة، ومسلوخاً وخبزاً وشواء كثيراً. فقال: ممن؟ فقلت: من عثمان بن عفان. قالت: وبكى وذكر الدنيا بمقت، وأقسم على ألا يكون فينا مثل هذا إلا أعلمته. قالت يعني: فلم يجلس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى خرج إلى المسجد ورفع يديه وقال: اللهم إني قد رضيت عن عثمان فارض عنه، اللهم قد رضيت عن عثمان فارض عنه، اللهم قد رضيت عن عثمان فارض عنه.(16/123)
وعن أبي سعيد الخدري قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أول الليل إلى أن طلع الفجر رافعاً يديه يدعو لعثمان بن عفان يقول: اللهم عثمان رضيت عنه فارض عنه.
وعن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عله وسلم يقول لعثمان: غفر الله لك، ما قدمت وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما كان منك، وما هو كائن إلى يوم القيامة.
وزاد في رواية أخرى: وما أخفيت وما أبديت.
وعن ليث بن أبي سليم قال: أول من خبص الخبيص في الإسلام عثمان، خلط بين العسل والنقي ثم بعث به إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى منزل أم سلمة، فلم يصادفه، فلما جاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضعته بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستطابه، قال: من بعث بهذا؟ قالت: عثمان، قالت: فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إن عثمان يترضاك فارض عنه.
وعن زيد بن أسلم قال: بعث عثمان إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بناقة صهباء، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم جوزه على الصراط.
وعن عمران بن حصين: أنه شهد عثمان بن عفان أيام غزوة تبوك في جيش العسرة، فأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصدقة والقوة والتأسي، وكانت نصارى العرب كتبوا إلى أهل هرقل: إن هذا الرجل الذي خرج ينتحل النبوة قد هلك، وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم، فإن كنت تريد أن تلحق دينك فالآن. فبعث رجلاً من عظمائهم يقال له: الصناد، وجهز معه أربعين ألفاً، فلما بلغ ذلك نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب في العرب، وكان يجلس كل يوم على المنبر فيدعو الله ويقول: اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض. فلم يكن للناس قوة، وكان عثمان بن عفان قد جهز عيره إلى الشام، يريد أن يمتار عليها، فقال: يا رسول الله، هذه مئتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومئتا أوقية، فحمد الله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكبر وكبر الناس، ثم قام(16/124)
مقاماً آخر فأمر بالصدقة، فقام عثمان فقال: يا نبي الله، وهاتان مئتان، ومئتا أوقية. فكبر وكبر الناس، وأتى عثمان بالإبل، وأتى بالمال فصبه بين يديه، فسمعته يقول: لا يضر عثمان ما عمل بعد اليوم.
وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيش العسرة قال: فصبها في حجر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل يقلبها بيده ويقول: ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم مراراً.
وعن حذيفة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى عثمان يستعينه في غزاة غزاها، قال: فبعث إليه عثمان بعشرة آلاف دينار، فوضعه بين يديه، قال: فجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقلبها بيديه ويدعو له، يقول: غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت، وما أخفيت، وما هو كائن إلى يوم القيامة، ما يبالي عثمان ما عمل بعد هذا.
وعن عثمان بن عفان قال: لما جهزت جيش العسرة قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنمى الله لك يا أبا عمرو في مالك. وربما قال: ورحمك، وجعل ثوابك الجنة.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من يشتري لنا رومة، فيجعلها صدقة للمسلمين، سقاه الله يوم العطش "؟ فاشتراها عثمان بن عفان، فجعلها صدقة للمسلمين.
قال ابن عمر: لما جهز عثمان جيش العسرة قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم لا تنساها لعثمان ".(16/125)
وعن أبي مسعود قال: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزاة، فأصاب الناس جهد، حتى رأيت الكآبة في وجوه المسلمين، والفرح في وجوه المنافقين، فلما رأى ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " والله لا تغيب الشمس حتى يأتيكم الله برزق ". فعلم عثمان أن الله ورسوله سيصدقان فاشترى عثمان أربعة عشر راحلة بما عليها من الطعام، فوجه إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها بتسع، فلما رأى ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما هذا؟ قال: أهدى إليك عثمان. فعرف الفرح في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والكآبة في وجوه المنافقين، فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه، يدعو لعثمان دعاء ما سمعته دع لأحد قبله ولا بعده: اللهم أعط عثمان، اللهم افعل بعثمان.
وعن كثير بن مرة:
أنه سئل علي عن عثمان عليهما السلام، فقال: نعم، يسمى في السماء الرابعة ذا النورين، زوجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحدةً بعد أخرى، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يشتري بيتاً يزيده في المسجد غفر الله له؟ فاشتراه عثمان فزادهفي المسجد، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يشتري مربد بني فلان فيجعله صدقةً على المسلمين غفر الله له؟ فاشتراه عثمان، فجعله صدقةً للمسلمين، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يجهز هذا الجيش يعني جيش العسرة غفر الله له؟ فجهزهم عثمان حتى لم يفقدوا عقالاً.
وقيل: إن عثمان جهز جيش العسرة بتسع مئة وثلاثين ناقة، وسبعين فرساً، ومال، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكفه هكذا يحركها: ما على عثمان ما عمل بعد هذا.
قيل: إن جيش العسرة كان سنة ثمان من الهجرة.(16/126)
وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رحم الله أبا بكر، زوجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة، وأعتق بلالاً من ماله، وما نفعني مال في الإسلام ما نفعني مال أبي بكر، ورحم الله عمر، لقد تركه الحق وما له من صديق، ورحم الله عثمان تستحيه الملائكة، وجهز جيش العسرة، وزاد في مسجدنا حتى وسعنا.
حدث أبو سلمة بشر بن بشير الأسلمي عن أبيه قال: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها: رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تبيعها بعين في الجنة؟ فقال: يا رسول الله، ليس لي ولا لعيالي عين غيرها، لا أستطيع ذلك. فبلغ ذلك عثمان بن عفان، فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أتجعل لي مثل الذي جعلت له عيناً في الجنة إن اشتريتها؟ قال: نعم. قال: قد اشتريتها وجعلتها للمسلمين.
وعن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال: نظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رومة وكانت لرجل من مزينة يسقي عليها بأجر، فقال: نعم صدقة المسلم هذه، من رجل يبتاعها من المزني فيتصدق بها؟ فاشتراها عثمان بن عفان بأربع مئة دينار، فتصدق بها، فلما علق عليها العلق مر بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأل عنها؟ فأخبر أن عثمان اشتراها وتصدق بها فقال: اللهم أوجب له الجنة. ودعا بدلو من مائها فشرب منه، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا النقاخ، أما إن هذا الوادي ستكثر مياهه ويعذبون، وبئر المزني أعذبها.
وعن أبي هريرة قال: اشترى عثمان بن عفان من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجنة مرتين بيع الخلق، يوم رومة ويوم جيش العسرة.(16/127)
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من وسع لنا في مسجدنا هذا بنى الله له بيتاً في الجنة. قال: فاشترى البيت عثمان، فوسع به في المسجد.
وعن سلمة بن الأكوع: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بايع لعثمان بن عفان بإحدى يديه على الأخرى وقال: اللهم إن عثمان في حاجتك وحاجة رسولك.
وعن عثمان بن عفان قال: كانت بيعة الرضوان في، وضرب لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشماله على يمينه، وشمال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير من يميني.
قال القوم في حديثهم: فبينما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البيعة إذ قيل: هذا عثمان قد جاء، فقطع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البيعة.
وعن جابر قال: إنما بيعة الرضوان بيعة الشجرة في عثمان بن عفان خاصة، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن قتلوه لأنابذهم. قال: فبايعناه، ولم نبايعه على الموت، ولكنا بايعناه على ألا نفر، ونحن ألف وثلاث مئة.
وذكر الواقدي بأسانيده قال: وكان أول من بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قريش خراش بن أمية الكعبي، على جمل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال له الثعلب، ليبلغ أشرافهم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما جاء له، ويقول: إنما جئنا معتمرين معنا الهدي معكوفاً، فنطوف بالبيت ونحل وننصرف. فعقروا جمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والذي ولي عقره عكرمة بن أبي جهل، وأراد قتله فمنعه من هناك من قومه، حتى خلوا سبيل خراش، فرجع إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكد، فأخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما لقي، فقال: يا رسول الله، ابعث رجلاً أمنع مني، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر بن الخطاب ليبعثه إلى(16/128)
قريش، فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشاً على نفسي، قد عرفت قريش عداوتي لها وليس بها من بني عدي من يمنعني، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم، فلم يقل له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً، قال عمر: ولكني أدلك يا رسول الله على رجل أعز بمكة مني، أكثره عشيرة وأمنع، عثمان بن عفان، قال: فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عثمان فقال: اذهب إلى قريش فخبرهم أنا لم نأت لقتال أحد، وإنما جئنا زواراً لهذا البيت، معظمين لحرمته، معنا الهدي ننحره وننصرف.
فخرج عثمان حتى أتى بلدح، فيجد قريشاً هنالك، فقالوا: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليكم يدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، وتدخلوا في الدين كافة، فإن الله مظهر دينه ومعز نبيه، وأخرى تكفون عنه، ويلي هذا منه غيركم، فإن ظفر بمحمد فذلك ما أردتم، وإن ظفر محمد كنتم بالخيار، أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس، أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون، إن الحرب قد نهكتكم وأذهبت الأماثل منكم، وأخرى، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبركم أنه لم يأت لقتال أحد، وإنما جاء معتمراً معه الهدي عليه القلائد ينحره وينصرف. فجعل عثمان يكلمهم فيأتيهم بما لا يريدون، ويقولون: قد سمعنا ما تقول، ولا كان هذا أبداً، ولا دخلها علينا عنوة، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا. فقام إليه أبان بن سعيد بن العاص فرحب به وأجاره، وقال: لا تقصر عن حاجتك، ثم نزل عن فرس كان عليه، فحمل عثمان على السرج وردف وراءه، فدخل عثمان مكة، فأتى أشرافهم رجلاً رجلاً، أبا سفيان بن حرب، وصفوان يردون عليه: إن محمداً لا يدخلها علينا أبداً، قال عثمان: ثم كنت أدخل على قوم مؤمنين من رجال ونساء مستضعفين فأقول: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبشركم بالفتح ويقول: أظلكم حتى لا يستخفى بمكة بالإيمان. فقد كنت أرى الرجل منهم والمرأة، ينتحب حتى أظن سوف يموت فرحاً بما خبرته، فيسأل عن(16/129)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيحفي المسألة، وتشهد لذلك أنفسهم، ويقولون: اقرأ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منا السلام، إن الذي أنزله الحديبية لقادر أن يدخله بطن مكة.
وقال المسلمون: يا رسول الله، وصل عثمان إلى البيت وطاف. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أظن عثمان يطوف بالبيت ونحن محصورون. قالوا: يا رسول الله، وما يمنعه وقد وصل إلى البيت؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ظني به ألا يطوف حتى نطوف ". فلما رجع عثمان إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: اشتفيت من البيت يا أبا عبد الله؟ فقال عثمان: بئس ما ظننتم بي، لو مكثت بها سنة والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقيم بالحديبية ما طفت، ولقد دعتني قريش إلى أن أطوف بالبيت فأبيت ذلك عليها، فقال المسلمون: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أعلمنا بالله، وأحسننا ظناً.
فلما رجع عثمان أتى به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الشجرة فبايعه، وقد قبل ذلك حين بايع الناس قال: إن عثمان ذهب في حاجة الله وحاجة رسوله، فأنا أبايع له، فضرب بيمينه شماله.
وعن سعيد بن العاص: أن عثمان وعائشة أخبره أنا أبا بكر استأذن على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مضطجع على فراشه، لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو كذلك، فقضى إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر، فأذن له، وهو على تلك الحال، فقضى إليه حاجته ثم انصرف. قال عثمان: ثم استأذنت عليه، فجلس وقال لعائشة: اجمعي عليك ثيابك قال: فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت. قال فقالت عائشة: يا رسول الله، لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان. فقالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن عثمان رجل(16/130)
حيي، وإني خشيت إن أذنت له، وأنا على تلك الحال، أن لا يبلغ إلى حاجته ".
وفي حديث آخر بمعناه عن حفصة بنت عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ذات يوم جالساً قد وضع ثوبه بين فخذيه، فجاء أبو بكر فاستأذن الحديث.
وفي حديث آخر بمعناه: قال محمد: لا أقول ذلك في يوم واحد يعني أنه كان كاشفاً فخذيه أوساقيه فسوى ثيابه عند دخول عثمان رضي الله عنه.
وعن عبد الله بن عمر قال: بينما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس وعائشة وراءه، إذ استأذن أبو بكر فدخل، ثم استأذن عمر فدخل، ثم استأذن علي فدخل، ثم استأذن سعد بن مالك فدخل، ثم استأذن عثمان بن عفان فدخل ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحدث كاشفاً عن ركبيته، فمد ثوبه على ركبتيه وقال لامرأته: استأخري عني. فتحدثوا ساعة ثم خرجوا. قالت عائشة: فقلت يا رسول الله، دخل عليك أصحابك فلم تصلح ثوبك على ركبتيك، ولم تؤخرني عنك حتى دخل عثمان!؟ فقال: يا عائشة، ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟ والذي نفس محمد بيده إن الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحي من الله ورسوله، ولو دخل وأنت قريبة مني لم يرفع رأسه، ولم يتحدث حتى يخرج.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الحياء من الإيمان، وأحيا أمتي عثمان ".
وعن ابن أبي أوفى قال: استأذن أبو بكر على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجارية تضرب بالدف، فدخل، ثم استأذن عمر فدخل ثم استأذن عثمان فأمسكت، قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن عثمان رجل حيي.(16/131)
وعن بدر بن خالد قال: وفد علينا زيد بن ثابت يوم الدار فقال: ألا تستحيون ممن تستحي منه الملائكة؟! قلنا: وما ذاك؟ قال: سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول: " مر بي عثمان وعندي جيل من الملائكة ". وفي رواية: وعندي ملك من الملائكة فقال: شهيد يقتله قومه، إنا نستحي منه. قال بدر: فانصرفنا عصابة من الناس.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في الإسلام عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ".
وعن عبد خير قال: وضأت علياً برحبة الكوفة فقال: يا عبد خير سلني، قلت: عما أسألك يا أمير المؤمنين؟ فتبسم ثم قال: وضأت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما وضأتني، فقلت: من أول من يدعىإلى الحساب يوم القيامة؟ قال: أنا، أقف بين يدي ربي عز وجل ما شاء الله، ثم أخرج وقد غفر الله لي. قلت: ثم من؟ قال: أبو بكر يقف كما وقفت مرتين، ثم يخرج وقد غفر الله له. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر يقف كما وقف أبو يكر مرتين، ثم يخرج وقد غفر الله له. قلت ثم من؟ قال: أنا. قلت: وأين عثمان يا رسول الله؟ قال: عثمان رجل ذو حياء، سألت ربي عز وجل ألا يوقفه للحساب، فشفعني.
وعن فاطمة ابنة عبد الرحمن قالت: حدثتني أمي أنها سألت عائشة وأرسلها عمها فقال: إن أحد بنيك يقرئك السلام ويسألك عن عثمان بن عفان، فإن الناس قد شتموه؟ فقالت: لعن الله من لعنه، فوالله لقد كان قاعداً عند نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمسند ظهره إلي، وإن جبريل عليه السلام ليوحي إليه القرآن، وإنه ليقول له: اكتب يا عثيم. فما كان الله لينزل تلك المنزلة إلا كريماً على الله ورسوله(16/132)
وعن جابر قال: بينما نحن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت أبي حشفة في نفر من المهاجرين، فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وفي رواية ابن حمدان: وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لينهض كل رجل إلى كفئه. ونهض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عثمان فاعتنقه ثم قال: أنت وليي في الدنيا، وأنت وليي في الآخرة.
وعن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبو بكر وزيري والقائم في أمتي من بعدي، وعمر حبيبي ينطق على لساني، وأنا يعني من عثمان وعثمان مني، وعلي أخي وصاحب لوائي ". وفي رواية: وصاحبي يوم القيامة.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لكل نبي رفيق في الجنة، ورفيقي فيها عثمان بن عفان ".
وعن ابن عباس قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يدخل عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة ". فدخل عثمان بن عفان.
وعن جابر قال: ما صعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنبر قط إلا قال: " عثمان في الجنة ".
وعن معاذ بن جبل قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويمينه في يد أبي بكر، ويساره في يد عمر، وعلي آخذ بطرف ردائه، وعثمان من خلفه، فقال: " هكذا ورب الكعبة ندخل الجنة ".
وعن سهل بن سعد الساعدي قال: وصف لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم الجنة، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، أفي الجنة برق؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده، إن عثمان ليتحول من منزل إلى منزل، فتبرق له الجنة ".(16/133)
وعن عبيدة السلماني قال: هجمت على عبد الله بن مسعود وهو في دهليزه، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: القائم بعدي في الجنة، والذي يقوم بعده في الجنة، والثالث والرابع في الجنة.
وعن أوس بن أوس الثقفي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بينا أنا جالس إذ جاءني جبريل، فحملني فأدخلني جنة ربي، فبينا أنا جالس إذ جعلت في يدي تفاحة، فانفلقت التفاحة، فخرجت منها جارية، لم أر جارية أحسن منها حسناً، ولا أجمل منها جمالاً، تسبح تسبيحاً لم يسمع الأولون والآخرون بمثله، فقلت: من أنت يا جارية؟ قالت: أنا من الحور العين، خلقني الله تعالى من نور عرشه. فقلت: لمن أنت؟ قالت: أنا للخليفة المظلوم عثمان بن عفان.
وفي حديث عن عقبة بن عامر: انفلقت عن حوراء عيناء مريضة، كأن أشفار عينيها مقاديم أجنحة النسور، فقلت: لمن أنت؟ قالت: أنا للخليفة المقتول ظلماً عثمان بن عفان.
وفي رواية ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ": لما أسري بي إلى السماء، فصرت إلى السماء الرابعة، سقط في حجري تفاحة، فأخذتها بيدي، فانفلقت فخرج منها حوراء تقهقه، فقلت لها: تكلمي، لمن أنت؟ قالت: للمقتول شهيداً عثمان بن عفان.
قالوا: وهذا الحديث منكر بهذا الإسناد.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، فجعلهم خير أصحابي، وفي أصحابي كلهم خير واختار أمتي على سائر الأمم، واختار من أمتي أربع قرون بعد أصحابي، القرن الأول(16/134)
والثاني والثالث تترى، والقرن الرابع فرادى.
وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى بالناس الغداة أقبل عليهم بوجهه فقال: " هل فيكم مريض أعوده؟ فإن قالوا: لا، قال: فهل فيكم جنازة أتبعها؟ فإن قالوا: لا، قال: من رأى منكم رؤيا يقصها علينا؟ فقال رجل: رأيت البارحة كأنه نزل ميزان من السماء، فوضعت في إحدى الكفتين، ووضع أبو بكر في الكفة الأخرى فشلت به، ثم أخرج أبو بكر من الكفة، فجيء يعني بعمر فوضع في الكفة فشال به أبو بكر، ثم جيء بعثمان فوضع في الكفة فشال به عمر، ثم رفع به الميزان، فما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألهم عن الرؤيا بعد.
وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني أريت أني وضعت في كفة وأمتي في كفة فعدلتها، ثم وضع أبو بكر في كفة وأمتي في كفة فعدلها، ثم وضع عمر وأمتي في كفة فعدلها، ثم وضع عثمان في كفة وأمتي في كفة فعدلها ".
وعن ابن عمر قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات غداة فقال: رأيت قبل صلاة الفجر كأنما أعطيت المقاليد والموازين، فأما المقاليد فهذه المفاتيح، وأما الموازين فهذه التي يوزن بها، فوضعت في إحدى الكفتين ووضعت أمتي في الأخرى، فوزنت، فرجحتهم، ثم جيء بأبي بكر فوزن، فوزنهم، ثم جيء بعمر فوزن فوزنهم، ثم جيء بعثمان فوزن فوزنهم، ثم استيقظت فرفعت ".
وعن عرفجة الأشجعي قال: صلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفجر ثم جلس، فقال: وزن أصحابنا الليلة، فوزن أبو بكر، ثم وزن عمر فوزنه عثمان فخف، وهو صالح.(16/135)
وعن سفينة قال: بنى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد، ووضع حجراً، قال: " ليضع أبو بكر حجراً إلى جنب حجري، ثم قال: ليضع عمر حجراً إلى جنب حجر أبي بكر، ثم قال: ليضع عثمان حجراً جنب حجر عمر، ثم قال: هؤلاء الخلفاء من بعدي.
وعن رجل يقال له: سويد بن يزيد السلمي قال: سمعت أبا ذر يقول: لا أذكر عثمان إلا بخير بعد شيء رأيته: كنت رجلاً أتتبع خلوات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأيته يوماً خالياً وحده، فاغتنمت خلوته، فجئت حتى جلست إليه، فجاء أبو بكر فسلم ثم جلس عن يمين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم جاء عمر فسلم وجلس عن يمين أبي بكر، ثم جاء عثمان فسلم ثم جلس عن يمين عمر، بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتناول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع حصيات أو قال: تسع حصيات فأخذهن فوضعهن في كفه، فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر، فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان، فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هذه خلافة النبوة ".
وفي حديث آخر رواه عن عاصم بن حميد أن أبا ذر كان يقول: انطلقت ألتمس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض حوائط المدينة، وساق الحديث والحصيات، وقال: فناولهن عثمان فسبحن في يده، ثم انتزعهن منه فناولهن علياً، فلن يسبحن، وخرسن.
وعن أنس بن مالك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ حصيات في يده فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد أبي بكر، فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد عمر، فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد عثمان، فسبحن حتى سمعنا التسبيح ثم صيرهن في أيدينا رجلاً رجلاً، فما سبحت حصاة منهن.(16/136)
وعن الحارث بن أقيش قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما من مسلمين يموت لهما أربعة أولاد إلا أدخلهما الله الجنة. قالوا يا رسول الله، وثلاثة؟ قال: وثلاثة. قالوا يا رسول الله، واثنان؟ قال: واثنان، وإن من أمتي لمن يعظم للنار حتى يكون أحد زواياها، وإن من أمتي لمن يدخل بشفاعته الجنة أكثر من مضر.
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي مثل أحد الحيين ربيعة ومضر. فقال رجل: يا رسول الله، أما ربيعة من مضر؟ فقال: " إنما أقول ما أقول ". قال: فكان المشيخة يرون ذلك الرجل عثمان بن عفان.
وعن ابن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد جاورني عثمان بن عفان في طبق أربعين صباحاً وأربعين ليلة، فما سمعت له خضخضة ماء، فنعم الجار عثمان ".
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والله ليشفعن عثمان بن عفان في سبعين ألفاً من أمتي قد استوجبوا النار، حتى يدخلهم الله الجنة ".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لكل نبي خليل في أمته، وأنا خليلي عثمان بن عفان ".
وعن ابن عباس قال: نزل رسول الله بالجحفة، فدخل في غدير ومعه أبو بكر وعمر يتماقلان، فأهوى عثمان إلى ناحية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاعتنقه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال ": هذا أخي ومعي ".(16/137)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يجتمع حب هؤلاء الأربعة إلا في قلب مؤمن: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله عز وجل اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة، فجعلهم خير أصحابي، وفي كل أصحابي خير، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي؛ واختار أمتي على سائر الأمم، فبعثني في خير قرن، ثم الثاني، ثم الثالث تترى، ثم الرابع فرادى.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله أمر بحب أربعة من أصحابي، وقال: أحبهم، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله فرض عليكم حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، كما فرض عليكم الصلاة والصيام والحج والزكاة فمن أبغض واحداً منهم فلا صلاة له، ولا صيام له، ولا حج له، ولا زكاة له ويحشر يوم القيامة من قبره إلى النار.
وعن علي قال: من أحب أبا بكر قام يوم القيامة مع أبي بكر، وصار معه حيث يصير، ومن أحب عمر كان مع عمر حيث يصير، ومن أحب عثمان كان مع عثمان، ومن أحبني كان معي؛ من أحب هؤلاء الأربعة كان قائد هؤلاء الأربعة إلى الجنة.
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أربعة لا يجتمع حبهم في قلب منافق، ولا يحبهم إلا مؤمن: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.(16/138)
وعن جابر قال: أتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجنازة رجل فلم يصل عليه، فقالوا: يا رسول الله، ما رأيناك تركت الصلاة على أحد إلا على هذا؟؟؟ قال: إنه كان يبغض عثمان؛ أبغضه الله.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لحوضي أربعة أركان: ركن عليه أبو بكر، وركن عليه عمر، وركن عليه عثمان، وركن عليه علي، فمن جاء محباً لهم سقوه، ومن جاء مبغضاً لهم لا يسقونه.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أبو بكر؟ فيؤتى بابن أبي قحافة، فيوقف على باب الجنة، ويقال له: أدخل من شئت برحمة الله، وامنع من شئت بعلم الله؛ ثم يؤتى بعمر، فيوقف عند الميزان، فيقال له: ثقل ميزان من شئت برحمة الله، وخفف ميزان من شئت بعلم الله؛ ثم يؤتى بعثمان، فيؤتى بعصا من جنة الخلد التي غرسها الله بيده، ويوقف عند الحوض، ويقال له: رد من شئت برحمة الله، وذب من شئت بعلم الله، ثم يؤتى بعلي، فيكسى حلة من نور، ويقال له: هذه اذخرتها لك حين أنشأت خلق السموات والأرض.
وروى عن ابن عباس حديثاً آخر بمعناه، إلا أنه جعل الحلة لعثمان، وجعل لعلي قضيب عوسج من عوسج الجنة يذود الناس عن الحوض.
وعن أبي موسى الأشعري قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً إلى حائط من حوائط المدينة لحاجته، فخرجت في إثره، فلما دخل الحائط جلست على بابه، وقلت: لأكونن اليوم بواب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يأمرني، فذهب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقضى حاجته ثم جلس على قف البئر، وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر، فجاء أبو بكر يستأذن عليه ليدخل، فقلت: كما أنت حتى أستأذن لك،(16/139)
فوقف وجئت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا نبي الله، أبو بكر يستأذن عليك، فقال: " ائذن له، وبشره بالجنة ". فدخل، فجاء عن يمين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر، ثم جاء عمر، فدخل، فقلت: كما أنت حتى أستأذن لك. فقال: ائذن له وبشره بالجنة. فجاء فجلس عن يسار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر، فامتلأ القف، فلم يكن فيه مجلس، ثم جاء عثمان فقلت: كما أنت حتى أستأذن لك، فقال: ائذن له وبشره بالجنة مع بلاء يصيبه. فلم يجد معهم مجلساً حتى جاء مقابلهم على شفير البئر، وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر. فجعلت أتمنى أن يأتي أخ لي، وأدعو الله أن يأتي به، فلم يأت أحد حتى قاموا فانصرفوا.
قال ابن المسيب: فتأولت ذلك، قبورهم اجتمعت ها هنا، وانفرد عثمان.
وفي رواية: فقال عثمان: اللهم صبراً.
وعن أنس بن مالك قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم، وخرجت معه، فدخل حائطاً من حيطان الأنصار، فدخلت معه وقال: يا أنس، أغلق الباب. فأغلقت الباب، فإذا رجل يقرع الباب، فقال: يا أنس، افتح لصاحب الباب، وبشره بالجنة، وأخبره أنه يلي أمتي من بعدي. قال: فذهبت أفتح له وما أدري من هو، فإذا هو أبو بكر، فأخبرته بما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحمد الله عز وجل فدخل، ثم جاء آخر فقرع الباب، فقال: يا أنس، افتح لصاحب الباب، وبشره بالجنة، وأخبره أنه يلي أمتي من بعد أبي بكر. قال: فذهبت أفتح له، وما أدري من هو فإذا هو عمر بن الخطاب، فأخبرته بما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحمد الله عز وجل ودخل، ثم جاء آخر فقرع الباب، فقال: يا أنس، افتح لصاحب الباب، وبشره بالجنة، وأخبره أنه يلي أمتي من بعد أبي بكر وعمر، وأنه سيلقى منهم بلاء يبلغون دمه. قال: فذهبت أفتح له، وما أدري من هو، فإذا هو عثمان بن عفان، ففتحت له الباب وأخبرته بما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فحمد الله عز وجل واسترجع.(16/140)
وعن عبد الله بن حوالة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تهجمون في هذا الوادي على رجل من أهل الجنة معتجر ببرد أحمر، تبايعونه ". فهجمنا عليه نبايعه، فإذا هو عثمان بن عفان.
قال أبو جحيفة: خطبنا علي بن أبي طالب على منبر الكوفة فقال: ألا إن خير الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت أن أخبركم بثالث لأخبرتكم. قال: فنزل عن المنبر وهو يقول: عثمان، عثمان.
قال صالح بن موسى الطلحي: قلت لعاصم بن أبي النجود: على ما تضعون قول علي: لو شئت أن أسمي الثالث لسميته؟ قال: نضعه على أنه عنى عثمان، هو كان أفضل من أن يزكي نفسه.
وعن عمرو بن حريث قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: خير الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر وعمر وعثمان.
وعن شريح القاضي قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول على المنبر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم أنا.
وعن شريح عن علي قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر. لم يزد.
وعن عبد خير قال: خطب علي فقال: أفضل الناس بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر، وأفضلهم بعد أبي بكر عمر، ولو شئت أن أسمي الثالث لسميته. قال: فوقع في نفسي من قوله: ولو شئت أن أسمي الثالث لسميته. فأتيت الحسن بن علي فقلت: إن أمير المؤمنين خطب فقال: إن أفضل الناس بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر، وأفضلهم بعد أبي بكر عمر، ولو شئت أن أسمي(16/141)
الثالث لسميته. فوقع في نفسي. فقال الحسن: قد وقع في نفسي كما وقع في نفسك، فسألته فقلت: يا أمير المؤمنين، من الذي لو شئت أن تسميه؟ قال: المذبوح كما تذبح البقرة. أو كما قال.
وعن عبد الله بن عمر قال: جاءني رجل من الأنصار في خلافة عثمان، فإذا هو يأمرني في كلامه أن أعيب على عثمان، فتكلم كلاماً طويلاُ، وهو امرؤ في لسانه ثقل، فلم يكد يقضي كلامه في سريع، فلما قضى كلامه فقلت له: إنا كنا نقول ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي: أفضل أمة محمد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وإنا والله ما نعلم عثمان قتل نفساً بغير حق، ولا جاء من الكبائر شيئاً، ولكنه هو هذا المال، إن أعطاكموه رضيتم، وإن أعطاه أولي قرابته سخطتم، إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم، لا يتركون لهم أميراً إلا أمير إلا قتلوه، ففاضت عيناه بأربعة من الدمع، ثم قال: اللهم لا نريد ذاك.
وعن عبد الله بن عمر قال: كنا نقول ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي: أبو بكر وعمر وعثمان.
وفي رواية: أفضل هذه الأمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعده أبو بكر وعمر وعثمان.
وعن ابن عمر قال: إنا كنا نقول على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبو بكر وعمر وعثمان يعني في الخلافة.
وعنه قال: كنا في زمن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نعدل بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد بأبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نفاضل بينهم.
وعن ابن عمر قال: اجتمع المهاجرون والأنصار على أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر وعثمان،.(16/142)
هته الآن.
وعن ابن عمر قال: كنا إذا ذكرنا والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلنا: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر وعثمان ثم لم ينال من قدمنا وأحزنا. وعن ابن عمر قال: كنا نقول والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرنا، وأصحابه متوافرون: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، فيبلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا ينكره.
وعن ابن عمر قال: كنا نقول على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا ذهب أبو بكر وعمر عثمان استوى الناس، فيبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا ينكره.
وعن زرعة بن عمرو مولى الحباب عن أبيه قال: لما قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة قال لأصحابه: انطلقوا بنا إلى أهل قباء نسلم عليهم، فلما أن أتاهم قال: يا أهل قباء، اجمعوا لنا من حجارة الحرة. قال: فجمعوا، قال: ثم خط لهم قبلتهم، فأخذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجراً من تلك الحجارة فجعله على الخط، ثم قال لأبي بكر: خذ حجراً فاجعله على الخط. فأخذ أبو بكر حجراً من تلك الحجارة فجعله إلى جنب حجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: يا عمر، خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر أبي بكر. ثم قال لعثمان: خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر عمر. قال: فأخذ حجراً فوضعه، قال: ثم التفت إلى الناس بعد فقال: من أحب أن يضع فليضع حجره حيث شاء على هذا الخط.
وعن قطبة قال: مررت برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أسس أساس مسجد قباء، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فقلت: يا رسول الله، أسست هذا المسجد وليس معك غير هؤلاء النفر(16/143)
الثلاث؟ قال: إنهم ولاة الخلافة من بعدي.
وكان جابر بن عبد الله يحدث أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونيط عمر بن الخطاب بأبي بكر، ونيط عثمان بن عفان بعمر. قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما ما ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن ابن عمر قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبلال فقال: يا بلال، ناد في الناس أن الخليفة أبو بكر. ثم قال: يا بلال، ناد في الناس أن الخليفة بعد أبي بكر عمر. ثم قال: يا بلال، ناد في الناس أن الخليفة من بعد عمر عثمان. قال: فرفع رأسه إلى السماء وقال: يا بلال امض أبى الله عز وجل إلا ذلك. ثلاث مرات.
وعن سهل بن أبي حثمة قال: بايع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعرابياً، فلما خرج من عنده قال له علي: إن مات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فممن تأخذ حقك؟ قال: ما أدري. قال: ارجع فسله. فرجع الأعرابي فسأله، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أبي بكر. فلما خرج قال له علي: فإن مات أبو بكر ممن تأخذ؟ قال: لا أدري. قال: ارجع فسله، فسأله فقال: من عمر. فلما خرج قال علي: فإن مات عمر؟ قال: لا أدري، قال: ارجع فاسأله، قال فرجع فسأله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من عثمان. فلما خرج قال علي: فإن مات عثمان فممن تأخذ حقك؟ قال: لا أدري. قال: ارجع فاسأله. قال: فرجع فسأله، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا مات عثمان فإن استطعت أن تموت فمت.(16/144)
وفي حديث آخر عن رجل من خزاعة قدم فلقيه علي، فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أسأل رسول الله صلى الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى من ندفع صدقة أموالنا إذا قبضه الله؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إلى أبي بكر. قال: فإذا قبض الله أبا بكر فإلى من؟ قال: إلى عمر. قال: فإذا قبض الله عمر فإلى من؟ قال: إلى عثمان. قال: فإذا قبض الله عثمان فإلى من؟ قال: انظروا لأنفسكم.
وفي حديث آخر بمعناه: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هؤلاء الخلفاء من بعدي.
وفي حديث آخر بمعناه عن وفد بني المصطلق قالوا في آخره: فإن لم نجد عثمان؟ قال: فلا خير لكم في الحياة بعد ذلك.
وفي حديث عن أنس، بمعناه قالوا: قل له فإن لم نجد عمر؟ فقلت له، فقال: قل لهم ادفعوها إلى عثمان، وتباُ لكم يوم يقتل عثمان.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه في هذه الآية: " تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ". قال: فجاء بأبي بكر وولده، وبعمر وولده، وبعثمان وولده، وبعلي وولده.
وعن ابن عباس في قوله: " آمنوا كما آمن الناس " قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: " كزرع " قال: أصل الزرع عبد المطلب، " أخرج شطأه " محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " فآزره " بأبي بكر " فاستغلظ " بعمر، " فاستوى " بعثمان، " على سوقه " بعلي بن أبي طالب، " يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ".
وعن أنس: أن عثمان أحد الحواريين حواريي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(16/145)
وعن الزهري قال: لم يجمع القرآن على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا عثمان وأبي بن كعب.
وعن الشعبي قال: لم يجمع القرآن أحد من الخلفاء من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير عثمان، ولقد فارق علي الدنيا وما جمعه.
وقال الشعبي: ما حفظ من الخلفاء القرآن أحد إلا عثمان بن عفان.
وعن عامر بن سعد أنه سمع عثمان بن عفان يقول: ما يمنعني أن أحدث عن رسول الله ألا أكون كنت أوعى من أصحابه عنه، ولكني أشهد لسمعته يقول: من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار وعن عبد الرحمن بن حاطب قال: ما رأيت أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا حدث أتم حديثاً ولا أحسن من عثمان بن عفان، إلا أنه كان رجلاً يهاب الحديث.
وعن القاسم بن محمد قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يفتون على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي وأهل الفقه دعا رجالاً من المهاجرين والأنصار، دعا عمر وعثمان وعلياً، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي كعب، وزيد بن ثابت، وكل هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكر، وإنما تصير فتوى الناس إلى هؤلاء، فمضى أبو بكر على ذلك، ثم ولي عمر فكان يدعو هؤلاء النفر، وكانت الفتوى تصير وهو خليفة إلى عثمان، وأبي، وزيد بن ثابت.
وعن المسور بن مخرمة قال: كان علم أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ستة: إلى عمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت.(16/146)
وعن ابن سيرين قال: كانوا يرون أن أعلم الناس بالمناسك عثمان بن عفان، وبعده عبد الله بن عمر.
وعن ابن شهاب قال: لو هلك عثمان بن عفان وزيد بن ثابت في بعض الزمان لهلك علم الفرائض إلى يوم القيامة، جاء على الناس زمان وما يحسنه غيرهما.
وعن نافع قال: سئل ابن عمر عن عدة أم الولد فقال: حيضة، فقال رجل: إن عثمان كان يقول: ثلاثة قروء، فقال: عثمان خيرنا وأعلمنا.
كان عثمان إذا جلس على المقاعد جاءه الخصمان فقال لأحدهما: اذهب ادع علياً. وقال للآخر: اذهب فادع طلحة والزبير ونفراً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم يقول لهما: تكلما، ثم يقبل على القوم فيقول: ما تقولون؟ فإن قالوا ما يوافق رأيه أمضاه، وإلا نظر فيه بعد، فيقومان وقد سلما وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يكون بعدي اثنا عشر خليفة: أبا بكر الصديق لا يلبث خلفي إلا قليلاً، وصاحب رحى دارة العرب، يعيش حميداً ويموت شهيداً. فقال رجل: من هذا؟ فأشار إلى عمر بن الخطاب، قال: ثم أشار إلى عثمان فقال: وأنت يقمصك الله قميصاً، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه، فإنك إن خلعته دخلت النار. وفي رواية فوالذي بعثني بالحق لئن خلعته لا تدخل الجنة حتى يدخل الجمل في سم الخياط. فقال رجل لعبد الله بن عمرو: ما لنا ولهذا! إنما جلسنا لتذكرنا. قال: فقال: والذي نفسي بيده لو تركتني لأخبرتكم بما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم واحداً واحداً.
وعن علي بن أبي طالب قال: لم يقبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أسر إلي، أن الخليفة من بعده أبو بكر، ومن بعد أبي بكر عمر، ومن بعد عمر عثمان، ثم تلي الخلافة.(16/147)
وعن عبد الله بن مسعود قال: دخلت على رسول الله صلى الله وعنده أبو بكر وعمر وعثمان، وقد خلص بهم، فسلمت فلم يرد علي، فمثلت قائماً لألتمس فراغه وخلوته، خشية أن أكون أحدثت حدثاً، فناجى أبا بكر طويلاً ثم خرج، ثم عمر ثم خرج، فأقبلت أستغفر وأعتذر فقلت: سلمت فلم ترد علي، فقال: شغلني هؤلاء عنك. فقال: بماذا؟ فقال: أعلمت أبا بكر أنه من بعدي، وقلت: انظر كيف تكونن، فقال: لا قوة إلا بالله، ادع الله لي. ففعلت، والله فاعل به ذلك، ثم قلت لعمر مثل ذلك، فقال: لا قوة إلا بالله، حسبي الله، والله حسبه، ثم قلت لعثمان مثل ذلك وأنت مقتول، فقال: لا قوة إلا بالله، ادع الله لي بالشهادة، فقلت: إن صبرت ولم تجزع، فقال: أصبر. وأوجب الله له الجنة، وهو مقتول.
فلما جاءت إمارته قال: والله ما ألوا عن أعلاها ذي فوق.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عثمان يكتب وصية أبي بكر فقال أبو بكر: إني لا أدع أحداً بعدي أحب إلي منك، ولا أعز علي وأشد فقراً منك، وإني قد كنت جعلت لك من أرضي جداد أحد وعشرين وسقاً يقول: صرام النخل فلو كنت قبضت كان لك. ثم أغمي عليه أو غشي عليه، قال: فعجل عثمان بن عفان فكتب عمر بن الخطاب، فأفاق أبو بكر فقال له: أكتبت؟ قال: نعم قد كتبت، قال: من كتبت؟ قال: كتبت عمر. قال: أما إنك كتبت الذي أريد أن آمرك به، ولو كنت كتبت نفسك كنت لها أهلاً.(16/148)
وعن حذيفة قال: إني وعمر لواقفان بعرفة، ونحن ننتظر أن تجب الشمس فنفيض. قال حذيفة: فلما رأى عمر عجيج الناس وما يصنعون قال: يا بن اليمان، كم ترى هذا يدوم لهم؟ قلت: حتى يكسر باب أو يفتح باب. قال: ففزع عمر وقال: ما يكسر باب أو يفتح؟ قلت يقتل رجل أو يموت. قال حذيفة: فلقنها عمر فقال: يا حذيفة، من ترى قومك يؤمرون؟ قال: قلت: قد نظر الناس إلى عثمان بن عفان وشهروه لها.
ومن حديث آخر عنه قلت: أراهم شوفوا لابن عفان، فقال: يا ويحهموه.
وعن حذيفة أيضاً قال: قلت لعمر بالموقف: من الخليفة بعدك؟ قال: ابن عفان.
وعن حارثة بن مضرب قال: حججت مع عمر فكان الحادي يحدو: من مشطور السريع
إن الأمير بعده ابن عفان
وحججت مع عثمان فكان الحادي يحدو: من مشطور السريع
إن الأمير بعده علي
وعن الأقرع مؤذن عمر: أن عمر دعا الأسقف فقال: هل تجدونا في شيء من كتبكم، قال: نجد صفتكم وأعمالكم ولا نجد أسماءكم. قال: كيف تجدوني؟ قال: قرناً من حديد. قال: ما قرن من حديد؟ قال: أمير شديد. قال عمر: الله أكبر! فالذي من بعدي؟ قال: رجل صالح يؤثر(16/149)
أقرباءه، قال عمر: يرحم الله ابن عفان، فالذي من بعده؟ قال: صدأ من حديد، قال: فقال عمر: وألقى شيئاً في يده وجعل يقول: وادفراه، وادفراه! قال: فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين، فإنه رجل صالح ولكن تكون خلافته في هراقة من الدماء، والسيف مسلول.
وعن المسور بن مخرمة قال: كان عمر بن الخطاب وهو صحيح يسأل أن يستخلف فيأبى، فصعد يوماً المنبر، فتكلم بكلمات وقال: إن مت فأمركم إلى هؤلاء الستة الذين فارقوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عنهم راض: علي بن أبي طالب ونظيره الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف ونظيره عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله ونظيره سعد بن مالك، ألا وإني أوصيكم بتقوى الله في الحكم والعدل في القسم.
وعن زيد عن أبيه: أن عمر بن الخطاب لما طعن قال للستة النفر الذي خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الدنيا وهوعنهم راض: بايعوا لمن بايع له عبد الرحمن بن عوف، فمن أبى فاضربوا عنقه.
وعن ابن أبي ملكية قال: ما خص عمر أحداً من الشورى دون أحد، إلا أنه خلا بعلي وعثمان، كل منهما دون صاحبه فقال: يا فلان، اتق الله ابتلاك الله بهذا الأمر، ولا تحملن بني فلان على رقاب الناس، وقال للآخر مثل ذلك.(16/150)
وعن عبد الله بن أبي ربيعة قال: أدخلوني معكم في الشورى، فإني لا أنفس على أحد خيراً ساقه الله إليه، ولا يعدمكم مني رأي. قال: فقالوا: لا تدخل معنا، قال: فاسمعوا مني، قالوا: قل ما شئت. قال: إن بايعتم لعلي سمعنا وعصينا، وإن بايعتم لعثمان سمعنا وأطعنا، والله ما يتشابهان، فاتق الله يا بن عوف.
بعث عبد الرحمن بن عوف في ليلة إلى أهل الشورى، فجلس في المسجد، فدعا رجلاً بعد رجل، فيقول له: أرأيت لو كنت تلي أمر هذه الأمة فحضرتك الوفاة، من كنت مستخلفاً؟ فيقول: عثمان، فيقول له: قم، ثم يدعو الآخر فيقول له مثل ذلك، حتى انتهى إلى علي بن أبي طالب آخرهم، وقال له: أرأيت لو كنت تلي أمر هذه الأمة فحضرتك الوفاة، من كنت مستخلفاً؟ فتلكأ عليه وقال: ما لك ولهذا، فجعل يتلكأ عنه حتى نودي بالصلاة للصبح، وعبد الرحمن يسأله عن ذلك، فأبى علي أن يخبره حتى خشي الإقامة والصبح، فقال له عبد الرحمن: هذا الصبح وهذه الصلاة قد حضرت فأخبرني؟ قال: اللهم عثمان.
وعن المسور بن مخرمة: أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا، فقال لهم عبد الرحمن بن عوف: لست بالذي أنافسكم هذا الأمر، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم. فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف. قال: فما رأيت رجلاً بذ قوماً قط أشد مما بذهم به حين ولوه أمرهم، حتى ما من رجل من الناس يبتغي عند أحد من أولئك الرهط رأياً، ولا يطؤوا عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن بن عوف يشاورونه ويناجونه تلك الليالي، لا يخلو به رجل ذو رأي فيعدل بعثمان أحداً، حتى إذا كان من الليلة التي أصبح فيها فبايع.
قال المسور: طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل، فضرب الباب حتى استيقظت، فقال: ألا أراك نائماً! والله ما اكتحلت منذ هذه الثلاث كثير نوم، انطلق(16/151)
فادع لي رجلاً من المهاجرين، نشاورهم، ثم أرسلني بعدما ابهار الليل فدعوت له علياً، فناجاه طويلاً، ثم قام علي من عنده، ثم دعاني فقال: ادع لي عثمان آخر من ناجى وآخر من دعا فانتحى هو وعثمان حتى فرق التأذين للفجر بينهما، فلما صلوا صلاة الفجر جمع عبد الرحمن الرهط، ثم أرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين من قريش فدعاهم، وأرسل إلى السابقة من الأنصار، ثم أرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا قد وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن بن عوف ثم قال: أما بعد: يا علي، فإني قد نظرت في الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان بن عفان، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً، ثم أخذ عبد الرحمن بيد عثمان فقال: نبايعك على سنة الله وسنة رسوله وسنة الخليفتين بعده. فبايعه عبد الرحمن، وبايعه الناس، المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد، وبايعه المسلمون.
وفي حديث آخر بمعناه: أنه دعا بعلي وعثمان، فلما اجتمعا عنده خطب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني قد فليت الناس عنكما فأشيرا علي وأعيناني على أنفسكما، هل أنت يا علي مبايعي إن وليتك هذا الأمر على سنة الله وسنة رسوله بعهد الله وميثاقه وسنة الماضيين قبل؟ قال: لا، ولكن على طاقتي، قال: فصمت شيئاً ثم تكلم كلاماً دون كلامه الأول، ثم قال في قوله: إني قد فليت الناس عنكما، فأشيرا علي وأعيناني على أنفسكما، هل أنت يا علي مبايعي إن وليتك هذا الأمر على سنة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعهد الله وميثاقه وسنة الماضيين قبل؟ قال: لا، ولكن على طاقتي، قال: ثم قال عثمان: أنا يا أبا محمد أبايعك إن وليتني هذا الأمر على سنة الله وسنة رسوله وميثاقه وسنة الماضيين قبل قالها عثمان في الثلاث قال: ثم كانت الثالثة، فقال: اسمع أبا عبد الله، قد قال ما ترى، وعسى الله أن يجعل في ذلك خيراً، قال: فأحب أن يقوما عنه، فقال: إن شئتما، فقاما عنه. فقام عبد الرحمن فاعتم ولبس السيف ثم خرج إلى المسجد، قال: ولا أشك أنه يبايع لعلي لما رأيت من حرصه على علي، فلما صليت الصبح رقي عبد الرحمن على المنبر، فحمد اله وأثنى عليه، ثم(16/152)
أشار إلى عثمان، حجرة من الناس ما هو بقريب، فقال: ادن، فبايعه على سنة الله وسنة رسوله بعهد الله وميثاقه. قال: فعرفت أن خالي كان أصوب، أشكل عليه رجلان، فأعطاه أحدهما وثيقة، ومنعه الآخر إياها.
وفي حديث آخر بمعناه عن أبي صالح الحنفي قال: لما طعن عمر وأمر بالشورى فجعلها في الستة الرهط، وأمر صهيباً إذا هو مات أن يصلي بالناس ثلاثاً، فإن اختاروا لأنفسهم وإلا ترك الصلاة بهم، فلما قبر عمر صلى بهم صهيب يومين، فلما كان اليوم الثالث قال لهم وقد صلى بهم الغداة: اختاروا لأنفسكم فيما بينكم وإلا فقد اعتزلت الصلاة في آخر هذا اليوم كما أمرني أمير المؤمنين عمر. وقد كان عبد الرحمن بن عوف قبل ذلك يسأل المسلمين في دورهم، ويأتيهم في منازلهم فيقول: من ترضون أن يكون عليكم خليفة؟ فيجيبونه ويقولون: عثمان. فلما كان اليوم الثالث في وقت الظهر اجتمع المسلمون في المسجد، وجاء أهل العوالي، وازدحم الناس في المسجد وتكاتفوا، فلما صلى بهم صهيب الظهر قال لهم: اختاروا لأنفسكم، فقام عبد الرحمن بن عوف تحت المنبر، منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا معشر الناس، على أماكنكم، فجلس الناس وتطاولت أعناقهم واستمعوا، فقال: يا معشر الناس، ألستم تعلمون أن عمر بن الخطاب جعل هذا الأمر في ستة؟ قالا: بلى، قال: فإني خارج منها ومختار لكم، فما تقولون؟ قالوا: رضينا، وأقبل على علي وعثمان فقال: ما تقولان؟ فقالا: رضينا. فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفي فاجتمع رأي المسلمين بعد على أن استخلفوا أبا بكر فاستخلفوه، فقام بأمر الله، وأخذ المنهاج الذي أخذ فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى مضى لسبيله، ثم استخلف عمر فقام بما قام به صاحباه، ولم يأل حتى كان من قدر الله ما قد علمتم، فجعلها فينا معاشر الستة وإني مختار لكم، قم يا عثمان، قم يا علي. فقاما، فقال لهذا: ابسط يدك، وقال لهذا: ابسط يدك. فبسطا أيديهما، فقال: يا أبا الحسن، إن صار هذا الأمر إليك أتسير سيرة صاحبيك؟ قال: نعم، فأعاد القول على علي فقال مثل قوله الأول، وقال لعثمان فقال: نعم. ثم أقبل على علي فقال: يا أبا الحسن، إن فاتك هذا(16/153)
الأمر فمن تحب أن يكون؟ قال: في أخي هذا وأومى إلى عثمان فقال عبد الرحمن: معاشر الناس، ألستم راضين بأحد هذين أيهما بايعتموه؟ فأعاد القول على علي فقال: أشهد لن تبايعني، ولن تبايع إلا عثمان لأن هذا عهد معهود إلي، معاشر الناس، والله ليقلدن الأمر والخلافة، عهد البار الصادق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلي أنه الخليفة الثالث بعده، ولئن فعلتم لأسمعن ولأطيعن، فقال عبد الرحمن: فابدأ إذاً فبايعه، فضرب على كفه بالبيعة، فكانت أول كف وقعت على يد عثمان، وقال في بيعته: سبقت عدتي بيعتي.
قال أبو صالح: يريد بهذا القول أنه إن فاتته كان أحب الناس إليه عثمان أن يكون فيه، ولقد علم بالعهد المعهود أنه لا يكون خليفة بعد عمر إلا عثمان.
وعن أبي ذر قال: لما كان أول يوم في البيعة لعثمان " ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ليهلك من هلك عن بينة " قال أبو ذر: اجتمع المهاجرون والأنصار في المسجد، ونظرت إلى أبي محمد يعني عبد الرحمن بن عوف قد اعتجر بريطته، وقد اختلفوا، إذ جاء أبو الحسن بأبي هو وأمي فلما أن بصروا بأبي الحسن علي بن أبي طالب سر القوم طراً، فأنشأ يقول: إن أحق ما ابتدأ به المبتدئون، ونطق به الناطقون، وتفوه به القائلون، حمد الله وثناء عليه بما هو أهله، والصلاة على النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم خطب خطبة، حمد الله وأنثى عليه، وصلى على سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثم قال في آخرها: فقبضه الله إليه، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما أجل رزيته، وأعظم مصيبته، فالمؤمنون فيه سواء، مصيبتهم فيه واحدة. ثم قال علي: فقام مقامه أبو بكر الصديق رحمة الله عليه فوالله، يا معشر المهاجرين، ما رأيت خليفة أحسن أخذاً بقائم السيف يوم الردة من أبي بكر الصديق، رحمة الله عليه يومئذ، قام مقاماً أحيا الله به سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: والله لو منعوني عقالاً لأجاهدنهم في الله. فسمعت وأطعت لأبي بكر، وعلمت أن ذاك خير لي، فخرج من الدنيا خميصاً(16/154)
وكيف لا أقول هذا في أبي بكر؟ وأبو بكر ثاني اثنين، وكانت ابنته ذات النطاقين يعني أسماء تنطلق بعباءة له، وتخالف بين رأسيها، ومعها يعني رغيفين في نطاقها، فتزج بها إلى حبيب القلوب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف لا أقول هذا وقد اشترى سبعة: ثلاث نسوة وأربعة رجال، كلهم أوذي في الله وفي رسوله، وكان بلال منهم وتجهز رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بماله ومعه يومئذ أربعون ألفاُ، فدفعها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهاجر بها إلى طيبة. ثم قام مقامه الفاروق عمر بن الخطاب رحمة الله عليه، شمر عن ساقيه، وحسرعن ذراعيه، لا تأخذه في الله لومة لائم، كنا نرى أن السكينة تنطق على لسانه، وكيف لا أقول هذا ورأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أبي بكر وعمر رحمهما الله فقال: هكذا نحيا، وهكذا نموت، وهكذا نبعث، وهكذا ندخل الجنة. وكيف لا أقول هذا في الفاروق، والشيطان يفر من حسه؟ فمضى شهيداً رحمة الله عليه. ثم أراكم معشر المهاجرين والأنصار رمقتموني بأبصاركم طراً. ولم يكن أبوعبد الله يعني عثمان بن عفان تلك الساعة ثم. وأنشأ علي في أبي عبد الله يعني عثمان يقول: أعلمتم معاشر المهاجرين أنه ما فيكم مثل أبي عبد الله، أوليس زوجة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ثم أتاه جبريل فقال حين أوعز إليه وهو في المقبرة: يا محمد، إن الله يأمرك أن تزوج عثمان أختها. وكيف لا أقول هذا وقد جهز أبو عبد الله جيش العسرة؟ وهيأ للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سخينة أو نحوها فأقبل بها في صحفته وهي تفور، فوضعها تلقاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كلوا من حافتيها، ولا تهدوا ذروتها فإن البركة تنزل من فوقها. ونهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤكل الطعام سخناً جداً، فلما أكل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السخينة أونحوها من سمن وعسل وطحين، فمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده إلى فاطر البرية تبارك وتعالى ثم قال: غفر الله لك يا عثمان، ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وما أسررت وما أعلنت، اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان.
قال علي رحمه الله: معشر المهاجرين، تعلمون أن بعير أبي جهل ند فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر: يا عمر، ائتنا بالبعير. فانطلق البعير إلى عير أبي سفيان، وكانت(16/155)
عليه حلقة مزموم بها من ذهب، وقال آخرون: من فضة، وعليه جل مدبج كان لأبي جهل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر: ائتنا بالبعير. فقال عمر: يا رسول الله، إن من هناك يعني ملأ قريش عدى أقل ذاك. فعلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن العدد والمادة لعبد مناف، فوجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثمان إلى عير أبي سفيان ليأتي بالبعير، فانطلق عثمان على قعوده وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معجباً به جداً حتى أتى بالبعير، فأتى أبا سفيان، فقام إليه مبجلاً معظماً، وقد احتبى بملاءته، فقال أبو سفيان: كيف خلفت ابن عبد الله؟ فقال له عثمان: من هامات قريش وذروتها وسنام قناعسها، يا أبا سفيان، هو علم من أعلامها، يا أبا سفيان، سماء محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماء ماطرة، وبحاره زاخرة، وعيونه هماعة، ودلاؤه رفاعة، يا أبا سفيان، فلا عري من محمد فخرنا، ولا قصم بزوال محمد ظهرنا. فأنشأ أبو سفيان فقال: يا أبا عبد الله، أكرم بابن عبد الله، ذاك الوجه كأنه ورقة مصحف، إني لأرجو أن يكون خلفاً من خلف. وجعل أبو سفيان يفحص بيده مرة، ويركض الأرض برجله أخرى، ثم دفع البعير إلى عثمان. فقال علي: فأي مكرمة أسنى ولا أفضل من هذه لعثمان رحمه الله؟ حتى مضى أمر الله فيمن أراد. ثم إن أبا سفيان دعا بصحفة كثيرة الإهالة، ثم دعا بطلمة فقال: دونك يا أبا عبد الله، فقال أبو عبد الله قد خلفت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حد لست أقدر أن أطعم، فأبطأ أبو عبد الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد أبطأ صاحبنا، بايعوني. قال: فقال أبو سفيان: إن فعلت وطعمت من طعامنا رددنا عليك البعير برمته، فنال أبو عبد الله من طعام أبي سفيان، وأقبل عثمان بعدما بايعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقبل عثمان إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم قال علي: أناشدكم الله هل تعلمون معاشر المهاجرين والأنصار أن جبريل أتى(16/156)
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد، لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي. فهل تعلمون هذا كان لغيري؟ أناشدكم الله أن جبريل نزل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد، إن الله يأمرك أن تحب علياً وتحب من يحبه، فإن الله يحب علياً ويحب من يحبه؟ قالوا اللهم نعم. قال: أناشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لما أسري به إلى سماء السابعة، فقال: رفعت إلى رفارف من نور، ثم رفعت إلى حجب من نور، فأوعز إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشياء، فلما رجع من عنده نادى مناد من وراء الحجب: يا محمد، نعم الأب أبوك إبراهيم! ونعم الأخ أخوك علي! تعلمون معاشر المهاجرين والأنصار كان هذا؟ فقال أبو محمد يعني عبد الرحمن بن عوف من بينهم: سمعتها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلا فصمتا. تعلمون أن أحداً كان يدخل المسجد غيري جنباً؟ هل تعلمون أني كنت إذا قاتلت عن يمين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتلت الملائكة عن يساره قالوا: اللهم نعم. فهل تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ وهل تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخا بين الحسن والحسين، فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يا حسن. مرتين، فقالت فاطمة: يا رسول الله، إن الحسين لأصغر منه وأضعف منه وأضعف ركناً منه. فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا ترضين أن أقول هي يا حسن، ويقول جبريل: هي يا حسين؟ فهل لخلق مثل هذه المنزلة؟ نحن صابرون ليقضي الله أمراً كان مفعولا.(16/157)
قال أبو وائل: قلت لعبد الرحمن بن عوف: كيف بايعتم عثمان وتركتم علياً؟ فقال: ما ذنبي؟ قد بدأت لعلي فقلت: أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيرة أبي بكر وعمر؟ قال: فقال: فيما استطعت. قال: ثم عرضتها فقبلها على عثمان.
قال حذيفة بن اليمان: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستخلف الله أبا بكر، وقبض أبو بكر فاستخلف الله عمر ثم قبض عمر فاستخلف الله عثمان.
حدث حفص بن غياث قال: قال شريك بن عبد الله: مرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فلو علم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن في أصحابه أحداً أفضل من أبي بكر لأمر ذلك الرجل وترك أبا بكر، فلما احتضر أبو بكر استخلف عمر بن الخطاب، ولو علم أبو بكر أن أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحداً أفضل من عمر بن الخطاب، ثم قدم عمر وترك ذلك الرجل لقد كان غش أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما احتضر عمر بن الخطاب فصير الأمر شورى، فوقعت الشورى بعثمان بن عفان، فلو علم أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن في القوم أحداً أحق بها من عثمان، ثم نصبوا عثمان وتركوا ذلك الرجل، لقد كانوا غشوا هذه الأمة. قال: فأتيت عبد الله بن إدريس فقلت له: يا أبا محمد، كلاماً سمعته الساعة من حفص بن غياث. قال: فأسند، ثم قال: هات. قال: فحدثته بالحديث. قال: أنت سمعته؟ قلت: الساعة وكتبته في ألواحي. قال: الحمد لله الذي أطلق بذلك لسانه، فوالله إنه لشيعي، وإن شريكاً لشيعي، قال: قلت له: يا أبا محمد، ما تقول في الوقوف عند علي وعثمان؟ قال: لا بل نضعه حيث وضعه أصحابه. قال أبو عمر الإمام: يعني يقال: عثمان وعلي، ثم رجع إلى الحديث. وكان الواحد منهم نوراً، ولقد قتل يوم قتل وهو عندنا أفضل منه.
ثم قال: حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن كعب بن عجرة قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم، فذكر فتنة فقربها، ثم مر رجل مقنع الرأس فقال: وهذا يومئذ على الهدى أو قال: على الحق قال فقمت إلى الرجل فأخذت بعضديه، وأقبلت بوجهه على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: هذا؟ قال: نعم. وإذا هو عثمان بن عفان.(16/158)
قال خالد بن خداش: جلست إلى حماد بن زيد وأنا ابن عشرين سنة، وجلست إليه ثلاث عشرة سنة، فسمعته يقول ما لا أحصي: لئن قلت: إن علياً أفضل من عثمان لقد قلت إن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد خانوا.
وكانت الشورى باجتماع الناس على عثمان، وبويع لعثمان يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، واستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين، وقتل يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.
قال ابن شهاب: عاش أبو بكر بعد أن استخلف سنتين وأشهراً، وعمر عشر سنين، حجها كلها، وعثمان اثنتي عشرة، حجها كلها إلا سنتين، ومعاوية عشرين سنة إلا شهراً، حج حجتين، ويزيد ثلاث سنين وأشهراً، وعبد الملك بعد الجماعة بضع عشرة سنة إلا شهراً، حج حجة، والوليد عشر سنين إلا شهراً، حج حجة.
وفتح الري سنة أربع وعشرين، وفتحت، وفتحت الجزيرة وأرمينية سنة خمس وعشرين، وفتحت الإسكندرية سنة ست وعشرين، وافتتحت إفريقية سنة سبع وعشرين، وحصر عثمان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وولي أمر الناس في حصار عثمان علي بن أبي طالب، فصلى بالناس صلاة العيد يوم الأضحى.
وكان نقش خاتم عثمان: آمنت بالذي خلق فسوى، وقيل: كان نقشه: آمن عثمان بالله العظيم.
قالوا: وبويع عثمان بن عفان فكان عام الرعاف سنة أربع وعشرين، وكانت الإسكندرية سنة خمس وعشرين، وكانت غزوة سابور الجنود سنة ست وعشرين، وكانت إفريقية وأميرها عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة سبع وعشرين، ثم كانت فارس الأولى واصطخر الآخرة سنة ثمان وعشرين، ثم كانت فارس الآخرة سنة تسع وعشرين، ثم كانت(16/159)
طبرستان سنة ثلاثين ثم كانت الأساودة سنة إحدى وثلاثين، ثم كان المضيق سنة اثنتين وثلاثين، ثم كانت قبرس سنة ثلاث وثلاثين، ثم كانت الصواري سنة أربع وثلاثين، وكانت ذي خشب سنة خمس وثلاثين، وعثمان محصور في الدار.
قال المسيب بن رافع: سار إلينا عبد الله بن مسعود سبعاً من المدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن غلام المغيرة أبا لؤلؤة قتل أمير المؤمنين، فضج الناس وبكوا واشتد بكاؤهم ثم قال: إنا اجتمعنا أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمرنا علينا عثمان بن عفان، ولم نأل عن خيرنا ذا فوق.
قال أبو عبيد: قوله: ذا فوق يعني السهم الذي له فوق، وهو موضع الوتر، وإنما نراه قال: خيرنا ذا فوق، ولم يقل: خيرنا سهماً، لأنه قد يقال له: سهم، وإن لم يكن أصلح فوقه، ولا أحكم عمله، فهو سهم ليس بتام كامل، حتى إذا صلح عمله واستحكم عمله فهو حينئذ سهم ذو فوق، فجعله عبد الله مثلاً لعثمان يقول: إنه خيرنا سهماً تاماً في الإسلام والسابقة والفضل، فلهذا خص ذا فوق.(16/160)
وعن ابن عباس قال: نزلت الآية " ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء " في هشام بن عمرو، وهو الذي " ينفق ماله سرا ًوجهراً " ومولاه أبو الحواية كان ينهاه. ونزلت " وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم " فالأبكم الكل على مولاه هو أسيد بن أبي العيص، والذي " يأمر بالعدل وهوعلى صراط مستقيم " عثمان بن عفان.
وعن ابن عباس: في قول الله عز وجل: " إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ". قال: الذين يأمرون بالقسط من الناس ولاة العدل عثمان وضربه.
وعن ابن عمر قال: لقيت ابن عباس، وكان خليفة عثمان عام قتل على الموسم فأخبرته بقتله، فعظم أمره وقال: والله إنه لمن الذين يأمرون بالقسط. فتمنيت أن أكون قتلت يومئذ قال الزهري: كان أمير المؤمنين عبد الملك يحدث أن أبا بحرية الكندي أخبره أن عمر بن الخطاب خرج ذات يوم فإذا هو بمجلس فيه عثمان بن عفان فقال: منكم رجل لو قسم إيمانه بين جند من الأجناد لوسعهم. يريد عثمان بن عفان.
وعن عبد الله بن عبيد الأنصاري قال: كنت فيمن دفن ثابت بن قيس بن شماس، وكان أصيب يوم اليمامة، فلما أدخلناه القبر سمعناه يقول: محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الشهيد، عثمان لين رحيم. فنظرنا فإذا هو ميت.(16/161)
وعنه أن رجلاً من قتلى مسيلمة تكلم فقال: محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عثمان الرحيم.
وعن سعيد بن المسيب قال: مات رجل من الأنصار فغسل وكفن وحنط فقعد في أكفانه، فقال: محمد رسول الله حقاً، أبو بكر الصديق، أصبتم اسمه ضعيف في العين، قوي في أمر الله، عمر بن الخطاب القوي الأمين، عثمان بن عفان على منهاجهم، بئر أريس ما بئر أريس، قال: ثم رجع فمات.
وعن النعمان بن بشير أنه قال: بينما زيد بن خارجة يمشي في بعض طرق المدينة بين الظهر والعصر خر ميتاً، فنقل إلى أهله، وسجي ببردين وكساء، فاجتمع عليه نسوة من الأنصار، فصرخن حوله إذ سمعوا صوتاً بين المغرب والعشاء من تحت الكساء وهو يقول: أنصتوا أنصتوا. مرتين، قال: فحسر عن وجهه وصدره فقال: محمد رسول الله النبي الأمي وخاتم النبيين، كان ذلك في الكتاب الأول. ثم قيل على لسانه: صدق صدق صدق، ثم قال: أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، القوي الأمين، كان ضعيفاً في بدنه قوياً في أمر الله عز وجل؛ كان ذلك في الكتاب الأول. ثم قيل على لسانه: صدق صدق صدق؛ ثم قال: الأوسط أجلد القوم عند الله عمر أمير المؤمنين الذي كان لا يخاف في الله لومة لائم، وكان يمنع الناس أن يأكل قويهم ضعيفهم، كان ذلك في الكتاب الأول. ثم قيل على لسانه: صدق صدق صدق؛ ثم قال: عثمان أمير المؤمنين، رحيم بالمؤمنين، معافي الناس في ذنوب كثيرة، خلت ثنتان أو قال: ليلتان وبقي أربع قال داود: مضت سنتان وبقي أربع حتى يقع الاختلاف. قال: ثم اختلف الناس ولا نظام لهم، وأبيحت الأحماء، ودنت الساعة، وأكل الناس بعضهم بعضاً فقالوا: قضاء الله وقدره. قال: ثم قال: يا أيها الناس، أقبلوا على(16/162)
أميركم واسمعوا وأطيعوا قال: ثم يحرك داود شفتيه برجل ولا يظهر لنا فإنه على منهاج عثمان؛ فمن تولى بعد ذلك فلا يعهدن دماً، كان أمر الله قدراً مقدوراً. ثلاثاً. ثم قال: هذه الجنة وهذه النار، وهؤلاء النبيون والشهداء؛ ثم قال: السلام عليكم يا عبد الله بن رواحة، هل أحسست لي خارجة وسعداً؟ قال داود: أبوه وأخوه كانا أصيبا يوم أحد قال: ثم قال: " كلا إنها لظى، نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى، وجمع فأوعى " قال: ثم قال: هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. قال: ثم خمد صوته وعاد ميتاً كما كان.
وعن عثمان بن عفان أنه قال: من لم يزدد يوماً بيوم خيراً فذلك رجل يتجهز إلى النار بصيرة.
قال الحسن: رأيت عثمان نائماً في المسجد، ورداؤه تحت رأسه، فيجيء الرجل فيجلس إليه، ثم يجيء الرجل فيجلس إليه، ويجيء الرجل فيجلس إليه كأنه أحدهم.
وعن محمد بن هلال المديني عن أبيه عن جدته: أنها كانت تدخل على عثمان بن عفان، ففقدها يوماً فقال لأهله: ما لي لا أرى فلانة؟ فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين ولدت الليلة غلاماً، قالت: فأرسل إلي بخمسين درهماً وشقيقة سنبلانية، ثم قال: هذا عطاء ابنك، وهذه كسوته، فإذا مرت به سنة رفعناه إلى مئة.
وعن الحسن قال: أدركت عثمان على ما نقموا عليه، قلما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيراً، فقال لهم: يا معشر المسلمين، اغدوا على أعطياتكم. فيأخذونها وافرة، ثم قال(16/163)
لهم: اغدوا على أرزاقكم. فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على السمن والعسل؛ الأعطيات جارية والأرزاق دارة، والعدو منفي، وذات البين حسن، والخير كثير، وما مؤمن يخاف مؤمناً، من لقيه فهو أخوه من كان، ألفته ونصيحته ومودته، قد عهد إليهم أنها ستكون أثرة، فإذا كانت أن يصبروا. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأسيد بن حضير: ستلقون بعدي أثرة. قال: فما تأمرنا؟ قال: أن تصبروا حتى تلقوا الله ورسوله.
قال الحسن: لو أنهم صبروا حين رأوها وأخذوها بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق والخير الكثير. قالوا: لا والله ما نصابرها، فو الله ما ردوا ولا سلموا، والأخرى كان السيف مغمداً عن أهل الإسلام، ما على الأرض مؤمن يخاف أن يسل مؤمن عليه سيفاً حتى سلوه على أنفسهم، فو الله ما زال مسلولاً إلى يوم الناس هذا، وأيم الله إني لأراه سيفاً مسلولاً إلى يوم القيامة.
وعن حكيم بن عباد بن حنيف قال: أول منكر ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا، وانتهى سمن الناس، طيران الحمام والرمي على الجلاهقات، فاستعمل عليها عثمان من بني ليث سنة ثمان، فقصها وكسر الجلاهقات.
وزاد في حديث: وحدث بين النشو قتال بالعصي، فأرسل عثمان طائفاً يطوف عليهم فمنعهم من ذلك، ثم استن الناس بإفشاء الحدود، وساء ذلك عثمان، وشكا ذلك إلى الناس، فاجتمعوا على أن يجلدوا في النبيذ، فأخذ نفراً منهم فجلدوا.(16/164)
وعن الحسن قال: شهدت عثمان بن عفان يأمر في خطبته بقتل الكلاب وذبح الحمام.
وعن ابن داب قال: قال ابن سعيد بن يربوع بن عنكثة المخزومي: انطلقت وأنا غلام في الظهيرة ومعي طير أرسله من المسجد يبنى، فإذا شيخ جميل حسن الوجه نائم، تحت رأسه لبنة أوبعض لبنة، فقمت أنظر إليه أتعجب من جماله! ففتح عينيه فقال: من أنت يا غلام؟ فأخبرته، فنادى غلاماً نائماً قريباً منه فلم يجبه، فقال لي: ادعه، فدعوته فأمره بشيء، وقال لي: اقعد، قال: فذهب الغلام فجاء بحلة وجاء بألف درهم، فنزع ثوبي وألبسني الحلة، وجعل الألف درهم فيها، فرجعت إلى أبي فأخبرته فقال: يا بني، من فعل هذا بك؟ فقلت: لا أدري، إلا أنه رجل في المسجد نائم، لم أر قط أحسن منه! قال: ذلك أمير المؤمنين عثمان بن عفان.
حدث الأصمعي قال: استعمل ابن عامر قطن بن عوف الهلالي على كرمان، فأقبل جيش من المسلمين أربعة آلاف، وجرى الوادي فقطعهم عن طريقهم، وخشي قطن الفوت فقال: من جاز الوادي فله ألف درهم. فحملوا أنفسهم على العظم، فكان إذا جاز الرجل منهم قال قطن: أعطوه جائزته. حتى جازوا جميعاً، وأعطاهم أربعة آلاف ألف درهم، فأبى ابن عامر أن يحسبها، فكتب بذلك إلى عثمان بن عفان، فكتب عثمان أن احسبها له، فإنه إنما أعان المسلمين في سبيل الله، ففي ذلك اليوم سميت الجوائز لإجازة الوادي، وقال الكناني في ذلك: من الوافر(16/165)
فدى للأكرمين بني هلال ... على علاتهم أهلي ومالي.
هم سنوا الجوائز في معد ... فعادت سنة أخرى الليالي.
رماحهم تزيد على ثمان ... وعشر قبل تركيب النصال.
قال أبو العباس محمد بن إسحاق يعني السراج: قال لي أبو إسحاق القرشي يوماً: من أكرم الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قلت: عثمان بن عفان، قال: كيف وقعت على عثمان من بين الناس؟ قلت: لأني رأيت الكرم في شيئين: في المال والروح، فوجدت عثمان جاد بماله على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم جاد بروحه على أقاربه، قال: لله درك ياأبا العباس.
ابتاع عثمان بن عفان حائطاً من رجل فساومه حتى قاومه على الثمن الذي رضي به البائع، فقال: أرنا يدك، قال: وكانوا لا يستوجبون البيع إلا بالصفقة، فلما رأى ذلك الرجل قال: لا أبيعك حتى تزيدني عشرة آلاف، فالتفت عثمان إلى عبد الرحمن بن عوف قال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الله عز وجل أدخل الجنة رجلاً كان سمحاً بائعاً ومبتاعاً قاضياً ومقتضياً ". اذهب فقد زدتك العشرة آلاف لأستوجب بها هذه الكلمة التي سمعتها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن ابن عمر في قوله: " أمن هو قانت آناء الليل " الآية، قال: نزلت في عثمان بن عفان.
وعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي قال: قلت: لأغلبن الليلة على المقام،(16/166)
قال: فسبقت إليه، فبينا أنا قائم أصلي إذ وضع رجل يده على ظهري، فنظرت فإذا هو عثمان بن عفان، وهو خليفة، فتنحيت عنه فقام، فما برح قائماً حتى فرغ من القرآن في ركعة لم يزد عليها، فلما انصرف قلت: يا أمير المؤمنين، إنما صليت ركعة!؟ قال: أجل هي وتري.
وعن عامر بن عبدة قال: قمت ذات ليلة خلف المقام فإذا رجل شديد بياض الثياب طيب الريح يصلي، ورجل يفتح عليه إذا أخطأ، وإذا هو عثمان بن عفان.
وعن عطاء بن أبي رباح: أن عثمان بن عفان صلى بالناس ثم قام خلف المقام فجمع كتاب الله في ركعة كانت وتره، فسميت البتيراء.
وعن محمد بن سيرين قال: لما أطافوا بعثمان يريدون قتله قالت امرأته: إن تقتلوه أو تدعوه، فقد كان يحيي الليلة بركعة يقرأ فيها القرآن.
وكان عثمان لا يوقظ أحداً من أهله إذا قام من الليل إلا أن يجده يقظان، فيدعوه فيناوله وضوءه، وكان يصوم الدهر.
وكان عثمان يقوم من الليل فيأخذ وضوءه، فقالت له امرأة من أهله: يا أمير المؤمنين، لو أيقظت بعض الخدم فناولك وضوءك؟ فقال: لهم الليل يستريحون.
وذكر عند الحسن حياء عثمان قال: إن كان ليكون جوف البيت، والباب عليه مغلق، فيضع ثوبه ليفيض عليه الماء، فيمنعه الحياء أن يرفع صلبه قال عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي: لما بويع عثمان خرج إلى الناس فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أياماً، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها، وما كنا خطباء وسيعلمنا الله.(16/167)
وعن الحسن قال: لما كان من بعض هيج الناس ما كان، جعل رجل يسأل عن أفاضل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل لا يسأل أحداً إلا دله سعد بن مالك، قال: فقيل له: إن سعداً رجل إذا أنت رفقت به كنت قمناً أن تصيب منه حاجتك، وإن أنت خرقت به كنت قمناً أن لا تصيب منه شيئاً. فجلس أياماً لا يسأله عن شيء حتى استأنس به فذكر الحديث قال: أخبرني عن عثمان؟ قال: كنا إذ نحن جميع مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أحسننا وضوءاً، وأطولنا صلاة وأعظمنا نفقة في سبيل الله.
ذكر أبو الزناد: أن رجلاً من ثقيف جلد في الشراب في خلافة عثمان بن عفان قال: وكان لذلك الرجل مكان من عثمان ومجلس في خلوته، فلما جلد أراد ذلك المجلس فمنعه إياه عثمان، وقال: لا نعود إلى مجلسك أبداً إلا ومعنا ثالث.
قال الحسن: قال: قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان: لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف، وما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما كان يديم النظر فيه.
وعن علي: أنه قال لعثمان: إن سرك أن تلحق بصاحبيك فأقصر الأمل، وكل دون الشبع، وانكس الإزار، وارقع القميص، واخصف النعل، تلحق بهما.
قال: والمحفوظ أن علياً قال ذلك لعمر، يعني بصاحبيه: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر.
حدث أنس بن مالك: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان، وكان يغزو مع أهل العراق قبل إرمينية في غزوهم ذلك فيمن اجتمع من أهل العراق وأهل الشام فتنازعوا في القرآن حتى سمع(16/168)
حذيفة من اختلافهم فيه ما يكره، فركب حذيفة حتى قدم على عثمان فقال: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في القرآن اختلاف اليهود والنصارى في الكتب، ففزع لذلك عثمان بن عفان، فأرسل إلى حفصة بنت عمر أن أرسلي إلي بالصحف التي جمع فيها القرآن، فأرسلت إليه بها حفصة، فأمر عثمان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف، وقال لهم: إذا اختلفتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن إنما نزل بلسانهم. ففعلوا، حتى كتبت المصاحف، ثم رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين بمصحف، وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به. فذلك زمان حرقت فيه المصاحف بالنار.
قال يزيد بن معاوية الأشجعي: إني لفي المسجد زمن الوليد بن عقبة في حلقة فيها حذيفة، قال: فليس إذ ذاك حجزة ولا جلاوزة، إذ هتف هاتف: من كان يقرأ على قراءة أبي موسى فليأت الزاوية التي عند أبواب كندة، ومن كان يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود فليأت هذه الزاوية التي عند دار عبد الله، فاختلفا في آية في سورة البقرة، قرأ هذا " وأتموا الحج والعمرة للبيت "، وقرأ هذا " وأتموا الحج والعمرة لله " فغضب حذيفة واحمرت عيناه، ثم قام فغرز قميصه في حجزته وهو في المسجد وذلك في زمن عثمان فقال: إما أن تركب إلى أمير المؤمنين، وإما أن أركب، فهكذا كان من قبلكم، ثم أقبل فجلس فقال: إن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقاتل بمن أقبل من أدبر حتى أظهر الله دينه، ثم إن الله قبضه(16/169)
فطعن الناس في الإسلام طعنة جواداً ثم إن الله استخلفأبا بكر، فكان ما شاء الله، ثم إن الله قبضه فطعن الناس في الإسلام طعنة جواداً، ثم إن الله استخلف عمر، فنزل وسط الإسلام، ثم إن الله قبضه فطعن الناس في الإسلام طعنة جواداً، ثم إن الله استخلف عثمان، وأيم الله ليوشكن أن تطعنوا فيه طعنة تحلقونه كله.
وعن محمد وطلحة قالا: وصرف حذيفة عن غزو الري إلى غزو الباب مدداً لعبد الرحمن بن ربيعة، وخرج معه سعيد بن العاص، فبلغ معه أذربيجان، فأقام حتى قفل حذيفة ثم رجعا. قال له حذيفة: إني سمعت في سفرتي هذه أمراً لئن ترك الناس ليضلن القرآن ثم لا يقومون عليه أبداً، قال: رأيت أمداد أهل الشام حين قدموا علينا، فرأيت أناساً من أهل حمص يزعمون لأناس من أهل الكوفة أنهم أصوب قراءة منهم، وأن المقداد أخذها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقول الكوفيون مثل ذلك، ورأيت من أهل دمشق قوماً يقولون لهؤلاء: نحن أصوب منكم قراءة وقرآن، ويقول هؤلاء لهم في مثل ذلك. فلما رجع إلى الكوفة دخل المسجد فحذر الناس مما سمع في غزاته، فساعده على ذلك أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن أخذ عنهم وعامة التابعين، وقال له قوم ممن قرأ على عبد الله: وما تنكر؟ ألسنا نقرأ على قراءة ابن أم عبد؟ وأهل البصرة يقرؤون على قراءة أبي موسى ويسمونها لباب الفؤاد، وأهل مصر يقرؤون على قراءة المقداد وسالم؟ فغضب حذيفة من ذلك وأصحابه وأولئك التابعون، وقالوا: إنما أنتم أعراب، وإنما بعث عبد الله إليكم ولم يبعث إلى من هو أعلم منه، فاسكتوا فإنكم على خطأ. وقال حذيفة: والله لئن عشت حتى آتي أمير المؤمنين لأشكون إليه ذلك، ولأشيرن عليه أن يحول بينهم وبين ذلك حتى ترجعوا إلى جماعة المسلمين والذي عليه أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة. وقال الناس مثل ذلك، فقال عبد الله: والله إذاً ليصلين الله وجهك نار جهنم. فقال سعيد بن العاص: أعلى الله تألى والصواب مع صاحبك؟ فغضب سعيد وقام، وغضب ابن مسعود فقام، فغضب القوم فتفرقوا، وغضب حذيفة فرحل إلى عثمان فأخبره بالذي حدث في نفسه من تكذيب بعضهم(16/170)
بعضاً بما يقرأ، ويقول: أنا النذير العريان فأدركوا. فجمع عثمان الصحابة، وأقام حذيفة فيهم بالذي رأى وسمع، فأعظموا ذلك، ورأوا جميعاً مثل الذي رأى، قالوا: إن يتركوا ويمضي هذا القرن لا يعرف القرآن. فسأل عثمان: مالباب الفؤاد؟ فقيل: مصحف كتبه أبو موسى، وكان قرأ على رجال كثير ممن لم يكن جمع على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وسأل عن مصحف ابن مسعود فقيل له: قرأ على مجمع بن جارية وخباب بن الأرت، وجمع القرآن بالكوفة، فكتب مصحفاً وسأل عن المقداد فقيل له: جمع القرآن بالشام، فلم يكونوا قرؤوا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما جمعوا القرآن في أمصارهم، فاكتتب المصاحف وهو بالمدينة، وفيها الذين قرؤوا القرآن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبثها في الأمصار، وأمر الناس أن يعمدوا إليها وأن يدعوا ما يعلم في الأمصار. فكل الناس عرف فضل ذلك، أجمعوا عليه وتركوا ما سواه إلا ما كان من أهل الكوفة، فإن قراء قراءة عبد الله نزوا في ذلك حتى كادوا يتفضلون على أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعابوا الناس، فقام فيهم ابن مسعود فقال: ولا كل هذا، إنكم قد سبقتم سبقاً بيناً، فاربعوا على ظلعكم.
ولما قدم المصحف الذي بعث به عثمان على سعيد، وأجمع عليه الناس، وفرح به أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث سعيد إلى ابن مسعود يأمره أن يدفع إليه مصحفه، فقال: هذا مصحفي، تستطيع أن تأخذ ما في قلبي؟ فقال له سعيد: يا عبد الله، ما أنا عليك بمسيطر، إن شئت تابعت أهل دار الهجرة وجماعة المسلمين، وإن شئت فارقتهم، وأنت أعلم.
قال مصعب بن سعد: قام عثمان فخطب الناس فقال: أيها الناس، عهدكم بنبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن، وتقولون قراءة أبي وقراءة عبد الله، يقول الرجل: والله ما تقيم قراءتك، فأعزم على رجل منكم ماكان معه من كتاب الله شيء لما جاء به، فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرة، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلاً(16/171)
رجلاً فناشدهم: أسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أمله عليك؟ فيقول: نعم. فلما فرغ من ذلك عثمان قال: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد بن ثابت. قال: فأي الناس أعرب؟ قالوا: سعيد بن العاص، قال: عثمان: فليمل سعيد وليكتب زيد، فكتب مصاحف ففرقها في الناس، فسمعت بعض أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " قد أحسن ".
وعن علي قال: رحم الله عثمان لقد صنع في المصاحف شيئاً لو وليت الذي ولي قبل أن يفعل في المصاحف ما فعل لفعلت كما فعل.
ولما نسخ عثمان المصاحف قال له أبو هريرة: أصبت ووفقت، أشهد لسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن أشد أمتي حباً لي قوم يأتون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني، يعملون بما في الورق المعلق. فقلت: أي ورق؟ حتى رأيت المصاحف، فأعجب ذلك عثمان وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف، وقال: والله ما علمت إنك لتحبس علينا حديث نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: إياكم والغلو في عثمان، تقولون: حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو وليت مثلما ولي فعلت مثل الذي فعل.
وعن إسماعيل بن أبي خالد قال: لما نزل أهل مصر الجحفة يعاتبون عثمان صعد عثمان المنبر فقال: جزاكم الله يا أصحاب محمد عني شراً، أذعتم السيئة، وكتمتم الحسنة، وأغريتم بي سفهاء الناس، أيكم يأتي هؤلاء القوم فيسألهم ما الذي نقموا، وما الذي يريدون؟ ثلاث مرات لا يجيبه أحد، فقام علي فقال: أنا، فقال عثمان: أنت أقربهم رحماً وأحقهم بذلك، فأتاهم فرحبوا به وقالوا: ما كان يأتينا أحد أحب إلينا منك، فقال: ما الذي نقمتم؟ قالوا: نقمنا أنه محا كتاب الله،(16/172)
وحمى الحمى، واستعمل أقرباءه، وأعطى مروان مئة ألف، وتناول أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فرد عليهم عثمان: أما القرآن فمن عند الله، إنما نهيتكم لأني خفت عليكم الاختلاف، فاقرؤوا على أي حرف شئتم، وأما الحمى فوالله ما حميته لإبلي ولا غمني، وإنما حميته لإبل الصدقة لتسمن وتصلح وتكون أكثر ثمنا للمساكين، وأما قولكم: إني أعطيت مروان مئة ألف فهذا بيت مالهم فليستعملوا عليه من أحبوا، وأما قولهم: تناول أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنما أنا بشر أغضب وأرضى، فمن ادعى قبلي حقاً أو مظلمة فهذا أنا، فإن شاء قود، وإن شاء عفو، وإن شاء أرضي، وفرضي الناس واصطلحوا ودخلوا المدينة، وكتب بذلك إلى أهل البصرة وأهل الكوفة فمن لم يستطع أن يجيء فليوكل وكيلاً.
وعن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك ". قال لي سفينة: أمسك خلافة أبي بكر وعمر وخلافة عثمان ثم قال: عمل بما عمل صاحباه ست سنين، وكان في ست فيه وفيه، غفر الله لنا وله ورحمنا وإياه وخلافة علي، فنظرنا فوجدناها ثلاثين سنة.
قال الشعبي: كان عثمان في قريش محبباً، يوصون إليه، ويعظمونه، وإن كانت المرأة من العرب لترقص صبيها، وهي تقول: من المجتث
أحبك والرحمان ... حب قريش عثمان
قال الزهري: لما ولي عثمان عاش اثنتي عشرة سنة أميراً، يعمل ست سنين لا ينقم الناس عليه شيئاً،(16/173)
وإنه لأحب إلى قريش من عمر بن الخطاب لأن عمر كان شديداً عليهم، فلما وليهم عثمان لان لهم ووصلهم، ثم توانى في أمرهم واستعمل أقرباءه أهل بيته في الست الأواخر، وكتب لمروان بخمس مصر، وفي نسخة أخرى بخمس إفريقية، وأعطى أقرباءه المال وتأول في ذلك الصلة التي أمر الله بها، واتخذ المال واستسلف من بيت المال، وقال: إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما، وإني أخذته فقسمته في أقربائي، فأنكر الناس عليه ذلك.
وعن عروة قال: استخلف عثمان ففتح الله عليه إفريقية وخراسان، فعزل عمير بن سعد عن حمص، وجمع الشام لمعاوية، ونزع عمرو بن العاص عن مصر وأمر عليها عبد الله بن سعد ابن أبي سرح، أحد بني عامر بن لؤي، ونزع أبا موسى الأشعري عن البصرة وأمر عليها عبد الله بن عامر بن كريز، ونزع المغيرة بن شعبة عن الكوفة وأمر عليها سعيد بن العاص، فلم يزل أميرها حتى استعرت الفتنة في الناس، ففصل سعيد من عند عثمان إلى الكوفة، فلقيته خيل أهل الكوفة بالعذيب، فردوه فرجع إلى عثمان، فلم تزل الفتنة تستعر حتى قتل عثمان.
وعن سالم بن أبي الجعد قال: دعا عثمان ناساً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم عمار بن ياسر، فقال: إني سائلكم وإني أحب أن تصدقوني: نشدتكم الله أتعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يؤثر قريشاً على سائر الناس، ويؤثر بني هشام على سائر قريش؟ فسكت القوم، فقال عثمان: لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم.
زاد في حديث غيره: ولأستعملنهم على رغم من رغم. فقال عمار: فإن ذلك يرغم بأنفي؟ قال: أرغم الله بأنفك. قال: بأنف أبي بكر وعمر؟ قال: فغضب فقام إليه فوطئه فأجفله الناس عنه.(16/174)
قال: فبعث إلى طلحة والزبير فقال: ائتيا هذا الرجل فخيراه بين ثلاث: بين أن يقتص أو يأخذ أرشاً، أو يعفو. فأتياه فقالا: إن هذا الرجل قد أنصف فخيرك بين أن تقتص أو تأخذ أرشاً أو تعفو. قال: لا والله، لا أقبل منهن واحدة حتى ألقى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأشكو إليه. قال: وجمع عثمان بني أمية فقال: يا ذبان الطمع، والله ما زلتم بي على هذا الرجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى خشيت أن أكون قد أهلكته وهلكت. قال عثمان: أما إنه لا يمنعني أن أحدث ما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أقبلت أنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نتماشى بالبطحاء فإذا أنا بعمار وأبي عمار وأم عمار يعذبون في الشمس، فقال ياسر: يا رسول الله، الدهر هكذا؟ فقال: اصبر، اللهم اغفر لآل ياسر.
حدث عباد بن زاهر أبو رواع قال: سمعت عثمان يخطب فقال: أما والله قد صحبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفر والحضر، فكان يعود مرضانا، ويشيع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن ناساً يعلموني به عسى أن لا يكون أحدهم رآه قط. قال: فقال له أعين ابن امرأة الفرزدق: يا نعثل! إنك قد بدلت. فقال: من هذا؟ فقالوا: أعين. قال بل أنت أيها العبد. قال: فوثب الناس إلى أعين، قال: وجعل رجل من بني ليث يزعهم عنه حتى أدخله الدار.
وعن عبد الصمد بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن أبيه: أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات، فأنكر الناس عليه، قال: يا أيها الناس، إني تأهلت بمكة منذ قدمت، وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم.(16/175)
قال أبو سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري: سمع عثمان بن عفان أن وفد أهل مصر قد أقبلوا فاستقبلهم، فلما سمعوا به أقبلوا نحوه، قال: وكره أن يقدموا عليه المدينة فأتوه فقالوا له: ادع بالمصحف فافتتح السابعة وكانوا يسمون سورة يونس السابعة فقرأها حتى أتى على هذه الآية " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل الله أذن لكم أم على الله تفترون ". قالوا له: قف، أرأيت ما حميت من الحمى الله أذن لك أم على الله تفتري؟ فقال: امضه نزلت في كذا وكذا، فأما الحمى فإن عمر حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة فزدت في الحمى لما زاد في الصدقة.
وعن شقيق قال: لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة فقال له الوليد: ما لي أراك قد جفوت أمير المؤمنين عثمان؟ فقال: أبلغه أني لم أفر يوم عينين قال عاصم: هو يوم أحد ولم أتخلف يوم بدر، ولم أترك سنة عمر. فانطلق يخبر ذلك عثمان، فقال عثمان: أما قوله: يوم عينين فكيف يعيرني بذنب قد عفا الله عنه! فقال عز وجل: " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم "، وأما قوله إني تخلفت يوم بدر فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ماتت، وقد ضرب لي سهمي، ومن ضرب له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسهم فقد شهد، وأما قوله إني أترك سنة عمر فإني لا أطيقها أنا ولا هو، فأته فحدثه بذلك.
قال صهيب مولى العباس: أرسلني العباس إلى عثمان أدعوه، فأتيته فإذا هو يغدي الناس، فدعوته فأتاه، فقال: أفلح الوجه أبا الفضل. قال: ووجهك. قال: إن رسولك أتاني وأنا في دار(16/176)
القضاء، ففرغت من شأني ثم أتيتك، فحاجتك؟ قال لا والله إلا أنه بلغني أنك أردت أن تقوم بعلي وأصحابه فتشكوهم إلى الناس، وعلي ابن عمك وأخوك في دينك، وصاحبك مع نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أجل، فوالله لو أن علياً شاء أن يكون أدنى الناس لكان وفي رواية أخرى: إن علياً لو شاء ما كان أحد دونه، ولكنه أبى إلا رأيه قال: ثم أرسلني إلى علي، فأتيته فقلت: أبا الفضل يدعوك، فلما جاءه قال: إنه بلغني أن عثمان أراد أن يقوم بك وأصحابك، وعثمان ابن عمك وأخوك في دينك وصاحبك مع نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: علي: والله لو أن عثمان أمرني أن أخرج من داري لفعلت. زاد في آخر: فأما أداهن ألا يقام بكتاب الله فلم أكن لأفعل.
وعن ابن الحنيفة قال: ما سمعت علياً ذاكراً عثمان بسوء قط، ولو كان ذاكرة بسوء لذكره يوماً، وسأخبر: كان الناس أتوا علياً يشكون إليه سعاة عثمان، فأرسلني أبي فقال: يا بني خذ هذا الكتاب فإن فيه عشر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصدقة، فاذهب به إلى عثمان. قال: فأتيته فأخبرته به فقال: انطلق فلا حاجة لنا به. فأتيت أبي فأخبرته فقال: لا عليك ضعه حيث أخذته.
قال سفيان: لم يجد علي بداً حين كان عنده علم أن ينهيه إليه، ونرى أن عثمان إنما رده أن عنده من ذلك علم فاستغنى عنه.
وعن أبي هريرة قال: ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتنة فقالوا: يا رسول الله، فما المخرج منها؟ قال: عليكم بالأمين وأصحابه. يعني عثمان بن عفان.
وعن مرة بن كعب البهزي قال: كنت جالساً مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر الفتن، فمر رجل فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا يومئذ ومن معه على الحق. فقمت إليه فأخذت بردائه، فلفت بوجهه فإذا هو عثمان بن عفان، فقلت: هذا يا نبي الله؟ قال: هذا.(16/177)
وعن عبد الله بن حوالة قال: كنت عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعنده كاتب يكتب فقال: يا عبد الله بن حوالة، ألا أكتبك؟ فقلت: في أي شيء؟ فأعرض عني، ثم قال: يا عبد الله بن حوالة، ألا أكتبك؟ قلت: في أي شيء؟ فأعرض عني. قال: فنظرت في الكتاب فإذا فيه أبو بكر وعمر، أو أحدهما، فقلت في نفسي: ما كتب أبو بكر وعمر إلا في خير. قال يا عبد الله، ألا أكتبك؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: يا عبد الله، كيف بك إذا ظهرت فتنة في أطراف الأرض كأنها صياصي بقر؟ قلت: ما خار الله لي ورسوله. قل: فكيف بك يا عبد الله إذا ظهرت فتنة أخرى كأنها انتفاجة أرنب؟ قلت: ما خار الله ورسوله. قال: ومر رجل متقنع قال: هذا يومئذ على الهدى. قال: فتبعته فأخذت بمنكبه، فأقبلت به على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكشفت قناعه، قلت: هذا؟ قال: هذا. فإذا هو عثمان بن عفان.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكر فتنة، فمر رجل فقال: يقتل هذا يومئذ مظلوماً. قال ابن عمر: فنظرت إليه فإذا هو عثمان بن عفان.
وعن النعمان بن بشير قال: حججت فأتيت عائشة أم المؤمنين لأسلم عليها فقالت: من أنت؟ فقلت: أنا النعمان. فقالت: ابن عمرة؟ فقلت: نعم. فقالت: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوماً لعثمان: إن كساك الله ثوباً فأرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه. قال النعمان: فقلت: غفر الله لك يا أم المؤمنين ألا ذكرت هذا حين جعلوا يختلفون إليك؟ فقالت: أنسيته حتى بلغ الله عز وجل فيه أمره.
وفي حديث آخر بمعناه: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان فلم يرض بالذي أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إلي به، فكتبت إليه به كتاباً.(16/178)
وعن عائشة قالت: ما استمعت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا مرة فإن عثمان جاءه في نحر الظهيرة وزاد في رواية: فظننت أنه جاءه في أمر النساء، فحملتني الغيرة على أن أصغيت إليه فسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الله ملبسك قميصاً تريدك أمتي على خلعه فلا تخلعه. فلما رأيت عثمان يترك لهم كل شيء إلا خلعه علمت أنه عهد من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
زاد في رواية: فإن أنت خلعته لم ترح رائحة الجنة.
ومن حديث: فلنا كان يوم الدار وحصر قلنا: يا أمير المؤمنين، ألا نقاتل؟ قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهداً إلي عهداً، وإني صابر نفسي عليه.
وعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنك ستبتلى بعدي فلا تقاتلن.
وعن أبي بكر العدوي قال: سألت عائشة: هل عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أحد من أصحابه عند موته؟ قالت: معاذ الله غير أني سأخبرك، ثم أقبلت على حفصة فقالت: يا حفصة، أنشدك بالله أن تصدقيني بباطل وأن تكذبيني بحق. قالت عائشة: هل تعلمين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أغمي عليه؟ فقلت: أفرغ؟ فقلت: لا أدري. فقال: ائذنوا له، فقلت: أبي؟ فسكت، فقلت أنت: أبي؟ فسكت ثم أغمي عليه أشد من الأولى، فقلت: أفرغ؟ فقلت: لا أدري. ثم أفاق فقال: ائذنوا له. فقلت: أبي فسكت، فقلت أنت: أبي؟ فسكت، ثم أغمي عليه إغماءة أشد من الأوليين حتى ظننا أنه قد فرغ. فقلت: أفرغ؟ فقلت: لا أدري. ثم أفاق فقال: ائذنوا له. فقلت: أبي؟ فسكت، فقلت أنت: أبي؟ فسكت. فقالت إحداهما: ليس لأبي ولا أبيك. فقلت: أتعلمين أن على الباب رجلاً؟ ائذنوا له. فإذا(16/179)
عثمان وكان من أشد هذه الأمة حياء وهو على الباب، فأذنوا له فدخل، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادنه. فدنا، فقال: ادنه. فدنا، فقال: ادنه. فدنا حتى أمكن يده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعلها وراء عنقه ثم ساره، فلما فرغ قال: أفهمت؟ قال: سمعته أذناي ووعاه قلبي. ثم وضع يده وراء عنقه ثم ساره، فلما فرغ قال: سمعت؟ قال: سمعته أذناي ووعاه قلبي. ثم وضع يده وراء عنقه ثم ساره، فلما فرغ قال: سمعت؟ قال: سمعته أذناي ووعاه قلبي، ثم قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالت عائشة: أخبره أنه مقتول، وأمره أن يكف يده.
وعن حفصة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كانت قاعدة وعائشة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وددت أن معي بعض أصحابي نتحدث فقالت عائشة: أرسل إلى أبي بكر يتحدث معك؟ قال: لا. قال حفصة: أرسل إلى عمر يتحدث معك؟ قال لا، ولكن أرسل عثمان. فجاء عثمان فدخل، فقامتا فأرختا الستر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعثمان: إنك مقتول مستشهد، فاصبر صبرك الله، ولا تخلعن قميصاً قمصك الله ثنتي عشرة سنة وستة أشهر حتى تلقى الله وهو عليك. قال عثمان: إن دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لي بالصبر وفي رواية: قال عثمان: ادع لي بالصبر فقال: اللهم صبره. فخرج عثمان، فلما أدبر قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صبرك الله فإنك سوف تستشهد وتموت وأنت صائم وتفطر معي.
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ياعثمان، إنك ستؤتى الخلافة من بعدي، وسيريدك المنافقون على خلعها فلا تخلعها، وصم في ذلك اليوم تفطر عندي.
وعن عائشة قالت: دخل عثمان على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محلل الأزرار، فزرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: كيف أنت يا عثمان إذا لقيتني يوم القيامة وأوداجك تشخب دماً، فأقول: من فعل بك هذا؟ فتقول: بين خاذل وقاتل وآمر، فبينما نحن كذلك إذ ينادي مناد من تحت العرش: إن عثمان قد حكم في أصحابه. فقال عثمان: لا حول ولا قوة إلا بالله. وزاد في رواية: العلي العظيم.(16/180)
وعن ابن حوالة الأسدي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: من نجا من ثلاث فقد نجا: موتي، وخروج الدجال، وقتل الخليفة قوام مصطبر بالحق يعطيه.
وعن أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صعد أحداً، فتبعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فقال: اثبت أحد، نبي وصديق وشهيدان. وفي رواية عنه: حراء أو أحداً. الحديث.
وعن محمد بن سيرين: أن رجلاً قال بالكوفة: هو يشهد أن عثمان قتل شهيداً، فأخذته الزبانية فرفعوه إلى علي، وقالوا: لولا أن تنهانا أو نهيتنا ألا نقتل أحداً لقتلنا هذا، زعم أنه يشهد أن عثمان قتل شهيداً. فقال الرجل لعلي: وأنت تشهد، أتذكر أني أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألته فأعطاني، وأتيت أبا بكر فسألته فأعطاني، فأتيت عمر فسألته فأعطاني، وأتيت عثمان فسألته فأعطاني. قال: فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يبارك لي، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وكيف لا يبارك لك وأعطاك نبي وصديق وشهيدان، وأعطاك نبي وصديق وشهيدان وأعطاك نبي وصديق وشهيدان.
وعن البراء بن عازب قال: قال لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم ": تدرون ما على العرش مكتوب؟ مكتوب لا إله إلا الله محمد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان الشهيد، علي الرضا ".
وفي حديث عن نعيم بن أبي هند قال: كان الناس بالكوفة إذا سمعوا أحداً يذكر عثمان بخير ضربوه، فقال لهم علي: لا تفعلون، ولكن ائتوني به. قال: فقال أعرابي: قتل عثمان شهيداً، فأتوا به علياً، وساق بقية الحديث بمعناه.
وعن أبي عون الأنصاري قال: بلغ عثمان بن عفان أن ابن مسعود يحدث بحديث كان عثمان عرفه، فبعث إليه عثمان، فاعتذر إليه ابن مسعود ببعض العذر، فقال عثمان: إني قد سمعت كما سمعت وحفظت،(16/181)
وليس كما تقول، إنما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سيكون أمير يقتل، ثم يكون بعده متنزي، فإذا رأيتموه فاقتلوه، وإنما قتل عمر رجل واحد، وإنه سيجتمع علي وأنا المقتول، والمتنزي يكون من بعدي.
كان مبدأ الطعن على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه إفساد عبد الله بن سبأ الذي تنسب إليه السبئية، ويعرف بابن السوداء.
قال يزيد الفقعسي: لما خرج ابن السوداء إلى مصر نزل على كنانة بن بشر مرة، وعلى سودان بن حمران مرة، وانقطع إلى الغافقي فشجعه الغافقي، فتكلم وأطاف به خالد بن ملجم وعبد الله بن زرير وأشباه لهم، فصرف لهم القول فلم يجدهم يجيبون إلى شيء مما يجيبون إلى الوصية، فقال: عليكم ناب العرب وحجرهم ولسنا من رجاله، فأروه أنكم تزرعون ولا تزرعون العام شيئاً حتى تنكسر مصر، فتشكونه، فيعزل عنكم ونسأل من هو أضعف منه، ونخلو بما نريد، ونظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان أسرعهم إلى ذلك محمد بن أبي حذيفة، وهو ابن خال معاوية، وكان يتيماً في حجر عثمان، وفلما ولي استأذنه في الهجرة إلى بعض الأمصار، فخرج إلى مصر، وكان الذي دعاه إلى ذلك أنه سأل العمل فقال: لست هناك. ففعلوا ما أمرهم به ابن السوداء، ثم إنهم خرجوا وشكوا عمراً واستعفوا منه، وكلما نهنه عثمان عن عمر وقوماً وسكنهم وأرضاهم وقال: إنما هو أمين انبعث آخرون بشيء آخر، وكلهم يطلب عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فقال لهم عثمان: أما عمرو فسننزعه عنكم إلى ما زعمتم أنه أفسد، وأما الحرب فسنقره عليها ونولي من سألتم، فولى عبد الله ابن سعد خراجهم خراج مصر، وترك عمراً على صلاتها، فمشى في ذلك سودان بن حمران(16/182)
وكنانة بن بشر وخارجة وأشباههم فيما بين عمرو وعبد الله بن سعد، وأغروا بينهما حتى احتمل كل واحد منهما على صاحبه، وتكاتبا على قدر ما أبلغوا كل واحد منهما، فكتب عبد الله بن سعد: إن خراجي لا يستقيم ما دام عمرو على الصلاة. وخرجوا فصدقوه واستعفوا من عمرو، وسألوا عبد الله، فكتب عثمان إلى عمرو: إنه لا خير لك في صحبة من يكرهك، فأقبل. وجمع مصر لعبد الله صلاتها وخراجها، فقدم عمرو فقال له عثمان: أبا عبد الله ما شأنك استحيل رأيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، دعني فوالله ما أدري أين أتيت وما أتهم عبد الله بن سعد، وإن كنت لأهل عملي كالوالدة، وما قدر العارف الشاكر على معونتي.
قال الحسن البصري: كان عمر قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذن وأجل، فشكوه فبلغه فقام فقال: ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير، يبدأ فيكون جذعاً، ثم ثنياً، ثم رباعياً، ثم سدسياً، ثم بازلاً، فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان، ألا وإن الإسلام قد بزل، ألا وإن قريشاً يريدون أن يتخذوا مال الله مغويات دون عباده، ألا فأما وابن الخطاب حي فلا، إني قائم دون شعب الحرة آخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار.(16/183)
قالوا: فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالزي الذي كان أخذهم به عمر، فانساحوا في البلاد، فلما رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس انقطع من لم يكن له طول ولا مزية في الإسلام، وكان مغموراً في الناس، وصاروا أوزاعاً إليهم، وأملوهم وتقدموا في ذلك، وقالوا: يملكون فنكون قد عرفناهم وتقدمنا في التقرب والانقطاع إليهم، فكان ذلك أول وهن دخل على الإسلام، وأول فتنة كانت في العامة، ليس إلا ذلك.
قال الشعبي: لم يمت عمر حتى ملته قريش، وقد كان حصرهم بالمدينة، وأسبغ عليهم وقال: إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد، فإن كان الرجل ليستأذنه في الغزو وهو ممن حبس في المدينة من المهاجرين، ولم يكن فعل ذلك بغيرهم من أهل مكة فيقول: قد كان لك في غزوك مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يبلغك، وخير لك من غزوك اليوم ألا ترى الدنيا ولا تراك. فلما ولي عثمان خلى عنهم فاضطربوا في البلاد، وانقطع إليهم الناس، وكان أحب إليهم من عمر.
قال بن سعد بن أبي وقاص: قدم عمار من مصر وأبي شاك، فبلغه فبعثني إليه أدعوه، فقام معي ليس عليه رداء، وعليه قلنسوة من شعر، معتم عليها بعمامة وسخة، وجبة فراء يمانية، فلما دخل على سعد وهو متكئ، استلقى ووضع يده على جبهته، ثم قال: ويحك يا أبا اليقظان، إن كنت فينا لمن أهل الخير، فما الذي بلغني من سعيك في فساد بين المسلمين والتأليب على أمير المؤمنين؟ أمعك عقلك أم لا؟ فأهوى عمار إلى عمامته، وغضب فنزعها وقال: خلعت عثمان كما خلعت عماتي هذه، فقال سعد: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويحك، حين كبر(16/184)
سنك، ودق عظمك، ونفد عمرك، ولم يبق منك إلا ظمء كظمء الحمار، خلعت ربقة الإسلام من عنقك وخرجت من الدين عرياناً كما ولدتك أمك؟ فقام عمار مغضباً مولياً، وهو يقول: أعوذ بربي من فتنة سعد، فقال سعد " ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " اللهم: زد عثمان بعفوه وحلمه عندك درجات، حتى خرج عمار من الباب. وأقبل علي سعد يبكي له حتى أخضل لحيته، وقال: من يأمن الفتنة؟ يا بني، لا يخرجن منك ما سمعت فإنه من الأمانة، وإني أكره أن يتعلق به الناس عليه فيتناولونه، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحق مع عمار ما لم تغلب عليه دلهة الكبر. فقد دله وخرف، وكان بعد يكثر أن يقول: ليت شعري كيف يصنع الله بعمار مع بلائه وقدمه في الإسلام وحدثه الذي أحدث؟ قال مبشر: سألت سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر ما دعاه إلى ركوب عثمان فقال: الغضب والطمع. فقلت: ما الغضب والطمع؟ قال: كان من الإسلام بالمكان الذي هو به، وغره أقوام فطمع، وكانت له دالة، ولزمه حق فأخذه عثمان من ظهره ولم يدهن، فاجتمع هذا إلى هذا فصار مذمماً بعد أن كان محمداً.
بعثت ليلى بنت عميس إلى محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فقالت: إن المصباح يأكل نفسه ويضيء للناس فلا تأثما في أمر تسوقانه إلى من لا يأثم فيه، فإن هذا الأمر الذي تحاولان اليوم لغيركم غداً، فاتقوا أن يكون عملكم اليوم حسرة عليكم غداً. فلجا وخرجا مغضبين يقولان: لا تنسي ما صنع بنا عثمان، وتقول: ما صنع بكما إلا ما ألزمكما الله. فلقيهما سعيد بن العاص، وقد كان بين محمد بن أبي بكر وبينه شيء، فتمثل له في تلك الحال بيتاً فأذكره حين لقي خارجاً من عند ليلى متمثلاً من الكامل:(16/185)
استبق ودك للصديق ولا تكن ... قتباً يعض بغارب ملحاحا
فأجابه سعيد متمثلاً: من الطويل
ترون إذا ضرباً صميماً من الذي ... له جانب ناء عن الحزم معور
كتب عثمان إلى أهل الأمصار: أما بعد، فإني آخذ العمال بموافاتي في كل موسم، وقد سلطت الأمة منذ وليت على الائتمار بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يرفع إلي شيء علي ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته، وليس لي ولا لعمالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم، وقد رفع إلي أهل المدينة أن أقواماً يشتمون، وآخرين يضربون، فيا من ضرب سراً وشتم سراً، من ادعى شيئاً من ذلك فليواف الموسم، وليأخذ بحقه كيف كان، مني أو من عمالي، أو يصدقوا، فإن الله يجزي المتصدقين. فلما قرىء في الأمصار أبكى الناس، ودعوا لعثمان وقالوا: إن الأمة لتمخض بشر، فإلى ما ذاك مسلمها؟ وما يدرون ما باب تلك الإذاعة وما حيلتها. وبعث إلى عمال الأمصار فقدموا عليه: عبد الله بن عامر، ومعاوية، وعبد الله بن سعد، وأدخل معهم في المشورة سعيداً وعمراً، فقال: ويحكم ما هذه الشكاة؟ وما هذه الإذاعة؟ إني والله لخائف أن تكونوا مصدوقاً عليكم، وما يعصب هذا إلا بي. فقالوا له: ألم نبعث؟ ألم نرفع إليك الخبر عن العوام؟ ألم يرجعوا وما يشافههم أحد بشيء؟ لا والله ما صدقوا ولا بروا ولا نعلم لهذا الأمر أصلاً، وما كنت لتأخذ به أحداً، ونقيمتك على شيء، وما هي إلا الإذاعة، ما يحل الأخذ بها ولا الانتهاء إليها. قال: فأشيروا علي، فقال سعيد بن العاص: هذا أمر مصنوع يصنع في السر، فيلقى به غير(16/186)
المعرفة فيخبر به فيتحدث به الناس في مجالسهم. قال: فما دواء ذلك؟ قال: طلب هؤلاء القوم، ثم قتل الذين يخرج هذا من عندهم. وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم، حتى الأدب، فإنه خير من تدعهم. وقال معاوية: قد وليتني فوليت قوماً لا يأتيك عنهم إلا الخير، الرجلان أعلم بنا بناحيتهما. قال: فما الرأي؟ قال: حسن الأدب. قال: فما ترى يا عمرو؟ قال: أرى أنك قد لنت لهم وتراخيت عنهم، وزدتهم على ما كان يصنع عمر، وأرى أن تلزم طريقة صاحبيك، فتشد في موضع الشدة، وتلين في موضع اللين، إن الشدة لا ينبغي عمن لا يألو الناس شراً، وتلين لمن يخاف البأس بالنصح، وقد فرشتهما جميعاً اللين.
وقام عثمان فحمد الله وأثنى عليه وقال: كل ما أشرتم به علي قد سمعت، ولكل أمر باب يؤتى منه، إن هذا الأمر الذي يخاف على الأمة كائن وإن بابه الذي يغلق عليه، ويكفكف به، اللين والمؤاتاة والمتابعة، إلا في حدود الله التي لا يستطيع أحد أن ينادي بعيب أحدهما، فإن سده شيء فذاك، ووالله ليفتحن، وليست لأحد علي حجة حق، وقد علم الله أني لم آل الناس خيراً ولا نفسي، ووالله إن رحى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها، كفكفوا الناس وهبوا لهم حقوقهم واغتفروا لهم، وإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها.
فلما نفر عثمان شخص معاوية وعبد الله بن سعد معه إلى المدينة، ورجع ابن عامر وسعيد معه. ولما استقل عثمان رجز به الحادي من مشطور الرجز:
قد علمت ضوامر المطي
وضمرات عوج القسي
أن الأمير بعده علي
وفي الزبير خلف مرضي(16/187)
وطلحة الحامي لها ولي فقال كعب وهو يسير خلف عثمان: الأمير والله بعده صاحب البغلة وأشار إلى معاوية.
قالوا: فما زال معاوية يطمع فيها بعد ذلك، ولما بلغه هذا الحداء سأله عن الذي بلغه فقال: نعم، أنت الأمير بعده، ولكنها لا تصل إليك حتى تكذب بحديثي هذا. فوقعت في نفس معاوية.
فلما ورد عثمان إلى المدينة رد الأمراء إلى أعمالهم فمضوا جميعاً، وأقام سعيد بعدهم، وفلما ودع معاوية عثمان خرج من عنده وعليه ثياب السفر، متقلداً سيفه متنكباً قوسه، فإذا هو بنفر من المهاجرين، فيهم طلحة والزبير وعلي، فقام عليهم فتوكأ على قوسه بعد ما سلم عليهم، ثم قال: إنكم قد علمتم أن هذا الأمر كان إذ الناس يتغالبون إلى رجال، فلم يكن منهم أحد وفي قبيلته من يرأسه، ويستبد عليه، ويقطع الأمر دونه، ولا يشهده ولا يؤامره، حتى بعث الله تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكرم به من اتبعه فكانوا يرأسون من جاء بعدهم، وأمرهم شورى بينهم، يتفاضلون فيه بالسابقة والقدمة والاجتهاد، فإن أخذوا بذلك وقاموا به كان الأمر أمرهم والناس لهم تبع، وإن صغوا إلى الدنيا، وطلبوها بالتغالب سلبوا ذلك، ورده الله إلى من جعل له الغلب، وكان يرأسهم أولاً، فليحذروا الغير فإن الله على البدل قادر، وله المشيئة في ملكه وأمره، إني قد خلفت فيكم شيخاً فاستوصوا به خيراً، وكانفوه تكونوا أسعد منه بذلك. ثم ودعهم ومضى، فقال علي: إن كنت لأرى في هذا خيراً. فقال الزبير: لا والله ما كان قط أعظم في صدرك وصدورنا منه الغداة.
وقد كان معاوية قال لعثمان غداة ودعه وخرج: يا أمير المؤمنين، انطلق معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فإن أهل الشام على الأمر لم يزولوا عنه. فقال: أنا أبيع جوار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء وإن كان قطع خيط عنقي؟؟؟ قال: فأبعث إليك جنداً منهم يقيم بين ظهراني المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياك؟ قال: أنا أقتر على جيران(16/188)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأرزاق بجند يساكنهم، وأضيق على أهل دار الهجرة والنصرة؟ قال: يا أمير المؤمنين، والله لتغتالن ولتغزن، فقال: حسبي الله ونعم الوكيل.
وقال معاوية: يا أيسار الجزور، وأين أيسار الجزور؟ ثم خرج حتى وقف على النفر ثم مضى.
وكان أهل مصر بايعوا أشياعهم من أهل الكوفة وأهل البصرة وجميع من أجابهم أن ينووا خلاف أمرائهم، واتعدوا يوماً حيث شخص أمراؤهم فلم يستقم ذلك لأحد منهم، ولم يتمم عليه إلا أهل الكوفة، فإن يزيد بن قيس الأرحبي ثار فيها واجتمع إليه أصحابه، وعلى الحرب يومئذ القعقاع بن عمرو، فأتاه وأحاط الناس بهم فناشدوهم، وقال يزيد للقعقاع: ما سبيلك علي وعلى هؤلاء؟ فوالله إني لسامع مطيع وهم، وإني للازم لجماعتي وهم، إلا أني أستعفي ومن ترى من إمارة سعيد، فقد يستعفي الخاصة من أمر قد رضيته العامة. قال: فذاك إلى أمير المؤمنين. فتركهم والاستعفاء، ولم يستطيعوا أن يظهروا غير ذلك. واستقبلوا سعيداً فردوه من الجرعة، واجتمع الناس على أبي موسى، وأقره عثمان.
ولما رجع الأمراء لم يك للسبئية سبيل إلى الخروج من الأمصار، فكاتبوا أشياعهم من أهل الأمصار أن يتوافوا بالمدينة لينظروا فيما يريدون، وأظهروا أنهم يأتمرون بالمعروف، ويسألون عثمان عن أشياء ليطير في الناس ولتحقق عليه. فتوافوا بالمدينة،(16/189)
وأرسل عثمان رجلين: مخزومي وزهري، فقال: انظرا ما يريدون، واعلما علمهم، وكانا ممن ناله من عثمان أدب، فاصطبرا للحق ولم يضطغنا، فلما رأوهما باثوهما وأخبرو هما بما يريدون، فقالا: من معكم على هذا من أهل المدينة؟ قالوا: ثلاثة نفر، فقالا: هل إلا؟ قالوا: لا، قالا: فكيف تريدون أن تصنعوا؟ قالوا: نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب الناس، ثم نرجع إليهم فنزعم لهم أنا قد قررناه بها فلم يخرج منها ولم يتب، ثم نخرج كأننا حجاج حتى نقدم فنحيط به فنخلعه، فإن أبى قتلناه، وكانت إياها. فرجعا إلى عثمان بالخبر، فضحك وقال: اللهم سلم هؤلاء النفر، فإنك إن لم تسلمهم شقوا، فأما عمار، فحمل علي ذنب ابن أبي لهب وعركه بي، وأما محمد بن أبي بكر فإنه أعجب حتى رأى أن الحقوق لا تلزمه، وأما ابن سارة فإنه يتعرض للبلاء.
وأرسل إلى المصريين والكوفيين ونادى الصلاة جامعة، وهم عنده في أصل المنبر فأقبل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أحاطوا بهم، فحمد الله وأثنى عليه، وأخبرهم خبر القوم، وقام الرجلان فقالوا جميعاً: اقتلهم، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من دعا إلى نفسه أو إلى أحد وعلى الناس إمام فعليه لعنة الله، فاقتلوه. وقال عمر بن الخطاب: لا أحل لكم إلا ما قتلتموه وأنا شريككم. فقال عثمان: بل نعفو ونقبل ونبصرهم بجهدنا، ولا نحاد أحد حتى يركب حداً أو يبدي كفراً، إن هؤلاء ذكروا أموراً قد علموا منها مثل الذي علمتم، إلا أنهم زعموا أنهم يذاكرونيها ليوجبوها علي، عقد من لا يعلم.
وقالوا: أتم الصلاة في السفر، وكانت لا تتم، ألا وإني قدمت بلداً فيه أهلي فأتممت لهذا من الأمر، أفكذلك؟ قالوا: اللهم نعم.
قالوا: وحميت حمى، وإني ما حميت إلا ما حمي قبلي، والله ما حموا شيئاً لأحد، ما حموا إلا ما غلب عليه أهل المدينة، ثم لم يمنعوا من رعية أحد، واقتصروا(16/190)
لصدقات المسلمين مويهاً لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثم ما منعوا ولا نحن منها أحداً إلا من ساق دهماً، ومالي من بعير غير راحلتين، ومالي ثاغية، وإني قد وليت وإني لأكثر العرب بعيراً وشاة، فمالي اليوم شاة ولا بعير غير بعيرين لحجي، أكذاك؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: وقالوا: كان القرآن كتباً فتركها إلا واحداً، ألا وإن القرآن واحد، جاء من عند واحد، وإنما أنا في ذلك تابع لهؤلاء، أفكذلك؟ قالوا: اللهم نعم. وسألوه أن يقتلهم.
وقالوا: إني رددت الحكم وقد سيره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والحكم مكي سيره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة إلى الطائف، ثم رده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيره، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رده، أفكذلك؟ قالوا: نعم. وقالوا: اسمعت الأحداث، ولم أستعمل إلا مجتمع محتمل مرضي، وهؤلاء أهل عمله فسلوهم عنه، وهؤلاء أهل بلده، وقد ولى من قبلي أحدث منه، وقيل في ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد مما قيل لي في استعماله أسامة، أكذاك؟ قالوا: نعم. يعيبون للناس مالا يفسرون.
وقالوا: إني أعطيت ابن أبي سرح ما أفاء الله عليه، وإني إنما نفلته خمس ما أفاء الله(16/191)
عليه من الخمس فكان مئة ألف، قد نفل مثل ذلك أبو بكر وعمر، فزعم الجند أنهم يكرهون ذلك فرددته عليهم، وليس ذلك لهم، أكذاك؟ فقالوا: نعم.
وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيتهم، فأما حبي فإنه لم يمل معهم على جور، بل أحمل الحقوق عليهم، وأما إعطاؤهم فإني إنما أعطيهم من مالي، ولا أستجل أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس، ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة والرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي، وفني عمري، ووزعت الذي لي في أهلي قال الملحدون ما قالوا، إني والله ما حملت على مصر من الأمصار فضلاً فيجوز ذلك لمن قاله، ولقد رددته عليهم، ولا قدم علي الأخماس، ولا يحل لي منها شيء فولي المسلمون وضعها في أهلها دوني ولا تبلغت من مال الله عز وجل بفلس فما فوقه، ولا أتبلغ به، ما آكل إلا في مالي.
قالوا: أعطيت الأرض رجالاً، وإن هذه الأرضين شاركهم فيها المهاجرون والأنصار أيام افتتحت، فمن أقام بمكة من هذه الفتوح فهو أسوة أهله، ومن رجع إلى أهله لم يذهب ذلك ما حوى الله عز وجل له. فنظرت في الذي يصيبهم مما أفاء الله عليهم فبعته لهم بأمرهم من رجال أهل عقار ببلاد العرب، فنقلت إليهم نصيبهم، فهو في أيديهم دوني.
وكان عثمان قد قسم ماله وأرضه في بني أمية، وجعل ولده كبعض من يعطي، فبدأ ببني أبي العاص، فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف، عشرة آلاف، فأخذوا مئة ألف، وأعطي بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني العاص وفي بني العيص وفي بني حرب، ولانت حاشية عثمان لأولئك الطراء، وأبى المسلمون إلا قتلهم، وأبى إلا تركهم، فذهبوا فرجعوا إلى بلادهم على أن يغزوهم مع الحجاج كالحجاج، وتكاتبوا وقالوا: موعدكم ضواحي المدينة في شوال.(16/192)
قالوا وكتب عثمان إلى الناس بالذي كان وبكل ما صبر عليه من الناس إلى ذلك اليوم، وبما عليهم، فما كتب به: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فإن أقواماً ممن كان يقول في هذا الحديث أظهروا للناس، أنما يدعون إلى كتاب الله والحق، ولا يريدون الدنيا ولا منازعة فيها، فلما عرض عليهم الحق إذا الناس في ذلك شتى، منهم آخذ للحق ونازع عنه من يعطاه، ومنهم تارك للحق رغبة في الأمر، يريدون أن يبتزوه لغير الحق، وقد طال عليهم عمري وراث عليهم أملهم في الأمور، واستعجلوا القدر، وإني جمعتهم والمهاجرين والأنصار فنشدتهم فأدوا الذي علموا، فكان أول ما شهدوا به أن يقتل كل من دعا إلى نفسه أو أحد.
وفسر لهم ما اغتدوا به عليه، وما أجابهم فيه وشهد له عليه. ورجع إليهم الذين شخصوا، لا يستطيعون أن يظهروا شيئاً حتى إذا دخل شوال خرجوا كالحجاج فنزلوا قرب المدينة.
قالوا: ولما كان في شوال سنة خمس وثلاثين خرج أهل مصر في أربع رفاق على أربعة أمراء، المقلل يقول: ست مئة، والمكثر يقول: ألف، ولم يجترئوا أن يعلموا الناس بخروجهم إلى الحرب إنما خرجوا كالحجاج، ومعهم ابن السوداء، وخرج أهل الكوفة في أربع رفاق، وعددهم كعدد أهل مصر، وخرج أهل البصرة في أربع رفاق، وعددهم كعدد أهل مصر، فأما أهل مصر فإنهم يشتهون علياً، وأما أهل البصرة فإنهم كانوا يشتهون طلحة، وأما أهل الكوفة فإنهم يشتهون الزبير فخرجوا وهم على الخروج جميع، في التأمير شتى، لا تشك كل فرقة إلا أن الفلج معها، وأن أمرها سيتم دون الأخرى، فخرجوا حتى إذا كانوا من المدينة على ثلاث تقدم أناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خشب، وأناس من الكوفة فنزلوا الأعوص، وجاءهم أناس من أهل مصر،(16/193)
وتركوا عامتهم بذي المروة.
ومشى فيما بين أهل مصر وأهل البصرة زياد بن النضر وعبد الله بن الأصم، وقالوا: لا تعجلوا حتى ندخل لكم المدينة ونرتاد، فإنه قد بلغنا أنهم قد عسكروا لنا، فوالله إن كان أهل المدينة قد خافونا واستحلوا قتالنا ولم يعلموا علمنا، لهم علينا إذا علموا علمنا أشد وإن أمرنا هذا لباطل، وإن لم يستحلوا قتالنا ووجدنا الذي بلغنا باطلاً لنرجعن إليكم بالخبر، قالوا: اذهبوا، فدخل الرجلان فلقوا أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطلحة والزبير وعلياً، وقالوا: إنما نؤم هذا البيت، ونستعفي هذا الوالي من بعض عمالنا، ما جئنا إلا لذلك، واستأذنوهم للناس بالدخول فكلهم أبي ونهى وقال: بيض ما يفرخن: فرجعا إليهم.
فاجتمع من أهل مصر نفر فأتوا علياً، ومن أهل البصرة نفر فأتوا طلحة، ومن أهل الكوفة نفر فأتوا الزبير، وقال كل فريق منهم: إن بايعنا صاحبنا وإلا كدناهم وفرقنا جماعتهم، ثم كررنا حتى نبتغهم. فأتى المصريون علياً وهو في عسكر عند أحجار الزيت، عليه حلة أفواف معتم بشقيقة حمراء يمانية، متقلد السيف، ليس عليه قميص، وقد سرح الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه، والحسن جالس عند عثمان، وعلي عند أحجار الزيت فسلم عليه المصريون وعرضوا له، فصاح بهم واطردهم وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فارجعوا لا صحبكم الله. قالوا: نعم. فانصرفوا من عنده على ذلك.
وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى جنب علي عليه السلام وقد أرسل بنيه إلى عثمان، فسلم البصريون عليه وعرضوا به، فصاح بهم واطردهم، وقال: لقد(16/194)
علم المؤمنون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأتى الكوفيون الزبير وهو جماعة أخرى، وقد سرح عبد الله إلى عثمان، فسلموا عليه وعرضوا له فصاح بهم واطردهم، وقال: لقد علم المسلمون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فخرج القوم وأروهم أنهم يرجعون، فانقشوا عن ذي خشب حتى أتوا عساكرهم، وهي ثلاث مراحل، كي يفترق أهل المدينة ثم يكرون، فافترق أهل المدينة لخروجهم، فلما بلغ القوم عساكرهم كروا بهم فبغتوهم، فلم يفجأ أهل المدينة إلا والتكبير في نواحي المدينة، فنزلوا في مواضع عساكرهم وأحاطوا بعثمان وقالوا: من كف يده فهو آمن.
وصلى عثمان بالناس أياماً، ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحد من كلام، فأتاهم الناس فكلموهم، وفيهم علي فقال علي: ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ قالوا: وجدنا مع يزيد كتاباً بقتلنا. وأتاهم طلحة فقال البصريون مثل ذلك، وأتاهم الزبير فقال الكوفيون مثل ذلك، وقال الكوفيون والبصريون: فنحن ننصر إخواننا ونمنعهم، فقالوا جميعاً كأنما كانوا على ميعاد، كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر، وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا؟ هذا والله أمر أبرم بالمدينة، قالوا: فضعوه على ما شئتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا. وهو في ذلك يصلي بهم وهم يصلون خلفه، ويغشى من شاء عثمان، وهم أدق في عينيه من التراب، وكانوا لا يمنعون أحداً الكلام، وكانوا زمراً بالمدينة يمنعون الناس من الاجتماع.
وكتب عثمان إلى أهل مصر يستمدهم: أما بعد، فإن الله بعث محمداً بالحق بشيراً(16/195)
ونذيراً، وبلغ عن الله ما أمر به ثم مضى، وقد قضى الذي عليه وخلف فينا كتابه، فيه حلاله وحرامه، وبيان الأمور التي قدر، فأمضاها على ما أحب العباد وكرهوا، فكان الخليفة أبو بكر ثم عمر، ثم أدخلت في الشورى عن غير علم ولا مسألة عن ملأ من الأمة، ثم اجتمع أهل الشورى عن ملأ منهم ومن الناس عن غير طلب مني ولا محبة، فعملت فيهم بما يعرفون ولا ينكرون، تابعاً غير مستتبع، متبعاً غير مبتدع، مقتدياً غير متكلف، فلما انتهت الأمور وانتكث الشر بأهله، وبدت ضغائن وأهواء على غير اجترام ولا ترة فيما مضى إلا إمضاء الكتاب، وطلبوا أمراً وأعلنوا غيره بغير حجة ولا عذر، فعابوا علي أشياء مما كانوا يرضون، وأشياء عن ملأ من أهل المدينة، لا يصلح غيرها، فصبرت لهم نفسي وكففتها عنهم منذ سنين، وأنا أرى وأسمع، فازدادوا على الله جرأة، حتى أغاروا علينا في جوار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحرمه وأرض الهجرة، وثابت إليهم الأعراب، فهم كالأحزاب أيام الأحزاب، أو من غزانا بأحد إلا ما يظهرون، فمن قدر على اللحاق بنا فليلحق.
فأتى الكتاب أهل الأمصار فخرجوا على الصعبة والذلول.
ولما جاءت الجمعة على أثر نزول المصريين مسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج عثمان فصلى بالناس، ثم قام على المنبر فقال: يا هؤلاء الغزاء، الله الله، فوالله إن أهل المدينة ليعلمون إنكم لملعونون على لسن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فامحوا الخطأ بالصواب، فإن الله لا يمحو السيء إلا بالحسن.
فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا أشهد بذلك، فأخذ حكيم بن جبلة فأقعده، فقام زيد بن ثابت فقال: أبغى الكتاب؟ فثار إليه في ناحية أخرى محمد بن أبي قتيرة فأقعده وقال فأقظع، وثار القوم بأجمعهم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم، وحصنوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشياً عليه، فاحتمل فأدخل داره. وكان المصريون لا يطمعون في أحد من أهل المدينة أن يساعدهم إلا في ثلاثة نفر، فإنهم كانوا يراسلونهم: محمد بن أبي بكر(16/196)
ومحمد بن جعفر، وعمار بن ياسر، وشرى أناس من الناس فاستقتلوا، منهم سعد بن مالك وأبو هريرة وزيد بن ثابت والحسن بن علي، فبعث إليهم بعزمه لما انصرفوا، فانصرفوا، وأقبل علي حتى دخل عثمان، وأقبل طلحة حتى دخل عليه، وأقبل الزبير حتى دخل عليه يعودونه من صرعته ويشكون بثهم، ثم رجعوا إلى منازلهم.
وفي حديث عن الحسن أن عثمان يخطب يوم الجمعة فقام رجل فقال: أسألك كتاب الله. فقال عثمان: أو ما لكتاب الله طالب غيرك؟ اجلس، فجلس، فقال الحسن: كذبت يا عدو نفسه، لو كنت تطلب كتاب الله لم تطلبه يوم الجمعة والإمام يخطب، ثم قام الثانية والثالثة، فقال عثمان: أما لهذا أحد يجلسه؟ قال: فتخاصبوا حتى ما أرى أديم السماء، قال: فكأني أنظر إلى ورقات مصحف رفعته امرأة من أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي تقول: إن الله قد برأ نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، قال: فذاك أول ما عقلت الأحاديث، وخالطت الناس فقال لي بعض أصحابي: تلك أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن جابر بن عبد الله: أن المصريين لما أقبلوا من مصر يريدون عثمان بذي خشب، دعا عثمان بن محمد مسلمة فقال: اذهب إليهم فارددهم عني وأعطهم الرضى، وأخبرهم أني فاعل وفاعل بالأمور التي طلبوا ونازع عن كذا الأمور التي تكلموا فيها فركب محمد بن مسلمة إلى ذي خشب، وأرسل معه عثمان خمسين راكباً من الأنصار أنا فيهم، وكان رؤساؤهم أربعة: عبد الرحمن بن عديس البلوي، وسودان بن حمران المرادي، وابن البياع، وعمرو بن الحمق الخزاعي، لقد كان الاسم غلب حتى كان يقال: جيش ابن الحمق، فأتاهم محمد بن مسلمة وقال: إن أمير المؤمنين يقول كذا ويقول كذا وأخبرهم بقوله، فلم يزل بهم حتى(16/197)
رجعوا، فلما كانوا بالبويب رأوا جملاً عليه ميسم الصدقة فأخذوه فإذا غلام لعثمان، فأخذوا متاعه ففتشوه فوجدوا قصبة من رصاص، فيها كتاب في جوف الإداوة في الماء إلى عبد الله بن سعد أن افعل بفلان كذا وبفلان كذا من القوم الذين شرعوا في عثمان. فرجع القوم ثانية حتى نزلوا بذي خشب، فأرسل عثمان إلى محمد بن مسلمة وقال: اخرج فارددهم عني، فقال: لا أفعل، قال: فقدموا فحصروا عثمان.
وقال سفيان بن أبي العوجاء: أنكر عثمان أن يكون كتب ذلك الكتاب أو أرسل ذلك الرسول، وقال: فعل ذلك دوني؟ وقيل: إنهم لما أخذوا ميثاقه وكتبوا عليه، وأخذ عليهم ألا يشقوا عصاً ولا يفارقوا جماعة ما أقام لهم بشرطهم، ثم رجعوا راضين، فبينا هم بالطريق إذا راكب يتعرض لهم ثم يفارقهم ثم يرجع إليهم ثم يفارقهم، فقالوا له: مالك؟ قال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر. ففتشوه فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان، عليه خاتمه إلى عامل مصر أن يصلبهم أو يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم، فأقبلوا حتى قدموا المدينة، فأتوا علياً فقالوا: ألم تر عدو الله؟ إنه كتب فينا بكذا وكذا، وإن الله أحل دمه، فقم معنا إليه، فقال: والله لا أقوم معكم. قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قال: والله ما كتبت إليكم كتاباً. فنظر بعضهم إلى بعض، وخرج علي من المدينة. فانطلقوا إلى عثمان فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا، فقال: إنما هما اثنتان: تقيمون رجلين من المسلمين أو يميني بالذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمليت ولا علمت، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل، وينقش بالخاتم على الخاتم. فقالوا: قد أحل الله دمك، ونقض العهد والميثاق، وحصروه في القصر.(16/198)
وحدث ابن عون عن محمد قال: لما كان حيث نزل بابن عفان، جمعهم فاستشارهم في القوم الذين حصروه، فأرسل إليهم علياً ورجلاً آخر، فعرض عليهم كتاب الله، فشادهم وشادوه مرتين أو ثلاثاً، ثم قالوا: ابن عم رسول الله صلى عليه وسلم ورسول أمير المؤمنين يعرض عليكم كتاب الله، قال: فقبلوه واشترطوا خمساً، فكتبوهن في الكتاب، وثنتين لم يكتبوها في الكتاب: المنفي يقلب والمحروم يعطى، ويوفر الفيء، ويعدل في القسم، ويستعمل ذو الأمانة والقوة، ويرد ابن عامر على أهل البصرة فإنهم به راضون، ويستعمل الأشعري على الكوفة. فذهبوا.
قال ابن عون: فلا أدري أين بلغوا، ثم رجعوا فقعدوا ناحية فقالوا: لا يكلمنا أحد، ولا يدنون منا أحد. فأرسل إليهم المغيرة، فأتاهم فقالوا: لا تدنون منا يا أعور، لا تكلمنا يا أعور، فأتى ابن عفان فقال: إني رأيت الناس فما رأيت قوماً ألج من العرب، فلو خرجت في كتيبتك فعسى أن يروها فيرجعوا فخرج ابن عفان في كتيبته فنسل من أولئك رجل، ومن هؤلاء رجل، فانطلقا بسيفيهما، فحانت منه التفاتة فقال: في بيعتي وتأميري، فرجع فدخل الدار، فما أعلمه خرج بعد ذلك اليوم حتى قتل.
قال محمد: فلقد قتل وفي الدار لسبع مئة فيهم الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير، ولو أذن لهم لضربوهم حتى يخرجوهم من أقطار المدينة.
وعن عبد الله بن سلام قال: بينما أمير المؤمنين عثمان يخطب ذات يوم فقام رجل فنال منه، فوذأته فاتذأ لي، فقال رجل: لا يمنعك مكان ابن سلام أن تسب نعثلاً فإنه من شيعته، فقلت له: لقد قلت القول العظيم في يوم القيامة في الخليفة من بعد نوح.
قوله: فوذأه فاتذأ له يقال: وذأت الرجل إذا زجرته وقمعته، وقوله: اتذأ يعني انزجر. وقوله: نعثلاً، قيل: إنه يشبه برجل من أهل مصر اسمه نعثل، وكان طويل(16/199)
اللحية، وكان عثمان إذا نيل منه وعيب يشبه بذلك لطول لحيته، لم يكونوا يجدون عيباً غير هذا. وقيل: من أهل أصبهان، وقيل: نعثل إنه الذكر من الضباع، وأما قوله: الخليفة من بعد نوح، فقد اختلف فيه، فقيل: إنه أراد بنوح عمر بن الخطاب لحديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين استشار أبا بكر في أسارى بدر، فأشار عليه أبو بكر بالمن عليهم، وأشار عليه عمر بقتلهم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقبل على أبي بكر: إن إبراهيم كان ألين في الله من الدهن باللبن. ثم أقبل على عمر فقال: إن نوحاً كان أشد في الله من الحجر.
قال أبو عبيد: شبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر بإبراهيم وعيسى حين قال: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "، وشبه عمر بنوح حين قال: " لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً " فأراد أن عثمان خليفة عمر.
وقيل: إن قوله الخليفة من بعد نوح، إنه لم يرد عمر إنما أراد نوح النبي صلى الله على نبينا وعليه، جعله مثلاً له، أن الناس في زمن نوح كانوا في عافية، فكان هلاكهم في دعوة نوح، فأراد في قتل عثمان سل السيف والفتن إلى يوم القيامة.
وقوله: يوم القيامة أراد يوم الجمعة، وذلك أن الخطبة كانت يوم الجمعة.
وروى عن كعب أنه رأى رجلاً يظلم رجلاً يوم الجمعة فقال: ويحك! أتظلم رجلاً يوم القيامة؟! وروي في الأحاديث أن الساعة تقوم يوم الجمعة فلذلك سمي يوم الجمعة يوم القيامة.
ولما حصر عثمان قام إليه فلان بن سعيد الغفاري وهو جهجاه حتى أخذ القضيب(16/200)
من يده قضيب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوضعها على ركبته ليكسرها بشعبها، وصاح به الناس، فنزل عثمان حتى دخل داره، ورمى الله الغفاري في ركبتيه فلم يحل عليه الحول حتى مات. وفي حديث آخر: فوقعت في ركبتيه الأكلة.
وعن صعصعة بن معاوية التميمي قال: أرسل عثمان وهو محصور إلى علي وطلحة والزبير وأقوام من الصحابة فقال: احضروا غداً، فكونوا حيث تسمعون ما أقول لهذه الخارجة. ففعلوا وأشرف عليهم فقال: أنشد الله من سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من يشتري هذا المربد ويزيده في مسجدنا وله الجنة، وأجره الدنيا ما بقي درجات له؟ " فاشتريته بعشرين ألفاً وزدته في المسجد، قالوا " اللهم نعم. وقال الخوارج: صدقوا ولكنك غيرت. ثم قال: أنشد الله من سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من يجهز جيش العسرة وله الجنة؟ " فجهزتهم حتى ما فقدوا عقالاً ولا خطاما؟ قالوا: نعم. فقال الخوارج: صدقوا ولكنك غيرت. قال: أنشد الله من سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ": من يشتري رومة وله الجنة؟ فاشتريتها، فقال: اجعلها للمساكن ولك أجرها والجنة؟ قالوا: اللهم نعم. قال الخوارج: صدقوا ولكنك غيرت. وعدد أشياء، وقال: الله أكبر، ويلكم خصمتم والله، كيف يكون من يكون هذا له مغيراً؟ يا أيها النفر من أهل الشورى اعلموا أنهم سيقولون لكم غداً كما قالوا لي اليوم. فلما خرجوا بعد على علي، جعل ينشد الناس عن مثل ذلك ويشهد له به فيقولون: صدقوا ولكنك غيرت. فقال:(16/201)
ما اليوم قتلت ولكن يوم قتل ابن بيضاء. قال: هذا حديث غريب.
وعن ثمامة بن حزن القشيري قال: شهدت الدار، فأشرف عليهم عثمان فقال: ائتوني بصاحبيكم هذين اللذين ألباكم. قال: فجيء بهما كأنهما جملان أو كأنهما حماران، قال: فأشرف عليهم عثمان فقال: أنشدكم الله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم المدينة وليس فيها ما يستعذب غير بئر رومة، فقال: من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها حتى أشرب من ماء البحر؟ قالوا: اللهم نعم زاد في حديث غيره: قال: فعلى ما تمنعوني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر؟ قال: أنشدكم الله والإسلام، هل تعلمون أن المسجد كان ضاق بأهله فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يشتري بقعة آل فلان بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتها من مالي أو قال: من صلب مالي فزدتها في المسجد وأنتم اليوم تمنعوني أن أصلي فيها ركعتين به قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله والإسلام هل تعلمون أني جهزت جيش العسرة من مالي؟ قالوا اللهم نعم. قال: أنشدكم الله والإسلام، هل تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان على ثبير مكة هو وأبو بكر وعمر وأنا، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض قال: فركضه برجله قال: اسكن ثبير، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان؟ قالوا: اللهم نعم. فقال: الله أكبر شهدوا لي ورب الكعبة أني شهيد، والله أكبر شهدوا لي ورب الكعبة أني شهيد. قالها ثلاثاً.
زاد في حديث آخر بمعناه ولكن طال عليكم عمري فاستعجلتم وأردتم خلع سربال سربلنيه الله، وإنه لا أخلعه حتى أموت أو أقتل.(16/202)
وعن الهزيل قال: إني بالمدينة جالس في حلقة من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاء أعرابي فقال: يا صاحب محمد، ما تقول في قتل هذا الرجل يعني عثمان؟ فقام من مجلسه ذلك حتى فعل ذلك ثلاثاً، إذ مر طلحة بن عبيد الله، فقلنا له: هذا من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسله، فقام الأعرابي فقال: يا صاحب محمد ما تقول في قتل هذا الرجل؟ قال طلحة: ها أنذا داخل عليه. فقال له الأعرابي: فأدخلني معك. قال: نعم. فدخل على عثمان ومعه الأعرابي فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال له عثمان: وعليك. ثم قال: أنشدك الله يا طلحة هل تعلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان على حراء فقال: اقرر حراء، فإن عليك نبياً أو صديقاً أو شهيداً. فكان عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر وأنا وعلي وأنت والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك وسعيد بن زيد، ثم قال: أنشدك بالله يا طلحة أتعلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ":النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة؟ " قال: اللهم نعم. قال: أنشدك بالله أتعلم أن سائلاً سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعطاه أربعين درهماً، ثم سأل أبا بكر فأعطاه أربعين درهماً، ثم سأل عمر فأعطاه أربعين درهماً، ثم سأل علياً فلم يكن عنده شيء فأعطيته أربعين عن علي وأربعين عني، فجاء بها إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ادع الله لي بالبركة. فقال: وكيف لا يبارك لك، وإنما أعطاك نبي أو صديق أو شهيد؟ قال: اللهم نعم.
وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: شهدت عثمان حين حوصر والناس عنده موضع الجنائز، فلو أن حصاة ألقيت ما سقطت إلا على رأس رجل، فنظرت إلى عثمان حين أشرف من الخوخة التي تلي مقام جبريل، فقال للناس: أفيكم طلحة؟ قال: فسكتوا، قال: أفيكم طلحة؟ فسكتوا، ثم قال: أفيكم طلحة؟ فسكتوا، قال: أفيكم طلحة؟ فقام طلحة بن عبيد الله فقال له عثمان: ألا أراك ها هنا! ما كنت أراك تكون في جماعة قوم تسمع ندائي آخر ثلاث مرات ثم لا تجيبني! أنشدك يا طلحة، أما تعلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بمكان كذا وكذا سمى(16/203)
الموضع وأنا وأنت معه ليس معه من أصحابه غيري وغيرك فقال لك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لكل نبي رفيقاً من أمته معه في الجنة، وإن عثمان هذا رفيقي معي في الجنة. يعنيني؟ فقال طلحة: اللهم نعم. قال: فانصرف طلحة.
وحدث عبيد الله بن عبيد الحميري عن أبيه قال: كنت فيمن حصر عثمان، فأشرف ذات يوم فقال: ها هنا طلحة؟ فقال: طلحة نعم. فقال: نشدتك بالله أما علمت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لنا ذات يوم ونحن عنده: " ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه، فإنه جليسه ووليه في الدنيا والآخرة ". فأخذت أنت بيد فلان بيد فلان، وفلان بيد فلان، حتى أخذ كل رجل بيد جليسه، وأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي فقال: هذا جليسي ووليي في الدنيا والآخرة؟ قال طلحة: اللهم نعم. فقال الحميري: كيف نقاتل رجلاً قد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا فيه؟ قال: فرجع في سبع مئة من قومه.
وعن ابن لبيبة: أن عثمان بن عفان لما حصر أشرف عليهم من كوة في الطمار، فقال: أفيكم طلحة؟ قالوا: نعم. قال: أنشدك الله هل تعلم أنه لما آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجرين والأنصار آخى بيني وبين نفسه؟ فقال طلحة: اللهم نعم. فقيل لطلحة في ذلك، فقال: نشدني وأمر رأيته ألا أشهد به؟! وحدث محمد بن عبد الرحمن بن محيريز عن أبيه عن جده: أن عثمان لما أشرف على الذين حصروه فسلم عليهم فلم يردوا عليه، فقال عثمان: أفي القوم طلحة؟ قال طلحة: نعم. قال: فإنا لله وإنا إليه راجعون، أسلم على قوم وأنت فيهم فلا يردون! قال: قد رددت. قال: ما هكذا الرد، أسمعك ولا تسمعني؟ يا طلحة، نشدتك الله أسمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا يحل دم المسلم إلا واحد من ثلاث: أن يكفر بعد إيمانه، أو يزني بعد إحصانه، أو يقتل نفساً فيقتل بها؟ " قال اللهم نعم. قال: فكبر عثمان(16/204)
فقال: والله ما أنكرت الله منذ عرفته، ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام، وقد تركته في الجاهلية تكرماً وفي الإسلام تعففاً، وما قتلت نفساً يحل بها قتلي.
وعن قتادة قال: فأشرف عليهم عثمان حين حصر فقال أخرجوا رجلاً أكلمه، فأخرجوا صعصعة بن صوحان، قال عثمان: ما نقمتم؟ قال: أخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا: ربنا الله. قال عثمان: كذبت، لستم أولئك، نحن أولئك، أخرجنا أهل مكة، وقال الله: " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر " فكان ثناء قبل بلاء. وعن حنظلة بن قنان من بني عامر ذهل قال: أشرف علينا عثمان فقال: أفيكم ابنا مخدوج؟ فقال: أنشدكما الله، ألستما تعلمان أن عمر قال: إن ربيعة فاجر وغادر، وإني والله لا أجعل فرائضهم وفرائض قوم جاؤوا من مسيرة شهر، وإنما مهاجر أحدكم عند طنبه، وإني زدتهم في غداة واحدة خمس مئة حتى ألحقتهم بهم؟ قالوا: بلى. قال: أذكركما الله ألستما تعلمان أنكما أتيتماني فقلتما: إن كندة أكلة رأس، وإن ربيعة هم الرأس، وإن الأشعث بن قيس قد أكلهم فنزعته واستعملتكما؟ قالا: بلى. قال: اللهم إن كانوا كفروا معروفي وبدلوا نعمتي فلا ترضهم عن إمام ولا ترض إماماً عنهم.
قالوا: وقال عثمان: إن وجدتم في الحق أن تضعوا رجلي في القيود فضعوهما.
وعن مجاهد قال: أشرف عثمان علة الذين حاصروه فقال: يا قوم! لا تقتلونني فإني وال وأخ مسلم(16/205)
فوالله إن أردت إلا الإصلاح ما استطعت، أصبت أو أخطأت، وإنكم إن تقتلوني لا تصلون جميعاً أبداً، ولا تغزون جميعاً أبداً، ولا يقسم فيئكم بينكم، قال: فلما أبو قال: أنشدكم الله هل دعوتم عند وفاة أمير المؤمنين بما دعوتم به وأمركم جميعاً لم يتفرق، وأنتم أهل دينه وحقه، فتقولون: إن الله لم يجب دعوتكم، أم تقولون: هان الدين على الله، أم تقولون: إني أخذت هذا الأمر بالسيف والغلبة ولم آخذه عن مشورة من المسلمين، أم تقولون: إن الله لم يعلم من أول أمري شيئاً لم يعلمه من آخره، فلما أبو قال: اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً.
قال مجاهد: فقتل الله منهم من قتل في الفتنة، وبعث يزيد إلى أهل المدينة عشرين ألفاً فأباحوا المدينة ثلاثاً يصنعون ما شاؤوا لمداهنتهم.
وعن أبي ليلى الكندي قال: رأيت عثمان أشرف على الناس وهو محصور في الدار فقال: يا أيها الناس، لا تقتلوني واستعتبوني، فو الله لئن قتلتموني لا تصلون جميعاً أبداً، ولا تجاهدون عدواً جميعاً أبداً، ولتختلفن حتى تصيروا هكذا، وشبك بين أصابعه " يا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح، وما قوم لوط منكم ببعيد ". قال: وأرسل إلى عبد الله بن سلام فسأله، فقال: الكف الكف، فإنه أبلغ لك في الحجة، فدخلوا عليه فقتلوه وهو صائم.
حدث قيس بن رمانة عن يوسف بن عبد الله بن سلام: وكان قيس يكرم ولد يوسف إذا نزلوا، فقال له يوسف: إني لا أدري ما أكرمك به إذا نزلت بي لما كنتم تصنعون إلى من نزل بكم. ألا حديث أحدثكموه، فاحفظه مني: إن عبد الله بن سلام كان مع عثمان في الدار فقال لعثمان: لو شئت خرجت ففثأت الناس(16/206)
عنك، فإني خارج، أغنى عنك مني عندك. قال: فقال عثمان: فافعل، فخرج عبد الله بن سلام، فلما رآه الناس صاحوا في وجهه، فقالوا: الناموس، الناموس ثلاث مرات عبد الله بن سلام. فقال علي بن أبي طالب: أيها الناس، دعوا عبد الله بن سلام فليتكلم، فخذوا من حديثه ما شئتم، ودعوا ما شئتم، فتركوه فتكلم فقال: أيها الناس، دعوا عثمان لا تقتلوه خمس عشرة ليلة، فإن لم يمت أو يقتل إلى خمس عشرة ليلة من ذي الحجة فقدموني فاضربوا عنقي. فقال الناس: الناموس، الناموس، الناموس عبد الله بن سلام. فأخذ بيدي أبي فقال: يا بني، رفع سلطان الدرة ووقع سلطان السيف، لا يرفع عنهم إلى يوم القيامة. ثم قال: إن لهؤلاء القوم سلطاناً لن يزول حتى تزول الجبال، حتى يتفرقوا فيما بينهم، فإذا فعلوا ذلك خرجوا عصبة بسواد العراق، يخرج فيهم أمير العصب، لا يوجهون لشيء إلا فتح لهم، لا والذي لا إله إلا هو ما أنزل الله في توراة ولا إنجيل ولا قرآن أفضل مما جعل لأولئك القوم، فإن وجدت من العدة والنشاط فلا تقاتل أحداً أبداً حتى ترى ذلك، قال: قلت: ألا إن ذلك بعيد. قال: فوالله ما أراه إلا قد كان، ألا ترى ما كان من سليمان والوليد؟! فإن أدركته فسوف ترى، وإلا فاحفظ عني ما قلت لك.
وعن عبد الله بن مغفل قال: كان عبد الله بن سلام يجيء من أرض له على أتان أو حمار يوم الجمعة يذكر، فإذا قضيت الصلاة أتى أرضه، فلما هاج الناس بعثمان قال: أيها الناس، لا تقتلوا عثمان واستعتبوه، فوالله الذي نفسي بيده ما قتلت أمة نبيها فأصلح ذات بينهم حتى يهريقوا دم سبعين ألفاً، وما قتلت أمة خليفتها فيصلح الله بينهم حتى يهريقوا دم أربعين ألفاً، وما هلكت أمة حتى يرفعوا القرآن على السلطان. ثم قال: لا تقتلوه واستعتبوه. فلم ينظروا فيما قال وقتلوه، فجلس على طريق علي بن أبي طالب، حتى أتى عليه فقال: أين تريد؟ قال: العراق. قال: لا تأت العراق، وعليك بمنبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالزمه، فوالذي نفسي بيده(16/207)
لئن تركته لا تراه أبداً. قال: فقال من حوله: دعنا فلنقتله. فقال علي: دعوا عبد الله بن سلام فإنه رجل صالح.
فقال ابن مغفل: وكنت استأمرت عبد الله بن سلام في أرض إلى جنب أرضه أشتريها، فقال بعد ذلك: هذه رأس أربعين سنة، وسيكون بعدها صلح فاشترها.
فقال سليمان: قلت لحميد: كيف يرفعون القرآن على السلطان؟ قال: ألم تر إلى الخوارج كيف يتأولون القرآن على السلطان؟! وعن عبد الله بن سلام: أنه قال للمصريين: لا تقتلوه فإن الله قد رفع عنكم سيف الفتنة منذ بعث نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يزال مرفوعاً عنكم حتى تقتلوا إمامكم، فإن قتلتموه سل عليكم سيف الفتنة، ثم لم يرفعه عنكم حتى يخرج عيسى بن مريم، والثانية أن مدينتكم لم تزل محفوظة بملائكة منذ نزلها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولئن قتلتموه ليرتفعن عنها، ثم لا يحفونها حتى تلتقوا عند الله تعالى، والثالثة: تا الله لقد حق له عليكم ما يحق للوالد على ولده، إن رآه نائماً لا يوقظه، والرابعة: أنه لا يستكمل ذا الحجة حتى يأتي على أجله، ولولا ما على العلماء لعلمت أن ما هو كائن سيكون. فشتموه وهموا به، فانصرف عنهم.
وعن أبي سلمة قال: قال عبد الله بن سلام للناس وناشدهم في قتل عثمان: لا تقتلوه فإنكم إن قتلتموه فإنما مثلكم في كتاب الله كمثل قرقور في البحر، مرة يستقيم ومرة لا يستقيم.
وعن مسلم أبي سعيد قال: ما سمعت عبد الله بن مسعود قائلاً في عثمان سبة قط، ولقد سمعته يقول: لئن قتلوه(16/208)
لا يستخلفوا بعده مثله.
وعن عمرو بن العاص قال لعثمان وهو على المنبر: يا عثمان، إنك قد ركبت بهذه الأمة نهابير من الأمر، فتب وليتوبوا معك. قال: فحول وجهه إلى القبلة فرفع يديه فقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، ورفع الناس أيديهم.
دخل ابن عمر على عثمان وعنده المغيرة بن الأخنس فقال: انظر ما يقول هؤلاء. قال: يقولون اخلعها ولا تقتل نفسك. فقال ابن عمر: إذا خلعتها أمخلد أنت في الدنيا؟ قال: لا، قال: فإن لم تخلعها هل يزدون على أن يقتلوك؟ قال: لا، قال: فهل يملكون لك جنة وناراً؟ قال: لا. قال: فلا أرى لك أن تخلعها، ولا أرى لك أن تخلع قميصاً قمصكه الله، فيكون سنة، كلما كره قوم إمامهم أو خليفتهم خلعوه.
دخل عبد الله بن سلام على عثمان في آخر ما دخل عليه الناس فقال: ما ترى في القتال والكف؟ قال: الكف أبلغ للحجة، وإنا لنجد في كتاب يوم القيامة أمير على القاتل والآمر.
قال طاوس: سئل عبد الله بن سلام حين قتل عثمان: كيف تجدون صفة عثمان في كتبكم؟ قال: نجده يوم القيامة أميراً على القاتل والخاذل.
وكان وفد أهل مصر لما قدموا المدينة أتو علياً فقالوا: قم معنا، قال: والله لا أقوم معكم، قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قال: والله ما كتبت إليكم كتاباً قط. فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ألهذا تغضبون! أم لهذا تقاتلون!؟ قال: وخرج علي فنزل خارجاً من المدينة.(16/209)
قال أبو جعفر القارئ مولى ابن عياش المخزومي: كان المصريون الذين حصروا عثمان ست مئة، والذين قدموا من الكوفة والذين قدموا من البصرة مئة رجل، وكانوا يداً واحدة في الشر، وكان حثالة من الناس ضووا إليهم، قد مرجت عهودهم وأماناتهم، مفتونون، وكان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين خذلوه كرهوا الفتنة، وظنوا أن الأمر لا يبلغ قتله، فندموا على ما صنعوا في أمره، ولعمري لو قاموا أو قام بعضهم فحثا في وجوههم التراب لا نصرفوا خاسئين.
قال محمد بن الحسن: لما كثر الطعن على عثمان تنحى علي إلى ماله بينبع، فكتب إليه عثمان: أما بعد، فقد بلغ الحزام الطبيين، وخلف السيل الزبى، وبلغ الأمر فوق قدره، وطمع الأمر من لا يدفع عن نفسه: من الطويل
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق.
قوله: بلغ السيل الزبى، زبى الأسد التي تحفر لها، وجعلت مثلاً في بلوغ السيل إليها، لأنها تجعل في الروابي ولا تكون في المنحدر، ولا يبلغها إلا سيل عظيم. وقوله: جاوز الحزام الطبيين: يعني أنه قد اضطرب من شدة السير حتى خلف الطبيين من اضطرابه، مثلاً للأمر الفظيع الفادح. والبيت لشاعر من عبد القيس جاهلي يقال له: الممزق، وإنما سمي ممزقاً لهذا البيت.(16/210)
وعن قنبر مولى علي عليه السلام قال: دخلت مع علي على عثمان، فأحبا الخلوة، فأومى علي إلي بالتنحي، فتنحيت غير بعيد، فجعل عثمان يعاتب علياً، وعلي مطرق، فأقبل عليه عثمان فقال: مالك لا تقول؟ قال: إن قلت لم أقل إلا ما تكره، وليس لك عندي إلا ما تحب. قال أبو العباس: تأويل ذلك أني إن تكلمت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به علي. فلدغك عتابي، وعقدي ألا أفعل وإن كنت عاتباً إلا ما تحب.
قال القاضي أبو الفرج: وفيه تأويل آخر: وهو أن يكون أراد أنه إن شرع في مخاطبته بما استدعى أن يخاطبه فيه ذكر له أنه أتى بخلاف الأصوب عنده، وترك ما كان الأولى به أن يفعله، إلا أنه لإشفاقه عليه مع إيثاره النصيحة له، آثر محبته، وكره إظهار ما فيه تثريب عليه، أو لائمة له. وهذا التأويل أصح من الأول، وقد ورد في هذا المعنى أن عثمان بعث إلى ابن عباس وهو محصور، فأتاه وعنده مروان بن الحكم، فقال عثمان: يابن عباس، أما ترى إلى ابن عمك، كان هذا الأمر في بني تيم وعدي، فرضي وسلم، حتى إذا صار الأمر إلى ابن عمه بغانا الغوائل. قال ابن عباس: فقلت له: إن ابن عمك والله ما زال عن الحق ولا يزول، ولو أن حسناً وحسيناً بغيا في دين الله الغوائل لجاهدهما في الله حق جهاده، ولو كنت كأبي بكر وعمر لكان ذلك كما كان لهما، بل كان لك أفضل لقرابتك ورحمك وسنك، ولكنك ركبت الأمر وهاباه. قال ابن عباس: فاعترضني مروان فقال: دعنا من تخطئتك يابن عباس، فأنت كما قال الشاعر: من الوافر
دعوتك للغياث ولست أدري ... أمن خلفي المنية أم أمامي.
فشققت الكلام رخي بال ... وقد جل الفعال عن الكلام.
إن يكن عندك غياث لهذا الرجل فأغثه، وإلا فما أشغله عن التفهم لكلامك والفكر في جوابك. قال ابن عباس: فقلت له: هو والله كان عنك وعن أهل بيتك أشغل إذ أوردتموه(16/211)
ولم تصدروه. قم أقبلت على عثمان فقلت له: من الوافر
جعلت شعار جلدك قوم سوء ... وقد يجزى المقارن بالقرين.
فما نظروا لدنيا أنت فيها ... بإصلاح ولا نظروا لدين.
ثم قلت له: إن القوم غير قابلين إلا قتلك أو خلعك، فإن قتلت قتلت على ما قد عملت وعلمت، وإن تركت فإن باب التوبة مفتوح.
فهذا الخبر يؤيد التأويل الثاني.
وعن محمد بن جبير بن مطعم قال: أرسل عثمان إلى علي: أن ابن عمك مقتول وإنك مسلوب.
حدث عبد الله بن رافع عن أمه قال: خرجت الصعبة بنت الحضرمي فسمعاها تقول لابنها طلحة بن عبيد الله: إن عثمان قد اشتد حصره فلو كلمت فيه حتى يرفه عنه وطلحة يغسل أحد شقي رأسه فلم يجبها، فأدخلت يديها في كم درعها فأخرجت ثدييها وقالت: أسألك بما حملتك وأرضعتك إلا فعلت. فقام ولوى شعر شق رأسه حتى عقده وهومغسول، ثم خرج حتى أتى علياً وهو جالس في جنب داره، فقال طلحة ومعه أمه وأم عبد الله بن رافع: لو رفهت عن هذا فقد اشتد حصره، قال: فنقر بقدح في يده ثلاث مرار ثم رفع رأسه فقال: والله ما أحب من هذا شيئاً تكرهه.
قال جبير بن مطعم: لما حصر عثمان بن عفان حتى والله ما يشرب إلا من الفقير، فقير الدار، قال جبير: فدخلت على علي بن أبي طالب فقلت: يابن أبي طالب، أقد رضيت بهذا أن يحصر ابن عمك حتى والله ما يشرب إلا من فقير الدار؟ فقال: سبحان الله! وقد بلغوا هذا منه؟ قال: نعم وأشد من هذا. قال: فحمل الروايا حتى أدخلها عليه وسقاه.
ذكر عدي بن حاتم الطائي قريشاً وما رزقوا من الفصاحة والبيان فقال: أما(16/212)
الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو ينطق بالوحي، ولا ينطق عن الهوى، وأما سائر قريش في الجاهلية والإسلام فإنهم فاقوا الناس، ولقد كنت عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إذ وردت عليه رقعة من عثمان بخطه من الطويل:
تجنى علي كي يقارضني ذنبا ... وأبدى عتاباً فامتلأت له عتبي.
فلو لي قلوب العالمين بأسرها ... لما تركت لي من معاتبة قلبا.
معاتبة السلفين تحسن مرة ... فإن أكثرا إدمانها أفسدا الحبا
وقد قال في بعض الأقاويل قائل ... أراد به العتبى ولم يرد العتبا.
إذ شئت أن تقلى فزر متتابعاً ... وإن شئت أن تزداد حبا فزر غبا
وقال هشام بن عروة: كان عثمان أروى الناس للبيت والبيتين والثلاثة إلى الخمسة.
وعن أبان لن عثمان: أنه أتى علياً فقال: يا عم أهلكتنا الحجارة، فجاء علي حتى دخل، فلم يزل يرميهم بيمينه حتى وهنت، ثم لم يزل يرميهم بشماله حتى وهنت، فقال: يابن أخي اجمع حشمك وافعل كما تراني أفعل.
قال محمد بن علي: لما كان يوم الدار أرسل عثمان إلى علي أن يأتيه فتعلقوا به ومنعوه، فألقى عمامة له سوداء على رأسه وجعل يقول: اللهم إني لا أرضى قتله ولا آمر به.
وفي حديث آخر: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله.
وعن أبي إدريس الخولاني قال: لما كان اليوم الذي قتل فيه عثمان أرسل عثمان إلى سعد ابن أبي وقاص، فأتاه فكلمه فقل له سعد: أرسل إلى علي فإنه إن أتاك ورضي صلح هذا الأمر، قال: فأنت رسولي إليه، فأتاه فقام معه علي يريد أن يأتي عثمان، فمر بمالك الأشتر في أهل الكوفة، فقال مالك: أين يريد هذا؟ قالوا: يريد عثمان. فقال لأصحابه: والله لئن دخل عليه لتقتلن(16/213)
عن آخركم، فقام إليه في أصحابه حتى اختلجه عن سعد، وأجلسه في أصحابه، وأرسل إلى أهل مصر: إن كنتم تريدون قتله فافرغوا، فدخلوا فقتلوه.
وروي أن علياً عليه السلام جاء عثمان فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فأعرض عنه، ثم قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين فأعرض عنه، ثم قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فرد عليه ضعيفاً، فقال: أما تعلم أنا كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حرى فتحرك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسكن حراء فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد؟ فقال: بلى، فقال علي: فوالله لتقتلن ولا قتلن معك. قال ذلك ثلاث مرات.
حدث أبو عمرو عن الحسن قال: قلت: تعقل مقتل عثمان رضي الله عنه؟ قال: نعم، قلت: فهل تعرف أحداً أقام بذلك؟ قال: نعم، قهر الرجل فلم يجد ناصراً، فجاء أبو هريرة وسعد بن مالك فجثيا بحيالهم وناديا: أبد لنا صفحتك، فأشرف عليهما وقال: والله لا تقتلان أنفسكما إن رأيتما الطاعة فانصرفا، فو الله ليضربنهم الله بذل، ولا ينال إبليس مني أمراً يدخل به على سلطان الله عز وجل دخلاً.
وعن ابن عباس، وابن الزبير، والمسور بن مخرمة قالوا: بعث عثمان بن عفان المسور بن مخرمة إلى معاوية، يعلمه أنه محصور، ويأمره أن يبعث إليه جيشاً سريعاً يمنعونه، فلما قدم على معاوية وأبلغه ذلك، ركب معاوية نجائبه ومعه معاوية بن حديج ومسلم بن عقبة، فسار من دمشق إلى عثمان عشراً فدخل المدينة نصف الليل، فدق باب عثمان، فدخل، فأكب عليه فقبل رأسه، فقال عثمان: فأين الجيش؟ فقال معاوية: لا والله ما جئتك إلا في ثلاثة رهط. فقال عثمان: لا وصل الله رحمك ولا أعز نصرك ولا جزاك عني خيراً: فو الله ما أقتل إلا فيك، ولا ينقم علي إلا من(16/214)
أجلك. فقال معاوية: بأبي أنت وأمي، إني لو بعثت إليك جيشاً فسمعوا به عاجلوك فقتلوك قبل أن يبلغ الجيش إليك، ولكن معي نجائب لا تساير، ولم يشعر بي أحد، فاخرج معي فوالله ما هي إلا ثلاث حتى نرى معالم الشام، فإنها أكثر الإسلام رجالاً وأحسنه فيك رأياً. فقال عثمان: بئس ما أشرت به. وأبى أن يجيبه إلى ذلك، فخرج معاوية إلى الشام راجعاً، وقدم المسور يريد المدينة فلقي معاوية بذي المروة راجعاً إلى الشام، فقدم المسور على عثمان وهو ذام لمعاوية غير عاذر له، فلما كان في حصره الآخر بعث المسور أيضاً إلى معاوية، فأغذ السير حتى قدم عليه، فقال: إن عثمان بعثني إليك لتبعث إليه بالرجال والخيول وتنصره بالحق وتمنعه من الظلم. فقال: إن عثمان أحسن فأحسن الله به، ثم غير فغير الله به. فشددت عليه فقال: يا مسور، تركتم عثمان حتى إذا كانت نفسه في حنجرته قلتم اذهب فادفع عنه الموت، وليس ذلك بيدي، ثم أنزلني في مشربة على رأسه، فما دخل علي داخل حتى قتل عثمان رحمة الله ورضوانه عليه.
وعن المسور: قال: قال لي معاوية: يا مسور، أنت ممن قتل عثمان. فقال المسور: أنا والله يا معاوية نصحته واعتزلته، وأنت والله غششته وخذلته، فإن شئت أخبرت القوم خبرك بأمر عثمان وخبري حين قدمت عليك الشام، فقال معاوية: لا يا أبا عبد الرحمن.
ولما أتى الخبر معاوية بحصر عثمان أرسل إلى حبيب بن مسلمة الفهري فقال: إن عثمان قد حصر فأشر علي برجل ينفذ لأمري ولا يقصر، فقال: ما أعرف ذلك غيري، فقال: أنت لها، فأشر علي برجل أبعثه على مقدمتك، لا يتهم رأيه ولا نصيحته، وعجله في سرعان الناس، فقال: أمن جندي أم من غيرهم؟ فقال: من الشام. فقال: إن أرته من جندي أشرت به عليك، وإن كان من غيرهم فإني أكره أن أغرك بمن لا علم لي به، فقال:(16/215)
فهاته من جندك، فال: يزيد بن شجعة الحميري، فإنه كما تحب. فإنهم لفي ذلك إذ قدم الكتاب بالحصر، فدعاهما فقال لهما: النجاء، سيرا فأغيثا أمير المؤمنين، وتعجل أنت يا يزيد، فإن قدمت يا حبيب وعثمان حي فهو الخليفة والأمر أمره، فانفذ لما يأمرك به، وإن وجدته قد قتل فلا تدعن أحداً أشار إليه ولا أعان عليه إلا قتلته، وإن أتاك شيء قبل أن تصل إليه حتى أرى من رأيي.
وبعث يزيد بن شجعة فأمضاه على المقدمة في ألف فارس على البغال يقودون الخيل، معهم الإبل عليها الروايا، وأتبعهم حبيب بن مسلمة وهو على الناس، وخرجوا جميعاً، وأغذ يزيد السير، فانتهى إلى ماء بين خيبر والسقيا فلقيه الخبر، ثم لقيه النعمان بن بشير، معه القميص الذي قتل عثمان مخضب بالماء وأصابع امرأته، وأخبره الخبر. فرجع يزيد إلى حبيب ومعه النعمان، فأمضى حبيب النعمان إلى معاوية، وأقام، فأتاه رأيه فرجع حتى قدم دمشق، ولما قدم النعمان على معاوية فأخرج القميص وأصابع نائلة بنت الفرافصة، إصبعان قد قطعتا ببراجمها وشيء من الكف، وإصبعان مقطوعتان من أصلهما مفترقتان ونصف الإبهام، وأخبره الخبر. فوضع معاوية القميص على المنبر وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلقة فيه، والرجال من أهل الشام لا يأتون النساء ولا يمسون الغسل إلا من الاحتلام، ولا ينامون على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان، ومن عرض دونهم أو تفنى أرواحهم، فمكثوا يبكون حول القميص سنة، والقميص يوضع كل يوم على المنبر، ويجلل أحياناً فيلبسه، وعلق في أردانه أصابع نائلة رحمها الله.
وعن المغيرة بن شعبة: أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال: إنك إمام العامة، وقد نزل بك ما ترى، وإني(16/216)
أعرض عليك خصالاً ثلاثة اختر إحداهن: إما أن تخرج فتقاتلهم، فإن معك عدداً وقوة وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق لك باباً سوى الباب الذي هم عليه، فتقعد على رواحلك فتلحق بمكة، فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، وإما تلحق بالشام، فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية. فقال عثمان: أما أن أخرج فأقاتل، فلن أكون أول من خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإنهم لن يستحلوني بها، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم ". فلن أكون أنا، وأما أن ألحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن جندب بن عبد الله البجلي قال: بلغني عن حذيفة بعض الشيء ذكره في عثمان، فغدوت عليه فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي، فرجعت، فأدركني الرسول فردني، فأذن لي فدخلت، فقال: ما رجعك؟ قلت: استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فظننتك نائماً. قال: ما كنت لأنام حتى أعلم من أين تطلع الشمس. ثم قال: ما غدا بك؟ قلت: بعض الشيء بلغني أنك ذكرت به أمير المؤمنين عثمان. فقال: وما أنكرت من ذاك؟ فقلت: أنكرت ذاك من مثلك لمثله. فقال: أما إنهم قد ساروا إليه وهم قاتلوه. قلت: أين هو إن قتلوه؟ قال: في الجنة، قلت: في الجنة؟ قال: إي والله. قلت فأين قتلته؟ قال: في النار. قلت: في النار؟ قال: إي والله. قال: ثم تكون فتنة لأنا أعلم بها مني بطريق قرية كذا وكذا وطريق قرية كذا لقريتين من قرى المدائن، وكان عاملاً قلت: فما تأمرني؟ قال: انظر الذي أنت عليه اليوم فالزمه ولا تفارقه فتضل. " وعن ابن عمر: أن عثمان أصبح يحدث الناس قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الليلة في المنام فقال: يا عثمان، أفطر عندنا غداً. فأصبح صائماً وقتل من يومه.(16/217)
وعن كثير بن الصلت قال: أغفى عثمان بن عفان في اليوم الذي قتل فيه، فاستيقظ فقال: لولا أن يقول الناس تمنى عثمان أمنية لحدثتكم. قال: قلنا: أصلحك الله حدثنا، فلسنا نقول ما يقول الناس. فقال: إني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامي هذا فقال: إنك شاهد معنا الجمعة.
وعن مسلم أبي سعيد مولى عثمان بن عفان: أن عثمان أعتق عشرين مملوكاً ودعا بسراويل فشدها عليه، ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام وقال: إني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البارحة في المنام، ورأيت أبا بكر وعمر، وإنهم قالوا لي: اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة، ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه، فقتل وهو بين يديه.
وعن عبد الله بن سلام قال: أتيت عثمان لأسلم عليه وهو محصور، فدخلت عليه فقال: مرحباً بأخي، ما يسرني أني كنت وراءك، رأيت في هذه الليلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الخوخة، في خوخة من البيت، فقال لي: يا عثمان حصروك؟ قلت: نعم. قال: أعطشوك؟ قلت نعم. قال: فدلى لي دلواً، فشريت منه حتى رويت، وإني لأجد برد ذلك الماء بين ثديي وبين كتفي، فقال لي: إن شئت أفطرت عندنا وإن شئت نصرت عليهم. فاخترت أن أفطر عنده. فقتل في ذلك اليوم.
وفي حديث عن نائلة بنت الفرافصة الكلبية امرأة عثمان: أنه كان صائماً لما حصر، فلما كان عند إفطاره سألهم الماء العذب، فأبو عليه وقالوا: دونك ذاك الركي، قال: وركي في الدار يلقى فيه التبن، قالت: فبات من غير أن يفطر، فلما كان عند السحر أتيت جارات لي على أجاجير متواصلة، فسألتهم الماء(16/218)
العذب، فأعطوني كوزاً من ماء، فجئت به فنزلت فإذا عثمان قد وضع رأسه أسفل الدرجة وهو نائم يغط، فحركته فانتبه فقلت: هذا ماء عذب، أتيتك به، فرفع رأسه إلى السماء، فنظر إلى الفجر فقال: إني أصبحت صائماً. قلت: ومن أين ولم أر أحداً بطعام ولا شراب؟! فقال: إني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطلع علي من هذا السقف ومعه دلو من ماء فقال: اشرب يا عثمان. فشربت حتى رويت. ثم قال: ازدد. فشربت حتى نهلت. ثم قال: أما إن القوم سيكثرون عليك، فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا. قالت: فدخلوا عليه من يومه فقتلوه.
قال ابن سيرين: لقد قتل عثمان وما أعلم أحداً يتهم علياً في قتله. وقال: لقد قتل عثمان يوم قتل وإن الدار يومئذ لغاصة، فيهم عبد الله بن عمر، وفيهم الحسن بن علي في عنقه السيف، ولكن عثمان عزم عليهم ألا يقاتلوا.
وحدث زهير عن كنانة قال: كنت فيمن حمل الحسن بن علي بن أبي طالب جريحاً من دار عثمان. وكان الحسن بن علي آخر من خرج من عند عثمان.
وعن ابن عمر: أنه لبس الدرع مرتين، فأتى عثمان فقال: صحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرفت له حق الرسالة وحق النبوة، وصحبت أبا بكر فعرفت له حق الولاية، وصحبت عمر فكنت أعرف له حق الوالد وحق الولاية، وأنا أعرف لك مثل ذلك، فقال له عثمان: جزاكم الله خيراً من أهل بيت، اقعد في بيتك حتى يأتيك أمري.
ودخل ابن عمر على عثمان يعرض نصرته ويذكر بيعته فقال: أنتم في حل من بيعتي وفي حرج من نصرتي، وإني لأرجو أن ألقى الله سالماً مظلوماً.
قال أبو هريرة: أتيت عثمان يوم الدار فقلت: جئت أقاتل معك، قال: أيسرك أن يقتل الناس كلهم.(16/219)
وفي حديث آخر: وإياي معهم؟ قلت: لا. قال: فإنك إن قتلت نفساً واحدة كأنك قتلت الناس كلهم. فقال: انصرف مأذوناً غير مأزور. ثم جاء الحسن بن علي بن أبي طالب فقال: جئت يا أمير المؤمنين أقاتل معك، فأمرني بأمرك. فالتفت إليه عثمان فقال: انصرف مأذوناً لك، مأجوراً غير مأزور، جزاكم الله من أهل بيت خيراً.
قال عبد الله بن عامر بن ربيعة: كنت مع عثمان في الدار فقال: أعزم على كل من رأى لنا عليه طاعة إلا كف يده وسلاحه، فإن أفضلكم عندي غناء من كف يده وسلاحه، ثم قال: قم يا ابن عمر فاحرس الناس، فقام ابن عمر وقام معه رجاله من بني عدي وابن سراقة وابن مطيع ففتحوا الباب وخرج، ودخل الناس فقتلوا عثمان.
وعن جابر بن عبد الله: أن علياً أرسل عثمان أن معي خمس مئة دارع فأذن لي فأمنعك من القوم، فإنك لم تحدث شيئاً يستحل به دمك، قال: جزيت خيراً، ما أحب أن يهراق دم في سببي.
خرج سعد بن أبي وقاص حتى دخل عثمان وهو محصور، ثم خرج من عنده فرأى عبد الرحمن بن عديس، ومالك بن الأشتر، وحكيم بن جبلة، فصفق بيديه إحداهما على الأخرى، ثم استرجع ثمأظهر الكلام فقال: والله إن أمراً هؤلاء رؤساؤه لأمر سوء.
قال أبو قتادة: دخلت على عثمان وهو محصور أنا ورجل من قومي نستأذنه في الحج، فأذن لنا، فلما خرجت استقبلني الحسن بن علي بالباب، فدخل وعليه سلاحه، فرجعت معه، فدخل فوقف بين يدي عثمان، قال: يا أمير المؤمنين، ها أنذا بين يديك فمرني بأمرك، فقال له(16/220)
عثمان: يا بن أخي وصلتك رحم، إن القوم ما يريدون غيري، ووالله لا أتوقى بالمؤمنين ولكن أوقي المؤمنين بنفسي. فلما سمعت ذلك منه قلت: يا أمير المؤمنين، إن كان من أمرك كون فما تأمر؟ قال: انظر ما اجتمعت عليه أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الله لا يجمعهم على ضلالة، كونوا مع الجماعة حيث كانت. قال بشار: فحدثت به حماد بن زيد فرق ودمعت عيناه، وقال: رحم الله أمير المؤمنين حوصر نيفاً وأربعين ليلة لم تبد منه كلمة يكون لمبتدع فيها حجة.
ولما ضرب عثمان والدماء تسيل على لحيته جعل يقول: " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " اللهم إني أستعديك عليهم، وأستعينك على جميع أموري، وأسألك الصبر على ما ابتليتني.
وعن عبد الله بن سلام: انه قال لمن حضر تشحط عثمان في الموت حين ضربه أبو رومان الأصبحي: ماذا كان قول عثمان وهو يتشحط؟ قالوا: سمعنا يقول: اللهم اجمع أمة محمد، ثلاثاً، قال: والذي نفسي بيده لو دعا الله على تلك الحال ألا يجتمعوا أبداً، ما اجتمعوا إلى يوم القيامة.
ومن حديث أن عثمان كتب إلى أهل الشام يستمدهم حين حصر، فضرب معاوية بعثاً على أهل الشام، على أربعة آلاف، وكان قائدهم أسد بن كرز، جد خالد بن عبد الله القسري، فبلغ الذين حصروه أنه قد استغاث بأهل الشام، وقد أقبل إليه أربعة آلاف مدداً، فخافوا أن يكون بينهم وبين أهل الشام قتال، فعجلوا، فأحرقوا باب عثمان، فلما وقع الباب ألقوا عليه التراب والحجارة، وكان في الدار مع عثمان قريب من مئتي رجل، فيهم الحسن بن علي بن أبي طالب وعبد الله بن الزبير، فاستعمل عثمان على أهل الدار(16/221)
عبد الله بن الزبير، وفلان بن الأخنس الثقفي على أهل الميمنة ومروان على الميسرة، وهم بالقتال، فلما رأى الباب قد أحرق خرج إليهم فقال: جزاكم الله خيراً، قد وفيتم بالبيعة، وقد بدا لي ألا ولا تراق أقاتل في محجمة دم، ففتح لهم سدة في داره فخرجوا منها، وغضب مروان بن الحكم فاختبأ في بعض بيوت الدار، فلما أحرق الباب وألقي عليه التراب والحجارة رجع عثمان ففتح المصحف يقرؤه إذ دخلت عليه جماعة ليس فيهم من أصحاب رسول الله ولا من أبنائهم أحد، فلما وصلوا إليه قاموا خلفه عليهم السلاح فقالوا: بدلت كتاب الله وغيرته، قال عثمان: كتاب الله بيني وبينكم. فضربه رجل منهم على منكبه فندر منه الدم على المصحف، وضربه آخر، فلما كثر الضرب غشي عليه، ونساؤه مختلطون مع الرجال، فضج النساء وغشي عليه، وجيء بماء فمسح على وجهه فأفاق، فدخل محمد بن أبي بكر عند ذلك وهو يرى أنه قتل، فلما رآه قاعداً قال: لا أراكم قياماً حول نعثل، وأخذ بلحيته فجره من البيت إلى باب الدار وهو يقول: بدلت كتاب الله وغيرته يا نعثل. فقال عثمان: لست بنعثل ولكني أمير المؤمنين، وما كان أبوك يأخذ بلحيتي. فقال محمد: لا يقبل منا يوم القيامة أن نقول: " أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل " ودخل رجل من كندة من أهل مصر مخترط السيف فقال: أفرجوا. فأفرجوا، فطعن في بطنه، وخلفه امرأته بنت الفرافصة الكلبية تمسك السيف، فقطع أصابعها.
وفي حديث آخر: أن محمد بن أبي بكر أخذ بلحية عثمان فقال بها حتى سمعت وقع أضراسه، فقال: ما أغنى عنك معاوية؟ ما أغنى عنك ابن عامر، ما أغنت عنك كتبك؟ فقال: أرسل لي لحيتي الحديث.(16/222)
وفي حديث آخر: أن محمد بن أبي بكر أخذ بلحيته، وأهوى بمشاقص معه ليلجأ بها في حلقه، فقال: مهلاً يا بن أخي فوالله لقد أخذت مأخذ ما كان أبوك ليأخذ به، فتركه وانصرف مستحيياً نادماً، فاستقبله القوم على باب الصفة فردهم طويلاً حتى غلبوه، فدخلوا، وخرج محمد راجعاً فأتاه رجل بيده جريدة، تقدمهم حتى قام عثمان، فضرب بها رأسه فشجه، فقطر دمه على المصحف حتى لطخه، ثم تغاووا عليه، فأتاه رجل فضربه على الثدي بالسيف، فسقط، ووثبت نائلة بنت الفرافصة الكلبية فصاحت وألقت نفسها عليه وقالت: يا بنت شيبة، أيقتل أمير المؤمنين؟! فأخذت السيف، فقطع الرجل يدها، وانتهبوا متاع البيت، ومر رجل على عثمان ورأسه مع المصحف، فضرب رأسه برجله ونحاه عن المصحف وقال: ما رأيت كاليوم وجه كافر أحسن ولا مضجع كافر أكرم. فلا والله ما تركوا في داره شيئاً حتى الأقداح إلا ذهبوا به.
وفي حديث أن محمد بن أبي بكر لما أخذ بلحيته هزها حتى سمع صرير أضراسه بعضها على بعض، فقال: يا بن أخ، دع لحيتي فإنك لتجذب ما يعز على أبيك أن يؤذيها.
وقال في آخر الحديث: وانتهبوا بيته، فهذا يأخذ الثوب، وهذا يأخذ المرآة، وهذا يأخذ الشيء.
وعن كنانة مولى صفية بنت حيي قال: شهدت مقتل عثمان رضي الله عنه وأنا ابن أربع عشرة سنة، قلت: هل أندى محمد بن أبي بكر بشيء من دمه؟ فقال: معاذ الله، دخل عليه فقال عثمان: يا بن أخي، لست بصاحبي فخرج، ولم يند من دمه بشيء، فقلت لكنانة: من قتله؟ قال: رجل من(16/223)
أهل البصرة، وقيل من أهل مصر يقال له: جبلة بن الأيهم، وقيل جبلة بن الأهتم، وقيل: من أهل مصر يقال له: حمار.
وعن عائشة قالت: دخل محمد بن أبي بكر على عثمان متأبطاً سيفه، قد علق كنانته في همياته حتى جلس بين يديه فقال: يا نعثل، فقال: لست بنعثل ولكني عثمان أمير المؤمنين. فأهوى بيده إلى لحيته، فقال: مه يا بن أخي! كف يدك عن لحية عمك وأجلها، فإن أباك كان يجلها. فغضب فأخذ مشقصاً من كنانته فضربه في ودجه، فأسرع السهم فيه، ثم دخل التجيبي ومحمد بن أبي حذيفة فضرباه بأسيافهما حتى أثبتاه وهو يقرأ المصحف، فوقعت نضحة من دمه على قوله: " فسيكفيكهم الله ".
وفي حديث آخر: أن محمد بن أبي بكر تسور إلى عثمان من دار عمرو بن حزم ومعه كنانة ابن بشر بن عتاب وسودان بن حمران وعمرو بن الحمق، فوجروا عثمان عند امرأته نائلة، وهو يقرأ في المصحف في سورة البقرة، فتقدمهم محمد بن أبي بكر فأخذ بلحية عثمان فقال: قد أخزاك الله يا نعثل، فقال عثمان: لست بنعثل ولكني عبد الله وأمير المؤمنين. فقال محمد: ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان؟ فقال عثمان: يا بن أخي، دع عنك لحيتي، فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه. فقال محمد: ما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك. فقال عثمان: أستنصر الله عليك وأستعين به. ثم طعن جبينه بمشقص في يده، ورفع كنانة بن بشر ابن عتاب مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل أذن عثمان، فمضت حتى دخلت في حلقه، ثم علاه بالسيف حتى قتله.(16/224)
قالوا: وضرب كنانة بن بشر جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد فخر لجنبه، وضربه سودان بن حمران المرادي بعدما خر لجنبه فقتله. وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات، وقال: أما ثلاث منهن فإني طعنتهن لله، وأما ست فإني طعنته إياهن لما كان في صدري عليه.
وحدث الحسن عن سياف عثمان: أن رجلاً من الأنصار دخل على عثمان فقال: ارجع يا بن أخي فلست بقاتلي. قال: وكيف علمت ذاك؟ قال: لأنه أتي بك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم سابعك فحنكك ودعا لك بالبركة قال ثم دخل عليه رجل آخر من الأنصار فقال: ارجع ابن أخي فلست بقاتلي، قال: بم تدري ذلك؟ قال: لأنه أتي بك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم سابعك فحنكك ودعا لك بالبركة. قال: ثم دخل عليه محمد بن أبي بكر فقال: أنت قاتلي. قال: وما يدريك يا نعثل؟ قال: لأنه أتي بك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم سابعك ليحنكك ويدعو لك بالبركة فخريت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فوثب على صدره وقبض على لحيته، فقال: إن تفعل، كان يعز على أبيك أو يسوؤه. قال: فوجأه في نحره بمشاقص كانت في يده.
وعن المغيرة بن شعبة قال: قلت لعلي: إن هذا الرجل مقتول، وإنه إن قتل وأنت بالمدينة ألحدوا فيك، فاخرج فكن في مكان كذا وكذا فإنك إن فعلت فكنت في غار باليمن طلبك الناس.
فأبى، وحصر عثمان اثنتين وعشرين يوماً، ثم أحرقوا الباب وفي الدار أناس كثير، فيهم عبد الله بن الزبير ومروان. فقالوا: ائذن لنا: فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد إلي عهداً فأنا صابر عليه، وإن القوم لم يحرقوا باب الدار إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه، فأخرج على رجل يستقتل ويقاتل. وخرج الناس كلهم، ودعا بالمصحف فقرأ فيه والحسن عنده، فقال: إن أباك الآن لفي أمر عظيم من أمرك فأقسمت عليك لما خرجت، وأمر عثمان أبا كرب رجلاً من همدان وآخر من الأنصار أن يقوما على باب المال، وليس فيه إلا(16/225)
غرارتين من ورق، فلما طفئت النار بعدما ناوشهم ابن الزبير ومروان، وتوعد محمد بن أبي بكر ابن الزبير ومروان، فلما دخل على عثمان هربا. ودخل محمد بن أبي بكر على عثمان فأخذ بلحيته، فقال: أرسل لحيتي فلم يكن أبوك ليتناولهم. فأرسلها، ودخلوا عليه، منهم من يجؤه بنعل سيفه، وآخر يلكزه، ووجأه رجل بمشاقص معه في ترقوته، فسال الدم على المصحف، وهم في ذلك يهابون قتله، وكان كبيراً وغشي عليه، ودخل آخرون فلما رأوه مغشياً عليه جروا برجله، فصاحت نائلة وبناته وجاء التجيبي مخترطاً سيفه ليطعنه في بطنه، فوقته نائلة، فقطع يدها، واتكأ بالسيف عليه في صدره، وقتل الرجل قبل غروب الشمس، ونادى مناد، ما يحل دمه ويحرم ماله! فانتهبوا كل شيء، ثم تنادوا: المال المال، فألقى الرجلان المفاتح ونجيا وقالا: الهرب الهرب، هذا ما طلب القوم.
وعن أبي سعيد مولى أبي أسيد قال:: فتح عثمان الباب، ووضع المصحف بين يديه، فدخل عليه رجل، وقال: بيني وبينك كتاب الله. فخرج وتركه، ثم دخل عليه آخر فقال: بيني وبينك كتاب الله فأهوى إليه بالسيف، فاتقاه بيده فقطعها، فلا أدري أبانها أم قطعها ولم يبنها، فقال: أم والله إنها لأول كف خطت المفصل. قال: ودخل عليه رجل من بني سدوس يقال له: الموت الأسود، فخنقه وخنقه قبل أن يضرب بالسيف، فقال: والله ما رأيت شيئاً ألين من حلقه، لقد خنقته حتى رأيت نفسه مثل الجان، تردد في جسده.
وفي غير هذا الحديث: ودخل التجوبي فأشعره(16/226)
مشقصاً، فانتضح الدم على قوله: " فسيكفيكهم الله " فإنها في المصحف ما حكت.
وقيل: قتله سودان بن رومان المرادي.
وعن المسيب بن دارم قال: إن الذي قتل عثمان قام في قتال العدو سبع عشرة كرة، يقتل من حوله، لا يصيبه شيء حتى مات على فراشه.
ولما ضربه بالمشاقص قال عثمان: بسم الله، توكلت على الله، وإذا الدم يسيل على لحيته، فقطر والمصحف بين يديه، فاتكأ على شقه الأيسر وهو يقول: سبحان الله العظيم، وهو في ذلك يقرأ المصحف والدم يسيل على المصحف، حتى وقف الدم عند قوله " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم " وأطبق المصحف، وضربوه جميعاً ضربة واحدة، فضربوه والله كان يحيي الليل في ركعة، ويصل الرحم، ويطعم الملهوف، ويحمل الكل، فرحمه الله.
قال الزهري: قتل عثمان عند صلاة العصر، وشد عبد لعثمان على كنانة بن بشر فقتله، وشد سودان على العبد فقتله، ودخلت الغوغاء دار عثمان، فصاح إنسان منهم: أيحل دم عثمان ولا يحل ماله! فانتهبوا متاعه، فقامت نائلة فقالت: لصوص ورب الكعبة! يا أعداء(16/227)
الله ما ركبتم من دم عثمان أعظم، أما والله لقد قتلتموه صواماً قواماً يقرأ القرآن في ركعة.
وخرج الناس من دار عثمان، وأغلق بابه على ثلاثة قتلوا: عثمان، وعبد عثمان الأسود، وكنانة بن بشر.
وقال عبد الله بن سعيد بن ثابت: رأيت مصحف عثمان ونضح الدماء فيه على أشياء من الوعد والوعيد، فكان ذلك عند الناس من الآيات.
قال كنانة: كنت أقود بصفية بنت حيي، لترد عن عثمان، فلقيها الأشتر فضرب وجه بغلتها حتى مالت، فقالت: ردوني لا يفضحني هذا الكلب. قال: فوضعت خشباً بين منزلها وبين منزل عثمان، تنقل عليه الطعام والشراب.
قال محمد بن شهاب الزهري: قلت لسعيد بن المسيب: هل أنت مخبري كيف كان قتل عثمان؟ ما كان شأن الناس وشأنه؟ ولم خذله أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: قتل عثمان مظلوماً، ومن قتله كان ظالماً، ومن خذله كان معذوراً. قلت: كيف كان كذلك؟ قال: إن عثمان لما ولي، كره ولايته نفر من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن عثمان كان يحب قومه، فولي الناس اثنتي عشرة سنة، وكان كثيراً مما يولي بني أمية ممن لم يكن له مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحبة، فكان يجيء من أمرائه ما ينكره أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان عثمان يستعتب فيهم فلا يعزلهم، فلما كان في الست حجج الأواخر استأثر بني عمه فولاهم وما أشرك معهم، وأمرهم بتقوى الله، ولى عبد الله بن أبي سرح مصر، فمكث عليها سنين فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه، وقد كان قبل ذلك من عثمان هنات إلى عبد الله بن مسعود، وأبي ذر، وعمار بن ياسر، فكان بنو هذيل وبنو زهرة في قلوبهم ما فيها لحال ابن مسعود، وكانت بنو غفار وأحلافها ومن غضب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها، وكانت بنو مخزوم قد(16/228)
حنقت على عثمان لحال عمار بن ياسر. وجاء أهل مصر يشكون ابن أبي سرح، فكتب إليه كتاباً يتهدده فيه، فأبى ابن أبي سرح يقبل ما نهاه عنه عثمان، وضرب بعض من أتاه من قبل عثمان من أهل مصر ممن كان أتى عثمان فقتله، فخرج من أهل مصر سبع مئة رجل فنزلوا المسجد، وشكوا إلى أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواقيت الصلاة ما صنع ابن أبي سرح بهم، فقام طلحة بن عبيد الله فكلم عثمان بن عفان بكلام شديد، وأرسلت عائشة إليه فقالت: تقدم إليك أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسألوك عزل هذا الرجل، فأبيت إلا واحدة! فهذا قد قتل منهم رجلاً، فأنصفهم من عاملك. ودخل عليه علي بن أبي طالب عليه السلام وكان متكلم القوم فقال: إنما يسائلونك رجلاً مكان رجل، وقد ادعوا قبله دماً، فاعزله عنهم واقض بينهم فإن وجب عليه حق فأنصفهم منه. فقال لهم: اختاروا رجلاً أوليه عليكم مكانه، فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر، فقال: أستعمل عليه محمد بن أبي بكر. فكتب عهده وولاه، وخرج معهم عدد من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وابن أبي سرح، فخرج محمد ومن معه، فلما كان على مسيرة ثلاث من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير خبطاً، كأنه رجل يطلب أو يطلب، فقال له أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما قصتك وما شأنك كأنك هارب أو طالب؟ فقال لهم: أنا غلام أمير المؤمنين، وجهني إلى عامل مصر، فقال له رجل: هذا عامل مصر، قال: ليس هذا أريد، فأخبر بأمره محمد بن أبي بكر فبعث في طلبه رجلاً فأخذه، فجيء به إليه فقال: غلام من أنت؟ فأقبل مرة يقول: أنا غلام أمير المؤمنين، ومرة يقول: أنا غلام مروان، حتى عرفه رجل أنه لعثمان، فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ إلى عامل مصر، قال: بماذا: قال برسالة، قال معك كتاب؟ قال: لا، ففتشوه فلم يجدوا معده كتاباً، وكانت معه إداوة قد يبست، فيها شيء يتقلقل، فحركوه ليخرج فلم يخرج، فشقوا الإداوة فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح، فجمع محمد من كان عنده من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فضوا فك الكتاب بمحضر منهم، فإذا فيه: إذا أتاك فلان ومحمد وفلان فاحتل قتلهم(16/229)
وأبطل كتابه، وقر على عملك حتى يأتيك رأيي، واحبس من يجيء إلي يتظلم منك ليأتيك رأيي في ذلك إن شاء الله.
فلما قرؤوا الكتاب فزعوا وأزمعوا فرجعوا إلى المدينة، وختم محمد الكتاب بخواتيم نفر كانوا معه، ودفع الكتاب إلى رجل منهم، وقدموا المدينة فجمعوا طلحة والزبير وعلياً وسعداً ومن كان من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم فضوا الكتاب بمحضر منهم وأخبروهم بقصة الغلام، وأقرؤوهم الكتاب، فلم يبق أحد من المدينة إلا حنق على عثمان، وزاد ذلك من كان غضب لابن مسعود وأبي ذر وعمار حنقاً وغيظاً. وقام أصحاب محمد صلى الله عيله سلم فلحقوا بمنازلهم، ما منهم أحد إلا وهو مغتم لما قرؤوا الكتاب.
وحاصر الناس عثمان، وأجلب عليه محمد بن أبي بكر بيتي تيم وغيرهم، فلما رأى ذلك علي بعث إلى طلحة والزبير وسعد ونفر من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كلهم بدري، ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير، فقال له علي: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم. قال: والبعير بعيرك؟ قال: نعم. قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا. وحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمر ولا علم به، قال له علي: فالخاتم خاتمك؟ قال: نعم. قال: فكيف يخرج غلامك ببعيرك، بكتاب عليه خاتمك ولا تعلم به؟ فحلف بالله ما كتبت ولا أمرت به ولا وجهت هذا الغلام إلى مصر قط. وأما الخط فعرفوا أنه خط مروان، وشكوا في أمر عثمان، وسألوه أن يدفع إليهم مروان فأبى، وكان مروان عنده في الدار، فخرج أصحاب محمد من عنده غضاباً، وشكوا في أمره، وعلموا أن عثمان لا يحلف بباطل، إلا أن قوماً قالوا: لن يبرأ عثمان من قلوبنا إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحثه ونعرف حال الكتاب، وكيف يؤمر بقتل رجل من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغير حق؟ فإن يكن عثمان كتبه عزلناه، وإن يكن مروان كتبه على لسان عثمان نظرنا ما يكون منا في أمر مروان.
ولزموا بيوتهم، وأبى عثمان أن يخرج إليهم وخشي عليه القتل، وحاصر الناس عثمان، ومنعوه الماء، فأشرف على الناس فقال أفيكم علي؟ فقالوا: لا. قال: أفيكم سعد؟ قالوا: لا. قال: فسكت، ثم قال: ألا أحد يبلغ فسيقينا ماء؟ فبلغ ذلك علياً فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه، وجرح في سببها عدة من موالي بني(16/230)
هاشم وبني أمية، حتى وصل الماء إليه، فبلغ علياً أن عثمان يراد قتله، فقال: إنما أردنا منه مروان، فأما قتل عثمان فلا. وقال للحسن والحسين اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحداً يصل إليه. وبعث الزبير ابنه، وبعث طلحة ابنه، وبعث عدة من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبناءهم، يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان، ويسألونه إخراج مروان، فلما رأى ذلك محمد بن أبي بكر، ورمى الناس عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بالدماء على بابه، وأصاب مروان سهم وهو في الدار، وخضب محمد بن طلحة، وشج قنبر مولى علي، فخشي محمد بن أبي يكر أن يغضب بنو هاشم لحال الحسن والحسين فيثيرونها فتنة، فأخذ بيد الرجلين فقال: إن جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحسن كشفوا الناس عن عثمان وبطل ما نريد، ولكن مروا بنا حتى نتسور عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم أحد. فتسور محمد وصاحباه من دار رجل من الأنصار، حتى دخلوا على عثمان ولا يعلم أحد ممن كان معه، لأن كل من كان معه كانوا فوق البيوت، ولم يكن معه إلا امرأته، فقال لهما محمد: مكانكما فإن معه امرأته حتى أبداكما بالدخول، فإذا أنا ضبطته فادخلا، فتوجاه حتى تقتلاه. فدخل محمد فأخذ بلحيته، فقال له عثمان: والله لو رآك أبوك لساءه مكانك مني. فتراخت يده، ودخل الرجلان عليه فتوجاه حتى قتلاه، وخرجوا هاربين من حيث دخلوا، وصرخت امرأته فلم يسمع صراخهما لما كان في الدار من الجلبة، وصعدت امرأته إلى الناس فقالت: إن أمير المؤمنين قد قتل.
فدخل الحسن والحسين ومن كان معهما فوجدوا عثمان مذبوحاً، فانكبوا عليه يبكون، وخرجوا، ودخل الناس فوجدوه مذبوحاً، وبلغ علي بن أبي طالب الخبر وطلحة والزبير وسعداً ومن كان بالمدينة، فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر الذي أتاهم، حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولاً، فاسترجعوا، وقال علي لابنتيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟! ورفع يده فلطم الحسن وضرب صدر الحسين، وشتم محمد بن طلحة ولعن عبد الله بن الزبير، وخرج علي وهو غضبان، فلقيه طلحة فقال: مالك يا أبا الحسن ضربت الحسن والحسين؟ فقال: عليك وعليهما لعنة الله! إلا أن يسوءني ذلك! يقتل(16/231)
أمير المؤمنين رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدري لم تقم عليه بينة ولا حجة! فقال طلحة: لو دفع مروان لم يقتل. فقال علي: لو أخرج إليكم مروان قتل قبل أن يثبت عليه حكومة. وخرج علي فأتى منزله، وجاء الناس كلهم يهرعون إلى علي، وأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهم، كلهم يقول: أمير المؤمنين علي حتى دخلوا عليه داره فقالوا له: نبايعك فمد يدك، فلا بد من أمير. فقال علي: ليس ذلك إليكم إنما ذلك لأهل بدر، فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة. فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى علياً فقالوا: ما نرى أحد أحق بها منك، مد يدك نبايعك. فقال: أين طلحة والزبير؟ فكان أول من بايعه طلحة بلسانه وسعد بيده، فلما رأى ذلك علي خرج إلى المسجد فصعد المنبر، فكان أول من صعد إليه طلحة فبايعه بيده، ثم بايعه الزبير وسعد وأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جميعاً، ثم نزل فدعا الناس وطلب مروان، فهرب منه، وطلب نفراً من ولد مروان وبني أبي معيط فهربوا منه. وخرجت عائشة باكية تقول: قتل عثمان. وجاء علي إلى امرأة عثمان فقال لها: من قتل عثمان؟ قالت: لا أدري، دخل عليه رجلان لا أعرفهما إلا أن أرى وجوههما، وكان معهما محمد بن أبي بكر، وأخبرت علياً والناس ما صنع محمد، فدعا محمداً فسأله عما ذكرت امرأة عثمان، فقال محمد: لم تكذب، قد دخلت عليه وأنا أريد قتله فذكر لي أبي، فقمت عنه، وأنا تائب إلى الله تعالى، والله ما قتلته ولا أمسكته، فقالت امرأته: صدق ولكنه أدخلهما.
قال يزيد بن أبي حبيب: كان عمر بن الخطاب أمر على الشام بعد يزيد بن أبي سفيان معاوية ابن أبي سفيان وعمير بن سعد الأنصاري، وأمر على الكوفة المغيرة بن شعبة الثقفي، وأمر على البصرة أبا موسى الأشعري عبد الله بن قيس، وأمر على أهل مصر عمرو بن العاص، فقتل عمر ولم يخلع أحداً منهم، فاستخلف عثمان فنزع عمير بن سعد، وجمع الشام لمعاوية كله، ثم نزع عمرو بن العاص، وأمر عبد الله بن سعد، فقال أناس: نزع عمراً وقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره، وأمر ابن سعد، فكانت تلك فتنة في أنفسهم، ثم نزع أبا موسى(16/232)
الأشعري، وأمر الوليد بن عقبة، قالوا: أمر الفاسق وخلع أبا موسى!. وأظهر الناس ذلك قالة سوء.
وكتب أهل الآفاق بذلك بعضهم إلى بعض، ثم إن عثمان أمر عبد الله بن سعد على أهل الشام وأهل مصر غزوة ذات الصواري، ففتح الله لأهل الإسلام يومئذ فتحاً عظيماً، وكان معاوية بن حديج غزا تلك السنة بغزاوة أمره عليها عثمان، ففتح ذلك الحصن، وأمر له عثمان بالخمس مما أصاب لنفسه، وذلك سنة أربع وثلاثين، ثم إن عبد الله بن سعد وفد عثمان برجال من أهل مصر، فأخبروه بالذي فتح الله لهم ولأهل الإسلام، فكتب عثمان بذلك الفتح إلى الأجناد، واستخلف عبد الله بن سعد على أهل مصر حين وفد عثمان السائب بن هشام، ورجلاً من بني عامر بن لؤي، وجعل الخاتم بيد سليمان بن عتر التجيبي، فبينا عبد الله بن سعد عند عثمان ومعه وفد، إذ أقبل راكب بعثه صاحب منهل من مناهل المدينة، حتى دخل إلى عثمان فأخبره أن ركباً من أهل مصر مروا بنا معهم السلاح والخيل، فراعنا ذلك، فأشفق عثمان، فأرسل إلى عبد الله بن سعد فقال: يا أبا يحيى، أخبرني كيف تركت أهل مصر؟ قال: تركتهم على ما يحب أمير المؤمنين في طاعتهم، فهل بلغك يا أمير المؤمنين شيء؟ ثم قال راكب آخر بعثه صاحب ذي المروة، فأخبر عثمان أن راكباً من أهل مصر نزلوا ذا المروة معهم السلاح والخيل، قد احتقبوا الدروع، عليهم رجل يقال له: عبد الله بن بديل، فلما بلغ ذلك عثمان استيقن إنما يراد نفسه، فأرسل إلى عمر بن العاص وهو بالمدينة، قد أنكحه عثمان أخته لأمه أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط، فقال له: يا أبا عبد الله، ما بال ركب من أهل مصر نزلوا ذا المروة؟ فهون عليه عمرو وقال: لعلهم عتبوا على ابن سعد في أنه وفد برجال وترك آخرين، ويقال: إنما قدم الركب على ملأ من علي وعمرو لأنه نزعه عن(16/233)
مصر، فقال له عثمان: انطلق إليهم فارددهم بما أحبوا. وبعث معه عثمان أربع مئة راكب، فسار لهم عمرو، فلما دنا منهم نزل ونزلوا، فلما جن الليل قال مسلمة بن مخلد وكان في وفد عبد الله بن سعد: جاءني عين لي فقال: يا أبا سعيد، قد جاء علي الآن مختفياً. فانطلق هو وعمرو إلى الركب سراً، فرصدهم مسلمة فإذا الأمر كذلك، ثم أمرنا عمرو بالانصراف، وما ندري ما قال عمرو للقوم وما ردوا عليه، فذكر الركب الذين خرجوا من مصر أن عمرو بن العاص قال لهم: ما الذي قدمتم له؟ قالوا: أردنا قتل عثمان. قال: لستم في عدد كعدد من مع عثمان، ولكن ارجعوا واقبلوا من الرجل ما أعطاكم حتى تستوثقوا ممن خلفكم وترجعوا إليه ثانية وأنتم في كثف. فقال له ابن بديل وهو أحد خزاعة: يا عمرو، أما علمت أن الله يقول في كتابه: " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " فقال عمرو: يا بن بديل، إنه يكون من قضاء الله كم من فئة كثيرة غلبت فئة قليلة والله مع الصابرين، وأيم الله لو أعلم أن من وراءكم على مثل رأيكم، ثم كنت في أربعة آلاف أخذت منهم الحرمة، فما شعر عثمان حتى نغشاه بالخيل.
ورجع الركب من ذي المروة إلى مصر، فأعطاهم ما سألوا، فلما قدم عمرو المدينة قام عثمان على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد: يا أهل المدينة، فقد بلغني أنكم أكثرتم في الركب، وإني بعثت إليهم عمرو بن العاص، فأخبرني بأمر هو دون ما تذكرون. فقال عمرو بن العاص رافعاً صوته: أتريد أن تجعلها بي يا عثمان؟ كلا والله بل قدموا في أمر جسيم من أمور أهل الإسلام، يا عثمان، إنك قد ركبت بأمتك نهابير وركبوها، فتب ولتتب أمتك. فقال أهل المدينة عند ذلك: نشهد بالله ونشهد من حضر من المسلمين أنا وأهل مصر على أمر واحد. فجالوا حتى حالوا بين عثمان والمنبر، فنزل، فدخل عليه نفر من قومه فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن عمراً هو الذي أغرى بك. فأخرجه عثمان، فطلق عمرو امرأته، ونزل السبع من أرض فلسطين، فقال عمرو حين أخرج:(16/234)
من الوافر:
لنخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من دماء الجوف قاني.
ثم إن عثمان خرج إلى الناس فقال: أيها الناس، ما هذا الأمر الذي عتبتم علي فيه؟ قالوا: نعتب عليك أنك نزعت أبا نوسى الأشعري ووليت الفاسق، قد علمت ذلك ونزعت عمراً وأمرت ابن سعد وقد علمت ما قيل في ابن سعد، وقد بلغنا أن الوليد يخرج سكراناً لا يعقل. فقال عثمان: معاذ الله أن أعلم هذا منه وأؤمره، فانظروا من رجل أمين نبعث، فيعلم لنا علمه؟ فقال أهل المدينة: قد رضينا جبلة بن عمرو. فبعثوه، فنزل على رجل من الأنصار يقال له: قرظة بن كعب، فقال له: ألا يتقي الله عثمان! يجعل علينا رجلاً يخرج إلى الصلاة لا يعقل؟! فقال له جبلة: اتق الله، اعلم ما تقول فإن عليك طاعة. ثم جمع مع ذلك أنه أخ لأمير المؤمنين، فقال له: أتراني كاذباً؟ فوالله ما كذبتك. فقال له: كيف لي أن أعلم ذلك منه مثل ما علمت؟ فقال: إن صاحب شرابه يألف وليدة لنا، وهي تخبرنا. فلم يزل حتى أخبرته الوليدة أنه الآن سكران لا يعقل، فدخل عليه جبلة بن عمرو فانتزع خاتمه وهو لا يشعر، فقدم عثمان فسأله، فقال له: يا أمير المؤمنين، بيني وبينك، فقال أهل المدينة: كلا والله إلا علانية. فلما قص قصته على عثمان قال عثمان: كذبت، فقد أخبرت خبرك قبل خروجك. فأمر به عثمان فسجن، فجعل أهل المدينة يأتونه في السجن، ثم إن أناساً من أهل المدينة دخلوا على أهل السجن فأخرجوا جبلة بن عمرو، فخرج جبلة عند ذلك إلى مصر، ولما رجع ابن بديل وأصحابه من ذي المروة بما أحبوا عارضهم رجل على جمل يسير بأعلى الطريق، وذلك ببطن النخل، فأرابهم أمره ففتشوا متاعه فإذا بصحيفة من عثمان إلى خليفة عبد الله بن سعد يأمره أن يقطع أيديهم وأرجلهم، ووجدوا الكتاب في إداوة، والجمل جمل عثمان، فقدموا بالجمل وبالغلام مصر وبالكتاب، فأقرؤوه إخوانهم، وقام جبلة خطيباً بين(16/235)
ظهريهم، حرضهم، وأخبر من أمره، وأنكر عثمان أن يكون كتب، ولعن الكاتب والمرسل في ذلك، فانتزى محمد بن أبي حذيفة على الإمارة، فتأمر على مصر وبايعه أهلها طراً. إلا أن تكون عصابة، فيهم معاوية بن حديج وبسر بن أبي أرطأة.
قالوا: وقام عمار بن ياسر بمصر فقال: خلعت عثمان كما أخلع كور عمامتي هذه فأعطاه محمد بن أبي حذيفة أربعين ألف دينار وتوابعها.
ومن حديث يزيد بن أبي حبيب قال: ثم إن ابن عديس دخل المسجد فبينا هو محتبي فيه إذ رمي من دار عثمان بسهم، فوقع عند حبوته، فانتزع السهم وانطلق حتى دخل بيت بعض أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم خرج ودخل المسجد فتراسل عثمان وعلي وطلحة والزبير، ولم يزالوا حتى دعاهم عثمان إلى أن اجتمعوا في بيت عائشة، ثم يعتبهم وينزع عما كرهوا، فاجتمعوا وأرسلت عائشة إلى صفية لتحضرها وتسمع مقالتهم، فأقبلت ومعها سليم مولاها، فدخلت على عائشة، وبينها وبين الملأ ستر، فتجاولوا طويلاً وكثر كلامهم، وكان أشد القوم على عثمان صوتاً جبلة بن عمرو الأنصاري، فقالت صفية وضعوها مع عثمان: من هذا الذي يرفع صوته على أمير المؤمنين؟ فقالت عائشة: هذا جبلة بن عمرو الأنصاري، فصاحت صفية: يا جبيلة، أترفع صوتك على أمير المؤمنين؟ فقالت عائشة وضعوها مع الملأ الذين حصروا عثمان: لم تصغرين اسمه؟ ادعيه يا جبلة، فإن الله لم ينقصه ولم ينقص اسمه، فاستوسق أمرهم على أن أجابهم عثمان إلى ما أحبوا، ونزع كما كرهوا دون الخلو لهم من الولاية، فرفضوا بذلك وافترقوا، فقال لها سليم مولاها: الحمد لله الذي أصلح أمر هذه الأمة وألف بينهم. فقالت له صفية: إنهم ليسوا بالذين يرضون منه بما أعطاهم من نفسه، وقد ركبوا ما ركبوا، وإني سمعت من كلامهم اليوم ما سمعت. ثم إن عبد الرحمن بن عديس أشار إلى(16/236)
أصحابه يحصروا عثمان. وانصرف علي فاختبأ في المسجد وعنده سعد بن أبي وقاص في ناس كثير، وألط القوم وكثر حردهم، فخرج سعد في وجوههم فقال: الله الله يا معشر المسلمين، تركتم عثمان حتى إذا غسلتموه وصار مثل الثوب الرحيض أردتم قتله، أفلا بوسخه فعلتم ذلك به! فقالوا: ما لنا ولك يا سعد. فشدوا على سعد حتى خر من قيامه، وخلص إلى عثمان بينهم فناشدهم عثمان في قتله، ونبذ إليهم مفاتيح الخزائن، فأقبلوا بها إلى طلحة بن عبيد الله فقال: لا والله لا نرضى بذلك منه حتى نسله من الولاية مثل الشعرة من العجين فكان أول من دخل عليه حتى تناوله محمد بن أبي بكر. الحديث
ولما بلغ عمرو بن العاص قتل عثمان قال: قد علمت العرب أني إذا حككت قرحة أدميتها، ثم إن الركب انصرفوا إلى مصر، فلما دخلوا الفسطاط ارتجز مرتجزهم: من مشطور الرجز:
ألا احذرن مثلها أبا حسن
إنا نمر الحرب إمرار الرسن
ننطق بالفصل وإحكام السنن
فلما دخلوا المسجد قالا: إنا لسنا قتلنا عثمان ولكن الله قتله، وكذلك يقول الله: " بل تقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون ". فلما رأى ذلك شيعة عثمان ومن كره قتله قام من قام منهم إلى ابن أبي الكنود سعد بن مالك الأزدي، ثم تتابعوا إليه حتى عظمت حلقته، لا يقوم إليه رجل إلا كان على مثل رأيه، فوجم القوم لذلك طويلاً، فقال عبد الله بن جويبر لأهل الحلقة: قد طال صماتكم، فحلوا حباكم ثم(16/237)
الحقوا برجالكم وأبرموا أمركم، فقاموا فألب بعضهم بعضاً، وكان من يمشي في ذلك ويدعو إليه مقسم بن بجرة التجيبي، واجتمع من اجتمع منهم وساروا نحو الصعيد إلى إخميم، فأخبروا بخيل لأهل مصر، فبعث عليها حيان بن مرثد الأبذوي، فالتقوا بدقياس من كورة البهنسا فقتلوا وأسروا.
ولما دخل عليه رومان بن وردان وقتله أدخلته ابنة الفرافصة الكلبية بينها وبين ثيابها، وكانت امرأة جسيمة ضليعة، وألقت بنت شيبة نفسها على ما بقي من جسده، فدخل رجل من أهل مصر، معه السيف مصلتاً فقال: والله لأقطعن أنفه، فعالج المرأة عنه فغالبته، وكشف عنها من خلفها حتى نظر إلى بريق متنها، فلم يصل حتى أدخل السيف بين قرطيها ومنكبها، فقبضت على السيف فقطع أناملها، وقالت: يا رباح وهو غلام لعثمان أسود، ومعه سيف عثمان أغن عني هذا. فمشى إليه الغلام فضربه ضربة بالسيف فقتله، ثم إن الناس دخلوا فلما رأوا الرجل قد قتل وأن المرأتين لا تتركانه تذمم ناس من قريش واستحيوا، فأخرجوا الناس، ونادى أهل البيت بهم فاقتتلوا على الدار، فضرب مروان بن الحكم على حبل العاتق فخر، وضرب رجل من أهل مصر المغيرة بن الأخنس بالسيف فصرع، فقال رجل من أهل المدينة: تعس المغيرة ابن الأخنس. فقال(16/238)
قاتله: بل تعس قاتل المغيرة بن الأخنس، وألقى سلاحه وأدبر هارباً يلتمس التوبة، قال: ثم أمسينا فقلنا: إن تركنا صاحبكم حتى يصبح مثلوا به. فانطلقنا إلى بقيع الغرقد فامكنا له في جوف الليل حتى حملناه، فغشينا سواد من خلفنا، فهبناهم حتى كدنا ننصرف عنه، فنادى مناديهم أن لا روع عليكم، اثبتوا فإنما جئنا لنشهده معكم. وكان أبو حبيش يقول: هم والله ملائكة الله، قال: فدفناه ثم هربنا من ليلتنا إلى الشام.
وقيل: إن قاتل المغيرة بن الأخنس أدرك وهو هارب يطلب التوبة فقتل، وكان يخبر أنه رأى في المنام جهنم تسعر، لها زفير وشهيق، فاقشعر جلده لذلك، ففرق فرقاً شديداً، ثم نظر إلى تنور فيها، أشدها لهباً فقال: ما هذا التنور؟ فقالوا: لقاتل المغيرة بن الأخنس.
وقالوا من حديث: إن جماعة ثابوا إلى عثمان منهم أبو هريرة وزيد بن ثابت وسعد بن مالك وجماعة من اهل الأمصار، فلما رأى القوم أن الناس قد ثابوا إلى عثمان وضعوا على علي رقيباً في نفر، فلازمه، وعلى طلحة رقيباً، وعلى الزبير رقيباً، وعلى نفر بالمدينة وقال لهم إن تحركوا فاقتلوا. ولما لم يستطع هؤلاء النفر غشيان علي بعثوا أبناءهم إلى عثمان، فأقبل الحسن بن علي حتى قام عنده وقال: مرنا أمرك، فقال: يا بن أخي، أوصيك بما أوصي به نفسي، وتأول: " واصبر وما صبرك إلا بالله، ولا تحزن ولا تك في ضيق مما يمكرون " ووالله لأقينكم بنفسي ولأبذلنها دونكم، أو تقرنوا لهم وذاك. وجاء النعمان بن بشير وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة فقالوا له مثل مقالة الحسن، ورد عليهم مثل ذلك، وجاء أبو الهيثم بن التيهان فقال: كيف بت يا أمير المؤمنين؟ قال: بخير، قال أبو الهيثم: بأبي أنت وأمي، اصبر ولا تعط الدنية ولا تهدم سلطان الله، وقال عثمان متمثلاً: من الطويل:(16/239)
لعمري لموت لا عقوبة بعده ... لدي اللب أشفى من شقاً لا يزايله.
فعرف الناس أنه لا يعطيهم شيئاً وأفرحهم بذلك.
قالوا: ولما قضى عثمان في ذلك المجلس حاجاته، وعزم له المسلمون على الصبر والامتناع عليهم بسلطان الله تعالى، قال: اخرجوا رحمكم الله فكونوا بالباب، وليجامعكم هؤلاء الذين حبسوا عني، وأرسل إلى علي وطلحة والزبير، وعدة أن ادنوا، فاجتمعوا وأشرف عليهم، فقال: أيها الناس اجلسوا فجلسوا جميعاً المحارب والطارئ والمسالم المقيم، فقال: يا أهل المدينة، إني أستودعكم الخلافة من بعدي، إني والله لا أدخل علي أحداً بعد يومي هذا حتى يقضي الله في قضاءه، ولأدعن هؤلاء وما رأوا، وإني غير معطيهم شيئاً يتخذونه عليكم دخلاً في دين أو دنيا، حتى يكون الله هو الصانع في ذلك ما أحب. وأمر أهل المدينة بالرجوع، وأقسم عليهم فرجعوا إلا الحسن ومحمداً وابن الزبير وأشباهاً لهم، فجلسوا بالباب عن أمر آبائهم، وثاب إليهم أناس، ولزم عثمان الدار.
وكان الحصر أربعين ليلة والنزول سبعين، فلما مضت من الأربعين ثمان عشرة ليلة قدم ركبان من الوجوه، فأخبروا خبر من قد تهيأ إليهم من الآفاق: حبيب من الشام، ومعاوية من مصر، والقعقاع من الكوفة، ومجاشع من البصرة، فعندها حالوا بين الناس وبين عثمان ومنعوه كل شيء حتى الماء، وقد كان يدخل عليه بالشيء مما يريد، وطلبوا العلل، فلم تطلع عليهم علة، فعثروا، فرموا في داره بالحجارة ليرموا، فيقولوا: قوتلنا وذلك ليلاً فناداهم: ألا تتقون الله! أما تعلمون أن في الدار غيري! قالوا: لا والله ما رميناك، قال: فمن رمانا؟ قالوا: الله، قال: كذبتم، إن الله لو رمانا لم يخطئنا وأنتم تخطئونا، وأشرف عثمان على آل حزم، وهم في جيرانه، فسرح ابناً لعمرو إلى علي بأنهم قد منعونا الماء، فإن قدرتم على أن ترسلوا إلينا بماء فافعلوا، وإلى طلحة الزبير وإلى عائشة وأزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان أولهم إنجاداً له علي وأم حبيبة، جاء علي في الغلس فقال: يا أيها(16/240)
الناس، إن الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، لا تقطعوا عن هذا الرجل المادة، وإن الروم وفارس لتؤسر فتطعم وتسقى، وما تعرض لكم هذا الرجل في شيء، فبم تستحلون حصره وقتله؟ فقالوا: لا والله ولا نعمة عين، لا نتركه يأكل ولا يشرب. فرمى بعمامته في الدار بأني قد نهضت فيما أنهضتني له، فرجع. وجاءت أم حبيبة على بغلة لها برحالة مشتملة على إداوة، فقيل: أم المؤمنين أم حبيبة! فضربوا وجه بغلتها، فقالت: بني، إن وصايا بني أمية إلى هذا الرجل، وأحببت أن ألقاه وأسأله عن ذلك كي لا تهلك أموال أيتام وأرامل. فقالوا: كاذبة. وأهووا لها، وقطعوا حبل البغلة بالسيف فندت بأم حبيبة، فتلقاها الناس وقد مالت رحالتها، فتعلقوا بها فأخذوها وقد كادت تقتل، فذهبوا بها إلى بيتها.
وتجهزت عائشة خارجة إلى الحج هاربة، واستتبعت أخاها فأبى، فقالت: أم والله لئن استطعت أن أحرمهم ما يحاولون لأفعلن.
وجاء حنظلة الكاتب، حتى قام على محمد بن أبي بكر فقال: يا محمد، تستعتبك أم المؤمنين فلا تتبعها ويدعوك ذؤبان العرب إلى ما لا يحل فتتبعهم! فقال: وما أنت وذاك يا بن التميمية؟ فقال: يا بن الخثعمية، إن هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبتك عليه ويحك بنو عبد مناف. وانصرف وهو يقول: من الوافر:
عجبت لما يخوض الناس فيه ... يرمون الخلافة أن تزولا
ولو زالت لزال الخير عنهم ... ولا قوا بعدها ذلاً ذليلا
وكانوا كاليهود أو النصارى ... سواء كلهم ضلوا السبيلا
ولحق بالكوفة.
وخرجت عائشة وهي ممتلئة على أهل مصر، وجاءها مروان بن الحكم فقال: يا أم(16/241)
المؤمنين، لو أقمت أجدر أن يراقبوا هذا الرجل. قالت: أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة ثم لا أجد ما يمنعني؟! لا والله لا أعير، ولا أدري إلى ما يسلم أمر هؤلاء!
وبلغ طلحة والزبير ما لقي علي وأم حبيبة فلزموا بيوتهم، وبقي عثمان يسقيه آل حزم الغفلات، وعليهم الرقباء، وأشرف عثمان على الناس فقال: يا عبد الله بن عباس، فدعي له فقال: اذهب فأنت على الموسم. وكان ممن لزم الباب فقال: يا أمير المؤمنين، لجهاد هؤلاء أحب إلى من الحج. فأقسم عليه لينطلقن، فانطلق ابن عباس على الموسم تلك السنة، ورمى عثمان إلى الزبير بوصيته، فانصرف بها وفي الزبير اختلاف: أدركه مقتله أو خرج قبل قتله؟ وقال عثمان: " يا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد " اللهم حل بين الأحزاب وبين ما يأملون كما فعل بأشياعهم من قبل.
قالوا: فلما توقع الناس السابق فقدم بالسلامة، وأخبر عن أهل الموسم أنهم يريدون جميعاً المصريين وأشياعهم، وأنهم يريدون أن يجمعوا ذلك إلى حجهم، فلما أتاهم ذلك عنهم مع ما بلغ من نفور أهل الأمصار، أعلقهم الشيطان وقالوا: لا يخرجنا مما وقعنا فيه إلا قتل هذا الرجل، فيشتغل بذلك الناس عنا، ولم تبق خصلة يرجون بها النجاة إلا قتله. فراموا الباب فمنعهم من ذلك الحسن وابن الزبير ومحمد بن طلحة، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، ومن كان من أبناء الصحابة أقام معهم، واجتلدوا بها، فناداهم عثمان، الله الله، أنتم في حل من نصرتي فأبوا، ففتح الباب وخرج ومعه الترس والسيف لينهنههم، فلما رأوه أرز المصريون وركبهم هؤلاء، ونهنههم فتراجعوا وعظم على الفريقين وأقسم على أصحابه ليدخلن إذ أبوا أن ينصرفو فدخلوا فأغلق الباب دون المصريين. وقد كان المغيرة بن الأخنس بن شريق فيمن حج، ثم تعجل في نفر حجوا معه،(16/242)
فأدرك عثمان قبل أن يقتل، وشهد المناوشة، ودخل الدار فيمن دخل، وجلس على الباب من داخل، وقال: ما عذرنا عند الله إن نحن تركناك ونحن نستطيع ألا ندعهم حتى نموت؟! واتخذ عثمان بن عفان القرآن تلك الأيام نجياً يصلي وعنده المصحف، فإذا أعيا جلس فقرأ فيه، وكانوا يعدون القراءة في المصحف من العبادة، وكان القوم الذين كفكفهم بينه وبين الناس، فلما بقي المصريون لا يمنعهم أحد من الباب ولا يقدرون على الدخول جاؤوا بنار فأحرقوا الباب والسقيفة، فتأجج الباب والسقيفة، حتى إذا أحرق الخشب خرت السقيفة على النار، وثار أهل الدار وعثمان يصلي حتى منعوهم من الدخول، وكان أول من برز لهم المغيرة بن الأخنس وهو يرتجز: من مشطور الرجز:
قد علمت جارية عطبول
ذات وشاح ولها جديل
أني بنصل السيف خنشليل
لأمنعن منكم خليلي
بصارم ليس بذي فلول
وخرج الحسن بن علي عليه السلام وهو يقول: من الكامل:
لا دينهم ديني، ولا أنا منهم ... حتى يصير إلى الطمر شمام
وخرج محمد بن طلحة وهو يقول: من الرجز:
أنا ابن من حامى عليه بأحد
ورد أحزاباً على رغم معد(16/243)
وخرج سعيد بن العاص وهو يقول من الطويل:
صبرنا غداة الدار والموت واقف ... بأسيافنا دون ابن أروى نضارب
وكنا غداة الروع في الدار قصرة ... نساهمهم بالضرب والموت ثائب
وكان آخر من خرج عبد الله بن الزبير، أمره عثمان إلى أبيه في وصيته، وأمره أن يأتي أهل الدار فيأمرهم بالانصراف إلى منازلهم، فخرج عبد الله آخرهم فما زال يدعي بها، ويحدث الناس عن عثمان بآخر ما مات عليه. وأحرقوا الباب وعثمان في الصلاة قد افتتح " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " وكان سريع القراءة فما كرثه ما يسمع، وما يخطىء وما يتتعتع حتى أتى عليها قبل أن يصلوا إليه، ثم عاد فجلس إلى نجيه المصحف وقرأ: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " وارتجز المغيرة بن الأخنس وهو دون الدار في أصحابه:
قد علمت ذات القرون الميل
والحلي والأنامل الطفول
لتصدقن بيعتي خليلي
بصارم ذي رونق مصقول
لا أستقيل إن أقلت قيلي(16/244)
وأقبل أبو هريرة والناس محجمون عن الدار لأولئك العصبة، قد شروا واستقلوا، فقام معهم وقال: وأنا أسوتكم، وقال: اليوم طاب امضراب، ونادى " يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار " وبارز مروان يومئذ ونادى: رجل ورجل، فبرز له رجل من بني ليث يدعى ابن البياع، فاختلفا ضربتين، فضربه مروان أسف لرجليه، وضربه الآخر على أصل العنق فقلبه، فانكب مروان واستلقى الآخر، فاجتر هذا أصحابه واجتر هذا أصحابه، وقال المصريون: والله لولا أن تكون حجة علينا في الأمة لقد قتلناكم بعد، فتحوا. فقال المغيرة: من يبارز؟ فبرز له رجل، فاجتلدا، وهو يقول من منهوك الرجز:
أضربهم باليابس
ضرب غلام عابس
من الحياة آيس
فأصابه صاحبه وقال الناس: قتل المغيرة بن الأخنس، فقال الذي قتله: إنا لله. فقال له: عبد الرحمن بن عديس: مالك؟ فقال: إني أتيت فيما يرى النائم فقيل لي: بشر قاتل المغيرة بن الأخنس بالنار، وابتليت به، وقتل قباث الكناني نيار بن عبد الله الأسلمي، واقتحم الناس الدار من الدور التي حولها حتى ملؤوها ولا يشعر الذين بالباب، وأقبلت القبائل على أبنائهم، فذهبوا بهم إذ غلبوا على أميرهم، وندبوا له رجلاً يقتله، فدخل عليه(16/245)
البيت فقال: اخلعها وندعك. فقال: ويحك! والله ما كشفت امرأة في جاهلية، ولا تغنيت ولا تمنيت، ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولست خالعاً قميصاً كسانيه الله، وأنا على مكاني حتى يكرم الله أهل السعادة ويهين أهل الشقاء. فخرج، فقالوا: ما صنعت؟ فقال: غلقنا، والله ما يحل لنا قتله، ولا ينجينا من الناس إلا قتله، فأدخلوا عليه رجلاً من بني ليث، فقال: ممن الرجل؟ فقال: ليثي. فقال: لست بصاحبي، قال: وكيف؟ قال: ألست الذي دعا لك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نفر أن يحفظوا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى. قال: فلم تضع، فرجع وفارق القوم، فأدخلوا عليه رجلاً من قريش فقال: يا عثمان، إني قاتلك، قال: كلا يا فلان، لا تقتلني. قال: وكيف؟ قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استغفر لك يوم كذا وكذا، فلن تقارف دماً حراماً، فاستغفر ورجع وفارق أصحابه.
وأقبل عبد الله بن سلام حتى قام على باب الدار ينهاهم عن قتله، وقال: يا قوم، لا تسلوا سيف الله عليكم، فوالله إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم إن سلطان الله اليوم يقوم بالدرة، وإن قتلتموه لم يقم إلا بالسيف، ويلكم! إن مدينتكم محفوفة بملائكة الله، والله لئن قتلتموه لتتركنها. فقالوا: يا بن اليهودية، وما أنت وهذا! فرجع عنهم. وكان آخر من دخل عليه إلى القوم محمد بن أبي بكر، فقال له عثمان: ويلك! أعلى الله تغضب، هل لي إليك جرم إلا حقه أخذته منك، فنكل ورجع.
ولما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا انكساره ثار قتيرة وسودان بن حمران السكونيان والغافقي، فضربه الغافقي بجريدة معه، وضرب المصحف برجله، واستدار المصحف وانتشر فاستقر بين يديه، وسالت عليه الدماء، وجاء سودان بن حمران ليضربه فأكبت عليه نائلة، واتقت السيف بيدها، فتعمدها ونفح أصابعها فأطن أصابع يدها،(16/246)
وولت فغمز أوراكها، وقال: إنها لكيدة العكيزة، ويضرب عثمان فقتله، وقد دخل مع القوم غلمة لعثمان لينصروه، وقد كان عثمان أعتق من كف منهم، فلما رأى أحد العبيد سودان قد ضربه أهوى عليه فضرب عنقه، ووثب قتيرة علىالغلام فقتله، وانتبهوا ما في البيت، فأخرجوا من فيه ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى، فلما خرجوا إلى الدار وثب غلام لعثمان آخر على قتيرة فضربه فقتله، ودار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى تناولوا ما على النساء، وأخذ رجل ملاءة نائلة، والرجل يدعى كلثوم من تجيب، فتنحت نائلة، فقال: ويح أمك من عكيزة ما أتمك، ويضربه غلام آخر لعثمان فقتله وقتل. وتنادى القوم: أبصر رجل من صاحبه، وتنادوا في الدار: أدركوا بيت المال لا تسبقوا إليه، وسمع أصحاب بيت المال أصواتهم، وليس فيه إلا غرارتين، فقالوا: النجاء، فإن القوم إنما يحاولون الدنيا فهربوا، وأتوا بيت المال فانتهبوه، وماج الناس، فالثاوي يسترجع ويبكي، والطارئ يسعى ويفرح.
وقتل عثمان يوم الجمعة لثمان عشرة من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، على رأس إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهراً واثنتين وعشرين يوماً من مقتل عمر بن الخطاب.
وبقي الناس فوضى، وندم القوم، فتخلى منهم الشيطان، وأتى الزبير الخبر بمقتل عثمان وهو حيث هو فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، رحم الله عثمان. وانتصر له وقيل له: إن القوم نادمون. فقال: ذئروا ذئروا " وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل(16/247)
بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب " وأتى طلحة الخبر فقال: يرحم الله عثمان وانتصر له وللإسلام، وقيل له: القوم نادمون، فقال: تباً لهم وقرأ " فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ". وأتى علياً الخبر فقيل: قتل عثمان فقال: رحم الله عثمان وخلف علينا بخير. وقيل: ندم القوم، فقرأ " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر " إلى آخر الآية. وطلب سعد فإذا هو في حائطه، وقال: لا أشهد قتله. فلما جاءه قتله قال: فررنا إلى المدينة بديننا فصرنا اليوم نفر منها بديننا، وقرأ: أولئك " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ". اللهم أندمهم ثم خذهم. وكان الزبير قد خرج أيضاً لئلا يشهد قتله كارهاً أن يقيم بالمدينة، فأقام على طريق مكة.
وعن الحسن بن أبي الحسن البصري قال: كان عثمان كخير ابني آدم.
قال أبو عوانة: كان القواد الذين ولوا قتله ستة: علقمة بن قيس، وكنانة بن بشر، وحكيم بن جبلة، والأشتر، وعبد الله بن بديل وحمران بن فلان أو فلان بن حمران.
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: كان لعثمان بن عفان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمس مئة ألف درهم وخمسون ومئة ألف دينار، فانتبهت وذهبت، وترك ألف بعير بالربذة، وترك صدقات كان تصدق بها ببئر أريس وخيبر ووادي القرى قيمة مئتي ألف دينار.(16/248)
قال عدي بن حاتم الطائي: سمعت صوتاً يوم قتل عثمان يقول: أبشر يا بن عفان بروح وريحان، أبشر يا بن عفان برب غير غضبان، أبشر يا بن عفان برضوان وغفران. قال: فالتفت فلم أر أحداً.
وعن سلمة قال: قال علي: لقد علمت عائشة أن جيش ذي المروة وأهل النهر ملعونون على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو بكر بن عياش: جيش ذي المروة قتلة عثمان.
وعن الزبير بن العوام: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل رجلاً من قريش وقال: لا يقتل بعد اليوم قرشي صبراً إلا رجل قتل عثمان فاقتلوه، فإن لم تقتلوه تقتلوا قتل الشاء.
وفي رواية: فإن لم تفعلوا فأبشروا بذبح مثل ذبح الشاة.
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لله سيفاً مغموداً في غمده ما دام عثمان بن عفان حياً، فإذا قتل عثمان جرد ذلك السيف فلم يغمد إلى يوم القيامة.
قال: في هذا الحديث عمرو بن فائد، وله أحاديث مناكير.
قال يزيد بن أبي حبيب: أعظم ما أتت هذه الأمة بعد نبيها ثلاث خلال: قتل عثمان بن عفان، وتحريقهم الكعبة، وأخذهم الجزية من المسلمين.
قال ابن الأعرابي: وقتل الحسين بن علي.(16/249)
قال رجل لطاوس: ما رأيت أحداً أجرأ على الله من فلان. لعامل ذكره، فقال طاوس: لم تر قاتل عثمان؟ وعن محمد بن سيرين قال: لو حل القتال في أهل القبلة حل يوم قتل عثمان.
وعن يزيد بن أبي حبيب قال: إن عامة الركب الذين خرجوا إلى عثمان جنوا.
قال ابن المبارك: الجنون لهم قليل.
وعن محمد بن سيرين قال: كنت أطوف بالكعبة فإذا رجل يقول: اللهم اغفر لي، وما أظن أن يغفر لي. قلت: يا عبد الله ما سمعت أحداً يقول ما تقول! قال: كنت أعطيت الله عهداً إن قدرت أن ألطم وجه عثمان إلا لطمته، فلما قتل وضع على سريره في البيت والناس يجيئون فيصلون عليه، فدخلت كأني أصلي عليه، فوجدت خلوة فرفعت الثوب عن وجهه فلطمت وجهه، وسجيته وقد يبست يميني، فرأيتها يابسة كأنها عود.
وعن حذيفة قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الدجال، والذي نفسي بيده لا يموت رجل وفي قلبه حبة من حب قتل عثمان إلا تبع الدجال إن أدركه، وإن لم يدركه آمن به في قبره.
وعن ابن عباس قال: لو أجمع الناس على قتل عثمان لرموا بالحجارة كما رمي قوم لوط.
وعن زهدم الجرمي قال: خطب ابن عباس فقال: لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء.
وعن أبي جعفر الأنصاري قال: لما دخل على عثمان يوم الدار خرجت فملأت فروجي، فمررت مجتازاً بالمسجد(16/250)
فإذا رجل قاعد في ظلة النساء، عليه عمامة سوداء، وحوله نحو من عشرة، فإذا هو علي، فقال: ما صنع الرجل؟ قلت: قتل الرجل، قال: تباً لهم آخر الدهر.
وعن ابن أبي ليلى قال: سمعت علياً وهو على باب المسجد أوعند أحجار الزيت رافعاً صوته: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان. فذكرت ذلك لعبد الملك بن مروان فقال: ما أرى له ذنباً. وقد روي أنه كان غائباً يوم قتل.
وعن الحسن قال: قتل عثمان وعلي غائب في أرض له، فلما بلغه قال: اللهم إني لم أرض ولم أمالئ.
وعن أبي العالية قال: لما أجيز على عثمان بن عفان دخل عليه علي بن أبي طالب فوقع عليه وجعل يبكي حتى قلنا: إنه سيلحق به. ثم قالوا: قد قتلنا الرجل فلمن نبايع؟ فقال علي: لمن سلت الله أنفه، فتقتلوه كما قتلتم هذا بالأمس! ثم أنشأ علي يقول:
عثمان لقيت حمام الحتف
فابشر بخير ما له من وصف
اليوم حقاً جاء يقين زحفي
قد قطعت رجلي وفيها خفي
أتى لكم الويل قتلتم سلفي
وفضله علي يعلو سقفي(16/251)
في رجز ذكره، اختصره صاحب الأصل.
وعن قيس بن عباد قال: سمعت علياً يوم الجمل يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي، وجاؤوني للبيعة فقلت: والله إني لأستحي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ": ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة! " وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل الأرض لم يدفن بعد. فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس يسألوني البيعة فقلت: اللهم إني لمشفق مما أقدم عليه، ثم جاء عزمة فبايعت. فلما قالوا: أمير المؤمنين، فكأن صدع قلبي وانسكبت بعبرة.
وعن ابن عباس قال: أشهد على علي بثلاث: أنه قال في عثمان: ما قتلت ولا أمرت، ولقد كنت كارهاً.
وفي رواية: ما أمرت ولا قتلت، ولقد نهيت.
وفي رواية: ولكني غلبت.
وعن علي بن ربيعة قال: قال علي بن أبي طالب: لوددت أن بني أمية قبلوا مني خمسين يميناً قسامة أحلف بها: ما أمرت بقتل عثمان ولا مالأت.(16/252)
وعن عبد الله بن أبي سفيان أن علياً قال: إن بني أمية يقاتلوني يزعمون أني قتلت عثمان، فكذبوا، إنما يلتمس الملك، فلو أعلم أن ما يذهب ما في قلوبهم أن أحلف لهم عند المقام: والله ما قتلت عثمان ولا أمرت بقتله، لفعلت، ولكن إنما يريدون الملك، وإني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله عز وجل " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين " قال خليد بن شريك: سمعت علي بن أبي طالب وهو على منبر الكوفة يقول: أي بني أمية، من شاء نفلت له يميني بين المقام والركن: ما قتلت عثمان ولا شركت في دمه.
قال أبو صالح: رأيت علي بن أبي طالب قاعداً في زرارة تحت السدرة، وانحدرت سفينة فقرأ " وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام " والذي أجراها مجراها ما قتلت عثمان ولا شايعت في قتله، ولا مالأت، ولقد غمني.
وعن حصين الحارثي قال: جاء علي إلى زيد بن أرقم يعوده وعنده قوم، قال: فما أدري أقال علي: اسكتوا أو أنصتوا، فوالله لا تسألوني عن شيء حتى أقوم إلا حدثتكم به. قال: فقال له زيد: أنشدك الله أنت قتلت عثمان؟ قال: فأطرق علي ساعة ثم رفع رأسه، قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما قتلته ولا أمرت بقتله.(16/253)
قال سالم بن أبي الجعد: كنت جالساً عند محمد بن الحنفية في الشعب، قال: فذكروا عثمان، قال: فنهانا محمد وقال: كفوا عن هذا الرجل، قال: ثم غدونا يوما آخر، قال: فنلنا منه أكثر مما كان قبل ذلك، فقال: ألم أنهكم عن هذا الرجل؟ قال: وابن عباس جالس عنده فقال: يا بن عباس، تذكر عشية الجمل وأنا على يمين علي في يدي الراية، وأنت عن يساره إذ سمع هدة في المربد، فأرسل رسولاً، فجاء الرسول فقال: هذه عائشة تلعن قتلة عثمان في المربد، قال: فرفع يديه حتى بلغ بهما وجهه، مرتين أو ثلاثاً، قال: وأنا ألعن قتلة عثمان، لعنهم الله في السهل والجبل. قال: فصدقه ابن عباس، ثم أقبل علينا فقال: في وفي هذا لكم شاهدا عدل.
وعن سليمان بن عبد الله بن فروخ قال: قيل لعلي يوم الجمل وهو في فسطاط صغير، وقد بلغنا النبل فقال: شيموا سيوفكم حتى صاحوا: يا ثارات عثمان! فقال علي، لقد نعوه، يا قنبر ائتني بلامتي. فلبسها فقال: ترسوا لي. فترسوه، فقال: ما قلتم؟ قال: قلنا: يا ثارات عثمان. فقال علي: أكب الله قتلة عثمان على مناخرهم.
قال عمير بن زوذي: قال علي بن أبي طالب: لئن لم يدخل الجنة إلا من قتل عثمان لا أدخلها، وإن لم يدخل النار إلا من قتله لا أدخلها. فأكثر الناس في ذلك، فقال: إنكم قد أكثرتم في وفي عثمان، والله قتله وأنا معه.
قال عباد: يعني قتله الله ويقتلني معه.
وعن حسان بن زيد قال: دخلت المسجد الأكبر مسجد الكوفة وعلي بن أبي طالب على المنبر يخطب الناس، وهو ينادي بأعلى صوته ثلاث مرات: يا أيها الناس، إنكم تكثرون في وفي ابن عفان، وإن مثلي ومثله كما قال الله عز وجل " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين "(16/254)
وعن قرة العين بنت جون الضبي قالت: كنت عند عبد الله بن سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فجاء قنبر فسلم فقال: لا سلم الله عليك. فقلت: سبحان الله! تقول هذا لمولى عمك! قال: إن هذا يأتي أهل العراق فيقول: قال ابن عفان، وأنا سمعت علياً يقول: قاتل الله هؤلاء المفضلي على ابن عفان، والمفضلي ابن عفان علي، ما أقل علمهم بالله، والله إني لأرجو أن أكون أنا وابن عفان من الذين قال الله تعالى: " إخواناً على سرر متقابلين " وعن أنس بن مالك قال: لأن أشهد عشر مرار أن علياً وعثمان رضي الله عنهما في الجنة، فينزع الله عز وجل ما في قلوبهما من غل أحب إلي من أن أشهد شهادة واحدة أنهما ليسا كذلك.
وعن علي بن أبي طالب: في قوله: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " قال: عثمان وأصحابه.
وعن عبد الرحمن ومحمد ابني حاطب: أن رجلاً أتى علياً يسأله عن عثمان وعنده أصحابه فكلهم قال: كافر. فقال الرجل: إني لست أسألكم إنما أسأل أمير المؤمنين. فقال علي: في عثمان وأصحابه نزلت " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ".
وعن النعمان بن بشير قال: كنا مع علي بن أبي طالب في مسجد الكوفة وهو مجتنح لشقه، فخضنا في عثمان وطلحة والزبير، فاجتنح لشقه الآخر، فقال: فيم خضتم؟ قلنا: خضنا في عثمان وطلحة والزبير وحسبناك نائماً، فقال علي: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " وإن ذاك عثمان وطلحة والزبير، وأنا من شيعة عثمان وطلحة والزبير. ثم(16/255)
قال: " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين " ذاك عثمان وطلحة والزبير، وأنا من شيعة عثمان وطلحة والزبير.
وحدث عبد بن سعيد عن أبيه قال: كنا جلوساً عند علي بن أبي طالب، وعن يمينه عمار بن ياسر، وعن يساره محمد بن أبي بكر إذ جاءه عراب بن فلان الصيدفي فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقول في عثمان؟ فبدره الرجلان فقالا: عم تسأل، عن رجل كفر بالله من بعد إيمانه ونافق!؟ فقال الرجل لهما: لست إياكما أسأل، ولا إليكما جئت. فقال له علي: لست أقول ما قالا. فقالا له جميعاً: فلم قتلناه إذاً؟! قال: ولي عليكم فأساء الولاية في آخر أيامه، وجزعتم فأسأتم الجزع، والله إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان كما قال الله عز وجل: " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين ".
قال محمد بن حاطب: كنت مع علي بالبصرة، فلما هدأت الحرب قلت: يا أمير المؤمنين، ما أرد على قومي إذا سألوني عن قتل هذا الرجل؟ قال: أنا وعثمان مثلما وصف الله في كتابه " ونزعنا ما في صدورهم من غل " الآية. إذا قدمت فأبلغهم أن عثمان من الذين اتقوا، ثم آمنوا ثم اتقوا، وعلى ربهم يتوكلون.
قال عبد الله بن الحارث: دخل علي على نسائه وهن يبكين، فقال: ما يبكيكن؟ قلن: ذكرن عثمان والزبير وقرابتهما منك، قال: فإني وإياهما من الذين قال الله تعالى " إخواناً على سرر متقابلين ".
وعن يوسف بن سعد مولى عثمان بن مظعون قال: قال لي ابن حاطب: لو شهدت اليوم شهدت عجباً. قال: قلت: ما هو؟ قال:(16/256)
فإن علياً وعماراً ومالكاً وصعصعة اجتمعوا في دار نافع فذكروا عثمان، فقال علي: يا أبا اليقظان، لقد سبق في عثمان من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوابق، لا يعذبه الله بعدها أبداً.
وعن علي قال: أتاه رجل فقال: إني أبغض عثمان، فقال: مهلاً فإنهم يعني أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والكافرين الذين أنزل الله فيهم " الذين يحملون العرش ومن حوله " إلى " للذين آمنوا " أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تابوا " من الشرك " واتبعوا " الرسول إلى " الذين كفروا ينادون " فإياكم أن تكونوا ببغضه منهم.
وعن مطرف بن الشخير قال: لقيني علي بن أبي طالب يوم الجمل فقال لي: أحب عثمان شغلك عنا؟ قال: فسكت لمن معه من الناس، فلما رأيت منه خلوة أقبل نحوي قال: قلت: أنا أحق بالسرعة. قال: فحركت. فقال: إن تفعل فإنه كان أتقانا للرب، وأوصلنا للرحم.
وفي حديث بمعناه: فقد كان والله خيرنا وأبرنا وأوصلنا.
قال الأوزاعي: قيل لعلي بن أبي طالب: أقتل عثمان منافقاً؟ قال: لا، ولكنه ولي فاستأثر، وجزعنا فأسأنا، وكل سيرجع إلى حكم عدل، فإن تكن الفتنة أصابتنا أو خبطتنا فبما شاء الله.
وعن عمير بن زوذي قال: خطب علي عليه السلام فقطعوا عليه خطبته فنزل، فدخل فقال: إنما(16/257)
مثلي ومثل عثمان مثل ثلاثة أثوار كن في غيضة: أبيض وأحمر وأسود، معهم فيها أسد، كان كلما أراد واحداً منهم اجتمعوا عليه فلم يطقهم، فقال للأسود وللأحمر: إن هذا الأبيض يفضحنا في غيضتنا، يرى بياضه، خليا عنه كيما آكله، ثم أكون أنا وأنتما، فلوني على ألوانكما وألوانكما على لوني. قال: فخليا عنه، فلم يلبثه أن أكله، قال: ثم كان كلما أراد واحداً منهما اجتمعا عليه، فلم يطقهما فقال للأحمر: إن هذا الأسود يفضحنا في غيضتنا، يرى سواده، فخل عني كيما آكله، ثم أكون أنا وأنت، فلوني على لونك ولونك على لوني. قال: فتركه فلم يلبثه أن أكله، قال: فلبث ثم قال: يا أحمر إني آكلك. قال: تأكلني؟ قال: نعم. قال: فخل عني أصوات ثلاثة أصوات. قال: ثم قال: ألا إني إنما أكلت يوم أكل الأبيض، ألا إني إنما أكلت يوم أكل الأبيض، ألا إني إنما أكلت يوم أكل الأبيض. قال: ثم قال علي: وأنا إنما وهنت يوم قتل عثمان قال ذلك ثلاثاً ألا وإني وهنت يوم قتل عثمان، ألا إني وهنت يوم قتل عثمان.
قالوا: كانت المرأة تجيء في زمان عثمان إلى بيت المال فتحمل وقرها ثم تقول: اللهم بدل اللهم غير. فقال حسان بن ثابت حين قتل عثمان: من الرمل:
قتلتم بدل فبدلتم به ... سنة حرى وحرباً كاللهب
ما نقمتم من ثياب خلفة ... وعبيد وإماء ذهب
وقال أبو حميد أخو ساعدة، وكان فيمن شهد بدراً، وكان فيمن جانب عثمان، فلما قتل قال: والله ما أردنا قتله، ولاكنا ترى أن يبلغ منه القتل، اللهم إن لك علي ألا أفعل كذا ولاأضحك حتى ألقاك.(16/258)
وعن الحسن من حديث قال: لما كانت الفتن جعل رجل يسأل عن أفضل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أنفسهم، لا يسأل أحد إلا قالوا له: سعد بن مالك وقيل له: إن سعداً رجل إن رفقت به كنت قمناً أن تصيب منه حاجتك، وإن خرقت به كنت قمناً ألا تصيب منه شيئاً، فجلس إليه أياماً لا يسأله عن شيء حتى استأنس إليه، ثم قال: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى " إلى قوله: " ويلعنهم اللاعنون " فقال سعد: مه، لأن قلت لا جرم لا تسألني عن شيء أعلمه إلا خبرتك به. فقال له: ما تقول في عثمان؟ قال: كان إذ كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحسننا وضوءاً، وأطولنا صلاةً، وأعظمه نفقة في سبيل الله عز وجل، ثم ولي المسلمين زماناً لا ينكرون منه شيئاً، ثم أنكروا منه أشياء، فما أتوا إليه أعظم مما أتى إليهم، فقلت له: هذا علي يدعو الناس وهذا معاوية يدعو الناس، وفد جلس عنهما عامة أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال سعد: أما إني لا أحدثك ما سمعته من وراء وراء، ما أحدثك إلا ما سمعته أذناي ووعاه قلبي، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول ولا تقتل أحداً من أهل القبلة فافعل ".
وعن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص سمعت أباها يقول: ألا لعن الله من لعن علياً، ألا لعن الله من لعن عثمان إنهما الفئتان التي قال الله " حتى تفيء إلى أمر الله ".
وعن عبد الله بن عمرو قال: يكون على هذه الأمة اثنا عشر خليفة، منهم أبو بكر الصديق، أصبتم اسمه، وعمر بن الخطاب الفاروق قرن من حديد، أصبتم اسمه، عثمان بن عفان ذا النورين، أوتي كفلين من الرحمة، قتل مظلوماً، أصبتم اسمه.(16/259)
وعن عقبة السدوسي قال: كنا جلوساً إلى عبد الله بن عمرو بن العاص في بيت المقدس، فقال: أبو بكر الصديق أصبت اسمه، عمر الفاروق قرن من حديد، أصبت اسمه، عثمان ذو النورين، أوتي كفلين من الرحمة، قتل مظلوماً. ثم سكت فقال له رجل من أهل الشام: ألا تذكر أمير المؤمنين معاوية؟ فقال: ملك الأرض المقدسة.
ولم يحدثنا محمد بن سيرين قط بهذا الحديث إلا أتبعه: أنبئت أن أبا الجلد كان يقول: يبعث على الناس ملوك بذنوبهم.
وعن زهدم الجرمي قال: كنت في سمر ابن عباس فقال: لأحدثنكم حديثاً ليس بسر ولا علانية: إنه لما كان من أمر هذا الرجل ما كان يعني عثمان قلت لعلي: اعتزل هذا الأمر، فوالله لو كنت في جحر لأتاك الناس حتى يبايعوك. فعصاني، وأيم الله ليتأمرن عليه معاوية، وذلك بأن الله يقول " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً ".
وعن أبي موسى الأشعري قال: لو كان قتل عثمان هدى لاحتلبت به الأمة لبناً، ولكنه كان ضلالاً فاحتلبت به الأمة دماً.
وحدث من سمع عبد الله بن سلام يقول يوم قتل عثمان: اليوم هلكت العرب.
وعن عبد الرحمن بن جبير قال: انصرف عبد الله بن سلام إلى منزله، فإذا هو برجلين يمشيان أمامه وهو خلفهما، يقول أحدهما للآخر: يا هناه، لمن ترى الأمر بعد عثمان؟ فقال له صاحبه: والله(16/260)
والله لا تنتطح في عثمان شاتان فسمعه ابن سلام فقال: أجل إن الغنم والبقر لا تنتطح في قتل خليفة إذا قتل، ولكن تنتطح فيه الرجال بالسلاح، والله ليقتلن به أقوام إنهم لفي أصلاب آبائهم ما ولدوا بعد.
وعن أبي مريم قال: رأيت أبا هريرة يوم قتل عثمان وله ضفيرتان وهو ممسك بهما، وهو يقول: اضربوا عنقي، قتل والله عثمان على غير وجه الحق.
وعن الحسن بن علي قال: ما كنت لأقاتل بعد رؤيا رأيتها، رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واضعاً يده على العرش ورأيت أبا بكر واضعاً يده على منكب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورأيت عمر واضعاً يده على منكب أبي بكر، ورأيت عثمان واضعاً يده على منكب عمر، ورأيت دماً دونهم، قلت: ما هذا الدم؟ قالوا: هذا دم عثمان يطلب الله به.
وعن مسروق قال: قالت عائشة حين قتل عثمان: تركتموه كالثوب النقي من الدنس، ثم قربتموه فذبحتموه كما يذبح الكبش، فهلا كان هذا قبل هذا! فقال لها مسروق: هذا عملك أنت، كتبت إلى الناس تأمرينهم أن يخرجوا إليه. فقالت عائشة: لا والذي آمن به المؤمنون، وكفر به الكافرون، ما كتبت إليهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا.
قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها.
وعن عائشة قال: كان الناس يختلفون إلي في عتب عثمان، ولا أرى إلا أنها معاتبة، وأما الدم، فأعود بالله من دمه، فوالله لوددت أني عشت في الدنيا برصاء سالخ، وأني لم أذكر عثمان بكلمة(16/261)
قط، وأيم الله لإصبع عثمان التي يشير بها إلى الأرض خير من طلاع الأرض مثل فلان.
وعن عائشة أنها قالت: لقد آذيت عثمان فأوذيت، وأشخصت عثمان، لو قتله لقتلت.
وعن طلق بن خشاف قال: قتل عثمان افترقنا في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نسألهم عن قتله، فسمعت عائشة رضي الله عنها قالت: قتل مظلوماً، لعن الله قتلته.
وعن زيد بن صوحان: أنه قال يوم قتل عثمان: اليوم نفرت القلوب منافرها، والذي نفسي بيده لا تتألف إلى يوم القيامة.
وعن أبي مسلم الخولاني: أنه مر به رجال من أهل المدينة قدموا منها، وهو عند معاوية بدمشق، فلقيهم أبو مسلم فقال لهم: هل مررتم بإخوانكم من أهل الحجر؟ فقالوا: نعم، فقال: كيف رأيتم صنيع الله عز وجل بهم؟ قالوا: بذنوبهم، قال: فإني أشهدكم أنكم عند الله مثلهم. فدخلوا على معاوية فقالوا: ما لقينا من هذا الشيخ الذي خرج من عندك؟! فبعث إليه فجاءه فقال له: يا أبا مسلم، مالك ولبني أخيك؟ قال: قلت لهم: مررتم على أهل الحجر؟ قالوا: نعم، قلت: كيف رأيتم صنيع الله بهم؟ قال: صنع الله ذلك بهم بذنوبهم، فقلت: أشهد أنكم عند الله مثلهم. فقال: وكيف يا أبا مسلم؟ قال: قتلوا ناقة الله، وقتلتم خليفة الله، وأشهد على ربي لخليفته أكرم عليه من ناقته.
وحدث ابن طاوس عن أبيه قال: لما وقعت فتنة عثمان قال رجل لأهله: أوثقوني بالحديد فإني مجنون، فلما قتل(16/262)
عثمان قال: خلوا عني فالحمد لله الذي شفاني من الجنون وعافاني من قتل عثمان.
وحدث هشام عن محمد قال: لم تر هذه الحمرة التي في آفاق السماء حتى قتل الحسين بن علي، ولم تفقد الخيل البلق في المغازي حتى قتل عثمان.
وعن إبراهيم النخعي قال: لما نزلت " ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " قالوا: فيم الخصومة ونحن إخوان؟! فلما قتل عثمان بن عفان قالوا: هذه خصومتنا.
قال الشعبي: لقي مسروق الأشتر، فقال مسروق للأشتر: قتلتم عثمان؟ قال: نعم. قال: أما والله لقد قتلتموه صواماً قواماً. قال: فانطلق الأشتر فأخبر عماراً، فأتى عمار مسروقاً فقال: والله ليجلدن عماراً وليسيرن أبا ذر وليحمين الحمى، وتقول: قتلتموه صواماً قواماً؟! فقال له مسروق: فوالله ما فعلتم واحدة من ثنتين: ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، وما صبرتم فهو خير للصابرين. قال: فكأنما ألقمه حجراً.
وقال الشعبي: وما ولدت همدانية مثل مسروق.
وفن حديث عن كثير بن مروان الفلسطيني قال: سألت جعفر ابن برقان عما اختلف الناس فيه من أمر عثمان وعلي وطلحة والزبير ومعاوية، وعن قول العامة في ذلك، فقال جعفر بن برقان، قال ميمون بن مهران: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبايع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم أبا بكر رضي الله عنه وساق الحديث إلى قتل عثمان.
قال كثير بن مروان: فقلت لجعفر بن برقان: فما الذي نقموا على(16/263)
عثمان؟ قال جعفر: قال ميمون: إن أناساً أنكروا على عثمان، وجاؤوا بما هو أنكر منه، أنكروا عليه أمراً هم فيه كذبة، وإنهم عاتبوه، فكان فيما عاتبوه أنه ولى رجلاً من أهل بيته، فأعتبهم وأرضاهم، وعزل من كرهوا واستعمل من أرادوا، ثم إن فساقاً من أهل مصر، وسفهاء من أهل المدينة دعاهم أشقاهم إلى قتل عثمان، فدخلوا عليه منزله، وهو جالس يتلو فيه كتاب الله، ومعهم السلاح فقتلوه صابراً محتسباً، رحمه الله.
وإن الناس افترقوا عن قتله أربع فرق، ثم فصل منهم صنف آخر، فصاروا خمسة أصناف: شيعة عثمان، وشيعة علي، والمرجئة، ومن لزم الجماعة، ثم خرجت الخوارج بعد، حيث حكم علي الحكمين، فصاروا خمسة أصناف.
فأما شيعة عثمان فأهل الشام وأهل البصرة، قال أهل البصرة: ليس أحد أولى بطلب دم عثمان من طلحة والزبير لأنهما من أهل الشورى، وقال أهل الشام: ليس أحد أولى بطلب دم عثمان من أسرة عثمان وقرابته، ولا أقوى على ذلك يعنون من معاوية، وإنهم جميعاً برئوا من علي وشيعته.
وأما شيعة علي فهم أهل الكوفة.
وأما المرجئة فهم الشكاك الذين شكوا، وكانوا في المغازي، فلما قدموا المدينة بعد قتل عثمان، وكان عهدهم بالناس وأمرهم واحد ليس فيهم اختلاف، فقالوا: تركناكم وأمركم واحد ليس فيكم اختلاف، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون، فبعضكم يقول: قتل عثمان مظلوماً، وكان أولى بالعدل وأصحابه، وبعضكم يقول: كان علي أولى بالحق، وأصحابه كلهم ثقة، وعندنا مصدق، فنحن لا نتبرأ منهما ولا نلعنهما ولا نشهد عليهما، ونرجئ أمرهما إلى الله حتى يكون الله هو الذي يحكم بينهما.
وأما من لزم الجماعة فهم: سعد بن أبي وقاص، وأبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وحبيب بن مسلمة الفهري، وصهيب بن سنان، ومحمد بن مسلمة،(16/264)
في أكثر من عشرة آلاف من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين لهم بإحسان، قالوا جميعاً: نتولى عثمان وعلياً، ولا نتبرأ منهما، ونشهد عليهم وعلى شيعتهما بالإيمان، ونرجو لهم ونخاف عليهم.
وأما الصنف الخامس فهم الحرورية، قالوا: نشهد على المرجئة بالصواب، ومن قولهم حيث قالوا: لا نتولى علياً ولا عثمان ثم كفروا بعد، حيث لم يتبرؤوا ونشهد على أهل الجماعة بالكفر.
قال ميمون بن مهران: وهذا أول ما وقع الاختلاف، وقد بلغوا أكثر من سبعين صنفاً. وقد كان بعض من خرج من هذه الأصناف دعوا سعد بن أبي وقاص إلى الخروج معهم، فأبى عليهم سعد وقال: لا، إلا أن تعطوني سيفاً له عينان بصيرتان، ولسان ينطق بالكافر فأقتله، وبالمؤمن فأكف عنه، وضرب لهم سعد مثلاً فقال: مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجة، والمحجة البيضاء الواضحة، فيناهم كذلك يسيرون هاجت ريح عجاجة، فضلوا الطريق، فقال بعضهم: الطريق ذات اليمين، فأخذوا فيه، فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: الطريق ذات الشمال، فأخذوا فيه فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: كنا على الطريق حيث هاجت الريح، فننيخ، فأناخوا وأصبحوا، فذهبت الريح وتبين الطريق. فهؤلاء هم أهل الجماعة. قالوا: نلزم ما فارقنا عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نلقاه، ولا ندخل في شيء من الفتن، فصارت الجماعة والفئة التي تدعى فئة الإسلام، ما كان عليه سعد بن أبي وقاص وأصحابه الذين اعتزلوا الفتن، حتى أذهب الله الفرقة وجمع الألفة، فدخلوا الجماعة، ولزموا الطاعة وانقادوا لها، فمن فعل ذلك ولزمه نجا، ومن لم يلزمه وشك فيه وقع في المهالك.
قال سعد بن عبيدة: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان، فذكر محاسن عمله، فقال: لعل ذاك يسوؤك؟ قال: نعم. قال: فأرغم الله عز وجل بأنفك. قال: ثم سأله عن علي، فذكر محاسن عمله ثم قال: هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قال: لعل ذلك يسوؤك؟ قال: أجل. قال: فأرغم الله بأنفك، انطلق فاجهد علي جهدك.(16/265)
قال أبو حازم: كنت عند عبد الله بن عمر بن الخطاب فذكر عثمان وذكر فضله ومناقبه وقرابته حتى تركه أنقى من الزجاجة، ثم قال: من أراد أن يذكر هذين فليذكرهما هكذا أو فليدع.
وعن أنس بن مالك قال: يقولون: لا يجتمع حب علي وعثمان في قلب مؤمن. وكذبوا، والله الذي لا إله إلا هو لقد اجتمع حبهما في قلوبنا.
قال الثوري: لا يجتمع حب علي وعثمان إلا في قلوب نبلاء الرجال.
قال حماد بن سلمة: سمعت أيوب يقول: من أحب أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحب علياً فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
قال حماد: فقلت لأيوب: أتحفظ هذا؟ قال: نعم فاحفظوه وعلموه أبناءكم، وليعلمه أبناؤكم أبناءهم.
قال طلحة بن مصرف: أبى قلبي إلا حب عثمان عليه السلام.
قيل ليزيد بن هارون: لم تحدث بفضائل عثمان ولا تحدث بفضائل علي؟ فقال: إن أصحاب عثمان مأمونون على علي، وأصحاب علي ليس بالمأمونين على عثمان.
قال سفيان: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى على اثني عشر ألفاً قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عنهم راض، الذين أجمعوا على بيعة عثمان.
وعن سفيان الثوري قال: من قدم علياً على أبي بكر وعمر فقد أزرى على المهاجرين والأنصار، وأخاف ألا ينفعه مع ذلك عمل.(16/266)
قال عبد الله بن داود: من قدم عثمان على علي رضي الله عنهما فحجته قوية لأن الخمسة اختاروه.
قال حرملة: سمعت الشافعي يقول: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، يعني في الفضل والخلافة.
قيل لأحمد بن حنبل: إلى ما تذهب في الخلافة؟ قال: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. فقيل له: كأنك تذهب إلى حديث سفينة؟ قال: أذهب إلى حديث سفينة وإلى شيء آخر، رأيت علياً في زمن أبي بكر وعثمان لم يتسم أمير المؤمنين، ولم يقم الجمعة والحدود، ثم رأيته بعد قتل عثمان قد فعل ذلك، فعلمت أنه قد وجب له في ذلك الوقت ما لم يكن قبل ذلك.
قال محمد بن منصور الطوسي لأحمد بن حنبل: بلغني أن قوماً يقولون: أبو بكر وعمر وعثمان. ثم يسكت، فقال: هذا كلام سوء.
قال أبو الحسن الدارقطني: اختلف قوم من أهل بغداد من أهل العلم، فقال قوم: عثمان أفضل، وقال قوم: علي أفضل، فتحاكموا إلي فيه، فسألوني عنه، فأمسكت عنه وقلت: الإمساك عنه خير، ثم لم أر لديني السكوت، قلت: دعهم يقولون في ما أحبوا، فدعوت الذي جاءني مستفتياً وقلت: ارجع إليهم وقل: أبو الحسن يقول: عثمان بن عفان أفضل من علي بن أبي طالب باتفاق جماعة أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا قول أهل السنة، وهو أول عقد يحل في الرفض.
سئل مالك بن أنس عن علي وعثمان فقال: ما أدركت أحداً أقتدي به إلا وهو يقدم أبا بكر وعمر ويمسك عن علي وعثمان.
وعن مغيرة قال: تحول جرير بن عبد الله وحنظلة وعدي بن حاتم من الكوفة إلى قرقيسياء،(16/267)
وقالوا: لا نقيم ببلد يشتم فيه عثمان.
قال بشير أبو النصر: أتيت الحسن فقلت: إني أحب الله ورسوله وأحب علياً، وأقوام عندنا يقولون: إن لم تسب عثمان لم يغن عنك حب علي. فقال: يا بني، إن الذي يأمرك بهذا لعثمان خير منه ومني ومنك، زوجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنته أم كلثوم، أفترى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان جاهلاً أن يزوج خبيثاً؟ فماتت عنده، ثم زوجه ابنته رقية، فلو كان جهل أمره أكان يجهل الثانية، وجهز جيش العسرة من ماله، وكان مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى فارق الدنيا. فينبغي لك أن تسب رجلاً كانت هذه الأشياء له من المناقب والمكرمات؟!.
قال علي بن زيد: كنت جالساً عند سعيد بن المسيب فقال: قل لقائدك يذهب ينظر إلى هذا الرجل حتى أحدثك. قال: فذهب فقال: رأيت رجلاً أسود الوجه أبيض الجسد. فقال سعيد: إن هذا كان يسب علياً وعثمان وطلحة والزبير. فقلت: إن كان كاذباً سود الله وجهه، قال: فخرجت بوجهه قرحة فاسود وجهه.
قال أبو نضرة: كنا بالمدينة فنال رجل من عثمان رضي الله عنه، فنهيناه، فأبى أن ينتهي، فأرعدت، فجاءت صاعقة فأحرقته.
قال قتادة: ما سب أحد عثمان إلا افتقر.
قتل عثمان رضي الله عنه لثمان عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. وقيل: قتل في عشر ذي الحجة. وقيل: قتل يوم النحر، وفيه يقول الفرزدق: من الكامل:
عثمان إذ قتلوه وانتهكوا ... دمه صبيحة ليلة النحر.(16/268)
وقال نابغة بني جعدة: من الرمل:
وابن عفان حنيفاً مسلماً ... ولحوم الإبل لما تنتفل.
وقال القاسم بن أمية بن أبي الصلت: من الطويل:
لعمري لبئس الذبح ضحيتم به ... خلاف رسول الله يوم الأضاحيا
وتوفي وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، وقيل: إحدى وثمانين، وقيل: ابن نيف وسبعين. وقيل: ابن ثمان وثمانين أو تسع وثمانين.
وقال الزهري: قتل وهو ما بين الثمانين إلى التسعين.
وحمله جبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وأبو جهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وصلى عليه جبير بن مطعم، وكانت معه امرأتاه: أم البنين بنت عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارية، ونائلة بنت الفرافصة الكلبية. وزعم آل مالك بن أنس أن بن أبي عامر شهده معهم.
وبعث قيس بن مخرمة إلى عثمان بكفن حين قتل، فقالت امرأته رملة: وصلتك رحم، عندنا ما نكفنه.
وعن جماعة من الرواة: أن عثمان قتل لثمان عشرة خلت من ذي الحجة في آخر ساعة، دخلوا عليه وهو يدعو: اللهم لا تكلني إلى نفسي فتعجز عني، ولا إلى الدنيا فتغرني، ولا إلى الناس فيخذلوني، ولكن تول أنت صلاح آخرتي التي أصير إليها، وأخرجني من الدنيا سالماً، اللهم حل بينهم وبين ما يشتهون من الدنيا، وبغضهم إلى خلقك واجعلهم شيناً على من تولاهم، أما والله لولا أنها ساعة الجمعة وأني أمرت أن أدعو عليكم لما فعلت، ولصبرت. فقتل رحمه الله، فقتل قاتله، وقتل ناصره، وأغلق الباب على ثلاثة قتلى وفي الدار أحد المصريين،(16/269)
وقيل قاتله فقالت نائلة لعبد الرحمن بن عديس: إنك أمس القوم بي رحماً وأولادهم بأن تقوم بأمري، أغرب عني هؤلاء الأموات. فشتمها وزجرها، حتى إذا كان في جوف الليل خرج مرزان حتى يأتي دار عثمان، فأتاه زيد بن ثابت، وطلحة بن عبيد الله، وعلي، والحسن، وكعب بن مالك، وعامة من ثم من الصحابة، وتوافى إلى موضع الجنائز صبيان ونساء، فأخرجوا عثمان فصلى عليه مروان، ثم خرجوا به حتى انتهوا به إلى البقيع فدفنوه فيه مما يلي حشان كوكب، حتى إذا أصبحوا أتوا أعبد عثمان فأخرجوهم، فرأوهم فمنعمهم من أن يدفنوهم، فأدخلوهم حشان كوكب، فلما انقشوا خرجوا بهما فدفنوهما إلى جنب عثمان، ومع كل واحد منهما خمسة نفر وامرأة، فاطمة أم إبراهيم بن عربي.
ثم رجعوا فأتوا كنانة بن بشر فقالوا: إنك أمس القوم بنا رحماً فأمر بهاتين الجيفتين اللتين في الدار أن تخرجا. فكلمهم في ذلك فأبوا، فقال: أنا جار لآل عثمان من أهل مصر ومن لفهم، فأخرجوهما فارموا بهما. فجر بأرجلهما فرمي بهما في البلاط، فأكلتهما الكلاب. وكان العبدان اللذان قتلا يوم الدار يقال لهما: نجيح وصبيح، فكان اسماهما الغالب على أسماء الرقيق لفضلهما وبلائهما، ولم يحفظ الناس اسم الثالث.
وقتل رحمه الله يوم الجمعة، ودفن ليلة يوم السبت في جوف الليل، وكان شهيداً فلم يغسل، كفن في ثيابه ودمائه، ولا غلاميه، وترك الآخرون بالبلاط حتى أكلتهم الكلاب.
وكان القوم يتخذون الحشيش في ذلك الزمان كما يتخذ أهل هذا الزمان الأرياف وأهل الأرياف القرط والفصافص،(16/270)
لما دفن خرجت ابنته تبكي في أثره ونائلة بنت الفرافصة، وحضره من أراد المقام والخروج. وندم القوم وسقط في أيديهم. ولما صلي عليه خرج من خرج وأقام من أقام، وأزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقلن: هجم البلاء وانكفأ الإسلام.
وقال قتادة: صلى الزبير على عثمان ودفنه وكان أوصى إليه.
ولما حج معاوية نظر إلى بيوت أسلم شوارع في السوق فقال: أظلموا عليهم بيوتهم أظلم الله عليهم قبورهم، هم قتلة عثمان. قال: نيار بن مكرم: فخرجت إليه فقلت: الله! إن بيتي يظلم علي وأنا رابع أربعة حملنا أمير المؤمنين وقبرناه وصلينا عليه! فعرفه معاوية فقال: اقطعوا البناء، لا تبنوا على وجه داره، قال: ثم دعاني خالياً فقال: متى حملتموه؟ ومتى قبرتموه؟ ومن صلى عليه؟ فقلت: حملناه رحمه الله ليلة السبت بين المغرب والعشاء، فكنت أنا وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام وأبو جهم بن حذيفة العدوي، وتقدم جبير بن مطعم فصلى عليه. فصدقه معاوية. وكانوا هم الذين نزلوا في حفرته.
وفي حديث بمعناه: فتقدم أبو جهم بن حذيفة فصلى عليه، فصدقه معاوية.
قال محمد بن يوسف: وخرجت نائلة بنت الفرافصة تلك الليلة وقد شقت جيبها قبلاً ودبراً، ومعها سراج وهي تصيح: وا أمير المؤمنيناه!. قال: فقال جبير بن مطعم: أطفئي السراج لا يفطن بنا فقد رأيت الغواة الذين على الباب. فأطفأت السراج. وانتهوا إلى البقيع فصلى عليه جبير بن مطعم وخلفه حكيم بن حزام وأبو جهم بن حذيفة ونيار بن مكرم الأسلمي، ونائلة بنت الفرافصة وأم البنين بنت عيينة امرأتاه، ونزل في حفرته نيار بن مكرم وأبو جهم بن حذيفة وجبير بن مطعم، وكان حكيم بن حزام وأم البنين ونائلة يدلونه على الرجال حتى لحد له وبني عليه وغيبوا قبره وتفرقوا.
وقيل: إن جبير بن مطعم صلى على عثمان في ستة عشر رجلاً، بجبير سبعة عشر.(16/271)
قال ابن سعد: الحديث الأول: صلى عليه أربعة. أثبت.
وقيل: صلي عليه في ثمانية.
وقيل: صلي عليه المسور بن مخرمة.
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما قتل عثمان مكث ثلاثاً لا يدفن، حتى هتف بهم هاتف: أن ادفنوه ولا تصلوا عليه فإن الله قد صلى عليه.
وعن عروة قال: لما منعوا الصلاة على عثمان قال أبو جهم بن حذيفة: إن تمنعوا الصلاة عليه فقد صلى الله عليه وملائكته.
وعن مالك بن أبي عامر قال: كنت أحد حملة عثمان بن عفان حين توفي، حملناه على باب، وإن رأسه ليقرع الباب لإسراعنا به، وإن بنا من الخوف لأمر عظيماً حتى واريناه في قبره في حش كوكب.
قال عبد الملك بن الماجشون: سمعت مالكاً يقول: قتل عثمان فأقام مطروحاً على كناسة بني فلان ثلاثاً، فأتاه اثنا عشر رجلاً فيهم جدي مالك بن أبي عامر، وحويطب بن عبد العزى، وحكيم بن حزام، وعبد الله بن الزبير، وعائشة بنت عثمان، معهم مصباح في حق، فحملوه على باب وإن رأسه يقول على الباب: طق طق، حتى أتوا به البقيع، فاختلفوا في الصلاة عليه، فصلى عليه حكيم بن حزام أوحويطب بن عبد العزى، وقام رجل من بني مازن فقال: والله لئن دفنتموه مع المسلمين لأخبرن الناس فحملوه حتى أتوا به إلى حش كوكب، ولما دلوه في قبره صاحت عائشة بنت عثمان، فقال لها ابن الزبير: اسكتي، فوالله لئن عدت لأضربن الذي(16/272)
فيه عيناك. فلما دفنوه وسووا عليه التراب قال لها ابن الزبير: صيحي ما بدا لك أن تصيحي.
قال مالك: وكان عثمان بن عفان قبل ذلك يمر بحش كوكب فيقول: ليدفنن هنا رجل صالح، فيأتسي الناس، فكان عثمان أول من دفن هناك.
وعن ابن عباس قال: لما قتل عثمان بن عفان رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامي، فمر بي فسلم علي، فقلت: حبيبي رسول الله ألا تقف حتى أشتفي منك بالنظر؟ قال: إني مستعجل، إن إبراهيم وأخي موسى منتظرون لي لزفاف عثمان الليلة.
وعن مطرف: أنه رأى عثمان بن عفان فيما يرى النائم فقال: رأيت عليه ثياب خضر، قلت: يا أمير المؤمنين، كيف فعل الله بك؟ قال: فعل الله بي خيراً، قلت: يا أمير المؤمنين، أي الدين خير؟ قال: الدين القيم ليس يسفك الدم.
ونظم الشعراء فيه عدة مراث.
قال الشعبي: ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك وقيل: هي للمغيرة بن الأخنس، وقيل لغيره: من الطويل:
فكف يديه ثم أغلق بابه ... وأيقن أن الله ليس بغافل.
وقال لأهل الدار لا تقتلوهم ... عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل.
فكيف رأيت الله صب عليهم ال ... عداوة والبغضاء بعد التواصل
وكيف رأيت الخير أدبر بعده ... عن الناس إدبار النعام الجوافل(16/273)
وقال الوليد بن عقبة: من الطويل:
بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم ... ولا تنهبوه ما تحل مناهبه
بني هاشم إلا تردوا فإننا ... سواء علينا قاتلاه وسالبه
بني هاشم كيف الهوادة بيننا ... وسيف ابن أروى عندكم وحرائبه
قتلتم أمير المؤمنين خيانة ... كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه
فوالله لا أنسى ابن أمي عيشتي ... وهل ينسين الماء من كان شاربه
هو الأنف والعينان مني فليس لي ... سوى الأنف والعينين وجهاً أعاتبه
قال عثمان بن مرة: حدثتني أمي قالت: سمعت الجن بكت على عثمان بن عفان فوق مسجد المدينة، فكانت تنشد ما قالوا: من مجزوء الرمل:
ليلة المسجد إذ ير ... مون بالصخر الصلاب
ثم قاموا بكرة ين ... عون صقراً كالشهاب
زينهم في الحي والمج ... لس فكاك الرقاب(16/274)
عثمان بن علي بن عبد الله
أبو القاسم البغدادي المعروف بالوقاياتي.
قدم دمشق سنة اثنتين وخمس مئة.
وحدث عن أبي الخطاب نصر بن أحمد القارئ إلى أبي رزين قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت، والرؤيا جزء من أربعين أو ستة وأربعين جزءاً من النبوة ". قال: وأحسبه قال: لا تقصها إلا على واد أو ذي رأي.
سئل القاسم الوقاياتي عن مولده فقال: سنة اثنتين وسبعين وأربع مئة ببغداد.
عثمان بن عمارة بن خريم الناعم
ابن عمرو بن الحارث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة بن مرة المري، أخو أبي الهيذام.
من أهل دمشق، ولاه الرشيد سجستان، وحبس وطولب بالمال.
روى الهيثم بن عدي عن عثمان بن عمارة عن أشياخهم من بني مرة قال: رحل رجل منا إلى ناحية الشام مما يلي تيماء والشراة في طلب بغية له، فإذا هو بخيمة رفعت له، وقد أصابه مطر، فعدل إليها فتنحنح، فكلمته امرأة، فقالت له: انزل. وراحت إبلهم وغنمهم، فإذا أمر عظيم ورعاء كثير، أي لبعض العبيد سلوا هذا الرجل من أين أقبل؟ فقلت من ناحية اليمامة ونجد، فقالت: بلاد نجد وطئت؟ قلت: كلها. فقالت: بمن نزلت هناك؟ قلت: ببني عامر. فتنفست الصعداء وقالت: بأي بني عامر؟ فقلت: ببني الحريش. فاستعبرت، ثم قالت: هل سمعت بذكر فتى يقال له: قيس ويلقب بالمجنون؟ فقلت: إي والله، ونزلت بأبيه ورأيته يهيم في تلك الفيافي، ويكون مع الوحش، لا يعقل ولا يفهم، إلا أن تذكر له ليلى، فيبكي وينشد أشعاراً(16/275)
يقول فيها. قالت: فرفعت الستر بيني وبينها فإذا شقة قمر، لم تر عيني مثلها، فبكت وانتحبت حتى ظننت أن قلبها قد انصدع، فقلت لها: اتقي الله فما قلت بأساً، فمكثت طويلاً على تلك الحال من البكاء والنحيب، ثم قالت: من الطويل:
ألا ليت شعري والخطوب كثيرة ... متى رحل قيس مستقل فراجع
بنفسي من لا يستقل برحله ... ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع
ثم بكت حتى غشي عليها، فلما أفاقت فلت: من أنت؟ قالت: أنا ليلى المشؤومة عليه غير المساعدة، فما رأيت مثل حزنها عليه ووجدها به.
لما طولب عثمان بن خريم أخو أبي الهيذام بخمسة آلاف درهم، وكان على سجستان أيام الرشيد، وحبس قال: من الطويل:
أغثني أمير المؤمنين بنظرة ... تزول بها عني المخافة والأزل
ففضلك أرجو ل البراءة إنه ... أبى الله إلا أن يكون لك الفضل
وإلا أكن أهلاً لما أنت أهله ... فأنت أمير المؤمنين له أهل
قال عبد ال بن المعتز: دخل عدة من أهل الشام على المنصور حين عفا عنهم في اجلائهم مع عبد الله بن علي، فقال عثمان بن خريم: يا أمير المؤمنين، لقد أعطيت فشكرت، وابتليت فصبرت، وقدرت فغفرت.
قال محمد بن يزيد المبرد: قال أبو يعقوب الخريمي يرثي عثمان بن خريم: من الطويل:
جزى الله عثمان الخريمي خير ما ... جزى صاحباً جزل المواهب مفضلا
أخاً كان إن أقبلت بالود زادني ... صفاءً وإن أدبرت حن وأقبلا
أخاً لم يخني في الحياة ولم أبت ... تخوفني الأعداء منه التنقلا(16/276)
كفى جفوة الإخوان طول حياته ... وأورث مما كان أعطى وخولا
مضى سلفاً قبلي وخلفت بعده ... أسيراً لأهوال الرجال مكبلا
عثمان بن عمرو بن عبد الرحمن
ابن الربيع أبو عمرو البغدادي الفقيه الشافعي ابن أخي النجاد.
حدث الحافظ بسنده أخبرني فلان وجدي قال: حدثني فلان، وجدي إلى عثمان بن عمرو وجدي بسنده إلى عائشة وجدي قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النظر إلى وجه علي عبادة ".
كل رواة هذا الحديث يقول: حدثني فلان وجدي.
عثمان بن عمر بن موسى
ابن عبيد الله بن معمر بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي ابن غالب القرشي التيمي المعمري.
بفتح الميمين وتسكين العين المهملة منسوب إلى عبد الله بن معمر.
أصله من المدينة وقدم دمشق بعد قتل أبيه، قدم به عمر بن موسى على عبد الملك بن مروان وهو صغير فرده إلى المدينة، وولي قضاء المدينة لمروان بن محمد ثم قضى للمنصور بالعراق.
حدث عثمان بن عمر عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن صفية بنت حيي زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنها جاءت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوره وهو معتكف في المسجد في العشر الأواخر من شهر رمضان، فتحدثت عنده ساعة من العشاء ثم قامت تنقلب، فقام معها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/277)
يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد الذي كان عند مسكن أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بهما رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم نفذا، فقال لهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: على رسلكما إنها صفية بنت حيي. قالا: سبحان الله يا رسول الله! وكبر عليهما ذلك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً.
قال عثمان بن عمر التيمي: رأيت في المنام كأن عاتكة ابنة عبد الله بن يزيد بن معاوية ناشرة شعرها، وهي واقفة على مرقاتين من منبر دمشق، وهي تنشد بيتين من شعر الأحوص: من الكامل:
أين الشباب وعيشنا اللذ الذي ... كنا به زمناً نسر ونجذل
ذهبت بشاشته وأصبح ذكره ... حزناً يعل به الفؤاد وينهل
قال عثمان: فلم يكن بين ذلك وبين الحادثة على مروان وعلى بني أمية إلا أقل من شهرين.
ولما ظفر عبد الله بن علي ببني أمية واستباح حريمهم وقتل الصغير منهم والكبير أنشأ يقول: من الكامل:
حسبت أمية أن سترضى هاشم ... عنها ويذهب زيدها وحسينها
كلا ورب محمد وإلهه ... حتى يذل كفورها وخؤونها(16/278)
وقال الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قي قتل مروان بن محمد وزوال ملك بني أمية: من الطويل:
وإني لأغضي عن أمور كثيرة ... ولولا الذي أرجو من الأمر لم أغضي
وإني لرهن إن بقيت لسورة ... أبير بها قوماً هم أذهبوا غمضي
وهم فرقوا الإسلام تسعين حجة ... وما منهم في الدين لله من مرضي
عثمان بن عمرو أو عمر أبو محمد
أو أبو عمرو.
حدث عن عبد السلام بن نهشل الخراساني عن خارجة بن مصعب عن أبيه قال: وكان من أصحاب علي عليه السلام قال: نزلنا مع علي بصفين فأصابتنا براغيث من الليل فتهجدنا، فلما أصبحنا غدونا إلى علي فقلنا: يا أمير المؤمنين، فعل الله بالبراغيث كذا وكذا، نشتمها ونسبها، أصابتنا البارحة فلم ننم فتهجدنا. فقال علي: لا تسبوا البراغيث: لولاها ما تهجدتم.
وبه قال: كنا مع علي بصفين فأصابتنا مجاعة، فخرجنا في الطلب، نطلب الطعام، فإذا نحن ببغل عليه جوالقان، فضربناه بأسيافنا فإذا بالورق فلم نلتفت إليها، ومضينا، فنظرنا فإذا نحن بحمار عليه جوالقان، فضربناه بأسيافنا، فإذا الزاد السويق، فأخذنا فأكلنا.
قال خارجة: لم يغنموا مالاً، ولم يروا بالزاد والطعام بأساً.
عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان
صخر بن حرب بن أخي معاوية، وابن أخت ابن الزبير.
لما حضرت معاوية بن يزيد الوفاة قيل له: اعهد. فقال: لا أتزود مرارتها وأترك لبني أمية حلاوتها. فلما مات دعت بنو أمية عثمان بن عنبسة إلى أن يبايعوا له بالخلافة فأبى(16/279)
وقال: أنا ألحق بخالي يريد عبد الله بن الزبير فقال له مروان بن الحكم: إنها ليست بساعة خال، عمك لا خالك. ولما ووري معاوية بن يزيد في قبره قال مروان بن الحكم متمثلاً على قبره.
من البسيط:
إني أرى فتنة تغلي مراجلها ... والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
وعثمان بن عنبسة هو الذي صلى على معاوية بن يزيد، ولما انتقل عثمان بن عنبسة إلى مكة ولحق بخاله عبد الله بن الزبير لقي منه جفاء، وتوفي عنده فحمله ابنه إلى الطائف، ودفنه عند قبر أبيه.
قال عبد الله بن همام السلوي في عثمان بن عنبسة من أبيات.
من الوافر:
عمدت بمدحتي عثمان إني ... إذا أثنيت أعمد للخيار
وعثمان بن عنبسة بن صخر ... إليه ينتهي كرم النجار
فقد هزت قناتك في قريش ... عروق المجد والحسب النضار
ورثت هدى الحواريين منهم ... وعز العنبسي وذا الخمار
تبذ الناس مكرمة إذا ما ... فخرت ومن كمثلك في الفخار
وكان عبد الله بن همام هرب من عبيد الله بن زياد، فاستجار بعثمان بن عنبسة حتى ينجز له كتاباً من يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بالعفو عنه.
قال الأبيوردي: وعنى بهدى الحواريين: الزبير بن العوام، وهو جده من قبل أمه، وبالعنبسي: حرب بن أمية، كان أعز أهل الوادي، وبذي الخمار: أبا أحيحة سعيد بن العاص بن أمية، وكان يدعى ذا العصابة، وذا التاج، فأجاءته القافية إلى ذكر الخمار.(16/280)
عثمان بن القاسم بن معروف
أبو الحسين بن أبي نصر.
والد أبي محمد.
حدث عن أبي عبد الله محمد بن المعافى بن أحمد بن محمد بن بشير بن أبي كريمة الصيداوي بسنده إلى سلمة بن الأكوع قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأمتي ".
توفي أبو الحسين عثمان بن القاسم سنة ست وخمسين وثلاث مئة، وكان أمير جيوش الغزاة من دمشق.
عثمان بن قيس
حدث عن واثلة بن الأسقع قال: شهدنا مع واثلة جنازة في مقابر باب صغير، فحضرت الصلاة، فخرج واثلة من المقابر وأتى كشل النهر، فصلى بنا ونحن خلفه رجل خلف رجل.
عثمان بن محمد بن إبراهيم بن رستم
أبو عمر الماذرائي المعروف بابن الأطروش حدث عن أبي محمد جعفر بن أحمد بن عاصم بدمشق بسنده إلى عمر بن عبد العزيز قال: أفضل القصد بعد الجدة، وأفضل العفة بعد المقدرة.(16/281)
عثمان بن محمد بن عثمان بن محمد
ابن عبد الملك بن سليمان بن عبد الملك بن عنبسة بن عمرو بن عثمان بن عفان أبو عمرو العثماني البصري دخل دمشق وحدث بها وبغيرها، ومولده بالبصرة.
حدث عن محمد بن الحسين بن مكرم بسنده إلى أم الدرداء عن أبي الدرداء قالت: قلت له: ما يمنعك أن تبتغي لأضيافك ما يبتغي الرجال لأضيافهم؟ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن أمامكم عقبة كؤوداً لا يجوزها المثقلون. فأنا أريد أن أتخفف لتلك العقبة.
وحدث عن أمية بن محمد الباهلي بسنده إلى عثمان بن القاسم قال: خرجت أم أيمن مهاجرة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة إلى المدينة، وهي ماشية ليس معها زاد، وهي صائمة في يوم شديد الحر، فأصابها عطش شديد حتى كادت أن تموت من شدة العطش، وقال: وهي بالروحاء أو قريباً منها، فلما غابت الشمس قالت: إذا أنا بحفيف شيء فوق رأسي فإذا أنا بدلو من السماء مدلى برشاء أبيض، قالت: فدنا مني حتى إذا كان حيث أستمكن منه تناوله فشربت منه حتى رويت. قالت: فلقد كنت بعد ذلك اليوم الحار أطوف في الشمس كي أعطش وما عطشت بعدها.
وحدث عن محمد بن عبد السلام بسنده إلى جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ".(16/282)
عثمان بن محمد بن علي علان
بن أحمد ابن جعفر أبو الحسين البغدادي الذهبي سكن مصر وحدث بها وبدمشق.
روى عن محمد بن إسماعيل بن يوسف بسنده إلى أنس بن مالك قال: ركب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرساً فصرع عنه، فجحش شقة الأيمن، فصلى لنا قاعداً.
وأنشد أبو الحسين عثمان بن محمد عن الحارث بن أبي أسامة التميمي بسنده إلى أبي يعلى الكوفي، قال: أنشدنا بعض أصحابنا من المنسرح:
الملك والعز والمروءة والسؤدد والنبل واليسار معا
مجتمعات في طاعة الله لل ... عبد إذا العبد أعمل الورعا
والفقر والذل والضراعة وال ... فاقة في أصل أذن من طمعا
وآثر الفاني الخسيس من الد ... نيا وأمسى لأهلها تبعا
توفي سنة أربع وثلاثين وثلاث مئة. وقيل: توفي نحو سنة أربعين وثلاث مئة.
عثمان بن مردان
أبو القاسم النهاوندي الصوفي: من سياحيهم.
قال قيس بن عبد العزيز: ورد علي أبو القاسم بن مردان صاحب أبي سعيد الخراز، فاجتمع عليه جماعة من الصوفية ومعهم قوال، فاستأذنوه أن يقول، فأذن لهم، فكان يقول قصيدة فيها هذا البيت.
من مجزوء الرمل:(16/283)
واقف في الماء عطشا ... ن ولكن ليس يسقى
فما بقي في القوم أحد إلا تواجد إلا ابن مردان لم يتحرك، فلما جلسوا سألهم عن معنى ما وقع لهم في هذا البيت، فكان يجيبه كل أحد منا بجواب لا يقنعه ذلك، فسألناه عن ذلك فقال: أن يكون في حالة ويكون ممنوعاً عن التمتع بحاله، ولا ينقل إلى حالة فوق حاله، هذا معناه، والله أعلم.
قال ابن مردان: سمعت الجنيد يقول: جئت إلى أبي الحسن السري يوماً فدققت عليه الباب فقال: من هذا؟ قلت: جنيد. فقال: ادخل. فدخلت، فإذا هو قاعد مستوفز، وكان معي أربعة دراهم، فدفعتها إليه فقال لي: أبشر فإنك تفلح، فإني احتجت إلى هذه الأربعة دراهم، فقلت: اللهم ابعث إلي على يدي من يفلح عندك.
قال أبو القاسم النهاوندي: صحبت أبا سعيد الخراز فقال أبو سعيد: كل وجد يطهر على الجوارح الظاهرة وفي النفس أدنى حمولة فهو مذموم، وكل وجد يظهر تضعف النفس عن حمله فذاك محمود.
قال أبو القاسم بن مردان: سمعت أبا بكر الزقاق يقول: أخذ علي في ابتداء أمري مباينة والدي لأنه كان صيرفياً، فقالت لي نفسي: اخرج إلى جبل اللكام، فأقمت فيه عشر سنين، ثم أثر علي بعد ذلك الفاقة، فطالبتني نفسي بالرجوع إلى الوطن، فقالت لي: تأكل خبزك في بيتك، وتعبد ربك، فخرجت متوجهاً نحو العراق حتى وصلت مفرق الطريقين: طريق إلى الحجاز وطريق إلى العراق، فرأيت محراباً وعين ماء، فتطهرت للصلاة وصليت ركعتي الاستخارة، فسمعت هاتفاً يهتف بي وهو يقول: يا أبا بكر الزقاق: من الرجز:(16/284)
ما لك قد أحزنك الفقر ... وقد جمعت الهم في الصدر
إن الذي أحسن فيما مضى ... يحسن في الباقي من العمر
عثمان بن معبد بن نوح البغدادي المقرئ
سمع بدمشق وبمصر وبغيرهما.
حدث عن إسحاق بن محمد الفروي بسنده إلى سعد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما بين قبري " وفي رواية: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة.
وحدث عن الحجاج بن إبراهيم الأزرق بسنده إلى ابن عباس قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربع مئة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا يهزم اثنا عشر ألفاً من قلة إذا صبروا وصدقوا.
وحدث عن أبي بكر بن شيبة بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ": لو أن المؤمن في حجر لقيض الله له من يؤذيه ".
توفي عثمان بن معبد سنة إحدى وستين ومئتين.
عثمان بن المنذر الثقفي الدمشقي
حدث عن القاسم بن محمد الثقفي عن معاوية: أنه أراهم وضوء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما بلغ مسح رأسه وضع كفيه على مقدم رأسه، ثم مر بهما حتى بلغ القفا، ثم ردهما حتى بلغ المكان الذي منه بدأ.(16/285)
عثمان التنوخي والد أبي الجماهر
قال: أصاب الناس بإرمينية جهد شديد حتى أكلوا البعر، فأمطروا بنادق فيها حب قمح.
عجلان بن سهيل
ويقال: سهل. بن العجلان بن سهيل بن كعب بن عامر بن عمير بن رياح الباهلي من أهل قنسرين. خرج مع قرة بن شريك أمير مصر من دمشق إلى مصر.
حدث العجلان بن سهيل عن أبي أمامة قال: نزلت هذه الآية في أصحاب الخيل " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية " فيمن لم يربطها لخيلاء ولا لضمار.
وحدث عنه أيضاً، قال في قوله عز وجل: " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية " قال: النفقة على الخيل في سبيل الله.
وحدث عنه قال: من ارتبط فرساً في سبيل الله، لم يرتبطه رياء ولا سمعة كان من " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار " الآية.
ضعفة قوم.(16/286)
عجير بن عبد الله بن عبيدة
ويقال: عبيدة بن كعب بن عابسة، ويقال: عائشة بن ربيع ابن ضبيط بن جابر، ويقال: العجير بن عبد الله بن كعب بن عبيدة ابن جابر بن عمرو بن سلول أبو الفرزدق السلولي الشاعر وفد على عبد الملك بن مروان. في الطبقة الخامسة من الشعراء الإسلاميين، كنيته أبو الفرزدق.
قال أبو الغراف: كان العجير دل عبد الملك بن مروان على ماء يقال له: مطلوب، لناس من خثعم، وأنشأ يقول:
لا نوم إلا غرار العين ساهرة ... إن لم أروع بغيظ أهل مطلوب
إن تشتموني فقد بدلت أيكتكم ... زرق الدجاج بحفان اليعاقيب
وكنت أخبركم أن سوف يعمرها ... بنو أمية وعداً غير مكذوب
فركب رجل من خثعم يقال له أمية، حتى دخل عبد الملك بن مروان فقال: يا أمير المؤمنين، إنما أراد العجير أن يصل إليك، وإنما هو شويعر سأل. وحربه(16/287)
عليه، فكتب عبد الملك إلى عامله على المدينة أن يشد يدي العجير إلى عنقه، ثم يبعث به في الحديد، فبلغ العجير الخبر، فركب في الليل حتى أتى عبد الملك بن مروان فقال: يا أمير المؤمنين، أنا عندك فاحتبسني وابعث من يبصر الأرضين والضياع، فإن لم يكن الأمر على ما أخبرتك فلك دمي حل وبل. فبعث، فاتخذ ذلك الماء، وهو اليوم من خيار ضياع بني أمية.
قال عبد الله بن العباس بن حسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب وذكر عبد الملك الماجشون فأحسن ذكره، فقيل له: هو كما قال العجير السلولي: من الطويل
إذا جد حين الجد أرضاك جده ... وذو باطل إن شئت أرضاك باطله
يسرك مظلوماً ويرضيك ظالماً ... وكل الذي حملته فهو حامله
مر العجير بفتيان من قومه يشربون نبيذاً لهم، فدعوه إليه فأجابهم وشرب، قال: فقرم إلى اللحم، فقال: أطعمونا لحماً. فقالوا: تروح الشاء والإبل ونذبح. فقال لفتى منهم: قم فخذ بزمام بعيري هذا وكان نجيباً يمانياً ليس في البلاد مثله قال: واستل الخنجر من حجزتة فضرب به لبته، قال: فقام القوم إليه فقالوا: ما صنعت؟ فقال أطعمونا لحماً، فجعل القوم يأكلون من كبده وسنامه والعجير يقول: من الرمل
عللاني إنما الدنيا علل ... واتركاني من ملام وعذل(16/288)
وانشلا ما اغبر من قدريكما ... واسقياني أبعد الله الجمل
فيقال. والله أعلم: إن عشيرته صبحته بألف بعير حين بلغهم هذا الحديث.
عدنان بن أحمد بن طولون
أبو معد بن الأمير، وأخو الأمير مصري، قدم دمشق وحدث بها وبمصر.
حدث عن بكر بن سهل الدمياطي بسنده إلى مسلمة بن مخلد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أعروا النساء يلزمن الحجال.
ولد أبو معد بمصر، وتوفي في المحرم سنة خمس وعشرين وثلاث مئة.
عدي بن أحمد بن عبد الباقي
ابن يحيى بن يزيد بن إبراهيم بن عبد الله أبو عمير الأذني قدم دمشق سنة أربع وثلاثين وثلاث مئة على أبي بكر الإخشيد في مفاداة أسرى المسلمين بأسارى الروم.
حدث بأنطاكية عن يوسف بن يعقوب القاضي بسنده إلى أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا دخل رجب قال: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان. وكان إذا كانت ليلة الجمعة قال: هذه ليلة غراء، ويوم الجمعة يوم أزهر.
توفي أبو عمير سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة.(16/289)
عدي بن أرطأة بن جداية بن لوذان
الفزاري. ويقال: من بني خزامة بن لوذان ابن ثعلبة بن عدي بن فزارة بن ذبيان.
من أهل دمشق. استعمله عمر بن عبد العزيز على البصرة.
حدث بريد بن أبي مريم عن عدي بن أرطأة عن عمرو بن عبسة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من رمى بسهم في سبيل الله بلغ أو قصر فهو عدل محرر، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً ما لم يغيرها.
قال بريد: فما غيرت بعد.
قال عباد بن منصور: سمعت عدي بن أرطأة يخطب على منبر المدائن فجعل يعظنا حتى بكى وأبكانا، ثم قال: كونوا كرجل قال لابنه وهو يعظه: بني، أوصيك ألا تصلي صلاة إلا ظننت أنك لا تصلي بعدها غيرها حتى تموت، وتعال بني حتى نعمل عمل رجلين كأنهما قد أوقفا على النار ثم سألا الكرة، ولقد سمعت فلاناً نسي عباد اسمه ما بيني وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيره قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن لله ملائكة ترعد فرائصهم من مخافته، ما منهم ملك تقطر دمعة من عينه إلا وقعت ملكاً يسبح، قال: وملائكة سجوداً منذ خلق الله السموات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة وركوعاً لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وصفوفاً لم ينصرفوا عن مصافهم، ولا ينصرفون إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم ربهم، فنظروا إليه وقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. وفي رواية: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: أما بعد، فإياك أن تدركك الصرعة(16/290)
عند الغرة، فلا تقال العثرة ولا تمكن من الرجعة، ولا يعذرك من تقدم عليه، ولا يحمدك من خلفت لما تركت له، والسلام.
قال أبو بشر بن لاحق: سمعت عدي بن أرطأة يخطب بعد انقضاء شهر رمضان يقول: كأن كبداً لم تظمأ، وكأن عيناً لم تسهر، فقد ذهب الظمأ وبقي الأجر، فياليت شعري! من المقبول منا فهنئته، ومن المردود منا فنعزيه. فأما أنت أيها المقبول فهنيئاً هنيئاً وأما أنت أيها المردود فجبر الله مصيبتك ثم يبكي ويبكي.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: أما بعد، فإنه من ابتلي بالسلطان فقد ابتلي بأمر عظيم، وأي بلاء أعظم من بلاء يبسط المرء فيه لسانه ويده، أو يتكلم بأمر وهو يعلم أنه لله سخط، فاتق الله يا عدي، وحاسب نفسك قبل يوم القيامة، واذكر ليلة تمخض فيها الساعة، صباحها يوم القيامة، تكور فيها الشمس، وتتناثر فيها النجوم، وتفترق فيها الخلائق زمراً، فريق في الجنة وفريق في السعير، فانظر أين عقلك عند ذلك، والسلام.
رأى عدي بن أرطأة في المنام وهو أمير البصرة كأنه يحتلب بختية، فاحتلب لبناً، ثم احتلب دماً، فكتب رؤياه في صحيفة وبعث بها إلى ابن سيرين وقال لرسوله: لا تعلمه أني رأيت هذه الرؤيا. فجاء الرجل إلى ابن سيرين وقال: رأيت في المنام كذا وكذا. فقال ابن سيرين: هذه الرؤيا لم ترها أنت، رآها عدي بن أرطأة، فانطلق الرجل إلى عدي بن أرطأة، فأخبره بذلك، فأرسل إليه، فأتاه فقال: أما البختية فهؤلاء قوم من العجم، والحلب جباية، واللبن حلال، جبيتهم حلالاً، ثم تعديت فجبيتهم حراماً الدم، تجاوزت ما أحل الله لك إلى ما حرم عليك، فاتق الله وأمسك.
كتب عدي بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز: إن الناس قد أصابوا من الخير خيراً(16/291)
حتى كادوا أن يبصروا. فكتب إليه عمر: إن الله حيث أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، رضي من أهل الجنة أن قالوا: الحمد لله، فمر من قبلك أن يحمدوا الله.
كتب عدي بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز: إنعندنا قوماً قد أكلوا من مال الله، وإنا لا نقدر أن نستخرج ما عندهم حتى نمسهم بشيء من العذاب. فكتب إليه عمر: إنما أنت ربذة من الربد، فوالله لأن يلقوا الله بخيانتهم أحب إلي من أن ألقى الله بدمائهم، فافعل بهم ما يفعل بغريم السوء.
سئل ابن الأعرابي عن الربذة؟ فقال: هي خرقة أو صوفة يهنأ بها البعير.
وقال الأصمعي: الربذة أيضاً صوفة تعلق على الهودج، وهي أيضاً خرقة الحيض، وفيها لغة أخرى: ربذة، وهي الصوفة أو الخرقة يهنأ بها البعير أو يدهن بها السقاء، والذي أراد عمر إن كان لم يذهب مذهب الذم لعدي: أنك إنما نصبت لتداوي وتشفي كما تشفي الربذة الناقة الدبرة، أو لأن يصلح بك كما يصلح بالربذة السقاء المدهون، وإن كان أراد الذم فذلك ما لا يحتاج له إلى تفسير.
وكتب إليه أيضاً: غرني منك صلاتك ومجالستك القراء وعمامتك السوداء، ثم وجدناك على خلاف ما أملناك، قاتلكم الله أما تمشون بين القبور!؟ كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله عدي بن أرطأة: أما بعد، فإن الدنيا عدوة أولياء الله وعدوة أعداء الله، أما أولياء الله فغمتهم، وأما أعداء الله فغرتهم.
قال عدي بن أرطأة لبكر بن عبد الله المزني: يا أبا عبد الله، أفي حق الله، ما يصنع هذا الرجل يعني عمر بن عبد العزيز يرد أعمال الخلفاء قبله ويسميها المظالم؟.(16/292)
قال المغيرة: شهدت دار الإمارة بواسط يوم جاء قتل يزيد بن المهلب، ومعاوية بن يزيد قاعد، فأتي بعدي بن أرطأة وابنه محمد بن عدي، ومالك وعبد الملك ابني مسمع، والقاسم بن مسلم، وعبد الله بن عمرو النصري فضرب أعناقهم.
عدي بن حاتم الجواد بن عبد الله
ابن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي أبو طريف الطائي. ويقال: أبو وهب.
له صحبة، وقدم الشام قبل إسلامه، ثم قدم مع خالد بن الوليد في الفتوح إلى سوى، ووجهه خالد بالأخماس إلى أبي بكر رضي الله عنه، ثم سكن الكوفة.
حدث عدي بن حاتم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة ".
وحدث عدي بن حاتم طيئ قال: لما نزلت الآية " فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود " قال: عمدت إلى عقالين أبيض وأسود، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أقوم من الليل فلا أستبين الأسود من الأبيض، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته، فضحك وقال: إن كان وسادك إذاً لعريض، إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل.
شهد أبو طريف الجمل وصفين، ومات في الكوفة سنة ثمان وستين زمن المختار، وهو ابن عشرين ومئة سنة.(16/293)
قالوا: وتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعدي بن حاتم على صدقات قومه، يعني عامل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو من طيئ، واسم طيئ جلهمة، وسمي طيئاً لأنه أول من طوى المنازل، وقيل: أول من طوى بئراً. وكان حاتم من أجود العرب، وكنيته أبو سفانة.
وأصيبت عينه يوم الجمل، وقيل توفي بقرقيسياء سنة سبع وستين زمن المختار، وكان سخياً جواداً، أسلم حين كفر الناس، ووفى إذ غدروا، وأقبل إذ أدبروا.
وكان عدي نصرانياً، فلما بلغه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث أصحابه إلى جبل طيئ، حمل أهله إلى الجزيرة فأنزلهم بها، وأدرك المسلمون أخته في حاضر طيئ فأخذوها وقدموا بها على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمكثت عنده، ثم أسلمت، وسألته أن يأذن لها في المصير إلى أخيها عدي ففعل، وأعطاها قطعةً عليه قصتها، فقدم عدي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما رآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزع وسادةً كانت تحته فألقاها له حتى جلس عليها، وسأله عن أشياء فأجابه عنها، ثم أسلم وحسن إسلامه، ورجع إلى بلاد قومه، فلما قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وارتدت العرب ثبت عدي وقومه على الإسلام، وجاء بصدقاتهم إلى أبي بكر، وحضر فتح المدائن، وشهد مع علي صفين والنهروان.
قال أبو عبيدة بن حذيفة: كنت أسأل عن عدي بن حاتم وهو إلى جنبي بالكوفة، فلقيته فقلت: ما حديث بلغني عنك؟ قال: بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بعث وأنا أشد الناس له كراهية، فلحقت بأقصى الشام مما يلي بلاد الروم، فكنت أنا بمكاني الذي به أشد كراهية لذلك من الأمر الأول، فقلت: والله لآتين هذا الرجل فإن كان صادقاً لا يضرني، وإن كان كاذباً لا يخفى علي.
قال: فأقبلت حين قدمت المدينة، فاستشرفني الناس وقالوا: عدي بن حاتم، عدي بن(16/294)
حاتم، فأتيته فقال: يا عدي بن حاتم، أنا الهارب من الله ورسوله؟! يا عدي بن حاتم، أسلم تسلم. قلت: إن لي ديناً. قال: أنا أعلم بدينك منك. قلت: أنت أعلم بديني مني؟! قال: نعم، ألست ركوسياً؟ أولست رئيس قومك؟ أولست تأخذ المرباع؟ فإن ذلك لا يحل لك في دينك. قال: فأخذتني لذلك خصاصة، قال: إنه لا يمنعك أن تسلم إلا أنك ترى بمن حولنا خصاصة، وترى الناس علينا إلباً واحداً. ثم قال: هل أتيت الحيرة حتى تأتي البيت بغير جوار، وأوشك أن يخرج علينا كنوز كسرى. قلت: سرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز، ويوشك أن يخرج الرجل الصدقة من ماله فلا يجد من يقبلها. قال عدي: فقد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة حتى تأتي البيت بغير جوار، وكنت في أول خيل غارت على كنوز كسرى، وأيم الله لتكونن الثالثة، إن قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحق.
وعن عامر الشعبي قال: قدم عدي بن حاتم الكوفة، فأتيته في أناس من أهل الكوفة فقلت له: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: بعث رسول الله بالنبوة فلا أعلم أحداً من العرب كان أشد له بغضاً ولا أشد له كراهيةً مني حتى لحقت بالروم فتنصرت فيهم، فلما بلغني ما يدعو إليه من الأخلاق الحسنة وما قد اجتمع الناس إليه ارتحلت أتيته، فوقفت عليه وعنده صهيب وبلال وسلمان، فقال: يا عدي بن حاتم، أسلم تسلم.(16/295)
فقلت: إخ إخ، فأنخت، فجلست، فألزمت ركبتي بركبته فقلت: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، يا عدي بن حاتم، لا تقوم الساعة حتى تفتح خزائن كسرى وقيصر، يا عدي بن حاتم، لا تقوم الساعة تأتي الظعينة من الحيرة ولم يكن يومئذ كوفة حتى تطوف بهذه الكعبة بغير خفير، يا عدي بن حاتم، لا تقوم الساعة حتى يحمل الرجل جراب المال فيطوف به فلا يجد يقلبه، فيضرب به الأرض فيقول: ليتك لم تكن، ليتك كنت تراباً.
قال الحسن بن عبد الله العسكري: وأما حديث عدي بن حاتم حين قال له النبي صلى اله عليه وسلم: " ما يفرك أن يقال: لا إله إلا الله " فيفتح الياء من يفرك، وهو خطأ.
وقال أبو عبيد: روى بعض المحدثين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعدي: " ما يفرك " فيفتح الياء ويضم الفاء، وهذا تصحيف وقلب للمعنى. والصواب: " يفرك " بضم الياء، يقال: أفررت الرجل: إذا فعلت به ما يفر منه.
وعن عدي بن حاتم قال: لما دخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألقى إليه وسادة، فجلس على الأرض، فقال: أشهد أني لا أبتغي علوا في الأرض لا فساداً. قال: فأسلم، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه ".(16/296)
قال عدي بن حاتم: ما دخلت علي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قط إلا توسع لي أو قال: تحرك لي قال: فدخلت عليه ذات يوم وهو يوم في بيت مملوء من أصحابه، فلما رآني توسع لي حتى جلست إلى جانبه. وفي رواية: فلما رآني تحرك لي.
ومن حديث: أن عدياً حين قدم على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الشام وأسلم قال: الصدقة يا عدي. فقال: ليست لنا سائمة إنما هي ركاب نركبها وأفراس نلجمها إن ألجم علينا. فقال: لابد من الصدقة. قال: نعم. فلما أجمع على الرجوع وقد ولاه على طائفة من طيئ، فسأله ظهراً. فبعث إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتذر إليه أن لم يجد عنده حاجته، وقال: لكن ترجع ويفعل الله خيراً. فأتى عدي قومه فدعاهم فصدقهم، فقبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي في يده، فوفى وأقبل بها إذا كان بالغمر ماء لبني أسد عليه جمع، ناداه رجل من بني أسد أشهد أن الصريح تحت الرغوة، وإن أبا الفضل لكاذب، يا بن حاتم فارجع فاقسم هذه الإبل بين قومك فتكون سيد الحيين ما بقيت. فقال عدي: إن يكن محمد قد مات فإن الذي أسلمت له حي لم يمت. فساق الصدقة، فلما دنا من المدينة لقيته خيل لأبي بكر عليها عبد الله بن مسعود، فابتدروه فأخذوه وقالوا: أين الفوارس التي كانت معك؟ قال: ما كان معي فوارس. قالوا: بلى. فقال ابن مسعود: خلوا عنه، فما كذب ولا كذبتم، أعوان الله ولم يرهم. فكانت ثالثة ثلاث صدقات أو ثانية صدقتين قدمتا على أبي بكر بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعطى منه عدياً ثلاثين بعيراً.
ومن حديث آخر: قدم عليه بثلاث مئة بعير وقال: إن عدياً لما أسلم وأراد أن يرجع إلى بلاده بعث(16/297)
إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعذر من الزاد ويقول: والله ما أصبح عند آل محمد سفة من طعام، ولكنك ترجع ويكون خير. فلما قدم على أبي بكر أعطاه ثلاثين فريضة، فقال عدي: يا خليفة رسول الله، أنت اليوم أحوج وأنا عنها غني. فقال أبو بكر: خذها فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعذر إليك ويقول: ترجع ويكون خير. فقد رجعت وجاء الله بخير، فأنا منفذ ما وعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته. فأنفذها، فقال عدي: آخذها الآن فهي عطية من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال أبو بكر فذاك.
قالوا: وكانت تلك الصدقات مما جهز أبو بكر بها من نهض لقتال أهل الردة.
قالوا: وكان عدي بن حاتم أحزم رأياً وأفضل في الإسلام رغبة ممن كان فرق الصدقة في قومه، فقال لقومه: لا تعجلوا، فإنه إن يقم لهذا الأمر قائم ألفاكم ولم تفرقوا الصدقة، وإن كان الذي تظنون، فلعمري إن أموالكم بأيديكم لا يغلبكم عليها أحد، فسكتهم بذلك وأمر ابنه أن يسرح نعم الصدقة، فإذا كان المساء روحها، وإنه جاء بها ليلة عشاء فضربه، وقال: ألا عجلت بها، ثم أراحها الليلة الثانية فوق ذلك قليلاً، فجعل يضربه ويكلمونه فيه، فلما كان اليوم الثالث قال: يا بني، إذا سرحتها فصح في أدبارها وأم بها المدينة، فإن لقيك لاق من قومك أو من غيرهم فقل: أريد الكلأ تعذر علينا ما حولنا، فلما جاء الوقت الذي كان يروح فيه لم يأت الغلام، فجعل أبوه يتوقعه ويقول لأصحابه، العجب لحبس ابني! فيقول بعضهم: نخرج يا أبا طريف فنبتعثه؟ فيقول: لا والله، فلما أصبح تهيأ ليغدو، فقال قومه: نغدو معك؟ فقال: لا يغدون معي منكم أحد، إنكم إن رأيتموه حلتم بيني وبين أن أضربه وقد عصى أمري كما ترون، أقول له: تروح الإبل بسفر، فليلة(16/298)
يأتي بها عتمة وليلة يعزب بها! فخرج على بعير له سريعاً حتى لحق ابنه ثم حدر النعم إلى المدينة، فلما كان ببطن قناة، لقيته خيل لأبي بكر الصديق عليها عبد الله بن مسعود، ويقال: محمد بن مسلمة وهو أثبت فلما نظروا إليه ابتدروه فأخذوه وما كان معه، وقالوا له: أين الفوارس الذين كانوا معك؟ فقال: ما معي أحد. فقالوا: بلى لقد كان معك فوارس. الحديث وسار عدي بن حاتم مع خالد بن الوليد إلى أهل الردة، وقد انضم إلى عدي من طيئ ألف رجل، وكانت جديلة معرضة عن الإسلام، وهم بطن من طيئ، وكان عدي من الغوث، فلما همت جديلة أن ترتد ونزلت ناحية، جاءهم مكنف بن زيد الخيل الطائي فقال: أتريدون أن تكون سبة على قومكم لم يرجع واحد من طيئ! وهذا أبو طريف معه ألف من طيئ، فكسرهم. فلما نزل خالد بن الوليد بزاخة قال لعدي: يا أبا طريف، ألا تسير إلى جديلة؟ فقال: يا أبا سليمان، لا تفعل أقاتل معك بيدين أحب إليك أم بيد واحدة؟ فقال خالد: بل بيدين. قال عدي: فإن جديلة إحدى يدي. فكف خالد عنهم، فجاءهم عدي فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا، فسار بهم إلى خالد، فلما رآهم خالد فزع منهم وظن أنهم أتوا لقتال، فصاح في أصحابه بالسلاح، فقيل له: إنما هي جديلة أتت تقاتل معك. فجاءهم خالد فرحب بهم، واعتذروا إليه من اعتزلهم، وقالوا: نحن لك بحيث أحببت. فجزاهم خيراً فلم يرتدد من طيئ رجل واحد، فسار خالد على بغيته، فقال عدي: اجعل قومي مقدمة أصحابك. فقال: أبا طريف، إن الأمر قد اقترب ولحم، وأنا أخاف إن تقدم قومك ولحمهم القتال انكشفوا فانكشف من معنا، ولكن دعني أقدم قوماً صبراً لهم سوابق وثبات. فقال عدي: فالرأي رأيت. فقدم المهاجرين والأنصار.(16/299)
قال الشعبي: استأذن عدي على عمر فقال له: تعرفني؟ قال عمر: نعم، فحباك الله أحسن المعرفة، أسلمت إذ كفروا، ووفيت إذ غدروا، وأعطيت إذ منعوا. وفي حديث آخر: وأقبلت إذ أدبروا. فقال: حسبي يا أمير المؤمنين حسبي.
وعن عدي بن حاتم قال: أتيت عمر بن الخطاب في أناس من قومي، فجعل يفرض للرجل من طيئ في ألفين ويعرض عني، قال: فاستقبلته فأعرض عني، ثم أتيته من حيال وجهه فأعرض عني، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتعرفني؟ قال: فضحك حتى استلقى لقفاه، ثم قال: نعم والله إني لأعرفك، آمنت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وإن أول صدقة بيضت وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدقة طيئ، جئت بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أخذ يعتذر ثم قال: إنما فرضت لقوم أجحفت بهم الفاقة وهم سادة عشائرهم لما ينوبهم من الحقوق.
وعن نابل مولى عثمان بن عفان وحاجبه قال: جاء عدي بن حاتم إلى باب عثمان وأنا عله فنحيته عنه، فلما خرج عثمان إلى الظهر عرض له، فلما رآه عثمان رحب به وانبسط إليه، فقال عدي: انتهيت إلى بابك وقد غم آذنك الناس فحجبني عنك. فالتفت إلي عثمان فانتهرني وقال: لا تحجبه واجعله أول من تدخله، فلعمري إنا لنعرف له حقه وفضله، ورأي الخليفتين فيه وفي قومه، فقد جاءنا بالصدقة يسوقها والبلاد تضطرم كأنها شعل النار من أهل الردة، فحمده المسلمون على ما رأوا منه.
وفي حديث ذكروه في استنقاذ عدي بن حاتم من ارتد من طيئ، فكان خير مولود ولد في طيئ، وأعظمه عليهم بركة.
قال عدي بن حاتم: ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء.
وعنه قال: ما جاء وقت الصلاة قط إلا وقد أخذت لها أهبتها، وما جاءت إلا وأنا إليها بالأشواق.(16/300)
أرسل الأشعث بن قيس إلى عدي بن حاتم يستعير قدور حاتم، فملأها وحملتها الرجال إليه، فأرسل إليه الأشعث: إنما أردناها فارغة. فأرسل إليه عدي: إنا لا نعيرها فارغة.
حدث من رأى عدي بن حاتم يفت الخبز للنمل ويقول: إنهن لجارات، ولهن حق.
خطب عمرو بن حريث إلى عدي بن حاتم. فقال: لا أزوجك إلا على حكمي، فرجع عمرو وقال: امرأة من قريش على أربعة آلاف درهم أعجب إلي من امرأة من طيئ على حكم أبيها. فرجع، ثم أبت نفسه، فرجع إليه فقال: على حكمي؟ قال: نعم، فرجع عمرو بن حريث، فلم ينم ليلته مخافة أن يحكم عليه بما لا يطيق، فلما أصبح بعث إليه أن عرفني ما حكمت به علي؟ فأرسل إليه: إني حكمت بأربع مئة درهم وثمانين درهماً سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي رواية: مهر عائشة. فبعث إليه بعشرة آلاف درهم وكسوة، فردها وفرق الثياب في جلسائه وقال: من الطويل:
يرى ابن حريث أن همي ماله ... وما كنت موصوفاً بحب الدراهم
وقالت قريش: لا تحكمه إنه ... على كل ما حال عدي بن حاتم
فيذهب منك المال أول وهلة ... وحمامها والنخل ذات الكمائم
فقلت: معاذ الله من ترك سنة ... جرت من رسول الله والله عاصمي
وقلت: معاذ الله من سوء سنة ... تحدثها الركبان أهل المواسم
أخذ رجل بلجام عدي بن حاتم فقال له: أتفخر بأبيك وهو جمر في النار؟ وتتفخر على قومك بأن تجلس على وطاء دونهم؟ وذكر أشياء تقصر به، وهو واقف لا يحرك بغلته، فقال له لما سكت: إن كان بقي عندك شيء تريد أن تذكره فافعل قبل أن يأتي شباب الحي، فإنهم إن سمعوك تقول هذا لشيخهم لم يرضوا.(16/301)
قال عدي بن حاتم: كان أبي يقول: ما بدأت أحداً بشر، ولا تذمرت على جار لي، ولا سألني أحد شيئاً فرددته.
دخل قوم على عدي بن حاتم فقالوا له: أخبرنا عن السيد الشريف؟ قال: هو الأحمق في ماله، الذليل في عرضه، الطارح لحقده، المعنى بأمر عامته.
قيل لعدي بن حاتم: أي الأشياء أثقل عليك؟ قال: تجربة الصديق، ومسلة اللئيم، ورد سائلي بلا نيل. قيل: فأي الأشياء أوضع للرجال؟ قال: كره الإسلام، وإضاعة الأسرار، والثقة بكل أحد.
قال عدي بن حاتم: لسان المرء ترجمان عقله.
قال عدي بن حاتم: إن معروفكم اليوم منكر زمان قد مضى، وإن منكركم اليوم معروف زمان ما أتى، وإنكم لن تبرحوا بخير ما دمتم تعرفون ما كنتم تنكرون، ولا تنكرون ما كنتم تعرفون، وما دام عالمكم يتكلم بينكم غير مستخف.
قال محمد بن سيرين: لما قتل عثمان قال عدي بن حاتم: لا ينتضح في قتلة عنزان، فلما كان يوم صفين فقئت عينه، فقيل له: لا ينتطح في قتل عثمان عنزان! قال: بلى، وتفقأ عيون كثيرة.
هكذا ورد يوم صفين، وإنما فقئت عين عدي يوم الجمل، فإنه حضر الدار، فلما خرج(16/302)
الناس يقولون: قتل عثمان، قال عدي: لا تحبق في فتله عناق حوليه. فلما كان يوم الجمل فقئت عينه، وقتل ابنه محمد مع علي، وقتل ابنه الآخر مع الخوارج، فقيل له: يا أبا طريف، هل حبقت في قتل عثمان عناق حوليه؟ فقال: بلى وربك، والتيس الأعظم.
وكان يوم صفين من أصحاب علي على قضاعة وطيئ بن عدي بن حاتم الطائي.
نظر علي بن أبي طالب إلى عدي بن حاتم كئيباً حزيناً، فقال: ما لي أراك كئيباً حزيناً؟ فقال: وما يمنعني يا أمير المؤمنين! وقد قتل ابني وفقئت عيني؟ فقال: يا عدي، إنه من رضي بقضاء الله جزي عليه وكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جزي عليه وحبط عمله.
حدث عيسى بن يونس عن أبيه عن جده قال: عندنا في الحي مأدبة، فرأيت فيها ثلاثة رجال عور، كأن وجوههم بيض النعام، لم أر صفحة وجوه أحسن منها، وهم: جرير بن عبد الله البجلي، والأشعث بن قيس الكندي، وعدي بن حاتم الطائي.
استأذن عدي بن حاتم على معاوية وعنده عبد الله بن الزبير، فقال له عبد الله: بلغني يا أمير المؤمنين أن عند هذا الأعور جواباً، فلو شئت هجته. فقال: أما أنا فلا أفعل، ولكن دونكاه إن بدا لك. فلما دخل عدي قال له عبد الله بن الزبير: في أي يوم فقئت عينك يا أبا طريف؟ فقال له: في اليوم الذي قتل فيه أبوك، وكشف فيه استك، ولطم فيه علي قفاك، وأنت منهزم. يعني ابن الزبير.
وزاد في آخر بمعناه: فضحك معاوية وقال له: ما فعلت الطرفات يا أبا طريف؟ قال: قتلوا، قال: ما أنصفك ابن أبي طالب إن قتل بنوك معه وبقي له بنوه. قال:(16/303)
إن ذاك، لقد قتل وبقيت أنا من بعده. قال له معاوية: أليس زعمت أنه لا تحبق في قتل عثمان عنز؟ قال: قد والله حبق فيه التيس الأكبر. قال معاوية: إلا أنه قد بقي من دمه قطرة ولا بد من أن أتتبعها، قال عدي: لا أبا لك شم السيف، فإن سل السيف يسل السيف. فالتفت معاوية إلى حبيب بن مسلمة فقال: اجعلها في كنانتك فإنها حكمة.
وعاش عدي بن حاتم مئة وثمانين سنة، فلما أسن استأذن قومه في وطاء يجلس فيه في ناديهم وقال: إني أكره أن يظن أحدكم أني أرى أن لي عليه فضلاً، ولكني قد كبرت ورق عظمي فقالوا: انتظر. فلما أبطأوا عليه أنشأ عليه أنشأ يقول: من الوافر:
أجيبوا يا بني ثعل بن عمرو ... ولا تكموا الجواب من الحياء
فإني قد كبرت ورق عظمي ... وقل اللحم من بعد النقاء
وأصبحت الغداة أريد شيئاً ... يقيني الأرض من برد الشتاء
وطاء يا بني ثعل بن عمرو ... وليس لشيخكم غير الوطاء
فإن ترضوا به فسرور راض ... وإن تأبوا فإني ذو إباء
سأترك ما أردت لما أردتم ... وردك من عصاك من العناء
لأني من مساءتكم بعيد ... كبعد الأرض من بعد السماء
وإني لا أكون لغير قومي ... وليس الدلو إلا بالرشاء
فأذنوا له أن يبسط في ناديهم، وطابت به أنفسهم، وقالوا: أنت شيخنا وسيدنا وما فينا أحد يكره ذلك ولا يدفعه.
قال المغيرة: خرج عدي بن حاتم وجرير بن عبد الله البجلي وحنظلة الكاتب من الكوفة، فنزلوا(16/304)
قرقيسياء وقالوا: لا يقيم ببلد يشتم فيه عثمان، وقبورهم بقرقيسيا.
عدي بن ربيعة بن سواءة
ويقال: عدي بن سواءة بن جشم بن سعد.
والد محمد التميمي السعدي، أدرك سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفد على ابن جفنة الغساني بالشام، وكان منزل ابن جفنة بأعمال دمشق.
حدث خليفة بن عبدة المنقري قال: سألت محمد بن عدي بن سواءة بن جشم بن سعد: كيف سماك أبوك محمداً؟ قال: أما إني قد سألت كما سألتني عنه فقال: خرجت رابع أربعة من بني تميم، أنا أحدهم وسفيان بن مجاشع بن دارم، ويزيد بن عمرو بن ربيعة، وأسامة بن مالك بن جندب بن العنبر نريد ابن جفنة الغساني، فلما قدمت الشام نزلنا على غدير فيه شجيرات وقربه قائم لديراني، فأشرف علينا وقال: إن هذه للغة ما هي لأهل هذا البلد. قال: قلنا: نعم، نحن قوم من مضر، فقال: من أي المضريين أنتم؟ قلنا: من خندق. قال: أما إنه سيبعث وشيكاً نبي، فسارعوا إليه وخذوا بحظكم منه ترشدوا، وإنه خاتم النبيين، واسمه محمد، فلما انصرفنا من عند ابن جفنة وصرنا إلى أهلنا ولد لكل رجل منا غلام فسميناه محمداً تأميلاً أن يكون ابنه ذاك النبي المبعوث.(16/305)
عدي بن الرعلاء الغساني
من بني كوث بن تفلذ ثم من بني عمرو بن مازن بن الأزد، شاعر مجيد، كان يكون ببادية دمشق، والرعلاء أمه، وهو القائل: من الخفيف:
كم تركنا بالعين عين أباغ ... من ملوك وسوقة ألقاء
فرقت بينهم وبين نعيم ... ضربة من صفيحة نجلاء
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعش ذليلاً ... كاسفاً باله قليل الرخاء
فأناس يمصصون ثماداً ... وأناس حلوقهم في الماء
ربما ضربة بسيف صقيل ... بين بصرى وطعنة نجلاء
وغموس تضل فيهايد الآ ... سي ويعيا طبيبها بالدواء
ومن شعره: من الكامل
إني ليحمدني الخليل إذا اجتدى ... مالي ويكرهني ذوو الأضغان
وأعيش بالنيل القليل وقد أرى ... أن الرموس مصارع الفتيان
وتظل تخلجني الهموم كما ترى ... دلو السقاة يمد بالأشطان
وقد رويت هذه الأبيات للحارث بن رعلاء الغساني.(16/306)
عدي بن زيد بن حمار بن زيد
ابن أيوب ابن محروب بن عامر بن عصبة بن امرئ القيس ابن زيد مناة ابن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار التميمي.
شاعر من شعراء الجاهلية، كان نصرانياً فكان يسكن الحيرة، وأرسله صاحب الحيرة إلى ملك الروم بهدية، ودخل دمشق وذكرها في شعره، وهو المعروف بالعبادي، والعباد هم نصارى الحيرة.
وحمار: بكسر الحاء المهملة وآخره راء، وذكر الأصبهاني: خمار بدل حمار، وقال: ابن محروف بدل ابن محروب.
وهو في الطبقة الرابعة، وهم أربعة رهط فحول شعراء، موضعهم مع الأوائل، وإنما(16/307)
أخل قلة شعرهم بأيدي الرواة: طرفة، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة بن عبدة، وعدي بن زيد. وهو الشاعر الذي قتله النعمان، وله أخ يقال له: عمير بن زيد، وله ابنان: زيد بن عدي وهو شاعر، وعمرو، والعبادي: بكسر العين.
قال حبيب بن أبي ثابت: كان ابن عباس يعجبه شعر زهير، وكان معاوية يعجبه شعر عدي، وكان الزبير يعجبه شعر عنترة.
حدث عمرو بن جرير قال: تدرون أي يوم تنصر فيه النعمان بن المنذر؟ قلنا: لا، قال: إنه خرج متنزهاً متصيداً، وكان النعمان يعبد الأوثان، فمر بمقابر بظاهر الحيرة، فوقف قريباً منها فقال له عدي بن زيد: أبيت اللعن! تدري ما تقول هذه المقابر؟ قال: لا، قال: إنها تقول: من مجزوء الرمل:
أيها الركب المحثون ... على الأرض مجدون
فكما أنتم كنا ... وكما نحن تكونون
قال: أعد علي، فأعاد عليه، فرجع النعمان وهو رقيق، ثم خرج خرجة أخرى فوقف على مقابر، فقال له عدي، أبيت اللعن! تدري ما تقول هذه؟ قال: ما تقول؟ قال: تقول: من الرمل:
رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
ثم بادوا عصف الدهر بهم ... وكذلك الهر حالاً بعد حال
قال: أعد فأعاد، فرجع متنصراً ومات نصرانياً.(16/308)
قال خالد بن صفوان بن الأهتم: وفدت إلى هشام بن عبد الملك في أهل العراق، فقدمت عليه وقد خرج مبتدياً بحشمه وأهله وجلسائه، وقد نزل في أرض صحصح، في عام كثر وسميه، وأخرجت الأرض زينتها من اختلاف ألوان نبتها، وقد ضرب له سرادق من حبرة ملونة، وقد فرشت له ألوان الفرش، وقد أخذ الناس مجالسهم، فأخرجت رأسي من ناحية الفسطاط، فنظر إلي شبه المستنطق لي، فدعوت له وقلت: ما أجد يا أمير المؤمنين شيئاً أبلغ من حديث من سلف قبلك من الملوك، فإن أذن لي أمير المؤمنين أخبره به. فاستوى جالساً وقال: هات يا بن الأهتم. قلت: يا أمير المؤمنين، إن ملكاً خرج في عام مثل عامنا هذا إلى الخورنق والسدير، وكان قد أعطي بسطة في الملك مع الكثرة والغلبة والقهر، فنظر فأنفذ النظر، فقال لجلسائه: لمن هذا؟ قالوا: للملك. قال: فهل رأيتم أحد أعطي مثل ما أعطيت؟ وكان عنده رجل من بقايا حملة الحجة، ولم تخل الأرض من قائم لله بحجته في عباده، فقال: رأيت ما أنت فيه، أشيء لم تزل فيه أم شيء صار إليك ميراثاً، وهو زائل عنك وصائر إلى غيرك كما صار إليك؟ قال: كذلك هو. قال: فأراك إنما عجبت بشيء يسير، فلا تكون فيه إلا قليلاً وتنقل طويلاً، فيكون غداً عليك حساباً. قال: ويحك فأين المهرب وأين المطلب؟ وأخذته الأقشعريرة، قال: إما أن تقيم في ملكك، فتعمل فيه بطاعة الله على ما ساءك وسرك، وأمضك وأرمضك، وإما أن تنخلع عن ملكك(16/309)
وتضع تاجك، وتلقي عليك أطمارك، وتعبد ربك في هذا الجبل حتى يأتيك أجلك. قال: فإني مفكر الليلة وأوافيك في السحر فأخبرك أحد المنزلتين. فلما كان في السحر جاءه فقال: إني اخترت هذا الجبل وفلوات الأرض، وقد لبست أمساحي، ووضعت تاجي، فإن كنت رفيقاً لا تخالف، فلزمنا الحبل حتى أتاهما أجلهما، وهو الذي يقول فيه عدي بن زيد العبادي: من الخفيف:
أيها الشامت المعير بالده ... ر أأنت المبرأ الموفور؟
أم لديك العهد الوثيق من الأي ... ام بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى الملوك أبو سا ... سان أم أين قلبه سلبور
وبنو الأصفر الكرام ملوك الر ... وم لم يبق منهم مذكور
وأخو الحصن إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور
شاده مرمراً وخلله كا ... ساً فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذ أش ... رف يوماً، وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرض والسدير
فارعوى قلبه وقال فما غب ... بطة حي إلى الممات يسير
ثم بعد الفلاح والملك والإم ... مة وارتهم هناك القبور(16/310)
ثم صاروا كأنهم ورق جف ... ف فألوت به الصبا والدبور
فبكى هشام حتى اخضلت لحيته، وخمل عمامته، وأمر بأبنية وبقلاع فرشه وحشمه، ولزم قصره، فأقبلت الموالي والحشم على خالد بن صفوان فقالوا: ماذا أردت إلى أمير المؤمنين؟! أفسدت عليه لذته ونغصت عليه مأدبته. فقال: إليكم عني فإني عاهدت الله ألا أخلو بملك إلا ذكرته الله عز وجل. فبعث إلى واحد من الوفد بجائزة، وكانوا عشرة، وبعث إلى خالد بمثل جميع ما وجه إلى جميع الوفد.
وقال ابن الكلبي: كان سبب نزول عدي بن زيد الحيرة أن جده أيوب بن محروف كان منزله اليمامة في بني امرئ القيس بن زيد مناة، فأصاب دماً في قومه، فهرب، فحلق بأوس بن قلام أحد بني الحارث بن كعب بالحيرة، وكان بين أيوب وبين أوس بن قلام هذا نسب من قبل النساء، فلما قدم عليه أيوب أكرمه وأنزله في داره، فمكث معه، ثم قال له أوس: يا بن خالي أتريد المقام عندي وفي داري؟ فقال له أيوب: نعم، فقد علمت أني إن أتيت قومي وقد أصبت فيهم دماً لم أسلم، وما لي دار إلا دارك آخر الدهر، قال: فإني تذكرت وأنا خائف أن أموت ولا يعرف ولدي لك من الحق مثل ما أعرف، وأخشى أن يقع بينك وبينهم أمر يقطعون فيه الرحم، فانظر أحب مكان في الحيرة إليك فأعلمني به لأقطعكه أو أبتاعه لك. قال: وكان لأيوب صديق في الجانب الشرقي من الحيرة، وكان منزل أوس في الجانب الغربي، فقال له: قد أحببت. أن يكون المنزل الذي تسكنيه عند منزل عصام بن عقدة، أحد بني الحارث بن كعب، فابتاع له موضع داره بثلاث مئة أوقية من ذهب،(16/311)
وأنفق عليها مئتي أوقية من ذهب، وأعطاه مئتين من الإبل برعاتها، وفرساً وقينة، ثم هلك أوس، فتحول إلى داره التي في شرقي الحيرة فهلك بها، وقد كان اتصل قبل مهلكه الملوك الذين كانوا بالحيرة وعرفوا حقه وحق ابنه زيد بن أيوب، فلم يكن منهم ملك يملك إلا ولولد أيوب منه جوائز وحملان، ثم إن زيد بن أيوب نكح امرأة من آل قلام فولدت له حماراً، فخرج زيد بن أيوب يوماً يتصيد في أناس من أهل الحيرة، متبدون بحفير المكان الذي يذكره عدي بن زيد في شعره، فانفرد وتباعد عن أصحابه، فلقيه رجل من امرئ القيس الذي كان لهم الثأر قبل أبيه، فقال له وقد عرف فيه شبه أيوب: ممن الرجل؟ قال: من بني تميم، قال: من أيهم؟ قال: مرئي، قال له الأعرابي: وأين منزلك؟ قال: الحيرة، قال: من بني أيوب؟ قال: نعم، ومن أين تعرف بني أيوب؟! واستوحش من الأعرابي، وذكر الثأر الذي هرب منه أبوه، فقال له: سمعت بهم، ولم يعلمه أنه قد عرفه، فقال له ابن أيوب: فمن أي العرب أنت؟ قال: أنا امرؤ من طيئ، فأمنه زيد، ثم إن الأعرابي اغتفل ابن أيوب فرماه بسهم بين كتفيه فعلق قلبه، فلم يرم حافر دابته حتى مات، فلما كان الليل طلب زيداً أصحابه وظنوا أنه قد أمعن في الصيد، فباتوا يطلبونه حتى أيسوا منه، ثم غدوا في طلبه واقتصوا أثره حتى وقعوا عليه، ورأوا معه أثر راكب آخر يسايره، فاتبعوا الأثر حتى وجدوه قتيلاً، فعرفوا أن صاحب الراحلة قتله، فاتبعوه وأغذوا السير فأدركوه مسي الليلة الثانية، فصاحوا به وكان من أرمى الناس فامتنع منهم بالنيل، حتى حال الليل بينهم وبينه، وقد أصاب رجلاً منهم في مرجع كتفه بسهم، فلما أجنه الليل مات، وأفلت المرئي، فرجعوا وقد قتل زيد بن أيوب ورجل آخر من بني الحارث بن كعب، فمكث حمار في أخواله حتى أيفع، فخرج يوماً يلعب مع غلمانه بني لحيان، فلطم اللحياني عين الحمار، فشجه حمار، فخرج أبو اللحياني فضرب حماراً، فأتى أمه يبكي، فأخبرها، فجزعت أمه من ذلك وحولته(16/312)
إلى دار زيد بن أيوب وعلمته الكتابة في دار أبيه، فكان حمار أول من كتب من بني أيوب، فخرج من أكتب الناس، وطلب حتى صار كاتب الملك النعمان الأكبر، فلبث كاتباً له حتى ولد له ابن من امرأة تزوجها من طيئ فسماه زيداً باسم أبيه، وكان لحمار صديق من الدهاقين العظماء يقال له: فروخ ماهان، وكان محسناً إلى حمار، فلما حضرت حماراً الوفاة أوصى بابنه زيد إلى الدهقان وكان من المرازبة فأخذه الدهقان وكان مع ولده، وكان زيد قد حذق الكتابة العربية قبل أن يأخذه الدهقان، فعلمه لما أخذه الفارسية فلقنها وكان لبيباً فأشار الدهقان على كسرى أن يجعله على البريد في حائجه، ولم يكن كسرى يفعل ذلك إلا بأولاد المرازبة، فمكث ستولى ذلك لكسرى زماناً، ثم إن النعمان النصري اللخمي هلك، فاختلف أهل الحيرة فيمن يملكونه إلى أن يقعد كسرى الأمر لرجل ينصبه، فأشار عليهم المرزبان بزيد بن حمار، فكان على الحيرة إلى أن ملك كسرى المنذر بن ماء السماء، ونكح زيد بن حمار نعمة بنت ثعلبة العدوية، فولدت له عدياً، وملك المنذر فكان لا يعصيه في شيء، وولد للمرزبان ابن فسماه شاهان مرد، فلما تحرك عدي بن زيد وأيفع طرحه أبوه في الكتاب، حتى إذا حذق أرسله المرزبان مع ابنه شاهان مرد إلى كتاب
الفارسية، فخرج من أفهم الناس وأفصحهم بالعربية، وقال الشعر وتعلم رمي النشاب، فخرج من الأساورة الرماة، وتعلم لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها. ية، فخرج من أفهم الناس وأفصحهم بالعربية، وقال الشعر وتعلم رمي النشاب، فخرج من الأساورة الرماة، وتعلم لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها.
ثم إن المرزبان وفد على كسرى ومعه ابنه شاهان مرد، فبيناهما بين يديه إذ سقط طائران على السور، فتطاعما كما يتطاعم الذكر والأنثى، وجعل كل واحد منهما منقاره في(16/313)
منقار الآخر، فغضب كسرى ولحقته غيرة، فقال للمرزبان وابنه: ليرم كل واحد منكما واحداً من هذين الطائرين، فإن قتلتماهما أدخلتكما بيت المال وملأت أفواهكما بالجواهر، ومن أخطأ منكما عاقبته، فاعتمد كل واحد منهما طائراً ورميا فقتلاهما، فبعث بهما إلى بيت المال فملئت أفواههما جوهراً، وأثبت شاهان مرد وسائر أولاد المرزبان في صحابته، فقال فروخ ماهان: عندي غلام من العرب مات أبوه وخلفه في حجري، وهو أفصح الناس وأكتبهم بالعربية والفارسية، واملك محتاج إلى مثله، فإن رأى أن يثبته في ولدي فعل، قال: ادعه. فأرسل إلى عدي بن زيد، وكان جميل الوجه فائق الحسن، وكانت الفرس تتبرك بالجميل الوجه، فلما كلمه وجده أظرف الناس وأحضرهم جواباً، فرغب فيه وأثبته معه ولد المرزبان، فكان عدي أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى، فرغب أهل الحيرة في عدي ورهبوه، ففلم يزل بالمدائن في ديوان كسرى يؤذن له عليه في الخاصة، وهو معجب به، قريب منه، وأبوه زيد بن حمار يومئذ حي، إلا أن ذكر عدي قد ارتفع، وخمل ذكر أبيه، فكان إذا دخل إلى المنذر قام جميع من عنده حتى يقعد عدي.
ثم إن كسرى أرسل عدي بن زيد إلى ملك الروم بهدية من طرف ما عنده، فلما أتاه عدي بها أكرمه وحمله على البريد إلى أعماله ليريه سعة أرضه وعظم ملكه، فمن ثم وقع عدي بدمشق وقال فيها الشعر.
قال: وفسد أمر الحيرة وعدي بدمشق، حتى أصلح أبوه بينهم، وذلك لأن الحيرة حين كان عليها المنذر أرادوا قتله لأنه كان يعدل فيهم، وكان يأخذ من أموالهم ما يعجبه، فلما تيقن أن أهل الحيرة أجمعوا على قتله، بعث إلى زيد بن حمار، وكان قبله على الحيرة، فقال له: يا زيد، أنت خليفة أبي، وقد بلغني ما أجمع عليه أهل الحيرة، فلا حاجة لي في ملككم، دونكموه فملكوه من شئتم. فقال له زيد: إن الأمر ليس إلي، ولكني أشير إلى هذا الأمر ولا آلوك نصحاً. فلما أصبح غدا إليه الناس فحيوه تحية الملك، وقالوا له: ألا تبعث إلى الظالم يعنون المنذر فتريح منه رعيتك؟ قال لهم: أفلا خير من ذلك؟ قالوا له: أشر علينا. قال: تدعونه على حاله فإنه من أهل بيت ملك، وأنا آتيه(16/314)
فأخبروه أن أهل الحيرة قد اختاروا رجلاً يكون أمر الحيرة إليه، إلا أن يكون عزف ومال، فلك اسم الملك وليس إليك شيء سوى ذلك من الأمور. قالوا: رأيك أفضل. فأتى المنذر، فأخبره ما قالوا، فقبل ذلك وفرح، وقال: إن لك يا زيد نعمة علي لا أكفرها ما عرفت حق سبد وسبد صنم لأهل الحيرة فولى أهل الحيرة زيداً على كل شيء سوى اسم الملك، فإنهم أقروه للمنذر، وفي ذلك يقول عدي: من الرمل:
نحن كنا قد علمتم قبلكم ... عمد البيت وأوتاد الإصار
ثم هلك زيد وابنه عدي بالشام، وكانت لزيد ألف ناقة للحملات، كان أهل الحيرة أعطوه إياها حين ولوه ما ولوه، فلما أرادوا أخذها، فبلغ ذلك المنذر فقال: لا واللات والعزى، لا يؤخذ مما كان في يد زيد ثفروق وأنا أسمع الصوت. ففي ذلك يقول عدي بن زيد لأبيه النعمان بن المنذر: من الرمل:
وأبوك المرء لم نشق به ... يوم سيم الخسف قمنا بخسار
ثم قدم عدي المدائن على كسرى بهدية قيصر، فصادف أباه والمرزبان الذي رباه هلكا، فاستأذن كسرى في الإلمام بالحيرة، فأذن له، فتوجه إليها، وبلغ المنذر خبره فخرج فتلقاه بالناس باشنبينا، ورجع معه.
وعدي أنبل أهل الحيرة في أنفسهم، ولو أرادوا أن يملكوه لملكوه، ولكنه كان يوثر الصيد واللهو على الملك، فمكث سنين يبدو في فصلي السنة، فيقيم بالبر ويشتو بالحيرة، ويأتي المدائن في خلال ذلك، فيخدم كسرى، فمكث كذلك سنين، وكان لا يوثر على بلاد بني يربوع شيئاً من مبادي العرب، ولا ينزل في حي من أحياء بني تميم غيرهم، وكان أخلاؤه من العرب كلهم بني جعفر، وكانت لإبله في ضبة وبلاد بني سعد، وكذلك كان(16/315)
أبوه يفعل يجاور هذين الحيين بإبله، ولم يزل كذلك حتى تزوج هند بنت النعمان بن المنذر، وهي يومئذ جارية حتى بلغت أو كادت.
وكان المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان في حجر عدي بن زيد، فهم الذين أرضعوه وربوه، وكلن للمنذر ابن آخر يقال له: الأسود، أمه مارية بنت الحارث بن جلهم من تيم الرباب، فأرضعوه ورباه قوم من أهل الحيرة يقال لهم بنو مرينا، ينتسبون إلى لخم، وكانوا أشرافاً، وكان للمنذر سوى هذين من الولد عشرة، وكان ولده يقال لهم: الأشاهب من جمالهم، ولذلك أعشى قيس بن ثعلبة: من الخفيف:
وبنو المنذر الأشاهب بالح ... رة يمشون غدوة كالسيوف
وكان النعمان من بينهم أحمر أبرش قصيراً، وأمه سلمى بنت وائل بن عطية الصائغ من أهل فدك، فلما احتضر المنذر أوصى بولده إلى إياس بن قبيصة الطائي وملكه على الحيرة إلى أن يرى كسرى بن هرمز رأيه، فمكث مملكاً عليها أشهراً وكسرى في طلب رجل يملكه عليهم، فلم يجد أحداً يرضاه، فضجر وقال: لأبعثن إلى الحيرة اثني عشر ألفاً من الأساورة، ولأملكهن عليهم رجلاً من الفرس، ولآمرنهم أن ينزلوا على العرب في دورهم ويملكوا عليهم أموالهم ونساءهم. وكان عدي بن زيد واقفاً بين يديه، فقال: ويحك يا عدي! من بقي من آل المنذر، وهل فيهم أحد فيه خير؟ قال له: نعم أيها الملك، إن فيهم لبقية وفيهم كل خير. قال: ابعث إليهم فأحضرهم. فبعث عدي إليهم، فأحضرهم وأنزلهم جميعاً عنده، فلما نزلوا عليه أرسل النعمان: لست أملك غيرك فلا يوحشك ما أفضل به إخوتك عليك من الكرامة، فإني أغترهم بذلك. ثم كان يفضل إخوته جميعاً عليه في النزل والإكرام والملازمة ويريهم تنقصاً للنعمان، وأنه غير طامع في تمام أمر على يده، وجعل يخلو بهم رجلاً رجلاً فيقول: إذا أدخلتم على الملك فالبسوا أفخر ثيابكم(16/316)
وأجملها، وإذا دعي لكم بالطعام لتأكلوا فتباطؤوا في الأكل، وصغروا اللقم، ونزروا ما تأكلون، فإذا قال لكم: أتكفوني العرب؟ فقولوا: نعم، فإذا قال لكم: فإن شذ أحدكم عن الطاعة أو أفسد أفتكفونيه؟ فقولوا: لا، إن بعضنا لا يقدر على بعض ليهابكم ولا يطمع في تفرقكم، ويعلم أن للعرب منعة وبأساً. فقبلوا منه، وخلا بالنعمان فقال له: البس ثياب السفر وادخل متقلداً سيفك، وإذا جلست للأكل فعظم اللقم وأسرع المضغ والبلع، وزد في الاكل وتجوع قبل ذلك، فإن كسرى تعجبه كثرة الأكل ومن العرب خاصة، ويرى أنه لا خير في العربي إذا لم يكن أكولاً شرهاً ولا سيما إذا رأى طعامه وما لا عهد له بمثله، فإذا سألك هل تكفيني العرب؟ فقل: نعم، فإذا قال لك: فمن لي بإخواتك؟ فقل له: إن عجزت عنهم فإني عن غيرهم أعجز. قال: وخلا ابن مرينا بالأسود، فسأله عما أوصاه به عدي فأخبره، فقال له: غشك والصليب والمعمودية ما نصحك، ولئن أطعتني لتخالفن كل ما أمرك به ولتملكن، ولئن عصيتني ليملكن النعمان فلا يعرنك ما أولاكه من الإكرام والتفضيل على النعمان، فإن ذلك دهاء ومكر، وإن هذه المعدية لا تخلو من مكر وحيلة. فقال له: إن عدياً لم يألني نصحاً، وهو أعلم بكسرى منك، وإن خالفته أوحشته فأفسد علي، وهو جاء بنا ووصفنا، وإلى قوله يرجع كسرى، فلما يئس ابن مرينا من قبوله منه قال له: ستعلم. ودعا بهم كسرى فلما دخلوا عليه أعجبه جمالهم وكمالهم، ورأى رجالاً قل ما رأى مثلهم، فدعا لهم بالطعام ففعلوا ما أمرهم عدي، فجعل ينظر إلى النعمان من بينهم ويتأمل أكله، فقال لعدي بالفارسية: إن يكن في أحد منهم ففي هذا. فلما غسلوا أيديهم جعل يدعو بهم رجلاً رجلاً فيقول أتكفيني العرب؟ فيقول: نعم أكفيكها كلها إلا إخوتي، حتى انتهى إلى النعمان آخرهم فقال له: أتكفيني العرب؟ قال: نعم. قال: كلها؟ قال: نعم. قال: فكيف لي بإخوتك؟ قال: إن عجزت عنهم فأنا عن غيرهم أعجز. فملكه وخلع عليه، وألبسه تاجاً قيمته ستون ألف درهم، فيه اللؤلؤ والجوهر والياقوت والزبرجد، فلما خرج وقد ملك قال ابن مرينا للأسود: دونك عقبى خلافتك لي.(16/317)
ثم إن عدياً صنع طعاماً في بيعة، فأرسل إلى ابن مرينا أن ائتني بمن أحببت، فإن لي حاجة. فأتاه في ناس، فقعدوا في البيعة، فقال عدي بن زيد لابن مرينا: إن أحق من عرف الحق ولم يلم عليه من كان مثلك، وإني قد عرفت أن صاحبك الأسود بن المنذر كان أحب إليك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وأنا أحب أن لا تحقد علي شيئاً لو قدرت عليه ركبته، وأنا أحب أن تعطيني من نفسك ما أعطيك من نفسي، فإن نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك. وقام إلى البيعة، فحلف أن لا يهجوه أبداً، ولا يبغيه غائلة، ولا يزوي عنه خيراً، فلما فرغ عدي بن زيد قام عدي بن مرينا فحلف بمثل يمينه أن لا يزال يهجوه أبداً، ويبغيه الغوائل ما بقي. وخرج النعمان حتى نزل منزل أبيه بالحيرة، فقال عدي بن مرينا لعدي بن زيد: من الوافر:
ألا أبلغ عدياً عن عدي ... ولا تجزع وإن رثت قواكا
هيا كلنا تنوء لغير فقد ... لتحمد أو يتم به علاكا
فإن تظفر فلم تظفر حميداً ... وإن تعطب فلا يبعد سواكا
ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناك ما صنعت يداكا
ثم قال عدي بن مرينا للأسود: أما إذ لم تظفر فلا تعجز أن تطلب بثأرك من هذا المعدي الذي فعل بك ما فعل، فقد كنت أخبرك أن معداً لا ينام كيدها، وأمرتك أن تعصيه فخالفتني. قال: فما تريد؟ قال: أريد أن لا يأتيك فائدة من مالك وأرضك إلا عرضتها علي، ففعل، وكان ابن مرينا كثير المال والضيعة، فلم يكن في الدهر يوم يأتي إلا على باب النعمان هدية من ابن مرينا، فصار من أكرم الناس عليه حتى كان لا يقضي في(16/318)
ملكه شيئاً إلا بأمر ابن مرينا، وكان إذا ذكر عدي بن زيد عند النعمان أحسن الثناء عليه وشيع ذلك بأن يقول: عدي بن زيد فيه مكر وخديعة، والمعدي لا يصلح إلا هكذا. فلما رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن مرينا عنده لزموه وتابعوه، فجعل يقول لمن يثق به من أصحابه: إذا رأيتموني أذكر عدياً عند الملك بخير فقولوا: إنه لكذلك ولكنه لا يسلم عليه من أصحابه أحد، وإنه ليقول: إن الملك يعني النعمان عامله، وإنه هو ولاه ما ولاه، فلم يزالوا كذلك حتى أضغنوه عليه، وكتبوا كتاباً على لسانه إلى قهرمان له، ثم دسوا إليه حتى أخذوا الكتاب منه، وأتوا به النعمان فقرأه، واشتد غضبه، وأرسل إلى عدي بن يزيد: عزمت عليك إلا زرتني فإني قد اشتقت إلى رؤيتك، وعدي يومئذ عند كسرى، فاستأذن كسرى، فأذن له، فلما أتاهلم ينظر إليه حتىحبسه في محبس لا يدخل عليه فيه أحد، فجعل عدي يقول الشعر وهو في السجن، فمما قاله من أبيات: من الرمل:
أبلغ النعمان عني مالكاً ... أنه قد طال حبسي وانتظاري
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
في قصائد كثيرة كان يقولها فيه ويكتب بها إليه ولا يغني عنده شيئاً.
قال أبو بكر الهذلي: سمعت رجلاً ينشد الحسن شعر عدي بن زيد: من الخفيف:
وصحيح أضحى يعود مريضاً ... هو أدنى للموت ممن يعود
وأطباء بعدهم لحقوقهم ... ضل عنهم سعوطهم واللدود
أين أهل الديار من قوم نوح ... ثم عاد من بعدهم وثمود
أين أبناؤنا وأين بنوهم ... أين آباؤنا وأين الجدود(16/319)
سلكوا منهج المنايا فبادوا ... وأرونا قد حان منا ورود
بينما هم على النمارق والدي ... باج أفضت إلى التراب الخدود
ثم لم ينقض الحديث ولكن ... بعد ذاك الوعيد والموعود
فبكى الحسن حتى تحدرت دموعه على خديه ولحيته، ثم تلا: " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " ولعدي بن زيد: من الطويل:
عن المرء لا يسأل وسل عن قرينه ... فإن القرين بالمقارن يقتدي
وفي حديث آخر أن عمر بن هند ملك العرب، لما هلك وفدت وفود العرب إلى كسرى تلتمس الملك، وكان عدي بن زيد كاتب كسرى بالعربية، ووفد فيهم النعمان بن المنذر وكان أحدثهم سناً، فلما قدموا على كسرى قام كل رجل منهم يذكر شرفه وأفعاله، وطاعة قومه له، فقال لهم كسرى: انصرفوا إلى منازلكم حتى يخرج إليكم رأيي. فلما انصرفوا قال لعدي: أي هؤلاء ترى أن أملك وكان النعمان صديقاً لعدي من قبل أن كلاهما من أهل الحيرة؟ قال له عدي: أيها الملك، كلهم شريف محتمل، ولكن فيهم فتى من أهل بيت ملك، لا أراهم يرضون بملكه عليهم. قال: وكيف لا يرضون بما أفعل؟ قال: من قبل أن أمه فارسية وهم يأنفون أن يملكهم ابن فارسية. ولم تكن أم النعمان فارسية، إنما هي غسانية، ولكن عدياً أراد أن يكيد له للذي بينهما من الصداقة، فأغضب كسرى، فلما فرغ، قال النعمان لعدي: اخرج معي فأجعل الخاتم في يدك، ويكون الأمر أمرك. قال عدي: أخاف أن يفطن كسرى لما صنعت، ولكن اخرج فسوف ألحقك، فكان كذلك، فمكث بعده شيئاً ثم لحقه، فوفى له النعمان فجعل الخاتم في يده، وكان الأمر(16/320)
أمره، وكان بنو بقيلة معادين لعدي، فركب النعمان يوماً فقال له عدي: إنك ستمر ببني بقيلة ويعرضون عليك أن تنزل عندهم وتأكل طعامهم، وأنت إن فعلت لم أقم معك ساعة وانصرف إلى كسرى. فقال النعمان: إني لا أدخل إليهم ولا آكل طعامهم. فلما مر بهم تلقوه وقالوا: أيها الملك أكرمنا بنزولك إلينا ودخولك منزلنا. فتأبى عليهم، فقالوا: ننشدك الله أن تورثنا سبة ما عشنا، وعاراً في الناس. فلم يزالوا به حتى نزل إليهم وأكل من طعامهم، فلما بلغ ذلك عدياً انصرف إلى منزله، فلما رجع النعمان قال: أين عدي؟ قالوا: ذهب إلى منزله. قال: فادعوه. فأبى أن يجيب فأغضب النعمان، فقال لمن عنده من جنده وحشمه: ائتوني به ولو سحباً. فسحبوه، فلم يبلغوا به حتى أثروا به آثاراً قبيحة، فلما رآه النعمان علم أن فساده عند كسرى إن رآه على تلك الحال، فأمر به إلى السجن، فمكث في السجن زماناً يقول الشعرن ثم بلغ كسرى ما صنع به فأرسل أمناء من عنده، فقال: إن كان عدي على ما بلغني فأتوني النعمان في الحديد، وإن كان غير ذلك فأعلموني كيف كان. فراع ذلك النعمان فأسرى على عدي فقتله ودفنه، فلما جاء الأمناء قالوا أين عدي؟ قال: هيهات عدي مذ زمان، فصار عدي بن عدي كاتباً لكسرى بالعربية مكان أبيه، وأرضى النعمان الأمناء بشيء، فانصرفوا عنه، فعفوا عنه.
وذكر المفضل الضبي أن عدياً كان له أخ اسمه أبي، وكان عند كسرى، فكتب إليه عدي يخبره بما جرى له، فأخبر كسرى بأمره، فوجه كسرى رسولاً إلى النعمان يأمره بإطلاقه، فقتله النعمان في السجن، ثم ندم على قتله، وكان ذلك سبب تغير كسى للنعمان.(16/321)
عدي بن زيد بن مالك بن عدي
ابن الرقاع بن عصر بن عدة ويقال: عرة بن شعل بن معاوية بن الحارث وهو عاملة بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد أبو داود العاملي الشاعر المعروف بعدي الرقاع، ويقال: إن عاملة بنت وديعة بن قضاعة أم معاوية بن الحارث وإليها ينسبون.
قدم دمشق ومدح الوليد بن عبد الملك.
في الطبقة السابعة، وفي نسبه اختلاف، وكان أبرص، وهاجى جرير بن الخطفى، واجتمعا عند الوليد بن عبد الملك، فأنشده عدي قصيدة التي أولها: من الكامل:
عرف الديار توهماً فاعتادها
قال جرير: فحسدته على أبيات منها، حتى أنشدني صفة الظبية والغزال:
تزجي أغن كأن إبرة روقه(16/322)
قال جرير: فرحمته، فلما قال:
قلم أصاب من الدواة مدادها
رحمت نفسي وحالت الرحمة حسداً، وفيها يقول:
وقصيدة قد بت أجمع بيتها ... حتى أقوم ميلها وسنادها
نظر المثقف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافة ميادها
وعلمت حتى ما أسأئل واحداً ... عن علم واحد لكي أزدادها
دخل جرير على الوليد بن عبد الملك وهو خليفة وعنده ابن الرقاع العاملي، فقال الوليد لجرير: أتعرف هذا؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. قال: هذا رجل من عاملة. فقال: الذين يقول الله تعالى: " عاملة ناصبة، تصلى ناراً حامية " ثم قال: من الطويل:
يقصر باع العاملي عن العلا ... ولكن أير العاملي طويل
فقال العاملي:
أأمك يا ذا أخبرتك بطوله ... أم أنت امرؤ لم تدر كيف تقول
قال: لا، بل لم أدر كيف أقول. فوثب العاملي إلى رجل الوليد فقبلها وقال: أجرني منه. فقال الوليد لجرير: لئن سميته لأسرجنك ولألجمنك وليركبنك، فيعيرك بذلك الشعراء.(16/323)
قال أحمد بن يحيى ثعلب: أشعر ما قيل قول عدي بن الرقاع: من الكامل:
لولا الحياء وأن رأسي قد عسا ... فيه المشيب لزرت أم القاسم
وكأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينيه سنة وليس بنائم
قال ابن الأعرابي: بلغني أن جماعة من الشعراء أتوا باب ابن الرقاع الشاعر فدقوه فخرجت إليهم بنية له صغيرة، فقالت: من القوم؟ قالوا: نحن شعراء أتينا أباك لنهاجيه. قالت لهم: هو غائب. قالوا: لا، ولكنه هرب منا. فقالت: من الطويل:
تجمعتم من كل شرق ومغرب ... على واحد لازلتم قرن واحد
لما أتت الخلافة سليمان بن عبد الملك أتته وهوبالسبع، فكتب إلى عامله بالأردن أن يبعث إليه عدي بن الرقاع في وثاق، فوجهه إليه، فلما دخل عليه قال: إن كنت لكارهاً لخلافتي، قال: وكيف ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: حين تقول في مدحة الوليد:
عذنا بذي العرش أن نبقى ونفقده ... وأن نكون لراع بعده تبعا
قال ابن الرقاع: والله ما هكذا قلت يا أمير المؤمنين، ولكني قلت:
عذنا بذي العرش أن نبقى ونفقدهم ... وأن نكون لراع بعدهم تبعا(16/324)
قال: وكذلك؟ قال: نعم، قال: فكوا حديده، وردوه على موكبه إلى أهله. وإنما كان خص بتلك المدحة الوليد.
عدي بن عبد الرحمن بن زيد
ابن أسيد بن جابر ابن عدي بن خالد بن خثيم بن أبي حارثة ابن جدي ابن تدول بن بحتر بن عتود، أبو الهيثم الطائي، والد الهيثم بن عدي.
قيل: إنه دمشقي، سكن الكوفة وواسط.
حدث عن داود بن أبي هند عن أبي صالح مولى لطلحة بن عبيد الله قال: كنت عند أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتاه ذو قرابة لها، غلام شاب ذو جمة، فقام يصلي، فلما ذهب يسجد نفخ، فقالت: لا تفعل، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول لغلام أسود: " يا رباح، ترب وجهك ".
وحدث عنه عن عكرمة عن ابن العباس قال: ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله، إلا إبراهيم عليه السلام، قال الله عز وجل " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال: إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي " الآية.
قال: أما الظالم فلا يؤتم به. قلت له: فما الكلمات التي ابتلى الله إبراهيم بهن وأتمهن؟ قال: الإسلام ثلاثون سهماً: عشر آيات في براءة " التائبون العابدون " إلى(16/325)
آخر الآيات، وعشر آيات من أول سورة " قد أفلح المؤمنون "، و" سأل سائل بعذاب واقع:، وعشر آيات في الأحزاب " إن المسلمين والمسلمات " إلى آخر الآية وعشر آيات من أول سورة " قد أفلح المؤمنون " و" سأل سائل بعذاب واقع " وعشر آيات في الأحزاب " إن المسلمين والمسلمات " إلى آخر الآية فأتمهن كلهن، فكتب له براءة، قال: " وإبراهيم الذي وفى ".
قال سليمان بن أبي شيخ: سألت أبا سفيان الحميري عن عدي بن عبد الرحمن أبي الهيثم بن عدي: هل كان يطعن في نسبه؟ قال: لا، ولقد كان من خير رجل بواسط، ولكن ابنه يعني الهيثم بن عدي آذى الناس وتعرض لهم، فتعرضوا له.
عدي بن عدي بن عميرة بن عدي
ابن عفير، ويقال: عفير بن زرارة بن الأرقم بن النعمان ابن عمرو بن وهب بن ربيعة بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة وهو ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد الكندي كان يصحب خلفاء بني أمية، واستعمله عمر بن عبد العزيز على الموصل والجزيرة، ثم عزله وولاه أرمينية، فلم يزل عليها حتى توفي عمر.
حدث عدي بن عدي عن أبيه عن العرس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مروا النساء في أنفسهن، فإن الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها.
وكان عدي يكنى أبا فروة، وكان ثقة ناسكاً فقيهاً محدثاً، وكان على قضاء الجزيرة في خلافة عمر بن عبد العزيز.(16/326)
قال مسلمة بن عبد الملك: إن في كندة لثلاثة، إن الله تبارك وتعالى لينزل بهم الغيث وينصر بهم على الأعداء: رجاء بن حيوة، وعبادة بن نسي، وعدي بن عدي.
سئل مكحول عن شيء وهو مع رجاء بن حيوة وعدي بن عدي الكندي؟ فقال سل شيخي هذين. فقالا له: أفت الرجل. فقال مكحول: نعم. فأجابه.
قال خليفة: سنة تسع وتسعين فيها أغارت الخزر، على أرمينية وأذربيجان وعليهما عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي، فقتل الله عامة الخزرن وكتب عبد العزيز بذلك إلى عمر بن عبد العزيز عند ولايته، فولى عمر بن عبد العزيز أرمينية عدي بن عدي، فاحتفر عدي نهراً يقال له: نهر عدي إلى اليوم.
توفي عدي بن عدي الكندي سنة عشرين ومئة.
عدي بن عميرة بن فروة بن زرارة
ابن الأرقم ابن نعمان بن عمرو بن وهب بن ربيعة بن معاوية الأكرمين بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن كندة وهو ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد أبو زرارة الكندي الأرقمي.
وفد على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحدث عنه، ووفد على معاوية.
حدث عدي بن عميرة: أن امرأ القيس بن عابس الكندي خاصم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً من حضرموت في(16/327)
أرض، فسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحضرمي البينة، فلم يكن له بينة، فقضى علىامرئ القيس باليمن، فقال الحضرمي: أمكنته يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليمن، ذهبت والله أرضي، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أخيه لقي الله يوم يلقاه وهو عليه غضبان.
قال: وقال رجاء: وتلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانه ثمناً قليلاً " إلى آخر الآية. فقال امرؤ القيس: يا رسول الله، فماذا لمن تركها؟ قال: له الجنة. قال: فإني أشهدك أني قد تركتها.
وعن عدي بن عميرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من استعملناه منكم على عملنا فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه كان غلولاُ يأتي به يوم القيامة. قال: فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه، فقال: يا رسول الله، اقبل عني عملك. قال: ومالك؟ قال: سمعتك تقول كذا وكذا. قال: وأنا أقوله الآن: من استعملناه منكم على عمل، فليجئ بقليله وكثيره، فما أمر منه أخذ، وما نهي عنه انتهى.
قال محمد بن سعد في الطبقة الرابعة: عدي بن عميرة بن فروة بن زرارة بن الأرقم، وبنو الأرقم بطن لهم مسجد بالكوفة، لما قدم علي بن أبي طالب عليه السلام الكوفة جعل أصحابه يتناولون عثمان، فقالت بنو الأرقم: لا نقيم ببلد يشتم فيه عثمان. فخرجوا إلى الجزيرة إلى الرها، وخرج معهم من ولدوا من كندة، فخرج بنو أحمر بن عمرو وبعض بني الحارث بن عدي، وبنو الأحزم من بني حجر بن وهب بن ربيعة، فقدموا على معاوية بن أبي سفيان، فحمد(16/328)
معاوية الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل الشام هذا حي عظيم من كندة قدموا علي، ناقمين على علي بن أبي طالب عليه السلام وكان إذا قدم عليه أهل العراق أنزلهم الجزيرة مخافة أن يفسدوا أهل الشام، فأنزلهم نصيبين. فأنزلهم الرها، وأقطعهم قطائع، ثم كتب إليهم: إني أتخوف عليكم عقارب نصيبين. فأنزلهم الرها وأقطعهم بها قطائع، وشهدوا صفين مع معاوية، فضرب عدي بن عميرة يومئذ على يده، وكان آخر من خرج إليهم من الكوفة العرس بن قيس بن سعيد بن الأرقم، فولي ولايات، وولي الجزيرة، وعدي بن عدي بن عميرة، كان ناسكاً فقيهاً.
قال ابن أبي خثيمة: بلغني أن عدي بن عميرة هرب من علي بن أبي طالب عليه السلام فنزل الحيرة ومات بها.
عدي بن الفصيل
وقيل: ابن الفضل الفصيل: بفتح الفاء وكسر الصاد المهملة.
قال: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب بخناصرة وهو يقول: يا أيها الناس، إنه إن يك لأحد رزق في رأس جبل أو حضيض أرض يأته قبل موته، فأجملوا في الطلب.
كان عدي بن الفصيل ثقة.
عدي بن كعب
بعثه أبو بكر الصديق رضي الله عنه رسولاً إلى ملك الروم مع عبادة بن الصامت وغيره، فقدموا دمشق.
قال عبادة بن الصامت: بعثني أبو بكر إلى ملك الروم، يدعوه إلى الإسلام ويرغبه فيه، ومعي عمرو بن(16/329)
العاص، وهشام بن العاص، وعدي بن كعب، ونعيم بن عبد الله بن النحام، فقدمنا على جبلة بن الأيهم دمشق، فأدخلنا على ملكهم بها الرومي، فإذا هو على فرش له مع الأسقف، فأجلسنا وبعث إلينا رسوله، وسألنا أن نكلمه، فقلنا: لا والله لا نكلمه برسول بيننا وبينه، فإن كان في كلامنا حاجة فليقربنا منه. فأمر بسلم فوضع ونزل إلى فرش له في الأرض، فقربنا، فإذا هو عليه ثياب سود مسوح، فقال له هشام بن العاص: ما هذه المسوح التي عليك؟ قال: لبستها ناذراً أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام. فقلنا: بل نملك مجلسك وبعده ملككم الأعظم، فوالله لنأخذنه إن شاء الله، فإنه قد أخبرنا بذلك نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصادق البار. قال: إذاً أنتم السمراء. قلنا: وما السمراء؟ قال: لستم بها. قلنا: ومن هم؟ قال: الذين يقومون الليل ويصومون النهار. قال: فقلنا: نحن والله هم. قال: فقال: وكيف صومكم وصلاتكم وحالكم؟ فوصفنا له أمرنا، فنظر إلى أصحابه وراطنهم، وقال لنا: ارتفعوا. ثم علا وجهه سواد حتى كأنه قطعة مسح من شدة سواده، وبعث معنا رسلاً إلى ملكهم الأعظم بالقسطنطينية.
فخرجنا إلى مدينتهم ونحن على رواحلنا، علينا العمائم والسيوف، فقال لنا الذين معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم جئنا ببراذين وبغال؟ قلنا: لا والله، لا ندخلها إلا على رواحلنا فبعثوا إليه يستأذنونه فأرسل إليهم أن خلوا سبيلهم ودخلنا على رواحلنا حتى انتهينا إلى غرفة مفتوحة الباب، فإذا هو فيها جالس ينظر، قال: فأنخنا تحتها ثم قلنا: لا إله إلا الله والله أكبر. فيعلم الله لانتفضت حتى كأنها نخلة يصفقها الريح، فبعث إلينا رسولاً: إن هذا ليس لكم أن تجهزوا بدينكم في بلادنا(16/330)
وإمرتنا فأدخلنا عليه، وإذا هو مع بطارقته وعليه ثياب حمر، وفرشه وما حواليه أحمر، وإذا رجل فصيح بالعربية يكتب، فأومى إلينا، فجلسنا ناحية، فقال لنا وهو يضحك: ما منعكم أن تحيوني بتحيتكم فيما بينكم؟ فقلنا: نرغب بها عنك، وأما تحيتك التي لا ترضى إلا بها لا يحل لنا أن نحييك بها. قال: وما تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا: السلام. قال: فما كنتم تحيون به نبيكم؟ قلنا: بها. قال: فما كان تحيته هو؟ قلنا: بها. قال: فيم تحيون ملككم اليوم؟ قلنا: بها. قال: فيم يحييكم؟ قلنا: بها. قال: فما نبيكم يرث منكم؟ قلنا: ما يرث إلا ذا قرابة. قال: وكذلك ملككم اليوم؟ قلنا: نعم. قال: فما أعظم كلامكم عندكم؟ قلنا: لا إله إلا الله. قال: فيعلم الله لا نتفض حتى كأنه طير ذو ريش من حسن ثيابه، ثم فتح عينيه في وجوهنا وقال: هذه الكلمة التي قلتموها حين نزلتم تحت غرفتي؟ قلنا: نعم: كذلك إذا قلتموها في بيوتكم انتفضت لها سقوفكم؟ قلنا: والله ما رأيناها صنعت هذا قط إلا عندك، وما ذاك إلا لأمر أراده الله تعالى. قال: ما أحسن الصدق! أما والله لوددت أني خرجت من نصف ما أملك وأنكم لا تقولونها على شيء إلا انتفض لها. قلنا: ولم ذاك؟ قال: ذاك أيسر لشأنها وأخرى أن لا يكون من النبوة، وأن يكون من حيل بني آدم. قال: فماذا تقولون إذا فتحتم المدائن والحصون؟ قلنا: نقول: لا إله إلا الله والله أكبر، قال: تقولون: لا إله إلا الله والله أكبر، ليس غيره شيء؟ قلنا: نعم. قال: تقولون: الله أكبر، هو أكبر من كل شيء؟ قلنا: نعم. قال: فنظر إلى أصحابه، فراطنهم ثم أقبل علينا فقال: أتدرون ما قلت لهم؟ قلت: ما أشد اختلاطهم؟ فأمر لنا بمنزل وأجرى لنا نزلاً، فأقمنا في منزلنا تأتينا ألطافه غدوة وعشية، ثم بعث إلينا فدخلنا عليه ليلاً وحده ليس معه أحد، فاستعادنا الكلام فأعدناه(16/331)
عليه ثم دعا بشيء كهيئة الربعة ضخمة مذهبة، فوضعها بين يديه ثم فتحها، فإذا فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح بيتاً واستخرج خرقة حرير سوداء، فنشرها فإذا فيها صورة حمراء، وإذا رجل ضخم العينين عظيم الأليتين لم ير مثل طول عنقه في مثل جسده، أكثر الناس شعراً، فقال لنا: أتدرون من هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا آدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم أعاده وفتح بيتاً آخر، فاستخرج منه خرقة حرير سوداء، فنشرها فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا رجل له شعر القبط قبل، ضخم العينين، بعيد ما بين المنكبين، عظيم الهامة، فقال: تدرون من هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا نوح صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم أعادها في مواضعها، وفتح بيتاً آخر فاستخرج منه خرقة حرير خضراء، فإذا فيها صورة شديدة البياض، وإذا رجل حسن الوجه حسن العينين، شارع الأنف، سهل الخدين، أشيب الرأس، أبيض اللحية، كأنه حي يتنفس، فقال: تدرون من هذا؟ قلنا: لا. قال: إبراهيم. ثم أعادها وفتح بيتاً آخر، فاستخرج منه خرقة حرير خضراء، فإذا فيها صورة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: تدرون من هذا؟ قلنا: هذا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبكينا. فقال: بدينكم إنه محمد؟ قلنا: نعم، بديننا إنها صورته، كأنما ننظر في وجوهنا فقال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عجلته لأنظر ما عندكم. فأعاده وفتح بيتاً آخر، فاستخرج منه خرقة حرير خضراء، فإذا فيها صورة رجل جعد أبيض قطط، غائر العينين، حديد النظر، عابس، متراكب الأسنان، مقاص الشفة، كأنه من رجال أهل البادية، فقال: تدرون من هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا موسى وإلى جانبه صورة شبيهة به، رجل مدور الرأس، عريض الجبين، بعينه قبل، قال: تدرون من هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا هارون. وفتح بيتاً آخر فاستخرج منه خرقة حرير خضراء، فنشرها وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا رجل شبه المرأة ذو عجيزة وساقين، قال: تدرون من هذا؟
قلنا: لا. قال: هذا داود.(16/332)
فأعادها وفتح بيتاً آخر فاستخرج منه خرقة حرير خضراء، فيها صورة بيضاء، فإذا رجل أوقص، قصير الظهر، طويل الرجلين، على فرس، لكل شيء منه جناح، فقال: تدرون من هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا سليمان وهذه الريح تحمله. ثم أعادها، وفتح بيتاً آخر فيه حريرة خضراء، فنشرها فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا رجل شاب حسن الوجه، حسن العينين، شديد سواد اللحية، يشبه بعضه بعضاً، فقال: تدرون من هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا عيسى بن مريم. فأعادها وأطبق الربعة. نا: لا. قال: هذا داود. فأعادها وفتح بيتاً آخر فاستخرج منه خرقة حرير خضراء، فيها صورة بيضاء، فإذا رجل أوقص، قصير الظهر، طويل الرجلين، على فرس، لكل شيء منه جناح، فقال: تدرون من هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا سليمان وهذه الريح تحمله. ثم أعادها، وفتح بيتاً آخر فيه حريرة خضراء، فنشرها فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا رجل شاب حسن الوجه، حسن العينين، شديد سواد اللحية، يشبه بعضه بعضاً، فقال: تدرون من هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا عيسى بن مريم. فأعادها وأطبق الربعة.
قال: قلنا: أخبرنا عن قصة الصور ما حالها؟ فإنا نعلم أنها تشبه الذين صورت صورهم، فإنا رأينا نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشبه صورته، قال: أخبرت أن آدم سأل ربه أن يريه أنبياء نبيه فأنزل عليهم صورهم فاستخرجها ذو القرنين من خزانة آدم عليه السلام في مغرب الشمس، فصورها لنا دانيال في خرق الحرير على تلك الصور، فهي هذه بعينها، أما والله لوددت أن نفسي طابت بالخروج من ملكي فبايعتكم على دينكم، وأن أكون عبداً لأسوئكم ملكة، ولكن نفسي لا تطيب، فأجازنا فأحسن جوائزنا، وبعث معنا من يخرجنا إلى مأمننا، فانصرفنا إلى رحالنا.(16/333)
عدي بن يعقوب بن إسحاق بن تمام
أبو حاتم الطائي.
حدث عن جده لأمه محمد بن يزيد بن عبد الصمد بسنده إلى أبي هريرة قال: مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجماعة فقال: ما هذه الجماعة؟ قالوا: مجنون. قال: ليس بالمجنون، ولكنه مصاب، إنما المجنون المقيم على معصية الله عز وجل.
عرار بن عمرو بن شاش
ابن أبي بلي واسمه عبيد بن ثعلبة بن ذؤيبة بن مالك بن الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان ابن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر الأسدي الكوفي.
وفد على عبد الملك بن مروان من عند الحجاج. ذكره أبوه عمرو بن شأس في شعره يعاتب امرأته أم حسان في أمر عرار، وكانت تؤذيه.
قال أبو أحمد العسكري: عرار: بكسر العين المهملة وراءين غير معجمتين.
كتب الحجاج كتاباً إلى عبد الملك بن مروان يصف له فيه أمر العراق وما ألفاهم عليه من الاختلاف، وما أنكره عليهم وعرفوه، وما يحتاجونإليه من التقويم والتأديب، ويستأذنه في أن يودع قلوبهم من الرغبة والرهبة ما يخفون معه إلى طاعة السلطان. ودعا برجل من أصحابه كان يأنس به فقال له: لا يصلن هذا الكتاب إلا من يدك إلى يده، فإذا فضه فخبره عليه، ففعل الرجل ذلك، فجعل عبد الملك كلما شك في شيء استنشأ الخبر من الرجل فيجده أبلغ من الكتاب فقال: من الطويل
وإن عراراً إن يكن غير واضح ... فإني أحب الجون ذا المنطق العمم(16/334)
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أتدري من يخاطبك؟ قال: لا. قال: أنا عرار، وهذا الشعر لأبي، وذلك أن أمي ماتت وأنا مرضع، فتزوج أبي امرأة فكانت تسيء ولايتي، فقال أبي من أبيات:
فإن كنت مني أو تريدين شيمتي ... فكوني له كالسمن ربت به الأدم
وإلا فسيري مثل ما سار راكب ... تيم خمساً ليس في سيره أمم
أردت عراراًبا لهوان ومن يرد ... عراراً لعمري بالهوان فقد ظلم
وإن عراراً يكن غير واضح ... فإني أحب الجون ذا المنطق العمم
فقال عبد الملك: لله أنتم آل مروان، إنكم لتضعون الهناء موضع النقب.
وقال ابن سلام: لما قتل الحجاج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بعث برأسه مع عرار بن عمرو، فلما ورد به، وأوصل كتاب الحجاج، فرآه عبد الملك، فكلما شك في شيء سأل عراراً عنه فأخبره، فعجب عبد الملك من بيانه وفصاحته مع سواده، فقال متمثلاً:
وإن عراراً إن يكن غير واضح ... فإني أحب الجون ذا المنكب العمم
فضحك عرار من قوله ضحكاً غاظ عبد الملك، فقال له: مم ضحكت ويحك!؟ قال: أتعرف عراراً يا أمير المؤمنين الذي قيل فيه هذا الشعر؟ قال: لا. قال:(16/335)
فأنا والله هو. فضحك عبد الملك ثم قال: خط وافق كلمة. وأحسن جائزته وسرحه.
عراك بن خالد بن يزيد بن صالح
ابن صبيح، أبو الضحاك المري الدمشقي حدث عن أبيه بسنده إلى عبادة بن الصامت قلب: أتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو قاعد في ظل الحطيم بمكة فقيل: يا رسول الله، أتي على عامل أبي فلان بسيف البحر فذهب به، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بمنع الزكاة، فحرزوا أموالكم بالزكاة، وداوو مرضاكم بالصدقة، وادفعوا عنكم طوارق البلاء بالدعاء، فإن الدعاء ينفع مما نزل ومما ينزل، ما نزل يكشفه، وما لم ينزل يحبسه ".
وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " إن الله عز وجل إذا أراد بقوم بقاء أو نماء، رزقهم السماحة والعفاف، وإذا أراد بقوم اقتطاعاً فتح عليهم باب خيانة. ثم نزع " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ".
وحدث عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن عكرمة ابن عباس قال: لما عزي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بابنته رقية امرأة عثمان بن عفان قال: الحمد لله، دفن البنات من المكرمات.(16/336)
عراك بن مالك الغفاري المديني
قدم على عمر بن عبد العزيز.
حدث عن أبي هريرة: أن رسول الله نهى عن أربع نسوة أن يجمع بينهن: المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها.
وحدث عن أبي سلمة عن عائشة قالت: صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشاء، ثم صلى ثمان ركعات قائماً وركعتين جالساً وركعتين بين النداءين، ولم يدعهما أبداً.
قال رجاء بن أبي سلمة: أتي عمر بن عبد العزيز يوماً بتمر فقال: كأن هذا من تمر المدينة سقياً للمدينة وكان يحبها فقال له عراك بن مالك: يا أمير المؤمنين، لو سرت حتى تنزلها فإن بيت عائشة موضع قبر، فإن أصابك قدرك دفنت فيه. فقال: ويحك يا عراك! ما كان من عذاب يعذب الله به أحد من خلقه إلا وأنا أحب أن يصيبني من قبل أن يعلم الله أن منزلتي بلغت في نفسي أن أراها لذلك أهلاً.
توفي عراك بالمدينة زمن يزيد بن عبد الملك، وكان ثقة من خيار التابعين، وكان شامياً.
قال عمر بن عبد العزيز: ما رأيت صلاة من عراك بن مالك، كان يقرأ في كل ركعة عشر آيات.
قال أبو الغصن: رأيت عراك بن مالك يصوم الدهر.(16/337)
سأل عراك بن مالك عمر بن عبد العزيز أرضاً بالبلقاء، قال: لضيفي ومن غشيني بما فيها من حق. فقال له عمر: إنك لتعلم منها مثل ما أعلم، إياي تخادعون، خذها بذلها وصغارها. قال عراك: والله ما خادعتك.
قال المنذر بن عبد الله الحزامي: كان عراك بن مالك من أشد أصحاب عمر بن عبد العزيز على بني مروان في انتزاع ما حازوا من الفيء والمظالم من أيديهم، فلما ولي يزيد بن عبد الملك ولى عبد الواحد بن عبد الله النصري المدينة، فقرب عراكاً، وقال: صاحب الرجل الصالح. وكان لا يقطع أمراً دونه، وكان يجلس معه على سريره، فبينا هو يوماً معه إذ أتاه كتاب يزيد أن ابعث مع عراك حرسياً حتى ينزله دهلك، وخذ من عراك حمولته. فقال لحرسي وعراك معه على السرير: خذ بيد عراك فابتع من ماله راحله ثم توجه إلى دهلك حتى تقدة فيها ففعل ذلك الحدسي وكان عراك يغدو بأمه إلى المسجد فتصلي فيه الصلوات، ثم ينصرف بها، فما تركه الحرسي يصل إليها. وكان أبو بكر بن حزم نفى الأحوص إلى دهلك في إمرة سليمان بن عبد الملك، فلما ولي يزيد أرسل إلى الأحوص، فأقدمه عليه، فمدحه الأحوص، فأكرمه، قال: فأهل دهلك يأثرون الشعر عن الأحوص والفقه عن عراك.
وقيل: إن أهل دهلك كانوا يقولون: جزى الله عنا يزيد خيراً، كان عمر قد نفى إلينا رجلاً علم أولادنا الباطل، وإن يزيد أخرج إلينا رجلاً علمنا الله على يديه الخير.
وكان استخلاف يزيد سنة إحدى ومئة بعد موت عمر بن عبد العزيز، ومكث في الخلافة أربع سنين وشيئاً.(16/338)
عرباض بن سارية السلمي
صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أهل الصفة، سكن حمص، وكان العرباض أحد البكائين الذين نزل فيهم " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم "، وقدم دمشق.
حدث عرباض بن سارية قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً فوعظ الناس ورغبهم وحذرهم وقال ما شاء الله أن يقول، ثم قال: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأطيعوا من ولاة الله أمركم، ولا تنازعوا الأمر أهله، ولو كان عبداً أسود أجدع، وعليكم بما تعرفون، وسنة نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ.
حدث عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر قالا: أتينا العرباض بن سارية وهو ممن نزل فيه " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه ". فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال عرباض: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
قال العرباض بن سارية: دخلت مسجد دمشق فصليت فيه ركعتين وقلت: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، فاقبضني إليك. وإلى جنبي شاب لم أر أجمل منه عليه دواج أخضر، فقال لي:(16/339)
ما هذا الذي تقول؟ قلت: فكيف أقول؟ قال: قل اللهم حسن العمل وبلغ الأجل، قلت: من أنت؟ قال: أنا ربائيل الذي يسلي الحزن من صدور المؤمنين. ثم التفت فلم أر أحداً.
قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد: العرباض: الطويل من الناس وغيرهم، الجلد المخاصم من الناس، وهو مدح، والسارية الأسطوانة، وسئل عن العرباض بن سارية.
قال خليفة بن خياط: العرباض بن سارية من بني سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، وكنيته أبو نجيح، مات في فتنة ابن الزبير وقيل: سنة خمس وسبعين.
قال محمد بن عوف: كل واحد من عمرو بن عبسة والعرباض بن سارية يقول: أنا ربع الإسلام، لا يدرى أيهما أسلم قبل صاحبه.
قال العرباض بن سارية: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرج إلينا يوم الجمعة في الصفة وعلينا الحوتكية، فيقول لنا: لو تعلمون ما ذخر لكم ما حزنتم على ما زوي عنكم، ولتفتحن فارس والروم.
قال شريح بن عبيد: كان عتبة بن عبد يقول: عرباض خير مني، وعرباض يقول: عتبة خير مني سبقني إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسنة.(16/340)
قال عرباض بن سارية: كنت ألزم باب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحضر والسفر، فرأينا ليلة ونحن بتبوك وذهبنا لحاجة، فرجعنا إلى منزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد تعشى ومن عنده من أضيافه ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد أن يدخل في قبته ومعه زوجته أم سلمة بنت أبي أمية، فلما طلعت عليه قال: أين كنت منذ الليلة؟ فأخبرته، فطلع جعال ابن سراقة وعبد الله بن مغفل المزني، فكنا ثلاثة، كلنا جائع، إنما نعيش بباب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البيت، فطلب شيئاً نأكله، فلم يجده، فخرج إلينا فنادى بلالاً: يا بلال، هل من عشاء لهؤلاء النفر؟ قال: لا والذي بعثك بالحق، لقد نفضنا جربنا وحميتنا. قال: انظر عسى أن تجد شيئاً. فأخذ الجرب ينفضها جراباً جراباً، فتقع التمرة والتمرتان، حتى رأيت بين يديه سبع تمرات، ثم دعا بصحفة، فوضع فيها التمر، ثم وضع يده على التمرات وسمى الله وقال: كلوا باسم الله. فأكلنا، فأحصيت أربعة وخمسين تمرة أكلتها، أعدها ونواها في يدي الأخرى، وصاحباي يصنعان ما أصنع، وشبعنا وأكل كل واحد منهما خمسين تمرة، ورفعنا أيدينا فإذا التمرات السبع كما هي، فقال: يا بلال، ارفعها في جرابك، فإنه لا يأكل منها أحد إلا نهل شبعاً. قال: فبتنا حول قبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان يتهجد من الليل، فقام تلك الليلة يصلي، فلما طلع الفجر ركع ركعتي الفجر، وأذن بلال وأقام، فصلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالناس ثم انصرف إلى فناء قتبه، فجلس وجلسنا حوله، فقرأ من " المؤمنين " عشرة، فقال: هل لكم في الغداء؟ قال عرباض بن سارية: فجعلت أقول في نفسي: أي غداء؟! فدعا بلال بالتمرات، فوضع يده عليه في الصفحة ثم قال: كلوا بسم الله. فأكلنا(16/341)
والذي بعثه بالحق حتى شبعنا وإنا لعشرة، ثم رفعوا أيديهم منها شبعاً، وإذا التمرات كما هي، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لولا أني أستحي من ربي لأكلنا من هذه التمرات حتى نرد المدينة من آخرنا، وطلع غليم من أهل البلد فأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التمرات بيده فدفعها إليه فولى الغلام يلوكهن.
أعطى معاوية المقداد حماراً من المغنم فقال له العرباض بن سارية: ما كان لك أن تأخذه، وما كان لمعاوية أن يعطيكه، كأني بك في النار تحمله على عنقك أسفله أعلاه. فرده.
كان العرباض بن سارية يقول: لولا أن يقال: فعل أبو نجيح لألحقت مالي سبله، ثم لحقت وادياً من أودية لبنان فعبدت الله حتى أموت.
وعن عرباض بن سارية: أنه أوصى فقال: ألحدوا لي لحداً، وسنوا علي التراب سناً، ولا تجعلوه ضريحاً.
عروة بن أذينة وهو لقب
واسم أذينة، يحيى بن مالك بن الحارث بن عمرو بن عبد الله بن رجل بن يعمر الشداح بن عوف بن كعب بن عامر أبو عامر الليثي.
شاعر من أهل الحجاز، وفد على هشام بن عبد الملك. وفي نسبه اختلاف.
قال عروة بن أذينة: خرجت مع جدة لي عليها مشي إلى البيت، حتى إذا كنا ببعض الطريق، فأرسلت مولى لها يسأل عبد الله بن عمر، قال: فخرجت معه نسأله، فقال عبد الله: مرها(16/342)
فلتركب، ثم لتمشي من حيث عجزت.
قال مالك: ونرى مع ذلك عليها الهدي.
وعروة شاعر مكثر فصيح، مأمون على ما روى من المسند وغيره، ولحق بالدولة العباسية بعد سن عالية.
قال غاضرة بن حاتم: وفد عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك، فلما دخل إليه شكا خلة وديناً، فقال هشام: ألست القائل: من البسيط:
لقد علمت وما الإشراف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعنيني تطلبه ... ولو جلست أتاني لا يعنيني
وما اشتريت بمال قط محمدة ... إلا تيقنت أني غير مغبون
ولا دعيت إلى مجد ولا كرم ... إلا أجبت إليه من يناديني(16/343)
ثم قد جئت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق، فقال عروة: وعظت يا أمير المؤمنين فأبلغت. وخرج إلى راحلته، فركبها ثم وجهها نحو الحجاز، فمكث هشام يومه، فلما كان في الليل ذكره فقال: رجل من قريش وفد إلي، فجبهته ورددته عن حاجته، وهو مع ذا شاعر، ولا آمن يقول في ما يبقى ذكره! فلما أصبح دعا مولاه فدفع إليه ألفي دينار وقال: الحق بهذه ابن أذينة. قال المولى: فخرجت إلى المدينة فقرعت عليه الباب، فخرج إلي فأعطيته المال فقال: أبلغ أمير المؤمنين السلام، وقل له: كيف رأيت قولي؟ سعيت فأكذبت، ورجعت إلى منزلي فأتاني، ولكني قد قلت: من الكامل:
شاد الملوك قصورهم وتحصنوا ... من كل طالب حاجة أو راغب
فإذا تلطف للدخول عليهم ... عاف تلقوه بوعد كاذب
فارغب إلى ملك الملوك ولا تكن ... يا ذا الضراعة طالباً من طالب
فأقسم بالله لا سألت أحد حاجة حتى ألقى الله. فكان ربما سقط سرطه فينزل عن فرسه ويأخذه ولا يسأل أحداً أن يناوله إياه.
مرت سكينة بعروة بن أذينة فقالت: يا أبا عامر، أنت الذي تقول: من البسيط:
يا نظرة لي ضرت يوم ذي سلم ... حتى لي هذا الضر في نظري
قالت وأبثثتها سري فبحت به ... قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطى هواك وما ألقى على بصري
وأنت القائل: من البسيط:
إذا وجدت أذى للحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أيترد
هذا بردت ببرد الماء ظاهرة ... فمن لحر على الأحشاء يتقد(16/344)
قالت: هن حرائر وأشارت إلى جواريها إن كان هذا خرج من قلب سليم.
قال عروة بن عبيد الله بن عروة بن الزبير: كان عروة بن أذينة نازلاً مع أبي في قصر عروة بن الزبير بالعقيق فسمعه ينشد نفسه: من الكامل:
إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فيك الذي زعمت بها فكلاكما ... أبدى لخلته الصبابة كلها
ولعمرها لو كان حبك فوقها ... يوماً وقد حجبت إذا لأظلها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الضمير لها إليك فسلها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدقها وأجلها
لما عرضت مسلماً لي حاجة ... أخشى صعوبتها وأرجو ذلها
حجبت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها
فدنا فقال: لعلها معذورة ... في بعض رقبتها، فقلت: لعلها
قال عروة: فجاءني أبو السائب يوماً بالعقيق، فقلت له بعد الترحيب به: ألك حاجة؟ قال: أبيات لعروة بن أذينة بلغني أنك سمعتها منه، قلت: أي أبيات؟ قال: وهل يخفى القمر؟!
إن التي زعمت فؤادك ملها
فأنشدته إياها فقال: ما يروي هذه إلا أهل المعرفة والعقل، هذا والله الصادق الود، الدائم العهد، لا الهذلي الذي يقول: من الكامل:(16/345)
إن كان أهلك يمنعونك رغبة ... عني فأهلي بي أضن وأرغب
لقد عدا الأعرابي طوره، وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحبه في حسن الظن بها، وطلب العذر لها، ودعوت له بطعام، فقال: لا والله حتى أروي هذه الأبيات، فلما رواها وثب فقلت: كما أنت حتى تأكل. فقال: ما كنت لأخلط بمحبتي لها وأخذي إياها غيرها. وانصرف.
قال عروة بن أذينة الشاعر: عجبت لمن علم أنه يموت كيف لا يموت! كان عروة بن أذينة إذا نام الناس بالبصرة خرج فنادى في سككها: يا أهل البصرة، الصلاة الصلاة ثم يتلو " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون ".
عروة بن الجعد
ويقال: ابن أبي الجعد الأزدي ثم البارقي الكوفي.
وبارق: جبل نزل عنده بعض الأزد فنسبوا إليه.
ولعروة صحبة، روى عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث، وقدم دمشق في جملة من سير من أهل الكوفة في خلافة عثمان بن عفان.
حدث عروة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الخيل معقود بنواصيها الخير، والأجر والمغنم يوم القيامة ".
وعن عروة بن الجعد قال: أعطاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ديناراً فقال: اشترلنا به شاة. قال: فانطلقت فاشتريت شاتين بدينار، فلقيني رجل في الطريق فساومني بشاة، فبعتها بدينار، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، هذا ديناركم وهذه شاتكم. قال: فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وصنعت(16/346)
كيف؟ قال: فأخبرته، فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه. قال: فقال: إني لأقوم في الكناسة بالكوفة، فما أرجع إلى أهلي حتى أربح أربعين ألفاً.
وبارق: سعد بن عدي بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث.
ونزل عروة بن الجعد الكوفة وولي القضاء بها، وأتى المدائن، ثم انتقل إلى براز الروز على مرحلة من النهروان، وأقام بها مرابطاً، وكان له فيها أفراس، منها فرس أخذه بعشرين ألف درهم.
قال الشعبي: أول من قضى على الكوفة عروة بن الجعد البارقي وقيل: ابن مسعود، وقيل: سلمان بن ربيعة، وقيل: وليها شريح قبل عروة.
وكان عروة قاضياً، فكتب إلى عمر في عين الدابة، فكتب إليه عمر: إنا كنا نقضي فيها كما نقضي في عين الإنسان، ثم اجتمع رأينا أن نجعلها الربع.
قال شبيب بن غرقدة: رأيت في دار عروة سبعين فرساً مربوطة.
عروة بن حزام بن مهاصر
ويقال: ابن حزام بن مالك، أبو سعيد العذري أحد بني ضنة بن عبد بن كبير بن عذرة.
شاعر حجازي مشهور، كان يشبب بابنة عمه عفراء بنت مهاصر بن مالك، ويقال: بنت عقال ابن مهاصر، وكان أهلها خرجوا من الحجاز إلى الشام فتبعهم، وقد ذكر كونه ببصرى في أبيات: من الطويل:(16/347)
لعمري إني يوم بصرى وناقتي ... لمختلفا الأهواء مصطحبان
متى تحملي شوقي وشوقك تظلعي ... ومالك بالحمل الثقيل يدان
جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف حجر إن هما شفياني
فما تركا من حيلة يعلمانها ... ولا رقية إلا وقد رقياني
وقالا: شفاك الله، والله ما لنا ... بما حملت منك الضلوع يدان
كأن قطاة علقت بجناحها ... على كبدي من شدة الخفقان
وحزام: بكسر الحاء المهملة، وزاي معجمة. وعروة هذا قتيل الحب.
ولما احتمل زوج عفراء إلى البلقاء، كان عروة بن حزام يأتي مواضع أبياتها وأعطان إبلها، فيلصق صدره بترابها، فيقال له: يا هذا، اتق الله في نفسك. فيقول: إليكم عني وينشد: من الطويل:
بي اليأس أو داء الهيام شربته ... فإياك عني لا يكن بك ما بيا
فما زادني الناهون إلا صبابة ... ولا كثرة الواشين إلا تماديا
قالوا: ورآه شيخ منهم فقال له: مه يا بن أخ، فما فعل هذا منا أحد إلا هلك. فقال: يا عم، إني لمكروب، وإني لأجد حراً على كبدي، فما زال به الحب حتى هلك، فبلغ ذلك معاوية بن أبي سفيان فقال: لو علمنا بهذين الكريمين لجمعنا بينهما.
قال ابن أبي عتيق: إني لأسير في أرض عذرة، إذا أنا بامرأة تحمل غلاماً خدلاً، ليس مثله يتورك،(16/348)
فعجبت لذلك، فتقبل به، فإذا برجل له لحية! قال: فدعوتها، فجاءت، فقلت: ما هذا ويحك؟ فقالت: أسمعت بعروة بن حزام قلت: نعم. قالت: هذا عروة بن حزام فقلت له: أنت عروة؟! فكلمني وعيناه تدوران في رأسه، وقال: نعم أنا الذي أقول:
جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد إن هما شفياني
فلهفي على عفراء لهف كأنه ... على النحر والأحشاء حد سنان
فعفراء أحظى الناس عندي ... وعفراء عني المعرض المتواني
قال: ثم ذهبت، فما برحت ممر الماء حتى سمعت الصيحة، وقالوا: مات عروة بن حزام.
قال النعمان بن بشير: استعملني عمر بن الخطاب أو قال عثمان على الصدقات سعد هذيم وعذرة وسلامان وضنة والحارث، وهم قضاعة، فلما قبضت الصدقة وقسمتها بين أهلها، وأقبلت بالسهمين الباقيين إلى عمر أو عثمان فلما كنت بعد ذلك في أيام يزيد، ببلاد عذرة في حي منهم يقال لهم: بنو هند، إذا أنا ببيت حريد، منفرد عن الحي، جاحش عن الحي، فملت إليه فإذا عجوز جالسة عند كسر البيت، وإذا شاب قائم في ظل البيت، فلما دنوت منه وسلمت ترنم بصوت له ضعيف:
بذلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف حجر إن هما شفياني
فقالا: نعم، نشفي من الداء كله ... وقاما مع العواد يبتدران
نعم وبلى، قالا: متى كنت هكذا ... ليستخبراني قلت: منذ زمان(16/349)
فما تركا من رقية يعلمانها ... ولا سلوة إلا بها سقياني
فقالا: شفاك الله، والله ما لنا ... بما حملت منك الضلوع يدان
قال: ثم شهق شهقة خفيفة، فإذا هو قد مات، فقلت: أيتها العجوز، ما أظن هذا النائم بفياء بيتك إلا قد مات. فقالت: نفسه والله نفسه ثلاث مرات. فدخلني من ذلك ما لا يعلمه إلا الله، واغتممت وخفت أن يكون موته لكلامي، فلما رأت العجوز جزعي قالت: هون عليك، فإنه قد مات بأجله واستراح مما كان فيه، وقدم على رب غفور، فهل لك في استكمال الأجر، هذه الأبيات منك غير بعيد، تأتيهم فتنعاه لهم، وتسألهم حضوره. فاسترحت إلى قولها، وأتيت أبياتاً منهم على قدر ميل، فنعيته إليهم وحفظت الشعر، فجعل الرجل بعد الرجل يسترجع إذا أخبرته، فبينا أنا أدور إذا بامرأة كأنها الشمس طالعة، فقالت: أيها الناعي بفيك الكثكث، بفيك الحجر، من تنعى؟ قلت عروة بن حزام. قالت: بالذي أرسل محمداً بالحق هل مات؟ قلت: نعم. قالت ماذا فعل قبل موته؟ فأنشدتها الشعر، فما نهنهت أن قالت: من الوافر:
عداني أن أزورك يا خليلي ... معاشر كلهم واش حسود
أشاعوا ما سمعت من الدواهي ... وعابونا وما فيهم رشيد
فأما إذ ثويت اليوم لحداً ... ودور الناس كلهم لحود
فلا طابت لنا الدنيا فواقاً ... ولا لهم ولا أثرى عديد
ثم مضت معي ومع القوم تصيح وتولول، فغسلناه وكفناه وصلينا عليه وقبرناه، فجاءت فأكبت على قبره.
وحركت مطيتي وقدمت الشام، فدخلت على يزيد بن معاوية، فدفعت إليه(16/350)
الكتاب، وأخبرته بالأمر الذي قدمت له، فسألني عن أمور الناس وقال لي: هل رأيت في طريقك شيئاً تحدثني؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، رأيت عجباً من العجب، وحدثته الحديث، فاستوى جالساً ثم قال: يا محمد بن قيس، امض الساعة قبل أن تعرف ما قدمت له إلى الموضع.
قال محمد بن قيس: فمررت بموضع الحي، فوجدت إلى جانبه قبراً آخر، فسألت عنه، فقيل: المرأة التي أكبت على هذا القبر لم تذق طعاماً لا شراباً ولم ترفع إلا ميتة بعد ثلاث، فجئت ببني عمه وعمها فأتيت بهم أمير المدينة فأحقهم جميعاً في شرف العطاء.
كان عروة بن حزام وعفراء بنت مالك نشأ جميعاً، فعلقها علاقة الصبا، وكان يتيماً في حجر عمه حتى بلغ، وكان عروة يسأله أن يزوجه إياها، فكان يسوفه إلى أن خرج في عير أهله إلى الشام، وقدم على أبي عفراء ابن عم له من البلقاء، كان حاجاً، فخطبها فزوجه إياها فحملها. وأقبل عروة في عيره تلك، حتى إذا كان بتبوك نظر إلى رفقة مقبلة من نحو المدينة، فيها امرأة على جمل أحمر، فقال لأصحابه: والله لكأنها شمائل عفراء. فقالوا له: ويحك ما تترك ذكر عفراء على حال من الحال. فلما تبينها بقي مبهوتاً لا يحير كلاماً حتى بعد القوم فذلك قوله: من الطويل:
وإني لتعروني لذكراك روعة ... لها بين جلدي والعظام دبيب
وما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب
وقلت لعراف اليمامة: داوني ... فإنك إن داويتني لطبيب
فما بي من سقم ولا طيف جنة ... ولكن عمي الحميري كذوب
عشية لا عفراء منك بعيدة ... فتسلو ولا عفراء منك قريب(16/351)
ثم انصرق عروة إلى أهله، فأخذه البكاء والهلاس حتى لم يبق منه شيء فقال أناس: إنه لمسحور، وإن به جنة، وإنه لموسوس، وباحضارم من اليمامة طبيب يقال له سالم، له تابع من الجن، وهو أطب الناس، فساروا إليه وجاؤوا به، فجعل يشفيه وينشر عنه، فقال له عروة: يا هناه، هل عندك للحب من رقية؟ قال: لا والله. فانصرفوا حتى مروا بطبيب بحجر فعالجه، وصنع به مثل ذلك، فقال له عروة: ما دوائي إلا شخص مقيم بالبلقاء. فانصرفوا به وهو يقول:
جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف حجر إن هما شفياني
وزاد في حديث آخر: أن عروة قال لأهله: إن نظرت إلى عفراء ذهب وجعي، فخرجوا به حتى نزلوا البلقاء مستخفين، فكان لا يزال يلم بعفراء ينظر إليها، وكانت عند رجل سيد كثير المال والغاشية، فبينا عروة يوماً بسوق البلقاء إذ لقيه رجل من بني عذرة. فسأله متى قدم؟ فأخبره، فلما أمسى الرجل تعشى مع زوج عفراء، ثم قال: متى قدم هذا الكلب عليكم الذي قد فضحكم؟ قال زوج عفراء: أنت أولى بأن تكون كلباً منه، ما علمت على عروة إلا خيراً، ولا رأيت فتى في العرب أحيا منه، ولا علمت بمقدمة، ولو علمت لضممته إلى منزلي. فلما أصبح غدا يستدل عليهم حتى جاءهم، فقال لهم: أنزلتم ولم تروا أن تعلموني منزلكم، علي وعلي إن كان منزلكم عندي. فقالوا: نعم. نتحول إليك هذه الليلة أو من غد. فلما ولوا قال عروة: قد كان من الأمر ما ترين، ولئن أنتن لم تخرجن معي لأركبن رأسي، الحقوا بقومكم، فليس بي بأس. فقربوا ظهرهم فارتحلوا،(16/352)
ونكس فلم يزل يثقل حتى نزلوا وادي القرى.
قال عروة بن الزبير: مررت بوادي القرى فقيل لي: هل لك في عروة؟ قلت: نعم. فجئته فالتفت إلى إخوانه فقال:
من كان من أمهاتي باكياً أبداً ... فالآن إني أراني اليوم مقبوضاً
يسمعننيه فإني غير سامعه ... إذا علوت رقاب القوم معروضا
قال: فبرزن يضربن وجوههن ويمزقن ثيابهن، قال: وقمت فما وصلت إلى منزلي حتى لحقني رجل فخبرني أنه مات.
أنشد الزبير لعروة بن حزام: من الطويل:
وآخر عهدي من عفيراء أنها ... تدير بناناً كلهن خضيب
عشية ما تقضي لي النفس حاجة ... ولم أدر إذ نوديت كيف أجيب
عروة بن الحكم التميمي
حدث عن يحيى بن سمرة القرشي قال: كان يقوم إلى جانب المنبر إذا صعده أبو العميطر يقول: يا أهل دمشق، ليفرضن لصبيانكم في الكتبات، وليعطين نساؤكم العشرات، هذا أمير المؤمنين علي بن عبد الله أولى بها من الغادرين الجائرين، أولي المكر، وقل يا أمير المؤمنين، فإنه ولي حباه الله بالعز(16/353)
والفخر. ثم يقول: هؤلاء موالي أمير المؤمنين: ابن أبي الزعيزية وأين مثل ابن أبي الزعيزية، وابن أبي ذويد، وأين مثل ابن أبي ذويد، لاكهرثمة، وإنما كان إسكافاً، ولا كالسندي وإنما كان حجاماً.
عروة بن رويم أبو القاسم اللخمي
من أهل الأردن، قدم الجابية، وسمع بها أنس بن مالك يحدث الخليفة.
قال عروة بن رويم: كنا عند عبد الملك بن مروان حين قدم عليه أنس بن مالك، فقال له عبد الملك: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليس بينك وبينه أحد، ليس فيه تزيد ولا نقصان، فقال أنس: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الإيمان يمان إلى لخم وجذام، إلا أن الكفر وقسوة القلوب في هذين الحيين من ربيعة ومضر.
وحدث عروة عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلى اله عليه وسلم قال: لما أنزلت " إذا وقعت الواقعة " فذكر فيها " ثلة من الأولين وقليل من الآخرين " قال عمر: يا نبي الله، ثلة من الأولين وقليل منا؟ قال: فأمسك آخر السورة سنة، ثم أنزل الله تبارك وتعالى " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عمر، تعال اسمع ما قد أنزل الله " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " ألا وإن من آدم إلي ثلة، وأمتي ثلة، ولن تستكمل ثلتنا حتى تسعين بالسودان من رعاة الإبل، ممن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.(16/354)
وعن عروة بن رويم أنه حدث عن الأنصاري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " يكون في أمتي رجفة، يهلك فيها عشرة آلاف، وعشرون ألف، وثلاثون ألف، يجعلها الله تعالى موعظة للمتقين، ورحمة للمؤمنين، وعذاباً على الكافرين.
وحدث عن الأنصاري قال: قال الله: " لأرجفن بعبادي في خير ليال، فمن قبضته فيها كافراً كانت منيته التي قدرت عليه، ومن قبضته فيها مؤمناً كانت له شهادة ".
وعن عروة بن رويم قال: سمعت أبا ثعلبة الخشني يقول: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزاة له، فدخل المسجد، فصلى له ركعتين وكان يعجبه إذا قدم، أن يدخل المسجد فيصلي فيه ركعتين ثم خرج فأتى فاطمة عليها السلام، فبدأ بها قبل بيوت أزواجه، فاستقبلته فاطمة، فجعلت تقبل وجهه وعينيه وتبكي، فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما يبكيك؟ قالت: أراك يا رسول الله قد شحب لونك واخلولقت ثيابك. فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا فاطمة، إن الله بعث أباك بأمر لم يبق على ظهر الأرض بيت مدر ولا شعر إلا أدخله الله به عزاً أو ذلاً حتى يبلغ حيث يبلغ الليل.
وعن عروة بن رويم قال: كاد المقلسون يحولون بيننا وبين جنازة عبد الملك، قوم يقلسون للوليد بن عبد الملك، ونحن نذهب بجنازة عبد الملك إلى المقابر!.
توفي عروة بن رويم اللخمي سنة اثنتين وثلاثين ومئة، وهودمشقي، وكان كثير الحديث، ثقة.
وعن عروة بن رويم قال: ثلاثة من جاء بإحداهن زوجه الله من أي الحور العين شاء: من ولي طعماً فاتقى(16/355)
الله فأدى الأمانة، ومن ضرب بسيفه بين يدي كتيبة يريد ما عند الله، ومن رد غيظه وهو قادر على أن يمضيه.
قال عروة بن رويم: يأتي على الناس زمان يسمى فيه الأمر بالمعروف مكلف.
واختلف في وفاة عروة، فقيل: سنة خمس وعشرين ومئة، وقالوا: وهو وهم.
وقيل: توفي سنة إحدى وثلاثين ومئة، وقيل: سنة خمس وثلاثين ومئة، وقيل: سنة ست وثلاثين، وقيل: سنة أربعين.
ومات بذي خشب. وحمل إلى المدينة فدفن بها. وقيل: توفي سنة أربع وأربعين ومئة.
/(16/356)
عروة بن الزبير بن العوام ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب أبو عبد الله الأسدي القرشي الفقيه المدني أمه أسماء بنت أبي بكر، وخالته عائشة أم المؤمنين وفد على معاوية بن أبي سفيان، وعلى عبد الملك بن مروان، وعلى الوليد بن عبد الملك.
حدث عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب الحلوى والعسل.
وحدث عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا حضر الطعام أو العشاء وحضرت الصلاة فابدؤوا بالطعام ".
وحدث عنها: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقبّل وهو صائم.
وكان ثقة كثير الحديث فقيهاً عالماً، مأموناً ثبتاً.
ولد عروة بن الزبير سنة ثلاث وعشرين في آخر خلافة عمر. وقيل: ولد لست سنين خلت من خلافة عثمان. وكان بينه وبين أخيه عبد الله بن الزبير عشرون سنة. وقيل: ولد سنة تسع وعشرين.(17/5)
قال عروة: كنت أتعلق بشعر كتفي أبي الزبير وهوي قول: من الرجز
مباركٌ من ولد الصّديق ... أزهر من آل أبي غتيق
ألذّه كما ألذّ ريقي
قال عروة بن الزبير: وقفت وأنا غلام أنظر إلى الذين حضورا عثمان بن عفان، وقد مشى أحدهم على الخشبتين اللتين غرزتا ليدخل منهما إلى عثمان، فلقيه عليهما أخي عبد الله بن الزبير، فبصرته طاح قتيلاً على البلاط، فقلت لصبيانٍ معي: قتله أخي، فوثب عليّ الذين حضروا عثمان، فكشّفوني فلم يجدوني أنبت، فخلّوني.
وقد روي أنه أذّن له عمر بن الخطاب.
قال عروة: كنت غلاماً لي ذؤابتان، قال: فقمت أركع ركعتين بعد العصر، قال: فبصر بي عمر بن الخطاب ومعه الدّرّة، فلما رأيته فررت منه وأحضر في طلبي حتى تعلق بذؤابتي قال: فنهاني، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا أعود.
قال علقمة بن وقاص: لما خرج طلحة والزبير وعائشة بطلب دم عثمان عرضوا من معهم بذات عرق فاستصغروا عروة بن الزبير فردوه.(17/6)
قال عروة: رددت أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن من الطريق يوم الجمل واستصغرنا.
قال قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة:
كنا في خلافة معاوية في آخرها نجتمع في حلقة في المسجد بالليل وأنا ومصعب وعروة ابنا الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الملك بن مروان وعبد الرحمن بن المسور بن مخرمة وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وكنا نتفرق بالنهار. فكنت أنا أجالس زيد بن ثابت، وزيد مترئس بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض في عهد عمر وعثمان وعلي في مقامه بالمدينة، وفي الفقه خمس سنين، حتى ولي معاوية سنة أربعين، فكان كذلك حتى توفي زيد سنة خمس وأربعين، فكنت أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نجالس أبا هريرة، وكان عروة بن الزبير يغلبنا بدخوله على عائشة. وكانت عائشة أعلم الناس، يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حدث هشام بن عروة عن أبيه: أنه كان يقول لنا ونحن شباب: مالكم لا تعلّمون؛ لقد هابكم سراتكم، إن تكونوا صغار قوم يوشك أن تكونوا كبارهم، وما خير للشيخ يكون شيخاً وهو جاهل، لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج أو خمس حجج وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها إلا وقد وعيته. ولقد كان يبلغني عن الرجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المهاجرين الحديث فآتيه فأجده قد قال، فأجلس على بابه فأسأله عنه.
قال أبو الزناد: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان.
قال الزهري: سألت ابن صغير عن شيء من الفقه، فقال: ألك بذا حاجة؟ عليك بهذا، وأشار(17/7)
إلى سعيد بن المسيّب؛ فجالسته سبع سنين لا أرى أن عالماً غيره. قال: ثم تحولت إلى عروة ففجّرت به ثبج بحر.
قال ابن شهاب: جالست سعيد بن المسيب، فكان يعيد عليّ الرجيع من حديثه. وكان عروة بحراً ما تكدره الدلاء. وما رأيت أغزر حديثاً من عبيد الله بن عبد الله.
قال سفيان بن عيينة: كان أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن.
حدث هشام بن عروة: أن عون بن عبد الله قال: حدثني عن أبيك، قال: فذهبت أحدثه عن السنين، فقال: لا غرائب أحاديثه! فإن عبد الله بن عروة حدثني عن عروة عن عائشة أنها كتبت إلى معاوية بن أبي سفيان: إنك إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئاً، فاتق الله.
قال هشام: حدثني عتبة بن عبد الله قال: جلست مع أبيك فضحكت فقال: ما يضحكك؟ فقلت: أنك تحيلنا على الأملئاء.
قال هشام: فإنما كان يحدث عن عائشة.
فقال هشام: وكان أبي يقول: إنا كنا أصاغر قوم، ثم نحن اليوم كبار، وإنكم اليوم أصاغر وستكونون كباراً، فتعلموا العلم تسودوا به قومكم، ويحتاجون إليكم، فوالله ما سألني الناس حتى لقد نسيت.(17/8)
قال هشام: وكان أبي يدعوني وعبد الله بن عروة وعثمان وإسماعيل أخويّ، وآخر قد سمّاه هشام، فيقول: لا تغشوني مع الناس، إذا خلوت فسلوني، فكان يحدثنا: يأخذ في الطلاق ثم الخلع ثم الحج ثم الهدي ثم كذا، ثم يقول: كروا عليه، فكان يعجب من حفظي. قال هشام: فوالله ما تعلمنا جزءاً من ألف جزء من أحاديثه.
وفي حديث بمعناه: عن عبيد الله بن عبد الله: فقال: وما يضحكك؟ فقال: إنك تحدثني عن عائشة وتحيلني على الملاء وإن غيرك يحيلنا على المفاليس.
قال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: العلم لواحد من ثلاثة: لذي حسب يزينه به، أو ذي دين يسوس به دينه، أو مختبطٍ سلطاناً يتحفه بعلمه، ولا أعلم أحداً أشرط لهذه الخلال من عروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز كلاهما حسيب ديّن من السلطان تأرّى.
قال الزهري: كن عروة يتألّف الناس على حديثه، وفي رواية: على علمه.
قال عثمان بن عروة: كان عروة يقول: يا بنيّ هلموا فتعلموا، فإن أزهد الناس في عالم أهله، وما أشده على أمير بأن يسأل عن شيء من أمر دينه فيجهله.
قال هشام بن عروة: ما رأيت عروة يسأل عن شيء قط، فقال فيه برأيه، إن كان عنده فيه علم قال بعلمه، وإن لم يكن عنده فيه علم، قال: هذا من خالص السلطان.(17/9)
قال: وقال أبي: ما أخبرت أحداً بشيء من العلم قط لا يبلغه عقله إلا كان ذلك ضلالة عليه.
وعن هشام بن عروة: أن أباه حرق كتباً له فيها فقه، ثم قال: لوددت أني كنت فديتها بأهلي ومالي.
قال الزهري:
كنا عند عمر بن عبد العزيز، وهو والي المدينة، ثم صرت إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فقال: هل من معه به خبرٌ فأسأله الأمر؟ هل كان عمر يكتب؟ فقال عروة: نعم كان يكتب، فقال: بآية ماذا؟ قال: بقوله: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في القرآن لخططت آية الرجم بيدي. فقال عبيد الله: هل سمّى عروة من حدّثه؟ قلت: لا، فقال عبيد الله: فإنما صار عروة يمص مص البعوضة تملأ بطنها ولا يرى أثرها، يسرق أحاديثنا ويكتمنا. أي: إني أنا حدثته.
قال أبو الزناد: ما رأيت أحداً أروى للشعر من عروة، فقيل له: ما أرواك يا أبا عبد الله!! فقال: وما روايتي في رواية عائشة: ما كان ينزل بها شيءٌ إلا أنشدت فيه شعراً.
قال ابن شوذب: كان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرطب ثلم حائطه فيدخل الناس فيأكلون ويحملون، وكان إذا دخله ردّد هذه الآية فيه حتى يخرج منه: " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله " حتى يخرج.
وكان عروة يقرأ ربع القرآن كل يوم نظراً في المصحف، ويقوم به الليل، فما تركه إلا ليلة قطعت رجله، ثم عاوده من الليلة المقبلة، وكان في رجله الأكلة، فنشرها(17/10)
وكان الوليد بن عبد الملك بعث إليه الأطباء فقالوا: نقطع رجله، فقطعت، فما تضوّر وجهه يومئذ.
وعن عروة: أنه خرج إلى الوليد بن عبد الملك، حتى إذا كان بوادي القرى وجد في رجله شيئاً، فظهرت به قرحة، وكانوا على رواحل، فأرادوه على أين يركب محملاً، فأبى عليهم، ثم غلبوه، وخلّوا ناقة له بمحمل فركبها، ولم يركب محملاً قبل ذلك، فلما أصبح تلا هذه الآية: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها " حتى فرغ منها، وقال: لقد أنعم الله على هذه الأمة في هذه المحامل بنعمة لا تؤدون شكرها. وترقّى في رجله الوضع حين قدم على الوليد، فلما رآه الوليد قال: يا أبا عبد الله اقطعها، فإني أخاف أن يبالغ فوق ذلك قال: فدونك؛ فدعا له الطبيب، وقال له: اشرب المرقد، قال: لا أشرب مرقداً أبداً. قال: فقدرها الطبيب، واحتاط بشيء من اللحم الحي، مخافة أن يبقى منها شيء ضمنٌ فيرقى، فأخذ منشاراً، فأمسّه النار فاتكأ له عروة، فقطعها من نصف الساق. فما زاد على أن يقول: حس حس. فقال الوليد: ما رأيت شيخاً قط أصبر من هذا.
وأصيب عروة بابن له يقال له محمد، في ذلك السفر، ودخل إسطبل دواب من الليل ليبول، فركضته بغلةٌ فقتلته، وكان من أحب ولده غليه، فلم يسمع من عروة في ذلك كله كلمة حتى رجع، فلما كان بوادي القرى قال: لقينا من سفرنا هذا نصباً، اللهم(17/11)
كان لي بنون سبعة فأخذت منهم واحداً وبقّيت لي ستة، وكانت لي أطراف أربعة، فأخذت مني طرفاً وبقّيت لي ثلاثة. وايمك لئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت.
فلما قدم المدينة جاء رجل من قومه يقال له عطاء بن ذؤيب، فقال: يا أبا عبد الله ما كنا نحتاج أن نسابق بك، ولا نصارع بك، ولكنا كنا نحتاج إلى رأيك والأنس بك، فأما ما أصبت به فهو أمر ذخره الله لك، وأما ما كنا نحب أن يبقى لنا منك فقد بقي.
وفي حديث غيره بمعناه، قال عروة: ما عزاني أحد عن رجلي مثلك.
ونشرت رجل عروة في دمشق. ولما نظر عروة إلى رجله في الطست حين قطعت قال: اللهم إنك تعلم أني لم أمش بها إلى معصية قط. وما ترك حزبه تلك الليلة. قال: وقعد بنوه يخنّون، يعني يبكون، فقال: يا بنيّ إن أباكم لم يكن فرساً يراهن عليه، قد أبقي لي خير خلتين: ديني وعقلي.
كان عروة يصوم الدهر كله إلا يوم الفطر ويوم النحر، ومات وهو صائم، فجعلوا يقولون له: أفطر، فلم يفطر.
قال أبو الزناد: اجتمع في الحجر مصعب بن الزبير، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، فقالوا: تمنوا، فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة. وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم. وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق، والجمع(17/12)
بينعائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين. وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة. قال: فنالوا كلهم ما تمنّوا، ولعل ابن عمر قد غفر له.
وعن محمد بن شيبة قال:
قال مصعب بن الزبير: وددت أني لا أموت حتى أملك المصرين، وأتزوج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة. وقال عبد الملك: وددت أني لا أموت حتى أسمى بهذا الاسم. وقال عروة بن الزبير: وددت أن الله غفر لي ورحمني وأدخلني الجنة. قال: ولم يمت هذان حتى أصابا ما طلبا، وأرجو أن يصيب هذا ما طلب.
قال الزهري: كنت آتي عروة فأجلس في بابه مليّاً، ولو شئت أن أدخل لدخلت، فأرجع وما أدخل إعظاماً له.
قال هشام بن عروة: جاء عمر بن عبد العزيز من قبل أن سيتخلف إلى أبي عروة بن الزبير، فقال له: رأيت البارحة عجباً، كنت فوق سطحي مستلقياً على فراشي، فسمت جلبة في الطريق، فأشرفت فظننت عسكر العسس، فإذا الشياطين يجيئون كردوساً كردوساً حتى اجتمعوا في جوبة خلف منزلي. قال: ثم جاء إبليس. فلما اجتمعوا هتف إبليس بصوت عال؛ فتفازعوا، فقال: من لي بعروة بن الزبير؟ فقالت طائفة منهم: نحن، فذهبوا ورجعوا، فقالوا: ما قدرنا منه على شيء. قال: فصاح الثانية أشد من الأولى، فقال: من لي بعروة بن الزبير؟ فقالت طائفة أخرى: نحن، فذهبوا،(17/13)
فلبثوا طويلاً، ثم رجعوا، وقالوا: ما قدرنا منه على شيء، فصاح الثالثة صيحة ظننت أن الأرض قد انشقت، فتفازعوا، فقال؛ من لي بعروة بن الزبير؟ فقالت جماعتهم: نحن، فذهبوا ثم لبثوا طويلاً، ثم رجعوا، فقالوا: ما قدرنا منه على شيء. قال: فذهب إبليس مغضباً، واتبعوه. فقال عروة بن الزبير لعمر بن عبد العزيز: حدثني أبي الزبير بن العوام قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما من رجل يدعو بهذا الدعاء في أول ليله وأول نهاره إلا عصمه الله من إبليس وجنوده: بسم الله ذي الشان، عظيم البرهان، شديد السلطان، ما شاء الله كان، أعوذ بالله من الشيطان.
قال عروة بن الزبير: كنت جالساً في مسجد الرسول ضحوة وحدي، إذ أتاني آتٍ يقول: السلام عليك يا بن الزبير، فالتفتّ يميناً وشمالاً، فلم أر شيئاً، غير أني رددت عليه: واقشعر جلدي، فقال: لا روع عليك، أنا رجل من أهل الأرض من الخافية أتيتك، أخبرك بشيء وأسألك عن شيء، قال: ما الذي تسألني عنه؟ وما الذي تخبرني به؟ قال: الذي أخبرك به أني شهدت إبليس عليه لعنة الله ثلاثة أيام، فرأيت شيطاناً مسودّاً وجهه، مزرقّة عيناه، يقول له إبليس عند المساء: ماذا صنعت بالرجل؟ فيقول له الشيطان: لم أطق الكلام الذي يقوله إذا أمسى وأصبح. فلما كان يوم الثالث قلت للشيطان: عمن يسألك إبليس اللعين؟ قال: يسألني عن عروة بن الزبير أن أغويه فما أستطيع ذلك لكلام يتكلم به إذا أصبح وإذا أمسى؛ فأتيتك أسألك ماذا تكلّم به إذا أصبحت وأمسيت؟ فقال عروة: أقول: آمنت بالله العظيم واعتصمت به، وكفرت بالطاغوت، واستمسكت بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وإن الله هو السميع العليم. فإذا أصبحت أقول ذلك. فقال له: يا بن الزبير جزاك الله خيراً، فقد استفدت خيراً وأفدته.(17/14)
قال: وكان عروة يقول: إذا رأيتم من رجل خلعة رائعةً من شر فاحذروه، وإن كان عند الناس رجل حذق، فإن لها عنده أخوات. وإذا رأيتم من رجل خلة رائعة من خير فلا تقطعوا أناتكم عنه، وإن كان عند الناس رجل سوء، فإن لها عنده أخوات.
قال عروة: وإني لأعشق الشرف كما أعشق الجمال، فعل الله بفلانة؛ ألفت بني فلان وهو بيض طوالٌ فقلبتهم سوداً قصاراً.
قال عروة: خطبت إلى عبد الله بن عمر ابنته سودة ونحن في الطواف، فلم يجبني بشيء، فقلت في نفسي: لو رضيني لأجابني. فلما انقضى الحج خرج إلى المدينة قبلي، وخرجت بعده. فلما دخلت المدينة مضيت إليه، فسلمت عليه، فقال لي: كنت ذكرت سودة بنت عبد الله؟ قلت: نعم. قال: كنت ذكرتها ونحن في الطواف نتخايل الله بين أعيننا، أفلك فيها حاجة؟ قلت: أحرص ما كنت. قال: يا غلام: ادع عبد الله بن عبد الله ونافعاً مولى عبد الله. قال: قلت له: وبعض آل الزبير؟ قال: لا. قلت: فمولاك حبيباً؟ قال: ذلك أبعد. ثم قال لهما: هذا عروة بن أبي عبد الله بن الزبير، وقد علمتما حاله، وقد خطب إليّ سودة بنت عبد الله، وقد زوجته إياها بما جعل الله للمسلمات على المسلمين من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وعلى أن يستحلها بما يستحل به مثلها. أقبلت يا عروة؟ قلت: نعم؛ قال: بارك الله لك.
قال عروة بن الزبير: رب كلمة ذل احتملتها أورثتني عزاً طويلاً.(17/15)
قال عروة:
تفرق بنو الزبير في البلاد، فخرج المنذر إلى العراق، وخرج معه بخالد بن الزبير، فأرسل عبد الله بن الزبير مصعباً فرد خالداً من بني المطلب، ونفذ المنذر فقدم الكوفة. وخرج عروة حتى قدم البصرة على عبد الله بن عباس، وهو عامل عليها، فقال له عروة حين دخل عليه: من الطويل.
أمتّ بأرحام إليكم قريبةٍ ... ولا قرب بالأرحام ما لم تقرّب
فقال له ابن عباس: من قالها؟ قال عروة: قلت: أبو أحمد بن جحش. قال ابن عباس: فهل تدري ما قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: قلت: لا، قال: قال له: صدقت. قال: ثم قال لي: ما أقدمك؟ قال: قلت: اشتدت الحال وأبى عبد الله أن يقسم سبع حجج، وتألّى أن لا يفعل حتى يقضي دين الزبير، وليس يؤدي عنه أحد. قال: ثم أجازني وأعطاني. ثم لحق بمصر فأقام بها بعد.
بعث معاوية إلى عروة بن الزبير مقدمه المدينة، فكشفه وسأله واستنشده، ثم قال: تروي قول جدتك صفية؟ وأراد أن يحركه. وكان يقال: طيّروا دماء الشباب في وجوههم، يقول: حركوهم: من الطويل
خالجت آباد الدهور عليكم ... وأسماء لم تشعر بذلك أيّم
فلو كان زبرّ مشركاً لعذرته ... ولكنه قد يزعم الناس مسلم
فقال لها الزبير: يا أمتاه وما هو إلا الزعم. فقال عروة: نعم وأروي قولها: من الوافر(17/16)
ألا أبلغ بني عمّي رسولاً ... ففيم الكيد فينا والإمار
وسائل في جموع بني عليٍّ ... إذا كثر التّناشد والفخار
بأنّا لا نقرّ الضّيم فينا ... ونحن لمن توسّمنا نضار
متى نقرع بمروتكم نسؤكم ... وتظعن من أماثلكم ديار
مجازيل العطاء إذا وهبنا ... وأيسارٌ إذا جبّ القتار
ونحن الغافرون إذا قدرنا ... وفينا عند غدوتنا انتصار
ولم نبدأ بذي رحم عقوقاً ... ولم توقد لنا بالغدر نار
وإنّا والسوابح يوم جمع ... بأيديها وقد سطع الغبار
لنصطبرن لأمر الله حتى ... يبيّن ربّنا أين الفرار
قال معاوية: يا بن أخي هذه بتلك، قال: وإنما قالت ذلك في قتل أبي أزيهر تعيّر به أبا سفيان بن حرب. وكان أبو أزيهر صهر أبي سفيان، وكان يدخل ثمّ في جوار أبي سفيان، فقتله هشام بن الوليد، فعيّر به حسان بن ثابت في قوله: من الطويل
غدا أهل حضني المجاز بسحرةٍ ... وجار ابن حربٍ بالمغمّس لا يغدو
كساك هشام بن الوليد ثيابه ... فأبل وأخلق مثلها جدداً بعد
قضى وطراً منه فأصبح ماجداً ... وأصبحت رخواً ما تخبّ ولا تعدو
فما منع العير الضّروط ذمارة ... وما منعت مخزاة والدها هند(17/17)
فلو أن أشياخاً ببدر تشاهدوا ... لبلّ نعال القوم معتبطٌ ورد
قال: وكانت العرب إذا غدر الرجل أوقدوا له ناراً بمنى أيام الحج على الأخشب الجبل المطل على منى، ثم صاحوا: هذه غدرة فلان، ففعلوا ذلك بأبي سفيان في أبي أزيهر.
قال سفيان: قتل بان الزبير وهو ابن ثلاث وسبعين، وقتل معه ابن صفوان وابن مطيع بن الأسود. قيل له: فأين كان عروة؟ قال: بمكة، فلما قتل خرج إلى المدينة بالأموال، فاستودعها، وخرج إلى عبد الملك، فقدم عليه قبل البريد، وقبل أن يصل إليه الخبر. فلما انتهى إلى الباب قال للبواب: قل لأمير المؤمنين: أبو عبد الله على الباب، فقال: من أبو عبد الله؟ قال: قل له: أبو عبد الله، فدخل، فقال: ههنا رجل عليه أثر سفر يقول: قل لأمير المؤمنين: أبو عبد الله عند الباب، فقلت له: من أبو عبد الله؟ فقال: قل له: أبو عبد الله، فقال: ذاك عروة بن الزبير؛ فأذن له. فلما رآه زال له عن موضعه، قال: فجعل يسأله، فقال: كيف أبو بكر؟ يعين عبد الله بن الزبير، فقال: قتل رحمه الله قال: فنزل عبد الملك عن السرير فسجد. وكتب إليه الحجاج أن عروة قد خرج والأموال عنده. قال: فقال له عبد الملك في ذلك، فقال: ما تدعون الرجل حتى يأخذ سيفه فيموت كريماُ؟! قال: فلما رأى ذلك كتب إلى الحجاج أن أعرض عن ذلك.
حدث أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في حديث عروة بن الزبير
أن الحجاج رآه قاعداً مع عبد الملك بن مروان، فقال له: أتقعد ابن العمشاء معك على سريرك؟! لا أم له. فقال عروة: أنا لا أم لي؟! وأنا ابن عجائز الجنة؟! ولكن إن شئت أخبرتك من لا أم له يا بن المتمنّية. فقال عبد الملك: أقسمت عليك أن تفعل فكفّ عروة.(17/18)
قوله: يا بن المتمنّية أراد أمه، وهي الفريعة بنت همام أم الحجاج بن يوسف، وكانت تحت المغيرة بن شعبة، وهي القائلة: من البسيط
ألا سبيل إلى خمر فأشربها ... أم لا سبيل إلى نصر بن حجّاج
وكان نصر بن حجاج من بني سليم، وكان جميلاً رائعاً، فمرّ عمر بن الخطاب ذات ليلة وهذه المرأة تقول:
ألا سبيل إلى خمر فأشريها...... البيت......
فدعا بنصر بن حجاج فسيره إلى البصرة، فأتى مجاشع نب مسعود السّلمي، وعنده امرأته شميلة، وكان مجاشع أميّاً، فكتب نصر على الأرض: أحبك حباً لو كان فوقك لأظلك، ولو كان تحتك لأقلّك. فكتبت المرأة: وأنا والله. فلبث مجاشع آنأ ثم أدخل كاتباً فقرأه، فأخرج نصراً، وطلقها.
وكان عمر بن الخطاب سمع قائلاً بالمدينة يقول: من الطويل
أعوذ برب الناس من شر معقلٍ ... إذا معقلٌ راح البقيع مرجّلا
يعني معقل بن سنان الأشجعي، وكان قدم المدينة، فقال له عمر: الحق بباديتك.
قال الزهري: دخل عروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود على عمر بن عبد العزيز، وهو أميرنا بالمدينة، فقال عروة في شيء جرى من ذكر عائشة وعبد الله بن الزبير: سمعت عائشة تقول: ما أحببت أحداً كحبي عبد الله بن الزبير، لا أعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أبوي، فقال له عمر: إنكم تنتحلون عائشة وابن الزبير انتحال من لا يرى فيهما لأحد(17/19)
نصيباً. قال عروة: بركة عائشة رضوان الله عليها كانت أوسع من أن لا نرى لكل مسلم فيها حقاً، ولقد كان عبد الله بن الزبير منها بحيث وضعته الرحم والمودة التي لا يشرك كلّ واحد منهما فيها غير صاحبه أحد، فقال عمر: كذبت. فقال عروة: هذا يعني عبيد الله بن عبد الله يعلم أين غير كاذب، وأنّ أكذب الكاذبين لمن كذّب الصادقين، فسكت عبيد الله ولم يدخل ما بينهما بشيء؛ فأفّف بهما عمر، وقال: اخرجا عني، فلم يلبث أن بعث إلى عبيد الله بن عبد الله رسولاً يدعوه لبعض ما كان يدعوه له، فكتب إليه عبيد الله: من الطويل
لعمر ابن ليلى وابن عائشة الذي ... لمروان أدّاه أبٌ غير زمّل
ولو أنهم عمّاً وجدّاً ووالداً ... تأسّوا فسنّوا سنّة المتفضّل
غذرت أبا حفص بأن كان واحداً ... من القوم يهدي هديهم ليس يأتلي
ولكنهم فاتوا وجئت مصلّياً ... تقرّب إثر السابق المتهمّل
وعمت فإن تلحق فحضر مبرّز ... جوادٍ وإن تسبق فنفسك أعول
فمالك في السلطان أن تحمل القذى ... جفونٌ عيونٍ بالقذى لم تكحّل
وما الحقّ أن تهوى فتعسف بالذي ... هويت إذا ما كان ليس بأعدل
أبى الله والأحساب أن ترأم الخنا ... نفوس كرامٍ بالخنا لم توكّل(17/20)
قال هشام بن عروة: ما سمعت أحداً من أهل الأهواء يذكر عروة إلا بخير.
كان عروة بن الزبير تابعياً ثقة صالحاً، لم يدخل في شيء من الفتن.
قال عروة: ما برّ والده من شدّ الطرف إليه.
قال عبد الله بن حسن بن حسن: كان علي بن حسين بن علي بن أبي طالب يجلس كل ليلة هو وعروة بن الزبير في مؤخر مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد العشاء الآخرة، فكنت أجلس معهما. فتحدثا ليلة فذكرا جور من جار من بني أميّة. والمقام معهم، وهو لا يستطيعون تغيير ذلك، ثم ذكرا ما يخافان من عقوبة الله لهم، فقال عروة لعليّ: يا علي، إن من اعتزل أهل الجور، والله يعلم منه سخطه لأعمالهم، فإن كان منهم على ميل ثم أصابتهم عقوبة الله رجي له أن يسلم مما أصابهم. قال: فخرج عروة فسكن العقيق. قال عبد الله: وخرجت أنا فنزلت سويقة.
قال هشام بن عروة:
لما قطع عمر بن الخطاب العقيق فدنا من موضع قصر عروة، قال: أين المستقطعون منذ اليوم؟ فوالله ما مررت بقطيعة تشبه هذه القطيعة، فقام إليه خوات بن خيبر الأنصاري فقال: أقطعنيها يا أمير المؤمنين، فأقطعه إياها، وكان يقال لموضعها: خيف حرّة الوبرة.
فلما كانت سنة إحدى وأربعين أقطع مروان بن الحكم عبد الله بن عباس بن(17/21)
علقمة بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد ودّ ما بين الميل الرابع من المدينة إلى صفيرة أرض المغيرة بن الأخنس التي في وادي العقيق إلى الجبل الأحمر الذي يطلعك على قباء، وشهود قطيعته عبد الملك وأبان ابنا مروان وعبيد الله بن عبد الله بن أبي أمية، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فاشترى عروة موضع قصره وأرضه وبئاره من عبد الله بن عباس وابتنى واحتفر واحتجر وضفر. فقيل له: يا أبا عبد الله إنك بغير موضع مدر، فقال: يأتي الله به من البقيع. فجاء سيل فدخل في مزارعه، فكساها من خليج كان خلجه.
ولما فرغ عروة من بناء قصره وبئاره دعا جماعة من الناس، وكان فيمن دعي ابن أبي عتيق، قال: فطعم وجعلوا يبرّكون وينصرفون ويقولون: ما رأينا ماء أعذب ولا أطيب، ولا منزلاً أكرم. قال: وقام ابن أبي عتيق فبرّك، ثم قال: لولا خصيلة واحدة ما كان في الأرض مثلها، قال: فاشرأب عروة والناس، وقال: ما هي؟ قال: ليس لها وقاية ولا دونها وديعة، قال: فضحك عروة ومن حضر، وأعجبهم ذلك من قول ابن أبي عتيق.
الوديعة: الخزانة تستودع بالمطر إذا جاء فيكون لها غذاء. والرقابة أن يكون لها ميضأة لئلا يرجع عليها الماء.(17/22)
لما اتخذ عروة قصراً بالعقيق، قال له الناس: قد جفرت عن مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: إني رأيت مساجدهم لاهية، وأسواقهم لاغية، والفاحشة في فجاجهم عالية، فكان فيما هنالك عما هم فيه عافية.
وعن ابن أبي ربيعة: أنه مرّ بعروة بن الزبير وهو يبني قصره بالعقيق، فقال: أردت الحرث يا أبا عبد الله؟ قال: لا، ولكنه ذكر لي أنه سيصيبها عذاب، يعني المدينة، فقلت: إن أصابها شيء كنت منتحياً عنها.
وكان عروة يكون بالعقيق فيموت بعض ولده بالمدينة فلا يأتيه.
من شعر عروة بن الزبير: من المتقارب
إذا انتسب الناس كان التقيّ ... بتقواه أفضل من ينسب
ومن يتّق الله يكسب بها ... من الحظ أفضل ما يكسب
قال عروة: أفضل ما أعطي العباد في الدنيا العقل، وأفضل ما أعطوا في الآخرة رضوان الله.
وقال عروة: ليس الرجل الذي إذا وقع في الأمر تخلص منه، ولكن الرجل يتوقى الأمور حتى لا يقع فيها.
قال عروة: ما أحب أن أدفن في البقيع، لأن أدفن في غيره أحب إليّ من أن أدفن فيه. إما أحد الرجلين: إما ظالم فما أحب أن أكون في قبره، وإما صالح فما أحب أن تنبش لي عظامه.(17/23)
مات عروة بن الزبير يوم مات، وهو يقول: أخشاك ربي وأرجوك، أخشاك ربي وأرجوك.
مات عروة بن الزبير في أمواله بمجاح في ناحية الفرع، ودفن هناك يوم الجمعة سنة أربع وتسعين. وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء لكثرة من مات منهم فيها.
وقيل: توفي سنة اثنتين وتسعين، وهو ابن سبع وسبعين، وقيل: سبع وستين سنة.
وقيل: توفي سنة إحدى وتسعين، وقيل: سنة ثلاث وتسعين، وقيل: سنة خمس وتسعين. وقيل: سنة سبع وتسعين أو تسع وتسعين، أو إحدى ومئة.
عروة بن العشبة الكلبي
شاعر فارس، كان من أصحاب علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم لحق بمعاوية.
وقيل له: العشبة؛ لأنه كان كالعشب لقومه. وعروة من ولده. وبعضهم يقول: عمر بن العشبة، وهو باطل.
بعث معاوية رجلاً من كلب يقال له: زهير بن مكحول من بني عامر إلى السّماوة فجعل يصدّق الناس. وبلغ ذلك علياً: فبعث ثلاثة نفر: جعفر بن عبد الله الأشجعي وعروة بن العشبة من كلب من بني عبد ودّ، والجلاس بن عمير من بني عدي بن جناب الكلبي، وجعل الجلاس كاتباً لهم ليصدقوا من كان في طاعته من كلب بكر بن وائل. فأخذوا على شاطئ الفرات حتى أتوا أرض كلب، ووافوا زهيراً الأجدادي، فاقتتلوا،(17/24)
وهزم زهير أصحاب علي، وقتل جعفر بن عبد الله، وأفلت الجلاس، وأتى ابن العشبة علياً، فعنّفه وقال: جبنت وتعصّبت فانهزمت، وعلاه بالدّرة؛ فغضب ولحق بمعاوية؛ فهدم عليٌّ داره. وكان زهير حمل ابن العشبة على فرس، فلذلك اتهمه علي، وقال ابن العشبة: من الطويل
أبلغ أبا حسنٍ إذا ما جئته ... يدينك منه الصبح والإمساء
لو كنت رائينا عشية جعفرٍ ... جاشت لديك النفس والأحشاء
إذ نحسب الصحراء خلف ظهورنا ... خيلاً وأن أمامنا صحراء
إنا لقينا معشراً قبض الحصى ... فكأنهم يوم الوغى شجراء
ومر الجلاس براع فأعطاه جبّة خزّن وأعطاه الراعي عباءة، فلبسها، وأخذ العلبة في يده، وأدركته الخيل، فقالوا: أين أخذ هؤلاء الترابيون؟ فأشار إليهم: أخذوا ههنا. ثم أقبل إلى الكوفة، فقال جوّاس بن القعطل: من الطويل
ونجّى جلاساً علبةٌ وعباءةٌ ... وقولك إني جيّد الصّرّ حالب
ولو ثقفته بالكثيب خيولهم ... لأودى كما أودى سميرٌ وحاطب
وصار لقىً بين الفريقين مسلماً ... جباراً ولم يثأر به الدهر طالب(17/25)
عروة بن محمد بن عطية
ابن عروة بن القين بن عامر بن عميرة السعدي الجشمي لجده صحبة، واستعمله سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك على اليمن.
حدث عروة بن محمد عن أبيه، قال: قدمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أناسٍ من بني سعد بن بكر، وكنت أصغر القوم، فخلفوني في رحالهم، ثم أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقضى من حوائجهم، ثم قال: " هل بقي منكم أحد؟ " قالوا: يا رسول الله، غلام منا في رحالنا؛ فأمرهم أن يبعثوني إليه؛ فأتوني فقالوا: أجب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فأتيته، فلما رآني قال: " ما أغناك الله فلا تسأل الناس شيئاً، فإن اليد العليا هي المنطية، وإن اليد السفلى هي المنطاة، وإن مال الله مسؤول ومنطىً ".
قال: ويكلمني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغتنا.
قال أبو وائل القاضي: كنا عند عروة بن محمد، فدخل عليه رجل فكلمه بكلام أغضبه، قال: فقام منا، ثم رجع وقد توضأ فقال: حدثني أبي عن جدي وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما نطفئ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ".
خرج عروة من اليمن وقد وليها سنتين وما معه إلا سيفه ورمحه ومصحفه. ولما دخل قال: يا أهل اليمن هذه راحلتي فإن خرجت بأكثر منها فأنا سارق.
وقيل: إنه وليها عشرين سنة، وعزل عنها سنة ثلاث ومئة.(17/26)
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله باليمن: إلى عروة بن محمد السعدي، إني أكتب إليك آمرك أن ترد المسلمين مظالمهم، فتكتب إليّ تراجعني، ولا تعرف مسافة ما بيني وبينك، ولا تعرف أحداث الموت، حتى لو كتبت إليك أن ترد على رجل مظلمة شاة لكتبت إلي أردها عفراء أم سوداء؟ فاردد على المسلمين مظالمهم ولا تراجعني والسلام.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عروة صاحب اليمن: لا يحمل إليّ من اليمن إلا حق، ولو لم يبلغ خراجها إلا حفينة من كتم لم أبال.
قال عروة بن محمد: لما استعملت على اليمن قال لي أبي: أوليت اليمن؟ قلت: نعم. قال: إذا غضبت فانظر إلى السماء فوقك، وإلى الأرض أسفل منك، ثم أعظم خالقهما.
وعن معمر في قوله تبارك الله وتعالى: " فلما آسفونا انتقمنا منهم ". قال: حدثني سماك بن الفضل قال: كنت عند عروة بن محمد وعنده وهب بن منبّه، فأتي بعامل لعروة فشكا، فأكثروا عليه، فقالوا: فعل وفعل، وثبتت عليه البينة، قال؛ فلم يملك وهب نفسه؛ فضربه على قرنه بعصا؛ فإذا دماؤه تشخب، فقال: أفي زمن عمر بن عبد العزيز يصنع مثل هذا؟ قال: فاشتهاها عروة وكان حليماً واستلقى على قفاه، وضحك، وقال: يعتب علينا أبو عبد الله الغضب في حكمته وهو يغضب، فقال وهب: وما لي لا أغضب وقد غضب خالق الأحلام؟ إن الله تعالى يقول: " فلما آسفونا انتقمنا منهم " يقول: أغضبونا.(17/27)
قال عروة بن محمد: ما أبرم قوم أمراً قط، فصدروا فيه عن رأي امرأة إلا تبرّوا.
عروة بن مروان
أبو عبد الله العرقي الجرار من أهل عرقة من أعمال طرابلس من نواحي دمشق.
حدث عن موسى بن أعين بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتاكم شهر رمضان تزين فيه الحور العين ".
قال: وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كان آخر يوم منشر رمضان أعتق فيه مثل جميع ما أعتق "، يعني في رمضان.
وحدث عن ابن المبارك عن عاصم عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ".
العرقي بكسر العين المهملة وقاف، والجرار بجيم وراءين. وكان أميّاً، وكان من العابدين. وعرقة: بلد بين رفنيّة وطرابلس. وكان رجلاً ما رئي أشد تعسّفاً منه، وكان محقّقاً شديد الحمل والجهد على نفسه، وكان ضيق الكمّ ما يقدر أن يخرج يده إلاّ بعد جهد، وكان لا يرى الاشتغال بالتجارة، إنما كان يأتي بريحان ينبت في الجبال إلى مصر فيبيعه، فيتقوته.(17/28)
عروة بن المغيرة بن شعبة
أبو يعفور الثّقفي وفد على معاوية.
حدث عن أبيه قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة في سفر، فقال: " أمعك ماء؟ " قلت: نعم، فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى عني في سواد الليل، ثم جاء، فأفرغت عليه ماء من الإداوة، فغسل يديه ووجهه، وعليه جبة من صوف، فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها، حتى أخرجهما من أسفل الجبة، وغسل ذراعيه، ومسح رأسه، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: " دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين ". فمسح عليهما.
وحدث عن أبيه قال: من باع الخمر فليشقّص الخنازير.
حدث خالد الحذاء أن المغيرة بن شعبة حيث أراد معاوية البيعة ليزيد وفّد أربعين من وجوه أهل الكوفة، وأمّر عليه ابنه عروة بن المغيرة، فدخلوا على معاوية، فقاموا خطباء فذكروا: أنه إنما أشخصهم إليه التيه والنظر لأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: يا أمير المؤمنين، كبرت سنك، وتخوفنا الانتشار من بعدك، يا أمير المؤمنين، أعلم لنا علماً، وحدّ لنا حدّاً ننتهي إليه؛ قال: أشيروا عليّ؛ قالوا: نشير عليك بيزيد ابن أمير المؤمنين، قال: وقد رضيتموه؟ قالوا: نعم، قال: وذاك رأيكم؟ قالوا: نعم، ورأي من بعدنا، فأصغى(17/29)
إلى عروة، وهو أقرب القوم منه مجلساً، فقال: لله أبوك! بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بأربع مئة، قال: لقد وجد دينهم عندهم رخيصاً.
قال الشعبي: علّم المغيرة بن شعبة ابنه عروة رعاية الغنم، ثم علّمه رعاية الإبل، ثم قال: أجلسوه في مجالسكم حتى يتعلّم منكم ويسمع حديثكم، ثم دعاه إليه فزوجه أربعاً.
قال الشعبي: اشترى رجل من رجل جاريته بخمس مئة درهم فنقده منها ثلاث مئة درهم، فسأله أن يدفعها إليه، فأبى، فانطلق، فتحمّل له الثمن. ثم أتاه بها، فدفعها إليه، وقال: ادخل فاقبض سلعتك، فوجدها قد ماتت. فخاصمه إلى عروة بن المغيرة، قال: فقال عروة: أما الثلاث مئة فهي لك، وأما المئتين فإنك ارتهنت السلعة رهناً، والرهن بما فيه؛ فأعجب ذلك الشعبي.
قال عروة بن المغيرة: شرّ العداوة ما ستر بالمداراة، وأشفاها للأنفس ما فزع بمثلها بادئاً، وكان ينشد: من الكامل
لا أتّقي حسد الضّغائن بالرّقى ... فعل الذليل ولو بقيت وحيدا
لكن أعدّ لها ضغائن مثلها ... حتى أوازي بالحقود حقودا
كالخمر خير دوائها منها بها ... تشفي السقيم وتبرئ المنجودا
وقال ابن عياش في تسمية الحول: عروة بن المغيرة بن شعبة.(17/30)
عريان بن الهيثم بن الأسود
ابن أقيش بن معاوية بن سفيان بن هلال بن عمرو بن جشم ابن عوف بن النّخع، النّخعيّ الكوفيّ وفد على معاوية وعلى يزيد بن معاوية.
حدث العريان بن الهيثم النخعي الأعور عن قبيصة بن جابر الأسدي قال: كنا نشارك المرأة في السورة من القرآن نعلّمها، فانطلقت مع عجوز من بني أسد إلى عبد الله بن مسعود، فرأى جبينها يبرق، فقال: أتحلقونه؟ فغضبت وقالت: التي تحلق جبينها امرأتك، قال: فاذهبي فانظري، فإن كانت تفعله فهي مني بريئة. فانطلقت فدخلت، فقالت: ما رأيتها تفعله، فقال عبد الله بن مسعود: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لعن المتنمصات والمتفلجات والمتوشمات والمستوشمات اللاتي يغيرن خلق الله تعالى ".
قال العريان بن الهيثم: كنت عند معاوية بن أبي سفيان، فذكروا البصرة فقال: كم بعد الأبلّة منها؟ فقالوا: أربعة فراسخ، فقال عبد الله بن عمرو: ينزل بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار الأعين كأن وجوههم المجانّ المطرقة.(17/31)
بينما العريان يطوف ليلة بالكوفة، لقي شاباً سكران وهو يتغنى، فقال له: من أنت؟ فقال: من الطويل
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوماً فسوف تعود
فقال: خلّوا سبيله، وظنّ أنه شريف من أشراف الكوفة. فلما أصبح حدث بحديثه في مجلسه، فقال: وددت أني كنت عرفته؛ فقال له رجل من الشرط، أتحب أصلحك الله أن آتيك به؟ قال: وتعرفه؟ قال: نعم أصلحك الله أبوه يبيع الباقلاء في جبانة عرزم، قال: عليّ به الساعة. قال: فأتاه به، فأدخله عليه، فقال له:
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره البيت......
فقال: أصلحك الله، فما كذبتك، إن أبي يبيع الباقلاء، فإذا أنزلت قدره فباع ما فيها أعادها؛ فضحك، وضحك جلساؤه، وعجبوا من ظرفه.
أتي العريان بن الهيثم بن الأسود النّخعيّ بشابين قد جنيا جناية، فضرب أحدهما، وأمر بتجريد الآخر؛ وشدّ إزاره على وسطه وهو يقول: من الوافر
فقلت لمذحج قوموا فشدّوا ... مآزركم فقد برح الخفاء
فإن الحرب يجنيها رجالٌ ... ويصلى حرّها قومٌ براء
فقال له العريان: من قائل هذا الشعر؟ قال: الهيثم بن الأسود النخعي، فضحك وقال: ما أراك إلاّ مظلوماً، خلّوا سبيله.(17/32)
عزرة بن قيس بن غزية الأحمسي
البجلي الدهني الكوفي ولي عزرة حلوان في خلافة عمر، وغزا شهرزور منها فلم يفتحها، حتى افتتحها عبتة بن فرقد.
حدث عزرة بن قيس، قال: قال خالد بن الوليد: كتب إليّ أمير المؤمنين حين ألقى الشام بوانيه وصار بثنيّةً وعسلاً أن: سر إلى أرض الهند، والهند يومئذ في أنفسنا البصرة، وأنا لذلك كاره، فقال رجل: اتق الله يا أبا سليمان، فإن الفتن قد ظهرت، فقال: أما وابن الخطاب حي فلا، إنها تكون بعده، والناس بذي بليّان أوف ي ذي بليّان بمكان كذا وكذا، فلينظر الرجل. فيتفكر هل يجد مكاناً لم ينزل به ما نزل بمكانه الذي هو فيه من الفتنة والشر، فلا يجد، أولئك الأيام التي ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين يدي الساعة، أيام الهرج. فنعوذ بالله أن تدركني وإياكم أولئك الأيام.
قال الواقدي: وهذا لا يعرف عندنا أن عمر بعثه إلى الشام، ولا أراد أن يبعثه إلى الهند، إنما بعثه أبو بكر إلى أرض العراق، واستمد أهلا لشام أبا بكر بالرجال فكتب إلى خالد أن يسير مدداً إلى جند الشام، وكان من ولاية أبي بكر حين توفي، ثم عزله عمر.
قوله: ألقى الشام بوانيه هو مثل، يقال للإنسان إذا اطمأن بالمكان واجتمع له أمره: قد ألقى بوانيه، وكذلك يقال: ألقى أوراقه، وألقى عصاه.(17/33)
وقوله: صار بثنيّةً وعسلاً، فيه قولان: يقال: البثنيّة: حنطةٌ منسوبة إلى بلد بالشام معروفة من دمشق يقال لها: البثنيّة. والقول الآخر: أراد بالبثنية اللّينة، وذلك أن الرملة اللّيّنة يقال لها: بثنة، وتصغيرها: بثينة، ومنها سميت المرأة بثينة، فأراد خالدٌ أن الشام لما اطمأن وذهبت شوكته وسكنا لحرب فيه، وصر ليناً لا مكروه فيه إنما هو خصيب كالحنطة والعسل. وعزلني استعمل غيري. وفي رواية: فلما ألقى الشام بوانيه وصار سمناً وعسلاً، أراد أن يؤثر به غيري.
وقوله: وكان الناس بذي بليّ وذي بلّى، فإنه أراد: تفرق الناس وأن يكونوا طوائف مع غير إمام يجمعهم ويعدي بعضهم من بعض، وكذلك كل من بعد منك حتى لا تعرف موضعه، فهو بذي بليّ وفيه لغة أخرى، بذي بليّان، وذي بليّان، وكان الكسائي ينشد في صفة رجل يطيل النوم: من الوافر
ينام ويذهب الأقوم حتى ... يقال أتوا على ذي بليّان
يعني: أنه أطال النوم، ومضى أصحابه في سفرهم حتى صاروا إلى موضع لا يعرف مكانهم من طول نومه.
ورواه بعضهم: ألقى الشام نواتيه. وليس بشيء، إنما النواتي في كلام أهل الشام: الملاحون الذين في البحر خاصة.
وعزرة: العين غير معجمة والزاي ساكنة منقوطة والراء غير معجمة.
قيل: إن عزرة بقي إلى أيام معاوية.(17/34)
عزير بن جروة ويقال ابن شوريق.
ابن عربا بن أيوب بن درتنا بن غرى بن بقي بن إيشوع بن فنحاس ابن العازر بن هارون بن عمران ويقال: عزير بن سروخا قيل: قبره بدمشق.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" ثلاث وثلاث وثلاث؛ ثلاث لا يمين فيهن، وثلاث الملعون فيهن، وثلاث أشك فيهن، أما التي لا يمين فيهن: فلا يمين للولد مع والده، ولا للمولى مع سيده، ولا للمرأة مع زوجها. وأما الملعون فيهن: فملعون من دعا لقرابته، وملعون من سبّ والديه، وملعون من غيّر تخوم الأرض. وأما التي أشك فيهن فلا أدري ألعن تبّع أم لا، ولا أدري أكان عزير نبيّاً أم لا ".
قال محمد بن كريب: ونسيت التاسعة. وذكرها غيره فقال: ولا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا.
وعن ابن عباس قال: كان عزير من أبناء الأنبياء، وقد كان أحكم التوراة، ولم يكن في زمانه أحد أعلم بالتوراة منه، ولا كان أحفظ لها منه. وكان يذكر مع الأنبياء، حتى محا الله اسمه حين سأل ربه عن القدر. وكان ممن سباه بختنصّر وهو غلام حدث. فلما بلغ أربعين سنة أعطاه الله الحكمة.
وعن أبي أمامة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن عزيراً النبي عليه السلام كان من المتعبدين، فرأى في منامه أنهاراً تطّرد(17/35)
ونيراناص تشتعل، ثم نبه، ثم نام فرأى في منامه أيضاً قطرة ماء كوبيص دمعة، فهي في شرارة من نار في دجن، ثم إنه نبه فكلم الله عز وجلن فقال: رب؟ رأيت في منامي أنهاراً تطرد، ونيراناً تشتعل، ورأيت أيضاً قطرة من ماء كوبيصة دمعة وشرارة من نار. فأجابه الله عز وجل: " أما ما رأيت في أول، يا عزير، أنهاراً تطرد ونيراناً تشتعل فما قد خلا من الدنيا، وأما ما رأيت من قطرة الماء كوبيصة دمعة وشرارة من نار في دجن فما قد بقي من الدنيا ".
قال وهب: قرأت في مناجاة عزير: اللهم إنك اخترت من الأنعام الضانية، ومن الطير الحمامة، ومن النبات الحبة، ومن البيوت بكا وإيليا ومن إيليا بيت المقدس.
وعن سفيان الثوري قال: قال عزير النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم: يا رب، ما علامة من صافيته في مودته؟ قال: من قنّعته باليسير، وحركته للخطر العظيم، قليل المطعم، وكثير البكاء، يستغفرني بالأسحار، ويبغض فيّ الفجّار.
وقال وهب: بلغني أن الله قال للعزير: " برّ والديك، قال: من بر والديه رضيت عنه، وإذا رضيت باركت، وإذا باركت بلغت الرابعة من النّسل ".
قال ابن عباس: إن عزير بن سروخا هو الذي قال الله تعالى في كتابه: " أو كالّذي مرّ على قريةٍ وهو خاويةٌ على عروشها قال أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ":(17/36)
وعن ناجية بن كعب الأسدي قال: هو عزير أتى خبازاً قريباً منه، قال له عزير: هل تعرفني؟ فقال: ما أعرفك، ولكني أشبّهك رجلاً كان عندنا يقال له عزير. وفي نسخ: جباراً.
وعن عكرمة: في قوله تعالى: " ولنجعلك آيةً للنّاس " قال: تبعث شاباً وولدك شيوخاً.
ويقال: إن هذه الآية نزلت في إزمياء.
حدث جماعة: أن عزيراً كان عبداً صالحاً حكيماً، خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها، فلما انصرف انتهى إلى خربة حين قامت الظهيرة، وأصابه الحرّ، فدخل الخربة وهو على حمار له، فنزل عن حماره، ومعه سلّة فيها تينٌ وسلّة فيها عنب، فنزل في ظلّ الخربة، وأخرج قصعة معه، فاعتصر من العنب في القصعة، ثم أخرج خبزاً يابساً معه، فألقاه في تلك القصعة في العصير ليبتل ليأكله، ثم استلقى على قفاه، وأسند رجليه إلى الحائط، فنظر سقف تلك البيوت ورأى ما فيها وهي قائمة على عروشها، وقد باد أهلها، ورأى عظاماً بالية فقال: أنّى يحيي هذه الله بعد موتها! فلم يشك أن الله يحييها، ولكن قالها تعجباً.
فبعث الله ملك الموت، فقبض روحه، فأماته الله مئة عام، فلما أماته الله عز وجل مئة عام، وكانت فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث. قال: فبعث الله إلى عزير ملكاً، فخلق قلبه ليعقل به، وعينيه لينظر بهما؛ فيعقل كيف يحيي الله الموتى، ثم ركّب خلقه وهو ينظر، ثم كسا عظامه اللحم والشّعر والجلد، ثم نفخ فيه الروح، كلّ ذلك(17/37)
يرى ويعقل، فاستوى جالساً، فقال له الملك: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً، وذلك أنه كان نام في صدر النهار عند الظهيرة، وبعث في آخر النهار، والشمس لم تغب، فقال: أو بعض يوم، ولم يتم لي يوم، فقال له الملك: بل لبثت مئة عام، فانظر إلى طعامك وشرابك، يعني الطعام الخبز لليابس، وشرابه العصير الذي كان اعتصر في القصعة فإذا هما على حالهما لم يتغيرا، العصير والخبز يابس، فذلك قوله: " لم يتسنّه " يعني: لم يتغيّر، وكذلك التين والعنب غضّ لم يتغير عن شيء من حالهم، فكأنّه أنكر في قلبه.
قال: فركب حماره حتى أتى محلته، فأنكره الناس، وأنكر الناس، وأنكر منازله؛ فانطلق على وهم منه حتى أتى منزله، فإذا بعجوز عمياء مقعدة، قد أتى عليها مئة وعشرون سنة كانت أمةٌ لهم، فخرج عنهم عزير وهي بنت عشرين سنة، وكانت عرفته وعقلته، فلما أصابها الكبر أصابها الزمانة. فقال لها عزير: يا هذه، أهذا منزل عزير؟ قالت: نعم، هذا منزل عزير! فسكت. وقالت: ما رأيت أحداً من كذا وكذا سنة يذكر عزيراً، وقد نسيه الناس. قال: فإني أنا عزير، قالت: سبحان الله! فإن عزيراً قد فقدناه منذ مئة سنة، فلم نسمع له بذكر. قال: فإني أنا عزير كان الله أماتني مئة سنة(17/38)
ثم بعثني. قالت: فإن عزيراً رجل مستجاب الدعوة، يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء، فادع الله أن يردّ عليّ بصري حتى أراك، فإن كنت عزيراً عرفتك؛ فدعا ربه، ومسح يده على عينيها، فصحتا، فأخذ بيدها فقال: قومي بإذن الله، فأطلق الله رجليها، فقامت صحيحة، كأنما نشطت من عقال! فنظرت فقالت: أشهد أنك عزير. فانطلقت إلى محلة بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم، وابن لعزير شيخ ابن مئة سنة وثمان عشرة سنة، وبنو بنيه شيوخ المجلس. فقالت: هذا عزير قد جاءكم، فكذبوها، فقالت: أنا فلانة مولاتكم، دعا لي ربّه؛ فرد عليّ بصري، وأطلق رجلي، وزعم أن الله كان أماته مئة سنة ثم بعثه.
قال: فنهض الناس، فأقبلوا إليه، فنظروا إليه، فقال ابنه: كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير. فقالت بنو إسرائيل: وإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوارة، فيما حدّثنا، غير عزير، وقد حرق بختنصّر التوراة. ولم يبق منها شيءٌ إلا ما حفظت الرجال، فاكتبها لنا. وكان أبوه سروخا قد دفن التوراة أيام بختنصر في موضع لم يعرفه أحدٌ غير عزير، فانطلق بهم إلى ذلك الموضع، فحفره، فاستخرج التوارة، فكان قد عفن الورق، ودرس الكتاب، قال: فجلس في ظل شجرة وبنو إسرائيل حوله، فجدد لهم التوراة. فنزل من السماء شها بان حتى دخلا جوفه فتذكر التوراة، فجددها لبني إسرائيل؛ فمن ثم قالت اليهود: عزير ابن الله جل الله عز وجل؛ للذي كان من أمر الشهابين وتجديده للتوراة، وقيامه بأمر بني إسرائيل.
وكان جدّد لهم التوراة بأرض السواد بدير حزقل، والقرية التي مات فيها يقال لها: سابر آباد، فكان كما قال الله: " ولنجعلك آيةً للناس " يعني لبني إسرائيل؛(17/39)
ذلك أنه كان يجلس مع بني بنيه وهم شيوخ، وهو شاب؛ لأنه كان مات وهو ابن أربعين سنة، فبعثه الله شاباً كهيئته يوم مات. فقال ابن عباس: بعث بعد بختنصر.
فلما سلط الله على بني إسرائيل بعد بختنصر مرّ أنطياخوس وهدم بيت المقدس، فلما بعث عزير قام بذلك يناشد ربه فيما نزل ببني إسرائيل من بختنصر وما لقوا منه ومن أنطياخوس.
وقيل في قوله: " أو كالذي مرّ على قريةٍ " قال: القرية: أرض المقدس، وذلك أن العزير مرّ بها وهي خراب، فقال: " أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عامٍ ثم بعثه " على السن التي توفاه عليها بعد مئة سنة، وله أربعون سنة، ولأمته عشرون ومئة سنة، ولابن ابنه تسعون سنة. وأنشد في ذلك: من الطويل
وأسود راسٍ شاب من قبله ابنه ... ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر
ترى ابن ابنه شيخاً يدبّ على عصا ... ولحيته سوداء والرأس أشقر
وما لابنه حيلٌ ولا فضل قوّةٍ ... يقوم كما يمشي الصبيّ فيعثر
يعد ابنه في الناس تسعين حجّةً ... وعشرين لا يجري ولا يتبختر
وعمر أبيه أربعون أمرّها ... ولابن ابنه في الناس تسعون غبّر
فما هو في المعقول إن كنت دارياً ... وإن كنت لا تدري فبالجهل تعذر
وفي حديث آخر مختصر: فأمر الله ملكاً فنزل بمغرفة من نور فقذفها في عزير فنسخ التوراة حرفاً بحرف حتى فرغ منها.
جاء ابن عباس إلى ابن سلام فقال: إني جئتك أسألك عن أشياء، فقال ابن سلام: وأنت تقرأ القرآن؟! قال: نعم، وإن كنت أقرأ القرآن. قال: ما لي أرى اليهود قالوا: عزير ابن الله، وقد كان فيهم موسى وهارون وداود وسليمان والأنبياء، فلم يقولوا لأحد(17/40)
منهم هذا، وقالوا لعزير؟! وما بال سليمان تفقد الهدهد من بين الطير؟ وسمعت الله عز وجل يذكر تبّعاً فلم يذمّه وذمّ قومه؟.
قال نعم إن تبّعاً غزا بيت المقدس، فسبى أولاد الأحبار، فقدم بهم على قومه، فأعجب بفتية منهم، فجعل يدنيهم وسمع منهم، وجعل الفتية يخبرونه عن الله وما في الآخرة، قال: فأعجب بهم، فجعلهم في سره دون قومه، فتكلم قومه في ذلك، فقالوا: إن هؤلاء الفتية قد غلبوا على تبع، ونخاف أن يدخلوه في دينهم. فبلغ تبعاً ما يقوله قومه؛ فأرسل إلى الفتية فدخلوا عليهم، فقال لهم: ألا تسمعون ما يقول قومي؟ قال الفتية: بيننا وبينهم المنصف، قال: وما هو؟ قالوا: النار التي تحرق الكاذب، ويبرأ فيها الصادق.
قال: فأرسل تبع إلى أحبار قومه فأدخلهم عليه، وقال: اسمعوا ما يقول هؤلاء يقولون: إن لنا ربّاً هو خلقنا وإليه نعود، وإن بين أيدينا جنةً وناراً، فإن أبيتم علينا هذا فبيننا وبينكم النار التي تحرق الكاذب، وينجو منها الصادق؛ فقال قوم تبع: رضينا. فخرج تبع وقومه، وأخرج الناس معه، وأمر بالفتية فأخرجوا، وكانت النار تقبل، حتى إذا كانت قريبة من النار ركدت ولما تبرح.
قال: فلما خرج الفتية أقبلت النار حتى إذا كانت قريبة منهم ركدت. قال تبع للفتية: هذه النار قد أقبلت فتوجهوا نحوها، فتوجه الفتية نحوها، وكانت إذا توجّه قبلها انفرقت فرقتين، فإذا دخلوها وتوسطوها، إن كانوا ليسوا بأهلها جاوزوها، فإذا جاوزوها انضمّت، وإن كانوا أهلها أقبلت عليهم وأحرقتهم. فلما توجه الفتية نحوها انفرقت فرقتين، فلما دنوا منها وجدوا حرها، وسفعت وجوههم؛ فرجعوا هاربين، قال له تبع: لتدخلنّها، أنتم دعوتمونا إلى هذا، قال: فأكرههم على أن دخلوها، ثم مشوا حتى خرجوا منها، فانضمّت.
واختار تبع عدّة الفتية من قومه، فقال: ادخلوها، فلما دنوا منها وجدوا حرّها وسفعت وجوههم رجعوا هاربين، فقال لهم تبع: بئس الرجل أنا إن كنت حملت الفتية(17/41)
على النار ثم لا أحملكم عليها، ارجعوا فادخلوها، فدخلوها، فلما توسطوها أحاطت بهم فأحرقتهم؛ فأسلم تبع، وكان رجلاً صالحاً، فذكره الله ولم يذمه، وذم قومه.
وأما الهدهد فكان بمكان من سليمان لم يكن شيء من الطير عنده بمنزلته، فنزل سليمان مفازة، فسأل: كم بعد مفازة الماء؟ فقال الناس: ما ندري، فسأل الشياطين فقالوا: لا ندري؛ فغضب سليمان فقال: لا أخرج حتى أحفر إليه السبيل، فقالت له الشياطين: ليس يعلم هذا إن علمه إلا الهدهد، قال: فكيف ذلك، قالوا: أن يخرج بخار من الأرض قبل طلوع الشمس فيصعد بقدر مسافة الماء، لا يراه شيء إلا الهدهد، ففقد الهدهد عند ذلك.
وأما عزير: فإن بختنصر حين غزا بيت المقدس، فقتلهم وخرب بيت المقدس وحرق التوراة، فبقي بنو إسرائيل ليس فيهم التوراة، إنما يقرؤونها نظراً، فلحق عزير بالجبال، فكان يكون هناك مع الوحوش، فلبث ما شاء الله، وكان يصوم ويرد عند الليل عيناً يشرب منها فيفطر، فورده ليلةً فإذا هو بامرأة قاعدة على الماء، فقال عزير: امرأة والنفس تهم بالشر، والشيطان للإنسان عدو مبين؛ فانصرف عنها ولم يفطر، فلما كان من الغد ورد الماء فإذا هي قاعدة على الماء، فجرى له كالأمس. ثم ورد اليوم الثالث، فإذا هي قاعدة على الماء، وقد كاد أن ينقطع عنقه عطشاً، فقال: يا نفس، النفس تهم بالشر، والشيطان عدو مبين، وامرأة، والخلوة، وأنا مضطر، فمضى إليها ليشرب من العين، وإذا بها قاعدة تبكي، فأقبل عليها وترك الشراب، وقال: ما يبكيك؟ قالت: ابني مات، قال: هل كان ابنك هذا يخلق؟ قالت: لا، قال: فهل كان يرزق؟ قالت: لا، قال: فكيف تبكين على من لا يخلق ولا يرزق؟ قالت: وما تصنع ههنا؟ وأين قومك؟ قال: وأين قومي؟ هلك قومي ومزقوا، قالت له: لج هذه العين فتخرج على قومك. قال: فعرف أنها مثلت له؛ فولج العين، فجعل لا يرفع رجلاً ولا يضع أخرى إلا زاده الله علماً حتى طلع في وسط المسجد، وقد أثبت الله تعالى التوراة في قلبه، كما كتبها لموسى عليه السلام.(17/42)
قال: فدعا بني إسرائيل إلى التوراة، فكتبها لهم. قال: فقالت بنو إسرائيل: لم يستطع موسى أن يأتينا بها إلا في كتاب، وأتانا بها عزير من غير كتاب؛ فرماه طوائف منهم، فقالوا: هو ابن الله جل وعز وتقدس.
وعن ابن عباس قال: آيةٌ لا يسألني الناس عنها، لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها، أو جهلوها فلا يسألون عنها؛ قيل له: وما هي؟ قال: لما نزلت: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ". شقّ على قريش، فقالوا: شتم آلهتنا. فجاء ابن الزّبعرى فقال: ما لكم؟ فقالوا: شتم آلهتنا، قال: فما قال؟ قالوا: قال: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " قال: ادعوه، فلما دعي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أو لكل من عبد من دون الله؟ قال: " لا بل لكل من عبد من دون الله ". فقال ابن الزبعرى: خصمت ورب هذه البنية يعني: الكعبة ألست تزعم أن الملائكة عباد صالحون، وأن عيسى عبد صالح، وأن عزيراً عبد صالح، وهذه بنو مليح يعبدون الملائكة، وهذه النصارى يعبدون عيسى، هذه اليهود تعبد عزيراً!! قال: فضج أهل مكة؛ فأنزل الله تعالى: " إنّ الذين سبقت لهم منّا الحسنى " الملائكة وعيسى وعزير " أولئك عنها مبعدون ".
وعن ابن عباس قال: إن الله عز وجل لما بعث موسى وناجاه، وأنزل عليه التوراة، ورأى مكانه من ربه عز وجل، قال: اللهم إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت(17/43)
أن لا تعصى ما تعصيت وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تعصى، فكيف هذا أي رب؟ فأوحى الله إليه: " إني لا أسأل عما أفعل وهو يسألون ". فانتهى موسى.
فلما بعث الله عزيراً، وآتاه التوراة، بعدما كان قد رفعها عن بني إسرائيل حتى قال من قال منهم: إن الله إنما خصه بالتوراة من بيننا أنه ابنه. فلما رأى منزلته من ربه قال: اللهم إنك رب عظيم لو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت أن لا تعصى ما عصيت وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذل تعصى، فكيف هذا أي رب؟ فأوحى الله إليه: " إني لا أسأل عما أفعل ". فأبت نفسه حتى سأل أيضاً، فقال: اللهم إنك رب لو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت أن لا تعصى ما عصيت وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى، فكيف هذا أي رب؟ فأوحى الله إليه: " يا عزير أتستطيع أن ترد يوم أمس؟ " قال: لا، قال: " أتستطيع أن تصر صرّة من الشمس؟ " قال: لا، قال: " أتستطيع أن تجيء بحصاة من الأرض السابعة؟ " قال: لا، قال: " أتستطيع أن تجيء بمثقال من الريح؟ " قال: لا، قال: " أتستطيع أن تجيء بقيراط من نور؟ " قال: لا، قال: " فهذا لا تقدر على الذي سألت عنه، إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون، أما إني لا أجعل عقوبتك إلا أن أمحو اسمك من الأنبياء فلا تذكر بينهم "، وهو نبي مرسل أو رسول.
فلما بعث الله عيسى ابن مريم وأنزل عليه الكتاب والحكم والتوراة والإنجيل، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم. فرأى مكانه من ربه عز وجل، قال: اللهم إنك رب عظيم، ولو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت أن لا تعصى ما عصيت وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذل تعصى، فكيف هذا أي رب؟ فأوحى الله تعالى إليه: " إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون، إنما أنت عبدي ورسولي وكلمتي ألقيتها إلى مريم، وروح مني خلقتك من غير أب، ثم قلت لك: كن فكنت، لئن لم تنته لأفعلن بك ما فعلت بصاحبك بين يديك ": فجمع الحواريين ومن معه فقال: إن القدر سرّ الله عز وجل فلا تتكلفوا.(17/44)
وفي رواية: إن القدر سريرة الله، فلا تسألوا عن سريرة الله.
وقال في الحديث عن عزير: إنه زجره فلم يزدجر، فقال الله تعالى: " يا عزير تريد أن تسألني عن أصل علمي؟، فوعزتي لأمحونّ اسمك من النبوة ". قال: فعاقبه الله تعالى فمحا اسمه من النبوة؛ فلم يذكر مع الأنبياء. قال: ثم لم يكفّ فقال: يا رب، اشتبه علي أمري! فبعث الله إليه ملكاً فقال: يا عزير، إن الله يقول: " وما الذي اشتبه عليك؟ " قال: يا رب، تسليطك على بني إسرائيل وهم أبناء أنبيائك وأصفيائك عبدة النيران، فقتلوا وسبوا وحرقوا بيت المقدس بيتك الذي اخترته لنفسك، وحرقوا كتابك الذي جاء به موسى، فكيف هذا يا رب؟ فقال له الملك: يا عزير، إن الله جل ثناؤه يقول: " اسكت، وما أنت وذاك؟! " فقال للملك: اشفع لي إلى الله، فقال الملك: يا عزير، أنت فتعبّد وسل ربك. قال: فتعبد أربعين يوماً ثم سأل ربه؛ فأوحى الله إليه: " يا عزير، إن بني إسرائيل قتلوا أنبيائي وانتهكوا محامي؛ فسلطت عيهم من لا يرجو ثوابي ولا يخاف عقابي، يكون أبلغ لي منهم في العقوبة، فمن ثمّ سلطت عليهم بختنصر وعبدة النيران.
قال: يا رب إنك حكم عدل، وأنت لا تجور، فكيف عذبت العامة بذنب الخاصة، والأصاغر بذنب الأكابر، فكيف هذا يا رب؟ فقال الله تعالى: " يا عزير، اخرج إلى فلاة من الأرض، يأتيك أمري ".
قال: فخرج فأتاه ملك فقال: يا عزير إن ربك يقول: " أتستطيع أن ترد يوم أمس؟ " قال: لا، قال: " فتستطيع أن تصرّ صرة من الشمس؟ " قال: لا، قال: " فتستطيع أن تكيل مكيالاً من نور؟ " قال: لا، قال: " فتستطيع أن تزن مثقالاً من الريح؟ " قال: لا، قال: " فتستطيع أن تجيء بحصاة من البحر السابع من قعره؟ " قال: فكذلك لا تستطيع أن تعلم أصل علمي ". ثم سلط الله عليه الشمس حتى صمحته من فوق رأسه، وسلط عليه الرمضاء من تحت رجليه حتى بلغ مجهوده وأيقن بالهلاك، فظن أنها عقوبة الذي سأل،(17/45)
إذا رفت له سحابة فعدا إليها، فإذا تحتها نهر جارٍ، فاغتسل فيه، ثم تروح في ظلها، فغلبته عيناه، فنام حتى استثقل نوماً. فسلط الله عليه قرية النمل، فارتفعن على ساقيه، فنخسته نملةٌ منها، فدلك إحدى رجليه على الأخرى؛ فقتل نملاً وذراً كثيراً، فانتبه، فأوحى الله إليه فقال: " يا عزير: لم قتلت هذا النمل؟ " قال: يا رب نخستني منها نملة، قال: " يا عزير، نخستك نملة، وقتلت نملاً كثيراً وذراً!! ".
وفي حديث آخر: لما انتبه عزير أحرق قرية النمل، فأوحى الله إليه: " فهلاً نملة واحدة؟! ".
وفي حديث آخر: فأوحى الله إليه: " يا عزير أحرقت قرية النمل، فبلغ من أذاهن إياك أن تحرقهن بالنار، وإنما عضتك منها نملة؟! " فقال: يا رب، إنما عضتني تلك الواحدة بقوتهن. فعلم عزير أن هذا مثل ضربه الله له، فقال عند ذلك عزير: يا رب، أنت كذلك أنت لا يدرك أحد كنه علمك وقدرتك. فقال الله تعالى: " يا عزير زعمت أني حكم عدل لا أجور بين عبادي، وكذلك أنا، وزعمت أني أعذب العامة بذنب الخاصة، والأصاغر بذنب الأكابر. يا عزير، إني لا أعذب العامة بذنب الخاصة حتى يعملوا المنكر جهاراً، فلا يأمروا ولا ينهوا، فأعذب الخاصة بالذنوب والمعاصي؛ فأعجلهم إلى النار، وأعاقب العامة بذنب الخاصة حين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم يقدرون على ذلك، فإذا كان يوم القيامة حاسبتهم بأعمالهم، وكان الذي عجلت لهم العقوبة في الدنيا لما تركوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما الأصاغر فأقبضهم بآجالهم قبضاً لطيفاً إلى راحتي ".
قال عزير: كذلك أنت إلهي. فقال له ربه: " قم يا عزير، ارجع إلى قومك، وانطلق إلى مدينتك، وقم فيهم، فقد شفعتك فيهم وأنا رادهم إليها ".(17/46)
فجمعهم الله وخلصهم من أيدي عدوهم، فجمعهم في بيت المقدس في خير حال، حتى قبض الله إليه عزيراً، فعتوا بعد ذلك، وبغى بعضهم على بعض، فجعلوا يخرجون من ليست له منعة من ديارهم، ويأخذون أموالهم؛ فسلط الله عليهم بعد ذلك طططيس بن سيس الرومي، فغزا بيت المقدس، فذلك قوله عز وجل: " وإن عدتم عدنا ".
فعادوا إلى البغي؛ وأعاد الله عليهم العقوبة، فغزاهم طططيس، فهزمهم الله، فقتل مقاتليهم، وحمل كنوز بيت المقدس، وألقى فيه الجيف، وحمل الأموال التي كانت فيها، فهي في بيوت أموالهم بالروم، ففيهم نزلت: " ومن أظلم ممّن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ". يعني أهل الروم، فليس رومي يدخل بيت المقدس إلا خائفاً، مستنكراً يستوحشه إذا نظر إلى بيت المقدس، ثم يصبح فيدخله. " ولهم في الدنيا خزيّ " يعني: أن يقتل مقاتلة الروم وتسبى ذراريهم حتى يفتحها الله على أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر الزمان " ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ " يعني عذاب النار يوم القيامة.
وقد أتى في الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أن نملة قرصت نبياً من الأنبياء؛ فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه أن: في قرصة نملة أهلكت أمة من الأمم؛ فاستح؟ ".
وعن وهب: أن عزيراً قام شافعاً إلى الله عز وجل في بني إسرائيل، وذكر الذي أصابهم من عظم المصيبة والبلاء، وما تتبع عليهم من الملك بختنصر وأنطياخوس. فقال: يا رب أنت خلقت الأرض بكلمتك، وكانت على مشيئتك، ثم خلقت فيها آدم بقدرتك جسداً، ثم نفخت فيه من روحك؛ فكان بشراً سويّاً، ثم أسجدت له ملائكتك،(17/47)
وأسكنته جنتك التي خلقتها بيدك، ثم أمرته فعصاك، وأخرجته من الجنة، وقضيت عليه الموت وعلى ولده من بعده، فلما عصاك وأخرجته من الجنة فلم تخرج منه الضعف الذي به عصاك، وأخرجت منه ذريتهم، فلم تخرج ذلك الضعف من ذريته الذي يعصيك به الخاطئون، ثم اخترت من ذريته نوحاً وأهلكت به البرية بدعوته لكفرهم بك، ثم اخترت من ولد نوح إبراهيم، ومن ولد إبراهيم إسحاق، ومن ولد إسحاق يعقوب، ثم أخرجت آل يعقوب من مصر، ورغبت بهم عنها، وبوأتهم الشام، ثم أنزلت عليهم كتابك، وعهدت إليهم عهدك، ثم اخترت داود ثم سليمان من بعده، فأمرت ببناء بيتك المقدس من مالك، فسخرت له الإنس والجن والشياطين؛ فبنى ذلك البيت ليذكر فيه اسمك، ويسبحك من خلقك؛ فعصاك أهل ذلك البيت، وليسوا بأول من عصاك؛ فعاقبتهم على معصيتك، فسلطت عليهم من قتل أنبياءك وخرّب بيتك، وأحرق كتابك الذي أنزلت، وأذل أولياءك وأعز به أعداءك؛ فعجب يا رب كيف أسلمت أولياءك وأعززت أعداءك؟ وعجب ما الذي ينفعنا أن نسمّى أولياءك ونحن عبيد لأعدائك وخولٌ لأهل معصيتك؟! فكيف هذا يا رب؟! وعن ابن عباس: أن عزيراً سأل الله عز وجل فقال: يا رب أنت خلقت الشر وقدّرته، فلم تعذب عليه؟ فأوحى الله تعالى إليه: " يا عزير، أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من اسم النبوة "، فأعاد عزير القول ثلاث مرات؛ فمحا الله اسمه من النبوة.
فما بعث عيسى عليه السلام سأل عن مثل ما سأل عنه عزير؛ فأوحى الله إليه: " يا بن العذراء البتول: إنه غيبي مكتوبٌ تحت عرشي المكنون ".
وعن رجاء بن سويد: أن عيسى بن مريم سأل ربه فقال: يا رب إنك عدل وقضاؤك عدل، فكيف تقضي(17/48)
على العبد بالذنب ثم تعذبه عليه؟! فقال: " يا بن البتول: اله عن هذا فإنه من مكنون علمي ".
وعن أنس بن مالك قال: جاء عزير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى باب موسى بن عمران بعدما محي اسمه من ديوان النبوة فحجب؛ فرجع وهو يقول: مئة موتةٍ أهون من ذل ساعة.
قال عطاء بن أبي رباح: كان أمر عزير بين عيسى ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال عطاء أيضاً: كان في الفترة تسعة أشياء: بختنصر، وجنة صنعاء، وجنة سبأ، وأصحاب الأخدود، وأمر حاصوراء، وأصحاب الكهف، وأصحب الفيل، ومدينة أنطاكية، وأمر تبع.
وقال الحسن: كان أمر عزير وبختنصر في الفترة.
وعن وهب بن منبه: أنها كانت بين عيسى وسليمان. والله أعلم أي ذلك كان.
عزير بن الأحنف بن الفضل
أبو عصمة البخاري البيكندي. ويقال الجرجاني لعله سكن جرجان؛ فنسب إليها.
سمع بدمشق وبغيرها.(17/49)
وحدث عن قتيبة بسنده إلى أنس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يدخر شيئاً لغده.
توفي أبو عصمة ببلخ سنة ثمان وثمانين ومئتين.
عسكر بن حصين
أبو تراب النخشبي أحد العباد السائحين، قدم دمشق.
وحدث عن محمد بن نمير بسنده إلى جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن الله يطعمهم ويسقيهم ".
وذكر أبو نعيم أن نخشب من خراسان، ووهم في ذلك، إنما هي من وراء النهر، وهي نسف.
قال ابن الجلاّء: صحبت ست مئة شيخ ما لقيت فيهم مثل أربعة، أولهم أبو تراب النخشبي.
قال أبو تراب: الفقير قوته ما وجد، ولباسه ما ستر، ومنزله حيث نزل.
وقال: إذا صدق العبد في العمل وجد حلاوته قبل أن يعمل، وإذا أخلص فيه وجد حلاوته وقت مباشرة العمل.(17/50)
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: جاء أبو تراب إلى أبي، فجعل أبي يقول: فلان ضعيف، فلان ثقة، فقال أبو تراب: يا شيخ لا نغتاب العلماء؛ فالتفت أبي إليه فقال له: ويحك هذه نصيحة، ليس هذا غيبة.
وكان أبو تراب صحب حاتماً الأصم وأخذ منه طريقة التوكل.
كان أبو تراب إذا رأى من أصحابه ما يكره زاد في اجتهاده، وجدد توبته ويقول: بشؤمي دفعوا إلى ما دفعوا إليه لأن الله تعالى يقول: " إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم ".
قال: وسمعته يقول لأصحابه: من لبس منكم مرقّعةً فقد سأل: ومن قعد في خانقاه أو في مسجد فقد سأل، ومن قرأ القرآن من مصحف أو كيما يسمع الناس فقد سأل الناس.
قال: وكان يقول: بيني وبين الله عز وجل أن لا أمدّ يدي إلى حرام إلا قصرت يدي عنه.
قال أبو تراب: لابد للأستاذ من أربعة أشياء: تمييز فعل الله من فعل الخلق، ومعرفة مقامات العمال، ومعرفة الطبائع والنفوس، وتمييز الخلاف من الاختلاف.
وكان أبو تراب يقول: لا أعلم شيئاً أضرّ للمريدين من أسفارهم على متابعة قلوبهم ونفوسهم الاعتقاد الباطل.(17/51)
نظر أبو تراب إلى صوفي مدّ يده إلى قشر البطيخ وقد طوى ثلاثة أيام؛ فقال له أبو تراب: تمد يدك إلى قشر البطيخ؟! أنت لا يصلح لك التصوف، الزم السوق.
مر أبو تراب مزيّن فقال له: تحلق رأسي لله عز وجل؟ فقال له: اجلس، ففيما يحلق رأسه مرّ به أميرٌ من أهل بلده، فقال: أليس هذا أبو تراب؟ فقالوا: نعم، قال: أيشٍ معكم من الدنانير؟ فقال له رجل من خاصته: معي ألف دينار، فقال: إذا قام فأعطه واعتذر إليه وقل له: لم يكن معنا غير هذه؛ فجاء الغلام إليه، فقال له: الأمير يقرأ عليك السلام وقال لك: ما حضر معنا غير هذه الدنانير، فقال له: ادفعها إلى المزيّن، فقال له المزيّن: أيشٍ أعمل بها؟ فقال: خذها، فقال: لا والله ولو أنها ألفا دينار، تشترط عليّ وتقول: احلق رأسي لله، لا والله ولو أنها ألفا دينار ما أخذتها، فقال له أبو تراب: مرّ إليه فقل له: إن المزين ما أخذها، خذها أنت فاصرفها في مهمّاتك.
قال أبو نصر السراج: شرط التوكل ما قاله أبو تراب النخشبي وهو طرح البدن في العبودية، وتعلق القلب بالربوبية، والطمأنينة إلى الكفاية، فإن أعطي شكر، وإن منع صبر.
سئل أبو تراب عن صفة العارف، فقال: الذي لا يكدره شيء، ويصفو به كل شيء.
قال أبو تراب: ما تمنّت نفسي عليّ قط إلا مرة، تمنت عليّ خبزاً وبيضاً، وأنا في سفري، فعدلت عن الطريق إلى قرية، فوثب رجل وتعلق بي وقال: كان هذا مع اللصوص، فبطحوني وضربوني سبعة خشبة. فوقف علينا رجل، فصرخ وقال: هذا أبو تراب النخشبي!، فخلوني واعتذروا إليّ، وأدخلني الرجل منزله، فقدم إليّ خبزاً وبيضاً، فقلت: كلها بعد سبعين جلدة.(17/52)
قال أبو تراب: إذا تواترت النعم على أحدكم فليبك على نفسه، فقد سلك به غير طريق الصالحين.
قال أبو تراب: ليس ينال الرضا من للدنيا في قلبه مقدار.
دخل أبو تراب من بادية البصرة فسئل عن أكله، فقال: خرجت من البصرة فأكلت بالنّباج، ثم بذات عرق، ومن ذات عرق إليكم. فقطع البادية بأكلتين.
قال محمد بن يوسف البنا:
كان أبو تراب النخشبي صاحب كرامات، فسافرت معه سنة، وكان معه أربعون نفساً. ثم أصابتنا مرة فاقة، فعدل أبو تراب عن الطريق، وجاء بعذق موز فناولنا، وفينا شاب، فلم يأكل! فقال له أبو تراب: كل، فقال: الحال الذي أعتقده ترك المعلومات، وصرت أنت معلومي، فلا أصحبك بعد هذا. فقال أبو تراب: كن مع ما وقع لك.
قال أبو العباس الرّقّي: كنا مع أبي تراب في طريق مكة، فعدل عن الطريق إلى ناحية، فقال له بعض أصحابه: أنا عطشان، فضرب برجله فإذا عين ماء زلال، فقال الفتى: أحب أن أشربه في قدح! فضرب بيده الأرض، فناوله قدحاً من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت! فشرب وسقانا. وفمازال القدح معنا إلى مكة. فقال لي أبو تراب يوماً: ما يقول أصحابك في هذه الأمور التي يكرم الله عز وجل بها عباده؟ فقتل: ما رأيتك أحداً إلا وهو يؤمن بها، فقال: من لم يؤمن بها فقد كفر! إنما سألتك من طريق الأحوال، فقلت: ما أعرف لهم(17/53)
قولاً فيه. فقال: بلى قد زعم أصحابك أنا خدع من الجن، وليس الأمر كذلك. إنما الخدع في حال السكون إليها، فأما من لم يقترح ذلك ولم يساكنها فتلك مرتبة الربانيين.
كان أبو تراب يقول: من كان غناه بماله لم يزل فقيراً، ومن كان غناه في قلبه لم يزل غنياً، ومن كان غناه بربّه فقد قطع عنه اسم الفقر والغنى، لأنه دخل في حيّز ما لا وصف له.
قال أبو تراب: إذا ألفت القلوب الإعراض عن الله صحبتها الوقيعة في أولياء الله.
قال أبو تراب: وقفت خمساً وعشرين وقفة، فلما كان من قابل رأيت الناس بعرفات ما رأيت قط أكثر منهم، ولا أكثر خشوعاً وتضرعاً ودعاءً، فأعجبني ذلك، فقلت: اللهم من لم تتقبل حجّته من هذا الخلق فاجعل ثواب حجّتي له، وأفضنا من عرفات وبينا نجمع رأيت في المنام هاتفاً يهتف بي: " تتسخى وأنا أسخى الأسخياء، وعزتي وجلالي ما وقف هذا الموقف أحد قط إلا غفرت له "، فانتبهت فرحاً بهذه الرؤية، فرأيت يحيى بن معاذ الرازي وقصصت عليه الرؤيا، فقال: إن صدقت رؤياك فأنت تعيش أربعين يوماً. فلما كان يوم إحدى وأربعين جاؤوا إلى يحيى بن معاذ فقالوا: إن أبا تراب مات، فغسله ودفنه.
قال إبراهيم الخواص: مات أبو تراب بين مكة والمدينة، نهشته السباع سنة خمس وأربعين ومئتين بالبادية.(17/54)
قال أبو عمر الإصطخري: رأيت أبا تراب ميتاً في البادية قائماً منتصباً لا يمسكه شيء.
قال أبو تراب النّهراوني: رأيت كأن القيامة قد قامت، والأهوال قد بدت، والأمم جاثية على الركب، والكل قد همه شأنه، فبيناهم كذلك إذ لاح علم كبير ونور ساطع أضاءت منه القيامة؛ قال الناس: هذا ملكٌ مقرب أو نبي مرسل. إذا منادٍ ينادي: هذا أبو تراب النخشبي الذي آثر الله على ماله، وبذل نفسه لمولاه، فهبّت ريح من قبل العرش نثرت على الخلق نثاراً، فما أحد إلا أصابه منه.
عصمة بن أبي عصمة إسرائيل بن بجماك
أبو عمرو البخاري حدث بدمشق عن عمة زوج بن بجماك بسنده إلى أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تسموا العنب الكرم، فإن الكرم الرجل المسلم ".
قال عصمة العباداني: كنت أجول في بعض الفلوات إذ أبصرت ديراً فيه صومعة، فيها راهب، فناديته، فأشرف عليّ، فقلت له: من أين تاتيك الميرة؟ قال: من مسيرة شهر، قلت: حدثني بأعجب ما رأيت. قال: نعم، بينا أنا ذات يوم أدير نظري في هذه البرية، وأتفكر في(17/55)
عظمة الله عز وجل وقدرته إذ رأيت طائراً أبيض مثل النعام كبيراً قد وقع على تلك الصخرة، وأومأ إلى صخرة بيضاء، فتقايا رأساً ثم رجلاً ثم ساقاً، وإذا هو كلما تقايا عضواً من تلك الأعضاء التأمت بعضها إلى بعض أسرع من البرق الخاطف بقدرة الله عز وجلن حتى استوى رجلاً جالساً بقدرة الله، فإذا هم بالنهوض نقره الطائر نقرة قطعه أعضاءً ثم يرجع فيبتلعه.
فلم يزل على ذلك أياماً؛ فكثر تعجبي، وازددت يقيناً بعظمة الله عز وجل، وعلمت أن لهذه الأجساد حياة بعد الموت، فلم يزل على ذلك أياماً، فالتفت إليه يوماً، فقلت: أيها الطائر، سألتك بحق الله الذي خلقك وبرأك إلا أمسكت عنه حتى أسائله فيخبرني بقصته. فأجابني الطائر بصوت عربي: الخلق لذي الملك وله البقاء الذي يفني كل شيء ويبقى، أنا ملك من ملائكة الله موكل بهذا الجسد لما أجرم وجرى عليه من قضاء الله، وأمرني الله أن آتي هذا المكان لتسأله وتخاطبه، ليخبرك بما كان منه، فسله. فالتفت إليه، فقلت: يا هذا الرجل المسيء لنفسه ما قصتك؟ ومن أنت؟ قال: أنا عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي، وإني لما قتلته وصارت روحي بين يدي الله عز وجل، ناوني صحيفة مكتوبة، فيها ما عملته من الخير والشر منذ يوم ولدتني أمي إلى أن قتلت عليّ بن أبي طالب، وأمر الله هذا الملك بعذابي إلى يوم القيامة، فهو يفعل فيّ ما تراه، ثم سكت فنقره الطائر نقرة نثر أعضاءه بها، ثم جعل يبتلعه عضواً عضواً. فلما فرغ منه، قال: يا آدمي: إن ماض عنك، وخير وصيتي لك: أن تتقي الله في سرك وعلانيتك، فهذا جزاء من قتل نفساً زكية، قد كتب لها السعادة من الله عز وجل، وكتب على قاتلها النار والعذاب من الله عز وجل، وقد أتاني رسول الله أن أمضي بهذا الجسد جزيرة في البحر الأسود الذي تخرج منه هوام أهل النار فأعذبه إلى يوم القيامة.
كان عصمة مقيماً بمصر، تحول إلى دمشق.
وذكر الفضل بن جعفر أنه سمع من عصمة سنة ثلاث مئة.(17/56)
عصمة بن أبي عصمة البعلبكي
حدث عن أبي عبد الله محمد بن بكير البصري بسنده إلى أم سليم زوجة أبي طلحة الأنصاري أنها قالت: لم تر فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دماً قط في حيض ولا في نفاس، وكانت يصب عليها من ماء الجنة؛ وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أسري به دخل الجنة، وأكل من فاكهة الجنة، شرب من ماء الجنة، فنزل من ليلته فوقع على خديجة، فحملت بفاطمة، رضوان الله وسلامه عليها، فكان حمل فاطمة من ماء الجنة.
عطارد بن حاجب بن زرارة
ابن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة ابن مالك بن زيد منامة من تميم ويقال: إن حاجباً لقب زرارة، لقّب بذلك لكبر حاجبيه أبو عكرمة التميمي أسلم على عهد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووفد عليه، واستعمله سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صدقات بني دارم، ووفد على معاوية.
روى عطارد بن حاجب: أنه أهدى إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثوب ديباج كساه إياه كسرى، فدخل أصحابه فقالوا: أنزلت عليك من السماء؟ فقال: " وما تعجبون من ذا؟ لمنديلٌ من مناديل سعد بن معاذ في الجنة خيرٌ من هذا "، ثم قال: " يا غلام، اذهب به إلى أبي جهم بن حذيفة، وقل له: يبعث إليّ بالخميصة ".(17/57)
عن ابن عمر قال: رأى عمر عطارد التميمي يقيم بالسوق حلة سيراء، وكان رجلاً يغشى الملوك، فقال عمر: يا رسول الله، إني رأيت عطارد يقيم في السوق حلة سيراء، فلو اشتريتها ولبستها لوفود العرب إذا قدموا عليك، وأظنه قال: ولبستها يوم الجمعة، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة ".
فلما كان بعد ذلك أتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحلل سيراء، فبعث إلى عمر بحلة، وبعث إلى أسامة بن زيد بحلة، وأعطى علي بن أبي طالب حلة وقال: " شقّقها خمراً بين نسائك ". فجاء عمر يحملها، فقال: يا رسول الله: بعثت إليّ بهذه، وقلت بالأمس في حلة عطارد ما قلت: قال: " إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، ولكن بعثت بها إليك لتصيب بها ". فأما أسامة فراح في حلته فنظر إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظراً عرف أن رسول الله عليه وسلم أنكر ما صنع، فقال: يا رسول الله ما تنظر إليّ وأنت بعثت بها إليّ؟ قال: " إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، ولكن بعثت لها إليك لتشققها خمراً بين نسائك ".
بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر بن سفيان، ويقال: نعيم بن عبد الله النحام على صدقات بني كعب. فجاء وقد حلّ بنواحيهم من بني تميم بنو عمرو بن جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، فهم يشربون معهم على غدير لهم بذات الأشطاط. ويقال: وجدهم على عسفان، ثم أمر بجمع مواشي خزاعة ليأخذ منها الصدقة، فحشرت عليه خزاعة الصدقة من كل ناحية، فاستنكر ذلك بنو تميم، وقالوا: ما هذا؟ تؤخذ أموالكم منكم ثباطاً؟! وتحبّشوا وتقلدوا القسيّ وشهروا السيوف. فقال الخزاعيون: نحن قوم ندين بدين الإسلام، وهذا من ديننا. فقال التميميون: والله لا يصل إلى بعر منها أبداً.(17/58)
فقملا رآهم المصدق هرب منهم، فانطلق مولّياً، وهو يخافهم، والإسلام يومئذٍ لم يعم العرب، وقد بقيت بقايا من العرب، فهم يخافون السيف؛ لما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة وحنين.
وقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر مصدقيه أن يأخذوا العفو منهم ويتوقّوا كرائم أموالهم. فقدم المصدق على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره الخبر، وقال: يا رسول الله، إنما كنت في ثلاثة نفر. فوثبت خزاعة على التميميين، فأخرجوهم من محالهم، وقالوا: لولا قرابتكم ما وصلتم إلى بلادكم، لتدخلنّ علينا بلاء من عداوة محمد وعلى أنفسكم، حيث تتعرضون لرسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تردونهم عن صدقات أموالنا. فخرجوا راجعين إلى بلادهم.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من لهؤلاء القوم الذين فعلوا ما فعلوا؟ " فانتدب أول الناس عيينة بن حصن الفزاري، فقال: أنا لهم أتبع آثارهم، ولو بلغوا يبرين حتى أنيل بهم إن شاء الله تعالى، فترى فيهم رأيك أو يسلموا.
فبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خمسين فارساً من العرب ليس فيها مهاجرٌ واحد ولا أنصاري. وكان يسير بالليل ويكمن بالنهار، خرج على ركوبة حتى انتهى إلى العرج، فوجد خبرهم وأنهم قد عارضوا إلى أرض بني سليم.
فخرج في إثرهم حتى وجدهم قد عدلوا من السّقيا يؤمّون أرض بني سليم في(17/59)
صحراء، فدخلوا وسرحوا مواشيهم، والبيوت خلوف ليس فيها أحد إلا النساء ونفير، فلما رأوا الجمع ولّوا، وأخذوا منهم أحد عشر رجلاً، ووجدوا في المحلة من النساء إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيّاً، فجلبهم إلى المدينة، فأمر بهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحبسوا في دار رملة بنت الحارث.
فقدم منهم عشرة من رؤسائهم: العطارد بن حاجب بن زارة، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم، والأقرع بن حابس، ورياح بن الحارث بن مجاشع. فدخلوا المسجد قبل الظهر، فلما دخلوا سألوا عن سبيهم، فأخبروا بهم، فجاؤوهم فبكى الذراري والنساء، فرجعوا حتى دخلوا المسجد ثانية ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذٍ في بيت عائشة، وقد أذن بلال الأذان الأول، والناس ينتظرون خروج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعجلوا خروجه فنادوه: يا محمد، اخرج إلينا، فقام إليهم بلال، فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرج الآن، فاستشهر أهل المسجد أصواتهم، فجعلوا يخفضونهم بأيديهم.
فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقام بلال الصلاة، وتعلقوا به يكلمونه، فوقف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم بعد إقامة بلال الصلاة مليّاً، وهم يقولون: أتيناك بخطيبنا وشاعرنا فاستمع منا؛ فتبسم النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم مضى فصلى بالناس الظهر، ثم انصرف إلى بيته، فركع ركعتين، ثم خرج فجلس في صحن المسجد.
وقدّموا عطارد بن حاجب التميمي، فخطب فقال: الحمد لله الذي له الفضل علينا، والذي جعلنا ملوكاً، وأعطانا الأموال نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثرهم مالاً وأكثرهم عدداً، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برؤوس الناس وذوي فضلهم؟ فمن يفاخر فليعدد مثلما عددنا، ولو شئنا لأكثرنا من(17/60)
الكلام، ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا الله، أقول هذا لأن يؤتى بقولٍ هو أفضل من قولنا! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لثابت بن قيس: " قم فأجب خطيبهم ".
فقال ثابت وما كان درى من ذلك بشيء وما هيأ قبل ذلك ما يقول، فقال: الحمد لله الذي السماوات والأرض خلقه، قضى فيها أمره، ووسع كل شيء علمه، فلم يكن شيء إلا من فضله، ثم كان مما قدر الله أن جعلنا ملوكاً، اصطفى لنا من خلقه رسولاً، أكرمهم نسباً، وأحسنهم زيّاً، وأصدقهم حديثاً، أنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، وكان خيرته من عباده، فدعا إلى الإيمان؛ فآمن المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أصبح الناس أنصار الله ورسوله، نقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر بالله ورسوله جاهدناه في ذلك، وكان قتله علينا يسيراً، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات. ثم جلس.
فقالوا: يا رسول الله ائذن لشاعرنا، فأذن له؛ فأقاموا الزبرقان بن بدر فقال: من البسيط
نحن الملوك فلا حيٌّ يقاربنا ... فينا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلّهم ... عند النّهاب وفضل الخير يتّبع
ونحن نطعم عند القحط ما أكلوا ... من السّديف إذا لم يؤنس القزع
وننحر الكوم عبطاً في أرومتنا ... للنازلين إذا ما استنزلوا شعبوا
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أجبهم يا حسان بن ثابت "، فقام فقال: من البسيط(17/61)
إنّ الذوائب من فهرٍ وإخوتهم ... قد شرعوا سنة للناس تتّبع
يرضى بها كلّ من كانت سريرته ... تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
قومٌ إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجيةٌ تلك منهم غير محدثةٍ ... إن الخلائق فاعلم شرّها البدع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفّهم ... عند الدّفاع ولا يوهون ما رقعوا
ولا يضنّون عن جار بفضلهم ... ولا ينالهم في مطمع طبع
إن كان في الناس سبّاقون بعدهم ... فكلّ سبقٍ لأدنى سبقهم تبع
أكرم بقومٍ رسول الله شيعتهم ... إذا تفرقت الأهواء والشّيع
أعفّةٌ ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطمعون ولا يرديهم طمع
كأنهم في الوغى والموت مكتنعٌ ... أسدٌ ببيشة في إرصاعها قذع
لا فرّح إن أصابوا في عدوّهم ... وإن أصيبوا فلا خورٌ ولا جزع
وإن أصبنا لحي لم ندبّ لهم ... كما تدبّ إلى الوحشية الذّرع
نسمو إلى الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزعانف من أطرافها خشعوا
خذ منهم ما أتوا عفواً إذا غضبوا ... ولا يكن همّك الأمر الذي منعوا
فإنّ في حربهم فاترك عداوتهم ... سماً عريضاً عليه الصاب والسّلع
أهدى لهم مدحاً قلبٌ يؤازره ... فيما أحب لسانٌ حائكٌ صنع
وإنهم أفضل الأحياء كلّهم ... إذ جدّ بالناس جدّ القول أو شمعوا(17/62)
وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمر بمنبر فوضع في المسجد ينشد عليه حسان، وقال: " إن الله ليؤيد حسان بروح القدس ما نافح عن نبيه ".
وسرّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون بمقام ثابت، وشعر حسان.
وخلا الوفد بعضهم إلى بعض، فقال قائلهم: تعلمن والله أن هذا الرجل مؤيد مصنوع له، والله لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعرهم أشعر من شاعرنا ولهم أحلم منا.
وكان ثابت بن قيس من أجهر الناس صوتاً. وأنزل الله على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رفع أصوات التميميين، ويذكر أنهم نادوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وراء الحجرات، فقال: " يا أيّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النّبيّ " إلى قوله: " أكثرهم لا يعقلون ". يعني تميماً حين نادوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان ثابت حين نزلت هذه الآية لا يرفع صوته عند سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ورد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأسرى والسبي، وقام عمرو بن الأهتم يومئذٍ فهجا قيس بن عاصم، كانا جميعاً في الوفد. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمر لهم بجوائز، وكان يجيز الوفد إذا قدموا عليه، ويفضل بينهم في العطية على قدر ما يرى. فلما أجازهم سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " هل بقي منكم من لم نجزه؟ " فقالوا: غلام في الرحل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أرسلوه، نجيزه ". فقال قيس بن عاصم: إنه لا شرف له. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وإن كان فإنه وافد وله حق ". فقال عمروا بن الأهتم شعراً يريد قيس بن عاصم: من البسيط
أظللت مفترشاً هلباك تشتمني ... عند الرسول فلم تصدق ولم تصب(17/63)
إنا وسؤددنا عودٌ وسؤددكم ... مجلف بمكان العجب والذنب
إن تبغضونا فإن الروم أصلكم ... والروم لا تملك البغضاء للعرب
وفي حديث آخر بمعناه: أن سبيهم لما جلب إلى المدينة قدم عليهم جماعة منهم، وأنه لما صلى الظهر قال الأقرع: يا محمد، ائذن لي، فوالله إن حمدي لزينٌ، وإنّ ذمّي لشينٌ. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كذبت، ذاك الله تباك وتعالى ".
قالوا: وكان عطارد بن حاجب مع سجاح بنت الحارث بن سويد التي تنبأت في بني تميم فقال عطارد: من البسيط
أمست نبيّتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
عطاف المعلم
الذي ينسب إليه زقاق عطاف. كان عطاف يعلم صبيّاً يقول له: " والعاديات ضبحاً ". فيقول: والعاديات ذبحاً، حتى إذا أعياه ضرب بأسفل اللوح نحره فقال: يا معلم ضبحتني ضبحتني. قال: فأين هذا الكلام من تلك الساعة يا كذا وكذا.(17/64)
عطاء بن أبي رباح
واسم أبي رباح: أسلم أبو محمد القرشي الفهري مولى آل حنتم وفد على هشام.
حدث عطاء عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استلم الحجر فقبله، واستلم الركن اليماني فقبّل يده.
وحدث عطاء عن زيد بن خالد الجهني عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من جهّز غازياً في سبيل الله أو خلفه في أهله كان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجر الغازي شيء، ومن جهز حاجّاً أو خلفه في أهله كان له مثل أجر الحاج من غير أن ينتقص من أجر الحاج شيء، ومن فطر صائماً كان له مثل أجره ".
قال ابن جريج: قلت لعطاء: هل لرجل بالشام رخصة في الشتاء أن يمسح قدميه مسحاً ليس عليهما خفان؟ قال: لا، ثم قال: أما أنا فإني كنت غاسلاً هنالك في الشتاء، ثم تلا عليّ قوله في الوضوء، قال: لا أراه إلا الغسل، إنما الرخصة في المسح على الخفين من أجل الدفء.
قال عثمان بن عطاء الخراساني: انطلقت مع أبي وهو يريد هشام بن عبد الملك، فلما قربنا إذا شيخ أسود على حمار، عليه قميص دريس وجبة دنسة وقلنسوة لاطية دنسة، وركاباه من خشب، فضحكت، وقلت لأبي: من هذا الأعرابي؟ قال: اسكت! هذا سيّد فقهاء أهل الحجاز، هذا عطاء بن أبي رباح.(17/65)
فلما قربت نزل أبي عن بغلته، ونزل هو عن حماره، فاعتنقا وتساءلا، ثم ركبا فانطلقا إلى باب هشام. فلما رجع أبي قلت: حدثني ما كان منكما. قال: لما قيل لهشام: عطاء بن أبي رباح أذن له، وما دخلت إلا بسببه. فلما رآه هشام قال: مرحباً مرحباً: هاهنا، هاهنا، فرفعه حتى مسّت ركبته ركبته، وعنده أشراف الناس يتحدثون فسكتوا. فقال هشام: ما حاجتك يا أبا محمد؟ قال: يا أمير المؤمنين، أهل الحرمين أهل الله، وجيران رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقسم فيهم أعطياتهم وأرزاقهم؛ قال: نعم، يا غلام اكتب لأهل المدينة وأهل مكة بعطاءين وأرزاقهم لسنة. ثم قال: هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الحجاز وأهل نجد أصل العرب وقادة الإسلام ترد فيهم فضول صدقاتهم. قال: نعم، اكتب يا غلام بأن ترد فيهم صدقاتهم. هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. أهل الثغور يرمون من وراء بيضتكم، ويقاتلون عدوّكم قد أجريتم لهم أرزاقاً تدرّها عليهم، فإنهم إن يهلكوا غزيتم، قال: نعم، اكتب بحمل أرزاقهم إليهم يا غلام. هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل ذمتكم لا تجبى صغارهم ولا تتعتع كبارهم، ولا يكلفون ما لا يطيقون، فإن ما تجبونه معونة لكم على عدوكم. قال: نعم، اكتب يا غلام بأن لا يحملوا ما لا يطيقون. هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، اتق الله في نفسك، فإنك وحدك، وتموت وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، لا والله ما معك ممن ترى أحد.
قال: وأكبّ هشام، وقام عطاء. فلما كنا عند الباب إذا رجل قد تبعه بكيس ما أدري ما فيه أدراهم أم دنانير! وقال: إن أمير المؤمنين أمر لك بهذا، قال: لا أسألكم(17/66)
عليه أجراً، إن أجري إلا عند ربّ العالمين. ثم خرج عطاء، ولا والله ما شرب عندهم حسوة من ماء فما فوقه.
قال يحيى بن معين: كان أبو رباح أبو عطاء لامرأة من بني فهر، وكان عطاء معلم كتّاب دهراً.
وكان عطاء من مولّدي الجند، ونشأ بمكة، وانتهت فتوى مكة إليه وإلى مجاهد في زمانهما، وأكثر ذلك إلى عطاء، وكان عامل عمر بن الخطاب على مكة. وكان أشر أعور، كانت يده شلاء، ضربت أيام ابن الزبير. قالوا: وكان أسود شديد السواد، أعور أفطس أعرج أشل أعور، ثم عمي بعد ذلك. وكان أنفه كأنه باقلاة، ولم يكن في رأسه شعر إلا شعرات في مقدم رأسه، وكان فصيحاً إذا تكلم، وما قال بالحجاز قبل منه، وكان ثقةً فقيهاً عالماً كثير الحديث.
جاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه، فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما صلى انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه: قوما؛ فقاما، فقال: يا بني لا تنيا في طلب العلم فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود.
وكان عطاء يخضب بالحناء.
ولد عطاء سنة سبع وعشرين، وكان عطاء يقول: إنه ولد لعامين خلوا من خلافة عثمان.
قال ابن جريج: قلت لعطاء: هل رأيت أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا استلموا قبلوا أيديهم؟ فقال: نعم رأيت جابر بن عبد الله وابن عمر وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة إذا(17/67)
استلموا قبلوا أيديهم، قلت: وابن عباس؟ قال: نعم، حسبت كثيراً. قلت: هل تدع أنت إذا استلمت أن تقبل يدك؟ قال: فلم أستلمه إذاً؟ قال عبد الرازق: أخذ أهل مكة الصلاة من ابن جريج، وأخذها ابن جريج عن عطاء، وأخذها عطاء من ابن الزبير، وأخذها ابن الزبير من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأخذها أبو بكر الصديق عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخذها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جبريل عليه السلام.
قال عبد الرزاق: وما رأيت أحداً أحسن صلاة من ابن جريج، كان يصلي ونحن خارجون فيرى كأنه أسطوانة، وما يلتفت يميناً ولا شمالاً.
وفي حديث آخر بمعناه: وأخذها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الله تعالى.
قال ابن جريج: كان عطاء بعدما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة، فيقرأ مئتي آية من سور البقرة وهو قائم ما يزول منه شيء ولا يتحرك.
قال ابن عيينة: قلت لابن جريج: ما رأيت مصلياً مثلك! قال: فكيف لو رأيت عطاء؟! قدم ابن عمر مكة فسألوه، فقال: تجمعون لي المسائل وفيكم عطاء بن أبي رباح؟! وعن قتادة قال:
أعلم الناس من أهل زمانه بالحرام والحلال الحسن، وأعلمهم بالتفسير عكرمة، وأعلمهم بالمناسك عطاء.(17/68)
قال الأصمعي: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك بن مروان وهو على سريره، وحوله الأشراف في مكة في حجه في خلافته، فقام إليه وسلم عليه، وأجلسه معه على السرير، وقعد ين يديه وقال له: يا أبا محمد حاجتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، اتق الله في حرم الله وحرم رسوله فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار، فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور، فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين، فإنك وحدك المسؤول عنهم، واتق الله فيمن على بابك، فلا تغفل عنهم، ولا تغلق دونهم بابك. فقال له: أفعل. ثم نهض وقام، فقبض عليه عبد الملك فقال: يا أبا محمد إنما سألتنا حوائج غيرك، وقد قضيناها، فما حاجتك؟ فقال: ما لي إلى مخلوق حاجة، ثم خرج، فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف! هذا وأبيك السؤدد.
قال ابن أبي ليلى: دخلت على عطاء بن أبي رباح فجعل يسألني، فكأن أصحابه جعلوا يعجبون من ذلك، فقال: ما تنكرون من ذلك؟ هو أعلم مني.
قال ابن أبي ليلى: وكان عطاء قد حجّ سبعين حجة، وعاش مئة سنة.
قال ابن أبي ليلى: ورأيته يشرب الماء في رمضان ويقول: قال ابن عباس: " وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ فمن تطوّع خيراً فهو خيرٌ له " إني أطعم أكثر من مسكين.
قال محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: ما رأيت مفتياً خيراً من عطاء بن أبي رباح، إنما كان مجلسه ذكر الله لا يفتر، وهم(17/69)
يخوضون، فإن تكلم أو سئل عن شيء أحسن الجواب.
قال الأوزاعي: مات عطاء وهو أرضى أهل الأرض، وكان أكثر من يستند غليه سبعةٌ أو ثمانيةٌ، وما كان أكثرهم من يهتدى إليه.
قال رجل لابن جريج: لولا هذا الأسودان لم يكن لنا فقه. قال: من؟ قال: عطاء ومجاهد. فقال ابن جريج: فضّ الله فاك، تقول لهما الأسودان؟! قال سلمة بن كهيل: ما رأيت أحداً يريد بهذا العلم وجه الله غير هؤلاء الثلاثة: عطاء وطاوس ومجاهد.
قال ابن جريج: كان المسجد فراش عطاء عشرين سنة، وكان من أحسن الناس صلاةً.
قال أبو عبد الله: العلم خزائن يقسمه الله لمن أحب، لو كان يخص بالعلم أحداً لكان أهل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى.
كان عطاء بن أبي رباح واسم أبي رباح أسلم حبشياً، وكان يزيد بن أبي حبيب نوبيّاً أسود، وكان الحسن البصري مولى للأنصار، وكان ابن سيرين مولى للأنصار.
قال الزهري: قدمت على عبد الملك بن مروان، فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قلت: من مكة.
قال: ثمن خلفت يسودها وأهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح. قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: فيم سادهم؟ قلت: بالديانة والرواية. قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا.(17/70)
قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاووس بن كيسان. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: فيم سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء. قال: إنه لينبغي ذلك.
قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي.
قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، عبد نوبيّ أعتقته امرأة من هذيل.
قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي.
قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قلت: الضحاك بن مزاحم. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي.
قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن البصري. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي.
قال: ويلك فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النخعيّ. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من العرب؛ قال: ويلك يا زهري؛ فرّجت عني، والله ليسودنّ الموالي على العرب في هذا البلد حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها.
قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو دين، من حفظه ساد، ومن ضيعه سقط.
قال عبد الرحمن بن سابط: ما أرى إيمان أهل الأرض يعدل إيمان أبي بكر، ولا أرى إيمان أهل مكة يعدل إيمان عطاء.
قال عمر بن ذر: ما رأيت مثل عطاء قط، وما رأيت على عطاء قميصاً قط، ولا رأيت عليه ثوباً يسوى خمسة دراهم.(17/71)
قال الربيع:
سمعت الشافعي وسأله رجل عن المشي، فحنث بالمشي إلى الكعبة، فأفتاه بكفارة يمين؛ فقال له الرجل: بهذا تقول يا أبا عبد الله؟ فقال: هذا قول من هو خير مني. قال: من هو؟ قال: عطاء بن أبي رباح.
سئل عطاء عن شيء، فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تقول فيها برأيك؟ قال: إني أستحي من الله أن يدان في الأرض برأيي.
قال يعلى بن عبيد الطنافسي: دخلنا على محمد بن سوقة فقال: يا بن أخي أحدثكم بحديث لعله ينفعكم، فقد نفعني، قال لنا عطاء بن أبي رباح: إن من قبلكم كانوا يعدّون فضول الكلام عداً: كتاب الله، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو أن تنطق في معيشتك التي لابد لك منها. أتنكرون أن عليكم حافظين كراماً كاتبين " عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد؟ " أما يستحي أحدكم لو نشرت صحيفته التي أملى صدر نهاره وليس فيها شيء من أمر آخرته؟.
سئل عطاء من أين معاشه؟ قال: نيل السلطان ومواساة الإخوان.
قال عمران بن جابر: رأيت عمامة عطاء مخرقة، فقلت: أنا أعطيك عمامتي، قال: إنما لا تقبل إلا من الأمراء.(17/72)
قال يعقوب بن عطاء: كان عطاء يريد المسجد فيلبس ثيابه، فيرى أن ليس عنده أحد، قال: وهو لا يبصر من أحد شقتيه، قال: فقلت له: يا أبه، كأنك تشتكي عينك هذه؟! قال: وفطنت لها؟ قلت: نعم، قال: ما أبصرت بها منذ أربعين سنة وما علمت أمك.
قال يعقوب بن عطاء: كان رجل يحدث أبي بحديث كان أبي أحفظ لذلك الحديث من الرجل، قال: فجعل أبي يصغي إليه، فقلت أنا للرجل: إن أبي يحفظ هذا الحديث، فصاح أبي وقال: مه يا بني، فلما قام الرجل قال لي أبي: يا بني لم تبغّض أباك إلى جليسه؟ لقد سمعت هذا الحديث قبل أن يولد أبوه، ولقد كان يحدث أخاه بالحديث، والذي يحدّث بالحديث أحفظ من الذي يحدّثه، فما يزيده على أن يقول: ما أحسنه، إرادة أن يسرّه.
قالوا: وكان عطاء قد اختلط بأخرة، فتركه ابن جريج وقيس بن سعد.
قال عطاء: وددت أني أحسن العربية، وهو يومئذ ابن تسعين سنة.
قال بعض الكوفيين: كان عطاء بن أبي رباح من المرجئة.
ولما حضرت عطاء الوفاة. صحن النساء، فقال عطاء: اكفني هؤلاء، فإن أيين عليك فاستعن عليهن بالسلطان، ثم جعل يقول: يا صريخ الأخيار، يا صريخ الأخيار. فلم يزل يقول حتى مات.
توفي عطاء بن أبي رباح سنة أربع عشرة ومئة، وقيل: سنة خمس عشرة(17/73)
ومئة: وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وقيل: مات سنة ست عشرة ومئة، وقيل: سنة سبع عشرة ومئة، والله أعلم.
عطاء بن ابي صيفي بن نضلة
ابن قانف بن الحويرث بن الحارث الثقفي وفد على يزيد بن معاوية وعزاه عن أبيه.
قال شجاع بن إسحاق: أو من عزّى وهنّأ في مقام واحد عطاء بن أبي صيفي الثقفي. عزّى ابن معاوية بأبيه وهنّأه بالخلافة، ففتح للناس باب الكلام.
لما مات معاوية بن أبي سفيان دخل على يزيد أشراف أهل الشام، فلم يجتمع لأحد منهم تعزية مع تهنئة. فدخل عليه عطاء بن أبي صيفي فقال: يا أمير المؤمنين، أصبحت رزئت خليفة الله، وأعطيت خلافة الله، قضى معاوية نحبه، يغفر الله له ذنبه، وأعطيت بعده الرئاسة، ومنحت السياسة، فاحتسب على الله عظيم الرزية. واشكر الله على حسن العطية، وأعظم الله أجرك. وأحسن على الخلافة عونك.
عطاء بن قرة أبو قرة السلولي
من أهل دمشق.
حدث عن عبد الله بن ضمرة السلولي عن أبي هريرة: أنه كان مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل لا يكاد يرى، ولا يعرف له كثير عمل، فمات، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في أصحابه: " هل علمتم أن الله قد أدخل فلاناً الجنة؟ ". قال: فتعجب القوم، إذ كان لا يكاد يرى، فقام إلى أهله رجل، فسأل امرأته عن عمله، فقالت: ما كان له كثير عمل إلا ما قد رأيت، غير أنه قد كانت فيه خصلة. قال: وما هي؟ قالت: كان(17/74)
لا يسمع المؤذن في ليل ولا نهار، وعلى أي حال، ما كان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله قال مثل ذلك، فإذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله قال مثل قوله. فقال الرجل: بهذا دخل الجنة. فجاء حتى إذا كان من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو في أصحابه بحيث يسمع الصوت، نادى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتيت أهل فلان، فسألتهم عن عمله، فأخبروك بكذا وكذا ". فقال الرجل: أشهد أنك رسول الله.
وحدث عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذراري المسلمين في الجنة يكفلهم إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
وبسنده أيضاً قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سره أن يسقيه الله عز وجل الخمر في الآخرة فليتركها في الدنيا، ومن سره أن يكسوه الله الحرير في الآخرة فليتركه في الدنيا، أنهار الجنة تفجّر من تحت تلال، أو تحت جبال المسك، ولو كان أدنى أهل الجنة حلية، عدلت بحلية أهل الدنيا جميعاً، لكان ما يحليه الله عز وجل به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعاً ".
قال محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس: إني لجالس عند عطاء بن قرة السلولي إذ أتانا من يخبرنا بأن دمشق دخلت يوم عبد الله بن علي، فقتل فيها نحو من أربعة آلاف. فقال له عطاء بن قرة: ما تقول يا عبد الله؟! قال: نعم. قال: فوضع عطاء بن قرة يده على صدره، وجعل يقول: وافؤاداه! وافؤاداه! حتى مات في مجلسه، وماله بدمشق قريب ولا حميم.
قوله: أربعة آلاف يعني من الأزد، قال: وقد روى أنه قتل فيها خمسين ألفاً.(17/75)
عطاء بن أي مسلم
واسم أبي مسلم ميسرة ويقال: عبد الله أبو أيوب ويقال: أبو عثمان، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو صالح الخراساني مولى المهلب بن أبي صفرة الأزدي سكن الشام، ودخل دمشق.
قال عطاء: حدثني شيخ بسوق البرم بالكوفة عن كعب بن عمرة أنه قال: جاءني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أنفخ تحت قدر لأصحابي، وقد امتلأ رأسي ولحيتي قملاً؛ فأخذ بجبهتي، وقال: " احلق هذا، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين "، وقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم أن ليس عندي ما أنسك به.
وحدث عطاء الخراساني عن الحسن البصري عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت لأبي ذر الغفاري: يا عم أوصني، قال: يا بن أخ: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذات يوم: " من ركع ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة ".
وحدث عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب أنه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضرب نحره، وينتف شعره، ويقول: هلك الأبعد! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وما ذاك؟ " قال: أصبت امرأتي في رمضان وأنا صائم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ " قال: لا. قال: " هل تستطيع أن تهدي بدنة؟ " قال: لا. قال: فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعرق تمر، فقال: " خذ هذا فتصدق به "، فقال يا رسول الله ما أحد أحوج إليه مني، فقال: كله. " فصم يوماً مكان ما أصبت ".(17/76)
قال مالك: قال عطاء: فسألت سعيد بن المسيب، كم في ذلك العرق من التمر؟ فقال: ما بين خمسة عشر صاعاً إلى عشرين.
قال سليمان بن داود الخولاني: إن عمر بن عبد العزيز كان يصلي العتمة لساعتين تمضيان من الليل، فجاء عطاء الخراساني فحدثه حديثاً فأخرها ساعةً أخرى.
قال الأوزاعي: قدم عطاء الخراساني على هشام، فنزل على مكحول، فقال عطاء لمكحول: هاهنا من يحركنا يعني: يعظنا؟ قال: يزيد بن ميسرة، فأتوه، فقال له عطاء: حركنا رحمك الله قال: عم، كانت العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شغلوا، فإذا شغلوا فقدوا، فإذا فقدوا طلبوا، فإذا طلبوا هربوا. قال: أعد عليّ. فأعاد عليه، فرجع ولم يلق هشاماً.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما مات العبادلة: عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص، صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي؛ فصار فقيه أهل مكة عطاء بن أبي رباح، وفقيه أهل اليمن طاووس، وفقيه أهل اليمامة يحيى بن أبي كثير، وفقيه أهل البصرة الحسن، وفقيه أهل الكوفة إبراهيم النّخعي، وفقيه أهل الشام مكحول، وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني، إلا المدينة فإن الله عز وجل خصّها بقرشي، فكان فقيه أهل المدينة غير مدافع سعيد بن المسيب.
قال إبراهيم بن أبي عبلة: كنا نجلس إلى عطاء الخراساني بعد الصبح، فيدعو بدعوات، فغاب ذات يوم؛ فتكلم رجل من المؤدبين، فأنكر رجاء بن حيوة صوته، فقال: من هذا؟ فقال: أنا يا أبا المقدام. قال: اسكت، فإنا نكره أن نسمع الخير إلا من أهله.(17/77)
وكان عطاء الخراساني ثقة سنّيّاً صدوقاً، له فضل وعلم، معروفاً بالفتوى والجهاد، يحتج بحديثه.
قال القاسم بن عاصم:
قلت لسعيد بن المسيب: إن عطاء الخراساني حدثني عنك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر الذي وقع على امرأته في رمضان بكفارة الظّهار، فقال: كذب، ما حدثته، إنما بلغني أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " تصدق تصدق ".
وعن عطاء الخراساني أنه قال: أوثق عملي في نفسي نشر العلم.
وعن عطاء قال: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف نشتري ونبيع، ونصلّي ونصوم وننكح ونطلق، ونحج، وأشباه هذا.
قال عثمان بن عطاء: ابذلوا العلم لمن طلبه، واعرضوه على من لم يطلبه.
قال: وكان عطاء يجلس مع المساكين فيعلمهم ويروي لهم الحديث.
وعن عطاء قال: لإبليس كحل يكحل به الناس: النوم عند الذكر كحل إبليس كان عطاء الخراساني لا يقوم من مجلسه حتى يقول: اللهم هب لنا يقيناً بك حتى يهوّن علينا مصيبات الدنيا، وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتبت علينا، ولا يأتينا من هذا الرزق، إلا ما قسمت لنا.
وكان عطاء الخراساني إذا دخل بيته لم يضع ثيابه حتى يأتي مسجد بيته فيصلي ركعتين.(17/78)
وعن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: كنا نغازي عطاء الخراساني أنا ويزيد بن يزيد وهشام بن الغاز في نفر، فكان بعضنا ينزل قريباً من بعض، فكان عطاء يحيي الليل كله، فإذا مضى منه ما شاء الله أخرج رأسه من البناء الذي يكون فيه فينادي: يا عبد الرحمن، يا يزيد بن يزيد، يا هشام بن الغاز، يا فلان يا فلان، قيام هذا الليل وصيام هذا النهار أيسر من شرب الصديد ولبس الحديد، وأكل الزقوم، النجاء النجاء!، الوجاء الوجاء. ثم يعود إلى ما كان فيه.
قال عطاء: المؤمن لا يتم له فرح يوم.
قال إسماعيل بن عياش: قلت لعطاء الخراساني: من أين معاشك؟ قال: من صلة الإخوان وجوائز السلطان.
قال وهب بن منبه لعطاء الخراساني يعظه: يا عطاء ألم أخبر أنك تأتي الملوك وأبناء الدنيا تحمل إليهم علمك؟! وفي رواية: فقال له: ويحك يا عطاء! تأتي من يغلق عنك بابه، ويظهر لك فعره، ويواري عنك غناه، وتدع من يفتح لك بابه، ويظهر لك غناه، ويقول: " ادعوني أستجب لكم "، ويحك يا عطاء! ارض بالدون في الدنيا مع الحكمة، ولا ترض بالدون من الحكمة مع الدنيا، ويحك يا عطاء! إن كان يغنيك ما يكفيك، فإن أدنى ما في الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك، فليس في الدنيا شيء يكفيك، ويحك يا عطاء، إنما بطنك بحر من البحور وواد من الأودية، ولا يملؤه شيء إلا التراب.(17/79)
مرض عطاء الخراساني، فدخل عليه محمد بن واسع يعوده، قال: سمعت الحسن يقول: إن العبد ليبتلى في ماله، فيصبر، فلا يبلغ بذلك الدرجات العلا، ويبتلى في ولده فيصبر، فلا يبلغ بذلك الدرجات العلا، ويبتلى في بدنه، فيصبر فيبلغ بذلك الدرجات العلا، وكان عطاء قد أصابته مرضات.
ولد عطاء سنة خمسين، وتوفي بأريح، وحمل إلى بيت المقدس فدفن به. توفي سنة ثلاث وثلاثين ومئة، وقيل: سنة خمس وثلاثين ومئة.
عطاء بن يسار
أبو محمد ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو يسار المدني، القاصّ مولى ميمونة أم المؤمنين قيل إنه قدم دمشق.
روى عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكل كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ.
وكان أولاد يسار أربعة إخوة: عطاء وسليمان وعبد الملك وعبد الله، وكان سليمان وعطاء وعبد الملك من فقهاء التابعين، وأبوهم يسار مولى ميمونة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وليسار عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواية.
قال أبو بكر: كان بالمدينة ثلاثة إخوة لا يدرى أيهم أفضل: سليمان بن يسار وعطاء بن يسار وعبد الله بن يسار، وثلاثة إخوة محمد بن المنكدر، وعمر بن المنكدر وأبو بكر بن المنكدر، وثلاثة إخوة بكر بن عبد الله بن الأشج ويعقوب بن عبد الله بن الأشج وعمر بن عبد الله بن الأشج.
سئل أحمد بن حنبل عن عطاء بن يسار وسليمان بن يسار وإسحاق بن يسار فحسّن القول فيهم.(17/80)
كان عطاء بن يسار يقول: جدّوا في دار العمل لدار الثواب، وجدّوا في دار الفناء لدار البقاء.
كان عطاء بن يسار يقول: دينكم دينكم، فأما دنياكم فلا أوصيكم بها، أنتم عليها حراص، وأنتم بها مستوصون.
قال عطاء بن يسار: لم نرشيئاً إلى شيء أزين من حلم إلى علم.
قال زيد بن أسلم:
كان عطاء بن يسار يقص علينا حتى نبكي، ثم يحدثنا بالملح حتى نضحك، ثم يقول: مرة كذا ومرة كذا.
وقال عطاء: قيل ليك إنا حائدوك ثلاث حيدات فجاعلوك في الغرفة العليا من الجنة، قال فأخذته الخاصرة بالإسكندرية، ثم أخذته مرة أخرى، ثم أخذته الثالثة؛ فكان فيها موته.
وحدث زيد بن أسلم قال: ما رأيت عطاء بن يسار في مجلس قط ولي حاجة من حوائج الدنيا إلا آثرت مجالسته على حاجتي.
قال عثيم بن نسطاس: خطب رجل من العرب إلى عطاء بن يسار ابنته، فقال له عطاء: ما ننكر نسبك ولا موضعك، ولكنا نزوج مثلنا، وتزوج أنت من عشيرتك. قال عثيم: فأخبرت سعيد بن المسيب بذلك، فقال: أحسن عطاء ما شاء.(17/81)
قال ابن زيد بن أسلم: ما رأيت أحداً كان أزين لمسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عطاء بن يسار.
توفي عطاء سنة أربع وتسعين، وقيل: سنة سبع وتسعين، وقيل: سنة ثلاث ومئة، وقيل سنة اثنتين ومئة، وهو ابن أربع وثمانين سنة.
عطاء الكلاعي
شهد خطبة عمر بالجابية.
قال عطاء: سمعت عمر بن الخطاب يخطب بالجابية، يقول: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام فينا كقيامي فيكم فقال: استوصوا بأصحابي خيراً، ثم الذين يلونهم، ثم الذي يلونهم، ثم يظهر الكذب، حتى يحلف الرجل وما يستحلف، ويشهد وما يستشهد، فمن سرته بحيحة الجنة فليتق الله، وليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ، وهو من الاثنين أبعد، لا يخلون رجل بامرأة. من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن.
وقال: سمعت عمر يخطب بالجابية، فقال: أيها الناس، أوصيكم بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه، والذي بطاعته ينفع أولياءه، وبمعصيته يضر أعداءه.
فذكر الخطبة.(17/82)
عطرّد أبو هارون المغنّي
مولى بني عمرو بن عوف الأنصاريين ويقال: مولى قريش، ويقال: مولى مزينة المدني القبائي كان فقيهاً، قارئاً للقرآن، مجيداً للغناء، وفد على الوليد بن يزيد.
لما استخلف الوليد كتب إلى عامله بالمدينة أن أشخص إليّ عطرّد المغني.
قال عطرد: فدفع إليه العامل الكتاب، فقلت: سمعاً وطاعة. فدخلت عليه في قصره وهو قاعد على شفير بركة ليست بالكبيرة، يدور فيها الرجل سباحةً، فو الله ما كلمني كلمة حتى قال: عطرد؟ قلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: غنني: حي الحمول. قال عطرد: فغنيت: من الكامل
حيّ الحمول بجانب العزل ... إذ لا يلائم شكلها شكلي
والله أنجح ما طلبت به ... والبرّ خير حقيبة الرّحل
إني بحبلك واصلٌ حبلي ... وبريش نبلك رائشٌ نبلي
وشمائلي ما قد علمت وما ... نبحت كلابك طارقاً مثلي
قال: فما تكلم بكلمة حتى شق بردة صنعانية عليه لا يدرى ما ثمنها بنصفين، فخرج منها كما ولدته أمه، ثم رمى بنفسه في البركة، فنهل منها، حتى تعرفت فيها النقصان، فأخرج منها ميتاً سكراً، فضربت بيدي إلى البردة، فأخذتها، فما قال لي الخادم: خذها ولا دعها. وانصرفت إلى منزلي، وأنا أفكر فيه وفيما رأيت منه.(17/83)
فلما كان من الغد دعاني في مثل ذلك الوقت وهو قاعد في ذلك الموضع، فقال: عطرد؟ قلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: غنني، فغنيته: من الطويل
أيذهب عمري هكذا لم أنل به ... مجالس تشفي قرح قلبي من الوجد
وقالوا: تداو إن في الطب راحةً ... فعزّيت نفسي بالدواء فلم يجدي
فلم يتكلم حتى شق بردة عليه مثل البردة الأمسيّة، فخرج منها، فرمى بنفسه في البركة، فعلّ منها حتى تبينت النقصان، فأخرج ميتاً سكراً، وضممت البردة إليّ فما قيل لي: خذ ولا دع. وانصرفت إلى منزلي.
فلما كان اليوم الثالث دعاني؛ فدخلت إليه وهو في بهو قد كفت ستوره، فكلمني من وراء الستر، فقال: يا عطرد؟ قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: كأني بك الآن وقد أتيت المدينة فقلت: دعاني أمي المؤمنين فدخلت عليه ففعل وفعل، يا بن الفاعلة، لئن تكلمت شفتاك بشيء مما كان لأطرحنّ الذي فيه عيناك، يا غلام أعطه خمس مئة، الحق بالمدينة. قلت: أفلا يأذن لي أمير المؤمنين فأقبل يده، وأتزود نظراً إلى وجهه؟ قال: لا.
قال عطرّد: فخرجت فما تكلمت بشيء من هذا حتى دخلت الهاشمية.
جاء سليمان بن عياش القرشي فاستفتح عليه، فخرج إليه فقال سليمان: من الكامل
إني غدوت إليك من أهلي ... في حاجة يغدو لها مثلي
لا طالباً شيئاً إليك سوى ... حيّ الحمول بجانب العزل
فقال: نعم حباً وكرامة. ثم أدخله منزله فغناه له.(17/84)
عطية الله بن الحسين بن محمد بن زهير
أبو محمد الصوري الخطيب بصور حدث عن أبي الحسين محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن جميع الغساني بسنده إلى ابن عباس قال: أول ما سمع بالفالوذج أن جبريل عليه السلام أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن أمتك ستفتح لهم الأرض، وما يكثر عليهم من الدنيا حتى إنهم ليأكلون الفالوذج. قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وما الفالوذج؟ " قال: تخلطون العسل والسمن جميعاً. قال: فشهق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك شهقة.
توفي عطية الله الخطيب في سنة خمس وأربعين وأربع مئة.
عطية الله بن عطاء الله بن محمد بن أبي غياث
أبو الحسين الصيداوي القاضي حدث بصيدا سنة تسع وأربع مئة عن أبي يعلى عبد الله بن محمد بن حمزة بن أبي كريمة بسنده إلى أنس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على قبر بعدما دفن.
عطية بن عروة
ويقال: ابن سعد، ويقال: ابن عمرو بن عروة بن القين بن عامر بن عميرة السعدي له صحبة.
روى عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نزل الشام، وكان ولده بالبلقاء.(17/85)
حدث عطية: انه قدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وفد من قومه من ثقيف، قال: فلما دخلنا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان فيما ذكروا أن سألوه، فقال لهم: " هل قدم معكم أحد من غيركم؟ " قالوا: نعم، قدم معنا فتى منا خلفناه في رحلنا. قال: " فأرسلوا إليه ". قال: فلما دخلت عليه وهم عنده استقبلني فقال: " إن اليد المنطية هي اليد العليا والسائلة هي السفلى، فلا تسأل فإن مال الله مسؤول ومنطى ".
وفي رواية: قدمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكنت أصغر القوم. ثم ذكر الحديث، فقال: " ما أغناك الله فلا تسأل الناس شيئاً، فإن اليد العليا هي المنطية، وإن اليد السفلى هي المنطاة، وإن مال الله لمسؤول ومنطى ".
فكلمني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغتنا.
وعن عطية، رجل من بني جشم، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يا أيها الناس لا تسألوا قال كلمة خفية فإن الله عز وجل مسؤول ومنطي، فإن الله مسؤول ومنطي ".
قال أبو وائل القاضي: كنت عند عروة بن محمد، فدخل علينا رجل، وكلمه بكلام أغضبه. قال: فقالم، ثم رجع وقد توضأ، فقال: حدثني أبي عن جدي عطية وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما يطفئ النار بالماء، وإذا غضب أحدكم فليتوضأ ".(17/86)
وعن عطية بن عمرو السعدي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس ".
وحدث عطية: أنه كان ممن كلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم سبي هوازن، فقال: يا رسول الله، عشيرتك وأصلك، وكلا المرضعين درّتك، ولهذا اليوم اختبأناك، وهن أمهاتك وأخواتك وخالاتك. وكلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه، فرد عليهم سبيهم إلا رجلين، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اذهبوا فخيروهما ". فقال أحدهما: إني أتركه، وقال الآخر: لا أتركه. فلما أدبر، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم أخسّ سهمه ". فكان يمر بالجارية بالبكر وبالغلام فيدعه، حتى مرّ بعجوز فقال: إني آخذ هذه، فإنها أم حي، وهم يستنقذونها مني بما قدروا عليه؛ فكبر عطية وقال: خذها فوالله ما فوها ببارد ولا ثديها بناهد، ولا وافدها بواجد، عجوز بتراء شنية، مالها أحد، فلما رآها لا يعرض لها أحد تركها.
وكان عطية بن عروة جد عروة بن محمد بن عطية المدني؛ ولي اليمن لعمر بن عبد العزيز، وتوفي بالشام.(17/87)
عطية بن قيس
أبو يحيى الكلابي مولاهم المعروف بالمذبوح كانت داره بدمشق بناحية الحير قبلة كنيسة اليهود.
حدث عطية بن قيس عن قزعة بن يحيى قال: انطلقنا إلى أبي سعيد الخدري في رجال من أهل العراق فسألوه، فقلت: أما أنا فلا أسألك إلا عن فرائض الله، قال: إنه لا خير لك في أن تعلم ذلك. ثم قال: أما إذا أبيت لقد كانت الصلاة تقام فينطلق أحدنا إلى حاجته بالبقيع فيتوضأ ويرجع وإنهم لفي الركعة الأولى.
وحدث عن معاوية بن أبي سفيان أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ولد عطية بن قيس في حياة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنة سبع، وغزا في خلافة معاوية، وتوفي سنة عشر ومئة وقيل: مات سنة إحدى وعشرين ومئة وهو ابن أربع ومئة سنة، وكان من التابعين، وكان لأبيه صحبة، وقيل: مات وهو ابن أربع وثمانين سنة.
قال عطية بن قيس الكلابي: غزوت في خلافة معاوية فارساً وعلينا عبيدة بن قيس العقيلي، ففتحنا شاش فبلغ نفلي مئتي دينار.(17/88)
وقال عطية: إنه كان فيمن غزا القسطنطينية في ولاية معاوية، وإنه ممن شهد فتح حصنهم الذي يقال له: المدني، على خليج القسطنطينية.
وكان عطية يقرأ القرآن العظيم.
قال عبد الواحد بن قيس السلمي: كان الناس يصلحون مصاحفهم على قراءة عطية بن قيس وهم جلوس على درج الكنيسة من مسجد دمشق قبل أن يهدم.
قال سعيد بن عبد العزيز: لم يكن أحد من الناس يطمع أن يفتح في مجلس عطية بن قيس شيئاً من ذكر الدنيا.
وهو عطية بن قيس الكلابي، ويقال: الكلاعي الشامي من أهل حمص.
قال الهيثم: رأيت عطية بن قيس على شذر ديباج محشواً بريش جالساً عليه في المسجد.(17/89)
عطية مولى سلم بن زياد
ويقال: مولى السلم من أهل دمشق.
حدث عن عبد الله بن معانق الأشعري عن عبد الرحمن الأشعري عن أبي ذر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أقام الصلاة وآتى الزكاة ومات لا يشرك بالله شيئاً فإن على الله أن يغفر له، إن هاجر أو مات في مولده "، قالوا: يا رسول الله ألا نبشر بها أصحابك؟ قال: " دعوا الناس فليعملوا فإن في الجنة مئة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سيبله، ولولا أن أشق على الناس بعدي ما تخلفت عن سرية أبعثها، ولكن لا يجدون سعة فيتبعوني، ولا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا بعدي، ولا أجد ما أفضل به عليهم، ولوددت لو أقتل ثم أحيا ثم أقتل ".
حدث عطية مولى سلم بن زياد عن حذيفة يرفعه قال: " أتتكم الفتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أحدكم دينه بعرض من الدنيا قليل ". قلت: فكيف نصنع يا رسول الله؟ قال: " تكسر يدك ". قال: قلت: فإن انجبرت؟ قال: " تكسر الأخرى ". قلت: حتى متى؟ قال: " حتى تأتيك يد خاطئة أو منيّةٌ قاضية ".
أما سلم بفتحهما فقال ابن الكلبي في نسب قضاعة: ومن ولد النمر بن وبرة بن ثغلب التيم ووائل، وهو خشين، فولد خشين بن النمر مرّاً والسّلم، وهم قليل، والعدد في مرّ، وسلم: بطنّ من لخم.
وقال ابن ماكولا: عطية مولى السّلم، عداده في أهل الشام، وكان ثقة.(17/90)
عفير بن زرعة بن عفير بن الحارث
ابن النعمان بن قيس بن عبيد بن سيف ذي يزن واسمه عامر بن أسلم الحميري كان سيّداً بالشام في أيام معاوية بن أبي سفيان وعبد الملك بن مروان، وكان من الدين والفضل بمكان.
خرج في جيش الصائفة إلى أرض الروم، ووجهه معاوية، فوقع في الجيش اختلاط، فخرج عفير ليصلح بين الناس، وعليه برنس، فجذب برنسه رجل من قيس، فلم يمس في ذلك الجيش قيسيّ إلا مكتوفاً، فجعل الرجل من اليمانية يقول لكتيفه: لعلك ممن مسّ برنس عفير، فيقول: لا والله! فيقول: لو كنت منهم لضربت عنقك. ثم طلب فيهم عفير فأرسلوا، وفيه جرى المثل: لجبارٌ دم من مسّ برنس عفير.
عقال بن شبّة بن عقال بن صعصعة
ابن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم ابن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرّ بن طابخة بن إلياس كان في صحابة هشام بن عبد الملك.
حدث
عقال بن شبة بن عقال بن صعصعة المجاشعي عن أبيه عن جده عن أبيه صعصعة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: " احفظ ما بين لحييك وما بين رجليك ". قال: فوليت وأنا أقول: حسبي.(17/91)
حدث عقال بن شبة قال: قالت أم تميم بن مرّ وولدت نسوة فقالت: لله عليّ إن ولدت غلاماً لأعبّدنّه للبيت. فولدت الغوث أكبر ولدها ابن مرّ، فلما ربطته عند البيت أصابه الحرّ، فمرت به، وقد سقط وذوى واسترخى، فقالت: ما صار ابني إلا صوفة؛ فسمي صوفة. وكان الحج وإجازة الناس من عرفة إلى منى، ومن منى إلى مكة لصوفة، فلذلك يقول حنّ بن ربيعة العذري: من الوافر
أخذت الحجّ من عدوان عصباً ... ولو أدركت صوفة لاشتفيت
فلم تزل الإجازة إلى عقب صوفة حتى أخذتها عدوان، فلم تزل عدوان حتى أخذتها قريش، ثم كان الحج مختلفاً، فكانت قريش تدفع بمن معها من المزدلفة، وكان أبو سيّارة يدفع بقيس من عرفة، وأبو سيّارة من بني عبد بن معيص بن عامر بن لؤي، وقيس أخواله. وكانت بكر بن وائل تدفع بكندرة، فلذلك يقول أبو طالب: من الطويل
وكندة إذ ترمي الجمار غشيّةً ... يجيز بها حجّاج بكر بن وائل
إنما أخذ حنّ الإجازة لأخيه لأمه قصي بن كلاب دخل عقال بن شبة على هشام بن عبد الملك فأراد أن يقبل يده، فمنعه، وقال: مه، لا يفعل هذا من العرب إلا الهلوع، ولا من العجم إلا الخضوع.(17/92)
قال عقال بن شبة: دخلت على هشام وعليه قباء فنكٍ أخضر، فوجهني إلى خراسان، فجعل يوصيني وأنا أنظر إلى القباء، ففطن، فقال: مالك؟ فقلت: رأيت عليك قبل أن تلي الخلافة قباء فنكٍ أخضر، فجعلت أتأمل هذا، أهو ذاك أم غيره؟ قالوا: وكان عقال مع هشام، فأما شبّة أبو عقال فإنه كان مع عبد الملك بن مروان، وكان عقال يقول: دخلت على هشام، فدخلت على رجل محشوٍ عقلاً.
قيل: إن عقال بن شبة عاش إلى زمن المنصور، وتكلم عند سليمان بن علي بالبصرة فقال: من الطويل
ألا ليت أم الجهم في جيرةٍ لها ... ترى حيث قمنا بالعراق مقامي
عشية بذّ الناس جهري ومنطقي ... وبذّ كلام الناطقين كلامي
عقبة بن رؤبة بن العجاج
واسمه عبد الله بن رؤبة راجز ابن راجز ابن راجز.
قال في حديث مطوّل: إنهم وفدوا إلى الوليد، وهو وأبوه رؤبة وجرير بن الخطفي. قال: فلما قدمنا عليه دعينا قبل جرير، فأنشد أبي، ثم قال له: هل تحسن الهجاء؟ قال: يا أمير المؤمنين ما في الأرض رجل بيده صناعة إلا وهو على الإساءة فيها أقدر منه على الإحسان، قال:(17/93)
فما يمنعك أن تهجو من هجاك من عدوك؟ قال يا أمير المؤمنين، إن الله أعطانا هيبةً منعنا أن نظلم، وحلماً منعنا من أن نظلم، فقال: هذا القول أحسن من شعرك. ثم خرجنا، فقال جرير وليس يعين لنا إليه ذنب: أما والله يا بن أم العجاج، إن وضعت كلكلي عليكما لأطحنتكما طحناً لا تغني عنكما مقطعاتكما هذه شيئاً.
دخل بشار على عقبة بن سلم وعنده ابن لرؤبة بن العجاج، فأنشده ابن رؤبة أرجوزة يمدحه بها، ثم أقبل ابن رؤبة على بشار، فقال: يا أبا معاذليس هذا من طرازك؛ فغضب بشار فقال: إليّ تقول هذا؟ أنا والله أرجز منك ومن أبيك. ثم غدا على عقبة بن سلم فأنشده: من الرجز
يا طلل الحيّ بذات الصّمّد ... بالله خبّر كيف كنت بعدي
منها:
بدت بخدّ وجلت عن خدّ ... ثم انثنت كالنّفس المرتد
وصاحب كالدّمّل الممدّ ... حملته ف رقعةٍ من جلدي
حتى اغتدى غير فقيد الفقد ... وما درى ما رغبتي من زهدي
الحرّ يلحى والعصا للعبد ... وليس لمحلف مثل الرّدّ
اسلم وحيّيت أبا الملدّ ... والبس طرازي غير مستردّ
ومضى فيها إلى آخرها، فأمر له عقبة بجائزة وكسوة.(17/94)
قالوا: ولما أنشد هذه الأرجوزة ومضى فيها اغتاظ عقبة بن رؤبة لما سمع فيها من الغرائب، وقال: أنا وأبي فتحنا الغريب للناس، وأوشك والله أن أغلقه. فقال له بشار: ارحمهم رحمك الله قال: يا أبا معاذ أتستصغرني وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر؟! قال: فأنت إذاً من القوم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو
ابن عدي بن عمرو بن رفاعة بن مودوعة بن عدي بن عثم بن الربعة ابن رشدان بن قيس ابن جهينة، أبو عبس ويقال: أبو حمّاد ويقال: أبو عامر، ويقال: أبو الأسد، ويقال: أبو سعاد، ويقال: أبو عمرو الجهنيّ صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سكن مصر، وكان البريد إلى عمر بفتح دمشق، وكانت له دار بها بناحية قنطرة سنان من نواحي باب توما.
روى عقبة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطاه غنماً يقسمها على صحابته ضحايا، فبقي عتود، فذكره لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " ضحّ به أنت ".
وحدث عقبة: أنه قدم على عمر بفتح دمشق، قال: وعليّ خفّان، فقال لي عمر: كم لك يا عقبة مذ لم تنزع خفيك؟ فذكرت من الجمعة إلى الجمعة، فقلت: ثمانية أيام، قال: أحسنت وأصبت السنة.(17/95)
وفي رواية: قال: كنت تمسح عليهما؟ قلت: نعم، قال: مذ كم؟ قال: مذ جمعة، قال: أصبت السّنّة.
شهد عقبة صفين مع معاوية، وتحول إلى مصر فنزل بها، وتوفي في آخر خلافة معاوية بن أبي سفيان، ودفن بالمقطّم مقبرة أهل مصر.
وقال الهيثم بن عدي: إنه توفي بالشام، وكان يخضب بالسواد ويقول: نودّ أعلاها فتأبى أصولها.
توفي سنة ثمانٍ وخمسين، وولي الجند بمصر لمعاوية بن أبي سفيان سنة أربع وأربعين، وأغزاه معاوية البحر سنة سبع وأربعين، وكتب إلى مسلمة بن مخلّد بولايته على مصر، فلم يظهر مسلمة ولايته حتى دفع عقبة غازياً في البحر، فأظهر مسلمة ولايته، فبلغ ذلك عقبة، فقال: ما أنصفنا أمير المؤمنين، عزلنا وغرّبنا.
وكان عقبة شاعراً.
قال عقبة بن عامر الجهني: بلغني قدوم النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، وأنا في غنيمةٍ لي، فرفضتها، وقدمت المدينة على النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: يا رسول الله، بايعني، قال: " بيعة أعرابية تريد أو بيعة هجرة؟ " قال: قلت: لا بل بيعة هجرة، فبايعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقمت معه، فقال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا من كان هاهنا من معدّ فليقم، مقام رجال "، وقمت معهم، فقال: "(17/96)
اجلس أنت ". وصنع ذلك ثلاث مرار، فقلت: يا رسول الله: إنا نحن من معدّ، قال: " لا ". قلت: ممن نحن؟ قال: " أنتم من قضاعة بن مالك بن حمير ".
وعن عقبة بن عامر قال: جئت في اثني عشر راكباً حتى حللنا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فقال أصحابي: من يرعى لنا إبلنا، وننطلق فنقتبس من نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا راح ورحنا أقبسناه مما سمعنا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ففعلت ذلك أياماً، ثم إني فكرت في نفسي، فقلت: لعلّي مغبون يسمع أصحابي ما لم أسمع، ويتعلمون ما لم أتعلم من نبيّ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحضرت يوماً، فسمعت رجلاً يقول: قال نبيّ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من توضأ وضوءاً كاملاً كان من خطيئته كيوم ولدته أمه ".
فتعجبت لذلك؛ فقال عمر بن الخطاب: فكيف لو سمعت الكلام الأول كنت أشد عجباً، فقلت: اردد عليّ جعلني الله فداك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من مات لا يشرب بالله شيئاً فتح الله له أبواب الجنة، يدخل من أيها شاء، ولها ثمانية أبواب ".
قال: فخرج علينا نبيّ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجلست مستقبله، فصرف وجهه عني، حتى فعل ذلك مراراً، فلما كانت الرابعة، قلت: يا نبيّ الله بأبي وأمي، لم تصرف وجهك عني؟ فأقبل عليّ فقال: واحدٌ أحبّ إليك أم اثنا عشر؟ فلما رأيت ذلك رجعت إلى أصحابي.
قال عقبة بن عامر الجهني: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن في الصّفّة وكان عقبة بن عامر من أصحاب الصّفّة فقال: " أيّكم يحب أن يغدو إلى بطحان أو العقيق فيأتي كلّ يوم بناقتين(17/97)
كوماوين زهراوين يأخذهما من غير إثم ولا قطع رحم؟ " قلنا: كلنا يحب ذلك يا رسول الله، قال: " فلان يغدو أحدكم إلى المسجد، فيقرأ أو يتعلم آيتين خير له من ناقتين، وثلاثاً خير له من ثلاث، وأربعاً خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل ".
عن عقبة بن عامر قال: لقيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فابتدأته فأخذت بيده، قال: فقلت: يا رسول الله ما نجاة المؤمن؟ قال: يا عقبة أخرس لسانك، ليسعك بيتك، وابك على خطيئتك ".
قال: ثمّ لقيني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فابتدأني فأخذ بيدي، فقال: " يا عقبة بن عامر، ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم؟ " قال: قلت: بلى، جعلني الله فداك، قال: فأقرأني: " قل هو الله أحد "، " قل أعوذ بربّ الفلق "، وقل أعوذ بربّ النّاس " ثم قال: " يا عقبة لا تنسهن، ولا تبت ليلة حتى تقرأهن ". قال: فما نسيتهن منذ قال: لا تنسهن. وما بتّ ليلة قط حتى أقرأهن.(17/98)
قال عقبة: ثم لقيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فابتدأته فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال، فقال: " يا عقبة صل من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض عمن ظلمك ".
وعن عقبة بن عامر قال:
كنت عند النبيّ صلىالله عليه وسلم يوماً، فجاءه خصمان، فقال لي: " اقض بينهما "، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أنت أولى، قال: " اقض بينهما "، قلت: على ماذا يا رسول الله؟ قال: " اجتهد فإن أصبت فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة ".
قال عبد الله بن زيد الأزرق قال: كان عقبة بن عامر يخرج فيرمي كل يوم، ويستتبع رجلاً، فكان ذلك الرجل كاد أن يمل، فقال: ألا أخبرك ما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: بلى، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله "، وقال: " ارموا واركبوا، وأن ترموا خير من أن تركبوا، وكل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل إلا ثلاث: رميه بسهمه عن قومه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق ".
قال: فتوفي عقبة وله بضعة وستون، أو بضعة وسبعون قوساً، مع كل قوس قذذٌ ونبلٌ، وأوصى بهن في سبيل الله.
قال: وقال النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ترك الرّمي بعد أن علمه فهي نعمة كفرها ".(17/99)
أتي رجلٌ في المنام فقيل له: اذهب إلى عقبة بن عامر صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقل له: إنك من أهل النار. فكره أن يقول له ذلك، فقال ثلاث مرات أو أربعاً، وقال في آخر ذلك: لئن لم تفعل ما أقول لك فعلت بك شراً. فأتى عقبة بن عامر فأخبره الخبر، فقال له عقبة بن عامر: أخبرني ما قال لك، قال: قال لي: قل لعقبة: إنك من أهل النار، فوضع عقبة بن عامر كفيه في الأرض، فقبض بكل كف قبضة من تراب، ثم رمى بها على عاتقه إلى وراء ظهره، ثم قال: كذب الشيطان، ثم قبض الثانية، فرمى بها وراء ظهره، فقال: كذب الشيطان، ثم قبض الثالثة فرمى بها وراء ظهره، وقال: كذب الشيطان. فلما رقد الرجل جاءه الذي كان يأتيه في كل ليلة في المنام، فقال: هل قلت لعقبة ما أمرتك؟ فقال الرجل: نعم، قال: فما قال لك؟ فأخبره، فقال: صدق، ما كان يرمي رمية إلا وقعت تلك الرّمية في وجهي وعيني.
حدّث أبو علي الهمداني رجل من أهل مصر: أنه خرج في سفر فيه عقبة بن عامر الجهني، قال: فحانت صلاة من الصلوات، فأمرناه أن يؤمنا، وقلنا له: أنت أحقنا بذلك، أنت صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأبى، وقال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من أمّ الناس فأصاب فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئاً فعليه ولا عليهم ".
قال عامر بن ذريح الحميري: بتّ عند عقبة بن عامر أنا وجابر بن سهل، فقال له عقبة: لئن دخلت الجنة لتندمنّ، قال: فقلت له: ولم أندم إن دخلت الجنة؟ فقال: لعلك أن ترى عبد بني فلان فوقتك، فتندم من أن لا تكون أعطيت ثوباً أو رغيفاً فتلحق به.
وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فقال له عمر بن الخطاب: اعرض عليّ، فقرأ عليه سورة براءة، فبكى عمر.(17/100)
قال إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجمعهم من الآفاق، عبد الله وحذيفة وأبي الدّرداء وأبي ذر وعقبة بن عامر، فقال: ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الآفاق؟ قالوا: أتنهانا؟ قال: لا أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت، فنحن أعلم ما نأخذ ونرد عليكم. فما فارقوه حتى مات. وما خرج ابن مسعود إلى الكوفة ببيعة عثمان إلاّ من حبس عمر في هذا السبب.
قال سفيان بن وهب الخولاني: بينما نحن نسير مع عمرو بن العاص في سفح هذا الجبل ومعنا المقوقس، فقال له: يا مقوقس، ما بال جبلكم هذا أقرع ليس عليه نبات ولا شجر على نحو من جبال الشام؟ قال: ما أدري، ولكن الله أغنى أهله بهذا النيل عن ذلك، ولكنا نجد تحته ما هو خير من ذلك، قال: وما هو؟ قال: ليدفننّ تحته، أو ليقبرنّ قوم يبعثهم الله يوم القيامة لا حساب عليهم، فقال عمرو: اللهم اجعلني منهم.
قال حرملة: فرأيت أنا قبر عمرو بن العاص فيه، وفيه قبر أبي نصرة الغفاري وعقبة بن عامر.
عقبة بن علقمة بن جريج
أبو عبد الرحمن ويقال: أبو يوسف، ويقال: أبو سعيد المعافري البيروتي حدث عن الأوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إذا صلى أحدكم فسها في صلاته، فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً فليسجد سجدتين وهو جالس ".
وقال مرة أخرى: " فلم يدر أزاد أم نقص ".(17/101)
وحدث عنه بسنده إلى زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " العمرى سبيلها سبيل الميراث ".
سكن عقبة بن علقمة بدمشق، وكان ثقة خياراً، وهو من أهل أطرابلس الغرب.
توفي عقبة سنة أربع ومئتين.
كان الأوزاعي إذا أراد أن يعتم يوم الجمعة يكره أن يرى معتمّاً وحده خوف الشهرة، فيبعث إلى هقل وإلى عقبة، وإلى ابن أبي العشرين أن اعتموا فإني أكره أن أعتم اليوم.
عقبة بن عمرو بن ثعلبة
ابن أسيرة بن عسيرة بن عطية بن جدارة بن عوف بن الحارث بن الخزرج أبو مسعود الأنصاري، البدري نسب إلى موضع كان يعرف ببدر.
صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد على معاوية.
حدث أبو مسعود الأنصاري عن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما صنعت ".(17/102)
وعن أبي مسعود قال: كان فينا رجل نازل يقال له أبو شعيب، وكان له غلام لحام، فقال لغلامه: اصنع لي طعاماً لعلي أدعو النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خامس خمسة، فتبعه رجل، فقال النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنك دعوتني خامس خمسة، وإن هذا تبعني فإن أذنت له إلا رجع ". قال: لا بل تأذن له.
شهد أبو مسعود العقبة الآخرة.
وولد عوف بن الحارث بن الخزرج خدرة وهو الأبجر، وجادرة، بطنان، فمن جدارة أبو مسعود البدري، واسمه عقبة بن عمرو، وأمه سلمى بنت غارب بن عوف بن عبد الله بن خالد من قضاعة.
قيل: البدري: إنه من ماء بدر، من ساكني الكوفة.
مات قبل الأربعين، قبل علي بن أبي طالب، ولم يشهد بدراً، وشهد العقبة وأحداً، ونزل بالكوفة، وابتنى بها داراً في سوق المراضيع.
وقيل: إنه توفي في أول خلافة معاوية، وقيل: في آخرها، وقيل: توفي في خلافة علي عليه السلام بالكوفة.
قال أبو بكر الخطيب، قال الدارقطني: أما نسيره: فهو في نسب أبي مسعود الأنصاري.
قال الخطيب: وهذا تصحيف لا شكّ فيه. وذكر ذلك بسنده، قال: وما كان ينبغي للدارقطني أن يجعله أصلاً في كتابه ولا يذكره إلا على سبيل البيان لفساده، وقد أورد نسب أبي مسعود في أول كتابه في حرف الألف، فقال: عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة بن عسيرة، بفتح الألف، وأسند ذلك، ووافقه خليفة بن خياط إلا أنه ذكره بضم الألف من أسيرة، وذكره ابن إسحاق يسيرة بالياء المضمومة، وليس بين ابن إسحاق وبين(17/103)
خليفة بن خياط خلاف؛ لأن الياء قد تبدل من الألف، وأما النون فلا تبدل من الألف. فقد بان ان ما ذكره الدارقطني من نسيرة بالنون خطأ وتصحيف، وقولهم يسيرة بالياء أيضاً وهم.
وقد قيل: إنه شهد بدراً، واستخلفه علي بن أبي طالب في مخرجه إلى صفين على الكوفة.
روى الشعبي عن أبي مسعود الأنصاري قال: وأعدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العقبة يوم الأضحى ونحن سبعون رجلاً أنا أصغرهم، فأتانا، فقال: أوجزوا في الخطبة فإني أخاف عليكم كفار قريش. فقلنا: يا رسول الله، سلنا لربك، وسلنا لنفسك ولأصحابك، وأخبرنا الثواب على ذلك عليك وعلى ربك؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أسألكم لربي عزّ وجلّ أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأسألكم لنفسي أن تتبعوني أهدكم سبيل السلام، وأسألكم لي ولأصحابي أن تواسونا في ذات أيديكم، وأن تمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم، وإذا فعلتم ذلك فإن لكم الجنة على الله واجبة ". قال: فمدننا أيدينا فبايعناه.
قال عمر بن الخطاب لأبي مسعود الأنصاري: نبئت أنك تفتي الناس، ولست بأمين، فولٌ حارّها من تولّى قارّها.
وكان أبو مسعود تشبه تجاليده تجاليد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
دخل رجلان من أبواب كندة، وأبو مسعود الأنصاري جالس في حلقة، فقال أحدهما: ألا رجل ينفد بيننا؟ فقال رجل في الحلقة: أنا فأخذ أبو مسعود كفاً من(17/104)
خصىً فرماه به، وقال: مه، إنه كان يكره التسرع إلى الحكم.
ولما خرج عليٌّ كرم الله وجهه إلى صفين استخلف عقبة بن عمرو أبا مسعود على الكوفة، قال: وقد تخبأ رجال لم يخرجوا مع علي، قال: فقام على المنبر فقال: يا أيها الناس من كان تخبأ فليظهر، فلعمري لئن كان إلى الكثرة، إن أصحابنا لكثير، وما نعده فتحاً أن يلتقي هذا الخيلان غداً من المسلمين فيقتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، حتى إذا لم يبق إلا رجرجة من هؤلاء وهؤلاء ظهرت إحدى الطائفتين غداً على الأخرى، ولكن نعده فتحاً أن يأتي الله بأمر من عنده يحقن دماءهم، ويصلح به ذات بينهم، ويصلح به كلمتهم.
قال الشعبي: لما خرج عليٌّ إلى صفين استخلف أبا مسعود على الكوفة، وكان رجال من أهل الكوفة استخفوا، فلما خرج ظهروا، فكان ناس يأتون أبا مسعود فيقولون: قد والله أهلك الله أعداءه، وأظهر أمير المؤمنين، فيقول أبو مسعود: إني والله ما أعده ظفراً ولا عافية أن تظهر إحدى الطائفتين على الأخرى. قال: فمه؟ قال: يكون بين القوم صلح.
فلما قدم عليّ ذكروا ذلك له، فقال له علي: اعتزل عملنا، قال: وذلك ممّه؟ قال: إنا وجدناك لا تعقل عقلة، قال: أما أنا فقد بقي من عقلي أن الآخر شر.
وعن أبي مسعود قال: ذكرت الدنانير والدراهم عنده، قال: فقال: الزقوها بأكبادكم، وتناجزوا عليها تناجزكم، والذي نفس عقبة بن عمرو بيده لا تصلون إلى الآخرة دينا ولا بدرهم،(17/105)
ولتتركنّها في بطون الأرض وعلى ظهرها كما تركها من كان قبلكم، تناجزوا عليها الآن تناجزكم، وتذابحوا عليها تذابحكم، وليهلك دينكم ودنياكم.
قال أبو مسعود: وعن يسير بن عمرو قال: شيّعنا أبا مسعود حين خرج فنزل في طريق القادسية، فدخل بستاناً، فقضى الحاجة ومسح على جوربين، ثم خرج وإن لحيته ليقطر منها الماء، فقلنا: اعهد غلينا فإن الناس قد وقعوا في الفتن، ولا ندري أنلقاك بعد اليوم أم لا، فقال: اتقوا الله، واصبروا حتى يستريح برٌّ أو يستراح من فاجر، وعليكم بالجماعة، فغن الله لا يجمع أمته على ضلالة.
توفي سنة أربعين، وقيل: سنة تسع وثلاثين.
عقبة بن نافع بن عبد قيس
ابن لقيط بن عامر بن أمية بن ظرب بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر الفهري يقال: إن له صحبة، والأظهر أنه لا صحبة له.
سكن مصر، ووفد علمعاوية ويزيد بن معاوية.
روى أبو عبيدة بن عقبة بن نافع: ان أباه وفد على معاوية بن أبي سفيان، فقرب له الغداء، فقال؛ اقترب يا عقبة، فاستأخرت، فقال: اقترب يا عقبة، قلت: إني صائم، قال: أما إنها ليست بسنة، وكان عقبة على سفر.(17/106)
شهد الفتح بمصر، واختط بمصر، وولي الإمرة لمعاوية بن يزيد بن معاوية على المغرب، وهو الذي بنى قيروان إفريقية وأنزلها المسلمين، وقتلته البربر بتهوذة من أرض الزاب بالمغرب سنة ثلاث وثمانين، وولده بمصر وبالمغرب، وقيل: سنة ثلاث وستين، وهو الذي قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رأيت كأني في دار عقبة بن نافع، فأتينا برطبٍ أبرّ طاب، فأوّلتها الرفعة والعافية، وإن ديننا قد طاب لنا. هكذا قال.
ووهم علي بن يونس في نسبه في موضعين، ووهم فيما حكى فيه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن ذاك عقبة بن رافع، ولذلك قال: إن لنا الرفعة.
وقال أبو نعيم الحافظ: عقبة بن رافع وقيل: ابن نافع بن عبد القيس بن لقيط بن عامر بن أمية بن الحارث بن عامر بن فهر القرشي.
وعن أبي الخير قال: لما فتح المسلمون مصر بعث عمرو بن العاص إلى القرى التي حولها، الخيل تطؤهم، فبعث عقبة بن نافع بن عبد القيس، وكان نافع أخا العاص بن وائل لأمه، فدخلت خيولهم أرض النوبة غزاة، غزوا كصوائف الروم، فلقي المسلمون من النوبة قتالاً شديداً، لقد لاقوهم أول يوم، فرشقوهم بالنبل، ولقد جرح منهم عامتهم، وانصرفوا بجارحات كثيرة. وحذق ٍ بفقية، سموهم يومئذ رماة الحدق. فلم يزالوا على ذلك حتى ولي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ولاه عثمان، فسألوه الصلح والموادعة، فأجابهم إلى ذلك، فاصطلحوا على غير جزية، على هداية ثلاث مئة رأس في كل سنة، ويهدي إليهم المسلمون طعاماً مثل ذلك.(17/107)
وكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يخبره أنه قد ولّى عقبة بن نافع الفهري، وأنه قد بلغ زويلة، وأن ما بين برقة وزويلة سلمٌ كلهم، قد أطاع مسلمهم بالصدقة، وأقر معاهدهم بالجزية.
وبلغ عمرو بن العاص أطرابلس ففتحها، فكتب إلى عمر: إن بيننا وبين إفريقية تسعة أيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن للمسلمين في دخولها فعل؛ فإن المسلمين قد اجترؤوا عليهم وعلى بلادهم وعرفوا قتالهم، وليس عدوّاً كلٌّ شوكة منهم، وإفريقية عين مال الغرب، فيوسّع الله بما فيها على المسلمين.
فكتب إليهم عمر: لو فتحت إفريقية ما قامت بوالٍ مقتصدٍ لا جند معه، ثم لا آمن أن يقتلوه، فإن شحنتها بالرجال كلفت حمل مال مصر أو عامته إليهم، لا أدخلها جنداً للمسلمين أبداً، وسيرى الوالي بعدي رأيه.
فلما ولي عثمان أغزى الناس إفريقية، وأمرهم أن يلحقوا بعبد الله بن سعد. وأمر عبد الله بن سعد أن يسير بمن معه، ومن أمده بهم عثمان بن عفان إلى إفريقية. فخرج بالناس حتى نزل بقربها، فصالحه بطريقها على صلح يخرجه له، فقبل ذلك منه.
فلما ولي معاوية بن أبي سفيان، وجّه عقبة بن نافع بن عبد قيس الفهري إلى إفريقية غازياً في عشرة آلاف من المسلمين، فافتتحها واختط قيروانها، وقد كان موضعه غيطة لا ترام من السباع والحيات وغير ذلك من الدواب، فدعا الله عليها، فلم يبق فيها شيء مما كان فيها من السباع وغير ذلك إلا خرج منها هارباً بإذن الله، حتى إن السباع وغيرها لتحمل أولادها.
قالوا: ولما قدم إفريقية وقف على واديها، فقال: من كان ههنا من الحي فليرتحل،(17/108)
فإنا نازلون، فمن وجدناه قتلناه. قال: فرأى الناس الحيات تنساب خارجة من الوادي. وكان يقال: إن عقبة رجل يستجاب دعاؤه.
وقيل: إن عقبة بن نافع نادى: إنا نازلون فاظعنوا. قال: فزبنّ يخرجن من جحرتهنّ هوارب.
قال محمد بن عمر: فقلت لموسى بن علي: إنه يقال: إن بإفريقية عقارب تقتل. قال: بناحية منها، قلّما لدغت إنساناً إلا خيف عليه منها، وربما عافاه الله. قلت لموسى: أرأيت بناء إفريقية اليوم؟ هذا الواصل المجتمع، من أوّل من بناء حتى بني إليه؟، قال: أول من ابتنى بها عقبة بن نافع ومن كان معه الدور والمساكن، وأقام بها.
قال الليث بن سعد: في سنة إحدى وأربعين غزوة عقبة بن نافع غدامس. وفي سنة اثنتين وأربعين حاربت البربر، فغزاهم عقبة بن نافع. وفي سنة ثلاث وأربعين غزوة عقبة بن نافع هوّارة. وفي سنة ثمان وأربعين غزوة عقبة بن نافع ومالك بن هبيرة مشتاههم بساموس. وفي سنة أربع وخمسين غزوة ابن مسعود وعقبة بن نافع مشتاهم بقريطيا، وفي سنة اثنتين وستين غزوة عقبة بن نافع إفريقية.
وقال خليفة: في سنة إحدى وأربعين ولّى عمرو بن العاص وهو على مصر عقبة بن نافع الفهري(17/109)
وهو ابن خالة عمرو إفريقية، فانتهى إلى قونية ومراقية، فأطاعوا، ثم كفروا؛ فغزاهم من سبتة، فقتل وسبى، وفيها يعني سنة اثنتين وأربعين غزا عقبة بن نافع إفريقية، فافتتح غدامس، فقتل وسبى، وفيها يعني سنة ثلاث وأربعين غزا عقبة بن نافع، فافتتح كوراً من بلاد السودان، وافتتح ودّان، وهي من حيدة برقة، وكلها من بلاد إفريقية.
وفي سنة خمسين وجه معاوية عقبة بن نافع إلى إفريقية، فخط القيروان وأقام بها ثلاث سنين، ولما افتتحها وقف على القيروان، فقال: يا أهل الوادي، إنا حالون إن شاء الله فاظعنوا، ثلاث مرات، قال؛ فما رأينا حجراً ولا شجراً، إلا يخرج من تحته دابة حتى هبطن بطن الوادي، ثم قال للناس: انزلوا باسم الله.
حدث رجل من جند مصر قال: قدمنا مع عقبة بن نافع إفريقية، وهو أول الناس، اختطها وقطّعها للناس مساكن ودوراً. وبنى مسجدها. قال: فأقمنا معه حتى عزل عنها، وهو خير وال، وخير أمير، وولّى معاوية بن أبي سفيان حين عزل عقبة بن نافع مسلمة بن مخلّد الأنصاري، ولاّه مصر وإفريقية، وعزل معاوية بن حديج الكندي عن مصر، فوجّه مسلمة بن مخلّد إلى إفريقية ديناراً أبا المهاجر، مولىً له، وعزل عقبة بن نافع، فقيل لمسلمة بن مخلّد: لو أقررت عقبة بن نافع عليها؛ فإن له جرأة وفضلاً، وهو الذي اختطها وبنى مسجدها، فقال مسلمة: إن أبا المهاجر، كنا نرى، إنما هو كأحدنا، صبر علينا في غير ولاية ولا كثير نيل، فنحن يجب أن نكافئه ونصطنعه، فوجهه إلى إفريقية.(17/110)
فلما قدم دينار إفريقية كره أن ينزل في الموضع الذي اختط عقبة بن نافع، فمضى حتى خلّفه بميلين، ثم نزل بموضع يقال له: أبت كروان فابتناه ونزله.
وخرج عقبة بن نافع منصرفاً إلى المشرق حنقاً على أبي المهاجر، وكان أساء عزله، فدعا الله أن يمكنه منه، وبلغ ذلك أبا المهاجر، فلم يزل خائفاً منه مذ بلغته دعوته. فقدم عقبة بن نافع على معاوية فقال: الله! إني فتحت البلاد ودانت لي، وبنيت المنازل، وبنيت مسجد الجماعة، وسكّنت الرجال، ثم أرسلت عبد الأنصار، فأساء عزلي! فاعتذر إليه معاوية، وقال: قد عرفت مكان مسلمة بن مخلّد من الإمام المظلوم رحمه الله، وتقديمه إياه على من سواه، ثم قيامه بعد ذلك بدمه، وبذل مهجة نفسه محتسباً صابراً مع من أطاعه من قومه ومواليه، وقد رددتك على عملك والياً.
قال عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة: لما ولّى مسلمة بن مخلّد أبا المهاجر إفريقية أوصاه بتقوى الله، وأن يسير بسيرةٍ حسنةٍ، وأن يعزل صاحبه أحسن العزل؛ فإن أهل بدله يحسنون القول فيه، فخالفه أبو المهاجر، فأساء عزله. فمر عقبة بن نافع على مسلمة بن مخلد، فركب إليه مسلمة، يقسم له بالله، لقد خالفه ما صنع، ولقد أوصيته بك خاصة.
ولم يوله معاوية، ولكنه أقام حتى مات معاوية، فولاه يزيد بعد ذلك.
وعن عقبة بن نافع: وكان قد استشهد بإفريقية أنه أوصى ولده، فقال: لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا عن ثقة، ولا تديّنوا وإن لبستم العبا، ولا تكتبوا ما يشغلكم عن القرآن.
وروى الليث: أن عقبة بن نافع قدم من عند يزيد بن معاوية في جيش على غزو المغرب، فمر على عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو بمصر، فقال له: يا عقبة، لعلك من الجيش الذين(17/111)
الجنة ترجى لهم. قال: فمضى بجيشه حتى قاتل البربر، وهم كفار فقتلوه جميعاً.
وقيل: إن عبد الله بن عمرو بن العاص قال لعقبة لما دخل عليه: ما أقدمك يا عقبة؟ فإني أعلمك تحب الإمارة، فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية عقد لي على جيش إلى إفريقية. فقال له عبد الله: إياك أن تكون لعبة لأرامل أهل مصر، فإني لم أزل أسمع أنه سيخرج رجل من قريش في هذا الوجه فيهلك فيه.
قال: فقدم إفريقية فتتبع آثار أبي المهاجر، وضيق عليه، وحدّده. وأخذه في وثاق شديد، وأساء عزله. ثم خرج إلى قتال البربر وهم خمسة آلاف رجل من أهل مصر. وأخرج بأبي المهاجر معه في الحديد، فقتل، وقتل أصحابه، وقتل أبو المهاجر، وكان قدوم عقبة والياً على أبي المهاجر سنة ثنتين وستين.
وفي سنة ثلاث وستين غزا عقبة بن نافع، وساتخلف على القيروان زهير بن قيس البلويّ، فأتى السوس القصوى، فغنم وسلم وقفل، فلقيه كسيلة بن اليزم، وكان نصرانياً، فقتل عقبة بن نافع، وأبو المهاجر مولى الأنصار، وعامة أصحابه، ثم سار كسيلة، فلقيه زهير بن قيس على بريد من القيروان فقتل كسيلة، وانهزم أصحابه، وقتلوا قتلاً ذريعاً.
ولما رد يزيد بن معاوية عقبة بن عامر والياً على إفريقية خرج سريعاً لحنقه على أبي المهاجر حتى قدم إفريقية، فأوثق أبا المهاجر ي وثاق شديد، وأساء عزله، وغزا به إلى السوس الأدنى. وهو في حديد، وهو خلف طنجة، فيما بين قبلة مدينتها التي تسمى(17/112)
وليلى والمغرب وأهل السوس، إذ ذاك أثبته، وجوّل في بلادهم، ولا يعرض له أحد، ولا يقاتله. ثم انصرف راجعاً إلى إفريقية، فلما دنا من ثغرها أمن أصحابه، وأذن لهم فتفرقوا عنه، وبقي في عدة قليلة، فأخذ تهوذة، وهي ثغر من ثغور إفريقية متياسراً عن طينة، ثغر الزاب، فيما بين طينة والمشرق، وتهوذة من مدينة قيروان إفريقية على مسيرة ثمانية أيام.
فلما انتهى عقبة إلى تهوذة، عرض له كسيلة بن يلزم الأودي في جمع كبير من البربر والروم، وقد كان بلغه افتراق الناس عن عقبة وقلة من معه، وجمع لذلك جمعاً، فالتقوا، فاقتتلوا قتالاً شديداً. فقتل عقبة بن نافع شهيداً رحمه الله، وقتل من كان معه، وقتل أبو المهاجر، وهو موثوق بالحديد، واشتعلت إفريقية حرباً. ثم سار كسيلة ومن معه حتى نزلوا قونية، الموضع الذي كان عقبة بن نافع اختطه، فأقام بها ومن معه. وقهر من قرب منه بآب قايش وما يليه، وجعل يبعث أصحابه في كل وجه إلى أن توفي يزيد بن معاوية، وكانت خلافته ثلاث سنين وثلاثة أشهر.
قال ابن لهيعة: كان قتل الحسن بن علي عليهما السلام، وقتل عقبة بن نافع، وحريق الكعبة في سنة واحدة، سنة ثنتين أو ثلاث سنين، وكان ذلك كله في خلافة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
عقبة بن يريم
دمشقي.
حدث عقبة بن يريم عن أبي ثعلبة الخشني: أن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم يثني(17/113)
بفاطمة، ثم يأتي أزواجه، فقدم من سفرة مرة، فأتى فاطمة، فتلقته على باب المسجد، فجعلت تلثم فاه وعينه وتبكي، فقال لها: " ما يبكيك؟ " فقالت: أراك شعثاً نصباً قد اخلولقت ثيابك، فقال: " لا تبكي، فإن الله بعث أباك بأمر لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر ولا شعر، إلا أدخله الله به عزاً أو ذلاً حتى يبلغ حيث بلغ الليل ".
عقيل بن أحمد بن محمد بن الأزرق
أبو طالب الفراء الوراق حدث سنة ثمان وأربعين وأربع مئة بسنده عن الشريف أبي الغنائم محمد بن يحيى بن الحسين الحسني الزيدي بسنده إلى أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من تعلم القرآن وعلمه، وأخذ بما فيه، كان له شفيعاً ودليلاً إلى الجنة ".
عقيل بن أي طالب عبد مناف
ابن هاشم بن عبد مناف أبو يزيد ويقال: أبو عيسى الهاشمي أخو علي وجعفر، وكان أكبر منهما، أسلم قبل سنة ثمان، وشهد غزوة مؤتة من أرض البلقاء. وفد على معاوية.
روى عقيل بن أبي طالب قال: جاءت قريش إلى أبي طالب، فقالوا: إن ابن أخيك يؤذينا في نادينا وفي مسجدنا، فانهه عن أذانا، فقال: يا عقيل ائتني بمحمد؛ فذهبت فأتيته به، فقال: يا بن(17/114)
أخي إن بني عمك يزعمون أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مسجدهم، فانته عن ذلك، قال: فلحظ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببصره إلى السماء، فقال: " أترون هذه الشمس؟ " قالوا: نعم، قال: " ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تستشعلوا لي منها شعلة "، قال: فقال أبو طالب: ما كذب ابن أخي، فارجعوا.
قال الحسن البصري: قدم عقيل بن أبي طالب البصرة، فتزوج امرأة من بني جشم، فلما خرج قالوا: بالرّفاء والبنين، فقال: لا تقولوا هكذا، نهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نقول: بالرفاء والبنين، وأمرنا أن نقول: " بارك الله لك، وبارك عليك ".
وجعفر وعلي وعقيل بنو أبي طالب، أمهم فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، وقد أسلمت وهاجرت إلى الله وإلى رسوله بالمدينة وماتت بها، وشهدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أتى عقيل البصرة والكوفة والشام، ومات في خلافة معاوية.
وعقيل وجعفر وعلي كل واحد منهم أسنّ من صاحبه بعشر سنين على الولاء، وأخوهم طالب لا عقب له. وهو الذي يقول حين استكرهه مشركو قريش على الخروج إلى بدر: من الرجز
يا ربّ إمّا خرجوا بطالب ... في مقنبٍ من هذه المقانب
فاجعلهم المغلوب غير الغالب ... والرجل المسلوب غير السالب
وكان علي أصغر بني أبي طالب سناً، وأولهم إسلاماً، وكان عقيل فيمن أخرج من بني هاشم كرهاً مع المشركين إلى بدر، فشهدها، وأسر يومئذ، وكان لا مال له، ففداه(17/115)
العباس بن عبد المطلب، ورجع عقيل إلى مكة، فلم يزل بها حتى خرج إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهاجراً في أول سنة ثمانٍ، فشهد غزوة مؤتة، ورجع، فعرض له مرض، فلم يسمع له بذكر في فتح مكة ولا الطائف ولا خيبر ولا حنين، وقد أطعمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر مئة وأربعين وسقاً كل سنة، ومات عقيل بن أبي طالب بعدما عمي في خلافة معاوية، وله عقب، وله دار بالبقيع ربّة يعني كثيرة الأهل والجماعة واسعة.
وروي أن عقيلاً بارز رجلاً يوم مؤتة فقتله، فنفّله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتمه. وقيل: نفّله سيفه وترسه، وكان إسلام عقيل قبل يوم مؤتة، وكان ورث أبا طالب هو وطالب دون علي وجعفر، لأنهما كانا مسلمين.
وعن ابن عباس: في قول الله عز وجل: " يا أيها النبيّ قل لمن في أيديكم من الأسارى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم، والله غفور رحيم " نزلت في الأسارى يوم بدر، ومنهم العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب.
وقال عقيل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قتلت من أشرافهن أثخن فيهم! فقال: قتل أبو جهل، فقال: " الآن صفا لك الوادي ".
وقال له عقيل: إنه لم يبق من أهل بيتك أحد إلا وقد أسلم، قال: " فقل لهم فليلحقوا بي، فلما أتاهم عقيل بهذه المقالة خرجوا ".(17/116)
وذكر أن العباس ونوفلاً وعقيلاً رجعوا إلى مكة، أمروا بذلك ليقيموا ما كانوا يقيمون من أمر السقاية والرفادة يعني والرياسة، وذلك بعد موت أبي لهب، وكانت السقاية والرفادة والرياسة في الجاهلية في بني هاشم، ثم هاجروا بعد إلى المدينة، فقدموها بأهاليهم وأولادهم.
قال علي كرم الله وجهه: لما كان ليلة بدر أصابنا وعك من حمى وشيء من مطر، فافترق الناس يستترون تحت الشجر، وما رأيت أحداً يصلي غير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى انفجرا لصبح، فصاح: " عباد الل " هـ، فأقبل الناس من تحت الشجر، فصلى بهم، ثم أقبل على القتال، ورغبهم فيه، فقال: " إن بين عبد المطلب قوم أخرجوا كرهاً، لم يريدوا قتالكم، فمن لقي منكم أحداً منهم فر يقتله، وليأسره أسراً ". ثم قال لهم: " إن جمع قريش عند ذلك الضلع من الجبل ".
فلما تصافّ القوم، رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً يسير على جمل أحمر، فقال: " عن يكن عند أحد من القوم خير فعند صاحب هذا الجمل الأحمر "، ثم قال: " يا علي انطلق إلى حمزة، وكان حمزة أدنى القوم من القوم، فسله عن صاحب الجمل الأحمر وماذا يقول "؛ فسأله، فقال: هذا عتبة بن ربيعة، وهو ينهى عن القتال.
قال علي: وكان الشجاع منا يومئذ الذي يقوم بإزاء رسول الله صلى عليه وسلم، فلما هزم الله القوم التفت فإذا عقيل مشدودة يداه إلى عنقه بنسعة، قال: فصددت عنه، فصاح بي: يا بن أم علي، وأما والله لقد رأيت مكاني، ولكن عمداً تصدّ عنّي.
فقال علي: فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: يا رسول الله، هل لك في أبي يزيد مشدودة يداه إلى عنقه بنسعة؟ فقال: " انطلق بنا إليه " فمضينا إليه نمشي، فلما رآنا عقيل قال:(17/117)
يا رسول الله، إن كنتم قتلتم أبا جهل فقد ظفرتم، وإلا فأدركوا القوم ما داموا بحدثان قرحهم، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قد قتله الله عز وجل ".
وعن حسن بن علي عليهما السلام قال: كان ممن ثبت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين العباس وعلي وأبو سفيان بن الحارث وعقيل بن أبي طالب وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، والزبير بن العوام وأسامة بن زيد.
وزاد في حديث آخر: وأيمن بن عبيد أخو أسامة بن زيد.
وروي عن أنس: أن زينب بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجارت أبا العاص بن عبد شمس، فأجاز رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جوارها، وأن أم هانئ بنت أي طالب أجارت أخاها عقيل بن أي طالب يوم الفتح، فأجاز رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جوارها.
قال: وهذا الحديث غير محفوظ، إنما أجارت رجلين من أحمائها من بني مخزوم، فأما عقيل فتقدم إسلامه قبل الفتح، والله أعلم.
وعن زيد بن أسلم: أن عقيلاً دخل على امرأته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة وسيفه متلطخ بالدماء، فقالت: إني قد عرفت أنك قد قاتلت، فما أصبت من غنائم المشركين؟ فقال: دونك هذه الإبرة فخيطي بها ثيابك، ودفعها إليها. فسمع منادي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من أصاب شيئاً فليرده، وإن كانت إبرة، فرجع عقيل إلى امرأته فقال: ما أرى إبرتك إلا قد ذهبت منك. فأخذ عقيل الإبرة فألقاها في الغنائم.(17/118)
وعن علي عليه السلام أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أعطي كل نبيّ سبة رفقاء، وأنا أعطيت أربعة عشر "، قيل لعلي: من هم؟ قال: أنا وابناي الحسن والحسين وحمزة وجعفر وعقيل وأبو بكر وعمر وعثمان والمقداد وسلمان وعمار وطلحة والزبير.
وعن عقيل بن أبي طالب قال: نازعت علياً وجعفر بن أبي طالب في شيء، فقلت: والله ما أنتما بأحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مني، إن قرابتنا لواحدة، وإن أبانا لواحد، وإن أمنا لواحدة. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا أحب أسامة بن زيد " 0 قلت: إني ليس عن أسامة أسألك، إنما أسألك عن نفسي. فقال: " يا عقيل: إني والله لأحبك لخصلتين: لقرابتك ولحب أبي طالب إياك وكان أحبهم إلى أبي طالب وأما أنت يا جعفر فإن خلقك يشبه خلقي، وأما أنت يا علي فأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ".
وفي رواية أنه قال لعقيل: " إني أحبك حبين: حباً لقرابتك مني، وحباً لما كنت أعلم من حب عمي إياك ".
وعن جابر: أن عقيلاً دخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " مرحباً بك أبا يزيد، كيف أصبحت؟ " قال: بخير صبّحك الله يا أبا القاسم.
حدث يزيد بن حبّان عن زيد بن أرقم قال:
دخلنا عليه فقلنا له: لقد رأيت خيراً، صاحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصليت خلفه، قال: لقد رأيته وقد خشيت أن يكون إنما أخرت لشرٍّ، ما حدثتكم به فاقبلوه، وما سكتّ عنه فدعوه.
قال: قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوادٍ بين مكة والمدينة يدعى: خمّ، فخطب، فقال:(17/119)
إنما أنا بشر أوشك أن أدعى فأجيب، ألا وإني تارك فيكم الثقلين: أحدهما كتاب الله، حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة، ثم أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، ثلاث مرات.
قال: فقلنا: من أهل بيته، نساؤه؟ قال: لا، لأن المرأة تكون مع الرجل برهة من الدهر، ثم يطلقها، فترجع إلى أبيها وقومها. وأهل بيته: أهله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده. آل علي والعباس وآل جعفر وآل عقيل.
جاء علي بن أبي طالب إلى عثمان بن عفان، فقال له: يا أمير المؤمنين، لي إليك حاجة، لابد أن تسعفني بها، قال: ما هي؟ قال: فاطمة بنت عتبة بن ربيعة، خطبتها، فأبتني، وتزوجت عقيل بن أبي طالب، فسلها: لم ذاك؟ فقال عثمان: ما نصنع بذلك؟ النساء يأخذن ويدعن، قال: إني أحب ذلك، أقسمت إلا سألتها عن ذلك.
فدعا عثمان مولاه معتّباً فقال له: اذهب إلى فاطمة بنت عتبة فأقرها السلام ورحمة الله، وقل: إن عمك أرسلني إليك يسألك: لم رددت علياً وتزوجت عقيلاً؟ فلما جاءها استأذن عليها، فقالت: من هذا؟ قال: معتّب مولى عثمان، فقالت: ادخل، مرحباً، فدخل، فأبلغها رسالة عثمان، فقالت له: نعم، أمر معروف، إني وجدت علياً قتل الأحبة، ووجدت عقيلاً قاتل معهم. اخرج أبا زيد، فخرج عليّ شيخ أعقف في ملحفة مورّسة.
فجاء عقيل بن أبي طالب إلى علي بن أبي طالب بالعراق ليعطيه. فأبى أن يعطيه شيئاً، فقال: إذاً أذهب إلى رجل هو أوصل منك، فذهب إلى معاوية، فغرف له معاوية.(17/120)
قال حميد بن هلال: أتى عقيل علياً، فقال: يا أمير المؤمنين إني محتاج، وإني فقير فأعطني، قال: اصبر حتى يخرج عطائي مع المسلمين فأعطيك معهم، فألح عليه، فقال لرجل: خذ بيده فانطلق به إلى حوانيت أهل السوق فقل: دقّ هذه الأقفال وخذ ما في هذه الحوانيت.
قال: يريد عليٌّ أن يتخذني سارقاً، فرجع إليه، فقال: يا أمير المؤمنين: أردت أن تتخذني سارقاً! قال: أنت والله أردت أن تتخذني سارقاً، أن آخذ أموال الناس فأعطيكها دونهم، قال: لآتينّ معاوية، قال؛ أنت وذاك، فأتى معاوية فسأله فأعطاه مئة ألف ثم قال: اصعد المنبر فاذكر ما أولاك عليٌّ من نفسه، وما أوليتك من نفسي.
قال: فصعد فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إني أخبركم أني أردت علياً على دينه، فاختار دينه، وإني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه. فقال معاوية: هذا الذي تزعم قريش أنه أحمق، وأنها أعقل منه! وقيل: إن عقيلاً لما أتى معاوية قال له: كيف أنت أبا يزيد؟ كيف تركت علياً وأصحابه؟ قال: كأنهم أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر، إلا أني لم أر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم، وكأنك وأصحابك أبو سفيان يوم أحد، إلا أني لم أر أبا سفيان معكم، فكره معاوية أن يراجعه، فيأتي بأشد مما جاء به.
فلما كان الغد قعد معاوية على سريره، وأمر بكرسي يوضع إلى جنب السرير، ثم أذن للناس فدخلوا، وأجلس الضحاك بن قيس معه، ثم أذن لعقيل، فدخل عليه، فقال: يا معاوية من هذا معك؟ قال: هذا الضحاك بن قيس. فقال: الحمد لله الذي رفع الخسيسة، وتمم النقيصة، هذا الذي كان أبوه يخصي بهمنا بالأبطح، لقد كان(17/121)
بخصائها رفيقاً. فقال الضحاك: إني لعالم بمحاسن قريش، وإن عقيلاً لعالم بمساوئها. ثم قال: ومن هذا الشيخ؟ فقال: أبو موسى الأشعري، قال: ابن المرّاقة، لقد كانت أمه طيبة المرق، فقال له معاوية: أبا يزيد: على رسلك، فقد علمنا مقصدك ومرادك. فأمر له بخمسين ألف درهم، وقال له: كيف رأيتني من أخيك؟ قال: أخي خير لنفسه منك، وأنت خير لي منك لنفسك، فأخذها ورجع إلى أخيه، فقال: اخترت الدنيا على الآخرة.
وقيل: إن عقيلاً لما أتى علياً ومنعه، قال له: أكتب لك إلى مالي بالينبع فتعطى؟ فقال عقيل: لأذهبن إلى رجل يعطيني. فأتى معاوية فقال: مرحباً بأبي يزيد، هذا أخو علي وعمه أبو لهب. فقال له عقيل: هذا معاوية، وعمته حمالة الحطب.
وقال معاوية لعقيل: أين ترى عمك أبا لهب من النار؟ فقال له عقيل: إذا دخلتها فهو على يسارك مفترشٌ عمتك حمالة الحطب، والركب خير من المركوب.
قال معاوية لعقيل: أي النساء أشهى إليك؟ قال: المواتية لما نهوى. قال: فأي النساء أسوأ؟ قال: المجانبة لما نرضى، فقال معاوية: هذا النقد العاجل، فقال له عقيل: بالميزان العادل.
قال عبد الله بن عبد الله بن يسار: كنت عند عبد الله بن عمر بالمدينة، فجاءه عباس بن سهل الأنصاري، قال: إن عقيل بن أبي طالب قد وضع بباب المسجد، فصلي عليه، وابن الزبير حينئذ بمكة.(17/122)
عقيل بن العباس بن الحسن
ابن العباس بن الحسن بن الحسين أبي الحسن بن علي بن محمد بن علي بن إسماعيل بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو البركات.
نقيب العلويين بدمشق.
حدث الأمير النقيب عماد الدولة أبو البركات عقيل بن العباس الحسيني، عن أبي عبد الله الحسن عبد الله بن أبي كامل بن كامل الأطرابلسي، بسنده إلى واثلة بن الأسقع الليثي، قال: جئت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أريد علياً، فلم أجده، فقال: قالت فاطمة عليها السلام: انطلق إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوه فاجلس، فجاء مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخلا، ودخلت معهما، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسناً وحسيناً، فأجلس كل واحد منهما على فخذه، وأدنى فاطمة من حجره وزوجها، ثم لف عليهم ثوبه، وأنا منتبذ، فقال: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرّحس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً "، اللهم هؤلاء أهلي، اللهم أهلي أحق، قال واثلة: فقلت: يا رسول الله، وأنا من أهلك، فقال: " وأنت من أهلي "، فقال واثلة: إنها لمن أرجى ما أرجو.
توفي الشريف عماد الدولة أبو البركات سنة إحدى وخمسين وأربع مئة بطرابلس، وقيل: توفي سنة ثلاث وخمسين.
عقيل بن عبيد الله بن أحمد
ابن عبدان بن أحمد بن زياد بن وردازاد بن غند بن شبة بن أحمد بن عبد الله أبو طالب الأزدي الصفار حدث عن أبي بكر محمد بن أحمد الواسطي البزار بالكوفة بسنده إلى أنس بن مالك قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسمر.(17/123)
ولد أبو طالب عقيل في ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وثلاث مئة، وتوفي في جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وأربع مئة. وكان ثقة.
عقيل بن علّفة بن الحارث بن معاوية
ابن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ بن مرة أبو العملّس، ويقال: أبو الخرقاء، ويقال: أبو علّفة ويقال: أبو الوليد المرّي من أشراف بني مرة ووجوههم.
كان يسكن البادية، ووفد على عبد الملك بن مروان وعمر بن عبد العزيز وغيرهما من خلفاء بني أمية.
وعلّفة: بعين مهملة مضمومة ولام مشددة بعدها فاء. شاعر شريف شديد الغيرة، كانت الملوك تخطب إليه وأمه عمرة بنت الحارث بن عوف بن أبي حارثة المرّي، وأختها البرصاء بنت عمرو أم شبيب بن البرصاء.
تزوج إليه يزيد بن عبد الملك بن مروان، ويحيى بن الحكم أخو مروان. وخطب إليه إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، وهو خال هشام بن عبد الملك فأبى أن يزوجه، وكان غيوراً جافياً، وأراد أن يضرب ابنته بالسيف غيرةً عليها فمنعه أخوها منها، ورماه بسهم فانتظم فخذيه، فقال عقيل: من الرجز(17/124)
إنّ بنيّ ضرّجوني بالدم ... شنشنةٌ أعرفها من أخزم
من يلق أبطال الرجال يكلم ... ومن يكن ذا أودٍ يقوّم
قوله: شنشنة أعرفها من أخزم قال: جد أبي حاتم الطائي. وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن أخزم بن أبي أخزم. وإنما اجتلبه عقيل، لما جاء موضعه وهو القائل: من الطويل
وللدّهر أثوابٌ فكن في ثيابه ... كلبسته يوماً أجدّ وأخلقا
وكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم ... وإن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا
وله يرثي ابنه: من الطويل
لتمض المنايا حيث شئن فإنّها ... مجلّلةٌ بعد الفتى ابن عقيل
فتى كان أحيا من فتاةٍ حييّةٍ ... وأقطع من ذي شفرتين صقيل
فتىً كان مولاه يحلّ بنجوةٍ ... فخلّ الموالي عبده بمسيل
وقيل في نسبه موضع ضباب: صبار، بالصاد المهملة والراء، قالوا: وهو وهم قبيح من الدارقطني، وهو ضباب، بضادٍ معجمة مكسورة، وآخرها باء معجمة بواحدة، وهذا على أن الدارقطني ذكره على الصحة في باب الضباب.(17/125)
قال أبو عبد الله الجمحي: قيل لعقيل بن علفة: ما نرك تقرأ شيئاً من كتاب الله! قال: بلى والله، وإني لأقرأ. قالوا: فاقرأ، قال: إنا بعثنا نوحاً. وقيل: ما قال: إنا فرطنا نوحاً، قالوا: فقد والله أخطأت، قال: فكيف أقول؟ قال: قالوا: تقول: " إنا أرسلنا نوحاً " قال: إنا أرسلنا وبعثنا، أشهد أنكم تعلمون أنهما سواء. ثم قال: من الطويل
خذا صدر هرشى أو قفاها فإنّه ... كلا جانبي هرشى لهنّ طريق
وكان عقيل زوج ابنته الجرباء يحيى بن الحكم بن أبي العاص، فطلقها يحيى، فأقبل إليها عقيل ومعه ابناه: العملس وحزام فحملها، وقال عقيل في ذلك: من الطويل
قضت وطراً من دير يحيى وطالما ... على عجل ناطحنه بالجماجم
فأصبحن بالموماة ينقلن فتيةً ... نشاوى من الإدلاج ميل العمائم
ثم قال: أجز يا حزام فأرتج عليه، فقالت الجرباء: من الطويل
كأن الكرى يسقيهم صرخديّةً ... عقاراً تمشّت في القرا والقوائم(17/126)
فقال عقيل: شربتها ورب الكعبة، وشد عليها بالسيف، فطرح حزام نفسه عليها، فضربها فأصاب حزاماً.
ومن شعر عقيل بن علفة: من الرجز
إني وإن سيق إليّ المهر ... ألفٌ وعبدانٌ وذودٌ عشر
أحبّ أصهاري إليّ القبر
وله: من الرجز
سميتها إذ ولدت تموت ... والقبر صهرٌ ضامنٌ زمّيت
ليس لمن يسكنه تربيت
يقال: ربّيته وربّبته.
كان لعقيل بن علفة جار من بني سلامان فخطب إليه، فأخذه فقمّطه، ودهن استه بشحم، وألقاه في قرية النمل، فأكلن خصيتيه، ثم خلاه، وقال؛ يخطب إليّ عبد الملك فأرده، وتجترئ أنت عليّ؟! ثم إنه بعد ذلك ورد وادي القرى فثار به بنو حنّ بن ربيعة فعقروا به، فقال في ذلك: من الطويل
لقد عقرت حنٌّ بنا وتلاعبت ... وما لعبت حنٌّ بذي حسبٍ قبلي
رويد بني حنٍّ تسيحوا وتأمنوا ... وتنتشر الأنعام في بلدٍ سهل(17/127)
وقيل: إن عقيل بن علفة جاور جذاماً، فبينا هو ذات يوم بفنائه إذ أتته جماعة منهم فخطبوا إليه ابنته، فقام يسعى حتى صعد شرفاً، ثم رمى ببصره نحو الحجاز، ثم عوى عواء الكلب: فقالوا: لقد جنّ، ثم قاموا، فقالت له ابنته: إنه ما أنت ببلاد غطفان، تقول ما أحببت لا تخاف أحداً، والله إني لأخاف أن يغتالك القوم، فالحق ببلادك، فعرف ما قالت، فلما أمسى قربٍ رواحله وانصرف إلى قومه، وقال شعراً.
عقيل بن محمد بن علي بن أحمد بن رافع
أبو الفضل الفارسي البعلبكي، الفقيه الشافعي كان يحفظ المزني حفظاً جيداً، وكان يمتنع من الرواية، ويقول: لست أصلح لرواية حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، وسمع منه أبو محمد بن الأكفاني بعد جهد، وكان مكثراً رحمه الله.
حدث عن أبي محمد عبد الرحمن بن عثمان بن أبي نصر بسنده إلى أبي سعيد الخدري، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " يقول الله تبارك وتعالى لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير بين يديك، فيقول الله عز وجل: هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحداً من خلقك! قال: فيقول: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قال: فيقولون: يا ربنا، فأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً ".(17/128)
قال: وأخبرنا ابن حبيب بسنده إلى الأوزاعي ف يقوله عز وجل: " في روضة يحبرون "، قال: هو السماع، إذا أراد أهل الجنة أن يطربوا أوحى الله إلى رياح يقال لها: الهفافة، فدخلت في آجام قصب اللؤلؤ الرطب، فحركته، فضرب بعضه بعضاً، فتطرب الجنة، فإذا طربت لم يبق في الجنة شجرة إلا ورّدت.
وحدث عقيل بن محمد عن أبي بكر محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن يحيى القطان بسنده إلى أي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ أن يكون ".
عقيل بن خالد بن عقيل
أبو خالد الأيلي
مولى عثمان بن عفان، قدم على هشام بن عبد الملك، وكان يصحب الزّهري حضراً وسفراً.
حدث عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها، وأنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من حمل من أمتي ديناً ثم جهد في قضائه فمات قبل أن يقضيه فأنا وليه ".
وعقيل بضم العين وفتح القاف. وكان ثقة.
قال عقيل: قال لي عبد الواحد بن سليمان: امض إلى ابن شهاب فامتر لنا منه علمه، فخرجت، فأقمت عنده أشهراً، ثم قدمت بالكتب على عبد الواحد، فأمر بها فنسخت فاستوهبته الأصول فوهبها لي.(17/129)
قال عقيل: كنت أسمر مع الزهري، فكان يسقينا العسل، قال: فنعست، فقال لي: ما أنت من سمّار قريش.
قال مصعب بن عبد الله الزبيري وذكر أصحاب البدع فقال: منهم من لا يتّهم على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن يتّهم على الله وعلى رسوله.
ثم قال: قال الوليد يعني ابن عبد الملك للزهري يعني محمد بن مسلم: حدثني ولا تحدث الناس، فقال: لا أحدثك وأحدث الناس. قال: حدثني وحدث الناس، قال: فحدثه بأحاديث، ثم كتبها، وأخرجها إلى الناس، فحدثهم بها، فاجتمع الناس عليه وكثروا، فقال: كلكم لا يقدر على أن يأخذ هذه، ولكن خذوها من ديوان الوليد.
فأتوا ديوان الوليد، فأخذوها منه، فإذا قد ألصق إليها أربعة أحاديث زيادة لم يحدثه بها: منها حديث حدث به عقيل عن الزهري بسنده. وكان الوليد قال للزهري حين أراد أن يحدثه: أروي حديثاً وأسنده؟ قال: لا والله، إلا أن أنصه إليك، فلم يفعل، فألزق إلى حديثه أربعة أحاديث كذب، فاحتملت من ديوان الوليد، ورويت، وبئست الرواية.
وفي رواية أخرى: وزاد فيها حديثاً يحدث به عقيل عن الزهري بسنده في علي بن أبي طالب.
قال الماجشون: كان عقيل شرطياً بالمدينة، وتوفي بمصر سنة إحدى وأربعين وقيل: سنة اثنتين وأربعين ومئة، وقيل: سنة أربع وأربعين ومئة فجأة.(17/130)
عكرمة بن ربعي بن عمير التيميّ
البصري المعروف بالفياض قدم على عبد الملك بن مروان هارباً من الحجاج، فنزل على يزيد بن أبي النّمس الغساني بدمشق، فاستأمن له عبد الملك فأمنه. ولعكرمة بن ربعي يقول شبيب بن عمرو بن كريب: من الوافر
إذا نهشت ربيعة للمعالي ... فعكرمة بن ربعيّ فتاها
كانت امرأة من آل عكرمة الفياض تخاصم إلى ابن شبرمة، فكانت تأتيه بين موليين لها: أعمى وأعور، وكان ابن شبرمة إذا نظر إليها قال: من الطويل
فلو كنت ممن يزجر الطير لم يكن ... وزيراك فيما ناب أعمى وأعور
وقيل: إن الحجاج نادى مناديه يوم رستقياباذ: أمن الناس كلهم إلا أربعة: عبد الله بن الجارود، وعبد الله بن فضالة، وعكرمة بن ربعي، وعبيد الله بن زياد بن ظبيان. فأما عكرمة بن ربعي فإنه لحقته خيل الحجاج في بعض سكك المربد فعطف عليهم، فقتل منهم نيفاً وعشرين رجلاً ثم قتلوه.
عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة
ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب أبو عثمان المخزومي كان من رؤوس الكفر والغلاة فيه، ثم رزقه الله الإسلام، فأسلم وحسن إسلامه، وصحب سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستعمله أبو بكر الصديق على عمان حين ارتدوا،(17/131)
فقاتلهم، فأظفره الله بهم، ثم خرج إلى الشام مجاهداً، فاستشهد يوم أجنادين، وقيل: في فتح دمشق، وقيل: باليرموك، وكان أميراً على بعض الكراديس.
وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم جئته مهاجراً: " مرحباً بالراكب المهاجر ".
وفي حديث آخر: " مرحباً بالراكب المهاجر أو المسافر ".
ثم قال له: ما أقول يا نبي الله؟ قال: " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ". قال: ثم ماذا؟ قال: " تقول: اللهم إني أشهدك أني مهاجر مجاهد "، ففعل، ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما أنت سائلي شيئاً أعطيه أحداً من الناس إلا أعطيتك ". فقال: أما إني لا أسألك مالاً، إني أكثر قريش مالاً، وكلن أسألك أن تستغفر لي. وقال: كل نفقة أنفقتها لأصدّ بها عن سبيل الله، فوالله لئن طالت بي حياة لأضعفن ذلك كله.
وفي رواية: إلا أنفقت مثلها في سبيل الله.
وفي عكرمة يقول الشاعر وهو رجل من هذيل حين هزمت بنو بكر ودخل على امرأته فاراً فلامته وهجرته، وعيرته بالفرار وقيل: هو حماس أخو بني سعد بن ليث:
إنك لو شهدتنا بالخندمه ... إذ فرّ صفوانٌ وفرّ عكرمه
فلحقتنا بالسيوف المسلمه ... يقطعن كلّ ساعد وجمجمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه(17/132)
وكان عكرمة خرج هارباً يوم الفتح، فركب البحر حتى استأمنت له زوجته أم حكيم بنت الحراث بن هشام بن المغيرة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمنه، فأدركته باليمن، فردته إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام فرحاً به، فقال: " مرحباً بالمهاجر ".
وقيل: إن قيام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، وفرحه به؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى في منامه أنه دخل الجنة، فرأى فيها عذقاً مذللاً، فأعجبه، فقيل: " لمن هذا؟ " فقيل له: لأبي جهل، فشق ذلك عليه، وقال: " ما لأبي جهل والجنة؟ " والله لا يدخلها أبداً، فلما رأى عكرمة أتاه مسلماً تأول ذلك العذق عكرمة بن أبي جهل.
وقدم عليه عكرمة منصرفه من مكة بعد الفتح المدينة، فجعل عكرمة كلما مرّ بمجلس من مجالس الأنصار قالوا: هذا ابن أبي جهل، فيسبون أبا جهل؛ فشكا ذلك عكرمة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " لا تؤذوا الأحياء بسبّ الأموات ".
وأم عكرمة أم جميل بنت مجالد بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة، وقيل: أمه أم مجالد بنت يربوع من بني هلال بن عامر.
وليس لعكرمة عقب.
وكان عكرمة إذا اجتهد في اليمين قال: والذي نجّاني يوم بدر.
وكان يضع المصحف على وجهه ويقول: كلام ربي.
ولما كان يوم فتح مكة آمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح.(17/133)
فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر، فسبق سعيدٌ إليه فقتله.
وأما عكرمة فركب البحر، فأصابهم عاصف، فقال أصحاب السفينة لمن في السفينة: أخلصوا؛ فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً هاهنا، فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البرّ غيره، اللهم إن لك عليّ عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه، أني آتي محمداً حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفواً كريماً. فجاء فأسلم.
وأما عبد الله بن سعد بن أبي سراح، فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس إلى البيعة، جاء به حتى أوقفه على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله: بايع عبد الله، فرفع صلّى الله عليه وسلّم رأسه، فنظر إليه ثلاثاً، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد الثلاث، ثم أقبل على أصحابه، فقال: " ما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟! " قالوا: ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك؟ قال: " إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين ".
وعن يزيد بن أبي حبيبي: أن عكرمة بن أبي جهل قتل رجلاً من الأنصار يقال له: المجذر، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فتبسم، فقال له رجل من الأنصار: يا رسول الله تبسمت أن قتل رجل من قومك رجلاً من الأنصار؟ قال: " لا، ولكني تبسمت إذ كان جميعاً في درجة واحدة في الجنة ".
قال: فأسلم عكرمة، وقتل يوم وقعة المسلمين بالروم بأجنادين.(17/134)
وعن أم سلمة قالت: لما قدم عكرمة بن أبي جهل المدينة جعل يمرّ بالأنصار فيقولون: هذا ابن عدو الله ابن أبي جهل، فشكا ذلك إلى أم سلمة، وقال: ما أظنني إلا راجعاً إلى مكة، فأخبرت أم سلمة بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخطب الناس فقال: " إنما الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، لا يؤذينّ مسلم بكافر ".
قال سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " رأيت في المنام كأن أبا جهل أتاني فبايعني ". فلما أسلم خالد بن الوليد رحمه الله. قيل: صدق الله رؤياك يا رسول الله، هذا كان لإسلام خالد. قال: " ليكوننّ غيره، حتى أسلم عكرمة بن أبي جهل، فكان ذلك تصديق رؤياه.
وعن عبد الله بن الزبير قال:
لما كان يوم الفتح أسلمت أم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل، ثم قالت أم حكيم: يا رسول الله قد هرب عكرمة منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فآمنه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " وهو آمن ".
فخرجت في طلبه، ومعها غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فجعلت تمنيه حتى قدمت به على حي من عكل، فاستغاثتهم عليه، فأوثقوه رباطاً.
وأدركت عكرمة، وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة، فركب البحر، فجعل نوتيّ السفينة يقول له: أخلص، قال: أي شيء أقول؟ قال: قل: لا إله إلا الله. قال عكرمة ما هربت إلا من هذا.(17/135)
فجاءت أم حكيم على هدى من الأمر، فجعلت تلمح إليه وتقول: يا بن عم، جئتك من عند أوصل الناس وأبرّ الناس، وخير الناس، لا تهلك نفسك، فوقف لها حتى أدركته، فقالت: إني قد استأمنت لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: أنت فعلت؟ قالت: نعم، أنا كلمته، فأمنك.
فرجع معها، وقالت: ما لقيت من غلامك الرومي، وخبرته خبره؛ فقتله عكرمة هو يومئذ لم يسلم.
فلما دنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة، قال لأصحابه: " يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراًن فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي، ولا يبلغ الميت ".
قال: وجعل عكرمة يطلب امرأته يجامعها، فتأبى عليه، وتقول: إنك كافر، وأنا مسلمة، فيقول: إن أمراً منعك مني لأمر كبير.
فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم عكرمة وثب إليه وما عليه رداء فرحاً به، ثم جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوقف بين يديه، ومعه زوجته منتقبة فقال: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمّنتني، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " صدقت، فأنت آمن ".
قال عكرمة: فإلام تدعو يا محمد؟ قال: " أدعو إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتفعل وتفعل "، حتى عدّ خصال الإسلام. فقال عكرمة: والله ما دعوت إلا إلى الحق، وأمر حسن جميل، قد كنت والله فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثاً، وأبرّنا برّاً.
ثم قال عكرمة: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ فسرّ بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثم قال: يا رسول الله، علمني خير شيء أقوله. فقال: " تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ". فقال عكرمة: ثم ماذا؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " لا تسألني اليوم شيئاً أعطيه أحداً إلا أعطيتكه ".(17/136)
قال عكرمة: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها، أو مسيرٍ أوضعت فيه، أو مقام لعنتك فيه، أو كلام قلته في وجهك، أو أنت غائب عنه.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء نورك، واغفر له ما نال مني من عرض في وجهي، أو أنا غائب عنه ". فقال عكرمة: رضيت يا رسول الله.
ثم اجتهد في القتال حتى قتل شهيداً.
فردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم امرأته بذلك النكاح الأول.
وفي رواية: أن امرأته أدركته بأمان من سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد ركب السفينة، فنادته: يا بن عم، هذا أمان معي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن تسلم وتقبل أمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنا زوجتك، وإلا انقطعت العصمة فيما بيني وبينك، لم يلتفت إليها.
وتهيأ نوتي السفينة ليدفع سفينته، فتكلم عكرمة بشركه باللات والعزى، فقال النوتي: أخلص، فإنه لن ينجيك إلا الإخلاص. قال عكرمة: ما أراني أفرّ إلا من الحق. فنزل من السفينة، وقبل أمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقال سهيل بن عمرو يوم حنين: لا يجتبرها محمد وأصحابه، فقال له عكرمة:(17/137)
إن هذا ليس بقول، إنما الأمر بيد الله، وليس إلى محمدٍ من الأمر شيء، إن أديل عليه اليوم فإن له العاقبة غداً، فقال له سهيل: والله إن عهدك بخلافه لحديث، قال: يا أبا يزيد، إنا كنا والله نوضع في غير شيء، وعقولنا عقولنا، نعبد حجراً لا يضر ولا ينفع.
وقيل: إن عكرمة لما ركب البحر جعلت الصواري ومن في السفينة يدعون الله ويستغيثون به، فقال: ما هذا؟ قيل: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله عز وجل، فقال عكرمة: فهذا إله محمد الذي كان يدعو إليه، ارجعوا بنا، فرجع، فأسلم.
ولما رجع وضع يده في يد النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: هذا مكان العائذ، إن قتلت قتلت مذنباً مخطئاً، وإن عفوت عفوت عن ذي رحم، فشهد شهادة الحق، وبسط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده فبايعه.
وكان إسلام عكرمة بن أبي جهل سنة ثمان.
ولما كان يوم اليرموك نزل فترجل، فقاتل قتالاً شديداً، فقتل، فوجدوا به بضعة وسبعين ما بين طعنة وضربة ورمية.
ولما ترجل قال له خالد بن الوليد: لا تفعل، فإن قتلك على المسلمين شديد، فقال: خلّ عني يا خالد، فإنه قد كان لك مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سابقة، وإن وأبي كنا من أشد الناس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فمشى حتى قتل.
وقيل: إنه قال يوم اليرموك: قاتلت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كل موطن، وأفرّ منكم اليوم؟! ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور في أربع مئة(17/138)
من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعاً جراحة، وقتلوا إلا من نبا، منهم ضرار بن الأزور.
قال الزهري: إن عكرمة يوم فحلٍ كان أعظم الناس بلاء، وإنه كان يركب الأسنة حتى جرحت صدره ووجهه، فقيل له: اتق الله وارفق بنفسك، قال: كنت أجاهد بنفسي عن اللات والعزى وأبذلها، فأستبقيها الآن عن الله ورسوله؟ لا والله أبداً، فلم يزدد إلا إقداماً حتى قتل يومئذ.
قالوا: فوقف عليه خالد بن الوليد فقال: ليت ابن حنتمة يعني عمر نظر إلى ابن عمي وركوبه الأسنة حتى يعلم أنّا إذا لقينا العدو ركبنا الأسنة ركوباً.
قالوا: وقال الزهري: كان الذي كان بينهما كالمتجانبين حتى أذهب الله ذلك منهم بعد، رحمة الله عليهما. وكان عكرمة بن أبي جهل محمود البلاء في الإسلام، محمود الإسلام حين دخل فيه.
قال الزبير بن بكار: لما ندب أبو بكر الصديق الناس لغزو الروم، وقدم الناس، فعسكروا بالجرف على(17/139)
ميلين من المدينة، خرج أبو بكر يطوف في معسكرهم، ويقوي الضعيف منهم، فبصر بخباء عظيم، حوله المرابط، ثمانية أفراس ورماح وعدة ظاهرة، فانتهى إلى الخباء، فإذا خباء عكرمة، فسلم عليه، وجزاه أبو بكر خيراً، وعرض عليه المعونة، فقال له عكرمة: أنا غني عنها، معي ألفا دينار، فاصرف معونتك إلى غيري. فدعا له أبو بكر بخير.
ثم استشهد يوم أجنادين.
وكانت وقعة أجنادين في جمادى الأولى من سنة ثلاث عشرة.
قالوا: وكانت وقعة أجنادين ومرج الصّفّر سنة ثلاث عشرة.
وقال ابن إسحاق: كان فتح دمشق في سنة أربع عشرة في رجب، وقتل من المسلمين يوم دمشق عكرمة بن أي جهل.
عكرمة أبو عبد الله
مولى ابن عباس الهاشمي أصله من البربر. قدم عكرمة الشام، واشتراه خالد بن يزيد بن معاوية بدمشق من علي بن عبد الله بن عباس، ثم استقاله عليه؛ فأقاله البيع وأعتقه. وقدم مع عبد الله بن عباس غازياً بلاد الروم.
روى عكرمة عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " إذا صلى أحدكم في الثوب الواحد فليخالف بين طرفيه على عاتقيه ".(17/140)
وحدث عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتكف واعتكف معه بعض نسائه، وهي مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت تحتها الطست من الدم. وزعم أن عائشة رأت مثل ماء العصفر، قالت: كأنّ هذا شيء كانت فرنة تجده.
وحدث عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " خير يوم يحتجم فيه يوم سبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين، وما مررت بملأ من الملائكة ليلة أسري بي إلا قالوا: عليك بالحجامة يا محمد ".
وحدث عكرمة: أنه غزا مع ابن عباس أرض الروم، وعلى الناس حبيب بن مسلمة حتى بلغنا مدينة الفتية الذن ذكرهم الله في كتابه.
وعن عكرمة مولى ابن عباس قال: وفد ابن عباس على معاوية بالشام، وكان يسمران حتى شطر الليل أو أكثر، قال: فشهد ابن عباس مع معاوية العشاء ذات ليلة في المقصورة، فلما فرغ معاوية ركع ركعة واحدة، ثم لم يزد عليها، قال: وأنا أنظر إليه، قال: فجئت ابن عباس فقلت له: ألا أضحكك من معاوية؟ صلى العشاء ثم أوتر بركعة لم يزد عليها، قال: أصاب أي بني، ليس أحد منا أعلم من معاوية، إنما هي واحدة أو خمس أو سبع أو أكثر من ذلك، يوتر ما شاء.
فأخبرت عطاء خبر عتبة هذا، فقال: إنما سمعنا أنه قال: قد أصاب، أو ليس المغرب عطاء القائل ثلاث ركعات؟
كان عكرمة مولى ابن عباس لحصين بن أبي الحر العنبري جد عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، فوهبه لابن عباس حين جاء والياً على البصرة لعلي بن أبي طالب.(17/141)
وكان عكرمة كثير الحديث والعلم، بحراً من البحور، وليس يحتج بحديثه، ويتكلم الناس فيه.
قالوا: واحتج بحديثه عامة الأئمة القدماء، لكن بعض المتأخرين أخرج حديثه من خبر الصحاح.
وروى ابن عيينة عن عمرو: أعطاني جابر بن زيد صحيفة فيها مسائل، قال: سل عكرمة، فجعلت كأني أتباطأ، فانتزعها من يدي، فقال: هذا عكرمة مولى ابن عباس، هذا أعلم الناس.
كان عكرمة من سكان المدينة، وكان سكن مكة، وقدم مصر، وصار إلى إفريقية، وبالمغرب إلى وقتنا هذا قوم على مذهب الإباضيّة يعرفون بالصّفريّة، يزعمون أنهم أخذوا مذهبهم عن عكرمة مولى ابن عباس.
قال عبد الحميد بن بهرام: رأيت عكرمة أبيض اللحية عليه عمامة بيضاء، طرفها بين كتفيه، قد أداها تحت لحيته، ولحيته بيضاء، وقميصه إلى الكعبين، وكان رداؤه أبيض.
قال عكرمة: كان ابن عباس يضع في رجلي الكبل ويعلمني القرآن والسّنن. وقيل: الفرائض.
قال عكرمة: طلبت العلم أربعين سنة، وكنت أفتي بالباب، وابن عباس في الدار.(17/142)
وعن عكرمة قال: قرأ ابن عباس هذه الآية: " لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذّبهم عذاباً شديداً ".
قال: قال ابن عباس: لم أدر، أنجا القوم أم هلكوا! فما زلت أبيّن له، أبصّره حتى عرف أنهم قد نجوا، قال: فكساني حلّةً.
قال عكرمة: قال ابن عباس: انطلق فأفت الناس، وأنا لك عون. قال: قلت: لو أن هذا الناس مثلهم مرتين لأفتيتهم. قال: انطلق فأفت الناس، فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح على نفسك ثلثي مؤنة الناس.
قال عثمان بن حكيم: كنت جالساً مع أبي أمامة بن سهل بن حنيف، إذ جاء عكرمة فقال: يا أبا أمامة، أذكرك الله، هل سمعت ابن عباس يقول: ما حدثكم عني عكرمة فصدقوه، فإنه لم يكذب عليّ؟ وفي رواية: فإنه لم يكذب على الله؟ فقال أبو أمامة: نعم.
قال عكرمة: قال لي ابن عباس: لتأبقنّ ولتغرقنّ، قال عكرمة: فأبقت وغرقت فأخرجت.
وما ابن عباس وعكرمة عبد لم يعتقه، وباعه علي بن عبد الله بن عباس من(17/143)
خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار. فقال عكرمة: ما خير لك، بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار! فاستقاله، فأقاله وأعتقه.
وكان عكرمة يرى رأي الخوارج، وادعى على عبد الله بن عباس أنه كان يرى رأي الخوارج.
قال عمرو بن دينار: أعطاني جابر بن زيد صحيفة فيها مسائل، أسأل عنها عكرمة، وجعل يقول: هذا عكرمة مولى ابن عباس، هذا البحر فسلوه.
وفي رواية: هذا أعلم الناس.
قال الفرزدق بن جواس الحمّاني: كنا مع شهر بن حوشب بجرجان، فقدم علينا عكرمة، فقلنا لشهر: ألا نأتيه؟ فقال: ائتوه، فإنه لم يكن أمة إلا كان لها حبر، وإن مولى ابن عباس حبر هذه الأمة.
قال مغيرة: قيل لسعيد بن جبير: تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: نعم، عكرمة.
وكان مصعب بن عبد الله يقول: تزوج عكرمة أم سعيد بن جبير.
قال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله عزّ وجلّ من عكرمة.(17/144)
وقال قتادة: أعلم الناس بالحلال والحرام الحسن، وأعلمهم بالمناسك عطاء بن أبي رباح، وأعلمهم بالتفسير عكرمة.
وفي رواية: أعلمهم بسيرة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عكرمة.
وقال قتادة: لا تسألوا هذا العبد إلا عن القرآن، وكان عكرمة يقول: لقد فسرت ما بين اللوحين.
قال أيوب: اجتمع حفاظ ابن عباس: سعيد بن جبير وعطاء وطاووس على عكرمة فأقعدوه، فجعلوا يسألونه عن حديث ابن عباس، قال: فكلما حدثهم حديثاً قال سعيد بن جبير بيده هكذا، فعقد ثلاثين، حتى سئل عن الحوت، فقال عكرمة: كان يسايرهما في ضحضاح من الماء، فقال سعيد: أشهد على ابن عباس أنه قال: كانا يحملانه في مكتل. فقال أيوب: أراه كان يقول القولين جميعاً.
قال سفيان بن عيينة: لما قدم عكرمة البصرة أمسك الحسن عن التفسير.
وعن سفيان الثوري أنه قال بالكوفة: خذوا التفسير عن أربعة: عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك.
قال عكرمة: إني لأخرج إلى السوق فأسمع الرجل يتكلم بالكلمة فينفتح لي خمسون باباً من العلم.(17/145)
قال يحيى بن أيوب: قال لي ابن جريج:
قدم عليكم عكرمة؟ قال: قلت: بلى، قال: فكتبتم عنه؟ قلت: لا، قال: فاتكم ثلثا العلم.
قال: ذكر أيوب عكرمة فقال: كان قليل العقل، أتيناه يوماً، فقال: والله لأحدثنكم فمكثنا ساعة، فجعل يحدثنا، ثم قال: أيحسن حسنكم مثل هذا؟ قال: وبينا أنا عنده يوماً وهو يحدثنا إذ رأى أعرابياً فقال: هاه! لم أرك بأرض الجزيرة أو غيرها، فأقبل عليه وتركنا.
وعن الزبير بن خريت عن عكرمة: " فإنّها محرمةٌ عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض ". قال: التحريم أبداً، وأربعين سنةً يتيهون في الأرض، ثم قال: قولوا لحسنكم يعني الحسن البصري يجئ بمثل هذا.
قال: " لا تضارّ والدةٌ بولدها " قال: الظّئر.
قال: وقيل له: إن قتادة يقول: إن المائدة محكمة، إلا آية منها، قال: إنه ليحدس.
قال المغيرة بن مسلم: لما قدم عكرمة خراسان قال أبو مجلز: سلوه(17/146)
ما جلاجل الحاج؟ قال: فسئل عكرمة عن ذلك، فقال: وأنّى هذا بهذه الأرض؟ جلاجل الحاج: الإفاضة، قال: فقيل لأبي مجلز، فقال: صدق.
ولما قدم عكرمة الجند أهدى له طاووس نجيباً بستين دينار، فقيل لطاووس: ما يصنع هذا العبد بنجيب بستين ديناراً؟ فقال: أتروني لا أشتري علم ابن عباس لعبد الله بن طاووس بستين ديناراً؟ قال ابن هبيرة: قدم علينا عكرمة، فكان يحدثنا بالحديث عن الرجل من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: ثم يحدثنا به عن غيره، قال: فأتينا شيخاً عندنا يقال له إسماعيل بن عبيد الأنصاري، قد كان سمع من ابن عباس، فذكرنا ذلك له، فقال: أنا أخبره لكم. قال: فأتاه فسأله عن أشياء ساءل عنها ابن عباس، فأخبره بها على مثل ما سمع. قال: فأتيناه، فسألناه، فقال: الرجل صدوق، ولكنه سمع من العلم فأكثر، وكلما سنح له طريق سلكه.
وعن أرطاة بن أبي أرطاة: أنه سمع عكرمة يحدث القوم، وفيهم سعيد بن جبير وغيره من أهل المدينة قال: إن للعلم ثمناً، فأعطوه ثمنه، قالوا: وما ثمنه يا أبا عبد الله؟ قال: ثمنه أن تضعه عند من يحسن حفظه ولا يضيعه.
كتب الحجاج بن يوسف إلى عثمان بن حيان: سل عكرمة مولى ابن عباس عن(17/147)
يوم القيامة، أمن الدنيا هو أو من الآخرة؟ فسأله، فقال عكرمة: صدر ذلك اليوم من الدنيا، وآخره من الآخرة.
قال سليمان الأحول: لقيت عكرمة ومعه ابن له، فقلت له: أيحفظ هذا من حديثك شيئاً، فقال: إنه يقال: إن أزهد الناس في عالم أهله.
قال أبو يزيد المدني: كان عكرمة إذا رأى السؤال يوم الجمعة سبّهم، فقلت له: ما تريد منهم؟ فقتل: كان ابن عباس يسبهم إذا رآهم، فقلت له كما قلت لي، فقال: إنهم لا يشهدون للمسلمين عيداً ولا جمعة إلا للمسألة والأذى، فإذا كانت رغبة الناس إلى الله عز وجل، كانت رغبتهم إلى الناس.
قال رجل لعكرمة: فلان يسبني في النوم، فقال: اضرب ظله ثمانين.
ومن حميد الطويل: أنه ذكر عند عكرمة أنه يكره للصائم الحجامة، قال: أفلا يكره له الخراءة؟.
سئل عكرمة عن الصلاة في ثوب واحد، قال: ما يحمله على أن يقيم أيره كأنه وتد في الصف؟.
وكان عكرمة ثقة.
قال يحيى بن معين: إذا رأيت إنساناً يقع في عكرمة وفي حماد بن سلمة، فاتهمه على الإسلام.
قال عثمان بن مرة: قلت للقاسم بن محمد: كيف ترى هذه الأوعية؟ فإن عكرمة يحدث عن ابن(17/148)
عباس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرّم المقيّر والمزفّت والدّبّاء والحنتم والجرّ والحنتم والنّقير.
قال إبراهيم: لقيت عكرمة فسألته عن البطشة الكبرى، فقال: يوم القيامة. فقلت: إن عبد الله كان يقول: يوم بدر. فأخبرني من سأله بعد ذلك، فقال: يوم بدر.
وعن ابن عمر أنه قال لنافع: اتق الله، ويحك يا نافع، ولا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس، كما أحلّ الصرف واسلم ابنه صيرفياً.
وقيل: إن هذا القول إنما قاله سعيد بن المسيب لبرد مولاه.
ذكر أن رجلاً مشى بين سعيد بن المسيب وعكرمة في رجل نذر نذراً في معصية الله، فقال سعيد: توفي به، وقال عكرمة، لا يوفي به. فجاء الرجل إلى سعيد فأحبره بقول عكرمة، فقال سعيد لا ينتهي عبد ابن عباس حتى يلقى في عنقه حبل ويطاف به ". قال: فجاء الرجل إلى عكرمة فأخبره بقول سعيد! فقال عكرمة: أنت رجل سوء كما(17/149)
أبلغتني عنه فأبلغه عني، قل له: هذا النذر لله عز وجل أم للشيطان؟ والله لئن قال: لله، يكذبن، وإن قال: إنه للشيطان، ليكفرن.
وفي رواية: ولئن قال: إنه لغير الله فما فيه وفاء.
قال عطاء الخراساني: قلت لابن المسيب: عكرمة يزعم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوج ميمونة وهو محرم؛ فقال: كذب مخبثان، اذهب إليه فسبّه، سأحدثك: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو محرم، فلما حلّ تزوجها.
وعن محمد بن عبد الله بن أبي مريم قال: بعت تمراً من التمّارين سبعة أصع بدرهم، فصار لي عند رجل منهم، فوجدت عند بعضهم تمراً يبيعه أربعة أصع بدرهم، فسألت عكرمة فقال: لا بأس عليك، تأخذ أقل مما بعت، فلقيت سعيد بن المسيب فأخبرته بقول عكرمة، فقال: كذب عبد ابن عباس، مما يكال فلا تأخذ مما يكال إلى التمر، فقلت: فإن فضل لي عنده الكثير؟ قال: فأعطه أنت الكثير وخذ منه الدراهم.
قال: فرجعت، فإذا عكرمة يطلبني فقال: إن الذي قلت لك هو حلال هو حرام.
قال عبد الله بن عثمان بن جشم: سألت عكرمة أنا وعبد الله بن سعيد عن قوله: " والنخل باسقاتٍ لها طلعٌ نضيدٌ "، قال: بسوقها كبسوق النساء عند ولادتها.(17/150)
قال: فرجعت إلى سعيد بن جبير، فذكرت ذلك له، فقال::ذب بسوقها، طولها.
وعن عكرمة: أنه كراء الأرض، فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذب عكرمة، سمعت ابن عباس يقول: إن أمثل ما أنتم صانعون استئجار الأرض البيضاء سنة بسنة.
قال يزيد بن أبي زياد: دخلت على عليّ بن عبد الله بن عباس وعكرمة ومقيد على باب الخشن قال: قلت: ما لهذا هكذا؟ قال إنه يكذب على أبي قالوا: وكان مالك لا يرى عكرمة ثقة، ويأمر أن لا يؤخذ عنه.
وكان عكرمة يرى رأي الصفرية، وأخذ أهل إفريقية رأي الصفرية من عكرمة لما قدم عليهم.
وقيل: إن عكرمة كان إباضياً.
قالوا: وكان يرى رأي نجدة الحروري.
وقيل: كان بيهسيّاً.
وطلبه بعض ولاة المدينة، فتغيب عند داود بن الحصين حتى مات عنده.(17/151)
قيل لأيوب: إن عكرمة كان لا يحسن الصلاة، قال أيوب: وكان يصلي؟ قال خالد بن أبي عمران: كنا بالمغرب، وكان عندنا عكرمة مولى ابن عباس في وقت الموسم، فقال عكرمة: وددت أن بيدي حربة، فأعترض بها من شهد الموسم، قال خالد: فرفض الناس به.
مات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد، فقال الناس: مات أفقه الناس وأشعر الناس. ولما ماتا ما شهدهما إلا سودان المدينة.
وفي حديث آخر: أتي بجنازتهما بعد العصر، قال: فما علمت أن أحداً من أهل المسجد حل حبوته إليهما.
وفي رواية: فما قام إليهما أحد من المسجد، ومن هناك لم يرو عنه مالك.
توفي عكرمة سنة أربع ومئة بالمدينة. وقيل: سنة خمس ومئة وهو ابن ثمانين سنة. وقيل: سنة سبع ومئة.
ولما اجتمعت جنازة عكرمة وجنازة كثير عزة عجب الناس لاجتماعهما في الموت واختلاف رأيهما: عكرمة يظن به أنه يرى رأي الخوارج، ويكفّر بالنظرة، وكثير شيعي يؤمن بالرجعة.
وقيل: توفي سنة ستٍ ومئة. وقيل: توفي سنة خمس عشرة ومئة، وهو ابن أربع وثمانين. وقيل: إن عكرمة لم يبق إلى هذا الوقت.(17/152)
علفة بن عقيل بن علّفة
ابن الحارث بن معاوية بن ضباب بن جابر المرّي شاعر ابن شاعر، من وجوه بني مرة بن ذبيان.
قال أبو عبيدة: كان
علفة بن عقيل بن علفة هوي امرأة من قومه من بني مالك بن مرة وهويته، فأراد أن يتزوجها، فخطبها أبوه، فتزوجته، فأقامت عنده حيناً، ثم إن قومها ادعوا عليه طلاقها، فهرب بها إلى الشام، فقال في ذلك علفة بن عقيل بن علفة: من الطويل
قفي يا بنة المرّي نسألك ما الذي ... تريدين فيما بيننا، إنه سهل
نخبّرك إذ لم تنجزي الوأي أنّنا ... ذوو خلّةٍ لم يبق بينهما وصل
فإن شئت كان الصرم ما هبت الصّبا ... وإن شئت لم يفن التكرّم والبذل
ونسألك ما تغني عن الجاهل المنى ... وهل يستفيدنّ الحبيب ولا جمل
فعدا عله أبوه بالسيف، وقال: يا عدو الله، ما هذه المرية؟، واتهمه بامرأته، وقال: تشبب بأمك؟ فكلمه أخوه، فحمل عليهما، ويرميه عملس بسهم في فخذه فصرعه، فقال عقيل: من الرجز
إن بنيّ ضرّجوني بالدم ... من يلق أخدان الرجال يكلم
شنشنة أعرفها من أخزم
وقال يرثي ابنه علفة: من الطويل
لتمض المنايا حيث شئن فإنها ... محلّلةٌ بعد الفتى ابن عقيل
فتىً كان مولاة يحلّ بنجوةٍ ... فحلّ الموالي بعده بمسيل(17/153)
علقمة بن جرير ويقال جرير السّلمي
قال علقمة بن جرير السلمي: جئت معاوية بن أبي سفيان، فوجدت نباتة بن وثيمة البصري وابن عارض الجشمي، فانتظرنا إذنها أياماً، ثم خرج علينا يوماً راكباً فاعترضناه، فقال: لم يخف عليّ مكانكم، فإذا أصبحتم فاغدوا عليّ.
قال: فغدونا عليه، فتحدث وتحدثنا، ثم أقبل عليّ فقال: يا علقمة، هل كانت عندكم طريفة خبر أو أعجوبة؟ قال: قلت: قد كان. أفأحدثك؟ قال: ذلك أردت. فقلت له: أقبلت قبل مخرجي إليك، أسوق شارفاً لي، أريد أن أنحرها عند الحي، فأدركني الليل بين أبيات بني الشريد، فإذا عمرة بنت مرداس بن أبي عامر عروساً، وأمها الخنساء بنة عمرو بن الشريد. فقلت لهم: انحروا هذا الجزور، فاستعينوا بها على بعض ما أنتم فيه. وجلست معهم، فلما هيئت أذن له، فدخلنا عليها، فإذا جارية وضيئة على الأدمة، وإذا أمها الخنساء جالسة متلففة بكساء أحمر قد هرمت، وإذا هي تلحظ الجارية لحظاً شديداً.
فقال القوم: بالله إلا تحرشت بها فإنها الآن تعرف بعض ما أنت فيه، فقامت الجارية تريد شيئاً، فوطئت على قدمها وطأة أوجعتها، فقالت وهي معتبطة: حس، إليك يا حمقاء! والله كأنما تطئين أمةً ورهاء تغني. فقالت الخنساء: أنا والله كنت أكرم منك عرساً، وأطيب ورساً، وذلك زماني إذ كنت فتاة أعجب الفتيان، أشرب اللبن غضاً(17/154)
قارصاً. ومحضاً خالصاً، لا أنهس اللحم ولا أذيب الشحم ولا أرعى البهم، كالمهرة الصنيع لا مضاعة، ولا عند مضيع، عقيلة الجواري الحسان الحور، وذلك في شبيبتي قبل شيبتي، وعليّ درع من ثوب.
فعجب معاوية من الحديث، وأقبل على ابن عارض، فقال: وأنت فما الذي تخبرنا؟ قال: خرجت مع أبي قبيل أن يموت، فألفينا في الطريق خشفاً، فصدته لابنة له كان يحبها، فخرجت محتضنه حتى وقفنا على دريد بن الصمة مهتراً قد فقد عقله، عريان يكوم بين رجليه البطحاء، فوقف أبي عليه، ووقفت بتعجّب مما صارت به الحال، فرفع رأسه فقال من أبيات: من الرجز
كأنني رأس حضن ... في يوم غيم ودجن
بل ليتني عهد زمن ... أنفض رأسي وذقن
كالمهر في عقد شطن ... كأنني فحل حصن
أرسل في خيل عنن ... فجاء سبقاً لم يفن
أخوص خفّاق الجنن ... كالخشف هذا المحتضن
أحسن من شيء حسن(17/155)
ثم قال، فسقط، فقال أبي: انهض دريد، فالتفت إلينا يبكي ويقول: من الرجز
لا نهض في مثل زماني الأول ... ومحنّب الساق شديد الأغفل
ضخم المشاشين خميص الأصقل ... في جنجنٍ ركبٍ وصلبٍ أعدل
وهامةٍ كأنها من جندل ... وأركب العارض ركب العندل
أبلغ كالعوهج ضخم المركل ... منافس التقريب غير معجل
مناهب الإجضار مثل الأجدل ... أرسل في خيلٍ كأن لم يرسل
فجئن من تحت وجاء من علي ... يا أوّلي يا أوّلي يا أوّلي
يبكي زمانه.
قال: وأنت يا بن وثيمة؟ قال: عندي أطرف من حديثهما: أخبرني أبي قال: كنت زميل عامر بن مالك بن جعفر حين أقبل من عند النعمان بن المنذر، وقد وعده أن ينكحه ابنته، فأقبلت معه حتى نزل في أهله، وأنزلني عنده، وزوجته إذ ذاك تماضر بنت خالد بن صخر بن الشريد، له منها بنات، فذكر لها أن قد خطب إليه الملك.(17/156)
فلما كان بعد ذلك بليال، خرج أهل الحاضرة يتمشون، وفيهم أبو براء عامر بن مالك، فتخلفت، وعرفت أن جواري الحين سيبرزن، فبرزن، وخرج بنات عامر يتحدثن.
قال: فإني لفي كسر البيت إذ قالت لهن أمهن: أيتكن خطبة الملك؟ فقالت أم سهم: أنا والله خطبة الملك، أنا جامعة الشمل، بينة الفضل، زوجة الكهل، أكف روعه، وأكون شبعه، وأعطيه طوعه.
قالت دحاحة: لكنني، والله، ما أنا له بخطبة، لا محبّة ولا محبّة، ولابن عمٍ ينصفني أحبّ إلي من ملك يعسفني.
علقمة بن رمثة البلوي
من أصحب سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ممن بايع تحت الشجرة، سكن مصر.
وقيل: إنه قدم دمشق مع عمرو بن العاص.
قال علقمة بن رمثة:
بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن العاص إلى البحرين، وخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم في سريّة، وخرجنا معه، فنعس النبي صلّى الله عليه وسلّم، فاستيقظ، فقال: " يرحم الله عمراً "، قال: فتذاكرنا كلّ إنسان اسمه عمرو، ثم نعس فاستيقظ، فقال مثلها، ثم نعس، فاستيقظ فقال مثلها؛ فقلنا: من عمرو يا رسول الله؟ قال: " عمرو بن العاص "، قالوا: وما باله؟ قال: " ذكرته إني كنت إذ ناديت الناس إلى الصدقة جاء من الصدقة فأجزل، فأقول: من أين لك هذا يا عمرو؟ فيقول: من عند الله، وصدق عمرو، إن لعمرو عند الله خيراً كثيراً ".(17/157)
قال زهير بن قيس البلوي: فلما كانت الفتنة قلت: أتبع هذا الرجل الذي قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه ما قال، قال: فلم أفارقه.
كان علقمة بن رمثة البلوي ممن بايع تحت الشجرة، وشهد فتح مصر.
علقمة بن زامل بن مروان بن زهير
ابن ثعلبة بن حديج بن أبي جشم بن كعب الكلبي شهد اليرموك، وكان على المقاسم.
وذكر أنه دخل بلاد الروم، وتنصر بعد ذلك، نعوذ بالله من البلاء.
علقمة بن شهاب القشيري
روى عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من لم يدرك الغزو معي فلغز في البحر ".
وزاد في آخر مرسلاً: " فإن قتال يوم في البحر خير من قتال يومين في البر، وإن أجر الشهيد في البحر كأجر شهيدين في البر، وإن خيار الشهداء أصحاب الأكف "، قيل: يا رسول الله: ومن أصحاب الأكف؟ قال: " قوم تكفأ عليهم مراكبهم في البحر ".
علقمة بن عبدة بن النعمان
ابن ناشرة بن قيس بن عبيد بن ربيعة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم بن مرّ بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر المعروف بن علقمة الفحل شاعر معروف من شعراء الجاهلية، سمي بعلقمة الفحل لأنه خلف على امرأة امرئ(17/158)
القيس لما حكمت له على امرئ القيس بأنه أشعر منه في صفة فرسه، فطلقها، فخلف عليها.
وقيل: إنما سمي الفحل، لأنه كان في بني تميم شاعر يقال له: علقمة بن عمارة خصاه بعض أقيال اليمن، فلقب الخصيّ، ولقب هذا الفحل فرقاً بينهما.
وعبدة بفتح الحروف كلها.
وأخو شأس بن عبدة.
قدم على عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني، وكان عنده حين قدم عليه حسان بن ثابت.
قال حسان: أنا شاهد علقمة بن عبدة حين أنشد الجفني:
طحا بك قبل في الحسان طروب
فأمر له بمئة بعير، في سنام كل بعير ريشة غراب يعني أنها لم تمتهن والريش في أوبارها، وليست بعوامل.
علقمة بن علاثة بن عوف
ابن الأحوص بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ابن معاوية بن بكر بن هوازن العامري الكلابي من المؤلفة قلوبهم من أصحاب سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قدم دمشق يطلب ميراث أبي عامر عند عمرو بن صيفي بن النعمان الأوسي المعروف بالراهب، وكان أبو عامر قد هرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى دمشق، فتحاكم علقمة(17/159)
وكنانة بن عبد ياليل، فحكم به صاحب الروم بدمشق لكنانة، لأنه من أهل المدر، ولم يحكم به لعلقمة لأنه من أهل الوبر.
وذكر أن عمر ولّى علقمة بن علاثة حوران، وجعل ولايته من قبل معاوية بن أبي سفيان.
حدث علقمة بن علاثة قال: أكلت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رؤوساً.
وحدث ابن عمر قال: كان علقمة بن علاثة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " رويداً يا بلال؛ يتسحّر علقمة ". قال: وهو يتسحر برأس.
حدث جماعة من أهل العلم فيما ذكروا من وفود العرب، قالوا:(17/160)
وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علقمة بن علاثة، وهوذة بن خالد بن ربيعة وابنه، وكان علقمة جالساً إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " أوسع لعلقمة ". فأوسع له، فجلس إلى جنبه، فقص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شرائع الإسلام، وقرأ عليه قرآناً، فقال: يا محمد إن ربك لكريم، وقد آمنت بك، وبايعت على عكرمة بن خصفة أخي قيس، وأسلم هوذة وابنه وابن أخيه، وبايع هوذة على عكرمة أيضاً.
وعن أنس:
أن شيخاً أعرابياً يقال له: علقمة بن علاثة، جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله: إن شيخ كبير، وإني لا أستطيع أن أتعلم القرآن كله، ولكني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فلما قفّى الشيخ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: " فقه الرجل، أو فقه صاحبكم ".
وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علقمة بن علاثة وابنا هوذة بن ربيعة بن عمرو بن عامر خالد وأخوه، فأسلموا، وكتب لهم سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتاباً إل بديل وبسر وسروات بني عمرو: " أما بعد فإني لم أثم بإلّكم ولم أضع في جنبكم، وإن أكرم أهل تهامة عليّ وأقربه رحماً مني أنتم، ومن تبعكم من المطيّبين. أما بعد فإني قد أخذت لمن هاجر منكم مثلما أخذت لنفسي، ولو هاجر بأرضه، إلا ساكن مكة، إلا معتمراً أو حاجاً، وإني لم أضع فيكم منذ سالمت، وإنكم غير خائفين من قبلي ولا محصرين. أما بعد: فإنه قد أسلم علقمة بن علاثة وابنا هوذة، وهاجرا، وبايعا على من تبعهم من عكرمة، وإن بعضنا من بعض في الحلال والحرام، وإني والله ما كذتبكم وليحيّينّكم ربكم ".
ولم يكتب فيها السلام لأنه كتب بها إليهم قبل أن ينزل عليه السلام.
ابنا هوذة: العداء وعمرو، ابنا خالد بن هوذة من بني عمرو بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
ومن تبعهم من عكرمة: عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان.
ومن تبعكم من المطيّبين: فهم بنو هاشم وبنو زهرة وبنو الحارث بن فهر وتيم بن مرة وأسد بن عبد العزى.
وعن عاصم بن ضمرة قال: ارتد علقمة بن علاثة عن دينه بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم فأبى أن يجنح للسلم، فقال أبو بكر: لا تقبل منكم إلا سلم مخزية أو حرب مجلية. قال: فقال: ما سلم مخزية؟ قال: تشهدون على قتلانا أنهم في الجنة، وأن قتلاكم في النار، وتدون قتلانا ولا ندي قتلاكم، فاختاروا سلماً مخزية.(17/161)
وكان علقمة بن علاثة نافر عامر بن الطفيل في الجاهلية، ثم وفد على سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم، فكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى خزاعة يبشرهم بإسلامه، فقال: " أسلم علقمة بن علاثة، وابنا هوذة، وبايعا، وأخذا لمن وراءهما من قومهما ".
واستعمل عمر بن الخطاب علقمة بن علاثة على حوران، فمات بها، فقال الحطيئة يرثيه: من الطويل
لعمري لنعم الحيّ من آل جعفرٍ ... يحوران أمسى أدركته الحبائل
لقد أدركت حزماً وجوداً ونائلاً ... وحلماً أصيلاً خالفته المجاهل
وقدراً إذا ما أنفض القوم أرفضت ... إلى نارها تسبى إليها الأرامل
لعمري لنعم المرء لا واهن القوى ... ولا هو للمولى على الدهر خاذل
وما كان بيني لو لقيتك سالماً ... وبين الغنى إلا ليالٍ قلائل
فلو عشت لم أملل حياتي وإن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل
وأم علقمة بن علاثة ليلى بنة أبي سفيان بن هلال بن عمرو بن جشم بن عوف بن النخع.
قال ابن أبي حدرد الأسلمي: تذاكرنا يوماً في مسيرنا الشكر والمعروف، فقال محمد بن مسلمة: كنا يوماً عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لحسان بن ثابت: " يا حسان أنشدني قصيدة من شعر الجاهلية، فإن الله قد وضع عنك آثامها في شعرها وروايتها "، فأنشد قصيدة للأعشى هجا بها علقمة بن علاثة: من السريع(17/162)
علقم ما أنت إلى عامر ... النّاقض الأوتار والواتر
في هجاء كثير، هجا به علقمة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: " يا حسان لا تعد تنشدني هذه القصيدة بعد مجلسي "، قال: يا رسول الله، تنهاني عن رجل مشرك مقيم عند قيصر؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: " يا حسان، أشكر الناس للناس أشكرهم لله تعالى، وإن قيصر سأل أبا سفيان بن حرب عني فتناول مني، قال وقال، وسأل هذا فأحسن القول ". فشكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ذلك.
وفي حديث آخر فقال: " يا حسان إني ذكرت عند قيصر، وعنده أبو سفيان بن حرب وعلقمة بن علاثة، فأما أبو سفيان فلم يترك فيّ، وأما علقمة فحسّن القول، وإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس ".
وفي حديث آخر: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
" يا حسان أعرض عن ذكر علقمة، فإن أبا سفيان بن حرب ذكرني عند هرق فشعّث مني، فرد عليه علقمة ". فقال حسان: يا رسول الله، من نالتك يده وجب علينا شكره.
وروي: أن علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل الجعفريين تنافرا في الشرف، فقال علقمة بن علاثة: أنا والله يا عامر أحب إلى بنات عمك إذا أصابتهم سنةٌ منك، فقال له عامر: لا أنافرك على هذه، أنت رجل سخي وأنا بخيل، ولكني أحب من بنات عمك إذا غشّتهنّ الخيل منك. قال علقمة: لا أنافرك على هذه، لأنك أشد مني بأساً، ولكني موفٍ وأنت غادر، وأنا عفٌّ وأنت عاهر، وأنا والد وأنت عاقر، فقال عامر: من الوافر(17/163)
بغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأمّ الصقر مقلاتٌ نزور
وأولاد الثعالب نامياتٌ ... وكيف تذبح الحجل الصقور
فقال عامر: أنا والله أطعن للسرة، وأجوب للقفرة، ولكني أنافرك إلى هرم بن قطبة بن سيار الفزاري، قال: نعم.
فخرجا حتى دفعا إليه، فقالا: أتيناك فيما تنافرنا فيه من الشرف، وقد أردنا أن تحكم بيننا. فقال: اجمعوا لي الناس. فجمعا له من كان بعقوتهم، ثم أعلماه ذلك.
فدعا علقمة بن علاثة فقال: يا علقمة، أتنافر عامراً وأنت تعلم أن يوماً منه خير من سنة منك؟! قال: فلما ظن علقمة أنه سيفضله عليه ناشده الله في الإبقاء، وأنه لا ينافره بعده أبداً، قال: الله؟ قال: الله. ثم أخرج.
ثم دعا عامراً، فقال: أتنافر علقمة يا عامر؟، والله لأصغر ولد له أشرف منك، فلما ظن أنه سيفضله عليه ناشده الله في الإبقاء، وأنه لا ينافره أبداً، قال: الله؟ قال: الله. قال: اخرج.
ثم أخذ بعارضتي بابه والناس ينظرون، فقال: إن هذين تنافرا إليّ في الشرف وحكّماني، وإنهما عند كذراعي بكرٍ هجانٍ، فقال عامر: اجعلني اليمنى منهما، ولك مئة ناقة، قال: والله لا أفعل. ثم طبق في وجوههم.
ثم خرج علقمة بعد حين إلى قيصر ببصرى يحتذيه، فخرج آذن قيصر، فقال: من كان ههنا من رهط عامر بن القيس بن حجر فليدخل، ومن كان ههنا من رهط عامر بن الطفيل فليدخل، فقال علقمة: ما أراني إلا كنت ظالماً لعامر، جئت لا أعرف على باب قيصر إلا به، ما لي إليكم حاجة. ثم انصرف وهو يقول: من الطويل
بحسبك من عار عليّ مقالهم ... وقد لحظوني بالعيون النواظر
إليكم فلستم راجعين بحاجة ... سوى أن تكونوا من ندامى المعاقر(17/164)
فيا ليتني لم أدع في الوفد وافداً ... وكنت أسيراً في صدا وبحائر
ولم يدعني الداعي على باب قيصرٍ ... بتلك التي تبيضّ منها غدائري
فأسلمت لله الذي هو آخذٌ ... بناصيتي من بعد إذ أنا كافر
قال: فلما سمع عامر وبلغه قول علقمة في الشعر قال: من الطويل
أعلقم قد أيقنت أنّي مشهّرٌ ... غداة دعا الداعي أغرّ محجّل
وقيلهم إن كنت من رهط عامرٍ ... أو الشّمّ من رهط امرئ القيس فادخل
فنوّه باسمي قيصرٌ وقبيله ... وإني لدى النعمان ضخمٌ مبجّل
أترجو سهيلاً في السماء تناله ... بكفّك فاصبر إن صبرك أجمل
وأسلم علقمة، ثم سأل عمر بن الخطاب هرم قطبة بعدما أسلم: أيهما كان أفضل عندك؟ فقال: والله، يا أمير المؤمنين، ما أبالي أيومئذ حكمت بينهما أو اليوم، فقال عمر: من أسرّ عني سراً فليضعه عند مثلك.
قال مالك بن أنس: كان عمر رجلاً جسيماً أصلع، وكان يشبه خالد بن الوليد.
قال الحسن: قدم علقمة بن علاثة على عمر من الشام، فسأله أن ينقل ديوان ابن أخيه مرّ إليه، وسأله راعياً لإبله فلم يجبه إلى شيء من ذلك.
فلما كان الليل التقى هو وعمر، فظن علقمة أن عمر خالد بن الوليد وكان يشبه به، فقال: ما حمل أمير المؤمنين على عزلك بعد عنائك وبلائك؟ فقال عمر: زعم أني جواد أنفق المال في غير حقه. قال علقمة: والله لقد جئته من الشام أسأله أن ينقل ديوان ابن أخي إليّ، وراعياً لإبلي فأيئسني من كل خير هو عنده. قال عمر: قد كان ذلك منه في أمري، فماذا عندك؟ فقال علقمة: وماذا يكون عندي؟ هم قوم ولاهم الله أمراً، ولهم علينا حق، فأما حقهم فيؤدى، وأما حقنا فنطلبه إلى الله عز وجل. قال: فأقرها.(17/165)
فلما كان من الغد اجتمعنا عند عمر، فقال عمر: هي! يا خالد لقيت علقمة البارحة فقلت: كيت وكيت؛ فقال خالد: والله ما فعلت. قال: فجعل علقمة يعجب من جحده، ثم قال عمر: يا علقمة، قلت: هم قوم ولاهم الله أمراً، ثم اقتص كلام علقمة الذي كلمه وخالد ينكر ما سمع، وعلقمة يقول: خلّ، أبا سليمان، قد كان ذلك. ثم قال: عمر نعم، يا علقمة: أنا الذي لقيتك وكلمتك، ولأن يكون ما قلت وتكلمت به في قلب كل أسود وأحمر من هذه الأمة أحبّ إليّ من حمر النعم.
وفي رواية: أن علقمة قال: أنزعك عمر كما بلغني؟ قال: نعم. قال: ما شبع عمر، لا أشبع الله بطنه، فقال عمر: ماشبع، لا أشبع الله بطنه، الحديث.
وفي رواية: قال عمر: فماذا عندك؟ قال: ما عندي إلا سمع وطاعة.
علقمة بن قيس بن عبد الله
ابن مالك بن علقمة بن سلامان بن كهل ويقال: كهيل ابن بكر بن عوف بن النخع ويقال: بكر بن المنتشر بن النّخع أبو شبل النّخعي الفقيه من أهل الكوفة.
يقال: إنه ولد في عهد سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقدم دمشق.
حدث إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة، قال إبراهيم: لا أدري زاد أم نقص، فلما سلم قل له: أحدث في الصلاة شيء؟ قال: " وما ذاك؟ " قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجله،(17/166)
فاستقبل القبلة، فسجد سجدتين، ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: " إنه لو حدث في الصلاة شيء لأنبأتكم، ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدهم في الصلاة فليتحرّ الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين ".
وعن علقمة: أنه قدم الشام، فدخل مسجد دمشق، فصلى فيه ركعتين، ثم قال: اللهم ارزقني جليساً صالحاً، فجلس إلى أبي الدرداء، فقال له أبو الدرداء: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة. قال: كيف سمعت ابن أمّ عبدٍ يقرأ: " والليل إذا يغشى "؟. فقال علقمة: والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى. فقال أبو الدرداء: لقد حفظتها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما زال بي هؤلاء حتى شككوني. ثم قال: ألم يكفكم صاحب الوساد، وصاحب السر الذي لا يعلمه أحد غيره، والذي أجير من الشيطان على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟.
صاحب الوساد ابن مسعود، وصاحب السر حذيفة، والذي أجير من الشيطان عمار بن ياسر.
وفي حديث آخر قال: فأنا هكذا والله سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرؤها، وهؤلاء لا يريدونني أن أقرأ: " وما خلق الذكر والأنثى " فلا أتابعهم.
وكان علقمة قد شهد صفين مع علي بن أبي طالب.
وكان علقمة مقدماً في الفقه والحديث.
وورد المدائن في صحبة علي، وشهد معه حرب الخوارج بالنهروان.
وكان علقمة عقيماً لا يولد له، وكان ابن مسعود كنى علقمة أبا شبل قبل أن يولد له.(17/167)
وكان عبد الله يعني ابن مسعود وعلقمة يصفان الناس صفّين عند أبواب كندة، فيقرئ عبد الله رجلاً، ويقرئ علقمة رجلاً، فإذا فرغا تذاكرا أبواب المناسك، وأبواب الحلال والحرام، فإذا رأيت علقمة فلا يضرك أن لا ترى عبد الله، أشبه الناس به سمتاً وهدياً، وإذا رأيت إبراهيم لا يضرك أن لا ترى علقمة، أشبه الناس به هدياً وسمتاً.
قال ابن سيرين: أدركت الكوفة وهم يقدمون خمسة: من بدأ بالحارث الأعور ثنّى بعبيدة، ومن بدأ بعبيدة ثنّى بالحارث، ثم علقمة بالثالث لا شك فيه، ثم مسروق، ثم شريح، فقال: وإن قوماً أخسّهم شريح لقوم لهم شأن.
وكان أصحاب عبد الله، الذين يقرئون القرآن ويصدر الناس عن رأيهم، ستة: علقمة والأسود ومسروق وعبيدة وعمرو بن شرحبيل والحارث بن قيس.
قال إبراهيم: كنت عند عبيدة فسئل عن قول عبد الله في الجدّ، فقال: كان عبد الله يورثه إلى السدس، لا ينقصه شيئاً، فأخذني ما قدّم وما حدّث، فقلت: لئن كان حديث علقمة كله هكذا، ما أدري ما حسب حديث علقمة، وما عبيدة عندي بمتهم.
فمررت بعبيد بن نضيلة وهو على بابه، فقال: يا أعور، ما لي أراك مكتئباً؟ قال: قلت: لا والله، إلا أني كنت عند عبيدة، فشئل عن قول عبد الله في الجدّ، فقال: كان عبد الله يورثه إلى السدس، لا ينقصه شيئاً، فأخذني ما قدّم وما حدّث، فقلت: إن كان حديث علقمة هكذا، ما أدري ما حسب حديث علقمة، وما عبيدة عندي بمتهم. وكان علقمة قال عن عبد الله: إنه كان يورثه إلى الثلث.(17/168)
قال: فقال لي: قد صدقا جميعاً، قلت: وكيف ذلك؟ قال: إن عبيدة كان يأتي الدار يسمع عن عبد الله، وكان عبد الله يقول: إلى السدس، وكان علقمة ألزمهما له، فقال عبد الله بعد: إلى الثلث، فأخبر علقمة بعلمه الآخر، وأخبر عبيدة بقوله الأول.
وعن إبراهيم قال: قرأ علقمة على عبد الله، وكان حسن الصوت، فقال: رتّل، فداك أبي وأمي، فإنه زين القرآن.
وعن علقمة قال: كنت رجلاً قد أعطاني الله حسن الصوت بالقرآن، فكان ابن مسعود يرسلك إليّ فأقرأ عليه القرآن، قال: فكنت إذا فرغت من قراءتي قال: زدنا من هذا، فداك أبي وأمي، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: " إن حسن الصوت زينة القرآن ".
وكان علقمة من الربانيين الذي يقرؤون القرآن.
قال ابن عون: سألت الشعبي عن علقمة والأسود، فقال: كان الأسود صواماً قواماً كثير الحج، وكان علقمة مع البطيء، ويدرك السريع.
قال عبد الرحمن بن يزيد: جاء خبّاب صاحب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى عبد الله بن مسعود وهو في المسجد يقرئ، فقال: ما أرى هؤلاء الذي يقرئون يحسنون يقرؤون. قال له: أفلا يقرأ عليك بعضهم؟ فأمر علقمة فقرأ عليه بسورة مريم حتى بلغ السجدة، فسجدوا، وكان خبّاب عجب من ذلك. ثم قال عبد الله: ما أقرأ شيئاًن أو ما أعلم شيئاً إلا أن علقمة يقرؤه أو يعلمه؛ فقال زياد بن حدير: والله ما علقمة بأقرئنا يا عبد الله. قال: بلى والله، إنه لأقرؤكم، وإن شئت لأخبرنكم بما قيل في قومك وقومه.(17/169)
قال أبو قيس: رأيت إبراهيم يأخذ بالركاب لعلقمة.
خرج عبد الله بن مسعود على أصحابه وهم يتذاكرون ويتدارسون: علقمة والأسود ومسروق وأصحابهم، فوقف عليهم، فقال: بأبي وأمي العلماء، بروح الله ائتلفتم، وكتاب الله تلوتم، ومسجد الله عمرتم، ورحمة الله انتظرتم، أحبكم الله وأحب من أحبكم.
قال علقمة: أتي عبد الله بشراب، قال: أعط علقمة، أعط مسروقاً، قال: فكلهم قال: إني صائم، قال: " يخافون يوماً تتقلّب فيه القلوب والأبصار ".
قال إبراهيم: كانعلقمة يقرأ القرآن في خمسٍ، والأسود في ستٍّ، وعبد الرحمن بن يزيد في سبع.
وحدث علقمة: أنه قرأ القرآن في ليلة، طاف بالبيت أسبوعاً، ثم أتى المقام، فصلى عنده فقرأ بالمئتين، ثم طاف أسبوعاً، ثم أتى المقام فصلى عنده، فقرأ بالمثاني، ثم طاف أسبوعاً، ثم أتى المقام، فصلى عنده، فقرأ بقية القرآن.
وعن الشعبي قال: إن كان أهل بيت خلقوا للجنّة منهم أهل هذا البيت: علقمة والأسود.
قال مالك بن الحارث: قيل لعلقمة: ألا تخرج فتحدث الناس؟ قال: أخرج فيتبعون عقبي، فيقولون:(17/170)
هذا علقمة؟! قالوا: أفلا تدخل على السلطان فتنتفع؟ قال: إني لا أصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من ديني مثله.
قال المسيب عن رافع: قيل لعلقمة: لو جلست فأقرأت الناس القرآن وحدثتهم. قال: أكره أن توطأ عقبي، وأن يقال: هذا علقمة.
قال: فكان يكون في بيته يعلف غنمه ويفت لهم، قال: وكان معه شيء يقرع بينهن إذا تناطحن.
وكان علقمة إذا طلب، أو قلما طلب إلا وجد في بيته مغلقاً عليه بابه، يقرع غنمه.
جاء رجل إلى علقمة فسبّه، فقال علقمة: إن " الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً "، فقال الرجل: أمؤمن أنت؟ قال: أرجو، إن شاء الله.
قال النخعي: باع علقمة بعيراً أو دابة من رجل، فكرهها، فأراد أن يردها ومعها دراهم، فقال علقمة: هذه دابتنا، فما حقنا في دراهمك؟ فقبل دابته وردّ الدراهم.
قال إبراهيم: وكان علقمة يتروح إلى أهل بيت دون أهل بيته، يريد بذلك التواضع.
وعن علقمة: أنه قال لامرأته في مرضه: تزيّني واقعدي عند رأسي، لعل الله يرزقك بعض عوّادي.
وعن علقمة قال: تذاكروا الحديث، فإن حياته ذكره.(17/171)
وفي رواية: أطيلوا كرّ الحديث لا يدرس.
وكان علقمة ثقة من أهل الخير.
وعن علقمة: أنه أوصى، قال: إذا أنا حضرت فأجلسوا عندي من يلقنني: لا إله إلا الله، وأسرعوا بي إلى حفرتي، ولا تنعوني إلى الناس، فإني أخاف أن يكون ذلك نعياً كنعي الجاهلية.
وفي حديث: فإذا خرجتم بجنازتي من الدار، فأغلقوا الباب حين يخرج آخرالرجال على أول النساء، فإنه لا أرب لي فيهن.
توفي علقمة سنة إحدى وستين. وقيل: سنة اثنتين وستين. وقيل: سنة ثلاث وستين. وقيل: سنة خمس وستين. وقيل: توفي سنة اثنتين وسبعين وله تسعون سنة. وقيل: سنة ثلاث وسبعين.
53 - علقمة بن مجزّز بن الأعور ابن جعدة بن معاذ بن عنزارة بن عمرو بن مدلج بن مرة بن عبد مناة ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر المدلجي له صحبة، وولاه سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعض جيوشه، وولاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه حرب فلسطين، وشهد اليرموك، ثم ولي حرب فلسطين في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحضر الجابية.(17/172)
ومجزّز: بالجيم وزايين، وهو القائف، والزاي الأولى مشددة مكسورة، وعلقمة بن مجزز هذان في الصحابة.
وكان عمر بن الخطاب بعثه في جيش إلى الحبشة فهلكوا كلهم، فرثاه جواس العذري: من الكامل
إنّ السلام وحسن كلّ تحيةٍ ... تغدو على ابن مجزّز وتروح
وعن أبي سعيد الخدري قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث علقمة بن مجزز على بعث أنا فيهم، حتى إذا بغلنا رأس غزاتنا، أو كنا ببعض الطريق، أذن لطائفة من الجيش وأمر عليهم عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي، وكان من أصحاب بدر، وكان فيه دعابة، فنزلنا ببعض الطريق، ثم أوقد القوم ناراص، فاقل: أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى. قال: فما أنا بآمركم بشيء إلا صنعتموه؟ قالوا: نعم. قال: فإني أعزم عليكم بحقي وطاعتي إلا تواثبتم في هذه النار، قال: فقام بعض القوم فتحجّزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها، قال: اجلسوا، فإنما كنت أضحك معكم.
فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أن رجعوا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من أمركم منهم بمعصية الله فلا تطيعوه ".
54 - علقمة بن يزيد بن سويد بن الحارث ويقال: علقمة بن سويد بن علقمة بن الحارث الأزدي من أهل ساحل دمشق.
قال أبو سليمان الداراني: حدثني شيخ بساحل دمشق يقال له: علقمة بن يزيد بن سويد. قال أبو سليمان:(17/173)
وكان من المرتدين، حدثني سويد بن الحارث قال: وفدت على النبي صلّى الله عليه وسلّم سابع سبعة من رفقائي، فلما دخلنا عليه وكلمناه أعجبه ما رأى من سمتنا وزيّنا، فقال: ما أنتم؟ قلنا: مؤمنون، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: " لكل قول حقيقة، فما حقيقة قولكم وإيمانكم؟ " قال سويد: قلنا: خمس عشرة خصلة، خمس منها أمرتنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا رسلك أن نعمل بها، وخمس منها تخلقنا بها في الجاهلية، ونحن على ذلك إلا أن تكره منها شيئاً.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما الخمس الخصار التي أمرتكم رسلي أن تؤمنوا بها؟ " قلنا: أمرتنا رسلك أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت. وفي رواية: والقدر خيره وشره.
قال: " فما الخمس التي أمرتكم رسلي أن تعملوا بهن؟ " قلنا: أمرتنا رسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن نقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت، فنحن على ذلك.
قال: " وما الخمس الخصال التي تخلقتم بها في الجاهلية؟ " قلنا: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والصدق عند اللقاء، ومناجزة الأعداء. وفي رواية: وترك الشماتة بالمصيبة إذا حلت بالأعداء، والرضا بالقضاء.
فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: " أدباء، فقهاء، عقلاء، حلماء كادوا أن يكونوا أنبياء؛ من خصالٍ ما أشرفها وأزينها وأعظم ثوابها ".
ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أوصيكم بخمس خصال لتكمل عشرون خصلة؟ ".
قلنا: أوصنا يا رسول الله.
قال: " إن كنتم كما تقولون فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون،(17/174)
ولا تنافسوا في شيء غداً عنه تزولون، وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون، وعليه تعرضون ".
قال: فانصرف القوم من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد حفظوا وصيته وعملوا بها. ولا والله، يا أبا سليمان، ما بقي من أولئك النفر، ولا من أبنائهم غيري. ثم قال: اللهم اقبضني إليك غير مبدل ولا مغير.
قال أبو سليمان: فمات والله بعد أيام قلائل.
علي بن أحمد بن إبراهيم بن ثابت
أبو القاسم الربعين الرازي البغدادي الحافظ سمع بدمشق وبغيرها.
حدث عن محمد بن أحمد بن عبد الله الرافقي بسنده إلى أبي العشراء الدرامي قال: رأيت أبي بال وتوضأ ومسح على خفيه، فقلت له في ذلك، فقال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بال وتوضأ ومسح على خفيه.
وحدث عن الحسن بن حبيب بن عبد الملك الدمشقي بسنده إلى الشافعي قال: تفقه قبل أن ترأس، فإذا ترأست فلا سبيل إلى التفقه.
كان أبو القاسم ثقة حافظاً، وتوفي بالري سنة تسع وسبعين وثلاث مئة.
علي بن أحمد بن إبراهيم بن غريبٍ الخال
أبو الحسن البغدادي البزار المعروف بالشعيري قدم دمشق مع أبي الحسن العتيقي.
حث عن أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن محارب الإصطخري الأنصاري بسنده إلى جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "(17/175)
أغبّوا في العيادة ".
غريبٌ جدّه خال المقتدر بالله.
سئل أبو الحسن البغدادي عن مولده فقال: في سنة تسع وسبعين وثلاث مئة، ومات في سنة تسع وأربعين وأربع مئة.
علي بن أحمد بن الحسين
أبو الحسن القرشي الفراء المعروف بابن الدلاء كان يجيد اللعب بالشطرنج، ويحاضر الأمراء لأجله، ثم صلحت طريقته قبل موته.
حدث عن أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي بسنده إلى أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربع مئة ألف ". فقال أبو بكر الصديق: زدنا يا رسول الله، قال: " وهكذا "، جمع يديه، قال: زدنا يا رسول الله، قال: " وهكذا "؛ فقال عمر: حسبك يا أبا بكر؛ فقال أبو بكر: دعني يا عمر، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا؟، فقال عمر: إن شاء الله أدخل خلقه الجنة بكفٍ واحدٍ. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: صدق عمر.
وحدث عنه بسنده إلى الوليد بن هشام القحذمي قال: قال الحجاج يوماً لجلسائه: أي شيء أذهب بالإعياء؟ فقال بعضهم: التمريخ، وقال بعضهم: أكل التمر، وقال بعضهم: دخول الحمام، فقال رجل من الدهاقين: ما رأيت شيئاً أذهب بالإعياء من النجاح، وأنشد: من الطويل
كأنك لم تنصب ولم تلق نكبةً ... إذا أنت لاقيت الذي كنت تطلب(17/176)
سئل ابن الدلاء عن مولده، فقال: في سنة خمس وسبعين وأربع مئة، ومات في سنة ثمان وخمسين وخمس مئة.
علي بن أحمد بن سعيد بن سهل
أبو الحسن البغدادي الغازي المعروف بابن عفان حدث بسنده إلى أبي هرمز قال: دخلنا على أنس بن مالك نعوده، فقال: صافحت بكفي هذه كف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما مسست خزاً ولا حريراً ألين من كفه صلّى الله عليه وسلّم. قال أبو هرمز: فقلنا لأنس بن مالك: فصافحنا بالكف التي صافحت بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فصافحنا.
ثم ذكر المصافحة مسلسلة عن كل راوٍ إلى الحافظ رحمه الله.
وحدث عن خيثمة بن سليمان قال: سمعت العباس بن الوليد بن مزيد قال: سمعت محمد بن شعيب بن شابور يقول: ما تصيب في ألف أصلع رجل سوء، ولا تصيب في ألف سناط رجلاً صالحاً.
علي بن أحمد بن سلمة بن عبيد
أبو الحسن العقيلي الجوبري من أهل قرية جوبر.
حدث عن أحمد بن عبد الواحد بسنده إلى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: افتخر رجلان عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، أحدهما من مضر والآخر من اليمن، فقال اليماني: إني من حمير لا من ربيعة أنا ولا من مضر؛ فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: " فأشقى لبختك وأتعس لجدّك وأبعد لك من نبيك ".(17/177)
علي بن أحمد بن سهل
ويقال: ابن إبراهيم أبو الحسن البوشنجي الصوفي، أحد مشايخهم رحل إلى الشام.
حدث عن محمد بن عبد الرحمن الشامي الهروي بسنده إلى ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلمنا من الأوجاع كلها أن نقول: بسم الله الكبير، أعوذ العظيم من شر عرقٍ نعّار، ومن شر حرّ النار.
كان أبو الحسن البوشنجي أوحد فتيان خراسان، وتكلم مع الشبلي في مسائل، وهو من أعلم مشايخ وقته بعلوم التوحيد، وعلوم المعاملات، وأحسنهم طريقة في الفتوة والتجريد، وكان ديّناً متعهداً للفقراء.
توفي سنة سبع وأربعين بنيسابور، وقيل: ثمان وأربعين وثلاث مئة.
وكان أسخى المشايخ، وأحسنهم خلقاً وأظرفهم، وكان يدل أصحابه على العبادة، ولا يتركهم هملاً، وكان له شأن عظيم في الخلق والفتوة، يرجع إلى فنون العلم، وكان متكلماً عالماً بعلوم القوم، وانقطعت بعده طريقة الفتوة والأخلاق عن نيسابور بموته.
سئل البوشنجي عن المروءة فقال: ترك استعمال ما هو محرم عليك مع الكرام الكاتبين.
وقال له إنسان: ادع الله لي، فقال: أعاذك الله من فتنتك.
وقال البوشنجي: أول الإيمان منوط بآخره.
سئل البوشنجي شيخ الصوفية بخراسان: ما التوحيد؟ قال: أن لا يكون مشبه الذات، ولا منفي الصفات.(17/178)
وسئل: ما السنة؟ قال: البيعة تحت الشجرة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه.
وسئل البوشنجي: ما التصوف؟ فقال: فراغ القلب، وخلاء اليدين، وقلة المبالاة بالأشكال، فأما فراغ القلب: ففي قوله عز وجل: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ". وخلو اليدين لقوله: " الذي ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية ". وقلة المبالاة في قوله عز وجل: " ولا يخافون لومة لائم ".
وسئل عن القناعة فقال: المعرفة بالقسمة.
سئل البوشنجي عن الفتوة، فقال: الفتوة عندك في آية من كتاب الله عز وجل، وفي خبر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فأما قول الله عز وجل: " يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجةً ممّا أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة ". وخبر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: " لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، يعني من الخير ويكره لأخيه ما يكره لنفسه ". فمن اجتمع فيه هاتان الحالتان فله الفتوة.
وسئل عن الفتوة، فقال: حسن البشر. وعن المروءة، فقال: ترك ما يكره كرام الكاتبين. وعن التوكل، فقال: أن تأكل مما يليك، وتضع لقمتك على سكون القلب، وتعلم أن مالك فلا يفوتك.
وسئل عن وصف الإنسان، فقال: الخير منّا زلة، والشر لنا صفة، وإذا عزلنا عن الكذب لم يبق لنا شيء.
وسئل عن الحب، فقال: بذل المجهود مع معرفتك المحبوب، والمحبوب مع بذل مجهودك يفعل ما يشاء.
وكان أبو الحسن البوشنجي في الخلاء، فدعا تلميذاً له، فقال: انزع عني هذا(17/179)
القميص، وادفعه إلى فلان، فقيل له: هلاّ صبرت؟ فقال: لمن آمن على نفسي أن تتغير عما وقع لي من الخلو معه بذلك القميص؟.
وسئل علي بن سهل عن التويحد، فقال: قريب من الظنون، بعيد من الحقائق، وأنشد لبعضهم: من الطويل
فقلت لأصحابي هي الشمس ضوءها ... قريبٌ ولكن في تناولها بعد
قال السيد أبو الحسن محمد بن علي بن الحسين العلوي: سمعت أبا الحسن البوشنجي يقول: النظر فخ إبليس نصبه للصوفية، وبكى، وقال: من كرّر النظر فالنظر عليه حرام، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبيك علي عليه السلام: " إياك والنظرة فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة ".
قال أبو عبد الله الحافظ: سمعت أبا الحسن البوشنجي غير مة يعاتب في ترك الجماعة والجماعات والتخلف عن الجماعة، فيقول: إن كانت الفضيلة في الجماعة فإن السلامة في العزلة.
قال أبو الوليد: دخلت على أبي الحسن يوم توفي، فقلت له: ألا توصي بشيء؟ فقال: أكفن في هذه الخريقات، وأحمل إلى مقبرة من مقابر المسلمين، ويتولى الصلاة عليّ رجل من المسلمين.
علي بن أحمد بن الصباح
أبو الحسن القزويني سمع بدمشق.
وحدث عن دحيم بن إبراهيم الدمشقي بسنده إلى أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً: عاق ومنان ومكذب بالقدر ".(17/180)
وحدث عن هشام بن عمار بسنده إلى بسر بن أرطاة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: " اللهم أحسن عاقتبنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة ".
علي بن أحمد بن طاران
أبو الحسن المامطيري سمع بدمشق.
وحدث عن أبي العباس عبد الله بن عتاب الزفتي بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسعدٍ يوم مات، أو هو يدفن: " لهذا العبد الصالح الذي اهتز له العرش، وفتحت له أبواب السماء، شدّد عليه ثم فرّج عنه ".
علي بن أحمد بن عبد الله
ويقال له عبيد بن محمد بن يحيى بن حمزة أبو الحسين الحضرمي من أهل بيت لهيا.
حدث أبو الحسين علي بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن حمزة الحضرمي البتلهي بدمشق عن محمد بن تمام بن صالح البهراني بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من شاب شيبة في سبيل الله تباعدت منه جهنم مسيرة خمس مئة عام ".(17/181)
وحدث عنه أيضاً بسنده إلى واثلة بن الأسقع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه صلى على رجل فقال: " اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك وحبل جوارك، فأعذه من فتنة القبر وعذاب القبر، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم فاغفر له، إنك أنت الغفور الرحيم ".
قال: وكان اسمه حضرمي بن أحمد، وكان يسمي نفسه علياً.
علي بن أحمد بن عبد الرحمن
الدمشقي حدث عن ضمرة بن ربيعة بسنده عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " لأعطين الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، يفتح الله عليه، جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره ". فثاب الناس متشوفين، فلما أصبح قال: " أين علي؟ " قالوا: يا رسول الله ما يبصر، قال: " ائتوني به "، فأتي به، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: " ادن مني "، فدنا منه، فتفل في عينيه، ومسحهما بيده، فقام علي من بين يديه كأنه لم يرمد قط.
علي بن أحمد بن عبد العزيز بن ظنّير
أبو الحسن الأنصاري الميورقي الأندلسي قدم دمشق.
حدث عن أبي علي حسين بن سعد الآمدي بسنده إلى أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " لقيت الملك، فأخبرني أنه من مات يشهد أن لا إله إلا الله كان له الجنة "، فما زلت أقول: وإن، حتى قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: " وإن زنى وإن سرق ".
ومما أنشده أبو الحسن علي الأنصاري للأستاذ أبي محمد غانم بن وليد المخزومي المالقي النحوي: من السريع(17/182)
ثلاثةٌ يجهل مقدارها ... الأمن والصحة والقوت
فلا تثق بالمال من غيرها ... لو أنّه درٌّ وياقوت
قال: وأنشدني غانم لبعض الشعراء: من المنسرح
يا أيها المبتغي أخا ثقةٍ ... عدمت ما تبتغي فدع طمعك
داج المداجين ما لقيتهم ... وخادع النفس لامرئٍ خدعك
لا تكشف المرء عن سرائره ... ودعه تحت النفاق ما ودعك
أظهر له مثل قول ذي بلهٍ ... تريه إن ضرّ أنه نفعك
قال: وأنشدني بعض القزوينيين لحسن بن رشيق القيرواني: من السريع
في الناس من لا يرتجى نفعه ... إلا إذا مسّ بأضرار
كالعود لا يطمع في طيبه ... إن أنت لم تمسسه بالنار
ومن شعر أبي الحسن علي بن أحمد الأندلسي: من الوافر
وسائلةٍ لتعلم كيف حالي ... فقلت لها: بحال لا تسرّ
دفعت إلى زمان ليس فيه ... إذا فتّشت عن أهليه حرّ
توفي أبو الحسن ببغداد سنة سبع وسبعين وأربع مئة، وكان من أهل ميورقة.
وقيل: إنه كان قد ركب في البحر إلى بلاد الزنج، وكان معه من العلوم أشياء، فما نفق عندهم إلا النحو، ثم إنه عاد إلى البصرة على أن يقيم بها، فلما وصل إلى البصرة وقع عن الجمل، فمات سنة أربع وسبعين.(17/183)
علي بن أحمد بن علي بن زهير
أبو الحسن التميمي المالكي حدث عن أبي بكر أحمد بن الحسن بن أحمد بن عثمان بن سعيد بن قاسم الغساني، يعرف بابن الطيار، بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " كلّ بيّعين لا بيع بينهما حتى يفترقا، إلا بيع الخيار ".
توفي أبو الحسن التميمي في سنة ثمان وثمانين وأربع مئة، ولم يكن ثقة ولا مأموناً، وذكر أنه ولد سنة خمس عشرة وأربع مئة.
علي بن أحمد بن علي بن أحمد بن جعفر
أبو الحسن القرشي الحرستاني لم يكن الحديث من شأنه، وسمع من أبي عبد الله بن أبي الحديد بعض خبر، وكان خرج إليها متنزهاً، فاتفق حضوره في البستان فقرأ عليه، وكتب سماعه عليه.
حدث عنه بسنده إلى جابر بن سمرة قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد والناس رافعو أيديهم، فقال: " ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيلٍ شمس، اسكنوا في الصلاة ".
توفي في شوال سنة إحدى وستين وخمس مئة.(17/184)
علي بن أحمد بن محمد
ويقال: علي بن عبد الله
زعم انه علي بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق، وكذب فيما زعم، القرمطي المعروف بالشيخ خرج في الشام في جماعة من الأعراب وغيرهم، فغاب بنواحي الرقة، ثم انصرف إلى دمشق، فخرج إليه طغج بن جفّ أمير دمشق فكسره القرمطي وهزمه.
ثم خرج إليه جيش من مصر مع بدر الحمامي وغيره، فقتل بنواحي دمشق بقرية يقال لها: كنيكر، سنة تسعين ومئتين. وقام بأمر القارمطة بعده أخوه.
وكان له شعر، منه ما قاله في بعض حروبه: من الكامل
سل تعط عن خبري حقيقته ... بالرّقمتين وصاحب الخرج
عني وعن عصبٍ قرعت بهم ... يوم الخميس قبالة النهج
فأبحت أصحابي أساورهم ... وأبحت سيفي هامة العلج
ثم انصرفت بها مؤيّدةً ... حتى وردت بها على طغج
منصورة الرايات يقدمها ... رجلٌ عفيف البطن والفرج
ما ظنّ إلا أنّ صدمتنا ... شرب المدام ببارد الثلج
فرأى رجالاً يحملون قناً ... بأسنّةٍ كفتايل السرج
خبّ الجواد بسوطه فنجا ... لولا القضاء لما نجا المزجي
قال أبو القاسم بن حبيب: ومن شعر علي بن محمد البرقعي: من الكامل
ما همّتي إلا مقارعة العدا ... خلق الزمان وهمتي لم تخلق
والمرء كالمدفون تحت لسانه ... ولسانه مفتاح بابٍ مغلق
إني أرى الأكياس قد تركوا سدىً ... وأزمّة الأفلاك طوع الأحمق(17/185)
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني ... بنجوم أقطار السماء تعلّقي
لكن من رزق الحجا حرم الغنى ... ضدان مفترقان أيّ تفرّق
علي بن أحمد بن محمد بن الوليد
أبو الحسين المرّي المقرئ حدث سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة عن أبي القاسم أخطل بن الحكم بن جابر القرشي بسنده إلى ابن عمر قال: لما ولي عمر حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحل المتعة ثلاثاً، ثم حرمها علينا، وأنا أقسم بالله قسماً برّاً لا أجد أحداً من المسلمين أحصن متمتعاً إلا رجمته، إلا أن يأتيني بأربعة شهداء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحلها بعد إذ حرمها، ولا أجد رجلاً من المسلمين متمتعاً إلا جلدته مئة جلدة، إلا أن يأتيني بأربعة شهداء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحلها بعدما حرمها.
توفي أبو الحسين المري سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة.
علي بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن مروان
أبو الحسن البغدادي المعروف بابن المقابري البزاز سكن الرملة، وقدم دمشق، وحدث بها وبمصر.
روى في سنة إحدى وأربعين وثلاث مئة عن أبي بكر محمد بن شاذان الجوهري بسنده إلى أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " ليس على فرس المؤمن ولا غلامه صدقة ".
وحدث عن محمد بن يونس بن موسى بسنده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " الأيّم أحق بنفسها، والبكر تستأذن، وإذنها صماتها ".(17/186)
علي بن أحمد بن محمد
ويعرف بابن قرقوب، أبو الحسن الهمذاني التمّار سمع بدمشق.
حدث عن إبراهيم بن الحسين، بسنده إلى سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي طالب: " أي عم، قال: لا إله إلا الله، كلمة أحاجّ لك عند الله "، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل النبي صلّى الله عليه وسلّم يعرضها عليه ويعيدانه تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: " أما والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك ".
فأنزل الله عز وجل: " ما كان للنبي والذي آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانو أولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنهم أصحاب الجحيم ".
وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء ".
وحدث عن أحمد بن ياسين المعروف بابن أبي تراب بسنده إلى زياد الصّدائي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من طلب العلم تكفل الله له برزقه ".(17/187)
علي بن أحمد بن محمد بن علي بن الحسن
أبو الحسن الشرابي حدث عن خيثمة بن سليمان بسنده إلى أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " لا يقولنّ أحدكم لعبده: عبدي، ولكن ليقل: فتاي، ولا يقول العبد لسيده: مولاي، ولكن ليقل: سيّدي ".
علي بن أحمد بن محمد بن أحمد بن مسلم بن أبي مسلم
أبو الحسن الجرمي الطرسوسي قدم دمشق، وحدث بها وبغيرها.
حدث عن أبي عبد الله محمد بن عبد اله بن محمد النيسابوري الحافظ المعروف بالحاكم بسنده إلى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من كذب عليّ متعمداً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
وحدث عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن أحمد المهلبي عن أبي عبد الله القرشي قال: رأيت رجلاً يعاتب إلفاً له على الجسر، وكنت قريباً منهما بحيث أسمع ما كانا فيه جميعاً، فقال له: ألم أفعل بك بكذا؟ ألم أصنع بك كذا؟ فلم يزل يعدد عليه ما أولاه إياه، فقال له المألوف: هذا الذي فعلته في هواك أو في هواي؟ وخرج الكلام بينهما إلى أن قال له: قد أضجرتني وآذيتني، فقال له: فما تحب أن أفعل بنفسي في هواك حتى تشتفي؟ قال: تطرح نفسك في هذا الماء إن كنت صادقاً في دعواك.
قال: فعهدي به على رأسه رداء، وقد لف رأسه بردائه، وزجّ بنفسه في دجلة.
قال: فداخلني من الأمر ما غلب عليّ حتى صعقت صعقة غشي عليّ منها، ولم أدر ما كان بعد ذلك.(17/188)
وحكى عن المهلبي أيضاً: أن رجلاً رأى صديقاً له بالكوفة، فقال له: من أين؟ قال: من بغداد، قال: وإلى أين؟ قال: إلى الصين. قال: وما تصنع؟ قال: أزور إلفاً لي! قال له: بعيد، قال: فأنشأ يقول: من الطويل
بعيدٌ على كسلان أو ذي ملالةٍ ... فأما على المشتاق فهو قريب
علي بن أحمد بن المبارك
أبو الحسن البزار حدث عن أحمد بن محمد بن أحمد البزار البغدادي بسنده إلى ابن عباس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " لما كان ليلة أسري بي وأصبحت بمكة، فضقت بأمري، وعرفت أن الناس مكذّبي ".
قال: فقعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتزلاً حزيناً، فمر به أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه فقال كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ قال: " نعم، إني أسري بي الليلة ". قال: إلى أين؟ قال: " إلى بيت المقدس "، قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: " نعم ".
قال: فلم يره أنه يكذبه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا قومه إليه، قال: أتحدث قومك ما حدثتني إن دعوتهم إليك؟ قال: " نعم "، قال: يا معش بني كعب بن لؤي، هلمّ، وقال: فانتقضت المجالس، فجاؤوا حتى جلسوا إليهما، فقال: حدث قومك بما حدثتني.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إنه أسري بي الليلة "، قالوا: إلى أين؟ قال: " إلى بيت المقدس "، قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: " نعم "، فمن بين مصفّق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً، فقالوا: أتستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ فقال وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد: قال رسول الله صلّى الله عليه سلّم: " فذهبت أنعت لهم، فمازلت أنعت حتى التبس عليّ بعض النعت "، قال: " فجيء المسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو عقال، فنعتّه وأنا أنظر إليه ".(17/189)
قال: فقال القوم: أما النعت فوالله قد أصاب.
توفي علي بن المبارك البزار سنة تسع وخمسين وأربع مئة.
علي بن أحمد بن مقاتل بن مطكود بن أبي نصر
أبو الحسن بن السوسي، ويعرف بابن المعلم كان يسكن الشاغور.
حدث في الجامع بدمشق عن أبي القاسم علي بن محمد بن أبي العلاء بسنده إلى أبي هريرة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طاوي الحشا، ضليع الفم شتى القدمين.
قال: وأخبرنا أبو علي الأنصاري بسنده إلى سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن الناس قد رووا عنك في المتعة حتى قالوا شعراً، فقال: أو قد فعلوها؟ قال: أما إنها إنما أحلت كما أحلت الميتة والدم.
مات أبو الحسن في سنة ستين وخمس مئة.
علي بن أحمد بن منصور بن محمد بن عبد الله بن محمد
أبو الحسن بن أبي العباس الغساني المعروف بابن قبيس الفقيه المالكي النحوي الزاهد كان ثقة متحرزاً يفتي على مذهب مالك، ويقرئ النحو، ويعرف الفرائض والحساب، وكان مغالياً في السنة.(17/190)
حدث عن أبي بكر الخطيب بسنده إلى ابن عباس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم احتجم وأعطى الحجّام أجره، ولو كان خبيثاً لم يعطه.
ولد أبو الحسن سنة اثنتين وأربعين وأربع مئة، وتوفي سنة ثلاثين وخمس مئة.
علي بن أحمد أبو الحسن
الماردائي الكاتب أصله من العراق، وكتب للطولونية بمصر، وقدم دمشق مع أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون.
قال أبو جعفر بن أحمد بن يوسف بن إبراهيم المعروف بابن الداية: كنت قائماً على باب دار أبي الحسن علي بن أحمد الماردائي منتظراً لركوبه مع جماعة من كان يقف له، وإلى جانبي ابن لأبي أيوب ابن أخت أبي الوزير، ويعرف بأبي مالك، وهو يشتكي إليّ أنه أعوزه علف دابته في أمسه، حتى خرج بعض غلمانه، فقال: أفيكم ابن أبي أيوب؟ فاستجاب له فأدخله، فخرج ومعه توقيعان أحدهما بدفع مئتي دينار إليه، والثاني بتقليده كورة إتريب وعين شمس.
وخرج أبو الحسن فافترقنا، وكان بناحيته رجل يعرف ببشر بن محمد، فالتقينا في الطريق، فشكرت صنيعه بأبي مالك، فقال له: خبرٌ عجيبٌ ما أحسبه تأدى إليك، قلت: وما هو؟ قال: رأى أبو الحسن البارحة كأن أبا أيوب لقيه، فقال: يا أبا الحسن أما تحتشم من غدوّ ابني عليك بغير سراويل؟! فانتبه.
فلما صلّى وعلم أن قاصديه قد تكاملوا ببابه طلبه، فأدخل إليه وهو خال، فسأله عن حاله، فشكا اختلالاً شديداً، فوضع أبو الحسن يده على خفه فأصعدها إلى رأس خفه، فوجه بغير سراويل، فأمر له بجائزة وتقليد، ولم يزل يتعاهده ببرّه إلى أن توفي.(17/191)
علي بن أحمد أبو الحسي السّهيلي
الفقيه الشافعي مصنف، قدم دمشق.
وحدث في جامعها سنة إحدى وثلاثين وأربع مئة، وفي هذه كان مسيره من البلد، قال: رأيت في بلاد جيلان في سنة ثلاثين وأربع مئة رجلاً عيناه في وسط رأسه، وما كان في موضع عينيه إلا شامة بين السواد والبياض.
وحدث في هذه السنة أيضاً قال: كنت ببلاد ديلمان، وأكثرهم رافضي، وكنت أصلي فيها منفرداً، مرسلاً اليدين على وفق مذاهبهم خوفاً منهم، وهؤلاء يقولون بخلق القرآن.
ففارقت ديارهم، ودخلت إلى بلدة تعرف ببلدة كوتم، وصليت الظهر بالجماعة بجنب شاب، فلما فرغت من الصلاة قلت: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، فقال: وما ذاك؟ فقلت: كنت ببلاد ديلمان، وما كنت أصلي بالجماعة، والساعة قد دخلت بلاد أهل السنة فشكرت الله تعالى عليه.
فسألني وقال: أيش تقول في هذا الجدار أقديم هو أم مخلوق؟ فقلت: إنه مخلوق.
فقال لي: أتقول إن القرآن مخلوق؟ فقلت: لا، بل أقول: إن القرآن كلام الله قديم، ومن قال: إنه مخلوق فهو كافر بالله. فقال: أما ترى كتب على الجدار: " إن الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون "؟ فقال: ما أرى على الجدار أكثر من السواد والبياض والجصّ، وهذا كله مخلوق.(17/192)
قال: إن كنت ترى غيره فاذكر لي. قلت: فإني لم أر أكثر من هذا. فقال: هذا لا يقوله إلا الأشعري، وقام وتخطى خطوتين ثلاثاً، وأعاد الصلاة، فقلت له: لم أعدت الصلاة؟ قال: لما سمعته منك.
فقتل: أحسب أني صرت على زعمك كافراً بهذه المقالة، فعلى أي مذهب تجب إعادة الصلاة إذا صلى الرجل بجنب كافر غير مقتد به؟ فقال: أنا أنصحك ألا تذكر هذا الذي ذكرته لغيري تقتل.
قلت: أنا أقول: إن الجدار مخلوق، وإن السواد والبياض والجص مخلوق، ولو قتلت.
ثم تفكرت في حالي فخفت على نفسي، فقمت طائفاً في البلد أطلب فقهاء على مذهب الشافعي رحمه الله، فدلوني على قاض، فجئت إليه، وسألته عن مذهبه فقال: شافعي، فسألته عن مذهبه في الأصول فقال: ليس هذا وقته.
فجلست إلى أن تفرق الناس فسألته، فقال: أنا على مذهب الحق، ولكن لا تظهر مذهبك لأحد؛ فإنك إن أظهرته قتلت؛ فذكرت القصة التي جرت لي، فاستخبرني عن الرجل، فذكرت له العلامات.
فدعا بذلك الشاب وقال: اعلم أن هذا الرجل على مذهب أصحابنا في الأصول، وهو شافعي في الفروع كمثلي، غير أنه ظن أن هذه البلدة يقولون في القرآن مثلما يقول أهل ديلمان، فذكر ذلك طلباً للوفاق، وإن اعتقاده أن القرآن قديم، وأن الحروف والأصوات قديم، وأن الكتابة وأن الجدار قديم.
قلت: صدق القاضي، وإنما قلت ذلك ظناً مني بأنكم تقولون بمقالة ديلمان.
ثم تفرقنا، وأوصاني ذلك القاضي بأن إذا سئلت عن النزول والروح والإيمان والتدين والقرآن فتقول: إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا مثلما ينزل واحد منا من السرير، وفي رجليه نعل من ذهب. ويقولون في الروح والإيمان: إنهما قديمان وتقول في القرآن مثلما ذكرنا.(17/193)
علي بن أحمد أبو الحسن الزبيري
روى أبو الحسن الزبيري لعليّ عليه السلام: من المتقارب
يمثّل ذو اللّبّ في نفسه ... مصائبه قبل أن تنزلا
فإن نزلت بغتةً لم ترع ... هـ لما كان في نفسه مثّلا
رأى الأمر يفضي إلى آخرٍ ... فصيّر آخره أوّلا
وذو الجهل يهمل أيامه ... وينسى مصائب من قد خلا
ولو مثّل الحزم في نفسه ... لعلّمه الصبر عند البلا
علي بن إبراهيم بن العباس
ابن الحسن بن العباس بن الحسن ب الحسين وهو أبو الجنّ بن علي بن محمد بن علي ابن إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين ابن أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه كان متسنناً، وكنيته أبو القاسم، خطيب دمشق في أيام المصريين.
قال أبو القاسم السميساطي: إنه ما رأى أحداً سمّي علياً وكنّي أبا القاسم إلا كان طويل العمر.
حدث عن أبي الحسين محمد بن عبد الرحمن بن القاسم التميمي، بسنده إلى أبي هريرة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: " لا تبدؤوهم بالسّلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه ". يعني اليهود والنصارى.(17/194)
وقيل إنه صلى على جنازة يوم الجمعة فكبّر عليها أربعاً، فكتب بذلك إلى مصر، فجاء كتاب صاحب مصر إلى أبيه أبي الحسين إبراهيم، يعاتبه في ذلك، فقال له أبوه: لا تصلّ بعدها على جنازة.
وحدث عن رشا بن نظيف بسنده إلى أبي بكر محمد بن دريد قال: أنشدني أبو حاتم: من الوافر
إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق بما به الصدر الرّحيب
وأوطئت المكاره واطمأنّت ... وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضّرّ وجهاً ... ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوثٌ ... يمنّ به اللّطيف المستجيب
وكلّ الحادثات إذا تناهت ... فموصولٌ بها الفرج القريب
ولد الشريف أبو القاسم علي سنة أربع وعشرين وأربع مئة، وتوفي في سنة ثمان وخمس مئة. وأوصى أن يسنّم قبره ولا يتولاه أحد من الشيعة.
علي بن إبراهيم بن مطر
أبو الحسن السكري البغدادي سمع بدمشق وبحمص وبالعراق، وكان ثقة.
حدث عن محمد بن المصفى بسنده إلى جرير بن عبد الله، عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: في قوله: " وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشّمس " قال: " صلاة الصبح "، " وقبل غروبها " قال: " صلاة العصر ".
وحدث عن أبي الوليد هشام بن عمار بسنده إلى عبيد بن عمير عن أبيه: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الصلاة المكتوبة.(17/195)
وحدث عن داود بن رشيد بسنده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يغتسل بالصّاع ويتوضأ بالمدّ.
توفي علي بن إبراهيم سنة خمس. وقيل: سنة ست وثلاث مئة.
علي بن إبراهيم بن نصرويه
ابن سختام بن هزيمة بن إسحاق بن عبد الله بن أشكر بن كاك أبو الحسن السمرقندي الغزي الفقيه قدم دمشق حاجاً سنة إحدى وأربعين وأربع مئة، وحدث بها وبصور وبغداد.
حدث عن أبي بكر محمد بن أحمد بن مت الأسبيجي بسنده إلى أنس بن مالك قال: عطس رجلان عند النّبي صلّى الله عليه وسلّم فشمّت أحدهما ولم يشمّت الآخر. قيل هما رجلان عطسا فشمّتّ أحدهما وتركت الآخر! قال: " إن هذا حمد الله عزّ وجلّ وإن هذا لم يحمد الله عزّ وجلّ ".
حدث عن أخيه إسحاق بسنده إلى أحمد بن قطن بن أبي قطن قال:
سئل ذو النون وأنا حاضر عنده: متى يجد العبد حلاوة الأنس بالله عزّ وجلّ؟ قال: إذا قطع العلائق، ورفض الخلائق، وكان من أهل الحقائق، وعمل بالرقائق، فحينئذٍ ينجو من البوائق.
قال: وأنشدني أخي قال: أنشدني أبو العباس البلخي بمدينة السلام في هذا المعنى: من الطويل
وما الزهد إلى في انقطاع العلائق ... وما الحبّ إلا في وجود الحقائق
وما الحبّ إلا حبّ من مال قلبه ... عن الخلق مشغولاً بربّ الخلائق
فصدّ عن الدنيا ولم يرض بالمنى ... وصار إلى المولى بأرضى الطرائق
كان من أهل العلم والتقدم في الفقه على مذهب أبي حنيفة.
وولد سنة خمس وستين وثلاث مئة، وتوفي سنة تسع وثلاثين وأربع مئة.(17/196)
علي بن إبراهيم بن يوسف
أبو الحسن الشقيفي البصري الصوفي حدث عن جعفر الدّيبلي عن أبي القاسم جنيد بن محمد قال: كنت إذا قمت من عند أبي الحسن سري يقول: إذا قمت من عندي من تجالس؟ فقلت له: حارثاً المحاسبي. فقال: نعم، خذ من علمه وأدبه. واحذر تشقيقه الكلام. قال: فلما وليت سمعته يقول: جعلك صاحب حديث صوفيّاً، ولا جعلك صوفيّاً صاحب حديث.
وحدث عن إبراهيم بن أحمد بن المولد الرقي بسنده إلى إبراهيم بن أدهم قال: مررت بالشام بحجر منقور عليه مكتوب: أنت بما تعلم لا تعمل، تطلب علم ما لا تعلم.
وحدث عنه أيضاً بسنده إلى أبي الحسن أحمد بن هارون قال: وجدت هذه الأبيات على حائط بصنعاء مكتوبة: من المتقارب
أحبّ الشمال وأهوى الجنوبا ... لأنهما يسعدان الكئيبا
تجيء الشمال بريح الحبيب ... فتفعل في القلب فعلاً عجيبا
وتمضي الجنوب بشكوى المحبّ ... إلى من يحب فتشفي القلوبا
أعلل نفسي بمرّ الرياح ... لأني غريبٌ أحبّ الغريبا
فطوبى لمن كان ذا فطنةٍ ... يرى من يحب قريباً قريبا(17/197)
علي بن إبراهيم القاضي
حدث بدمشق عن جعفر بن أحمد بسنده إلى سعيد بن عبد العزيز أنه قال: إذا كان الله معك فمن تخاف؟ وإذا كان الله عليك فمن ترجو؟ وحدث بدمشق عن محمد بن علي بن خلف بسنده إلى أبي سليمان الداراني قال: مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع.
علي بن إسحاق بن رداء
أبو الحسين الغساني الطبراني قاضي طبرية.
حدث عن علي بن نصر البصري بسنده إلى علي بن الحسين عن أبيه رفعه قال: إن الله عزّ وجلّ خلق عليين، وخلق طينتنا منها، وخلق طينة محبينا منها، وخلق سجّين، وخلق طينة مبغضينا منها، فأرواح محبينا تتوق إلى ما خلقت منه، وأرواح مبغضينا تتوق إلى ما خلقت منه.
كان علي بن رداء أحد الثقات والظرفاء من أهل الشام، رحمه الله.
علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ الكاتب
شاعر، ولي معونة دمشق في أيام الواثق في سنة ست وعشرين ومئتين.
كان رجاء بن أبي الضحاك يتولى خرج حيدتي دمشق والأردن في أيام الواثق، وكان علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ يتولى معونة حيدتي دمشق والأردن خلافة أبيه،(17/198)
فكانا إذا اجتمعا أمرّ رجاء في منزله بحضرة عليّ بن إسحاق، ولا يؤمر علي بن إسحاق، وكان ينكر رجاء إذا كان في منزل علي بن إسحاق أن يؤمر علي بن إسحاق بحضرته؛ فقيل له في ذلك فقال: أنا أجل وأقدم بخراسان، وأولى بالإمارة منه؛ فأحفظ ذلك علياً حتى زوّر كتاباً بولايته الخراج، ووجه إلى رجاء يحضره؛ فقيل لرجاء: وجه إلى شيوخ البلد وإلى الناس فاجمعهم عندك وشاورهم في ذلك؛ فقال رجاء: افتحوا الباب ولا تمنعوا أحداً، وحمله العجب على ترك التحرز.
فوجه إليه علي بن إسحاق من أخرجه راجلاً حتى جاء به إليه، فحبسه ثم قتله، وقتل ابنه، وقتل كاتبه وطبيبه.
فلما فعل ذلك غلظ على عيسى بن سابق، وكان صاحب شرطة دمشق، وشق ذلك أيضاً على جماعة الوجوه من قواده، وتشاوروا فيما بينهم، فقالوا: قد أقدم هذا على أمر غليظ، ونحن فقد علم السلطان موضعنا ومكاننا في البلد، وإنا من أهله وتنّائه، فاتفقوا على أن يقبضوا على علي بن إسحاق فيتوثقوا منه، ويكتبوا إلى السلطان بخبره.
فدخلوا عليه، وأنكروا ما كان منه، فغضب علي بن إسحاق، وقال: خذوا عليهم الباب، فقام إليه عيسى بن سابق وضرب بيده إلى رجله، وقال: لمن تقول هذا يا صبي؟ ووثبوا بأجمعهم إليه فأوثقوه، وكتبوا بخبره إلى الواثق. فأمّروا عليهم عيسى بن سابق.
فورد الكتاب بحمله مستوثقاً منه، فحمل.
وكان محمد بن عبد الملك الزيات يميل إليه، وابن أبي دؤاد يميل إلى رجاء بن أي الضحاك.
فلما أحضر علي بن إسحاق، قال الواثق لابن أبي دؤاد: ما ترى في أمره؟ فغلّظ أمره، وقال: أقدم على قتل رجل بغير حق، ومن عمال السلطان، وما يجب عليه إلا أن يقاد به.(17/199)
وكان محمد بن عبد الملك الزيات قد أشار على أبيه إسحاق بن يحيى بأن يقول له: أن يظهر الجنون.
فلما أمر الواثق بقتله قال له محمد بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين، إنه مجنون، فتعرف ذلك، فوجد كما قال، فقال لابن أبي دؤاد: ماذا ترى؟ فقال: إن كان مجنوناً يا أمير المؤمنين، فما عليه القتل، فأمر بحبسه، فأقام على ذلك سنتين يقذف من يكلمه، ويحدث في موضعه ويتلطخ به.
فقال محمد بن عبد الملك يوماً لأحمد بن مدبر: يا أحمد امض إليه فتعرف خبره. فجاءه وفي وجهه شباك قد عمل له بسبب ما كان يفعله، فقال له: أي شيء خبرك؟ فقال له: وأي شيء تريد مني يا بن الفاعلة؟ فقال له: ليس عرضك كفواً لعرضي فأشتمك، ولكن حبسك أن حلّ بك القتل فتخلصت منه بالجنون والإحداث، ويصير في فيك ولحيتك، فترمي الناس به.
فلم يزل في الحبس أيام الواثق، فلما مات الواثق أطلق، فصارت به لوثة من السوداء، فلقي يوماً الحسن بن رجاء، وكان رجاء وابنه أصدقاء أبيه إسحاق بن يحيى بن معاذ، فسأله أن يقرضه مئة ألف درهم، فقال له الحسن: ويلك! ما أصفق وجهك! تقتل أبي بالأمس، وتستقرض مني اليوم مئة ألف درهم؟! فقال له: وأي شيء يكون؟ اقتل أنت أبي وخذ مني مئة ألف درهم! فعجب الحسن منه، ووجّه إليه بما سأل.
ولما قتل رجاء بن الضحاك رثاه الحسن ابنه بقوله: من مخلع البسيط
أليس من معجب القضاء ... وثوب أرض على سماء
هدّ بمثل الحصاة طودٌ ... ضاقت به فسحة الفضاء
واستعذب السيف يوم ولّى ... منه دماً ليس كالدماء
وانقطع اليوم من رجاءٍ ... رجاء من كان ذا رجاء
أجابه علي بن إسحاق بقوله: من مخلع البسيط
هينا جميعاً على سواء ... في مجلس الحكم والقضاء(17/200)
من كان منا يكون أرضاً ... وأيّنا كان كالسماء
وأي راجٍ رجا رجاءً ... ففاز بالغنم في الرجاء
أمّا دم العلج يوم ولّى ... فكان من أهون الدماء
علي بن إسماعيل أبو الوزير الصوفي
كان بساحل دمشق.
قال أبو الوزير: سمعت محمد بن إسماعيل بن علي يقول عن أبيه: إنه قيل له: ما ألذ الأشياء؟ قال: ممازحة محبوب، ومحادثة إخوان في الله تعالى، وآمال تقطع بها زمانك، وما من لذة إلا والإفضال على الإخوان ألذّ منها.
سئل أبو الوزير الصوفي في جامع طرابلس عن قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: " الخلق عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله ". فقال: هذا مخصوص، وعيال الله خاصته.
قيل: وكيف؟ قال: لأن الناس أربعة أقسام: تجارة ونجارة وصناعة وزراعة، فمن لم يكن من هذه الأقسام فهو من عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لهؤلاء.
علي بن أسيد بن أحيحة بن خلف
ابن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي أبو ريحانة القرشي الجمحي المكي قدم على عبد الملك بن مروان.
حدث أبو ريحانة وكان من أصحاب معاوية قال: قال معاوية لان عباس: لم سميت قريش قريشاً؟ قال: بدابّةٍ تكون في البحر من(17/201)
أعظم دوابه يقال لها: القرش، لا تمرّ بشيء من الغث والسمين إلا أكلته، قال: فتنشد في ذلك شيئاً؟ فأنشده شعر الجمحي إذ يقول: من الخفيف
وقريشٌ هي التي تسكن البح ... ر بها سمّيت قريشٌ قريشا
تأكل الغثّ والسمين ولا تت ... رك فيه لذي الجناحين ريشا
هكذا في البلاد حيّ قريشٍ ... يأكلون البلاد أكلاً كميشا
ولهم آخر الزمان نبيٌّ ... يكثر القتل فيهم والخموشا
قال أبو ريحانة:
وقف ابن عمر يوم عرفة مع الحجاج، ووقفنا مع ابن عمر، قال أبو ريحانة: فدخلت المسجد الحرام مع ابن عمر فسمع غلاماً يقول لنا: أين الحواريّ؟ فقال: كذبت، إن لم يكن ابن الزبير.
علي بن الأقمر بن عمرو بن الحارث
ابن معاوية بن عمرو بن الحارث بن ربيعة بن عبد الله بن وداعة الهمذاني ثم الوداعي الكوفي أخو كلثوم بن الأقمر قيل: إنه وفد على معاوية بن أبي سفيان. وقيل: إنه لم يدرك معاوية.
حدث عن أبي جحيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " أما أنا فلا آكل متكئاً ".(17/202)
وحدث عنه قال: مرّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم على رجل سادل ثوبه في الصلاة فعطفه عليه.
كان علي بن الأقمر ثقة صدوقاً.
علي بن بحر بن برّي
أبو الحسن القطان البغدادي الفارسي سمع بدمشق.
حدث عن الوليد بن مسلم بسنده إلى ابن عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ".
والبرّي بباء موحدة وراء مشددة. وقال في موضع آخر: وراء مهملة، ولم يقل: مشددة. من الطويل ومن شعر علي بن بحر:
يقولون مخلوقٌ كلام إلهنا ... وذلك مهجورٌ من القول منكر
أيخلق ربّي منه شيئاً فخلقه ... يبيد ويفنى ثم يحيا فينشر
فما قال هذا القول أحبار من مضى ... ولا عالمٌ عنه الرواية تؤثر
فإن كان هذا منزلاً في كتابنا ... أجبنا سراعاً لا نصدّ فنكفر
وإن كان من قول النّبي محمدٍ ... أجبنا، وقلنا: سنّةٌ لا تؤخّر
وإلاّ فما بال التّقحّم هكذا ... على غير شيء يستبان ويبصر
وكان علي بن بحر ثقة.
توفي علي بن بحر البري سنة أربع وثلاثين ومئتين بالبصرة، وقيل: ببابسير من ناحية الأهواز.(17/203)
علي بن بذيمة أبو عبد الله
مولى جابر بن سمرة السّوائي أصله من الكوفة، ثم نزل حرّان، ووفد على عمر بن عبد العزيز.
حدث عن قيس بن حبتر، قال: سألت ابن عباس عن الجر الأخضر والأبيض والأحمر، فقال: أول من سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم وفد عبد قيس، فقالوا: إنا نصيب من الثّفل، فأي الأسقية؟ قال: " لا تشربوا في الدّبّاء ولا في المزفت ولا في النقير ولا في الجر واشربوا في الأسقية ".
وحدث عنه قال: قال ابن عباس: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إن الله حرّم عليّ، أو حرّم الخمر والمسكر والكوبة ".
قلت لعلي بن بذيمة: ما الكوبة؟ قال: الطبل.
وحدث عنه قال: قال ابن عباس: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " كلم مسكر حرام ".
قال: هذا حديث واحد قسم ثلاثة أحاديث.
وحدث علي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أصبت من امرأتي وهي حائض، فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعتق نسمة.(17/204)
وحدث مولى لابن عباس قال: تمتعت فنسيت أن أذبح هدياً لمتعتي حتى مضت أيام الذبح، فذكرت ذلك لابن عباس فقال: عليك من قابلٍ ديان: هدي لمتعتك، وهدي لما أخرت.
وحدث علي بن بذيمة عن سعيد بن جبير قال: سألني الحارث بن أبي ربيعة: ما تقول في هذا، وهو يطوف بالبيت؟ قلت: ماله؟ قال: قدم الآن وقد فاته الحج، قلت: يحل بعمرة، وعليه الحج من قابل، هكذا قال عمر بن الخطاب.
ذكر أبو إسرائيل عرم بن عبد العزيز، فقال: حدثني علي بن بذيمة قال: رأيته بالمدينة وهو أحسن الناس لباساً وأطيب الناس ريحاً، وهو أخيل الناس في مشيته، ثم رأيته بعد ذلك يمشي مشية الرهبان، فمن حدثك أن المشية سجية بعد عمر فلا تصدقه.
مات علي بن بذيمة بحران سنة ست وثلاثين ومئة. وقيل: سنة ثلاث وثلاثين ومئة.
قيل: هو مولى جابر بن سمرة نفسه، وقيل: أبوه بذيمة، قال: وهو الصواب.
وكان علي بن بذيمة ثقة، وكان شيعياً، وكان ينال من عثمان رضي الله عنه.
علي بن بركات بن إبراهيم بن علي
ابن محمد بن أحمد بن العباس بن هاشم أبو الحسن بن الخشوعي، عم إبراهيم بن طاهر كان حمالاً في فندق للطعام، ولم يكن الحديث من شأنه.
وحكي عنه أنه كان يدخل الحمام يغير مئزر.(17/205)
حدث عن أبي الحسين محمد بن مكي المصري بسنده عن أبي هريرة قال:
نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن النظر في النجوم.
توفي سنة عشر وخمس مئة.
علي بن بشرى بن عبد الله
أبو الحسن العطار الإمام في مسجد ابن أبي الحديد.
حدث عن أبي علي الحسين بن إبراهيم بن جابر الفرائضي، بسنده إلى ابن عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى في بغض مغازيه امرأة مقتولة، فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان.
وحدث عن أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن حمدان بمخالويه بسنده إلى أبي هريرة قال: المساجد سوق من أسواق الآخرة فقراها المغفرة وتحفها الرحمة.
وكان ابن بشرى ثقة مأموناً.
وتوفي سنة أربع عشرة وأربع مئة.
علي بن بشر بن علي
أبو الحسن القزويني الصوفي من ساني نيسابور، ورحل وسمع بدمشق وبغيرها.
حدث عن أبي علي محمد بن هارون بن شعيب الأنصاري بسنده إلى محمد بن سلام قال: جاء رجل إلى عمرو بن عبيد فقال له: إن الأسواري لم يزل يذكرك أمس في قصصه، ويقول: عمرو بن عبيد الضال، عمرو بن عبيد المبتدع؛ فقال عمرو بن عبيد: يا هذا، ما رعيت مجالسة الرجل، حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أدّيت حقي حين أبلغتني عن أخي ما أكره، أبلغه أن الموت يعمنا، والبعث يحشرنا، والقيامة تجمعنا، والله يحكم بيننا.(17/206)
وحدث علي بن بشر عن أبي عبد الله محمد بن الحسن القنديلي الإستراباذي بسنده إلى بن عباس قال: قرابة الرحم تقطع، ومنة النعم تكفر، ولم ير مثل تقارب القلوب، يقول الله عز وجل: " لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ".
وذلك موجود في الشعر: من الطويل
إذا متّ ذو القربى إليك برحمه ... فغشّك واستغنى فليس بذي رحم
ولكنّ ذا القربى الذي إن دعوته ... أجاب، ومن يرمي العدوّ الذي ترمي
ومن ذلك قول القائل: من الكامل
ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم ... وبلوت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرّب قاطعاً ... وإذا المودة أقرب الأنساب
علي بن بكار بن بلال العاملي
قاضي دمشق.
حدث عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: " الملك في قريش لهم عليكم حق، ولكم عليهم ما حكموا فعدلوا، وعاهدوا فوفوا، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
قيل: إن بكاراً لم يعرف له ابن اسمه علي وإنما يعرف له ابنان: محمد بن بكار وجامع بن بكار.
وقد وقع هذا الحديث بعينه من رواية محمد بن بكار، وزاد فيه بعد قوله: " ما حكموا فعدلوا: واسترحموا فرحموا ".(17/207)
علي بن بكار بن أحمد بن بكار
أبو الحسن الصوري الشاهد سمع بدمشق.
حدث بصور عن أبي شجاع فاتك بن عبد الله الصوري مولى بني مزاحم بسنده إلى أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عن جبريل عن ربه عز وجل قال: " من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ".
فذكر الحديث.
توفي سنة تسع وخمسين وأربع مئة.
علي بن بندار بن الحسين
أبو الحسن الصوفي المعروف بالصيرفي النيسابوري قدم دمشق.
حدث عن إبراهيم بن يوسف بن خالد الهسنجاني بسنده إلى أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: " منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها ".
وحدث عن إبراهيم بن نصر بن عنبر الضبي بسنده إلى ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " لا تعلّموا العلم لثلاث، من فعل ذلك دخل النار: لتباهوا العلماء، وتماروا به السفهاء، ولتصرفوا وجوه الناس إليكم ".
كان أبو الحسن بن الصيرفي من الثقات في الرواية.
وتوفي سنة سبع وخمسين وثلاث مئة وقيل: سنة تسع وخمسين وثلاث مئة.(17/208)
وكان جليل القدر، حسن الخلق، من جلة مشايخ نيسابور، ورزق من رؤية المشايخ وصحبتهم ما لم يرزق غيره، وبقيت بركته في عقبه وولده بعده.
وأبو القاسم ابنه واحد وقته في طريقته، قال ابن أبو القاسم: قال لي يوماً وفي كمي كتاب: ما هذا الحبر؟ قلت: كتاب المعرفة، قال: ألم تكن المعرفة في القلوب؟ صارت في الكتب؟.
وقال ابنه أبو القاسم: كنت أريد أن أخرج إلى النزهة فقلت له: فقال: من عدم النزهة من قلبه لا تزيده النزهة إلا وحشةً.
وقال أبو القاسم: سمعت أبي يقول: يا بني إياك والخلاف على الخلق فمن رضي الله به عبداً، فارض به أخاً.
علي بن جعفر بن عبد الله
ويقال: ابن جعفر بن محمد أبو الحسن الرازي نزيل الرملة، سمع بدمشق وبغيرها.
حدث عن محمد بن الحسين بن قتيبة بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إذا نام العبد في سجوده باهى الله به ملائكته، قال: انظروا إلى عبدي، روحه عندي، وجسده في طاعتي ".
وحدث عن أبي القاسم عامر بن خرتم الدمشقي بسنده إلى عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله: من خير الناس؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنفع الناس للناس، ومن الأعمال الصالحة سرور تدخله على مؤمن: تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أعين أخي المسلم على حاجته حتى أثبتها له أحبّ إلي من أن أعتكف شهري في المسجد الحرام، ومن أعان أخاه المسلم على حاجته حتى يثبتها له ثبت الله قدميه يوم تزول الأقدام، ومن كظم غيظه ملأ الله قلبه نوراً يوم القيامة، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل ".(17/209)
وحدث عن محمد بن الحسين بن قتيبة بسنده إلى عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " قال الله جلّ ثناؤه: " عبادي يلبسون لباس المسوّدة، وقلوبهم أمر من الصبر، ألسنتهم أحلى من العسل، يغرّون الناس بدينهم، أبي يغترون؟! أم عليّ يجترئون؟ فبي أقسم لألبسنّهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران " ".
علي بن حجر بن إياس
أبو الحسن السعدي المروزي من علماء أهل خراسان، قدم دمشق، وسمع بها.
حدث عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن: أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر، وداره بجنب المسجد، فلما دخلنا عليه قال: صليتم العصر؟ قلنا له: إنما انصرفنا الساعة من الظهر، قال: فصلوا العصر، فقمنا فصلينا، فلما انصرفنا قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: " تلك صلاة المنافقين، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني شيطان، قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً ".
قال علي بن حجر: ولدت سنة أربع وخمسين ومئة.
ومات سنة أربع وأربعين ومئتين.
وكان علي بن حجر ثقة مأموناً حافظاً.
وجه بعض مشايخ مرو إلى علي بن حجر بشيء من السكر والأرز وثوب، فردّ عليه وقال هذه القصيدة: من الخفيف
جاءني عنك مرسلٌ بكلام ... فيه بعض الإيحاش والإحشام
فتعجّبت ثم قلت: تعالى ... ربّنا، ذا من الأمور العظام
خاب سعيي إن شريت خلاقي ... بعد تسعين حجّةً بحطام(17/210)
أنا بالصبر واحتمالٍ لإخوا ... ني أرجّي حلول دار السلام
والذي سمتنيه يزري بمثلي ... عند أهل العقول والأحلام
نظر علي بن حجر إلى لحية أبي الدرداء، وهو طويل اللحية، فقال: من البسيط
ليس بطول اللّحى ... يستوجبون القضا
إن كان هذا كذا ... فالتّيس عدلٌ رضا
قال: ومكتوب في التوراة: لا يغرنك طول اللحى فإن التيس له لحية.
أنشد أبو عبد الرحمن الأودي لعلي بن حجر: من الرجز
لتتركنّ قصرك المبنيّا ... وكرمك المعرّش المسقيّا
والحوض والبستان والرّكيّا ... والمجلس المنجّد البهيّا
والمسجد المشرّف العليّا ... والباب والوصيد والنّديّا
والراتع العتيق والشّهريّا ... والأقمر المفلّس المصديّا
والتّبر والأوراق والحليّا ... لوارثٍ عهدته عصيّا
يأكله أكلاً له هنيّا ... ثم تزور جدثاً قصيّا
في ملحدٍ تلقى به منسيّا ... حيث تساوي عنده الأبيّا
قضاء ربٍّ لم يزل حفيّا ... يعلم منك الجهر والخفيّا
وكان وعد ربنا مأتيّا
توفي علي بن حجر سنة أربع وأربعين ومئتين.
قال أحمد بن المبارك: سمعت علي بن حجر، وكلمه رجل في شيء فقال: من الوافر(17/211)
زمانك ذا زمان دخول بيت ... وحفظٍ للّسان وخفض صوت
فقد مرجت عهود الناس إلا ... أقلهم فبادر قبل فوت
فما يبقى على الأيام شيءٌ ... وما خلق امرؤ إلا لموت
علي بن الحريش
قال علي بن الحريش: أمر أبو العميطر بإنفاء رجل، وقال: تخرج عن عملي، فقال الرجل: الدنيا كلها لك يا أمير المؤمنين، فإلى أين تخرجني؟ قال: صدق، خلوا سبيله.
علي بن أبي الحرّ
قال علي بن أبي الحرّ: قال الأوزاعي: خرجت حاجاً فدخلت مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم بليل، فأتيت مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا شاب بين القبر والمنبر يتهجد فيه، فلما طلع الفجر استلقى على ظهره، ثم قال: من الرجز
عند الصباح يحمد القوم السّرى
فقلت: يا بن أخ، لك ولأصحابك لا للجمّالين.(17/212)
علي بن الحسن بن إبراهيم
ابن سعد بن دينار بن عطاء بن سعد أبو طالب التميمي الحلبي ثم الحمصي التاجر المعروف بالقفيل حدث عن أبي علي الحسين بن محمد السكوني بن وجه الفاقعة بسنده عن ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاز شهادة أعرابي في رؤية الهلال لصوم شهر رمضان.
علي بن الحسن بن إبراهيم
ابن محمد بن حسان بن عمار بن جحاف أبو الحسن العنسي الصوفي الوكيل الفقير الدمشقي حدث في سنة خمس وعشرين وأربع مئة عن القاضي أبي الحسن محمد بن عبد الكريم بن سليمان الجوهري المصيصي بسنده إلى ابن عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الدباء والحنتم والنقير.
وأنشد بسنده إلى منصور الفقيه لنفسه: من البسيط
حال العيادة يومٌ بين يومين ... وجلسةٌ كممرّ الميل في العين
لا تسألنّ عليلاً عن شكايته ... يكفيك ما تنظر العينان في العين
توفي أبو الحسن العنسي الدمشقي الوكيل سنة ست وثلاثين وأربع مئة.(17/213)
علي بن الحسن بن بندار بن محمد بن المثنى
أبو الحسن التميمي العنبري الإستراباذي شيخ أهل التصوف بجرجان، رحل وطوّف.
حدث عن أبي بكر أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن الجارود الرقي الحافظ بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة، ولا تصعد لهم إلى الله حسنة: السكران حتى يصحو، والمرأة الساخط عليها زوجها، والعبد الآبق حتى يرجع فيضع يده في يد مواليه ".
قال أبو الحسن بن بندار بسنده: قال رجل من الجهلة لبعض المتصوفة: أين هو؟ قال: لعنك الله: أتطلب مع العين الأثر؟ هو أجل من أن يخفى، وأعز من أن يرى.
علي بن الحسن بن جعفر
أبو الحسين البغدادي البزاز المعروف بابن كرنيب وبابن العطار من أهل الخرم من ناحية الرصافة من شرقي بغداد، سمع بدمشق.
حدث بالمخرم عن أبي جعفر محمد بن الحسين بن جعفر الخثعمي بسنده إلى عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن.(17/214)
وكان أبو الحسين يقول: ولدت في سنة ثمان وتسعين ومئتين، وسمعت الحديث سنة ست وثلاث مئة.
وتوفي أبو الحسين سنة ست وسبعين وثلاث مئة.
علي بن الحسن بن حبيب الدمشقي
حدث بسنده إلى الشافعي قال: كان لي صديق يقال له حصين، وكان يبرني ويصلني، فولاه أمير المؤمنين السّيبين قال: فكتبت إليه: من الكامل
خذها إليك فإن ودّك طالقٌ ... مني وليس طلاق ذات البين
فإن ارعويت فإنها تطليقةٌ ... ويدوم ودّك لي على ثنتين
وإن التويت شفعتها بمثالها ... وتكون تطليقين في حيضين
وإذا الثلاث أتتك مني طائعاً ... لم تغن عنك ولاية السّيبين
لم أرض أن أهجو حصيناً وحده ... حتى أسوّد وجه كل حصين
علي بن الحسن بن الحسين
ابن علي بن عبد الله بن العباس بنعلي أبو الحسن بن أبي علي السلمي الموازيني حدث عن سنة خمس وخمس مئة عن أبي الحسين محمد بن عبد الرحمن بن عثمان بن أبي نصر بسنده إلى أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرابض الغنم.(17/215)
ولد أبو الحسن الموازيني سنة ثمان وعشرين وأربع مئة. وقيل: سنة ثلاثين وأربع مئة، وتوفي سنة أربع عشرة وخمس مئة.
علي بن الحسن بن رجاء بن ظعان
أبو القاسم المحتسب حدث عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن عمارة بسنده عن أنس قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثيراً ما يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك "، قال: فقلنا: يا رسول الله، وقد آمنّا بك وصدقناك بما جئت به، أتخاف علينا؟ قال: " نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها ".
وأنشد علي بن الحسن بدمشق قال: أنشدني أبو علي محمد بن هارون بن شعيب لسمنون: من الكامل
أمسي بخدّي للدموع رسوم ... أسفاً عليك، وفي الفؤاد كلوم
والصبر يحسن في المصائب كلّها ... إلا عليك فإنه مذموم
مات أبو القاسم المحتسب في سنة ست وسبعين وثلاث مئة.
علي بن الحسن بن طاوس بن سكر
أبو الحسن العاقولي المقرئ المعروف بتاج القراء سكن دمشق وسمع بها وبغيرها.
حدث عن أبي القاسم عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن بشران بسنده إلى جرير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "(17/216)
لا يصدر المصدق، إذا جاءكم المصدق فلا يصدر إلا وهو عنكم راض ".
كان أبو الحسن فكهاً حسن المحادثة، وكتب شيئاً كثيراً.
وتوفي سنة أربع وثمانين وأربع مئة. وقيل: سنة ثلاث وثمانين، وذكرت أنه كان بلغ السبعين أو نيف عليها.
قال أبو الفرح غيث بن علي: رأيت ليلة يوم السبت الحادي والعشري من رمضان سنة أربع وثمانين جمال القراء هذا رحمه الله في المنام وحاله وزيّه صالح. فسألته عن حاله فذكر خيراً، فقلت: أليس قد متّ؟ قال: بلى، قلت: فكيف رأيت الموت؟ قال: حسن أو جيد، وهو مستبشر، قلت: غفر لك ودخلت الجنة؟ قال: نعم. قلت: فأي الأعمال أنفع؟ قال: ما ثمّ شيء أنفع من الاستغفار، أكثر منه.
علي بن الحسن بن عبد السلام
ابن عبد العزيز بن المظفر بن أبي الحزوّر أبو الحسن الأزدي حدث سنة سبع وثمانين وأربع مئة عن أبي الحسن أحمد بن محمد بن أحمد العتيقي بسنده إلى ابن عباس قال: قال رجل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما شاء الله وشئت فقال: " جعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده ".
ولد أبو الحسن الأزدي سنة أربع وعشرين وأربع مئة، وتوفي سنة تسع وتسعين وأربع مئة.
وقيل: إنه كان يقرأ على القبور.(17/217)
علي بن الحسن بن عبد المؤمن بن يحيى بن زيد
أبو الحسن الخولاني القزاز المكفوف حدث عن محمد بن سليمان المنقري بسنده إلى بهز حكيم عن أبيه عن جده قال: قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " أترعوون عن ذكر الفاسق؟! اذكروه بما فيه يحذره الناس ".
وحدث عنه أيضاً بسنده إلى عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً: " طوبى للغرباء "، قيل: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: " أناس صالحون قليل في ناس كثير، من يبغضهم أكثر ممن يحبهم، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ".
توفي أبو الحسن الخولاني سنة إحدى وثلاثين وثلاث مئة.
علي بن الحسن بن علي بن ميمون بن بكر بن قيصر
أبو الحسن الربعي المعروف بابن أبي زروان حدث عن أي العباس أحمد بن عتبة بن مكين بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من قال: لا إله إلا الله كتب له عشرون حسنة، ومن قال: الله أكبر كتب له عشرون حسنة، ومن قال: سبحان الله كتب له عشرون حسنة، ومن قال: الحمد لله كتب له: ثلاثون حسنة ".
وعن أبي علي الحسن بن عبد الله بن سعيد بن عبيد الله الكندي الحمصي بسنده إلى أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " إن في الجنة سوقاً فيها كثبان المسك، يأتونها كل جمعة، فتهب الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً ".(17/218)
توفي أبو الحسن الربعي سنة ست وثلاثين وأربع مئة، وذكر أن مولده سنة ثلاث وستين وثلاث مئة.
وكان ثقة مأموناً، صاحب أصول حسنة.
علي بن الحسن بن علي بن أبي الفضل
أبو الحسن بن الكفرطابي حدث بدمشق سنة اثنتين وخمسين وأربع مئة بسنده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إن أول ما يجازى به المؤمن أن يغفر لجميع من اتبع جنازته ".
توفي أبوالحسن الكفرطابي سنة ست وخمسين وأربع مئة.
علي بن الحسن بن علي بن سعيد بن محمد بن سعيد
أبو الحسن بن أبي علي العطار
كان أبوه مقدم الشهود بدمشق، وسمّعه الحديث الكثير، وكان أبوه مثرياً، فاشترى له جارية مغنية، فتعلم منها الغناء، ثم افتقر، فكان يغني في مجالس الشرب، ويشرب الخمر، إلى أن كبر وضعف، وساءت حاله، ثم رغب في التوبة فتاب، وترك الغناء مدة.
حدث عن أبي القاسم السميساطي بسنده إلى سعد بن أبي وقاص: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى أن تباع الرطب بالتمر.
ولد أبو الحسن سنة خمس وأربعين. وتوفي سنة اثنتين وعشرين وخمس مئة.
علي بن الحسن بن علي بن عبد الواحد
ابن موحد بن إسحاق بن إبراهيم بن سلامة أبو الحسن السلمي المعروف بابن البري حدث عن عمه أبي المفضل عبد الواحد بن علي بن عبد الواحد بن البري بسنده إلى أبي هريرة أن(17/219)
خفف على داود القرآن، فكان يأمر بداوبه فتسرج، فيقرأ القرآن قبل أن تسرج، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه.
توفي سنة خمس وثلاثين وخمس مئة.
علي بن الحسن بن عمر
أبو الحسن القرشي الزهري المعروف بالثمانيني سمع بدمشق وبغيرها.
حدث عن أبي بكر محمد بن علي بن محمد النيسابوري بسنده إلى ابن عباس، قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: " اليوم الرهان، وغداً السباق، والغاية الجنة، والهالك من دخل النار، وأنا الأول وأبو بكر المصلي وعمر الثالث، والناس بعدنا علّ، والأول فالأول ".
توفي أبو الحسن الثمانيني القرشي بصور في سنة تسع وخمسين وأربع مئة.
وكان رجلاً صالحاً.
علي بن الحسن بن علان بن عبد الرحمن
أبو الحسن الحراني الحافظ قدم دمشق، وصنف تاريخ الجزيرة.
حدث عن محمد بن علي بن الحسن بن حرب بسنده إلى عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يوتر بخمس ركعات، لا يفصل في شيء منهم إلا الخامسة.
توفي أبو الحسن الحراني سنة خمس وخمسين وثلاث مئة. وكان ثقة حافظاً نبيلاً.(17/220)
علي بن الحسن بن القاسم
ابن عبد الله بن محمد بن الحسن بن المترفق أبو الحسن البغدادي الطرسوسي الصوفي حدث بدمشق ومصر.
روى عن أبي أحمد بن عبد الله بن عبد الله الحافظ بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إن العبد ليتصدق بمثل الثمرة، ولا يقبل الله ذلك إلا طيباً، فيجعلها في يمينه، وكلتا يديه يمين فيربّيها كما يربّي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى إنها تكون في يد الله كالجبل العظيم ".
وحدث عن أبي الفضل العباس بن أحمد الخواتيمي بسنده إلى أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إن الله خلق الأنبياء من أشجار شتى، وخلقني وعليّاً من شجرة واحدة، فأنا أصلها وعلي فرعها، والحسن والحسين ثمارها، وأشياعنا أوراقها، فمن تعلق بغصن من أغصانها نجا، ومن زاغ هوى، ولو أن عبداً عبد الله عز وجل بين الصفا والمروة ألف عام ثم ألف عام ثم ألف عام ولم يدرك محبتنا لأكبّه الله على منخريه في النار "، ثم تلا: " قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ".
توفي أبو الحسن بن المترفق سنة سبع وأربع مئة.
وكان يلقب الهكوك، وكان يتظاهر بالتصوف.(17/221)
علي بن الحسن بن محمد
أبو الحسن الصقلي سمع بدمشق وبغيرها.
حدث عن ياسين بن عبد الصمد بن عبد العزيز أبي عتاب الدمشقي بسنده إلى أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر الجنة فقال: " ألا مشمّر لها؟ هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، ونهر مطرد، وزوجة حسناء جميلة في حبرة ونعمة في إقامة أبداً ".
علي بن الحسن بن محمد بن أحمد
ابن محمد بن أحمد بن جميع أبو الحسن الغساني الصيداوي حدث بصيدا عن أبيه بسنده إلى أبي أرلكه قال: سأل رجل عبد الله بن عمرو: ممّ خلق الخلق؟ قال: من النور والظلمة والماء والثرى، فقال: أئت ابن عباس فاسأله، فأتاه فسأله فقال له مثل ذلك، فقال: ارجع إليه فاسأله: مم خلق ذلك كله؟ فرجع إليه فسأله، فتلا: " وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه ".
استغرب يحيى بن معين هذا الحديث جداً.
وحدث أبو الحسن الغساني عن أبيه بسنده إلى الأوزاعي قال:
أردت بيت المقدس، فرافقت يهودياً، فلما صرنا إلى طبرية، نزل فاستخرج(17/222)
ضفدعاً، فشد في عنقه خيطاً، فصار خنزيراً، فقال: حتى أذهب أبيعه من هؤلاء النصارى. فذهب فباعه، وجاء بطعام، فركبنا، فما سرنا غير بعيد حتى جاء القوم في الطلب، فقال: أحسبه صار في أيديهم ضفدعاً. قال: فحانت مني التفاتة فإذا بدنه ناحية، ورأسه ناحية، قال: فوقفت، وجاء القوم، فلما نظروا إليه فزعوا من السلطان ورجعوا عنه.
قال: يقول لي الرأس: رجعوا؟ قال: قلت: نعم. قال: فالتأم الرأس إلى البدن وركب، وركبنا، قال: فقلت: لا رافقتك أبداً، اذهب عني.
قتل أبو الحسن في وادي الحريق بعد سنة خمسين وأربع مئة. ووادي الحريق من أعمال صيدا.
علي بن الحسن بن المبارك
السوسي الأنطاكي البزاز سمع بدمشق وبحمص.
حدث عن محمود بن خالد الدمشقي بسنده إلى أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: " نساء قريش خير نساء ركبن الإبل، أحناه على طفل، وأرعاه على زوج في ذات يد ".
علي بن الحسن بن ياسين بن جبير البغدادي
سمع بدمشق.
حدث عن هشام بن عمار بسنده إلى سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " المؤمن مألفة، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ".(17/223)
علي بن الحسن بن يعقوب
أبو الحسن النهرواني المتعبد سكن دمشق.
حدث عن أبي إسحاق إبراهيم بن حاتم بن مهدي البلوطي بسنده إلى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم ربه عز وجل قال: " أي الأعمال أفضل؟ " قال: " ليس شيء أفضل عند من التوكل والرضا بما قسمت لهم ".
علي بن الحسن الرازي الميسنجاني
أخو عبد الله بن الحسن حدث عن إسحاق بن إبراهيم بن محمد الجرجاني بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، فإن عادت فليجلدها، ثم إن عادت فليبعها ولو بضقير ".
وحدث بسنده عن سعيد بن عبد الملك بسنده إلى ابن عمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم توضأ مرّة مرّة.
وحدث عن أخيه عبد الله بسنده إلى الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: دخلت على عبادة بن الصامت وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه، أوصني واجتهد لي. فقال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: يا بني، إنك لم تطعم طعم الإيمان ولن تبلغ حقيقة العلم بالله عز وجل حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت: يا أبتاه، وكيف لي أن أعلم ما خير القدر من شره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، فإن سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: " إن أول(17/224)
ما خلق الله عز وجل القلم قال له: اكتب، فجر من تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة "، يا بني، إن متّ ولست على ذلك دخلت النار.
توفي علي بن الحسن سنة خمس وسبعين ومئتين.
علي بن الحسن أبو الحسن الصيرفي
الزاهد البغدادي سكن بيت المقدس، وطوّف الشام.
كان رجلاً متزهداً متعبداً، وكان يتكلم على الناس بعد صلاة العصر في مسجد بيت المقدس، في محراب معاوية، فقال له بعض الشيوخ: يستند الشيخ؟ فقال: ما حولت وجهي عن القبلة إلا وقعت عيني على ما أكره. وما رئي قط إلا متوجهاً إلى القبلة.
توفي رحمه الله وهو في صلاة الوتر، قرأ: " قل هو الله أحد "، فلما قال: " ولم يكن له كفواً أحد " فاظت نفسه.
علي بن الحسين بن أحمد بن محمد
ابن السّفر بن محمد بن سعيد بن ربيعة بن الغار أبو القاسم الحرشي البزار حدث عن بكار بن قتيبة بسنده إلى جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " إذا ولي أحدكم أخاه فليحسّن كفنه ".
والسّفر: بفتح السين وسكون الفاء.
توفي ابن السفر سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة.(17/225)
علي بن الحسين بن أحمد
أبو نصر بن أبي حفص الوراق المعروف بابن أبي سلمة الصيداوي المعدّل حدث عن محمد بن أحمد بن جميع الغساني بسنده إلى أنس قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والحلاق يحلقه، وقد اجتمع أصحابه، فما تسقط من شعرةٍ إلا بيد رجلٍ.
علي بن الحسين بن أحمد بن محمد
ابن الحسين أبو الحسن التغلبي المعروف بابن صصرى حدث عن أبي عبد الله الحسين بن عبد الله بن محمد بن إسحاق بن أبي كامل الأطرابلسي بسنده إلى سلمة بن قيس الأشجعي قال: قال رسول اله صلّى الله عليه وسلّم:
" إذا توضأت فانثر، وإذا استجمرت فأوتر، والأذنان ومن الرأس ".
هكذا رواه خيثمة، وقوله: " والأذنان من الرأس " ليس من الحديث المرفوع.
توفي علي بن الحسين بن صصرى سنة سبع وستين وأربع مئة.
وكان ثقة.
علي بن الحسين بن بندار بن عبيد الله بن خير
أبو الحسن القاضي الأذنيّ سمع بدمشق وبغيرها.
حدث أبو الحسن قاضي أذنة بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " تسحّروا فإن في السحور بركة ".
توفي قاضي أذنة سنة خمس وثمانين.(17/226)
علي بن الحسين بن ثابت بن جميل
أبو الحين الجهني الزّري الإمام من أهل زرّا التي تدعى اليوم زرع من حوران.
حدث عن هشام بن خالد الأزرق القرشي بسنده إلى أبي الدرداء، قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه، فلما انصرف من صلاته، قالوا: يا رسول الله، تصلي في ثوب واحد؟ قال: " نعم، أصلي فيه وفيه ". أي فيه جامعت.
وحدث عن هشام بن عمار بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إذا توضأ أحدكم فليجعل في فيه ماءً، ثم ليستنثر ".
وقد قيل في نسبه: الزوزيّ.
علي بن الحسين بن الجنيد
أبو الحسن النخعي الرازي المالكي عرف بذلك لجمعه حديث مالك.
سمع بدمشق.
حدث عن المعافى بن سليمان بسنده إلى عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأحزاب فقال: " اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم ".(17/227)
وحدث عن صفوان بن صالح بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: " لكل نبي دعوة يدعو بها فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعتي لأمتي يوم القيامة ".
توفي علي بن الحسين بن الجنيد بالري سنة إحدى وتسعين ومئتين.
وكان صدوقاً ثقة من حفاظ الحديث، وكان من خيار الناس.
علي بن الحسين بن صدقة
أبو الحسن بن الشرابي المعدّل حدث عن محمد بن أحمد بن عثمان بن الوليدالسلمي بسنده إلى أبي ذر قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي الأعمال أفضل؟ قال: " إيمان بالله، وجهاد في سبيل الله ". قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: " أنفسها عند أهلها، وأغلاها ثمناً ". قلت: فإن لم أفعل؟ قال: " تعين صانعاً أو تصنع لأخرق ". قلت: فإن ضعفت عن ذلك؟ قال: " تدع الناس من الشر، فإنها صدقة تصدّق بها على نفسك ".
وحدث عنه أيضاً بسنده إلى محمد بن علي المصري: من الخفيف
افعل الخير ما استطعت وإن كا ... ن قليلاً فلست مدرك كلّه
ومتى تفعل الكثير من الخير إذا كنت تاركاً لأقلّه
توفي أبو الحسن سنة خمسين وأربع مئة.(17/228)
علي بن الحسين بن عبد الرزاق
أبو الحسن الشعراني الدمشقي حدث بصيدا عن أبي الحسن رشا بن نظيف بن ما شاء الله بسنده إلى عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من قال إحدى عشرة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحداً صمداً، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد كتب له ألفي ألف حسنة ".
وحدث عن أبي الحسن علي بن محمد النيسابوري عن الأصمعي قال: دخلت في الطواف عند السحر، فإذا أنا بغلام شاب حسن الوجه، حسن القامة، عليه شملة، وله ذؤابتان، وهو متعلق بأستار الكعبة يقول: من الطويل
ألا أيها المأمول في كل ساعة ... شكوت إليك الضّرّ فارحم شكايتي
ألا يا رجائي أنت كاشف كربتي ... فهب لي ذنوبي كلّها واقض حاجتي
فزادي قليلٌ ما أراه مبلّغي ... أللزّاد أبكي أم لبعد مسافتي
أتيت بأعمالٍ قباحٍ رديّةٍ ... فما في الورى خلقٌ جنى كجنايتي
أتحرقني بالنار يا غاية المنى ... فأين رجائي ثم أين مخافتي
فقدمت إليه، وكشفت عن وجهه، فإذا به الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فقلت: يا سيدي مثلك من يقول هذه المقالة وأنت من أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة؟! قال: هيهات! يا أصمعي، إن الله خلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه وإن كان ولداً قرشياً، أما سمعت قول الله عزّ وجلّ: " فإذا نفخ في الصّور فلا أنساب بينهم " الآيتين.(17/229)
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
أبو الحسن ويقال: أبو الحسين، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله زين العابدين عليهم الصلاة والسلام قدم دمشق بعد قتل أبيه الحسين بن علي عليهم السلام، ومسجده المنسوب إليه فيها معروف.
واستقدمه عبد الملك بن مروان في خلافته، يستشيره في جواب ملك الروم عن بعض ما كتب إليه فيه من أمر السكة وطراز القراطيس.
حدث عن أبيه عن جده علي عليه السلام قال: طرقني النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا مع فاطمة، فقال: " ألا تقومان فتصليان؟ " فقلت: إن أنفسنا بيد الله عزّ وجلّ، فإذا شاء أن ينبهنا نبّهنا، فضرب برجله الأرض فقال: " وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلاً ".
ولد علي بن الحسين عليهما السلام سنة ثلاث وثلاثين، وأمه فتاه يقال لها سلامة، وقيل اسمها غزالة، وخلف عليها بعد حسين زبيد مولى الحسين، فولدت له عبد الله بن زبيد.
وهو علي الأصغر، وأما علي الأكبر فإنه قتل مع أبيه علي بن أبي طالب بالطف. وأم علي الأكبر ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود.
ولعلي بن حسين هذا العقب من ولد حسين، وهو علي الأصغر بن الحسين.
قال محمد بن هلال: رأيت علي بن الحسين يعتم بعمامة بيضاء، فيرخي عمامته من وراء ظهره.(17/230)
قال أبو المناهل نصر بن أوس الطائي: رأيت علي بن الحسين، وله شعر طويل، فقال: إلى من يذهب الناس؟ قال: قلت: يذهبون ههنا وههنا، قال: قل لهم يجيئون إليّ، وكان يعطيهم التمر.
وحدث محمد بن القاسم الثقفي عن أبيه: أنه حضر عبيد الله بن زياد حين أتي برأس الحسين، فجعل ينكت بقضيب ثناياه ويقول: إن كان لحسن الثغر، فقال له زيد بن أرقم: ارفع قضيبك، وطالما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلثم موضعه، فقال: إنك شيخ قد خرفت، فقام زيد يجرّ ثوبه. ثم عرضوا عليه، فأمر بضرب عنق علي بن الحسين، فقال له علي: إن كان بينك وبين هؤلاء النساء رحم فأرسل معهن من يؤديهن، فقال: تؤديهن أنت، وكأنه استحيا، وصرف الله عن علي بن الحسين القتل.
قال القاسم محمد: ما رأيت منظراً قط أفظع من إلقاء رأس الحسين بن يديه وهو ينكته.
قال الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل من علي بن الحسين، وكان علي بن الحسين مع أبيه يوم قتل، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وقيل: ابن خمس وعشري، وهو مريض، فقال عمر بن سعد: لا تعرضوا لهذا المريض.
ومن ولد علي بن الحسين زيد بن علي ين الحسين، وقتله يوسف بن عمر زمن هشام بن عبد الملك.
قال علي بن الحسين: لما قال عمر بن سعد: لا تعرضوا لهذا المريض غنمني رجل منهم، وأكرم نزلي، واختصني، وجعل يبكي كلما دخل وخرج حتى قلت: إن يكن عند أحد خير فعند هذا، إلى أن نادى منادي ابن زياد: ألا من وجد علي بن الحسين فليأت به، فقد جعلنا فيه(17/231)
ثلاث مئة درهم. فدخل عليّ وهو يبكي، وجعلي يربط يدي إلى عنقي، وهو يقول: أخاف. فأخرجني إليهم مربوطاً حتى دفعني إليهم فأخذ ثلاث مئة درهم وأنا أنظر.
فأدخلت على ابن زياد، فقال: ما اسمك؟ فقلت: علي بن حسين. قال: أولم يقتل الله علياً؟ قال: قلت: كان أخي أكبر مني يقال له علي، قتله الناس، قال: بل الله قتله، قلت: " الله يتوفّى الأنفس حين موتها " فأمر بقتله، فصاحت زينب بنت علي: يا زياد حسبك من دمائنا، أسألك بالله إن قتلته إلا قتلتني معه، فتركه.
فلما صار إلى يزيد بن معاوية قام رجل من أهل الشام فقال: إن سباءهم لنا حلال، فقال علي بن حسين: كذبت، ما ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا.
فأطرق يزيد ملياً، ثم قال لعلي بن حسين: إن أحببت أن تقيم عندنا فنصل رحمك فعلت، وإن أحببت وصلتك ورددتك إلى بلدك، قال: بل تردني إلى المدينة، فرده ووصله.
قال نصر بن أوس: دخلت على علي بن حسين، فقال: من أنت؟ قلت: من طيّئ، قال: حيّاك الله، وحيّا قوماً اعتزيت إليهم، نعم الحي حيك. قال: قلت: من أنت؟ قال: أنا علي بن الحسين، قلت: أو لم تقتل مع أبيه؟ قال: لو قتل يا بني لم تره.
وكان علي بن الحسين رجلاً له فضل في الدين، وكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود من علماء الناس، وكان إذا دخل في صلاته فقعد إليه إنسان لم يقبل عليه حتى يفرغ من صلاته على نحو ما يرى من طولها، وكان علي بن الحسين يأتيه فيجلس إليه، فيطول عبيد الله في صلاته، ولا يلتفت إليه، فقال له علي بن الحسين وهو ممن هو منه فقال: لابد لمن طلب هذا الأمر يعنى به.(17/232)
وكان ابن شهاب يصحب عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود حتى إنه كان لينزع له الماء.
قال هشام بن عروة: كان علي بن حسين يخرج على راحلته إلى مكة ويرجع لا يقرعها.
وكان يجالس أسلم مولى عمر، فقال له رجل من قريش: تدع قريشاً وتجالس عبد بني عدي؟ فقال علي: إنما يجلس الرجل حيث ينتفع.
قال عبد الرحمن بن أردك: كان علي بن الحسين يدخل المسجد فيشق الناس، حتى يجلس مع زيد بن أسلم في حلقته، فقال له نافع بن جبير بن مطعم: غفر الله لك، أنت سيد الناس، تأتي تخطّى حتى تجلس مع هذا العبد؟ فقال علي بن الحسين: إن العلم يبتغى فيؤتى ويطلب من حيث كان.
وعبد الرحمن بن أردك أخو علي بن الحسين لأمه.
قال مسعود بن مالك: قال لي علي بن الحسين: تستطيع أن تجمع بيني وبين سعد بن جبير؟ قال: قلت: ما حاجتك إليه؟ قال: أشياء أريد أن أسأله عنها، إن الناس يأتوننا بما ليس عندنا.
وقال مسعود بن مالك: قال علي بن حسين: ما فعل سعيد بن جبير؟ قال: قلت: صالح، قال: ذاك رجل كان يمر بنا فنسائله عن الفرائض وأشياء مما ينفعنا الله بها، إنه ليس عندنا ما يرمينا به هؤلاء، وأشار بيده إلى العراق.
قال أبو الزبير: كنا عند جابر فدخل عليه علي بن الحسين، فقال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل عليه الحسين بن علي، فضمه إليه وقبله وأقعده إلى جنبه، ثم قال: "(17/233)
يولد لابني هذا ابن يقال له علي، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بطنان العرش: ليقم سيد العابدين، فيقوم هو ".
قال رزين بن عبيد: كنت عند ابن عباس، فأتى علي بن الحسين، فقال ابن عباس: مرحباً بالحبيب ابن الحبيب.
قال الزهري: لم أدرك من أهل البيت أفضل من علي بن حسين، قال: وكان من أفضل أهل بيته، وأحسنهم طاعة، وأحبهم إلى مروان بن عبد الملك.
قال ابن شهاب الزهري: شهدت علي بن الحسين يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام فأثقله حديداً، ووكل به حفاظاً في عدّةٍ وجمع، فاستأذنتهم في التسليم عليه والتوديع له، فدخلت عليه، وهو في قبة، والأقياد في رجليه والغل في يديه، فبكيت وقلت: وددت أني مكانك وأنت سالم، فقال: يا زهري أوتظن هذا ممّا ترى عليّ وفي عنقي يكرثني؟ أما لو شئت ما كان، فإنه وإن بلغ فيك وفي أمثالك ليذكرني عذاب الله.
ثم أخرج يديه من الغلّ، ورجليه من القيد، ثم قال: يا زهري، لا جزت معهم على ذا منزلتين من المدينة.
قال: فما لبثنا إلا أربع ليال حتى قدم الموكلون به يظنون أنه بالمدينة، فما وجدوه، فكنت فيمن سألهم عنه، فقال لي بعضهم: إنا نراه متبوعاً، إنه لنازل، ونحن حوله لا ننام نرصده، إذ أصبحنا، فما وجدنا بين محمليه إلا حديده.(17/234)
قال الزهري: فقدمت بين ذلك على عبد الملك بن مروان فسألني عن علي بن الحسين فأخبرته، فقال لي: إنه قد جاءني في يوم فقدوه الأعوان، فدخل عليّ فقال: ما أنا وأنت؟ فقلت: أقم عندي، فقال: لا أحب، ثم خرج، فوالله لقد امتلأ ثوبي منه خيفة.
قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس علي بن الحسين حيث تظن، إنه مشغول بنفسه، فقال: حبذا شغل مثله، فنعم ما شغل به.
وكان الزهري إذا ذكر عليّ بن الحسين يبكي، ويقول: زين العابدين.
قال يحيى بن سعد: سمعت علي بن الحسين وكان أفضل هاشمي أدركته يقول: يا أيها الناس، أحبونا حب الإسلام، فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عاراً.
قال الأصمعي: لم يكن للحسين بن علي عقب إلا من ابنه علي بن الحسين، ولم يكن لعلي ولد إلا من أم عبد الله بنة الحسن، وهي ابنة عمه، فقال له مروان بن الحكم: أرى نسل أبيك قد انقطع، فلو اتخذت السراري، لعل الله أن يرزقك منهن، فقال: ما عندي ما أشتري به السراري، قال: أنا أقرضك، فأقرضه مئة ألف درهم، فاتخذ السراري، وولد له جماعة من الولد. ثم أوصى مروان لما حضرته الوفاة أن لا يؤخذ منه ذلك المال.
قال الزهري: ما رأيت هاشمياً قط أفضل من علي بن حسين. وهو أبو الحسينيين كلهم.
ويقال: إن قريشاً رغبت في أمهات الأولاد واتخذهن بعد زهادة فيهن، حيث ولد علي بن حسين، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وسالم بن عبد الله بن عمر.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: أصح الأسانيد كلها الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي.(17/235)
قال صالح بن حسان: قال رجل لسعيد بن المسيّب:
ما رأيت أحداً أورع من فلان، قال: هل رأيت علي بن الحسين؟ قال: لا، قال: ما رأيت أحداً أورع منه.
قال المقبري: بعث المختار إلى علي بن حسين بمئة ألف، فكره أن يقبلها، وخاف أن يردها، فأخذها فاحتبسها عنده. فلما قتل المختار كتب علي بن الحسين إلى عبد الملك بن مروان: إن المختار بعث إليّ بمئة ألف درهم، فكرهت أن أردها، وكرهت أن آخذها، فهي عندي، فابعث من يقبضها. فكتب إليه عبد الملك: يا بن عم خذها فقد طيبتها لك، فقبلها.
قال أبو نوح الأنصاري: قال: وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين، وهو ساجد، فجعلوا يقولون له: يا بن رسول الله، النار، يا بن رسول الله، النار. فما وقع رأسه حتى طفئت. فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ قال: ألهتني عنها النار الأخرى.
كان علي بن الحسين إذا مشى لا يجاوز يديه فخذيه، ولا يخطر بيده، وكان إذا قدام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له: مالك؟ فقال: ما تدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي؟ وقيل: إنه كان إذا توضأ اصفرّ لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ قال سفيان بن عيينة: حج علي بن الحسين، فلما حرم واستوت به راحلته اصفرّ لونه وانتفض، ودفع، غلته الرعدة، ولم يستطع أن يلبي، فقيل له: مالك لا تلبي؟ فقال: أخشى أن أقول:(17/236)
لبيك، فيقول لي: لا لبيك، فقيل له: لابدّ من هذا، فلما لبى غشي عليه، وسقط من راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجّه.
قال مالك بن أنس: أحرم علي بن الحسين، فلما أراد أن يقول: لبيك اللهم لبيك قالها، فأغمي عليه حتى سقط من راحلته فهشم.
قال: وبلغني أنه كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات.
وكان يسمى بالمدينة زين العابدين لعبادته.
قال أبو جعفر: كان أبي علي بن الحسين يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فلما حضرته الوفاة بكى، قال: فقلت: يا أبه ما يبكيك؟ فوالله ما رأيت أحداً طلب الله طلبك، ما أقول هذا أنك أبي؛ فقال: يا بني إنه إذا كان يوم القيامة لم يبق ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلا كان لله عزّ وجلّ فيه المشيئة، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه.
قال طاووس: إني لفي الحجر ذات ليلة إذ دخل علي بن الحسين فقام يصلي، فقلت: رجل صالح من أهل بيت خير، لأصغين إلى دعائه الليلة، فسجد، فسمعته يقول: اللهم عبيدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك.
قال: فحفظتها، فوالله ما دعوتها في كرب إلا فرج عني.
قال زيد بن أسلم: كان من دعاء علي بن الحسين يقول: اللهم لا تكلني إلى نفسي فأعجز عنها، ولا تكلني إلى المخلوقين فيضيعوني.
قال علي بن الحسين: لم أر للعبد مثل التقدم في الدعاء؛ فإنه ليس كلما نزلت بليّة يستجاب له عندها. وكان إذا خاف شيئاً اجتهد في الدعاء.(17/237)
قال أبو حمزة الثّمالي: أتيت باب علي بن الحسين، فكرهت أن أصوت، فقعدت حتى خرج، فسلمت عليه، فردّ عليّ السلام، ودعا لي، ثم انتهى إلى حائط له، فقال: يا أبا حمزة ترى هذا الحائط؟ قلت: بلى يا بن رسول الله، قال: فإن اتكأت عليه يوماً وأنا حزين، فإذا رجل حسن الوجه والثياب ينظر تجاه وجهي، ثم قال: ما لي أراك حزيناً كئيباً؟ أعلى الدنيا؟ فهو رزق حاضر، يأكل منه البرّ والفاجر، فقلت: ما عليها أحزن كما تقول، فقال: أعلى الآخرة؟ هو وعد صادق، يحكم فيها ملك قاهر. قلت: ما على هذا أحزن لأنه كما تقول؛ قال: فما حزنك يا علي بن الحسين؟ قلت: أتخوف من فتنة ابن الزبير. قال: يا علي، هل رأيت أحداً سأل الله فلم يعطه؟ قلت: لا، قال: فخاف الله فلم يكفه؟ قلت: لا، ثم غاب عني.
فيقول لي: يا علي هذا الخضر عليه السلام ناجاك.
وعن أبي جعفر: أن أباه علي بن حسين قاسم الله ماله مرتين، وقال: إن الله يحب المذنب التواب.
وعن أبي حمزة الثّمالي: أن علي بن الحسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين في ظلمة الليل ويقول: إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب.
وعن محمد بن إسحاق قال: كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل.
وعن عمرو بن ثابت قال: لما مات علي بن الحسين وجدوا بظهره أثراً، فسألوا عنه، فقالوا: هذا مما كان ينقل الجرب على ظهره إلى منازل الأرامل.(17/238)
قال شيبة بن نعامة: كان علي بن حسين يبخّل، فلما مات وجدوه يعول مئة أهل بيت بالمدينة.
وحدث ابن عائشة عن أبيه عن عمه قال: قال أهل المدينة: ما فقدنا صدقة السرّ حتى مات علي بن الحسين.
قال سعيد بن مرجانة: أعتق علي بن حسين غلاماً له أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار.
قال عمرو بن دينار: دخل علي بن حسين على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه، فجعل يبكي، فقال: ما شأنك؟ قال: عليّ دين، قال: كم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار، أو بضعة عشر ألف دينار، قال: فهي عليّ.
وحدث الرضا عن أبيه عن جده قال: قال علي بن حسين: إني لأستحي من الله عزّ وجلّ أن أرى الأخ من إخواني، فأسأل الله له الجنة، وأبخل عليه بالدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل لي: لو كانت الجنة بيدك لكنت بها أبخل وأبخل وأبخل.
وعن علي بن الحسين قال: سادة الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة أهل الدين وأهل الفضل والعلم، لأن العلماء ورثة الأنبياء.
وعن جعفر بن محمد قال: سئل علي بن الحسين عن كثرة بكائه فقال: لا تلوموني فإن يعقوب عليه السلام فقد سبطاً من ولده، فبكى حتى ابيضت عيناه من الحزن، ولم يعلم أنه مات، وقد نظرت أربعة عشر رجلاً من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة، فترون حزنهم يذهب من قلبي أبداً؟؟(17/239)
وعن إبراهيم بن سعد قال: سمع علي بن الحسين واعية في بيته وعنده جماعة فنهض إلى منزله، ثم رجع إلى مجلسه، فقيل له: أمن حدث كانت الواعية؟ قال: نعم، فعزوه وتعجبوا من صبره، فقال: إنا أهل بيت نطيع الله فيما نحب، ونحمده فيما نكره.
وعن عبد الرازق قال: جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب عليه الماء يتهيأ الصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله عزّ وجلّ يقول: " والكاظمين الغيظ " فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: " والعافين عن النّاس " فقال لها: قد عفا الله عنك، قالت: " والله يحبّ المحسنين " قال: اذهبي فأنت حرة.
دعا علي بن الحسين مملوكه مرتين فلم يجبه، ثم أجابه في الثالثة، فقال: يا بني أما سمعت صوتي؟ قال: بلى، قال: فما بالك لم تجبني؟ قال: أمنتك، قال: الحمد لله الذي جعل مملوكي فأمنني.
قال الزهري: سألت علي بن الحسين عن القرآن قال: كتاب الله وكلامه.
وعن أبي حازم قال: ما رأيت هاشمياً أفقه من علي بن الحسين، وسمعت علي بن الحسين وهو يسأل: كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأشار بيده إلى القبر، ثم قال: منزلتهما منه الساعة.
وفي رواية: كمنزلتهما منه اليوم، هما ضجيعاه.(17/240)
قال محمد: جاء رجل إلى أبي يعني علي بن الحسين فقال: أخبرني عن أبي بكر، قال: عن الصّديق تسأل؟ قال: قلت: رحمك الله وتسميه الصديق؟ قال: ثكلتك أمك، قد سماه صديقاً من هو خير مني ومنك، رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمهاجرون والأنصار، فمن لم يسمه صدّيقاً فلا صدّق الله قوله في الدنيا ولا في الآخرة، اذهب فأحب أبا بكر وعمر وتولّهما، فما كان من إثم ففي عنقي.
قال علي بن الحسين: قدم المدينة قوم من أهل العراق، فجلسوا إليّ فذكروا أبا بكر وعمر فمسّوا منهما، ثم ابتركوا في عثمان ابتراكاً، فقلت لهم: أخبروني: أنتم من المهاجرين الأولين الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصّادقون "؟ قالوا: لسنا منهم، قلت: وانتم من الذين قال الله فيهم: " والذي تبوّؤوا الدّار والإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون "، قالوا: لسنا منهم، قال لهم: أما أنتم فقد تبرأتم من الفريقين أن تكونوا منهم، وأنا أشهد أنكم لستم في الفرقة الثالثة الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم: " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربّنا إنّك رؤوفٌ رحيمٌ ". قوموا عني لا قرّب الله دوركم، فإنكم متسترون بالإسلام، ولستم من أهله.(17/241)
قل علي بن الحسين:
جاءني رجل من أهل البصرة، فقال: جئتك في حاجة من البصرة، وما جئتك حاجّاً ولا معتمراً، قلت له: وما حاجتك؟ قال: جئت لأسألك: متى يبعث علي بن أبي طالب؟ قال: فقلت له: يبعث والله عليٌّ يوم القيامة، ثم تهمّه نفسه.
قال عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب: جاء نفر إلى علي بن حسين، فأثنوا عليه، فقال: ما أكذبكم وأجرأكم على الله، لسنا كما تقولون لنا، ولكنا قوم من صالحي قومنا وكفانا، أو بحسبنا أن نكون من صالحيهم.
وعن علي بن حسين قال: يا أهل العراق، أحبونا حبّ الإسلام، ولا تحبونا حبّ الأصنام، فما زال بنا حبّكم حتى صار علينا شيناً.
وفي رواية: حتى صار سبّة.
وفي رواية: حتى صار علينا عاراً، أو صار علينا عتباً.
وفي رواية: مازال بنا ما تقولون حتى بغّضتمونا إلى الناس.
قال الفضيل بن مرزوق: سألت عمر بن علي بن حسين بن علي عمي جعفر بن محمد، قال: قلت: هل فيكم إنسان من أهل البيت مفترضة طاعته تعرفون له ذلك؟ ومن لم يعرف له ذلك فمات مات ميتة جاهلية؟ فقال: لا والله ما هذا فينا، من قال: هذا فينا، فهو كذاب.
قال: فقلت لعمر بن علي: رحمك الله، إن هذه منزلة، إنهم يزعمون أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى إلى علي، وأنّ علياً أوصى إلى الحسن، وأن الحسن أوصى إلى الحسين، وأن الحسين أوصى إلى ابنه علي بن الحسين، وأن علي بن الحسين أوصى إلى ابنه محمد بن علي؟ قال: والله لقد مات أبي، فما أوصى بحرفين. ما لهم قاتلهم الله؟! والله، إن هؤلاء إلا متأكلين بنا، هذا خنيس الحرّ، وما خنيس الحر؟ قال: قلت له: المعلى بن خنيس؟ قال:(17/242)
نعم، المعلى بن خنيس، والله لقد أفكرت على فراشي طويلاً أتعجب من قوم لبّس الله عقولهم حتى أضلّهم المعلى بن خنيس.
وعن علي بن الحسين: أنه قام على باب الكعبة يلعن المختار بن أبي عبيد؛ فقال له رجل: يا أبا الحسين، لم تسبّه وإنما ذبح فيكم؟! قال: إنه كان كذاباً يكذب على الله وعلى رسوله.
قال محمد بن الفرات: صليت إلى جنب علي بن الحسين يوم الجمعة، قال: فسمعت ناساً يتكلمون في الصلاة، فقال لي: ما هذا؟ قلت: شيعتكم لا يرون الصلاة خلف بني أمية، قال: هذا والذي لا إله إلا هو بدعٌ. من قرأ القرآن، واستقبل القبلة فصلّوا خلفه، فإن يكن محسناً فله حسنته، وإن يكن مسيئاً فعليه.
كان هشام بن إسماعيل عزل، ووقف للناس بالمدينة، فمرّ به علي بن الحسين فأرسل إليه: استعن بنا على ما شئت، فقال هشام: " الله أعلم حيث يجعل رسالاته "، وقد كان ناله أو بعض أهله بشيء يكرهه إذ كان أميراً.
كان علي بن حسين خارجاً من المسجد، فلقيه رجل فسبّه، فثارت إليه العبيد والموالي، فقال علي بن الحسين: مهلاً عن الرجل، ثم أقبل عليه فقال: ما ستر الله عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل، ورجع إلى نفسه. قال: فألقى إليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، قال: وكان الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من أولاد الرسل.
قال عبد الله بن عطاء: أذنب غلام لعلي بن حين ذنباً استحقّ منه العقوبة، فأخذ له السّوط فقال: " قل(17/243)
للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله " وقال الغلام: وما أنا كذلك، إني لأرجو رحمة الله، وأخاف عذابه. فألقى السوط، وقال: أنت عتيق.
كان بين حسن بن حسن وعلي بن حسين بعض الأمر، فجاء حسن بن حسن إلى علي بن حسين وهو مع أصحابه في المسجد، فما ترك شيئاً إلا قاله له وعلي ساكت، فانصرف حسن، فلما كان الليل أتاه في منزله، فقرع عليه بابه، فخرج إليه، فقال له علي: يا أخي إن كنت صادقاً فيما قلت لي يغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك، السلام عليكم، وولى.
قال: فاتبعه حسن، فلحقه فالتزمه من خلفه وبكى حتى رثى له، ثم قال: لأحرم، حتى عدت، في أمر تكرهه. فقال علي: وأنت في حلّ مما قلت لي.
قال موسى بن ظريف: استطال رجل على علي بن حسين فتغافل عنه، فقال له الرجل: إياك عني. فقال له علي: وعنك أغضي.
كان عند علي بن حسين قوم، فاستعجل خادم له بشواء كان في التّنور، فأقبل به الخادم مسرعاً، وسقط السّفود من يده على بنيّ لعليّ أسفل الدرجة، فأصب رأسه فقتله، فوثب علي، فلما رآه قال للغلام: إنك حرّ، إنك لم تعمده، وأخذ في جهاز ابنه.
كان علي بن حسين إذا خرج من بيته قال: اللهم إني أتصدق اليوم، أو أهب عرضي اليوم لمن استحله.
قال المنهال بن عمرو: دخلت على علي بن حسين فقلت: كيف أصبحت أصلحك الله؟ فقال:(17/244)
ما كنت أرى شيخاً من أهل المصر مثلك لا يدري كيف أصبحنا! قال: فأما إذ لم تدر أو تعلم فأنا أخبرك: أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، إذ كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وأصبح شيخنا وسيّدنا يتقرّب إلى عدونا بشتمه أو سبّه على المنابر، وأصبحت قريش بعد أن لها الفضل على العرب لأن محمداً منها لا يعد لها فضل إلا به، وأصبحت العرب معيّرة لهم بذلك، وأصبحت العرب بعد أن لها الفضل على العجم لأن محمداً منها لا يعد لها فضل إلا به، وأصبحت العجم معيّرة لهم بذلك. فلئن كانت العرب صدقت أن لها الفضل على العجم، وصدقت قريش أن لها الفضل على العرب لأن محمداً منها، إن لنا أهل البيت الفضل على قريش، لأن محمداً منا، فأضحوا يأخذون بحقنا، ولا يعرفون لنا حقاً، فهكذا أصبحنا إذ لم يعلم كيف أصبحنا.
قال: فظننت أنه أراد أن يسمع من في البيت.
وحدث جماعة أن علي بن الحسين قال: ما أودّ أن لي بنصيبي من الذّل حمر النّعم.
قال عبد الله بن صالح العجلي: أبطأ عن علي بن الحسين أخ له كان يأنس به، فسأله عن إبطائه، فأخبره أنه مشغول بموت ابن له، وأن ابنه كان من المسرفين على نفسه. فقال له علي بن الحسين: إن من وراء ابنك لثلاث خلال: أما أولها: فشهادة أن لا إله إلا الله. وأما الثانية: فشفاعة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأما الثالثة: فرحمة الله التي وسعت كل شيء.
قال المدائني: قارف الزهري ذنباّ فاستوحش من ذلك، وهام على وجهه، فقال له علي بن الحسين: يا زهري، قنوطك من رحمة الله التي وسعت كل شيء أعظم عليك من ذنبك، فقال الزهري: " الله أعلم حيث يجعل رسالاته "، فرجع إلى ماله وأهله.(17/245)
وعن يزيد بن عياض قال: أصاب الزهري دماً خطأ، فخرج وترك أهله وضرب فسطاطاً وقال: لا يظلني سقف بيت، فمر به علي بن حسين، فقال: يا بن شهاب قنوطك أشد من ذنبك، فاتق الله واستغفر، وابعث إلى أهله بالدية، وارج إلى أهلك؛ فكان الزهري يقول: علي بن حسين أعظم الناس عليّ منة.
وحدث علي بن موسى الرضا عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد قال: كان علي بن الحسين إذا سار على بغلته في سكك المدينة لم يقل لأحد: الطريق وكان يقول: الطريق مشترك، ليس لي أن أنحي أحداً عن الطريق.
سمع علي بن الحسين يغتاب رجلاً فقال: إياك والغيبة فإنها.
كان علي بن الحسين إذا سار على بغلته في سكك المدينة لم يقل لأحد: الطريق وكان يقول: الطريق مشترك، ليس لي أن أنحي أحداً عن الطريق.
سمع علي بن الحسين يغتاب رجلاً فقال: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس.
قال علي بن الحسين: لا يقول رجل في رجل من الخير ما لا يعلم إلا أوشك أن يقول فيه من الشر ما لا يعلم. ولا اصطحب اثنان على غير طاعة الله إلا أوشك أن يتفرقا على غير طاعة الله.
كان علي بن الحسين يلبس كساء خز بخمسين ديناراً يلبسه في الشتاء، فإذا كان الصيف تصدق به، أو باعه فتصدق بثمنه. وكان يلبس في الصيف ثوبين ممشقين من متاع مصر، ويلبس ما دون ذلك من الثياب، ويقرأ: " قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده ".
حج هشام بن عبد الملك في خلافة عبد الملك أو الوليد، فطاف بالبيت وأراد أن يستلم الحجر فلم يقدر عليه من الزحام، فنصب له منبر، فجلس عليه، وأطاف به أهل الشام. فبينا هو كذلك إذ أقبل علي بن حسين، عليهإزار ورداء، أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم رائحة، بين عينيه سجادة كأنها ركبة عنز، فجعل يطوف بالبيت، فإذا(17/246)
بلغ إلى موضع الحجر تنحى الناس له عنه حتى يستلمه هيبةً له وإجلالاً، فغاظ ذلك هشاماً، فقال رجل من أهل الشام لهشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة فأفرجوا له عن الحجر؟ فقال هشام: لا أعرفه، لئلا يرغب فيه أهل الشام؛ فقال الفرزدق وكان حاضراً: لكني أعرفه، فقال الشامي: من هو يا أبا فراس؟ فقال الفرزدق: من البسيط
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلّهم ... هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلم
إذا رأته قريشٌ قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
ينمى إلى ذروة العزّ التي قصرت ... عن مثلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
يغضي حياءً ويغضى عن مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم
وليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
بكفّه خيرزانٌ ريحها عبقٌ ... من كفّ أروع في عرنينه شمم
مشتقّةٌ من رسول الله نبعته ... طابت عناصرها والخيم والشّيم
ينجاب نور الهدى عن نور غرّته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم
حمّال أثقال أقوامٍ إذا فدحوا ... حلو الشمائل تحلو عنده نعم(17/247)
هذا ابن فاطمةٍ إن كنت جاهله ... بجدّه أنبياء الله قد ختموا
الله فضّله قدماً وشرّفه ... جرى بذاك له في لوحه القلم
من جدّه دان فضل الأنبياء له ... وفضل أمته، دانت له الأمم
عمّ البريّة بالإحسان فانقشعت ... عنها الغياية والإملاق والظلم
كلتا يديه غياثٌ عمّ نفعهما ... يستوكفان ولا يعروهما العدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... تزينه اثنتان الحلم والكرم
لا يخلف الوعد ميمونٌ نقيبته ... رحب الفناء أريبٌ حين يعتزم
من معشرٍ حبّهم دينٌ وبغضهم ... كفرٌ، وقربهم منجىً ومعتصم
يستدفع السوء والبلوى بحبهم ... ويستربّ به الإحسان والنّعم
مقدّمٌ بعد ذكر الله ذكرهم ... في كلّ ذكرٍ ومختومٌ به الكلم
إن عدّ أهل التّقى كانوا أئمّتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جوادٌ بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قومٌ وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمةٌ أزمت ... والأسد أسد الشّرى والبأس محتدم
يأبى لهم أن يحلّ الذمّ ساحتهم ... خيمٌ كريمٌ وأيدٍ بالندى هضم
لا ينقص العسر بسطاً من أكفّهم ... سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا
أيّ الخلائق ليست في رقابهم ... لأوّليّة هذا أو له نعم
من يشكر الله يشكر أوّليّة ذا ... فالدّين من بيت هذا ناله الأمم
قال: فغضب هشام، وأمر بحبس الفرزدق، فحبس بعسفان بين مكة والمدينة، فبلغ ذلك علي بن الحسين، فبعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، وقال: اعذر أبا فراس، لو كان عندنا أكثر منها لوصلناك بها. فردها وقال: يا بن رسول الله: ما قلت الذي قلت إلا غضباً لله ولرسوله ما كنت لأرزأ عليها شيئاً. فردها إليه،(17/248)
وقال: بحقي عليم لمّا قبلتها، فقد رأى الله مكانك، وعلم نيتك، فقبلها وهجا هشاماً، فكان مما قال فيه: من الطويل
يحبّسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يهوي منيبها
يقلّب رأساً لم تكن رأس سيدْ ... وعينين حولاوين بادٍ عيوبها
سئل علي بن الحسين عن صفة الزاهد في الدنيا فقال: يتبلغ بدون قوته، ويستعد ليوم موته، ويتبرم بحياته.
قال الزهري: سمعت علي بن الحسين سيد العابدين يحاسب نفسه، ويناجي ربه، ويقول: يا نفس حتام إلى الدنيا غرورك؟، وإلى عمارتها ركونك؟ أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك؟ ومن وارته الأرض من ألاّفك؟ ومن فجعت به من إخوانك؟ ونقل إلى البلى من أقرانك؟ من الطويل
فهم في بطون الأرض بعد ظهورها ... محاسنهم فيها بوالٍ دواثر
خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم ... وساقتهم نحو المنايا المقادر
وخلّوا عن الدنيا وما جمعوا لها ... وضمّتهم تحت التراب الحفائر
كم تخرمت أيدي المنون من قرون بعد قرون؟ وكم غيرت الأرض ببلاها؟ وغيبت في ثارها ممن عاشرت من صنوف الناس، وشيّعتهم إلى الأرماس؟
وأنت على الدنيا مكبٌّ منافسٌ ... لخطّائها فيها حريصٌ مكاثر
على خطر تمسي وتصبح لاهياً ... أتدري بماذا لو عقلت تخاطر
وإنّ أمرأ يسعى لدنياه دائباً ... ويذهل عن أخراه لا شكّ خاسر(17/249)
فحتام على الدنيا إقبالك؟ وبشهواتها اشتغالك؟ وقد وخطك القتير، وأتاك النذير، وأنت عما يارد بك ساهٍ، وبلذة نومك لاهٍ؟
وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى ... عن اللهو واللذات للمرء زاجر
أبعد اقتراب الأربعين تربّصٌ ... وشيب قذالٍ منذرٌ لك كاسر
كأنك تعنى بالذي هو صائرٌ ... لنفسك عمداً أو عن الرّشد جائر
انظر إلى الأمم الماضية والملوك الفانية، كيف أفنتهم الأيام، ووافاهم الحمام؛ فانمحت من الدنيا آثارهم، وبقيت فيها أخبارهم.
وأضحوا رميماً في التراب وعطّلت ... مجالس منهم أقفرت ومعاصر
وحلّوا بدار لا تزاور بينهم ... وأنّى لسكان القبور تزاور
فما إن ترى إلا جثىً قد ثووا بها ... مسطّحةً تسفي عليها الأعاصر
كم من ذي منعة وسلطان، وجنود وأعوان، تمكن من دنياه، ونال فيها ما تمناه، وبنى القصور والدساكر، وجمع الأعلاق والذخائر.
فما صرفت كفّ المنية إذ أتت ... مبادرةً تهوي إليه الذخائر
ولا دفعت عنه الحصون التي بنى ... وحفّ بها أنهاره والدساكر
ولا قارعت عنه المنية حيلةٌ ... ولا طمعت في الذّبّ عن العساكر
أتاه من الله ما لا يرد، ونزل به من قضائه ما لا يصد، فتعالى الله الملك الجبار المتكبر القهار، قاصم الجبارين ومبير المتكبرين.
مليكٌ عزيزٌ لا يدّ قضاؤه ... حكيمٌ عليمٌ نافذ الأمر قاهر
عنا كلّ ذي عزٍّ لعزّة وجهه ... فكلّ عزيز للمهيمن صاغر
لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت ... لعزة ذي العرش الملوك الجبابر(17/250)
فالبدار البدار، والحذار الحذار من الدنيا ومكائدها، وما نضبت لك من مصائدها، وتحلت لك من زينتها، وأظهرت لك من بهجتها.
وفي دون ما عنيت من فجعاتها ... إلى رفضها داعٍ، وبالزّهد آمر
فجدّ ولا تغفل فعيشك زائلٌ ... وأنت إلى دار الإقامة صائر
ولا تطلب الدنيا فإن طلابها ... وإن نلت منها غبّةً لك صائر
وهل يحرص عليها لبيب؟ أو يسر بها أريب؟ وهو على ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها؟ أم كيف تنام عينا من يخشى البيات؟ وتسكن نفس من يتوقع الممات؟
ألا لا ولكنا نغرّ نفوسنا ... وتشغلنا اللذّات عما نحاذر
وكيف يلذّ العيش من هو موقنٌ ... بموقف عدلٍ يوم تبلى السرائر
كأنّا نرى أن لا نشور أو أنّنا ... سدىً مال لنا بعد الممات مصائر
وما عسى أن ينال صاحب الدنيا من لذتها، ويتمتع به من بهجتها، مع صنوف عجائبها، وكثرة تعبه في طلبها، وما يكابد من أسقامها وأوصابها وآلامها؟
وما قد ترى في كل يوم وليلة ... يروح علينا صرفها ويباكر
تعاورنا آفاتها وهمومها ... وكم قد ترى يبقى لها المتعاور
فلا هو مغبوطٌ بدنياه آمنٌ ... ولا هو عن بطلانها النفس قاصر
كم قد غرت الدنيا من مخلد إليها، وصرعت من مكب عليها، فلم تنعشه من غرته، ولم تقمه من صرعته، ولم تشفه من ألمه، ولم تبره من سقمه؟
بلى أوردته بعد عزٍّ ومنعةٍ ... موارد سوءٍ ما لهنّ مصادر
فلمّا رأى أن لا نجاة وأنه ... هو الموت لا ينجيه منه التّحاذر
تندّم إذ لم تغن عنه ندامة ... عليه وأبكته الذنوب الكبائر
بكى على ما سلف من خطاياه ... وتحسّر على ما خلف من دنياه
حين لا ينفعه الاستعبار، ولا ينجيه الاعتذار، عند هول المنية، ونزول البلية.(17/251)
أحاطت به أحزانه وهمومه ... وأبلس لمّا أعجزته المعاذر
فليس له من كربة الموت فارجٌ ... وليس له مما يحاذر ناص ر
وقد جشأت خوف المنية نفسه ... تردّدها منه اللها والحناجر
هنالك خف عنه عواده، وأسلمه أهله وأولاده، فارتفعت الرنّة بالعويل، وأيسوا من برء العليل، فغمضوا بأيديهم عينيه، ومدّوا عند خروج نفسه رجليه.
فكم موجعٍ يبكي عليه ومفجعٍ ... ومستنجدٍ صبراً وما هو صابر
ومسترجعٍ داعٍ له الله مخلصاً ... يعدّد منه خير ما هو ذاكر
وكم شامتٍ مستبشرٍ بوفاته ... وعمّا قليلٍ كالذي صار صائر
فشق جيوبها نساؤه، ولطم خدودها إماؤه، وأعول لفقده جيرانه، وتوجع لرزئه إخوانه، ثم أقبلوا على جهازه، وشمروا لإبرازه.
وظلّ أحبّ القوم كان لقربه ... يحثّ على تجهيزه ويبادر
وشمّر من قد أحضروه لغسله ... ووجّه لما قام للقبر حافر
وكفّن في ثوبين واجتمعت له ... مشيّعةً إخوانه والعشائر
فلو رأيت الأصغر من أولاده. وقد غلب الحزن على فؤاده، وغشي من الجزع عليه، وخضّبت الدموع خدّيه، وهو يندب أباه يقول: يا ويلاه.
لعاينت من قبح المنية منظراً ... يهال لمرآه ويرتاع ناظرٌ
أكابر أولادٍ يهيج اكتئابهم ... إذا تناساه البنون الأصاغر
ورنّة نسوانٍ عليه جوازعٍ ... مدامعهم فوق الخدود عوزار(17/252)
وقد حثوا بأيديهم التراب، وأكثروا التلدد عليه والانتحاب، ووقفوا ساعة عليه، وآيسوا من النظر إليه.
فولّوا عليه معولين وكلّهم ... لمثل الذي لاقى أخوه محاذر
كشاءٍ رتاعٍ آمناتٍ بدا لها ... بمدننة بادي الذراعين حاسر
فريعت ولم ترتع قليلاً وأجفلت ... فلما نأى عنها الذي هو جازر
عادت إلى مرعاها، ونسيت ما في أختها دهاها، أفبأفعال البهائم اقتدينا؟ أم على عادتها جرينا؟ عد إلى ذكر المنقول إلى دار البلى والثرى، المدفوع إلى هول ما ترى.
ثوى مفرداً في لحده وتوزّعت ... مواريثه أرحامه والأواصر
وأخنوا على أمواله يقسمونها ... بلا حامدٍ منهم عليها وشاكر
فيا عامر الدنيا ويا ساعياً لها ... ويا آمناً من أن تدور الدّوائر
كيف أمنت هذه الحالة، وأنت صائر إليها لا محالة؟! أم كيف تهنأ بحياتك، وهي مطيتك إلى مماتك؟! أم كيف تسيغ طعامك، وأنت منتظر حمامك؟!
ولم تتزوّد للرحيل وقد دنا ... وأنت على حال وشيكاً مسافر
فيا لهف نفسي كم أسوّف توبتي ... وعمري فانٍ والرّدى لي ناظر
وكلّ الذي أسلفت في الصّحف مثبتٌ ... يجازي عليه عادل الحكم قادر
فكم ترقع بآخرتك دنياك؟ وتركب في ذلك هواك؟ أراك ضعيف اليقين يا مؤثر الدنيا على الدين، أبهذا أمرك الرحمن؟ أم على هذا أنزل القرآن؟
تخرّب ما يبقى وتعمر فانياً ... فلا ذاك موفورٌ ولا ذاك عامر(17/253)
وهل لك إن وافاك حتفك بغتةً ... ولم تكتسب خيراً لدى الله عاذر
أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي ... ودينك منقوصٌ ومالك وافر
قال علي بن الحسين لابنه، وكان من فضل بني هاشم: يا بني اصبر على النوائب، ولا تتعرض للحقوق، ولا تجب أخاك إلى الأمر الذي مضرته عليك أكثر من منفعته له.
قيل لعلي بن الحسين: من أعظم الناس خطراً؟ قال: من لم يرض الدنيا خطراً لنفسه.
قال علي بن الحسين: الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته.
قال أبو جعفر محمد بن علي: قال لي أبي: يا بني انظر، خمسة لا تحادثهم ولا تصاحبهم، ولا تر معهم في طريق. قلت: يا أبت، من هؤلاء الخمسة؟ قال: إياك ومصاحبة الفاسق فإنه بائعك بأكلة وأقل منها، قلت: وما أقل منها؟ قال: الطمع فيها ثم لا ينالها. وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه. وإياك ومصاحبة الكذاب، فإنه بمنزلة السّراب، يقرب منك البعيد ويباعد عنك القريب. وإياك ومصاحبة الأحمق، فإنه يحضرك، يريد أن ينفعك فيضرك. وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه، فإن وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواضع: في الذين كفروا: " فهل عسيتم إن تولّيتم " إلى آخر الآية، وفي الرعد: " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه " الآية، وفي البقرة: " إنّ الله(17/254)
لا يستحي أن يضرب مثلاً " إلى آخر الآيتين.
قال علي بن الحسين:
لقد استرقّك بالود من سبقك إلى الشكر.
قال علي بن الحسين: فقد الأحبة غربة.
وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لوامع العيون علانيتي، وتقبح في خفيات الغيوب سريرتي. اللهم كما أسأت وأحسنت إليّ وإذا عدت فعد عليّ.
وكان يقول: إن قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وآخرين عبدوه رغبةً فتلك عبادة التجار، وقوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار.
قال علي بن الحسين: إن للحق دولة على العقل، وللمنكر دولة على المعروف، وللشرّ دولة على الخير، وللجهل دولة على الحلم، وللجزع دولة على الصبر، وللخرق دولة على الرفق، وللبؤس دولة على الخصب، وللشّدة دولة على الرخاء، وللرّغبة دولة على الزهد، وللبيوتات الخبيثة دولة على بيوتات الشرف، وللأرض السبخة دولة على الأرض العذبة، وما من شيء إلا وله دولة، حتى تنتضى دولته، فتعوّذوا بالله من تلك الدول، ومن الحيّات في النّعمات.(17/255)
قال محمد بن علي: كان أبي علي ين الحسين إذا مرت به جازة يقول: من الوافر
نراع إذا الجنائز قابلتنا ... ونلهو حين تمضي ذاهبات
كروعة ثلّةٍ لمغار سبعٍ ... فلما غاب عادت راتعات
وعن أبي جعفر قال: أوصى علي بن حسين: لا تؤذنوا بي أحداً، وأن يكفن في قطن، ولا يجعلوا في حنوطه مسكاً.
وتوفي وهو ابن سبع وخمسين سنة. وقيل: ثمان وخمسين سنة.
قال أبو نعيم: مات علي بن الحسين سنة اثنتين وتسعين، وقيل: سنة أربع وتسعين، وقيل: سنة ثلاث وتسعين، وقيل: سنة خمس وتسعين، ودفن بالبقيع.
وقيل: توفي سنة تسع وتسعين، وقيل: سنة مئة.
قال محمد بن عمرو: قولهم: إنه توفي وعمره ثمان وخمسون سنة، يدلك على أنه كان مع أبيه وهو ابن ثلاث أو أربع وعشرين سنة، وليس قول من قال: إنه كان صغيراً ولم يكن ليثبت، بشيء. ولكه كان يومئذٍ مريضاً فلم يقاتل، وكيف يكون يومئذٍ لم يثبت وقد ولد له أبو جعفر محمد بن علي، ولقي أبو جعفر جابر بن عبد الله، وروى عنه، وإنما مات جابر سنة ثمان وسبعين؟!(17/256)
علي بن الحسين بن محمد بن هاشم
أبو الحسن البغدادي، الورّاق حدّث بدمشق.
روى عن أبي العباس أ؛ مد بن عمر بن زنجويه القطان بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إن الله عزّ وجلّ قرأ طه ويس، قبل أن يخلق آدم بألف عام، فلما سمع الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمة ينزل عليها هذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسن تكلم بهذا ".
علي بن الحسين بن محمد المغربي
ابن يوسف بن بخز بن بهرام بن المرزبان بن ماهان بن باذام بن ساسان الحرون ابن بلاس ابن حاتناسف بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام بن جور بن جرد أبو القاسم المعروف بابن المغربي الوزير ولد بحلب ونشأ بها، ووزر لأميرها أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان المعروف بسعد الدولة، ثم غضب عليه، فهرب إلى مصر سنة إحدى وثمانين وثلاث مئة، ثم خرج إلى الشام مع تنجوتكين التركي حين ولاه العزيز إمرة جيوش الشام. ودخل معه دمشق سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة.
حدث عن هارون بن عبد العزيز الأوراجي بسنده إلى حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ".(17/257)
ومن شعر أبي القاسم بن المغربي: من الوافر
ونفسك فز بها إن خفت ضيماً ... وخلّ الدّار تندب من بكاها
فإنّك واجدٌ أرضاً بأرضٍ ... ولست بواجدٍ نفساً سواها
ولأحمد بن عبيد الله في أبي الحسن علي بن الحسين المغربي، وقد اعتلّ ثم عوفي: من المتقارب
شكا لتشكّيك يا بن الحسي ... ن جسم العلاء ونفس الكرم
وكادت صروف الليالي التي ... صرفت تلمّ لذاك الألم
فلا فجع الله فيك الزمان ... فقد كان قطّب ثمّ ابتسم
توفي أبو القاسم علي بن الحسين الوزير سنة ثمان عشرة وأربع مئة.
وذكر أن الحاكم أمر بقتل علي ومحمد ابني الحسين بن المغربي بعد التسعين وثلاث مئة.
علي بن الحسين بن محمد بن مهدي
أبو الحسن ابن أبي الفوارس البصري الصوفي أحد شيوخ الصوفية الجوالين.
قدم دمشق، وحدث بها في المحرم سنة إحدى وتسعين وأربع مئة.
روى عن أي الحسن الخلعي بسنده إلى أبي مسعود عقبة بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: " ثلاث هنّ سحت، ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن ".
قال الحافظ المصنف: دخلت على أبي الحسن البصري ببغداد مع أبي المعمر الأنصاري، وكان متمرضاً، فقال له أبو المعمر: نريد أن نقرأ عليك خمسة أحاديث، فأذن لنا، فقرأت عليه خمسة،(17/258)
وشرعت في السادس، فقال: ينبغي لصاحب الحديث أن يتعلم الصدق أولاً، فأتممت السادس وقمت.
علي بن الحسين بن محموية بن زيد
أبو الحسن النيسابوري الصوفي حدث عن أبي عبد الملك محمد بن أحمد الصوري بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ".
كان علي بن الحسين بن محموية من أعيان أهل البيوتات ومن العباد المجتهدين، أنفق أموالاً ورثها عن آبائه على العباد والمستورين، وخرج إلى الشام، وصحب أبا الخير الأقطع وأكابر المشايخ، وانصرف إلى نيسابور على التجريد، وحدث ولزم جده أبي علي بن زيد، والجامع على العبادة والفقر، إلى أن توفي في سنة أربع وثمانين وثلاث مئة، وهو ابن ثمان وثمانين سنة.
علي بن الحسين بن هندي
أبو الحسن الحمصي القاضي أديب فاضل، له شعر حسن، ولد سنة أربع مئة.
ومن شعره يرثي جعفر بن ميسر: من الكامل
الورد مهلكةٌ فكيف المصدر ... والأمر يقضى والمنون المعبر
لا يرسل الباغي عنان جواده ... فلسوف يقصر تحته أو يعثر
وليرتقب يوماً عقيماً ماله ... من ليلةٍ أو ليلةً لا تسحر
إن الذي هو بالسّوية بيننا ... سيّان فيه مقدّمٌ ومؤخّر(17/259)
يا ضاحكاً بمن استقل غباره ... سيثور عن قدميك ذاك العثير
متقاربٌ إلاّ مناح تعلّلٍ ... ركبٌ إذاً بكروا وركبٌ هجّروا
أمد الحياة ولو تطاول رقدةٌ ... والمرء في حلم بها لا يغبر
يا منكر الأيام في بداوتها ... راجع فإنك عارفٌ ما تنكر
زمنٌ بخيل يستردّ هباته ... أبداً ويطوي صرفه ما ينشر
لو أنّ آثار الليالي نطقت ... صغر العظيم وقلّ ما يستكثر
تسطو بعزّك في ديار معاشرٍ ... كانوا بها وهم أعزّ وأقدر
متبدّلاً ما شئت إصغاراً لهم ... ولو أنّ أعينهم ترى لم يصغروا
فاحفظ حياءك إن رأيت رسومهم ... واسترع حسن حديثهم إن خبّروا
قد خاطبوك وإن هم لم ينطقوا ... ورأيتهم فيها وإن لم يحضروا
لا فرق عند ذوي البصائر بين مو ... جودٍ تراه وممكنٍ يتصوّر
عمروا المنازل والزمان خلالها ... ويوهي من الأعمار ما لا يعمر
لا فارسٌ بجنودها منعت ردى ... كسرى ولا للروم خلّد قيصر
جددٌ، مضى عادٌ وجرهم بعدهم ... وتلاه كهلانٌ وعقّب حمير
وسطا بغسان الملوك وكندةٍ ... فلها دماءٌ عنده لا تثأر
وحجرٌ وعمروٌ والطريد وحارثٌ ... ومحرّق ومزيقياء الأكبر
وثنى إلى لخمٍ سناناً شارعاً ... أودى به نعمانها والمنذر
وخلت قرونٌ بعد ذلك مالها ... أثرٌ يبين ولا حديث يؤثر
لعبت بهم فكأنّهم لم يخلقوا ... ونسوا بها فكأنهم لم يذكروا
أين الألى ولدوك من لد آدمٍ ... وهلمّ حتى بعثمٌ وميسّر(17/260)
وإذا الأصول تهشّمت فلقلّما ... يبقى على أغصانها ما يثمر
من ذا يرى شجراً تجذّ عروقها ... ويغرّه ورقٌ عليها أخضر
قد كنت تكثر في الحياة تعجبي ... ولمّا بدا لي عند موتك أكثر
فرأيت رضوى وهو يستر بالثّرى ... والبحر في بحر المنية يغمر
ولربّما غمرت هباتك معشراً ... حاروا بها أن يعرفوا أو ينكروا
فغدت عيونهم تحول تفرّساً ... في جعفرٍ فكأنّما هو جعفر
يا برمكيّ الجود إلاّ أنه ... قلبٌ ويحيى كسروي أحمر
لا أدعي بكما السّواء وإنما ... عودٌ صميميٌّ وعود أحور
يا من تنزّل من صليبة قومه ... وسطاً بحيث يناط منها الأبهر
يا من تتيه به مساعيه كما ... يزهى بتيجان الملوك الجوهر
يا من له صدر النّديّ إذا اجتبى ... وله إذا عدّ الكرام الخنصر
ما لي وللّيل البهيم يهيجني ... ويسوقني وجه الصباح المسفر
عجباً لمعمور الفناء أنيسه ... كيف اطمأنّ به العراء المقفر
ولعفر خدّك بالتراب وطالما ... عبق العبير به وصال العنبر
ماذا على بلدٍ وقبرك جاره ... ألاّ يمرّ به السحاب الممطر
فلقد تضمّن راحةً يجري بها ... ماء النّدى فتفيض منه أبحر
أتزورني في النوم زورة عاتبٍ ... تبدي إليّ من الرّضا ما تضمر
وجه تريد به القطوب وبشره ... يطفو على ماء الحياء فيظهر
وتقول لي قولاً يذيب بحرّه ... قلباً يكاد من الصّبابة يقطر
تمضي بباب الدار غير مسلّمٍ ... فترى بها أثري فلا تستعبر
من أين لي من بعد يومك مقلةٌ ... تجري عليك دموعها أو تبصر(17/261)
كنت السواد لها إذا ما استيقظت ... وإذا غفوت بها فأنت المحجر
بيني وبين الهم بعدك حرمةٌ ... لا تستباح وذمّةٌ لا تخفر
أرتاح ساحة قبره فأزورها ... والهجر من غير الزيارة ينظر
لا أسمع الشكوى ولا أجلو القذى ... وأراه مهضوماً فلا أتذمّر
بأبي الأعزّة أصبحوا وأسيرهم ... لا يفتدى، وذليلهم لا ينصر
عهدي به غرضاً بطول مقامه ... كيف البراح ومن دمشق المحشر
يقف الفتى والحادثات تسوقه ... والمرء يقدر والمنايا تسخر
فاختطّ منها منزلاً من فوقه ... تسفي أعاصيرٌ وتمضي أعصر
يرتاع آنسه ويرتع حوله ... من نافرات الوحش ما لا ينفر
لم يخل ظهر الأرض ممّن ذكره ... من بين أثناء الصحائف يظهر
إن ستّرت تلك المحاسن بالثرى ... فمن الحديث محاسنٌ لا تستر
أو أسرعت في محوهنّ يد البلى ... فيداك تملي والليالي تسطر
ولقد نظرت إلى الزّمان وجوره ... فأبيت عشية من يضام ويقهر
ورغبت عن دارٍ سحاب همومها ... غدقٌ ونكباء النوائب صرصر
دارٌ يسوءك منعها وعطاؤها ... وتذمّ منها غبّ ما تتخيّر
تأتي فيؤلمك انتظار فراقها ... وتروغ عنك إلى سواك فتحشر
فالناس إمّا حاذرٌ مترقّبٌ ... أو حاصلٌ منها على ما يحذر
وإذا رأيت العيش في إقبالها ... نكداً فكيف تظنه إذ يدبر
إن طبّت الدنيا عليك بقربها ... فلقد علمنا أنّ حظّك أكبر
فارقتها فأمنت هول فراقها ... وتكرّمت عيناك عمّا تنظر
وهجرت قوماً طالما صاحبتهم ... لك عاذر إن كان شيءٌ يعذر(17/262)
ما عفتهم حتى وردت حياضهم ... وخبرتهم فصدقت عمّا تخبر
فثويت تأمن منهم ما يتّقى ... وتنام عن غير الزمان وتسهر
من أصغر الدنيا فذاك عظيمها ... لا من تراه بعزّها يستكبر
يبدي إذا افتقر الخضوع بقد رما ... يختال في ثوب الرّخاء ويبطر
من لم يهن فيما لديه ما صفا ... عزّ العزاء عليه فيما يكدر
يا حبّذا أدب الحكيم فإنّ ... لا عابسٌ كزٌّ ولا مستبشر
يا من ترى ما لا تراه عينه ... ويغيب بعض القوم عما تحضر
الحيّ من تلقاه حيّاً عقله ... والميت ميت الجهل لا من يقبر
من للخطوب إذا تدانى وردها ... وبدا من الأمر الجناب الأزعر
كانت تسرّ وجوهها ووعيدها ... فالآن تطّرح القناع وتجهر
فلربّما أصدرتها فثنيتها ... رغماً وصدر الهول فيها موغر
ولمحضرٌ أحسنت فيه خلافتي ... حتى اشرأبّ لمّا وصفت الحضّر
ردّيتني رداء فضلك فانثنى ... أدبي به زهواً يميس ويخطر
ولمحفلٌ 1والعلم بين شهوده ... متحفّظٌ وأخو البلاغة محصر
أسكتّ ناطقه بقولٍ فيصلٍ ... أعيت نقائضه على من ينكر
لا جاهل الأقوام ثمّ مقدّمٌ ... وهو الكميّ ولا الوجيه موقّر
فيودّ من ترك التّأدّب للغنى ... لو أنّ نقص مكسبيه الأوفر
ولمرهف الجنبات يركب رأسه ... فيظلّ ينظم في الطّروس وينثر
وتراه إن لبس الكلام دروعه ... يعتل في زرد الدلاص فينحر
يمضي بحيث المشرفيّة تنثني ... ويطول حيث السّمهريّة تقصر
فكأنما المعنى الخفيّ معرّضٌ ... وكأنه لدنٌ بكفّك أسمر(17/263)
إن ضنّ طرفٌ لا يراك بدمعه ... فلايّ يومٍ بعد يومك يدخر
يا صاحبيّ أرى الوفاء يشوبه ... هفوات قلب محافظٍ لا يغدر
قولا لقلبك ما لوجدك حائراً ... لا الشوق مغلوبٌ ولا هو يظفر
قصر ارتياحك قيل: ما طول المدى ... فإذا تطاول فارتياحك أقصر
يا من كأنّ الدهر يعشق ذكره ... فلسانه من وصفه لا يفتر
بأبي ثراك وما تضمّنه الثّرى ... كلٌّ يموت وليس كلٌّ يذكر
ومن شعره: من البسيط
تخلّقٌ حسنٌ إن لم يكن خلقٌ ... تروّعٌ حسنٌ إن لم يكن ورع
فما أرى قيمة الدنيا وإن عظمت ... أن يأتي الحرّ ما من نفسه يضع
توفي ابن هندي سنة خمسين وأربع مئة بدمشق، وخلف ستة عشر ألف درهم، وكان من الإمساك والضبط على غاية، وقيل سنة إحدى وخمسين وأربع مئة.
وكان قاضي حمص وولد سنة أربع مئة.
علي بن الحسين الجعفري
حدث بداريا عن عبد الله بن أحمد بن أبي الحواري عن حميد بن هشام الرازي قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: يوحي الله عزّ وجلّ إلى جبريل عليه وعلى نبيّنا محمد الصّلاة والسّلام: " اسلب عبدي ما رزقته من لذة طاعتي، فإن افتقدها فردها إليه، وإن لم يفتقدها فلا تردها عليه أبداً أبداً ".(17/264)
علي بن الحسين
أبو الحسن القرشي الحراني حدث بدمشق عن أبي اليقظان بن عبد الرحمن بن مسلم الحراني عن أبيه عبد الرحمن بن مسلم قال: دخلت أنطاكية إلى مسجد الجامع، فإذا أنا بشيخ جليل جميل، فسلمت وجلست، فقال لي: من أين أنت؟ قلت: أنا من أهل حران، قال: أما أنا فمن مدينة إبراهيم الخليل، ولا يزال فيها رجل من الأبدال إلى أن تقوم الساعة.
قال: قلت: حدثني رحمك الله بحديث أحدث به عنك قال: إني لست أحدثك حتى تعطيني عهد الله وميثاقه أنك لا جلست إلى قوم من أهل لا إله إلا الله إلا حدثتهم به؛ قلت: أفعل ذلك إن شاء الله، قال: أتيت البصرة، فأقمت بها أربع حجج في طلب العلم، وكان العلماء متوافرين بالبصرة، فكتبت بها علماً كثيراً، فقال لي رجل: منذ كم تكتب معنا الحديث؟ لقد كتبت علماً كثيراُ، ولقد فاتك كلام رجل والنظر إليه، قد لقي أنس بن مالك خادم سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال: قلت: وأين منزله؟ قال: في رحبة اليهود بالبصرة.
قال: فانطلقت حتى أتيت قصره، فإذا أنا بقصر مشيد، له باب من حيدي، وعلى باب القصر مشايخ ما رأيت أجمل منهم، فلما رأيتهم هالني أمرهم، فسلمت فردّوا ورحّبوا وقرّبوا، وقالوا: هل لك من حاجة؟ قلت: نعم، أنا شيخ من أهل الشام، خرجت إلى بلدكم في طلب العلم، وأنا مقيل فيه من أربع حجج، وقد بلغني عن والدكم أنه لقي أنس بن مالك، خادم سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال صلّى الله عليه وسلّم: " طوبى لمن رآني ومن رأى من رآني "، وأبوكم رأى من رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا لي:(17/265)
نعم، وكرامة، إنا ندخل عليه في كل غداة فنسلم، ولا ندخل إلا من غد، ولنا أخ هو أصغر منا سنّاً يكنى بأبي الطيب، فنسأله يدخلك معه عليه، على أن نشرط عليك: أن لا تتكلم، تنظر إليه، وهو لا ينظر إليك. قال: فدعوت لهم، فقالوا لي: ادخل إلى هذا المسجد، فإذا صليت العصر فصر إلينا نسأله يدخلك.
فلما دخلت المسجد شممت رائحة المسك، وأن المسجد قد وزر بالخلوق والمسك، فسلمت وصليت ركعتين، وسألت الله عزّ وجلّ أن يسهل لي النظر إلى وجه وليّه.
فلما فرغت من الدعاء إذا بشيخ طوي القامة عظيم الهامة، عليه جبّة صوفٍ، مقطوع الكمين، مشدود وسطه بحبل لمن ليف، على عاتقه مرّ ومجرفة، ورسل، فوضعها في زاوية المسجد، ثم سلم وكبرن وصلى ركعة واحدة، فقلت: سبحان الله، لعله قد سها، فقال لي مجيباً: وبحمده. قلت: إنك لم تصل إلا ركعة، فقال: تحية المسجد، إنما هي تطوع.
قال: قلت: من حدثك أن ركعة تجزئ تحية المسجد؟ قال: مولاي صاحب هذا القصر.
قلت: ومملوك أنت؟ قال: كنت مملوكاً، ولكن الله أعتق رقبتي منذ خمسين سنة، وأنا أحفر القبور منذ خمسين سنة.
قلت: وما الذي حملك على حفر القبور؟ قال: بحديث حدثني مولاي هذا عن أنس بن مالك أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " من حفر قبراً لأخيه المسلم، ولم يأخذ عليه جزاء، بنى الله تعالى له بيتاً في الفردوس الأعلى، فيه قبة خضراء، يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها ".
وسمعته يقول: من غسل أخاه المسلم ولم يأخذ عليه أجراً، وكتم ما يرى منه غفر الله عزّ وجلّ له(17/266)
ذنوبه في ظلمة قبره ووحشته، إذا خلا فرداً وحيداً مرتهناً بعمله، ووكل به ملك بيده مصباح من نور، فهو يؤنسه في قبره إلى أن ينفخ الله في الصّور.
فهو الذي حملني على حفر القبور، وغسل الموتى، وحرسي القبور.
قلت: ما اسمك؟ قال: صالح.
قلت: بالله حدثني بأعجب شيء رأيته في ظلمات الليل، وأنت تحفر القبور من خمسين سنة، قال: إني لست أحدثك أو تعطيني عهد الله وميثاقه، أنت لا تجلس إلى قوم من أهل لا إله إلا الله إلا حدثتهم به، قلت: أفعل إن شاء الله.
قال: ماتت بنت قاضي البصرة، ولم يكن بالبصرة امرأة أجمل منها، فجزع عليها أبوها جزعاً شديداً، فدخلت عليه وهو يبكي أحرّ البكاء، فسلمت عليه وقلت: إن الموت حتم على الخلق، وإن الله عزّ وجلّ قال لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: " إنّك ميّتٌ وإنّهم ميّتون ".
فقال: يا صالح، إنه لم يكن بالبصرة امرأة أجمل من ابنتي، ولا أكثر مالاً، مات عنها زوجها ولم ترزق منه ولداً، وورثت منه مالاً عظيماً، وقد أوصت إليّ أن أخرج من ثلثها ثلاثة آلاف دينار، ويعطى لحرس قبرها ألف دينار يحرس سنةً اثني عشر شهراً.
قال: قلت: أما أنا فإنني أعطيت عهد الله وميثاقه أنني لا آخذ لحرس قبر، ولا لحفر قبر، ولا لغسل مست شيئاً أبداً. فقال لي: سبحان الله! ترزق رزقاً حلالاً وترده؟! قلت: نعم، وأشير عليك بشيء يسعدك الله به، ويدخل على ابنتك في قبرها السرور والرحمة؛ فقال: تكلم.
قلت: إن الميت لا ينتفع أن يكفن بألف دينار، فإنه يبلى في التراب والصديد والدّود، ولكن تكفن بمئة دينار، وتضيف تسع مئة إلى الألفين، فتشتري بها الثياب والخبز والماء، فتكسو العاري، وتشبع الجائع، وتروي الظمآن، فإني أرجو أن يعتق الله(17/267)
ابنتك من النار، ويدخل عليه في قبرها السرور والرّحمة. فقال لي: وفقت وأشرت بخير.
قال: فكفّنها بمئة، وتصدق بالباقي عنها.
قال صالح، فحرست قبرها ثلاث ليال، أصلي عند قبرها ألف ركعة، فلما كان في الليلة الرابعة، وقد طلع الفجر، وأصبت نعسة، وأذن المؤذن، فأخذت لبنة فوضعتها تحت رأسي، فما هو إلا أن ذهبت في النوم، فإذا بنت القاضي قائمة بين يديّ، عليها ثياب أهل الجنة وحلي أهل الجنة.
قلت: يا هذه، من أنت التي قد ألبسها الله البهاء والنور؟ قال: صاحبة القبر بنت القاضي، جئت أشكرك، نوّر الله قبرك، وجزاك عني أفضل الجزاء كما أشرت بالخير في الصدقة عني، إن الله تبارك وتعالى قد نوّر قبري، وأدخل قبري السرور والرحمة، قم حتى أريك ما أعد الله تعالى لمن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله.
فنهضت معها وفي يدها مصباح من بلور، والقبر روضة خضراء كأحسن ما يكون، وإن القبور قد أقبل أهلها، وقد جلس كلّ ميت على شفير قبره، قد ألبسهم الله البهاء والنور. قالت: هؤلاء الذين ماتوا وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، ادن منهم، وكلّمهم فإنهم يكلّمونك.
قلت: يا سبحان الله! موتى موتى يكلّمون الأحياء؟! قالت: وأنا ميتة، وقد أذن الله لي وكلمتك.
فلما دنوت منهم قالوا بأجمعهم: جزاك الله خيراً من مؤنس، إنا نسمع قرآنك ودعاءك لا نقدر أن نجيبك، وأنتم يا معشر الأحياء تعملون الخيرات، ولا تدرون ما لكم عند الله عزّ وجلّ من الدّرجات، فإذا أصبحت فأت المسجد الجامع فأقرئ أهالينا السّلام، وقل لهم: موتاكم يقرؤون عليكم السلام ويقولون: جزاكم الله عنا خيراً، فإن هداياكم تأتينا بكرة وعشياً، فقلت: وما الهدايا؟ قالوا: الدعاء والصدقة، إن الصدقة شيء عظيم يطفئ غضب الرّب، ودعاء الأحياء يدعون لنا الله عزّ وجلّ فيستجيب الله لهم فينا، فيدخل علينا في قبورنا السرور والرحمة.(17/268)
قال: فبينا أنا فرح بهم إذ نظرت إلى رجل مشوّه الوجه رثّ الكفن، في عنقه سلسلة من نار، ورجل بيده سوط من نار، يضرب حرّ وجهه وظهره وبطنه، وهو يصيح: يا ويلاه! من نار لا تطفأ، وعذاب لا يبلى.
قال: فتقطع قلبي رحمة له، فقلت: يا هذا أيشٍ حالك من بين أصحابك هؤلاء الذين ألبسم الله البهاء والنور؟ قال: جرمي عظيم، كان لي مال عظيم، وكنت لا أزكّي فيه، فنالني هذا بعقوق والدي في الدنيا. قلت: وكيف ذلك؟ قال: مات أبي وخلف مالاً عظيماً، ولم يكن بالبصرة امرأة أجمل من والدتي، ولا أكثر مالاً، فرغب ملوك البصرة فيها، فخطبها بعض الملوك فأجابته، فبلغني ذلك فداخلتني الغيرة. فقلت: يا أمّه، بلغني أنك تريدين التزويج. قالت: التزويج حلال؛ فرفعت يدي، فلطمت حرّ وجهها، فخرّت مغشياً عليها، فسال من وجهها الدم. فلما أفاقت من غشيتها رفعت يدها ورأسها إلى السماء فقالت: يا بني لا أقالتك الله عثرتك، ولا آنس في القبر وحشتك. فلما أن مت صرت في قبري إلى نار لا تطفأ، وعذاب لا يبلى، وكذلك القبر من اليوم إلى يوم القيامة، فإذا أصبحت فأت والدتي وأقرئها السلام، وأعلمها بما رأيت من سوء حالي لعلها ترحمني.
قال: فانتبهت فإذا رائحة المسك من مسجدي، وكأنما ضوء المصباح في مسجدي وبين عينيّ.
قال: قلت: هذه رؤيا من الله، لآتينّ المسجد الجامع، فلأؤدينّ الرسالة، ولآتينّ أم المسكين، فأخبرها بما رأيت من سوء حاله.
فخرجت إلى المسجد، فصليت مع الإمام، فلما سلم قمت فقلت: السلام عليكم يا أهل المسجد ورحمة الله وبركاته، إني رأيت موتاكم في النوم بأحسن منظر، وهم يقرئونكم السلام، ويقولون لكم: جزاكم الله عنا خيراً أفضل الجزاء، فإن هداياكم تأتينا بكرة(17/269)
وعشياً؛ فلم يبق في المسجد شيخ ولا شاب إلا علا نحيبه، ولم يبق أحد منهم إلا تصدق عن حبيبه ذلك اليوم، وكانت رؤيا رحمة على الأحياء والأموات.
قال: ومضيت إلى باب أم المسكين، فإذا على الباب شيخ جميل بيده مصحف، يقرأ فيه، وحوله وصائف يقرئهم القرآن. فلما رآني مقبلاً أمر الوصائف فدخلن القصر، فسلمت، فصافحني، وعانقني، ورد السلام، وقال: هل من حاجة؟ قلت: أما إليك فلا، ولكن إلى أهلك! فقال: يا سبحان الله! ما في مالي، ولا فيما خوّلني الله ما أقضي حاجتك؟ قلت: " إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها "؛ فقال: صدقت، يا غلام، ادخل إلى ستك فقل لها؟ تسبل الستر حتى يدخل صالح تنظر أيشٍ حاجته.
قال: فدخل الغلام، وأسبل الستر، ودخل زوجها ودخلت معه، فقلت: السلام عليك يا أمة الله، من لك في المقابر؟ قال: فبكت حتى خرت مغشياً عليها، وبكى زوجها وكل من في القصر معها، وبكيت أنا رحمة لها.
قالت: وما ذاك يا صالح؟ قلت: رأيت في المنام كذا وكذا، فبكت بكاءً شديداً، وقالت: ذاك ولدي، واحسرتاه، على ما فرطت فيك يا بني، ثم جيئت بكيس فقالت: خذه واشتر بما فيه الثياب والخبز والماء، فاكس العاري، وأشبع الجائع، وارو الظمآن، ثم قالت: اللهم إن هذا صدقة عن ولدي، اللهم فارض عنه.
قال زوجها: أحسنت وأصبت ووصلت رحمك، وما كنا لنتركك تسبقينا إلى الخير. وجيء بكيس فقال: خذه وأضفه إلى الآخر، اللهم إن هذه صدقة عن ابن العجوز، اللهم فارض عنه وعن والديه وما ولد، وعن جميع المسلمين.
قال صالح، فأخذت الكيسين، وفعلت ما قالاه، وهممت أن أقوم، فسقط مني، رغيف، فقلت: لا أبرح حتى أنقذه، فإن قليل الأمانة وكثيرها عند الله سواء.
فبينا أنا كذلك إذ خرج من بعض دروب البصرة شيخ كبير منحنٍ، ما يرفع رأسه(17/270)
من الكبر، يحرك شفتيه بالتحميد والتسبيح، وهو يقول: يا سيدي ومولاي خدمتك منذ ثلاثة أيام، فلما دنا قلت: يا شيخ، قال: يا سعديك، قلت: ما أرى معك أحداً، فلمن تناجي؟ قال: أناجي سيد السادات، ومالك الملوك، ومولى المولى، قد عودني في كل ثلاثة أيام قرصاً أفطر عليه، وهذا حاجتي إليه. قلت: إن الله عز وجل قد أجاب دعوتك. ودفعت إليه الرغيف، فقال: رضي الله عنك وعمن تصدق به عن جميع المسلمين.
قال صالح: ومضيت في الليلة الرابعة لأحرس قبر ابنه القاضي، فلما قرأت حزبي وصليت وردي نمت، فإذا أنا بابن العجوز على أحسن الناس وجهاً، وأطيب رائحة، فقال: نوّر الله قبرك، وجزاك عني أفضل الجزاء، إن الله عز وجل قد نوّر قبري، وأدخله السرور والرحمة بدعاء والدتي ودعاء الفقراء لي. إن الصدقة شيء عجيب تطفئ غضب الرب، فإذا أصبحت فأقرئ والدتي السلام، وأعلمها أن الصدقة وصلت، وقل لها: لا تقطعي الصدقة، فإن قليل الخير عند الله كثير.
قال: فانتبهت فرحاً، وصرت إلى والدته، فأخبرتها، فسرّت بذلك، وآلت على نفسها أنها تتصدق عنه في كل يوم.
قلت: يا صالح قد وعدني مواليك هؤلاء أن يدخلوني على مولاك. قال: هيهات: ما أطمع لك في ذلك لأنه كبير قد أتى عليه مئة وعشرون سنة، وقد احتجب عن الناس منذ عشر سنين. قلت: وعدوني أن يكلموا ابنه الأصغر. فقال: نعم ليس في أولاده أصبح وجهاً منه، ولا أرق قلباً، ولا أرحم بالغريب، وإن للشيخ من صلبه سبعين ذكراً.
قال: فصليت العصر وخرجت، وخرج صالح، فسلمت، فردوا السلام، والتفتوا إلى أخيهم الأصغر، فقالوا: يا أبا الطيب: إنا نعرضك إلى الأجر، وهذا الرجل مقيم في بلدنا منذ أربع حجج، وقد سألنا أن ندخله إلى والدنا؛ لينظر إليه نظرة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " طوبى لمن رآني ورأى من رآني ". قال: نعم وكرامة، فنهض ودق الباب، فخرج خادم ففتح باب القصر، فلما فتحه شممت رائحة المسك والزعفران والياسمين، فسألت الله الجنة، ثم دخلنا من قصر إلى قصر، فإذ الشيخ متكئ على فرش مشيّدة، ووجهه كالقمر ليلة البدر. قال: فقلت: هذا وجه من وجوه أهل الجنة، فوقف ابنه بين(17/271)
يديه وقال: السلام عليك يا أبه ورحمة الله وبركاته؛ فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، رضي الله عنك وعن والديك وما ولدا، وعن جميع المسلمين.
قال: فقلت في نفسي: والله لا فاتني كلام ولي الله؛ فقلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فردّ علي السلام، واحمرّ وجهه، ثم التفت إلى ابنه فقال: يا أبا الطيب من هذا الذي أدخلته عليّ من غير إذن؟ فقال: يا أبه، هذا شيخ من أهل الشام، مقيم معنا في بلدنا منذ أربع حجج، وقد سألنا أن ندخله عليك، لينظر إليك، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " طوبى لمن رآني، ومن رأى من رآني ". وأنت يا أبه، قد رأيت من رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخدمه.
قال: لا بأس، وطابت نفسه، ثم التفت فقال لي: يا شاميّ من أي الشام أنت؟ قلت: من أهل أنطاكية. فقال: مرحباً بك وأهلاً، أنت من المدينة التي منها الرجل الصالح حبيب النجار، بعث الله تعالى المسلمين إلى أنطاكية، فجاء رجل من أقصى المدينة يسعى، قال: يا قوم اتبعوا المرسلين. وكانت قدومه على عاتقه، فعلوه بالقدوم حتى قتلوه، ووطئوا بطنه، حتى خرجت بيضته من دبره، فإذا كان يوم القيامة: " قال: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ".
قال: قلت: حدثني رحمك الله بحديث أحدث به عنك، وأشكرك عليه، ويثيبك الله تعالى الجنة، فقال: إني قد آليت على نفسي أن لا أحدث أحداً، ولم احدث أحداً منذ عشرين سنة، وكني أكفّر عن يميني وأحدثك إن شاء الله، فأخرجت الألواح المسوّدة، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم حدثني أنس بن مالك خادم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " أمتي أمة مرحومة، جعلها الله تعالى في الأمم كالقمر ليلة البدر، فمحسنها يدخل(17/272)
الجنة بلا حساب، ومسيئها يغفر له بشفاعتي ". قال: ثم قرأ مصداقه من القرآن: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه، ومنهم مقتصدٌ، ومنهم سابقٌ بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير "، فسابقنا سابق، ومقتصدنا ناجٍ، وظالمنا مغفور له.
قال: فكتبت عنه حديثاً يسوى الدنيا وما فيها، قلت: زدني رحمك الله قال: اكتب يا شاميّ: بسم الله الرحمن الرحيم حدثني أنس بن مالك خادم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " أمتي الأمة المرحومة، ولولا الرحمة ما خلقهم الله ". قال: ثم قرأ مصداقه من القرآن: " انظر كيف فضّلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجاتٍ وأكبر تفضيلا " لمن عمل، " اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون "، " نعم أجر العاملين ".
قال: فكتبت عنه حديثين يسويان الدنيا وما فيها.
قلت: زدني رحمك الله قال: ما أعرفني بكم يا أصحاب الحديث، ما يشبعكم شيء؛ اكتب: حدثني أنس بن مالك خادم النبي صلّى الله عليه وسلّم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: " أمتي الأمة المرحومة، جعل الله عز وجل عذابها في الدنيا بالسيف والقتل، وذلك أني سألت الله عز وجل ثلاثاً فأعطاني: سألته أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم من قبلنا فأعطانيها، وسألته أن لا يظهر علينا عدواً من غيرنا فأعطانيها، وسألته أن لا يلبسنا(17/273)
شيعاً ". ثم قرأ مصداقه من القرآن: " أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض ". يعني السيف والقتل. فإذا كان يوم القيامة أعطى الله تعالى كل رجل من المسلمين رجلاً من المشركين: إما مجوسياً وإما يهودياً وإما نصرانياً، فيقول: يا وليّ الله، هذا عدو الله فداؤك من النار، فإذا صعد أحدكم على فراشه فليقل: اللهم اجعل فلان بن فلان فدائي من النار، فإذا كان يوم القيامة أتاه ملك قابض على ناصيته حتى يوقفه بين يدي وليّ الله، فيقول له: يا وليّ الله، هذا فداؤك من النار، قال: فيكبّ الكافر على منخريه في النار، ويؤمر بالمؤمن إلى الجنة. ثم قرأ مصداقه من القرآن: " وليحملنّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم، وليسألنّ يوم القيامة عما كانوا يفترون ".
علي بن الحصين بن مالك بن الخشخاش
العنبري البصري وفد على عمر بن عبد العزيز، وشهد دفن ابنه عبد الملك بن عمر.
حدث علي بن الحصين قال: شهدت عمر بن عبد العزيز تتابعت عليه مصائب: مات أخ له، ثم مات مزاحم، ثم مات عبد الملك، فلما مات عبد الملك تكلم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أنا دفعته إلى النساء في الخرق، فما زلت أرى فيه السرور وقرة العين إلى يومي هذا، فما رأيت فيه أمراً قد أقرّ لعيني من أمر رأيته فيه اليوم.(17/274)
علي بن حمزة بن عبد الله بن الحسين بن حمزة
ابن الحسن بن حمدان بن ذكوان أبو الحسن بن أبي الكرام العطار المعروف بابن أبي فجّة حدث عن جده أبي محمد عبد الله بن الحسين بن حمزة بسنده إلى أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو بهذه الدعوات:
" خلقت ربّنا فسوّيت، وقدّرت ربّنا فهديت، وعلى عرشك استويت، وأمتّ وأحييت، وأطعمت وأسقيت، وأشبعت وأرويت، وحملت في برّك وبحرك، وعلى فلكك ودوابك وأنعامك، فلك الحمد على ما قضيت، اللهم اجعل لي عندك قربة واجعل لي عندك وسيلة، واجعل لي عندك زلفى وحسن مآب، واجعلني من يخاف مقامك، ويخاف وعيدك، وممن يرجو لقاءك، ويرجو أيامك، واجعلني أتوب إليك توبة نصوحاً، وأسألك عملاً متقبلاً، وعملاً نجيحاً، وسعياً مشكوراً، وتجارة لا تبور ".
توفي أبو الحسن بن فجّة سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة، وهي السنة التي نزل فيها ملك لمند الفرنجي على دمشق ورجع عنها خائباً.
علي بن حمزة بن علي
أبو الحسن الهاشمي حدث بجامع بدمشق عن محمد بن موسى بن فضالة بسنده إلى جابر قال: جاء سليك الغطفاني، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " يا سليك، قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما ".
ورواه الحافظ من طريق آخر بسنده إلى جابر قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة والنبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب، فجلس، فقال رسو الله صلّى الله عليه وسلّم: " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فليصل ركعتين ثم ليجلس ".(17/275)
علي بن أبي حملة
أبو نصر القرشي مولى لآل الوليد بن عتبة بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف.
أدرك معاوية بن أبي سفيان، كان على دار الضرب بدمشق في خلافة عمر بن عبد العزيز.
حدث عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، فيرى من في باطنها من في ظاهرها "، قيل: لمن هي يا رسول الله؟ قال: " لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وبات لله قائماً والناس نيام ".
قال علي بن أبي حملة: رأيت واثلة زمن الطاعون بدمشق يشهد الجنائز على حمار، فيقدمونه فيصلي على الجنائز.
توفي علي بن أبي حملة سنة ست وخمسين ومئة. وقيل: سنة ست وستين ومئة. قال: والأول أصح.
علي بن حوشب
أبو سليمان الفزاري ويقال: السلمي من أهل دمشق.
حدث أنه سمع مكحولاً يحدث عن بريدة قال: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: " وتعيها أذنٌ واعيةٌ " فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: " سألت الله أن يجعلها أذنك "، قال علي: فما نسيت شيئاً بعد ذلك.(17/276)
وحدث علي بن حوشب أنه سمع أبا سلام يحدث عن عبادة بن الصامت قال: بصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برجل في مؤخر المسجد عليه ملحفة معصفرة. قال: ألا رجل يستر بيني وبين هذه النار؟ ففعل ذلك الرجل.
وحدث علي بن حوشب عن أبي قبيل عن سالم عن أبيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " لا تتخذوا المساجد طرقاً إلا لذكر أو صلاة ".
وحدث عن مكحول قال: لما كرّ عليّ وحمزة على شيبة بن ربيعة غضب المشركون وقالوا: اثنان بواحدٍ، فاشتعل القتال، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " اللهم إنك أمرتني بالقتال، ووعدتني بالنصر، ولا خلف لوعدك ". وأخذ قبضة من حصىً فرمى بها في وجوههم فانهزموا بإذن الله، فذلك قوله: " وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى ".
وحدث عنه قال: إذا رأيت راية هاشمية فلا تعرض لها، فإن ذؤابتها طويلة.
وحدث علي بن حوشب: أنه كان يرى مكحولاً يزيل عمامته حتى يسجد على الأرض.
علي بن حيدرة بن جعفر بن المحسن
أبو طالب العلوي الحسيني الحقني، المعروف بابن علوية كان أبوه نقيب العلويين بدمشق.
حدث بكفرسوسة عن أبي القاسم علي بن محمد بن أبي العلاء بسنده إلى عبد الله قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: " لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت ابن أبي قحافة خليلاً ".
توفي أبو طالب سنة إحدى وخمسين وخمس مئة.(17/277)
علي بن الحضر بن الحسن
أبو الحسن العثماني الحاسب صنف كتباً في الحساب.
حدث عن رشأ بن عبد الله المقرئ بسنده إلى أبي عثمان المازني قال: دخلت على الواثق فقال لي: يا مازني، لك ولد؟ قلت: لا، ولكن لي أخت بمنزلة الولد، قال: فما قالت لك؟ قلت: ما قالت بنت الأعشى للأعشى: من المتقارب
فيا أب لا تنسنا غائباً ... فإنّا بخيرٍ إذا لم ترم
أرانا إذا أضمرتك البلا ... د نجفى وتقطع منّا الرّحم
قال: فما قلت لها؟ قال: قلت لها ما قال جرير: من الوافر
ثقي بالله ليس له شريكٌ ... ومن عند الخليفة بالنجاح
قال: أحسنت، أعطه خمس مئة دينار.
ولد أبو الحسن العثماني سنة إحدى وعشرين وأربع مئة، وتوفي سنة تسع وخمسين وأربع مئة.(17/278)
علي بن الخضر بن سليمان بن سعيد
أبو الحسن السلمي، الصوفي الوراق حدث عن الشيخ أبي نصر حديد بن جعفر بن محمد الأنباري بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين نزلت هذه الآية: " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ". قال: إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح، قالوا: فهل لذلك من آية يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتنحّي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت.
توفي أبو الحسن علي بن الخضر سنة خمس وخمسين وأربع مئة.
علي بن الخضر بن عبدان بن أحمد
ابن عبدان بن احمد بن زياد بن ورد أزاد بن عبد بن شبّة ابن أحمد بن عبد الله بن عبدان المعدّل الصفّار حدث عن أبي محمد بن أبي نصر بسنده إلى بريدة قال: لما كان يوم خيبر أخذ أبو بكر اللواء، فلما كان من الغد أخذه عمر، وقيل: محمود بن مسلمة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " لأدفعنّ لوائي إلى رجل لم يرجع حتى يفتح عليه ". فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الغداة، ثم دعا باللواء، فدعا عليّاً وهو يشتكي عينيه، فمسحهما، ثم دفع إليه اللواء فافتتح.
قال بريدة: إنه كان صاحب مرحب.
توفي أبو الحسن علي بن الخضر سنة سبعين وأربع مئة.(17/279)
علي بن الخضر بن محمد بن سعيد
أبو الحسن الحلبي المؤدب إمام مسجد سوق الخشابين بدمشق.
حدث عن أبي الحسن علي بن إبراهيم المعروف بابن النجّاد بسنده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: " اللهم حاسبني حساباً يسيراً ". قالت: يا رسول الله، فما الحساب اليسير؟ قال: " أن ينظر في كتابه، إنه من نوقش الحساب يا عائشة هلك، وكل ما يصيب المؤمن يكفّر به عن سيئاته، حتى الشوكة تشوكه ".
وحدث عن أبي طاهر محمد بن أحمد بسنده إلى الجريري قال: كنت أطوف مع أبي الطفيل، فقال: ما بقي أحد رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غيري، قلت: رأيته؟ قال: نعم. قلت: وكيف كانت صفته؟ قال: أبيض مليحاً مقصراً.
قال الحافظ: عاش أبو الطفيل بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم ثمانياً وتسعين سنة، وتوفي سنة ثمان ومئة، بعد مولد سفيان بن عيينة بسنة.
علي بن خليد أبو الحسن الدمشقي
حدث عن أحمد بن مسكين قال: خرجت في طلب بشر بن الحارث من باب حرب، فإذا به جالس وحده، فأقبلت نحوه، فلما رآني مقبلاً خطّ بيده على الجدار وولّى، فأتيت موضعه، فإذا به قد خط بيده: من المنسرح
الحمد لله لا شريك له ... في صبحه دائماً وفي غلسه
لم يبق لي مؤنسٌ فيؤنسني ... إلا أنيسٌ أخاف من أنسه(17/280)
فاعتزل الناس يا أخيّ ولا ... تركن إلى من تخاف من دنسه
وحدث علي ين خالد الدمشقي عن عباس العنبري قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: من السريع
أقسم بالله لرضخ النّوى ... وشرب ماء القلب المالحه
أعزّ للإنسان من حرصه ... ومن سؤال الأوجه الكالحه
فاستغن بالله تكن ذا غنىً ... مغتبطاً بالصفقة بالرابحه
اليأس عزٌّ والتقى سؤددٌ ... ورغبة النفس لها فاضحه
من كانت الدنيا به برّةً ... فإنها يوماً له ذابحه
علي بن داود بن أحمد
أبو الحسن الورثاني الأذربيجاني المعلم سكن المزة، وكان يعلم بها.
حدث عن أبي بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا بسنده إلى أبي ذر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: " معلم الخير والعامل به شريكان، يصلي عليهما كل شيء حتى الدواب في الأرض ومطر السماء ونون البحر ".
وحدث عن الحسن بن صلام السواف بسنده إلى أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: " من أتت عليه ستون سنة، فقد أعذر الله إليه في العمر ".
وحدث بالنيرب سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة عن حامد بن سهل بسنده إلى علي قال: خير بئر بئر زمزم، وشر بئرٍ بئرٌ بحضرموت برهوت، فيها أرواح الكفار.(17/281)
وحدث عن ابي الحسن القرشي قال: أنشدني عبد الله بن محمد الخراساني: من الطويل
أتعمى عن الدنيا وأنت بصير ... وتجهل ما فيها وأنت خبير
وتصبح تبنيها كأنك خالدٌ ... وأنت غداً عما بنيت تسير
فلو كان ينهاك الذي أنت عارفٌ ... لقد كان فيما قد بلوت نذير
فدونك فاصنع كلّ ما أنت صانعٌ ... فإنّ بيوت المترفين قبور
علي بن داود بن عبد الله
أبو الحسن الداراني المقرئ القطان إمام جامع دمشق، وكان يؤم أهل داريّا، فمات إمام جامع دمشق، فخرج أهل دمشق إلى داريّا ليأتو به للصلاة بالناس في جامع دمشق، فمنعهم أهل داريا، وكان فيمن خرج معهم القاضي أبو عبد الله بن النصيبي الحسيني، وجلة شيوخ البلد كأبي محمد بن أبي نصر، وقال: يا أهل داريا أما ترضون أن يسمع في البلاد أن أهل دمشق احتاجوا إلى إمام أهل داريا يصلي بهم؟ فقالوا: إنا رضينا، وألقوا السلاح، فقدمت له بغلة القاضي ليركبها، فلم يفعل، وركب حمارةً كانت له، فلما ركب التفت إلى ابن النصيبي، فقال: أيها القاضي الشريف، مثلي يصلح أن يكون إمام الجامع، وأنا علي بن داود، كان أبي نصرانياً فأسلم، وليس لي جد في الإسلام؟ فقال له القاضي: قد رضي بك المسلمون.
ورحل معهم، وسكن في أحد بيوت المنارة الشرقية، وكان يصلي بالناس ويفرقهم في شرقي الرواق الأوسط من الجامع، ولا يأخذ على صلاته أجراً، ولا يقبل ممن يقرأ عليه براً، ويقتات من غلة أرض له بداريّا، ويحمل من الحنطة ما يكفيه من الجمعة إلى الجمعة، ويخرج بنفسه إلى طاحونة كسملين خارج باب السلامة، فيطحنه ويعجنه ويخبزه ويقتاته طول الأسبوع.
وكان يقرأ عليه رجل مبخّل، له أولاد، كانوا يشتهون عليه القطائف مدة وهو يمطلهم، فألقي في روع أبي الحسن بن داود أمرهم، فسأله أن يتخذ له قطائف، فبادر(17/282)
الرجل إلى ذلك، لأن أبا الحسن لم يكن له عادة بطلب شيء ممن يقرأ عليه، ولا بقبوله، واشترى سكراً ولوزاً، واتخذها في إناء واسع، ثم أكل منها، فوجد لوزها مراً، فمنعه بخله من عمل غيرها، وحمله إلى ابن داود متغفلاً، فأكل منها واحدة، ثم قال له: احملها إلى صبيانك، فجاء بها بيته فوجدها حلوة، فأطعمها أولاده.
توفي أبو الحسن سنة اثنتين وأربع مئة، وكان ثقة مأموناً، وكان يذهب إلى مذهب أبي الحسن الأشعري.
علي بن داود الدمشقي
حدث عن محمد بن زياد بسنده إلى حذيفة بن اليمان قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الفجر، فلما انفتل من صلاته، قال: " أين الصديق أبو بكر؟ " فلم يجبه أحد، فقام قائماً على قدميه فقال: " أين الصديق أبو بكر؟ " فأجابه من آخر الصفوف: يا لبيك، يا لبيك يا رسول الله. قال: " افرجوا لأبي بكر، ادن مني يا أبا بكر ". فدنا أبو بكر من النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: " يا أبا بكر لحقت معي الركعة الأولى؟ " قال: يا رسول الله كنت معك في الصف الأول فكبرت وكبرت، واستفتحت الحمد وقرأتها، فوسوس إليّ شيء من الطهور، فخرجت إلى باب المسجد، فإذا أنا بهاتف يهتف ويقول: وراءك، فالتفت فإذا بقدير من ذهب مملوء ماء أبيض من اللبن وأعذب من الشهد، وألين من الزبد، عليه منديل أخضر مكتوب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، الصديق أبو بكر، فأخذت المنديل، فوضعته على منكبي، فتوضأت للصلاة، وأسبغت الوضوء، ورددت المنديل على القدمين، فلحقتك وأنت راكع الركعة الأولى، فتممت صلاتي معك يا رسول الله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: " يا أبا بكر أبشر، إن الذي وضأك للصلاة جبريل، والذي مندلك ميكائيل، والذي أمسك بركبتي حتى لحقت الركوع إسرافيل عليهم السلام ".(17/283)
علي بن رباح بن قصير بن القشب
ابن تبيع بن أردة بن حجر بن جزيلة بن لخم أبو عبد الله، ويقال: أبو موسى اللخمي، المصري والد موسى بن علي الذي يقال في اسمه: علي بالضم.
وقد على معاوية، ووفد على عبد الملك غير مرة، وكان بدمشق حين قتل عبد الملك عمرو بن سعيد بن العاص.
قال علي بن رباح: سمعت عقبة بن عامر يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " تعلموا كتاب الله وتعاهدوه وتغنّوا به، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشدّ تفلّتاً من المخاض من العقل ".
قال علي بن رباح:
وفدنا مع معاوية بن حديج على معاوية بن أبي سفيان من إفريقية، فجعل معاوية يسأل ابن حديج عن أهل مصر، ويخبره عنهم، فقال معاوية بن أبي سفيان: يا بن حديج، إني وجدت أهل مصر على ثلاثة أصناف: فثلث ناس، وثلث أشبه الناس بالناس، وثلث لا ناس. فقال معاوية بن حديج: فسّر لنا يا أمير المؤمنين هذا. قال: أما الثلث الذين هم الناس فالعرب، والثلث الذين يشبهون الناس فالموالي، والثلث الذين لا ناس فالمسالمة.
قال علي بن رباح: خرجت مع عبد العزيز بن مروان إلى الشام يوم انتفض بهم عمرو بن سعيد، فلما فرغوا منه انصرف عبد العزيز قافلاً لا ينزل منزلاً إلا غشيه جماعة من الناس يسألونه، ويذكرون بلاءهم، فأنكرت ذلك من صنيعهم، فقلت لعبد العزيز: لقد أظهر الناس من المسألة وأجازوها فيما بينهم، وما كان الناس يرضون بذلك لأنفسهم، ولا يجيزونها فيما بينهم. فقال عبد العزيز: إنه كان للناس أبواب من المعاش مفتّحة لهم، كانت تغنيهم عن المسألة، فلما أغلقت عليهم تلك الأبواب اضطرهم ذلك إلى المسألة. فقلت: وما يمنع(17/284)
أمير المؤمنين وأنت أيها الأمير إذ عرفتم ذلك أن تفتحوها فيكفيهم ذلك عن المسألة؟ قال: إنك أحمق، إن الناس صاروا تجاراً بدينهم، ألا ترى إلى عمرو بن سعيد أغار على دمشق باثني عشر ألفاً على زيادة عشرة عشرة؟ ولد أبو عبد الله سنة خمس عشرة عام اليرموك، وكان أعور ذهبت عينه يوم الصواري في البحر مع عبد الله بن سعد بن أبي سرح، سنة أربع وثلاثين.
وكان يفد لليمانية من أهل مصر على عبد الملك بن مروان، وكانت له من عبد العزيز بن مروان منزلة، وهو الذي زفّ أمّ البينين ابنة عبد العزيز بن مروان إلى الوليد بن عبد الملك، ثم عتب عليه عبد العزيز فأغزاه إفريقية، فلم يزل بإفريقية إلى أن توفي بها.
ويقال: إن وفتها كانت في سنة أربع وعشرة ومئة.
وكان يلقب بعلي، وكان اسمه علياً، وكان يحرج على من سماه عليّاً بالتصغير. ورباح: بفتح الراء والباء الموحدة. وكان يقول: لا أجعل في حلٍّ من سماني عليّاً، فإن اسمي عليّ.
قال أبو عبد الرحمن المقرئ: كانت بنو أمية إذا سمعوا بمولود اسمه علي قتلوه، فبلغ ذلك رباحاً فقال: هو علي. وكان يغضب من علي.
وقيل: توفي علي بن رباح سنة سبع عشرة ومئة.
وثقه جماعة.
قال الحارث بن زيد الحضرمي: دخلت على علي بن رباح وهو في الشمس، وعنده جارية علجة، وهو يقول: قال عمرو بن العاص، قال فلان، قال فلان، فقلت له: تحدث مثل هذه بهذه الأحاديث؟ فقال: ليست هي بي، إنما أستذكر حديثي.(17/285)
علي بن ربيعة البيروتي
حدث عن الأوزاعي بسنده إلى عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: " الحمّى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء ".
فكان ابن عمر يقول: اللهم اكشف عنا الرّجز.
علي بن أبي رجاء أبو الحسن
حدث عن أبي مسلمة إسحاق بن سعيد بن الأركون بسنده إلى أبي هريرة أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال: " لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم من الجنة خيرٌ مما بين السماء والأرض ".
قال الحافظ: هذا وهم، وأبو الحسن بن أبي الرجاء هذا اسمه أحمد بن نصر بن شاكر، دمشقي مشهور ولعله كان في الأصل غير مسمى، فسمّاه بعض الرّواة علياً، لأن الغالب في هذه الكنية أن تكون لعلي، والله أعلم.
علي بن زكريا بن يحيى
أبو الحسن القاضي البغدادي حدث عن أبي الحسن أحمد بن سليمان بن أيوب بن حذلم القاضي الأسدي بسنده إلى ابن عمر: أنه كان يوتر على بعيره، ويذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يفعل ذلك.(17/286)
علي بن زيد بن عبد الله بن زهر
أبي مليكة بن عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة أبو الحسن التيمي القرشي البصري الفقيه قدم على عمر بن عبد العزيز.
حدث عن أنس بن مالك: أن أكيدر دومة أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جبّة، فعجب الناس من حسنها، فقال: والذي نفسي بيده إن مناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن منها.
وحدث عن زرارة بن أوفى بسنده أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
" من ضم يتيماً ابن مسلمين في طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة البتة، ومن أدرك والديه أو أحدهما، ثم لم يبرّهما، ثم دخل النار فأبعده الله، وأيّما مسلم أعتق مسلمة كانت فكاكه من النار ".
قال علي بن زيد: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: لقد تمت حجة الله على ابن الأربعين، ومات لها رحمه الله.
وقال: سمعت عمر بن عبد العزيز بخناصرة يخطب وهو يقول: أيها الناس إن أفضل العبادة أداء فرائض الله واجتناب محارم الله.
وأم علي بن زيد أم ولد، وولد علي بن زيد وهو أعمى، وكان كثير الحديث، وفيه ضعف، لا يحتج به.(17/287)
قال علي بن زيد بن جدعان: لا ينبغي للوالي أن يلي حتى يكون فيه خمس خصال، إن أخطأته واحدة لا ينبغي أن يكون والياً: حتى يجمع المال من قبل وجهه، فإذا جمعه عفّ عنه، ثم قسمه في حقه، ثم يكون شديداً في غير جرأة، وليّناً في غير وهن.
قال علي بن زيد: قال لي بلال بن أبي بردة: اغد إليّ غدوة حتى أرسلك فتخطب عليّ هند بنت المهلب. فلما أردت الغدو قال لي أهلي: عندنا تين، فلو أصبت منه قبل أن تذهب، فإنك لا تدري متى ترجع؛ فأتوني بسلة عظيمة، فأتيت على ما فيها أجمع. وغدوت على بلال، فقال: انطلق فاخطب عليّ هنداً، ثم قال: لا تبرح حتى تغدّى؛ فدعا بغداء كثير، فأكلت. ثم مضيت فأتيت هنداً فكلمتها، فقالت: ما عنه رغبة، وإنه لكفءٌ كريم، وهذا كتاب خالد بن عبد الله القسري فلو أردت التزويد لم أعدل به. فنهضت، فقالت: لا تخرج وقد دخلت منزلي حتى تغدّى، فأتوني بطعام كثير. وخرجت فمررت ببني شيبان، وبين أيديهم تمر ولبن، يتمجعون به، فدعوني فأصبت معهم، ومضيت. فصحبني زياد العنبري، فحدثني فقال: يا أبا الحسن، والله لعلل الموت أخفى من وشي برد، فقلت وأنا مكروب مما أجد في بطني: أنا والله في بعض تلك العلل.
قالوا: وكان علي بن زيد رفاعاً.
قال الترمذي: وعلي بن زيد صدوق، إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره.(17/288)
قال شعبة: حدثنا علي بن زيد قبل أن يختلط.
وقال يحيى بن معين: ما اختلط علي بن زيد قط.
قال يزيد بن رزيغ: رأيت علي بن زيد ولم أحمل عنه، فإنه كان رافضياً، وكان علي بن زيد يتشيع، وكان الطاعون بالبصرة.
علي بن زيد بن علي
أبو الحسن السّلمي الدّواجي المؤدّب كان يؤدّب في مسجد السلاّلين رأس درب التّبان، صلى في مسجد درب الحجر نحو خمسين سنة احتساباً، وكان عفيفاً مستوراً.
حدث عن نصر بن إبراهيم المقدسي بسنده إلى أبي هريرة قال: أوصاني خليلي صلّى الله عليه وسلّم بثلاث لا أدعهنّ: سبحة الضّحا في الحضر والسفر، وأن أصوم ثلاثة أيام من كلّ شهر وقال: إنه صيام الدهر وأن لا أنام إلا على وتر.
ولد سنة إحدى وخمسين وأربع مئة. وتوفي سنة تسع وثلاثين وخمس مئة.(17/289)
علي بن زيد أبو الحسن الدمشقي
حدث عن أيوب بن سويد بسنده إلى سعيد بن المسيب قال: توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثلاث وستين سنة.
قال ذلك عروة عن عائشة.
علي بن سراح بن عبد الله
أبو الحسن بن أبي الأزهر المصري الحرسيّ مولاهم، الحافظ حدث عن محمد بن عبد الرحمن بن الأشعث بسنده إلى أبي هريرة: أنه أتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني كنت أصلّي فدخل عليّ رجل فأعجبه الحال التي رآني عليها. فقال: لك أجران: " أجر السّر وأجر العلانية ".
توفي علي ين سراح بعد سنة ثلاث مئة، قيل: سنة ثمان وثلاث مئة. وكان يشرب المسكر ويسكر.
قال محمد بن المظفر: رأيت علي بن سراح المصري سكران على ظهر رجل يحمله من ماخور.
وقال الدارقطني: هو صالح.(17/290)
علي بن سعيد بن بشير بن مهران
أبو الحسن الرازي الحافظ، يعرف بعليك عليك: بفتح العين.
حدث بدمشق عن الهيثم بن مروان الدمشقي بسنده إلى عبد الله بن عمر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه مرّ بصنم من نحاس فضرب ظهره بظهر كفه، ثم قال: خاب وخسر من عبدك من دون الله، ثم أتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم جبريل ومعه ملك، فتنحى الملك؛ فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: " ما شأنه تنحّى؟ " قال: إنه وجد منك زنخ نحاس وإنا لا نستطيع زنخ النحاس.
قال حمزة بن يوسف:
سألت الدارقطني عن عليك الرازي فقال: ليس في حديثه كذلك، وإنما سمعت بمصر أنه كان والي قرية، وكان يطالبهم بالخراج، فما كانوا يعطونه، قال: فجمع الخنازير في المسجد. فقتل له: إنما أسأل كيف هو في الحديث، فقال: قد حدث بأحاديث لم يتابع عليها، ثم قال: في نفسي منه، وقد تكلم فيه أصحابنا بمصر، وأشار بيده وقال: هو كذا وكذا، كأنّه ليس ثقة.
توفي سنة تسع وتسعين ومئتين.
علي بن سعيد بن جرير
أبو الحسن النسوي محدث مشهور، له رحلة.
حدث عن محمد بن المبارك بسنده عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى باليمين مع الشاهد.
حدث علي بن سعيد النسوي بنيسابور سنة ست وخمسين ومئتين.(17/291)
علي بن سعيد بن عبد الله
أبو الحسن الأزدي العريفي حدث بأطرابلس عن خيثمة بن سليمان بن حيدرة بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه ".
علي بن سليمان بن سلمة
أبو الحسن المري، المعروف بالطبري حدث عن أبي بكر أحمد بن محمد بن الوليد المري بسنده إلى أبي رجاء المري عن أبيه عن جده عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: " لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لا يذكر اسم الله عليه، ولا يؤمن بالله من لا يؤمن بي، ولا يؤمن بي من لا يحب الأنصار ".
علي بن سليمان بن علي
ابن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي من وجوه بني العباس.
قدم مع المهدي دمشق، وولي له الجزيرة: خراجها وحربها وصلاتها، وعدة ولايات.
قال خليفة: سنة ثمان وستين كتب المهدي إلى علي بن سليمان بن علي يأمره ببناء مدينة الحدث، فوجه عليّ المسيب بن زهير فأقام بنيانها.(17/292)