وأجملهن أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها. قال: نعم. قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك. قال: نعم، " قال " وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين. قال: نعم. قال أبو زُمَيل: ولولا أنه طلب من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أعطاه ذلك، لأنه لم يكن يُسأل شيئاً إلا قال نعم.
وعن ابن المسيب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبى يوم حنين ستة آلاف بين غلام وامرأة، فجعل عليهم أبا سفيان بن حرب.
وعن عبد الله بن يزيد الهذلي قال: كان بين أبي سفيان وبين معقل بن خويلد في سَلَبِ رجل يوم حنين كلام. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا معقل اجتنب مغاضبة قريش.
حدث أبو الهيثم عمن أخبره أنه سمع أبا سفيان بن حرب يمازح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت ابنته أم حبيبة ويقول: والله، إن هو إلا أن تركتك فتركتك العرب إن انتطحت جماء ولا ذات قرن، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضحك ويقول: أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة؟! وعن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يدخل النار من تزوج إلي أو تزوجي إليه.
وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" شرط من ربي شروط ألا أصاهر إلى أحد، ولا يصاهر إلى أحد إلا كانوا رفقائي في الجنة، فاحفظوني في أصهاري وأصحابي، فمن حفظني فيهم كان عليهم من الله حافظ، ومن لم يحفظني فيهم تخلَّ الله عزّ وجل منه. ومن تخلّى الله منه هلك ".
قال محمد بن عمر الواقدي: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد غنم يوم حنين فضة كبيرة، أربعة آلاف أوقية،(11/63)
فجمعت الغنائم بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء أبو سفيان بن حرب، وبين يديه الفضة، فقال: يا رسول الله، أصبحت أكثر قريش مالاً، فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: أعطني من هذا المال يا رسول الله، قال: يا بلال، زن لأبي سفيان أربعين أوقية، وأعطوه مئة من الإبل. قال أبو سفيان: ابني يزيد أعطه. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زنوا ليزيد أربعين أوقية، وأعطوه مئة من الإبل. قال أبو سفيان: ابني معاوية يا رسول الله، قال: زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطوه مئة من الإبل. قال أبو سفيان: إنك لكريم، فداك أبي وأمي، والله لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيراً.
قال عبد الله بن أبي بكر بن حزم وغيره: كان من إعطاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أصحاب المئين من المؤلفة قلوبهم، من قريش وسائر العرب من بني عبد شمس أبو سفيان بن حرب مئة بعير، وأعطى ابنه معاوية مئة بعير.
وعن إسماعيل بن أمية قال: أفاض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن يمينه أبو سفيان بن حرب وعن يساره الحارث بن هشام، وبين يديه يزيد ومعاوية ابنا أبي سفيان على فرسين.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احفظوني في أصحابي، فمن حفظني في أصاحبي رافقني، وورد على حوضي، ومن لم يحفظني فيهم لم يرد على حوضي، ولم يرني إلا من بعيد ".
عن سفيان الثوري في قوله تعالى: " وَسَلامٌ على عبادهِ الذينَ اطصفَى " قال: هم أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(11/64)
وعن سويد بن غفلة قال:
دخل أبو سفيان بن حرب " على علي والعباس فقال: يا علي وأنت يا عباس ": ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش، في تيم؟! أما والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً، فقال علي: يا أبا سفيان، طالما غششت الإسلام.
كان أبو سفيان بن حرب قاضي الجماعة يوم اليرموك يسير فيهم، ويقول: الله، الله، عباد الله انصروا الله ينصركم، اللهم، هذ1يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك.
قال عبد الله بن الزبير: كنت مع أبي عام اليرموك. فلما تعبأ المسلمون للقتال لبس الزبير لأمته، ثم جلس على فرسه، ثم قال لموليين له: احبسا عبد الله بن الزبير معكما في الرحل، فإنه غلام صغير، ثم توجه، ودخل في الناس. فلما اقتتل الناس والروم نظرتُ إلى ناس وقوف على تل لا يقاتلون مع الناس. فأخذت فرساً للزبير خلّفه في الرحل، فركبته، ثم ذهبت إلى أولئك الناس، فوقفت معهم وقلت: أنظر ما يصنع الناس. قال: فإذا أبو سفيان بن حرب في مشيخة من قريش من مهاجرة الفتح وقوفاً لايقاتلون. فلما رأوني رأوا غلاماً حدثاً لم يتقوني. قال: فجعلوا - والله - إذا مال المسلمون وركبهم الروم يقولون: إيهٍ بَلْ أصفر، وإذا مالت الروم وركبهم المسلمون قالوا: يا ويح بَلَ أصفر، فجعلت أعجب من قولهم. فلما هزم الله الروم، ورجع الزبير جعلت أخبره خبرهم. قال: فجعل يضحك ويقول: قاتلهم الله، أبَوا إلا ضغناً وماذا لهم في أن يظهر علينا الروم، ولَنحن خير لهم منهم؟! وعن جويرية بنت أسماء أن عمر بن الخطاب قدم مكة فجعل يجتاز في سككها. فيقول لأهل المنزل: قُمّوا أفنيتكم. فمر بأبي سفيان فقال: يا أبا سفيان، قموا فناءكم، فقال: نعم(11/65)
يا أمير المؤمنين، يجيء مُهّاننا، ثم إن عمر أجتاز بعد ذلك فرأى الفناء كما كان، فقال: يا ابا سفيان، ألم آمرك أن تقموا أفناءكم، قال: بلى، يا أمير المؤمنين، ونحن نفعل إذا جاء مهاننا. قال: فعلاه بالدِّرَّة بين أذنيه، فضربه، فسمعت هند فقالت: أتضربه؟! أما والله لرُب يوم لو ضربته لاقشعر بك بطن مكة، فقال عمر: صدقت، ولكن الله رفع بالإسلام أقواماً، ووضع به آخرين.
وعنه قال: أغلظ أبو بكر يوماً لأبي سفيان أبو قحافة له: يا أبا بكر لأبي سفيان تقول هذه المقالة؟! قال: يا أبه، إن الله رفع بالإسلام بيوتاً، ووضع بيوتاً. فكان بيتي فيما رفع، وبيت أبي سفيان فيما وضع الله.
قدم عمر بن الخطاب مكة، فوقف على الردم فقال له أهل مكة: إن أبا سفيان قد سدّ علينا مجرى السيل بأحجار وضعها هناك، فقال: عليَّ بأبي سفيان، فجاء فقال: لا أبرح حتى تنقل هذه الحجارة، حجراً حجراً بنفسك، فجعل ينقلها، فلما رأى ذلك عمر قال: الحمد لله الذي جعل عمر يأمر أبا سفيان ببطن مكة فيطيعه.
قال زيد بن اسلم: لما ولي عمر بن الخطاب معاوية الشام خر معه بأبي سفيان بن حرب. قال: فوجّه معاوية مع أبي سفيان إلى عمر بكتاب ومال وكبل. قال: فدفع إلى عمر الكتاب والكبل، وحبس المال. قال عمر: ما أرى نضع هذا الكبل في رجل أحد قبلك. قال: فجاء بالمال، فدفعه إلى عمر.
وعن عبد الله بن عمر قال: لما هلك عمر بن الخطاب وجد عثمان بن عفان في بيت مال المسلمين ألف دينار مكتوباً عليها: عزل ليزيد بن أبي سفيان، وكان عاملاً لعمر. فأرسل عثمان إلى أبي سفيان أنا وجدنا لك في بيت مال المسلمين ألف دينار، فارسل فاقبضها، فأرسل إليه أبو سفيان فقال: لو علم ابن الخطاب لي فيها حقاً لأعطانيها، وماحبسها عني، وأبى أن يأخذها.(11/66)
قال عبد العزيز بن عمران: قيل لأبي سفيان بن حرب: ما بلغ بك من الشرف ما نرى؟! قال: ما خاصمت رجلاً إلا جعلت للصلح بيني وبينه موضعاً، أو قال: موعداً.
وعن عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضي الله عنها أن هنداً أم معاوية قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه، وهو لا يدري. فقالت: هل علي في ذلك من شيء؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف.
وعن سعيد قال: قال عمر بن الخطاب لأبي سفيان بن حرب: لا أحبك أبداً، رب ليلة غممتَ فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن أنس أن أبا سفيان بن حرب دخل على عثمان بعدما عمي فقال: ها هنا أحد؟ قالوا: لا، قال: اللهم، اجعل الأمر أمر جاهلية، والملك ملك عاصبية، واجعل أوتاد الأرض لبني أمية.
توفي أبو سفيان سنة إحدى وثلاثين. وقيل: في سنة اثنتين وثلاثين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. وقيل سنة ثلاث وثلاثين. وقيل: سنة أربع وثلاثين، وصلى عليه عثمان.
صدقة بن أحمد بن عبد العزيز
أبو القاسم الألهاني البزاز حدث عن أبي خازم محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد البغدادي بسنده عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب الناس فقال: إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاخترا ذلك العبد ما عند الله. فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه، أن خبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عبد خُيِّر. فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ أحَنْ الناس علي في صحبته(11/67)
وما له أبو بكر، ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً. ولكن خلة الإسلام ومودته. لايبقى في المسجد باب إلا سُدّ إلا باب أبي بكر.
صدقة بن حديد بن يوسف
ابن عبد الله. أبو القاسم المقرىء حدث عن أبي بكر يوسف بن القاسم بن يوسف الميانجي بسنده عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ".
قال: فقال رجل لمحارب بن دثار: إن هذا الحديث ثبت؟ قال: وما يمنعه أن يكون ثبتاً، وهو عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
صدقة بن خالد
أبو العباس القرشي الدمشقي حدث عن ابن جابر بسنده عن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنه لم يبقى من الدنيا إلا بلاء وفتنة ".
ولد صدقة سنة ثمان عشرة ومئة. وكان مولى بني أمية. وقي: مولى أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أخت عمر بن عبد العزيز.
توفي صدقة سنة ثماين ومئة. وقيل: سنة أربع وثمانين.
صدقة بن عبد الله أبو معاوية
الدمشقي ويقال: أبو محمد، المعروف بالسمين حدث صدقة عن أبي وهب عن مكحول عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الناس اليوم كشجرة ذات جنى، ويوشك أن يعود الناس كشجرة ذات شوك،(11/68)
إن ناقدتهم ناقدوك. وإن هربت منهم طلبوك. قال: فقلنا: فكيف المخرج يا رسول الله؟ قال: تقرضهم من عرضك ليوم فقرك ".
وحدث عن نصر بن علقمة بسنده عن معاذ بن جبل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أبغض الخلق إلى الله لَمَن آمن ثم كفر ".
وثقه قوم، وجرّحه آخرون. وقال دُحيم: صدقة السمين محله الصدق، غير أنه كان يشوبه القدر. وقال غيره: كان منكر الحديث جداً.
مات صدقة السمين سنة ست وستين ومئة.
صدقة بن عبد الله بن عبد القادر
أبو القاسم الشافعي حدث عن القاضي يوسف بن القاسم بسنده عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من ذُكرتُ عنده فليصلِّ علي، فإنه من صلّى عليّ مرة صلى الله عليه عشراً ".
صدقة بن علي بن محمد
ابن المومَّل. أبو القاسم التميمي الدارمي الموصلي قاضي نصيبين.
حدث عن إبراهيم بن ثُمامة الحنفي بسنده عن أبي سعيد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا سمعت النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن ".(11/69)
صدقة بن محمد بن أحمد بن محمد
ابن عبد الملك بن مروان. أبو القاسم القرشي، المعروف بابن الدلم حدث عن أبي سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي بسنده عن جرير بن عبد الله قال: كنا جلوساً عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: " أما إنكم ستُعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته. فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ".
صدقة بن محمد بن محمد بن محمد
ابن خالد بن معيوف أبو الفتح الهمداني العين ثرمي من أهل عين ثرماء.
حدث عن ابي الجهم بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أتى الجمعة والإمامُ يخطب كانت له ظُهراً ".
صدقة بن المظفر بن علي
ابن محمد. أبو الفرج الأنصاري حدث عن أحمد بن يوسف بن خلاد بسنده عن بشر بن سُحيم قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انطلق فنادِ أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة. وأن أيام التشريق أيام أكل وشرب ".(11/70)
صدقة بن موسى الدقيقي
أبو المغيرة
حدث عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك قال: ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: وقّت لنا أربعين يماً في حلق العانة. ونتف الإبط، وقصّ الأظفار، وقصّ الشارب.
صدقة بن يزيد الخراساني
سكن بدمشق وبيت المقدس. ونسبه يحيى بن معين إلى دمشق لسكنه بها.
حدث عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: تراءى الناس الهلال ذات ليلة فقالوا: ما أحسنه، ما أبينه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كيف أنتم إذا كنتم من دينكم في مثل القمر ليلة البدر، لا يبصره منكم إلا البصير؟ ".
وحدث عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قال الله تعالى: إن من أصححته ووسعت عليه لم يزرني في كل خمسة أعوام عاماً لَمَحروم ".
قال رَوّاد بن الجراح: سالني صدقة أن آتيه بكتب، فوعدته. فمكثت أياماً، ثم جئته فقال: أين كنت؟ فقلت: شغلني عنك صديق لي. قال: فقال: صديق؟! قال: قلت: نعم. قال: أنا أكبر من أبيك، وما أعلم لي صديقاً، ثم قال: سمعت قتادة يقول في قول الله تعالى: " أَوْصَدِيْقِكُمْ " قال: هو الرجل يكون بينه وبين الرجل الإخاء والمودة، فيأتيه(11/71)
فيطلبه في منزله فيقول: أين أخي فلان؟ فيقول له أهله: ليس هاهنا، فيقول: غدونا، عشونا. أعطوني ثوبه. أسرجوا لي دابته، فيفعلون ذلك به، فيأتي الرجل فيقول له أهله: قد جاء أخوك فلان. غديناه، عشيناه، أسرجنا له دابتك، أعطيناه ثيابك، فلا يقع في قلبه إلا كما قيل: جاء أبوك وأخوك وعمك، فعلنا به ذلك. فذلك الصديق.
ضعفه قوم. وقال يحيى بن معين: هو صالح الحديث.
صدقة بن يزيد
قال صدقة بن يزيد: نظرت إلى ثلاثة أقبر على شرف من الأرض بناحية طرابلس - وقيل: أنطابلس - أحدها مكتوب عليه: الطويل
وكيف يلذ العيش من هو موقنٌ ... بأن المنايا بغتةً ستعاجلُهْ
وتسلبُه ملكاً عظيماً ونخوةً ... وتسكنه البيت الذي هو آهلهْ؟
وعلى القبر الثاني:
وكيف يلذُّ العيش من هو عالمٌ ... بأن إلهَ الخلقِ لابدّ سائلُهْ
فيأخذ منهُ ظلمَه لعباده ... ويجزيه بالخير الذي هو فاعله؟
وعلى القبر الثالث:
وكيف يلذُّ العيشَ مَن هو صائرٌ ... إلى جدثٍ تُبلي الشباب منازلُهْ
ويذهبُ حسنُ الوجهِ من بعد ضوئه ... سريعاً ويبلي جسمه ومفاصله؟
وإذا هي قبور مسنمة على قدر واحد جنبها إلى جنب بعض. فنزلت قرية بالقرب منها فقلت لشيخ بها: لقد رأيت عجباً. قال: وماذاك؟ قلت: هذا القبور. قال: حديثها أعجب مما رأيت عليها. قلت: فحدثني. قال: كانوا ثلاثة إخوة: واحد يصحب السلطان، ويؤمَّر على الجيوش والمدن. وأخر تاجر موسر مطاع في تجارته. وآخر زاهد قد تخلى وتفرد لعبادة ربه. فحضرت العابد الوفاة، فأتاه أخوه صاحب السلطان - وكان عبد الملك بن مروان قد ولاّه بلادنا - وأتاه(11/72)
التاجر فقالا له: توصي بشيء؟ قال: والله مالي مال أوصي فيه، ولا علي دَيْن فأوصي به، ولا أخلف من الدنيا عرضً. فقال ذو السلطان: هذا مالي يا أخي، أعهد إلي بما أحببت، فأمسك عنه. وقال التاجر: عرفت مكسبي، ولعل في قلبك غصة من الخير لم تبلغها إلا بالانفاق، فاحكم في مالي بما أنفذه لك. قال: لا حاجة لي في مالكما. ولكن أعهد إليهما عهداً، فلا تخالفاه: إذا مت فادفناني على نَشَزٍ من الأرض واكتبا على قبري:
وكيف يلذ العيش من هو عالم ... بأن إله الخلق لا بد سائله
فيأخذ منهُ ظلمَه لعباده ... ويجزيه بالخير الذي هو فاعله؟
ثم زوروا قبري ثلاثة أيام لعلكما تتعظان، ففعلا ذلك. وكان أخوه يركب في جنوده حتى يأتي قبره، فيقرأ عليه ويبكي. فلما كان اليوم الثالث أتى القبر. فلما أراد الانصراف سمع من داخل القبر هدّة أرعبته وأفزعته، فانصرف مذعوراً وجلاً. فلما كان الليل رأى أخاه في منامه فقال: أي أخي، ما الذي سمعتُ في قبرك؟ ّ قال: هذه المِقْمعة. قيل لي: رأيت مظلوماً فلم تنصره. فأصبح فدعا أخاه وخاصته فقال: ما أرى أخي أراد بما أوصانا أن نكتب على قبره إلا لنغير ونراجع ونتوب. وإني أُشهدكم أني لا أقيم بين ظهرانيكم أبداً. فترك الإمارة، ولزم العبادة. وبلغ ذلك عبد الملك فقال: خلوه وما اختار لنفسه، وكان مأواه البراري والجبال وبطون الأودية. فحضرته الوفاة وهو مع بعض الرعاء، فأتى الراعي أخاه فأعلمه فأتاه فحمله إلى منزله قبل موته. فقال: يا أخي، ألا توصي إلي؟ قال: مالي مال، ولا عليَّ دَيْن فأوصيك. ولكن أعهد إليك إذا أنا متّ فاجعل قبري إلى جنب قبر أخي واكتب عليه:
وكيف يلذ العيش من هو موقنٌ ... بأن المنايا بغتةً ستعاجلُهْ
وتسلبُه ملكاً عظيماً ونخوةً ... وتسكنه البيت الذي هو آهلهْ؟
ثم تعاهد قبري وادع الله عزّ وجلّ لي، لعله يرحمني. فلما مات فعل به أخوه ذلك.(11/73)
فلما كان اليوم الثالث من إتيانه القبر أراد أن ينصرف فسمع وَجْبَة من القبر كادت أن تذهل عقله. فرجع مرعوباً. فلما كان الليل رأى أخاه في منامه، قال: فوثبت إليه لما تداخل قلبي من السرور، فقلت له: يا أخي، أتيتنا زائراً أم راغباً؟ فقال: هيهات، بعُد المزار، واطمأنت بنا الدار. فليس لنا مزار، فقلت، فكيف أنت؟ قال: بكل خير. وما أجمع التوبة لكل خير. قلت: فكيف أخي؟ قال: مع الأئمة الأبرار. قال: قلت: فما مرنا قبلكم؟ قال: من قدّم شيئاً وجده. فاغتنم وُجْدك قبل فقرك، فاصبح أخوه الثالث معتزلاً الدنيا. وفرّق ماله، وقسّم متاعه، وأقبل على طاعة الله عزّ وجلّ.
ونشأ له ابن كأهنأ الشباب. فأقبل على المكاسب حتى أتت أباه الوفاة، فقال: يا أبه، ألا توصي؟ فقال: يا بني، ما لأبيك مال فأوصي فيه. ولكن أعهد إليك إذا أنا متّ أن تدفنني مع عميك، وأن تكتب على قبري:
وكيف يلذُّ العيشَ مَن هو صائرٌ ... إلى جدثٍ تُبلي الشباب منازلُهْ؟
ويذهبُ رسمُ الوجهِ من بعد ضوئه ... سريعاً ويبلي جسمه ومفاصله
ثم تعاهد قبري ثلاثاً، وادع الله عزّ وجلّ لي. ففعل الفتى ذلك.
فلما كان اليوم الثالث سمع من القبر صوتاً هاله، فانصرف مهموماً. فما كان الليل رأى أباه في منامه فقال له: يا بني، أنت عندنا عن قليل، والأمر جدّ. فاستعدّ وتأهّب لرحيلك وطول سفرك وطول جهازك من المنزل الذي أنت عنه ظاعن إلى المنزل الذي أنت له قاطن، ولا تغتر بما اغتر به البطالون من طول آمالهم فقصروا في أمر معادهم، فندموا عند الموت، وأسفوا على تضييع العمر، فلا الندامة عند الموت نفعتهم، ولا الأسف على التقصير أنقذهم. أي بني، فبادر، ثم بادر، ثم بادر.
قال الشيخ: فدخلت على الفتى صبيحة ثالثة رؤياه فقصها علي وقال: ما أرى الأمر الذي قال أبي إلا وقد أظلني، فجعل يفرق ماله، ويقضي دَيْنه، واستحلّ معامليه، وودعهم وداعَ مَن أيقن أمراً فهو متوقع. وكان يقول: قال أبي: بادر، ثم بادر، ثم بادر، ولا أحسبها إلا ثلاثة أشهر أو ثلاثة أيام. ولعلي لا أدركها، لأنها أنذرني بالمبادرة ثلاثاً. فلما(11/74)
كان في آخر اليوم الثالث دعا أهله وولده، فودعهم، ثم استقبل القبلة، وتشهد، وجعل يدعو ويستغفر. فلما وجد الموت سجّى نفس، ومدّ الثوب على وجهه، ثم مات من الليل، رحمه الله، فمكث الناس ثلاثاً يزورونه.
فهذه قصة القبور، وإن فيهم يا بن أخي لمعتبر.
وقد روي هذا الخبر عن صدقة بن مرداس البكري. وذكره صاحب الأصل في ترجمة صدقة بن مرداس مختصراً.
56 - صدقة الدمشقي حدث صدقة الدمشقي
أن رجلاً سأل ابن عباس عن الصيام فقال: لأحدثنك بحديث كان عندي في التخت مخزوناً: إن شئت أنبأتك بصوم داود، فإنه كان صوماً قواماً. وكان شجاعاً لا يفرّ إذا لاقى، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أفضل الصيام صيام داود. وكان يقرأ الزبور لسبعين صوتاً يلوّن فيها. وكانت له ركعة من آخر الليل. فكان يبكي فيها نفسه، ويبكي لبكائه كل شيء، ويطرب لصوته المهموم والمحموم.
وإن شئت أنبأتك بصوم ابنه سليمان، فإنه كان يصوممن أول الشهر ثلاثة أيام، ومن وسطه ثلاثة أيام، ومن آخره ثلاثة أيام، يستفتح الشهر بصيام، ووسطه بصيام، ويختمه بصيام.
وإن شئت أنبأتك بصوم ابن العذراء البتول عيسى بن مريم، فإنه كان يصوم الدهر، ويأكل الشعير، ويلبس الشعر. يأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد، ليس له ولد يموت، ولا بيت يخرب. وكان أينما أدركه الليل صَفَن بين قدميه، وقام يصلي حتى(11/75)
يصبح. وكان رامياً لا يفوته صيد يريده. وكان يمر بمجالس بني إسرائيل فيقضي لهم حوائجهم.
وإن شئت أنبأتك بصوم أمه مريم بنة عمران، فإنها كانت تصوم يوماً وتفطر يومين.
وإن شئت أنبأتك بصوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العربي الأمي محمد، فإنه كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ويقول: إن ذلك صوم الدهر.
وفي حديث آخر ويقول: هي صيام الدهر، وهي أفضل الصيام.
صُدي بن عجلان بن عمرو
أبو أمامة الباهلي صحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وروى عنه.
قال أبو أمامة الباهلي: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يا أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم، وصلّوا خمسكم وصوموا شهركم، وأدّوا زكاة أموالكم طيّبة بها أنفسكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم ".
وفي حديث آخر زيادة: " وصلوا أرحامكم ".
حدث أبو غالب عن أبي أمامة قال: أتي برؤوس حرورية فنصبت على درج مسجد دمشق، فنظر إليها أبو أمامة وهي منصوبة، فقال: شر قتلى تحت ظل السماء هؤلاء، ثلاثاً. طوبى لمن قتلهم، وطوبى لمن قتلوه. قلت: يا أبا أمامة، أشيء تقوله أم شيء سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟(11/76)
قال: إني إذاً لمريء، ثلاثاً. سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولها. وإلا فصُمَّتا.
وعن أبي غالب قال: كنت في مسجد دمشق إذ قدمت رؤوس من رؤوس اللأزارقة مما كان بعث به المهلب بن أبي صفرة. فنضبت عند درج المسجد. فاجتمع الناس ينظرون إليها، فدنوت منها، فجاء أبو أمامة فدخل المسجد، فصلّى ثم خرج. فلما رآها قال: سبحان الله! ما يصنع الشيطان بأهل الإسلام. ثم دنا من الرؤوس فقال: كلاب جهنم، ثلاثاً. شرّ قتلى قتلوا تحت ظل السماء. خير قتلى قُتلوا تحت ظل السماء؛ قتلى قتلهم هؤلاء. ثلاث مرات. ثم نظر في القوم فإذا هو بي فقال: أما إن هؤلاء بأرضك يا أبا غالب، قلت: أجل، فأعوذ بالله من شرهم. قال: نعم، فأعوذ بالله من شرهم. قال: أما تقرأ هذه الآية التي في أول آل عمران: " هُوَ الذي أنزلَ عليْكَ الكتابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَاب وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمّا الذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُوْنَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيْلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيْلَهُ إِلاَّ اللهُ ". ثم قال: أما تقرأ التي في آخر آل عمران: " يَوْمَ تَبْيَضُ وُجُوهٌ وَتَسُوَدُّ وُجُوهٌ فأَمّا الَّذِيْنَ اسوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيْمَانِكُمْ " الآية.
قال وافترقت بنو إسرائيل على واحد وسبعين فرقة أو ثنتين وسبعين فرقة. وهذه الأمة ستزيد عليهم فرقة. كلم في النار غير السواد الأعظم. قال: ألا ترى ما فيه السواد الأعظم؟ وذلك في أول خلافة عبد الملك، والقتل يومئذ ظاهر. قال: عليهم ما حُملوا، وعليكم ما حُملتم. قال: فقلت - أو قيل له - ما تقول في هؤلاء القوم؟ أشيء قلته برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: إني إذاً لجريء. لقد سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير مرة، ولا ثنتين، ولا ثلاثة، ولا أربعة، ولا خمسة، ولا ستة، ولا سبعة.
سكن أبو أمامة الشام، وسكن حمص، وهو الصدي بن عجلان بن وهب بن عَريب بن وهب بن رياح بن الحارث بن مَعْن بن مالك بن أعصُر. من أهل الشام. مات(11/77)
سنة ست وثمانين وهو ابن إحدى وتسعين سنة. وقيل: توفي سنة إحدى وثمانين. نُسب إلى باهلة. وباهلة بنت أود بن صعب بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد بن زيد بن يشحب بن يعرب بن قحطان. هي امرأة معن بن زيد بن أعصُر بن قيس عيلان.
قال سفيان: كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشام أبو أمامة.
قال أبو أمامة: لما نزل: " لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المؤْمِنِيْنَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ " قال أبو أمامة: قلت: يا رسول الله: أنا ممن بايعك تحت الشجرة. قال: يا أبا أمامة، أنت مني وأنا منك.
وعن أبي أمامة من أحاديث عن رواة مجموعها قال: أنشأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني: غزواً - فأتيته فقلت: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة، فقال: اللهم، سلِّمهم - وفي رواية: ثبِّتهم وغنّمهم - فغزونا وسلمنا وغنمنا. ثم أنشأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزواً ثانياً، فأتيته فقلت: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة، فقال: اللهم، ثبِّتهم - وفي رواية: سلِّمهم - وغنِّمهم، فغزونا، فسلمنا وغنمنا. ثم أنشأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزواً ثالثاً فأتيته فقلت: يا رسول الله، إني قد أتيتك مرتين أسألك أن تدعو لي بالشهادة فقلت: اللهم، سلِّمهم وغنِّمهم، يا رسول الله فادع لي بالشهادة فقال: اللهم سلمهم وغنمهم فغزونا فلسلمنا وغنمنا ثم أتيته بعد ذلك فقلت يا رسول الله مرني بعمل آخذه عنك فينفعني الله بك، فقال: عليك بالصوم، فإنه لا مثل له. فكان أبو أمامة وامرأته وخادمه لا يُلفَون إلا صياماً. قال: فإن رأوا ناراً أو دخاناً بالنهار في منزلهم عرفوا أنهم قد اعتراهم ضيف. قال: ثم أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(11/78)
فقلت: يا رسول الله، أمرتني بأمرٍ أرجو أن يكون الله قد نفعني به، فمرني بأمرٍ آخر عسى الله أن ينفعني به. قال: اعلم أنك لا تسجد لله سجدة إلا رفع الله لك بها درجة، أو قال، حطّ عنك بها خطيئة، شك مهدي، أحد رواته.
وعن أبي أمامة قال: أرسلني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى باهلة، فأتيتهم - وهم على طعام لهم - فرحبوا بي، وأكرموني، وقالوا لي: تعال فكُل، فقلت: جئت لأنهاكم عن هذا الطعام. وأنا رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليكم لتؤمنوا به. قال: فكذبوني، وردّوني، فانطلقت من عندهم، وأنا جائع ظمآن قد نزل بي جهد شديد، فنمت، فأُتيت في منامي بشربة من لبن فشربت، فشبعت ورَويت، فعظم بطني. فقال القوم: رجل من خيارك وأشرافكم رددتموه! اذهبوا إليه فأطعموه من الطعام والشراب ما يشتهي. قال: فأتوني بطعامهم وشرابهم، فقلت: لا حاجة لي في طعامكم وشرابكم، فإن الله قد أطعمني وسقاني، فنظروا إلى حالي التي أنا عليها فآمنوا بي وبما جئتهم به من عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي حديث آخر بمعناه، أتمّ منه، وقال في آخره: فحيث فرغت من شرابي استيقظت، فلا والله ما عطشت ولا غرِثت بعد تلك الشربة.
وعن أبي راشد قال: أخد أبو أمامة بيدي ثم قال: أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي ثم قال لي: " يا أبا أمامة، إن من المؤمنين من يَلين له قلبي ".
وعن أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوكىء على عصاً، فقمنا إليه، فقال: " لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظّم بعضها بعضاً ". قال: فكأنا اشتهينا أن يدعوا الله لنا فقال: " اللهم، اغفر لنا، وارحمنا، وارض عنا، وتقبّل منا، وأدخلنا الجنة، ونجّنا من النار، وأصلح لنا شأننا كله "، فكأنا اشتيهنا أن يزيدنا، فقال: " قد جمعت لكم الأمر ".(11/79)
وعن ابي أمامة قال:
رآني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أحرّك شفتيّ فقال: " لمَ تحرك شفتيك؟ ". فقلت: أذكر الله. قال: " أفلا أدلك على شيء هو أكبر من ذكرك الليل مع النهار والنهار مع الليل؟ " قال: قلت بلى يا نبي الله. قال: " قل: الحمد لله عددَ ما خلق، والحمد لله ملء ما خلق، والحمد لله عدد ما في السماوات والأرض، والحمد لله عدد ما أحصى كتابه، والحمد لله عدد كل شيء، والحمد لله ملء كل شيء، والحمد لله وسبحان الله عدد ما خلق، وسبحان الله ملء ما خلق، وسبحان الله عدد ما في السماوات والأرض، وسبحان الله عدد ما أحصى كتابه، وسبحان الله عدّ كل شيء، وسبحانه الله ملء كل شيء ". قال: فكان أبو أمامة إذا حدث بهذا الحديث إنساناً قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرني أن أعلمهن عقبي من بعدي، فعلِّمهن عقبك.
وعن سُليم بن عامر قال: جاء رجل إلى أبي أمامة وقال: يا أبا أمامة، إني رأيت في منامي الملائكة تصلي عليك، كلما دخلت وكلما خرجت، وكلما قمت وكلما جلست، قال أبو أمامة: اللهم غفراً، دَعُونا عنكم. وأنتم لو شئتم صلت عليكم الملائكة. ثم قرأ: " يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا اذكُرُوا الله ذِكْراً كَثِيْراً وَسَبِّحُوه بُكْرَةً وَأَصِيْلاً هُوَ الَّذِيْ يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لُيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَكَانَ بالُمؤْمِنِينَْ رَحِيماً ".
قال محمد بن زياد الألهاني: كنت آخذاً بيد أبي أمامة صاحب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانصرفت معه إلى بيته، فلا يمر مسلم لا صغير ولا أحد إلا قال: سلام عليكم. سلام عليكم. فإذا انتهى إلى باب داره التفت إلينا ثم قال: أي أخي، أمرنا نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نفشي السلام.(11/80)
قال محمد بن زياد: رأيت أبا أمامة أتى على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي في سجوده، ويدعو ربه، فقال أبو أمامة: أنت أنت! لو كان هذا في بيتك.
قال سليمان بن حبيب المحاربي: دخلت على أبي أمامة مع مكحول وابن أبي زكريا فنظر إلى أسيافنا، فرأى فيها شيئاً من وَضَح فقال: إن المدائن والأمصار فتحت بسيوفٍ ما فيها الذهب ولا الفضة. فقلنا: إنه أقل من ذلك فقال: هو ذاك. أما إن أهل الجاهلية كانوا أسمح منكم. كانوا لا يرجون على الحسنة عشرة أمثالها، وأنتم ترجون ذلك، ولا تفعلونه. قال: فقال محكول لما خرجنا من عنده: لقد دخلنا على شيخ مجتمع العقل.
قال سليمان بن حبيب:
خرجت غازياً، فلما مررت بحمص دخلت إلى سوقها أشتري ما لا غنى بالمسافر عنه. فلما نظرت إلى باب المسجد قلت: لو أني دخلت فركعت ركعتين. فلما دخلت نظرت إلى ثابت بن معبد وابن أبي زكريا ومحكول - وليس محكولنا هذا - في نفر من أهل دمشق. فلما رأيتهم أتيتهم فجلست إليهم، فتحدثنا شيئاً ثم قالوا: إنا نريد أبا أمامة، فقاموا وقمت معهم حتى دخلنا عليه، فإذا شيخ قد رقّ وكبر، فإذا عقله ومنطقه أفضل مما نرى من منظره. فقال في أول ما حدثنا: إن مجلسكم هذا من بلاغ الله إياكم، وحجّته عليكم، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بلغ ما أرسل به، وإن أصحابه قد بلغوا ما سمعوا، فبلَّغوا ما تسمعون: ثلاثة كلهم ضامن على الله حتى يدخله الجنة أو يرجعه بما نال من أجر وغنيمة: رجل قاتل فقتل في سبيل الله فهو ضامن على الله حتى يدخله الجنة أو يرجعه الجنة أو يرجعه بما نال من أجر وغنيمة ورجل توضأ ثم عمد إلى المسجد فهو ضامن على الله حتى يدخله الجنة أو يرجعه بما نال من أجر أوغنيمة. ورجل دخل بيته بسلام. قال: ثم قال: إن في جهنم جسراً له سبع قناطر، على أوسطهن القضاء. قال: فيُجاء بالعبد حتى إذا انتهى إلى القنطرة الوسطى قيل له: ماذا عليك من الدَّيْن؟ قال: فيجيبه - ثم تلا هذه الآية "(11/81)
وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً " - فيقول: يا رب، عليّ كذا وكذا. قال: فيقال: اقض دَينك. قال: فيقول: ما لي شيء. ما أدري ما أقضي به. قال: فيقال: خذوا من حسناته. قال: فما يزال يؤخذ من حسناته حتى ما تبقى له حسنة. فإذا فنبت حسناته قال: فيقال: خذ " وا " من سيئاته من يطلبه، فركّبوا عليه. قال: فلقد بلغني أن رجالاً يجيئون بأمثال الجبال من الحسنات. فما تزال تؤخذ لمن يطلبهم حتى ما تبقى لهم حسنة. ثم تركب عليهم سيئات من يطلبهم حتى تُرد عليهم أمثال الجبال. قال: وسمعته يومئذ يقول: يتقدم واعظ في الكذب تقدماً ما سمعت واعظاً قط يتقدمه، حتى إن كنت أقول: لقد بلغ هذا الشيخ من كذب الناس شيئاً ما أدري ما هو ثم قال: إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وعليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة.
قال: فبينا هو يحدثنا إذ عقد، ثم قال: أيها الناس، لأنتم أصل من أهل الجاهلية. إن الله جعل لأحدكم الدينار ينفقه في سبيل الله عزّ وجلّ بسبع مئة دينار، والدرهم بسبع مئة درهم، ثم إنكم صارّون تُمسكون. أما والله لقد فتحت الفتوح بسيوف ما حِلْيَتُها الذهب والفضة، ولكن حليتها العَلابيّ أو الآنك والحديد.
قال سُليم بن عامر: كان أبو أمامة إذا قعدنا إليه يجيئنا من الحديث بأمر عظيم ويقول لنا: اسمعوا، واعقلوا وبلِّغوا عنا ما تسمعون.
قال سليم: بمنزلة الذي يشهد على ما علم.(11/82)
وفي حديث قال: قال أبو أمامة: اعقلوا، فلا إخال العقل إلا قد رفع. نحن للحديث الذي كنا نسمعه على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعقل عليه منا على حديثكم اليوم.
وعن أبي أمامة أنه عاد خالد بن يزيد بن معاوية وهو أمير على حمص. فلما بصر به خالد ألقى له مِرْفَقة - كان عليها متكئاً - من حرير. فلما رآها تنحى عنها ثم جلس فقال: هل سمعت فيها شيئاً يا أبا أمامة؟ قال: نعم. سمعت أنه لا يلبس الحرير في الدنيا إلا من لا خلاق له في الآخرة. فقال له: أمن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمعته؟ فسكت. ثم قال: أمن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فسكت. ثلاثاً. فقال: اللهم غفراً، كنا في قوم يحدثونا فلا يكذبونا ولا نكذبهم.
وعن ابن عائذ قال: وعظ أبو أمامة الباهلي فقال: عليكم بالصبر فيما أحببتم وكرهتم. فنعم الخصلة الصبر. ولقد أعجبتكم الدنيا وجرّت لكم أذيالها. ولبست ثيابها وزينتها. إن أصحاب نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يجلسون بفناء بيوتهم ويقولون: نجلس فنسلِّم ويُسلَّم علينا.
وقال أبو أمامة: حَبِّبُوا الله إلى الناس يحببكم الله.
وعن أبي أمامة قال: المؤمن في الدنيا بين أربعة: بين مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يقاتله، وشيطان قد يوكل به.
قال سعيد الأزدي:
دخلت على أبي أمامة وهو في النزع فقال لي: يا سعيد، إذا أنا مت، فاصنع بي كما أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نصنع بموتانا فقال: " إذا مات الرجل منكم، فدفنتموه، فليقم أحدكم عند رأسه، فليقل: يا فلان ابن فلانة، فإنه يسمع، فليقل: يا فلان، فإنه يستوي قاعداً، فليقل: يا فلان ابن فلانة فإنه سيقول: أرشدني رحمك الله، فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها. وأن الله باعث من في القبور. فإن منكراً ونكيراً عند ذلك يأخذ كل(11/83)
واحد بيد صاحبه ويقول: قم، ما نصنع عند رجل لقّن حجته، فيكون الله تعالى حجتهما دونه ".
وفي حديث بمعناه: وأنك رضيت بالله عزّ وجلّ رباً وبمحمد عليه السلام نبياً. وبالإسلام ديناً. وفي آخره فقال له رجل: يا رسول الله، فإن لم أعرف أمه: قال: انسبه إلى حواء.
قال الحسن: آخر من مات من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة جابر بن عبد الله، وبالبصرة أنس بن مالك، وبالكوفة عبد الله بن أبي أوفى، وبالشام أبو أمامة الباهلي.
وقيل: آخر من بقي بالشام عبد الله، بن بسر، وآخر من بقي بالمدينة سهل بن سعد.
صعصعة بن صُوحان بن حُجر
ابن الحارث بن الهِجْرس بن صَبرة بن حِدّرِجان بن عِسَاس بن ليث بن حُدَاد بن ظالم بن ذُهل ابن عِجل بن عمرو بن وديعة بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن جديلة بن دُعميّ بن أسد ابن ربيعة بن نزار أبو عمرو ويقال: أبو طلحة - العبدي أخو زند بن صوحان. من أهل الكوفة. شهد مع علي صفين، وأقره على بعض الكراديس. وسيّره عثمان إلى الشام. ثم قدم دمشق على معاوية.
حدث صعصة بن صوحان عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُستمتع من الحرير بشيء.
وعن مالك بن عمير قال: إن لقاعد مع علي إذ جاءه صعصة بن صوحان فقال: يا أمير المؤمنين، انهَنا(11/84)
عم نهاك عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: نهانا عن الدُّباء، والحنتم، والنقير، والمِيثَرة الحمراء، ونهانا عن لبس الحرير، ونهانا عن لبس القَسِّي، وعن حلي الذهب. قال: وكساني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بردين من حرير فخرجت فيهما إلى الناس لينظروا إلى كسوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي، فرآهما علي فأمرني بنزعهما، وأعطى أحدهما فاطمة. وشق الآخر باثنين لبعض نسائه.
عن بريدة بينا هو جالس بالكوفة في مجلس مع أصحابه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن من البيان سحراً، وإن من العلم جهلاً، وإن من الشعر حكماً، وإن من القول عِيالاً ". قال: فقال صعصعة بن صوحان - وهو أحدث القوم سناً - صدق الله ورسوله. ولو لم يقلها كان كذلك: فتوسمه رجل من الجلساء فقال له بعد ما تصدع القوم من مجلسهم: ما حملك على أن قلت: صدق نبي الله، ولو لم يقلها كان كذلك؟ قال: بلى، أما قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن من البيان سحراً؛ فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق، فيسحر القوم ببيانه، فيذهب بالحقّ وهو عليه. وأما قوله: إن من العلم صاحب جهلاً؛ تكلُّف العالم إلى علمه ما لا يعلم، فيجهّله ذلك. وأما قوله: إن من الشعر حكماً: فهي هذه المواعظ والأمثال التي يعظ بها الناس. وأما قوله: إن من القول عيالاً: فعَرضُك كلامَك وحديثَك على من ليس من شأنه، ولا يريده.
وعن حميد بن هلال العدوي قال: قام صعصعة بن صوحان العبدي إلى عثمان بن عفان، وهو على المنبر فقال: يا أمير المؤمنين، مِلت فمالت أمتك، يا أمير المؤمنين، أعتدل تعتدل أمتك. قال: أسامع أنت مطيع؟ قال: نعم. قال: فاخرج إلى الشام. قال: فطلق امرأته كراهة أن يعضِلها، وكانوا يرون الطلقة عليهم حقاً.
وكان صعصعة من أصحاب الخطط، وكان خطيباً. وكان من أصحاب علي بن أبي(11/85)
طالب، وشهد معه الجمل هو وأخواه زيد وسيحان ابنا صوحان. وكان سيحان الخطيب قبل صعصعة. وكانت الراية يوم الجمل في يده. فقتل فأخذها زيد فقتل فأخذها صعصعة.
وتوفي صعصعة في خلافة معاوية بن أبي سفيان. وكان ثقة، قليل الحديث.
دخل علي على صعصعة يعوده، فقال له علي: لا تتخذها أبهة على قومك أن عادكَ أهلُ بين نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضك. قال: بلى، منٌّ علي من الله أن عادني أهل بيت نبيّي في مرضي. قال: فقال له علي: إنك والله ما علمت خفيف المؤنة، حسن المعونة. فقال له صعصعة: وأنت - والله ما علمت - بالله عليم، والله في عينك عظيم.
وعن صعصعة بن صوحان قام ذات يوم فتكلم فأكثر، فقال عثمان: يا أيها الناس، إن هذا البجباج النفّاج، لا يدري من الله، ولا أين الله، فقال صعصعة: أما قولك: ما أدري مَن الله، فإن الله ربنا وربّ أبائنا الأولين. وأما قولك: لا أدري أين الله، فإن الله بالمرصاد ثم قرأ: " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوْا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيْرٌ " حتى فرغ من هذه الآيات فقال - يعني عثمان -: ويحك ما نزلت هذه الآية إلا فيّ وفي أصحابي. أُخرجنا من مكة بغير حق.
أرسل المغيرة بن شعبة إلى صعصعة فسأله عن عثمان، فذكر صعصعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعزره وأثنى عليه بما هو أهله. ثم ذكر أبا بكر فقال: هو أول من جمع المصحف، وورث الكلالة. ثم ذكر عمر فقال: هو أول من دون الدواوين ومصّر الأمصار، وخلط الشدة باللين. ثم ذكر عثمان فقال: كانت إمارته قدراً، وكان قتله قدراً. فقال له المغيرة: اسكت، كانت إمرته قدراً وكان قتله قدراً. فقال له صعصعة بن صوحان: دعَوتَني فأجبت، واستنطقتني فنطقت، وأسكتني فسكتُّ.(11/86)
قال زرارة بن أوفى: إن معاوية خطب الناس فقال: يأ أيها الناس، إنا نحن أحق بهذا الأمر، نحن شجرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيضته التي انفلقت عنه، ونحن ونحن، فقال صعصعة: فأين بنو هاشم منكم؟ قال: نحن أسوَس منهم، وهم خير منا. قال: أمرنا بالطاعة الطاعة. وقال فيها: إنا لكم جنّة. قال: فقال صعصعة: فإذا احترقت الجّنّة فكيف نصنع؟ قال: أيها الناس، أما إن هذا ترابي، فقال: إني ترابي. خلقت من التراب، وإلى التراب أصير.
وعن صعصعة بن صوحان العبدي أنه دخل على معاوية بن أبي سفيان فلم يسلم عليه بالخلافة فقال له: ممن أنت؟ قال: من نزار. قال: وما نزار؟ قال: كان إذا غزا احتوش، وإذا انصرف انكمش، وإذا لقي افترش. قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من ربيعة. قال: وما ربيعة؟ قال: كان يغزو بالخيل، ويُغير بالليل، ويجود بالنّيل. قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من أسد. قال: وما أسد؟ قال: كان إذا طلب أقصى، وإذا أدرك أرضى، وإذا آب أنضى. قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: مِن دُعميّ قال: وما دعمي. قال: كان يطيل النجاد، ويُعدّ الجياد، ويجيد الجلاد. قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من أفصى. قال: وما أفصى؟ قال: كان ينزل القارات، ويحسن الغارات، ويحمي الجارات. قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من عبد القيس. قال: ومن عبد القيس؟ قال: أبطال ذادة، جحاجحة سادة، صناديد قادة. قال: فمن أي ولده أنت؟ قال من أفصى. قال وما أفصى؟ قال: كان يباشر القتال، ويعانق الأبطال، ويبذر المال.(11/87)
قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من عمرو. قال: وما عمرو؟ قال: كانوا يستعملون السيف، ويكرمون الضيف، في الشتاء والصيف. قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من عجل. قال: وما عجل؟ قال: ليوث ضراغمة، قروم قشاعمة، ملوك قماقمة قال: فمن أي ولده أنت؟: قال: من كعب. قال: وما كعب؟ قال: كان يغشى الحروب، ويكشف الكروب. قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من مالك. قال: وما مالك؟ قال: الهُمام الهُمام، والقُمقام. قال: يا بن صوحان، ما تركت لهذا الحي من قريش شيئاً! قال: بلى. تركت لهم الوبر والمدر، والأبيض والأصفر، والصفا والمشعر، والقبة والمنحر، والسرير والمنبر، والملك إلى المحشر، ومن الآن إلى المنشر. قال: أما والله يا بن صوحان، إن كنت لأبغض أن أراك خطيباً. قال: وأنا والله إن كنت لأبغض أن أراك أميراً.
قال معاوية لصعصعة بن صوحان: ما المروءة؟ قال: الصبر والصمت. فالصبر على ما ينوبك، والصمت حتى تحتاج إلى الكلام.
مرّ صعصعة بن صوحان بقوم - وهو يريد مكة - فقالوا له: ما أين اقبلت؟ قال: من الفج العميق، قالوا: ماتريد؟ قال: البيت العتيق. قالوا: هل كان من مطر؟ قال: نعم. عفّى الأثر، وانضر الشجر، ودهده الحجر. قالوا: أي آية في كتاب الله أحكم؟ قال: " مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه ".
حدث عبد الرزاق عن أبيه أن صعصعة بن صوحان حين أصابه ما أصابه قطع بعض لسانه، فأتاه رجل، فبال في أذنه، فإما قال لهم، وإما كتب لهم: انظروه، فإن كان من العرب فهو من هذيل. وإن كان من العجم فهو من بربر. قال: فنظروا فإذا هو بربري.(11/88)
صفوان بن أمية بن خلف
ابن وهب بن حذافة بن جُمح بن عمرو بن هُصَيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن وهب القرشي الجمحي المكي له صحبه. أسلم بعد فتح مكة. وشهد اليرموك، وكان أميراً على كُردوس. وقيل: إنه وفد على معاوية، وأقطعه الزقاق المعروف بزقاق صفوان.
حدث عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: زوجني أبي في إمارة عثمان، فدعا قوماً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء صفوان بن أمية، وهو شيخ كبير فقال: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: انهسوا اللحم نهساً، فإنه أهنأ، وأمرأ، وأبرأ، وأشهى.
وعن صفوان بن عبد الله بن صفوان عن جده قال: قيل لصفوان بن أمية إنه مَنْ لم يهاجر فقد هلك، فدعا براحلته فركبها، فأتى المدينة. قال: فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما جاء بك يا أبا وهب؟! قال: بلغني أنه لا دين لمن لا هجرة له. فقال: ارجع إلى أباطح مكة. قال: فرجع، فدخل المسجد، فتوسد رداءه، فجاءه رجل فسرقه، فأتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر بقطعه، فقال: يا رسول الله، لم يبلغ ردائي ما تٌقطع فيه يد، قد جعلته صدقة عليه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فهلاّ قبل أن تأتيني به؛ فعرف الناس أن لا بأس بالعفو عن الحد ما لم ينته إلى الإمام.
قال الزبير بن بكار: صفان بن أمية، أمه صفية بنت معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح. وكان صفوان من مسلمة الفتح. وكان قد هرب حين دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الفتح مكة، فأدركه عُمير بن وهب بن خلف برداء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤمنه، فانصرف معه،(11/89)
فوقف على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفوان على فرسه، فناداه في جماعة الناس: إن هذا عمر بن وهب يزعم أنك أمنتني على أن لي تسيير شهرين. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انزل، فقال: لا حتى تبين لي، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انزل ولك تسيير أربعة أشهر. وشهد معه حُنيناً وهو مشرك، واستعاره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سلاحاً فقال له: طوعاً أوكرهاً؟ قال: بل طوعاً، عاريَّة مضمومة، فأعاره، ووهب له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين من الغنائم فأكثر له، فقال: أشهد ما طابت بهذه إلا نفس نبيّ، فأسلم، وأقام بمكة. ثم قيل له: لا إسلام لمن لا هجرة له، فقدم المدينة فنزل على العباس فقال: ذاك أبرّ قريش بقريش. ارجع أبا وهب، فإنه لا هجرة بعد الفتح. وقال له: فَمن لأباطح مكة؟ فرجع صفوان فأقام بمكة حتى مات بها.
وفي حديث: ثم رجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الجعرانة، فبينا هو يسير في الغنائم ينظر إليها، ومعه صفوان بن أمية. فجعل صفوان ينظر إلى شعب ملىء نعَمّاً، وشاء ورعاء، فأدام إليه النظر، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرمقه، فقال: أبو وهب، يعجبك هذا الشعب؟ قال: نعم. قال: هو لك وما فيه. فقال صفوان عند ذلك: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبيّ. أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. واسلم مكانه.
وعن سالم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد: اللهم، العّن أبا سفيان، اللهم، العَن الحارث، اللهم، العَن صفوان بن أمية، فنزلت: " لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيءٌ أَوْ يَتُوْبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ " فتاب عليهم، فأسلموا، فحسن إسلامهم.
قال عمر بن الخطاب:
لما كان يوم الفتح أرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى صفوان بن أمية بن خلف، وإلى أبي سفيان بن حرب، وإلى الحارث بن هشام. قال عمر: فقلت: قد أمكنني الله عزّ وجلّ منهم، لأعرفنهم ما صنعوا، حتى قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مثلي ومثلكم كما قال يوسف(11/90)
لإخوته: " لا تَثْرِيْبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ " قال عمر: فانتفضت حياء من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي حديث أن نساءً كُنَّ على عهد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسلْمن بأرضهن، وهو غير مهاجرات، وأزواجهن حين أسلمن كفار، منهن بنت الوليد بن المغيرة، وكانت تحت صفوان بن أمية، فأسلمت يوم الفتح، وهرب زوجها صفوان بن أمية من الإسلام. ولما أمّنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج معه وهو كافر، فشهد حُنيناً والطائف، وهو كافر وامرأته مسلمة. فلم يفرق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين امرأته، حتى أسلم صفوان واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح.
وقيل: كانت امرأة صفوان البَغُوم بن المعذَّل، من كنانة.
وفي حديث أنه لما استعار من صفوان أدراعاً من حديد يوم حنين ضاع بعضها فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن شئت غرِمتها لك، فقال: لا، أنا أرغب في الإسلام من ذلك.
وعن صفوان بن أمية قال: لقد أعطاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين وإنه أبغض الناس إليّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحبّ الخلق إليّ.
وعن معروف بن خَرَّبُوذ قال: من انتهى إليه الشرف من قريش فوصله الإسلام عشرة نفر من عشرة بطون: من هشام، وأمية، ونوفل، وأسد، وعبد الدار، وتيم، ومخزوم، وعدي، وسهم، وجمح.(11/91)
فمن هاشم: العباس بن عبد المطلب. كان قد سقى في الجاهلية الحجيج وبقي له في الإسلام. ومن بني أمية: أبو سفيان بن حرب. ومن بني نوفل: الحارث بن عامر - قال الزبير: غلط في الحارث بن عامر - ومن بني عبد الدار: عثمان بن أبي طلحة. ومن بني تيم: أبو بكر الصديق ومن بني أسد: يزيد بن زمعة. ومن بني مخزوم: خالد بن الوليد بن المغيرة. ومن بني عدي: عمر بن الخطاب. ومن بني سهم: الحارث بن قيس. ومن بني جمح: صفوان بن أمية.
قال ابن خَرَّبُوذ: صارت مكارم قريش في الجاهلية إلى هؤلاء العشرة، فأدركهم الإسلام فوصل ذلك، لهم، فكذلك كل ما شرف في الجاهلية أدركه الإسلام فوصله.
فكانت سقية الحاج، وعمارة المسجد الحرام، وحلول الثغر، فإن قريشاً لم تكن تملّك عليها في الجاهلية أحداً. فإذا كانت حرب أقرعوا بين أهل الرئاسة من الذكور، فإذا حضرت الحرب أجلسوه، لايبالون صغيراً كان أو كبيراً، أجلسوه تيمناً به. فلما كان يوم الفجار أقرعوا بين بني هاشم، فكان سهم العباس وهو غلام، فأجلسوه عل تُرْس.
قال ابن خَرَّبوذ: وكان أبو طالب يحضرها، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجيء معه وهو غلام. فإذا جاء أبو طالب هزمت قيس، وإذا لم يجىء هزمت كنانة. فقالوا: لا أبالك لا تغب.
وأما عمارة المسجد فإنها والسقاية كانت إلى العباس بن عبد المطلب، فأما السقاية فإنها معروفة. وأما العمارة فإنها لا يدع أحداً يستب في المسجد الحرام، ولا يقول هُجراً يحملهم على عمارته بالخير، لا يستطيعون لذلك امتناعاً. لأنه قد أجمع ملأ قريش على ذلك، فهم له أعوان، وكان العُقاب عند أبي سفيان راية الرئيس. وكانت العقاب إذا كانت عند رجل أخرجها إذا حمشت الحرب. فإذا اجتمعت قريش على أحد أعطّوه إياه. وإن لم يُجمِعُوا على أحد رأسوا صاحبها.(11/92)
وكانت الرِّفادة إلى الحارث بن عامر من نوفل. والرفادة: ما كانت قريش تخرج من أموالها في رِفْد منقطع الحاج.
وكانت المشورة إلى يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد - وقتل مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الطائف - والمشورة: أن قريشاً لم يجمعوا على أمر إلا عرضوه عليه. فإن وافق رأيهم رأيه سكت، وإلا شغب فيه، فكانوا له إخواناً حتى يرجعوا عنه.
وكانت سِدانة البيت واللواء إلى عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزى. والسدانة: الخزانة مع الحجابة، وكانت الأشناق إلى أبي بكر الصديق. والأشناق: الديات. كان إذا حمل شيئاً فسأل فيه قريشاً صدقوه، وأمضوا حِمالته وحمالة من قام معه أبو بكر. فإن احتملها غيره خذلوه ولم يصدقوه.
وكانت القبة والأعنة إلى خالد بن الوليد. فأما الأعنة فإنه كان يكون على خيول قريش في الجاهلية في الحروب. وأما القبة فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهزون به الجيش.
وكانت السفارة إلى عمر بن الخطاب: إن وقعت حرب من قريش وغيرهم بعثوه سفيراً، وإن نافرهم منافِر، أو فاخرهم مفاخر بعثوه منافراً ومفاخراً ورضُوا به.
وكانت الحكومة والأموال المحجرة إلى الحارث بن قيس بن عدي. والأموال التي يغنمون لآلهتهم.
وكانت الأيسار إلى صفوان بن أمية. والأيسار: الأزلام. فكان لا يسبق بأمر عام حتى يكون هو الذي يجري يَسَره على يديه.
قال أبو عبيدة: وقالوا: إن صفوان بن أمية بن خلف قنطر في الجاهلية، وقنطر أبوه. أي صار له قنطار ذهب.
ولما أعطى عمر أول عطاء أعطاه، وذلك سنة خمس عشرة. وكان صفوان بن أمية قد افترض في أهل القادسية وسهيل بن عمرو.(11/93)
فلما دعا صفوان وقد رأى ما أخذ أهل بدر ومن بعدهم إلى الفتح، فأعطاه في أهل الفتح أقل مما أخذ من كان قبله أبى أن يقبله وقال: يا أمير المؤمنين، لست معترفاً لأن يكون أكرم مني أحد، ولست آخذاً أقل مما أخذ من هو دوني، أو من هو مثلي. فقال: إنما أعطيتهم على السابقة والقدِيمة في الإسلام لا على الأحساب. قال: فنعم إذن، وأخذ، وقال: أهلُ ذاك هم.
قال أبو محذورة: كنت جالساً عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ جاء صفوان بن أمية بجفنة يحملها نفر في عناء، فوضعها بين يدي عمر. فدعا عمر ناساً مساكين وأرقّاء من أرقّاء الناس حوله، فأكلوا معه ثم قال عند ذلك: فعل الله بقوم - أو لحى الله قوماً - يرغبون عن أرقائهم أن يأكلوا معهم. فقال صفوان: أما والله ما نرغب عنهم ولكنا نستأثر عليهم. لا نجد من الطعام الطيب ما نأكل ونطعمهم.
قال الشعبي: كان صفوان بن أمية يبغض المقابر. فإذا شُعَل نيرانٍ قد أقبلت ومعها جنازة. لما دنوا من المقبرة قالوا: انظروا قبر كذا وكذا. قال: وسمع رجل صوتاً من القبر حزيناً موجعاً يقول: " لخفيف "
أنعمّ اللهُ بالظعينة عينا ... وبمسراكِ يا أمينُ إلينا
جزعاً ما جزعت من ظلمة القب ... ر ومن مسّك التراب أمينا
قال: فأخبر القوم بما سمع فبكوا حتى أخضلوا لحاهم ثم قالوا: هل تدري من أمينة؟ قلت: لا. قالوا: صاحبة السرير هذه، أختها ماتت عام أول. فقال صفوان: قد علمت أن المَيْتَ لا يتكلم فمن أين هذا الصوت؟! بينما عبد الله بن صفوان يدفن أباه أتاه راكب وقال: قتل أمير المؤمنين عثمان فقال: والله ما أدري أي المصيبتين أعظم: موت أبي أو قتل عثمان.(11/94)
توفي صفوان بن أمية سنة إحدى وأربعين. وقيل: سنة اثنتين وأربعين.
صفوان بن رستم
أبو كامل الدمشقي حدث عن الأوزاعي عن الزهري أنه كان يقول في الرجل يحال على الرجل المليء بحق حال، فيتركه حتى يفلس: إنه ضيّع حقه، ولا يرجع على الذي أحاله.
صفوان بن سُليم
أبو الحارث - ويقال: أبو عبد الله - المديني الفقيه، مولى حميد بن عبد الرحمن بن عوف حدث عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: غُسل الجمعة واجب على كل محتلم.
وحدث عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اطلبوا الخير دهركم كله. وتعرّضوا لنفحات رحمة الله. فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده. وسلوه أن يستر عوراتكم، وأن يؤمّن رَوْعاتكم.
قال سفيان: كنت إذا رأيت صفوان علمت أنه يخشى الله عزّ وجلّ.
وكان صفوان يصلي على السطح في الليلة الباردة لئلا يجيئه النوم.
قال مالك بن أنس: كان صفوان يصلي في الشتاء في السطح، وفي الصيف في بطن البيت، يتيقظ بالحر والبرد حتى يصبح، ثم يقول: هذا الجهد من صفوان، وأنت أعلم، وإنه لَتِرمُ رجلاهُ حتى يعود مثل السِّقْط من قيام الليل. ويظهر فيهما عروق خضر.(11/95)
كان صفوان بن سليم أعطى الله عهداً ألا أضع جنبي على فراش حتى ألحق بربي. قال: فبلغني أن صفوان عاش بعد ذلك أربعين سنة لم يضع جنبه. فلما نزل به الموت قيل له: رحمك الله، ألا تضطجع؟ قال: ما وفيت لله بالعهد إذن. قال: فأُسند، فما زال كذلك حتى خرجت نفسه. قال: ويقول أهل المدينة: إنه نُقبت جبهته من كثرة السجود.
قال سفيان:
أخبرني الحفار الذي يحفر قبور أهل المدينة قال: حفرت قبر رجل، فإذا أنا قد وقعت على قبرٍ فوافيت جمجمة، فإذا السجود قد أثرْ في عظام الجمجمة فقلت لإنسان: قبر مَن هذا؟ فقال: أوما تدري؟ هذا قبر صفوان بن سليم.
قال أنس بن عياض: رأيت صفوان ولو قيل له: غداً القيامة ما كان عنده مزيد من ما هو عليه من العبادة.
قال عبد العزيز بن محمد: رأيت صفوان بن سليم يعتمد في الصلاة على عصاً، فكان يُسمى هو وعصاه: الزوج، فصلى إلى جنبه غلام من بني عامر بن لؤي فقال له: لا تزحمني بعصاك فأكسرها على رأسك. قال: فطرحها صفوان بن سُليم في منزله. فقيل له فيها فقال: إنما كنت أحملها للخير، وأنا اليوم أخاف منها الشر.
كان صفوان بن سليم لا يكاد يخرج من مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا أراد أن يخرج بكى وقال: أخاف ألا أعود إليه.
قدم سليمان بن عبد الملك المدينة وعمر بن عبد العزيز عاملُه عليها. قال: فصلى بالناس الظهر ثم فتح باب المقصورة واستند إلى المحراب واستقبل الناس بوجهه فنظر إلى صفوان بن سليم عن غير مرفة، فقال: يا عمر، من هذا الرجل؟ ما رأيت سمتاً أحسن منه. قال: يا أمير المؤمنين، هذا صفوان بن سليم. قال: يا غلام، كيس فيه خمس مئة دينار فأُتي به فقال لخادمه: ترى هذا الرجل القائم يصلي؟ فوصفه للغلام حتى أثبته.(11/96)
قال: فخرج الغلام بالكيس حتى جلس إلى صفوان. فركع وسجد وسلم، وقال له: ما حاجتك؟ قال: أمرني أمير المؤمنين - وهو ذا ينظر إليك وإلي - أن أدفع إليك هذا الكيس، فيه خمس مئة دينار، ويقول لك: استعن بهذه على زمانك وعلى عيالك، فقال له صفوان: ليس أنا الذي أُرسلت إليه. فقال له الغلام: ألست صفوان بن سليم؟ قال: بلى، أنا صفوان بن سليم. قال: فإليك أرسلت. قال: اذهب فاستثبت، فإذا أثبت فهلم، قال الغلام: فأمسك الكيس معك، وأذهب، قال: لا إذا أمسكت فقد أخذت ولكن اذهب فاستثبت وأنا جالس. فولّى الغلام. فأخذ صفوان نعليه وخرج. فلم يُر بها حتى خرج سليمان من المدينة.
قال أنس بن عياض: انصرف صفوان يوم فطر - أو أضحى - إلى منزله ومعه صديق له، فقرب إليه خبزاً وزيتاً، فجاء سائل فوقف على الباب، فقام إليه فأعطاه ديناراً.
قال سفيان: حج صفوان بن سليم وليس معه إلا سبعة دنانير، فاشترى بها بَدَنة، فقيل له في ذلك فقال: إني سمعت الله تبارك وتعالى يقول: " وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيْهَا خَيْرٌ ".
ذُكر صفوان بن سليم عند أحمد بن حنبل فقال أحمد: هذا رجل يُستسقى بحديثه، وينزل القطر من السماء بذكره.
حدث ابن أبي حازم أن صفوان بن سليم لما حضر إخوانه جعل يتقلب، فقالوا: كأن لك حاجة. قال: نعم. فقالت: ابنته: ماله من حاجة إلا أنه يريد أن تقوموا عنه، فيقوم فيصلي، وما ذاك فيه. فقام القوم عنه، وقام إلى مسجد يصلي فوقع، وصاحت ابنته بهم، فدخلوا عليه فحملوه ومات.(11/97)
توفي صفوان بن سليم سنة اثنتين وثلاثين ومئة وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
وكان صفوان بن سليم يقول بالقدر.
صفوان بن صالح بن صفوان
ابن دينار. أبو عبد الملك الثقفي مؤذن المسجد الجامع بدمشق.
حدث صفوان بن صالح الدمشقي عن الوليد بن مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إن لله تسعة وتسعين اسماً. مئة إلا واحداً. إنه وتر، يحب الوتر. مَن أحصاها دخل الجنة: هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القُدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارىء، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الخليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدىء، المعيد، المحيي، المميت، الحيّ، القَيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، البرّ، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، الوال، المتعال، المقسط، الجامع، الغني، المغني، الرافع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور ".
قال محمد بن عبد الرحمن السراج: قلت لسليمان بن عبد الرحمن: إن أبا عبد الملك صفوان بن صالح يأبى أن يحدثنا، وكان صفوان إذا دخل المسجد يبتدئه فيسلم عليه ثم يصير إلى مجلسه. فلما دخل سلّم عليه. قال أبو أيوب: بلغني أنك تأبى أن تحدث. فقال له صفوان: يا أبا أيوب، منعنا(11/98)
السلطان، فقال له: ويحك حدِّث، فإنه بلغني أن أهل الجنة يحتاجون إلى العلماء في الجنة كما يحتاجون إليهم في الدنيا، فيأتيهم الرسول من قبل ربهم عزّ وجلّ فيقول: سلوا ربكم، فيقولون: قد أعطانا ما سألنا، وما لم نسأل. فيقول لهم: سلوا ربكم، فيقولون: ما ندري ما نسأل، فيقول: لهم: سلوا ربكم، فيقول بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى العلماء الذين كانوا إذا أشكل علينا في الدنيا شيء أتيناهم ففتحوا علينا، فيأتون العلماء فيقولون: إنه قد أتانا رسول الله من ربنا عزّ وجلّ يأمرنا أن نسال، فما ندري ما نسأله، فيفتح الله عزّ وجلّ على العلماء فيقولون لهم: سلوا كذا، سلوا كذا، فيسألون فيُعطَون. فحدِّث فلعلك أن تكون منهم. فأتيناه فحدثنا.
ولد صفوان بن صالح الثقفي سنة ثمان أو تسع وستين ومئة. وتوفي سنة سبع وثلاثين ومئتين. وقيل: سنة ثمان وثلاثين. وقيل: سنة تسع وثلاثين ومئتين.
صفوان بن عبد الله الأكبر
ابن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة القرشي الجمحي المكي قدم دمشق زائراً لأبي الدرداء. وكانت الدرداء بنت أبي الدرداء زوجته. وأمه حقه بنت وهب بن أمية بن أبي الصلت الشاعر الثففي.
قال صفوان: قدمت الشام، فأتيت أبا الدرداء فلم أجده، ووجدت أم الدرداء، فقالت: أتريد الحج العام؟ قلت: نعم. قالت: ادع الله لنا بخير، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " دعاء المسلم مستجاب لأخيه، بظهر الغيب ملك موكل كلما دعا بخير قال الملك: آمين. ولك مثل ذلك ". قال: فخرجت فألقى أبا الدرداء في السوق، فقال مثلما قالت أم الدرداء. يأثُره عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(11/99)
صفوان بن عبد الله بن عمرو
ابن الأهتم واسمه سنان بن سميّ بن سنان بن خالد بن مِنْقَر بن أسد بن مُقاعسِ التميمي المِنْقري البصري وفد على سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز.
حدث صفوان بن الأهتم قال:
كنت أقوم على رأس سليمان بن عبد الملك، فدخل عليه رجل من حضرموت من حكمائهم، فقال له سليمان: تكلم بحاجتك فقال: أصلح الله أمير المؤمنين. من كان الغالب على كلامه النصيحة وحسن الإرادة أوفى به كلامه على السلامة، وإني أعوذ بالذي أشخصني من أهلي حتى أوفدني عليك أن يُنطقني بغير الحقّ، أو أن يذلّل لساني لك بما فيه سخطه عليّ، وإن إقصار الخطبة أبلغ في أفئدة أولي الفهم من الإطالة، والتشدّق في البلاغة. ألا وأن من البلاغة - يا أمير المؤمنين - ما يفهم وإن قلّ. ألا وإني مقتصر على الاقتصار، مجتنب لكثير من الإكثار: أشخصني إليك والٍ عَسوف، ورعية ضائعة. وإن تعجِّل تدرك ما فات، وإنك إن تقصّر تهلك رعيتك هناك ضياعاً. فخذها إليك قصيرة موجزة. قال: فقال سليمان: يا غلام، ادع رجلاً من الحرس فاحملاه على البريد، وقل له: إذا أتيت البلاد فلا تنزل من مركبك حتى تعزله. ومن كانت له قبله ظُلامة أخذت له بحقه، وأمر للحكيم بجائزة سنية. فأبى أن يقبل وقال: يا أمير المؤمنين، أنا أحتسب سفري على الله وأكره أن آخذ عليه من غيره أجراً.
صفوان بن عمرو بن هرم
أبو عمرو السَّكْسَكي الحمصي حدث عن عبد الله بن بُسْر قال: قال أبي لأمي: لو صنعت طعاماً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فصنعت ثريدة، فانطلق أبي فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوضع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده على ذروتها وقال: خذوا باسم الله، فأخذوا من نواحيها. فلما طعموا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم ارحمهم، واغفر لهم، وبارك لهم في رزقهم ".(11/100)
وحدث صفوان وحَريز بن عثمان قالا: رأينا عبد الله بن بُسْر صاحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له جُمَّة، لم نرَ عليه عِمامة، ولا قلنسوة، شتاءً ولا صيفاً.
قال صفوان بن عمرو: كنت بباب عمر بن عبد العزيز فخرجت علينا خيل مكتوب على أفخاذها: عدة لله.
وفي حديث آخر بمعناه: عدة في سبيل الله.
أمّ صفوان أمّ الهِجْرس بنت عوسجة بن أبي ثوبان.
توفي صفوان سنة خمس وخمسين ومئة، وهو ابن ثلاث وثمانين سنة. وقيل: توفي سنة ثمان وخمسين ومئة.
قال صفوان بن عمرو السَّكْسَكي: رأيت عبد الله بن بُسْر المازني وخالد بن مَعدان وراشد بن سعد وعبد الرحمن بن جُبير بن نُفير وعبد الرحمن بن عائذ وغيرهم، من الأشياخ يقول بعضهم لبعض في العيد: تقبَّل الله منا ومنكم.
صفوان بن المعطل بن رخصة
ابن المؤمل بن خزاعي بن محاربي بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بُهثة بن سُليم بن منصور، أبو عمرو السلمي الذكواني صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان من صالحي أصحابه. أثنى عليه المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رماه أهل الإفك، فقال: ما علمت منه إلا خيراً. قتل بعد ذلك في سبيل الله عزّ وجلّ في غزوة إرمينية سنة تسع عشرة، ويقال: مات بالجزيرة بناحية سُمَيساط سنة ستين. وقبره هناك.(11/101)
أقول: من قال إنه قتلك شهيداً لا يثبت.
ويقال: أسلم قبل المُرَيسيع، وكان على ناقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وضرب حسن بن ثابت بالسيف لما هجاه. فلم يقده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال له: خبيث اللسان، طيب القلب. وشهد فتح دمشق.
قالوا: وشهد الخندق ومشاهده كلها. وكان مع كرز بن جابر الفِهري في طلب العرنيين الذين أغاروا على لقاح سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذي الْجُدُر.
حدث صفوان بن المعطل قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر، فرمقتُ صلاته، فصلى العشاء الآخرة ثم نام. فلما كان نصف الليل استنبَهَ فتلا العشر آيات آخِرَ سورة آل عمران. ثم قام، ثم تسوّك ثم قام فتوضأ وصلّى ركعتين. فلا أدري أقيامه أم ركوعه أم سجوده أطول. ثم انصرف فنام ثم استيقظ ففعل مثل ذلك. فلم يزل يفعل كما فعل أول مرة حتى صلّى إحدى عشرة ركعة.
وعن أبي هريرة قال:
جاء صفوان بن المعطل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا نبي الله، إني سائلك عن أمر أنت به عالم وأنا به جاهل. قال: وما هو؟ قال: هل من ساعات من الليل والنهار ساعةٌ تُكرَه فيها الصلاة؟ قال: " نعم. إذا صليت الصبح فدع الصلاة حتى تطلع الشمس فإنها تطلع بين قرني الشيطان. ثم الصلاة محضورة متقبَّلة حتى تستوي الشمس على رأسك قيد رمح، فإذا كانت على رأسك فدع الصلاة. فإن تلك الساعة التي تُسجر فيها جهنم، وتفتح فيها أبوابها، حتى ترتفع الشمس عن حاجبك الأيمن. فإذا زالت فصلِّ، فإن الصلاة محضورة متقبَّلة، حتى تصلي العصر، ثم ذكر الصلاة حتى تغرب الشمس ".
وعن أبي سعيد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله إن زوجي(11/102)
صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الصبح حتى تطلع الشمس. قال: وصفوان عنده فسأله عما قالت فقال: يا رسول الله، أما قولها: يضربني إذا صليت فإنها تقرأ بسورتي وقد نهيتها عنها. فقال: لو كانت سورة واحدة لكفت الناس. قال: وأما قولها: يفطرني إذا صمت، فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب فلا أصبر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذٍ: لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها. وأما قولها: إني لا أصلي حتى تطلع الشمس، فإنا أهل بيت قد عُرف لنا ذاك، إنا لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس. قال: فإذا استيقظت فصلِّ.
وفي رواية بمعناه: لا تصومي إلا بإذنه، ولا تقرئي بسورته. وأما أنت يا صفوان فإذا استيقظت فصلِّ.
وحدث الحسن عن صاحب زاد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ابن عون: كان يسمى سفينة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في سفر وراحلته عليها زادُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء صفوان بن المعطل فقال: إني قد جعت. قال: ما أنا بمطعمك حتى يأمرني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وينزل الناس فتأكل، فقال هكذا بالسيف، وكشف عرقوب الراحلة. قال: وكان إذا حزبهم أمر قالوا: احبس أول، احبس أول، فسمعوا فوقفوا. وجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما رأى ما صنع صفوان بن المعطل بالراحلة قال له: اخرج، وأمر الناس أن يسيروا، فجعل صفوان بن المعطل يتبعهم حتى نزلوا، فجعل يأتيهم في رحالهم ويقول: إلى أين أخرجني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إلى النار أخرجني! قال: فأتَوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا رسول الله، ما زال صفوان يتجوّب رحالنا منذ الليلة ويقول: إلى أين أخرجني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى النار أخرجني! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن صفوان بن المعطل خبيث اللسان، طيب القلب.
وفي حديث آخر بمعناه: فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: قولوا لصفوان: فليذهب. فلما نزلوا لم يبت تلك الليلة، يطوف في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أتى علياً فقال: أين أذهب؟ أذهب إلى الكفر! فدخل علي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن هذا لم يدعنا نبيت هذه الليلة. قال: أين يذهب؟ إلى الكفر؟ قال: قولوا لصفوان: فليلحَق.(11/103)
وعن عائشة في ذكر حديث الإفك وقال: قام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: " أما بعد، فأشيروا عليّ في أناس أَبَنُوا أهلي، وايم الله إن علمت على أهلي من سوء قط. وأَبَنُوهم بمن! والله إن علمت عليه سوءاً قط. ولا دخل على أهلي إلا وأنا شاهد ". يعني: صفوان بن المعطل.
وكان حسان بن ثابت قد كثر على صفوان بن المعطل في شأن عائشة. ثم قال بيت شعر يعرّض به فيه وبأشباهه فقال: البسيط
أمسى الجلابيبُ قد عزُّوا وقد كثُروا ... وابنُ الفُريعة أمسى بيضةَ البلدِ
فاعترضه صفوان بن المعطل ليلاً وهو آتٍ من عند أخواله بني ساعدة، فضربه بالسيف على رأسه، فيغدو عليه ثابت بن قيس بن شماس، فجمع يديه إلى عنقه بحبل أسود، وانطلق به إلى دار بني حارثة، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال له: ما هذا؟! فقال: ما أعجبك، عدا حسان بالسيف. فوالله ما أراه إلا قد قتلته. فقال: هل علم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما صنعت به؟ فقال: لا، فقال: والله، لقد اجترأت، خلّ سبيله فسنغدو على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنعلمه أمره، فخلّى سبيله. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكروا له ذلك فقال: أين ابن المعطل؟ فقام إليه فقال: ها أنا يا رسول الله، فقال: ما دعاك إلى ما صنعت؟! فقال: يا رسول الله. آذاني وكثر علي. ثم لم يرض حتى عرّض في الهجاء فاحتملني الغضب. وهذا أنا، فما كان عليّ من حق فخذني به، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادع لي حسان، فأُتي به، فقال: يا حسان: أتشوَّهتَ على(11/104)
قوم أن هداهم الله للإسلام؟! يقول: نفست عليهم يا حسان، أحسن فيما أصابك فقال: هي لك يا رسول الله، فأعطاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيرين القبطية فولدت له عبد الرحمن بن حسان، أعطاه أرضاً كانت لأبي طلحة، تصدق بها على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وما كانت عائشة رضي الله عنها تذكر حسان إلا بخير. ولقد سمعت عروة بن الزبير يوماً يسبُّه لما كان منه فقالت: لا تسبّه يا بني، أليس هو الذي يقول:
فإنّ أبي ووالدَه وعِرضي ... لعِض محمدٍ منكم وِقاءُ؟
وعن الحسن قال: لما قال حسان بن ثابت في شأن عائشة رضي الله عنها ما قال حلف صفوان بن المعطل لئن أنزل الله عذره ليضربن حسان ضربة بالسيف. فلما أنزل الله عذره ضرب حسان على كتفه بالسيف فأخذه قومه فأتوا به وبحسان إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدفعه إليهم ليقضوا فلما أدبروا بكى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقيل لهم. هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبكي. يبكي فارجعوا به فتركه حسان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعوا حسان فإنه يحب الله ورسوله. أو كما قال.
وعن صفوان بن المعطل قال: خرجنا حجاجاً. فلما كنا بالعَرج إذا نحن بحيّة تضطرب، فلم تلبث أن ماتت، فأخرج لها رجل خرقة من عَيبته فلفها فيه ودفنها، وخدّ لها في الأرض. فلما أتينا مكة، فإنا لبالمسجد الحرام غذ وقف علينا شخص فقال: أيكم صاحب عمرو بن جابر؟ قلنا: ما نعرفه. قال: أيكم صاحب الجانّ؟ قالوا: هذا. قال: جزاك الله خيراً، أما إنه قد كان من آخر السبعة موتاً الذين أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستمعونالقرآن.
حدث موسى بن مهران السنجاري أن عكرمة بن أبي جهل انتهى إلى آمد، ووجّه صفوان بن المعطل إلى إرمينية الرابعة ففتحها الله عليه. وأنه حاصر حصناً يقال له: بولا في بعث فرموه فقتلوه، فدفن قدام الحصن قريباً من عينٍ هنالك.(11/105)
قال أبو إسحاق السنجاري: أتينا بولا في بعث، فقال لي شيخ من أهلها قد بلغ مئة سنة أو زاد عليها: أتريد أن أريك قبر صفوان بن المعطل؟ قلت: نعم، فإذا هو من بابها رمية بحجر. وقال: رمينا فقتلناه. قال: فبلغ عمر قتله، فدعا علينا دعوة إنا لنعرفها إلى الساعة.
صفوان بن وهب بن ربيعة
ابن هلال بن مالك بن ضبة بن الحارث بن فهر أبو عمرو القرشي الفهري، المعروف بابن بيضاء وهي أمه، واسمها دعد بنت جحدم بن عمرو بن عائش له صحبة. شهد مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدراً، واستشهد بها. ويقال: بل عاش بعدها إلى أن مات في طاعون عمواس بناحية الأردن.
عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث صفوان بن بيضاء في سرية عبد الله بن جحش قِبَل الأبواء، فغنموا، وفيهم نزلت: " يَسأَلُونَكَ عَنِ الشَّهرِ الحَرَامِ قتال فِيهِ " الآية.
وسهيل بن بيضاء أخو صفوان، وهو الذي مشى إلى النفر القرشيين في الصحيفة التي كتبها مشركو قريش على بني هاشم. وفي ذلك يقول أبو طالب: الطويل
هُمُ رجعُوا سهلَ بن بيضاءَ راضياً ... فسُر أبو بكرٍ بها ومحّمدُ
وآخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين صفوان بن بيضاء ورافع بن المعلى. وقتلا يوم بدر جميعاً. وهو من المهاجرين الأولين. قتله طُعيمة بن عدي يوم بدر.
وقيل: توفي في رمضان سنة ثمان وثلاثين. وإنه لم يقتل يوم بدر، وإنه شهد المشاهد مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(11/106)
صفوان بن يَسَرة بن صفوان
ابن جميل. أبو العباس اللخمي البلاطي حدث عن آدم بن أبي إياس بسنده عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَن كذب عليَّ فليَلجِ النار ".
وحدث صفوان بن يسرة عن بعض إخوانه قال: بلغنا أن قوماً وقفوا براهب فوجدوه يبكي فقالوا: ما الذي أبكاك؟ قال: ذِكر المعاد، وتخوف النداء. قالوا: فما أعددت لذلك؟ قال: وأين تبلغ العدة؟ إنما هو عفو الله أو النار.
يَسَرة بفتح الياء والسين المهملة.
الصفر بن رستم
ويقال: السّقر أبو سليمان الدمشقي روى عن بلال بن سعد قال: ثلاث لا يقبل معهن عمل: الشرك، والكفر، والرأي. قيل: يا أبا عمرو، ما الرأي؟ قال: يترك كتاب الله تبارك وتعالى، وسُنَّة نبيّه صلاة الله وسلامه عليه ويقول برأيه.(11/107)
الصلت بن بَهرام
أبو هاشم - ويقال: أبو هشام - التيمي - ويقال: الهلالي - الكوفي وفد على عمر بن عبد العزيز.
حدث
الصلت بن بهرام عن شقيق عن البراء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، وما يغفر الله أكثر.
وحدث الصلت بن بهرام عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثلاثة يدعون الله فلا يُستجاب له: رجل أعطى ماله سفيهاً، وقد قال الله عزّ وجلّ: " وَلاَ تُؤْتُوْا السُّفَهَاءَ أَمْوَالُكُمْ " ورجل له امرأة سيئة الخلق فلا يطلقها، ورجل بايع ولم يُشهد.
الصلت بن دينار
أبو شعيب البصري، المعروف بالمجنون الأزدي وفد على عمر بن عبد العزيز.
حدث عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة: أكان رسول الله يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجيء من مَغيبه.
وحدث الصلت بن دينار عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله.
وحدث الصلت قال: صليت مع عمر بن عبد العزيز فلسم واحدة.(11/108)
قال محمد بن سعد: الصلت بن دينار ضعيف، ليس بشيء.
قال يحيى بن سعيد: ذهبت أنا وعوف نعُود الصلت بن دينار، فذكر الصلت علياً عليه السلام فنال منه، فقال عوف: مالك يا أبا شعيب؟! لا رفع الله الضر عنك.
وفي رواية أخرى: فقال عوف: لا شفاك الله يا أبا شعيب.
الصلت بن عبد الرحمن
الزبيدي الكوفي سكن دمشق.
حدث عن سفيان الثوري بسنده عن عمران بن حصين: أن عياض بن حِمَار المجاشعي ثم النهشلي أهدى لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرساً قبل أن يسلم، فقال: إن أكثره زَبْد المشركين.
وحدث عن سفيان أيضاً بسنده عن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أشرع أحدكم بالرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند ثغرة نحره فقال: لا إله إلا الله فليرفع عنه الرمح.
وحدث عن سفيان أيضاً بسنده عن ابن عمر قال: رجم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهودياً ويهودية.
الصلت والد العلاء
من أهل خراسان. وفد على عمر بن عبد العزيز.(11/109)
حدث الصلت قال: أبردني الجراح وعبد الرحمن بن صبح الأزي إلى عمر بن عبد العزيز، فقدمنا عليه، وإنه لقاعد كأحد أصحابه فما عرفناه حتى قيل لنا إنه عمر، فسلّمنا عليه، ودفعنا إليه الكتب من الجراح، ورفعنا إليه حوائجنا.
صمدون بن الحسين بن علي
ابن الحسين بن يحيى بن هارون، أبو الحسن الصوري توفي ببانياس سنة إحدى وسبعين وأربع مئة.
حدث عن عبد الوهاب بن الحسين الغزال بسنده عن أنس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعوذ من ثمان: من الهم، والحزن، والعجز، والكسل، ومن الجبن، والبخل، ومن ضَلَع الدَّين، وغلبة العدو.
صُهيب بن سنان بن مالك
ابن عبد عمرو بن عقيل بن عامر بن جندلة بن سعد بن جُذيمة بن كعب ابن منقذ بن العُريان ابن حي بن زيد مناة بن عامر بن الضَّحيان ابن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قساط بن هِنْب بن أفصى ابن دُعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار وفي نسبه اختلال - أبو يحيى - وقيل: أبو غسان - النمِري
صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ممن شهد بدراً. وهو المعروف بصهيب الرومي.(11/110)
كان من أهل الموصل. فسبته الروم وهو صغير، وأعتقه عبد الله بن جدعان. ويقال: هو حليفه، وكان أصابه سِباء بالروم، ووافَوا به الموسم، فاشتراه عبد الله بن جدعان القرشي، فأعتقه.
وأم صعيب سلمى بنت قعيد بن مهيص بن خزاعي بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم. وكان النعمان استعمل أباه سنان على الأُبُلَّة.
وقدم الجابية مع عمر بن الخطاب.
حدث صهيب عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار ناداهم " منادٍ " يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً لم تَروه. قالوا: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ويُبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، وينجينا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب تعالى، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه. ثم تلا هذه الآية: " لِلَّذِيْنَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيَادَةٌ " ".
حدث الشعبي عن سويد بن غفلة قال: لما قدم عمر الشام قام إليه رجل من أهل الكتاب فقال: يا أمير المؤمنين، إن رجلاً من المسلمين صنع بي ما ترى، وهو مشجوج مضروب، فغضب عمر غضباً شديداً ثم قال لصهيب: انطلق فانظر مَن صاحبه، فأتني به. قال: فانطلق صهيب، فإذا هو عوف بن مالك الأشجعي فقال: إن أمير المؤمنين قد غضب عليك غضباً شديداً، فأت معاذ بن جبل فليكلمه، فإني أخاف أن يجعل إليك. فلما قضى عمر الصلاة قال: أين صهيب؟ أجئت بالرجل؟ قال: نعم. قال: وقد كان عوف بن مالك أتى معاذاً وأخبره بقصته، فقام معاذ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه عوف بن مالك، فاسمع منه، ولا تعجل(11/111)
إليه. فقال له عمر: مالك ولهذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، رأيت هذا يسوق بامرأة مسلمة على حمار فنخس بها لتصرع، فلم تصرع، فدفعها فصرعت، فغشيها - أو أكب عليها - قال: ائتني بالمرأة، فلتصدّق ما قلت، فأتاها عوف بن مالك، فقال له أبوها وزوجها: نحن نذهب فنبلغ عنك. فأتيا عمر فأخبراه بمثل قول عوف. فأمر عمر باليهودي فصلب. وقال: ما على هذا صالحناكم، ثم قال: أيها الناس، اتقوا الله في ذمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن فعل منهم هذا فلا ذمة له. قال: قال سويد: وذلك اليهودي أول مصلوب رأيته في الإسلام.
كان سنان، أبو صهيب عاملاً لكسرى على الأُبُلّة، وكانت منازلهم بأرض الموصل، ويقال: كانوا في قرية على شط الفرات مما يلي الجزيرة والموصل. فأغارت الروم على تلك الناحية، فسبت صهيباً وهو غلام صغير، واسم القرية التي كان أهله بها الثَنِيّ. ونشأ صهيب بالروم، فصار ألْكن، فابتاعته كلب منهم، وقدمت به مكة، فاشتراه عبد الله بن جدعان التيمي منهم، فأعتقه، وأقام معه بمكة إلى أن هلك عبد الله بن جدعان. وبُعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أراد الله به من الكرامة، ومنّ به عليه من الإسلام. وأما أهل صهيب فإنهم يقولون: بل هرب من الروم حين بلغ وعقل. فقدم مكة فحالف عبد الله بن جدعان وأقام معه إلى أن هلك.
وكان صهيب رجلاً شديد الحمرة، ليس بالطويل ولا القصير. وهو إلى القصر أقرب. وكان كثير شعر الرأس. وكان يخضب بالحناء.
وشهد صهيب بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها من سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويقال: إن صهيباً سبته الروم من الموصل فأعتقه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكناه أبا يحيى.
وحدث صهيب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحب صهيباً حبّ الوالدِ ولدّه ".
وقال صهيب: صحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يوحى إليه.(11/112)
وعن عمار بن ياسر قال: لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها، فقلت له: ما تريد؟ قال لي: ما تريد أنت؟ فقلت: أردت أن أدخل على محمد، فأسمع كلامه. قال: وأنا أريد ذلك، فدخلنا عليه، فعرض علينا الإسلام، فأسلمنا ثم مكثنا يومنا على ذلك حتى أمسينا، ثم خرجنا ونحن مستخفون. فكان إسلام عمار وصهيب بعد بضعةٍ وثلاثين رجلاً.
وعن أم هانىء قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السباق أربعة: أنا سابق العرب، وسلمان سابق فارس، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبش.
وعن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
" أنا سابق العرب إلى الجنة، وصهيب سابق الروم إلى الجنة، وبلال سابق الحبشة إلى الجنة. وسلمان سابق الفرس إلى الجنة ".
وعن عمر بن الحكم قال: كان عمار بن ياسر يعذَّب حتى لا يدري ما يقول. وكان صهيب يعذَّب حتى لا يدري ما يقول. وكان أبو فكيهة يعذَّب حتى لا يدري ما يقول. وبلال وعامر بن فهيرة وقوم من المسلمين وفيهم نزلت هذه الآية: " ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِيْنَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ".
قال مجاهد: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر، وبلال، وخبّاب، وصهيب، وعمار، وسمية أم عمار. قال: فأما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنعه عمه، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأُخذ الآخرون فألبسوهم أدراع الحديد ثم صهروهم في الشمس حتى بلغ الجَهد منهم كلَّ مبلغ فأعطوهم ما سألوا، فجاء إلى كل رجل منهم قومه بأنطاع الأدْم(11/113)
فيها الماء فألقوهم فيه وحملوا بجوانبه إلا بلالاً. فلما كان العشي جاء أبو جهل فجعل يشتم سمية ويرفث، ثم طعنها فقتلها، فهي أول شهيد استشهد في الإسلام، إلا بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله حتى ملّوه، فجعلوا في عنقه حبلاً ثم أمروا صبيانهم أن يشتدوا به بين أخشِبَيْ مكة فجعل بلال يقول: أحدٌ أحدٌ.
وعن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ: " ومِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِيْ نَفْسَهُ ابتغاءَ مَرْضَاةِ اللهِ " قال: نزلت في صهيب وفي نفر من أصحابه، أخذهم أهل مكة، فعذّبوهم ليرُّوهم إلى الشرك بالله، منهم عمار وأمه سمية وأبو ياسر، وبلال وخبّاب وعابس مولى حويطب بن عبد العزى. أخذهم المشركون فعذبوهم.
وعن عروة بن الزبير قال: كان صهيب من المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا يعذبون في الله بمكة.
وعن ابن مسعود قال: مرَ الملأ من قريش على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده خبّاب وصهيب وبلال وعمار فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء؟! أتريد أن نكون تبعاً لهؤلاء؟! فنزلت: " وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أن يَحْشَرُوْا إلى رَبِّهِمْ " إلى قوله: " فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُوْنَ مِنَ الظَّالِمِيْنَ ".
وعن خباب بن الأرتْ " " ولا تَطْرُدِ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ والعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ " قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعُيينة بن حصن الفَزاري فوجدوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع بلال وعمار وصهيب وخباب في أناس من الضعفاء من المؤمنين. فلما رأوهم حوله حقروهم، فأتوه فخلوا به وقالوا: إنا نحب أن نجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا بها العرب فضلنا، فإن وفود(11/114)
العرب تأتيك، فنستحي أن ترانا قعوداً مع هؤلاء عندك. فإذا نحن جئنا فافهم عنها، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال: نعم. قالوا: فاكتب عليك كتاباً، فدعا بالصحيفة ليكتب لهم، ودعا علياً ليكتب. فلما أراد ذلك - ونحن قعود في ناحية - إذ نزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال: " ولا تَطْرُدِ الذينّ يدعونَ رَبَّهُم بالغداةِ والعَشِيِّ يُرِيْدُونَ وجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ " الآية. ثم ذكر الأقرع وصاحبه. قال: " وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ " الآية. وقال: " وإِذَا جَاءَ الَّذِيْنَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ " الآية. فرمى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصحيفة، ودعانا فأتيناه وهو يقول: سلامٌ عليكم، فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلس معنا. فإذا أرد أن يقوم قام وتركنا. فأنزل الله عزّ وجلّ: " وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ والعَشِّيِّ يُريْدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ " يقول: ولا تجالس الأشراف " وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا واتّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ".
فأما الذي أغفل قلبه فهو عيينة والأقرع. وأما. فرطاً. ضرب لهم مثلاً رجلين ومثل الحياة الدنيا. قال: فكنا بعد ذلك نقعد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فإذا بلغنا الساعة التي كنا نقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم. وإلا صبر أبداً حتى نقوم.
وعن أبي سلم بن عبد الرحمن قال:
جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي فقال: هؤلاء الأوس والخزرج قاموا بنُصْرة هذا الرجل، فما بال هؤلاء؟! قال: فقام مُعاذ فأخذ بتلبيبه حتى أتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بمقالته، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغضباً يجر رداءه حتى دخل المسجد ثم نودي الصلاة جامعة، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: " يا أيها الناس، إن الربّ ربّ واحد، وإن الأب أبٌ واحد، وإن الدين دينٌ واحد. ألا وإن(11/115)
العربية ليست لكم باب ولا أم، إنما هي لسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي ". فقال معاذ - وهو آخذ بتلبيبه -: يا رسول الله، ما تقول في هذا المنافق؟ فقال: " دعه إلى النار ". قال: فكان فيمن ارتد، فقتل في الرِّدة.
قال: هذا حديث مرسل غريب.
وعن مجاهد قوله عزّ وجلّ: " مَالَنَا لاَنَرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشرَارِ " قال أبو جهل: ما لنا لا نرى خباباً وصهيباً وعماراً اتخذناهم سِخريّاً في الدنيا، أم هم في النار فزاغت عنهم أبصارنا؟.
ولما أراد صهيب الهجرة إلى المدينة قال له أهل مكة: أتيتنا هاهنا صعلوكاً حقيراً فتغيَّر حالك عندنا، وبلغت ما بلغت. تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكن ذلك. قال: أرأيتم إن تركت مالي، أمُخلُّون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم. فخلع لهم ماله أجمع فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " ربح صهيب، ربح صهيب ".
وعن صهيب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُريتُ دار هجرتكم: سبخة بين ظهرانّي حَرَّة. فإما أن تكون هَجَر أو تكون يثرب ". قال: وخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، وخرج معه أبو بكر، وكنت قد هممت بالخروج معه، فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم، لا أقعد، فقالوا: لقد شغله الله عنكم ببطنه - ولم أكن شاكياً - فناموا، يعني: فخرجت فلحقني منهم ناس بعدما سرت بريداً. أبردوني فقلت لهم: هل لكم أن أعطيكم أواقاً من ذهب وتخلّون سبيلي وتوثقون لي؟ ففعلوا، فتبعتهم إلى مكة، فقلت: احفِروا تحت أسكُفَّه الباب فإن تحتها الأواق، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحُلَّتينْ. وخرجت حتى قدمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُباء قبل أن يتحول منها. فلما رآني قال: " يا أبا يحيى، ربح البيع، ثلاثاً ". فقلت: يا رسول الله، ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبريل.(11/116)
وعن سعيد بن المسيب قال: أقبل صهيب مهاجراً إلى المدينة، فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وانتشل ما في كنانته ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وأيم الله، لا تصلون إلى حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي، ثم أضربكم بالسيف ما بقي في يدي منه شيء، فافعلوا ما شئتم، فإن شئتم دَلَلْتكم على مالي، وخلَيتم سبيلي. قالوا: نعم، ففعل. فلما قدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع ". قال: فنزلت: " وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِيْ ابتغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ واللهُ رَؤُوْفٌ بِالعِبَادِ ".
وعن بن جريج في قوله: " وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرَيْ نَفْسَهُ " نزلت في صهيب بن سنان وأبي دّروان الذي أدرك صهيبً بطريق المدينة قُنفُذ بن عمير بن جدعان.
وعن عمر بن الحكم قال: قدم صهيب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بقباء، ومعه أبو بكر وعمر وبين أيديهم رُطَب قد جاءهم به كلثوم بن الهِدْم أمهات جرادين، وصهيب قد رمد بالطريق، وأصابته مجاعة شديدة، وقع في الرطب، فقال عمر: يا رسول الله، ألا ترى إلى صهيب يأكل الرطب وهو رمِد؟! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تأكل الرطب وأنت رَمِد؟! " فقال صهيب: إنما آكله بشق عيني الصحيحة، فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعل صهيب يقول لأبي بكر: وعدتني أن نصطحب، فخرجت وتركتني، ويقول: وعدتني يا رسول الله أن تصاحبني، فانطلقت وتركتني فأخذتني قريش، فحبسوني، ويقول: فاشتريت أهلي بمالي، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ربح البيع ". فأنزل الله عزّ وجلّ: " وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِيْ ابتغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ ". وقال صهيب: يا رسول الله، ما تزودت إلا مداً من دقيق عجنته بالأبواء حتى قدمت عليك.
وعن صهيب قال:
لم يشهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشهداً قط إلا كنت حاضره. ولم يبايع بيعة قط إلا كنت(11/117)
حاضره، ولم يسير سرية قط إلا كنت حاضرها، ولا غزا عزاة قط أول الزمان وآخره إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله. وما خافوا أمامهم قط إلا كنت أمامهم، ولا ما وراءهم إلا كنت وراءهم. وما جعلت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيني وبين العدو قط، حتى توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن صهيب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تبغضوا صهيباً ".
وعن عائذ بن عمرو أن سلمان وصهيباً وبلالاً كانوا قعوداً في أناس فمرّ بهم أبو سفيان بن حرب فقالوا: ما أخذت سيوف الله تبارك وتعالى من عنق عدو الله مأخذها بعد، فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم؟! قال: فأُخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم، فلئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك تبارك وتعالى. فرجع إليهم فقال: أي إخوتنا، لعلكم غضبتم، فقالوا: لا يا أبا بكر. يغفر الله لك.
وعن صهيب أن أبا بكر مرّ بأسير له يستأمن له من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصهيب جالس في المسجد، فقال لأبي بكر: من هذا معك؟ قال: أسير لي من المشركين أستأمن له من رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال صهيب: لقد كان في عنق هذا موضع للسيف، فغضب أبو بكر، فقال: لقد كان في رقبة هذا موضع للسيف. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلعلك آذيته. فقال: لا والله، فقال: لو آذيته لآذيت الله ورسوله.
حدث صيفي بن صهيب قال: قلنا لأبينا: يا أبانا، لِمَ لا تحدثنا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يحدث أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: أما إني قد سمعت كما سمعوا، ولكني يمنعني من الحديث عنه أني سمعته يقول: مَن كذب علي متعمداً كلف يوم القيامة أن يعقد طرفي شعره، ولن يقدرعلى ذلك. وسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من تزوج امرأة ومن نيته أن يذهب بصداقها لقي الله عزّ وجلّ وهو زان حتى يتوب ". وسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من ادان(11/118)
بدَين وهو يريد ألا يفيّبه لقي الله سارقاً حتى يتوب ".
وفي حديث آخر بمعناه: مَن كذب عليّ متعمداً فيلتبوّأ مقعده من النار، ولكن سأحدثكم بحديث حفظه قلبي، ووعاه سمعي: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أيما رجل تزوج امرأة ومن نيته أن يذهب بصداقها فهو زان حتى يموت. وأيما رجل بايع رجلاً بيعاً ومن نيته أن يذهب بحقه فهو خائن حتى يموت ".
قال عمر لصهيب: أيّ رجل أنت لولا خصال ثلاث فيك. قال: وما هنّ؛ قال: اكتنيت وليس لك ولد، وانتميت إلى العرب وأنت من الروم. وفيك سَرَف في الطعام. قال: أما قولك: اكتنيت ولم يولد لك فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كناني أبا يحيى. وأما قولك: انتميت إلى العرب وأنت من الروم فإني رجل من النّمِر بن قاسط، سبتني الروم من الموصل بعد إذ أنا غلام قد عرفت نسبي، وأما قولك: فيك سرف في الطعام فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " خياركم من أطعم الطعام ".
وفي حديث آخر بمعناه: وأما ادّعائي إلى النمِر بن قاسط فإني امرؤ منهم، ولكني استُرضع لي بالأُبُلَّة. فهذه من ذاك. وأما المال فهل تراني أنفق إلا في حق؟ وفي حديث آخر بمعناه: وأما قولك: إني لا أمسك شيئاً فإن الله عزّ وجلّ يقول: " وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِيْنَ ".(11/119)
وعن عبد الله بن عمر قال: قال عمر: إن حدثَ بي حَدَثٌ فليُصلّ الناس صهيب ثلاث ليال، ثم أجمعوا أمركم في اليوم الثالث ".
قال سعيد بن المسيب: لما توفي عمر نظر المسلمون فإذا صهيب يصلي بهم المكتوبات بأمر عمر، فقدموا صهيباً فصلّى على عمر.
توفي صهيب بالمدينة، وهو ابن سبعين سنة. ودفن بالبقيع. وكان يخضب بالحناء. وكان كثير شعر الرأس. وكان رجلاً حمر، شديد الصُهْبَة تحتها حمرة. وتوفي سنة ثمان وثلاثين. وقيل: توفي وهو ابن أربع وثمانين. وصلّى عليه سعد بن أبي وقاص.
صَيفي بن الأَسلت
واسم الأسلت عامر بن جُشَم بن وائل بن زيد بن قيس ابن عامر بن مرّة بن مالك بن الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمر أبو قيس الأنصاري الوائلي الشاعر
أدرك سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان قد وفد على آل جفنة. ويقال: إن اسم صيفي عبدُ الله. وكان أبو قيس بن الأسلت يُعدل بقيس بن الخطيم في الشعر والشجاعة. وهو الذي وقف بأوس الله يحضهم على الإسلام. وقد كان أبو قيس قبل قدوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتألّه ويدّعى الحنيفية ويحض قريشاً على اتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقام في أوس الله فقال: أسفوا إلى هذا الرجل، فإني لم أر خيراً قط إلا أوله أكثره، ولم أرد شرّاً قط إلا أوله أكثره، ولم أر شرّاً قط إلا أوله أقلّه. فبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول فلقيه فقال له: لُذت من حربنا كل ملاذ. مرة تطلب الحلف إلى قريش، ومرة باتباع محمد. فغضب أبو قيس وقال: لا جرم والله لا اتبعته إلا آخر الناس فزعموا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إليه وهو يموت أن قُلْ: لا إله إلا الله أشفع لك بها يوم القيامة فسُمع يقولها. وامرأته أول امرأة حَرُمت على ابن زوجها. وفيها نزلت " ولا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ " ومضت بدرٌ وأحد ولم يُسلم(11/120)
من أوس الله أحد إلا أربعة نفر من بني خطمة: خزيمة بن ثابت بن الفاكه، وعمير بن عدي بن خرشة، وحبيب بن خُماشة، وحَميضة بن رُقَيم الخطميون. كلهم شهد أحداً وما بعدها من المشاهد، فلذلك ذهبت الخزرج بالعدة فيمن شهد بدراً.
وقيس بن أبي قيس بن الأسلت صحب سيدنا صحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشهد أحداً. ولم يزل في المشاهد حتى بعثه سعد بن أبي وقاص طليعة له حين خرج إلى الكوفة. فلم يدر حتى هجم على مَسلحة بالعُذَيب للعجم، فشدا عليه، فقاتلوه حتى قتل يومئذ.
وروى جماعة أن لم يكن أحد من الأوس والخزرج أوصف للحنيفية ولا أكثر مسألة عنها من أبي قيس بن الأسلت. وكان قد سأل مَن بيثرب من اليهود عن الدين فدعوه إلى اليهودية، فكاد يقاربهم ثم أبى ذلك، وخرج إلى الشام إلى آل جفنة، فتعرضهم فوصلوه. وسأل الرهبان والأخبار فدعوه إلى دينهم فلم يُرده وقال: لا أدخل في هذا أبداً، فقال له راهب بالشام: أنت تريد دين الحنيفية. قال أبو قيس: ذاك الذي أريد، فقال الراهب: هذا وراءك، من حيث خرجت دين إبراهيم، فقال أبو قيس: أنا على دين إبراهيم، وأنا أدين به حتى أموت عليه. ورجع أبو قيس: خرجت إلى الشام أسأل عن دين إبراهيم فقيل لي: هو وراءك، فقال له زيد بن عمرو: قد استعرضت الشام والزيرة ويهود يثرب فرأيت دينهم باطلاً. وإن الدين دين إبراهيم: كان لا يشرك بالله شيئاً، ويصلي إلى هذا البيت، ولا يأكل ما ذبح لغير الله. فكان أبو قيس يقول: ليس أحد على دين إبراهيم إلا أنا وزيد بن عمرو بن نفيل. فلما قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وقد أسلمت الخزرج وطوائف من الأوس: بنو عبد الأشهل كلها، وظَفَر وحارثة، ومعاوية وعمرو بن عوف إلا ما كان من أوس الله وتيم وائل وبنو خطمة وواقف، وأمية بن زيد(11/121)
مع أبي قيس بن الأسلت، وكان رأسها وشاعرها وخطيبها، وكان يقودهم في الحرب. وكان قد كان أن يسلم، وذكر الحنيفية في شعره. وكان يذكر صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما تخبره به يهود، وأن مولده بمكة ومهاجره يثرب. فقال بعد أن بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا النبي الذي بقي وهذه دار هجرته.
فلما كانت وقعة بعاث شهدها. وكان بين قدوم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووقعة بعاث خمس سنين. وكان يُعرَف بيثرب، يقال له الحنيف. فلما قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة قيل له: يا أبا قيس: هذا صاحبك الذي كنت تصف. قال: أجل، قد بُعث بالحق. وجاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: إلام تدعو؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وذكر شرائع الإسلام. فقال أبو قيس: ما أحسن هذا وما أجمله! أنظر في أمري ثم أعود إليك، فكاد يسلم، فلقيه عبد الله بن أُبيّ فقال: من أين؟ فقال: من عند محمد. عرض علي كلاماً ما أحسنه! وهو الذي كنا نعرف، والذي كانت أحبار اليهود تخبرنا به، فقال له عبد الله بن أبي: كرهت والله حرب الخزرج. قال: فغضب أبو قيس وقال: والله لا أسلم سنة. ثم أنصرف إلى منزله، فلم يعد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى مات قبل الحول. وذلك في ذي الحجة على رأس عشرة أشهر من الهجرة.
وروي عن أشياخهم أنهم كانوا يقولون: لقد سُمع يوحّد عند الموت.
وأبو قيس بن الأسلت هو القائل: " السريع "
مَن يذقِ الحربَ يجدْ طعمها ... مرّاً وتتركْهُ بجَعجاعِ
قد حصَّت البيضة رأسي فما ... أطعمَ نوماً غير تهجاع
أسعى على جل بني مالك ... كل امرىءْ في شأنه ساع
ليس قطاً مثلُ قُطَيٍّ ولاال ... مَرْعِيُّ في الأقوام كالراعي(11/122)
وأضرب القَوْنس يوم الوغى ... بالسيفِ ما ينقضي به باعي
قال الهيثم بن عدي: كنا جلوساً عند صالح بن حسان فقال: أنشدوا بيتاً شريفاً في امرأة خَفِرة، قلنا: قول حاتم الطائي: الطويل
يضيء لها البيتُ الظليمُ خصاصُهُ ... إذا هي يوماً حاولت أن تبسَّما
فقال: أريد أحسن من هذا. قلنا: قول الأعشى: " البسيط "
كأنّ مشيتها من بيت جارتها ... مرّ السحابة لا رَيث ولا عجَلُ
قال: أريد أحسن من هذا: قلت: بيت ذي الرمة: " الطويل "
تنوء بأخراها فلأياً قيامُها ... وتمشي الهويني من قريبٍ فتَبهَرُ
قال: أريد أحسن من هذا. قلنا: ما عندنا شيء. قال: بيت أبي قيس بن الأسلت: " الطويل "
وتكرمُها جاراتُها فيزرنها ... وتعتل عن إتيانهنَّ فتُعْذَرُ
ثم قال: أتدرون أحسن بيت وصفت به الثريا؟ قلت: بيت ابن الزبير " الطويل "
وقد لاحَ في الجوّ الثريا كأنّه ... بهِ رايةٌ بيضاءُ تخفق للطعنِ
قال: أريد أحسن من هذا. قلنا بين امرىء القيس.(11/123)
إذا ما الثريا في السماء تعرَّضت ... تعرُّض أثناءِ الوشاحِ المفصَّلِ
قال: أريد أحسن من هذا. قلت بيت ابن الطثَريَّة:
إذا ما الثريا في السماءِ كأنها ... جُمانٌ وهي من سلكِه فتسرَّعا
قال: أريد أحسن من هذا. قلنا ما عندنا شيء. قال: بيت أبي قيس بن الأسلت:
وقد لاحَ في الجوّ الثريا لِمن رأى ... كعنقودِ ملاّحيّةٍ حين نوّرا
قال الحافظ: روي هذا الخبر الملاّحية بتشديد اللام. قال: ولغة العرب الفصيحة السائرة: ملاحية. يقولون: عنب ملاحي، ورواة الحديث والأخبار الذي لا علم لهم بكلام العرب يغلطون في هذا كثيراً وفيما أشبه. قال: وأرى أن الذي أوقعهم في هذا أنهم لما رأوا في هذا البيت ظهور الزحاف فيها إذا رُوي مخففاً على الوجه الصحيح، وسلامته من ذلك إذا شُدّد، ثم لم يعلموا جواز الزحاف واطراده، وظهور استعماله. وإن أكثر الشعر مُزاحَف. ومالا زحاف فيه قليل نَزْر جداً. وهذا البيت من الطويل الثاني. والزحاف فيه ذهاب ياء مفاعلين ورده إلى مفاعلن ويسمى القبض لذهاب الخامس. وقد تسقط نون مفاعلين على معاقبة القبض فيه، وهو ذهاب الياء. ولا يجتمعان في السقوط وهو الكف لذهاب السابع.
صيفي بن فسَيل
ويقال: فشيل الربعي الشيباني الكوفي من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. وهو ممن قُدم به مع حُجر بن عدي عذراء وقتل معه.
حدث أب المليح الهذلي قال: بعثني الحكم بن أيوب إلى شبهة بنت عمير الشيبانية أسألها، فحدثتني أن زوجها(11/124)
صيفي بن فشيل نُعي لها من قَنْدابيل فتزوجت بعده العباس بن طريف القيسي. ثم إن زوجها الأول قدم، فأتينا عثمان بن عفان وهو محصور، فأشرف علينا فقال: أتقضى بينكم وأنا على هذه الحال؟ ّ فقلنا: قد رضينا بقولك، فقضى أن يخير الزوج الأول بين الصداق وبين امرأته، ثم قتل عثمان، فأتينا علياً فأخذ مني ألفين ومن زوجي ألفين، وهو صداقه الذي كان جعل للمرأة. قال: وكانت له أم ولد قد تزوجت من بعده، وولدت لزوجها أولاداً فردّها عليه وولدها.
وعن قيس بن عباد الشيباني
أنه جاء إلى زياد فقال له: إن امرأَ منا من بني همام يقال له صيفي بن فشيل من رؤوس أصحاب حجر، وهو أشد الناس عليك، فبعث زياد فأتى به، فقال: يا عدو الله، ما تقول في أبي تراب؟ قال: ما أعرف أبا تراب. قال: ما أعرفَك به! قال: ما أعرفه. قال: أما تعرف علي بن أبي طالب؟ قال: بلى. قال: فذاك أبو تراب. قال: كلا، ذاك أبو الحسن والحسين. فقال له صاحب شرطته: يقول لك الأمير: هو أبو تراب، وتقول أنت لا؟! قال: وإن كذب الأمير، أريد أن أكذب. أو أشهد له على باطل كما شهد؟! قال له زياد: وهذا أيضاً مع ذنبك علي بالعصا، فأُتي بها وقال: ما قولك في علي؟ قال: أحسن قول أنا قائله في عبد من عباد الله المؤمنين. قال: اضربوا عاتقه بالعصا حتى يلصق بالأرض، فضربوه حتى لصق بالأرض ثم قال: أقلعوا عنه. إيه، ما قولك في علي؟ قال: والله لو شرحتني بالمواسي والمُدى ما قلت في علي إلا ما سمعتَ مني. قال: أتلعنَنَّه أو لأضربن عنقك؟ قال: إذن تضربها والله قبل ذلك، فإن أبيت إلا أن تضربها رضيت بالله، وشقيت أنت. قال: ادفعوا في رقبته. ثم قال: أوقِروه حديداً وألقُوه في السجن.
قتل صيفي في سنة إحدى وخمسين مع حجر بن عدي، ومحرز بن شهاب، وقبيصة بن حرملة، وقيل: في سنة ثلاث وخمسين.
أسماء الرجال على(11/125)
حرف الضاد المعجمة
الضحاك بن أحمد بن الضحاك
ابن محمد بن عبد الجبار. أبو العشائر المقرىء الخولاني حدث بدمشق عن عبد الله بن علي بن عبد الرحمن الأزدي بسنده عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أفطر يوماً من رمضان من غير علة فعليه صوم شهر ".
الضحاك بن زمل بن عبد الرحمن
ويقال: ابن زمل بن عبد الله ويقال: ابن زمل بن عمرو السكسكي من أهل بيت لهيا، من قرى دمشق.
حدث عن أبي أسماء السكسكي عن عمرو بن مرّة الجُهَني قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كذب علي معتمداً فليتبوأ مقعده من النار ".
قال الضحاك بن زمل: إن معاوية قال لزياد: ما بلغ من سياستك يا أبا المغيرة؟ قال: أقمتُهم بعد جَنَف، وكففتهم عما لا يُعرف بما يعرف، فأذعن المعاند عن الحقّ رغبة، وخضع المبتدع رهبة. قال: وبِم صيَّرتهم إلى ذلك؟ قال: بالمرهَفات القواضب، أمضيتها بالعزم، يتبعه الحزم. قال: لكني ضبطت ملكي بالحلم عند انبراء القوي الألدّ مع توددي إلى العامة، وأداء حقوقهم، وتعقيب بعوثهم، فسلمت لي الصدور عفواً، وانقادت الإحنة طوعاً. فأنا أسْوَس منك. قال: صدقت.(11/126)
قال الضحاك بن زمل: شهدت سليمان بن عبد الملك وهو يعرض الخيل بدابق، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إن " أبينا " هلك، وعمد " أخانا " فأخذ " مالُنا " فقال: لا رحم الله أباك، ولا آجر أخاك، ولا ردّ عليك مالك. يا غلام، السوط. قال: فأول سوط ضُرب قال: بُسْم الله. قال: دعوا عدوّ الله، لو كان تاركاً اللحن في وقت لتركه الآن.
قال الضحاك بن زمل ليزيد بن عبد الملك: " الطويل "
حليمٌ إذا ما نالَ عاقبَ مُجملاً ... أشدّ العقابِ وعفا لم يثرّبِ
فعفواً أمير المؤمنين وحسبةً ... فما تحتسبْ من صالحٍ لكَ يُكتبِ
أساؤوا فأن تعفُ فإنك قادرٌ ... وأفضلُ حلمٍ حسبةً حلمُ مغضَبِ
وقيل: هذه الأبيات لكثرة عزة.
قال خليفة العصفري: لما أدخلوا آل المهلب بن أبي صفرة على يزيد بن عبد الملك قام كُثَيِّر بن أبي جمعة الذي يُقال له كثير عزة، فقال: حليم إذا ما نال عاقب مجملاً الأبيات. وأردفها:
نفتهم قريشٌ عن محلةِ واسط ... وذو يَمنٍ بالمشرفيّ المشطَّب
فقال يزيد: أطّت بك الرحم. ولا سبيل إلى ذلك. من كان له قبل آل المهلب دم فليقم. ودفعهم إليهم حتى قُتل نحو من ثمانين.(11/127)
الضحاك بن عبد الله
أبو محمد - وقيل: أبو شيبة - الهنديّ مولى أبي منصور المطرّز الهروي. قدم دمشق، وحدث بها وبصور.
حدث عن علي بن محمد الطرازي بسنده عن حكيم بن حزام قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اليد العليا خير من اليد السفلى. وابدأ بمن تَعُول.
وفي رواية أخرى، وزاد: وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفّ يُعفهّ الله، ومن استغنى أغناه الله.
الضحاك بن عبد الرحمن
ابن أبي حوشب
ويقال: ابن حوشب بن أبي حوشب - أبو زرعة - ويقال: أبو بشر - النصري حدث عن القاسم بن مُخَيمرة قال: تعلُّم النحو أولُه شُغل وآخره بغي.
وحدث عن بلال بن سعد أنه قال في موعظته: عبادّ الرحمن؛ لو سلمتم من الخطايا فلم تعملوا فيما بينكم وبين الله خطيئة، ولم تتركوا لله طاعةً إلا جهدتم أنفسكم في أدائها إلا حُبّكم الدنيا لوسِعكم ذلك شراً لا أن يتجاوز الله ويعفو.
كان الضحاك ثقة.(11/128)
الضحاك بن عبد الرحمن بن عزرب
ويقال: عَزوم أبو عبد الرحمن الأشعري من أهل الأردن. استعمله عمر بن عبد العزيز على دمشق. ومات عمر بن عبد العزيز وهو والٍ عليها. وكان من خير الولاة.
حدث عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن أول ما يَسأل الله عنه العبدَ يوم القيامة من النعيم أن يُقال له: ألم نصحّ جسمك ونَروِك من الماء البارد؟ ".
الضحاك بن فيروز الديلمي
حدث عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، إني أسلمت وعندي أُختان، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طلّق أيّتهما شئت.
الضحاك بن قيس بن خالد الأكبر
ابن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان ابن محارب بن فهر بن مالك، أبو أنيس - ويقال: أبو أمية - ويقال: أبو عبد الرحمن - ويقال: أبو سعيد - القرشي الفهري له صحبة، حدث عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقال: إنه لا صحبة له. شهد فتح دمشق، وسكنها إلى آخر عمره. وشهد صفين مع معاوية. وكان على أهل دمشق، وهم القلب. وغلب على دمشق، ودعا إلى بيعة ابن الزبير. ثم دعا إلى نفسه.
حدث معاوية بن أبي سفيان - وهو على المنبر - قال: حدثني الضحاك بن قيس - وهو عدل على نفسه - أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يزال والٍ من قريش ".(11/129)
وفي رواية: " لا يزال على الناس والٍ من قريش ".
إن الله تبارك وتعالى يقول: أنا خير شريك. فمن أشرك معي شيئاً فهو لشريكي. يا أيها الناس، اخلصوا أعمالكم لله تعالى. فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له. ولا تقولوا: هذا لله وللرحم.
وفي حديث بمعناه: فإذا أحدكم أعطى أعطية، أو عفا عن مظلمة، أو وصل رحمه فلا يقولون: هذا لله، بلسانه. ولكن يعلم بقلبه.
وعن الضحاك بن قيس قال: كانت أم عطية خافضة بالمدينة. فقال لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا خفضتِ فلا تَنهَكي، فإنه أحظى للزوج، وأسرى للوَجْه ".
وعن الحسن أن الضحاك بن قيس كتب إلى قيس بن الهيثم حين مات يزيد بن معاوية: سلام عليك. أما بعد. فأني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، فتناً كقطع الدخان، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه. يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ويصبح كافراً. يبيع أقوام خلاقهم ودينهم بعرض من الدنيا قليل. وإن يزيد بن معاوية قد مات، وأنتم إخواننا وأشقاؤنا، فلا تسبقونا حتى نحتال لأنفسنا.
كان الضحاك مع معاوية، فولاه الكوفة، وهو الذي صلى على معاوية، وقام(11/130)
بخلافته حتى قدم يزيد بن معاوية. وكان قد دعا لابن الزبير، وبايع له. ثم دعا إلى نفسه فقتله مروان بن الحكم يوم مرج راهط سنة خمس أو أربع وستين. وكان على شرط معاوية، وفي بيت أخته فاطمة بنت قيس اجتماع أهل الشورى، وخطبوا خطبهم المأثورة، وكانت امرأة نجوداً. والنَجود: النبيلة.
وأم الضحاك أميمة بنت ربيع بن حِذْيَم بن عامر بن مَبْذول بن الأحمر بن الحارث بن عبد مناة بن كنانة.
ولد الضحاك قبل وفاة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بست أو نحوها.
وفاطمة بنت قيس أخت الضحاك، وكانت أكبر منه بعشر سنين.
وعن معمر أن الضحاك بن قيس أمر غلاماً قبل أن يحتلم فصلى بالناس، فقيل له: أفلعت ذلك؟! قال الضحاك: إن معه من القرآن ما ليس معي. فإنما قدمت القرآن.
قال معمر: وبلغني أن غلاماً في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي ولم يحتلم، وكان أكثرهم قرآناً.
كان الضحاك بن قيس على الكوفة، فخطب قاعداً، فقام كعب بن عجرة فقال: لم أر كاليوم قط إمام قومٍ مسلمين يخطب قاعداً! وعن الضحاك أنه سجد في " ص " في الخطبة، وعلقمة وأصحاب عبد الله وراءه فلم يَسجُدوا.
وعن الضحاك بن قيس
أنه كان على دمشق، فجاءه المؤذن فسلم عليه، وقال له المؤذن: إني لأحبك لله عزّ وجلّ، فقال له الضحاك: ولكني أبغضك لله. قال: ولم تبغضني أصلحك الله؟! فقال: لأنك تتزاهى بتأذيتك، وتأخذ أجراً على تعليمك. وكان معلم كتاب.(11/131)
لما مات معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان اختلف الناس بالشام. فكان أول من خالف من أمراء الأجناد النعمان بن بشير بحمص. دعا إلى ابن الزبير، ودعا زُفر بن الحارث بقنسرين لابن الزبير، ودعا الضحاك بن قيس الفهري بدمشق إلى ابن الزبير سراً لمكان من بها من بني أمية وكلب. وبلغ حسان بن مالك بن بحدل ذلك وهو بفلسطين. وكان هواه في خالد بن يزيد، فأمسك، وكتب إلى الضحاك بن قيس كتاباً يعظّم فيه حق بني أمية وبلاءهم عنده، ويذم ابن الزبير، ويذكر خلافه ومفارقته الجماعة، ويدعوا إلى أن يبايع إلى الرجل من بني حرب. وبعث بالكتاب إليه مع ناغضة بن كريب الطابخي، وأعطاه نسخة الكتاب وقال: إن قرأ الضحاك كتابي على الناس، وإلا فاقرأه أنت، وكتب إلى بني أمية يعلمهم ما كتب به إلى الضحاك، وما أمر به ناغضة، ويأمرهم أن يحضروا ذلك. فلم يقرأ الضحاك كتاب حسان، فكان في ذلك اختلاف وكلام، فسكّتهم خالد بن يزيد، ونزل الضحاك فدخل الدار. فمكثوا أياماً، ثم خرج الضحاك ذات " يوم " فصلى بالناس صلاة الصبح، ثم ذكر يزيد بن معاوية فشتمه، فقام إليه رجل من كلب فضربه بعصاً، واقتتل الناس بالسيوف، ودخل الضحاك دار الإمارة، فلم يخرج، وافترق الناس ثلاث فرق: فرقة زبيرية، وفرقة بَحْدلية - هواهم لبني حرب - والباقون لا يبالون لمن كان الأمر من بني أمية. وأرادوا الوليد بن عتبة بن أبي سفيان على البيعة له. فأبى، وهلك تلك الليالي. فأرسل الضحاك بين قيس إلى بني أمية فأتاه مروان بن الحكم وعمرو بن سعيد وخالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية فاعتذر إليهم، وذكر حسن بلائهم عنده، وأنه لم يُرِد شيئاً يكرهونه، وقال: اكتبوا إلى حسان بن مالك بن بحدل حتى ينزل الجابية، ثم نسير إليه فنستخلف رجلاً منكم، فكتبوا إلى حسان، فنزل الجابية، وخرج الضحاك بن قيس وبنوا أمية يريدون الجابية. فلما استقلت الرايات موجهة قال معن بن ثور السلمي ومن معه من قيس دعوتنا إلى بيعة رجل أحزم الناس رأياً وفضلاً وبأساً. فلما أجبناك خرجت إلى هذا الأعرابي(11/132)
من كلب تبايع لابن أخته! قال: فتقولون ماذا؟ قالوا: نصرف الرايات، وننزل فنُظهر البيعة لابن الزبير، ففعل. وبايعه الناس. وبلغ ابن الزبير فكتب إلى الضحاك بعهده على الشام، وأخرج من كان بمكة من بني أمية. وكتب إلى من بالمدينة بإخراج من بها من بني أمية إلى الشام. وكتب الضحاك إلى أمراء الأجناد ممن دعا إلى ابن الزبير فأتوه.
فلما رأى ذلك مروان خرج يريد ابن الزبيل ليبايع له ويأخذ منه أماناً لبني أمية، وخرج معه عمرو بن سعيد، فلقيهم عبيد الله بن زياد بأذرعات مقبلاً من العراق، فأخبروه بما أرادوا، فقال لمروان: سبحان الله، أرضيت لنفسك بهذا؟ تبايع لأبي خُبيب وأنت سيد قريش، وشيخ بني عبد مناف؟؟ والله لأنت أولى بها منه. فقال له مروان: فما الرأي؟ قال: الرأي أن ترجع وتدعو إلى نفسك، وأنا أكفيك قريشاً ومواليها، فلا يخالفك منهم أحد. فرجع مروان وعمرو بن سعيد، وقدم عبيد الله بن زياد دمشق فنزل بباب الفراديس، فكان يركب إلى الضحاك كل يوم فيسلم عليه، ثم يرجع إلى منزله. فعرض له يوماً في مسيره رجل فطعنه بحربة في ظهره وعليه الدرع، فأثبت الحربة، فرجع عبيد الله إلى منزله. وأمام ولم يركب إلى الضحاك. فأتاه الضحاك إلى منزله، فاعتذر إليه. وأتاه بالرجل الذي طعنه فعفا عنه عبيد الله، وقَبل من الضحاك، وعاد عبيد الله يركب إلى الضحاك في كل يوم، فقال له يوماً: يا أبا أُنيس، العجب لك - وأنت شيخ قريش - تدعو لابن الزبير وتدع نفسك، وأنت أرضى عند الناس منه، لأنك لم تزل متمسكاً بالطاعة والجماعة، وابن الزبير مشاقً، مفارق، مخالف. فادع إلى نفسك، فدعا إلى نفسه ثلاثة أيام. فقالوا له: أخذت بيعتنا وعهودنا لرجل ثم دعوتنا إلى خلعه من غير حدث أحدثه، والبيعة لك! وامتنعوا عليه. فلما رأى ذلك الضحاك عاد إلى الدعاء إلى ابن الزبير فأفسده ذلك عند الناس، وغير قلوبهم عليه، فقال له عبيد الله بن زياد: من أراد ما تريد لم ينزل المدائن والحصون يتبرّز ويجمع إليه الخيل، فاخرج عن دمشق واضمم إليك الإجناد. وكان ذلك من عبيد الله بن زياد مكيدة له، فخرج الضحاك فنزل المرج، وبقي عبيد الله بدمشق، ومروان وبنوا أمية بتدمر، وخالد(11/133)
وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية بالجابية عند حسان بن مالك بن بحدل. فكتب عبيد الله إلى مروان أن ادعُ الناس إلى بيعتك، ثم سر إلى الضحاك. فقد أصحر لك. فدعا مروان بني أمية فبايعوه، وتزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية، وهي ابنة أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة، واجتمع الناس على بيعة مروان فبايعوه. وخرج عبيد الله حتى نزل المرج، وكتب إلى مروان، فأقبل في خمسة آلاف، وأقبل عبيد الله بن زياد من حُوّارين في ألفين من مواليه وغيرهم من كلب، ويزيد بن أبي النمس بدمشق قد أخرج عامل الضحاك منها. وأمدّ مروان بسلاح ورجال. وكتب الضحاك إلى أمراء الأجناد، فقدم عليه زفر بن الحارث الكلابي من قنّسرين، وأمده النعمان بن بشير الأنصاري بشرحبيل بن ذي الكلاع في أهل حمص، فتوافوا عند الضحاك بالمرج. فكان الضحاك في ثلاثين ألفاً، ومروان في ثلاثة عشر ألفاً، أكثرهم رجَالة. ولم يكن في عسكر مروان غير ثمانين عتيقاً: أربعون منها لعباد بن زياد، وأربعون لسائر الناس. فأقاموا بالمرج عشرين يوماً، يلتقون في كل يوم، ويقتتلون. فقال عبيد الله بن زياد يوماً لمروان: إنك على حق، وابن الزبير ومن دعا إليه على باطل، وهم أكثر منك عدداً وعدة، ومع الضحاك فرسان قيس، فأنت لا تنال منهم ما تريد إلا بمكيدة، فكِدهم، فقد أحلّ الله ذلك لأهل الحق. والحرب خدعة، فادعُهم إلى الموادعة ووضع الحرب حتى تنظر. فإذا أمنوا وكفّوا عن القتال فكُرّ عليهم. فأرسل مروان إلى الضحاك يدعوه إلى الموادعة ووضع الحرب حتى ينظر، فأصبح الضحاك والقيسية فأمسكوا عن القتال، وهم يطمعون أن مروان يبايع لابن الزبير، وقد اعد مروان اصحابه. فلم يشعر الضحاك وأصحابه إلا بالخيل قد شدت عليهم، ففزع الناس إلى راياتهم وقد غشوهم وهم على غير عدة، فنادى الناس: يا أبا أُنيس، أعجزاً بعد كيس، فقال الضحاك: نعم أنا أبو أُنيس، عجز لعمري بعد كيس، فاقتتلوا، ولزم الناس راياتهم، وصبروا وصبر الضحاك، فترجّل مروان وقال: قبح الله مَن يُولِّيهم اليوم ظهره، حتى يكون الأمر لإحدى الطائفتين، فقتل(11/134)
الضحاك بن قيس - قتله رجل من كلب، يقال له زحمة بن عبيد الله - وصبرت قيس عند راياتها، يقاتلون عندها. فنظر رجل من بني عقيل إلى ما تلقى قيس عند راياتها من القتل فقال: اللهم، العنها من رايات، واعترضها بسفيه فجعل يقطعها، فإذا سقطت الراية تفرق أهلها. ثم انهزم الناس فنادى منادي مروان: لا تتبعوا مولياً. فأمسك عنهم. وقتلت قيس بمرج راهط مَقتلة لم يُقتله في موطن قط. وكانت
وقعة مرج راهط في نصف ذي الحجة سنة أربعة وستين. مرج راهط في نصف ذي الحجة سنة أربعة وستين.
ولما بلغ ابن الزبير قتلُ مروان الضحاكّ بمرج راهط قام خطيباً فقال: إن ثعلب بن ثعلب حفر بالصَّحْصَحة فأخطأت استه الحفرة. والَهْف أمٍ لم تلدني على رجل من محارب كان يرعى في جبال مكة. فيأتي بالضربة من اللبن فيتبعها بالقبضة من الدقيق، فيرى ذلك سداداً من عيش، ثم أنشأ يطلب الخلافة ووراثة النبوة.
الضحاك
ويقال: صخر بن قيس بن معاوية بن حصين وهو مُقاعس بن عبادة بن النّزّال بن عمرة بن عُبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم أبو بحر التميمي أدرك عصر سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا له. ولم يره: وشهد صفين مع علي عليه السلام أميراً. وقدم دمشق، ورأى بها أبا ذر، رضي الله عنه، وقدم على معاوية في خلافته أيضاً. وهو المعروف بالأحنف. وكان سيد أهل البصرة.(11/135)
حدث الأحنف بن قيس عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ألا هلك المتنطعون: قالها ثلاث مرات.
وفي رواية: ألا هلك المتكبرون. قالها ثلاثاً.
قال الأحنف بن قيس: دخلت مسجد دمشق فإذا أنا برجل يصلي يكثر الركوع والسجود، فقلت: لا أنتهي حتى أنظر أيدري على شفع ينصرف أو على وتر؟ فلما انصرف قلت له: أتدري على شفع تنصرف أم على وتر؟ قال: إن لم أدر فإن الله هو يدري. حدثني خليلي أبو القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بكى، ثم قال: حدثني خليلي أبو القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بكى، ثم قال: حدثني خليل أبو القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بكى قال: ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحطّ عنه بها سيئة، فتقاصرت إلى نفسي فإذا هو أبو ذر.
وقد روي أن ذلك كان في مسجد حمص. وقد روي أن ذلك في مسجد بيت المقدس، وفيه زيادة: رفعه الله بها درجة وحطّ عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة.
وكان الأحنف صديقاً لمصعب بن الزبير، فوفد عليه بالكوفة، ومصعب بن الزبير يومئذ والٍ عليها، فتوفي الأحنف عنده بالكوفة، فرُئي مصعب في جنازته يمشي بغير رداء سنة سبع وستين. وقيل سنة اثنتين وسبعين. وصلى عليه مصعب.
وكانت أم الأحنف امرأة من باهلة يقال لها حبّة بنت ثعلبة بن قرط بن قرواش.
وكان الأحنف أحنف الرجلين جميعاً، ولم يكن له إلا بيضة واحدة. وكانت أمه ترقّصه وتقول: الرجز
والله لولا حنَفٌ برجلِهِ ... وقلةٌ أخافُها من نسلِهِ
ما كان في فتيانكم من مثلهِ(11/136)
وقد اختلف في اسمه، فقيل: الضحاك، وقيل صخر، وقيل: الحارث، وقيل: حصين. ووفد إلى عمر بن الخطاب. وهو الذي افتتح مَرْوُروّد.
حدث الأحنف قال: بينما أنا أطوف بالبيت في زمن عثمان إذ لقيني رجل من بني ليث، فأخذ بيدي فقال: ألا أبشرك؟ قلت: بلى. قال: أتذكر إذ بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساعياً إلى بني سعد؟ فسألوني عن الإسلام، فجعلت أخبرهم وأدعوهم إلى الإسلام، فقلت: إنك تدعو إلى خير، وما أسمع إلا حسناً، فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: اللهم، اغفر للأحنف. فكان الأحنف يقول: فما شيء أرجى عندي من ذلك. يعني: دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وحدث الأحنف أنه قدم على عمر بن الخطاب بفتح تُستَر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله قد فتح عليك تُستر، وهي من أرض البصرة. فقال رجل من المهاجرين: يا أمير المؤمنين، إن هذا - يعني الأحنف بن قيس - الذي كفّ عنا بني مُرّة حين بعثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صدقاتهم، وقد كانوا هّموا بنا. قال الأحنف: فحبسني عمر عنده بالمدينة سنة، يأتيني في كل يوم وليلة، فلا يأتيه عني إلا ما يحبّ. فلما كان رأس السنة دعاني، فقال: يا أحنف: هل تدري لمَ حبستك عندي؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين، فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حذّرنا كل منافق، فخشيت أن تكون منهم. فاحمدِ الله يا أحنف.
وفي حدث مختصر بمعناه: فقال: يا أحنف، إني قد بلوتك وخبرتك، فرأيت علانيتك حسنة، وأنا أرجو أن تكون سريرتك على مثل علانيتك، وإن كنا نتحدث، إنما يُهلِك هذه الأمة كل منافق عليم.
قال أحمد بن صالح:
الأحنف بن قيس بصري، تابعي، ثقة. وكان سيد قومه. وكان أعور، أحنف، دميماً، قصراً كَوسجاً، له بيضة واحدة. قال له عمر: ويحك يا أحنف، لما رأيتك(11/137)
ازدريتك: فلما نطقت فقلت: لعله منافق، صَنَع اللسان. فلما اختبرتك حمدتك ولذلك حبستك. حبسه سنة يختبره. فقال عمر: هذا والله السيّد.
وقال له عمر: كنت أخشى أن تكون منافقاً عالما. وأرجوا أن تكون مؤمناً، فانحدر إلى مصرك.
قال عبد الله بن عبيد: ابتاع الأحنف ثوبين بصريَين: ثوباً بستة عشر، والآخر باثني عشر، فقطعهما قميصين فجعل يلبس الذي أخذه بستة عشر في الطريق، حتى إذا قدم المدينة خلعه ولبس الذي أخذه باثني عشر. فدخل على عمر، فجعل يسائله، وينظر إلى قميصه ويمسحه، ويقول: يا أحنف، بكم أخذت قميصك هذا؟ قال: أخذته باثني عشر درهماً. قال: ويحك! ألا كان بستة، وكان فضله فيما تعلم؟ قال الأحنف بن قيس: ما كذبت منذ أسلمت لا مرة واحدة: كان عمر سألني عن ثوب: بكم أخذته؟ فأسقطت ثلث الثمن.
قال الشعبي: وفد أبو موسى وفداً من أهل البصرة إلى عمر بن الخطاب فيهم الأحنف بن قيس. فلما قدموا على عمر تكلَّم كل رجل منهم في خاصَّة نفسه، وكان الأحنف في آخر القوم، فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: أما بعد. يا أمير المؤمنين، فإن أهل مصر نزلوا منازل فرعون وأصحابه، وإن أهل الشام نزلوا منازل قيصر، وإن أهل الكوفة نزلوا منازل كسرى ومصانعه في الأنهار العذبة والجنان المخصبة، وفي مثل عين البعير، وكالحوار في السَّلى. تأتيهم ثمارهم قبل أن تبلُغ، وإن أهل البصرة نزلوا في(11/138)
سَبَخة زَعِقة نشَّاشة، لا يجف ثراها، ولا ينبُت مرعاها، طرفها في بحر أُجاج، والطرف الآخر في الفلاة، لا يأتينا شيء إلا في مثل مريء النعامة، فارفع خسيستنا، وأَنعش وكيستنا وزِد في عيالنا عيالاً، وفي رجالنا رجالاً، وأصقِر درهمنا وأكثِر قَفيزنا، ومُر لنا بنهر نستعذب منه الماء. فقال عمر: عجزتم أن تكونوا مثل هذا؟! هذا والله السيّد. فما زلت أسمعها بعد.
وكان أبو موسى حين قدم على عمر فسأله عما كان رفع إليه من أمره أحب أن يبحث عنه، فلم يقم أحد يكفيه الكلام، فقام الأحنف بن قيس وكان من أشبههم فقال: يا أمير المؤمنين، صاحبك مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواطن الحق، وعاملك ولم نر منه إلا خيراً، وإنا أناس بين سبَخَة وبين بحر أجاج، لا يأتينا طعامنا إلا في مثل حلقوم النعامة. فأعد لنا قفيزنا ودرهمنا، فأعجب منه ذلك عمر وأعرض عنه لحداثة سنّه، فقال له: اجلس يا أحنف، وكان برجله حَنف، فلذلك سماه الأحنف، فغلب لقبه على اسمه، فعرض عمر على الأحنف الجائزة، فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما قطعنا الفلوات، ودأبنا الروحات العشيات للجوائز! وما حاجتي إلا حاجة من خلّفت، فزاده ذلك عند عمر خيراً. فرد عمر أبا موسى ومن معه. وحبَس الأحنف عنده سنة، وجعل عليه عيوناً، فلم يسمع إلا خيراً، فدعا به فقال: يا أحنف، إنك قد أعجبتني، وإنما حبستك لأعلم علمك، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: احذروا النافق العالم، وأشفقت عليك منه، فوجدتك بريئاً مما تخوفت عليك، فسرّحه، وأحسن جائزته. ثم قدم على أبي موسى، فعرف ما كان منه إليه، فلم يزل للأحنف شرفٌ يعرف حتى خرج من الدنيا.
قال ابن سيرين: بعث عمر بن الخطاب الأحنف بن قيس على جيش قِبَل خراسان فبيتهم العدو(11/139)
وفرقوا جيوشهم، وكان الأحنف معهم، ففزع الناس، فكان أول من ركب الأحنف ومضى نحو الصوت وهو يقول: " الرجز "
إنَّ على كلّ رئيسٍ حقّا ... أن يخضِب الصَّعدة أو تندقّا
ثم حمل على صاحب الطبل فقتله، وانهزم العدو، فتقلوهم وغنموا، وفتحوا مدينة يقال لها: مَرْوُروذ. قالوا: ثم سار الأحنف بن قيس بن مروروذ إلى بلخ فصالحوه على أربع مئة ألف. ثم أتى خوارزم ولم يُطقها فرجع.
كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد. فائذن للأحنف بن قيس، وشاوره، واسمع منه.
قيل للأحنف بن قيس: من أين أُوتيت ما أوتيت من الحلم والوقار؟ قال: بكلمات سمعتهن من عمر بن الخطاب. سمعت عمر يقول: يا أحنف، من مَزح استُخف به، ومن ضحك قلّت هيبته، ومن أكثر من شيء عُرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه.
قال الحسن: ما رأيت شريف قوم كان أفضل من الأحنف.
ذكر عمرُ بني تميم فذمهم، فقال الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين، ائذن لي فلأتكلم. قال: تكلم. قال: إنك ذكرت بني تميم فعممتهم بالذم، وإنما هم من الناس، فيهم الصالح والطالح، فقال: صدقت، وقفّى بقولٍ حسن، فقام الحُتات - وكان يناوئه - فقال: يا أمير المؤمنين، ائذن لي فلأتكلم. قال: أجلس، فقد كفاكم سيدكم الأحنف.
قال سفيان: ما وُزن عقل الأحنف بعقل أحد إلا وزنه.
قيل للأحنف بن قيس: بأي شيء سوّدك قومك؟ قال: لو عاب الناس الماء لم أشربه.(11/140)
قال مالك بن مسمع للأحنف بن قيس: يا أبا بحر، ما أنتفع بالشاهد إذا غبت، ولا افتقد غائباً إذا شهدت. فكأن البحتري ألّم بهذا المعنى فقال: " الطويل "
رحلتَ فلم نفرح بأوبة آيبِ ... وأُبتَ فلم نجزع لغيبة غائبِ
قدمتَ فأقدمت النهى يَحملُ الرضى ... إلى كلّ غضبان على الدهر عاتبِ
فعادت بك الأيامُ زُهراً كأنما ... جلا الدهرُ منها عن خدود الكواعبِ
قال خالد بن صفوان: كان الأحنف بن قيس يفرُّ من الشرف، والشرف يتبعه.
وعن خالد بن صفوان أنه كان بالرصافة عند هشام بن عبد الملك فقدم العباس بن الوليد بن عبد الملك، فغشيه الناس، فكان خالد فيمن أتاه، وكان العباس يصوم الاثنين والخميس. قال خالد: فدخلت عليه في يوم خميس فقال لي: يا بن الأهتم، خبرني عن تسويدكم للأحنف، وانقيادكم له، وكنتم حياً لم تملكوا في جاهلية قط. فقلت له: إن شئت أخبرتك عنه بخصلة لها سُوِّد، وإن شئت بثنتين، وإن شئت بثلاث، وإن شئت حدثتك عنه بقية عشيتك حتى تنقضي، ولم تشعر بصومك. قال: هات الأولى، فإن اكتفينا وإلا سألناك. قال: فقلت: كان أعظمّ من رأينا وسمعنا - ثم أدركني ذهني فقلت: غير الخلفاء - سلطاناً على نفسه في ما أراد حملها عليه، وكفّها عنه. قال: لقد ذكرتها نجلاء كافية. فما الثانية؟ قلت: قد يكون الرجل عظيم السلطان على نفسه، ولا يكون بصيرا بالمحاسن والمساوىء ولم يرَ ولم يسمع بأحد أبصر بالمحاسن والمساوىء منه، فلا يَحمل السلطنة إلا على حسن، ولا يكفها إلى عن قبيح. قال: قد جئت بصلة الأولى لا يصلح إلا بها. فما الثالثة؟ قلت: قد يكون الرجل عظيم السلطان على نفسه بصيراً بالمحاسن والمساوىء، ولا يكون حظيظاً، فلا يفشو له ذلك في الناس، فلا يذكر به، فيكون عند الناس مشهوراً. قال: وأبيك، لقد جئت بصلة الأوليين، فما بقية ما يقطع عني العشي؟ قلت: أيامه السالفة. قال: وما أيامه السالفة؟ قلت: يوم فتح خراسان: اجتمعت إليه جموع(11/141)
الأعاجم بمر والرُّوذ فجاء ما لا قِبَل له به، وهو في منزل بمضيعة وقد بلغ الأمر به. فصلى عشاء الآخرة، ودعا ربه، وتضرَّع إليه أن يوفقه ثم خرج يمشي في العسكر مشي المكروب، يتسمع ما يقول الناس، فمرّ بعبد يعجن وهو يقول لصاحب له: أتعجب لأميرنا، يقيم بالمسلمين في منزل مضيعة، وقد جاءه العدو من وجوه. وقد أطافوا بالمسلمين من نواحيهم، ثم اتخذوهم أغراضاً، وله متحوَّل، فجعل الأحنف يقول: اللهم وفّق، اللهم سدّد، فقال العبد للعبد: فما الحيلة؟ قال: أن يُنادي الساعة بالرحيل، فإنما بينه وبين الغيضة فرسخ، فيجعلها خلف ظهره فيمنعه الله بها، فإذا امتنع ظهره بها بعث بمُجَنبتيه اليمنى واليسرى فيمنع الله بهما ناحيتيه ويلقى عدوه من جانب واحد. فخرّ الأحنف ساجداً ثم نادى بالرحيل مكانه، فارتحل المسلمون مكبين على رايتهم، حتى أتى الغيضة، فنزل في قَبَلها، وأصبح فأتاه العدو، فلم يجدوا إليه سبيلاً إلا من وجه واحد وضربوا بطبول أربعة، فركب الأحنف، وأخذ الراية، وحمل بنفسه على طبل ففتقه وقتل صاحبه، وهو يقول:
إن على كلّ رئيس حقّا ... أن يخضِب الصَّعدة أو تندقّا
ففتق الطبول الأربعة، وقتل حملتها. فلما فقد الأعاجم أصوات طبولهم انهزموا، فركب المسلمون أكتافهم، فقتلوهم قتلاً لم يقتلوا مثله قط. وكان الفتح.
واليوم الثاني أن علياً لما ظهر على أهل البصرة يوم الجمل أتاه الأشتر وأهل الكوفة بعدما اطمأن به المنزل، وأثخن في القتل، فقالوا: أعطنا، إن كنا قاتلنا أهل البصرة حين قاتلناهم وهم مؤمنين فقد ركبنا حوباً كبيراً، وإن كنا قاتلناهم كفاراً وظهرنا عليهم عنوة فقد حلّت لنا غنيمة أموالهم وسبي ذراريهم، وذلك حكم الله تعالى وحكم نبيّه في الكفار إذا ظهر عليهم. فقال علي: إنه لا حاجة بكم أن تهيجوا حرب إخوانكم، وسأرسل إلى رجل منهم فأستطلع برأيهم وحجتهم فيما قلتم، فأرسل إلى الأحنف بن قيس في رهط، فأخبرهم بما قال أهل الكوفة. فلم ينطق أحد غير الأحنف، فإنه قال: يا أمير المؤمنين، لماذا أرسلت إلينا؟! فوالله إن الجواب عنا لعندك، ولا نتبع الحق إلا بك، ولا علمنا العلم(11/142)
إلا منك. قال: أحببت أن يكون الجواب عنكم منكم ليكون أثبت للحجة، وأقطع للتهمة فقل. فقال: إنهم قد أخطؤوا وخالفوا كتاب الله وسنّة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كان السبي والغنيمة على الكفار الذين دارهم دار الكفر. والكفر لهم جامع، ولذراريهم. ولسنا كذلك. وإنها دار إيمان يُنادى فيها بالتوحيد وشهادة الحق وإقام الصلاة. وإنما بغت طائفة أسماؤهم معلومة، أسماء أهل البغي، والثانية حجتنا أنا لم نستجمع على ذلك البغي، فإنه قد كان من أنصارك من أثبتهم بصيرة في حقك، وأعظمهم غناء عنك، طائفة من أهل البصرة، فأي أولئك يجهل حقه وينسى قرابته؟ إن هذا الذي أتاك به الأشتر وأصحابه قولُ متغلمة أهل الكوفة، وأيم الله، لئن تعرضوا لها لتكرهُنّ عاقبتها، ولا تكون الآخرة كالأولى. فقال علي: ما قلت إلا ما تعرف. فهل من شيء تخصون به إخوانكم بما قاسوا من الحرب؟ قال: نعم، أعطياتنا في بيت المال. ولم تك لتصرفها في عدلك عنا. فقد طبنا عنها نفساً في هذا العام، فاقسمها فيهم. فدعاهم علي، فأخبرهم بحجج القوم، وما قالوا، وبموافقتهم إياه. ثم قسم المال بينهم: خمسمئة لكل رجل. فهذا اليوم الثاني.
وأما اليوم الثالث فإن زياداً أرسل إليه بليلٍ وهو جالس على كرسي في صحن داره، فقال: يا أبا بحر، ما أرسلت إليك في أمر تنازعني فيه مخلوجة، ولكني أرسلت إليك وأنا على صريمة، فكرهت أن يروعك أمر يحدث ولا تعلمه. قال: فما هو؟ قال: هذه الحمراء قد كثرت بين أظهر المسلمين، وكثر عددهم، وخفّت عدوتهم، والمسلمون في ثغرهم وجهادهم عدوَّهم، وقد خلفوهم في نسائم وحرمهم، فأردت أن أرسل إلى كل من كان في عرافة من المقاتلة فيأتوا بسلاحهم، ويأتيني كل عريف بمن في عرافته من عبد أو مولى فأضرب رقابهم فتؤمن ناحيتهم. قال الأحنف: ففيم القول وأنت على صريمة؟ قال: لتقولن. قال: فإن ذلك ليس لك. يمنعك من ذلك خصال ثلاث: أما الأولى فحكم الله عزّ وجلّ في كتاب عن الله، وما قتل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الناس مَن قال: لا إله إلا الله وشهد أن محمداً رسول الله، بل حقن دمه. والثانية أنهم غلة الناس، لم يغز غازٍ فخلف لأهل ما يصلحهم إلا من غلاتهم، وليس لك أن تحرمهم. وأما الثالثة فهم يقيمون أسواق(11/143)
المسلمين، أفتجعل العرب يقيمون أسواقهم قصّابين وقصّارين وحجّامين؟! قال: فوثب عن كرسيه، ولم يُعلمه أنه قَبِل منه، وانصرف الأحنف.
قال: فما بتّ بليلةٍ أطول منها، أتسمّع الأصوات. قال: فلما نادى أول المؤذنين قال لمولى له: ائت المسجد فانظر هل حدث أمر؟ فرجع فقال: صلى الأمير وانصرف، ولم يحدث إلا خير.
كان الأحنف استُعمل على خراسان. فلما أتى فارس أصابته جنابة في ليلة باردة. قال: فلم يوقظ أحداً من غلمانه ولا جنده، وانطلق يطلب الماء. قال: فأتى على شوك وشجر حتى سالت قدماه دماً، فوجد الثلج. قال: فكسره واغتسل. قال: فقام فوجد على ثيابه نعلين محذوتين جديدتين فلبسهما. فلما أصبح أخبر أصحاب. فقالوا: والله ما علمنا بك.
قال مغيرة: شكا ابن أخي الأحنف بن قيس وجعاً بضرسه فقال الأحنب: لقد ذهبت عيني منذ ثلاثين سنة، فما ذكرتها لأحد.
دخل الأحنف بن قيس على معاوية فقال: أنت الشاهر علينا سيفك يوم صفين، والمخذّل عن أم المؤمنين؟! فقال: يا معاوية، لا تردّ الأمور على أدبارها، فإن السيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا، والقلوب التي أبغضناك بها بين جوانحنا، والله لا تمدّ إلينا شبراً من غدر إلا مددنا إليك ذراعاً من خَتْر، ولئن شئت لتستصفَينّ كدر قلوبنا بصفوٍ من عفوك. قال: فإني أفعل.
قال الأحنف: ما نازعني أحد قط إلا أخذت في أمري بثلاث خلال: إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه.(11/144)
قال الأحنف بن قيس: من كانت فيه أربع خصال ساد قومه غير مدافَع: من كان له دِين يحجز، وحسّب يصونه، وعقل يرشده، وحياء يمنعه.
قال الأحنف لرجل سأل: ما الحلم؟ فقال: هو الذلّ تصبر عليه.
قال الأحنف: ليس فضل الحلم أن تُظلّم فتحلُم حتى إذا قدرت انتقمت، ولكنه إذا ظُلمت فحلمت ثم قدرت فعفوت.
قال الأحنف بن قيس: ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة: شريف من دنيء، وبَرّ من فاجر، وحليم من أحمق.
قال الأحنف: ليس لكذوب مروءة، ولا لبخيل حياء، ولا لحاسد راحة، ولا لسيء الخلق سؤدد، ولا لملول وفاء.
قال رجل للأحنف بن قيس: يا أبا بحر، دلّني على أحمدِ أمرٍ عاقبةً، فقال له: خالقِ الناس بخلق حسن، وكُفَّ عن القبيح. ثم قال له: ألا أدلك على أدْوَأ الداء؟ قال: بلى. قال: اكتساب الذم بلا منفعة، واللسان البذيء، والخلق الرديء.
قال الأحنف بن قيس: مَن أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون.
قيل للأحنف: ما المروءة؟ قال: ألا تعمل في السر شيئاً تستحي منه في العلانية.
سأل يزيد بن معاوية الأنف بن قيس عن المروءة فقال الأحنف: التُّقى والاحتمال. ثم أطرق الأحنف ساعة وقال: مجزوء الكامل.
وإذا جميلُ الوجه لم ... يأتِ الجميلَ فما جمالُه؟(11/145)
ما خيرُ أخلاقِ الفَتى ... إلا تُقاه واحتمالُه
فقال يزيد: أحسن يا أبا بحر، وافق البمّ زِيراً، قال الأحنف: ألا قلت: وافق المعنى تفسيراً؟.
قال الأحنف بن قيس: رأس الأدب آلة المنطق، ولا خير في قول إلا بفعل، ولا في منظر إلا بمخبر، ولا في مال إلا بجود، ولا في صديق إلا بوفاء، ولا في فقه إلا بورع، ولا في صدقة إلا بنّية، ولا في حياة إلا بأمن وصحّة.
تذاكر قوم الصمت والكلام، فقال قوم: الصمت أفضل، فقال الأحنف: المنطق أفضل، لأن فضل الصمت لا يعدو صاحبه، والمنطق الحسن ينتفع به مَن سمعه.
قال الأحنف: ثلاث خصال تُجتلب بهن المحبة: الإنصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدة، والانطواء على المودة.
قال الأحنف بن قيس: إن غاصب الدنيا وظالمها أهلها، والمدعي ما ليس له منها على قتلها - وإن كان عالي المكان من سلطانها - لأقلّ منها وأذلّ.
كتب الأحنف إلى صديق له: أما بعد. فإذا قَدِم عليك أخ لك موافق فليكن منك بمنزلة السمع والبصر، فإن الأخ الموافق أفضل من الولد المخالف. ألم تسمع الله يقول لنوح في ابنه: " إنّهَُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غيْرُ صالِحٍ ".
رأى الأحنف في يد رجل درهماً فقال: لمن هذا الدرهم؟ فقال: لي، فقال الأحنف: ليس هو لك حتى تخرجه في أجر أو اكتساب شكر. ثم تمثّل: الرمل(11/146)
أنت للمالِ إذا أمسكتَه ... وإذا أنفقتَ فالمالُ لَكْ
قال الأحنف بن قيس: ما خان شريف، ولا كذب عاقل، ولا اغتاب مؤمن.
قال الأحنف: الرفق والأناة محبوبة إلا في ثلاث: تبادر بالعمل الصالح، وتعجّل إخراج ميتك، وتنكح الكفء أيَمك.
قال الأحنف: لا ينبغي للعاقل أن ينزل بلداً ليس فيه خمس خصال: سلطان قاهر، وقاض عادل، وسوق قائمة، ونهر جار، وطبيب عالم.
قال الأحنف: مِن السؤدد الصبر على الذل، وكفى بالحلم ناصراً.
قال الأحنف بن قيس: جنّبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، فإني أبغض الرجل أن يكون وصّافاً لفرجه وبطنه. وإن من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه.
قال عمر بن الخطاب للأحنف بن قيس: أي الطعام أحبّ إليك؟ قال: الزبد والكمأة، فقال عمر: ما هما بأحبِّ الطعام إليه. ولكنه يُحب خصب المسلمين. يعني أن الزبد والكمأة لا تكونان إلا في سنة الخصب.
قال الأحنف بن قيس:
سمعت خطبة لأبي بكر وعُمر وعثمان وعلي والخلفاء بعد، فما سمعت الكلام مِن في مخلوقٍ أفخم ولا أسن من عائشة أم المؤمنين.
قال عتبة بن صعصعة: رأيت مصعب بن الزبير في جنازة الأحنف متقلداً سيفاً، ليس عليه رداء وهو يقول: ذهب اليوم الحزم والرأي.(11/147)
توفي الأحنف سنة سبع وستين، وقيل: سنة اثنتين وسبعين.
قال عبد الرحمن بن عُمارة بن عقبة بن أبي مُعيط: حضرت جنازة الأحنف بن قيس بالكوفة فكنت فيمن نزل قبره. فلما سوّيته رأيته قد فُسح له مدّ بصري، فأخبرت بذلك أصحاب فلم يَروا ما رأيت.
الضحاك بن مخلد بن الضحاك
ابن مسلم بن رافع بن رُفيع بن الأسود بن عمرو بن رألان بن هلال بن ثعلبة بن شيبان، أبو عاصم الشيباني البصري، المعروف بالنبيل حدث عن حنظلة بن أبي سفيان عن القاسم عن عائشة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يغتسل من جنابة، فيأخذ حفنة لشقّ رأسه الأيمن، ثم يأخذ حفنة لشقّ رأسه الأيسر.
ولد الضحاك سنة إحدى وعشرين. وقيل: سنة اثنتين وعشرين ومئة. وقال: ولد أمي في سنة عشر ومئة، وولدت سنة اثنتين وعشرين ومئة. ومات سنة اثنتي عشرة ومئتين، وهو ابن تسعين وأربعة أشهر.
وسئل أبو عاصم: لمّ سُمِّيت نبيلاً. قال: لتجمُّل ثيابي. وكان كبير الأنف، ثم قال: أخبركم عن نفسي بشيء: تزوجت امرأة فلما بنيت بها عمدت لأقبّلها فمنعني أنفي عن القبلة، فشددت أنفي على وجهها فقالت المرأة: نحِّ ركبتك عن وجهي. قال: فقلت: ليس هذا ركبة إنما هو أنف.
قال موسى بن إسماعيل قال: سمعت أبا عاصم النبيل يقول: ما اغتبت مسلماً منذ علمت أن الله حرّم الغيبة.
وقال عمر بن شبة: سمعت أبا عاصم النبيل يقول: أقلّ حالات المدلّس عندي أن يدخل في حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المتشبّعُ بما لم يُعط كلابس ثوبيّ زور.(11/148)
قال أبو عاصم: من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى الأمور، فيجب أن يكون خير الناس.
قال أبو داود سليمان بن يوسف: كنت مع أبي عاصم النبيل وهو يمشي وعليه طيلسان، فسقط عنه طيلسانه فسوّيته عليه، فالتفت إلي وقال: كل معروف صدقة. فقلت: من ذكره رحمك الله؟ فقال: أخبرنا ابن جُريج عن عطاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة.
قال إبراهيم بن يحيى بن سعيد: رأيت أبا عاصم النبيل في منامي بعد موته فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. ثم قال: كيف حديثي فيكم؟ قلت: إذا قلنا: أبو عاصم فليس أحد يردّ علينا. قال: فسكت عني ثم أقبل علي فقال: إنما يُعطى الناس على قدر نيّاتهم.
الضحاك بن مسافر
مولى سليمان بن عبد الملك حدث عن أبي حنيفة قال: صلّيت إلى جنب أبي حنيفة، فسمعني أتشهد فقال لي: يا شامي، حدثني سليمان بن مهران العمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: علمني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد: التحيات لله والصلوات والطيبات. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلى الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم تدعو بما أحببت.(11/149)
الضحاك بن المنذر بن سَلامة
ابن ذي فائش بن يزيد بن مرّة بن عريب بن مَرْثَد بن يريم الحميري وفد على معاوية ذكر أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهَمْداني المعروف بابن ذي الدمينة في كتاب مفاخر قحطان قال:
ذكروا أن الضحاك بن المنذر الحميري - وكان أبوه وجده ملكين، وكان وسيماً جسيماً. دخل على معاوية بن أبي سفيان، فاستشرفه معاوية حين نظر إليه فقال: ممن الرجل؟ فقال: من فرسان الصّياح، الملاعبين بالرماح، المبارين للرياح، وكان معاوية متكئاً، فاستوى قاعداً، وعجب من قوله وقال: أنت إذان من قريش البطاح. قال: لست منهم، ولولا الكتاب المنزل، والنبي المرسل لكنت عنهم راغباً، ولقديمهم عائباً. قال: فأنت إذن من أهل الشراسة، ذوي الكرم والرئاسة: كنانة بن خزيمة. قال: لست منهم، وإني لأطمو عليهم ببحر زاخر، وملك قاهر، وعز باهر، وفرع شامخ، وأصل باذخ. قال: فأنت إذن من جمرة معدّ، وركنها الأشدّ أهل الغارات: بني أسد. قال: لست منهم، لأن أولئك عبيد، ولم يبق منهم إلا الشريد. قال: فأنت إذن من فرسان العرب المطعمين في الكرب، أهل القباب الحمر: تميم بن عمرّ. قال: لست منهم، لأن أولئك بدؤوا بالفرار حين أجحرتهم من الأحجار. قال: فأنت إذن من خيار بني نزار، وأحماهم للذمار، وأوفاهم بذمة الجار: بني ضبّة. قال: لست منه، لأن أولئك رعاء البقر وأهل البؤس والنكر، لا يُقْرُون الضيف، ولا يدفعون الحَيْف. قال: فأنت إذن من أهل الطلب بالأوتار، واجتماع الدار: ثقيف بن منبّه. قال: كلا. أولئك قصار الحدُود لئام الجدود، بقية ثمود،. قال: فأنت إذن من أهل الشاء والنَّعَم، والمنعة والكرم: هُذيل بن مُدركة. قال: كلا، ألهي أولئك جمع الحطب وجزر العَرب، ولا يحلُون ولا يمرّون، ولا ينفعون ولا يضرون. قال: فأنت إذن من هوازان، أهل القسر(11/150)
القهر، والنعم الدُّثر. قال: كلا، أولئك أهل الشِّرات، علاج الكَرَات، شعر الرقاب وغبش الكلاب. قال: فأنت إذن من قاتلي الملوك الجبابر، وأحلاف السيوف البواتر: من عبس أو مرّة. قال: لست منهم، لأنا منعناهم هاربين، وقتلناهم غادرين. قال: فأنت إذن من أهل الراية الحمراء، والقبة القتراء سُليم بن منصور. قال: كلا. ألهي أولئك أكل الحصى ورضخ النوى. قال: فأنت إذن من أوغاد اليمانين، الذين لايعقلون شيئاً. قال: أنا ابن ذي فائش. مهلاً يا معاوية، فإن أولئك كانوا للعرب قادة، وللناس سادة، ملكوا أهل الأرض طوعاً، وأجبروهم كرهاً، حتى دانت لهم الدنيا بما فيها، وكانوا الأرباب وأنتم الأذناب، وكانوا الملوك وأنتم السوقة، حتى دعاهم خير البرية بالفضل والتحية محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعزّروه أيَّما تعزير، وشمّروا حوله أيّما تشمير، وشهروا دونه السيوف، وجهزوا الألوف بعد الألوف، وجادوا له بالأموال والنفوس، وضربوا معدّاً حتى دخلوا في الإسلام كرهاً، وقتلوا قريشاً يوم بدر، فلم يطلبوهم بثأر، فأصبحت يا معاوية، تحمل ذلك علينا حقداً، وتشتمنا عليه عمداً. وتقذف بنا في لجج البحار، وتكفّ شرّك عن بني نزار. ونحن منعناك يوم صفين، ونصرناك على الأنصار والمهاجرين، وآثرناك على الإمام التقي الوصي الوفي، ابن عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فبنا علَوْت المنابر، ولولا نحن لم تعلُها، وبنا دانت لك المعاشر، ولولا نحن لم تَدِن لك، فأنكرت منا ما عزمت، وجهلت منا ما علمت. فلولا أنّا كما وصفت، وأحلامنا كما ذكرت لمنعناك العهد، ولشددنا لغيرِك العقد، ولقرعت قرعاً تتطأطأ منه وتتقبض.
فغاظ معاوية ما كان من كلامه، وضاق به ذرعه، فلم يتمالك أن قال: اضربوا عنقه. فلم يبق في مجلسه يمانٍ إلا قام سالاً سيفه، ولا مضريّ إلا عاضاً على شفته، ودنا من معاوية فقام زرعة بن عُفير بن سيف اليزني - وقيل: عُفير بن زرعة بن عامر بن سيف، وهكذا هو - فقال: أما والله يا معاوية، إنا لنراك تكظم الغيظ من غيرنا على القول الفظيع الكثير، وتسفظع منا اليسير - يريد ما يسمع من قريش - وذلك والله أنا لم نطعن عليك في أمرك، فكأنك بالحرب قد رفعناها إليك، فستعلم أن رجالنا ضراغم، وأن(11/151)
سيوفنا صوارم، وأن خيولنا ضوامر، وأنّ كُماتنا مساعر، ثم قعد، وقام حَيْوة بن شريح الكَلاعي فقال: يا معاوية، أنصفنا من نفسك وآس بيننا وبين قومك. وإلا تغلغلت بنا وبهم الصفاح، أو لننْطَحنَّهم بها أشد النطاح ولنُوردَنّهم بها حوض المنيّة المتاح، فقايضنا بفعلنا حذو النعل بالنعل، وإلا والله أقمنا دَرْأك بعدلنا، ولقينا صَغوك بعزمنا حتى ندعك أطوع من الرداء، وأذل من الحذاء. ثم دنا كريب بن أبرهة بن شرحيبل بن أبرهة بن الصباح - أو ابن السامي فقال: يا هذا، أنصفنا من نفسك لنكون وزراً على عدوك، ونكون لك على الحق أعواناً، وفي الله إخواناً، وإلا والله أقمنا مَيْلك، وردعنا سفَهك، وخالفنا فيك هواك، فتُلفى فريداً وحيداً، ثم تصبح هيناً مذموماً مدحوراً، مغلوباً مقهوراً. ثم دنا يريم بن حبيب المرادي فقال: يا معاوية، والله إن سيوفنا لحِداد، وإن سواعدنا لشداد، وإن رجالنا لأنجاد، وإن خيولنا معدّة، وإنا لأهل بأس ونجدة، فاستملْ من هوانا من قبل أن نجمع عليك ملأنا، فندعك نكالاً لمن ولي هذا الأمر من بعدك. ثم دنا ناتل بن قيس بن حيا الجُذامي فقال: يا معاوية، قد ترعف " فِعْل " ابن الزبير بك، وقد خالفك في ابنك يزيد، ولقيك بالأمر الشديد، فطلبت منه السلامة، وأهديت له الكرامة، وذلك والله أنه أحسن ثورك، وبلغ منك عَوَرك، وقمع بالشغب طورك، وايم الله، لنحن أكثر منك نفراً وجمعاً، فاربع على ظَلْعاك من قبل أن نقرعك حتى يسمع بخوارك من لا ينفعك من أنصارك. ثم دنا فروة بن المنذر الغساني فقال: يا معاوية، اعرف لكهلنا حقّه، واحتمل من كريمنا قوله، فإن خطّره فينا عظيم، وعهده بالملك حديث. فأن أبيت إلا أن تعدو طورك، وتُجاوز قدرك مشينا إليك بأسيافنا، وضربناك بأيماننا حتى تُنيب إلى الحق، وتترك الباطل بكهرك. فراع معاوية ما كان منهم ثم قال: عزمت عليكم لما قعدتم.(11/152)
الضحاك المُعافري
حدث عن سليمان بن موسى عن كريب قال: سمعت أسامة بن زيد يقول: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ألا هل مشمّر للجنة؟ فإن الجنة لاخطر لها. هي ورب الكعبة نور تتلألأ كلها، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرّد، وثمرة ناضجة، وزوجة حسناء جميلة، وملك كبير، ومقام في أبد، في دار سليمة، وفاكهة، وخضرة، ونعمة وحَبْرة، في جنة عالية بهية ". قالوا: نحن المشمّرون لها يا رسول " الله " قال: " فقولوا: إن شاء الله "، فقال القوم: إن شاء الله.
زاد في حديث آخر بمعناه: ثم ذكر الجهاد، وحضّ عليه.
ضرار بن الأزور
مالك بن أوس بن خزيمة بن ربعية بن مالك بن ثعلبة ابن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي له صحبة، وحدث عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد اليرموك، وارتُثّ يومئذ. وشهد فتح دمشق.
حدث ضرار ببن الأزور قال: أهديت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقحة، فأمرني أن أحلبها، فحلبتها، فجهدت حلبها فقال: دع داعي اللبن.
وكان ضرار فارساً شاعراً، وكان شهد اليمامة، فقاتل أشد القتال حتى قطعت ساقاه جميعاً، فجعل يجثو ويقاتل وتطؤه الخيل حتى غلبه الموت.(11/153)
وقيل: إنه مكث باليمامة مجروحاً، فقَبْلَ أن يدخل خالد بيوم مات ضرار. وقيل: إنه استشهد يوم جسر أبي عبيد في خلافة عمر.
أقبل ضرار بن الأزور إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد خلّف ألف بعير برُعاتها، فأخبره بما خلف وبُبُغضه للإسلام. ثم إن الله هداه وحبّب إليه الإسلام، وقال: يا رسول الله، إني قد قلت شعراً فاسمعه، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هيه. قال: قلت: " المتقارب "
تركتُ القداحَ وعزفَ القيان ... والخمر أشربُها والثمالا
وشدَّ المحبَّرِ في غمرةٍ ... وكرّي على المسلمين القِتالا
وقالت جميلة شتّتنا ... وبددت أهلي شتى شِلالا
فيا رب بعني به جنّةً ... فقد بعتُ أهلي ومالي بدالا
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وجب البيع ". مرتين أو ثلاثاً. فقتل يوم مسيلمة.
وزاد في رواية أخرى:
فيا رب لا أُغبّنَنْ صفقتي ... فقد بعتُ أهلي ومالي ابتدالا
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما غُبنت صفقتك يا ضرار ".
وفي رواية: " ربح البيع، ربح البيع، ربح البيع ".
بعث عمر بن الخطاب خالد بن الوليد في جيش. فبعث خالد ضرار بن الأزور في سرية في خيل، فأغاروا على حي من بني أسد. فأصابوا امرأة عروساً جميلة، فأعجبت ضراراً، فسالها أصحابّه، فأعطَوه إياها، فوقع عليها. فلما قفل ندم، وسُقط في يده. فلما رفع إلى خالد أخبره بالذي فعل، قال: خالد: فإني قد أجزتها لك وطيبتها. قال:(11/154)
لا، حتى تكتب بذلك إلى عمر، فكتب عمر أن ارضخه بالحجارة. فجاء كتاب عمر بن الخطاب وقد توفي، فقال: ما كان الله ليخزي ضرار بن الأزور.
كتب أبو عبيدة إلى عمر أن نفراً من المسلمين أصابوا الشراب منهم ضرار وأبو جندل، فسألناهم فتأوّلوا وقالوا: خُيّرنا فاخترنا. قال: " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُوْنَ " ولم يعزم. فكتب إليه عمر فذلك بيننا وبينهم: " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُوْنَ " يعني: فانتهوا. وجمع الناس فاجتمعوا على أن يضربوا فيها ثمانين جلدة، ويضمنوا النفس. ومن تأوَّل عليها بمثل هذا، فإن أبي قتل، وقالوا: من تأول على ما فسر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه بالفعل والقتل. فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن ادعُهم، فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم، وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين. فبعث إليهم، فسألهم على رؤوس الأشهاد، فقالو: حرام، فجلدهم ثمانين ثمانين، وحدَّ القوم، وندموا على لجاجتهم، وقال: ليحدُثَنَّ فيكم يا أهل الشام حادث، فحدثت الرمادة.
قال الحكم بن عتيبة: لمّا كتب أبو عبيدة في أبي جندل وضرار بن الأزور جمع عمر الناس فاستشارهم في ذلك الحدث، فأجمعوا أن يحدّوا في شرب الخمر - والسكر من الأشربة - حدّ القاذف، وإن مات في حدٍّ من هذا الحدّ فعلى بيت المال ديته، لأنه شيء رأوه هم. فالعطاء: وقالوا - وجاشت الروم - دعونا نغزُهم، فإن قضى الله تعالى لنا بالشهادة فذاك، وإلا عمدت للذي تريد، فاستشهد ضرار بن الأزور في قوم، وبقي الآخرون فحُدّوا.
قالوا: وقيل: قُتل ضرار بن الأزور يوم أجنادَين سنة ثلاث عشرة.(11/155)
ضرار بن الخطاب
ابن مرداس بن كبير بن عمرو بن حبيب بن عمرو بن شيبان ابن محارب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، الفهري له صحبة. أسلم يوم فتح مكة، وشهد مع أبي عبيدة فتوح الشام. وكان ضرار يوم الفجار على بني محارب بن فهر، وكان أبو خطاب بن مرداس يأخذ المرباع. وهو الذي غزا بني سليم، وهو رئيس بن فهرز. وجده عمرو بن حبيب هو آكل السَّقْب. وذلك بأنه أغار على بني بكر، ولهم سَقْب يعبدونه، فأخذ السَّقب فأكله. وكان عمه حفص بن مرداس شريفاً. وكان ضرار بن الخطاب فارس قريش وشاعرهم، وحضر معهم المشاهد كلها، فكان يقاتل أشد القتال، ويحرض المشركين بشعره. وهو قتل عمرو بن معاذ أخا سعد بن معاذ يوم أحد. وقال حين قتله: لا تعدمَنّ رجلاً زوّجك من الحور العين. وكان يقول: زوجت عشرة من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأدرك عمر بن الخطاب فضربه بالقناة ثم رفعها عنه وقال: يا بن الخطاب، إنها نعمة مشكورة. والله ما كنت لأقتلك. وهو الذي نظر يوم أحد إلى خَلاء الجبل من الرماة فأعلم خالد بن الوليد، فكرّا جميعاً بمن معهما، حتى قتلوا من بقي من الرماة على الجُبَيل، ثم دخلوا عسكر المسلمين من ورائهم. وكان له ذكر بالخندق. ثم إن الله منّ عليهم بالإسلام. وسلم يوم فتح مكة، فحسن إسلامه. وكان يذكر ما كان فيه من مشاهدته القتال ومباشرته ذلك، ويترحم على الأنصار، ويذكر بلاءهم ومواطنهم وبذلهم أنفسهم لله من تلك المواطن الصالحة. وكان يقول: الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام، ومنّ علينا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الزبير بن بكار:
لما بلغ دَوساً قتل هشام بن الوليد بن المغيرة أبا أزيهر وثبوا على من كان فيهم من قريش فقتلوه، وقتل بجير بن العوام. وكان الذي قتل بجير بن العوام صبيحُ بن سعد بن هانىء الدوسي جدّ أبي هريرة أبو أمه. وكان ضرار بن الخطاب المحاربي فيهم، فأجارته أم غيلان وابنها عوف، وهم موالي دوس. وكانت أم غيلان تمشط النساء. قال ضرار بن(11/156)
الخطاب: أدخلتني في درعها حتى وجدت تسبيد ركنها - يعني الشعر - فبذلك سميت أم غيلان إحدى الموفيات.
وذكر البلاذري أنه لما وثبت دوس على ضرار بن الخطاب بن مرداس ليقتلوه بأبي أزيهر سعى حتى دخل بيت امرأة من الأزد يقال لها: أم جميل، وأتبعه رجل منهم ليضربه، فوقع ذباب السيف على الباب، وقامت في وجوههم فذبّتهم، ونادت قومها فمنعوه لها. فلما استخلف عمر بن الخطاب ظنت أنه أخوه، فأتت المدينة، فلما كلمته عرف القصة، فقال: لست بأخيه إلا في الإسلام. وهو غاز بالشام. وقد عرفنا منَتكْ عليه، فأعطاها على أنها بنت سبيل. وقيل: كان اسمها أم غيلان. وقال ضرار بن الخطاب من أبيات: " الطويل "
جزى اللهُ عنا أمّ غيلانَ صالحاً ... ونسوتَها إذ هُنّ شعثّ عواطلُ
فهن دفعنّ الموتَ بعدَ اقترابِهِ ... وقد برزت للثائرين المقاتلُ
قال الضحاك بن عثمان: امترى مجلس من الأوس والخزرج أيّهم كان أحسن بلاءً يوم أحد، فمرّ بهم ضرار بن الخطاب فقالوا: هذا ضرار قد قاتلنا يومئذ، وهو عالم بما اختلفتما فيه، فأرسلوا إليه فتى منهم، فسأله: من كان أشجعَ يومَ أحدٍ: الأوس أم الخزرج؟ قال: لا، ما أدري ما أوسُكم من خزرجكم. ولكني زوجت يومئذ أحد عشر منكم من الحور العين.
ولما التقى عبد الله بن جحش يوم أحد هو وضرار بن الخطاب، فلما عرفه ضرار قال: إليك يا بن جحش - وكان ضرار قد آلى ألا يقتل مضرياً - فقال له عبد الله بن جحش: ما كان دمك - يا عدو الله - أعجب إلي منه الآن حين جمعت كفراً وعصبية، فنادى ضرار: يا معشر قريش، اكفوني ابن جحش، فانتظموه برماحهم، وقال ضرار بن الخطاب لأبي بكر الصديق: نحن كنا خيراً لقريش منكم، نحن أدخلناهم الجنة، وأنت أدخلتموهم النار.(11/157)
قال السائب بن يزيد: بينا نحن مع عبد الرحمن بن عوف في طريق الحج، ونحن نؤمّ مكة اعتزل عبد الرحمن بن عوف الطريق، ثم قال لرباح بن المغترف: غنّنا يا أبا حسان - وكان يحسن النصب - فبينا رباح يغنيهم أدركهم عمر بن الخطاب في خلاته فقال: ما هذا؟! فقال عبد الرحمن: ما بأس بهذا، نلهو ونقصّر عنا سفرنا، فقال عمر: فإن كنت آخذاً فعليك بشعر ضرار بن الخطاب.
ضرار بن ضَمْرة الكناني
وفد على معاوية: قال أبو صالح: دخل
ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية فقال له: صف لي علياً، فقال: أو أعفيتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك، فقال له: إذ لا بدّ فإنه كان - والله - بعيد المدى، شديد القوى، يقول فضلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يشتوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته. كان - والله - غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، ويعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشَبه. كان - والله - كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إلى سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له. فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم. يعظّم أهل الدين، ويحبّ المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا يأيس الضعيفُ من عدله. فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، يتمثل في محراب قابضاً على لحيته، يتململ تملمُل السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا، يا ربنا، يتضرع إليه، ثم يقول للدنيا: إليَّ تعرضت أم لي تشوّفت؟ هيهات هيهات، غُرِّي غيري، قد بَتَتُّكِ ثلاثاً، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة(11/158)
الطريق. فوكفت دموع معاوية على لحيته، ما يملِكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد أختنق القوم بالبكاء، فقال: هكذا كان أبو الحسن رحمه الله، فكيف وجدك عليه يا ضرار؟ قال: وجَدُ من ذُبح أو حدُها في حجرها لا ترقأ دمعتها، ولا تسكن حسرتها. ثم قام فخرج.
زاد في حديث آخر بمعناه قال: فقال معاوية: لكن أصحابي لو سئلوا عني بعد موتي ما أخبروا بشيء مثلِ هذا.
ضمرة بن ربيعة
أبو عبد الله القرشي من أهل دمشق. نزل الرملة. وهو مولى علي بن أبي حَمَلة، وهو مولى آل عتبة بن ربيعة. وقيل مولى غيره.
حدث عن ميسرة بن معبد عن نافع عن ابن عمر قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما اجتمع ثلاثة في حضر أو بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان ".
وحدث عن الأوزاعي بسنده عن أبي ثعلبة الخشني أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " كُلْ ما ردَّت عليك قوسك ".
وحدث ضمرة عن سفيان بسنده عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من ملك ذا رحم فهو حرّ ".
وأنكر أحمد هذا الحديث. وكان ضمرة من الثقات المأمونين. رجل صالح، مليح الحديث. لم يكن بالشام رجل يشبهه.
توفي ضمرة بن ربيعة بالرملة سنة اثنتين وثمانين ومئة. وقيل: سنة اثنتين ومئتين.(11/159)
ضمرة بن يحيى الصوفي
من دمشق.
قال ضمرة بن يحيى الدمشقي: سمعت أبا بكر بن الأنباري يقول: كتب الفضل بن سهل إلى بعضهم: أحتج عليك بغالب القضاء، وأعتذر إليك بصدق النية.
قال ضمرة بن يحيى: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري لمروان بن أبي حفصة: " الكامل "
عند الملوكِ منافعٌ ومضرَّةٌ ... وأرى البرامك لا تضرّ وتنفعُ
إن كان شراً كان غيرهُمُ لهُ ... والخير منسوبٌ إليهم أجمعُ
وإذا جهلتَ من امرىء أعراقَه ... وأمورَه فانظُر إلى ما يصنعُ
ضمضم بن زرعة
قيل إنه ابن ثوب فإن كان أبوه زرعة بن ثوب فهو دمشقي مَقراني.
قال الحافظ: وعندي أن ضمضماً حضرمي، من أهل حمص.
حدث عن شريح بن عبيد عن أبي أمامة الباهلي وغيره من الصحابة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم.
وحدث عن شريح بن عبيد عن كثير بن مُرّة عن عتبة بن عبد السلمي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الخلافة في قريش، والحكم في الأنصار، والدعوة في الحبشة، والجهاد والهجرة في المسلمين والمهاجرين بَعد.
أسماء الرجال على(11/160)
حرف الطاء المهملة
طارق بن شهاب بن عبد شمس
أبن سلمة بن هلال بن عوف بن جُشَم بن نقر ابن عمرو بن لؤي بن رُهم بن معاوية بن أسلم بن أحمس أبو عبد الله الأحمسي البجلي الكوفي رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وغزا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه.
حدث طارق بن شهاب أن رجلاً سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد وضع رجله في الغرز: أي الجهاد أفضل؟ قال: " كلمة حقّ عند سلطان جائر ".
وعن طارق عن شهاب قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عليكم بألبان الإبل والبقر، فإنها تَرُمّ من الشجر كله. وهو دواء من كل داء ".
وعن طارق بن شهاب بن عبد الله قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أنزل الله عزّ وجلّ داء إلا وله دواء. فعليكم بألبان البقر، فإنها تَرُمّ من كل الشجر ".
قال طارق بن شهاب: قدم وفد نجيلة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " ابدؤوا بالأحمسين ". ودعَا لنا.
قال طارق بن شهاب: أتانا كتاب عمر لما وقع الوباء بالشام. فكتب عمر إلى أبي عبيدة أنه قد عرضت لي(11/161)
إليك حاجة لا غنى لي عنها، فقال أبو عبيدة: يرحم الله أمير المؤمنين، يريد بقاء قوم ليسوا بباقين. قال: ثم كتب إليه أبو عبيدة: إن في جيش من جيوش المسلمين لست أرغب بنفسي. فلما قرأ الكتاب استرجع، فقال الناس: مات أبوعبيدة؟ قال: لا، وكأن.
وكتب إليه بالعزيمة: فاظهر من أرض الأردن، فإنها عَمْقة وَبِئَة إلى أرض الجابية، فإنها نزهة، ندية. فلما أتاه الكتاب بالعزيمة أمر مناديه: أذّن في الناس بالرحيل. فلما قُدّم إليه ليركب وضع رجله في الغرز ثم ثنى رجله، فقال: ما أرى داءكم إلا قد أصابني. قال: ومات أبو عبيدة، ورُفع الوباء عن الناس.
توفي طارق سنة اثنتين وثمانين وقيل ثلاث وثمانين. وقيل: أربع وثمانين. وقيل: توفي زمن الحجاج أيام الجماجم. وقيل: توفي سنة ثلاث وعشرين ومئة.
طارق بن عمرو مولى عثمان بن عفان
وجَهه عبد الملك بن مروان من الشام، فغلب له على المدينة سنة ثلاث وسبعين.
حدث سليمان بن يسار أن طارقاً قضى بالعُمْرى للوارث عن قول جابر بن عبد الله عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
طالوت ملك بني إسرائيل
واسمه بالسريانية شاول بن قيس بن أمال بن ضرار بن يحرب بن أفيح بن أسن بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وقيل: اسمه شارك. وإنما سمي طالوت(11/162)
لطوله. وهو الذي ذكر الله قصته في القرآن العزيز، ومحاربته لجالوت. وكان داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام زوجَ ابنته.
وعن قتادة في قوله تبارك وتعالى: " إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيْكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ومَنْ لم يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي " قال: هو نهر بين الأردن وفلسطين " إِلا مَنْ أغَتَرفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ " قال: كان الكفار يشربون فلا يروون. وكان المسلمين يغترفون غرفة فتجزيهم ذلك.
وعن ابن عباس في قوله عزّ وجل: أَلَمْ تَرَ إِلى المَلأَ مِنْ بَنِيْ إِسرَائيْلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لنَبِيٍّ لَهُمْ " يعني ألم تخبر يا محمد عن الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم: أشمويل " ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقَاتِلْ في سَبِيْلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا وَمَالَنا ألا نُقَاتِلَ في سَبيْلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَنْبَائِنا " يعني أخرجتنا العمالقة. وكان رأس العمالقة يومئذ جالوت. فلما كتب الله عزّ وجلّ عليهم القتال تولُّوا إلا قليلاً منهم. فسأل نبيُّهم اللهَ عزّ وجلّ أن يبعث لهم ملكاً.
قال كعب: بعث الله لهم طالوت، ملكاً، راعي حمير. وكان فقيراً ليس له مال. وخرج من قريته يطلب حمارين له أضلهما. فلما أدركه الليل، ولم يجدهما، وتمادى به الطلب، فدخل مدينة بني إسرائيل، واضطره الجوع، فأوى إلى اشمويل، وكان مأوى المساكين، فأوحى الله تعالى لى أشمويل أني قد بعثت إليك هذا الذي ينشُد الحمار ملكاً على بني إسرائيل، فإذا أصبحت فقس طوله بقصبة، ثم ادفعها إلى بني إسرائيل فقل لهم: إن الله قد بعث لكما ملكاً طوله هذه القصبة، فاطلبوه حيثما كان من أسباط بني إسرائيل، فهو(11/163)
عليكم. وكان طول القصبة ثماني أذرع. فلما دفعها إليهم، فلم يُعَذِّروا في الطلب، ولم يبالغوا، وقالوا لنبيهم: لم نجد هذا، فقال لهم نبيهم: هو طالوت صاحب الحمار، فقالوا: أين هو؟ قال: عهدي به البارحة. فلما وجدوه قاسوه بالصقبة، فكان قدرها، فقالوا له: من أي سبط أنت؟ قال: من سبط يامين، فنفروا من ذلك وكرهوه.
وقيل: إنا سألوا ذلك أنهم كانوا في مدينة لهم قد بارك الله لهم في مكانهم، لا يدخله عليهم عدو، ولا يحتاجون إلى غيره. قال: كان أحدهم يجمع التراب على صخرة، ثم ينبذ فيه الحب، فيُخرج الله عزّ وجلّ منه ما يأكل سَنَتَه هو وعياله، ويكون لأحدهم محارم الله عزّ وجلّ، وجاروا في الحكم نزل بهم عدوهم فخرجوا إليهم، وأخرجوا التابوت، وكان يكون التابوت أمامهم في القتال، فقدموا التابوت، فسُبي التابوت، وكان عليه ملك يقال له إيلاف، فأخبر الملك أن التابوت قد سبي واستلب، فمالت عنقه فمات كمداً عليه، فمرَجَت أمروهم، وظهر عدوهم، وأصيب من أبنائهم ونسائهم فعند ذلك قالوا: " ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيْلِ اللهِ " فسأل الله لهم نبيُّهم أن يبعث لهم ملكاً، فأوحى الله إليه أن أنظر الفرن الذي في بيتك، فيه الدهن؛ فإذا دخل عليك رجل فنشّ الدهن الذي في الفرن، فإنه ملك بني إسرائيل، فادهن رأسه منه، وملّكه عليهم، فجعل ينظر مَن ذلك الرجل الداخل عليه؟ وكان طالوت رجلاً دباغاً من سبط ابن يامين، وكان سبط ابن يامين لم يكن فيه نبوّة، ولا ملك، فخرج طالوت يطلب حماراً مع غلام له، فمرّ ببيت اشمويل النبي صلى الله على نبينا وعليه سلم. فدخل عليه مع غلامه، فذكر له أمر حماره إذ نشّ الدهن في الفرن، فقام إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذه، ثم قال لطالوت: قرِّب رأسك فقرّبه، فدهنه، فقال: يا منشد الحمار، هذا خير لك مما تطلب، أنت ملك بني إسرائيل الذي مرني " ربي " أن أملكه عليهم. وكان اسم طالوت بالسريانية شارك، وخرج من عنده، فقال الناس: ملَك طالوت. فأتى عظماءُ بني إسرائيل النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا له: ما شأن طالوت يملك علينا، وليس من بيت النبوّة ولا المملكة، وقد عرفت أن الملك(11/164)
والنبوة في آل لاوي وآل يهوذا؟! قال: " إِنَّ اللهُ اصْطَفَاه عَلَيْكُمْ " للذي سبق له أن يملككم " وَزَادَهُ بَسْطَةً فِيْ العِلْمِ وَالْجِسْمِ " فيه تقديم، يعني: في الجسم والعلم. كان أطولهم بسطة رِجل - وقال الحسن: لم يكن بأعلمهم، ولكن كان أعلمهم بالحرب، فذلك قوله: في العلم، إنه كان مجرباً: " واللهُ يُؤتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ " يعني الملك بيد الله عزّ وجلّ يضعه الله حيث يشاء. ليس لكم أن تخيّروا.
وكان طالوت رجلاً فقيراً مغموراً فيهم بالدَّين، فمن ذلك قالوا: " وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ " وكيف يكون له الملك علينا وهو مغمور بالدين؟! قالوا: ما آية ذلك تُعرّفه أنه ملك؟ قال: آيته أن يتيكم التابوت. فقالوا: إن ردّ علينا التابوت فقد رضينا وسلمنا. وكان الذين أصابوا التابوت أسفل من جبل إيلياء، فما بينهم وبين مصر، وكانوا أصحاب أوثان، وكان فيهم جالوت. وكان له جسم وخَلق وقوة في البطش، وشدة في الحرب. فلما وقع التابُوت في أيديهم جعلوا التابوت في قرية من قرى فلسطين، فوضعوه في بيت أصنامهم، فأصبحت أصنامهم منكوسة. وكان لهم صنم، كبير أصنامهم، من ذهب، وله حدقتان من ياقوتتين حمراوين، فخرّ ذلك الصنم ساجداً للتابوت، وانحدرت حدقتاه على وجنتيه يسيل منها الماء. فلما دخلت سدنة بيت أصنامهم ورأوا ذلك نتفوا شعورهم، ومزقوا جيوبهم، وأخبروا ملكهم. وسلط الله عزّ وجلّ الفأر على أهل تلك القرية، فتجيء الفأرة إلى الرجل وهو نائم فتأكل جوفه، وتخرج من دبره، حتى طافت عليهم فماتوا، فقالوا: ما أصابنا هذا إلا في سبب هذا التابوت، فأرادوا حرقه، فلم تحرقه النار، وأرادوا كسره، فلم يحكّ فيه الحديد، فقالوا: أخرجوه عنكم، فوضعُوه على ثورين على عجلة فسيّبوه فساقته الملائكة إليهم.
وقال قتادة في قوله: " وقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ " إن نبيهم الذي كان بعد موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم: يوشع بن نون، وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما. قال: وأحسبه هو فتى موسى.(11/165)
وقيل: كان طالوت سقاء، يبيع الماء. رواه عمران عن عكرمة، ولم يُدر مَن عمران هذا الراوي.
قال ابن عباس:
وضعوه على عجل حولي ثم سيَّبوه فساقته الملائكة حتى أدخلوه محلة بني إسرائيل فذلك قوله: " أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ " إلى قوله: " تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةْ " فكان في التابوت " سَكِيْنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ " قال: أما البقية فرُضاض الألواح، وعصا موسى، وعمامة هارون، وقَباء هارون الذي كان فيه علامات الأسياط في الغلول. وكان فيه طست من ذهب، فيه صاع من مَنّ الجنة، وكان يفطر عليه يعقوب. وأما السكينة فكان مثل رأس هرة من زبرجدة خضراء.
وقيل: إن الألواح التي كتب الله لموسى فيها التوراة، ثم أعطاه إياها، كانت الألواح من زبرجد. فلما ألقى موسى الألواح، وأخذ براس أخيه كان موسى حزناً ألا يلقى الألواح التي أعطاه الله بيده، فنسخ الألواح من جبل الطور، والبقية التي قال الله: كسر من الألواح من جبل الطور.
وقيل: السكينة: ريح هفافة، لها وجه كوجه الإنسان. وقيل: السكينة: لها وجه كوجه الهرة، ولها جناحان. وقيل: لها جناحان وذنب مثل ذنب الهرّة.
وقيل: كانت هرة، رأسها من زمردة، وظهرها من درّ، وبطنها من ياقوت وذنبها وقوائمها من لؤلؤ.
فإذا أرادوا القتال قدّموا التابوت، ثم تكون أعلامهم وراياتهم خلف التابوت. وهم وقوف خلف ذلك ينتظرون تحريك التابوت، فتصيح الهرة فيسمعون صراخاً كصراخ الهرة، فتخرج من التابوت ريح هفافة، فترفع التابوت بين السماء والأرض، ويخرج منها لسانان: ظلمة ونور، فتضيء على المسلمين وتظلم على الكفار، فيُقاتل القوم وينصرون.(11/166)
فلما رأوا التابوت قد ردّ عليهم أقرّوا لطالوت بالملك، واستوسقوا له على التابوت، فخرج بهم طالوت وجدّوا في حرب عدوهم، ولم يتخلف عنه إلا كبير وضرير ومعذور ورجل في ضيعة لابد له من التخلف، فقالوا لنبيهم: إن الجباب والآبار لا تحملنا، فادع الله لنا أن يُجري لنا نهراً، فدعا ربه، فأجرى لهم نهراً من الأردن، فقال لهم نبيهم أشمويل: اعلموا أن الله " مُبْتَلِيْكُمْ بِنَهرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ " فاقتحم فيه " فَلَيْسَ مِنِّي ". وقال لطالوت: ليس ممن يقاتل معك، فرُدّهم عنك؛ " وضمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي " يُقاتل معك. فامض بهم. فذلك قوله عزّ وجلّ: " إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ " وكانت الغرفة للرجل ودوابَه وعياله تملأ قربته. قال: " فَشَرِبُوُا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ ".
قال ابن عباس: كانوا مئة ألف وثلاثة آلاف وثلاث مئة عشر رجلاً. فشربوا منه كلهم إلا ثلاث مئة وثلاثة عشر رجلاً عدة أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر. قال: فردهم طالوت، ومضى في ثلاث مئة وثلاثة عشر رجلاً. فلما جاوز النهر - يعني طالوت - والذين لبثوا معه. قالوا: " لاَ طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قاَلَ الّذِيْنَ يَظُنُّوْنَ أَنَّهُم مُلاَقُوا اللهِ " يعني يؤمنون ويوقنون بالبعث " كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيْلَةٍ غَلَبَتْ كثِيْرَةً بِإِذْنِ اللهِ واللهُ معَ الصَّابِرِينَ " وكان أشمويل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفع إلى طالوت درعاً، فقال له: من استوى هذا الدرعُ عليه فإنه يقتل جالوت بإذن الله عزّ وجلّ، ونادى منادي طالوت: مَن قتل جالوت زوجته ابنتي، وله نصف ملكي ومالي. وكان إخوة داود معه، وهم أربعة إخوة، وكان إيشا أبو داود حبس داود عنده، وسرح ثلاثة إخوةِ داود مع طالوت. وكان الأمر الله عزّ وجل سبب هذا الأمر على يدي داود ابن إيشا. وهو من ولد حصرون بن قانص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.
قال أبو أيوب الأنصاري: قال لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن بالمدينة: هل لكم أن نخرج فنلقى هذه العير، لعل الله يغنمنا؟ قلنا: نعم، فخرجنا.(11/167)
فلما سرنا يوماً أو يومين أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نتعادّ، فإذا نحن ثلاث مئة وثلاثة عشر رجلاً، فأخبرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدتنا، فسُرّ بذلك، وحمد الله، وقال: عدة اصحاب طالوت.
وعن عبد الله بن عمرو
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يوم بدر بثلاث مئة وخمسة عشر من المقاتلة، كما خرج طالوت، فدعا لهم حين خرج: اللهم، إنهم حفاة فاحملوهم، اللهم، إنهم عراة فاكسُهم، اللهم، إنهم جياع فأطعمهم. ففتح الله يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا، وما منهم رجل إلا بجمل أو جملين، واكتسَوا وشبعوا.
قال وهب بن منبه: لما تقدم داود أدخل يده في مخلاته، فإذا تلك الحجارة الثلاثة صارت حجراً واحداً. قال: فأخرجه، فوضعه في مقلاعه، وأوحى الله إلى الملائكة أن أعينوا عبدي داود، وانصروه. قال: فتقدم داود وكبّر. قال: فأجابه الخلق غير الثقلين: الملائكةُ وحملَةُ العرش فمن دونهم، فسمع جالوت وجنده شيئاً ظنوا أن الله قد حشر عليهم أهلّ الدنيا، وهبت ريح، وأظلمت علهيم، وألقت بيضة جالوت، وقذف داود الحجر في مقلاعه، ثم أرسله، فصار الحجر ثلاثة، فأصاب أحدها جبهة جالوت، فنفذها منه فألقاه قتيلاً، وذهب الحجر، فأصاب ميمنة جند جالوت، فهزمهم، والثالث أصاب الميسرة، فهزمهم. وظنوا أن الجبال قد خرّت عليهم، فولُّوا مدبرين، وقتل بعضهم بعضاً. ومنح الله بني إسرائيل أكتافهم حتى أبادوهم، وانصرف طالوت ببني إسرائيل مظفراً، قد نصرهم الله على عدوهم، فزوج ابنته من داود، وقاسمه نصف ماله. وكان لا يرى رأيه، فاجتمعت بنو إسرائيل فقالوا: نخلع طالوت، ونجعل علينا داود، فإنه من آل يهوذا، وهو أحق بالملك من هذا. فلما أحسّ طالوت بذلك وخاف على ملكه أراد أن يغتال داود فيقتله، فأشار عليه بعض وزرائه أنك لا تقدر على قتله إلا أن تساعدك ابنتك، فدخل طالوت على ابنته فقال لها: يا بُنّيَّة، إني أريد أمراً أحب أن تساعديني عليه. قالت: وما ذاك يا أبه؟ قال: إني أريد أ، أقتل داود، فإنه قد فرّق عليّ الناس، واختلفوا، فقالت: يا أبه، زعمت أنك تريد أن تقتل داود لما قد أفسد عليك، وأعلم أن داود رجل له(11/168)
صولة. شديد الغضب. فلستُ آمن عليك إن لم تستطع قتله إن ظفر بك قتلك، فإذا أنت قد لقيت الله تعالى قاتلاً لنفسك، مستحلاً لدم داود، وعجباً منك ومما أعرف من حِلمك وسداد رأيك، كيف أسلماك إلى هذا الرأي القصير، وهذه الحيلة الضعيفة بالتقدم على داود، وأنت تعلم أنه أشد أهل الأرض نفساً، وأبسله عند الموت، فقال طالوت: إني لأسمع قول امرأة مفتونة بزوج قد منعتها الفتنة وحبّها إياه أن تقبل عن أبيها وتناصحه، وأعلمي أني لم أدعُكِ إلى ما دعوتك إليه من أمر داود إلا وقد عرفت أني لم أنظر فيه نظر مثلي، وقد وطنت نفسي على قطع صهره، إما أن أقتلك وإما أن تقتليه. قالت: فأمهلني حتى إذا وجدت فرصة أعلمتك.
وعن ابن عباس أنها انطلقت فاتخذت زقاً على صورة داود ثم ملأته خمراً، ثم طيبته بالمسك والعنبر وأنواع الطيب، ثم أضجعت الزق على سرير داود ولَحَفَته بلحاف داود، وأفشت إلى داود ذلك، وأدخلت داود المخدع، وعلمت أن أباها سيندم على قتله إن قتله. قال فأعلمت طالوت، فقالت: هلم إلى داود فاقتله. قال: فجاء طالوت حتى دخل البيت، ومعه السيف، فقالت: هو ذاك، فشأنك وشأنه. قال: فوضع السيف على قلبه ثم اتكأ عليه حتى أنفذه، فانتضح الخمر ونفخ منه ريح المسك والطيب. قال: يا داود ما أطيبك ميتاً، وكنت أطيب وأنت حيّ، وكنت طاهراً نقياً، وندم فبكى، فأخذ السيف، فأهوى به إلى نفسه ليقتلها، فاحتضنته ابنته، فقالت له: يا أبه، مالك قد ظفرت بعدوك وقتلته، وأراحك الله عزّ وجلّ، وصفا لك الملك. قال: يا بنيّة، قد علمت أن الحسد والبغي حملاني على قتله، فصرت من أهل النار، وإن بني إسرائيل لا يرضون بذلك، فأنا قاتل نفسي. قالت: يا أبه، أفكان يسرّك أنك لم تكن قتلته؟ قال: نعم، فأخرجت داود من البيت، فقالت: يا أبه، إنك لم تقتله، وهذا داود وقال داود: قد علمت أن الشيطان قد زين لك هذا، وندم طالوت.
قال مكحول:
زعم أهل الكتاب الأُول أن طالوت طلب التوبة إلى الله، وجعل يلتمس التنصل من ذلك الذنب إلى الله عزّ وجلّ، وأنه أتى عجوزاً من عجائز بني إسرائيل كانت تحسن الأسم الذي يُدعى الله عزّ وجلّ به فيُجيب، فقال لها: إني قد أخطأت خطيئة لا يُخبرني عن(11/169)
كفارتها إلا اليسع، فهل أنت منطلقة إلى قبره، فتدعين الله عزّ وجلّ فيبعثه حتى أسأله عن خطيئتي ما كفارتها؟ قالت: نعم. فانطلق بها إلى قبره، فقال لها: هذا قبره، فقالت له: انظر، إياك أن تخطئه، ما كانت علامته حين دفن؟ قال: دُفن وفي يده سواران من ذهب. قال: فصلت ركعتين ثم دعت الله، فخرج إليه اليسع، فقال: يا طالوت، ما بلغت خطيئتك أن أخرجتني من مضجعي الذي أنا فيه؟؟ قال: يا نبي الله، ضاق علي أمري فلم يكن لي بدّ من مسألتك عنه. قال: كفارة خطيئتك أن تجاهد بنفسك، وأهل بيتك حتى لا يبقى منكم أحد. ثم رجع اليسع إلى مضجعه، وفعل طالوت ذلك حتى قتل هو وأهل بيته، فاجتمت بنو إسرائيل إلى داود، وآتاه الله الزبور، وعلمه صنعة الدروع، وأمر له الجبال والطير يسبّحن معه إذا سبّح.
قال الطبري: زعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت من أولها إلى أن قتل في الحرب مع ولده كانت أربعين سنة.
طاهر بن أحمد بن علي
ابن محمود. أبو الحسين المحمودي القايني الفقيه الشافعي سكن دمشق.
حدث عن أبي الفضل منصور بن نصر بن عبد الرحيم بن مت بن بجير الكاغدي السمرقندي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أَوَلاً أدلكم علي شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم ".
توفي طاهر بن أحمد وهو راجع من الحجاز في سنة ثلاث وستين وأربع مئة.(11/170)
طاهر بن سهل بن بشر بن أحمد
ابن سعيد. أبو محمد بن أبي الفرج الأسفراييني الصائغ حدث عن أبي الحسين محمد بن مكي بسنده عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن شرّ الناس ذو الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ".
توفي سنة إحدى وثلاثين وخمس مئة. وكان مولده سنة خمسين وأربع مئة.
طاهر بن عبد السلام الدرجي
حدث عن أبيه عن أشياخه أنهم لما فتحوا دمشق في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجدوا حجراً في جيرون مكتوباً عليه باليونانية. قال: فبعثوا إلى النصارى فلم يقرؤوه، وإلى اليهود فلم يقرؤوه، فجاؤوا برجل يوناني يقرؤه فإذا فيه مكتوب: دمشق جبارة، لا يهمّ بها جبار إلا قصمه الله. الجبابرة تبني، والقرود تخرب، والآخر شرّ، الآخر شرّ إلى يوم القيامة.
طاهر بن علي بن عبدوس
أبو الطيب، مولى بني هاشم الطبراني القطان القاضي حدث عن عصام بن روّاد بن الجراح بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا فرغ أحدكم من التشهد فليتعوذ من هذه الأربع: من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ".
كذا قال، وسقط منه واحد. وجاء من طريق غير هذه بزيادة: عذاب جهنم.
وحدث طاهر بن علي بالطبرية عن نوح بن حبيب قال: سمعت الشافعي يقول كلاماً، ما سمعت قط أحسن منه، سمعته يقول: قال إبراهيم خليل الله صلوات الله على نبينا وعليه لولده في وقتِ ما قصّ عليه ما رأى: " مَاذَا(11/171)
تَرَى " أي ماذا تُشير به؟ ليَستخرج بهذه اللفظة منه ذكر التفويض والصبر، والتسليم والانقياد لأمر الله عزّ وجلّ لا لمؤامراته له مع أمر الله فقال: " يا أبَتِ افعَلْ ما تؤمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ " قال الشافعي: والتفويض هو الصبر، والتسليم هو الصبر، والانقياد هو ملاك الصبر، فجمع له الذبيح جميع ما ابتغاه في هذه اللفظة اليسيرة.
توفي طاهر بن علي سنة سبع عشرة وثلاث مئة.
طاهر بن محمد بن الحكم
أبو العباس التميمي البزار المعلم إمام مسجد سوق الأحد.
حدث عن هشام بن عمار بسنده عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا ينجي أحداً عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة، فسدِّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيئاً من القصد تبلغوا ".
وحدث عنه بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكاتبه: " إذا كتبت فضع قلمك على أذنك، فإنه أذكر لك ".
توفي طاهر في سنة اثنتين وعشرين وثلاث مئة.
طاهر بن محمد بن سلامة بن جعفر
أبو الفضل بن القاضي أبي عبد الله القضاعي المصري قدم دمشق رسولاً إلى القسطنطينية.(11/172)
حدث عن القاضي أبو مطر علي بن عبد الله بن الحسن بن أبي مطر الاسكندراني بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كثر ضحكه استخف بحقه، ومن كثرت دعابته ذهبت جلالته، ومن كثر مزاحه ذهب وقاره، ومن شرب الماء على الريق ذهب بنصف قوته، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت خطاياه، ومن كثرت خطاياه كان النار أولى به ".
قال الحافظ: غريب الإسناد والمتن.
طاهر بن محمد بن أبي القاسم
ابن كاكويه. أبو القاسم المروروذي الفقيه الواعظ، والد أبي محمد بن زينة قدم الشام.
وحدث عن أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بادروا بالأعمال الصالحة فتناً كقطع الليل المظلم، ويصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً. ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا ".
توفي طاهر سنة ثلاث وستين وأربع مئة.
طاهر بن محمد البكري الضرير
حدث عن أبي علي الحسن بن حبيب الدمشقي عن الربيع بن سليمان قال: كنت عند الشافعي فأتته رقعة من الصعيد فيها مسألة: ما يقول الشيخ في قوله الله تعالى: " كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لمَحْجُوبُونَ "؟ قال الشافعي: إذا حجب الكفار بالسخط دليل أن المؤمن غير محجوب في الرضا.(11/173)
طراد بن الحسين بن حمدان
أبو فراس الأمير حدث عن أبي عبد الله الحسين بن عبد الله بن محمد بن أبي كامل بسنده عن أبي هريرة قال: بَصَرُ عينيّ هاتين وسَمْعُ أذنيّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيد الحسن أو الحسين وهو يقول: ترَقَّ، عين بقة. قال: فوضع الغلام قدميه على قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيرفعه إلى صدره. قال: ويقول له: افتح. قال: فيرفع فاه فيقبّله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: اللهم، إن أحبّه فأحبّه.
وحدث عنه أيضاً بسنده عن علي عليه السلام أن جبريل أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوافقه مغتماً، فقال: يا محمد، ما هذا الغمّ الذي أراه في وجهك؟! قال: الحسن والحسين أصابتهما عين. قال: صدّق العين، فإن العين حقّ، أفلا عوّذتهما بهؤلاء الكلمات؟ قال: وما هنّ يا جبريل؟ قال: قل: اللهم، ذا السلطان العظيم، ذا المنّ المن القديم. ذا الوجه الكريم ولي الكلمات القامات والدعوات المسقابات عافِ الحسن والحسين من أنفس الجن وأعين الإنس. فقالها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقاما يلعبان بين يديه. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عوذوا أنفسكم ونساءكم وأولادكم بهذا التعويذ، فإنه لم يتعوّذ المتعوذون بمثله.
طرفة بن أحمد بن محمد بن طرفة
ابن الكميت. أبو صالح الحرستاني الماسح حدث عن عبد الوهاب الكلابي بسنده عن محمود بن الربيع قال: عقلتُ مجّة مجّها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وهي من دلو معلّقة في دارنا.
قال محمد: فحدثني عتبان بن مالك قال: قلت: يا رسول الله، إن بصري قد ساء وإن الأمطار إذا اشتدت، وسال الوادي(11/174)
حال بيني وبين الصلاة في مسجد قومي. فلو صليتَ في منزلي مكاناً أتخذه مصلّى؟ قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم. فغدا علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه أبو بكر، فاستأذنا فأذنت لهما، فما جلس حتى قال: أين تحب أن تصلي من منزلك؟ فأشرت له إلى ناحية، فتقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصففنا خلفه فصلى، وحبَسْنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خزيرة صنعناها له.
توفي طرفة بن أحمد سنة خمس وأربعين وأربع مئة.
طُرَيح بن إسماعيل بن سعيد
ابن عبيد بن أَسِيد بن عمرو بن عِلاج بن أبي سلمة بن عبد العزى بن نحِيرَة بن عوف بن قسيّ وهو ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازان، أبو الصلت ويقال: أبو إسماعيل الثقفي الطائفي شاعر، حسن الشعر، بديع النظم، من شعراء بني أمية. وفد على الوليد بن يزيد، إذ كان ولي عهد في حياة هشام لأجل خؤولته، فإن أم الوليد ثقفية. وأقام عنده إلى أن صار الأمر إليه، واستفرغ شعره في مديحه، وبقي إلى أول الدولة العباسية، ومدح السفاح والمنصور.
قال طريح:
خصصت بالوليد حتى صرت أخلوا معه، فقلت له ذات يوم ونحن في مشرقة: يا أمير المؤمنين، خالك يحب أن تعلم شيئاً من خلقه. قال: وما هو؟ قلت: لم أشرب شراباً ممزوجاً قط إلا من لبن أو عسل. قال: قد عرفت ذلك، ولم يباعدك من قلبي.
قال: ودخلت يوماً إليه وعنده الأمويون فقال: إليّ يا خال، فأقعدني إلى جنبه، ثم أتى(11/175)
بشراب فشرب، ثم ناولني القدح، فقلت: يا أمير المؤمنينَ، قد أعلمتك رأيي في الشراب. قال: ليس لذلك أعطيتك، إنما دفعته إليك لتناوله الغلام، وغضب، فرفع القوم أيديهم، كأن صاعقة وقعت على الخِوان، فذهبت أقوم فقال: اقعد. فلما خلا البيت افترى عليّ ثم قال: يا عاضّ كذا وكذا، أردت أن تفضحني؟! لولا أنك خالي لضربتك ألف سوط، ثم نهى الحاجب عن إدخالي، وقطع عني أرزاقي، فمكثت ما شاء الله، ثم دخلت عليه يوماً متنكراً، فلم يشعر إلا وأنا بين يديه وأنا أقول من أبيات: " البسيط "
يا بن الخلائفِ ما لي بعدَ تقربةٍ ... إليك أُقصى وفي حالَيْك لي عجبُ
كأنني لم يكن بيني وبينكُم ... إلٌّ ولا خُلّة تُرعى ولا نسبُ
قد كان بالودّ قِدْماً منك أزلفني ... بقربك الودّ والإشفاق والحدّبُ
وكنتُ دونَ رجالٍ قد جعلتهم ... دوني إذا ما رأوني مقبلاً كذبوا
إن يسمعوا لخير يخفوه وإن سمعوا ... شراً أذاعوا وإن لم يسمَعوا كذبوا
قال: فتبسم، وأمرني بالجلوس، ورجع لي، وقال: إياك أن تعاود. منها:
أين الذمامةُ والحقُّ الذي نزلَت ... بحفظِه وبتعظيم له الكتبُ؟
وحَوْكي الشعرَ أُصفيه وأنظِمه ... نظمَ القلائد فيها الدُرّ والذهبُ
وإن سُخطَك شيء لم أناجِ به ... نفساً ولم يك مما كنتُ أحتسبُ
لكن أتاك بقولٍ آثمٍ كذبٍ ... قومٌ بغَوني فنالوا فيّ ما طلبوا
وهي طويلة. وقيل في سبب غضبته على طريح غير هذا.
ومن شعره في الوليد: " المنسرح "
أنت ابنُ مُسْلَنطحِ البطاحِ ولم ... تُطرقْ عليكَ الحُنيُّ والوُلُجُ(11/176)
لو قلتَ للسيل دَعْ طريقك وال ... موجُ عليه كالهَضْبِ يعتلجُ
لارتدّ أوساخ أو لكانَ لهُ ... في سائرِ الأرضِ عنكَ مُنعرجُ
طوبى لفرعَيْك من هنا وهنا ... طوبى لأعراقِك التي تشجُ
أراد فرعه من قبل أبيه، وهم بنو أمية، وفرعه من قبل أمه، وهم ثقيف.
دخل طُريح على المهدي، فانتسب له، وسأله أن يسمع، فقال: ألست الذي يقول للوليد بن يزيد:
أنت ابن مسلنطح البطاح ولم ... تطرق عليك الحني والولج
والله لا تقول في مثل هذا، ولا أسمع منك شعراً، وإن شئت وصلتُك.
ومن شعر طُريح: " الكامل "
والمالُ جُنّةُ ذي المعايب إن يُصب ... يُحمَدْ وإن يدع الطريقة يُعذرِ
والمرء يُحمدُ إن يصادف حظّه ... قدرٌ ويعذلُ في الذي لم يقدرِ
والناسُ أعداءُ لكلّ مُدفَّع ... صفر اليدين وإخوة للمكثرِ
وإذا امرؤ في الناس لم يك عارفاً ... بالعُرف لم يكن منكراً للمنكرِ
ومن شعره: " الطويل "
سعيتُ ابتغاءَ الشكرِ فيما صنعت بي ... فقصّرت مغلوباً وإني لشاكر
لأنكَ تعطيني الجزيلَ بداهةً ... وأنت لما استكثرتُ من ذاك حاقرُ
الطفيل بن عمرو بن حَمَمة
وقيل: الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سُليم ابن فهم بن غنم بن دوس، وقيل طفيل بن الحارث وقيل: طفيل بن ذي النور الدوسي له صحبة، وكان سيداً في قومه. قتل بأجنادين، وقيل: باليرموك، وقيل: باليمامة.(11/177)
قال الطفيل بن عمرو:
أقرأني أُبيّ بن كعب القرآن، فأهديت له قوساً، فغدا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متقلدها، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من سلّحك هذه القوس يا أبيّ؟ قال: الطفيل بن عمرو الدوسي. أقرأته القرآن، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تقلده شلوة من جهنم. فقال: يا رسول الله، إنا نأكل من طعامهم. فقال: أما طعامٌ صنع لغيرك فحضرته فلا بأس أن تأكله، وأمّا ما صُنع لك فإنك إن أكلته فإنما تأكل بخلاقك.
أسلم الطفيل بن عمرو بمكة، وكان يسمى ذا القطنتين. قيل: كان يجعل في أذنيه قطنتين لئلا يسمع كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورجع إلى بلاد قومه، ووافى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عمرة القضية وفي الفتح. وقدم المدينة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه. فخرج إلى اليمامة فقتل بها سنة ثنتي عشرة. وقيل: إنه قدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بخيبر مع أبي هريرة.
وكان حممة بن رافع بن الحارث الدوسي من أجمل العرب وكانت له حُمّة يقال لها: الرطبة، كان يغسلها بالماء ثم يعقِصها وقد احتقن فيها الماء. فإذا مضى لها يوم رجَّلها ثم يعصرها فتملأ جلساءه، فحج على فرس له فنظرت إليه الحمامة الكنانية وهي خناس، وكانت عند رجل من بني كنانة يقال له: ابن الحمارس، فوقع بقلبها، فقالت له: من أنت؟ فوالله ما أدري أوجهك أحسن أم شعرك أم فرسك، ما أنت بالنجدي الثَّلِب، ولا التهامي الترِب، فاصدقني. قال: أنا امرؤ من الأزد من دَوس، منزلي بثَروق. قالت: فأنت قد وقعت بقلبي، فاحملني معك، فأردفها خلفه، ومضى إلى بلده. فلما أوردها أرضه قال: قد علمت هربك معي كيف كان، والله لا تهربين بعدي إلى رجل أبداً، فقطع عرقوبيها، فولدت له عمرو بن حممة. وكان سيداً. وولد عمرو بن حَممة الطفيلَ بن عَمرو، ذا النور. وفد على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخرج زوجها ابن الحمارس في طلبها، فلم يقدر عليها، فرجع وهو يقول: " الوافر ".(11/178)
ألا حيِّ الخناسَ على قِلاها ... وإن شحطت وإن بعدت نواها
تبدلت الطبيخ وأرض دوس ... بهجمة فارس حمرٍ ذراها
وقد خُبَرتها جاعت وذلّت ... وإن الحرّ من طود سواها
وقد خُبَرتها نجلت زكياً ... وأنواراً معرفة سواها
وقد أُنبئتُها ولدت غلاماً ... فلا شبّ الغلام ولا هناها
كان الطفيل بن عمرو رجلاً شريفاً، شاعراً، كثير الضيافة، فقدم مكة ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها، فمشى إليه رجال من قريش فقالوا: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وفرّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته. إنا نخشى عليك وعلى قومك مثلما دخل علينا منه فلا تكلمه، ولا تسمع منه.
قال الطفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت على ألا أسمع منه شيئاً، ولا أكلمه وفي رواية حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفاً، فرقاً من أني يبلغني شيء من قوله. قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي عند الكعبة، فقمت قريباً منه، وأبى الله إلا أن يُسمعني بعض قوله، فسمعت كلاماً حسناً. فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته. فمكثت حتى انصرف إلى بيته ثم اتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت معه، فقلت: يا محمد، إن قومك قالوا لي كذا وكذا الذي قالوا لي فوالله ما تركوني، يخوفونني أمرك، حتى سددت أذنيّ بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم قم إن الله أبى إلا أن يسمعنيه، فسمعت قولاً حسناً، فاعرض علي أمرك، فعرض عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإسلام، وتلا عليه القرآن، فقال: لا والله ما سمعت قولاً قط أحسن من هذا، ولا أمراً أعدل منه فأسلمت، وشهدت شهادة الحق، فقلت: يا نبيّ الله، إني امرؤ مطاع في قومي، وأنا(11/179)
راجع إليهم فداعيهم إلى السلام، فادع الله أن يكون لي عوناً عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: اللهم، اجعل له آية. قال: فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنيَّة تُطلعني على الحاضر وقع نور بين عيني مثل المصباح، فقلت: اللهم، في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا أنها مَثُلة وقعت في وجهي لفراق دينهم، فتحول النور، فوقع في رأس سوطي، فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق وفي رواية: فكان يضيء في الليلة المظلمة له، فسُمي ذا النور - قال: فدخل بيته. قال: فأتى أبي، فقلت له: إليك عني يا أبتاه، فلست مني ولستُ منك. قال: ولم يا بني؟! قال: إني أسلمت، واتبعت دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: يا بني، ديني دينُك. قال: فاذهب فاغتسل، وطهِّر ثيابك، ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم، ثم أتتني صاحبتي فقلت لها: إليك عني، لستُ منك، ولستِ مني. قالت: ولم بأبي أنت؟! قلت: فرق بيني وبينك الإسلام، إني أسلمت وتابعت دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالت: ديني دينك. قلت: فاذهبي إلى حمى ذي الشرى فتطهري منه. وكان ذو الشرى صنم دوس. والحمى حمى له يحمونه، وله وَشَل وماء يهبط من الجبل. فقالت: بأبي أنت، أتخاف على الصبية من ذي الشرى شيئاً؟! قلت: لا، أنا ضامن لما أصابك. قال: فذهبت، فاغتسلت، ثم جاءت، فعرضتُ عليها الإسلام فأسلمت، ودعوت دَوْساً فأبطؤوا عليّ، ثم جئت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة فقلت: يا رسول الله، قد غلبتني دوس، فادع الله عليهم وفي رواية: قد غلبني على دوس الزنا، فادع الله عليهم فقال: اللهم، اهدِ دوساً وفي رواية: فقلت: يا رسول الله، إن دوساً عصت وأبت، فادع الله، قال: فرفع يديه، فقلت: هلكت دوس، فقال: اللهم، اهدِ دوساً، وائت بهم قال: فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخرج إلى قومك، فادعهم، وارفق بهم، فخرجت إليهم. فلم أزل بارض دوس أدعوها حتى هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق. ثم قدمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن أسلم من قومي ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر، حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس، ثم لحقنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر، فأسهم لنا مع المسلمين، وقلنا:(11/180)
يا رسول الله، اجعلنا ميمنتك، وأجعل شعارنا: مبرور، ففعل. فشعار الأزد كلها إلى اليوم مبرور.
قال الطفيل: ثم لم أزل مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى فتح الله عليه مكة، فقلت: يا رسول الله، ابعثني إلى ذي الكفّين صنم عمر بن حَمَمَة حتى أحرقه، فبعثه إليه، فأحرقه. وجعل الطفيل يقول وهو يوقد النار عليه، وكان خشب: " الرجز "
يا ذا الكَفَيْن لستُ مِن عُبّادكا ... ميلادُنا أكبرُ من ميلادكا
إنا حششنا النار في فؤادكا
قال: فلما أحرقت ذا الكفين بان لم بقي ممن تمسّك به أنه ليس على شيء، فأسلموا جميعاً. ورجع الطفيل بن عمرو إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان معه بالمدينة حتى قبض.
فلما ارتدّت العرب خرج مع المسلمين، فجاهد حتى فرغوا من طُليحة وأهل نجد كلها. ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل، فقتل الطفيل بن عمرو باليمامة شهيداً، وجُرح ابنه عمرو بن الطفيل، وقطعت يده، ثم استبلّ منها، وصحت يده. فبينا هو عند عمرو بن الخطاب إذ أتي بطعام فتنحى عنه، فقال عمر: مالك! لعلك تنحّيت لمكان يدك؟ قال: أجل. قال: والله لا أذوقه حتى تسوطه بيدك، فوالله ما في القوم أحدٌ بعضُه في الجنة غيرك. ثم خرج عام اليرموك في خلافة عمر بن الخطاب مع المسلمين فقتل شهيداً، رحمه الله.
وفي رواية حديث آخر بمعناه: أنه لما سار مع المسلمين إلى اليمامة، ومعه ابنه عمرو بن الطفيل، فقال لأصحابه: إني قد رأيت رؤيا، فاعُبروها لي: رأيت أن رأسي قد حلق، وأنه قد خرج من فمي طائر،(11/181)
وأن امرأتي لقيتني فأدخلتني في فرجها، ورأيت أن ابني يطلبني طلباً حثيثاً، ثم رأيته حُبس عني. قالوا: خيراً رأيت. قال: أما والله إني قد أوّلتها. قالوا: وما ذاك؟ قال: أما حلق رأسي فوَضعه، وأما الطائر الذي خرج من فمي فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تُحفر لي فأُغَيَّب فيها، وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني فإني أراه سيجهد لأن يصيبه من الشهادة ما أصابني. فقتل الطفيل شهيداً باليمامة، وجُرح ابنه عمرو جراحاً شديدة، ثم قتل عام اليرموك شهيداً في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
وفي حديث آخر: لما افتتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حنيناً وأراد المسير إلى الطائف بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين - صنم عمرو بن حممة - يهدمه، وأمره أن يستمدّ قومه ويوافيه بالطائف. فقال الطفيل: يا رسول الله، أوصني. قال: " أفش السلام، وابذل الطعام، واستحي من الله كما يستحيي الرجل ذو الهيئة من أهله، إذا أسأت فأحسن، ف " إنَّ الحَسَناتِ يُذهِبنَ السَّيَّئاتِ ذِلِكَ ذِكرَى للِذّاكِرِينَ " ". فخرج مسرعاً إلى قومه، فهدم ذا الكفين، وأسرع معه قومه، انحدر معه أربع مئة من قومه، فوافوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطائف بعد مقدمه بأربعة ايام، بدبابة ومنجنيق وقال: يا معشر الأزد، من يحمل رايتكم؟ قال الطفيل: من كان يحملها في الجاهلية. قال: أصبتم، وهو النعمان بن الزرافة اللِّبي. وممن استشهد باليمامة سنة اثنتي عشرة الطفيل بن عمرو الدوسي. وقيل: هذا وهم، وإن طفيل استشهد بأجنادين.(11/182)
طلحة بن أحمد بن الحسن
ويقال: ابن الحسين، أبو القاسم ويقال: أبو محمد البغدادي الخزاز الصوفي حدث عن محمد بن أحمد بن فضالة السوسي بسنده عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المرأة كالضِلَع فَدارِهَا تعش بها فدارها تعش بها " وحدث عن محمد بن صفوة المصيصي بسنده عن أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقطع ألسنتهم بمقاريض من نار فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون الناس بما لا يفعلون " توفي طلحة ببغداد سنة ثمانين وثلاث مئة.
طلحة بن أسد بن عبد الله المختار
أبو محمد الرقي سكن دمشق.
حدث عم أبي بكر محمد بن الحسين الآجري بسنده عن تميم الداري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إنَّ الدين النصيحة، إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة - ثلاثاً - لله عز وجل ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " وحدث عنه أيضاً بسنده عن أبي الدرداء قال: لا إسلام إلا بطاعة، ولا خير إلا في جماعة، والنصح لله عز وجل وللخليفة وللمؤمنين عامة.(11/183)
توفي طلحة بن أسد في ربيع الأول سنة أربع وتسعين وثلاث مئة. وكان ثقة مؤمناً يذكر عنه من السخاء والكرم شيء عظيم.
طلحة بن زيد
أبو مسكين ويقال: أبو محمد القرشي الرقي قيل: إنه دمشقي، وسكن الرقة.
حدث عن عُبيدة بن حسان بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: بينما نحن جلوس مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت أبي حشفة في نفر من المهاجرين، منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لينهض كل رجل منكم إلى كُفئِه "، قال: ونهض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عثمان بن عفان فاعتنقه وقال: " أنت وليي في الدنيا، وأنت وليي في الآخرة "
وحدث عن موسى بن عبيدة بسنده عن ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن العبد ليقف بين يدي الله، فيطوّل وقوفه حتى يصيبه من ذلك كرب شديد. فيقول: يا ربّ، ارحمني اليوم. فيقول: وهل رحمتّ شيئاً من خلقي من أجلي فأرحمك، هات ولو عصفوراً " قال: فكان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن مضى من سلف هذه الأمة يتابعون العصافير فيعتقونها.(11/184)
طلحة بن أبي السن الصَّيداوي
حدث السكن بن محمد بن أحمد بن جُمَيع الصيداوي عن طلحة بن أبي السن خادم جده أبي بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن جميع الغساني - وكان زوج ابنة أخيه - قال: كان الشيخ أبو بكر يقوم الليل كله فإذا صلى الفجر نام إلى الضحى، فإذا صلى الظهر يصلي إلى العصر، فإذا صلى العصر نام إلى قبل صلاة المغرب، فإذا صلى - يعني العشاء - قام إلى الفجر، وكانت هذه عادته، فجاء رجل ذات يوم يزوره بعد العصر فقعد يتحدث معه فترك عادة النوم. فلما انصرف سألته عنه فقال: هذا عريف الأبدال يزورني في السنة مرة، فلم أزل أرصد إلى مثل ذلك الوقت حتى جاء فوقفت حتى فرغ من حديثه، ثم سأله الشيخ: إلى أين تريد؟ فقال: أزور أبا محمد الضرير في مغار عند محد العين. قال طلحة: فسألته أن يأخذني معه. قال: بسم الله، فمضيت معه، فخرجنا حتى صرنا عند قناطر الماء فأذن المؤذن عشاء المغرب قال: ثم أخذ بيدي وقال: قل: بسم الله، قال: فمشينا دون العشر خُطاً فإذا نحن عند المغار مسيرة إلى بعد الظهر، قال: فسلمنا على الشيخ وصلينا عنده وتحدث معه. فلما ذهب نحو ثلث الليل قال لي: أتحب ان تجلس ههنا أو ترجع إلى بيتك؟ قلت: أرجع، فأخذ بيدي وسمّى بسم الله فمشينا نحو العشر خُطاً فإذا نحن على باب صيدا، فتكلم بشيء فانفتح الباب ودخلت ثم عاد الباب.(11/185)
طلحة بن عبد الله بن خلف
ابن أسعد بن عامر بن بياضة بن سبيع بن خثعمة بن سعد بن مليح ابن عمرو بن عامر بن يحيى بن قمعة بن إلياس بن مضر أبو المطرف، وقيل: أبو محمد الخزاعي ويقال: إن أبا المطرف هو أبوه عبد الله بن خلف المعروف بطلحة الطلحات أحد الأجواد المفضلين، والأسخياء المشهورين، كان أجود أهل البصرة في زمانه.
قدم دمشق وافداً على يزيد بن معاوية، شافعاً في يزيد بن ربيعة بن مفرغ. وأم طلحة الطلحات صفية بن الحارث، وكان عبد الله بن خلف أبوه كاتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة.
قال الأصمعي: الطلحات المعروفون بالكرم: طلحة بن عبيد الله بن عثمان التميمي، وهو الفياض، وطلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي وهو طلحة الجود، وطلحة بن عبد الله بن عوف، ابن أخي عبد الرحمن بن عوف الزهري، وهو طلحة الندى، وطلحة بن الحسن بن علي وهو طلحة الخير، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، وهو طلحة الطلحات وسمي بذلك لأنه كان أجودهم، وقيل: سمي بذلك لأن أمه ابنة الحارث بن طلحة بن أبي طلحة العبدري، ولذلك سمي طلحة الطلحات.
قالت امرأة طلحة الطلحات له: ما رأيت ألأم من قومك. قال: وكيف؟ قالت: يأتونك إذا أيسرت، ويقطعونك إذا أملقت. قال: فهؤلاء أكرم قوم حين يأتوننا حيث بنا قوة على برّهم والقيام بحقوقهم، وينقطعون عنا حين نضعف عن ذلك.(11/186)
قال عوانة بن الحكم: دخل كثير عزة على طلحة الطلحات عائداً، فقعد عند رأسه، فلم يكلمه لشدة ما به، فأطرق ملياً ثم التفت إلى جلسائه فقال: لقد كان بحراً زاخراً وغيماً ماطراً، ولقد كان هطِل السحاب، حلو الخطاب، قريب الميعاد، صعب القياد، إن سئل جاد، وإن جاد عاد، وإن حبا غمر، وإن ابتلي صبر، وإن فوخر فخر، وإن صارع بدر، وإن جُني عليه غفر، سليط البيان، جريء الجنان في الشرف القديم والفرع الكريم والحسب الصميم، يبذل عطاءه، ويرفد جلساءه، ويرهب أعداءه. ففتح طلحة عينيه فقال: ويحك يا كثير ما تقول؟ فقال: " الكامل "
يا بن الذَّوائبِ مِنْ خُزاعة والذي ... لَبِسَ المكارمَ وارتدى بنجادِ
حلَّت بساحتِك الوفودُ من الورى ... فكأنّما كانوا على ميعادِ
لنعود سيِّدَنا وسيِّد غيرنا ... ليستَ التشكي كانَ بالعُوَّادِ
خرج وفد من أهل المدينة إلى خراسان إلى طلحة الطلحات. فلما صاروا إلى بعض البوادي رفعت لهم خيمة خفية، وقد جنَّهُم الليل، وإذا هم بعجوز ليس عندها من يحل بها ولا يرحل عنها وإلى جنب خيمتها عُنيزة، قالوا لها: هل من منزل فننزل؟ فقالت: إي ها الله، على الرحب والسعة والماء السائغ. فنزلوا فإذا ليس بقربها ولد ولا أخ ولا بعل، فقالت: ليقُم أحدكم إلى هذه العُنيزة فليذبحها، فقالوا: إذاً تهلكي والله، أيتها العجوز، إنّ عندنا من الطعام لبلاغاً، ولا حجة بنا إلى عنيزتك، فقالت: أنتم أضياف وإنا المنزولة بها، ولولا أني امرأة لذبحتها، فقام أحدهم متعجباً منها، فذبح العنز، واتخذت لهم طعاماً وقربته إليهم، فلما أصبحوا غدَّتهم ببقيتها، ثم قالت: أين تريدون؟ قالوا: طلحة الطلحات بخراسان، فقالت: إذان تأتون سيداً ماجداً صميماً، غير وحش ولا كَدوم، هل أنتم تبلغوه كتاباً إن دفعته إليكم؟ فضحكوا وقالوا: نفعل وكرامة، فدفعت إليهم كتاباً على قطعة جراب عندها. فلما قدموا على طلحة جعل يسألهم عما(11/187)
خلفوا وما رأوا في طريقهم، فذكروا العجوز وقالوا: نخبر الأمير عن عجب رأيناه، وأخبروه بقصة العجوز وصنيعها وقولها فيه، ثم قالوا: ولها عندنا كتاب إليك ودفعوه إليه، فلما قرأ الكتاب ضحك وقال: لحاها الله من عجوز ما أحمقها! تكتب إليَّ من أقصى الحجاز تسألني جُبْن خراسان فلم يدع للوفد حاجة إلا قضاها، فلما أرادوا الخروج قال: هل أنتم مبلغوها الجبن الذي سألت؟ قالوا: نعم، وقد كان أمير بجبنتين عظيمتين فأمر بنقبهما وملأهما دنانير وسوّى عليهما ثم قال: بلغوها الجبنتين، فلما قدموا عليها نزلوا، قالوا لها: ويحك كتبت إلى مثل طلحة الطلحات تستطعمينه جبن خراسان! قالت: أو قد بعث إلي بشيء؟ قالوا: نعم، وأخرجوا الجبنتين فكسرتهما فتناثرت الدنانير ثم قالت: أمثلي تسأل طلحة جبناً؟! ثم قالت: أقرأ عليكم كتابي إليه؟ قالوا: نعم. فإذا في كتابها: " الرجز "
يا أيُّها المائح دَلوي دونكا ... إني رأيتُ النّاس يحمدونكا
يثنون خيراً ويمجّدونكا ثم قالت: أفقرأ عليكم جوابهَ؟ قالوا: نعم، فإذا جوابه: " الرجز "
إنّا ملأناها تفيض فيضا ... فلن تخافي ما حَييت غَيضا
خذي لك الجبن وعودي أيضاً
قال الخليل بن أحمد: قال طلحة الطلحات: ما بات لرجل علي موعد منذ عقلت إلا القليل، وذلك أنه يتململ على فراشه ليغدو فينظفر بحاجته، فلأنا أشد تململاً بالخروج إليه من عدتي تخوفاً لعارض خلف، إن الخلف ليس من أخلاق الكرام.(11/188)
طلحة بن عبد الله بن عوف
ابن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة أبو عبد الله، ويقال: أبو محمد الزهري ابن أخي عبد الرحمن بن عوف المدني الفقيه وفد على معاوية، أمه فاطمة بنت مطيع بن الأسود بن حارثة بن نَضْلة بن عُبيد بن عويج بن عدي بن كعب.
حدث عن سعيد بن زيد يعني ابن عمرو بن نفيل قال: من ظلم شيئاً من الأرض طوّقه من سبع أرضين وفي رواية: شبراً ومن قتل دون ماله فهو شهيد.
زاد في حديث آخر: ومَنْ قُتل دونَ أهِله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد.
وفد جماعة من قريش على معاوية بن أبي سفيان فأجازهم وفضل عليهم في الجائزة طلحة بن عبد الله بن عوف، فعاتبوه على ذلك، فقال: أنتم قدمتموه على أنفسكم، قدمتموه للصلاة في طريقكم وهي أفضل عمل المرء.
كان طلحة بن عبيد الله من سَرَوات قريش، وكان يُقال له: طلحة الندى، وكان هو وخارجة بن زيد بن ثابت في زمانهما يُستفتيان وينتهي الناس إلى قولهما، ويَقسمان المواريث بين أهلها من الدور والنخيل والأموال، ويكتبان الوثائق للناس بغير جُعْلٍ.
وكان طلحة سخياً جواداً قدم الفرزدق المدينة وقد مدحه ومدح غيره من قريش، فبدأ به فأعطاه ألف دينار، ثم أتى غيره فجعلوا يسألون كما أعطاه طلحة؟ فقيل: ألف دينار، فكانوا يكرهون أن قصّروا عن ذلك فيتعرض للسان الفرزدق،(11/189)
فجعلوا يتكلفون ما أعطاه طلحة فكان يقال: أتعب طلحة الناس. وكان طلحة إذا كان عنده مال فتح بابيه وغشيه أصحابه والناس، فأطعم وأجاز وحمّل، وإذا لم يكن عنده شيء أغلق بابيه فلم يأته أحد، فقال له بعض أهله: ما في الدنيا شرّ من أصحابك، يأتونك إذا كان عندك شيء، وإذا لم يكن لم يأتوك. فقال: ما في الدنيا خير من هؤلاء، لو أتونا عند العسرة أردنا أن نتكلف لهم، فإذا أمسكوا حتى يأتينا شيء فهو معروف منهم وإحسان.
وكان طلحة بن عبد الله قصيراً لطيفاً أعمش، فدخل سوق الظهر بالمدينة وفيه الفرزدق، فقال للفرزدق: اختر عشراً من هذه الإبل، ففعل، فقال: ضم إليها مثلها، فلم يزل كذلك حتى بلغت المئة ثم قال: هي لك، فسأل الفردزق عنه فقيل له: هذا طلحة بن عبد الله بن عوف، فقال يمدحه: " الكامل "
يا طلحُ أنتَ أخو الندى وعقيدُه ... إنَّ النَّدى إن ماتَ طلحةُ ماتا
وقال فيه الأشجعي: " الرجز "
طلحةُ يختارُ نَعَمْ على لا ... ثَمَّتَ لا يلقى به مطالا
إنّ له في غير لا مقالا قال ابن سلام: مرّ طلحة بن عبد الله بدار ابن أذنية الشاعر وهو ينادي عليها فقال: إن داراً قعدنا فيها وتحدثنا في ظلها لمحقوقة أن تمنع من البيع، فبعث إلى أبن أذينة بثمنها وأغناه عن بيعها.
قدم الفرزدق المدينة زائراً لطلحة، وقد توفي طلحة وهو لا يشعر، فوجد رجلاً خارجاً من المدينة فسأله عن أخبار الناس فقال له: توفي طلحة بن عبد الله، فقال له: بفيك التراب والحجر، ودخل من رأس الثنية يولول ويقول: يا أهل المدينة، كيف تركتم طلحة يموت.(11/190)
أعطى السلطان طلحة بن عبد الله سبعة آلاف درهم فخرج بها معه غلام، فلقيه أعرابي حديث عهد بعلة، فقال له: أعني على الدهر، فقال: يا غلام انثر ما معك في كساء الأعرابي، فذهب يقلها، فعجز عنها فقعد يبكي، فقال: ما يبكيك؟ لعلك استقللت ما أعطيناك؟ قال: لا والله ما بكيت استقلالاً لها، ولكني نظرت في يسير ما سألتك من جزيل ما أعطيتني، وتفكرت في ما تأكل الأرض من كرمك فأبكاني ذلك.
توفي طلحة بن عبد الله سنة سبع وتسعين وهو ابن اثنين وسبعين سنة، وقيل: سنة تسع وسبعين. وكان بارعاً أريحياً.
طلحة بن عبيد الله بن عثمان
ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب ابن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك ابن النضر بن كنانة، أبو محمد التميمي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية الذي سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأحد الستة أصحاب الشورى الذي توفي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عنهم راض.
حدث طلحة بن عبيد الله قال: جاء الرجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل نجد ثائر الرأس، يسمع دوي صوته، ولا يُفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليّ غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وصيام شهر رمضان، قال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع. وذكر له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزكاة، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال:(11/191)
لا، إلا أن تطوع. قال: فأجبر الرجل ذاهباً وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أفلح إن صدق.
وعن طلحة قال: دخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي يده سفرجلة فرمى بها إليَّ وقال: دونكها يا أبا محمد فإنها تجمّ الفؤاد.
وأم طلحة بن عبيد الله هي الصعبة بنت الحضرمي وهو عبد الله بن عباد بن مالك بن ربيعة بن أكبر بن مالك بن عويف بن مالك بن الخزرج بن إياد بن الصدف من حضرموت من كندة.
وقتل طلحة يوم الجمل سنة ست وثلاثين، وكان من المهاجرين الأول، كان بالشام في تجارة حيث كانت وقعة بدر، فضرب له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسهمه. فلما قدم قال: يا رسول الله، وأجري؟ قال: وأجرك.
وكان له مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلاء حسن يوم أحد، وقاه بنفسه، واتقى عنه النبل بيده حتى شلت أصبعه وضرب الضربة المصلبة في رأسه، وحمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ظهره حتى استقل على الصخرة، وكان قد بدَّن وظاهر بين درعين، فلما ذهب لينهض فلم يستطع فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك اليوم حين انكشف المشركون لأبي بكر الصديق: يا أبا بكر أوجب طلحة.(11/192)
قال طلحة بن عبيد الله: حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم، أفيهم أحد من أهل الحرم؟ قال طلحة: نعم، أنا، فقال: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم ومهاجره إلى نخل وحرّة وسباخ، فإياك أن تُسبق إليه، قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعاً حتى قدمت مكة فقلت: هل كان من حدث؟ قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين تنبأ وقد تبعه ابن أبي قحافة، قال: فخرجت حتى دخلت على أبي بكر وقلت: أتبعت هذا الرجل؟ قال: نعم، فانطلق إليه فادخل عليه فاتبعه فإنه يدعو إلى الحق، فأخبره طلحة بما قال الراهب، فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم طلحة وأخبر رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قال الراهب، فَسُر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فلما أسلم أبو بكر وطلحة بن عبيد الله أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تميم، وكان نوفل يدعى أسد قريش، فلذلك سمي أبو بكر وطلحة: القرينين.
قال مسعود بن حراش: بينا أنا أطوف بين الصفا والمروة فإذا أناس كثير يتبعون أناساً، قال: فنظرت فإذا فتى شاب موثق يداه إلى عنقه، فقلت: ما شأن هؤلاء؟ فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله قد صبأ، وإذا وراءه امرأة تذمره وتسبه، قلت: من هذه المرأة؟ قالوا: هذه أمه الصعبة بن الحضرمي، قالوا: وإن عثمان بن عبيد الله أخا طلحة قرن طلحة مع أبي بكر ليحبسه عن الصلاة ويرده عن دينه، وخرز يده ويد أبي بكر في قِدّ، فلم يرعهم إلا وهو يصلي مع أبي بكر.
وعن ابن عباس قال: أسلمت أم أبي بكر وأم عثمان وأم طلحة وأم الزبير وأم عبد الرحمن بن عوف وأم عمار بن ياسر.
ولما ارتحل سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخرّار في هجرته إلى المدينة فكان الغد لقيه طلحة بن عبيد الله جائياً من الشام في عير، فكسا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر من ثياب(11/193)
الشام، وخبّر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن من بالمدينة من المسلمين قد استبطأوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعجل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن من بالمدينة من المسلمين قد استبطأوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعجل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السير، ومضى طلحة إلى مكة حتى فرغ من حاجته، ثم خرج بعد ذلك بآل أبي بكر، فهو الذي قدم بهم المدينة.
ولما آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الصحابة بمكة قبل الهجرة آخى بين طلحة والزبير.
وقيل: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مقدمه المدينة مهاجراً قد آخى بين المهاجرين والأنصار يتوارثون دون ذوي الأرحام حتى نزلت آية الفرائض " وَأُولُوْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلِى بِبَعْضٍ في كِتَابِ اللهِ "، فآخى بين طلحة بن عبيد الله وبين أبي أيوب خالد بن زيد.
وعن طلحة قالِ: لما وقى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده يوم أحد فقطعت فقال: حسِّ. فقال له: لو قلت: بسم الله لرأيت بناءك الذي بنى الله لك في الجنة وأنت في الدنيا.
وفي رواية: لو قلت: بسم الله لطارت بك الملائكة والناس ينظرون إليك.
وفي رواية: حملتك الملائكة.
وفي رواية: لو قتل: بسم الله، أو ذكرت الله لرفعتك الملائكة، والناس ينظرون حتى تلج بك في جو السماء.(11/194)
قال جابر:
لما كان يوم أُحد وولى الناس كان رسول الله في ناحية في اثني عشر رجلاً من الأنصار وفيهم طلحة بن عبيد الله فأدركه المشركون، فالتفت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من للقوم؟ فقال طلحة: أنا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كما أنت، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فقال: أنت، فقاتل حتى قتل، ثم التفت فإذا بالمشركين فقال: من للقوم؟ فقال طلمة: أنا يا رسول الله، فقال: كما أنت. فقال رجل من الأنصار: أنا، فقال: أنت، فقاتل قتال صاحبه حتى قتل، ثم لم يزل يقول ذلك ويخرج إليهم رجل من الأنصار ويقاتل من قبله حتى يقتل حتى بقي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطلحة بن عبيد الله فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من للقوم؟ فقال طلحة: أنا يا رسول الله، فقاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه فقال: حس، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو قلت: بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون، ثم ردّ الله المشركين.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ذكر يوم أحد بكى ثم قال: ذاك كله لطلحة، ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلاً يقاتل مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دونه وأراه قال: يحميه قال: فقلت: كن طلحة حيث فاتني ما فاتني، فقلت: يكون رجل من قومي أحبّ إليّ، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه وأنا اقرب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه وهو يخطف المشي خطفاً لا أخطفه، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح فانتهينا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه، وقد دخل في وجنتيه حلقتان من حلق المغفر فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليكما صاحبكما يريد طلحة وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله قال: فذهبت لأنزع ذاك من وجهه فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك بحقي لما تركتني فتركته، فكره أني تناولهما بيده فيؤذي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأزَمَ عليها بفيه(11/195)
فاستخرج إحدى الحلقتين ووقعت ثنيته مع الحلقة، وذهبت لأصنع ما صنع فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني قال: ففعل مثلما فعل في المرة الأولى فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة. فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتماً فأصلحنا من شأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وسبعون أو اقل أو أكثر بين طعنة ورمية وضربة فإذا قد قطعت أصبعه فأصلحنا من شأنه.
وفي حديث آخر معناه: من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي في الدنيا وهو من أهل الجنة فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله، طلحة ممن قضى نحبه.
وقال طلحة: لما جال المسلمون تلك الجولة، ثم تراجعوا أقبل رجل من بني عامر يجر رمحاً له على فرس كميت أغر مدججاً في الحديد يصيح: أنا ابن ذات الودع، دلوني على محمد، فأضرب عرقوب فرسه، فاكتسعت ثم أتناول رمحه فوالله ما أخطأت به عن حدقته فخار كما يخور الثور، فما برحت به واضعاً رجلي على خده حتى أزرته شَعُوب.
قالوا: ولما كان يوم الجمل وقتل علي من قتل من المسلمين ودخل البصرة جاءه رجل من العرب فتكلم بين يديه ونال من طلحة فزبره علي وقال: إنك لم تشهد يوم أحد وعظم غنائه عن الإسلام مع مكانه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانكسر الرجل وسكت، فقال رجل من القوم: وما كان غناؤه وبلاؤه يوم أحد يرحمه الله؟ فقال عليّ نعم، فيرحمه الله، فلقد رأيته وإنه لَيترِّس بنفسه دون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن السيوف لتغشاه والنبل من كل(11/196)
ناحية، وإنْ هو إلا جُنة بنفسه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال قائل: إن كان يوماً قد قتل فيه أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه الجراحة، فقال علي: أشهد لسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ليت أني غودرت مع أصحاب نُحْصِ الجبل، ثم قال: لقد رأيتني يومئذ وإني لأذبهم في ناحية، وإن أبا دجانة في ناحية يذب طائفة منهم، وإن سعد بن أبي وقاص يذب طائفة منهم حتى فرج الله ذلك كله، ولقد رأيتني وانفردَت منهم يومئذ فرقة خشناء فيها عكرمة بن أبي جهل فدخلت وسطهم بالسيف فضربت به واشتملوا عليَّ حتى أفضيت إلى آخرهم، ثم كررت فيهم الثانية حتى رجعت من حيث جئت، ولكن الأجل استأخر، ويقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وعن عائشة وأم إسحاق ابنتي طلحة قالتا:
جرح أبونا يوم أحد أربعاً وعشرين جراحة وقع منها في رأسه شجة مربعة وقطع نساه يعني عرق النسا وشلت أصبعه وسائر الجراح في سائر جسده، وقد غلبه الغشي، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكسورة رباعيتاه، مشجوج في وجهه قد علاه الغشي وطلحة محتمله يرجع به القهقرى، كلما أدركه أحد من المشركين قاتل دونه حتى أسنده إلى الشعب.
وعن طلحة قال: لقد جرحتُ مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جسدي كله، حتى لقد جرحتُ في ذكري.
وعن طلحة قال: لما رجع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أُحُد صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قرأ هذه الآية: " رِجَالٌ صَدَقُوا ما عَاهَدوا واللهَ عَلَيْهِ " الآية كلها، فقام إليه رجل، فقال يا رسول الله، من هؤلاء فأقبلتُ وعليّ ثوبان أخضران، فقال: أيها السائل، هذا منهم.
وعن علي قال: قالوا: حدثنا عن طلحة قال: ذاك امرؤ نزلت فيه آية من كتاب الله عزّ وجلّ: " فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ " طلحة ممن قضى نحبه، لا حساب عليه فيما يستقبل.(11/197)
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سرّه أن ينظر إلى شهيد يمشي على ظهر الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله ".
وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان على حراء هو وأبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اهدّ، فما عليك إلا نبي، أو صِدِّيق، أو شهيد ".
وفي حديث آخر زيادة: وسعد، وعبد الرحمن، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل.
قال عبد الرحمن بن الأخنس: كنت عند المغيرة بن شعبة في المسجد، فجاء سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فجلس مع المغيرة، فدخل رجل من النَّخَع، فنال من علي بن أبي طالب، فغضب سعيد بن زيد، وقال: ألا أرى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَبُّون عندك، هو يشهد يعني نفسه أنه كان مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاشر عشرة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة ". قال: يصيب الناس، يسألونه: مَن التاسع؟ فقال: أنا، ثم بكى.
وعن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك: " اللهم، إنك باركت لأمتي في صحابتي، فلا تسلبهم البركة، وباركت لأصحابي في أبي بكر، فلا تسلبهم البركة، واجمعْهُم عليه، ولا تعسر أمره، فإنه لم يزل يؤثر أمرك على أمره، اللهم، وأعزّ عمر بن الخطاب، وصبِّر عثمان بن عفان، ووفق علي بن أبي طالب، وثبت الزبير، واغفر لطلحة، وسلم سعداً، ووفق عبد الرحمن بن عوف، وألحق بي السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ".(11/198)
وعن علي قال: سمعت أذناي مِن في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول: " طلحة والزبير جاراي في الجنة ".
وعن طلحة قال: كان بيني وبين عبد الرحمن بن عوف مال، فقاسمته إياه، وأراد شرباً في أرضي، فمنعته، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فشكاني إليه، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: امسكوا رجلاً قد أوجب، فأتاني فبشرني، فقلت: يا أخي، بلغ من هذا المال ما تشكوني فيه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! قال: قد كان ذاك، قال: فإني أشهد الله، وأشهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لك.
وعن طلحة قال: لما كان يوم أحد سماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلحة الخير، وفي غزوة العشيرة طلحة الفياض، ويوم حنين طلحة الجود.
عن سلمة بن كهيل قال: ابتاع طلحة بئراً بناحية الجبل، ونحر جزوراً فأطعم الناس، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه طلحة الفياض.
قال محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي: مرّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة ذي قرد على ماء يقال له بَيْسان، فسأل عنه، فقيل اسمه يا رسول الله بيسان وهو مالح، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا، بل، هو نَعْمان، وهو طيب، فغيّر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاسم، وغيّر الله الماء، فاشتراه طلحة بن عبيد الله، ثم تصدق به، وجاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أنت يا طلحة إلا فياض، فلذلك سُمّي طلحة الفياض.
قال طلحة بن عبيد الله:
إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قعد سأل عني، وقال: ما لي لا أرى الصبيح، المليح، الفصيح.(11/199)
وعن طلحة قال: كان رحلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطيبه إليّ، فأتاه رجل يسأله أحدهما. قال: فقال: ذاك إلى طلحة بن عبيد الله، فأتاني، فأعلمني، فأبيت عليه، فرجع إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعلمه، فقال له مثل ذلك، ورجع إلي، فقلت في نفسي، فما بعثه إلا وهو يحب أن يقضي حاجته، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكاد يُسأل شيئاً إلا فعله، فقلت: لأن آتي مسرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحبُّ إليّ من أن أليّ رحلته، فدفعتها إليه، وأراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سفراً، فأمر أن يرحلها له، فأتاني فقال: أي الرحلتين كانت أحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقلت الطائفية، فرحله له، ثم قربها إليه. فلما ثارت به انكبت به، فقال: من رحل هذه؟ قالوا: فلان، قال: رُدّوها إلى طلحة، فردت إلي، فقال طلحة: والله ما غششت أحداً في الإسلام غيره لكي ترجع رحلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه.
وعن عمر أنه قال: ما أحد أحق بهذا الأمر من هؤلاء الذي توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عنهم راض، ثم سمّى عثمان، وعلياً، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.
وعن موسى بن طلحة بن عبيد الله قال: دخلت مع أبي بعض المجالس، فأوسعوا من كل ناحية، فجلس في أدناها ثم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن من التواضع لله عزّ وجلّ الرضى بالدون من شرف المجالس.
سمع علي بن أبي طالب رجلاً ينشد " الطويل "
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويُبعده الفقرُ
قال: ذاك أبو محمد طلحة بن عبيد الله يرحمه الله.
قال: وكان طلحة حسن الوجه، جواداً.
قال قبيصة بن جابر: صحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت رجلاً أعطى لجزيل مال من غير مسألة منه.(11/200)
وعن سعدى بنت عوف المُرّيَّة قالت: دخل علي طلحة بن عبيد الله يوماً خاثراً، فقلت له: ما لي أراك خاثراً؟ أرابك منا ريب فنُعتبك؟ فقال: ما رابني منك ريب، ولنعم حليلة المرء المسلم أنت، إلا أنه اجتمع في بيت المال مال كثير قد غمني، قالت: فقلت له: وما يمنعك منه، أرسل إلى قومك فاقسمه بينهم، قالت: فأرسل إلى قومه، فقسمه بينهم. قالت سعدى: فسألت الخازن: كما كان؟ قال: أربع مئة ألف.
وعن الحسن أن طلحة بن عبيد الله باع أرضاً له من عثمان بن عفان بسبع مئة ألف، قال: ثم حملها. فلما جاء بها الرسول قال: إن رجلاً يبيت وهذه في بيته لا يدري ما يطرقه من الله لعزيز بالله، قال: فجعل رسوله يختلف في سِكك المدينة يقسمها، فما أصبح وعنده منها درهم.
وعن طلحة بن عبيد الله أنه أتاه مال من حضرموت سبع مئة ألف. قال: فبات ليلته يتململ، فقالت له زوجته: يا أبا محمد، مالي أراك منذ الليلة تململُ، أرابك منا أمر فنُعتبك؟ قال: لا، لعمري، لنعم زوجة المرء أنت، ولكن تفكرت منذ الليلة فقلت: ما ظن رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته؟ قالت: فأين أنت عن بعض أخلاقك؟ قال: وما هو؟ قالت: إذا أصبحت دعوت بجفان وقصاع فقسمتها على بيوت المهاجرين والأنصار على قدر منازلهم قال: فقال لها: يرحمك الله، إنك ما علمت موفقة بنت موفَّق، وهي أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم. فلما أصبح دعا بجفان وقصاع فقسمها بين المهاجرين والأنصار، فبعث إلى علي بن أبي طالب منها بجفنة، فقالت له زوجته: أبا محمد، أما كان لنا في هذا المال من نصيب؟ قال: فأين كنت منذ اليوم؟ فشأنك بما بقي، قال: فكانت صرة نحو من ألف درهم.
كان طلحة بن عبيد الله يغل بالعراق ما بين أربع مئة ألف إلى خمس مئة ألف،(11/201)
ويغل بالسرَّاة عشرة آلاف دينار أو أقل أو أكثر، وبالأعراض له غلات، وكان لا يدع أحداً من بني تميم عائلاً إلا كفاه مؤنته ومؤنة عياله، وزوج أياماهم، وأخدم عائلهم، وقضى دين غارمهم، ولقد كان يرسل إلى عائشة إذا جاءت غلته كل سنة بعشرة آلاف، ولقد قضى على صُبيحة التميمي ثلاثين ألف درهم.
اشترى عبيد الله بن معمر وعبد الله بن عامر بن كريز من عمر بن الخطاب رقيقاً ممن سبى، ففضل عليهما من ثمنهم ثمانون ألف درهم فأمر بهما عمر أن يلزمهما، فمرّ بهما طلحة وهو يريد الصلاة في مسجد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما لابن معمر يلازم؟ فأخبره خبره، فأمر بالأربعين ألف التي عليه تقضى عنه، فقال عبيد الله بن معمر لعبد الله بن عامر: إنها إن قضيت عني بقيت ملازماً، وإن قضيت عنك لم يتركني طلحة حتى يقضي عني، فدفع إليه الأربعين ألف درهم فقضاها عبد الله بن عامر عن نفسه وخلي سبيله، فمرّ طلحة منصرفاً من الصلاة، فوجد عبيد الله بن معمر يلازم، فقال: ما لابن معمر ألم آمر بالقضاء عنه؟ فأخبر بما صنع، فقال: أما ابن معمر فقد علم أن له ابن عم لا يسلمه، احملوا أربعين ألف درهم، واقضوها عنه، ففعلوا، فخلي سبيل عبيد الله بن معمر.
وكانت غلة طلحة كل يوم ألف وافٍ.
سأل معاوية موسى بن طلحة: كم ترك أبو محمد يرحمه الله من العين؟ قال: ترك ألفي درهم ومئتي ألف درهم ومئتي ألف دينار، وكان ماله قد اغتيل. كان يُغل كل سنة من العراق مئة ألف سوى غلاته من السّراة وغيرها، ولقد كان يدخل قوت أهله بالمدينة سنتهم من مزرعته بقناة كان يزرع على عشرين ناضحاً، وأول من زرع القمح بقناة هو، فقال معاوية: عاش حميداً سخياً شريفاً، وقتل فقيداً، رحمه الله.
وعن سعدى بنت عوف امرأة طلحة بن عبيد الله قالت: لقد تصدق طلحة يوما بمئة ألف، ثم حبسه عن الرواح إلى المسجد أن جمعت له بين طرفي ثوبه.(11/202)
كان لعثمان على طلحة خمسون ألف درهم فخرج عثمان يوماً إلى المسجد، فقال له طلحة: قد تهياً لك مالك فاقبضه، قال: هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك.
وكان طلحة بن عبيد الله من حلماء قريش وقال: إن أقل عيب الرجل جلوسه في بيته. وكان طلمة لا يشاور بخيلاً في صله ولا جباناً في حرب ولا شاباً في جاريه.
وقال طلحة: الكسوة تظهر النعمة والدهن يذهب البؤس، والإحسان إلى الخادم يكبت الأعداء.
قال طلحة: لما كان يوم أحد ارتجزت بهذا الشعر.
نحنُ حماة غالبٍ ومالكِ
نذبُّ عن رسولِنا المباركِ
نصرفُ عنه القوم في المعاركِ
صرف صفاح الكوم في الْمَباركِ
وما انصرف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد حتى قال لحسان قل في طلحة فقال: " الطويل "
وطلحة يوم الشِّعب آسى محمداً ... على ساعة ضاقت عليه وشقّتِ
يقيه بكفّيه الرماحَ وأسلمت ... أشاجعه تحت السيوف فشلَّتِ
وكان إمام الناس إلا محمداً ... أقام رحا الإسلام حتى استقلَّتِ
وقال أبو بكر الصديق: " البسيط "
حمى نبيَّ الهدى والخيلُ تتبعُهُ ... حتى إذا ما لقوا حامى عن الدينِ(11/203)
صبراً على الطعن إذ ولت جماعتهم ... والناس من بين مهديّ ومفتونِ
يا طلحة بن عبيد الله قد وجبّت ... لك الجِنانُ وزوّجت المها العينِ
وقال عمر بن الخطاب: " البسيط "
حمى نبيَّ الهدى بالسيف منصلتاً ... لما تولّى جميعُ الناسِ وانكشفوا
قال: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صدقت يا عمر.
قال علقمة بن وقّاص الليثي: لما خرج طلحة والزبير وعائشة لطلب دم عثمان عرجوا من منصرفهما بذات عرق، فاستصغروا عروة بن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن فردوهما، قال: ورأيت طلحة وأحبّ المجالس إليه أخلاها، وهو ضارب بلحيته على زّوره. قال: فقلت: يا أبا محمد، إني أراك وأحبُّ المجالس إليك أخلاها، وأنت ضارب بلحيتك على زَورك، إن كنت تكره هذا الأمر فدعه، فليس يكرهك عليه أحد، فقال: يا علقمة بن وقاص لا تلمني، كنا أمس يداً واحدة على من سوانا، فأصبحنا اليوم جبلين، من حديد، يزحف أحدنا إلى صاحبه، ولكنه كان مني في أمر عثمان ما لا أرى كفارته إلا بسفك دمي، وطلب دمه. قال: فقلت: محمد بن طلحة لِمَ تخرجه معك، ولك ولد صغار؟! دعه، فإن كان أمر خلفك في تزهد، قال: هو أعلم، أكره أن أرى أحداً له في هذا الأمر نية، فأردّه، قال: فكلمت محمد بن طلحة في التخلف، فقال: أكره أن أسأل الرجال عن أبي.
حدث رفاعة بن إياس الضبي عن أبيه عن جده قال:
كنت مع علي في الجمل، فبعث إلى طلحة أن القني، فلقيه، فقال: أنشدك الله، أسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم، والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه؟ قال: نعم، وذكره. قال: فلِمَ تقاتلني؟!.
وعن حكيم بن جابر الأحمسي قال: قال طلحة بن عبيد الله يوم الجمل: إنا داهنّا في أمر عثمان، فلا نجد اليوم شيئاً أمثل من أن نبذل دماءنا فيه. اللهم، خذ لعثمان مني اليوم حتى ترضى.
ولما التقى القوم يوم الجمل قام كعب بن سور الأزدي، ومعه المصحف، فنشره بين(11/204)
الفريقين، ونشدهم الله والإسلام في دمائهم، فما زال بذلك المنزل حتى قتل. فكان طلحة من أول قتيل، وذهب الزبير يريد أن يلحق ببنيه فقتل.
قالوا: وأقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة، فقال: أدركي، فقد أبى القوم إلا القتال، لعل الله تعالى يصلح بك، فركبت، وألبسوا هودجها الأدراع، ثم بعثوا جملها، وكان جملها يدعى عسكراً، حملها عليه يعلى بن أمية، اشتراه بمئتي دينار. فلما برزت من البيوت وكانت بحيث تسمع الغوغاء وقفت، فلم تلبث أن سمعت غوغاء شديدة، فقالت: ما هذا؟ فقالوا: ضجة العسكر، قالت: بخير أم بشرّ؟ قالوا: بشرّ. قالت: فأي الفريقين كانت منهم هذه الضجة. فهم المهزومون، وهي واقفة، فما فجئنا إلا الهزيمة، فمضى الزبير من سننه في وجهه فسلك وادي السباع، وجاء طلحة سهم غَرب فخلى ركبته بصفحة الفرس. فلما امتلأ مَوْزَجه دماً وثقل قال لغلامه: أردفني، وأمسكني، وابغني مكانً أنزل فيه، فدخل البصرة وهو يتمثل مثله ومثل الزبير: " الوافر "
فإن تكنِ الحوادثُ أقصدتني ... وأخطاهن سهمي حين أرمي
فقد ضيعت حين تبعتُ سهماً ... سفاهاً ما سفت وضلّ حلمي
ندمتُ ندامة الكسعيِّ لما ... شريتُ رضى بني سهم برغمي
أطعتهم بفرقة آل لأي ... فألقَوا للسباع دمي ولحمي
فلما انهزم الناس في صدر النهار نادى الزبير: أنا الزبير، هلموا إلي أيها الناس، ومعه مولى له ينادي: عن حواريّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنهزمون؟ وانصرف الزبير نحو وادي السباع، واتبعه فرسان، وتشاغل الناس عنه بالناس، فلما رأى الفرسانَ تتبعه عطف عليهم، ففرق بينهم، فكروا عليه. فلما عرفوه قالوا: الزبير، دعوه، فإذا نفر منهم علباء بن الهيثم، ومرّ القعقاع في نفر بطلحة وهو يقول: إلي عباد الله، الصبر، الصبر، فقال له: يا أبا محمد، إنك لجريح، وإنك عما تريد لعليل، فادخل الأبيات، فقال: يا غلام، أدخلني، وابغني مكاناً، فدخل البصرة، ومع غلام ورجلان، واقتتل الناس(11/205)
بعده، وأقبل الناس في هزيمتهم تلك، وهم يريدون البصرة. فلما رأوا الجمل أطافت به مضر، فعادوا قلباً كما كانوا حيث التقوا، وعادوا في أمر جديد، ووقفت ربيعة البصرة ميمنة، وتميمهم ميسرة، وقالت عائشة: خلِّ يا كعب عن البعير، وتقدم بكتاب الله فادعهم إليه، ودفعت إليه مصحفاً، واقبل القوم، وأمامهم السبائية يخافون أن يجري الصلح، فاستقبلهم كعب بالمصحف، وعلي من خلفهم يوزِّعهم، ويأبَون إلا إقداماً. فلما دعاهم كعب رشقوه رشقاً واحداً فقتلوه، ثم راموا أم المؤمنين في هودجها، فجعلت تنادي، يا بني، البقية، البقية ويعلوا صوتها كثرة الله، الله، اذكروا الله والحساب، ويأبون إلا إقداماً، فكان أول شيء أحدثته حين أبَوا أن قالت: أيها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم، وأقبلت تدعو.
وضج أهل البصرة بالدعاء، وسمع علي الدعاء فقال: ما هذه الضجة؟ قالوا: عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان وأشياعها، فأقبل يدعو وهو يقول: اللهم، العن قتلة عثمان وأشياعهم. فأرسلت إلى عبد الرحمن بن عتّاب وعبد الرحمن بن الحارث اثبتا مكانكما، وذمّرت الناس حين رأت أن القوم لا يريدون غيرها، ولا يكفون عن الناس، فازدلفت مضر " البصرة "، فقصفت مضر الكوفة حين زوحم علي، فنخس علي قفا محمد، فقال: احمل، فنكل، فأهوى علي إلى الراية ليأخذها منه، فحمل، فترك الراية في يده، وحملت مضر الكوفة فاجتلدوا قدام الجمل حتى ضرسوا، والمجنِّبات على حالها لا تضع شيئاً، ومع علي أقوام غير مضر فيهم زيد بن صوحان، فقال له رجل من قومه: تنح إلى قومك، مالك ولهذا الموقف؟! ألست تعلم أن مضر بحيالك؟ وأن الجمل بين يديك؟ وأن الموت دونه؟ فقال: الموت خير من الحياة. الموت ما أريد، فأصيب هو وأخوه سيحان، وأرتث صعصعة، واشتدت الحرب. فلما رأى ذلك علي بعث إلى اليمن وإلى ربيعة: أن اجتمعوا على من يليكم، فقام رجل من عبد القيس فقال: ندعوكم إلى كتاب الله، قالوا: كيف يدعونا إلى كتاب الله من لا يقيم حدود الله، ومن قد قتل داعي(11/206)
الله كعب بن سور، فرمته ربيعة، رشقاً واحداً فقتلوه وقام مسلم بن عبيد العجلي مقامه، فرشقوه رشقاً واحداً، فقتلوه، ودعت يمن الكوفة يمن البصرة فرشقوهم.
ولما رأى مروان بن الحكم طلحة بن عبيد الله في الخيل قال: من ذا؟ قالوا: طلحة، فقال: هذا أعان على عثمان، لا أطلب بثأري بعد اليوم فرماه بسهم في ركبته. قال: فما زال الدم حتى مات.
وقيل: إن طلحة قال لمولى له: ابغني مكاناً، قال: لا أقدر عليه، قال: هذا والله سهم أرسله الله، اللهم، خذ لعثمان حتى ترضى، ثم وسدّ حجراً فمات.
وقيل: إن طلحة قال عن الموت: " الطويل "
أرى الموت أعداد النفوس ولا أرى ... بعيداً غداً ما أقربَ اليومَ من غدِ
ولما خرج طلحة حملوه، فقالوا: أين نذهب بك؟ فقال: إن شئتم فشرّقوا، وإن شئتم فغرّبوا، ما رأيت كاليوم قط مصرع شيخ.
رأى علي بن أبي طالب طلحة ملقى في بعض الأودية فنزل، فمسح التراب عن وجهه، ثم قال: عزيز علي أبا محمد بأن أراك مجدّلاً في الأودية، وتحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عُجَري وبُجَري.
قال الأصمعي: معناه: سرائري وأحزاني التي تموج في جوفي.
وقيل: إن علياً انتهى إلى طلحة وقد مات، فنزل عن دابته، وأجلسه، فجعل يمسح الغبار عن وجهه ولحيته، وهو يترحم عليه، ويقول: ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
ولما قتل طلحة والزبير جعل علي وأصحابه يبكون.(11/207)
حدث محمد بن عبيد الأنصاري عن أبيه قال: شهدت علياً مراراً يقول: اللهم، إني أبرأ إليك من قتلة عثمان. قال: وجاء رجل يوم الجمل، فقال: ائذنوا لقاتل طلحة، قال: سمعت علياً يقول: بشّره بالنار.
قال أبو حبيبة مولى طلحة: دخلت على علي مع عمران بن طلحة بعدما فرغ من أصحاب الجمل، قال: فرحب به، وأدناه، وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك من الذين قال الله: " وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُوْرِهِمْ مِنْ غِلٍّ إخْواناً على سُرُرٍ مُتَقابِلِيْنَ " فقال: يا بن أخ، كيف فلانة كيف فلانة؟ قال: وسأله عن أمهات أولاد أبيه، قال: ثم قال: لم نقبض أرضكم هذه السنين إلا مخافة أن ينتهبها الناس، يا فلان، انطلق معه إلى ابن قَرظة، مُره فليعطه غلته هذه السنين، ويدفع إلي أرضه. قال: فقال رجلان جالسان ناحية، أحدُهما الحارث الأعور: الله أعدل من ذلك: أن تقتلهم ويكونوا إخواناً في الجنة. قال: قوما أبعدَ أرض الله، وأسحقها، فمن هو إذا لم أكن أنا وطلحة؟ يا بن أخي، إذا كانت لك حاجة فأتنا.
وعن ربعي بن خِراش قال: إني لعند علي جالس إذ جاء ابن طلحة يسلم على علي، فرحب به علي، فقال: ترحب بي يا أمير المؤمنين وقد قتلت والدي، وأخذت مالي؟! قال: أما مالك فهو معزول في بيت المال، فاغدُ إلى مالك فخذه، وأما قولك: قتلت أبي، فإني أرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله عزّ وجلّ: " وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُوْرِهِمْ مِنْ غِلٍّ إخْواناً على سُرُرٍ مُتَقابِلِيْنَ " فقال رجل من همدان أعور: الله أعدل من ذلك، فصاح علي صيحة تداعى لها القصر، قال: فمن ذاك إذا لم نكن أولئك؟ وفي رواية
أن الذي قال ذلك ابن الكوا. فقام إليه بدِرَّته فضربه، وقال: أنت لا أم لك وأصحابك تنكرون هذا؟(11/208)
وعن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: كان قدر ما ترك طلحة بن عبيد الله من العقار والأموال، وما ترك من الناضّ ثلاثين ألف ألف درهم، ترك من العين إلى ألف ومئتي ألف درهم، ومئتي ألف دينار، والباقي عُروض.
وعن النعمان بن بشير، وكان ممن يسمر مع علي أن علياً خرج فتلا هذه الآية: " إِنَّ الَّذِيْنَ سَبَقَتْ لُهُمْ مِنّا الحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ " قال: أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير، فما زال يتلو حتى دخل في الصلاة.
قتل طلحة رضي الله عنه يوم الجمل سنة ست وثلاثين وهو ابن أربع وستين سنة.
وقيل: هو ابن اثنتين وستين سنة.
وقيل: ابن ثلاث وستين، وقيل: ابن ستين سنة.
وعن عائشة بنت طلحة أنها رأت أباها طلحة في المنام فقال لها: يا بنية، حوليني من هذا المكان، فقد أَضرّ بي الندى، فأخرجته بعد ثلاثين سنة أو نحوها، فحولته من ذلك النّز وهو طري لم يتغير منه شيء، فدفن في الهجرتين بالبصرة، وتولى إخراجه عبد الرحمن بن سلامة التميمي.
وعن قيس بن أبي حازم قال: رمى مروان بن الحكم طلحة يوم الجمل في ركبتيه، فجعل الدم يغذو يسيل، فإذا أمسكوه استمسك، فإذا تركوه سال. قال: والله، ما بلغت إلينا سهامهم بعد، ثم قال: دعوه، فإنما هو سهم أرسله الله، فمات، فدفنوه على شط الكلاء، فرأى بعض أهله أنه قال: ألا تريحوني من هذا الماء؟ فإني قد غرقت، ثلاث مرات يقولها، فنبشوه من قبره(11/209)
أخضر كأنه السلق، فنزفوا عنه الماء، ثم استخرجوه، فإذا ما يلي الأرض من لحيته ووجهه قد أكلته الأرض، فاشتروا داراً من دور آل أبي بكرة فدفنوه فيها.
وعن علي بن زيد بن جدعان قال: كنت جالساً إلى سعيد بن المسيب فقال: يا أبا الحسن، مر قائدك يذهب بك، فتنظر إلى وجه هذا الرجل وإلى جسده، فانطلق، قال: فإذا وجهه وجه زنجي وجسده أبيض، فقال: إني أبيت على هذا وهو يسب طلحة والزبير وعلياً، فنهيته فأبى، فقلت: إن كنت كاذباً فسوّد الله وجهك. فخرجت في وجهه وقرحة فاسودّ وجهه.
طلحة بن عبَيد الله بن كَريز
ابن جابر بن ربيعة بن هلال بن عبد مناف بن ضاطر ابن حَبْشِيَّة بن سلول بن كعب، أبو المطرف الخزاعي الكوفي روى طلحة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال له الملك: ولك بمثل، ولك بمثل ".
وحدث عنها أيضاً قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنه يستجاب للمرء بظهر الغيب لأخيه، فما دعا لأخيه بدعوة إلا قال الملك: ولك بمثل ".
وفي رواية قالت الملائكة: آمين، ولك بمثل.
وحدث عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا توضأ خلّل لحيته.(11/210)
طلحة بن أبي قنّان
أبو قنّان العبدري، مولاهم حدث ابن أبي قنان أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أراد أن يبول فوافى عراراً من الأرض أخذ عوداً فنكت حتى يُثير الغبار ثم يبول.
طلحة بن يحيى بن طلحة
ابن عُبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي التيمي المدني نزيل الكوفة. وفد على عمر بن عبد العزيز.
حدث طلحة بن يحيى عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: دخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليّ ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ قلنا: لا، قال: فإني إذاً صائم. ثم جاء يوماً آخر فقلنا: يا رسول الله، أُهدي لنا حَيْس، فخبأنا لك منه، قال: أدِنيه، فقد أصبحت صائماً، فأكل.
وحدّث بعض بني طلحة بن عبيد الله قال: كنت " عند " عمر بن عبد العزيز، فدخل عليه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري فقال له عمر: حدثنا بأحاديث أبيك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: سمعت أبي يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أمتي أمة مرحومة، جعل عذابها بأيديها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة أُتي بأهل الأديان، فأُعطي كل رجل رجلاً، فقيل له: هذا فداؤك من النار "، فدعا عمر بن عبد العزيز بقرطاس وداوة، فكتب هذا، فكان فيما كتب: الرجل الذي لم يُسمّ هو طلحة بن يحيى.(11/211)
وعن طلحة بن يحيى قال:
كنت جالساً عند عمر فجاءه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، أبقاك الله، ما كان البقاء خيراً لك، فقال: أما ذاك فقد فرغ منه، ولكن قل: أحياك الله حياة طيبة، وتوفاك مع الأبرار.
وكان طلحة بن يحيى سنّه وسنّ عمر بن عبد العزيز واحد. ولد أيام قتل الحسين بن علي بن أبي طالب أيام يزيد بن معاوية.
وتوفي طلحة بن يحيى سنة ثمان وأربعين ومئة.
طليب بن عُمير بن وهب
ابن عبد بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب أبو عدي القرشي أمه أروى بنت عبد المطلب بن هاشم عمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. من المهاجرين الأولين. شهد بدراً مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستشهد يوم اليرموك، ويقال: يوم أجنادين، وكان من مهاجرة الحبشة في الهجرة الثانية، وآخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين طليب بن عُمير والمنذر بن عمرو الساعدي. وشتم عوف بن صُبيرة السهمي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذ له طليب بن عمير لحي جمل فضربه به حتى سقط مزملاً بدمه، فقيل لأمه: ألا ترين ما صنع ابنك؟! فقالت: " الرجز "
إنّ طُلَيباً نصرَ ابنَ خالِهْ
آساهُ في ذي ذمَّةٍ ومالِهْ
قال محمد بن إبراهيم التيمي: أسلم طليب بن عمير في دار الأرقم، ثم خرج، فدخل على أمه أروى بنت عبد المطلب فقال: تبعت محمداً وأسلمت لله، فقالت أمه: إن أحقّ من وازرت وعضدت ابن خالك، والله، لو كنا نقدر على ما يقدر عليه الرجال لمنعناه وذببنا عنه. فقال:(11/212)
يا أمّه، فما يمنعك أن تُسلمِي وتتبعيه، فقد أسلم أخوك حمزة؟ فقالت: أنظر ما تصنع أخواتي ثم أكون إحداهن. قال: فقلت: إني أسألك بالله إلا أتيته، فسلمت عليه، وصدقته، وشهدت أن لا إله إلا الله. قالت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ثم كانت بعدُ تعضدُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلسانها، وتحضّ ابنها على نصرته، والقيام بأمره.
وقيل: إن أبا جهل عرض ومعه عدّة من كفار قريش للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فآذوه، فعمد طليب بن عمير إلى أبي جهل، فضربه ضربة شجّه، فأخذوه، فأوثقوه، فقام دونه أبو لهب حتى خلاّه. فقيل لأروى: ألا ترين ابنك طليباً قد صيّر نفسه غرضاً دون محمد؟ فقالت: خير أيامه يوم يذبّ عن ابن خاله، وقد جاء بالحق من عند الله، فقالوا: ولقد اتبعتِ محمداً؟ فقالت: نعم، فخرج بعضهم إلى أبي لهب فأخبره، فأقبل حتى دخل عليها، فقال: عجباً لك ولاتّباعك محمداً، وتركك دين عبد المطلب، فقالت: قد كان ذلك، فقم دون ابن أخيك، واعضُده، وامنعه، فإن يظهر أمره، فأنت بالخيار، أن تدخل معه، أو تكون على دينك، وإن يُصَب كنت قد أعذرت في ابن أخيك، فقال أبو لهب: ولنا طاقة بالعرب قاطبة؟ جاء بدِين محدث. قال: ثم انصرف أبو لهب.
وقيل: إن أروى قالت يومئذ:
إن طُليباً نصرَ ابنَ خالِهْ
البيتين.
قتل طليب بن عمير بن أجنادين شهيداً، في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وهو ابن خمس وثلاثين سنة. وليس له عقب. وقيل: قتل يوم اليرموك.(11/213)
طليحة بن خويلد بن نوفل
ابن نضلة بن الأشتر بن حَجْوان بن فقعس بن طَريف بن عمرو ابن قُعَين بن الحارث بن ثعلبة ابن دُودان ابن أسد بن خزيمة الأسدي الفقعسي كان ممن شهد من الأحزاب الخندق، ثم قدم على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنة تسع، فأسلم، ثم أرتد، وادعى النبوة في عهد أبي بكر الصديق بأرض نجد، وكانت له مع المسلمين وقائع، ثم خذله الله، فهرب حتى لحق بأعمال دمشق، ونزل على آل جفنة، ثم أسلم، وقدم مكة معتمراً، أو حاجاً، ثم خرج إلى الشام مجاهداً، وشهد اليرموك، وشهد بعض حروب الفرس. وكان طليحة يُعَدّ بألف فارس، لشدته وشجاعته وبصره بالحرب.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: قدم عشرة نفر من بني أسد وافدين على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنة تسع، وفيهم طليحة بن خويلد، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس في المسجد مع أصحابه، فأسلموا، وقال متكلمهم: يا رسول الله، إنا شهدنا أن الله وحده لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، وجئناك يا رسول الله، ولم تبعث إلينا بعثاً ونحن لمن وراءنا سلم. فأنزل الله تعالى: " يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ".
قالوا: فلما ارتدت العرب ارتد طليحة وأخوه سلمة فيمن ارتد من أهل الضاحية، وادعى طليحة النبوة، فلقيهم خالد بن الوليد ببُزاخة، فأوقع بهم، وهرب طليحة حتى قدم الشام، فأقام عند آل جفنة الغسانيين حتى توفي أبو بكر. ثم خرج محرماً بالحج، فقدم مكة. فلما رآه عمر قال: يا طليحة، لا أحبك بعد قتل الرجلين الصالحين(11/214)
عكاشة بن مِحْصَن، وثابت بن أقرم، وكانا طليعتين لخالد بن الوليد فلقيهما طليحة وسلمة ابنا خويلد، فقتلاهما، فقال طليحة: يا أمير المؤمنين، رجلان أكرمهما الله بيدي، ولم يُهني بأيديهما، وما كل البيوت بنيت على الحب، ولكن صفحة جميلة، فإن الناس يتصافحون على الشنآن. وأسلم طليحة إسلاماً صحيحاً، ولم يُغمَص عليه في إسلامه. وشهد القادسية ونهاوند مع المسلمين. وكتب عمر أن شاوروا طليحة في حربكم ولا تُولُّوه شيئاً.
وكان طليحة في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزل بسميراء، ودعا الناس إلى أمره، وأرسل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوادعه، فأرسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرار بن الأزور، فقدم على سنان بن أبي سنان وعل قضاعي، ثم أتى بني ورقاء من بني الصيداء وفيهم بيت الصيداء وغيرها بكتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمره إلى عوف بن فلان فأجابه وقبل آمره، وعسكر المسلمون بوارداتِ، واجتمعوا إلى سنان وقضاعي وضرار وعوف، وعسكر الكافرون بسميراء، واجتمعوا إلى طليحة، واجتمع ملأ عوف وسنان وقضاعي على أن دسُّوا لطليحة مخنف بن السليل الهالكي وكان بهمة، وكان قد أسلم فحسن إسلامه، وكان بقية بن الهالك، وكانوا قيوناً، ولهم يقول الشاعر: " الوافر "
جنوحُ الهالكي على يدَيْه ... مُكباً يجتلي ثقبَ النِّصالِ
وكان مخنف إذا هاجت حرب سار في القبائل يسنّ السيوف. وقالوا: لا تستنكر على حالها وشأنك طليحة، ففعل. فلما وقع إليهم أرسل إليه فأعطاه سيفه، فشحذه له، ثم قام به إليه، ورجال من قومه. فنام عليه، فطبق به هامته، فما خصه، وخرّ طليحة مغشياً عليه،(11/215)
وأخذوه فقتلوه. فلما أفاق طليحة قال: هذا عمل ضرار وعوف، فأما سنان وقضاعي فإنهما تابعان لهما في هذا، وشاعت تلك الضربة في أسد وغطفان، وقالوا: لا يحيكُ في طليحة، ونما الخبر إلى المدينة، ومدت غطفان وأسد إليه أعناقهم، وصار فتنة لهم.
وفي حديث آخر: وما زال المسلمون في نماء، وما زال المشركون في نقصان حتى همَّ ضرار بالسَّير إلى طليحة، ولم يبق " أحد " إلا أخذه سَلَماً إلى أن ضرب ضربة بالجُراز، فنبا عنه، فشاعت في الناس، وأتى المسلمين وهم على ذلك موت سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال أناس لتلك الضربة: إن السلاح لا يَحيكُ في طليحة. فما أمسى المسلمون من ذلك اليوم حتى عرفوا النقصان، وأرفض الناس إلى طليحة، واستطار أمره.
عن الشعبي قال: لما ارتدت العرب بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عوامّ أو خواصّ، فارتدت أسد، واجتمعوا على طليحة واجتمعت عليه طيء. إلا ما كان من عدي بن حاتم، فإنه تعلق بالصدقات، فأمسكها، وجعل يكلم الغوث، وكان فيهم مطاعاً، فيتلطف لهم، ويترفق بهم، وكانوا قد استحلَوا أمر طليحة وأعجبهم، وقام عيينة في غطفان، فلم يزل بهم، حتى أجمعوا عليه. ثم أرسلوا وفوداً، وأرسل غيرهم، ممن حول المدينة وفوداً، فنزلوا على وجوه المهاجرين والأنصار ما خلا العباس، فإنه لم يُنزلهم ولم يطلب فيهم، فعرضوا أن يقيموا الصلاة، وأن يُعْفَوا من الزكاة، فخرج عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وسعد، وأمثالهم يطلبون أبا بكر، فلم يجدوه في منزله، فسألوا عنه، فقيل: هو في الأنصار، فأتوه، فوجدوه فأخبروه الخبر، فقال لهم: أترَوْن ذلك؟ فقالوا جميعاً: نعم، حتى يسكن الناس، ويرجع الجنود، فلعمري لو قد رجعت الجنود لَسمحوا(11/216)
بها، فقال: وهل أنا إلا رجل من المسلمين؟ ذهبوا بنا إليهم. فلما دخل المسجد نادى للصلاة جامعة. فلما تتامّوا إليه قام فحمد الله وأثنى عليه وقال: إنّ الله عزّ وجلّ توكل بهذا الأمر، فهو ناصرٌ من لزمه، وخاذلٌ مَن تركه، وإنه بلغني أن وفوداً من وفود العرب قدموا يعرضون الصلاة، ويأبَون الزكاة، ألا ولو أنهم منعوني عِقالاً مما أعطوه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فرائضهم ما قبلته منهم. وفي حدث آخر: لو منعوني عِقالاً لجاهدتهم عليه. قال: وكانت عُقُل الصدقة على أهل الصدقة مع الصدقة. قال: ألا برئت الذمة من رجل من هؤلاء الوفود، أجد بعد يومه وليلته بالمدينة فتأبثوا يتخطون رقاب الناس حتى ما بقي منهم في المسجد أحد، ثم دعا نفراً فأمرهم بأمره، فأمر علياً بالقيام على نقب من أنقاب المدينة، وأمر الزبير بالقيام على نقب آخر، وأمر طلحة بالقيام على نقب آخر، وأمر عبد الله بن مسعود يعسّس ما وراء ذلك بالليل والارتباء نهاراً، وجدّ في أمره، وقام على رَجْل. قالوا: فرجع وفد من يلي المدينة من المرتدة إليهم، فأخبروا عشائرهم بقلة أهل المدينة، وأطمعوهم فيها، وجعل أبو بكر رضي الله عنه بعدما أخرج الوفد على أنقاب المدينة علياً، والزبير، وطلحة وعبد الله بن مسعود، وأخذ أهل المدينة بحضور المسجد، وقال لهم: إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم(11/217)
لا تدرون أليلاً تؤتون أو نهاراً، وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يؤملون أن نقبل منهم، ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، فاستعدوا وأعدوا، فما لبثوا إلا ثلاثاً حتى طرقوا المدينة غارة مع الليل. وخلفوا نصفهم بذي حساً ليكونوا ردءاً لهم، فوافق الغوار الأنقاب وعليها المقاتلة، ودونهم أقوام يدرجون. فنهنهوهم، وأرسلوا إلى ابي بكر رضي الله عنه بالخبر، فأرسل إليهم أن الزموا مكانكم، ففعلوا، وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم، فانفشّ العدو، وأتبعهم المسلمون على إبلهم حتى بلغوا ذا حُساً، فخرج عليهم الرِّدء بأنحاء قد نفخوها، وجعلوا فيها الحبال ثم دهدهوها في وجوه الإبل بأرجلهم، فتدهدى كل نحي في طوَلِه، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها، ولا تنفر من شيء نفارها من الأنحاء، ففاجت بهم ما يملكونها، حتى دخلت بهم المدينة، ولم يصرع مسلم، ولم يُصَب، فظن القوم بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر، فقدموا عليهم اغتماراً في الذين أخبروهم، وبات أبو بكر ليلته يتهيأ، فعبأ الناس، ثم خرج على تعبئته، من أعجاز ليلته، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو بصعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين حسّاً ولا همساً، حتى وضعوا فيهم السيوف واقتتلوا أعجاز ليلتهم. فما ذرّ قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة، وكان أول الفتح، فوضع بها النعمان بن مقرّن في عدد، ورجع إلى المدينة فذلّ بها المشركون، ووثب بنو ذبيان وعبس على من كان فيهم من المسلمين فقتلوهم كل قتلة، وفعل من وراءهم فعلهم، وعزّ المسلمون بوقعة أبي بكر رضي الله عنه، وحلف أبو بكر ليقتلَنّ في المشركين كل قتل. وليقتلن كل قبيلة قتلوا من المسلمين وزيادة، وازداد المسلمون ثباتاً على دينهم في كل قبيلة، وازداد المشركون أنفشاشاً عن أمرهم في كل قبيلة.(11/218)
وطرقت المدينة صدقات نفر: صفوان والزبرقان وعدي بن حاتم: صفوان ثم
الزبرقان ثم عدي بن حاتم، وذلك لتمام ستين يوماً من مخرج أسامة. وقدم أسامة، فاستخلفه أبو بكر على المدينة وقال له ولجنده: أريحوا وارعَوا ظهركم. ثم خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة، والذين كانوا على الأنقاب على ذلك الظهر، فقال له المسلمون: ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرض نفسك، فإنك إن تُصب أمّرت آخر، فقال: والله لا أفعله ولأواسينكم بنفسي، فخرج في تعبئته إلى ذي حُساً وذي القصة، وكانت الوقعة. قال الزهري: لما استخلف أبو بكر وارتدّ من ارتدّ من العرب عن الإسلام خرج أبو بكر رضي الله عنه غازياً حتى إذا بلغ نَقْعاً من نحو البقيع خاف على المدينة، فرجع وأمرّ خالد بن الوليد سيف الله، وأمره أن يسير في ضاحية مضر فيقاتل من ارتد عن الإسلام منهم ثم يسير إلى اليمامة، فيقاتل مسيلمة الكذاب، فسار خالد بن الوليد فقاتل طليحة الكذاب الأسدي، فهزمه الله، وكان قد اتبعه عيينة بن حصن بن حذيفة. فلما رأى طليحة كثرة انهزام أصحابه قال: ويلكم! ما يهزمكم؟! قال رجل منهم: أنا أحدثك: ما يهزمنا أنه ليس منا رجل إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله، وإنا لنلقى قوماً كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه. وكان طليحة شديد البأس في القتال. فقتل طليحة يومئذ عكاشة بن محصن، وابن أقرم. فلما غلب الحق طليحة، ترجل ثم أسلم، وأهلّ بعمرة، فركب يسير في الناس آمناً حتى مرّ بأبي بكر بالمدينة، ثم نفذ إلى مكة، فقضى عمرته. استشهد طليحة بنهاوند سنة إحدى وعشرين مع النعمان بن مقرن وعمرو بن معدي كرب. ثم عدي بن حاتم، وذلك لتمام ستين يوماً من مخرج أسامة. وقدم أسامة، فاستخلفه أبو بكر على المدينة وقال له ولجنده: أريحوا وارعَوا ظهركم. ثم خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة، والذين كانوا على الأنقاب على ذلك الظهر، فقال له المسلمون: ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرض نفسك، فإنك إن تُصب أمّرت آخر، فقال: والله لا أفعله ولأواسينكم بنفسي، فخرج في تعبئته إلى ذي حُساً وذي القصة، وكانت الوقعة. قال الزهري: لما استخلف أبو بكر وارتدّ من ارتدّ من العرب عن الإسلام خرج أبو بكر رضي الله عنه غازياً حتى إذا بلغ نَقْعاً من نحو البقيع خاف على المدينة، فرجع وأمرّ خالد بن الوليد سيف الله، وأمره أن يسير في ضاحية مضر فيقاتل من ارتد عن الإسلام منهم ثم يسير إلى اليمامة، فيقاتل مسيلمة الكذاب، فسار خالد بن الوليد فقاتل طليحة الكذاب الأسدي، فهزمه الله، وكان قد اتبعه عيينة بن حصن بن حذيفة. فلما رأى طليحة كثرة انهزام أصحابه قال: ويلكم! ما يهزمكم؟! قال رجل منهم: أنا أحدثك: ما يهزمنا أنه ليس منا رجل إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله، وإنا لنلقى قوماً كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه. وكان طليحة شديد البأس في القتال. فقتل طليحة يومئذ عكاشة بن محصن، وابن أقرم. فلما غلب الحق طليحة، ترجل ثم أسلم، وأهلّ بعمرة، فركب يسير في الناس آمناً حتى مرّ بأبي بكر بالمدينة، ثم نفذ إلى مكة، فقضى عمرته. استشهد طليحة بنهاوند سنة إحدى وعشرين مع النعمان بن مقرن وعمرو بن معدي كرب.(11/219)
طهمان بن عمرو
أحد شعراء العرب وفد على عبد الملك بن مروان، وكان لصاً، فأمر بقطعه فقال: " الطويل "
يدي يا أمير المؤمنين أعيذها ... بحقويك من غارٍ عليها يشينها
ولاخير في الدنيا ولا في نعيمها ... إذا ما شمالي فارقتها يمينها
فقال: هذا حدّ من حدود الله، ولا بدّ من إقامته، اقطع، فقامت امرأة عجوز كبيرة، وقالت: يا أمير المؤمنين، ولدي وكادّي وكاسبي، فقال: بئس الولد ولدك، وبئس الكادُّ كادُّكِ، وبئس الكاسب كاسبك. هذا حدّ من حدود الله، لابدّ من إقامته. قالت: يا أمير المؤمنين، اجعله بعض ذنوبك التي تستغفر الله منها، فعفا عنه، وأمر بتخليته. وقيل: إن نجدة الحروري أخذ طهمان، وكان لصاً، فقطعه. فلما استقام الأمر لعبد الملك أتاه طهمان فأنشده الأبيات وتتمتها، فجعل له عبد الملك أيمان مئة من بني حنيفة. فمات قبل أن يصل إليها.
أسماء الرجال على(11/220)
حرف الظاء المعجمة
ظالم بن عمرو بن ظالم
ويقال: ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر ابن حَلْبس بن نُفاثة بن عدي بن الدئل ويقال: عثمان بن عمرو ويقال: عمرو بن سفيان ويقال: عمرو بن ظالم أبو الأسود الدِّيلي البصري
قدم على معاوية، وهو أول من وضع للناس النحو، وولي قضاء البصرة. قال أبو الأسود الدِّيلي: أتيت المدينة وقد وقع بها مرض، فهم يموتونا موتاً ذريعاً، فجلست إلى عمر بن الخطاب، فمرت به جنازة، فأثنوا على صاحبها خيراً، فقال عمر: وجبت، ثم مرّ بأخرى فأُثني على صاحبها شراً، فقال عمر: وجبت. قال أبو الأسود: قلت: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أيّما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة. قال: قلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة. قلنا: واثنان؟ ثم لم أسأله عن الواحد ".وعن ابن داب قال: قدم أبو الأسود الدِّيلي على معاوية بن أبي سفيان بعد مقتل علي بن أبي طالب عليه السلام. وقد استقامت له البلاد، فأدنى معاوية مجلسه، وأعظم جائزته، فحسده(11/221)
عمرو بن العاص، فقدم على معاوية، فاستأذن عليه في غير مجلس الإذن، فأذن له. فقال له معاوية: يا أبا عبد الله، ما أعجلك قبل وقت الإذن؟ قال: يا أمير المؤمنين، أتيتك لأمر قد أوجعني، وأرقني، وغاظني، وهو من بعد ذلك نصيحة لأمير المؤمنين. قال: وما ذاك يا عمرو؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن أبا الأسود رجل مفوّه، له عقل وأدب، من مثله الكلام يذكر، وقد أذاع بمصرك من الذكر لِعليّ، والبُغض لعدوه، وقد خشيت عليك أن يُثري في ذلك حتى تؤخذ بعنقك، وقد رأيت أن ترسل إليه فترهِّبه وترعِّبه، وتسبُره وتخبُره ولك من مسألته على إحدى خِبرتين: ما أن يبدي لك صفحته فتعرف مقالته، وإما أن يستقبلك، فيقول ما ليس من ورائه، فيُحتمل ذلك عنه، فيكون لك في ذلك عافية صلاح إن شاء الله، فقال معاوية: أم والله لقلما تركتُ رأيي لرأي امرىء قط إلا كنت فيه وبين أن أرى ما أكره، ولكن إن أرسلت إليه فساءلته، فخرج من مساءلتي بأمر لا أحد عليه مقدماً، ويملأني غيظاً لمعرفتي بما تُريد، وإن الرأي فيه أن نقبل منه ما أبدى من لفظه، فليس لنا أن نشرح عن صدره، وندع ما وراء ذلك يذهب جانباً. قال عمرو: أنا صاحبك يوم رفع المصاحف بصفين. وقد عرفت رأيي، ولست أرى لك خلافي، وما آلوك خيراً، فأرسِل إليه ولا تفترش مهاد العجز فتتخذه وطيئاً. فأرسل معاوية إلى أبي الأسود، فجاء حتى دخل عليه فكان ثالثاً، فرحب به معاوية وقال: يا أبا الأسود، خلوت أنا وعمرو وتشاجرنا في أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أحببت أن أكون من رأيك على يقين، قال: سل يا أمير المؤمنين عما بدا لك، قال: يا أبا الأسود، أيّهم كان أحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: يا أمير المؤمنين، أشدهم كان حباً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأوقاهم له بنفسه؛ فنظر معاوية إلى عمرو، وحرّك رأسه، ثم تمادى في مسألته، فقال: يا أبا الأسود، فأيّهم كان أفضلهم عندك؟ قال: أتقاهم لربه، وأشدهم خوفاً لدينه، فاغتاظ معاوية على عمرو، ثم قال: يا أبا الأسود، فأيّهم أعلم؟ قال: أقولهم للصواب، وأفصلهم للخطاب، قال: يا أبا الأسود، فأيّهم كان(11/222)
أشجع؟ قال: أعظمهم بلاء، وأحسنهم غَناء، وأصبرهم على اللقاء، قال: فأيّهم كان أوثق عنده؟ قال: مَنْ أوصى إليها فيما بعده، قال: فأيّهم كان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدِّيقاً؟ قال: أولهم به تصديقاً فأقبل معاوية على عمرو وقال: لاجزاك الله خيراً، هل تستطيع أن ترد مما قال شيئاً؟! فقال أبو الأسود: يا أمير المؤمنين، إني قد عرفت من أين أتيت، فهل تأذن لي فيه؟ قال: نعم، فقل ما بدا لك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الذي ترى هجا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبيات من الشعر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم، إني لا أحسن أن أقول الشعر، فالعَن عمراً، بكل بيت لعنة. أفتراه بعد هذا نائلاً فلاحاً، أو مدركاً رباحاً؟ إن أمرأ لم يعرف إلا بسهم أُجيل عليه فجال لَحقيقٌ أن يكون كليل اللسان، ضعيف الجَنان، مستشعراً للاستكانة، مقارناً للذل والمهانة، غير وَلوج فيما بين الرجال، ولا ناظر في تسطير المقال، إن قالت الرجال أصغى، وإن قامت الكرام أقعى، مبصبص بذَنبه لعظيم ذنبه، غير ناظر في أبهة الكرام، ولا منازع لهم، ثم لم يزل في دجنة ظلماء مع قلتة حياء، يعامل الناس بالمكر والخداع، والمكر والخداع في النار، فقال عمرو: يا أخا بني الدئل، والله لأنت الذليل القَليل، ولولا ماتمتّ به من نسب كنانة لاختطفتك من حولك اختطاف الأجدل الجُدّيّة، غير أنك بهم
تطول، وبهم تصول، والله لقد أُعطيت مع هذا لساناً قوالاً، سيصير عليك وبالاً. وايم الله إنك لأعدى الناس لأمير المؤمنين، قديماً وحديثاً، وما كنت قط بأشد عداوة له منك الساعة، وإنك لَتُوالي عدوّه، وتعادي وليّه، وتبغيه الغوائل، ولئن أطاعني ليَقطعَنّ عنه لسانك، ولَتُخرجَنّ من رأسك شيطانك، فأنت العدو المطرق له إطراق الأفعوان في أصل السّخْبَر. قال: فتكلم معاوية فقال: يا أبا الأسود، أغرقت في النزع، ولم تدع رجعة لصالحك، وقال لعمرو: لم يغرق كما أغرقت، ولم يبلغ ما بلغت غير أنه كان منه الابتداء والاعتداء، والبادىء أظلم، والثالث أحلم، فانصرفا عن هذا القول إلى غيره، وقُوما غيرَ(11/223)
مطرودين، فقام عمرو وهو يقول: " الطويل " ول، وبهم تصول، والله لقد أُعطيت مع هذا لساناً قوالاً، سيصير عليك وبالاً. وايم الله إنك لأعدى الناس لأمير المؤمنين، قديماً وحديثاً، وما كنت قط بأشد عداوة له منك الساعة، وإنك لَتُوالي عدوّه، وتعادي وليّه، وتبغيه الغوائل، ولئن أطاعني ليَقطعَنّ عنه لسانك، ولَتُخرجَنّ من رأسك شيطانك، فأنت العدو المطرق له إطراق الأفعوان في أصل السّخْبَر. قال: فتكلم معاوية فقال: يا أبا الأسود، أغرقت في النزع، ولم تدع رجعة لصالحك، وقال لعمرو: لم يغرق كما أغرقت، ولم يبلغ ما بلغت غير أنه كان منه الابتداء والاعتداء، والبادىء أظلم، والثالث أحلم، فانصرفا عن هذا القول إلى غيره، وقُوما غيرَ مطرودين، فقام عمرو وهو يقول: " الطويل "
لَعمري لقد أعيا القرونَ التي مضت ... تحوّلُ غشٍّ في الفؤادِ كمينِ
وقام أبو الأسود وهو يقول: " الطويل "
ألا إن عمراً رامَ خفيةٍ ... وكيفَ ينالُ الذئبُ ليثَ عرينِ؟
فانصرفا إلى منازلهما، وذاع حديثهما في البلاد، فبينا أبو الأسود في بعض الطريق إذ لقيه شاب من كلب يقال له: كليب بن مالك، شديد البغض لعلي وأصحابه، شديد الحب لمعاوية وأصحابه، فقال له: يا أبا الأسود، أنت المنازل عمراً أمس بين يدي أمير المؤمنين؟ أم والله لو شهدتك لأغرّقتُ جبينك، فقال أبو الأسود: من أنت يا بن أخي الذي بلغ بك خطرك كل هذا، وممن أنت؟ قال: أنا ممن لا ينكر، أنا امرؤ من قضاعة ثم من كلب، ثم أنا كليب بن مالك، فقال أبو الأسود: أراك كلباً من كلب، ألا أرى للكلب شيئاً؛ إذا هو نبح أفضل من أن يقطع باخساً، فاخسأ ثم اخسأ كلباً، فانصرف وخلاه. فبلغ ذلك القول معاوية فأكثر التعجب والضحك. ثم إنهما اجتماعا بعد ذلك عنده، فقال معاوية للكلبي: يا أخا كلب، ما كان أغناك من منازعة أبي الأسود، فقال الكلبي: ولم لا أنازعه؟ والله لأنا أكثر نفيراً، وأعزّ عشيراً، وأطلق لساناً، وإن شاء لأُنافِرَنّه بين يديك، فقال معاوية: والله يا أخا كلب، ما صدقت في واحدة من الثلاث، فقال أبو الأسود: والله لولا هذا الجالس يعني: يزيد بن معاوية فإنكم أخواله، لقطعت عني لسانك، فقال يزيدك يا أبا الأسود، قل، فأعمامي أحب إلي من أخوالي، فقال أبو الأسود: سل هذا يا أمير المؤمنين بمن ينافرني، بِحِمْيَر أو معَدّ؟ قال أبو حمزة الثمالي: لما بويع معاوية وفد عليه الأحنف بن قيس وأبو الأسود الدِّيلي في أهل البصرة، فقال معاوية للأحنف حين دخل عليه: أنت القاتل أمير المؤمنين، يريد عثمان، والخاذل أم المؤمنين، ومقاتلها بصفين؟ فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين، لا تَردُدِ الأمور على(11/224)
أدبارها، فإن القلوب التي أبغضناك بها في صدورنا، والسيوف التي قاتلناك بها في عواتقنا، فلا تمدّ لنا شبراً من الغدر إلا مددنا لك باعاً من الختر، وإن كنت يا أمير المؤمنين لجدير أن تستصفي كدر قلوبنا بفضل حلمك. قال: إني فاعل إن شاء الله. ثم أقبل على أبي الأسود الدِّيلي فقال له: أنت القائل لعلي: ابعثني حكماً، فوالله ما أنت هناك، إنك لَفَهيهُ المحاورة، عييّ بالجواب، فكيف كنت صانعاً؟ قال: كنت جامعاً أصحاب محمد فأقول لهم: أَبَدرِيّ، أُحُديّ، شجَريّ، عَقَبيّ أحبّ إليكم أم رجل من الطلقاء؟ فقال معاوية: مالهّ قاتله الله، والله لقد خلعني خلع الوصيف.
وقيل: إن أبا الأسود قال لمعاوية: لو كنتُ بمكان أبي موسى ما صنعتُ ما صنع. قال: وما كنت تصنع؟ قال: كنت أنظر رهطاً من المهاجرين ورهطاً من الأنصار فأناشدهم الله، المهاجرون أحقّ بالخلافة أو الطلقاء؟ فقال معاوية: أقسمت عليك لا تذكرنّ هذا الحديث ما عشت.
وكان أبو الأسود شاعراً متشيعاً. وكان ثقة في حديثه. وكان عبد الله بن عباس لما خرج من البصرة استخلف عليها أبا الأسود الدِّيلي، فأقرّه علي بن أبي طالب.
وهو أول من تكلم في النحو، وقاتل مع علي عليه السلام يوم الجمل. وهلك في ولاية عبيد الله بن زياد.
والدُّيِّلي: بضم الدال وكسر الياء. وقيل: الدُّؤَلي: مضمومة الدال مفتوحة الواو، من الدُّئِل بضم الدال وكسر الياء. والدُّئِل: الدابة قيل: دابة صغيرة دون الثعلب وفوق ابن عرس ويقال لرهط أبي الأسود: الدُّؤلي، وامتنعوا أن يقولوا: أبو الأسود الدّيلي، لئلا يوالوا بين الكسرات، فقالوا: الدؤلي كما قالوا في النَّمِر: النَّمَري.
واختلف في السبب الذي دعا أبا الأسود إلى ما رسمه من النحو، فقال أبو عبيدة: أخذ أبو الأسود العربية عن علي بن أبي طالب، فكان لايخرج شيئاً مما أخذه عن علي إلى(11/225)
أحد، حتى بعث إليه زياد: اعمل شيئاً تكون فيه إماماً ينتفع الناس به ويعرف به كتاب الله، فاستعفاه من ذلك حتى سمع أبو الأسود قارئاً يقرأ: " أنَّ الله بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَسُوله "، فقال: ما ظننت أن أمر الناس صار إلى هذا، فرجع إلى زياد فقال: أنا أفعل ما رسمه الأمير، فليبغني كاتباً لقِناً يفعل ما أقول، فأُتي بكاتب من عبد القيس، فلم يرضه، فأتي بآخر قال أبو العباس: أحسبه منهم فقال له أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقُط نقطة فوقه على أعلاه، فإن ضمت فمي فانقُط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعت شيئاً من ذلك غُنَّة فاجعل ما كان النقطة نقطتين. فهذا نقط أبي الأسود.
وقيل: إن رجلاً جاء إلى زايد فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا، وترك بنوناً، فقال زياد: توفي أبانا، وترك بنوناً؟! ادع لي أبا الأسود، فقال: ضع للناس الذي كنت نهيتك أن تضع لهم، أبو الأسود استأذنه في أن يضع للعرب كلاماً يقيمون به كلامهم.
وقيل: إن سعداً مرّ بأبي الأسود وكان رجلاً فارسياً وهو يقود فرسه، فقال: مالك يا سعد لا تركب؟ َ فقال: إن فرسي ضالع، فضحك به بعض من حضره. قال: أبو الأسود: هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه، فصاروا لنا إخوة، فلو علمناهم الكلام، فوضع باب الفاعل والمفعول لم يزد عليه.
وكان أبو الأسود من أفصح الناس. قال أبو الأسود: إني لأجد للّحن غمزاً كغمز اللحم.
ويقال: إن ابنته قالت له يوماً: يا أبه، ما أحسنّ السماءِ، فقال: نجومُها، قالت: إني لم أُرد أيّ شيء أحسن منها، إنما تعجبت من حسنها. قال: إذاً فقولي: ما أحسنَ السماءَ!(11/226)
وقيل: إن ابنته قالت له: يا أبه، ما أشدّث الحرِّ في يوم شديد الحرّ فقال لها: إذا كانت الصقعاء من فوقك، والرمضاء من تحتك، فقالت: إنما أردت أن الحرّ شديد، قال: فقولي: ما أشدّ الحرَّ.
والصقعاء: الشمس. فحينئذٍ وضع كتاباً.
وقيل: إن أعرابياً قدم في زمن عمر، فقال: مَن يقرئني مما أنزل الله على محمد؟ قال: فأقرأه رجل " براءة " فقال: " أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَسُوله " بالجر، فقال الأعرابي: أوقد برىء الله من رسوله؟ إن يكن الله برىء من رسوله فأنا أبرأ منه. فبلغ عمر مقالَهُ فدعاه، فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة ولا عِلم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرئني هذا سورة " براءة " فقال: " أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَسُوله " فقلت: أوقد برىء الله من رسوله؟ إن يكون الله برىء من رسوله، فأنا أبرأ منه. فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي، قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: " أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَسُوله " فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برىء الله ورسوله منه. فأمر عمر بن الخطاب ألا يقرىء القرآن إلاّ عالم باللغة، وأمر أبا الأسود فوضع النحو.
قال العتبي:
كتب معاوية إلى زياد يطلب عبيد الله ابنه. فلما قدم عليه كلمه، فوجده يلحن، فرده إلى زياد، وكتب إليه كتاباً يلومه فيه، ويقول: أمثل عبيد الله تصنع؟! فبعث زياد إلى أبي الأسود، فقال له: يا أبا الأسود: إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئاً يصلح به الناس كلامهم ويُعربُون به كتاب الله، فأبى ذلك أبو الأسود، وكره إجابة زياد إلى ما سأل، فوجه زياد رجلاً، وقال له: اقعد في طريق أبي الأسود، فإذا مر بك فاقرأ شيئاً من القرآن، وتعمّد اللحن فيه، ففعل ذلك. فلما مرّ به أبو الأسود رفع الرجل صوت يقرأ: " أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَسُوله " فاستعظم ذلك أبو الأسود، وقال: عزّ وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم(11/227)
رجع من فوره إلى زياد، فقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألتك، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إلى ثلاثين رجلاً، فأحضرهم زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم " يزل " يختارهم حتى اختار منهم رجلاً من عبد القيس، فقال: خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها، فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، فإذا كسرتها فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئاً من هذه الحركات غُنَّة فانقط نقطتين، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره، ثم وضع " المختصر " المنسوب إليه بعد ذلك.
قال محمد بن سلاّم الجمحي: أول مَن أسس العربية، وفتح بابها، وأنهج سبلها، ووضع قياسها أبو الأسود، وكان رجلَ أهلِ البصرة. وإنما فعل ذلك حين اضطرب كلام العرب فغلبت السليقية. السليقية من الكلام ما كان الغالب عليه السهولة، وهو مع ذلك فصيح اللفظ، منسوب إلى السليقة، وهي الطبيعة، ومعناه: ما سمح به الطبع، وسهُل على اللسان من غير أن يتعمد لإعرابه. يقال: فلان يقرأ بالسليقة أيى بطبعه. لم يقرأ على القراء، ولم يأخذه عن تعليم. قال الشافعي رحمه الله: كان مالك بن أنس يقرأ بالسليقية، يستقصره في ذلك. والسليقية تذم مرة وتمدح أخرى: إذا ذُمّت فلعدم الإعراب، وإذا مُدِحت فللدراية والفصاحة. قال الشاعر: " الطويل "
ولستُ بنحويٍّ يَلوكُ لسانَهُ ... ولكن سليقيٌّ أقولُ فأعربُ
وعن أبي الأسود قال: إعادة الحديث أشدّ من نقل الصخر من الجبل.
قال الأصمعي: كان أبو الأسود يكثر الركوب، فقيل له: يا أبا الأسود: لقد قعدت في منزلك كان أودع لبدنك وأروح، فقال أبو الأسود: صدقت. ولكن الركوب أتفرج فيه، وأستمع من الخبر ما لا أسمعه في منزلي، وأستنشق الريح، فترجع إليَّ نفسي، وأُلاقي الإخوان،(11/228)
ولو جلست في منزلي اغتمّ بي أهلي، واستأنس بي الصبي، واجترأت عليّ الخادم، وكلمني من أهلي من يهاب أن يكلمني.
باع أبو الأسود داراً له، فقيل له: بعت دارك! قال: لا، ولكني بعثت جيراني.
قال أبو الأسود لبنيه: أحسنت إليكم كباراً وصغاراً، وقبل أن تكونوا. قالوا: أحسنت إلينا كباراً وصغاراً، فكيف أحسنت إلينا قبل أن نكون؟ قال: لم أضعكم موضعاً تستحيون منه.
قال رجل لأبي الأسود: أنت والله ظريفُ لفظٍ، ظريفُ علمٍ، وعاء حِلم، غير أنك بخيل، فقال: وما خير ظريفٍ لا يُمسك ما فيه؟ كان أبو الأسود الدُّئلي ينزل في بني قُشَير، وكانوا عثمانية، وكان أبو الأسود علوي الرأي، فكان بنو قُشَير يسيئون جواره، ويؤذونه، ويرجمونه بالليل، فعاتبهم على ذلك فقالوا: ما رجمناك، ولكن الله رجمك، قال: كذبتم، لأنكم إذا رجمتموني أخطأتموني، ولو رجمني الله ما أخطأني. ثم انتقل عنهم إلى هذيل، وقال فيهم: " الكامل "
شتموا علياً ثم لم أزجرْهُمُ ... عنهُ وقلتُ مقالةَ المتردِّدِ
اللهُ يعلُم أنّ حبّي صادقٌ ... لِبني النبيّ وللإمامِ المهتدي
وقال في بني قشير من أبيات: " الوافر "
يقولُ الأرذلون بنو قُشَير ... طوالَ الدّهر لا تنسى علياً!
أُحِبُّ محمداً حُبّاً شديداً ... وعباساً وحمزة والوصيّا
بنو عمِّ النبيّ وأقربوه ... أحبّ الناسٍ كلِّهمُ إليّا
فإن يكُ حبُّهُم رُشداً أَنلْهُ ... أوليسَ بضائري إن كان غيّا
فكتب معاوية إلى عبيد الله بن زياد: إن عرفت أبا الأسود، وإلاّ فاسأل عنه، ثم أخبره أنه قد شكّ في دينه، فإذا قال: بماذا؟ فأخبِره بقوله:
فإن يكُ حبُّهم رشداً أنلْهُ(11/229)
البيت. فبعث عبيد الله إلى أبي الأسود فأخبره بمقالة معاوية، فقال أبو الأسود: فاقرئه السلام، وأخبره بأني إنما قلت ما قال العبد الصالح: " وَإِنَّ أَوْ إيَّاكُمْ لَعَلي هُدىً أوْ فِي ضَلالٍ مُبِيْنٍ " افتراه شكّ في دينه؟ رأى عبيد الله بن أبي بكرة على أبي الأسود الدِّيلي جبّة رثّة كان يكثر لبسها، فقال: يا أبا الأسود: أما تملّ هذه الجبّة؟ فقال: ربّ مملول لا يستطاع فراقه. قال: فبعث إليه بمئة ثوب، فأنشأ أبو الأسود يقول: " الطويل "
كساني وَلم أستكسِه فحمدتُه ... أخٌ لك يعطيكَ الجزيلَ وناصرُ
وإنّ أحقَّ الناسِ إن كنتَ شاكراً ... بشكركَ مَن أعطاكَ والعِرضُ وافرُ
دخل أبو الأسود على عبيد الله بن زياد وقد أسنّ فقال له يهزأ به -: يا أبا الأسود، إنك لجميل فلو تعلقت تميمة، فقال أبو الأسود: " البسيط "
أفنى الشبابَ الذي أفنيتُ جِدَّتَه ... كرُّ الجديدَيْنِ من آتٍ ومنطلقِ
لم يتركا ليَ في طولِ اختلافهما ... شيئاً أخاف عليه لذعةَ الحدَقِ
كانت لأبي الأسود من معاوية ناحية حسنة، فوعده وعداً فأبطأ عليه، فقال له أبو الأسود: " الرمل "
لا يكن برقُك برقاً خُلَّباً ... إن خيرَ البرقِ ما الغيثُ معَهْ
لا تهنّي بعدَ إذ أكرمتني ... فشديدٌ عادةٌ مُنْتَزَعَهْ
أطلع أبو الأسود مولى له على سرّ له، فبثّه، فقال أبو الأسود: " الطويل "
أمنتُ على السرّ امرأ غيرَ حازمِ ... ولكنه في النصح غيرُ مُريبِ
فذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياءَ نارٌ أُوقدَتْ بثَقوبِ
وما كل ذي نصحٍ بمؤتيك نصحَهُ ... ولا كلُّ من ناصحتَه بلبيبِ
ولكن إذا ما استجمعا عندَ واحدٍ ... فحقٌّ له من طاعةٍ بنصيبِ(11/230)
وقال أبو السود: " المتقارب "
إذا أنت لم تعفُ عن صاحبٍ ... أساء وعاقبتَه إن عثَرْ
بقيتَ بلا صاحبٍ فاحتمِلْ ... وكن ذا قَبولٍ إذ ما اعتذرْ
وقال أبو الأسود: " الكامل "
وإذا طلبت إلى كريمٍ حاجةً ... فلقاؤه يكفيك والتسليمُ
وإذا تكون إلى لئيمٍ حاجةٌ ... فألحَّ في رفقٍ وأنت مُديمُ
والزم قبالة بابه وفِنائِهِ ... كأشدِّ ما لزمَ الغريمَ غريمُ
حتى يريحَك ثم تهجرَ بابَه ... دهراً وعرضُكَ إن فعلت سليمُ
مات أبو الأسود في طاعون الجارف سنة تسع وستين، وهو ابن خمس وثمانين. وقيل: إنه مات قبل الطاعون. وهو الأشبه، لأنه لم يسمع له في فتنة مصعب وأمر المختار خبر.
ظبيان بن خلف بن نجيم
ويقال: نجم بن عبد الوهاب أبو بكر المالكي الفقيه المتكلم من أهل الإقليم سكن دمشق.
حدث عن عبد العزيز بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يقول: أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه ".
توفي ظبيان سنة أربع وتسعين وأربع مئة.(11/231)
ظفر بن دَهي الدليل
شهد فتوح الشام ودمشق مع خالد بن الوليد.
حدث ظفر بن دهي قال: فأغار بنا خالد من سُوى على المُصَيَّخ، مصَيَّخ بَهراء بالقُصْواني - ماء من المياه فصبح المصيخ، والنَّمِر وإنهم لغارون، وإن رفقة لتشرب في وجه الصبح، وساقيهم يغنّيهم، ويقول: " الطويل "
ألا فاصبحاني قبلَ جيشِ أبي بكر ... لعلّ منايانا قريبٌ ولا ندري
فضربت عنقه فاختلط دمَه بِخَمْرِه.
ظفر بن محمد بن خالد
ابن العلاء بن ثابت بن مالك أبو نصر الحارثي السرّاج حدث عن بكر بن سهل الدمياطي بسنده عن مسلمة بن مخلد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اغروا النساء يَلزمْنَ الحَجال ".
وحدث ظفر أيضاً عن أبي جعفر محمد بن عبد الحميد الليثي بسنده عن بكر بن عبد الله المزني قال:
أحق الناس بلطمةٍ رجلٌ دُعي إلى طعام فذهب معه بآخر. وأحق الناس بلطمتين رجلٌ دخل على قوم فقالوا له: اجلس ها هنا، قال: لا، بل ها هنا. وأحق الناس بثلاث لطمات رجلٌ دخل على قوم قدموا له طعاماً قال: قولوا لربّ البيت يأكل معي.(11/232)
ظفر بن محمد بن ظفر
ابن عمر بن حفص بن عمر بن سعيد ابن أبي عزيز جندب بن النعمان، أبو نصر الأزدي الزملكاني حدّث عن أبي الأزهر جماهر بن محمد الزملكاني بسنده عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بأصبعه المشيرة والوسطى كفرسَي رهان، استبقا فسبق أحدهما صاحبه بإذنه جاء الله سبحانه، جاءت الملائكة، جاءت الجنة، يا أيها الناس استجيبوا لربكم والقوا إليه السِّلَم ".
توفي ظفر بن محمد سنة أربعين وثلاثة مئة.
ظفر بن مظفر بن عبد الله بن كِتنَّة
أبو الحسن الحلبي الناصري الفقيه الشافعي حدّث عن عبد الرحمن بن عمر بن نصر بسنده عن فُضيل بن عياض قال: ما كان ينبغي أن يكون أحد أطول حزناً، ولا أكثر بكاءً، ولا أَدْوَم صلاةً من العلماء في هذه الدنيا، لأنهم الدعاة إلى الله عزّ وجلّ.
توفي ظفر بن المظفر في سنة تسع وعشرين وأربع مئة.
ظفر بن منصور بن الفتح
أبو الفتح دمشقي.
حدّث عن الحسن بن عبد الرحمن بسنده عن أبي هريرة قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحبب حبيبك هَوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما. وأبغض بغيضك هَوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما ".
أسماء الرجال على(11/233)
حرف العين المهملة
عاصم بن أبي بكر بن عبد العزيز
ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي المصري حدّث عاصم بن أبي بكر أنه قدم على سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز فنزلت على عبد الملك وهو أعزب، وكنت معه في بيته. فلما صلينا العشاء، وأوى كل رجل منا إلى فراشه أوى عبد الملك إلى فراشه. فلما ظن أن قد نمنا قام إلى المصباح فأطفأه، وأنا أنظر إليه، ثم جعل يصلي حتى ذهب بي النوم. قال: فاستيقظت، فإذا هو يقرأ في هذه الآية: " أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِيْنَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ " ثم بكى، ثم رجَع إليها، ثم بكى، ثم لم يزل يفعل ذلك حتى قلت: سيقتله البكاء. فلما رأيت ذلك قلت: سبحان الله، والحمد لله، كالمستيقظ من النوم لأقطع ذلك عنه. فلما سمعني ألبد، فلم أسمع له حسّاً.
قتل عاصم بن أبي بكر بقَلَنْسُوَة سنة ثلاث وثلاثين في آخرين من بني أمية حُملوا من مصر.(11/234)
عاصم بن بهدلة أبي النجود
أبو بكر الأسدي الكوفي المقرىء صاحب القراءة المعروفة حدّث عاصم عن زِرّ قال: سألت أُبيّ بن كعب عن ليلة القدر فحلف لا يستثني إنها ليلة سبع وعشرين. فقلت: لم تقول ذلك أبا المنذر؟ قال: بالآية أو بالعلامة التي قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنها تصبح من ذلك اليوم: تطلع الشمس، وليس لها شعاع.
وعن عاصم عن زِرّ قال: أتيت صفوان بن عسّال المرادي فقال لي: ما جاء بك؟ قلت: جئت ابتغاء العلم، قال: فإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً بما يطلب. قلت: حكّ في نفسي أو في صدري مسحٌ على الخفين بعد الغائط والبول، فهل سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك شيئاً؟ قال: نعم. كان يأمرنا إذا كنا سَفْراً أو مسافرين ألا تنزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة. ولكن من غائط أو بول أو نوم. قلت: هل سمعته يذكر الهوى؟ قال: نعم، بينا نحن معه في مسيرٍ إذ ناداه أعرابي بصوت له جَهْوَريّ قالِ: يا محمد، فأجابه على نحوٍ من كلامه: هاه، قال: أرأيت رجلاً أحبَّ قوماً ولما يلحق بهم؟ قال: " المرء مع مَن أحبّ ". ولم يزل يحدثنا أنّ من قِبَل المغرب باباً يفتح الله للتوبة، مسيرة عرضه أربعون سنة، فلا يُغلق حتى تطلع الشمس من قِبَله. وذلك قوله: " يَوْمَ يَأْتِيْ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيْمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنْتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِيْ إِيْمَانِهَا خَيْراً ".
وعن عاصم بن بهدلة قال:
دخلت على عمر بن عبد العزيز، فإذا ثيابه غسيلة، فقوَّمت كلّ شيء كان عليه ستين درهماً، عِمامته وغيرها. قال: ورجل يكلمه قد رفع صوته، فقال عمر: مَهْ، بحسب المرء المسلم من الكلام ما يُسمع صاحبه.(11/235)
وعاصم بن أبي النجود: من قال: النَّجود بفتح النون فهي الأتان. ومن قال النُّجُود بضم النون فجمع نجد وهو الطريق.
قال الحسن بن صالح: دخلت على عاصم وقد احتُضر - فجعلت أسمعه يردد هذه الآية، يحققها كأنه في المحراب: " ثُمَّ رُدُّوا إلى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقُّ ألاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِيْنَ ".
قال: ودخلت على الأعمش وقد حضره الموت فقال: لا تُؤِذِنَنّ بي أحداً، فإذا أصحبت فأخرجني إلى الجبّان، فألقني ثَمّ، ثُمّ بكى.
توفي عاصم بن بهدلة سنة سبع وعشرين ومئة. وقيل: سنة ثمان وعشرين ومئة.
عاصم بن حُميد السَّكوني الحمصي
شهد خطبة عمر بالجابية.
قال عاصم بن حميد: سمعت عوف بن مالك يقول: قمت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة، فبدأ فأستاك ثم توضأ، ثم قام يصلي، فقمت معه، فبدأ فاستفتح من البقرة لا يمرّ بآيةِ رحمةٍ إلا وقف فسأل. ولا يمرّ بآيةِ عذابٍ إلاّ وقف فتعوَّذ، ثم ركع، فمكث راكعاً بقدر قيامه، يقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر ركوعه يقول في سجوده: سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة. ثم قرأ آل عمران، ثم سورة سورة، يفعل مثل ذلك.
وروى عاصم بن حميد عن معاذ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في تأخير صلاة العَتَمة.(11/236)
عاصم بن رجاء بن حيوة
الكندي الفلسطيني وفد على عمر بن عبد العزيز.
حدّث عن داود بن جميل عن كَثير بن قيس قال: كنت جالساً مع أبي الدّرداء في مسجد دمشق، فأتاه رجل، فقال: يا أبا الدّرداء، إني أتيتك من المدينة، مدينة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لحديث بلغني أنك تحدّث به عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال أبو الدّرداء: ما جئت لحاجة، وما جئت لتجارة، وما جئت إلاّ لهذا الحديث؟ قال: نعم. قال: فني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب، وإن العالم يستغفر له من في السماء ومن في الأرض، والحيتان في جوف البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن العلماء ثم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، وأورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بخط وافر ".
وحدّث عالم عن أبي عمران الأنصاري بسنده عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الصبر الرضى ".
وعن عاصم بن رجال قال: سمعت عمر بن عبد العزيز وهو ينادي على المنبر: من أذنب ذنباً فليستغفر الله ثم لتيُب، فإن عاد فليستغفر الله ثم ليتُب، فإن عاد فليستغفر الله ثم ليتُب، فإنها خطايا موصوفة في أعناق رجالٍ قبل أن يخلقوا، وإن الهلاك كلّ الهلاك الإصرار عليها.(11/237)
عاصم بن سفيان بن عبد الله
ابن أبي ربيعة بن الحارث الثقفي الطائفي قدم على معاوية غازياً.
حدّث عاصم بن سفيان: أنهم غزوا غزوة السلاسل، ففاتهم الغزو، فرابطوا، ثم رجعوا إلى معاوية، وعنده أبو أيوب وعقبة بن عامر، فقال عاصم: يا أبا أيوب، فاتنا الغزو العام، وقد بلغنا أنه من صلى في المساجد الأربعة غفر الله عزّ وجلّ له ذنبه. قال: يا بن أخي، أدلّك على أيسر من ذلك: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من توضأ كما أُمِر، وصلّى كما أُمِر غفر الله له ما قدّم من عمل ".
أكذلك يا عقبة؟ قال: نعم.
عاصم بن عبد الله بن نُعَيم
أبو عبد الغني القَيني من أهل الشام ثم من الأردن.
حدث عاصم عن أبيه عن عروة بن محمد عن أبيه عن جده أنه قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وفد من قومه من ثقيف. فلما دخلوا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فيما ذكروا أن سألوه، فقال لهم: هل قدم معكم غيركم؟ قالوا: نعم، فتى منا خلّفناه في رحالنا، قال: فأرسلوا إليه، قال: فلما دخلت عليه وهم عنده فاستقبلني فقال: إن اليد المنطية هي العليا، وإن السائلة هي السفلى، فما استغنيت فلا تسأل، وإن مال الله مسؤول عنه ومُنطى.(11/238)
عاصم بن عبيد الله بن عاصم
ابن عمرو بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي وفد على عمر بن عبد العزيز.
حدّث عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر عن أبيه أن امرأة من بني فزارة تزوجت رجلاً على نعلين، فرُفع ذلك إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لها: أرضيت لنفسك نعلين؟ قالت: إني رأيت ذلك، قال: وأنا أرى ذلك.
وفي حديث آخر.
فقال لها: أرضيت؟ فقالت: نعم، ولو لم يعطني لرضيت، قال: شأنك وشأنها.
وحدث عنه أيضاً عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد ".
زاد في حديث آخر: ويزيدان في العمر والرزق.
ضعّفه جماعة.
مات في خلافة أبي العباس، وكان قد وفد إليه.
عاصم بن عمر بن قتادة
ابن النعمان أبو عُمر ويقال: أبو عَمرو الأنصاري الظَّفَري حدث عن محمود بن لَبيد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله عزّ وجلّ ليحمي عبده المؤمن الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه ".
وحدث عنه أيضاً عن رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أسفِروا بالصبح، فإنه أعظم للأجر ".(11/239)
وحدث عاصم عن جابر بن عبد الله قال: جاء يعود المقنَّع بن سنان وكان خال عاصم أخا أمّه فسلم عليه، وهو في رداء وإزار، وقد أصيب بصره، فقال: ماذا تشتكي؟ وقد مسّ رأسه ولحيته بشيء من صفرة، قال: خُرّاج منع مني النوم، وأسهرني. قال جابر: يا غلام، ادع لنا حجّاماً، قال المقنع: وما تصنع بالحجام؟ يا أبا عبد الله؟ قال: أريد أن أعلق به مِحْجماً، فقال: غفر الله لك، إن الثوب ليصيبني، أو الذباب يقع عليه فيؤذيني. فلما رأى جزعه من ذلك أنشأ يحدثنا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن كان في شيء من أدويتكم خيرٌ أو أن يكونَ ففي شَرطة محجم أو شَربة من عسل أول لذعَة نار توافق داء، وما أحب أن اكتوي ".
فدعا بحجام، فأعلق المحجم في خداعه. فلما بلغ منه حاجته شرط بمشرط معه، فأخرج الله ما كان فيه من صديد، وعوفي.
قتادة بن النعمان جد عاصم هو أخو أبي سعيد الخدري لأمّه.
وكان عاصم له رواية للعلم، وعلم بالسيرة ومغازي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان ثقة. ووفد على عمر بن عبد العزيز في خلافته في دين لزمه. فقضاه عنه عمر، وأمر له بعد ذلك بمعونة، وأمره أن يجلس في مسجد دمشق فيحدث الناس بمغازي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومناقب أصحابه، وقال: إن بني مروان كانوا يكرهون هذا، وينهون عنه، فاجلس فحدث الناس بذلك، ففعل. ثم رجع إلى المدينة، فتوفي بها سنة عشرين ومئة وفي خلافة هاشم بن عبد الملك.
وقيل: توفي سنة تسع وعشرين ومئة.
عاصم بن عمرو
ويقال ابن عوف البجلي أحد الشيعة. قدم به مع حجر بن عدي في اثني عشر رجلاً إلى عذراء في خلافة(11/240)
معاوية، فقتل بعضهم، ونجا بعضهم، وكان عاصم ممن أطلق لشفاعة يزيد بن أسد وكتاب جرير بن عبد الله البجليين. وقد ذكر ذلك في ترجمة أرقم بن عبد الله.
حدث عن أبي أمامة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يبيت قوم من هذه الأمة على طعم وشرب، ولهو ولعب فيصبحون قد مسخوا قردة وخنازير، وليصبنهم خسف وقذف حتى يصبح الناس، فيقولون: خسف الليلة ببني فلان، وخسف الليلة بدار فلان، خواص، وليرسلن عليهم حاصباً حجارة من السماء كما أرسلت على قوم لوط، على قبائل منها، وعلى دور، وليرسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عاداً على قبائل منها، وعلى دور لشربهم الخمر، ولبسهم الحرير، واتخاذهم القينات، وأكلهم الربا، وقطيعتهم الرحم "، وخصلةٍ نسيها جعفر.
وفي رواية أخرى: " ويبعث على أحياء من أحيائهم ريح فتنسفهم كما تنسف من كان قبلهم باستحلالهم الخمر، وضربهم الدفوف، واتخاذهم القينات ".
وحدث عاصم بن عمرو قال:
خرج نفر من أهل العراق إلى عمر. فلما قدموا عليه قال لهم: ممن أنتم؟ قالوا: من أهل العراق. قال: بإذنٍ جئتم؟ قالوا: نعم، فسألوه عما يحلّ للرجل من امرأته وهي حائض، وعن غُسل الجنابة، وعن صلاة الرجل في بيته، فقال لهم عمر: أسَحَرة أنتم؟ قالوا: لا، والله ما نحن بسحرة، قال: سألتموني عن خصال ما سألني عنها أحد بعد إذ سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها غيركم، فقال: " أما صلاة الرجل في بيته فَنُورٌ، فنوِّروا بيوتكم، وأما ما للرجل من امرأته وهي حائض فله ما فوق الإزار، وأما غسل الجنابة فتوضّأ وضوءك للصلاة، ثم أغسل رأسك، ثم افِض على سائل جسدك ".
وزاد في حديث بمعناه: " ثم تنحّ من مُغتَسلك فاغسل رجليك؟ ".(11/241)
عاصم بن محمد بن أبي مسلم
أبو الفتح الدينوري سمع بدمشق.
ذكر في هذه الترجمة حديثاً عن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من اشتاق إلى الجنة سابق إلى الخيرات، ومن أشفق من النار لها عن الشهوات، ومن ترقب الموت صبر عن اللذات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات ".
حدث عاصم بن محمد عن أبي حفص عمر بن أحمد بن عيسى بسنده عن بعض شيوخه قال: أزرى رجل على الخليل فقال الخليل: " الطويل "
سأُلزمُ نفسي الصفحَ عن كلِّ مذنبٍ ... وإن كثَرتْ منه عليّ الجرائمُ
وما الناسُ إلا واحدٌ من ثلاثةٍ ... شريفٌ ومشروفٌ ومثلي مقاومُ
فأما الذي فوقي فأعرفُ فضلَهُ ... وأتبعُ فيه الحقَّ والحقُّ لازمُ
وأما الذي مثلي فإن زلَّ أو هفا ... تفضّلتُ إنّ الفضلَ بالعزّ حاكمُ
وأما الذي دوني فإن قالَ صُنت عن ... إجابته عِرضي وإن لامَ لائمُ
عاصم الدمشقي
حدث عن آدم بن أبي إياس قال: سمعته يقول: مِن قَبْلِ أن يحدث يجثو على ركبه في المجلس ويقول: والله الذي لا إله إلا هو، ما من أحدٍ إلا وسيخلو به ربّه ليس بينه وبينه ترجمان يقول الله له: ألم أكن رقيباً على قلبك إذا اشتهيتَ به ما لا يحلّ لك عندي؟ ألم أكن رقيباً على عينيك إذ نظرتَ بهما إلى ما لا يحلّ لك عندي؟ ألم أكن رقيباً على سمعك إذا أنصتّ به إلى ما لا يحل لك عندي؟ ألم أكن رقيباً على يديك إذ بطشت بهما إلى ما لا يحلّ لك عندي؟ ألم أكن رقيباً على قدميك إذ سعَيت بهما إلى ما لايحلّ لك، آستحييت من المخلوقين، وكنتُ أهون الناظرين إليك؟! فأحسب أن هذا كان منه، يقول:(11/242)
يا رب، لَتأمُرُ بي النار أهونُ علي من هذا التوبيخ، فيقول له: عبدي، هذا ما بيني وبينك، مغفور لك قد سترته عن الحفَظَة، اذهبوا بعبدي إلى الجنة.
قال: فلربما انقضى المجلس بغير سماع، قال: فيأخذ الناس في البكاء، حتى ينقضي المجلس بغير سماع.
العاص بن سُهيل بن عمرو
ابن عبد شمس بن عبدود بن نضر بن مالك بن حِسل بن عامر بن لؤي بن غالب أبو جندل العامري القرشي له صحبة. وهو صاحب القصة المعروفة في صلح الحديبية. أسلم قبل أبيه، وخرج معه مجاهداً إلى الشام وهلك به.
كان العاص بن سهيل أسلم بمكة، فطرحه أبوه في حديد. فلما كان يوم الحديبية جاء يرسُف في الحديد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد كتب سهيل كتاب الصلح بينه وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال سهيل: هو لي، فنظروا في كتاب الصلح فإذا سهيل قد كتب أن من جاءك منا فهو لنا، فرُدَّه علينا، فخلاّه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبيه، فقام إليه سهيل بغصن شوك، فجعل يضرب به وجهه، فجزع من ذلك عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، علام نعطي الدنية في ديننا:؟ فقال له أبو بكر الصديق: الزم غرزه يا عمر، فإنه رسول الله حقاً حقاً. فقام عمر، فجعل يمشي إلى جنب أبي جندل والسيف في عنق عمر ويقول لأبي جندل: يا أبا جندل، إن الرجل المؤمن يقتل أباه في الله عزّ وجلّ. قال عمر: فضنّ أبو جندل بأبيه، فلحق بأبي بَصير الثقفي، فكان معه في سبعين رجلاً من المسلمين فرّوا من قريش، وخافوا أن يردهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم إن طلبوهم، فاعتزلوهم(11/243)
فكانوا بالعيص يقطعون على ما مرّ بهم من عِير قريش وتجارتهم حتى شقّ ذلك على قريش بفكتبوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يضَّمهم إليه، فلا حاجة لهم فيهم، فضمّهم إليه.
وفي حديث آخر:
أن سهيلاً لما ضرب أبا جندل صاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أأُرَدُّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فزاد المسلمين ذلك شراً إلى ما بهم، وجعلوا يبكون لكلام أبي جندل. قال: يقول حُوَيطب بن عبد العزّى لمِكرَز بن حفص: ما رأيت قوماً قط أشدّ حباً لمن دخل معهم من أصحاب محمد لمحمد، وبعضهم لبعض. أما إني أقول لك: لا تأخذ من محمد نصَفاً أبداً بعد هذا اليوم حتى يدخلها عَنْوة، فقال مِكرَز: وأنا أرى ذلك. قال سهيل: هذا أول من قاضيتُك عليه، رُدَّه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا لم نقض الكتاب بعد، فقال سهيل: والله لا أكاتبك على شيء حتى تردّه إليّ، فردّه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهيلاً أن يتركه، فأبى سهيل، فقال مكرز بن حفص وحويطب: يا محمد، نحن نجيره لك، فأخلاه فُسطاطاً، فأجاراه، وكف أبوه عنه. ثم رفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوته فقال: يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعِلٌ لك ولمن معك فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهداً، وإنا لانغدر.
وعن داود بن أبي هند في قوله: " وَالّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ في الدُّنْيا حَسَنَةً " الآية، نزلت في أبي جندل بن سهيل بن عمرو.
حدث يحيى بن عروة عن أبيه قال: شرب عبد بن الأزور وضرار بن الخطاب وأبو جندل بن سهيل بن عمرو بالشام، فأتى بهم أبو عبيدة بن الجراح. قال أبو جندل: والله ما شربتها إلا على تأويل: إني سمعت(11/244)
الله يقول: " لَيْسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا إذا ما اتَّقُوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ". فكتب أبو عبيدة إلى عمر بأمرهم، فقال عبد بن الأزور: إنه قد حضر لنا عدونا فإن رأيت أن تؤخرنا إلى أن نلقى عدونا غداً، فإنِ الله أكرمنا بالشهادة كفاك ذاك، ولم يقمنا على خزاية، وإن نرجع نظرت إلى ما أمرك به صاحبك، فأمضيتَه. قال أبو عبيدة: فنعم. فلما التقى الناس قُتل عبد بن الأزور شهيداً، فرجع الكتاب، كتاب عمر: إن الذي أوقع أبا جندل في الخطيئة قد تهيأ له فيها بالحجة، فإذا أتاك كتابي هذا فأقم عليهم حدَّهم، والسلام. فدعا بهما أبو عبيدة فحدَّهما. وأبو جندل له شرف ولأبيه، فكان يحدث نفسه حتى قيل إنه قد وُسوِس. فكتب أبو عبيدة إلى عمر: أما بعد. فإني قد ضربت أبا جندل حدّه، وإنه قد حَّث نفسه حتى قد خشينا عليه أنه قد هلك. فكتب عمر إلى أبي جندل: أما بعد، فإن الذي أوقعك في الخطيئة قد خزن عليك التوبة: بسم الله الرحمن الرحيم، " حَمَ تَنْيزِلُ الكتاب مِنَ اللهِ العَزِيزِ العَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذي الطَّوْلِ لا إِلهَ إلاّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ". فلما قرأ كتابَ عمر ذهب عنه ما كان به، كأنما أُنشِط من عقال.
مات أبو جندل سنة ثمان عشرة في طاعون عمواس.
عالي بن عثمان بن جني
أبو سعد بن أبي الفتح البغدادي النحوي سمع بدمشق.
وحدث بصيدا عن الوزير أبي القاسم عيسى بن علي بن عيسى بن داود بن الجراح بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كاتب مملوكه على مئة وُقِيّة فأدّاها غير عشر أواقٍ فهو رقيق ".
كان عالي حياً سنة اثنتين وخمسين وأربع مئة.(11/245)
عامر بن خُرَيم بن محمد
أبو القاسم المري حدث عن شعيب بن إسحاق بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه ".
عامر بن ربيعة بن كعب
ابن مالك بن ربيعة بن عامر بن مالك بن ربيعة عن حجر بن سَلامان بن مالك. بن ربيعة بن رُفيدة بن عَنز بن وائل بن قاسط بن هِنْب ابن أفصى بن دُعمِيّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار أبو عبد الله العنزي العدوي، حليف بني عدي بن كعب من المهاجرين الأولين، ممن شهد بدراً، وأحداً، والخندق، والمشاهد كلها مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهاجر الهجرتين، وقدم الجابية مع عمر بن الخطاب.
حدث عامر بن ربيعة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن رأيتم الجنازة فقوموا حتى تخلّفكُم أو توضع ".
وفي رواية أخرى عنه أنه قال:
" إذا رأى أحدكم الجنازة فإن لم يكن ماشياً معها فليقم حتى تخلّفه أو توضع من قبل أن تخلّفه ".
مات بالمدينة حين نشِب الناس في أمر عثمان. وقيل: مات قبل قتل عثمان بأيام. وقد كان لزم بيته، فلم يشعر الناس إلا بجنازته قد أخرجت. وكان حليفاً للخطاب بن نفيل، وكان الخطاب لما حالفه عامر تبناه وادعى إليه، فكان يقول: عامر بن الخطاب،(11/246)
حتى نزل القرآن: " ادعُوهُم لآبَائِهِمْ " فرجع عامر إلى نسبه، فقيل: عامر بن ربيعة. وهو صحيح النسب في وائل. وهاجر عامر بن ربيعة إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعاً، ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة العدوية. وآخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين عامر بن ربيعة ويزيد بن المنذر بن سرح الأنصاري. وتوفي سنة اثنتين وثلاثين.
وقيل إن قوله تعالى: " ادعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ " الآية، نزلت في عامر بن الخطاب وزيد بن حارثة، وسالم مولى أبي حذيفة، والمقداد بن عمرو، فعرف آباؤهم غير سالم، فإنه لم يعرف أبوه، فثبت على ولاءِ أبي حذيفة.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما صدر السبعون من عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طابت نفسه، وقد جعل الله مَنَعَة وقوماً أهلَ حرب وعدةٍ ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج، فضيقوا على أصحابه، وتعبّثوا بهم، ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى، فشكا ذلك أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستأذنوه في الهجرة، فقال: " قد أُريتُ دار هجرتكم، أُريت سبَخة ذات نخل بين لابَتيْن وهما الحرّتان ولو كانت الشراة أرض نخل وسباخ لقلت: هي هي "، ثم مكث أياماً، ثم خرج إلى أصحابه مسروراً، فقال: " قد أُخبرتُ بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها "، فجعل القوم يتجهزون، ويترافقون، ويتواسَوْن، ويخرجون ويُخفون ذلك، فكان أولّ من قدم المدينة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو سلمة بن عبد الأسد، ثم قدم بعده عامر بن ربيعة، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة، فهي أول ظعينة قدمت المدينة، ثم قدم أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسالاً، فنزلوا على الأنصار في دورهم، فآوَوْهم، ونصروهم، وآسَوْهم.(11/247)
وعن ابن عباس قال: " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ " قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة إلى المدينة.
وعن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب، فأكرم عامر مثواه، وكلّم فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاءه الرجل فقال: إني استقطعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وادياً، ما في العرب وادٍ أفضل منه، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك، قال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا: " اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَِ ".
حدث عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: قام عامر بن ربيعة فصلى من الليل، وذلك حين شغب الناس في الطعن على عثمان، فصلى من الليل ثم قام، فأُتي في منامه فقيل له: قم، فسَلِ الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالحَ عبادِه، فقام فصلى ثم اشتكى.
قال: فما خرج قط إلا جنازةً.
توفي عامر بن ربيعة سنة ثلاث وثلاثين. وقيل: سنة سبع وثلاثين. وقيل: سنة ست وثلاثين.
عامر بن سعيد
أبو حفص القرشي الخراساني البزاز نزيل دمشق.
حدث عن أبي معاوية بسنده عن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن في الجنة لسوقاً، ما فيها شراء ولا بيع إلا الصور من النساء والرجال ".(11/248)
وحدث عن القاسم بن مالك بسنده عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي أطلب حاجة لنا، وذلك أول ما ذُكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة، فآواني المبيت إلى صاحب غنم، فجاء الذئب نصف الليل، فأخذ حملاً من غنمه، فنادى: يا عامر، الوادي جارك، فإذا منادٍ لا يراه: يا سرحان، أرسله، فجاءَ الحمل، ما به كَدْمة، حتى دخل في الغنم، وأُنزل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة: " وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ فزَادُوهُمْ رَهَقاً ".
وحدث عامر عن هشام بن يوسف بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" سُدوّا هذه الأبواب الشوارع إلى المسجد إلا باب أبي بكر ".
عارم بن شبل الجرمي
قال عامر بن شبل: سمعت أبا قلابة يقول: في الجنة قصر لصوّام رجب.
وقال عامر: رأيت أبا قلابة يرفع يديه في قنوته.
عامر بن شراحيل بن عَبد
أبو عَمرو الشعبي الكوفي قدم دمشق.
روى الشعبي قال: كان أبو سعيد جالساً فمرت به جنازة، فقام، فقال له مروان: اجلس، فقال: إني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام، فقام مروان معه.(11/249)
وحدث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قال الله عزّ وجلّ: ابن آدم، إنك ما ذكرتني شكرتني، وما نسيتني كفرتني ".
ذكر الشعبي أنه ولد عام جلولاء. وقيل: كان عام جلولاء سنة سبع عشرة. وقيل: ولد سنة عشرين. وقيل: إحدى وعشرين. وقيل: سنة ثمان وعشرين.
قال محمد بن سعد: في الطبقة الثانية من أهل الكوفة عامر بن شراحيل بن عبد الشعبي، وهو من حِمْيَر، وعداده في هَمْدان.
قال محمد بن أبي أمية، وكان عالماً: إن مطراً أصاب اليمن، فجعف السيل موضعاً، فأبدى عن أَزَجٍ عليه باب من حجارة، فكسر الغَلْق فدخل، فإذا بهو عظيم فيه سرير من ذهب، وإذا عليه رجل، قال: فشبرناه فإذا طوله اثنا عشر شبراً وإذا عليه جِباب من وشي منسوجة بالذهب، وإلى جنبه مِحْجَن من ذهب على رأسه ياقوتة حمراء، وإذا رجل أبيض الرأس واللحية، له ضفيرتان، وإلى جنبه لوح مكتوب فيه بالحِمْيَرية: باسمك اللهم، ربّ حِمْيَر، أنا حسان بن عمرو القَيْل، إذ لا قَيْل إلا الله، عشتُ بأمل، ومتّ بأجل، أيام وَخْز هَيْد، وما وخز هيد، هلك فيه اثنا عشر ألف قَيْل فكنت آخرهم قَيْلاً. فأتيت جبل ذي شَعْبين لُيجيرني من الموت فأخفرني، وإلى جنبه سيف مكتوب فيه بالحميرية: أنا قُبار، بي يدرك الثار.(11/250)
قال عبد الله بن محمد بن مرّة الشعباني: هو حسان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن حُشّم بن عبد شمس بن وائل بن عوف بن قَطَن بن عَريب بن زهير بن أيمن بن الهَمَيْسَع بن حِمْيَر. وحسان هو ذو الشَّعبين، وهو جبل باليمن نزله هو وولده، ودفن به، ونسب إليه هو وولده. فمن كان بالكوفة قيل لهم: شعبيون، منهم عامر الشعبي، ومن كان بالشام قيل لهم: شعبانيون، ومن كان باليمن قيل لهم: آل ذي شعبين، ومن كان بمصر والمغرب قيل لهم: الأشعوب، وهم جميعاً بنو حسان بن عمرو ذي شعبين. فبنو علي بن حسان بن عمرو رهط عامر بن شراحيل بن عبد الشعبي دخلوا في أُخمور هَمْدان باليمن، فعدادهم فيه. والأُخمور: خارف، والصائديون، وآل ذي بارق والسَّبيع، وآل ذي حُدّان، وآل ذي رضوان، وآل ذي لَعْوة، وآل ذي مُرَان. وأعراب هَمْدان: عُذْر، ويام، ونُهم، وشاكر، وأرحب. وفي هَمْدان مِن حِمْيَر قبائل كثيرة منهم: آل ذي حَوال، وكان على مقدمة تُبّع، منهم يَعْفُر بن الصّباح المتغلب على مخاليف صنعاء اليوم.
وكان الشعبي ضئيلاً، نحيفاً، وكان وُلِد هو وأخ له تَوَماً، فقيل: يا أبا عمرو، مالنا نراك ضئيلاً؟! قال: إني زوحمت في الرحم.
قد الشعبي الشام على عبد الملك بن مروان، وقدم إلى مصر رسولاً من عبد الملك بن مروان إلى أخيه عبد العزيز، ويقال: بل بلغ عبد العزيز بن مروان براعته وعقله وطيب مجالسته، فكتب إلى أخيه عبد الملك في أن يؤثره الشعبي، ففعل، وكتب إليه: إني آثرتك به على نفسي فلا يلبث عندك إلا شهراً أو نحو شهر، فأقام بمصر عند عبد العزيز نحو أربعين يوماً، ثم رده إلى أخيه عبد الملك.
وأم عامر من سبي جلولاء.(11/251)
قال أبو نصر: أما كِبار بكسر الكاف وباء موحدة وآخره راء فهو قَيل من أقيال اليمن، من ولده عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار.
قال الشعبي: أدركت خمس مئة من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يقولون: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي.
وقال: أدركت خمسمئة من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أكثر كلهم يقول: عثمان وعلي وطلحة والزبير في الجنة.
وقال الشعبي: ما كتبت سواداً في بياض قط، ولا حدثني رجل حديثاً إلا حفظته، وما أحببت أن يعيده علي.
وقال الشعبي: ما سمعت منذ عشرين سنة رجلاً يحدث بحدث إلا أنا أعلم به منه، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه رجل لكان به عالماً.
وفي حديث آخر بمعناه: ثم يقول: هذا وقد زوحمتُ في الرحم. كيف لو كنت نسيج وحدي؟ وعن الشعبي أنه قال:
ما أروي شيئاً أقلَّ من الشعر، ولو شئت لأنشدتكم شهراً لا أعيد.
قال أبو أسامة: كان عمر بن الخطاب في زمانه، رأس الناس، وهو جامع، وكان بعده ابن عباس في زمانه، وكان بعد ابن عباس في زمانه الشعبي، وكان بعد الشعبي في زمانه سفيان الثوري، وكان بعد الثوري في زمانه يحيى بن آدم.(11/252)
قيل للشعبي: من أين لك كل هذا العلم؟ قال: بنَفْيِ الاغتمام، والسير في البلاد، وصبرٍ كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب.
وعن الشعبي: أن ابن عمر سمعه يحدث بأحاديث المغازي، فاستمع له وقال: إن هذا الفتى ليحدث بأحاديث قد حضرناها، هو أعلم بها منا.
قال: ما لقيت أحداً أعلم بسنة ماضية من الشعبي.
وقال أيضاً: ما رأيت أفقه من الشعبي.
وقال منصور: ما رأيت أحداً أحسب من الشعبي.
قال صالح بن مسلم: لقيت الشعبي بالسُّدة فمشيت معه حتى حاذتنا أبواب المسجد فنظر إليه فقال: الله يعلم، لقد بغّض إليّ هؤلاء هذا المسجد. قلت: مَن يا أبا عمرو؟ قال: هؤلاء الرأييون، أصحاب الرأي. قيل: مَن في المسجد؟ قال: الحكم بن عُتيبة ونظراؤه، ثم مضى، فلقيه رجل، فسأله عن الورع فأبى أن يجيبه، فألح عليه فقال: يا عبد الله، إنك إن علمت، ثم علمت كان أوجب عليه بالحجة، وإن عملت قبل أن تعلم كان أيسر عليك في الأمر. قال: ثم مضينا نحو باب القصر فلقيه رجل، فقال: يا أبا عمرو، ما تقول في الرجل يضرب مملوكه؟ فقال بيده يقلبها: ما أدري، يوم يضرب الشعبي مملوكه فهو حرّ يومئذ.
قال سعيد: كلمت مطراً الوراق في بيع المصاحف فقال: أتنهوني عن بيع المصاحف وقد كان حَبْرا هذه الأمة أو قال: فقيها هذه الأمة لا يريان به بأساً: الحسن والشعبي!.(11/253)
وعن أبي عون قال: ذكر إبراهيم والشعبي فقال: كان إبراهيم يسكت، فإذا جاءت الفتن أو الفتيا انبرى لها. وكان الشعبي يتحدث، ويذكر الشعر وغير ذلك، فإذا جاءت الفتنة أو الفتيا أمسك.
وعن حماد بن زيد وذكر له قول إبراهيم: في الفأرة جزاء إذا قتلها المحرم فقال حماد: ما كان بالكوفة رجل أوحش ردّاً للأثار من إبراهيم، وذلك لقلة ما سمع من حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا كان بالكوفة رجل أحسن اتباعاً، ولا أحسن اقتداء من الشعبي، وذلك لكثرة ما سمع.
قال الشعبي: والله إنه لعلم حسن أن يقول الرجل إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم.
قال أبو وهب محمد بن مزاحم: قيل للشعبي: إنا لنستحيي من كثرة ما تُسأل فتقول: لا أدري، فقال: لكن ملائكةُ الله المقربون لم يستحيوا حيث سئلوا عما لا يعلمون أن قالوا: " لا عِلْمَ لَنَا إِلاّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ".
كان إبراهيم النَّخَعي صاحب قياس، والشعبي صاحب آثار، وكان الشعبي منبسطاً، وكان إبراهيم منقبضاً فإذا وقعت الفتوة انقبض الشعبي، وانبسط إبراهيم.
قال الشعبي: اقتصاد في سُنّة خير من اجتهاد في بدعة.
قال الشعبي: تفرق الناس منذ وقع هذا الأمر يعني: قَتْل عثمان على أربعة أصناف: محب(11/254)
لعلي مبغض لعثمان، محب لعثمان مبغض لعلي، محب لهما كلاهما، مبغض لهما كلاما. قيل: يا أبا عمر، من أي هذه الأصناف أنت؟ قال: محبّ لهما جميعاً.
قال الشعبي: أحبَّ أهل بيت نبيّك، ولا تكن رافضياً، واعمل بالقرآن، ولا تكون حرورياً، واعلم أن ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، ولا تكن قدرياً، وأطعِ الإمام وإن كان عبداً حبشياً.
وفي حديث بمعناه: وقِفْ عند الشبهات ولا تكون مرجئاً.
وذكر الشعبي الرافضة فقال: ولو كانوا من الطير لكانوا رَخَماً، ولو كانوا من الدواب لكانوا حُمُراً.
وكان الرجل يخرج إلى السوق في الحاجة، فيمرّ بالمسجد فيقول الرجل: أدخل فأصلي ركعتين، ثم أخرج فأقضي حاجتي، فيرى الشعبي يحدث فيجلس إليه حتى تفوته حاجته. ويفترض السوق. فكان هذا الرجل يقول للشعبي: أيْ مبطلَ الحاجات، أيْ مبطلَ الحاجات.
كان الشعبي لا يقوم من مجلسه حتى يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: وأشهد أن الدين كما شرع، وأشهد أن الإسلام كما وصف، وأشهد أن الكتاب كما أنزل، وأن القرآن كما حدث، وأشهد أن الله هو الحق المبين. فإذا ذهب لينهض قال: ذكر الله محمداً منا بالسلام.
قال الشعبي: ما ضربت مملوكاً لي قط، ولا أخذت له ضريبة.(11/255)
جاء رجل إلى الشعبي فشتمه في ملأ من الناس فقال الشعبي: إن كنت كاذباً فغفر الله لك، وإن كنت صادقاً فغفر الله لي.
وعن الشعبي قال: العلم أكثر من أن يُحصى، فخذ من كل شيء أحسنه.
وعنه قال: ليس حسن الجوار أن تكفَّ أذاك عن الجار، ولكن حسن الجوار أن تصبر على أذى الجار.
وكان الشعبي من أولع الناس بهذا البيت: " المديد "
ليستِ الأحلامُ في حينِ الرضا ... إنما الأحلامُ في حينِ الغضبْ
كان الشعبي يحدث ورجل خلفه يغتابه، فالتفت فقال: " الطويل "
هنيئاً مريئاً غيرَ داءٍ مُخامرٍ ... لعزَّةَ من أعراضِنا ما استحلَّتِ
دخل الشعبي على عبد الملك بن مروان، فقال: يا شعبي، لقد وخِمتَ من كلّ شيء إلا في الحديث الحسن، قال: نعم يا أمير المؤمنين، إن الحديث ذو شجون تُسلى به الهموم، قال: يا شعبي، ما العلم؟ قال: يا أمير المؤمنين: العلم ما يقربك من الجنة، ويباعدك من النار، قال: يا شعبي، ما العقل؟ قال: ما يعرّفك عواقب رُشْدك ومواقع غيّك، قال: متى يَعرِف الرجل كمال عقله؟ قال: إذا كان حافظاً لسانه، مدارياً لأهل زمانه، مقبلاً على شانه.
وجّه عبد الملك بن مروان عامراً الشعبي إلى ملك الروم في بعض الأمر، فاستكثر الشعبيَّ، فقال له: أمن أهل بيت الملك أنت؟ قال: لا، قال: فلما أراد الرجوع إلى عبد الملك حمّله رقعة لطيفة، وقال له: إذا رجعت إلى صاحبك فأبلغته جميع ما تحتاج إلى(11/256)
معرفته من ناحيتنا فادفع إليه هذه الرقعة. فلما صار الشعبي إلى عبد الملك ذكر له ما احتاج إلى ذكره، ونهض من عنده،. فلما خرج ذكر الرقعة، فرجع فقال: يا أمير المؤمنين، إنه حمّلني إليك رقعة نسيتها، حتى خرجت، وكانت في آخر ما حمّلني، فدفعها إليه ونهض، فقرأها عبد الملك فقال: أعلمت ما في الرقعة؟ قال: لا، قال: فيها: " عجبت من العرب كيف ملّكت غير هذا ". أفتدري لم كتب إليّ بهذا؟ قال: لا، فقال: حسدني بك، فاراد أن يغريني بقتلك، فقال الشعبي: لو كان رآك يا أمير المؤمنين ما استكثرني، فبلغ ذلك ملك الروم وما ذكر عبد الملك فقال: لله أبوه، والله ما أردت إلا ذاك.
وفي موضع آخر أنه لما قال له: أنت أحق بموضع صاحبك منه، قال له: على بابه عشرة آلاف كلهم خير مني، فقال: هذا من عقلك، ثم قال: يا شعبي، أريد أن أسألك عن ثلاث خلال، فإن خرجت منهن فأنت أعلم الناس، قلت: سَلْ، قال: حتى تخرج وأشيعك وأسألك عنهن فتمضي وليس في نفسي منهن شيء. فلما شيعني قلت: سَلْ عن الثلاث خلال، فقال: يا شعبي، لكم مَثَلٌ؟ قلت: نعم، ليس في الأرض مَثَل مثله، قال: وما هو؟ قال: قلت: إذا لم تستَحْي فاصنع ما شئت. قال: حسبك، ما سمعت بهذا المثل قط، قال: يا شعبي، لم غيّرت لحيتك بصفرة، ألا صبرت على البياض كما ابتُليت، لو رددتها إلى نسجها الأول فخضبت بالسواد؟ فقلت هذه سُنّة نبينا، قال: ما جاء به البنون فليس فيه حيلة، قال: أخبرني؛ أنت خير أم أبوك؟ قال: أبي خير مني، قال: وأنت خير من ابنك؟ قلت: نعم، قال: وابنك خير من ابن ابنك؟ قلت: نعم، قال: الحمد لله الذي ظفرني بك يا شعبي، آخركم يكون قردة وخنازير إذا كنتم تزدادون في كل قَرن شرّاً.
هرب الشعبي من الحجاج بن يوسف حتى وقع إلى خراسان، فكتب عبد الملك إلى قتيبة بن مسلم في طلبه، وردِّه إلى حضرته. فلما ورد على عبد الملك خطّأه عبد الملك في أول مجلس جلس إليه في ثلاث: سمع من عبد الملك حديثاً فقال: أَكْتِبْنِيه يا أمير المؤمنين، فقال: نحن معاشرَ الخلفاء لا نُكتِب، وذكر الشعبي رجلاً فكناه فقال: نحن معاشر الخلفاء لا يُكنى في مجالسنا الناس، ودخل الأخطل على عبد الملك فدعا له(11/257)
بكرسي، فقال له الشعبي: مَن هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: نحن الخلفاء فلا نُسأل، فأخجله.
قال الشعبي:
لما قدم الحجاج الكوفة قال لابن أبي مسلم: اعرض عليّ العرفاء، فعرضهم عليه، فرأى فيهم وُخْشاً من وَخْش الناس، قال: ويحك! هؤلاء خلفاء الغزاة في عيالهم؟! قال: نعم، قال: اطرحهم واغدُ علي بالقبائل، فغدا عليه بالقبائل على راياتها، فجعلوا يُعرَضون عليه، فإذا وقعت عينه على رجل دعاه، فدعا بالشعبيين، فمرت به السنّ الأولى، فلم يدع منهم أحداً. ومرّت السنّ الثانية فدعاني، فقال: من أنت؟ فأخبرته، فقال: اجلس، فجلست، فقال: قرأت القرآن؟ قلت: نعم: قال: فرضتّ الفرائض؟ قلت: نعم، قال: فما تقول في كذا وكذا، في قول أبي تراب؟ فأخبرته، فقال: أصبت، فقال لي: نظرت في العربية؟ فقتل: نعم. قال: رويت الشعر؟ قلت: قد نظرت في معانيه، قال: نظرت في الحساب؟ قلت: نعم، فقال ابن أبي مسلم: إنا لنحتاج إليه في بعض الدواوين، قال: رويت مغازي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت: نعم، قال: حدثني بحديث بدر، قال: فابتدأت له من رؤيا عاتكة حتى أذن المؤذن الظهر، ثم دخل وقال لي: لا تبرح، فخرج فصلى الظهر وأتممتها له، فجعلني عريفاً على الشعبيين، ومَنكِباً على جميع هَمْدان، وفرض لي في الشرف. فلم أزل عنده بأحسن منزلة حتى كان عبد الرحمن بن الأشعث، فأتاني قراء أهل الكوفة، فقالوا: يا أبا عمرو، إنك زعيم القراء، فلم يزالوا حتى خرجت معهم، فقمت بين الصَّفَّين أذكر الحجاج وأعيبه بأشياء قد علمتها، قال: فبلغني أنه قال: ألا تعجبون من هذا الشعبي الخبيث الذي جاءني وليس في الشرق من قومه، فألحقته بالشرف، وجعلته عريفاً على الشعبيين، ومَنكباً على جميع همدان، ثم خرج مع عبد الرحمن يحرض علي! أما لئن أمكن الله منه لأجعلن الدنيا عليه أضيق من مَسْك حَمَل. قال: فما لبثنا أن هربنا، فجئت إلى بيتي فدخلته،(11/258)
فمكثت تسعة أشهر، الدنيا أضيق علي كما قال من مَسْك حَمَل. فندب الناس لخراسان، فقام قتيبة بن مسلم فقال: أنا لها، فعقد له على خراسان، وعلى ما غلب عليه منها، وأمّن له كل خائف. فنادى مناديه: من لحق بعسكر قتيبة فهو آمن. فجاءني شيء، لم يجئني شيء هو أشد منه، فبعثت مولى لي، فاشترى لي حماراً، وزودني، ثم خرجت مع العسكر، فلم أزل معه حتى أتينا فرغانة، فجلس ذات يوم وقد بَرِق، فعرفت ما يريد، فقلت: أيها الأمير، عندي علم ما تريد، قال: ومن أنت؟ قال: قلت: أعيذك ألا تسأل عن ذاك، قال: أجل، فعرف أني ممن يُخفي نفسه، فقال: فدعا بكتاب، فقال: اكتب نسخة، قلت: لستّ تحتاج إلى ذلك، فجعلت أملي عليه، وهو ينظر إلي حتى فرغت من كتاب الفتح، قال: فحملني على بغلة، وأرسل إلي بسَرَق من حرير، وكنت عنده بأحسن منزلة، فإني ليلة أتعشى معه إذا أنا برسول من الحجاج بكتاب فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فإن صاحب كتابك عامرٌ الشعبي، فإن فاتك قطعت يدك على رجلك وعزلتك، قال: فالتفت إلي فقال: ما عرفتك قبل الساعة، فاذهب حيث شئت من الأرض، فوالله لأحلَفن له بكل يمين، قال: قلت: أيها الأمير، إن مثلي لا يخفى، فقال: أنت أعلم، قال: فبعثني إليه مع قوم وأوصاهم بي. قال: إذا نظرتم إلى خضراء واسط فاجعلوا في رجليه قيداً، ثم أدخِلوه على الحجاج. فلما دنوت من واسط استقبلني ابن أبي مسلم، فقال: يا أبا عمرو، إني لأضنّ بك على القتل، إذا دخلت على الأمير فقل كذا وقل كذا. قال: فسكتُ عنه، ثم دخلت على الحجاج، فلما رآني قال: لا مرحباً ولا أهلاً يا شعبي الخبيث، جئتني ولست في الشرف من قومك ولا عريفاً ولا مَنكباً، فألحقتك بالشرف، وجعلتك عريفاً على الشعبيِّين، ومَنكِباً على جميع هَمْدان، ثم خرجت مع عبد الرحمن تحرض عليّ! قال: وأنا ساكت لا أجيبه، قال: فقال لي: تكلّمْ. قال: قلت: أصلح الله الأمير، كل ما ذكرت من فعلك فهو على ما ذكرت، وكل ما ذكرت من خروجي مع عبد الرحمن فهو كما ذكرت،(11/259)
ولكنا قد اكتحلنا بعدك السهر. وتحلَّسنا الخوفّ، ولم نكن مع ذلك بَرَرة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، فهذا أوان حقنت لي دمي. واستقبلت بي التوبة. قال: قد حقنت دمك، واستقبلت بكل التوبة. قال: فقال ابن أبي مسلم: الشعبي كان أعلم بي مني حيث لم يقبل الذي قلت له.
ولي عامر قضاء الكوفة، ولاه عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب والي عمر بن عبد العزيز على العراق.
قال أبو السكن:
دخلت على الشعبي بالغداة، وهو يأكل خبزاً وجبناً فقلت: ما هذا يا أبا عمرو؟! فقال: آخذ حكمي قبل أن أخرج. يريد: قبل أن أخرج إلى مجلس القضاء حتى إذا حكم يكون شعبان.
قال عامر بن مسلم: إني لجالسُ في مسجد الكوفة ومعنا هذيل الأشجعي، والشعبي جالس في مجلس القضاء إذ مرت بنا أم جعفر بنت عيسى جراد - وكانت امرأة حسنة، وعليها كساء خزّ أسود - في مجلس القضاء في خصومة لها، فذهبت إليه ثم رجعت، فقال لها هذيل: ما صنعتِ؟ فقالت: سألني البيّنة، ومن يُسأل البينة فقد أفلح، فقال هذيل: دواة وقرطاس، فكتب إلى الشعبي: " مجزوء الرمل "
فُننِ الشعبي لما ... رفعَ الطرفَ إليها
فَتنَتْه ببَيانٍ ... كيف لورا معصمَيها؟
ومشت مشياً رويداً ... ثم هزّت مَنْكِبَيْها
بنتُ عيسى بن جرادٍ ... دفع الملكَ إليها(11/260)
وقضى جَوْراً على الخَصْ ... مِ ولم يقضِ عليها
قالَ للجلوازِ: قدِّمْ ... ها وأحضِرْ شاهدَيْها
كيفَ لو أبصرَ منها ... نحرَها أو ساعدّيها
لَسعى حتى تراه ... ساجداً بينَ يديها
فلما قرأ الشعبي الكتاب قال: أرغم الله أنفه، ما قضينا إلا بحق.
وفي رواية أن الشعبي قال: إن كنتّ كاذباً فأعمى الله بصرك، قال: فعمي الرجل.
وفي رواية قال له عبد الملك: يا شعبي، بلغني أنه اختصم إليك امرأة وبعلها، فقضيت للمرأة على بعلها، فأخبرني عن قصتها، فأخبره، فقال له عبد الملك: ما صنعت به يا شعبي؟ قال: أوجعت ظهره حين جوّرني في شعره.
قال الشعبي لعُمر بن هُبَيرة: عليك بالتؤدة، فإنك على فِعل ما لم تفعل أقدر منك عل ردّ ما فعلت.
قال الشعبي: اتقوا الفاجر من العلماء، والجاهل من المتعبدين فإنهما آفة كل مفتون.
قال الشعبي: زَيْن العلم بحِلم أهلِه.
وقال: آفةُ خُلْفُ الموعد.
قال الشعبي: تعاشر الناس زماناً بالدين والتقوى، ثم رُفع ذلك فعاشروا بالحياء والتذمُّم، ثم رُفع ذلك فما يتعاشر الناس إلى بالرغبة والرهبة، وأظنه سيجيء ما هو شرّ من هذا.(11/261)
قال الشعبي: الرجال ثلاثة: فرجلٌ، ونصف رجل، ولا شيء: فأما الرجل التام فالذي له رأي وهو يستشير، وأما نصف الرجل فالذي ليس له رأي وهو يستشير، وأما الذي لا شيء فالذي ليس له رأي ولا يستشير.
قال الشعبي: عيادة حمقى القراء أشدُّ على المريض من مريضهم، يجيئون في غيرِ حينِ عيادةٍ، ويطيلون الجلوس.
وزاد في حديث آخر: حتى يُضجروا العليل وأهله.
قال الشعبي: كنت مع قتيبة بن مسلم بخراسان على مائدته فقال لي: يا شعبي، من أيّ شراب أسقيك؟ قلت: أهونه موجوداً، وأعزه مفقوداً، قال: يا غلام، اسقه الماء.
سئل الشعبي عن رجل فقال: رزين المقعد، نافذ الطعنة، فزوَّجوه، ثم علموا أنه خياط، فقالوا للشعبي: غررتنا. قال: ما كذبتكم.
دخل رجل إلى مسجد ومع الشعبي امرأة فقال: أيكم الشعبي؟ فقال: هذه.
دخل الشعبي الحمام فرأى داود الأودي بلا مئزر، فغمَّض عينيه، فقال له داود: متى عميت يا أبا عمرو؟ قال: منذُ هتكَ الله سترك.
قال عامر بن يساف: قال لي الشعبي: امض بنا حتى نفرّ من أصحاب الحديث. قال: فمضينا حتى أتينا الجبانة. قال: فكوّم كومة ثم اتكأ عليها، فمرّ بنا شيخ من أهل الحيرة عِباديّ، فقال له الشعبي: يا عبادي، ما صنعتك؟ قال: رفّاء. قال: عندنا دنّ مكسور، ترفوه لنا؟ قال: إن هيأت لي سُلوكاً من رمل رفيتُ لك دّنَّك. قال: فضحك الشعبي حتى استلقى، ثم قال: هذا أحب إلينا من مجالسة أصحاب الحديث.(11/262)
كان الشعبي ينشد: " البسيط "
أرى أناساً بأدنى الدينِ قد قنِعوا ... ولا أراهم رَضُوا في العيش بالدونِ
فاستغنِ باللهِ عن دنيا الملوكِ كما استغ ... نى الملوكُ بدنياهُم عنِ الدينِ
قال ابن ادريس: قلت لابن أبي الزناد: ما كان أبو الزناد يقول في الشعبي؟ قال: ما أفقهه! قلت: أين هو من أهل المدينة؟ قال: ولا مثل غلمانهم.
روى عبد الملك عن سعيد بن جبير قال: العمرة تطوُّع. قال فذكرته للشعبي فقال: هي واجبة، فقال سعيد بن جبير: كذب الشعبي.
قال زكريا بن يحيى الكندي:
دخلت على الشعبي وهو يشتكي، فقلت له: كيف تجدك؟ قال: أجدني وَجِعاً مجهوداً، اللهم، إني أحتسب نفسي عندك، فإنها أعزّ الأنفس عليّ.
وقيل: إنه مات فجأة.
قال إسماعيل بن أبي خالد: مرّ بي الشعبي وهو راكب على إكاف، ثم دخل داره، فصاحوا عليه: مات فجأة.
وعن أشعث بن سوّار قال: نعى لنا الحسن البصري الشعبيَّ فقال: كان والله ما علمتُ كثير العلم، عظيم الحلم، قديم السلم، من الإسلام بمكان.
توفي سنة ثلاث ومئة. وقيل: سنة أربع ومئة. وقيل: سنة خمس. وقيل: سنة ست. وقيل: سنة سبع. وقيل: سنة عشر ومئة، وسنّه سبع وسبعون. وقيل: جاوز الثمانين.(11/263)
عامر بن أبي عامر
عُبَيد بن وهب الأشعري هاجر به أبوه من اليمن، وأدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغزا معه.
حدث عامر الأشعري أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للمرأة التي سألته عن زوجها فقال: " إنه لو كان أجذم متقطعاً تسيل إحدى منخريه دماً، والآخر قيحاً فمصصت ذاك لم تقض حق الله الذي عليك ".
وعن عامر بن أبي عامر الأشعري عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " نعم الحيّ الأزد والأشعريون، لا يُغلَبون على القتال، ولا يجبُنون، هم مني وأنا منهم ".
فحدثت به معاوية فقال: إنما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هم مني وإليّ ".
قال: قلت: هكذا حدثني أبي قال: فأنت أعلم بحديث أبيك.
عامر بن عبد الله بن الجراح
ابن هلال بن أُهَيب بن ضبّة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة أبو عبيدة القرشي الفهري أمين الأمة، وأحد العشرة الذين شهد لهم سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة، ومات وهو عنهم راضٍ.
وكان أحد الأمراء الذين وُلوا فتح دمشق، وشهدوا اليرموك، ثم أفضت إليه إمرة الشام.(11/264)
حدث أبو عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أخرجوا يهود الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب. واعلموا أن شرّ الناس الذين اتخذوا قبورأنبيائهم مساجد ".
وعن أبي عبيدة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنه لم يكن نبي بعد نوح إلا قد أنذر قومه الدجال، وإن أُنذِرُكموه. فوصفه لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لعله سيدركه بعض من رآني، أو سمع كلامي. قالوا: يا رسول الله، فكيف قلوبنا يومئذ أمثلها اليوم؟ قال: وخير ".
شهد أبو عبيدة بدراً وأُحُداً مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزع الحلقتين اللتين دخلتا في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المغفر يوم أحد، فانتزعت ثنيتاه، فحسَّنتا فاه. فقيل: ما رُئي هَتْم قط أحسن من هَتْم أبي عبيدة.
قالوا: وشهد الخندق والمشاهد كلها. وبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ذي القصة سرية في أربعين رجلاً.
وكان يقال: داهيتا قريش أبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح. ودعا أبو بكر الصديق يوم توفي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سقيفة بني ساعدة إلى البيعة لعمر بن الخطاب أو أبي عبيدة بن الجراح، وقال: قد رضيت لكم أحدهما. وولاه عمر بن الخطاب الشام، وفتح الله عليه اليرموك والجابية.
وأم أبي عبيدة أميمة بنت غَنْم بن جابر بن عبد العزي. ودَرَج وَلَد أبي عبيدة بن الجراح، فليس له عقب.
وآخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أبي عبيدة بن الجراح ومحمد بن مسلمة. وكان أبو عبيدة يُسمى القوي الأمين.(11/265)
وكان رجلاً نحيفاً معروق الوجه، خفيف اللحية، طوالاً، أجنأ، أثرم الثنتين، وكان يخضب. شهد بدراً وهو ابن إحدى وأربعين سنة. ومات في طاعون عمواس بالشام سنة ثمان عشرة وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
حدث يزيد بن رومان قال: انطلق عثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث بن المطلب وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد وأبو عبيدة بن الجراح حتى أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعرض عليهم الإسلام، وأبنأهم بشرائعه، فأسلموا جميعاً في ساعة واحدة، وذلك قبل دخول سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دار الأرقم، وقبل أن يدعو فيها.
وقيل: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخى بين أبي عبيدة وبين سعد بن معاذ بن النعمان أخي بني عبد الأشهل.
قال عبد الله بن شوذب:
جعل أبو أبي عبيدة يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر، فجعل أبو عبيدة يحيد عنه. فلما أكثر قصَدَه فقتله، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه هذه الآية حين قتل أباه: " لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ باللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّوْنَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أوْ أَبْنَاءَهُمْ أوْ إْخْوَانَهُمْ أَوْ عَشيْرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوْبِهِمُ الإِيْمانَ " الآية.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أخبرني أبي قال: كنت في أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلاً مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقاتل دونه أُراه قال: ويحميه قلت: كن طلحة، حين فاتني ما فاتني، وبيني وبين المشركين رجل لأنا أقرب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه، وهو يخطف السعي تخطُّفاً لا أخطفه، حتى دُفعت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا حلقتان من المغفر قد نشبتا في وجهه، وإذا هو أبو عبيدة. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليكم صاحبك يريد: طلحة وقد نزف فلم يُنظر إليه، فأقبلنا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرادني أبو عبيدة على أن أتركه، فلم يزل بي حتى تركته، فأكب على(11/266)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذ حلقة قد نشبت في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكره أن يزعزعها فيشتكي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأزمَ عليها بفيه ثم نهض عليها، فندرت ثنيته، ونزعها، فقلت: دعني، فأبى وطلب إلى، فأكبّ على الأخرى فصنع بها مثل ذلك، فنزعها، وندرت ثنيته، فكان أبو عبيدة أهتم الثنيَّتين.
قال موسى بن عقبة: ثم غزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل، من مشارف الشام، في بَلِيّ وسَعْد الله، ومن يليهم من قضاعة، فخاف عمرو بن العاص من جانبه الدي هو به، فعبث إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستمده، فندّب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرين الأولين، فانتُدب فيهم أبو بكر وعمر في سراة من المهاجرين، وأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وأمدّ بهم عمرو بن العاص. فلما قدموا على عمرو قال: أنا أميركم، وأنا أرسلت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أستمده بكم. فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين، فقال عمرو: إنما أنتم مدد أُمددتُ بكم. فلما رأى ذلك أبو عبيدة وكان رجلاً حسن الخلق، لين الشيمة، متبعاً لأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهده قال: تعلَّم يا عمرو أن آخر ما عهد إلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا، وإنك لئن عصيتني لأطيعنَّك فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص.
وعن ابن مسعود قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران. قال: وأرادا أن يلاعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه. فوالله لئن كان نبياً فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا أبداً. قال: فأتيناه فقلنا: لا نلاعنك ولكنا نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلاً أميناً. قال: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأبعثن رجلاً أميناً، حقّ أمين، حقّ أمين. قال: فاستشرف لها أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح. قال: فلما قفا قال: هذا أمين هذه الأمة.(11/267)
وعن أنس أن أهل اليمن لما قدموا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السُّنّة والإسلام، فأخذ بيد أبي عبيدة بن الجراح فقال: هذا أمين هذه الأمة.
وفي رواية: فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وقال: هذا أمين هذه الأمة.
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لكل أمة أمين، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح ".
وفي رواية: " وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ".
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأفرضهم زيد، وأقرأهم أُبيّ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، وإن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ".
وعنه في حديث بمعناه قال: وطعن في خاصرته وقال: هذه خاصرة مؤمنة.
وعن عمر بن الخطاب قال:
ما تعرضت للإمارة قط أُحِبّ أن أكون عليها إلا مرة واحدة، فإن قوماً أتوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكون عاملهم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأبعثن إليكم رجلاً أميناً، حقّ أمين. قال عمر: فتعرضت لهذا لتدركني كلمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فأمّر أبا عبيدة وتركني.
ولما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سَرْغ حُدِّث أن بالشام وباءً شديداً. قال: بلغني أن شدة الوباء بالشام فقلت: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة بن الجراح حيّ(11/268)
استخلفته، فإن سألني الله عزّ وجلّ: لم استخلفته على أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن لكل نبيّ أميناً، وأميني أبو عبيدة بن الجراح "، فأنكر القوم ذلك، وقالوا: ما بال عُليا قريش؟! - يعنون: بني فهر ثم قال: وإن أدركني أجلي، وقد توفي أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل، فإن سألني ربي عزّ وجلّ: لمَ استخلفته "؟ قلت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنه يُحشر يوم القيامة بين يدي العلماء نَبْذَة ".
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي عبيدة ثلاث كلمات، لأن يكون قالهن لي أحبّ إليّ من حُمْر النَّعَم. قالوا: وما هن يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: كنا جلوساً عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام أبو عبيدة، فأتبعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصره ثم أقبل علينا وقال: إن هاهنا لكتفَيْن مؤمنتَيْن.
وخرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن نتحدث، فسكتنا، فظن أنا كنا في شيء كرهنا أن نسمعه. قال: فسكت ساعة لا يتكلم، ثم قال: ما من أصحابي إلا وقد كنت قائلاً فيه: لابدّ، إلا أبا عبيدة.
قال: وقدم علينا وفد نجران، فقالوا: يا محمد، أبعث لنا من يأخذ لك الحق، ويعطيناه، فقال: والذي بعثني بالحقّ لأرسلن معكم القوي الأمين. قال أبو بكر: فما تعرضت للإمارة غيرها، فرفعت رأسي لأُرِيَه نفسي، فقال: قم يا أبا عبيدة، فبعثه معهم.
وعن علي بن كثير أنا أبا بكر قال لأبي عبيدة: قم أبايعك، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنك أمين هذه الأمة، فقال أبو عبيدة: ما كنت لأفعل أن أصلي بين يدي رجل أمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأّمنا حتى قُبض.(11/269)
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عشرة من قريش في الجنة: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة ".
وعن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعم الرجل أُسيد بن حُضَير، نعم الرجل ثابت بن قيس بن شمّاس، نعم الرجل معاذ بن جبل، نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجَموح ".
وعن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: أي أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أحبّ إليه؟ قالت: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قالت: ثم عمر، قلت: ثم من؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح.
قال يزيد: قلت: ثم من؟ قال: فسكتت.
وعن عمرو بن العاص قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أحبّ إليك؟ قال: عائشة قال: مَن مِن الرجال؟ قال: أبو بكر، قال: ثم من؟ قال: ثم أبو عبيدة بن الجراح.
وعن سعيد بن عبد العزيز قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما من أصحابي أحد إلا وقد وجدت عليه، ولو شئت أن أقول فيه إلا أبو عبيدة بن الجراح ".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: ثلاثة من قريش أحسن قريش أخلاقاً، وأصبحها وجوهاً، وأشدّها حياء. إن(11/270)
حدَّثوا لم يكذِبوا، وإن حدثتهم بحق أو بباطل لم يكذِّبوك: أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح، ورضي الله عنهم.
وكان أبو بكر رضي الله عنه ولّى أبا عبيدة بيت المال، ثم وجهه للشام، ففي سنة ثلاث عشرة بويع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعزل خالد بن الوليد عن الشام وولّى أبا عبيدة. وفي سنة أربع عشرة فتحت حمص وبعلبك صلحاً على يدي أبي عبيدة، في ذي القعدة، ويقال: في سنة خمس عشرة.
وقال ابن الكلبي:
صالح أبو عبيد أهل حلب، وكتب لهم كتاباً، ثم شخص أبو عبيدة وعلى مقدمته خالد بن الوليد فحاصر أهل إيلياء، فسألوه الصلح على أن يكون عمر هو يعطيهم ذلك، ثم وقع طاعون عَمَواس فمات أبو عبيدة، واستخلف معاذاً.
وعن أبي عبيدة بن الجراح قال: ذكر لي من دخل عليه فوجده يبكي فقال له: ما يبكيك يا أبا عبيدة؟ فقال: يبكيني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر يوماً ما: يفتح الله على المسلمين، ويفيء عليهم حتى ذكر الشام، فقال: إن ينسِىء الله في أجلك يا أبا عبيدة فحسبك من الخدم ثلاثة، خادم يخدمك، وخادم يسافر معك، وخادم يخدم أهلك ويَرِه عليهم. وحسبك من الدوابّ ثلاثة: دابة لرجلك، ودابة لثقَلك، ودابة لغلامك. ثم هذا أبا، أنظر إلى بيتي قد امتلأ رقيقاً، وأنظر إلى مربطي قد امتلأ خيلاً ودوابً، فكيف ألقى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد هذا، وقد عهد إلينا، وأوصانا، فقال: إنّ أحبَّكم إليّ وأقربكم مني مَن لقيني على مثل الحال التي فارقني عليها؟! هذه رواية، وهي منقطعة، والمحفوظ أن أبا عبيدة رضي الله عنه كان متقللاً.
حدث هشام بن عروة عن أبيه قال: قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام فتلقاه أمراء الأجناد، وعظماء أهل الأرض(11/271)
فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: مَن؟ قال: أبو عبيدة، قالوا: يأتيك الآن، قال: فجاء على ناقة مخطومة بحبل، فسلم عليه وسأله، ثم قال للناس: انصرفوا عنا، فسار معه حتى أتى منزله، فنزل عليها، فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر بن الخطاب: لو اتخذت متاعاً أو قال شيئاً قال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، إن هذا سيبلغنا المقيل.
وقيل: إن عمر بلغه أبا عبيدة يُسبغ على عياله وقد ظهرت شارته، فنقص من عطاياه التي كان يجري عليه، ثم سأل عنه، فقيل: قد شحب لونه، وتغيرت ثيابه، وساءت حاله، فقال: يرحم الله أبا عبيدة، ما أعفّ وأصبر، هل يؤخذَن على رجل أسبغنا عليه فأسبغ على عياله، وأمسكنا عنه فصبر واحتسب، فرد عليه ما كان حبس وأجراه عليه.
وقيل: إن عمر حين قدم الشام قال لأبي عبيدة: اذهب بنا إلى منزلك، قال: وما تصنع عندي، ما تريد إلا أن تعصِّر عينيك عليّ، قال: فدخل منزله فلم ير شيئاً، قال: أين متاعك؟ لا أرى إلا لِبْداً وصحفة وشنّاً وأنت أمير؟ أعندك طعام؟ فقام أبو عبيدة إلى جُونة فأخذ منها كُسيرات، فبكى عمر. فقال له أبو عبيدة، قد قلت: إنك ستعصّر عينيك عليّ، يا أمير المؤمنين، يكفيك ما بلغك المقيل. قال عمر: غيّرتنا الدنيا كلّنا غيرك يا أبا عبيدة.
وروي أن أبا عبيدة كان يسير في العسكر فيقول: ألا رب مبيّض لثيابه، مدنّس لدينه، ألا رب مكرم لنفسه وهو لها غداً مهين، بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات، فلو أن أحدكم عمل من السيئات ما بينه وبين السماء، ثم عمر حسنة لَعَلَت فوق سيئاته حتى تقهرهن.
وعن طارق بن شهاب قال: كنا عند أبي موسى فقال لنا ذات يوم: لا يضركم أن تخفوا عني، فإن هذا الداء قد(11/272)
أصاب في أهلي يعني الطاعون فمن شاء أن يعبره فليفعل، واحذروا اثنتين: لا يقولن قائل إن هو جلس فعوفي الخارجُ: لو كنت خارجت فعوفيت كما عوفي فلان، ولا يقولن الخارج إن هو عوفي وأصيب الذي جلس: لو كنت جلست أُصبت كما أصيب فلان، وإني سأحدثكم بما ينبغي للناس من خروج هذا الطاعون: إن أمير المؤمنين كتب إلى أبي عبيدة حيث سمع بالطاعون الذي أخذ الناس بالشام: إني قد بدت لي حاجة إليك فلا غنى بي عنك فيها، فإن أتاك كتابي ليلاً فإني أعزم عليك أن تصبح حتى تركب إليّ، وإن أتاك نهاراً فإني أعزم عليك أن تمشي حتى تركب إليّ، فقال أبو عبيدة: قد علمت حاجة أميرة المؤمنين التي عرضت، وإنه يريد أن يستبقي من ليس بباق، فكتب إليه: إن في جندٍ من المسلمين لن أرغب بنفسي عنهم، وإني قد علمت حاجتك التي عرضت لك، وأنك تستبقني من ليس بباق، فإذا أتاك كتابي هذا فحلِّلني من عزمتك، وائذن لي في الجلوس.
فلما قرأ عمر كتابه فاضت عيناه بكى، فقال له من عند: يا أمير المؤمنين، مات أبو عبيدة؟ قال: لا، كأنْ قد. قال: فكتب إليه عمر: إن الأرض أرضك، إن الجابية أرض نَزِهة، فاظهَر بالمهاجرين إليها. قال أبو عبيدة حين قرأ الكتاب: أما هذا فنسمع فيه أمر أمير المؤمنين ونطيعه. قال: فأمرني أبو أبوىء الناس منازلهم. قال: فطّعنت امرأتي، فجئت إلى أبي عبيدة فقلت: قد كان في أهلي بعض الغرض شغلني عن الوجه الذي بعثتني له، قال. لعل المرأة أصيبت؟ فقلت: أجل، فانطلق هو يبوّىء الناس منازلهم وأمرني أن أُرْجلهم على إثره، فطعن أبو عبيدة حين أرسله فقال: لقد وجدت في قدمي وخزة، فلا أدري لعل هذا الذي أصابني قد أصابني، فانطلق أبو عبيدة فبوّأ الناس منازلهم، وارتحل الناس على إثره. وكان انكشاف الطاعون، وتوفي أبو عبيدة رحمة الله عليه.(11/273)
وفي حديث بمعناه: وزعموا أن أبا عبيدة كان في ستة وثلاثين ألفاً من الجند، فلم يبق إلا ستة آلاف رجل. ماتوا.
وعن سعيد بن أبي سعيد المقبُري قال: لما طُعن أبو عبيدة بن الجراح بالأردن، وبها قبره، دعا من حضره من المسلمين فقال: إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير: أقيموا الصلاة، وأتوا الزكاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا، وحُجّوا، واعتمروا، وتواصَوا، وانصحوا لأمرائكم، ولاتغشوهم، ولا تلهكم الدنيا، فإن أمرأ لو عُمِّر ألف حل ما كان له بد من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي تَرَونْ. إن الله كتب الموت على بني آدم فهم ميّتون، وأكيسهم أطوعهم لربه، وأعملهم ليوم معاده، والسلام عليكم ورحمة الله. يا معاذ بن جبل: صَلِّ بالناس، ومات. فقام معاذ في الناس فقال: يا أيها الناس، توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحاً، فإن عبداً لا يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أن يغفر له. من كان عليه دين فليقضه، فإن عبداً لايلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أن يغفر له. من كان عليه دين فليقضه، فإن العبد مُرتَهَن بدينه، ومن أصبح منكم مهاجراً أخاه فليلقه فليصالحه، ولا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاث، وهو الذنب العظيم. إنكم أيها المسلمون قد فجعتم برجل ما أزعم أن رأيت عبداً أبرّ صدراً، ولا أبعد من الغائلة، ولا أشد حباً للعامة، ولا أنصح للعامة منه، فترحّموا عليه، رحمه الله، واحضروا الصلاة عليه.
توفي أبو عبيدة في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وكان يصبغ رأسه بالحناء والكتَم، وكان له عقيصتان.
وقيل: توفي بفحل، وقبره بعمواس، وهي من الرملة على أربعة أميال مما يلي بيت المقدس. وهو وهم.
وقيل: قبر معاذ بن جبل بقصير خالد بالغور، وقبر أبي عبيدة ببيسان.(11/274)
عامر بن عبد الله
المعروف بابن عبد قيس بن ناشب بن أسامة بن خدينة بن معاوية ابن شيطان بن معاوية بن أسعد بن جِدَن بن العنبر ابن عمرو بن تميم بن مرّ بن أدّ بن طابخة أبو عبد الله ويقال: أبو عمرو العنبري البصري الزاهد قدم دمشق في خلافة عثمان بن عفان لما سُعي به إليه.
حدث عامر بن عبد الله أن سلمان الخير حين حضره الموت عرفوا منه بعض الجزع. قالوا: وما يجزعك يا أبا عبد الله، وقد كانت لك سابقة في الخير، شهدت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغازيَ حسنة، وفتوحاً عظاماً؟ قال: يجزعني أن حبيبنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين فارقنا عهد إلينا قال: " ليكفِ الرجل منكم كزاد الراكب "، فهذا الذي أجزعني، فجُمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر ديناراً.
كان عامر يأتي الحسن، فيجلس إليه، ثم تركه، فجاء الحسن يوماً وأصحابه فدخلوا عليه، فقال له الحسن: يا أبا عبد الله، لمَ تركت مجلسنا؟ أرابك منا شيء فنُعتبَك؟ قال: لا، ولكني سمعت أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أطولكم حزناً في الدنيا أطولكم فرحاً في الآخرة، وإن أكثركم شبعاً في الدنيا أكثركم جوعاً في الآخرة "، فوجدت البيت أخلى للقلب، وأقدر لي على ما أُريدَ مني. فخرج وهو يقول: هو - والله - أفقه منا.(11/275)
وروي أتم من هذا غير مرفوع، قال الحسن البصري:
كان لعامر بن قيس مجلس في المسجد الجامع، فكنا نجتمع إليه، ففقدناه أياماً حتى حسبنا أن يكون قد ضارع أصحاب الأهواء، فأتيناه في أهله، فقلنا: يا أبا عبد الله، تركت أصحابك، وجلست ها هنا وحدك! فقال: إنه مجلس كثير الأغاليط والتخليط. فلما كان هذا حقَّقنا الذي كنا ظنناه به. فقلنا: يا أبا عبد الله، وإذا كان هكذا فما تقول فيهم؟ قال: وما عسى أن أقول فيهم: لقيت ناساً من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروني أنّ أخلص الناس إيماناً يوم القيامة أشدهم محاسبة في الدنيا لنفسه، وإن أشد الناس فرحاً يوم القيامة أشدهم حزناً في الدنيا، وإن أكثر الناس ضحكاً يوم القيامة أكثرهم بكاء في الدنيا، وأخبروني أن الله عزّ وجلّ فرض فرائض، وسنّ سُنناً، وحدّ حدوداً، فمن عمل بفرائض الله وسننه، واجتنب حدوده أدخله الجنة بغير حساب. ومن عمل بفرائض الله وسننه وارتكب حدوده، ثم تاب، ثم ارتكب، ثم تاب، ثم ارتكب، ثم تاب، ثم ارتكب استقبل أهوال يوم القيامة وزلازلها وشدائدها، ثم يدخله الله الجنة. ومن عمل بفرائض الله وسننه وارتكب حدوده لقي الله يوم القامة وهو عليه غضبان، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. قال: وقمنا من عنده وخرجنا.
وكان عامر ثقة من كبار التابعين وعبّادهم. رآه كعب فقال: هذا راهب هذه الأمة.
حدث بلال بن سعد أن عامر بن عبد قيس وُشي به إلى زياد - وقيل: إلى ابن عامر - فقيل له أنْ ها هنا رجلٌ قيل له: ما إبراهيم خير منك، فسكت، وقد ترك النساء، فكتب فيه إلى عثمان، فكتب إليه أن انفِهِ إلى الشام على قَتَب. فلما جاءه الكتاب أرسل إلى عامر، فقال: أنت الذي قيل لك: ما إبراهيم خير منك فسكتَّ؟ فقال: والله ما سكوتي إلا تعجباً، لوددت أني كنت غباراً على قدميه فيدخل بي الجنة. قال: ولم تركت النساء؟ قال: والله ما تركتهن إلا أني قد علمت أنها متى تكن امرأة فعسى أن يكون ولد، ومتى يكن ولد تشعَّبت الدنيا قلبي، فأحببت التخلي من ذلك، فأجلاه على قَتَب إلى الشام.(11/276)
فلما قدم أنزله معاوية معه الخضراء، وبعث إليه بجارية وأمرها أن تُعْلِمَه ما حالُه، فكان يخرج من السحر فلا تراه إلا بعد العتمة، فيبعث إليه معاوية بطعام، فلا يعرض لشيء منه، ويجيء معه يكسَرٍ، فيجعلها في ماء فيأكلها منها، ويشرب من ذلك الماء، ثم يقوم، فلا يزال ذلك مقامه حتى يسمع النداء، فيخرج فلا تراه إلى مثلها. فكتب معاوية إلى عثمان يذكر له حاله، فكتب إليه أن اجعله أول داخل، وآخر خارج، ومُر له بعشرة من الرقيق، وعشرة من الظَّهر. فلما أتى معاوية الكتاب أرسل إليه فقال له: إن أمير المؤمنين كتب إلي أن آمر لك بعشرة من الرقيق، فقال: إن علي شيطاناً قد غلبني، فكيف أجمع علي عشرة؟ قال: وأمر لك بعشرة من الظهر، فقال: إن البغلة واحدة، وإني لمشفق أن يسألني الله عن فضل ظهرها يوم القيامة. قال: وأمرني أن أجعلك أول داخل وآخر خارج، قال: لا أرب لي في ذلك.
قال: فحدث بلال بن سعد عمن رآه بأرض الروم على بغلته تلك يركبها عُقْبة ويحمل المهاجرين عُقْبة.
قال: وكان عامر إذا فصل غازياً وقف يتوسم الرفاق، فإذا رأى رفقة توافقه قال: يا هؤلاء، إني اريد أن أصحبكم على أن تعطوني من أنفسكم ثلاث خلال، فيقولون: ما هي؟ قال: أكون لكم خادماً لا ينازعني أحد منكم الخدمة، وأكون مؤذِّناً لا ينازعني أحد منكم الأذان، وأُنفق عليكم بقدر طاقتي. فإذا قالوا: نعم انضمّ إليهم. فإن نازعه أحد منهم شيئاً من ذلك ارتحل منهم إلي غيرهم.
ولما سُيّر عامر بن عبد الله شيعه إخوانه. فلما كان بظهر المربد قال: إني داعً فأمِّنوا فقالوا: هات، فقد كنا نستبطىء هذا منك، قال: من أساء بي، وكذب علي، وأخرجني من مصري، وفرق بيني وبين إخواني، اللهم، أكثِر ماله وولده، وأَصِحَّ جسمه واَطِل عمره.
كان عامر بن عبد الله قد فرض على نفسه كل يوم ألف ركعة، فكان إذا صلى العصر جلس قد انتفخت قدماه من طول القيام، فيقول: يا نفس، بهذا أمرتِ، ولهذا خُلقتِ، يوشك أن يَذهب العناء ثم يقرأ إلى المغرب، فإذا صلى المغرب قام فصلى إلى العتمة، فإذا صلى العتمة أفطر ثم يقول: يا نفس، قومي، ثم يقوم إلى الصلاة، فلا يزالا راكعاً(11/277)
وساجداً حتى الصبح، وكان يقول في جوف الليل: اللهم، إن النار منع النوم مني فاغفر لي.
قال عامر بن عبد قيس:
وجدت أمر الدنيا يصير إلى أربع: إلى المال، والنساء، ولا حاجة لي بالمال ولا النساء، والنوم والأكل، وايم الله لئن استطعت لأضرنّ بهما.
وفي رواية: وجدت الدنيا أربع خصال: النساء، واللباس والطعام والنوم. فأما النساء فوالله ما أبالي امرأة رأيت أو جداراً، وأما اللباس فو الله ما أبالي ما واريت به عورتي، وأما الطعام والنوم فقد غلباني إلا أن أصبت منهما، والله لأضرَنّ بهما ما استطعت.
قال الحسن: ففعل والله.
قال الحسن: كتب معاوية إلى عبد الله بن عامر: انظر عامر بن قيس فأحسن إذنه، ومُره أن يخطب إلى ما شاء، وأَمهِر عنه من بيت المال. قال: فأرسل إليه: إن أمير المؤمنين كتب إليّ أن أحسن إذنك، قال: ما اصنع بالإذن؟ فأنتم أحوج إلى ذلك مني، وأمرني أن تخطب إلى من شئت وأُمهِرك من بيت المال، قال: أنا في الخطبة دائب. قال: إلى مَن؟ قال: إلى من يقبل مني التمرة والفَلقْة، ثم أقبل على جلسائه فقال: إني سائلكم، فأخبروني، قالوا: سل، قال: هل منكم أحد إلا لمالِه من قلبه شُعبة؟ قالوا: اللهم، نعم، قال: هل منكم أحد إلا لولده من قلبه شعبة؟ قالوا: اللهم، نعم قال: هل منكم أحد إلا لأهله من قلبه شعبة؟ قالوا: اللهم، نعم. قال: والذي نفسي بيده لأن تختلف الخناجر في جوارحي أَحبّ إليّ من أن أكون هكذا. أما والله لئن استطعت أن أجعل الهمّ هماً واحداً لأفعلنّ.
قال الحسن: ففعل، ورب الكعبة.(11/278)
وقال أبو سعيد بن الأعرابي: وهذا أعلى ما قيل في الزهد: أن يكون الهمّ همّاً واحداً لله عزّ وجلّ، ليس ذكر دنيا ولا آخرة، هو غاية الزهد، وهو خروج قدر الدنيا وقلتها من قلبه أن يزهد فيها، وخروج قدر غيرها فيرغب فيها إذا كانت دون الله عزّ وجلّ. هذا لمن كان الله همّه وحده خالصاً.
قال محمد بن سيرين: قيل لعامر بن عبد قيس: ألا تزَوّج؟ قال: والله ما عندي من نشاط، وما عندي من مال، فبمَ أغرُّ امرأة مسلمة؟ وعن قتادة قال: سأل عامر بن عبد الله ربه أن يهوّن عليه الطَّهور في الشتاء، فكان يؤتى بالماء له بخار، وسأل ربه عزّ وجلّ أن ينزع شهوة النساء من قلبه، فكان لا يبالي ذكراً لقي أم أنثى، وسأل ربه أن يحول بين الشيطان وبين قلبه في الصلاة فلم يقدر على ذلك. وكان إذا غزا فيقال له: إن هذه الأجمة يُخاف عليك فيها الأسد قال: إن لأستحيي من ربي أن أخشى غيره.
وقد روي أن ذلك ذهب عنه.
قيل لعامر بن عبد قيس: أتحدث نفسك في الصلاة؟ قال: نعم. فلما ولَّوا قال للذين سألوه أو قال لهم: أحدث نفسي بالوقوف بين يدي الربّ عزّ وجلّ ومُنْصَرَفي من بين يديه.
كان عامر بن عبد الله بن عبد قيس يدخل بيتاً يطيل فيه الصلاة، قال: وكان الرِّمْث نابتاً حولهم، قال: والبصرة إذ ذاك شديدة الحر، قال: فانساب أسود سالخ فدخل البيت، فتطوّى في مُصلاه، ما يشعر به. فلما انحط للسجود رآه فنفضه بيده، فانساب فخرج. فقال بعض من رآه من أهله: أما رهبت هذا؟ إنه حتف(11/279)
فقال: لا، والله، لولا أني قذَرتهُ لسجدت عليه، والله إني لأستحيي من الله أن يطلّع من قلبي على أني أرهب شيئاً سواه.
كان عامر بن عبد قيس من أفضل العابدين، ففرض على نفسه كل يوم ألف ركعة، يقوم عند طلوع الشمس، فلا يزال قائماً إلى العصر، ثم ينصرف وقد انتفخت ساقاه وقدماه، فيقول: يا نفس، إنما خُلقتِ للعبادة، يا أمّارة بالسوء، فوالله لأعملّنّ بك عملاً لا يأخذ الفراش منك نصيباً.
وهبط وادياً يقال له وادي السباع، وفي الوادي عبد حبشي يقال له حُمَمَة، فانفرد عامر في ناحية، وحممة في ناحية، يصليان، لا هذا ينصرف إلى هذا، ولا هذا ينصرف إلى هذا أربعين يوماً وأربعين ليلة. إذا جاء وقت الفريضة صليا، ثم أقبلا يتطوعان. ثم انصرف عامر بعد أربعين يوماً فجاء إلى حممة فقال: من أنت يرحمك الله؟ قال: دعني وهّمي، قال: أقسمت عليه، قال: أنا حُممة، قال عامر: لئن كنت أنت حممة الذي ذُكر لي لأنت أعبد مَن في الأرض، فأخبرني عن أفضل خصلة، قال: إني لمقصر، ولولا مواقيت الصلاة تقطع علي القيام والسجود لأحببت أن أجعل عمري راكعاً، ووجهي مفترشاً حتى ألقاه، ولكن الفرائض لا تدعني أفعل ذلك. فمن أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عامر بن عبد قيس، قال: إن كنت عامر بن عبد قيس الذي ذُكر لي فأنت أعبد الناس، فأخبرني بأفضل خصلة، قال: إني لمقصر، ولكن واحدة عظمت هيبة الله في صدري حتى ما أهاب شيئاً غيره، فاكتنفته السباع، فأتاه سبع منها، فوثب عليه من خلقه، فوضع يديه في منكبيه وعامر يتلو هذه الآية: " ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لهَُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ". فلما رأى السبع أنه لا يكترث له ذهب، فقال حُممة: بالله يا عامر، ما هالَك ما رأيت؟ قال: إني لأستحيي من الله أن أهاب شيئاً غيره، قال حممة: لولا أن الله ابتلانا بالبطن، فإذا أكلنا لا بدّ لنا من الحدث ما رآني ربي عزّ وجلّ إلا راكعاً وساجداً. وكان يصلي في اليوم والليلة ثماني مئة ركعة، وكان يقول: إني لمقصر في العبادة، فكان يعاتب نفسه.(11/280)
قال عامر بن عبد القيس: إذا عقلك عَقْلُك عما لا ينبغي فأنت عاقل.
قال: وإنما سمي العقل عقلاً من عِقال الإبل.
كان عامر بن عبد قيس يأخذ عطاء فيجعله في طرف ثوبه، فلا يلقاه أحد من المساكين إلا أعطاه. فإذا دخل بيته رمى به إليهم، فيعدونها فيجدونها سواء كما أعطيَها.
بكى عامر بن عبد الله في مرضه الذي مات فيه بكاء شديداً، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: آية في كتاب الله: " إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِيْنَ ".
قبر عبادة بن الصامت وعامر بن عبد الله في بيت المقدس.
قال مالك بن دينار: رأى رجل في المنام كأن منادياً ينادي: أخبروا الناس أن عامر بن عبد الله يلقى الله يوم القيامة ووجهُه مثل القمر ليلة البدر.
عامر بن عبد الله بن قيس
أبو بردة بن أبي موسى الأشعري ويقال: اسمه الحارث، ويقال: اسمه كنيته تابعي، فقيه، من أهل الكوفة، وولي القضاء بها، وقد على عمر بن عبد العزيز، وكانت له بدمشق دار، ما بين سوق البقل وسوق الجبن.
حدث أبو بردة عن علي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اللهم، إني أسألك السداد والهدى، وأذكر بالسداد سدادك السهم، والهدى هدايتك الطريق، ونهاني أن أجعل الخاتم في هذه أو هذه الوسطى والتي تليها، ونهاني عن القَسِّيّ والمِيثرة.(11/281)
فأما القَسِّيّ فثياب يؤتى بها من قبل المغرب مغلفة بالحرير، وأما الميثرة فشيء كان النساء يصنعنه لبعولتهن في الرحائل على العطائف.
وعن أبي بردة قال: قدمت المدينة فأتاني ابن عمر فقال: يا بن أخ، تدري لمَ أتيتك؟ قلت: فضلك وفضل أبيك، فإني سمعت أبي يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن مِن بِرّ الرجل بأبيه أن يبرّ أهل وُدّ أبيه، وإن أبي كان يحبّ أباك.
وزاد في حديث آخر بمعناه، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من أحبّ أن يصِل أباه في قبره فليصِلْ إخوان أبيه من بعده. وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذلك.
قال أبو بردة: دخلت على معاوية وهو يشتكي وبه قرحة في ظهره، قال: والطبيب يعالجها، وهو يتأوّه تأوُّه الصبي. قال: فقلتُ: يا أمير المؤمنين، إنك تأوَّهُ قال: قم فانظر إليها. قال: فقمت فإذا قرحة قبيحة، فقال: هذه يدعونها الراقية، وأهل العراق يزعمون أنها النقابة أو الثقابة، ويزعمون أنها قاتلتي. قال: ثم قال: أمّا ما ذكرت من تأوّهي فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما من مسلم يصيبه أذى في جسده إلا كفر الله به خطاياه. ودون هذا يا أبا بردة أذى.
وعن سعيد بن أبي بردة عن أبي بردة أنه قال:
وفد إلى عمر أو إلى سليمان قال: فقضى حوائجه، حتى إذا كان في بعض الليل قال لي: قم، فقمت، فانطلق إلى باب الوالي فدقَّه. قال: قال الحاجب: من هذا؟ قال: أبو بردة، استأذِن لي عليه. قال: قد دخل، قال: أعلِمْه بمكاني، فأعلمه، فخرج إليه، فإذن له، قال: خير يا أبا بردة، قال: خير، قال: حاجتك، قال: قد فرغت من حوائجي، وذكرت حديثاً حدثني أبي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا جُمع الخلائق(11/282)
للحساب أُتي بيهودي أو نصراني، قيل: يا مؤمن، هذا فداؤك من النار ". قال: أنت سمعته؟ قال: سمعته من أبي.
ولد أبو بردة بن أبي موسى وأبوه على البصرة، فاسترضع له في البادية، فجاؤوا به وعليه بردة، فكناه أبو بردة. وأسمه عامر بن عبد الله بن قيس.
توفي أبو بردة سنة ثلاث ومئة. وقيل: سنة أربع ومئة، وهو ابن نيف وثمانين سنة. وقيل: مات سنة ست ومئة.
سأل عمر بن عبد العزيز أبا بردة: كم أتى عليك؟ قال: أشُدّان. يعني: أربعين وأربعين.
حدث عبد الله بن عباس عن أبيه أن يزيد بن المهلب لما ولي خراسان قال: دلوني على رجل كامل لخصال الخير، فدُلّ على أبي بردة بن أبي موسى الأشعري. فلما جاءه رآه رجلاً فائقاً. فلما كلمه رأى مخبرته أفضل من مرآته، قال: إني وليتك كذا وكذا من عملي، فاستعفاه، فأبى أن يعفيه، فقال: أيها الأمير، ألا أخبرك بشيء حدثنيه أبي أنه سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: هاته، قال: إنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من تولى عملاً وهو يعلم أنه ليس لذلك العمل بأهل فليتبوّأ مقعده من النار. قال: وأنا أشهد أيها الأمير أني لست بأهل لما دعوتني إليه، فقال له يزيد: ما زدت على أن حرّضتني على نفسك، ورغبتنا فيك، فاخرج إلى عهدك، فإني غير معفيك، فخرج ثم أقام فيهما شاء الله أن يقيم، فاستأذنه بالقدوم عليه، فأذن له، فقال: أيها الأمير، ألا أحدثك بشيء حدثنيه أبي أنه سمع من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: هاته، قال: ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من يُسأل بوجه الله ثم منع سائله، ما لم يسأله هُجراً، وأنا أسألك بوجه الله إلا ما أعفيتني أيها الأمير من عملك، فأعفاه.
وقيل: إن أبا بردة مات في ولاية عمر بن عبد العزيز. ومات عمر سنة إحدى ومئة. وقيل: سنة سبع ومئة.(11/283)
عامر بن عُمارة بن خُريم الناعم
ابن عمرو بن الحارث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة ابن مرة بن نَشبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان ابن بغيض بن رَيْث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان، أبو الهيذام المري، والد أبي عامر موسى بن عامر أحد فرسان العرب المذكورين، وشجعانهم المشهورين، وهو زعيم قيس في الفتنة التي وقعت بينهم وبين اليمن بدمشق في أيام الرشيد، حتى تفاقم الأمر، واستحكم الشرّ. وله أشعار في تلك الحروب مذكورة. ونزل بسجستان، وأخوه عثمان بن عمارة، صاحب أبي يعقوب الجرمي الشاعر. وقتل عاملُ الرشيد بسجستان أخاً لأبي الهيذام، فخرج أبو الهيذام بالشام، وجمع جمعاً عظيماً، وقال يرثي أخاه: " الطويل "
سأبكيكَ بالبيضِ الرِّقاقِ وبالقنا ... فإنّ بها ما يُدرِكُ الطالبُ الوترا
ولسنا كمن يبكي أخاه بعَبرةٍ ... يعصّرُها من ماءِ مقلتِهِ عصرا
وإنا أناسٌ ما تفيضُ دموعُنا ... على هالكٍ منّا وإن قصمَ الظهرا
ولكنني أشفي الفؤادَ بغارةٍ ... أُلَهِّبُ في قُطْرَي كتائبها جمرا
وغلظ أمره، واشتدت شوكته، وأعيت الرشيدّ الحيل فيه، فاحتال عليه بأخ له كتب إليه، فأرغبه، فشدّ على أبي الهيذام فقيده، وحمله إلى الرشيد بالرقة. فلما دخل عليه أنشده أبياتاً منها: " الطويل "
فأحسِن أميرَ المؤمنين فإنه ... أبى اللهُ إلا أن يكونَ لكَ الفضلُ
فمن عليه الرشيد وأطلقه.
وقيل: إن الأبيات الرائية لغير أبي الهيذام، وأنها لصادر بن كامل يرثي بها أخاه ثور بن كامل بن برز العنسي. وقُتل في فتنة أبي الهيذام. والصحيح أنها لأبي الهيذام.
حدث غالب بن أبجر قال:
ذكرت قيس عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رحم الله قيساً، رحم الله(11/284)
قيساً، قيل: يا رسول الله، تترحم على قيس؟! قال: نعم إنه كان على دين أبي إسماعيل بن إبراهيم خليل الله عزّ وجلّ. يا قيس، حيّ يمناً، يا يمن، حيّ قيساً. إن قيساً فرسان الله في الأرض، والذي نفسي بيده لَيأتينّ على الناس زمان ليس لهذا الدين ناصر غير قيس، إن لله فرساناً في الأرض مسوَّمين، وفرساناً في الأرض مُعْلَمين. ففرسان الله في الأرض قيس، إنما قيس بيضة تفلَّقَت عنا أهل البيت. إن قيساً ضِراءُ الله في الأرض، يعني أسد الله.
وأبو الهيذام فارس قيس في زمانه.
قال: ولا أراه داخلاً في هذا الحديث لأنه استعمل فروسيته في قتال المسلمين.
وعن شقيق قال: دخلت أنا وعمرو بن صُليع على حذيفة. قال: فقال: يا مرو بن صليع، أخبرني عن محارب، أهي من قيس؟ قال: نعم. قال: فإذا رأيت قيساً قد توالت الشام فخذ حذرك.
عامر بن لُدّين ويقال عمرو
وعامر أصح. أبو سهل ويقال: أبو بشر الأشعري الأردني القاضي ولي القضاء لعبد الملك بن مروان.
حدث عامر بن لدين الأشعري أنه سأل أبا هريرة عن صيام يوم الجمعة فقال: على الخبير وقعت. سمعت(11/285)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن يوم الجمعة يوم عيد وذِكر، فلا تجعلوا يوم عيدكم يومَ صومكم، ولكن اجعلوه يوم ذِكر، إلا أن تخلطوه بأيام ".
وحدث عامر بن لُدين الأشعري قال: أخبرني أبو ليلى الأشعري صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " تمسّكوا بطاعة أئمتكم، لا تخالفوهم، فإن طاعتهم طاعة الله، وإن معصيتهم معصية الله. وإن الله إنما بعثني أدعو إلى سبيله بالموعظة، فمن خالفني في ذلك فهو من الهالكين. وقد برئت منه ذمة الله، وذمة رسوله. ومن ولي من أمركم شيئاً فعمل بغير ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وسيليكم أمراء إن استُرحموا لم يرحموا، وإن سئلوا الحقوق لم يُعطُوا، وإن أُمروا بالمعروف أنكروا، وستخافونهم، ويفترق ملؤكم فيهم حتى لا يحملوكم على شيء احتملتم طوعاً أو كرهاً، فأدنى الحق عليكم ألا تأخذوا منهم العطاء، ولا تحضروهم في الملأ ".
قال سليمان: فقلت لعامر: أتخشى أن يكون أئمتنا هؤلاء منهم؟ قال: هؤلاء يخشون ويرحمون.
عامر بن محمد بن يعقوب
ابن عبد الملك الطائي حدث عن جده لأمه محمود بن خالد بن يزيد السُّلمي بسنده عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: يهرم ابن آدم وتشِب معه اثنتان: الحرص على الدنيا، والحرص على العمر.
عامر بن مالك بن أُهَيب
ويقال: وُهَيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب بن قُصيّ القرشي الزهري أخو سعد بن أبي وقاص له صحبة. وهو من مهاجرة الحبشة. وقدم دمشق والمسلمون محاصروها بكتاب عمر بن الخطاب بعزل خالد وتأمير أبي عبيدة.(11/286)
وأسلم عامر بن أبي وقاص بعد عشرة، فكان حادي عشر، فلقي من أمه ما لم يلق أحد من قريش من الصياح به والأذى هاجر إلى أرض الحبشة.
وعن سعد قال: جئت من الرمي فإذا الناس مجتمعون على أمي حَمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس، وعلى أخي عامر حين أسلم، فلقت: ما شأن الناس؟ قالوا: هذه أمك قد أخذت أخاك عامراً تعطي الله عهداً لا يظلها ظلّ، ولا تأكل طعاماً، ولا تشرب شراباً حتى يدع الصباوة. فأقبل سعد حتى تخلَّصَ إليها، فقال: عليّ يا أمّه، فاحلفي، قالت: لمَ؟ قال: لئلا تستظلي في ظلّ، ولا تأكلي طعاماً، ولا تشربي شراباً حتى ترَيْ مقعدك من النار. فقالت: إنما أحلف على ابني البرّ. فأنزل الله عزّ وجلّ: " وَإِنْ جَاهَدَاكَ على أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمّ فلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً " إلى آخر الآية.
شهد عامر بن أبي وقاص أُحُداً. وأبو وقاص هو مالك بن أهيب بن عبد مناف.
عامر بن مالك بن جعفر
ابن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر أبو بَراء، المعروف بملاعب الأسنة وفد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يسلم، وسأله أن يبعث معه رجالاً إلى قومه يدعونهم إلى الإسلام، فإن اسلموا أسلم معهم، فبعث جماعة، فأصيبوا ببئر معونة، ثم أسلم بعد.
وروى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً قال: بعثت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وَعَك بي التمس به دواء وشفاء، فبعث إلي بعُكّة من عسل.(11/287)
وحدث عامر أيضاً قال: قدمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهدية فقال: إنا لا نقبل هدية مشرك.
قال أوس بن حجر التميمي لطفيل بن مالك وفرّ عن أخيه عامر بن مالك بن جعفر: " الطويل "
فررتَ وأسلمتَ ابن أمِّك مالكاً ... يلاعبُ الوشيجِ المزعزَعِ
فسُمّي عامر ملاعب الأسنة. فهو أول يوم سُمِّي فيه. وقيل: إنما سُمّي ملاعب الأسنة لقول أوس بن حجر فيه: " الطويل "
يلاعبُ أطرافَ الأسنةِ عامرٌ ... فراجَ له خطُّ الكتائبُ أجمعُ
حدث جماعة من أهل العلم قالوا: قدم عامر بن مالك أبو البراء، ملاعب الأسنة على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأهدى لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرسين وراحلتين، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا أقبل هدية مشرك، فعرض عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلاسلام، فلم يسلم، ولم يَبعُد، وقال: يا محمد، إني أرى أمرك هذا حسناً شريفاً، وقومي خلفي، فلو أنك بعثت نفراً من أصحابك معي لرجوت أن يجيبوا دعوتك، ويتبعوا أمرك، فإن هم اتبعوك فما أعزّ أمرك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال عامر: لا تخف عليهم، أنا لهم جار إن يعرِض لهم أحد من أهل نجد. وكان من الأنصار سبعون رجلاً شبَبَة، يُسمَّون القراء، كانوا إذا أمسَوا أتَوا ناحية من المدينة فتدارسوا وصلوا، حتى إذ كان وجاهُ الصبح استغذبوا من الماء، وحطبوا من الحطب، فجاؤوا به إلى حجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان أهلوهم يظنون أنهم في المسجد، وكان أهل المسجد يظنون أنهم في أهليهم. فبعثهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرجوا، فأصيبوا في بئر معونة، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قتلتهم خمس عشرة ليلة.
وقيل: كانوا سبعين، وقيل: كانوا أربعين، وقيل: الثبت أنهم أربعون.(11/288)
وكتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم كتاباً، وأمّر على أصحابه المنذر بن عمرو الساعدي، فخرجوا حتى إذا كانوا على بئر معونة وهو ماء من مياه بني سُليم، وهي بين أرض بني عامر وبني سُليم فخرج المنذر، فعسكروا بها، وسرّحوا ظهرهم، وبعثوا في سرحهم الحارث بن الصمة وعمرو بن أمية، وقدّموا حرام بن ملحان بكتاب سيدنا رسول الله الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عامر بن الطفيل في رجال من بني عامر. فلما انتهى حرام إليهم لم يقرؤوا الكتاب، ووثب عامر بن الطفيل على حرام فقتله، واستصرخ عليهم بني عامر فأبَوا، وقد كان عامر بن مالك أبو براء خرج قبل القوم إلى ناحية نجد، فأخبرهم أنه قد أجار أصحاب محمد، فلا تعرضوا لهم، فقالوا: لن نخفر جوار أبي براء. فلما أبت عليه بنو عامر استصرخ عليم قبائل من بني سليم: عُصَيّة ورِعْل، فنفروا معه ورأسوه عليهم، فقال عامر بن الطفيل: أحلف بالله ما أقبل هذا وحده، فاتّبعوا أثره حتى وجدوا القوم قد استبطؤوا صاحبهم، فأقبلوا في أثره، فلقيهم القوم، والمنذر معهم، فأحاطت بنو سليم بالقوم، وكاثروهم، فقاتل القوم حتى قتل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبقي المنذر بن عمرو الساعدي وهو الذي يقال له: أعنق ليموت فقالوا له: إن شئت أمّناك، فقال: لن أعطي بيدي، ولن أقبل لكم أماناً، حتى آتي مقتل حرام، ثم برىء مني جواركم، فأمّنوه حتى أتى مصرع حرام، ثم برئوا إليه من جوارهم، ثم قاتلهم حتى قتل. فذلك قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعنق ليموت.
وأقبل الحارث بن الصمة وعمرو بن أمية بالسَّرح، وقد ارتابا بعكوف الطير على منزلتهم، أو قريب من منزلتهم، فجعلا يقولان: قتل والله أصحابنا، والله ما قتل أصحابنا إلا أهل نجد، فأوفى على نشز من الأرض، فإذا أصحابهم مقتولون، وإذا الخيل واقفة، فقال الحارث لعمرو: ما ترى؟ قال: أرى أن ألحق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره الخبر، فقال الحارث: ما كنت لأتأخر عن موطن قتل فيه المنذر، فأقبلا فلقيا القوم،(11/289)
فقاتلهم الحارث حتى قتل منهم اثنين، ثم أخذوه فأسروه، وأسروا عمرو بن أمية، وقالوا للحارث: ما تحب أن نصنع بك؟ فإنا لا نحب قتلك، فقال: أبلغوني مصرع المنذر وحرام، وبرئت مني ذمتكم، فبلغوه به، ثم أرسلوه، فقاتلهم، فقتل منهم اثنين، ثم قتل، فما قتلوه حتى شرعوا له الرماح فنظموه فيها. وقال عامر بن الطفيل لعمرو بن أمية، وهو أسير في أيديهم ولم يقاتلهم: إنه قد كانت على أمّه نَسمة فأنت حرّ عنها، وجزّ ناصيته. فلما جاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبر بئر معونة جاء معها في ليلة واحدة مُصابهم ومُصاب مَرْثَد بن أبي مَرثَد، وبَعْث محمد بن مسلمة، فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: هذا عمر أبي براء. قد كنت لهذا كارهاً.
ودعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قَتَلتهم بعد الركعة من الصبح، في صبح تلك الليلة التي جاءه الخبر. فلما قال: سمع الله لمن حمده قال: اللهم، اشدُد وطأتك على مضر، اللهم، عليك ببني لحيان وزعْب ورِعْل وذكوان وعُصَيّة، فإنهم عَصُوا الله ورسوله، اللهم، عليك ببني لحيان وعَضَل والقارة، اللهم، أَنْجِ الوليد بن الوليد، وسَلَمة بن هشام، وعيّاش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين. غِفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، ثم سجد، فقال ذلك خمس عشرة ليلة، ويقال: أربعين يوماً، حتى نزلت هذه الآية: " لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ أَو يَتُوبَ عَلَيْهِمْ " الآية. وكان أنس بن مالك يقول: يا رب، سبعين من الأنصار يوم بئر معونة. وكان أبو سعيد الخدري يقول: قُتل من الأنصار في مواطن سبعين، سبعين يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم(11/290)
اليمامة سبعون، ويوم جسر أبي عبيدة سبعون.
ولمَ يَجِدْ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قتلى ما وجد على قتلى بئر معونة. وكان أنس يقول: أنزل الله فيهم قرآناً قرأناه حتى نسخ: بلّغوا قومنا أنا لقينا ربنا، فرضي عنا، ورضينا عنه.
قالوا: وأقبل أبو براء سائراً، وهو شيخ هِمّ كبير، فبعث من العيص ابن أخيه لبيد بن ربيعة بهديةٍ فرسٍ، فردّه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: لا أقبل هدية مشرك، فقال لبيد: ما كنت أظن أن أحداً من مضر يردّ هدية أبي براء، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو قبلت هدية مشرك لقبلت هدية أبي براء، قال: فإنه قد بعث يستشفيك من وجع به، وكانت بد الدُّبَيْلة فتناول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبوبة من الأرض، فتفل فيها ثم ناوله وقال: دُفْها بماء ثم اسقها إياه، ففعل فبرأ. وقال إنه بعث إليه بعكة عسلٍ، فلم يزل يلعقها حتى برأ. فكان أبو براء يومئذ سائراً في قومه يريد أرض بَلِي "، فمرّ بالعيص، فبعث ابنه ربيعة مع لبيد يحملان طعاماً، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربيعة: ما فعلت ذمة أبيك؟ قال ربيعة: نقضتها ضربة بسيف أو طعنة برمح، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعم، فخرج ابن أبي براء فخبر أباه فشقّ عليه ما فعل عامر بن الطفيل، وما صنع بأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا حركة به من الكبر والضعف، فقال: أخفرني ابن أخي من بين بني عامر، وسار حتى كانوا على ماء من مياه بَلِيّ يقال له الهُدُم، فركب ربيعة فرساً له، ويلحق عامراً وهو على جمل له، فطعنه بالرمح، فأخطأ مقاتله، وتصايح الناس، فقال عامر بن الطفيل: إنها لم تضرني، إنها لم تضرني، وقال: قضيت ذمة أبي براء. فقال عامر بن الطفيل: قد(11/291)
عفوت عن عمي هذا فعله، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم، اهد بني عامر، وأطلب خُفرتي من عامر بن الطفيل.
عامر بن مسعود
أبو سعد ويقال: أبو سعيد الزُّرَقي صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقال: لا صحبة له. سكن دمشق.
حدث يونس بن مَيْسرة الجُبْلاني قال:
خرجت مع أبي سعد الزُّرقي صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى شرى الضحايا، قال يونس: فأشار لي أبو سعد إلى كبش أدغم، ليس بالمرتفع ولا بالمتضع. قال: اشتره لي، كأنه شبّهه بكبش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال سيعد: قوله: ليس بالمرتفع ولا بالمتضع، يعني في جسمه. قال: والأدغم: الأسود الرأس.
حدث أبو سعيد الزُّرقي أن رجلاً من أشجع سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن العزل فقال: ما يقدَّر في الرحم يكن.
عامر بن المعمَّر الأزدي
حدث عن وكيع بن الجراح بسنده عن عُبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله عزّ وجلّ: " لَهُمُ البُشْرَى في الحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآخرةِ " قال: " هي الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو تُرى له ".(11/292)
عامر بن واثلة بن عبد الله
ابن عمير بن جابر بن خُميس بن حُدَيّ بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة أبو الطفيل الكناني صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآخر أصحابه موتاً.
قال أبو الطفيل: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبق على الأرض أحد رآه غيري. قال: قلت له: كيف رأيته؟ قلت: رأيته أبيض، مليحاً، مُقَصداً، إذا مشى كأنه يهوي في صبب.
وحد أبو الطفيل قال: كنت غلاماً أحمل عضو البعير، ورأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم لحماً بالجعرانة، قال: فجاءته امرأة فبسط لها رداءه، فقلت: من هذه؟ قالوا: أمه التي أرضعته.
قال أبو الطفيل عامر بن واثلة: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا غلام شاب، يطوف بالبيت على راحلته، يستلم الحجر بِمحجَنة.
دخل أبو الطفيل على معاوية، فقال له معاوية: أبا الطفيل، قال: نعم، قال: ألست من قتلة عثمان؟ قال: لا، ولكني ممن حضره فلم ينصره، قال: وما منعك من نصره؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار فقال معاوية: أما لقد كان حقه واجباً عليهم أن ينصروه، قال: فما منعك يا أمير المؤمنين من نصره ومعك أهل الشام؟ فقال(11/293)
معاوية: أما طلبي بدمه نصرة له؟ فضحك أبو الطفيل ثم قال: أنت وعثمان كما قال الشاعر: " البسيط "
لا اُلفينك بعدَ الموتِ تندُبُني ... وفي حياتي ما زودتني زادي
فقال له معاوية: يا أبا الطفيل، ما أبقى لك الدهر من ثكلك عليّاً؟ قال: ثكل العجوز المِقْلات، والشيخ الرَّقوب، ثم ولَى. قال: فكيف حبك له؟ قال: حبّ أم موسى لموسى، وإلى الله أشكو التقصير.
المقلات: التي لا يعيش لها ولد، والرّقوب: الرجل الذي قد يئس أن يولَد له.
كان أبو الطفيل من أصحاب محمد بن الحنفية، وكان ثقة، وكان متشيعاً. وابنه الطفيل بن عامر قتل مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي يوم دير الجماجم.
قال أبو الطفيل.
أدركت ثماني سنين من حياة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وولدت عام أُحُد.
وقيل في اسم جده حُدَي أنه بالحاء المهملة، ووجد في جمهرة ابن الطلبي جُدي بالجيم.
وسئل ممد بن يعقوب الأخرم: لم ترك البخاري حديث أبي الطفيل؟ قال: لأنه كان يُفرط في التشيع.
دخل عبد الله بن صفوان على ابن الزبير وهو يومئذ بمكة، فقال: أصبحت كما قال الشاعر: " البسيط "
فإن تُصِبك من الأيامِ جائحةٌ ... لمنبكِ منكَ على دنيا ولا دينٍ
فقال: وما ذاك يا أعرج؟ قال: هذا عبد الله بن عباس يفقه الناس، وعبيد الله يطعم الناس، فما بقيا لك؟ فأحفظه ذلك، فأرسل صاحب شرطه عبد الله بن مطيع،(11/294)
فقال: انطلق إلى ابنَي عباس فقل لهما: بدِّدا عني جمعكما ومن ضوى إليكما من أهل العراق.
وفي رواية أنه أرسل إليهما: إنكما تريدان أن ترفعا راية قد وضعها الله، ففرَّقا من قِبَلكما من مُرّاق أهل العراق.
فقال ابن عباس: قل لابن الزبير: يقول لك ابن عباس: والله ما يأتينا من الناس غير رجلين: رجل طالب علم، ورجل طالب فضل، فأي هذين نمنع؟ فأنشأ أبو الطفيل عامر بن واثلة يقول: " البسيط "
للهِ درُّ الليالي كيف تُضحكنا ... خطوب شتى أعاجيبٌ وتُبكينا
ومثلما تحدثُ الأيام من غِيرَ ... وابنُ الزبير عن الدنيا يُلَهّينا
كنا نجيء ابن عباسٍ فيسبقنا ... فِقهاً ويُكسبنا أجراً ويهدينا
ولا يزال عبيد الله مترعة ... جفانُه مطعماً ضعفى ومسكينا
فاليُمن والدينُ والدنيا بدارهما ... ننالُ منه الذي نبغي إذا شينا
إن النبي هو النورُ الذي كُشِفت ... بهِ عَمايات ماضينا وباقينا
ورهطُه عِصمة في ديننا ولهم ... فضل علينا وحق واجب فينا
ففيم تمنعنا منهم وتمنعهم ... منا وتؤذيهم فينا وتؤذينا؟
ولست فاعلمه بالأولى به نسباً ... يا بن الزبير ولا الأولى به دينا
لن يجزي الله من أجزى لبعضهم ... في الدين عزاً وفي الأرض تمكينا
قال سيف بن وهب: دخلت على أبي الطفيل بمكة فقال: أتى عليّ تسعون سنة ونصف فكم أتى عليك؟ قلت: أنا ابن ثلاث وثلاثين سنة.
قال علي بن المديني: آخر من بقي من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة سهل بن سَعْد الساعدي، وآخر من بقي بالبصرة أنس بن مالك، وآخر من بقي بالكوفة أبو جُحيفة وهبُ بن عبد الله(11/295)
السوائي، من بني سواءة بن عامر، وآخر من بقي بالشام عبد الله بن بُسر المازني، من بني مازن بن منصور، وآخر من بقي بمصر عبد الله بن الحارث بن جزء، وآخر من مات بمكة ممن رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي، ويقال: الحماني.
وكان أبو الطفيل يقول: ما بقي على وجه الأرض أحد يقدر يقول إنه رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيري.
وتوفي أبو الطفيل سنة مئة. وقيل: بعد المئة من الهجرة. وقيل: سنة اثنتين ومئة. وقيل: سنة سبع ومئة. وقيل: سنة عشر ومئة. وقيل إنه لم يزل باقياً حتى أدركته إمرة عمر بن عبد العزيز، فكتب يستأذنه في القدوم عليه: فقال عمر: ألم تؤمر بلزوم البلد؟
عامر بن يحيى
أبو حازم الغوثي حدث عن المنكدر بن محمد قال: بلغني أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لأنا أشدُّ عليكم خوفاً من النّعم مني من الذنوب. ألا إن النِّعم إن النِّعم التي لا تشكر هي الحتف القاضي ".
عايذ الله بن عبد الله
ويقال: عَيِّذ الله بن إدريس بن عايذ بن عبد الله ابن عتبة بن غيلان بن مَكين أبو إدريس الخولاني قاضي دمشق في أيام عبد الملك بن مروان. ولد عام حنين وهزيمة الله هوازن في حياة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(11/296)
حدث أبو إدريس الخولاني عن أبي ذر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جبريل عن الله تبارك وتعالى أنه قال: " يا عبادي، إنكم الذين تُخطئون بالليل والنهار، وأنا الذي أغفر لكم الذنوب ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوتُه فاستكسوني أكسُكم. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ منكم لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ منكم لم يزد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجِنّكم كانوا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم ما سأل لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقُص البحر أن يغمس المِخيَط غمسة واحدة. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحفظها عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله عزّ وجلّ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومّنّ إلا نفسه ".
قال سعيد بن عبد العزيز: كان أبو إدريس الخولاني إذا حدَّث بهذا الحديث جثا على ركبتيه.
وحدث أبو إدريس عن أبي ثعلبة الخُشَني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا توضأت فاستنثر، وإذا استجمرت فأوتر ".
هكذا روى هذا الحديث، وإنما هو عن أبي هريرة.
وعن أبي إدريس قال: جلست خلف معاذ بن جبل وهو يصلي. فلما انصرف من الصلاة قلت: إن أحبك لله، قال: فأدناني منه ثم قال: إنك لتحبني لله؟ قلت: نعم، إن لأحبك لله، قال: فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " المتحابون في الله في ظل عرشه يوم لا ظلّ إلا ظلّه ".
وقيل: إن أبا إدريس لم يسمع من معاذ ولا لقيه. وقيل: إنه لقيه.(11/297)
حدث عايذ الله بن عبد الله
أن معاذاً قدم عليهم اليمن فلقيته امرأة من خولان معها بنون لها، اثنا عشر، وتركت أباهم في بيتها، أصغرهم الذي قد اجتمعت لحيته، فقامت فسلمت على معاذ، ورجلان من بنيها ممسكان بعضديها، فقالت: من أرسلك إليها أيها الرجل؟ قال لها معاذ: أرسلني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالت المرأة: أرسلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أفلا تحدثني يا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال لها معاذ: سلي عما شئت، قالت: حدِّثني ما حقُّ المرء على زوجته؟ قال لها معاذ: تتقي الله ما استطعت، وتسمع وتطيع. قالت: أقسمت عليك بالله ما حقّ المرء على زوجته؟ قال لها معاذ: ما رضيتِ بأن تسمعي وتطيعي، وتتقي الله؟! قالت: بلى، ولكن حدثني ما حقّ المرء على زوجته، فإني تركت أبا هؤلاء شيخاً كبيراً في البيت، فقال لها معاذ: والذي نفس معاذٍ بيده لو أنك ترجعين إذا رجعت إليه فوجدت الجذام قد خرق أنفه، ووجدت منخريه يسيلان قيحاً ودماً ثم التعقتيهما بفيك لكيما تبلغي حقه ما بلغته أبداً.
وعن أبي إدريس قال: دخلت مسجد دمشق فإذا أنا بفتىً براق الثنايا، وإذا الناس معه إذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألت عنه فقيل: هذا معاذ بن جبل. فلما كان الغد هجّرت فوجدته قد سبقني بالتهجير ووجدته يصلي، فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئت من قبل وجهه فسلمت عليه ثم قلت: والله إن لأحبك لله، قال: آلله؟ فقلت: آلله. فقال: آلله؟ فقلت: آلله. فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه وقال: أبشر فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ والمتجالسين فيّ والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيَّ ".
حدث يزيد بن عبيدة أنه رأى أبا إدريس الخولاني في زمان عبد الملك بن مروان، وأن حلق المسجد(11/298)
بدمشق يقرؤون القرآن، يدرسون جميعاً، وأبو إدريس جالس إلى بعض العمد، فكلما مرت حلقة بآية سجدة بعثوا إليه يقرأ بها، وأنصتوا له، وسجد بهم، وسجدوا جميعاً بسجوده، فربما سجد بهم ثنتي عشرة سجدة، حتى إذا فرغوا من قراءتهم قام أبو إدريس يقص.
حدث يزيد بن أبي مالك قال: كنا نجلس إلى أبي إدريس الخولاني فيحدثنا في الشيء من العلم لا يقطعه بغيره حتى يقوم أو تقام الصلاة حفظاً لما سَّمع. قال: فحدث يوماً عن بعض مغازي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى استوعب الغزاة، فقال له رجل من ناحية المجلس: أحضرت هذه الغزاة؟ قال: فقال: لا، فقال الرجل: قد حضرتها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأنت أحفظ لها مني.
وحدث يوماً بأحاديث، فقال له رجل: أرأيت هذه الأحاديث إلى من تسندها؟ فقال: إن رضيت بما تسمع منا وإلا فلا تجالسنا.
قال: وكان أبو إدريس إذا أخذ في نوع في مجلس لم يكد يأخذ في غيره حتى يقوم من مجلسه، وكان إذا جلس لم يحتب حتى يقوم، وإذا احتبى لم يحلّ حَبْوَته حتى يقوم ولم يُرَ يعبث بشيء.
قال: وقال له رجل وهو يحدث: عمن يا أبا إدريس؟ قال: لأنا أقدر على الإسناد مني على الحديث.
قال معاوية لأبي إدريس الخولاني يا أهل اليمن، إن فيكم خلالاً ما تخطئكم، قالوا: وما هي؟ قال: الجود والحِدَّة وكثرة الأولاد. قال: أما ما ذكرت من الجود فذلك لمعرفتنا من الله عزّ وجلّ بحسن الخلف، وما الحِدّة فإن قلوبنا ملئت خيراً فليس فيها للشر موضع، وأما كثرة الأولاد فإنا لسنا نعزل ذلك عن نسائنا. قال: صدقت، لا يفضض الله فاك.
وعن أبي إدريس قال: ما أودى شيء إلى شيء خير من حلم إلى علم.(11/299)
وكان أبو إدريس يقول: عِفّوا، رحمكم الله، فإنه مع عفّ نساء قومٍ قط حتى تعفّ رجالهم.
وكان يقول: ما أكون خيراً مني، يعني: إلا إذا كنت مع من هو خير مني.
وكان يقول: من نظر فتفكر خير من نظر فتعجب.
وقال أبو إدريس: ما على ظهرها من بشر لا يخاف على إيمانه أن يذهب إلا ذهب.
وقال أبو إدريس: المساجد مجالس الكرام.
وكان يقول: لأن أرى في المسجد ناراً تأجج أحَبُّ إليّ من أن أرى بدعة لا تغيّر.
توفي أبو إدريس سنة ثمانين.
عائذ بن سعيد
والد محمد بن عائذ حدث عن المطعم بن المقدام عن نافع عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي رواية عن نافع قال:
كنت أسير مع ابن عمر، فسمع صوت زامر رعاء، فعدل عن الطريق ثم قال: يا نافع، هل تسمع شيئاً؟ قلت: لا، ثم رجع إلى الطريق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل.(11/300)
عبادة بن أوفى
ويقال: ابن أبي أوفى بن حنظلة بن عمرو بن رباح ابن جعونة بن الحارث بن نمير بن عامر، أبو الوليد النميري القنّسريني وقيل: إنه دمشقي، وقيل: حمصي وقيل: إن له صحبة. شهد صفين مع معاوية.
حدث عن عمرو بن عبسة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قال ": " أبرِدوا بصَلاة الظهر في اليوم الحارّ، فإن شدة الحرّ من فيح جهنّم ".
ذكر يحيى بن حمزة أنّ الذي قتل عمارَ بن ياسر عمرو بنُ محصن الأزدي وعُبادةُ بن وفى النُّميري، اشتركا فيه، وكان عمرو فارساً وكان عُبادة راجلاً.
والمحفوظ أن قاتل عمّار أبو الغادية.
عبادة بن الصامت
ابن قيس بن فهر بن قيس بن ثعلبة بن غَنْم بن سالم بن عوف ابن عمرو بن عوف بن الخزرج، أبو الوليد الأنصاري صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد الاثني عشر نقيباً ليلة العقبة. سكن الشام، ودخل دمشق قبل فتحها وبعده.(11/301)
روى عبادة بن الصامت أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج ذات ليلة وهو يريد أن يخبرهم بليلة القدر، فتلاحى رجلان، فاختُلِجَتْ منه. فقال عليه السلام: " إني أردتُ أن أُخبركم بليلة القدر فتلاحى هذا الرجلان فاختُلجت منّي. ولعل ذلك أن يكون خيراً لكم فاطلبوها في العشر الأواخر: في التاسعة والسابعة والخامسة ".
وروى عبادة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الذهب بالذهب، مِثْلاً بِمثْل، يداً بيد، والشعير بالشعير مِثْلاً بمثل، يداً بيد. التمر بالتمر مِثْلاً بمثل، يداً بيد ". قال: حتى ذكر الملح مِثْلاً بمثل، يداً بيد. فقال معاوية: إن هذا لا يقول شيئاً. فقال عبادة: إني والله ما أبالي ألا أكون بأرضكم هذه.
حدث المقدام الرهاوي قال: جلست إلى أبي الدرداء وعبادة بن الصامت والحارث بن معاوية فقالوا لعبادة: حدِّثْنا حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة كذا وكذا فقال: صلّى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ إلى بعير من المقسم، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: " هذه غنائمكم ولا حقّ لي فيها إلا سهمي والخمس، والخمسُ مردودٌ عليكم، فأدّوا الخيط والخياط وأصغر من ذلك وأكبر، ولا تغلّوا فإن الغلول عيب على أهله في الدنيا والآخرة، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر، وجاهدوا الناس القريب والبعيد، ولا تخافوا في الله لومةَ لائم، وعليكم بالجهاد في سبيل الله، فإن في الجهاد في سبيل الله باباً من أبواب الجنة عظيم ينجي الله به من الغم والهم ".
حدث أبو الأشعث الصنعاني أنه راح إلى مسجد دمشق فلقي شداد بن أوس الأنصاري والصنابحي فقالا له: اذهب بنا إلى أخ لنا نعوده، فدخلا على عبادة بن الصامت فقالا: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بنعمة من الله وفضل. قال له شداد: أبشر بكفارات السيئات وحطّ الخطايا، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " قال الله عزّ وجلّ: إذا ابتليت عبداً من عبادي مؤمناً، فحمدني وصبر على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه(11/302)
من الخطايا. ويقول الربّ عزّ وجلّ للحفظة: إني أنا قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تُجرون له قبل ذلك من الأجر وهو صحيح ".
قال عبد الرحمن بن غنم:
لما دخلنا مسجد الجابية أنا وابو الدرداء ألفينا عبادة بن الصامت فأخذ يميني بشماله، وشمال أبي الدرداء بيمينه. فخرج يمشي بيننا فقال عبادة: إن طال بكما عمر أحدكما أو كلاكما فيوشك أن تريا الرجل من ثَبَج المسلمين قد قرأ القرآن على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعاده وأبداه، وأحل حلاله وحرّم حرامه، ونزل عند منازله، أو قرأ به على لسان أحد، لا يحورُ فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت. فبينما نحن كذلك إذ طلع علينا شداد بن أوس وعوف بن مالك فجلسا إلينا، فقال شداد: إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس ما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من الشهوة الخفية والشرك " فقال عبادة وأبو الدرداء: اللهم غَفْراً، أو لم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب. فأما الشهوة الخفية فقد عرفناها فهي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها. فما هذا الشرك الذي تخوّفنا به يا شداد؟ قال: أريتكم لو رأيتم أحداً يصلي لرجل أو يصوم له أو يتصدق له أتَرَون أنه قد أشرك؟ قالوا: نعم. قال شداد: فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك " فقال عوف: ولا يعمد الله إلى ما ابتُغي فيه وجهه من ذلك العمل كله فيتقبل منه ما خلص له، ويدع ما أشرك به فيه. فقال شداد: فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أنا خير قسيم فمن أشرك بي شيئاً فإن حشده وعمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك بي، أنا عنه غنيّ ".
أُمُّ عبادة وأوس ابني الصامت: قرّةُ العين بنت عمارة بن نضلة بن العَجْلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف بن الخزرج.
شهد عبادة بدراً وشهد العقبة مع السبعين من الأنصار، وآخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين(11/303)
عبادة وبين أبي مَرْثد الغنوي، وشهد أُحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان عبادة عقبياً، نقيباً، بدرياً، أنصارياً وهو من القواقلة، وكان مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن لا يخاف في الله لومة لائم، وشهد الفتح بمصر، وكان أمير ربع المدد.
توفي أبو " الوليد " عبادة بفلسطين الشام سنة أربع وثلاثين، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرجه إليها معلماً، وعمره ابن اثنتين وسبعين سنة.
قال عبادة بن الصامت: كنا أحد عشر رجلاً في العقبة الأولى، فبايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيعة النساء قبل أن تفرض علينا الحرب، بايعناه على ألا نشرك بالله تعالى، ولا نسرق ولا نزني ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نقتل أولادنا، ولا نعصيه في معروف، فمن وفّى فله الجنة، ومن غشي شيئاً من ذلك فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.
وفي حديث آخر قال: بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمَنْشَط والمكره، ولا ننازع الأمر أهله، نقول في الحق حيثما كنا، لا نخاف لومة لائم ما لم نَرَ كُفْراً بواحاً.
وعن جابر أن حاطبَ بن أبي بَلْتَعَة كتب إلى أهل مكة يذكر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آتٍ لغزوهم، فدّلَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المرأة التي معها الكتاب فأرسلَ إليها، فأخذ كتابها من رأسها، فقال: يا حاطب، فعلت؟! قال: نعم، أما إني لم أفعلْهُ غشّاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا نفاقاً، قد علمتُ أن الله يُظهِر رسولَه ويُتُّم له أمرَهُ، غير أني كنتُ غريباً بين أظهرهم، وكان ولدي معهم، فأردت أن أتخذها عندهم، فقال: عمر: ألا أضربُ رأس هذا؟ فقال: أتقتل رجلاً من أهل بدر؟ ما يدريك لعل الله اطَّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم.(11/304)
ولما حارب بنو قَيْنُقاع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشبّث بأمرهم عبد الله بن أبيّ، وقام دونهم، فمشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أحد بني عوف بن الخزرج، لهم من حلفهم مثل الذي لهم من حلف عبد الله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتبرَّأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، فقال: يا رسول الله، أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولّى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم، ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة: " يَا أَيُّها الَّذِيْنَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّه مِنْهُمْ " إلى قوله: " فَتَرى الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ " يعني عبد الله بن أبي لقوله: إني أخشى الدوائر " يُسَارِعُونَ فِيْهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيْبَنَا دَائِرَاةٌ " حتى بلغ إلى قوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ والَّذِيْنَ آمَنُوا " لقول عبادة: أتولى الله ورسوله والذين آمنوا، وتبرُّئه من بني قينقاع وحلفهم وولايتهم. إلى قوله: " وَمَنْ يَتَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِيْنَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ ".
وعن عبادة بن الصامت قال: خلوت برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: أيُّ أصحابك أحبُّ إليك حتى أحبَّ مَنْ تحبّ كما تحب؟ قال: اكتم عليّ حياتي أحبابي يا عبادة، فقلت: نعم. فقال: أبو بكر الصديق، ثم عمر، ثم علي، ثم سكت، فقلت: ثم من يا رسول الله؟ قال: مَنْ عسى أن يكون إلا الزبير، وطلحة، وسعد، وأبو عبيدة، ومعاذ بن جبل، وأبو طلحة، وأبو أيوب، وأنت يا عبادة، وأُبي بن كعب، وأبو الدرداء، وابن مسعود، وابن عوف، وابن عفان. ثم هؤلاء الرهط من الموالي: سلمان، وصهيب، وبلال، وعمار بن ياسر.
وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه على الصدقة فقال له: اتّقِ الله يا أبا الوليد، اتق، لا تأتي يوم القيامة ببعير تحمله له رُغاء، أو بقرة لها خُوار، أو شاة لها ثؤاج، فقال: يا رسول الله، إن ذلك كذلك؟ قال: إي والذي نفسي بيده، إن ذلك لكذلك إلا من(11/305)
رحم الله عز وجل. قال: فوالذي بعثك بالحق لا أعمل على اثنين أبداً.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: جمع القرآن في زمان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأُبي بن كعب، وأبو أيوب، وأبو الدرداء. فلما كان عُمر كتب يزيد بن أبي سفيان أن أهل الشام كثير، وقد احتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم، فقال: أعينوني بثلاثة. فقالوا: هذا شيخ كبير، لأبي أيوب، وهذا سقيم لأُبي، فخرج معاذ وعبادة وأبو الدرداء فقال: ابدؤوا بحمص، فإذا رضيتم منهم فليخرج واحد إلى دمشق وآخر إلى فلسطين، فأقام بها عبادة وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين. ومات معاذ عام طاعون عمواس، وصار عُبادة بعدُ إلى فلسطين فمات بها، ولم يزل أبو الدرداء بدمشق حتى مات.
وعن يعلى بن شداد قال: ذكر معاوية الفرار من الطاعون في خطبته فقال عبادة: أمُّك هند أعلم منك. فأتم خطبته ثم صلى، ثم أرسل إلى عبادة فنفذت رجال الأنصار معه فاحتبسهم، ودخل عبادة فقال له معاوية: ألم تتق الله وتستحي إمامك؟ فقال عبادة: أليس قد علمت أني بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة أني لا أخاف في الله لومة لائم؟ ثم خرج معاوية عند العصر فصلى العصر، ثم أخذ بقائمة المنبر فقال: أيها الناس، إن ذكرت لكم حديثاً على المنبر فدخلت البيت فإذا الحديث كما حدثني عبادة فاقتبسوا منه فهو أفقه مني.
وعن قبيصة بن ذؤيب أن عبادة أنكر على معاوية شيئاً فقال: لا أساكنك بأرضٍ، فرحل إلى المدينة فقال له عمر: ما أقدمك؟ فأخبره، فقال: ارْحَل إلى مكانك فقبَّحَ الله أرضاً لست فيها وأمثالك. فلا إمرة له عليك.
وعن عبيد بن رفاعة
أن عبادة بن الصامت مرت عليه قطارة وهو بالشام، تحمل الخمر فقال: ما هذه؟ أزيت؟ قيل: لا، بل خمر يباع لفلان، فأخذ شفرة من السوق فقام إليها فلم يذر فيها(11/306)
راوية إلا بقرها، وأبو هريرة ذاك بالشام، فأرسل فلان إلى أبي هريرة فقال: ألا تمسك عنا أخاك عبادة بن الصامت؟ أما بالغدوات فيغدو إلى السوق فيفسد على أهل الذمة متاجرهم، وأما بالعشيّ فيقعد بالمسجد ليس له عملٌ إلا شتم أعراضنا وعيبنا، فأمسكْ عنا أخاك. فأقبل أبو هريرية يمشي حتى دخل على عبادة فقال: يا عبادة، مالك ولمعاوية؟ ذره وما حمل فإن الله تعالى يقول: " تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلتْ لَها مَاكَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ " قال: يا أبا هريرة، لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن نقول في الله لا تأخذنا في الله لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأهلنا، ولنا الجنة، ومن وفّى وفّى الله له الجنة بما بايع عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن نكث فإنما ينكُث على نفسه، فلم يكلمه أبو هريرة بشيء، فكتب فلان إلى عثمان بالمدينة: إن عبادة بن الصامت قد أفسد علي الشام وأهله، فإما أن يكفَّ عبادة وإما أن أخلي بينه وبين الشام، فكتب عثمان إلى فلان أن أرْحِلْه إلى داره من المدينة، فبعث به فلان حتى قدم المدينة، فدخل على عثمان الدار وليس فيها إلا رجل من السابقين بعينه، ومن التابعين الذين أدركوا القوم متوافرين، فلم يُفْجَ عثمان به إلا وهو قاعد في جانب الدار، فالتفت إليه، فقال: ما لنا ولك يا عبادة؟ فقام عبادة قائماً وانتصب لهم في الدار فقال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا القاسم يقول: سيلي أموركم بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما يعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله فلا تضلوا بربكم. فوالذي نفس عبادة بيده إن فلاناً لمن أولئك، فوالذي نفس عبادة بيده إن فلاناً لمن أولئك. فما راجعه عثمان بحرف.
عن الحسن قال: كان عبادة بن الصامت بالشام فرأى آنية من فضة يباع الإناء بمثلي ما فيه، أو نحو ذلك، فمشى إليهم عبادة فقال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا(11/307)
عبادة بن الصامت، ألا وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مجلس من مجالس الأنصار ليلة الخميس في رمضان لم يصم رمضان بعده يقول: الذهب بالذهب مثلاُ بمثل، سواء بسواء. وزناً بوزن، يداً بيد فما زاد فهو رباً، والحنطة بالحنطة قفيز، بقفيز، يد بيد، فما زاد فهو رباً، والتمر بالتمر، قفيز بقفيز، يد بيد فما زاد فهو رباً.
قال: فتفرق الناس عنه فأتى معاوية فأخبر بذلك، فأرسل إلى عبادة فأتاه فقال له معاوية: لئن كنت صحبت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمعت منه، لقد صحبناه وسمعنا منه، فقال له عبادة: لقد صحبته وسمعت منه، فقال له معاوية: فما هذا الحديث الذي تذكره؟ فأخبره، فقال له معاوية: اسكت عن هذا الحديث ولا تذكره. فقال له عبادة: بلى، وإن رغم أنف معاوية. قال: ثم قام فقام له معاوية: ما نجد شيئاً أبلغ فيما بيني وبين أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصفح عنهم.
حدِّث حميد بن زياد أبو صخر
أنه بلغه أن عبادة بن الصامت حين ذكر لناس من شأن عثمان ما ذكروا قال: والله، لا أحضر هذا الأمر أبداً، فخرج من المدينة حتى لحق بغَسْقلان، فمكث حتى فرغ من عثمان، ثم أقام حتى استخلف معاوية، فقام معاوية على المنبر فخطب الناس فذكر أبا بكر بن أبي قحافة فصلّى عليه، ثم قال: إنه وطىء عقب نبيّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتبع أمر صاحبه، ثم مات، له الفضل من ذلك، لا عليه، ثم ولي عمر فوطىء عقب نبيّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتبع أثر صاحبه ثم مات، له الفضل من ذلك لا عليه، ثم مكث عثمان ثمان سنين لا يخالف أمر نبيه وصاحبيه، ثم أخذ وترك فمات، فالله أعلم به، ثُم وَليتُ فأخذت حتى خالط لحمي ودمي، فهو خير مني وأنا خير ممن بعدي، ويا أيها الناس إنما أنا لكم جنَّة. فقام عبادة بن الصامت فقال: أرأيت إن احترقت الجنة قال: إذاً تخلص إليها النار، قال: من ذلك افر، قال: فأمر به فأخذ، فأضْرَط بمعاوية، ثم قال: علمت كيف كانت البيعتان حين عينا إليهما، دُعيت على أن تبايع على ألاَّ نزني ولا نسرق، ولا نخاف في الله لومة لائم(11/308)
فقلت: أما هذه فاعفني يا رسول الله، ومضيت أنا عليها، فبايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأنت يا معاوية أصغر في عيني من أن أخافك في الله عز وجل، فقال معاوية: صدقت، قد كان هذا شأن البيعتين، فأمر به فارسل.
وعن عبادة بن الصامت أنا معاوية قال لهم: يا معشر الأنصار، مالكم لم تلقوني مع إخوانكم من قريش؟ قال عبادة: الحاجة. قال: هلاّ على النواضح. قال: أنضيناها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر، فما أجابه. قال: وقال لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنها ستكون أثَرَه بعدي. قال معاوية: فما أمَرَكُمْ؟ قال: أمرنا أن نصبر. قال: فاصبروا حتى تَلْقَوه.
وعن عبادة بن الوليد عن أبيه قال: لقد أهديت لعبادة بن الصامت هدية وإن معه في الدار اثني عشر أهل بيت، فقال عبادة: اذهبوا بهذه إلى آل فلان فهم أحوج إلهيا منا. قال: فما زالوا كلما جئت إلى أهل بيت يقولون: اذهبوا إلى آل فلان، هم أحوج إليه منا، حتى رجعت الهدية إليه قبل الصبح.
حدِّث عثمان بن أبي العاتكة أن عبادة بن الصامت مَرَّ بقرية يقال لها دُمَّر، من قرى الغوطة، فأمر غلامه أن يقطع له سواكاً من صفصاف على نهر بردى، فمضى ليفعل، ثم قال له: ارجع فإنه إلا يكن بثمن، فإنه ييبس فيعود حطباً بثمن.
وعن مالك بن شرحبيل قال: قال: عبادة بن الصامت: ألا تروني لا أقوم إلا رِفداً، ولا آكل إلا ما لوِّق لي، وقد مات صاحبي منذ زمان يعني: ذكره وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي وأنَّ لي ما تطلع عليه الشمس مخافة أن يأتي الشيطان فيحركه علي، إنه لا سمع له ولا بصر.
قوله: " ما أقوم إلا رفداً " يريد إلا أن أُرفَد فأُعان على القيام حتى أنهض، وقوله: " إلا ما لُوّق لي " يقول: إلا ما لُيْن من الطعام حتى يصير كالزُّبد في لينه.(11/309)
ولما حضرت عبادة الوفاةُ قال: أخرجوا فراشي إلى الصحن يعني الدار ثم قال: اجمعوا لي مواليّ وخدمي وجيراني، ومن كان يدخل عليّ، فجمعوا له فقال: إن يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم يأتي عليَّ من الدنيا وأول ليلة من الآخرة، وإني لا أدري لعله قد فرط مني إليكم بيدي أو بلساني شيء، وهو والذي نفس عبادة بيده القصاص يوم القيامة. وأحَرِّج على أحد منكم في نفسه شيء من ذلك إلا اقتص مني قبل أن تخرج نفسي، قال: فقالوا: بل كنت والداً وكنت مؤدباً قال: وما قال لخادم سوءاً قط فقال: أغفرتم لي ما كان من ذلك؟ قالوا: نعم، قال: اللهم، اشهد. ثم قال: أما لا فاحفظوا وصيّتي: أخرِّج على أنسان منكم يبكي عليّ، فإذا خرجت نفسي فتوضؤوا وأحسنوا الوضوء، ثم ليدخل كل إنسان منكم مسجداً فيصلي ثم يستغفر لعُبادة ولنفسه فإن الله تبارك وتعالى قال: " استَعِيْنُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاِةٍ " ثم أسرعوا بي إلى حفرتي، ولا تُتبِعُنّي ناراً ولا تضعوا تحتي أرجواناً.
توفي عبادة ببيت المقدس في خلافة عثمان، وقيل: مات بالرملة من أرض الشام سنة أربع وثلاثين، وقيل: توفي في خلافة معاوية بن أبي سفيان بالشام.
وكان رجلاً طُوالاً جسيماً جميلاً.
وقيل توفي سنة خمس وأربعين. وقال رجاء بن أبي سلمة قبر عبادة بن الصامت ببيت المقدس.
عُبادة بن نُسَيّ الكندي الأزديّ
أبو عمر قاضي طبرية
وفد على عمر بن عبد العزيز في خلافته، واجتاز بدمشق.(11/310)
حدث عبادة بن نسي عن عبادة بن الصامت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: الذي يقاتل فيقتل في سبيل الله. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، القتيل في سبيل الله شهيد، والمطعون شهيد، والمبطون شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد، يعني النُّفَساء ".
وحدث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تعلَّموا مناسككم فإنها من دينكم ".
وحدث عبادة بن نسي أنه سمع قيس بن الحارث يقول: أخبرني أبو عبد الله الصُّنابحي انه صلى وراء أبي بكر الصديق المغرب فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين بأم القرآن، وسورتين من قصار المفصل، وقرأ في الركعة الثالثة، قال: فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد أن تمس ثيابه، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية: " رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا.. " حتى " الوَهّابِ ".
قال أبو عبيدة: وأخبرني عبادة أنه كان عند عمر بن عبد العزيز في خلافته فقال عمل لقيس: كيف أخبرتني عن أبي عبد الله؟ قال: فما تركناها منذ سمعناها منه، وإن كنت قبل ذلك لعلي غير ذلك، فقال له رجل: وعلى أي شيء كان أمير المؤمنين قبل ذلك؟ قال: كنت أقرأ " قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ ".
توفي عبادة بن نسي سنة ثمان عشرة ومئة بالشام.(11/311)
عَبَّادة المخنث
قدم دمشق مع المتوكل، وكان ماجناً مضحكاً وهو بفتح العين وتشددي الباء وكان ينادر المتوكل، وله نوادر.
دخل عَبَّادة المخنث على الواثق، وبعضٌ يُضرب، وبعضٌ يُقتل في خلق القرآن، قال: وبعض يُحبس، قال: فقال عبادة: والله إن امتحنني أمير المؤمنين ليقتلني، ولكن أبدؤه أنا، قال: فقلت: أعظم الله أجرك يا سيدي، قال: فقال لي: ويلك فيمن؟ قال: قلت: في القرآن، قال: فقال لي: ويلك والقرآن يموت؟! قال: قلت: نعم، كل مخلوق هو ميت، فإذا مات القرآن في شعبان، من يصلي بالناس في رمضان؟ فقال: أخرجوه، أخرجوه.
وفي أخرى: فإنه مجنون.
قال محمد بن نشيط قال: بلغني أنه كان لرجل على عَبّادة المخنث دين، فكان يتردد إليه كل يوم، فيقال: ليس هو في البيت، فغلّس عليه يوماً في الثلث الأخير، فدقَّ الباب فقيل: ليس هو ها هنا، فصاح الرجل واستغاث بالجيران. فلما اجتمعوا قال: يا معشر الناس، في الدنيا أحد ليس هو في بيته الساعة؟ فأشرف عليه عَبَّادة من طاق له قال: نعم يا بن الفاعلة، هو ذا أنت لست في بيتك الساعة.
قال محمد بن عبد الرحمن بن فهم: تغذينا عند عياش ومعناه عبادة، فلما فرغنا جاء غلام بجام فيه لَوْزينج فقال له عياش: ضعها خلف الخيش، فقال له عبادة: وإيش فيها جُعلت فداك؟ قال: بظر أمك: فأعضني به.(11/312)
قال أبو العيناء: قال المتوكل لعبَّادة: غنني صوتاًن فغناه، فاضطرب فقال: ما هذا؟ قال؛ يا سيدي غناء المخنثين كقراءة اليهود، قال:: وكيف ذاك؟ قال: " يُحَرَّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ".
عبّاد بن الريَّان
أبو طرفة اللخمي الحمصي وفد على هشام بن عبد الملك. قال: وأراه سكن دمشق.
قال أبو ذر:
أول ما دعاني إلى الإسلام أنّا كنّا قوماً عرباً، فأصابتنا السَّنَة، فاحتملت أمي وأخي - وكان اسمه أنيس إلى أصهار لنا بأعلى نجد، فلما حللنا بهم أكرمونا. فلما رأى ذلك رجل من الحي مشى إلى خالي، فقال: تعلم أن أنيسا يخالفك إلى أهلك، قال: " فحز في قلبه وأحبس "، فانصرفت من رعية إبلي فوجدته كئيباً يبكي، قلت: ما بكاؤك يا خال؟ فأعلمني الخبر، فقلت: حجر الله من ذلك، إنا نعاف الفاحشة وإن كان الزمان قد حلّ بنا، ولقد كدر علينا صفو ما ابتدأنا به ولا سبيل إلى اجتماع، فاحتملت أمي وأخي حتى نزلنا بحضرة مكة. فقال أخي: إني مدافع رجلاً على الماء بشِعر، وكان امرأ شاعراً، فقلت: لا تفعل، فخرج به اللجاج حتى دافع دُريد بن الصّمة صِرمته إلى صرمته، وايم الله لدُريد يومئذٍ أشعر من أخي، فتقاضيا إلى خنساء، فقضت لأخي على دريد، وذلك أن دريداً خطبها إلى أبيها، فقالت: شيخ كبير لا حاجة لي فيه، فحقدت ذلك عليه، فضممنا صِرمته إلى صرمتنا، فكانت لنا هجمة قال: ثم أتيت مكة فابتدأت بالصفا، فإذا عليه رجالات قريش، وقد بلغني أن بها صابئاً أو مجنوناً أو(11/313)
شاعراً أو ساحراً فقلت: أين هذا الصابىء الذي تزعمونه؟ قال: ها هو ذاك حيث ترى فانقلبت إليه، فوالله ما جُزت عنهم قيس حَجَرة حتى أكبّوا عليَّ بكلّ عظيم وحجر ومدر، فضرجوني بدمي حتى أتيت البيت فدخلت بين الستور والبناء، فصرمت فيه ثلاثين يوماً، لا آكل ولا أشرب إلاّ من ماء زمزم، حتى إذا كانت ليلة قمراء إضحيان أقبلت امرأتان من خزاعة فطافتان بالبيت في ثم ذكرتا أُساف ونائلة، وهما وثنان كانا يعبدانهما في الجاهلية، قال: فأخرجت رأسي من تحت الستور فقلت: احملا أحدهما على صاحبه فغضبتا ثم قالتا: أما والله لو كان رجالنا حضوراً ما تكلمت بهذا، ثم ولّتا، فخرجت أقفوا آثارهما حتى لقيتا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأ عربياً، فقال: ما أنتما؟ ومن أي أنتما؟ ومن أي جئتما؟ وما جاء بكما؟ فأخبرتاه الخبر، فقال: أين تركتما الصابىء؟ فقالتا: تركناه بين الستور والبناء، فقال لهما: هل قال لكما شيئاً؟ قالتا: نعم، كلمة تملأ الفم، قال: فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم انسلَتا. وأقبلت حتى حيَّيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسلام فقال: من أنت؟ وممن أنت؟ ومن أين جئت؟ وما جاء بك، فأنشأت أعلمه الخبر فقال: من أين كنت تأكل وتشرب؟ فقلت: من ماء زمزم. قال: أما إنه طعام طعم، ومعه أبو بكر فقال: يا رسول الله، ائذن لي أن أعشّيَه؟ قال: نعم، ثم خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشي، وأخذ أبو بكر بيدي حتى وقف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بباب أبي بكر، ثم دخل أبو بكر، ثم أتانا بزبيب من زبيب الطائف، فجعل يلقيه لنا قُبَصاً قُبَصاً، ونحن نأكل حتى تَملأنا، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا أبا ذر فقلت: لبيك، قال: إنه قد رفعت لي أرض وهي ذات نخل ولا أحسبها إلاّ تهامة، فاخرج إلى قومك فادعهم إلى ما دخلت فيه، قال: فخرجت حتى أتيت أمي وأخي فأعلمتهما الخبر فقالا: ما بنا رغبة عن الدين الذي دخلتَ فيه، قال: فخرجت حتى أتيت أمي وأخي فأعلمتهما الخبر فقالا: ما بنا رغبة عن الدين الذي دخلتَ فيه، فأسلما، ثم خرجنا حتى أتينا المدينة، فأعلمت قومي فقالوا: إنا قد صدقناك، ولكنا نلقى محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما قدم علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتيناه فقالت له غفار: يا رسول الله، إن أبا ذر قد أعلمنا ما أعلمته، وقد أسلمنا وشهدنا أنك رسول الله، ثم تقدمت أسْلَمُ خزاعة فقالوا: يا رسول الله، إنا قد رغبنا ودخلنا فيما دخل(11/314)
فيه إخوتنا وحلفاؤنا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أسْلَمُ سالمها الله، وغِفار غفر الله لها. قال: ثم أخذ أبو بكر بيدي، فقال: يا أبا ذر، فقلت: لبيك يا أبا بكر، قال: هل كنت تتأله في جاهليتك؟ قلت: نعم، لقد رأيتني أقوم عند الشمس فما أزال مصلياً حتى يؤذيني حرها، فأخرَّ كأني خِفاء، فقال لي: فأين كنت توجّه؟ قال: قلت: لا أدري إلاّ حيث وجّهني الله حتى أدخل الله عليَّ الإسلام.
قال عبّاد بن الرَّيان اللخمي:
كنت عند هشام فأقبل مكحول، فأمر هشام أن يؤتى بالسيف والنِّطع ليضرب رقبة مكحول، فقام رجل من الناس فقال: ائذن لي يا أمير المؤمنين أن أتكلم، قال: تكلم. قال: إني سمعت مكحولاً يقول: لا أبقاني الله بعد هشام، قال: أنت سمعته؟ قال: نعم، قال: ردّوا السيف والنّطع.
عبّاد بن زياد
المعروف أبوه بزيادة بن أبي سفيان، أبو حرب من البصرة، قدم دمشق غير مرة، وشهد وقعة مرج راهط من مروان بن الحكم.
روى ابن شهاب عن عبّاد بن زياد وهو من ولد المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة أنه ذهب مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحاجته في غزوة تبوك. قال المغيرة: فذهبت معه بماء، فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسكبت عليه فغسل وجهه، ثم ذهب يُخرج يده من كُمَّيْ جُبَّتهِ، فلم يستطع من ضيق كُمّيْ جُبَّته، فأخرجها من تحت جبته، فغسل يديه ومسح برأسه، ومسح على الخفين، فجاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعبد الرحمن بن عوف يؤمهم، وقد صلّى لهم ركعة، فصلّى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم الركعة التي بقيت عليهم، ففزع الناس، فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أحسنتم.(11/315)
قال مصعب: أخطأ مالك في قوله: وهو من ولد المغيرة. قال: وصوابه: عباد بن زياد عن رجل من ولد المغيرة، وهو عروة. والله أعلم.
وزاد في حديث آخر: ثم قال: أحسنتم وقد أصبتم، يغبطهم أن صلّوا الصلاة لوقتها.
وصرَّح في حديث آخر: فوجد عبد الرحمن بن عوف قد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر.
وحدّث عباد بن زياد عن عروة بن المغيرة عن المغيرة بن شعبة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسح على الخفين.
توفي زياد بالكوفة سنة ثلاث وخمسين. مات عباد سنة مئة، وقيل: إنه مات بجرود من عمل دمشق.
العباس بن أحمد بن محمد
ابن عبد الله بن ربيعة، أبو الفضل السُّلمي المعروف بابن الصَّباغ حدّث عن أبي موسى عمران بن موسى الطَّرسوسي بسنده عن مجاهد قال: لا تقولوا رمضان، ولكن قولوا شهر رمضان. لعله اسمٌ من أسماء الله عزّ وجلّ.
ونسب العباس هذا الخبر إلى جده فقال: أبو الفضل العباس بن محمد بن عبد الله.
توفي العباس بن الصباغ سنة ستة ست وعشرين وثلاث مئة.(11/316)
العباس بن أحمد بن محمد
ابن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب المعروف بالشافعي حدّث سنة سبعين وثلاث مئة عن مكحول بسنده عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كلُ عمل منقطع عن صاحبه إلاّ المرابط في سبيل الله، فإنه يجري عليه عمله، ويجري عليه رزقه إلى يوم الحساب ".
وحدّث عن عثمان بن عبد الله بن عفان الجرجرائي المعروف بالغسُولي بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا نكاح إلاّ بوليّ، والسلاطن ولي من لاولي له ".
توفي سنة ثلاث وسبعين وثلاث مئة. وكان زاهداً فاضلاً.
العباس بن أحمد الشامي
سمع بدمشق.
وحدّي عن عبد الوهاب بن الضحاك بسنده عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يُسَلِّم الصغير على الكبير، ويُسلِّم الواحد على الاثنين، ويسلِّم القليل على الكثير ويسلِّم الراكب على الماشي، ويسلِّم المارّ على القائم، ويسلِّم على القاعد ".
العباس بن بكير الخياط الصيداوي
حدّث بصيدا عن محمد بن عبد الله الخراساني سنة ثلاث وعشرين وأربع مئة بسنده عن أنس قال: سُئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله، هل يثقل العرش على حَمَلَتِه؟ قال: نعم، والذي(11/317)
بعثني بالحق إنه ليثقل على حملته، قالوا: وفي أي وقت ذاك. قال: إذا قام المشركون إلى شركهم اشتدَّ غضب الله عزّ وجلّ، ويثقل العرش على حملته حتى يتنبه المتنبه من أمتي، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فيسكن غضب الله عزّ وجلّ، ويخف العرشُ على حملته، ويقول حملة العرش: اللهم اغفر لقائلها.
العباس بن حمّاد الأنصاري
سمع بدمشق.
وحدّث عن سليمان ابن بنت شرحبيل عن زيد بن عنترة عن خصيف أنّ كعب الأحبار لما قدم الشام نظر إلى دمشق قال: يا مدينة الزّواني، تكبرت على المدن، والذي نفس كعب بيده ليدخلنها سبعون ألف سيف مسلول، يرفع الله عنهم الرحمة ثلاث ساعات من النهار، ثم يمكث زماناً، فيهدم حائطها، فإذا هُدم حائطها، فإذا هُدم حائطها كان من اقتراب الساعة.
العباس بن حمزة بن عبد الله
ابن أشرس. أبو الفضل النيسابوري الواعظ صاحب لسان وبيان. رحل في طلب الحديث وسمع بدمشق.
حدّث عن عبد الرحيم بن حبيب بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الصلاة في المسجد الحرام مئة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي عشرة آلاف صلاة، والصلاة في مسجد الرباطات ألف صلاة ".
وحدث عن أحمد بن إبراهيم الدروقي بسنده عن ثابت البناني قال: والله لَلْعبادةُ أشدُّ من ثقل الكارات.(11/318)
قال العباس بن حمزة: وإنما ذلك أوّل ما يبتدىء فيها تثقل عليه، فإذا علم الله من عبده صدق النية يهوّن عليه حتى تكون أحلى عنده من السكر، وألذ من الماء البارد في اليوم الشديد الحر.
قال العباس: سمعت ذا النون يقول: عرف المطيعون عظمتك فخضعوا، وسمع المذنبون بجودك فطمعوا.
وعن العباس أنه قال: لو التفتّ طولُ أملي فعايَن قرب أجلي لاستحيا طول أملي من قرب أجلي.
وسأل رجل العباس بن حمزة عن الزهد فقال: ترك ما يشغلك عن الله أخذُه، وأخذُ ما يُبعدُكَ عن الله تركُهُ.
توفي العباس سنة ثمان وثمانين ومئتين.
العباس بن خَرَشَة الكلابي الكوفي
روى عنه أبو حسان أنه قال له بنو عمه أو بنو عمر امرأته: إن امرأته لا تحبّك، فإنْ أحببت أن تعلم ذلك فخيّرها، فقال: بابرزة بنت الحر، اختاري، فقالت: اخترت ولست بخيار، قالت ذلك ثلاث مرات. فقالوا: حرمت عليك. فقال: كذبتم، فأتى علياً فذكر ذلك له فقال: لئن قربتها حتى تنكح زوجاً غيرك لأرضخنك بالحجارة. فلما استخلف معاوية أتاه فقال: إن أبا تراب فرّق بيني وبين امرأتي بكذا وكذا، قال: قد أجزنا قضاءه عليك، أو قال: ما كنا لنردّ قضاءه عليك.(11/319)
العباس بن سالم بن جمَيْل
ابن عمرو بن ثوابة بن الأخنس بن مالك بن النعمان ابن امرىء القيس اللخمي الدمشقي قال العباس بن سالم: بعث عمر بن عبد العزيز إلى أبي سلاّم الحبشي، فحُمل على البريد. فلما قدم على عمر بن عبد العزيز قال: يا أمير المؤمنين، لقد شقَّ عليّ محملي علي البريد، فقال عمر: ما أردنا المشقة بك أردنا المشقة بك يا أبا سلاّم، ولكنه بلغني عنك حديث ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحوض فأحببت أن أشافهك به.
قال أبو سلام: سمعت ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن حوضي من عَدَن إلى عَمَّان البلقاء، ماؤه أشدّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، أكاويبُه عدد نجوم السماء، مَنْ شرب منه شربة لم يظمأ بعده أبداً، أول الناس وروداً عليه فقراءُ المهاجرين، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، من هم؟ قال: الشُّعث رؤوساً، الدُّنْس ثياباً، الذين لا ينكحون الممنّعات ولا يُفتح لهم أبواب السُّدد؟. قال عمر بن عبد العزيز: لا جرم والله لقد فُتحت لي أبواب السُّدد، ونكحت الممنعات: فاطمة بنت عبد الملك، إلا أن يرحمني الله، لا جرم لا أدهن رأسي حتى أشعث، ولا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ.
العباس بن سعيد أبو القاسم
من ساكني بيت لهيا.
حدث ببيت لهيا عن إسماعيل بن عبد الله السكري بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لكل دين خلقاً وخلق هذا الدين الحياء.(11/320)
العباس بن سفيان الخثعمي
كان أميراً على غازية البحر في خلافة بني العباس.
قال الوليد: غزوت قبرس سنة ست وأربعين ومئة مع العباس بن سفيان الخثعمي، فكان أول جيش من المسلمين غزوا في ولاية آل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
العباس بن سهل بن سعد
ابن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة الأنصاري الساعدي المدني وفد على يزيد بن معاوية.
حدث العباس بن سهل عن أبي حميد قال: أقبلنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غزو تبوك، حتى إذا أشرفنا على المدينة قال: هذه طابة، وهذا أحد، وهو جبل يحبنا ونحبه.
وعن عباس بن سهل الساعدي
أنه كان في مجلس فيه أبوه، وكان من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المجلس أبو هريرة وأبو أسيد وأبو حميد الساعدي من الأنصار، وأنهم تذاكروا الصلاة فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: كيف؟ قال: اتبعت ذلك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: فأرنا، قال: فقام فصلى وهم ينظرون، فبدأ فكبر فرفع يديه نحو المنكبين، ثم كبر للركوع فرفع يديه، ثم أمكن يديه من ركبتيه غير مقنع رأسه ولا مصوّبة ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد ورفع يديه، وزاد غيره(11/321)
في حديث آخر قال: ثم قال: الله أكبر فسجد فانتصب على كفيه وركبتيه وصدور قدميه وهو ساجد، ثم كبر فجلس وتورك إحدى يعني رجليه، ونصب قدمه الأخرى، ثم كبر فسجد، ثم كبر فقام ولم يتورك، ثم عاد فركع الركعة الأخرى، يكبر كذلك، ثم جلس بعد الركعتين حتى إذا هو أراد أن ينهض للقيام فكبر، ثم ركع الركعتين الأخريين. فلما سلّم سلّم عن يمينه، سلام عليكم ورحمة الله، وسلّم عن شماله أيضاً سلام عليكم ورحمة الله.
وزاد في رواية أخرى: في كل موضع حتى يرجع كل عضو في موضعه، يعني في الاعتدال والجلوس من السجود.
استؤمن لعباس بن سهل بن سعد الساعدي، فأبى مسلم أن يُؤمِنه فأتوْه به، ودعا بالغداء فقال له عباس صلى الله الامين والله لكأنها جفنة ابيك كان يخرج عليه مِطْرف خزّ حتى بِفنائه، ثم توضع جفنته بين يدي من حضر، قال - وقد رأيته قال أشد ما قال - صدقت كان كذلك كان كذلك، أنت آمن، فقيل للعباس: كان أبوه كما قلت؟ قال: لا والله، ولقد رأيته في عباءة يجرها على الشوك ما نخاف على ركابنا ومتاعنا أن يسرقه غيره.
قال قدامة بن إبراهيم: رأيت الحجاج يضرب عباس بن سهل في أمر ابن الزبير، فأتاه سهل بن سعد وهو شيخ كبير، له ضفيرتان وعليه ثوبان إزار ورداء فوقف بين السماطين فقال: يا حجاج، ألا تحفظ فينا وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: وما وصى به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكم؟ قال: وصّى أن يُحسن إلى مُحسن الأنصار ويعفى عن مسيئهم، قال: فأرسله.
توفي العباس بن سهل في ولاية الوليد.(11/322)
العباس بن عبد الله بن أحمد
ابن عصام ويقال: العباس بن أحمد بن عبد الله، أبو الفضل - ويقال: أبو القاسم المزني المري البغدادي الفقيه الشافعي رحَّال.
حدث عن القاسم بن جعفر العلوي بسنده عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا صليتم الصبح فافرغوا إلى الدعاء، وباكروا في طلب الحوائج، اللهم بارك لأمتي في بكورتها "
العباس بن عبد الله
ابن أبي عيسى ازداذ بنداذ. أبو محمد التَّرْقُفي الباكُسائي سمع بدمشق وغيرها.
حدث عن زيد بن يحيى الدمشقي بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه " وحدث عن حفص بن عمر بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وددت أن " تَبَرَكَ الَّذِيْ بِيَدِهِ الْمُلْكُ " في قلب كل مؤمن " قال العباس بن عبد الله الترقفي سمعت شيخاً يكنى أبا عمرو يقال له كَبَاث بن مصعب قال: قيل لأعرابي: لم لا تزوج؟ قال: إني وجدت مداراة العفة أيسر من الاحتيال لمصلحة النساء.
توفي الترقفي سنة سبع وخمسين. قالوا: وهذا القول خطأ، والصحيح أنه توفي سنة سبع وستين ومئتين، وقيل: سنة ثمان وستين.(11/323)
العباس بن عبد الرحمن بن الوليد
ابن نَجِيع أبو الحارث القرشي حدث عن بكر بن عبد العزيز بن إسماعيل بن عبد الله بسنده عن أبي الدرداء قال:
أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا جماعة من العرب يتفاخرون، قال: فأذن لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدخلت، فقال لي: يا أبا الدرداء، ما هذا اللجب الذي أسمع! قال: قلت: هذه العرب تفتخر بفناء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فقال: يا أبا الدرداء، إذا فاخرت ففاخر بقريش، وإذا كاثرت فكاثر بتميم، وإذا حاربت فحارب بقيس، ألا وإن وجوهها كنانة، ولسانها أسد، يا أبا الدرداء، إن لله فرساناً في سمائه يقاتل بهم أعداءه، وهم الملائكة، وفرساناً في أرضه وهم قيس يقاتل بهم أعداءه، يا أبا الدرداء، إن آخر من يقاتل عن الدين حين لا يبقى إلا ذكره، ومن القرآن إلا رسمه رجل من قيس. قلت: يا رسول الله، ممن هو من قيس؟ قال: من سليم.
قال: هذا غريب جداً.
العباس بن عبد المطلب
أبو الفضل القرشي الهاشمي عم سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل: إنه أسلم قبل الهجرة، وكتم إسلامه إلى أن اسر ببدر فأظهر إسلامه. قدم الشام مع عمر بن الخطاب.
حدث العباس قال: قلت: يا رسول الله، إن أبا طالب كان يحفظك وينصرك فهل ينفعه ذلك؟ قال: نعم، وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح.(11/324)
وحدث العباس أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه، وكفاه، وركبتاه، وقدماه.
ولما دنا عمر من الشام وأخذ طريق أيلة تنحى معه غلامه. فلما أراد الركوب عمد إلى مركب غلامه وإن عليه لفرواً مقلوباً، فركب وحوَّل غلامه على رحل نفسه، وهو على جمل أحمر، وعمر يومئذ متزر بإزار، ومرتد بعمامة على حقبيه، تحته فرو، وإن العباس لبين يديه على عتيق يتقدى به وكان رجلاً جميلاً، فجعلت البطارقة يسلمون عليه ويشير أني لست به، وأنه ذاك، فيسلمون عليه ويرجعون معه حتى انتهى إلى أيلة والجابية، وتوافى إليه بها المسلمون وأهل الذمة.
قالوا: وركب عمر من الجابية يريد الأردن، وقد توافى إليه الناس، ووقف له المسلمون وأهل الذمة، فخرج عليهم على حمار، وأمامه العباس على فرس. فلما رآه أهل الكتاب سجدوا له، فقال: لا تسجدوا للبشر واسجدوا لله، ومضى في مسيره، وقال القسيسون والرهبان: ما رأينا أحداً قط أشبه بما يوصف من الحواريين من هذا الرجل. ثم دخل الأردن على بعيره.
وولد عبد المطلب بن هاشم اثني عشر رجلاً وست نسوة، منهم العباس، وكان شريفاً عاقلاً مهيباً. وضراراً، وكان من فتيان قريش جمالاً وسخاء، ومات أيام أوحي إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عقب له. وقُثم بن عبد المطلب لا عقب له. وأمهم نتيلة بنت جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد مناة بن عامر، وهو الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط.(11/325)
قيل: إنه شهد بدراً كرهاً، وأنه اسلم بعد انصرافه إلى مكة، وهو وكَّد البيعة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة.
ولد العباس قبل الفيل بثلاث سنين، وكان أبيض جميلاً بضاً، له ضفيرتان معتدل القامة.
وفي موضع آخر: كان معتدل القناة، يعني طويلاً حسن الانتصاب ليس فيه جنأ.
سئل العباس: أن أكبر أو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكبر منّي وولدته قلبه.
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس: يا عماه، أنت أكبر مني وولدت قبله.
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس: يا عماه، أنت أكبر مني، قال العباس: أنا أسنّ ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكبر.
قال ابن سلام:
لما أمعر أبو طالب قالت بنو هاشم: دعنا فليأخذ كل رجل منا رجلاً من ولدك. قال: اصنعوا ما أحببتم إلى خليتم لي عقيلاً، فأخذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليّاً، فكان أول من أسلم ممن تلفت عليه حيطانه من الرجال، ثم أسامة بن زيد، فكان أو طالب يدّان لسقاية الحاج حتى أعوزه ذلك، فقال لأخيه العباس بن عبد المطلب وكان أكثر بني هاشم مالاً في الجاهلية -: يا أخي، قد رأيت ما دخل عليّ، وقد حضر الموسم ولا بدّ لهذه السقاية من أن تقام للحاج، فأسلفني عشرة آلاف درهم، فأسلفه العباس إياها، فأقام أبو طالب تلك السنة بها وبما احتال. فلما كانت السنة الثانية وأَفِدَ الموسم قال لأخيه العباس: يا أخي، إن الموسم قد حضر ولابدّ للسقاية من أن تقام، فأسلفني أربعة عشر ألف درهم فقال: إني قد أسلفتك عام أول عشرة آلاف درهم ورجوت ألاّ يأتي عليك هذا الموسم حتى تؤديها(11/326)
فعجزت عنها، وأنت تطلب العام أكثر منها وترجو زعمت ألا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها، فأنت عنها أعجز اليوم، ههنا أمر لك فيه فرج: أدفع إليك هذه الأربعة عشر ألف درهم، فإن جاء موسم قابل ولم توفني حقي الأول، وهذا فولاية السقاية إلي فأقوم بها وأكفيك هذه المؤنة إذا عجزت عنها، فأنعم له أبو طالب بذلك، فقال: ليحضر هذا الأمر بنو فاطمة ولا أريد سائر بني هاشم، ففعل أبو طالب وأعاره العباس الأربعة عشر الألف درهم بمحضر منهم ورضى. فلما كان الموسم العام المقبل، ولم يكن بدّ من إقامة السقاية، فقال العباس لأبي طالب: قد أفِد الحج وليس لدفع حقي إليّ وجه وأنت لا تقدر أن تقيم السقاية فدعني وولايتها أكِفكها وأبرئك من حقي، ففعل، فكان العباس بن عبد المطلب يليها وأبو طالب حيّ ثم تمّ ذلك لهم إلى اليوم.
قال معروف بن خربوذ: انتهى الشرف من قريش من الجاهلية إلى عشرة نفر من عشرة بطون، فأدركهم الإسلام فوصل ذلك لهم من بني هاشم: العباس بن عبد المطلب، كان قد سقى في الجاهلية الحجيج فبقي ذلك له في الإسلام. قال: وكانت سقاية الحاج في الجاهلية وعمارة المسجد الحرام وحلول الثغر في بني هاشم. فأما حلول الثغر فإن قريشاً لم تكن تملك عليها في الجاهلية أحداً، فإذا كانت الحرب أقرعوا بين أهل الرئاسة، فإذا حضرت الحرب أجلسوه، لا يبالون صغيراً أو كبيراً، أجلسوه تيمناً به. فلما كان أيام الفجار أقرعوا بين بني هاشم فخرج سهم العباس وهو غلام فأجلسوه على ترسٍ.
وقال العباس بن عبد المطلب في دم عمرو بن علقمة بن عبد المطلب بن عبد مناف يحرض أبا طالب بن عبد المطلب على الطلب به: " الطويل "
أبا طالبٍ لا تقبلِ النصْف منهُمُ ... وإنْ أنصفوا حتّى تعقّ وتظلِما
أبى قوما أن ينصفونا فأنصفت ... قواطعُ في أيماننا تقطر الدما(11/327)
إذا خالطتْ هام الرجال رأيتها ... كبَيْض نعامٍ في الوغى قد تحطما
وزعناهُمُ وزع الحوامس غُدوة ... بكل يماني إذا عض صمّما
وزعناهُمُ وزع الحوامس غُدوة ... بكل يماني إذا عض صمّما
تركناهُمُ لا يستحلون بعدها ... لِذي رحمٍ يوماً من الناس مَحْرَما
قال الزبير: ويقال: كان للعباس بن عبد المطلب ثوب لعاري بن هاشم وجفنة لجائعهم ومِقْطَرة لجاهلهم، وفي ذلك يقول إبراهيم بن علي بن هرمة: " الطويل "
وكانت لعباس ثلاثٌ يعدّه ... إذا ما جنابُ الحيّ أصبح أشْهَبا
فسلسلةٌ تنهى الظلوم وجفنةٌ ... تباحُ فيكسوها السَّنام الْمُزَغَّبا
وحُلَّةٌ عَصبٍ ما تزال معُدَّةً ... لعارٍ ضريكٍ ثوبُه قد تهبَّبا
وكان يمنع الجار، ويبذل المال، ويعطي في النوائب، وكان نديمه في الجاهلية أبو سفيان بن حرب.
عن عمرو بن عثمان أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أمتي أمة مباركة، لا يدري أولها خير أو آخرها ".
فأسلم العباس ليلة الغار، وأسلم عمر بعد أربع سنين من مبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن ابن عباس قال:
أسلم العباس بمكة قبل بدر، وأسلمت أم الفضل معه حينئذٍ، وكان مثقامه بمكة، إنه كان لا يغبّي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة خبراً يكون إلاّ كتب به إليه، وكان مَنْ هناك من المؤمنين يتقوون به ويصيرون إليه، وكان لهم عوناً على إسلامهم، ولقد كان يطلب أن(11/328)
يقدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكتب إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن مقامك مجاهد حسن، فأقام بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن عبد الله بن الحارث بن نوفل أن قريشاً لما نفروا إلى بدر فكانوا بمرّ الظهران بعث أبو جهل من يومه فقال: يا معشر قريش، ألا تبّاً لرأيكم، ماذا صنعتم، خلّفتم بني هاشم وراءكم، فإن ظفر بكم محمد كانوا من ذلك بنجوة، وإن ظفرتم بمحمد أخذوا ثأرهم منكم من قريب من أولادكم وأهليكم، وفلا تذروهم في بَيْضَتِكم ونسائكم ولكن أخرجوهم معكم، وإن لم يكن عندهم غَناء، فرجعوا إليهم فأخرجوا العباس بن عبد المطلب ونوفلاً وطالباً وعقيلاً كُرهاً.
قال: هكذا ذكر ابن سعد، والصحيح أن العباس أسلم بعد بدر.
قال أبو اليسر: نظرت إلى العباس بن عبد المطلب يوم بدر وهو قائم كأنه صنم وعيناه تذرفان. فلما نظرت إليه قلت: جزاك الله من ذي رحم شرّاً، أتقاتل ابن أخيك مع عدوه! قال: ما فعل؟ وهل أصابه القتل؟ قلت: الله أعزُّ له وأنصر من ذلك، قال: ما تريد إليَّ؟ قلت: إسار، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن قتلك، قال: ليست بأول صلته، فأسرته ثم جئت به إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابن عباس: وكان الذي أسر العباس بن عبد المطلب أن اليسر بن عمرو وهو كعب بن عمرو أحد بني سلمة، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف أسرته يا أبا اليسر؟ قال: لقد أعانني عليه رجل ما رأيته بعد ولا قبل، هيئته كذا، وهيئته كذا، قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد أعانك عليه مَلَك كريم.
وعن ابن عباس قال: فبعثت قريش إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما(11/329)
تراضوا، وقال العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن قد كنت مسلماً فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الله أعلم بإسلامك، فإن يك كما تقول فالله يجزيك بذلك، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فأفد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، وحليفك عتبة بن عمرو بن جَحْدم أخو بني الحارث بن فهر، قال: ماذاك عندي يا رسول الله. قال: فأين المال الذي دفنت أنت وأم الفضل فقلت لها: إن أصبتُ في سفري هذا فهذا المال لبنيّ: الفضل وعبد الله وقُثَم؟ فقال: والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل، فاسحب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذاك شيء أعطاناه الله منك، ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه. وأنزل الله عزّ وجلّ فيه: (يا أَيُّها النَّبيّ قُلْ لِمَنْ في أيديكُمُ مِن الأَسرى إنْ يَعْلَمِ اللهُ في قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فأعطاني الله تعالى مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً، كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجوا من مغفرة الله تعالى.
قال ابن إسحاق: وكان أكثر الأسارى يوم بدر فداء العباس بن عبد المطلب، وذلك لأنه كان رجلاً موسراً فافتدى نفسه بمئة أوقية من ذهب.
قال يحيى بن أبي كثير: لما كان يوم بدر أسر المسلمون من المشركين سبعين رجلاً، فكان ممن أسى عباس عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فولي وَثاقة عمر بن الخطاب فقال عباس: أما والله يا عمر ما يحملك على شدة وثاقي إلا لطمتي إياك في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عمر: والله ما زادتك تلك عليَّ إلاّ كرامة، ولكن الله أمرنا بشدّ الوثاق، قال: فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع أنين العباس فلا يأتيه النوم، فقالوا: يا رسول الله، ما يمنعك من النوم؟ فقال: كيف أنام وأنا أسمع أنين عمي؟! قال: فزعموا أن الأنصار أطلقوه من وثاقه وباتت تحرسه.(11/330)
وفي حديث مجاهد
أن العباس أسره رجل من الأنصار وأوعدوه أن يقتلوه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني لم أنم الليلة من أجل العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه، فقال عمر: آتيهم يا رسول الله؟ فأتى الأنصار فقال: أرسلوا العباس، قالوا: إن كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضاً فخذه.
وعن ابن عباس قال: أقبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين فرغ من بدر، قال: عليك العير ليس دونها شيء. قال: فناداه العباس وهو أسير: لا يصلح ذلك، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لمه؟ قال: لأن الله عزّ وجلّ وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك.
وعن أنس بن مالك قال: قالت الأنصار: ذرنا يا رسول الله نترك لابن أخينا العباس فداءه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تذرون له درهماً واحداً.
وعن ابن عباس قال: قال العباس: فيّ نزلت: " مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يكونَ لهُ أسرَى حتَّى يُثْخِنَ في الأَرْضِ "، فأخبرت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسلامي وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي أخذ مني، فأبى عليَّ، فأبدلني الله بالعشرين أوقية عشرين عبداً، كلهم تاجرٌ، مالي في يده.
وعن الهيثم بن معاوية قال: للعباس بن عبد المطلب عِدَةٌ في كتاب الله عزّ وجلّ ليس لغيره، وعده الله عزّ وجلّ إياها فهي تقرأ إلى يوم القيامة تكون له ولولده من بعده، قال الله عزّ وجلّ في(11/331)
كتابه: " إنْ يَعْلَمِ اللهُ في قُلُبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ " فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس: وفيْت فوفى الله لك. وذلك أن الإيمان كان في قلبه.
وعن حميد بن هلال قال: بعث ابن الحضرمي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من البحرين بثمانين ألفاً، ما أتاه مال أكثر منه لا قبل ولا بعد قال: فنثرت على حصير ونودي بالصلاة، قال: وجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمثل قائماً على المال، قال: وجاء أهل المسجد، قال: فما كان يومئذٍ عدد ولا وزن ما كان إلا قبضاً، قال: فجاء العباس بن عبد المطلب فحثى في خميصة عليه، فذهب يقوم فلم يستطع، قال: فرفع رأسه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ارفع عليّ، فتبسمّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى خرج ضاحكه أو نابه فقال له: أعد في المال طائفة، وقم بما تطيق، قال: أفعل، قال: فجعل العباس يقول وهو منطلق: أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزنا، وما ندري ما يصنع في الأخرى: " يا أَيُّها النَّبيّ قُلْ لِمَنْ في أيديكُمُ مِن الأَسرى إنْ يَعْلَمِ اللهُ في قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ "، قال: فهذا خير ما أخذ مني، ولا أدري ما يصنع الله في الآخرة، فما زال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماثلاً على ذلك المال حتى ما بقي منه درهم وما بعث إلى أهله بدرهم، قال: ثم أتى الصلاة فصلى.
قال أبو رافع: بشرت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسلام العباس فأعتقني.
وعن سهل بن سعد قال: لما قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بدر أستأذنه العباس أن يأذن له أن يرجع إلى مكة حتى يهاجر منها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطمئن يا عم، فإنك خاتم المهاجرين في الهجرة، كما أنا خاتم النبيين في النبوة.(11/332)
قال ابن عباس: أسلم كل من شهد بدراً مع المشركين من بني هاشم، فادى العباس نفسه وابن أخيه عقيلاً، ثم رجعوا جميعاً إلى مكة، ثم أقبلوا إلى المدينة مهاجرين.
وعن العباس بن عبد المطلب قال:
لما كان يوم فتح مكة ركبت بغلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقدمت إلى قريش وفي رواية: إلى مكة لأردهم عن حرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففقدني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأل عني فقالوا: تقدم إلى مكة ليرد قريشاً عن حربك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ردّوا عليّ أبي، ردّوا عليّ أبي، لا تقتله قريش كما قتلت ثقيف عروة بن مسعود، قال: فخرجت فوارس من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يلقوني فردّوني معهم. فلما رآني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهش واعتنقني باكياً، فقلت: يا رسول الله، إني ذهبت لأنصرك، فقال: نصرك الله، اللهم انصر العباس وولد العباس. قالها ثلاثاً. ثم قال: يا عمّ، أما علمت أن المهدي من ولدك موفقاً راضياً مرضياً؟ وعن عبادة بن الصامت: قال: أخذ العباس بعنان دابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين حين أنهزم المسلمون فلم يزل آخذاً بعنان دابته، حتى نصر الله رسوله وهزم المشركين.
وعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قال: دخل العباس على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغضباً، فقال له: ما يغضبك؟ قال: يا رسول الله، ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك، فغضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى احمرّ وجهه، وحتى استدرّ عرق بين عينيه، وكان إذا غضب استدرّ. فلما سُرّي عنه قال: والذي نفسي بيده أو نفس محمد بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله عزّ وجلّ ولرسوله، ثم قال: أيها الناس، من آذى العباس فقد آذاني، وإنما عمّ الرجل صنو أبيه.(11/333)
وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احفظوني في العباس، فإنه بقية آبائي، وإن عمّ الرجل صِنْو أبيه.
وعن العباس بن عبد المطلب أنه جلس إلى قوم فقطعوا حديثهم، فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما بال أقوام إذا جلس إليهم أحد من هل بيتي قطعوا حديثهم، والذي نفسي بيده لا يدخل قلب امرىء الإيمان حتى يحبهم لله ولقرابتهم مني.
وعن ابن عباس أن رجلاً شتم أباً للعباس في الجاهلية، فلطمه العباس، فأخذ قوم هذا السلاح، وأخذ قوم هذا السلاح، قال: فغضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء فصعد المنبر فقال: من أنا؟ قالوا: أنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فإن عمّ الرجل صنو أبيه، لا تسبّوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا، فقالوا: نعوذ بالله من غضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي حديث بمعناه: فصعد المنبر فقال: يا أيها الناس، أيُّ الناس تعلمون أكرم على الله عزّ وجلّ؟ قالوا: أنت. قال: فإن العباس مني وأنا منه، لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا.
وزاد في آخر: فقالوا: يا رسول الله: نعوذ بالله من غضبك فاستغفر لنا، أحسبه قال: فاستغفر لهم.
وفي حديث بمعناه: " مَنْ سبّ العباس فقد سبَّني ".
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يغسلني العبّاس فإنه والد، والوالد لا ينظر إلى عورة ولدِه ".(11/334)
وعن سهل بن سعد الساعدي قال: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر، فسما لحاجة له، فلحقه العباس بكساء فستره، قال فقال له: يا عباس، سترك الله من النار، وستر ولدك من النار.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس بن عبد المطلب: إذا كان غداة الاثنين فائتني أنت وولدك، فغدا وغدونا معه فألبسنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كساء له وقال: اللهم، اغفر للعباس ولولده مغفرة ظاهرة باطنة لا تغادر ذنباً، اللهم، اخلفه في ولده. وعن أبي أسيد الأنصاري الخزروجي البدري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للعباس بن عبد المطلب: يا أبا الفضل، لا تَرِمْ منزلك غداً أنت وبنوك، فإن لي فيكم حاجة، فانتظروه فجاء فقال: السلام عليكم، قالوا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، قال: كيف أصبحتم؟ قالوا: بخير نحمد الله، كيف أصبحت أنت يا رسول الله، قال: بخير أحمد الله، فقال: تقاربوا ليزحف بعضكم إلى بعض، ثلاثاً. فلما أمكنوه اشتمل عليهم بملاءته، وقال: هذا العباس عمي وصنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي، اللهم، استرهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه، قال: فَأمَّنّتْ اُسْكُفّه الباب وحوائط البيت. آمين آمين، ثلاثًا.
وعن أبي هريرة قال:
بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر بن الخطاب ساعياً على الصدقة، فمنع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس بن عبد المطلب، فقال رسول الله صلى اللهعليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، إن خالداً قد احتبس أدْراعه وأعواده في سبيل الله، وأما العباس عمّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي عليّ ومثلها معها. ثم قال: أما شعرت أن عمّ الرجل صنو أبيه؟ وفي حديث آخر مطول بمعناه: فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عمر، أكرمه أكرمك الله، أما علمت أن عمّ الرجل صنو أبيه؟ لا تكلم العباس فإنا قد تعجلنا منه صدقة سنتين.(11/335)
وعن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " العباس بن عبد المطلب عمي وصنو أبي، فمن شاء فليباه بعمه ".
وعن عبد الله بن مسعود قال: " رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتشل يد العباس بن عبد المطلب وقال: " هذا عمي وصنو أبي وسيد عمومتي من العرب، وهو معي في السناء الأعلى من الجنة ".
ومن حديث: " من آذى العباس فقد آذاني، إنما عمّ الرجل صنو أبيه ".
وعن قيس بن عاصم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " العباس عمي وصنو أبي وبقية آبائي، اللهم، اغفر له ذنبه وتقبل منه أحسن ما عمل، وتجاوز عنه سيء ما عمل، وأصلح له في ذريته ".
وعن ابن عباس قال: جاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعود العباس فأخذ بيده العباس حتى صعد إليه على السرير فأقعده في مجلسه فقال: رفعك الله يا عم.
وعن أبي هريرة قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس بن عبد المطلب: " اللهم، اغفر للعباس وولد العباس ولمحبي ولد العباس وشيعتهم ".
قال أبو هريرة: ثم رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ضرب بيديه على منكب العباس فقال: يا رب، هذا عمي وصنو أبي، اللهم، لا تفجعني به كما فجعتني بعمي حمزة يوم أحد، وكان أمرك يا رب قَدراً مقدوراً، ثم رأيت عينيه تذرفان بالدموع.
قال أبو هريرة: ثم رأيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رفع يديه وهو يدعو ويقول: " اللهم، اغفر للعباس ما أسرّ وما أعلن، وما أبدى وما أخفى، وما كان وما يكون منه ومن ذريته إلى يوم القيامة ".(11/336)
قال أبو هريرة: وكان في المجلس عبد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر وعقيل وعلي وفاطمة والحسن والحسين. فقال: هؤلاء أهلي، اللهم، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
وعن الأعمش قال: بني العباس بن عبد المطلب داره التي كانت إلى المسجد فجعل يرتجز ويقول:
بنيتها باللّبن والحجاره ... والخشبات فوقها مطاره
يا رب باركن في أهل الداره فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم، باركن في أهل الداره ".
قال: وجعل العباس ميزابها لاصقاً بباب المسجد يصب عليه، فطرحه عمر بن الخطاب فقال العباس: أما والله ما شده إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنه لعلى منكبي، فقال عمر: لا جرم والله لا تشده إلا وأنت على منكبيّ، فشده على منكبي عمر.
وعن عبد الله بن العباس قال: قال لي العباس: جئت أنا وعلي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما رآنا قال: " بخٍ لكما، أنا سيد ولد آدم، وأنتم سيدا العرب ".
وعن ابن عباس قال: أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرين والأنصار أن يصفّوا صفين، ثم أخذ بيد علي وبيد عباس، ثم مشى بينهم، ثم ضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال له علي: ممّ ضحكت يا رسول الله؟ قال: أن جبريل أخبرني أن الله تعالى باهى بالمهاجرين والأنصار أهل السموات السبع، وباهى بك يا علي وبك يا عباس حملة العرش.
وعن علي بن أبي طالب قال: لما فتح الله على نبيّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة صلى بالناس الفجر من صبيحة ذلك، فضحك حتى بدت نواجذه، فقالوا: يا رسول الله، ما رأيناك ضحكت مثل هذه الضحكة، فقال: "(11/337)
وما لي لا أضحك وهذا جبريل عليه السلام يخبرني عن الله عز وجل أن الله باهى بي وبعمي العباس وبأخي علي بن أبي طالب سكان الهواء وحملة العرش وأرواح النبيين وملائكة ست سماوات، وباهى بأمتي أهل سماء الدنيا ".
وعن سعد بن أبي وقاص قال:
خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجهز بعثاً بسوق الخيل وهو اليوم موضع سوق النخاسين فطلع العباس بن عبد المطلب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هذا العباس عم نبيكم أجود قريش وأوصلها ".
وفي حديث: " أجود قريش كفاً وأوصلها لها ".
وعن ابن عمر أنه قال: استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم، إن هذا عمّ نبيك نتوجه به إليك، فاسقنا، فما برحوا حتى سقاهم الله، فخطب عمر الناس فقال: يا أيها الناس، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده فيعظمه ويفخمه ويَبَرّ قسمه ولا تناله يمينه، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عمه العباس، واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكرم أحداً إكرامه العباس.
وعنها قالت: ما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجِلّ أحداً ما يُجِلّ العباس.
وعن عائشة رضوان الله عليها أنها قالت لعروة: يا بن أختي، لقد رأيت من تعظيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العباس أمراً عجيباً: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت تأخذه الخاصرة، فتشتد به جداً، قالت: فكنا نقول: أخذ(11/338)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرق الكلية ولا نهتدي للخاصرة، قالت: فاشتد به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جداً حتى أغمي عليه، ففزع الناس إليه، قالت: فظننا أن به ذات الجنب فلددناه، قالت: ثم سُرّي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعرف أن قد لددناه، ووجد أثر اللدود فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أظننتم أن الله عز وجل سلطها عليّ، ما كان الله ليسلطها علي، والذي نفسي بيده لايبقى أحد في البيت إلا لُدّ، إلا عمي، قالت عائشة: فلقد رأيتهم يلدون رجلاً رجلاً، قالت: ومن في البيت يومئذ يذكر فضلهم، قالت: فلُدّ الرجال أجمعون، قالت: ثم بلَغَنا والله اللدود أزواجَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: فلددنا والله امرأة امرأة، قالت: حى بلغ اللدود امرأة منا، قالت: إني والله صائمة، قلنا لها: بئس ما تحسبين أن تتركين وقد أقسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلددناها والله يا بن أختي وإنها لصائمة.
وفي حديث آخر عن العباس بن عبد المطلب قال: دخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده نساء فيهن أسماء، وهي تدق سعطة لها فقال: " لا يبقى في البيت أحد شهد اللد إلا لُدّ، وإني قد أقسمت أن يميني لم تصب العباس ".
قال أنس بن مالك قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أشد الناس لطفاً بالعباس.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالساً مع أصحابه وبجنبه أبو بكر وعمر، فاقبل العباس عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأوسع له أبو بكر فجلس بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين أبي بكر، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر: " إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل "، قال: ثم أقبل العباس على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدثه فخفض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوته شديداً فقال أبو بكر لعمر: قد حدث برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الساعة علة قد شغلت قلبي، قال: فما زال العباس عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى فرغ من حاجته وانصرف، فقال أبو بكر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله، حديث بكل علةٌ الساعة "؟ قال: لا. قال: فإني قد رأيتك قد خفضت صوتك شديداً،(11/339)
قال: إن جبريل أمرني إذا حضر العباس أن أخفض صوتي، كما أُمرتم أن تخفضوا أصواتكم عندي.
قال أبو رِشْدين كريب مولى ابن عباس: إن كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليجلّ العباس إجلال الولدِ والده، خاصة خص الله عزّ وجلّ العباس من بين الناس، وما ينبغي للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجل أحداً إلا والداً أو عماً.
وعن عروة قال: أخذ العباس بن عبد المطلب بيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العقبة حين وافاه السبعون من الأنصار، فأخذ لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم واشترط له، وذلك والله في غرّة الإسلام وأوله من قبل أن يعبد الله أحد علانية.
وعن محمد بن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً وهو في مجلس بالمدينة وهو يذكر ليلة العقبة فقال: " أيّدتُ تلك الليل بعمي العباس، وكان يأخذ على القوم ويعطيهم ".
وعن دحية الكلبي قال: قدمت من الشام فأهديتُ إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاكهة يابسة من فستق ولوز وكعك، فوضعته بين يديه، فقال: " اللهم، ائتني بأحبّ أهلي إليك أو قال: إليّ يأكل معي من هذا "، فطلع العباس، فقال: " ادنُ يا عم فني سألت الله عز وجل أن يأتيني بأحب أهلي إلي أو إليه يأكل معي من هذا فأتيت " قال: فجلس يأكل.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من لم يحبّ العباس بن عبد المطلب وأهل بيته فقد برىء اللهُ ورسولُه منه ".(11/340)
وعن أبي الضحى قال: قال العباس للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني لأعرف ضغائن في صدور أقوام بوقائع أوقعتُها فقال: " لن يبلغوا خيراً حتى يحبّوك لله ولقرابتي، ترجو سَلْهَم شفاعتي ولا ترجوها بنو عبد المطلب ".
وفي رواية: سَلهم: حيٌّ من مراد.
وعن عبد الله بن حارثة قال: لما قدم صفوان بن أمية المدينة أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: على من نزلت يا أبا وهب؟ قال: على العباس بن عبد المطلب، قال: نزلت على أشد قريش لقريش حباً.
وروى المنصور أبو جعفر عن أبيه عن جده عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " العباس وصيّي ووارثي ".
وعن ابن عباس قال: لما حاصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطائف خرج رجل من الحصن فاحتمل رجلاً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليدخله الحصن، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يستنقذه فله الجنة، فقام العباس فمضى فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: امض ومعك جبريل وميكائيل، فمضى فاحتملهما جميعاً ووضعهما بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي حديث سمعناه عن جابر بن عبد الله قال: لقد بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الطائف حنظلة بن الربيع إلى أهل الطائف يكلمهم، فاحتملوه ليدخلوه حصنهم فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من لهؤلاء وله مثل أجل غزاتنا هذه؟ فلم يقم إلا العباس بن عبد المطلب حتى أدركه في أيديهم قد كادوا أن يُدخلوه الحصن، فاحتضنه العباس، وكان رجلاً شديداً فاختطفه من أيديهم، وامطروا على العباس الحجارة من الحصن، فجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو له حتى انتهى به إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(11/341)
وعن أبي سفيان بن الحارث قال: اليوم علمت أن العباس سيد العرب بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه أعظم الناس منزلة عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أخطره قريشاً بأصلها فقال: لئن قتلوه لا أستبقي منهم أحداً أبداً. وقال في حمزة رضي الله عنه حين قتل ومُثِّل به: لئن بقيت لأمثلنّ بثلاثين من قريش. وقال المكثر: بسبعين.
وعن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس: يا أبا الفضل، ألا أبشرك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: لو قد متّ أعطاك الله حتى ترضى.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله تعالى اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، فمنزلي ومنزل إبراهيم في الجنة تجاهين، والعباس بيننا مؤمن بين خليلين ".
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أسعد الناس يوم القيامة العباس ".
وعن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما للعباس فضل؟ قال: " بلى. إن له في الجنة غرفة كما تكون الغرف، مُطِلّ عَلَيَّ يكلمني وأكلمه ".
قال عبد الله بن كثير: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أوصاني الله بذي القربى، وأمرني أن أبدأ بالعباس بن عبد المطلب ".
قال: وقال علي بن أبي طالب: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أو بكر وعمر، ولو شئت أن أسمي لكم الثالث لسميته، وقال: لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلداً وجيعاً، وسيكون في آخر(11/342)
الزمان قوم ينتحلون محبتنا والتشيّع فينا، هم شرار عبد الله، الذي يشتمون أبا بكر وعمر.
قال: وقال علي: ولقد جاء سائل فسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعطاه، وأعطاه أبو بكر، وأعطاه عمر، وأعطاه عثمان، فطلب الرجل من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعوا له فيما اعطوه بالبركة فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وكيف لا يبارك لك ولم يعطك إلا نبي أو صديق أو شهيد؟ ".
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال:
كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس جلس أبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره، وعثمان بين يديه، وكان كاتبَ سِرّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا جاء العباس بن عبد المطلب تنحى أبو بكر وجلس العباس مكانه.
وعن المُجَمّع بن يعقوب الأنصاري عن أبيه قال: إن كانت حلقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتشتبك حتى تصير كالأسوار، وإن مجلس أبي بكر منها لفارغ منا يطمع فيه أحد من الناس، فإذا جاء أبو بكر جلس ذلك المجلس، وأقبل عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوجهه وألقى إليها حديثه، وسمع الناس، فطلع العباس فتزحزح له أبو بكر من مجلسه فعرف السرور في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتعظيم أبي بكر العباس.
وعن جابر بن عبد الله قال: جاء العباس بن عبد المطلب إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه ثياب بيض. فلما نظر إليه تبسم، فقال العباس: يا رسول الله، ما الجمال؟ قال: صواب القول بالحق، قال: فما الكمال؟ قال: حسن الفعال بالصدق.
وعن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين قال: أقبل العباس بن عبد المطلب وهو أبيض بضّ، وعليه حُلَّةٌ وله ضفيرتان. فلما رآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبسم فقال له العباس: مم ضحكت يا رسول الله أضحك الله سنك؟(11/343)
قال أعجبني جمالك يا عم، فقال العباس: يا رسول الله، ما الجمال في الرجل؟ قال: اللسان.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لكل شيء أسّ، وأسّ الإيمان الورع، ولكل شيء فرع وفرع الإيمان الصبر، ولكل شيء سنام وسنام هذه الأمة عمي العباس، ولكل شيء سِبط، وسبط هذه الأمة حبيباي الحسن والحسين، ولكل شيء جناح وجناح هذه الأمة أبو بكر وعمر، ولكل شيء مجنّ ومجن هذه الأمة علي بن أبي طالب ".
وعن أبي هريرة قال:
بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عمه العباس بن عبد المطلب وإلى علي بن أبي طالب فأتياه في منزل أم سلمة فنهاهما عن بعض الأمر وأمرهما ببعض الأمر، فاختلفا وامتريا حتى ارتفعت أصواتهما، واشتد اختلافهما بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا علي، مَهْ " وأقبل عليه وقال: " هل تدري لمن اغلظت؟! أبي وعمي وبقيتي وأصلي وعنصري وبقية نسل آبائي، خير أخصل الجاهلية محتداً، وأفضل أهل الإسلام نفساً وديناً بعدي، من جهل حقه فقد ضيع حقي، أما علمت أن الله جلّ ذكره مخرج من صلب عمي العباس أولاداً ولاة أمر أمتي يجعلم خلفاء ملوكاً ناعمين ومنهم مهديّ أمتي، يا علي، لست أنا ذكرتهم، ولكن الله هو الذي ذكرهم ورفع أصواتهم، فيخذل من ناوأهم، يجعل الله عز وجل فيهم نوراً ساطعاً، عبداً صالحاً، مهدياً سيداً، يبعثه الله حين فرقة من الأمر واختلاف شديد، فيحيي الله به كتابه وسنتي، ويعز به الدين وأولياءه في الأرض، يحبه الله في سمائه وملائكته وعباده الصالحون في شرق الأرض وغربها، وذلك يا علي بعد اختلاف الأخوين من ولد العباس فيقتل أحدهما صاحبه، ثم تقع الفتنة ويخرج قوم من ولدك يا علي فيفسدون عليهم البلدان ويعادونهم، ويفترون عليهم في قطر الأرض، ويفسد عليهم فيكن ذلك أشهراً أو تمام السنة، ثم يرد الله عز وجل النعمة(11/344)
على ولد العباس، فلا يزال فيهم حتى يخرج مهدي أمتي منهم، شاب حدث السن، فيجمع الله به الكلمة ويحيي به الكتاب والسنة، ويعيش في زمانه كل مؤمن متمسك بكتاب الله وسنته، ينزل الله به رحمته، ويفرج به كل كربة كان في أمتي، يحبه ساكن السماء وساكن الأرض، فلا يزال ذلك فيه وفي نسله حتى ينزل عيسى بن مريم روح الله وكلمته فيقبض ذلك منهم. يا علي، أما علمت أن للعباس ولآل العباس من الله حافظاً، أعطاني الله ذلك فيهم، أما علمت أن عدوهم مخذول ووليهم منصور؟ قال: وغضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غضباً شديداً حتى درّ عرق بين عينيه واحمرّ وجهه ودرت عروقه، فما كاد يقلع في المقالة في العباس وولده عامة نهاره. فلما رأى ذلك عليّ وثب إلى العباس فعانقه وقبل رأسه وقال: أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله وسخط عمي، فما زال كذلك حتى سكن غضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: " يا علي، إنه من لم يعرف حق أبي وعمي وبقيتي وبقيتك العباس بن عبد المطلب ومكانه من الله ورسوله فقد جهل حقي، يا علي، احفظ عترته وولده فإن لهم من الله حافظاً، يَلُون أمر أمتي، يشد الله بهم الدين ويعز بهم الإسلام بعدما أُكفِىء الإسلام وغُيرت سنتي، يخرج ناصرهم من أرض يقال لها: خراسان برايات سود، فلا يلقاهم أحد إلا هزموه وغلبوا على ما في أيديهم حتى تضرب رايات ببيت المقدس ". ثم أمرهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانصرفا. فلما أدبرا دعا لهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاء كثيراً، وخرجا راضيين غير مختلفين.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للعباس بن عبد المطلب: " فيكم النبوة والمملكة ".
وعن علي بن أبي طالب قال: لقي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العباس بن عبد المطلب يوم فتح مكة وهو على بغلته الشهباء فقال: " يا عم، ألا أحبوك ألا أجيزك؟ " قال: بلى فداك أبي وأمي يا رسول الله، قال: " إن الله فتح هذا الأمر بي ويختمه بولدك ".(11/345)
وعن ابن عباس قال: قال العباس: يا رسول الله، ما لنا في هذا الأمر؟ قال: " لي النبوة ولكم الخلافة، بكم يفتح هذا الأمر، وبكم يختم ".
زاد غيره: وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس: " من أَحبَّك نالته شفاعتي، ومن أبغضك فلا نالته شفاعتي ".
وعن عمار بن ياسر قال: بينما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راكب إذ حانت منه التفاتة فإذا هو بالعباس فقال: يا عباس، قال: لبيك، قال: يا عم، قال: لبيك، قال: " إن الله بدأ الإسلام بي، وسيختمه بغلام من ولدك، وهو الذي يصلي بعيسى عليه السلام ".
وفي حديث: " وسيختمه بغلام من ولدك يملأها عدلاً كما ملئت جوراً، وهو الذي يصلي بعيسى ".
وعن أبي ميسرة قال: سمعت العباس يقول: كنت عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة فقال: انظر هل ترى في السماء من شيء؟ قال: قلت: نعم. قال: ما ترى؟ قال: قلت: أرى الثريا. قال: أما إنه يملك هذه الأمة بعددها من صلبك.
وعن ابن عباس قال: حدثتني أم الفضل بنت الحارث الهلالية قالت: مررت بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في الحجر، قال: يا أم الفضل، إنك حامل بغلام، قلت: يا رسول الله، وكيف وقد تحالف الفريقان ألا يأتوا النساء؟! قال: هو ما أقول لك، فإذا وضعتيه فائتني به. قالت: فلما وضعته أتيت به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى فقال: اذهبي بأبي الخلفاء. قالت: فأتيت العباس فأعلمته، وكان رجلاً جميلاً لباساً، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما رآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام إليه فقبّل ما بين عينيه ثم(11/346)
أقعده عن يمينه ثم قال: هذا عمي، فمن شاء فليباه بعمه. قلت: يا رسول الله، بعض القول. فقال: يا عباس، لم لا أقول هذا وأنت عمي وصنو أبي وبقية آبائي وخير من أخلّف بعدي من أهلي، فقلت: يا رسول الله، ما شيء أخبرّتْني به أم الفضل عن مولودنا هذا؟ قال: نعم، يا عباس، إذا كانت سنة خمس وثلاثين ومئة فهي لك ولولدك منهم السفاح ومنهم المنصور ومنهم المهدي.
وعن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هبط عليّ جبريل وعليه قباء أسود، وعمامة سوداء فقلت: ما هذه الصورة التي لم أرك هبطت عليّ فيها قطّ؟ قال: هذه صورة الملوك من ولد العباس عمك. قلت: وهم على حق؟ قال جبريل نعم، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم، اغفر للعباس وولده حيث كانوا، وأين كانوا. قال جبريل: ليأتين على أمتك زمان يُعزّ الله الإسلام بهذا السواد. قلت: رئاستهم ممن؟ قال: من ولد العباس، قلت: وتبّاعهم؟ قال: من أهل خراسان. قلت: وأي شيء يملك ولد العباس؟ قال: يملكون الأصفر والأخضر، والحجر والمدر، والسرير والمنبر، والدنيا إلى المحشر، والملك إلى المنشر.
وعن عامر الشعبي قال: قال العباس لعلي بن أبي طالب حين مرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أكاد أعرف في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموت، فانطلق بنا إليه نسأله مَنْ يستخلف، فإن يستخلف منا فذاك، وإلا أوصى بنا. قال: فقال علي للعباس كلمة فيها جفاء، فلما قبض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال العباس لعليّ: ابسط يدك فلنبايعك قال: فقبض يده.
فقال عامر: لو أن علياً أطاع العباس في أحد البابين كان خيراً من حُمْر النَّعم.
قال عامر: لو أن العباس شهد بدراً ما فضله أحد من الناس رأياً ولا عقلاً.(11/347)
وحدث إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص هو وغيره قالا: ما أدركنا أحداً من الناس إلا وهو يقدم العباس بن عبد المطلب في العقل في الجاهلية والإسلام.
وروي أن العباس بن عبد المطلب لم يمر قط بعمر بن الخطاب ولا بعثمان بن عفان وهما راكبان إلا نزلا حتى يجوز العباس بهما، إجلالاً له أن يمرّ بهما عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهما راكبان وهو يمشي.
وعن أنس قال: كانوا إذا قُحطوا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استسقَوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسقوا. فلما كان بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إمارة عمر قحطوا فأخرج عمر العباس يستسقي به فقال: اللهم، إنا كنا إذا قحطنا على عهد نبيك استسقينا به فستسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا. قال: فسُقُوا.
وعن ابن عباس أن عمر استسقى بالناس بالمصلى، فقال عمر للعباس: قم فاستسق، فقام العباس فقال: اللهم، إن عندك سحاباً وعندك ماء، فانشر السحاب ثم أنزل فيه الماء، ثم أنزله علينا فاشدد به الأصل، وأطل به الفرع، وأدْرِر به الضرع، اللهم، إنا شفعاء إليك عمَّن لا ينطق من بهائمنا وأنعامنا، اللهم، شفعنا في أنفسنا وأهالينا، اللهم، إنا نشكو إليك جوع كل جائع، وعُري كل عار، وخوف كل خائف، اللهم، اسقنا سقيا وادعةً نافعةً طبعاً مجلّلاً عامّاً.
وعن أبي صالح
أن العباس بن عبد المطلب يوماً استسقى به عمر بن الخطاب. فلما فرغ عمر من دعائه، قال العباس: اللهم، إنه لم ينزلْ بلاء من السماء إلا بذنب، ولا يُكشف إلا بتوبة، وقد توجّه بي القوم إليك لمكاني من نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه أيدينا إليك بالذنوب(11/348)
ونواصينا بالتوبة، وأنت الراعي لا تُهمل الضالة، ولا تدع الكسير بدار مَضِيعةٍ، فقد ضرع الصغير ورقّ الكبير، وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم، فأغثهم بغياثك قبل أن يقنطوا فيهلكوا فإنه لا ييأس من رحمتك إلا القوم الكافرون، قال: فما تمّ كلامه حتى أرخت السماء مثل الحبال.
وفي ذلك يقول عباس بن عتبة بن أبي لهب: " الطويل "
بعمّي سقى الله الحجاز وأهلَه ... عشيةَ يستسقي بشيبته عُمَرْ
توجّه بالعباس في الجدب راغباً ... إليه فما إنْ رامَ حتى أتى المطرْ
ومنّا رسول الله فينا تُراثُه ... فهل فوق هذا للمفاخِر مُفْتَخرْ
وعن جابر بن عبد الله قال: أصابتنا سنة الرمادة فاستسقينا فلم نُسْق ثم استسقينا فلم نُسق، ثم استسقينا فلم نُسق. فقال عمر: لأستسقين غداً بمن يسقيني الله، فقال الناس: بمن؟ بعلي، بحسن، بحسين؟ فلما أصبح غدا إلى منزل العباس فدقّ عليه، فقال: من؟ فقال: عمر، قال: ما حاجتك؟ قال: اخرج حتى نستسقي الله بك، قال: اقعد، فأرسلَ إلى بني هاشم أن تطهروا والبسوا من صالح ثيابكم، فأتوه، فأخرج إليهم طيباً فطيَّبهم، ثم خرج وعليٌّ أمامه بين يديه، والحسن عن يمينه، والحسين عن يساره، وبنو هاشم خلف ظهره، فقال: يا عمر، لا تخلط بنا غيرنا، قال: ثم أتى المصلى، فوقف فحمد الله وأثنى عليه وقال: اللهم، إنك خلقتنا ولم تؤامرنا، وعلمت ما نحن عاملون قبل ان تخلقنا، فلم يمنعك علمك فينا عن رزقنا، اللهم، فكما تفضَّلْتَ علينا في أوله فتفضّلْ علينا في آخره، فما برحنا حتى سحَّت السماء علينا سحّاً، فما وصلنا إلى منازلنا إلا خوضاً. فقال العباس: أنا المُسقى ابن المسقى ابن المُسقى، خمس مرات. فقال سعيد: فقلت لموسى بن جعفر: كيف ذاك؟ قال: استسقى فسقي عام الرمادة، واستسقى(11/349)
عبد المطلب فسقي زمزم، فنافسته قريش، فقالوا: ائذن لنا فيه فأبى، فقالوا: بيننا وبينك راهب إيلياء، فخرجوا معه، وخرج مع عبد المطلب نفر من أصحابه. فلما كانوا في الطريق نفِد ماء عبد المطلب وأصحابه فقال للقرشيين، اسقونا، فأبوا، فقال عبد المطلب: علام نموت حسرة؟ فركب راحلته. فلما نهضت انبعث من تحت خفّها عين، فشرب وسقى أصحابه، واستسقوه القرشيون فسقاهم فقالوا: إن الذي أسقاك في هذه الفلاة هو الذي أسقاك زمزم، فارجع فلا خصومة لنا معك.
وكان لعبد المطلب مال بالطائف يقال له: ذو الجذم، فغلبت عليه بنو ذباب وكلاب، وغلَبَ عليه، ثم أتى فقال: هذا المال لي فجُحده، فقال: بيني وبينكم سطيح، فخرجوا وخرج معه نفر من قومه حتى إذا كانوا في فلاً من الأرض عطش وفني ماؤه، فاستسقى بني كلاب وبني ذباب فأبوا أني سقوه وقالوا: موتوا عطشاً، فركب راحلته وخرج. فبينا هو يسير إذ انبعثت عين، فلوَّح بسيفه إلى أصحابه فأتوه، فلما رأوا ذباب كثرة الماء أهراقوا ماءهم، فاستسقوه، فقال القرشيون: والله لا نسقيكم، فقال عبد المطلب: لا تتحدث العرب أن قوماً من العرب ماتوا عطشاً وأنا أقدر على الماء فسقاهم ثم رحلوا إلى سطيح، فقالت بنو ذباب: والله ما ندري أصادق فيما يقضي بيننا؟ فخبّأ رجل منهم ساق جرادة. فلما قدموا عليه قال الرجل، إني خبأت لك خبيئاً فما هو؟ قال: ظهر كالفقار، طار فاستطار، واسق كالمنشار، ألق ما في يدك، فالقى ساق جرادة، قال: وخبّأ رجل منهم تمرة فقال: قد خبأت خبيئة، قال: طالب فبسَق وأينع فأطعم، ألق التمرة، وخبأ له رجل آخر رأس جرادة، خرزها في مزادة، فعلقها في عنق كلب يقال له: يسار. فقال: خبأت خبيئاً فما هو؟ فقال: رأس جرادة خرزت في مزادة في عنق كلبك يسار، ثم اختصموا إليه فقضى لعبد المطلب بالمال. فغرموا لعبد المطلب مئة ناقة، وغرموا لسطيح مئة ناقة، فقدم عبد المطلب فاستعار قدوراً، فنحر وأطعم الناس حوله، ثم أرسل إلى جبال مكة فنحر، فأكلته السباع والطير والناس، والخامسة أسقى الله إسماعيل زمزم.(11/350)
وعن ابن عباس قال:
كانت للعباس دار إلى جنب المسجد بالمدينة، فقال له عمر بن الخطاب: بعنيها أو هبْها لي حتى أدخلها في المسجد فأبى، فقال: اجعل بيني وبينك رجلاً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعلا بينهما أبيًّ بن كعب، فقضى للعباس على عمر، فقال عمر: ما أحدٌ من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجرأ علي منك، فقال أبيُّ بن كعب: أو أنصح لك مني. ثم قال: يا أمير المؤمنين، أما بلغك حديث داود أن الله أمره ببناء بيت المقدس، فأدخل فيه بيت امرأة بغير إذنها، فلما بلغ حِجْز الرجال منعه الله بناءه قال داود: أي ربّي، إن منعتني بناءه فاجعله في خلفي، فقال العباس: أليس قد قضيتَ لي بها وصارت لي؟ قال: بلى، قال: فإني أشهدك أني قد جعلتها لله عزّ وجلّ.
وعن عدي بن سهيل قال: لما استمدَّ أهل الشام عمر على أهل فلسطين استخلف علياً وخرج ممدّاً لهم، فقال له عليٌّ: أين تخرج بنفسك؟ إنك تريد عدواً كلباً، فقال: إني أبادر بجهاد العدو موت العباس، إنكم لو قد فقدتم العباس لا نتقض بكم الشر كما ينتقض الحبل، فمات العباس لست سنين خلت من إمارة عثمان، فانتقض والله بالناس الشر.
وعن صهيب مولى العباس قال: رأيت علياً يقبل يد العباس ورجله ويقول: يا عم، ارض عني.
وعن الأحنف بن قيس قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يقول: إن قريشاً رؤوس الناس، وأن ليس أحد منهم يدخل في باب إلا دخل معه طائفة من الناس، فلما طُعن أمر صُهيباً أن يصلي بالناس ويطعمهم ثلاثة أيام حتى يجتمعوا على رجل. فلما وضعوا الموائد كفّ الناس عن الطعام، فقال العباس: يا أيها الناس، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد مات فأكلنا بعده وشربنا، وبعد أبي بكر، وأنه لابد للناس من الأكل، فأكل وأكل الناس، فعرفت فضل قول عمر.(11/351)
زاد في حديث غيره: فعُرف فضل قول عمر: إن قريشاً رؤساء الناس.
وعن سعيد بن المسيب أنه قال: العباس خير هذه الأمة، وارث النبي وعمه.
وعن ابن شهاب قال: لقد جاء الله بالإسلام وإن جَفْنَة العباس لتدور على فقراء بني هاشم، وإن سوطه وقيده لمعد لسفهائهم. قال: فكان ابن عمر يقول: هذا والله الشرف: يطعم الجائع، ويؤدب السفيه.
وعن ابن عباس قال: كان العباس بن عبد المطلب كثيراً ما يقول: ما رأيت أحداً أحسنت إليه إلا أضاء ما بيني وبينه، وما رأيت أحداً أسأت إليه إلا أظلم ما بيني وبينه، فعليك بالإحسان واصطناع المعروف، فإن ذلك يقي مصارع السوء.
وكان العباس بن عبد المطلب تكون له الحاجة إلى غلمانه وهم بالغابة، فيقف على سَلْعٍ، وذلك من آخر الليل فيناديهم فيسمعهم. قال: وذلك نحو من تسعة أميال.
وكان العباس قد عمي قبل موته.
وعن علي بن عبد الله بن عباس قال: أعتق العباس عند موته سبعين مملوكاً.
وعن عبد الله بن إبراهيم القرشي قال: لما نزل بالعباس بن عبد المطلب الموت قال لابنه: يا عبد الله، إن والله ما متُّ موتاً ولكنني فنيت فناء، وإني موصيك بحب الله وحب طاعته، وخوف الله وخوف معصيته، فإنك إذا كنت كذلك لم تكره الموت متى أتاك. وإن استودعتك الله يا بني، ثم استقبل القبلة فقال: لا إله إلا الله ثم شخص ببصره فمات.(11/352)
وعن عبد الرحمن بن يزيد بن حارثة قال: جاءنا مؤذن يؤذنا بموت العباس بن عبد المطلب بقباء على حمار، ثم جاءنا آخر على حمار فقلت: ما الأول؟ قال: مولى لبني هاشم، والثاني رسول عثمان بن عفان، فاستقبل قرى الأنصار قرية قرية حتى انتهى إلى السافلة: بني حارث وما والاها، فحشد الناس فما غادرنا النساء ... فلما أُتي به إلى موضع الجنائز تضايق فتقدموا به إلى البقيع، فلقد رأيتنا يوم صلينا عليه بالبقيع وما رأت مثل ذلك الخروج على أحد من الناس قط، وما يستطيع أحد من الناس أن يدنو إلى سريره، وغلب عليه بنو هاشم. فلما انتهوا إلى اللحد ازدحموا عليه فأرى عثمان اعتزل وبعث الشرطة يضربون الناس عن بني هاشم حتى خلص بنو هاشم، فكانوا هم الذين نزلوا في حفرته ودلّوه في اللحد، ولقد رأيت على سريره بُرْدَ حِبَرةٍ قد تقطع من زحامهم.
وتوفي في ست من خلافة عثمان.
قال عيسى بن طلحة: رأيت عثمان يكبّر على العباس بالبقيع وما يقدر من لغط الناس، ولقد بلغ الناس الحِشّان، وما تخلف أحد من الرجال والنساء والصبيان.
وتوفي العباس وهو ابن سبع وثمانين. وقيل: توفي سنة تسع وعشرين وله ست وثمانون، وقيل: توفي سنة اثنتين وثلاثين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. ودفن بالبقيع في مقبرة بني هاشم. وقيل: سنة ثلاث وثلاثين. وقيل: سنة أربع وثلاثين، وجلس عثمان على قبره حين دفن.
قال ابن عباس: ولد أبي قبل الفيل بثلاث سنين، وكان أسن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاث سنين،(11/353)
وتوفي وهو ابن ثمان وثمانين سنة. سنة اثنتين وثلاثين، وهو معتدل القناة، وكان يخبرنا عن عبد المطلب أنه مات وهو أعدل قناة منه. قال خالد: ورأيت علي بن عبد الله بن العباس معتدل القناة.
العباس بن عثمان بن محمد
أبو الفضل البجلي الراهبي المُكتِّب حدث عن الوليد بن مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقيل: متى وجبت لك النبوة؟ قال: " فيما بين خلق آدم ونفخ الروح فيه ". أو كما قيل.
وعنه بسنده إلى يونس بن ميسرة بن حلبس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطب فقال: يا أيها الناس؛ أقلوا الرواية عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنتم متحدثون لا محالة فتحدثوا بما كان يُتَحدث به في عهد عمر، إن عمر كان يخيف الناس في الله، أقيموا وجوهكم وصفوفكم في صلاتكم وتصدقوا، ولا يقولن الرجل: إني مُقِلّ لا شيء لي، فإن صدقة المقلّ أفضل عند الله من صدقة المكثر، إياكم وقذف المحصنات، ولا يقولن أحدكم: سمعت وبلغني، فوالله ليؤخذن به، ولو كان قيل في عهد نوح، عوّدوا أنفسكم الخير، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الخير عادة والشر لجاجة، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ".
وحدث عنه أيضاً بسنده عن أبي هريرة قال: أُتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أُسري به بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما فأخذ اللبن. فقال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، ولو أخذت الخمر لغوت أمتك.
ولد العباس بن عثمان المُكتِّب في سنة ست وسبعين ومئة. وتوفي في سنة تسع وثلاثين ومئتين.(11/354)
العباس بن علي بن الفضل
ابن العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أبو الفضل الهاشمي الموسائي الحاطب حدث عن أبي جعفر بن سليمان البصري بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل معروف صدقة، ومن المعروف أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط ". أو قال: " ووجهك إليه منطلق، وأن تصبّ من دلوك في إناء جارك ".
وحدث عن علي بن حرب قال: خرجنا من الموصل في سفينة نريد سُرَّ من رأى، فإذا سمكة قد وثبت من الماء إلى السفينة، فقال أحداث كانوا معنا: اعدلوا بنا إلى الشط نطلب حطباً نشويها، قال: فخرجنا ندور فجئنا إلى خربة فدخلناها فوجدنا رجلاً مذبوحاً ورجلاً مكتوفاً قائماً، فسألنا الرجل عن القصة فقال: هذا المكاري عدل بي من القافلة في الليل فشدني وثاقاً كما ترون وعزم على قتلي فناشدته الله، وقلت: يا هذا، خذ جميع ما معي ولا تقتلني فابى إلا قتلي فانتزع سكيناً معه فعسرت عليه فاجتذبها، فمرت على أوداجه فذبحته. قال: فاطلقنا يديه من وثاقه وأعطيناه البغل، ورجعنا إلى السفينة فوثبت السمكة إلى الماء فذهبت.
توفي العباس الموسائي الخطيب سنة تسع وعشرين وثلاث مئة.(11/355)
العباس بن الفضل بن حبيب
أبو الفضل السامريّ الدباج الحافظ قدم دمشق مرات، وحدث بها وبغيرها.
حدث عن عبد العزيز بن معاوية أبي خالد العتابي بسنده عن صُمَيْتة قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من مات بالمدينة كنت له يوم القيامة شفيعاً أو شهيداً ".
وحدث عن محمد بن بشر أخي خطاب بسنده عن صخر الغامدي قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم، بارك لأمتي في بكورها ".
العباس بن الفضل بن العباس
ابن الفضل بن عبد الله، أبو الفضل بن فضلويه الدينوري سكن دمشق في قرية يقال لها: السَّفليّين.
حدث عن أبي زرعة بسنده عن عائشة.
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكث بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشراً.
وحدث عن عبيد الله بن محمد الهمذاني بسنده عن الوليد بن مسلم قال: سمعت الأوزاعي يقول: من سافر في كانونين فقد برئت منه الذمة.
توفي العباس بن فضلويه سنة ثلاث وعشرين وثلاث مئة.(11/356)
العباس بن الفضل بن العباس
ابن يعقوب القرشي
حدث عن الوليد بن سلمة الأزدي الفلسطيني بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نزلت سورة الحديد يوم الثلاثاء، وخلق الله الحديد يوم الثلاثاء، وقتل ابن آدم أخاه يوم الثلاثاء، ونهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحجامة يوم الثلاثاء ".
العباس بن الفضل بن محمد
ويقال: ابن الفضل بن بشر أبو الفضل الأسفاطي البصري حدث عن إسماعيل بن أبي أُويس بسنده عن أبي طلحة الأنصاري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه عشراً ".
العباس بن محمد بن حامد
أبو القاسم البغدادي الصائغ حدث عن أبي بكر جعفر بن محمد بن المستفاض الفريابي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ".
العباس بن محمد بن حبّان
ابن موسى بن حِبَّان بن موسى، أبو الفرج الكلابي حدث عن أحمد بن سعيد بن محمد بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سيد الشهور شهر رمضان، وأعظمها حرمة ذو الحجة ".(11/357)
توفي أبو الفرج سنة تسع وثمانين وثلاث مئة.
العباس بن محمد بن سعيد الهاشمي
مولى بني هاشم حدث عن صفوان بن صالح بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين، إذا أتت هذه نطحتها، وإذا أتت هذه نطحتها ".
العباس بن محمد بن علي
ابن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، أبو الفضل الهاشمي ولاه المنصور دمشق والشام كله، وقدمها مع المهدي، وولي إمارة الجزيرة في أيام الرشيد، وكان من رجالات بني هاشم. ولد سنة إحدى وعشرين ومئة، وقيل: سنة اثنتين وعشرين، وقيل: سنة ثمان عشرة ومئة. وأمُّه وأُمُّ ولد. قدم دمشق والياً عليها وعلى الشام سنة أربعين ومئة. وكان العباس أجود الناس رأياً. وكان الرشيد يقول: عمي العباس بن محمد يذكر في أسلافنا.
قال العباس: قلت للرشيد يوماً: إنما مالُك تزرعُ به من أصلحتْه نعمتُك، وسيفُك تحصد به من كفرها. وكان بين يدي الرشيد طبيب يقول: له كُلْ كذا ولا تأكل كذا، فقلت للطبيب: أنت أحمق، إذا صححْتَ فَكُل كُلَّ شيء، وإذا مرضت فاحتَمِ مِنْ كُلِّ شيء.
وقال له بعض الشعراء: " الكامل(11/358)
لو قيلَ للعباسِ يابنَ محمدٍ ... قُلْ: لا وأنت مخُلَدٌ ما قالها
إن السماحة لم تزل مَعْقولةٌ ... حتة حَلَلْتَ براحتيك عِقالها
وإذا الملوكُ تسايرَت في بَلدةٍ ... كانوا كواكِبَها وكنتً هِلالَها
قال العباس بن محمد لمؤدب بنيه: يا فل، إنك قد كفيتَ أعراضهم فاكفني آدابهم، علِّمهم كتابَ الله فإِنّه عليهم نزل، ومن عندهم فصل. وأنه كفى بالمرء جهلاً أن يجهل فضلا عنه أُخذ، وفَقِههم في الحلالِ والحرام فإنه حابسٌ أن يظلموا، وغذهم بالحكمة فإنها ربيع القلوب، والتمسني عند آثارك فيهم تجدني.
قال رجل للعباس بن محمد: إني أتيتُك في حاجة صغيرة، فقال: اطلب لها رجلاً صغيراً.
وحكى ابن قتيبة قال: قال رجل للعباس بن محمد: إني أتيتك في حُوَيْجة، فقال: اطلب لها رُجَيلاً.
قال: وهذا خلاف قول علي بن عبد الله بن العباس لرجل قال له: إني أتيتك في حاجة صغيرة، قال: هاتِها، فإن الرجل لا يصغُر عن كبير أخيه ولا يكبر عن صغيره.
وفي سنة خمس وثمانين ومئة ولي العباس بن محمد الذي تنسب إليه العباسية الجزيرة، وصار إلى الرٌّقة، فأمر الرشيد يفرش له في قصر الإمارة، واتخذت له فيه الآلات، وشحن بالرقيق، حمل إليه خمسة آلاف ألف درهم.
وفي سنة ست وثمانين توفي العباس بن محمد ببغداد، وكانت علته الماء الأصفر. وصلى عليه الأمين. ودفن في العباسية وسنة خمس وستون سنة.(11/359)
وقيطعة العباس التي في الجانب الشرقي تنسب إلى العباس وهو أخو المنصور. وبينه وبين وفاة أبي العباس خمسون سنة، لأن أبا العباس مات سنة ست وثلاثين، ومات العباس سنة ست وثمانين ومئة. وكان يتولى الجزيرة، وأهله يتهمون فيه الرشيد، يزعمون أنّه سَمَّه، وأنه سقى بطنُه، فمات في هذه العلة.
/(11/360)
العباس بن مرداس بن أبي عامر ابن حارثة ويقال: جارية
ابن عبد عباس، ويقال: عيسى، ويقال: عبس، ويقال: عبد عبس بن رفاعة بن الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان.
وفي نسبه اختلاف، له صحبة، وكان من المؤلفة قلوبهم، واستعمله سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بني سليم، وقدم دمشق، وكان بها دار.
روى العباس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة فأكثر الدعاء فأجابه الله: إني قد فعلت وغفرت لأمتك إلا ظلم بعضهم بعضاً، فأعاد فقال: يا رب إنك قادر أن تغفر للظالم وتثيب المظلوم خيراً من ظلامه، فلم تكن تلك العشية إلا ذا، فلما كان من الغد دعا غداة المزدلفة فعاد يدعو لأمته فلم يلبث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تبسم فقال بعض أصحابه - وفي رواية فقال: أبو بكر وعمر -: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي تبسمت في ساعة لم تكن تضحك فيها فما أضحكك أضحك الله سنك؟ قال: تبسمت من عدو الله إبليس حين علم أن الله تبارك وتعالى قد أجابني في أمتي وغفر للظالم أهوى يدعو بالثبور والويل، يحثو التراب على رأسه فضحكت مما يصنع من جزعه.
وعن العباس: أنه أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فطلب إليه أن يحفره ركية بالدثينة فأحفره إياها على أنه ليس له منها إلا فضل ابن السبيل.(12/5)
أسلم العباس قبل فتح مكة، ثم أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تسع مئة من قومه على الخيول معهم القنا والدروع الظاهرة فحضروا فتح مكة، وحضر حنيناً وأعطاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع من أعطى من المؤلفة قلوبهم، ولم يكن يسكن بمكة ولا المدينة وكان يغزو مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيرجع إلى بلاد قومه وكان ينزل بوادي البصرة، ويأتي البصرة كثيراً، وقيل كان ينزل أرض بني سليم.
وحدث العباس بن مرداس: أنه كان في لقاح له نصف النهار إذ طلعت عليه نعامة بيضاء عليها راكب عليه ثياب بيض مثل اللبن فقال: يا عباس بن مرداس، ألم تر أن السماء كفت أحراسها، وأن الحرب تجرعت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الدين نزل بالبر والتقوى يوم الاثنين ليلة الثلاثاء. صاحب الناقة القصواء؟ قال: فرجعت مرعوباً قد راعني ما رأيت وسمعت، حتى جئت وثناً لنا يدعى الضمار وكنا نعبده ونكلمه من جوفه فكنست ما حوله ثم تمسحت به وقبلته وإذا صائح من جوفه يقول:
قل للقبائل من سليم كلها ... هلك الضمار وفاز أهل المسجد
هلك الضمار وكان يعبد مرة ... قبل الصلاة مع النبي محمد
إن الذي جا بالنبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتد
قال: فخرجت مرعوباً حتى جئت قومي فقصصت عليهم القصة وأخبرتهم الخبر، فخرجت في ثلاثة مئة من قومي من بني حارثة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بالمدينة فدخلنا المسجد. فلما رآني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يا عباس، كيف كان إسلامك؟ قال: فقصصت عليه القصة. قال: فسر بذلك فأسلمت أنا وقومي.
وعن رافع بن خديج قال: أعطى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية،(12/6)
وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس مئة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك. فقال العباس بن مرداس:
أتجعل نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع
وما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئٍ منهما ... ومن تخفض اليوم لا يرفع
قال: فأتم له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مئة.
وفي رواية: أنه كان في فتح مكة وأنه قال: اذهب يا بلال فاقطع لسانه. قال: فذهب بلال، فجعل يقول: يا معشر المسلمين، أيقطع لساني بعد الإسلام! يا رسول الله، لا أعود أبداً. فلما رأى بلال جزعه قال: إنه لم يأمرني أن أقطع لسانك، أمرني أن أكسوك وأعطيك شيئاً.
قال في هذه الرواية: إنه في فتح مكة، وإنما كان يوم حنين.
وفي رواية: أنه أعطاه أربعاً من الإبل فعاتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شعر قاله:
كانت نهاباً تلافيتها ... بكري على القوم باالأجرع
وحثي الجنود لكي يدلجوا ... إذا هجع القوم لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع
إلا أفاليل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع
وقد كنت في الحرب ذا تدارإ ... فلم أعط شيئاً ولم أمنع
وما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا ترفع(12/7)
فرفع أبو بكر أبياته إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال للعباس: أنت الذي يقول: أصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟ فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله ليس هكذا قال. قال: فكيف قال؟ قال: فأنشده أبو بكر كما قال عباس، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء، ما يضرك بدأت بالأقرع أم عيينة فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي، ما أنت بشاعر ولا راوية ولا ينبغي لك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقطعوا عني لسانه وأعطوه مئة من الإبل - ويقال: خمسين من الإبل - ففزع منها أناس وقالوا: أمر بعباس يمثل به.
دخل عمرو بن معدي كرب على عمر بن الخطاب فقال عمر: أخبرني يا عمرو من أشجع العرب؟ قال: كنا يا أمير المؤمنين ستة فرسان لا يعادلنا أحد من العرب، وكان أشجعنا العباس بن مرداس السلمي. قال: وكيف حكمت له بذلك وعلمته؟ قال: علمته بأشعار قلناها في حروبنا. قال: هات ما قلت أنت وما قال هؤلاء قال: قلت:
ولما رأيت الخيل زوراً كأنها ... جداول زرع خليت فاسبطرت
فجاشت إلي النفس أول مرة ... فردت إلى مكروها فاستقرت
ما جاشت نفسي يا أمير المؤمنين إلا من الجبن. وقال دريد بن الصمة:
ولقد أصرفها كارهة ... حين للنفس من الموت هرير
كلما ذلل عني خلق ... وبكل أنا في الروع جدير
ما هرّ من الموت إلا من الجبن. وقال عمرو بن الإطنابة:
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
ما جشأت نفسه ولا جاشت إلا من الجبن. وقال عامر بن الطفيل:
أقول لنفسي لا يجاد بمثلها ... أقلي مراجاً إنني غير مدبر
ما مرجت نفسه يا أمير المؤمنين إلا من الجبن. وقال عنترة:
إذ يتقون بي الأسنة لم أخم ... عنها ولكني تضايق مقدمي(12/8)
ما تضايق مقدمه إلا من الجبن. وقال العباس بن مرداس:
أشد على الكتيبة لا أبالي ... أفيها كان حتفي أم سواها
فكان هذ اأشجعنا فقال: صدقت يا عمرو.
قيل للعباس بن مرداس بعدما كبر: ألا تأخذ من الشراب، فإنه يزيد في جرأتك ويقويك؟ قال: أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم؟ لا والله لا يدخل جوفي شيء يحول بيني وبين عقلي أبداً.
العباس بن نجيح أبو الحارث القرشي
حدث العباس عن الهيثم بن حميد بسنده عن ثوبان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تزال الخلافة في بني أمية يتلقفونها تلقف الكرة. فإذا نزعت منهم فلا خير في عيش.
وحدث عن الوليد بن مسلم بسنده عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن دعامة أمتي عصب اليمن، وأبدال الشام وهم أربعون رجلاً، كلما هلك رجل أبدل الله مكانه آخر ليسوا بالمتماوتين ولا المتهالكين ولا المتناوشين. لم يبلغوا ما بلغوه بكثرة صوم ولا صلاة، وإنما بلغوا ذلك بالسخاء وصحة القلوب والمناصحة لجميع المسلمين. وإن أمتي سيكونون على خمس طبقات: فأنا ومن معي إلى أربعين أهل إيمان وعلم، ومن بعده إلى ثمانين سنة أهل بر وتقوى، ومن بعدهم إلى عشرين ومئة سنة أهل تراحم وتواصل، ومن بعدهم إلى ستين ومئة سنة أهل تقاطع وتدابر، ومن بعدهم إلى انقضاء الدنيا فالهرج. النجاء، النجاء.(12/9)
العباس بن الوليد بن صبح
أبو الفضل السلمي الخلال حدث عن الفريابي بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل معروف صدقة.
وحدث عن محمد بن عيسى بن سميع بسنده عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما من مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً لمسه إلا مريم وابنها. ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ".
توفي الخلال سنة ثمان وأربعين ومئتين.
العباس بن الوليد بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم أبو الحارث ويقال: أبو الوليد الأموي.
فارس سخي يقال له: فارس بني مروان. فتح مدناً وحصوناً كثيرة من بلاد الروم.
أرسل حديثاً عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة ".
وللعباس مواقف وحروب وغزوات وفتوحات.
قال ابن شوذب: عرض على عمر بن عبد العزيز جوار وعنده العباس بن الوليد. فجعل كلما مرت به جارية تعجبه قال: يا أمير المؤمنين، اتخذ هذه. قال: فلما أكثر قال له عمر بن عبد العزيز: أتأمرني بالزنا؟ قال: فخرج العباس فمر بأناس من أهل بيته فقال: ما يجلسكم بباب رجل يزعم أن آباءكم كانوا زناة؟!.
مات العباس بن الوليد في سجن مروان بن محمد بحران.(12/10)
العباس بن الوليد بن عمر الدرفس الغساني.
حدث عن أبيه بسنده عن يونس بن ميسرة بن حلبس قال: أشرف عيسى بن مريم عليه السلام من جبل البضيع - يعني جبل الكسوة - فأشرف على الغوطة. فلما رآها قال عيسى: إن للغوطة أن يعجز الغني أن يجمع فيها كنزاً، ولن يعجز المسكين أن يشبع فيها خبزاً. قال سعيد بن عبد العزيز: فليس يموت أحد في الغوطة من الجوع.
العباس بن الوليد بن مزيد
أبو الفضل العذري البيروتي.
حدث بدمشق.
حدث عن أبيه بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن اليهود والنصارى لا تصبغ فخالفوها ".
وحدث عن عقبة بسنده عن عبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الآية " الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ". فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، أو قال: أحد غيرك " قال: " هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له ".
ولد العباس بن الوليد بن مزيد سنة تسع وستين ومئة، ومات سنة سبعين ومئتين.(12/11)
العباس بن الوليد أبو الفضل
المكتب البصري سمع بدمشق حدث عباس بن الوليد المؤدب بدمشق، درب القصابين، باب الجابية، عن الوليد بن مسلم بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله عز وجل يوكل بآكل الخل ملكين يستغفران الله له حتى يفرغ "
العباس بن هاشم بن القاسم
حدث بصيدا عن أبيه بسنده عن ابن عباس قال: هذه السراطين التي على ساحل البحر وكلها الله بالموج لا يغدق الساحل، أو لا يغرق الساحل.
العباس بن يوسف أبو الفضل الشكلي
البغدادي الصوفي رحل وطوف الشام.
حدث عن أحمد بن سفيان بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ".
وروي عن العباس بن يوسف أنه قال: إذا رأيت الرجل مشتغلاً بالله عز وجل فلا تسل عن إيمانه، وإذا رأيته منشغلاً عن الله عز وجل فلا تسل عن نفاقه.
مات أبو الفضل الشكلي سنة أربع عشرة وثلاث مئة.(12/12)
عباية بن أبي الدرداء
ويقال عباد حدث عن أبيه أبي الدرداء قال: كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنال رجل من رجل فرد عليه رجل، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من رد عن عرض أخيه رفع بها درجة ".
وفي رواية أخرى: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من رد عن عرض أخيه كان له حجاباً من النار ".
وفي رواية أخرى عن عباد بن أبي الدرداء عن أبيه قال: أهدي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كبشان أملحان جذعان فضحى بهما.
عبد الله بن أحمد بن إسحاق
ابن إبراهيم بن محمد أبو محمد المصري الجوهري سمع بدمشق وبمصر.
حدث عن إبراهيم بن مرزوق البصري بسنده عن سمرة بن جندب:
أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل يوماً المسجد فقال: " أيكم رأى رؤيا فليحدث بها. فلم يحدث أحد بشيء، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني رأيت رؤيا فاستمعوا مني: بينا أنا نائم إذ جاءني رجل فقال: قم فقمت، فقال: امضه فمضيت ساعة فإذا أنا برجلين: رجل قائم وآخر نائم، والقائم يجمع الحجارة فيضرب بها رأس النائم فيشدخه فإلى أن يجيء بحجر آخر عاد رأسه كما كان. قال: فقلت: سبحان الله ما هذا؟ فقال: امض أمامك فمضيت ساعة فإذا أنا برجلين؛ رجل جالس وآخر قائم وفي يده حديدة فيضعها في شدقه فيمده حتى يبلغ حاجبه ثم ينزعه ويمد الجانب الآخر، فإذا مد هذا عاد هذا كما كان. فقلت: سبحان الله ما هذا؟ فقال: امض أمامك فمضيت ساعة فإذا أنا بنهر من دم فيه رجل يسبح، وعلى شاطىء النهر رجل يجمع حجارة قد أحماها، قد تركها مثل الجمر. كلما دنا منه ألقمه حجراً -(12/13)
للذي في الدم - فقلت: سبحان الله ما هذا؟ فقال: امض أمامك فمضيت ساعة فإذا أنا بروضة قد ملئت أطفالاً ووسطهم رجل يكاد يرى رأسه طولاً في السماء. قلت: سبحان الله ما هذا؟ فقال: امض أمامك فمضيت ساعة فإذا أنا بشجرة لو اجتمع تحتها الخلق لأظلتهم، وتحتها رجلان: واحد يجمع حطباً والآخر يوقد. قلت: سبحان الله ما هذا؟ فقال: ارقب ساعة فإذا أنا بمدينة من ذهب وفضة وإذا أهلها شق منهم سود وشق منهم بيض فقلت: سبحان الله ما هذا؟ قال: امض أمامك، هل تدري أين مآبك؟ قال: قلت: مآبي عند الله عز وجل. قال: صدقت. قال: انظر إلى السماء فإذا أنا برابية - أو كلمة تشبهها - قال: ذاك مآبك قال: قلت: ألا تخبرني عما رأيت؟ قال: لا تفارقني وسلني عما بدا لك، وإذا أنا بمدينة أوسع منها ووسطها نهر ماؤه أشد بياضاً من اللبن، فيه رجال مشمرون يشدون إلى المدينة الأخرى فيصبغونهم في ذلك النهر - أو كلمة تشبهها - فيخرجون بيضاً نقاء. قال: قلت: أخبرني عن هذه المدينة الأخرى قال: تلك الدنيا، فيها ناس خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، تابوا فتاب الله عليهم قال: قلت: فالرجلين اللذين كانا يوقدان النار تحت الشجرة؟ قال: ذيناك ملكي جهنم يحمون جهنم لأعداء الله عز وجل يوم القيامة. قال: قلت: فالذي يسبح في الدم؟ قال: ذلك صاحب الربا، ذاك طعامه في القبر إلى يوم القيامة. قال: قلت: فالذي يشدخ رأسه؟ قال: ذلك رجل تعلم القرآن فنام عنه حتى نسيه لا يقرأ منه شيئاً. كلما رقد دقوا رأسه في القبر إلى يوم القيامة، لا يدعونه ينام. وسألته عن الذي يشق شدقه قال: ذاك رجل كذاب.
وحدث عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام ".
توفي عبد الله المصري سنة اثنتين وثلاثين وثلاث مئة.(12/14)
عبد الله بن أحمد بن بشير
ابن ذكوان أبو عمرو ويقال أبو محمد إمام المسجد الجامع بدمشق.
حدث بدمشق عن عراك بن خالد بن يزيد بن صالح بن صبيح المري بسنده عن ابن عباس قال: لما عزي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بابنته رقية امرأة عثمان بن عفان قال: الحمد لله، دفن البنات من المكرمات.
توفي ابن ذكوان سنة اثنتين وأربعين ومئتين، ومولده سنة ثلاث وسبعين ومئة.
عبد الله بن أحمد بن جعفر
ابن خذيان بن حامس أبو محمد الفرغاني الأمير القائد الجندي صاحب أبي جعفر الطبري. ذيل على تاريخ الطبري.
وحدث بدمشق في سنة خمس وأربعين وثلاث مئة عن أبي جعفر الطبري بسنده عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أفضلكم من علم القرآن أو تعلمه ".
ولد الفرغاني سنة اثنتين وثمانين ومئتين.
الجندي بضم الجيم وسكون النون. وخذيان: بخاء مضمومة وذال، معجمتين. وجلب خذيان من فرغانة إلى المعتصم فأسلم. ونزل عبد الله مصر وحدث بها.(12/15)
عبد الله بن أحمد أبي عمرو بن حفص
ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة القرشي المخزومي.
لأبيه أبي عمرو صحبة، كان مع أبيه بالشام حين خرج في جيش عمر لافتتاحها فأصيب جماعة من أهل بيته في طاعون عمواس، ونجا هو. ثم قدم على معاوية ثم قدم على يزيد بن معاوية فأكرمه وأحسن جائزته، ثم رجع إلى المدينة - وكان مرضياً صالحاً - فقام إلى جنب المنبر وقال: ألم أحب ألم أكرم؟ والله لرأيت يزيد بن معاوية يترك الصلاة سكراً. فأجمع الناس على خلعه بالمدينة فخلعوه، وخرج مع أهل الحرة فقتل. وفيه يقول الشاعر:
وبجنب القرارة ابن أبي عمرو ... قتيل جادت عليه السماء
والحرة سنة ثلاث وستين.
عبد الله بن أحمد بن خالد بن عبد الملك الأموي
سمع بدمشق وبغيرها.
حدث عن هشام بن عمار بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أول ليلة من شهر رمضان رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار ".
وحدث عن ابن مصفى بسنده عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا فشا الإسلام في الأنباط واتخذوا فيكم الدور، وقعدوا في الأفنية فاحذروهم فإن فيهم الدغل والنغل والفتنة ".(12/16)
عبد الله بن أحمد بن ديزويه
ويقال دبزويه أبو عمرو الجبيلي الدمشقي حدث بمصر وغيرها.
روى عن أحمد بن علي بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أيما شاب تزوج في حداثة سنه عج شيطانه: يا ويله عصم مني دينه ".
حدث سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة.
عبد الله بن أحمد بن راشد
ابن شعيب بن جعفر بن يزيد أبو محمد قاضي دمشق يعرف بابن أخت وليد ويقال ابن بنت وليد.
من أهل بغداد.
حدث عن أبي العباس محمد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني بسنده عن سعد بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يكون فتنة: القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، والساعي فيها خير من الراكب، والراكب فيها خير من الموضع ".
ولي قضاء دمشق سنة ثمان وأربعين وثلاث مئة من قبل الإخشيدية، وتوفي سنة تسع وستين وثلاث مئة، وكان يقال أنه جاوز التسعين، ونقل أنه كان خياطاً، كان أبوه حائكاً نسج المقانع، وكان سخيفاً خليعاً مذكوراً بالإرتشاء، وهجاه جماعة من أهل مصر منهم محمد بن بدر الغفاري، هجاه لكونه جعل رجلاً اسمه حماد كاتبه وحاجبه وما كتب قط، وإنما قدمه للمقاطعة في الأحكام والتعديل.(12/17)
عبد الله بن أحمد بن ربيعة بن سليمان بن خالد بن عبد الرحمن بن زبر
أبو محمد الربعي ولي القضاء بدمشق ومصر دفعات.
حدث سنة سبع وعشرين وثلاث مئة عن الهيثم بن سهل بسنده عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل الصالح لنفسه ويحمده الناس. قال: " تلك عاجل بشرى المؤمن ".
زبر جده: بفتح الزاي وسكون الباء.
تقلد أبو محمد عبد الله القضاء بمصر، ودخلها سنة سبع عشرة وثلاث مئة، وذكر أن مولده سنة نيف وخمسين ومئتين وقرأ عهده من قبل جعفر المقتدر في الجامع، ونظر في القضاء والأحباس والمواريث، وكان شيخاً ضابطاً من الدهاة ممشياً لأموره، عارفاً بالأخبار والكتب والسير في الدولتين.
قال معبد الصيداوي: كنت في خدمة القاضي أبي محمد عبد الله بن زبر، وخرجت معه إلى بغداد، فما قدر مفلح المقتدري على ولايته مع علي بن عيسى الوزير، فطال مقامه فقال لي يوماً: يا معبد لي عليك حق، وأريد أن ترفع لي رقعة إلى مجلس المظالم وهذه عشرون ديناراً، فأخذت منه الدنانير، وعملت على أن ألقي الرقعة في دجلة، وأقول: قد أوصلتها، فسهر ليلته حتى حرر الرقعة ثم أقامني في آخر الليل وألبسني ثوباً مشمراً في زي الخراسانية ومنديل خراساني، ودفع إلي دفاتر ومحبرة، ونقط الحبر على ثيابي، وسلم إلي رقعة. وركبت الزورق، ومررت إلى الموضع الذي فيه ترفع المظالم، فرأيت خادماً وامرأة بنقاب كحلي، وتأملت وإذا الرقاع لا تقرأ، وكنت قبل وصولي قد فتحت الرقعة أقرؤها لئلا يكون فيها أمر مهلك فإذا فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم: والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خير أمين دعا إلى خير(12/18)
الدين، محمد سيد المرسلين، وعلى أهل بيته الطاهرين، على رغم أنف الراغمين. حضر مدينة السلام رجل من أهل خراسان يريد الحج، فاشتغل بكتابة الحديث إلى أن يأتي وقت الحج، فرأى في منامه في ثلاث ليال متواليات العباس بن عبد المطلب في وسط مدينة السلام وهو يبني داراً. فكلما فرغ من موضع منها تقدم رجل فهدمه فقال صاحب هذه الرؤيا: يا عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ من هذا الذي قد بليت به يهدم كلما تبني؟ فقال: هذا علي بن عيسى فبهذه الرؤيا، ثم تأملت من يأخذ الرقاع من المتظلمين وإذا هو يتناول ويرمي خلفه فناولته الرقعة. وقلت لصاحب المركب: ادفع فدفع. وصرت إلى القاضي ابن زبر وهو قائم ينتظر ما يكون. فلما رآني سالماً حمد الله عز وجل ودخلت فقال لي: أي شيء كان؟ فقلت: رأيت خادماً وامرأة عليها نقاب كحلي، فقال: هذه أم موسى، فتناول الخادم الرقعة، فقال لي: قرأها؟ قلت: لا. قال: فقرأتها أنت؟ قلت: لا. فدعا بالمائدة وأكلت معه وكان صيفاً، وقام لينام. فدخل البواب فقال: القاضي ابن الأشناني قد جاء. فقال: يدخل، هذا منهم، فدخل وصاح، يهنئك أيهاالقاضي عزل عيسى وقبض عليه، فقال: أي شيء السبب؟ فقال: رقعة رفعت بأن رجلاً صالحاً رأى رؤيا كذا. فقال أمير المؤمنين المقتدر: هذه رؤيا صحيحة، يصرف ويقبض عليه، فأمر القاضي ابن زبر أن يسرج له وركب هو وابن الأشناني. فلما كان عند العتمة وافى ومعه عهده على القضاء بمصر ودمشق.
وكان من أوسع الناس حيلة، وأحذقهم بأخذ دينار ودرهم وهدية، ولا يمس هدية أو تقضى حاجة صاحبها. وحدث بمصر عن جماعة، وكانت مجالسة حفلة عامرة يملي ويقرأ عليه، ولم يزل قاضياً على مصر إلى أن صرف في سنة سبع عشرة وثلاث مئة، فكانت أيامه ستة أشهر. وولي قضاء مصر مراراً. وتوفي سنة تسع وعشرين وثلاث مئة بالفسطاط.(12/19)
عبد الله بن أحمد بن زياد
ابن زهير أبو جعفر الهمذاني المعروف بالدحيمي لقب بذلك لكثرة روايته عن دحيم، سمع جماعة.
حدث عن يحيى بن أيوب بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قرأ سورة الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفوراً له ".
وحدث عن منصور بن أبي مزاحم بسنده عن جابر قال: كانت لأبي قتادة جمة. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أكرمها " فكان يرجلها غباً.
عبد الله بن أحمد بن عبد الله
أبي الحواري بن ميمون أبو محمد حدث عن ابن علية بسنده عن حبيب بن مسلمة.
أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفّل الثلث.
توفي في سنة خمس وثلاث مئة.
عبد الله بن أحمد بن علي بن طالب
أبو القاسم البغدادي البراز قدم دمشق.
حدث عن أبي جعفر محمد بن عبد الله بن عبد الكريم النفيلي بسنده عن بلال بن الحارث قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان. وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان ".(12/20)
وحدث عن إبراهيم بن عبد الصمد عن علي أنه قال: نهاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أقرأ وأنا راكع، وأن أتختم بالذهب، وأن ألبس المعصفر، والقسي.
ولد سنة سبع وثلاث مئة، وتوفي سنة تسعين وثلاث مئة.
عبد الله بن أحمد بن علي
ابن صابر بن عمر أبو القاسم السلمي يعرف بابن سيده حدث عن أبي عبد الله الحسن بن أحمد السلمي بسنده عن يزيد بن عامر قال: جئت والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة. فلما وجدت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة - إما في الظهر وإما في العصر - قال: وقد كنت صليت في المنزل، جلست فلم أدخل في الصلاة، فانصرف علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرآني جالساً فقال: مسلم يا يزيد! فقلت: بلى يا رسول الله قد أسلمت. فقال: مالك - أو: ما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم! - قلت: كنت صليت في منزلي، وأنا أحسب أن قد صليتم. قال: فإذا جئت فوجدت الناس في صلاة فصل معهم وإن كنت قد صليت، تكون تلك نافلة وهذه مكتوبة.
ومن شعر أبي القاسم بن صابر:
صبراً لحكمك أيها الدهر ... لك أن تجور ومني الصبر
آليت لا أشكوك مجتهداً ... حتى يردك من له الأمر
توفي أبو القاسم بن صابر سنة ثلاث وتسعين وأربع مئة بدمشق، وذكر أن مولده سنة اثنتين وخمسين وأربع مئة.(12/21)
عبد الله بن أحمد بن عمر
ابن أبي الأشعث أبو محمد بن أبي بكر السمرقندي أبوه ولد بدمشق وسمع بها الحديث الكثير.
حدث عن أبي القاسم إسماعيل بن أحمد بسنده عن زيد بن خالد الجهني قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سب الديك، وقال: إنه يؤذن للصلاة.
ذكر أن مولده سنة أربع وأربعين بدمشق، وتوفي سنة ست عشرة وخمس مئة.
عبد الله بن أحمد بن عمرو
ابن أحمد بن معاذ، أبو الحسين، ويقال أبو العباس العنسي الداراني.
حدث عن أبي الميمون بسنده عن أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أوى إلى فراشه وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن ثم قال: " رب قني عذابك يوم تبعث عبادك ".
توفي بداريا سنة أربع عشرة وأربع مئة.
عبد الله بن أحمد بن محمد
ابن عبد الله بن ربيعة، أبو محمد بن الصباغ السلمي أخو أبي الفضل.
حدث بدمشق عن أبي عتبة أحمد بن الفرج الحجازي بسنده عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الغزو غزوان: فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وباشر الشريك واجتنب الفساد، يعني: فإن نومه ونبهه أجر كله، وأما من غزا فخراً ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لم يرجع بالكفاف ".
سمع سنة ثلاث عشرة وثلاث مئة.(12/22)
عبد الله بن أحمد بن محمد
ابن قبان أبو القاسم البغدادي.
حدث بدمشق عن أبي علي الحسن بن عليل العنزي بسنده عن أبي ذر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا ذر، زر غب تزدد حباً ".
وعنه بسنده إلى سعد بن قيس أنه قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " ما اسمك؟ " قال: سعد الخيل. قال: " بل أنت سعد الخير ".
قبان: بفتح القاف وتشديد الباء.
عبد الله بن أحمد بن محمد
ابن إبراهيم بن الليث، ابن شعبة بن البختري بن إبراهيم بن زياد بن الليث بن شعبة بن فراس ابن حابس، أخي الأقرع بن حابس.
أبو القاسم - ويقال: أبو محمد - التميمي المعلم المعروف بالغباغبي.
حدث عن ضرار بن سهل الضراري ببغداد بسنده عن علي بن أبي طالب وأنكره الحافظ جداً. ورواه من طريق آخر بسنده أن علي بن أبي طالب قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله أمرني أن أتخذ أبا بكر والداً، وعمر مشيراً، وعثمان سنداً، وأنت يا علي صهراً، فأنتم الأربعة قد أخذ الله ميثاقكم في أم الكتاب، لا يحبكم إلا مؤمن، ولا يبغضكم إلا منافق، وأنتم خلائق نبوتي، وعقد ذمتي، وحجتي على أمتي ".
توفي عبد الله بن أحمد - وكان معلماً بدمشق على باب الجابية - سنة خمس وعشرين وثلاث مئة.(12/23)
وحدث عن الحر بن يزيد القطان بسنده عن جابر بن عبد الله قال: كنا جلوساً عند النبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، إن ابناً لي دب من سطح لنا إلى ميزاب فهو متعلق به، فادعوا الله أن يهبه لوالديه. قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قوموا بنا ". قال جابر: فانبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأيت أمراً عظيماً، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادعوا لي صبياً مثله على السطح "، فدعوه فناغاه ثم ناغاه فدب الصبي حتى أخذه أبوه، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل تدرون ما قال له؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: قال له: لم تلقي نفسك فتتلفها؟! قال: مخافة الذنوب. قال: فلعل العصمة أن تلحقك ".
قال الحافظ: هذا حديث منكر، والغباغبي غير ثقة.
عبد الله بن أحمد بن محمد
ابن يحيى بن حمزة بن واقد الحضرمي من بيت لهيا.
حدث عن أبيه بسنده عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الولاء وعن هبته.
قال الحافظ: هذا غريب، والمحفوظ عن عبد الله بن دينار.
عبد الله بن أحمد بن مروان
ابن عبد الصمد، أبو المعالي سمع بدمشق.
حدث عن أبي القاسم عبد الرزاق بن عبد الله بن الحسن بن الفضيل الكلاعي بسنده عن عثمان ابن عفان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن من خياركم - أو أفاضلكم - من تعلم القرآن وعلمه ".
ولد سنة أربعين وأربع مئة.(12/24)
عبد الله بن أحمد بن المنيب
من أهل ساحل دمشق.
حدث عن يزيد بن محمد بن عبد الصمد بسنده عن جابر قال: آخر الأمرين من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ترك الوضوء مما مست النار ".
عبد الله بن أحمد بن موسى
ابن زياد أبو محمد الجواليقي الأهوازي القاضي المعروف بعبدان أحد الحفاظ المجودين المكثرين. قدم دمشق نحو سنة أربعين ومئتين وسمع بها.
حدث عن هشام بن عمار بسنده عن عائشة قالت: ما رفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه إلى السماء إلا قال: " يا مصرف القلوب ثبت قلبي على دينك ".
وحدث عن سهل بن عثمان العسكري بسنده عن علي بن أبي طالب قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفتتح الصلاة بقول: " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، اعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلا أنت، واصرف عني سيئها فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير في يديك وأنا بك وإليك، لا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، واستغفرك، ثم أتوب إليك، ثم قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا ركع قال: اللهم لك ركعت، ولك أسلمت، وبك آمنت، وأنت ربي، خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي وما استقلت به قدمي لله رب العالمين. ثم رفع رأسه فإذا رفع رأسه قال: سمع الله لمن حمده ثم يقول: اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء. ثم سجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: اللهم لك سجدت،(12/25)
وبك آمنت، وإليك أسلمت، أنت ربي سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين ".
قال أبو علي الحافظ: كان عبدان يحفظ مئة ألف حديث.
وقال أبو علي: ما رأيت من المشايخ أحفظ من عبدان.
وقال أبو جعفر محمد بن عثمان وراق عبدان: سمعت عبدان يقول: لولا أني في بلد مفتنين - يعني بالقدرية - لقلت في الحديث ما لم يقله علي بن المديني.
مات عبدان الجواليقي سنة ست وثلاث مئة وقيل سنة سبع وثلاث مئة، ومولده سنة ست عشرة ومئتين. وكان في الحديث إماماً.
عبد الله بن أحمد بن وهيب
أبو العباس الدمشقي يعرف بابن عدبس حدث عن العباس بن الوليد بن مزيد بسنده عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " نضر الله عبداً سمع مقالتي ثم وعاها ثم حفظها، فرب حامل فقه غير فقيه، وربما حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن؛ إخلاص العمل، ومناصحة ولاة الأمر، والاعتصام بجماعة المسلمين، فإن دعاءهم يحيط من ورائهم ".
عبد الله بن أحمد اليحصبي
من دمشق حدث عن علي بن أبي علي بسنده عن أبي ريطة بن كرامة المذحجي قال: كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لقوم سفر: لا يصحبنكم جلال من هذه النعم - يعني: الضوال - ولا يضمن أحدكم ضالة، ولا يردن سائلاً إن كنتم تريدون الربح والسلامة، ولا يصحبنكم من الناس إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ساحر ولا ساحرة ولا كاهن ولا كاهنة ولا منجم ولا منجمة ولا شاعر ولا شاعرة، وإن كان يريد الله أن يعذب به أحداً من عباده فإنما يبعث به إلى السماء الدنيا، فأنهاكم عنمعصية الله عشاء ".(12/26)
وحدث عن أبي معيد بسنده عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يدعو: اللهم عافني في قدرتك، وأدخلني رحمتك، واقض أجلي في طاعتك، واختم لي بخير عملي، واجعل ثوابه الجنة ".
عبد الله بن أحمد أبو محمد الزبيري
حدث عن تمام بن محمد بن عبد الله الرازي بسنده عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما من رجل يمر بقبر كان يعرفه في الدنيا، فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ".
عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله
ابن سيما أبو محمد المؤدب إمام مسجد نعيم.
حدث عن أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن مروان بسنده عن الزهري أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نذر كان على أمه، ماتت ولم تقضه، فأمره بقضائه.
توفي سنة إحدى وعشرين وأربع مئة.
عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن علي
ابن بندار بن عباد أيمن أبو علي الدينوري حدث عن أبي القاسم عبد الرزاق بن عبد الله بن الحسن بن الفضيل الكلاعي بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ألا من تعلم القرآن وعلمه وأخذ بما عليه وأخذ بما فيه فأنا له سائق ودليل إلى الجنة.
توفي سنة اثنتين وخمس مئة بدمشق حرسها الله تعالى.(12/27)
عبد الله بن إبراهيم بن يوسف
أبو القاسم الآبندروني الجرجاني الحافظ طاف وكتب وسمع بدمشق وغيرها.
حدث عن محمد بن إبراهيم الرازي بسنده عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن علماً لا ينتفع به ككنز لا ينفق في سبيل الله ".
كان أبو القاسم الجرجاني أحد أركان الحديث، وسافر في الحديث إلى خراسان وفارس والبصرة والشام ومكة، وكان زاهداً متعللاً، ولم يكن يحدث بحديث غير واحد منفرد، فقيل له في ذلك فقال: أصحاب الحديث فيهم سوء، فإذا اجتمعوا للسماع تحدثوا، وأنا لا أصبر على ذلك.
قال البرقاني: دفع إلي أبو القاسم يوماً قدحاً فيه كسر يابسة وأمرني أن أحمله إلى ألبا قلاني ليطرح عليه ماء الباقلاء ففعلت ذلك، فلما ألقى الباقلاني الماء وقع في القدح من الباقلاء ثنتان أو ثلاثة فبادر الباقلاني إلى رفعها فقلت له: ويحك! ما مقدار هذا حتى ترفعه من القدح؟! فقال: هذا الشيخ يعطيني في كل شهر دانقاً حتى أبل له الكسر اليابسة فكيف أدفع إليه الباقلاء مع الماء؟!.
توفي أبو القاسم الآبندوني سنة ثمان وستين وثلاث مئة، وقيل سبع وستين وله خمس وتسعون سنة.
عبد الله بن أبيّ
ويقال عبد الله بن كعب. ويقال: عبد الله بن عمرو بن قيس بن زيد بن سواد بن مالك بن غنم ابن مالك بن النجار أبو أبي بن أم حرام امرأة عبادة بن الصامت.
صحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلى معه القبلتين.
عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: خرجنا من عند واثلة بن الأسقع فلقينا عبد الله بن الديلمي فقال: من أين؟ قلنا:(12/28)
من عند واثلة بن الأسقع. فقال: من تريدون؟ قلنا: أبا أبي الأنصاري فقال: عليكم الرجل، عليكم الرجل. قال: فدخلنا على أبي أبيّ فقال أبو أبي: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " السنا والسنوت فيهما دواء من كل داء ".
قال أبو حذيفة: بلغني أن اسم أبي أبيّ: عبد الله بن أم حرام امرأة عبادة الصامت. فقيل لابن أبي عبلة: وما السنوت؟ قال: أما سمعت قول زهير:
هم السمن بالسنوت لا ألس فيهم ... وهم يمنعون الجار أن يتقردا
قال: لا ألس: لا كذب.
وقيل السنوت: هو العسل، وقيل: الكمون البري.
وكان أبو أبي يسكن بيت المقدس.
وفي حديث آخر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عليكم بالسنا والسنوت فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام. قالوا يا رسول الله وما السام؟ قال الموت ".
قال أبو الدرداء: قلت لعمر بن بكر: ما السنوت؟ قال: في غريب كلام العرب: رب عكة السمن تعصر فتخرج خطوطاً سوداً مع السمن وأنشد البيت: هم السمن بالسنوت؟.
ولا ألس فيهم: لا غش فيهم. قلنا: يتقرد؟ قال: لا يستذل جارهم.
وحدث إبراهيم عن أبي عبلة العقيلي: أنه لقي أبا أبي بن أم حرام الأنصاري فأخبره أنه صلى مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القبلتين، ورأى عليه كساء خز أغبر.(12/29)
وروى أبو أبي: صلوا الصلاة لوقتها.
قال إبراهيم بن أبي عبلة: كنت أنا وابن الديلمي في مسجد بيت المقدس فدخل واثلة بن الأسقع وعبد الله بن أم حرام، فقمت إلى ابن أم حرام وقام ابن الديلمي إلى واثلة بن الأسقع، فأخبرني ابن أم حرام أنه صلى مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القبلتين.
وحدثني ابن الديلمي أن واثلة بن الأسقع حدثه قال: أتينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صاحب لنا قد أوجب فقال: " اعتقوا عنه رقبة، يفك الله تعالى عنه بكل عضو منها عضواً من النار ".
وقال إبراهيم بن أبي عبلة: رأيت من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن أم حرام، وواثلة بن الأسقع وغيرهم، كانوا يلبسون البرانس، ويقصون شواربهم ولا يحفون حتى ترى الجلدة ولكن يكشفون الشفة، ويخضبون بالحناء والكتم.
عبد الله بن إسحاق بن إسماعيل
ابن مسروق العذري عم أبي قصي.
حدث عن معروف الخياط عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من حمل بجوانب السرير الأربع غفر له أربعين كبيرة.
وفي رواية أخرى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من شهد جنازة ومشى أمامها، وجلس حتى يأخذ بأربع زوايا السرير، وجلس حتى يدفن كتب له قيرطان من أجر، أخفهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من أحد ".(12/30)
عبد الله بن إسماعيل بن عبد كلال
المعروف بوضاح اليمن من أهل صنعاء، من الأبناء، ويقال عبد الرحمن بن إسماعيل بن عبد كلال بن داد بن أبي حمد، من آل خولان. لقب بوضاح اليمن لجماله. قيل: إنه قدم دمشق على الوليد بن عبد الملك فأحسن رفده.
حدث أبو مسهر قال: كان وضاح اليمن يشاهد وأم البنين صغيرين فأحبها وأحبته فكان لا يصبر عنها، حتى إذا بلغت حجبت عنه، فطال بهما البلاء فحج الوليد بن عبد الملك فبلغه جمال أم البنين وأدبها فتزوجها ونقلها معه إلى الشام. قال: فذهب عقل وضاح عليها، وجعل يذوب وينحل، فلما طال عليه البلاء خرج إلى الشام فجعل يطيف بقصر الوليد بن عبد الملك في كل يوم لا يجد حيلة حتى رأى يوماً جارية صفراء فلم يزل حتى تأنس بها، فقال لها: هل تعرفين أم البنين؟ قالت: إنك تسأل عن مولاتي فقال: إنها لابنة عمي وإنها لتسر بموضعي لو أخبرتها، قالت: إني أخبرها، فمضت الجارية فأخبرت أم البنين فقالت: ويلك أوحي هو؟ قالت: نعم قالت: قولي له: كن مكانك حتى يأتيك رسولي فلن أدع الاحتيال لك؛ فاحتالت أن أدخلته إليها في صندوق فمكث عندها حيناً حتى إذا أمنت أخرجته فقعد معها، وإذا خافت عين رقيب أدخلته الصندوق. فأهدي يوماً للوليد بن عبد الملك جوهر فقال لبعض خدمه: خذ هذا الجوهر فامض به إلى أم البنين وقل لها: أهدي هذا إلى أمير المؤمنين فوجه به إليك، فدخل الخادم من غير استئذان ووضاح معها فلمحه ولم تشعر أم البنين، فبادر إلى الصندوق فدخله، فأدى الخادم الرسالة إليها وقال: هبي لي من هذا الجوهر حجراً فقال: لا أم لك وما تصنع أنت بهذا؟ فخرج وهو عليها حنق، فجاء الوليد فخبره الخبر ووصف له الصندوق الذي رآه دخله، فقال له: كذبت لا أم لك، ثم نهض الوليد مسرعاً فدخل عليها وهي في ذلك البيت وفيه صناديق عداد، فجاء حتى جلس على ذلك الصندوق الذي وصف له الخادم فقال لها: يا أم البنين، هبي لي صندوقاً من صناديقك(12/31)
هذه فقالت: يا أمير المؤمنين هي وأنا لك فقال: ما أريد غير هذا الذي تحتي قالت: يا أمير المؤمنين، إن فيه شيئاً من أمور النساء قال: ما أريد غيره فقالت: هو لك فأمر به فحمل ودعا بغلامين وأمرهما بحفر بئر حق إذا حفرا فبلغ الماء وضع فمه على الصندوق وقال: أيها الصندوق، قد بلغنا عنك شيء فإن كان حقاً فقد دفنا خبرك ودرسنا أثرك، وإن كان كذباً فما علينا في دفن الصندوق من خشب حرج، ثم أمر به فألقي في الحفرة وأمر بالخدم فقذف في ذلك المكان فوقه، وطم عليهما جميعاً التراب. قال: فكانت أم البنين توجد في ذلك المكان تبكي إلى أن وجدت فيه يوماً مكبوبة على وجهها ميتة.
وحكي عن هشام بن محمد بن السائب: أن أم البنين كانت عند يزيد بن عبد الملك فكان لها من قلبه موضع، وأنه سير إليها جوهراً مع الخادم فوجد عندها وضاح اليمن - وحكى مثل الصورة - إلى أن رماه في الحفيرة وأهال عليه التراب حتى استوى، فلم ير وضاح اليمن حتى الساعة. قال: ولا والله ما بان لها في وجهه ولا في خلائقه ولا في شيء حتى فرق الموت بينهما.
عبد الله بن إسماعيل بن يزيد
ابن حجر أبو عمر البيروتي ابن بنت الأوزاعي حدث عن أبيه عن جده الأوزاعي قال: من تعلم باباً من العلم كان أفضل من عبادة حول يصام نهاره ويقام ليله.
وعن أبيه قال: كان بلال بن سعد يقول: يا عباد الله، هل أتاكم مخبر يخبركم أن أعمالكم تقلبت وخطاياكم غفرت أم " حسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ".(12/32)
وكان بلال يقول أيضاً: يا عباد الله، كما ترجون رحمة الله بما تأتون من طاعته فكذلك فأشفقوا من عذاب الله بما تأتون من معاصيه.
عبد الله بن إسماعيل الديلي
حدث ببيروت عن حمد بن عبد الملك بسنده عن مالك بن الحويرث قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه إذا كبر لافتتاح الصلاة، ويرفع يديه إذا كبر للركوع، ويرفع يديه إذا قال: سمع الله لمن حمده.
عبد الله بن أوفى
ويقال عبد الله بن عمرو ابن النعمان بن ظالم بن مالك بن أبي بن عصر بن سعد بن عمرو بن جشم أبو عمرو ويقال: ابن الكواليشكري، المعروف بابن الكوا قال عوانة:
قدم على معاوية قوم من أهل الكوفة، فيهم صعصعة بن صوجان العبدي وعبد الله بن الكواليشكري، فأنزلهم معاوية داراً من دور دمشق وأمرهم أن لا يخرجوا منها، وكان في الدار مسجد يخرجون إليه، ويتحدثون فيه. فبينما هم يتحدثون أقبل معاوية ودخل إليهم فقال: هذا خير لكم من الفتنة. أنشدكم الله أي رجل أنا؟ فسكتوا ثم نشدهم مرتين فقال له ابن الكوا: أما إذا نشدتنا الله فإنك واسع الدنيا، ضيق الآخرة، قريب المرعى، بعيد الثرى، تجعل الظلمات نوراً، والنور ظلمات، فقام ولم يقل شيئاً. فلما أصبح أمر لهم بجوائزهم وردهم إلى الكوفة.
وفي حديث آخر أنه لما قدم مسيرة أهل الكوفة على معاوية أنزلهم داراً ثم خلا بهم فقال لهم، وقالوا(12/33)
له. فلما فرغوا قال: لم تؤتوا إلا من الحمق، والله ما أرى منطقاً سديداً، ولا عذراً مبيناً، ولا حلماً، ولا قوة، وإنك يا صعصعة لأحمقهم، اصنعوا وقولوا ما شئتم ما لم تدعوا شيئاً من أمر الله تعالى، فإن كل شيء يحتمل لكم إلا معصية الله تعالى، فأما فيما بيننا وبينكم فأنتم أمراء أنفسكم، فرآهم بعد وهم يشهدون الصلاة ويقضون مع قاضي الجماعة، فدخل عليهم يوماً وبعضهم يقرىء بعضاً فقال: إن في هذا لخلفاً مما قدمتم به علي من النزاع إلى أمر الجاهلية، اذهبوا حيث شئتم واعلموا أنكم إن لزمتم جماعتكم سعدتم بذلك دونهم، وإن لم تلزموها شقيتم بذلك دونهم، ولم تضروا أحداً، فجزوه خيراً، وأثنوا عليه فقال: يا بن الكوا، أي رجل أنا؟ قال: بعيد الثرى، كثير المرعى، طيب البديهة، بعيد الغور، الغالب عليك الحلم، ركن من أركان الإسلام، سدت بك فرجة مخوفة، قال: فأخبرني عن أهل الأحداث من أهل الأمصار فإنك من أفضل أصحابك فقال: كاتبوني وكاتبتهم فأنكروني وعرفتهم. فأما أهل الأحداث من أهل المدينة فهم أحرص الأمة على الشر وأعجزه عنه، وأما أهل الأحداث من أهل الكوفة فإنهم أنظر الناس في صغير وأركبه لكبير، وأما أهل الأحداث من أهل البصرة فإنهم يردون جميعاً ويصدرون شتى، وأما أهل الأحداث من أهل الشام فأطوع الناس لمرشدهم وأعصاهم لمغويهم.
قال علي بن ربيعة: سأل ابن الكوا علياً: ما " الذاريات ذرواً " قال: الريح، قال: فما " الحاملات وقراً " قال: السحاب، قال: فما " الجاريات يسراً " قال: السفن. قال: فما " المقسمات أمراً " قال: الملائكة. قال: هذه اللطمة في القمر، قال الله عز وجل: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ".
يا بن الكوا، أما والله ما العلم أردت ولكنك أردت العنت، فكيف بقولك - ثكلتك أمك، لو تعنت يا بن الكوا -: من رب الناس؟ قال: الله، قال: فمن مولى(12/34)
الناس؟ قال: الله. قال: كذبت " الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ".
وعن أبي الطفيل مختصراً قال: قال علي بن أبي طالب: سلوني عن كتاب الله عز وجل، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليلٍ أنزلت أو نهار، أو في سهل أو جبل فسألت عن الآيات التي تقدم ذكرها. وفيه: وقال: يقول الله عز وجل: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار " قال: نزلت في الأفخرين من قريش. قال: وهذه الآية: " هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً " قال: أولئك أهل حروراء. قال: أما هذا القوس قزح؟ قال: أمان من الغرق، علامة كانت بين نوح وبين ربه. قال: أفرأيت ذا القرنين، أنبي كان أو ملك؟ قال: لا واحد منهما، ولكن كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه، وناصح الله فنصحه، ودعا قومه إلى الهدى فضربوه على قرنه، فانطلق فمكث ما شاء الله أن يمكث فدعاهم إلى الهدى فضربوه على قرنه الآخر فسمي ذا القرنين: ولم يكن له قرنان كقرني الثور.
وفي حديث آخر عن النزال بن سبرة قال:
وافقنا من علي بن أبي طالب ذات يوم طيب نفس ومزاج. وذكر الحديث وفيه: قالوا: يا أمير المؤمنين، إن الله يقول: " وأما بنعمة ربك فحدث " قال: كنت أمرأ أبتدأ فأعطى وأسكت فأبتدأ، وإن تحت الجوارح مني لعلماً جماً. سلوني. فقام ابن الكوا فسأله. وذكر الحديث، وفيه: قال: فقوله: " والسماء ذات الحبك " قال: ويحك، ذات الخلق الحسن. وفيه: قال: فأخبرنا عن المجرة التي في السماء. قال: هي أبواب السماء التي(12/35)
صب الله عز وجل منها الماء المنهمر على قوم نوح. وفيه: قال: فأخبرنا: كم ما بين المشرق والمغرب؟ قال: مسيرة يوم للشمس، من قال غير هذا فقد كذب. قال: يا أمير المؤمنين، كم بين السماء والأرض؟ قال: دعوة مستجابة فمن قال غير هذا فقد كذب. قال: فأخبرنا عن قوله: " هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً " أولئك القسيسون والرهبان، ومد علي بها صوته. قال: وما أهل النهر منهم غداً ببعيد، قال: وما خرج أهل النهر بعد. قال: يا أمير المؤمنين، لا أسأل أحداً سواك ولا آتي غيرك. قال: فقال: إن كان الأمر إليك فافعل. قال: فلما خرج أهل النهر خرج معهم ثم رجع تائباً.
قال معاوية لابن الكوا: صف لي الزمان والإخوان فقال: أنت الزمان والإخوان، فإن تصلح صلحاً وإن تفسد فسداً. قال: صدقت.
ومن حديث: قدم عبد الله بن الكوا على معاوية. قال: فأخبرني عن أهل مصر. قال: لقمة آكل. قال: فأخبرني عن أهل الجزيرة. قال: كناسة بين مدينتين. قال: فأخبرني عن أهل الموصل. قال: قلادة وليدة فيها من كل خرزة. قال: فأخبرني عن أهل الشام قال: جند أمير المؤمنين ولا أقول فيهم شيئاً. قال: لتقولن، قال: أطوع الناس لمخلوق وأعصاهم لخالق، ولا يحسبون للسماء ساكناً.
قال عبد الله بن شداد: قدمت على عائشة رضي الله عنها، فبينا نحن جلوس عندها مرجعها من العراق ليالي قوتل علي، إذ قالت لي: يا عبد الله بن شداد، هل أنت صادقي عما أسألك عنه؟ حدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي، قلت: وما لي لا أصدقك، قالت: فحدثني عن قصتهم قلت: إن علياً لما أن كاتب معاوية وحكم الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس، فنزلوا أرضاً من جانب الكوفة، يقال لها حروراء، وأنهم أنكروا عليه فقالوا: انسلخت من(12/36)
قميص ألبسكه الله وأسماك به، ثم انطلقت فحكمت في دين الله ولا حكم إلا لله، فلما بلغ علياً ما عتبوا عليه وفارقوه أمر فأذن مؤذن: لا يدخلن على أمير المؤمنين إلا رجل قد حمل القرآن. فلما أن امتلأ من قراء الناس الدار دعا بمصحف عظيم فوضعه علي بين يديه فطفق يصكه بيديه ويقول: أيها المصحف حدث الناس، فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما تسأله عنه! إنما هو ورق ومداد ونحن نتكلم بما روينا منه، فماذا تريد؟ قال: أصحابكم الذين خرجوا، بيني وبينهم كتاب الله، يقول الله في امرأة ورجل: " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً " فأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم حرمة من امرأة ورجل، ونقموا علي أن كاتبت معاوية وكتبت: علي بن أبي طالب وقد جاء سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديبية حين صالح قومه قريشاً فكتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم قلت: فكيف أكتب؟ قال: اكتب: باسمك اللهم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اكتبه ثم قال: اكتب: من محمد رسول الله فقال: لو نعلم أنك رسول الله لم نخالفك فكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشاً، يقول الله في كتابه " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر " فبعث إليهم علي بن أبي طالب عبد الله بن عباس، فخرجت معهم حتى إذا توسطنا عسكرهم، قام ابن الكوا فخطب الناس فقال: يا حملة القرآن، إن هذا عبد الله بن عباس، فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه من كتاب الله.
هذا ممن نزل فيه وفي قومه " بل هم قوم خصمون " فردوه إلى صاحبه ولا تواضعوه كتاب الله. قال: فقام خطباؤهم فقالوا: والله لنواضعنه كتاب الله، فإذا جاء بالحق نعرفه اتبعناه، ولئن جاءنا بباطل لنبكتنه بباطله ولنردنه إلى صاحبه، فواضعوه على كتاب الله ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف كلهم، فأقبل بهم ابن الكوا حتى أدخلهم على علي، فبعث عليّ إلى بقيتهم فقال: قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم، قفوا حيث شئتم حتى تجتمع أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتنزلوا فيها حيث شئتم، بيننا وبينكم أن تقيكم رماحنا ما لم تقطعوا سبيلاً، أو تطلبوا دماً، فإنكم(12/37)
إن فعلتم ذلك فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء " إن الله لا يحب الخائنين " فقالت له عائشة: يا بن شداد، فقد قتلهم، فقال: والله ما بعث إليهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدماء وقتلوا ابن خباب واستحلوا أهل الذمة، فقالت: الله، قلت: الله الذي لا إله إلا هو لقد كان. قالت: فما شيء بلغني عن أهل العراق يتحدثون به، يقولون: ذو الثدي، ذو الثدي؟ قلت: قد رأيته في مسجد بني فلان يصلي، ورأيته في مسجد بني فلان يصلي، فلم يأتني بثبت يعرف إلا ذلك. قالت: فما قول عليّ حين قام عليه كما يزعم أهل العراق؟ قلت: سمعته يقول: صدق الله ورسوله. قالت: أجل، صدق الله ورسوله، يرحم الله علياً، إنه من كلامه، كان لا يرى شيئاً يعجبه إلا قال: صدق الله ورسوله.
وعن ابن شهاب قال:
خاصمت الحرورية علياً عليه السلام ستة أشهر فقالوا: شككت في أمر الله الذي ولاك، وحكمت عدوك ووهنت في الجهاد، وتأولوا على علي وأصحابه " إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين " وتأولوا قول الله: " والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء " فطالت خصومتهم وخصومة علي بالكوفة، ثم أصبحوا يوماً وقد زالوا براياتهم، وهم خمسة آلاف عليهم ابن الكوا، فقطع بقتالهم وأرسل إليهم عبد الله بن عباس وصعصعة بن صوحان من عبد القيس، فناشدوهم ودعوهم إلى الجماعة فأبوا عليهم. فلما رأى ذلك علي أرسل إليهم: إنا ندعوكم إلى مدة نتدارس فيها كتاب الله لعلنا نصطلح، فمادوه بضع عشرة ليلة فقال علي: ابعثوا منكم اثني عشرة نقيباً ونبعث منا مثلهم، ثم ابرزوا منا إلى مكان سماه يجتمع الناس فيه ويقوم فيه خطباؤنا بحججنا ففعلوا ورجعوا إلى الناس، فقام علي فتشهد، ثم قال: أما بعد. فإني لم أكن أحرضكم على هذه القضية وعلى التحكيم، ولكنكم وهنتم في القتال وتفرقتم علي وحاكمتوني بالقرآن، فخشيت أن أبيت الذي عرض علينا القوم من كتاب الله أن يتأولوا كتاب الله علي: " ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم(12/38)
يتولى فريق منهم وهم معرضون ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون " وخشيت أن يتأولوا علي قول الله: " يا آيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة " وخشيت أن يتأولوا علي قول الله في الرجل وامرأته: " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما " فيقولوا لي إن أبيت أن أحكم فيها: قد دعاك القوم إلى كتاب الله فتحكم بينهم، قد فرض الله في الكتاب حكمين في أصغر من هذا الأمر الذي فيه سفك الدماء وقطع الأرحام وانتهاك المحارم فيخاصموني من كتاب الله بما ترون أن لكم الحجة علي، فأجبت حين دعيت إلى الحكم بكتاب الله، وخشيت وهنكم وتفرقكم، ثم قامت خطباء علي فنحو بالنحو الذي احتج به علي، حتى إذا فرغوا قام خطباء الحرورية فقالوا: إنكم دعوتمونا إلى كتاب الله فأجبناك ودعوتمونا إلى العمل به حتى قتلت عليه القتلى يوم الجمل ويوم صفين، وقطعت فيه الأرحام، ثم شككت في أمرك وحكمت عدوك، فنحن على أمرك الذي تركت وأنت اليوم على غيره إلا أن تتوب وتشهد على نفسك بالضلالة فيما سلف فلما فرغوا من قولهم قال علي: أما أن أشهد على نفسي بالضلالة، فمعاذ الله أن أكون ارتبت منذ اهتديت بل بنا هداكم الله، وبنا استنقذكم الله من الضلالة، ولكن حكمت منا حكماً ومنهم حكماً، وأخذت عليهما أن يحكما بكتاب الله وسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسنة الجامعة غير المفرقة. فإذا فعلاً كنت ولي هذا الأمر، وإن خالفا لم يكن لهما علي حكم. فكثر قول علي وقولهم واختصامهم ثم تفرقوا. فنبذ بعضهم إلى بعض، فأرسل إليهم علي عبد الله بن عباس وصعصة بن صوحان فكلمهم فقال: اسمعوا مني أعظكم بكلمات فإن الخصومة قد طالت منذ هذه الأشهر. يا قوم، أذكركم الله والإسلام أن تكونوا شيناً لأهل القرآن، فإنكم - والله - لقد فتحتم أمراً لو دخلت فيه هذه الأمة بأسرها ما بلغت غورة أبداً. قالوا: يا صعصعة، إنا نخشى إن أطعناك اليوم أن نفتتن عاماً قابلاً، قال: يا قوم، إني أذكركم الله والإسلام أن تعجلوا فتنة العام خشية فتنة عام قابل، قال ابن الكوا - وهو رأسهم(12/39)
الذي دعاهم إلى البدعة التي ركبوا -: يا قوم، ألستم تعلمون أني دعوتكم إلى هذا الأمر وأنا رأسكم اليوم فيه؟ قالوا: بلى قال: فإني أول من أطاع، فإن هذا واعظ شفيق على الدين، فقاموا معه قريب من خمس مئة ودخلوا في جماعة أمر علي وبقي قريب من خمسة آلاف فقاتلهم وقاتلوه حتى أبادهم، اعتزل منهم أهل النخيلة، وهم قريب من ألف رجل، فأقرهم علي، يأخذون أعطيتهم لا يزيدون عليها من كل مال مر بهم، ولا يبتزون أحداً ولا يقطعون سبيلاً. وقال علي: ذروهم ما تركركم. فلم يزالوا كذلك حتى قتل علي عليه السلام.
عبد الله بن الأهتم واسم الأهتم سمي
ابن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، أبو معمر المنقري.
وفد على سليمان بن عبد الملك رسولاً من يزيد بن المهلب.
قال خالد بن معدان: دخل عبد الله بن الأهتم على عمر بن عبد العزيز مع العامة فلم يفجأ عمر إلا وهو بين يديه يتكلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد. فإن الله خلق الخلق غنياً عن طاعتهم آمناً لمعصيتهم، والناس يومئذ في المنازل، والرأي مختلفون، والعرب بشر تلك المنازل، أهل الحجر وأهل الوبر وأهل الدبر تحتاز دونهم طيبات الدنيا ورخاء عيشها، لا يسألون الله جماعة، ولا يتلون كتاباً، ميتهم في النار، وحيهم أعمى يحشر مع ما لا يحصى من المرغوب عنه والمزهود فيه. فلما أن أراد الله أن ينشر عليهم رحمته بعث إليهم رسولاً من أنفسهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورحمة الله وبركاته فلم يمنعهم ذلك أن جرحوه في جسمه، ولقبوه في اسمه، ومعه كتاب من الله ناطق لا يقدم إلا بأمره، ولا يرحل إلا بإذنه. فلما(12/40)
أمر بالعزمة وحمل على الجهاد انبسط لأمر الله فأفلج الله حجته، وأجاز كلمته، وأظهر دعوته، وفارق الدنيا تقياً نقياً.
ثم قام بعده أبو بكر فسلك سنته وأخذ سبيله، وارتدت العرب - أو من فعل ذلك منهم - فأبى أن يقبل منهم بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا الذي كان قابلاً، أشرع السيوف من أغمادها، وأوقد النيران في شعلها ثم ركب بأهل الحق أهل الباطل، فلم يبرح يقطع أوصالهم ويسقي الأرض دماءهم حتى أدخلهم في الذي خرجوا منه، وقررهم بالذي نفروا عنه، وقد كان أصاب من مال الله بكراً يرتوي عليه، وحبشية أرضعت ولداً له فرأى ذلك عند موته غصة في حلقه، فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده وفارق الدنيا تقياً نقياً على منهاج صاحبه.
ثم قام بعده عمر بن الخطاب فمصر الأمصار وخلط الشدة باللين. وحسر عن ذراعيه وشمر عن ساقيه، وأعد للأمور أقرانها، وللحرب آلتها. فلما أصابه قين المغيرة بن شعبة أمر ابن عباس يسأل الناس: هل يثبتون قاتله؟ فلما قيل: قين المغيرة بن شعبة استهل بحمد ربه أن لا يكون أصابه ذو حق في الفيء فيحتج عليه بأنه إنما استحل دمه بما استحل من حقه. وقد كان أصاب من مال الله بضعة وثمانين ألفاً فكسر لها رباعه وكره بها كفالة أولاده، فأداها إلى الخليفة من بعده وفارق الدنيا تقياً نقياً على منهاج صاحبه.
ثم إنك يا عمر بني الدنيا، ولدتك ملوكها وألقمتك ثديها فربيت فيها تلتمسها مظانها. فلما وليتها ألقيتها حيث ألقاها الله، هجرتها وجفوتها وقذرتها إلا ما تزودت منها. فالحمد لله الذي جلا بك حوبتنا، وكشف بك كربتنا فامض ولا تلتفت، فإنه لا يعز على الحق شيء، ولا يذل على الباطل شيء. أقول قولي وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات.
قال أبو أيوب: فكان عمر بن عبد العزيز يقول في شيء قال لي ابن الأهتم: امض ولا تلتفت.(12/41)
كنا عند الحسن بن علي فأتاه آت فقال: يا أبا سعيد، دخلنا آنفاً على عبد الله بن الأهتم فإذا هو يجود بنفسه فقلنا: أبا معمر، كيف تجدك؟ قال: أجدني والله وجعاً ولا أظنني إلا لمآبي. ولكن ما تقولون في مئة ألف في هذا الصندوق لم تؤد منها زكاة، ولم يوصل منها رحم؟ قلنا: يا أبا معمر، فلمن كنت تجمعها؟ قال: كنت أجمعها لروعة الزمان، وجفوة السلطان، ومكاثرة العشيرة. فقال الحسن: البائس، انظروا أنى أتاه شيطانه فحذره روعة زمانه وجفوة سلطانه عما استودعه الله إياه وعمره فيه. فخرج والله منه سليباً حزيناً ذميماً مليماً، إيهاً عنك أيها الوارث لا تخدع عما خدع صويحبك أمامك، أتاك هذا المال حلالاً فإياك وإياك أن يكون وبالاً عليك، أتاك ممن كان له جموعاً منوعاً، يدأب فيه الليل والنهار، ويقطع فيه المغاوز والقفار، من باطل جمعة ومن حق منعه، جمعه فأوعاه وشده فأوكاه، لم يؤد منه زكاة، ولم يصل فيه رحماً، إن يوم القيامة ذو حسرات، وإن أعظم الحسرات غداً أن يرى أحدكم ماله في ميزان غيره، أو تدرون كيف ذاكم؟ رجل آتاه الله مالاً فأمره بإنفاقه في صنوف حقوق الله فبخل به. فورثه هذا الوارث فهو يرى ماله في ميزان غيره، فيا لها عثرة لا تقال وتوبة لا تنال.
عبد الله بن أبي زكريا إياس
ابن يزيد أبو يحيى الخزاعي من فقهاء أهل دمشق، كانت داره بدمشق إلى جانب دار الحجارة، فباعها واشترى داراً بباب الشرقي رغبة في كثرة الخطا إلى المسجد الجامع.
ذكر الواقدي أنه كان يعدل بعمر بن عبد العزيز.
حدث عبد الله بن أبي زكريا عن أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء أبائكم، فحسنوا أسماءكم.
استزار عمر بن عبد العزيز عبد الله بن أبي زكريا وهو بدير سمعان فأتاه فقال له: يا بن زكريا، مرحباً بك قال: وبك يا أمير المؤمنين أهلاً وسهلاً. قال: يا بن أبي زكريا، عرضت لي إليك حاجة، قال: على الرأس والعينين يا أمير المؤمنين(12/42)
قال: تدعو الله أن يميت عمر، قال: يا أمير المؤمنين، بئس وافد المسلمين أنا إذاً، نعمة أنعمها الله على أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدعو الله أدعو الله أن يزيلها عنهم! قال: قد وعدتني يا بن أبي زكريا. قال: فاستقبل القبلة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اللهم عبدك قد توسل بي إليك فاقبضه إليك، ولا تبقني بعده، فبينا هم كذلك إذ جاء ابن له صغير فوقع في حجره فقال: يا بن أبي زكريا وهذا معنا، فإني أحبه فقال: اللهم وابنه هذا فاقبضه إليك، قال: فما شبهت الثلاثة إلا بخرازات ثلاث في سلك قطع أسفله، فتتابعن في جمعة.
قال اليمان بن عدي: كان عبد الله بن أبي زكريا عابد الشام، وكان يقول: ما عالجت من العبادة شيئاً أشد من السكوت.
قال عبد الله بن أبي زكريا: عالجت الصمت عشرين سنة قبل أن أقدر منه على ما أريد. قال: وكان لا يغتاب في مجلسه أحد. يقول: إن ذكرتم الله أعناكم وإن ذكرتم الناس تركناكم.
قال ابن أبي زكريا: لو خيرت بين أن أعمر مئة سنة من ذي قبل في طاعة الله أو أن أقبض في يومي هذا، أو في ساعتي هذه لاخترت أن أقبض في يومي هذا، أو في ساعتي هذه شوقاً إلى الله، وإلى رسوله، وإلى الصالحين من عباده.
قال عبد الله بن أبي زكريا: ما مسست ديناراً قط ولا درهماً، ولا اشتريت شيئاً قط، ولا بعته، ولا ساومت به إلا مرة: فإنه أصابني الحصر فرأيت جوربين معلقين عند باب جيرون عند صيرفي فقلت: بكم هذا؟ ثم ذكرت فسكت. وكان من أبش الناس وأكثرهم تبسماً.
قال بقية: قلت لمسلم: كيف هذا؟ قال: كان له إخوة يكفونه.
توفي عبد الله بن أبي زكريا سنة سبع عشرة ومئة.(12/43)
عبد الله بن أيوب بن أبي عائشة
حدث أن عمر بن عبد العزيز لم يغتسل من أهله من حين ولي إلا ثلاث مرات.
عبد الله بن البختري أبو الطيب الناسخ
حدث عن أستاذ له، من أولاد اليونانية - وكان قد عمر - أن أباه كان يقرأ كتب اليونانية، فحدثه أن على باب جيرون في أعلى الحصن حجراً مكتوباً عليه باليونانية: اللاعب بالعجين ما يجمع مالاً متعوب النفس، قليل ذات اليد، وعلى حجر أسفل الحصن مما يلي باب البريد خارج ثلاثة الأبواب مما يلي قبلة الباب حجر مكتوب عليه باليونانية تفسيره: لا تغتر بهواء دمشق ولا بسعرها ولا بناسها، إن أحببت أن تسكنها. قال: وعلى حجر مكتوب في الحصن الذي فيه باب البريد: لا تتبع ما كفيت ولا تضيع ما وليت. قال: وعلى حجر آخر مكتوب في الحصن الذي فيه دار الوليد بن عبد الملك من خارجه: دمشق يطرد أهلها وإن تطاولت بهم المدد، ويملكها الغرباء من غيرهم، فإذا كان ذلك قرب منهم ما بعد. قال: وعلى حجر آخر خارج الحصن عند دار مسلمة مكتوب: يا حاسد، أتعبت نفسك، واستعجلت الغم لروحك وأضعفت قوتك. عشت محسوراً ومت مذبولاً. وعلى الحجر الشرقي من الفصيل في الخضراء: احتفظ بما في يديك وإن قل يصنك عن ابذال جاهل. ونظف لباسك تكثر هيبتك، وإياك ومخالفة الجماعة فيما يهوونه فتتخذهم لك أعداء، وإذا غلبك أمر فاعتزل، واحذرأن يكثر غرماؤك لك وعليك تفتقر، ولا تحرص فيما لا تناله تستجهل، واقصد ما يعينك ترشد، واحذر الأحمق تسلم، والملك القديم يعينك على ذلك. قال: وما حجر آخر خارج الحصن مما يلي نهر بردى وهو اليوم في دار ماخور مكتوب: أسست هذه المدينة على الحصا، وظهر في أكثر أمكنة منها الماء، وجعلت أبوابها النحاس، وتحصنت فيها من الأعداء، فوجدت فيها يوماً إنساناً لا أعرفه ولا عرفه أحد من أهلها، فكلمناه فلم نعرف لسانه ولا عرف لساننا وإذا هو غريب عنها قد(12/44)
دخل إليها ولم يعلم به. فجعلت في نفسي أن الغريب يملكها. فيا ليت مخبراً يخبرني كيف يكون حالها، أتبقى عليهم أم يطردون عليها. وعلى حجر آخر من خارج الزاوية القبلية الغربية مكتوب: ادخل أو مر، ادخل أو مر يا غريب تغنم، اترك التعدي تسلم. لا تشمخ فتندم. وعلى حجر مكتوب في قناطر المزة وحافات القناة مكتوب فيه: لا تتعرض لما لا تعرفه تتعب فيما تعرفه، اتبع الرئيس فيما يأمرك به تنج من الخطأ، الظالم على الأرض ثقيل، لا تتخذه لك أخاً، تباعد من الشر ولا تدخل فيه، التجارب محمودة العاقبة. بهذا أخبرنا الديان الأكبر. وعلى حجر مكتوب - وهو اليوم في عقبة الصوف - العبد الصالح المتجنب للخطايا يحذر فتنة العبد الخاطئ، لأنا وجدنا في كثير من التجارب أن الخطيئة إذا نزل عقابها من الملك حلت بالخاطئ وبمن قرب منها. فتباعد من الشر تقرب من الخير.
عبد الله بن بريدة بن الحصيب
أبو سهل الأسلمي وفد على معاوية.
حدث عن سمرة بن جندب أن امرأة ماتت في نفاسها على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليها فقام عند وسطها.
وعن عبد الله بن بريدة قال: قالت أم المؤمنين عائشة: يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر بم أدعو؟ قال: قولي: اللهم إني أسألك العفو والعافية.
قال عبد الله بن بريدة: دخلت أنا وأبي على معاوية، فأجلسنا على الفرش ثم أتينا بالطعام فأكلنا ثم أتينا بشراب فشرب معاوية ثم ناول أبي ثم قال: ما شربته منذ حرمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال(12/45)
معاوية: كنت أجمل شباب قريش وأجوده ثغراً، وما شيء أجد له لذة كما كنت أجده وأنا شاب غير اللبن، أو إنسان حسن الحديث يحدثني.
حدث عبد الله بن بريدة قال: ولدت لثلاث خلون من خلافة عمر.
قال يحيى بن معين: عبد الله بن بريدة وسليمان بن بريدة توأم، ولد هذا قبل هذا بساعة.
قال يونس بن عبيد الله: أراد قتيبة بن مسلم أن يولي على خراسان، فأشاروا عليه بعبد الله بن بريدة فسأله فأبى وقال: لا أقعد على القضاء بعد حديث حدثنيه أبي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة: قاضٍ قضى بغير الحق وهو يعلم فهو في النار، وقاضٍ قضى بغير الحق وهو لا يعلم فهو في النار، وقاضٍ قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة.
وعن أبي بريدة قال: ينبغي للرجل أن يتعاهد من نفسه ثلاثاً: ينبغي له أن لا يدع المشي، فإن احتاج إليه يوماً يقدر عليه، وينبغي له ألا يدع الأكل فإن أمعاءه تضيق، وينبغي له أن لا يدع الجماع فإن البئر إذا لم تنزح ذهب ماؤها.
مات سليمان بن بريدة وهو على القضاء بها، سنة خمس ومئة وولي أخوه بعده القضاء بها، فكان على القضاء بمرو إلى أن مات سنة خمس عشرة ومئة.(12/46)
عبد الله بن بسر أبو صفوان
ويقال أبو بسر المازني، مازن بن منصور أخي سليمان بن منصور.
له صحبة من سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قدم الشام أو ساحلها مجتازاً من حمص إلى عكا، وركب منها البحر لغزو قبرس مع معاوية.
سئل عبد الله بن بسر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل كان في رأسه ولحيته شيء من الشيب؟ قال: لا، إلا في غنفقته شعرات بيض فكان إذا ادهن تغير به.
قال عبد الله بن بسر: أهديت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاة، والطعام يومئذ قليل، فقال لأهله: اطبخوا هذه الشاة وانظروا إلى هذا الدقيق فاخبزوه واطبخوا وأثردوا عليه. قال: وكانت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصعة يقال لها الغراء يحملها أربعة رجال. فلما أصبح وسبح الضحى أتى بتلك القصعة فالتفوا عليها، فإذا كثر الناس جثا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال الأعرابي: ما هذه الجلسة؟! فقال: إن الله تعالى جعلني عبداً كريماً ولم يجعلني جباراً عنيداً، ثم قال: كلوا من جوانبها ودعوا ذروتها يبارك الله فيها، ثم قال: خذوا فكلوا، فوالذي نفس محمد بيده لتفتحن عليكم أرض فارس والروم حتى يكثر الطعام فلا يذكر اسم الله تعالى عليه.
وعن عبد الله بن بسر: أن أعرابياً قال: يا رسول الله، من خير الناس؟ قال: من طال عمره وحسن عمله.
أسلم أبو صفوان هو وأبوه وأمه، ومات بالشام سنة ثمان وثمانين وهو آخر أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفاةً بالشام، وهو ابن أربع وتسعين سنة.
قال أبو زرعة: في تسمية من نزل الشام من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مصر: عبد الله بن بسر،(12/47)
وعطية بن بسر، والصماء بنت بسر واسمها بهيمة وأبوهما بسر، أربعة صحبوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قيس من بني مازن.
وقيل: إن عبد الله عاش مئة سنة، ومات في خلافة سليمان بن عبد الملك، واستخلف سليمان سنة ست وتسعين. وقبره في قرية يقال لها تنونية.
وكان ممن صلى مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القبلتين. ووضع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده على رأسه وبارك عليه، ودعا له، وكان يصفر لحيته ورأسه وهو حاسر عن رأسه، وكانت ثيابه مشمرة ورداؤه فوق القميص، وكان إذا مر بحجر على الطريق نحاه، وكانت له جمة، لم ير عليه عمامة ولا قلنسوة شتاء ولا صيفاً، وقيل: كان شعره مفروقاً يغطي أذنيه، وشاربه مقصوص مع الشفة.
قال عبد الله بن بسر: بعثني أبي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدعوه إلى طعام فجاء معي، فلما دنوت من المنزل أسرعت فأعلمت أبوي فخرجا فتلقيا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورحبا به، ووضعنا له قطيفة كانت عندنا زبيرية، فقعد عليها ثم قال أبي لأمي: هاتي طعامك، فجاءت بقصعة فيها دقيق قد عصدته بماء وملح فوضعته بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: خذوا بسم الله من حواليها وذروا ذروتها فإن البركة فيها، فأكل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأكلنا معه وفضل منها فضلة، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم اغفر لهم، وارحمهم، وبارك عليهم، ووسع عليهم في أرزاقهم.
وفي حديث بمعناه: فما زلنا نتعرف البركة والسعة في الرزق إلى اليوم.
وفي حديث آخر بمعناه عن ابني بسر: وأنزل عليه الوحي في بيتنا، وقدمنا إليه زبداً وتمراً، وكان يحب البسر، وكان في رأس أحدهما في قرنه شعر مجتمع كأنه قرن فقال: ألا أرى في أمتي قرناً، الحديث.(12/48)
وحدث عبد الله بن بسر قال: كانت أختي تبعثني إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالهدية فيقبلها.
وعن عبد الله بن بسر قال: ترون يدي هذه ضربت بها على يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي رواية - بايعت بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمعته يقول: لا تصوموا يوم السبت إلا في فريضة، وإن لم يجد أحدكم إلا عود كرم أو لحاء شجرة. زاد في غيره: فليفطر عليه.
وعن عبد الله بن بسر وكان عبد الله شريكاً لأبيه في قرية يقال لها تمونية يرعيان فيها خيلاً لهم قال:
أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزلنا مع أبي فقام إلى قطيفة لنا قليلة الخمل فجمعها بيده ثم ألقاها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقعد عليها ثم قال أبي لأمي: هل عندك شيء تطعميناه فقالت: نعم، شيء من حيس، قال: فقربته إليهما فأكلا، ثم دعا لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم التفت إلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا غلام فمسح بيده على رأسي ثم قال: " يعيش هذا الغلام قرناً " قال: فعاش مئة سنة.
وفي حديث آخر قال عبد الله: فلقد عشت خمساً وتسعين، وبقيت خمس سنين إلى أن أتم قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فحسبنا بعد ذلك خمس سنين ثم مات.
وفي حديث آخر عنه: وكان في وجهه ثؤلول فقال: لا يموت هذا الغلام حتى يذهب هذا الثؤلول. فلم يمت عبد الله حتى ذهب الثؤلول من وجهه.
وعن عبد الله بن بسر قال: لقد سمعت حديثاً منذ زمان: إذا كنت في قوم، عشرين رجلاً أو أقل أو أكثر فتصفحت في وجوههم فلم تر فيهم رجلاً يهاب من الله فاعلم أن الأمر قد رق.(12/49)
لما فرغ مسلم بن سليم من تزيين مسجد حمص كتب إليه الوليد بن عبد الملك أن أحضره أناساً من قدمائهم وصالحيهم فليدعوا لأمير المؤمنين بالصلاح والعافية والبقاء، فدعا ناساً من الجند فيهم عبد الله بن بسر فقال له مسلم: يا أبا صفوان، كيف ترى هذا المسجد؟ قال: أراه حسناً ملهياً.
وعن أم هاشم الطائية قالت: رأيت عبد الله بن بسر جالساً يتوضأ، فبينا هو يتوضأ إذ خرجت نفسه.
قال أبو مسلم: مات عبد الله بن بسر سنة سبع وثمانين.
عبد الله بن بسر النصري
والد عبد الواحد بن عبد الله له صحبة ورواية عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدث عبد الرحمن بن عمر الأوزاعي قال: مررت بعبد الواحد بن عبد الله بن بسر وأنا غاز وهو أمير على حمص فقال لي: يا أبا عمرو، ألا أحدثك بحديث يسرك؟ فوالله ربما كتمته الولاة. قلت: بلى. قال: حدثني أبي عبد الله بن بسر قال: بينما نحن بفناء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلوس إذ خرج علينا مشرق الوجه، يتهلل، فقمنا في وجهه، فقلنا: يا رسول الله، سرك الله، إنه ليسرنا ما نرى من إشراق وجهك وتطلقه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن جبريل أتاني آنفاً فبشرني أن الله قد أعطاني الشفاعة " فقلنا: يا رسول الله، أفي بني هاشم خاصة. قال: " لا ". قال: فقلنا: أفي قريش عامة. قال: " لا ". فقلنا: في أمتك؟ فقال: " هي في أمتي للمذنبين المثقلين ".(12/50)
عبد الله بن بشر بن عميرة
ابن الصدي بن جميل بن شرحبيل بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب أبو محمد الطالقاني البكري من بكر بن وائل سمع بدمشق وبمصر وغيرهما.
حدث عن أسد بن محمد المصيصي بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا عقل كالتدبير ".
وحدث عن محمد بن كثير الحراني بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل ".
وحدث عن العباس بنالوليد بسنده عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة ".
وعميره جده: بفتح العين وكسر الميم.
قال أبو جعفر محمد بن صالح بن هانئ: سمعت أبا محمد عبد الله بن بشر يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، وبكلامه خلق الخلق، وكون الأشياء، وليس من الخلاق العليم شيء مخلوق، ومن زعم أن كلامه مخلوق فقد زعم أن الله شيئاً مخلوقاً، فتعالى الله عن هذا. فلقد جاء قائل هذا القول شيئاً نكراً، وافترى عظيماً، قال الله عز وجل: " ألا له الخلق والأمر " ففصل الخلق من الأمر وقال جل ثناؤه: " كن " فكان، وكلامه من أمره مخلوق، خلق الخلق سبحانه وتعالى.(12/51)
قال أبو عبد الله محمد بن يعقوب: سمعت عبد الله بن بشر الطالقاني يقول: أرجو أن يأتيني أمر الله بين يدي ولم يفارقني القلم والمحبرة، وكان عبد الله بن بشر يحضر المجالس ويكتب ويسمع ويكتب بخطه إلى أن مات.
توفي عبد الله الطالقاني سنة خمس وسبعين ومئتين.
عبد الله بن بكر بن محمد
ابن الحسين بن محمد أبو أحمد الطبراني الزاهد ساكن أكواخ بانياس.
حدث بسنده عن أحمد بن عبد الوهاب الذهبي عن مشايخه قال: قال حذيفة:
كفى من العلم الخشية، وكفى من الجهل أن يذكر العالم حسناته وينسى سيئاته، وكفى من الكذب أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه.
قال أبو محمد عبد الله بن جعفر الخبازي: سمعت أبا أحمد عبد الله بن بكر العالم الزاهد بالشام في جبل لبنان يقول: أبرك العلوم وأفضلها وأكثرها نفعاً في الدين والدنيا بعد كتاب الله عز وجل أحاديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فيه من كثرة الصلوات عليه، وإنها كالرياض والبساتين تجد فيها كل خير وبر وفضل وذكر.
كان أبو أحمد ثقة ثبتاً مكثراً، وكان بأكواخ بانياس، يتعبد في أصل جبل هناك، وتوفي سنة تسع وتسعين وثلاث مئة. وكان يرمى بالتشيع.
عبد الله بن تمام الكلاعي القاضي
كان قاضياً لعبد الملك.
جاءت امرأة تخاصم زوجها إلى عبد الله بن تمام وهو يومئذ قاضٍ لعبد الملك بن مروان فذكرت أن زوجها لا يأتيها فقضى لها بيوم من أربعة، فقال أيمن بن خريم بن فاتك الأسدي:(12/52)
لقيت من الغانيات العجابا ... لو أدرك مني العذارى الشبابا
ولكن جمع العذارى الحسان ... عناء شديد إذا المرء شابا
يرضن بكل عصا رائض ... ويصبحن كل غداة غضابا
علام يكحلن حور العيون ... ويحدثن بعد الخضاب الخضابا
ويبرقن إلا لما تعلمون ... فلا تحرموا المؤمنات الضرابا
فلو كلت بالمد للغانيات ... وأطهرت بعد الثياب الثيابا
ولم يغش فيهن من ذاك ذاك ... بغينك عند الأمير الكذابا
إذا لم يخالطن كل الخلا ... ط أصبحن مخرنطمات غضابا
يميت الخلاط عتاب النساء ... ويحيي اجتناب الخلاط العتابا
وكان عبد الملك يقول لأيمن: أنشدني شعراً في النساء فإذا أنشده قال: ما عامل النساء معاملتك أحد قط، ولا أبصر منهن ما أبصرت، هن على ما ذكرت، غير أني لم أسمعك ذكرت أربهن ومكرهن، وقال عبد الملك: نعم الشفيع أيمن لهن.
قال الحافظ: لا أعرف ابن تمام هذا في قضاة دمشق. قال: ولعله كان قاضياً في بعض أعمالها.
عبد الله بن ثابت بن يعقوب
ابن قيس بن إبراهيم بن عبد الله أبو محمد العبقسي التوزي البحراني القاضي المقرئ.
حدث بدمشق عن يوسف بن موسى القطان بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليودن أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم قرضت بالمقاريض، مما يرون من ثواب أهل البلاء.
قال عبد الله بن ثابت: أنشدنا المبرد محمد بن يزيد:(12/53)
حتى متى أنا في حل وترحال ... وطول سعي بإدبارٍ وإقبال
ونازح الدار لا أنفك مغترباً ... عن الأحبة لا يدرون ما حالي
في مشرق الأرض طوراً ثم مغربها ... لا يخطر الموت من حرصي على بالي
ولو قنعت أتاني الرزق في دعةٍ ... إن القنوع الغنى لا كثرة المال
وأنشد عبد الله بن ثابت المقرئ:
إذا لم تكن حافظاً واعياً ... فعلمك في البيت لا ينفع
وتحضر بالجهل في موضعٍ ... وعلمك في البيت مستودع
ومن يك في دهره هكذا ... يكن دهره القهقري يرجع
توفي عبد الله بن ثابت سنة ثمان وثلاث مئة، وقيل إنه قال: ولدت سنة ثلاث وعشرين ومئتين في آخرها.
عبد الله بن ثعلبة بن صعير
ويقال ابن أبي صعير، أبو محمد العذري حليف بني زهرة أدرك سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومسح على وجهه، ودعا له وحفظ عنه حديثاً، وشهد خطبة عمر بالجابية.
حدث ابن أبي الصعير قال: أشرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قتلى أحد فقال: زملوهم بدمائهم وكلومهم، فإني شهدت عليهم.
وعن عبد الله بن ثعلبة وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد مسح وجهه أن رسول الله قال لقتلى أحد الذين قتلوا، ووجدهم قد مثل بهم فقال: زملوهم بجراحاتهم، فإنه ما كلم يكلمه في الله إلا يأتي يوم القيامة لونه لون دم وريحه ريح المسك.
زاد في حديث آخر: وكان عبد الله بن ثعلبة ولد عام الفتح.(12/54)
وفي آخر: انظروا أكثرهم جمعاً للقرآن فاجعلوه أمام صاحبه في القبر. وكانوا يدفنون الاثنين والثلاثة في القبر.
وحدث عبد الله بن ثعلبة:
أن المستفتح يوم بدر أبو جهل بن هشام. قال: لما التقى الجمعان قال: اللهم، أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة، فقتل. وفيه أنزل الله عز وجل " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم ".
وحدث عبد الله بن ثعلبة قال: صلينا مع عمر بن الخطاب بالجابية صلاة الصبح فقرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين.
وكان ثعلبة أبو عبد الله شاعراً وكان حليفاً لبني زهرة.
وصعير: بضم الصاد المهملة وفتح العين المهملة.
ولد عبد الله بن ثعلبة قبل الهجرة بأربع سنين، وتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن أربع عشرة سنة. وتوفي سنة تسع وثمانين وهو ابن ثلاث وتسعين. وقيل: توفي سنة سبع وثمانين وهو ابن ثلاث وثمانين سنة. وكان عالماً بالأنساب.
عبد الله بن ثوب وقيل ابن ثواب
وقيل: ابن أثوب.
ويقال: ابن عبد الله - أبو مسلم الخولاني الداراني الزاهد - ويقال: ابن عبد - ويقال: ابن عوف - ويقال: ابن مسلم - ويقال: اسمه يعقوب بن عوف.
أدرك الجاهلية، وسكن الشام فنزل بداريا، أصله من اليمن، قارئ أهل الشام.(12/55)
حدث أبو مسلم الخراساني قال: حدثني الحبيب الأمين - أما هو إلي فحبيب، وأما هو عندي فأمين - عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: ألا تبايعون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرددها ثلاث مرات، فقدمنا أيدينا فبايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلنا: يا رسول الله، قد بايعناك فعلى أي شيء نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وأسر كلمة خفية: ألا تسألوا الناس شيئاً. قال: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطه فما يقول لأحد يناوله إياه.
أسلم أبو مسلم في عهد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل: إنه أسلم على عهد معاوية، فقيل له: ما منعك أن تسلم على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر وعثمان؟ فقال: إني وجدت هذه الأمة على ثلاثة أصناف: صنف يدخلون الجنة بغير حساب، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً، وصنف يصيبهم شيء، ثم يدخلون الجنة، فأردت أن أكون من الأولين، فإن لم أكن منهم كنت من الذين يحاسبون حساباً يسيراً، فإن لم أكن منهم كنت من الذين يصيبهم شيء ثم يدخلون الجنة.
وقيل: إنما كان إسلامه في عهد أبي بكر، ولكن هاجر إلى الأرض المقدسة أيام معاوية من قبل عمر وسكنها.
قال المصنف: المحفوظ أن أبا مسلم الخولاني تقدم إسلامه، والذي تأخر إسلامه أبو مسلم الجليلي، فسأله أبو مسلم الخولاني عن سبب تأخر إسلامه، فذكر معنى ما في الحديث. وكان إسلام أبي مسلم الجليلي في خلافة عمر.
حدث شرحبيل بن مسلم الخولاني أن الأسود بن قيس تنبأ باليمن فبعث إلى أبي مسلم الخولاني فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع. قال: فتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. فرددها عليه مرات.
فلما رأى أنه لا يجيبه أمر بنار عظيمة فأججت ثم قذف أبا مسلم فيها فلم تضره، فقال له من اتبعه: إن لم تنف هذا عنك أفسد عليك أمر من اتبعك فأمره بالرحيل، فأتى المدينة فأناخ راحلته بباب المسجد، وعمد إلى سارية من سواري المسجد ليصلي إليها، فبصر به عمر، فأقبل إليه فقال: السلام عليك، فقال: وعليك السلام، فقال: من أين أقبلت؟ قال:(12/56)
من اليمن. قال: فما فعل الذي حرقه الكذاب بالنار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب. قال أنشدك بالله أنت هو! قال: اللهم نعم، فاعتنقه وبكى، وأخذ بيده وانطلق به إلى أبي بكر رضي الله عنه حتى أجلسه فيما بينه وبينه، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فعل به مثلما فعل بإبراهيم خليل الرحمن فلم تضره النار.
قال ابن عياش: وأنا أدركت من اليمن من ريما مازح بعضهم بعضاً فيقول الخولانيون للعنسيين: صاحبكم الكذاب أحرق صاحبنا بالنار فلم تضره.
لقي كعب أبا مسلم الخولاني فقال: كيف كرامتك على قومك؟ قال: إني عليهم لكريم. قال: إني أجد في التوارة غير ما تقول. قال: فصدقت التوراة، وكذب أبو مسلم. قال: فما وجدت في التوراة؟ قال: وجدت في التوراة أنه لم يكن حكيم من قوم إلا كان أزهدهم فيه قومه ثم الأقرب فالأقرب، فإذا كان في حبسه شيء عيروه به، وإن كان عمل برهة من دهره ذنباً عيروه به، فقالوا: فلان يعيرنا وابن فلان يعيرنا.
وفي رواية: إذاً، ما كان رجل حكيم في قوم إلا بغوا عليه وحسدوه.
رأى كعب أبا مسلم الخولاني فقال: من هذا؟ قالوا: أبو مسلم. فقال: هذا حكيم هذه الأمة.
كان أبو مسلم الخولاني يعلق سوطه في مسجده، فإذا غلبه النوم مشق ساقيه، ويقول: أنت أحق بالضرب من البهائم، فإذا غلبه النوم. قال: منك لا مني.
قال الزهري: كنت عند الوليد فكاد يتناول عائشة فقلت له: يا أمير المؤمنين، ألا أحدثك عن رجل من أهل الشام كان قد أوتي حكمة؟ قال: ومن هو؟ قلت: أبو مسلم الخولاني، وسمع أهل الشام كأنهم ينالون من عائشة فقال: ألا أخبركم بمثلكم ومثل أمكم هذه؟ كمثل عينين في رأسه تؤذيان صاحبهما ولا يستطيع أن يعاقبهما إلا بالذي هو خير لهما. قال: فسكت.(12/57)
قال عثمان بن أبي العاتكة: كان من أمر أبي مسلم أن علق سوطاً في مسجده ويقول: أنا أولى بالسوطمن الدواب، فإذا دخلته فترة مشق ساقيه سوطاً أو سوطين، وكان يقول: لو رأيت الجنة عياناً ما كان عندي مستزاد، ولو رأيت النار عياناً ما كان عندي مستزاد.
وعن شرحبيل: أن رجلين أتيا أبا مسلم في منزله فقال بعض أهله: هو المسجد فأتيا المسجد فوجداه يركع، فانتظرا انصرافه، وأحصيا ركوعه، فأحصى أحدهما أنه ركع ثلاث مئة ركعة، والآخر أربع مئة ركعة قبل أن ينصرف، فقال له: يا أبا مسلم، كنا قاعدين خلفك ننتظرك. فقال: إني لو عرفت مكانكما لانصرفت إليكما، وما كان لكما أن تحفظا علي صلاتي، وأقسم لكما بالله إن خير كثرة السجود اليوم القيامة.
قال: وكان أبو مسلم يتكلف حضور صلاة الجماعة من داريا إلى المسجد الجامع بدمشق التماس الفضيلة. وبين داريا والمسجد أربعة أميال.
وكان أول من دخل المسجد لصلاة الصبح.
قيل لأبي مسلم الخولاني حين كبر: إنك كبرت ورققت، فلو رفقت بنفسك، قال: أليس إذا أرسلت الحلبة فقلت لفرسانها: ارفقوا بها وسددوا بها، فإذا دنوتم من الغاية فلا تستبقوا منها؟ قال: فقد رأيت الغاية فدعوني.
قال عطية بن قيس: دخل أناس من أهل دمشق على أبي مسلم وهو غاز في أرض الروم، وقد احتفر جورة في فسطاطه وجعل فيها نطعاً وأفرغ فيه الماء وهو يتصلق فيه فقالوا: ما حملك على الصيام وأنت مسافر وقد أرخص لك في الفطر في الغزو والسفر؟! فقال: لو حضرت قتال لأفطرت، ولتهيأت له وتقويت، إن الخيل لا تجري الغايات وهي بدن، إنما تجري وهي ضمر، ألا وإن أيامنا باقية جائية، لها نعمل.(12/58)
قال أبو مسلم الخولاني: ما عرضت لي دعوة قط فذكرت جهنم إلا صرفتها إلى الاستجارة من النار والاستعاذة منها.
كان أبو مسلم يكثر أن يرفع صوته بالتكبير حتى مع الصبيان، وكان يقول: اذكر الله حتى يرى الجاهل أنك مجنون.
أتى رجل أبا مسلم الخولاني فقال له: أوصني يا أبا مسلم قال: اذكر الله تحت كل شجرة وحجر، فقال: ذرني. قال: اذكر الله حتى يحسبك الناس من ذكر الله مجنوناً. قال: فكان أبو مسلم يكثر ذكر الله عز وجل، فقال: أمجنون صاحبكم هذا؟ فسمعه أبو مسلم فقال: ليس هذا بالجنون يا بن أخي، ولكن هذا دواء الجنون.
كان من هدي أبي مسلم الخولاني إذا انصرف إلى منزله بعد العشاء إظهار التكبير، فإذا دنا من منزله وسمعته أم مسلم أجابته، فإذا دخل منزله سلم وقال: يا أم مسلم، شدي رحلك، فإنه ليس على جسر جهنم معبر.
قال أبو مسلم: ما عملت عملاً أبالي من رآه إلا أن يخلو الرجل بأهله، أو يقضي حاجة غائط.
كان أبو مسلم الخولاني إذا غزا أرض الروم فمروا بنهر قال: أجيزوا بسم الله، ويمر بين أيديهم فيمرون بالنهر الغمر، فربما لم يبلغ من الدواب إلا الركب أو بعض ذلك قريباً من ذلك، فإذا جازوا قال للناس: هل لكم شيء؟ من ذهب له شيء فأنا له ضامن. قال: فألقى بعضهم مخلاة عمداً، فلما جاوزوا قال الرجل: مخلاتي وقعت في النهر قال له: اتبعني فإذا المخلاة قد تعلقت ببعض أعواد النهر، فقال: خذها.
وعن أبي مسلم الخولاني أنه أتى على دجلة وهو يرمي بالخشب من مدها، فوقف عليها ثم حمد الله تبارك وتعالى وأثنى عليه، وذكر سير بني إسرائيل في البحر ثم لهز دابته فخاضت الماء وتبعه الناس حتى قطعوا، ثم قال: هل فقدتم شيئاً من متاعكم فأدعوا الله أن يرده علي؟
اشترى أبو مسلم بغلة فقالت له امرأته: ادع الله لنا فيها بالبركة. قال: اللهم بارك(12/59)
لنا فيها، فأصبحت وقد نفقت. ثم اشترى بغلة ثانية فقالت له مثلها، فأصبحت وقد نفقت. ثم اشترى الثالثة فقالت: أبا مسلم، ادع الله لنا فيها بالبركة. قال: اسكتي يا حمقاء، اللهم متعنا بها.
كان أبو مسلم الخولاني إذا دخل سلم، فإذا بلغ وسط الدار كبر وكبرت امرأته، فإذا بلغ البيت كبر وكبرت امرأته قال: فيدخل فينزع رداءه وحذاءه وتأتيه بطعام فيأكل، فجاء ذات ليلة فكبر فلم تجبه ثم أتى باب البيت فكبر وسلم وكبر فلم تجبه، وإذا البيت ليس فيه سراج وإذا هي جالسة بيدها ود في الأرض تنكت به، فقال لها: ما لك؟ قالت: الناس بخير وأنت أبو مسلم لو أنك أتيت معاوية فيأمر لنا بخادم ويعطيك شيئاً نعيش به، فقال: اللهم، من أفسد علي أهلي فأعم بصره. قال: وكانت امرأة فقالت: أنت امرأة أبي مسلم، فلو كلمت زوجك يكلم معاوية ليخدمكم ويعطيكم قال: فبينا هذه المرأة في منزلها والسراج يزهر إذ أنكرت بصرها، فقالت: سراجكم طفئ قالوا: لا. قالت: إنا لله ذهب بصري، فأقبلت كما هي إلى أبي مسلم فلم تزل تناشده الله وتطلب إليه، فدعا الله، فرد بصرها، ورجعت امرأته إلى حالها التي كانت عليها.
حدث بلال بن كعب قال: كان الظبي يمر بأبي مسلم الخولاني فيقول له الصبيان: يا أبا مسلم، ادع ربك يحبس علينا هذا الظبي فيدعو الله فيحبسه حتى يأخذوه بأيديهم.
قالت امرأة أبي مسلم: يا أبا مسلم، ليس لنا دقيق. قال: عندك شيء؟ قالت: درهم بعنابه غزلاً. قال: ابغينيه، وهاتي الجراب، فدخل السوق، فوقف على رجل يبيع الطعام فوقف عليه سائل فقال: يا أبا مسلم، تصدق علي فهرب منه وأتى حانوتاً آخر وتبعه السائل فقال: تصدق علينا. فلما أضجره أعطاه الدرهم، ثم عمد إلى الجراب فملأه من نحاتة النجارين مع التراب ثم أقبل إلى باب منزله فنقر الباب وقلبه مرعوب من أهله. فلما ذهب من الليل الهديء جاء أبو مسلم فنقر الباب. فلما دخل وضعت بين يديه خواناً(12/60)
وأرغفة حواري فقال: من أين لكم هذا؟ قالت: يا أبا مسلم، من الدقيق الذي جئت به، فجعل يأكل ويبكي.
حدث الأوزاعي قال: أتى أبا مسلم نفر من قومه فقالوا: يا أبا مسلم، أما تشتاق إلى الحج؟ قال: بلى، لو أصبت لي أصحاباً، قال: فقالوا: نحن أصحابك، قال: لستم لي بأصحاب، إنما أصحابي قوم لا يريدون الزاد ولا المزاد، قالوا: سبحان الله وكيف يسافر قوم بلا زاد ولا مزاد؟! قال لهم: ألا ترون إلى الطير تغدو وتروح بلا زاد ولا مزاد، والله يرزقها وهي لا تبيع ولا تشتري، ولا تحرث ولا تزرع والله يرزقها؟ قال: فإنا نسافر معك، فقال: تهيؤوا على بركة الله تعالى، قال: فغدوا من غوطة دمشق ليس معهم زاداً ولا مزاد، قال: فلما انتهوا إلى المنزل قالوا: يا أبا مسلم، طعام لنا وعلف لدوابنا قال: فقال لهم: نعم، فتنحى غير بعيد فتسنم مسجد أحجار، فصلى فيه ركعتين ثم جثا على ركبتيه قال: إلهي قد تعلم ما أخرجني من منزلي، وإنما خرجت زائراً لك، وقد رأيت البخيل من ولد آدم تنزل به العصابة من الناس فيوسعهم قرى، وإنا أضيافك وزوارك فأطعمنا واسقنا، واعلف دوابنا، قال: فأتي بسفرة فمدت بين أيديهم وجيء بجفنة من ثريد تبخر، وجيء بقلتين من ماء وجيء بالعلف لا يدرون من يأتي به. فلم تزل حالهم منذ خرجوا من عند أهاليهم حتى رجعوا، لا يتكلفون زاداً ولا مزاداً.
كان بيد أبي مسلم الخولاني سبحة يسبح بها قال: فنام والسبحة في يده. قال: فاستدارت السبحة فالتفت على ذراعه وجعلت تسبح، فالتفت أبو مسلم والسبحة تدور في ذراعه وهي تقول: سبحانك يا منبت النبات، ويا دائم الثبات. قال: فقال: هلمي يا أم مسلم وانظري إلى أعجب الأعاجيب قال: فجاءت أم مسلم والسبحة تدور تسبح. فلما جلست سكتت.
قالت جارية أبي مسلم الخولاني: يا أبا مسلم، لقد جعلت لك السم في طعامك منذ كذا وكذا فما أراه يضرك. فقال: ولم فعلت ذلك؟ قالت: أنا جارية شابة، ولا أنت تدنيني من فراشك. فقال: إني كنت(12/61)
أقول إذا قرب إلي طعامي: بسم الله خير الأسماء الذي لا يضر مع اسمه داء، رب الأرض ورب السماء. وأعتقها.
حدث سعيد بن عبد العزيز:
إن الناس كانوا بأرض الروم فبعثوا سرية، فأبطأت عن وقت قدومها، فأحزن ذلك الجيش. فبينا أبو مسلم الخولاني يصلي إلى رمحه إذا بطائر قد وقع على سنان الرمح فقال: يا أبا مسلم، أبشر وبشر المسلمين بأن الله عز وجل قد سلم السرية وغنموا كذا، وهم قادمون في وقت كذا، فقال أبو مسلم: من أنت رحمك الله؟ قال: أنا ارزبابيل. فذهب الحزن من صدور المؤمنين.
وفي رواية: مسلي الحزن عن قلوب بني آدم.
قال أبو مسلم لجارية له: لولا أن الله تعالى يقول: " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله "، لأوجعتك. قال: فقالت: يرحمك الله فوالله، إنني لممن يرجو أيامه فما لك لا توجعني؟ فقال: إن الله يأمرني أن أغفر للذين لا يرجون أيامه فعمن يرجو أيامه أحرى، فانطلقي فأنت حرة.
انصرف أبو مسلم الخولاني إلى منزله فإذا جاريته تبكي فقال لها: يا بنية ما يبكيك؟! فقالت: ضربني سيدي ابنك، فدعا ابنه فقال: كيف ضربك؟ قالت: لطمني. قال لابنه: اجلس فجلس فقال لها: الطميه كما لطمك فقالت: لا ألطم سيدي، فقال لها: عفوت عنه؟ قالت: نعم، قال: لا تطلبينه في الدنيا ولا في الآخرة؟ قالت: نعم. قال: اذهبي حتى تشهدي على ما تقولين. فدعت رجالاً فقال لها أبو مسلم: إن ابني لطمها لطمة، فدعوتها لتقتص من ابني فأبت أن تقتص، فزعمت أنها قد عفت عنه لا تطلبه لا في الدنيا ولا في الآخرة. فكذلك؟ قالت: نعم. قال: أشهدكم أنها حرة لوجه الله. فأقبل عليه بعض(12/62)
القوم فقال: أعتقتها من أجل أن لطمها ابنك وليس لك خادم غيرها؟ قال: دعونا عنكم أيها القوم ليتنا نفلت كفافاً، لا لنا ولا علينا.
عن أبي مسلم الخولاني: أنه سمع مكفوفاً بالمدينة وهو يلعن عثمان وما ولد، فقال: يا مكفوف، ألعثمان تقولون هذا يا أهل المدينة؟! كنتم بين قاتل وخاذل فكلاً جزى الله شرأ. يا أهل المدينة، لأنتم شر من ثمود، إن ثموداً قتلوا ناقة الله وأنتم قتلتم خليفة الله، وخليفة الله أكرم على الله من ناقته. يا أهل المدينة، لو لم يكن في عثمان إلا أني رأيت في المنام كأن السماء، فإذا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره، وإذا بالسماء تقطر دماً وقائل يقول: هذا دم عثمان قتل مظلوماً.
مر بأبي مسلم الخولاني رجال من أهل المدينة قدموا من الحج وهو عند معاوية بدمشق، فخرج فلقيهم فقال لهم: هل مررتم بإخوانكم من أهل الحجر؟ قالوا: نعم. قال: فكيف رأيتم صنع الله بهم؟ قالوا: بذنوبهم. قال: أشهد أنكم عند الله مثلهم. قال: فدخلوا على معاوية فقالوا له: ما لقينا من هذا الشيخ الذي خرج من عندك؟! فبعث إليه فجاءه فقال: ما لك ولبني أخيك؟ قال: قلت لهم: مررتم على الحجر؟ قالوا: نعم فقلت: كيف رأيتم صنع الله بهم؟ فقالوا: صنع الله بهم بذنوبهم، فقلت: أشهد أنكم عند الله مثلهم. فقالوا: كيف يا أبا مسلم؟ قال: قتلوا ناقة الله وقتلتم خليفته، وأشهد على ربي لخليفته أكرم عليه من ناقته.
قال أبو مسلم الخولاني: مثل الإمام كمثل عين عظيمة صافية طيبة الماء، يجري منها إلى نهر عظيم فيخوض الناس النهر فيكدرونه، ويعود عليهم صفو العين، فإن كان الكدر من قبل العين فسد النهر. قال: ومثل الإمام العادل ومثل الناس كمثل فسطاط لا يستقم إلا بعمود، ولا يقوم العمود إلا بأطناب وأتاد، فكلما نزع وتد ازداد العمود وهناً، فلا يصلح الناس إلا بالإمام ولا يصلح الإمام إلا بالناس.(12/63)
قام أبو مسلم الخولاني إلى معاوية بن أبي سفيان وهو على المنبر فقال: يا معاوية، إنما أنت قبر من القبور. إن جئت بشيء كان لك شيء، وإلا فلا شيء لك. يا معاوية، لا تحسب أن الخلافة جمع المال وتفريقه، إنما الخلافة القول بالحق والعمل بالمعدلة، وأخذ الناس في ذات الله، يا معاوية، إنا لا نبالي بكدر الأنهار ما صفا لنا رأس عيننا، يا معاوية، وإياك أن تميل على قبيلة من العرب فيذهب حيفك بعدلك. قال: ثم جلس فقال له معاوية: يرحمك الله يا أبا مسلم، يرحمك الله يا أبا مسلم.
دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقال الناس: الأمير يا أبا مسلم، ثم قال: السلام عليك أيها الأجير. فقال الناس: الأمير. فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فهو أعلم بما يقول. قال أبو مسلم: إنما مثلك مثل رجل استأجر أجيراً فولاه ماشيته، وجعل له الأجر على أن يحسن الرعية، ويوفر جزازها وألبانها، فإن هو أحسن رعيتها ووفر جزازها حتى تلحق الصغيرة، وتسمن العجفاء، أعطاه أجره وزاده من قبله زيادة، وإن هو لم يحسن رعيتها وأضاعها حتى تهلك العجفاء، وتعجف السمينة ولم يوفر جزازها وألبانها غضب عليه صاحب الأجر فعاقبه ولم يعطه الأجر. فقال معاوية: ما شاء الله.
كان أبو مسلم الخولاني يقول: مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء، إذا بدت لهم اهتدوا وإذا خفيت عليهم تحيروا.
قال: ومثل الصالحين مثل الأميال في الأرض، ينجو بها السالك من الضلالة. وكان يقول: يا معشر القراء، استقيموا فقد سبقتم سبقاً بيناً بعيداً. وإن أخذتم يميناً وشمالاً فقد ضللتم ضلالاً بعيداً. قال: وكان يقول: كلمة العالم الذي لا يعمل بها تزل عن القلب كما يزل القطر عن الصفا.
قال أبو مسلم الخولاني: العلماء ثلاثة؛ رجل عاش في علمه وعاش الناس فيه، ورجل عاش في علمه ولم يعش معه فيه أحد، ورجل عاش الناس في علمه وكان وبالاً عليه.(12/64)
دخل أبو مسلم الخولاني المسجد فنظر إلى نفر قد اجتمعوا جلوساً، فرجا أن يكونوا على ذكر، على خير، فجلس إليهم فإذا بعضهم يقول: قدم غلام لي فأصاب كذا وكذا، وقال الآخر: وأنا قد جهزت غلامي. فنظر إليهم فقال: سبحان الله هل تدرون يا هؤلاء ما مثلي ومثلكم؟ كمثل رجل أصابه مطر غزير وابل، فالتفت فإذا هو بمصراعين عظيمين فقال: لو دخلت هذا البيت حتى يذهب عني أذى هذا المطر، فدخل فإذا بيت لا سقف له، فجلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على خير، على ذكر، فإذا أنتم أصحاب دنيا، فقام عنهم.
قال أبو مسلم الخولاني: أظهر اليأس مما في أيدي الناس، فإن فيه الغنى، وأقل طلب الحاجات إلى الناس، فإن فيه الفقر الحاضر، وإياك وما يعتذر منه من الكلام، وصل صلاة مودع يظن أن لن يعود، وإن استطعت أن تكون اليوم خيراً منك الأمس وتكون غداً خيراً منك اليوم فافعل.
قال مسلم بن حامد: قال لي أبو مسلم: كيف بك إذا صرت في حثالة من الناس؟ فقلت: يا أبا مسلم، وما الحثالة؟ فقال: قوم لا تعرفهم ولا يعرفونك، أولئك شرار الخلق، ألا إن أفضلكم في ذلك الزمان أخملكم ذكراً. قلت: يا أبا مسلم، وما خمالة الذكر؟ قال: من لم يعرف الناس ولم يعرفوه، ولم يتصد للفتن فتهلكه، وأخفهم حاذاً. فقلت: يا أبا مسلم، وما خفة الحاذ؟ قال: من قل أهله وعياله، ولم يكن متشاغلاً عن عبادة ربه عز وجل، إن الرجل منكم يخرج فيحتطب الدنيا من حلها وحرامها لأهله وعياله. ألا وسيعيش الرجل منكم في ذلك الزمان في حسب غيره. فقلت: يا أبا مسلم، سبحان الله! أويكون هذا؟ قال: نعم، يدرس العلم ويذهب الناس فينتمي قوم إلى غير آبائهم، ويتولى قوم إلى غير مواليهم، لا يجدون من يصدقهم ولا يكذبهم.(12/65)
قال أبو مسلم: كان الناس ورقاً لا شوك فيه، وإنهم اليوم شوك لا ورق فيه، إن سببتهم سبوك وإن ناقدتهم ناقدوك، وإن تركتهم لم يتركوك.
زاد في أخرى: وإن فررت منهم أدركوك، فقال رجل: فكيف أصنع؟ قال: أعط من عرضك ليوم فقرك.
قال أبو مسلم الخولاني: أربع لا يقبلن في أربع: السرقة، والخيانة، والغلول، ومال اليتيم: في الحج، والعمرة، والصدقة، والنفقة في سبيل الله عز وجل.
قال أبو مسلم: مثل هذه من توفيق - وعقد طرف اصبعه - خير من مثل هذا من عقل وفرج بين يديه.
توفي أبو مسلم الخولاني بأرض الروم بحمة بسر في خلافة معاوية، فقال لبسر بن أرطأة: أمرني على من مات معك من المسلمين، واعقد لي لواء عليهم، واجعل قبري أقصى القبور إلى العدو، فإني أرجو أن آتي يوم القيامة بلوائهم.
وكان معاوية شتى بسر بن أرطأة سنة إحدى وخمسين، وقيل سنة أربع وأربعين.
روي عن بعض مشيخة دمشق قال:
أقبلنا من أرض الروم قفالاً. فلما أن خرجنا من حمص متوجهين إلى دمشق مررنا بالعمير الذي يلي حمص على نحو من أربعة أميال في آخر الليل. فلما سمع الراهب الذي في الصومعة كلامنا اطلع إلينا فقال: ما أنتم يا قوم؟ فقلنا: ناس من أهل دمشق أقبلنا من(12/66)
أرض الروم فقال: هل تعرفون أبا مسلم الخولاني؟ فقلنا: نعم. قال: فإذا أتيتموه فأقرئوه السلام، وأعلموه أنا نجده في الكتب رفيق عيسى بن مريم. أما إنكم إن كنتم تعرفونه لا تجدونه حياً. قال: فلما أشرفنا على الغوطة بلغنا موته.
يعني سمعوا خبر وفاته بدمشق وكانت وفاته بأرض الروم.
قال معاوية: إنما المصيبة كل المصيبة لموت أبي مسلم الخولاني وكريب بن سيف الأنصاري.
توفي ابن لعتبة بن أبي سفيان فقام ناس إلى معاوية فقالوا: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، أعظم الله أجرك في ابن أخيك، وجعل ثوابك من مصيبتك به الجنة، فأسكت عنهم فردوا عليه الكلام فقال: إن موت غلام من آل أبي سفيان قبضه الله إلى جنته وكرامته ليس بمصيبة. إن المصيبة كل المصيبة على مثل أبي مسلم الخولاني وكريب بن سيف الأزدي.
عبد الله بن جابر بن عبد الله
أبو محمد الطرسوسي البزاز سمع بدمشق.
حدث عن زهير بن محمد بن قمير بسنده إلى تميم الداري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.
وحدث عبد الله بن جابر عن ابن خبيق بسنده إلى سفيان الثوري قال: أصبنا أصل كل عداوة: اصطناع المعروف إلى اللثام.(12/67)
عبد الله بن جابر أبو مسلم
من جلساء الوليد بن مسلم.
حدث عبد الله بن جابر قال: سمعت الوليد بن مسلم يقول: أضاف بأبي شيخ من أهل الحجاز فبات ليلته يردد هذه الآية ويبكي إلى الصباح: " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين " فلما غدا إلى المسجد غدوت معه. قال: فقلت له: يا عم، لقد أبكتك الليلة آية ما يبكي عند مثلها، إنها آية رحمة. فقال لي: يا بن أخي، وما ينفعني أو يغني عني عرضها إن لم يكن لي فيها موضع قدم؟ قال عبد الله بن جابر: سمعت الوليد يقول في قوله عز وجل: " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين " قال: يعبدونك فيحسنون عبادتك، ولا يخرجون علينا الحد، " واجعلنا للمتقين إماماً " قال: نأتم بصالح من مضى من قبلنا ويأتم بنا صالح من يجيء من بعدنا.
وحدث عبد الله بن جابر قال: سمعت الخشني يقول في قوله تعالى: " فلنحيينه حياة طيبة " قال: لنرزقنه طاعة يجد لذتها في قلبه.
قال: وسمعت الخشني يقول: من أراد أن يغزر دمعه ويرق قلبه فليأكل وليشرب في نصفه بطنه. فحدثت به أبا سليمان فقال لي: إنما جاء الحديث ثلث طعام، وثلث شراب، وأرى هؤلاء قد حاسبوا أنفسهم فربحوا سدساً.(12/68)
عبد الله بن الجارود واسمه بشر
كان عبد الله بن يزيد الأسيدي ثم التميمي يكثر التعبث بعبد الله بن الجارود العبدي، وكان عبد الله بن الجارود عاملاً على البصرة من قبل سليمان بن عبد الملك، فدس عبد الله بن الجارود رجالاً من عبد القيس فشهدوا على عبد الله بن يزيد بشرب الخمر، فقبض عليه وضربه الحد ضرب التلف. فأخذ عبد الله بن يزيد يقول: ما هكذا تقام الحدود، ثم أمر به السجن، ودس إليه غلاماً له فدق عنقه في الحبس، وادعى عليه أنه مص خاتماً كان في يده تحت فصة سم. فأنشأ الفرزدق يقول من أبيات:
يال تميم ألا لله أمكم ... لقد رميتم بإحدى المصمئلات
فوجه عبد الله بن الجارود من لبب الفرزدق وقاده إلى السجن. فلما كان على باب السجن قال: أيها المسلمون، أشهدكم أنه ليس في اصبعي خاتم. ونمي الخبر إلى سليمان فعزل ابن الجارود، وأشخصه إليه، فلما دخل عليه سلم بالخلافة، فقال له سليمان: لا سلم الله عليك، قتلت من كان خيراً منك أباً وأماً. فقال له الجارود: يا أمير المؤمنين، وليتمونا بلداً ودفعتم إلينا سيفاً وسوطاً، وأمرتمونا بإقامة الحدود، فإن تهلك نفس فمن وراء الجهد، وأما قولك يا أمير المؤمنين: إنه كان خيراً مني أباً وأماً، فأما أبي فهو الجارود بن المعلى الذي قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أسلم يا جارود، قال: اضمن لي الجنة يا رسول الله، وهو الذي قال فيه عمر: لو أدركت سالماً مولى أبو حذيفة لم يخالجني فيه الشك، ولو أدركت أعميش عبد القيس لسلمتها إليه، وأما أمي فابنة الذي أجار أباك على علي بن أبي طالب يوم الجمل. وكان جده لأمه مسمع بن مالك أبو مالك بن مسمع، وكان أجار مروان يوم الجمل على علي بن أبي طالب.(12/69)
عبد الله بن جراد بن المنتفق
ابن عامر بن عقيل ويقال ابن جراد بن معاوية، العقيلي.
يقال: إن له صحبة، وقدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مؤتة من الشام.
حدث عبد الله بن جراد قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كم إبلك؟ قال: قلت: ثلاثون. قال: إن ثلاثين خير من مئة، قلت: يا رسول الله، إنا لنرى أن المئة أكثر من ثلاثين، وهي أحب إلينا. قال: إن ربها بها معجب، وإنه لا يؤدي حقها، إن المئة مفرحةمفتنة، وكل مفرح مفتن.
وعن ابن جراد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قطع العروق مسقمة، والحجامة خير منه، قطع العروق مسقمة.
وعنه: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان: إذا ضربت راحلته دعا بلبن فشرب، فقطرت على ثوبه قطرة، فدعا بماء فغسله وقال: هو يخرج من بين فرث ودم، وهو طعام المسلمين وشراب أهل الجنة.
وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل شيء يتوضأ منه إلا الحلواء، وكان إذا أكل دعا بماء فتمضمض.
وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الضيف لا ينقص من كرامته ثلاثة أيام.
وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أطعم كبداً جائعاً أطعمه الله من أطيب طعام الجنة يوم القيامة.(12/70)
وعنه قال: قالرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من برد كبداً عطشان سقاه الله، وأرواه من شراب الجنة يوم القيامة.
وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أتاك أخوك المسلم عطشان فأروه، فإن لك في ذلك أجراً.
وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أقرض أحدكم قرضاً فليوفه ثناء وحمداً.
وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في الجنة شجرة تسمى السخاء، منها يخرج السخاء، وفي النار شجرة تسمى الشح، منها يخرج الشح، ولن يلج الجنة شحيح.
وعنه أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا نبي الله، هل يزني المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك. قال: هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك. قال: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا، ثم أتبعها نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال هذه الكلمة: " لا " " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون ".
وعنه قال: صحبني رجل من مؤته فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا معه فقال: يا رسول الله، ولد لي مولود فما خير الأسماء؟ قال: إن خير أسماءكم الحارث وهمام. ونعم الاسم عبد الله وعبد الرحمن، وسموا بأسماء الأنبياء ولا تسموا بأسماء الملائكة. قال: وباسمك؟ قال: وباسمي ولا تكنوا بكنيتي.(12/71)
عبد الله بن جرير بن عبد الله
البجلي الكوفي.
حدث عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من لا يرحم لا يرحم.
وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من يكون بين أظهرهم رجل يعمل بالمعاصي هم أمنع منه وأعز، لا يغيرون عليه إلا أصابهم الله بعقاب.
عبد الله بن جعفر ذي الجناحين
الطيار بن أبي طالب أبو جعفر ويقال: أبو محمد.
ولد بأرض الحبشة إذ كان أبواه مهاجرين بها، وأمه أسماء بنت عميس، وكان جواداً ممدوحاً.
سكن المدينة، وقدم دمشق على معاوية ويزيد وعبد الملك بن مروان، وأمر له يزيد بن معاوية بألفي ألف.
حدث عبد الله بن جعفر قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل القثاء بالرطب.
وعنه قال: أردفني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم خلفه، فأسر إلي حديثاً لا أحدث به أحداً من الناس. قال: وكان أحب ما استتر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحاجته هدف أو حائش نخل، فدخل حائط رجل من الأنصار فإذا جمل. فلما رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حن وذرفت عيناه، فأتاه(12/72)
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمسح سراته وذفراه فسكن، ثم قال: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل. فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله، فقال: ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إلى أنك تجيعه وتدئبه.
وعن عبد الله بن جعفر قال:
بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيشاً واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: إن قتل زيد واستشهد فأميركم جعفر، فإن قتل واستشهد فأميركم عبد الله بن رواحة. فلقوا العدو فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه، وأتى خبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن إخوانكم لقوا العدو، وإن زيداً أخذ الراية فقاتل أو استشهد، ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه، ثم أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي بني أخي. قال: فجيء بنا كأننا أفرخ فقال: ادعوا لي الحلاق؛ فجيء بالحلاق فحلق رؤوسنا ثم قال: أما محمد فشبه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبه خلقي وخلقي، ثم أخذ بيدي فأشالها فقال: اللهم، اخلف جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه، قالها ثلاث مرات. قال: فجاءت أمنا فذكرت له يتمنا، وجعلت تفرخ له، فقال: آلعيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة؟ قال عبد الله بن جعفر: إنما أحفظ حين دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمي فنعى لها أبي، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي، وعيناه تهراقان الدموع حتى تقطر لحيته ثم قال: اللهم إن جعفراً(12/73)
قد قدم إلى أحسن الثواب فاخلفه في ذريته ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته، ثم قال يا أسماء: ألا أبشرك؟ قالت: بأبي وأمي، قال: فإن الله جل وعز جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة. قالت: بأبي وأمي يا رسول الله فأعلم الناس ذلك، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذ بيدي يمسح بيده رأسي حتى رقي على النبر وأجلسني أمامه على الدرجة السفلي والحزن يعرف عليه فتكلم فقال: إن المرء كثير بأخيه وابن عمه، ألا إن جعفراً قد استشهد وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة، ثم نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدخل بيته وأدخلني، وأمر بطعام يصنع لأهلي وأرسل إلى أخي فتغدينا عنده والله غداءً طيباً مباركاً. عمدت سلمى خادمه إلى شعير فطحنته ثم نسفته ثم أنضجته ثم أدمته بزيت، وجعلت عليه فلفلاً فتغديت أنا وأخي معه، فأقمنا ثلاثة أيام في بيته ندور معه، كلما صار في بيت إحدى نسائه، ثم رجعنا إلى بيتنا. فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أساوم بشاة أخ لي فقال: اللهم بارك له في صفقته. قال عبد الله: فما بعت شيئاً ولا اشتريت إلا بورك لي فيه.
وعن عروة: أن عبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر بايعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهما ابنا سبع سنين، وإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رآهما تبسم وبسط يده فبايعهما.
وعن عبد الله بن جعفر قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قدم من سفر تلقي بصبيان أهل بيته، وإنه قدم من سفر فسبق بي إليه فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة إما حسن وإما حسين فأردفه خلفه فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة.
وعن عبد الله بن جعفر قال: سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمة ما أحب أن لي بها حمر النعم. سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: جعفراً أشبه خلقي وخلقي. وأما أنت يا عبد الله فأشبه خلق الله بأبيك. وعنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يا عبد الله، هنيئاً لك مريئاً: خلقت من طينتي وأبوك يطير مع الملائكة في السماء.(12/74)
خطب الحسن والحسين عليهما السلام وعبد الله بن جعفر عليهما السلام إلى المسيب بن نجية ابنته الجنان، فقال لهم: إن لي فيها أميراً لن أعدو أمره، فأتى علي بن أبي طالب فأخبره خبرهم واستشاره، فقال له علي: أما الحسن فإنه رجل مطلاق وليس يحظين عنده، وأما الحسين فإنما هي حاجة الرجل إلى أهله، وأما عبد الله بن جعفر فقد رضيته لك فزوجه السائب ابنته.
وعن ابن عمر: أنه كان يأتي عبد الله بن جعفر فقال له الناس: إنك تكثر إتيان عبد الله بن جعفر فقال ابن عمر: لو رأيتم أباه أحببتم هذا، وجد فيما بين قرنه إلى قدمه سبعون بين ضربةٍ بسيف وطعنةٍ برمح.
وفد عبد الله بن جعفر على معاوية فأنزله في داره، فقالت له ابنة قرظة امرأته: إن جارك هذا يسمع الغناء، قال: فإذا كان ذلك فأعلميني، فأعلمته، فاطلع عليه وجارية له تغنيه:
إنك والله لذو ملةٍ ... يطرفك الأدنى عن الأبعد
وهو يقول: يا صدقكاه. قال: ثم قال: اسقني، قالت: ما أسقيك؟ قال: ماء وعسلاً، قال: فانصرف معاوية وهو يقول: ما رأى بأساً. فلما كان بعد ذلك قالت له: إن جارك هذا لا يدعنا ننام الليل من قراءة القرآن. قال: هكذا قومي: رهبان بالليل ملوك بالنهار.
قدم عبد الله بن جعفر على معاوية وكانت له منه وفادة في كل سنة، يعطيه ألف ألف درهم، ويقضي له مئة حاجة، فقال: يا أمير المؤمنين، اقض عني ديني فإني إنما أخذته عليك، وابسط أملي بإعطاء يومك، ودعني وغداً، فإنك غداً خير منك اليوم، كما أنك اليوم خير منك أمس ثم قال:(12/75)
يوماك: يوم يفيض نائله ... وخير يوميك ما بقيت غدا
ولا يمنعك من قضاء حقنا، وصلة أرحامنا حاجتنا إليك، وغناك عنا، فإنه ليس كل حاجة تتم، ولا كل غنى يدوم، وقد عودتنا من نفسك عادة صارت لنا عليك فريضة إن تقف بنا عندها رضينا بها، وإن زدتنا عليها حملنا زيادتها، ونحن وأنت كما قال الأعشى لقيس بن النمر:
عودت كندة عادةً فاصبر لها ... اغفر لجاهلها وروّ سجالها
وأعلم أنك لا تقضي لنا حاجة إلا قضينا لك مثلها، ولا تقبض عنا يدك فوالله إنه لتجيء منك الفلتة من الحرمان فكأنما جاءت من غيرك، يشك فيها الشاهد، ويكذب بها الغائب، ويطلب لها أهل الرأي المخرج لك منها حتى يبتغوا لك من الغدر ما يجوز الحرمان، وكذلك بحظك الغالب وقدرك الجالب. فقال معاوية: حسبك فما يتسع بيت ما لي لمكافأتك، والله ما في قريش رجل أحب أن يكون ابن هند منك، ولكني إذا ذكرت مكانك من علي ومكان علي منك انقبضت عنك، ثم أذكر أني لا أقيس بك رجلاً من قريش إلا عظمت عنه، ولا أزنك إلا رجحت به فعطفت عليك. فالغالب على ذلك الأوليان، بك مني وسيلة لا أخيب دالتها، وأثرة لا أستكثر عطيتها، وأما ما عودتكم فهو لكم ما كنتم لي، وأما أن تقضي من حقك فإني لا أكون على حال إلا وفي يديك مني أكثر مما في يدي منك، وأما البخل فكيف أبخل بمال، إنما تغيب عني أربعة أشهر حتى يرجع إلي بيت مالي، فقد اعتقدت به المنن، وما أحبسه إلا لأعطيه، وما أجمعه لأمنعه، ولأنا بإعطائه أشد سروراً منكم بأخذه، وقد قدمت علي وقد خلفت الحقوق في المال، ولك عودة، والدهر بيني وبينك أطرق مشتت، فلا تضربن بيني وبينك بالإساءة. كم دينك يا بن جعفر؟ قال: ألف ألف درهم. فقال معاوية: يا سعد، اقضها عنه، واجبهاغداً من فسا ودرابجرد، فغضبت قريش الشام حين أعطاه ألف ألف درهم فقالت: نظن معاوية هائباً لابن جعفر، فقال معاوية من أبيات:
تقول قريش حين خفت حلومها ... نظن ابن هند هائباً لابن جعفر(12/76)
فمن ثم يقضي ألف ألف ديونه ... وحاجته مقضية لم تؤخر
فقلت: ادعوا لي لا أباً لأبيكم ... فما منكم فيض له غير أعور
أليس فتى البطحاء ما تنكرونه ... وأول من أثني بتقواه خنصرى
وكان أبوه جعفر ساد قومه ... ولم يك في الحرب العوان بجيدر
فما ألف ألف فاسكتوا لابن جعفركثير ولا أمثالها لي بمنكر
ولا تحسدوه وافعلوا كفعاله ... ولن تدركوه كل ممشى ومحضر
دخل عبد الله بن جعفر على معاوية وعنده يزيد ابنه، فجعل يزيد يعرض بعبد الله في كلامه وينسبه إلى الإسراف في غير مرضاة الله، فقال عبد الله ليزيد: إني لأرفع نفسي عن جوابك، ولو صاحب السرير يكلمني لأجبته. فقال معاوية: كأنك تظن أنك أشرف منه. قال: أي، والله ومنك ومن أبيك وجدك. فقال معاوية: ما كنت أحب أن أحداً في عصر حرب بن أمية أشرف من حرب بن أمية. فقال عبد الله: بلى والله أشرف من حرب من أكفأ عليه إناءه، وأجاره بردائه. قال: صدقت يا أبا جعفر، وسل حاجتك، فقضى حوائجه وخرج.
قال الشعبي:
ومعنى قول عبد الله لمعاوية: إن أشرف من حرب من أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه، لأن حرب بني أمية كان إذا كان في سفر وعرضت له ثنية أو عقبة تنحنح، فلم يجترئ أحد أن يربأها حتى يجوز حرب بن أمية، فكان في سفر، فعرضت له ثنية فتنحنح، فوقف الناس ليجوز، فجاء غلام من بني تميم فقال: ومن حرب؟ ثم تقدمه فنظر إليه حرب فتهدده وقال: سيمكنني الله تعالى منك إذا دخلت مكة. فضرب الدهر من ضربه. ثم إن التميمي بدت له حاجة بمكة فسأل عن أعز أهل مكة فقيل له: عبد المطلب بن هاشم فقال: أردت دون عبد المطلب فقيل له: الزبير بن عبد المطلب، فقدم إلى مكة فأتى باب الزبير بن عبد المطلب فقرع عليه بابه، فخرج إليه الزبير فقال: ما أنت؟ إن كنت(12/77)
مستجيراً أجرناك، وإن كنت طالب قرى قريناك، فأنشأ التميمي يقول:
لاقيت حرباً بالثنية مقبلاً ... والصبح أبلج ضوءه للساري
قف لا تصاعد واكتنى ليروعني ... ودعا بدعوة معلن وشعار
فتركته خلفي وسرت أمامه ... وكذاك كنت أكون في الأسفار
فمضى يهددني الوعيد ببلدة ... فيها الزبير كمثل ليث ضار
فتركته كالكلب ينبح وحده ... وأتيت قرم مكارم وفخار
قرما هزبراً يستجار بقربه ... رحب المياه مكرماً للجار
وحلفت بالبيت العتيق وركنه ... وبزمزم والحجر ذي الأستار
إن الزبير لما نعي بمهند ... عضب المهزة صارم بتار
فقال الزبير: قد أجرتك وأنا ابن عبد المطلب، فسر أمامي فإنا - معشر بني عبد المطلب - إذا أجرنا رجلاً لم نتقدمه، فمضى بين يديه والزبير في إثره فليقه حرب فقال: التميمي، ورب الكعبة، ثم شد عليه ثم اخترط سيفه الزبير، ونادى في إخوته، ومضى حرب يشتد، والزبير في إثره حتى صار إلى دار عبد المطلب، فلقيه عبد المطلب خارجاً من الدار فقال: مهيم ياحرب، فقال: ابنك. قال: ادخل الدار، فدخل فأكفأ عليه جفنة هاشم التي كان يهشم فيها الثريد. وتلاحق بنو عبد المطلب بعضهم على إثر بعض، فلم يجترئوا أن يدخلوا دار أبيهم فاحتبوا بحمائل سيوفهم، وجلسوا على الباب فخرج إليهم عبد المطلب. فلما نظر إليهم سره ما رأى منهم فقال: يا بني، أصبحتم أسود العرب. ثم دخل إلى حرب فقال له: قم فاخرج، فقال: يا أبا الحارث، هربت من واحد وأخرج إلى عشرة؟! فقال: خذ ردائي هذا فالبسه، فإنهم إذا رأوا ردائي عليك لم يهيجوك، فلبس رداءه وخرج فرفعوا رؤوسهم، فلما نظروا إلى الرداء عليه نكسوا رؤوسهم، ومضى حرب، فهو قوله: إن أشرف من حرب من أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه.
قال عمرو بن العاص لعبد الله بن جعفر عند معاوية ليصغر منه: يا بن جعفر، فقال له عبد الله: لئن نسبتيني إلى جعفر فلست بدعي ولا أبتر، ثم ولى وهو يقول:(12/78)
تعرضت قرن الشمس وقت ظهيرة ... لتستر منها ضوءها بظلامكا
كفرت اختياراً ثم آمنت خيفة ... وبغضك إيانا شهيد بذلكا
قوله: لست بدعي ولا أبتر لأن العاص قال: إن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبتر، فأنزل الله عز وجل " إن شانئك هو الأبتر ".
روي عن عبد الله بن جعفر أنه أسلف الزبير بن العوام ألف ألف درهم. فلما توفي الزبير قال ابن الزبير لعبد الله بن جعفر: إني وجدت في كتب أبي أن له عليك ألف ألف درهم، فقال: هو صادق فاقبضها إذا شئت. ثم لقيه بعد فقال: يا أبا جعفر، إنما وهمت، المال لك عليه، قال: فهو له. قال: لا أريد ذلك، قال: فاختر، إن شئت فهو له، وإن كرهت ذلك فلك فيه نظرة ما شئت، فإن لم ترد ذلك فبعني من ماله ما شئت، قال: أبيعك، ولكني أقوم فقوم الأموال ثم أتاه فقال: أحب ألا يحضرني وإياك أحد. فقال له عبد الله: يحضرنا الحسن والحسين فيشهدان لك، قال: ما أحب أن يحضرنا أحد. قال: انطلق، فمضى معه فأعطاه خراباً وسباخاً لا عمارة له، وقومه عليه، حتى إذا فرغ قال عبد الله لغلامه: ألق لي في هذا الموضع مصلى، فألقى له في أغلظ موضع من تلك المواضع مصلى، فصلى ركعتين وسجد فأطال السجود يدعو. فلما قضى ما أراد من الدعاء قال لغلامه: احفر في موضع سجودي فحفر، فإذا عين قد أنبطها، فقال له ابن الزبير: أقلني. قال: أما دعائي وإجابة الله إياي فلا أقيلك، فصار ما أخذ منه أعمر ما في أيدي ابن الزبير.
وعن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله مع الدائن حتى يقضي دينه ما لم يكن فيما يكره الله.
فكان عبد الله بن جعفر يقول لخازنه اذهب فخذ لي بدين، فإني أكره أن أبيت ليلة إلا والله معي بعد الذي سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن الحسين قال: علمنا عبد الله بن جعفر السخاء.(12/79)
وعن هشام: أن دهقانا كلم عبد الله بن جعفر أن يكلم علي بن أبي طالب في حاجة، فكلمه فقضاها: فأهدى إليه الدهقان أربعين ألفاً فردها عليه وقال: إنا لا نأخذ على المعروف ثمناً.
حج معاوية فنزل في دار مروان بالمدينة، فطال عليه النهار يوماً، وفرغ من القائلة فقال: يا غلام، انظر من بالباب، هل ترى الحسن بن علي أو الحسين أو عبد الله بن جعفر أو عبد الله بن أبي أحمد بن جحش، فأدخله علي، فخرج الغلام فلم ير منهم أحداً، وسأل عنهم فأخبر أنهم مجتمعون عند عبد الله بن جعفر يتغدون عنده، فأتاه فأخبره فقال: والله ما أنا إلا كأحدهم، ولقد كنت أجامعهم في مثل هذا، فقام فأخذ عصاً فتوكأ عليها وقال: سر يا غلام، فخرج بين يديه حتى دق عليهم الباب فقال: هذا يا أمير المؤمنين فدخل فأوسع له عبد الله بن جعفر عن صدر فراشه فجلس فقال: غداءً يا بن جعفر، قال: ما يشتهي أمير المؤمنين من بيتي فليدع به قال: أطعمنا مخاً، قال: يا غلام، هات مخاً. قال: فأتي بقصعة فيها مخ، فأقبل معاوية يأكل، ثم قال عبد الله: يا غلام زدنا مخاً، فزاد، ثم قال: يا غلام مخاً، فزاد. فقال معاوية: إنما كنا نقول: يا غلام زدنا سخيناً، فأما قولك: يا غلام، زدنا مخاً فلم أسمع به قبل اليوم، يا بن جعفر، ما يسعك إلا الكثير، فقال عبد الله: يعين الله على ما ترى يا أمير المؤمنين. قال: فأمر له يومئذ بأربعين ألف دينار، وكان عبد الله بن جعفر قد ذبح ذلك اليوم كذا وكذا من شاة، وأمر بمخهن فنكت له، فوافق ذلك معاوية.
كتب رجل إلى عبد الله بن جعفر رقعة، فجعلها في ثني وسادة التي يتكئ عليها، فقلب عبد الله الوسادة فبصر بالرقعة فقرأها، فردها في موضعها، وجعل مكانها كيساً فيه خمسة آلاف دينار، فجاء الرجل فقال: قلب المرفقة فخذ ما تحتها فأخذ الكيس وخرج وأنشأ يقول:
زاد معروفك عندي عظماً ... أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند الله مشهور كبير
خرج عبد الله بن جعفر إلى حيطان المدينة، فبينا هو كذلك إذ نظر إلى أسود على بعض الحيطان وهو يأكل وبين يديه كلب، وعبد الله بن جعفر واقف على دابته ينظر(12/80)
إليه، فلما فرغ دنا منه فقال له: يا غلام لمن أنت؟ فقال: لورثة عثمان بن عفان فقال: لقد رأيت منك عجباً فقال له: وما الذي رأيت من العجب؟ قال: رأيتك تأكل، فكلما أكلت لقمة رميت للكلب لقمة، فقال: يا مولاي، هو رفيقي منذ سنين، ولا بد أن أجعله كأسوتي في الطعام، فقال له: فدون هذا يجزئك؟ فقال له: يا مولاي، إني لأستحي من الله أن آكل، وعين تنظر إلي لا تأكل. ثم مضى عنه حتى ورثة عثمان بن عفان فنزل عندهم فقال: جئت في حاجة، تبيعوني الحائط الفلاني قالوا: قد وهبناه لك فقال: لست آخذه إلا بضعف فباعوه، فقال لهم: وتبيعوني الغلام الأسود؟ فقال له: إن الأسود ربيناه وهو كأحدنا، فلم يزل بهم حتى باعوه، فلما أصبح غدا على الغلام وهو في الحائط، فخرج إليه فقال له: أشعرت أني قد اشتريتك واشتريت الحائط من مواليك؟ فقال: بارك الله لك فيما اشتريت، ولقد غمني مفارقتي لموالي، إنهم ربوني، فقال له: فأنت حر والحائط لك فقال: إن كنت صادقاً يا مولاي فاشهد أني أوقفته على ورثة عثمان بن عفان. فتعجب عبد الله بن جعفر منه وقال: ما رأيت كاليوم، فقال: بارك الله فيه ودعا له ومضى.
قال معاوية لعبد الله بن جعفر: ما العيش يا أبا جعفر؟ قال: ركوب الهوى وترك الحياء.
خرج حسين بن علي وعبد الله بن جعفر وسعيد بن العاص إلى مكة في حج أو عمرة. فلما قفلوا اشتاقوا إلى المدينة، فركبوا صدور رواحلهم بأبدانهم، وخلفوا أثقالهم، وكان ذلك في الشتاء فلما بلغوا المنحنين قرب الليل أصابهم مطر واشتد عليهم البرد، فاحتاجوا إلى مبيت وكن، فنظروا إلى نار تلوح لهم عن ناحية من الطريق، فأموها، فإذا هي نار لإنسان من مزينة فسألوا المبيت فقال: نعم، والقرى، فأنزلهم وأدخلهم خباءه وحجز بينهم وبين امرأته وصبيانه بكساء أو شيء ثم قام إلى شاة عنده فذبحها وسلخها، ثم قربها إليهم، وأضرم لهم ناراً عظيمة، فباتوا عليها، ودخل على امرأته وهو يظن أنهم قد ناموا فقالت له: ويحك، ما صنعت بأصبيتك؟! فجعتهم بشويهتهم، لم يكن لهم غيرها يصيبون من لبنها، لقوم مروا بك كسحابة أفرغت ما فيها ثم استقلت، لا خير عندهم.(12/81)
قال: ويحك، والله لقد رأيت أوجهاً صباحاً لا تسلمهم إلا إلى خير. قال: فباتوا عنده. فلما أرادوا المضي قالوا: يا أخا مزينة، هل عندك من صحيفة ودواة؟ قال: لا والله، إن هذا الشيء ما اتخذته قط. قال: فكتبوا أسماءهم في خرقة بحممة ثم قالوا: احتفظ بها، قال: فأكنها المزني. وأيس من خيرهم. فمكث بذلك ما شاء الله. ثم إنه نزل قوم من أهل المدينة قريباً منه، فذهب إليهم بالخرقة فقال: أتعرفون هؤلاء بأبي أنتم؟ قالوا: ويلك من أين لك هؤلاء؟ فأخبرهم بقصتهم فقالوا: انطلق معنا. قال: فانطلق المزني مع المدنيين حتى قدم المدينة فغدا إلى سعيد وهو كان أمير المدينة، فلما نظر إليه رحب به وقال: أنت المزني؟ قال: نعم، قال: جئت واحداً من أصحابي؟ قال: لا. قال: يا كعب، اذهب فأعطه ألف شاة ورعاتها، فقال له كعب: إن شئت اشترينا لك وإن شئت فإغلاء القيمة، فاختار الثمن، فأعطاه الثمن.
ثم صار إلى حسين فرحب به وقال: جئت واحداً من أصحابي؟ قال: نعم سعيداً. قال: فما صنع بك؟ قال: أعطاني ألف شاة ورعاتها فقال لقيمه: أعطه ألف شاة ورعاتها وزده عشرة آلاف درهم. فقال: إن شئت اشترينا لك، فاختار الثمن.
ثم ذهب إلى عبد الله بن جعفر فرحب به وقال: هل جئت أحداً من أصحابي؟ قال: نعم كلاهما. قال: فما صنعا؟ قال: أما سعيد فأعطاني ألف شاة برعاتها، وأما حسين فأعطاني ألف شاة ورعاتها وعشرة آلاف درهم. قال: يا بديح، أعطه ألف شاة ورعاتها وسجل له فلانة بينبع، قال: لعين عظيمة الخطر تغل مالاً كثيراً.
قال: هم أولئك المزنيون الذين يسكنون الخليج، وهم مياسير إلى اليوم.
قال بديح مولى عبد الله بن جعفر: خرجت معه في بعض أسفاره فنزلنا إلى جانب خباء من شعر وإذا بصاحب الخباء رجل من بني عذرة، فبينا نحن كذلك إذا أعرابي يسوق ناقة حتى وقف علينا ثم قال: ابغوني شفرة فناولناه الشفرة، فوجأ في لبتها، وقال شأنكم بها. قال: وأقمنا اليوم الثاني(12/82)
وإذا نحن بالشيخ العذري يسوق ناقة أخرى فقال: ابغوني شفرة. قال: فقلنا: إن عندنا من اللحم ما ترى فقال: أبحضرتي تأكلون الغاب؟! ناولوني الشفرة فوجأ في لبتها ثم قال: شأنكم بها، وبقينا اليوم الثالث، فإذا نحن بالعذري يسوق أخرى فقال: أي قوم، ابغوني شفرة فقلنا: إن معنا من اللحم ما ترى، قال: أبحضرتي تأكلون الغاب؟! إني لأحسبكم قوماً لئاماً، ناولوني الشفرة فناولناه، فوجأ في لبتها ثم قال: شأنكم بها. قال: وأخذنا في الرحيل، فقال ابن جعفر لخازنه: ما معك؟ قال: رزمة ثياب وأربع مئة دينار. قال: اذهب بها إلى الشيخ العذري، فذهب بها فإذا جارية في الخباء فقال: يا هذه، خذي هدية ابن جعفر، قالت: إنا قوم لا نقبل على قرانا أجراً، فجاء إلى ابن جعفر فأخبره فقال: عد إليها، فإن هي قبلت وإلا فارم بها على الخيمة، فعاودها فقالت: اذهب عنا، فوالله لئن جاء شيخي فرآك ها هنا لتلقن منه أذى، فرمى بالرزمة والصرة على باب الخباء، ثم ارتحلنا، فما سرنا إلا قليلاً حتى إذا نحن بالشيخ العذري ومعه الصرة والرزمة فرمى بذلك إلينا ثم ولى مدبراً، فجعلنا ننظر في قفاه هل يلتفت فهيهات. فكان جعفر يقول: ما غلبنا بالسخاء إلا الشيخ العذري.
جاءت امرأة إلى عبد الله بن جعفر بدجاجة مسموطة في مكتل، فقالت: بأبي أنت، هذه الدجاجة كانت مثل بنيتي، آكل من بيضها وتؤنسني، فآليت أن لا أدفنها إلا في أكرم موضع أقدر عليه، ولا والله ما في الأرض موضع أكرم من بطنك. قال: خذوها منها، واحملوا إليها من الحنطة كذا ومن التمر كذا، وأعطوها من الدراهم كذا، فعدد شيئاً. فلما رأت ذلك قالت: بأبي " إن الله لا يحب المسرفين ".
قال ابن أبي الفخر: سمنت بهمة لي ثم خرجت بها أبيعها، فمررت بعبد الله بن جعفر. قال: يا صاحب البهمة، أتبيع؟ قلت: لا والله ولكن هي لكم، ثم انصرفت وتركته، فأقمنا أياماً، ثم إذا الحمالون على الباب، فإذا عشرون يحملون حنطة، وعشرة يحملون زيتاً، وخمسة يحملون كسوة، وواحد يحمل مالاً حتى أدخلت علينا.(12/83)
وعن محمد بن سيرين أن رجلاً جلب سكراً إلى المدينة فكسد عليه. فقالوا له: ائت عبد الله بن جعفر، فأتاه فاشتراه منه بده دوازده وقال: من شاء أخذ، فقال الرجل: آخذ معهم؟ قال: خذ.
جاء أعرابي إلى عبد الله بن جعفر وهو محموم، فأنشأ يقول:
كم لوعة للندى وكم قلق ... للجود والمكرمات من قلقك
ألبسك الله منه عافية ... في نومك المعتري وفي أرقك
أخرج من جسمك السقام كما ... أخرج ذم الفعال من عنقك
فأمر له بمئة ألف دينار.
قال أبو إسحاق المالكي: وجه يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن جعفر مالاً جليلاً هدية له، ففرقه في أهل المدينة، ولم يدخل منزله منه شيئاً، فبلغ ذلك عبد الله بن الزبير فقال: إن عبد الله بن جعفر لمن المسرفين. فأنهي ذلك إلى عبد الله بن جعفر فقال:
بخيل يرى في الجود عاراً وإنما ... على المرء عار أن يضن ويبخلا
إذا المرء أثرى ثم لم يرج نفعه ... صديق فلاقته المنية أولا
فبلغ ما فعل عبيد الله بن قيس الرقيات فقال في قصيدة له يمدح بها بعض الأمراء:
وما كنت إلا كالأعز ابن جعفر ... رأى المال لا يبقى فأبقى به ذكرا
دخل ابن أبي عمار وهو فقيه الحجاز يومئذ على نخاس يعترض منه جارية، فعرض عليه جارية بأكثر مما كان معه من الثمن، وكانت حسنة الوجه جداً، فعلق بها. وأخذه أمر(12/84)
عظيم، ورآه النخاس فتباعد عليه في الثمن، واستهتر بذكرها، فمشى إليه عطاء وطاوس ومجاهد يعذلونه فكان جوابه أن قال:
يلومني فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالي أطار اللوم أو وقعا
فبلغ خبره عبد الله بن جعفر فلم يكن له همة غيرها. فبعث إلى مولى الجارية فاشتراها بأربعين ألف درهم، وأمر قيمة جواريه أن تزينها، وتحليها ففعلت، وقدم المدينة، فجاءه الناس يسلمون عليه، وجاءه جلة أهل الحجاز فقال: ما لي لا أرى ابن أبي عمار زائراً؟ فأخبر الشيخ فأتاه. فلما أراد أن ينهض استجلسه، فقال له ابن جعفر: ما فعل حبك فلانة؟ قال: في اللحم والدم والمخ والعصب والعظام. قال: أتعرفها إن رأيتها؟ قال: جعلت فداك، هي مصورة نصب عيني عند كل خطرة وفكرة، ولو أدخلت الجنة ما كنت أنكرها. قال: والله ما نظرت إليها مذ ملكتها، يا جارية، أخرجيها فأخرجت ترفل في الحلي والحلل فقال: هي هذه وأنشأ يقول:
هي التي هام قلبي من تذكرها ... والنفس مشغولة أيضاً بذكراها
قال: فشأنك بها فخذها، بارك الله فيها. قال: جعلت فداك، لقد تفضلت بشيء ما كان يتفضل به إلا الله. فلما ولى بها قال: يا غلام، احمل معها مئة ألف درهم كي لا يهتم بها ولا تهتم به. فبكى ابن أبي عمار سروراً ثم قال: الله يعلم حيث يجعل رسالاته، والله - جعلت فداك - لئن كان الله وعدنا بنعيم الآخرة لقد عجلت نعيم الدنيا.
كانت عند عبد الله بن جعفر جارية مغنية يقال لها عمارة وكان يجد بها وجداً شديداً وكان له منه مكان لم يكن لأحد من جواريه. فلما وفد عبد الله بن جعفر على معاوية خرج بها معه. فزاره يزيد ذات يوم فأخرجها إليه، فلما نظر إليها وسمع غناءها وقعت في نفسه، فأجره عليها مالاً لا يملكه، وجعل لا يمنعه أن يبوح بما يجد بها إلا مكان أبيه مع يأسه من الظفر بها. فلم يزل يكاتم الناس أمرها إلى أن مات معاوية وأفضى الأمر إليه، فاستشار بعض من قدم عليه من أهل المدينة وعامة من يثق به في أمرها، وكيف الحيلة(12/85)
فيها: فقيل له: إن عبد الله بن جعفر لا يرام، ومنزلته من الخاصة والعامة ومنك ما قد علمت، وأنت لا تستجيز إكراهه وهو لا يبيعها بشيء أبداً، وليس يغني في هذا إلا الحيلة، قال: انظروا لي رجلاً عراقياً له أدب وظرف ومعرفة، فطلبوه فأتوه به. فلما دخل رأى بياناً وحلاوة وفهماً. فقال يزيد: إنني دعوتك لأمر إن ظفرت به فهو حظوتك آخر الدهر ويد أكافئك عليها إن شاء الله، ثم أخبره بأمره فقال له: إن عبد الله بن جعفر ليس يرام ما قبله إلا بالخديعة، ولن يقدر أحد على ما سألت، فأرجو أن أكونه، والقوة بالله فأعني بالمال. قال: خذ ما أحببت، فأخذ من طرف الشام وثياب مصر، واشترى متاعاً للتجارة من رقيق ودواب وغير ذلك، ثم شخص إلى المدينة فأناخ بعرصة عبد الله بن جعفر، واكترى منزلاً إلى جانبه ثم توسسل إليه وقال: رجل من أهل العراق قدمت بتجارة فأحببت أن أكون في عز جوارك وكنفك إلى أن أبيع ما جئت به، فبعث عبد الله إلى قهرمانة أن أكرم الرجل ووسع عليه في نزله، فلما اطمأن العراقي سلم عليه أياماً وعرفه نفسه وهيأ له بغلة فارهة وثياباً من ثياب العراق، وألطافاً، فبعث بها إليه وكتب معه: يا سيدي، إني رجل تاجر ونعمة الله علي سابغة، وقد بعثت إليك بشيء من لطف، وكذا وكذا من الثياب والعطر، وبعثت ببغلة خفيفة العنان وطيئة الظهر فاتخذها لرحلك، فأنا أسألك بقرابتك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا قبلت هديتي ولم توحشني بردها، فإني أدين الله بمواصلتك، فأمر عبد الله بقبض هديته وخرج إلى الصلاة. فلما رجع مر بالعراقي في منزله فقام إليه وقبل يده واستكثر منه، فرأى أدباً وظرفاً وفصاحة فأعجب به، وسر بنزوله عليه، فجعل العراقي في كل يوم يبعث إلى عبد الله بلطف يطرفه، فقال عبد الله: جزى اله ضيفنا هذا خيراً، فقد ملأنا شكراً، وما نقدر على مكافأته.
فإنه لكذلك إلى أن دعاه عبد الله ودعا بعمارة وبجواريه. فلما طاب لهما المجلس وسمع غناء عمارة تعجب، وجعل يزيد في عجبه. فلما رأى ذلك عبد الله سر به إلى أن قال: هل رأيت مثل عمارة قال: لا والله يا سيدي، ما رأيت مثلها، وما تصلح إلا لك، وما ظننت أن يكون في الدنيا مثل هذه الجارية حسن وجه وحسن عمل، قال: فكم تساوي عندك؟ قال: ما لها ثمن إلا الخلافة، قال: تقول هذا لتزين لي رأيي فيها، وتجتلب سروري، فقال له: يا سيدي، والله إني لأحب سرورك، وما قلت إلا الجد، وبعد فإني تاجر أجمع(12/86)
الدرهم طلباً للربح، ولو أعطيتها بعشرة آلاف دينار لأخذتها، فقال عبد الله: عشرة آلاف دينار؟ قال: نعم، ولم يكن في ذلك الزمان جارية تعرف بهذا الثمن. فقال له عبد الله: أنا أبيعكها بعشرة آلاف دينار. قال: قد أخذتها. قال: هي لك. قال: قد وجب البيع، وانصرف العراقي.
فلما أصبح عبد الله لم يشعر إلا بالمال قد وافى، فقيل لعبد الله: قد بعث العراقي بعشرة آلاف دينار وقال: هذا ثمن عمارة. فردها وكتب إليه: إنما كنت أمزح معك، وأعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها، فقال له: جعلت فداك إن الجد والهزل في البيع سواء، فقال عبد الله: ويحك ما أعلم جارية تساوي ما بذلت، ولو كنت بائعها من أحد لآثرتك، ولكني كنت مازحاً وماأبيعها بملك الدنيا لحرمتها لي وموضعها من قلبي، فقال العراقي: إن كنت مازحاً فإني كنت جاداً، وما اطلعت على ما في نفسك، وقد ملكت الجارية وبعثت بثمنها إليك، وليست تحل لك ومالي من أخذها بد، فمانعه إياها، فقال له: ليست لي بينة، ولكني أستحلفك عند قبر رسول الله صلىالله عليه وسلم ومنبره. فلما رأى عبد الله الجد قال: بئس الضيف أنت، ما طرقنا طارق أعظم بلية منك أتحلفني فيقول الناس: اضطهد عبد الله ضيفه وقهره وألجأه إلى أن استحلفه؟ أما والله ليعلمن الله أني ساءلته في هذا الأمر الصبر وحسن العزاء، ثم أمر قهرمانه بقبض المال منه وبتجهيز الجارية بما يشبهها من الثياب والخدم والطيب، فجهزت بنحو من ثلاثة آلاف دينار وقال: هذا لك ولها عوضاً مما ألطفتنا، والله المستعان. فقبض العراقي الجارية وخرج بها.
فلما برز من المدينة قال لها: يا عمارة، إني والله ما ملكتك قط، ولا أنت لي ملا مثلي يشتري جارية بعشرة آلاف دينار، وما كنت لأقدم على ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلبه أحب الناس إليه لنفسي، ولكني دسيس من يزيد بن معاوية وأنت له، وفي طلبك بعثني فاستتري مني، وإن داخلني الشيطان في أمرك أو تاقت نفسي إليك فامتنعي، ثم مضى بها حتى ورد دمشق فتلقاه الناس بجنازة يزيد وقد استخلف ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية، فأقام الرجل أياماً ثم تلطف للدخول عليه، فشرح له القصة ولم يكن أحد من بني أمية يعدل بمعاوية بن يزيد في زمانه نبلاً ونسكاً. فلما أخبره قال: هي لك وكل ما دفعه إليك في أمرها لك، وارحل من يومك ولا أسمع خبرك في شيء من بلاد الشام، فرحل(12/87)
العراقي، ثم قال للجارية: إني قلت لك ما قلت حين خرجت بك من المدينة، وأخبرتك أنك ليزيد وقد صرت لي وأنا أشهد الله أنك لعبد الله بن جعفر، وإني قد رددتك عليه فاستتري.
ثم خرج بها حتى قدم المدينة فنزل قريباً من عبد الله بن جعفر فقيل لعبد الله: هذا العراقي ضيفك الذي صنع بنا ما صنع قد نزل العرصة لا حياه الله، فقال عبد الله: مه، أنزلوا الرجل وأكرموه، فلما استقر بعث إلى عبد الله بن جعفر: جعلت فداك إن رأيت أن تأذن لي أذنة خفيفة لأشافهك بشيء فعلت: فأذن له. فلما دخل سلم عليه وقبل يديه، وقربه عبد الله، ثم قص عليه القصة حتى فرغ، ثم قال: قد والله وهبتها لك قبل أن أراها أو أضع يدي عليها، فهي لك ومردودة عليك، وقد علم الله إني ما رأيت لها وجهاً إلا عندك، وبعث إليها فجاءت، وجاءت بما جهزها به موفراً، فلما نظرت إلى عبد الله خرت مغشياً عليها، وأهوى إليها فضمها إليه، وخرج العراقي وتصايح أهل الدار: عمارة عمارة، فجعل عبد الله يقول ودموعه تجري: أحلم هذا؟ أحق هذا؟ ما أصدق بهذا. فقال له العراقي جعلت فداك، ردها الله عليك بإيثارك الوفاء وصبرك على الحق وانقيادك له، فقال عبد الله: الحمد لله، اللهم إنك تعلم أني صبرت عنها، وآثرت الوفاء، وسلمت لأمرك، فرددتها علي بمنك. قالت: الحمد لله، ثم قال: يا أخا العراق، ما في الأرض أعظم منك منة وسيجازيك الله تعالى. فأقام العراقي أياماً وباع عبد الله غنماً بثلاثة آلاف دينار، وقال لقهرمانه: احملها إليه وقل له: اعذر واعلم أني لو وصلتك بكل ما أملك لرأيتك أهلاً لأكثر منه، فرحل العراقي محموداً وافر العرض والمال.
قيل لمعاوية بن عبد الله: ما بلغ من كرم عبد الله بن جعفر؟ قال: كان ليس له مال دون الناس، هو والناس في ماله شركاء، كان من سأله أعطاه ومن استمنحه شيئاً منحه، لا يرى أنه يقتصر فيقصر، ولا يرى أنه يحتاج فيدخر. قال الشماخ بن ضرار لعبد الله بن جعفر:
إنك يا بن جعفر نعم الفتى ... ونعم مأوى طارق إذا أتى
ورب ضيف طرق الحي سرى ... صادف زاداً وحديثاً ما اشتهى
إن الحديث جانب من القرى(12/88)
قال خلف الأحمر: ومن سنة الأعراب إذا حدثوا الغريب وهشوا إليه وفاكهوه أيقن بالقرى، وإذا أعرضوا عنه أيقن بالحرمان. فمن ثم قيل: إن الحديث جانب من القرى.
بعث رجل من أهل المدينة بابنة له إلى عبد الله بن جعفر فقال: إنا نريد أن نخدرها وقد أحببت أن تمسح يدك على ناصيتها، وتدعو لها بالبركة. قال: فأقعدها في حجره ومسح بيده على ناصيتها ودعا لها بالبركة، ثم دعا مولى له فساره بشيء، فذهب المولى ثم جاء فأتاه بشيء، فصره عبد الله في خمار الجارية، ثم دفعها إلى الرسول. قال: فنظروا، فإذا لؤلؤة، فأخرجت إلى السوق لتباع فعرفت وقيل: لؤلؤة ابن جعفر حبا بها ابنة جاره. قال: فبيعت بثلاثين ألف درهم.
مر عبد الله بن جعفر ومعه عدة من أصحابه بمنزل رجل قد أعرس، وإذا مغنية تقول:
قل لكرام ببابنا يلجوا ... ما في التصابي على الفتى حرج
فقال عبد الله لأصحابه: لجوا فقد أذن لنا القوم، فنزل ونزلوا فدخلوا. فلما رآه صاحب المنزل تلقاه وأجلسه على الفرش، فقال للرجل: كم أنفقت على وليمتك؟ قال: مئتي دينار. قال: فكم مهر امرأتك؟ قال: كذا وكذا، فأمر له بمئتي دينار ومهر امرأته وبمئة دينار بعد ذلك معونة، واعتذر إليه وانصرف.
قال إبراهيم بن صالح: عوتب عبد الله بن جعفر على السخاء فقال: يا هؤلاء إني عودت الله عادة وعودني عادة، وإني أخاف إن قطعتها قطعني.
بلغ معاوية أن عبد الله بن جعفر أصابه جهد فكتب إليه:
لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعف من القنوع
يسد به نوائب تعتريه ... من الأيام كالنهل الشروع(12/89)
وكتب إليه يأمره بالقصد ويرغبه فيه، وينهاه عن السرف ويعيبه عليه. قال: فأجابه عبد الله بن جعفر:
سلي الطارق المعتر يا أم خالد ... إذا ما أتاني بين ناري ومجزري
أأبسط وجهي إنه أول القرى ... وأبذل معروفي لهم دون منكري
وقد أشتري عرضي بمالي وما عسى ... أخول إذا ما ضيع العرض يشتري
يؤدي إلي الليل إتيان ماجد ... كريم ومالي سارح مال مقتر
فأعجب معاوية ما كتب إليه به، وبعث بأربعين ألف دينار عوناً له على دينه.
قال عبد الله بن جعفر:
ليس الجواد الذي يعطي بعد المسألة، لأن الذي يبذل السائل من وجهه وكلامه أفضل مما يبذل من نائله، وإنما الجواد الذي يبتدئ بالمعروف.
قال محمد بن سلام الجمحي: رئي عبد الله بن جعفر يماكس في دهم فقيل له: تماكس في درهم وأنت تجود من المال بكذا وكذا؟! فقال: ذلك مالي جدت به، وهذا عقلي بخلت به.
أنشد عبد الله بن جعفر:
إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى يصاب بها طريق المصنع
فقال: هذا رجل أراد أن يبخل الناس، أمطر المعروف مطراً، فإن صادفت موضعاً فذاك ما أردت، وإلا رجع إليك فكتب أهله.
قال أعرابي لعبد الله بن جعفر: لا ابتلاك الله ببلاء يعجز عنه صبرك، وأنعم عليك نعمة يعجز عنها شكرك.
كان عبد الله بن جعفر يصبغ بالوسمة.(12/90)
توفي عبد الله بن جعفر سنة ثمانين وهو عام الجحاف - سيل كان ببطن مكة جحف الحاج، وذهب بالإبل وعليها الحمولة - وكان الوالي يومئذ أبان بن عثمان في خلافة عبد الملك بن مروان وكان عمر عبد الله بن جعفر تسعين سنة. وحمل أبان السرير بين العمودين فما فارقه حتى وضعه بالبقيع، ودموعه تسيل وهو يقول: كنت، والله خيراً لا شر شققن الجيوب، والناس يزدحمون على سريره.
وقيل: توفي عبد الله سنة ست وثمانين.
وقيل: إنه كان يوم توفي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن عشر سنين.
وقيل: إنه ولد في السنة التي توفي فيها سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: سنة أربع أو خمس وثمانين وهو ابن ثمانين سنة.
قال: وهذا أشبه بالصواب.
وقيل: إن عبد الله بن جعفر توفي سنة تسعين وهو ابن تسعين.
قال هشام بن سليمان المخزومي: أجمع أهل الحجاز وأهل البصرة وأهل الكوفة أنهم لم يسمعوا بيتين أحسن من بيتين رأوهما على قبر عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
مقيم إلى أن يبعث الله خلقه ... لقاؤك لا يرجى وأنت قريب
تزيد بلى في كل يوم وليلة ... وتنسى كما تبلى وأنت حبيب(12/91)
عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن
ابن المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة أبو جعفر القرشي الزهري المخرمي المديني.
حدث عبد الله بن جعفر عن سعد بن إبراهيم قال: سألت القاسم عن رجل، له مساكن، فأوصى بثلث مساكن فقال: لا، تجمع له في مسكن واحد، وأخبرتني عائشة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ".
توفي عبد الله بن جعفر سنة تسعين ومئة. وقيل: سنة سبعين ومئة، وهو ابن بضع وسبعون سنة. وكان ثقة. قيل إنه قتل مع الحسين بن علي بفخ، فمن ثم كره أهل المدينة أن يحدثون عنه، إلا أنه ثقة في الحديث.
وقال يحيى بن معين - وقد سئل عن عبد الله بن جعفر -: هو صويلح، وسليمان بن بلال فوقه، لم يعب إلا بولايته السوق.
وكان عالماً بالمغازي والفتوى، ولم يزل يؤمل فيه أن يلي القضاء بالمدينة حتى مات ولم يله، وكان قصيراً دميماً قبيحاً.
قال ابن أبي الزناد: ما عزل قاض عن المدينة أو مات إلا قيل يولى عبد الله بن جعفر لكماله ومروءته وعلمه. فمات قبل أن يليه.
قال عبد الرحمن: وما أحسبه قعد به عن ذلك إلا خروجه مع محمد بن عبد الله بن حسن.(12/92)
قال محمد بن عمر: لما جاء نعي أبي عمر بن واقد احتبست في البيت ثلاثة أيام، ثم غدوت فإذا أنا بعبد الله بن جعفر على بغلته عند سوق الحنطة. فلما رآني حبس بغلته وقال: ما حبسك عني؟ قد سألت جحدراً يعني غلاماً: أجاء فرددته أم لم تعلمني بمكانه؟ فقال: ما جاء، فما حبسك؟ قلت: جاء نعي أبي عمر: فلم يكلمني كلمةً حتى رد بغلته راجعاً، ثم جاءني في بيته ماشياً يعزيني، فقلت: حفظك الله ما أحب أن تتعنى وتجيء ماشياً، قال: إن أحب ذلك إلي أن أقضي فيه الحق أشقه علي. ألم تسمع حديث أم بكر بنت المسور بن مخرمة؟ قلت: لا، قال: حدثتني أم بكر بنت المسور أن المسور اعتل فجأة ابن عباس نصف النهار يعوده، فقال له المسور: يا أبا عباس هل ساعةً غير هذه؟ فقال ابن عباس: إن أحب الساعات إلي أن أؤدي فيها الحق إليك أشقها علي.
عبد الله بن جعفر بن محمد
أبو محمد الخبازي الطبري الحافظ قدم دمشق وسمع بها.
حدث عن أبي الحسن علي بن محمد بن عمر الفقيه بسنده إلى عبد الله بن عباس أنه قال:
من صلى ليلةً تسع وعشرين من رجب ثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة منها بفاتحة الكتاب وسورة فإذا فرغ من صلاته قرأ بفاتحة الكتاب سبع مرات وهو جالس، ثم قال: سبحان الله والحمد لله ولا إلهإلاالله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أربع مرات، ثم أصبح صائماً حط الله عز وجل عنه ذنوبه ستين سنة، وهي ليلة بعث فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(12/93)
عبد الله بن جعفر
أبو القاسم المالكي الضرير حدث بالجامع بدمشق عن أحمد بن إبراهيم البغدادي المعروف بابن زوران بسنده إلى علي أنه قيل له: أن الناس قد أقبلوا على الحديث، وتركوا القرآن قال: أو فعلوها؟! أما أنه نزل جبريل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد إن أمتك مفتونة من بعدك، قال: فما المخرج من ذلك؟ قال: كتاب الله المنزل. يقولها ثلاثاً. فذكر الحديث بطوله.
عبد الله بن أبي جعفر
حدث عن محمد بن جعفر قال: سمعت المبرد ينشد:
إذا شئت أن تبقى من الله نعمة ... عليك فسارع في حوائج خلقه
ولا تعصين الله ما نلت ثروة ... فيحظر عنك الله واسع رزقه
عبد الله بن الحارث بن أمية بن عبد شمس
وفد على معاوية، وهو كبير. فقربه حتى مست ركبتاه فراشه ثم قال له معاوية: ما بقي منك؟ قال: ذهب والله، خيري وشري. قال معاوية: ذهب والله خير قليل وبقي شر كثير، فما لنا عندك؟ قال: إن أحسنت لم أحمدك، وإن أسأت لمتك. قال: ما انصفتني. قال: ومتى أنصفتك، ولقد شججت أخاك حنظلة فما أعطيتك عقلاً ولا قوداً، وأنا الذي أقول:
أصخر بن حرب لا نعدك سيداً ... فسد غيرنا إذا كنت لست بسيد
فقال معاوية: وأنت الذي تقول:
شربت الخمر حتى صرت كلاً ... على الأدنى وما لي من صديق(12/94)
وحتى ما أوسد من وساد ... إذا أنشو سوى التراب السحيق
فوثب على معاوية يخبطه بيده، ومعاوية ينحاز ويضحك.
عبد الله بن الحارث بن نوفل
ابن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي النوفلي من أهل المدينة، وسكن البصرى، واصطلح عليه أهلها حين مات يزيد بن معاوية واستخفى عبد الله بن زياد، وقدم الشام مع عمر بن الخطاب، وشهد خطبته بالجابية، ثم قدم دمشق على بعض خلفاء بني أمية. وروى عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرسلاً، ويقال إنه ولد في زمنه، وكان يلقب ببة.
حدث عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم هو لي وأنا أجزي به، للصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ".
وعن عبد الله بن الحارث قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي وأمامه بنت أبي العاص - بنت زينب - على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا قام حملها.
وعن عبد الله بن الحارث قال: سمعت العباس قال: قلت: يا رسول الله، إن أبا طالب كان يحوطك ونفعك، فهل ينفعه؟ قال: نعم، وجدته في غمرات النار فأخرجته إلى ضحضاح.
قال عبد الله بن الحارث: شهدت عمر بن الخطاب يخطب بالجابية وثم الجاثليق رأس النصارى، فلما قال عمر: من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له قال: " برقس " ونفض جيب قميصه،(12/95)
فقال عمر: ما تقول يا عدو الله؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، يقولوا: أن الله يهدي ولا يضل. قال: كذبت، بل الله خلقك ثم أضلك ثم يميتك ثم يدخلك النار، إن شاء الله، والله لولا ولث من عهد لك لضربت عنقك. إن الله لما خلق آدم بث ذريته في يده فقال: هؤلاء أهل الجنة، وما كانوا عاملين لليمنى، وهؤلاء أهل النار وما كانوا عاملين للأخرى، وهؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه، قال: فافترق الناس، وما يختلف في القدر اثنان.
وأم عبد الله بن الحارث هند بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية.
قالت هند بنت أبي سفيان وهي تنقز ابنها ببة: عبد الله بن الحارث:
يا ببه يا ببه ... لأنكحن ببه
جارية بنقبه ... تسود أهل الكعبة
فعمر حتى زوجته خالدة بنت معتب بن أبي لهب، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب.
كان الحارث بن نوفل رجلاً على عهد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى عنه، وأسلم عند إسلام أبيه، فولد له ابنه عبد الله بن الحارث على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتت به أمه هند بنت أبي سفيان، أختها أم حبيبة، فدخل عليها سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من هذا يا أم حبيبة؟ قالت: هذا ابن عمك وابن أختي، هذا ابن الحارث بن نوفل وابن هند بنت أبي سفيان بن حرب. قال: فتفل سيدنا رسول الله في فيه، ودعا له. وكان ثقة كثير الحديث، وتحول إلى البصرة مع أبيه، وابتنى بها داراً وكان يلقب ببه. ولما كان أيام مسعود بن عمرو خرج عبيد الله بن زياد عن البصرة واختلف الناس بينهم، وتداعت القبائل أجمعوا أمرهم، وولوا عبد الله بن الحارث صلاتهم وفيئهم، وكتبوا بذلك إلى الزبير: إنا قد رضينا به، فأقره عبد الله بن الزبير على البصرة، فصعد عبد الله بن الحارث بن نوفل المنبر، فلم يزل يبايع الناس لعبد الله بن(12/96)
الزبير حتى نعس، وجعل يبايعهم وهو نائم ماد يده، فقال سحيم بن وثيل اليربوعي:
بايعت أيقاظاً فأوفيت ببيعتي ... وببة قد بايعته وهو نائم
فلم يزل عبد الله بن الحارث عاملاً لعبد الله على البصرة سنة، ثم عزله، واستعمل الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي وخرج عبد الله بن الحارث إلى عمان، فمات بها. وكان خرج هارباً من الحجاج. توفي سنة أربع وثمانين. وقيل: سنة ثلاث وثمانين. وكان من أفاضل المسلمين.
وببة لقبه. بباء أولى مفتوحة، وباء ثانية مشددة.
وقال الشعبي وغيره: رجع ابن عباس إلى البصرة يعني من صفين فأقام بها، فلم يزل بها حتى قتل علي، فحمل ما حمل من المال، ثم مضى إلى الحجاز، واستخلف عبد الله بن الحارث بن نوفل على البصرة.
عبد الله بن حبيب أبو محمد المجهز
حدث عن أبي القاسم علي بن يعقوب بن أبي العقب بسنده إلى محمد بن عمرو بن عطاء.
أن زينب بنت أبي سلمة سألته: ما سميت ابنتك؟ وروى الحافظ هذا الحديث أعلى من هذا وأتم: ذكر بسنده إلى محمد بن عمرو بن عطاء أن زينب بنت أبي سلمة سألته: ما سميت ابنتك؟ قال: سميتها برة، فقالت: فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نهى عن هذا الاسم، سميت برة. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم، فقالوا: ما نسميها؟ قال: سموها زينب.(12/97)
عبد الله بن الحجاج بن محصن
ابن جندب الثعلبي شاعر شجاع فاتك. وفد على عبد الملك بن مروان مستأمناً. وقيل: إنه كان مع عمرو بن سعيد الأشدق حين غلب على دمشق. ووفد على الوليد بن عبد الملك. وكان من أصحاب الزبير فضربه كثير بن شهاب الحارثي - وكان أميراً على الري - في الخمر، فاغتاله عبد الله بن الحجاج ليلة بالكوفة فضربه على وجهه ضربة أثرت فيه، وقال:
من مبلغ أفناه قيس أنني ... أدركت طائلتي من ابن شهاب
أدركته ليلاً بعقوة داره ... فضربته قدماً على الأنياب
هلا خشيت وأنت عاد ظالم ... بقصور أبهر أسرتي وعقابي؟
فطلبه عبد الملك بن مروان فصار إليه ليلاً وهو يعشي الناس فأنشده من أبيات:
منع القرار فجئت نحوك هارباً ... جيش يجر ومقنب يتلمع
فأمنه.
وعبد الله بن الحجاج هو القائل لأبي داود يزيد بن هبيرة المحاربي، وقد ولي ولايات:
رأيت أبا داود في المجد نابهاً ... زعيماً على قيس لقد أبرح الدهر
يقود الجياد المسنفات كأنما ... نماه زهير للرئاسة أو بدر
كان عبد الله بن الحجاج من أشد الناس على عبد الملك بن مروان في طاعة ابن الزبير مع القيسية، فلما قتل ابن الزبير أرسل عبد الملك يطلب عبد الله بن الحجاج فلم يظفر به،(12/98)
فلما خاف عبد الله بن حجاج أن يظفر به أقبل فدخل على عبد الملك اليوم الذي يطعم فيه أصحابه فمثل بين يديه ثم قال:
منع القرار نحوك هارباً ... جيش يجر ومقنب يتلمع
قال: أي الأخابيث أنت!؟ قال:
ارحم أصيبيتي هديت فإنهم ... حجل تدرج بالشربة جوع
قال: أجاع الله بطونهم. قال:
مال لهم فيما يظن جمعته ... يوم القليب فحيز عنهم أجمع
قال: احسبه كان كسب سوء، قال:
أدنو لترحمني وتقبل توبتي ... وأراك تدفعني فأين المدفع؟
قال: إلى النار، قال:
ضاقت ثياب الملبسين ونفعهم ... عني فسألبسني فثوبك أوسع
فنزع مطرفاً كان عليه فطرحه عليه، ثم قال: أآكل؟ قال: كل، فلما وضع يده على الطعام قال: أمنت ورب الكعبة، قال: كن من كنت إلا عبد الله بن حجاج. قال: فأنا عبد الله بن حجاج، قال: أولى لك.
وفي خبر آخر: أن عبد الله قال له: لا سبيل لك إلى قتلي، قد جلست في مجلسك، وأكلت طعامك، ولبست من ثيابك.(12/99)
عبد الله بن أبي حدرد
واسمه سلامة أبو محمد الأسلمي له صحبة مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورواية.
عن ابن حدرد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تمعدوا واخشوشنوا وانتعلوا وامشوا حفاة.
قال الحافظ: هكذا أخرجه البغوي في ترجمة عبد الله معتقداً أن ابن أبي حدرد هو عبد الله، وإنما هو القعقاع بن
عبد الله بن أبي حدرد ابنه. كذلك رواه جماعة، فيكون الحديث مرسلاً، لآن القعقاع لا صحبة له، قال: وقد أخرجه البغوي في حرف القاف في ترجمة القعقاع. قال: وذلك من الأوهام العجيبة.
وعن عبيد الله بن حدرد قال: بعثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية إلى إضم قبل مخرجه إلى مكة. قال: فمر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي، فحيانا بتحية الإسلام. قال: فنزعنا وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه في الجاهلية، فقتله واستلبه بعيراً له ووطباً ومتيعاً كان له. قال: فانتهينا بشأنه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبرناه بخبره فأنزل الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم " وفي رواية: "(12/100)
السلام " " لست مؤمناً " وكان في تلك السرية أبو قتادة الحارث.
وعن عبد الله بن حدرد الأسلمي قال: لما قدمنا مع عمر بن الخطاب الجابية إذا هو بشيخ من أهل الذمة يستطعم، فسأل عنه فقلنا: يا أمير المؤمنين، هذا رجل من أهل الذمة كبر وضعف فوضع عنه عمر الجزية التي في رقبته وقال: كلفتموه الجزية حتى إذا ضعف تركتموه يستطعم، فأجرى عليه من بيت المال عشرة آلاف دراهم، وكان له عيال.
وأول مشهد شهده عبد الله بن أبي حدرد مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديبية ثم خيبر وما بعد ذلك من المشاهد.
وعن ابن أبي حدرد قال: كنت في خيل خالد بن الوليد الذي أصاب بها جذيمة، فقال لي فتى منهم، هو في السبي وقد جمعت يده إلى عنقه برمة، ونسوة مجتمعات غير بعيد منه: يا فتى هلأنت آخذ بهذه الرمة وتدنيني إلى هذه النسوة حتى أقضي إليهن حاجة ثم تردني بعد فتصنعون بي ما بدا لكم؟ قلت: والله ليسير ما طلبت، فأخذت بيده فقربت به حتى أوقفته عليهن فقال: أسلم حبيش قبل نفاذ العيش:؟ أرأيت إن طالبتكم فوجدتكم بحلية أو ألفيتكم بالخوانق
ألم يك حقاً أن ينول عاشق ... تكلف إدلاج السرى والودائق
فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معاً ... أثيبي بود قبل إحدى الصفائق
أثيبي بود قبل أن تشحط النوى ... وينأى الأمير بالحبيب المفارق(12/101)
فإني لا ضيعت سر أمانة ... ولا راق في عيني تقول رائق
على أن ناب العشيرة شاغل ... عن اللهو إلا أن تكون بوائق
ثم قالت: وأنت حييت عشراً، وسبعاً وتراً، وثماني تترى، قال: ثم انصرفت به فضربت عنقه.
وعن إسماعيل بن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد أنه قال: تزوج جدي عبد الله بن أبي حدرد امرأة بأربعة أواق، فأخبر ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو كنتم تنحتون من قباء جبل - أو قال: من أحد - ما زدتم على ذلك، عندنا نصف صداقها، قال عبد الله: فانطلقت فجمعتها فأديتها إلى امرأتي، ثم أنبأت بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ألم أكن قلت لك: عندنا نصف الصداق؟ فلعلك إنما فعلت ذلك لما كان من قولي، فقلت: لا يا رسول الله، وما كان بي إلا ذلك.
وعن كعب بن مالك
أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى كشف سجف حجرته، ونادى كعب بن مالك فقال: يا كعب، قال: لبيك يا رسول الله، فأشار إليه بيده أن ضع الشطر من دينك. قال كعب: قد فعلت يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قم فاقضه.
وعن ابن أبي حدرد الأسلمي: أنه كان ليهودي عليه أربعة الدراهم، فاستعدى عليه فقال: يا محمد، إن لي على هذا أربعة الدراهم وقد غلبني عليها، فقال: أعطه حقه، قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها، قال: أعطه حقه، قال: والذي نفسي بيده ما أقدر عليها، قد أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تغنمنا شيئاً فأرجع فأقضيه، قال: أعطه حقه. قال: وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(12/102)
إذا قال ثلاثاً لم يراجع، فخرج به ابن أبي حدرد إلى السوق، وعلى رأسه عصابة وهو متزر ببردة، فنزع العمامة عن رأسه فاتزر بها ونزع البردة فقال: اشتر مني هذه البردة فباعها منه بأربع الدراهم، فمرت عجوز فقالت: ما لك يا صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرها، فقالت: ها، دونك هذا، ببرد عليها طرحته عليه.
توفي عبد الله بن أبي حدرد سنة إحدى وسبعين، وسنه إحدى وثمانون. وقيل: توفي سنة اثنتين وسبعين.
عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدن بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص
ابن كعب بن؟؟؟؟ لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، أبو حذافة القرشي السهمي.
صحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسلم قديماً، وهاجر إلى الحبشة، وبعثه سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً إلى كسرى، وخرج إلى الشام مجاهداً فأسرته الروم على قيسارية وحمل إلى الطاغية، ففتنه عن دينه فلم يفتتن فأطلقه.
وقيل إن عمر كتب فيه إلى قسطنطين فخلى عنه. ومات في خلافة عثمان.
حدث عبد الله بن حذافة السهمي قال: أمرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أنادي في أهل منى في مؤذنين ألا يصوم هذه الأيام أحد، فإنها أيام أكل وشرب وذكر.
وعن عبد الله بن حذافة قال: أمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رهط أن يطوفوا في طواف منى في حجة الوداع يوم النحر أن هذه أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل. فلا صوم فيهن إلا صوم في هدي.(12/103)
وعن أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث عبد الله بن حذافة يطوف في منى ألا تصوموا هذه الأيام، فإنها أيام أكل وشرب وذكر.
وفي رواية: وذكر الله عز وجل.
وقد اختلف في عبد الله بن حذافة أكان من أهل بدر أم لا، وورد في الحديث أنه من أهل بدر. قيل إنه توفي بمصر، وقبر في مقبرتها، وله بها دار، وفيه نزلت: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " وكان امرأ فيه دعابة.
عن أبي سعيد الخدري قال: أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي على سرية، بعثه - وكان من أصحاب بدر - وأنا في ذلك الجيش: وكانت في عبد الله دعابة. فنزلنا بعض الطريق فأوقد ناراً وقال لهم: عليكم السمع والطاعة. قالوا: نعم، قال: فلست آمركم بشيء إلا فعلتموه. قالوا: نعم، قال: فإني أعزم عليكم بحقي وطاعتي إلا توثبتم في هذه النار، فقام بعض القوم فتحجزوا، وظنوا أنهم واثبون فيها، فقال لهم: اجلسوا فإنما كنت أضحك بكم، فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن قدم فقال: من أمركم بمعصية فلا تطيعوه.
وعن أبي سلمة: أن عبد الله بن حذافة قام يصلي فجهز بالقراءة فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا حذافة، لا تسمعني وسمع الله.
وعن عبد الله بن وهب قال: قال الليث في حديث عبد الله بن حذافة صاحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه كانت فيه دعابة قال: بلغني أنه حل حزام راحلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض أسفاره، حتى كاد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقع. قلت لليث: ليضحكه بذلك؟ قال: نعم.(12/104)
قال الزبير: إنما يقال الغرضة، ولكن عبد الله بن وهب لا علم له بكلام العرب، ينسخ نسخة واحدة، فإن ركب بها برحل فهي غرضة، وإن ركب بها بحمل فهي بطان، وإن ركب بها فرساً فهي حزام، وإن ركبت بها امرأة فهي وضين.
وعن أنس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه:
سلوني، فقام رجل فقال: يا رسول الله، من أبي؟ قال: أبوك حذافة - للذي كان ينسب إليه - فقالت له أمه: لقد قمت بأبيك مقاماً عظيماً قال: أردت أن أبرئ صدري مما كان يقال، وقد كان يقال فيه.
وروي عن جماعة دخل حديث بعضهم في حديث بعض قالوا: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة أرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وكتب إليهم كتباً، فخرج ستة نفر منهم في يوم واحد، وذلك في المحرم سنة سبع، وأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذي بعثه إليهم، وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن حذافة السهمي، وهو أحد الستة إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام وكتب إليه كتاباً. قال عبد الله: فدفعت إليه كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرئ عليه ثم أخذه فمزقه، فلما بلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مزق ملكه. وكتب كسرى إلى باذان عامله على اليمن أن أبعث من عندك رجلين جلدين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز فليأتياني بخبره، فبعث باذان قهرمانه ورجلاً آخر، وكتب معهما كتاباً. فقدما المدينة فدفعا كتاب باذان إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعاهما إلى الإسلام وفرائصهما ترعد، وقال: ارجعا عني يومكما هذا حتى تأتياني الغد، فأخبركما بما أريد، فجاءاه الغد فقال لهما: أبلغا صاحبكما أن ربي قد قتل ربه كسرى في هذه الليلة لسبع ساعات مضت منها، وهي ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع، وأن الله سلط عليه ابنه شيرويه فقتله، فرجعا إلى باذان بذلك، فأسلم هو والأبناء الذين باليمن.
وعن أبي رافع قال: وجه عمر بن الخطاب جيشاً إلى الروم وفيهم رجل يقال له عبد الله بن حذافة، من(12/105)
أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسره الروم، فذهبوا به إلى ملكهم فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد فقال له الطاغية: هل لك أن تنصر وأشركك في ملكي وسلطاني؟ قال له عبد الله: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع مملكة العرب على أن أرجع عن دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طرفة عين ما فعلت، قال: إذاً أقتلك قال: أنت وذاك. قال: فأمر فصلب، وقال للرماة: ارموه قريباً من يديه، قريباً من رجليه، وهو يعرض عليه وهو يأبى، ثم أمر به فأنزل، ثم دعا بقدر، فصب فيها ماء حتى احترقت ثم دعا بأسيرين من المسلمين فأمر بأحدهما فألقي فيها، وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى، ثم أمر به أن يلقى فيها، فلما ذهب به بكى، فقيل له: إنه قد بكى، فظن أنه جزع فقال: ردوه، يعرض عليه النصرانية فأبى، قال: ما أبكاك إذاً؟ قال: أبكاني أني قتلت فهي نفس واحدة تلقى الساعة في هذه القدر فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد كل شعرة في جسدي نفس تلقى هذا في الله. قال له الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟ قال له عبد الله: وعن جميع أسارى المسلمين؛ قال: وعن جميع أسارى المسلمين. قال عبد الله: فقلت في نفسي: عدو من أعداء الله فأقبل رأسه يخلي عني وعن أسارى المسلمين، لا أبالي، فدنا منه فقبل رأسه، قال: فدفع إليه الأسارى، فقدم بهم على عمر، فأخبر عمر بخبره، فقال: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ فقام عمر فقبل رأسه.
وفي رواية عوضاً عن القدر والماء: نقرة نحاساً فيها زيت. وفي آخر الحديث: فكان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمازحون عبد الله فيقولون: قبلت رأس علج، فيقول لهم: أطلق الله بتلك القبلة ثمانين من المسلمين.
وفي حديث آخر فقال: اتركوه واجعلوه في بيت ومعه لحم خنزير مشوي وخمر ممزوج، فلم يأكل ولم يشرب، وأشفقوا أن يموت فقال: أما إن الله عز وجل قد كان أحله لي، ولكن لم أكن. لأشمتك بالإسلام.(12/106)
عبد الله بن الحر العبسي
أدرك سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشهد فتح دمشق، وكانت له قطيعة بباب كيسان.
قال يزيد بن أبي حبيب: بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عبد الله بن الحر العبسي زرع أرضاً بالشام، فأنهب زرعه وقال: انطلقت إلى ذل وصغار في أعناق الكفار، فقلدته عنقك.
وعن عطية بن قيس قال: أقطع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ناساً من بني عبس من أندر كيسان أو دير كيسان لمرابط خيولهم، فبلغه أنهم زرعوه، فأخذه منهم وغرمهم لما زرعوه.
عبد الله بن الحسن بن أحمد
ابن الحسن بن المثنى بن معاذ أبو طالب العنبري البصري.
قدم دمشق وحدث بها.
روى عن محمد بن عدي بسنده إلى أنس بن مالك قال: كانت نعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها قبالان.
وروى عنه بسنده إلى عيسى بن طهمان قال: أخرج إلينا أنس بن مالك نعلين بقبالين وهما جرداوانليس عليهما شعر. فرأينا أنهما نعلا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن زياد بن سعد قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكره أن يطلع شيء من نعله على قدميه.(12/107)
عبد الله بن الحسن بن أحمد
ابن عبد الله بن الحسن بن هبة الله بن محمد بن يحيى بن نوفل بن عبد الله بن محمد الديباجي العثماني.
ونوفل بن عبد الله بن محمد الديباج بن عبد الله المطرف بن عمرو بن عثمان بن عفان، أبو محمد.
حدث بسنده إلى عبد الله بن عمر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضهما على أن يعتملوها من أموالهم، ولرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شطرها.
مولده سنة سبع وعشرين. قتل الشريف أبو محمد عبد الله بن الحسن في طريق بيروت، وهو منحدر إلى طرابلس، وفي رجب سنة أربع وستين. وكان شاباً أديباً فهماً.
عبد الله بن الحسن بن الحسن
ابن علي بن أبي طالب الهاشمي أمه فاطمة بنت الحسين. وفد على سليمان بن عبد الملك، وعلى عمر بن عبد العزيز وعلى هشام بن عبد الملك.
روى عبد الله بن الحسن عن عبد الله بن جعفر في شأن هؤلاء الكلمات: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش الكريم، الحمد لله رب العالمين، اللهم اغفر لي، اللهم تجاوز عني، اللهم اعف فإنك عفو غفور، أو غفور عفو.
قال عبد الله بن جعفر: أخبرني عمي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمه هؤلاء الكلمات.(12/108)
وحدث عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه وجده عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أجرى الله على يديه فرجاً وفرج الله عنه كرب الدنيا والآخرة.
وحدث عبد الله بن الحسن عن أمه فاطمة بنت الحسين عن أبيها عن علي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دخل المسجد قال: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قال: اللهم افتح لي أبواب فضلك.
وحدث عبد الله بن الحسن عن أمه عن فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، الذين يأكلون ألوان الطعام، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام.
قال رجاء: قدم عبد الله بن الحسن - وهو إذ ذاك فتى شاب - على سليمان بن عبد الملك، فكان يختلف إلى عمر يستعين به على سليمان في حوائجه، فقال له عمر: إن رأيت ألا تقف ببابي إلا في الساعة التي ترى بأنه يؤذن لك فيها علي، فإني أكره أن تقف ببابي فلا يؤذن لك علي. قال: فجاءه ذات يوم فقال: إن أمير المؤمنين قد بلغه أن في العسكر مطعوناً فالحق بأهلك، فإني أضن بك.
قدم عبد الله بن حسن على عمر بن عبد العزيز فقال له عمر: إنك لن تغنم أهلك شيئاً خيراً من نفسك، فرجع وأتبعه حوائجه.
قال عبد الله بن حسن: وفدت على هشام بن عبد الملك فقال لي: ما لي لا أرى ابنيك محمداً وإبراهيم يأتياننا فيمن أتى؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، حبب إليهما البادية والخلوة فيها، وليس تخلفهما عن أمير المؤمنين لمكروه، فسكت هشام. قال: فلما ظهر ولد العباس تغيباً أيضاً فلم يأتيا أحداً منهم، وسأل عنهما أبو العباس فأخبره أبوهما عنهما بنحو مما قاله لهشام، فكف أبو العباس عنهما.
وكان عبد الله بن حسن بن العباد وكان له شرف وعارضة وهيبة، ولسان شديد. وأدرك دولة بني العباس، ووفد على أبي العباس بالأنبار ثم رجع إلى المدينة. فلما(12/109)
ولي المنصور حبس عبد الله بالمدينة لأجل ابنيه محمد وإبراهيم عدة سنين، ثم نقله إلى الكوفة فحبسه بها حتى مات.
سئل مالك بن أنس عن السدل فقال: لا بأس، قد رأيت من يوثق به يفعل ذلك. فلما قام الناس سئل: من هو؟ قال: عبد الله بن الحسن.
قال مصعب بن عبد الله: ما رأيت أحداً من علمائنا يكرمون أحداً ما يكرمون عبد الله بن حسن بن حسن. وعنه روى مالك الحديث في السدل في الصلاة.
قال عبد الله بن إسحاق الجعفري:
كان عبد الله بن حسن يكثر الجلوس إلى ربيعة. قال: فتذاكروا يوماً السنن، فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل على هذا. فقال عبد الله: أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام، أفهم الحجة على السنة؟ قال ربيعة: أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء.
قال جرير: كانت سارية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الجمعة لعبد الله بن الحسن، فجاءه رجل من بني أمية فدفعه حتى وقع لوجهه فقالت الأنصار: السلاح، السلاح، فكانوا يهيجوها فتنة فسكتوهم بغير شر. وكانت بين المغرب والعشاء لهشام بن عروة.
قال أبو خالد الأحمر: سألت عبد الله بن الحسن عن أبي بكر وعمر فقال: صلى الله عليهما، ولا صلى على من لم يصل عليهما.(12/110)
قال عبد الله بن الحسن: والله لا يقبل الله توبة عبد تبرأ من أبي بكر وعمر، وإنهما ليعرضان على قلبي فادعوا الله لهما، أتقرب به إلى الله عز وجل.
قال حفص بن قيس: سألت عبد الله بن الحسن عن المسح على الخفين فقال: امسح، فقد مسح عمر بن الخطاب، فقلت: أنا أسألك أنت: أتمسح؟ قال: ذلك أعجز لك، حين أخبرك عن عمر وتسألني عن رأيي، فعمر كان خيراً مني، وملء الأرض مثلي، قلت: يا أبا محمد، إن ناساً يقولون: إن هذا منكم تقية. فقال لي: ونحن بين القبر والمنبر، اللهم إن هذا قولي في السر والعلانية، فلا تسمعن قول أحد بعدي، ثم قال: هذا الذي يزعم أن علياً كان مقهوراً، وأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره بأمر فلم ينفذه، فكفى هذا إزراء على علي عليه السلام، ومنقصة أن يزعم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره بأمر فلم ينفذه.
قال محمد بن القاسم الأسدي أبو إبراهيم: رأيت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ذكر قتل عثمان فبكى حتى بل لحيته وثوبه.
قال أبو خالد الأحمر: سألت عبد الله بن الحسن عن الصلاة خلف هؤلاء فقال: من صلاها في وقتها فصل خلفه، ومن لم يصلها في وقتها فلا صلى الله عليه.
قال سليمان بن قرم: قلت لعبد الله بن حسن: في أهل قبلتنا كفار؟ قال: نعم، الرافضة.
قال فضيل بن مرزوق: سمعت عبد الله بن الحسن بن الحسن يقول لرجل من الرافضة: والله إن قتلك لقربة لولا حق الجوار.
وقع بين جعفر بن محمد وبين عبد الله بن حسن كلام في صدر يوم، قال: فأغلظ في القول عبد الله بن حسن، ثم افترقا وراحا إلى المسجد، فالتقيا على باب المسجد فقال أبو(12/111)
عبد الله جعفر بن محمد لعبد الله بن حسن: كيف أمسيت يا أبا محمد؟ قال: بخير: - كما يقول المغضب - فقال: يا أبا محمد، أما علمت أن صلة الرحم تخفف الحساب؟ فقال: لا تزال تجيء بالشيء لا نعرفه. قال: فإني أتلو عليك قرآناً. قال: وذلك أيضاً؟ قال: نعم. قال: فهاته. قال: قول الله تعالى: " الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ". قال: فلا تراني بعدها قاطعاً رحماً.
قال الحسين بن يزيد: سب رجل عبد الله بن حسن بن حسن فأعرض عنه عبد الله. فقيل له: لم لا تجبه؟ قال: لم أعرف مساوئه، وكرهت بهته بما ليس فيه.
تعرض رجل لعبد الله بن حسن فسبه فأنشأ يقول:
أظنت سفاهاً من سفاهة رأيها ... أن أهجوها لما هجتني محارب؟
فلا وأبيها إنني بعشيرتي ... هنالك عن ذاك المقام لراغب
ومن شعر عبد الله بن حسن بن حسن:
لم يبق شيء يسامه أحد ... إلا وقد سامناه إخوتنا
فوجدونا نحمي الذمار ونأ ... بى الضيم أن تستباح حرمتنا
بذاك أوصى من قبل والدنا ... وتلك أيضاً غدراً وصيتنا
قال الأصمعي: عزم عبد الله بن علي على أن يقتل بني أمية بالحجاز، فقال له عبد الله بن الحسن بن الحسن: يا بن عم، إذا أسرعت بالقتل في أكفائك فمن تباهى بسلطانك؟ فاعف يعف الله عنك، ففعل.(12/112)
قال عبد الله بن الحسن بن الحسن: إياك ومعاداة الرجال، فإنك لن تعدم مكر حليم، أو مفاجأة لئيم.
قال عبد الله بن الحسن بن الحسن: المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون المغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة.
ومن شعر عبد الله بن حسن بن حسن:
أنس غرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من أنس الحديث زوانياً ... ويكفهن عن الخنا الإسلام
قال الحسن بن الحسين الأشقر:
كنت أطوف مع عبد الله بن حسن بن حسن فإذا هو بغمرأة حسناء تطوف. فقال لها عبد الله بن حسن بن حسن:
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني ... فكيف لي بهوى اللذات والدين؟
فقالت يا بن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دع أحدهما، تنل الآخر. فقال: هل من زوج؟ فقالت: قد كان، فدعي، قال: منذ كم؟ قالت: منذ سنة. فقال: الحمد لله على تمام النعمة. قال: هل لك في التزوج؟ قالت: والله ما كان ذلك رأيي ولكن لك فنعم. فتزوجها.
قال سليمان بن أبي شيخ: بينا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب يطوف بالبيت إذ رأى امرأة تطوف وتنشد:
لا يقبل الله من معشوقة عملاً ... يوماً وعاشقها غضبان مهجور(12/113)
وكيف يأجرها في قتل عاشقها ... لكن عاشقها في ذاك مأجور
فقال عبد الله للمرأة: يا أمة الله، مثل هذا الكلام في مثل هذا الموقف؟ فقالت: يا فتى، ألست ظريفاً؟ قال: بلى. قالت: ألست راوية للشعر؟ قال: بلى. قالت: أفلم تسمع الشاعر حيث يقول:
بيض غرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الحديث زوانياً ... ويصدهن عن الخنا الإسلام
لما ولي أبو جعفر ألح في طلب محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن حسن وتغببا بالبادية، وأمر أبو جعفر زياد بن عبد الله الحارثي بطلبهما، فكان يغبب في ذلك ولا يجد في طلبهما، فعزله أبو جعفر عن المدينة، وولاها محمد بن خالد بن عبد الله القسري وأمره بطلبهما، فلم يبالغ أيضاً وكان يعلم مكانهما، فيرسل الخيل في طلبهما إلى مكان آخر، وبلغ ذلك أبا جعفر فغضب عليه فعزله، وولى رياح بن عثمان بن حيان المري وأمره بالجد في طلبهما وقلة الغفلة عنهما.
قال محمد بن حرب: قال عبد الله بن حسن بن حسن لابنه محمد حين أراد الاختفاء من أبي جعفر المنصور: يا بني، إني مؤد إلى الله حقه علي في نصيحتك، فأد إلى الله حقه عليك في الاستماع والقبول، يا بني، كف الأذى، وأفض الندى، واستعن على السلامة بطول الصمت في المواطن التي تدعوك نفسك إلى الكلام فيها، فإن الصمت حسن على كل حال، وللمرء ساعات يضر فيهن خطاؤه، ولا ينفع صوابه، اعلم أن من أعظم الخطأ العجلة قبل الإمكان، والأناة بعد(12/114)
الفرصة، يا بني، احذر الجاهل وإن كان لك ناصحاً كما تحذر العاقل إذا كان لك عدواً، فيوشك الجاهل أن يورطك بمشورته في بعض اغترارك، فيسبق إليك مكر العاقل، وإياك ومعاداة الرجال، فإنها لا تعدمك مكر حليم أو مبادأة جاهل.
أخذ أبو جعفر عبد الله بن حسن بن حسن فقيده وحبسه في داره. فلما أراد الخروج إلى الحج جلست إليه ابنة لعبد الله بن حسن بن حسن يقال لها فاطمة، فلما مر بها أنشأت تقول:
ارحم كبيراً سنة متهرماً ... في السجن بين سلاسل وقيود
وارحم صغار بني يزيد إنهم ... يتموا لفقدك لا لفقد يزيد
إن جدت بالرحم القريبة بيننا ... ما جدنا من جدكم ببعيد
فقال أبو جعفر: أذكرتنيه، ثم أمر به فحدر إلى المطبق فكان آخر العهد به.
قال ابن داحة: يزيد هذا أخ لعبد الله بن حسن، قال إسحاق بن محمد: سألت زيد بن علي بن الحسين بن زيد بن علي عن يزيد هذا فقال: لم يقل شيئاً، ليس في ولد علي بن أبي طالب يزيد، إنما هذا شيء تمثلت به، ويزيد ابن معاوية بن عبد الله بن جعفر.
توفي عبد الله بن حسن بن حسن سنة خمس وأربعين ومئة، بالهاشمية، في حبس المنصور. وعبد الله يومئذ ابن اثنتين وسبعين سنة.
وكان عبد الله ذا منزلة من عمر بن عبد العزيز في خلافته، ثم أكرمه أبو العباس ووهب له ألف ألف درهم، ومات ببغداد.
وقال الخطيب: هذا وهم، إنما مات بالكوفة، وقيل: كانت سنة ستاً وسبعين سنة.(12/115)
عبد الله بن الحسن بن حمزة
ابن الحسن بن حمدان بن ذكوان أبو محمد البعلبكي يعرف بابن أبي فجة حدث القاضي أبو محمد عبد الله سنة ست وثمانين وأربع مئة عن أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الحنائي بسنده إلى عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول في سجوده القرآن بالليل: سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره.
وحدث أيضاً عن أبي عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن محمد بن أبي كامل بسنده إلى علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله عز وجل إذا غضب على أمة لم ينزل بها عذاب خسف ولا مسخ، غلت أسعارها ويحبس عنها أمطارها ويلي عليها شرارها.
ولد عبد الله بن الحسن سنة تسع وأربع مئة، وقيل: سنة ست وأربع مئة، وتوفي سنة ثمان وثمانين وأربع مئة.
عبد الله بن الحسن بن طلحة
ابن إبراهيم بن محمد بن يحيى بن كامل أبو محمد بن البصري المعروف بابن النحاس.
من أهل تنيس، قدم دمشق ومعه ابناه محمد وطلحة، وسمع بها، وحدث بها.
حدث بدمشق سنة ثمان وخمسين وأربع مئة عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن الحسين بسنده إلى العرباض بن سارية: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يستغفر للصف المقدم ثلاثاً وللثاني مرة.
وحدث عن الشيخ الصدوق أبي عبد الله محمد بن الفضل بن نظيف الفراء بسنده إلى عبد الله بن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر.
ولد أبو محمد بن النخاس سنة أربع وأربع مئة، وتوفي سنة اثنتين وستين أو إحدى وستين وأربع مئة.(12/116)
عبد الله بن الحسن بن عبد الرحمن
أبو القاسم البزاز حدث بأطرابلس بسنده إلى سعيد بن المسيب قال: دخلنا مقابر المدينة مع علي بن أبي طالب عليه السلام، فقام علي إلى قبر فاطمة، وانصرف الناس. قال: فتكلم وأنشأ يقول:
لكل اجتماع من خليلين فرقة ... وإن بقائي بعدكم لقليل
وإن افتقادي واحداً بعد واحد ... دليل على أن لا يدوم خليل
أرى علل الدنيا علي كثيرة ... وصاحبها حتى الممات عليل
ثم نادى: يا أهل القبور من المؤمنين، تخبرونا بأخباركم أم تريدون أن نخبركم؟ السلام عليكم ورحمة الله. قال: فسمعنا صوتاً، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أمير المؤمنين. خبرنا عما كان بعدنا. فقال علي: أما أزواجكم فقد تزوجوا، وأما أموالكم فقد اقتسموها، وأولادكم فقد حشروا في زمرة اليتامى، والبناء الذي شيدتم فقد سكنها أعداؤكم. فهذه أخباركم عندنا. فما أخبار ما عندكم؟ فأجابه ميت: قد تخرقت الأكفان، وانتثرت الشعور، وتقطعت الجلود، وسالت الأحداق على الخدود، وسالت المناخر بالقيح والصديد، وما قدمناه وجدناه، وما خلفناه خسرناه. ونحن مرتهنون بالأعمال.
عبد الله بن الحسن بن محمد
ابن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أبو العباس الهاشمي، ويقال أبو جعفر السامري.
سمع بدمشق والعراق.
وحدث عن يزيد بن هارون بسنده عن عبد الله عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أربع من كن فيه فهو منافق، وإن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر.(12/117)
وحدث عن هشام بن عمارة بسنده إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان لزنباع عبد يسمى ابن سندر؛ فوجده يقبل جارية له، فأخذه فجبه وجدع أنفه وأذنيه، فأتى ابن سندر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرسل إلى زنباع فقال: لا تحملوهم ما لا يطيقون، وأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، فما كرهتم فبيعوا، وما رضيتم فأمسكوا، ولا تعذبوا خلق الله.
مات عبد الله بن الحسن بسر من رأى في سنة سبع وسبعين ومئتين.
عبد الله بن الحسن بن محمد
أبو القاسم البزاز يعرف بابن المطبوع حدث عن أبي الحسين محمد بن هيمان بن محمد البغدادي بسنده إلى عبد الله بن عمرو قال:
جاءت امرأة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، ما حق الزوج على زوجته؟ قال حقه عليها ألا تمنعه نفسها، وإن كانت على ظهر قتب. قالت: يا رسول الله، ما حق الزوج على زوجته؟ قال: حقه عليها ألا تصوم يوماً واحداً إلا بإذنه إلا الفريضة، فإن فعلت أثمت ولم يتقبل منها. قالت: يا رسول الله، ما حق الزوج على زوجته؟ قال: حقه عليها ألا تعطي من بيته شيئاً إلا بإذنه، فإن فعلت كان له الأجر وكان عليها الوزر. قالت: يا رسول الله، ما حق الزوج على زوجته؟ قال: حقه عليها ألا تخرج من بيته إلا بإذنه فإن فعلت لعنها الله وملائكة الغضب حتى تثوب. قالت: يا رسول الله، فإن كان لها ظالماً؟ قال: وإن كان لها ظالماً، قالت: والذي بعثك بالحق لا يلي على أمري رجل ما بقيت أبداً.(12/118)
عبد الله بن الحسن بن محمد
ابن عبد الله بن الفضيل أبو محمد الكلاعي الحمصي البزاز والد عبد الرزاق. سكن دمشق.
حدث عن أبي عبد الله بن خالويه بسنده عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما.
كان أبو محمد هذا رجلاً صالحاً. توفي سنة إحدى - والصحيح سنة اثنتي - عشرة وأربع مئة.
عبد الله بن الحسن بن هلال
ابن الحسن بن عبد الله بن محمد أبو القاسم بن أبي محمد الأزدي حدث عن أبي علي أحمد بن عبد الرحمن بن عثمان التميمي بسنده إلى ابن عباس قال: احتجم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعطى الحجام أجره، واستعط.
توفي سنة ست وخمس مئة.
عبد الله بن الحسن أبو علي
العلوي الوراق أنشد لأبي القاسم المتطبب:
أحبائي من أهل القبور عليكم ... سلام أما من دعوة تسمعونها؟
ولا من سؤال ترجعون جوابه ... إلينا ولا من حاجة تطلبونها؟
وكنتم أناساً مثلنا مثل ما نرى ... تسرون بالدنيا وتستحسونها
سكنتم ظهور الأرض في الناس خلسة ... فلم تلبثوا حتى سكنتم بطونها
وقد كان في الدنيا قرون كثيرة ... ولكن ريب الدهر أفنى قرونها(12/119)
عبد الله بن الحسين بن جابر
أبو محمد المصيصي الإمام البزاز حدث عن محمد بن بكار بن بلال بسنده إلى ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مكتوب في التوراة: من سره أن تطول حياته ويزاد في رزقه فليصل رحمه.
وحدث عن آدم بن أبي إياس بسنده إلى ابن عمر قال: كانت أم عاصم اسمها عاصية فسماها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جميلة.
وحدث عن محمد بن كثير العبدي بسنده إلى جابر قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسأل عن شيء فقال: لا.
حدث أبو محمد عبد الله بن الحسين بن جابر العقيلي مولى عقيل بن أبي طالب بالمصيصة، حدثنا محمد بن يزيد بن سنان بسنده عن ثوبان قال: مر رجل بثوبان فقال: أين تريد؟ قال: أريد الغزو في سبيل الله، قال له: لا تجبن إن لقيت، ولا تغلل إن غنمت، ولا تقتلن شيخاً كبيراً ولا صبياً صغيراً. فقال له الرجل: ممن سمعت هذا؟ قال: من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عبد الله بن الحسين بن غنجدة
ويقال عبيد الله الليثي الرملي حدث عن سليمان بن حرب بسنده عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من حلف بالله: لأفعلن كذا، وأضمر: إن شاء الله، ثم لم يفعل الذي حلف عليه لم يحنث.
وحدث عن سليمان بن عبد الرحمن بسنده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن ينتزعه بقبض العلماء، فإذا لم يدع عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسألوهم فأفتوهم بغير علم، فضلوا وأضلوا.(12/120)
وحدث
عبد الله بن الحسين بن غنجدة عن محمد بن عمرو بسنده عن ابن عباس قال: مات زوج سبيعة بنت الحارث فوضعت بعده بأيام، فأتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمرها أن تتزوج.
عبد الله بن الحسين بن محمد
ابن جمعة أبو محمد السلمي حدث بدمشق عن أبي عتبة أحمد بن الفرج بسنده عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدرك عمر وهو يحلف بأبيه فقال: إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليترك.
توفي سنة إحدى وثلاثين وثلاث مئة.
عبد الله بن الحسين بن محمد
ابن أحمد بن الحر ولقبه حيدرة بن سليمان بن هزان بن سليمان بن حيان بن وبرة المري، أبو بكر بن أبي عبد الله الأطرابلسي القاضي حدث عن أبي العباس محمد بن أحمد بن عمرو بن حميد بن الأبح الكندي الحمصي بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من بلغه عني حديث فكذب به فقد كذب ثلاثة: كذب الله ورسوله والذي يجيء به.
عبد الله بن الحسين
ويقال: ابن الحسن أبو بكر السلمي حدث عن الحسن الخلال بسنده أن معاوية بن أبي سفيان بعث إلى عائشة بمئة ألف. فوالله ما غابت الشمس في ذلك(12/121)
حتى فرقتها فقالت مولاة لها: لو اشتريت من هذه الدراهم لحماً بدرهم فقالت: لو قلت لي قبل أن أفرقها فعلت.
عبد الله بن حماد بن أيوب بن موسى
أبو عبد الرحمن الآملي آمل جيحون ويقال له الآموي لأن بلده تسمى آمو.
سمع بدمشق وغيرها.
حدث عن صفوان بن صالح بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر منأمتي.
فقلت: ما هذا يا جابر؟ قال: نعم يا محمد، إنه من زادت حسناته وسيئاته فذلك الذي يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة، وإنما شفاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن أوبق نفسه وأعلق ظهره.
توفي عبد الله بن حماد سنة تسع وستين ومئتين.
عبد الله بن حماد أبو رواحة
وجد بدمشق كتاب كتبه ابن عباس إلى معاوية: بسم الله الرحمن الرحيم.
من عبد الله بن العباس إلى معاوية بن أبي سفيان.(12/122)
سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، عصمنا الله وإياك بالتقوى.
أما بعد، فقد جاءني كتابك فلم أسمع منه إلا خيراً، وذكرت شأن المودة بيننا، وإنك لعمر الله لمودود في صدري، من أهل المودة الخالصة والخاصة، وإني للخلة التي بيننا لراع، ولصالحها حافظ، ولا قوة إلا بالله.
أما بعد حفظ الله، فإنك من ذوي النهى من قريش، وأهل الحلم والخلق الجميل منها، فليصدر رأيك بما فيه النظر لنفسك، والتقية على دينك، والشفقة على الإسلام وأهله، فإنه خير لك أوفر لحظك في دنياك وآخرتك. وقد سمعتك تذكر شأن عثمان بن عفان، فاعلم أن انبعاثك في الطلب بدمه فرقة وسفك للدماء وانتهاك للمحارم، وهذالعمر الله ضرر على الإسلام وأهله، وإن الله سيكفيك أمر سافكي دك عثمان، فتأن في أمرك، واتق الله ربك، فقد يقال: إنك تكيد الإمارة، وتقول: إن معك وصية من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فقول نبي الله الحق، فتأن في أمرك، ولقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول للعباس: إن الله يستعمل من ولدك اثني عشر رجلاً، منهم السفاح والمنصور والمهدي والأمين والمؤتمن وأمير العصب. أفتراني استعجل الوقت أو أنتظر قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله الحق، وما يرد الله من أمر يكن ولو كره العالم ذلك، وايم الله لو أشاء لوجدت متقدماً وأعواناً وأنصاراً، ولكني أكره لنفسي ما أنهاك عنه، فراقب الله ربك، واخلف محمداً في أمته خلافة صالحة. فأما شأن ابن عمك علي بن أبي طالب فقد استقامت له عشيرتك، وله سابقته وحقه، ونحن له على الحق أعوان، ونصحاء لك وله ولجماعة المسلمين. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب عكرمة ليلة البدر من صفر سنة ست وثلاثين.
عبد الله بن حنش الخثعمي
شهد صفين مع معاوية، وكان مقدم خثعم معه بصفين.
أرسل عبد الله بن حنش - رأس خثعم مع معاوية بصفين - إلى أبي كعب الخثعمي -(12/123)
رأس خثعم مع علي - إن شئت توافقنا فلم نقتتل، فإن ظهر صاحبك كنا معه، وإن ظهر صاحبنا كنتم معنا، ولم يقتل بعضنا بعضاً، فأبى أبو كعب، فلما دنا الناس بعضهم إلى بعض التقت خثعم وخثعم، فقال عبد الله بن حنش: يا معشر خثعم، قد عرضنا على قومنا من أهل العراق الموادعة صلة لأرحامهم وحفظاً لحقهم أبداً ما كفوا عنكم، فإن قاتلوكم فقاتلوهم. فقال رجل من أصحابه: قد ردوا عليك رأيك وأقبلوا يقاتلونك، فغضب عبد الله بن حنش وقال: اللهم، قيض له وهب بن مسعود - رجلاً من خثعم الكوفة، كانوا يعرفونه بالبأس في الجاهلية - فدعا الرجل إلى البزاز، فخرج إليه وهب بن مسعود فحمل على الشامي فقتله، ثم اقتتلوا قتالاً شديداً، قال: وحمل شمر بن عبد الله الخثعمي من أهل الشام على أبي كعب رأس خثعم الكوفة، فطعنه فقتله، ثم انصرف يبكي ويقول: رحمك الله يا أبا كعب، لقد قتلتك في طاعة قوم أنت أمس بي رحماً منهم وأحب إلي نفساً منهم، ولكن والله ما أدري ما أقول، ولا أرى الشيطان إلا وقد فتننا، ولا أرى قريشاً إلا قد لعبت بنا، ووثب كعب بن أبي كعب إلى راية أبيه فأخذها، ففقئت عينه وصرع، ثم أخذها شريح بن مالك فصرع، حتى صرع حول رايتهم ثمانون رجلاً، وأصابوا من خثعم الشام نحواً منهم.
عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر
المعروف بالراهب واسمه عبد الرحمن بن صيفي ابن النعمان بن مالك بن ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، ويقال: مالك بن أمية بن ضبيعة وقيل غير ذلك أبو عبد الرحمن، ويقال أبو بكر الأنصاري من أهل المدينة، أدرك سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفد على يزيد بن معاوية، ثم رجع من عنده، وخرج مع من خرج في فتنة الحرة فقتل. وأبوه حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة قتل مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد شهيداً.(12/124)
وعن عبد الله بن حنظلة بن الراهب قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطوف بالبيت على ناقة لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك.
وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: درهم رباً يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ست وثلاثين زنيةً.
وفي حديث آخر: درهم رباً أشد من ثلاث وثلاثين زنية في الخطيئة.
وعن عبد الله بن يزيد الخطمي وكان أميراً على الكوفة قال: أتينا قيس بن سعد بن عبادة في بيته فأذنت الصلاة، فقلنا لقيس: قم فصل لنا فقال: لم أكن لأصلي لقوم لست عليهم بأمير، فقال رجل: ليس بدونه، فقال له: عبد الله بن حنظلة، ابن الغسيل، فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الرجل أحق بصدر دابته، وبصدر فرسه وأن يؤم في رحله، فقال قيس بن سعد عند ذلك: يا فلان - لمولى لهم - قم فصل بهم.
وعن عبد الله بن حنظلة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة.
كان حنظلة بن أبي عامر تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول، فأدخلت عليه في الليلة التي في صبحها قتال أحد، وكان قد استأذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبيت عندها فأذن له، فلما صلى الصبح غدا يريد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولزمته جميلة فعاد فكان معها، فأجنب منها، ثم أراد الخروج وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها فأشهدتهم أنه قد دخل بها، فقيل لها بعد: لم أشهدت عليه؟ قالت: رأيت كأن السماء فرجت فدخل فيها، ثم أطبقت فقلت: هذه الشهادة، فأشهدت عليه أنه قد دخل، وتعلق بعبد الله بن حنظلة، ثم تزوجها ثابت بن قيس بعد، فتلد محمد بن ثابت بن قيس. وقتل حنظلة يومئذ شهيداً فغسلته الملائكة، فيقال لولده: بنو غسيل الملائكة، وولدت جميلة عبد الله بن حنظلة بعد ذلك بتسعة أشهر.
لها بعد: لم أشهدت عليه؟ قالت: رأيت كأن السماء فرجت فدخل فيها، ثم أطبقت فقلت: هذه الشهادة، فأشهدت عليه أنه قد دخل، وتعلق بعبد الله بن حنظلة، ثم تزوجها ثابت بن قيس بعد، فتلد محمد بن ثابت بن قيس. وقتل حنظلة يومئذ شهيداً فغسلته الملائكة، فيقال لولده: بنو غسيل الملائكة، وولدت جميلة عبد الله بن حنظلة بعد ذلك بتسعة أشهر.(12/125)
توفي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعبد الله بن حنظلة ابن سبع سنين. وقتل يوم الحرة سنة ثلاث وستين.
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رأيت حنظلة تغسله الملائكة بين السماء والأرض.
وولت الأنصار أمرها يوم الحرة عبد الله.
ولما فرض عمر بن الخطاب للناس فرض لعبد الله بن حنظلة ألفي درهم، فأتاه طلحة بابن أخ له، ففرض له دون ذلك فقال: يا أمير المؤمنين، فضلت هذا الأنصاري على ابن أخي فقال: نعم، لأني رأيت أباه يستتر يوم أحد بسيفه كما يستتر الجمل.
قال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: سمعت عبد الله بن حنظلة يوماً وهو على فراشه، وعدته من علة، فتلا رجل من هذه الآية " لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش " فبكى حتى ظننت أن نفسه ستخرج، ثم قال: صاروا بين أطباق النار، ثم قام على رجليه فقال له قائل: يا أبا عبد الرحمن، اقعد، فقال: منع مني ذكر جهنم القعود، ولا أدري لعلي أحدهم.
ولم يكن لعبد الله بن حنظلة فراش ينام عليه، إنما كان يلقي نفسه هكذا، إذا أعيا من الصلاة توسد رداءه وذراعه، ثم هجع شيئاً.
روي أن عبد الله بن حنظلة، ابن الغسيل لقيه الشيطان وهو خارج من المسجد فقال: تعرفني يا بن حنظلة؟ فقال: نعم. قال: من أنا؟ قال: أنت الشيطان. قال: فكيف علمت ذلك؟ قال: خرجت وأنا أذكر الله، فلما رأيتك بلدت، أنظر إليك فشغلني النظر إليك عن ذكر الله، فعلمت أنك الشيطان، قال: نعم يا بن حنظلة، فاحفظ عني شيئاً أعلمكه، قال: لا حاجة لي به، قال: تنظر فإن كان خيراً قبلت وإن كان شراً رددت: يا بن حنظلة، لا تسأل أحداً غير الله سؤال رغبة، وانظر كيف تكون إذا غضبت.
كان عبد الله بن حنظلة ممن وفد إلى يزيد بن معاوية، ومعه ثمانية بنين له، فأعطاه مئة ألف، وأعطى بنيه كل واحد منهم عشرة آلاف سوى كسوتهم وحملانهم،(12/126)
فلما قدم عبد الله بن حنظلة المدينة أتاه الناس فقالوا: ما وراءك؟ فقال: أتيتكم من عند رجل، والله لو لم أجد إلا بني هؤلاء لجاهدته بهم قالوا: فإنه بلغنا أنه أكرمك وأعطاك، قال: قد فعل، وما قبلت ذلك منه إلا لأتقوى به عليه، وحضض الناس فبايعوه.
قال: فخرج أهل المدينة بجموع وهيئة لم ير مثلها، فلما رآهم أهل الشام هابوهم وكرهوا قتالهم، فأمر مسلم بن عقبة بسرير فوضع بين الصفين ثم أمر مناديه: قاتلوا عني أو دعوا، فشد الناس في قتالهم، فسمعوا التكبير خلفهم في جوف المدينة، وأقحم عليه بنو حارثة أهل الشام وهم على الحرة، فانهزم الناس وعبد الله بن حنظلة متساند إلى بعض بنيه يغط نوماً، فنبهه ابنه. فلما فتح عينيه فرأى ما صنع أمر أكبر بنيه فقاتل حتى قتل، فلم يزل يقدمهم واحداً فواحداً حتى أتى على آخرهم، ثم كسر جفن سيفه فقاتل حتى قتل وهو يقول: " كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ".
حدث جماعة قالوا: لما وثب أهل المدينة ليالي الحرة، فأخرجوا بني أمية عن المدينة، وأظهروا عيب يزيد بن معاوية وخلافه، أجمعوا على عبد الله بن حنظلة، فأسندوا أمرهم إليه فبايعهم على الموت وقال: يا قوم، اتقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء. إن رجلاً ينكح الأمهات والبنات والأخوات ويشرب الخمر، ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً، فتواثب الناس يومئذ يبايعون من كل النواحي، وما كان لعبد الله بن حنظلة تلك الليالي مبيت إلا المسجد، وما كان يزيد على شربة من سويق يفطر عليها إلى مثلها من الغد يؤتى بها في المسجد، يصوم الدهر، وما رئي رافعاً رأسه إلى السماء إخباتاً. فلنا دنا أهل الشام من وادي القرى صلى عبد الله بن حنظلة بالناس الظهر، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنما خرجتمغضباً لدينكم، فأبلوا بلاءً حسناً ليوجب لكم به مغفرته، ويحل به عليكم رضوانه.(12/127)
أخبرني من نزل مع القوم السويداء:
وقد نزل القوم ذا خشب ومعهم مروان بن الحكم - والله إن شاء الله مخيبه بنقضه العهد والميثاق عند منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتصايح القوم، وجعلوا ينالون من مروان ويقولون: الوزغ ابن الوزغ، وجعل ابن حنظلة يهدئهم ويقول: إن الشتم ليس بشيء، ولكن اصدقوهم اللقاء، والله ما صدق قوم إلا حازوا النصر بقدرة الله، ثم رفع يديه إلى السماء، واستقبل القبلة وقال: اللهم إنا بك واثقون، بك آمنا، وعليك توكلنا، وإليك ألجأنا ظهورنا، ثم نزل، وصبح القوم المدينة، فقاتل أهل المدينة قتالاً شديداً حتى كثرهم أهل الشام، ودخلت المدينة من النواحي كلها، فلبس عبد الله بن حنظلة يومئذ درعين، وجعل يحض أصحابه على القتال فجعلوا يقاتلون، وقتل الناس، فما نرى إلا راية عبد الله بن حنظلة يمشي بها مع عصابة من أصحابه، وكانت الظهر فقال لمولى له: احم لي ظهري حتى أصلي فصلى الظهر أربعاً متمكناً. فلما قضى صلاته قال له مولاه: والله، يا أبا عبد الرحمن ما بقي أحد فعلام تقيم؟ ولواؤه قائم، ما حوله خمسة، فقال: ويحك، إنما خرجنا على أن نموت، ثم انصرف من الصلاة وبه جراحات كثيرة، فتقلد السيف ونزع الدرع، ولبس ساعدين من ديباج، ثم حث الناس على القتال وأهل المدينة كالنعام الشرود، وأهل الشام يقتلونهم في كل وجه. فلما هزم الناس طرح الدرع وما عليه من سلاح، وجعل يقاتلهم وهو حاسر حتى قتلوه. ضربه رجل من أهل الشام ضربة بالسيف، فقطع منكبه حتى بدا سحره، ووقع ميتاً، فجعل مسرف يطوف على فرس له في القتلى ومعه مروان بن الحكم، فمر على عبد الله بن حنظلة وهو ماد اصبعه السبابة فقال مروان: أما والله لئن نصبتها ميتاً لطالما نصبتها حياً.
ولما قتل عبد الله بن حنظلة لم يكن للناس مقام، فانكشفوا في كل وجه، وكان الذي ولي قتل عبد الله بن حنظلة رجلان شرعا فيه جميعاً وحزا رأسه، فانطلق به أحدهما إلى مسرف وهو يقول: رأس أمير القوم. فأومأ مسرف بالسجود وهو على دابته، وقال: من(12/128)
أنت؟ قال: رجل من بني فزارة، قال: ما اسمك؟ قال: مالك، قال: وأنت وليت قتله وحز رأسه؟ قال: نعم، وجاء الآخر: رجل من السكون من أهل حمص، يقال له: سعد بن الجون، فقال: أصلح الله الأمير، نحن شرعنا فيه رمحينا فأنفذناه بهما، ثم ضربناه بسيفنا، حتى تثلما مما يلتقيان. قال الفزاري: باطل. قال السكوني: فأحلفه بالطلاق والحرية، فأبى أن يحلف، وحلف السكوني على ما قال. فقال مسرف: أمير المؤمنين يحكم في أمركما، فأدبرهما، فقدما على يزيد بقتل أهل الحرة وبقتل ابن حنظلة، فأجازهما بجوائز عظيمة، وجعلهما في شرف من الديوان، ثم ردهما إلى الحصين بن نمير، فقتلا في حصار ابن الزبير. وكانت الحرة في ذي الحجة سنة ثلاث وستين.
وعن محمد بن كعب قال: مر مروان بعبد الله بن حنظلة فرآه مشيراً باصبعه قد يبست فقال: لئن أشرت بها ميتاً لطالما دعوت وتضرعت بها إلى الله عز وجل فقال رجل من أهل الشام: لئن كان هؤلاء كما تقول ما دعوتمونا إلا لنقتل أهل الجنة! قال مروان: إنهم خالفوا ونكثوا.
قال عبد الله بن أبي سفيان سمعت أبي يقول: رأيت عبد الله بن حنظلة بعد مقتله في النوم في أحسن صورة، معه لواؤه فقلت: أبا عبد الرحمن، أما قتلت؟ قال: بلى، ولقيت ربي، فأدخلني الجنة، فأنا أسرح في ثمارها حيث شئت، فقلت: أصحابك ما صنع بهم؟ قال: هم معي حول لوائي هذا الذي ترى، لم يحل عقده حتى الساعة. قال: ففرغت من النوم فرأيت أنه خير رأيته له.
عبد الله بن حوالة أبو حوالة
ويقال أبو محمد له صحبة.
روى عن سيدنا رسول الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث.
حدث ابن حوالة قال:
أتيت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جالس في ظل دومة وعنده كاتب يملي عليه، فقال(12/129)
له: أنكتبك يا بن حوالة؟ قال: فيم يا رسول الله؟ فأعرض عنه، فأكب على كاتبه يملي عليه، فنظرت فإذا في الكتاب عمر، فعرفت أن عمر لا يكتب إلا في خير. ثم قال: أنكتبك يا بن حوالة؟ قلت: نعم يا رسول الله، فقال: يا بن حوالة، كيف تصنع في فتن تخرج في أطراف الأرض كأنها صياصي البقر؟ فقلت: لا أدري ما خار الله لي ورسوله، قال: فكيف تفعل في أخرى تخرج بعدها كأن الأولى فيها انتفاجة أرنب. فقال: اتبعوا هذا، ورجل مقف حينئذ، فانطلقت، فسعيت فأخذت بمنكبه فأقبلت بوجهه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: هذا؟ قال: نعم، فإذا هو عثمان بن عفان.
وروى عبد الله بن حوالة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: تهجمون على رجل يبايع الناس معتجراً ببرد يبايع الناس، من أهل الجنة. قال: فإذا هو عثمان بن عفان، رضي الله عنه.
وعن زغب بن فلان الأزدي قال: نزل علينا عبد الله بن حوالة الأزدي فقلت له: بلغني أنه فرض لك في مئتي كل عام فلم تقبل! قال: فقال: بعثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حول المدينة لنغم، فرجعنا ولم نغنم شيئاً وعرف فينا الجهد، فقال: اللهم، لا تكلهم إليّ فأضعف عنهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم.
وفي رواية أخرى بمعناه قال: والصحيح فيه ابن زغب ثم قال: ليفتحن لكم الشام والروم وفارس، أو الروم وفارس، حتى يكون لأحدكم من الإبل كذا وكذا، ومن النعم كذا وكذا، ومن البقر كذا وكذا، ومن الغنم، حتى يعطى أحدهم مئة دينار فيتسخطها، ثم وضع يده على رأسي - أو على هامتي - فقال: يا بن حوالة، إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك.(12/130)
عبد الله بن حوالة من ساكني دمشق، وهو من بني معيص بن عامر بن لؤي. توفي سنة ثمان وخمسين في خلافة معاوية، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
وقدم عبد الله بن حوالة مصر مع مروان بن الحكم، وقيل إنه توفي بالشام سنة ثمانين.
وحولي بالحاء المهملة. وهو عبد الله بن حولي وهو ابن حوالة. والله أعلم.
عبد الله بن حيان أبو مسلم
جليس الوليد بن مسلم.
حدث أبو مسلم عن الحسن في قوله عز وجل: " فلنحيينه حياة طيبة " قال: لنرزقنه طاعة يجد لذتها في قلبه. قال: فحدثت هذا أبا سليمان فقال: أما الذي سمعنا فالقناعة، ولكن أيهما أفضل عندك؟ القانع أو الذي يجد لذة الطاعة، فلم أجبه، فقال: القانع أفضل لأنه قد يجد لذة الطاعة من لم يقنع برزقه بعد، ولا يكون قانعاً حتى قد وجد لذة الطاعة وجاز إلى القناعة.
عبد الله ويقال صالح بن خارجة
ابن حبيب بن قيس بن عمرو بن حارثة بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان بن الحصن بن عكابة ابن صعب بن علي بن بكر بن وائل ابن قاسط بن هنب أبو المغيرة الشيباني، المعروف بأعشى بني أبي ربيعة خزري شاعر، وفد على عبد الملك بن مروان. وعبد الله في اسمه أثبت.
له في عبد الملك بن مروان:
رأيتك أمس خير بني معد ... وأنت اليوم خير منك أمس(12/131)
وأنت غداً تزيد الضعف ضعفاً ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
قدم أعشى بني أبي ربيعة على عبد الملك بن مروان وهو شيخ كبير، فقال له عبد الملك: ما الذي بقي منك؟ قال: يا أمير المؤمنين، وماذا أخذ وأنا القائل:
وما أنا في أمري ولا في خصومتي ... بمهتضم حقي ولا قارع سني
فلا مسلم مولاي عند جناية ... ولا خائف مولاي من سوء ما أجني
وإن فؤاداً بين جنبي عالم ... بما أبصرت عيني وما سمعت أذني
وفضلني في الشعر واللب أنني ... أقول على علم وأعرف من أعني
فأصبحت إذ فضلت مروان وابنه ... على الناس قد فضلت خير أب وابن
فقال عبد الملك: من يلومني على هذا؟ وأمر له بعشرة آلاف درهم وعشرة تخوت ثياب وعشر فرائض من الإبل، وأقطعه ألف جريب، وقال له: امض إلى زيد الكاتب يكتب لك بها، وأجرى له على ثلاثين عيلاً، فأتى زيداً فقال له: ائتني غداً فأتاه فجعل يردده ويتعبه فقال له:
يا زيد يا فداك كل كاتب ... في الناس بين حاضر وغائب
هل لك في حق عليك واجب ... في مثله يرغب كل راغب
وأنت عف طيب المكاسب ... مبراً من عيب كل عائب
ولست إذ كفيتني وصاحبي ... طول غدو ورواح دائب
وشدة الباب وعنف الحاجب ... من نعمة أسديتها بخائب
فأبطأ عليه زيد وأتى سفيان بن الأبرد الكلبي، فكلمه سفيان فأبطأ عليه فعاد من فوره إلى سفيان فقال له:
عد إذ بدأت أبا يحيى فأنت لنا ... ولا تكن حين هاب الناس هيابا
واشفع شفاعة أنف لم يكن ذنباً ... فإن من شفعاء الناس أذنابا
فأتى سفيان زيد الكاتب، فلم يفارقه حتى قضى حاجته.(12/132)
دخل أعشى بني أبي ربيعة على عبد الملك بن مروان وهو يروي في الخروج لمحاربة ابن الزبير ولا يجد فقال له: يا أمير المؤمنين، مالي أراك متلوماً ينهضك الحزم ويقعدك العزم، وتهم بالإقدام ثم تجنح إلى الإحجام؟! انقد لبصيرتك، وامض لرأيك، وتوجه إلى عدوك، فجدك مقبل، وجده مدبر، وأصحابه له ماقتون، ونحن لك محبون، وكلمتهم متفرقة، وكلمتنا عليك مجتمعة، والله ما تؤتى من ضعف جنان، ولا قلة أعوان، ولا يثبطك عنه ناصح، ولا يحرضك عليه غاش، وقد قلت في ذلك أبياتاً فقال: هاتها فإنك تنطق بلسان ودود وقلب ناصح فأنشأ يقول:
آل الزبير من الخلافة كالتي ... عجل النتاج بحملها فأحالها
أو كالضعاف من الحمولة حملت ... ما لا تطيق فضيعت أحمالها
قوموا إليهم لا تناموا عنهم ... كم للغواة أطلتم إمهالها
إن الخلافة فيكم لا فيهم ... ما زلتم أركانها وثمالها
أمسوا على الخيرات قفلاً موثقاً ... فانهض بيمنك فافتتح أقفالها
فضحك عبد الملك وقال: صدقت يا عبد الله، إن أبا خبيب لقفل دون كل خير، ولن نتأخر عن مناجزته إن شاء الله، وأمر له بصلة سنية.
عبد الله بن خازم بن أسماء
ابن الصلت بن حبيب بن حارثة بن هلال بن سماك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان أبو صالح السلمي.
أمير خراسان. أصله من البصرة، شجاع، مشهور، قدم به على معاوية ويقال إن له صحبة.
وخازم بالخاء والزاي المعجمتين.(12/133)
حديث سعيد بن الأزرق قال: رأيت رجلاً ببخارى من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رأسه عمامة خز سوداء وهو يقول: كسانيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واسمه عبد الله بن حازم.
كان أسود، كثير الشعر، وكان ولي خراسان لابن الزبير وهو القائل:
أتحسن مرة وتسيء أخرى ... فقد أعييتني ما تستقيم
دخل عبد الله بن ذكوان على عبد الله بن خازم يعزيه بابن له حين قتل، فأنشأ يقول - واسمه ولده محمد -:
أبا صالح صبراً فكل معمر ... يصير إلى ما صار فيه محمد
فأجابه عبد الله:
أعزى عليه والعزاء سجيتي ... وما أنا بالآسى على حدث الدهر
فلا صلح بيني ما حييت وبينكم ... تميم بن مر أو أفي بكم وتري
ولي عبد الله بن خازم خراسان. استعمله عليها عبد الله بن عامر بن كريز في خلافة عثمان. قتله وكيع بن الدوقية، وبعث برأسه إلى عبد الملك بن مروان، وكان لعبد الله بن خازم السلمي قدر، وذكر في فرسان بني سليم، وكان من أشجع الناس في زمانه. ولي خراسان عشر سنين، وافتتح الطبسين. وقال أبو نعيم الحافظ: عبد الله بن خازم ولي خراسان من قبل عبد الملك بن مروان وفتح على يده سرخس.
كان ابن عامر قد استعمل قيس بن الهيثم على خراسان أيام معاوية، فقال له ابن خازم: إنك وجهت إلى خراسان رجلاً ضعيفاً، وإني أخاف إن لقي حرباً أن ينهزم بالناس فتهلك خراسان وتفتضح أخوالك. قال ابن عامر: فما الرأي؟ قال: تكتب لي عهداً إن هو انصرف عن عدو قمت مقامه، فكتب له، فجاشت جماعة من طخارستان فشاور قيس بن الهيثم فأشار عليه ابن خازم أن ينصرف حتى تجتمع إليه أطرافه، فانصرف. فلما سار مرحلة(12/134)
أو اثنتين أخرج ابن خازم عهده، وقام بأمر الناس ولقي العدو فهزمهم، وبلغ الخبر المصرين والشام فغضبت القيسية وقالت: خدع قيس وابن عامر، فأكثروا في ذلك حتى شكي إلى معاوية فبعث إليه فقدم به فاعتذر مما قيل فيه. فقال له معاوية: قم فاعتذر إلى الناس غداً، فرجع ابن خازم إلى أصحابه فقال: إني قد أمرت بالخطبة، ولست بصاحب كلام، فاجلسوا حول المنبر، فإذا تكلمت فصدقوني، فقام الغد فحمد الله ثم قال: إنما يتكلف الخطبة إمام لا يجد منها بداً، أو أحمق يهمر من رأسه لا يبالي ما خرج منه، ولست بواحد منهما، وقد علم من عرفني أني بصير بالفرص وثاب عليها وقاف عند المهلك، أنفذ بالسرية، وأقسم بالسوية، أنشدكم بالله من كان يعرف ذلك مني لما صدقني، فقال أصحابه حول المنبر: صدقت. فقال: يا أمير المؤمنين، إنك فيمن نشدت، فقل بما تعلم فقال: صدقت.
كان عبد الله بن خازم غلب على خراسان، وكتب إليه عبد الملك عام قتل مصعب بولايته على خراسان، وبعث بالكتاب مع سورة بن أبجر الدارمي فقال له ابن خازم: لولا أني أكره أن أضرب بين بني تميم وسليم لقتلتك، ولكن كل كتابك فأكله، فكتب عبد الملك إلى بكير بن وشاح بن بني عمرو بن سعد: إن قتلت ابن خازم أو أخرجته من خراسان فأنت الأمير. فقتل بكير ابن خازم، وأقام والياً حتى قدم أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فعزله، وولى أمية.
وقتل عبد الله بن خازم بخراسان سنة إحدى وسبعين. وقال ابن سعد: في سنة سبع وثمانين أتي برأس ابن خازم.
عبد الله بن خليفة بن ماجد
أبو محمد الغثوي من أهل الغثاة من حوران.
حدث عن أبي الفضل أحمد بن عبد المنعم بن أحمد بن بندار بن الكريدي بسنده إلى أبي هريرة قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم لله عز وجل. قالوا: يا رسول(12/135)
الله، ليس عن هذا نسألك. قال: فإن أكرم الناس يوسف نبي الله نبي الله ابن خليل الله. قالوا: يا رسول الله، ليس عن هذا نسألك. قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم. قال: الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.
حدث عبد الله الغثوي: أنه رأى ليلة القدر وقال: لا شك أن أجلي قد قرب، فمات في تلك السنة بعد مدة قريبة. وكان خرج إلى ناحية حوران ليجدد العهد بأهله، فمات في الطريق.
عبد الله بن خثيمة بن سليمان
ابن الحارث ويعرف بحيدرة بن سليمان بن هزان بن سليم بن حيان بن وبرة، أبو بكر بن أبي الحسن القرشي الأطرابلسي.
حدث عن أبي عبد الملك أحمد بن جرير بن عبدوس الصوري بسنده إلى أبي أمامة الباهلي قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبعد الخلق من الله رجلان: رجل يجالس الأمراء فما قالوا من جور صدقهم عليه، ومعلم الصبيان لا يواسي بينهم، ولا يراقب الله في اليتيم.
عبد الله بن داوود بن عامر بن الربيع
أبو عبد الرحمن الهمداني ثم الشعبي المعروف بالخريبي.
سكن الخريبة بالبصرة، وسمع بدمشق وغيرها.
حدث عبد الله بن داود عن هانئ بن عثمان بسنده إلى يسيرة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرهن أن يراعين بالتسبيح والتقديس والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل، فإنهن مسؤولات مستنطقات.(12/136)
وحدث عن أم داود الوابشية قالت: رأيت علي بن أبي طالب يأكل لحم دجاج، ويصطبغ بخل خمر.
وحدث عن هارون البربري عن عبد الله بن عبيد قال: مكتوب في التوراة: إن الله تعالى يقول: أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرحومة ضعيفة لو نفختها طارت، أحب منها كل مفتن تواب.
حدث عبد الله بن داود عن أبي عمر الصنعاني، لقيته بعسقلان، قال: إذا كان يوم القيامة جيء بالعلماء، فإذا قاموا للحساب قال: إني لم أجعل حكمتي فيكم إلا لخيرٍ أريده بكم، فادخلوا الجنة بما فيكم.
ولد ابن داود سنة ست وعشرين ومئة.
قال بشر بن الحارث:
كنت عند عبد الله بن داود إذ جاءه قوم، فقالوا له: ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: فكيف يكون مخلوقاً و" هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم " أمخلوق هذا؟ كان يحيى بن أكثم يتولى القضاء بالبصرة، وكان يختلف إلى عبد الله بن داود الخربي، يسمع منه، فتقدم رجلان إلى يحيى بن أكثم لخصومة، فتربع أحدهما بين يديه فأمر بأن يقام من تربعه، وأن يجلس جاثياً بين يديه، فبلغ ذلك عبد الله بن داود. فلما جاء يحيى إليه ليحدثه كما كان يجيء إليه لذلك من قبل قال له عبد الله بن داود: متعت بك - وكانت كلمة تعرف منه - لو أن رجلاً صلى متربعاً؟ فقال له يحيى: لا بأس بذلك. فقال له عبد الله بن داود: فحال يكون عليها بين يدي الله لا يكرهها منه، تكره أنت أن يكون الخصم بين يديك على مثلها! ثم ولى ظهره وقال: عزم لي ألا أحدثك. فقام يحيى ومضى.
قال عبد الله بن داود الخربي: كل صديق لك ليس فيه عقل هو أشد عليك من عدوك.(12/137)
وفي حديث أن عبد الله بن داود حدث بحديث فيه: لا تباع الثمرة حتى تسقح، فسئل أبو عبيدة فلم يعرفها. فلما قدم وكيع حدث فقال: حتى تشقح فأخبر ابن داود فقال: أنا أرجع إلى الحق كما هو عند الناس.
والتشقيح: تلوين البسر إذا اصفر واحمر. ويقال: شقحت النخلة تشقح تشقيحاً، وأشقحت إشقاحاً إذا تغير البسر للاصفرار بعد الاخضرار، وهو أقبح ما يكون في ذلك الوقت ولذلك قالوا: قبيح شقيح.
توفي عبد الله بن داود سنة ثلاث عشرة ومئتين بخريبة البصرة.
عبد الله بن دويد
ويقال ابن ذويد بن نافع من أهل دمشق. سمع مكحولاً، وقيل: إن روايته عن مكحول ليست محفوظة.
قال عبد الله بن دويد: سمعت سليمان بن موسى يحدث عن عمرو بن دينار أنه حدث مكحولاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من نام عن صلاة العشاء حتى يفوته وقتها فلا نامت عينه.
عبد الله بن دينار أبو محمد البهراني
ويقال الأسدي قيل: إنه دمشقي، والصحيح أنه حمصي.
حدث عن حريز مولى معاوية بن أبي سفيان قال: خطب معاوية الناس بحمص، فذكر في خطبته أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرم سبعة أشياء: الشعر، والتصاوير، والنوح، والتبرج، وجلود السباع، والذهب، والحرير.(12/138)
وحدث عبد الله بن دينار قال: قدم لقمان من سفر فتلقاه مولى له فقال: ما فعل أبي؟ قال: مات. قال: ملكت أمري. قال: ما فعلت أمي؟ قال: ماتت. قال: ذهب همي قال: فما فعلت أختي؟ قال: ماتت. قال: سترت عورتي. قال: ما فعلت امرأتي؟ قال: ماتت. قال: جدد فراشي. قال: ما فعل أخي؟ قال: مات. قال: انكسر ظهري.
قال عبد الله بن دينار سمعت مكحولاً يقول: من أقسم على أخيه فلم يبره فقد أفجره.
وثقة قوم وضعفه الأكثرون.
عبد الله بن دينار أبو الوليد العذري الدمشقي
حدث عن الأوزاعي بسنده عن أسماء ابنة أبي بكر قالت: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها دم الحيض كيف تفعل به؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أصاب إحداكن دم الحيض فلتحته ثم لتقرصه بالماء، ثم لتنضج بقيته، ثم لتصل فيه.
عبد الله بن أبي ذر أبو بكر السوسي
حدث بأطرابلس عن يوسف بن عدي الكوفي بسنده عن أنس قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المنتعل راكب.(12/139)
عبد الله بن ذكوان أبو عبد الرحمن المعروف بأبي الزناد
مولى آل عثمان بن عفان ويقال: مولى رملة بنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس.
من كبار فقهاء أهل المدينة ومحدثيها.
روى عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرسلاً. وفد على هشام بن عبد الملك، واستقدمه الوليد بن يزيد ليستفتيه في نكاح زوجته أم سلمة مع جماعة من فقهاء المدينة.
حدث أبو الزناد عن الأعرج عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والصلاة نور المؤمن، والصيام جنة من النار.
وحدث أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم.
وحدث أيضاً عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في الجسم والمال فلينظر إلى من دونه في المال والجسم.
وكان ذكوان أخا أبي لؤلؤة قاتل عمر، بولادة العجم.
كانت كنية أبي الزناد أبا عبد الرحمن فغلب عليه أبو الزناد، وكان ثقة، كثير الحديث، فصيحاً بصيراً بالعربية، عالماً، عاقلاً، وولي خراج المدينة. توفي بالمدينة فجأة في مغتسله ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان سنة ثلاثين ومئة، وهو ابن ست وستين سنة. وكانت كنيته أبو عبد الرحمن، وكان يغضب من أبي الزناد. وقيل: توفي سنة إحدى وثلاثين ومئة وسنه أربع وستون.(12/140)
قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: كان سفيان يسمي أبا الزناد أمير المؤمنين في الحديث.
وكان أبو الزناد فقيه أهل المدينة، وكان صاحب كتاب وحساب، وكان كاتباً لخالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم بالمدينة. وكان كاتباً لعبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وقدم على هشام بن عبد الملك بحساب ديوان المدينة، فجالس هشاماً مع ابن شهاب، فسأل ابن شهاب: في أي شهر كان يخرج عثمان العطاء فيه لأهل المدينة؟ قال: لا أدري. قال أبو الزناد: كنا نرى أن ابن شهاب لا يسأل عن شيء إلا وجد علمه عنده. قال أبو الزناد: فسألني هشام فقلت: المحرم، فقال هشام لابن شهاب: يا أبا بكر، هذا علم أفدته اليوم. قال ابن شهاب: مجلس أمير المؤمنين أهل أن يفاد منه العلم. وكان أبو الزناد معادياً لربيعة بن أبي عبد الرحمن، وكانا فقيهي البلد في زمانهما وكان يعقوب بن أبي سلمة الماجشون يعين ربيعة على أبي الزناد، وكان الماجشون أول من علم الغناء من أهل المروءة بالمدينة فقال أبو الزناد: مثلي ومثل الماجشون مثل ذئب كان يلج على أهل قرية، فيأكل صبيانهم ودواجنهم، فاجتمعوا له، وخرجوا في طلبه فهرب منهم، فتقطعوا عنه إلا صاحب فخار، فألح في طلبه، فوقف له الذئب فقال: هؤلاء عذرتهم، أرأيتك أنت، ما لي ولك؟! والله ما كسرت لك فخارة قط. ثم قال: الماجشون مالي وله؟! والله ما كسرت له كبرا ولا برابطاً.
قال المدائني: كان خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم قد ولى أبا الزناد المدينة فقال علي بن الجون الغطفاني:
رأيت الخير عاش لنا فعشنا ... وأحيا لي مكان أبي الزناد
وسار بسيرة الحكمين فينا ... بعدل في الحكومة واقتصاد(12/141)
قال أبو حنيفة: قدمت المدينة، فأتيت أبا الزناد، ورأيت ربيعة فإذا الناس على ربيعة، وأبو الزناد أفقه الرجلين، فقلت له: أنت أفقه أهل بلدك والعمل على ربيعة، فقال: ويحك، كف من حظ خير من جراب من علم.
قال الليث: رأيت أبا الزناد وخلفه ثلاث مئة تابع، من طالب فقه وعلم وشعر، وصنوف، ثم لم يلبث أب بقي وحده، وأقبلوا على ربيعة. وكان ربيعة يقول: شبر من حظوة خير من باع من علم.
قال عبد ربه بن سعيد: رأيت أبا الزناد دخل مسجد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه من الأتباع مثلي ما على السلطان بين سائل عن حديث، وبين سائل عن قراءة، وبين سائل عن فريضة، وبين سائل عن حساب، وبين سائل عن عربية، وبين سائل عن شعر.
قال يحيى بن معين: قال مالك بن أنس: أبو الزناد، كان كاتب هؤلاء القوم، يعني: بني أمية، وكان لا يرضاه.
قال عبد الرحمن بن القاسم: سألت مالك بن أنس عمن يحدث بالحديث الذي قالوا: إن شاء الله تبارك وتعالى خلق آدم على صورته، فأنكر ذلك مالك إنكاراً شديداً، ونهى أن يتحدث به أحد، فقيل له: فإن ناساً من أهل العلم يتحدثون به، فقال: من هم؟ فقيل له: محمد بن عجلان عن أبي الزناد، فقال: لم يكن يعرف ابن عجلان هذه الأشياء، ولم يكن عالماً. وذكر أبا الزناد فقال: إنه لم يزل عاملاً لهؤلاء حتى مات. وكان صاحب عمال يتبعهم.(12/142)
عبد الله بن راشد مولى خزاعة
من أهل دمشق، أظنه صاحب الطيب.
حدث عبد الله بن راشد عن عروة بن رويم عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإيمان يمان.
حدث عبد الله بن راشد الدمشقي عن عمرو بن مهاجر صاحب حرس عمر بن عبد العزيز قال:
تكلم غيلان عند عمر بن عبد العزيز بشيء من أمر القدر، فقال له عمر: يا غيلان اقرأ أي القران شئت فقرأ: " هل أتى على الإنسان حين من الدهر " حتى انتهى إلى هذه الآية " إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً " قال: فرددها مراراً، وكف عما بقي. فقال له عمر: أتم السورة، فقال " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً " إلى آخرها. قال: فقال له عمر: يا غيلان، إن الله يقول: " إن الله كان عليماً حكيماً " قال: أخبرني: حكيم فيما علم أم حكيم فيما لا يعلم؟ قال: بل حكيم فيما علم، فقال له: أحييتني أحياك الله، والله لكأني لم أعلم هذا من كتاب الله عز وجل، فقال له عمر بن عبد العزيز: اللهم، إن كان صادقاً فارفعه ووفقه، وإن كان كاذباً فلا تمته إلا مقطوع اليدين والرجلين مصلوباً، ثم قال: أمن يا غيلان، ثم قال: أمن يا عمرو بن مهاجر قال: فأمنت أنا وغيلان على دعاء عمر بن عبد العزيز. فلما خرج قال لي عمر: يا عمرو، ويحه، إنه لمفتون. قال عمرو بن مهاجر: فوالله إني لفي الرصافة جالس، فقيل لي: قد قطعت يداه ورجلاه، قال: فأتيته فوقفت عليه وإنه لملقى، فقلت: يا غيلان، هذه دعوة عمر بن عبد العزيز قد أدركتك. قال: ثم أمر به فصلب.(12/143)
عبد الله بن رباح أبو خالد الأنصاري
وفد على معاوية حدث عن أبي قتادة. قال: خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشية فقال: إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم، وتأتون الماء غداً إن شاء الله تعالى. قال أبو قتادة: فانطلق الناس لا يلوي أحد في مسيرهم، فإني أسير إلى جنب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ابهار الليل، فنعس رسول الله فمال على راحلته، ثم سرنا حتى إذا تهور الليل مال على راحلته ميلة أخرى فدعمته من غير أن أوقظه، فاعتدل على راحلته، ثم سرنا حتى إذا كان من آخر الليل مال ميلة أخرى هي أشد من الميلين الأوليين حتى إذا كاد أن ينجفل فدعمته فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة قال: متى كان هذا مسيرك مني؟ قلت: يا رسول الله، هذا مسيري منك منذ الليلة. قال: حفظك الله بما حفظت به نبيه ثم قال: أترانا نخفى على الناس؟ هل ترى أحداً؟ قلت: هذا راكب، وهذا آخر، فاجتمعنا فكنا سبعة، فمال عن الطريق، ثم وضع رأسه وقال: احفظوا علينا صلاتنا، فكان أول من انتبه والشمس في ظهره، فقمنا فزعين. فقال: اركبوا فركبنا، فجعل بعضنا يهمس بعضاً ما صنعنا تفريطنا في صلاتنا؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما هذا الذي تهمسون دوني؟ قلنا: يا رسول الله، تفريطنا في صلاتنا فقال: أما لكم في أسوة، التفريط ليس في النوم، التفريط من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى، فإذا فعل ذلك فليصلها إذا انتبه لها، ثم ليصلها من الغد لوقتها، ثم نزلنا فدعا بميضأة كانت عندي فتوضأ وضوءاً دون وضوئه، ثم صلى ركعتين قبل الفجر، ثم صلى الفجر كما كان يصلي، ثم قال: اركبوا فركبنا، فانتهينا إلى الناس حين تعالى النهار - أو(12/144)
قال: حين حميت الشمس شك سليمان - وهم يقولون: هلكنا عطشاً، قال: لأهلك عليكم، ثم نزل، ثم قال: اطلقوا لي غمري، فأطلق له، ثم دعا بالميضأة التي كانت عندي، فجعل يصب علي ويسقيهم. فلما رأوا ما في الميضأ تكابوا فقال: أحسنوا الملأ، فكلكم سيروى، فجعل يصب ويسقيهم حتى ما من القوم أحد إلا شرب، غيري وغيره، فصب علي ثم قال: اشرب يا أبا قتادة، فقلت: يا رسول الله، أشرب قبل أن تشرب؟ قال: إن ساقي القوم آخرهم، فشربت وشرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال عبد الله بن رباح: إني لفي مسجد الجامع أحدث بهذا الحديث إذ قال عمران بن الحصين: انظر أيها الفتى كيف تحدث، فإني كنت أحد الركب تلك الليلة. قلت له: أبا نجيد، فحدث فأنت أعلم قال: من أنت؟ قال: قلت من الأنصار، قال: فحدث القوم فأنت أعلم بحديثكم. فقال: لقد شهدت تلك الليلة، وما شعرت أن أحداً حفظه كما حفظته.
وحدث عبد الله بن رباح: أنه دخل على عائشة رضي الله عنها فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء، وأنا أسحييك، فقالت: سل ما بدا لك، فإنما أنا أمك، فقلت: يا أم المؤمنين، ما يوجب الغسل، فقالت: إذا اختلف الختانان وجبت الجنابة، فكان قتادة يتبع هذا الحديث: إن عائشة قالت: قد فعلت أنا ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاغتسلنا.
فلا أدري أشيء في هذا الحديث أم كان قتادة يقوله.
وحدث عبد الله بن رباح قال: وفدنا إلى معاوية ومعنا أبو هريرة، فكان بعضنا يصنع لبعض الطعام وكان أبو هريرة ممن يصنع لنا، فيكثر، فيدعونا إلى رحله، فقلت: لو أمرت بطعام فصنع ودعوتهم(12/145)
إلى رحلي، ففعلت، ولقيت أبا هريرة بالعشي فقلت: يا أبا هريرة، الدعوة عندي الليلة، فقال: سبقتني يا أخا الأنصار، فدعوتهم فإنهم لعندي إذ قال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر؟ - وكان عبد الله بن رباح أنصارياً - قال: فذكر فتح مكة، وقال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالد بن الوليد على إحدى المجنبتين، وبعث الزبير على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر ثم آراني فقال: يا أبا هريرة، فقلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، فقال: اهتف لي بالأنصار ولا تأتني إلا بأنصاري. قال: ففعلت، ثم قال: انظروا قريشاً وأوباشهم فاحصدوهم حصداً. قال: فانطلقنا فما أحد منهم يوجه إلينا شيئاً، وما منا أحد منهم إلا أخذه، وجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أبيرت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، فألقى الناس سلاحهم، ودخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبدأ بالحجر فاستلمه، ثم طاف سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم جاء ومعه القوس آخذ بسيتها، فجعل يطعن بها في عين صنم من أصنامهم وهو يقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً " ثم انطلق حتى أتى الصفا فعلا منه حتى يرى البيت، وجعل يحمد الله ويدعوه، والأنصار عنده يقولون: أما الرجل فأدركته رغبته في قريته، ورأفته بعشيرته، وجاء الوحي، وكان الوحي إذا جاء لم يخف علينا، فلما رفع اللوحي قال: يا معشر الأنصار، قلتم: أما الرجل فأدركته رغبته في قريته، ورأفته بعشيرته، كلا فما اسمي إذاً؟ كلا، إني عبد الله ورسوله، المحيا محياكم، والممات مماتكم، فأقبلوا يبكون وقالوا: يا رسول الله، والله ما قلنا إلا لضن بالله وبرسوله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم.
وزاد في حديث آخر قال: فوالله ما منهم من أحد إلا من بل نحره بالدموع من عينيه. رضي الله عنهم.
قال أبو عمران الجوني: وقفت مع عبد الله بن رباح ونحن نقاتل الأزارقة مع المهلب فبكى: فقلت:(12/146)
ما يبكيك؟ قال: قد كان في أهل الشرك غناء عن قتال أهل القبلة.
قتل أبو خالد في ولاية ابن زياد.
عبد الله بن ربيعة بن عمر بن الحسن بن إسماعيل
أبو سهل الكندي البستي الفقيه قدم دمشق حاجاً، وحدث بها في شوال سنة ثلاثين وأربع مئة.
حدث عن أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي بسنده إلى محمد بن النضر الحارثي قال:
وإذا صاحبت فاصحب صاحباً ... ذا عفاف وحياء وكرم
قوله للشيء: لا، إن قلت: لا ... وإذا قلت نعم، قال: نعم
عبد الله بن رواحة بن ثعلبة
ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن عمرو بن امرئ القيس بن مالك وفي نسبه خلاف أبو محمد ويقال: أبو رواحة، ويقال: أبو عمرو الأنصاري شهد بدراً، والعقبة، وهو أحد النقباء، وأحد الأمراء في غزوة مؤته واستشهد بها.
حدث عبد الله بن رواحة قال: كنت في غزاة، فتعجلت فانتهيت إلى الباب فإذا المصباح يتأجج، وإذا أنا بشيء أبيض، فاخترطت سيفي، ثم حركتها فأتيت المرأة، فقالت: إليك إليك، فلانة كانت عندي فمشطتني، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فنهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً.
وحدث عبد الله بن رواحة قال: نهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب.(12/147)
وكانت أم عبد الله بن رواحة كبشة بنت واقد بن عمرو بن الإطنابة بن عامر بن زيد مناة. وكان عبد الله بن رواحة يكتب في الجاهلية، وكانت الكتابة في العرب قليلاً. وشهد عبد الله العقبة مع السبعين من الأنصار، وهو أحد النقباء الاثني عشر من الأنصار، وشهد بدراً، وأحداً، والخندق، والحديبية، وخيبر، وعمرة القضية. وقدمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بدر يبشر أهل العالية بما فتح الله عليه، والعالية: بنو عمرو بن عوف وخطمة ووائل. واستخلفه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المدينة حين خرج إلى غزوة بدر الوعد، وبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية في ثلاثين راكباً إلى أسير بن زارم اليهودي بخيبر فقتله، وبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خيبر خارصاً، فلم يزل يخرص عليهم إلى أن قتل بمؤته مع جعفر بن أبي طالب في قتال الروم سنة ثمان، وله في الإسلام مناقب وأيام.
قال قتيبة: ابن رواحة وأبو الدرداء أخوان لأم.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رحم الله ابن رواحة، كان أينما أدركته الصلاة أناخ.
وعن أنس قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر فأصابتنا مطر ورداغ، فأمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نصلي على ظهور رواحلنا. قال: ففعلنا، ونزل ابن رواحة فصلى في الأرض. قال: فسعى به رجل من القوم فقال: يا رسول الله، أمرت الناس يصلون على ظهور رواحلهم ففعلوا، ونزل ابن رواحة فصلى في الأرض. قال: فبعث إليه فقال: ليأتينكم وقد لقي حجته. قال: فأتاه فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بن رواحة، أمرت الناس أن يصلوا على ظهور رواحلهم، نزلت وصليت في الأرض! قال: فقال: يا رسول الله، لأنك تسعى في رقبة قد فكها الله، وإنما أنا نزلت لأسعى في رقبة لم تفك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألم أقل لكم إنه سيلقى حجته.(12/148)
وحدث ضمرة ومهاجر ابنا حبيب قالا: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية، فأدركته الصلاة وهو على ظهر، فصلى رسول الله على ظهر، ونزل ابن رواحة فصلى بالأرض، ثم أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بن رواحة، أرغبت عن صلاتي؟! قال: لست مثلك، إنك تسعى في عتق ونحن نسعى في رق، فلم يعب عليه ما صنع. قال: وخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية فصلى بأصحابه على ظهر، فاقتحم رجل من الناس فصلى على الأرض فقال: خالف خالف الله به، فما مات الرجل حتى خرج من الإسلام.
وعن أنس بن مالك قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه يقول: تعال نؤمن بربنا ساعة، فقال ذات يوم لرجل، فغضب الرجل، فجاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يرحم الله ابن رواحة، إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة عليهم السلام.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن عبد الله بن رواحة أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم وهو يخطب، فسمعه وهو يقول: " اجلسوا " فجلس مكانه خارجاً من المسجد حتى فرغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خطبته، فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: زادك الله حرصاً على طواعية الله وطواعية رسوله.
وحدث عمر بن ذر عن أبيه:
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفع إلى نفر من أصحابه فيهم عبد الله بن رواحة يذكرهم بالله. فلما رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سكت، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذكر أصحابك فقال: يا رسول الله، أنت أحق مني. قال: أما إنكم الذين أمرني الله أن أصبر نفسي معهم، ثم تلا عليهم: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم " الآية إلى آخرها، قال: وما قعد عدتكم قط يذكرون الله إلا قعد معهم عددهم من الملائكة. فإن حمدوا الله حمدوه، وإن سبحوا الله سبحوه، وإن كبروا الله كبروه، وإن استغفروا الله أمنوا، ثم عرجوا إلى ربهم(12/149)
فسألهم وهو أعلم منهم فقال: أين ومن أين؟ قالوا: ربنا، عبيد لك من أهل الأرض ذكروك فذكرناك. قال: ويقولون: ماذا؟ قالوا: ربنا حمدوك فقال: أول من عبد وآخر من حمد. قالوا: وسبحوك قال: مدحي لا ينبغي لأحد غيري. قالوا: ربنا كبروك قال: لي الكبرياء في السموات والأرض وأنا العزيز الحكيم. قالوا: ربنا استغفروك قال: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم. قالوا: ربنا فيهم فلان وفلان قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
وعن أبي عمران الجوني: أن عبد الله بن رواحة أغمي عليه فأتاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: اللهم إن كان قد حضر أجله فيسر عليه، وإن لم يكن حضر أجله فاشفه. فوجد خفة فقال: يا رسول الله، أمي تقول: واجبلاه واظهراه، وملك قد رفع مرزبة من حديد ويقول: أنت كذا؟ فلو قلت نعم لقمعني بها.
وعن أبي الدرداء قال: إن كنا لنكون مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفر في اليوم الحار الذي يضع أحدنا على رأسه من شدة الحر وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعبد الله بن رواحة.
وفي حديث آخر مثله: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شهر رمضان.
وعن مجاهد قال: قوله تعالى: " لم تقولون ما لا تفعلون " إلى قوله: " صفاً كأنهم نيان مرصوص " في نفر من الأنصار، منهم عبد الله بن رواحة. قالوا في مجلس: لو تعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملنا به حتى نموت، فلما نزلت فيهم فقال عبد الله بن رواحة: لا أزال حبيساً في سبيل الله عز وجل حتى أموت، فقتل شهيداً، رحمة الله عليه.(12/150)
وعن ابن عباس: في هذه الآية، يعني " ولأمة مؤمنة خير من مشركة " قال: نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداء، وإنه غضب عليها فلطمها، ثم إنه فزع فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره خبرها، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما هي يا عبد الله؟ قال: هي تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله، فقال: يا عبد الله هذه مؤمنة. فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها. ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمة، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم. فأنزل الله تعالى فيهم: " ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم " الآية.
حدث معمر عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: تزوج، يعني: رجل امرأة عبد الله بن رواحة فقال لها: تدرين لم تزوجتك؟ لتخبريني عن صنيع عبد الله بن رواحة في بيته، فذكرت له شيئاً لا أحفظه، غير أنها قالت: كان إذا أراد أن يخرج من بيته صلى ركعتين، وإذا دخل داره صلى ركعتين، وإذا دخل بيته صلى ركعتين، لا يدع ذلك أبداً، وكان ثابت لا يدع ذلك فيما ذكر لنا بعض من يخالط أهله، وفيما رأينا منه.
وعن ابن عباس قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة. قال: فقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجمعة ثم ألحقهم. قال: فلما صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رآه فقال: ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ قال: فقال: أردت أن أصلي معك الجمعة ثم ألحقهم. قال: فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت غدوتهم.
وعن ابن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى مؤته. فاستعمل زيداً فإن قتل زيد فجعفر، فإن قتل(12/151)
جعفر فابن رواحة، فتخلف ابن رواحة فجمع مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرآه فقال: ما خلفك؟ فقال: أجمع معك. قال: لغدوة أو روحة خير من الدنيا وما فيها.
وفي حديث بمعناه: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها. فراح عبد الله منطلقاً.
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما نزلت " والشعراء يتبعهم الغاوون " قال عبد الله بن رواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله عز وجل " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " حتى ختم الآية.
وعن ابن عباس: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا " قال: أبو بكر وعمر وعلي وعبد الله بن رواحة.
وعن محمد بن سيرين قال: كان شعراء أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك.
وعن حسن بن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الله بن رواحة: ما الشعر؟ قال: شيء يختلج في صدر الرجل فيخرجه على لسانه شعراً. قال: فهل تستطيع أن تقول شيئاً الآن، فنظر في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: نعم:
إني توسمت فيك الخير نافلةً ... والله يعلم أني ثابت البصر
ثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا(12/152)
قال عبد الله بن رواحة: مررت بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جالس في نفر من أصحابه فأضب القوم: يا عبد الله بن رواحة، يا عبد الله بن رواحة، فعرفت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاني، فانطلقت إليهم مسرعاً، فسلمت فقال: ها هنا، فجلست بين يديه. فقال - كأنه يتعجب من شعري - فقال: كيف تقول الشعر إذا قلت؟ قلت: أنظر في ذلك ثم أقول فقال: فعليك بالمشركين. قال: ولم أكن أعددت شيئاً، فأنشدته، فلما قلت:
فخبروني أثمان العباء متى ... كنتم بطاريق أو دانت لكم مضر
قال: فكأني عرفت في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكراهية أن جعلت قومه أثمان العباء فقلت:
نجالد الناس عن عرض فنأسرهم ... فينا النبي وفينا تنزل السور
وقد علمتم بأنا ليس يغلبنا ... حي من الناس إن غزوا وإن كثروا
يا هاشم الخير إن الله فضلكم ... على البرية فضلاً ماله غير
إني تفرست فيك الخير أعرفه ... فراسة خالفتهم في الذي نظروا
ولو سألت أو استنصرت بعضهم ... في جل أمرك ما آووا ولا نصروا
فثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
فأقبل علي بوجهه متبسماً ثم قال: وإياك فثبت الله.
قال: وأرسله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مؤتة ثالث ثلاثة أمراء: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب. فلما قتل صاحباه كره الإقدام فقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
طائعةً أو لا لتكرهنه(12/153)
وطالما قد كنت مطمئنه
ما لي أراك تكرهين الجنه
فقتل يومئذ.
وهجا سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ثلاثة من كفار قريش أبو سفيان: ابن الحارث، وعمرو بن العاص، وابن الزبعري. فقال قائل لعلي: أهج عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا فقال علي: إن أذن لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلت. فقال الرجل: يا رسول الله، أتأذن لعلي كيما يهجو عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا؟ فقال: ليس هناك - أو: ليس عنده ذلك - ثم قال للأنصار: ما يمنع القوم الذين قد نصروا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسلاحهم وأنفسهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان بن ثابت: أنا لها يا رسول الله وأخذ بطرف لسانه فقال: والله ما يسرني به مقولاً بين بصرى وصنعاء. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وكيف تهجوهم وأنا منهم؟ فقال: إني أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين. فكان يهجوهم ثلاثة من الأنصار يجيبونهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. فكان حسان بن ثابت وكعب بن مالك يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيرانهم بالمثالب، وكان ابن رواحة يعيرهم بالكفر وينسبهم إلى الكفر، ويعلم أنه ليس فيهم شر من الكفر. قال: وكانوا في ذلك الزمان أشد القول عليهم قول حسان وكعب بن مالك، وأهون القول قول عبد الله بن رواحة. فلما أسلموا كان أشد القول عليهم قول عبد الله بن رواحة.
وعن أنس قال: دخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة في عمرة القضاء وابن رواحة بين يديه وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله
اليوم نضربكم على تأويله(12/154)
ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر: يا بن رواحة، في حرم الله وبين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقول هذا الشعر؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خل عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وقع النبل.
وعن ابن عباس: أن ابن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف بالبيت على بعير يستلم الركن بمحجن وعبد الله بن رواحة آخذ بغرزة يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله
خلوا فكل الخير مع رسوله
وفي أخر الأبيات:
يا رب إني مؤمن بقيله
فقال عمر بن الخطاب: أو ها هنا يا بن رواحة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو ما تعلمن أو لا تسمع ما قال؟ قال: فمكث ما شاء الله ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هيه، يا بن رواحة، قل لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
وقيل: إن ذلك خطأ، وإن ابن رواحة لم يحضر فتح مكة. قتل ابن رواحة بمؤته مع جعفر بن أبي طالب.
وقد روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل مكة في عمرة القضاء وكعب بن مالك بين يديه. قالوا: وهذا أصح عند بعض أهل العلم لأن عبد الله بن رواحة قتل يوم مؤته.
وعن البراء قال: رأيت رسول الله يوم الخندق ينقل التراب حتى وارى التراب شعر صدره، وهو(12/155)
يرتجز برجز عبد الله بن رواحة، يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينةً علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا
وإن أرادوا فتنة أبينا
وفي حديث قيس بن أبي حازم قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الله بن رواحة: انزل فحرك بنا التراب، فقال: يا رسول الله، لقد تركت قولي، فقال له عمر: اسمع وأطع قال: فنزل فقال هذا الرجز.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمعناه، وبعد الشعر: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارحمه، فقال عمر: وجبت.
وعن أبي هريرة أنه قال في قصصه، وهو يذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أخاً لكم لا يقول الرفث، يعني: ابن رواحة قال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع(12/156)
ولما نزلت هذه الآية " وإن منكم إلا واردها " ذهب عبد الله بن رواحة إلى بيته فبكى فجاءت امرأته فبكت وجاءت الخادم فبكت، وجاء أهل البيت فجعلوا يبكون. فلما انقطعت عبرته قال: يا أهلاه، ما الذي أبكاكم؟ قالوا: لا ندري، ولكن رأيناك بكيت فبكينا قال: إنه أنزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية ينبئني فيها ربي عز وجل أني وارد النار ولم ينبئني أني صادر عنها، فذلك الذي أبكاني.
وكتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى زرعة بن سيف بن ذي يزن: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد. من محمد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى زرعة بن ذي يزن: إذا أتاكم رسلي فآمركم بهم خيراً: معاذ بن جبل، وابن رواحة، ومالك بن عبادة، وعتبة بن نيار.
وعن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فذكر الحديث، وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام فيخرصها عليهم، ثم يضمنهم الشطر فشكوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شدة خرصه، وأرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله، تطعموني السحت، والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي وأنتم أبغض لي من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
وفي حديث آخر: أنهم جمعوا حلياً من حلي نسائهم فقالوا: هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: يا معشر يهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذلك بحاملي على أن أحيف عليكم، وأما الذي عرضتم علي من الرشوة فإنها سحت وإنا لا نأكلها. قالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
وعن أبي الدرداء أنه قال:
أعوذ بالله أن يأتي علي يوم لا أذكر فيه عبد الله بن رواحة، كان إذا لقيني مقبلاً ضرب(12/157)
بين ثديي، وإذا لقيني مدبراً ضرب بين كتفي ثم يقول: يا عويمر، اجلس بنا فلنؤمن ساعة، فنجلس فنذكر الله ما شاء، ثم يقول: يا عويمر، هذه مجالس الإيمان، إن مثل الإيمان مثل قميصك، بينا أنت قد نزعته إذا لبسته، وبينا أنت قد لبسته إذا نزعته يا عويمر، للقلب أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت علياً.
كانت لعبد الله بن رواحة جارية يستسرها سراً عن أهله، فبصرت به امرأته يوماً قد خلا بها فقالت: لقد اخترت أمتك على حرتك فجاحدها ذلك: فقالت: فإن كنت صادقاً فاقرأ آية من القرآن - وفي رواية: وقد عهدته لا يقرأ القرآن وهو جنب - فقال:
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
قالت: فزدني آية أخرى، فقال:
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
فقالت: زدني آية أخرى، فقال:
وتحمله ملائكة كرام ... ملائكة الإله مقربينا
فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر، فأتى ابن رواحة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحدثه، فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يغير عليه - زاد في رواية أخرى: بمعناه، فقالت له: أما إذ قرأت القرآن فإني قد عرفت أنه مكذوب عليك.
فافتقدته ذات ليلة فلم تجده على فراشها فحبست نفسها، فلم تزل تطلبه حتى قدرت عليه في ناحية الدار، فقالت: الآن صدقت فيما بلغني؛ فجحدها فقالت: اقرأ الآيات من القرآن إن كنت صادقاً، فإنك إن كنت جنباً لم تقرأ، فقال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الصبح ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع(12/158)
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... له موقنات أن ما قال واقع
وأعلم علماً ليس بالظن أنني ... إلى الله محشور هناك وراجع
فحدث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك فاستضحك حتى رد يده على فيه وقال: هذا لعمري من معاريض الكلام، يغفر لك يا بن رواحة، إن خياركم خيركم لنسائكم. فأخبرني ما الذي ردت عليك حيث قلت ما قلت؟ قال: قالت لي: الله بيني وبينك، أما إذ قرأت القرآن فإني أتهم ظني وأصدقك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد وجدتها ذات فقه في الدين.
قال شريح: قلت لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل بشعر عبد الله بن رواحة ويقول:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
كان زيد بن أرقم يتيماً في حجر عبد الله بن رواحة قال: فلم أر والي يتيم خيراً منه. خرج معه إلى مؤتة فحمله على حقيبة رحله وخرج به غازياً إلى مؤتة فسمعه زيد وهو يتمثل أبياته التي قال:
إذا أدنيتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمي وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المؤمنون وغادروني ... بأرض الشام مشتهر الثواء
وردك كل ذي نسب قريب ... إلى الرحمن وانقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع نخل ... ولا بغل أسافلها رواء
فلما سمعه زيد بكى فخفقه بالدرة وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة،(12/159)
وترجع بين شعبتي الرحل، ولزيد بن أرقم يقول عبد الله بن رواحة:
يا زيد زيد اليعملات الذبل
تطاول الليل هديت فانزل
يرتجز. يقول: انزل، فسق بالقوم.
وفي حديث بمعناه: ثم نزله من الليل فصلى ركعتين ثم دعا فيهما دعاءً طويلاً ثم قال لي: يا غلام، فقلت: لبيك، قال: هي إن شاء الله الشهادة.
ومضى قوله: هنالك لا أبالي طلع نخل البيت. يقول: إذا استشهدت لم أبال ما تركت من عذي النخل وسقيه.
وعن عطاء بن أبي مسلم قال:
لما ودع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن رواحة قال ابن رواحة: يا رسول الله، مرني بشيء أحفظه عنك قال: إنك قادم غداً بلداً، السجود فيه قليل، فأكثر السجود. قال عبد الله بن رواحة: زدني يا رسول الله، قال: اذكر الله فإنه عون لك على ما تطالب، فقام من عنده، حتى إذا مضى ذاهباً رجع إليه فقال: يا رسول الله، إن الله وتر يحب الوتر، قال: يا بن رواحة، ما عجزت فلا تعجزن إن أسأت عشراً أن تحسن واحدة، فقال ابن رواحة: لا أسألك عن شيء بعدها.
وعن ابن إسحاق قال: فلما أصيب قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما بلغني: أخذ زيد بن حارثة الراية فقاتل بها حتى قتل شهيداً؛ ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم صممت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه كان في عبد الله بن رواحة ما يكرهون، فقال: ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل شهيداً. ثم، لقد رفعوا لي في الجنة فيما يرى النائم على سرير من ذهب، فرأيت في سرير(12/160)
عبد الله بن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه فقلت: عم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى.
وقال عبد الله بن رواحة عند ذلك:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
طائعة أولا لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه
مالي أراك تكرهين الجنة
قد طالما قد كنت مطمئنة
هل أنت إلا نطفة في شنه
ثم نزل فقاتل حتى قتل. قال: وقد قال أيضاً:
يا نفس إلا تقتلي تموتي
هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت
إن تفعلي فعلهما هديت
وإن تأخرت فقد شقيت
يريد جعفراً وزيداً، ونزل. فلما نزل أتاه ابن عمله بعرق لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت أيامك هذه ما لقيت، فأخذه منه فنهس منه نهسة ثم سمع الحطمة في ناحية العسكر فقال: وأنت في الدنيا؟؟؟؟؟؟، فألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.(12/161)
وعن الوليد قال: سمعت أنهم ساروا حتى إذا كانوا بناحية معان من أرض الشراة أخبروا أن الروم قد نذروا وجمعوا لهم جموعاً كثيرة من الروم وقضاعة وغيرهم من نصارى العرب، فاستشار زيد بن حارثة أصحابه فقالوا: قد وطئت البلاد وأخفت أهلها فانصرف فإنه لا يعدل العافية شيء، وعبد اله بن رواحة ساكت فسأله زيد عن رأيه فقال: إنا لم نسر إلى هذه البلاد ونحن نريد الغنائم ولكنا نريد لقاءهم ولسنا نقاتلهم بعدد ولا عدة، فالرأي المسير إليهم، فقبل زيد رأيه وسار إليهم.
فروي أن الراية لمل انتهت إلى عبد الله بن رواحة جاءه الشيطان فرغبه بالحياة وكره إليه الموت ثم تذكر فصاح بأولئك النفر الذين حضروا ذلك المجلس الذي بعث إليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتلا عليهم " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص " أين ما كنتم عاهدتم الله عليه، قد جاء مصداقه. اصدقوا الله يصدقكم، قال: فجاوؤه يخبون كأنهم بقر نزعت من تحتها أولادها، فتقدموا بين يديه وأوتي ابن رواحة بلوح من ضلع وقد التاث جوعاً فرده وقال: هذا أدعه فيما أدعه من الدنيا، فشد عليهم وشدوا حتى شدخوا جميعأ.
وعن عروة بن الزبير من حديث قال: فإن أصيب عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون رجلاً فليجعلوه عليهم، فتجهز الناس وتهيؤوا للخروج، فودع الناس أمراء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسلموا عليه، فلما ودع الناس أمراء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وودعوا عبد الله بن رواحة بكى قالوا: ما يبكيك يا بن رواحة؟؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة إليها، ولكني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً " فلست أدري كيف لي(12/162)
بالصدر بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله وردكم إلينا صالحين، ودفع عنكم، فقال ابن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا
ثم أتى عبد الله بن رواحة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فودعه ثم قال:
ثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلةً ... والله يعلم أني ثابت البصر
أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر
ثم خرج القوم حتى نزلوا بمعان فبلغهم أن هرقل قد نزل بمآب في مئة ألف من الروم ومئة ألف من المستعربة فأقاموا بمعان يومين، فقالوا: نبعث إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنخبره بكثرة عدونا، فإما أن يمدنا وإما أن يأمرنا أمراً. فشجع الناس عبد الله بن رواحة فقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم إليها تطلبون: الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا كثرة وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فإن يظهرنا الله فربما فعل، وإن تكن الأخرى فهي الشهادة، وليست بشر المنزلتين. فقال الناس: والله لقد صدق ابن رواحة، فانشمر الناس وهم ثلاثة آلاف حتى لقوا جموع الروم وهم بقرية من قرى البلقاء يقال لها شراف، ثم انحاز المسلمون إلى مؤته: قرية فوق أحساء ابن مؤت.(12/163)
ولما قتل جعفر بن أبي طالب دعا الناس: يا عبد الله بن رواحة، يا عبد الله بن رواحة، وهو في جانب العسكر ومعه ضلع حمل ينهسه ولم يكن ذاق طعاماً قبل ذلك بثلاث، فرمى بالضلع ثم قال: وأنت مع الدنيا؟، ثم تقدم فأصيب اصبعه فارتجز فجعل يقول:
هل أنت إلا اصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
يا نفس إلا تقتلي تموتي
هذا حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت
إن تفعلي فعلهما هديت
وإن تأخرت فقد شقيت
ثم قال: يا نفس، إلى أي شيء تتوقين؟ إلى فلانة؟ فهي طالق بالثلاثة، وإلى فلان وفلان، غلمان له، وإلى معجف: حائط له، فهو لله ولرسوله:
يا نفس مالك تكرهين الجنه
أقسم بالله لتنزلنه
طائعةً أو لتكرهنه
فطالما قد كنت مطمئنه
هل أنت إلا نطفة في شنه
قد أجلب الناس وشدوا الرنه
قال مصعب بن شيبة: لما نزل ابن رواحة للقتال طعن، فاستقبل الدم بيده فدلك به وجهه ثم صرع بين الصفين، فجعل يقول: يا معشر المسلمين، ذبوا عن لحم أخيكم، فجعل المسلمون يحملون حتى يحوزوه، فلم يزالوا كذلك حتى مات مكانه.(12/164)
وعن سعيد بن عبد العزيز قال: قال بعضهم حين بلغه قتل ابن رواحة: كان أولنا فصولاً وآخرنا قفولاً. كان يصلي الصلاة لوقتها.
وعن أنس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعى إلى الناس - أو إلينا - جعفراً وابن رواحة وزيداً وعيناه تذرفان.
ولما قتل جعفر بمؤته أخذ الراية بعده عبد الله بن رواحة فاستشهد. قال: ثم دخل الجنة معترضاً، فشق ذلك على الأنصار فقالوا: يا رسول الله، ما اعتراضه؟ قال: لما أصابته الجراح نكل فعاتب نفسه فشجع فاستشهد فدخل الجنة، فسري عن قومه.
وكانت مؤته في جمادى الأول سنة ثمان من الهجرة.
عبد الله بن رؤبة بن لبيد بن صخر
ابن كثيف بن عمرو بن حني ويقال: ابن حن - ابن ربيعة بن سعد بن مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم - وفي نسبه اختلاف - أبو الشعثاء المعروف بالعجاج والد رؤبة بن العجاج.
راجز مجيد.
حدث عن أبي هريرة، وقيل عن أبي الشعثاء.
قال العجاج: أنشدت أبا هريرة رضي الله عنه:
الحمد لله الذي استقلت
بأمره السماء واستعلت(12/165)
بإذنه الأرض وما تعنت
أرسى عليها بالجبال الثبت
فقال أبو هريرة: أشهد أنك تؤمن بيوم الحساب.
ولقب العجاج ببيت قاله. وولد في الجاهلية، وقال فيها أبياتاً من رجزه، ومات في أيام الوليد بن عبد الملك بعد أن كبر، وفلج وأقعد. وهو أول من رفع الرجز، وشبهه بالقصيد، وجعل له أوائل، ونسب به، وذكر الدار، ووصف ما فيها، وبكى على الشباب، كما صنعت الشعراء في القصيد، وهو القائل لعمر بن عبيد الله بن معمر لما توجه إلى أبي فديك الشاري:
قد جبر الدين الإله فجبر
وعور الرحمن من ولى
يعني أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، لأنه توجه إلى أبي فديك فهزمه وفيها يقول:
حول ابن غراء حصان إن وتر
فاز وإن طالب بالوغم اقتدر
إذا الكرام ابتدروا الباع بدر
تهدي قداماه عرانين مضر
ومن قريش كل منسوب أغر
ومما يستحسن له في وصف الدر وتروى لرؤبة:
كأن خلفيها إذا ما درا
جروا هراش حرشا فهرا(12/166)
قال الأصمعي:
قيل للعجاج: إنك لا تحسن الهجاء، فقال: إن لنا أحلاماً تمنعنا من أن نظلم، وأحساباً تمنعنا من أن نظلم، وهل رأيت بانياً إلا وهو على الهدم أقدر منه على البناء؟ قال أبو علي الباهلي: قرأنا على الأصمعي شعر العجاج فمر بنا:
من أن تبدلت بآدي آدا
لم يك ينآد فأمسى انآدا
فقد أراني أصل القعادا
قال: ودخل ابن الأعرابي فأومأ إلينا: سلوه: ما قعادا؟ فسألناه فقال: الشيوخ الذين قعدوا عن الغزل كبراً، وكذلك هو من النساء. فقال ابن الأعرابي: أما القعاد من الرجال فصحيح، وأما النساء فقواعد كما قال الله عز وجل: " والقواعد من النساء " قال: فوالله ما التفت إليه الأصمعي، ثم أنشد للقطامي:
أبصارهن إلى الشبان مائلة ... وقد أراهن عني غير صداد
فما الفرق بين صداد وقعاد، فما نطق ابن الأعرابي بحرف، وقام فخرج.
قال المعافى: الأمر في هذا على ما قال الأصمعي. وقد أغفل ابن الأعرابي إنكاره منه ما أنكره.
عبد الله بن رومان
أدرك عهد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد فتح بعلبك مع أبي عبيدة بن الجراح وكتب الصلح لأهلها.(12/167)
روى إسماعيل بن عياش أن عبيدة كتب لأهل بعلبك: هذا أمان من أبي عبيدة بن الجراح لفلان وفلان وأهل مدينتهم بعلبك، ورومها وفرسها وعربها، ولرؤسائها وسكانها والروم والنصارى، ولأموالهم ولدوابهم ولبيعهم ودياراتهم، وكل شيء لهم من خارج المدينة بيعة أو أداء أو شيء. وللمدينة ولأرحائهم، وأنهم على نسكهم لا يكرهون عليه، وأن عليهم السمع والنصح وإعطاء ما عليهم، ولا عقب بيعة بيننا وبينهم فيما قد خلا من القتال والحرب. وأن للروم أن يسيروا ويظعنوا حيث شاؤوا خمسة عشر ميلاً، ولا يثبتوا في قرية عامرة، وأن لهم أن يرعوا دوابهم خمسة أميال أو ستة. ولأهل المدينة وعربها واكتسابها أن يتجروا حيث شاؤوا من الأرض التي صالحناها. وأن للروم أن يمكثوا في المدينة شهري ربيع وجمادى الأولى، فإذا انسلخ فإنهم يسيرون حيث شاؤوا، ويذهبون بأموالهم ودوابهم. وإن مكثوا بعد انسلاخ الأشهر فإن عليهم مثل ما على أهل المدينة من السمع والطاعة والنصح، وإعطاء الذي عليهم من السبيل، فإن أحبوا أن يسيروا عند نفاذ هذه الصحيفة ساروا، وأن لنا على الروم وفارس ألا يخبئوا شيئاً كان للمؤمنين من أموالهم عند النبط والعرب من حين نفاذ هذه الصحيفة، فإن مكثوا فلنا عشور العرب والروم وأهل المدينة، وإن شاؤوا أن يذهبوا ذهبوا حيث شاؤوا من الأرض بأموالهم، فإن ذمة أبي عبيدة والمؤمنين لهم، وأن للمؤمنين ما عرفوا من أموالهم عند الروم والعرب، وأن لنا عندهم كل نفس حرة مسلمة فيهم، في رومهم وفرسهم وعربهم ونبطهم. والله هو الشاهد على هذه الصحيفة، ويزيد بن أبي سفيان، ومعمر بن رائم. وكتب عبد الله بن رمان. وختم أبو عبيدة بخاتمه.
عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب
ابن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي له صحبة، واستشهد بأجنادين، وكان ممن ثبت مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين هو والعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالبوأبو سفيان بن الحارث وعقيل بن أبي طالب والزبير بن العوام وأسامة بن زيد.(12/168)
قال أبو الحويرث: أول قتيل قتل من الروم يوم أجنادين برز بطريق معلم يدعو إلى البراز، فبرز إليه عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، فاختلفا ضربات ثم قتله عبد الله بن الزبير ولم يعرض لسلبه ثم برز آخر يدعو إلى البراز فبرز إليه عبد الله بن الزبير فتشاولا بالرمحين ساعة وصارا إلى السيفين، فحمل عليه عبد الله بن الزبير فضربه - وهو دارع - على عاتقه وهو يقول: خذها وأنا ابن عبد المطلب، فأثبته وقطع سيفه الدرع وأسرع في منكبه ثم ولى الرومي منهزماً، وعزم عليه عمرو بن العاص ألا يبارز، فقال عبد الله: إني والله ما أجدني أصبر. فلما اختلطت السيوف وأخذ بعضها بعضاً وجد في ربضة من الروم عشرة حجزة، مقتولاً وهم حوله قتلى وقائم السيف في يده قد غري، فبعد نهار ما نزع من يده، وإن في وجهه لثلاثين ضربة بالسيف.
وكان فتح أجنادين يوم الاثنين عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة في خلافة أبي بكر الصديق. وكان عبد الله بن الزبير يوم قبض سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له نحو من ثلاثين سنة. ولا نعلمه غزا مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا روى عنه حديثاً.
وأم عبد الله بن الزبير عاتكة بنت أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
وقيل قتل في وقعة فحل، وكانت في سنة ثلاث عشرة في رجب. والله أعلم.(12/169)
عبد الله بن الزبير بن العوام
ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب أبو بكر ويقال أبو خبيب الأسدي.
وأول مولود ولد في الإسلام بالمدينة من قريش. له صحبة، حضر وقعة اليرموك مع أبيه، وشهد خطبة عمر بالجابية، وقدم دمشق لغزو القسطنطينية أيام معاوية، وبويع بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية بمكة، وغلب على الحجاز والعراقين واليمن ومصر وأكثر الشام، ثم قتله الحجاج بن يوسف وصلبه في أيام عبد الملك بن مروان.
قال ثابت البناني: سمعت عبد الله بن الزبير وهو على المنبر يخطب ويقول: قال محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة.
قال سعيد بن جبير: كنت جالساً عند عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان ابن الزبير جعله على قضاء الكوفة إذ جاءه كتاب ابن الزبير: سلام عليك أما بعد. فإنك كتبت تسألني عن الجد، وإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لو كنت متخذاً من هذه الأمة خليلاً من دون ربي لاتخذت ابن أبي قحافة، ولكنه أخي في الدين وصاحبي في الغار، وجعل الجد أباً، فأحق من أخذنا به قول أبي بكر رضي الله عنه.
قال عبد الله بن الزبير: خطبنا عمر بالجابية فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام فينا كمقامي هذا فيكم فقال: أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل ولم يستشهد، وحتى يحلف ولم يستحلف، فمن أحب أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد. ولا يخلون رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن.(12/170)
قال الزبير بن بكار: فولد الزبير بن العوام: عبد الله وبه كان يكنى الزبير، والمنذر، وعروة، وغيرهم. ثم قال: وأمهم أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين ولد عبد الله بن الزبير في شوال سنة اثنتين من الهجرة.
قال الواقدي: توفي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعبد الله ابن ثماني سنين وأربعة أشهر.
وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وجده أبو بكر الصديق، وجدته صفية عمة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمته خديجة زوجة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخالته عائشة زوجة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بالمدينة فحنكه سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسماه عبد الله فكبر الصحابة والمسلمون لمولده استكثاراً، وقتل بمكة سنة ثلاث وسبعين فكبر فجرة أهل الشام لقتله استكباراً. بايع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثمان سنين، كان صواماً، قواماً، بالحق قوالاً، وللرحم وصالاً، شديد على الفجرة، ذليلاً للأتقياء البررة، وكانت له جمة مفروقة طويلة.
وحملت به أمه وهي متم، فولدت بقباء وحملته إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحنكه بتمرة، فكان أول ما دخل في جوفه ريق سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا له وبارك عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ترضعه أمه حتى أتت به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذه فوضعه في حجره وحنكه. ولد بعد الهجرة بعشرين شهراً. قتل بمكة وصلب بها، وحمل رأسه إلى المدينة وبعث إلى خراسان فدفن بها.
ولما ولد عبد الله بن الزبير بقباء، وكانت يهود حين قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: أخذوهم حتى لا يكون لهم نسل. فلما ولد عبد الله بن الزبير كبر الناس. وكان أول مولود ولد في الإسلام.
وحنكه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا له وأسماه عبد الله قال: قد أسميته بجبريل، ثم جاء وهو ابن سبع سنين أو ثمان ليبايع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمره بذلك الزبير فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رآه(12/171)
ثم بايعه. ولما قتل كبر أهل الشام فقال عبد الله بن عمر بن الخطاب - وسمع تكبير أهل الشام - الذين كبروا على مولده خير من الذين كبروا على قتله.
قال زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب: لما دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة قالت يهود: قد سحرنا محمداً وأصحابه فليس يولد لهم بأرضنا. قال: فكان أول مولود عبد الله بن الزبير. قال زيد: فسمعت أن اليهود لما علموا أن الله تبارك وتعالى قد أبطل كيدهم حولوا فكتبوا طباً فجعلوا ما يضر ينفع، وما ينفع يضر.
ولما حمل إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحنكه أمر أن يؤذن في أذنيه بالصلاة، فأذن أبو بكر في أذنيه.
وقال أبو إسحاق: إن أبا بكر طاف بابن الزبير في خرقة وهو صبي مولود، وفي ذلك خلاف. والصحيح أن عبد الله بن الزبير ولد بالمدينة بعد الهجرة لا خلاف فيه، ومكة يومئذ دار حرب لم يدخلها سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أحد من المسلمين. وزعموا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نظر في وجهه قال: أهو هو ليمنعن البيت أو ليموتن دونه. وقال العقيلي في ذلك:
بر تبين ما قال الرسول له ... من الصلاة لضاحي وجهه علم
حمامة من حمام البيت قاطنة ... لا تتبع الناس إن جاروا وإن ظلموا
هو أول مولود ولد بالمدينة، وأتاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشي من المدينة اليوم الذي ولد فيه، وكانت أسماء مع أبيها بالسنح ببلحارث بن الخزرج.
قال الزبير: والصحيح أن عبد الله بن الزبير ولد بقباء، والبيت الذي ولد فيه قائم معروف، ولاد ابن الزبير فيه وإنما كان نزول أبي بكر الصديق بالسنح حين تزوج مليكة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير، ولم يتزوجها إلا بعد مولد عبد الله بن الزبير.
وكان عبد الله يقول: هاجرت بي أمي في بطنها فما أصابها من مخمصة أو نصب إلا وقد أصابني. وكان عارضا ابن الزبير خفيفين، فما اتصلت لحيته حتى بلغ ستين سنة.(12/172)
وعن محمد بن كعب القرظي: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل على أسماء بنت أبي بكر الصديق حين ولد عبد الله بن الزبير فقال: أهو هو؟ فتركت أسماء رضاع عبد الله بن الزبير لما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول هو هو. فقيل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أسماء تركت رضاع عبد الله بن الزبير لما سمعتك تقول: أهو هو، فقال: أرضعيه ولو بماء عينيك. كبش بين ذئاب، ذئاب عليها ثياب، ليمنعن الحرم أو ليقتلن به.
كان الزبير يقبل ابنه عبد الله وهو صغير يقول:
أبيض من آل أبي عتيق ... أحبه كما أحب ريقي
وعن عروة: أن عبد الله بن الزبير وجعفر بن الزبير بايعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهما ابنا سبع سنين، فلما رآهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبسم وبسط يده فبايعهما.
وعن عبد الله بن عروة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلم في غلمة ترعرعوا منهم عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، وعمر بن أبي سلمة، فقيل: يا رسول الله، لو بايعتهم فتصيبهم بركتك ويكون لهم ذكر، فأتي بهم إليه فكأنهم تكعكعوا حين جيء بهم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاقتحم ابن الزبير أولهم فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: إنه ابن أبيه، وبايعوه.
وعن عبد الله بن الزبير: أنه أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يحتجم. فلما فرغ قال: يا عبد الله، اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد. فلما برز عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمد إلى الدم فشربه. فلما رجع قال: يا عبد الله، ما صنعت؟ قال: جعلته في أخفى مكان علمت أنه بخاف عن الناس. قال: لعلك شربته! قال: نعم. قال: ولم شربت الدم! ويل للناس منك، وويل لك من الناس. قال: فكانوا يرون أن القوة التي به من ذلك الدم.(12/173)
وفي حديث: من قوة دم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي حديث بمعناه قال: إني أحببت أن يكون من دم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جوفي فقال: ويل لك من الناس، وويل للناس منك، لا تمسك النار إلا قسم اليمين.
وعن محمد بن حاطب أنه قال - وذكر ابن الزبير فقال: طالما حرص على الإمارة قلت: وما ذاك؟ قال: أتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلص فأمر بقتله، فقيل: إنه سرق، قال: اقطعوه، ثم جيء بعد ذلك إلى أبي بكر وقد سرق وقد قطعت قوائمه، فقال أبو بكر: ما أجد لك شيئاً إلا قضى فيك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أمر بقتلك، فإنه كان أعلم بك، فأمر بقتله أغيلمة من أبناء المهاجرين أنا فيهم. قال ابن الزبير: أمروني عليكم، فأمرناه علينا فانطلقنا به إلى البقيع، فقتلناه.
وعن محمد بن الضحاك: أن عبد الملك بن مروان قال لرأس الجالوت - أو لابن رأس الجالوت - ما عندكم من الفراسة في الصبيان؟ قال: ما عندنا فيهم شيء لأنهم يخلقون خلقاً بعد خلق، غير أنا نرمقهم فإن سمعنا منهم من يقول في لعبه: من يكون معي؟ رأيناها همة وخبر صدق فيه. وإن سمعناه يقول: مع من أكون؟ كرهناها منه. فكان أول ما علم من أمر ابن الزبير أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان وهو صبي فمر رجل فصاح عليهم، ففروا، ومشى ابن الزبير القهقري وقال: يا صبيان، اجعلوني أميركم، وشدوا بنا عليه.
ومر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو صبي يلعب مع الصبيان، ففروا، ووقف، فقال له: مالك لم تفر مع أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لم أجرم فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك.
كان نوف يقول: إني لأجد في كتاب الله المنزل أن ابن الزبير فارس الخلفاء.(12/174)
وعن محمد بن أبي يعقوب الضبي: أن معاوية بن أبي سفيان كان يلقى ابن الزبير فيقول: مرحباً يا بن عمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن حواري رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويأمر له بمئة ألف.
قال ابن أبي مليكة: ذكر ابن الزبير عند ابن عباس فقال: قارئاً لكتاب الله، عفيفاً في الإسلام، أبوه الزبير، وأمه أسماء، وجده أبو بكر، وعمته خديجة، وخالته عائشة، وجدته صفية، والله لأحاسبن له نفسي محاسبة لم أحاسبها لأبي بكر ولا عمر.
وفي حديث ابن عباس قال: لما بلغ الناس عبد الله بن الزبير قلت: أين المذهب عن ابن الزبير؟ أبوه حواري رسولالله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجدته عمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفية بنت عبد المطلب، وعمته خديجة بنت خويلد زوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخالته أم المؤمنين عائشة، وجده صديق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر، وأمه ذات النطاقين، فشددت على عضده ثم آثر علي الحميدات والتويتات والأسامات فبأوت بنفسي ولم أرض بالهوان. إن ابن أبي العاص مشى اليقدمية - ويقال القدمية - وإن ابن الزبير مشى القهقرى.
وفي حديث آخر: إن ابن الزبير لوى ذنبه ثم قال لعلي بن عبد الله بن العباس: الحق بابن عمك فغثك خير من سمين غيرك، ومنك أنفك وإن كان أجدع، فلحق علي بعبد الملك بنمروانفكان آثر الناس عنده.
قوله مشى اليقدمية بهمته وأفعاله، وابن الزبير مشى القهقرى: أي نكص على عقبيه، وتأخر عما تقدم له الآخر. وقوله: فبأوت بنفسي أي رفعتها وعظمتها، والبأو: التعظيم. وقوله: آثر علي الحميدات والتوتيات والأسامات أراد: آثر(12/175)
قوماً من بني أسد ابن عبد العزى من قرابته. وكأنه صغرهم وحقرهم.
قال محمد بن المرتفع: سمعت ابن الزبير يقول: يا معشر الحاج، سلوني، فعلينا كان التنزيل، ونحن حضرنا التأويل، فقال له رجل من أهل العراق: دخلت في جرابي فأرة، أيحل لي قتلها وأنا محرم؟ قال: اقتل الفويسقة. قال: أخبرنا بالشفع والوتر والليالي العشر قال: العشر: الثمان، وعرفة، والنحر، والشفع: من تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه. وهو اليوم.
وكان عبد الله بن الزبير من العلماء العباد المجتهدين، وما كان أحد أعلم بالمناسك منه، وأوصت إليه عائشة أم المؤمنين.
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مصلياً أحسن صلاة من ابن الزبير.
وقال مجاهد: كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود. وحدث أن أبا بكر رضي الله عنه كان كذلك.
وقال يحيى بن وثاب: وكان ابن الزبير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره، تصعد وتنزل، لا تراه إلا جذم حائط.
وقال وهب بن كيسان: أول من وصف رجليه في الصلاة عبد الله بن الزبير فاقتدى به كثير من العباد. وكان مجتهداً.
قال مسلم المكي: ركع ابن الزبير يوماً ركعة فقرأت البقرة وآل عمران والنساء والمائدة، وما رفع رأسه.(12/176)
ويروي أنه قسم الدهر على ثلاث ليالٍ: فليلة هو قائم حتى الصباح، وليلة هو راكع حتى الصباح، وليلة هو ساجد حتى الصباح.
قال ابن المنكدر: لو رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن شجرة تصفقها الريح والمنجنيق يقع هاهنا وهاهنا. قال سفيان: كأنه لا يبالي.
قال عمر بن عبد العزيز لابن مليكة: صف لنا عبد الله بن الزبير، فإنه ترمرم على أصحابنا فتغشمروا عليه فقال: عن أي حاليه تسأل، أعن دينه أو عن دنياه؟ قال: عن كل. قال: والله ما رأيت جلداً قط ركب على لحم، ولا لحماً على عصب، ولا عصباً على عظم مثل جلده على لحمه، ولا مثل لحمه على عصبه، ولا مثل عصبه على عظمه، ولا رأيت نفساً ركبت بين جنبين مثل نفس له ركبت بين جنبيه. ولقد قام يوماً إلى الصلاة فمر حجر من حجارة المنجنيق بلبنه مطبوخة من شرافات المسجد فمرت بين لحيته وصدره، فوالله ما خشع لها بصره ولا قطع لها قراءته، ولا ركع دون الركوع الذي كان يركع. إن ابن الزبير كان إذا دخل في الصلاة خرج من كل شيء إليها، ولقد كان يركع فتكاد تقع الرخم على ظهره، ويسجد فكأنه ثوب مطروح.
وعن منصور بن زاذان قال: أخبرني من رأى ابن الزبير يشرب في صلاته، وكان ابن الزبير من المصلين.
وحدث عمر بن قيس عن أمه قالت: دخلت على عبد الله بن الزبير ببيته فإذا هو قائم يصلي. قالت: فسقطت حية من السقف على ابنه هاشم، فتطوقت على بطنه وهو قائم، فصاح أهل البيت: الحية ولم يزالوا بها، حتى قتلوها، وعبد الله بن الزبير يصلي ما التفت. ولا عجل، ثم فرغ بعدما قتلت فقال: ما بالكم؟ قال: فقالت أم هاشم: يرحمك الله، أرأيت إن كنا هنا عليك أيهون عليك ابنك؟ قالت: فقال: ويحك! وما كانت التفاتة لو التفتها مبقية من صلاتي؟(12/177)
وولاء عمر بن قيس لأم هاشم بنت منظور بن زيان، أم هاشم ابن عبد الله بن الزبير.
وكان عبد الله بن الزبير قوام الليل، صوام النهار، وكان يسمى حمام المسجد.
وكان عبد الله بن الزبير يواصل الصيام سبعاً، يصوم يوم الجمعة ولا يفطر إلا ليلة الجمعة الأخرى، ويصوم بالمدينة ولا يفطر إلا بمكة، وكان عند إفطاره يدعو بقعب من سمن، ثم يأمر بلبن فيحلب عليه، ثم يدعو بشيء من صبر فيذره عليه ثم يشربه. فأما اللبن فيعصمه، وأما السمن فيقطع عنه العطش، وأما الصبر فيفتح أمعاءه.
قال خالد بن أبي عمران: كان ابن الزبير لا يفطر من الشهر إلا ثلاثة أيام. قال: ومكث أربعين سنة لم ينزع ثوبه عن ظهره.
وقال هشام بن حسان: كان عبد الله بن الزبير يصوم عشرة أيام لا يفطر فيها. قال: فكان إذا دخل رمضان أكل أكلة في نصف الشهر.
وقال عمار بن أبي عمار: كان عبد الله بن أبي الزبير يواصل سبعة أيام فإذا كان ليلة السابعة دعا بإناء من سمن فشربه، ثم أتى بثريدة في صحفة عليها عرقان، ويؤتى الناس بالجفان فتوضع بين أيديهم، فيقول: أيها الناس، هذا خالص مالي، وهذا من بيت مالكم.
قال مجاهد: ما كان باب من العبادة يعجز عنه الناس إلا تكلفه عبد الله بن الزبير. ولقد جاء سيل طبق البيت فجعل ابن الزبير يطوف سباحة.
قال عثمان بن طلحة: كان عبد الله بن الزبير لا ينازع في ثلاثة: شجاعة، ولا عبادة، ولا بلاغة.
قال عبد الواحد بن أيمن: رأيت على ابن الزبير رداءً عدنياً يصلي فيه، وكان صيتاً، إذا خطب تجاوب(12/178)
الجبلان: أبو قبيس، وزرزرز، وكانت له جمة إلى العنق، وكانت له لحية صفراء.
قال أبو سفيان الحميري: تكلم عبد الله بن الزبير والزبير يسمع، فقال له: أي بني، ما زلت تكلم بكلام أبي بكر رضي الله عنه حتى ظننت أن أبا بكر قائم، فانظر إلى من تزوج فإن المرأة من أخيها، من أبيها.
وعن مصعب بن عبد الله قال:
غزا عبد الله بن الزبير إفريقية مع عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري، قال عبد الله: هجم علينا جرجير في معسكرنا في عشرين ومئة ألف، فأحاطوا بنا من كل مكان، وسقط في أيدي المسلمين، ونحن في عشرين ألفاً من المسلمين. واختلف الناس على ابن أبي سرح، فدخل فسطاطاً له فخلا فيه، ورأيت غرة من جرجير، بصرت به خلف عساكره على برذون أشهب، معه جاريتان تظلان عليه بريش الطواويس، بينه وبين جنده أرض بيضاء ليس فيها أحد، فخرجت أطلب ابن أبي سرح فقيل: قد خلا في فسطاطه، فأتيت حاجبه فأبى أن يأذن لي عليه فدرت من كسر الفسطاط فدخلت عليه، فوجدته مستلقياً على ظهره. فلما دخلت فزع واستوى جالساً، فقلت: إيه إيه " كل أزب نفور " فقال: ما أدخلك علي يا بن الزبير؟ قلت: رأيت عورة من العدو فاخرج فاندب لي الناس، قال: وما هي؟ قال: فأخبرته، فخرج معي مسرعاً؟، فقال: يا أيها الناس، انتدبوا مع ابن الزبير، فاخترت ثلاثين فارساً وقلت لسائرهم: البثوا على مصافكم، وحملت في الوجه الذي رأيت فيه جرجير، وقلت لأصحابي: احموا لي ظهري، فوالله ما نشبت أن خرقت الصف إليه، فخرجت صامداً له، وما يحتسب هو ولا أصحابه إلا أني رسول إليه حتى دنوت منه فعرف الشر، فثنى بردونه مولياً، وأدركته فطعنته، فسقط وسقطت الجاريتان عليه، وأهويت إليه مبادراً فدفقت عليه بالسيف وأصبت يد إحدى الجاريتين فقطعتها، ثم احترزت رأسه فنصبته في رمحي وكبرت، وحمل المسلمون في الوجه(12/179)
الآخر الذي كنت فيه، وارفض العدو في كل وجه، ومنح الله المسلمين أكتافهم.
فلما أراد ابن أبي سرح أن يوجه بشيراً إلى عثمان قال: أنت أولى من هاهنا بذلك، فانطلق إلى أمير المؤمنين فأخبره الخبر، فقدمت على عثمان فأخبرته بفتح الله ونصره وصنعه، ووصفت له أمرنا كيف كان. فلما فرغت من ذلك قال: هل تستطيع أن تؤدي هذا إلى الناس؟ قال: وما يمنعني من ذلك؟ قال: فاخرج إلى الناس فأخبرهم، فخرجت حتى جئت المنبر، فاستقبلت الناس فتلقاني وجه أبي الزبير بن العوام فدخلتني له هيبة فعرفها في وجهي وقبض قبضة من حصى وجمع وجهه في وجهه وهم أن يحصبني فاعتزمت فتكلمت.
فزعموا أن الزبير لما فرغ من كلامه قال: والله لكأني سمعت كلام أبي بكر الصديق. من أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إلى أبيها أو أخيها فإنها تأتيه بأحدهما.
وبشر عبد الله بن الزبير مقدمه من افريقية بابنة خبيب بن عبد الله، وعروة بن الزبير. وكان خبيب أكبر من عروة، وكان عبد الله يكنى أبا بكر، ويكنى أبا خبيب بابنه خبيب بن عبد الله.
خرج ابن الزبير في ليلة مقمرة على راحلة فنزل يبول، فالتفت فإذا على الراحلة شيخ أبيض الرأس واللحية. قال: فشد عليه فتنحى، فركب راحلته ومضى. قال: فناداه: والله يا بن الزبير لو دخل قلبك مني الليلة شعرة لخبلتك. قال: ومنك أنت يا لعين يدخل قلبي شيء؟! قال عامر بن عبد الله بن الزبير: أقبل عبد الله بن الزبير من العمرة في ركب من قريش فيهم عبد الرحمن بن أبي ربيعة المخزومي ورهط من قريش، حتى إذا كانوا بالكديد قال ابن الزبير: رأيت رجلاً تحت التناضب - يعني: شجراً - فقال ابن الزبير: ألا أتقدم أبغيكم لبناً؟ قالوا: بلى، فأقبل(12/180)
ابن الزبير حتى أتاه قال: فسلمت عليه. قال: وعليك السلام. قال: ابن الزبير: والله ما رأيتني أتيت أحداً إلا رأيت له مني هيبة غيره. فلما دنوت منه وهو في ظل قد كاد يذهب ولم يتحرك فضربته برجلي وقلت: انقبض إليك، إنك لشحيح بظلك، فانحاز متكارهاً فجلست وأخذت بيده وقلت: من أنت؟ قال: ر جل من أهل الأرض من الجن قال: فوالله ما عدا أن قالها، فقامت كل شعرة مني واجتذبته بيدي فقلت: إنك من أهل الأرض وتبدى لي هكذا؟ واجتذبته فإذا ليس له سفلة فانكسر فقلت: إلي تبدى وأنت من أهل الأرض؛ وانقمع مني فذهب، فجاءني أصحابي. قالوا: أين صاحبك؟ قلت: كان والله رجلاً من الجن فذهب. قال: ما بقي رجل ممن رآه إلا ضرب به الأرض ساقطاً. فأخذت كل رجل منهم فشددته على بعيره بين شعبتي رحله حتى أتيت بهم أمج، وما يعقلون.
قال ابن الزبير:
دخلت المسجد ذات ليلة فإذا نسوة يطفن بالبيت فأعجبنني. فلما قضين طوافهن خرجن مما يلي باب الحذائين فقلت: لأتبعهن حتى أعرف مواضعهن. فما زلن يمشين حتى أتين العقبة ثم صعدن العقبة وصعدت خلفهن، ثم هبطن وهبطت خلفهن حتى أتين فجاً، فدخلن في خربة فدخلت في إثرهن، فإذا مشيخة جلوس، فقالوا: ما جاء بك يا بن الزبير؟ فقلت لهم: ومن أنتم؟ قالوا: نحن الجن. قلت: إني رأيت نسوة يطفن بالبيت فأعجبنني، فاتبعتهن حتى دخلت هذا الموضع. قالوا: إن أولئك نساؤنا، تشه يا بن الزبير ما شئت، قلت: أشتهي رطباً، وما بمكة يومئذ من رطبة، فأتوني برطب فأكلت ثم قالوا لي: احمل ما بقي معك. قال: فحملته ورجعت، وأنا أريد أن أريه أهل مكة حتى دخلت منزلي، فوضعته في سفط، ثم وضعت السفط في صندوق، ثم وضعت رأسي، فوالله إني لبين النائم واليقظان إذ سمعت جلبةً في البيت. فقال بعضهم لبعض: أين وضعه؟ فقال بعضهم: في الصندوق. فقال بعضهم لبعض: افتحوا الصندوق. قال: ففتحوه. فقال بعضهم لبعض: أين هو؟ فقال بعضهم: في السفط. قال: افتحوا السفط فقالوا:(12/181)
لا نستطيع أن نفتحه، إنه قد ذكر عليه اسم الله عز وجل. قال: فاحملوه كما هو. قال: فحملوه فذهبوا به.
قال ابن الزبير: لم آسف على شيء أسفي كيف لم أثب عليهم وهم في البيت.
قال وهب بن كيسان: ما رأيت ابن الزبير معطياً رجلاً كلمة قط لرغبة ولا لرهبة سلطان ولا غيره.
ولما قتل عمر محى الزبير نفسه من الديوان. فلما قتل عثمان محا ابن الزبير نفسه من الديوان.
وعن الزبير أنه قال على منبر مكة: والله لقد استخلفني أمير المؤمنين عثمان على الدار، فلقد كنت أنا الذي أقاتل بهم، ولقد كنت أخرج في الكتيبة وأباشر القتال بنفسي، فخرجت بضعة عشر جرحاً. وإني لأضع اليوم يدي على بعض تلك الجراحات التي جرحت مع عثمان، فأرجو أن تكون خير أعمالي.
قال هشام بن عروة: أخذ عبد الله بن الزبير من وسط القتلى يوم الجمل، وبه بضع وأربعون طعنة وضربة.
وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: أعطت عائشة للذي بشرها أن ابن الزبير لم يقتل عشرة آلاف درهم.
قال أبو حبيبة مولى الزبير: أتانا ابن عباس بالبصرة في يوم شديد الحر. فلما رآه الزبير قال: مرحباً يا بن لبابة، أزائراً أم سفيراً؟ قال: كل ذلك أرسلني إليك ابن خالك، فقال لك: ما عدا مما بدا؟ عرفتني بالمدينة وأنكرتني بالبصرة؟! قال: فجعل الزبير ينقر بالمروحة في الأرض ثم رفع رأسه إليه فقال: نرفع لكم المصاحف غداً. فما أحلت حللنا وما حرمت حرمنا.(12/182)
فانصرفت فناداني ابن الزبير وهو في جانب البيت: يا بن عباس، علي، أقبل، قال ابن عباس: فأقبلت عليه وأنا أكره كلامه، فقال: بيننا دم خليفة، وعهد خليفة، وانفراد واحد واجتماع ثلاثة، وأم مبرورة، ومشاورة العامة.
قال: يعني الثلاثة: الزبير، وطلحة، وسعد، أقام بالمدينة، وعهد الخليفة: عمر بن الخطاب. قال: إذا اجتمعوا وتشاورا تبع الأقل الأكثر، ودم الخليفة: عثمان بن عفان.
قال عروة بن الزبير: لم يكن أحد أحب إلى عائشة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعد أبي بكر من عبد الله بن الزبير.
وعن عروة قال: ما سمعت أمي: عائشة وأسماء تدعوان لأحد من الخلق دعاءهما لعبد الله بن الزبير.
قال هشام بن عروة: كان عبد الله بن الزبير يعتد بمكرمات لا يعتد بها أحد من الناس: أوصت له عائشة بحجرتها، واشترى حجرة سودة.
قال عبد الله بن عروة: أقحمت السنة نابغة بني جعدة فدخل على ابن الزبير المسجد الحرام فأنشده:
حكيت لنا الصديق لما وليتنا ... وعثمان والفاروق فارتاح معدم
وسويت بين الناس في الحق فاستوى ... فعاد صباحاً حالك اللون أسحم
أتاك أبو ليلى يجوب به الدجى ... دجى الليل جواب الفلاة عثمثم
لتجبر منه جانباً ذعذعت به ... صروف الليالي والزمان المصمم(12/183)
فقال له ابن الزبير: هون عليك أبا ليلى، فإن الشعر أهون وسائلك عندنا. أما صفوة أموالنا فلآل الزبير، وأما عفوته فإن بني أسد تشغلها عنك، ولكن لك في مال الله حقان: حق برؤيتك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحق لشركتك أهل الإسلام في فيئهم، ثم أدخله دار النعم فأعطاه قلائص تسعاً، وجملاً رحيلاً، وأوقر له الركاب براً وتمراً وثياباً، فجعل النابغة يستعجل ويأكل الحب صرفاً. فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلى! لقد بلغ به الجهد. فقال النابغة: أشهد لسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما وليت قريش فعدلت واسترحمت فرحمت، ووعدت خيراً فأنجزت، فأنا والنبيون فراط لقاصفين.
وزاد في رواية: وحدثت فصدقت.
قالت عائشة بنت طلحة: خرجت مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: فبينا نحن كذلك إذا نحن براجز يقول:
أنشد من كان بعيد الهم ... يدلني اليوم على ابن أم
له أب في باذخٍ أشم ... وأمه كالبدر ليل تم
مقابل الخال كريم العم ... يجيرني من زمن ملم
جرعة أكؤسه بسم
قالت: فلما سمعت أم المؤمنين أبياته دعت به فقالت من وراء حجابها:(12/184)
يا عبد الله، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الدال على الخير كفاعله، فحاجتك رجل بين يديك، فسل عن عبد الله بن الزبير فإنه شرطك، فخرج الرجل حتى أدرك عبد الله بن الزبير، فحمله على راحلة وصنع إليه معروفاً.
قال أبو إسحاق التيمي: سمع معاوية رجلاً وهو يقول:
ابن رقاش ماجد سميدع ... يأتي فيعطي عن يدٍ أو يمنع
فقال: ذاك عبد الله بن الزبير.
وفي رواية: ذاك منا. ذاك عبد الله بن الزبير.
دخل عبد الله بن الزبير على معاوية، وعنده جماعة فيهم مروان وسعيد بن العاص، فأوسع له معاوية على سريره. فلما انصرف عبد الله بن الزبير أقبل مروان على معاوية فقال له: لله درك من رئيس قبيلة يضع الكبير ولا يدني إلا صغيراً فقال معاوية:
نفس عصام سودت عصاماً
فضحك مروان وقال: يا أمير المؤمنين، إنما كلمتك مازحاً، فقال معاوية: ترسلها شقراء غبراء ثم تتبعها ضحكة يا مروان؟! قال عبد الله بن محمد بن حبيب: لما حج معاوية لقيه عبد الله بن الزبير فقال: آدني على الوليد بن عتبة. فقد تزايد(12/185)
خطله، وذهب به جهله إلى غاية يقصر عنها الأنوق، ودون قرارها العيوق، فقال معاوية: والله ما يزال أحدكم يأتيني، يغلي جوفه كغلي المرجل على ابن عمه، فقال ابن الزبير: أم والله ما ذلك عن فرار منه ولا جبن عنه، ولقد علمت قريش أني لست بالفهه الكهام، ولا بالهلباجة النثر. فقال له معاوية: إنك لتهددني وقد عجزت عن غلام من قريش لم يبر في سباق، ولم يضرب في سياق. إن شئت خلينا بينك وبينه. فقال ابن الزبير: ما مثلي يهارش به، ولكن عندك من قريش والأنصار، ومن ساكن الحجون في الآطام من إن سألته حملك على محجة أبين من ظهر الجفير. قال: ومن ذلك؟ قال: هذا، يعني: أبا الجهم بن حذيفة، فقال معاوية: تكلم يا أبا الجهم. فقال أعفني، قال: عزمت عليك لتقولن، قال: نعم؛ أمك هند وأمه أسماء بنت أبي بكر، وأسماء خير من هند. وأبوك أبو سفيان وأبوه الزبير، ومعاذ الله أن يكون مثل الزبير. وأما الدنيا فلك؛ وأما الآخرة فله إن شاء الله.
قوله: آدني على الوليد. معناه: أعدني. وفلان استأدى على فلان أفصح من استعدى، وهما سواء.
أذن معاوية للناس يوماً فدخلوا عليه، فاحتفل المجلس وهو على سريره، فأجال بصره فيهم، ثم قال: أنشدوني لقدماء العرب ثلاثة أبيات جامعة من أجمع ما قالتها، ثم قال: يا أبا خبيب، فقال: مهيم. قال: أنشدني ثلاثة أبيات لقدماء العرب جامعة من أجمع ما قالتها. قال: نعم يا أمير المؤمنين، بثلاث مئة ألف. قال معاوية: إن ساوت. قال: أنت بالخيار وأنت واف كاف. قال: نعم. فأنشده للأفوه الأودي:
بلوت الناس قرناً بعد قرنٍ ... فلم أر غير ختال وقال(12/186)
فقال: صدق.
ولم أر في الخطوب أشد وقعاً ... وكيداً من معاداة الرجال
فقال: صدق.
وذقت مرارة الأشياء طراً ... فما شيء أمر من السؤال
فقال: صدق. هيه يا أبا خبيب. قال: إلى هاهنا انتهى بي. قال: فدعا معاوية بثلاثين عبداً، على عنق كل واح منهم بدرة، فمروا بين يدي ابن الزبير حتى انتهوا إلى داره.
حج معاوية فتلقاه الناس ولم يتلقه ابن الزبير، وبعث مولى له فقال: اذهب فانظر ما يقولك لك معاوية، فأتاه: فلما رآه معاوية قال: أين ابن الزبير؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنه كان وكان، يعذره. قال: لا والله، ولكن ما في نفسه. فلما كان بمنى مر به ابن الزبير وقد حلق معاوية رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أكبر جحرة رأسك. قال: اتق، لا تخرج عليك حية من بعض هذه الجحرة فتقتلك. فلما أفاض من منى لم يدخل عليه. فلما أراد معاوية أن يطوف قام إليه ابن الزبير فأخذ بيده فطاف معه حتى فرغ من طوافه فقال له: يا أمير المؤمنين إني أريد أن تنطلق معي، فتنظر إلى بنائي فانطلق معه إلى قعيقعان، فنظر إلى بنائه ودوره ففعل ماذا؟ لا والله لا أدعك حتى تعطيني مئة ألغ، فأعطاه. فجاءه مروان فقال: والله ما رأيت مثلك، جاءك رجل قد سمى بيت مال الديوان وبيت الخلافة وبيت كذا وبيت كذا فأعطيته مئة ألف! قال: ويلك فكيف أصنع بابن الزبير؟ قال هشام بن عروة: سأل عبد الله بن الزبير معاوية شيئاً فمنعه فقال: والله ما أجهل أن ألزم هذه(12/187)
البنية فلا أشتم لك عرضاً، ولا أقصب لك حبساً، ولكني أسدل عمامتي من بين يدي ذراعاً، ومن خلفي ذراعاً في طريق أهل الشام، وأذكر سيرة أبي بكر وعمر، فيقول الناس من هذا؟ فيقولون: ابن حواري رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن الصديق. فقال معاوية: حسبك بهذا شراً. ثم قال: هات حوائجك.
حدث هشام بن عروة: أن مروان بن الحكم نازع ابن الزبير، فكان هوى معاوية مع مروان، فقال ابن الزبير: يا أمير المؤمنين، إن لك حقاً وطاعة، فأطع الله نطعك، فإنه لا طاعة لك علينا إلا في حق الله عز وجل، ولا تطرق إطراق الأفعوان في أصول السخبر فإنه أقر صامت.
قال سعيد بن يزيد: دخل عبد الله بن الزبير على معاوية وعنده ابن له، فأمره فلطم ابن الزبير لطمة دوخ منها رأسه، فلما أفاق قال له: ادن مني فدنا منه فقال له: الطم معاوية، قال: لا أفعل. قال: ولم؟ قال: لأنه أبي. قال: فرفع عبد الله يده فلطمه لطمة دار الصبي على البساط كما تدور الدوامة، فقال له معاوية: تفعل هذا بغلام لم تجب عليه الأحكام؟! قال: رأيته قد عرف ما ينفعه مما يضره، فأحببت أن أحسن أدبه.
قال عبد الله بن أبي بكر: قدم معاوية المدينة فأقام بها، فأكثر الناس، وعرضوا له يسألونه، فقال يوماً لبعض غلمانه: أسرج لي بغلتي إذا قامت صلاة العصر، فأسرج له البغلة. فلما صلى العصر جلس عليها، ثم توجه قبل الشام وصيح في الأثقال والناس، وتبع معاوية من تبعه، ويدركه ابن الزبير في أولمن أدركه فسار إلى جنبه ليلاً وهو نائم، ففزع له فقال: من هذا؟ فقال: ابن الزبير، أما إني لو شئت أن أقتلك لقتلتك. قال: لست هناك، لست من قتال الملوك، إنما " يصيد كل طائر قدره " فقال ابن الزبير: أما والله لقد سرت تحت لواء أبي إلى ابن أبي طالب، وهو من تعلم. فقال: لا جرم والله، لقد قتلكم بشماله.(12/188)
فقال: أما إن ذلك في نصرة عثمان، ثم لم نجز بها قال: والله ما كان بك نصرة عثمان، ولولا بغض علي بن أبي طالب لجررت برجلي عثمان مع الضبع، قال: لقد فعلتها، إنا قد أعطيناك عهداً، فنحن وافون لك به ما عشت، فإذا مت فسيعلم من بعدك. فقال: والله ما أخافك إلا على نفسك، ولكأني بك قد خبطت في الحبالة، واستحكمت عليك الأنشوطة فذكرتني وأنت فيها فقلت: ليت أبا عبد الرحمن لها، ليتني والله لها، أما والله لحللتك رويداً، ولأطلقتك سريعاً، ولبئس الولي أنت تلك الساعة.
وفي حديث مختصر بمعناه: إنما يصيد كل طير على قدره، إنما أنت يا بن الزبير ثعلب رواغ، تدخل من جحر وتخرج من جحر، والله لكأني بك قد ربقت كما يربق الجدي، فيا ليتني لك حياً فأخلطك، وبئس المخلص كنت.
قالوا: ولم يدع ابن الزبير بالخلافة حتى هلك يزيد.
ولما هلك معاوية وفي المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فلما أتاه موته بعث إلى مروان بن الحكم وناس من بني أمية فأعلمهم الذي أتاه، فقال مروان: ابعث الساعة إلى الحسين وابن الزبير فإن بايعا وإلا فاضرب أعناقهما، وقد هلك عبد الرحمن بن أبي بكر قبل ذلك، فأتاه ابن الزبير فنعى له معاوية فترحم له وجزاه خيراً، وقال له: بايع، قال: ما هذه ساعة مبايعة ولا مثلي بايعك هاهنا، ولكن تصبح فترقى المنبر وأبايعك ويبايعك الناس علانية غير سر، فوثب مروان فقال: اضرب عنقه فإنه صاحب فتنة وشر. فقال: إنك لها هنا يا بن الزرقاء واستبا فقال الوليد: أخرجوهما عني، وكان رجلاً رفيقاً سرياً كريماً، فأخرجا عنه، فجاء الحسين بن علي على تلك الحال فلم يكلم في شيء حتى رجعا جميعاً، ورجع مروان فقال: والله، لا تراه بعد مقامك إلا حيث يسوءك، فأرسل(12/189)
العيون في أثره، فلم يزد حين دخل منزله على أن دعا بوضوء ثم صف بين قدميه فلم يزل يصلي، وأمر حمزة ابنه أن يقدم راحلته إلى ذي الحليفة على بريد من المدينة مما يلي الفرع، وكان له بذي الحليفة مال عظيم. فلم يزل صافاً قدميه حتى كان من آخر الليل، وتراجعت عنه العيون جلس على دابته فركضها حتى انتهى إلى ذي الحليفة فجلس على راحلته ثم توجه مكة. وخرج الحسين من ليلته فالتقيا بمكة فقال له ابن الزبي: ما يمنعك من شيعتك وشيعة أبيك؟ فوالله لو أن لي مثلهم ما وجهت إلا إليهم؟ وبعث يزيد وعمرو بن سعيد أميراً على المدينة وعزل الوليد بن عتبة تخوفاً لضعف الوليد، فرقي عمرو المنبر حين دخل، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ابن الزبير وما صنع وقال: تعزز بمكة، فوالله لتغزون، ثم والله لئن دخل الكعبة لنحرقنها عليه، على رغم أنف من رغم.
وحدث جماعة قالوا: جاء نعي معاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن عباس يومئذ غائب بمكة. فلما صدر الناس من الحج سنة ستين وتكلم عبد الله بن الزبير وأظهر الدعاء، خرج ابن عباس إلى الطائف. فلما كانت وقعة الحرة وجاء الخبر ابن الزبير كان بمكة يومئذ عبد الله بن عباس وابن الحنفية. ولما جاء الخبر بنعي يزيد بن معاوية وذلك لهلال ربيع الآخر سنة أربع وستين قام ابن الزبير فدعا إلى نفسه وبايعه الناس، دعا ابن عباس وابن الحنفية إلى البيعة فأبيا أن يبايعا وقالا: حتى تجتمع لك البلاد ويأتسق لك الناس، وما عندنا خلاف. فأقاما على ذلك ما أقاما، فمرة يكاشرهما ومرة يباديهما فكان هذا من أمره، حتى إذا كانت سنة ست وستين غلظ عليهما ودعاهما إلى البيعة فأبيا، ووقع بينهم شر.
ولم يزل الأمر يغلظ حتى خافا منه خوفاً شديداً ومعهما الذرية، فبعثا رسولاً إلى العراق يخبر بما هما فيه، فخرج إليهما أربعة آلاف، فيهم ثلاثة رؤساء:(12/190)
عطية بن سعيد، وابن هانئ، وأبو عبد الله الجدلي، فخرجوا من الكوفة، فبعث والي الكوفة في أثرهم خمس مئة ليردوهم، فأدركوهم بواقصة، فامتنعوا منهم، فانصرفوا راجعين، فمروا وقد أخفوا السلاح حتى انتهوا إلى مكة لا يعرض لهم أحد، وإنهم ليمرون على مسالح ابن الزبير ما يعرض لهم أحد، فدخلوا المسجد فسمع بهم ابن الزبير حين دخلوا فدخل منزله، وكان قد ضيق على ابن عباس وابن الحنفية، وأحضر الحطب يجعله على أبوابها يحرقهما أو يبايعان. فهم على تلك الحال حتى جاء هؤلاء العراقيون فمنعوهما حتى خرجا إلى الطائف، وخرجوا معهم وهم أربعة آلاف، وكانوا هناك حتى توفي عبد الله بن عباس فحضروا موته بالطائف ثم لزموا ابن الحنفية فكانوا معه في الشعب، وامتنعوا من ابن الزبير. وكان يقال لعبد الله بن الزبير: عائذ بيت الله.
قالت أم هاشم زجلة بنت منظور ابن زبان الفزارية للحجاج حين خطبها وردته:
أبعد عائذ بيت الله تخطبني ... جهلاً جهلت وغب الجهل مذموم
فاذهب إليك فإني غير ناكحةٍ ... بعد ابن أسماء ما استن الدياميم
وقال عمرو بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل:
فإن ينج منها عائذ البيت سالماً ... فما نالنا منكم وإن شفنا جلل
وزعموا أن الذي دعا عبد الله بن الزبير إلى التعوذ بالبيت شيء سمعه من أبيه حين سار من مكة إلى البصرة، قال: التفت الزبير إلى الكعبة بعدما ودع، وتوجه يريد الركوب، ثم أقبل على ابنه عبد الله بن الزبير ثم قال: أما والله ما رأيت مثلها لطالب رغبة، أو خائف رهبة، وكان سبب تعوذ الزبير بها موت معاوية.(12/191)
وقيل إن الحسين وابن الزبير خرجا جميعاً وسلكا طريق الفرع حتى مروا بالجثجاثة وبها جعفر بن الزبير قد ازدرعها وغمز عليهم بعير من إبلهم فانتهوا إلى جعفر. فلما رآهم قال: أمات معاوية؟ قال له ابن الزبير: نعم. انطلق معنا وأعطنا أحد جمليك، وكان ينضح على جملين له فقال جعفر متمثلاً:
إخوتا لابتعدوا أبداً ... وبلى والله قد بعدوا
فقال ابن الزبير - وتطير منها - بفيك التراب، فخرجوا جميعاً حتى قدموا مكة. فأما الحسين فخرج من مكة يوم التروية.
قالوا: ولما خرج حسين بن علي إلى العراق لزم ابن الزبير الحجر ولبس المعافري، وجعل يحرض الناس على بني أمية. وبلغ يزيد ذلك فوجد عليه، فقال ابن الزبير: أنا على السمع والطاعة لا أبدل ولا أغير، ومشى إلى يحيى بن حكيم بن صفوان بن أمية الجمحي وهو والي مكة ليزيد بن معاوية فبايعه له على الخلافة. فكتب بذلك يحيى إلى يزيد فقال: لا أقبل هذا منه حتى يؤتى به وثاق، في جامعةٍ فقال ابنه معاوية بن زيد: يا أمير المؤمنين، ادفع الشر عنك ما اندفع، فإن ابن الزبي رجل لحز لجوج، ولا يطيع بهذا أبداً، وإن تكفر عن يمينك، وتلهى منه، حتى تنظر ما يصير إليه أمره أفضل، فغضب يزيد وقال: إن في ذلك لعجباً. قال: فادع عبد الله بن جعفر فسله عما أقول وتقول، فدعا عبد الله بن جعفر فذكر له قولهما، فقال عبد الله: أصاب أبو ليلى، ووفق فأبى يزيد أن يقبل ذلك وعزل الوليد بن عتبة عن المدينة، وولاها عمرو بن سعيد بن العاصي، وأرسل إليه: أن أمير المؤمنين يقسم بالله لا يقبل من ابن الزبير شيئاً حتى يؤتى به في(12/192)
جامعة. فعرضوا ذلك على ابن الزبير فأبى، فبعث يزيد بن معاوية الحصين بن نمير وعبد الله بن عضاه الأشعري بجامعة إلى ابن الزبير يقسم له بالله لا يقبل منه إلا أن يؤتى به فيها، فمر بالمدينة فبعث إليه مروان معهما عبد العزيز بن مروان يكلمه في ذلك ويهون عليه الأمر فقدموا عليه مكة فأبلغوه يمين يزيد بن معاوية ورسالته، وقال له عبد العزيز بن مروان: إن أبي أرسلني إليك عنايةً بأمرك، وحفظاً لحرمتك، فأبر يمين أمير المؤمنين فإنما يجعل عليك جامعة فضة أو ذهب وتلبس عليه برنساً فلا تبدو إلا أن يسمع صوتها، فكتب ابن الزبير إلى مروان يجزيه خيراً ويقول: قد عرفت عنايتك ورأيك، فأما هذا فإني لا أفعله أبداً، فليكفر يزيد عن يمينه أو يدع، وقال ابن الزبير: اللهم إني عائذ ببيتك الحرام وقد عرضت عليهم السمع والطاعة، فأبوا إلا أن يخلوا بي، ويستحلوا مني ما حرمت. فمن يومئذ سمي العائذ. وأقام بمكة لا يعرض لأحد ولا يعرض له أحد. فكتب يزيد بن معاوية إلى عمر بن سعيد أن يوجه إليه جنداً فسأل عمرو: من أعدى الناس لعبد الله بن الزبير؟ فقيل: أخوه عمرو بن الزبير. فذكر قصةً توجيهه إلى ابن الزبير وسيأتي ذلك في ترجمة عمرو بن الزبير.
وعزل يزيد بن معاوية عمرو بن سعيد عن المدينة، وولاها الوليد بن عتبة ثم عزله وولى عثمان بن محمد بن أبي سفيان، فوثب عليه أهل المدينة وأخرجوه. وكانت وقعة الحرة، وكانت الخوارج قد أتته وأهل الأهواء كلهم وقالوا: عائذ بيت الله. وكان شعاره: لا حكم إلا لله. ولم يزل على ذلك بمكة. وحج بالناس عشر سنين أولها سنة اثنتين وستين وآخرها سنة اثنتين وسبعين.
ولما توفي يزيد بن معاوية ودعا ابن الزبير من يومئذ إلى نفسه، فبايع الناس له على الخلافة وسمي أمير المؤمنين، وترك الشعار الذي كان عليه، ودعاءه عائذ بيت الله، ولا حكم إلا لله. وولى العمال: فولى المدينة مصعب بن الزبير وبايع له الناس. وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة إلى البصرة فبايعوه. وبعث عبد الله بن مطيع إلى الكوفة فبايعوه. وبعث عبد الرحمن بن عتبة بن جحدم الفهري على مصر أميراً فبايعوه، وبعث واليه إلى اليمن فبايعوه. وبعث واليه إلى خراسانفبايعوه. وبعث الضحاك بن قيس الفهري إلى(12/193)
الشام والياً فبايع له عامة أهل الشام، واستوسقت له البلاد كلها ما خلا طائفة من أهل الشام كان بها مروان بن الحكم وأهل بيته.
كتب يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن الزبير: إني قد بعثت إليك سلسلة فضة وقيداً من ذهب، وجامعةً من فضة وحلفت لتأتيني في ذلك فألقى الكتاب وقال:
لا ألين لغير الحق أسأله ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
وعن هشام بن عروة قال: أول من كسا الكعبة الديباج عبد الله بن الزبير، وإن كان ليطيبها حتى يجد ريحها من دخل الحرم. وكانت كسوتها المسوح والأنطاع.
وحج ابن الزبير ثمان حجج ولاء: من سنة أربع وستين إلى سنة إحدى وسبعين. ثم حضر الموسم سنة اثنتين وسبعين، فحج ابن الزبير بالناس ولم يقفوا الموقف. وحج الحجاج بن يوسف بأهل الشام، ولم يطوفوا بالبيت. وقتل سنة ثلاث وسبعين.
ولما جرد المهدي الكعبة كان فيما نزع عنها كسوة من ديباج مكتوب عليه: لعبد الله أبي بكر أمير المؤمنين، وكان ابن الزبير يكنى أبا بكر، ويكنى أبا خبيب.
قال عمر بن قيس: كان لابن الزبير مئة غلام منهم بلغة أخرى. وكان ابن الزبير يكلم كل واحد منهم بلغته. وكنت إذا نظرت إليه في أمر دنياه قلت: هذا رجل لم يرد الله طرفة عين، وإذا نظرت إليه في أمر آخرته قلت: هذا رجل لم يرد الدنيا طرفة عين.(12/194)
قال أبو الضحى: رأيت على رأس ابن الزبير من المسك ما لو كان لي رأس مالي.
وعنه قال: رأيت في مفرق ابن الزبير عشية عرفة من الطيب ما لو كان لرجل كان رأس مال.
وعن طاوس قال: دخل ابن الزبير على امرأته بنت الحسن، فرأى ثلاثة مثل - يعني: أفرشة - في بيته فقال: هذا لي، وهذا لابنة الحسن، وهذا للشيطان، فأخرجوه.
وكان ابن عباس يكثر أن يعنف ابن الزبير بالبخل، فلقيه يوماً، فعيره، فقال له ابن الزبير: ما أكثر ما تعيرني يا بن عباس قال: إن أفعل فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن المؤمن لا يشبع وجاره وابن عمه جائع.
وفي رواية: ليس المؤمن الذي يبيت وجاره طاوٍ.
وفي رواية: ليس بالمؤمن الذي يبيت شبعان وجاره إلى جنبه جائع.
وعن عثمان بن عفان قال: قال له عبد الله بن الزبير حين حصر: إن عندي نجائب قد أعددتها لك فهل لك أن تحول إلى مكة فيأتيك من أراد أن يأتيك؟ قال: لا، إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يلحد بمكة كبش من قريش اسمه عبد الله. عليه مثل نصف أوزار الناس.
وعن سعيد قال: أتى عبد الله بن عمرو عبد الله بن الزبير فقال: يا بن الزبير، إياك والإلحاد في(12/195)
حرم الله تبارك وتعالى، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنه سيلحد فيه رجل من قريش لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت، فانظر لا تكونه.
وفي رواية فقال: يا بن الزبير، إياك والإلحاد في حرم الله عز وجل، فإني أشهد لسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يحلها ويحل به رجل من قريش لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها. قال: فانظر أن لا تكونه يا بن عمرو، فإنك قد قرأت الكتب وصحبت الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فإني أشهدك أن هذا وجهي إلى الشام مجاهداً.
وعن سلمان الفارسي قال: ليحرقن هذا البيت على يدي رجل من آل الزبير.
وعن منذر الثوري قال: قال ابن الحنفية: اللهم، إنك تعلم أني كنت أعلم مما علمتني أن ابن الزبير لا يخرج منها إلا قتيلاً يطاف برأسه في الأسواق.
وعن هشام بن عروة قال: كان أول ما أفصح به عمي عبد الله بن الزبير وهو صغير: السيف، فكان لا يضعه من فيه، فكان الزبير بن العوام إذا سمع ذلك منه يقول: أم والله ليكونن لك منه يوم ويوم وأيام.
وعن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال:
إني لفوق أبي قبيس حين المنجنيق على ابن الزبير، فنزلت، فنزلت صاعقة كأني أنظر إليها تدور كأنها خمار أحمر، قد حرقت أصحاب المنجنيق نحواً من خمسين رجلاً.(12/196)
قال سفيان: كان ابن الزبير يشتد بالسيف وهو ابن ثلاث وسبعين كأنه غلام.
وكان ابن الزبير يقاتل الحجاج بمكة فقالت له امرأته: ألا أخرج فأقاتل معك؟ قال: لا. وكان الحجاج يقاتله وهو في المسجد الحرام، فجعل ابن الزبير يقول:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول
قال هشام بن عروة: كان ابن الزبير يحمل عليهم حتى يخرجهم من الأبواب، يعني: أبواب مسجد الحرام وهو يقول:
لو كان قرني واحداً كفيته
ثم يقول:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا يقطر الدم
قال هشام بن عروة: رأيت ابن الزبير يرمى بالمنجنيق فلا يلتفت، ولا يرعد صوته. قال: وربما مرت الشظية منه قريباً من نحره.
قال: ورأيت الحجر من المنجنيق يهوي حتى أقول: لقد كاد يأخذ لحية عبد الله بن الزبير. فقال له أبي: ابن أم والله، إن كاد ليأخذ لحيتك، فقال عبد الله: دعني يا بن أم، فوالله ما هي إلا هيت حتى كأن الإنسان لم يكن فقال أبي، وأقبل علينا بوجهه: ألا إني والله ما أخشى عليك إلا من تلك الهيت.
قال هشام بن عروة: سمعت عمي عبد الله بن الزبير يقول: والله، إن أبالي إذا وجدت ثلاث مئة يصبرون صبري لو أجلب علي أهل الأرض.(12/197)
قال المنذر بن جهم الأسلمي: رأيت ابن الزبير يوم قتل وقد خذله من كان معه خذلاناً شديداً، وجعلوا يخرجون إلى الحجاج، وجعل الحجاج يصيح: أيها الناس، علام تقتلون أنفسكم؟ من خرج إلينا فهو آمن، لكم عهد الله وميثاقه، وفي حرم الله وأمنه، ورب هذه البنية لا أغدر بكم، ولا لنا حاجة في دمائكم. قال: فجعل الناس ينسلون حتى خرج إلى الحجاج من أصحاب ابن الزبير نحو من عشرة آلاف. فلقد رأيته وما معه.
قال إسحاق بن أبي إسحاق: أنا حاضر قتل ابن الزبير يوم قتل في المسجد الحرام: جعلت الجيوش تدخل من أبواب المسجد. فكلما دخل قوم من باب حمل عليهم وحده حتى يخرجهم. فبينا هو على تلك الحال إذ جاءت شرفة من شرفات المسجد فوقعت على رأسه فصرعته وهو يتمثل بهذه الأبيات: يقول:
أسماء يا أسماء لا تبكيني ... لم يبق إلا حسبي وديني
وصارم لانت به يميني
قال عباس بن سهل بن سعد: سمعت ابن الزبير يقول: ما أراني اليوم إلا مقتولاً، ولقد رأيت في الليلة هذه كأن السماء فرجت لي فدخلتها، فقد والله مللت الحياة وما فيها، ولقد قرأ في الصبح يومئذ متمكناً " ن والقلم " حرفاً حرفاً، وإن سيفه لمسلول إلى جنبه، وإنه ليتم الركوع والسجود كهيئة قبل ذلك.
وقال يوم قتل: والله لقد مللت الحياة، ولقد جاوزت سن أبي. هذه لي ثنتان وسبعون سنة، اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي، وجاهدت فيك عدوك فأثبني ثواب المجاهدين. فقتل ذلك اليوم.
قال مخرمة بن سليمان الوالبي:
دخل عبد الله بن الزبير على أمه حين رأى من الناس ما رأى من خذلانهم إياه،(12/198)
فقال: يا أمه، خذلني الناس حتى ولدي وأهلي فلم يبق معي إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطوني ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ فقالت أمه: أنت والله يا بني أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تدعو فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك فيلعب بك غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك. قال: فدنا ابن الزبير فقبل رأسها فقال: هذا والله رأيي. والذي قمت به داعياً إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله، ولكني أحببت أعلم رأيك، فتزيديني قوة وبصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا، لا يشتد جزعك علي، سلمي لأمر الله فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عمل بفاحشة، ولم يجر في حكم، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم، ولا معاهد، ولم يبلغني عن عمالي فرضيته بل أنكرته، ولم يكن من شيء آثر عندي من رضي ربي. اللهم، إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكني أقوله تعزية لأمي لتسلو به عني، فقالت له أمه: إني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسناً إن تقدمتني وإن تقدمتك وفي نفسي حوجاء حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمرك. قال: جزاك الله يا أمه خيراً، فلا تدعي الدعاء لي بعد قتلي. قالت: لا أدعه، لست بتاركة ذلك أبداً. فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. وخرج. وقالت أمه: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب، والظمأ في هواجر المدينة، ومكة، وبره بأبيه وبي. اللهم إني سلمت فيه لأمرك، ورضيت فيه بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين.
قال عبد الله مولى أسماء: لما قتل عبد الله خرجت إليه أمه حتى وقفت عليه وهي على دابة، فأقبل الحجاج في أصحابه فسأل عنها فأخبر بها، فأقبل حتى وقف عليها فقال: كيف رأيت، نصر الله الحق وأظهره؟ قالت: ربما أديل الباطل على الحق. وإنك بين فرثها والجية. قال: إن ابنك(12/199)
ألحد في هذا البيت وقال الله: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم، قطع السبيل. قالت: كذبت، كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة وسر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحنكه بيده، فكبر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحاً به، وقد فرحت أنت وأصحابك بمقتله، فمن كان فرح به يومئذ خير منك ومن أصحابك وكان مع ذلك براً بالوالدين، صواماً، قواماً بكتاب الله عز وجل، معظماً لحرم الله، يبغض أن يعصى الله، أشهد على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسمعته يقول: سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما أشر من الأول، وهو مبير وهو أنت، فانكسر الحجاج، وانصرف. وبلغ ذلك عبد الملك فكتب إليه يلومه في مخاطبته أسماء. وقال: مالك ولابنة الرجل الصالح؟! قال أبو عون: كان عبد الله بن الزبير، قد قشم جلده على عظمه. كان يصوم الدهر فإذا أفطر أفطر على لبن الإبل. وكان يمكث الخمس والست لا يذهب لحاجته، وكان يشرب المسك. وكان بين عينيه سجدة مثل مبرك البعير. فلما قتله الحجاج صلبه على الثنية التي بالحجون يقال لها كذا؛ فأرسلت أسماء إليه: قاتلك الله علام تصلبه؟ فقال: إني استبقت أنا وابنك إلى هذه الخشبة فكانت اللنحه به. فأرسلت إليه تستأذنه في أن تكفنه فأبى وكتب إلى عبد الملك يخبره بما صنع، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع ويقول: ألا خليت أمه فوارته، فأذن لها الحجاج فوارته بالمقبرة بالحجون.
وحدث رياح بن مسلم عن أبيه قال: لقد رأيتهم مرة ربطوا هرة ميتة إلى جنبه، فكان ريح المسك يغلب على ريحها.
وتوفيت أمه بعده بأشهر بالمدينة.
ولما مات معاوية تثاقل عبد الله بن الزبير عن طاعة يزيد، وأظهر شتمه فبلغ يزيد،(12/200)
فأقسم لا يؤتى به إلا مغلولاً وإلا أرسل إليه، فقيل لابن الزبير: ألا نصنع لك أغلالاً من فضة تلبس عليها الثوب وتبر قسمه، فالصلح أجمل بك. قال: فلا أبر والله قسمه ثم قال:
ولا ألين لغير الحق أسأله ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
ثم قال: والله لضربة بسيف في عز أحب إلي من ضربة بسوط في ذل، ثم دعا إلى نفسه وأظهر الخلاف ليزيد بن معاوية، فوجه إليه يزيد مسلم بن عقبة المري في جيش أهل الشام، وأمره بقتال أهل المدينة، فإذا فرغ سار إلى مكة. فدخل مسلم المدينة، وهرب منه يومئذ بقايا أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعبث فيها، وأسرف في القتل، ثم خرج. فلما كان في بعض الطريق مات. واستخلف حصين بن نمير الكندي فقال له: يا بن بردعة الحمار احذر خدائع قريش ولا تعاملهم إلا بالثقاف ثم القطاف، فمضى حصين إلى مكة فقاتل بها ابن الزبير أياماً، وضرب ابن الزبير فسطاطاً في المسجد فكان فيه نساء يسقين الجرحى ويداوينهم، ويطعمن الجائع، ويكتمن إليهن المجروح فقال حصين: ما يزال يخرج علينا من ذلك الفسطاط أسد كأنما يخرج من عرينه فمن يكفينيه؟ فقال رجل من أهل الشام: أنا، فلما جن الليل وضع رمحه ثم ضرب فرسه فطعن الفسطاط فالتهب ناراً والكعبة يومئذ مؤزرة بالطنافس. وفي أعلاها الحبرة، فطارت الريح باللهب على الكعبة حتى احترقت، واحترق فيها يومئذ قرنا الكبش الذي فدى به إسحاق.
قال: وبلغ حصين موت يزيد بن معاوية فهرب حصين. فلما مات يزيد دعا مروان بن الحكم إلى نفسه فأجابه أهل حمص وأهل الأردن وفلسطين، فوجه إليه ابن الزبير الضحاك بن قيس الفهري في مئة ألف فالتقوا بمرج راهط، ومروان يومئذ في خمسة آلاف من بني أمية ومواليهم وأتباعهم من أهل الشام، فقال مروان لمولى له يقال له كرة: احمل على هؤلاء؟ لكثرتهم. قال: هم بين مكره ومستأجر. احمل عليهم لا أم لك، فيكفيك الطعان الماضغ الجندل، هم يكفونك أنفسهم،(12/201)
إنما هم عبيد الدينار والدرهم، فحمل عليهم فهزمهم، وقتل الضحاك بن قيس، وانصدع الجيش. ففي ذلك يقول زفر بن الحارث:
لعمري لقد أبقيت وقيعة راهط ... لمروان صدعاً بيناً متنائياً
أبيني سلاحي لا أبا لك إنني ... أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
وفيه يقول أيضاً:
أفي الحق أما بحل وابن بحدل ... فيحيا وأما ابن الزبير فيقتل
كذبتم وبيت الله لا تقتلونه ... ولما يكن يوم أغر محجل
ولما يكن للمشرفية فيكم ... شعاع كنور الشمس حين ترجل
ثم مات مروان، فدعا عبد الملك إلى نفسه، وقام فأجابه أهل الشام فخطب على المنبر وقال: من لابن الزبير منكم؟ فقال الحجاج: أنا أمير المؤمنين، فأسكته ثم عاد فأسكته فقال: أنا أمير المؤمنين، فإني رأيت في النوم أني انتزعت جبته فلبستها، فعقد له في الجيش إلى مكة حتى ورودها على ابن الزبير فقاتله بها، فقال ابن الزبير لأهل مكة: احفظوا هذين الجبلين، فإنكم لن تزالوا بخير أعزة ما لم يظهروا عليهما. قال: فلم يلبثوا أن ظهر الحجاج ومن معه على أبي قبيس ونصب عليه المنجنيق، فكان يرمي به ابن الزبير ومن معه في المسجد. فلما كان في الغداة التي قتل فيها ابن الزبير دخل ابن الزبير على أمه أسماء بنت أبي بكر وهي يومئذ بنت مئة سنة لم تسقط لها سن ولم يفسد لها بصر، فقالت له: يا عبد الله، ما فعلت في حربك؟ قال: بلغوا مكان كذا وكذا، قال: وضحك ابن الزبير، فقال: إن في الموت راحة. فقالت: يا بني لعلك تتمناه لي، ما أحب أن أموت حتى آتي على أحد طرفيك. إما أن تملك فتقر بذلك عيني، وإما أن تقتل فأحتسبك، ثم ودعها فقالت له: يا بني، إياك أن تعطي خصلة من دينك مخافة القتل، وخرج عنها،(12/202)
فدخل المسجد وقد جعل بيضة على الحجر الأسود يتقي أن يصيبه المنجيق، وأتى ابن الزبير آتٍ وهو جالس عند الحجر فقال له: ألا نفتح لك الكعبة فتصعد فيها؟ فنظر إليه عبد الله ثم قال: من كل شيء تحفظ أخاك إلا من نفسه يعني: من أجله. وهل للكعبة حرمة ليست لهذا المكان، والله لو وجدوكم متعلقين بأستار الكعبة لقتلوكم، فقيل له: ألا تكلمهم في الصلح؟ فقال: أو حين صلح هذا؟ والله لو وجدوكم في جوفها لذبحوكم جميعاً ثم قال:
ولست بمبتاع الحياة بسبةٍ ... ولا مرتقٍ من خشية الموت سلما
أنافس سهماً إنه غير بارحٍ ... ملاقي المنايا أي صرف تيمما
ثم أقبل على آل الزبير يعظهم ويقول: ليكن أحدكم سيفه كما يكن وجهه، لا ينكسر سيفه فيدفع عن نفسه بيده كأنه امرأة، والله ما لقيت زحفاً قط إلا في الرعيل الأول، وما ألمت جرحاً قط إلا أن يكون ألم الدواء. قال: فبينا هم كذلك إذ دخل عليهم نفر باب بني جمح فيهم أسود. فقال: من هؤلاء؟ قيل: أهل حمص، فحمل عليهم ومعه من شيبان، فأول من لقيه الأسود فضربه بسيفه حتى أطن رجله فقال له الأسود: أخ، يا بن الزانية، فقال له ابن الزبير: اخس يا بن حام. أسماء زانية؟! ثم أخرجهم من المسجد وانصرف. فإذا بقوم قد دخلوا من باب بني سهم فقال: من هؤلاء؟ فقيل: أهل الأردن، فحمل عليهم وهو يقول:
لا عهد لي بغارة مثل السيل ... لا ينجلي غبارها حتى الليل
قال: فأخرجهم من المسجد. فإذا بقوم قد دخلوا من باب بني مخزوم، فحمل عليهم وهو يقول:
لو كان قرني واحداً كفتيه(12/203)
قال: وعلى ظهر المسجد من أعوانه من يرمي عدوه بالآجر وغيره، فحمل عليهم فأصابته آجرة في مفرقه حتى فلقت رأسه فوقف قائماً وهو يقول:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
قال: ثم وقع فأكب عليه موليان له وهما يقولان:
العبد يحمي ربه ويحتمي
ثم سيروا إليه فحزوا رأسه.
قالوا: وحصر ابن ليلة هلال ذي العقدة سنة اثنتين وسبعين، ستة أشهر وسبع عشرة ليلة، وقتل يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وقدم على ابن الزبير حبشان من أرض الحبشة يرمون بالمزاريق فقدمهم لأهل الشام، فجعلوا يرمون بمزاريقهم فلا يقع لهم مزراق إلا في إنسان، فقتلوا من أهل الشام قتلى كثيرة، ثم حمل عليهم أهل الشام حملة واحدة فانكشفوا، وكان مع ابن الزبير قوم من أهل مصر فقاتلوا معه قتالاً شديداً، وكانوا خوارج حتى ذكروا عثمان فتبرؤوا منه فبلغ ابن الزبير فناكرهم وقال: ما بيني وبين الناس إلا باب عثمان فانصرفوا عنه، ونصب الحجاج المنجنيق يرمي بها أحث الرمي، وألح عليهم بالقتال من كل وجه، وحبس عنهم الميرة، وحصرهم أشد الحصار حتى جهد أصحاب ابن الزبير وأصابتهم مجاعة شديدة.
وحشر الحجاج أهل الشام يوماً وخطبهم وأمرهم بالطاعة، وأن يرى أثرهم اليوم فإن الأمر قد اقترب، فأقبلوا ولهم زجل وفرح. وسمعت ذلك أسماء بنت أبي بكر الصديق أم عبد الله بن الزبير فقالت لعبد الله مولاها: اذهب فانظر ما فعل الناس، إن هذا اليوم يوم عصيب، اللهم امض ابني على بينة، فذهب عبد الله ثم رجع فقال: رأيت أهل الشام قد(12/204)
أخذوا بأبواب المسجد، وهم من الأبواب إلى الحجون، فخرج أمير المؤمنين يخطر بسيفه وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر ... إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
فدفعهم دفعة تراكبوا منها فوقعوا على وجوههم، وأكثر فيهم القتل ثم رجع إلى موضعه. قالت: من رأيت معه؟ قال: معه أهل بيته ونفر قليل. قالت أمه: خذلوه وأحبوا الحياة، ولم ينظروا لدينهم ولا لأحسابهم. ثم قامت تصلي وتدعو وتقول: اللهم، إن عبد الله بن الزبير كان معظماً لحرمتك، كريه إليه أن تعصى، وقد جاهد فيك أعداءك، وبذل مهجة نفسه رجاء ثوابك، اللهم، فلا تخيبه، اللهم، ارحم ذلك السجود والنحيب والظمأ في تلك الهواجر. اللهم، لا أقوله تزكية، ولكن الذي أعلم وأنت أعلم به، اللهم، وكان براً بالوالدين. قال: ثم جاء عبد الله بن الزبير فدخل على أمه وعليه الدرع والمغفر فدخل عليها فسلم ثم دنا فتناول يدها فقبلها وودعها، فقالت: هذا وداع، فلا تبعد إلا من النار. قال ابن الزبير: نعم جئت مودعاً لك، إني لأرى هذا آخر يوم من الدنيا يمر بي، واعلمي يا أمه أني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي قالت: صدقت فامض على بصيرتك، ولا تمكن ابن أبي عقيل منك، فادن مني أودعك، فدنا منها فعانقها فمست الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد فقال: ما لبست الدرع إلا لأشد منك قالت: فإنه لا يشد مني بل يخالفني، فنزعها ثم أدرج كمه وشد أسفل قميصه وجبة خز تحت القميص، وأدخل أسفلها في المنطقة وأمه تقول: البس ثيابك مشمرة. قال: بلى هي على عهدك. قالت: ثبتك الله، فانصرف من عندها وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر ... إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
ففهمت قوله فقالت: تصبر والله إن شاء الله تعالى أليس أبوك الزبير؟ قال: ثم لاقاهم فحمل عليهم حملة هزمهم حتى أوقفهم خارجاً من الباب، ثم حمل عليه أهل حمص فحمل عليهم فمثل ذلك.(12/205)
قالت ريطة بنت عبد الله: كنت عند أسماء إذ جاء ابنها عبد الله فقال: إن هذا الرجل قد نزل بنا، وهو رجل من ثقيف يسمى الحجاج، في أربعين ألفاً من أهل الشام، وقد نالنا نبلهم ونشابهم وقد أرسل إلي يخيرني بين ثلاث: بين أن أهرب في الأرض فأذهب حيث شئت، وبين أن أضع يدي في يده فيبعث بي إلى الشام موقراً حديداً، وبين أن أقاتل حتى أقتل. قالت: أي بني عش كريماً ومت كريماً، فإني سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن من ثقيف مبيراً وكذاباً. قالت: فذهب فاستند إلى الكعبة حتى قتل.
وجاء عمارة بن عمرو بن حزم فقال: لو ركبت رواحلك فنزلت برمل الحرك. فقال ابن الزبير: فما فعلت القتلى بالحرم؟! والله، لئن كنت أوردتهم ثم فررت عنهم لبئس الشيخ أنا في الإسلام.
قال نافع مولى بني أسد: لما كان ليلة الثلاثاء قال الحجاج لأصحابه: والله إني لأخاف أن يهرب ابن الزبير، فإن هرب فما عذرنا عند خليفتنا؟ فبلغ ابن الزبير قوله فتضاحك وقال: إنه ظن بي ظنه بنفسه، إنه فرار في الموطن وأبوه قبله.
ولما ارتجز ابن الزبير قوله:
لو كان قرني واحداً كفيته
قال ابن صفوان: إي والله. وألف.
وقيل: إنه لما أصابته الآخرة أصابته في قفاه، فوقذته، فارتعش ساعة ثم وقع لوجهه، ثم انتهض فلم يقدر على القيام، وابتدره الناس، وشد عليه رجل من أهل الشام وقد ارتعش ابن الزبير فهو متوكئ على مرفقه الأيسر، فضرب الرجل فقطع رجليه(12/206)
بالسيف، وجعل يضربه وما يقدر ينهض حتى كثروه، ودففوا عليه، ولقد كان يقاتل وإنه لمطروح يخدم بالسيف كل من دنا منه، فصاحت امرأة من الدار.
وفي حديث آخر بمعناه: وصاحت مولاة له مجنونة: وا أمير المؤمنيناه وقد رأته حيث هوى، فأشارت لهم إليه فقيل: وإن عليه ثياب خز، وجاء الخبر الحجاج فسجد وسار حتى وقف عليه هو وطارق بن عمرو فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا، فقال الحجاج: تمدح من خالف أمير المؤمنين! قال طارق: نعم هو أعذر لنا، ولولا هذا ما كان لنا عذر، إنا محاصروه، وهو في غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ سبعة أشهر ينتصف منا بل بفضل علينا في كل ما التقينا، فبلغ كلامهما عبد الملك بن مروان فصوب طارقاً.
ولما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير وهو متعلق بأستار الكعبة ثم شق بطنه ثم قال: املؤوا بطن عبد الله حجارة..الحديث.
وعن ابن سيرين قال: قال عبد الله بن الزبير: ما شيء يحدثنا به كعب إلا قد أتى علي ماقال، إلا قوله: فإن ثقيف تقتلني، وهذا رأسه بين يدي، يعني: المختار. قال ابن سيرين: ولا يشعر أن أبا محمد قد خبئ له، يعني: الحجاج.
وعن مجاهد قال: قال ابن عمر لغلامه: لا تمر على ابن الزبير، فغفل الغلام فمر به فرفع رأسه فرآه فقال: رحمك الله، ما علمتك إلا صواماً قواماً وصولاً للرحم، أما والله إني لأرجو مع مساوئ ما قد علمت من الذنوب ألا يعذبك الله. قال مجاهد: ثم التفت إلي فقال: حدثني أبو بكر الصديق أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من يعمل سوءاً يجز به في الدنيا.
وفي حديث أخر أنه قال: رحمك الله، أبا خبيب إن كنت، وكنت، ولقد سمعت أباك الزبير بن العوام(12/207)
يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يعمل سوءاً يجز به في الدنيا أو في الآخرة. فإن يك هذا بذاك فهه فهه. مرتين.
وقيل إنه قال له: لقد أفلحت قريش إن كنت شر أهلها.
وقيل إنه قال له: يرحمك الله فوالله إن قوماً كنت أخسهم لقوم صدق.
قال أبو العالية:
إنه رأى ابن عمر واقفاً يستغفر لابن الزبير وهو مصلوباً فقال: إن كنت والله ما عملت صواماً قواماً تحب الله ورسوله، فانطلق رجل إلى الحجاج فقال: هذا ابن عمر واقف يستغفر لابن الزبير، فقال لرجل من أهل الشام: قم فائتني به فقام الشامي طويلاً فقال: أصلح الله الأمير، تأذن لي أن أتكلم؟ فقال: تكلم. فقال: إنما أعين الناس كافة إلى هذا الرجل، فإن أنت قتلته خشيت أن تكون فتنة لا تطفأ فقال: اجلس وأرسل إليه مكانه بعشرة آلاف، فقال: أرسل بهذه الأمير لتستعين بها فقبلها. ثم سكت عنه، فأرسل إليه إنا قد أنفقنا منها طائفة وعندنا طائفة، نجمعها لك أحد اليومين ثم نبعث بها. فأرسل إليه: استنفع بها فلا حاجة لنا فيها.
حدث أبو المحياة عن أبيه قال: دخلت مكة بعدما قتل ابن الزبير بثلاثة أيام وهو مصلوب، فجاءته أمه، عجوز طويلة مكفوفة البصر، فقالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ قال: فقال الحجاج: المنافق. قالت: لا والله، ما كان منافقاً، إن كان لصواماً، براً. قال: انصرفي فإنك عجوز قد خرفت. قالت: لا والله، ما خرفت منذ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يخرج من ثقيف كذاب ومبير، فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت المبير. قال: فقلت لأبي المحياة: أما الكذاب رأيناه أليس يعني المختار؟ قال: لا أراه إلا إياه.
ورأى عبد الله بن عمرو بن العاص عبد الله بن الزبير مصلوباً فقال: طوبى لأمة أنت(12/208)
شرها. ورآه أبو عبد الله بن عمر فقال: ويل لابن الزبير ولمروان ما أهريق في سببهما من الدم.
قال عامر بن عبد الله بن الزبير: مات أبي فما سألت الله حولاً إلا العفو عنه.
كان أبان بن عثمان حين ولي المدينة في خلافة عبد الملك بن مروان أراد نقض ما كان عبد الله قضى به، فكتب أبان عثمان في ذلك إلى عبد الملك فكتب إليه عبد الملك: إنا لم ننقم على ابن الزبير ما كان يقضي به، ولكن نقمنا عليه ما كان أراد من الإمارة. فإذا جاءك كتابي هذا فأمض ما كان قضى به ابن الزبير، ولا ترده فإن نقضنا القضاء عناء معن.
وانتشرت بيعة عبد الله بن الزبير في الحجاز واليمن والعراق والمشرق وعامة بلاد الشام والمغرب وفرق عماله في الأمصار، وسير بني أمية من المدينة إلى الشام، وفيهم يومئذ مروان بن الحكم، فقدموا الشام، ونزل مروان الجابية، واجتمع إليه من كان هناك من بني أمية وشيعتهم، فبايعوه بالخلافة.
قال نافع مولى ابن عمر: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة عشر سنين، ثم توفي. فكان أبو بكر سنتين وسبعة أشهر وكان عمر عشر سنين وخمسة أشهر، وكان عثمان ثلاث عشرة سنة، فكانت خلافة علي وفتنة معاوية خمس سنين، ثم ولي معاوية عشرين سنة إلا شهراً ثم هلك، وكان يزيد بن معاوية أربع سنين إلا شهراً، ثم هلك، فقام ابن الزبير فكانت فتنة ابن الزبير تسع سنين ثم قتل على رأس ثلاث وسبعين إلا شهرين.
ثم استقام الناس لعبد الملك بن مروان.
وقال الحجاج بن يوسف: من يعذرني من ابن الزبير، ابن ثلاث وسبعين ينقز في الجبل تقزان الظبي؟(12/209)
وروي أن أسماء بنة أبي بكر غسلت عبد الله بن الزبير بعدما تقطعت أوصاله، وجاء الإذن في ذلك من عبد الملك بن مروان عند إباء الحجاج أن يأذن لها، وحنطته، وكفنته، وصلت عليه، وجعلت فيه شيئاً حين رأته يتفسخ إذا مسته. قال مصعب بن عبد الله: حملته أسماء فدفنته بالمدينة في دار صفية بنت حيي، ثم زيدت دار صفية في المسجد، فابن الزبير مدفون في المسجد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر.
قال مالك بن دينار: كانوا يسمعون كل ليلة زمن قتل ابن الزبير قائلاً يقول:
لبيك على الإسلام من كان باكياً ... فقد أوشكو هلكي وما قدم العهد
وأدبرت الدنيا وأدبر خيرها ... وقد ملكها من كان يوقن بالوعد
فينتظرون فلا يجدون أحداً.
وقالت الشعراء فيه عدة مراثٍ، رحمة الله عليه.
قال عبد الأعلى ابن أخت المقعد: بلغني أن رجلاً من التابعين بإحسان، ورأى كأن القيامة قد قامت، فدعي عبد الله بن الزبير فأمر به إلى النار فجعل ينادي. فأين صلاتي وصومي؟ فنودي أن دعوه لصلاته وصومه. والله أعلم.
عبد الله بن الزبير بن سليم
ويقال ابن الأسلم
ابن الأعشى بن بجرة بن قيس بن منقذ بن طريف بن عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة أبو كثير - ويقال: أبو سعد - الأسدي.
شاعر معروف من أهل الكوفة، قدم دمشق وامتدح معاوية، وابنه يزيد، وابن ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية.(12/210)
والزبير بزاي مفتوحة وباء مفتوحة وباء مكسورة. وهو شاعر أهل الكوفة، وله أخبار مع عبد الله بن الزبير بن العوام، فمن لا يميز بينهما يجعلهما واحداً، وله أخبار مع الحجاج بن يوسف.
والزبير من أسماء الدواهي، وقيل: الزبير حماة البئر، وبه سمي الزبير، قال الشاعر:
وقد جرب الناس آل الزبير ... فلاقوا من آل الزبير الزبيرا
وقال عبد الله بن الزبير الشعر في أيام عثمان بن عفان. وهو القائل لما قتل عبيد الله بن زياد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة:
إن كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى هانئ في السوق وابن عقيل
تري جسداً قد هشم السيف وجهه ... ونضح دم قد سال كل مسيل
قال أبو عبيدة: جاء عبد الله بن الزبير الأسدي إلى عبد الله بن الزبير بن العوام فقال: يا أمير المؤمنين إن بيني وبينك رحماً من قبل فلانة هي أختنا - وقد ولدتكم - وأنا ابن فلان ابن فلان، ففلانة عمتي. فقال ابن الزبير: نعم، هذا كما ذكرت، وإن فكرت في هذا أصبت الناس بأسرهم يرجعون إلى أب واحد وإلى أم واحدة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن نفقتي قد نفدت فقال: ما كنت ضمنت لأهلك أنها تكفيك إلى أن ترجع لهم. قال: يا أمير المؤمنين، فإن ناقتي قد نقبت. قال أنجد بها يبرد خفها، وارقعها بسبت، واخصفها بهلب وسر عليها البردين. قال: يا أمير المؤمنين، إنما جئتك مستحملاً، ولم آتك مستوصفاً، لعن الله ناقة حملتني إليك. فقال ابن الزبير: أن وراكبها، ثم خرج وأنشأ يقول:(12/211)
أرى الحاجات عند أبي خبيب ... يعدن ولا أمية في البلاد
من الأعياص أو من آل حرب ... أغر كغرة الفرس الجواد
ومالي حين أقطع ذات عرق ... إلى ابن الكاهلية من معاد
فبلغ شعره هذا عبد الله بن الزبير فقال: لو علم أن لي أما أخس من عمته الكاهلية لنسبني إليها.
الكاهلية: هي زهرة بنت عمرو بن حنثر، أم خويلد بن أسد، جد ابن الزبير.
وعن محمد بن سيرين قال: قال رجل:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
فحبسه عثمان، وقال: أوعدني. وفي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي:
أقول لعبد الله لما لقيته ... أرى الأمر أمس هالكاً متشعبا
تخير فإما أن تزور ابن ضابئ ... عميراً وإما أن تزور المهلبا
فما إن أرى الحجاج يغمد سيفه ... مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا
هما خطتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حولياً من الثلج أشهبا
فحال ولو كانت خراسان خلتها ... عليه مكان السوق أو هي أقربا
قيل: إن الحجاج بن يوسف بعث عبد الله بن الزبير في بعث إلى الري فمات بها في خلافة عبد الملك. والله أعلم.(12/212)
عبد الله بن زريق
ويقال زريق مولى بني أمية قال
عبد الله بن زريق: عزاني الزهري فقال في تعزيته: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من امرئ مسلم تصيبه مصيبة تحزنه فيرجع إلا قال الله عز وجل لملائكته: أوجعت قلب عبدي فصبر واحتسب. اجعلوا ثوابه منها الجنة. قال: ومتى ما ذكر مصيبته فرجع إلا جدد الله له أجرها.
عبد الله بن زياد بن سليمان
ابن سمعان أبو عبد الرحمن القرشي المدني مولى أم سلمة قدم دمشق وحدث بها واستقضاه الوليد بن يزيد في عسكره.
حدث عبد الله بن زياد بن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أشرك بالله فليس بمحصن.
وحدث عن الزهري بسنده إلى أبي سريحة حذيفة بن أسيد صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بين يدي الساعة عشر آيات كالنظم في الخيط إذا سقط منها واحدة توالت: خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم، وفتح يأجوج ومأجوج، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها.. الحديث.
كذبه قوم وضعفوه.
وعن الوليد بن مسلم قال:
كتبت كتاباً عن ابن سمعان، فإنه لفي يدي إذ غلبتني عيني فنمت فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(12/213)
في النوم فقلت: يا رسول الله، هذا ابن سمعان حدثني عنك فقال: قل لابن سمعان يتق الله ولا يكذب علي. وحكي ذلك عن غير الوليد. والله أعلم.
عبد الله بن زيد بن عامر
ابن ناثل بن مالك بن عبيد بن علقمة بن سعد بن كبير بن غالب بن عدي بن بيهس بن طرود ابن قدامة بن جرم أبو قلابة الجرمي البصري.
أحد الأعلام.
قدم دمشق، وسكن داريا.
حدث أبو قلابة أن ثابت بن الضحاك حدثه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من حلف على ملةٍ غير الإسلام فهو كما قال. ليس على رجل نذر فيما لا يملك.
وحدث أبو قلابة عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.
وحدث عنه: أن رهطاً من عكل - أو قال من عرينة، ولا أعلمه إلا قال: من عكل - قدموا المدينة فاجتووها، فأمر لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلقاح وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها حتى برئوا وذهب سقمهم، فقتلوا راعي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأطردوا النعم، فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبعث إليهم غدوة، فما ارتفع النهار حتى جيء بهم، فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم،(12/214)
وألقوا بالحرة يستسقون فلا يسقون. قال: فقال أبو قلابة: هؤلاء قوم، قتلوا وسرقوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله.
قيل لعبد الملك بن مروان، هذا أبو قلابة قد قدم على أمير المؤمنين. قال: وما أقدمه؟ قال: متعوذاً من الحجاج، أراده على القضاء، فقال عبد الملك..وكتب له إلى الحجاج بالوصاة.
قالوا: وأخبر أبو قلابة، بقول عبد الملك فيه، فقال أبو قلابة: قد كنت أحب أن آتي الشام وقد دخلتها ولن أخرج منها.
كان عمر بن عبد العزيز يقول: الأذان مثنى مثنى، والإقامة إحدى إحدى. وكان مع عمر بن عبد العزيز أبو قلابة الجرمي وعراك بن مالك ومحمد بن كعب القرظي وسالم بن عبد الله، ومحمد بن شهاب الزهري وغيرهم من الفقهاء، يصلون بصلاته، وهو يثني الأذان ويفرد الإقامة. لا ينكرون ذلك.
كان أبو قلابة ثقة كثيراً الحديث، وكان ديوانه بالشام.
حدث سليمان بن داود حديثاً فيه طول قال: قلت لأبي قلابة الجرمي: ما هذه الصلاة التي يصليها أمير المؤمنين؟ يريد: عمر بن عبد العزيز، فقال: حدثني عشرة من أفضل من أدركت من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقراءته وركوعه وسجوده.
وفي حديث آخر بمعناه. قال سليمان: فرمقت عمر في صلاته، فكان بصره إلى موضع سجوده.
قال أبو قلابة: كنت جالساً عند عمر بن عبد العزيز فذكروا القسامة، فحدثته عن أنس بقصة العرنيين فقال عمر: لن تزالوا بخير يا أهل الشام ما دام فيكم هذا، أو مثل هذا.(12/215)
وعن أبي قلابة قال: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمنهم أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسون عليكم ما كنتم تعرفون.
قال أيوب: وكان أبو قلابة من الفقهاء وذوي الألباب.
قال السري بن يحيى: حدثني جار كان لأبي قلابة الجرمي أنه خرج حاجاً فتقدم أصحابه في يوم صائف وهو صائم، فأصابه عطش شديد، فقال: اللهم، إنك قادر على أن تذهب عطشي من غير فطر، فأظلته سحابة فأمطرت عليه حتى بلت ثوبيه، وذهب العطش عنه. فنزل فحوض حياضاً فملأها ماء، فانتهى إليه أصحابه، فشربوا، وما أصاب أصحابه من ذلك المطر شيء.
قال أيوب السختياني: لما مات عبد الرحمن بن أذينة ذكر أبو قلابة للقضاء فهرب حتى أتى اليمامة. قال أيوب: فلقيته بعد ذلك، فقلت له في ذلك فقال: ما وجدت مثل القاضي العالم إلا مثل رجل وقع في بحر، فما عسى أن يسبح حتى يغرق؟ قال أبو أيوب السختياني: قال لي أبو قلابة: يا أيوب، احفظ عني ثلاث خصال: إياك وأبواب السلطان، وإياك ومجالسة أهل الأهواء، والزم سوقك، فإن الغنى من العافية.
وعن أيوب السختياني قال: قال لي أبو قلابة: يا أيوب، احفظ عني أربعاً: لا تقل في القرآن برأيك، وإياك والقدر، وإذا ذكر أصحاب محمد فأمسك، ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك فيغروا قلبك.
وعن أبي قلابة قال:
إن أهل الأهواء أهل الضلالة، ولا أرى مصيرهم إلا النار، فجربهم فليس أحد منهم ينتحل قولاً، أو قال: حديثاً - فيتناهى به الأمر دون السيف، وإن النفاق كان ضروباً،(12/216)
ثم تلا " ومنهم من عاهد الله " " ومنهم من يلمزك في الصدقات " " ومنهم الذين يؤذون النبي " فاختلف قولهم، واجتمعوا في الشك والتكذيب، وإن هؤلاء اختلف قولهم، واجتمعوا في السيف، ولا أرى مصيرهم إلا النار.
وعن أبي قلابة قال: العلماء ثلاثة: فعالم عاش بعلمه وعاش بعلمه وعاش الناس بعلمه، وعالم عاش بعلمه ولم يعش الناس بعلمه، وعالم لم بعلمه ولم يعش الناس بعلمه.
وعن أبي قلابة لأيوب: إذا حدث الله علماً فأحدث لله عبادة، ولا تكن إنما همك أن تحدث به الناس.
وعن حميد الطويل قال: قال أبو قلابة: إذ بلغك عن أخيك شيء تجد عليه فيه، فاطلب له العذر جهدك، فإن لم تجده فقل: عسى عذره لم يبلغه علمي.
قال عثمان بن الهيثم: كان رجل من بني سعد بالبصرة، وكان قائداً من قواد عبيد الله بن زياد، فسقط من السطح فانكسرت رجلاه، فدخل عليه أبو قلابة فعاده فقال له: أرجو أن يكون لك خيرة. فقال له: يا أبا قلابة، وأي خيرة في كسر رجلي جميعاً؟ فقال: ما ستر الله عليك أكثر. فلما كان بعد ثلاث ورد عليه كتاب ابن زياد يسأله أن يخرج فيقاتل الحسين بن علي فقال له: قد أصابني ما أصابني. قال ذلك للرسول. فما كان إلا سبعاً حتى وافى الخبر بقتل الحسين، فقال الرجل: رحم الله أبا قلابة، لقد صدق، إنه كان خيرة لي.
قال أيوب: قرأت في بعض كتب أبي قلابة: ما هتك الله ستر عبدٍ، له عنده مثقال حبة من خردل من خير.(12/217)
قال أيوب السختياني: مر أبو قلابة وأنا أشتري تمراً ليس بالجيد، فقال: يا أيوب، قد كنت أحسب أن مجالستك إيانا قد نفعتك. أما علمت أن الله عز وجل قد نزع الركة من كل ردئ؟؟ قال أيوب: مرض أبو قلابة بالشام، فدخل عليه عمر بن عبد العزيز فقال: يا أبا قلابة، تشدد، لا يشمت بنا المنافقون.
ومات أبو قلابة بالشام، وأوصى بكتبه إلى أيوب فحملت إليه.
وكانت وفاته في سنة أربع أو خمس ومئة. وقيل: سنة ست. وقيل: سنة سبع ومئة.
عبد الله بن زيد
ويقال: ابن يزيد ويقال: خالد بن زيد القاص الأرزق حدث عبد الله بن يزيد قاص مسلمة أن عوف بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يقص على الناس إلا أمير، أو مأمور، أو مختال.
قال
عبد الله بن زيد الأزرق: كان عقبة بن عامر الجهني يخرج فيرمي كل يوم، وكان يستتبعه، فكأنه كاد أن يمل فقال: ألا أخبرك ما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: بلى، قال: سمعته يقول: إن الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد ثلاثة - يعني: الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله، وقال: ارموا واركبوا، وأن ترموا خير من أن تركبوا. وقال: كل شيء يلهو به آدم فهو باطل إلا ثلاث: رميه عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله. فإنهن من الحق.
قال: فتوفي عقبة وله بضع وستون قوساً، ومع كل قوس قرن، ونبل، فأوصى بهن في سبيل الله عز وجل.(12/218)
وفي حديث بمعناه: ومن نسي الرمي بعدما علمه فقد كفر الذي علمه.
وفي حديث بمعناه: ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها، أو قال؛ كفرها.
عبد الله بن سبأ؟
الذي تنسب إليه السبائية وهم الغلاة من الرافضة، أصله من أهل اليمن، كان يهودياً وأظهر الإسلام، وطاف بلاد المسلمين ليلفتهم عن طاعة الأئمة، ويدخل بينهم الشر. ودخل دمشق لذلك في زمن عثمان بن عفان.
قال يزيد الفقعسي:
كان ابن سبأ يهودياً من أهل صنعاء من أمة سوداء، فأسلم زمن عثمان بن عفان، ثم تنقل في بلاد المسلمين يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتى أتى مصر فاغتمز فيهم فقال لهم، فيما كان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمداً يرجع، وقد قال الله عز وجل: " إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد " فمحمد أحق بالرجوع من عيسى. قال: فقبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة، فتكلموا فيها، ثم قال بعد ذلك: إنه كان ألف نبي ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد، ثم قال: محمد خاتم النبيين وعلي خاتم الأوصياء، ثم قال بعد ذلك: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووثب على وصي رسول الله؟ ثم تناول الأئمة. ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان قد جمع أموالاً وأخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانهضوا في هذا الأمر، فحركوه وابدؤوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيستميلوا الناس، وادعوا إلى هذا(12/219)
الأمر فبث دعاة، وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف، وكتبوا إلى الأمصار كتباً يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، فكتب أهل كل مصر منهم إلى أهل مصر آخر بما يصنعون، فيقرؤه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة، وأسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافية مما ابتلي به هؤلاء. إلا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع أهل الأمصار فقالوا: إنا لفي عافية مما الناس فيه، فقالوا: إنه اجتمع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عثمان فقالوا: يا أمير المؤمنين، أيأتيك عن الناس الذي أتانا؟ قال: لا والله، ما جاءني إلا السلامة فأخبروه بالذي أسقطوا إليهم. قال: فأنتم شركائي وشهود المؤمنين فأشيروا علي قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالاً ممن تثق به من الناس إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم.
فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة، وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشام، وفرق رجالاً سواهم، فرجعوا جميعاً قبل عمار، فقالوا: أيها الناس، والله ما أنكرنا شيئاً ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم، وقالوا جميعاً: الأمر أمر المسلمين، ألا إن أمراءهم يقسطون بينهم ويقومون عليهم، واستبطأ الناس عماراً حتى ظنوا أنه قد اغتيل، فوصل كتاب منعبد الله بن سعد بن أبي سرح يخبرهم أن عماراً قد استماله قوم بمصر، وقد انقطعوا إليه فيهم عبد الله بن السوداء وخالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر يريدونه على أن يقول بقولهم، يزعمون أن محمداً راجع، ويدعونه إلى خلع عثمان ويخبرونه أن رأي أهل المدينة على مثل رأيهم، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في قتله وقتلهم قبل أن يبايعهم، فكتب إليه عثمان: لعمري إنك جريء بابن أم عبد الله، لا والله لا أقتله ولا أنكاه، ولا إياهم حتى يكون الله عز وجل ينتقم منهم ومنه بمن أحب، فدعهم - ما لم يخلعوا يداً من طاعة - يخوضوا ويلعبوا، وكتب إلى عمار: إني أنشدك الله أن تخلع يداً من طاعة أو تفارقها فتبوء بالنار، ولعمري إني على يقين من الله تعالى لأستكملن أجلي، ولأستوفين رزقي غير منقوص شيئاً من(12/220)
ذلك، فيغفر الله لك. فثار أهل مصر. فهموا بقتله وقتل أولئك، فنهاهم عنه عبد الله بن سعد، وأقر عماراً حتى أراد القفل، فحمله وجهزه بأمر عثمان. فلما قدم على عثمان قال: يا أبا يقظان، قذفت ابن أبي لهب أن قذفك، وغضبت على أن أوطأك فعنفك، وغضبت على أن أخذت لك بحقك وله بحقه. اللهم، إني قد وهبت ما بين أمتي وبيني منمظلمة. اللهم، إني متقرب إليك بإقامة حدودك في كل أحد ولا أبالي، اخرج عني يا عمار، فخرج فكان إذا لقي العوام نضح عن نفسه، وانتقل من ذلك، وإذا لقي من يأمنه أقر بذلك، وأظهر الندم، فلامه الناس وهجروه وكرهوه.
وعن أبي حارثة وأبي عثمان قالا:
لما قدم ابن السوداء مصر عجمهم واستخلاهم واستخلوه وعرض لهم بالكفر فأبعدوه، وعرض لهم بالشقاق فأطعموه، فبدأ فطعن على عمرو بن العاص وقال: ما باله أكثركم عطاء ورزقاً؟ ألا ننصب رجلاً من قريش يسوي بيننا، فاستحلوا ذلك منه وقالوا: كيف نطيق ذلك مع عمرو وهو رجل من العرب؟ قال: تستعفون منه، ثم نعمل عملنا، ونظهر الائتمار بالمعروف والطعن فلا يرده علينا أحد، فاستعفوا منه، وسألوا عبد الله بن سعد فأشركه مع عمرو فجعله على الخراج، وولى عمراً على الحرب ولم يعزله، ثمدخلوا بينهما حتى كتب كل واحد منهما إلى عثمان بالذي بلغه عن صاحبه، وركب أولئك واستعفوا من عمرو، وسألوا عبد الله بن سعد فأعفاهم. فلما قدم عمرو على عثمان قال: ما شأنك يا أبا عبد الله. قال: والله يا أمير المؤمنين، ما كنت منذ وليتهم أجمع أمراً ولا رأياً مني منذ كرهوني، وما أدري من أتيت، فقال عثمان: ولكني أدري. لقد دنا أمر هو الذي كنت أحذره، ولقد جاءني نفر من ركب تردد عنهم عمر وكرههم، ألا وإنه لا بد لما هو كائن أن يكون، وإن كابرتهم كذبوا واحتجوا، وإن كف منهم ما لم ينتهكوا محرماً كان لهم، ولم تثبت لهم الحجة، ووالله لأسيرن فيهم بالصبر، ولأتابعهم ما لم يعص الله عز وجل.(12/221)
قال أبو الطفيل: رأيت المسيب بن نجبة أتى به ملببه: يعني ابن السوداء، وعلي على المنبر فقال علي: ما شأنه؟ فقال: يكذب على الله وعلى رسوله.
وعن علي عليه السلام قال: مالي ولهذا الخبيث الأسود. يعني: عبد الله بن سبأ. وكان يقع في أبي بكر وعمر.
قال جابر: لما بويع علي عليه السلام خطب الناس، فقام إليه عبد الله بن سبأ فقال له: أنت دابة الأرض. قال: فقال له: أنت الملك، فقال له: اتق الله، فقال له أنت خلقت الخلق، وبسطت الرزق، فأمر بقتله. واجتمعت الرافضة فقالت: دعه وانفه إلى ساباط المدائن، فإنك إن قتلته بالمدينة خرجت أصحابه علينا، وشيعته، فنفاه إلى ساباط المدائن، فثم القرامطة والرافضة. قال: ثم قامت إليه طائفة، وهم السبائية وكانوا أحد عشر رجلاً، فقال: ارجعوا، فإني علي بن أبي طالب، أبي مشهور، وأمي مشهورة وأنا ابن عم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: لا نرجع، دع داعيك، فأحرقهم بالنار، وقبورهم في صحراء - أحد عشر - مشهورة، فقال من بقي ممن لم يكشف رأسه منهم: علمنا أنه إله، واحتجوا بقول ابن عباس: لا يعذب بالنار إلا خالقها.
قال ثعلب: وقد عذب بالنار قبل علي أبو بكر الصديق رضي الله عنهما. وذلك أنه رفع إليه رجل يقال له الفجاءة، فقالوا: إنه شتم سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد وفاته فأخرجه إلى الصحراء فأحرقه بالنار. قال: فقال ابن عباس: قد عذب أبو بكر بالنار فاعبدوه أيضاً.
عبد الله بن سبعون بن يحيى بن حمزة
أبو محمد القيرواني المالكي البزاز سمع بدمشق وأسمع، واستوطن بغداد، ومات بها.(12/222)
حدث في المسجد الحرام عن أبي عبد الله محمد بن العباس بن الفضل بن بلال الأنصاري بسنده إلى عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفرد الحج.
وحدث عن أبي نصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي السجستاني بسنده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الراحمون يرحمهم الرحمان يوم القيامة، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء.
توفي عبد الله بن سبعون في رمضان سنة إحدى وسبعين وأربع مئة.
عبد الله بن سراقة بن المعتمر
ابن أنس بن أذاة بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب العدوي ويقال: إنه أزدي.
له صحبة. روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن أبي عبيدة بن الجراح، وشهده خطيباً بالجابية.
قال عبد الله بن سراقة: خطبنا أبو عبيدة بن الجراح بالجابية، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبنا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله لم يبعث نبياً قط بعد نوح إلا حذر قومه الدجال، وإني محدثكم فيه حديثاً لم يحدث به أحد كان قبلي: ليدركنه بعض من يراني أو يسمع كلامي. قال: فقال الناس: يا رسول الله، كيف قلوبنا يومئذ، أهي كاليوم؟ قال: أو خير.
قال علي بن عاصم: قلت لخالد الحذاء: أي شيء في هذا؟ قال: أحسبه قد خرج، وليس يرى فرصته، ولو قد رآها خرج علينا.(12/223)
عبد الله بن سعد بن أبي سرح
ابن الحارث بن حبيب بن جذيمة بن مالك ويقال: جذيمة بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك أبو يحيى القرشي، العامري، أخو عثمان بن عفان من الرضاع.
له صحبة. وروى عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان عثمان ولاه مصر، فشكاه أهل مصر وأخرجوه منها، فجاء فلسطين، ثم قدم على معاوية، دمشق. وشهد معه صفين.
وقيل: لم يزل معتزلاً بالرملة فراراً من الفتنة. والله أعلم.
حدث
عبد الله بن سعد بن أبي سرح قال: بينما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عشرة من أصحابه، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وغيرهم على جبل حراء إذ تحرك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسكن حراء، فإنما عليك نبي أو صديق أو شهيد.
كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد ارتد في عهد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأهدر دمه. فستره عثمان بن عفان رضي الله عنه، وجاء به إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستأمن له فاستوهبه منه، فعفا عنه، وعاد إلى الإسلام، وفتح إفريقية في أيام عثمان، وولي مصر يوم ذلك، وبنى بها داراً حتى كان زمن عثمان إلى فلسطين، فمات بها بعد مقتل عثمان في الفتنة. ويقال: مات بعسقلان. وقال في حصار عثمان:
أرى الأمر لا يزداد إلا تفاقماً ... وأنصارنا بالمكتين قليل
وأسلمنا أهل المدينة والهوى ... هوى أهل مصرٍ والذليل ذليل
وشهد أبو يحيى فتح مصر، وكان صاحب ميمنة عمرو بن العاص في حروبه، وكان فارس بني عامر بن لؤي، وولي جند مصر لعثمان بن عفان، وغزا منها إفريقية سنة سبع وعشرين، والأساود من أرض النوبة سنة إحدى وثلاثين وهو هادنهم هذه الهدنة(12/224)
القائمة إلى اليوم، وذات الصوري من أرض الروم في البحر سنة أربع وثلاثين، ولم يبايع لعلي ولا لمعاوية.
توفي بعسقلان سنة ست وثلاثين، وقيل: توفي بالرملة سنة تسع وخمسين. وقيل: سنة ست وستين.
ويقال: إن أول من كتب لسيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري ثم ارتد، فكتب له عثمان بن عفان، وكتب له العلاء بن الحضرمي، وشرحبيل بن حسنة.
قال سعيد بن المسيب: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بقتل ابن أبي سرح يوم الفتح وفرتنا وابن الزبعرى وابن خطل، فأتاه أبو برزة وهو متعلق بأستار الكعبة، فبقر بطنه. وكان رجل من الأنصار قد نذر إن رأى ابن أبي سرح أن يقتله، فجاء عثمان - وكان أخاه من الرضاعة - فشفع له إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أخذ الأنصاري بقائم السيف ينتظر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متى يومئ إليه أن يقتله، فشفع له عثمان حتى تركه. ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصاري: هلا وفيت بنذرك؟ فقال: يا رسول الله، وضعت يدي على قائم السيف أنتظر متى تومئ، فأقتله فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإيماء خيانة. ليس لنبي أن يومئ.
وعن أنس بن مالك قال: أمن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني الناس - يوم فتح مكة إلا أربعة من الناس، عبد العزى بن خطل، ومقيس بن صبابة الكناني، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وسارة، قال: فأما عبد العزى فإنه قتل وهو آخذ بأستار الكعبة. قال: ونذر رجل من(12/225)
الأنصار أن يقتل عبد الله بن سعد إذا رآه. قال: وكان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة. قال: فأتى به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليشفع له. فلما بصر به الأنصاري اشتمل السيف ثم خرج في طلبه، يعني: فوجده عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهاب قتله فجاء الأنصاري يتردد ويكره أن يقدم عليه لأنه في حلقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبسط النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده فبايعه. قال للأنصاري: انتظرتك أن توفي نذرك. قال: يا رسول الله، هبتك، أفلا أومضت إلي؟ قال: إنه ليس لنبي أن يومض.
قال: وأما مقيس فإنه كان له أخ مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقتل خطأ. فبعث معه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً من بني فهر ليأخذ عقله من الأنصار. قال: فلما جمع له العقل ورجع نام الفهري، فوثب مقيس فأخذ حجراً فجلا به رأسه فقتله. ثم أقبل وهو يقول:
شفى النفس من قد بات بالقاع مسنداً ... تضرج ثوبيه دماء الأخادع
وكانت هموم النفس من قبل قتله ... تلم فتنسيني وطيء المضاجع
قتلت به فهراً وغرمت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع
حللت به نذري وأدركت ثؤرتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
وأما سارة فإنها كانت مولاة لقريش، فأتت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشكت إليه الحاجة، فأعطاها شيئاً، ثم أتاهارجل فبعث معها كتاباً إلى أهل مكة يتقرب بذلك إليهم ليحفظ عياله، وكان له بها عيال، فأتى جبريل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بذلك، فبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب فتخفاها بالطريق ففتشاها فلم يقدرا على شيء معها، فأقبلا راجعين فقال أحدهما لصاحبه: والله ما كذبنا ولا كذبنا، ارجع بنا إليها، فسلا سيفهما ثم قالا: لتدفعن إلينا الكتاب أو لنذيقنك الموت، فأنكرت ثم قالت: أدفعه إليكما على ألا ترداني إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقبلا ذلك منها قال: فحلت عقاص رأسها فأخرجت الكتاب من قرن من قرونها فدفعته، فرجعا بالكتاب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدفعاه إليه فدعا الرجل فقال: ما هذا الكتاب! قال: أخبرك(12/226)
يا رسول الله، ليس من رجل ممن معك إلا وله قوم يحفظونه في عياله، فكتبت بهذا الكتاب ليكون لي في عيالي قال: فأنزل الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة " إلى آخر هذه الآيات.
وقيل في سارة: أم سارة. قال: وهو الصواب.
وفي حديث آخر: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم فتح مكة: أربعة لا أؤمنهم في حل ولا في حرم: الحويرث بن نفيد، ومقيس بن صبابة، وهلال بن خطل، عبد الله بن أبي سرح، فأما الحويرث فقتله علي، وأما مقيس فقتله ابن عم له، وأما هلال بن خطل فقتله الزبير، وأما عبد الله بن أبي سرح فاستأمن له عثمان، وكان أخاه من الرضاعة، وقينتين كانتا لمقيس تغنيان بهجو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقتلت إحداهما وأفلتت الأخرى فأسلمت.
قالوا:
كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي، فربما أملى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " سميع عليم " فيكتب: عليم حكيم، فيقرؤه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: كذلك الله، ويقره فافتتن، وقال: ما يدري محمد ما يقول، إني لأكتب له ما شئت. هذا الذي كتبت يوحى إلي كما يوحى إلى محمد، وخرج هارباً من المدينة إلى مكة مرتداً، فأهدر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دمه يوم الفتح. فلما كان يومئذ جاء ابن أبي سرح إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة فقال: يا أخي، والله اخترتك فاحتبسني هاهنا، واذهب إلى محمد فكلمه في، فإن محمداً إن رآني ضرب الذي فيه عيناي. إن جرمي أعظم الجرم، وقد جئت تائباً فقال عثمان: بل اذهب معي. قال عبد الله: والله إن رآني ليضربن عنقي، ولا يناظرني. قد أهدر دمي، وأصحابه يطلبونني في كل موضع. فقال عثمان: انطلق معي فلا يقتلك إن شاء الله، فلم يرع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بعثمان آخذاً بيد عبد الله بن سعد بن أبي سرح، واقفين بين يديه، فأقبل عثمان على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إن أمه(12/227)
كانت تحملني وتمشيه، وترضعني وتفطمه، وكانت تلطف بي وتتركه، فهبه لي، فأعرض عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعل عثمان كلما أعرض عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوجهه استقبله فيعيد عليه هذا الكلام، وإنما أعرض عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إرادة أن يقوم رجل فيضرب عنقه لأنه لم يؤمنه، فلما رأى أن لا يقوم أحد وعثمان قد أكب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبل رأسه وهو يقول: يا رسول الله، تبايعه فداك أبي وأمي، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم. ثم التفت إلى أصحابه فقال: ما منعكم أن يقوم رجل منكم إلى هذا الكلب فيقتله - أو قال: الفاسق - فقال عبد بن بشر: ألا أومأت إلي يا رسول الله؟ فوالذي بعثك بالحق لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلى فأضرب عنقه - ويقال: قال هذا أبو اليسر، ويقال: عمر بن الخطاب - فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني لا أقتل بالإشارة، وقيل: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يومئذ: إن النبي لا يكون له خائنة الأعين، فبايعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل يفر من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلما رآه. فقال عثمان: يا رسول الله، بأبي وأمي لو ترى ابن أم عبد الله يفر منك كلما رآك. فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أولم أبايعه وأؤمنه؟ قال: بلى، أي رسول الله، ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإسلام يجب ما كان قبله، فرجع عثمان إلى ابن أبي سرح فأخبره، فكان يأتي فيسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الناس.
وعن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر في قوله: " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " قال: ذاك عمار بن ياسر " ولكن من شرح بالكفر صدراً " قال: ذاك عبد الله بن أبي سرح.
قال الليث: كان عبد الله بن سعد والياً لعمر بن الخطاب بمصر على الصعيد، ثم ولاه عثمان مصر كلها، وكان محموداً، وغزا ثلاثة غزوات؛ غزا إفريقية فقتل جرجير صاحبها وبلغت سهمانهم للفارس ثلاثة آلاف دينار، وللراجل ألف دينار. ثم غزا ذات الصواري فلقوا ألف مركب للروم، فقتل للروم مقتلة لم يقتلوا مثلها قط. ثم غزا الأساود.(12/228)
وكان عثمان قد استعمل عمرو بن العاص على حرب مصر، واستعمل عبد الله بن أبي سرح على الجزية وخراج الأرض وعبد الله بن سعد رضيع عثمان فتواشيا إلى عثمان، فكتب عمرو إلى عثمان: إن عبد الله قد أمسك يدي عن غزوي، وحال بيني وبين أن أنفذ لشيء من حربي. وكتب ابن سعد إلى عثمان: إن عمراً قد كسر علي جزيتي، وأخرب علي أرضي، وحال بيني وبين أن أنفذ لشيء من عملي، فكتب عثمان إلى عمرو فعزله، وجمع لعبد الله بن سعد وخراج الأرض، وقدم عمرو على عثمان مستخطاً، فدخل ذات يوم عليه، وعليه جبة له محشوة، فقال عثمان: ما حشو جبتك يا أبا عبد الله؟ قال: عمرو بن العاص. قال: والله ما عن ذلك سألتك، لقد عرفناك أنك فيها. ولكن إنما سألتك عن حشوها. قال: لكني قد أحببت أن أعلمك أن فيها عمرو بن العاص. قال: وحشد ابن سعد في حمل المال ليصدق حديثه. وقيل: إن عثمان كتب إلى عبد الله بن سعد: أما بعد. فقد رأيت ما صنعت بك: عزلت عنك عمرو بن العاص واستعملتك، فإذا جاءك كتابي هذا فاحشد في الخراج، وإياك في حشدك أن تظلم مسلماً أو معاهداً، قال: فبعث إليه عبد الله بن سعد بمالٍ قد حشد فيه. فلما وضع بين يدي عثمان قال: علي بعمرو بن العاص، فأتي به مسرعاً، فقال: ما تشاء؟ فقال عثمان: يا عمرو، أرى تلك اللقاح قد درت بعدك! فقال عمرو: إنما درت لهلاك فصالها، وإنها قد هزلت. قال: فسكت عثمان.
قال خليفة العصفري: في سنة سبع وعشرين عزل عثمان بن عفان عمرو بن العاص عن مصر، وولاه عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فغزا ابن أبي سرح إفريقية ومعه العبادلة: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير بن العوام، فلقي جرجير، وجرجير في مئتي ألف بسبيطلة على سبعين ميلاً من القيروان، فقتل جرجير، وسبوا وغنموا.(12/229)
وقال غيره: وأقام ابن أبي سرح بسبيطلة مدينة قبودة، فبعث إليه أهل القصور والمدائن فصالحوه على مئتي ألف رطل من ذهب.
وفي سنة إحدى وثلاثين غزا ابن أبي سرح من مصر زندان من ناحية المصيصة.
وفي سنة ثلاث وثلاثين غزا ابن أبي سرح الحبشة فأصيبت عين معاوية بن حديج.
كان المقداد بن الأسود غزا مع عبد الله بن سعد إلى إفريقية، فلما رجعوا قال عبد الله بن سعد للمقداد في دار بناها: كيف ترى بنيان هذه الدار؟ فقال له المقداد: إن كان من مال الله فقد أفسدت، وإن كان من مالك فقد اسرفت. فقال عبد الله: لولا أن يقول قائل: أفسدت مرتين لهدمتها.
وعن عباس بن سهل الساعدي: أن محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف - وهو الذي كان سرب المصريين إلى عثمان بن عفان، أنهم لما ساروا إلى عثمان فحصروه - وثب هو بمصر على عبد الله بن سعد بن أبي سرح - وهو عامل عثمان يومئذ على مصر - فطرده منها، وصلى بالناس فخرج عبد الله بن سعد من مصر فنزل على تخوم أرض مصر مما يلي فلسطين، فانتظر ما يكون من أمر عثمان، فطلع عليه راكب فقال: يا عبد الله ما وراءك؟ خبرنا بخبر الناس خلفك. قال: أفعل، قتل المسلمون عثمان، فقال عبد الله بن سعد: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا عبد الله، ثم صنعوا ماذا؟ قال: ثم بايعوا ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي بن أبي طالب. قال عبد الله بن سعد: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال له الرجل: كأن ولاية علي عدلت عندك قتل عثمان! قال: أجل. قال: فنظر إليه الرجل فتأمله فعرفه وقال: كأنك عبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير مصر. قال: أجل. قال له الرجل: فإن كان لك في نفسك حاجة فالنجاء النجاء، فإن أمير المؤمنين فيك وفي أصحابك شيء، إن ظفر بكم قتلكم أو نفاكم من بلاد المسلمين. وهذا بعدي أمير يقدم عليك. قال له(12/230)
عبد الله: ومن هذا الأمير؟ قال: قيس بن عبادة الأنصاري. قال: يقول عبد الله بن سعد: أبعد الله محمد بن أبي حذيفة فإنه بغى على ابن عمه وسعى عليه، وقد كان كفله ورباه، وأحسن إليه، فأساء جواره، ووثب على عماله، وجهز الرجال إليه حتى قتل، ثم ولى عليه من هو أبعد منه ومن عثمان، ومن لم يمنعه بسلطان بلاده حولاً ولا شهراً، ولم يره كذلك أهلاً. فقال له الرجل: انج بنفسك لا تقتل، فخرج عبد الله بن سعد هارباً حتى قدم على معاوية بن أبي سفيان، دمشق.
وتوفي عبد الله بن أبي سرح بعسقلان، حيث خرج معاوية بن أبي سفيان إلى صفين، ولم يخرج معه، وكره الخروج في ذلك المخرج، فتوفي في أيام صفين بعسقلان، ودفن في موضع معروف، يقال له: مقابر قريش، إلى اليوم.
وقيل: مات بالرملة فاراً من الفتنة وهو في الصلاة.
قال يزيد بن أبي حبيب: لما حضرت عبد الله بن سعد بن أبي سرح الوفاة وهو بالرملة، وكان خرج إليها فاراً من الفتنة، فجعل يقول لهم من الليل، أصبحتم؟ فيقولون: لا. فلما كان عند الصبح قال: إني لأجد برد السحر، فانظروا، ثم قال: اللهم، اجعل خاتمة عملي صلاة الفجر. فنظر فإذا هو الصبح فتوضأ ثم صلى فقرأ في ركعة بأم القرآن والعاديات، وفي الأخرى بأم القرآن وسورة، ثم سلم عن يمينه فذهب يسلم عن يساره فقبضت منه روحه.
عبد الله بن سعد بن فروة البجلي
مولاهم الكاتب له عقب بعكا.
حدث عبد الله بن سعد عن الصنابجي عن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الأغلوطات.(12/231)
وفي حديث غيره: الغلوطات. قال الأوزاعي: شداد المسائل وصعابها.
قال البيهقي: بلغني عن أبي سليمان الخطابي أنه قال في معناه: أن يعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط، ليستزلوا بها، ويسقط رأيهم فيها، وفيه كراهية المتعمق والمتكلف لما لا حاجة بالإنسان إليه من المسألة، ووجوب الموقف عما لا علم للمسؤول به.
الرجل الذي لم يسم: معاوية.
وعن عبد الله بن سعد بن عبادة بن نسي عن معاوية قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عقل المسائل.
عبد الله بن سعد بن معاذ
ابن سعد بن أبي سعد أبو سعد الأنصاري الرقي سمع بدمشق وبغيرها.
حدث عن هشام بن عمار بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلى فهو مؤمن، وهو في جوار الله، فلا تخفروا الله في جواره.
سئل الدارقطني عن عبد الله بن سعد الرقي القاضي فقال: كذاب، يضع الحديث.
عبد الله بن سعد الأنصاري الحرامي
ويقال: القرشي الأموي عم حرام بن حكيم بن سعد سكن دمشق. وكانت داره بسوق القمح.
حدث عبد الله بن سعد: أنه سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما يوجب الغسل، وعن الماء يكون بعد الماء، وعن الصلاة(12/232)
في بيتي وعن الصلاة في المسجد، وعن مؤاكلة الحائض، فقال: إن الله تبارك وتعالى لا يستحي من الحق، أما أنا فإذا فعلت كذا وكذا..فذكرالغسل، قال: أتوضأ وضوئي للصلاة، أغسل فرجي..ثم ذكر الغسل، وأما الماء يكون بعد الماء فذلك المذي، وكل فحل يمذي فأغسل عن ذلك فرجي وأتوضأ، وأما الصلاة في المسجد والصلاة في بيتي فقد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة، وأما مؤاكلة الحائض فواكلها.
وعن عبد الله بن سعد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الله أعطاني فارس ونساءهم وأبناءهم وسلاحهم وأموالهم، وأعطاني الروم ونساءهم وأبناؤهم وسلاحهم وأموالهم وأمدني بحمير.
عبد الله بن سعيد أبي أحيحة
ابن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي له صحبة. كان اسمه الحكم، فسماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله، واستعمله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سوق المدينة، واستشهد يوم مؤتة، وقيل إنه استشهد ببدر.
حدث الحكم بن سعيد بن العاص: أنه أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: ما اسمك؟ قال: الحكم، قال: أنت عبد الله. قال: فأنا عبد الله يا رسول الله.
وفي رواية قال: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبايعه ...
وكان عبد الله بن سعيد كاتباً، وأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعلم الكتاب بالمدينة. قتل يوم بدر شهيداً. ولم يذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدراً، وقيل: إنه أسلم قبل فتح مكة. وقتل يوم مؤته شهيداً في سنة ثمان. وليس له عقب. وقتل أخوه العاص بن سعيد يوم بدر كافراً.
وهو أبو سعيد بن العاص الذي ولي الكوفة لعثمان بن عفان.(12/233)
وحدث سعيد بن عمرو بن سعيد:
أن أعمامه خالداً وأبان وعمراً بني سعيد رجعوا من أعمالهم حين بلغهم وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أبو بكر: ما أجد أحق بالعمل من عمال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ارجعوا إلى أعمالكم، فقال بنو أبي أحيحة: لا نعمل بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لغيره، فخرجوا إلى الشام فقتلوا جميعاً، وكان خالد على اليمن، وأبان على البحرين، وعمرو على تيماء. وخيبر قرى عربية، وكان الحكم بن سعيد يعلم الحكمة، فخرجوا إلى الشام. فما افتتحت كورة إلا وقد وجد عندها رجل من بني سعيد ميت، فقتلوا أربعتهم. وقتل سعيد بن سعيد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الطائف.
قالوا: وولد سعيد بن العاص أبو أحيحة ثمانية رجال لم يمت أحد منهم على فراشه، فقتل ثلاثة مع المشركين وخمسة مع المسلمين: قتل أحيحة يوم الفجار، والعاص بن سعيد وعبيدة بن سعيد يوم بدر، وقتل سعيد بن سعيد يوم الطائف، والحكم بن سعيد يوم اليمامة، وقتل خالد يوم مرج الصفر وهو القائل:
من فارس كره الكماة يعيرني ... رمحاً إذا نزلوا بمرج الصفر
وقتل أبان وعمرو يوم أجنادين. وقيل: قتل عمرو يوم فحل.
عبد الله بن سعيد بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية أبو صفوان الأموي.
أمه أم جميل بنت عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية. لحقت به بمكة حين قتل أبوه نهر أبي فطرس.(12/234)
حدث أبو صفوان الأموي عن يونس عن الزهري قال: إن أنساً يحدث أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب مملوءاً حكمة، فأفرغها في صدري ثم أطبقه.
وحدث أبو صفوان الأموي عن يونس الأيلي عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين.
قال علي بن المديني: عبد الله بن سعيد بن عبد الملك أقعد قرشي رأيته، وكان له أربعة عمومة خلفاء: الوليد، وسليمان، وهشام، ويزيد، بنو عبد الملك بن مروان.
حدث إسحاق بن يعقوب العثماني مولى آل عثمان عن أبيه قال: إنا لبفناء دار عثمان بن عفان بالأبطح في صبح خامس من الثمان، يعني: أيام الحج إن دريت إلا برجل على راحلة، على رحل جميل وأداة حسنة، معه صاحب له على راحلة قد جنب إليها فرساً وبغلاً، فوقفا علي وسألاني فانتسبت لهما عثمانياً فنزلا وقالا: رجلان من أهلك، قد بلتنا حاجة يجب أن نقضيها قبل أن نشده بأمر الحج فقال: حاجتكما؟ قالا: نريد إنساناً يقفنا على قبر عبيد بن سريج. قال: فنهضت معهما حتى بلغت بهما محلة أبي قارة من خزاعة بمكة، وهم موالي عبيد بن سريج، فالتمست لهما إنساناً يصحبهما حتى يقفهما على قبره بدسم فوجدت ابن أبي دباكل فأنهضته معهما، فأخبرني بعد أنه لما وقفهما على قبره نزل أحدهما فحسر عمامته عن وجهه، وإذا هو عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان فعقر ناقته واندفع يندبه بصوت شجي طليل حسن ويقول:
وقفنا على قبر بدسم فهاجنا ... وذكرنا بالعيش إذ هو مصحب
فجالت بأرجاء الجفون سوافح ... من الدمع تشتكي الذي يتغيب(12/235)
إذا بطأت عن ساحة الخد ساقها ... دم بعد دمع إثره يتصبب
فإن تسعدا نندب عبيداً بقولةٍ ... وقل له منا البكا والتنحب
ثم نزل صاحبه فعقر ناقته وقال له القرشي: خذ في صوت أبي يحيى، فاندفع يتغنى:
أسعداني بدمعةٍ أسراب ... من دموعٍ كثيرة التسكاب
إن أهل الحصاب قد تركوني ... مولعاً مولهاً بأهل الحصاب
أهل بيتٍ تبايعوا للمنايا ... ما على الموت بعدهم من عتاب
فارقوني وقد علمت يقيناً ... ما لمن ذاق ميتةً من إياب
كم بذاك الحجون من حي صدقٍ ... وكهول أعفةٍ وشباب
سكنوا الجزع جزع بيت أبي مو ... سى إلى النخل من صفي الشباب
فلي الويل بعدهم وعليهم ... صرت فرداً وملني أصحابي
قال ابن أبي دباكل: فوالله، ما تمم صاحبه منها ثالثاً حتى غشي على صاحبه، وأقبل يصلح السرج على بغلته، فسألته: من هو؟ فقال: رجل من جذام قلت: بمن يعرف؟ قال: بعبد الله بن المنتشر. قال: ولم يزل القرشي على حاله ساعة ثم أفاق، فجعل الجذامي ينضح الماء على وجهه ويقول كالمعاتب له: أنت أبداً مصبوب على نفسك. من كلفك ما ترى؟ ثم قرب إليه الفرس. فلما علاه استخرج الجذامي من خرجٍ على البغل قدحاً وإداوة ماء، فجعل في القدح تراباً من تراب قبر ابن سريج، وصب عليه من ماء الإداوة ثم قال: هاك فاشرب هذه السلوة، فشرب، ثم فعل هو مثل ذلك، وركب على البغل، وأردفني، فخرجنا، لا والله ما يعرضان بذكر شيء مما كانا فيه، ولا أرى في وجوههما شيئاً مما كنت أرى مثل ذلك. فلما اشتمل علينا أبطح مكة قال: انزل يا خزاعي، فنزلت وأومأ الجذامي إلى القرشي بكلام فمد يده إلي وفيها شيء فأخذته. فإذا هو عشرون ديناراً، ومضيا، فانصرفت إلى قبره ببعيرين فاحتملت عليهما أداة الراحلتين اللتين عقراهما، فبعتهما بثلاثين ديناراً.(12/236)
عبد الله بن سعيد
ويقال أخطل بن المؤمل أبو سعيد الساحلي.
من أهل جبيل، من ساحل دمشق.
حدث عن مسلم بن عبيد عن أسماء بنت يزيد الأنصارية من بني عبد الأشهل: أنها أتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بين أصحابه فقالت: بأبي أنت وأمي، إني وافدة النساء إليك، واعلم - نفسي لك الفداء - أما إنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا أو لم تسمع إلا وهي على مثل رأيي؛ إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء، فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنا - يا معشر النساء - محصورات، مقصورات، قواعد بيوتكم، ونقضي شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم - معاشر الرجال - فضلتم علينا بالجمعة، والجماعات وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفما نشارككم في الأجر يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فالتفت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا: يا رسول الله، ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا. فالتفت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليها ثم قال لها: انصرفي أيتها المرأة، وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته واتباعها موافقته يعدل ذلك كله. قال: فأدبرت وهي تهلل وتكبر استبشاراً.
عبد الله بن سعد
حدث بأطرابلس عن أبيه بسنده إلى ابن عباس أن رجلاً سأله فقال: أكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمزح؟ فقال عبد الله: نعم، فقال الرجل: ما كان مزاحه؟ فقال ابن عباس: كسا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض نسائه ثوباً واسعاً قال: البسيه واحمدي الله، وجرى من ذيلك هذا كذيل العروس.
قال الحافظ: كذا كان بخط عبد الرحمن بن عمرو. قال: ولا أعرف عبد الله بن(12/237)
سعيد هذا، وأظنه عبيد الله بن سعيد بن كثير بن عفير، أبا القاسم المصري. وعبيد الله بن سعيد بن كثير توفي سنة ثلاث وسبعين مئتين.
عبد الله بن سفيان بن عبد الأسد
ابن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي المخزومي له صحبة.
حكى عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا صام من صام الأبد.
وأمه بنت عبد بن أبي قيس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي. وكان قديم الإسلام بمكة، وهاجر إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، وقتل يوم اليرموك شهيداً في خلافة عمر بن الخطاب. وقتل أخوه هبار بن سفيان يوم أجنادين.
وقيل: إن المستشهد باليرموك عبيد الله بن سفيان.
عبد الله بن أبي سفيان
ابن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو الهياج الهاشمي.
روى عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال سماك: سمعت عبد الله بن أبي سفيان وكان كبيراً يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تقدس أمة لا يأخذ ضعيفها الحق من قويها وهو غير متعتع.
وقيل: إنه لم تصح له صحبة.(12/238)
بلغ عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث أن عمرو بن العاص يعيب بني هاشم، ويقع فيهم وينتفضهم، وكان يكنى أبا الهياج، فغضب لذلك، وزور كلاماً يلقى به عمراً، ثم قدم على معاوية، ليس أكثر سفره إلا ليشتم عمرو بن العاص، فدخل على معاوية مراراً لم يتفق له ما يريد، وعنده عمرو فجاء الإذن، فقال: هذا عبد الله بن جعفر قد قدم وهو بالباب قال: ائذن له. قال عمرو: يا أمير المؤمنين، لقد أذنت لرجل كثير الخلوات للتمني، والطربات للتغني، صدوف عن السنان، محب للقيان، كثير مزاحه شديد طماحه، ظاهر الطيش، لين العيش، أخاذ للسلف، صفاق للشرف، فقال عبد الله بن أبي سفيان: كذبت يا عمرو. وأنت أهله، ليس هو كما وصفت، ولكنه لله ذكور، ولبلائه شكور، وعن الخنا زجور، سيد كريم، ماجد صميم، جواد حليم، إن ابتدأ أصاب، وإن سئل أجاب، غير حصر ولا هياب، ولا فاحش عياب، كذلك قضي في الكتاب، فهو كالليث الضرغام، الجريء المقدام، في الحسب القمقام، ليس بدعي ولا دنيء، كمن اختصم فيه من قريش شرارها، فعلت عليه جرارها، فأصبح ينوء بالذليل، ويأوي فيها إلى القليل، مذبذب بين حيين، كالساقط بين المهدين، لا المعتزي إليهم قبلوه، ولا الظاعن عنهم فقدوه، فليت شعري، بأي حسب تنازل النضال؟ أم بأي قديم تعرض للرجال؟ أبنفسك فأنت الجبان الوغد الزنيم، أم بمن تنتهي إليه؛ فأهل السفه والطيش والدناءة في قريش، لا بشرف في الجاهلية شهر، ولا بقديم في الإسلام ذكر، غير أنك تنطق بغير لسانك، وتنهض بغير أركانك، وايم الله إن كان لأسهل للوعث، وألأم للشعث أن يكمعك معاوية عن ولوغك بأعراض قريش كعام الضبع في وجارها، فإنك لست لها بكفي، ولا لأعراضها بوفي. قال: فتهيأ عمرو للجواب فقال له معاوية: نشدتك الله أبا عبد الله إلا كففت. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، دعني أنتصر، فإنه لم يدع شيئاً، فقال معاوية: أما في مجلسك هذا فدع الانتصار، وعليك بالاصطبار.
وخلف أبو الهياج بن أبي سفيان على أمامة بنت أبي العاص بعد علي بن أبي طالب.
وقيل: إنه قتل مع الحسين بن علي يوم عاشوراء سنة إحدى وستين.(12/239)
عبد الله بن سلمة بن عبد الله
ابن الوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وفد على عمر بن عبد العزيز.
كان بين عمر بن عبد العزيز وبين يعقوب بن سلمة وأخيه عبد الله كلام، فأغلظ يعقوب لعمر في الكلام فقال له: اسكت فإنك ابن أعرابية جافية، وقال عقيل لعمر: لعن الله شرار الثلاثة: مني ومنك ومنه، فغضب عمر، فقال له صخر بن أبي الجهم: آمين، هو والله يا أمير المؤمنين شر الثلاثة. فقال عمر: والله إني لأراك لو سألته عن آية من كتاب الله ما قرأها فقال: بلى. والله، إنه لقارئ لآية وآيات. قال: فاقرأ. فقرأ: إنا بعثنا نوحاً إلى قومه، فقال عمر: قد أعلمتك أنك لا تحسن. ليس هكذا قال الله عز وجل. قال: فكيف قال؟ قال: " إنا أرسلنا نوحاً " قال: فما الفرق بين أرسلنا وبعثنا!
خذ أنف هرشى أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشى لهن طريق
عبد الله بن سليمان بن الأشعث
ابن إسحاق بن بشير بن عمرو بن عمران أبو بكر بن أبي داود، الأزدي الحافظ.
أصله من سجستان، وولد بها، ونشأ ببغداد. وقدم دمشق مع أبيه وسمع بها وطاف به أبوه شرقاً وغرباً، وأسمعه من علماء ذلك الوقت. وصنف المسند والسنن والتفسير والقراءات والناسخ والمنسوخ وغير ذلك. وكان فهماً عالماً حافظاً.(12/240)
حدث أبو بكر بن أبي داود عن هشام بن خالد بسنده إلى ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يباشر أم سلمة وعلى قبلها ثوب. يعني: وهي حائض.
وحدث عن أحمد بن صالح المصري بسنده إلى أسماء بنت أبي بكر قالت: دخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أكيل نفقة لنا وأحصيها فقال: يا أسماء، لا تحصي فيحصي الله عليك.
وحدث عن محمد بن قهزاذ بسنده إلى جابر بن عبد الله أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ في طست، فأخذت فصببته في بئر لنا.
ولد عبد الله بن أبي داود سنة ثلاثين ومئتين.
كان أحمد بن صالح يمتنع على المرد من رواية الحديث لهم، تعففاً وتنزهاً ونفياً للظنة عن نفسه، وكان أبو داود يحضر مجلسه ويسمع منه، وكان له ابن أمرد يحب أن يسمعه حديثه، وعرف عادته في الامتناع عليه من الرواية، فاحتال أبو داود بأن شد على ذقن ابنه قطعة من الشعر ليتوهم ملتحياً، ثم أحضره المجلس، وأسمعه جزءاً، فأخبر الشيخ بذلك فقال لأبي داود: أمثلي يعمل معه مثل هذا؟ فقال له: أيها الشيخ، لا تنكر علي ما فعلته، واجمع ابني هذا مع شيوخ الفقهاء والرواة فإن لم يقاومهم بمعرفته فاحرمه حينئذ من السماع. قال: فاجتمع طائفة من الشيوخ، فتعرض لهم هذا الابن مطارحاً وغلب الجميع بفهمه، ولم يرو له الشيخ مع ذلك شيئاً من حديثه، وحصل لذلك الجزء الأول، وكان ابن أبي داود يفتخر برواية هذا الجزء الواحد.
قال أبو بكر بن أبي داود: دخلت الكوفة ومعي درهم واحد فاشتريت به ثلاثين مداً باقلاء، فكنت آكل منه مداً وأكتب عن أبي سعيد الأشج ألف حديث. فلما كان الشهر حصل معي ثلاثون ألف حديث. قال أبو ذر الهروي: من بين مقطوع، ومرسل، وموقوف.
وكان أبو بكر عبد الله بن سليمان إمام العراق وعلم العلم في الأمصار، ومن نصب له السلطان المنبر، فحدث عليه لفضله ومعرفته. وحدث قديماً قبل السبعين ومئتين. قدم(12/241)
همذان سنة نيف وثمانين ومئتين. وكتب عنه عامة المشايخ ذلك الوقت. وكان في وقته بالعراق مشايخ أسند منه، ولم يبلغوا في الإتقان ما بلغ هو.
قال ابن شاذان: قدم ابن أبي أصبهان، فسألوه أن يحدثهم فقال: ما معي أصل، فقالوا: ابن أبي داود وأصول؟! فأملى عليهم ثلاثين ألف حديث، ما أخطأ إلا في سبعة: ثلاثة هو أخطأ فيها، وأربعة كان شيوخه أخطؤوا فيها.
قال أبو بكر بن أبي داود: حدثت بأصبهان من حفظي نيفاً وثلاثين ألف حديث ألزموني الوهم منها في سبعة أحاديث، ولما انصرفت إلى العراق وجدت في كتابي خمسة منها على ما كنت حدثتهم به.
خرج أبو بكر بن أبي داود إلى سجستان في أيام عمرو بن الليث، فاجتمع إليه أصحاب الحديث وسألوه أن يحدثهم فأبى وقال: ليس معي كتاب. فقالوا له: ابن أبي داود وكتاب؟! قال أبو بكر: فأثاروني، فأمليت عليهم ثلاثين ألف حديث من حفظي. فلما قدمت بغداد قال البغداديون: مضى ابن أبي داود إلى سجستان ولعب بالناس، ثم فيجوا فيجاً اكتروه بستة دنانير، إلى سجستان ليكتب لهم النسخة، فكتب وجيء بها إلى بغداد وعرضت على الحفاظ بها فخطؤوني في ستة أحاديث: منها ثلاثة حدثت بها كما حدثت، وثلاثة أحاديث أخطأت فيها.
قال أبو حفص بن شاهين: أملى علينا ابن أبي داود نحو العشرين سنة، ما رأيت بيده كتاباً، إنما كان يملي حفظاً. وكان يقعد على المنبر بعدما عمي، وكان ابنه أبو معمر يقعد تحته بدرجة وبيده كتاب يقول له: حديث كذا، فيقول من حفظه حتى يأتي على المجلس. وكان قرأ عليهم يوماً حديث القنوت من حفظه، فقام أبو تمام الزينبي وقال: لله درك، ما رأيت مثلك إلا أن يكون إبراهيم الحربي. فقال ابن أبي داود: كل ما كان يحفظ إبراهيم فأنا أحفظه، وأنا(12/242)
أعرف الطب وإبراهيم ما كان يعرفه، وأنا أعرف النجوم وإبراهيم ما كان يعرف.
قال هبة الله بن الحسن الطبري، وحكى عن عيسى بن علي بن عيسى الوزير: إنه كان يشير إلى موضع في داره فيقول: حدثنا أبو القاسم البغوي في ذلك الموضع، وحدثنا يحيى بن صاعد في ذلك الموضع، وحدثنا أبو بكر بن مجاهد في ذلك الموضع، وذكر غير هؤلاء، فقلنا له: لا نراك تذكر أبا بكر بن داود: فقال: ليته إذا مضينا إلى داره كان يأذن لنا في الدخول إليه والقراءة عليه.
قال أبو حفص بن شاهين:
لما أراد الوزير عيسى بن علي أن يصلح بين ابن أبي داود وابن صاعد جمعهما عنده، وحضر القاضي أبو عمر، فقال الوزير لابن أبي داود: أبو محمد أكبر منك فلو قمت إليه يا أبا بكر وسلمت عليه فقال: لا أفعل، فقال له الوزير: أنت شيخ زيف، فقال ابن أبي دواد: الشيخ الزيف الكذاب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال الوزير: من الكذاب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: هذا، ثم قام وقال: تتوهم أني أذل لك لأجل أن رزقي يصل على يدك، والله ما أخذت من يدك شيئاً أبداً، ويم آخذه يكون علي مئة بدنة مجللة مهداة إلى بيت الله الحرام. فكان المقتدر بعد ذلك يرزق رزقه بيده ويجعله في طبق ويبعثه إليه من يد الخادم. وكان مولد ابن صاعد سنة تسع وعشرين، ومولد ابن أبي داود سنة ثلاثين. بينهما سنة. وتوفي ابن أبي داود سنة ست عشرة وثلاث مئة. ومن شعر ابن أبي داود:
إذا تشاجر أهل العلم في خبر ... فليطلب البعض من بعض أصولهم
إخراجك الأصل فعل الصادقين فإن ... لم تخرج الأصل لم تسلك سبيلهم
فاصدع بعلمٍ ولا تردد نصيحتهم ... واظهر أصولك إن الفرع متهم
قال أبو بكر بن أبي داود: رأيت أبا هريرة في النوم وأنا بسجستان أصنف حديث أبي هريرة، كث اللحية ربعة، أسمر، عليه ثياب غلاظ فقلت: يا أبا هريرة، إني لأحبك فقال: أنا أول صاحب(12/243)
حديث كان في الدنيا قلت: يا أبا هريرة، كم من رجل أسند عن أبي صالح عنك؟ فقال: مئة رجل، قال ابن داود: فنظرت فإذا عندي نحوها.
قال أبو بكر بن أبي داود: مررت يوماً بباب الطاق فإذا رجل يعبر الرؤيا، فمر به رجل فأعطاه قطعة، وقال: رأيت البارحة كأني أطالب بصداق امرأة ولم أتزوج قط، فرد عليه القطعة وقال: ليس لهذه جواب، فقلت له: خذ منه القطعة حتى أفسر له جوابها، فأخذ القطعة فقلت للرجل: أنت تطالب بخراج أرض ليست لك. فقال: هو ذا والله، معي العون.
سئل الدارقطني عن أبي بكر بن أبي داود فقال: ثقة إلا أنه كثير الخطأ في الكلام على الحديث.
كان أبو داود السجستاني يقول: ابني عبد الله كذاب.
وكان يقول: ومن البلاء أن عبد الله يطلب القضاء.
وكان ابن أبي داود يتهم بالانحراف عن علي عليه السلام والميل عليه.
قال رجل لمحمد بن جرير الطبري: إن ابن أبي داود يقرأ على الناس فضائل علي بن أبي طالب! فقال ابن جرير: تكبيرة من حارس.
قال علي بن عبد الله الداهري: سألت ابن أبي داود بالري عن حديث الطير، فقال: إن صح حديث الطير فنبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باطل، لأنه حكى عن حاجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيانة، وحاجب النبي لا يكون خائناً.
كان أبو بكر بن أبي داود قدم أصبهان، وكان من المتبحرين في فنون العلم والحفظ والفهم والذكاء، فحسده جماعة من الناس. وأخبرني يوماًفي مذاكرته ما قالته الناصبة في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وما نسبه الخوارج والنواصب إليه. فنسبوا الحكاية إليه، وتقولوا عليه، وحرضوا جعفر بن محمد بن شريك، وأقاموا بعض العلوية خصماً، فأحضر(12/244)
مجلس الوالي أبي ليلى الحارث بن عبد العزيز، وأقاموا عليه الشهادة، فأمر الوالي أبو ليلى بضرب عنقه، فاتصل الخبر بمحمد بن عبد الله بن الحسن فحضر الوالي أبا ليلى وجرح الشهود وقدم في شهادتهم، وأخذ بيد عبد الله بن أبي داود فأخرجه وخلصه من القتل. وكان عبد الله بن أبي داود يدعو لمحمد بن عبد الله طول حياته، ويدعو على الذين شهدوا عليه، فاستجيب له فيهم، وأصابت كل واحد منهم دعوته، فمنهم من احترق، ومنهم من خلط وفقد عقله. وقد روي عنه أنه تبرأ من ذلك. وكان يقول: كل من بيني وبينه شيء أو ذكرني بشيء فهو في حل إلا من رماني ببغض علي بن أبي طالب.
لما توفي عبد الله بن سليمان صلى عليه مطلب الهاشمي ثم أبو عمر حمزة بن القاسم الهاشمي، ثم صلي عليه ثمانين مرة حتى أنفذ المقتدر بنازوك، فخلصوا جنازته ودفنوه. ومات وهو ابن سبع وثمانين سنة. وصلى عليه زهاء ثلاث مئة ألف إنسان وأكثر، وصلي عليه في أربعة مواضع، رحمه الله.
عبد الله بن سليمان بن يوسف
ابن يعقوب بن الحكم بن المنذر بن الجارود أبو محمد العبدي البعلبكي ويقال: البغدادي حدث عن أبي إسحاق الفزاري بسنده إلى عبد الله قال:
كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في صلاة الصبح " ألم تنزيل " و" تبارك ".
وبه عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن لله ملائكةً سياحين في الأرض، يبلغوني عن أمتي السلام.
وحدث عن الليث بن سعد بسنده عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ".(12/245)
عبد الله بن سماعة والد إسماعيل
قال محمد بن شعيب: قال لي عبد الله بن سماعة: ما أتت علي منذ عشرين سنة ليلة إلا ختمت فيها القرآن.
عبد الله بن سوار بن همام
ابن ثعلبة بن عبد الله بن زيد بن عامر بن الحارث العبدي تابعي.
قال خليفة: وفي سنة خمس وأربعين بعث ابن عامر عبد الله بن سوار العبدي فافتتح القيقان، وأصاب غنائم، وأفاد منها، خيل البراذين القيقانية من نسل تلك الخيل. ثم قدم، واستخلف كراز بن أبي كراز العبدي، وقدم على معاوية فرده إلى عمله، وعزل ابن عامر.
ثم قال خليفة: سنة سبع وأربعين: فيها غزا عبد الله بن سوار العبدي القيقان فجمع له الترك. فقتل عبد الله بن سوار وعامة ذلك الجيش، وغلب المشركون على القيقان.
عبد الله بن سلام بن الحارث
أبو يوسف الإسرائيلي حليف الأنصاري أسلم وصحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشهد له بالجنة، وشهد مع عمر بن الخطاب الجابية، وفتح بيت المقدس. كنيته أبو يوسف. وكان اسمه الحصين، فلما أسلم سماه سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله. وهو من بني إسرائيل من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن. وهو حليف القواقلة من بني عوف بن الخزرج.(12/246)
حدث عبد الله بن سلام أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الحرب خدعة.
وروى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الحياء من الإيمان.
وروى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اللهم بارك لأمتي في بكورها.
وحدث سعد بن أبي وقاص عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله عز وجل: " وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله " قال: هو عبد الله بن سلام.
وسلام مخفف اللام.
وكان عبد الله بن سلام من أحبار يهود.
وعن عبد الله بن سلام قال: لما ورد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة انجفل الناس عليه، فكنت فيمن انجفل، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته يقول: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام.
وعن أنس: أن عبد الله بن سلام أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقدمه المدينة فقال: يا رسول الله، إني سائلك عن ثلاث خصال لا يعلمها إلا نبي قال: سل، قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول ما يأكل منه أهل الجنة؟ ومن أين يشبه الولد أباه وأمه؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أخبرني بهن جبريل آنفاً. قال: - قال: جبريل، ذاك عدو اليهود من الملائكة - قال: أما أول أشراط الساعة فنار تخرج من المشرق فتحشر الناس إلى المغرب، وأما أول ما يأكل منه أهل الجنة زيادة كبد حوت، وأما شبه الولد أباه وأمه: فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع إليه(12/247)
الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع إليها. قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وقال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي يبهتوني عندك، فأرسل إليهم فسلهم عن أي رجل ابن سلام فيكم؟ قال: فأرسل إليهم فقال: أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وعالمنا وابن عالمنا، وأفقهنا وابن أفقهنا، قال: أرأيتم إن أسلم تسلمون؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك. قال: فخرج ابن سلام فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قالوا: شرنا وابن شرنا وجاهلنا وابن جاهلنا، فقال ابن سلام: هذا الذي كنت أتخوف منهم.
وفي حديث آخر: وتخبرني عن السواد الذي في القمر ما هو؟ وفي جوابه: وأما السواد الذي في القمر فإنهما كانا شمسين فقال الله عز وجل: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل " فهو السواد الذي رأيت، فهو المحو. فمحونا به الليل.
وقيل: كان من حديث إسلام عبد الله بن سلام وكان حبراً عالماً. قال: لما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرفت صفته واسمه وزمانه وهيئته، والذي كنا نتوكف له، فكنت مسراً لذلك صامتاً عليه حتى قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة. فلما قدم نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كبرت، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادماً ما زدت. قال: قلت لها: أي عمة هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بعث بما بعث به. فقالت لي: أي ابن أخ أهو النبي الذي كنا نخبر به أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قال: قلت: نعم.
قلت: فذاك إذاً. قال: ثم خرجت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا، وكتمت إسلامي اليهود. ثم جئت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: إن اليهود قوم بهت وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك فتغيبني عنهم ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا بهتوني وعابوني. قال:(12/248)
فأدخلني بعض بيوته، فدخلوا عليه فكلموه وساءلوه ثم قال لهم: أي رجل الحصين بن سلام فيكم؟ قالوا: سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا وعالمنا. فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم، فقلت لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله، واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون إنه لرسول الله، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، اسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله، وأومن به وأصدقه وأعرفه. قالوا: كذبت، ثم وقعوا في، فقلت: يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت وأهل كذب وغدر وفجور؟ قال: فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث فحسن إسلامها.
وحدث عوف بن مالك قال: انطلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً وأنا معه حتى دخلنا كنيسة بالمدينة يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم. فقال لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضبه عليه، فاسكتوا، ما أجابه منهم أحد، ثم رد عليهم فلم يجبه أحد ثم تلبث فلم يجبه أحد فقال: أبيتم، فوالله إني لأنا الحاشر والعاقب وأنا المقفي، النبي المصطفى، لآمنتم أو كذبتم. ثم انصرف وأنا معه حتى أردنا أن نخرج، فإذا رجل من خلفنا، فقال: كما أنت يا محمد، فقال ذاك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود قالوا: والله ما نعلم فينا رجلاً أعلم بكتاب الله، ولا أفقه منك ولا من أبيك من قبلك ولا من جدك قبل أبيك. قال: فإني أشهد الله أنه نبي الله الذي تجدون في التوراة. قالوا له: كذبت، ثم ردوا عليه وقالوا فيه شراً. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كذبتم لن نقبل قولكم، أما آنفاً فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، وأما إذ آمن كذبتموه، قلتم فيه ما قلتم، فلن نقبل قولكم. قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا وابن سلام فأنزل الله عز وجل فيه: " قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ".
وعن الضحاك في تفسير هذه الآية قال: قال عبد الله بن سلام:
يا رسول الله، إن اليهود أعظم قومٍ عضيهة فسلهم عني وخذ عليهم ميثاقاً إني إن(12/249)
اتبعك وآمنت بكتابك أن يؤمنوا بك وبكتابك الذي أنزل إليك، وأخبأني يا رسول الله قبل أن يدخلوا عليك، فأرسل إلى اليهود فقال: ما تعلمون عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وأعلمنا بكتاب الله، سيدنا وعالمنا وأفضلنا قال: أرأيتم إن شهد أني رسول الله وآمن بالكتاب الذي علي تؤمنون بي؟ قالوا: نعم. فدعاه فخرج عليهم عبد الله فقال: يا عبد الله بن سلام، أما تعلم أني رسول الله؟ تجدوني مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، أخذ الله أن تؤمنوا بي أن يتبعني من أدركني منكم؟ قال: بلى، قالوا: ما نعلم أنك رسول الله وكفروا به، وهم يعلمون أنه رسول الله، وأن ما قال حق، فأنزل الله عز وجل: " قل أرأيتم إن كان من عند الله " يعني الكتاب والرسول " وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله " يعني: عبد الله بن سلام " فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ".
وعن سعد بن أبي وقاص قال: ما سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشهد لأحد أنه من أهل الجنة إلا الجنة إلا لعبد بن سلام.
زاد في حديث آخر: وفيه نزلت هذه الآية: " وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم ".
وعن سعد: دفعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده فضلة من طعام فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليطلعن عليكم من هذا الفج رجل يأكل هذه الفضلة من أهل الجنة. قال: فمررت بعمير بن مالك وهو يتوضأ فقلت في نفسي: هوصاحبها، فجعلنا نتشوف شخوص من يطلع علينا، فطلع عبد الله بن سلام على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدعا له بالفضلة يأكلها. وفي رواية: فأكلها.
وعن خرشة بن الحر قال: كنت جالساً في حلقة في مسجد المدينة، وفيها شيخ حسن الهيئة وهو عبد الله بن سلام. قال: فجعل يحدثهم حديثاً حسناً. قال: فلما قام القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. قال: فقلت: والله لأتبعنه فلأعلمن مكان بيته.(12/250)
قال: فاتبعته فانطلق حتى كاد يخرج من المدينة ثم دخل منزله، فاستأذنت عليه فأذن لي فقال: ما حاجتك يا بن أخي؟ قلت له: سمعت القوم يقولون لك لما قمت: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. فأعجبني أن أكون معك، فقال: الله أعلم بأهل الجنة وسأحدثك مم قالوا ذاك: إني بينا أنا نائم إذ أتاني رجل فقال لي: قم، قال: فأخذ بيدي فانطلقت معه فإذا أنا بجواد عن شمالي فقال: لا تأخذ فيها فإنها طرق أصحاب الشمال. قال: وإذا أنا بجواد منهج عن يميني فقال لي: خذ هاهنا. قال: فأتى بي جبلاً فقال لي: اصعد. قال: فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت على استي حتى فعلت ذلك مراراً، قال: ثم انطلق بي حتى أتى عموداً رأسه في السماء وأسفله في الأرض وفي أعلاه حلقة، فقال لي: اصعد بي فوق هذا، فقلت له: كيف أصعد فوق هذا ورأسه في السماء؟! فأخذ بيدي فزجل بي فإذا أنا متعلق بالحلقة. قال: ثم ضرب العمود فخر. قال: وبقيت متعلقاً بالحلقة حتى أصبحت. قال: فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقصصتها عليه. قال فقال: وأما الطريق التي رأيت عن يسارك فهي طرق أصحاب الشمال. قال: وأما الطرق التي رأيت عن يمينك فهي طرق أصحاب اليمين، وأما الجبل فهو منازل الشهداء ولن تناله، وأما العمود فهو عمود الإسلام، وأما العروة فهي عروة الإسلام لم تزل متمسكاً بها حتى تموت، ثم قال: أتدري كيف خلق الله الخلق؟ قال: قلت: لا، قال: خلق الله آدم فقال: تلد فلاناً وتلد فلاناً، ويلد فلان فلاناً، ويلد فلان فلاناً. أجله كذا وكذا، وعمله كذا وكذا، ورزقه كذا وكذا، ثم ينفخ فيه الروح.
وعن يزيد بن عميرة السكسكي وكان تلميذاً لمعاذ بن جبل: فلما حضرت معاذاً الوفاة قعد يزيد عند رأسه يبكي فنظر إليه معاذ فقال: ما يبكيك؟! فقال له يزيد: أما والله ما أبكي لدنيا كنت أصبتها معك، ولكني أبكي لما فاتني من العلم فقال له معاذ: إن العلم كما هو لم يذهب، فاطلب العلم بعدي عند أربعة، ثم سماهم فيهم عبد الله بن سلام الذي قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو عاشر عشرة في الجنة.(12/251)
وفي حديث آخر عن يزيد أيضاً:
لما حضر معاذ بن جبل الموت قيل له: يا أبا عبد الرحمن، أوصنا. قال: التمسوا العلم عند أبي الدراء، وسلمان، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام الذي كان يهودياً فأسلم، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنه عاشرة في الجنة.
قال الأعرج: كان مجاهداً يقرأ: " ومن عنده علم الكتاب " قال: وكان يقول: هو عبد الله بن سلام.
وعن عبد الله بن سلام: أنه جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني قرأت القرآن والتوراة فقال: اقرأ بهذا ليلة، وبهذا ليلة.
قال عبد الله بن المغفل: كان عبد الله بن سلام، وذكر عنه حديثاً في نهيه عن قتل عثمان وقوله لعلي بن أبي طالب: لا تأت العراق، وعليك بمنبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالزمه، ولا أدري هل ينجيك، فإن تركته لا تراه أبداً، فقال من حوله: دعنا فلنقتله، فقال علي: دعوا عبد الله بن سلام فإنه منا رجل صالح.
زعم عبد الله بن حنظلة أن عبد الله بن سلام مر في السوق وعليه حزمة من حطب فقيل له: أليس قد أغناك الله عن هذا؟! قال: بلى، ولكني أردت أن أقمع الكبر، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر.
وحدث بكير بن الأشج أن عبد الله بن سلام خرج من حائط بحزمة حطب يحملها، فلما أبصره الناس قالوا: يا أبا يوسف، قد كان في ولدك وعبيدك من يكفيك هذا! قال: أردت أن أجرب قلبي هل ينكر هذا.(12/252)
وشهد عبد الله بن سلام فتح نهاوند.
قال هشام بن محمد: نبئت أن عبد الله بن سلام قال: إن أدركني وليس بي ركوب فاحملوني حتى تضعوني بين الصفين. يعني: قبال الأعماق.
كان عبد الله بن سلام إذا دخل المسجد سلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: اللهم افتح لنا أبواب رحمتك، وإذا خرج سلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعوذ من الشيطان.
وحدث يحيى بن أبي كثير أن عبد الله بن سلام صك غلاماً صكة، فجعل يبكي ويقول: اقتص مني فيقول الغلام: لا أقتص من سيدي. قال ابن سلام: كل ذنب يغفره الله إلا صكة الوجه.
قال أبو بردة: قدمت المدينة فإذا عبد الله بن سلام جالس في حلقة، متخشع، عليه سيماء الخير، فقال: يا أخي، جئت ونحن نريد القيام، قال: فأذنت له - أو قال: أو قلت له: إذا شئت - فقام فاتبعته حتى انتهيت إلى منزله. قال: من أنت؟ قلت: أنا ابن أخيك، أبو بردة بن أبي موسى. قال: فرحب بي، وسألني وسقاني قدحاً من سويق فشربته، ثم قال: إنكم بأرض الريف، وإنكم تساكنون الدهاقين فيهدون لكم حملان القت والدواخل فلا تقربوها فإنها نار.
توفي عبد الله بن سلام بالمدينة سنة ثلاث وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان.(12/253)
عبد الله بن الشاعر السكسكي
كان بدمشق. وأظنه من أهل حمص.
حدث حوشب بن سيف قال: غزا الناس في زمان معاوية وعليهم عبد الرحمن بن خالد فغل رجل من المسلمين مئة دينار رومية. فلما قفل الجيش قدم الرجل فأتى عبد الرحمن بن خالد فأخبره خبره وسأله أن يقبلها منه. فأبى وقال: قد تفرق الجيش فلن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة، فجعل يستقرئ أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقولون له مثل ذلك. فلما قدم دمشق دخل على معاوية فذكر ذلك له فقال له مثل ذلك: فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع، فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي فقال له: ما يبكيك؟ فذكر له أمره، فقال أمطيعي أنت يا عبد الله؟ قال: نعم، قال: فانطلق إلى معاوية فقل له: اقبل مني خمسك، فادفع إليه عشرين ديناراً، وانظر الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش؛ فإن الله يقبل التوبة عن عباده وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم. ففعل الرجل، فقال معاوية: لأن أكون أفتيته بها أحب إلي من كل شيء أملكه. أحسن الرجل.
عبد الله بن شداد بن الهاد
واسمه أسامة بن عمرو بن عبد الله بن جابر ويقال: خالد بن بشر بن عتوراة بن عامر بن مالك بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن علي أبو الوليد الليثي المدني.
وفد على معاوية.
حدث عبد الله بن شداد عن علي قال: ما سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفدي أحداً بأبويه إلا سعد، فإني سمعته يوم أحد يقول: ارم فداك أبي وأمي.(12/254)
وحدث عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال: إنما حرمت الخمر بعينها، والمسكر من كل شراب. روى هذا الحديث مرة: المسكر. وقيل: السكر.
حدث عبيد الله بن عياض بن عمر القاري قال: جاء عبد الله بن شداد فدخل على عائشة ونحن جلوس عندها مرجعه من العراق، ليالي قتل علي عليه السلام فقالت له: يا عبد الله بن شداد، هل أنت صادقي عما أسألك عنه؟ تحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي؟ قال: ومالي لا أصدقك؟ قالت: فحدثني عن قصتهم. قال: فإن علياً عليه السلام لما كاتب معاوية وحكم الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس، فنزلوا بأرض يقال لها: حرواء من جانب الكوفة، وإنهم عتبوا عليه فقالوا: انسلخت من قميص ألبسك الله واسم سماك الله به، ثم انطلقت فحكمت في دين الله، ولا حكم إلا لله، فلما أن بلغ علياً ما عتبوا عليه، وفارقوه عليه قام فأذن مؤذن بأن لا يدخل على أمير المؤمنين رجل إلا رجلاً قد حمل القرآن. فلما أن امتلأت الدار من قراء الناس دعا بمصحف إمام عظيم فوضعه بين يديه، فجعل يصكه بيده ويقول: أيها المصحف، حدث الناس، فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما تسأل عنه، إنما هو مداد في ورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فما تريد؟ قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا، بيني وبينهم كتاب الله. يقول الله عز وجل في كتابه في امرأة ورجل: " وإن خفتم شقاق بينهما " فأمة محمد أعظم دماً وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا علي أن كاتبت معاوية. كتبت: علي بن أبي طالب، وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديبية حين صالح قومه قريشاً فكتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: كيف تكتب؟ فقال: اكتب: باسمك اللهم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اكتبه. ثم قال فاكتب محمد رسول الله،(12/255)
فقال: لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك فكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشاً. يقول الله عز وجل في كتابه: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ". فبعث إليهم علي عبد الله بن عباس فخرجت معه حتى إذا توسطنا عسكرهم قام ابن الكوا فخطب الناس فقال: يا حملة القرآن، هذا عبد الله بن عباس فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه من كتاب الله ما يعرفه به. هذا ممن نزل فيه وفي قومه: " قوم خصمون " فردوه إلى أصحابه، ولا تواضعوه كتاب الله، فقام خطباؤهم فقالوا: والله لنواضعنه كتاب الله، فإن جاء بحق نعرفه لنتبعنه، وإن جاء بباطل لنبكتنه بباطله، فواضعوا عبد الله الكتاب ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف، كلهم تائب فيهم ابن الكوا حتى أدخلهم على علي بالكوفة، فبعث علي إلى بقيتهم فقال: قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم، فقفوا حيث شئتم حتى تجتمع أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بيننا وبينكم أن لا تسفكوا دماً حراماً، وتقطعوا سبيلاً أو تظلموا ذمة، فإنكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكمالحرب على سواء " إن الله لا يحب الخائنين ".
فقالت له عائشة: يا بن شداد، فقد قتلهم، فقال: والله ما بعث إليهم حتى قطعوا السبيل، وسفكوا الدم، واستحلوا أهل الذمة. فقالت: آلله؟ قال: الله الذي لا إله إلا هو لقد كان. قالت: فما شيء بلغني عن أهل العراق يتحدثون ويقولون: ذو الثدي وذو الثدي؟ قال: قد رأيته وقمت مع علي عليه في القتلى، فدعا الناس فقال: أتعرفون هذا؟ فما أكثر من جاء يقول: قد رأيته في مسجد بني فلان، ورأيته في مسجد بني فلان يصلي. ولم يأتوا فيه بثبت يعرف إلا ذلك. قالت: فما قول علي حين قام عليه كما يزعم أهل العراق؟ قال: سمعته يقول: صدق الله ورسوله. يرحم الله علياً، إنه كان من(12/256)
كلامه، لا يرى شيئاً يعجبه إلا قال: صدق الله ورسوله، فيذهب أهل العراق يكذبون عليه، ويزيدون عليه في الحديث.
قيل: إن الهاد جد عبد الله، إنما سمي بذلك لأنه كان يهدي الناس. وأم عبد الله بن شداد: سلمى بنت عميس أخت أسماء بنت عميس الخثعمية.
قال محمد بن سعد بن سعد: في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة: عبد الله بن شداد بن أسامة بن عمرو - وعمرو هو الهاد - بن عبد جابر. وإنما سمي عمرو الهاد لأنه كان يوقد ناره ليلاً للأضياف ولمن سلك الطريق.
وكان عبد الله بن شداد مع علي يوم النهر، ولقي عمر بن الخطاب وجماعة وكان شيعياً. وكان يأتي الكوفة كثيراً. فينزلها، وخرج فيمن خرج مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقتل يوم دجيل سنة إحدى وثمانين.
وروي عن شعبة قال: قدم عبد الله بن شداد وعبد الرحمن بن أبي ليلى اقتحم بهما فرساهما الفرات فذهبا، يوم الجماجم سنة ثلاث وثمانين.
قال عطاء بن السائب: سمعت عبد الله بن شداد بن الهاد يقول: لوددت أني أقمت على المنبر من غدوة إلى الظهر فأذكر فضائل علي ثم أنزل فيضرب عنقي.(12/257)
عبد الله بن شقيق أبو الرحمن العقيلي
من أهل البصرة. قدم الشام واجتاز بدمشق.
قال عبد الله بن شقيق: سألت عائشة: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرن بين السور؟ قالت: المفصل. قلت: أكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي جالساً؟ قالت: حين حطمه الناس. قلت: أكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصوم شهراً معلوماً سوى رمضان؟ قالت: لا والله، ما صام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً معلوماً. سوى رمضان، يصومه كله حتى يصيب منه.
وعن عبد الله بن شقيق قال: أقمت بالمدينة مع أبي هريرة سنة، فقال لي ذات يوم ونحن عند حجرة عائشة: لقد رأيتني وما لنا ثياب إلا البراد المتفتقة. وإنه ليأتي على أحدنا الأيام ما يجد طعاماً يقيم به صلبه، حتى إن كان أحدنا ليأخذ الحجر فيشده على أخمص بطنه؛ ثم يشده بثوبه ليقيم به صلبه. فقسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم بيننا تمراً فأصاب كل إنسان منا سبع تمرات فيهن حشفة، فما يسرني أن لي مكانها تمرة جيدة. قال: قلت: لم؟ قال: تشد لي من مضغي. قال: فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: من الشام، قال: فقال لي: هل رأيت حجر موسى؟ قلت: وما حجر موسى؟ قال: إن بني إسرائيل قالوا لموسى قولاً تحت ثيابه في مذاكره، قال: فوضع ثيابه على صخرة وهو يغتسل. قال: فسعت بثيابه. قال: فتبعها في أثرها وهو يقول: يا حجر، ألق ثيابي، يا حجر، ألق ثيابي، حتى أتت به على بني إسرائيل فرأوه سوياً حسن الخلق فلجته ثلاث كحبات. فوالذي نفس أبي هريرة بيده لو كنت نظرت لرأيت كحبات موسى فيه.
وحدث عبد الله بن شقيق عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بادروا الصبح بالوتر.(12/258)
كان عبد الله بن شقيق عثمانياً، يبغض علياً.
قال يحيى بن معين: عبد الله بن شقيق، من خيار المسلمين لا يطعن في حديثه.
وقال الجريري: كان عبد الله بن شقيق مجاب الدعوة، كانت تمر به السحابة فيقول: اللهم لا تجوز موضع كذا وكذا حتى تمطر، فلا تجاوز ذلك الموضع حتى تمطر.
توفي عبد الله بن شقيق في ولاية الحجاج، وقال خليفة: توفي بعد المئة.
عبد الله بن شوذب أبو عبد الرحمن الخراساني البلخي
سكن البصرة، وانتقل إلى الشام، وسكن بيت المقدس، وقدم دمشق وسمع بها.
حدث ابن شوذب عن أبي التياح عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك.
قال ابن شوذب: كنا عند مكحول ومعنا سليمان بن موسى، فجاء رجل فاستطال على سليمان، وسليمان ساكت، فجاء أخ لسليمان فرد عليه. فقال مكحول: لقد ذل من لا سفيه له.
ذكر ابن شوذب أن مولده سنة ست وثمانين.
وثقه جماعة.
قال كثير بن الوليد: كنت إذا رأيت ابن شوذب ذكرت الملائكة.(12/259)
وعن ابن شوذب قال: يقول الله عز وجل: ما أنصفني ابن آدم، يدعوني فأستحي منه، ويعصيني ولا يستحيي مني.
قال ابن شوذب: كان بمكة رجل يطعم الطعام. قال: فشكته قريش إلى هشيم قالوا: يزدري بنا، قال: فنهاه هشيم أن يطعم إلا في جفنة واحدة. قال: فأخذ جفنة شبه السفينة، فكان يطعم الناس فيها الحيس والتمر بمنى، وكان يجلس في صدرها، فكلما نفذ أمدهم بالحيس والتمر. قال: فمررت مع أيوب السختياني عليه، فنظر إليه، فجعل يدعو له ويعجب بفعاله. توفي ابن شوذب سنة ست وخمسين ومئة. أو أول سنة سبع وخمسين ومئة.
عبد الله بن شيبة بن عثمان
ابن أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ابن قصي بن كلاب القرشي العبدي الحجبي وهو عبد الله الأصغر المعروف بالأعجم من أهل مكة. وفد على سليمان بن عبد الملك يشكو عامله على مكة خالد بن عبد الله القسري.
قال محمد بن سلام الجحمي:
كان خالد على مكة أيام سليمان بن عبد الملك، وكانت ولايته للوليد قبل ذلك، فعتب على رجل من بني عبد الدار يقال له: عبد الله بن الأعجم بن شيبة بن عثمان، فحبسه فأرسل ابن ابنه محمد بن طلحة بن عبد الله - وكنت معه إلى سليمان، فكتب له سليمان إلى خالد كتاباً أنه لا سلطان لك عليه، ولا على أحد من بني شيبة.(12/260)
قال ابن سلام: فسمعت يونس يقول: فقدم الكتاب على خالد، فحبسه وضربه مئة سوط، فأتى الشيبي سليمان، فأراه ظهره وأرسل بثوبه مع ابنه متزملاً بالدماء، فكتب سليمان إلى طلحة بن داود الحضرمي - وكان قاضي مكة - يأمره إن كان خالد ضربه بعد قراءة الكتاب أن يقطع يده، وإن كان ضربه قبل قراءة الكتاب أن يضربه مئة سوط، ويسهد ثلاث ليال.
قال محمد بن عائشة: فشهد له رجلان ضخمان: داود بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان يلي أمر زمزم، فكان يقيم بمكة، وعبد الأعلى بن عبد الله بن عامر بن كريز، شهدا أن خالداً ضربه قبل قراءة الكتاب، فضربه طلحة مئة سوط وسهد فكان يقول: التسهيد أشد علي من الضرب. فمر به الفرزدق وهو يضرب فقال: ضم إليك جناحك يا بن النصرانية. قال خالد: فانتفعت بما قال، فقال الفرزدق:
لعمري لقد صبت على ظهر خالدٍ ... شآبيب ما استهللن من سبل القطر
وعمري لقد سار ابن شيبة سيرةً ... أرتك نجوم الليل ضاحية تجري
أتضرب في العصيان من ليس عاصياً ... وتعصي أمير المؤمنين، أخا قسر؟!
وكان سليمان أمر بقطع يده البتة، فكلمه يزيد بن المهلب فصار إلى ما صار إليه. وقيل: إن يزيد بن المهلب قبل يده. وقال الفرزدق:
سلوا خالداً لا قدس الله خالداً ... متى ملكت قسر قريشاً تدينها
أقبل رسول الله أم بعد عهده ... أم أضحت قريش قد أغث سمينها
وأم عبد الله بن شيبة: لبنى بنت شداد بن قيس بن الأوبر بن أبان بن صفوان، من بني الحارث بن كعب.(12/261)
عبد الله بن صالح بن جرير
أبو محمد. لقبه: عبيد حدث عبد الله بن صالح عن سليمان بن عبد الرحمن بسنده إلى جابر بن عبد الله أن رجلاً أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله عن وقت الصلاة، فسكت عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأذن بلال بصلاة الظهر حين زالت الشمس، فأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقام الصلاة، فصلى. ثم أذن بلال بالعصر حين ظننا أن ظل الرجل قد كان أطول منه، فأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقام الصلاة. ثم أذن بلال بالمغرب حين غابت الشمس. وأفطر الصائم، فأمره فأقام الصلاة. ثم أذن بلال بالعشاء - وهي العتمة - حين ذهب بياض النهار، - وهو الشفق - فيما يرى، فأمره فأقام الصلاة. ثم أذن بلال بالفجر حين تبين الفجر، فأمره فأقام الصلاة فصلى.
ثم أذن بلال للغد لصلاة الظهر حتى دلكت الشمس فأخرها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ظننا أن ظل الرجل قد صار مثله، فأمره فأقام الصلاة، فصلى. ثم أذن بالعصر فوخر بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ظننا أن ظل الرجل قد صار مثليه، فأقام الصلاة، فصلى. ثم أذن المغرب فأخر بنا حتى كاد يذهب بياض النهار، - وهو الشفق - فيما نرى نحن، فأمره، فأقام الصلاة. ثم أذن بالعشاء - وهي العتمة - حين ذهب بياض النهار. فنمنا ثم قمنا. مراراً. ثم خرج إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن الناس قد صلوا ورقدوا. وإنكم لا تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة. لولا أن أشق على أمتي لأخرت الصلاة إلى هذا الحين. ثم صلى قريباً من نصف الليل - أو قبل أن ينتصف - ثم أذن بلال بالفجر، فأخرها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أسفر الصبح ورأى الرامي مواقع نبله، ثم صلى، ثم التفت إلى الناس - يعني - فقال: أين سائلي عن وقت الصلاة؟ فقال: هذا أنا يا رسول الله، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما بين هذين الوقتين وقت الصلوات.
وحدث عبد الله بن صالح بن جرير عن سليمان بن عبد الرحمن بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم.(12/262)
عبد الله بن صالح بن علي
ابن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي كان مع أبيه بالحميمة من أرض الشراة من نواحي البلقاء. وكان عظيم القدر كبير المحل.
حدث عبد الله بن صالح سنة اثنتين وستين ومئة عن عمه سليمان بن علي عن عكرمة قال: إني لمع ابن عباس بعرفة إذا فتية أدمان يحملون فتى في كساء، معرورق الوجه، ناحل البدن، وله حلاوة، حتى وضعوه بين يدي ابن عباس وقالوا له: استشف له يا بن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال ابن عباس وما به؟ فأنشأ الفتى يقول:
بنا من جوى الأحزان والوجد لوعةً ... تكاد لها نفس الشفيق تذوب
ولكنما أبقى حشاشة معول ... على بابه عود هناك صليب
فأقبل ابن عباس على عبيد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسدبن عبد العزى فقال: أخذ هذا البدوي العود علينا وعليك. قال: فحملوه فخفت في أيديهم فمات. فقال ابن عباس: هذا قتيل الحب لا عقل ولا قود. قال عكرمة: فما رأيت ابن عباس سأل الله في شيء إلا العافية مما ابتلى به الفتى.
قال عبد الله بن صالح: لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك، فإنما يسعى في مضرته ونفعك.
قال جعفر بن محمد بن الحارث: قدم عبد الله بن صالح في خلافة الرشيد مدينة السلام، فدخل عليه أحداث من أهل بيته، فرآهم على غير منهاج آبائهم. فلما مضوا من عنده تمثل:
سوء التأدب أرداهم وغيرهم ... وقد يشين صحيح المنصب الأدب
قال: وسمرت ليلة عند عبد الله بن صالح فذكرنا ما حدث من الاستهتار باللذات فقال عبد الله: ما عرفت فينا - أهل البيت - رجل يشرب نبيذ، ولا استماع غناء حتى ولي، ولقد أدركت من مضى من أهل بيتي يصونون من الدنس أعراضهم، ويحفظون من العار(12/263)
أحسابهم، ثم خلفهم كما قال حسان بن ثابت:
إني رأيت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا
توفي عبد الله بن صالح بسلمية من أرض حمص سنة ست وثمانين ومئة.
عبد الله بن صالح بن محمد
ابن مسلم أبو صالح المصري الجهني مولاهم، كاتب الليث بن سعد قدم دمشق مع الليث بن سعد متوجهاً إلى العراق.
حدث عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح أن العلاء بن الحارث بن الحارث حدثه عن مكحول أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجهاد واجب عليكم مع كل بر وفاجر، وإن هو عمل الكبائر. والصلاة واجبة عليكم، على كل مسلم يموت، براً كان أو فاجراً وإن هو عمل الكبائر.
وحدث عبد الله بن صالح عن ليث بسنده إلى أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن في أحد جناحي الذباب داءً وفي الآخر شفاءً، فإذا وقع في إناء أحدكم فليغطسه ثم يخرجه.
حدث الليث بن سعد عن عبد الله بن صالح عمن أخبره يرفع الحديث إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما أعطى أحد أربعة فمنع أربعة: ما أعطي أحد الشكر فمنع الزادة لأن الله تعالى يقول: " لئن شكرتم لأزيدنكم " ومن أعطي الدعاء لم يمنع الإجابة لأن الله تعالى يقول: " ادعوني استجب لكم " وما أعطي أحد الاستغفار ثم منع المغفرة لأن الله تعالى(12/264)
يقول: " استغفروا ربكم إنه كان غفاراً " وما أعطي أحد التوبة فمنع التقبل لأن الله تعالى يقول: " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده " فسألت أبا صالح عن ذلك فقال: نعم أنا حدثته بذلك. فسألت أبا صالح فحدثني به. قلت: من حدثك؟ قال: حدثني أبو زهير يحيى بن عطارد بن مصعب عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثم ذكر الحديث.
وحدث عبد الله بن صالح بن نافع بن يزيد بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين. واختار من أصحابي أربعة أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فجعلهم أصحابي. وفي أصحابي كلهم خير. واختار أمتي على سائر الأمم.
قالوا: وهذا الحديث موضوع بطوله.
قال أبو صالح، كاتب الليث: ولدت سنة تسع وثلاثين ومئة. وقال في موضع آخر: سنة سبع وثلاثين ومئة.
قال عبد الله بن صالح: صحبت الليث عشرين سنة لا يتغدى، ولا يتعشى وحده إلا مع الناس. وكان لا يأكل اللحم إلا أن يمرض.
وقال الفضل بن محمد الشعراني: ما رأيت عبد الله بن صالح إلا وهو يحدث أو يسبح.
وكان عبد الله بن صالح ثقة مأموناً.
قال أبو حاتم:
الأحاديث التي أخرجها أبو صالح في آخر عمره التي أنكروا عليه نرى أنها مما افتعله(12/265)
خالد بن نجيح وكان أبو صالح يصحبه. وكان أبو صالح سليم الناحية. وكان خالد بن نجيح يفتعل الحديث، ويضعه في كتب الناس، ولم يكن وزن أبي صالح وزن الكذب، كان رجلاً صالحاً. وقد طعن فيه قوم. قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن عبد الله بن صالح كاتب الليث فقال: كان أول أمره متماسكاً ثم فسد بأخرةٍ، وليس هو بشيء.
توفي أبو صالح سنة اثنتين وعشرين ومئتين أو بعدها بيسير، وهو ابن خمس وثمانين. وقيل: مات سنة ثلاث وعشرين. وروى ذلك جماعة.
عبد الله بن صخر
وفد على سليمان بن عبد الملك.
وحدث، قال: خرجت من عند سليمان بن عبد الملك في الظهيرة، فإذا رجل يهتف بي: يا عبد الله بن صخر، فالتفت إليه فقال لي: لله أبوك لهذا العدو الذي أتيح لأبوينا وهما في الجنة يأكلان منها رغداً حيث شاءا، فلم يزل يمينهما، ويدليهما بغرور ويقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين حتى أخرجهما مما كانا فيه. ثم ها هو ذا قد نصب لنا فنحن نمد أعيننا إلى ما لم يقسم لنا من الرزق، حتى نقطع أنفسنا دونه، ويزهدنا في الذي قد انتهى إلينا وحوينا من رزق الله حتى تقصر في الشكر. قال: فذهبت لأجيبه فما أدري كيف ذهب. قال: فذكرته فقيل: ذلك الخضر عليه السلام، أو لا نظنه إلا الخضر.
قال أبو محمد بن أبي حاتم: عبد الله بن صخر روى كلاماً في الزهد والحكمة عن رجل تراءى له، ثم غاب حتى لا يدري كيف ذهب. فذكر له أنه كان الخضر.(12/266)
عبد الله بن صفوان بن أمية
ابن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح واسمه تيم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر. أبو صفوان الجمحي المكي، وهو الأكبر، من ولد صفوان بن أمية أدرك عصر سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووفد على معاوية في خلافته، وله بدمشق دار في زقاق صفوان.
حدث أمية بن صفوان عن جده عم حفصة قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ليؤمن هذا البيت جيش يغزونه، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم، بأوسطهم، فينادي أولهم وآخرهم فلا ينجو إلا الشريد الذي يخبر عنهم. فقال رجل لجدي: والله، ما كذبت على حفصة، ولا كذبت حفصة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وحدث عبد الله بن صفوان عن حفصة بنة عمر قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يأتي جيش من قبل المشرق يريدون رجلاً من أهل مكة، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم، فرجع من كان أمامهم لينظر ما فعل القوم فيصيبهم ما أصابهم. فقلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان منهم مستكرهاً؟ قال: يصيبهم كلهم ذلك، ثم يبعث الله عز وجل كل امرئ على نيته.
أم عبد الله بن صفوان امرأة من ثقيف.
قتل وهو متعلق بأستار الكعبة مع ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين، وكان عبد الله بن صفوان من سادات قريش، ولد على عهد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثنتين من الهجرة.
قال أبو مجلز: سأل رجل ابن عمر عن أعور فقئت عينه الصحيحة، فقال عبد الله بن صفوان: قضى عمر بن الخطاب فيها بالدية. فقال: إياك أسأل! قال: تسألني؛ وهذا يخبرك أن عمر قضى بذلك؟!(12/267)
قال يزيد بن عياص بن جعدية: لما قدم معاوية مكة لقيته رجال قريش، فلقيه عبد الله بن صفوان على بعير في خفين وعمامة وبت. فساير معاوية، فقال أهل الشام: من هذا الأعرابي الذي يساير أمير المؤمنين؟ فلما انتهى إلى مكة إذا الجبل أبيض من غنم عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، هذه ألفا شاةٍ أحرزتكها، فقسمها معاوية في جنده. فقالوا: ما رأينا أسخى من ابن عم أمير المؤمنين هذا الأعرابي.
وعن جويرية قال:
قالت بنات أبي سفيان لمعاوية: يقدم عليك ابن أختك يعنين: عبد الرحمن بن صفوان بن أمية فتؤخره، ويقدم عليك عبد الله بن صفوان فتقدمه؟! قال: فأقعدهن مقعداً جعل بينه وبينهن سداً، فقال: ائذنوا لابن أختي، فأذن له: فلما دخل قال: مرحباً وأهلاً، حاجتك؟! قال: يا أمير المؤمنين، أقطعني كذا وأقطعني كذا، قال: هيه. قال: أقطعني وافعل بي كذا، ثم قال: ائذنوا لعبد الله بن صفوان. فلما أراد أن يدخل قام إليه رجل فقال: حاجتك إلى أمير المؤمنين في هذا القرطاس. فلما دخل قال: هيه، قال: آل فلان بيننا وبينهم من القرابة، وبهم حاجة قال: هيه حسبك لنفسك! قال: لو لم أفد إليك إلا لنفسي ما وفدت أبداً. فلما قدم قال: يا أمير المؤمنين، حاجة هذا الرجل. قال: حسبك، قال: لا والله لا أقبل منك بواحدة إلا بهذه. قال: فدخل على أخوته فقال: أذنت لذاك فما سألني إلا لنفسه، وأذنت لهذا فما سألني إلا لقرابتي.
وعن عامر بن حفص التميمي قال: قدم رجل من مكة على معاوية فقال: من يطعم اليوم بمكة؟ قال: عبد الله بن صفوان قال: تلك نار قديمة.
قال علي بن سليمان: حضر قوم من قريش مجلس معاوية، فيهم عمرو بن العص وعبد الله بن صفوان بن(12/268)
أمية وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال عمرو: احمدوا الله يا معشر قريش إذ جعل ولي أمركم من يغض على القذى، ويتصام عن العوراء، ويجر ذيله على الخدائع. فقال عبد الله بن صفوان: لو لم يكن كذلك لمشينا إليه الضراء ودببنا إليه الخمر، وقلبنا له ظهر المجن، ورجونا أن يقوم بأمرنا من لا يطعمك مال مضر. فقال معاوية: حتى متى لا تنصفوا من أنفسكم؟! فقال عبد الرحمن بن الحارث: إن عمراً وذويه أفسدوك علينا، فأفسدونا عليك، ما كان عليك لو أغضيت على هذه، فقال: إن عمراً ناصح لي. قال عبد الرحمن: فأطعمنا مثل ما أطعمته ثم خذنا بمثل نصيحته، إنا رأيناك يا معاوية تضرب عوام قريش بأياديك في خواصها، كأنك ترى أن كرامها حازوك عن لئامها، وايم الله لتفرغن من إنائهم في إناء ضخم، وكأنك بالحرب قد حل عقالها عليك، ثم لا ينظر لك. فقال له معاوية: يا بن أخي، ما أحوج أهلك إليك. معناه؛ إنني لا أقتلك ثم أنشأ يقول:
غر رجالاً من قريش تتايعوا ... على سفهٍ مني الحيا والتكرم
قدم على معاوية وفد من قريش فيهم عبد الله بن جعفر وابن الزبير وعبد الله بن صفوان بن أمية فوصلهم، وفضل عبد الله بن جعفر، فقال عبد الله بن صفوان: يا أمير المؤمنين، إنما صغرت أمورنا عندك، وحقت حقوقنا عليك إذ لم نقاتلك كما قاتلك غيرنا، ولو كنا فعلنا ذلك كنا كابن جعفر، فقال معاوية: إني أعطيكم بين رجلين: إما معدم أعطيته يخزن، أو مضمر لها مع بخل به، وإن ابن جعفر ارتجىيعطي مما يأخذ، ثم لا يأتينا حتى يدان بأكثر مما أخذ. فخرج ابن صفوان وهو يقول: إن معاوية: إن معاوية ليحرمنا حتى نيأس، ويعطينا حتى نطمع.
قال أبو عبد الله الأزدي: وفد المهلب بن أبي صفرة على عبد الله بن الزبير، فأطال الخلوة معه، فجاء ابن(12/269)
صفوان فقال: من هذا الذي قد شغلك منذ اليوم يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذا سيد العرب بالعراق، قال: ينبغي أن يكون المهلب، قال: فهو المهلب بن أبي صفرة، فقال المهلب: من هذا الذي يسألك عني يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا سيد قريش بمكة. قال: ينبغي أن يكون عبد الله بن صفوان.
قال ابن مليكة: كان عمر بن عبد العزيز يقول لي: ما بلغ ابن صفوان ما بلغ؟ قلت: أجل، سأخبرك، والله لو أن عبداً وقف عليه يسبه ما استنكف عنه ابن صفوان، وسأخبرك عنه: إنه لم تكن تأتيه قط إلا كان أول خلق الله تسرعاً إليه الرجال، ولم يسمع بمفازة إلا حفرها ولا ثنية إلا سهلها، وكنتم تقدمون علينا هاهنا فيكون أولنا عليكم دخولاً، وآخرنا من عندكم خروجاً، وكنتم تحسبوننا بعطائنا، فيصيح بكم وأنتم بالشام ونحن بمكة فتخرجونها له، فبهذا بلغ.
أقبل أبو حميد بن داود بن قيس بن السائب المخزومي على عبد الله بن صفوان بن أمية يشتمه ويقع فيه، وهو جالس في المسجد، وحوله بنوه وأهله فقال: عزمت على رجل منكم أن يجيبه، ثم انصرف، فقالوا له: لم نر مثل تركك هذا يشتمك، فأمر له بصلة مكانه. فأقبل عليه بعد ذلك فقال: أشتمك وتصلني؟! قال: تريد أن تزيل الحبال؟. وتناول رجل من أهل مكة ابناً لعبد الله بن صفوان ببعض ما يكره، فأمسك عنه الفتى. فقال مجاهد: لقد أشبه أباه في الحلم والاحتمال.
كان محمد بن الحنفية عند ابن عباس وقد جاءهم نعي الحسين بن علي عليه السلام، وعزاهم الناس، فقال ابن صفوان: إنا لله وإنا إليه راجعون، أي مصيبة! يرحم الله أبا عبد الله، وآجركم الله في مصيبتكم. فقال ابن عباس: يا أبا القاسم، ما هو إلا أن أخرج من مكة، فكنت أتوقع ما أصابه. قال ابن الحنفية: وأنا والله. فعند الله نحتسبه، ونسأله الأجر وحسن الخلف. قال ابن عباس: يا أبا صفوان، أما والله لا يخلد بعد صاحبك(12/270)
الشامت بموته، فقال ابن صفوان: يا أبا صفوان: يا أبا العباس، والله ما رأيت ذلك منه، ولقد رأيته محزوناً بمقتله، كثير الترحم عليه. قال: يريك ذلك لما يعلم من مودتك لنا، فوصل الله رحمك، لا يحبنا ابن الزبير أبداً. قال ابن صفوان: فجد بالفضل فأنت أولى به منه.
كان عبد الله بن صفوان ممن يقوي أمر عبد الله بن الزبير، فقال له عبد الله بن الزبير: قد أذنت لك وأقلتك بيعتي. قال: إني والله ما قاتلت معك لك، ما قاتلت إلا عن ديني، فأبى أن يقبل الأمان حتى قتل هو وابن الزبيرمعاً في يوم واحد، وهو متعلق بأستار الكعبة. وله يقول الشاعر:
كرهت كتيبة الجمحي لما ... رأيت الموت سال به كداء
فليت أبا أمية كان فينا ... فيعذر أو يكون له غناء
قال يحيى بن سعد: رأيت رأس عبد الله بن مطيع أتي به إلينا إلى المدينة ورأس عبد الله بن الزبير ورأس عبد الله بن صفوان. ولم يؤت من الرؤوس بغير رؤوس هؤلاء.
عبد الله بن طاهر بن الحسين
ابن مصعب بن زريق بن أسعد أبو العباس الخزاعي الأمير ولاه المأمون دمشق ومصر، وقدم دمشق مجتازاً إلى مصر، وكان جواداً عادلاً.
حدث عبد الله بن طاهر عن أبيه بسنده إلى عبد الله بن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الله عز وجل سائل كل راع استرعاه رعية، قلت أو كثرت، حتى يسأل الزوج عن زوجته، والوالد عن ولده، والرب عن خادمه، هل أقام فيهم أمر الله. " كان عبد الله بارع الأدب، حسن الشعر، نبيهاً في نفسه. تنقل في الأعمال الجليلة شرقاً وغرباً، قلده المأمون مصر والمغرب، ثم نقله عنها إلى خراسان بعد وفاة أبيه. ومولده سنة ثلاث وثمانين ومئة. وتوفي عبد الله بنيسابور في خلافة الواثق سنة ثلاثين ومئتين،(12/271)
وسنه سبع وأربعون سنة. وكان إليه وقت وفاته الشرطتان، بمدينة السلام وسر من رأى. والحرب بطساسيج السواد وخليفته على ذلك إسحاق بن إبراهيم المصعبي وكان له الحرب والخراج بخراسان وأعمالها بجانبي النهر، وطبرستان وجرجان والري وأعمالها، ورثاه جماعة من الشعراء منهم علي بن الجهم، والحسن بن وهب الكاتب، وعمارة بن عقيل وغيرهم.
وعبد الله هو القائل للمعتصم: البسيط:
إن التي أمطرت بالند صوب ردى ... باتت تألق بالقاطول للروم.
إن الفتوح على قدر الملوك ... وهمات الولاة وإقدام المقاديم.
وله: الطويل:
يبيت ضجيعي السيف طوراً وتارة ... تعض بهامات الرجال مضاربه.
أخو ثقة أرضاه في الروع صاحباً ... وفوق رضاه أنني أنا صاحبه.
وكان عبد الله بن طاهر أحد الأجواد الممدحين والسمحاء المذكورين.
قال أبو نصر بن ماكولا: رزيق بتقديم الراء: جد الحسين بن مصعب بن رزيق بن أسعد. وكان أسعد مولى لسعد بن أبي وقاص. ويزعم أن اسمه كان آزاد مرد بن فرخان بن هرمزدان. وذكر قوم أن رزيقاً كان نوبياً مزنياً. ذكر ذلك ابن أبي معدان في تاريخ مرو. وهو والد طاهر بن الحسين الأمير.
قال إسحاق بن راهويه: سألني عبد الله بن طاهر: متى مات عبد الله بن المبارك؟ فقلن له: مات سنة اثنتين وثمانين ومئة. قال: ذلك مولدي.(12/272)
قال أحمد بن سعيد الرباطي: قال لي عبد الله بن طاهر: يا أحمد، إنكم تبغضون هؤلاء القوم يعني المرجئة جهلة، وأنا أبغضهم عن معرفة. وإن أول أمرهم أنهم لا يرون للسلطان طاعة، والثاني: ليس للإيمان عندهم قدر، والله، لا أستجير أن أقول: إيماني كإيمان يحيى بن يحيى، ولا كإيمان أحمد بن حنبل، وهم يقولون: إيماننا كإيمان جبريل وميكائيل.
قال عبد الله بن طاهر: لا تمنعوا العلم طالبه، فإنه أوحش جانباً من أن يستقر إلا عند أهله.
قال إبراهيم بن محمد بن عرفة: غلب عبد الله بن طاهر على الشام، ووهب له المأمون ما وصل إليه من الأموال هنالك، ففرقه على القواد، ثم وقف على باب مصر فقال: أخزى الله فرعون ما كان أخسه وأدنى همته، ملك هذه القرية فقال: أنا ربكم الأعلى. والله لادخلتها.
قالت فاطمة امرأة يحيى من حديث: قام يحيى ليلة لورده. فلما فرغ منه يقرأ في المصحف، فدخل عبد الله بن طاهر عليه. فلما قرب منه وسلم قام إليه والمصحف في يده، ثم رجع إلى قراءته حتى ختم السورة التي كان افتتحها، ثم وضع المصحف، واعتذر إلى الأمير وقال: لم أشتغل عنه تهاوناً بحقه، إنما كنت افتتحت سورة فختمتها. فقعد عبد الله ساعة يحدثه ثم قال له: ارفع إلينا حوائجك، فقال: وهل يستغنى عن السلطان أيده الله؟ وقد وقعت لي حاجة في الوقت. فإن قضاها رفعتها، فقال: مقضية ما كانت، فقال أبو زكريا: قد كنت أسمع بمحاسن وجه الأمير، فلم أعانيها إلا ساعتي هذه، وحاجتي إليك أن لا تركب ما يحرق المحاسن بالنار. فأخذ الأمير عبد الله بن طاهر في البكاء حتى قام يبكي.
ورد رجل من هراة فرفع قصته إلى عبد الله بن طاهر. فلما قدم بين يديه قال: من(12/273)
خصمك؟ قال: الأمير أيده الله. قال: ما الذي تدعي علي؟ قال: ضيعة لي بهراة غصبنيها والد الأمير، وهي اليوم في يده. قال. قال: ألك بينة؟ قال: إنما تقام البينة بعد الحكومة إلى القاضي. فإن رأى الأمير أيده الله أن يحملني وإياه على حكم الإسلام. قال: فدعا عبد الله بن طاهر بالقاضي نصر بن زياد ثم قال للرجل: ادع. قال: فادعى الرجل مرة بعد أخرى. فلم يلتفت إليه نصر بن زياد، ولم يسمع دعواه، فعلم الأمير أنه قد امتنع عن استماع الدعوى حتى يجلس الخصم مع المدعي، فقال عبد الله بن طاهر من مجلسه حتى جلس مع خصمه بين يديه، فقال نصر للمدعي: ادع فقال: أدعي أيد الله القاضي أن ضيعة لي بهراة وذكرها بحدودها وحقوقها، هي لي في يدي الأمير، فقال له الأمير عبد الله بن طاهر: أيها الرجل، قد غيرت الدعوى إنما ادعيت أولاً على أبي، فقال الرجل: لم أشته أن أفضح والد الأمير في مجلس الحكم، ادعي أن والد الأمير قد كان غصبني عليها، وإنها اليوم في يد الأمير، فسأل نصر بن زياد عبد الله بن طاهر عن دعواه فأنكره، فالتفت إلى الرجل فقال: ألك بينة؟ قال: لا، قال: فما الذي تريده؟ قال: يمين الأمير بالله الذي لا إله إلا هو قال: فقال الأمير إلى مكانه وأمر الكاتب ليكتب إلى هراة برد الضيعة عليه.
قال المأمون لعبد الله بن طاهر: أيما أطيب: مجلسي أو مجلسك؟ قال: ما عدلت بك يا أمير المؤمنين شيئاً. فقال: ليس إلى هذا ذهبت، إلى الموافقة في العيش واللذة قال: منزلي يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذاك؟ قال: لأني فيه مالك، وانا ها هنا مملوك.
قال أحمد بن أبي داؤد: خرج دعبل بن علي إلى خراسان فنادم عبد الله بن طاهر، فأعجب به فكان في كل يوم ينادمه فيه يأمر له بعشرة آلاف درهم، وكان ينادمه في الشهر خمسة عشر يوماً، وكان ابن طاهر يصله في كل شهر بمئة وخمسين ألف درهم. فلما كثرت صلاته له توارى عنه دعبل(12/274)
يوم منادمته في بعض الخانات. فطلبه، فلم يقدر عليه فشق عليه. فلما كان من الغد كتب: الطويل:
هجرتك، لم أهجرك من كفر نعمة ... وهل يرتجى منك الزيادة بالكفر؟
ولكنني لما أتيتك زائراً ... فأفرطت في بري عجزت عن الشكر
فم الآن لا آتيك إلا معذراً ... أزورك في الشهرين يوماً وفي الشهر
فإن زدت في بري تزيدت جفوة ... ولم نلتق حتى القيامة والحشر
وقد حدثني أمير المؤمنين المأمون عن أمير المؤمنين الرشيد عن المهدي عن المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من لا يشكر الله عز وجل، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير. " فوصله بثلاث مئة ألف درهم. وانصرف.
لما قدم عبد الله بن طاهر من خراسان اعترضه دعبل الشاعر، فأنشأ يقول: المنسرح:
جئتك مستشفعاً بلا سبب ... إليك إلا بحرمة الأدب
فاقض دمامي فإنني رجل ... غير ملح عليك في الطلب
قال: يا غلام، أعطه عشرة آلاف درهم. قال: فأعطاه وكتب إليه من الكامل
أعجلتنا فأتلك عاجل برنا ... ولو انتظرت كثيره لم يقلل
فخذ القليل وكن كمن لم يسأل ... ونكون نحن كأننا لم نفعل
حدث محمد بن الفضل بن محمد بن منصور قال: لما افتتح عبد الله بن طاهر مصر ونحن معه سوغه المأمون خراجها سنة، فصعد المنبر فلم ينزل حتى أجاز بها كلها ثلاثة آلاف ألف دينار أو نحوها، فقبل أن ينزل أتاه معلى الطائي، وقد أعلموه ما يصنع عبد الله بن طاهر بالناسفي الجوائز، وكان عليه واجداً، فوقف بين يديه تحت(12/275)
المنبر قفال: أصلح الله الأمير، أنا معلى الطائي ما كان مني من جفاء وغلظ، فلا تعجله علي قلبك ولا يستخفنك ما قد بلغك، انا الذي أقول: البسيط:
يا أعظم الناس عفواً عند مقدرة ... وأظلم الناس عند الجود للمال
لو يصبح النيل يجري ماؤه ذهباً ... لما أشرت إلى خزن بمثقال
تعنى بما فيه رق الحمد تملكه ... وليس شيء أعاض الحمد بالغالي
تفك باليسر كف العسر في زمن ... إذا استطال على قوم بإقلال
لم تخل كفك من جود لمختبط ... أو مرهف قاتل في رأس قتال
وما بثثت رعيل الخيل في بلد ... إلا عصفن بأرزاق وآجال
هل من سبيل إلى إذن فقد ظمئت ... نفسي إليك فما تروى على حال
إن كنت منك على بال مننت به ... فكان شكرك من حمدي على بال
مازلت مقتضياً لولا مجاهرة ... من ألسن خضن في ضري بأقوال
قال: فضحك عبد الله وسر بما كان منه، وقال: يا أبا السمراء، بالله أقرضني عشرة آلاف دينار، فما أمسيت أملكها، فأقرضه، فدفعها إليه.
دخل عوف بن ملحم الحراني على عبد الله بن طاهر، فسلم عليه عبد الله فلم يسمع فأعلم بذلك، فزعموا أنه ارتجل هذه القصيدة: السريع:
يا بن الذي دان له المشرقان ... طراً وقد دام له المغربان
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وبدلتني بالشطاط الحني ... وكنت كالصعدة تحت السنان
وبدلتني من زمتع الفتى ... وهمتي هم الجبان الهدان(12/276)
وقاربت مني خطاً لم تكن ... مقاربات وثنت من عنان
وأسبلت بيني وبين الورى ... عنانه من غير نسج العنان
ولم تدع في لمستمتع ... إلا لساني وبحسبي لسان
أدعو به الله وإنني به ... على الأمير المصعبي الهجان
فقرباني بأبي أنتما ... في وطني قبل اصفرار البنان
وقبل منعاتي إلى نسوة ... أوطانها حران والرقتان
جاء أعرابي إلى ابن طاهر وهو راكب فأنشده: الوافر:
سألت عن المكارم أين صارت ... فكل الناس أرشدني إليكا
فجد لي يا بن طاهر إن فعلي ... سيثني بالذي تولي عليكا
فقال له: كم ثمن هذين البيتين؟ قال: ألفا درهم. قال: لقد أرخصت. يا غلام، أعطه أربعة آلاف درهم فقال: البسيط
صدقت ظني وظن الناس كلهم ... فأنت أكرمنهم نفساً وأجداداً
لا زلت في روضة خضراء واسعة ... وأنت أخضرها روضاً وأعود
فقال: يا غلام، أعطه أربعة آلاف أخرى فقال: من الطويل:
لو كان قولي بهذا الشعر مستمعاً ... لكنت أحوي خراج الشرق والغرب
أنت الكريم الذي يعطي بلا نكد ... وأنت تحيي الذي قد مات من جدب
فقال: يا غلام: أعطه أربعة آلاف أخرى، فلما قبضها قال: أيها الأمير فني شعري ولم يضق صدرك.
حدث عوف بن ملحم الشيباني قال: عادلت عبد الله بن طاهر إلى خراسان، فدخلنا الري في وقت السحر، فإذا قمرية(12/277)
تغرد على فنن شجرة فقال عبد الله بن طاهر: أحسن والله أبو كبير الهذلي جيث يقول: الطويل:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح؟!
ثم قال يا عوف: أجز، فقلت: أعز الله الأمير شيخ ثلب حملته على البديهة، ولا سيما في معارضة أبي كبير، ثم انفتح لي شيء فقلت: الطويل:
أفي كل يوم غربة ونزوح ... أما للنوى من ونية فنريح؟
لقد طلح البين المشت ركائبي ... فهل أرين البين وهو طليح؟
وأرقني بالري نوح حمامة ... فنحت وذو الشجو الحزين ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعة ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامة فيح
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ... فنلقي عصا التطواف وهي طريح
فإن الغنى يدني الفتى من صديقه ... وبعد الغنى بالمقترين طروح
قال: فأذن لي من ساعتي، ووصلني بمئة ألف درهم، وردني إلى منزلي.
الثلب: الهرم: والأسراب: ظهور الماء وما يسرب، فهو مثل هذا.
دخل كلثوم العتابي على عبد الله بن طاهر مع أصحاب القصص. فلما نظر إليه قال: حاجتك يا شيخ؟ فأنشأ يقول: الخفيف:
حسن ظني وحسن ما عود الله سواي بك الغداة أتى بي
أي شيء يكون أحسن من حسن يقين ثنى إليك ركابي؟
قال كلثوم: قال: ألا أتيتنا أول الدهر، وتمر له بألفي دينار.
وقيل إن العتابي دخل عليه فأنشده البيتين حسن ظني فأمر له بجائزة، ثم دخل عليه مرة أخرى فأنشده: السريع:(12/278)
جودك يكفينيك في حاجتي ... ورؤيتي تكفيك مني السؤال
فكيف أخشى الفقر ما عشت لي ... وإنما كفاك لي بيت مال
فأجازه أيضاً. ثم دخل عليه اليوم الثالث فأنشده: الخفيف
أكسني ما يبيد أصلحك الله فإني أكسوك ما لا يبيد
فأجازه وكساه وحمله.
قال أحمد بن يزيد ين أسيد السلمي: كنت مع طاهر بن الحسين بالرقة، وأنا أحد قواده، وكانت لي به خاصة أجلس عن يمينه. فخرج علينا يوماً راكباً ومشينا بين يديه وهو يتمثل: الطويل:
عليكم بداري فاهدموها فإنها ... تراث كريم لا يخاف العواقبا
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... وأعرض عن ذكر العواقب جانبا
سأرحض عني العار بالسيف جالباً ... علي قضاء الله ما كان جالبا
فدار حول الرافقة ثم رجع فجلس مجلسه، فنظر في قصص ورقاع فوضع فيها صلات أحصيت ألف ألف وسبع مئة ألف. فلما فرغ نظر إلي مستطعماً الكلام فقلت: أصلح الله الأمير، ما رأيت أنبل من هذا المجلس، ولا أحسن ودعوت له، ثم قلت: لكنه سرف، فقال: السرف من الشرف، فأردت الآية التي فيها " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً " فجئت بالأخرى إليها " إن الله لا يحب المسرفين " فقال: صدق الله، وما قلنا كما قلنا. ثم ضرب الدهر حتى اجتمعنا مع ابنه عبد الله بن طاهر في ذلك القصر بعينه، فخرج علينا راكباً وهو يتمثل: البسيط:
يا أيها المتمني أن يكون فتى ... مثل ابن ليلى لقد خلى لك السبلا
انظر ثلاث خلال قد جمعن له ... هل سب من أحد أو سب أو بخلا(12/279)
ثم دار حول الرافقة ثم انصرف وجلس مجلسه، وحضرنا، وحضرت رقاع وقصص فجعل يوقع فيها، وأنا أحصي، فبلغت صلاته ألفي ألف وسبع مئة ألف، زيادة ألف ألف على ما وصل أبوه ثم التفت إلي مستطعماً الكلام فدعوت له وحسنت فعاله، ثم أتبعت ذلك بأن قلت له: لكنه سرف، فقال: السرف من الشرف، فقلت: نعم اعز الله الأمير، السرف من الشرف، السرف من الشرف، كررتها. قال: لم كررتها؟ فقالت:
حدث الحسين بن منصور عن جماعة من طلبة الحديث قالوا: كنا بالشام أيام عبد الله بن طاهر قال: فأملقنا حتى صرنا في غير نفقة، وكانت العلماء لا تحدث يوم الجمعة، فقلنا لأصحابنا يوم الجمعة: مروا بنا إلى الفرات نغسل هذا الشعث عنا والدنس، فذهبنا إلى الفرات فغسلنا رؤوسنا وثيابنا، فأقبل شاب بين غلالتين يتلوه خادم حتى وقف علينا فقال: من انتم؟ قلنا: شتوت من الناس ونوازع بلدان فقال: من طلبة الحديث؟ قلنا: نعم. فقال: ممن يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص؟ قلنا: نعم. قال: فما حالكم في نفقاتكم؟ قلنا: أسوأ حال. فالتفت إلى الخادم فقال: يعطون ألفاً ألفاً. قال: فمر بنا، فألقيت في أكمامنا، ألفاً ألفاً، فقلنا للخادم: من هذا؟ قال: عبد الله بن طاهر.
قال سهيل بن ميسرة: لما رجع أبو العباس عبد الله بن طاهر من الشام ارتفع فوق سطح قصره، فنظر إلى دخان يرتفع في جواره فقال لعمرويه: ما هذا الدخان؟ قال: اظن القوم يجيرون قال: ويحتاج جيراننا أن يتكلفوا ذلك؟ ثم دعا حاجبه فقال له: امض ومعك كاتب، فأخص جيراننا ممن لا يقطعهم عنا شارع، فمضى فأحصاهم فبلغ عدد صغيرهم وكبيرهم أربعة آلاف نفس، فأمر لكل واحد منهم في كل يوم بمنوين خبزاً ومنا لحم، ومن التوابل في كل شهر عشرة دراهم، والكسوة في الشتاء مئة وخمسون درهماً وفي الصيف مئة درهم، وكان ذلك دأبه مقامه ببغداد. فلما خرج انقطعت الوظائف إلا الكسوة ما عاش أبو العباس.(12/280)
قال علي بن إسحاق: اشترى عبد الله بن طاهر جارية بخمسة وعشرين ألفاً على ابنة عمه فوجدت عليه وقعدت في بعض المقاصير، فمكثت شهرين لا تكلمه فعمل هذين البيتين
إلى كم يكون العتب في كل ساعة ... وكم لا تملين القطيعة والهجرا
رويدك إن الدهر فيه كفاية ... لتفريق ذات البين فانتظري الدهرا
وقال للجارية: اجلسي على باب المقصورة فغني به. فلما غنت بالبيت الأول لم تر شيئاً، فلما غنت البيت الثاني فإذا قد خرجت مشقوقة الثوب حتى اكبت رجليه فقبلتهما.
أنشد أبو العباس أحمد بن يحيى، ثعلب: الطويل
يقول رجال إن مرو بعيدة ... وما بعدت مرو وفيها ابن طاهر
وأبعد من مرو رجال أراهم ... بحضرتنا معروفهم غير حاضر
أنشد أبو صادق محمد بن أحمد بن شاذان الصيدلاني لبعضهم الكامل
يا من يؤمل ان تكون خصاله ... كخصال عبد الله أنصت واسمع
فلأمحضن لك النصيحة والذي ... حج الحجيج إليه فاقبل أو دع
أكرم وعف وكف واحلم واحتمل ... واسمع ودار وهش واصفح واسجع
قال عبد الله بن طاهر ذات يوم لرجل أمره بعمل: احذر أن تخطئ، فأعاقبك بكذا وكذا، لأمر عظيم، فقال: أيها الأمير، من كانت هذه عقوبته على الخطأ فما ثوابه على الإصابة؟ حكى المبرد عن عبد الله بن طاهر قال: المال غاد ورائح، والسلطان ظل زائل والإخوان كنوز وافرة.
ومن شعر عبد الله بن طاهر: الخفيف
ليس في كل ساعة وثوان ... تتهيأ صنائع الإحسان
فإذا أمكنت تقدمت فيها ... حذراً من تعذر الإمكان(12/281)
ولعبد الله بن طاهر: البسيط
نبهته وظلام الليل منسدل ... بين الرياض دفيناً في الرياحين
فقلت: خذ، قال: كفي لا تطاوعني ... فقلت: قم، قال: رجلي لا تواتيني
إني غفلت عن الشافي فصيرني ... كما سليب العقل والدين
قال محمد بن منصور البغدادي: دخلت على عبد الله بن طاهر وهو في سكرات الموت، فقلت: السلام عليك أيها الأمير فقال: لا تسمني أمير وسمني أسيراً، ولكن اكتب عني بيتين عرضا بقلبي، ما أراهما إلا آخر بيتين أقولهما ثم أنشأ يقول: السريع
بادر فقد أسمعك الصوت ... إن لم تبادر فهو الفوت
من لم تزل نعمته قلبه ... زال عن النعمة بالموت
توفي عبد الله بن طاهر سنة ثلاثين ومئتين، مرض ثلاثة أيام بوجع أصابه في حلقه بنيسابور، فولى الواثق ابنه طاهر أعماله كلها، وكان قد أظهر التوبة وكسر آلات الملاهي وعمر رباطات خراسان، ووقف لها الوقوف، وأظهر الصدقات، ووجه أموالاً عظيمة إلى الحرمين وافتدى أسرى المسلمين من الترك، وبلغ ما أنفقه على الأسارى ألفي ألف درهم.
كان زكريا بن دلويه يزور كل جمعة قبر عبد الله بن طاهر فيخرق الأسواق، وطريقه على قبر أستاذه أحمد بن حرب فلا يقف على قبره، فعوتب على ذلك فقال: إن أحمد بن حرب وغيره من العلماء والصالحين لم يفدهم زهدهم، وآثار عبد اللهبن طاهرباقية ما بقيت السموات والأرض.
قال محمد بن عبد الله بن منصور لما بلغه موت عبد الله بن طاهر: الكامل
هيهات لا يأتي الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيل(12/282)
عبد الله بن طاهر بن محمد
ابن كاكو أبو محمد المعروف بالقاضي ابن زينة الواعظ ولد بصور، ونشأ بالشام، كان يعظ في الأعزية. ذكر أنه ولد سنة سبع وثلاثين وأربع مئة.
أنشد عبد الله بن طاهر قال: أنشدني أبو إسحاق الشيرازي: البسيط
لما أتاني كتاب منك مبتسماً ... عن كل معنى ولفظ غير محدود
حكت معانيه في أثناء أسطره ... أفعالك البيض في أحوالي السود
وأنشد في وزير عزل عن الوزارة ثم أعيد: الرجز
قد رجع الأمر إلى نصابه ... وأنت من كل الورى أولى به
ما كان إلا السيف سلته يد ... ثم أعادته إلى قرابه
توفي سنة عشرين وخمس مئة.
عبد الله بن أبي بردة عامر
ويقال: الحارث بن عبد الله بن قيس الأشعري والد يزيد بن عبد الله الكوفي.
خرج بلال بن أبي بردة وأخوه عبد الله بن أبي بردة إلى عمر بن عبد العزيز، فاختصما إليه في الأذان في مسجدهم، فارتاب بهما عمر فدس إليهما رجلاً يقول لهما: أرأيتما إن كلمت أمير المؤمنين فولاكما العراق ما تجعلان لي؟ فبدأ الرجل ببلال فقال له ذلك فقال: أعطيك مئة ألف، ثم أتى أخاه فقال له مثل ذلك. فأخبر الرجل عمر فقال لهما: الحقا بمصركما، وكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن: لا تول بلالاً، بليل الشر، ولا أحداً من ولد أبي موسى شيئاً.
بليل الشر: صغر بلالاً.(12/283)
عبد الله بن عامر بن كريز
ابن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف أبو عبد الرحمن القرشي العبشمي.
له رواية من سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واستعمله عثمان على البصرة، فافتتح خراسان. وقدم على معاوية وزوجه ابنته هند، وأسكنه إل جنبه.
حدث عبد الله بن عامر وعبد الله بن الزبير قالا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قتل دون ماله فهو شهيد ".
ولما استعمل عثمان بن عفان عبد الله بن عامر على البصرة وعزل أبا موسى الأشعري قال أبو موسى: قد أتاكم فتى من قريش كريم الأمهات والعمات والخالات. يقول بالمال فيكم هكذا هكذا. وهو الذي دعا طلحة والزبير إلى البصرة، وقال: إن لي فيها صنائع، فشخصا معه، وله يقول الوليد بن عقبة: الطويل
ألا جعل الله المغيرة وابنه ... ومروان نعلي بذلة لابن عامر
لكي يقياه الحر والقر والأذى ... ولسع الأفاعي واحتدام الهواجر
وكان كثير المناقب وهو الذي افتتح خراسان وقتل كسرى في ولايته وأحرم من نيسابور شكراً لله، وهو الذي عمل السقايات بعرفة وكان سخياً كريماً. وأمه دجاجة بنت أسماء بن الصلت بن حبيب بن جارية بن هلال بن حرام بن سماك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم. وأخوه لأمه عبد ربه بن قيس بن السائب بن عويمر بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
أسلم عامر بن كريز يوم فتح مكة وبقي إلى خلافة عثمان، وقدم على ابنه عبد الله بن عامر البصرة، وهو واليها لعثمان بن عفان. وولد عامر بن عبد الله بمكة بعد الهجرة بأربع سنين. فلما كان عام عمرة القضاء سنة سبع، وقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة معتمراً(12/284)
حمل إليه ابن عامر وهو ابن ثلاث سنين فحنكه فتلمظ وتثائب فتفل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فيه وقال: هذا ابن السلمية؟ قالوا: نعم. قال: هذا ابننا وهو أشبهكم بنا، وهو مسقاء. فلم يزل عبد الله شريفاً، وكان كثير المال والولد، ولد له عبد الرحمن وهو ابن ثلاث عشرة سنة.
وكريز: بضم الكاف وفتح الراء.
وتوفي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولعبد الله بن عامر ثلاث عشرة سنة. وتوفي هو سنة تسع وخمسين. وقيل سنة ستين.
وكان عبد الله بن عامر ابن خال عثمان بن عفان: كانت أم عثمان أروى بنت كريز وأمها البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب بن هاشم، وكانت البيضاء وعبد الله أبو سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توأمين.
وعن أبي عبيدة النحوي أن عامر بن كريز أتى بابنه إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن خمس سنين أو ست سنين فتفل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فيه، فجعل يزدرد ريق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتلمظ، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن ابنك هذا لمسقاء قال: فكان يقال: لو أن عبد الله قدح حجراً أماهه. يعني: لخرج الماء من الحجر ببركته.
وكان عبد الله لا يعالج أرضاً إلا ظهر له الماء. وله النباج الذي يقال له نباج ابن عامر، وله الجحفة وله بستان ابن عامر على ليلة من مكة، وله آبار في الأرض كثيرة.
قال الأصمعي: أرتج على عبد الله بن عامر بالبصرة يوم أضحى فمكث ساعة ثم قال: والله لا أجمع عليكم عياً ولؤماً. من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها علي.(12/285)
وقيل: إنه صعد منبر البصرة فحصر، فشق ذلك عليه فقال له زياد: أيها الأمير، إنك إن أقمت عامة من ترى أصابه أكبر مما أصابك.
وعن زياد بن كسيب العدوي قال: كان عبد الله بن عامر يخطب الناس، عليه ثياب رقاق مرجل شعره. قال: فصلى يوماً ثم دخل. قال: وأبو بكر جالس إلى جنب المنبر، فقال مرداس أبو بلال: ألا ترون إلى أمير الناس وسيدهم يلبس الرقاق، ويتشبه بالفساق؟! فسمعه أبو بكر فقال لابنه الأصيلع: ادع لي أبا بلال فدعاه فقال له أبو بكرة: أما أني قد سمعت نقالتك للأمير آنفاً، وقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من أكرم سلطان الله أكرمه الله، ومن أهان سلطان الله أهانه الله ".
وذكرت لعبد الله بن عامر بعوث وسرايا وفتوحات وغنائم كثيرة.
قالا: ولما أحرم ابن عامر بالحج من خراسان كتب إليه عثمان يتوعده ويضعفه ويقول: تعرضت للبلاء، حتى قدم على عثمان، فقال له: صل قومك من قريش ففعل، وأرسل إلى علي بثلاثة آلاف درهم وكسوة، فلما جاءته قال: الحمد لله إنا نرى تراث محمد يأكله غيرنا، فبلغ ذلك عثمان فقال لابن عامر: قبح الله رأيك أترسل إلى علي بثلاثة آلاف درهم؟! قال: كرهت أن أغرق ولم أدر ما رأيك. قال: فأغرق. قال: فبعث إليه بعشرين ألف درهم وما يتبعها. قال: فراح علي إلى المسجد فانتهى إلى حلقته وهم يتذاكرون غير مدافع. قال: وتكلمت الأنصار فقال: أبت الطلقاء إلا عداوة، فبلغ ذلك عثمان فدعا ابن عامر فقال: أبا عبد الرحمن قِ عرضك ودار الأنصار، فألسنتهم ما قد علمت، قال: فأفشى فيهم الصلات والكسا فأثنوا عليه، فقال له عثمان: انصرف إلى عملك، فانصرف والناس يقولون: قال ابن عامر، وفعل ابن عامر. فقال ابن عمر: إذا طابت المكسبة زكت النفقة.
ولم تحتمله البصرة فكتب إلى عثمان يستأذنه في الغزو فأذن له، فكتب إلى ابن سمرة أن تقدم فتقدم فافتتح بست وما يليها، ثم مضى إلى كابل وزابلستان فافتتحهما، وبعث بالغنائم إلى ابن عامر. قالوا: ولم يزل ابن عامر ينتقص شيئاً شيئاً من خراسان حتى افتتح(12/286)
هراة وبوشنج وسرخس وأبر شهر والطالقان الفارياب وبلخ، فهذه خراسان التي كانت في زمن ابن عامر وزمن عثمان.
ومن حديث آخر: ثم كانت بالعراق غزوة جور وأميرها عبد الله بن عامر بن كريز يريد اصطخر، وعلى مقدمته عبيد الله بن معمر، وباصطخر يومئذ يزدجرد بن شهريار بن كسرى وهو ابن الختانة. فلما بلغه ذلك بعث جيشاً فلقوا عبيد الله فقاتلوه برام جرد فقتل عبيد الله بن معمر ورجع الآخرون، وخرج يزدجرد في مئة ألف مقاتل حتى أتى مرو فنزلها، وخلف على اصطخر رجلاً من الفرس، فأتاها عبد الله بن عامر فافتتحها، وقد كانت فتحت ذلك ولكن الفرس رجعوا إليها، وقتل يزدجرد بمرو، وكل من كان معه إلا رجلاً واحداً أخذ ابنه من أبيه الملك. ثم أتى جرجان فكان بها، ومضى عبد الله بن عامر حتى نزل بأبرشهر وبها ابنتا كسرى فحاصر أهلها، فصالحوه على أنفسهم أنهم آمنون وعلى ابنتي كسرى أنهما آمنتان وفتحوها له.
وكان ابن عامر هو اتخذ للناس السوق بالبصرة. اشترى دوراً فهدمها وجعلها سوقاً. وهو أول من لبس الخز بالبصرة، لبس جبة دكناء فقال الناس: لبس الأمير جلد دب، ثم لبس جبة حمراء فقالوا: لبس الأمير قميصاً أحمر. وهو أول من اتخذ الحياض بعرفة وأجرى إليها العين، وسقى الناس الماء، فذلك جار إلى اليوم. فلما استعتب عثمان من عماله كان فيما شرطوا عليه أن يقر ابن عامر على البصرة لتحببه إليهم، وصلته هذا الحي من قريش. فلما شتت الناس في أمر عثمان دعا ابن عامر مجاشع بن مسعود فعقد له على جيش إلى عثمان، فساروا حتى إذا كانوا بأداني بلاد الحجاز خرجت خارجة من أصحابه فلقوا رجلاً فقالوا: ما الخبر؟ قال: قتل عدو الله نعثل، وهذه خصلة من شعره، فحمل عليه(12/287)
زفر بن الحارث وهو يومئذ غلام مع مجاشع بن مسعود فقتله، فكان أول مقتول في دم عثمان. ثم رجع مجاشع إلى البصرة. فلما رأى ذلك ابن عامر حمل ما في بيت المال واستعمل على البصرة عبد الله بن عامر الحضرمي، ثم شخص إلى مكة فوافى بها طلحة والزبير وعائشة وهم يريدون الشام فقال: لا بل ائتوا البصرة، فإن لي بها صنائع، وهي أرض الأموال وبها عدد الرجال. والله لو شئت ما خرجت حتى أضرب بعض الناس ببعض، فقال طلحة: هلا فعلت؟ أأشفقت على مناكب تميم؟ ثم أجمع رأيهم على المسير إلى البصرة ثم أقبل بهم. فلما كان من أمر الجمل ما كان وهزم الناس، جاء عبد الله بن عامر إلى الزبير فأخذ بيده فقال: أبا عبد الله، أنشدك الله في أمة محمد، فلا أمة محمد بعد اليوم أبداً، فقال الزبير: خل بين الغارين يضطربان فإن مع الخوف الشديد المطامع، فلحق ابن عامر بالشام حتى نزل دمشق، وقد قتل ابنه عبد الرحمن يوم الجمل وبه كان يكنى.
ولما خرج ابن عامر عن البصرة بعث علي إليهما عثمان بن حنيف الأنصاري، فلم يزل بها حتى قدم طلحة والزبير وعائشة، ولم يزل عبد الله بن عامر مع معاوية بالشام ولم يسمع له بذكر في صفين، ولكن معاوية لما بايعه الحسن بن علي ولى بسر بن أبي أرطأة البصرة ثم عزله، فقال له ابن عامر: إن لي بها ودائع عند قوم، فإن تولني البصرة ذهبت، فولاه البصرة ثلاث سنين. ومات ابن عامر قبل معاوية بسنة، فقال معاوية: يرحم الله أبا عبد الرحمن، بمن نفاخر وبمن نباهي.
ولما فتح عبد الله بن عامر خراسان قال: لأجعلن شكري لله أن أخرج من موضعي محرماً، فأحرم من نيسابور. فلما قدم على عثمان لامه على ما صنع وقال: ليتك تضبط من الوقت الذي يحرم فيه الناس.
قال أبو بكر الهذلي: قال علي بن أبي طالب يوم الجمل: أتدرون من حاربت؟ حاربت أمجد الناس أو أنجد الناس يعني ابن عامر، وأشجع الناس يعني الزبير، وأدهى الناس يعني طلحة.
كان عبد الله بن عامر، بالبصرة عاملاً لمعاوية، فضعفه في عمله ضعفاً شديداً حتى شكي إلى معاوية. فلما أكثر عليه في أمره كتب إليه يسأله أن يزوره، فقدم عليه وكان(12/288)
يزوره ويأتيه ويتغدى عنده، ثم دخل إليه يودعه راجعاً إلى عمله فودعه، وقبل وداعه ثم قال: إني سائلك ثلاثاُ فقال: هي لك وأنا ابن أم حكيم قال: ترد علي عملي ولا تغضب علي، قال: قد فعلت. قال: وتهب لي مالك بعرفة. قال: قد فعلت. قال: وتهب لي دورك بمكة قال: قد فعلت. قال: وصلتك رحم، قال: وإنيسائلك يا أمير المؤمنين ثلاثاً فقل: قد فعلت. قال: قد فعلت وأنا ابن هند. قال: ترد إلي مالي بعرفة. قال: قد رددت إليك مالك بعرفة. قال: وتنكحني هند بنت معاوية قال: وقد فعلت. قال: ولا تحاسب لي عاملاً، ولا تتبع أثري. قال: قد فعلت.
وحدث قبيصة بن جابر عن معاوية في حديثه: لما سأله عمن يرى لهذا الأمر من بعده، يعني الخلافة. قال: وأما فتاها حياء وحلماً وسخاءً فابن عامر.
قال عبد الله بن محمد الفروي: اشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره التي في السوق ليشرع بها داره على السوق، بثمانين أو بسبعين ألف درهم. فلما كان الليل سمع بكاء أهل خالد فقال لأهله: ما هؤلاء؟ قال: يبكون دارهم. قال: يا غلام. فائتهم فأعلمهم أن الدار والمال لهم جميعاً.
ولما ولي ابن عامر البصرة انحدر عليه صديقان له من أهل المدينة حتى سارا إلى البصرة. ثم إن أحدهما ندم على مسيره، وكان نزيهاً غني القلب فقال لصاحبه: أنا راجع قال: أنشدك الله، أبعد الشقة البعيدة والنفقة الكبيرة ترجع صفراً؟! قال: إني لم أزل عن ابن عامر غنياً، والذي أغناه قادر أن يغنيني عنه، ثم اعتزم فرجع عنه ولم يبق ابن عامر. قال: فقال صاحبه: ما علمت من رجوعه شيئاً إلا وقد ساءني غير أني كنت أتسلى عن ذلك بفراغ وجه ابن عامر لي، وأملت أن يجعل صلتي وصلة صاحبي. قال: وكان لابن عامر رجل مقيم بالمدينة، فكتب إليه بشخوص من شخص يريده ولا يقدم الرجل إلا على جائزة معدة، وأمر قد أحكم له. قال: فلما دخل عليه قال له أين أخوك؟ فقص عليه(12/289)
القصص. قال: فأمر للمقيم بصلة، وأضعف ذلك للظاعن، فخرج المقيم متوجهاً وهو يقول: الطويل:
أمامة ما حرص الحريص بنافع ... فتيلاً ولا زهد المقيم بضائر
خرجنا جميعاً من مساقط روسنا ... على ثقة منا بجود ابن عامر
فلما أنخنا الناعجات ببابه ... تخلف عني الخزرجي ابن جابر
فقال ستكفيني عطية قادر ... على ما أراد اليوم للناس قاهر
فقلت: خلا لي وجهه ولعله ... سيجعل لي حظ الفتى المتأخر
فلما رآني سال عنه صبابة ... إليه كما حنت طراب الأباعر
فأضعف عبد الله إذ غاب حظه ... على حظ لهفان من الجوع فاغر
وأبت وقد أيقنت أن ليس نافعي ... ولا ضائري شيء خلاف المقادر
وفي حديث آخر بمعناه: أن الرجلين اللذين قصداه هما ابن جابر بن عبد الله الأنصاري وآخر من ثقيف، وأن الأنصاري لما كانا بناحية البصرة قال للثقفي: هل لك في رأي رأيته؟ قال: اعرضه. قال: رأيت أن ننيخ رواحلنا ونتناول مطاهرنا ونمس ماء ونصلي ركعتين، ونحمد الله على ما قضى من سفرنا. قال: هذا الذي لا يرد، فتوضيا ثم صليا ركعتين ركعيتن، فالتفت الأنصاري للثقفي فقال: يا أخا ثقيف ما رأيك؟ قال: وأي موضع رأي هذا؟! قضيت سفري، وأنصبت بدني، وأنضيت راحلتي، ولا مؤمل دون ابن عامر، فهل لك رأي غير هذا؟ قال: نعم، إني لما صليت هاتين الركعتين فكرت، فاستحييت من ربي أن يراني طالباً رزقاً من غيره، اللهم رازق ابن عامر ارزقني من فضلك، ثم ولى راجعاً إلى المدينة الحديث.
قال مغراء الضبي: لما قدم عبد الله بن عامر الشام أتاه من شاء الله أن يأتيه من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهم إلا أبو الدرداء، فإنه لم يأته، فقال: لا أرى أبا الدرداء أتاني فيمن أتى، فلآتينه(12/290)
ولأقضين من حقه، فأتاه فسلم عليه وقال له: أتاني أصحابك زلم تأتني، فأجبت أن آتيك وأقضي من حقك، فقال له أبو الدرداء: ما كنت قط أصغر في عين الله ولا في عيني منك اليوم، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا أن تنغير عليكم إذا تغيرتم.
لما مرض عبد الله بن عامر مرضه الذي مات فيه دخل عليه أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيهم ابن عمر قال: ما ترون في حالي؟ فقالوا: ما نشك لك في النجاة، قد كنت تقري الضيف وتعطي المختبط.
المختبط: الذي يسأله عن غير معرفة كانت بينهما، ولا يد سلفت منه إليه ولا قرابة.
وعن ميمون قال: بعث عبد الله بن عامر حين حضرته الوفاة إلى مشيخة أهل المدينة وفيهم ابن عمر، فقال: أخبروني كيف كانت سيرتي؟ قالوا: كنت تصدق، وتعتق، وتصل رحمك. قال: وابن عمر ساكت، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما يمنعك أن تتكلم؟ قال: قد تكلم القوم.
قال: عزمت عليك لتكلمن، فقال ابن عمر: إذا طابت المكسبة زكت النفقة، وستقدم فترى.
توفي عبد الله بن عامر سنة سبع، أو ثمان وخمسين. وقيل: سنة تسع وخمسين.
عبد الله بن عامر أبو عمران
ويقال: أبو عبيد الله ويقال: أبو نعيم، ويقال: أبو عامر اليحصبي قارئ أهل الشام.
حدث عبد الله بن عامر: أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر بدمشق يقول: يا أيها الناس، إياكم وأحاديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا حديثاً كان يذكر في عهد عمر، فإن عمر رجل يخيف الناس في الله عز وجل. قال: ثم قال: ألا إني سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول: " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ". ألا وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما أنا خازن وإنما الله عز وجل(12/291)
يعطي، فمن أعطيته عن طيب نفس فالله يبارك فيه، ومن أعطيته عطاء عن شرة وشدة مساءلة فهو كالذي يأكل ولا يشبع. ألا وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ": لا تزال أمة من أمتي قائمة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس.
قال عبد الله بن عامر: قال لي فضالة بن عبيد: أمسك علي هذا المصحف، ولا تردن علي ألفاً ولا واواً، وسيأتي أقوام لا يسقط عليهم ألف ولا واو. وذكر الحديث.
قال عبد الله بن عامر اليحصبي: كنت عند فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاءه رجلان يختصمان في باز، فقال أحدهما: وهبته له، وأنا أرجو أن يثيبني منه، وقال الآخر: وهب لي بازاً ولم أسأله إياه ولم أتعرض له. فقال: اردد إليه بازه أو أثبه منه، فإنما يرجع في المواهب النساء وشرار الأقوام.
قال الهيثم بن عمران: كان رأس المسجد بدمشق زمان الوليد بن عبد الملك وبعده، عبد الله بن عامر اليحصبي، وكان يزعم أنه من حمير، وكان يغمز في نسبه، فحضر شهر رمضان فقال: من يؤمنا؟ فذكروا رجالاً وذكروا المهاجر بن أبي المهاجر، فقال: ذاك مولى ولسنا نريد يؤمنا مولى، فبلغت سليمان. فلما استخلف بعث إلى مهاجر فقال: إذا كان الليلة أول ليلة في شهر رمضان فقف خلف الإمام، فإذا تقدم ابن عامر قبل أن يكبر فخذ بثيابه من خلفه ثم اجذبه وقل: تأخر فلن يتقدمنا دعي، وصل أنت بالناس. ففعل.
توفي عبد الله بن عامر سنة ثماني عشرة ومئة.
عبد الله بن أبي عائشة
حدث أن عمر بن عبد العزيز لم يغتسل من أهله من حين ولي إلا ثلاث مرات(12/292)
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب
ابن هاشم بن عبد مناف أبو العباس الهاشمي بن عم سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحبر الأمة وعالمها، وترجمان القرآن.
قدم دمشق وافداً على معاوية في السنة التي قتل فيها علي عليه السلام.
قال سعيد بن أبي الحسن: كنت عند ابن عباس إذ أتاه رجل فقال: إني إنسان، إنما معيشي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير، قال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من صور صورة فإن الله يعذبه يوم القيامة حتى ينفخ فيها " وليس بنافع أبداً، قال: فربا لها الرجل ربوة شديدة واصفر وجهه، ثم قال: ويحك، إن أتيت الآن تصنع فعليك بهذا الشجر، وكل شيء ليس فيه روح.
قال عبد الله بن عباس: دخلت على معاوية حين كان الصلح، وأول ماالتقيت أنا وهو، فإذا عنده أناس فقال: مرحباً يا بن عباس، ما تحاكت الفتنة بيني وبين أحد كان أعز علي بعداً ولا أحب إلي قرباً منك، الحمد لله الذي أمات علياً، قلت: إن الله عز وجل لا يذم في قضائه، وغير هذا الحديث أحسن منه، هل لك فيه؟ قال: ما هو؟ قلت: تعفيني من ذكر ابن عمي وأعفيك من ذكر ابن عمك. قال: ذلك لك، أنشدك الله يا بن عباس إلا حدثتني عن أبي سفيان، فقد حضرك من حضرك. قلت: تجر فربح، وأسلم فأفلح، وولد فأنجح، وكان في الشرك فكان نكساً حتى يقضي فقال: رحمك الله يا بن عباس، فوالله ما يعجزك في علمك أن تسر به جليسك، ولولا أن تراني قارضتك لأجزتك عن نفسك.
وعن مجاهد قال: قال ابن عباس: لما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهل بيته بالشعب قال: أتى أبي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد، أرى أم(12/293)
الفضل قد اشتملت على حمل، فقال: لعل الله أن يقرأ أعينكم. قال: فأتى بي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا في خرقة، فحنكني بريقه.
قال مجاهد: فلا نعلم أحداً حنك بريق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيره.
وفي رواية: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عسى الله أن يبيض وجوهنا بغلام، فولدت عبد الله بن عباس.
قالوا: وولد قبل الهجرة بثلاث سنين وهو في الشعب.
وعن ابن عباس قال: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا ابن عشر سنين مختون.
وفي رواية: وقد قرأت القرآن.
وفي رواية: وقد جمعت المحكم. قيل: وما المحكم. قيل: وما المحكم؟ قال المفصل.
وفي رواية: توفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا ابن خمس عشرة سنة وأنا ختين.
وعن ابن عباس قال: أقبلت راكباً على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي بالناس بمنى، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي.
قال محمد بن عمر: لا اختلاف عند أهل العلم عندنا أن ابن عباس ولد في الشعب وبنو هاشم محصورون، فولد ابن عباس قبل خروجهم منه بيسير، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، فتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن عباس ابن ثلاث عشرة سنة. ألا تراه يقول في الحديث: راهقت الاحتلام في حجة الوداع.(12/294)
قال عبيد الله بن أبي يزيد: سمعت ابن عباس يقول: أنا وأمي من المستضعفين، كانت أمي من النساء وأنا من الولدان.
ودعا سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الله بن العباس وقال: اللهم أعطه الحكمة وعلمه التأويل وكان بحراً لا ينزف، ورأى جبريل عليه السلام، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عسى ألا يموت حتى يؤتى علماً ويذهب بصره. وكان عمر يأذن له مع المهاجرين ويسأله ويقول: غص غواص، وكان إذا رآه مقبلاً قال: أتاكم فتى الكهول، له لسان سؤول وقلب عقول.
وقيل في كنيته عبد الله بن العباس: أبو عبد الرحمن. وكان قد عمي قبل وفاته. ومات سنة ثمان وستين بالطائف في فتنة ابن الزبير، فصلى عليه محمد بن الحنيفية.
وغزا عبد الله بن عباس إفريقيةمع عبد الله بن سعد سنة سبع وعشرين.
وأمه أم الفضل أخت ميمونة زوج النبي صلى عليه وسلم واسمها لبابة الصغرى بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وكان بنو العباس بن عبد المطلب عشرة: الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، ومعبد، وقثم، وعبد الرحمن، وأمهم أم الفضل بنت الحارث. وكثير، والحارث، وعون، وتمام وهو أصغرهم فكان العباس يحمله يحمله ويقول: الرجز
تموا بتمام فصاروا عشرة ... يا رب فاجعلهم كراماً برره
واجعلهم ذكراً وأنم الثمره
مات كثير وقثم بينبع أخذته الذبحة، واستشهد الفضل بأجنادين، وعبد الرحمن(12/295)
ومعبد بإفريقية، وعبد الله بالطائف، وعبيد الله باليمن. ويقال: مات قثم بسمرقند، وكان خرج مع سعيد بن عثمان بن عفان في زمن معاوية. قبره بها.
وكان مسلم بن قمادين المكي يقول: ما رأيت مثل بني أم واحدة إشراقةً، ولدوا في دار واحدة، أبعد قبوراً من بني أم الفضل.
وكان عبد الله أبيض طويلاً مشرباً صفرة، جسيماً، وسيماً، صبيح الوجه، له وفرة، يخضب بالحناء، وكان يسمى الحبر والبحر لكثرة علمه وحدة فهمه، حبر الأمة وفقيهها، ولسان العشرة ومنطيقها، محنك بريق النبوة، ومدعو له بلسان الرسالة: فقهه في الدين وعلمه التأويل. ترجمان القرآن، سمع نجوى جبريل عليه السلام للرسول وعاينه. ومولده كان عام الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين. وقبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ختين. وكانوا يختتنون للبلوغ، وتوفي بالطائف سنة ثمان وستين. وقيل سنة سبعين، وصلى عليه محمد بن الحنفية وسماه رباني هذه الأمة، وجاء طير أبيض فدخل في أكفانه، وسمع هاتف يهتف من قبره يقول: " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيةً " الآية.
وكان عمر بن الخطاب يدنيه ويسأله ويستشيره، ويدخله مع مشيخة أهل بدر، وكان له الجواب الحاضر والوجه الناضر، صبيح الوجه، له وفرة مخضوبة بالحناء، أبيض طويل، مشرب صفرة، جسيم، وسيم، علمه غزير وخيره كثير، يصدر الجاهل عن علمه وحكمته يقظان، والجائع عن خيره ومائدته شبعان.
وكانت عائشة تقول: هو أعلم من بقي بالسنة، وكان ابن عمر يقول: هو أعلم الناس بما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وشهد ابن عباس مع علي بن أبي طالب عليه السلام صفين وقتال الخوارج(12/296)
بالنهروان، وورد في صحبته المدائن، وكان ابن عباس إذا قعد أخذ مقعد الرجلين، وكان يخضب بالسواد.
قال ابن جريج:
كنا جلوساً مع عطاء بن أبي رباح في المسجد الحرام فتذاكرنا ابن عباس وفضله، وعلي بن عبد الله في الطواف وخلفه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فعجبنا من تمام قامتهما وحسن وجوههما، قال عطاء: وأين حسنهما من حسن عبد الله بن عباس، ما رأيت القمر ليلة أربع عشرة وأنا في المسجد الحرام طالعاً من جبل أبي قبيس إلا ذكرت وجه عبد الله بن عباس، ولقد رأيتنا جلوساً معه في الحجر إذ أتاه شيخ فديم بدوي من هذيل يهدج على عصاه فسأله عن مسألة فأجابه، فقال الشيخ لبعض من معه: من هذا الفتى؟ قالوا: هذا عبد الله بن عباس بن عبد المطلب. قال الشيخ: سبحان الله الذي غيّر حسن عبد المطلب إلى ما أرى. قال عطاء: فسمعت ابن عباس يقول: سمعت أبي يقول: كان عبد المطلب أطول الناس قامة، وأحسن الناس وجهاً وما رآه أحد قط إلا أحبه. وكان له مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره، ولا يجلس عليه معه أحد، وكان الندي من قريش حرب بن أمية فمن دونه يجلسون حوله دون المفرش، فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو صغير، لم يبلغ، فجلس على المفرش فجبذه رجل، فبكى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال عبد المطلب - وذلك بعدما كف بصره -:ما لابني يبكي؟! قالوا له: أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه، فقال عبد المطلب: دعوا ابني يجلس عليه، فإنه يحس من نفسه بشرف، وأرجو أيبلغ من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده، ومات عبد المطلب والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن ثماني سنين، وكان خلف جنازة عبد المطلب يبكي حتى دفن بالحجون.
قال عكرمة: كان ابن عباس إذا مرّ في الطريق قلن النساء على الحيطان: أمر المسك أم مرّ ابن عباس؟(12/297)
قال ابن عباس: أجلسني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجره، ومسح رأسي، ودعا لي بالبركة.
وعن ابن عباس قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آخر الليل، فصليت خلفه، فأخذ بيدي فجرني حتى جعلني حذاءه. فلما أقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صلاته خنست، فأخذ بيدي فجعلني حذاءه. فلما أقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صلاته خنست، فصلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما انصرف قال لي: ما شأني أجعلك حذائي فتخنس؟! فقلت: يا رسول الله، أو ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أعطاك الله عز وجل؟ قال: فأعجبه، فدعا الله لي أن يزيدني علماً وفهماً. قال: ثم رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نام حتى سمعته نفخ، ثم أتاه بلال فقال: يا رسول الله، الصلاة، فقام فصلى ما أعاد وضوءاً.
قال ابن عباس: دعا لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤتيني الحكمة والتأويل، قال: والحكمة: القرآن، والتأويل: تفسيره.
وعن ابن عباس قال: دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخير كثير. وقال: نعم ترجمان القرآن أنت.
وعن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضع يده على رأس عبد الله فقال: اللهم، أعطه الحكمة، وعلمه التأويل، ووضع يده على صدره، فوجد عبد الله بن العباس بردها في ظهره، ثم قال: اللهم احش جوه حكماً وعلماً، فلم يستوحش في نفسه إلى مسألة أحد من الناس، ولم يزل حبر هذه الأمة حتى قبضه الله عز وجل.
وعن عمر قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أرأف أمتي بها أبو بكر، وإن أصلبها في أمر الله لعمر، وإن أشدها حياء لعثمان،(12/298)
وإن أقرأها لأبي، وإن أفرضها لزيد، وإن أقضاها لعلي، وإن أعلمها بالحلال والحرام لمعاذ، وإن أصدقها لهجة لأبو ذر، وإن أمير هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وإن حبر هذه الأمة لعبد الله بن عباس.
وعن ابن عباس قال: انتهيت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده جبريل عليه السلام، فقال له جبريل: إنه كائن حبر الأمة فاستوص به خيراً.
وعن ابن عمر قال: دعا النبي لعبد الله بن العباس فقال: اللهم، بارك فيه وانشر منه.
وعن ابن عباس قال: مررت برسول الله وعليه ثياب بياض نقية، وهو يناجي دحية بن خليفة الكلبي، وهو جبريل، وأنا لا أعلم، قال: فلم أسلم. قال جبريل: يا محمد، من هذا؟ قال: هذا ابن عمي، هذا ابن عباس قال: ما أشد وضح ثيابه، أما إن ذريته ستسود بعده، لو سلم لرددنا عليه. قال: فلما رجعت قال: فلما رجعت قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما منعك أن تسلم؟ قال: قلت يا رسول الله، رأيتك تناجي دحية الكلبي، فكرهت أن تقطعا منجاتكما. قال: وقد رأيته؟ قال: قلت: نعم، قال: أما إنه سيذهب بصرك، ويرده الله عليك في موتك. قال: فلما قبض ابن عباس ووضع على سريره جاء طير أبيض شديد الوضح فدخل في أكفانه فلمسوه، فقال لي عكرمة: ما تصنعون؟ هذه بشرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فلما وضع في لحده تلقي بكلمة سمعها من كان على شفير القبر " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ".
وفي حديث آخر بمعناه: ورجل يناجيه ولم يذكر دحية الكلبي.
وفي حديث آخر بمعناه عن سعيد بن جبير قال: مر العباس وابنه على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل، فسلم العباس يعني: على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(12/299)
فلم يرد عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فشق عليه. قال: فلما جاز قال: يقول له ابنه: أبه، من الرجل الذي كان عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: فشق على العباس وخشي أن يكون قد عرض لابنه شيء لأنه لم ير هو مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحداً، قال: فجاء العباس فقال: يا رسول الله، مررت بك فسلمت فلم ترد علي السلام. فلما مضيت قال لي ابني: من الرجل الذي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فلقد رآه؟ ذاك جبريل. قال: فمسح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه ودعا له بالعلم.
وعن أنس قال: نظر علي بن أبي طالب إلى جبريل عله السلام مرة، ونظر إليه ابن عباس مرة.
وعن عبد الله بن عباس قال: دخلت على خالتي ميمونة في يومها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو نائم، ورأسه في حجرها، فقلت يا أمه، أو يا خالة، دعيني أغمز رجل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: شأنك، فتناولت رجليه فجعلتهما في حجري، فانتبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا عبد الله، أحبك الذي أحببتني له، أما إن جبريل قد أوصى بك خيراً، وقال: إن عبد الله من خيار هذه الأمة وإن ولده يرزقون الخلافة في آخر الزمان، ويرزقون حسن مشية الدواب.
وعن ابن عباس قال: كنت ردف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: يا غلام، ألا أعلمك شيئاً ينفعك الله به؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، ولو جهد الخلائق أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا، ولو جهد الخلائق أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك.
وعن ابن عباس قال: كنت ردف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني سألت الله عز وجل لكم يابني عبد المطلب أن يهدي ضالكم، وأن يثبت قائلكم، وكلمة سقطت عن ابن القاسم، وأن يجعلكم نجباً نجداً جوداً، ولو أن أحداً صفن صلاة ما بين الركن والمقام ثم مات وهو مبغض لكم دخل النار.(12/300)
وعن ابن عباس شرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن عباس عن يمينه وخالد بن الوليد عن شماله، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشربة لك، فإن شئت آثرت بها خالداً، قال: ما أوثر على سؤر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحداً.
وعن ابن عباس قال: لما قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نتعلم منهم فإنهم كثير، فقال: العجب والله لك يا بن عباس أترى الناس يحتاجون إليك وفي الأرض من ترى من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتركت ذلك، وأقبلت على المسألة وتتبع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل سمعه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآتيه فأجده قائلاً، فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الرياح على وجهي حتى يخرج، فإذا خرج قال: ما جاء بك يا بن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقول: جئت، بلغني أنك تحدث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأحببت أن أسمعه منك، فيقول: هلا بعثت إلي حتى آتيك؟ فأقول: أنا كنت أحق أن آتيك. فكان هذا الرجل يمر بي وقد ذهب أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحتاج الناس إلي فيقول: أنت كنت أعقل مني.
وعن ابن عباس قال: كنت أكرم الأكابر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المهاجرين والأنصار، وأسألهم عن مغازي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما نزل من القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحداً منهم إلا سر بإتياني لقربى من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعلت أسأل أبي بن كعب يوماً وكان من الراسخين في العلم عما نزل من القرآن بالمدينة فقال: نزل سبع وعشرون سورة، وسائرها بمكة.
وكان ابن عباس يأتي أبا رافع مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: ما صنع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم كذا وكذا؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب ما يقول.
قال معمر: عامة علم ابن عباس عن ثلاثة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب.(12/301)
قال ابن عباس: طلبت العلم فلم أجده أكثر منه في الأنصار، فكنت آتي الرجل فأسأل عنه فيقال لي: نائم، فأتوسد ردائي ثم أضطجع حتى يخرج إلي الظهر فيقول: متى كنت ها هنا يا بن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقول: منذ طويل فيقول: بئس ما صنعت، هلا أعلمتني؟ فأقول: أردت أن تخرج إلي وقد قضيت حاجتك.
وعن طاوس قال: قال ابن عباس: إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل لابن عباس لطلب العلم، فعززت مطلوباً.
وعن ابن عباس قال: كل القرآن أعلمه إلا ثلاثاً الرقيم وغسلين وحناناً.
وعن ابن عباس قال: قد حفظت السنة كلها، غير أني لا أدري أكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الظهر والعصر أم لا، ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف " وقد بلغت من الكبر عتياً " أو عسياً.
قال ابن عباس: دخلت على عمر بن الخطاب يوماً فسألني عن مسألة كتب إليه بها يعلى بن أمية من اليمن، فأجبته فيها، فقال عمر: أشهد أنك تنطق عن بيت نبوة.
وعن سعيد بن جبير قال: قال عمر لابن عباس: لقد علمت علماً ما علمناه.
وعن سعيد بن جبير قال: كان أناس من المهاجرين قد وجدوا على عمرفي إدنائه ابن عباس دونهم قال: وكان(12/302)
يسأله فقال عمر: أما إني سأريكم اليوم منه ما تعرفون فضله، فسألهم عن هذه الصورة: " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا " قال بعضهم: أمر الله نبيه إذا رأى الناس يدخلون في دين الله أفواجاً أن يحمدوه ويستغفروه. قال: فقال عمر: يا بن عباس، ألا تكلم قال: فقال: أعلمه من يموت. قال: " إذا جاء نصر الله والفتح " وفي رواية: والفتح فتح مكة " ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا " فهي آيتك من الموت: فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " قال: ثم سألهم عن ليلة القدر فأكثروا فيها. فقال بعضهم: كنا نرى أنها في العشر الأوسط، ثم بلغنا أنها في العشر الأواخر، قال: فأكثروا فيها، فقال بعضهم: ليلة إحدى وعشرين، وقال بعضهم: ثلاث وعشرين، وقال بعضهم: سبع وعشرين، فقال بعضهم لابن عباس: ألا تكلم! قال: الله أعلم. قال: قد نعلم أن الله أعلم، إنما نسألك عن علمك فقال ابن عباس: الله وتر يحب الوتر، خلق من خلقه سبع سموات فاستوى عليهن، وخلق الأرض سبعاً، وخلق عدة الأيام سبعاً، ورمي الجمار سبعاً، وبين الصفا والمروى سبعاً، وخلق الإنسان من سبع، وجعل رزقه من سبع. قال: فقال عمر: وكيف خلق الإنسان من سبع، وجعل رزقه من سبع فقد فهمت من هذا الأمر ما فهمته؟ قال ابن عباس: إن الله يقول: " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين " حتى بلغ إلى قوله: " فتبارك الله أحسن الخالقين " قال: ثم قرأ: " أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأباً " وأما السبعة فلبني آدم، وأما الأب فما أنبتت الأرض للأنعام، وأما ليلة القدر فما نراها إن شاء الله إلا ليلة ثلاث وعشرين يمضين وسبع بقين.
وعن ابن عباس قال: كان عمر يجلس مع الأكابر من أصحاب محمد، ويقول لي: لا تكلم حتى يتكلموا، ثم(12/303)
يسألني، ثم يقبل عليهم فيقول: ما يمنعكم أن تأتونيبمثل ما يأتيني به هذا الغلام الذي لم تستو شؤون رأسه؟! وفي حديث آخر عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب يأذن لأهل بدر، ويأذن لي معهم. فقال بعضهم: يأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله، فقال عمر: إنه ممن قد علمتم. قال: فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم فسألهم عن هذه السورة: " إذا جاء نصر الله والفتح " وساق الحديث بمعنى ما تقدم.
وعن الزهري قال: قال المهاجرون لعمر: ألا ندعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟ قال: ذاكم فتى الكهول، إن له لساناً سؤولاً وقلباً عقولاً.
وعن ابن عباس قال: قدم على عمر رجل، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، قرأ منهم القرآن كذا وكذا، فقال ابن عباس: والله ما أحب أن يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة. قال: فزبرني عمر ثم قال: مه، قال: فانطلقت إلى منزلي مكتئباً حزيناً، فقلت: قد كنت نزلت من هذا الرجل بمنزلة ما أراني إلا أني قد سقطت من نفسه، قال: فرجعت إلى منزلي فاضطجعت على فراشي حتى عادني نسوة أهلي وما بي وجع، وما هو إلا الذي نقلني به عمر، قال: فبينا أن كذلك إذ أتاني رجل فقال: أجب أمير المؤمنين، قال: فخرجت فإذا هو قائم قريباً ينتظرني، فأخذ بيدي ثم خلا بي فقال: ما كرهت مما قال الرجل؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إن كنت أسأت فأستغفر الله وأتوب إليه، وأنزل حيث أحببت، قال: لتحدثني ما الذي كرهت مما قال الرجل، فقلت: يا أمير المؤمنين إنهم متى سارعوا هذه المسارعة يحتقوا ومتى يحتقوا اختلفوا، ومتى اختلفوا يقتتلوا، قال: لله أبوك، والله لقد كنت أكاتمها الناس حتى جئت بها.(12/304)
وعن أبي الزناد: أن عمر بن الخطاب دخل على ابن عباس يعوده وهو يحم، فقال له عمر: أخل بنا مرضك، فالله المستعان.
وعن عبد الله بن عباس قال: قال لي أبي: إن عمر بن الخطاب يدنيك فاحفظ عني ثلاثاً: لا تشفين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يجربن عليك كذباً.
قال الشعبي: قلت لابن عباس: كل واحدة خير من ألف. قال: بل خير من عشرة آلاف.
وفي حديث آخر: ولا ابتدأته بشيء حتى يسألك عنه، عوضاً عن الكذب.
وفي حديث آخر: أن العباس بن عبد المطلب قال لابنه عبد الله بن العباس: يا بني أنت أعلم مني وأنا أفقه منك، إن هذا الرجل يدنيك، يعني: عمر بن الخطاب، فاحفظ عني ثلاثاً الحديث.
وعن عطاء بن يسار: أن عمر وعثمان كانا يدعوان ابن عباس فيسير مع أهل بدر، وكان يفتي في عهد عمر وعثمان إلى يوم مات.
قال المدائني: قال علي بن أبي طالب في عبد الله بن عباس: إنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، لعقله وفطنته بالأمور.
وعن عكرمة: أن علياً حرق ناساً ارتدوا عن الإسلام، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لم أكن لأحرقهم بالنار، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تعذبوا بعذاب الله "، وكنت قاتلهم لقول(12/305)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من بدل دينه فاقتلوه "، فبلغ ذلك عليا فقال: ويح ابن أم الفضل إنه لغواص على الهنات.
وعن سعد بن أبي وقاص قال: ما رأيت أحداً أحضر فهماً، ولا ألب لباً، ولا أكثر علماً، ولا أوسع حلماً من ابن عباس. ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه للمعضلات ثم يقول: عندك، قد جاءتك معضلة، ثم لا يجاوز قوله، وإن حوله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار.
وعن مسروق قال: قال عبد الله: لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عاشره منا أحد.
وفي رواية عنه قال: لوأن هذا الغلام من بني عبد المطلب أدرك ما أدركنا ما تعلقنا منه بشيء.
سألت امرأة ابن عمر عن مسألة فقال: ائتي ابن عباس، فإنه أعلم الناس بما أنزل الله عز وجل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن ابن عمر: أن رجلاً أتاه يسأله عن " السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناها "، قال: اذهب إلى ذلك الشيخ فسله ثم تعال فأخبرني ما قال. فذهب إلى ابن عباس فسأله، فقال ابن عباس: كانت السموات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات. فرجع الرجل إلى ابن عمر، فأخبره، فقال: إن ابن عباس قد أوتي علماً. صدق، هكذا كانت، ثم قال ابن عمر: قد كنت أقول: ما تعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه قد أوتي علماً.
ولما مات ابن عباس قال جابر بن عبد الله لما بلغه موته، وصفق بإحدى يديه على الأخرى: مات أعلم الناس، وأحلم الناس، ولقد أصيبت به هذه الأمة مصيبة لا ترتق.(12/306)
ولما مات ابن عباس قال رافع بن خديج: مات اليوم من كان يحتاج إليه من بين المشرق والمغرب في العلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ابن عباس أعلم الناس بالحج.
قال الشعبي: ركب زيد بن ثابت، فأخذ ابن عباس بركابه، فقال: لا تفعل يابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فقال له زيد: أرني يديك، فأخرج يديه فقبلهما، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا.
وعن ابن عباس قال: نحن أهل البيت شجرة النبوة، ومختلف الملائكة، وأهل بيت الرسالة، وأهل بيت الرحمة، ومعدن العلم.
وعن ابن عباس قال: لو كان المهدي في زماني لكنته، ولكنه في آخر الزمان، رجل من ولدي، أو قال مني.
وعن عكرمة قال: قال كعب الأخبار: مولاك رباني هذه الأمة هو أعلم من مات ومن عاش.
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ما رأيت أحداً كان أعلم بالسنة ولا أجلد رأياً، ولا أثقب نظراً حين ينظر من ابن عباس، وإن كان عمر بن الخطاب يقول له: لقد طرأت علينا عضل أقضية أنت لها، ولا منا لها، ثم يقول عبيد الله: وعمر عمر في جده في ذات الله وحسن نظره للمسلمين.
وعنه قال: كان ابن عباس قد فات الناس بخصال: بعلم ما سبقه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه،(12/307)
وحلم ونسب ونائل. ما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه، ولا بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا بتقسيم القرآن، ولا بحساب، ولا بفريضة منه، ولا أعلم بما مضى، ولا أثقب رأياً فيما احتيج إليه منه. ولقد كان يجلس يوماً ما يذكر فيه إلا الفقه، ويوماً التأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب. وما رأيت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلاً قط سأله إلا وجد عنده علماً.
وقال عطاء: ما رأيت مجلساً قط كان أكرم من مجلس ابن عباس، أكثر علماً وأعظم جفنة، وإن أصحاب القرآن عنده يسألونه، وأصحاب النحو عنده يسألونه، وأصحاب الشعر عنده يسألونه، وأصحاب الفقه عنده يسألونه، كلهم يصدرهم في واد واسع.
وقال عطاء: كان أناس يأتون ابن عباس في الشعر والأنساب، وناس لأيام العرب ووقائعها، وناس للعلم، فما منهم من صنف إلا يقبل عليهم بما شاؤوا.
وعن طاوس قال: كان ابن عباس قد سبق على الناس في العلم كما تبسق النخلة السحوق على الودي الصغار.
وعن طاوس قال: ما رأيت أحداً خالف ابن عباس قط فتركه حتى يقرره.
وعن ليث بن أبي سليم قال: قلت لطاوس: لزمت هذا الغلام يعني ابن عباس، وتركت الأكابر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تدارؤوا في أمر صاروا إلى قول ابن عباس.(12/308)
وعن طاوس قال: أدركت خمسين أو سبعين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سئلوا عن شيء فخالفوا ابن عباس لا يقومون حتى يقولوا: هو كما قلت، أو صدقت.
وعن ليث قال: قال لي طاوس: ما تعلمت من شيء فتعلم لنفسك، فإن الناس قد ذهبت منهم الأمانة. قال: وما رأيت رجلاً أعلم من ابن عباس ولا رأيت رجلاً أورع من ابن عمر. قال: وكان طاوس يعد الحديث حرفاً حرفاً.
وعن مجاهد قال: ما رئي مجلس ابن عباس. ولقد مات يوم مات، وإنه لحبر هذه الأمة.
وفي رواية: وما رأيت مثله قط أو قال: ما سمعت إلا أن يقول رجل: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال مجاهد: كان عبد الله بن العباس أمدهم قامة، وأعظمهم جفنة، وأوسعهم علماً. ولو شاء أن أبكي كلما ذكرته بكيت.
قال: وكان ابن عباس يسمى البحر، لكثرة علمه.
وعن مجاهد قال: كنا نفخر على الناس بأربعة: نفخر بفقيهنا، ونفخر بقاضينا، ونفخر بقارئنا ونفخر بمؤذننا: فأما فقيهنا فابن عباس، وأما قاضينا فعبيد بن عمير، وأما قارئنا فعبد الله بن السائب، وأما مؤذننا فأبو محذورة.
قال مجاهد: كان ابن عباس إذا فسر الشيء رأيت عليه نوراً.(12/309)
وقال: ما رأيت أحداً قط أعرب لساناً من ابن عباس.
وعن عمرو بن دينار قال: ما رأيت مجلساً قط أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس، للحلال والحرام وتفسير القرآن والعربية والطعام، قال أبو هلال: ولا أراه إلا قال: والشعر.
وقال عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين: ما رأيت بيتاً كان أكثر طعاماً ولا شراباً ولا فاكهة ولا علماً من بيت عبد الله بن عباس.
وقال الضحاك: ما رأيت بيتاً أكثر خبزاً ولحماً وعلماً من بيت ابن عباس.
قال أبو صالح: لقد رأيت في ابن عباس مجلساً لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها فخراً. لقد رأيت الناس اجتمعوا حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر على أن يجيء ولا أن يذهب. قال: فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال: ضع لي وضوءاً قال: فتوضأ وجلس وقال: اخرج فقل لهم: من كان يريد أن يسأل عن القرآن وحروفه، وما أراد منه فليدخل وقال: فخرجت، فأذنتهم، فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم عنه وزادهم مثلما سألوا عنه أو أكثر، ثم قال: إخوانكم. قال: فخرجوا، ثم قال: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن تفسير القرآن أو تأويله فليدخل.
قال: فخرجت فأذنتهم فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به، وزادهم مثلما سألوا عنه أو أكثر، ثم قال: إخوانكم. قال: فخرجوا فقلت لهم. قال: فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به، وزادهم مثله، ثم قال: إخوانكم، قال: فخرجوا، ثم قال: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها فليدخل. قال: فخرجت فأذنتهم، فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم، وزادهم مثله، ثم قال: إخوانكم. قال: فخرجوا، ثم قال:(12/310)
اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام فليدخل. قال: فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به، وزادهم مثله.
قال أبو صالح: ولو أن قريشاً كلها فخرت بذلك لكان فخراً. فما رأيت مثل هذا لأحد من الناس.
قال جابر بن زيد: سألت البحر وكان يسمي ابن عباس البحر عن لحوم الحمر، فقرأ هذه الآي " قل لا أجد فيما أوحي غلي محرماً على طاعم يطعمه " إلى آخر الآية.
وفي حديث ابن الفرا: عن تحريم الخمر. وهو تصحيف.
وعن الحسن: أن ابن عباس كان من الإسلام بمنزل، وكان ابن عباس من القرآن بمنزل. قال: وكان يقوم على منبرنا هذا فيقرأ البقرة وآل عمران فيفسرها آية آية. وكان مثجه غرباً غرباً، وكان عمر إذا ذكره قال: ذاكم فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول.
قال أبو بكر الهذلي: دخلت على الحسن بن أبي الحسن، فجلست عنده وهو يصلي، فتذاكرنا آيات من القرآن. فلما انصرف قال: ما كنتم تقولون؟ قلنا: " حم " و" طسم ". قال. فواتح يفتح الله بها القرآن، فقلت له: فإن مولى ابن عباس يقول: كذا وكذا. قال: إن ابن عباس كان من الإسلام بمنزل. وساق بقية الحديث.
قوله: كان مثجاً هو من العج والثج: السيلان. يريد أنه يصب الكلام صباً.
وعن ميمون بن مهران قال: لو أتيت ابن عباس بصحيفة فيها ستون حديثاً لرجعت ولم تسأله عنها، وسمعتها. قال: يسأله الناس فيكفونك.(12/311)
قال عبد الله بن أبي الهذيل: أردت الخروج، فعلم بي أهل الكوفة، فجمعوا مسائل، ثم أتوني بها في صحيفة. فلما قدمت على ابن عباس خرج، فقعد للناس، فما زال يسألونه حتى ما بقي في صحيفتي شيء إلا سألوه عنه.
وعن مسروق انه قال: كنا إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس، فإذا نطق قلت: أفصح الناس، فإذا تحدث قلت: أعلم الناس.
قال ابن أبي ملكية: دخلنا على ابن عباس فقال: إني لم أنم الليل، فقلنا له: لم يا أبا عباس؟ قال: طلع الكوكب ذوالذنب فخشيت أن يطرق الدخان. سلوني عن سورة البقرة، سلوني عن سورة يوسف، فإني قرأت القرآن وأنا صغير.
وعن عكرمة قال: كان ابن عباس أعلمهما بالقرآن، وكان علي أعلمهما بالمبهمات، وسئل إسحاق بن إبراهيم الحنظلي عن معنى قول عكرمة: إن ابن عباس أعلم بتفسير القرآن من علي، فقال: لم سمع ابن عباس عامة التفسير من علي فوعاه وجمعه، ثم ضم إليه ما سمعه من غيره مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وعامة أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما ضم علم هؤلاء في التفسير إلى علم علي كان أعلم منه بالتفسير. وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا له فقال ": اللهم علمه الكتاب وفهمه التأويل، وعلي أعلم منه بالمبهمات ومن غيره، فقد شهد عامة التنزيل فروى فيم نزل، وفي أي أمر كان.
قال شقيق: خطب ابن عباس وهو على الموسم، فافتتح سورة البقرة، فجعل يقرؤها ويفسر، فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله. لو سمعت فارس والروم لأسلمت.
وفي حديث بمعناه: فقرأ سورة النور.
وعن ابن عباس قال: لقد علمت علما من القرآن ما يسألني عنه أحد، لا أدري علمه الناس فلم يسألوا عنه أو لم يعلموها فيسألوا عنها.(12/312)
وعن ابن عائشة قال: ما زال ابن عباس يستفيد حتى مات. وكان يقول: ما علمت ما " فاطر " حتى سمعت أعرابياً يخاصم رجلاً في بئر واحدهما يقول: أنا فطرتها، وكنت لا أدري ماء البعل حتى سمعت أعرابياً ينادي آخر يقول: يا بعل الناقة، فعلمت أنه ربها.
وعن ابن عباس قال: كل القرآن أعلمه إلا أربع: غسلين، وحناناً، والأواه، والرقيم.
وعن عبيد الله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس إذا سئل عن شيء، فإن كان في كتاب الله عز وجل قال به، وإن لم يكن في كتاب الله عز وجل وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه شيء قال به، فإن لم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه شيء قال بما قال به أبو بكر وعمر، فإن لم يكن لأبي بكر وعمر، فيه شيء قال برأيه.
وعن القاسم بن محمد قال: ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلاً قط.
وعن سفيان بن عيينة قال: علماء الأزمنة ثلاثة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، وسفيان الثوري في زمانه.
ورد صعصعة بن صوحان على علي بن أبي طالب من البصرة، فسأله عن عبد الله بن عباس، وكان على خلافته بها، فقال صعصعة: يا أمير المؤمنين، إنه آخذ بثلاث وتارك لثلاث: آخذ بقلوب الرجال إذا حدث، ويحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسر الأمرين إذا خولف. تارك للمراء، وتارك لمقاربة اللئيم، وتارك لما يعتذر منه.
وعن عبد الله بن بريدة قال: شتم رجل ابن عباس، فقال: إنك تشتمني وفي ثلاث خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله عز وجل فلوددت أن جميع الناس علموا منها مثل الذي أعلم، وإني لأسمع الحاكم(12/313)
من حكام المسلمين يقضي بالعدل فأفرج به ولعلي لا أقاضي إليه أبداً وإني لأسمع بالغيث يصيب الأرض من أرض المسلمين فأفرج به ومالي سائمة أبداً.
وعن ابن أبي ملكية قال: صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة، ومن المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، إذا نزل قام ينتظر الليل، فيرتل القرآن حرفاً حرفاً، ويكثر من النشيج قلت: وما النشيج؟ قال: النحيب، البكاء، ويقرأ: " وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ".
قال شعيب بن درهم: كان هذا الموضع وأومأ إلى مجرى الدموع من خديه من خدي ابن عباس، مثل الشراك البالي من كثرة البكاء.
جاء رجل إلى ابن عباس فقال: يا بن عباس، كيف صومك؟ قال: أصوم الاثنين والخميس، قال: ولم؟ قال: لأن الأعمال ترفع فيها، وأحب أن ترفع أعمالي وأنا صائم.
قال معاوية يوماً لعبد الله بن عباس: إنه ضربتني البارحة أمواج القرآن في آيتين لم أعرف تأويلهما، ففزعت إليك، فقال ابن عباس: ما هما؟ فقال معاوية: قول الله عز وجل: " وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن تقدر عليه " فقلت: يونس رسول الله ظن أنه بقوته إذا أراده، ما ظن هذا مؤمن، وقول الله عز وجل: " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا " فقلت سبحان الله! كيف يكون هذا أن يستيئس الرسل من نصر الله، أو(12/314)
يظنوا أنهم كذبهم ما وعدهم! إن لهاتين الآيتين تأويلاً ما نعلمه. قال ابن عباس: أما يونس عله السلام فظن أن خطيئته لم تبلغ أن يقدر الله عليه تلك البلية، ولم يشك أن الله عز وجل إذا أراده قدر عليه. وأما قوله: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن من أعطاهم الرضا في العلانية أن يكذبهم في السريرة، وذلك أطول البلاء عليهم، ولم يستيئس الرسل من نصر الله، ولم يظنوا أنهم كذبهم ما وعدهم. فقال معاوية: فرجت عني فرج الله عنك. قال ابن عباس فإن رجلاً قرأ علي آية المحيض، قول الله عز وجل: " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض " إلى آخر الآية. يعني بالماء " فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله " يقول: طاهرات غير حيض، فقال معاوية: إن قريشاً لتغبط بك لا بل جميع العرب، لا بل جميع أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولولا خفتك مع علي عطفتني عليك العواطف، فقال أيمن بن خريم: البسيط
ما كان يعلم هذا العلم من أحد ... بعد النبي سوى الحبر ابن عباس
مستنبط العلم غضاً من معادنه ... هذا اليقين وما بالحق من باس
دينوا بقول ابن عباس وحكمته ... إن المنافي فيكم عالم الناس
كالقطب قطب الرحا في كل حادثة ... أو كالحمام فمنه موضع الراس
من ذا يفرج عنكم كل معضلة ... إن صار رهناً مقيماً بين أرماس؟
قال ابن ملكية: كتب ابن هرقل إلى معاوية يسأله عن ثلاث خلال: مكان إذا كنت عليه لم تدر أين قبلتك، ومكان طلعت الشمس لم تطلع فيه قبل ولا بعد، وعن المحو الذي في القمر. فقال معاوية: من لهذه؟ فقيل له: ابن عباس. فكتب إلى ابن عباس، فكتب إليه ابن عباس: أما المكان الذي إذا كنت فيه لم تدر أين قبلتك فإذا كنت على ظهر الكعبة. وأما المكان الذي طلعت الشمس ولم تطلع فيه قبل ولا بعد فالبحر يوم انفلق لموسى. وأما المحو الذي في القمر فإن الله عز وجل يقول: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل " فهو آية الليل، فكتب به معاوية إلى ابن هرقل. قال: فكتب إليه: ما هذا من كنزك ولا كنز أبيك، ولا خرج هذا إلا من أهل بيت نبوة.(12/315)
وعن ابن عباس قال: كتب قيصر إلى معاوية: أما بعد، فأي كلمة أحب إلى الله والثانية والثالثة والرابعة والخامسة، ومن أكرم عباد الله وإمائه عليه، وأربعة أشياء فيهم الروح لم ترتكض في رحم، وقبر سار بصاحبه، ومكان لم تصبه الشمس إلا مرة واحدة، والمجرة التي في السماء ما هي؟ وقوس قزح ما هو؟ فلما قرأ معاوية الكتاب قال لعبد الله: ما أدري ما هذا، وماله إلا ابن عباس، فأرسل إلى ابن عباس يسأله عن ذلك، فقال: أحب كلمة إلى الله: لا إله إلا الله، والثانية: سبحان الله، والثالثة: الحمد، والرابعة: الله أكبر، والخامسة: لا حول ولا قوة إلا بالله. وأما أكرم عباد الله فآدم خلقه الله بيده وعلمه الأسماء كلها، وأكرم إمائه عنده مريم التي أحصنت فرجها، والرابعة التي فيها الروح لم ترتكض في رحم فآدم وحواء، وعصا موسى، وكبش إبراهيم، والقبر الذي سار بصاحبه قبر يونس بن متى في بطن الحوت.
والمكان الذي لم تصبه الشمس إلا مرة واحدة فالبحر فلقه موسى بعصاه، وقوس قزح فأمان لأهل الأرض من الغرق وزاد في حديث آخر: بعد قوم نوح والمجرة فهي باب السماء.
وفي حديث آخر بمعناه: فقلت: أما أحب كلمة إلى الله: فلا إله إلا الله لا يقبل عمل إلا بها، والثانية: المنجية سبحان الله وصلاة الخلق، والثالثة: الحمد لله كلمة الشكر، والرابعة: الله أكبر فواتح الصلاة والركوع والسجود، والخامسة: لا حول ولا قوة إلا بالله. فاكتب إليه بذلك، فإنهم سيعرفون فأما لا إله إلا الله فإذا قالها العبد قال: يقول الله - أخلص عبدي. فإذا قال: سبحان الله قال: عبدني عبدي، فإذا قال: الحمد لله، قال: أخلص عبدي، فإذا قال: الله أكبر، قال: صدق عبدي أنا أكبر، فإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله قال: ألقى إلي عبدي السلام الحديث.
وعن أبي الجويرية الجرمي قال: كتب قيصر إلى معاوية: أخبرني عمن لا قبلة له، وعمن لا أب له، وعمن لا عشيرة له، وعمن سار به قبره، وعن ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم، وعن شيء ونصف شيء ولا(12/316)
شيء، وابعث إلي في هذه القارورة ببزر كل شيء. فبعث معاوية بالكتاب والقارورة إلى ابن عباس، وقيل إنالحسن بن علي بعث إليه بالكتاب والقارورة أما من لا قبلة له فالكعبة، وأما من لا أب له فعيسى، وأما من لا عشيرة له فآدم، وأما من سار به قبره فيونس. وأما ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم فكبش إبراهيم، وناقة ثمود، وعصا موسى. وأما شيء فالرجل له عقل، يعمل بعقله، وأما نصف شيء فالذي ليس له عقل ويعمل برأي ذوي العقول. وأما لا شيء فالذي ليس له عقل، يعمل بعقله، وملأ القارورة ماء، وقال: هذا بزر كل شيء. فبعث معاوية بالبزر والقارورة إلى قيصر. فلما وصل إليه الكتاب والقارورة قال: ما خرج هذا إلا من أهل بيت نبوة.
وعن حماد بن حميد قال: كتب رجل من أهل العلم إلى ابن عباس يسأله عن هذه المسائل وكان الرجل عالماً. قال: أخبرني عن رجل دخل الجنة ونهى الله محمداً أن يعمل بعمله، وأخبرني عن شيء تكلم ليس له لحم ولا دم، وأخبرني عن شيء بنفس ليس له لحم ولا دم، وأخبرني عن شيء له لحم ولم تلده أنثى ولا ذكر، وأخبرني عن شيء قليله وكثيره حرام، وأخبرني عن رسول بعثه الله ليس من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة، واخبرني عن نفس أوحى الله إليها ليست من الأشياء، وأخبرني عن منذر ليس من الجن ولا من الإنس، وأخبرني عن شيء حرم بعضه وحل بعضه، وأخبرني عن نفس ماتت وأحييت بنفس غيرها، وأخبرني عن نفس خرجت من جوف نفس ليس بينهما نسب ولا رحم، وأخبرني عناثنين تكلما ليس لهما لحم ولا دم، وأخبرني عن الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وأخبرني عن شيء إن فعلته كان حراماً وإن تركته كان حراماً، وأخبرني عن موسى كم أرضعته أمه قبل أن تلقيه في البحر، وفي أي بحر قذفته، وأخبرني عن الاثنين اللذين كانا في بيت فرعون حين لطم موسى فرعون، وأخبرني عن موسى حين كلمه الله تعالى من حمل التوراة إليه، وكم كانت الملائكة الذين حملوا التوراة إلى موسى، وأخبرني عن آدم كم كان طوله، وكم عاش، ومن كان وصيه، وأخبرني من كان بعد آدم من الرسل، ومن كان بعد نوح، ومن كان بعد هود، ومن كان بعد إبراهيم، ومن كان بعد لوط، ومن كان بعد إسحاق، ومن كان قبل(12/317)
نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبرني عن الأنبياء كم كانوا، وكم كان منهم الرسل، وكم كان منهم من الأنبياء، وأخبرني كم في القرآن منهم، وأخبرني عن رجل ولد من غير ذكر ولا أنثى ولم يمت، وأخبرني عن أرض لم تصبها الشمس إلا يوماً واحداً، وأخبرني عن الطير الذي لا يبيض ولا يحضن عليه طير.
قال: فلما قدمت المسائل على ابن عباس عجب من ذلك عجباً شديداً، ثم كتب إليه: أما سؤالك عن الرجل الذي دخل الجنة ونهي عنه محمداً أن يعمل بعمله فهو يونس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على نبينا وعليه وسلم الذي يقول: " ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم " وأما الشيء الذي تكلم ليس له لحم ولا دم فهي النار التي تقول " هل من مزيد " وأما الرسول الذي بعثه الله من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة فهو الغراب الذي بعثه الله إلى ابن آدم ليريه كيف يواري سوأة أخيه. وأما الذي له لحم ودم لم تلده أنثى ولا ذكر فهو كبش إبراهيم الذي فدى به إسحاق. وأما الشيء الذي بنفس ليس له لحم ولا دم فهو الصبح، إذ يقول الله عز وجل " والصبح إذا تنفس " وأما النفس التي ماتت، وأحييت بنفس غيرها فهي البقرة التي ذكرها الله عز وجل في القرآن الذي يقول: " اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى " الآية. وأما الطير الذي لم يبض ولم يحضن عليه طائر فهو الطير الذي نفخ فيه عيسى بن مريم، فكان طيراً بإذن الله، واما الشيء الذي قليله حلال وكثيره حرام فهو نهر طالوت الذي ابتلاهم الله به، وأما النفس التي خرجت من جوف نفس ليس بينهما نسب ولا رحم فهو يونس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي خرج من بطن الحوت.
وأما الاثنتان اللتان تكلمتا ليس لهما لحم ولا دم فهما السماء والأرض إذ يقول الله تعالى: " ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين "، وأما الشيء الذي مشى ليس له لحم(12/318)
ولا دم فهو عصا موسى التي " تلقف ما يأفكون "، وأما الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فهو أرمنياً. وأما الشيء الذي إن فعلته كان حراما، وإن تركته كان حراماً فهي الصلاة: إن صليت وأنت سكران لا يحل لك، وإن تركتتها لا يحل لك. وسألت عن أم موسى كم أرضعته فإنها أرضعته ثلاثة أشهر قبل أن تقذفه في البحر، ثم ألقته في البحر بحر القلزم. وسألت عن الاثنين اللذين كانا في بيت فرعون حين لطمه موسى فهي آسية امرأة فرعون، والرجل الذي كان يكمن إيمانه. وسألت عن موسى يوم كلمه الله تعالى وحملت التوراة إليه فإن الله كلم موسى يوم الجمعة، وأعطي التوراة، ونزلت بها الملائكة إلى موسى يوم الجمعة، ومر الله تعالى بكل حرف من التوراة فحمله ملك من السماء، فلا يعلم عدد ذلك إلا الله وحده لا شريك له. وأما الأرض التي لم تنظر إليها الشمس إلا يوماً فهي أرض البحر الذي فلقه الله عز وجل لموسى. وأما المنذر الذي ليس من الإنس ولا من الجن فهي النملة: " قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم "، وسألت عن آدم فهو أول الأنبياء خلقه الله من طين، وسواه ونفخ فيه من روحه. وكان طوله فيما بلغنا والله أعلم ستين ذرعاً، وكان نبياً وخليفة، وعاش ألف سنة إلا ستين عاماً. وكان وصيه شيث.
وسألت من كان بعد شيث من الأنبياء، كان بعد إدريس وهو أول الرسل. وكان بعد إدريس نوح، وكان بعد نوح هود، ثم كان بعد هود صالح، ثم كان بعد صالح إبراهيم، ثم كان بعد إبراهيم لوط ابن أخي إبراهيم، وكان بعد لوط إسماعيل، ثم كان بعد إسماعيل إسحاق، وكان بعد إسحاق، وكان بعد إسحاق يعقوب، ثم كان بعد يعقوب يوسف، ثم كان بعد يوسف موسى، ثم كان بعد موسى عيسى فأنزل الله عليه الإنجيل، ثم كان بعد نبينا نبي الرحمة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وسألت عن عدد الأنبياء: كانوا فيما بلغنا والله أعلم ألف نبي ومئتي نبي وخمسة وسبعين نبياً. وكان منهم ثلاث مئة وخمسة عشر رسولاً، وسائرهم أنبياء صالحون نجد في القرآن منهم ثلاثة وثلاثين نبياً يقول الله عز وجل: " ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً ".(12/319)
وكان ابن عباس امير البصرة، وكان يغشى الناس في شهر رمضان، فلا ينقضي الشهر حتى يفقههم، وكان إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان يعظهم، ويتكلم بكلام يردعهم، ويقول: ملاك أمركم الدين، ووصلتكم الوفاء، وزينتكم العلم، وسلامتكم الحلم وطولكم المعروف. إن كان الله كفلكم الوسع، اتقوا الله ما استطعتم. قال: فقال اعرابي فقال: من أشعر الناس أيها الأمير؟ قال: أفي إثر العظة؟ قل يا أبا الأسود قال: فقال: أبو الأسود الدؤلي: أشعر الناس يقول: الطويل
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
قال هذا لنابغة بني ذبيان.
فكان الرجل يأتي مجلس عبد الله بن عباس وقد انتعل القوم، فيخلع نعليه، فيقول له الرجل لا يحبسك مكاني يا أبا العباس، فيقول: ما أنا بقائم حتى آحادثك وتحدثني فأسمع منك.
قال محمد بن سلام: سعى ساع إلى ابن عباس برجل فقال: إن شئت نظرنا فينا قلت، فإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن كنت صادقاً مقتناك، وإن أحببت أقلناك. قال: هذه.
قال ابو محمد بن قتيبية في حديث علي: إنه كتب إلى ابن عباس حين أخذ من مال البصرة ماأخذ: إني أشركتك في أمانتي، ولم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي. فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو قد حرب، قلبت لابن عمك ظهر المجن بفراقه مع المفارقين وخذلانه مع الخاذلين، واختطفت ما قدرت عليه من أموال الأمة اختطاف(12/320)
الذئب الأزل دامية المعزى. وفي الكتاب: ضح رويداً، فكأن قد بلغت المدى، وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي به ينادي المغتر بالحسرة، ويتمنى المضيع التوبة والظالم الرجعة.
قوله: قد حرب: أي غضب، وقوله قلبت لابن عمك ظهر المجن: هو مثل يضرب لمن كان لصاحبه على مودة أو رعاية ثم حال عن ذلك، والمجن: الترس. وقوله: اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى: خص الدامية دون غيرها لأن في طبع الذئب محبة الدم، فهو يؤثر الدامية على غيرها. ويبلغ به طبعه في ذلك أنه يرى الذئب مثله وقد دمي فيثيب عليه ليأكله.
نظر الحطيئة إلى ابن عباس في مجلس عمر وقد فرع بكلامه، فقال: من هذا الذي قد نزل عن القوم في سنه وعلاهم في قوله؟ قالوا: هذا ابن عباس، هذا ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنشأ يقول:
إني وجدت بيان المرء نافلة ... تهدى له ووجدت العي كالصمم
المرء يبلى ويبقى الكلم سائره ... وقد يلام الفتى يوماً ولم يلم
الكلم ها هنا جمع كلمة، وأصله الكلم بكسر اللام، فسكنه تخفيفاً لإقامة الوزن، كما قالوا: ملك في ملك. فأما الكلم الذي عين فعله ساكنة في أصل بنائه فإنه مصدر كلمه يكلمه كلماً بمعنى جرحه. وقوله: سائره يعني أنه يبقى سائر الكلام. يريد الحكم السائرة من الكلم.
اختصم إلى عمر بن الخطاب حسان بن ثابت وخصم له، فسمع منهم، وقضى على حسان، فخرج وهو مهموم، فمر بابن عباس فأخبره بقصته، فقال له ابن عباس: لو كنت أنا الحكم بينكما لحكمت لك، فرجع حسان إلى عمر فأخبره فبعث عمر إلى ابن عباس فأتاه فسأله عما قال حسان، فصدقه، فسأله عن الحجة في ذلك فأخبره، فرجع عمر إلى قول ابن عباس، وحكم لحسان، فخرج وهو آخذ بيد ابن عباس وهو يقول:
إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه ... رأيت له في كل منزلة فضلا
قضى وشفى ما في النفوس فلم يدع ... لذي إربة في القول جداً ولا هزلا
ورويت هذه الأبيات في ابن عباس في قصة أخرى.
قال المدائني: تكلم رجل عند ابن عباس، فأكثر السقط في كلامه، فالتفت ابن عباس إلى عبد له(12/321)
فأعتقه، فقيل له لم أعتقت عبدك؟ قال: شكراً لله إذ لم يجعلني مثل هذا. ثم أنشد المدائني:
عي الشريف يشين منصبه ... وترى الوضيع يزينه أدبه
ولما جاء معاوية نعي الحسن بن علي استأذن ابن عباس على معاوية، وكان ابن عباس قد ذهب بصره، فكان يقول لقائده: إذا دخلت بي على معاوية فلا تقدني، فإن معاوية يشمت بي. فلما جلس ابن عباس قال معاوية: لأخبرنه بما هو أشد عليه من أن أشمت به. فلما دخل قال: يا أبا العباس، هلك الحسن بن علي، فقال ابن عباس: إنا لله وإنا إليه راجعون. وعرف ابن عباس أنه شامت به، فقال: أما والله يا معاوية لا تسد حفرتك، ولا تخلد بعده، ولقد أصبنا بأعظم منه، فخرنا الله بعده، ثمقام. فقال معاوية: لا والله، ما كلمت أحداً قط أعد جواباً ولا أعقل من ابن عباس.
وعن ربعي بن حراش قال:
استأذن عبد الله بن العباس على معاوية بن أبي سفيان، وقد تحلقت عنده بطون قريش، وسعيد بن العاص جالس عن يمينه. فلما نظر إليه معاوية مقبلاً قال لسعيد: والله لألقين على ابن عباس مسائل يعيا بجوابها فقال سعيد: ليس مثل ابن عباس يعيا بمسائلك. فلما جلس قال له معاوية: ما تقول في أبي بكر الصديق قال: رحم الله أبا بكر، كان والله للقرآن تالياً، وللشر قالياً، وعن المثل نائياً، وعن الفحشاء ساهياً، وعن المنكر ناهياً، وبدينه عارفاً، ومن الله خائفاً، ومن المهلكات جانفاً، يخاف فلتة الدهر، وإحياء بالليل قائماً، وبالنهار صائماً، ومن دنياه سالماً، وعلى عدل البرية عازماً، وبالمعروف آمراً، وإليه صائراً، وفي الأحوال شاكراً، والله بالغدو والآصال ذاكراً، ولنفسه في المصالح قاهراً، فاق أصحابه ورعاً وكفافاً، وزهداً وعفافاً، وسراً وحياطة، فأعقب الله من ثلبه اللعائن إلى يوم التغابن.
قال معاوية: فما تقول في عمر بن الخطاب؟ فقال رحم الله أبا حفص، كان والله حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومحل الإيمان، وملاذ الضعفاء، ومعقل الحنفاء، للخلق(12/322)
حصناً، وللناس عوناً قال بحق الله صابراً محتسباً حتى أظهر الدين وفتح الديار وذكر الله في الإفطار والمنار، وعلى التلال وفي الضواحي والبقاع. عبد الجبار في الرخاء والشدة شكوراً، له وفي كل وقت وآن ذكوراً، فأعقب الله من يبغضه اللعنة إلى يوم الحسرة.
قال معاوية: فما تقول في عثمان؟ قال: رحم الله أبا عمرو، كان والله أكرم الحفدة، وأفضل البررة، وأصبر القراء، هجاد بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر الدار دائب الفكر فيما يعنيه بالليل والنهار، نهاضاً إلى كل مكرمة، سعاء إلى كل منقبة، فراراً من كل موبقة، صاحب جيش العسرة، وصاحب البئر، وختن المصطفى عليه السلام على ابنتيه، فأعقب الله من ثلبه الندامى إلى يوم القيامة.
قال معاوية: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: رحم الله أبا الحسن، كان والله علم الهدى، وكهف التقى، ومحل الحجا، وطود الندى، ونور السفر في ظلم الدجى، وداعياً إلى المحجة العظمى، وعالماً بما في الصحف الأولى، وقائماً بالتأويل والذكرى متعلقاً بأسباب الهدى، وتاركاً للجور والأذى وحائداً عن طرقات الردى، وخير من آمن واتقى، وسيد من تقمص وارتدى، وأفضل من حج وسعى، وأسمح من عدل وسوى، وأخطب أهل الدنيا سوى الأنبياء والمصطفى، وصاحب القبلتين وزوج خير النساء، وأبو السبطين، لم تر عين مثله، ولا ترى أبداً حتى القيام واللقاء. فعلى من لعنه لعنة الله والعباد إلى يوم القيامة.
قال معاوية: فما تقول في طلحة والزبير؟ قال: رحمة الله عليهما، كانا والله عفيفين، مسلمين، برين، طاهرين، مطهرين، شهيدين، عالمين بالله، لهما النصرة القديمة والصحبة الكريمة، والأفعال الجميلة وفي حديث آخر: زلا زلة الله غافرها لهما.
قال: ما تقول في العباس بن عبد المطلب؟ قال: رحم الله أبا الفضل، كان والله صنو أبي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرة عين صفي الله، لهميم الأقوام، وسيد الأعمام، قد علا بصراً للأمور، ونظراً في العواقب. علم تلاشت الأحساب عند ذكر فضيلته، وتباعدت(12/323)
الأنساب عند فخر عشيرته، ولم لا يكون كذلك؟ وقد ساسه اكرم من ذهب وهب: عب المطلب أفخر من مشى من قريش وركب.
قال معاوية: فلما سميت قريش قريشاً؟ قال: لدابة تكون في البحر هي أعظم دواب البحر خطراً، لا تظفر بشيء من دواب البحر إلا أكلته، فسميت قريش لأنها أعظم العرب فعالاً. فقال: هل تروي في ذلك شعراً؟ فأنشده قول الجمحي:
وقريش هي التي تسكن البحر به ... اسميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا تترك ل ... ذي الجناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون البلاد أكلاً كشيشاً
ولهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم والخموشا
يملأ الأرض خيله ورجال ... يحشرون المطي حشراً كميشاً
فقال معاوية: صدقت يا بن عباس، أشهد أنك لسان أهل بيتك.
فلما خرج ابن عباس من عنده قال معاوية لمن عنده: ما كلمته قط إلا وجدته مستعداً.
وفي حديث آخر قال:
فأمر له معاوية بأربعة آلاف درهم فقبضها ثم صرفها في بني عبد المطلب. فقالوا له: لا نقبل صدقة. قال: إنها ليست بصدقة. وإنما هي هدية لم يبق منها شيء، فبلغ ذلك معاوية فكتب إليه يلومه وأن يقصر عن ذلك فكتب إليه يقول:
بخيل يرى بالجود عاراً وإنما ... على المرء عار أن يضن ويبخلا
إذا المرء أثرى ثم لم يرج نفعه ... صديق فلاقته المنية أولا
أنشد المبرد لعبد الله بن العباس، كتب به إلى معاوية لن أبي سفيان: الطويل(12/324)
إني أغضيت عن غير بغضة ... لراع لأسباب المودة حافظ
وما زال يدعوني إلى الصرم ما أرى ... فآبى وتثنيني عليك الحفائظ
وأنتظر العتبى وأغضي على القذى ... وألبس طوراً مره وأغالظ
وأنتظر الإقبال بالود منكم ... وأصبر حتى أوجعتني المغايظ
وجربت ما يسلي المحب عن الهوى ... وأقصرت والتجريب للمرء واعط
لما خرج الحسين بن علي إلى الكوفة اجتمع ابنعباس وعبد الله وبن الزبير بمكة فضرب ابن عباس جنب ابن الزبير وتمثل: الرجز
يا لك من قبرة بمعمر ... خلا لك الجود فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
خلا لك والله يا بن الزبير الحجاز. وسار الحسين إلى العراق، فقال ابن الزبير لابن عباس: والله ما ترون إلا أنكم أحق بهذا الأمر من سائر الناس، فقال له ابن عباس: إنما يرى من كان في شك، فأما نحن من ذلك فعلى يقين، ولكن أخبرني عن نفسك لم زعمت أنك أحق بهذا الأمر من سائر العرب، قال ابن الزبير: لشرفي عليهم قديماً لا تنكرونه قال: فأيما أشرف، أنت أم من شرفت به؟ قال: إن الذي شرفت به زادني شرفاً. قال: وعلت أصواتهما، فقال ابن أخ لعبد الله بن الزبير: يا بن عباس، دعنا من قولك، فوالله لا تحبونا يا بني هاشم أبداً. قال: فخفقه عبد الله بن الزبير بالنعل وما استحق الضرب؟! وإنما يستحق الضرب من مرق ومذق. قال: يا بن عباس، أما تريد أن تعفو عن كلمة واحدة قال: إنما نعفو عمن أقر، فأما من هر فلا. قال: فقال ابن الزبير: فأين الفضل؟ قال ابن عباس: عندنا - أهل البيت - لا نضعه في غير موضعه فندم، ولا نزويه عن أهله(12/325)
فنظلم. قال: أولست منهم؟ قال: بلى إن نبذت الحسد، ولزمت الجدد. قال: واعترض بينهما رجال من قريش فأسكتوهما.
وعن ابن عباس قال: لو أن العلماء أخذوا العلم بحقه لأحبهم الله عز وجل والملائكة والصالحون من عباده، ولهابهم الناس، لفضل العلم وشرفه.
قال جندب لابن عباس: أوصني بوصية، قال: أوصيك بتوحيد الله، ولا عمل له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. فإن كل خير أنت آتيه بعد هذه الخصال منك مقبول وإلى الله مرفوع. يا جندب، إنك لن تزداد من يومك إلا قرباً، فصل صلاة مودع، وأصبح في الدنيا كأنك غريب مسافر، فإنك من أهل القبور، وابك على ذنبك، وتب من خطيئتك، ولتكن الدنيا أهون عليك من شسع نعليك، وكأن قد فارقتها، وصرت إلى عدل الله، ولن تنتفع بما خلفت، ولن ينفعك إلا عملك.
قال ابن بريدة: رأيت ابن عباس آخذاً بلسانه وهو يقول: ويحك، قل خيراً تغنم أو اسكت عن شر تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم. قال: فقيل له: يا بن عباس، لم تقول هذا؟! قال: إنه بلغني أن الإنسان أراه قال: ليس على شيء من جسده حنقاً أو غيظاً يوم القيامة لعله قال: منه على لسان إلا قال به خيراً أو أملى به خيراً.
قال وبرة المسلمين: أوصى ابن عباس بكلمات، لهن أحسن من الدهم الموقوفة فقال لي: لا تكلمن فيما لا يعنيك فإنه فضل، ولا آمن عليك فيه الوزر، ولا تكلمن فيما يعنيك حتى ترى له موضعاً، فرب متكلم قد تكلم بالحق في غير موضعه فعنت، ولا تمارين سفيهاً ولا حليماً، فإن الحليم يقيلك، والسفيه يريدك، ولا تذكرن أخاك إذا توارى عنك إلا بمثل الذي تحب أن يذكرك به إذا أنت تواريت عنه، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجزي(12/326)
بالإحسان، مأخوذ بالإجرام. قال: فقال رجل عنده: يا أبا عباس، هذه خير من عشرة آلاف. قال: فقال ابن عباس: كلمة واحدة منها خير من عشرة آلاف.
قال ابن عباس: لا يتم المعروف إلا بثلاثة: تعجيله، وتصغيره عنده، وستره، فإنه إذا عجله هيأه وإذا صغره عظمه، وإذا ستره فخمه.
قال ابن عباس:
أكرم الناس علي جليسي، إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني.
قيل لابن عباس: من أكرم الناس عليك؟ قال: جليسي الذي يتخطى الناس حتى يجلس إلي، لو استطعت ألا يقع الذباب على وجهه لفعلت.
وعن ابن عباس كان يقول: ثلاثة لا أكافئهم: رجل ضاق مجلسي فأوسع لي، ورجل كنت ظمآن فسقاني، ورجل اغبرت قدماه في الاختلاف على بابي، ورابع لا أقدر على مكافأته، ولا يكافئه عني إلا الله عز وجل: رجل حز به أمر فبات ليلته ساهراً. فلما أصبح لم يجد لحاجته معتمداً غيري. قال: وكان يقول: إني لأستحي من الرجل يطأ بساطي ثلاث مرات ثم لا يرى عليه أثر من أثري.
قال ابن عباس: ما بلغني عن أخ لي مكروه قط إلا أنزلته أحد ثلاثة منازل: إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان نظيري تفضلت عليه، وإن كان دوني لم أحفل به. وهذه سيرتي في نفسي، فمن رغب عنها فأرض الله واسعة.
ولما أصيبت عين ابن عباس نحل جسمه. فلما ذهبت الأخرى عاد لحمه، فقيل له في ذلك، فقال: أصابني ما رأيتم في الأولة شفقة على الأخرى، فلما ذهبتا اطمأن قلبي.
قال عكرمة: لما وقع الماء في عين ابن عباس قيل له: تنزع الماء من عينيك، على أنك لا تصلي سبعة(12/327)
أيام، فقال: لا إنه منترك الصلاة سبعة أيام وهو يقدر عليها لقي الله عز وجل وهو غضبان عليه.
وعن ابن عباس أنه قال حين أصيب بصره: ما آسى على شيء من الدنيا إلا لو أني كنت مشيت إلى بيت الله عز وجل، فإني سمعت الله عز وجل يقول: " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ".
وعن عكرمة قال: كان ابن عباس في العلم بحراً ينشق له من الأمر الأمور. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اللهم، ألهمه الحكمة، وعلمه التأويل ".فلما عمي أتاه ناس من أهل الطائف، ومعهم علم من علمه أو كتب من كتبه، فجعلوا يستقرؤونه، وجعل يقدم ويؤخر. فلما رأى ذلك قال: إني تلهت من مصيبتي هذه، فمن كان عنده علم من علمي، أو كتب من كتبي فليقرأ علي، فإن إقراري له به كقراءتي عليه. قال: فقرؤوا عليه، زاد في حديث آخر: ولا يكن في أنفسكم من ذلك شيء.
تله الرجل إذا تحير. والأصل وله. والعرب قد تقلب الواو تاء، يقولون: تجاه، والأصل: وجاه.
ولما وقعت الفتنة بين عبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان ارتحل عبد الله بن عباس ومحمد بن الحنفية بأولادهما ونسائهما حتى نزلوا مكة، فبعث عبد الله بن الزبير إليهما يبايعان فيأبيا، وقالا: أنت وشأنك، لا نعرض لك ولا لغيرك، فأبى، وألح عليهما إلحاحاً شديداً. وقال فيما يقول: والله لتبايعن أو لأحرقنكم بالنار، فبعثا أبا الطفيل عامر بن واثلة إلى شيعتهم بالكوفة وقالا: إنا لا نأمن من هذا الرجل، فمشوا في الناس، فانتدب أربعة آلاف، فحملوا السلاح حتى دخلوا مكة، فكبروا تكبيرة سمعها أهل مكة، وابن الزبير في المسجد، فانطلق هارباً حتى دخل دار الندوة ويقال: تعلق بأستار الكعبة، وقال: أنا عائذ الله. قال: ثم ملنا إلى ابن عباس وابن الحنيفة وأصحابهما، وهم في(12/328)
دور قريب من المسجد قد جمع الحطب، فأحاط بهم حتى بلغ رؤوس الجدر، لو أن ناراً تقع فيه مارئي منهم أحد حتى تقوم الساعة، فأخرناه عن الأبواب، وقلنا لابن عباس: ذرنا نرح الناس منه، فقال: لا، هذا بلد حرام حرمه الله، ما أحله لأحد إلا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساعة، فامنعونا وأجيرونا. قال: فتحملوا، وإن منادياً ينادي في الجبل: ما غنمت سرية بعد نبيها ما غنمت هذه السرية، إن السرايا تغنم الذهب والفضة، وإنما غنمتم دماءنا فخرجوا بهم حتى أنزلوهم منى، فأقاموا ما شاء الله، ثم خرجوا بهم إلى الطائف، فمرض عبد الله بن عباس. قال: فبينا نحن عنده إذ قال في مرضه: إني أموت في خير عصابة على وجه الأرض أحبهم إلى الله وأكرمهم عليه، وأقربهم إلى الله زلفى، فإن كت فيكم فأنتم هم، فما لبث إلا ثمان ليال بعد هذا القول حتى توفي، رحمه الله. فصلى عليه محمد بن الحنيفة، وولينا حمله ودفنه.
قال منذرالثوري: سمعت محمد بن علي بن أبي طالب يقول يوم مات ابن عباس: اليوم مات رباني هذ الأمة.
وفي رواية عن كلثوم: اليوم مات رباني العلم.
وعن بجير بن أبي عبيد قال:
مات ابن عباس بالطائف. فلما خرجوا بنعشه جاء طير عظيم أبيض من قبل وج زاد في رواية: يقال له الغرنوق حتى خالط أكفانه، ثم لم يروه، زاد في رواية: قال: فكانوا يرون أنه علمه.
قال ميمون بن مهران: شهدت جنازة عبد الله بن عباس بالطائف. فلما وضع ليصلى عليه جاء طائر أبيض حتى دخل في أكفانه، فالتمس فلم يوجد. فلما سوي عليه سمعنا صوتاً، نسمع صوته ولا(12/329)
نرى شخصه " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ".
قال هشام بن محمد بن السائب: صلى محمد بن علي على عبد الله بن عباس، وكبر عليه أربعاً، وضرب على قبره فسطاطاً.
قال ابن بكير: توفي عبد الله بن عباس سنة خمس وستين. ويقال: ثمان وستين. وصلى عليه محمد بن الحنفية، وأدخله من قبل القبلة، وقيل: توفي سنة سبع وثمانين. وتوفي ابن الحنفية بعده.
وكان ابن عباس يصفر لحيته، وتوفي وسنه اثنتان وسبعون سنة، وقيل: إحدى وسبعون سنة، وقيل: أربع وسبعون سنة. والصحيح قول من قال: إنه توفي سنة ثمان وستين. والله أعلم.
ولما دفن قال محمد بن الحنفية: مات والله اليوم حبر الأمة.
قال الزبير: ويقال: قالت أم الفضل وهي ترقص عبد الله بن عباس:
ثكلت نفسي وثكلت بكري ... إن لم يسد فهراً وغير فهر
بحسب زاك وبذل الوفر
عبد الله بن العباس بن الوليد
ابن مزيد العذري البيروتي حدث عن أبيه بسنده إلى حميد بن عبد الرحمن قال: استوى معاوية على المنبر فقال: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت(12/330)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله علينا صيامه، وأنا صائمه، فمن شاء صامه، ومن شاء أفطره ".
عبد الله بن عبد الله بن الحارث
ابن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو يحيى الهاشمي النوفلي.
حدث عبد الله بن عبد الله بن الحارث عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.
أنه اجتمع ربيعة بن الحارث وعباس بن عبد المطلب فقالا: والله، لو بعثنا هذين الغلامين قال: لي وللفضل بن عباس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمرهما على هذه الصدقات فأديا ما يؤدي الناس، وأصابا ما يصيب الناس من المنفعة. قال: فبينا هما في ذلك جاء علي بن أبي طالب، فقال: ماذا تريدان؟ فأخبراه بالذي أرادا فقال: لا تفعلا، فوالله ما هو بفاعل، فقالا: لم تصنع هذا؟ فما هذا منك إلا نفاسة علينا، فوالله لقد صبحت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونلت صهره فما نفسنا ذلك عليك، فقال: أنا أبو حسن، أرسلوهما، ثم اضطجع. فلما صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظهر سبقناه إلى الحجرة، فقمنا عندها حتى مر بنا، فأخذ بآذاننا، ثم قال: اخرجا ما تصرران، ودخل، فدخلنا معه، وهو حينئذ في بيت زينب بنت جحش. قال: فكلمناه، فقلت: يا رسول الله، جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة، ونؤدي إليك ما يؤدي الناس. قال: فسكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورفع رأسه إلى سقف البيت حتى أردنا أن نكلمه. قال: فأشارت إلينا زينب من وراء حجابها كأنها تنهانا عن كلامه، فأقبل فقال: ألا إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس، ادع لي محمية بن الجزء وكان على العشور وأبا سفيان بن الحارث. قال: فأتياه، فقال لمحمية بن جزء: أنكح هذا الغلام ابنتك للفضل فأنكحه، وقال لأبي سفيان: أنكح هذا الغلام ابنتك فأنكحني، ثم قال لمحمية: أصدق عنهما من الخمس.(12/331)
وحدث عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: سألت لأجد أحداً يخبرني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبح في سفر. فلم أجد أحداً يخبرني بذلك، حتى أخبرتني أم هانئ بنت أبي طالب أنه قدم عام الفتح فأمر بستر فستر عليه، فاغتسل ثم سبح ثمان ركعات.
وحدث عبد الله بن عبد الله
أن أباه عبد الله بن الحارث بن نوفل كان يسبح سبحة الضحى. قال: فسألت وحرصت أن أجد أحداً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدثني: هل سبح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسبيحة الضحى، فلم أجد أحداً من الناس يخبرني أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبحها غير أم هانئ بنت أبي طالب، أخبرتني أن النبي جاء يوم الفتح، مكة، بعدما ارتفعت الشمس فأمر بثوب فستر عليه، ثم اغتسل، ثم قام يصلي، فركع ثمان ركعات. قال: فلا أدري: أقيامه فيهن أطول أم ركوعه، ولا أدري: أركوعه فيهن أطول أم سجوده. وكان ذلك فيهن متقارباً. قال: فلم أر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبح سبحة الضحى قبل ولا بعد غير تلك المرة.
وأم عبد الله بن عبد الله خالدة بنت معتب بن أبي لهب بن عبد المطلب.
وحدث عبد الله بن عبد الله عن أبيه: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سمع المؤذن قال: مثل ما يقول.
توفي عبد الله بن عبد الله بن الحارث سنة تسع وتسعين، قتلته السموم، ودفن بالأبواء وهو مع سليمان بن عبد الملك، وصلى عليه، وكان قد حج معه، فمات بالأبواء.
عبد الله بن عبد الله أبي دجانة
ابن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري حدث عن عمه أبي زرعة بسنده إلى فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الأرض أرض الله، والعباد عباد الله، فمن اجتنى أرضاً مواتاً فهي له ".(12/332)
عبد الله بن أبي عبد الله
أبو عون الأنصاري الأعور حدث عن أبي إدريس الخولاني قال: سمعت معاوية وهو يخطب بالناس قال: وكان قليل الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فسمعته يقول: سمعت رسول الله قال: " كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يموت كافراً، والرجل يقتل المؤمن متعمداً ".
عبد الله بن عبيد الله بن عاصم
ابن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي المديني قدم على عمر بن عبد العزيز للخؤولة، لأن أم عمر أم عاصم بنت عاصم بن عمر.
روى عن عمر بن عبد العزيز خطبة له قال: قدمنا على عمر بن عبد العزيز حين استخلف. قال: وجاءه الناس من كل مكان. قال: فجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد. أيها الناس، فالحقوا ببلادكم، فإني أنساكم ها هنا، وأذكركم في بلادكم فلا إذن له علي ألا ولا أرينه. وأيم الله، إني كنت منعت نفسي وأهل بيتي هذا المال، ثم ضننت به عليكم، إني إذاً لضنين، والله لولا أن أنعش سنة، وأسير بحق، ما أحببت أن أعيش فواقاً.
قال عبيد الله: فلم يخطب بعدها.(12/333)
عبد الله بن عبد الأعلى بن أبي عمرة
أبو عبد الملك الشيباني مولاهم أخو عبد الصمد بن عبد الأعلى.
قال أبو هفان: كان عبد الله شاعراً، وكان أبوه عبد الأعلى شاعراً، وكان عبد الله متهماً في دينه، ويقال: إن سليمان بن عبد الملك ضمه إلى ابنه أيوب فزندقه، فدس له سليمان سماً، فقتله وعبد الله كثير الأمثال في شعره، أنفذ أكثر قوله في الزهد والمواعظ، وهو القائل: من الطويل:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل ابعد
ولما مات هشام بن عبد الملك اجتمع وجوه الناس وأشرافهم، وفيهم ابن عبد الأعلى الشاعر. فلما علا على مغتسله رمى ابن عبد الأعلى بطرفه نحو الباب الذي يغتسل فيه، ثم أنشأ يقول: الطويل:
وما سالم عما قليل بسالم ... ولو كثرت أحراسه وكتائبه
ومن يك ذا باب شديد وحاجب ... فعما قليل يهجر الباب حاجبه
ويصبح بعد العز يفيضه أهله ... رهينة لحد لم تسو جوانبه
فما كان إلا الدفن حتى تفرقت ... إلى غيره أجناده ومواكبه
وأصبح مسروراً به كل كاشح ... وأسلمه أحبابه وأقاربه
فنسك فاكسبها السعادة والتقى ... فكل امرئ رهن بما هو كاسبه
قال عبد الملك بن مروان لبنيه في مرض موته: كونوا كما قال عبد الله بن عبد الأعلى: من الكامل
ألقوا الضغائن والتخاذل بينكم ... عند المغيب وفي الحضور الشهد(12/334)
بصلاح ذات البين طول بقائكم ... إن مد في عمري وإن لم يمدد
فلمثل ريب الدهر ألف بينكم ... بتواصل وترحم وتودد
والقوا الضغائن والتخاذل عنكم ... بتكرم وتوسع وتعهد
حتى تلين قلوبكم وجلودكم ... لمسود منكم وغير مسود
وتكون أيديكم معاً في أمركم ... ليس اليدان لذي التعاون كاليد
إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو حنق وبطش أيد
عزت فلم تكسر وإن هي بددت ... فالكسر والتوهين للمتبد
ثم طفئ من ساعته.
عبد الله بن عبد الرحمن بن حجيرة
أبو عبد الرحمن الخولاني قاضي مصر وابن قاضيها.
وفد على عمر بن عبد العزيز في قضاء مصر من قبل قرة بن شريك أمير مصر من قبل الوليد بن عبد الملك في سنة تسعين.
حدث عن أبيه عن ابي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصى سلمان الخير فقال له: يا سليمان، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد أن يمنحك كلمات تسألهن الرحمن وترغب إليه فيهن، وتدعو بهن في الليل والنهار. قل: اللهم إني أسألك صحة في إيمان، وإيماناً في حسن خلق، ونجاحاً يتبعه فلاح، ورحمة منك وعافية، ومغفرة منك ورضواناً.
قال إبراهيم بن نشيط: رأيت عبد الله بن عبد الرحمن بن حجيرة، وكانت تحته امرأة من وعلان هي مولاة ابن نشيط، وقد تغدى فقال: أتتغدى؟ قال: قلت نعم، قال: أعيدي عليه الغداء يا جارية، فأتت بعدس على طبق خوص وكعك وماء، فقال: ابلل وكل. فلم تتركنا الحقوق نشبع من الخبز.(12/335)
قال ابن نشيط: وأتاه رجل يذكر له حاجة، فقال: تعود، فسأل عنه، فإذا هو صادق، فأعطاه ثمانية عشر ديناراً، فأتاه في مجلس القضاء يثني عليه، فقال: أخروه عني.
عبد الله بن عبد الرحمن
ابن عبد الله بن سليمان بن خيثمة بن سليمان بن حيدرة أبو بكر القرشي الأطرابلسي.
حدث عن أبي بكر محمد بن العباس بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغيب الشمس فقد أدرك العصر ".
وروي هذا الحديث بزيادة: " من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ".
وحدث أبو بكر أيضاً عن أبي بكر أحمد بن جعفر بن محمد البرمكي بسنده عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من كذب علي حسبته قال: متعمداً فليتبوأ بيته من النار ".
عبد الله بن عبد الرحمن
ابن عبد الله بن علي بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي العجائز سعيد بن خالد بن حميد بن صهيب بن كليب بن البخيت بن علقمة بن الصبر الأزدي، أزد شنوءة أبو محمد القاضي.
ولي القضاء بدمشق نيابة.
حدث عن أبي محمد عبد الرحمن بن عثمان بن أبي نصر بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تتقدموا بين يدي رمضان بيوم أو يومين، إلا رجلاً كان يصوم صياماً فليصمه ".(12/336)
ولد القاضي أبو محمد بن أبي العجائز في ذي الحجة سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة.
وبخيت: أوله ياء مضمومة، وبعدها خاء معجمة مفتوحة، وآخره تاء معجمة باثنتين من فوقها.
وتوفي القاضي أبو محمد بن أبي العجائز في رجب سنة اثنتين وستين وأربع مئة.
عبد الله بن عبد الرحمن بن عتبة
ابن إياس ويقال ابن أبي إياس بن عبد أسد بن جحدم بن عمرو بن عابس بن ظرب بن الحارث بن فهر، القرشي الفهري.
ولي إمرة دمشق من قبل يزيد بن عبد الملك، ولي لعمر بن عبد العزيز صدقات بني تغلب.
حدث ابن جحدم: أن عمر بن عبد العزيز بعثه على صدقات بني تغلب، فكان عهده إليه أن يقبضها ثم يردها في فقرائهم. قال: فكنت آتي الحي فأدعوهم بأموالهم، فأقبض ما كان فيها، ثم أدعو فقراءهم فأقسمها عليهم حتى إنه ليصيب المسكين الفريضتين والثلاث، فما أفارق الحي وفيه فقير. ثم آتي الحي الآخر، فأصبح به كذلك، فلم أنصرف إليه بدرهم.
قال عبد الله بن أبي عبد الله: قحطت السماء في زمان يزيد بن عبد الملك، وعلى دمشق عبد الله بن عبد الرحمن الفهري، فخرج بنا إلى مضمار دمشق يستسقي، فجلس على درجة دون المجلس من المنبر، فدعا الله، وعظمه، ومجده طويلاً، ثم قال: اللهم أي رب، إنا لم نكن لنجيء بأجمعنا إلى أحد دونك وكل شيء هو دونك في أمر لا ينقصه شيئاً، وهو بنا رافق إلا أعطاناه، اللهم، ولك المثل الأعلىن جئناك الغداة نطلب في أمر لا ينقصك شيئاً وهو بنا رافق، فأعطنا برحمتك، يا أرحم الراحمين. فلم نبرح حتى مطرنا.(12/337)
عبد الله بن عبد الرحمن بن عضاه بن الكركير الأشعري
شهد صفين مع معاوية، وبعثه يزيد بن معاوية إلى ابن الزبير يدعوه لبيعته، ومعه جامعة من فضة، وبرنس خز، فقدم على ابن الزبير وهو جالس بالأبطح، ومعه أيوب بن عبد الله بن زهير بن أبي أمية المخزومي، وعلى مكة يومئذ الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة، فكلمه ابن عضاه وابن الزبير ينكت في الأرض، فقال له أيوب: يا أبا بكر، لا أراك غرضاً للقوم، فرفع ابن الزبير رأسه فقال: أقلت: حلف ألا يقبل بيعتي حتى يؤتى بي في جامعة؟ لا أبر الله قسمه، وتمثل ابن الزبير: البسيط
ولا ألين لغير الحق أسأله ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
ثم قال: والله، لا أبايع يزيد، ولا أدخل له في طاعة.
قال خالد سبلان: كنت فيمن ضهد صفين: فبينا نحن هناك إذ جاء الخبر إلى معاوية أنه قد بايع رجلاً من همدان اثنا عشر ألفاً من همدان بيعة الموت ليغتدن شاهرين سيوفهم فلا ينثنون دون أن يقتلوا معاوية، أو ينهزم الناس، أو يموتوا من آخرهم، فأعظهم ذلك معاوية، وأقبل على عمرو بن العاص فقال: اثنا عشر ألفاً كلهم قد بايع بيعة الموت، من يطيق هؤلاء؟ فقال له عمرو: اضربهم بمثلهم من فوقهم، فأرسل إلى عضاه أو قال: ابن عضاه فأخبره عن الهمداني وأصحابه وقال: ما عندك؟ قال: ألقاهم بمثل عدتهم من همدان. قال: فخرج إليه قبائل همدان، فخطبهم متوكئاً على قوسه، فذكر عثمان، وما انتهك من حرمته، وركب به يعني: قتلوا حتى نسخوا ثم ذكر الذين قتلوه، وأنه لحق على كل مسلم أن يطلب دم عثمان، والقود من قتله، ونحواً من هذا الكلام، وإن الهمداني قد بايعه منكم، فأخبرهم بما صنعوا، فما عندكم؟ قالوا: عندنا أن نلقاهم بيعة الموت. قال: بيعة الموت؟ قالوا: بيعة الموت. فأعادها، ثم استدار على قوسه، ووثبوا وثبة رجل فاستداروا مرات،(12/338)
واعتنق بعضهم بعضاً، وبكى بعضهم إلى بعض، فغدا الهمداني في أصحابه فاقتتلوا فيما بين أول النهار إلى صلاة العصر، ما ينهزم هؤلاء ولا هؤلاء، فأرسل علي إلى معاوية يناشده الله في البقية إلى كف أصحابه، ويكف أصحابه. فلم يزل معاوية يكف أصحابه ويزعهم، وعلي مثل ذلك حتى حجزوا بينهم.
/(12/339)
عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف ابن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب أبو سلمة، وهو عبد الله الأصغر قيل: اسمه عبد الله، وقيل: اسمه إسماعيل، وقيل: اسمه وكنيته واحد.
كان ثقة فقيهاً كثير الحديث، وأمه تماضر بنت الأصبغ بن عمرو بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب بن هُبَل من كاب قضاعة، استقضاه سعيد بن العاص لما ولي المدينة لمعاوية، فلم يزل قاضياً حتى عزل سعيد بن العاص.
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: قلت لعائشة: إنما فاقنا عروة بدخوله عليك كلما أراد، قال: وأنت إذا أردت فاجلس من وراء حجاب، فتسألني عما أحببت: فإنا لم نجد أحداً بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصل لنا من أبيك، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يحني عليكن إلا الصادق البار " وهو عبد الرحمن بن عوف.
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: تذاكرنا ليلة القدر في نفرٍ من قريش، فأتيت أبا سعيد الخدري، وكان صديقاً لي، فقلت: اخرج بنا إلى النخل، فخرج وعليه خميصة له.(13/7)
وقال أبو سلمة: لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علماً جماً.
وكان أبو سلمة يسأل ابن عوف، فيخزن عليه، وكان عبيد الله بن عبد الله يلطفه، فكان يغره غراً.
قال محمد بن أبي يعقوب: قدم علينا أبو سلمة بن عبد الرحمن في إمارة بشر بن مروان، وكان رجلاً صبيحاً، كأن وجهه دينار هرقلي.
عن سعد بن إبراهيم: أنه رأى أبا سلمة يصبغ بالسواد، وقال مرة: يصبغ بالوسمة.
قال أبو إسحاق: أبو سلمة في زمانه خير من ابن عمر في زمانه.
قال الزهري: أدركت بحوراً أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله، وأبا سلمة ابن عبد الرحمن، وكان أبو سلمة يماري ابن عباس فحرم بذلك علماً كثيراً.
وقال: قدمت مصر على عبد العزيز بن مروان، وأنا أحدث عن سعيد بن المسيب، قال: فقال لي إبراهيم بن عبد الله بن قارظ: ما أراك تحدث إلا عن ابن المسيب، فقلت: أجل، فقال: لقد تركت رجلين من قومك لا أعلم أكثر حديثاً منهما: عروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن.
وعن سليمان بن عبد الرحمن بن خباب قال: أدركت رجالاً من المهاجرين، ورجالاً من الأنصار من التابعين يقتنون بالليل،(13/8)
فأما المهاجرون: فسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبان بن عثمان، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعروة بن الزبير، والقاسم، وسالم، وذكر الأنصار.
وقال يحيى بن سعيد القطان: فقهاء أهل المدينة عشرة: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وعروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وقبيصة بن ذؤيب، وأبان بن عثمان، وسقط من الكتاب العاشر.
قال هشام بن محمد بن السائب: ولي أبو سلمة شرط سعيد بن العاص بالمدينة.
قال إسماعيل بن أبي خالد: مشى أبو سلمة بن عبد الرحمن يوماً بيني وبين الشعبي، فقال له الشعبي: من أعلم أهل المدينة؟ قال: رجل يمشي بينكما.
قال الشعبي: فسألته عن أربع مسائل، فأخطأ فيهن كلهن.
وكان أبو سلمة ينازع ابن عباس في المسائل ويماريه، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: إنما مثلك، يا أبا سلمة، مثل الفروج سمع الديكة تصيح، فصاح معها؛ يعني: إنك لم تبلغ مبلغ ابن عباس وأنت تماريه.
قال سعيد الجريري عن أبي بصرة: لما قدم أبو سلمة البصرة أتيته أنا والحسن، فقال للحسن: أنت الحسن؟ ما كان بالبصرة أحد أحب إلي لقاءً منك، وذلك أنه بلغني أنك تفتي برأيك، فلا تفت برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو كتاب منزل.
قال محمد بن إسحاق: رأيت أبا سلمة بن عبد الرحمن يأخذ بيد الصبي من الكتاب، فيذهب به إلى البيت، فيملي عليه الحديث ويكتب له.(13/9)
عن أبي الأسود قال: كان أبو سلمة مع قومٍ، فرأوا قطيعاً من غنم، فقال: اللهم إن كان في سابق علمك أن أكون خليفة فاسقنا من لبنها، فانتهى إليها، فإذا هي تيوس كلها.
وعن يونس بن أبي سالم: أن أبا سلمة بن عبد الرحمن اشترى قطاً بالعرج، وهو محرم، فبلغ ذلك سعيد بن المسيب، فأرسل إليه وقال: لأنت صغيراً أفقه منك كبيراً.
مات أبو سلمة بن عبد الرحمن سنة أربع وتسعين، وقيل: سنة ثلاث وتسعين.
وروي من طرقٍ أنه مات سنة مائة، وقيل: سنة أربع ومائة.
عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام
أبو محمد الدارمي السمرقندي الحافظ المشهور.
رحل، وطوف.
روى عن مروان بن محمد بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رفع رأسه من الركوع قال: " ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ".
رواه مسلم عن الدارمي.(13/10)
وروى عن مروان بن محمد بسنده عن ابن عباس قال: فرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زكاة الفطر طعمة للمساكين، وطهرة للصائم من اللغو والرفث، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاةً مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.
رواه أبو داود عن الدارمي.
وروى عن يحيى بن حسان بسنده عن عائشة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نِعم الإدام الخل ".
رواه مسلم وأبو عيسى عن الدارمي.
قال محمد بن إبراهيم بن منصور الشيرازي: عبد الله بن عبد الرحمن بن بهرام الدارمي الحافظ السمرقندي، كنيته أبو محمد، وكان على غايةٍ من العقل والديانة، من يضرب به المثل في الحلم والدراية والحفظ والعبادة والزهادة، أظهر علم الحديث والآثار بسمرقند، وذب عنها الكذب، وكان مفسراً كاملاً، وفقيهاً عالماً.
قال أبو حاتم: ثقة صدوق، إمام أهل زمانه.
وقال الخطيب: كان أحد الرحالين في الحديث، والموصوفين بحفظه وجمعه والإتقان له مع الثقة والصدق والورع والزهد. واستقضي على سمرقند، فأبى، فألح عليه السلطان حتى تقلده، وقضى قضيةً واحدة ثم استعفى، فأعفي، وكان على غاية العقل، وفي نهاية الفضل يضرب به المثل في الديانة والحلم والرزانة والاجتهاد والعبادة والزهادة والتقلل، وصنف المسند والتفسير، والجامع.(13/11)
قال الدارمي: ولدت في سنة مات ابن المبارك، سنة إحدى وثمانين ومائة.
قال أبو سعيد الجزري عمرو بن الحسن:
كنت بمصر والشام ما رأيت أحداً من أهل العلم إلا وهو يعرف عبد الله بن عبد الرحمن.
وسئل أحمد بن حنبل عن الحماني فقال: تركناه لقول عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي.
قال محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي: يا أهل خراسان، ما دام عبد الله بن عبد الرحمن بين أظهركم فلا تشتغلوا بغيره.
قال إسحاق بن أحمد بن خلف: كنا عند محمد بن إسماعيل، فورد عليه كتاب فيه نعي عبد الرحمن، فنكس رأسه، ثم رفع واسترجع، وجعل تسيل دموعه على خديه، ثم أنشأ يقول: من الكامل
إن تبق تفجع بالأحبة كلهم ... وفناء نفسك لا أبا لك أفجع
قال الخطيب: مات سنة خمسٍ وخمسين ومائتين، وهو ابن خمسٍ وسبعين سنةً.
وقيل: مات سنة خمسين ومائتين، ووهم هذا القول الخطيب.
عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن محمد
أبو محمد الأزدي الأردني.
الشيخ الصالح.
روى عن أحمد بن إسحاق بن يزيد الحلبي بسنده عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من مشى إلى صاحب بدعةٍ ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام ".(13/12)
وروى عن أبي بكر محمد بن علي الموازيني بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من يأخذ عني هؤلاء الكلمات، فيعمل بهن، أو يعلمهن من يعمل بهن؟ " قال: فقلت: أنا يا رسول الله، قال: فأخذ بيدي، وعقد فيها خمساً فقال: " اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وارضَ للناس ما ترض لنفسك تكن مسلماً، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، ولا تكثر الضحك، فإن الضحك يقسي القلب ".
وروى عن الشريف أبي محمد جعفر بن القاسم بن جعفر الهاشمي قال: كتبت من مكة إلى أهلي من منىً: من الطويل
أمعشر أحبابي سلام عليكم ... رحلنا وخلفنا القلوب لديكم
وبعد فأنتم قيد من سار عنكم ... وذكركم زاد المشوق إليكم
عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية
ابن حديج بن جفنة بن قتيرة بن حارثة بن عبد شمس بن معاوية بن جعفر بن أسامة بن سعد ابن أشرس ابن شبيب بن السكون بن أشرس بن كندة الكندي ثم التُّجيبي المصري.
ولي إمرة الإسكندرية في خلافة هشام بن عبد الملك، ووفد في وجوه أهل مصر على يزيد بن الوليد بن عبد الملك حين بويع، ثم ولي مصر لأبي جعفر المنصور في شهر ربيع الآخر اثنتين وخمسين ومائة، وهو أول من خطب بمصر في السواد، وخرج إلى المنصور في شهر رمضان سنة أربع وخمسين، ورجع في آخر سنة أربع، وتوفي وهو واليها يوم الأحد مستهل صفر سنة خمس وخمسين ومائة.
قال ابن ماكولا: حُدَيج: بضم الحاء وفتح الدال.(13/13)
عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر
ابن حزم بن زيد بن لوذان أبو طوالة الأنصاري المديني.
وفد على عمر بن عبد العزيز فولاه القضاء بالمدينة، فلم يزل قاضياً بها حتى توفي عمر.
سمع أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ".
قال أبو طوالة: سمعت عمر بن عبد العزيز سأل عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية في السقط فقال: بلغني، ورفع إليه ديناً فوعده.
قال محمد بن سعد: عبد الله بن عبد الرحمن، كان قاضياً بالمدينة لأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم والي عمر بن عبد العزيز على المدينة، فكان يقضي في المسجد.
قال عبد الرحمن بن يوسف بن سعيد بن خِراش: كان صدوقاً، وكان مالك يرضاه.
وقال الدارقطني: شامي ثقة.
قال مالك: كان قاضياً في خلافة سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز، وكان يسرد الصوم، وكان يحدث حديثاً حسناً.
قال أبو طوالة: ليت لنا مع إسلامنا أحلام آبائنا - وفي رواية: مثل أخلاق آبائنا مع إسلامنا.(13/14)
قال عبد الرحمن العمري الزاهد: جمع أبو طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم بن معمر بن حزم الأنصاري ولده عند موته، فقال: يا بَنِيّ اتقوا الله، فإنكم إن اتقيتم الله فأنتم مني على الصدر والنحر، وإن لم تتقوا الله لم أبال ما صنع الله بكم.
عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد
ابن جابر أبو إسماعيل الأردني الداراني روى عن أبيه بسنده عن أبي أمامة الباهلي، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قال:
" بينما أنا نائم انطلق بي إلى جبلٍ وعرٍ، فقيل لي: اصعد، قال: قلت: لست أستطيع الصعود، قيل: أنا سنسهله لك، قال: فصعدت حتى إذا كنت في أسوأ الجبل إذا أنا بأصواتٍ، فقلت: ما هذه الأصوات؟ قيل: هذه أصوات أهل جهنم، قال: ثم انطلق بي حتى مررت بقوم أشده انتفاخاً، وأسوأه منظراً، وأنتنه ريحاً، قال: قلت: من هؤلاء؟ قيل: الكفار، ثم انطلق بي حتى مر بي على قومٍ أشد شيءٍ انتفاخاً، وأسوأ منظراً، وأنتنه ريحاً، ريحهم كريح المراحيض. قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزانون والزواني، ثم انطلق بي حتى مُرَّ بي على نسوةٍ معلقاتٍ بثديهن، تنهش ثديهن الحيات، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء اللاتي يمنعن أولادهن ألبانهن. ثم انطلق بي حتى مررت على قومٍ معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يفطرون قبل إنجاز صومهم - قال أبو يحيى: سمعت أبا أمامة يقول: خابت اليهود والنصارى، فلا أدري شيء سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم قاله من قبل نفسه - ثم انطلق بي حتى أشرفت على ثلاثة نفرٍ يشربون من خمرٍ لهم، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: هذا زيد، وجعفر، وابن رواحة، قال: ثم انطلق بي حتى أشرفت على غلمان يلعبون بين نهرين، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: ذراري المؤمنين يحضُنُهم إبراهيم عليه السلام. قال: ثم انطلق بي حتى أشرفت على ثلاثة نفرٍ،(13/15)
قلت: من هؤلاء؟ قال: إبراهيم، وموسى، وعيسى، وهم ينتظرونك ".
وروى عن عطاء الخراساني بسنده عن عائشة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه.
قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوةٍ غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعدما أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجٍ، وأنزل فيه. فسرنا حتى فرغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غزوته وقفل، ثم دنوا من المدينة، فآذن ليلةً بالرحيل، فقمت حين آذن بالرحيل، فلمست صدري عقداً من جزع أظفَارٍ قد انقطع، فرجعت، فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي. واحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، وكن إذ ذاك النساء خفافاً لم يمتلئن، وإنما نأكل العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رفعوه ورحلوه، وكنت جاريةً حديثة السن، فبعثوا البعير وساروا، ووجدت عِقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منزلهم وليس به داعٍ، ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني، فيرجعون إلي، فبينا أنا لبيثة في منزلة إذا غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فادلج، فأصبح في المنزل، فرأى سواد إنسان نائماً، فأتاني، فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، وولى ما يكلمني بكلمةٍ، ولا سمعت منه كلمةً غير استرجاعه حتى أناخ راحلته، ووطئ على يديها، فركبتها، فانطلق يقود بي حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا في نحر الظهيرة، فهلك من هلك، وكان الذي تولى كِبْرَه منهم عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول.(13/16)
ثم قدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهراً، والناس يخوضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيءٍ من ذلك، وهو يريبُني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللطف الذي كنت أرى منه، إنما يدخل علي فيسلم، ثم يقول: " كيف تيكم؟ " فذلك يريبني، ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت معي أمُّ مسطح قبل المناصع، وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول التبرز قبل الغائط، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب بن عبد مناف - فأقبلت أنا وابنة أبي رهم بيتي حين فرغنا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، قال: فقلت: بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهد بدراً!؟ قالت لي: أي هنتاه، وما سمعت ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً على ما كان بي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسلم، ثم قال: " كيف تيكم؟ " قالت: قلت: يا رسول الله، ائذن لي أن آتي أبويَّ؟ وأنا أريد حينئذٍ أن أستثبت الخبر من قبلهما، قالت: فأذن لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجئت أبويّ، فقلت: يا أمتاه، ماذا يتحدث الناس؟ قالت: أي بنية، هوني على نفسك، فوالله لأقل ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجلٍ يحبها، لها ضرائر إلا كثرن عليها، قالت: فقلت: سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة لا ترقأ لي دمعة، ولا تكتحل عيني بنوم، ثم أصبحت أبكي، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً، وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي، يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذي يعلم من براءة(13/17)
أهله، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم، فقال: يا رسول الله، أهلُك، ولا نعلم إلا خيراً، وأما علي فقال: يا رسول الله، لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية عنها تصدقك، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بريرة فقال لها: " أي بريرة، هل رأيت من شيءٍ يريبك؟ " فقالت: لا والذي بعثك بالحق! إن رأيت عليها أمراً قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتدخل الداجن، فتأكله. قالت: فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستعذر من عبد الله بن أُبي ابن سلول، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على المنبر: " يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجلٍ قد بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " قالت: فقام سعد ابن معاذ، فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا أمرتنا ففعلنا أمرك. فقال سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن حملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله، لا تقتله، ولا تقرب إلى قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: لعمر الله لنقتلنه، وإنك لمنافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان: الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم على المنبر يكفهم حتى سكتوا وسكت. قالت: وبكيت يومي ذلك كله، لا ترقأ لي دمعة، ولا أكتحل بنومٍ، فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتي ويومي ذلك حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي إذ استأذنت علي امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينما نحن على ذلك دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجلس، ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل قبلها، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني شيء، فتشهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين جلس، ثم قال: " أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت ألممت بذنبٍ فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله عز وجل، تاب الله عز وجل(13/18)
عليه " فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ما أدري ما أقول لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت لأمي:
أجيبي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قال، فقالت: ما أدري ما أقول لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: فقلت، وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيراً من القرآن: إي والله لقد علمتم وسمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فإن قلت: إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لم تصدقوني بذلك، وإن اعترفت بأمرٍ والله يعلم أني بريئة لتصدقونني. ما أجد لكم مثلاً إلا أبا يوسف " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ". قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، والله يعلم أني بريئة، والله يبرئني ببراءتي، ولكن لم أكن أرجو أن ينزل الله في شأني وحياً، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله به بأمرٍ يتلى، ولكن كنت أرجو أن يري الله رسوله في منامه رؤيا يبرئني بها. قالت: فوالله ما رام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجلسه، ولا خرج من أهل البيت حتى أنزل الله عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حين نزل عليه، وكان إذا أوحي إليه أخذه البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشات من ثقل القول الذي ينزل عليه. قالت: فلما سري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يضحك، فكان أول كلمةٍ تكلم بها أن قال: " أما الله فقد برأك " قال: فقالت أمي: قومي إليه، قلت: والله ما أقوم إليه، ولا أحمد على ذلك إلا الله، فأنزل الله عز وجل: " إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم، لكل امرئٍ منهم ما اكتسب من الإثم، والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " قالت: وكان أبو أيوب الأنصاري حين أخبرته امرأته قالت: يا أبا أيوب، ألم تسمع ما يتحدث الناس؟ قال: وما يتحدثون؟ فأخبرته بقول أهل الإفك، قالت: قال: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم. قالت: فأنزل الله عز وجل: " لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك(13/19)
هذا بهتان عظيم " حتى بلغ " ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة " حتى بلغ " ألا تحبون أن يغفر الله لكم " قالت: وكان أبو بكر ينفق على مسطح لفقره وقرابته. قال: والله لا أنفق عليه وقد قال في عائشة ما قال، فلما أنزل الله " ألا تحبون أن يغفر الله لكم " قال أبو بكر: بلى، أنا أحب أن يغفر الله لي، فأنفق على مسطح مثلما كان ينفق عليه قبل ذلك، وقال: لا أتركك منه أبداً. يبي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قال، فقالت: ما أدري ما أقول لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: فقلت، وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيراً من القرآن: إي والله لقد علمتم وسمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فإن قلت: إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لم تصدقوني بذلك، وإن اعترفت بأمرٍ والله يعلم أني بريئة لتصدقونني. ما أجد لكم مثلاً إلا أبا يوسف " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ". قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، والله يعلم أني بريئة، والله يبرئني ببراءتي، ولكن لم أكن أرجو أن ينزل الله في شأني وحياً، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله به بأمرٍ يتلى، ولكن كنت أرجو أن يري الله رسوله في منامه رؤيا يبرئني بها. قالت: فوالله ما رام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجلسه، ولا خرج من أهل البيت حتى أنزل الله عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حين نزل عليه، وكان إذا أوحي إليه أخذه البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشات من ثقل القول الذي ينزل عليه. قالت: فلما سري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يضحك، فكان أول كلمةٍ تكلم بها أن قال: " أما الله فقد برأك " قال: فقالت أمي: قومي إليه، قلت: والله ما أقوم إليه، ولا أحمد على ذلك إلا الله، فأنزل الله عز وجل: " إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم، لكل امرئٍ منهم ما اكتسب من الإثم، والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " قالت: وكان أبو أيوب الأنصاري حين أخبرته امرأته قالت: يا أبا أيوب، ألم تسمع ما يتحدث الناس؟ قال: وما يتحدثون؟ فأخبرته بقول أهل الإفك، قالت: قال: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم. قالت: فأنزل الله عز وجل: " لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " حتى بلغ " ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة " حتى بلغ " ألا تحبون أن يغفر الله لكم " قالت: وكان أبو بكر ينفق على مسطح لفقره وقرابته. قال: والله لا أنفق عليه وقد قال في عائشة ما قال، فلما أنزل الله " ألا تحبون أن يغفر الله لكم " قال أبو بكر: بلى، أنا أحب أن يغفر الله لي، فأنفق على مسطح مثلما كان ينفق عليه قبل ذلك، وقال: لا أتركك منه أبداً.
قالت عائشة: كانت زينب بنت جحش زوجة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسألها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يا زينب، ما علمت، أو ما رأيت من عائشة؟ " قالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيراً، قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعصمها الله بالورع، وكانت أختها تجانب لها فهلكت فيمن هلك.
قال الوليد بن مسلم: كنت جالساً مع عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، فمر
عبد الله بن عبد الرحمن - يعني ابنه - فقال: أنا أكبر منه بثلاث عشرة أو أربع عشرة سنة.
قال النسائي ويحيى: ليس به بأس.
وقال أبو حاتم: صالح الحديث.
عبد الله بن عبد الرحمن
ويقال عبد الرحمن بن عبد الله روى خطبة عمر بالجابية وشهدها قال: قدم عمر الجابية جابية دمشق، فقام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام فينا يوماً كقيامي فيكم اليوم فقال: " أكرموا أصحابي، ثم(13/20)
الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب حتى يحلف الرجل وإن لم يستحلف، وحتى يشهد وإن لم يستشهد، فمن أراد بحيحة الجنة فعليه بالجماعة، فإن الشيطان مع الفرد، وهو من الاثنين أبعد، ألا لا يخلون رجل بامرأةٍ، فإن ثالثهما الشيطان، ومن ساءته خطيئته فهو مؤمن " ثم قال: إذا انصرفت من مقامي هذا فلا يبقين أحد له حق في الصدقة إلا أتاني، فلم يأته ممن حضره إلا رجلان، فأمر لهما، فأعطيا، فقام رجل فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، ما هذا الغني المتفقد بأحق بالصدقة من هذا الفقير المتعفف، فقال عمر: ويحك وكيف بالدليل؟
عبد الله بن عبد الرزاق بن عبد الله بن الحسن بن فضيل
أبو محمد بن أبي القاسم الكلاعي قال الحافظ ابن عساكر: وكان خالي قد سمع منه، وتكره الرواية عنه لأجل خدمته بعض الجند.
روى عن أحمد بن محمد بن أحمد أبي الحسن العتيقي عن تميم الداري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما الدين النصيحة، إنما الدين النصيحة، إنما الدين النصيحة " قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم ".
ولد عبد الله بن عبد الرزاق سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وتوفي سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة بدمشق، ثقة، لم يكن الحديث من شأنه.(13/21)
عبد الله بن عبد العزيز أبو محمد
قال من أبيات أنشدها لنفسه سمعها منه أبو القاسم بن صابر: من الخفيف
لا رعى الله عسقلان مطاراً ... لحصيص يريغ فيها قرارا
عرفتني أنياب دهري حتى ... قد رأى الناس مخ حالي رارا
إن أطافت بك الحوادث يوماً ... أو أحلت من الهضيمة دارا
فكما يطرق الكسوف أديم ال ... شمس أو يصحب الهلال سرارا
فاحتمالاً إذا أذاقك دهر ... صير أمرٍ صروفه واصطبارا
عبد الله بن عبد الملك بن مروان
ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس أبو عمر الأموي ولي الغزوة في خلافة أبيه، وهو الذي بنى المصيصة، وكانت داره بدمشق، وولي مصر.
قال: قال لي الوليد: كيف أنت والقرآن؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أختمه في كل جمعة. قلت: فأنت يا أمير المؤمنين؟ قال: وكيف مع ما أنا فيه من الشغل!؟ قال الزبير بن بكار في تسمية ولد عبد الملك بن مروان: وعبد الله بن عبد الملك، وهو لأم ولد، وكان يوصف بحسن الوجه، وحسن المذهب، وله يقول الحزين الديلي: من البسيط(13/22)
في كفه خيزران ريحها عبق ... من نشر أبيض في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
ومن خبر ذاك: أن عبد الله بن عبد الملك حج، فقال له أبوه: إنه سيأتيك بالمدينة الحزين الشاعر، وهو ذرب اللسان، فإياك أن تحتجب عنه، وأرضه، وهو أشعر، ذو بطنٍ، عظيم الأنف، قال: فلما قدم عبد الله المدينة وصفه لحاجبه، وقال له: إياك أن ترده، فلم يأت الحزين حتى قام فدخل لينام، فقال له الحاجب: قد ارتفع، فلما ولّى ذكر، فلحقه، فقال له: ارجع، فرجع، فاستأذن له، فأدخله، فلما صار بين يديه، ورأى جماله، وفي يده قضيب خيزران وقف ساكتاً، فأمهله عبد الله حتى ظن أنه قد أراح، ثم قال له: السلام - رحمك الله - أولاً فقال: عليك السلام، أيها الأمير، أصلحك الله، إني كنت قد مدحتك بشعرٍ، فلما دخلت عليك، ورأيت جمالك، وبهاءك هبتك، فأنسيت ما قلت، وقد قلت في مقامي هذا بيتين، فأنشدهما فأجازه.
قال سعيد بن غفير: ولّى عبد الملك بن مروان عمران بن عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة القضاء والشرط، فأتي بمولى لعبد الله بن عبد الملك سكران، كان به خاصاً، فأمر به يجلد الحد، فقيل: لا تفعل، إنه من خاصة عبد الله بن عبد الملك، فقال: لو كان ابنه لحددته.
وكان عبد الله بن عبد الملك بالإسكندرية، فلما بلغه ذلك غضب، فعزله، وضيق عليه.
وخرج عبد الله بن عبد الملك إلى نزهةٍ دعاه إليها يحيى بن حنظلة الكاتب مولى بني سهم، واستخلف عبد الأعلى بن خالد بن ثابت الفهمي على الفسطاط، فلما متع النهار أقبل قرة بن شريك العبسي على أربعة من داوب البريد، فدخل فصلى في القِبلة، ثم تحول، وجلس صاحباه عن يمينه، وعن شماله، فأتتهم حرس المسجد، وكان له شرط يذبون عنه، فقالوا: إن هذا مجلس الوالي، ولكم في المسجد سعة، قال: فأين الوالي؟ قالوا: في متنزهٍ له، قال: فادعوا خليفته، فانطلق شرطي منهم إلى عبد الأعلى بن(13/23)
خالد، فأتاه وقد فرغ من الغداء، فقال أصحابه: أرسل إليه يأتك صاغراً، قال: ما بعث إلي إلا وله السلطان علي، أسرجوا فركب حتى أتاه فسلم فقال: أنت خليفة الوالي؟ قال: نعم، قال: انطلق فاطبع الدواوين وبيت المال، قال: إن كنت والي خراجٍ فلسنا أصحابك، قال: ممن أنت؟ قال: من فهم، قال: انطلق كما تؤمر، فقال عبد الأعلى: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله، ثم مضى لما أمره به، وكتب إلى عبد الله بن عبد الملك يعلمه، فبكى وقال: مات عبد الملك، ولبس خفيه قبل سراويله، وشغل عبد الله بن عبد الملك عن عمران.
عن جعفر بن ربيعة: أن أهل مصر تشاءموا بعبد الله بن عبد الملك في ولايته عليهم، وذلك أن الطعام غلا، فاضطربوا لذلك، وكانت أول شدة رآها أهل مصر، فهجاه ابن أبي زمزمة، وهجاه عمران بن عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة، فعزله عن القضاء والشرط في سنة تسع وثمانين، وولى عبد الواحد بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج.
قال ابن شهاب لعبد الله بن عبد الملك بن مروان: من الطويل
أقول لعبد الله لما رأيته ... يطوف بأعلى القنتين مشرقا
تتبع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلك يوماً أن تجاب فترزقا
عن يحيى بن سعيد قال: سأل عمر بن عبد العزيز عن بسر بن سعيد، فقيل له: مات، وقد علم أنه قد مات، قال: فما فعل عبد الله بن عبد الملك؟ قيل: مات، وذكر أن عبد الله بن عبد الملك ورث سبعين مديا من ذهب، فقال عمر: إن كان مدخلهما واحداً؛ لأن أعيش بعيش بسر بن سعيد أحب إلي من أن أعيش بعيش عبد الله بن عبد الملك، قال: فلما قام الناس دنا منه مزاحم فقال: يا أمير المؤمنين، أهلك؟ قال: لا أدع أن أذكر أهل الفضل بفضلهم.(13/24)
وفي رواية: لئن كان بسر بن سعيد
وعبد الله بن عبد الملك من الجنة في درجةٍ واحدة لأن أعيش بعيش عبد الله بن عبد الملك وأكون معه في درجته أحب إلي من أن أعيش بعيش بسر ابن سعيد وأكون معه في درجته.
وفي رواية عن مالك بن أنس: لئن تجاوز الله لعبد الله سرفه لا يلت بسراً اجتهاده: يريد لا ينقصه، وكانت أم هيثم الأعرابية تدعو: يا من لا يفات، ولا يلات، ولا تغلطه الأصوات.
توفي عبد الله بن عبد الملك سنة مائة.
عبد الله بن عبد الملك
أبو العباس القرشي الجمحي روى عن الأوزاعي بسنده عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
" من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل ".
وعن الأوزاعي بسنده عن أبي هريرة قال: قلت يوم حنين والخيل تمرع بنا في آثار - وفي رواية: في أدبار - العدو: أكان مسيرنا هذا يا رسول الله في الكتاب السابق؟ قال: " نعم ".(13/25)
عبد الله بن عبد أبي أحمد
ابن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار الأسدي حليف بني عبد شمس بن عبد مناف، أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووفد على معاوية، وكان جواداً كريماً، وأبوه أبو أحمد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرين، وكذلك عمه عبد الله بن جحش، وشهد أبوه أحداً.
قال عبد الله بن أبي أحمد: قال علي بن أبي طالب: حفظت لكم على - وفي رواية عن - رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستاً: " لا طلاق إلا من بعد نكاح، ولا عتاق إلا من بعد ملك، - وفي رواية ملكة - ولا وفاء لنذر في معصية الله، ولا يتم بعد الاحتلام، ولا صمات يوم إلى الليل، ولا وصال في الصيام " - وفي رواية ولا رضاع بعد فصال بدل ولا وفاء لنذر في معصية الله -.
عن عبد الله بن أبي أحمد بن جحش قال: هاجرت أم كلثوم بنة عقبة بن أبي معيط في الهدنة، فخرج أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة حتى قدما على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكلماه في أم كلثوم أن يردها إليهم، فنقض الله عز وجل العهد بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين في النساء خاصة، ومنعهن أن يرددن إلى المشركين، وأنزل الله عز وجل آية الامتحان.
قال عثمان الجحشي عن أبيه: كان بنو غنم بن دودان أهل إسلامٍ، قد أوعبوا في الهجرة إلى المدينة رجالهم(13/26)
ونساؤهم، فخرجوا جميعاً، وتركوا دورهم مغلقةً، فخرج عبد الله بن جحش، وأخوه أبو أحمد بن جحش، واسمه عبد، وعكاشة بن محصن، وأبو سنان بن محصن، وسنان بن أبي سنان، وشجاع بن وهب، وأخوه عقبة بن وهب، وأربد بن حميرة، ومعبد بن نباتة، وسعيد بن رقيش، ومحرز بن نضلة، وقيس بن جابر، وعمرو بن محصن بن مالك، ومالك بن عمرو، وصفوان بن عمرو، وثقاف بن عمرو، وربيعة بن أكثم، وزبير بن عبيد: فنزلوا جميعاً على مبشر بن عبد المنذر. وأم عبد الله بن جحش: أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي.
قال ابن ماكولا: وأما برة، باؤه مضمومة: برة بن رئاب، وهو جحش، والد عبد الله وأبي أحمد، وعبيد الله، وزينب، وحمنة بني جحش، كان اسم جحش في الجاهلية برة، ورد ذلك في حديث رواه مقسم، عن ابن عباس، عن زينب بنت جحش.
قال عبد الله بن أبي أحمد: قدمت من عند معاوية بثلاثمائة ألف دينار، ثم أقمت سنة فحاسبت قوامي، فوجدتني أنفقت مائة ألف دينار ليس بيدي منها إلا رقيق، وغنم، وقصور، وأثاث ففزعت من ذلك فزعاً شديداً، فلقيت كعب الأحبار، فذكرت ذلك له، فقال: أين أنت عن النخل؟ فإنها تجدها في كتاب الله: المُطعِمات في المحل، الراسيات في الوحل، وخير المال النخل، بائعها ممحوق، ومبتاعها مرزوق، مَثَلُ من باعها ثم لم يجعل ثمنها في مثلها كمثل رماد على صفوان اشتدت به الريح في يومٍ عاصف، ففزعت للنخل فابتعتها.
قال معاوية لابن أبي أحمد: أصب لي مالاً أبتاعه، قال: قد أصبت لك مالاً، قال: ما هو؟ قال: البلدة، قال: لا حاجة لي بها، قال: النخيل، قال: لا حاجة لي فيه، قال: ودعان، قال: لا حاجة لي به، قال: الغابة: قال: نعم اشترها.(13/27)
قال له: يا أمير المؤمنين، سميت لك أموالاً تعرفها، فكرهتها، وأخبرتك بما لا تعرف فاخترته؟ قال: نعم، سميت لي البلدة، فتبلدت علي، وسميت النخيل، فكان مصغراً، وسميت لي ودعان فنهتني نفسي عنها، وسميت لي الغابة فعلمت أنها كثيرة الماء، وقد قال الأول: من السريع
إن كنت تبغي العلم أو مثله ... أو شاهداً يخبر عن غائب
فاعتبر الأرض بأسمائها ... واعتبر الصاحب بالصاحب
عبد الله بن عبيدة بن نشيط الربذي
مولى بني عامر بن لؤي، وفد على عمر بن عبد العزيز روى عن أبيه، عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قضى نسكه، وسلم الناس من لسانه ويده غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر ".
ووهم الحافظ قوله: عن أبيه.
وروى عن جابر بن عبد الله أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب " قيل: يا نبي الله وما الحجاب؟ قال: " الإشراك بالله "، قال: " ما من نفس تلقى الله عز وجل لا تشرك به شيئاً إلا حلت لها المغفرة من الله، إن شاء أن يعذبها، وإن شاء أن يغفر لها غفر لها " ثم قرأ نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ".(13/28)
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم، فيقول إمامهم: يا رسول الله، أمنا، فيقول: لا، بعضكم أمراء بعضٍ، أمر يكرم الله به هذه الأمة ".
قال عبد الله بن عبيدة: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: ما يهلك الناس إلا في هذه العلوقات.
وكان يكتب: لا يذهب إلى العُلاّقة إلا جماعة وقوة، ثم يأخذ بعضهم ببعض حتى يرجعوا جميعاً، أو يعطبوا جميعاً.
قال ابن سعد: عبد الله بن عبيدة بن نشيط أخو موسى بن عبيدة، قتلته الحرورية بقديد سنة ثلاثين ومائة، وكان قليل الحديث.
وقال البخاري: مات سنة ثلاثين ومائة، وهم ينتمون إلى اليمن.
عبد الله الأكبر بن عبيد
ويقال ابن عامر أبي الجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي، العدوي القرشي أسلم يوم فتح مكة، وقتل يوم أجنادين.(13/29)
قال الزبير بن بكار: وولد أبو جهم بن حذيفة: عبد الله الأكبر، قتل يوم أجنادين بالشام، وأخوه لأمه: عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وأمه: أم كلثوم بنت جرول بن مالك بن المسيب بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حرام بن حبشية من خزاعة.
عبد الله بن عبيد بن يحيى
أبو العباس بن أبي حرب السلماني حدث عن أبي علقمة نصر بن خزيمة بسنده عن عتبة بن عبد: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن النوح الأكبر، والخمش وقد الثوب، والرنة ولكن: العين تدمع والنفس تحزن.
عبد الله بن عتاب بن أحمد بن كثير
أبو العباس بن الزفتي الخزاعي روى عن عيسى بن حماد بسنده عن بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " تقبّلوا لي بست أتقبّل لكم بالجنة " قالوا: وما هن؟ قال: " إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا ائتمن فلا يخن، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم ".
ولد عبد الله بن عتاب سنة أربع وعشرين ومائتين، وتوفي سنة عشرين وثلاثمائة.(13/30)
عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان
صخر بن حرب بن أمية روى عن عمته أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان عندي فسمع الأذان يقول كما يقول المؤذن ثم يسكت.
وفي رواية: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا كان عندها في يومها أو ليلتها فسمع المؤذن قال: قال الزبير بن بكار: وولد عتبة بن أبي سفيان: عبد الله بن عتبة، وأمه أم سعيد بنت عروة بن مسعود بن معتب الثقفي.
عبد الله بن عتبة بن الوليد بن عتبة
أبو محمد المعدّل روى عن أبي الحسن بن جوصا بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الإيمان بضع وستون - أو بضع وسبعون جزءاً أولها وأفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان ".(13/31)
عبد الله بن عتبة الأعور بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان
أمه الكاملة بنت الأشعث بن حبال الكلبية، وجدها حبال يقول: من الطويل
ألا قالت العصماء يوم لقيتها ... كبرت ولم تجزع من الشيب مجزعا
فقلت لها: لا تهزئي بي فقلما ... يسود الفتى حتى يشيب ويصلعا
رأت ذا عصاً يمشي عليها وشيبةً ... تقنع منها رأسه ما تقنعا
عبد الله بن عثمان بن الحكم
ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي سمع كعب الأحبار يقول: إن في التوراة أن الفتى إذا تعلم القرآن وهو حدث السن، وحرص عليه، وعمل به، وتابعه خلطه الله بلحمه ودمه، وكتبه عنده من السفرة الكرام البررة، وإذا تعلم الرجل القرآن وقد دخل في السن، فحرص عليه، وهو في ذلك يتابعه ويتفلت منه كتب له أجره مرتين.
عبد الله بن عثمان بن عبد الله
ابن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب القرشي الأسدي المكي أمه أرملة بنت الزبير بن العوام، وفد على عبد الملك بن مروان فكلمه في شأن(13/32)
امرأته سكينة بنت الحسين، فقام إليه خالد بن يزيد - وعنده أمه - ليعانقه فدفع بيده في صدره كراهة أن يعانقه، وذلك أن سكينة بنت الحسين توهمت على عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم، وهي زوجته، أن يكون طلقها، فاستعدت عليه - وكانت عبد الله بن عثمان فاطمة بنت عبد الله ابن الزبير، فلما خطب سكينة بنت الحسين أحلفته بطلاقها ألا يؤثر عليها فاطمة بنت عبد الله، ثم اتهمته أن يكون آثرها، فاستعدت عليه هشام بن إسماعيل، وهو والي المدينة، فركب عبد الله بن عثمان رواحله، وورد الشام - فدخلت رملة بنت الزبير على عبد الملك بن مروان، وكانت عند خالد بن يزيد بن معاوية، فقالت له: يا أمير المؤمنين، إن سكينة بنت الحسين نشزت بابني عبد الله بن عثمان، ولولا أن نغلب على أمورنا ما كانت لنا حاجة بمن لا حاجة له بنا، فقال لها عبد الملك: يا رملة، إنها بنت فاطمة، فقالت: نكحنا والله خيرهم، وأنكحنا والله خيرهم، وولدنا خيرهم، فقال عبد الملك: يا رملة، غرني عروة منك، فقالت: لم يغررك، ولكنه نصحك، إنك قتلت مصعباً أخي، فلم يأمني عليك.
وكان عبد الملك أراد أن يتزوجها، فقال له عروة: لا أرى ذلك لك.
وولدت سكينة بنت الحسين لعبد الله بن عثمان: عثمان بن عبد الله ولقبته قريناً، وبذلك كان يعرف، وربيحة، وحكيماً، وقد انقرض ولد حكيم بن عبد الله بن عثمان.
ولعبد الله بن عثمان يقول أبو دهبل: من الطويل
قضت وطراً من أهل مكة ناقتي ... سوى أملي في الماجد بن حزام
جميل المحيا من قريشٍ كأنه ... هلال بدا من سدفةٍ وظلام
وولدت فاطمة بنت عبد الله بن الزبير لعبد الله بن عثمان: يحيى وموسى، وفيهم بقية.(13/33)
عبد الله ويقال عتيق بن عثمان أبي قحافة بن عامر
ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لوي أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصاحبه في الغار.
قدم تاجراً إلى بصرى من الشام في الجاهلية، وفي الإسلام.
عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن بالغار: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه! فقال: " يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ".
أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح، ورواه الترمذي.
عن قيس بن أبي حازم قال: قرأ أبو بكر هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم "، ثم قال: إن الناس يضعون هذه الآية على غير موضعها، ألا وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن القوم إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، والمنكر فلم يغيروه عمّهم الله بعقابه ".
وفي رواية: " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمّهم الله بعقابه ".
عن عائشة أم المؤمنين قالت: اسم أبي بكرٍ الذي سماه به أهله: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو، ولكنه غلب عليه اسم عتيق.(13/34)
قالت: والله إني لفي بيتي ذات يومٍ ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في الفناء والستر بيني وبينهم - زاد في رواية: دونهم - إذا أقبل أبو بكر، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سره أن ينظر إلى عتيقٍ من النار فلينظر إلى أبي بكر ".
ومن رواية عن عائشة: أن أبا قحافة كان له ثلاثة أولادٍ سمى واحداً عَتيقاً، والآخر معتقاً، والآخر عُتيقاً، - وفي رواية: عتيقاً ومعتقاً ومعيتيقاً.
وقال موسى بن طلحة: بينا عائشة بنت طلحة تقول لأمها أم كلثوم بنتا أبي بكر: أنا خير منك، وأبي خير من أبيك، فقالت: أبوك خير من أبي؟ فقالت عائشة أم المؤمنين: ألا أقضي بينكما؟ إن أبا بكر دخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يا أبا بكر أنت عتيق الله من النار " فمن يومئذ سمي عتيقاً، قال: ودخل طلحة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يا طلحة أنت ممن قضى نحبه ".
وقال: سألت أبي طلحة بن عبيد الله، قلت له: يا أبه، لأي شيءٍ سمي أبو بكر عتيق؟ قال: كانت أمه لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به البيت، وقالت: اللهم إن هذا عتيقك من الموت، فهبه لي.
وقال مصعب: سمي أبو بكر عتيقاً لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به، قال ابن الأعرابي: العرب تقول للشيء قد بلغ النهاية في الجودة: عتيق.
عن عبد الله بن الزبير قال: كان اسم أبي بكر: عبد الله بن عثمان، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنت عتيق الله من النار " فسمي عتيقاً.(13/35)
قال مغيرة بن زياد: أرسلت إلى ابن أبي مليكة أسأله عن أبي بكر الصديق ما كان اسمه؟ قال: فأتيته فسألته، فقال: كان اسمه عبد الله بن عثمان، وإنما كان عتيق لقباً.
وعن الليث بن سعد قال: إنما سمي أبو بكر عتيقاً لجمال وجهه.
وعن أبي نعيم الفضل بن دكين: إنما سمي عتيقاً لأنه عتيق، قديم في الخير.
عن عبد الله بن الزبير قال: سميت باسم جدي أبي بكر، وكنيت بكنيته.
وفي أبي بكر نزلت: " فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى ".
وعن ابن إسحاق: كان أبو بكر أنسب العرب للعرب.
قال الزبير بن بكار: فولد عامر بن عمرو أبا قحافة، واسمه عثمان، وأمه قيلة بنت أذاة بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، فولد أبو قحافة أبا بكر الصديق، وأمه أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب - وفي رواية: ابن عامر بن عمرو بن كعب - بن سعد ابن تيم بن مرة، وأبو بكر صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار، الذي قال الله عز وجل: " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " وهاجر مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة إلى المدينة ليس معهما أحد إلا مولى أبي بكر عامر بن فهيرة الذي رفع إلى السماء حين استشهد يوم بئر معونة، وكان دليل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الطريق إلى المدينة، وأعتق أبو بكر سبعة ممن كان يعذب في الله، منهم: بلال مؤذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شهد بدراً والمشاهد كلها، وشهد عامر بن فهيرة بدراً وغيرها حتى استشهد يوم بئر معونة.(13/36)
وأبو بكر أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة.
قال ابن سعد: دفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رايته العظمى يوم تبوك إلى أبي بكر، وكانت سوداء، وأطعمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر مائة وسق، وكان فيمن ثبت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد حين ولّى الناس.
قال إسماعيل بن علي الخطبي: وقد أدرك أبواه الإسلام وأسلما.
قال أبو أحمد الحاكم: أدرك أبو بكر بن أبي قحافة، الصديق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبوه أبو قحافة عثمان بن عامر، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وابن ابنه أبو عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، أربعتهم ولاءً، رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليست هذه المنقبة لأحدٍ من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيره، وأدرك من أولاده وأهل بيته ومواليه سواهم، نفر من الرجال والنساء، رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم بنوه عبد الله وعبد الرحمن، صَحِبا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابنه الثالث محمد، ولد عام حجة الوداع، ولدته أسماء بقباء، فوجهت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمرها، فأمرها أن تغتسل، وتهل، وعائشة، وأسماء بنت أبي بكر، وأم أبي بكر الصديق أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر، وامرأة أبي بكر الصديق أم رومان بنت عمير بن عبد مناة بن دهمان بن غنم بن مالك بن كنانة بن خزيمة، وابن خالته أم مسطح بنت أبي رُهم بن المطلب بن عبد مناف، وبلال بن رباح، وعامر بن فهيرة، وسعد، والقاسم، موالي أبي بكر.
قال أبو عبد الله بن منده: ولد أبو بكر بعد الفيل بسنتين وأربعة أشهرٍ إلا أيام، ومات بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسنتين(13/37)
وأشهر بالمدينة، وهو ابن ثلاث وستين، وكان رجلاً أبيض نحيفاً، خفيف العارضين، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، يخضب بالحناء والكتم، وكان أول من أسلم من الرجال.
عن الزهري قال: لما كان يوم فتح مكة أُتي بأبي قحافة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكأن رأسه ثغامة بيضاء، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هلا أقررتم الشيخ في بيته حتى كنا نأتيه؟ " تكرمة لأبي بكر، وأمرهم أن يغيروا شعره، وبايعه، وأتى المدينة، وبقي حتى أدرك خلافة أبي بكر، ومات أبو بكر قبله، وورثه أبو قحافة السدس، فرده على ولد أبي بكر، وكانت وفاته سنة أربع عشرة في خلافة عمر بن الخطاب، وله يومئذ سبع وتسعون سنة.
قال أنس بن مالك:
قدم علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان أسن أصحابه أبو بكر.
وقالت عائشة: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكبر من أبي بسنتين وشيءٍ.
عن يزيد بن الأصم: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي بكر: " أينا أكبر، أنا أو أنت؟ " قال: أنت أكبر وأكرم، وخير مني، وأنا أسن منك.
كذا في هذه الرواية، والمحفوظ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أسن من أبي بكر، وأن أبا بكر استكمل بخلافته سن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت أبا بكر كأن رأسه ولحيته ضرام عرفجٍ.
وقال: دخلت على أبي بكر وهو مريض، فإذا هو أبيض قضيف.(13/38)
عن ابن شهاب قال: كان أبو بكر الصديق أبيض أصفر لطيفاً جعداً، كأنما خرج من صدع حجر، مسترق الوركين، لا يثبت إزاره على وركيه.
ووصفته عائشة فقالت: كان أبيض نحيفاً خفيف العارضين أجنأ، لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه، مقرون الحاجب، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع، معوق الوجه، وكان يخضب بالحناء والكتم.
وعن الزهري في صفة أبي بكر: كان أبيض يخالط بياضه الصفرة، جعد، حسن القامة، رقيق، حمش الساقين، قليل اللحم، حسن الثغر.
وعن ربيعة بن كعب قال: كان إسلام أبي بكر الصديق بوحي من السماء، وذلك أنه كان تاجراً بالشام، فرأى رؤيا، فقصها على بحيرا الراهب، فقال له: من أين أنت؟ قال: من مكة، قال: من أيها؟ قال: من قريش، قال: فأيش أنت؟ قال: تاجر، قال: صدق الله رؤياك، فإنه سيبعث نبي من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته، فأسر أبو بكر حتى بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاءه، فقال: يا محمد، ما الدليل على ما تدعي؟ قال: الرؤيا التي رأيت بالشام، فعانقه، وقبل عينيه، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك محمداً رسول الله.
قال أبو بكر الصديق: إنه خرج إلى اليمن قبل أن يبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فنزلت على شيخٍ من الأزد، عالم قد قرأ الكتب، وعلم من علم الناس علماً كثيراً، وأتت عليه أربعمائة سنة إلا عشر سنين، فلما رآني قال: أحسبك حرمياً؟ قال أبو بكر: قلت: نعم أنا من أهل الحرم،(13/39)
قال: وأحسبك قرشياً؟ قال: قلت: نعم، أنا من قريش، قال: وأحسبك تيمياً؟ قال: قلت: نعم، أنا من تيم بن مرة، أنا عبد الله بن عثمان بن كعب بن تيم بن مرة، قال: بقيت لي منك واحدة، قلت: ما هي؟ قال: تكشف لي عن بطنك، قلت: لا أفعل أو تخبرني لم ذاك؟ قال: أجد في العلم الصحيح الزكي الصادق أن نبياً يبعث في الحرم تعاون على أمره فتى وكهل، فأما الفتى فخواض غمرات، ودفاع معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف، على بطنه شامة، وعلى فخذه اليسرى علامة، وما عليك أن تريني ما سألتك، فقد تكاملت لي فيك الصفة إلا ما خفي علي.
قال أبو بكر: فكشفت له عن بطني، فرأى شامة سوداء فوق سرتي، فقال: أنت هو ورب الكعبة، وإني متقدم إليك في أمرٍ، فاحذره، قال أبو بكر: قلت: وما هو؟ قال: إياك والميل عن الهدى، وتمسك بالطريقة الوسطى، وخف الله فيما خولك وأعطاك.
قال أبو بكر: فقضيت باليمن أربي، ثم أتيت الشيخ لأودعه، فقال: أحامل أنت مني أبياتاً قلتها في ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: قلت: نعم، فأنشأ يقول: من الطويل
ألم تر أني قد وهنت معاشري ... ونفسي وقد أصبحت في الحي واهنا
حييت، وفي الأيام للمرء عبرة ... ثلاث مئين، ثم تسعين آمنا
وصاحبت أحباراً أبانوا بعلمهم ... غياهيب في سدٍّ ترى فيه طامنا
فما زلت أدعو الله في كل حاضر ... حللت بها سراً وجهراً معالنا
وقد خمدت مني شرارة قوتي ... وألفيت شيخاً لا أطيق الشواجنا
وأنت، ورب البيت تلقى محمداً ... بعامك هذا قد أقام البراهنا
فحي رسول الله عني فإنني ... على دينه أحيا وإن كنت داكنا
فيا ليتني أدركته في شبابتي ... فكنت له عبداً وإلا العجاهنا(13/40)
قال أبو بكر: فحفظت وصيته وشِعره، وقدمت مكة وقد بُعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاءني عقبة بن أبي معيط، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأبو البختري بن هشام، وصناديد قريشٍ، فقلت لهم: هل نابتكم نائبة، أو ظهر فيكم أمر؟ قالوا: يا أبا بكر، أعظم الخطب، وأجل النوائب! يتيم أبي طالب، يزعم أنه نبي، ولولا أنت ما انتظرنا به، فإذ قد جئت فأنت الغاية والكفاية لنا.
قال أبو بكر: فصرفتهم، وسألت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقيل: إنه في منزل خديجة، فقرعت عليه الباب، فخرج إلي، فقلت: يا محمد، بعدت من منازل أهلك، واتهموك بالفتنة، وتركت دين آبائك وأجدادك؟ قال: " يا أبا بكر، إني رسول الله إليك، وإلى الناس كلهم، فآمن بالله " فقلت: وما دليلك على ذلك؟ قال: " الشيخ الذي لقيته باليمن " قلت: وكم من مشايخ لقيت، واشتريت، وأخذت وأعطيت، قال: " الشيخ الذي أفادك الأبيات " قلت: ومن خبرك بهذا يا حبيبي؟ قال: " الملك العظيم الذي يأتي الأنبياء قبلي " قلت: مد يدك، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنت رسول الله.
قال أبو بكر: فانصرفت وما بين لابتيها أشد سروراً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسلامي.
قال طلحة بن عبيد الله: كان إسلام أبي بكر فتحاً، وذلك أن ورقة بن نوفل جاء إلى أبي بكرٍ، فقال له: يابن أخي، إني أراك متبدلاً بمكة، ولا أراك في شيءٍ، فأخبرني كم معك من المال؟ قال: عندي كذا وكذا من العير، قال: فأنا آتيك غداً بكذا وكذا فأضعف لك حتى تخرج إلى الشام، فتصيب فيه خيراً، فتعطيني ما شئت، وتمسك ما شئت، فانقلب أبو بكر إلى زوجته، فقال لها: اذبحي من تلك الغنم شاة سفِّرينا بها، قالت: وأين تريد؟ قال: الشام، قالت: ولم؟ قال: إن ورقة بن نوفل قارضني أن أخرج مالي كله ويعطيني كذا وكذا ألف دينار، قالت: أفلا أخبرك خبراً يسرك؟ قال: وما هو؟ قالت: جاء محمد يطلبك منذ اليوم ثلاث مرات، فما حبسك عنه؟ قال: ما حبسني عنه إلا ما ذكرت؛(13/41)
قالت: سمعته يقول: " أنا رسول الله حقاً " قال: ويحك! فإنه هذا خير لي من الدنيا وما فيها! فانطلق إليه من ليلته، فقرع الباب، فقال: " من هذا؟ " قال: أبو بكر، ففتح له الباب، ثم قال: " ما جاء بك هذه الساعة، فإني قد كنت أبتغيك ثلاث مرات؟ " قال: إني كنت مع ورقة بن نوفل، فعرض علي قراضاً، فقلت لزوجتي: سفرينا، قالت: وأين تريد؟ فقلت: قارضني ورقة بن نوفل على أن أخرج إلى الشام، قالت: أفلا أخبرك خبراً يسرك؟ فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وما أخبرتك؟ " قال: أخبرتني أنك تقول: إني رسول الله. ثم انصرف من عنده مسروراً بما نال من الخير والإسلام، فأصبح، وجاء إليه ورقة بن نوفل بالمال ليدفع إليه، فقال له: يابن أخي، هذا المال، قال: وجدت تجارة خيراً من تجارتك، وربحاً خير من ربحك، قال: وما هو؟ قال: قال لي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني رسول الله " فصدقته وآمنت به، وشهدت أنه رسول الله، قال: فوالله لئن كنت صادقاً لا آكل ما ذبح على النصب، ولا ما ذبحت قريش لآلهتها، ولا ما ذبحت يهود لكنائسها، ولأستقبلن هذا البيت الحرام الذي أسسه إبراهيم وإسماعيل، ولا أزال أصلي أبداً، ولأحرمن ما ذبح لغير الله - عز وجل - فتوفي ورقة قبل أن يظهر أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن محمد بن إسحاق قال: ثم إن أبا بكر لقي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد من تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آباءنا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني رسول الله يا أبا بكر ونبيه، بعثني لأبلّغ رسالته، وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق أدعوك إلى الله يا أبا بكر، وحده لا شريك له، ولا نعبد غيره، والموالاة على طاعته أهل طاعته " وقرأ عليه القرآن، فلم يقر، ولم ينكر، فأسلم، وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد، وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق.
وابتدأ أبو بكر أمره، وأظهر إسلامه، ودعا الناس، وأظهر علي وزيد بن حارثة إسلامها، فكبُر ذلك على قريش، وكان أول من اتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خديجة بنت خويلد(13/42)
زوجته، ثم كان أول ذكرٍ آمن به علي، وهو يومئذ ابن عشر سنين، ثم زيد بن حارثة ثم أبو بكر الصديق، فلما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه، ودعا إلى الله ورسوله، وكان أبو بكر رجلاً مألفاً لقومه محبباً سهلاً، وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بما كان فيها من خيرٍ أو شر، وكان رجلاً تاجراً ذا خلقٍ ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحدٍ من الأمر لعلمه وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه، ويجلس إليه فأسلم على يديه: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد ابن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف.
عن عائشة قالت: قال أبو بكر: كنت أول من آمن.
وعن ابن سيرين قال: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، وأول من أسلم من النساء خديجة.
قال عمار: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر.
سئل سعد بن مالك: أكان أبو بكر الصديق أولكم إسلاماً؟ قال: لا، ولكن أسلم قبله أكثر من خمسة، ولكن كان خيرنا إسلاماً.
عن أبي سعيد قال: لما بويع أبو بكر رأى من الناس بعض الانقباض، فقال: أيها الناس، ما يمنعكم؟ ألست أحقكم بهذا الأمر ألست أول من أسلم؟ قال أبو بكر: أنا أول من صلى مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي رواية: أول من صلى مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرجال علي بن أبي طالب.
قال قائل لابن عباس: أي الناس كان أول إسلاماً؟ قال: أبو بكر، أما سمعت بقول حسان بن ثابت - رضي الله عنهما -: من البسيط(13/43)
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقةٍ ... فاذكر أخاك أبا بكرٍ بما فعلا
خير البرية أوفاها وأعدلها ... إلا النبي وأوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهدة ... وأول الناس منهم صدق الرسلا
وفي رواية: أتقاها وأعدلها.
عاش حميداً لأمر الله متبعاً ... بهدي صاحبه الماضي وما انتقلا
وفي رواية: عاشا جميعاً لأمر الله متبعاً لهدي.
وسئل ميمون بن مهران: كان علي أول إسلاماً أو أبو بكر؟ فقال: والله لقد آمن أبو بكر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زمن بحيرا الراهب، واختلف فيما بينه وبين خديجة حتى أنكحها إياه، وذلك كله قبل أن يولد علي بن أبي طالب.
وقيل له: علي أفضل عندك أم أبو بكر وعمر؟ قال: فارتعد حتى سقطت عصاه من يده، ثم قال: ما كنت أظن أن أبقى إلى زمان يعدل بهما، لله درهماً كانا رأسي الإسلام، ورأسي الجماعة.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما كلمت في الإسلام أحداً إلا أبى علي، وراجعني الكلام إلا ابن أبي قحافة - يعني أبا بكر - فإني لم أكلمه في شيءٍ إلا قبله واستقام عليه ".
عن محمد بن عبد الرحمن: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر إلا أبا بكر، ما عتم عنه حين ذكرته له، وما تردد فيه ".(13/44)
وعن عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت:
فلما أن اجتمع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانوا تسعة وثلاثين رجلاً ألح أبو بكر على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظهور، فقال: " يا أبا بكر، إنا قليل " فلم يزل يلح على رسول الله حتى ظهر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، وكل رجلٍ معه، وقام أبو بكر في الناس خطيباً، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس، وكان أول خطيبٍ دعا إلى الله - عز وجل - وإلى رسوله، وثار المشركون على أبي بكر، وعلى المسلمين يضربونهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووطئ أبو بكر، وضرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين، وأثّر على وجه أبي بكر لا يعرف أنفه من وجهه، وجاءت بنو تميم تتعادى، فأجلوا المشركين عن أبي بكر، وحملوا أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه ولا يشكون في موته، ورجعوا بيوتهم، فدخلوا المسجد، فقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ورجعوا إلى أبي بكر، فجعل أبو قحافة، وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجابهم، فتكلم آخر النهار: ما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فنالوه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا، وقالوا لأم الخير بنت صخر: انظري أن تطعميه شيئاً، أو تسقيه إياه، فلما خلت به جعل يقول: ما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: والله ما لي علم بصاحبك، قال: فاذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد عبد الله، قالت: ما أعرف أبا بكر، ولا محمد بن عبد الله، وإن تحبي أن أمضي معك إلى ابنك فعلت، قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت: إن قوماً نالوا منك هذا لأهل فسق، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك. قال: فما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: قال: فلا عين عليك منها، قالت: سالم صالح، قال: فأين هو؟ قالت: في دار الأرقم، قال: فإن لله علي أَلِيّة ألا أذوق طعاماً أو شراباً أو آتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجل، وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى دخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: فانكب عليه فقبله، وانكب عليه(13/45)
المسلمون، ورق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي ليس بي إلا ما نال الفاسق من وجهي، هذه أمي برة بوالديها، وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادعُ الله لها عسى أن يستنقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم دعاها إلى الله - عز وجل - فأسلمت، فأقاموا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدار شهراً، وهم تسعة وثلاثون رجلاً.
وكان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر بن الخطاب، وأبي جهل بن هشام، فأصبح عمر، وكانت الدعوة يوم الأربعاء، فأسلم عمر يوم الخميس، فكبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأهل البيت تكبيرة سمعت بأعلى مكة. فقال عمر: يا رسول الله، علام نخفي ديننا، ونحن على الحق، وهم على الباطل؟ فقال: " يا عمر، إنا قليل قد رأيت ما لقينا " فقال عمر: والذي بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان، ثم خرج، فطاف بالبيت، ثم مر بقريش وهم ينظرونه، فقال أبو جهل بن هشام: زعم فلان أنك صبوت، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فوثب المشركون إليه، فوثب على عتبة، فبرك عليه، فجعل يضربه، وأدخل إصبعه في عينه، فجعل عتبة يصيح، فتنحى الناس عنه، فقام عمر، فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ شريف من دنا منه حتى أحجم الناس عنه، واتبع المجالس التي كان فيها، فأظهر الإيمان، ثم انصرف إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ظاهر عليهم، فقال: ما يجلسك بأبي أنت وأمي، فوالله ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإيمان غير هائب ولا خائف؛ فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعمر أمامه، وحمزة بن عبد المطلب حتى طاف بالبيت، وصلى الظهر معلناً، ثم انصرف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى دار الأرقم ومن معه.
قيل لعمر بن العاص: ما أشد ما رأيتهم بلغوا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال عمرو: أشد شيءٍ بلغ من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رأيت - أنهم تآمروا عليه حين مر بهم ضحىً عند الكعبة، فقالوا: يا محمد، أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا ذلكم " فأخذ أحدهم بتلابيبه، وأبو بكر آخذ بحضن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ورائه،(13/46)
يريد أن ينتزعه منهم، وهو يصيح: يا قوم " أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبة، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب " قال: يردد أبو بكر هذه الآية وعيناه تسفحان، فلم يزل على ذلك حتى انفرجوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن عاشة قالت: لما أسري بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث بذاك الناس، فارتد ناس ممن كان آمن، وصدق به، وفتنوا، فقال أبو بكر: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوه أو رواحه، فلذلك سمي أبو بكر الصديق.
عن محمد بن كعب قال: لما رجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أسري به، فبلغ ذا طوى، فقال: " يا جبريل، إني أخاف أن يكذبوني " قال: كيف يكذبونك وفيهم أبو بكر الصديق؟ عن أبي هريرة قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر فبكى أبو بكر وقال: ما نفعني الله إلا بك - وفي رواية: " مال أحدٍ ما نفعني مال أبي بكر " قال: فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟ وعن عائشة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما نفعنا مال ما نفعنا مال أبي بكر ".
وعن ابن المسيب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما مال رجلٍ من المسلمين أنفع لي من مال أبي بكر ".
قال: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقضي في مال أبي بكر كما يقضي في مال نفسه.(13/47)
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أحد أمنُّ علي في صحبته وذات يده من أبي بكر، وما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ".
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أحد أعظم عندي من أبي بكر، واساني بنفسه وماله، وأنكحني ابنته ".
وعن ابن عباس قال: سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أحب إليه؟ فقال لي: " عائشة " فقلت: ليس عن النساء سألتك، قال: " فأبوها إذاً " قال: قلت: فلم يا رسول الله؟ قال: " لأنه أنفق ماله كله غير مقطبٍ بين عينيه حتى بقي بعباءة تخللها بريشة، لا تملك سواها، ووالله ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر، وزوجني ابنته، ووهب لي غلامه، وواساني بنفسه، وكلما هبط جبريل علي قال: يا محمد، الله يقرئك السلام ويقول لك: أقرئ أبا بكرٍ السلام وقل له: " أساخطٍ فأرضيك؟ " فقال: على من أسخط يا رسول الله، أنا عنه راض، فهل هو عني راضٍ؟ فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هو عنك راضٍ " فقال أبو بكر: الحمد لله.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن من أعظم الناس علينا مناً أبو بكر، زوجني ابنته، وواساني بنفسه، وإن خير المسلمين مالاً أبو بكر، أعتق منه بلالاً، وحملني إلى دار الهجرة ".
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر: " ما أطيب مالك! منه بلال مؤذني، وناقتي التي هاجرت عليها، وزوجتني ابنتك، وواسيتني بنفسك ومالك، كأني أنظر إليك على باب الجنة تشفع لأمتي ".
عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رحم الله أبا بكرٍ زوجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة، وأعتق بلالاً من ماله،(13/48)
رحم الله عمر يقول الحق وإن كان مراً، تركه الحق وما له من صديقٍ، رحم الله عثمان تستحي منه الملائكة، رحم الله علياً، اللهم أدر عليه الحق حيث دار ".
عن ابن عمر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالصدقة، فقال عمر بن الخطاب: وعندي مال كثير، فقلت: والله لأفضلن أبا بكر هذه المرة، فأخذت نصف مالي، وتركت نصفه، فأتيت به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " هذا مال كثير، فما تركت لأهلك؟ " قال: تركت لهم نصفه.
وجاء أبو بكر بمالٍ كثير، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما تركت لأهلك؟ " قال: تركت لهم الله ورسوله - زاد في رواية: قال عمر: فقلت: لا أسابقك إلى شيءٍ أبداً! وفي رواية مرسلة عن الشعبي قال: لما نزلت هذه الآية: " إن تبدوا الصدقات فنعما هي " إلى آخر الآية جاء عمر بنصف ماله يحمله إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحمله على رؤوس الناس، وجاء أبو بكر بماله أجمع يكاد أن يخفيه من نفسه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما تركت لأهلك؟ " قال: عدة الله، وعدة رسوله، قال: يقول عمر لأبي بكر: بنفسي أنت - أو بأهلي أنت - ما سبقنا باب خيرٍ قط إلا سبقتنا إليه.
عن عروة: أن أبا بكر الصديق أسلم يوم أسلم وله أربعون ألف درهم، قال عروة: قالت عائشة: توفي أبو بكر وما ترك ديناراً ولا درهماً.
وعن عروة قال: أعتق أبو بكر الصديق ممن كان يعذَّب في الله بمكة سبعة أنفسٍ: بلالاً الحبشي الأسود، وعامر بن فهيرة، والنهدية وابنتها، وأم عبيس، وزنِّيرة، وجارية بني المؤمل.(13/49)
وعن ابن عمر قال: أسلم أبو بكر يوم أسلم وفي منزله أربعون ألف درهم، فخرج إلى المدينة من مكة في الهجرة وماله غير خمسة آلاف، كل ذلك ينفق في الرقاب، والعون على الإسلام.
عن عبد الله: أن أبا بكر اشترى بلالاً من أمية بن خلف، وأُبيّ بن خلف ببردةٍ وعشر أواقٍ، فأعتقه لله - عز وجل - فانزل الله - عز وجل - " والليل إذا يغشى " إلى قوله: " إن سعيكم لشتى " سعي أبي بكر وأمية وأُبي.
وعن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن بعض أهله قال: قال أبو قحافة لابنه أبي بكر: يا بني، أراك تعتق رقاباً ضعافاً؟ فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك، ويقومون دونك! فقال أبو بكر: يا أبه، إني إنما أريد ما أريد. قال: فيتحدث: ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه، وفيما قاله أبوه " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى " إلى آخر السورة.
وعن ابن عباس في قوله: " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى "، قال أبو بكر " وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى " قال: أبو سفيان بن حرب.
عن عبد الله بن الزبير قال: أنزلت هذه الآية في أبي بكر: " وسيجنبها الأتقى، الذي يؤتي ماله يتزكى، وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى ".
عن ابن عمر قال: كنت عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده: أبو بكر الصديق، وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال، فنزل عليه جبريل، فقال: يا محمد، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في(13/50)
صدره بخلال؟ فقال: " يا جبريل، أنفق ماله علي قبل الفتح " قال: فإن الله عز وجل يقرأ عليه السلام ويقول: " قل له: أراضٍ أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ " فقال أبو بكر: أسخط على ربي؟ أنا عن ربي راضٍ، أنا عن ربي راضٍ، أنا عن ربي راضٍ.
وعن ابن عباس: عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " هبط علي جبريل، وعليه طنفسة، وهو متخلل بها، فقلت: يا جبريل ما نزلت إلي في مثل هذا الزي! قال: إن الله أمر الملائكة أن تخلل في السماء كتخلل أبي بكرٍ في الأرض ".
عن أنس بن مالك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له جبريل: هاجر، قال: ومن يهاجر معي؟ " قال أبو بكر، وهو الصديق.
وعن أنس: أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صعد أحداً، فتبعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فقال: " اسكن! نبي، وصديق، وشهيدان - وفي رواية: ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم الجبل، فضربه برجله، وقال: " اثبت أحد! فإنما عليك نبي، وصديق، وشهيدان " وفي رواية " اثبت حراء، عليك نبي، وصديق، وشهيد " فالصديق أبو بكر، والشهيدان: عمر وعثمان.
عن النزال بن سبرة الهلالي قال: وافقنا من علي بن أبي طالب ذات يوم طيب نفسٍ، ومزاح، فقلنا له: يا أمير المؤمنين حدثنا عن أصحابك، قال: كل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابي، قال: حدثنا عن أصحابك خاصةً، قال: ما كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاحب إلا كان لي صاحباً، قلنا: حدثنا عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: سلوني، قلنا: حدثنا عن أبي بكر الصديق،(13/51)
قال: ذاك امرؤ سماه الله صديقاً على لسان جبريل ومحمد صلى الله عليهما، كان خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا.
عن حكيم بن سعد قال:
سمعت علياً يحلف لأنزل الله عز وجل اسم أبي بكر من السماء الصديق.
وعن عائشة قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر - وفي رواية: فما مر - علينا يوم إلا ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتينا فيه طرفي النهار بكرةً وعشياً، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكرٍ مهاجراً قبل أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، وأعبد ربي، فقال: فإن مثلك يا أبا بكر لا يُخرج، ولا يَخرج؛ إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فارجع، فاعبد ربك في بلدك، فارتحل ابن الدغنة، فرجع مع أبي بكر، فطاف ابن الدغنة في كفار قريشٍ، فقال: إن أبا بكر لا يَخرج ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يُكسِب المعدم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وآمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكرٍ فليعبد ربه في داره، وليصل فيها ما شاء، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا، ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره، ففعل.
قال: ثم بدا لأبي بكر فابتني مسجداً بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ، فتنقصف عليه نساء قريش، وأبناؤهم يتعجبون منه، وينظرون إليه.
وكان أبو بكر رجلاً بكاءً، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فافزع ذلك أشراف قريشٍ، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا: إنا إنما أجرنا أبا بكر على أن يعبد(13/52)
ربه في داره، وإنه قد جاوز ذلك، فابتني مسجداً بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يستعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي؛ فإني لا أحب أن يسمع العرب أني أخفرت في عقد رجلٍ عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله ورسوله، ورسول الله يومئذ بمكة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمسلمين: " قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخةً ذات نخلٍ بين لابتين - وهما حرتان " فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة، وتجهز أبو بكر مهاجراً، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي " فقال أبو بكر: أو ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: " نعم "، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصحبته، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر.
قالت عائشة: فبينا نحن جلوس في بيتنا، في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقبلاً مقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها. قال أبو بكر: فداه أبي وأمي إن جاء به في هذه الساعة لأمر، قال: فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستأذن، فدخل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دخل لأبي بكر: " أخرج من عندك " فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإنه قد أذن لي في الخروج " فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعم " فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بالثمن ".
قالت: فجهزناهما أحب الجهاز، فصنعنا لهما سفرةً في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر من نطاقها، فأوكت به الجراب، فلذلك كانت تسمى ذات النطاقين - وفي(13/53)
رواية: النطاق - ثم لحق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر بغارٍ في جبل يقال له ثور، فمكثا فيه ثلاث ليالٍ يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب لقن ثقف، فيدخل، فيخرج من عندهما بسحرٍ، فيصبح بمكة مع قريش كبائت، لا يسمع أمراً يُكادون - وفي رواية: يُكادان - به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذاك إذا اختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحةً من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعةً من العشاء، فيبيتان في رسلها حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك عامر تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر رجلاً من بني الدئل من بني عبد بن عدي هادياً خريتاً - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس يمين حلفٍ في آل عاص بن وائل، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، ووعداه غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليالٍ ثلاث، فارتحل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعامر، والدليل الدئلي، فأخذ بهم طريق الساحل، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على راحلته، وأبو بكر على راحلته، وعامر ابن فهيرة يمشي مع أبي بكر مرة، وربما أردفه.
وكانت أسماء تقول: لما صنعت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي سفرتهما وجد أبو قحافة ريح الخبز، فقال: ما هذا، لأي شيء هذا؟ فقلت: لا شيء، هذا خبز عملناه نأكله، فلما خرج أبو بكر جعل أبو قحافة يلتمسه ويقول: أقد فعلها؟! خرج وترك عياله علي، ولعله قد ذهب بماله - وكان قد عمي - فقلت: لا، فأخذت بيده، فذهبت به إلى جلد فيه أقط فمسسته، فقلت: هذا ماله! عن ضبة بن محصن العنزي قال: كان علينا أبو موسى الأشعري أميراً بالبصرة، فوجهني في بعثه عمر بن الخطاب، فقدمت على عمر، فضربت عليه الباب، فخرج إلي، فقال: من أنت؟ فقلت: أنا ضبة بن محصن العنزي، قال: فأدخلني منزله، وقدم إلي طعاماً، فأكلت، ثم ذكرت له(13/54)
أبا بكر الصديق، فبكى، فقلت له: أنت خير من أبي بكر، فازداد بكاءً لذلك، ثم قال وهو يبكي: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر، هل لك أن أحدثك بيومه وليلته؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: فإنه لما خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هارباً من أهل مكة خرج ليلاً، فاتبعه أبو بكر، فجعل مرة يمشي أمامه، ومرة خلفه، ومرة عن يمينه، ومرة عن يساره، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما هذا يا أبا بكر؟ ما أعرف هذا فعلك! " فقال: يا رسول الله، أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرةً عن يمينك، ومرةً عن يسارك، لا آمن عليك، قال: فمشى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليله كله، حتى أدغل أطراف أصابعه، فلما رآه أبو بكر حمله على عاتقه، وجعل يشتد به حتى أتى به فم الغار، فأنزله، ثم قال: والذي بعثك بالحق، لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن يك فيه شيء نزل بي دونك، قال: فدخل أبو بكر؛ فلم ير شيئاً، فقال له: اجلس، فإن في الغار خرقاً أسده، وكان عليه رداء، فمزقه، وجعل يسد به خرقاً خرقاً، فبقي جحران، فأخذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحمله، فأدخله الغار، ثم ألقم قدميه الجحرين، فجعل الأفاعي والحيات يضربنه ويلسعنه إلى الصباح، وجعل هو يتقلى من شدة الألم، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم بذلك، ويقول له: " يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا " فأنزل الله عليه وعلى رسوله السكينة، والطمأنينة فهذه ليلته.
وأما يومه فلما توفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتدت العرب؛ فقال بعضهم: نصلي ولا نزكي، وقال بعضهم: نزكي ولا نصلي، فأتيته لا ألوه نصحاً، فقلت: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ارفق بالناس! وقال غيري ذلك. فقال أبو بكر: قد قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وارتفع الوحي، ووالله لو منعوني عقالاً مما كانوا يعطون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتلتهم عليه، قال: فقاتلنا فكان والله سديد الأمر، فهذا يومه.
عن أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق حدثه قال:
نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار، وهم على رؤوسنا، فقلت:(13/55)
يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه! فقال: " يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ ".
عن ابن عباس قال: إن الذين طلبوهم صعدوا الجبل، فلم يبق إلا أن يدخلوا، فقال أبو بكر: أُتينا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا بكر، لا تحزن إن الله معنا " وانقطع الأثر، فذهبوا يميناً وشمالاً.
عن علي بن أبي طالب قال: لقد صنع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي بكر أمراً ما صنعه بي، فقال له رجل: ما صنع به يا أمير المؤمنين؟ قال: يوم المَلْحم، قلنا: وما يوم الملحم؟ قال: يوم جاء المشركون يقتلون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج، وخرج بأبي بكر معه، لم يأمن على نفسه أحداً غيره حتى دخلا الغار.
عن حبيب بن أبي ثابت: في قوله عز وجل: " فانزل الله سكينته عليه " قال: على أبي بكر، فأما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد نزلت عليه السكينة قبل ذلك.
قال الحسن بن عرفة: " فأنزل السكينة عليهم " قال: على أبي بكر.
عن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي بكر: " أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار ".(13/56)
عن الزهري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحسان بن ثابت: " هل قلت في أبي بكر شيئاً؟ " قال: نعم يا رسول الله، قال: " فقل حتى أسمع " فقال: من البسيط
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدو به إذ يصعد الجبلا
وكان ردف رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه، وقال: " صدقت يا حسان، هو كما قلت ".
قال ابن عيينة: عاتب الله المسلمين كلهم في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير أبي بكر وحده؛ فإنه خرج من المعاتبة، وتلا قوله تعالى: " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار ".
عن أنس بن مالك قال: لما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان رسول الله يركب، وأبو بكر رديفه، وكان أبو بكر يعرف في الطريق باختلافه إلى الشام، فكان يمر بالقوم فيقولون: من هذا بين يديك؟ فيقول: هادٍ يهدي - وفي رواية: هذا رجل يهديني السبيل.
عن عبد الرحمن ومحمد ابني جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري ثم السلمي: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين آخى بين المهاجرين والأنصار آخى بين أبي بكر الصديق، وخارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي.
وعن محمد بن عمر بن علي: آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة بين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، فلما قدم(13/57)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة نقض تلك المؤاخاة إلا اثنتين: المؤاخاة التي بينه وبين علي بن أبي طالب، والتي بين حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة.
عن أبي هريرة قال: تباشرت الملائكة يوم بدرٍ فقالوا: أما ترون أبا بكر الصديق جاء مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العريش.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أصبح منكم صائماً اليوم؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: " من أطعم اليوم مسكيناً؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: " من عاد اليوم مريضاً؟ " قال أبو بكر: أنا، فقال: " من شهد منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما اجتمعن - هذه الخصال - في رجلٍ قط إلا دخل الجنة " وفي رواية: " من جمعهن في يومٍ واحد وجبت له، أو قال: غُفر له ".
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال:
صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الصبح، ثم أقبل على أصحابه بوجهه، فقال: " من أصبح منكم اليوم صائماً؟ " قال عمر: يا رسول الله، لم أحدث نفسي بالصوم البارحة، فأصبحت مفطراً، فقال أبو بكر: لكن حدثت نفسي بالصوم البارحة فأصبحت صائماً، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل منكم أحد اليوم عاد مريضاً؟ " قال عمر: يا رسول الله، صلينا ثم لم نبرح، فكيف نعود المريض؟! فقال أبو بكر: بلغني أن أخي عبد الرحمن بن عوف شاكٍ، فجعلت طريقي عليه لأنظر كيف أصبح، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً؟ " فقال عمر: يا رسول الله، صلينا ثم لم نبرح، فقال أبو بكر: دخلت المسجد، فإذا أنا بسائلٍ، فوجدت كسرة خبز الشعير في يد عبد الرحمن، فأخذتها فدفعتها إليه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنت فابشر بالجنة " فتنفس عمر، فقال: واها للجنة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمة أرضى بها عمر.(13/58)
عن سعيد بن المسيب أن عمر قال: ما سبقت أبا بكر إلى خير قط إلا سبقني إليه.
عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي - وفي رواية: نودي - من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي - وفي رواية: نودي - من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان " فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على أحدٍ ممن دعي من تلك الأبواب - وفي رواية فقال أبو بكر: ما على من يدعى من هذه الأبواب - من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب - وفي رواية من هذه الأبواب - كلها؟ قال: " نعم، وأرجو أن تكون منهم ".
عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يدخل الجنة رجل لا يبقى فيها أهل دار ولا غرفة إلا قالوا: مرحباً مرحباً، إلينا إلينا "، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما توى هذا الرجل في ذلك اليوم، قال: " أجل، وأنت هو يا أبا بكر ".
عن ابن أبي أوفى قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: وأقبل على أبي بكر فقال: " إني لأعرف اسم رجل، واسم أبيه، واسم أمه إذا دخل الجنة لم يبق غرفة من غرفها، ولا شرفة من شرفها إلا قالت: مرحباً مرحباً " فقال سلمان: إن هذا لغير خائب، فقال: " ذاك أبو بكر بن أبي قحافة ".(13/59)
عن سليمان بن يسار قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبو بكر وعمر خير أهل الأرض إلا أن يكون نبياً ".
قال: وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الخير ثلاثمائة وستون خصلة، إذا أراد الله عز وجل بعبدٍ خيراً جعل فيه واحدة منهن يدخله بها الجنة ".
قال: وقال أبو بكر: يا رسول الله، هل فيّ شيء منهن؟ قال: " نعم جميعاً " وفي رواية: " كلهن فيك، وهنيئاً لك يا أبا بكر ".
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بينما جبريل يطوف بي أبواب الجنة قلت: يا جبريل، أرني الباب الذي تدخل منه أمتي " قال: " فأرانيه " قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله، ليتني كنت معك حتى أنظر إليه، قال: فقال: " يا أبا بكر، أما إنك أول من يدخله من أمتي ".
عن أبي الدرداء قال: إني لجالس عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ أقبل أبو بكر، فأخذ بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فأقبل حتى سلم، ثم قال: يا رسول الله، كان بيني وبين ابن الخطاب شيء حتى أسرعت إليه، وندمت، فسألته أن يستغفر لي، فأبى علي، وتحرز مني بفراره، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يغفر الله لك يا أبا بكرٍ - ثلاثاً " ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكرٍ، فسأل: أثم أبو بكرٍ؟ فقالوا: لا، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما نظر إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تغير وجهه حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، أنا والله كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أيها الناس إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ " فما أوذي بعدها.(13/60)
عن ابن عباس قال:
ذكر أبو بكر عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كذبني الناس وصدقني، وآمن بي، وزوجني ابنته، وجهزني بماله، وجاهد معي في جيش العسرة، ألا إنه سيأتي يوم القيامة على ناقةٍ من نوق الجنة، قوائمها من المسك والعنبر، ورحلها من الزمرد الأخضر وزمامها من اللؤلؤ الرطب، عليها جلان خضراوان من سندس واستبرق، ويجاء بأبي بكر يوم القيامة وإياي، فيقال: هذا محمد رسول الله، وهذا أبو بكر الصديق ".
عن ربيعة الأسلمي قال: كنت أخدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: " يا ربيعة ألا تزوج؟ " قال: قلت: لا والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يقيم المرأة، وما احب أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، فخدمته ما خدمته، ثم قال لي الثانية: " يا ربيع ألا تزوج؟ " فقلت: ما أريد أن أتزوج ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، ثم رجعت إلى نفسي، فقلت: والله لرسول الله بما يصلحني في الدنيا والآخرة أعلم مني والله، لئن قال لي: تزوج لأقولن: نعم يا رسول الله، مرني بما شئت. قال فقال: " يا ربيعة ألا تزوج؟ " فقلت: بلى مرني بما شئت، قال: " انطلق إلى آل فلان - حي من الأنصار، وكان فيهم تراخٍ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقل لهم: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني فلانة - لامرأةٍ منهم - فذهبت، فقلت لهم: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسلني إليكم، يأمركم أن تزوجوني فلانة، فقالوا: مرحباً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبرسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا والله، لا يرجع رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بحاجته،(13/61)
فزوجوني وألطفوني، وما سألوني البينة، فرجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حزيناً، فقال لي: " مالك يا ربيعة؟ " فقلت: يا رسول الله، أتيت قوماً كراماً، فزوجوني وأكرموني وألطفوني وما سألوني بينة، وليس عندي صداق، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا بريدة الأسلمي، اجمعوا له وزن نواةٍ من ذهبٍ " قال: فجمعوا لي وزن نواةٍ من ذهب، فأخذت ما جمعوا لي، فأتيت به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " اذهب بهذا إليهم، فقل: هذا صداقها " فأتيتهم فقلت: هذا صداقها، فرضوه وقبلوه وقالوا: كثير طيب. قال: ثم رجعت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حزيناً فقال: " يا ربيعة مالك حزين؟ " فقلت: يا رسول الله، ما رأيت قوماً أكرم منهم، رضوا بما آتيتهم، وأحسنوا وقالوا: كثير طيب وليس عندي ما أولم، قال: " يا بريدة، اجمعوا له شاة " قال: فجمعوا لي كبشاً عظيماً سميناً، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اذهب إلى عائشة، فقل لها فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام " قال: فأتيتها، فقلت لها ما أمرني به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: هذا المكتل فيه تسعة آصع شعيرٍ، لا والله إن أصبح لنا طعام غيره، خذه، قال: فأخذته، فأتيت به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبرته بما قالت عائشة، فقال: " اذهب بهذا إليهم، فقل لهم: ليصبح هذا عندكم خبزاً " فذهبت إليهم، وذهبت بالكبش ومعي أناس من أسلم، فقال: ليصبح هذا عندكم خبزاً، وهذا طبيخاً.
فقالوا: أما الخبز فسنكفيكموه، وأما الكبش فاكفوناه أنتم، فأخذنا الكبش أنا وأناس من أسلم، فذبحناه وسلخناه وطبخناه، فأصبح عندنا خبز ولحم، فأولمت، ودعوت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(13/62)
ثم قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطاني بعد ذلك أرضاً، وأعطى أبا بكرٍ أرضاً، وجاءت الدنيا، فاختلفنا في عذق نخلةٍ، فقلت أنا: هي في حدي، وقال أبو بكر: هي في حدي، فكان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي أبو بكر كلمةً أكرهها، وندم، فقال لي: يا ربيعة رد علي مثلها حتى تكون قصاصاً، قال: قلت: لا أفعل، فقال أبو بكر: لتقولن، أو لأستعدين عليك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فقلت: ما أنا بفاعل، قال: ورفض الأرض، وانطلق أبو بكر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وانطلقت أتلوه، فجاء أناس من أسلم، فقالوا لي: رحم الله أبا بكر، في أي شيءٍ يستعدي عليك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي قال لك ما قال؟ قال: فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني اثنين وهذا ذو شيبة المسلمين! إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما، فيُهلك ربيعة! قالوا: فما تأمرنا؟ قال: ارجعوا، قال: وانطلق أبو بكر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتبعته وحدي حتى أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه، فقال: " يا ربيعة مالك وللصديق؟ " قلت: يا رسول الله، كان كذا، كان كذا، فقال لي كلمة كرهها، فقال لي: قل كما قلت حتى يكون قصاصاً، فأبيت، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أجل فلا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر " فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر، فولّى أبو بكر وهو يبكي.(13/63)
قال حذيفة بن اليمان: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لقد هممت أن أبعث رجالاً يعلمون الناس السنة والفرائض كما بعث عيسى بن مريم الحواريين في بني إسرائيل "، فقيل له: فأين أنت عن أبي بكر وعمر؟ قال: " لا غنى لي عنهما - أو بي عنهما - فإنهما من الدين كالسمع من البصر ".
عن أبي أروى الدوسي قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالساً، فطلع أبو بكر وعمر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الحمد لله الذي أيدني بكما ".
عن علي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لأبي بكر: " يا أبا بكر، إن الله أعطاني ثواب من آمن بي منذ خلق آدم إلى أن بعثني، وإن الله أعطاك يا أبا بكر ثواب من أمن بي منذ بعثني إلى أن تقوم الساعة ".
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لي وزيران من أهل السماء: جبريل وميكائيل، ووزيران من أهل الأرض: أبو بكر وعمر ".
عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي بكر وعمر: " ألا أخبركما بمثلكما في الملائكة، ومثلكما في الأنبياء: مثلك يا أبا بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة، ومثلك من الأنبياء مثل إبراهيم إذ كذّبه قومه، فصنعوا به ما صنعوا قال " فمن تبعني فإنه مني، ومن عصاني فإنك غفور رحيم " ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل، ينزل بالبأس والشدة على أعداء الله، ومثلك في الأنبياء مثل نوح إذ قال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ".(13/64)
عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتاني جبريل آنفاً، فقلت له: يا جبريل حدثني بفضائل عمر بن الخطاب في السماء، قال: يا محمد، لو حدثتك بفضائل عمر بن الخطاب في السماء مثلما لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ما نفدت فضائل عمر، وإن عمر حسنة من حسنات أبي بكر ".
عن عبد الله قال:
كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً جالساً ومعه جبريل إذ أقبل أبو بكر، فقال جبريل: يا محمد هذا أبو بكر قد أقبل، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل له اسم في السماوات تعرفونه به كما تعرفه أهل الأرض؟ " قال: إي والذي بعثك بالحق بشيراً ونذيراً لاسمه في السماوات أشهر من اسمه في الأرض، من أحب منكم أن ينظر إلى شيبة خليل الرحمن فلينظر إلى شيبة أبي بكر، فبينا هو كذلك إذ أقبل عمر، فقال جبريل: يا رسول الله هذا عمر أقبل، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا جبريل، هل له اسم في السماوات تعرفونه كما تعرفه أهل الأرض؟ " قال: والذي بعثك بالحق بشيراً ونذيراً لاسمه في السماوات أشهر من اسمه في الأرض، من أحب منكم أن ينظر إلى شيبة نوحٍ في المرسلين فلينظر إلى شيبة عمر بن الخطاب، فبينا هو كذلك إذ أقبل عثمان بن عفان، فقال له جبريل: هذا عثمان قد أقبل، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا جبريل هل له اسم في السماوات تعرفونه كما تعرفه أهل الأرض؟ " قال: إي والذي بعثك بالحق بشيراً لاسمه في السموات أشهر من اسمه في الأرض، من أحب منكم أن ينظر إلى شيبة موسى كليم الرحمن فلينظر إلى شيبة عثمان بن عفان، فبينا هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب، فقال له جبريل: يا رسول الله هذا علي قد أقبل، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا جبريل هل له اسم في السماوات تعرفونه كما تعرفه أهل الأرض؟ " فقال: إي والذي بعثك بالحق بشيراً ونذيراً لاسمه في السموات أشهر من اسمه في الأرض، من أحب منكم أن ينظر إلى شيبة هارون فلينظر إلى شيبة علي بن أبي طالب. ثم ارتفع جبريل، فقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائماً على قدميه، قال: " يا أيها الناس، قد أخبرني الروح الأمين بما هو كائن بعدي إلى يوم القيامة، ألا أيها الشاتم أبا بكرٍ فكأني بك قد جئتني تخوض بحار النيران، وقد سالت حدقتاك على خديك، فأُعْرِض عنك بوجهي،(13/65)
وأنت أيها الشاتم عمر، أنت وربي بريء من الإسلام، وأنت أيها الشاتم عثمان بن عفان، وخَتَني على ابنتيّ، والذي قلت له: اللهم لا تنس له هذا اليوم، كأني بك قد جئتني في الأهوال المهيلة المهيبة، فأعرض بوجهي عنك، وأنت أيها الشاتم علياً، أخي وابن عمي، وخَتَني على بنتي والضارب بسيفي بين يدي لا نالتك شفاعتي ".
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو وزن إيمان أبي بكرٍ بإيمان أهل الأرض لرجح ".
والمحفوظ عن عمر قوله: لو وزن إيمان أبي بكرٍ بإيمان أهل الأرض لرجح بهم - وفي رواية: لرجح به.
عن الربيع بن أنس قال: نظرنا في صحابة الأنبياء، فما وجدنا نبياً كان له صاحب مثل أبي بكر الصديق.
عن ابن سيرين: أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق كان يوم بدرٍ مع المشركين، فلما أسلم قال لأبيه: لقد أهدفت لي يوم بدرٍ، فصدّقت عنك، ولم أقتلك، فقال أبو بكر: لكنك لو أهدفت لي لم أنصرف عنك.
قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة: بتفسير هذا الحديث يقال: قوله أهدفت لي معناه: أشرفت لي، ومنه قيل للبناء المرتفع: هدف، وهدف الرامي منه، لأنه شيء ارتفع للرامي حتى يراه، وإن عبد الرحمن كره أن يقاتل أباه،(13/66)
أو انصرف عنه هيبة له. وقول أبي بكر: لو أهدفت لي لم أصرف وجهي عنك؛ وهذا من أكبر فضائله؛ لأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم لما جعل الله في قلبه من جلالة الإيمان، وبهذا وصف الله أصحاب محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر. " الآية.
عن علي قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدرٍ ولأبي بكر: " مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال، أو يكون في القتال " وفي رواية " في الصف ".
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أتاني جبريل، فقال لي: يا محمد، إن الله يأمرك أن تستشير أبا بكر ".
وعن معاذ بن جبلٍ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يكره فوق سمائه أن يخطئ أبو بكر ".
عن يعقوب الأنصاري قال: إن كانت حلقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتشتبك حتى تصير كالإسوار، وإن مجلس أبي بكرٍ منها لفارغ ما يطمع فيه أحد من الناس، فإذا جاء أبو بكر جلس ذلك المجلس، وأقبل عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوجهه، وألقى إليه حديثه، وسمع الناس.
قال الزبير بن العوام: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك: " اللهم بارك لأمتي في أصحابي، فلا تسلبهم البركة، وبارك لأصحابي في أبي بكر الصديق، فلا تسلبه البركة، واجمعهم عليه، ولا تشتت أمره؛ فإنه لم يزل يؤثر أمرك على أمره، اللهم وأعز عمر بن الخطاب، وصبّر عثمان بن عفان، ووفق علي بن أبي(13/67)
طالب، وثبت الزبير واغفر لطلحة، وسلم سعداً، ووقّر عبد الرحمن، وألحق بي السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والتابعين بإحسانٍ ".
عن سهل بن مالك الأنصاري قال: قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرجعه من حجته، اجتمع الناس إليه، فقال: " يا أيها الناس، إن أبا بكر لم يسؤني طرفة عين، فاعرفوا ذلك له، يا أيها الناس، إن الله راضٍ عن عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن، وسعد، فاعرفوا ذلك لهم، يا أيها الناس، إن الله قد غفر لأهل بدر والحديبية، يا أيها الناس دعوا لي أختاني وأصهاري، لا يطلبنكم الله بمظلمة أحدٍ منهم، فيعذبكم بها، فإنها مما لا يوهب، يا أيها الناس ارفعوا ألسنتكم عن المسلمين، وإذا مات أحد منكم فاذكروا منه خيراً ".
عن أنسٍ قال: قالوا: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: " عائشة " قالوا: إنما نعني من الرجال، قال: " أبوها ".
عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " إني لمشتاق إلى إخواني " فقلنا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: " كلا أنتم أصحابي، وإخواني قوم يؤمنون بي ولم يروني " فجاء أبو بكر الصديق، فقال عمر: إنه قال: " إني لمشتاق إلى إخواني " فقلنا: ألسنا إخوانك؟ قال: " لا، إخواني قوم يؤمنون بي ولم يروني " فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا بكر، ألا تحب قوماً بلغهم أنك تحبني، فأحبوك بحبك إياي، فأحبهم أحبهم الله ".
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متكئاً على عليٍ، وإذا أبو بكر وعمر قد أقبلا، فقال: " يا أبا الحسن، أحبهما، فبحبهما تدخل الجنة ".(13/68)
عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يتكئ على يدي علي بن أبي طالبٍ، فاستقبله أبو بكر وعمر، فقال: " يا علي، أتحب هذين الشيخين؟ " قال: نعم يا رسول الله، قال: " حبهما يُدخِل الجنة ".
عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حبُّ أبي بكرٍ وشكره واجب على أمتي " - وفي رواية أخرى: " أمنُّ الناس عليّ في صحبته وذات يده أبو بكر الصديق، فحبه وشكره وحفظه واجب على أمتي ".
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حب أبي بكرٍ وعمر إيمان، وبغضهما كفر ".
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يُبغِض أبا بكر وعمر مؤمن، ولا يحبهما منافق ".
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لما ولد أبو بكر الصديق أقبل الله تعالى على جنة عدنٍ، فقال: وعزتي وجلالي لا أُدخِلك إلا من يحب هذا المولود ".
عن أنسٍ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لما عرج بي جبريل رأيت في السماء خيلاً موقفةً مسرجةً ملجمةً، لا تروث ولا تبول، ولا تعرق، رؤوسها من الياقوت الأحمر، وحوافرها من الزمرد الأخضر، وأبدانها من العِقيان الأصفر، ذوات أجنحة، فقلت: لمن هذه؟ فقال جبريل: هذه لمحبي أبي بكر وعمر، يزورون الله عليها يوم القيامة ".(13/69)
قال الخطيب: منكر.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن في السماء الدنيا ثمانين ألف ملكٍ يستغفرون الله لمن أحب أبا بكر وعمر، وفي السماء الثانية ثمانين ألف ملكٍ بلعنون من أبغض أبا بكر وعمر ".
عن ابن عباس قال:
كان أبو بكر الصديق مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار، فعطش أبو بكر عطشاً شديداً، فشكا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اذهب إلى صدر الغار، واشرب " فانطلق أبو بكر إلى صدر الغار، وشرب منه ماء أحلى من العسل، وأبيض من اللبن، وأزكى رائحةً من المسك، ثم عاد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: شربت يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا أبشرك يا أبا بكر؟ " قال: بلى، فداك أبي وأمي يا رسول الله، قال: " إن الله تعالى أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن خرق نهراً من جنة الفردوس إلى صدر الغار ليشرب أبو بكر " فقال أبو بكر: ولي عند الله هذه المنزلة؟ قال: " نعم، وأفضل، والذي بعثني بالحق نبياً لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان له عمل سبعين نبياً ".
عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لكل نبي رفيق، وإن رفيقي في الجنة أبو بكر ".
وعن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم إنك جعلت أبا بكرٍ رفيقي في الغار فاجعله رفيقي في الجنة " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا وأبو بكر في الجنة كهاتين " وضم السبابة والوسطى.
عن ابن مليكة قال: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه غديراً، فقال: " ليسبح كل رجل إلى صاحبه "،(13/70)
قال: فسبح كل رجلٍ منهم إلى صاحبه حتى بقي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر، قال: فسبح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى اعتنقه، وقال: " لو كنت متخذاً خليلاً حتى ألقى الله لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً، ولكنه صاحبي ".
عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الناس كلهم يحاسبون إلا أبا بكر " وفي رواية قالت: قلت: يا رسول الله أكل الناس تقف يوم القيامة للحساب؟ قال: " نعم، إلا أبا بكر فإن شاء مضى، وإن شاء وقف ".
عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس، قيل: - وفي رواية فقيل له -: فأين أبو بكر يا رسول الله؟ قال: " هيهات! زفته الملائكة إلى الجنة زفاً - وفي رواية: تزفه الملائكة إلى الجنان ".
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كأني بك يا أبا بكرٍ على باب الجنة تشفع لأمتي ".
عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يطلع عليكم رجل لم يخلق الله بعدي أحداً هو خير منه، ولا أفضل، وله شفاعة مثل شفاعة النبيين " فما برحنا حتى طلع أبو بكر الصديق فقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقبله والتزمه.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من تحت العرش: ألا هاتوا أصحاب محمد، قال: فيؤتى بأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، قال: فيقال لأبي بكر:(13/71)
قف على باب الجنة، فأدخل الجنة من شئت برحمة الله، ودع من شئت بعلم الله، ويقال لعمر بن الخطاب: قف على الميزان، فثقِّل من شئت برحمة الله عز وجل وخفف من شئت بعلم الله، ويعطى عثمان بن عفان عصا آس التي غرسها الله عز وجل في الجنة ويقال له: ذد الناس عن الحوض ".
عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن على حوضي أربعة أركانٍ، فأول ركن منها في يد أبي بكرٍ، والركن الثاني في يد عمر، والركن الثالث في يد عثمان، والركن الرابع في يد عليٍ، فمن أحب أبا بكر وأبغض عمر، لم يسقه أبو بكر، ومن أحب عمر وأبغض أبا بكر لم يسقه عثمان، ومن أحب عثمان وأبغض علياَ لم يسقه عثمان، ومن أحب علياً وأبغض عثمان لم يسقه علي، ومن أحسن القول في أبي بكر فقد أقام الدين، ومن أحسن القول في عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحسن القول في عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحسن القول في علي فقد استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن أحسن القول في أصحابي فهو مؤمن ".
عن معاذ بن جبلٍ قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كان يوم القيامة نصب لإبراهيم منبر أما العرش، ونصب لي منبر أمام العرش، ونصب لأبي بكرٍ كرسي فيجلس عليها، وينادي منادٍ: يا لك من صديقٍ بين خليلٍ وحبيب ".
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" دخلت الجنة ليلة أسري بي، نظرت إلى برجٍ أعلاه نور، ووسطه نور، وأسفله نور، فقلت لحبيبي جبريل: لمن هذا البرج؟ فقال: هذا لأبي بكر الصديق ".
عن البراء بن عازب، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله اتخذ لإبراهيم في أعلى عليين قبةً من ياقوتةٍ بيضاء، معلقة بالقدرة،(13/72)
تخترقها رياح الرحمة، للقبة أربعة آلاف باب، كلما اشتاق أبو بكر إلى الله انفتح منها باب ينظر إلى الله عز وجل ".
عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يتجلى للمؤمنين عامة ويتجلى لأبي بكرٍ خاصة ".
عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا بكرٍ، أعطاك الله الرضوان الأكبر " فقال أبو بكر: يا رسول الله، وما الرضوان الأكبر؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا بكر، إذا كان يوم القيامة يتجلى الجبار لأهل الجنة، فتراه وتراه أهل الجنة، ويتجلى لك خاصةً، فلا يراه مخلوق غيرك ".
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن في الجنة لطيراً كأشباه البُخْت " فقال أبو بكر: إن هذه لطير ناعمة! قال: " آكلها أنعم منها، وإني لأرجو أن تأكلها يا أبا بكر ".
عن علي قال: كنت عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقبل أبو بكر وعمر، فقال: " يا علي، هذان سيدا كهول أهل الجنة وشبابها بعد النبيين والمرسلين، لا تخبرهما يا علي ".
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفقٍ من آفاق السماء، ألا وإن أبا بكر وعمر منهم، وأنعما ".
قال محمد بن الجهم السمري: سألت الفراء عن قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الدرجات العلى: " وأنعما " لم أدخلت الألف في آخر حرفٍ؟ فقال: معناه: وقد أنعما أي صارا إلى النعيم، وأنشد الفراء عن(13/73)
بعض العرب يصف راعياً: من الطويل
سمين الضواحي لم تؤرّقه ليلةً ... وأنعم أبكار الهموم وعُونُها
معناه: لم تؤرقه أبكار الهموم وعونها ليلةً، وقد أنعم: صار إلى النعيم.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما مررت بسماء إلا رأيت فيها، مكتوب: محمد رسول الله، أبو بكرٍ الصديق ".
عن أنس بن مالك قال: جاء جبريل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عند الله عز وجل فقال له: يا محمد، إن الله يقرأ عليك السلام، فقال: " منه بدأ السلام " قال: إن الله يقول لك: " قل للعتيق ابن أبي قحافة إني عنه راضٍ ".
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى ".
عن أبي هريرة قال: لما نزلت: " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " قال أبو بكر: لا أرفع صوتي إلا كأخي السرار.
عن سعد بن زُرارة قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، فالتفت التفاتةً، فلم يرَ أبا بكر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبو بكر، أبو بكر أما إن روح القدس أخبرني آنفاً أن خير أمتك بعدك أبو بكر ".(13/74)
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله تعالى اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار لي من أصحابي أربعةً: أبا بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلياً، فجعلهم خير أصحابي، وفي كل أصحابي خير، واختار أمتي على سائر الأمم، واختار من أمتي أربعة قرون بعد أصحابي: القرن الأول، والثاني، والثالث تترى، والرابع فرادى ".
عن جابر بن عبد الله قال: رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا الدرداء يمشي أمام أبي بكرٍ، فقال له: " أتمشي قُدّام رجلٍ لم تطلع الشمس على أحدٍ منكم أفضل منه؟! " فما رئي أبو الدرداء بعد ذلك إلا خلف أبي بكر.
وعن أبي الدرادء أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما طلعت الشمس، ولا غربت على أحدٍ أفضل - أو خيرٍ - من أبي بكر إلا أن يكون نبياً ".
عن جابرٍ قال: كنا جماعة من المهاجرين والأنصار، فتذاكرنا الفضائل بيننا، فارتفعت أصواتنا، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " لا تفضلن أحداً منكم على أبي بكر؛ فإنه أفضلكم في الدنيا والآخرة ".
عن أبي بكرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذات يوم:
" من رأى منكم رؤيا؟ " فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء،(13/75)
فوزنت أنت بأبي بكر، فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم ارتفع الميزان، فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن عرفجة الأشجعي قال: صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفجر، ثم جلس: فقال: " وزن أصحابنا الليلة، وزن أبو بكر فوزن، ثم وزن عمر فوزن، ثم وزن عثمان فخف، وهو صالح ".
عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يدفن المرء في تربته التي خلق منها " فلما دفن أبو بكرٍ وعمر إلى جانب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمنا أنهما خلقا من تربته.
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أول من تنشق الأرض عنه أنا، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي البقيع، فتنشق عنهم، ثم أنتظر أهل مكة، فتنشق عنهم، فأُبعث بينهم ".
عن عائشة قالت: كان بيني وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلام، فقال: " من ترضين أن يكون بيني وبينك، أترضين بأبي عبيدة بن الجراح؟ " قلت: لا، ذلك رجل هين لين، يقضي لك، قال: " فترضين بأبيك؟ " قال: فأرسل إلى أبي بكر، فجاء فقال: " اقصصي "، قالت: قلت: اقصص أنت، فقال: " هي كذا وكذا " قالت: فقلت: اقصد! فرفع أبو بكر يده فلطمني، قال: تقولين يا بنت فلانة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقصد! من يقصد إذا لم يقصد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! قال: وجعل الدم يسيل من أنفها على ثيابها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنا لم نرد هذا " قال: وجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغسل الدم بيده من ثيابها ويقول: " رأيتِ كيف أنقذتك منه؟ ".(13/76)
عن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث أبا بكرٍ فأقام للناس حجهم - أو قال: فحج - ثم حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالناس العام المقبل حجة الوداع، ثم قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستخلف أبو بكرٍ، فبعث أبو بكرٍ عمر بن الخطاب، فحج بالناس، ثم حج أبو بكرٍ في العام المقبل، ثم استخلف عمر، فبعث عبد الرحمن بن عوف، ثم حج عمر إمارته كلها، ثم استخلف عثمان، فبعث عبد الرحمن بن عوف، ثم حج عثمان إمارته كلها.
عن أبي جعفر قال: بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي بن أبي طالب ب " براءة " لما نزلت، فقرأها على أهل مكة، وبعث أبا بكر على الموسم.
قال الزبير بن بكار: ودفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنة تسعٍ إلى أبي بكر الصديق رايته العظمى، وكانت سوداء، ولواؤه أبيض.
عن محمد بن إسحاق: أن أبا بكرٍ أقام للناس الحج سنة ثنتي عشرة، وبعض الناس يقول: لم يحج أبو بكر في خلافته، وأنه بعث في سنة ثنتي عشرة على الموسم عمر بن الخطاب، أو عبد الرحمن بن عوف.
عن عروة بن الزبير: أن أبا بكر الصديق أحج على الناس سنةً عمر بن الخطاب، والسنة الثانية عتاب بن أسيد القرشي.
عن ابن شهاب قال: رأى النبي رؤيا، فقصها على أبي بكرٍ، فقال: " يا أبا بكر، رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة، فسبقتك بمرقاتين ونصف " قال: خير يا رسول الله، يبقيك الله حتى(13/77)
ترى ما يسرك، ويقر عينك، قال: فأعاد عليه مثل ذلك ثلاث مراتٍ، فأعاد عليه مثل ذلك، قال: فقال له في الثالثة: " يا أبا بكر، رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة، فسبقتك بمرقاتين ونصف " قال: يا رسول الله، يقبضك الله إلى رحمته ومغفرته، وأعيش بعدك سنتين ونصف.
عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أمرت أن أؤول الرؤيا أبا بكر ".
عن سفينة قال: لما بنى النبي المسجد وضع حجراً، ثم قال: " ليضع أبو بكر حجراً إلى جنب حجري " ثم قال: " ليضع عمر حجراً إلى جنب أبي بكر " ثم قال: " ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر " ثم قال: " هؤلاء الخلفاء بعدي ".
عن زرعة بن عمرو، عن أبيه قال:
لما قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة قال لأصحابه: " انطلقوا بنا إلى أهل قباء نسلم عليهم " فلما أتاهم سلم عليهم، ورحبوا به، فقال: " يا أهل قباء، إيتوني بحجارة من هذه الحرة " فجمعت عنده، فخط بها قبلتهم، فأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجراً، فوضعه، ثم قال: " يا أبا بكر، خذ حجراً فضعه إلى جنب حجري " ففعل، ثم قال: " يا عمر، خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر أبي بكر " ففعل، ثم قال: " يا عثمان خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر عمر "، ففعل ثم التفت إلى الناس بأخرة فقال: " وضع رجل حجره حيث أحب على هذا الخط ".
عن جبير بن مطعم: أن امرأة أتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسأله شيئاً، فقال لها: " ارجعي إلي " قالت: فإن(13/78)
رجعت فلم أجدك يا رسول الله - تعرِّض بالموت -؟ فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإن رجعت فلم تجديني فالقي أبا بكر ".
قال الزبير بن العوام - وذكر عنده أبو بكر -: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الخليفة بعدي أبو بكر، ثم عمر " قال: فقمنا سنة حتى دخلنا على علي بن أبي طالب فقلنا: يا أمير المؤمنين إنا سمعنا الزبير بن العوام يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الخليفة بعدي أبو بكر، ثم عمر " فقال: صدق، سمعت ذاك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حائط، فاستفتح رجل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ائذن له، وبشره بالجنة، وأخبره أنه سيلي أمتي من بعدي " ففعلت، فإذا هو أبو بكر، ثم استفتح رجل، فقال: " قم يا أنس، فافتح له، وبشره بالجنة، وأخبره أنه سيلي أمتي من بعدي ومن بعد أبي بكر " فإذا هو عمر، فأخبرته، ثم جاء آخر، فدق فقال: " يا أنس فافتح له وبشره بالجنة، وأخبره أنه سيلي أمتي من بعد عمر، وأنه سيلقى من الرعية الشدة، حتى يبلغوا دمه، وأمره عند ذلك بالكف " فقمت، فإذا هو عثمان، فأخبرته فحمد الله، فلما أخبرته أنهم سيبلغون دمه استرجع.
عن ابن عباس قال: والله إن إمارة أبي بكر وعمر لفي الكتاب " وإذ أسر النبي لبعض أزواجه حديثاً " فقال لحفصة: " أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي ".
عن ميمون بن مهران: في قوله تعالى: " وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه، وجبريل، وصالح المؤمنين " أبو بكر وعمر.(13/79)
عن عبد الله بن جراد قال: أتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفرسٍ، فركبه، وقال: " يركب هذا الفرس من يكون الخليفة من بعدي " فركبه أبو بكر الصديق.
عن عبد الله بن عباس قال: لما نزلت: " إذا جاء نصر الله والفتح " جاء العباس إلى علي، فقال: قم بنا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصار إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألاه عن ذلك، فقال: " يا عباس، يا عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن الله جعل أبا بكر خليفتي على دين الله ووحيه فاسمعوا له تفلحوا، وأطيعوه ترشدوا " قال العباس: فأطاعوه والله فرشدوا.
عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقتدوا باللذين من بعدي: أبو بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد ".
عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لو كنت متخذاً أحداً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله، وإن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ولكل آيةٍ منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع ".
وعن ابن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وهو على المنبر في مرضه الذي توفي فيه: " لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا علي كل خوخةٍ غير خوخة أبي بكر ".(13/80)
عن سعيد بن جبير قال: كتب عبد الله بن عتبة إلى ابن الزبير يستفتيه في الجد، فقال سعيد: فقرأت كتابه إليه: أما بعد، فإنك كتبت إلي تستفتني في الجد، وإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكنه أخي في الدين، وصاحبي في الغار " وإن أبا بكر كان ينزله بمنزلة الوالد، وإن أحق من اقتدينا به بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر.
عن أبي سعيد الخدري قال:
خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي مات فيه، وهو عاصب رأسه، قال: فأتبعته حتى صعد المنبر فقال: " إني الساعة لقائم على الحوض " قال: ثم قال: " إن عبداً عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة " فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر، فقال: بأبي أنت وأمي، بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، قال: ثم هبط رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المنبر فما رئي عليه حتى الساعة.
عن كعب بن مالك قال: إن أحدث عهدي بنبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وفاته بخمس ليالٍ، دخلت عليه وهو يقلب يديه وهو يقول: " لم يكن نبي كان قبلي إلا وقد اتخذ من أمته خليلاً، وإن خليلي من أمتي أبو بكر بن أبي قحافة، ألا وإن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ".
عن عائشة قالت: أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نغسله بسبع قرب من سبع آبار، ففعلنا ذلك، فوجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راحة، فخرج فصلى بالناس، فاستغفر لأهل أُحُدٍ، ودعا لهم، وأوصى بالأنصار فقال: " أما بعد، يا معشر المهاجرين فإنكم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد، على هيئتها التي هي عليها اليوم، وإن الأنصار عيبتي التي أويت إليها،(13/81)
فأكرموا كريمهم - يعني محسنهم - وتجاوزوا عن مسيئهم " ثم قال: " إن عبداً من عباد الله خير ما بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله " فبكى أبو بكر، وظن أنه يريد نفسه، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " على رسلك يا أبا بكر! سدوا هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر، فإني لا أعلم امرأً أفضل عندي يداً في الصحبة من أبي بكر ".
وعن أبي الأحوص حكيم بن عمير العنسي: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال عندما أمر به من سد تلك الأبواب إلا باب أبي بكر، وقال: " ليس منها باب إلا وعليه ظلمة إلا ما كان من باب أبي بكر، فإن عليه نوراً ".
وعن عائشة قالت: لما ثَقُل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء بلال يؤذنه بالصلاة، قالت: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مروا أبا بكرٍ فليصل بالناس " قالت: فقلت: يا رسول الله إن أبا بكرٍ رجل أسيف، فلو أمرت عمر! قالت: فقال: " مروا أبا بكر فليصل بالناس " قالت: فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، قالت: فقالت له حفصة، قالت: فقال: " إنكن لأنتن صواحبات يوسف " فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيراً! قالت: وأمر أبا بكر فصلى بالناس، فلما دخل أبو بكرٍ في الصلاة وجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نفسه خِفةً، فقام يُهادى بين رجلين، وإن رجليه لتخُطان في الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أقم مكانك، قالت: فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جلس عن يسار أبي بكرٍ، قالت: فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي بالناس قاعداً وأبو بكر قائماً، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والناس يقتدون بصلاة أبي بكر.(13/82)
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليصل أبو بكر بالناس " قالوا: يا رسول الله، لو أمرت غيره أن يصلي، قال: " لا ينبغي لأمتي أن يؤمهم إمام وفيهم أبو بكر ".
عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد قال: لما استعز برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا عنده في نفرٍ من المسلمين قال: دعا بلال للصلاة، فقال: " مروا من يصلي بالناس " قال: فخرجت، فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكرٍ غائباً، فقال: قم يا عمر فصل بالناس، قال: فقام، فلما كبر عمر سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوته، وكان عمر رجلاً مُجهراً، قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون " قال: فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس.
قال: وقال عبد الله بن زمعة: قال لي عمر: ويحك! ماذا صنعت بي يا بن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس! قال: قلت: والله ما أمرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة.
عن أنس بن مالك قال:
لم يخرج إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثاً، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكرٍ يصلي بالناس، فرفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحجاب، فما رأينا منظراً أعجب إلينا منه، حيث وضح لنا وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأومأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبي بكر أن تقدم، وأرخى نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحجاب، فلم يوصل إليه حتى مات.
قالت حفصة بنت عمر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أنت مرضت قدَّمت أبا بكر، قال: " لست أنا الذي أقدمه ولكن الله يقدمه ".(13/83)
عن الشعبي أنه قال: خص الله تبارك وتعالى أبا بكرٍ الصديق بأربع خصالٍ لم يخصص بها أحداً من الناس: سماه الصديق ولم يسم أحداً الصديق غيره، وهو صاحب الغار مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورفيقه في الهجرة، وأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصلاة، والمسلمون شهود.
قالت عائشة: وارأساه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن كان وأنا حي، فأستغفر لكِ وأدعو لكِ " قالت عائشة: واثكلاه، والله إني لأظنك تحب موتي، ولو كان ذلك لظللت معرِّساً ببعض أزواجك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بل أنا وارأساه، لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكرٍ وابنه، فأعهد إليه: أن يقول القائلون، ويتمناه المتمنون ".
عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ائتوني بأديمٍ ودواةٍ - أو كتفٍ ودواةٍ - فأكتب لأبي بكرٍ كتاباً لا يختلف عليه اثنان " ثم قال: " دعوه، معاذ الله أن يختلفوا في أبي بكرٍ - مرتين ".
وعن عائشة قالت: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يستخلف أحداً، ولو كان مستخلفاً أحداً لاستخلف أبا بكرٍ أو عمر.
عن عبد الله قال: لما قُبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت الأنصار: منا أمير، ومنكم أمير، فأتاهم عمر ابن الخطاب، فقال: يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمر أبا بكرٍ أن يؤم الناس؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكرٍ؟ ".
عن حميد بن عبد الرحمن قال: توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكرٍ في طائفةٍ من المدينة، قال: فجاء فكشف عن وجهه فقبله، وقال: فداك أبي وأمي، ما أطيبك حياً وميتاً! مات محمد، ورب الكعبة.(13/84)
قال: فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان، حتى أتوهم، فتكلم أبو بكرٍ، فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار، ولا ذكره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شأنهم إلا ذكره، وقال: لقد علمتم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لو سلك الناس وادياً، وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار " ولقد علمتَ يا سعد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وأنت قاعد: " قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم "، فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء.
وفي رواية عن عائشة: قال عمر: والله ما مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء أبو بكر، فكشف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقبله وقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، وقال: أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال " إنك ميت وإنهم ميتون " وقال " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " فنشج الناس يبكون.
عن أبي البختري قال: قال عمر لأبي عبيدة بن الجراح: ابسط يدك حتى أبايعك، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أنت أمين هذه الأمة " فقال أبو عبيدة: ما كنت لأتقدم بين يدي رجلٍ أمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤمنا، فأمنا حتى مات.
عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات، وأبو بكر بالسنخ - يعني بالعالية - واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقال أبو بكر: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال عمر: نبايعك، أنت سيدنا، وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبايعه وبايعه الناس.(13/85)
نا ابن عون عن محمد: أن أبا بكر قال لعمر: ابسط يدك نبايع لك، فقال له عمر: أنت أفضل مني، فقال له أبو بكر: أنت أقوى مني، فقال له عمر: فإن قوتي لك مع فضلك، فبايعه.
قال القاسم بن محمد:
فلما اجتمع الناس على أبي بكرٍ قسم بين الناس قسماً، فبعث إلى عجوز من بني عدي بن النجار بقسمها مع زيد بن ثابت، فقالت: ما هذا؟ قال: قسم قسمه أبو بكر للنساء، فقالت: أتراشوني عن ديني؟ فقالوا: لا، فقالت: أتخافون أن أدع ما أنا عليه؟ فقالوا: لا، قالت: فوالله لا آخذ منه شيئاً أبداً! فرجع زيد إلى أبي بكر فأخبره بما قالت، فقال أبو بكر: ونحن لا نأخذ مما أعطيناها شيئاً أبداً.
قال عمر بن الخطاب: وكنت أول الناس أخذ بيد أبي بكر، فبايعته إلا رجل من الأنصار أدخل يده من خلفي، من بين يدي ويده، فبايعه قبلي.
قال عثمان بن عفان: إن أبا بكر الصديق أحق الناس بها - يعني بالخلافة - إنه لصدّيق، وثاني اثنين، وصاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عن أبي سعيد الخدري قال: قُبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة، وفيهم أبو بكر وعمر، قال: فقام خطيب الأنصار فقال: أتعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان من المهاجرين، وخليفته من المهاجرين، ونحن كنا أنصار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنحن أنصار خليفته، كما كنا أنصاره، قال: فقام عمر بن الخطاب، فقال: صدق قائلكم، أما لو قلتم غير هذا لم نتابعكم، فأخذ بيد أبي بكر، وقال: هذا صاحبكم فبايعوه، وبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصار.
قال: فصعد أبو بكرٍ المنبر، فنظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير، قال: فدعا الزبير، فجاء، فقال: قلت: ابن عمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحواريه، أردت أن تشق عصا المسلمين، قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام، فبايعه، ثم نظر في وجوه(13/86)
القوم، فلم ير علياً، فدعا بعلي بن أبي طالب، فجاء، فقال: قلت: ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين، قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبايعه.
قال محمد بن إسحاق بن خزيمة: جاءني مسلم بن الحجاج، فسألني عن هذا الحديث، فكتبت له في رقعة، وقرأت عليه، وقال: هذا حديث يسوى بدنة، فقلت: يسوى بدنة؟! بل هذا يسوى بدرة.
وفي رواية أخرى عن أبي سعيد الخدري، في صدر الحديث: لما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام خطباء الأنصار، فجعل منهم من يقول - وفي رواية: فجعل الرجل منهم يقول: - يا معشر المهاجرين، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا استعمل رجلاً منكم قرن معه رجلاً منا، فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان؛ أحدهما منكم، والآخر منا، قال: فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك.
عن عبد الله بن عباس قال: كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف، فالتسمته يوماً، فلم أجده، فانتظرته في بيته حتى رجع من عند عمر، فلما رجع قال: لو رأيت رجلاً آنفاً قال لعمر كذا وكذا، وهو يومئذٍ بمنى في آخر حجةٍ حجها عمر، فذكر عبد الرحمن لابن عباس أن رجلاً أتى عمر؛ فأخبره أن رجلاً قال: والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، قال عمر حين بلغه ذلك: إني لقائم - إن شاء الله - في الناس، فمحذرهم الذين يغصبون الأمة أمرهم، قال عبد الرحمن: قلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل ذلك يومك، فإن الموسم يجمع رعاع الناس، وغوغائهم، وإنهم هم الذين يغلبون على مجلسك، فأخشى إن قلت فيهم اليوم مقالةً أن يطيروا بها، ولا يعوها، ولا يضعوها على مواضعها، أمهل حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة، وتخلص بعلماء الناس وأشرافهم، فتقول ما قلت متمكناً، فيعوا مقالتك، ويضعوها مواضعها.
فقال عمر: والله لئن قدمت المدينة صالحاً لأكلمن بها الناس في أول مقامٍ أقومه.
قال ابن عباس:
فلما قدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، وذاك يوم الجمعة هجرت، فوجدت سعيد بن(13/87)
زيد قد سبقني بالتهجير، فجلست إلى ركنٍ جانب المنبر، فجلس إلى جنبي تمس ركبتي ركبته، فلم ينشب عمر أن خرج، فأقبل يوم المنبر، فقلت لسعيد بن زيد، وعمر مقبل: أما والله ليقولن أمير المؤمنين على هذا المنبر مقالةً لم يقلها أحد قبله، فأنكر ذلك سعيد، وقال: ما عسى أن يقول أحد قبله!؟ فلما جلس على المنبر أذّن المؤذن، فلما أن سكت قام عمر، فتشهد، وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قُدِّر لي أن أقولها، ولعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي ألا يعيها فلا أحل له أن يكذب علي: إن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنزل عليه الكتاب، وكان مما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها، وعقلناها، ووعيناها، ورجم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله عز وجل، فتُترك فريضة أنزلها الله عز وجل، فإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أُحصن من الرجال والنساء، إذا قامت عليه بينة، أو كان الحَبَل، أو الاعتراف، ثم إنا قد كنا نقرأ ألا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم، ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تطروني كما أُطري ابن مريم عليه السلام، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله "، ثم إنه بلغني أن فلاناً منكم يقول: والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتةً فتمت فإنها قد كانت كذلك إلا أن الله عز وجل وقى شرها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وإنه كان من خيرنا حين توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إن علياً، والزبير، ومن معهما تخلفوا عنا، وتخلفت الأنصار عنا بأسرها، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فبينا نحن في منزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رجل ينادي من وراء الجدار: اخرج إلي يابن الخطاب، فقلت: إليك عني فإنا عنك مشاغيل، فقال: إنه قد حدث أمر لا بد منك فيه، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمراً يكون بيننا وبينهم فيه(13/88)
حرب، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا من هؤلاء الأنصار، فانطلقنا نؤمهم، فلقيت أبا عبيدة بن الجراح، فأخذ أبو بكر بيده، فمشى بيني وبينه، حتى إذا دنونا منهم لقينا رجلان صالحان، فذكرا الذي صنع القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلت: نريد إخواننا من هؤلاء الأنصار، فقالا: لا عليكم ألا تقربوهم يا معشر المهاجرين، اقضوا أمركم، فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتيناهم، فإذا هم جميع في سقيفة بني ساعدة، وإذا بين أظهارهم رجل مزمل، قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، قلت: ماله؟ قالوا: هو وَجِع، فلما جلس تكلم خطيب الأنصار، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط منا، فقد دفت دافة من قومكم.
قال عمر: فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويحصنونا من الأمر، فلما قضى مقالته أردت أن أتكلم، قال: وكنت قد زوَّرت مقالة أعجبتني أريد أن أقوم بها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحدة، فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أغضبه - فتكلم أبو بكر، وهو كان أحلم مني، وأوقر، والله ما ترك من كلمةٍ أعجبتني في تزويري إلا تكلم بمثلها، أو أفضل في بديهته حتى سكت - فتشهد أبو بكرٍ، وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال:
أما بعد، أيها الأنصار، فما ذكرتم فيكم من خيرٍ فأنتم أهله، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي، وبيد أبي عبيدة بن الجراح، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم، فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من(13/89)
أن أؤمر على قومٍ فيهم أبو بكر، إلا أن تغتر نفسي عند الموت، فلما قضى أبو بكر مقالته قال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير، ومنكم أمير، يا معشر قريش، قال عمر: فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى أشفقت الاختلاف، قلت: ابسط يدك يا أبا بكرٍ، فبسط أبو بكر يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، والأنصار، فنزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل من الأنصار: قتلتم سعداً، قال عمر: فقلت وأنا مغضب: قتل الله سعداً، فإنه صاحب فتنة وشرٍّ، وإنا ما رأينا فيما حضر من أمرنا أمراً أقوى من بيعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم قبل أن تكون بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعةً، فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساداً، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكرٍ كانت فلتةً فتمت، فقد كانت فلتة ولكن الله وقى شرها، ألا وإنه ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر.
عن حميد بن منهب قال: زرت الحسن بن أبي الحسن، فخلوت به، فقلت له: يا أبا سعيد، أما ترى ما الناس فيه من الاختلاف؟ فقال لي: يا أبا بحير، أصلح أمر الناس أربعة، وأفسده اثنان، أما الذين أصلحوا أمر الناس: فعمر بن الخطاب يوم سقيفة ساعدة حيث قالت قريش: منا أمير، وقالت الأنصار: منا أمير، فقال لهم عمر بن الخطاب: ألستم تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الأئمة من قريش؟ " قالوا: بلى، قال: أولستم تعلمون أنه أمر أبا بكر يصلي بالناس؟ قالوا: بلى، قال: فأيكم يتقدم أبا بكر؟ قالوا: لا أحد، فسلمت لهم الأنصار، ولولا ما احتج به عمر من ذلك لتنازع الناس هذه الخلافة إلى يوم القيامة! وأبو بكر الصديق حيث ارتدت العرب، فشاور فيهم الناس، فكلهم أشار عليه بأن يقبل(13/90)
منهم الصلاة، ويدع الزكاة، فقال: والله لو منعوني عقالاً مما كانوا يعطونه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجاهدتهم، ولولا ما فعل أبو بكر من ذلك لألحد الناس في الزكاة إلى يوم القيامة! وعثمان بن عفان حيث جمع الناس على هذه القراءة، وقد كانوا يقرؤونه على سبعة أحرفٍ؛ فكان هؤلاء يلقون هؤلاء، فيقولون: قراءتنا أفضل من قراءتكم، حتى كاد بعضهم أن يكفر بعضاً، فجمعهم عثمان على هذا الحرف، ولولا ما فعل عثمان من ذلك لألحد الناس في القرآن إلى يوم القيامة، وعلي بن أبي طالب حيث قاتل أهل البصرة، فلما فرغ منهم قسم بين أصحابه ما حوى عسكرهم، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، ألا تقسم بيننا إماءهم ونساءهم؟ فقال: أيكم يأخذ عائشة في سهمه؟ قالوا: ومن يأخذ أم المؤمنين في سهمه؟! قال: أفرأيتم هؤلاء اللواتي قتل عنهن أزواجهن، أيعتددن أربعة أشهرٍ وعشراً، ويورَّثن الربع والثمن؟ قالوا: نعم، قال: فما أراهن إماءً؟ ولو كن إماءً لم يعتددن، ولم يورَّثن. ولولا ما فعل علي من ذلك لم تعلم الناس كيف تقاتل أهل القبلة.
وأما اللذان أفسدا أمر الناس: فعمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف، فحكمت الخوارج، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة، والمغيرة بن شعبة، فإنه كان عامل معاوية على الكوفة، فكتب إليه معاوية: إذا قرأت كتابي هذا فأقبل معزولاً، فأبطأ في مسيره، فلما ورد عليه قال له: يا مغيرة، ما الذي أبطأ بك؟ قال: أمر، والله كنت أوطئه وأهّيئه، قال: وما هو؟ قال: البيعة ليزيد من بعدك، قال: أوفعلت؟ قال: نعم، قال: ارجع إلى عملك! فلما خرج من عند معاوية قال له أصحابه: ما وراءك يا مغيرة؟ قال: ورائي، والله أني وضعت رجل معاوية في غرز بغيٍ لا يزال فيه إلى يوم القيامة.
قال الحسن: فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لآبائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة.(13/91)
عن أنس بن مالك قال: لقد رأيت عمر يزعج أبا بكرٍ إلى المنبر إزعاجاً.
عن عائشة قالت:
توفيت فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد وفاة أبيها بستة أشهرٍ، فاجتمع إلى علي أهل بيته، فبعثوا إلى أبي بكرٍ: ائتنا، فقال عمر: والله لا تأتيهم، فقال أبو بكر: والله لأتينهم، وما تخاف علي منهم؟ فجاءهم حتى دخل عليهم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى عليه، ثم قال: إني قد عرفت أنكم قد وجدتم عليَّ في أنفسكم من هذه الصدقات التي وليت عليكم، ووالله ما صنعت ذلك إلا لأني لم أكن أريد أن أكل شيئاً من أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنت أرى أثرة فيه وعمله، إلى غيري حتى أسلك به سبيله، وأنفذه فيما جعله الله، ووالله لأن أصلكم أحب إلي من أن أصل أهل قرابتي، لقرابتكم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولعظيم حقه الذي جعله له على كل مسلم.
ثم تشهد علي، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: يا أبا بكر والله ما نفسنا عليك خيراً قسمه الله لك ألاّ أن تكون أهلاً لما أسند إليك في صحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنك، وفضلك؛ ولكنا قد كنا من الأمر حيث قد علمت، فتقوّل به علينا، فوجدنا في أنفسنا. وقد رأيت أن أبايع، وأدخل فيما دخل فيه الناس، وإذا كان العشية، فصلِّ بالناس الظهر، واجلس على المنبر حتى آتيك، فأبايعك.
فلما صلى أبو بكر الظهر ركب المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر الذي كان من أمر علي وما دخل فيه من أمر الجماعة والبيعة، وها هو ذا فاسمعوا منه.
فقام علي فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر أبا بكرٍ، وفضله وسنه، وأنه أهل لما ساق الله إليه من خيرٍ، ثم قام إلى أبي بكرٍ، فبايعه، فلا ترى مثلما قال الناس: جزاك الله يا أبا حسنٍ خيراً؛ فقد أحسنت وأجملت حتى لم تصدع عصا المسلمين، ولم تفرق جماعتهم، فدخل فيما دخلوا فيه، ثم انصرف.(13/92)
عن صعصعة بن صوحان قال: دخلنا على علي بن أبي طالب حين ضربه ابن ملجم، فقلنا: يا أمير المؤمنين، استخلف علينا، قال: لا، ولكن أترككم كما تركنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ دخلنا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلنا: يا رسول الله، استخلف علينا، فقال: " لا، إن يعلم الله عز وجل فيكم خيراً يول عليكم خياركم " قال علي: فعلم الله فينا خيراً فولى علينا أبا بكر.
عن أبي الزناد قال: أقبل رجل يتخلص الناس حتى وقف على علي بن أبي طالب، فقال: يا أمير المؤمنين ما بال المهاجرين والأنصار قدموا أبا بكرٍ، وأنت أوفى منه منقبة، وأقدم منه سلماً، وأسبق سابقةً، قال: إن كنت قرشياً فأحسبك من عائذة، قال: نعم، قال: لولا أن المؤمن عائذ الله لقتلتك، إن أبا بكر سبقني إلى أربع، لم أبزهن ولم أعتض منهن: سبقني إلى الإمامة، وتقديم الهجرة، وإلى الغار، وإفشاء الإسلام.
عن عمرو بن شقيق الثقفي قال: لما فرغ علي من الجمل قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعهد إلينا في الإمارة شيئاً، ولكنه رأي رأيناه، فإن يك صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً من قبلنا: ولي أبو بكرٍ، فأقام واستقام، ثم ولي عمر، فأقام واستقام حتى ضرب الإسلام بجرانه، ثم إن أقواماً طلبوا الدنيا فيعفو الله عمن يشاء، ويعذب الله من يشاء.
عن عبد الله بن مسعود: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمدٍ خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد بعد قلبه، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المؤمنون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون سيئاً فهو عند الله سيئ.(13/93)